بسم الله الرحمن الرحيم
الدعاء ومنزلته من العقيدة الإسلامية
المجلد الأول
بقلم
أبي عبد الرحمن جيلان بن خضر العروسي
أصل هذا الكتاب
رسالة علمية نال بها الباحث درجة العالمية (الماجستير)
بتقدير ممتاز من شعبة العقيدة
بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة
بتاريخ: (9/3/1410هـ)
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)) [آل عمران:102].. ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)) [النساء:1].. ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)) [الأحزاب:70، 71].
أما بعد:(1/1)
فإن الله -سبحانه وتعالى- لم يخلق الخلق سدى، ولم يتركهم هملاً، بل خلقهم لأمر عظيم ألا وهو عبادته، قال تعالى: ((وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)) [الذاريات:56]، وقد أمرهم بما خلقهم لأجله من إفراده بالعبادة والدعاء، فقد أمرهم بالإخلاص له في نوعي الدعاء: دعاء العبادة ودعاء المسألة، قال تعالى: ((وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ)) [الأعراف:29] ونهاهم عن الشرك به في الدعاء بنوعيه، قال تعالى: ((وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا)) [الجن:18].
فلا يدعى مع الله أحد كائناً من كان سواء كان ملَكاً مقرباً أو نبياً مرسلاً أو غير ذلك لأن الله وحده هو المستحق لأن يدعى رغبةً ورهبةً وخوفاً وطمعاً، وهو الذي يصمد إليه في الحوائج ويقصد بالاستعانة والسؤال. قال تعالى: ((قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ. اللَّهُ الصَّمَدُ)) [الإخلاص:1، 2].. ((يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ)) [الرحمن:29].
فالخلق جميعاً مفطورون على الاحتياج إلى الله تعالى والافتقار إليه افتقاراً ذاتياً، فهم محتاجون إلى الله تعالى من جهة كونه ربهم يستعينون به على جلب منافعهم ودفع المضار عنهم، كما أنهم محتاجون إليه من جهة كونه معبودهم وإلههم الذي تؤلهه قلوبهم محبةً ورجاءً وخوفاً وتعظيماً، فالناس مضطرون إلى الله تعالى اضطراراً ذاتياً يَحمِلُهم على دعائه، فهم لا يستغنون عن الله في لحظة من لحظاتهم في حركاتهم وسكناتهم، فهم وإن غفلوا عن هذا الاضطرار في وقت الرخاء إلا أنهم سرعان ما يرجعون إلى الفطرة إذا داهمتهم المدلهمات، قال تعالى: ((وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ)) [الإسراء:67].
أهمية هذا البحث وأسباب اختيار الموضوع:(1/2)
إن للدعاء درجة سامية، ومنزلة رفيعة وأهمية كبرى، إذ الدعاء هو العبادة فقد صح الخبر عن المصطفى صلوات الله وسلامه عليه بأن الدعاء هو العبادة بصيغة الحصر ولا يخفى مكانة العبادة فقد خلقنا الله تعالى من العدم لعبادته، وقد افتتح الله القرآن بالدعاء واختتمه به، فسورة الفاتحة مشتملة على دعاء الثناء كما هي مشتملة على دعاء المسألة إذ فيها الدعاء بأجل المطالب وأفضل الرغائب، وهو طلب الإعانة على مرضاة الله تعالى ولسؤال الهداية، وقد فرض الله علينا أن نناجيه وندعوه بذلك في كل صلاة، وسورة الإخلاص في دعاء الثناء والمعوذتان في طلب العياذة الذي هو أحد أنواع دعاء المسألة.
وقد سمى الله الدعاء ديناً في غير ما آية، والدين هو الإسلام كله، كما سماه عبادة في غير ما آية، والعبادة هي العلة الغائية للوجود.
وقد أمرنا الله بالدعاء، ووعدنا بالإجابة تفضلاً وتكرماَ وإحساناً، وتوعد من استكبر عن دعائه فقال عز من قائل: ((وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ)) [غافر:60] فالدعاء سمة العبودية، وعنوان التذلل والخضوع والاستكانة، وتلبية للاحتياج والافتقار الذاتي، ودليل الصدق في اللجوء والرجاء والرغبة، والطمع والخوف والرهبة. فهو لب العبادة ومخها وروحها، فصرفُه للّه تعالى عبادة وتوحيد، وصرفه لغيره تعالى شرك وتنديد.
فالشرك في نوعي الدعاء أعظم مسألة خالف فيها الرسول صلى الله عليه وسلم المشركين، وهو أغلب شركهم، وهو أصل شرك العالم، ولهذا لم يرد في القرآن -التحذير من سائر أنواع الشرك- مثل ما ورد في التحذير من الشرك في الدعاء.(1/3)
فقد كرر الله تعالى، وأعاد التحذير من ذلك في آيات كثيرة جداً، كما بيّن لنا كيف ندعوه ونناجيه، وذكر لنا أدعية الأنبياء والصالحين وابتهالاتهم ومناجاتهم. وقد بيّن لنا الرسول صلى الله عليه وسلم كيفية عبادة الله ومناجاته، وآداب خطاب الله تعالى وسؤاله.
فوجب علينا أن نتقيد بما بيّن لنا، وأن ندعو كما شرع لنا، وأن لا ندعو بالبدع والمحدثات فضلاً أن ندعو بالشركيات والكفريات؛ لأن ذلك من تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله، وشهادة أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فمن دعا غير الله تعالى واستغاث به لم يحقق شهادته واعترافه بتفرد الله تعالى بالألوهية والعبادة، كما أن من دعا بأدعية مشتملة على البدع لم يحقق شهادته بتجريد المتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وما ذلك إلاَّ لأن الدعاء عبادة، والعبادة مبناها على التوقيف، فالدعاء من أهم العبادات وأجلها التي يجب إخلاصها للّه تعالى، وتجريد المتابعة فيها لرسول صلى الله عليه وسلم.
ومع وضوح هذا الأمر سوّل الشيطان للبعض أن يصرف هذه العبادة العظيمة لغير الله تعالى، وسماها لهم بأسماء غير حقيقية: سماها لهم باسم التوسل تارة، وباسم الشفاعة تارة، وباسم محبة الصالحين تارة أخرى، وباسم التبرك تارة أخرى.
فانتشر الشرك في الدعاء بهذه الأسماء الموهمة حتى صار معروفاً، شب عليه الصغير، وشاب عليه الكبير، وصار من ينكره يتهم بالخروج عن إجماع المسلمين تارة، وبكراهية وبغض الأولياء وتنقصهم تارة أخرى، وبتفريق وحدة المسلمين تارة أخرى، وبالتطرف والتشدد، وضيق الأفق والجمود الفكري، وتتبع الشواذ، وإثارة الخلاف في المسائل الفرعية تارة أخرى.(1/4)
وبنصب هذه التهم وقف بعض الناس في وجه الدعاة إلى الإخلاص، وتجريد الدعاء للّه وحده، كما وقفوا في وجههم بتلفيق الشبهات، وإيراد الحكايات والمنامات محاولين بذلك تسويغ الدعاء غير المشروع، بل استحبابه، فسوّغوا الاستغاثة والاستمداد من غير الله تعالى، وزعموا للمدعوين من دون الله التصرفَ في الكون، وسماعَهم لنداء المستغيثين، وصراخ المكروبين وعلمَهم بحوائج الداعين ونياتهم، وأنواع طلباتهم، ففتحوا بذلك باباً عظيماً من الشرك لا يزال يقتحم فيه كثير من المسلمين إلى اليوم، فوجب على من يعرف ذلك منهم نصحهم، وبيان الحق في ذلك كل حسب استطاعته وقدرته، فمن هنا رأيت أن يكون موضوع رسالتي في مرحلة الماجستير بالدراسات العليا، بالجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية في هذا الموضوع، مع قلة بضاعتي، وكساد معلوماتي، لعلي أستفيد وينفع الله بهذا العمل من يشاء من عباده، وهو المسؤول وحده أن يجعله خالصاً لوجهه، نافعاً مفيداً، وهو ولي التوفيق، وهو المستعان، وعليه التكلان.
خطة البحث:
تشتمل على: مقدمة، وأربعة أبواب، وملحق، وخاتمة.
فالمقدمة تشتمل على سبب اختيار الموضوع، وأهميته، ومنهج البحث.
وأما الباب الأول: ففي معنى الدعاء، وأنواعه، وآدابه، والإجابة وأنواعها.
وهو يشتمل على ثلاثة فصول:
الفصل الأول: في معنى كلمة الدعاء، والكلمات الدالة على معناه.
ويشتمل على مبحثين:
المبحث الأول: في معنى الدعاء اللغوي والشرعي.
ويشتمل على ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: في أصل كلمة الدعاء.
المطلب الثاني: في معنى الدعاء اللغوي.
المطلب الثالث: في المعنى الشرعي للدعاء، والمناسبة بينه وبين المعنى اللغوي.
المبحث الثاني: في الكلمات الدالة على معنى الدعاء.
ويشتمل على مقدمة ومطلبين:
المقدمة: في وجوب الاعتناء بمعرفة الأسماء الشرعية، وذكر أقسام الكلمات.
المطلب الأول: في الكلمات المرادفة للدعاء.(1/5)
المطلب الثاني: في الكلمات الخاصة بنوع معين من أنواع الدعاء.
الفصل الثاني: في أنواع الدعاء وأقسامه.
ويشتمل على مبحثين:
المبحث الأول: في أقسام الدعاء باعتبار معناه.
المبحث الثاني: في أقسام الدعاء باعتبار صيغه ومتعلقاته.
ويشتمل على مطلبين:
المطلب الأول: في أقسام الدعاء باعتبار صيغه.
المطلب الثاني: في أقسام الدعاء باعتبار متعلقاته.
الفصل الثالث: في آداب الدعاء والإجابة وأنواعها.
ويشتمل على تمهيد، وثلاثة مباحث.
فالتمهيد يحتوي على تنبيهين:
التنبيه الأول: في السبب المانع من التوسع في هذا الفصل.
التنبيهَ الثاني: في عبارات العلماء وألفاظهم في هذه الآداب.
المبحث الأول: في الآداب العدمية التي يطلب عدمها وانتفاؤها.
المبحث الثاني: في الآداب الثبوتية.
المبحث الثالث: في الإجابة وأنواعها.
وأما الباب الثاني: ففي منزلة الدعاء من العقيدة، وعدم تنافيه مع القدر، وحكمه الشرعي.
ويشتمل على ثلاثة فصول.
الفصل الأول: في منزلة الدعاء، ومكانته من العقيدة، وأهميته من بين العبادات.
ويشتمل على مبحثين:
المبحث الأول: في كون الدعاء يزيد في الإيمان والتوحيد، ودلالته على وجود الله جل وعلا.
ويشتمل على مطلبين:
المطلب الأول: في كون الدعاء يزيد في الإيمان والتوحيد.
المطلب الثاني: في دلالته على وجود الله جل وعلا.
المبحث الثاني: في علاقة الدعاء بالتوحيد بأنواعه الثلاثة.
ويشتمل على ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: في علاقته بتوحيد الربوبية.
المطلب الثاني: في علاقته بتوحيد الأسماء والصفات.
المطلب الثالث: في علاقته بتوحيد العبادة والألوهية، وأهميته ومزاياه من بين سائر العبادات.
الفصل الثاني: في عدم تنافي الدعاء والقدر.
ويشتمل على مبحثين:
المبحث الأول: في مذاهب الناس في الدعاء واتجاهاتهم، وحجج كل فريق ومناقشتها.
المبحث الثاني: في الصواب الذي تدل عليه الأدلة الصحيحة.
الفصل الثالث: في حكم الدعاء الشرعي.
ويشتمل على مبحثين:(1/6)
المبحث الأول: في أقوال العلماء ومذاهبهم في حكم الدعاء.
المبحث الثاني: في المذهب الراجح.
وأما الباب الثالث: ففي الدعاء غير المشروع.
ويشتمل على ثلاثة فصول:
الفصل الأول: في دعاء غير الله تعالى، وما ورد في التحذير منه، ومفاسده وأسباب انتشاره في العالم الإسلامي.
ويشتمل على مبحثين.
المبحث الأول: فيما ورد في التحذير منه ومفاسده.
ويشتمل على تمهيد، وثلاثة مطالب:
المطلب الأول: في الآيات الواردة في التحذير من دعاء غير الله تعالى، وأساليب القرآن المتنوعة في ذلك.
المطلب الثاني: فيما ورد من السنة المشرفة في التحذير من ذلك.
المطلب الثالث: في مفاسد دعاء غير الله تعالى وآثاره الضارة.
المبحث الثاني: في أسباب انتشار دعاء غير الله تعالى في العالم الإسلامي.
الفصل الثاني: في مراتب الدعاء غير المشروع، ومظاهر غلو المتأخرين، وحكم من دعا غير الله تعالى.
ويشتمل على ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: في مراتب الدعاء غير المشروع، وحكم كل مرتبة.
المبحث الثاني: في مظاهر غلو المتأخرين في دعاء غير الله تعالى.
المبحث الثالث: في حكم من دعا غير الله تعالى.
الفصل الثالث: في الأدعية المبتدعة، وما ورد في التحذير من الابتداع في الدعاء وغيره من العبادات، وآثارها الضارة، وأسباب انتشارها، وأنواعها.
ويشتمل على مبحثين:
المبحث الأول: فيما ورد في التحذير من الابتداع في الدين عموماً وفي الدعاء خصوصأ، من الكتاب والسنة وآثار السلف وأقوال العلماء، وآثار الأدعية المبتدعة الضارة، وأسباب انتشارها.
ويشتمل على تمهيد وأربعة مطالب:
المطلب الأول: فيما ورد في التحذير من الابتداع في الدين.
المطلب الثاني: في الأدلة الدالة على منع الابتداع في الأدعية الراتبة.
المطلب الثالث: في آثار الأدعية المبتدعة الضارة ونتائجها السيئة.
المطلب الرابع: في أسباب انتشار الأدعية المبتدعة.
المبحث الثاني: في أنواع الأدعية المبتدعة.
ويشتمل على أربعة مطالب:(1/7)
المطلب الأول: في الدعاء عند الأضرحة والقباب.
المطلب الثاني: في التوسل بالذوات.
المطلب الثالث: في الأدعية والأوراد الراتبة.
المطلب الرابع: في الأدعية الجماعية.
وأما الباب الرابع: ففي مناقشة بعض شبه المجيزين للدعاء غير المشروع.
ويشتمل على تمهيد وثلاثة فصول: فالتمهيد في أنواع تلك الشبهات، وأسبابها، والجواب الإجمالي عنها.
الفصل الأول: في مناقشة ما احتجوا به من الأدلة الصحيحة.
ويشتمل على مبحثين:
المبحث الأول: في مناقشة ما احتجوا به من القرآن الكريم.
المبحث الثاني: في مناقشة ما احتجوا به من السنة الصحيحة.
الفصل الثاني: في مناقشة ما احتجوا به من الأدلة غير الصحيحة.
ويشتمل على ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: الأحاديث الضعيفة.
المبحث الثاني: الأحاديث الواهية والموضوعة.
المبحث الثالث: الحكايات والنظريات.
الفصل الثالث: في مناقشة ردودهم، وإجاباتهم عن الأدلة المانعة للدعاء غير المشروع.
ويحتوي على تمهيد وتسع شبه:
وأما الملحق: فيشتمل على نماذج من الأدعية الشركية والبدعية، ونماذج أخرى من الأدعية المأثورة.
وأما الخاتمة: فتحتوي على أهم النتائج.
منهج البحث:
أ- جمعت مادة البحث من المصادر المختلفة التي هي مظان لموضوع البحث حسب ما يسره الله لي، ووفقني للاطّلاع عليه، ولم أدخر وسعاً في البحث عن كل ما يظن أن له علاقة بالبحث. ومع هذا لا أدّعي أني وقفت على كل ما كتب في الموضوع؛ لكثرته وكثرة الخوض في مسائله بحق أو باطل.
2- بيّنت في المسائل التي تطرقت إليها ما ظهر لي أنه الحق والصواب، مستدلاً بالكتاب والسنة وأقوال السلف الصالح، ومن على منهجهم، بدون أن أشرح وجه الدلالة إذا كان واضحأ.
3- أوردت شبه المخالفين وحججهم من كتبهم غالباَ، مبيناً وجهة نظرهم، ثم ناقشتهم بمحكم الكتاب والسنة، مؤيداً ما أذكره بأقوال أهل العلم.(1/8)
4- حاولت بقدر المستطاع أن لا أخرج في المناقشة عن الأسلوب العلمي، والمجادلة بالتي هي أحسن، وفي الغالب أنقل كلام العلماء المحققين في الباب، وأكتفي بذلك؛ لأن القارىء يقتنع بكلام العلماء لا بكلام أمثالي.
5- قد أستدل بأقوال بعض المخالفين إذا وجدت في كلامه ما يصلح لمناقشة المخالف وإقناعه، كما أني قد أقدم كلام من يرى المخالف حجيته على كلام من هو لا يقتنع به ولا يسلم له؛ لأن الغرض من البحث هو محاولة إقناع المخالف، ودعوته بالتي هي أحسن، وليس مجرد غلبته، ولهذا الغرض نفسه أكثر العزو إلى المصادر المتعددة، حتى ولو كانت المسألة واضحة يمكن الاكتفاء فيها ببعض تلك المصادر؛ لتحصل الطمأنينة لمن يريد الحق ويتحراه وينشده.
6- إذا عزوت قولاً إلى عدة مصادر أقدم في الغالب المصدر الذي يكون النص كله أوجله منقولاً منه.
7- عزوت الآيات الواردة في الرسالة بذكر رقمها واسم السورة في الصلب، لا في الهامش؛ تفادياً من كثرة الحواشي، لكثرة ورود الآيات في ا لرسالة.
8- خرّجت الأحاديث من المصادر الأصلية، ونقلت أقوال النقّاد فيها، وتوسّعت في بعض الأحاديث التي يقتضي المقام التوسع فيها.
وإذا كان الحديث في الصحيحين اقتصرت عليهما غالباً، وإذا أحلت على البخاري، فالمراد به متن البخاري المطبوع مع الفتح، وأحيل في الغالب إلى أول موضوع ورد فيه الحديث؛ لأن ذلك أسهل لمن يريد تتبع ألفاظ الحديث، لوجود أرقام مواضع ورود الحديث في الموضع الأول.
9- نقلت الآراء المحكية من كتب أصحابها ما وجدت إلى ذلك سبيلاَ .
10- ترجمت للأعلام غير المشهورين.
11- عملت الفهارس الآتية:
أ- فهرس للآيات.
ب- فهرس للأحاديث.
جـ- فهرس للآثار.
د- فهرس للمصادر والمراجع.
هـ- فهرس للموضوعات.
الباب الأول
في معنى الدعاء وأنواعه وآدابه والإجابة وأنواعها
ويشتمل على ثلاثة فصول:
الفصل الأول: في معنى كلمة الدعاء، والكلمات الدالة على معناه.(1/9)
الفصل الثاني: في أنواع الدعاء وأقسامه.
الفصل الثالث: في آداب الدعاء والإجابة وأنواعها.
الفصل الأول
في معنى كلمة الدعاء
والكلمات الدالة على معناه ويشتمل على مبحثين:
المبحث الأول: في معنى الدعاء اللغوي والشرعي.
المبحث الثاني: في الكلمات المرادفة للدعاء.
المبحث الأول
في معنى الدعاء اللغوي والشرعي
ويشتمل على ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: في أصل كلمة "الدعاء".
المطلب الثاني: في معنى الدعاء اللغوي.
المطلب الثالث: في المعنى الشرعي للدعاء، والمناسبة بينه وبين المعنى اللغوي.
المطلب الأول: في أصل كلمة "الدعاء":
أصل كلمة الدعاء مصدر لِفِعل "دَعَا".
قال الإمام أبو سليمان حَمد بن محمد الخطابي (ت:388هـ) رحمه الله تعالى: "أصل هذه الكلمة مصدر من قولك: دعوت الشيء، أدعوه دعاء"( )، وآخره ممدود( )، وهو مصدر قياسي؛ لأن الأفعال التي تدل على الأصوات تأتي مصادرها القياسية إما على فُعَال أو فَعِيل، قال ابن مالك رحمه الله:
للدَّا فُعَالٌ أو لصوت وَشَمَلْ ... ... ... سيراً وصوتاً الفعيلُ كصَهَل( )
هذا ولم يأت في الأصوات إلا فعال بالضم وأما الفتح فلم يأت إلا في كلمة واحدة وهو غواث، يقال: أجاب الله دُعَاءه وغُوَاثَه، وغَوَاثَه، وقد أتى مكسوراً نحو النداء والصياح( )، فتحصل من هذا أن الفعال بالضم هو الأكثر( ) ويليه الكسر، وأما الفتح فلم يأت إلا في كلمة واحدة.
والدعاء هو المصدر المشهور لدعا( ).
وهناك صيغ أخرى نص بعض علماء اللغة على مصدريتها لفِعلِ "دَعَا"، كما ورد استعمالها في اللغة الفصحى، ومن تلك المصادر:
1- دَعو، قال ابن دريد( ): "الدَّعوُ مصدرُ دعا يدعو دَعواً ودُعَاءً"( ). فقد قدمه ابن دريد في الذكر على الدعاء - المصدر المشهور...
ويقال في المرة الواحدة منه: دَعوةٌ( ).(1/10)
ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم في حضور النساء للعيد. {لِتُلبِسهَا صاحبَتُها من جِلبَابها، وَلتَشهدِ الخيرَ ودَعوةَ المسلمين}( ) أي دعاء المسلمين.
وقوله صلى الله عليه وسلم: {إن عفريتاً من الجن تفَلَتَ البارحة ليقطع علي صلاتي} وفيه: {فذكرت دعوة أخي سليمان "رب هب لي ملكاَ لا ينبغي لأحد من بعدي"}( ) -أي دعاء أخي سليمان-.
2- وهناك مصدر ثان وهو دَعوَى.
فقد حكاها سيبويه رحمه الله في المصادر التي في آخرها ألف التأنيث، وأنشد:
وَلَّت ودَعواها شديدٌ صَخَبُهُ( )
ذَكر على معنى الدعاء، قال سيبويه: "ومن كلامهم: اللهم أشركنا في دعوى المسلمين"( ).
ومن هذا الباب قوله تعالى: ((دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)) [يونس:10] أي: دعاؤهم فيها... وآخر دعائهم...
3- وهناك مصدر ثالث وهو دِعَاوَةٌ( ).
4- وهناك أيضاً مصدر رابع وهم دِعَاية.
يقال: دعا دعاية، كما يقال: رمى رماية، وشكى شكاية، فمن ذلك دعاية الإسلام أي دعوته( ).
5- وهناك مصدر خامس، وهو دَاعِية كعَاقِبة وعافية( ).
ويظهر من تتبع موارد استعمال مادة كلمة دعا- أن المصدرين الآخرين ربما يكونان خاصين بالاستعمال في الدعاء، بمعنى الحث على الشيء، لا الدعاء بمعنى السؤال والطلب.
وأما المصدر الثاني -الذي هو الدعوى- فإنه يستعمل في الكثير بمعنى الادعاء، كما يستعمل في معنى الدعاء، قال ابن جرير الطبري رحمه الله "وللدعوى في كلام العرب وجهان: أحدهما الدعاء، والآخر: الادعاء للحق. ومن الدعوى التي معناها الدعاء قول الله تبارك وتعالى: ((فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ)) [الأنبياء:15] ومنه قول الشاعر:
إذا مَذِلَت رِجلي دَعَوتُكِ أَشتفي ... ... بدَعوَاكِ مِن مَذل بها فَيَهُونُ( )"( )
وقد سبقه إلى نحو( ) هذا أبو عبيدة معمر بن المثنى( ).
الدعاء له إطلاقان:(1/11)
ثم إن كلمة الدعاء كما تطلق على المصدر، تطلق على المفعول به، تقول: دعوت الله دعاءً، أي: دعوة، ففي هذا المثال يراد بها المصدر، وتقول أيضاً: سمعت دعاء، كما تقول: سمعت صوتاً، فالمراد بها في هذا التركيب ألفاظ الأدعية المدعو بها، لا مجرد الفعل الذي هو التكلم بالأدعية، فيكون من باب إطلاق المصدر، وإرادة اسم المفعول به.
قال أبو سليمان الخطابي رحمه الله بعد أن ذكر أن أصل الكلمة مصدر: "ثم أقاموا المصدر مقام الاسم، تقول: سمعت دعاء كما تقول: سمعت صوتاً، وكما تقول: اللهم اسمع دعائي. وقد يوضع المصدر موضع الاسم، كقولهم: رجل عدل، وهذا درهمٌ ضَربُ الأمير، وهذا ثوب نَسجُ اليمن"( ).
فتحصَّل من هذا أن الدعاء له إطلاقان: أحدهما: إطلاقه على المصدر الذي هو التكلم، والثاني: إطلاقه على اسم المفعول، الذي هو الألفاظ المدعو بها.
أصل الهمزة في دعاء:
الأصل في همزة دعاء الواو، فأصله دعاو( )، فهي واوية الأصل، بدليل قولك دعوت أدعو، و"اسم الفاعل داع، والمفعول مدعو"( ) فهذا يدل على أن أصل الهمزة في دعاء الواو، وإنما أبدلت همزة لتطرفها إثر ألف زائدة، قال ابن مالك رحمه الله:
أَحْرُفُ الإبدال هَدَأْتُ مُوْطِيَا ... ... فأَبدِل الهمزةَ من واو ويا
آخرا إثر ألف زِيْدَ وفي ... ... ... فَاعلِ مَا أُعِلَّ عيناً ذا اقتفي( )
المطلب الثاني: في معنى الدعاء اللغوي:
أطلقت هذه المادة -دع و- في الكتاب والسنّة وكلام العرب وأهل العلم على معان شتى، ولكن تلك المعاني بينها تفاوت، فمنها ما استعملت فيه كثيراً، وهو المراد عند الإطلاق، ومنها ما استعملت فيه نادراً، وهذا مع ورود تلك المعاني كلها، وصحتها عند أهل اللغة.
ويمكن عند التأمل إرجاع تلك المعاني إلى أصل واحد تدور عليه، وهو إمالة الشيء. قال ابن فارس( ) رحمه الله:
"دعو: الدال والعين والحرف المعتل أصل واحد، وهو أن تميل الشيء إليك بصوت وكلام فيكون منك"( ).(1/12)
ثم بيّن رحمه الله كيف أن المعاني المتعددة ترجع إلى ذلك، فبيّن أن قولهم "دعا الله فلاناً بما يكره" أي: أنزله به، يرجع إلى ذلك لأنه إذا فعل ذلك به أماله إليه، وأن قولهم "تداعت الحيطان" إذا سقط واحد وآخر بعده، صار كأن الأول دعا الثاني وأماله إلى نفسه، ودواعي الدهر: صروفه، كأنها تميل الحوادث( ).
وتلك المعاني المتعددة المتحدة في الأصل نذكرها واحدة تلو الأخرى، مع ذكر أمثلة وشواهد من استعمالها في الكتاب أو السنة، أو كلام أهل اللغة المعتبرين الذين يستشهد بكلامهم.
ثم نذكر المعاني التي ذكرها بعض العلماء، وهي ترجع في الحقيقة إلى المعاني السابقة، مستشهدين في ذلك كله بكلام علماء اللغة المعتبرين، وهذا أوان الشرع في ذلك، وبالله التوفيق وعليه التكلان:
1- فأول تلك المعاني: الطلب والسؤال:
قال ابن سيده( ) رحمه الله: "طلب الطالب للفعل من غيره"( ).
وقال الحافظ أبو بكر بن العربي المالكي (ت:543هـ): "الدعاء في اللغة والحقيقة هو: الطلب"( ).
وقال محمد بن علي الشوكاني (ت:1250هـ): "معنى الدعاء حقيقة وشرعاً: هو الطلب"( ).
وذكر هذا المعنى للدعاء كثير من العلماء من غير هؤلاء( ) الثلاثة.
ثم إن هذا المعنى هو أكثر استعمالاً من المعاني الأخرى في الكتاب والسنة واللغة، ولسان الصحابة، ومن بعدهم من العلماء( ).
وفعل "دَعَا" إذا استعمل في هذا المعنى "يتعدى إلى النفع المطلوب بالباء يقال: دعوت الله بالفلاح"( ) ويتعدى إلى المدعو المطلوب منه بنفسه، كما أنه يتعدى في الخير باللام، وفي الشر بعلى، يقال: "دعوت له بخير، وعليه بشر"( ).
ومما ورد من استعماله في هذا المعنى:
قوله تعالى: ((وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ)) [الأعراف:134].
وقوله عز من قائل: ((وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ)) [البقرة:61].(1/13)
وقوله عز وجل: ((هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ)) [آل عمران:38].
وقوله سبحانه: ((قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ)) [الأنعام:40] ((بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ)) [الأنعام:41].
وقوله تعالى: ((قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ)) [الأنعام:63]. وقوله سبحانه: ((وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ)) [يونس:12]. وقوله عز وجل: ((أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ)) [النمل:62].
وقوله سبحانه: ((قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلا تَحْوِيلًا)) [الإسراء:56].
وقوله جلّت قدرته: ((وَيَدْعُ الإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ)) [الإسراء:11].
فالدعاء في هذه الأمثلة معناه: الطلب، وليس هو مطلق الطلب، بل طلب خاص وهو "طلب الأدنى من الأعلى: تحصيل الشيء بلا غضاضة من الأعلى"( )؛ وذلك لأن صيغة الطلب والاستدعاء تختلف بحسب الطالب والمطلوب منه، فإذا كانت ممن يقدر على قهر المطلوب منه، فإنها تقال على وجه الأمر، وإذا كانت من الفقير من كل وجه للغني من كل وجه، فإنها تقال على وجه السؤال بتذلل وافتقار( ) ؛ فيسمى ما كان من الأدنى للأعلى دعاء، وما كان من الأعلى للأدنى أمراً، وما كان من الأقران بعضهم من بعض التماساً، قال صاحب السلم:(1/14)
أمر مع استعلا وعكسه ... ... دعا وفي التساوي فالتماس وقعا( )
والحاصل أن الصيغة الواحدة تفرق بحسب النظر للمخاطَب، والمخاطِب إن كانا متساويين، أو أحدهما أعلى من الآخر( ).
وهذا ما ذهب إليه جمع من علماء أهل البلاغة والمنطق، وهو مذهب المعتزلة وبعض الفقهاء، واعترض عليه بأنه ورد إطلاق لفظ الأمر على غير هذا الوجه في مثل قول فرعون لقومه ((فَمَاذَا تَأْمُرُونَ)) [الأعراف:110] والمقام للمشورة، وفرعون أعلى منهم رتبة( ).
2- العبادة:
وهذا المعنى ورد بكثرة في استعمالات القرآن الكريم والسنّة، وكلام أهل العلم، وممن صرح بهذا المعنى أبو إسحاق الزجاج( ) ؛ فإنه قال في قوله تعالى: ((أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ)) [البقرة:186]: "معنى الدعاء للّه عزوجل على ثلاثة أضرب: فضرب منها: توحيده والثناء عليه، كقولك: "يا الله لا إله إلا أنت" وقولك: "ربنا لك الحمد..."( ).
وقال الزجاج أيضاً عند قوله تعالى: ((ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً)) [الأعراف:55] "أي: اعتقدوا عبادته في أنفسكم؛ لأن الدعاء معناه العبادة"( ).
كما صرح بهذا المعنى أيضاً كثير من اللغويين والمفسرين( )، فمن هؤلاء: الإمام أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري اللغوي المشهور (ت:375هـ)، فإنه قال: "وقد يكون الدعاء عبادة، ومنه قول الله عزوجل: ((إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ)) [الأعراف:194] أي: الذين تعبدون من دون الله..." ثم ذكر إطلاقه على توحيد الله، وثنائه الذي هو بمعنى عبادته وذكره تعالى، ثم قال: "وروي مثل ذلك عن سعيد بن المسيب في قوله: ((لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا)) [الكهف:14] أي: لن نعبد إلهاً دونه.
وقال عز وجل: ((أَتَدْعُونَ بَعْلًا)) [الصافات:125] أتعبدون رباً سوى الله؟ وقال: ((فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ)) [الشعراء:213] أي: لا تعبده"( ).(1/15)
وفوق هذا البيان من أهل اللغة بيان الرسول صلى الله عليه وسلم هذا المعنى بقوله: {الدعاء هو العبادة}( ) ولا حاجة بعد ذلك إلى بيان أحد من البشر، ولكن ذكرنا ذلك للاستئناس بأقوال العلماء. ومن استعماله في هذا المعنى قوله تعالى: ((قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ)) [الأنعام:56]. وقوله تعالى: ((إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا)) [النساء:117]، وقوله سبحانه: ((وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ)) [الكهف:28]، وقد تقدم ذكر بعض الأمثلة في كلام الأزهري.
3- الرغبة إلى الله عز وجل:
وهذا المعنى ذكره غير واحد من علماء اللغة، وقدمه كثير منهم على غيره من معاني الدعاء الأخرى في سردهم لتلك المعاني، منهم صاحب المحكم، وصاحب القاموس، وصاحب المصباح، وصاحب الكليات( ). وهذا المعنى أعم من المعنيين السابقين، إذ الرغبة تارة تكون بالمسألة، وتارة بالعبادة والثناء، فالرغبة تحصل بالنوعين: السؤال، والعبادة. كما أن الرغبة هي سبب باعث على الطلب والسؤال، وباعث أيضاً على العبادة والثناء، فيكون الدعاء من آثار الرغبة ونتائجها، وتكون الرغبة لازمة له، ومن هنا ندرك أنه لا تنافي بين هذه المعاني، بل هي متلازمة ومتداخلة.
4- الاستغاثة والاستعانة:
وهذا المعنى ذكره كثيرون من علماء اللغة وعلماء تفسير القرآن الكريم( ).
ومن شواهد استعماله قوله تعالى: ((وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ)) [البقرة:23].
قال الفراء( ): (وادعوا شهداءكم من دون الله) يقول: "آلهتكم، يقول: استغيثوا بهم، وهو كقولك للرجل إذا لقيت العدو خالياً: فادع المسلمين. ومعناه: استغث بالمسلمين، فالدعاء ههنا بمعنى الاستغاثة"( ).(1/16)
وقال أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة (ت:276هـ) في تفسير هذه الآية: "أي ادعوهم ليعاونوكم على سورة مثله، ومعنى الدعاء هاهنا الاستغاثة، ومنه دعاء الجاهلية، ودعوى الجاهلية، وهو قولهم: يا آل فلان، إنما هو استغاثتهم"( ).
وهذا المعنى -الذي هو الاستغاثة والاستعانة- هو نوع من أنواع المعنى الأول الذي هو السؤال والطلب، فهو قسم منه لا قسيم له( ).
5- النداء والصياح:
وقد ذكره أيضاً غير واحد من علماء اللغة وعلماء تفسير غريب القرآن الكريم( )، ومنه قوله تعالى: ((وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا)) [الكهف:52].
وقوله تقدست أسماؤه: ((قُلْ إِنَّمَا أُنذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنذَرُونَ)) [الأنبياء:45].
وقوله: ((إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ)) [النمل:80].
وقوله عز من قائل: ((فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ)) [الروم:52].
وقوله تعالى: ((وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً)) [البقرة:171].
وقوله تعالى: ((يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ)) [القمر:6].
وقوله تعالى: ((يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ)) [الإسراء:52].
ثم إن الدعاء إذا استعمل "بمعنى النداء يتعدى لواحد"( ) تقول: دعوت زيداً. أي: ناديته، ففي هذا المثال تعدى للمفعول الواحد فقط وهو زيداً.
6- القول:
ذكره غير واحد من العلماء( ). ومنه قوله تعالى: ((فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ)) [الأعراف:5].(1/17)
وقوله تعالى: ((فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ)) [الأنبياء:15].
وقوله تعالى: ((دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)) [يونس:10]. قال أبو عبيدة معمر بن المثنى في تفسير هذه الآية: (دعواهم فيها) أي: دعاؤهم أي قولهم وكلامهم( )، وقال به قتادة بن دعامة أيضاً( ).
وقوله تعالى. ((يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ)) [الحج:13].
فقد ذهب أبو إسحاق الزجاج إلى أن (يدعو) في الآية: "بمنزلة (يقول) و(لمن) مرفوع بالابتداء، ومعناه: يقول لمن ضره أقرب من نفعه: إلهٌ.
وكذلك قول عنترة:
يَدعُونَ عنترَ والرماحُ كأنها ... ... أَشطَانُ بئرٍ في لَبَانِ الأَدهَم( )
معناه: يقولون: يا عنتر، فدلت (يدعون) عليها"( ).
7- التسمية:
ذكرها كثير من علماء اللغة( ). ومما ورد من استعماله في هذا المعنى قوله تعالى: ((ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ)) [الأحزاب:5].
ويتعدى في هذا الحال إلى المفعول الأول بنفسه، وإلى الثاني بالباء، وقد تحذف الباء فيتعدى إلى الثاني أيضاً.
تقول: دعوته بزيد، ودعوته زيداً، أي: سميته به.
قال الشاعر:
أَهوَى لَهَا مِشقَصاً حَشراً فَشَبرَقَهَا ... ... وَكُنتُ أَدعُو قَذَاهَا الإِثمِدَ القَرِدَا( )
أي: أسميه، وأراد أهوى لها بمشقص، فحذف الحرف وأوصل( )، وقد يحذف المفعول الثاني ويستغنى بالأول نحو دعوت زيداً، والأصل دعوته زيداًَ( ).
8- الحث على الشيء، والحض عليه، والسوق إليه:
وقد ذكره كثير من أهل العلم( )، وقد ورد استعماله في هذا المعنى في الكتاب العزيز كثيراًَ، فمن ذلك قوله تعالى ((وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ)) [يونس:25].(1/18)
وقوله تعالى: ((قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ)) [يوسف:33].
وقوله تعالى في قصة صاحب آل فرعون: ((وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ)) [غافر:41] ((تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ)) [غافر:42].
وقوله عز وجل: ((وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا)) [الأحزاب:46].
وقوله تعالى: ((يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ)) [الأحقاف:31].
والمشهور في مصدر دعا بهذا المعنى هو الدعوة، فهي أكثر استعمالاَ في هذا المعنى من استعمالها بمعنى السؤال.
9- إنزال مكروه:
ذكر هذا المعنى جماعة من علماء اللغة( ) وقالوا: إن العرب تقول:
دعاه الله بما يكره. أي: أنزله به، وذكروا له شاهداً من قول الشاعر:
دَعَاكَ اللَّهُ من قَيسٍ بأَفعَى ... ... إِذَا نَام العيونُ سَرَت عَلَيكَا( )
هذا حاصل ما وقفت عليه من معاني كلمة الدعاء وما تصرف عنها، وقد بقيت عدة معاني ذكرها بعض العلماء، وعند إمعان النظر ترجع إلى المعاني المذكورة السابقة، فتكون من بعض أفراد المعاني السابقة، وليست جديدة، وسأذكر تلك المعاني مع شواهدها، وأبين رجوعها إلى المعاني السابقة، مع الإشارة إلى من جعلها من معاني الدعاء.
فمن تلك المعاني:
1- الرفعة والتنويه:
فقد ذكر هذا المعنى الراغب الأصفهاني، وفسر به قوله تعالى: ((لا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلا فِي الآخِرَةِ)) [غافر:43]( ).(1/19)
وهذا الذي قاله الراغب رحمه الله فيه نظر، فقد ذكر الحافظ ابن حجر رحمه الله من معاني الدعاء: الاستغاثة، ثم قال: "ويطلق أيضاً على رفعة القدر كقوله تعالى: ((لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلا فِي الآخِرَةِ)) [غافر:43] كذا قال الراغب، ويمكن رده إلى الذي قبله"( ).
ويؤيد الاحتمال الذي أبداه الحافظ أن أقوال المفسرين في الآية تدور حول المعاني الآتية:
أحدها: أنه ليس له استجابة دعوة أي دعاءٍ، أي: لا يستجيب لأحد في الدنيا ولا في الآخرة.
ثانيها: أنه ليست له دعوة إلى عبادته في الدنيا؛ لأن الأوثان لا تدَّعِي الربوبية، ولا تَدعُو إلى عبادتها، وفي الآخرة تتبرأ من عابديها.
وثالثها: أنه ليس له شفاعة( ).
فتبين مما تقدم أن "دعوة" في الآية معناها يرجع إما إلى الدعاء بمعنى الطلب، والمسألة على المعنى الأول والثالث؛ لأن الشفاعة نوع من الدعاء، أو يرجع إلى الدعاء بمعنى الحث على المعنى الثاني.
وقد تقدم كل من المعنيين، فيكون هذا المثال داخلاً في أحدهما، وبهذا يتضح أن هذا المعنى الذي ذكره الراغب للدعاء لا يصح الاستشهاد عليه بالآية المذكورة، إذا لم يكن هناك شاهد آخر من اللغة الفصحى يدل له، فعلى هذا لا يصح عده من معاني الدعاء اللغوية، مع العلم بأن المعاجم اللغوية الأخرى التي اطلعنا عليها لم تذكر هذا المعنى.
2- العذاب:
فقد ذكره بعض علماء اللغة( ) ومثلوا له بقوله تعالى: ((إِنَّهَا لَظَى)) [المعارج:15] ((نَزَّاعَةً لِلشَّوَى)) [المعارج:16] ((تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى)) [المعارج:17]. وقالوا: إن دعوتها لهم هو ما تفعل بهم من الأفاعيل، وادَّعوا أن هذا المعنى هو الصحيح، وأنه ليس بمعنى النداء الحقيقي، قال ابن سيده: "وقيل هو من الدعاء الذي هو النداء، وليس بقوي"( ).(1/20)
وهذا الذي قالوه غير صحيح، لأنه خروج عن ظاهر اللغة بدون ضرورة تلجىء إليه وذلك من تحريف الكلم عن مواضعه، وقد تسرب هذا التأويل إلى هؤلاء اللغويين من المعتزلة والجهمية الذين فتحوا باب التأويل والتحريف في كلام الله ورسوله، وقلدهم بعض علماء اللغة بدون إحاطة بما يحتوي كلامهم عليه من المفاسد. ثم إن هؤلاء فروا من القول بنداء النار وكلامها، وهذا أمر ثابت بغير هذه الآية من الكتاب والسنة بعبارات صريحة لا تحتمل التأويل، قال تعالى: ((يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ)) [ق:30]. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {اشتكت النار إلى ربها فقالت: رب أكل بعضي بعضاً، فأذن لها بنفسين...}( ).
وعنه رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: {تحاجت الجنة والنار، فقالت النار: أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين، وقالت الجنة: مالي لا يدخلني إلاّ ضعفاء الناس وسَقَطُهم. قال الله تبارك وتعالى للجنة: أنتِ رحمتي، أرحم بكِ من أشاء من عبادي، وقال للنار: إنما أنتِ عذاب أعذب بكِ من أشاء من عبادي...}( ).
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: {لا تزال جهنم تقول: هل من مزيد. حتى يضع فيها رب العزة تبارك وتعالى قدمه فتقول. قط قط وعزتك، ويزوي بعضها إلى بعض}( ).
وقد دلت هذه النصوص القطعية الصريحة على أن النار تتكلم حقيقة، فبذلك يصح أنها تنادي، فلا حاجة إلى تأويل "تدعو" في الآية إلى تعذب. ثم إن هذا المعنى -الذي هو العذاب- لو ثبت لغوياً أنه من معاني الدعاء فهو داخل تحت إنزال المكروه، فهو ليس معنىً جديداً.
3- الاستفهام:
فقد ذكره بعض علماء تفسير غريب، القرآن( )، ومثلوا له بقوله تعالى في قصة مراجعة بني إسرائيل لموسى عليه السلام في ذبح البقرة: ((قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ)) [البقرة:68، 69، 70] أي: استفهم لنا ربك.(1/21)
وهذا المعنى راجع إلى المعنى الأول الذي هو الطلب، فإن الاستفهام قسم من أقسام الطلب وليس قسيماً له، ومما يدل على رجوعه إلى ذلك ما روي عن الكلبي( ) أنه فسره بقوله: "سل لنا ربك"( ).
4- الجعل:
فقد ذكره بعضهم من معاني الدعاء( ) ومثلوا له بقوله تعالى. ((أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا)) [مريم:91]، وبقوله تعالى: ((وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ)) [لقمان:30]، وبقول الشاعر:
أَهوَى لها مِشقَصاً حَشراً فشَبرَقَها ... ... ... وكنت أدعو قَذَاها الإثمِدَ القردَا( )
وبقول آخر:
أَلاَ رُب من تَدعُو نصيحاَ وإن تَغِب ... ... تَجِدهُ بغَيب غَيرَ مُنتَصِحِ الصَّدرِ( )
وترجع هذه الأمثلة إلى ما تقدم من المعاني.
ففي الآية الأولى ذهب الأكثرون إلى أنها بمعنى (سموا)، فترجع إلى معنى التسمية، فعلى هذا فإن الدعاء بمعنى التسمية يتعدى إلى مفعوليه كما تقدم، اقتصر هنا على المفعول الثاني، وحذف الأول ليفيد العموم والإحاطة لكل ما دعي له عز وجل ولداً من عيسى وعزير وغيرهما( ).
وفي الآية الثانية بمعنى العبادة أو السؤال كما هو واضح، وسيأتي ما يؤيد أنها بمعنى العبادة( )، وفي البيتين يرجع الدعاء إلى معنى التسمية، فقوله: "وكنت أدعو قذاها" أي: أسميه( )، وقوله: "من تدعو نصيحاً" أي: تسميه نصيحاً، وتلقبه بذلك.
5- ا لاستحضار:
فقد ذكره بعضهم( ) ومثل له بقوله تعالى: ((يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ)) [ص:51].
وقولهم: دعا بالكتاب، أي: استحضره، وهذا راجع إلى معنى الطلب أيضاً، فالمعنى أنه طلب حضور الكتاب في المثال الثاني، وأما في الآية فالمعنى أن أهل الجنة يسألون ويطلبون الفواكه الكثيرة والشراب.
6- الندبة:
فقد ذكر هذا المعنى كثير من علماء اللغة. وقالوا: "يقال: دعا الميت: ندبه"( ) والظاهر: أنه يرجع إلى معنى النداء، فلذلك قال ابن سيده(1/22)
وغيره: "ودعا الميت ندبه كأنه ناداه "( ) ففيه معنى النداء، فيرجع إليه.
7- الثناء:
فقد ذكره بعضهم( ) ومثل له بقوله تعالى: ((قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُوا)) [الإسراء:110] وفي التمثيل بهذه الآية نظر؛ لأن الدعاء هنا إما بمعنى النداء على ما اختاره أبو حيان وجماعة،( ) أو بمعنى التسمية على ما اختاره الزمخشري( )، أو بمعنى السؤال المتضمن معنى التسمية على ما اختاره ابن القيم.
وقد عقب ابن القيم على اختيار الزمخشري بأنها بمعنى التسمية، فقال:
"وهذا الذي قاله هو من لوازم المعنى المراد بالدعاء في الآية، وليس هو عين المراد، بل المراد بالدعاء معناه المعهود المطرد في القراَن، وهو دعاء السؤال ودعاء الثناء، ولكنه متضمن معنى التسمية، فليس المراد مجرد التسمية الخالية عن العبادة والطلب، بل التسمية الواقعة في دعاء الثناء والطلب، فعلى هذا المعنى يصح أن يكون في تدعوا معنى تسموا، فتأمله.. والمعنى: أيّاَ ما تسموا في ثنائكم ودعائكم وسؤالكم.. والله أعلم"( ). والحاصل أن التمثيل بالآية غير متفق عليه مع احتماله لمعنى الثناء، ولكنه في معنى السؤال أظهر كما يدل عليه سبب النزول( )، فلا يعد هذا المعنى مستقلاً للدعاء.
8- الإيمان:
فقد فسر ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قوله تعالى: ((قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ)) [الفرقان:77]، بقوله رضي الله عنه: "يقول: لولا إيمانكم"( ).(1/23)
وقد ذكره أيضاً البخاري رحمه الله في كتاب الإيمان فقال: "دعاؤكم، إيمانكم"( )، فالبخاري يشير بهذا إلى "أن الدعاء عمل، وقد أطلقه على الإيمان، فيصح إطلاق أن الإيمان عمل"( ) فهو يستدل بهذا على أن الأعمال داخلة في مسمى الإيمان. وذكر محمد صديق حسن خان (ت:1307هـ) رحمه الله أن "أصل الدعاء في اللغة: الإيمان"( ) وهذا الذي قاله لم أجد من سبقه إليه، فإن ابن عباس والبخاري إنما ذهبا إلى أن معنى الدعاء في الآية:الإيمان، ولم يقولا: بأنه هو الأصل في اللغة، مع أن كلامهما يمكن أن يحمل على أنهما أرادا بالإيمان العبادة؛ لأن معنى الإيمان عند الإفراد يشمل جميع أنواع العبادة وجميع أنواع الطاعات، كما ذكر ذلك في مسألة الفرق بين الإيمان والإسلام والفقير والمسكين، وإطلاق الدعاء على العبادة ثابت كما تقدم.
ومما يدل على هذا الاحتمال أن ابن جرير فسر الدعاء في الآية بالعبادة والطاعة، ثم قوى هذا التفسير بقول ابن عباس: "لولا إيمانكم"( ) فدل على أنه يرى أنه لا فرق بين تفسير الدعاء بالعبادة، وبين تفسيره بالإيمان، فكلاهما يطلق على الآخر.
ومن هنا يتضح أن هذا المعنى ليس معنىً مستقلاً، بل هو راجع إلى معنى العبادة الذي تقدم.
هذه المعاني المتقدمة هي المعاني التي ذكروها لمادة "دع و" المجردة.
وأما مادة "دع و" المزيدة فقد ذكروا لها معاني، أغلبها ترجع إلى هذه المعاني عند التأمل، ومن المعاني التي ذكروها: التمني، والزعم، وا لتداعي.
1- أما التمني: فقد ذكره كثير من العلماء( )، ومثلوا له بقوله تعالى: ((لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ)) [يس:57]، وقوله تعالى: ((وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ)) [فصلت:31]، وبنحو قولهم: "فلانٌ في خير ما ادَّعَى" أي: ما تمنَّى. وقولهم: "ادع عليَّ ما شِئتَ" أي: تَمَنَّ عَلَيَّ( ).(1/24)
وهذا المعنى يرجع عند التأمل إلى معنى الطلب، إذ التمني أحد أنواع الطلب، ومما يقوي هذا المعنى ما قاله الراغب الأصفهاني في تفسير الآية السابقة: (ولكم فيها ما تدعون): أي: ما تطلبون.( ) وكذلك ما قاله ابن سيده في المحكم، حيث ذكر أن (ادعى) بمعنى (تمنى)، ثم قال: "وفي التنزيل (ولهم ما يدعون) معناه: ما يتمنون، وهو راجع إلى معنى الدعاء، أي: ما يدعيه أهل الجنة"( ).
ومثله قول الزجاج بعد تفسيره بالتمني: "وهو مأخوذ من الدعاء، المعنى: كل ما يدعو أهل الجنة يأتيهم"( )، وقولهم: ادع علي ما شئت. أي: اطلب مني ما شئت. وقولهم: فلان في خير ما ادعى. أي: في خير ما طلب.
2- وأما الزعم والادعاء حقاً كان أو باطلاً فقد ذكره بعض أهل العلم( )، ومن أمثلته التي ذكروها قوله تعالى: ((وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ)) [الملك:27] أي: هذا العذاب الذي زعمتم أنه باطل، وأنه لا يقع.
ويحتمل رجوعه إلى معنى الطلب أيضاً، فالمعنى على ذلك: هذا الذي كنتم تَدعُون اللهَ تعالى بتعجيله. يعني قولهم: ((وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ)) [الأنفال:32].
فهذا ظاهر على قراءة تدعون بالتخفيف، وأما على قراءة التشديد فيحتمل أن يكون تدعون تفتعلون من الدعاء أو من الدعوى( )، وذكر البغوي القراءتين وأن معناهما واحد، مثل تذكرون وتذكرون، وقال: "تفتعلون من الدعاء أي: أن تدعوه وتتمنوه أنه يجعله لكم"( ).
3- وأما التداعي والتساقط فقد ذكرته طائفة من أهل اللغة( )، ومن أمثلته حديث: {يُوشِكُ أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة على قصعتها}( ).
وقولهم: "تداعت الحيطان" أي: تساقطت.
وهذا المعنى راجع إلى النداء، فمعنى (أن تداعى عليكم الأمم) أي: تجتمع ويدعو بعضهم بعضاً، كما في النهاية( ).(1/25)
وفي المثال الثاني جعل الحيطان كأنه يدعو بعضه بعضاً، كما سبقت الإشارة إلى ذلك في كلام ابن فارس( ).
المطلب الثالث: في المعنى الشرعي للدعاء، والمناسبة بينه وبين المعنى اللغوي:
قد تنوعت عبارات العلماء في تعريف الدعاء، وتعددت كلماتهم، وكلها تهدف إلى الكشف عن حقيقة معناه الشرعي، وإليك بعض تلك العبارات:
قال أبو سليمان الخطابي (ت:388هـ): "ومعنى الدعاء: استدعاء العبد ربه -عز وجل- العناية، واستمدادُه إياه المعونةَ، وحقيقته: إظهار الافتقار إليه، والتبرؤ من الحول والقوة"( ).
وقال أبو عبد الله الحسين بن الحسن الحَلِيميُّ (ت:403هـ): "الدعاء: قول القائل: يا الله! يا رحمن يا رحيم! وما أشبه ذلك"( ).
وقال القاضي أبو بكر بن العربي المالكي (ت:543هـ): "حقيقة الدعاء مناداة الله تعالى لما يريد من جلب منفعة، أو دفع مضرة من المضار والبلاء بالدعاء، فهو سبب لذلك، واستجلاب لرحمة المولى"( ).
وقال شيخ الإسلام أحمد بن عبدالحليم بن تيمية (ت:728هـ): "إن دعاء المسألة: هو طلبُ ما ينفع الداعي، وطلبُ كشفِ ما يضره، ودَ فعِهِ"( ).
وقال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب (ت:1206هـ): "وهو الطلب بياء النداء؛ لأنه ينادى به القريب والبعيد، وقد يستعمل في الاستغاثة أو بأحد أخواتها"( ).
وعرفه الشيخ حسين بن مهدي النعمي اليمني (ت:1187هـ) بقوله: "فالمعنى الذي هو راجع وضعاً لا قصداَ إلى القوي القادر، بحيث لا يصلح إلا له، ولا يتحصل إلا به أو عنه، اسمُ طلبه والتماسِه، واللفظُ الذي يكون له هو الدعاءُ وضعاً وشرعاً، والدعاء في لسان أنبياء الله ورسله وكتابه -اسم لطلب ذلك المعنى-"( ) وقال أيضاً: "إن الدعاء عند المتشرعة والإسلاميين طَبعٌ وهيئةٌ لازمةٌ طلبَ العاجزِ للقادر وسؤاله منه"( ) وعرفه أيضاً بتعريف آخر أطول من هذا يرجع إلى هذا المعنى( ).(1/26)
وعرفه الشيخ عبدالرحمن بن حسن آل الشيخ (ت1285هـ) بقوله: "هو السؤال والطلب رغبة أو رهبة أو مجموعهما"( ).
وهناك تعريفات أخرى( ) تدور حول التعريفات السابقة. وكل هذه التعريفات خاصة بأحد نوعي الدعاء، وهو دعاء المسألة، ولا تشمل دعاء العبادة، ولكن يمكن أن تشمله بطريق التلازم، وذلك بأن يقال: إن المراد من دعاء العبادة هو طلب الثواب، والخوف من العقاب، فهو طلب جلب منفعة أو دفع مضرة، كما يأتي بيان ذلك عند ذكر تلازم نوعي الدعاء.
ولعل التعريف الشامل أن يقال: "الرغبة إلى الله تعالى، والتوجه إليه في تحقيق المطلوب، أو دفع المكروه، والابتهال إليه في ذلك، إمَّا بالسؤال، أو بالخضوع والتذلل، والرجاء والخوف والطمع".
فقولنا: بالسؤال يراد به دعاء المسألة، وقولنا: أو بالخضوع... إلخ يراد به دعاء العبادة، فشمل التعريف نوعي الدعاء، فصار جامعاً مانعاً.
وسيأتي مزيد بيان لهذين النوعين من الدعاء في مبحث أنواع الدعاء إن شاء الله تعالى.
وأما المناسبة بين المعنى اللغوي والشرعي فواضحة، إذ الدعاء في اللغة -كما تقدم- يطلق على الطلب والعبادة والرغبة، فهذه المعاني موجودة في المعنى الشرعي إذ الداعي -سواء كان دعاء مسألة أو عبادة- طالب للأجر والثواب، أو طالب لحاجته من نيل مرغوب أو دفع مرهوب، كما أنه راغب إلى الله تعالى في تحقيق ذلك، ومستعين بالله تعالى، ومستغيثٌ به في ذلك، ومنادٍ له بقوله (يا رب) أو (اللهم) إلخ... فأغلب المعاني اللغوية التي للدعاء لها مناسبة جلية للمعنى الشرعي.(1/27)
ثم بعد هذه التعريفات المتعددة لمعنى الدعاء الشرعي بقي أن نعلم أن معنى الدعاء القائم بقلب المؤمن، ووجدانه وشعوره، وراء هذه العبارات اللفظية، وإنما هذه العبارات تمثيل وإشارة، وتفهيم وتقريب. وإلا فما يقوم بالقلب حينئذ من الرغبة، والابتهال، والانطراح بين يدي الرب، والافتقار إليه، والتذلل بين يديه، والالتجاء إليه والاعتصام به، والتزلف إليه: أمرٌ لا تحيط به العبارة. ونظير هذا التعبير عن معنى بقية الأعمال الصالحة القلبية، كمحبة الله وخشيته، وإجلاله ومهابته، ورجائه والتوكل عليه، فإن العبارة تقصر عن وصف ذلك، مهما تنوعت العبارات، ولا تدرك حقيقة تلك الأعمال إلاّ بالاتصاف بذلك، لا بمجرد الوصف والخبر( ).
المبحث الثاني
في الكلمات الدالة على معنى الدعاء
ويشتمل على مقدمة ومطلبين:
المقدمة: في وجوب الاعتناء بمعرفة الأسماء الشرعية، وأقسام الكلمات، والأسباب الداعية لشرحها.
المطلب الأول: في الكلمات المرادفة للدعاء.
المطلب الثاني: في الكلمات الخاصة بنوع معين من أنواع الدعاء.
مقدمة
في الأسباب الداعية إلى التعرض لشرح هذه الكلمات، وفي ذكر أقسامها
ومما ينبغي أن يعلم: أنه يجب الاعتناء بمعرفة معاني الأسماء الشرعية، وتعريفاتها، وما أراد الشارع منها.
فإن بيّن الشارع مراده منها يجب معرفة ذلك البيان والالتزام به، وإن كان مما هو معروف لدى أهل اللغة العربية فينبغي معرفة معناه في لغتهم أو عرفهم( ).
وذلك لأن معرفة الأسماء الشرعية من معرفة حدود ما أنزل الله تعالى، وقد ذم الله تعالى من لا يعرف حدود ما أنزل الله على رسوله فقال: ((الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ)) [التوبة:97].
ثم إن تلك المعرفة يتعلق بها قيام مصالح الناس( )؛ ليتعاملوا على أساسه حتى لا تختلط المفاهيم، وتتضارب الاصطلاحات.(1/28)
هذا في الأسماء الشرعية العامة، وأما في الأسماء الشرعية الأصولية الاعتقادية التي يسبب عدم معرفتها الضلال في الدين، وربما يؤدي إلى الخروج عن الإسلام جملة.
ففي هذه الأسماء يجب الاعتناء أكثر؛ حتى تتضح معالم الدين والتوحيد، ومعالم الشرك وذرائعه ووسائله؛ ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة.
فلهذا فإني سأتعرض لشرح معنى بعض الأسماء التي تشترك مع الدعاء في المفهوم، ولها دلالة على معنى الدعاء.
لكلمة (الدعاء) نظائر وأخوات في اللغة والاستعمال، تستخدم استخدام كلمة الدعاء وترد بمعناها، أو ببعض معناها، وقد تتعاقب مع الدعاء في موضوعات متشابهة، وبين تلك الكلمات وبين كلمة الدعاء اشتراك ومناسبة، وقد تكون تلك النسبة ترادفاً( )، وقد تكون عموماً وخصوصاً من وجه( )، وقد تكون عموماً وخصوصاً مطلقاً( )، وهذه الكلمات ترد في ثنايا هذه الرسالة مراراً وتكراراً، والبحث والتنقيب عن هذه الكلمات، والكشف عن معانيها، وعلاقتها بالدعاء، يزيد معنى الدعاء وضوحاً وبياناً، ويزيد القارئ فهماً وإدراكاً وإحاطة بالبحث بجوانبه المختلفة، كما أن القراَن الكريم قد ترد فيه بعض هذه الكلمات متعاقبة للدعاء، وهذا يقتضي معرفة معاني هذه الكلمات، وبيان مجيئها بمعنى الدعاء، وذكر وجه المناسبة والعلاقة بين هذه الكلمات من جهة، وبين الدعاء من جهة أخرى؛ حتى تتضح الصورة الكاملة لمعنى الدعاء ونظائره. وسأذكر إن شاء الله تعالى هذه الكلمات، وأقتصر على الكلمات الكثيرة التوارد في الكتاب والسنة، واستعمال أهل العلم دون الكلمات التي يندر استعمالها، أو التي تستعمل في دعاء خاص نادر الوقوع، كالتسميت والتشميت، فقد وردا بمعنى الدعاء للعاطس، والأَلّ: بمعنى رفع الصوت بالدعاء، والمَلَق: بمعنى الدعاء والتضرع( ).
فهذه وأمثالها لا أعقد المقارنة بينها وبين كلمة (الدعاء)؛ لعدم كثرة استعمالها في الكتاب والسنة وكلام أهل العلم.(1/29)
وهذه الكلمات الدالة على معنى الدعاء يمكن تقسيمها إلى الأقسام التالية:
أ- قسم يستعمل مرادفاً للدعاء أو أعم من الدعاء، ومن هذا القسم كلمة العبادة والذكر، والصلاة والاستعانة.
ب- قسم خاص بنوع معين من أنواع الدعاء، وهذا القسم يتنوع إلى ثلاثة أنواع:
أ- النوع الأول: ما كان مختصاً بالاستعمال في دفع المكاره والمضار، ومن هذا النوع: كلمة الاستعاذة، والاستغاثة، والاستجارة، واللياذة، والاستغفار، والشفاعة.
2- النوع الثاني: ما كان مختصاً بالاستعمال في جلب المنافع والمسار، ومن هذا النوع كلمة السؤال.
3- النوع الثالث: ما كان مختصاً بالاستعمال في صفة معينة من صفات الدعاء، ومن هذا النوع كلمة النداء، والجؤار، والابتهال.
المطلب الأول: في القسم الأول: وهو ما يستعمل مرادفاً للدعاء أو أعم من الدعاء:
ومن كلمات هذا القسم:
العبادة:
إن كلمتي الدعاء والعبادة قد تكرر ورودهما في القرآن الكريم على مورد واحد، وتعاقبهما على موضوع واحد أو على موضوعات متشابهة، كما أنه ورد في القرآن جمعهما في آية واحدة وسياق واحد، باستعمال إحداهما في صدر الكلام، والأخرى في نهايته، أو عطف جملة فيها إحدى الكلمتين على جملة فيها الأخرى، بحيث لو أن إحدى الكلمتين رفعت من مكانها ووضعت الأخرى مكانها؛ لاستقام المعنى، ولم يحصل خلل في نظم الكلام، فهذه الأساليب تدل على اشتراك الكلمتين في المفهوم أو ترادفهما.
ويكفي في الدلالة على اشتراكهما ما ورد في الحديث الصحيح الذي رواه النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: {سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب ويقول: إن الدعاء هو العبادة. ثم قرأ: ((وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ)) [غافر:60].
(1) تخريجه:(1/30)
قد روي هذا الحديث عن النعمان: يُسَيعُ بن مَعدَان الحضرمي، ورواه عن يسيع ذر بن عبد الله المرهبي، وروى عن ذر راويان إمامان ثقتان، اشتهر الحديث عنهما، وهما:
1- منصور بن المعتمر.
2- والأعمش سليمان بن مهران.
أما منصور: فقد روى عنه حسب اطلاعي خمسة، وهم: سفيان الثوري، وشعبة بن الحجاج، والسدي الكبير إسماعيل بن عبد الرحمن، وشيبان بن عبد الرحمن أبو معاوية، وجرير بن عبد الحميد الرازي.
طريق سفيان الثوري:
أخرجه ابن المبارك في الزهد (ص:459) رقم (1299)، وأحمد في المسند: (4/267) عن عبد الرزاق، وهو ابن همام، وأخرجه أحمد أيضاً في: (276/4)، والترمذي: (374/5) رقم (3247)، وابن جرير في التفسير: (78/24)، كلاهما عن محمد بن بشار، وهو بندار. والحاكم: (490/1) من طريق إبراهيم بن هارون الأصبهاني.
ثلاثتهم -أعني أحمد وابن بشار والأصبهاني- عن عبد الرحمن بن مهدي، والطبراني في الدعاء: (786/2) رقم (1) من طريق محمد بن يوسف الفريابي، وأبي حذيفة، وهو موسى بن مسعود، والبغوي في التفسير: (103/4)، وفي شرح السنة: (184/5) رقم (1384) من طريق الفريابي، وابن منده في التوحيد: (180/2) رقم (325) من طريق قبيصة، وهو ابن عقبة وعبد الرزاق.
ستتهم -أعني ابن المبارك وعبد الرزاق، وابن مهدي، والفريابي، وأبا حذيفة، وفبيصة -عن سفيان الثوري عن منصور به.
طريق شعبة:(1/31)
أخرجه ابن المبارك في الزهد (ص:459) رقم (1298)، ومن طريقه النسائي في الكبرى التفسير: (253/2) ح (484)، وكما في تحفة الأشراف: (30/9) عن سويد بن نصر عن ابن المبارك به، وأبو داود الطيالسي في المسند (ص:108) رقم (801)، ومن طريقه القضاعي في مسند الشهاب: (51/1) رقم (29)، وأحمد في المسند: (277/4) عن محمد بن جعفر، وهو غندر، وأبو داود في السنن: (161/2) رقم (1479) عن حفص بن عمر، وهو الحوضي، وابن جرير في التفسير: (78/24)، من طريق غندر، وابن مهدي والطبراني في الدعاء: (787/2) رقم (2) من طريق الحوضي وأبي الوليد الطيالسي، ومن طريقه المزي في التهذيب: (306/32) في ترجمة يسيع، والحاكم: (91/1) من طريق عبد الرحمن بن مهدي، وسقط من النسخة "عن شعبة"، والبخاري في الأدب المفرد رقم (714) عن أبي الوليد.
ستتهم -أعني: ابن المبارك والطيالسي وغندر والحوضي وابن مهدي وأبا الوليد- عن شعبة عن منصور به.
طريق السدي إسماعيل بن عبد الرحمن:
أخرجه ابن جرير في التفسير: (79/24) من طريق أسباط بن نصر الهمداني عن السدي عن منصور به.
طريق شيبان بن عبد الرحمن النحوي:
أخرجه الطبراني في الدعاء: (787/2) رقم (3) من طريق سعد بن حفص، عن شيبان أبي معاوية، وهو ابن عبد الرحمن النحوي، عن منصور به.
وقد وهم محقق كتاب الدعاء للطبراني فظن أن شيبان أبا معاوية هو أبو معاوية الضرير محمد بن خازم، الذي يروي عن الأعمش كما سيأتي، فجعل الرواية هذه والراوية الآتية طريقاً واحداً، وليس الأمر كذلك، بل هما شخصان مختلفان اتفقا في الكنية.
طريق جرير بن عبد الحميد:(1/32)
أخرجه أبو يعلى عن أبي خيثمة، وهو زهير بن حرب، ومن طريق ابي يعلى أخرجه ابن حبان (موارد) (ص:595) رقم (2396)، والحاكم: (491/1) من طريق يحيى بن يحيى، والقضاعي في مسند الشهاب: (52/1) رقم (29) من طريق محمد بن قدامة. ثلاثتهم -أعني: أبا خيثمة ويحيى وابن قدامة- عن جرير بن عبد الحميد، عن منصور، وأما الأعمش فقد روى عنه أربعة عشر راوياً، وهم: الثوري، وشعبة، ووكيع، وأبو معاوية محمد بن خازم، وعبد الله بن نمير، وأبو عوانة الوضاح، وعبد الله بن إدريس، وعبد الله بن داود، وزهير بن معاوية، ومروان بن معاوية، والقاسم بن معن، وحفص بن غياث، وجرير بن عبد الحميد، وفضيل بن عياض.
طريق الثوري:
أخرجه أحمد: (276/4)، والترمذي: (374/5) رقم (3247)، وابن جرير في التفسير: (78/24) كلاهما عن محمد بن بشار، والحاكم: (490/1) من طريق إبراهيم بن هارون الأصبهاني.
ثلاثتهم -أعني: أحمد وابن بشار والأصبهاني- عن عبد الرحمن بن مهدي، عن الثوري، عن الأعمش به.
طريق شعبة:
أخرجه احمد: (277/4) عن محمد بن جعفر، وهو غندر، والبخاري في الأدب المفرد: (178/2) رقم (185) عن أبي الوليد الطيالسي، والطبراني في الدعاء: (2/787) رقم (2) من طريق حفص بن عمر الحوضي وأبي الوليد الطيالسي.
ثلاثتهم -أعني غندر والطيالسي والحوضي- عن شعبة، عن الأعمش به.
طريق وكيع:
أخرجه أحمد: (276/4)، وابن ماجه: (1258/2) رقم (3828) عن علي بن محمد وهو الطنافسي، كلاهما عن وكيع، عن الأعمش به.
طريق أبي معاوية محمد بن خازم الضرير:
أخرجه أحمد: (271/4)، وابن أبي شيبة: (200/10) رقم (9216)، والترمذي: (5/211) رقم (2969) عن هناد، وهو ابن السري، ومن طريقه أخرجه القضاعي في مسند الشهاب: (52/1) رقم (29)، وأخرجه النسائي في السنن الكبرى التفسير: (2/253) (ح:484)، وكما في تحفة الأشراف: (30/9) عن هناد بن السري أيضاً.(1/33)
ثلاثتهم -أعني: أحمد وابن أبي شيبة وابن السري- عن أبي معاوية، عن الأعمش به. طريق عبد الله بن نمير:
اخرجه أحمد: (271/4) عنه عن الأعمش به.
طريق أبي عوانة الوضاح بن عبد الله اليشكري:
أخرجه الطبراني في الدعاء: (788/2) رقم (5).
طريق عبد الله بن إدريس وهو الأودي:
أخرجه القضاعي في مسند الشهاب: (52/1) رقم (29).
طريق عبد الله بن داود الخريبي:
أخرجه الطبراني في الدعاء: (788/2) رقم (4، 6) من طريق ابن عيينة ومسدد، ومن طريق مسدد أخرجه القضاعي في مسند الشهاب: (52/1) رقم (30)، كلاهما- اعني ابن عيينة ومسدداً- عن عبد الله بن داود الخريبي عن الأعمش به.
طريق زهير بن معاوية:
أخرجه الطبراني في الدعاء: (788/2) رقم (7) من طريق عمرو بن خالد الحراني، عن زهير، عن الأعمش به.
طريق مروان بن معاوية:
أخرجه التَرمذي: (456/5) رقم (3372) عن أحمد بن منيع، عن مروان بن معاوية، عن الأعمش به.
طريق القاسم بن معن:
أخرجه الطبراني في الصغير: (97/2)، وفيه بعد سوق الآية: "قال: يعني عن دعائي".
طريق حفص بن غياث:
أخرجه البيهقي في الدعوات: ورقة (2) ل ب رقم (4)، وعبد الغني المقدسي في الحث على الدعاء رقم (8) ورقة (147).
طريق جرير بن عبد الحميد:
أخرجه ابن جرير في التفسير: (160/2)، عن ابن حميد -وهو محمد بن حميد الرازي- عن جرير، عن الأعمش به.
وفي النسخة المطبوعة من تفسير ابن جرير تصحف اسم جرير إلى جويبر، والصواب -والله أعلم- جرير، وهو ابن عبد الحميد الرازي، وابن حميد معروف بالرواية عنه.
طريق فضيل بن عياض:
أخرجه أبو نعيم في الحلية: (120/8) من طريق سويد بن سعيد، عن فضيل بن عياض، عن الأعمش به.
وحاصل هذه الطرق: أن الحديث قد رواه عن ذر راويان: منصور والأعمش، وكلاهما حافظان ثقتان، ثم اشتهر الحديث عنهما، فقد روى عن منصور خمسة من الرواة، وعن الأعمش أربعة عشر راوياً حسب اطلاعي.(1/34)
وأما ذر فهو ابن عبد الله المرهبي، فهو ثقة عابد، لكنه رمي بالإرجاء، قاله الحافظ في التقريب رقم (1845).
وقال الترمذي: ولا نعرفه إلا من حديث ذر: (456/5).
لكن وجدت له متابعاً، فقد أخرج ابن جرير في التفسير: (79/24) من طريق الحسن بن أبي جعفر عن محمد بن جحادة، عن يسيع الحضرمي به، والحسن بن أبي جعفر هو الجُقرِي، قال فيه الحافظ: ضعيف الحديث مع عبادته وفضله "التقريب رقم (1222) ومثل هذا لا بأس به في المتابعة.
وأما يُسَيع فهو ابن معدان الحضرمي الكوفي، ويقال فيه: أُسَيع، فهو ثقة روى عن علي والنعمان، قال ابن المديني: معروف، وقال النسائي: ثقة، أخرجوا له حديثه عن النعمان: (الدعاء هو العبادة) وذكره ابن حبان في الثقات (التهذيب:11/380)، وقد عرف هذا الحديث عنه كما تدل عليه عبارة النسائي السابقة، وهو ثقة.
الحكم على الحديث:
الحديث رجال إسناده كلهم ثقات..
وقد صحح هذا الحديث جماعة من المحدثين: منهم الترمذي والحاكم والذهبي والنووي وابن حجر والسخاوي والألباني.
قال الترمذي: حسن صحيح، الترمذي (456/5).
وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، المستدرك: (491/1).
وقال النووي: روينا بالأسانيد الصحيحة ثم ذكره الأذكار (ص:345).
وقال الحافظ ابن حجر: إسناده جيد (الفتح: 1/49).
وحسنه السخاوي كما في الفتوحات الربانية (7/191).
وصححه الألباني في صحيح الجامع: (3/150) رقم (3401).
وفي صحيح ابن ماجه: (2/324) رقم (3086).
هذا وللحديث شواهد من حديث البراء بن عازب وأنس بن مالك، وعبد الله بن عباس، وأبي هريرة رضي الله عنهم:
1- حديث البراء:(1/35)
أخرجه أبو يعلى في معجمه (ص:262)، رقم (328)، والخطيب في التاريخ: (12/ 279) من طريق عياش بن محمد الجوهري، كلاهما -أعني أبا يعلى والجوهري- عن يحيى بن أيوب، عن حميد بن عبد الرحمن، عن الأعمش، عن طلحة بن مصرف، عن عبد الرحمن بن عوسجة، عن البراء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الدعاء هو العبادة، وقرأ: (وقال ربكم ادعوني أستجب لكم).
وحميد هذا هو الرؤاسي ثقة كما في التقريب رقم (1551)، وتهذيب الكمال رقم (7/1531)، ويحيى بن أيوب هو المقابري البغدادي ثقة، كما في التقريب رقم (7512).
فالحديث رجال إسناده كلهم ثقات..
حديث أنس بن مالك:
أخرجه الترمذي: (456/5) رقم (3371)، والطبراني في الدعاء: (789/2) رقم (8)، والقشيري في الرسالة: (526/2).
بلفظ: (الدعاء مخ العبادة).
والحديث ضعيف؛ لأن فيه ابن لهيعة، وليس من طريق العبادلة.
وقد ضعفه الألباني، ضعيف الجامع: (158/3) رقم (3003)، ولكنه يصلح في الشواهد.
حديث ابن عباس:
أخرجه الحاكم: (491/1)، بلفظ: (أفضل العبادة هو الدعاء وقرأ: (وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين)).
وصححه الحاكم حيث ذكر حديث النعمان بن بشير ثم قال: ولهذا الحديث شاهد بإسناد صحيح عن عبد الله بن عباس، فذكر طريقين فيهما ضعف، ولكن يقوي أحدهما الآخر، وقد وافق الذهبي الحاكم، وحسنه الألباني في الصحيحة: (106/4) رقم (1579).
حديث أبي هريرة:
أخرجه ابن عدي في الكامل: (1743/5) بلفظ: (أفضل العبادة الدعاء، قال الله عز وجل: (ادعوني أستجب لكم... عن عبادتي) عن دعائي) وقد ضعفه ابن عدي بعمران القطان.
وهذه الشواهد يقوي بعضها بعضاً، وبها يتقوى حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما مع أنه صحيح لذاته، والله أعلم.(1/36)
فهذا الحديث يدل على اتحاد معناهما، ومن هنا فلا بد لي من دراسة معنى العبادة، وذكر المناسبة بينها وبين الدعاء، وبيان تعاقبهما في استعمال القرآن الكريم؛ حتى يتضح معناهما ومدى اشتراكهما في المفهوم.
المعنى اللغوي للعبادة( ):
يقال عبد الله يعبده عبادة ومعبداً ومعبدة وعبودة وعبودية خضع له وذل له وأطاعه، وتألم لم وتنسك.
فالعبادة والعبودة والعبودية: الخضوع والتذلل، والطاعة والانقياد، والتأله والتنسك، يقال: طريق معبد، أي: مذلل، وطئته الأقدام وذللته.
قال طرفة بن العبد( ):
تباري عتاقاً ناحيات وأتبعت ... ... وظيفاً فوق مور معبد( )
يعني بالمور: الطريق، وبالمعبد: المذلل الموطوء، ومن ذلك قيل للبعير المذلل بالركوب في الحوائج: معبد، كما يقال أيضاً للبعير المهنوء بالقطران: معبد.
قال طرفة بن العبد أيضاً:
إلى أن تحامتن العشيرة كلها وأفردت إفراد البعير المعبد( ) وإنما قيل: معبد للبعير المهنوء بالقطران؛ لأنه يتذلل لشهوته القطران فلا يمتنع.
وذكر ابن فارس أن هذه المادة تدل على أصلين كأنهما متضادان:
أحدهما اللين والذل، والآخر الشدة والغلظ، فمن الأول العبد المملوك، والبعير المعبد، والطريق المعبد، ومن الثاني العبدة، وهي القوة والصلابة، يقال: هذا ثوب له عبدة إذا كان صفيقاً قوياً( ). هذا ومن استعمال العبادة بمعنى الطاعة والانقياد قوله تعالى: ((أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ)) [يس:60] أي: لا تطيعوه، وقوله تعالى: ((فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ)) [المؤمنون:47] أي: مطيعون متذللون لنا، يدينون لنا، والعرب تسمي كل من دان للملك عابداً له( ).(1/37)
فتحصل مما سبق أن العبادة في اللغة: الخضوع والتذلل، والطاعة، وهل تطلق العبادة على كل خضوع وتذلل أو كل طاعة أم هناك تقييد؟. قال الزجاج: "ومعنى العبادة في اللغة الطاعة مع الخضوع"( ) فقيد الطاعة بالخضوع.
وقال ابن سيده: "وكل خضوع ليس فوقه خضوع فهو عبادة، طاعة
كان للمعبود أو غير طاعة، وكل طاعة لله على جهة الخضوع والتذلل فهي عبادة، والعبادة نوع من الخضوع لا يستحقه إلا المنعم بأعلى أجناس النعم، كالحياة والفهم والسمع والبصر"( ).
فعلى هذا لا يقال كما قال الخليل بن أحمد الفراهيدي (ت175هـ): "عبد يعبد عبادة إلا لمن يعبد الله، وأما عبد خدم مولاه فلا يقال عبده"( ).
وأيد عدم الإطلاق إلا في حق الله تعالى الزمخشري وتبعه الصنعاني فإنه قال في تعريف العبادة: "والعبادة أقصى غاية الخضوع والتذلل... ولذلك لم تستعمل إلا في الخضوع لله تعالى؛ لأنه مولى أعظم النعم، فكان حقيقياً بأقصى غاية الخضوع"( ).
كما يؤيد ذلك أيضاً كلام الراغب الأصفهاني حيث قال: "العبودية إظهار التذلل، والعبادة أبلغ منها؛ لأنها غاية التذلل، ولا يستحقها إلا من له غاية الإفضال وهو الله تعالى"( ).
ولكن الراغب لم ينف الاستعمال اللغوي، وإنما نفى الاستحقاق.
وقد ذهب إلى قريب من تعريف الزمخشري الشيخ محمد رشيد رضا تبعاً لشيخه محمد عبده حيث قال: "ضرب من الخضوع بالغ حدَّ النهاية، ناشئ عن استشعار القلب عظمة للمعبود لا يعرف منشأها، واعتقاده بسلطة له لا يدرك كنهها وماهيتها، وقُصارى ما يعرفه منها أنها محيطة به، ولكنها فوق إدراكه"( ). وقريب من هذا تعريف الشيخ عبد الرحمن المعلمي بأنها الخضوع طلباً للنفع الغيبي( ) وقال في كتابه العبادة: خضوع اختياري يطلب به نفع غيبي، فإن كان لله زيد "بسلطان" وإن كان لغيره زيد "بغير سلطان"( ).(1/38)
فعلى هذا لا تطلق العبادة إلا باعتبار الاعتقاد بالسلطة الغيبية، وأما الخضوع بغير اعتقاد للسلطة الغيبية للمخضوع له فليس بعبادة، ويفهم من هذا أن العبادة لا تطلق في حق المخلوق، فهذا القول يعكر عليه ما ورد من إطلاق العبادة في حق المخلوق، نحو قوله تعالى: ((وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ)) [يونس:18] وقوله: ((أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ)) [المؤمنون:47]، ويمكن الإجابة عن هذا بأن الأصل ألا تستعمل إلا في حق الله تعالى، أو أنه لا يستحقها إلا هو، كما هو نص عبارة ابن سيده والراغب المتقدمتين.
وأما إذا استعملت في غير حق الله تعالى فلاعتقاد العابد السلطة الغيبية لمعبوده فصار إلهه ومعبوده، وكأنه مولى أعظم النعم، فلهذا صرف له ما لا يصرف إلا لذي السلطة القاهرة الغيبية الذي هو العبادة، فتحصل من هذا أن قول الزمخشري أن العبادة لم تستعمل إلا في الخضوع لله تعالى لا يستقيم إلا على إرادة أصل الاستعمال أو إرادة الاستحقاق، أو يقال: إنه لاحظ المعنى الشرعي ولم يلاحظ الاستعمال اللغوي، وقد أشار إلى هذا الوجه الأخير الشيخ حسين بن مهدي النعمي( ).
المعنى الشرعي للعبادة:
قد تنوعت عبارات العلماء في بيان وشرح معنى العبادة الشرعي، ولكثرة تلك التحريفات نشير إلى بعضها:
1- قال ابن كثير: "وفي الشرع عبارة عما يجمع كمال المحبة والخضوع والخوف"( ).
2- ونحوه قول شيخ الإسلام: "وهي اسم يجمع كمال الحب لله ونهايته، وكمال الذل لله ونهايته، فالحب الخلي عن ذل، والذل الخلي عن حب لا يكون عبادة، وإنما العبادة ما يجمع كمال الأمرين"( ).
ونحوه قوله الآخر: "وعبادة الله وحده يدخل فيها كمال المحبة لله وحده، وكمال الخوف منه وحده، والرجاء له والتوكل عليه"( ).(1/39)
ودلالة العبادة على المحبة ناتجة من أن آخر مراتب الحب هو التتيم، يقال: تيم الله، أي: عبد الله، فالمتيم المعبد لمحبوبه، ومن خضع لإنسان مع بغضه له لا يكون عابداً له، ولو أحب شيئاً ولم يخضع له لم يكن عابداً له، كما قد يحب ولده وصديقه( ).
وعرفها أيضاً بقوله: "اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة"( ).
3- وعرفها الرازي بقوله. "فهي فعل أو قول، أو ترك فعل أو ترك قول، ويؤتى به لمجرد اعتقاد أن الآمر به عظيم يجب قبوله"( )، وقال أيضاً: "عبارة عن الفعل الذي يؤتى به لغرض تعظيم الغير"( ).
4- وعرفها صالح بن مهدي المقبلي اليمني (ت:1108هـ) بقوله: "الاعتراف بما ينبغي بالقول والفعل" ومن لازم الاعتراف الضراع( ).
5- وقال النعمي: "هي وقفك النفس على مطلوب حكم الله تركاً وعملاً واعتقاداً. أو استعمال نفسك له وحده تركاً وعملاً واعتقاداً على مقتضى حكمه الطلبي"( ).
6- وعرفها بعضهم بأنها: "ما أمر به شرعاً من غير اطراد عرفي، ولا اقتضاء عقلي"( ).
وهذا التعريف ربما يفهم منه أنها خاصة بجانب الأمر فقط، والصحيح: أنها تشمل جانب الترك الذي هو النهي، والمأثور عن السلف وأهل اللغة تفسيرها بالطاعة فيدخل الأمران( ).
وفي بعض هذه التعريفات نظر لا يخفى. ومناقشة هذه التعريفات تطول، وهناك تعريفات أخرى تدور حول هذه التعريفات المذكورة( ).
وأحسن هذه التعريفات هو ما قاله ابن كثير وابن تيمية رحمهما الله تعالى؛ وذلك لأنه يمثل حقيقة العبادة ويبينها بأدق تعبير وأوجزه، مع الشمول والإحاطة.(1/40)
قال الشيخ يوسف القرضاوي في ترجيحه لتعريف شيخ الإسلام ابن تيمية: "فهو ينظر إلى العبادة نظرة أعمق وأوسع، فهو يحلل معناها إلى عناصره البسيطة، فيبرز إلى جوار المعنى الأصلي في اللغة، وهو غاية الطاعة والخضوع عنصراً جديداً له أهمية كبرى في الإسلام وفي كل الأديان عنصراً لا تتحقق العبادة -كما أمر الله- إلا به، وذلك هو عنصر الحب، فبغير هذا العنصر العاطفي الوجداني لا توجد العبادة التي خلق الله لها الخلق..."( ).
فتبين بهذه التعريفات أن الدين كله داخل في مفهوم العبادة بدون استثناء، فعلى هذا فدعاء المسألة داخل في العبادة، وهو واحد من أفراد العبادة الكثيرة المتنوعة بل هو من أجلها، وأما دعاء العبادة فهو والعبادة سيان كما هو واضح. ولبيان هذه الحقيقة لا بد من استعراض استعمال القرآن الكريم لهاتين الكلمتين في الأساليب المتنوعة، وقد تقدمت الإشارة إلى أنهما يتعاقبان على موضوع واحد أو على موضوعات متشابهة، وإلى أنهما قد يردان في آية واحدة، ونورد بعض الأمثلة على ذلك ونقارن بعضهما ببعض على شكل مجموعات.
أمثلة تعاقبهما على موضوع واحد: أ- قوله تعالى: ((يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُ وَمَا لا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ)) [الحج:12].
2- قوله تعالى: ((قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُنَا وَلا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا...)) [الأنعام:71].
3- قوله تعالى: ((وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ)) [يونس:106].(1/41)
فهذه المجموعة من الآيات التي استعمل فيها متصرفات الدعاء مثل المجموعة التالية التي استعمل فيها متصرفات العبادة، من حيث الموضوع ومضمون الكلام، فكلا المجموعتين في بيان جهالة المشركين حيث صرفوا عبادتهم لما لا ينفعهم ولا يضرهم، قال تعالى: ((وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ)) [الفرقان:55]. وقال عز من قائل: ((وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ)) [يونس:18].
وقال سبحانه: ((قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا)) [المائدة:76]. وقال تعالى: ((قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُكُمْ شَيْئًا وَلا يَضُرُّكُمْ)) [الأنبياء:66].
ومن ذلك أيضاً قوله تعالى: ((هُوَ الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)) [غافر:65]. وقال سبحانه: ((فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ)) [غافر:14].
وقال تعالى: ((وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ)) [الأعراف:29].
فهذه المجموعة من الآيات التي استعمل فيها مادة الدعاء مثل المجموعة التالية التي استعمل فيها مادة العبادة، فالمجموعتان فيهما الأمر بإخلاص العبادة لله تعالى.
قال تعالى: ((وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ)) [البينة:5]. ((فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ)) [الزمر:2]. ((قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي)) [الزمر:14].(1/42)
ومن أمثلة استعمالهما في موضوعات متشابهة قوله تعالى: ((إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ)) [العنكبوت:17]. ((وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ شَيْئًا وَلا يَسْتَطِيعُونَ)) [النحل:73].
فهذه المجموعة التي استعمل فيها مادة العبادة تتحدث عن أن المعبودين من دون الله لا يملكون الرزق لعابديهم، فكذلك الآيات الآتية التي تتحدث عن أن المدعوين من دون الله لا يملكون شيئاً، كما أنهم لا يستطيعون نصر أنفسهم ولا غيرهم، فموضوع المجموعتين متشابه وقريب جداً.
قال تعالى: ((وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ)) [فاطر:13]. ((وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ)) [الأعراف:197].
ومن أمثلة ورودهما في جملة واحدة وسياق واحد أو جملتين مقترنتين، وذلك بجعل أحدهما مكان الآخر إذ لو رفع أحدهما ووضع الآخر موضعه لاستقام المعنى؛ مما يدل على اتحاد معناهما.
قوله تعالى: ((قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ)) [الأنعام:56]. ((قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي)) [غافر:66]. ((وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا)) [مريم:48] ((فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ)) [مريم:49].
((وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ)) [غافر:60](1/43)
ففي هذه الآية "وضع عبادتي موضع دعائي"( )، فإنه لو قيل: إن الذين يستكبرون عن دعائي لاستقام المعنى.
((وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ)) [الأحقاف:5] ((وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ)) [الأحقاف:6].
فهذه الاستعمالات بهذه الأساليب المتنوعة والمتكررة في عدة آيات، تدل على أن معناهما واحد في هذه التراكيب، وأن مفهومهما متحد، أو أنهما متقاربان ومشتركان في المعنى. وليس معنى هذا أن كلمة الدعاء قد أنمحت دلالتها على السؤال والطلب، ولا تدل إلا على معنىا لعبادة، كما يظنه بعض الذين يجيزون سؤال غير الله، بل هي تدل على معنى السؤال والطلب إما تضمناً أو استلزاماً، ولا ينفك أحدهما عن الآخر، بل هما متلازمان كما سيأتي.
فتحصل مما تقدم أن النسبة بين العبادة والدعاء الترادف والتوافق، هذا إذا افترقا، وأما إذا اجتمعا فقد يفرق بين معنييهما، وذلك بأن يراد من الدعاء دعاء المسألة، ويراد بالعبادة امتثال الأوامر واجتناب المناهي، وإلى هذا المعنى أشار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بقوله: "فأحد الاسمين يتناول الآخر عند تجرده عنه، ولكن إذا جمع بينهما فإنه يراد بالسائل الذي يطلب جلب المنفعة، ودفع المضرة، بصيغ السؤال والطلب، ويراد بالعابد من يطلب ذلك بامتثال الأمر، وإن لم يكن في ذلك صيغ سؤال"( ). فاتضح بهذا أنهما ليسا في كل الأساليب متحدين في المفهوم بل لكل واحد منهما مفهومه الخاص، وذلك عند الاجتماع، وأما عند الافتراق والتجرد فيتناول مفهوم أحدهما الآخر.(1/44)
ومثل الدعاء غيره من أنواع العبادات الكثيرة، مثل التوكل والتقوى والطاعة، فإن هذه الألفاظ إذا اقترنت كان لها معنى خاص، وإذا انفردت عمت، قال شيخ الإسلام: "ومن هذا الباب لفظ العبادة، فإذا أمر بعبادة الله مطلقاً دخل في عبادته كل ما أمر الله به، فالتوكل عليه مما أمر الله به، والاستعانة به مما أمر الله به، فيدخل ذلك في مثل قوله: ((وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)) [الذاريات:56]، وفي قوله: ((وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا)) [النساء:36]، ثم قد يقرن بها اسم آخر كما في قوله: ((إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)) [الفاتحة:5] وقوله: ((فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ)) [هود:123]، وقول نوح: ((اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ)) [نوح:3]( )، وذكر شيخ الإسلام أيضاً أن: "العبادة إذا أفردت دخل فيها التوكل ونحوه، وإذا قرنت بالتوكل صار التوكل قسيماً لها"( ) ولا يخفى أن الدعاء مثل التوكل تماماً.
ثم إن هذا المذكور من تنوع معنى العبادة بحسب الاجتماع والتفرق ليس خاصاً بها، فهذا الأسلوب كثيراً ما يجيء في القرآن، تتنوع دلالة اللفظ في عمومه، وخصوصه بحسب الإفراد والاقتران، كلفظ المعروف والمنكر، ولفظ الفقراء والمساكين، ولفظ البر والتقوى، ولفظ الإيمان والإسلام، ولفظ الكفر والفسوق والمعصية، ولفظ الصالح والصديق، وهذا باب واسع كثر وروده في القرآن الكريم( ).
الخلاصة:
إن الدعاء والعبادة تكون النسبة بينهما تارة الترادف، وتارة العموم والخصوص المطلق.
فإذا أريد بالدعاء دعاء العبادة تكون النسبة الترادف.
وإذا أريد من الدعاء دعاء المسألة فالنسبة العموم بالنسبة للعبادة والخصوص بالنسبة للدعاء، فإن العبادة أعم مطلقاً، فتشمل الدعاء والتوكل والمحبة وغيرها من أنواع العبادات، والدعاء خاص بالسؤال والطلب.(1/45)
وإن شئت تقول: النسبة بينهما التلازم كما سيأتي بيان ذلك إن شاء الله تعالى في نوعي الدعاء وتلازمهما.
الذكر:
الكلمة الثانية من القسم الأول: الذكر:
وقد ورد في الأحاديث وآثار السلف وكتب أهل العلم إطلاق الذكر على الدعاء أو العكس، وكذلك عطف أحدهما على الآخر، فلهذا ينبغي بيان العلاقة التي بينهما وبيان السبب في إطلاق أحدهما على الآخر، وذلك باستعراض معنى الذكر لغة وشرعاً، وبيان إطلاق الدعاء على الذكر ووجه ذلك، ثم بيان النسبة بينهما.
المعنى اللغوي والشرعي للذكر:
الذكر في أصل اللغة: "الحفظ للشيء، وعدم نسيانه، وجري الشيء على اللسان"( )، وقيل: "أصل الذكر في اللغة التنبيه على الشيء، ومن ذكرك شيئاً فقد نبهك عليه، وإذا ذكرته فقد نبهته عليه"( ).
وأما في الشرع: فقد ورد إطلاق الذكر على أمور: قال بعضهم:
إن الذكر يطلق على الصلاة، وقراءة القرآن، والتسبيح، والدعاء، والشكر، والطاعة( ).
وزاد بعضهم غير هذه الأمور مما ورد إطلاق لفظ الذكر عليه في الكتاب والسنة( ).
وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي( ): "وإذا أطلق ذكر الله شمل كل ما يقرب العبد إلى الله من عقيدة، أو فكر، أو عمل قلبي، أو عمل بدني، أو ثناء على الله، أو تعلم علم نافع وتعليمه، ونحو ذلك، فكله ذكر لله تعالى"( ).
وهذه الأمور التي أشار إليها السعدي تتنوع إلى خمسة أنواع، ويطلق على كلها الذكر وهي:
1- ذكر أسماء الرب تبارك وتعالى وصفاته، والثناء عليه بها، وتنزيهه إما إنشاءً أو إخباراً.
2- ذكر أمره ونهيه، وأحكامه إخباراً أو امتثالاً.
3- ذكره بكلامه الذي أنزله وتعبدنا بتلاوته.
4- ذكر آلائه وإحسانه، وأياديه، ومواقع فضله.
5- ذكره بدعائه، واستغفاره، والتضرع إليه( ).
إذا عرفنا هذه الأنواع -نستطيع أن نقول-: إن دعاء المسألة هو النوع الأخير، الذي هو ذكره بدعائه، واستغفاره، ومع هذا فقد ورد في أحاديث كثيرة إطلاق الدعاء على الذكر الأعم من معنى دعاء المسألة.(1/46)
ومن تلك الأحاديث:
قوله صلى الله عليه وسلم: {أفضل الدعاء دعاء يوم عرفة، وأفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له...}( ).
وقوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: {أفضل الذكر لا إله إلا الله، وأفضل الدعاء الحمد لله}( ).
ومن ذلك حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: {كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو عند الكرب يقول: لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب السموات والأرض، ورب العرش العظيم}( ).
وحديث سعد بن أبي وقاص رفعه: {دعوة ذي النون إذ دعا وهو في بطن الحوت: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين. فإنه لم يدع بها رجل مسلم في شيء قط إلا استجاب الله تعالى له}( ).
وقد أجاب عدة علماء عما يبدو في الظاهر من إشكال في إطلاق الدعاء على الذكر والثناء في هذه الأحاديث السابقة، ومن العلماء الذين أجابوا عن ذلك:
أ- سفيان بن عيينة، فقد سئل عن دعاء يوم عرفة فقال: إنما هو ذكر، وليس فيه دعاء -ثم قال:- أما علمت قول الله عزوجل حيث يقول: {إذا شغل عبدي ثناؤه علي عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين}( ).
قال: هذا تفسيره ثم قال: أما علمت قول أمية( ) بن أبي الصلت حين أتى ابن جدعان( ) يطلب نائله وفضله:
أأطلب حاجتي أم قد كفاني ... ... حياؤك إن شيمتك الحياء
إذا أثنى عليك المرء يوماً ... ... كفاه من تعرضه الثناء( )
قال سفيان رحمه الله: هذا مخلوق حين ينسب إلى أن يكتفي بالثناء عليه، فكيف بالخالق تبارك وتعالى؟( ). فعلى هذا القول إن الذكر ليس طلباً، ولكنه تعرض للنوال والعطاء.(1/47)
ب- وقد ذهب ابن تيمية وابن القيم إلى أن الثناء نفسه يعد نوعاً من أنواع الطلب، وذلك لأن الثناء يتضمن الطلب، فقد سمى النبي صلى الله عليه وسلم "الحمد لله" دعاء، في حديث: {وأفضل الدعاء الحمد لله} مع أن الحمد ثناء محض؛ لأن الحمد متضمن الحب والثناء، والحب أعلى أنواع الطلب للمحبوب، فالحامد طالب للمحبوب، فهو أحق أن يسمى داعياً من السائل الطالب، فنفس الحمد والثناء متضمن لأعظم الطلب، فهو دعاء حقيقة، بل أحق أن يسمى دعاء من غيره من أنواع الطلب الذي هو دونه"( ).
جـ- وعلل أبو إسحاق الزجاج تسمية الذكر والثناء دعاء، بأن الدعاء معناه النداء، فالإنسان يصدر في الذكر والثناء بالنداء كأن يقول: يا الله! لا إله إلا أنت. ويقول: ربنا لك الحمد. إذا قال هذا فقد دعاه أولاً ثم أتى بالثناء والتوحيد( ).
د- وعلل العز بن عبد السلام ذلك بقوله: لما كان الذكر يترتب عليه ما يترتب على الدعاء شابه الدعاء؛ فسمي به( ).
هـ- وقال الخطابي: إن الداعي يفتتح دعاءه بالثناء على الله سبحانه ويقدمه أمام مسألته، فسمى الثناء دعاء؛ إذ كان مقدمة له وذريعة إليه على مذهبهم في تسمية الشيء باسم سببه( ).
و- وقال محب الدين الطبري( ) في حديث دعاء يوم عرفة: "معناه أفضل ما يستبدل به عن الدعاء يوم عرفة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له"( ).
ز- وعلل الدهلوي ذلك فقال: "وسر قوله عليه السلام: {أفضل الدعاء الحمد لله} أن الدعاء على قسمين: والحمد لله يفيدهما جميعاً، فإن الشكر يزيد النعمة؛ ولأنها معرفة ثبوتية"( ).
هذا حاصل ما أجاب به العلماء عن إطلاق الدعاء على الذكر، ولكن هذين الوجهين الأخيرين لا ينطبقان على كل الأحاديث التي ورد فيها إطلاق الدعاء على الذكر، فهما خاصان ببعضها، فالأجوبة الأولى هي الأقوى والأقوم.
النسبة بين الدعاء والذكر:(1/48)
قد علم مما سبق أن الذكر يعم جميع أفعال العبد وتصرفاته إذا نوى بها الطاعة، فهو يشمل الأنواع السابقة، فمفهومه أوسع من دعاء المسألة، ومن هنا يمكن أن نقول: إن مفهومه ومفهوم دعاء العبادة متساويان، فهما مترادفان، هذا إذا أريد من الدعاء دعاء العبادة، وأما إذا أريد من الدعاء دعاء المسألة فتكون النسبة بينهما العموم والخصوص المطلق؛ لأن الذكر أعم مطلقاً من الدعاء؛ لأن الدعاء لا ينفك عن كونه ذكراً، وأما الذكر فيكون سؤالاً وغير سؤال، وإن شئت قلت: النسبة بينهما التلازم، فإن دعاء المسألة ذكر وثناء وتضرع وافتقار، كما أن في الذكر طلب جلب النفع ودفع الضر، ورجاء الثواب، وخوف العقاب.
قال الخطابي رحمه الله: "وفيه -أي: دعاء المسألة- معنى الثناء على الله عز وجل، وإضافة الجود والكرم عليه"( ). وقال شيخ الإسلام رحمه الله: "إن كل واحد من الدعاء والذكر يتضمن الآخر ويدخل فيه"( ). والحاصل: أن العلاقة بين الدعاء والذكر إما ترادف واتحاد، وإما عموم وخصوص مطلق، وإما تلازم، ولا يتصور انفكاك أحدهما عن الآخر، فلهذا كانت أغلب الكتب المصنفة في الأذكار تشتمل على الأدعية وبالعكس، ومن هنا جاءت تسمية المؤلفين الكتب المصنفة في الأذكار والأدعية تترجم عن هذا المعنى، وتعبر عنه بعناوينها البارزة والمتعددة والحاوية لهذا المعنى، فمن تلك المؤلفات كتب سميت بعنوان كتاب الذكر أو الأذكار، وأخرى سميت باسم الدعاء أو الأدعية، وأخرى بالجمع بين الاسمين كتاب الذكر والدعاء، أو الأذكار والأدعية، أو الدعوات والأذكار... إلى غير ذلك، وكلها مضمونها واحد، وتهدف إلى هدف واحد.
الكلمة الثالثة من القسم الأول: الصلاة:(1/49)
الصلاة معناها في اللغة: الدعاء( )، قال تعالى: ((خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ)) [التوبة:103]، وقد قالت عائشة رضي الله عنها في قوله تعالى: ((وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا)) [الإسراء:110]: أنزل ذلك في الدعاء( ) فيكون معنى بصلاتك: بدعائك.
وقال تعالى: ((وَمِنَ الأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ...)) [التوبة:99] إلى قوله: ((وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ)) [التوبة:99] أي: دعواته( )، وقال صلى الله عليه وسلم: {إذا دعي أحدكم فليجب، فإن كان صائماً فليصل، وإن كان مفطراً فليطعم}( ) أي فليدع لهم بالبركة والخير، وكل داع فهو مصل، ومنه قول الأعشى( ):
لها حارس لا يبرح الدهر بيتها ... ... وإن ذبحت صلى عليها وزمزما( )
يعني بذلك: دعا لها. وقال الأعشى أيضاً:
تقول بنتي وقد قربت مرتحلا يا رب جنب أبي الأوصاب والوجعا عليك مثل الذي صليت فاغتمضي نوماً فإن لجنب المرء مضطجعا( ) يقول: عليك من الدعاء مثل الذي دعيته لي.
وقال أيضاً: وقابلها الريح في دنها وصلى على دنها وارتسم( ) أي دعا لها: ألا تحمض ولا تفسد( ). وجاءت تسمية الصلاة
الشرعية مأخوذة من هذا الأصل اللغوي، قال ابن جرير الطبري رحمه الله:
"وأرى أن الصلاة المفروضة سميت صلاة؛ لأن المصلي متعرض لاستنجاح طلبته من ثواب الله بعمله، مع ما يسأل ربه فيها من حاجاته- تعرضت الداعي بدعائه ربه- استنجاح حاجاته وسؤله"( ).
وقال شيخ الإسلام رحمه الله:
"إن الصلاة الشرعية هي دعاء كلها، فإن الدعاء هو قصد المدعو تارة لذاته، وتارة لمسألته أمراً منه، وهذا كالشخص يدعو غيره ويطلبه ويقصده تارة لذاته، وتارة لأمر يطلبه منه، والصلاة تتضمن هذين النوعين: عبادة الله، والثناء عليه، والسؤال له"( ).
وبهذا تقرر أن الصلاة الشرعية معناها الدعاء، كما أن الصلاة في اللغة هي الدعاء.(1/50)
وقد اختلف في الصلاة الشرعية، هل هي باقية على معناها اللغوي الذي هو الدعاء أم لا؟. ومثل الصلاة غيرها من الأسماء الشرعية كالإيمان والإسلام والزكاة.
أ- فقالت المعتزلة والخوارج وطائفة من الفقهاء:
إنها اسم شرعي منقول عن معناه اللغوي، فهو اسم مخترع، لم يلاحظ فيه معناه الأصلي.
فعلى هذا القول: لا علاقة بين المعنى اللغوي والمعنى الشرعي.
ب- وقال الجمهور: إنها باقية في الشرع على ما كانت عليه في اللغة، ثم اختلف هؤلاء:
1- فمنهم من قال: إن الشارع زاد في أحكامها، وضم إليها شروطاً وقيوداً، ولم يزد في معنى الاسم.
فالصلاة معناها الدعاء، واشترط للاعتداد بها الركوع والسجود.. إلخ.
2- ومنهم من قال: إن الشارع تصرف فيها -تصرف أهل العرف-، فهي بالنسبة إلى اللغة مجاز، وبالنسبة إلى عرف الشارع حقيقة، فعلى هذا فالشارع زاد في معنى الاسم، حيث كانت الصلاة لا تطلق في اللغة إلا على الدعاء، فزاد في معناها الركوع والسجود... إلخ.
فالشارع زاد في معنى الاسم والحكم. وهذا شبيه بتصرف أهل العرف في الكلمة، فقد يخصون مدلول الكلمة اللغوي ببعض الأفراد، أو يجعلونه أعم، فنحو كلمة الدابة تطلق في اللغة على كل ما يدب على الأرض، فخصت ف عرف الناس بالفرس، وفي عرف بعضهم بالحمار، ومثلها الرقبة: تطلق على العضو المخصوص، ثم استعملت في العرف في جميع البدن.
3- ومنهم من قال: إن الشارع لم ينقلها، ولم يغيرها، ولكن استعملها مقيدةً لا مطلقة( ).
فالصلاة لم تنقل عن معناها اللغوي الذي هو الدعاء، ولكنها استعملت في دعاء مخصوص، كما أن أهل اللغة يستعملون الكلمة مطلقةً في معناها العام، ثم يستعملونها خاصة ومقيدة بالإضافة أو لام التعريف.(1/51)
فتعتبر الكلمة في مثل هذا من اسم الجنس لا يدل على شخص معين إلا بالقيد( )، فالشارع استعمل لفظ الصلاة على وجه يختص بمراده، ولم يستعمله مطلقاً، وهو إنما قال: "أقيموا الصلاة" بعد أن عرفهم الصلاة المأمور بها، فكان التعريف منصرفاً إلى الصلاة التي يعرفونها، لم ينزل لفظ الصلاة، وهم لا يعرفون معناه( ). وهذا المسلك الذي سلكه الشارع موجود في أساليب العرب، يأتي أحدهم إلى الكلمة فيقيدها أو يخصها بشيء، فالشارع أتى إلى بعض الكلمات فاستعملها مقيدة ومختصة، إما بالإضافة أو اللام.
وهذه الأقوال المتقدمة أرجحها القول الأخير، وذلك للأمور التالية:
1- أن الأقوال الأخرى لم تسلم من الاعتراض والاستشكال.
2- ولأن الأصل بقاء الكلمة على معناها، وعدم الزيادة، ولم يأت من ادعى عكس ذلك ببرهان قاطع.
3- ولأن مثل هذا الاستعمال من تقييد المراد بالكلمة، أو تخصيصها معروف في أساليب اللغة.
وقد رجح هذا المذهب الأخير شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم رحمهما الله تعالى، قال ابن تيمية: "والتحقيق: أن الشارع لم ينقلها، ولم يغيرها، ولكن استعملها مقيدة لا مطلقة"( ) هذا ما ذكره في اسم الإيمان.
ومما ذكره ابن تيمية فيما يختص بموضوع الصلاة الذي نحن بصدده ما معناه:(1/52)
إن الصلاة بالمعنى العام تتضمن كل ما كان ذكراً لله أو دعاء له، وهذا المعنى -وهو دعاء الله- أي: قصده والتوجه إليه، المتضمن ذكره على وجه الخشوع والخضوع، هو حقيقة الصلاة الموجودة في جميع موارد اسم الصلاة، كصلاة القائم والقاعد والقارئ والناطق والأخرس، وإن تنوعت حركاتها وألفاظها فإن إطلاق لفظ الصلاة على مواردها هو بالتواطؤ المنافي للاشتراك والمجاز؛ وذلك لأن اسم الجنس العام المتواطئ المطلق إذا دل على نوع أو عين يكون قد دل على شيئين: على المعنى المشترك الموجود في جميع الموارد، وعلى ما يختص به هذا النوع أو العين، فاللفظ المشترك الموجود في جميع التصاريف يدل على القدر المشترك، وما قرن باللفظ من لام التعريف مثلاً يدل على الخصوص والتعيين، فاسم الصلاة مثلاً فيه عموم وإطلاق، ولا يستعمل إلا مقروناً بقيد يخصه ببعض موارده كصلواتنا، وصلاة الملائكة، والصلاة من الله سبحانه( ).
وقال ابن القيم بعد أن ذكر أن الدعاء يعم النوعين، وأنه لفظ متواطئ: "وهذه الطريقة أحسن من الطريقة الأولى، ودعوى الخلاف في مسمى الدعاء، وبهذا تزول الإشكالات الواردة على اسم الصلاة الشرعية، هل هو منقول عن موضعه في اللغة فيكون حقيقة شرعية، أو مجازاً شرعياً، فعلى هذا تكون الصلاة باقية على مسماها في اللغة، وهو الدعاء، والدعاء: دعاء عبادة، ودعاء مسألة. والمصلي من حين تكبيره إلى سلامه بين دعاء العبادة ودعاء المسألة، فهو في صلاة حقيقة لا مجازاً ولا منقولة.
لكن خص اسم الصلاة بهذه العبادة المخصوصة كسائر الألفاظ التي يخصها أهل اللغة والعرف ببعض مسماها، كالدابة والرأس ونحوهما.(1/53)
فهذا غاية تخصيص اللفظ، وقصره على بعض موضوعه؛ ولهذا لا يوجب نقلاً ولا خروجاً عن موضوعه الأصلي والله أعلم "( ). وإنما هو مجرد تصرف في استعمالات اللفظ، ولا مانع من ذلك إطلاقاً، لا في اللغة ولا في اصطلاح الشرع، إذ من المعلوم "أن الشارع يتصرف في اللغة تصرف أهل العرف، يستعمل اللفظ تارة فيما هو أعم من معناه في اللغة، وتارة فيما هو أخص"( ).
النسبة بين الدعاء والصلاة:
إن النسبة بين الدعاء والصلاة تارة تكون العموم والخصوص المطلق، وتارة الترادف، فإذا أريد منها الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم تكون النسبة من باب العموم والخصوص المطلق، فإن الدعاء عام والصلاة خاصة، فإنها أحد نوعي دعاء المسألة.
قال ابن القيم رحمه الله: "ودعاء العبد وسؤاله من ربه نوعان:
أحدهما: سؤاله حوائجه ومهماته، وما ينوبه في الليل والنهار، فهذا دعاء وسؤال، وإيثار لمحبوب العبد ومطلوبه.
والثاني: سؤاله أن يثني على خليله وحبيبه، ويزيد في تشريفه...
ولا ريب أن الله تعالى يحب ذلك ورسوله يحبه، فالمصلي عليه صلى الله عليه وسلم قد صرف سؤاله ورغبته وطلبه إلى محاب الله ورسوله، وآثر ذلك على طلبه حوائجه ومحابه هو"( ).
فدل هذا الكلام على أن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم أحد نوعي دعاء المسألة، فتكون النسبة بينهما من باب العموم والخصوص المطلق، ولكن ابن القيم نفسه أبدى إشكالاً في كون الصلاة بمعنى الدعاء، وذكر من وجوه الإشكال أن الدعاء يكون بالخير والشر، والصلاة لا تكون إلا في الخير، وأن الدعاء يتعدى باللام، والصلاة لا تتعدى إلا بعلى، والدعاء إذا تعدى بعلى يختلف عن معنى الصلاة؛ لأنه حينئذ في الشر، وأن فعل الدعاء يقتضي مدعواً ومدعواً له، نحو: دعوت الله لك بخير، والصلاة لا تقتضي ذلك لا تقول: صليت الله عليك ولا لك، فدل هذا على أنهما ليسا بمعنى واحد( ).(1/54)
ويمكن أن يجاب عن هذه الإشكالات بأنه لا يلزم من كون أحدهما بمعنى الآخر لغة: أن يتحدا في جميع الاستعمالات من التعدي واللزوم وغيرهما، ولكن المقصود أنهما مشتركان في القدر المشترك الذي يصدق عليهما، ويوجد في جميع موارد استعمالهما.
وأما إذا أريد من الصلاة الصلاة المفروضة فتكون النسبة بينهما من باب العموم والخصوص المطلق أيضآ؛ لأن الصلاة المفروضة هي نوع خاص مقيد خص بالتعريف بأل بهذه الصلاة ذات الأركان. وأما إذا أريد من الصلاة القدر المشترك الذي هو قصد الله، والتوجه إليه، وذكره بخشوع وخضوع، فالنسبة بينها وبين الدعاء في هذه الحالة: الترادف والاتحاد في المفهوم.
الكلمة الرابعة من القسم الأول: الاستعانة:
هي مصدر استعان، يقال: استعنت بفلان فأعانني وعاونني، وتقول: أعنته إعانة واستعنته، واستعنت به وعاونته، وقد تعاونا: أي أعان بعضنا بعضاً.
وقال الخليل( ): "كل شيء استعنت به أو أعانك، فهو عونك، والصوم عون على العبادة... وأعنته إعانة، وتعاونوا أي: أعان بعضهم بعضاً"( ).
وفي الشرع: هي "طلب ما يتمكن به العبد من الفعل، ويوجب اليسر عليه "( ). أو يقال: هي الاعتماد على الله تعالى مع الثقة به( ).
وهذا التعريف الأخير يشتمل على أمرين أساسيين للاستعانة الشرعية، وهما ركنا التعريف؛ لأن الاستعانة الشرعية تتضمن أصلين كما قال ابن القيم رحمه الله تعالى: "الثقة بالله، والاعتماد عليه. فإن العبد قد يثق بالواحد من الناس، ولا يعتمد عليه في أموره -مع ثقته به- لاستغنائه عنه، وقد يعتمد عليه -مع عدم ثقته به- لحاجته إليه، ولعدم من يقوم مقامه، فيحتاج إلى اعتماده عليه مع أنه غير واثق به"( ).
النسبة بين الدعاء والاستعانة:(1/55)
قد اتضح من التعريف الشرعي أن الاستعانة ودعاء المسألة مترادفان؛ فلهذا كثيراً ما يعبر عن دعاء المسألة بالاستعانة، وإذا نظرنا إلى الدعاء بنوعيه -المسألة، والعبادة- تكون النسبة بينهما العموم والخصوص المطلق؛ لأن الدعاء أعم مطلقاً، لكن ذكر ابن تيمية رحمه الله في الفرق بين التوكل والاستعانة: أن التوكل "يتناول التوكل عليه ليعينه على فعل ما أمر، والتوكل عليه ليعطيه ما لا يقدر العبد عليه، فالاستعانة تكون على الأعمال، وأما التوكل فأعم من ذلك، ويكون التوكل عليه لجلب المنفعة ودفع المضرة"( ) فعلى هذا فدعاء المسألة أعم؛ لأنه مثل التوكل تماماً، والله أعلم.
المطلب الثاني في القسم الثاني: وهو ما كان خاصاً بنوع معين من أنواع الدعاء:
وهو يتنوع إلى ثلاثة أنواع:
النوع الأول من القسم الثاني:
يشتمل على الكلمات التالية: الاستعاذة، والاستغاثة، والاستجارة، واللياذة، والاستغفار، والشفاعة، وهذه ست كلمات.
أ- الاستعاذة:
يقال: عاذ فلان بربه يعوذ عوذاً وعياذاً ومعاذاً، لاذ به ولجأ إليه واعتصم، عذت بفلان واستعذت به أي: لجأت إليه، وهو عياذي، أي: ملجأي، وعاذ وتعوذ، واستعاذ بمعنى واحد( ).
وهذه المادة في تصرفاتها تدل على التحرز والتحصن، وحقيقة معناها: الهروب من شيء تخافه إلى من يعصمك منه، ولهذا يسمى المستعاذ به "معاذاً" كما يسمى: ملجأ ووزراً..( ).
وقال الرازي ما معناه: إن الاستعاذة مشتقة من العوذ، وله معنيان: أحدهما: الالتجاء والاستجارة، والثاني: الالتصاق، يقال: أطيب اللحم عوًّذه. وهو ما التصق بالعظم( ).
وذكر ابن القيم رحمه الله: أن في أصله قولين:
أحدهما: أنه مأخوذ من الستر، تقول العرب للبيت الذي في أصل الشجرة التي قد استتر بها "عُوَّذ"، وكذلك العائذ قد استتر من عدوه بمن استعاذ به منه واستجن به منه.(1/56)
وثانيهما: أنه مأخوذ من لزوم المجاورة، تقول العرب للحم إذا لصق بالعظم فلم يتخلص منه: عوذ؛ لأنه اعتصم به واستمسك به، فكذلك العائذ قد استمسك بالمستعاذ به، واعتصم به ولزمه. وقال رحمه الله: "والقولان حق، والاستعاذة تنتظمهما معاً، فإن المستعيذ مستتر بمعاذه، مستمسك به، معتصم به، قد استمسك قلبه به ولزمه، كما يلزم الولد أباه إذا أشهر عليه عدوه سيفاً وقصده به فهرب منه، فعرض له أبوه في طريق هربه، فإنه يلقي نفسه عليه ويستمسك به أعظم استمساك، فكذلك العائذ قد هرب من عدوه الذي يبغي هلاكه إلى ربه ومالكه، وفر إليه، وألقى نفسه بين يديه، واعتصم به، والتجأ إليه"( ).
وما ذكره الرازي وابن القيم رحمهما الله تعالى متقاربان؛ لأن الالتجاء إلى الشيء فيه معنى الاستتار به، والاحتماء به، وهذا بالنسبة إلى المعنيين الأولين، وأما بالنسبة إلى المعنيين الأخيرين وهما: الالتصاق عند الرازي، ولزوم المجاورة عند ابن القيم، فهما متلازمان؛ لأنه يلزم من الالتصاق بالشيء مجاورته.
هذا هو معنى الاستعاذة في اللغة.
وأما الاستعاذة في الشرع: فهي "الالتجاء إلى الله تعالى، والالتصاق بجانبه من شر كل ذي شر"( )، وقد تقدم في كلام ابن القيم الإشارة إلى المناسبة بين المعنى اللغوي والشرعي.
النسبة بين الدعاء والاستعاذة:
قد تحصل مما سبق أن الاستعاذة خاصة بما إذا كان المطلوب منع الشدة أو رفعها، وذلك أن المستعاذ منه إذا كان يخاف وقوعه في المستقبل فإنه يطلب منعه، نحو: أعوذ بالله من عذاب جهنم أو عذاب القبر. وإن كان حاضراً فإنه يطلب رفعه، نحو: ما ورد في الحديث: {أعوذ بالله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر}( ) فمن هنا يعلم أن الاستعاذة خاصة بدفع الضرر الحاصل أو المتوقع، وأما الدعاء فإنه يعم ما كان لمنع الشدة ورفعها، كما أنه يعم ما كان لحصول منفعة وطلب خير( ).(1/57)
فتبين بهذا أن بينهما العموم والخصوص المطلق، فالدعاء أعم مطلقاً، فالاستعاذة نوع من أنواع الدعاء، وقسم من أقسامه.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: "فالاستعاذة، والاستجارة، والاستغاثة كلها من نوع الدعاء والطلب، وقول القائل: لا يستعاذ به، ولا يستجار به ولا يستغاث به، ألفاظ متقاربة"( ). والحاصل أن الاستعاذة والاستجارة والاستغاثة واللياذة على قول، والاستغفار، هذه الألفاظ خاصة بدفع المضار والمكاره.
ب- الاستغاثة:
الاستغاثة مصدر استغاث، والاسم: الغوث، والغُواث، والغَواث، يقال: أجاب الله دعاءه، وغُواثه، وغَواثه، ولا يوجد في اللغة العربية فعال بالفتح في الأصوات إلا غواث، والباقي بالضم أو الكسر، ويقول الواقع في بلية: أغثني. أي: فرج عني، وغَوَّت الرجل واستغاث: صاح، وقال: واغوثاه. وضرب فلان فغَّث تغويثاً، أي: قال: واغوثاه. وهذا المعنى هو أصله، ثم استعمل بمعنى صاح ونادى طلباً للغوث، ويقال: استغاثني فلان فأغثته إغاثة، ومغوثة. ويقال أيضاً: أغاثه الله إغاثة وغياثاً وغوثاً( ). يقال ذلك إذا استجاب له، فالإغاثة هي الاستجابة "إلا أن الإغاثة أحق بالأفعال، والاستجابة أحق بالأقوال، وقد يقع كل منهما موقع الآخر"( ). وقد فسر ابن الأثير رحمه الله في النهاية الإغاثة بالإعانة( ).
وقال الشيخ سليمان بن عبد الله رحمه الله تعقيباً على تفسير ابن الأثير السابق: "فعلى هذا تكون الاستغاثة هي الاستعانة، ولا ريب أن من استغاثك فأغثته فقد أعنته، إلا أن لفظ الاستغاثة مخصوص بطلب العون في حال الشدة بخلاف الاستعانة"( ).
والسين والتاء في الاستغاثة للطلب، فمعنى الاستغاثة: "طلب الغوث، كالاستعانة: طلب العون، والاستنصار: طلب النصر"( ) فمن هنا قال بعضهم في بيان معناها:
"الاستغاثة: طلب الغوث( )، وهو التخليص من الشدة والنقمة، والعون على الفكاك من الشدائد"( ).
النسبة بين الاستغاثة والدعاء:(1/58)
فقد تحصل مما سبق أن الاستغاثة خاصة بما إذا كان المطلوب رفع الشدة الواقعة، وأما الدعاء فيشمل ما إذا كان المطلوب حصول منفعة أو دفع شدة، كما أنه يشمل طلب منع الشدة التي لم تقع، ويشمل أوقات الشدة والرخاء؛ فهو أعم، فعلى هذا "فبينهما عموم وخصوص مطلق، يجتمعان في مادة، وينفرد الدعاء في مادة، فكل استغاثة دعاء، وليس كل دعاء استغاثة"( ).
وقد حكى شيخ الإسلام رحمه الله أنهم قالوا في الفرق بين المستغيث والداعي: "أن المستغيث ينادي بالغوث، والداعي ينادي بالمدعو"( ) وهذا القول مبني على الأصل، حيث إن معنى غوث الرجل قال: واغوثاه. ولكن هذا المعنى غير مراد الآن، قال الزبيدي( ) بعد ذكر هذا المعنى نقلاً عن شيخه: "وقد صرح أئمة النحو بأن هذا أصله ثم استعملوه بمعنى صاح ونادى طلباً للغوث"( ).
فعلى هذا فالفرق المذكور لا يتمشى مع المستعمل الآن، إلا إذا نظر إلى الأصل فقط، وبهذا يتضح أن الصحيح في الفرق بين الدعاء والاستغاثة هو ما تقدم من أن بينهما العموم والخصوص المطلق، والله أعلم.
جـ- الاستجارة:
يقال: جار واستجار طلب أن يجار، أي: سأله أن يجيره، أما في استجار فظاهر؛ لأن السين والتاء يدلان على الطلب.
وأما جار فهو مخرج على الجار، بمعنى المستجير، لكون المجاورة تستدعي الاستجارة، وأجاره الله من العذاب أنقذه، وأجاره أعاذه، ومن عاذ بالله: أي استجار به أجاره الله، ومن أجاره الله لم يوصل إليه، وهو سبحانه وتعالى يجير ولا يجار عليه، أي: يعيذ، وقال: لنبيه: ((قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ)) [الجن:22] أي: لن يمنعني، والجار والمجير: هو الذي يمنعك ويجيرك( ).
النسبة بين الدعاء والاستجارة:
يظهر مما ذكره علماء اللغة من استعمالات كلمة الاستجارة أنها خاصة بطلب دفع المضار والمكاره.(1/59)
ومن هنا نستطيع أن نقول: إن المناسبة بينها وبين الدعاء العموم والخصوص المطلق، فكل استجارة دعاء، وليس كل دعاء استجارة؛ لأن الدعاء يشمل ما كان لدفع المضار أو جلب المنافع، والاستجارة خاصة بدفع المضار، وقد تقدم في الاستعاذة قول شيخ الإسلام أن الاستجارة والاستعاذة والاستغاثة قرائب في المعنى، وأنها نوع من أنواع الدعاء والطلب.
د- اللياذة:
يقال: لاذ به يلوذ لوذاً ولواذاً ولياذاً إذا لجأ إليه، وعاذ به واستتر به واحتصن به واستغاث به( ). هذا كلام علماء اللغة، وهو يدل على أن مفهوم اللياذ، ومفهوم الاستعاذة شيء واحد، لكن ذهب ابن كثير إلى تغايرهما، وقوَّى ذلك بشاهد من شعر المتنبي، قال ابن كثير( ): "العياذة تكون لدفع الشر، واللياذ يكون لطلب جلب الخير، كما قال المتنبي:
يا من ألوذ به فيما أومله ... ... ومن أعوذ به ممن أحاذره
لا يجبر الناس عظماً أنت كاسره ... ... ولايهيضون عظماً أنت جابره "( )
فيدل هذا البيت الأول على أن العياذة في جانب دفع المضار، واللياذ في جانب جلب المسار، لكن المتنبي ليس حجة؛ لكونه في العصر العباسي الثاني، إذ ولادته في عام (353هـ)، وتوفي سنة (354هـ).
وممن صرح باتحاد مفهوم اللياذة والعياذة العز بن عبد السلام، فإنه قال: "الإعاذة واللياذة بمعنى واحد، وهو الاستجارة بذي سلطان من مكروه"( ).
فجعل اللياذة لدفع الشر كالعياذة، ويؤيده تفسير اللغويين للياذة بالاستعاذة كما تقدم، ويمكن أن يقال: إن التفريق بينهما إنما يكون عند الاجتماع لا عند الافتراق.
هذا ومما ينبغي أن يعلم أن قائل هذين البيتين قد ارتكب خطأ فاحشاً؛ لأنه صرف لب التجائه واعتصامه لغير الله تعالى.
وقد أنكر العلماء هذين البيتين، وشنعوا على قائلهما، وبينوا أنهما لا يليقان إلا بجناب الله تعالى، حتى إن بعضهم كان يقول عن نفسه: "ربما قلت هذين البيتين في السجود، أدعو الله بما تضمناه من الذل والخضوع"( ).
النسبة بين الدعاء واللياذ:(1/60)
إن الدعاء أعم مطلقاً؛ لأنه يعم ما كان لدفع المضار وما كان لجلب المسار، واللياذ خاص بجلب المسار على ما قاله ابن كثير، أو خاص بدفع الشر على ما قاله العز بن عبد السلام، وبدل عليه كلام أهل اللغة، وهو الظاهر والله أعلم.
وإن اللياذ والاستعاذة مترادفان على هذا القول، وعلى الأول متباينان.
كما أن اللياذ يكون من النوع الثاني، وهو الخاص بجلب المسار على ما يدل عليه بيت المتنبي، وذهب إليه ابن كثير.
هـ- الاستغفار:
مصدر استغفر يقال: استغفر الله لذنبه ومن ذنبه بمعنى، فغفر له ذنبه غفراً وغفراناً ومغفرة. وأصل الغفر: التغطية والستر، وكل شيء سترته فقد غفرته، ومنه قيل للذي يكون تحت بيضة الحديد على الرأس: مِغفر، ومنه غفر الله ذنوبه، أي: سترها. والغفر، والمغفرة: التغطية على الذنوب والعفو عنها( ).
المناسبة بين الاستغفار والدعاء:
الدعاء يعم ما كان طلباً للخير أو طلباً لدفع الشر، والاستغفار خاص بطلب دفع الشر، فكل استغفار دعاء، وليس كل دعاء استغفاراً.
قال شيخ الإسلام رحمه الله في شرح حديث النزول: {من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له}( ): "فذكر أولاً لفظ الدعاء، ثم ذكر السؤال، والاستغفار، والمستغفر سائل، كما أن السائل داع، لكن ذكر السائل لدفع الشر بعد السائل الطالب للخير، وذكرهما جميعاً بعد ذكر الداعي الذي يتناولهما وغيرهما، فهو من باب عطف الخاص على العام"( ) ومثله قول الحافظ ابن حجر رحمه الله في شرح الحديث: "والفرق بين الثلاثة: أن المطلوب: إما لدفع المضار، أو جلب المسار، وذلك إما ديني وإما دنيوي، ففي الاستغفار إشارة إلى الأول، وفي السؤال إشارة إلى الثاني، وفي الدعاء إشارة إلى الثالث"( ).(1/61)
ثم إنه قد ورد التفريق بينهما في الأثر على وجه آخر لا يتعلق بالنظر إلى صيغتهما، بل إلى وصفهما، وهو ما روي عن ابن عباس مرفوعاً وموقوفاً: [[المسألة أن ترفع يديك حذو منكبيك أو نحوهما، والاستغفار أن تشير بإصبع واحدة، والابتهال أن تمد يديك جميعاً]] وفي لفظ: [[هكذا الإخلاص -يشير بإصبعه التي تلي الإبهام- وهذا الدعاء -فرفع يديه حذو منكبيه -وهذا الابتهال- فرفع يديه مداً...]]( ).
وهذا الحديث تفسير بالوصف المقارن لهذه الأمور، وفيه الإشارة إلى أن الابتهال أشد مبالغة في الطلب، ويليه المسألة أو الدعاء ثم الاستغفار أو الإخلاص، والله أعلم.
و- الشفاعة:
يقال: شفع لي شفاعة، وتشفع، طلب، واستشفعه طلب منه الشفاعة، أي: قال له: كن لي شفيعاً، فالشفاعة على هذا بمعنى الطلب للغير.
وروي عن المبرد( ) وثعلب( ) أنهما قالا في قوله تعالى: ((مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ)) [البقرة:255] قالا: "الشفاعة: الدعاء هنا".
والشفاعة كلام الشفيع للملك في حاجة يسألها لغيره، والشفع خلاف الوتر: كان وتراً فشفعته شفعاً، والشافع: الطالب لغيره، ويقال له أيضاً: شفيع، والمشفع: الذي يقبل الشفاعة، والمشفع: الذي تقبل شفاعته( ).
وجعله من مرسل عكرمة والطبراني في الدعاء: (883/2) رقم (208)، والحديث قد تكلم عليه ابن أبي حاتم في العلل: (203/2)، وسكت عنه أبو داود والمنذري، وصححه الشيخ الألباني في صحيح الجامع: (14/6) رقم (6570)، وله شاهد من حديث أنس أخرجه الطبراني في الدعاء: (884/2)، والبزار كما في كشف الأستار: (42/4)، وانظر مجمع الزوائد: (169/10).
وأصل هذه المادة تدور على الدلالة على مقارنة الشيئين، من ذلك الشفع خلاف الوتر، والشفعة في الدار؛ لأنه يشفع بها ماله، والشاة الشافع التي معها ولدها، وشفع فلان لفلان إذا جاء ثانيه ملتمساً مطلبه ومعيناً له( ).
وفي الاصطلاح: السؤال: في التجاوز عن الذنوب والجرائم( ).(1/62)
النسبة بينها وبين الدعاء:
فقد تقدم تفسير المبرد وثعلب للشفاعة بالدعاء في آية الكرسي، فالشفاعة دعاء مخصوص بطلب التجاوز عن الجرائم، فالنسبة بينهما العموم والخصوص المطلق، فكل شفاعة دعاء وليس كل دعاء شفاعة؛ لأنها خاصة بطلب التجاوز عن الجرائم، والدعاء عام.
وقد فرق أبو عبد الله الحليمي بين دعاء الرجل لغيره بالخير وبين الشفاعة له بأن الشفاعة تكون بعد ظهور سوء حال المشفوع له، وأما الدعاء له فيكون قبل ظهور حال المدعو له( )، فعلى كلام الحليمي النسبة بينهما التباين، والأول هو الصحيح كما هو واضح.
ويمكن على بعد أن الحليمي يريد بأن الشفاعة خاصة بما بعد ظهور حال المشفوع له، وأما الدعاء فيعم الحالين، فعلى هذا التأويل فكلامه راجع إلى ما تقدم من أن بينهما العموم والخصوص المطلق.. والله أعلم.
النوع الثاني: وهو ما كان خاصاً بجلب المسار، وهو كلمة السؤال، وكلمة اللياذ على قول:
السؤال:
يقال: سأل يسأل سؤالاً، ومسألة ومساءلة، والجمع مسائل إذا طلب، ويقال أيضاً: سألت، وسلتُ أَسَل، والرجلان يتساءلان، ويتسايلان.
والسُّول: ما يسأله الإنسان، وهو طلبته وأمنيته التي يسألها من إطلاق الفعل على المفعول، كالخبز على المخبوز، والأكل على المأكول. قال تعالى: ((قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى)) [طه:36] أي: أمنيتك التي سألتها، وطلبتك التي طلبتها( ).
ومن استعمال السؤال بمعنى الدعاء: قوله تعالى: ((سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ)) [المعارج:1] بمعنى: دعا داع، كما قاله مجاهد( ).
وقوله تعالى: ((كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولًا)) [الفرقان:16] أي:
كان وعداً مسؤولاً إنجازه تسأله الملائكة بقولهم: ((رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُم)) [غافر:8] أو أن المؤمنين سألوا ربهم ذلك في الدنيا حين قالوا: ((رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ)) [آل عمران:194]( ).(1/63)
ومن ذلك أيضاً قوله تعالى: ((وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ)) [النساء:32] وقوله تعالى: ((وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ)) [إبراهيم:34]، وقوله تعالى: ((يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ)) [الرحمن:29].
النسبة بين الدعاء والسؤال:
فالنسبة بينهما العموم والخصوص المطلق؛ لأن الدعاء يعم ما كان لجلب المسار ودفع المضار، والسؤال خاص بجلب المسار، وقد تقدم نقل كلام ابن تيمية وابن حجر في ذلك في الاستغفار، وهذا هو الذي يظهر من تتبع استعمالات المادتين، ولكن القاضي عياضاً حكى أن بعض المشايخ فرق بين الدعاء والسؤال بقوله: "الداعي: المضطر، والسائل: المختار، قال الله تعالى: ((أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ)) [النمل:62] فللسائل المثوبة وللداعي الإجابة"( ).
ويدل على ضعف هذا الفرق ما ورد في الحديث من استعمال الدعاء في الاختيار، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: {من أراد أن يستجيب الله له في الشدة فليكثر الدعاء في الرخاء}( )، وذكر الكرماني شارح البخاري فرقاً آخر فقال: ويحتمل أن يقال: الدعاء ما لا طلب فيه نحو: يا الله. والسؤال: الطلب. أو أن يقال: المقصود واحد، وإن اختلف اللفظان( )، ولا يخفى ضعف الاحتمال الأول مما سبق نقله عن علماء اللغة من إطلاق الدعاء على الطلب، فتحصل مما سبق أن الراجح أن يقال في النسبة بينهما: أن الدعاء أعم مطلقاً، فكل سؤال دعاء، وليس كل دعاء سؤالاً.
ومثل كلمة السؤال كلمة اللياذة على ما يشهد له بيت المتنبي، وقد ذهب إلى ذلك ابن كثير( ).
وأما على القول الآخر وهو الذي تشهد له أقوال علماء اللغة وعباراتهم فليس من هذا النوع الذي نحن بصدده.
النوع الثالث: الكلمات المختصة بصفة من صفات الدعاء: النداء والجؤار والابتهال:
- النداء:
يقال: ناداه، ونادى به نداء، ومناداة، صاح به.
والنداء بالكسر ممدوداً: الصوت، وقد يضم مثل الدعاء والرغاء.(1/64)
أو النداء: الدعاء بأرفع الصوت( )، وهذا المعنى للنداء مجمع عليه بين أهل اللغة( )، قال ابن القيم في النونية:
أم أجمع العلماء والعقلاء من أهل اللسان وأهل كل لسان أن النداء الصوت الرفيع وضده فهو النجاء كلاهما صوتان( ) وقد ورد استعماله بمعنى الدعاء في القرآن الكريم في عدة آيات، منها ((ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا)) [مريم:2] ((إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا)) [مريم:3]. ((وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ)) [الأنبياء:83]. ((فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ)) [الأنبياء:87]. ((وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ)) [الأنبياء:89]. ((وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ)) [الصافات:75]. ((وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ)) [ص:41]. ((فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ)) [القلم:48].
((وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ)) [الكهف:52] ويدل على أن النداء في هذه الآية هو الدعاء- كون "ما فعلوه هو عين ما أمروا به"( ).
النسبة بين النداء والدعاء:
إن النداء في الأصل خاص بالدعاء بأرفع الصوت، فلا يشمل الدعاء بالسر والنجوى، وأما الدعاء فعام، فيكون النداء من جنس الدعاء وأنواعه، "وليس قسيماً للدعاء"( ) فعلى هذا فكل نداء دعاء، وليس كل دعاء نداء، فبينهما العموم والخصوص المطلق، وقيل: إن الدعاء للقريب، والنداء للبعيد( ).(1/65)
فهذا الفرق بالنظر إلى أصل النداء؛ لكنه لا يتمشى مع الاستعمال القرآني المتقدم. والذي يظهر من سياق الآيات أن المراد من النداء فيها مطلق الدعاء، ومما يدل على أن النداء والدعاء معناهما واحد قول الحليمي- رحمه الله- بعد أن عرف الدعاء: "وهو أيضاً نداء قال الله عزوجل: بسم الله الرحمن الرحيم ((كهيعص)) [مريم:1] ((ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا)) [مريم:2] ((إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا)) [مريم:3] وقال: ((وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْدًا)) [الأنبياء:89]، وقال في آية أخرى: ((هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ)) [آل عمران:38]، ومعنى (رب): يا رب. فثبت أن النداء دعاء"( ).
ومما يدل على اتحاد مفهومهما أيضاً أن الله سبحانه وتعالى عطف أحدهما على الآخر، عطف تفسير فقال: ((وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً)) [البقرة:171]، وذكر الراغب الأصبهاني: أنه يستعمل كل واحد منهما موضع الآخر، ومثل لذلك بالآية السابقة( ).
ويظهر من هذا أن النداء قد يستعمل بمعنى الدعاء، فيتحد مفهومه مع مفهوم الدعاء، وقد يختلف بأن يراد من النداء ما يختص برفع الصوت، والدعاء أعم.
وهناك فرق آخر بينهما في الاستعمال اللفظي بأن النداء قد يقال: بيا أو بأيا أو نحو ذلك، من غير أن يُضم إليه الاسم، والدعاء لا يكاد يقال إلا إذا كان معه الاسم، نحو: يا فلان( ).
2- الجؤار:
يقال: جأر إلى الله تعالى يجأر جأراً وجؤراً: رفع صوته مع تضرع واستغاثة.
والجؤار: رفع الصوت والاستغاثة، وأصله الصوت الشديد( ).
ومن استعماله بمعنى الدعاء قوله تعالى: ((وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنِ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ)) [النحل:53].
قال مجاهد: تضرعون دعاءً( ).
وقال السدي( ): تضجون بالدعاء( ).(1/66)
وقال ثعلب: هو رفع الصوت إليه بالدعاء.
ومنه( ) قوله تعالى: ((حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ)) [المؤمنون:64] قال ابن عباس: يستغيثون( ).
النسبة بين الدعاء والجؤار:
يظهر من إطلاقات كلمة الجؤار أنها خاصة في الأصل بالدعاء الذي يصحبه رفع الصوت، ولا يطلق على الدعاء الخفي، فعلى هذا فهو خاص بنوع خاص من الدعاء.
3- الابتهال:
يقال: ابتهل في الدعاء إذا اجتهد، قال ابن دريد: "ويقال: ابتهلوا إلى الله عز وجل إذا أخلصوا له الدعاء".
والابتهال: الاجتهاد في الدعاء وإخلاصه لله عز وجل.
وفي التنزيل: ((ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ)) [آل عمران:61] أي: يُخلصُ ويجتهد كلّ مِنا في الدعاء، واللعن على الكاذب منا.
والمبتهل: الداعي، وأصله: التضرع والمبالغة في السؤال( ).
وقال الزجاج: ومعنى الابتهال في اللغة: المبالغة في الدعاء، وأصله الالتعان، يقال: بهله الله. أي: لعنه الله، ومعنى "لعنه الله": باعده الله من رحمته( ).
المقارنة بين الابتهال والدعاء:
روي عن ابن عباس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {هذا الإخلاص -يشير بإصبعه التي تلي الإبهام- وهذا الدعاء -فرفع يديه حذو منكبيه- وهذا الابتهال -فرفع يديه مداً}( ).
ويظهر من تتبع إطلاقات الابتهال أنه خاص بالدعاء المبالغ فيه، والذي اجتهد الداعي فيه وبالغ، كما يستفاد ذلك من عبارات اللغويين التي تقدمت.
ومن صور المبالغة والاجتهاد وآدابه: مد اليدين جميعاً. فيكون الابتهال خاصاً بصفة معينة من صفات الدعاء.
الفصل الثاني
في أنواع الدعاء وأقسامه
ويشتمل على مبحثين:
المبحث الأول: في أقسام الدعاء باعتبار معناه.
المبحث الثاني: في أقسام الدعاء باعتبار صيغه ومتعلقه.
ويشتمل على مطلبين:
المطلب الأول: في أقسام الدعاء باعتبار صيغه.
المطلب الثاني: في أقسام الدعاء باعتبار متعلقه.
المبحث الأول(1/67)
في أقسام الدعاء باعتبار معناه
اتجه العلماء في تقسيم الدعاء باعتبار معناه إلى أربع اتجاهات حسب ما أمكن الاطلاع عليه:
أ- الاتجاه الأول: أن الدعاء ينقسم إلى ثلاثة أنواع:
1- دعاء توحيد وثناء.
2- دعاء أمر أخروي.
3- دعاء حظ دنيوي.
ب- الاتجاه الثاني: أن الدعاء ينقسم أيضاً إلى ثلاثة أنواع:
1- دعاء مسألة.
2- دعاء ثناء.
3- دعاء تعبد.
جـ- الاتجاه الثالث: أن الدعاء ينقسم إلى نوعين:
1- دعاء عبادة.
2- دعاء عادة.
د- الاتجاه الرابع: أن الدعاء يتنوع إلى نوعين:
1- دعاء مسألة.
2- دعاء عبادة.
فهذه الاتجاهات الأربع تكون القسمة فيها باعتبار الاتجاهين الأولين ثلاثية، وباعتبار الاتجاهين الأخيرين ثنائية.
ثم هذه الاتجاهات الأربع ليس بينها كبير اختلاف وتباين، لكن بعضها أدق من بعض في الشمول والاستيعاب، فبعضها أدق من بعض وأحكم وأشمل وأعم.
وسنذكر ما في كل اتجاه من عدم الشمول والدقة، ثم نبين الاتجاه الدقيق، وبالله التوفيق وعليه التكلان..
أ- الاتجاه الأول: أن الدعاء ثلاثة أنواع:
1- النوع الأول: دعاء توحيد وثناء.
2- النوع الثاني: دعاء أمر أخروي.
3- النوع الثالث: دعاء أمر دنيوي.
فأول من وقفت على كلامه ممن ذهب إلى هذا الاتجاه هو أبو إسحاق الزجاج( )، فإنه قال: "معنى دعاء الله عز وجل على ثلاثة أضرب: فضرب منها توحيده والثناء عليه، كقولك: يا الله لا إله إلا أنت، وكقولك: ربنا لك الحمد، (إذا قلته) فقد دعوته بقولك: ربنا. ثم أتيت بالثناء والتوحيد. ومثله قوله تعالى: ((وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ)) [غافر:60] فهذا ضرب من الدعاء.
وضرب ثان: هو مسألة الله العفو والرحمة وما يقرب منه، كقولك: اللهم اغفر لنا.(1/68)
وضرب ثالث: هو مسألته (الحظ) من الدنيا كقولك: اللهم ارزقني مالاً وولداً. وما أشبه ذلك، وإنما سمي هذا أجمعُ دعاءً؛ لأن الإنسان يصدر في هذه الأشياء بقوله: يا الله، يا رب، ويا حي؛ فلذلك سمي دعاء"( ).
وهذا التقسيم الذي ذكره الزجاج يرجع في الحقيقة إلى نوعين فقط وذلك لأن الضرب الثاني والثالث كلاهما سؤال الله تعالى والطلب منه، إلا أن أحدهما يتعلق بحظ من حظوظ الدنيا، والآخر يتعلق بالآخرة، وهذا التعلق لا يخرجهما عن كونهما نوعاً واحداً، ويدل على هذا أن ابن سيده ذكر أن الدعاء على وجهين: الأول طلب في مخرج اللفظ، والمعنى على التعظيم والمدح، والثاني: الطلب لأجل الغفران أو عاجل الإنعام( ).
ومن هنا نستطيع أن نقول: إن تقسيم الدعاء إلى نوعين فقط –وهو الذي سيأتي بعد هذا- أدق وأوجز وأخصر، وإن هذا التقسيم ليس دقيقاً. ثم إن قول الزجاج: فضرب منها: توحيده، والثناء عليه. وتمثيله له بما يشتمل على الذكر والتهليل والتحميد، لا يشمل أنواع العبادات الأخرى، مع أنه يطلق على جميع أنواع العبادات.
ويؤكد تعليله تسميتها دعاء؛ بأن في أولها الدعاء الذي هو النداء بقوله: يا الله، يا رحمن. أنه يريد حصر إطلاق الدعاء على نوع خاص من العبادة، وهو ما كان من باب الثناء والذكر، وهذا دليل آخر على عدم دقة هذا التقسيم. وأبو إسحاق الزجاج نفسه ذكر في موضع آخر( ) أن الدعاء معناه العبادة، ولم يقيده بالثناء والذكر.
ب- الاتجاه الثاني: أن الدعاء على ثلاثة أنواع أيضاً:
1- النوع الأول: دعاء مسألة.
2- النوع الثاني: دعاء ثناء.
3- النوع الثالث: دعاء تعبد.
فأول من وقفت على كلامه ممن ذهب إلى هذا الاتجاه هو ابن القيم رحمه الله، فإنه قال في قوله تعالى: ((وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا)) [الأعراف:180] قال رحمه الله: "الدعاء بها يتناول دعاء المسألة، ودعاء الثناء، ودعاء التعبد"( ).(1/69)
فالمراد بدعاء المسألة هو: "طلب ما ينفع الداعي، وطلب كشف ما يضره أو دفعه"( ).
والمراد بدعاء الثناء: هو ذكر أسماء الرب تبارك وتعالى وصفاته، والثناء عليه بهما، وتنزيهه وتقديسه، إما إنشاء وإما إخباراً( ).
والمراد بدعاء التعبد: هو سائر أنواع العبادات القلبية والبدنية والمالية، فإن فيها نوعاً من الطلب والسؤال كما سيأتي.
فهذا التقسيم هو مثل التقسيم الأول، يرجع في الحقيقة إلى نوعين فقط. فدعاء الثناء، ودعاء التعبد، يعدان قسماً واحداً، وليسا قسمين، ويدل لذلك أن ابن القيم نفسه ذكر في الآية السابقة في موضع آخر( ) أن الدعاء فيها مرتبتان: دعاء ثناء وعبادة، ودعاء طلب ومسألة. فجعل دعاء الثناء والعبادة نوعاً واحداً، كما أنه ذكر في موضع آخر أن الدعاء نوعان: دعاء ثناء ودعاء مسألة( ).
ويمكن أن يقال: إنما ذكر دعاء الثناء مفرداً عن دعاء التعبد؛ لأن الثناء على المدعو يدل على الطلب والمسألة أكثر من دلالة أنواع العبادات الأخرى؛ لأن الداعي ربما يتعرض لحوائجه بالمدح والثناء لمن يريد منه النوال والعطاء، فالعبادات الأخرى وإن كانت تستلزم الطلب والسؤال إلا أن دلالتها أقل من دلالة الثناء على الطلب. وتقدم( ) ما يزيد هذا وضوحاً في كلام سفيان بن عيينة رحمه الله.
جـ- الاتجاه الثالث: أن الدعاء على نوعين:
1- النوع الأول: دعاء عبادة.
2- النوع الثاني: دعاء عادة.
فأول من وقفت على كلامه في ذلك هو الشيخ محمد رشيد
رضا( )، ثم الشيخ أبو السمح محمد عبد الظاهر( ) رحمهما الله تعالى.
قال الشيخ محمد رشيد: "إن الدعاء قسمان: دعاء العبادة، ودعاء العادة. فالثاني ما يطلبه الناس بعضهم من بعض، مما يقدرون عليه بالأسباب التي سخرها الله لهم، ودعاء العبادة: هو طلب ما وراء الأسباب مما لا يقدر عليه إلا رب العباد"( ) وذكر نحوه الشيخ أبو السمح( ).(1/70)
ويلاحظ على هذا التقسيم أنه غير شامل، إذ لا يشمل دعاء التعبد والثناء، فدعاء العبادة على هذا التفسير راجع إلى دعاء المسألة، إلا أنه خاص بسؤال الله تعالى، فهو تقسيم لدعاء المسألة إلى كونه عبادة إذا كان فيما وراء الأسباب، وكونه عادة إذا كان في الأمور العادية التي هي مرتبطة بالأسباب، وقد ذكر العلماء ما يشبه هذا في الاستغاثة الجائزة وغير الجائزة، كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
د- الاتجاه الرابع: أن الدعاء على نوعين:
1- النوع الأول: دعاء مسألة.
2- النوع الثاني: دعاء عبادة.
فأول من رأيت قد صرح بهذا الاتجاه هو شيخ الإسلام ابن تيمية، وتبعه ابن القيم وغيره.
وأما شيخ الإسلام فقد ذكر هذا التقسيم في عدة مواضع من كتبه، فمن ذلك قوله: "لفظ الدعاء والدعوة في القرآن يتناول معنيين: دعاء العبادة، ودعاء المسألة..."( ) ويسميه في مواضع دعاء العبادة، ودعاء المسألة والاستعانة( ).
وأما ابن القيم فإنه ذكر هذا التقسيم في عدة مواضع من كتبه أيضاً، منها قوله في جلاء الأفهام: "والدعاء نوعان: دعاء عبادة، ودعاء مسألة. والعابد داع، كما أن السائل داع"( )، وقوله في بدائع الفوائد في تفسير آية: ((ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً)) [الأعراف:55]: "هاتان الآيتان مشتملتان على آداب نوعي الدعاء: دعاء العبادة، ودعاء المسألة. فإن الدعاء في القرآن يراد به هذا تارة وهذا تارة، ويراد به مجموعهما"( ).
وقال في البدائع في موضع آخر: "فالتشهد يجمع نوعي الدعاء: دعاء الثناء والخير، ودعاء الطلب والمسألة"( ).
وإنما قيدنا في بداية الكلام بأن هؤلاء هم أول من صرح بهذا التقسيم؛ لأن هذا التقسيم موجود قبل هؤلاء في ضمن كلام من سبقهم من السلف؛ وذلك لدلالة القرآن والسنة عليه، فالسلف فهموا هذا التقسيم من الكتاب والسنة، فمن العلماء الذين أشاروا إلى ذلك بدون تصريح للتقسيم:
1- سفيان بن عيينة عندما سئل عن معنى دعاء يوم عرفة -كما مر-( ).(1/71)
2- ابن جرير، فإنه ذكر في قوله تعالى: ((وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ)) [البقرة:186] وجهين: أحدهما: مسألة العبد ربه ما وعدهم على العمل من الأجر، واستدل على ذلك بحديث: {الدعاء هو العبادة}، ثم قال: "فأخبر صلى الله عليه ولم أن الدعاء إنما هو عبادته ومسألته بالعمل والطاعة، ثم نقل عن الحسن البصري في قوله تعالى: ((ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ)) [غافر:60] اعملوا وأبشروا؛ فإنه حق على الله أن يستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله"( ).
وقال أيضاً: "والدعاء لله يكون بذكره وتمجيده والثناء عليه قولاً وعملاً، وقد يكون بالعمل له بالجوارح"( ).
3- البغوي فإنه قال: "قيل: معنى الدعاء هاهنا: الطاعة، ومعنى الإجابة: الثواب"( ).
وهذا التقسيم الرابع هو التقسيم الأحسن والأدق؛ لأنه أشمل وأعم، كما أنه أوجز وأخصر، فلهذا فهو أدق وأحكم. أما كونه أشمل وأعم؛ فلأنه يدخل فيه جميع أنواع الدعاء، فلم يخرج عنه شيء لم يشمله. وأما كونه أوجز وأخصر فواضح؛ لكون القسمة فيه ثنائية. وأما كونه أدق وأحكم؛ فلسلامته من الاعتراضات التي في التقسيمات الأخرى.
وجه انقسام الدعاء إلى نوعين:
قد ذكرنا في تعريف الدعاء أن معناه هو الرغبة والقصد والتوجه إلى المدعو، وهذا القصد والتوجه إلى المدعو يكون "تارة لذاته، وتارة لمسألته أمراً منه، وهذا كالشخص يدعو غيره ويطلبه ويقصده، تارة لذاته، وتارة لأمر يطلبه منه"( ).
فالقصد إلى المدعو لذاته هو المسمى بدعاء العبادة والثناء، والقصد إلى المدعو لمسألته هو المسمى بدعاء المسألة، وهذا هو وجه انحصار وانقسام الدعاء إلى نوعين فقط.(1/72)
ثم إن كلا النوعين من دعاء الثناء والذكر والعبادة، ودعاء المسألة والطلب، فيه خاصية وفائدة لا تكون في النوع الآخر، ففي الثناء والعبادة تمتلئ القلوب بعظمة الله وجلاله، وفي السؤال والطلب تمتلئ بالرغبة والانطراح بين يدي الله تعالى.
قال الإمام الدهلوي رحمه الله: "واعلم أن الدعوات التي أمرنا بها النبي صلى الله عليه وسلم على قسمين:
أحدهما: ما يكون المقصود منه أن تملأ القوى الفكرية بملاحظة جلال الله وعظمته، أو يحصل حالة الخضوع والإخبات، فإن لتعبير اللسان عما يناسب هذه الحالة أثراً عظيماً في تنبه النفس لها وإقبالها عليها. والثاني: ما يكون فيه الرغبة في خير الدنيا والآخرة، والتعوذ من شرهما؛ لأن همة النفس وتأكد عزيمتها في طلب شيء يقرع باب الجود بمنزلة إعداد مقدمات الدليل لفيضان النتيجة، وأيضاً فإن الحاجة اللذاعة لقلبه توجهه إلى المناجاة، وتجعل جلال الله حاضراً بين عينيه، وتصرف همته إليه، فتلك الحالة غنيمة المحسن"( ).
ثم إن كلا النوعين من خصائص الله تعالى، فلا يليقان بأن يصرفا لأحد كائناً من كان، سواء كان ملكاً مقرباً أو نبياً مرسلاً، فالله هو المدعو دعاء المسألة للنفع والضر، كما أنه هو المدعو المعبود للرجاء والخوف( ). فهذان النوعان مختصان به تبارك وتعالى، ولا يصلحان أن يصرفا لغيره.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: وكلا نوعي الدعاء مختصان بالله تعالى، حقان له لا يصلحان لغيره، بل دعاء غيره بأحد النوعين شرك، وذلك من معنى أنه الأحد الصمد، فإن كونه أحداً يوجب أن لا يشرك به في العبادة ولا الاستغاثة، فلا يدعى غيره.(1/73)
والاسم (الصمد) جاء معرفاً يبين أنه هو الصمد الذي يستحق أن يصمد إليه بكلا نوعي الصمد، وهذان الاسمان -الأحد والصمد- لم يذكرا في القرآن إلا في هذه السورة -يعني سورة الإخلاص- والله هو المقصود لذاته ولما يطلب منه، فهو مقصود مدعو لنفسه، كما أنه مقصود مدعو لما يسأل عنه ويطلب منه، وهو الصمد في الأمرين، لا يصلح لغيره أن يكون هو المعبود، ولا أن يكون هو المتوكل عليه، المستعان به، المسؤول منه( ).
تلازم نوير الدعاء:
قد ذكرنا أن الدعاء ينقسم إلى دعاء عبادة، ودعاء مسألة، وهذا التقسيم معناه أن الدعاء يراد به تارة دعاء المسألة، وتارة دعاء العبادة، وليس معنى هذا أنهما متضادان بحيث أنه لا يدل إلا على النوع الذي أريد به، بل معناه أنه في تلك الحالة دلالته على أحد النوعين أظهر، ويدل على النوع الآخر إما بدلالة الالتزام( ) أو بدلالة التضمن، وعلى النوع الذي يكون فيه أظهر بدلالة المطابقة.
فإذا أريد به المسألة والطلب يدل على العبادة بطريق التضمن( ) ؛ لأن الداعي دعاء المسألة عابد لله تعالى بسؤاله، ورغبته، والتضرع إليه، والابتهال إليه، والانطراح بين يديه، وهو يرجو قبول دعوته، وقضاء حاجته، وهو مع ذلك خائف من طرده، وعدم قبول دعوته، فهذا هو لب العبادة ومخها وروحها وحقيقتها. فالآيات التي ورد فيها الدعاء مراداً به دعاء المسألة -تدل هذه الآيات بطريق التضمن على دعاء العبادة-.(1/74)
وأما إذا أريد بالدعاء دعاء العبادة، فإنه يدل على دعاء المسألة بطريق دلالة الالتزام( ) ؛ وذلك لأن العابد لله تعالى كالذي يذكر الله مثلاً، فهو في الحقيقة سائل وإن كان لا يأتي بلفظ السؤال، كالذي يطوف على بعض الأبواب والأسواق ليدعو الناس يكون سائلاً وإن حذف لفظ السؤال( ). فالعابد لله سبحانه سائل لله تعالى، يسأله الفوز بالجنة، والنجاة من النار، فإنه يعبد الله خوفاً من عقابه، وطمعاً في رحمته، ولا يخلو العابد في قرارة نفسه من الخوف والرجاء، لا كما يزعمه بعض المتصوفة "إنه يعبد الله لا خوفاً من النار ولا طمعاً في الجنة، وإن هذا المقام نقص، وإنما الكمال في عبادة الله لذاته"( ) وهذا باطل مخالف لنصوص الكتاب والسنة، ولواقع عباد الله الصالحين من الصحابة والتابعين وسلف هذه الامة.
ولهذا فالعبادة تستلزم السؤال والطلب، فإذا أريد من الدعاء دعاء العبادة فإنه يدل على دعاء المسألة استلزاماً.
فالعابد لابد أن يطلب غرضاً ما عاجلاً أو آجلاً، فلا يخلو في قرارة نفسه من رغبة أو رهبة.
وبما تقدم تبين أن نوعي الدعاء متلازمان، لا ينفك أحدهما عن الآخر، فحيث ذكر أحدهما دخل معه الآخر، إما تضمناً أو التزاماً، وبهذا التقرير يندفع ما يردده بعض المخالفين من أن الآيات الواردة في التحذير من دعاء غير الله المراد بها العبادة فقط، وليس المراد بها السؤال والطلب، فلا يدخل فيها طلب الشفاعة من الأموات، والتوسل بهم، بل ولا دعاؤهم والاستغاثة بهم، والهتاف باسمهم من مسافات بعيدة.. هكذا زعموا وأولوا كل الآيات التي فيها التحذير من دعاء غير الله تعالى بالعبادة.
ولم يقتصروا على هذا فقط، بل ضيقوا معنى العبادة حيث إن مفهومها عندهم لا يشمل إلا السجود والركوع ونحو ذلك، وأما الدعاء والاستغاثة، والنذر، والذبح، وما إلى ذلك فليست داخلة في العبادة، هكذا زعموا، وهذا الزعم الذي زعموه ستأتي مناقشته إن شاء الله تعالى.(1/75)
ضوابط معرفة نوعي الدعاء:
قد ورد إطلاق الدعاء في القرآن الكريم على ثلاثة أوجه:
1- أن يراد منه دعاء المسألة.
2- أن يراد منه دعاء العبادة.
3- أن يراد منه مجموعهما.
فهذه الأوجه الثلاثة هي التي تدور عليها إطلاقات الدعاء في القرآن الكريم، إما أن يراد منه أحدهما أو يراد منه ما يشمل النوعين( ).
وهذه الاستعمالات الثلاث كثيرة في القرآن الكريم، قد ورد بكل منها عدة آيات، وفيما يلي بيان لتلك الاستعمالات مع المحاولة لجعل ضوابط تعرف بها تلك الآيات، مع أن هذه الضوابط ليست ضوابط بالمعنى الصحيح الذي لا يمكن تخلفه أو انفكاكه، بل هو تقريبي، وذلك لأن الأمر يتطلب استقراء تاماً في كتاب الله تعالى ودراسة كل آية دراسة وافية، وما قال فيها علماء التفسير.
بعض الآيات التي تكون دلالتها على دعاء المسألة أقوى:
ويمكن تقسيم تلك الآيات إلى أربع مجموعات:
1- المجموعة الأولى: الآيات التي تتحدث عن التجاء الإنسان إلى الله تعالى في وقت الشدائد والمصائب والاضطرار، وعن كشف الله تعالى لتلك الشدائد.
2- المجموعة الثانية: الآيات التي تتحدث عن طلب الأمم من الأنبياء التوسل لهم إلى الله بالدعاء.
3- المجموعة الثالثة: الآيات التي تتحدث عن نداء الأنبياء لربهم وابتهالاتهم.
4- المجموعة الرابعة: الآيات التي تتحدث عن عدم سماع المدعوين من دون الله لدعاء من دعاهم.
ففي هذه المجموعات تكون دلالة الآيات على دعاء المسألة أظهر، وقد تكون الدلالة على المسألة واضحة صريحة حتى تعد نصاً فيها كما في المجموعة الثانية والثالثة، ومع هذا فهي دالة على دعاء العبادة بطريق التضمن، فهي تدل على دعاء المسألة مطابقة، وعلى دعاء العبادة تضمناً. ومن هنا نجد من العلماء من يحمل تلك الآيات على دعاء العبادة مع ظهورها في المسألة، وذلك لتداخل النوعين من حيث التلازم، وعدم انفكاك أحدهما عن الآخر.
أمثلة المجموعة الأولى:(1/76)
وهي التي تتحدث عن التجاء الإنسان إلى الله تعالى في الشدائد، وكشف الله لها: منها قوله تعالى: ((أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ)) [النمل:62]، فهذه الآية أظهر في دعاء المسألة؛ لأن المضطر يحتاج إلى نيل مطلوبه العاجل أكثر من احتياجه إلى الأجر والثواب في الآخرة، فإن الإجابة تكون على دعاء المسألة بنيل المطلوب، وفي دعاء العبادة بالأجر والثواب، ومما يؤيد كونها في دعاء المسألة قوله: "ويكشف السوء" فكشف السوء هو مطلوب السائل المضطر، فهو به أنسب وأليق. ومن ذلك قوله تعالى: ((قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ)) [الأنعام:40] ((بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ)) [الأنعام:41]. قال الدهلوي رحمه الله: "وليس المراد من الدعاء العبادة كما قاله بعض المفسرين، بل هو الاستعانة، لقوله تعالى: ((بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ)) [الأنعام:41]( ).
وقال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن رحمه الله: "وهذا الدعاء ظاهر في دعاء المسألة حال الشدة والضرورة"( ). ومن ذلك قوله تعالى: ((وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ)) [الإسراء:67] فهذا "ظاهر في دعاء المسألة لمناسبة الحال والواقع "( ).
ومن ذلك قوله تعالى: ((وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)) [يونس:12].
وقوله تعالى: ((وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ)) [الزمر:8].(1/77)
وقوله جل شأنه: ((فَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ)) [الزمر:49].
أمثلة المجموعة الثانية:
وهي الآيات التي تتحدث عن طلب الأمم عن أنبيائهم دعاء الله لهم والتوسل لهم: فمن ذلك قوله تعالى: ((وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا...)) [البقرة:61].
وقوله تعالى: ((وَقَالُوا يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ)) [الزخرف:49].
وقوله تعالى: ((وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ)) [الأعراف:134].
أمثلة المجموعة الثالثة:
وهي الآيات التي تتحدث عن نداء الأنبياء لربهم وسؤالهم له: ومن ذلك قوله تعالى: ((هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ)) [آل عمران:38].
وقوله تعالى: ((فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ)) [القمر:10].
وقوله جل شأنه: ((فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا)) [الأعراف:189]. وقوله عز من قائل. ((فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ)) [الدخان:22].
وقوله تعالى: ((وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ...)) [يونس:88] إلى قوله: ((قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا)) [يونس:89].
وقوله تعالى: ((إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا...)) [مريم:3] إلى قوله: ((... وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا)) [مريم:4].
فهذا في دعاء المسألة أظهر، والمعنى إنك عودتني إجابتك وإسعافك، ولم تشقني بالرد والحرمان، فهو توسل إليه تعالى بما سلف من إجابته وإحسانه( ).
أمثلة المجموعة الرابعة:(1/78)
وهي الآيات التي تتحدث عن عدم سماع المدعوين من دون الله دعاء من دعاهم، ومن ذلك قوله تعالى: ((وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ)) [فاطر:13] ((إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ)) [فاطر:14]، فسياق الآيات يدل على أن المراد بالدعاء دعاء المسألة، فهو صريح في دعاء المسألة( ).
وقوله تعالى: ((وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ)) [القصص:64]، فهذا أظهر في دعاء المسألة، يبكتهم الله عز وجل ويخزيهم يوم القيامة بأمرهم بطلب الاستغاثة من شركائهم فلا يستجيبون لدعوتهم، وليس المراد اعبدوهم، وهو نظير قوله تعالى: ((وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ)) [الكهف:52]( ).
وقوله تعالى: ((وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لا يَسْمَعُوا)) [الأعراف:198].
أمثلة للآيات التي يراد بها دعاء العبادة وهي فيه أظهر: فقد ورد في القرآن الكريم استعمال الدعاء بمعنى العبادة، وكثر ذلك( ) حتى ادعى بعضهم أن ذلك هو المراد في كل ما ورد في القرآن الكريم، فلهذا نورد بعض الأمثلة لهذا الاستعمال، ونشير إلى ما يمكن اعتباره ضابطاً لهذا الاستعمال، ثم نشير إلى السبب في العدول من العبادة إلى الدعاء، مع أنه لو عبر بالعبادة بدل الدعاء لكان أوضح في المراد. فمن الآيات التي تكون في دعاء العبادة أظهر، قوله تعالى. ((قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ)) [الأنعام:56]، فالدعاء هنا أظهر في العبادة، بدليل اقترانه بقوله. "أن أعبد".(1/79)
وقوله تعالى: ((إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ...)) [النساء:116] إلى قوله: ((... إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا)) [النساء:117].
وقوله تعالى: ((أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ)) [الصافات:125].
تقدم( ) تفسير الأزهري للآية بأن معناها أتعبدون رباً سوى الله.
وقوله تعالى: ((إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)) [العنكبوت:42].
وقوله تعالى: ((أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ)) [يونس:66].
وقوله تعالى: ((وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا)) [مريم:48] ((فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ)) [مريم:49].
وقوله تعالى: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ)) [الحج:73].
وقوله تعالى: ((ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ)) [الحج:62].
وقوله تعالى: ((فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ)) [غافر:14].
فهذا في دعاء العبادة: "والمعنى: اعبدوه وحده، وأخلصوا عبادته، لا تعبدوا معه غيره"( ).(1/80)
وقوله تعالى: ((إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ)) [الطور:28] "فهذا دعاء العبادة، المتضمن للسؤال رغبة ورهبة، والمعنى: إنا كنا من قبل نخلص له العبادة، وبهذا استحقوا أن وقاهم عذاب السموم، لا بمجرد السؤال المشترك بين الناجي وغيره، فإن الله سبحانه يسأله من في السموات ومن في الأرض، والفوز والنجاة إنما هي بإخلاص العبادة لا بمجرد السؤال والطلب"( ).
وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ما يمكن اعتباره ضابطاً للآيات التي يكون فيها حمل الدعاء على العبادة أظهر، فقال: "وكل موضع ذكر فيه دعاء المشركين لأوثانهم فالمراد به دعاء العبادة المتضمن( ) دعاء المسألة، فهو في دعاء العبادة أظهر، لوجوه ثلاثة:
أحدها: أنهم قالوا: ((مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى)) [الزمر:3] فاعترفوا بأن دعاءهم إياهم عبادتهم لهم.
الثاني: أن الله تعالى فسر هذا الدعاء في موضع آخر كقوله تعالى: ((وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ)) [الشعراء:92] ((مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ)) [الشعراء:93].
وقوله تعالى: ((إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ)) [الأنبياء:98].
وقوله تعالى: ((لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ)) [الكافرون:2] وهو كثير في القرآن، فدعاؤهم لآلهتهم هو عبادتهم لها.
الثالث: أنهم كانوا يعبدونها في الرخاء، فإذا جاءتهم الشدائد دعوا الله وحده وتركوها، ومع هذا فكانوا يسألونها بعض حوائجهم، ويطلبون منها وكان دعاؤهم لها دعاء عبادة ودعاء مسألة"( ).(1/81)
ويأتي هنا سؤال مهم جداً، وهو أنه إذا كان المراد بالدعاء في الآيات التي ذكر فيها دعاء المشركين لأوثانهم العبادة المستلزمة للسؤال والطلب، فما هو السر؟ وما هي الحكمة في العدول في كلام الله تعالى الحكيم من العبادة إلى الدعاء؟ فهل هناك أسرار وحكم ونكات؟؟ فالجواب: إن المسلم لا بد له من أن يعتقد أن كلام الله تعالى له أسرار وفوائد وحكم، وهذا العدول لا بد أن يكون فيه سر، وإن كنا لا نستطيع الجزم بعين ذلك السر، وهذا هو معتقد المسلم الإجمالي، وأما تفصيلاً فقد يكون العالم يظهر له سر ما فيذكره بدون ادعاء أنه عين ما أراده الله من ذلك، فالجزم سوء أدب، فعلى هذا فنذكر بعض ما قاله العلماء في سر العدول عن التعبير بالعبادة إلى التعبير بالدعاء.
1- قال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن رحمهما الله بعد أن ذكر أن الدعاء عماد الدين قال: "وأنت ترى كل العبادات الباطنة والظاهرة دالة على الطلب والمسألة، على اختلاف المطلوب والمسؤول، وكأن هذا هو الوجه في التعبير بالدعاء دون العبادة في أكثر موارد القرآن والسنة"، ثم ذكر أنه يشهد لهذا حديث {أفضل الدعاء دعاء يوم عرفة} وجواب ابن عيينة عن ذلك( ).
2- وقال الشيخ حسين بن مهدي النعمي رحمه الله بعد أن أورد سؤالاً: هل سجل الله تعالى على الوثنية بالسجود لغيره كما سجل بدعائهم غيره؟؟ قال: "وكأنه -والله أعلم- لما كان الدعاء هو العبادة أو مخها، والسجود إنما هو كأنه عبارة عن بعض معاني الدعاء، وهو المعنى الأشمل الأكمل في هذا الباب، كان قبلة القصد، وعمدة المنتحى، وقاعدة المرمى، ومع التأمل أيضاً كأن الدعاء بعض معاني السجود، وكأنهما أيضاً لتلاقي حاصلهما فرسا رهان"( ).(1/82)
3- ويمكن أن يقال في سرد العدول أيضاً: إن أغلب عبادة المشركين لأوثانهم إنما هو بالدعاء والطلب، كما هو مشاهد اليوم بين من يعبد القبور، فإن أغلب أعمالهم نحوها الاستغاثة والاستمداد والاستشفاع، فهذه الأعمال التي هي من أنواع الدعاء أكثر وقوعاً وانتشاراً من الأعمال الأخرى كالنذر والذبح.
فلكون دعاء غير الله تعالى أكثر وقوعاً من غيره من أنواع الشرك الموجود عندهم، صار أهم من غيره، وانصب توجيه الإنكار عليه دون غيره من أنواع العبادات.
ومن هنا نستطيع أن نعرف أيضاً السبب في أن القرآن الكريم لم يكثر من النهي عن السجود لغيره تعالى، والنذر، والذبح، وأنواع العبادات، مثل ما أكثر من النهي عن دعاء غيره تعالى، فإننا إذا تتبعنا الآيات التي نهت صراحة عن السجود لغيره تعالى لا نجد إلا آية واحدة، وهي قوله تعالى. ((وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ)) [فصلت:37].
بينما نجد الآيات الكثيرة المتنوعة الأساليب التي نهت عن دعاء غير الله تعالى كثيرة جداً، فالسبب في هذا -والله أعلم- هو أن دعاء غير الله تعالى هو الأكثر وقوعاً وانتشاراً من السجود، كما أن الدعاء هو المعنى الأشمل الأكمل وهو لب العبادة ومخها، فصار هو الأهم.
أمثلة للآيات التي يراد بالدعاء فيها مجموع الأمرين: دعاء العبادة، ودعاء المسألة: وهذه الآيات تختلف فيها وجهات النظر، فمن هنا نجد من المفسرين من يفسرها بالمسألة ومن يفسرها بالعبادة. وهذا الخلاف منهم يدل على أن الآية تحتمل الأمرين، فلو لم تحتمل لما اختلفوا، والذي يحل هذا الاختلاف هو حمل الآية على الحقيقة المتضمنة للأمرين جميعاً، وبهذا يرتفع الخلاف، وتكون الآية صالحة للأمرين.
فمن تلك الآيات:(1/83)
قوله تعالى: ((وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي)) [البقرة:186].
فهذه الآية فسرت بنوعي الدعاء( )، قيل في قوله تعالى: (أجيب دعوة الداعي) أعطيه إذا سألني، وقيل: "أجيبه بالثواب على طاعته إياي إذا أطاعني، فيكون معنى الدعاء مسألة العبد ربه ما وعد أولياءه على طاعتهم بعملهم بطاعته، ومعنى الإجابة من الله التي ضمنها له الوفاء له بما وعد العاملين له بما أمرهم به"( ) فعلى القول الثاني يكون معنى الدعاء ههنا: الطاعة، ومعنى الإجابة: الثواب( ).
فهذه الآية تحتمل المعنيين؛ فلهذا فسرت بهما، فيكون الراجح فيها أنها في مجموع المعنيين، فالمراد بالدعاء فيها المعنى الشامل العام المشترك، الذي يصدق على النوعين.
ومن تلك الآيات أيضاً قوله تعالى: ((وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ)) [غافر:60].
فقد فسرت هذه الآية بالمعنيين( ) فقد ورد في تفسيرها بالعبادة حديث النعمان بن بشير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {الدعاء هو العبادة}. وقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ...)) [غافر:60] وهذا هو من البيان الذي أمر النبي صلى الله عليه وسلم بتبيينه للناس، ويؤيد هذا أيضاً قوله في آخر الآية: ((الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي)) [غافر:60] كما يؤيده قول الحسن البصري، فقد روي عنه أنه قال في هذه الآية: "(ادعوني أستجب لكم) قال: اعملوا وأبشروا، فإنه حق على الله أن يستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله"( ).(1/84)
وفسرت أيضاً بدعاء المسألة، وفسر قوله (عن عبادتي) أي: عن دعائي، وإلى هذا ذهب السدي( )، وقال السبكي: "الأولى حمل الدعاء على ظاهره، وأما قوله (عن عبادتي) فوجه الربط أن الدعاء أخص من العبادة، فمن استكبر عنها استكبر عن الدعاء، وعلى هذا فالوعيد إنما هو في حق من ترك الدعاء استكباراً، ومن فعل ذلك فقد كفر"( ). ومن تلك الآيات: قوله تعالى: ((قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ)) [الفرقان:77] فالأرجح أنه من إضافة المصدر إلى فاعله، أي: لولا دعاؤكم إياه. فعلى هذا فالمراد به نوعا الدعاء، أي: ما يعبأ بكم ربي لولا أنكم تعبدونه أو لولا أنكم تدعونه دعاء مسألة، وقد ورد( ) تفسير الدعاء في الآية بالإيمان والعبادة والمسألة، وهذا يدل على أن الآية تحتمل المعنيين، وأنها مشتركة، ولكن شيخ الإسلام( ) يرى أنها في العبادة أظهر مع دلالتها على المسألة، فتكون من الوجه الثاني المتقدم.
ومن تلك الآيات:
قوله تعالى: ((لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ)) [الرعد:14]، فقد فسر قوله تعالى (له دعوة الحق) بتوحيد الله، وشهادة أن لا إله إلا الله، روي ذلك عن علي وابن عباس وقتادة، أي لله من خلقه الدعوة التي هي الحق، فهذه الدعوة خاصة به، فليست تنبغي لغيره( ).
فعلى هذا فمعنى الدعوة: العبادة، وأهم العبادات التوحيد، أي: فالله الحق هو الذي يوحد ويفرد بالعبادة.(1/85)
وفسر أيضاً بالدعاء والسؤال والتضرع، أي: الله مختص به الدعاء الحق، والتضرع الثابت الواقع في محله، المجاب عند وقوعه... فإجابة الدعاء له تعالى دون غيره، ويؤيد هذا الوجه تمام الآية( )، ولهذا يرى بعضهم أن هذه الآية نص في دعاء المسألة( ) - لكن مفسرو السلف علي وابن عباس وغيرهما فسروا بما يفيد دلالتها على العبادة.
ومن تلك الآيات:
قوله تعالى: ((وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا)) [الأعراف:180]. فالدعاء بالأسماء الحسنى يتناول دعاء المسألة ودعاء العبادة( )، ففي السؤال والطلب يدعى الله تعالى بأسمائه وصفاته التي تتناسب مع المطلوب، نحو: يا غفار اغفر لي. وفي العبادة يعبد الله تعالى ويمدح ويثنى عليه، ويذكر بأسمائه الحسنى وصفاته العليا، كما أنه يعبد أيضاً "باستحضار معاني الأسماء الحسنى، وتحصيلها في القلوب؛ حتى تتأثر القلوب بآثارها ومقتضياتها، وتمتلىء بأجل المعارف، فمثلاً أسماء العظمة والكبرياء والمجد والجلال والهيبة تملأ القلوب تعظيماً لله وإجلالاً له، وأسماء الجمال والبر والإحسان والرحمة والجود تملأ القلب محبة لله وشوقاً له، وحمداً له وشكراً... فهذه المعارف التي تحصل للقلوب بسبب معرفة العبد بأسمائه وصفاته، وتعبده بها لله لا يحصل العبد في الدنيا أجل ولا أفضل ولا أكمل منها، وهي أفضل العطايا من الله لعبده، وهي روح التوحيد وروحه، ومن انفتح له هذا الباب انفتح له باب التوحيد الخاص، والإيمان الكامل الذي لا يحصل إلا للكمل من الموحدين، وإثبات الأسماء والصفات هو الأصل لهذا المطلب الأعلى"( ).
ويشبه هذه الآية الحديث الوارد في إحصاء الأسماء الحسنى، فقد فسر بالمسألة بها وبالتعبد بها.(1/86)
فقد فسر إحصاء الأسماء الحسنى الوارد في حديث. {إن لله تسعة وتسعين اسماً، من أحصاها دخل الجنة}( ) بالتعبد بها بحسن المراعاة لها "والمحافظة على حدودها في معاملة الرب سبحانه بها، وذلك مثل أن يقول: يا رحمن! يا رحيم! فيخطر بقلبه الرحمة، ويعتقدها صفة لله عز وجل فيرجو رحمته ولا ييأس من مغفرته... وإذا قال: (السميع البصير) علم أنه لا يخفى على الله خافية، وأنه بمرأى منه ومسمع؛ فيخافه في سره وعلنه؛ ويراقبه في كافة أحواله"( ).
إطلاق الدعاء على النوعين:
إذا أطلق الدعاء وأريد منه ما يشمل النوعين، فهل هو من باب استعمال المشترك( ) في معنييه كليهما، أو هو حقيقة( ) في أحدهما مجاز في الآخر، أو هو حقيقة في القدر المشترك بينهما فيكون من باب الأسماء المتواطئة( )..؟
فهذه الاحتمالات ثلاث، فالاحتمالان الأولان فيهما خلاف طويل بين الأصوليين في جوازهما. فبالنسبة إلى استعمال المشترك في معنييه كليهما ذهبت طائفة من العلماء إلى جوازه وذهب آخرون إلى امتناعه مطلقاً، وذهبت طائفة أخرى إلى امتناعه في الإثبات دون النفي( ).
واختلفوا أيضاً في الجمع بين الحقيقة والمجاز، ذهب الجمهور إلى المنع من ذلك، وأجاز ذلك بعض الشافعية وبعض المعتزلة، وقال آخرون: يجوز ذلك عقلاً لا لغة( ).
وعلى كل من الاحتمالين اعتراضات ومناقشات طويلة من المجيزين والمانعين في كتب أصول الفقه( ).
القول الراجح:
الراجح أن استعمال الدعاء في معنييه من باب الأسماء المتواطئة، فيكون قد استعمل في حقيقته المتضمنة للأمرين جميعاً( ). فإن الراجح في الألفاظ الدالة على معنيين فصاعداً أنها من باب الأسماء المتواطئة، وليست من باب استعمال اللفظ المشترك في معنييه أو معانيه، ولا من باب استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه؛ وذلك لأن كونها من المتواطئة أسلم من الاعتراض، كما أنه أدق نظراً.(1/87)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "واللفظ إذا استعمل في معنيين فصاعداً فإما أن يجعل حقيقة في أحدهما مجازاً في الآخر، أو حقيقة فيما يختص به كل منهما فيكون مشتركاً اشتراكاً لفظياً، أو حقيقة في القدر المشترك بينهما، وهي الأسماء المتواطئة، وهي الأسماء العامة كلها، وعلى الأول يلزم المجاز، وعلى الثاني يلزم الاشتراك، وكلاهما خلاف الأصل، فوجب أن يجعل من المتواطئة، وبهذا يعرف عموم الأسماء كلها"( ).
ومثل كلمة (الدعاء) الكلمات الواقعة في القرآن الدالة على معنيين فأكثر فهي من هذا القبيل، فمن تلك الكلمات كلمة "دلوك" في قوله تعالى: ((أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ)) [الإسراء:78] فسر الدلوك بالزوال، وفسر بالغروب، وليس بقولين، بل اللفظ يتناولها معاً، فإن الدلوك هو الميل، ودلوك الشمس ميلها، ولهذا الميل مبتدأ ومنتهى، فمبتدأه الزوال، ومنتهاه الغروب، واللفظ متناول لهما بهذا الاعتبار( ). إذا أطلق الدعاء على النوعين فإنه يطلق عليهما؛ لتضمنه القدر المشترك الذي يتحقق في النوعين، وهذا القدر المشترك الذي يصدق على النوعين ما هو؟
وفي الحقيقة يصعب التحديد بالدقة القدر المشترك الصادق على النوعين؛ وذلك لأنه أمر كلي لا يوجد كلياً عاماً إلا في الذهن، والتعبير عن ذلك الكلي صعب، ويمكن أن نقول: إن القدر المشترك بين نوعي الدعاء هو: "الرغبة إلى الله تعالى للنفع والضر، والابتهال إليه، والتقرب إليه بكل ما يحبه ويرضاه " فهذا القدر المشترك يصدق على النوعين.
كما أنه يمكن أن نقول: إن هذا هو تعريف الدعاء العام الشامل للنوعين، وقد تقدم، وقد أشار شيخ الإسلام رحمه الله إلى هذا القدر المشترك في تعريف الصلاة بمعنى الدعاء، فذكر أن المعنى العام هو: "دعاء الله: أي قصده والتوجه إليه، المتضمن ذكره على وجه الخشوع والخضوع"( ).(1/88)
وسبب الصعوبة في تحديد القدر المشترك يعود إلى أنه أمر ذهني، لم يحتج أهل اللغة إلى التعبير عنه، قال شيخ الإسلام: "والقدر المشترك بين مسميات الأسماء المتواطئة أمر كلي عام، لا يوجد كلياً عاماً إلا في الذهن، وهو مورد التقسيم بين الأنواع، لكن ذلك المعنى العام الكلي كان أهل اللغة لا يحتاجون إلى التعبير عنه؛ لأنهم إنما يحتاجون إلى ما يوجد في الخارج، وإلى ما يوجد في القلوب في العادة، وما لا يكون في الخارج إلا مضافاً إلى غيره لا يوجد في الذهن مجرداً"( ).
وأما إذا أطلق وأريد منه أحد النوعين فإما أن يكون تخصيصه لقرينة لفظية مثل لام العهد، نحو: الدعاء، مراداً به دعاء المسألة، أو الإضافة، نحو: دعاء العبادة أو دعاء المسألة.
فهذا أيضاً لا يخرجه عن أن يكون متواطئاً، كما إذا قال الرجل: جاء القاضي. وعنى به قاضي بلده، لكون اللام فيه للعهد، وأما أن يكون لغلبة الاستعمال عليه فيصير مشتركاً بين اللفظ العام والمعنى الخاص، فعلى كونه مخصصاً بقرينة لفظية فهو من الأسماء المتواطئة، وأما على كونه مخصصاً بغلبة الاستعمال فهو لفظ مشترك( ).
ويمكن أن يقال في الدعاء عند الإطلاق: أنه يراد به دعاء المسألة لغلبة الاستعمال فيه كما أشار إليه صاحب فتح المجيد بقوله: "إن الدعاء أكثر ما يستعمل في الكتاب والسنة واللغة ولسان الصحابة ومن بعدهم من العلماء في السؤال والطلب، كما قال العلماء من أهل اللغة وغيرهم"( ).
أي نوعي الدعاء أفضل؟
إذا تقرر أن الدعاء نوعان: دعاء عبادة، ودعاء مسألة؛ يأتي سؤال مهم لمن يعتني بالعبادة ويتخيرها أي النوعين أفضل؟ وهذا سؤال مهم؛ لأن المؤمن يحتاج إلى فقه ومعرفة بمراتب الأعمال وتفاوتها ومقاصدها؛ حتى لا يشتغل بمفضولها عن فاضلها، فيفوت إبليس الفضل الذي بينهما، أو ينظر إلى فاضلها فيشتغل به عن مفضولها، وإن كان ذلك وقته فتفوته مصلحته بالكلية، لظنه أن اشتغاله بالفاضل أكثر ثواباً وأعظم أجراً( ).(1/89)
فالعلماء قد اختلفوا في الجواب على ثلاثة أقوال:
1- أن دعاء العبادة أفضل.
2- أن دعاء المسألة أفضل.
3- التفصيل والقول بأن ذلك يختلف بحسب الأشخاص والأحوال. أدلة الفريق الأول( ):
أ- قوله صلى الله عليه وسلم: {أفضل الكلام بعد القرآن أربع، وهن من القرآن: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر}( ).
ب- وقوله صلى الله عليه وسلم عندما سئل أي الكلام أفضل؟، قال: {ما اصطفى الله لملائكته}( ).
جـ- إن دعاء العبادة حق الرب ووصفه، ودعاء المسألة حظ العبد ومصلحته، فالشيء يشرف بحسب متعلقه.
د- إن دعاء العبادة لا يكون إلا من مخلص، وأما دعاء المسألة فيكون من مخلص ومن غير مخلص؛ لأن الله تعالى يسأله من في السموات والأرض، والكفار يسألون الله فيجيبهم.
هـ- ولأن العبادة شكر لنعمة الله تعالى، والله يحب أن يشكر، وأما الدعاء فهو طلب لفعله وتوفيقه، ويحصل بالشكر لله وعبوديته التوفيق والإعانة، فكان الأولى الالتزام بالشكر حتى يحصل له الأمران، ويشير إلى هذا قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي: {من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين}( ).
ولهذا كان المستحب في الدعاء أن يبدأ الداعي بحمد الله تعالى والثناء عليه بين يدي حاجته، ثم يسأل حاجته.
و- ثم إن العبادة هي الغاية المطلوبة لذاتها، وهي التي خلقنا من أجلها، والسؤال وسيلة إليها، والمقاصد والغايات أشرف من الوسائل.
ز- إن العلماء يختلفون في العاجز عن الفاتحة هل يقوم الدعاء المحض -وهو دعاء المسألة- مقام الذكر.
إلى غير ذلك من الأدلة الكثيرة الدالة على فضل دعاء الثناء والعبادة..
أدلة الفريق الثاني:
أ- قوله صلى الله عليه وسلم: {الدعاء هو العبادة} وسيأتي توجيه وجه الاستدلال ومناقشته.
ب- وصفه صلى الله عليه وسلم الدعاء بأنه مخ العبادة، وأن ذلك لكونه يستدعي مزيد حضور قلبي دون سائر العبادات التي يغلب على المتعبد بها الغفلة والسهو.(1/90)
جـ- إن الدعاء فيه غاية التذلل والخضوع، وإظهار الفاقة، وذل العبودية، وعز الربوبية.
د- إن كل داع عابد ولا ينعكس.
هذه هي أهم العلل التي فضلوا من أجلها الدعاء على غيره من أنواع العبادات، كما ذكرها الزبيدي مؤيداً بها هذا القول( ).
ويمكن أن يستدل لهم بالأحاديث التالية زيادة على الحديثين الماضيين:
1- قوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو هريرة رضي الله عنه: {ليس شيء أكرم على الله من الدعاء}( ).
2- حديث ابن عباس مرفوعاً: {أفضل العبادة الدعاء. وقرأ: ((وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ)) [غافر:60] الآية( )}.
3- حديث عائشة رضي الله عنها قالت: {سئل النبي صلى الله عليه وسلم: أي العبادة أفضل؟ قال: دعاء المرء لنفسه}( ).
4- وحديث ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {سلوا الله من فضله، فإن الله يحب أن يسأل، وأفضل العبادة انتظار الفرج}( ).
مناقشة أدلة الفريق الثاني:
ذكر وجه الحصر في قوله صلى الله عليه وسلم: {الدعاء هو العبادة}: في هذا الحديث إفادة الحصر من عدة وجوه:
1- تعريف طرفي المبتدأ والخبر.
2- ضمير الفصل.
3- الجملة الاسمية التي تدل على الاستمرار والدوام.
وقد ذكر العلماء في توجيه هذا الحصر عدة أوجه:
الوجه الأول:
وهو ما ذكره الخطابي، وقد تبع الخطابي كثير ممن جاء بعده، قال الخطابي رحمه الله: "إنه معظم العبادة، أو أفضل العبادة، كقولهم: الناس بنو تميم، والمال الإبل. يريدون أنهم أفضل الناس أو أكثرهم عدداً، أو ما أشبه ذلك، وأن الإبل أفضل أنواع الأموال وأنبلها، وكقول النبي صلى الله عليه وسلم: {الحج عرفة} يريد أن معظم الحج الوقوف بعرفة؛ وذلك لأنه إذا أدرك عرفة فقد أمن فوات الحج، ومثل هذا في الكلام كثير"( ).(1/91)
ويؤيد هذا الوجه ما ورد في معنى هذا الحديث من حديث أنس مرفوعاً: {الدعاء مخ العبادة}( ) فمخ الشيء خالصة ولبه، ووجه تخصيص الدعاء بذلك: "أنه لما كان المخ من أعضاء الحيوان هو المغذي لها، والمقوم لاستدامة بقائها؛ شبه الدعاء به؛ لأنه يعمل هذا العمل، وذلك لأنه يشتمل على حضور قلبي لا يوجد في غيره، فهو يستدعي مزيد حضور في قلب الداعي"( ).
فالحصر على هذا الوجه حصر إضافي وليس حقيقياً فكأن العبادات الأخرى ليست عبادة فهو لكماله المطلق، وكونه غاية في التذلل والخضوع صار كأنه الوحيد في استحقاق هذا الاسم وأن غيره لا يطلق عليه هذا الاسم، فهو الفرد الكامل من أنواع العبادات، ومن هنا استدل بهذا الحديث القائلون بأفضلية الدعاء المطلقة على سائر أنواع العبادات.
الوجه الثاني:
أن الغرض من العبادة طلب الثواب عليها، وهذا هو المطلوب( ) بالدعاء أيضاً، فكل من العبادة والدعاء طلب، فالداعي دعاء المسألة يطلب جلب منفعة أو دفع مضرة، والعابد كذلك يطلب جلب الثواب ودفع العقاب، فالغرض منهما شيء واحد، وقد تقدم بيان تضمن كل منهما للطلب.
فعلى هذا فالحصر حقيقي، فجميع أنواع العبادات هي دعاء لله تعالى، وسؤال له لمرضاته وجناته، وللنجاة من غضبه وعقابه.
الوجه الثالث:
أن العبادة في الحديث على معناها اللغوي الذي هو التذلل والخضوع. فمعنى {الدعاء هو العبادة}: أن الدعاء الذي هو طلب قضاء حوائج من الله تعالى: هو إظهار غاية التذلل والافتقار إلى الله تعالى، والاستكانة له، وما شرعت العبادات إلا للخضوع للباري وإظهار الافتقار إليه( ).
الوجه الرابع:
أن الدعاء هو العبادة سواء استجيب أو لم يستجب؛ لأنه إظهار العبد العجز والاحتياج من نفسه، والاعتراف بأن الله تعالى قادر على إجابته، كريم لا بخل له ولا فقر، ولا احتياج له إلى شيء حتى يدخره لنفسه ويمنعه من عباده، وهذه الأشياء هي العبادة، بل مخها( ).
الوجه الخامس:(1/92)
إن الدعاء امتثال أمر الله تعالى حيث قال: ((ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ)) [غافر:60] فهو مأمور به، والمأمور به عبادة( ). ويؤيد هذا الوجه قراءة النبي صلى الله عليه وسلم للآية. والذي يظهر -والله أعلم-: أنه لا حاجة إلى تأويل معنى الحديث واستشكاله، وذلك لما تقدم في مبحث التعريف أن الدعاء يطلق على العبادة لغة وشرعاً، وأن دعاء المسألة متضمن لدعاء العبادة، والعبادة مستلزمة للسؤال والطلب.
والشارع الحكيم قد بين البيان الشافي، ولا حاجة بعد بيان الشارع إلى بيان آخر، وقد ذكرنا إطلاق القرآن الدعاء على العبادة، والعبادة على الدعاء.
والرسول صلى الله عليه وسلم بين أن الدعاء هو العبادة، فهذا من البيان الذي أمر بتبيينه للناس. قال تعالى: ((وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ)) [النحل:44].
وقد ذكر ابن القيم( ) رحمه الله بيان الرسول صلى الله عليه وسلم للقرآن، وذكر أنه على أوجه، ثم ذكر أن من تلك الأوجه: "بيان معناه وتفسيره لمن احتاج إلى ذلك" وضرب أمثلة لذلك، وذكر من تلك الأمثلة هذا الذي نحن فيه فقال: "وكما فسر الدعاء في قوله: ((وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ)) [غافر:60] بأنه العبادة".
والحاصل: أن الحديث لا يدل صراحة للقائلين بأفضلية دعاء المسألة؛ لاحتماله للأوجه المذكورة، ولا يمكن الاستدلال به إلا على الوجه الأول فقط، وأما على الأوجه الأخرى الباقية فلا يصح الاستدلال به. ومن المعلوم أن الدليل إذا دخله الاحتمال سقط به الاستدلال، ومن هنا تتلخص مناقشة أدلتهم في الآتي:
1- أن الاستدلال بحديث {الدعاء هو العبادة} لا يتم؛ لاحتماله للأوجه الأخرى المذكورة، ففي بعض الأوجه أن الدعاء والعبادة سيان في المفهوم، فلا يتم الاستدلال به.(1/93)
2- ثم هو معارض بالأحاديث المصرحة بفضل الأذكار على غيره نحو: {أفضل الكلام بعد القرآن أربع: سبحان الله والحمد لله...} ونحو قوله صلى الله عليه وسلم عندما سئل أي الكلام أفضل قال: {ما اصطفى الله لملائكته}، مما استدل به من فضل دعاء العبادة.
وأما ما ادعى من المزايا الأخرى من مزيد الحضور القلبي والتذلل والخضوع فنقول: إن المزايا والفضائل والخصائص لا تقتضي الأفضلية المطلقة كما قال العلماء( ) وبينوا ذلك في الأحاديث التي تتعلق بمناقب الصحابة وفضائلهم، في نحو قوله صلى الله عليه وسلم: {أمين هذه الأمة أبو عبيدة}( ) فتخصيصه بالأمانة لا يقتضي أفضليته على الخلفاء الأربعة، فكذلك ما نحن فيه.
3- وأما ما ادُّعي من عدم انعكاس إطلاق الدعاء على العبادة فغير مسلم؛ لما علم من تلازمهما، وأن كل عابد داع، وقد تقدم ذلك مفصلاً.
4- وأما قوله صلى الله عليه وسلم: {ليس شيء أكرم على الله...}، فعلى فرض صحة الحديث فهو أيضاً من باب الخصائص والمزايا، فكونه أكرم لا يدل على الأفضلية المطلقة.
وقد أجاب بعضهم( ) بأن المراد أكرم على ما سواه من العبادات القولية؛ لأن سوق كل شيء يعتبر في بابه، فلا يرد أن الصلاة أفضل من العبادات البدنية.
ويعترض عليه بأن الإشكال باق بنحو:. {أفضل الأذكار قول لا إله إلا الله} وأحب الأذكار {سبحان الله}.
وأجاب بعضهم بأن معنى أكرم: أسرع قبولاً، وأنفع تأثيراً، فيكون من باب الخصائص والمزايا، وبأنه يمكن أن يكون معنى الدعاء هنا: الدعوة إلى الله تعالى، وهو معنى صحيح قد ورد للدعاء، كما تقدم في التعريف.
وبهذا نقول: إن الاستدلال بالحديث على الأفضلية لا يتم لهذه الاحتمالات المذكورة، وهذا وقد بقي الجواب عن الأحاديث الثلاثة الأخيرة، فهي نص في محل النزاع، ويمكن أن يقال في الجواب عنها: أن المراد بالدعاء فيها هو العبادة بالمعنى الشامل، كما هو لفظ الحديث الثالث، فليست نصاً في محل النزاع.(1/94)
أو يقال: إن هذه الأفضلية المذكورة في هذه الأحاديث مقيدة ببعض الأحوال، وليست أفضلية مطلقة في جميع الأحوال والأشخاص، كما يتضح هذا مما سيأتي في القول الثالث، والله أعلم.
القول الثالث:
وهو القول الراجح: إن الأفضل يتنوع باعتبارات، ومع ذلك إذا نظر بدون اعتبار فدعاء العبادة أفضل، فجنس الدعاء الذي هو ثناء وعبادة أفضل من جنس الدعاء الذي هو سؤال وطلب، وإن كان المفضول قد يفضل على الفاضل في موضعه الخاص بسبب وبأشياء أخرى، فالمفضول له أمكنة وأزمنة وأحوال يكون فيها أفضل من الفاضل( ).
قال ابن القيم رحمه الله: جنس الذكر أفضل من جنس الدعاء من حيث النظر إلى كل منهما مجرداً، وقراءة القرآن أفضل من الذكر، والذكر أفضل من الدعاء، هذا من حيث النظر إلى الكل مجرداً، وقد يعرض للمفضول ما يجعله أولى من الفاضل بل يعينه، فلا يجوز أن يعدل عنه إلى الفاضل، وهذا كالتسبيح في الركوع والسجود، فإنه أفضل من قراءة القرآن فيهما، بل القراءة فيهما منهي عنها نهي تحريم أو كراهة، وكذلك التسبيح والتحميد والتشهد والذكر عقيب السلام من الصلاة أفضل من القراءة.
وهكذا الأذكار المقيدة بمحال مخصوصةٍ أفضل من القراءة المطلقة، والقراءة المطلقة أفضل من الأذكار المطلقة، اللهم إلا أن يعرض للعبد ما يجعل الذكر أو الدعاء أنفع له من قراءة القرآن، مثاله: أن يتفكر في ذنوبه فيحدث ذلك له توبة واستغفاراً، أو يعرض له ما يخاف أذاه من شياطين الإنس والجن فيعدل إلى الأذكار والدعوات التي تحصنه وتحوطه.
وكذلك أيضاً قد يعرض للعبد حاجة ضرورية إذا اشتغل عن سؤالها بقراءة أو ذكر لم يحضر قلبه فيهما، وإذا أقبل على سؤالها والدعاء لها اجتمع قلبه كله على الله تعالى، وأحدث له تضرعاً وخشوعاً وابتهالاً، فهذا قد يكون اشتغاله بالدعاء -والحالة هذه- أنفع، وإن كان كل من القراءة والذكر أفضل وأعظم أجراً( ).(1/95)
والحاصل أن "الأفضل في كل وقت وحال: إيثار مرضاة الله في ذلك الوقت والحال، والاشتغال بواجب ذلك الوقت ووظيفته ومقتضاه"( ).
وقد ذكر شيخ الإسلام ضابطاً لتفاضل العبادات وتنوع ذلك، ثم ذكر الأفضل المطلق، فقال رحمه الله: "إن الأفضل يتنوع:
1- تارة بحسب أجناس العبادات، كما أن جنس الصلاة أفضل من جنس القراءة، وجنس القراءة أفضل من جنس الذكر، وجنس الذكر أفضل من جنس الدعاء.
2- وتارة يختلف باختلاف الأوقات، كما أن القراءة والذكر والدعاء بعد الفجر والعصر هو المشروع دون الصلاة.
3- وتارة باختلاف عمل الإنسان الظاهر، كما أن الذكر والدعاء في الركوع والسجود هو المشروع دون القراءة، وكذلك الذكر والدعاء في الطواف مشروع، وأما القراءة في الطواف ففيها نزاع معروف.
4- وتارة باختلاف الأمكنة: كما أن المشروع بعرفة ومزدلفة وعند الجمار، وعند الصفا والمروة هو الذكر والدعاء دون الصلاة ونحوها، والطواف بالبيت للوارد أفضل من الصلاة، والصلاة للمقيمين بمكة أفضل.
5- وتارة باختلاف مرتبة جنس العبادة، فالجهاد للرجال أفضل من الحج، وأما النساء فجهادهن الحج، والمرأة المتزوجة طاعتها لزوجها أفضل من طاعتها لأبويها، بخلاف الآية فإنها مأمورة بطاعة أبويها.
6- وتارة يختلف باختلاف حال قدرة العبد وعجزه، فما يقدر عليه من العبادات أفضل في حقه مما يعجز عنه، وإن كان جنس المعجوز عنه أفضل، وهذا باب واسع يغلو فيه كثير من الناس، ويتبعون أهواءهم فإن من الناس من يرى أن العمل إذا كان أفضل في حقه لمناسبة له، ولكونه أنفع لقلبه وأطوع لربه، يريد أن يجعله أفضل لجميع الناس، ويأمرهم بمثل ذلك، والله بعث محمداً بالكتاب والحكمة، وجعله رحمة للعباد وهدياً لهم، يأمر كل إنسان بما هو أصلح له، فعلى المسلم أن يكون ناصحاً للمسلمين، يقصد لكل إنسان ما هو أصلح له.(1/96)
وبهذا تبين لك أن من الناس من يكون تطوعه بالعلم أفضل له، ومنهم من يكون تطوعه بالجهاد أفضل، ومنهم من يكون تطوعه بالعبادات البدنية -كالصلاة والصيام- أفضل له.
والأفضل المطلق: ما كان أشبه بحال النبي صلى الله عليه وسلم باطناً وظاهراً، فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم"( ).
والحاصل أن الأفضلية تتنوع، وأن الشخص الواحد يكون هذا له تارة أفضل وتارة هذا أفضل، ومعرفة أن هذا أفضل له، ومعرفة حال كل الأشخاص، وبيان الأفضل لكل أحد لا يمكن استقصاؤه ولا ضبطه، بل لا بد في ذلك من هداية يهدي الله بها عبده إلى ما هو أصلح له، وما صدق الله عبده إلا صنع له( ).
ثم إذا عرفنا هذا فلا بد من الإشارة إلى أن الأعمال المتحدة في الجنس تتفاضل بتفاضل ما في القلوب من الإيمان والمحبة والتعظيم والإجلال، وقصد وجه المعبود وحده دون شيء من الحظوظ سواه، وتتفاضل أيضاً بتجريد المتابعة، فتتفاضل الأعمال بحسب تجريد الإخلاص والمتابعة تفاضلاً لا يحصيه إلا الله( ).
المبحث الثاني
في أقسام الدعاء باعتبار صيغه ومتعلقاته
ويشتمل على مطلبين:
المطلب الأول: في أقسام الدعاء باعتبار صيغه:
ينقسم الدعاء باعتبار صيغه إلى نوعين: طلبية، وخبرية:
فالمراد بالصيغة الطلبية: ما يراد منها إنشاء الدعاء، وهو ما يقابل الإخبار، وقد سبق لنا -بحمد الله- في التعريف أن الدعاء طلب خاص، وهو طلب الأدنى من الأعلى بلا غضاضة، وليس هو طلباً مطلقاً، والطلبية تتنوع إلى نوعين( ) أيضاً:(1/97)
الأول: طلب حصول الفعل، وذلك في الإيجاب، وتكون الصيغة في هذا بـ(افعل) ونحوه، مثاله: ((رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ)) [آل عمران:193]. الثاني: طلب عدم الوقوع، وذلك في النفي، وتكون صيغته (لا تفعل)، ونحوه مثاله: ((رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ)) [الأنبياء:89]. وقد يجتمع النوعان في مثال واحد نحو: ((رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً)) [آل عمران:8].
وبقي نوع آخر، وهو: أن تكون الجملة خبرية، ولكنها متضمنة للإنشاء لقصد المتكلم منها الإنشاء، وذلك نحو: السلام عليكم، ففي هذه الحالة تكون الجملة الدعائية متضمنة للإنشاء والإخبار، فجهة الخبرية فيها لا تناقض جهة الإنشائية؛ وذلك لأن المعنى كان حاصلاً قبل الإنشاء من غير جهة المتكلم، وليس للمتكلم إلا دعاؤه بحصوله، ومحبته، ففي (السلام عليكم) السلامة المطلوبة لم تحصل بفعل المُسَلّم، وليس للمسلم إلا الدعاء بها ومحبتها، فإذا قال "السلام عليكم" تضمن الإخبار بحصول السلامة، والإنشاء للدعاء بها وإرادتها وتمنيها( ).
ثم إن السبب في إطلاق الجملة الخبرية على الطلبية: تلازمهما؛ لأنه إذا استعملت الخبرية في الطلب فإنها إنما استعملت في لازمها، وجعل اللازم لقوة الطلب والإرادة له كأنه موجود محقق مخبر عنه، فكان هذا طلباً مؤكداً؛ ولهذا يكثر ذلك في الدعاء الذي يجتهد فيه الداعي( ).
والخبرية تتنوع إلى ثلاثة أنواع( ):
النوع الأول:(1/98)
ما كان الدعاء بجملة خبرية أو عدة جمل خبرية تصف حال الداعي وتصف فقره، وحاجته، وتضرعه وتذلله بين يدي الله تعالى، نحو قول موسى عليه السلام: ((رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ)) [القصص:24] فقد وصف نفسه بالفقر إلى ما أنزل الله إليه من الخير، وهو متضمن لسؤال الله إنزال الخير إليه، وهذا تعرض للسؤال والطلب بدون تصريح بذلك، وهذا من حسن الأدب في الطلب.
النوع الثاني:
ما كان الدعاء بجملة خبرية أو جمل خبرية تصف حال المسؤول وتثني عليه بكرمه وجوده، وتفضله وإنعامه، وغوثه وإجابته للدعاء، وغير ذلك. وقد تقدم بحمد الله وتوفيقه وجه كون ثناء المسؤول ومدحه ثناء وطلباً، وقول ابن عيينة وغيره في ذلك بما فيه الكفاية.
النوع الثالث:
ما كان الدعاء بجملة خبرية أو عدة جمل خبرية تصف حال المسؤول وحال السائل، فهذا النوع يجمع بين النوعين السابقين، نحو دعوة ذي النون عليه السلام: ((لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ)) [الأنبياء:87].
أي هذه الصيغ أكمل؟:
فهذه الأنواع لكل نوع منها خاصة( ) لا تكون للنوع الآخر، ويكون كل نوع منها أنسب للسائل من النوع الآخر، وهذا النوع الآخر يكون أنسب لسائل آخر.. وهكذا.
وهذا يحتاج إلى فقه، وتمييز بين الحالات، وتنزيل كل حال منزلته التي تليق به، مثال ذلك: دعوة ذي النون: ((لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ)) [الأنبياء:87] حيث كانت بصيغة الخبر بوصف حال المسؤول بالتفرد بالألوهية، ووصفه بالتنزيه والتعظيم، ووصف حال السائل بالاعتراف بالظلم، وبأن ما أصابه كان بذنبه.(1/99)
ولم تكن بصيغة الطلب الصريح؛ لاستشعاره أنه مسيء ظالم، وهو الذي أدخل الضر على نفسه، فناسب حاله أن يذكر ما يرفع سببه من الاعتراف بظلمه( ) بدون أن يصرح بطلبه. فهذه الأنواع كل منها أبلغ من الآخر من جهة، ففي حال الخبر بوصف الحاجة والافتقار يكون من السؤال بالحال، وهو أبلغ من جهة العلم والبيان، ومن جهة حسن الأدب في السؤال، فقول القائل لمن يعظمه ويرغب إليه: أنا جائع، أنا مريض. فيه حسن أدب في السؤال، وفيه إظهار حاله وإخباره على وجه الذل والافتقار المتضمن لسؤال الحال.
وأما قوله: أطعمني، وداوني.. ونحو ذلك مما هو بصيغة الطلب، طلب جازم من المسؤول، ففيه الرغبة التامة والسؤال المحض بصيغة الطلب، وهذا أظهر من جهة القصد والإرادة، فلهذا كان غالب الأدعية من هذا النوع الذي هو الطلب الصريح؛ لأن السائل يتصور مقصوده ومراده فيطلبه ويسأله، فهو سؤال بالمطابقة والقصد الأول، وتصريح به باللفظ، وإن لم يكن فيه وصف لحال السائل والمسؤول( ).
والأكمل المطلق ما كان جامعاً بين الأنواع كلها من وصف حال السائل ووصف حال المسؤول، ثم الطلب الصريح؛ فإنه يتضمن الخبر والعلم المقتضي للسؤال والإجابة، ويتضمن القصد والطلب الذي هو نفس السؤال، فيتضمن السؤال والمقتضي له والإجابة( ).(1/100)
قال ابن القيم: "إن الدعاء الذي يتقدمه الذكر والثناء أفضل وأقرب إلى الإجابة من الدعاء المجرد، فإن انضاف إلى ذلك إخبار العبد بحاله ومسكنته وافتقاره واعترافه؛ كان أبلغ في الإجابة وأفضل، فإنه يكون قد توسل إلى المدعو بصفات كماله وإحسانه وفضله، وعرَّض بل صرح بشدة حاجته، وضرورته وفقره ومسكنته، فهذا المقتضى منه، وأوصاف المسؤول مقتضى من الله، فاجتمع المقتضى من السائل، والمقتضى من المسؤول في الدعاء، وكان أبلغ وألطف موقعاً، وأتم معرفة وعبودية، وأنت ترى في الشاهد -ولله المثل الأعلى- أن الرجل إذا توسل إلى من يريد معروفه بكرمه وجوده وبره، وذكر حاجته هو، وفقره ومسكنته، كان أعطف لقلب المسؤول، وأقرب لقضاء حاجته، فإذا قال له: أنت جودك قد سارت به الركبان، وفضلك كالشمس لا تنكر -ونحو ذلك- وقد بلغت بي الحاجة والضرورة مبلغاً لا صبر معه.. ونحو ذلك كان أبلغ في قضاء حاجته من أن يقول ابتداء: أعطني كذا وكذا"( ).
وهكذا كانت عامة أدعية النبي صلى الله عليه وسلم، فهي في الغالب تجمع هذه الأنواع كلها، فلهذا ينبغي للعاقل أن لا يعدل عنها إلى غيرها، وذلك لأنه صلى الله عليه وسلم أعطي جوامع الكلم، فلا يمكن لغيره أن يأتي بمثل أدعيته صلى الله عليه وسلم.
مثال ذلك: قوله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه لما قال له: {علمني دعاء أدعو به في صلاتي. قال: قل: اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً، ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم}( ) فقد جمع صلى الله عليه وسلم في هذا الدعاء هذه الصيغ كلها من وصف حال السائل بالظلم، ووصف الله بالتفرد بالمغفرة، ثم الطلب للمغفرة والرحمة.(1/101)
قال شيخ الإسلام رحمه الله: "فهذا فيه وصف العبد لحال نفسه المقتضي حاجته إلى المغفرة، وفيه وصف ربه الذي يوجب أنه لا يقدر على هذا المطلوب غيره، وفيه التصريح بسؤال العبد لمطلوبه، وفيه بيان المقتضي للإجابة، وهو وصف الرب بالمغفرة والرحمة، فهذا ونحوه أكمل أنواع الطلب"( ).
المطلب الثاني: في أقسام الدعاء باعتبار متعلقاته:
ينقسم الدعاء باعتبار متعلقاته إلى ثلاثة أقسام:
1- أقسام الدعاء باعتبار الداعي.
2- أقسام الدعاء باعتبار المدعو المطلوب منه.
3- أقسام الدعاء باعتبار الشيء المطلوب.
وجه الحصر في هذه الأقسام الثلاثة:
وجه الحصر في هذه الأقسام هو أن متعلق الدعاء ثلاثة:
1- الداعي الطالب للحاجة.
2- المدعو المطلوب منه.
3- المدعو به المطلوب.
وكل هذه الأقسام الثلاثة تنقسم إلى أربعة أقسام، وإليك تفصيل هذه الأقسام:
أقسام الدعاء باعتبار الداعي:
قد سبق أن الدعاء نوعان: دعاء عبادة، ودعاء استعانة، فالداعي إما أن يتصف بهما معاً أو يتصف بأحدهما دون الآخر، أو يتركهما جميعاً، فهذه أربعة أقسام، وهي القسمة الممكنة في العقل.(1/102)
وقد جمع الله بين هذين الأصلين -العبادة، والاستعانة- اللذين أحدهما غاية العبد التي خلق من أجلها، والآخر وسيلة إليها في مواضع( ) من كتابه، منها ((إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)) [الفاتحة:5] وقوله تعالى حكاية عن العبد الصالح شعيب عليه السلام قوله: ((وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ)) [هود:88]، وقول إبراهيم والذين معه: ((رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ)) [الممتحنة:4]، وقوله سبحانه إذ أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول: ((عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ)) [الرعد:30] ((قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ)) [الرعد:30]، كما أمره بهما في قوله: ((فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ)) [هود:123]، وفي قوله: ((وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ)) [الفرقان:58]، وفي قوله: ((رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا)) [المزمل:9].
ومع كون هذين الأصلين يوجدان في البشر إلا أن الأصل الذي هو الاستعانة هو الأكثر فيهم؛ لأن علم النفوس البشرية بحاجتها وفقرها إلى الرب قبل علمها بحاجتها وفقرها إلى الإله المعبود، كما أن قصدها لدفع حاجاتها العاجلة قبل الآجلة، ولهذا كان إقرارهم بالربوبية أسبق من الألوهية، كما هو معروف من دعوة الرسل، ومن الإخلاص في وقت الشدائد( ).
وهذان الأصلان كلاهما ملازمان للإنسان؛ وذلك لأن الإنسان حساس متحرك بالإرادة، فهو همام، حارث، بل كل حي له إحساس وعمل بإرادة، ولا بد في العمل الإرادي الاختياري من مراد وهو المطلوب، ولا يحصل المراد إلا بأسباب ووسائل تحصله.
فلهذا فلا بد لكل إنسان من إرادة، ولا بد لكل مريد من مستعان به مدعو ومسؤول يستعان به على تحصيل المراد المطلوب.(1/103)
وهذا المستعان به إذا كان مستعاناً به لذاته فلا بد أن يذل له الطالب السائل ويحبه، ويعتمد عليه ويرجوه ويخافه وينقاد له، فيكون هو الغاية المطلوبة لهذا الإنسان، فيكون هو معبوده ومقصوده والمستعان به( ).
فتبين بهذا العلاقة التي بين العبادة والاستعانة، وأنه لا بد لكل إنسان في كل وقت وحال من منتهى يطلبه، وهو إلهه، ولا بد له أيضاً من منتهى يطلب منه ويستعين به، وذلك صمده الذي يصمد إليه في سؤاله واستعانته( ).
ومن هنا يظهر لنا تلازم العبادة والاستعانة للإنسان، وأن أحدهما وسيلة والآخر غاية. ثم الإنسان في هذين الواجبين لا يخلو من أحوال أربعة، هي القسمة الممكنة: إما أن يأتي بهما جميعاً، وإما أن يأتي بالعبادة فقط، وإما أن يأتي بالاستعانة فقط، وإما أن يتركهما جميعاً( ).
فهذه الأحوال الأربعة هي القسمة الممكنة في الإنسان، وهي أيضاً متفاوتة:
القسم الأول:
وهو أجلها وأفضلها، وهم أهل العبادة والاستعانة بالله عليها، فعبادة الله غاية مرادهم، وطلبهم منه أن يعينهم عليها، ويوفقهم للقيام بها نهاية مقصودهم، ولهذا كان من أفضل ما يُسأل الرب تبارك وتعالى الإعانة على مرضاته، وهو الذي علمه النبي صلى الله عليه وسلم لحبه معاذ بن جبل رضي الله عنه فقال: {يا معاذ! والله إني لأحبك، فلا تنس أن تقول دبر كل صلاة: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك}( ).
فأنفع الدعاء: طلب العون على مرضاته، وأفضل المواهب: إسعافه بهذا المطلوب، وجميع الأدعية المأثورة مدارها على هذا، وعلى دفع ما يضاده، وعلى تكميله وتيسير أسبابه( ).
القسم الثاني: وهو شر الأقسام:
وهم المعرضون عن عبادته والاستعانة به، فلا عبادة، ولا استعانة، فلا هو مع الشريعة الأمرية، ولا مع القدر الكوني( ).(1/104)
وهؤلاء "فريقان: أهل دنيا، وأهل دين، فأهل الدين منهم هم أهل الدين الفاسد الذين يعبدون غير الله، ويستعينون غير الله بظنهم وهواهم: ((إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى)) [النجم:23].
وأهل الدنيا منهم الذين يطلبون ما يشتهونه من العاجلة بما يعتقدونه من الأسباب"( ).
فهؤلاء أهل الدنيا يظنون أن الأسباب هي القادرة وحدها على تحصيل مسبباتها؛ فلهذا فلا يطلبون العون من خالق الأسباب لهذا الظن الفاسد.
القسم الثالث: من له نوع عبادة بلا استعانة، وهؤلاء نوعان:( )
أحدهما: القدرية القائلون بأنه قد فعل بالعبد جميع مقدوره من الألطاف، وأنه لم يبق في مقدوره إعانة له على الفعل، فإنه قد أعانه بخلق الآلات وسلامتها، وتعريف الطريق، وإرسال الرسل، وتمكينه من الفعل، فلم يبق بعد هذا إعانة مقدورة يسأله إياها، فهؤلاء لهم نصيب منقوص من العبادة، ولكنهم لا يطلبون من الله الإعانة عليها، ولا يطلبون منه صلاح قلوبهم ولا هدايتها؛ فلهذا هم موكولون إلى أنفسهم، مسدود عليهم طريق الاستعانة.
النوع الثاني: من لهم عبادات وأوراد، ولكن حظهم ناقص من التوكل والاستعانة، لم تتسع قلوبهم لارتباط الأسباب بالقدر، فلم تنفذ قوى بصائرهم من السبب إلى المسبب؛ فضعفت عزائمهم؛ وقصرت هممهم؛ فقل نصيبهم من الاستعانة.
ومشكلة أهل هذا القسم: أنهم ينظرون إلى جانب الأمر والنهي والعبادة شاهدين لإلهية الرب سبحانه الذي أمروا أن يعبدوه، ولا ينظرون إلى جانب القضاء والقدر والتوكل والاستعانة، وهو حال كثير من المتفقهة والمتعبدة، فهم مع حسن قصدهم وتعظيمهم لحرمات الله ولشعائره يغلب عليهم الضعف والعجز والخذلان؛ لأن الاستعانة بالله والتوكل عليه، واللجأ إليه، والدعاء له هي التي تقوي العبد وتيسر عليه الأمور، ولهذا قال بعض السلف: "من دسره أن يكون أقوى الناس فليتوكل على الله( ) "( ).
القسم الرابع:(1/105)
من لا يعبد الله تعالى، ولكنه يستعين به على أهوائه، وحظوظ نفسه وشهواته، وأغراضه، ويطلبها منه، وينزلها به، فتقضى له، ويسعف بها، سواء كانت أموالاً أو رياسة أو جاهاً عند الخلق أو أحوالاً من كشف وقوة وتمكين، ولكن لا عاقبة له( ).
وهؤلاء يشهدون ربوبية الله للخلق وافتقارهم إليه، ويستعينون به غير ناظرين إلى الأمر والنهي، ومرضاة الله ومحبته وغضبه، وهذا حال كثير من المتفقرة والمتصوفة.
وليس الكلام في الكفار والظلمة المعرضين عن الله، فإن هؤلاء دخلوا في القسم الثاني الذين لا عبادة لهم ولا استعانة، ولكن الكلام في قوم عندهم توجه إلى الله وتأله، ونوع من الخشية والذكر والزهد، ولكن يغلب عليهم التوجه بإرادة أحدهم وذوقه ووجده، لا بالأمر الشرعي، وهم أصناف: منهم المعرض عن التزام العبادات مع ما يحصل له من الشياطين من كشف له أو تأثير، وهؤلاء كثيراً ما يسلبون أحوالهم، وقد يعودون إلى نوع من المعاصي والفسوق، بل كثير منهم يرتد عن الإسلام؛ لأن العاقبة للتقوى، وهم لا تقوى لهم( ).
ومنهم من يقوم بالعبادات الشرعية الظاهرة كالصلاة والصيام والحج، وترك المحرمات، لكن في أعمال القلوب لا يلتزم الأمر الشرعي، بل يسعى ما يحبه ويريده، والله تعالى قال: ((كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ)) [الإسراء:20].
وأبغض خلقه عدوه إبليس، ومع هذا فقد سأله حاجة فأعطاه إياها، ومتعه بها، ولكن لما لم تكن عوناً له على مرضاته، كانت زيادة له في شقوته وبعده عن الله، وهكذا كل من استعان به على أمر وسأله إياه، ولم يكن عوناً على طاعته، كان مبعداً له عن مرضاته، قاطعاً له عنه، وذلك أن الله سبحانه يعطي السلطان والمال للبر والفاجر، فقد يعطي أحد هؤلاء تصرفاً إما بقهر عدوه، وإما بنصر وليه كما تعطي الملوك، وقد يعطي نوعاً من المكاشفة إما بإخبار الجن له، وقد يعرف أنه من الجن وقد لا يعرف، وإما بغير ذلك( ).(1/106)
أنواع الدعاء باعتبار متعلقه الذي هو المدعو:
فالدعاء باعتبار تعلقه بالمدعو يتنوع إلى أربعة أنواع أيضاً؛ وذلك لأن المدعو بدعاء المسألة يكون تارة هو المدعو بدعاء العبادة، فيكون هو المسؤول وهو المعبود معاً، وهذا المدعو المسؤول إما هو الله أو غيره أو يختلفان، فهذه أربعة( ) أنواع، وإليك تفصيلها:
1- أن يعبد غير الله ويستعين به، ويدعوه من دون الله تعالى، وهذا أشر الأقسام. وذلك كالذين يعبدون الشمس والقمر والكواكب وغير ذلك، ويطلبون منهم الحاجات، ويفزعون إليهم في النوائب.
2- أن يعبد الله، ولكنه يستعين بغيره مثل كثير من أهل الدين يقصدون طاعة الله ورسوله، ولكن تخضع قلوبهم لمن يستشعرون نصرهم ورزقهم من الملوك والأغنياء والمشايخ، فيصرفون استعانتهم لهؤلاء ويرجونها منهم.
3- أن يستعين بالله ويدعوه، ويخلص له في الدعاء والاستعانة، ولكنه يعبد غيره كالذين يستعينون بالله ويعتمدون عليه، ويسألونه ويلجأون إليه، ولكن مقصودهم غير ما أمر الله به ورسوله، وغير اتباع دينه وشريعته. وهذا كما يحصل من المشركين الأوائل عند الشدائد، حيث كانوا يدعون الله تعالى في الشدائد مع عبادتهم للأصنام في الرخاء.
4- أن لا يعبد إلا الله، ولا يستعين إلا به، ولا يدعو غيره، وهم أهل التوحيد الخالص، الذين أخلصوا دينهم لله.
ويتنوع الدعاء باعتبار المدعو أيضاً إلى أربعة أنواع أخرى وهي:
1- أن يسأل الله تعالى فقط.
2- أن يسأل المخلوق فقط.
3- أن يسألهما جميعاً.
4- أن يسأل سؤالاً مطلقاً ولا يعين فيه المسؤول.
وسيأتي( ) ما يتعلق بهذه الأقسام من ناحية الحكم إن شاء الله تعالى.
أنواع المدعو به:
تدور مطالب جنس البشر وأمنياتهم وأدعيتهم وأسئلتهم على أربعة مطالب، فهي أمهات مطالب السائلين من رب العالمين:
الأول: خير موجود بالفعل، فهذا يطلب دوامه وثباته، وأن لا يسلب ولا يزول.
والثاني: خير معدوم، فهذا يطلب وجوده، وحصوله ووقوعه.(1/107)
والثالث: شر موجود بالفعل، فهذا يطلب رفعه وإزالته، أو تخفيفه على الأقل.
والرابع: شر معدوم يخاف من وقوعه، فهذا يطلب بقاؤه على العدم وأن لا يوجد.
وقد جاءت هذه المطالب الأربعة في قوله تعالى حكاية عن دعاء عباده في آخر آل عمران: ((رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا)) [آل عمران:193]، فهذا الطلب لدفع الشر الموجود، فإن الذنوب والسيئات شر، ثم قال: ((وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ)) [آل عمران:193] فهذا طلب لدوام الخير الموجود، وهو: الإيمان حتى يتوفاهم عليه.. فهذا قسمان.
ثم قال: ((رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ)) [آل عمران:194] فهذا طلب للخير المعدوم أن يؤتيهم إياه، ثم قال: ((وَلا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ)) [آل عمران:194] فهذا طلب أن لا يوقع بهم الشر المعدوم، وهو خزي يوم القيامة.
فانتظمت الآيتان المطالب الأربعة أحسن انتظام، مرتبة أحسن ترتيب، قدم فيها النوعان اللذان في الدنيا، وهما: المغفرة، ودوام الإسلام إلى الموت. ثم أتبعا بالنوعين اللذين في الآخرة، وهما: أن يعطوا ما وعدوه على ألسنة رسله، وأن لا يخزيهم يوم القيامة( ).
فهذه هي مطالب الإنسان التي يريدها ويتمناها ويسألها من ربه، ولا تخرج مطالبه في الجملة عن هذه الأنواع الأربعة.
وقد تقدم لنا أن الدعاء يطلق على الأنواع الأربعة، وأن الاستعاذة والاستجارة والاستغفار لا تطلق إلا على جانب الشر، أي: النوع الثالث والرابع، وأن اللياذ لا يطلق إلا على جانب الخير، أي: الأول والثاني عند بعض العلماء، وعند البعض يطلق على جانب الشر، وأما السؤال فيطلق في جانب الخير فقط.
الفصل الثالث
في آداب الدعاء والإجابة وأنواعها
ويشتمل على تمهيد وثلاثة مباحث:(1/108)
- المبحث الأول: في آداب الدعاء العدمية التي يطلب انتافاؤها وعدمها.
- المبحث الثاني: في آداب الدعاء الثبوتية التي يطلب ثبوتها ووجودها.
- المبحث الثالث: في الإجابة وأنواعها.
التمهيد
ويشتمل على تنبيهين:
1- التنبيه الأول:
في السبب المانع من التوسع في هذا الفصل: إن آداب الدعاء وما ينبغي أن يتصف به الداعي من الصفات والأحوال كثيرة جداً، وقد توسع العلماء في ذكر ذلك حيث ذكروا الآداب التي ينبغي للداعي أن يلتزم بها، وبينوا ما في ذلك من الأسرار والحكم، كما بينوا كل خصلة من خصال تلك الآداب، بينوا دليلها من الكتاب والسنة وآثار السلف، كما بينوا أوقات الدعاء التي ترجى فيها الإجابة، والأماكن الفاضلة التي هي أرجى من غيرها، وبينوا الأحوال والأوصاف التي هي أرجى من غيرها، كما بينوا ألفاظ الأدعية الواردة المطلقة منها والمقيدة بزمان أو مكان أو حال، وشرحوا معانيها وما تحمل من أسرار، وحكم، وابتهالات، وعبر ودروس وتنزيه، وتقديس لله تعالى، وكذلك بينوا ما يتعلق بالإجابة وما يلزم لها وموانعها.
كل ذلك بأدلة ثابتة من الكتاب والسنة وآثار السلف وأقوال العلماء.
فمن العلماء من أفرد هذه الأمور بمؤلف مستقل، وهم كثيرون جداً( ).
ومنهم من ذكر هذه الأمور في ضمن كتابه المشتمل على موضوعات شتى، كأصحاب الكتب الستة، وغيرها من السنن والمعاجم والمسانيد.
فهذا هو أحد الأسباب التي منعتني من استقصاء ما في هذا الفصل من الكلام، والسبب الثاني: أن المسائل المتعلقة بهذا الفصل هي من المسائل التي يتفق عليها كثير من علماء المسلمين، والاختلاف والمناقشة فيها قليلة إذا قارنا بما يأتي إن شاء الله تعالى في الباب الثاني والثالث والرابع.
ومن هنا لم أتوسع في هذا الفصل، ولكن مع هذا العذر فإني أرى لزاماً علي أن أبين بعض آداب الدعاء بالإيجاز والاختصار، بدون استقصاء، والله المستعان، وعليه التكلان.(1/109)
التنبيه الثاني: في عبارات المؤلفين وتسمياتهم لهذه الآداب: إن العلماء الذين تكلموا عن هذه الآداب قد اختلفت عباراتهم وإطلاقاتهم، فمنهم من سمى هذه الآداب شروطاً( )، ومنهم من سماها آداباً( )، ومنهم من سمى بعضها أركاناً( )، ومنهم من سمى بعضها شروطاً وبعضها سنناً( )، ومنهم من سمى بعضها شروطاً وبعضها آداباً( ).
هذا ومما ينبغي التفطن له أن هذه الآداب ليست على مرتبة واحدة بالنسبة لأهميتها للدعاء، فبعضها أهم من بعض، فهذا هو السبب لاختلاف عبارات المؤلفين فيها، ومما يدل على تفاوت مراتب تلك الآداب: أن بعض ما ورد من الأحاديث ربما يدل بظاهره على أن بعض تلك الآداب شرط حقيقي، مثل ما يأتي في التلبس بالحرام.
وقد ذكر الزبيدي هذه المسألة عندما عنون الغزالي: "آداب الدعاء" قال الزبيدي: وقد ذكر فيها ما يصلح أن يكون شرطاً له، ولم يميز المصنف بين الأدب والشرط هنا كما فعل الحليمي في المنهاج وغيره، ونحن نشير إلى ذلك( ). ونقل عن ابن الجزري بعض الآداب ثم قال: "وبعض ذلك يعد شرطاً"( )، ثم عندما ذكر المصنف التوبة ذكر حديث {الرجل يطيل السفر... فأنى يستجاب له} قال: "ويؤخذ من هذا الحديث أن هذا شرط لا أدب. قال الطرطوشي: من آدابه أكل الحلال، ولعله من شروطه"( ).
وأما الحليمي فقد ذكر بعض هذه الآداب وسماها أركاناً، والركن: ما لا يتم الشيء إلا به. وهو أهم من الشرط؛ لأن الشرط خارج الماهية، وأما الركن فداخل في الماهية، لكن الذي في شرح الإحياء للزبيدي، وفي الأزهية للزركشي( ) يفيد أن الحليمي عبر بالشروط لا بالأركان، وهو الأقرب.(1/110)
وقد عد الحليمي أحد عشر شرطاً( )، فالبعض من هذه الشروط التي ذكرها يمكن أن يعد من قبيل الشرط الحقيقي، والبعض الآخر من قبيل الآداب، فالذي يعد من الشروط هو ألا يكون المسؤول بالدعاء ممتنعاً عقلاً ولا عادة، كإحياء الموتى، ورؤية الله في الدنيا، وهذا يمكن عده شرطاً كما سيأتي في مبحث الاعتداء، وأما غير ذلك مما سماه شرطاً أو ركناً فكله من الآداب.
والذي يظهر بعد تأمل ما ذكروه من الشروط أو الآداب أن الأولى تسميتها آداباً، وأما تسميتها شروطاً فمن باب المسامحة في التعبير أو من باب التغليب؛ لأن بعضها يمكن أن يعد شرطاً بالمعنى الاصطلاحي، كبعض الأمثلة التي تذكر في الاعتداء، والذي يرجح تسميتها آداباً عدة أمور: الأول: إن حد الشرط المصطلح عليه لا ينطبق عليها، إذ معنى الشرط هو: ما يلزم من عدمه العدم، ولا يلزم من وجوده وجود،( ) كالوضوء للصلاة.
ومن المعروف أن هذه الآداب لا يلزم من عدم بعضها عدم إجابة الدعاء، ويوضح هذا الأمر التالي:
التنبيه الثاني:
إن إجابة الدعاء من مقتضى ربوبية الله تعالى لجميع الخلق، مؤمنهم وكافرهم، فهو يربيهم بالنعم، ومنها إجابة دعائهم وقضاء حوائجهم.
وهذا يقتضي أن الله سبحانه وتعالى يجيب دعاء الفاسق والعاصي والكافر، فليس شرطاً أن يكون الداعي من المخلصين.
فمن هنا نقول: إن الإخلاص لله تعالى في الدعاء من الآداب المهمة لرجاء قبول الدعاء، ومع هذا فقد يجيب الله تعالى في النادر لمن دعا غيره، أو دعا دعاء بدعياً، كمن يدعو عند الأضرحة بخشوع واضطرار، وذلك إما استدراجاً وابتلاء، وإما لاضطراره أو خشوعه، وسيأتي بيان ذلك إن شاء الله تعالى.(1/111)
ومن ذلك التوبة، فهي من أهم الآداب التي تطلب للداعي، ومع ذلك فقد يقبل الله دعاء العاصي والفاسق والكافر، بل إبليس لما دعا الله تعالى أجابه الله، قال تعالى: ((قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ)) [الحجر:36] ((قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ)) [الحجر:37] ((إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ)) [الحجر:38].
ومن آكد الآداب: عدم التلبس بالحرام؛ لأن التلبس بالحرام من موانع الإجابة، ولكن قد يوجد ما يمنع هذا المانع من منعه كما قاله ابن رجب رحمه الله( )، ونحوه قول الشوكاني: "إن ملابسة المعصية مقتضية لعدم الإجابة إلا إذا تفضل الله على عبده، وهو ذو الفضل العظيم "( ). الثالث: إن بعض العلماء أشاروا إلى عدم لزوم بعضها لإجابة الدعاء، وأن الدعاء جائز بدونها، وأنها آداب مكملة، وأنها أرجى للإجابة، وهؤلاء إنما ذكروا ذلك في بعضها، وما لم يذكروا فيه فهو مثل الذي ذكروا؛ لأنها من باب واحد، إلا أن بعض ما ذكر فيما يتعلق بالشرط الذي هو عدم الاعتداء، قد يعد من الشرط الحقيقي، وسيأتي التنبيه عليه إن شاء الله تعالى.
ومن هؤلاء العلماء البخاري فيما يتعلق باستقبال القبلة، فإنه عقد أولاً باب الدعاء غير مستقبل القبلة، فأورد ما يدل على ذلك، وهو حديث أنس بن مالك في استسقاء النبي صلى الله عليه وسلم في خطبة الجمعة، ثم عقد ثانياً: باب الدعاء مستقبل القبلة، فذكر حديثاً يدل على ذلك( ).
ومنهم أبو عبد الله الحليمي، فإنه ذكر الآداب التي للدعاء من الأوقات والأحوال والمواطن، ثم قال: "إنها أسباب تقوي الرجاء بالله جل ثناؤه، وفي إجابة الدعاء، لا أن الدعاء لا يقبل إلا عندها، فمن عرضت له حاجة في غيرها فلا ينبغي له أن يمتنع من الدعاء خيفة الرد، بل يدعو قوى الرجاء، حسن الظن بالله تعالى؛ فإنه يستجيب دعاءه بجوده وكرمه"( ).(1/112)
ومنهم القرطبي، فإنه ذكر الاختلاف في رفع اليدين في الدعاء، ثم قال: "قلت: والدعاء حسن كيفما تيسر، وهو المطلوب من الإنسان لإظهار موضع الفقر والحاجة إلى الله عز وجل، والتذلل له والخضوع، فإن شاء استقبل القبلة ورفع يديه فحسن، وإن شاء فلا، فقد فعل ذلك النبي صلى الله عليه وسلم حسبما ورد في الأحاديث، وقد قال تعالى: ((ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً)) [الأعراف:55]، ولم يزد صفة من رفع يدين وغيرها، وقال: ((الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا)) [آل عمران:191]، فمدحهم ولم يشترط حالة غير ما ذكر، وقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم في خطبته يوم الجمعة، وهو غير مستقبل القبلة"( ).
ونحو كلام القرطبي هذا ما ذكره المناوي من أن عدم رد الله تعالى للدعاء لا يتوقف على الرفع إذا توافرت الشروط( )، ويريد بهذا أن الرجل لو لم يرفع يديه ولكنه خشع وأخلص... إلخ؛ قد تجاب دعوته، وأن الإجابة ليست متوقفة على الرفع، وكأن المناوي يرى أن بعضها شرط حقيقي، والله أعلم.
المبحث الأول
في آداب الدعاء العدمية
للدعاء آداب كثيرة تتنوع إلى عدة أنواع باعتبارات شتى، ونظرات مختلفة، فيمكن تقسيمها باعتبار إلى ظاهرية وباطنية، وباعتبار إلى عدمية ووجودية، أو يقال إلى سلبية وإيجابية، وباعتبار آخر إلى آداب تتعلق بالداعي، وأخرى بالدعاء، وأخرى بالمدعو فيه، ولاختلاف هذه الاعتبارات اختلفت عبارات العلماء في تقسيمها.
فقد قسمها القرطبي بالنظر إلى ما يطلب للداعي أو للدعاء أو المدعو به، فذكر مما يطلب للداعي:
"أن يكون عالماً بأن لا قادر على حاجته إلا الله، وأن الوسائط في قبضته، ومسخرة بتسخيره"( ).
فهذا الشرط داخل في الإخلاص في التقسيم الذي ذكرناه، فإن هذا العلم يقتضي أن يخلص الداعي في دعائه، وأن لا يدعو إلا الله تعالى على وفق سنة نبيه صلى الله عليه وسلم.
ثم ذكر من الشروط في الداعي:
- أن يدعو بنية صادقة وحضور قلب.(1/113)
- وأن يكون مجتنباً لأكل الحرام.
- وأن لا يمل من الدعاء.
وذكر من شروط المدعو فيه: أن يكون من الأمور الجائزة الطلب، والفعل شرعاً بأن لا يكون فيه إثم أو قطيعة رحم.
وذكر من شروط الدعاء: أن يكون سليماً من اللحن.
وقد أشار الغزالي في الإحياء وتابعه شارحه الزبيدي إلى انقسامها إلى ظاهرية وباطنية، حيث قال الغزالي عند ذكر التوبة: "وهو الأدب الباطن"( )، وقال الزبيدي عند قول الغزالي وهي عشرة: "تسعة منها ظاهرة، والعاشر أدب باطني"( ).
وأما الزركشي فقد قسمها أيضاً إلى ظاهرة وباطنة، ثم ذكر من الباطنة: التوبة، وحضور القلب، والثقة بالله، والخيفة، والتضرع، وقرع النفس بالتخويف والتفويض إلى الله، وقطع النظر عمن سواه، واجتناب المحرمات، والتعفف عن الشبهات، وتجنب اليأس من الإجابة.
ثم ذكر الآداب الظاهرة: فذكر الصدقة، والصوم، والطهارة، والصلاة، واستقبال القبلة، والتطيب بالطيب، وخفض الصوت، ورفع الأيدي، والتعميم، وتقديم الثناء، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم( ).
الآداب العدمية:
وهذه التقسيمات السابقة متداخلة، وليس بينها تناف وتضاد، وإنما هي اصطلاحات فقط، فلهذا يمكن لنا تقسيمها إلى الآداب العدمية والآداب الثبوتية، ونبدأ بذكر آداب الدعاء العدمية قبل الثبوتية؛ وذلك لأن التخلية قبل التحلية؛ ولأن هذه الآداب العدمية أهم من أكثر الآداب الثبوتية؛ لأن العدمية ورد فيها ما يدل على أنها سبب لمنع قبول الدعاء، وأن الدعاء يرد بها، وأما الثبوتية فالوارد في أغلبها إنما هو الحث عليها والأمر بها. وقد علم أن باب المنهيات أشد من باب المأمورات، كما يدل عليه حديث: {إذا أمرتكم بأمر فائتوا منه ما استطعتم، وما نهيتكم عنه فاجتنبوه}( ).
فالآداب العدمية خمسة:
1- عدم الاعتداء.
2- عدم التلبس بالحرام.
3- عدم الاستعجال.
4- عدم التعليق.
5- عدم الغفلة.(1/114)
ثم إن هذه الآداب العدمية: الخصلة الواحدة منها لها اعتبارات عدة، فباعتبار: هي سبب لمنع إجابة الدعاء؛ حيث يعتبر وجودها سبباً لمنع إجابة الدعاء. وباعتبار آخر: فهي سبب لإجابة الدعاء؛ وذلك باعتبار عدمها. ولهذا عدها بعضهم في موانع الإجابة، ولم يعدها في آداب الدعاء( )، والحاصل أن هذه اعتبارات واصطلاحات، ولا مشاحة في الاصطلاح.
وبعد هذا الإجمال إليك هذه الآداب مفصلة بإيجاز.
من آداب الدعاء: عدم الاعتداء:
تعريف الاعتداء:
هذه المادة تدل على "تجاوز في الشيء، وتقدم ما ينبغي أن يقتصر عليه، والتعدي: تجاوز ما ينبغي أن يقتصر عليه، والاعتداء مشتق من العدوان"( ).
وقد حذر الله تعالى من الاعتداء عموماً في كل شيء، ونهى عن الاعتداء في الدعاء خصوصاً، فقال: ((ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ)) [الأعراف:55].
فالاعتداء في الآية وإن كان يشمل كل اعتداء، إلا أنه لوروده بعد الأمر بالدعاء يدل بصفة خاصة على أهمية عدم الاعتداء في الدعاء، وأن الدعاء الذي يتضمن الاعتداء لا يحبه الله ولا يرضاه، فهو إذن لا يستجيب له، هذا ويشمل الاعتداء في الدعاء أموراً، منها:
أ- الشرك بالله تعالى في الدعاء، فإن أعظم العدوان هو الشرك، وهو وضع العبادة في غير موضعها، فهذا العدوان داخل دخولاً أولياً في قوله تعالى: ((إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ)) [الأعراف:55]( ).
فصرف الدعاء الذي هو من أهم العبادات التي يتقرب بها العبد إلى الله تعالى إلى التقرب به لعبد فقير لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً، فهذا الصرف "من أعظم الاعتداء والعدوان والذل والهوان"( ).(1/115)
فمن اعتدى في الدعاء بدعائه لغير الله تعالى، سواء دعاه مستقلاً، أو دعاه ليكون واسطة؛ فقد ارتكب إثماً عظيماً، وأبعد نفسه عن رحمة الله تعالى؛ بصرفه لخالص رجائه ورغباته وتوجهاته لغير الله تعالى، فالذين يدعون غير الله تعالى، ويرجون قبول دعائهم فقد ضلوا الطريق الصحيح لقبول الدعاء، ولهذا قال الله تعالى: ((وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ)) [الأحقاف:5].
ب- من الاعتداء الذي تشمله الآية: الابتداع في الدعاء، فإن الدعاء عبادة، وهي توقيفية، فمن ابتدع عبادة لم يشرعها الله ولا رسوله، فقد اعتدى طوره، واعتدى على حق الله الذي هو التشريع.
ثم إنه عَبَدَ الله بما لم يشرعه، وتقرب إليه بما لم يأذن به، وسأل الله تعالى بما لم يأذن له بسؤاله به( ).
جـ- من الاعتداء في الدعاء: سؤال الله تعالى ما لا يجوز له سؤاله( )، وهذا يتصور في أشياء:
1- سؤاله ما لا يليق به مثل منازل الأنبياء، وقد فسر بعض السلف الآية بذلك( ).
ويدل على ذلك ما ورد عن عبد الله بن مغفل رضي الله عنه أنه سمع ابنه يقول: اللهم إني أسألك القصر الأبيض عن يمين الجنة إذا دخلتها.
فقال: أي بني! سل الله الجنة، وتعوذ به من النار، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {سيكون في هذه الأمة قوم يعتدون في الطهور والدعاء}( ).
وإنما أنكر عبد الله بن مغفل على ابنه هذا الدعاء؛ لأن ابنه طمع فيما لا يبلغه عمله، حيث سأل منازل الأنبياء، وهذا اعتداء في الدعاء؛ لما فيه من تجاوز الأدب، ويحتمل أنه إنما نهاه لأنه سأل شيئاً معيناً( )، ويمكن أنه نهاه لكونه من تكثير الكلام بدون فائدة.(1/116)
فإذا كان هذا الصحابي الجليل ينكر على من يسأل الله تعالى، ويخلص له تعالى في سؤاله إلا أنه يسيء في طلب ما لا يليق به، ويعد هذا اعتداء، فكيف لو رأى من يدعو غير الله تعالى ويستغيث به، ويجعل هجيراه ليل نهار نداء اسم الولي إن قام وإن قعد؟! فلا شك أن هذا اعتداء فوق ذلك بكثير، وأي اعتداء أكبر من صرف خالص حق الله تعالى لعبد لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً فضلاً عن غيره؟!
2- سؤال الله تعالى المعونة على الحرام( ).
فهذا من الاعتداء في الدعاء، فالله لا يحب الحرام ولا الفحشاء، فكيف يطلب معاونته على ذلك؟ وقد ورد ما يدل على أن الدعاء الذي يتضمن إثماً أو قطيعة رحم مردود لا يقبل، قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو هريرة رضي الله عنه: {لا يزال يستجاب للعبد ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم، ما لم يستعجل... إلخ}( ).
فجميع أنواع الحرام داخلة في هذا الحديث: "فيدخل في الإثم كل ما يأثم به من الذنوب، ويدخل في الرحم جميع حقوق المسلمين ومظالمهم"( ).
فمن دعا بإثم أو قطيعة رحم فقد اعتدى على غيره وظلمه، فهذا داخل في الاعتداء المنهي عنه في الدعاء.
ويدخل في هذا: "أن يسأل ما فيه ظلم لغيره"( ).
ومن هذا الباب الدعاء على المؤمنين باللعنة والخزي، ونحو ذلك، فقد قال بعض السلف في تفسير المعتدين: "هم الذين يدعون على المؤمنين فيما لا يحل فيقولون: النهم اخزهم.. اللهم العنهم"( ).
وذكر ابن الصلاح رحمه الله أن كون الدعاء على الشخص اعتداء مشروط بما "إذا كان قصده بالدعاء على فلان غير صحيح، فإن كان صحيحاً بأن كان في قصر عمره مثلاً صلاح للمسلمين لظلمه أو نحو ذلك فليس اعتداء"( ).
ومن هذا الباب تحجير رحمة الله وتضييقها، وذلك بطلبها لنفسه خاصة، ومنعها لغيره من المسلمين، ومن ذلك قول الأعرابي: {اللهم ارحمني ومحمداً، ولا ترحم معنا أحداً. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: لقد تحجرت واسعاً}( ) يريد رحمة الله( ).(1/117)
ومثل الدعاء على المؤمنين الدعاء على نفسه وأهله، وعلى أمواله، فقد نهينا عن ذلك، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لا تدعوا على أنفسكم، ولا تدعوا على أولادكم، ولا تدعوا على أموالكم، لا توافقوا من الله ساعة يسأل فيها عطاء فيستجيب لكم}( ).
فالذي يدعو على نفسه أو أهله أو ماله فقد اعتدى على حق نفسه، ثم إن نفسه ملك لله تعالى؛ فلا يجوز له أن يتعدى فيها ما شرعه الله.
ويدخل في هذا أيضاً الدعاء بتعجيل العقوبة في الدنيا، فإن العبد عليه أن يطمع في رحمة الله تعالى التي وسعت كل شيء، وفي عفوه ومغفرته وجوده وفضله، فيسأل العفو والعافية في الدنيا والآخرة، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر من قول: {ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار}( ).
وقد وصف الله عباده المؤمنين بأنهم يقولون ذلك عندما يفرغون من أعمال الحج، وأن لهم نصيباً في الدنيا والآخرة بسبب هذا القول: ((وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)) [البقرة:201] ((أُوْلَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ)) [البقرة:202]. ولهذا لما عاد النبي صلى الله عليه وسلم مريضاً صار كالفرخ من الضعف، فسأله: {هل كنت تدعو بشيء؟ قال: نعم، كنت أقول: اللهم ما كنت معاقبي به في الآخرة فعجله لي في الدنيا. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سبحان الله، لا تطيقه!! أفلا قلت: اللهم آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار؟}( ).
ويدخل في هذا الدعاء على النفس بالموت لضر نزل به، فمن هنا نهي عن الدعاء بالموت وتمنيه فيما رواه أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {لا يتمنى أحدكم الموت، ولا يدع به من قبل أن يأتيه، إنه إذا مات أحدكم انقطع عمله، وإنه لا يزيد المؤمن عمره إلا خيراً}( ).(1/118)
ففي الدعاء على النفس بالموت اعتداء على النفس، وهي ليست من حق الإنسان، بل هي ملك لله تعالى، كما أنه اعتداء على الدعاء المشروع الذي هو طلب العافية في الدنيا والآخرة إلى الدعاء غير المشروع.
3- سؤاله تعالى ما يناقض حكمته، أو يتضمن مناقضة شرعه وأمره، أو يتضمن خلاف ما أخبر به( ).
ويتصور هذا في عدة أمور، قد أكثر بعضهم( ) ضرب الأمثلة لهذه الأمور، ونوجزها فيما يلي:
1- الدعاء بالمحال كالدعاء بدخول إبليس وأبي جهل وأضرابهما الجنة، والدعاء بمثل هذا يصل حكمه عند بعضهم إلى الكفر؛ لما في ذلك من طلب إكذاب الله تعالى لنفسه( ).
2- الدعاء بما لا مطمع فيه، كمن يدعو بالخلود في الدنيا، وقد علم أن الله استأثر بالبقاء، وكتب الفناء على خلقه( ).
ومن هذا الباب الدعاء برفع لوازم البشرية من الحاجة إلى الطعام والشراب، أو يسأله أن يهب له ولداً من غير زوجة( ).
3- الدعاء بما يناقض ما علمه الله تعالى، نحو: السؤال بأن لا يقيم الساعة( ).
فالحاصل أن الدعاء المشتمل على سؤال ما هو من خصائص الألوهية، كطلب علم الغيب، والبقاء في الدنيا، أو طلب ما هو من خصائص النبوة كالوحي، أو طلب ما يناقض علم الله وشرعه أو خبره، يعد مثل هذا من الاعتداء، ومن هذا ما يصل إلى الكفر والعياذ بالله، وتعد هذه الأمور من سؤال الرب تبارك وتعالى ما لم يكن يفعله( ).
د- ومن جملة الاعتداء في الدعاء: سوء الأدب في خطاب الله ومناجاته، وذلك بأن يخاطب الداعي "ربه جل ثناؤه بما لو خاطب به كفؤه وقرينه ينسبه إلى قلة الحياء، وسوء الأدب، أو ركاكة العقل"( ).
وهذا الأمر يتصور في أشياء، منها:
1- رفع الصوت بالدعاء رفعاً يخل بالأدب، قال عبد الملك بن عبدالعزيز بن جريج المكي، (ت:150هـ): "من الاعتداء رفع الصوت، والنداء في الدعاء والصياح"( ).(1/119)
وأما الرفع غير المخل بالأدب -إذا كان لقصد التعليم- فجائز، كما نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه جهر في أدعية؛ وذلك لتعليم أصحابه، فيكون له أجران: أجر الدعاء، وأجر التعليم( ).
2- دعاء الله تعالى بدون تضرع في دعائه تعالى وخطابه، فإن دعاء غير المتضرع يشبه المستغني المدل على ربه، وهذا من أعظم الاعتداء، لمنافاته لدعاء الذليل، فمن لم يسأل مسألة مسكين متضرع خائف فهو معتد( ).
ويدل على كون هذا من الاعتداء في الدعاء: أن الله تعالى قال أولاً: ((ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً)) [الأعراف:55] ثم عقبه بقوله: ((إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ)) [الأعراف:55] فدل هذا على أن عدم التضرع اعتداء في الدعاء، كما أن عدم الخفية يعد اعتداء.
3- تكثير الكلام الذي لا حاجة إليه، فقد جعله بعض الصحابة من الاعتداء في الدعاء، روى أبو داود وغيره عن ابن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: سمعني أبي وأنا أقول: {اللهم إني أسألك الجنة ونعيمها، وبهجتها، وكذا وكذا، وأعوذ بك من النار، وسلاسلها وأغلالها، وكذا وكذا. فقال: يا بني! إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: سيكون قوم يعتدون في الدعاء. فإياك أن تكون منهم، إن أعطيت الجنة أعطيتها وما فيها من الخير، وإن أعذت من النار أعذت منها وما فيها من الشر}( )( ).
وقد علل بعض العلماء نهي سعد لابنه عن هذا بكونه طلباً لما لا يليق به من منازل الأنبياء، ويمكن أن يكون النهي لعدة علل؛ لأن العلل لا تتزاحم، فالشيء الواحد قد تكون له عدة علل.
وقد تقدم نقل ما يفيد ذلك في نهي عبد الله بن مغفل لابنه عن نحو ذلك.
4- تكلف( ) السجع في الدعاء، وتكلف صنعة الكلام له، وفي البخاري عن ابن عباس في وصيته لمولاه عكرمة: "فانظر السجع من الدعاء فاجتنبه، فإني عهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه لا يفعلون إلا ذلك الاجتناب"( ).(1/120)
والسجع المذموم في الدعاء هو المتكلف؛ فإنه يذهب بالخشوع والخضوع والإخلاص؛ ويلهي عن الضراعة والافتقار وفراغ القلب، فأما ما حصل بلا تكلف ولا إعمال فكر لكمال الفصاحة ونحو ذلك، أو كان محفوظاً فلا بأس به، بل هو حسن( ).
ويدل لذلك: ما ورد من الأدعية مسجعاً نحو قوله صلى الله عليه وسلم: {اللهم آت نفسي تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها، اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع}( ). ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: {اللهم منزل الكتاب، سريع الحساب، هازم الأحزاب}( ).
وهذا الذي وقع في الأحاديث الصحيحة من السجع كان يصدر من غير قصد إليه؛ ولأجل هذا يجيء في غاية الانسجام( ).
وقد أنكر العلماء الأدعية المسجعة إنكاراً شديداً، وبينوا كونها من موانع إجابة الدعاء، قال القرطبي بعد أن ذكر أنواع الاعتداء في الدعاء: "ومنها أن يدعو بما ليس في الكتاب والسنة، فيتخير ألفاظاً مفقرة، وكلمات مسجعة، قد وجدها في كراريس لا أصل لها ولا معول عليها، فيجعلها شعاره، ويترك ما دعا به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكل هذا يمنع من الستجابة الدعاء"( ).
والقرطبي رحمه الله تعالى يشير بهذا إلى ما يصطنعه بعض الناس من الأدعية المبتدعة، وتكون في الغالب أحزاباً مجزأة على عدد الأيام والشهور أو على الحوادث والملمات، كما أنها تكون بالسجع المتكلف، ويزداد الأمر سوءاً وخطراً إذا كانت مشتملة على الاعتداء في المعنى بالاستغاثة بغير الله تعالى ونحو ذلك.
ثم إن الذين يدعون بتلك الأدعية يغنون ويطربون بها، وربما تشبه أصواتهم أصوات المغنين، وقد أنكر العلماء هذه الفعلة في الأدعية أيضاً. قال الكمال ابن الهمام الحنفي (ت861هـ):(1/121)
ما تعارفه الناس في هذه الأزمان من التمطيط والمبالغة في الصياح والاشتهار لتحريرات النغم؛ إظهاراً للصناعة النغمية، لا إقامة للعبودية؛ فإنه لا يقتضي الإجابة، بل هو من مقتضيات الرد، وهذا معلوم إن كان قصده إعجاب الناس، فكأنه قال: اعجبوا من حسن صوتي وتحريري. ولا أرى أن تحرير النغم في الدعاء -كما يفعله القراء في هذا الزمان- يصدر ممن يفهم معنى الدعاء والسؤال، وما ذاك إلا نوع لعب؛ فإنه لو قدر في الشاهد سائل حاجة من ملك أدى سؤاله وطلبه بتحرير النغم فيه من الخفض والرفع والتطريب والترجيع كالتغني، نسب البتة إلى قصد السخرية واللعب، إذ مقام طلب الحاجة التضرع لا التغني، فاستبان أن ذاك من مقتضيات الخيبة والحرمان( ).
وممن أنكر ذلك أيضاً المفسر الألوسي، فإنه ذكر كراهة رفع الصوت بالدعاء، ثم قال: "وترى كثيراً من أهل زمانك يعتمدون الصراخ في الدعاء، خصوصاً في الجوامع، حتى يعظم اللغط ويشتد، وتستك المسامع وتستد، ولا يدرون أنهم جمعوا بين بدعتين: رفع الصوت في الدعاء، وكون ذلك في المسجد"( ).
وممن أنكر ذلك قبل هؤلاء أبو بكر الطرطوشي، فإنه ذكر أن ذلك ليس من كلام الماضين، وأنه ينافي مقام الدعاء من التذلل والخشوع، إذ السجع تكلف وتصنع، واشتغال الخواطر بإقامة الأوزان( ).
هذا وبعد أن استعرضنا ما ذكره العلماء من معاني الاعتداء ينبغي أن يعلم أنه ليس معنى الاعتداء الإكثار من الدعاء، خلافاً لما يتبادر من لفظ الاعتداء؛ لأننا أمرنا بالإكثار من الدعاء( ).
عدم التلبس بالحرام( ):
من أهم آداب الدعاء: أن يكون الداعي مجتنباً للتلبس بالحرام أكلاً وشرباً ولبساً وتغذية، فلهذا ينبغي له أن يتحرى ويجتهد -إذا أراد أن يكون مجاب الدعوة- في أن يكون متلبساً بالحلال أكلاً وشرباً ولبساً وتغذية.
فللحلال سر عجيب في قبول الأعمال عند الله تعالى..(1/122)
كما أن للحرام منعاً وسداً وشؤماً على متناوله، ومن ذلك رد طاعته، وعدم قبول الأعمال، ومن الأعمال المهمة التي ترد بالتلبس بالحرام الدعاء، فقد جاء ذلك مصرحاً في حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {يا أيها الناس! إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال: ((يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ)) [المؤمنون:51]، وقال: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ)) [البقرة:172]، ثم ذكر الرجل يطيل السفر، أشعث أغبر، يمد يديه إلى السماء: يا رب! يا رب! ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام.. فأنى يستجاب لذلك؟!}( ).
وفي هذا الحديث إشارة إلى أنه لا يقبل العمل ولا يزكو إلا بأكل الحلال، وإن أكل الحرام يفسد العمل، ويمنع قبوله، وذكر الدعاء كمثال على العمل الصالح الذي لا يقبل مع الحرام، وإن أكل الحرام وشربه ولبسه والتغذي به سبب موجب لعدم إجابة الدعاء( ).
وفي الحديث أيضاً الإشارة إلى أنه ينبغى الاعتناء بالحلال لمن أراد الدعاء أكثر من غيره( ).
وهذا الذي ذكر من أن التلبس بالحلال من أسباب الإجابة، كما أن التلبس بالحرام يمنع من الإجابة، ليس معناه أن هذا لازم في كل دعاء، وأنه لا يقبل أي دعاء إلا ممن يأكل الحلال، وإنما هذا إشارة إلى أن هذا هو الدعاء الأقرب إلى الإجابة، وإلى هذا المعنى أشار في الحديث بقوله: "فأنى يستجاب له" أي: "كيف يستجاب له؟ فهو استفهام وقع على وجه التعجب والاستبعاد، وليس صريحاً في استحالة الاستجابة ومنعها بالكلية، فيؤخذ من هذا أن التوسع في الحرام والتغذي به من جملة موانع الإجابة، وقد يوجد ما يمنع هذا المانع من منعه"( ).
عدم الاستعجال( ):(1/123)
ومن أهم آداب الدعاء: ألا يستعجل الداعي في دعوته، فيستحسر ويسأم ويترك الدعاء، واللائق بالعبد أن يلازم الطلب، ولا ييأس ولا يستعجل، فإن العبد لا يعرف المصلحة هل هي في وقوع المطلوب بالسرعة، أو في تأخيرها، أو دفع بلاء آخر لا يدريه هو، أو ادخار الأجر له في الآخرة؟ وليس ذلك من شأن العبد، فعليه أن يكل الأمور إلى عالم الغيب والشهادة، ويسأل الله تعالى. ثم إن الدعاء عبادة عظيمة، وليس لمجرد قضاء الحاجات السريعة فقط.
وقد ورد النهي عن استعجال الدعاء، وأن ذلك من موانع الإجابة، فقد روى أبو هريرة رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {يستجاب لأحدكم ما لم يعجل، يقول: دعوت فلم يستجب لي} وفي لفظ لمسلم: {لا يزال يستجاب للعبد ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم، ما لم يستعجل. قيل: يا رسول الله! ما الاستعجال؟ قال: يقول: قد دعوت، وقد دعوت، فلم أر يستجيب لي. فيستحسر عند ذلك ويدع الدعاء}( ).
وقال بعضهم: "لا يكن تأخر أمد العطاء مع الإلحاح في الدعاء موجباً ليأسك، فهو الذي ضمن لك الإجابة فيما يختاره لك، لا فيما تختاره لنفسك، وفي الوقت الذي يريد، لا في الوقت الذي تريد"( ).
ولعل الحكمة في المنع( ) من ذلك:
1- أن هذا القول يدل على تضجر قائله وملله، وهذا يؤدي إلى انقطاعه عن الدعاء وتركه له، وفي ذلك ترك لأهم العبادات، وقد أشير إلى هذا في الحديث بقوله: {فيستحسر عند ذلك ويدع الدعاء}.
2- أن هذا القول فيه اتهام للرب تبارك وتعالى، وتبخيل للكريم الجواد، الذي لا تعجزه الإجابة، ولا ينقصه العطاء، حيث يظن هذا الداعي أنه قد أتى من الدعاء ما يستحق به الإجابة، ولكن الله تعالى لم يستجب له.(1/124)
3- أن الاستعجال والتضجر من التأخر فعل من له حق عند آخر يقتضيه، وليس لأحد من الله حق حاصل عنده متأخر عنه فيستعجل به ويتضجر من تأخره، مع أن إجابة الدعاء فضل من الله تعالى على العبد الداعي، يعطيه إذا شاء تفضلاً وتكرماً، ولكنه يعطيه في الوقت المناسب على الوجه المناسب الذي يريده، لا على ما يريده العبد.
هذا ومما ينبغي التفطن له أنه ليس من معنى( ) الاستعجال: سؤال الداعي ربه أن يعجل له الإجابة.
عدم التعليق( ):
من آداب الدعاء المهمة: أن لا يعلق الدعاء ولا يتردد، بل عليه العزم والجد والاجتهاد في الطلب من غير ضعف ولا تردد، ولا تعليق على المشيئة، وذلك بأن يقول: اللهم اغفر لي إن شئت، أو أعطني إن شئت. وإنما لم يحتج إلى التعليق على المشيئة، مع أنه مطلوب في كل شيء يقع في المستقبل؛ لأنه إنما يحتاج إلى ذلك إذا كان المطلوب منه يتأتى إكراهه على الشيء فيخفف الأمر عليه، ويُعلم بأنه لا يطلب منه ذلك الشيء إلا برضاه، وأما الله سبحانه فإنه لا مكره له، فلا فائدة في التعليق( ).
وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالعزم في الطلب، ونهى عن التعليق بالمشيئة، فقد روى أنس بن مالك رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إذا دعا أحدكم فليعزم المسألة، ولا يقولن: اللهم إن شئت فأعطني؛ فإنه لا مستكره له}( ).(1/125)
وعن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {لا يقولن أحدكم: اللهم اغفر لي إن شئت، اللهم ارحمني إن شئت، ليعزم المسألة فإنه لا مستكره له}. وفي لفظ لمسلم: {وليعظم الرغبة، فإن الله لا يتعاظمه شيء أعطاه}. وفي لفظ آخر له أيضاً: {فإن الله صانع ما شاء، لا مكره له}( ) ففي هذه الأحاديث أنه ينبغي للداعي أن يجتهد في الدعاء، ويكون على رجاء الإجابة، ولا يقنط من الرحمة، فإنه يدعو كريماً، وقد قال ابن عيينة: "لا يمنعن أحداً من الدعاء ما يعلم في نفسه -يعني من التقصير- فإن الله قد أجاب دعاء شر خلقه وهو إبليس حين قال: ((رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ)) [الحجر:36]( ).
وقد فسر بعضهم العزم الوارد في هذه الأحاديث بحسن الظن بالله تعالى في الإجابة( ). وهو قريب من المعنى الأول، وحسن الظن مطلوب في الدعاء أيضاً؛ لما ورد في الحديث القدسي: {أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا دعاني}( ).
ومما ينبغي أن يعلم أن النهي عن التعليق خاص بما هو خير محض من المطالب الدينية، كسؤال الرحمة والمغفرة، والمطالب الدنيوية المعينة على الدين كالعافية والرزق، وأما الأمور التي لا يتحقق العبد مصلحتها وعواقبها فيعلقها على اختيار ربه له الأصلح، كما في دعاء الاستخارة الوارد( ).
والسر في النهي عن التعليق هو أن عدم العزم في السؤال لا يليق بالبائس الفقير ذي الحاجة الشديدة، وإنما يليق بمن يمكن الاستغناء له، ولا أحد يستغني عن فضل الله وجوده وكرمه، وأما المضطر فإنه يجزم ويسأل سؤال الفقير المضطر إلى ما سأله( ).(1/126)
ثم إن الداعي إذا لم يكن جازماً لم يكن رجاؤه صادقاً قوياً؛ لأن الباعث على الدعاء هو الرجاء، فإذا كان الغالب على قلب الداعي أنه لا يجاب لم يكن رجاؤه صادقاً، فلا يخلص الدعاء ولا يتحقق منه الإلحاح في الطلب؛ لأنه لم يتحقق الباعث عليه، والداعي إنما يجاب تصديقاً لرجائه، فإذا لم يصدق رجاؤه لم يستوجب أن يجاب( ).
وذلك لأن روح الدعاء وسره هو رغبة النفس في الشيء مع تطلعها إلى الملأ الأعلى، والطلب بالشك يشتت العزيمة ويفتر الهمة( ).
ثم إن عدم الجزم فيه سوء ظن بالله تعالى؛ لأن الداعي إذا لم يدع ربه على يقين أنه يجيبه، فعدم إجابته إما لعجز المدعو، أو بخله، أو عدم علمه بالابتهال... وكل هذا محال على الله تعالى( ).
عدم الغفلة والتكاسل( ):
فالدعاء دواء نافع مزيل للداء، ولكن غفلة القلب تبطل قوته، ومن المعلوم أن مقصود الدعاء هو حضور القلب، ولكن الغفلة، وضعف حضور القلب، وعدم إقباله على الله وجمعيته عليه وقت الدعاء.. هذه الأمور تضعف قوة الدعاء، وتبطل تأثيره، فيكون بمنزلة القوس الرخو جداً، فإن السهم يخرج منه خروجاً ضعيفاً( ). ولهذا حث الرسول صلى الله عليه وسلم على حضور القلب، وحذر من الغفلة، وأخبر أنها مانعة من قبول الدعاء، فقال صلوات الله وسلامه عليه: {ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، واعلموا أن الله لا يستجيب دعاءً من قلب غافل لاه}( ).
هذا إذا كان يمكن للداعي إحضار قلبه، فأما إذا كان لا يمكنه ذلك، وليس في وسعه إلا الدعاء وهو ساه، فالدعاء أفضل من تركه( ).
المبحث الثاني
في آداب الدعاء الثبوتية
المراد من الثبوتية:
هي الآداب التي يطلب ثبوتها ووجودها، فلهذا يمكن تسميتها آداباً وجودية أو إيجابية، بمعنى الإيجاب ضد النفي والسلب، وهذه الآداب الثبوتية كثيرة، نقتصر هنا على أهمها وأصحها دليلاً، وهي كالآتي:
1- الإخلاص.
2- التوبة.
3- التضرع والخشوع.
4- الإلحاح والتكرار.
5- الإكثار من الدعاء في الرخاء.(1/127)
6- خفض الصوت.
7- التوسل بأسماء الله الحسنى.
8- اختيار جوامع الكلم.
9- استقبال القبلة.
10- الطهارة.
11- الافتتاح بالثناء على الله تعالى والصلاة على نبيه محمد وعلى آله وصحبه صلى الله عليه وسلم.
12- رفع اليدين.
13- تحري الأوقات الفاضلة.
14- تحري الأماكن الفاضلة.
15- تحري الأحوال الفاضلة.
فهذه هي بعض الآداب الثبوتية إجمالاً، وإليك تفصيلها بإيجاز:
الإخلاص في الدعاء( ):
وهو أهم هذه الآداب وأوكدها؛ لأن عدم إخلاص الدعاء لله تعالى تارة يكون شركاً صريحاً مخرجاً عن الملة، وقد يكون شركاً أصغر فيكون الدعاء محبطاً، لا يمكن قبوله واستجابته.
وقد أمر الله تعالى بالإخلاص في الدعاء فقال: ((فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ)) [غافر:14].
وقال تعالى: ((هُوَ الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ)) [غافر:65].
وقال عز من قائل: ((وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ)) [الأعراف:29].
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: وقد دلت الآية -يعني بها قوله تعالى: (فادعوه مخلصين له الدين)- أن الإجابة مشترطة بالإخلاص( ).
وقال ابن مسعود رضي الله عنه: [[إن الله لا يقبل من مسمع، ولا مراء، ولا لاعب، ولا داع، إلا داعياً دعاء ثبتاً من قلبه]]( ).
والإخلاص في الدعاء يستوجب الاعتقاد بأن المدعو هو القادر وحده على قضاء حاجته كما يستوجب دعاءه بنية صادقة، وقد عبر القرطبي عن الإخلاص في الدعاء بقوله: "فمن شرط الداعي أن يكون عالماً بأن لا قادر على حاجته إلا الله، وأن الوسائط في قبضته ومسخرة بتسخيره، وأن يدعو بنية صادقة"( ).
وقد تبين من هذا أن الإخلاص لله تعالى وصحة الاعتقاد له أثره الخاص في استجابة الدعاء، ومن هنا قيل: "إجابة الدعاء تكون عن صحة الاعتقاد، وعن كمال الطاعة؛ لأنه عقب آية الدعاء بقوله: ((فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي))( ).(1/128)
التوبة( ) والرجوع إلى الله تعالى:
فإن المعاصي من الأسباب الرئيسية في منع قبول الدعاء، فينبغي للداعي أن يبادر إلى التوبة والاستغفار قبل دعائه؛ ليكون مؤهلاً لقبول دعوته.
وقد كان الأنبياء يحثون أممهم على التوبة والاستغفار، ويخبرونهم أن ذلك سبب لنزول المطر، وإدرار السماء، والإمداد بالأموال والبنين... وغير ذلك.
قال نوح عليه السلام: ((فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا)) [نوح:10] ((يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا)) [نوح:11] ((وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا)) [نوح:12].
وقال هود عليه السلام: ((وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ)) [هود:52].
وقال تعالى في هذه الأمة: ((وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا)) [هود:3].
ومما يدل على أن التوبة من الأسباب المهمة لقبول الدعاء: ما ورد من الأحاديث التي تدل على أن المعاصي سبب لرد إجابة الدعاء، وقد تقدم بعضها عند ذكر التلبس بالحرام.
التضرع( ) والخشوع والتذلل والرغبة والرهبة:
وهذا هو روح الدعاء ولبه ومقصوده( )، فالله سبحانه وتعالى يحب عبده الذي إذا ابتلاه تضرع إليه، وتملق له، وتذلل وقرع بابه، وأدام ذلك، ولا يحب من لا يتضرع ولا يتذلل، ويعتدي في الدعاء بعدم التضرع، أو رفع الصوت، أو غير ذلك.
قال تعالى: ((ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ)) [الأعراف:55].(1/129)
فأمر الله تعالى بدعائه بتضرع وخفية، وحذر من الاعتداء، قال شيخ الإسلام رحمه الله: "ومن العدوان: أن يدعوه غير متضرع، بل دعاء هذا كالمستغني المدل على ربه، وهذا من أعظم الاعتداء؛ لمنافاته لدعاء الذليل، فمن لم يسأل مسألة مسكين متضرع خائف فهو معتد"( ).
وقد وصف الله زكريا عليه السلام وأهله بأنهم يدعون الله تعالى رغبة ورهبة فقال:((إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ)) [الأنبياء:90]، هذا والتضرع هو حقيقة الدعاء، ولا يخفى على العاقل ما فيه من أثر واضح في إجابة الدعاء، ولهذا كان كل من يصدق في رغبته في الدعاء لا بد أن يتضرع، حتى ولو كان مشركاً في غير وقت الرغبة الصادقة الملحة، قال تعالى: ((قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً)) [الأنعام:63].
الإلحاح( ) والتكرار، وعدم الضجر والملل:
ويحصل الإلحاح بتكرار الدعاء مرتين وثلاثاً وأكثر، لكن الاقتصار على الثلاث مرات أفضل اتباعاً( ) للحديث، حيث ورد ما يدل على تكريره صلى الله عليه وسلم للدعاء ثلاث مرات، فقد روى ابن مسعود رضي الله عنه {أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعجبه أن يدعو ثلاثاً، ويستغفر ثلاثاً}( ).
ووقع في حديث عائشة رضي الله عنها في قصة سحره صلى الله عليه وسلم: {فدعا، ثم دعا، ثم دعا}( ).
وإذا بحثنا عن أدعية النبي صلى الله عليه وسلم نجد كثيراً منها فيها التكرار والبسط والتطويل، وذكر كل معنى بصريحه نحو قوله صلى الله عليه وسلم: {اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، وما أنت أعلم به مني}( ).(1/130)
ومعلوم أنه لو قيل "اغفر لي كل ما صنعت" لكان أوجز، ولكن في مقام الدعاء والتضرع، وإظهار العبودية والافتقار، فالتفصيل والبسط أفضل من الإيجاز والاختصار؛ وذلك أن الدعاء عبودية لله وافتقار إليه، وتذلل بين يديه، فكل ما كثره العبد وطوله وأعاده وأبداه ونوَّع جمله كان ذلك أبلغ لعبوديته، وإظهار فقره وتذلله، وكان ذلك أقرب له من ربه وأعظم لثوابه، هذا بخلاف المخلوق، فإنك كلما كثرت سؤاله وكررت حوائجك إليه أبرمته وثقلت عليه، وهنت عنده، وكلما تركت سؤاله كنت أعظم عنده، ولهذا قال بعضهم: فالله يغضب إن تركت سؤاله وبني آدم حين يسأل يغضب( ) الدعاء( ) في الرخاء والإكثار منه في وقت اليسر والسعة: إن من شأن العبد الصالح أن يلازم الدعاء في حالتي الرخاء والشدة، وأما غير الصالح فإنه لا يلتجىء إلى الله تعالى إلا في وقت الشدة ثم ينساه، وهذا شأن أكثر الناس إلا من عصمه الله، فقد ذكر الله تعالى هذه الطبيعة البشرية في عدة آيات من كتابه العزيز، قال تعالى: ((وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ)) [يونس:12] وقال عز من قائل: ((وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا)) [الزمر:8].
وقال جل جلاله: ((فَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ)) [الزمر:49].
وقال تبارك وتعالى: ((وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ)) [فصلت:51].(1/131)
فقد بين الله في هذه الآيات وأمثالها طبيعة ابن آدم في الالتجاء إلى الله في الشدائد، ونسيانه في الرخاء.
كما بين في آيات أخر مثالاً واقعياً من تلك الطبيعة البشرية، فذكر حالة الذين تضطرب بهم السفن وتتلاطم بهم الأمواج، وأنهم يخلصون في هذه الحالة.
قال تعالى: ((وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُورًا)) [الإسراء:67].
وقال تعالى: ((وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ)) [لقمان:32].
والذي ينبغي أن يكون عليه المسلم: أن يلازم الدعاء في الرخاء والشدة، وذلك أسرع في إجابة دعائه، كما ورد في حديث ابن عباس المشهور: {تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة}( ) والمراد بالمعرفة المطلوبة من العبد في الحديث هي: "المعرفة الخاصة، التي تقتضي ميل القلب إلى الله بالكلية، والانقطاع إليه، والأنس به، والطمأنينة بذكره، والحياء منه، والهيبة له"( )، ومن المعرفة أيضاً إخلاص الدعاء له في حالة الرخاء. وكذلك المراد بمعرفة الله لعبده هو: المعرفة الخاصة التي تقتضي محبته لعبده، وتقريبه إليه، وإجابته لدعائه، وإنجاءه من الشدائد، وهي المشار إليها بقوله صلى الله عليه وسلم فيما يحكي عن ربه: {ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه -وفي رواية:- ولئن دعاني لأجيبنه}( ).
وفي الجملة: فمن عامل الله بالتقوى والطاعة في حال رخائه عامله الله باللطف والإعانة في حال شدته( ).(1/132)
ومن الأحاديث الدالة على سرعة إجابة دعاء: من يلازم الدعاء في الرخاء، ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: {من سره أن يستجيب الله له عند الشدائد والكرب فليكثر الدعاء في الرخاء}( ).
خفض الصوت بالدعاء( ):
من آداب الدعاء المهمة مخافتة الدعاء، والإسرار به، وعدم الجهر به، قال تعالى: ((ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ)) [الأعراف:55].
وروى أبو موسى الأشعر رضي الله عنه: {أنهم كانوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فجعل الناس يجهرون بالتكبير، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أيها الناس اربعوا على أنفسكم، إنكم لا تدعون أصماً ولا غائباً، إنكم تدعون سميعاً قريباً، وهو معكم}( ).
وقد فسرت عائشة رضي الله عنها قوله تعالى: ((وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا)) [الإسراء:110] أي: بدعائك( ).
وقال الإمام أحمد رحمه الله: (ينبغي أن يسر دعاءه لقوله تعالى: ((وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا)) [الإسراء:110]، قال: هذا في الدعاء)، وقال أيضاً: (كانوا يكرهون أن يرفعوا أصواتهم بالدعاء)( ).
وقال الحسن البصري رحمه الله: (إن كان الرجل لقد جمع القرآن وما يشعر به جاره، وإن كان الرجل لقد فقه الفقه الكثير وما يشعر به الناس، وإن كان الرجل ليصلي الصلاة الطويلة في بيته وعنده الزوار وما يشعرون به، ولقد أدركنا أقواماً ما كان على ظهر الأرض من عمل يقدرون على أن يفعلوه في سر فيكون علانية أبداً، ولقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء وما يسمع لهم صوت، إن كان إلا همساً بينهم وبين ربهم عز وجل، ذلك أن الله تعالى يقول: ((ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً)) [الأعراف:55] وذلك أن الله تعالى ذكر عبداً صالحاً ورضي قوله فقال: ((إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا)) [مريم:3]).(1/133)
وقد وردت في بعض طرق هذا الأثر زيادة في أوله: {بين دعوة السر ودعوة العلانية سبعون ضعفاً}( ). ونقل نحو هذا عن ابن عباس في صدقة السر والعلانية ثم قال: وكذلك جميع الفرائض والنوافل في الأشياء كلها( ). وهذا الأثر الموقوف على ابن عباس له حكم الرفع.
قال القرطبي: "مثل هذا لا يقال من جهة الرأي، وإنما هو توقيف"( ).
وذكر شيخ الإسلام رحمه الله عشرة فوائد في إخفاء الدعاء( )، أذكرها هنا مع طولها؛ لنفاستها؛ وكونها درراً من الحكم والأسرار العظيمة التي تضمنه كلامه رحمه الله.
أحدها: أنه أعظم إيماناً؛ لأن صاحبه يعلم أن الله يسمع الدعاء الخفي.
وثانيها: أنه أعظم في الأدب والتعظيم؛ لأن الملوك لا ترفع الأصوات عندهم، ولله المثل الأعلى.
وثالثها: أنه أبلغ في التضرع والخشوع الذي هو روح الدعاء ولبه ومقصوده، فإن الخاشع الذليل إنما يسأل مسألة مسكين ذليل، قد انكسر قلبه، وذلت جوارحه، وخشع صوته، حتى إنه ليكاد تبلغ ذلته وضراعته إلى أن ينكسر لسانه فلا يطاوعه بالنطق، وقلبه يسأل طالباً مبتهلاً، ولسانه لشدة ذلته ساكتاً، وهذه الحال لا تأتي مع رفع الصوت بالدعاء أصلاً. ورابعها: أنه أبلغ في الإخلاص.
وخامسها: أنه أبلغ في جمعية القلب على الله في الدعاء فإن رفع الصوت يفرقه، فكلما خفض صوته كان أبلغ في تجريد همته وقصده للمدعو سبحانه.
وسادسها: أنه دال على قرب صاحبه إلى من يدعوه، وهو الله القريب المجيب، ولا يكون من نداء البعيد للبعيد حتى يحتاج إلى رفع الصوت. ولهذا أثنى الله على عبده زكريا بقوله عز وجل: ((إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا)) [مريم:3] ففي ذلك استحضار القلب قرب الله عز وجل، وأنه أقرب إليه من كل قريب؛ فلهذا يخفي دعاءه ما أمكن، وإلى ذلك أشارصلى الله عليه وسلم بقوله: {اربعوا على أنفسكم، فإنكم لا تدعون أصماً ولا غائباً، إنكم تدعون سميعاً قريباً، أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته}.(1/134)
وقال تعالى: ((وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ)) [البقرة:186].
وهذا القرب من الداعي هو قرب خاص، فهو قريب من داعيه، وقريب من عابديه، وأقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد.
وسابعها: أنه أدعى إلى دوام الطلب والسؤال، فإن اللسان لا يمل، والجوارح لا تتعب، بخلاف ما لو رفع فإنه يضعف.
وثامنها: أن إخفاء الدعاء أبعد له من القواطع والمشوشات، فإنه إذا أخفى دعاءه لم يدر به أحد حتى يشوش عليه، وربما تعلقت نفس الداعي بمراقبتهم، فتتفرق همته؛ فيضعف أثر الدعاء.
وتاسعها: أن أعظم النعمة الإقبال على الله وعبادته، ولكل نعمة حاسد، ولا نعمة أعظم من هذه النعمة، والأسلم له إخافاء نعمته عن الحاسد.
وقد قال يعقوب ليوسف عليهما السلام: ((لا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا)) [يوسف:5].
وعاشرها: أن الدعاء هو ذكر للمدعو سبحانه وتعالى، فهو ثناء على الله مع الطلب منه، فهو ذكر وزيادة، وقد أمر الله تعالى بإخفاء الذكر في قوله: ((وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً)) [الأعراف:205].
هذا آخر الفوائد التي ذكرها شيخ الإسلام رحمه الله تعالى، وهو –كما ترى- يذهب إلى عدم الفرق بين الذكر والدعاء، وهذا هو الصواب.
وقد ذهب بعضهم إلى الفرق بين الذكر والدعاء.
فذهب إلى أن الأفضل في الدعاء السر دون الذكر، وعلل ذلك بقوله: لأنه أقرب إلى الإجابة إلا عند الضرورة.
ونقل عن الفتاوى البزازية أن الواعظ إذا جهر بالدعاء لا بأس به، نعم إذا تعلموا وجهر يكون جهرهم بدعة.
ثم علل ثانياً بقول الله تعالى في زكريا ((إذ نادى ربه نداء خفيأ)) وأنه يستحب في الاستعاذة اتفاقاً لكونها دعاء( ).
وقد حكى بعض علماء الحنفية أن المستحب عندهم في الأذكار والأدعية الخفية إلا فيما تعلق بإعلانه مقصود، كالأذان والخطبة، وتكبيرات الصلاة( ).(1/135)
وفي هذا رد على بعض الحنفية الذين يميلون إلى استحباب الجهر بالذكر مراعاة لما جرت عليه عادة المتصوفة من الجهر بالذكر والاجتماع عليه.
فتبين مما تقدم أن الأفضل هو خفض الصوت، ولكن في بعض الأوقات يأتي عارض يجعل الجهر أولى، مثل: قصد تعليم جاهل، أو طرد نحو نعاس أو كسل عن الداعي نفسه، أو إدخال سرور على قلب مؤمن، أو تنفير مبتدع عن بدعة... أو نحو ذلك( ).
التوسل( ) إلى الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العليا، إما في أول الدعاء أو آخره:
كما يقع كثيراً في الأدعية المأثورة، فإنها إما تبتدىء بالتوسل باسم مناسب من أسماء الله الحسنى أو تختم به نحو ((رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ)) [آل عمران:8]. ونحو: ((رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ)) [آل عمران:38]. ونحو: ((رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ)) [الأعراف:151]. ونحو: ((أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ)) [الأعراف:155]، ونحو: ((وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)) [البقرة:128].
وقد أمرنا الله تعالى بالتوسل إليه في الدعاء بأسمائه الحسنى فقال: ((وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا)) [الأعراف:180].
والدعاء بالأسماء الحسنى له مرتبتان:
"إحداهما: دعاء ثناء وعبادة، والثاني: دعاء طلب ومسألة. فلا يثني عليه إلا بأسمائه الحسنى وصفاته العلى، وكذلك لا يسأل إلا بها، فلا يقال: يا موجود! أو يا شيء! أو يا ذات! اغفر لي وارحمني، بل يسأل في كل مطلوب باسم يكون مقتضياً لذلك المطلوب، فيكون السائل متوسلاً إليه بذلك الاسم، ومن تأمل أدعية الرسل -ولا سيما خاتمهم وإمامهم- وجدها مطابقة لهذا"( ).(1/136)
وقد فسر قوله صلى الله عليه وسلم: {إن لله تسعة وتسعين اسماً، من أحصاها دخل الجنة}( ) فسر بالدعاء بها، وهو واحد من مراتب الإحصاء الثلاثة، وهي:
الأولى: إحصاء ألفاظها وعددها.
والثانية: فهم معانيها ومدلولها.
والثالثة: الدعاء بها. وقد رجح الخطابي هذا المعنى الأخير، الذي هو عدُّها للدعاء بها( ).
وأما التوسل بدعاء الغير فليس من آداب الدعاء، وذلك أن السؤال من الغير فيه نوع افتقار إلى غير الله تعالى، ولهذا لم ينقل عن كبار الصحابة أنهم سألوا النبي صلى الله عليه وسلم الدعاء لأنفسهم، وإنما سأله عمر الدعاء للمسلمين عندما أراد النبي صلى الله عليه وسلم ذبح رواحل المسلمين عندما نفدت أزوادهم في غزوة تبوك( ).
وأما التوسل بالغائب أو الميت فجدير بالمنع وأحرى، ومن هنا نعرف خطأ من عده من آداب الدعاء، كابن الجزري في الحصن( )، وسيأتي بيان ما في ذلك بتوسع بحول الله وقوته.
وأما التوسل بالأعمال الصالحة، فقد ورد بكثرة في القرآن الكريم التوسل بالإيمان والأعمال الصالحة، وهذا يدل على استحبابه، وذلك نحو: ((رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا)) [آل عمران:193]. ((الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)) [آل عمران:16].
ومن هذا الباب الحرص على الأدعية التي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنها مظنة للإجابة، أو هي متضمنة للاسم الأعظم( )، ومن ذلك ما رواه بريدة بن الحصيب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً يقول: {اللهم إني أسألك بأني أشهد أنك أنت الله لا إله إلا أنت، الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوآ أحد. فقال: لقد سألت الله بالاسم الذي إذا سئل به أعطى، وإذا دعي به أجاب}( ).(1/137)
ومن ذلك ما رواه سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {دعوة ذي النون إذ دعا وهو في بطن الحوت ((لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين)) إنه لم يدع بها مسلم في شيء قط إلا استجاب الله له}( ).
ومن ذلك ما رواه أنس بن مالك رضي الله عنه قال: {سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً يصلي ويقول: اللهم إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت المنان، بديع السموات والأرض يا ذا الجلال والإكرام، يا حي يا قيوم. فقال: النبي صلى الله عليه وسلم: لقد دعا الله باسمه العظيم، الذي إذا دعي به أجاب، وإذا سئل به أعطى}( ).
ومن ذلك ما رواه ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول عند الكرب: {لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السموات ورب الأرض ورب العرش الكريم}( ).
اختيار( ) جوامع الكلم، وأحسن الكلام، وأحسن الألفاظ وأنبلها وأجمعها للمعاني وأبينها:
قد حث رسول الله صلى الله عليه وسلم ورغب في ذلك، قالت عائشة رضي الله عنها: {كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستحب الجوامع من الدعاء، ويدع ما سوى ذلك}( ). والسبب في ذلك ما ذكره الخطابي من أن الدعاء مناجاة العبد لسيد السادات، الذي ليس له مثل ولا نظير، ولو تقدم بعض خدم ملوك أهل الدنيا إلى صاحبه ورئيسه في حاجة يرفعها إليه لتخير له محاسن الكلام، ولتخلص إليه بأجود ما يقدر عليه من البيان، ولئن لم يستعمل هذا المذهب في مخاطبته، ولم يسلك هذه الطريقة، أوشك أن ينبو سمعه عن كلامه، وألا يحظى بطائل من حاجته من عنده، هذا ولله المثل الأعلى، فما ظنك برب العزة سبحانه، وبمقام عبده الذليل بين يديه، ومن عسى أن يبلغ بجهد بيانه كنه الثناء عليه، وهذا رسوله وصفيه صلى الله عليه وسلم قد أظهر العجز والانقطاع دونه، فقال في مناجاته: {وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك}( ).(1/138)
ويدخل في هذا مراعاة الإعراب في الأدعي؛ لأنه بالإعراب يستقيم المعنى وبعدمه يختل ويفسد، وربما انقلب المعنى باللحن حتى يصير كالكفر إن اعتقد صاحبه، وقد أخرج الخطابي بإسناده عن الأصمعي أنه مر برجل يقول في دعائه: يا ذو الجلال والإكرام. فقال: ما اسمك؟ قال: ليث، فأنشأ يقول:
ينادي ربه باللحن ليث ... ... لذاك إذا دعاه لا يجيب( )
والحاصل أنه ينبغي التحفظ من الخطأ في الدعاء؛ لأن تعظيم الله تعالى واجب على العبد بكل حال، وهو في حال مسألته والرغبة أوجب وألزم( ). ولكن هذا في القادر الذي يستطيع الإعراب والإفصاح، وأما العاجز فلا بأس بأن يدعو بما يستطيع. قال ابن الصلاح رحمه الله: "ثم إن الدعاء الملحون ممن لا يستطيع غير الملحون لا يقدح في الدعاء، ويعذر فيه"( ).
استقبال القبلة( ):
وذلك لأن القبلة هي الجهة الفاضلة التي ينبغي أن يتجه إليها في العبادات، وهي أيضاً قبلة للدعاء، كما أنها قبلة للصلوات، وليست السماء قبلة للدعاء كما زعم ذلك بعضهم، وستأتي مناقشة ذلك في مبحث العلو إن شاء الله.
وقد ورد في ذلك عدة أحاديث، من ذلك حديث ابن مسعود رضي الله عنه في إلقاء قريش الأذى على ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي، وفيه: {استقبل النبي صلى الله عليه وسلم الكعبة فدعا على نفر من قريش}( ).
وحديث عمر رضي الله عنه: {لما كان يوم بدر نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين، فاستقبل القبلة، ثم مد يديه فجعل يهتف بربه}( ).
وحديث عبد الله بن زيد رضي الله عنه في الاستسقاء قال: {إن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى المصلى يصلي، وإنه لما دعا أو أراد أن يدعو استقبل القبلة، وحول رداءه}( ).(1/139)
ولكن مع ثبوت هذه الأحاديث التي تدل على مشروعية استقبال القبلة وأفضليته للدعاء فالذي ينبغي أن يعلم أنه ليس بلازم في الدعاء، فقد ورد ما يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا غير مستقبل القبلة في بعض الأحيان، ولهذا عقد البخاري رحمه الله في صحيحه باب( ) الدعاء غير مستقبل القبلة، وأورد فيه حديث الاستسقاء في خطبة الجمعة. ومن المعلوم أن الخطيب يكون مستدبراً للقبلة في حال الخطبة، وذلك للإشارة إلى أن الاستقبال ليس بلازم، وإن كان أفضل وأرجى للقبول.
الطهارة قبل الدعاء( ):
وهذا من الآداب التي ينبغي للداعي أن يتصف بها، فاللائق بمن يريد خطاب الله ومناجاته أن يكون على أحسن الأحوال، ومن ذلك الطهارة الظاهرة بالوضوء، والطهارة الباطنة بالتوبة والاستغفار حتى يكون مؤهلاً لخطاب الله تعالى ومناجاته.
وقد ورد ما يدل على استحباب الوضوء للدعاء في حديث أبي موسى الأشعري، في قصة استشهاد أبي عامر، وطلبه من النبي صلى الله عليه وسلم الاستغفار، فلما وصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وفاته وطلبه منه الاستغفار دعا بماء فتوضأ ثم دعا له( ).
وهذا الوضوء ليس بلازم، إذ المضطر قد لا يسعفه الوقت للاستعداد بالوضوء فيتجه إلى الله تعالى بالسرعة؛ فيجيبه الله على حسب قوة إخلاصه ورجائه وتضرعه وخشوعه.
ثم إن الوضوء للدعاء ليس صفة دائمة في جميع الدعوات التي نقلت عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كان -كما قالت عائشة رضي الله عنها- {يذكر الله في جميع أحيانه}( ).
والدعاء نوع من الذكر -كما تقدم- وذلك كالدعاء عند الخروج من الخلاء، فإنه لا يؤخره حتى يتوضأ، بل يقوله مباشرة عند الخروج.
افتتاح الدعاء( ) بالثناء على الله تعالى بالمحامد التي تليق بجلاله وبذكر جوده وكرمه، ثم بالصلاة والسلام على نبيه محمد صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه:(1/140)
وذلك أن الأدب في خطاب العظماء أنه يقدم ثناؤهم وذكر جودهم وفضلهم على خطابهم بالحاجة، وقد قال الشاعر:
أأذكر حاجتي أم قد كفاني ... ... ثناؤك إن شيمتك الوفاء
ولله المثل الأعلى، فالذي يريد دعاءه عليه أن يقدم بين يدي حاجته الثناء، وهذا من التوسل إلى الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العليا. وإذا تأملنا الأدعية الواردة في القرآن والسنة نجد كثيراً منها تبتدىء بالثناء على الله تعالى بجميل أوصافه، فمن ذلك الدعاء الذي حكاه الله عن عباده أولي الألباب في آخر سورة آل عمران، فقد بدىء بالثناء على الله بالتنزيه وعدم العبث: ((رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)) [آل عمران:191]، ومن ذلك دعاء الفاتحة الذي هو أفضل دعاء، فقد بدىء بالثناء على الله، ومن ذلك دعاء يوسف الذي حكاه الله في آخر سورة يوسف آية (101): ((رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ)) [يوسف:101] ودعاء الملائكة: ((رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ...)) [غافر:7].
ومن ذلك الدعاء الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يقوله في قيام الليل: {اللهم لك الحمد، أنت قيم السموات والأرض، ولك الحمد أنت ملك السموات والأرض... -إلى أن قال بعد ثناء طويل- فاغفر لي ما قدمت...}.
قال الحافظ في شرحه لهذا الحديث: وفيه استحباب تقديم الثناء على المسألة عند كل مطلوب اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم.
وأما الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فهي نوع من أنواع الدعاء، إذ الدعاء نوعان:
أحدهما: سؤال العبد حوائجه ومهماته، وهذا إيثار لمحبوب العبد ومطلوبه.(1/141)
والثاني: سؤال العبد ربه أن يصلي على خليله وحبيبه، ولا ريب أن الله تعالى يحب ذلك ورسوله يحب ذلك، فالمصلي عليه قد صرف سؤاله ورغبته إلى محاب الله ورسوله، وآثر ما يحبه الله ورسوله على محاب نفسه، فهذا جزاؤه من جنس عمله.
ومثال هذا ما يوجد عند الناس بما يفعلونه عند ملوكهم إذا أرادوا التقرب إليهم أثنوا على من يحبونه، وسألوا منه أن ينعموا عليه، وبذلك يتوسلون إلى القرب عندهم والحظو لديهم( ).
ثم إن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم هي دعاء له، فكلما صلى عليه مرة واحدة صلى الله عليه عشراً: "وهو لو دعا لآحاد المؤمنين لقالت الملائكة: آمين ولك لك بمثله، فدعاؤه للنبي صلى الله عليه وسلم أولى بذلك"( ).
فتبين بهذا أن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فيها معنى الدعاء، فكيف إذا تقدمت أمام الدعاء فصارت له كالمفتاح كما أن مفتاح الصلاة الطهور؟( ).
وقد اتفق العلماء على استحبابها في الدعاء حتى حكى الزمخشري أن بعض العلماء أوجبها في كل دعاء( ).
وقد ورد الحث على تقديم الثناء والصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث متعددة، منها: حديث فضالة بن عبيد رضي الله عنه قال: {سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً يدعو في صلاته فلم يصل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: عجل هذا. ثم دعاه فقال له ولغيره: إذا صلى أحدكم فليبدأ بتحميد الله والثناء عليه، ثم ليصل على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم ليدع بعد بما شاء}( ).
وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {كل دعاء محجوب حتى يصلى على النبي صلى الله عليه وسلم}( ).
من آداب الدعاء( ):
رفع اليدين:(1/142)
1- ذهب أكثر العلماء إلى استحباب رفع اليدين في الدعاء، ويدل لهم أحاديث كثيرة جداً أفردها المنذري في جزء( )، وكذلك السيوطي في رسالة سماها "فض الوعاء في أحاديث رفع اليدين في الدعاء"، وادعى في أولها تواترها، وأنه وقعت له منها نيف وأربعون حديثاً( ).
وذكر في تدريب الراوي أن من المتواتر ما تواتر معناه، ومثل له بأحاديث رفع اليدين في الدعاء، ثم قال: "فقد ورد عنه صلى الله عليه وسلم نحو مائة حديث فيه رفع يديه في الدعاء، وقد جمعتها في جزء، لكنها في قضايا مختلفة، فكل قضية منها لم تتواتر، والقدر المشترك فيها وهو الرفع عند الدعاء تواتر باعتبار المجموع "( ). وممن أقر بتواتره صاحب نظم المتناثر( ).
وقال النووي: "قد ثبت رفع يديه صلى الله عليه وسلم في الدعاء في مواطن غير الاستسقاء، وهي أكثر من أن تحصى، وقد جمعت منها نحواً من ثلاثين حديثاً من الصحيحين أو أحدهما"( ).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وأما رفع النبي صلى الله عليه وسلم بالدعاء فهو في الحديث أكثر من أن يبلغه الإحصاء"( ) وذكر أيضاً أن الرفع تواترت به السنن( ).
2- وقالت طائفة: يكره رفع اليدين في الدعاء وإنما يشير بأصبع واحدة.
3- وقيل: إن الرفع خاص بالاستسقاء.
4- وقيل: إنه خاص بالاستسقاء والنازلة( ).
ويستدل لهذين المذهبين الأخيرين بحديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: {كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يرفع يديه في شيء من دعائه إلا في الاستسقاء، وإنه يرفع حتى يرى بياض إبطيه}( ).
ويقاس على الاستسقاء النازلة على رأي المذهب الأخير. واستدل( ) للمذهب الثاني بما رواه مسلم عن عمارة بن رؤيبة أنه رأى بشر بن مروان على المنبر رافعاً يديه فقال: {قبح الله هاتين اليدين، لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يزيد على أن يقول بيده هكذا -وأشار بإصبعه المسبحة-}( ).(1/143)
والصواب مذهب الجمهور؛ لأن القاعدة المعروفة أنه عندما يظهر ما يشبه التعارض بين النصوص: أن يجمع بينها أولاً إن أمكن، ثم يرجح بينها إن لم يمكن الجمع، وقد أمكن هنا الأمران:( ) الجمع والترجيح.
أ- فأما الجمع بينها فيمكن أن يقال فيه: إن حديث أنس في الاستسقاء يحمل على أن المنفي فيه صفة خاصة لا أصل الرفع؛ وذلك لأن الرفع في الاستسقاء يخالف غيره، إما بالمبالغة إلى أن تصير اليدان في حذو الوجه مثلاً، وأما في غيره فإلى حذو المنكبين فقط، أو أن الكفين في الاستسقاء يليان الأرض، وفي غيره يليان السماء؛ لأنه ورد في مسلم عن أنس {أن النبي صلى الله عليه وسلم استسقى، فأشار بظهر كفيه إلى السماء}( ).
وأما حديث عمارة بن رؤيبة فخاص برفع اليدين على المنبر في خطبة الجمعة كما هو ظاهر سياق الحديث، فلا معنى للتمسك به في منع رفع اليدين في الدعاء مع ثبوت الأخبار بمشروعيته( ).
ب- وأما إذا قلنا: إن الجمع لا يمكن فننتقل إلى الترجيح، وجانب الإثبات أرجح لأمرين:
1- إن أحاديث الإثبات متواترة، وحديث النفي غير متواتر، فالمتواتر مقدم على غيره.
2- إن أحاديث الرفع مثبتة، فالصحابة الذين رووها أخبروا عن شيء عاينوه وشاهدوه أو سمعوه من النبي صلى الله عليه وسلم، فالمثبت مقدم على النافي، والحافظ حجة على من لم يحفظ، لاسيما والمثبتون جماعة والنافي واحد، ولعله لم ير ذلك أو لم يحضره، أو حضر ولم يتفطن.
مسح الوجه باليدين بعد الفراغ من الدعاء:
قد اختلف الفقهاء في ذلك، فمنهم من استحب( ) ذلك، ومنهم من كره ذلك( ) وعده بدعة، واستدل القائلون بالاستحباب بأحاديث كلها واهية، فلم يسلم طريق من تلك الطرق من ضعف شديد، بين ذلك الشيخ الألباني والشيخ بكر أبو زيد حفظهما الله تعالى( ).
ولكن الحافظ ابن حجر حسَّن إسناد حديث ابن عباس( ) وقال في الأحاديث الواردة في مسح الوجه: إن مجموعها يقضي بأنه حسن( ).(1/144)
وهذا فيه نظر؛ لأن تقويتها يمكن لو أن هناك طريقاً ليس فيه ضعف شديد، وهذا الأمر لا يوجد هنا، إذ الطرق كلها واهية، إذ لم يسلم طريق من ضعف شديد.
واحتج القائلون بالبدعية بأمرين:
1- إن المسح عبادة، وهي توقيفية، ولم يثبت بطريق يمكن الأخذ به.
2- إن أحاديث رفع الأيدي في الدعاء متواترة، فلم يرد فيها أنه مسح الوجه بعد الرفع إلا في أحاديث ضعيفة جداً، فهذا يدل على نكارة تلك الأحاديث أو شذوذها.
ومن هنا قال العز ابن عبدالسلام: لا يفعله إلا جاهل( ).
وقال النووي: لا يندب( ).
وقال شيخ الإسلام: وأما رفع النبي صلى الله عليه وسلم في الدعاء فيه أحاديث كثيرة صحيحة، وأما مسحه وجهه بيديه فليس عنه فيه إلا حديث أو حديثان لا يقوم بهما حجة، والله أعلم( ). أي أن هذه الأحاديث التي فيها المسح تعد منكرة فلا تصلح دليلاً.
تحري الأوقات الفاضلة( ):
قد فضل الله الأوقات بعضها على بعض، فجعل بعضها نفحات لرحمته وجوده وكرمه، فينبغي للإنسان أن يترصد تلك الأوقات الفاضلة فيدعو الله فيها، فهي أرجى للإجابة من غيرها، ومن تلك الأوقات:
1- الأسحار:
فقد وردت أحاديث وآثار تدل على قبول الدعاء في جوف الليل عموماً، وفي الأسحار خصوصاً، ووصف الله عباده المتقين بأنهم يستغفرون بالأسحار ((وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ)) [آل عمران:17] وقال: ((كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ)) [الذاريات:17] ((وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ)) [الذاريات:18] والاستغفار نوع من الدعاء كما تقدم.
ومن الأحاديث التي وردت في قبول الدعاء في الأسحار ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر، يقول: من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له}( ).
2- يوم الجمعة:(1/145)
ففي يوم الجمعة ساعة يستجاب فيها للعبد، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر يوم الجمعة فقال: {فيه ساعة لا يوافقها عبد مسلم وهو يصلي يسأل الله شيئاً إلا أعطاه إياه}( ).
وقد احنتلف فى تعيين هذه الساعة على نحو أربعين( ) قولاً، وأقوى هذه الأقوال قولان.
أحدهما: ما بين جلوس الإمام على المنبر إلى الفراغ من الصلاة.
وثانيهما: ما بعد صلاة عصر يوم الجمعة إلى الغروب.
فهاتان الساعتان قد صح في كل منهما ما يدل على أنه يستجاب فيه الدعاء، وبذلك تنحصر ساعة الإجابة فيهما، ولا تعارض بين ما ورد فيه؛ لاحتمال أن يكون صلى الله عليه وسلم دل على أحدهما في وقت وعلى الآخر في وقت آخر( ).
3- شهر رمضان المبارك، لا سيما العشر الأواخر، ولا سيما ليلة القدر.
إن الله سبحانه وتعالى فضل الشهور بعضها على بعض، ومن الشهور الفاضلة شهر رمضان، فهو موسم الخيرات، وزيادة عطايا الرب وهباته، ففيه تفتح أبواب الخيرات، ويتعرض فيه لجود الرب وكرمه وفضله، ومما ورد مما يدل على فتح أبواب الرحمة والخيرات في شهر رمضان ما رواه أبو هريرة مرفوعاً: {إذا كان رمضان فتحت أبواب الرحمة، وغلقت أبواب جهنم وسلسلت الشياطين}( ).
4- يوم عرفة:
فهذا يوم عظيم تستجاب فيه الدعوات. قال النبي صلى الله عليه وسلم: {أفضل الدعاء دعاء يوم عرفة وأفضل ما قلته:...} ( ).
قال ابن عبدالبر: "وفيه من الفقه أن دعاء يوم عرفة أفضل من غيره...، وفي الحديث أيضاً دليل على أن دعاء يوم عرفة مجاب كله في الأغلب"( ).
ثم بقي هنا سؤال: هل قبول الدعاء يوم عرفة خاص بعرفة؟
الجواب: إن الحديث لم يقيد فضيلة الدعاء يوم عرفة بعرفة خاصة، وربما يمكن أن يكون هذا الدعاء أفضل حتى في غير عرفة، ولكن الباجي المالكي قال: "ويحتمل أن يريد به الحاج خاصة؛ لأن معنى دعاء يوم عرفة في حقه يصح، وبه يختص، وإن وصف اليوم في الجملة بيوم عرفة فإنه يوصف بفعل الحاج فيه"( ).(1/146)
وهذا الذي قاله الباجي هو الظاهر؛ لأن السلف لم يشتهر عنهم الحرص على الدعاء في يوم عرفة بغير عرفة، ولكن يعكر على هذا ما روي أن ابن عباس وعمرو بن حريث من الصحابة، وطائفة من البصريين والمدنيين كانوا يعرفون يوم عرفة في الأمصار وأنكره عليهم آخرون( ).
5- ما بين الأذان والإقامة:
فعند الأذان تطرد الشياطين، وتتجه القلوب إلى الله تعالى تاركة هموم الدنيا، مقبلة إلى الوقوف بين يدي الله تعالى، ففي هذا الوقت يرجى قبول الدعاء، فقد روى أنس بن مالك رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: {الدعاء لا يرد بين الأذان والإقامة؛ فادعوا}( ).
أن يتحرى الأماكن الفاضلة( ):
وذلك كالمساجد والمشاعر المقدسة: كعرفة، والمشعر الحرام، والجمرتين الصغرى والوسطى دون الكبرى، وجوف الكعبة، والصفا والمروة؛ وذلك لأن هذه المواضع قد شرفها الله تعالى، وتعبدنا بتعظيمها، وجعل العبادة فيها أفضل من العبادة في غيرها. وجعلها الله تعالى أماكن لقبول الدعاء فيها أكثر من غيرها، وهذا الأمر معروف حتى عند الكفار في جاهليتهم، فقد كان مشركو قريش يرون أن الدعاء في مكة مستجاب.
قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه في قصة طرح الكفار سلى جزور على ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي قال: "فشق عليهم إذ دعا عليهم، وكانوا يرون أن الدعوة في ذلك البلد مستجابة"( ).
فينبغي للمسلم أن يتحرى الدعاء في هذه الأماكن الفاضلة التي الدعاء فيها أقرب للإجابة من غيرها؛ لعل الله يمن عليه بجوده.
أن يتحرى الأحوال الفاضلة( ):
فالإنسان له أحوال يكون فيها خشوعه وتضرعه أكثر، وعند التأمل يرجع شرف الأوقات إلى شرف الحالات أيضاً، إذ وقت السحر وقت يحصل به تمام صفاء القلب وإخلاصه وفراغه من المشوشات. قالط شيخ الإسلام: "والناس في آخر الليل يكون في قلوبهم من التوجه والتقرب والرقة ما لا يوجد في غير ذلك الوقت"( ).(1/147)
ويوم عرفة ويوم الجمعة وقت اجتماع الهمم، وتعاون القلوب على ذكر الله تعالى وعبادته. قال شيخ الإسلام: "فإنه من المعلوم أن الحجيج عشية عرفة ينزل على قلوبهم من الإيمان والرحمة والنور والبركة ما لا يمكن التعبير عنه"( ).
ولتداخل شرف الأوقات بشرف الحالات اختلفت اعتبارات العلماء، فمنهم من يعتبر الحالات أوقاتاً وبالعكس، فنجد ابن القيم يجعل أدبار الصلوات، وبين الأذان والإقامة من الأوقات( ).
ونجد الحليمي والغزالي يجعلان ذلك من الأحوال( ).
والفرق بين الأحوال والأوقات واضح، إذ أحوال الداعي مختلفة غير مستمرة في أزمنة، وإن كانت لا تخلو عنها، فالحال وصف للداعي، وأما الزمان والمكان فظرفان له( ).
ومن هذه الأحوال حال الاضطرار، ففي الاضطرار تجتمع النية، وتتوجه القلوب إلى الله تعالى، ويقطع الرجاء عن غير الله تعالى؛ ومن هنا تحصل سرعة الإجابة، قال تعالى: ((أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ)) [النمل:62]، ومن الأحوال: حالة السجود، ففي حالة السجود يتذلل العبد لربه ويتضرع، ويضع أشرف موضع من جسده على مواطىء الأقدام؛ فلهذا فالسجود مظنة لإجابة الدعاء.
فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، فأكثروا الدعاء}( ).
وعن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {ألا إني نهيت أن أقرأ القرآن راكعاً أو ساجداً، فأما الركوع فعظموا فيه الرب عز وجل، وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء؛ فقمن أن يستجاب لكم}( ).
وبهذا قد انتهينا من ذكر آداب الدعاء على وجه الإيجاز، فنبدأ في الكلام على الإجابة وبالله التوفيق:
المبحث الثالث
في الإجابة وأنواعها
تعريف الإجابة:(1/148)
يقال: أجاب الله دعاءه إجابة، المصدر: الإجابة، والاسم: الجابة، كالطاعة. واسم الفاعل: المجيب، وهو في أسماء الله تعالى: الذي يقابل الدعاء والسؤال بالعطاء والقبول، ويقال أيضاً: استجاب الله دعاءه استجابة واستجاب له.
والإجابة والاستجابة بمعنى واحد، السين والتاء زائدتان، قال الشاعر:
وداعٍ دعا يا من يجيب إلى الندى ... ... فلم يستجبه عند ذاك مجيب( )
أي: فلم يجبه، ومن ذلك قوله تعالى: ((ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ)) [غافر:60]، وقوله تعالى: ((فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ)) [آل عمران:195].
وقوله تعالى: ((وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ)) [الشورى:26].
ففي هذه الآيات معنى استجاب: أجاب، كما هو واضح( ).
الإجابة وأنواعها:
قد تقدم أن الدعاء ينقسم إلى نوعين: دعاء عبادة، ودعاء مسألة.
وكذا الاستجابة تتنوع إلى نوعين: فلكل نوع من الدعاء نوع من الاستجابة يناسبه، فاستجابة دعاء العبادة بإعطاء الثواب والأجر، واستجابة دعاء المسألة بإعطاء المسؤول.
قال ابن القيم رحمه الله: "والاستجابة أيضاً نوعان: استجابة دعاء الطالب بإعطائه سؤاله، واستجابة دعاء المثني بالثواب، وبكل واحد من النوعين فسر قوله تعالى: ((أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ)) [البقرة:186]. والصحيح أنه يعم النوعين"( ). أي: أنه يراد به القدر المشترك الذي يصدق على النوعين.(1/149)
ومثل الاستجابة: السماع، فإن السمع يطلق "ويراد به إدراك الصوت، ويراد به معرفة المعنى مع ذلك، ويراد به القبول والاستجابة مع الفهم"( ) كما يطلق على سماع القبول والانقياد( )، فسماع الله تعالى للدعاء يشمل سماع العلم والإحاطة، وسماع الإجابة والقبول، فهو يسمع دعاء السائلين سمع إجابة، ويسمع كل ما يقولونه سمع علم وإحاطة، لا يشغله سمع عن سمع، ولا تغلطه المسائل، فإنه سبحانه هو الذي خلقهم كلهم ويرزقهم كلهم( ).
وقد أمر الله تعالى عباده بدعائه ووعدهم بالإجابة تفضلاً منه وتكرماً وامتناناً وإحساناً، قال تعالى: ((وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ)) [البقرة:186]، وقال عز من قائل: ((وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ)) [غافر:60].
وهذا الوعد من الله تعالى لا يتخلف، قال تعالى: ((إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ)) [آل عمران:9].
والاعتقاد بعدم خلف الله لوعده هو عقيدة المؤمن بربه، وهو الذي تقتضيه النصوص الشرعية، كما تقتضيه الفطر السليمة والعقول النيرة، والعادات الجارية من الكرماء. فلله المثل الأعلى، إذ الكريم إذا وعد لا بد أن يفي، فكيف بأكرم الكرماء الذي رحمته وسعت كل شيء؟؟
فإذا ثبت هذا يأتي هنا سؤال جد مهم، وهو: أننا نرى بعض الناس يدعون فلا يستجاب لهم مع أن وعد الله محقق لا يتخلف( ).
وقبل الخوض في جوابه لا بد من معرفة أن حكمة الله تعالى اقتضت أن لا يجاب على كل أدعية الإنسان وأمنياته؛ لأنه قد يدعو بما فيه ضرر عليه أو بما لا مصلحة له فيه، وقد يدعو بما فيه ضرر على غيره، فالإنسان محدود المعرفة، وقاصر العلم بمصالحه، فلو أن الله تعالى أجاب له كل ما يريده لأدى ذلك إلى مفاسد له ولغيره، قال تعالى: ((وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ)) [يونس:11].(1/150)
وقال تعالى: ((وَيَدْعُ الإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولًا)) [الإسراء:11]. وقال تعالى: ((وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ)) [المؤمنون:71].
وقد بين الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز الدعوات التي لم يستجبها بعين المطلوب، مع أن الذين دعوه هم أنبياؤه ورسله الكرام، ومع ذلك قد تتأخر الإجابة بعين المطلوب، ويخبرهم الله تعالى أن ما سألوه لا تقتضيه الحكمة الإلهية، فإذا كان هذا في الأنبياء والرسل مع ما أعطاهم الله من المنزلة والكرامة فكيف بمن دونهم؟ ومن الأمثلة التي بين الله فيها ذلك قوله تعالى: ((لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ)) [آل عمران:128].
فقد نزلت في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم على الذين آذوه يوم أحد وقتلوا أصحابه؛ فدعا عليهم فنزلت( ).
وقوله تعالى في سؤال موسى رؤية الله تعالى. ((قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ)) [الأعراف:143].
وقوله تعالى في سؤال نوح نجاة ابنه: ((رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ)) [هود:45] ((قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ)) [هود:46].
ومن هنا ينبغي للعبد أن لا يعترض إذا تأخرت الإجابة لدعائه، وليعلم أن إجابة الله لسائليه ليست لكرامة السائل عليه، بل يسأله عبده الحاجة فيقضيها له وفيها هلاكه وشقوته، وقد يمنعه منها لكرامته عليه ومحبته له، فيمنعه حماية وصيانة وحفظاً لا بخلاً( ).
هذا وإذا عرفنا أن الإجابة قد تتأخر لحكم وأسرار يعلمها الله تعالى نبدأ في الجواب عن السؤال الماضي، فنقول وبالله التوفيق:
قد أجاب العلماء عن هذا السؤال بوجوه:(1/151)
الوجه الأول( ): أن الإجابة في الآيتين الماضيتين مطلقة لم تقيد، ولكنها جاءت مقيدة في آية أخرى وهي قوله تعالى: ((قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ)) [الأنعام:40] ((بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ)) [الأنعام:41].
ففي هذه الآية قيدت إجابة الدعاء بالمشيئة. ومن القواعد المقررة المعلومة: أن المطلق يحمل على المقيد، فتكون الإجابة مقيدة بالمشيئة.
هذا الجواب سديد، إلا أنه يمكن أن يخدش فيه بأن يقال: إن التقييد بالمشيئة لم يكن؛ لأن الإجابة غير موعود بها جزماً، بل إنما قيدت الإجابة بالمشيئة لأن الأمور كلها بمشيئة الله تعالى( )، كما قد قيل في نحو قوله تعالى: ((لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ)) [الفتح:27]، مع أنه خبر محقق لايمكن أن يتخلف.
لكن هذا الخدش ضعيف؛ لأن سياق الآية يدل على أن التقييد بالمشيئة قصد به أن الله تعالى في بعض الأحيان ربما لا يكشف ما يدعون إليه، هذا هو الظاهر من السياق، والله أعلم.
الوجه الثاني( ): أن العموم في الآيتين الذي يفيد الإجابة في جميع الحالات وبدون شرط، هذا العموم خص بما إذا وافق القضاء، أو إذا كانت الإجابة خيراً للداعي، أو إذا استوفت الشروط، فهو من العام المخصوص.
وهذا الوجه الثاني أعم من الوجه الأول، ولا غبار عليه؛ لأن كثيراً من النصوص العامة قد جرى فيها التخصيص، ويدل له عدة أحاديث وردت تبين تخصيص هذا العموم بشروط، منها قوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو هريرة رضي الله عنه: {لا يزال يستجاب للعبد ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم ما لم يستعجل...}( ).
فقد اشترط في هذا الحديث لإجابة الدعاء أمران: عدم الدعاء بالإثم أو قطيعة رحم، وعدم الاستعجال، فيستفاد منه تخصيص عموم الإجابة بهذين الشرطين.(1/152)
قال ابن عبد البر رحمه الله: {في هذا الحديث دليل على خصوص قول الله عزوجل: ((ادعوني استجب لكم)) وإن الآية ليست على عمومها، ألا ترى أن هذه السنة الثابتة خصت منها الداعي إذا عجل، فقال: قد دعوت فلم يستجب لي، والدليل على صحة هذا التأويل قول الله عزوجل، ((فيكشف ما تدعون إليه إن شاء))( ) ولكن ابن عبد البر رحمه الله بعد هذا الكلام رجع فاختار الوجه الثالث الآتي.
ومنها حديث {الرجل يطيل السفر أشعث أغبر، يقول: يا رب! يا رب! ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب له؟!}( ).
ففي هذا الحديث اشترط لقبول الدعاء عدم التلبس بالحرام، فيخص به أيضاً عموم الإجابة. ومنها حديث: {ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، واعلموا أن الله لا يستجيب دعاء من قلب غافل لاه}( ).
ففي هذا اشترط للإجابة حضور القلب، وعدم الغفلة، وصرح بعدم الاستجابة لدعاء الغافل اللاهي.
ومنها حديث دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لأمته، فدعا لها في ثلاث فأجيب في اثنتين، ومنع الثالثة، وفيه: {يا محمد! إني إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد}( ).
فهذا نص واضح جلي بأن الإجابة مقيدة بعدم سبق القضاء.
وحاصل هذا الوجه أن يقال: إن ما تدل عليه الآيتان من إجابة الله للدعاء من باب الوعد والوعيد، وقد قرر العلماء أن نصوص الوعد والوعيد المطلقة مقيدة بوجود المقتضي، وعدم المانع المنافي.
فعلى هذا: إن الإجابة إنما تحصل إذا استوفت الشروط المقتضية لها وانعدمت الموانع.
قال الحليمي: إن معنى قوله جل ثناؤه ((ادعوني أستجب لكم)) أي: بحسب نظري لكم ورحمتي لكم، لا بحسب أهوائكم وأمانيكم صحت أو فسدت؛ لأن هذه الآية غير مفردة في القرآن عن أخرى، لكن بينتها آيات أخرى، منها قوله تعالى: ((وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ)) [المؤمنون:71].(1/153)
وقوله: ((وَيَدْعُ الإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولًا)) [الإسراء:11].
فدل هذا على أن الله تعالى إنما يستجيب الدعاء المستجمع شرائطه إذا علم للداعي فيما سأل خيراً، فأما إذا علم أن له فساداً أو شراً فإنه لا يستجيب له دعاءه إكراماً وثواباً له بدعائه( ).
فعلى هذا القول: إن الدعاء مع استيفائه لآدابه وشروطه قد لا يستجاب إذا لم يكن في مصلحة الداعي.
والحاصل أن الآيتين على هذا الوجه الثاني قد دخلهما التخصيص، وليستا باقيتين على العموم، فعلى هذا يوجد من الدعاء ما لا يجيبه الله تعالى.
الوجه الثالث( ): إن الوعد بالإجابة باق على عمومه، فما من رجل يدعو إلا ويجيب الله له، ولكن الإجابة تتنوع، والداعي لا بد أن يعوض من دعائه عوضاً ما، وليس شرطاً أن تكون بعين المطلوب، وربما تكون بمثل المطلوب أو ادخار الأجر له أو دفع البلاء عنه، أو بشرح صدره لتحمل البلاء والصبر على ذلك، فالإجابة حاصلة لا محالة؛ وذلك لأن الله سبحانه قد أخبر بها عن نفسه، والخبر لا ينسخ لئلا يوصف المخبر بالكذب، والله سبحانه وتعالى عندما وعد بالإجابة لم يقل: أجيب في الحال، فإذا استجاب ولو في الآخرة كان الوعد صادقاً.
وقد يعتقد الداعي المصلحة في المعين، ولا مصلحة له في ذلك، فيجاب إلى مقصوده الأصلي وهو طلب المصلحة، وقد تكون المصلحة في التأخير أو المنع، وادخار الأجر له، أو صرف البلاء عنه... إلى غير ذلك، ويدل لهذا الوجه حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {ما من مسلم ينصب وجهه لله عزوجل في مسألة إلا أعطاه إياها، إما أن يعجلها له وإما أن يدخرها له}( ).
وحديث عبادة بن الصامت رفعه: {ما على الأرض مسلم يدعو الله بدعوة إلا آتاه الله إياها، أو صرف عنه من السوء مثلها، ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم}( ).(1/154)
وحديث أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {ما من مسلم يدعو دعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله إحدى ثلاث: إما أن يعجل له دعوته، وإما أن يدخرها له في الآخرة، وإما أن يكف عنه من الشر مثلها. قالوا: إذاً نكثر. قال: الله أكثر}( ).
قال ابن عبد البر رحمه الله: "فعلى هذا يكون تأويل قول الله عز وجل -والله أعلم-: ((فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ)) [الأنعام:41] وأنه لا مكره، ويكون قوله عز وجل: ((أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ)) [البقرة:186] على ظاهره وعمومه بتأويل حديث أبي سعيد"( ).
وقال ابن عبدالبر أيضاً في موضع آخر تعقيباً على حديث أبي سعيد المتقدم: "هذا الحديث يخرج في التفسير المسند؛ لقول الله عزوجل: ((ادعوني أستجب لكم)) فهذا كله من الاستجابة، وقد قالوا: كرم الله لا تنقضي حكمته، ولذلك لا تقع الإجابة في كل دعوة، قال الله عزوجل: ((وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ)) [المؤمنون:71]( ).
وهذا الوجه قد يعترض عليه بأن الوعد وإن كان عاماً، لكنه وردت نصوص أخرى تخصه، فلا بد من الأخذ بها، وأما تنوع الإجابة فصحيح، ولكن هذا التنوع للدعاء الذي استوفى الشروط، وأما إذا لم يستوف الشروط فقد لا يجاب عليه أصلاً.
وقال الباجي المالكي -شارح الموطأ- عند ذكر حديث: {ما من داع يدعو إلا كان بين إحدى ثلاث...} قال: "هذا إنما يكون للداعي من المسلمين إذا دعا فيما يجوز له أن يدعو فيه، فذلك الذي لا يخلو من أن يستجاب له فيما دعا فيه، أو يدخر له أجر بدعائه وإخلاصه وذكره لله، وإقراره له بالربوبية، وإما أن يكفر له بعض ما سلف من ذنوبه "( ).(1/155)
ثم إن هذا ليس خاصاً بالدعاء، بل الأعمال الصالحات جميعها يشترط في قبولها أمور من وجود المقتضي وعدم المانع، فإذا لم يوجد المقتضي كأن لم تستوف الشروط، أو وجد المانع فإنها لا تقبل.
والدعاء من جملة الأعمال الصالحات، فإذا لم يستوف الشروط أو وجد المانع فإنه لا يقبل؛ لعموم الأدلة، قال تعالى: ((إنما يتقبل الله من المتقين)) [المائدة:27].
ثم إن هناك أدلة تدل على عدم قبول بعض الأدعية، نحو دعاء المتلبس بالحرام، والدعاء بالإثم أو قطيعة الرحم، أو الذي يستعجل صاحبه، أو دعاء الغافل اللاهي غير المتضرع، وأما الادعاء بأن هذا خبر، والنسخ لا يدخل في الأخبار، فيقال: إن هذا ليس من باب النسخ، بل هذا من باب أن الوعد نفسه الذي هو الخبر لا يقتضي أنه يحصل بدون مقتض ولا مانع.
ثم إن الحديث الذين استدلوا به في بعض طرقه -وهو حديث أبي سعيد- في آخره ما يدل على الشرط وهو: {ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم، ما لم يستعجل} فهذان الشرطان معتبران؛ لأن المطلق يحمل على المقيد.
الوجه الرابع( ): إن الوعد على الدعاء الذي هو بمعنى العبادة والطاعة، والإجابة بمعنى الثواب والأجر، فقد صح ما ورد من قول النبي صلى الله عليه وسلم: {الدعاء هو العبادة}( ).
فالدعاء الموعود عليه بالإجابة هو العبادة، فلا يأتي الاعتراض بتخلف إجابة الدعاء في بعض الأحيان.
فهذا الوجه يعترض عليه بأنا إذا فسرنا الدعاء بدعاء المسألة فماذا تكون الإجابة؟ لأن الدعاء يطلق على دعاء المسألة اتفاقاً، فهذا الجواب لا يتمشى إلا على تفسير الدعاء بدعاء العبادة، مع أن تفسير الدعاء بدعاء المسألة أيضاً أمر متفق عليه في الجملة، فلا يزال الاعتراض وارداً، كما أن هناك نصوصاً أخرى غير الآيتين بعضها لا يمكن حملها على دعاء العبادة، فماذا يكون الجواب عنها؟(1/156)
الوجه الخامس( ): إن معنى أجيب: أسمع، ويقال: ليس في الآية أكثر من إجابة الدعاء، فأما إعطاء المنية فليس بمذكور فيها، وقد يجيب الوالد ولده ثم لا يعطيه سؤله، فالإجابة كائنة لا محالة عند حصول الدعوة.
وهذا الوجه يقال فيه: إن الإجابة بالسماع فقط بدون إعطاء الأماني لا تسمى إجابة الدعاء؛ لأننا قدمنا أن الإجابة نوعان: فإجابة دعاء المسألة تكون بالنوال، لا بالسماع والمقال؛ لأن هذه الإجابة إنما تكون في سؤال الاستفهام( )، فلا يتبادر من سياق الآية هذا المعنى، وإنما سياق الآية في الإجابة بالنوال، ثم إن ما يفعله الوالد مع ولده من إجابته سؤاله ثم منعه، لا يليق بالله تعالى؛ لما في ذلك من الخلف بالوعد أو الكذب والخداع، والله سبحانه منزه عن ذلك.
الوجه السادس( ): إن الوعد المذكور خاص بالمؤمنين الصادقين المخلصين، وأن الكمل من المؤمنين لا ترد دعوتهم.
واستدل أصحاب هذا الوجه بحديث الولي المشهور: {لئن استعاذني لأعيذنه ولئن سألني لأعطينه}( ) وقالوا: إن من بلغ رتبة المحبة وكان الله سمعه وبصره يجاب له كل دعاء، ويحصل بغيته على حسب إرادته( ). وقالت المعتزلة: إن الإجابة خاصة بالمؤمنين ((الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم)) [الأنعام:82]؛ وذلك لأن وصف الإنسان بأن الله قد أجاب دعوته- هذا الوصف صفة مدح وتعظيم، ألا ترى أنا إذا أردنا المبالغة في تعظيم حال إنسان في الدين قلنا: إنه مستجاب الدعوة، وإذا كان هذا من أعظم المناصب في الدين، والفاسق واجب الإهانة في الدين - ثبت أن هذا الوصف لا يثبت إلا لمن لا يتلوث إيمانه بالفسق، بل الفاسق قد يفعل الله ما يطلبه، إلا أن ذلك لا يسمى إجابة الدعوة( )، وإنما يسمى قضاء الحاجة.
وهذا الفرق بين المؤمن الصالح والفاسق في إجابة الدعاء غير صحيح لأمور:(1/157)
1- إن الله سبحانه وتعالى قد امتن على المشركين بأنه هو الذي يجيبهم عند الاضطرار، ولم يقل يقضي حاجتهم. قال تعالى: ((أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض أإله مع الله قليلاً ما تذكرون)) [النمل:62]، وسياق الآيات يدل على أن الخطاب موجه إلى المشركين؛ لأنهم يعترفون بهذه الأمور، ومع ذلك لا يفردون الله تعالى بتوحيد العبادة.
2- إن إجابة الدعاء من مقتضى الربوبية، وهي شاملة للخلق مؤمنهم وكافرهم، فهو يربيهم بالنعم، ومنها إجابة الدعاء، وإغاثة الملهوف، وإعانة المكروب، وإزالة الشدائد، وكشف الكربات. قال تعالى: ((يسأله من في السموات والأرض كل يوم هو في شأن)) [الرحمن:29].
3- ثم إن الله تعالى قد أجاب دعوة شر خلقه وهو إبليس، قال سفيان بن عيينة رحمه الله: لا يمنعن أحداً ما يعوفه من نفسه من الدعاء؛ فإن الله قد أجاب دعوة شر خلقه إبليس.
4- ثم إنه ليس هناك فرق لغوي أو شرعي بين إجابة الدعاء، وقضاء الحاجة، فالمال واحد.
5- ثم إن هذا تقييد لما أطلقه الله تعالى، وتخصيص لعموم ما لم يخصه الله، فيكون من باب التأويل المذموم.
6- ثم إن القول بأن دعاء الكمل يجاب بعينه، منقوض لمخالفته؛ لما هو مقطوع به من رد الله تعالى لبعض دعوات رسله حتى أولي العزم منهم:
أ- من ذلك أن الله سبحانه لم يجب دعوة نوح في ابنه، بل عاتبه على ذلك: ((فلا تسألن ما ليس لك به علم)) [هود:46].
ب- ومن ذلك أن الله عز وجل لم يجب دعوة إبراهيم في أبيه: ((واغفر لأبي إنه كان من الضالين)) [الشعراء:186].
جـ- ومن ذلك أن الله تبارك وتعالى لم يقبل استغفار النبي صلى الله عليه وسلم لأبي طالب، وصلاته على عبد الله بن أبي بن سلول.
د- وقد صرح النبي صلى الله عليه وسلم أنه دعا لأمته بثلاث فأجاب الله له في اثنتين ومنعه الثالثة.
فعلى هذا نقول: فأي محبة لله تعالى فوق محبة هؤلاء أولي العزم، وأي كمال فوقهم؟(1/158)
فثبت بهذا أن الله سبحانه وتعالى يفعل ما يشاء، يجيب من يشاء متى ما شاء، فهو يجيب بعين المطلوب، وهذا هو الغالب الكثير تفضلاً منه وإحساناً وكرماً.
وقد لا يجيب بعين المطلوب لحكم وأسرار يعلمها الله تعالى، فقد تكون هناك مصلحة للداعي أو لغيره تمنع من إجابة الدعاء، قال تعالى: ((ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السموات والأرض)).
هذا وقد اعترض الحافظ ابن حجر رحمه الله على من قال: إن جميع دعوات الأنبياء مستجابة. فقال: وما جزمه بأن جميع أدعيتهم مستجابة، ففيه غفلة عن الحديث الصحيح: {سألت الله ثلاثا فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة}( ).
هذا آخر الأجوبة عما يرد من السؤال عن عدم الاستجابة لكل دعاء، وبهذا ننتهي من الباب الأول، وبالله التوفيق وعليه التكلان.
الباب الثاني
في منزلة الدعاء من العقيدة، وعدم تنافيه مع القدر، وحكمه الشرعي
ويشتمل على ثلاثة فصول:
الفصل الأول: في منزلة العبادة ومكانته نم العقيدة، وأهميته بين سائر العبادات.
الفصل الثاني: في عدم تنافي الدعاء والقدر.
الفصل الثالث: في حكم الدعاء الشرعي.
الفصل الأول
في منزلة الدعاء ومكانته من العقيدة وأهميته من بين سائر العبادات
ويحتوي على مبحثين:
المبحث الأول: في كون الدعاء يزيد في الإيمان والتوحيده ودلالته على وجود الله تعالى.
المبحث الثاني: في علاقته بالتوحيد بأنواعه الثلاثة.
المبحث الأول
في كون الدعاء يزيد في الإيمان والتوحيد وفي دلالته على وجود الله جل وعلا
ويشتمل على مطلبين:
المطلب الأول: في كون الدعاء يزيد في الإيمان والتوحيد:(1/159)
الدعاء يزيد في الإيمان والتوحيد والمعرفة وحياة القلب، ويقوي الفطرة، وهذا الأمر مجرب يعرفه من وقع في مشكلة فاضطره ذلك إلى الالتجاء إلى الله، والرغبة إليه والانطراح بين يدي الله تعالى والتملق له. فجعل له هذا "من الإيمان بالله ومحبته، ومعرفته وتوحيده، ورجائه وحياة قلبه، واستنارته بنور الإيمان، ما قد يكون أنفع له من ذلك المطلوب"( ).
وقد دلت الأدلة القاطعة على زيادة الإيمان بالطاعات عموماً، وللدعاء خصوصية في زيادة الإيمان، إذ الداعي -ولا سيما المضطر- تلجئه الحاجة الملحة، والفقر الشديد، إلى من يقضي حاجته ويكشف كربه، وحينئذ يجد الفطرة ترشده وتهديه إلى الله تبارك وتعالى، ويصل الأمر إلى أن تكون معرفته بخالقه وصفاته ضرورية، فيزداد يقيناً وإيماناً واخلاصاً، كما يزداد معرفة بحاجته وضعفه وعجزه، وأن الذي يدعوه عالم بحاله، وقادر على قضاء حوائجه.
فإكثار الدعاء لله تعالى والتوجه إليه كل وقت يزيد الإيمان ويقويه، وينمي الفطرة ويصقلها ويجليها مما شابها، وبجعل القلب متعلقا بالله تعالى محباً له راغباً راهباً، ويفتح له هذا باباً عظيماً من لذيذ المناجاة وحلاوة الإيمان وبشاشته، وبرد اليقين، وراحة البال، وطمأنينة النفس: "مما هو أحب إليه من تلك الحاجة التي قصدها أولاً، ولكنه لم يكن يعرف ذلك أولاً حتى يطلبه ويشتاق إليه"( ).
ومما يدل على أن الدعاء يزيد في الإيمان والمعرفة لصفات الرب من القدرة والعلم... إلخ. كما أنه يزيد في معرفة الإنسان لنفسه بالعجز: أن الداعي لا يقدم على الدعاء إلا إذا عرف من نفسه الحاجة إلى ذلك المطلوب، وأنه عاجز عن تحصيله.(1/160)
وعرف أن ربه تبارك وتعالى يسمع الدعاء، ويعلم الحاجة، وهو قادر على إيصالها إليه، وعرف أن ربه رحيم، تقتضي رحمته قضاء تلك الحاجة. ولا شك أن معرفة العبد نفسه بالعجز والنقص، ومعرفته ربه بالقدرة والعلم والرحمة وسائر صفات الكمال من أعظم المعارف، وفي هذا معرفة ذل العبودية، وعز الربوبية( ).
فهاتان المعرفتان من أهم أساسيات العقيدة، فإن اعتراف العبد بعجزه ونقصه يستوجب له الالتجاء إلى من يقوي عجزه، ويكمل نقصه، ولن يجد أحداً يستطيع ذلك إلا الله تعالى، فحينئذ يجد نفسه أنه لا بد له من الالتجاء إلى القوي العزيز، وهو عندما يلتجىء لا بد أن يعرف صفات الله تعالى التي من أجلها التجأ إليها من قدرته على قضاء حوائجه، واستغاثته، وكشف كرباته، ومن علمه بحاله ومكانه ومصلحته في الحال والمستقبل، ومن رحمته بعبده وجوده وكرمه.
وبهذا يتبين أن الدعاء يتضمن الإيمان بالله وبأسمائه وصفاته... وقد ذكر ابن القيم أن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، والتي هي نوع من أنواع الدعاء: "متضمنة لكل الإيمان، بل هي متضمنة للإقرار بوجود الرب المدعو، وعلمه، وسمعه، وقدرته، وإرادتة، وصفاته، وكلامه،... ولا ريب أن هذه هي أصول الإيمان والصلاة عليه صلى الله عليه وسلم متضمنة لعلم العبد ذلك وتصديقه به"( ).
وهكذا سائر الأدعية، فهي مشتملة على أصول الإيمان، بل أغلب الأدعية المأثورة إذا تأملناها نجدها تشتمل على أصول الإيمان بطريق المطابقة، وقليل منها هو الذي يدل على ذلك بطريق التضمن أو الالتزام. ثم إن الداعي لو فرض أنه قد لا يستحضر هذه المعاني التي يتضمنها الدعاء فإن هذا لا ينافي ما يقتضيه حقيقة معنى الدعاء.
فالذي ينبغي له أن يستشعر ذلك، ويجتهد في إحضار قلبه وتوجهه إلى الباري سبحانه، واعتقاد تلك الصفات التي يدل عليها الدعاء الذي يدعو به، إما مطابقة أو تضمناً أو التزاماً.(1/161)
قال ابن القيم: "وحق الداعي أن يستشعر عند دعائها -أي الفاتحة- ما يجب عليه اعتقاده مما لا يتم الإيمان إلا به، إذ الدعاء مخ العبادة، والمخ لا يكون إلا في عظم، والعظم لا يكون إلا في لحم ودم، فإذا وجب إحضار معتقدات الإيمان عند الدعاء وجب أن يكون الطلب ممزوجاً بالثناء، فمن ثم جاء لفظ الطلب للهداية والرغبة فيها مشوباً بالخبر تصريحاً من الداعي بمعتقده، وتوسلاً منه بذلك الاعتقاد الصحيح إلى ربه، فكأنه متوسل إليه بإيمانه واعتقاده أن صراط الحق هو الصراط المستقيم، وأنه صراط الذين اختصهم بنعمته وحباهم بكرامته... "( ).
وقد صرح العلماء باشتمال الدعاء على التوحيد، ودلالته المتنوعة العقدية والعلمية، ومن هؤلاء الذين صرحوا القاضي عياض، فإنه قال: "أذن الله في دعائه، وعلم الدعاء في كتابه لخليقته، وعلم النبي صلى الله عليه وسلم الدعاء لأمته، واجتمعت فيه ثلاثة أشياء: الحلم بالتوحيد، والعلم باللغة، والنصيحة للأمة"( ).
وقال الزركشي في معنى كون الدعاء مخ العبادة: "إنما كان مخاً لتضمنه التوحيد، إذ الداعي لا يدعو الله إلا وهو يوحده، ويعتقد أنه لا معطي غيره"( ) وذكر ابن عقيل الحنبلي أن في الدعاء معنى الوجود والغنى والسمع والكرم والرحمة والقدرة، فإن من ليس كذلك لا يدعى.
فتبين بهذا أن الدعاء يزيد في إيمان الداعي ومعرفته وتوحيده، ويتضمن اعتقاد الداعي بوجود الرب المدعو، وعلمه وسمعه وقدرته، وسائر صفاته، فالواجب على الداعي استشعار هذه المعاني وهذه الصفات.
المطلب الثاني: في دلالة الدعاء على وجود الله تعالى:(1/162)
إن الاعتراف بوجود الله تعالى أمر فطري ضروري لا يحتاج إلى إقامة برهان، ولا سوق أدلة، ولا ذكر حجج؛ لأن الفطر البشرية مقرة بذلك، ومعرفته أمر ضروري لولا أن شياطين الإنس والجن تلقي بعض الأوهام بين ضعفاء العقول فتشوش عليهم، فلهذا لا نرى القرآن الكريم يكثر من إقامة البراهين الجدلية في هذا الموضوع، ولكنه يشير إلى ذلك بأدلة كافية مقنعة ملزمة.
وإذا رجعنا إلى موضوعنا وهو دلالة الدعاء على وجود الله تعالى نجد الله تعالى ذكر ذلك في كتابه الحكيم، فقد ذكر أدلة وجوده وبراهين وحدانيته وحجج تفرده بالربوبية والألوهية، ومن ضمن تلك الحجج إجابة المضطرين وإغاثة الملهوفين وإنقاذ المكروبين.
قال تعالى: ((أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ)) [النمل:62]، وقد ذكر قبل ذلك الآيات الكونية الكبرى من خلق السموات والأرض وإنزال المطر وإنبات الحدائق والأشجار وجعل الأرض مستقرة وخلق الأنهار والجبال والبحار، فهذه آيات كونية كبرى، ثم ذكر أدلة فطرية ضرورية وهي آية إجابة الدعاء.
قال تعالى: ((اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنهَارَ. وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ. وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ)) [إبراهيم:32-34].
فقد وصف الله نفسه في هذه الآيات بتفرده بخلق الكون وتصريفه بإنزال المطر وإخراج الثمرات والرزق وتسخير الفلك والأنهار والشمس والقمر والليل والنهار.(1/163)
فهذه الأمور هي الأدلة الكونية الكبرى ثم قرن بهذه الأدلة الكبرى دليلاً آخر ألا وهو إجابة الدعاء، فدلت هذه المقارنة بالأدلة الكونية على عظمة دلالة إجابة الدعاء فهي من أعظم الأدلة الدالة على وجود الله تعالى، يعرف ذلك من وقع في خطر شديد وكرب عظيم فاستغاث بربه فأجابه وأنقذه مما وقع فيه فيحصل له علم ضروري بوجود الله تعالى.
ومن الأدلة على دلالة الدعاء على وجود الله وصفاته:
أن الداعي يريد حصول مطلوبه وغرضه على وجه معين، وفي الغالب الغرض الذي يريده الداعي الأسباب الظاهرة العادية لا تقتضي وجوده مطلقاً، أو على الوجه الذي يريده بل ربما الأسباب الظاهرة تقتضي عدم وجوده أو وجوده على وجه آخر يخالف ما يريده الداعي.
ومع هذه التوقعات والاحتمالات التي على ضد مراد الداعي يقوم الداعي بالتوجه إلى الله تعالى والإقبال على ربه ويستغيث به فيحصل المطلوب وفق غرضه وعلى الوجه الذي يريده، وقد كان قبل ذلك يعد وقوعه شبه المستحيل على الصفة المطلوبة. أترى ما الذي غيَّر الأسباب الظاهرة عن مجراها وعاداتها إلى ما يريده الداعي؟ مثال ذلك ما يقع للمسلمين في الاستسقاء حيث يجدون تأخر المطر وليس هناك سبب يقتضيه من غيم أو ريح أو تغير طقس، ومع ذلك يخرجون إلى الفلاة متضرعين مبتهلين خاشعين فيصلون صلاة الاستسقاء فيدعون الله تعالى، فيغيثهم الله في اليوم نفسه أو قريباً منه.
وهذا أمر مشاهد واقع إلى الآن في بلاد المسلمين لا سيما في البلاد المتمسكة بدينها، وقد وردت الأحاديث الصحاح بأن النبي صلى الله عليه وسلم يدخل عليه رجل وهو يخطب فيطلب منه الدعاء بالسقيا فما ينزل عن المنبر حتى يجيش المسجد وقد كان قبل الدعاء لا يرى في المدينة سحابة ولا قزعة. فمن الذي حرك السحاب والرياح وأتى بالمطر في لحظات معدودة؟؟(1/164)
كل ذلك دليل قاطع على وجود الله تعالى وتفرده بالربوبية والألوهية وأنه متصف بصفات الجلال والجمال من السمع والعلم والرحمة والكرم والجود والقدرة وغير ذلك.
قال بعضهم في تفسير قوله تعالى: ((وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ)) [البقرة:186]: الآية تدل على أنه إنما يعرف بحدوث تلك الأشياء على وفق غرض الداعي، فدل على أنه لولا مدبر لهذا العالم يسمع دعاءه ولا يخيب رجاءه، وإلا لما حصل ذلك المقصود في ذلك الوقت( ).
وقال ابن القيم: وحصول الإجابة عقيب سؤال الطالب على الوجه المطلوب دليل على علم الرب تعالى بالجزئيات، وعلى سمعه لسؤال عبيده، وعلى قدرته على قضاء حوائجهم وعلى رأفته ورحمته بهم( ). فإجابة الدعاء على وفق مراد الداعي مع عدم الأسباب الظاهرة المقتضية لذلك تدل دلالة واضحة على أن هناك مدبراً لهذا الكون يغيره حسب ما يشاء.
وذكر الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله تعالى بعض البراهين العقلية الفطرية على ربوبية الله وإلاهيته ثم قال: ومن براهين وحدانية الباري وربوبيته، إجابته للدعوات في جميع الأوقات فلا يحصي الخلق ما يعطيه للسائلين وما يجيب به أدعية الداعين من بر وفاجر، ومسلم وكافر، تحصل المطالب الكثيرة، ولا يعرفون لها شيئاً من الأسباب سوى الدعاء والطمع في فضل الله والرجاء لرحمته، وهذا برهان مشاهد محسوس لا ينكره إلا مباهت مكابر( ).
دلالة الدعاء على وجود الله تعالى من ناحية الافتقار والحاجة والضرورة الفطرية:
إن الافتقار والاحتياج من لوازم الإنسان وضرورياته، فهو دائماً يحتاج إلى نيل مراده من عزيز قوي يبلغه مراده وفي هذا اعتراف منه بالرب القوي الذي يبلغه مراده.
والفطرة السليمة الإنسانية شهدت بضرورة فطرتها وبديهة فكرتها على رب حكيم قادر عليم، قال تعالى: ((أَفِي اللَّهِ شَكٌّ)) [إبراهيم:10]، ((وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُوْلُنَّ اللهُ)) [الزخرف:87].(1/165)
وهذه الفطرة راسخة في أعماقهم ووجدانهم ومشاعرهم، فهم وإن غفلوا عن هذه الفطرة في حال السراء فلا شك أنهم يلوذون إليها في حال الضراء. قال تعالى: ((وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ)) [الإسراء:67].
والاستدلال بالفطرة هو المنهج القرآني، وقد حاد عنه المتكلمون حيث يهتمون بإثبات الصانع بأدلة جدلية وآراء منطقية، وأدلتهم الجدلية هي (دون ما شهدت به الفطرة الإنسانية من احتياج ذاته إلى مدبر هو منتهى مطلب الحاجات، فيرغب إليه ولا يرغب عنه، ويستغني به ولا يستغني عنه، ويتوجه إليه ولا يعرض عنه، ويتضرع إليه في الشدائد والمهمات) وذلك لأن الإنسان يعرف احتياج نفسه وافتقارها أكثر من معرفته احتياج الممكن إلى الواجب والحادث إلى المحدث.
وهذه الطريقة هي سنة الله وطريقته في كتابه فإنه يحتج عليهم بحاجتهم وافتقارهم إليه. قال تعالى: ((أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ)) [النمل:62]، ((قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ)) [الأنعام:63].
والاستدلال الأحسن والموصل إلى المعرفة هو الاستشهاد بأفعال الله تعالى عليه وأنه لا شهادة للفعل إلا من حيث احتياج الفطرة واضطرار الخلقة، فحيثما كان الاضطرار والعجز أشد، كان اليقين أوفر وآكد: ((وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ)) [الإسراء:67]، ((أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ)) [النمل:62].
والمعارف التي تحصل من تعريفات أحوال الاضطرار أشد رسوخاً في القلب من المعارف التي هي نتائج الأفكار في حال الاختيار( ).(1/166)
هذا وافتقار العبد إلى الله تعالى من جهتين: من جهة العبادة وجهة الاستعانة، قال شيخ الإسلام رحمه الله: والقلب فقير بالذات إلى الله من وجهين: من جهة العبادة وهي العلة الغائية، ومن جهة الاستعانة والتوكل وهي العلة الفاعلة فالقلب لا يصلح ولا يفلح ولا ينعم ولا يسر ولا يطمئن إلا بعبادة ربه وحبه والإنابة إليه وهذا لا يحصل له إلا بإعانة الله له فإنه لا يقدر على تحصيل ذلك له إلا الله فهو دائماً مفتقر إلى حقيقة، ((إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)) [الفاتحة:5] فهو مفتقر إلى الله من حيث المطلوب المحبوب المراد المعبود ومن حيث هو المسؤول المستعان به المتوكل عليه، فهو إلهه الذي لا إله له غيره وهو ربه الذي لا رب له سواه( ).
المبحث الثاني
في علاقة الدعاء بالتوحيد بأنواعه الثلاثة
ويشتمل على ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: في علاقة الدعاء بتوحيد الربوبية:
إن الدعاء له علاقة وثيقة وارتباط قوي بالتوحيد بأنواعه الثلاثة: توحيد الربوبية، وتوحيد الأسماء والصفات، وتوحيد الألوهية والعبادة، وإليك بيان ذلك:
1- علاقة الدعاء بتوحيد الربوبية:
فتوحيد الربوبية هو إفراد الله تعالى بأفعاله، ومن جملة أفعال الله تعالى إجابة الداعي وإغاثة المستغيث.
لأن من معاني توحيد الربوبية، الإقرار بأن الله تعالى رب كل شيء وأنه النافع الضار، المتفرد بإجابة الدعاء عند الاضطرار، قال تعالى: ((أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ)) [النمل:62]( ).(1/167)
فالإقرار بتفرد الله بإجابة الدعاء من توحيده في ربوبيته، لأن من مقتضى الربوبية أن يربيهم بالنعم وبما يحتاجون إليه، ومن ذلك إجابة المضطر وإغاثة الملهوف، وكشف الكرب وإزالة الضر، فهو يربي عباده بهذه النعم، فالربوبية تتضمن خلقهم وتدبيرهم وتربيتهم وإصلاحهم وجلب مصالحهم وما يحتاجون إليه ودفع الشر عنهم وحفظهم مما يفسدهم، هذا معنى ربوبيته لهم، وذلك يتضمن قدرته التامة ورحمته الواسعة وإحسانه وعلمه بتفاصيل أحوالهم، وإجابة دعواتهم وكشف كرباتهم( ).
فتوحيد الربوبية هو إفراد الله تعالى بأفعاله هو التي منها إجابة الدعاء، فهو الذي يستحق طلبها منه وحده وهو الذي يجب إخلاص نوعي الدعاء له. قال شيخ الإسلام رحمه الله: فهو سبحانه مستحق التوحيد، الذي هو دعاؤه وإخلاص الدين له: دعاء العبادة بالمحبة والإنابة والطاعة والإجلال والإكرام والخشية والرجاء ونحو ذلك من معاني تألهه وعبادته، ودعاء المسألة والاستعانة بالتوكل عليه، والالتجاء إليه والسؤال له ونحو ذلك مما يفعل سبحانه بمقتضى ربوبيته.
ولهذا جاءت الشريعة الكاملة في العبادة باسم الله، وفي السؤال باسم الرب، فيقول المصلي والذاكر: الله أكبر، وسبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، وكلمات الأذان الله أكبر... إلى آخرها ونحو ذلك( ).(1/168)
ومن هنا نستطيع أن نعرف سر كثرة ورود لفظ الرب في دعوات الأنبياء والمرسلين وعباد الله الصالحين دون اسم الجلالة، أو غيره من الأسماء الحسنى والصفات العلا، وقد حكى الله لنا تلك الأدعية التي فيها النداء باسم الرب في آيات كثيرة، قال تعالى في دعاء آدم وحواء عليهما السلام: ((قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ)) [الأعراف:23]، ومن دعوات نوح عليه السلام: ((رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا)) [نوح:28]، ومن أدعية إبراهيم عليه السلام: ((رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ. رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ. رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ. الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ. رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ. رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ)) [إبراهيم:35-41].(1/169)
وقد تكرر لفظ الرب في هذا الدعاء تسع مرات، كما أنه قد تكرر لفظ الرب في دعاء آخر لإبراهيم عليه السلام أربع مرات ذكره الله في سورة البقرة من قوله تعالى: ((وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ...)) إلى قوله: ((رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)) [البقرة:126-129].
ومن أدعية يوسف عليه السلام: ((رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ)) [يوسف:33].
((رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ)) [يوسف:101]. ومن أدعية موسى عليه السلام:((رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ)) [يونس:88]. ((رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي. وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي. وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي...)) [طه:25-27].
ومن أدعية زكريا عليه السلام: ((رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ)) [الأنبياء:89]. ((رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا)) [مريم:4].(1/170)
وقد وصف الله تعالى في كتابه الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بأنهم يدعون بالدعاء الذي في آخر البقرة، وقد تكرر فيه اسم (الرب) أربع مرات: ((غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ. لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ)) [البقرة:286].
وكذلك وصف الله أولي الألباب الذاكرين الله في كل الأحوال بأنهم يدعون بدعاء ذكره في آخر سورة آل عمران، وقد تكرر فيه اسم (الرب) خمس مرات من (آية:191) إلى (آية:194) ومثل ذلك ما وصف الله به عباده الذين قضوا أعمال الحج بأنهم يقولون: ((رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)) [البقرة:201].
إلى غير ذلك من الأدعية الواردة المأثورة الكثيرة التي لو تتبعناها لطال بنا البحث.
وهذا الذي ذكر يكفي للدلالة على أن إجابة الدعاء من مقتضى الربوبية وأن ذلك هو الحكمة في تكرار لفظ (الرب) في الأدعية المأثورة دون باقي أسماء الله الحسنى ومن ذلك اسم الجلالة وبهذا يعرف ما في قول الخطابي رحمه الله تعالى في اسم الجلالة (الله): إنه أشهر أسماء الرب تعالى وأعلاها محلاً في الذكر والدعاء( ).
فبالنسبة إلى كونه أعلاها في الذكر لا خلاف في ذلك وأما بالنسبة إلى الدعاء فيعكر عليه ما تقدم من أدعية الأنبياء مع ما في معنى الربوبية من مناسبة للإجابة، وقد قال شيخ الإسلام رحمه الله مبيناً هذا المعنى: إن الإله هو المعبود الذي يستحق أن يعبد، والرب هو الذي يرب عبده فيدبره.(1/171)
ولهذا كانت العبادة متعلقة باسمه (الله)، والسؤال متعلقاً باسمه (الرب) إلى أن قال: ولما كانت العبادة متعلقة باسمه (الله) تعالى جاءت الأذكار المشروعة بهذا الاسم مثل كلمات الآذان: الله أكبر الله أكبر، ومثل الشهادتين: أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن محمداً رسول الله، ومثل التشهد، التحيات لله، ومثل التسبيح، والتهليل، والتكبير: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله.
وأما السؤال فكثيراً ما يجيء باسم الرب كقول آدم وحواء: ((رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ)) [الأعراف:23]... إلى أن قال:
وقد نقل عن مالك أنه قال: أكره للرجل أن يقول في دعائه يا سيدي يا سيدي يا حنان يا حنان، ولكن يدعو بما دعت به الأنبياء ربنا ربنا، نقله عنه العتبي( ) في العتبية، فإذا سبق إلى قلب العبد قصد السؤال ناسب أن يسأله باسمه (الرب) وإن سأله باسمه (الله) لتضمنه اسم الرب كان حسناً، وأما إذا سبق إلى قلبه قصد العبادة فاسم (الله) أولى بذلك. إذا بدأ بالثناء ذكر اسم (الله) وإذا قصد الدعاء دعا باسم (الرب)( ).
ومما سبق يتضح أن اسم (الرب) من مقتضى معناه إجابة الدعاء لأن الإجابة من جملة تربية العبد بما يصلحه وبما يحتاج إليه كما أنها من ناحية أخرى عطاء ونفع وتدبير من الله للعبد وهذه الصفات تختص باسم الرب، ومن مقتضى معناه.
قال ابن القيم رحمه الله: وصفات الفعل والقدرة، والتفرد بالضر والنفع والعطاء والمنع ونفوذ المشيئة، وكمال القوة، وتدبير الخليقة أخص باسم الرب( ).
ولهذه المعاني السابقة قال بعضهم: إنه الاسم الأعظم.(1/172)
قال القرطبي رحمه الله: قال بعض العلماء: إن هذا الاسم هو الاسم الأعظم لكثرة دعوة الداعين به، وتأمل ذلك في القرآن كما في آخر آل عمران وسورة إبراهيم وغيرهما، ولما يشعر به هذا الوصف من الصلة بين الرب والمربوب مع ما يتضمنه من العطف، والرحمة، والافتقار في كل حال( ).
وبما تقدم تبين لنا علاقة الدعاء بالربوبية، وأن إجابة الدعاء من مقتضاها وأن ذلك هو السر في تكرار اسم الرب في الأدعية المأثورة دون باقي أسماء الله الحسنى.
2- ومن الأدلة الدالة على علاقة الدعاء بالربوبية أن من معاني توحيد الربوبية الإقرار بتفرد الله تعالى بالتصرف المطلق في الملك والملكوت وأنه القادر القدرة المطلقة، فالمدعو لا بد أن يكون قادراً القدرة المطلقة، ومتصرفاً التصرف المطلق إذ لولا اعتقاد الداعي بأن المدعو يقدر على أن يتصرف في الكون، ويغير الأحداث من الصعب إلى السهل، ومن الضيق إلى السعة، ومن الشدة إلى اليسر، ومن الكرب إلى الفرج، لما وجه الداعي دعاءه وطلبه إلى المدعو، إذ العاجز عن التصرف وعن التغيير لا يوجه إليه طلب التصرف والتغيير عند من له عقل سليم. ولهذا عاب الله تعالى على المشركين فقال: ((أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ. وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلاَ أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ. وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لاَ يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنتُمْ صَامِتُونَ)) [الأعراف:193].
وهذا التلازم بين الدعاء وبين كون المدعو متصرفاً التصرف المطلق وقادراً القدرة المطلقة- يقتضيه وضع الدعاء وحقيقته.
ثم هاتان الصفتان اللتان هما التصرف المطلق والقدرة المطلقة- من خصائص الربوبية فلا يتصف بهما غير الله تعالى، فمن صرف الدعاء لغير الله تعالى فقد صرف له ما هو من خصائص الربوبية، فلذا وجب إخلاص الدعاء لله تعالى.(1/173)
وربما يوجد بعض الأشخاص الذين لا يستحضرون عند الدعاء هذه التفاصيل لما يستلزمه معنى الدعاء ويقتضيه.
ولكن هذا لا يمنع أن الدعاء من شأنه وطبيعته اعتقاد الداعي تلك الخصائص للمدعو كما أنه لا يجيز للآخرين إنكار تلك الحقيقة الواقعة من الداعين الذين يستحضرون تلك المعاني والخصائص للمدعو.
3- ومن معاني توحيد الربوبية الاعتراف بأن الله هو النافع الضار إذ من شأن الدعاء أن يكون المدعو يستطيع أن ينفع داعيه أو يضره.
ولهذا عاب الله على المشركين الذين عبدوا ما لا ينفعهم ولا يضرهم، فقال تعالى: ((يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُ وَمَا لا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ)) [الحج:12].
وقال تبارك وتعالى: ((وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ)) [يونس:18].
وقال تعالى حاكياً توبيخ إبراهيم لقومه: ((قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُكُمْ شَيْئًا وَلا يَضُرُّكُمْ. أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ)) [الأنبياء:66، 67].
وهذا التلازم أيضاً يقال فيه ما سبق في مثله من كون شأن الدعاء وحقيقته يقتضي ذلك.
والحاصل أن هذا التلازم الذي نقول به واضح في دعاء العبد لربه فإنه يعتقد هذه اللوازم.
كما أن هذا التلازم هو من مقتضى حقيقة الدعاء وطبيعته وشأنه.
وأما في حالة دعاء الموتى والغائبين فهو كذلك أيضاً ويدل لذلك أمور:
1- أقوال وتصرفات من يدعو الأموات والغائبين فقد صرح بعضهم باعتقادهم في المدعوين التصرف المطلق والقدرة على النفع والضر، وهو اعتراف منهم بالحقيقة، والاعتراف هو أقوى برهان وأنصع حجة وأوضح دليل.
2- أقوال العلماء الذين صرحوا بهذا التلازم في مطلق الدعاء.(1/174)
3- أقوال العلماء الذين صرحوا باعتقاد الداعين للأموات لمدعويهم هذه اللوازم وسيأتي هذان الأمران في آخر هذا البحث لتعلقه بموضوع البحث كله، وأما ما يتعلق بالأمر الأول فنذكره هنا.. وبالله التوفيق.
اعتقاد من يدعو غير الله تعالى لمدعوه التصرف والقدرة على النفع والضر:
وهذه نقول من كتبهم المعتبرة التي هي حجة بينهم وفيها ما ينادي باعتقادهم التصرف للأولياء وفي بعضها ادعاء من يزعم الولاية لنفسه أنه يتصرف في الكون ويجيب الداعي، وفي البعض الآخر ادعى له المريدون وعدوه من كراماته، واعتقادهم التصرف له يدل على أنهم يعتقدون أنه ينفع ويضر، ومن أقاويلهم الباطلة في ذلك ما قاله بعضهم: لو تحركت نملة سوداء في ليلة ظلماء فوق صخرة صماء، ولم أسمعها لقلت: إني مخدوع أو ممكور بي.
فقال آخر مستدركاً عليه: كيف أقول ذلك، وأنا محركها؟( ).
ففي هذا ادعى الأولط السمع المحيط للكون، وذلك يستلزم العلم المحيط أيضاً وادعى الثاني زيادة على ذلك التصرف المطلق في الكون والقدرة على النفع والضر.
وقد ذكروا مراتب الأولياء وقسموهم إلى مجموعات تتصرف في الكون وتدبر أمره فهناك القطب أو الغوث الأعظم وهناك الإمامان وهناك البدلاء وهناك الأوتاد والنجباء والنقباء. فلكل هذه المجموعة مهمة أساسية تتصرف فيها حسب زعمهم.
فالقطب عندهم -وقد يسمى غوثاً باعتبار التجاء الملهوف إليه- عبارة عن الواحد الذي هو موضع نظر الله في كل زمان أعطاه الطلسم الأعظم من لدنه، وهو يسري في الكون وأعيانه الباطنة والظاهرة سريان الروح في الجسد بيده قسطاس الفيض الأعظم... فهو يفيض روح الحياة على الكون الأعلى والأسفل...( ).
وأما الإمامان فأحدهما عن يمين القطب، ونظره في الملكوت وهو مرآة ما يتوجه من المركز القطبي إلى العالم الروحاني من الإمدادات والآخر عن يساره ونظره في الملك وهو مرآته في المحسوسات وهو أعلى من صاحبه ويخلف القطب إذا مات( ).(1/175)
وأما الأوتاد فهم أربعة رجال منازلهم على منازل الأربعة الأركان من العالم شرق وغرب وشمال وجنوب( ) فهؤلاء هم يثبتون الأرض ويحفظونها من الجهات الأربع.
وأما النجباء فهم مشغولون بحمل أثقال الخلق من الأشياء التي لا تفي القوة البشرية بحملها( ).
وأما النقباء فهم المشرفون على بواطن الناس وخفايا الضمائر والسرائر( ).
وهؤلاء الأولياء بهذه المراتب الست لهم ديوان خاص يجتمعون فيه كل ليلة لتدبير الكون علويه وسفليه، قالوا: إنهم يجتمعون في غار حراء، ويتفقون على ما يكون من ذلك الوقت إلى مثله من الغد فهم يتكلمون في قضاء الله تعالى في اليوم المستقبل والليلة التي تليه ولهم التصرف في العوالم كلها السفلية والعلوية( ).
فإذا كان هؤلاء اقتسموا التصرف في الكون فماذا بقي لله الواحد القهار؟
ثم إذا سمع العامي أن هؤلاء هم المتصرفون وأن الغوث معهم ورئيسهم فلماذا لا يستغيث بهم أو بالغوث وحده؟ ولماذا يبقى في الشدة وهؤلاء يجتمعون كل ليلة؟ فما عليه إلا أن يذكر حاجته لهم أو لأحدهم فما عليها إلا أن تقضى في تلك الليلة، ويُبرِمَ الأمرَ فيها المجتمعون ويصدروا الأوامر النهائية لقضائها.
ومن هنا ندرك لماذا يدعى بعض هؤلاء القطبية أو البدلية إلى آخر تلك الألقاب.
فممن ادعى ذلك ابن الفارض، فقد قال في تائيته:
فبي دارت الأفلاك فاعجب لقطبها الـ ... ... ـمحيط بها والقطب مركز نقطتي( )
وادعى ابن عربي تفويض العالم إليه( ).
وقد ذكروا عن إبراهيم الدسوقي أنه سئل عن البدوي فقال: الدنيا مقسومة بيننا وبينه أربعة أقسام، ربع لي، وربع لأحمد الرفاعي، وربع للجيلاني، وربع لحضرة البدوي. وكل منهم يتصرف في ربعه إلا أن البدوي له خصيصة لم يخص بها أحد سواه وهو أن الله تعالى جعل له كرسياًً في مكان بين السماء والأرض يتصرف في أمور العالم العلوي والعالم السفلي( ).(1/176)
ومن ذلك ما نقله الشعراني عن البدوي من ادعائه أنه يحمي الوحوش والسمك في البحار بعضهم عن بعض فلهذا فهو غير عاجز عن حماية من يحضر مولده( ).
كما ادعي له أنه يسلب الإيمان والعلم( ).
ومن ذلك ما سمعه المقبلي( ) من بعضهم أنه يقول: لا يكون الولي ولياً عندنا أهل الحق حتى يكون الكون بأجمعه كحبة خردل في كفه يعني فيتصرف فيه كيف يشاء( ).
وبعض هؤلاء قصر التصرف في القبر لبعض كبار الأولياء ومثل لذلك البعض بالشافعي والليث والبدوي وأضرابهم، فهؤلاء لهم التصرف في قبورهم بحسب صدق من توجه إليهم، وأما النبي صلى الله عليه وسلم فبابه مفتوح فما على من عنده حاجة إلا أن يصلي عليه ثم يسأله حاجته( )، قال الألوسي: ومنهم من يثبت التصرف لهم جميعاً في قبورهم لكنهم متفاوتون فيه حسب تفاوت مراتبهم، والعلماء منهم يحصرون التصرف في القبور في أربعة أو خمسة( ).
ومن ذلك ما قيل من أن الولي إذا تقرب إلى الله تعالى حتى يصير مقارباً لله تعالى يحصل له أنه إذا تصرف على سبيل التمكين في الأمور لا يستعصي عليه شيء مما يطلبه فإذا تشوف للعلم علمه، ويفعل ما يريد إحداثه في العالم مثل إحياء الميت وإبراء الأكمه والأبرص وغير ذلك.. وإذا اتصف بصفة الخلة تظهر في أجزاء جسده آثار التخلل بأن تنفعل الأشياء له بلفظة كن وأن يبرئ العلل والأمراض ويأتي بالمخترعات بيده، وأن يكون لرجله المشي في الهواء، وأن يقدر على التصور بكل صورة بتمام هيكله( ).
فالولي إذا وصل إلى هذه الدرجة يفعل ما يشاء ويريد وينفع ويضر بيده كل شيء!! تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً.(1/177)
ويكفي لمعرفة مدى ادعاء هؤلاء التصرف وتصديق بعض الناس لهم قراءة بعض كتب هؤلاء التي احتوت على ما لا يتصور أن يصدقه عاقل فضلاً عن مسلم قرأ كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وعرف الإسلام ومن تلك الكتب كتاب الطبقات الكبرى للشعراني وهو كتاب معتبر عندهم فقد حوى العجائب والغرائب من ادعاء تصريف الكون والحوادث الكثيرة، فالذين ترجم لهم نحو ثلاثمائة إذا استثنينا الصحابة والتابعين وبعض كبار الصالحين، فكثير من هؤلاء المترجم لهم ذكر لهم الشعراني ما يدل على تصرفهم في الكون وعلمهم للغيب وغير ذلك مما لا يصدقه العقل.
ومثل كتاب الطبقات كتاب جواهر المعاني لعلي حرازم في ترجمة التيجاني ففي هذا الكتاب تصوير للتيجاني بأنه المدبر للكون والمتصرف في شؤون الناس، فمما ادعاه للتيجاني أنه نائب عن الله أو خليفته في جميع مملكته الإلهية بلا شذوذ متصفاً بجميع صفات الله وأسمائه حتى كأنه عينه( ).
ومن تلك الكتب كتب البريلويين الذين تجاوزوا المعقول والمنقول فيما زعموا للنبي صلى الله عليه وسلم والصالحين.
ومن ذلك ما قالوه في الشيخ الجيلاني أنه هو الغوث الذي حصلت له قدرة كلمة (كن فيكون) وأن قلوب الناس في يده يصرفها كيف يشاء، وأن له حق التثبيت في اللوح المحفوظ وأنه يملك أن يجعل المرأة رجلاً( ).
ومن تلك الكتب كتب الرافضة ففيها العجائب والطامات، ففيها ادعاء لأئمتهم التصرف في الكون وعلم الغيب وغير ذلك مما هو من خصائص الربوبية.
والحاصل:
إن إجابة الدعاء من مقتضى الربوبية التي هي شاملة للخلق كلهم، ولهذا كانت إجابة الدعاء غير خاصة بالمؤمنين بل الله يسأله كل الخلائق فيجيبهم.
قال تعالى: ((يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ)) [الرحمن:29]، يسأله المطيع والعاصي والكافر والمنافق، فهو كل يوم يجيب داعياً ويكشف كرباً ويجيب مضطراً ويغفر ذنباً كما قاله مجاهد وغيره( ).(1/178)
وهو يمد كلاً من العاصي والطائع بما يتكفل له حياته، قال تعالى: ((كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا)) [الإسراء:20].
بل لما سأله إبليس اللعين بقوله: ((قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ)) [الحجر:36]، أجابه الله إلى ما طلبه وأعطاه بغيته مع أنه أبغض خلق الله إلى الله، قال تعالى: ((قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ. إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ)) [الحجر:37، 38].
فاتضح مما سبق أن إجابة الدعاء من مقتضى الربوبية وأنها شاملة للخلق أجمع، وأنها فعل من أفعال الله تعالى وأن الإقرار بتفرده بها إقرار بتفرده بأفعاله وأن الإخلاص في الدعاء يستلزم الإخلاص في توحيد الربوبية وأن الشرك في الدعاء يستلزم الشرك في الربوبية، كما أنه يستلزم الاعتقاد بعلم الغيب والتصرف المطلق والقدرة المطلقة والنفع والضر للمدعو. وقد يقال: إن الداعي ربما لا يستحضر عند الدعاء تلك اللوازم للدعاء من كون المدعو قادراً القدرة المطلقة ومتصرفاً ومالكاً للنفع والضر فلا يقال: إنه أشرك في الربوبية.
الجواب: إن من طبيعة الدعاء أن يستحضر الداعي تلك المعاني وهي لازمة له، وإلا كان مثل كلام المجنون الذي لا يدري ما يقول، وأيضاً لا يشترط في الحكم بالشرك أن يستحضر المشرك جميع لوازمه وقبائحه ولو استحضر ذلك لما أشرك، مع أن الأدلة السابقة وواقع هؤلاء يدلان على أن قسماً منهم يعتقد بتلك اللوازم أيضاً.
المطلب الثاني: في علاقته بتوحيد الأسماء والصفات:
إن الدعاء له علاقة قوية وارتباط وثيق بتوحيد الأسماء والصفات لأن معنى توحيد الأسماء والصفات هو الإقرار بما وصف الله به نفسه أو وصفه به رسوله من الأسماء الحسنى والصفات العلا إثباتاً بدون تمثيل ولا تشبيه وتنزيهاً بدون تعطيل ولا تحريف ولا تأويل.(1/179)
ومن عدم التشبيه والتمثيل اعتقاد أن الله هو المتفرد بها لا يشركه فيها غيره وأسماء الله الحسنى وصفاته العليا الواردة في الكتاب والسنة كثيرة جداً نقتصر منها هنا على بعضها وهي العلم المحيط للغيب والشهادة، والسمع والبصر، وصفة المعية، والإرادة، والحياة، والقيومية، والجود، والكرم، والرحمة، وصفة العلو.
ومن شأن الدعاء أن يعتقد الداعي اتصاف المدعو بهذه الصفات واعتقاد الداعي أن الله هو المتفرد بها وأنه وحده هو المستحق للاتصاف بهذه الصفات هو من توحيد الأسماء والصفات، كما أن اعتقاده أن غير الله تعالى متصف بها- كاتصاف الله تعالى- يكون إلحاداً فيها وشركاً.
صفة العلم:
إن من شأن الدعاء أن يعتقد الداعي أن مدعوه يعلم بدعائه وأحواله وما هو فيه من الكرب والشدة والفاقة والهم والغم.
وإلا لو كان المدعو يجهل بدعائه وأحواله ومكانه لم يكن هناك فائدة في دعائه والاستغاثة به، إذ الإجابة لدعاء الداعي فرع عن علم المدعو بحاجة الداعي:(1/180)
فالداعي يعتقد أن المدعو عالم، وعلمه محيط بجميع الكائنات، وما تتحرك ذرة في السماء والأرض إلا وهو عالم بها ولا يخطر على البال خاطر إلا وهو يعلمه، ولا يختلج في النفس شيء إلا وهو مطلع عليه، ولا ينتاب الداعي نائبة، ولا تحدث له حادثة إلا وهو يعلمها، ولا يهجم عليه هم ولا غم ولا حزن إلا وهو مطلع عليه، وعالم به وبأسبابه وبما يرفع ذلك أو يخففه، فهذا العلم المحيط( ) الشامل للغيب والحاضر، صفة خاصة بالله تعالى، قال تعالى: ((وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ)) [الأنعام:59]. وقال عز من قائل: ((وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ)) [يونس:61].
وقال تعالى: ((قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ)) [النمل:65].
وقال عز من قائل: ((عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا. إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ...)) [الجن:26، 27].
فالاعتقاد بالعلم المحيط الشامل للكون علويه وسفليه من مقتضيات معنى الدعاء ولوازمه فلو قلنا جدلاً: إنه لا يلزم منه اعتقاد الداعي بالعلم المحيط للكون فلا بد أن نقول: إنه يلزمه أن يعتقد أن المدعو علمه محيط بالداعي وبحاله وخواطره.(1/181)
وذلك لأن الداعي لو لم يرسخ في ذهنه أن المدعو المستغاث به يعلم حاجته وسره وعلانيته وخواطره وهواجسه، وخلجات فؤاده وحركات أنفاسه ووساوس نفسه.
لو لم يرسخ في ذهنه هذا لما نادى واستغاث وطلب النجدة والإنقاذ ولما أتعب نفسه في التذلل والتضرع والابتهال، والانطراح بين يدي المسؤول، إذ إجابةُ الدعاء فرعٌ عن العلم بنداء الداعي واستغاثته وأحواله وحاجته لأن الجاهل بهذه الأمور لا يمكن إجابته كما لا يخفى.
وهذا التلازم الذي نقول به قد قال به الرازي وغيره ممن يعترف بكلامه المخالف، وهو تلازم واضح بين لا مفر منه، وسيأتي كلام الرازي وغيره في آخر هذا البحث.
ويؤكد هذا التلازم أيضاً ادعاء هؤلاء العلم بالغيب لمن يدعونهم، وادعاء الآخرين ذلك لأنفسهم، كما يؤكده شهادات كبار العلماء باعتقادهم ذلك، ويؤكده الواقع المشاهد من أحوال من يدعو غير الله تعالى.
فأما ادعاؤهم معرفة الغيب لأنفسهم فكثير جداً، فمن ذلك.
ما ذكره الطوسي في كتابه اللمع أنه سمع من شيخه أنه دخل على الشبلي( ) فكان يقول له ولمن معه أي الزائرين المريدين:
مروا أنا معكم حيث ما كنتم ... ... أنتم في رعايتي وفي كلأتي( )
وهذا واضح في ادعائه لعلم الغيب ولا ينفع فيه التأويل لأنه نص صريح لا يقبل التأويل.
وذكر القشيري عن الخضر أنه لقي في المدينة النبوية ولياً أعظم منه حتى قال الخضر: فعلمت أن لله عباداً لم أعرفهم( ) ومن المعلوم أن الخضر نبي على الراجح فإذا كان الولي أعلم منه فمعناه أنه مطلع على الغيب.
وذكر الشعراني عن أحدهم أنه كان يقول:
أعرف تلامذتي من يوم (ألست بربكم) وأعرف من كان في ذلك الموقف عن يميني ومن كان عن شمالي ولم أزل من ذلك اليوم أربي تلامذتي وهم في الأصلاب لم يحجبوا عني إلى وقتي هذا( ) أي أن علمه مستمر ومحيط بتلامذته، كما أنه متصرف فيهم قبل وجودهم!!!
هذه بعض الأمثلة لادعائهم لأنفسهم معرفة الغيب.(1/182)
وأما ادعاء مريديهم لهم ذلك فكثير أيضاً، فمن ذلك ما قاله صاحب الجواهر في شيخه التيجاني:
ومن كماله رضي الله عنه ونفوذ بصيرته الربانية، وفراسته النورانية التي ظهر مقتضاها في معرفة أحوال الأصحاب وفي غيرها من إظهار مضمرات، وإخبار بمغيبات، وعلم بعواقب الحاجات، وما يترتب عليها من المصالح والآفات، وغير ذلك من الأمور الواقعات...( ). ونقل صاحب الجواهر عن شيخه التيجاني أنه يذهب إلى ادعاء ثبوت العلم اللدني وأنه قال في قوله تعالى: ((فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا. إلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ...)) [الجن:27]: أو صديق أو ولي( ).
وهكذا زادوا في كتاب الله تعالى بدون حياء ولا خجل، وادعوا الكشف الإلهي وقراءة اللوح المحفوظ، إلى غير ذلك مما كان له أثر في التأثير على الناس في اعتقاد علم هؤلاء للغيب ومعرفتهم بالداعي وأحواله وابتهالاته. وهذا الاعتقاد الفاسد تسرب إلى بعض المسلمين بطريق المتصوفة وتسرب إلى المتصوفة من طريق الروافض، فإنهم قد ادعوا لأئمتهم معرفة الغيب، وغلوا في ذلك، فمن ذلك ما ادعوه لمهديهم الغائب من أنه قال في إحدى توقيعاته: نحن وإن كنا نائين بمكاننا النائي عن مساكن الظالمين... فإنا نحيط علماً بأنبائكم، ولا يعزب عنا شيء من أخباركم، ومعرفتنا بالذل الذي أصابكم... إنا غير مهملين لمراعاتكم ولا ناسين لذكركم ولولا ذلك لنزل بكم البلاء( ).(1/183)
وزعموا أيضاً أن علياً رضي الله عنه قال في الغائب: تسمع الكلام وتسلم على الجماعة ترى ولا ترى( )، وقال أحدهم مجيزاً دعاء غائبهم المنتظر: لا يخفى علينا أنه (ع) وإن كان مخفياً عن الأنام ومحجوباً عنهم ولا يصل إليه أحد ولا يعرف مكانه إلا أن ذلك لا ينافي ظهوره عند المضطر المستغيث به الملتجئ إليه الذي انقطعت عنه الأسباب، وأغلقت دونه الأبواب، فإن إغاثة الملهوف، وإجابة المضطر في تلك الأحوال، وإصدار الكرامات الباهرة، والمعجزات الظاهرة هي من مناصبه الخاصة كما يظهر من الحكايات المتعددة التي نقلها العلماء الأعلام رضوان الله عليهم في محالها، فعند الشدة وانقطاع الأسباب من المخلوقين وعدم إمكان الصبر على البلايا... يستغيثون به ويلتجئون إليه( ).
صفتا السمع والبصر:
ومن الصفات التي هي من مقتضيات الدعاء ولوازمه صفتا السمع والبصر العامين وذلك لأن من شأن الداعي أن يعتقد أن المدعو المنادى المستغاث به يسمع نداءه واستصراخه، ويرى تضرعه وتذلله وانطراحه بين يديه ومكانه في هذا العالم الفسيح المترامي الأطراف والمختلطة فيه أصوات المستغيثين ونداءات المضطرين وشكايات المضطهدين.
وهذا الاعتقاد من لوازم الدعاء ومقتضياته، فلهذا عاب إبراهيم- عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والتسليم- قومه لدعائهم الأصنام التي لا تسمع، قال تعالى: ((قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ. أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ)) [الشعراء:72، 73].(1/184)
فسماعُ أصوات الخلائق من البعد ليس إلا لله رب العالمين الذي يسمع أصوات العباد كلهم، قال تعالى: ((أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ)) [الزخرف:80]، وقال: ((مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ)) [المجادلة:7]، وليس أحد من البشر بل ولا من الخلق يسمع أصوات العباد كلهم، ومن قال هذا في بشر فقوله من جنس قول النصارى الذين يقولون: إن المسيح هو الله وإنه يعلم ما يفعله العباد ويسمع أصواتهم ويجيب دعاءهم( ).
والخلاصة أن اعتقاد الداعي بأن مدعوه يسمع مناجاته ونداءاته وأنه يراه ويرى تضرعه وانكساره وانطراحه بين يديه. هذا الاعتقاد من لوازم معنى الدعاء ومقتضياته، وأن الداعين لغير الله تعالى كثير منهم يعتقد ذلك فيمن يدعوه( )، وسنذكر إن شاء الله تعالى ذلك مفصلاً.
صفة المعية والقرب: ومن صفات الجلال والجمال التي يدل عليها الدعاء صفة قرب الله من عباده، قال تعالى: ((وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ)) [البقرة:186]، قيل في سبب نزولها: إنها نزلت في سائل سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: {يا محمد أقريب ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه؟ فأنزل الله: ((وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي...)) [البقرة:186] الآية}( )، هذا وإن صفة المعية من خصائص الله تعالى وليست كمعية المخلوق كما هو في باقي صفات الله تعالى، قال تعالى: ((لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ)) [الشورى:11].
وقد دل الدليل الصريح على دلالة الدعاء واستلزامه لصفة المعية في دعاء الله تعالى، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي: {يقول الله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا دعاني}( ).(1/185)
قال ابن كثير في معنى الحديث. وهذا كقوله تعالى: ((إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ)) [النحل:128]، وقوله لموسى وهارون عليهما السلام: ((إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى)) [طه:46]، والمراد من هذا أنه تعالى لا يخيب دعاء داع ولا يشغله عنه شيء بل هو سميع الدعاء ففيه ترغيب للدعاء وأنه لا يضيع لديه تعالى( ).
فالله سبحانه وتعالى قريب يسمع دعاء من دعاه، ولا يحتاج إلى واسطة تبلغه وترفع الأمر إليه أو تؤثر في إرادته ومشيئته أو واسطة تعينه أو تنوب عنه.
ثم هذا القرب الذي يحصل للداعي المخلص هو من أعظم أنواع القرب إلى الله تعالى، وهو قرب خاص.
قال الشوكاني: أعظم أنواع قرب العبد من الرب ما صرح به في الكتاب العزيز بقوله سبحانه: ((وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ)) [البقرة:186]( ).
وقال ابن القيم: إن هذا القرب المذكور في القرآن والسنة قرب خاص وهو غير قرب الإحاطة( ) وذكر شيخ الإسلام أيضاً أن القرب هنا خاص بحالة الدعاء وليس قرباً عاماً في جميع الأحوال( ).
والمقصود هنا إثبات أن الدعاء يقتضي ويستلزم اعتقاد الداعي أن المدعو قريب يسمع نداءه وأنه معه يعلم سره ونجواه، إذ لولا هذا لما وجه نداءه لمن ليس قريباً منه، فمن صرف الدعاء لغير الله تعالى يلزمه أن يعتقد هذا القرب له.
ومن الصفات التي هي من لوازم الدعاء صفة الحياة والقيومية:
إذ الميت أو النائم أو الغافل لا يستطيع التصرف لنفسه فكيف يغيث مضطراً وينقذ هالكاً؟
ولهذا التلازم عاب الله تعالى المشركين بدعائهم للأصنام التي ليس لها حياة فضلاً عن القوامة فقال: ((وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ. أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ)) [النحل:20، 21].(1/186)
وقد بقيت صفات كثيرة من لوازم الدعاء ومقتضياته، من ذلك صفة الإرادة المطلقة والجود والكرم والرأفة والرحمة والغنى وغيرها، إذ المتصف بأضدادها لا يرجى خيره ولا يطمع في إحسانه، ولا يتعرض لفضله ونواله.
ونكتفي بهذا القدر في تتبع الصفات التي يعتقدها الداعي للمدعو، أو هي لازمة لطبيعة الدعاء وإن لم يستحضرها الداعي عند الدعاء، وذلك لأن الذي ذكرناه يدل على ما بقي.
هذا ونؤخر الكلام على صفة العلو لطول الكلام عليها.
الخلاصة:
إن الدعاء من لوازمه ومقتضيات معناه: أن يكون المدعو متصفاً بصفات الكمال والجلال والجمال، ومن تلك الصفات: العلم المحيط والسمع والبصر والمعية والقرب والحياة والقيومية والإرادة والجود والكرم والرحمة... وهي صفات خاصة بالله تعالى ولا تليق لغيره..
فصرف الدعاء لغير الله تعالى يستلزم صرف هذه الصفات لذلك الغير وادعاءها له واعتقاد استحقاقه لها، فيكون شركاً في توحيد الأسماء والصفات، وكون الدعاء من لوازمه هذه الصفات، قد ذكرنا فيما سبق الأدلة على ذلك من الآيات، ومما يؤكد ذلك تصريح بعضهم بما يفيد ذلك من ادعاء ذلك لنفسه أو اعتقاده لغيره من المدعوين.
والآن نتبع ذلك بأقوال العلماء الذين قالوا بذلك التلازم لمطلق الدعاء، ثم بأقوال العلماء الذين ذكروا أن بعض الذين يدعون الأموات يعتقدون لهم علم الغيب والتصرف في الكون، والسمع والبصر العامين... إلخ.
أقوال الذين ذكروا أن الدعاء يستلزم الاعتقاد بصفات الجلال والكمال لله تعالى:
فمن العلماء الذين ذكروا هذا التلازم ابن القيم والرازي والزبيدي وابن أبي العز والزركشي وابن عقيل.
فقد ذكر ابن القيم رحمه الله أن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم -وهي كما تقدم نوع من الدعاء- تتضمن كل الإيمان (بل هي متضمنة للإقرار بوجود الرب المدعو، وعلمه، وسمعه، وقدرته، وإرادته وصفاته، وكلامه( ).(1/187)
وقال أيضاً: وحصول الإجابة عقيب السؤال على الوجه المطلوب دليل على علم الرب تعالى بالجزئيات وعلى سمعه لسؤال عبيده وعلى قدرته على قضاء حوائجهم وعلى رأفته ورحمته بهم( ).
وذكر الرازي في معرض شرحه للاستعاذة- وقد تقدم( ) أنها نوع من الدعاء- أنها لا تتم إلا بعلم العبد بعجزه عن جلب المنافع ودفع المضار وبعلمه أيضاً بأن الله المستعاذ به قادر على إيجاد المنافع ودفع المضار ولا يقدر على ذلك غيره فإذا حصل له هذا العلم بالله وبنفسه يحصل له التواضع والانكسار في القلب كما يحصل له طلب ذلك من الله باللسان.
وذكر الرازي أيضاً أنه يلزمه في الاستعاذة أن يعلم أن الله عالم بجميع المعلومات فإنه لو لم يكن كذلك لجاز أن لا يكون عالماً به ولا بأحواله فعلى هذا التقدير تكون الاستعاذة به عبثاً، ولا بد أن يعلم أيضاً كونه قادراً على كل شيء وإلا فربما كان عاجزاً عن تحصيل مراد العبد، ولا بد أن يعلم أنه جواد كريم إذ لو كان البخل عليه جائزاً لما كان في الاستعاذة به فائدة.
وبهذا الاعتقاد يعرف أن في الدعاء اعترافاً بعز الربوبية وذل العبودية.
ثم ذكر الرازي أن من الناس من يقول بعدم الحاجة إلى العلم بهذه اللوازم التي ذكرت ثم ذكر أن هذا ضعيف جداً لأن إبراهيم عليه السلام عاب أباه في قوله: ((لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا)) [مريم:42].
فبتقدير أن لا يكون الإله عالماً بكل المعلومات قادراً على كل شيء
كان سؤاله لمن لا يسمع ولا يبصر وكان داخلاً تحت ما جعله إبراهيم عيباً على أبيه( ).
وفي معنى كلام الرازي هذا قول الزبيدي: إن الدعاء يدل على قدرة الله وعجز الداعي( ).(1/188)
وقال ابن أبي العز شارح الطحاوية: إن من فوائد الدعاء العاجلة معرفة العبد بربه وإقراره به وبأنه سميع قريب قدير عليم رحيم، وإقراره بفقره إليه واضطراره إليه وما يتبع ذلك من العلوم العلية والأحوال الزكية التي هي من أعظم المطالب( ).
وذكر الزركشي أن من فوائد الدعاء إظهار العبودية والإقرار بالفقر والحاجة والاعتراف بالربوبية( ).
وذكر ابن رجب أن في السؤال إظهار الذل والمسكنة وفيه الاعتراف بقدرة المسؤول على رفع هذا الضر، ونيل المطلوب وجلب المنافع ودرء المضار( ).
ومن أصرح من وقفت على كلامه من العلماء الذين صرحوا باشتمال الدعاء على الاعتقاد بالصفات العليا أبو الوفا ابن عقيل الحنبلي فإنه قال: قد ندب الله إلى الدعاء وفيه معاني الوجود والغنى، والسمع، والكرم، والرحمة والقدرة، فإن من ليس كذلك لا يدعى، ومن يقول بالطبائع يعلم أن النار لا يقال لها: كفى ولا النجم لا يقال له: أصلح مزاجي لأن هذه عندهم مؤثرة طبعاً لا اختياراً، فشرع الدعاء والاستشفاء ليبين كذلك أهل الطبائع وقال: ((وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ)) [الحجر:21]، حتى لا يطلب إلا منه.
ثم أحب أن يظهر جواهر أهل الابتلاء فقال لذا: اذبح ولدك، وقرص هذا بالبلاء ليحملهم على الدعاء واللجاء( ).
فقد اتضح من كلام هؤلاء العلماء تضمن الدعاء لاعتقاد الداعي بهذه الصفات العليا التي هي من خصائص الله تعالى لا يشركه فيها غيره. فبهذا نعلم أن من صرف الدعاء للمخلوق أياً كان فقد صرف له هذه الصفات التي هي خاصة بالله تعالى، فبهذا يكون قد أشرك في توحيد الأسماء والصفات، ووصف غير الله تعالى بصفات هي من خصائص الله تعالى وصفاته، كما أن من أخلص لله تعالى في الدعاء فقد أخلص في توحيد الأسماء والصفات.
أقوال العلماء الذين ذكروا أن الداعين للأموات يعتقدون اتصافهم بمعرفة الغيب وغيرها من الصفات التي هي لأزمة لمن يستحق الدعاء:(1/189)
والعلماء الذين بينوا أن الداعين للأموات أو الغائبين يعتقدون لمن يدعونهم علم الغيب وسماع النداء والقدرة على النفع والضر - كثيرون منهم-:
1- المفسر الألوسي أبو الفضل محمود (ت:1270هـ) فإنه قال: ولا أرى أحداً ممن يقول ذلك- يشير إلى قولهم: يا سيدى فلان أغثني- إلا وهو يعتقد أن المدعو الحي الغائب أو الميت المغيب يعلم الغيب أو يسمع النداء ويقدر بالذات أو بالغير على جلب الخير ودفع الأذى، وإلا لما دعاه ولا فتح فاه( ).
وذكر الألوسي أيضاً أن ممن يندرج في قوله تعالى: ((وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ)) [يوسف:106]، عبدة القبور الناذرون لها المعتقدون للنفع والضر( ) فقد وصفهم الألوسي باعتقاد النفع والضر.
2- والعالم المجاهد محمد إسماعيل الدهلوي الملقب بالشهيد (ت:1247هـ) فإنه ذكر الذين يقولون: يا سيدنا ادعُ الله لنا وأنهم يظنون أنهم ما أشركوا لأنهم على زعمهم لم يطلبوا منهم قضاء الحاجات، وإنما طلبوا منهم الدعاء فقط.
ثم قال: وهذا باطل فإنهم وإن لم يشركوا عن طريق طلب قضاء الحاجات فإنهم أشركوا عن طريق النداء، فقد ظنوا أنهم يسمعون نداءهم عن بعد كما يسمعون نداءهم عن قرب( ).
فقد صرح الدهلوي رحمه الله باعتقادهم لمدعويهم السمع الذي لا يليق إلا بالله تعالى وأنهم ما صرفوا الدعاء للولي لولا هذا الاعتقاد.
3- والشيخ عبد الرحمن بن عبد اللطيف بن حسن (ت:1285هـ) فإنه قال تعليقاً على قول البوصيري:
يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به ... ... سواك عند حدوث الحادث العمم(1/190)
قال: ولا ريب أن هذا الدعاء الذي دعاه البوصيري واستغاث فيه بالنبي صلى الله عليه وسلم يقتضي إثبات قدرة عامة، وعلم عام وسمع محيط لا سيما إن كان من يدعو الصالحين ويسألهم جعل ذلك ديدنه في كل زمان ومكان وإن بعدت الديار وتناءت الأقطار وإن زعم أنه لم يثبت قدرة ولا علماً ولا سمعاً عاماً محيطاً لا يليق بالمخلوق فهو مكابر ملبوس عليه ثم في ذلك من الخضوع والذل والمحبة والإنابة ما هو من خالص العبادة ولبها فكيف جاز صرفه لغير الله؟( ).
وقال أيضاً: بل من دعاهم فهو يرى ويعتقد أن لأرواحهم قدرةً وعلماً بحاله وسمعاً ليس من جنس قدرة العباد وعلمهم وسمعهم( ).
4- والشيخ عبد الحي بن عبد الحليم اللكنوي (ت:1304هـ) فقد ذكر أنه يلزم الاحتراز عن مثل الورد المشهور وهو ورد: يا شيخ عبد القادر جيلاني شيئاً لله. وعلل ذلك بأن بعض الفقهاء حكم بكفر قائله ثم علله أيضاً بأن هذا الورد يتضمن نداء الأموات من أمكنة بعيدة، لم يثبت شرعاً أن الأولياء لهم قدرة على سماع النداء من أمكنة بعيدة ثم ذكر أن من اعتقد أن غير الله تعالى حاضر وناظر وعالم للخفي والجلي في كل وقت وفي كل آن فقد أشرك، وذكر أن اعتقاد أن عبد القادر يعلم أحوال مريديه في كل وقت، ويسمع نداءهم من عقائد الشرك( ).
5- والشيخ محمد بشير السهسواني (ت:1326هـ) فإنه قال: فنداء الميت بعيداً من القبر، وكذا نداء الغائب يقتضي اعتقاد علم الغيب لذلك الميت والغائب( ).
وذكر أيضاً أن المستغيثين بالأموات والغائبين يعتقدون أنهم يعلمون استغاثتهم، ويسمعون دعاءهم من كل مكان وفي كل زمان وأن هذا إثبات لعلم الغيب لهم( ).(1/191)
6- والشيخ حافظ الحكمي (ت:1377هـ) فقد ذكر تلازم أنواع التوحيد الثلاثة وتلازم بعضها لبعض وأنها لا ينفك بعضها عن بعض وأن الشرك في نوع منها يلزم منه الشرك في الباقي، ثم قال: مثال ذلك في هذا الزمن عباد القبور إذا قال أحدهم: يا شيخ فلان- لذلك المقبور- أغثني أو افعل لي كذا ونحو ذلك يناديه من مسافة بعيدة وهو مع ذلك تحت التراب وقد صار تراباً، فدعاؤه إياه عبادة صرفها له من دون الله لأن الدعاء مخ العبادة، فهذا شرك في الإلهية، وسؤاله إياه تلك الحاجة من جلب خير أو دفع ضر أو رد غائب، أو شفاء مريض أو نحو ذلك مما لا يقدر عليه إلا الله معتقداً أنه قادر على ذلك هذا شرك في الربوبية حيث اعتقد أنه متصرف مع الله تعالى في ملكوته، ثم إنه لم يدعه هذا الدعاء إلا مع اعتقاده أنه يسمعه على البعد والقرب في أي وقت كان وفي أي مكان ويصرحون بذلك وهذا شرك في الأسماء والصفات حيث أثبت له سمعاً محيطاً بجميع المسموعات لا يحجبه قرب ولا بعد فاستلزم هذا الشركُ في الإلهية الشركَ في الربوبية والأسماء والصفات( ).
7- والشيخ علي محفوظ الحنفي صاحب كتاب الإبداع (ت:1361هـ) فإنه ذكر أن العوام إذا نزل بهم أمر خطير في البر أو البحر تركوا دعاء الله ونادوا بعض الأولياء كالبدوي والدسوقي وزينب، ثم قال: معتقدين أنهم يتصرفون في الأمور ولا تسمع منهم أحداً يخص مولاه بتضرع ودعاء وقد لا يخطر له على بال أنه لو دعا الله وحده ينجو من تلك الشدائد( ).(1/192)
والحاصل أنه قد تبين مما سبق أن الدعاء يستلزم اعتقاد الداعي لمدعوه صفات الكمال والجلال التي لا تليق لغير الله تعالى من العلم المحيط والقدرة المطلقة والتصرف المطلق والسمع وغير ذلك، كما تبين أن كثيراً من العلماء صرحوا بالتلازم بين الدعاء وبين هذا الاعتقاد كما صرحوا أن من يدعو غير الله تعالى يعتقد فيمن يدعوه هذه الصفات سواء اعترف بهذه الحقيقة أو كابر عقله وتأول بأنه لا يعتقد ذلك، فالحقيقة ثابتة لا يغيرها إنكار المكابر المعاند. هذا ومن الصفات التي يدل عليها الدعاء صفة العلو وكان اللائق أن تذكر مع ما تقدم من الصفات ولكن أخرناها لطول الكلام عليها ونذكرها الآن وبالله التوفيق وعليه التكلان.
دلالة الدعاء على علو الله تعالى:
اتفق بنو آدم على اختلاف مللهم ونحلهم وعاداتهم وتقاليدهم على مر الدهور والأزمان وتباعد الأوطان- إلا من فسدت فطرته وانطمست بصيرته- على اعتقاد علو الله تعالى.
فعقيدة علو الله أمر فطري، فطر الله الناس عليها بخلاف استواء الله على عرشه فهو أمر سماعي، دلت الأدلة السمعية القطعية على ثبوته لله تعالى( ).
وأما العلو فهو فطري ضروري ثبت بالفطرة قبل الأدلة السمعية فجاءت الأدلة السمعية فزادته برهاناً على برهان، ويقيناً على يقين.(1/193)
ولكون العلو أمراً فطرياً نجد البشر على اختلاف مستوياتهم في المعرفة، واختلاف لغاتهم وتباعد أوطانهم وتباين عاداتهم وتقاليدهم اتفقوا على التوجه بالدعاء إلى السماء ورفع الأيدي إليها، لا يختلف في ذلك مسلمهم وكافرهم عربيهم وعجميهم عالمهم وجاهلهم، وما ذلك إلا أنه أمر فطري ضروري، فكما أن معرفتهم بخالقهم أمر فطري، ومعرفتهم بحاجتهم وافتقارهم إليه، وأنه القادر على إجابة دعائهم ورغباتهم أمر فطري، فكذلك اعتقادهم العلو أمر فطري؛ انظر إلى من وقع في كرب عظيم تجده يتجه مباشرة بفطرته إلى جهة السماء قلباً وقالباً ظاهراً وباطناً يرفع يديه إلى السماء في الظاهر، ويتجه بفكره وقلبه نحو السماء يتطلع نحوها وينتظر الفرج من جهتها لا من الجهة السفلى ولا من الجهات الأخرى، فهذه المعرفة الفطرية تزداد قوة على قوة عند بعض الناس وقد تضعف عند من اجتالتهم شياطين الإنس والجن بالشبهات والشكوك، قال الله تعالى في حديث قدسي: {وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم}( ).
ومع هذه الشبهات تجد أحدهم إذا وقع في شدة وكرب يرجع إلى فطرته ويتجه نحو السماء بدافع باطني قوي لا تستطيع الشبهات أن تمنعه وتعارضه لأنه أمر ضروري لا تستطيع الشكوك دفعه ولا مقاومته.
وكلما أكثر العبد من الدعاء ازداد علمه الضروري بعلو الله تعالى.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: وأما كونه عالياً على مخلوقاته بائناً منهم فهذا أمر معلوم بالفطرة الضرورية التي يشترك فيها جميع بني آدم، وكل من كان بالله أعرف، وله أعبد، ودعاؤه له أكثر، وقلبه له أذكر، كان علمه الضروري بذلك أقوى وأكمل، فالفطرة مكفلة بالشريعة المنزلة فإن الفطرة تَعلَم الأمر مجملاً، والشريعة تفصله وتبينه( ).(1/194)
وذلك أن الرسل صلوات الله عليهم بعثوا بتكميل الفطرة وتقريرها لا بتبديل الفطرة وتغييرها، قال تعالى: ((فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ)) [الروم:30]. ومن هنا جاءت الشريعة برفع الأيدي في الدعاء إلى جهة العلو تكميلاً لما عليه الفطرة من اعتقاد العلو( ) لأن الله تعالى قد فطر العباد -عربهم وعجمهم- على أنهم إذا دعوا الله توجهت قلوبهم إلى العلو، ولا يقصدونه تحت أرجلهم، فهذه الفطرة تدفع شبهات أهل الحلول والتعطيل( ).
والمقصود أن الإكثار من الدعاء يزيد الفطرة قوة ويصقلها ويجليها مما علق بها لاسيما فيما يتعلق باعتقاد علو الله تعالى، كما أن الإيمان بالعلو يجعل العبد يتجه بقلبه إلى الله تعالى بخلاف من لا يؤمن بذلك فإن اتجاهه بالقلب إلى الله يكون ناقصاً ضعيفاً، قال الجويني والد إمام الحرمين أبو محمد عبد الله بن يوسف (ت:438هـ) في رسالته القيمة في إثبات الاستواء والفوقية: العبد إذا أيقن أن الله تعالى فوق السماء عالي على عرشه بلا حصر ولا كيفية وأنه الآن في صفاته كما كان في قدمه، صار لقلبه قبلة في صلاته، وتوجهه ودعائه، ومن لا يعرف ربه بأنه فوق سماواته على عرشه فإنه يبقى ضائعاً لا يعرف وجهة معبوده( ).
وقد تبين من كلام الجويني أن الإيمان بعلو الله تعالى يجعل القلب مطمئناً غير حائر بخلاف من لم يؤمن بذلك فإنه يعيش في حيرة وارتياب وشك، وقد حكى شيخ الإسلام اتفاق أهل المعرفة بالله على أن معرفة العبد بربه وتوجهه إليه ودعاءه له لا يتم بدون الإقرار بعلو الله تعالى وأن الإقرار بذلك يثبت الإلهية في القلب ويوحد قصده، وأما بدون تلك المعرفة فيبقى مضطرباً عنده نوع من الريب والاضطراب( ).(1/195)
وقد قرر العلماء دلالة الفطرة على علو الله تعالى على أبلغ وجه وكثر كلامهم في بيان ذلك وقد نقل المحققون من أهل العلم كلام العلماء في ذلك وبيانهم لاتفاق الناس على اعتقاد ذلك.
وإليك خلاصة( ) كلام هؤلاء المحققين الذين ذكروا دلالة توجه البشر بالدعاء إلى السماء ورفع الأيدي إليها على علو الله تعالى:
قال العلماء: إن العلم بالعلو أمر فطري ضروري مستقر في فطر بني آدم لا يختص به أهل الملل والشرائع.
كما أن قصدهم لربهم عند الحاجات التي لا يقضيها إلا هو هو أيضاً أمر ضروري.
وكذلك قصدهم لله تعالى بتوجه قلوبهم إلى العلو أيضاً أمر ضروري، فهم مفطورون على الإقرار به وأنه في العلو، وعلى أنهم محتاجون إليه يسألونه عند الضرورات، وعلى أنهم يقصدونه في العلو لا في السفل وأن قلوبهم بفطرتها تتوجه إلى العلو. وإنما قلنا: إن علمهم بهذا ضروري لأنه يلزم نفوس بني آدم لزوماً لا يمكنهم الانفكاك عنه أعظم من لزوم العلم الضروري بالأمور الحسابية ككون الواحد ثلث الثلاثة، لأن هذا علم مجرد ليسوا مضطرين إليه، فقد لا يخطر ذلك ببال أحدهم، وأما هذا العلم فهم مع كونهم مضطرين إليه مضطرون أيضاً إلى موجبه ومقتضاه، وهو الدعاء والسؤال للمدعو الذي هو فوق.
وهذا أمر متفق عليه بين العقلاء السليمي الفطرة، فأما الذين لا يجدون في أنفسهم علماً ضرورياً وقصداً ضرورياً لمن هو فوق العالم فقد مرضت قلوبهم وفسدت فطرتهم ففسد إحساسهم الباطن كما يفسد الإحساس الظاهر كالمرة التي تفسد الذوق، فالعبرة بذوي الفطرة السليمة من الفساد، فهؤلاء متفقون على ذلك وكل منهم يخبر بذلك عن فطرته من غير مواطأة من بعضهم لبعض.
ويمتنع في مثل هؤلاء أن يتفقوا على تعمد الكذب عادة، فإن إجماع المسلمين حجة فكيف بإجماع جميع الأمم والطوائف مع اختلاف أجناسهم وبلدانهم ولغاتهم؟؟(1/196)
ويمتنع أيضاً غلطهم في الأمور الفطرية الضرورية، فإن ذلك يسد باب العلم والمعرفة وأن يثق الإنسان بشيء من علومه فيستلزم القدح في جميع العلوم والمعارف.
أقوال العلماء الذين صرحوا بدلالة الدعاء على العلو:
قد صرح كثير من علماء الإسلام بدلالة الدعاء على علو الله جل وعلا ونذكر أقوال بعض العلماء الذين صرحوا بذلك.
قال أبو حنيفة رحمه الله عندما سئل عمن يقول: لا أدري العرش في السماء أم في الأرض؟ قال: هو كافر، لأنه أنكر أن يكون في السماء لأنه تعالى في أعلى عليين، وأنه يُدعَى من أعلى لا من أسفل( ).
فقد صرح أبو حنيفة رحمه الله بأن الاتجاه في الدعاء إلى العلو يدل على علو الله تعالى.
وقد ذكر مثل ذلك أبو محمد عبد الله بن سعيد بن كلاب حيث ذكر أن الله سبحانه وتعالى قد غرس في الفطرة ومعارف الآدميين الاعتقاد بالعلو، وأنه لا شيء أبين منه ولا أوكد: لأنك لا تسأل أحداً من الناس عربياً ولا أعجمياً ولا مؤمناً ولا كافراً فتقول أين ربك؟ إلا قال في السماء أفصح أو أومأ بيده... ولا رأينا أحداً إذا دعاه إلا رافعاً يده إلى السماء ولا وجدنا أحداً غير الجهمية يسأل عن ربه فيقول: في كل مكان كما يقولون....
فقد ذكر ابن كلاب في هذا الكلام أن العلم بأن الله فوق، فطري مغروس في فطر العباد، اتفق عليه عامتهم وخاصتهم، وأنه لم يخالف الجماعة في ذلك إلا نفر قليل( ).
وقال ابن قتيبة أبو محمد عبد الله بن مسلم (ت:276هـ) في معرض إثبات العلو: ولو أن هؤلاء رجعوا إلى فطرهم وما ركبت عليه خلقتهم من معرفة الخالق لعلموا أن الله تعالى هو العلي وهو الأعلى... وأن الأيدي ترفع بالدعاء إليه... والأمم كلها عربيها وعجميها تقول: إن الله تعالى في السماء ما تركت على فطرها ولم تنقل عن ذلك بالتعليم( ).
وقال عثمان بن سعيد الدارمي المتوفى (282هـ):(1/197)
وقد اتفقت الكلمة من المسلمين والكافرين أن الله في السماء، وحدوه بذلك إلا المريسي الضال وأصحابه، حتى الصبيان الذين لم يبلغوا الحلم، قد عرفوه بذلك، إذا حزب الصبي شيء يرفع يديه إلى ربه يدعوه في السماء دون ما سواها( ).
وله مثل هذا الكلام في موضع آخر( ).
وقال محمد بن عثمان بن أبي شيبة العبسي (ت:297هـ):
وأجمع الخلق جميعاً إذا دعوا الله جميعاً أنهم رفعوا أيديهم إلى السماء، فلو كان الله عز وجل في الأرض السفلى ما كانوا يرفعون أيديهم إلى السماء وهو معهم في الأرض( ).
وقد عقد أبو بكر ابن إسحاق بن خزيمة المتوفى (311هـ) باباً في كتاب التوحيد فقال: باب ذكر البيان أن الله عز وجل في السماء كما أخبرنا في محكم تنزيله وعلى لسان نبيه وكما هو مفهوم في فطرة المسلمين، علمائهم وجهالهم وأحرارهم ومواليهم ذكرانهم وإناثهم بالغيهم وأطفالهم، كل من دعا الله جل وعلا فإنما يرفع رأسه إلى السماء ويمد يديه إلى الله إلى أعلاه لا إلى الأسفل( ).
وابن خزيمة رحمه الله إمام من أئمة المسلمين الذين دافعوا عن نقاء العقيدة وصفائها وبذلوا جهوداً عظيمة في سبيل ذلك وهو إذ يخبر عن دلالة الفطرة على العلو وإجماع الناس على ذلك، إنما يخبر عن قضية مسلمة لدى البشر لا يختلف في ذلك إلا من فسدت فطرته بالشبهات، وليس هذا خاصاً بابن خزيمة المعروف بمواقفه السلفية، بل غيره اعترف بذلك، والمعترفون بهذا كثيرون ومن أولئك:
الإمام الأشعري (ت:324هـ) الذي ينتسب إلى مذهبه الأشاعرة المتأخرون الذين خالفوا مذهبه الأخير فقد قال الأشعري مستدلاً على علو الله تعالى: ورأينا المسلمين جميعاً يرفعون أيديهم إذا دعوا نحو السماء لأن الله تعالى مستو على العرش الذي هو فوق السماوات، فلولا أن الله عز وجل على العرش لم يرفعوا أيديهم نحو العرش، كما لا يحطونها إذا دعوا إلى الأرض( ).(1/198)
وقال أبو سليمان الخطابي (ت:388هـ): وقد جرت عادة المسلمين خاصتهم وعامتهم أن يدعوا ربهم عند الابتهال والرغبة إليه ويرفعوا أيديهم إلى السماء، وذلك لاستفاضة العلم عندهم بأن المدعو في السماء سبحانه وتعالى( ).
فقد نسب الخطابي هذا إلى عامة المسلمين فقط والصواب أنه عادة عامة للمسلم والكافر لأنه أمر فطري ضروري كما تقدم.
ولهذا قال أبو يعلى محمد بن الحسين بن الفراء شيخ الحنابلة (ت:458هـ): إن كل عاقل من مسلم وكافر إذا دعا فإنما يرفع يديه ووجهه إلى نحو السماء( ).
وقال حافظ المغرب أبو عمر ابن عبد البر (ت:463هـ) في كتابه التمهيد في معرض بيان استواء الله على عرشه: ومن الحجة أيضاً في أنه عز وجل على العرش فوق السماوات السبع أن الموحدين أجمعين من العرب والعجم إذا كربهم أمر أو نزلت بهم شدة رفعوا وجوههم إلى السماء، يستغيثون ربهم تبارك وتعالى، وهذا أشهر وأعرف عند الخاصة والعامة من أن يحتاج فيه إلى أكثر من حكايته، لأنه اضطرار لم يؤنبهم عليه أحد ولا أنكره عليهم مسلم( ).
وقال أبو بكر محمد بن الطيب الباقلاني الأشعري المتكلم المشهور (ت:403هـ): فإن قالوا: فهل تقولون: إنه في كل مكان؟ قيل: معاذ الله بل هو مستو على العرش... إلى أن قال: ولو كان في كل مكان لكان في جوف الإنسان وفمه وفي الحشوش والمواضع التي يرغب عن ذكرها تعالى عن ذلك... إلى أن قال: ولصح أن يرغب إليه إلى نحو الأرض وإلى وراء ظهورنا وعن أيماننا وشمائلنا، وهذا ما أجمع المسلمون على خلافه وتخطئة قائله( ).
هذا وقد صرح بهذه الحقيقة كثير من المحققين من غير من تقدم منهم قوام السنة ويحيى بن عمار السجزي وابن قدامة وغيرهم رحمهم الله( ).(1/199)
هذا ومما يقرر كون رفع الأيدي إلى السماء يدل على العلو وأن ذلك أمر ضروري. القصة التي وقعت للهمذاني محمد بن أبي علي الحسن بن محمد (ت:531هـ) وهي أنه قال: سمعت أبا المعالي الجويني - وهو عبد الملك بن عبد الله بن يوسف إمام الحرمين (ت:478هـ) - وقد سئل عن قوله تعال: ((الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى)) [طه:5] فقال: كان الله ولا عرش، وجعل يتخبط في الكلام وقلت: قد علمنا ما أشرت إليه فهل عندك للضرورات من حيلة؟ فقال: ما تريد بهذا القول وما تعني بهذه الإشارة؟ فقلت: ما قال عارف قط يا رباه إلا قبل أن يتحرك لسانه قام من باطنه قصد لا يلتفت يمنةً ولا يسرةً يقصد الفوق، فهل لهذا القصد الضروري عندك من حيلة فنبئنا نتخلص من الفوق والتحت؟ وبكيت وبكي الخلق، فضرب الأستاذ بكمه على السرير وصاح: يا للحيرة وخرق ما كان عليه وانخلع، وصارت قيامة في المسجد ونزل، ولم يجبني إلا يا حبيبي الحيرة الحيرة والدهشة الدهشة، فسمعت بعد ذلك أصحابه يقولون: سمعناه يقول: حيرني الهمذاني( ).
فهذا الشيخ الهمذاني قد استدل على علو الله تعالى بما يجده الداعي من ضرورة في اعتقاد العلو عند الدعاء حتى لا يمكن دفعها بأي وسيلة فهي أكبر برهان، فلهذا لم يستطع الجويني مع ذكائه وعلمه الرد عليها..
شبهة في دلالة الدعاء على العلو:
هذا ومع اتفاق العقلاء على اعتقاد العلو في جميع أحوالهم لا سيما عند الاضطرار، وجد من ينكر( ) ذلك ويكابر حسه وعقله ويورد بعض الشبهات على ذلك وحاصل شبهاتهم تدور على أربعة أمور:
1- أن الرفع إلى السماء إنما هو لأن السماء محل الأنوار من الشمس والقمر والكواكب والهواء ونزول الغيث، وهذه الأمور هي أرزاقنا، فنحن نحتاج إليها.
2- أن السماء قبلة للدعاء كما أن الكعبة قبلة للصلاة.
3- أن الملائكة في السماء وهي وسائط جعلها الله لمصالح عباده فترفع الأيدي إليهم لا إلى الله تعالى.(1/200)
4- ثم اعترضوا بوضع الجبهة على الأرض وقالوا: فكما أنه لا يدل على أن الله في الأرض فكذلك رفع الأيدي إلى السماء لا يدل على أن الله في السماء.
وقد ناقش العلماء المحققون هذه الشبهات وبينوا بطلانها بأوجه كثيرة( ) نذكر بعضها إن شاء الله تعالى.
مناقشة قولهم الأول( ):
1- لو كان السبب في رفع الأيدي إلى السماء هو حاجتنا إلى النعم والأرزاق التي من جهتها -كما زعموا- لكانت الأرض وما فيها تستحق ذلك لكثرة حاجتنا إليها من القرار عليها وما تخرج من الأرزاق، وقد نهي عن النظر إلى السماء في الصلاة دون الأرض كما ورد ذلك في السنة الصحيحة وذلك لأن الخشوع يكون بخفض البصر ولو كانت الجهات مستوية لما نهي عن ذلك.
2- ثم الاحتجاج إنما هو برفع الأيدي حين الدعاء وذلك لأن الذين يدعون غير الله يرفعون أيديهم نحو مدعوهم، فالذين يدعون الشمس والقمر والكواكب أو القبر أو الصنم يتجهون إلى ذلك المعبود ويمدون أيديهم إليه.
مناقشة قولهم: إن السماء قبلة للدعاء( ):
1- إن هذا قول لم يقله أحد من السلف ولا أنزل الله به من سلطان ثم هو مخالف لإجماع المسلمين.
2- إن قبلة الدعاء هي قبلة الصلاة، فإنه يستحب للداعي أن يستقبل القبلة كما ذكرنا ذلك في آداب الدعاء، وليس هناك قبلتان إحداهما للصلاة والأخرى للدعاء، ومن المعلوم أن الصلاة فيها الدعاء في الفاتحة وغيرها والدعاء نفسه صلاة كما تقدم بيان ذلك.
3- إن القبلة هي ما يستقبله العابد بوجهه كما يستقبل المصلي الكعبة، وكما يوجه المحتضر والمدفون، فالاستقبال بالوجه ضد الاستدبار، فأما ما حاذه الإنسان برأسه أو يديه فهذا لا يسمى قبلة، فلو كانت السماء قبلة الدعاء لكان المشروع للداعي أن يوجه وجهه إليها وهذا لم يشرع.(1/201)
4- إن القبلة أمر تتميز به الملل ويقبل النسخ والتبديل، قال تعالى: ((وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ)) [البقرة:145].
وأما الرفع إلى السماء فلم تختلف فيه الملل وبنو آدم عربهم وعجمهم.
5- إن القبلة أمر توقيفي وليس أمراً ضرورياً والناس لم يفعلوا الرفع إلى السماء عن توقيف لأنه من المعلوم أنهم يفعلون ذلك بفطرتهم وعقولهم من غير أن يوقفهم أحد ولا تلقوه عن أحد.
وأما قولهم: إن الإشارة قد تكون إلى الملائكة التي هي مدبرة أمر العباد فالجواب( ) عنه كالتالي:
1- إشارة الإنسان إلى الشيء مشروطة بشعوره به، وقصدِ الإشارة إليه، فإن لم يشعر به ولم يقصد الإشارة إليه فمحال أن يشير إليه، والداعون لله مخلصين له الدين لا تخطر لهم الملائكة في تلك الحال فضلاً عن أن يقصدوا الإشارة إليها.
2- الإشارة إلى الملائكة حين دعاء الله وحده لا شريك له، إشراك بالله، بل دعاء الملائكة ومسألتهم إشراك بالله فكيف بالإشارة إليهم حين دعاء الله وحده؟؟
3- ثم إنه لا يجوز لأحد أن يرفع يديه داعياً لا إلى الملائكة ولا إلى غير الملائكة بل هذا من خصائص الربوبية، ومن أجاز رفع الأيدي عند الدعاء إلى غير الله فهو من المشركين الذين يدعون غير الله تعالى.
مناقشة اعتراضهم( ) بوضع الجبهة على الأرض:
1- إن وضع الجبهة على الأرض لم يتضمن قصدهم لأحد في السفل بل السجود بها يعقل أنه تواضع وخضوع للمسجود له لا طلب وقصد ممن هو في السفل بخلاف رفع الأيدي إلى العلو عند الدعاء، فإنهم يقصدون به الطلب ممن هو في العلو والاستدلال إنما هو بقصدهم القائم بقلوبهم، وما يتبعه من حركات أبدانهم، والداعي يجد من قلبه معنى يطلب العلو، والساجد لا يجد من قلبه معنى يطلب السفل بل الساجد أيضاً يقصد في دعائه العلو، فقصد العلو عند الدعاء يتناول القائم والقاعد والراكع والساجد.(1/202)
2- إنه لو قدر أن أحدهم يدعو صنماً أو غيره مما يكون على الأرض، لكان توجه قلبه ووجهه وبدنه إلى جهة معبوده الذي يسأله ويدعوه كما يفعله النصارى في كنائسهم فإنهم يتوجهون إلى الصورة التي في الحيطان وكذلك من يقصد الموتى في قبورهم فإنه يوجه قصده وعينه إلى من في القبر، فإذا قدر أن القبر أسفل منه توجه إلى أسفل فعلم بذلك أن الخلق متفقون على أن توجيه القلب والعين واليد عند الدعاء إلى جهة المدعو فلما كانوا يوجهون ذلك إلى السماء علم إطباقهم على أن الله في جهة السماء.
3- إن الواحد منهم إذا اجتهد في الدعاء حال سجوده يجد قلبه يقصد العلو مع أن وجهه يلي الأرض فعلم أن القلوب حال الدعاء لا تقصد إلا العلو، وأما الوجوه والأيدي فيتنوع حالها تارة تكون في حالة السجود إلى جهة الأرض لكون ذلك غاية الخضوع، وتارة تكون حال القيام مطرقة لكون ذلك أقرب إلى الخشوع، وتارة تتوجه إلى السماء لتوجه القلب.
ونختم هذا البحث بما ذكره ابن القيم رحمه الله في النونية من اتفاق الثقلين على العلو ودلالة الفطرة عليه وأن الشبهات لا تستطيع مقاومتها. فقال:
وعلوه فوق الخليقة كلها ... ... فطرت عليه الخلق والثقلان
لا يستطيع معطل تبديلها ... ... أبداً وذلك سنة الرحمن
كل إذا نابه أمر يرى ... ... متوجهاً بضرورة الإنسان
نحو العلو فليس يطلب خلفه ... ... وأمامه أو جانب الإنسان
ونهاية الشبهات تشكيك ... ... وتخميش وتغبير على الإيمان
لا يستطيع تعارض المعلوم والـ ... ... ـمعقول عند بدائه الإنسان
فمن المحال القدح في المعلوم ... ... بالشبهات هذا بين البطلان
وإذا البدائه قابلتها هذه ... ... الشبهات لم تحتج إلى بطلان( )
المطلب الثالث: في علاقة الدعاء بتوحيد العبادة، ومنزلة الدعاء من بين سائر العبادات:(1/203)
علاقة الدعاء بتوحيد العبادة جلية واضحة، إذ الدعاء بنوعيه هو العبادة كما صح بذلك الخبر عن المصطفى صلوات الله وسلامه عليه، فتوحيد العبادة والإلهية هو إفراد الله تعالى بالعبادة، والعبادة هي الدعاء فمن أفرد الله بالدعاء فقد وَحَّدَ الله في عبادته، ومن صرف الدعاء لغير الله تعالى فقد أشرك في توحيد العبادة والألوهية.
ولكون الدعاء هو العبادة التي خلقنا من أجلها، صارت له مكانة عظيمة ومنزلة سامية ودرجة رفيعة، وهذه المكانة يمكن إيجازها في الأوجه التالية:
1- مما يبين مكانة الدعاء العظيمة ومنزلته الرفيعة، افتتاح القرآن الكريم واختتامه بالدعاء، فقد بدأ الله تعالى كتابه العزيز بسورة الفاتحة التي هي مشتملة على نوعي الدعاء: دعاء الثناء والعبادة، ودعاء المسألة والطلب، ثم اختتمه بمثل ما افتتح به وهو سورة الإخلاص والمعوذتان، فسورة الإخلاص في دعاء الثناء، والمعوذتان في دعاء المسألة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
وأما سورة الإخلاص والمعوذتان، ففي الإخلاص الثناء على الله، وفي المعوذتين دعاء العبد ربه ليعيذه، والثناء مقرون بالدعاء، كما قرن بينهما في أم القرآن المقسومة بين الرب والعبد نصفها ثناء للرب ونصفها دعاء للعبد.(1/204)
وقد ختم المصحف بحقيقة الإيمان، وهو ذكر الله ودعاؤه كما بنيت عليه أم القرآن، فإن حقيقة الإنسان المعنوية هو المنطق، والمنطق قسمان: خبر، وإنشاء، وأفضل الخبر وأنفعه وأوجبه ما كان خبراً عن الله كنصف الفاتحة وسورة الإخلاص، وأفضل الإنشاء الذي هو الطلب، وأنفعه وأوجبه، ما كان طلباً من الله كالنصف الثاني من الفاتحة والمعوذتين( ). وقال القرطبي: قال بعض العلماء: فجعل الله- جل وعز- عظم الدعاء وجملته موضوعاً في هذه السورة، نصفها فيه مجمع الثناء، ونصفها فيه مجمع الحاجات وجعل هذا الدعاء الذي في هذه السورة أفضل من الذي يدعو به الداعي، لأن هذا الكلام قد تكلم به رب العالمين، فأنت تدعو بدعاء هو كلامه الذي تكلم به، وفي الحديث: {ليس شيء أكرم على الله من الدعاء}( ) ( ).
فتبين مما سبق مدى عناية القرآن الكريم بالدعاء وافتتاحه به واختتامه به وهذا دليل واضح على منزلة الدعاء ومكانته.
2- إن الله سبحانه وتعالى قد سمى الدعاء الدين، في غير موضع من كتابه.
قال تعالى: ((وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ)) [لقمان:32].
وقال سبحانه: ((فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ)) [العنكبوت:65]. وقال جل جلاله: ((هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ)) [يونس:22].
وقال عز من قائل: ((فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ)) [غافر:14].(1/205)
وقال جل ثناؤه: ((هُوَ الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)) [غافر:65].
وقال تبارك وتعالى: ((قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ)) [الأعراف:29].
ففي هذه الآيات سمى الله الدعاء ديناً فأخبر في الآيات الثلاث الأول أن المشركين يخلصون له الدين في الشدائد، وأمر في الآيات الثلاث الأخيرة بإخلاص الدين له، والدين معناه دعاء المسألة في الثلاث الأول وذلك واضح من سياق الآيات.
وأما الثلاثة الأخيرة فتحتمل المعنيين، دعاء العبادة ودعاء المسألة، فيكون مما استعمل الدعاء فيه في المعنيين جميعاً بإطلاقه على الحقيقة المتضمنة للأمرين جميعاً.
فإذا ثبت هذا نقول: قد علم أن الدين يشمل أعمال الإسلام كلها، قال تعالى: ((إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ)) [آل عمران:19].
وقال سبحانه: ((وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ)) [البينة:5].
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل: {أتاكم ليعلمكم دينكم}( )، فشمل هذا الإسلام والإيمان والإحسان.
فتبين من هذا أن الدين عام لجميع ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من إسلام وإيمان وإحسان، وقد أطلق مع شموله هذا على الدعاء فدل على أهميته العظيمة ومنزلته الرفيعة.
ومن هنا يتبين عظمة الدعاء وأهميته وأنه الدين كله وأنه من أفضل العبادات وأجل الطاعات، ولهذا أخبر أنه الدين فذكره معرفاً بالألف واللام( ).
3- إن الله سبحانه وتعالى قد سمى الدعاء عبادة في غير موضع من كتابه، وكذلك سماه النبي صلى الله عليه وسلم العبادة كما ثبت في الحديث الصحيح.(1/206)
ومما ورد من تسمية الله الدعاء عبادة، قوله تعالى في قصة إبراهيم مع أبيه: ((وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا. فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ)) [مريم:48، 49].
وقوله تعالى: ((وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ)) [غافر:60].
وقد تقدم ضرب الأمثلة المتنوعة في ذلك في ذكر المناسبة بين الدعاء والعبادة( ).
وقد علم فضل العبادة ومكانتها وأن الله ما خلق الجن والإنس إلا من أجلهما، قال تعالى: ((وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)) [الذاريات:56].
4- إن الله سبحانه وتعالى توعد من ترك الدعاء للاستكثار بدخول جهنم ذليلاً حقيراً، قال تعالى: ((وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ)) [غافر:60].
وهذا وعيد شديد لمن لم يدع الله تعالى ويلتجئ إليه استكباراً وترفعاً، ومن هنا ذهب بعضهم إلى وجوب الدعاء كما سيأتي.
وقد استدل بعضهم على أهمية الدعاء بقوله تعالى: ((وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ)) [التوبة:67]، وأن الآية تدل على ذم من يترك الدعاء فمعنى (يقبضون أيديهم) أي لا يمدونها إلينا في سؤال، هكذا قال بعضهم( ).
ولكن التفسير المأثور عن مجاهد، أنهم لا يبسطونها بنفقة في حق الله، وعن قتادة: لا يبسطونها بخير( ).
وهذا التفسير هو اللائق بسياق الآيات.
5- إن الدعاء يشتمل على خصائص جليلة ومزايا كثيرة لا توجد في غيره من أنواع العبادات، فمن تلك الميزات والخصائص( ):(1/207)
أ- نفع الدعاء يقع في الحياة والممات حيث ثبت انتفاع الميت بدعاء الأحياء من ولد أو والد أو قريب أو صديق، قال صلى الله عليه وسلم: {إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاثة. وفيه: أو ولد صالح يدعو له}( ).
وقال تعالى: ((وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ)) [الحشر:10].
وصلاة الجنازة هي دعاء للميت، فالدعاء يصل ثوابه للمدعو له إجماعاً بخلاف غيره من أنواع العبادات، ففي وصولها إليه خلاف. إلا أنه يشاركه في هذه الميزة الصدقة.
ب- سهولة الدعاء وعدم تقيده بزمان ولا مكان ولا حال، بخلاف غيره من العبادات إلا أنه يشاركه في هذه الميزة الذكر، وهو دعاء أيضاً كما مر.
جـ- اشتماله على حضور قلبي لا يوجد في غيره، فإن من تعبد بالصلاة أو الصوم أو الحج أو غيرها، يغلب عليه فيها الغفلة، فإذا دعا استدعى ذلك منه مزيد حضور في قلبه، ولهذا ورد فيه أنه مخ العبادة دون غيره من العبادات، لأن المخ هو المغذي للأعضاء والمقوم لاستدامة بقائها، فالدعاء شبه به لأنه يعمل هذا العمل، ومنه يتضح أن الدعاء: يفتح باباً عظيماً من المحاضرة ويجعل الانقياد التام والاحتياج إلى رب العالمين في جميع الحالات بين عينيه.
د- اشتماله على التذلل وإظهار الفاقة وذل العبودية وعز الربوبية، فاشتماله على هذه المزايا والخصائص يدل على أهمية الدعاء ومكانته.
6- إن الدعاء يجتمع فيه من أنواع العبادات ما لا يجتمع في غيره، فالدعاء يتضمن أنواعاً كثيرة من العبادات، ولذلك ورد في الحديث: {الدعاء هو العبادة. وفي رواية: مخ العبادة}.
وذلك لأنه يجتمع فيه من أنواع العبادات ما لا يجتمع في غيره، وإليك بعض ما يشتمل عليه من العبادات:
1- توجه القلب إلى المدعو، وقصده بكليته.
2- رجاء إجابته للدعاء والرغبة إليه رغبة صادقة مع قطع الرجاء والأمل عن غيره.(1/208)
3- الخوف من عدم إجابته، والرهبة والخشية منه.
4- التوكل والاعتماد عليه في قضاء الحاجات، وإجابة الدعوات ونيل الرغبات.
5- تعظيم المدعو بأنواع التعظيم من التضرع والتذلل والخضوع والتملق والانطراح بين يديه، والابتهال إليه.
6- ذكر المدعو باللسان، واللهج باسمه في السر والعلن، وندائه والاستغاثة به والهتاف باسمه.
7- محبة المدعو، فإن النفس مولعة بحب من يحسن إليها ولا إحسان أفضل من إجابة ملهوف وإغاثة مكروب، وإعانة مضطر.
8- التواضع، وإظهار الافتقار والعجز، والتبري من الحول والقوة.
9- ما يتبع هذه الأمور من البكاء ورفع الأيدي إلى السماء.
فهذه الأنواع من العبادات من أعظم أعمال القلوب، كما إن النداء وذكر المدعو واللهج باسمه من أعظم أعمال اللسان والذكر، كما أن الخشوع والتضرع ورفع الأيدي إلى السماء من أعظم أعمال الجوارح، فالإخلاص في هذه الأنواع من العبادات يعد من الإخلاص في أهم أعمال القلوب التي يتقرب بها إلى الله تعالى والتي هي أفضل من الأعمال البدنية، والأعمال المالية من حيث الجملة، والإشراك في هذه الأعمال يعد من الإشراك في أهم الأعمال القلبية التي هي أفضل أنواع العبادات والقربات، كما أن فيه إشراكاً في أنواع مهمة من الأعمال البدنية، فحصل بهذا أن الشرك في الدعاء شرك في العبادة والقصد والطلب، ومن هنا جاءت عناية القرآن الكريم بالتحذير من الشرك في الدعاء وهذا هو الوجه التالي.
7- ومما يدل على أهمية الدعاء ومنزلته، عناية القرآن الكريم بموضوع الشرك في الدعاء، وذلك لأن الضد يظهر به حسن ضده كما قيل: ............ والشيء يظهر حسنه الضد( ).
وقيل أيضاً: ............ وبضدها تتبين الأشياء( ).
فضد دعاء الله تعالى هو دعاء غيره تعالى، وقد اعتنى القرآن الكريم ببيان موضوع دعاء غير الله تعالى بياناً شافياً نكاد أن نقول بدون مبالغة: إنه لم يعتن بأي موضوع آخر مثل ما اعتنى بهذا الموضوع.(1/209)
وهذا البيان المتناهي والاعتناء البالغ يمكن تصويره، وتصوير سببه بالأوجه التالية:
1- إن هذه المسألة( ): هي أعظم مسألة خالف رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها المشركين، فإنهم كانوا يتعبدون بإشراك الصالحين في دعاء الله تعالى وعبادته يريدون بذلك شفاعتهم ووساطتهم، كما قال تعالى: ((وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ)) [يونس:18]، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بهدم هذه العقيدة والأمر بإخلاص الدعاء لله وحده.
فالشرك في الألوهية هو السبب الرئيسي في الخلاف بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين المشركين، وأما الخلاف في الربوبية وفي الإلحاد في الأسماء والصفات فنادر، فلم يكن الخلاف فيهما يقرب من الخلاف في توحيد العبادة، ثم إن الشرك في دعاء المسألة أكثر من الشرك في غيره من أنواع العبادات، ويوضح هذا الوجة التالي:
2- إن أغلب شرك الأوائل الذين أرسل إليهم الرسول صلى الله عليه وسلم كان في الدعاء، فالشرك في الدعاء هو الأكثر انتشاراً ووقوعاً بينهم من أنواع الشرك الأخرى كالنذر والذبح والطواف والسجود من أنواع الشرك في الألوهية والعبادة، وذلك لأن هذه الأمور لا يمكن وقوعها كل وقت وزمان ولا في كل مكان، كما أن الحاجة إليها أقل من الحاجة إلى الدعاء.(1/210)
إذ الافتقار والاحتياج من لوازم الإنسان، ومن هنا كان دعاء الصالحين والاستغاثة بهم هو الأكثر وقوعاً وانتشاراً لأن الإنسان المشرك كلما وقع في مشكلة لا يخطر بباله إلا الاتجاه إلى معبوده بالدعاء والاستغاثة، فهو لا يفكر أولاً إلا في التقرب إلى معبوده بالدعاء، وأما أنواع العبادات الأخرى ففي مرتبة متأخرة، وليست بتلك الكثرة التي تقع بالنسبة إلى الدعاء، ومن هنا كانت هذه المسألة أعظم مسألة خالف فيها الرسول صلى الله عليه وسلم المشركين فكانت هي نقطة الخلاف الأساسية، وكان التركيز عليها أكثر.
ومن المعلوم أن الشرك في أنواع العبادات عموماً أكثر من الشرك في الربوبية أو في الأسماء والصفات يشهد بذلك الماضي والحاضر، ولا يمكن الاختلاف بذلك لأن الواقع أكبر برهان.
3- إن الله سبحانه وتعالى لم يحذر في كتابه العزيز عن أي شرك من أنواع الشرك مثل ما حذر عن الشرك في الدعاء.
فلو أحصينا ما ورد في التحذير من دعاء غير الله تعالى بالأساليب المتنوعة- وسيأتي إن شاء الله تعالى الإشارة إلى بعض تلك الأساليب- وقارنا ذلك بما ورد في التحذير من السجود لغير الله تعالى أو الركوع أو الطواف أو النذر أو الذبح أو العكوف... من أنواع الشرك في الألوهية، أو قارنا بما ورد في التحذير عن الشرك في الربوبية أو الشرك والإلحاد في أسماء الله تعالى وصفاته، لوجدنا بدون شك أن ما ورد في التحذير من دعاء غير الله تعالى أكثر بكثير من ذلك كله.
قال الشيخ حمد بن ناصر بن معمر رحمه الله: لا نعلم نوعاً من أنواع الكفر والردة ورد فيه من النصوص مثل ما ورد في دعاء غير الله بالنهي عنه والتحذير من فعله والوعيد عليه( ).
فإذا عرفنا عناية الله تعالى به أكثر من غيره نقول:(1/211)
إنه لا بد أن الله سبحانه وتعالى ما اعتنى به أكثر من غيره إلا لحكم عظيمة، وأسرار بالغة، من ذلك- والله أعلم- كثرة وقوع الشرك في الدعاء أكثر من غيره من أنواع الشرك قديماً وحديثاً، فاستحق الاعتناء به، والتحذير منه.
ومن ذلك ما قاله بعضهم من أن العبادات كلها دالة على الطلب والمسألة، على اختلاف المطلوب والمسؤول( ) فصار الدعاء هو المعنى الأشمل الأعم من غيره( ) فعلى هذا يكون التحذير منه تحذيراً من جميع أنواع الشرك في الألوهية.
والمقصود من هذا أن الله سبحانه وتعالى حذرنا في القرآن الكريم من دعاء غيره أكثر من تحذيره مما سواه من أنواع الشرك، وذلك يدل على أهميته أكثر من غيره. ويزيد هذا الوجه الوجه التالي وضوحاً.
4- إن أصل شرك العالم هو الشرك في الدعاء وطلب الحوائج من الصالحين الميتين.
قال ابن القيم رحمه الله في ذكر أنواع الشرك: ومن أنواعه: طلب الحوائج من الموتى، والاستغاثة بهم، والتوجه إليهم، وهذا أصل شرك العالم( ).
فتبين بهذا سر عناية الله تعالى بالشرك في الدعاء أكثر من غيره، كما تبين بذلك منزلته ومكانته.
وإذا عرفنا عناية القرآن الكريم بموضوع الدعاء ننتقل إلى عناية العلماء المصلحين به ونخص العلماء المصلحين لأن بعض العلماء قد اهتموا بموضوعات بعيدة عن منهج القرآن الكريم فاعتنوا بعلم الكلام ولا تجد في كلامهم التحذير من الشرك وربما لا يعرف بعضهم حقيقة الشرك، فإنا لله وإنا إليه راجعون..
عناية العلماء المصلحين بمسألة دعاء غير الله تعالى: إن علماء هذه الأمة المعتنين منهم بسلامة عقيدتها تبعوا سنة الله في هذه المسألة، فاعتنوا بها أكثر من غيرها من مسائل الشرك، فكانت محل اهتمامهم في بحوثهم ومؤلفاتهم ورسائلهم الشخصية وهؤلاء العلماء منهم شيخا الإسلام ابن تيمية ومحمد بن عبد الوهاب رحمهما الله تعالى، فقد عنيا بهذا الموضوع عناية فائقة.(1/212)
فقد ألف فيه ابن تيمية عدة مؤلفات مثل كتاب الاستغاثة المعروف بالرد على البكري، والقاعدة الجليلة في التوسل والوسيلة وغيرهما.
وأما الشيخ محمد بن عبدالوهاب فأغلب كتبه في هذا الموضوع لكون الخصومة فيه كما سيأتي:
وربما يقول قائل: إننا لا نجد الكلام على هذه المسألة والاهتمام
بها عند أئمة السلف كأصحاب المذاهب الأربعة وغيرهم من المحدثين والفقهاء والمفسرين.
فنقول وبالله التوفيق:
1- إننا قد بينا بما لا يدع مجالاً للشك عناية القرآن الكريم بهذه المسألة أكثر من غيرها، فكفى به برهاناً وحجة، قال تعالى: ((أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ. قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ)) [العنكبوت:51، 52].
إن الله تعالى قد بين هذه المسألة وأوضحها أكثر من غيرها، وهو عالم بما سيقع من الانحراف فيها، فلا حاجة إلى بيان أحد كائناً من كان إذ المسألة ليست قابلة للاجتهاد فهي قطعية الثبوت، قطعية الدلالة، لا تقبل النقاش ولا المعارضة من أحد، كما أنها ليست خافية بل هي واضحة المعالم، لأنها أصل الدين الذي بعثت به الرسل وأنزلت به الكتب.
2- إن علماء هذه الأمة لا سيما المصلحين منهم ينصب اعتناؤهم على الأمر الذي وقع وحصل في زمانهم فقد حذروا من الكلام في الفرضيات والخيالات التي لم تقع.
وهذه المسألة لم تقع بهذه الصورة ولم تنتشر في زمانهم وذلك لقوة الإسلام وعزته، فلم يستطع الشيطان أن يلبس على المسلمين في الزمن الأول أن دعاء غير الله تعالى الذي قد عرف بالضرورة من الإسلام منافاته للإسلام، أنه مما يتقرب به إلى الله وأنه جائز بل مستحب.(1/213)
فأوائل هذه الأمة لم يقع فيهم مثل هذا وقد تكلم السلف فيما وقع من البدع، تكلموا في بدعة القدرية والجهمية والخوارج وغيرها عندما وقعت هذه البدع في زمانهم( )، وأما هذه المسألة فلم تقع بهذه الصورة في زمانهم.
قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن رحمه الله: وهذه الاعتقادات في الأموات إنما حدثت بعد الإمام أحمد ومن في طبقته من أهل الحديث والفقهاء والمفسرين( ).
ويؤيد هذا ما ذكره ابن تيمية( ) رحمه الله في أصناف القدرية الثلاثة: المكذبين به، والدافعين به للأمر والنهي، والطاعنين به على الرب عز وجل بجمعه بين الأمر والقدر حيث ذكر أن أخف هؤلاء هم الصنف الأول، وهم المكذبون ومع ذلك كثر فيهم الكلام من السلف والتغليظ عليهم دون الصنفين الآخرين لعدم كثرتهما ولعدم تظاهرهما باعتقادهما، فلهذا قل فيهما الكلام دون الصنف الأول الذي هو أخف بالنسبة إليهما.
ومن هنا نعرف أن السبب في عدم كثرة كلام السلف في مسألة دعاء غير الله تعالى عدم انتشار الشرك الواضح في مثل هذا في الصدر الأول. وسيأتي بيان مزيد إن شاء الله.
ويوضح عناية العلماء المصلحين بهذه المسألة عدة مظاهر منها:
1- أنهم يقدمون الكلام عليها على غيرها من المسائل الأخرى فمن ذلك ما فعله شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله حيث بدأ كتابه مسائل الجاهلية التي خالف فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الجاهلية بهذه المسألة وبين أنها أعظم مسألة خالف فيها الرسول صلى الله عليه وسلم الجاهلية( ).
ومن ذلك قوله رحمه الله بعد أن بين أن التوحيد الذي دعت إليه الرسل هو إفراد الله بالعبادة: فمن ذلك لا يدعى إلا إياه كما قال تعالى: ((وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا)) [الجن:18]( ).
وقال أيضاً: اعلم رحمك الله أن التوحيد الذي فرض الله على عباده قبل فرض الصلاة والصوم هو توحيد عبادتك أنت فلا تدع إلا الله وحده....(1/214)
ثم ذكر أن صفة إشراك المشركين الأولين أنهم يدعون الله ويدعون معه الأصنام والصالحين( ).
وقال في موضع آخر عندما ذكر الأصل الجامع لعبادة الله وحده:
فإدن قيل فما أنواع العبادة التي لا تصلح إلا لله تعالى، قلت: من أنواعها الدعاء والاستعانة والاستغاثة... إلخ( ).
وأكثر كلام( ) الشيخ يدور حول هذه المسألة، أو ذكر ذرائعها، والأسباب المؤدية إليها وخطورتها والتحذير منها، فجزاه الله عن الإسلام والمسلمين خيراً، وهو عندما يريد التحذير من أنواع الشرك في العبادة يبدأ بدعاء( ) المسألة الذي نحن بصدده.
ومن هؤلاء الأمير الصنعاني، فإنه بدأ بالدعاء قبل غيره من أنواع العبادات فقال: فإفراد الله بالعبادة لا يتم إلا بأن يكون الدعاء...( ). ومنهم الشيخ حمد بن ناصر بن معمر الحنبلي فإنه عرف العبادة بقوله: اسم جامع لما يحبه الله... ثم قال: من ذلك الدعاء بما لا يقدر على جلبه أو دفعه إلا الله( ).
ومنهم الشيخ سعد بن حمد بن عتيق فقد ذكر الآيات التي تدل على اختصاص العبادة بالله تعالى، ثم قال: ومن أعظم أنواعها الدعاء( ). وقبل هؤلاء كان يفعل مثل ذلك ابن تيمية، فمما قال: إن حقيقة التوحيد أن نعبد الله وحده فلا يدعى إلا هو، ولا يخشى إلا هو( ).
وقال أيضاً: والله عز وجل له حق لا يشركه فيه غيره فلا يعبد إلا الله ولا يدعى إلا الله ولا يخاف إلا الله( ).
وغير هؤلاء آخرون يقدمون ذكر الدعاء على غيره للاعتناء به وأهميته( )، فهذا الصنيع من هؤلاء العلماء يدل على أهمية الدعاء عندهم وخطورة الشرك فيه.
2- من مظاهر اعتنائهم أيضاً: أنهم فسروا الشرك في الألوهية بأنه الشرك في الدعاء بنوعيه: العبادة والمسألة، وغالباً يقدمون دعاء المسألة.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: وجماع الأمر: أن الشرك نوعان: شرك في ربوبية... وشرك في الألوهية: بأن يدعو غيره دعاء عبادة، أو دعاء مسألة( ).(1/215)
وقال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: وأعظم نهي نهى الله عنه الشرك به، وهو أن يدعو مع الله غيره، أو يقصده بغير ذلك من أنواع العبادة( ).
وقال أيضاً: وتوحيد الإلهية هو أن لا يدعى ولا يرجى إلا الله وحده لا شريك له ولا يستغاث بغيره ولا يذبح.... ثم بين الشيخ رحمه الله أن شرك الذين قاتلهم الرسول صلى الله عليه وسلم كان بدعاء الصالحين( ).
وقال بعضهم: قد ذكر العلماء رحمهم الله تعالى أن الشرك نوعان: أكبر، وأصغر، فالأكبر: أن يجعل لله نداً من خلقه يدعوه كما يدعو الله، ويخافه كما يخاف الله( ).
ومثله قول الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله: فالشرك الأكبر أن يصرف العبد نوعاً من أنواع العبادة لغير الله كأن يدعو غير الله أو يرجوه أو يخافه.
ومثله قول( ) الشوكاني: إن الشرك هو دعاء غير الله تعالى أو اعتقاد القدرة لغيره فيما لا يقدر عليه سواه أو التقرب إلى غيره....
ففي هذه الأمثلة السابقة نجد العلماء قد فسروا الشرك في الألوهية بأنه الشرك في الدعاء بنوعيه وقدموا من النوعين دعاء المسألة، وذلك يدل على عنايتهم به أكثر من غيره لمكانته العظيمة أولاً ثم لوقوع الخصومة فيه ثانياً، ويبين هذا الوجه الآتي.
3- ثم إن الخصومة الكبرى التي وقعت بين الدعاة إلى التوحيد الخالص وبين مخالفيهم إنما وقعت في هذه المسألة، وهي إفراد الله تعالى بالدعاء والتحذير من دعاء غيره تعالى لأن المخالفين يرون أن دعاء غير الله إذا كان المقصود به التوسط لا بأس به، وأن الدعاء ليس مثل السجود والركوع في منع صرفه لغير الله تعالى إلى غير ذلك مما سيأتي في ذكر شبههم، فاحتاج الدعاة إلى التوحيد إلى كثرة الخوض فيه وبيانه بكل الطرق وبأساليب متنوعة، وبيان أن الدعاء من أهم العبادات وأن صرفه لغير الله شرك وضلال، فهذا هو الذي جعلهم يبدءون به قبل غيره، ويُعنَونَ به أكثر.(1/216)
وقد ذكر الشيخ عبد الله ابن الشيخ محمد رحمهما الله أنه لم يكن هناك خلاف له وَقع بينهم- أي بين الدعاة إلى التوحيد الخالص ومخالفيهم- إلا في أمرين:
أحدهما: إخلاص التوحيد لله تعالى، ومعرفة أنواع العبادة وأن الدعاء من جملتها وتحقيق معنى الشرك الذي قاتل عليه الرسول صلى الله عليه وسلم. والثاني: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر( ).
وذكر الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن رحمهما الله أن الخصومة فيما دلت عليه كلمة الإخلاص وأننا نقول: دعاء الأنبياء والصالحين من الأموات والغائبين للشفاعة أو غيرها شرك ظاهر مستبين... ونُدخِل دعاء الأموات والغائبين فيما دلت عليه الآيات القرآنية( )، كما ذكر في موضع آخر أن هذا هو أصل دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب وجهاده( ).
وقد ذكر الشيخ نفسه رحمه الله أن سبب ما حصل له من الفتنة من مخالفيه هو إظهاره النهيَ عن دعوة الصالحين والأمر بإخلاص الدعاء لله تعالى مع هدم البناء على القبور( ).
وصنيع العلماء المصلحين هذا يدل على اتباعهم لطريقة القرآن وهو دليل قاطع على مكانة الدعاء وخطورة الشرك فيه.
الفصل الثاني
في عدم تنافي الدعاء والقدر
ويشتمل على مبحثين:
المبحث الأول: في مذاهب الناس واتجاهاتهم وحجج كل فريق ومناقشتها.
المبحث الثاني: في الصواب الذي تدل عليه الأدلة الصحيحة.
المبحث الأول
في مذاهب الناس في الدعاء واتجاهاتهم وحجج كل فريق ومناقشتها(1/217)
ذهب الناس في أمر الدعاء إلى مذاهب شتى، وآراء متباينة، وأقوال مختلفة، وكثر النقاش بين أصحاب تلك المذاهب والآراء، فأدلى كل صاحب مذهب بحجته، وقوى مذهبه بما استطاع من حجة منقولة أو معقولة حتى صارت تلك الأقوال تستحق أن تفرد بدراسة خاصة، وذلك لتشعب الموضوع وكثرة حجج كل فريق، وأدلته، ولتعلق الموضوع بمسألة القدر التي هي من أهم مسائل العقيدة التي يلتبس فيها الحق بالباطل على كثير من الناس. وبعون الله وتوفيقه، سأذكر تلك الآراء مع بيان حجة كل فريق ومناقشة ما يستحق المناقشة من تلك المذاهب بإيجاز، ثم أذكر الصواب حسب ما ظهر لي والله المستعان، وعليه التكلان.
حاصل مذاهب الناس في الدعاء:
أ- إن الدعاء لا معنى له ولا فائدة منه ولا يدعى الله تعالى.
ب- إن الدعاء لا يجلب منفعة ولا يدفع مضرة وإنما هو عبادة محضة.
جـ- إن الدعاء علامة وأمارة ودلالة محضة على حصول المطلوب، وليس هو سبباً لحصول المطلوب.
د- إن الدعاء يرد القضاء، ويغيره من قضاء إلى قضاء.
هـ- إن الدعاء ينفع في بعض الأمور دون بعض.
و- إن الدعاء سبب من الأسباب وهو داخل في القضاء.
وقد يكون في المذهب الواحد من هذه المذاهب عدة اتجاهات.
وقد يختلف أصحاب المذهب الواحد في تحليل مذهبهم، ولكنهم يتفقون في أصل المذهب الرئيسي ومن هنا نعدهم أصحاب مذهب واحد لاتفاقهم في النتيجة، ويتضح هذا جلياً في المذهب الأول كما سيأتي.
هذا هو حاصل مذاهب الناس في الدعاء إجمالاً وإليك تفصيل ذلك:
أ- المذهب الأول: إن الدعاء لا معنى له ولا يدعى الله تعالى:
وفي هذا المذهب ثلاث اتجاهات، وكلها متفقة على أن لا يدعى الله تعالى.
1- الاتجاه الأول: مذهب طائفة من المتفلسفة وغالية المتصوفة: ذهبوا إلى أن الدعاء لا معنى له ولا فائدة فيه، والعلة في ذلك عندهم هو أن المشيئة الإلهية إذا اقتضت فلا بد أن يحصل وإن لم تقتضِ فلا يحصل فلا فائدة في الدعاء.
2- الاتجاه الثاني: مذهب أرسطو وأتباعه:(1/218)
والعلة عندهم أن الله ليس عالماً ولا مريداً... إلخ.
3- الاتجاه الثالث: مذهب ابن عربي وطائفته: والعلة عندهم أن الداعي والمدعو واحد... إلخ. وإليك تفصيل هذه الاتجاهات الثلاث.
1- الاتجاه الأول( ): مذهب طائفة من المتفلسفة وغالية المتصوفة:
إن الدعاء لا معنى له ولا فائدة فيه، وشبهتهم في هذا الاحتجاج بمشيئة الله تعالى وعلمه وقضائه وقدره، قالوا: إن المشيئة الإلهية إذا اقتضت وجود المطلوب فلا بد أن يحصل سواء دعا أو لم يدعُ، فيكون الدعاء تحصيل الحاصل.
وإن لم تقتضه فلا يمكن أن يحصل سواء دعا أو لم يدعُ فثبت بهذا أنه لا فائدة في الدعاء على الحالين.
ومثل هذا يقال في علم الله فإن علم الله أنه يوجد فلا بد أن يوجد.. إلخ.
وساق هؤلاء الأدلة المتضافرة المتواترة الدالة على سبق القضاء والقدر وتلك الأدلة معروفة مشهورة، منها قوله تعالى: ((مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ)) [الحديد:22]، وقوله تعالى: ((إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ)) [القمر:49]، وحديث علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: {ما منكم من أحد إلا قد كتب مقعده من النار أو من الجنة...}( )وغير ذلك من الأحاديث المتضافرة.
وهناك طائفتان أخريان ذهبتا إلى القول بأن الله لا يدعى ولكن قالتا بتأثير الدعاء. وهما أصحاب الاتجاهين التاليين:
2- الاتجاه الثاني: مذهب أرسطو وأتباعه:
ذهبوا إلى أن الله تعالى لا يدعى، لأنه عندهم لا يفعل شيئاً ولا يريد شيئاً، ولا يعلم شيئاً، ولا يخلق شيئاً، فعلى أي شيء يشكر أم على أي شيء يحمد ويعبد؟( ) وعلى أي أساس يطلب منه قضاء الحاجات ونيل الرغبات، ودفع الكربات؟ إذ الله عندهم لا يحدث شيئاً بمشيئته واختياره، بل لا سبب للحوادث إلا حركة الفلك، فلهذا لم يثبتوا لله تعالى إجابة سائل ولا إحداث أمر( ).(1/219)
فإذا كان الله لا يستطيع الإجابة ولا إحداث أي أمر فليس هناك فائدة في دعائه.
3- الاتجاه الثالث: مذهب ابن عربي وطائفته:
ذهبوا إلى القول بأنه يستحيل من العبد أن يدعو الله -تعالى الله عما يقولون- لاعتقادهم أحدية العين، فالداعي هو المدعو، فكيف يدعو نفسه( )؟
ويقول ابن الفارض( ) مثبتاً لأحدية الداعي والمدعو:
فإن دُعِيَتْ كنتُ المجيبَ وإن أكن ... ... منادى أجابت من دعاني ولبتِ
فقد رفعت تاء المخاطب بيننا وفي رفعها ... ... عن فرقة الفرق رفعتي( )
فهذان الاتجاهان اشتركا مع الطائفة الأولى في أن الله -تعالى عما يقول هؤلاء- لا يجيب الدعاء وأنه من أجل هذا فلا يدعى، ولكن اختلفوا في تعليل ذلك وتوجيهه.
فالعلة عند الاتجاه الأول: هو الاحتجاج بسبق المشيئة والعلم والقضاء والقدر، وعند الثاني: عدم علم الله للدعاء وعدم قدرته، وعند الثالث: اتحاد الداعي والمدعو وكونهما شيئاً واحداً. لكن الاتجاهان الأخيران أثبتا تأثير الدعاء على وجه يطابق عقيدة القائلين بالاتجاهين.
سبب تأثير الدعاء عند أرسطو وأتباعه:(1/220)
فهؤلاء لما رأوا تأثير الدعاء وتحققوا من ذلك لم يمكنهم إنكار هذا الأمر الذي شهدت به تجارب الأمم وأقرت به الفطر والعقول، ولكنهم لجأوا إلى تفسير ذلك بما يوافق عقيدتهم فزعمت طائفتهم من الملاحدة والصابئين والمتفلسفة المشائين أتباع أرسطو ومن تبعه من متفلسفة أهل الملل كالفارابي وابن سينا ومن سلك سبيلهما ممن خلط ذلك بالكلام والتصوف والفقه زعموا أن الدعاء إنما تأثيره بكون النفس تتصرف في العالم، لا بكون الله يجيب الداعي، فتأثير الدعاء عندهم إنما هو من تأثير النفوس البشرية من غير أن يثبتوا للخالق سبحانه بذلك علماً مفصلاً أو قدرة على تغيير العالم، أو أن يثبتوا أنه لو شاء أن يفعل غير ما فعل لأمكنه ذلك، بل العالم عندهم فيض فاض عنه بغير مشيئته وقدرته وعلمه فلهذا فالله تعالى على رأيهم لا يستطيع التأثير في العالم، وإنما هو علة العلل كما يسمونه، وهكذا يزعمون في تأثير سائر الممكنات المخلوقات من القوى الفلكية والطبيعية والقوى النفسانية والعقلية، فالدعاء عند هؤلاء سبب تأثيره إنما هو من قوة النفوس وليس من الله فهم لا يقصدون الله أن يفعل شيئاً ولا يطلبون منه شيئاً ولكن يقوون نفوسهم قوة يزعمون أنهم يفعلون بها( ).
وهؤلاء أعظم شركاً وغلواً في الضلال والغي من مشركي العرب الذين يعتقدون الوساطة والشفاعة لأصنامهم.
قال شيخ الإسلام في تفضيل أهل الكتاب والمشركين على الفلاسفة الملاحدة: فمشركو العرب مع أهل الكتاب يدعون الله، ويقولون: إنه يسمع دعاءهم ويجيبهم، وهؤلاء- يعني الفلاسفة- عندهم لا يعلم شيئاً من جزئيات العالم، ولا يسمع دعاء أحد ولا يجيب أحداً، ولا يُحدِث في العالم شيئاً ولا سبب للحدوث عندهم إلا حركات الفلك، والدعاء عندهم يؤثر، لأنه تصرف النفس الناطقة في هيولى( ) العالم( ).(1/221)
وهؤلاء قالوا أيضاً في تعليل وتجويز دعاء غير الله تعالى وتأثيره وزيارة القبور الزيارة الشركية: إن الأرواح المعظمة المفارقة للجسد، أو الجواهر العلويات كالشمس والقمر وسائر الكواكب، يفيض عليها من جهة الرب، فإذا اتصل بها أحد بدعائها أو الاستشفاع بها، أو زيارة هياكلها أو قبورها وأضرحتها، فاض على هذا الداعي أو الزائر منها ما فاض عليها من جهة الرب من غير فعل من تلك الأرواح والجواهر ومن غير سؤال منها ويمثلون ذلك بالشمس إذا طلعت على مرآة فانعكس الشعاع الذي على المرآة على موضع آخر فأشرق بذلك الشعاع، فهذا الشعاع حاصل بمقابلة المرآة والذي للمرآة حاصل بمقابلة الشمس.
فكذلك الداعي المستشفع إذا توجه إلى شفيعه أشرق عليه من جهته مقصود الشفاعة وذلك المدعو الشفيع أشرق عليه من جهة الحق.
فلهذا يرى هؤلاء دعاء الموتى عند القبور وغير القبور ويتوجهون إليهم ويقولون: إن أرواحنا إذا توجهت إلى روح المقبور في القبور اتصلت به ففاضت عليها المقاصد من جهته، ومن هنا يفضلون الدعاء والصلاة عندها على الدعاء والصلاة في المساجد( ).
كما يقولون في الزيارة الشركية: إن الأرواح المفارقة تجتمع هي والأرواح الزائرة فيقوى تأثيرها( ).
وأما ابن عربي وشيعته فقد فسروا سبب تأثير الدعاء بأن الداعي هو المدعو فلا بد أن يلبي رغبات نفسه، قال ابن عربي: فما يطلب الحق من العبد بأمره هو بعينه يطلبه العبد من الحق بأمره، ولهذا كان كل دعاء مجاباً ولا بد وإن تأخر( ).
والحاصل أن هذين المذهبين يريان تأثير الدعاء إلا أنهما يفسران ذلك على طريقة تناسب عقيدتهما الباطلة.
وإني أرى أن هذين المذهبين لا يستحقان المناقشة الطويلة ففيحكايتهما ما يغني عن الرد عليهما لوضوح بطلانهما ومناقضتهما للشرائع السماوية جميعاً مناقضة واضحة لا تلتبس على من عرف مبادئ الإسلام، ولهذا نكتفي بهذا وسوف لا نعرج عليهما في مناقشة الشبه( ).(1/222)
هذا ومما ينبغي أن يعلم أن الدعاء من الأسباب وأن الناس قد افترقوا في الأسباب إلى ثلاث فرق رئيسية: مغضوب عليهم، وضالون، ومهتدون.
فالمغضوب عليهم يطعنون في عامة الأسباب المشروعة وغير المشروعة ويقولون: الدعاء المشروع قد يؤثر وقد لا يؤثر، ويتصل بذلك الكلام في دلالة الآيات على تصديق الأنبياء عليهم السلام.
والضالون يتوهمون في كل ما يتخيل سبباً، والمتكايسون من المتفلسفة يحيلون ذلك على أمور فلكية وقوى نفسانية وأسباب طبيعية. فأما المهتدون فهم لا ينكرون ما خلقه الله من القوى والطبائع إذ الجميع خلق الله لكنهم يؤمنون بما وراء ذلك من قدرة الله التي هو بها على كل شيء قدير ومن أنه كل يوم هو في شأن ومن أن إجابته لعبده المؤمن خارجة عن قوة نفس العبد وتصرف جسمه وروحه وبأن الله يخرق العادات لأنبيائه وأوليائه( ).
ب- المذهب الثاني( ): إن الدعاء لا يجلب به منفعه، ولا يدفع به مضرة:
قالت طائفة من الصوفية: إن الدعاء لا يجلب به منفعة، ولا يدفع به مضرة، وإنما هو عبادة محضة تعضدية غير معقول المعنى، كبعض أعمال العبادات الأخرى مثل رمي الجمار وغيره، ولا أثر للدعاء في حصول المطلوب، وجوداً وعدماً، بل ما يحصل بالدعاء يحصل بغيره. وقالوا: إن الدعاء عند أهل التسليم والتفويض- يعنون أنفسهم- على وجهين:
أحدهما: يريد بذلك تزيين الجوارح الظاهرة بالدعاء، لأن الدعاء ضرب من الخدمة، يريد أن يزين جوارحه بهذه الخدمة.
والوجه الثاني: أن يدعو ائتماراً لما أمره الله تعالى بالدعاء( )، فالدعاء عندهم لإظهار العبودية وامتثال الأوامر الإلهية فقط، وليس له تأثير في حصول المطلوب، فهؤلاء على اتجاهين:
1- فمنهم من يجعل الدعاء من حظ العامة، وأن مقامات الخواص ترك الدعاء والتوكل نظراً للقدر( ).(1/223)
2- ومنهم من يجعل الدعاء بعدم المؤاخذة على الخطأ والنسيان مثل: ((رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا)) [البقرة:286]، يجعله عديم الفائدة إذ هو مضمون الحصول، فلا يجوز الدعاء بهذا إلا تلاوة لا دعاء ويعلل ذلك بأن الدعاء به يتضمن الشك في وقوعه لأن الداعي بين الخوف والرجاء، والشك في وقوع ذلك شك في خير الله( ).
وقد جوز بعضهم الدعاء بالآية السابقة إن أراد بالخطأ العمد وبما لا يطاق الرزايا والمحن( ).
وقد رويت عن هؤلاء أقوال كثيرة في تقرير هذا المذهب، من ذلك ما قاله بعضهم عندما طلب منه أن يدعو: أخشى أني إن دعوت أن يقال لي: إن سألتنا مالك عندنا فقد اتهمتنا، وإن سألت ما ليس لك عندنا فقد أسأت الثناء علينا، وإن رضيت أجرينا لك الأمور، ما قضينا لك به في الدهور( ).
وقال آخر: من عرف الله أمسك عن رفع حوائجه إليه لما علم أنه العالم بأحواله( ).
وروي عن الجنيد أنه دخل عليه جماعة فقالوا: أين نطلب الرزق؟
فقال: إن علمتم في أي موضع هو، فاطلبوه منه، قالوا: فنسأل الله تعالى ذلك، فقال: إن علمتم أنه ينساكم فذكروه، فقالوا: ندخل البيت فنتوكل فقال: التجربة شك قالوا: فما الحيلة؟ فقال: ترك الحيلة( ).
وقال آخر: طلبك منه اتهام( ).
ومن أقوال هؤلاء في كون الدعاء من حظ العامة ما حكاه القشيري في رسالته من أنه قيل: دعاء العامة بالأقوال، ودعاء الزهاد بالأفعال، ودعاء العارفين بالأحوال... وقيل: ألسنة المبتدئين منطلقة بالدعاء، وألسنة المتحققين خرست عن ذلك( ).
وبلغ الحال ببعضهم إلى أن قال: الفقير هو الذي لا يكون له إلى الله حاجة( )، فهذا في غاية الشناعة ومع ذلك حاول بعضهم تأويله( ) مع أنه صريح في مراد القائل لا يقبل التأويل، وتتلخص شبههم الرئيسية في ثلاث:
1- الاستدلال بعموم علم الله تعالى وأن السؤال مع العلم والقدر لا حاجة إليه.(1/224)
2- الاستدلال بما روي من أن إبراهيم الخليل عندما ألقي في النار قال: حسبي من سؤالي علمه بحالي( ).
3- أن سؤال الله تعالى فيه سوء الأدب واتهام للرب بعدم إعطائه للعبد ما يستحقه، وأنه لذلك ليس من مقامات الخواص.
وأصل شبهة أصحاب المذهب الأول والمذهب الثاني أنهم لما أثبتوا أن الله إذا قضى شيئاً فلا بد أن يكون وأنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وأن ما سبق به علمه فهو كائن لا محالة، صاروا يظنون ما يوجد بسبب يوجد بدونه، وما يوجد مع عدم المانع يوجد مع المانع، وأن كون الأمور مقدرة مقضية يمنع أن تتوقف على أسباب مقدرة أيضاً تكون من العبد، وهذا غلط عظيم ضلت فيه طوائف، حتى وصل الأمر ببعضهم إلى القول بأنه لا حاجة إلى الأعمال المأمور بها فإن من خلق للجنة فهو يدخلها وإن لم يؤمن ولم يعمل، ومن خلق للنار فهو يدخلها وإن آمن وعمل( ).
وكذلك قول من قال: إن الدعاء لا يؤثر شيئاً، والتوكل لا يؤثر شيئاً هو من هذا الجنس، لكن إنكار ما أمر به من الأعمال كفر ظاهر، بخلاف إنكار تأثير الدعاء أو التوكل إذ ليس تعليق المقاصد بالدعاء والتوكل كتعليق سعادة الآخرة بالإيمان، ولكن الأصل واحد وهو النظر إلى المقدور مجرداً عن أسبابه ولوازمه( ).
فهؤلاء رَكَّبُوا من هذا الأصل مقدمتين فاسدتين وهما:
أن الشيء المطلوب المدعو به إن قدر فلا بد أن يحصل سواء دعا به أم لا فيكون الدعاء من باب تحصيل الحاصل وإن لم يقدر فلا يحصل سواء دعا به أم لا فلا فائدة في الدعاء في الحالين.
حاصل شبههم تدور على الأمور التالية:
1- الاحتجاج بالمشيئة الإلهية وأن المطلوب إذا قضي إلى آخر المقدمتين.
2- الاحتجاج بعلم الله تعالى وأن المطلوب إذا علمه الله فلا بد أن يحصل.. إلخ. وقووا هذه الشبهة بما روي عن إبراهيم الخليل عليه السلام من قوله: (حسبي من سؤالي علمه بحالي).(1/225)
3- الاحتجاج بأنه ليس من مقامات الخواص لأن في ذلك سوءَ الأدب واتهاماً لله تعالى وشكاً في وقوع أرزاقه، وما قدره الله تعالى.
فعلى هذه الأمور تدور شبهاتهم وإليك مناقشة هذه الشبهات الثلاثة:
مناقشة الشبهة الأولى:
وهي قولهم: إن المشيئة الإلهية إذا اقتضت... إلخ، فالجواب عنها على تسعة أوجه:
الأول: أن الحصر في المقدمتين غلط لوجهين:
1- لأنه بقيت مقدمة ثالثة أخرى، وهي أنه إن قضى الله بحصول هذا الشيء المطلوب عند حصول سببه من الدعاء أو التوكل أو غيرهما فإنه يحصل عند وجود هذا السبب فإذا لم يحصل السبب امتنع المسبب( ).
2- لو سلمنا جدلاً أن الدعاء لا تأثير له في المطلوب لا نسلم أنه لا فائدة فيه بل فيه فوائد أخر غير حصول المطلوب من تحصيل مصلحة أخرى عاجلة وآجلة، ودفع مضرة أخرى عاجلة وآجلة كما نبه على ذلك النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: {ما من مؤمن ينصب وجهه لله عز وجل يسأله مسألة إلا أعطاه إياها إما عجلها له في الدنيا وإما ادخرها له في الآخرة ما لم يعجل...}( ).(1/226)
ولو لم يكن في الدعاء من الفوائد إلا معرفة الداعي بربه وإقراره به وبأنه سميع قريب قدير عليم رحيم، وإقراره بفقره إليه واضطراره إليه، وما يتبع ذلك من العلوم العلية والأحوال الزكية التي هي من أعظم المطالب، لكفى ذلك في فوائد الدعاء فكيف وفيه فوائد أخرى من تحقيق المطلوب ودفع المكروه؟ ومن فوائده التي هي أهم من مطلوب العبد أنه يستدعي حضور القلب مع الله وهو منتهى العبادات والغالب على الخلق أنهم لا تنصرف قلوبهم إلى ذكر الله عز وجل إلا عند إلمام حاجة وإرهاق ملمة فإن الإنسان إذا مسه الشر فذو دعاء عريض، فالحاجة تحوج إلى الدعاء، والدعاء يرد القلب إلى الله عز وجل بالتضرع والاستكانة فيحصل به الذكر الذي هو أشرف العبادات، ومن تلك الفوائد أنه يعطي سكينةً في نفسه، وانشراحاً في صدره وصبراً يسهل معه احتمال ثقل الواردات عليه، وعلى كل حال فلا يعدم فائدة دعائه( ).
حاصل هذين الوجهين السابقين هو أن هناك خللاً في الحصر في المقدمتين إذ هناك مقدمة ثالثة.
كما أن هناك خللاً في المقدمة الثانية لأنه لا يلزم من عدم تأثير الدعاء في المطلوب عدم فائدته مطلقاً.
الثاني( ): قد أجاب النبي صلى الله عليه وسلم عن هذه الشبهة عندما سئل عنها لما قال: {ما منكم من أحد إلا وقد علم مقعده من الجنة أو النار، قالوا: أو لا ندع العمل ونتكل على الكتاب؟ فقال: لا، اعملوا فكل ميسر لما خلق له، أما من كان من أهل السعادة فسييسر لعمل أهل السعادة، وأما من كان من أهل الشقاء فسييسر إلى عمل أهل الشقاء} وهذا الحديث قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيح من عدة طرق( ).(1/227)
فتبين بهذا أن ما سبق به الكتاب سبق بالأسباب التي تفضي إليه، فالسعادة سبقت بأن صاحبها يستعمل فيما يصير به سعيداً، والشقاوة سبقت بأن صاحبها يستعمل فيما يصير به شقياً، فالقدر يتضمن الغاية وسببها، لم يتضمن غاية بلا سبب، كما تضمن أن هذا يولد له بأن يتزوج ويطأ المرأة، وهذا ينبت أرضه بأن يزرع ويسقي الزرع، وأمثال ذلك. ويقوي هذا أيضاً ما روي أنه قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: {يا رسول الله أرأيت أدوية نتداوى بها ورقى نسترقيها وتقاة نتقيها هل ترد من قدر الله شيئاً؟ فقال: هي من قدر الله}( ).
فبين صلى الله عليه وسلم أنه يرد قدر الله بقدر الله إما دفعاً لما انعقد سببه ولما يقع، وإما رفعاً لما وجد، وأن الأسباب التي تدفع بها المكاره هي من قدر الله ليس القدر مجرد دفع المكروه بلا سبب( ).
ولم يخرج شيء في الوجود عن قدر الله، وإنما يرد القدر بالقدر وهذا كرد قدر الجوع والعطش والحر والبرد بأضدادها، وكرد قدر العدو بالجهاد، والكل من قدر الله: الدافع، والمدفوع، والدفع( ).
الثالث( ): أن العبد لا يدري ماذا قدر الله له، فإنه لا يدري هل الله علق نيل مرغوبه والوصول إلى محبوبه، أو علق دفع المضار عنه، ورفع البلايا والمَصائب، علق هذه الأمور على دعائه والابتهال إليه، أم لا؟
فما دام لا يعرف ذلك فما عليه إلا الاجتهاد وبذل المستطاع في رجاء رحمة الله واستجلاب الخير واستدفاع الشر بما جعله الله سبباً لذلك. ومبنى العبادات والطاعات على الخوف والرجاء دون اليقين الذي يقع معه طمأنينة النفس فيفضي بصاحبه إلى ترك العمل والإخلاد إلى دعة العطلة.
والله سبحانه وتعالى قد لطف بعباده فعلل طباعهم البشرية بوضع هذه الأسباب ليأنسوا بها، فيخفف عنهم ثقل الامتحان الذي تعبدهم به، وليتصرفوا بذلك بين الرجاء والخوف، وليستخرج منهم وظيفتي الشكر والصبر في طوري السراء والضراء والشدة والرخاء، ومن وراء ذلك علم الله تعالى فيهم.(1/228)
فالحاصل أن العبد لا يدري هل الأمر معلق بالدعاء إن اجتهد وابتهل في الدعاء يعطى، وإن لم يجتهد في الدعاء فلا يعطى؟ لذا عليه الاجتهاد بالدعاء لاحتماله أن مطلوبه معلق على الدعاء.
ويزيد هذا الوجه وضوحاً الوجه التالي:
الرابع: أن الله سبحانه وتعالى أمرنا أن نعمل ونكد ونجتهد ونحرص وأن ندفع قدره بقدره فالعبد مأمور بأن يزيل الشر بالخير ويزيل الكفر بالإيمان والبدعة بالسنة والمعصية بالطاعة من نفسه ومن عنده بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد بحسب الإمكان وإن كان كل ذلك بقدر الله( )، ولهذا قال عمر بن الخطاب لأبي عبيدة رضي الله عنهما عندما هم بالرجوع من الطريق لسماعه بوقوع الطاعون بالشام فقال له أبو عبيدة ابن الجراح رضي الله عنه: [[أفراراً من قدر الله؟ فقال عمر: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة نعم نفر من قدر الله إلى قدر الله، أرأيت لو كان لك إبل فهبطت وادياً له عدوتان إحداهما مخصبة والأخرى جَدِبَة أليس إن رعيت الخصبة رعيتها بقدر الله وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله؟]]( ) فالعبد يدفع قدر الله تعالى بقدر الله تعالى، لأن القدر السابق لا يمنع العمل ولا يوجب الاتكال عليه بل يوجب الجد والاجتهاد، ولهذا لما سمع بعض الصحابة إخبار النبي صلى الله عليه وسلم بالقدر السابق وجريانه على الخليقة بالأسباب قال: ما كنت أشد اجتهاداً مني الآن( ).
وهذا مما يدل على جلالة فقه الصحابة ودقة أفهامهم وصحة علومهم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أخبرهم بالقدر السابق وجريانه على الخليقة بالأسباب فإن العبد ينال ما قدر له بالسبب الذي أُقدِر عليه ومُكِّن منه وهيئ له فإذا أتى بالسبب أوصله إلى القدر الذي سبق له في أم الكتاب وكلما زاد اجتهاداً في تحصيل السبب كان حصول المقدور أدنى إليه وهذا كما إذا قدر له أن يكون من أعلم أهل زمانه فإنه لا ينال ذلك إلا بالاجتهاد والحرص على التعلم وأسبابها( ).(1/229)
وقد فَطر الله سبحانه عباده على الحرص على الأسباب التي بها مَرامُ معاشهم ومصالحهم الدنيوية، بل فطر الله سائر الحيوانات على الحرص على المنافع وهداها لمصالحها المعاشية بما يحفظها ويقيمها سواء كان الحيوان ناطقاً أو بهيمةً أو طيراً أو دواب فقد هدى الذكر للأنثى وهداهما إلى التقام الثدي عند الخروج من بطن الأم وتمييز الأم من غيرها وإلى المرعى النافع دون الضار، وهدى بعض الحيوانات إلى ما يعجز عنه البشر كهداية النحل إلى الأفعال العجيبة والبالغة الغاية في الدقة، وكهداية النمل إلى الطرق والحيل التي فيها معاشها مع كونها من أصغر الحيوانات، وهداية الهدهد، والحمام والذئب والثعلب إلى ما هو أعجب من الأعمال والحيل التي يعملها الإنسان، وقد قال تعالى حاكياً عن موسى: ((قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى)) [طه:50].
وقال تعالى: ((وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ)) [الأنعام:38]( ).
والمسلم مأمور أن يفعل ما أمر به ويدفع ما نهى الله عنه وإن كانت أسبابه قد قدرت فيدفع قدر الله بقدر الله، فالعبد له مع المقدور حالان:
حال قبل وقوع المقدور، فعليه قبل وقوعه أن يستعين بالله ويتوكل عليه ويدعوه ويجتهد في دفعه فإذا قدر المقدور بغير فعله واختياره فعليه أن يصبر عليه أو يرضى به، وإن كان بفعله وهو نعمة حمد الله تعالى على توفيقه وإن كان ذنباً استغفر الله منه( ).(1/230)
ويدل لهذا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: {المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير احرص على ما ينفعك، واستعن بالله، ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله، وما شاء الله فعل، فإن (لو) تفتح عمل الشيطان}( ) ففي هذا الحديث الأمر بالحرص على ما ينفع الإنسان والاستعانة بالله على ذلك وعدم العجز وهذا قبل الوقوع ثم الأمر بالصبر.
ثم إن دفع القدر بالقدر نوعان:
أحدهما: دفع القدر الذي انعقدت أسبابه -ولَمَّا يقع- بأسباب أخرى من القدر تقابله فيمتنع وقوعه كدفع العدو بقتاله، ودفع الحر والبرد ونحوه.
الثاني: دفع القدر الذي قد وقع واستقر بقدر آخر يرفعه ويزيله، كدفع قدر المرض بقدر التداوي ودفع قدر الذنب بقدر التوبة، ودفع قدر الإساءة بقدر الإحسان.
فهذا شأن العارفين وشأن الأقدار، لا الاستسلام لها وترك الحركة والحيلة فإنه عجز والله تعالى يلوم على العجز فإذا غُلِبَ العبدُ، وضاقت به الحيل، ولم يبق له مجال فهنالك الاستسلام للقدر، والانطراح كالميت بين يدي الغاسل يقلبه كيف شاء( ).
الخامس: إن هذه الشبهة كما قال ابن الجوزي: رد لجميع الشرائع وإبطال لجميع أحكام الكتب وتبكيت للأنبياء كلهم فيما جاءوا به لأنه إذا قال في القرآن: ((أَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةََ)) [الأنعام:72] قال القائل: لماذا إن كنت سعيداً فمصيري إلى السعادة وإن كنت شقياً فمصيري إلى الشقاوة فما تنفعني إقامة الصلاة؟ وما يفضي إلى الرد الكتب وتجهيل الرسل محال باطل( ).(1/231)
السادس: إن هذه الشبهة مخالفة للكتاب والسنة وإجماع السلف وأئمة الدين ومخالفة لصريح المعقول، ومخالفة للحس والمشاهدة( ). وسيأتي إن شاء الله تعالى بيان دلالة هذه الأمور على تأثير الدعاء وفي هذا القول رد لتلك الدلالة، وبهذا يتضح مخالفة هذه الشبهة لهذه الأدلة المذكورة كما أن في هذا القول رداً للأسباب وقد دلت الأدلة المذكورة على مشروعيته فمن لم يأخذ بالأسباب فقد خالف تلك الأدلة من الكتاب والسنة والإجماع والعقل والحس.
السابع: إن هذه الشبهة فيها إبطال للحكم الربانية والعلل الإلهية حيث رتب الله سبحانه وتعالى المسببات على الأسباب والمعلولات على العلل وربط بعضها ببعض على نظام دقيق يكفل ببقاء الكون ونظامه فمن أنكر هذا فقد خالف الحكمة في وضع الدنيا فإن الله تعالى وضع الأشياء على حكمة فوضع للآدمي يداً يدافع بها ولساناً ينطق به، وعقلاً يهديه إلى دفع المضار واجتلاب المصالح، وجعل الأغذية والأدوية لمصلحة الآدميين فمن أعرض عن استعمال ما خلق له وأرشد إليه فقد رفض أمر الشرع وعطل حكمة الصانع( ).
الثامن: إن هذه الشبهة فيها إلغاء للأسباب، وهو نقص في العقل، قالت طائفة من العلماء( ): الالتفات إلى الأسباب شرك في التوحيد، ومحو الأسباب أن تكون أسباباً نقص في العقل، والإعراض عن الأسباب بالكلية قدح في الشرع وإنما التوكل والرجاء معنى يتألف من موجب التوحيد والعقل والشرع( ).(1/232)
وإنما كان الالتفات إلى الأسباب شركاً، لأن معنى الالتفات إلى السبب هو اعتماد القلب عليه ورجاؤه والاستناد إليه، وليس في المخلوقات ما يستحق هذا لأنه لا يوجد سبب مستقل بمطلوب، بل لا بد من انضمام أسباب أخر إليه، وما ثَمَّ علة تامة إلا مشيئة الله، فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، ولا بد أيضاً من صرف الموانع والمعارضات عنه حتى يحصل المقصود، فكل سبب فله شريك وله ضد، فإن لم يعاونه شريكه ولم يصرف عنه ضده لم يحصل مسببه، فالمطر وحده لا ينبت النبات إلا بما ينضم إليه من الهواء والتراب وغير ذلك، ثم الزرع لا يتم حتى تصرف عنه الآفات المفسدة له، والطعام والشراب لا يغذي إلا بما جعل في البدن من الأعضاء والقوى، ومجموع ذلك لا يفيده إن لم تصرف المفسدات، فلا يتم المطلوب إلا بوجود المقتضي وعدم المانع، وكل سبب معين فإنما هو جزء من المقتضي فليس في الوجود شيء واحد هو المقتضي بنفسه.
وأما أن يكون في المخلوقات علة تامة تستلزم معلولها وسبب تام يستلزم مسببه فهذا باطل( ).
هذا ومما ينبغي أن يعلم أنه بعد انتفاء المانع ووجود المقتضي فلا بد من تسخير مسبب الأسباب وخالق الأسباب كلها سواء كانت حركة حي باختياره وقصده، كما يحدثه تعالى بحركة الملائكة والجن والإنس والبهائم، أو حركة جماد بما يجعل الله فيه من الطبع أو بقاسر يقسره كحركة الرياح والمياه فالله خالق ذلك كله فإنه لا حول ولا قوة إلا به وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، فالرجاء يجب أن يكون كله للرب والتوكل عليه والدعاء له فإنه إن شاء ذلك ويسره كان وتيسر ولو لم يشأ الناس، وإن لم يشأه ولم ييسره لم يكن وإن شاءه الناس( ).(1/233)
وإنما كان محو الأسباب أن تكون أسباباً نقصاً في العقل، كما أنه قدح في الشرع لأن في ذلك مخالفة لما تشهد له العقول والفطر السليمة كما أن فيه مخالفة لما شرعه الله تعالى من طلب الأسباب، فمن رفض الأسباب صار مخالفاً لما يقتضيه العقل والشرع فهو نقص في العقل، كما أنه قدح في الشرع لأن الشارع جعل أفعال العباد سبباً لما نيط بها فهي سبب في وجود ما علق عليها والعقل السليم لا ينكر ذلك لأنه أمر مشاهد محسوس وإنما ينكر ذلك العقل الذي أصابه خلل من مرض الجهل والشبهات، إذ العقل السليم يعرف أن ما أمر الله به من العبادات والدعوات والعلوم والأعمال من أعظم الأسباب فيما نيط بها من العبادات، وكذلك ما نهى عنه من الكفر والفسوق والعصيان هي من أعظم الأسباب لما علق بها من شقاوات، وكذلك الدعاء والتوكل من أعظم الأسباب لما جعله الله سبباً له فمن قال: ما قدر لي فهو يحصل لي دعوت أو لم أدعُ، وتوكلت أو لم أتوكل فهو بمنزلة من يقول: ما قسم لي من السعادة والشقاوة فهو يحصل لي آمنت أو لم أؤمن وأطعت أم عصيت، ومعلوم أن هذا ضلال وكفر وإن كان الأول ليس في مثل هذا الضلال( ).
فتبين بهذا التقرير أن نفي الأسباب نقص واضح في العقل، وقدح في الشرع.
وقد ذكر ابن الجوزي رحمه الله أن الإعراض عن الأسباب إنما كان قدحاً في الشرع لأنه ترك لما أمر الله به ولأنه طلب لتعاطي رتبةٍ ترقى على رتبة الأنبياء لأن موسى عليه السلام لما قيل له: ((إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ)) [القصص:20]، خرج ولما جاع واحتاج إلى عفة نفسه أجر نفسه ثمان سنين...( ).(1/234)
ومما يدل على أن إنكار الأسباب قدح في الشرع ما ثبت من إنكار الله تعالى في كتابه العزيز على من ظن أن وجود الأسباب كعدمها، وأنه لا فرق بين ما أمر الله به وأحبه ورضيه وبين ما نهى عنه وأبغضه، فقال تعالى: ((أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ)) [الجاثية:21].
وقال تعالى: ((أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ. مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ)) [القلم:35، 36].
وقال تعالى: ((أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ)) [ص:28]. وقال تعالى: ((قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ)) [الزمر:9].
وقال تعالى: ((وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ. وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ. وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ. وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَاءُ وَلا الأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ)) [فاطر:19-22].
وقال تعالى: ((لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ)) [الحشر:20].
فقد أنكر الله تعالى في هذه الآيات على من ظن أن وجود الأسباب كعدمها( )، فثبت بهذا كون إنكار الأسباب قدحاً فيما جاءت به الشريعة.
التاسع( ): إن هذا القول يلزم القائل به أمور في غاية الشناعة:(1/235)
أحدها: أن لا يعمل الأسباب التي توصله إلى منافعه الدنيوية فيلزمه أن يترك الأكل والشرب ويقول: إن قضى لي الشبع والري فلا بد أن يصل إليَّ سواء أكلت وشربت أو تركت، وعليه أن لا يلبس إذا برد ولا يتزوج وأن لا يأتي أهله إذا أراد الولد وأن لا يتداوى إذا مرض، وأن يلقى الكفار بدون سلاح، وإذا أراد الحج أن لا يسافر ولا يتحرك بل يجلس في بيته، وإذا أراد أن يتحصل على الزرع فعليه أن لا يحرث ولا يزرع.
فهذه الأمور الشنيعة قد التزم ببعضها بعض أهل الضلال من هؤلاء، فقد قال العز بن عبد السلام رحمه الله: ولقد قال بعض مشايخ الضلال منهم: لا يجوز التداوي لأنه شرك واعتماد على الأسباب فكان جوابه: أن لا يأكل ولا يشرب ولا يلبس ولا يركب ولا يدفع عن نفسه من أراد قتله ولا عن أهله من قصدهم بالزنا والفواحش، فبهت الذي فجر والله لا يهديه وأمثاله إلى الحق والصواب( ).
ثانيها( ): أن لا يطالب بشيء إذا أفسدوا عليه أمواله أو قتلوا أولاده، أو ضربوه أو سبوه أو اعتدوا على عرضه وحرمته وعليه أن لا ينتصر من الظالم ولا يغضب عليه ولا يذمه، ولا يلتزم بهذا من له أدنى مسكة من عقل بل فطر الله الحيوان على حب الانتقام والجزاء عند الاعتداء عليه، فهذا أمر ممتنع في الفطرة لا يمكن أحداً أن يفعله فهو ممتنع طبعاً محرم شرعاً، ففي هذا مخالفة لسنة الله الكونية والشرعية.
ثالثها( ): أن لا يقول بمعاقبة الكفار ولا بجهادهم وقتالهم ولا بإقامة الحدود ولا يلوم إبليس ولا فرعون وقوم نوح وعاد وثمود وغيرهم ولا ينكر أي منكر وقع في الأرض ولا أي فساد في المجتمع.(1/236)
رابعها: أن يقول: لا حاجة بنا إلى الطاعة والإيمان لأن ما قضاه الله من الثواب والعقاب لا بد وما يدري هذا القائل الأخرق الأحمق أن الله قد رتب مصالح الدنيا والآخرة على الأسباب بناء على ما سبق به القضاء لا بغيره( ). ومع وضوح شناعة هذا اللازم قد التزم به بعضهم حتى قال: لا حاجة إلى الأعمال المأمور بها فإن من خلق للجنة فهو يدخلها وإن لم يؤمن ومن خلق للنار فهو يدخلها وإن آمن( ).
والحاصل أن الاحتجاج بالقضاء والقدر ليس حجة مقبولة فإن القدر يؤمن به ولا يحتج به، فإن المحتج به فاسد العقل والدين ولا بد أن يتناقض ولا يستطيع أحد أن يلتزم بما يترتب عليه من المفاسد الشنيعة فلهذا كالن الاحتجاج بالقدر باطلاً بطلاناً ضرورياً مستقراً في جميع الفطر والعقول، وهذا أمر جبل الله عليه الناس كلهم مسلمهم وكافرهم لا يحتجون به، ولكون الاحتجاج به باطلاً في فِطَر الخلق وعقولهم لم تذهب إليه أمة من الأمم ولا يمكن اثنان أن يتعاشرا ساعة واحدة إن لم يكن أحدهما ملتزماً مع الآخر نوعاً من الشرع( ).
هذا وقد تبين مما سبق بطلان هذه الشبهة وفسادها وما تؤدي إليه من لوازم في غاية الشناعة، وهذا عاقبة من يترك منهج الكتاب والسنة وآثار السلف ويتبع زبالة الأفكار، ونسأل الله تعالى أن يرزقنا الإخلاص والاتباع إنه المستعان وولي ذلك والقادر عليه.
مناقشة الشبهة الثانية وهي: استدلالهم بعلم الله تعالى على عدم طلب الدعاء: قد أكثر الصوفية من الاستدلال والاحتجاج بعلم الله تعالى على عدم الحاجة إلى الدعاء حتى عد بعضهم هذا الأمر أصلاً من أصول طريقتهم، فقد روى الطوسي( ) الصوفي عند ذكر أصول طريقتهم عن بعضهم أنه قال: أصلنا السكوت، والاكتفاء بعلم الله عز وجل( ).(1/237)
وهذا يدل على مدى اعتمادهم في عدم الحاجة إلى الدعاء على العلم، وقد تقدم نقل بعض كلامهم، كما يؤكد هذا ما ذكرناه من تعلقهم بما روي عن إبراهيم الخليل عليه السلام: (حسبي من سؤالي علمه بحالي).
وأصل شبهتهم ظنهم أن مجرد علم الله بالشيء يكفي في وجوده ولا يحتاج إلى ما به يكون من الفاعل الذي يفعله وسائر الأسباب.
وهذا الظن باطل من أساسه وغير صحيح، وهو جهل بحقيقة علم الله تعالى وما يقتضيه فإن علم الله بالشيء لا يقتضي عدم طلبه من الله تعالى، قال ابن الجوزي: هذا سد لباب السؤال والدعاء، وهو جهل بالعلم( ).
وإنما صار هذا الظن جهلاً بالعلم لوجهين ذكرهما شيخ الإسلام: أحدهما: أن العلم يطابق المعلوم، ويتعلق به على ما هو عليه، وهو سبحانه قد علم أن المكونات تكون بما يخلقه من الأسباب لأن ذلك هو الواقع فمن قال: إنه يعلم شيئاً بدون الأسباب فقد قال على الله الباطل، وهو بمنزلة من قال: إن الله يعلم أن هذا الولد ولد بلا أبوين وأن هذا النبات نبت بلا ماء.(1/238)
ثانيهما: أن العلم ليس موجباً بنفسه لوجود المعلوم باتفاق العلماء، بل هو مطابق له على ما هو عليه لا يكسبه صفة ولا يكتسب منه صفة، بمنزلة علمنا بالأمور التي قبلنا، كالموجودات التي كانت قبل وجودنا مثل علمنا بالله وأسمائه وصفاته فإن هذا العلم ليس مؤثراً في وجود المعلوم باتفاق العلماء، وإن كان من علومنا ما يكون له تأثير في وجود المعلوم كعلمنا بما يدعونا إلى الفعل، ويعرفنا صفته وقدره فإن الأفعال الاختيارية لا تصدر إلا ممن له شعور وعلم، إذ الإرادة مشروطة بوجود العلم( ). والحاصل أن علم الله بما سيكون لا يكون هو المؤثر في وجوده بدون الأسباب التي علمها الله وجوده بها فإن ذلك يخالف الواقع الذي علمه الله تعالى لأنه يعلم الأشياء على ما هي عليه فإذا كانت تقع بسبب، علمها تقع بسبب لا بدون سبب، فإذا حصل الدعاء من العبد علمنا أن المعلوم لله تعالى والذي قدره الله تعالى هو الدعاء، وإذا لم يحصل الدعاء من العبد علمنا أن المعلوم لله تعالى والذي قدره الله تعالى هو عدم الدعاء( ).
وأما مناقشة استدلالهم بما روي عن إبراهيم الخليل عليه وعلى نبينا السلام فتتلخص في ناحيتين:
أ- ناحية الإسناد:
قد ذكره البغوي في تفسيره بصيغة تشعر بالضعف حيث قال: وروي عن أبي بن كعب. فذكرها( ) بدون إسناد ولم نطلع له على إسناد لا ضعيف ولا قوي ومن هنا قال ابن تيمية رحمه الله:
ليس له إسناد معروف وهو باطل( ).
ونقل صاحب تنزيه الشريعة عن ابن تيمية أنه قال: موضوع، وأقره( )، وقال الألباني: لا أصل له( ).
ب- من جهة المعنى:
1- إن الذي ثبت في الصحيح( ) عن ابن عباس أنه قال: (حسبي الله ونعم الوكيل) قال ابن عباس قالها إبراهيم حين ألقي في النار، وقالها محمد حين: ((قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ)) [آل عمران:173].
وهذا لا يقتضي امتناعه عن سؤال الله تعالى كما هو ظاهر.(1/239)
2- يناقضه ما ذكره الله تعالى عنه في كتابه من دعواته وابتهالاته ولجوئه إلى الله تعالى في الشدائد مثل ما حكى عنه من دعائه عند فراق زوجه وولده الوحيد ((رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ...)) [إبراهيم:37-41]، ومن الأدلة على وضع الحديث مخالفته للقطعي من الكتاب والسنة أو المعقول الصريح، قال ابن الجوزي: ما أحسن قول القائل: إذا رأيت الحديث يباين المعقول أو يخالف المنقول، أو يناقض الأصول، فاعلم أنه موضوع( ).
3- يناقضه أيضاً ما روي عنه أنه قال: (اللهم إنك واحد في السماء، وأنا في الأرض واحد أعبدك)( ) وهذا تعرض للسؤال وإخبار عن حاله، وهو أبلغ السؤال كما تقدم.
4- ثم كيف يقول الخليل عليه السلام: (حسبي من سؤالي علمه بحالي)، والله بكل شيء عليم وقد أمر العباد بأن يعبدوه ويتوكلوا عليه ويسألوه لأنه سبحانه جعل هذه الأمور أسباباً لما يرتبه عليها من إثابة العابدين وإجابة السائلين وهو سبحانه يعلم الأشياء على ما هي عليه، فعلمه بأن هذا محتاج أو هذا مذنب لا ينافي أن يأمر هذا بالتوبة والاستغفار، ويأمر هذا بالدعاء وغيره من الأسباب التي تقضي بها حاجته، كما يأمر هذا بالعبادة والطاعة التي بها ينال كرامته( ).
مناقشة الشبهة الثالثة:
وهي قولهم أن فيه سوء الأدب واتهام الله تعالى بعدم إعطائه لعبده ما يستحق وإن ترك الدعاء من مقام الخواص:
الجواب: إنه يلزم على هذا القول أن الأنبياء أساءوا الأدب مع الله تعالى وأنهم اتهموه وقد طلبوا من الله تعالى حوائج الدنيا والآخرة وقد حكى الله لنا ابتهالاتهم ومناجاتهم التي استغاثوا فيها بالله تعالى وطلبوا حوائج الدنيا والآخرة.(1/240)
قال المقبلي اليمني رحمه الله في رد هذا القول: إنه (بدعة خلاف صرائح الكتاب والسنة، فإن الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم لم يتحاموا طلب الحوائج وأثنى الله عليهم لنقتدي بهم وعلمنا أيضاً في آيات كثيرة طلب الحوائج. فهذه الدعوى من المتصوفة وإن كان ظاهرها أنها خصلة جميلة فهي دعوى كاذبة لأنه لا أحد أعرف في الوثوق بربه من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم.
وهكذا تكون البدع التي يغتر بها حسنة الظاهر قبيحة المخبر وما يعقلها إلا العالمون( ).
فتبين بهذا أنه ليس في الدعاء سوء الأدب ولا اتهام الله تعالى بل هو دأب عباد الله الصالحين ومقام خواص عباد الله من النبيين والصديقين والشهداء، لكن إذا دعا الرجل بما فيه حظ النفس يمكن اعتباره من حظ العامة.
قال شيخ الإسلام رحمه الله ما معناه: يمكن أن يعتبر الدعاء من حظوظ العامة إذا كان الذي دعا به من الأمور المباحة التي فيها حظوظ للنفس، وأما إذا كان يدعو بالاستعانة على طاعات الله وعلى الاستقامة والنصر على أعداء الله والتمكن في الدعوة إلى الله فلا، ففي هذه الحالة فالدعاء إما واجب أو مستحب، وأما إذا دعا الله في حصول المحرمات فهو من الظالمين لأنفسهم( ).
مناقشة تعلق بعضهم بأن الدعاء لا يجوز بما ثبت أنه مضمون الحصول كدعاء آخر البقرة: ((رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا...)) [البقرة:286].
الجواب: إن أحسن الدعاء ما ورد في القرآن والسنة فكيف ينهى عنه، ثم لو كان الدعاء بتحصيل ما هو مضمون الوقوع ممنوعاً لما ساغ الدعاء بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ولا بالوسيلة له ولا بلعن الشياطين ونحو ذلك مما فيه إظهار العجز والعبودية أو الرغبة بحب النبي صلى الله عليه وسلم أو حب الدين أو النفرة عن فعل الكافرين( ). ثم إنه يمكن حمله على طلب مثله أو الإجابة بإعطاء العوض في الدنيا والآخرة( ).
وسيأتي مزيد مناقشة لهذا القول إن شاء الله تعالى.(1/241)
ج- المذهب الثالث: إن الدعاء علامة وأمارة ودلالة محضة على حصول المطلوب المسؤول:
وجعلوا ارتباطه المطلوب ارتباط الدليل بالمدلول لا ارتباط السبب بالمسبب بمنزلة الخبر الصادق والعلم السابق وبمنزلة رؤية الغيم الأسود البارد في زمن الشتاء وإن ذلك دليل وعلامة على أنه ممطر وقالوا مثل ذلك في حكم الطاعات مع الثواب والكفر والمعاصي مع العقاب، هي أمارات محضة لوقوع الثواب والعقاب لا أنها أسباب لذلك. وهكذا عندهم الكسر مع الانكسار، والحرق مع الإحراق، والإزهاق مع القتل ليس شيء من ذلك سبباً البتة ولا ارتباط بينه وبين ما يترتب عليه إلا مجرد الاقتران العادي لا التأثير السببي( ).
وهذا القول هو قول من ينفي الأسباب في الخلق والأمر ويقول: إن الله يفعل عندها لا بها، وهو قول طائفة من متكلمي أهل الإثبات للقدر كالأشعري وغيره وهو قول طائفة من الفقهاء والصوفية( ).
مناقشة هذا المذهب:
ذكرنا فيما مضى أن إنكار الأسباب مضلة في الفكر ونقصان في العقل وأن الله سبحانه وتعالى قد أنكر على من سوى بين وجود الأسباب وعدمها بما فيه الكفاية وفي ذلك رد على هذا القول، إلا أن هذا القول لم ينكر في الظاهر وجود الأسباب وإن كان في الحقيقة يؤدي إلى إنكارها ويؤول إلى الجبر لأنه يقول أن الأشياء توجد عند الأسباب لا بها، فالأشياء توجد مقترنة بالأسباب لا بالأسباب.
وهذا هو الرأي المعروف بكسب الأشعري( ).
وقد اختلف الناس في الأسباب من قدرة العبد وغيرها من الأسباب التي خلق الله تعالى بها المخلوقات على أربعة أقوال:
1- قول من ينكر الأسباب بالكلية وأنها ليست أسباباً وأن وجودها كعدمها وليس هناك إلا مجرد اقتران عادي كاقتران الدليل بالمدلول، فهذا هو قول الأشعري ومن تبعه من أهل الكلام.
2- قول الطبعيين الذين يجعلونها عللاً مقتضية مؤثرة بنفسها.
3- قول المعتزلة الذين يفرقون بين أفعال الحيوان وغيرها.(1/242)
4- القول الرابع قول أهل السنة والجماعة الذين يعترفون بالأسباب وأن الله ربط الأسباب بالمسببات وأن العبد فاعل لفعله حقيقة، وله قدرة واختيار، وقدرته مؤثرة في مقدورها كما تؤثر القوى والطبائع، وغير ذلك من الشروط والأسباب( ).
فالأقوال الثلاثة الأول باطلة، فأما بطلان قول الطبعيين والمعتزلة فواضح وأما بطلان قول الأشعري ومن تبعه فكذلك لأنه مخالف للحس والعقل ولفظ القرآن وهو أحد عجائب الدنيا الغريبة والتي هي غير معقولة لا يصدقها العقل وأنشد في ذلك بعضهم:
مما يقال ولا حقيقة تحته ... ... معقولة تدنو إلى الأفهام
الكسب عند الأشعري والحال عند ... ... البهشمي وطفرة النظام( )
أما كونه مخالفاً للحس والعقل فلأن الحس والعقل يشهدان بأنها أسباب ويعلمان الفروق بين الجبهة وبين العين في اختصاص أحدهما بقوة ليست في الآخر وبين الخبز والحصى في أن أحدهما يحصل به الغذاء دون الآخر( ).
وعند التأمل فقول الأشاعرة بالكسب يؤول إلى الجبر فلا فرق في الحقيقة بين الجبر وبين الكسب المزعوم.
ذكر الألوسي رحمه الله أن الضرورة تكذب قول الجبرية القائلين بأن أفعال العباد كحركة المرتعش وأن القول بأن لهم قدرة غير مؤثرة كاليد المشلولة كما هو الشائع من مذاهب الأشاعرة يؤول إلى قول الجبرية إذ لا فرق بين قدرة لا أثر لها وبين عدم القدرة بالكلية إلا بما هو كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماءً حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً، وأن القول بأن لهم قدرة مستقلة يفعلون بها ما شاءوا كما هو قول المعتزلة، ترده النصوص القواطع، وأن صدور الفعل من العباد يستدعي قدرة يكون بها الإيجاد، وأن تفسير ذلك بالكسب لا يرتضيه المنصف العاقل، وأن القول بأن للعباد قُدَراً مؤثرة بإذن الله وإعانته هو اللبن السائغ الذي يخرج من بين فرث ودم بلا جبر ولا تفويض( ).(1/243)
وهذا الكلام الذي ذكره الألوسي رحمه الله هو الحق الذي لا مرية فيه، وهو الذي يجب قبوله على المنصف، وقد اعترف كبار الأشاعرة بأن الكسب اسم بلا حقيقة.
قال الرازي بعد أن أورد إشكالات في معنى الكسب: وعند هذا التحقيق يظهر أن الكسب اسم بلا مسمى( ).
وأما مخالفته للقرآن فلأن الله تعالى صرح في القرآن بأنه يفعل بهذه الأسباب لا عندها، قال تعالى:
1- ((وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ)) [الأعراف:57].
2- وقال تعالى: ((وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا)) [البقرة:164]، وقوله: ((وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ)) [ق:9].
3- وقال سبحانه: ((يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ)) [المائدة:16].
4- وقال جل وعلا: ((فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ)) [النساء:160].
5- وقال عز من قائل: ((يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً)) [البقرة:26].
وقال تعالى: ((قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ)) [التوبة:14].
وقال تعالى: ((قُلْ هَلْ تَربَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا)) [التوبة:52].
وقال صلى الله عليه وسلم:فيما رواه عنه أبو هريرة: {إن هذه القبور مملوءة على أهلها ظلمة وإن الله جاعل بصلاتي عليهم نوراً}( ).
فمن قال يفعل عندها لا بها فقد خالف لفظ القرآن والسنة( ).(1/244)
وقد عرفت بهذا أن مذهب أهل السنة والجماعة هو الحق لموافقته للكتاب والسنة والعقل والحس.
ثم إن معنى إثبات أهل السنة والجماعة للأسباب ليس معناه أنها هي المؤثرة بنفسها وأنها علل مقتضية لا يتخلف عنها معلولها كما هو مذهب الطبعيين بل هم يقولون: إن الله جعلها أسباباً لمسبباتها، وإنه لا بد من صرف الله عنها الموانع ثم إنه لا بد من تسخير الله تعالى لتلك الأسباب وإبقاء مفعوليتها.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: وليس من الأسباب ما هو مستقل بوجود المسبب لكن له شريك فيه وله ضد، فإن لم يعاونه شريكه ولم يصرف عنه ضده، لم يحصل مسببه، ومن هنا لا يوجد ما هو علة تامة تستلزم معلولها إلا مشيئة الله تعالى فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن( ).
وهذا الكلام من شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في حقيقة الأسباب وأنه ليس في المخلوقات علة تامة تستلزم معلولها ولا سبب تام يستلزم مسببه يرد على ما زعمه البوطي وشنع به على شيخ الإسلام من أنه بإثباته القوة التي وضعها الله في الأشياء جنح إلى رأي الفلاسفة وقلدهم وخالف أهل السنة والجماعة( ) - أي الأشاعرة- وأنه تناقض.
وحاصل شبهاته تدور على الآتي:
1- أن إثبات الأسباب يتنافى مع صفات الربوبية والألوهية( ).
2- أننا لم نصل إلى الآن إلى الكشف عن تلك القوة المودعة، كما أن الله لم يخبرنا عنها( ). فإذا هي خيالات وأوهام، وسمى هذه الشبهة منطق العلم( ).
3- يؤول ما ورد من حروف السببية والتعليل في كتاب الله تعالى لئلا يتعارض مع النصوص الأخرى( ).
مناقشة هذه الشبهة:
أقول وبالله التوفيق: إن هذه المسألة مبنية على مسألة قدرة العبد وهي المعروفة بكسب الأشعري التي هي إحدى محالات علم الكلام.
فلهذا لا نطيل الكلام عليها وإنما نشير إلى ما يتعلق بالموضوع.(1/245)
1- إن ما زعمه من التنافي مع صفات الربوبية والألوهية غير وارد أصلاً وذلك لأنه إنما يرد لو أثبتنا أسباباً وعللاً مستقلة وقد علمت أن الشيخ رحمه الله يقول ما نصه: وأما أن يكون في المخلوقات علة تامة تستلزم معلولها وسبب تام يستلزم مسببه فهذا باطل( ).
ويقول أيضاً: إنه ليس في الوجود سبب يستقل بحكم، بل كل سبب فهو مفتقر إلى أمور أخرى تضم إليه، وله موانع وعوائق تمنع موجبه وما ثم سبب مستقل إلا مشيئة الله وحده، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن( ) ويقول أيضاً: وهو -أي الله- وإن كان قد خلق ما خلقه بأسباب فهو خالق السبب والمقدر له وهو مفتقر إليه كافتقار هذا وليس في المخلوقات سبب مستقل بفعل خير ولا دفع ضر( ).
كما أنه يبين أن تأثير الأسباب مشروط بشرطين وهما:
1- وجود المقتضي.
2- عدم الموانع.
ثم مع هذين الشرطين يشترط شرطاً آخر وهو الأهم وهو أنه لا بد من تسخير مسبب الأسباب وإبقائه لها وتيسيره ذلك، وبهذا تبين أنه لا منافاة بين الأسباب وصفات الربوبية.
وقد مثل البوطي بصفة القيومية وزعم أننا لو قلنا بالسببية الحقيقية للزم أن الأشياء بعد أن أودعت فيها قواها المزعومة أصبحت تؤدي مهماتها استقلالاً ودونما حاجة إلى عون مستمر فتصبح كجهاز العقل الآلي المعروف اليوم( ).
وقد عرفت أن هذا إنما يلزم لو قلنا: إنها سبب تام مستقل إلخ، ولم يدع ذلك أحد ممن هو يرد عليه.
2- إن ما ادعاه من أن حروف السببية والتعليل في كتاب الله تعالى مؤولة لأن هناك نصوصاً صريحة محذرة من أن تفهم معاني هذه الحروف على حقيقتها في حق الله تعالى( ).. هذا الكلام فيه وجوه:
1- أنه ظن أن الآيات التي تدل على السببية والتعليل- وهي أكثر من ألف موضع في القرآن كما قاله ابن القيم( ) - تتعارض وتتنافى مع الآيات التي تدل على تفرد الله بالخلق والإيجاد وهي أيضاً كثيرة.(1/246)
وهذا الظن باطل لا أساس له لأننا كما تقدم لا نرى سبباً تاماً ولا علةً تامةً وإنما هي أسباب جعلها الله تعالى، إن شاء أبقى سببيتها وإن شاء سلبها السببية وأبطل مفعولها، ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن.
2- أن البوطي نفسه ذكر في أول كتابه الذي زعم فيه هذا الكلام السابق اتفاق علماء اللغة على أن الحقيقة لا يعدل عنها إلا لضرورة في الكلام، ولا ضرورة هنا تلجئ إلى تأويل أكثر من ألف موضع في القرآن الكريم.
3- ثم إنه استدل بما وقع لمريم في قوله تعالى: ((وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا)) [مريم:25] وأن هذا التساقط ليس من قوة الهز وإنما هو من الله تعالى.
الجواب: أننا لم نزعم أن الأسباب لازمة ولا يَخرِقُها الله تعالى وقد علم أن العلماء سموا مثل هذا خوارق العادة فالله سبحانه يخرق الأسباب والعادات إن شاء وإن شاء أبقاها على عادتها.
4- وأما ما زعم من أن القوة لو كانت موجودة لرأيناها أو لأخبرنا الله بها... إلخ.
فمن المعلوم عقلاً عدم الملازمة بين وجود الشيء وبين رؤيته كما في الروح والنفس والحرارة والبرودة، وأما إخبار الله تعالى بذلك فقد حصل ففي أكثر من ألف موضع ذكر ما يفيد ذلك.
5- وأما ما زعمه من تناقض ابن تيمية( ) فذلك إنما حصل للبوطي هذا الظن من عدم استيعابه لكلام الشيخ أو من سوء الظن أو غير ذلك، وأما لو جمع أطراف كلامه وتتبعه في مظانه لعلم يقيناً أنه ليس هناك تناقض وقد نقلت فيما مضى ما يفيد ذلك ولله الحمد.
المذهب الرابع( ): أن الدعاء يرد القضاء ويغيره من قضاء إلى قضاء:
وقد استدل هؤلاء بأدلة كثيرة أقواها الأحاديث المصرحة برد الدعاء للقضاء، ثم أحاديث الاستعاذة من سوء القضاء، فمن الأحاديث التي تدل على رد الدعاء للقضاء:
1- حديث سلمان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {لا يرد القضاء إلا الدعاء، ولا يزيد في العمر إلا البر}( ).(1/247)
2- وحديث ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لا يزيد في العمر إلا البر، ولا يرد القدر إلا الدعاء، وإن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه}( ).
3- وحديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لا يغني حذر من قدر، والدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل، وإن الدعاء والبلاء ليعتلجان إلى يوم القيامة}( ).
ومن الأحاديث التي تدل على الاستعاذة من شر القضاء:
1- ما ورد في حديث القنوت: {وقني شر ما قضيت}( ).
2- وما ورد في حديث أبي هريرة قال: [[كان النبي صلى الله عليه وسلم يتعوذ من جهد البلاء، ودرك الشقاء، وسوء القضاء، وشماتة الأعداء]]( ).
مناقشة هذه الأدلة:
الجواب عن هذا:
1- إن هذه الأحاديث لو فرضنا أنها تكون معارضة لما يدل على عدم تغيير ما سبق به القضاء، لكانت النصوص القطعية الدالة على عدم التغيير أقوى وأرجح، هذا على فرض الترجيح.
2- الصحيح أنه ليس هناك تعارض فالجمع ممكن جداً لأن هذا -كما تقدم- من رد القضاء بالقضاء والكل من قضاء الله وقدره، الرد والراد والمردود.
ولا يخرج شيء من قدر الله تعالى، فالله الذي قدر البلاء هو الذي قدر دفعه بالدعاء أو غير ذلك من الأسباب، فالقضاء والقدر شامل للجميع وقد تقدم بيان ذلك بما فيه الكفاية.
3- ليس في هذه الأحاديث ما يدل صراحة على أن الدعاء ليس داخلاً في القضاء، ويحمل رد القضاء بالدعاء الوارد في هذه الأحاديث على معنى أن الدعاء قد سبق به القضاء فهو سبب علق عليه المسبب في القضاء السابق أولاً وليس معناه أن الدعاء يأتي بقضاء جديد لم يسبق به القضاء، وذلك لما يلزم- لو ثبت ذلك- من عدم شمول القضاء لكل شيء، وهذا يتنافى مع النصوص الكثيرة الدالة على شمول القضاء.
وبهذا تبين أن الدعاء لا يرد القضاء بمعنى أنه لا يأتي بقضاء جديد لم يسبق.
المذهب الخامس: التفريق بين الأمور:(1/248)
قال أصحاب هذا المذهب: إن الدعاء يكون مشروعاً نافعاً في بعض الأشياء دون بعض( ).
وقالوا بعدم مشروعية الدعاء بطول العمر أو البقاء، وعللوا ذلك بأنه أمر قد فرغ منه، واستدلوا بما رواه مسلم عن عبد الله بن مسعود قال: قالت أم حبيبة زوج النبي صلى الله عليه وسلم: {اللهم أمتعني بزوجي رسول الله صلى الله عليه وسلم وبأبي أبي سفيان وبأخي معاوية، قال: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: {قد سألتِ الله لآجالٍ مضربة، وأيامٍ معدودة، وأرزاقٍ مقسومة، لن يعجل شيئاً قبل حله أو يؤخر شيئاً عن حله، ولو كنت سألت الله أن يعيذك من عذاب في النار، أو عذاب في القبر، كان خيراً وأفضل}( ).
واستدل لهم أيضاً بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقبل طلب الأنصار بالدعاء لهم برفع الحمى، فقال لهم: {أوَ تصبرون؟}( ).
وقد روى هذا المذهب عن الإمام أحمد رحمه الله فقد روي عنه أنه كان يكره أن يدعى له بطول العمر، ويقول: هذا أمر فرغ منه، وقال غيره: إن الدعاء بطول البقاء محدث( ).
وقد ورد عن أحمد الدعاء للمتوكل بطول البقاء( ) فهذا فيه نوع تناف مع ما روي عنه من كراهية الدعاء له بطول العمر وتعليله ذلك بأنه مفروغ منه.
وأيد هذا المذهب شارح الطحاوية( ) وذهب إلى أن الدعاء لا تأثير له في زيادة العمر بخلاف صلة الرحم ويمكن أن يعد من هذا المذهب ما ذهب إليه القرافي من عدم الدعاء بالأمر المقطوع فيه كرفع الخطأ والنسيان. وسيأتي مناقشة القرافي في هذا إن شاء الله تعالى.
مناقشة من يفرق في الدعاء بين الأشياء:
1- إن التفريق لا دليل عليه إذ الحجة بأنه أمر قد فرغ منه، فهذه الحجة موجودة في كل الأشياء فالكل مقدر قد فرغ منه( ).
2- قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم دعاؤه لبعض أصحابه بطول العمر، من ذلك دعاؤه صلى الله عليه وسلم لأنس بطول العمر بقوله صلى الله عليه وسلم: {اللهم أكثر ماله وولده وأطل عمره واغفر ذنبه}( ).(1/249)
وقد بوب البخاري في كتاب الدعوات فقال: باب دعوة النبي صلى الله عليه وسلم لخادمه بطول العمر وبكثرة ماله، فأورد دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لأنس( ).
والظاهر أن البخاري يشير بهذا التبويب إلى الرد على من قال بعدم الدعاء بطول العمر والله أعلم.
وقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً لأبي اليَسَر كعب بن عمرو بطول العمر فقال: {اللهم أمتعنا به} وكان يحدث بهذا الحديث ويبكي ثم يقول: [[أمتعوا بي لعمري كنت آخرهم]]( ). وروي أيضاً أنه صلى الله عليه وسلم دعا بطول العمر لأم قيس ابنة محصن أخت عكاشة، قال الراوي: [[ولا نعلم امرأة عمرت ما عمرت]]( ).
3- قد ثبت عن بعض الصحابة الدعاء بطول العمر، فقد دعا سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه بطول العمر على الرجل الذي قال: [[إن سعداً كان لا يسير بالسرية، ولا يقسم بالسوية، ولا يعدل في القضية، قال سعد: أما والله لأدعون بثلاث: اللهم إن كان عبدك هذا كاذباً قام رياء وسمعة فأطل عمره، وأطل فقره، وعرضه بالفتن، وكان بعد إذا سئل يقول: شيخ كبير مفتون أصابتني دعوة سعد]]. قال الراوي: [[فأنا رأيته بعد قد سقط حاجباه على عينيه من الكبر، وإنه ليتعرض للجواري في الطرق يغمزهن]]( ).
فتبين مما تقدم ثبوت الدعاء بطول العمر وأنه مشروع لا محذور وأما ما استدل به القائلون بالتفريق بين الأشياء في الدعاء من قول النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار: أوَتصبرون؟ فيمكن أن يجاب عنه بأنه سؤال كشف وتعليم، فأوحى الله إليه أنه لا يكشف عنهم في ذلك الوقت، وأخر الدعاء، ويحتمل أنه رأى بهم جزعاً وقلة صبر فأمرهم به( ).
ومما يبين هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم قد دعا برفع الحمى عن المدينة عند قدومه إليها وإصابة أبي بكر وبلال رضي الله عنهما بالحمى فقال صلى الله عليه وسلم: {اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد، اللهم بارك لنا في صاعنا، وفي مدنا وصححها لنا وانقل حماها إلى الجحفة}( ).(1/250)
ويمكن أن يجاب أيضاً عن حديث أم حبيبة رضي الله عنها بأنه صلى الله عليه وسلم علم بالوحي بأنه لا يزاد في أعمار هؤلاء الذين دعت لهم أم حبيبة أو يقال: إنه رأى حرصها الشديد على ذلك فمنعها، أو أنه صلى الله عليه وسلم أرشدها إلى الأفضل وهو طلب الأمر الأخروي من الاستعاذة من النار، أو عذاب القبر دون النفع الدنيوي من التمتع بهؤلاء الذين ذكرتهم، ويدل لهذا قوله: (كان خيراً وأفضل) فإن اسم التفضيل يدل على المشاركة والزيادة فأصل الخيرية والفضل ثابت لما دعت به والله أعلم.
وأما التفريق بين صلة الرحم وبين الدعاء بأن الأول يزيد في العمر دون الثاني فيعترض عليه بأن كليهما سببان متماثلان، فأما أن نمنع تأثيرهما في المسببات أو نجيز تأثيرهما كباقي الأسباب الشرعية، ولا يجوز أن نفرق بين متماثلين بدون دليل واضح ولا يقال إن النص ورد في صلة الرحم بزيادة العمر لأننا نقول: إنه قد ورد النص أيضاً بالدعاء بطول العمر وثبت تأثيره في ذلك كما في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لأنس وأبي اليسر وأم قيس ودعاء سعد بن أبي وقاص على الرجل، فكل هذا يدل على أنه لا فرق بين الأمرين والله أعلم.
المبحث الثاني
في الصواب الذي تدل علية الأدلة الصحيحة وهو
المذهب السادس:
وهو الذي عليه جمهور أهل السنة والجماعة: وهو الصواب( ) الذي دل عليه الكتاب والسنة، والفطرة والعقل السليم وتجارب الأمم والواقع التاريخي، والمشاهدة والحس وهو أن الدعاء سبب من الأسباب وأن له تأثيراً في المطلوب المسؤول كسائر الأسباب المقدرة والمشروعة، وهذا يعترف به جماهير بني آدم من المسلمين واليهود والنصارى والصابئين والمجرمين والمشركين( ). ولم يشذ عن هذا إلا طوائف.
بل هو شبه اتفاق بين أهل الملل وأساطين الفلاسفة حتى يذكر عن بطليموس( ) أنه قال:(1/251)
واعلم أن ضجيج الأصوات في هياكل العبادات، بفنون اللغات، على اختلاف الحاجات، يحلل ما عقدته الأفلاك الدائرات( )، فهذا الفيلسوف يعترف ويقر بتأثير الدعاء لكنه يفسر ذلك التأثير على وجه يوافق عقيدته بتأثير الكواكب.
والدعاء مثل سائر الأسباب كالتوكل والصدقة... سبب لجلب المنافع ودفع المضار( ).
ثم الدعاء -مع ثبوت كونه سبباً- داخل في القضاء، ولا يخرج عن القضاء فإن الدعاء من جملة ما سبق به القضاء لأن الله سبحانه أحاط بكل شيء علماً وقدر كل شيء تقديراً ولا يمكن أن يخرج شيء عن قضائه، فلهذا فالدعاء نفسه داخل في القضاء فإذا قدر الدعاء وأنه سبب لكذا فلا بد أن يدعو الرجل وأن يتسبب ذلك فيما جعله الله سبباً فالدعاء سبب لجلب النفع كما أنه سبب لدفع البلاء فإذا كان أقوى منه دفعه وإن كان سبب البلاء أقوى لم يدفعه، لكن يخففه ويضعفه، وليس شيء من الأسباب أنفع من الدعاء ولا أبلغ في حصول المطلوب.
ولهذا أمر صلى الله عليه وسلم عند انعقاد أسباب الشر بما يدفع موجبها بمشيئة الله تعالى وقدرته من الصلاة، والدعاء، والذكر والاستغفار والتوبة، والإحسان بالصدقة والعتاقة، فإن هذه الأعمال الصالحة تعارض الشر الذي انعقد سببه كما في الحديث: {إن الدعاء والبلاء ليلتقيان بين السماء والأرض فيعتلجان}( )، وهذا كما لو جاء عدو فإنه يدفع بالدعاء وفعل الخير وبالجهاد له وإذا هجم البرد يدفع باتخاذ الدفء، فكذلك الأعمال الصالحة والدعاء( ).
ويدل على دفاع العدو بالدعاء مع الجهاد قوله صلى الله عليه وسلم لسعد بن أبي وقاص: {هل تنصرون إلا بضعفائكم} ولفظ النسائي: {إنما نصر الله هذه الأمة بضعفتهم بدعواتهم وصلاتهم وإخلاصهم}( ).(1/252)
والحاصل أن من جملة القضاء رد البلاء بالدعاء، فالدعاء داخل تحت القضاء وليس خارجاً عنه، فالدعاء سبب لرد البلاء، واستجلاب الرحمة كما أن الترس سبب لدفع السلاح، والماء سبب لخروج النبات من الأرض فكما أن الترس يدفع السهم فيتدافعان، فكذلك الدعاء والبلاء، وليس من شرط الاعتراف بالقضاء أن لا يحمل السلاح، وقد قال الله تعالى: ((وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ)) [النساء:102]، فالله تعالى هو الذي قدر الأمر، وقدر سببه( ).
دلالة الكتاب على ذلك:
أ- قال تعالى: ((وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ)) [غافر:60].
وجه الاستدلال بالآية:
1- إن الله تعالى قد علق في هذه الآية الإجابة بالدعاء تعليق المسبب بالسبب( ) فلو كانت الاستجابة تقع بدون سبب الدعاء لكان تعليق الإجابة بالدعاء لا فائدة فيه فيكون عبثاً، حاشا كلام الله من ذلك.
2- هذه الصيغة تدل على الشرط والجزاء فإن جواب الأمر يجزم إن قصد الجزاء وتَسَبُّبَ الفعل عن الطلب السابق وإن اختلفوا هل الجازم حرف شرط محذوف مع فعله أو الجملة السابقة لنيابتها عن حرف الشرط أو لتضمنها معنى حرف الشرط( ).
فهذا يدل على أن هذه الصيغة صيغة شرط وجزاء، والشرط والجزاء يتلازمان فلو كان وجود الدعاء وعدمه سواء لزم أنه لا فائدة في اشتراطه في وقوع الإجابة فيكون اشتراطه عبثاً، حاشا كلام الله من ذلك.
3- هذه الآية تدل على الوعد بالإجابة عند وجود الدعاء فلو كان وجوده وعدمه سواء لزم أنه لا حاجة إلى هذا الوعد الذي هو من الله الذي لا يخلف الميعاد.
4- إن الله سبحانه قد أمر في الآية بالدعاء، وأوامر الله لا تخلو من فوائد...
5- ثم إن الوعيد الشديد لمن تكبر عن الدعاء يدل على أهمية الدعاء وأنه ذو شأن عظيم، ولا يمكن أن يتوعد عليه إلا وله فائدة.
ب- قال تعالى: ((وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ)) [البقرة:186].(1/253)
وجه الدلالة من الآية:
1- هذه الآية نزلت بسبب السؤال( ) عن الدعاء، فلو كان الدعاء غير نافع، لبينت الآية ذلك لأن هؤلاء السائلين كانوا محتاجين إلى معرفة ذلك، ولا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة.
2- الآية رتبت الإجابة على الدعاء بإذا الشرطية التي تدل على التحقيق ولها جواب مقدر، والجواب يترتب على الشرط وجوداً وعدماً.
3- وهذا وعد صريح بإجابة الدعاء، والله لا يخلف الميعاد، وقد علق هذا الوعد على الدعاء بإذا التحقيقية.
جـ- قال تعالى: ((وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ)) [النساء:32].
إن الله سبحانه وتعالى نهى في هذه الآية عن الحسد وتمني زوال نعمة الغير وأمر بسؤاله من فضله فدل على أنه بسبب السؤال يعطي مثل ما أعطى لذلك الذي فضله وربما يعطي أكثر، فلو كان الدعاء والسؤال لا أثر له في إعطاء السائل ما تمناه وسأله، للزم أنه لا فائدة في الأمر به في هذا المقام، وهذا يخالف ما يقتضيه سياق الآية.
د- قال تعالى: ((وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا)) [إبراهيم:34].
فبينت الآية أن الإيتاء والإعطاء يكون من المسؤول المطلوب فلو كان السؤال ليس له أثر سببي في الإيتاء لم يعلق به الإيتاء لا سيما أن سياق الآيات في ذكر نعم الله على عباده ومن ذلك نعمة إجابة الدعاء وإعطاء المسؤول.
هـ- قال تعالى: ((أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ)) [النمل:62].
فالآية صريحة الدلالة على أن دعاء المضطر هو السبب في إجابة سؤاله وكشف السوء عنه، وهذا من آيات الله العظيمة الدالة على وحدانيته وتفرده بالربوبية والألوهية، ولهذا أعقبه بقوله: ((أَإلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ)) [النمل:62].(1/254)
و- قد وردت آيات كثيرة جداً ذكر الله فيها ما وقع لأنبيائه وأوليائه وعباده الصالحين من المحن والبلايا والشدائد العظام فاستغاثوا بربهم، وتضرعوا له، وابتهلوا إليه فاستجاب الله لهم وكشف عنهم تلك المحن بعد دعائهم.
وقد حكى الله لنا ألفاظ دعواتهم وصيغ ابتهالاتهم لنقتدي بهم ونأخذ العبر والدروس، ومن تلك الدروس التي نأخذها تأثير الدعاء وفائدته العظيمة في جلب المنافع ودفع المضار وأنه سمة العبودية وأنه الغذاء الروحي لا سيما عند نزول الشدائد المدلهمة، ونسوق إن شاء الله تعالى جملة مما حكى الله لنا من تلك الأدعية المباركة.
ومما حكى الله لنا عن نوح عليه السلام مما يدل على تأثير الدعاء:
قوله تعالى: ((وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ)) [الصافات:75].
ما أصرحها في تأثير الدعاء وأوضحها وأبينها من حجة قاطعة وما أبلغها من برهان ساطع!! ومثلها قوله تعالى في قصة نوح أيضاً: ((وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ. وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ)) [الأنبياء:76، 77]، ودلالة الآية على تأثير الدعاء من أوجه:
1- الأول: إلغاء السببية، وهي موضوعة في اللغة العربية للترتيب والتعقيب فالمعطوف بها مرتب على المعطوف عليه ترتب المسبب على سببه والمعلول على علته.
وقد ذكر علماء اللغة إفادتها للسببية لا سيما في عطف الجمل والأوصاف.
قال ابن هشام( ) النحوي بعد أن ذكر أنها ترد على ثلاثة أوجه:
أحدها: أن تكون عاطفة، وتفيد ثلاثة أمور أحدها الترتيب...
الأمر الثاني: التعقيب....
والأمر الثالث: السببية.. وذلك غالب في العاطفة جملةً أو صفةً.(1/255)
فالأول نحو ((فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ)) [القصص:15]، ونحو: (فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيهِ)) [البقرة:37].
والثاني نحو ((لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ. فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ. فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ)) [الواقعة:52-54]( ).
2- الثاني: كلمة (استجبنا) إذ استجابة النداء من الله تعالى تكون بإعطاء السؤال إذ الاستجابة نوعان كما تقدم( ).
3- الثالث: كلمة (نجينا) المعطوفة فالاستجابة والإنجاء من الكرب العظيم والنصر كل هذا مترتب على ندائه ودعائه لله تعالى ترتب المسبب على السبب والمعلول على العلة.
وقوله تعالى: ((وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ. فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ)) [الأنبياء:83، 84].
تدل الآيتان على المقصود من عدة أوجه:
منها العطف بالفاء السببية في الموضعين: فاستجبنا، فكشفنا، ودلالة استجبنا وكشفنا اللغوية، ودلالة السياق، هذه الدلالات الواضحة على تأثير الدعاء لا ينكرها إلا من طمس الله بصيرته وختم على قلبه.
وقوله تعالى فيما حكاه لنا من استغاثة المؤمنين من الأمم السابقة: ((وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ. فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ)) [البقرة:250، 251].(1/256)
وقال أيضاً في آية أخرى: ((وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)) [آل عمران:147، 148].
ومثل استغاثة هؤلاء المؤمنين من الأمم السابقة في طلب النصر على الأعداء ما وقع من استغاثة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يوم بدر ومناشدتهم لربهم في النصر على كفار قريش، قال تعالى: ((إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ)) [الأنفال:9].
فهذه الآية واضحة وضوح الشمس في رابعة النهار على أن الاستغاثة هي السبب في استجابة الله للمؤمنين ونصرهم على عدوهم وتأييدهم وإمدادهم بملائكته.
وقوله تعالى فيما حكى الله لنا عن ابتهالات يونس ودعواته: ((وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ. فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ)) [الأنبياء:87، 88].(1/257)
فدلت الآيتان على أن الدعاء هو السبب في نجاته من عدة أوجه، منها الفاء السببية، ومنها كلمتا: استجبنا ونجينا كما دلت على أن هذا ليس خاصاً به بل المؤمنون عامة إذا وقعوا في شدة واستغاثوا بربهم فهو ينجيهم، كما دلت أيضاً على أنه لولا الدعاء لما نجا من هذا الكرب العظيم ولبقي في بطن الحوت، وقد صرحت بذلك آية أخرى قال تعالى: ((فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ. لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ)) [الصافات:143، 144]، فكلمة لولا في مثل هذا الموضع تدل على امتناع الجملة الثانية لوجود الأولى( ). وهذا صريح قاطع في أن الدعاء هو السبب في نجاته ولو لم يحصل الدعاء لما نجا ولبقي في بطن الحوت إلى يوم القيامة.
وقوله تعالى مبيناً حالة يوسف عليه السلام وما حصل له من المحن: ((قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ. فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)) [يوسف:33، 34]، فدلالتها على تأثير الدعاء من وجوه كثيرة منها الفاء المعقبة السببية وكلمة استجاب والفاء السببية أيضاً في (فصرف)، وتذييل الآية بالسميع العليم أي أنه يسمع دعاء من التجأ إليه وقصد بابه ويعلم حاله وتضرعه وافتقاره فيرحمه فينقذه من الشدة.
وقوله تعالى: ((هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ. فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى)) [آل عمران:38، 39].
فقوله: ((إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ)) [آل عمران:38] يدل على أن الله يسمع ويجيب.(1/258)
وقوله تعالى: ((ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا. إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا)) [مريم:2، 3].
دلت الآية على أن الرحمة حصلت له حين ندائه لا قبله مما يدل على توقف الرحمة على النداء توقف المسبب على السبب، ويدل قوله: ((وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيّاً)) [مريم:4] على أن الله لم يخيبه فيما مضى بل يقضي له حاجته ويبلغه إلى سُؤلِه.
وقوله تعالى: ((وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ. فَاسْتَجَبْنَا لَهُ... إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبَاً وَرَهَبَاً)) [الأنبياء:89، 90]. ففي هذا ترتيب للاستجابة على النداء، كما أن فيه تعليلاً للاستجابة بكونهم مسرعين في الخيرات، وداعين رغبة ورهبة.
وقوله تعالى في قصة تضرع موسى وابتهاله إلى الله: ((قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي. وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي)) [طه:25، 26] إلى أن أجابه الله بقوله: ((قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى)) [طه:36]، ما أوضحها في الدلالة على تأثير الدعاء في الإجابة!!
وقوله تعالى في قصة موسى وهارون في استغاثتهما بالله في إنقاذهما والمؤمنين من طغيان فرعون ومَلَئِه: ((وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ. قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا)) [يونس:89]، فصرحت الآيتان بإجابة دعوتهما واستغاثتهما بالله تعالى وأن ذلك عقب ابتهالهما إلى الله تعالى فدل هذا على ترتب الإجابة على الدعاء ترتب المسبب على السبب.(1/259)
ز- وقد دل القرآن على أن حصول الدعاء سبب في كشف البلايا والمصائب ومنع وقوع العذاب والهلاك، وأن ترك الدعاء سبب في وقوع العذاب والهلاك وهذا صريح في تأثير الدعاء في منع وقوع العذاب وكذلك العكس، قال تعالى: ((قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ....)) [الأنعام:40] إلى قوله: ((وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ. فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)) [الأنعام:42، 43].
قال ابن كثير رحمه الله: ((وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ)) [الأنعام:42]: يعني الفقر والضيق في العيش. ((وَالضَّرَّاءِ)) [الأنعام:42]: وهي الأمراض والأسقام والآلام. ((لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ)) [الأنعام:42]: أي يدعون الله ويتضرعون إليه ويخشعون، قال الله تعالى: ((فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا)) [الأنعام:43] أي فهلا إذا ابتليناهم بذلك تضرعوا إلينا وتمسكنوا...( ).
فمعنى هذا أنهم لو دعوا الله وتضرعوا لارتفع العذاب عنهم كما حصل لقوم يونس، ولكنهم لم يدعوا الله ولم يتضرعوا إليه، فوقع العذاب فهذا صريح في تأثير الدعاء في ذلك كما هو صريح من قوله تعالى في أول هذه الآيات: ((فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ)) [الأنعام:41] إذ هو واضح في أن الدعاء هو السبب للكشف، فالفاء للسببية.
ومثل هذه الآية السابقة قوله تعالى: ((قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا)) [الفرقان:77]، فإنه يدل -على تفسير الدعاء بدعاء المسألة- على أن الله تعالى لا يعبأ بعباده لولا دعاؤهم له فدل على أن الدعاء له أثر عظيم.(1/260)
ح- ثم إن الله سبحانه وتعالى وصف الأصنام بأنها لا تسمع نداء من دعاها فلا تجيب دعاء فدل هذا على أن الله بخلافها فهو يسمع نداء من استغاث به فيجيب له، قال الله تعالى حكاية عن إبراهيم: ((هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ)) [الشعراء:72]، كما أن إبراهيم قال في وصف الله تعالى: ((إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ)) [إبراهيم:39].
وقال تعالى: ((لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ)) [الرعد:14].
ط- وقد ذكر الله تعالى أن الاستغفار والتوبة سببان لنزول المطر وللإمداد بالأموال والبنين، ولكثرة البساتين والأنهار كما أنهما سببان للعيش والتمتع بالمتاع الحسن في الحياة الدنيا، قال تعالى: ((فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا. يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا. وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا)) [نوح:10-12]. قال: ((وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ)) [هود:52].
وقال: ((وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ)) [هود:3].(1/261)
وذكر الله أيضاً أن الاستغفار يمنع من نزول العذاب، قال تعالى: ((وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ)) [الأنفال:33]، فدلت هذه الآيات على أن الاستغفار والتوبة من جملة الأسباب المشروعة، وتقدم أن الاستغفار نوع من أنواع الدعاء فثبت أن كليهما من الأسباب، وقد كان لهما الأثر العظيم في هذه الأمور المذكورة في الآيات السابقة فلولاهما لما حصلت هذه الأشياء، فدل على أنهما سببان في ذلك وأن وجودهما ليس كعدمهما.
والحاصل: أن القرآن من أوله إلى آخره صريح في ترتب الجزاء بالخير والشر والأحكام الكونية والأمرية على الأسباب، بل في ترتب أحكام الدنيا والآخرة ومصالحهما ومفاسدهما على الأسباب والأعمال ترتب الجزاء على الشرط والمعلول على العلة، والمسبب على السبب، وهذا بمختلف الصيغ والأساليب المتنوعة الكثيرة في مواضع كثيرة، وهذه المواضع تزيد في القرآن الكريم على ألف موضع كما قاله( ) ابن القيم رحمه الله، بل ذكر ابن القيم في موضع آخر أن ما يفيد إثبات الأسباب من القرآن والسنة لو تتبع لزاد على عشرة آلاف موضع، وأن ذلك حقيقة وليس مبالغة( ).
وأما السنة الدالة على تأثير الدعاء فأكثر من أن تحصر فقد تواتر عنه صلى الله عليه وسلم أمران: الأول: فعله للدعاء، والثاني: حثه صلى الله عليه وسلم وترغيبه في الدعاء، وقد ذكر تواتر الأمرين عنه صلى الله عليه وسلم الكتاني( ) في رسالته في الأحاديث المتواترة( ).
فلهذا نكتفي بإيراد بعض الأحاديث الدالة على المراد، من ذلك:
1- قوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه أنس رضي الله عنه: لكل نبي دعوة دعاها لأمته، وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي، هذا لفظ مسلم، وفي البخاري: {لكل نبي سأل سؤالاً - أو قال: لكل نبي دعوة قد دعا بها- فاستجيب، فجعلت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة}( ).(1/262)
2- حديث أنس بن مالك الآخر، قال: {بينما النبي صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة إذ قام رجل فقال: يا رسول الله هلك الكراع وهلك الشاء، وفي رواية وجاع العيال، وفي رواية أخرى: هلكت الأموال وانقطعت السبل فادع الله أن يسقينا، فمد يديه ودعا، وفي رواية وما نرى في السماء قزعة فو الذي نفسي بيده ما وضعها حتى ثار السحاب أمثال الجبال ثم لم ينزل عن منبره حتى رأيت المطر يتحادر على لحيته صلى الله عليه وسلم، فمطرنا من الجمعة إلى الجمعة ثم جاء ذلك الرجل أو غيره في الجمعة المقبلة فقال: تهدمت البيوت وانقطعت السبل فادع الله يمسكها، فرفع يديه فقال: اللهم حوالينا ولا علينا، فما يشير بيده إلى ناحية من السحاب إلا انفرجت}( ).
3- حديث النزول، وهو حديث مشهور مستفيض متواتر( )، ومن
طرقه ما رواه أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الأخير فيقول: من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟}( ).
دلالة الفطرة على تأثير الدعاء:
الإنسان من طبيعته أنه إذا كان في سعة وعافية نسي ربه وتمرد وعصى، وإذا وقع في شدة وضيق تحركت فطرته ومشاعره واتجه إلى الله ونسي ما كان يدعو من قبل وهنا يوقن أنه لا منقذ إلا الله، وتنكشف عنه الحجب، ويزول الرين، وتذهب الغشاوة وينطرح بين يدي الله منكسراً متواضعاً مبتهلاً متضرعاً باكياً ويجأر إلى الله كاشف السوء مجيب المضطرين غياث المغيثين منقذ الهالكين، وجابر المنكسرين، ومنقذ الغرقى، وسامع النجوى.
فكم من ملحد نزلت به ضائقة آب إلى الله( )، وكم من شارد فاسق وقع في مأزق تاب إلى الله ورجع إلى طاعته.(1/263)
فالفطرة خير شاهد وأقوى دليل وأنصع برهان، وأوضح حجة لأنها لا تحتاج إلى تركيب مقدمة وإقامة أدلة جدلية واستنتاج، ودليلها لا يمكن مقاومته ولا دفعه بالشبهات والوساوس، ألا ترى الإنسان إذا ما وقع في مصيبة يتجه مباشرة إلى السماء ويرفع يديه قائلاً: يا رب يا رب.
وهذه الحالة تهجم عليه وتسيطر على تفكيره وشعوره، وتجعله يشعر أنه لا منقذ ولا منجي ولا مغيث إلا الله سبحانه وتعالى.
فلو لم تدل الفطرة على تأثير الدعاء لما اتجهت إلى الدعاء ولكانت تلجأ إلى وسائل أخرى للاستغاثة والاستعانة.
وقد ذكر الله سبحانه وتعالى طبيعة الإنسان هذه في عدة آيات، منها:
قوله تعالى: ((وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَائِماً ((فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ)) [يونس:12].
وقال سبحانه: ((وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ)) [الزمر:8].
وقال تعالى: ((وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ)) [فصلت:51].
وقال جل جلاله: ((وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنِ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ)) [النحل:53].(1/264)
وقال تعالى: ((هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ)) [يونس:22].
وقال تعالى: ((وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُورًا)) [الإسراء:67].
وقال تعالى: ((وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ)) [لقمان:32].
فالإنسان في مثل هذه الشدائد ينسى تلك الأشياء التي كان يتعلق بها ويرجع إلى ربه، فتحصل له معرفة قوية من أقوى ما يكون من المعارف، فإن المعارف التي تحصل في النفس بالأسباب الاضطرارية أثبت وأرسخ من المعارف التي ينتجها مجرد النظر القياسي الذي ينزاح عن النفوس في مثل هذه الحال( ) وقد تقدم ما يتعلق بهذا.
دلالة العقل السليم على تأثير الدعاء:
فالعقل السليم يدل على تأثير الدعاء لأن العقل دل على وجود الله تعالى وأنه الفعال لما يريد وأنه لا معقب لحكمه.
فإذا سلم العقل هذا فلا يمتنع من أن الفاعل المختار يجعل الأشياء مرتبطة بأسبابها وعللها ويرتب مصالح العباد في دنياهم وأخراهم على الأسباب وينظم الكون بأجمعه ويربط بعضه ببعض على أسباب وعلل إذا وجدت وجدت مسبباتها ومعلولاتها فالعقل يسلم بهذا ولا ينكر بل يعترف.(1/265)
ومن المعلوم أن الشرع لا يأتي بما يحيله العقل السليم الذي لم تدنسه لوثة الشبهات والشهوات، وإن كان الشرع قد يأتي بما يحار فيه العقل ويعجز عن إدراكه مفصلاً( ).
وأن العقل البشري قاصر الإدراك لا يحيط حتى بالمحسوسات فكيف بالأمور المعنوية التي ليست تحت التجربة والمشاهدة.
ثم إن العقل يرى آثار الأدعية وإجابتها وما يحصل بالدعوات من كشف الكربات، ونيل الرغبات، ويرى ترتب ذلك كله على الدعاء ترتباً متكرراً وواقعاً، فلا يرى لهذا عللاً غير الدعاء فلا بد أن يصدق ذلك.
دلالة الواقع التاريخي:
فقد استفاض في التاريخ وتواتر إجابة الله تعالى لنداء المضطرين وابتهالات المنكسرين، وتضرع المساكين، واستغاثة المستغيثين، وتملق الخاشعين.
وقد ثبت على مدى التاريخ ما يفيد بالمجموع تواتر ذلك وإن لم يتواتر أفراد تلك الوقائع.
ولا مانع من إيراد بعض تلك الوقائع التاريخية على سبيل التمثيل لا الحصر وإليك ذلك:
أ- ما ذكر الله تعالى في القرآن الكريم من قصص أنبيائه ورسله مثل نداء نوح، وإبراهيم، وأيوب، ويونس، وغيرهم عليهم السلام، وقد سبق ذكر ذلك ولله الحمد.
ب- ما ثبت في السنة الصحيحة من ذلك وإليك بعض الأمثلة:
أ- قصة( ) أصحاب الغار الذين توسلوا بصالح أعمالهم بعد أن انطبقت عليهم الصخرة فأنقذهم الله فخرجوا سالمين.
2- قصة أويس القرني حيث روى مسلم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {إن رجلاً يأتيكم من اليمن يقال له أويس لا يدع باليمن غير أم له، قد كان به بياض، فدعا الله فأذهبه عنه إلا موضع الدينار أو الدرهم، فمن لقيه منكم فليستغفر لكم}( ).
3- قصة( ) جريج الراهب الذي دعا الله تعالى وصلى لما اتهم فأنطق الله الغلام فبرأه.(1/266)
جـ- ما حفظه التاريخ الموثق من إجابة الله تعالى للمستغيثين به، ولا نستطيع أن نذكر كل ما حصل من ذلك لأنه أمر يتجدد كل لحظة، قال تعالى: ((يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ)) [الرحمن:29]، ويكفي لمعرفة ما وقع من ذلك الاطلاع على الكتب المصنفة في الفرج بعد الشدة( ) وغيرها كالكتب التاريخية.
ففي هذه الكتب وقائع كثيرة جداً فيها بيان أخبار الذين وقعوا في كرب وشدة وضاقت عليهم الأرض بما رحبت، وانقطعت بهم الحيل فالتجأوا إلى الله تعالى بصدق وإخلاص فجاءهم الفرج بعد الشدة والسعة بعد الضيق والسرور والفرح بعد الغم والهم.
ولا يزال التاريخ إلى الآن يشهد بذلك فكم يقع يومياً من ذلك ولا ينكر هذا إلا معاند مكابر.
وليس يصح في الأذهان شيء إذا احتاج النهار إلى دليل تجارب الأمم:
وقد دلت تجارب الأمم على اختلاف أجناسها ومللها ونحلها على أن التقرب إلى رب العالمين، وطلب مرضاته والالتجاء إليه والانطراح بين يديه والبر والإحسان إلى خلقه من أعظم الأسباب الجالبة لكل خير، وأضدادها من أكبر الأسباب الجالبة لكل شر، فما استجلبت نعم الله واستدفعت نقمه بمثل طاعته والتقرب إليه بأنواع الطاعات، والرغبة إليه والاستعانة به، والإحسان إلى خلقه فهذا مجرب عند جميع الأمم على مدى التاريخ( )، وهو أمر معلوم عند الناس خاصتهم وعامتهم، وأهل الأرض كلهم مقرودن به، لأنهم جربوه( ).
ومن هنا كان اعتقاد تأثير الدعاء من الأصول المسلمة المقررة لدى مشركي العرب وغيرهم فلهذا أتى الدين الإسلامي بتقرير ذلك وتأكيده ولكنه نقحه وهذبه من الشوائب التي زادوها من الشرك فيه، وصرفه لمن لا يستحق.
قال الدهلوي رحمه الله بعد أن ذكر الأصول المسلمة لدى المشركين: ومنها... أن هنالك لأدعية الملائكة المقربين وأفاضل الآدميين تأثيراً بوجه من الوجوه، لكن صار في أذهانهم متمثلاً بشفاعة ندماء الملوك إليهم( ).(1/267)
ويدل على اعتقاد المشركين بتأثير الدعاء أدلة كثيرة، نكتفي منها بمثالين:
المثال الأول: قصة قريش مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في رميهم الأذى على ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي عند الكعبة، قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: {فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم صلاته رفع صوته، ثم دعا عليهم... ثم قال: اللهم عليك بقريش ثلاث مرات، فلما سمعوا صوته ذهب عنهم الضحك، وخافوا دعوته} وفي رواية للبخاري: {وكانوا يرون أن الدعوة في ذلك البلد مستجابة}( ).
وهذا يدل على أن قريشاً تعتقد أن الدعاء مجاب في البلد الحرام، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: ويمكن أن يكون ذلك مما بقي عندهم من شريعة إبراهيم عليه السلام( ).
والمثال الثاني: قصة قتل خبيب بن عدي، فإنه لما أرادوا قتله، صلى ركعتين ودعا عليهم: [[اللهم أحصهم عدداً واقتلهم بدداً ولا تبقِ منهم أحداً]] فلما سمعوا دعاءه هذا ألقى أبو سفيان ابنه معاوية على الأرض، فرقاً من دعوة خبيب، وكانوا يقولون: إن الرجل إذا دعي عليه، فاضطجع لجنبه زالت عنه( ).
دلالة المشاهدة والحس:
إن المشاهدة لتأثير الدعاء لمن أكبر الأدلة وأصدقها برهاناً وأقواها حجة، فنحن رأينا وشاهدنا في أنفسنا ومن حولنا تأثير الدعاء، فمن منا لا يقع في شدة وكرب وضيق ثم يستغيث بربه فلا يرى أثر ذلك؟ فنحن نشاهد في حياتنا وأيامنا القصيرة وقائع لنا ولغيرنا يحصل فيها إجابة الدعاء بعد يأس وقنوط من المخلوقات، وبعد انقطاع السبل والحيل، فهذا يكفي وحده للدلالة، لكن الإنسان يجادل ويكابر، قال الله تعالى: ((وَكَانَ الإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا)) [الكهف:54]. ولا يعترف ولا يعتبر بما وقع له أو لغيره بل يحاول أن يتناسى ذلك، ولا يأخذ منه أي عبرة ودرس، ويصل به الأمر إلى إنكار مشاهداته وإحساساته لا سيما إذا تأثر بلوثة الشبهات والأفكار المنحرفة.. فنسأل الله تعالى أن يهدينا سواء السبيل.(1/268)
وبهذا نصل إلى أن الحق الذي لا مرية فيه أن الدعاء سبب من الأسباب وأن له تأثيراً في جلب المنافع ودفع المضار كسائر الأسباب المقدرة والمشروعة، وأنه لا منافاة بين القدر والدعاء، فالدعاء من جملة ما سبق به القضاء وتضمنه القدر السابق.
الجواب عن الاعتراض بأن الدعاء قد أثر في الله تعالى:
فإذا ثبت- ولله الحمد- بالأدلة الصحيحة أن الدعاء له أثر عظيم في المطلوب من جلب نفع ودفع ضر.
فلا يتوهمن( ) متوهم أن ذلك تأثير من العبد السائل في الله المسؤول، تعالى عن ذلك وتقدس.
وذلك لأن الله سبحانه هو الذي حرك العبد إلى الدعاء ويسره له وهو الذي قذف في قلب العبد الحركة إلى الدعاء وألهمه التضرع والابتهال والانطراح بين يديه ووفقه لذلك وصرف عنه الموانع من استكبار وإلحاد وكسل وغير ذلك، فهذا الخير والتوفيق منه، ولولا هذا الإلهام لما دعا العبد، وقد قال عمر رضي الله عنه: [[إني لا أحمل هم الإجابة، وإنما أحمل هم الدعاء، ولكن إذا ألهمت الدعاء فإن الإجابة معه]].
وأخذ الشاعر هذا المعنى فنظمه فقال:
لو لم ترد نيل ما أرجو وأطلبه ... ... من جود كفيك ما علمتني الطلبا
فإذا أراد الله بعبد خيراً ألهمه دعاءه، والاستعانة به وجعل استعانته ودعاءه سبباً للخير الذي قضاه له.
كما أن الله تعالى إذا أراد أن يشبع عبداً أو يرويه ألهمه أن يأكل أو يشرب، وإذا أراد أن يتوب على عبد ألهمه أن يتوب فيتوب عليه، وإذا أراد أن يرحمه ويدخله الجنة يسره لعمل أهل الجنة، والمشيئة الإلهية هي التي اقتضت وجود هذه الخيرات بأسبابها المقدرة لها كما اقتضت وجود دخول الجنة بالعمل الصالح، ووجود الولد بالوطء، والعلم بالتعلم، فعلم بهذا أن إلهام الله لعبده الدعاء هو السبب الرئيسي في القضية فلهذا قال عمر رضي الله عنه ما تقدم، وقال أبو حازم الأعرج: لأن أحرم الدعاء أشد علي من أن أحرم الإجابة( ).(1/269)
فمبدأ الأمور من الله وتمامها من الله تعالى، قال تعالى: ((يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ)) [السجدة:5]، فأخبر سبحانه أنه يبتدئ بتدبير الأمر ثم يصعد إليه الأمر الذي دبره..
وقد قال مطرف بن عبد الله بن الشخير أحد أئمة التابعين: نظرت في هذا الأمر فوجدت مبدأه من الله وتمامه على الله ووجدت ملاك ذلك الدعاء( ).
ومما يدل على هذا حديث ابن عمر مرفوعاً: {من فتح له منكم باب الدعاء فتحت له أبواب الرحمة]]( ).
وهذا الذي تقدم مستقيم على أصول أهل السنة المؤمنين بالقدر وأن الله خالق كل شيء وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن.
ولكنه يناقض قول القدرية: فإنهم إذا جعلوا العبد هو الذي يُحدِث ويخلق أفعاله بدون مشيئة الله وخلقه، لزمهم أن يكون العبد قد جعل ربه فاعلاً لما لم يكن فاعلاً له، فبدعائه جعله مجيباً له وبتوبته جعله قابلاً للتوبة( ).
وهؤلاء القدرية فروا من القول بالقدر ظناً منهم بأنه يستلزم الظلم للعبد، ولكنهم وقعوا في هذا اللازم الذي في غاية الشناعة وهكذا كل من يترك الكتاب والسنة لما يتخيله بعقله القاصر فإنه لا بد أن يقع في محذور شر من المحذور الذي فر منه أو مثله، فمن ذلك المعطلة الذين فروا من إثبات صفات الله تعالى فراراً من التشبيه بالمخلوق فوقعوا في التشبيه بالمعدوم فوقعوا في شر مما فروا منه، قال شيخ الإسلام رحمه الله: وهؤلاء جميعهم يفرون من شيء فيقعون في نظيره بل وفي شر منه مع ما يلزمهم من التحريف والتعطيل( ).
والذي يعصم من مثل هذه المحاذير هو الاعتصام بالكتاب والسنة واتباع السلف الصالح في فهمهما ونسأل الله تعالى أن يرزقنا حسن الاتباع ويجنبنا الابتداع.
الفصل الثالث
في حكم الدعاء الشرعي
يشتمل على مبحثين:
المبحث الأول: في أقوال العلماء في حكم الدعاء.(1/270)
المبحث الثاني: في كون الراجح جريان الأحكام الخمسة فيه.
المبحث الأول
في أقوال العلماء في حكم الدعاء
أقوال العلماء في حكم الدعاء:
اختلف العلماء في حكم الدعاء فمن قائل بالوجوب، ومن قائل بالاستحباب، ومن قائل غير ذلك.. وإليك تفصيل ذلك.
1- قال بعضهم: إن الدعاء واجب، بل هو من أهم الواجبات، وأعظم المفروضات( ). ويدل لهذا القول عدة أدلة نذكر منها ما يأتي:
أ- قوله تعالى: ((وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ)) [غافر:60].
وجه الدلالة:
1- الأمر في قوله: ((ادْعُوْنِي)) [غافر:60] والأمر للوجوب، ولا صارف له( ).
2- الآية تدل على أن ترك العبد دعاء ربه من الاستكبار وهو كفر، وتجنب ذلك واجب لا شك فيه( ).
ب- قوله تعالى: ((وَاسْأَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ)) [النساء:32]، ولا صارف لهذا الأمر عن الوجوب.
جـ - قوله تعالى: ((ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعَاً وخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ المُعْتَدِيْنَ)) [الأعراف:55] ولا صارف له أيضاً.
د- قوله تعالى: ((فَابْتَغُوا عِنْدَ اللهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوْهُ)) [العنكبوت:17]، وهذا أمر والأمر يقتضي الوجوب، فالاستغاثة بالله واللجأ إليه في أمر الرزق وغيره أصل عظيم.
هـ- قوله صلى الله عليه وسلم: {من لم يسأل الله يغضب عليه}( ).
وهذا دليل واضح على الوجوب لأن تجنب ما يغضب الله منه لا خلاف في وجوبه( ). وذلك لأن الغضب لا يكون إلا على ترك واجب أو فحل محرم( ).
وقد ذهب إلى الوجوب الشوكاني( ) ونسبه الزركشي( ) إلى بعض الأئمة.
وقد صرح الخطابي بالوجوب إلا أن كلامه يحتمل أنه يريد بالوجوب التأكد والاستحباب لوقوعه في مقابل القائلين بعدم نفع الدعاء( ).
وذكر ابن القيم أن من الدعاء ما هو واجب( )، وهذا هو الصحيح كما سيأتي.(1/271)
2- وقال آخرون: إن الدعاء مستحب، وقد نسب الإمام النووي هذا المذهب إلى الجمهور فقال: اعلم أن المذهب المختار الذي عليه الفقهاء والمحدثون وجماهير العلماء من الطوائف كلها من السلف والخلف، أن الدعاء مستحب( )، ويدل لهذا المذهب الأدلة التي سبق الاستدلال بها في المذهب الأول نظراً لاشتراك المذهبين في كون الدعاء مشروعاً إلا أن هذا المذهب يحمل تلك الأدلة على الاستحباب كما سيأتي في مناقشة أدلة الوجوب.
وهذا المذهب هو الأقرب إلى الصواب.
3- وقالت طائفة: إن الأولى ترك الدعاء والخمود تحت جريان الحكم، والرضا بما سبق به القدر( )، فحكم الدعاء عند هؤلاء أنه خلاف الأولى.
4- وقالت طائفة( ): يكون صاحب دعاء بلسانه ورضا بقلبه ليأتي بالأمرين جميعاً.
5- وآخرون ذهبوا إلى أن الدعاء تارة يكون أفضل وتارة يكون السكوت أفضل وذلك يختلف بحسب الأوقات، والأحوال، وهؤلاء اختلفوا على أقوال:
1- قيل: ما كان للمسلمين فيه نصيب، أو لله سبحانه وتعالى فيه حق، فالدعاء أولى، وإن كان لنفسك فيه حظ فالسكوت أتم.
2- وقيل: إذا وجد في قلبه إشارة إلى الدعاء فالدعاء أفضل، وإذا وجد إشارة إلى السكوت فالسكوت أتم.
وذهب إلى اختيار القول بالإشارة القشيري، واعترض الحافظ عليه بأنه لا يتأتي من كل أحد( ).
3- وقيل لا يدعو إلا بطاعة ينالها أو خوف سخط، فإن دعا بسوى ذلك فقد خرج عن حد الرضا( ) أي لا يدعو بما يتعلق بأمور الدنيا.
هذه الأقوال الأربعة الأخيرة، ذهب إليها المتصوفة، وقد استدلوا لما ذهبوا إليه بحجج نذكرها ثم نناقشها بما يسره الله تعالى.
ومن حجتهم حديث ابن عباس رضي الله عنهما في المرأة التي كانت تصرع حيث قال لها النبي صلى الله عليه وسلم: {إن شئتِ صبرتِ ولكِ الجنة، وإن شئتِ دعوتُ اللهَ أن يعافيَكِ، فقالت: أصبر، فقالت: إني أتكشًّف فادعُ الله أن لا أتكشَّف، فدعا لها}( ).(1/272)
وحديث جابر رضي الله عنه في شكاية أهل قباء الحمى إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقوله لهم: {ما شئتم، إن شئتم أن أدعو الله لكم فيكشفها عنكم وإن شئتم أن تكون لكم طهوراً؟ قالوا: يا رسول الله أوَتفعل؟، قال: نعم، قالوا: فدعها}( ).
وحديث: {من شغله ذكري عن مسألتي أعطيه أفضل ما أعطي السائلين}( ).
مناقشة هذه الأقوال:
مناقشة أدلة الوجوب:
أ- يجاب عن استدلالهم بالآية الأولى: ((ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ)) [غافر:60] بأمور:
1- المراد بالدعاء هنا العبادة كما يدل عليه آخر الآية ((عَنْ عِبَادَتِي)) [غافر:60] وليس المراد بها دعاء المسألة ويدل على ذلك أيضاً أنه لو كانت الآية في دعاء المسألة لم تتخلف الإجابة كما يدل عليه صيغة الشرط والجزاء وهذا يخالف الواقع ويخالف قوله تعالى: ((فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ)) [الأنعام:41].
ويمكن أن يجاب عن هذا بأن الآية تشمل النوعين: المسألة والعبادة، وأن الإجابة مشروطة بوجود شروط وفقدان موانع فلا يرد الاعتراض، وقد تقدم بحث ذلك.
وأجابوا عن آخر الآية بأن الوعيد خاص بمن ترك الدعاء للاستكبار وأما من تركه ولم يقصد الاستكبار فهذا لا تشمله الآية( ).
وشذت طائفة فقالت: المراد بالدعاء في الآية: ترك الذنوب( ).
والحاصل أن الآية ليست نصاً في الوجوب لاحتمال حملها على معنى العبادة كما يدل عليه آخر الآية.
ويمكن الإجابة عن الأمر في الآية الثانية والثالثة والرابعة بأن المقصود هو إخلاص الطلب لله تعالى وأن لا يصرف لغيره وأما أصل نفس الطلب فليس داخلاً فيها.
وأما الحديث فيجاب بما فيه من الكلام.
ثم يجاب أخيراً بأنه لم يعهد من السلف من قال بوجوب الدعاء المطلق، فقد حكى شيخ الإسلام أن الدعاء لم يجب منه دعاء مفرد أصلاً إلا أنه وجب ضمن الذكر والثناء مثل دعاء الفاتحة، وما اختلف فيه من الدعاء بعد التشهد، وأما الدعاء المفرد فلم يجب( ).(1/273)
مناقشة شبه المذاهب الأخيرة:
هذه المذاهب( ) الثلاثة الأخيرة قد ذهب إليها أكثر المتصوفة وظنوا أن الدعاء يتنافى مع الرضا بالقضاء، ولا يمكن الجمع بينهما كما ظنوا أن في الدعاء معارضة لحكم الله وقضائه، ومعاندة له، وأنه ينافي التوكل. ومن هنا ذهبوا إلى أن الأولى: السكوت عن الدعاء والتسليم للمقدور وتفويض الأمر إلى الله تعالى، وظنوا أن هذا هو الرضا المطلوب شرعاً، وبلغ بهم الأمر إلى ما نقل عن بعضهم أنه قال: الرضا أن لا تسأل الله الجنة ولا تستعيذ به من النار( ).
وروي عن آخر أنه قال: الرضا أنه لو جعل الله جهنم عن يمينه ما سأل أن يحولها إلى يساره( ).
وقال بعضهم: التوكل على الله تعالى بكمال الحقيقة، ما وقع لإبراهيم عليه السلام في الوقت الذي قال لجبريل عليه السلام: (أما إليك فلا)، لأنه غابت نفسه بالله تعالى فلم ير مع الله غير الله عز وجل( ).
وهذا يشير إلى أنهم اعتمدوا في مذهبهم على ما روي عن إبراهيم الخليل عليه السلام من قوله: (علمه بحالي يغني عن سؤالي) وقد تقدم ما فيه.
واستنبط لهم ابن أبي جمرة( ) دليلاً آخر وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم أخر الدعاء للاستسقاء حتى طلبوه منه، وإنما أخر ذلك لأن مقام التفويض أفضل( ).
وقد رد الشيخ عبد العزيز بن باز -حفظه الله- على هذا الكلام بقوله:(1/274)
في هذا نظر، والصواب أن الأخذ بالأسباب، والبدار بالدعاء، والاستغاثة عند الحاجة أولى وأفضل، وسيرته صلى الله عليه وسلم وسيرة أصحابه رضي الله عنهم تدل على ذلك، ولعله إنما أخر الدعاء لأسباب اقتضت ذلك غير التفويض، فلما سأله هذا السائل بادر بإجابته، وذلك عن إذن الله سبحانه وتشريعه، لأنه صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى، والله أعلم( ). ويمكن أن يجاب عن حديث المرأة التي تصرع وحديث الأنصار في أمرهم بالصبر بأنه رأى منهم الجزع وقلة الصبر فأمرهم بذلك أو أنه أوحي إليه أنه لا يكشف عنهم في ذلك الوقت وأخر الدعاء، قاله الزركشي وتبعه الزبيدي( ).
ويدل قوله في حديث المرأة: {إن شئتِ صبرتِ ولكِ الجنة} على أن الابتلاء أفضل لها لما يترتب عليه من دخول الجنة فلهذا دعا لها في قضية التكشف مما يدل على أن الدعاء أفضل إذا لم يعارضه ما هو أولى.
ثم إنه يلزم من كلامهم عدة محذورات، منها:
1- ترك الدعاء الذي أمرنا الشارع به وهو عبادة من أعلى أنواع العبادات، وقد أرشدنا الله تعالى إلى دعائه ولم يقيده بشيء فقال: ((وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ)) [النساء:32]، فليس في هذا تقييد بأن لا يكون من حظ النفس.
والقول بالإشارة القلبية لا يمكن أن يذهب إليه لأنه يحتمل أن تكون لَمَّةً شيطانية فربما يوسوس له الشيطان فيترك طلب ما يكون الأولى له طلبه من المصالح الدنيوية والأخروية.
ثم يفوت العبد بهذه الوساوس الاستعانة بالله والتضرع إليه واللجأ إليه والتملق له إلى غير ذلك من الفوائد التي اشتمل عليها الدعاء، ثم إن الإشارة القلبية لا تتأتى من كل أحد( ).(1/275)
ثم هو معارض بما ثبت وتواتر من دعائه صلى الله عليه وسلم بكشف البلايا كالاستسقاء ونحوه، ويمكن أن يقال أيضاً: إن ذلك خاص بالحمى لأن فيها كفارة كما ورد في أحاديث أخرى، وكذلك خاص بتلك المرأة لما ذكر لها من الأجر وليس ذلك أمراً عاماً والله أعلم. وأما حديث من شغله ذكري فيحمل على اختلاف الأحوال والأشخاص، ولا يمكن الاستدلال به على أفضلية السكوت مطلقاً.
أصل شبهتهم:
قد التبست عليهم هذه الشبهة ودخل عليهم إبليس بسببها من جهتين:
إحداهما: ظنهم أن الرضا بكل ما يوجد في الكون أمر يحبه الله ويرضاه وأن هذا من أعظم ما يوصل إلى الله تعالى ومرضاته، فجعلوا الرضا بكل حادث وبكل حال يكون فيها العبد طريقاً إلى الله تعالى. وثانيتهما: أنهم لم يميزوا بين الدعاء المشروع المأمور به إيجاباً أو استحباباً مثل دعاء الفاتحة والذي في آخر الصلاة، وبين الدعاء غير المشروع كالذي فيه الاعتداء.
وهاتان الجهتان غير صحيحتين، لأن الطريق الموصل إلى رضا الله تعالى هو أن ترضيه بفعل ما يحبه ويرضاه من الأعمال الصالحة وليس بالرضا بكل ما يحدث، فإن الله لم يأمر بهذا، ولا رضيه، بل الله سبحانه يكره ويسخط ويبغض على أعيان أفعال موجودة لا يحصيها إلا هو، وولاية الله موافقته بحب ما يحبه وبغض ما يبغضه، وولاية من يواليه وعداوة من يعاديه لا بحب ما يكرهه ويسخطه.
هذا بالنسبة إلى الجهة الأولى..
ثم إن الرضا الذي هو من طريق الله لا يمكن أن يتضمن ترك واجب أو مستحب فالدعاء الواجب أو المستحب لا يكون تركه من الرضا كسائر الأعمال الصالحات.
فقد تبين غلط هؤلاء من جهة ظنهم أن الرضا مشروع بكل مقدور، ومن جهة أنهم لم يميزوا بين الدعاء المشروع وغير المشروع( ).
ثم يقال ثانياً: هنا أمران: قضاء الله، وهو فعل قائم بذات الله تعالى، ومَقضِيٌّ، وهو المفعول المنفصل عنه، فالقضاء كله خير وعدل وحكمة، نرضى به كله، والمقضي قسمان، منه ما يرضى به، ومنه ما لا يرضى به( ).(1/276)
ثم إن هؤلاء لم يعرفوا أن الدعاء والتوكل والتداوي من الأسباب التي شرعها الله تعالى لا يخرج الأخذ بها من الرضا بقضاء الله تعالى، كما أن من عرض له كلب الجوع لا يخرجه فزعه إلى الغذاء من التوكل والرضا بالقضاء، لأن الله تعالى جعل أسباباً لدفع الأدواء كما جعل الأكل سبباً لدفع الجوع، وقد كان قادراً أن يحيي خلقه بغير هذا ولكنه خلقهم ذوي حاجة فلا يندفع عنهم أذى الجوع إلا بما جعل سبباً لدفعه عنهم( ) فكذا الداء العارض والبلاء النازل قد لا يندفعان إلا بالدواء والدعاء. فتحصل من هذا أن الدعاء والإلحاح على الله في الطلب لا يتنافى مع الرضا ولا مع التوكل، وإنما الذي ينافي الرضا ما لو ألح على الله متحكماً عليه متخيراً عليه ما لم يعلم هل يرضاه أم لا كما يلح على ربه في ولاية شخص أو إغنائه، أو قضاء حاجته، فهذا ينافي الرضا لأنه ليس على يقين أن مرضاة الرب في ذلك( ).
المبحث الثاني
في كون الراجح جريان الأحكام الخمسة فيه
الراجح أن الدعاء تجري فيه الأحكام الخمسة: فتارة يجب، وتارة يستحب، وتارة يباح، وتارة يكره، وتارة يحرم.
فتختلف فيه الأحكام بحسب الاعتبارات. وأما الأصل فيه بدون الاعتبارات الندب والاستحباب كما حكى ذلك النووي عن السلف فيما تقدم، وكما ذكر شيخ الإسلام أنه لم يجب دعاء مفرد أصلاً.
وقال القرافي( ): اعلم أن الدعاء الذي هو الطلب من الله تعالى له حكم باعتبار ذاته من حيث هو طلب من الله تعالى، وهو الندب، لاشتمال ذاته على خضوع العبد لربه، وإظهار ذلته وافتقاره إلى مولاه، فهذا ونحوه مأمور به، وقد يعرض له من متعلقاته ما يوجبه، أو يحرمه، والتحريم ينتهي إلى الكفر، وقد لا ينتهي( ).
وهذا التفصيل الذي ذكره القرافي هو الذي تدل عليه الأدلة ويجتمع به شملها ويدل على هذا أيضاً قول شيخ الإسلام: وأما الدعاء فلم يجب منه دعاء مفرد أصلاً، ثم ذكر دعاء الفاتحة والاستعاذة في التشهد( ).(1/277)
وقال أيضاً: والقاعدة الكلية في شرعنا: أن الدعاء إن كان واجباً أو مستحباً فهو حسن يثاب عليه الداعي، وإن كان محرماً كالعدوان في الدعاء فهو ذنب ومعصية، وإن كان مكروهاً فهو ينتقص مرتبة صاحبه، وإن كان مباحاً مستوي الطرفين فلا له ولا عليه( ).
فاتضح من هذا أن الدعاء تجري فيه الأحكام الخمسة: وإليك تفصيل ذلك:
الدعاء الواجب:
الدعاء الواجب ينقسم إلى قسمين: واجب باتفاق، وواجب مختلف فمن الواجب المتفق عليه: دعاء الفاتحة، والتوبة، والاستغفار.
ومن الواجب المختلف فيه: الدعاء الذي في آخر التشهد، ودعاء دخول المسجد والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم.
وإليك نبذة في الكلام على هذه الأمور، فنبدأ أولاً بدعاء الفاتحة.
الأول: دعاء الفاتحة:
اتفق العلماء من حيث الجملة- وإن اختلفوا في بعض الصور كالمأموم- على وجوب قراءة الفاتحة في الصلاة، فهي أعظم سورة في القرآن الكريم كما ثبت ذلك في الحديث( ) الصحيح، وقد أوجب الله علينا قراءتها في كل ركعة، وكل مسلم يجب عليه أن يكررها في اليوم والليلة سبع عشرة مرة، هذا في الصلاة المفروضة، عدا النوافل والسنن، وأما مع النوافل الرواتب وغيرها فأكثر من ذلك بكثير، وما شرع ذلك إلا لحكمة جليلة وسر عظيم، وقد علم أن الصلاة أفضل ما يتقرب به العبد في الجملة: وهي مؤلفة من كلم طيب وعمل صالح، أفضل كلمها الطيب القرآن، وأفضل عملها الصالح وأوجبه السجود( ).
والقرآن الذي تجب قراءته على المصلي هو الفاتحة، قال صلى الله عليه وسلم في حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه المتفق عليه: {لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب}( ).(1/278)
وقال صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة رضي الله عنه: {قال الله تعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد: ((الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)) [الفاتحة:2]، قال الله تعالى: حمدني عبدي، وإذا قال: ((الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ)) [الفاتحة:3]، قال الله تعالى: أثنى عليّ عبدي، وإذا قال: ((مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ)) [الفاتحة:4]، قال: مجدني عبدي، فإذا قال: ((إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)) [الفاتحة:5]، قال: هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل، فإذا قال: ((اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ. صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ)) [الفاتحة:6، 7]، قال: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل}( ).
فقد أطلق في هذا الحديث لفظ الصلاة على القراءة، كما في قوله تعالى: ((وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا)) [الإسراء:110]، أي بقراءتك كما جاء مصرحاً به في الصحيح عن ابن عباس( ).
وهكذا قال في هذا الحديث: {قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، فنصفها لي ونصفها لعبدي، ولعبدي ما سأل}.
ثم بين تفصيل هذه القسمة في قراءة الفاتحة، فدل على عظمة القراءة في الصلاة وأنها من أكبر أركانها إذ أطلقت العبادة وأريد بهما جزء واحد منها وهو القراءة، كما أطلق لفظ القراءة والمراد به الصلاة في قوله: ((وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا)) [الإسراء:78] والمراد صلاة الفجر كما جاء مصرحاً به في الصحيحين: {إنه يشهدها ملائكة الليل وملائكة النهار}( )( ).(1/279)
وهذا كله يدل على فضل هذه السورة وفضل ما اشتملت عليه من الدعاء العظيم، وقد ثبت كما في الحديث السابق أن هذه السورة منقسمة بين الله وبين عبده وأن هاتين الكلمتين مقتسم السورة فـ((إِيَّاكَ نَعْبُدُ)) [الفاتحة:5] مع ما قبلها لله، و((وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)) [الفاتحة:5] مع ما بعدها للعبد وله ما سأل.
ولهذا قال من قال من السلف: نصفها ثناء، ونصفها مسألة، وكل واحد من العبادة والاستعانة دعاء، وهما نوعا الدعاء وهما جميعاً مختصان بالله حقان له لا يصلحان لغيره بل دعاء غيره بأحد النوعين شرك.
وإذا كان الله قد فرض علينا أن نناجيه وندعوه بهاتين الكلمتين في كل صلاة فمعلوم أن ذلك يقتضي أنه فرض علينا أن نعبده وأن نستعينه، إذ إيجاب القول الذي هو إقرار واعتراف، ودعاء، وسؤال، هو إيجاب لمعناه، ليس إيجاباً لمجرد لفظ لا معنى له، فإن هذا لا يجوز أن يقع، بل إيجاب ذلك أبلغ من إيجاب مجرد العبادة والاستعانة، فإن ذلك قد يحصل أصله بمجرد القلب، أو القلب والبدن، بل أوجب الله دعاءه، ومناجاته، وتكليمه، ومخاطبته بذلك، ليكون الواجب من ذلك كاملاً صورة ومعنى بالقلب وبسائر الجسد( ).
مدى ضرورة الإنسان إلى هذا الدعاء( ):(1/280)
الإنسان مضطر دائماً إلى أن يهديه الله الصراط المستقيم، لأنه يحتاج كل وقت وفي كل لحظة، أن يفعل ما أمره الله به في ذلك الوقت، من علم وعمل، وأن لا يفعل ما نهي عنه، ويحتاج أيضاً إلى أن يحصل له إرادة جازمة لفعل المأمور وكراهة جازمة لترك المحظور، فإنه لا يكفي مجرد علمه إن لم يجعله الله مريداً للعمل بعلمه، وإلا كان العلم حجة عليه ولم يكن مهتدياً، ويحتاج أيضاً إلى أن يجعله الله قادراً على العمل بتلك الإرادة الصالحة، فهذا العلم المفصل والإرادة المفصلة والقدرة على ذلك لا يتصور أن تحصل للعبد في وقت واحد، بل كل وقت يحتاج إلى أن يجعل الله في قلبه من العلوم والإرادات ما يهتدي به في ذلك الوقت إلى الصراط المستقيم، وأن يجعله قادراً على ذلك، ويدخل في هذا من أنواع الحاجات ما لا يمكن إحصاؤه، نعم حصل له هدى مجمل بدخوله في دين الإسلام، ولكن هذا المجمل لا يغنيه إن لم يحصل له هدى مفصل في كل ما يأتيه ويذره من الجزئيات التي يحار فيها أكثر عقول الخلق، ويغلب الهوى والشهوات أكثر عقولهم لغلبة الشهوات والشبهات عليهم، وإنما يعرف بعض قدر هذا الدعاء من اعتبر أحوال نفسه ونفوس الناس المأمورين بهذا الدعاء ورأى ما في النفوس من الجهل والظلم، فإن الإنسان خلق ظلوماً جهولاً، فالأصل فيه عدم العلم وميله إلى ما يهواه من الشر، فيحتاج دائماً إلى علم مفصل يزول به جهله، وعدلٍ في محبته وبغضه ورضاه، وغضبه، وفعله، وتركه، وإعطائه، ومنعه، وأكله، وشربه، ونومه، ويقظته.
فكل ما يقوله وما يعمله يحتاج فيه إلى علم ينافي جهله، وعدل ينافي ظلمه، فإن لم يمن الله عليه العلم المفصل والعدل المفصل، وإلا كان فيه من الجهل والظلم ما يخرج به عن الصراط المستقيم.(1/281)
وقد قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم بعد صلح الحديبية وبيعة الرضوان: ((إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا)) [الفتح:1] إلى قوله تعالى: ((وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا)) [الفتح:2]، فإذا كان هذا حاله في آخر حياته، أو قريباً منها، فكيف حال غيره؟
وقال في حق موسى وهارون: ((وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ. وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ)) [الصافات:118].
والمسلمون قد تنازعوا فيما شاء الله من الأمور الخبرية العلمية الاعتقادية والعملية، مع أنهم كلهم متفقون على أن محمداً حق، والقرآن حق، فلو حصل لكل منهم الهدى إلى الصراط المستقيم فيما اختلفوا فيه لم يختلفوا ثم الذين علموا ما أمر الله به أكثرهم يعصونه ولا يحتذون حذوه، فلو هدوا إلى الصراط المستقيم في تلك الأعمال لفعلوا ما أمروا به وتركوا ما نهوا عنه.
والذين هداهم الله من هذه الأمة حتى صاروا من أولياء الله المتقين كان من أعظم أسباب ذلك دعاؤهم الله بهذا الدعاء في كل صلاة مع علمهم بحاجتهم وفاقتهم إلى الله دائماً في أن يهديهم الصراط المستقيم فبدوام هذا الدعاء والافتقار صاروا من أولياء الله.
ثم ما حصل فيه الهدى في الماضي فهو محتاج إلى حصول الهدى فيه في المستقبل، فالناس كلهم مضطرون إلى هذا الدعاء، ولهذا فرضه الله عليهم في كل صلاة فليسوا إلى شيء من الدعاء أحوج منهم إليه وإذا حصل الهدي إلى الصراط المستقيم، حصل النصر والرزق وسائر ما تطلبه النفوس من السعادة.
فحاجة العبد إلى سؤال هذه الهداية ضرورية في سعادته ونجاته وفلاحه بخلاف حاجته إلى الرزق والنصر فإن الله يرزقه فإذا انقطع رزقه مات والموت لا بد منه، فإذا كان من أهل الهداية كان سعيداً قبل الموت وبعده، وكان الموت موصلاً إلى السعادة الأبدية، وكذلك النصر إذا قدر أنه غلب حتى قتل فإنه يموت شهيداً، وكان القتل من تمام النعمة.(1/282)
فتبين بهذا أن الحاجة إلى الهدى أعظم من الحاجة إلى النصر والرزق بل لا نسبة بينهما لأنه إذا هدي كان من المتقين ((وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً. وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ)) [الطلاق:2، 3].
وكان ممن ينصر الله ورسوله ومن نصر الله نصره الله وكان من جند الله وهم الغالبون، ثم أيضاً إن الهدى التام يتضمن حصول أعظم ما يحصل به الرزق والنصر، فالهدى التام- وهو أن يهتدي ويأمر غيره ويهديه بقوله وفعله ورؤيته- يتضمن الرزق والنصر لأنه إذا هدي ثم أمر وهدي غيره بقوله وفعله ورؤيته اكتمل له الهدى التام فيحصل له كل مطلوب ومقصود.
وقد ذكر ابن القيم رحمه الله تعالى أن من ضل عن علم فهو شبيه باليهود ومن ضل عن جهل فهو شبيه بالنصارى، ثم قال: ومن تصور الشبهين والوصفين وعلم أحوال الخلق، علم ضرورته وفاقته إلى هذا الدعاء الذي ليس للعبد دعاء أنفع منه ولا أوجب منه عليه وإن حاجته إليه أعظم من حاجته إلى الحياة والنفس لأن غاية ما يقدر بفوتهما موته، وهذا يحصل له بفوته شقاوة الأبد فنسأل الله أن يهدينا الصراط المستقيم( ).
وبما سبق تقريره يعلم الجواب عما أورده( ) بعضهم في قوله تعالى: ((اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ)) [الفاتحة:6] حيث قالوا: المؤمن قد هدي إلى الصراط المستقيم فأي فائدة في طلب الهدى؟
ثم يجيب بعضهم بأن المراد ثبتنا على الهدى، أو يقول بعضهم: ألزِم قلوبَنا الهدى، وبقول بعضهم: زدني هدى، وإنما يوردون هذا السؤال لعدم تصورهم الصراط المستقيم الذي يطلب العبد الهداية إليه.
مكانةُ هذا الدعاء:(1/283)
فاتضح مما سبق تقريره أن دعاء الفاتحة أفضل دعاء دعا به العبد ربه، وأوجب دعاء، وأنفعه، وأعظمه، وأحكمه، وهو أجل المطالب ونيله أشرف المواهب، وأنجح الرغائب، لأنه جامع لكل مطلوب لأن فيه طلب الإعانة على مرضاة الله فإذا أعين الإنسان على مرضاة الله حصل له كل خير واندفع عنه كل الشرور، وبهذا تجتمع له مصالح الدين والدنيا والآخرة.
وفيه أيضاً طلب الهداية إلى الصراط المستقيم، فإذا هدي الإنسان إلى الصراط المستقيم في علمه وعمله وأحواله كلها، لم يبق له شيء من المطالب إلا ودخل في ذلك، فسؤال الهداية متضمن لحصول كل خير، والسلامة من كل شر( ).
وقد قال العز بن عبدالسلام رحمه الله تعالى: والهداية لأفضل الأعمال والأحوال والأقوال في أوقاتها المضروبة لها أفضل ما مَنَّ به الإلهُ سبحانه وتعالى( ).
ثم إن هذا الدعاء اشتمل على أكمل صيغ الدعاء من الجمع بين الثناء على المسؤول وإفراده بالطلب، وسؤال الحاجة، ففي الفاتحة تعليم الله عباده كيفية سؤاله وأمرهم أن يقدموا بين يديه حمده والثناء عليه وتمجيده، وهذا أكمل أحوال السائل أن يمدح مسؤوله، ثم يسأل حاجته، وحاجة إخوانه المؤمنين، ثم ذكر عبوديتهم وتوحيدهم، فهاتان وسيلتان إلى مطلوبهم: توسل إليه بأسمائه وصفاته، وتوسل إليه بعبوديته، وهاتان الوسيلتان لا يكاد يرد معهما الدعاء( ).
فتبين بهذا لماذا كان هذا الدعاء هو المفروض، دون غيره من الأدعية، ولماذا لا يقوم غير الفاتحة مقامها؟
الثاني: التوبة والاستغفار:
قد اتفق العلماء على وجوب التوبة من الذنب، قال تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً)) [التحريم:8].
وقال عز من قائل: ((وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ)) [هود:3].
وقال سبحانه: ((فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا)) [نوح:10].(1/284)
ولفظ الأمر في هذه الآيات للوجوب إذ لا صارف له، فثبت بهذا وجوب الاستغفار وقد تقدم في التعريف( ) أن الاستغفار نوع من أنواع الدعاء.
قال ابن القيم رحمه الله في مناقشته لمن أنكر وجوب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم: {إن قولكم: الدعاء لا يجب باطل، فإن من الدعاء ما هو واجب، وهو الدعاء بالتوبة والاستغفار من الذنوب، والهداية والعفو وغيرها}( ).
الدعاء المختلف في وجوبه:
فمن الدعاء المختلف في وجوبه:
1- الدعاء الذي في آخر الصلاة، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو به في صلاته ويأمر به أصحابه.
فقد روى طاوُس عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعلمهم هذا الدعاء كما يعلمهم السورة من القرآن يقول: {قولوا: اللهم إنا نعوذ بك من عذاب جهنم، وأعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال، وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات}( ).
فهذا الدعاء تنازع العلماء في وجوبه فأوجبه طاوُس، قال مسلم بن الحجاج بعد إخراجه للحديث: [[بلغني أن طاوُساً قال لابنه: أدعوت بها في صلاتك؟ فقال: لا، قال: أعد صلاتك لأن طاوُساً رواه عن ثلاثة أو أربعة أو كما قال]]( ).
وقد تبع طاوُساً طائفة من الفقهاء وهو قول في مذهب أحمد( ).
ويرى ابن حزم أنه يلزم المصلي أن يقوله في التشهدين الأول والأخير وأن ما ورد في بعض طرق الرواية من تقييد ذلك بالتشهد الأخير لا يخص العموم الوارد في الروايات الأخرى فيشمل اسم التشهد الجميع( ).
وهذا مردود لمخالفته قاعدة حمل المطلق على المقيد لا سيما مع اتحاد مخرج الحديث( ).
وقد عد الحافظ ابن حجر إيجاب ابن حزم له في التشهد الأول إفراطاً( ).
والذين لم يقولوا بوجوب هذا الدعاء استدلوا بحديث ابن مسعود في التشهد وفيه: {ثم يتخير من الدعاء}( ).
قال ابن المنذر: [[لولا حديث ابن مسعود: {ثم ليتخير من الدعاء} لقلت بوجوبها]]( ).(1/285)
ويمكن أن يقال: إن الأمر بالتخيير يحمل على الأدعية التي بعد الاستعاذة فيتخير في الأدعية التي بعدها، وأما الاستعاذة من هذه الأمور الأربعة فلا تخيير فيها( ).
هذا ومما لا شك فيه أن هذا الدعاء من أوكد الأدعية وأهمها في التشهد.
قال شيخ الإسلام: ولا ريب أنه أوكد الأدعية المشروعة في هذا الموضع فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينقل عنه أنه أمر بدعاء بعد التشهد إلا بهذا الدعاء، وإنما نقل عنه أنه كان يقول: أدعية مشروعة، وأمره أوكد من فعله باتفاق المسلمين( ).
2- ومن الدعاء المختلف في وجوبه دعاء دخول المسجد.
فقد ذهب ابن حزم إلى وجوبه وأن من دخل المسجد وتركه فقد عصى الله بتركه مع صحة صلاته( ).
والظاهر أنه أوجبه لورود الأمر به حيث ذهب في دعاء الاستفتاح إلى عدم الوجوب وعلل ذلك بقوله: وإنما لم نذكر ذلك فرضاً لأنه فعل منه عليه السلام ولم يأمر به، فكان الائتساء به حسناً( ).
فدل هذا التعليل على أن إيجابه لدعاء دخول المسجد للأمر الوارد فيه وهو قوله صلى الله عليه وسلم: {إذا دخل أحدكم المسجد، فليقل اللهم افتح لي أبواب رحمتك، وإذا خرج، فليقل: اللهم إني أسألك من فضلك}( ).
3- ومن الدعاء المختلف فيه الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، فقد ذكر الحافظ ابن حجر( ) أن حاصل ما وقف عليه من أقوال العلماء في حكمها عشرة مذاهب، منها الوجوب في الجملة بغير حصر، ومنها أنها تجب في العمر مرة، ومنها أنها تجب في التشهد الأخير، ومنها أنها تجب في الصلاة من غير تعيين المحل، ومنها أنها تجب في كل دعاء.
وقد ذكر ابن القيم( ) أدلة بعض هذه المذاهب وناقشها بتوسع وأطال في ذلك.
والمقصود هنا بيان أن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم من الدعاء المختلف في وجوبه ولهذا نكتفي بهذا القدر بدون توسع.(1/286)
وأما الدعاء المستحب فهو كثير جداً وغالب الأدعية المأثورة من هذا الباب نحو أدعية النوم، والاستيقاظ، والدعاء عقب الوضوء، والدعاء بين الأذان والإقامة، ودعاء الاستخارة، وقد ورد الأمر بصلاة الاستخارة، وبالدعاء عقبها والعلماء لم يقولوا بالوجوب مع ورود الأمر به( ). ولعله قد ثبت عندهم الصارف.
وأما الدعاء المحرم فهو يتنوع إلى نوعين:
وذلك أن التحريم تارة من جهة المطلوب، وتارة من جهة نفس الطلب، فالأول مثل أن يسأل الله ما يضره في دنياه أو في آخرته، ومثل أن يدعو على غيره دعاء منهياً عنه، وأما الثاني الذي هو من جهة الطلب فمثل دعاء غير الله تعالى، أو دعاء بكلمات فيها اعتداء( ) وقد قسم القرافي الدعاء المحرم إلى قسمين:
1- نوع محرم ينتهي إلى الكفر.
2- نوع محرم لا ينتهي إلى الكفر.
ثم هذان النوعان قد قسمهما أيضاً القرافي المالكي إلى أقسام، وقد قسم الذي ينتهي إلى الكفر إلى أربعة أقسام( ).
ثم قسم المحرم الذي لا ينتهي إلى الكفر إلى اثني عشر قسماً( )، وعد كل تلك الأقسام ومثل لها بأمثلة.
ولكن كثيراً من تلك الأقسام والأمثلة عليها مؤاخذات لأن ذلك التقسيم عقلي اعتمد فيه القرافي على الاحتمالات العقلية وما يقتضيه التقسيم المنطقي، وكثير منها لا دليل عليها بل في بعضها خالف النصوص القطعية ولهذا رد عليه العلماء وبينوا خطأة فيها( ).
ومن الأمور التي عليه فيها مؤاخذة ما ذكره بقوله: القسم الثالث الذي ليس بكفر وهو محرم أن يطلب الداعي من الله تعالى نفي أمر دل السمع على نفيه، وله أمثلة، الأول أن يقول: ((رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ)) [البقرة:286] مع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال: {رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه}( ).(1/287)
فقد دل هذا الحديث على أن هذه الأمور مرفوعة عن العباد فيكون طلبها من الله تعالى طلباً لتحصيل الحاصل فيكون سوء أدب على الله تعالى لأنه طلب عري عن الحاجة والافتقار إليه( ).
وهذا الكلام- كما هو واضح- غير صحيح فكيف يكون ما حكاه الله تعالى عن الرسول والمؤمنين أنهم يقولونه محرماً ويكون الدعاء به لا فائدة فيه؟ ثم من الذي قال من السلف بهذه القاعدة التي تخالف الكتاب والسنة وعمل المسلمين؟ فإن المسلمين ما زالوا يدعون بهذا الدعاء في ابتهالاتهم إلى الله تعالى وهو من أفضل الدعوات( ). ثم إن القاعدة التي وضعها منقوضة بمثل قوله تعالى: ((رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ)) [آل عمران:194]، وقول الملائكة: ((رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُم وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ)) [غافر:8]، وبمثل طلب الوسيلة للنبي صلى الله عليه وسلم والصلاة والسلام عليه وعلى الأنبياء( ).
وورد في حديث أبي ذر مرفوعاً: {إن الله ختم سورة البقرة بآيتين أعطانيهما من كنزه الذي تحت العرش فتعلموهن وعلموهن نساءكم وأبناءكم فإنها صلاة وقرآن ودعاء}( ).
وأما الدعاء المكروه:
فهو مثل الدعاء الذي يشتمل على السجع المتكلف، والتشدق، والتشهق.
وكالدعاء الذي فيه الاعتداء كقول الرجل: اللهم إني أسألك القصر الأبيض في يمين الجنة.
وقد تقدم بيان أنواع الاعتداء في الدعاء فبعض أنواع الاعتداء محرم وبعضها مكروه( ).
وأما الدعاء المباح:
فهو كالدعاء الذي لطلب الفضول التي لا معصية فيها( ) إذا لم يكن طلبه لهذا المباح للاستعانة به على طاعة الله لأنه إن قصد بطلب المباح الاستعانة به على طاعة الله وعبادته يكون دعاؤه من باب المندوب ولم يكن من المباح( ).(1/288)
والحاصل أنه قد اتضح مما سبق أن الدعاء تجري فيه الأحكام الخمسة وأن منه ما هو محرم وهذا المحرم منه ما ينتهي إلى الكفر ومنه ما لا ينتهي، وتفصيل ما هو محرم وينتهي إلى الكفر والذي لا ينتهي هو الذي نبحث عنه في الباب التالي إن شاء الله تعالى..
الباب الثالث
في الدعاء غير المشروع
ويشتمل على ثلاثة فصول:
الفصل الأول: في دعاء غير الله تعالى وما ورد في التحذير منه ومفاسده وأسباب انتشاره في العالم الإسلامي.
الفصل الثاني: في مراتب الدعاء غير المشروع، ومظاهر غلو المتأخرين فيه وحكم من دعا غير الله تعالى.
الفصل الثالث: في الأدعية المبتدعة وما ورد في التحذير من الابتداع في الدعاء وغيره.
الفصل الأول
في دعاء غير الله تعالى، وما ورد في التحذير منه
ومفاسده وأسباب انتشاره في العالم الإسلامي
ويشتمل على مبحثين:
المبحث الأول: فيما ورد في التحذير منه ومفاسده.
ويشمل على تمهيد وثلاثة مطالب:
المبحث الأول
فيما ورد من التحذير من دعاء غير الله في كتاب الله تعالى والسنة النبوية وبيان مفاسده وآثاره الضارة
تمهيد:
إن دعاء غير الله تعالى قبيح شرعاً وعقلاً واتفقت الفطر السليمة والشرائع المنزلة على منع ذلك وقبحه وشناعته.
وأجمع علماء الأمة على أن طلب الحوائج من غير الله تعالى من الأموات والاستغاثة بهم شرك بالله تعالى يخرج من الملة.
وتواترت أدلة الكتاب والسنة على التحذير من ذلك والمبالغة في النهي عنه، والتشنيع على فاعله وذم مرتكبه.
وتضافرت نصوص الكتاب والسنة على ذلك حتى صار من ضروريات الإسلام التي لا يرتاب فيها كل من فهم الكتاب والسنة.
وهذا ليس خاصاً بالشريعة الإسلامية بل الشرائع كلها جاءت بذلك فهو من الأصول الثابتة التي اتفقت فيها الشرائع السماوية، والكتب المنزلة.(1/289)
ففي التوراة: إن موسى عليه السلام نهى بني إسرائيل عن دعاء الأموات وغير ذلك من الشرك، وذكر أن ذلك من أسباب عقوبة الله لمن فعله وذلك أن دين الأنبياء عليهم السلام واحد وإن تنوعت شرائعه كما في الصحيح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {إنا معاشر الأنبياء ديننا واحد}( )( ). فالأنبياء متفقون في الأصول الأساسية، فمن الأصول المتفق عليها بين النبوات المنع من دعاء الغائبين والأموات فلا يدعون لشفاعة ولا غيرها( ).
ومع أن الأنبياء جاءوا بهذا الأصل العظيم إلا أن الشريعة الخاتمة جاءت على وجه خاص لا يوجد في غيرها من الشرائع حيث حافظت على التوحيد الخالص والمنع من دعاء غير الله تعالى أشد المحافظة، فسدت كل الطرق المؤدية إلى ما يناقض التوحيد أو يمنع كماله أو يخدش فيه، لأن هذا الأصل به يتحقق إخلاص الدعاء بنوعيه لله تعالى فيتحقق الغرض الذي خلقنا من أجله، وهو إخلاص العبادة لله تعالى. قال تعالى: ((وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)) [الذاريات:56].
ومن هنا جاءت هذه الشريعة الغراء بالتحذير البالغ مما يناقض هذا الأصل أو يمنع كماله.
ومن أهم ما يناقضه: دعاء غير الله تعالى ولهذا جاء التحذير منه بأساليب متنوعة نشير إلى بعضها إن شاء الله تعالى.
المطلب الأول: الآيات الواردة في التحذير من دعاء غير الله تعالي، وأساليب القرآن المتنوعة في ذلك:
لقد حذر الله سبحانه وتعالى من دعاء غيره في القرآن الكريم تحذيراً بالغاً وتنوعت أساليب القرآن في ذلك، وتكررت في مناسبات شتى ومواضع متعددة وبعبارات متنوعة، وذلك لخطورة دعاء غير الله تعالى وكونه أعظم الظلم وأكبر معصية عصي الله به، ولكونه أكثر وقوعاً من غيره من أنواع الكفر الأخرى وأكثر انتشاراً في جميع أصناف الناس وطبقاتهم، وجميع الأزمان والأمكنة.(1/290)
ولهذا أبدى الله في كتابه العزيز التحذير منه وأعاد، ونوع الأساليب كما نوع الأدلة والبراهين على قبح ذلك في الفطر والعقول السليمة.
وهذا موجز لبعض تلك الآيات الواردة في التحذير من دعاء غير الله تعالى، ونوردها حسب الموضوعات التي تتحدث عنها والأساليب التي وردت بها، وإليك تلك الآيات الكريمة:
1- آيات نهى الله فيها عن دعاء غيره مخاطباً فيها نبيه وصفيه محمداً صلى الله عليه وسلم وهذا أبلغ ما يكون من النهي لأنه إذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم يحذره الله من دعاء غيره مع أنه المعصوم فمن باب أولى أن يخاف منه باقي الأمة، ويحذروا من الوقوع فيه، وفي هذا رد صريح لمن يزعم أن الشرك لا يقع في هذه الأمة المرحومة.
ومن أمثلة تلك الآيات قوله تعالى: ((وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ)) [يونس:106]، ففي هذه الآية تحذير- من أشد ما يكون من التحذير- من دعاء غير الله تعالى وأن فاعله ظالم أي مشرك فإن الظلم هو الشرك، قال تعالى: ((إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ)) [لقمان:13].
وقوله تعالى: ((فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ)) [الشعراء:213].
وقوله تعالى: ((وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)) [القصص:88].
ففي هاتين الآيتين أن من دعا غير الله مع الله فقد جعله إلهاً أي معبوداً، فكيف بمن أفرد الدعاء لغير الله تعالى، وأخلص الدعاء له واعتقد أن الأولياء أسرع في الإجابة من الله تعالى؟ تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً. ففي هذه الآيات وجه خطاب التحذير إلى المصطفى صلى الله عليه وسلم للدلالة على خطر دعاء غير الله تعالى.(1/291)
2- آيات وجه الله فيها النهي عن دعاء غير الله تعالى إلى جميع الناس كافة، منها قوله تعالى: ((وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا)) [الجن:18].
ففيها نهي وتحذير عن دعاء غيره معه فكيف بإخلاص الدعاء لغيره؟
كما هو واقع عن كثير من الناس.
كما أن فيها نهياً عن دعاء أي شيء كائناً ما كان سواء كان ملكاً مقرباً أو نبياً مرسلاً أو غيرهما لأن النكرة في سياق النهي تعم.
ومما لا ينقضي عجبه أن الكليني الرافضي أخرج بإسناده عن أبي الحسن وهو علي الرضا أنه قال في قوله تعالى: ((وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا)) [الجن:18] قال: نحن الأوصياء( ).
وهذا من أقبح التحريف لكلام الله تعالى وتفسير له بما يناقض مدلوله صراحة فإن الآية دالة على النهي عن دعاء غير الله تعالى بصيغة هي من أوضح صيغ العموم.
ولكن القوم من أسخف الناس عقولاً إذ يصدقون بمثل هذا الكذب الواضح والتحريف الفظيع لكلام الله تعالى.
3- آيات وجه الله فيها الخطاب لنبيه صلى الله عليه وسلم بإخلاص الدعاء له وحده وفي ذلك الأمر نهي عن دعاء غيره تعالى لأن الأمر بالشيء نهي عن ضده كما أن أمر النبي صلى الله عليه وسلم أمر لأمته ونهيه نهي لأمته بأبلغ وجه كما أن الأمر بالدعاء يدل على أنه إما واجب أو مستحب، وما كان كذلك لا يكون إلا عبادة، والعبادة خصيصة من خصائص الله لا يجوز صرفها لغيره تعالى. مثال ذلك قوله تعالى: ((فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ. وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ)) [الشرح:7، 8].
فقد أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من الصلاة أو الجهاد أو غيرهما مما يشتغل به أن يفرد الله تعالى بالرغبة إليه بدعائه وسؤاله( ).(1/292)
ومن هذا الباب الآيات التي أمر فيها النبي صلى الله عليه وسلم بالاستعاذة إذ الاستعاذة نوع من الدعاء كما سبق( ) ومن أمثلتها: ((قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ)) [الفلق:1] و((قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ)) [الناس:1] وقوله تعالى: ((فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ)) [النحل:98]، وقوله تعالى: ((وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ)) [المؤمنون:97].
ففي هذه الآيات أمر للنبي صلى الله عليه وسلم بالاستعاذة بالله تعالى فيفهم منه بطريق المخالفة النهي عن الاستعاذة بغيره تعالى لأنه لا يعقل أن يستعاذ بمخلوق من مخلوق، وقد صرح كثير من علماء السلف بهذا كما سيأتي.
4- آيات أمر الله فيها عباده بإخلاص الدعاء له وحده، وفي ذلك نهي عن دعاء غيره أو إشراكه معه في الدعاء، وذلك لأن الأمر بالشيء نهي عن ضده، وهذه قاعدة مقررة في علم الأصول( ).
قال تعالى: ((وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ)) [الأعراف:29].
وقال عز من قائل: ((فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ)) [غافر:14].
وقال سبحانه: ((هُوَ الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)) [غافر:65].
وقال: ((ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ. وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ)) [الأعراف:55، 56].
وقال تعالى: ((وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ)) [غافر:60].
وقال تعالى: ((وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ)) [النساء:32].(1/293)
وقال تعالى: ((فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ)) [العنكبوت:17] ففي الآية حصر لطلب الرزق بالله تعالى ويدل على ذلك تقديم الظرف. قال شيخ الإسلام رحمه الله: ولم يقل فابتغوا الرزق لأن تقديم الظرف يشعر بالاختصاص والحصر كأنه قال: (لا تبتغوا الرزق إلا عند الله تعالى)( ).
وقال تعالى: ((قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)) [الأنعام:162]، فهذه الآية من أوضح الأدلة على تحريم دعاء الموتى، فإن الصلاة دعاء صريح قولاً وعملاً وقد دلت الآية على أن ذلك لله وحده لا شريك له...( ).
وقد تقدم( ) بفضل الله تعالى بيان اشتمال الصلاة على الدعاء والعلاقة بينهما.
وقوله تعالى: ((وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا)) [الأعراف:180].
فهذه الآية تأمر( ) بإخلاص الدعاء لله تعالى بالتوسل إليه بأسمائه الحسنى، كما تنهى عن الإلحاد فيها، فالأمر بالدعاء بالأسماء الحسنى فيه نهي عن الدعاء بغير الأسماء الحسنى فكيف بدعاء غير الله تعالى والاستعانة به؟
ومما يضحك ويبكي ما ذكره الكليني في الكافي بإسناده عن جعفر الصادق أنه قال في قول الله تعالى: ((وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا)) [الأعراف:180]:
نحن الأسماء الحسنى التي لا يقبل الله من العباد إلا بمعرفتنا( ).
فهذا القول الذي حكاه كذباً عن الصادق رحمه الله يكفي في رده حكايته لوضوح تحريفه لكلام الله تعالى وكم للروافض من مثل هذه التحريفات لكلام الله تعالى!!!
5- آيات تصور من يدعو غير الله تعالى بأحط صورة وتمثل هلاكه بما يوضح قبح دعاء غير الله تعالى ومدى شناعته، وفي ذلك أبلغ زجر وأشد تقريع.(1/294)
قال تعالى: ((قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُنَا وَلا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا)) [الأنعام:71].
وقال تعالى: ((وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ)) [الرعد:14].
وقال تعالى: ((مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ. إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)) [العنكبوت:41، 42].
6- آيات تبين عجز المدعوين من دون الله تعالى، وعدم استحقاقهم للدعاء وأهليتهم له، لأنه ليس لهم الصفات التي ينبغي أن تكون للذي يستحق أن يتوجه إليه بالدعاء.
وفي ذلك أبلغ تحذير لمن يدعونها بتسخيف عقولهم وتسفيه أحلامهم، وهذه المجموعة من الآيات التي تبين عجز المدعوين تتنوع إلى عدة أنواع:-
أ- نوع بين الله فيها صفات من يستحق الدعاء من السمع والبصر المحيطين والعلم الشامل والحياة... إلى آخر الصفات التي يستحقها من يستحق أن يوجه إليه الدعاء وأن المدعوين من دون الله تعالى ليست لهم هذه الصفات.
فمن الآيات التي بينت ذلك قوله تعالى في قصة إبراهيم عليه السلام مع قومه: ((قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ. أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ)) [الشعراء:72، 73].(1/295)
وقوله تعالى: ((وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ. إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ)) [فاطر:13، 14]
وقوله تعالى: ((وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ. وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ)) [الأحقاف:5، 6].
وقوله عز من قائل: ((وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ. أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ)) [النحل:20، 21].
ب- نوع بين الله فيها أن المدعوين من دون الله تعالى ليس لهم ملك ولا شراكة فيما يطلب منهم ولا تقبل منهم شفاعة فكيف يدعون وأي فائدة في ذلك؟
قال تعالى: ((قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ. وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ)) [سبأ:22، 23].
ففي هاتين الآيتين نفي لكل من الملك والشراكة والمعاونة والشفاعة، وهذه الأمور الأربعة هي التي يمكن أن يدعيها الذين يَدعُون غير الله لمن يدعونهم، فإذا لم تكن ولا واحدة منها فلا يصح عقلاً أن يوجه السؤال لمن لا يتصف بواحدة منها فكفى بهذه الاية نوراً وبرهاناً ونجاةً وتجريداً للتوحيد وقطعاً لأصول الشرك ومواده لمن عقلها( ).
ومن هذا النوع قوله تعالى: ((قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَوَاتِ...)) [الأحقاف:4].(1/296)
وقوله تعالى: ((قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَوَاتِ)) [فاطر:40].
جـ- نوع بين الله فيها عجز المدعوين عن دفع الضرر عن أنفسهم فضلاً عن غيرهم، وفي هذا أبلغ رادع لمن يطلب منهم دفع الضرر أو إيصال النفع.
قال تعالى: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ)) [الحج:73].
وقال جل شأنه: ((وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ)) [الأعراف:197].
د- نوع بين الله فيها عجزهم وعدم استطاعتهم لإزالة ضر أو جلب نفع عن الداعين لهم والمستغيثين بهم في الشدائد والمصائب.
قال تعالى: ((قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ)) [الزمر:38].
وقال تعالى: ((قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلا تَحْوِيلًا)) [الإسراء:56].
7- آيات توضح أن المدعوين أنفسهم يلتجئون إلى الله تعالى ويتقربون إليه فهم بين الخوف والرجاء، أليس اللائق أن يُلتجَأ إلى من يلتجئون إليه وأن يُتَقَرَّبَ إلى من يتقربون إليه؟
قال تعالى: ((أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ...)) [الإسراء:57].(1/297)
ومثل هذه الآية قوله تعالى: ((لَنْ يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا)) [النساء:172].
8- آيات وصفت دعاء غير الله تعالى بأنه شرك أو كفر أو وصفت الداعين بأنهم مشركون أو كافرون، وفي ذلك أعظم تحذير وأبلغ إنذار من دعاء غير الله تعالى.
وستأتي تلك الآيات إن شاء الله تعالى في مبحث حكم من دعا غير الله تعالى.
9- آيات توضح أن دعاء غير الله تعالى ضلال مبين وأنه مضلة في الرأي والفكر وأنه خسران مبين، وأنه لا يزداد بذلك إلا طغياناً وضلالاً وإثماً.
قال تعالى: ((يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُ وَمَا لا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ. يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ)) [الحج:12، 13].
وقال تعالى: ((وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا)) [الجن:6].
10- آيات تصف المؤمنين بإخلاص الدعاء لله وحده وبأنهم يلتجئون في الشدائد والكربات إلى الله وحده، أو تخبر عن تعهد المؤمنين والتزامهم بإخلاص الدعاء لله تعالى وأنهم لا يدعون غيره، ففي هذا تعريض وتوبيخ لمن يلتجئ إلى غير الله تعالى في الشدائد والكربات ويدعو مع الله الأموات والغائبين ولا يلتزم بإخلاص الدعاء.
قال تعالى في وصف عباد الرحمن: ((وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ)) [الفرقان:68].
وقال عز شأنه: ((وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا)) [الكهف:14].(1/298)
11- آيات تبين غياب المدعوين عن الداعين عند هجوم الشدائد ونزول المحن والبلايا والمصائب مع العلم بأن الذي لا ينفع عند الاضطرار لا حاجة تدعو إلى عبادته ودعائه في الرخاء، ففي هذا أوضح تحذير وأبلغ زجر لمن يدعو ما لا ينفعه عند الشدائد.
قال تعالى: ((وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ)) [الإسراء:67].
وقال سبحانه: ((وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ. وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ)) [فصلت:47، 48].
وقال تعالى: ((ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ. مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ)) [غافر:74].
وقال تعالى: ((قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ. بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ)) [الأنعام:40، 41].
وقال تعالى: ((حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ)) [الأعراف:37].
وقال تعالى: ((وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ)) [هود:101].(1/299)
12- آيات تتوعد من يدعو غير الله تعالى بالعذاب الأليم وبأن له الحساب القاسي، قال تعالى: ((وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ)) [المؤمنون:117].
وقال تعالى: ((فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ)) [الشعراء:213].
13- آيات كثيرة حذر الله فيها من عبادة غيره بأساليب متعددة، وقد علمنا أن الدعاء هو العبادة.
فتلك الآيات الواردة في التحذير من عبادة غير الله تعالى تكون محذرة أيضاً من دعاء غير الله تعالى لما تقدم من تلازم نوعي الدعاء: دعاء المسألة ودعاء العبادة، وقد تقدم ذلك مفصلاً في مبحث( ) أقسام الدعاء ولله الحمد.
المطلب الثاني: فيما ورد من السنة المشرفة من التحذير من دعاء غير الله تعالى:
قد وردت أحاديث كثيرة في التحذير من توجيه السؤال والدعاء لغيره تعالى تصريحاً أو تلميحاً.
ومن تلك الأحاديث:
1- ما ورد في ذم سؤال الناس أموالهم وفي ذلك تحذير بليغ من باب أولى من سؤالهم ما لا يقدرون عليه إذ كيف يمكن سؤالهم وهم أموات لا يعلمون شيئاً مما يطلب منهم ولا يقدرون عليه؟؟ فالأحاديث الدالة على ذم سؤال الناس كثيرة جداً منها:
حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال، لا تزال المسألة بأحدكم حتى يلقى الله وليس في وجهه مزعة لحم( ).
وحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {لأن يغدو أحدكم فيحطب على ظهره فيتصدق به ويستغني به من الناس خير له من أن يسأل رجلاً أعطاه أو منعه ذلك فإن اليد العليا خير من السفلى}( ).
وحديث عوف بن مالك الأشجعي مرفوعاً في البيعة: {ولا تسألوا الناس شيئاً}( ).(1/300)
2- وهناك أحاديث تنهى عن دعاء غير الله تعالى وتحذر من مغبة ذلك وتبين أنه سبب لدخول النار أو تصفه بأنه أكبر الكبائر منها: قوله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن مسعود رضي الله عنه: {من مات وهو يدعو لله نداً دخل النار}( ).
وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن مسعود أيضاً عندما سئل: أي الذنب أكبر عند الله؟: {أن تدعو لله نداً وهو خلقك}( ).
3- ومنها أحاديث تأمر بسؤال الله تعالى وتحث عليه وترغب فيه، وفي ذلك زجر عن ضد ذلك لأن الأمر بالشيء نهي عن ضده، فمن تلك الأحاديث قوله صلى الله عليه وسلم: {إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله}( ).
وعن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما روى عن الله تبارك وتعالى أنه قال: ... يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم، يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم...( ).
4- ومنها أحاديث تأمر بالاستعاذة بالله وكلماته، وتحث عليه ومثلها الأحاديث التي فيها استعاذة الرسول صلى الله عليه وسلم بالله وكلماته. وقد تقدم لنا في التعريف أن الاستعاذة نوع من الدعاء، ففي الأمر بالاستعاذة بالله وكلماته نهي عن الاستعاذة بغير الله وكلماته، ففي ذلك نهي عن الاستعاذة بالمخلوق.
وبهذا استدل الإمام أحمد وغيره على أن كلام الله غير مخلوق، إذ المخلوق لا تجوز الاستعاذة( ) به.
قال نعيم بن حماد شيخ البخاري: دلت هذه الأحاديث- يعني الواردة في الاستعاذة بأسماء الله وكلماته والسؤال بها- على أن القرآن غير مخلوق إذ لو كان مخلوقاً لم يستعذ بها إذ لا يستعاذ بمخلوق. قال الله تعالى: ((فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ)) [الأعراف:200] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: {وإذا استعذت فاستعذ بالله}( ) وقال نعيم أيضاً: {لا يستعاذ بالمخلوق ولا بكلام العباد والجن والإنس والملائكة}( ).(1/301)
وقال الخطابي رحمه الله: وكان أحمد بن حنبل يستدل بقوله بكلمات الله التامة على أن القرآن غير مخلوق، وهو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يستعيذ بمخلوق( ).
ومن تلك الأحاديث ما روته خولة بنت حكيم السلمية رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {إذا نزل أحدكم منزلاً فليقل: أعوذ بكلمات الله التامة من شر ما خلق، فإنه لا يضره شيء حتى يرتحل منه}( ).
وما رواه ابن عباس رضي الله عنهما قال: [[كان النبي صلى الله عليه وسلم يعوذ الحسن والحسين ويقول: إن أباكما كان يعوذ بها إسماعيل وإسحاق: أعوذ بكلمات الله التامة، من كل شيطان وهامة، ومن كل عين لامة]]( ).
وقد نص كثير من علماء السلف عند ذكرهم لأحاديث الاستعاذة بكلمات الله تعالى ودلالتها على أن القرآن غير مخلوق، نصوا على أنه: لا تجوز الاستعاذة بغير الله تعالى وأن ذلك لا يمكن أن يصدر عن مسلم عاقل وإليك نصوصهم:
أ- قول الإمام أحمد بن حنبل (ت:241هـ) وقد تقدم نقله قريباً.
ب- قول نعيم بن حماد (ت:228هـ) قال البخاري: وقال نعيم بن حماد: لا يستعاذ بالمخلوق ولا بكلام العباد والجن والإنس والملائكة( ).
وقال أيضاً فيما نقله عنه الحافظ ابن حجر عن كتابه الرد على الجهمية: دلت هذه الأحاديث- يعني الواردة في الاستعاذة بأسماء الله وكلماته والسؤال بها- على أن القرآن غير مخلوق إذ لو كان مخلوقاً لم يستعذ بها إذ لا يستعاذ بمخلوق، قال الله تعالى: ((فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ)) [الأعراف:200] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: {وإذا استعذت فاستعذ بالله}( ).(1/302)
جـ- وقال سوار بن عبد الله القاضي البصري (ت:245هـ): دخلت على رجل أعوذه من وجع به فقال: القرآن ليس بمخلوق، وذلك أنه كل من عوذني قال: أعيذك بالله، أعيذك بالقرآن فعلمت أن القرآن ليس بمخلوق( ). د- وقد عقد البخاري رحمه الله في كتابه خلق الأفعال باباً بعنوان باب ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يستعيذ بكلمات الله لا بكلام غيره وأورد كلام نعيم بن حماد ثم قال: وفي هذا دليل أن كلام الله غير مخلوق وأن سواه خلق. ثم أورد أحاديث كثيرة في الاستعاذة بكلمات الله( ).
5- وقال الخلال أبو بكر أحمد بن محمد بن هارون وارث علم الإمام أحمد (ت:311هـ)، تعليقات على هذه الأحاديث: ولا يجوز أن يقال: أعيذك بالسماء أو بالجبال أو بالأنبياء أو بالملائكة أو بالعرش أو بالأرض مما خلق الله لا يتعوذ إلا بالله أو بكلماته( ).
6- وقال إمام الأئمة ابن خزيمة (ت:311هـ): أفليس العلم محيطاً- يا ذوي الحجا- أنه غير جائز أن يأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتعوذ بخلق الله من شر خلقه؟ هل سمعتم عالماً يجيز أن يقول الداعي: أعوذ بالكعبة من شر خلق الله أو يجيز أن يقول: أعوذ بالصفا والمروة، أو أعوذ بعرفات ومنى من شر ما خلق؟
هذا لا يقوله ولا يجيز القول به مسلم يعرف دين الله، محال أن يستعيذ مسلم بخلق الله من شر خلق الله( ).
فهذا الكلام من هذا الإمام نص صريح في موضوع بحثنا ومناقشتنا مع القبوريين من ذوي أدعياء العلم المجيزين لمثل هذه الصيغ التي ينكر ابن خزيمة أن يقول به عالم بل مسلم يعرف الدين وعده من المحال ولكن هذا قد وقع في الأزمنة المتأخرة بعد ابن خزيمة وعده بعضهم سائغاً بل من القربات.(1/303)
7- وقد ذكر الإمام ابن بطة العكبري عبيد الله بن محمد (ت:387هـ) أحاديث الاستعاذة ثم قال: فتفهموا رحمكم الله هذه الأحاديث، فهل يجوز أن يعوذ النبي صلى الله عليه وسلم بمخلوق ويتعوذ هو ويأمر أمته أن يتعوذوا بمخلوق مثلهم؟ وهل يجوز أن يعوذ إنسان نفسه أو غيره بمخلوق مثله فيقول: أعيذ نفسي بالسماء أو بالجبال أو بالأنبياء أو بالعرش أو بالكرسي أو بالأرض؟ وإذا جاز أن يتعوذ بمخلوق مثله فليعوذ نفسه وغيره بنفسه فيقول: أعيذك بنفسي( ).
8- وقال الإمام البيهقي أبو بكر بن أحمد (ت:458هـ): فاستعاذ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر أن يستعاذ في هذه الأخبار بكلماته كما أمره الله تعالى جل ثناؤه أن يستعيذ به إلى أن قال: ولا يصح أن يستعيذ بمخلوق عن مخلوق( ).
وهذه الأقوال السابقة من هؤلاء الأئمة الكبار تعد من نفائس كلام السلف في هذه المسألة التي هي دعاء غير الله تعالى والاستعاذة والاستغاثة بغيره، وهي من أمهات المسائل التي طال حولها الجدل من زمن ابن تيمية رحمه الله إلى وقتنا الحاضر، وقد غفل عن هذه النصوص كثير ممن تكلم في هذه المسألة مع كونها صريحة في محل الخلاف، وقد نص عليها كبار أئمة السلف من القرن الثالث إلى ما بعد، وبها يتبين بطلان ما زعمه بعضهم من تفرد ابن تيمية وأتباعه بالكلام على هذه المسألة، والله أعلم.
9- ومنها أحاديث وردت في سد الذرائع التي توصل إلى دعاء غير الله تعالى، وهذه الأحاديث كثيرة جداً وسيأتي بعضها إن شاء الله تعالى.
هذا ومن الأدلة الدالة على منع دعاء غير الله تعالى بعدما تقدم من الكتاب والسنة الأمور التالية:
1- إجماع علماء الأمة على منع دعاء غير الله تعالى وعده كفراً وسيأتي نقل هذا الإجماع إن شاء الله تعالى.(1/304)
2- أن الله سبحانه وتعالى لم يذكر لنا في كتابه العزيز- مع كثرة ما ذكره من أدعية الأنبياء والصالحين- لم يذكر دعاءً واحداً فيه دعاء لغير الله تعالى، وهذا من الأدلة الجلية الواضحة على أنه لو كان سائغاً لذكره الله تعالى.
وقد علمنا أن الله ذكر النهي عنه بأبلغ الأساليب وكرر ذلك وأعاد.
3- أن الرسول صلى الله عليه وسلم علم أمته كل خير وحذرها من كل شر ومما علمها الدعاء، فقد حوت كتب السنة المشرفة ألفاظ الأدعية التي علمها رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته وهي كثيرة جداً فمع هذه الكثرة وحرص النبي صلى الله عليه وسلم على الخير لم نجد دعاءً واحداً صحيحاً فيه الاستغاثة بغير الله تعالى ودعاؤه والالتجاء إليه.
4- قد علم( ) من دين الإسلام بالاضطرار والتواتر وبإجماع سلف الأمة وأئمتها أن ذلك ليس بواجب ولا مستحب، كما علم أن النبي صلى الله عليه وسلم والأنبياء قبله لم يشرعوا للناس دعاء الملائكة والأنبياء والصالحين لا في حياتهم ولا بعد مماتهم.
بل الأنبياء مجمعون على منعه كما تقدم، وما كان كذلك لا يكون عبادة كما لا يمكن لأحد أن يجيزه أو يتأول لمن يفعله، إذ من المعلوم أن الدعاء عبادة وهي توقيفية، وقد علمنا أنه لم يشرع دعاء الأموات بل هو ممنوع اتفاقاً.
5- أن الرسول صلى الله عليه وسلم( ) -مع كونه لم يشرع هذا- فإنه قد حرم ذلك وحرم ما يفضي إليه كاتخاذ القبور مساجد.
6- أن العلماء( ) قالوا لا يجوز توجيه الدعاء إلى أسماء الله وصفاته لأنها إنما يدعى الله بها ولا تُدعى هي فلا يقال يا علم الله ارزقني ولا يقال يا قدرة الله افعلي لي كذا لأن الله تعالى قال: ((وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا)) [الأعراف:180]. ولم يقل فادعوها.
فإذا كان العلماء يتفقون على عدم جواز ذلك في أسماء الله وصفاته فمن باب أولى وأحرى ألا يجوز دعاء الأموات والغائبين.
وهذا بين واضح ولله الحمد...(1/305)
ولكن الأمر احتاج إلى ذكر مثل هذه العلل، لوجود من يجادل بالباطل ويحاول إباحة دعاء الأموات أو استحبابه، فإنا لله وإنا إليه راجعون...
المطلب الثالث: في مفاسد دعاء غير الله تعالى وآثاره الضارة وخطورته على سلامة العقيدة:
إن أعظم مسألة خالف فيها الرسول صلى الله عليه وسلم المشركين هي مسألة الدعاء بنوعيه: دعاء العبادة والمسألة وهي التي وقع فيها النزاع والخصومة بينه صلى الله عليه وسلم وبينهم فهم كانوا يتعبدون بإشراك الصالحين في دعاء الله تعالى وعبادته ويرون ذلك من تعظيم الصالحين، ويريدون بذلك شفاعتهم عند الله قال تعالى: ((وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ)) [يونس:18]. فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وخالفهم في ذلك فأتى بإخلاص الدعاء وجميع أنواع العبادات لله.
وهي أعظم مسألة خالف فيها الرسول صلى الله عليه وسلم المشركين، وهي التي تفرق الناس لأجلها إلى مسلم وكافر وعندها وقعت العداوة ولأجلها شرع الجهاد( ). فإذا كانت بهذه المنزلة فأي شخص يقع فيها يقع في مفاسد جمة ومضار كثيرة تزلزل عقيدته وتهدم إيمانه حتى يخرج عن الملة والعياذ بالله.
ولكونها أعظم مسألة خولف فيها الأنبياء- عليهم السلام- عامة ونبينا صلى الله عليه وسلم خاصة، كثر اعتناء العلماء بهذه المسألة أكثر من غيرها من مسائل العقيدة لا سيما شيخي الإسلام ابن تيمية، وابن عبد الوهاب رحمهما الله تعالى فإنهما قد أسهبا الكلام فيها وأشبعا وأبديا وأعادا وجاهدا في سبيل ذلك حتى غدت مسائلها واضحة نيرة فجزاهما الله عن الإسلام أفضل ما جزى عالماً على دعوته وجهاده.
إن مفاسد دعاء غير الله تعالى وآثاره الضارة كثيرة جداً نذكر منها بعضها على سبيل الإجمال مستعينين بالله ومستهدين به وهو ولي التوفيق.(1/306)
1- إن دعاء غير الله تعالى فيه إضاعة لمعنى العبودية، ولمقتضيات الربوبية، فعبودية العبد لله تعالى أشرف صفات العبد وأعلى مقاماته، ولهذا وصف الله رسوله محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بها في أشرف المقامات في مقام الإسراء، والدعوة إليه، وإنزال الوحي والتحدي بالقرآن، قال تعالى: ((سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى)) [الإسراء:1].
وقال تعالى: ((وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا)) [الجن:19].
وقال سبحانه: ((تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا)) [الفرقان:1].
وقال تعالى: ((وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا)) [البقرة:23].
ومع أن عبودية العبد لله تعالى أشرف مقاماته صرفها الداعي لغير الله تعالى إلى من لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً فضلاً عن غيره.
قال الشيخ حسين النعمي رحمه الله: فالداعي سوى الله والملتجئ إلى غيره، وصارف اضطراره وافتقاره عنه إلى من دونه، بهيئة ما ينبغي أن يكون لله... مضيع لمعنى العبودية ومقتضيات الربوبية( ).
ثم إن الداعي إنما يدعو إلهه عند انقطاع أمله مما سواه وذلك خلاصة التوحيد( ).
فالداعي لغير الله تعالى قد صرف أهم العبادات القلبية لغيره تعالى فكفى بذلك قبحاً وشناعةً وفساداً، ولو لم يكن فيه إلا نقص محبة الله تعالى وخوفه ورجائه والتوكل عليه والإنابة إليه من قلب الداعي بسبب قسمته ذلك بينه سبحانه وتعالى وبين من دعاه من دون الله ليقضي حاجته أو يتوسط له عند الله تعالى- فينقص ويضعف أو يضمحل ذلك التعظيم والمحبة والخوف والرجاء بسبب صرف أكثره أو بعضه إلى من دعاه من دون الله- لكفى ذلك في شناعته وقبحه( ) وآثاره الضارة.
فكيف وفيه مفاسد أخرى عظيمة وعواقب وخيمة؟(1/307)
2- إن دعاء غير الله تعالى فيه إذلال الداعي لنفسه وإخضاعه إياها لمخلوق مثله لا يملك لنفسه نفعاً ولا يدفع عنها ضراً، فضلاً عن الداعي الأجنبي فكيف يذل الداعي نفسه لهذا المخلوق العاجز؟ ولقد كرم الله الإنسان وشرفه وفضله على كثير من خلقه، فإذا سلب الإنسان نفسه هذه الكرامة وأذلها لمخلوق ضعيف فقد ضيع حقها وأذلها.
ففي دعاء غير الله تعالى إضاعة لحقوق النفس وكرامتها وشرفها كما أن فيه إضاعة لحقوق الله تعالى وعبوديته، وقد ذكر ابن رجب رحمه الله أن سؤال الله هو المتعين وعلل ذلك بأن فيه إظهار الذل والافتقار، ولا يصلح الذل والافتقار إلا لله وحده لأنه حقيقة العبادة، ثم ذكر أن الإمام أحمد يدعو ويقول: اللهم كما صنت وجهي عن السجود لغيرك فصنه عن المسألة لغيرك ولا يقدر على كشف الضر وجلب النفع سواك( ).
3- إن دعاء غير الله تعالى فيه شكاية العبد لمولاه الذي هو أرحم الراحمين إلى من لا يرحمه، فإن الداعي لغير الله تعالى ترك ربه وخالقه وذهب إلى فقير بالذات وطلب منه أن ينفعه، فتركُه لربه ومُولِي نِعمِه -مع ذهابه إلى غيره- فيه شكاية لمولاه، واللائق بالعبد أن لا يشكو إلا إلى الله.
قال يعقوب عليه السلام: ((إِنَّمَا أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ)) [يوسف:86].
وقد رأى الفضيل بن عياض رحمه الله رجلاً يشتكي إلى آخر فقال: يا هذا تشتكي من يرحمك إلى من لا يرحمك؟ كما قيل:
وإذا شكوت إلى ابن آدم إنما ... ... تشكو الرحيم إلى الذي لا يرحم
وشكى إليه رجل مرة حاله فقال له: يا أخي أمدبراً غير الله تريد( ) ؟.(1/308)
وفي هذا الصنيع خطر عظيم وظلم جسيم لأن الظلم وضع الشيء في غير موضعه، ولا أعظم ظلماً من شكاية العبد ربه الذي هو أرحم الراحمين فيما أصابه من ضر أو فاته من خير إلى من لا يرحمه ولا يسمعه ولا يبصره، ولا يعلمه ولا يملك لنفسه ولا لداعيه من ضر ولا نفع ولا موت ولا حياة ولا نشور، ولا يغني عنه مثقال ذرة، وعدولِه عمن بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه ويفزع في قضاء حوائجه إلى من لا قدرة له على شيء البتة...( ).
4- إن دعاء غير الله تعالى فيه إساءة للظن بالله سبحانه وتعالى.
فالذي يدعو غير الله تعالى ويلتجئ إلى باب غير باب الله تعالى سواء أعتقد لذلك الغير الاستقلال أو الوساطة فقد ظن بربه السوء لأن هذا الداعي لغير الله لا يخلو إما أن يظن أن الله سبحانه يحتاج إلى من يدبر أمر العالم معه من وزير أو ظهير، وهذا أعظم التنقيص لمن هو غني عن كل ما سواه ومفتقر إليه كل ما سواه.
وإما أن يظن أن قدرة الله إنما تتم بقدرة الشريك، أو أنه لا يعلم حتى تعلمه الواسطة، أو لا يرحم حتى تجعله الواسطة يرحم، أو لا يكفي العبد وحده، أو لا يفعل ما يريده العبد حتى تشفع عنده الواسطة كالرؤساء والملوك، أو لا يجيب دعاء عباده حتى يسألوا الواسطة أن ترفع تلك الحاجات إليه، أو أن للمخلوق عليه حقاً يقسم به عليه، ويتوسل به إليه كما هو عادة الرؤساء( ).
فكل هذا إساءة للظن بالله تعالى وأي إساءة أعظم من هذا؟
5- إن دعاء غير الله تعالى( ) فيه تشبيه الخالق بالمخلوق إذ اعتقد الداعي أن من يدعوه يتوسط له لدى الله تعالى كما يتوسط لدى الرؤساء والزعماء وهذا التشبيه صرح به بعضهم( ) ظناً منهم أن الخالق مثل المخلوق، حاشا وكلا فإن الله تعالى ليس كمثله شيء وهو السميع البصير لأن الواسطة إنما جازت عند الرؤساء لأنهم لا يعرفون أحوال الناس وحقيقة الأمر، أو لكونهم عاجزين عن تدبير الرعية، أو غير ذلك.(1/309)
وأما الله سبحانه فليس كذلك، فمن دعا المخلوق وأراد الشفاعة والوساطة- كما هو عقيدة غالب من يدعو غير الله تعالى- فقد شبه الله تعالى بالرؤساء الجاهلين العاجزين المحتاجين إلى من يساعدهم ويعاونهم. كما أن فيه تشبيه المخلوق بالخالق لأن الدعاء من أخص خصائص الإلهية فمن صرفه لغير الله تعالى فقد أعطى خصيصة من أهم خصائص الإلهية لغير الله تعالى فيكون قد شبه الغير بمن لا شبيه له( ).
6- إن دعاء( ) غير الله تعالى فيه تشبه بالنصارى الذين يدعون المسيح ومريم والحواريين والقديسين.
كما أن فيه تشبهاً بالمشركين الذين يدعون الصالحين الذين عبدوا الأصنام اعتقاداً بأنها على صورتهم فهم لم يعبدوها لكونها أحجاراً، وسيأتي بيان أن أصل وضع الأصنام كان من صور الصالحين.
فالداعي للصالحين مُضَاهٍ للمشركين، ولمن اتخذ المسيح وأمه إلهين من دون الله، فلهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: {لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم فقولوا عبد الله ورسوله}( ).
فيستفاد من هذا الحديث أن من أطرى الرسول صلى الله عليه وسلم فقد شابه النصارى في إطرائهم لعيسى عليه السلام فثبت بهذا أن من دعا رجلاً أو امرأة من دون الله فهو مُضَاهٍ لمن اتخذ المسيح وأمه إلهين من دون الله( ).
7- إن دعاء( ) غير الله تعالى ردة صريحة وكفر بواح وشرك قراح، فهو أشد كفراً من اليهودية والنصرانية. وبهذا يعلم شدة خطره وأنه غاية في الشرك والكفر وانسلاخ عن ربقة الإسلام وخروج عن حظيرته. فالداعي لغير الله تعالى لا تقبل منه الجزية كما تقبل من اليهود والنصارى ولا تحل ذبيحته ولا يَنكِحُ مسلمةً ولا تُنكَحُ إن كانت امرأةً بل يجب مفارقتها، ولا يرث ولا يورث.
قال القرافي: وهذا فساد كله يتحصل بدعاء واحد من هذه الأدعية.
ولا يرجع إلى الإسلام ولا ترتفع أكثر هذه المفاسد إلا بتجديد الإسلام والنطق بالشهادتين( ).(1/310)
فالأمر أخطر مما يظنه بعض من يتساهل في هذا الباب ويحاول تبريره بأوهى الشبهات التي هي أضعف من خيط العنكبوت.
8- إن سؤال الناس في الأصل محرم، لأن فيه أنواع الظلم الثلاثة، الظلم في حق الله بالشرك، والظلم للمسؤول بإيذائه له، وظلم الإنسان لنفسه بتعبيدها لغير الله وقد أبيح من ذلك من سؤال الحي ما دل الشرع على إباحته( ).
فإذا كان أصل السؤال محرماً فكيف بسؤال الميت والغائب سؤال تضرعٍ ومسكنةٍ وذلةٍ وافتقارٍ ومحبةٍ؟ فهو يشتمل على أعلى أنواع الظلم الثلاثة من ظلم لحق الله تعالى وصرف خصيصة من خصائص الألوهية إلى من لا يملك لنفسه نفعاً فضلاً عن داعيه ثم من ظلم لحقوق الغير الذي هو المسؤول بإيذائه حيث يتأذى من عبادته ويكره ذلك. فالصالحون لا يحبون أن يعبدوا من دون الله، ثم من ظلم نفسه حيث أذلها وعبَّدها لغير باريها وفاطرها وعلقها بفقير بالذات عاجز بالذات.
9- إن ترك( ) السؤال للمخلوق اعتياضاً بسؤال الخالق أفضل من الحاجة والفقر، قال تعالى: ((فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ. وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ)) [الشرح:7، 8].
وقال يعقوب عليه السلام: ((إِنَّمَا أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ)) [يوسف:86].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس: {إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله}( ).
ولهذا كان كبار الصحابة لا يسألون النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً لأنفسهم فلم ينقل عن أبي بكر ولا عمر أنهما سألاه شيئاً من المال لأنفسهما.
هذا في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وكذلك الأنبياء السابقون.
هذا مع الحاجة وأما إذا لم يكن حاجة فالسؤال حرام.
فإذا كان ترك سؤال الأنبياء في حياتهم أفضل مع الحاجة والفاقة ومع عدم الحاجة يكون حراماً فكيف بسؤال الغائب والميت منهم ومن غيرهم؟ فلا شك أنه أعظم حرمة، وأشد خطورة على سلامة العقيدة وصفائها.(1/311)
هذا وبما تقدم يعلم فساد دعاء غير الله وآثاره الضارة وعواقبه السيئة، فنسأل الله تعالى أن يجنبنا من الشرك وذرائعه وهو ولي التوفيق..
المبحث الثاني
في أسباب انتشار دعاء غير الله تعالى في العالم الإسلامي
إن الله سبحانه وتعالى أرسل الرسل وأنزل الكتب للدعوة إلى توحيده وإخلاص الدعاء له وحده، وقد بين الله تعالى في كتابه العزيز خطورة دعوة غير الله تعالى أتم بيان حتى صار ذلك من ضروريات الإسلام، إلا أنه لما اشتدت غربة الإسلام انتشر الشرك ودعاء غير الله تعالى في الأمة الإسلامية، فاحتاج الأمر إلى دراسة أسباب ذلك الانتشار، وذلك لأنه إذا أريد حل مشكلةٍ ما حلاً جذرياً فلا بد من دراسة أسبابها ومقتضياتها وملابساتها والعوامل التي أدت إلى ظهورها وتفاقمها وانتشارها وذلك لأن معرفة المرض وسببه يعين على مداواة أصحابها وإزالة شبهاتهم( ).
ثم إن العاقل يعلم أن أمة من الأمم لم تجمع على أمر بلا سبب( ) يقتضي ذلك فدعاء غير الله قد اجتمع عليه أصناف من الناس فمن مجيز له ومن معتقد كونه قربة وعبادة، فلا يتصور أن يكون ذلك بدون سبب، فلهذا لا بد من دراسة الأسباب التي أدت إلى انتشار دعاء غير الله تعالى.
وهذه الأسباب متعددة، ومتفاوتة في درجات تأثيرها، فبعضها له تأثير قوي، وبعضها تأثيره ضعيف، وبعضها خاص ببعض الأزمنة أو ببعض الأقطار الإسلامية أو ببعض الأشخاص، والبعض الآخر شامل لأزمنة مختلفة وأماكن متعددة، ولجماعات كثيرة ولكن الكل له تأثير في ذلك على تفاوت في درجات التأثير.
فأذكر إن شاء الله تعالى هذه الأسباب مقدماً الأهم فالأهم وهذا أوان الشروع في ذلك وبالله التوفيق وهو المستعان.
السبب( ) الأول: الجهل والإعراض عن الكتاب والسنة:(1/312)
لقد كان الناس قبل بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم في جاهلية جهلاء يعبدون الأصنام ويدعونها من دون الله تعالى، وذلك لذهاب آثار الرسل السابقين وقلتها من العلم الصحيح في الاعتقادات والأعمال، ثم بعث الله رسوله صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق يعلم الناس الكتاب والحكمة التي هي السنة ويزكيهم، قال تعالى: ((لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ)) [آل عمران:164].
فعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه الدين كله فدلهم على كل خير وحذرهم من كل شر، والصحابة بلغوا هذا العلم النبوي الشريف إلى التابعين، والتابعون لمن بعدهم وهكذا كل جيل إلى أن قل العلم الصحيح علم الكتاب والسنة فيما بعد وتناقص وتسبب ذلك في الجهل بحقيقة ما بعث الله به رسوله، بل جميع الرسل من تحقيق التوحيد وقطع أسباب الشرك، فقل نصيبهم من ذلك ودعاهم الشيطان إلى الفتنة، ولم يكن عندهم من العلم ما يبطل دعوته، فاستجابوا له بحسب ما عندهم من الجهل...( ).(1/313)
والسبب في ذلك قلة انتشار العلم الصحيح من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم بسبب إعراض الناس عن تعلم العلم الصحيح، حيث قلت دراسة القرآن الكريم بتدبر وتعقل وفهم، بحجة أن فَهمَ القرآن صعبٌ على أفهامِ الناس، ولا يستطيعُه إلا مَن دَرَسَ كلَّ العلوم من نحوٍ وصرفٍ وبيانٍ ومعانٍ ولغةٍ، والفقهَ وأصولَه، والمنطقَ والفلسفةَ، ولهذا قلَّ في بعض الأقطار الإسلامية دراسةُ تفسير القرآن الكريم بتدبُّرٍ وفَهم، وقلَّ تفسيرُه بما يطابق ما انتشر في المجتمع بل صاروا يفسرون الآيات المتعلقة بالشرك بما يُفهم أنها خاصة بكفار قريش ولا يدخل فيها ما يفعله الناس اليوم فصاروا كما قال الله تعالى في اليهود: ((وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ)) [البقرة:78]، وقال عز من قائل: ((مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا)) [الجمعة:5]، واقتصروا على تلاوته على الأموات وعند المقابر والمشاهد، وكتابته للتمائم والحجب، أو زخرفته بالذهب، وحفظه للتبرك، وقراءته في افتتاح الحفلات، وأدى كل هذا إلى الجهل بالقرآن الكريم، ثم إلى عدم تطبيقه في الاعتقادات والأعمال والتشريعات.(1/314)
قال الشيخ أبو بكر الجزائري في وصف أحوال المسلمين في القرون الأخيرة: كان القرآن يقرأ على الأموات دون الأحياء ويعتبر تفسيره خطيئة من الخطايا وذنباً من الذنوب إذ ساد بين المسلمين القول بأن تفسير القرآن صوابه خطأ وخطأه كفر فلذا القارئ يقرأ: ((وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا)) [الجن:18] والناس حول ضريح الولي المدفون في ناحية المسجد يدعون بأعلى أصواتهم: يا سيدي يا سيدي كذا وكذا ولا يجرؤ أحد أن يقول: يا إخواننا لا تدعوا السيد فإن الله تعالى يقول: ((وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا....)) [الجن:18]( ).
وهؤلاء لم يكتفوا بأن امتنعوا بأنفسهم عن تفسير القرآن وتدبره بل راحوا يحذرون غيرهم إذ قالوا: إن الغضب ينزل على أهل البلد إذا حصل خطأ في التفسير، وهذا كلام باطل لا أصل له، وما ألقى هذا بين الناس إلا الشيطان ليصدهم به عن سبيل الله( ).
وقد وصف الله كتابه بالبيان والوضوح. قال تعالى: ((وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ)) [البقرة:99].
والأنبياء لم يبعثوا إلا لهداية الضُّلاَّل وتعليم الجُهَّال، والقول بصعوبة القرآن يتنافى مع مقتضى البيان والوضوح وغرض الإرسال( ).
وقد وصل الأمر في إهمال الاعتناء بالكتاب إلى ما ذكره أحد العلماء المعاصرين أنه وزملاءه تحصلوا على شهادة العالمية من إحدى المراكز الدينية الكبرى ولم يدرسوا آية واحدة من كتاب الله تعالى( ).
وكذلك أصاب السنة( ) مثل ما أصاب القرآن الكريم فقد تركوا الاعتناء بالسنة وتركت دراستها في أغلب المعاهد الإسلامية، وإنما كانوا يقرءونها للتبرك بها والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم عند ذكره، وكانوا يقرءون البخاري في وقت الشدائد والمحن، ويطلبون بقراءته النصر على الأعداء وتفريج الكرب( ).(1/315)
ولم يقتصر الأمر على صحيح البخاري بل اعتقدوا ذلك في غيره من بعض كتب الفقه( )، وهؤلاء الذين يدرسون البخاري للتبرك لا يتفقهون فيه ولا يعرفون مبادئ التوحيد والشرك ووصل الأمر ببعضهم إلى ما ذكره حسين بن مهدي النعمي رحمه الله من أن قوماً يقرءون صحيح البخاري بمدينة زبيد فإذا فرغوا - إما أحياناً أو مطلقاً- ذهبوا إلى مشهد هناك، فيظلون عاكفين هنالك ما شاء الله، وعليهم السكينة والوقار وضروب من الخضوع والتأدب لنازل الحفرة، ثم قال: وهل هذا عمل بشيء وجدوه في كتاب البخاري أو غيره أما هو؟( ).
والسبب في هذا أن أغلبيتهم لا يفقهون في الحديث ولا همة لهم في معرفته ولا في التدين به بل الصحيح والموضوع عندهم بنسبة واحدة، إنما همتهم في السماع على جهلة الشيوخ وتكثير العدد من الأجزاء والرواة لا يتأدبون بآداب الحديث( ).
وليس معنى هذا الذي ذكرناه من قلة الاعتناء بدراسة السنة وتدريسها أنه لا يوجد من يعتني بالسنة وتدريسها ودراستها حاشا وكلا، بل لا يزال( ) في الأمة الإسلامية جهابذة يعتنون بالحديث وعلومه وإن كانوا قلة بل المقصود أن الفهم الصحيح لها والاعتناء بتطبيقها عملياً من جمهور طلبة العلم هو الذي قل وأدى إلى انتشار الجهل بها، ثم إلى انتشار الخرافات والبدع والشركيات في العالم الإسلامي.
فقد انتشر جهل حقيقة الدين الإسلامي وما بعث الله به نبيه صلى الله عليه وسلم وجميع الرسل من حقيقة التوحيد وإخلاص الدعاء له وصار الناس يظنون الشرك أنه هو التوحيد الخالص وأنه مما يتقرب به إلى الله تعالى، وصاروا يتهمون من دعا إلى التوحيد الخالص بأنه جاء بما يخالف الإسلام. ووصل الأمر إلى أن اعتقد جماهير من المسلمين أن دعاء الموتى ونداء من تحت الأجداث واستغاثة من في القبور من الطاعات وأن ذلك مما يقرب إلى الله تعالى وأنه من دين الإسلام.(1/316)
ثم هؤلاء الذين تركوا الاعتناء بالكتاب والسنة اعتاضوا عن ذلك بالاعتناء بالفلسفة والمنطق والتعمق في المسائل الغريبة نادرة الوقوع من المسائل الفقهية، مع الجمود والتعصب، وترك السنة الصحيحة لمراعاة المذهب.
كما أنهم أفنوا أعمارهم في دراسة غوامض اللغة وغرائبها وشواذها.
فهذه العلوم لا تشفي عليلاً ولا تهدي السبيل المستقيم، والدارس المعتني بها بعيد عن واقع الأمة وآلامها وعلاج عقيدة المجتمع ومشاكله.
فحصل من هذا كله انتشار الجهل بالكتاب والسنة.
وهذا الانتشار للجهل ورفع العلم مما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم في قوله: {يقبض العلم ويظهر الجهل والفتن}( ). وهذا هو مصداق ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث، فقد انتشر الجهل بحقيقة التوحيد وما يضاده أو ينافي كماله وتسبب هذا في انتشار الشرك والبدع فصار المعروف منكراً والمنكر معروفاً.
قال ابن القيم رحمه الله: قد غلب الشرك على أكثر النفوس لظهور الجهل، وخفاء العلم فصار المعروف منكراً والمنكر معروفاً، والسنة بدعة، والبدعة سنة، ونشأ في ذلك الصغير وهرم عليه الكبير، وطمست الأعلام واشتدت غربة الإسلام، وقل العلماء، وغلب السفهاء، ولكن مع هذا لا تزال طائفة من العصابة المحمدية بالحق قائمين، ولأهل الشرك والبدع مجاهدين إلى أن يرث الله سبحانه الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين( ).
وذكر ابن القيم أيضاً أن الجهل هو السبب الرئيسي في المنع من قبول الحق فالجهل هو السبب الغالب على أكثر النفوس فإن من جهل شيئاً عاداه وعادى أهله( ).
ومما ينبغي أن يعلم أن هذا الجهل المنتشر حصل للناس لسببين: أحدهما: هذا الذي تقدم من عدم الاعتناء بدراسة القرآن الكريم وتدبره وفهمه.(1/317)
وثانيهما: أنهم حملوه على قوم مضوا وأن الواقع لا يدخل تحته، فقد ذكر ابن القيم أن القرآن مملوء بالآيات التي تقطع أصول الشرك ومواده ثم قال: ولكن أكثر الناس لا يشعرون بدخول الواقع تحته، وتضمنه له، ويظنونه في نوع وفي قوم قد خلوا من قبل ولم يعقبوا وارثاً، وهذا هو الذي يحول بين القلب وبين فهم القرآن، ولَعَمرُ الله إن كان أولئك قد خلوا فقد ورثهم من هو مثلهم أو شر منهم أو دونهم، وتناول القرآن لهم كتناوله لأولئك ولكن الأمر كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: [[إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية]]، وهذا لأنه إذا لم يعرف الجاهلية والشرك، وما عابه القرآن وذمه وقع فيه وأقره، ودعا إليه وصوبه وحسنه وهو لا يعرف أنه هو الذي كان عليه أهل الجاهلية أو نظيره أو شر منه أو دونه( ).
وبسبب الجهل بحقيقة دين الإسلام وحقيقة التوحيد والشرك تمكن الشيطان من التلبيس على كثير من الناس في دعاء غير الله تعالى بأن زين لهم ذلك باسم التوسل تارة وباسم الشفاعة تارة وباسم محبة الصالحين تارة أخرى، إلى غير ذلك من تلبيسات الشيطان لأن الباب الأعظم الذي يدخل منه إبليس على الناس هو الجهل، فهو يدخل منه على الجهال بأمان، وأما العالم فلا يدخل عليه إلا مسارقة( ).
وقد صرح القرافي المالكي بكون الجهل هو السبب للأدعية الشركية فقد ذكر الأدعية المحرمة والأدعية المكفرة وبين خطورتها ثم قال: وأصل كل فساد في الدنيا والآخرة إنما هو الجهل فاجتهد في إزالته عنك ما استطعت كما أن أصل كل خير في الدنيا والآخرة إنما هو العلم فاجتهد في تحصيله ما استطعت والله تعالى هو المعين على الخير كله( ).
السبب الثاني( ): الشبهات التي يتشبثون بها في جواز دعاء غير الله تعالى:(1/318)
ومن الأسباب التي أدت إلى انتشار دعاء غير الله تعالى بعض الشبهات التي ظن عباد القبور أنها صحيحة وتدل على جواز دعاء الموتى ولكنها كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماءً حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً، فهم يتركون الأمور الواضحة ويتبعون المتشابه، وتلك الشبه على أقسام ثلاثة.
1- نصوص متشابهة لم يفهموها ولم يفقهوا ما دلت عليه، ويحتجون بها ويوردونها من غير فهم لمعناها ولا معرفة لما دلت عليه، وذلك كتأويلهم لبعض الآيات القرآنية وتفسيرها بما يجيز دعاءَ غير الله تعالى وكذلك تأويلهم لبعض الأحاديث الصحيحة.
2- أحاديث مكذوبة مختلقة وضعها أشباه عباد الأصنام من المقابرية على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي تناقض دينه وما جاء به.
3- حكايات حكيت لهم عن أصحاب القبور أن فلاناً استغاث بالقبر الفلاني في شدة فخلص منها، وفلاناً دعاه، أو دعا به في حاجة فقضيت له، وفلاناً نزل به ضر فاسترجى صاحب ذلك القبر فكشف ضره.
وعند السدنة والمقابرية من ذلك شيء كثير يطول ذكره، وهم من أكذب خلق الله تعالى على الأحياء والأموات( ).
وقد تكون تلك الحكايات صحيحة ولكنها من الشيطان، فإنه قد يتراءى لبعضهم في صورة من يعتقد فيه، أو ينتسب إلى رجل صالح ويتسمى باسمه كالخضر وعبد القادر، وقد تخاطب الشياطين من استغاث بغير الله أو دعاه، وينسب ذلك إلى هذا المدعو أو المستغاث به ويقول أحدهم: رأيت فلاناً، وخاطبني فلان أو نحو هذا( ).
وقد تقضي الشياطين بعض حوائج من استغاث بالأموات من الأنبياء، والصالحين، والشيوخ، فيظن أن ذلك كرامةٌ وخرقُ عادةٍ بسبب استغاثته، وقد يصل الأمر في بعض الأحيان أن ينزل عليه طعام من الهواء أو نفقة أو سلاح أو غير ذلك مما يطلبه فيظن ذلك من كرامة من استغاث به ودعاه، وإنما ذلك في الحقيقة كله من الشياطين.(1/319)
وهذا من أعظم الأسباب التي عبدت بها الأوثان( ) في زمان الجاهلية الأولى ولا زالت هذه الأمور موجودة بعد دخول الإسلام عند من يدعو الأموات لأن الشيطان أقسم أنه لا يزال يضل بني آدم.
لكن هذه الأمور من الأحوال الشيطانية تضعف حيث يقوى نور الإيمان والتوحيد وتظهر آثار النبوة والرسالة، وتقوى حيث يضعف الإيمان، ويقوى الشرك والكفر والفسوق والعصيان، فلهذا يكثر وقوعه في المشركين ومن يشابههم، ويكثر في بلادهم( ) ويقل في بلاد المسلمين لا سيما أهل التوحيد الخالص، المتمسكين بالكتاب والسنة.
فتبين مما سبق أن الحكايات لها أثر كبير في انتشار دعاء غير الله تعالى.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية مبيناً كون الحكايات أحد الأسباب الرئيسية في انتشار الشرك في الدعاء: فإنه ما من أحد يعتاد دعاء الميت والاستغاثة به نبياً كان أو غير نبي إلا وقد بلغه من ذلك ما كان من أسباب ضلاله( ). وسيأتي - إن شاء الله تعالى- مناقشة هذه الشبهات في الباب الرابع.
السبب الثالث: علماء السوء وأئمة الضلالة، والزنادقة:
ومن الأسباب التي أدت إلى انتشار دعاء غير الله تعالى وجود علماء السوء وأئمة الضلالة والزنادقة، فقد كان العلماء العاملون هم الذين يوجهون الحكام والشعوب فكانوا سلاطين السلاطين وأمراء الأمراء. فكانوا يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ولا يخافون في الله لومة لائم وكانوا يحاربون الشرك والبدعة، وهؤلاء العلماء في تاريخ هذه الأمة الإسلامية كثيرون في كل زمان ومكان، إلا أن بعض علماء السوء تركوا هذا الواجب الديني ورضوا بالحياة الدنيا، ووصل الأمر ببعضهم إلى أن تقربوا إلى بعض أئمة الضلال ببعض الفتاوى وطلب بعض الرخص لهم وقد يصل الأمر إلى أن يصنفوا لهم بعض الكتب على أهوائهم، وقد ذكر شيخ الإسلام أمثلة منهم في كتاب الاستقامة( ).(1/320)
وبعضهم يطلب للعوام والجهال ما يبرر ويجيز ما يفعلونه من الشركيات والبدع والخرافات، فتارة يؤوله بالمجاز، وتارة بالتوسل، وتارة يؤيده بالأحاديث الموضوعة المكذوبة، وتارة بحجج فلسفية، ومنهم من يؤلف في إباحة دعاء الموتى وإنزال الحوائج بهم مؤلفاتٍ وينشرها بين الجهال.
فهؤلاء الذين ابتليت بهم الأمة الإسلامية هم من جملة الأسباب التي أدت إلى انتشار دعاء الموتى والاستعانة بهم. فهؤلاء قد عكسوا القضية من حيث أن الله تعالى أمرهم بتبليغ الحق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأعظم المنكرات هو الشرك بالله تعالى.
قال تعالى: ((وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ)) [آل عمران:187].
وقد وجد من علماء بعض الفرق الضالة، قوم صنفوا الكتب التي تدعو إلى عبادة الأئمة ودعائهم بل إلى تأليههم.
ومنهم من صنف في أدعية الأضرحة كابن المفيد( ) الرافضي، ألف كتاباً وسماه (الحج إلى زيارة المشاهد) وعامة تلك الأدعية في تلك الكتب كذب وزور( ).
ومن هؤلاء الذين صنفوا هذه الكتب قوم لهم أغراض فاسدة قصدهم إضلال الأمة، قال شيخ الإسلام: وهذا إنما ابتدعه وافتراه في الأصل قوم من المنافقين والزنادقة ليصدوا به الناس عن سبيل الله، ويفسدوا عليهم دين الإسلام، وابتدعوا لهم أصل الشرك المضاد لإخلاص الدين لله...
ولهذا صنف طائفة من الفلاسفة الصابئين المشركين في تقرير هذا الشرك ما صنفوه، واتفقوا هم والقرامطة الباطنية على المحادة لله ورسوله حتى فتنوا أمماً كثيرة وصدوهم عن دين الله.
وأقل ما صار شعاراًً لهم تعطيل المساجد وتعظيم المشاهد فإنهم يأتون من تعظيم المشاهد وحجها والإشراك بها ما لم يأمر الله به ولا رسوله بل نهى الله عنه ورسوله عباده المؤمنين.(1/321)
وأما المساجد فيخربونها فتارةً لا يصلون جمعة ولا جماعة بناء على ما أصَّلوه من شُعَب النفاق وهو أن الصلاة لا تصح إلا خلف معصوم( ).
فقد تبين بهذا مدى تسبب علماء السوء في انتشار الشرك في الدعاء وغيره.
وأما أئمة الضلالة فقد نشروا بين المسلمين عبادة القبور ودعاءها.
وقد خاف رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمته من الأئمة المضلين فقال محذراً منهم: {وإنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين}( ).
وقد وقع ما خاف منه الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد تسلط على المسلمين في بعض فترات تاريخهم الطويل بعض أئمة الضلالة، من الرافضة والباطنية والزنادقة.
وذلك بسبب( ) بعد المسلمين عن الاعتصام بالكتاب والسنة، فنشروا العقائد الضالة والأفكار المنحرفة بكل الوسائل الممكنة لهم.
فمن أئمة الضلالة من استطاع- بعد سيطرته وتمكنه في الأرض- أن يدعي الألوهية كالحاكم بأمر الله الباطني العبيدي وقد أمر أهل مصر إذا قاموا عند ذكره أن يخروا سجداً له حتى إنه ليسجد بسجودهم من في الأسواق من الرعاع وغيرهم ممن كان لا يصلي الجمعة، وكانوا يتركون السجود لله في يوم الجمعة وغيرها ويسجدون للحاكم( ).
وآخرون لم يستطيعوا أن يدعوا لأنفسهم الألوهية ولكن ادعوا لأئمتهم الألوهية( ).
ومن دون هؤلاء آخرون غلوا في أئمة البيت وإن لم يصلوا إلى التأليه، ولكنهم بنوا على قبورهم أو الأماكن التي يزعمون أنها قبورهم المشاهد والقباب والأضرحة المزخرفة وهؤلاء لهم آثار باقية ودول خطيرة إلى الآن ولا تزال تلك الآثار الباقية تنشر الشرك في ربوع الأمة الإسلامية وتفسد عقائدها بشتى الوسائل.
فمن تلك الآثار المشهد الذي بني في دولة الباطنيين العبيديين على رأس الحسين المزعوم في القاهرة( ). ولا يزال موجوداً إلى الآن يطاف به ويدعى ويعبد فإنا لله وإنا إليه راجعون.(1/322)
كما أن بني بويه الذين كانوا على عقيدة الرافضة ظهر في دولتهم بناء المشهد على قبر علي رضي الله عنه المزعوم بناحية النجف( ). ولا يزال يعبد ويدعى ويطاف به.
وهؤلاء الذين نشروا الشرك ربما يكون بعضهم من الجاهلين المغرورين والبعض الآخر زنادقة ممن يريد إفساد دين المسلمين.
والأدلة على أن بعض من نشر بين المسلمين دعاء غير الله تعالى زنادقة كثيرة:
1- منها ما ذكره ابن الجوزي عن ابن عقيل الحنبلي أنه ذكر أن الملاحدة لما رأوا انتشار الإسلام ولم يستطيعوا مقاومته اندسوا بين المسلمين فعملوا حيلاً منها رواية ما يقارب المعجزات من ذكر خواص في أحجار وخوارق العادات في بعض البلاد وأخبار عن الغيوب عن كثير من الكهنة والمنجمين، وبالغوا في تقرير ذلك، وذلك ليقول من رأى ذلك مع عدم علمه لقصدهم: وهل ما جاءت به النبوات إلا مقارب هذا( )؟
2- ومن ذلك ما فعله الباطنية من الإسماعيلية والقرامطة ويدل على ذلك ما ثبت في رسائل إخوان الصفا من قولهم: إن التقرب إلى الله تعالى بالأنبياء أولى من التوسل بالأصنام التي لا تسمع ولا تبصر وأن من قصر فهمه ومعرفته فليس له طريق إلى الله تعالى إلا بأنبيائه ومن قصر عنهم فبالأئمة من خلفائهم وأوصيائهم والتعلق بهم والذهاب إلى مساجدهم ومشاهدهم، والدعاء والصلاة والصيام والاستغفار والرحمة عند قبورهم وعند تماثيلهم المصورة على أشكالهم لتذكرهم من الأصنام والأوثان وما يشاكل ذلك طلباً للزلفى إلى الله( ).
3- ومن ذلك ما ذكره ابن حزم أن بعض الفرس لما عجزوا عن مقاومة انتشار الإسلام أظهروا التشيع وذلك كيداً للإسلام وأهله( ).
وذكر ابن الجوزي أن من أتباع القرامطة والعبيديين طائفة انقطعت دولة أسلافهم بدولة الإسلام كأبناء الأكاسرة والدهاقين وأولاد المجوس فهؤلاء حاقدود على الإسلام كما ذكر أن منهم من قصد إبطال الإسلام ورد الدولة الفارسية وأظهر مذهب الإمامية( ).(1/323)
4- وما ذكر عن رجل فرنسي أسلم وتنسك وصار إماماً لمسجد كبير في تونس فلما جاءت الحملة الفرنسية على تونس طلب منه الناس أن يستأذن لهم على ضريح الشيخ فدخل في الضريح فخرج بأن الشيخ منعهم من المقاومة فاستسلموا( ).
5- وما ذكر عن امرأة فرنسية أظهرت الإسلام وتزوجت بأحد شيوخ التيجانية ثم بعد وفاته بأخيه شيخهم أيضاً، فبذلك قدمت خدمة جليلة للاستعمار الفرنسي( ).
فتبين مما سبق أن بعض علماء السوء وأئمة الضلال والزنادقة سعوا في نشر الشرك في هذه الأمة.
السبب الرابع: التقليد الأعمى للآباء والأسلاف، واستصحاب العوائد وإلفها:
إن الله سبحانه وتعالى أعطى الإنسان العقل ليفكر ويعتبر به، ولكن بعض الناس لم يستخدموا عقولهم في طلب الحجة والدليل والتفكر والاعتبار، بل أهملوه وقلدوا الآخرين بدون برهان ولا سلطان، فرأوا الآباء والأجداد والمشايخ يعظمون القبور ويدعون الأضرحة، فقلدوهم وتبعوهم بدون إعمال عقولهم هل هذه القبور تستحق العبادة والدعاء أم لا؟
وهؤلاء رأوا أن هذا قد شب عليه الصغير وشاب عليه الكبير بدون نكير، فلهذا إذا رأوا من ينكر عليهم قالوا كما قال الأولون: ((وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ)) [المائدة:104].
وقال تعالى: ((بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ. وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ)) [الزخرف:23].(1/324)
قال ابن الجوزي: وقد لبَّس إبليس على جمهور العوام بالجريان مع العادات وذلك من أكثر أسباب هلاكهم، فمن ذلك أنهم يقلدون الآباء والأسلاف في اعتقادهم على ما نشأوا عليه من العادة، فترى الرجل منهم يعيش خمسين سنة على ما كان عليه أبوه ولا ينظر أكان على صواب أم على خطأ( ).
فالذين يدعون غير الله تعالى ويجيزونه يستدلون بالكثرة وبالآباء والأجداد على صحة دعاء غير الله تعالى، بل بعضهم يَتَّهِم من لا يجيز ذلك بأنه خالف إجماع الأمة المحمدية المرحومة، وهذا الاستدلال والاحتجاج بتقليد الآباء والأجداد له سبب خفي، وهو أنه ينشأ أحدهم وهو حسن الظن بأسلافه ومشايخه فلا يزال يسمع ما يقوي حسن ظنه ويسمع ما يبعد المخالف، ثم يتدرج إلى مثل هذه الحالة من عدم قبول الحق، ومع هذه الحالة هناك عوامل وأسباب أخرى خفية ربما يذهل عنها( ).
والمقلد يزين له الشيطان أن التقليد أفضل لسلامته من الوقوع في اشتباه الأدلة وأن الأسلاف لا يخطئون إلى غير ذلك من الشبه.
قال ابن الجوزي رحمه الله في بيان طريق دخول إبليس في إفساد العقائد:
فإن إبليس زين للمقلدين أن الأدلة قد تشتبه والصواب قد يخفى والتقليد سليم، وقد ضل في هذا الطريق كثير وبه هلاك عامة الناس... واعلم أن العلة التي بها مدحوا التقليد بها يذم لأنه إذا كانت الأدلة تشتبه والصواب يخفى وجب هجر التقليد لئلا يوقع في ضلال....
ثم قال: واعلم أن عموم أصحاب المذاهب يعظم في قلوبهم الشخص فيتبعون قوله من غير تدبر بما قال: وهذا عين الضلال لأن النظر ينبغي أن يكون إلى القول لا إلى القائل كما قال علي رضي الله عنه...
إن الحق لا يُعرف بالرجال، اعرِفِ الحقَّ تعرف أهلَه( ).
السبب الخامس: عدم امتثال أمر الشارع بسد ذرائع الشرك وحماية جناب التوحيد:(1/325)
قد أمر الشارع الحكيم بسد ذرائع الشرك ووسائله كلها صغيرها وكبيرها وحذر من الاقتراب إليها وذلك حماية لجناب التوحيد، والوسائل التي نهى الشارع عنها كثيرة ومتنوعة، لأن منافذ الشرك كثيرة والطرق إليه متعددة، ومن تلك الوسائل التي نهينا عنها وسائل لفظية نحو الحلف بغير الله، وقول ما شاء الله وشئتُ.
وقد حذرنا الرسول صلى الله عليه وسلم من ذلك فقال: {من حلف بغير الله فقد أشرك}( ).
وقال للذي قال له: ما شاء الله وشئتَ: {أجعلتني لله نداً بل ما شاء الله وحده}( ).
ومن تلك الوسائل وسائل عَمَلية: نحو البناء على القبور، وشد الرحل إليها واتخاذها مساجد والصلاة عندها أو إليها، وقصدها لعبادة الله عندها كالدعاء عندها والذبح لله عندها ووضع تماثيل لأصحابها والاجتماع عندها في مواسم وأعياد معينة.
وقد حذر الشارع الحكيم من هذه الأمور وغيرها، صيانة لعقيدة التوحيد وسداً لأبواب الشرك ومنافذه.
فقد ثبت في الأحاديث الصحيحة النهي عن هذه الأشياء وإليك بعضها:
فقد ثبت في حديث جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يجصص القبر وأن يقعد عليه وأن يبني عليه( ).
وثبت أمره بهدم أبنية القبور وتسويتها بالأرض. قال علي رضي الله عنه لأبي الهياج الأسدي: [[ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا تدعَ تمثالاً إلا طمستَه ولا قبراً مشرفاً إلا سويتَه}( ).
وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم نهيه عن شد الرحل إلى القبور، فروى أبو سعيد وأبو هريرة رضي الله عنهما مرفوعاً: {لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجدي هذا}( ).(1/326)
ووردت أحاديث كثيرة في النهي عن اتخاذ القبور مساجد والصلاة إليها أو عندها ولعن من فعل ذلك، فعن عائشة وابن عباس رضي الله عنهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما حضرته الوفاة جعل يلقي على وجهه خميصة له فإذا اغتم كشفها عن وجهه وهو يقول: {لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد} تقول عائشة: [[يحذر ما صنعوا]]( ).
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: وكأنه صلى الله عليه وسلم علم أنه مرتحل من ذلك المرض، فخاف أن يعظم قبره كما فعل من مضى فلعن اليهود والنصارى إشارة إلى ذم من يفعل فعلهم( ). وروى جندب بن عبد الله البجلي رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عيله وسلم قبل أن يموت بخمس وهو يقول: {... ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك}( ).
ومن الوسائل التى نهى عنها وضعُ التماثيل والصور على القبور، قالت عائشة رضي الله عنها: {إن أم حبيبة وأم سلمة ذكرتا كنيسة رأينها بالحبشة فيها تصاوير، لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح، فمات بنوا على قبره مسجداً وصوروا فيه تلك الصور أولئك شرار الخلق عند الله}( ).
وقد أمر صلى الله عليه وسلم بطمس التماثيل والصور كما في حديث علي المتقدم كما حذر أشد التحذير من التصوير للحيوان مطلقاً فقال: {أشد الناس عذاباً يوم القيامة الذين يضاهون بخلق الله}( ).
وحذر من اعتياد قبره صلوات الله وسلامه عليه فقال فيما رواه أبو هريرة: {لا تجعلوا بيوتكم قبوراً ولا تجعلوا قبري عيداً وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم}( ).
ولا يخفى حكمة نهي الشارع عن تعظيم القبور وتصوير تماثيل أصحابها لأن ذلك من الأسباب الرئيسية في عبادة أصحابها ودعائهم.(1/327)
قال شيخ الإسلام: والشرك في بني آدم أكثره عن أصلين: أولها: تعظيم قبور الصالحين، وتصوير تماثيلهم للتبرك بها، وهذا أول الأسباب التي بها ابتدع الآدميون وهو شرك قوم نوح... والسبب الثاني: عبادة الكواكب...( ).
وذكر ابن القيم أيضاً أن غالب شرك الأمم كان من جهة الصور والقبور( ).
فتبين مما تقدم أن الشارع الحكيم قد سد كل الطرق والوسائل التي تؤدي إلى الشرك ودعاء غير الله تعالى بنوعيه.
ولكن بعض المسلمين لم يمتثلوا هذا النهي وهذا التحذير البليغ فطرقوا تلك المحاذير وفتحوا تلك السدود، فقاموا بتشييد الأضرحة وزخرفتها، مع إسدال الستور، وإيقاد البخور، ونثر الزهور، وذبح النحور، وتقديم النذور، والانحناء عند المرور، ودعوا عند تلك القبور، ففتحوا بذلك باباً من أبواب الشرك الذي أمر الشارع بسده، بل تعدوه واقتحموا الشرك فإذا جاء العامي عند مشهد من تلك المشاهد رأى ما يبهره من القباب المزخرفة والأضرحة المزينة ورأى الستائر المسدولة والأبخرة المتصاعدة، والأزهار المتناثرة، ورأى الناس يطوفون حول القبر، ويصرخون بندائه واستغاثته، ورأى هذا يبكي، وآخر يناجي ويتضرع، وآخر يتمرغ بتراب القبر، وآخر يقبض النذور ويُبارِك، وآخر يحكي كرامات الشيخ وخوارقه، وآخر يقول: كنت في شدة فدعوت الشيخ فاستجاب لي، إذا رأى العامي هذه الأمور- ولم يجد من ينكر ذلك- ظن أن هذا من دين الإسلام، وقلد هؤلاء وعمل مثل عملهم وتأثر بما رأى وسمع ويضيق صدره عن تصور ما لهذا الولي من المنزلة، ويدخله من الروع والمهابة ما يغرس في قلبه من العقائد الوهمية... ما يزلزله عن الإسلام قليلاً قليلاً حتى يطلب من صاحب هذا القبر ما لا يقدر عليه إلا الله تعالى( ).(1/328)
هذا ومن جملة الوسائل التي نهى عنها الشارع الغلو في الصالحين، ومع كونه من جملة الذرائع والوسائل نفرده بعنوان مستقل لكونه من الأسباب الرئيسية لانتشار دعاء غير الله تعالى قديماً وحديثاً كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
السبب السادس: الغلو في الصالحين( ):
ومن الأسباب التي أدت إلى انتشار دعاء غير الله تعالى الغلو في الصالحين، وقد حذرنا الله تعالى من الغلو في الدين عموماً في العقائد والأعمال والعبادات فقال تعالى: ((يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ)) [النساء:171].
فهذه الآية وإن كان سياقها في أهل الكتاب السابقين إلا أن مدلولها ينطبق على هذه الأمة أيضاً إذ نهينا أن نسلك مسالكهم ونتبع سبيلهم وأن نتشبه بهم. وقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن هذه الأمة ستتبع سنن من سبقها من الأمم فقال: {لتتبعن سنن من كان قبلكم شبراً شبراً وذراعاً ذراعاً}( ).
وقد حذر المصطفى صلوات الله وسلامه عليه من إطرائه والغلو في مدحه فقال في حديث عمر الطويل: {لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم إنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله}( ) ومع هذا التحذير الواضح غلا فيه صلى الله عليه وسلم قوم، والذي ألجأهم إلى هذا الغلو اعتقادهم أنه يكفر عنهم سيئاتهم ويدخلهم الجنة وكلما غلوا كانوا أقرب إليه فهم أعصى الناس لأمره( ).
وقال صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عباس رضي الله عنهما: {إياكم والغلو في الدين فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين}( ).
فهذا الحديث وإن كان سبب وروده في رمي الجمار، إلا أن لفظه عام، فهو يشمل التحذير من أنواع الغلو سواء في الاعتقادات أو الأعمال( ).
ومن أنواعه الغلو في الصالحين أو فيمن يعتقد فيه الصلاح.
ولم يحذرنا الشارع الحكيم من الغلو في الصالحين إلا لحكم عظيمة وأسرار بالغة فمن ذلك أن الغلو في الصالحين هو السبب الرئيسي في انتشار الشرك.(1/329)
أ- فالغلو في الصالحين هو السبب في أول شرك ظهر على وجه الأرض، فقد روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما أن وداً وسواعاً ويغوثَ ويعوقَ ونسراً أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصاباً، وسموها بأسمائهم ففعلوا فلم تعبد، حتى إذا هلك أولئك وتنسخ العلم عبدت( ).
وروى ابن جرير بإسناده إلى محمد بن قيس قال: [[كانوا قوماً صالحين من بني آدم، وكان لهم أتباع يقتدون بهم فلما ماتوا قال أصحابهم الذين يقتدون بهم: لو صورناهم كان أشوق لنا إلى العبادة إذا ذكرناهم، فصوروهم، فلما ماتوا وجاء آخرون دب إليهم إبليس فقال: إنما كانوا يعبدونهم، وبهم يسقون المطر فعبدوهم]].
وهكذا تدرج بهم الشيطان حتى عبدوا هؤلاء الصالحين، فالشيطان لا يأتي إلى الإنسان بالطريق المباشر ولكنه يأتي بحيل وأساليب متنوعة تؤدي في النهاية إلى الضلال نعوذ بالله منه.
فهو يتدرج مع كل في عشه فقال لمن له انتماء ما إلى الشرع يقربونكم إلى الله زلفى ونحو ذلك، وكذلك عبادة سائر الأحجار يقال: سببها استعظام بعض أهل الحرم أن يغيبوا عن الحرم في سفرهم فأخرجوا منه حجراً( ) ثم تدرج الشيطان في ذلك حتى عبدت الأحجار.
ب- ثم وقع الشرك بعد قوم نوح عليه السلام في الأمم الأخرى بسبب الغلو في الصالحين أيضاً، فقد أخبرنا الله تعالى أن اليهود غلوا في عزير وقالوا: ابن الله وغلت النصارى في عيسى فقالوا: ابن الله، تعالى الله عما يقولولن علواً كبيراً.
قال تعالى: ((وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ)) [التوبة:30].(1/330)
وقوله تعالى: ((يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ)) [التوبة:30] يشير إلى أن مثل هذا الغلو موجود في الأمم التي قبلهم لأن عبادة الأبطال والغلو فيهم موجودة في السابقين قبلهم( ).
ولم يقتصر غلو اليهود والنصارى على أنبيائهم فقد غلوا أيضاً في أحبارهم ورهبانهم، قال تعالى: ((اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ)) [التوبة:31].
غلوا في الأحبار والرهبان فعبدوهم من دون الله إذ أطاعوهم في التحليل والتحريم كما في حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه، قال صلى الله عليه وسلم: {أما إنهم لم يكونوا يعبدونهم، ولكنهم كانوا إذا أحلوا لهم شيئاً استحلوه وإذا حرموا عليهم شيئاً حرموه}( ).
حصر عبادتهم للأحبار والرهبان في الطاعة فقط.
جـ- ثم إن الشرك عندما وقع في مشركي العرب وقع بسبب الغلو في الصالحين أيضاً، ومما يدل على ذلك ما أخرجه البخاري بسنده عن أبي الجوزاء عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: ((اللَّاتَ وَالْعُزَّى)) [النجم:19]: [[كان اللات رجلاً يلت سويق الحاج( ). وفي رواية ابن أبي حاتم زيادة: [[كان يلت السويق على الحجر فلا يشرب منه أحد إلا سمن فعبدوه]]( ).
ونحو قول ابن عباس قول مجاهد: كان رجل يلت السويق فمات فاتخذ قبره مصلى( ).
د- ثم إن الشرك عندما وقع في هذه الأمة المحمدية وقع بسبب الغلو في الصالحين، وهو أن أول شرك في هذه الأمة هو الشرك الذي وقع من السبئية الذين غلوا في علي رضي الله عنه حتى ألهوه، وقالوا له: أنت ربنا وخالقنا ورازقنا.(1/331)
وهؤلاء قد أحرقهم علي رضي الله عنه عندما لم يرجعوا عن قولهم بعد استتابتهم، فقد روى أبو طاهر( ) المخلص من طريق عبد الله بن شريك العامري عن أبيه قال: [[قيل لعلي إن هنا قوماً على باب المسجد يدعون أنك ربهم، فدعاهم فقال لهم: ويلكم ما تقولون؟، قالوا: أنت ربنا جميع ذرات هذا الكون وأن مقامهم لا يبلغه ملك مقرب ولا نبي مرسل. قال صاحب الحكومة الإسلامية: فإن للإمام مقاماً محموداً ودرجةً ساميةً، وخلافةً تكوينيةً تخضع لولايتها وسيطرتها جميعُ ذرات هذا الكون... وإن من ضروريات مذهبنا أن لأئمتنا مقاماً لا يبلغه ملك مقرب، ولا نبي مرسل.
وبموجب ما لدينا من الروايات والأحاديث فإن الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم والأئمة (ع) كانوا قبل هذا العالم أنواراً فجعلهم الله بعرشه محدقين... وقد ورد عنهم (ع) إن لنا مع الله حالات لا يسعها ملك مقرب ولا نبي مرسل( ).
وهذا الغلو والإطراء الذي جاوز المعقول والمنقول متأصل في الرافضة، ويكفي للدلالة على ذلك الأبواب التي بوب بها الكليني في كافيه وهو أهم كتاب من كتب الشيعة الأصولية فمن أبوابه في كتاب الحجة من قسم الأصول:
باب أن الأئمة ولاة أمر الله وخزنة علمه: (1/148).
باب أن الأئمة خلفاء الله عز وجل في أرضه وأبوابه التي يؤتى منها: (1/149).
باب أن الأئمة نور الله عز وجل: (1/150).
باب أن الأئمة عليهم السلام هم أركان الأرض: (1/152).
باب عرض الأعمال على النبي صلى الله عليه وسلم والأئمة: (1/170).
باب أن الأئمة يعلمون متى يموتون وأنهم لا يموتون إلا باختيار منهم: (1/202).
باب أن الأئمة يعلمون علم ما كان وما يكون وأنه لا يخفى عليهم الشيء: (1/203).(1/332)
وقد حوى في داخل هذه الأبواب أنواعاً من المبالغات التي لا يمكن أن يصدقه العقل فمن ذلك ما رواه بسنده إلى أبي عبد الله أنه كان مع جماعة من الشيعة في الحجر فقال: ورب الكعبة ورب البنية – ثلاث مرات- لو كنت بين موسى والخضر لأخبرتهما أني أعلم منهما، ولأنبأتهما بما ليس في أيديهما لأن موسى والخضر عليهما السلام أعطيا علم ما كان ولم يعطيا علم ما يكون وما هو كائن حتى تقوم الساعة، وقد ورثناه من رسول الله صلى الله عليه وسلم وراثة( ).
وروى أيضاً أن الروح المذكور في قوله تعالى: ((وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا)) [الشورى:52] أنه خلق من خلق الله أعظم من جبريل وميكائيل كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبره ويسدده وهو مع الأئمة من بعده( ).
هذا ويكفينا من هذا كله مما يختص بموضوعنا- مسألة دعاء غير الله تعالى- ما أخرجه الكليني بسنده عن جعفر الصاددق في قول الله تعالى: ((وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا)) [الأعراف:180] نحن والله الأسماء الحسنى التي لا يقبل الله من العباد إلا بمعرفتنا( ).
وأخرج أيضاً بإسناده إلى أبي الحسن -علي الرضا- في قوله تعالى: ((وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا)) [الجن:18] قال: نحن الأوصياء( ).
وهذا الذي يقول به هؤلاء من الادعاءات الكثيرة في أئمتهم ومدعويهم لا يصدقه العقل السليم ولكن الأمر كما قال الإمام الشاطبي رحمه الله: ولولا الغلو في الدين والتكالب على نصر المذهب، والتهالك في محبة المبتدع لما وسع ذلك عقل أحد( ).
وقد وضح مما تقدم مدى ما وصل إليه غلو الروافض في أئمتهم ولم يصل إلى هذا الحد من الغلو في الصالحين في هذه الأمة أحد مثلهم. ثم قلدهم الصوفية فغلوا في شيوخهم ورفعوهم فوق منزلتهم، ومن طريق هاتين الفرقتين انتشرت الشركيات في هذه الأمة وانتشر الغلو في الصالحين وعباداتِهم ودعاؤهم من دون الله تعالى.(1/333)
وهذا ليس افتراءً على هاتين الفرقتين بل يشهد بذلك التاريخ الصحيح. فالشيعة هم أول من اعتنى بالمشاهد وتزيينها وزخرفتها مع تعطيلهم للمساجد فمن ذلك ما ذكره الإمام أحمد رحمه الله مما يقع عند قبر الحسين بكربلاء( ).
وما ذكره المؤرخون في حوادث سنة: (236هـ) من هدم المتوكل قبر الحسين لأنه كان مزاراً للناس، وقد أنذر صاحب شرطته الناس بأنه من وجد عند قبره بعد ثلاث بعثناه إلى المطبق( ) فلم يبق هناك بشر واتخذ ذلك الموقع مزرعة تحرث وتستغل( ).
ومما يؤكد هذا أن إخوان الصفا مع فسادهم وانحلالهم يتهمون الشيعة بأن منهم من جعل التشيع مكسباً مثل النائحة والقصاص، وجعلوا شعارهم لزوم المشاهد وزيارة القبور( ).
وقد صرح المؤرخون الموثوقون بأن الروافض هم السبب في نشر الشركيات في هذه الأمة حيث تأثر بهم المتصوفة ومن طريقهم انتشر في عوام المسلمين.
قال ابن خلدون: ثم حدث أيضاً عند المتأخرين من الصوفية الكلام في الكشف وفيما وراء الحس، وظهر منهم القول بالحلول والوحدة، فشاركوا فيها الإمامية والرافضة لقولهم بألوهية الأئمة، وحلول الإله فيهم.
وظهر منهم القول بالقطب والأبدال، وكأنه يحاكي مذهب الرافضة في الإمام، والنقباء وأشربوا أقوال الشيعة، وتوغلوا في الديانة بمذهبهم حتى جعلوا مستند طريقهم في لبس الخرقة أن علياً رضي الله عنه ألبسها الحسن البصري... ولا يعلم هذا من وجه صحيح( ).
وقال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في رسالته إلى السويدي( ):
إن أول من أدخل الشرك في هذه الأمة هم الرافضة الملعونة الذين يدعون علياً وغيره، ويطلبون منهم قضاء الحاجات وتفريج الكربات( ). وقال في كتاب التوحيد: وبسبب الرافضة حدث الشرك وعبادة القبور، وهم أول من بنى عليها المساجد( ).(1/334)
وقال أحد الشيعة المعاصرين معترفاً بهذه الحقيقة: والحقيقة أن للغلو والتصوف هدفاً مشتركاً هو أن يكون للإنسان موضع قدم في الإلهية، وتصريف شؤون الدين والدنيا بقدرة غيبية وهذا هو السبب الذي من أجله رفع الأئمة أولاً إلى الإلهية، وارتفع رؤساء مدارس الغلو إلى النبوة، ثم استقلوا فارتفعوا إلى الإلهية بأنفسهم، والتصوف يهدف إلى هذه النتيجة( ).
وهذا اعتراف صريح بتأثر التصوف بالتشيع وأن هدفهما عبادة الإنسان والغلو فيه لكن تخصيص الغلاة من الروافض بهذه العقيدة غير صحيح كما يريده صاحب هذا الكلام، بل الواقع يدل على أن أغلب الشيعة من الغلاة، وقل أن يوجد فيهم معتدل إلا ما كان في القرون الأولى كما قاله الذهبي رحمه الله( ).
هذا فمن الغلو الذي عند المتصوفة دعاويهم الباطلة لأنفسهم، فمنهم من يدعو إلى عبادته والاستغاثة به من دون الله تعالى ومنهم من يغلو في شيخه ويرفعه فوق منزلته ويصفه بأوصاف الربوبية التي لا يستحقها إلا الله تعالى.
ومن أمثلة ذلك الحكاية التي تحكى عن معروف الكرخي وهي أنه أمر ابن أخيه بقصد قبره للدعاء( ).
ومن ذلك ما نقل عن الشبلي من قوله لمن خرج من عنده: مروا وأنا معكم حيثما كنتم وأنتم في رعايتي وكلاءتي( ).
وقوله: إن محمداً يشفع في أمته، وأشفع بعده في النار حتى لا يبقى فيها أحد( ).
ومن ذلك ما ذكر عن عبد السلام بن مشيش أنه قال للشاذلي عندما زاره: يا علي طلعت إلينا فقيراً من علمك وعملك فأخذت منا غنى الدنيا والآخرة( ).
فانظر إلى هذه الحكاية إن صحت إلى أي مدى بلغت الوقاحة بهذا الرجل حتى يدعي أنه يعفي غنى الدنيا والآخرة، وما الذي بقي لله؟ سبحانه وتعالى عما يصفون.
ونحوه قول الشبلي: إن لله عباداً لو بزقوا على جهنم لأطفأوها( ).
وقول أحدهم: لو رأيت أبا يزيد مرة واحدة كان أنفع لك من رؤية الله سبعين مرة( ).
ومن ذلك ما قاله أحدهم في البدوي:
يا من رماه الدهر بالإزعاج ... ... ناد بعزم يا أبا فراج(1/335)
فهو الأمان من الحوادث إن أتت ... ... ... وهو الملاذ لنا وعون الراجي
وهو المراد إذا الخطوب تراكمت ... ... وهو المجيب لدعوة المحتاج
وهو الطبيب لنا ومرهم طبه ... ... يبري ضعيف الحال دون علاج( )
وقال آخر أيضاً فيه.
وهو المجيب لسائل يتوسل ... ... إذ باسمه عند المخاوف يهتف
وهو الملاذ إذا الخطوب تراكمت ... ... وهو المعاذ في الشدائد يعرف
وهو الذي في الكرب يكشف غمه ... ... وهو الذي للسوء عنا يصرف
وهو الذي تلقى السعادة عنده ... ... وهو الذي يحنو عليك ويعطف
وهو الذي عمن أتى أعتابه ... ... كل المخاوف والمتاعب يكشف( )
والحاصل أن الغلو في الصالحين من الأسباب التي أدت إلى انتشار دعاء غير الله تعالى في العالم الإسلامي.
وقد أمرنا الشارع -هذه الأمة الوسطية- بالتوسط في الصالحين بدون إفراط ولا تفريط، لا نرفعهم فوق منزلتهم التي يستحقونها، ولا ننزلهم عن المنزلة التي أنزلهم الله تعالى بها، وقد ذكر الإمام مسلم رحمه الله في مقدمة صحيحه حديث عائشة رضي الله عنها: [[أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ننزل الناس منازلهم]]( ).
فأهل السنة والجماعة يرون محبة الصالحين وتوقيرهم واحترامهم والترحم عليهم والترضي عنهم عملاً بقوله تعالى: ((وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ)) [الحشر:10]، كما أن أهل السنة لا يرفعونهم فوق المنزلة التي يستحقونها فهم وسط في باب محبة الصالحين كما هم وسط في جميع أبواب الاعتقادات والأعمال بين الفرق الضالة كما أن هذه الأمة المحمدية وسط بين سائر الأمم.
السبب السابع: تأثر المسلمين بمن اختلط بهم من أصحاب الديانات الأخرى:
لقد تأثر المسلمون بمن جاورهم واختلط بهم في بلادهم الواسعة على مدى التاريخ حيث يجاورهم اليهود والنصارى والبوذيون والهنادك وغيرهم من الوثنيين.(1/336)
تأثر المسلمون بالجهود والنصارى في تعظيم القبور والمشاهد لأن هاتين الطائفتين تعظمان القبور والمشاهد، قال صلى الله عليه وسلم: {لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يحذر ما صنعوا}( ).
والنصارى أشد غلواً في ذلك من اليهود كما في الصحيحين: أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكرت عنده أم حبيبة وأم سلمة رضي الله عنهما كنيسة رأينها بأرض الحبشة وذكرتا من حسنها وتصاوير فيها فقال: {إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجداً وصوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله}( ).
وقد أضلوا كثيراً من جهال المسلمين حتى صاروا يُعَمِّدُون( ) أولادهم، ويزعمون أن ذلك يوجب طول العمر والولد، وحتى جعلوهم يزورون ما يعظمونه من الكنائس والبيع، حتى صار كثير من جهال المسلمين ينذرون للمواضع التي يعظمها النصارى كما قد صار كثير من جهالهم يزورون كنائس النصارى ويلتمسون البركة من قسيسيهم ورهبانهم( )، وهذا التعظيم للقبور والمشاهد يؤدي في النهاية إلى عبادتها ودعائها من دون الله تعالى كما هو الواقع.
كما أن المسلمين تأثروا بأصحاب الديانات الأخرى مثل البوذية الهندوسية.
وذلك عن طريق المتصوفة الذين أخذوا مذهبهم عن البوذية والهندوسية وغيرهم من الوثنيين، ثم ألبسوه ثوباً إسلامياً بالزور والبهتان، وقسموا الدين إلى الحقيقة والشريعة فادعوا أنهم أصحاب الحقيقة وأنهم وصلوا إلى اليقين فسقطت عنهم التكاليف الشرعية التي هي للعوام فبذلك أباحوا لأنفسهم المحرمات وترك الواجبات، ويحتمل أن بعض المسلمين تأثروا بفكرة الفرس القائلة بأن ملوكهم الساسانيين كائنات إلهية اصطفاهم الله للحكم وخصهم بالسيادة وأيدهم بروح منه فهم ظل الله في أرضه( ).
فتأثر بعض المسلمين باعتقاد تلك المعتقدات في بعض أئمة آل البيت ثم في غيرهم من الصالحين.(1/337)
فتأثُّرُ هؤلاء المتصوفةِ بالمذاهب القديمة واضحٌ جداً لأن المذاهب الباطلة هي السائدة بينهم تفوح منها رائحة الغنوصية تارة، والهندية تارة أخرى أو النصرانية في بعض اتجاهاتها، وإذا وجدنا في كلامهم نصوصاً إسلاميةً فهي مبتورة ملتوية المعنى من فرط اختفائها وراء التأويل( ).
ولكون تأثرهم واضحاً جلياً لا يحتاج الباحث فيه إلى كبير عناء ومشقة في إثبات وجود عناصر غريبة عن حقائق الإسلام والإيمان، ففي التصوف عناصر لا تمت إلى الإسلام بصلة وإنما هي من أفكار المذاهب القديمة التي تسربت إلى المتصوفة( ).
ومن طريقهم تسربت تلك الأفكار الهدامة إلى الأمة الإسلامية فانتشر الشرك والبدع.
ومن هذا النوع رواسب الجاهلية وتقاليدها وعاداتها التي بقيت في بعض الأقطار التي دخلت في الإسلام، ولكن تلك الأعراف والعادات لا زال لها آثار باقية وتأثير مستمر في نشر الشرك والبدعة والخرافات.
ومن تلك الأعراف الجاهلية السجود أمام الملوك والعظماء والمشايخ للتحية، وتقبيل الأرض( )، وخلع النعال، وكشف الرأس، والانبطاح على الأرض( ).
ومن تلك الأعراف وضع تماثيل منحوتة في الميادين العامة أو على القبور( ).
والحاصل أن هذه الأمور كانت عادات وتقاليد لبعض الأقطار قبل الإسلام وبقيت في تلك الأقطار، وهذه الرواسب الجاهلية في تعظيم العظماء ومن يعتقد فيهم الصلاح تؤدي في النهاية إلى عبادتهم ودعائهم من دون الله تعالى.
وهذا يشهد له الواقع التاريخي قديماً وحديثاً.
وبهذا يتبين أن اختلاط المسلمين بغيرهم، ومساكنتهم لهم ودخول كثير منهم في الإسلام مع بقاء بعض العادات الجاهلية، من إحدى الأسباب التي أدت إلى انتشار دعاء غير الله تعالى.
السبب الثامن: الأغراض الدنيوية والشهوات النفسية:(1/338)
ومن الأسباب التي أدت إلى انتشار دعاء غير الله تعالى الأغراض الدنيوية والأهواء النفسية، ومن تلك الأغراض الدنيوية: الاسترزاق والتكسب من أصحاب الأغراض الفاسدة والأهواء الباطلة، فالسدنة حول القبور لهم أثر كبير في تزيين دعاء صاحب القبر بحكاية الكرامات، وخوارق العادات وذلك في الغالب كذب وزور وافتراء.
قال الإمام الشوكاني رحمه الله: وربما يقف جماعة من المحتالين على قبر ويجلبون الناس بأكاذيب يحكونها عن ذلك الميت ليستجلبوا منهم النذور ويستدروا منهم الأرزاق ويقتنصوا النحائر ويستخرجوا من عوام الناس ما يعود عليهم، وعلى من يعولونه، ويجعلون ذلك مكسباً ومعاشاً وربما يهولون على الزائر لذلك الميت بتهويلات، ويجعلون قبره بما يعظم في عين الواصلين إليه، ويوقدون في المشهد الشموع، ويوقدون فيه الأطياب ويجعلون لزيارته مواسم مخصوصة يتجمع فيها الجمع الجم، فيبهر الزائر، ويرى ما يملأ عينه وسمعه من ضجيج الخلق وازدحامهم وتكالبهم على القرب من الميت والتمسح بأحجار قبره وأعواده، والاستغاثة به والالتجاء إليه، وسؤاله قضاء الحاجات ونجاح الطلبات مع خضوعهم واستكانتهم وتقريبهم إليه نفائس الأموال ونحرهم أصناف النحائر( ).
وقد يصل الأمر بالمزورين إلى أن يضعوا أحاديث مكذوبة على النبي صلى الله عليه وسلم أو على الصحابة أو على لسان كبار العلماء ترويجاً لقصد المزور للدعاء عنده أو دعائه والاستغاثة به، ومن ذلك ما ذكره ابن القيم رحمه الله في صخرة بيت المقدس حيث قال: وكل حديث في الصخرة فهو كذب ومفترى، والقدم التي فيها كذب موضوع مما عملته أيدي المزورين الذين يروجون لها ليكثر سواد الزائرين( ).
ومن تلك الأغراض والأهواء الفاسدة طلب الجاه والشرف والمكانة في قلوب العامة من سدنة الأضرحة الذين يخافون أن يذهب جاههم وشرفهم إذا ترك الناس عبادة القبور.(1/339)
فإن السَّدَنَةَ يُعَدُّونَ لدى العامة الزائرين من أهل الشرف والمكانة دينياً واجتماعياً، فإذا سافروا ومروا على القرى والمدن فأهل تلك الناحية يجتمعون للقائهم والتبرك بهم وإعطاء الصدقات والنذور إليهم وتقبيل أيديهم للتبرك بهم ويَعُدُّونَ ضيافتَهم وإكرامَهم من أهم القربات إلى الولي.
ثم إن أحد هؤلاء السدنة لو طلب من شخص ماله فلا بد أن يعطيه وربما لا يملك إلا إياه ومع هذا لا يستطيع منعه خوفاً على نفسه من غضب السادن ثم يغضب بسببه الولي.
والحاصل أن للسدنة أثراً واضحاً في تزيين دعاء صاحب القبر فهم لا يأمرون بالمعروف ولا ينهون عن المنكر الذي يرونه عند القبر فبدلاً عن هذا يزينون دعاء الولي والاستغاثة به.
ومن صور الأهواء النفسية سهولة هذه الأوضاع والرسوم الشركية على النفس البشرية واستصعابها للتكاليف الشرعية، فإن العوام يعتقدون أن الولي يحتمل الذنوب وإن زيارته كفارة للآثام والخطايا، وإن شفاعته مضمونة لمريديه وأحبابه، فلا حاجة للتقيد بالأمور الشرعية، فإنه يغني عنه دعاء الولي والاستغاثة به وزيارته، فغرتهم الأماني الكاذبة على الله تعالى، قال ابن عقيل الحنبلي( ) رحمه الله: لما صعبت التكاليف على الجهال والطّغَامِ عدلوا عن أوضاع الشرع إلى تعظيم أوضاع وضعوها لأنفسهم، فسهلت عليهم إذ لم يدخلوا بها تحت أمر غيرهم، وهم عندي كفار لهذه الأوضاع، مثل تعظيم القبور وخطاب الموتى بالحوائج وكتب الرقاع يا مولاي افعل بي كذا وكذا، وإلقاء الخرق على الشجر اقتداءً بمن عبد اللات والعزى( ).
فهذه الأوضاع توافق أهواء الناس ورغباتهم ولا تكلفهم الكثير من المشاق.
ومن صور الشهوات النفسية ما يحصل في كثير من أعياد ومواليد أصحاب الأضرحة من اختلاط النسوان بالمردان وخروج المحجبات وانتشار أنواع الفساد وما يتسبب عن ذلك من مفاسد دينية وأخلاقية لا يعبر عنها القلم( ).(1/340)
فكثير من الشباب والشابات يقصدون عيد الولي لعله يكون هناك لقاء ما ثم يتكرر ذلك منهم حتى يصير عادة، ثم عبادة لا يستطيعون تأخر سنة عن عيد الولي خوفاً من الولي من جهة ولاستصحاب العوائد من جهة أخرى.
السبب التاسع: التعصب والحمية الجاهلية:
ومن الأسباب التي أدت إلى انتشار دعاء غير الله تعالى التعصب لجيل الآباء والأجداد والحمية الجاهلية والأنفة والاستكبار عن اتباع الحق، وذلك لأنه قد يظهر الحق لبعض الناس في عدم جواز دعاء غير الله تعالى والتوسل البدعي وقصد الأضرحة للدعاء ولكن لا يمتثل الحق الذي ظهر له تعصباً لمذهبه وعادات قومه ومألوفاته.
وهذا التعصب ناشئ عن التكبر والاستعلاء تارة، وعن الحسد تارة، وعن خوف لحوق العار به وبالمشايخ تارة، فيكون ذلك التعصب ناشئاً عن الكبر حيث يرى أن الداعي إلى الحق أقل منه علماً وجاهاً ومركزاً في القوم وهذا غالب على بعض علماء السوء الذين يجيزون الاستغاثة بغير الله حيث يرون أن الدعاة إلى الحق كانوا طلبة صغاراً تخرجوا عليهم ثم إن هؤلاء الطلبة ربما درسوا في بعض الجامعات التي تدرس المنهج الصحيح في العقيدة فإذا رجعوا إلى بلادهم ودعوا إلى العقيدةِ الصحيحةِ وتَركِ دعاءِ الأولياء وقَفَ ضدَّهم مشايخُ السوء تعصباً وتكبراً عن اتباع الطالب الذي كان يدرس عندهم ثم صار يدعو لما يخالف مذهبهم فيستكبرون عن اتباع تلميذهم وينطبق على هؤلاء قوله تعالى: ((وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوَّاً)) [النمل:14].(1/341)
وقد يكون ذلك ناشئاً عن الحسد لأن المتعصب يخاف ذهاب جاهه واحتلال الداعي إلى تصحيح العقيدة مكانه وترك الناس له، فيمتنع عن اتباع الحق خوفاً من ذهاب جاهه وحسداً وبغياً كما فعل أهل الكتاب مع النبي صلى الله عليه وسلم قال تعالى: ((وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ)) [البقرة:109]، وقد يكون ناشئاً عن خوف لحوق العار به وبمن سبقه من أسلافه من مشايخه وآبائه فلو ترك مذهبهم خاف أن يلحقهم العار.
هذا وإن هذه الأسباب وغيرها مما لم تذكر قد أدت إلى انتشار دعاء غير الله تعالى في العالم الإسلامي على الوجه الذي نراه اليوم في أنحاء العالم الإسلامي.
وإن الشيطان قد زين لابن آدم هذا الشرك ووسائله وأسبابه بطرق متعددة وأساليب متنوعة حتى أوقعه في حبائل الشرك، ولا يسلم من ذلك إلا من عصمه الله، وجعله من عباده الصالحين الذين قال الله فيهم: ((إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ)) [الحجر:42].
فنسأل الله تعالى أن يحفظنا منه إنه سميع قريب وهو ولي التوفيق..
فهرس المحتويات
المقدمة ... 2
أهمية هذا البحث وأسباب اختيار الموضوع: ... 3
خطة البحث: ... 4
منهج البحث: ... 9
الباب الأول في معنى الدعاء وأنواعه وآدابه والإجابة وأنواعها ... 10
الفصل الأول في معنى كلمة الدعاء ... 10
المبحث الأول في معنى الدعاء اللغوي والشرعي ... 10
المطلب الأول: في أصل كلمة "الدعاء": ... 10
المطلب الثاني: في معنى الدعاء اللغوي: ... 10
1- فأول تلك المعاني: الطلب والسؤال: ... 10
2- العبادة: ... 10
3- الرغبة إلى الله عز وجل: ... 10
4- الاستغاثة والاستعانة: ... 10
5- النداء والصياح: ... 10
6- القول: ... 10
7- التسمية: ... 10
8- الحث على الشيء، والحض عليه، والسوق إليه: ... 10
9- إنزال مكروه: ... 10(1/342)
1- الرفعة والتنويه: ... 10
2- العذاب: ... 10
3- الاستفهام: ... 10
4- الجعل: ... 10
5- ا لاستحضار: ... 10
6- الندبة: ... 10
7- الثناء: ... 10
8- الإيمان: ... 10
المطلب الثالث: في المعنى الشرعي للدعاء، والمناسبة بينه وبين المعنى اللغوي: ... 10
المبحث الثاني في الكلمات الدالة على معنى الدعاء ... 10
مقدمة في الأسباب الداعية إلى التعرض لشرح هذه الكلمات، وفي ذكر أقسامها ... 10
المطلب الأول: في القسم الأول: وهو ما يستعمل مرادفاً للدعاء أو أعم من الدعاء: ... 10
العبادة: ... 10
المعنى الشرعي للعبادة: ... 10
الخلاصة: ... 10
الذكر: ... 10
النسبة بين الدعاء والذكر: ... 10
الكلمة الثالثة من القسم الأول: الصلاة: ... 10
النسبة بين الدعاء والصلاة: ... 10
الكلمة الرابعة من القسم الأول: الاستعانة: ... 10
النسبة بين الدعاء والاستعانة: ... 10
المطلب الثاني في القسم الثاني: وهو ما كان خاصاً بنوع معين من أنواع الدعاء: ... 10
النوع الأول من القسم الثاني: ... 10
أ- الاستعاذة: ... 10
النسبة بين الدعاء والاستعاذة: ... 10
ب- الاستغاثة: ... 10
النسبة بين الاستغاثة والدعاء: ... 10
جـ- الاستجارة: ... 10
النسبة بين الدعاء والاستجارة: ... 10
د- اللياذة: ... 10
النسبة بين الدعاء واللياذ: ... 10
هـ- الاستغفار: ... 10
المناسبة بين الاستغفار والدعاء: ... 10
و- الشفاعة: ... 10
النسبة بينها وبين الدعاء: ... 10
النوع الثاني: وهو ما كان خاصاً بجلب المسار، وهو كلمة السؤال، وكلمة اللياذ على قول: ... 10
النسبة بين الدعاء والسؤال: ... 10
- النداء: ... 10
النسبة بين النداء والدعاء: ... 10
2- الجؤار: ... 10
النسبة بين الدعاء والجؤار: ... 10
3- الابتهال: ... 10
المقارنة بين الابتهال والدعاء: ... 10
الفصل الثاني في أنواع الدعاء وأقسامه ... 10
المبحث الأول في أقسام الدعاء باعتبار معناه ... 10(1/343)
وجه انقسام الدعاء إلى نوعين: ... 10
تلازم نوير الدعاء: ... 10
ضوابط معرفة نوعي الدعاء: ... 10
بعض الآيات التي تكون دلالتها على دعاء المسألة أقوى: ... 10
إطلاق الدعاء على النوعين: ... 10
أي نوعي الدعاء أفضل؟ ... 10
المبحث الثاني في أقسام الدعاء باعتبار صيغه ومتعلقاته ... 10
المطلب الأول: في أقسام الدعاء باعتبار صيغه: ... 10
أي هذه الصيغ أكمل؟: ... 10
المطلب الثاني: في أقسام الدعاء باعتبار متعلقاته: ... 10
أقسام الدعاء باعتبار الداعي: ... 10
القسم الأول: ... 10
القسم الثاني: وهو شر الأقسام: ... 10
القسم الثالث: من له نوع عبادة بلا استعانة، وهؤلاء نوعان: ... 10
القسم الرابع: ... 10
أنواع الدعاء باعتبار متعلقه الذي هو المدعو: ... 10
أنواع المدعو به: ... 10
الفصل الثالث في آداب الدعاء والإجابة وأنواعها ... 10
التمهيد ... 10
1- التنبيه الأول: ... 10
التنبيه الثاني: ... 10
المبحث الأول في آداب الدعاء العدمية ... 10
الآداب العدمية: ... 10
من آداب الدعاء: عدم الاعتداء: ... 10
تعريف الاعتداء: ... 10
عدم التلبس بالحرام: ... 10
عدم الاستعجال: ... 10
عدم التعليق: ... 10
عدم الغفلة والتكاسل: ... 10
المبحث الثاني في آداب الدعاء الثبوتية ... 10
المراد من الثبوتية: ... 10
الإخلاص في الدعاء: ... 10
التوبة والرجوع إلى الله تعالى: ... 10
التضرع والخشوع والتذلل والرغبة والرهبة: ... 10
الإلحاح والتكرار، وعدم الضجر والملل: ... 10
التوسل إلى الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العليا، إما في أول الدعاء أو آخره: ... 10
والدعاء بالأسماء الحسنى له مرتبتان: ... 10
استقبال القبلة: ... 10
الطهارة قبل الدعاء: ... 10
من آداب الدعاء: ... 10
رفع اليدين: ... 10
مسح الوجه باليدين بعد الفراغ من الدعاء: ... 10
تحري الأوقات الفاضلة: ... 10
1- الأسحار: ... 10
2- يوم الجمعة: ... 10(1/344)
3- شهر رمضان المبارك، لا سيما العشر الأواخر، ولا سيما ليلة القدر. ... 10
4- يوم عرفة: ... 10
5- ما بين الأذان والإقامة: ... 10
أن يتحرى الأماكن الفاضلة: ... 10
أن يتحرى الأحوال الفاضلة: ... 10
المبحث الثالث في الإجابة وأنواعها ... 10
تعريف الإجابة: ... 10
الإجابة وأنواعها: ... 10
الباب الثاني في منزلة الدعاء من العقيدة، وعدم تنافيه مع القدر، وحكمه الشرعي ... 10
الفصل الأول في منزلة الدعاء ومكانته من العقيدة وأهميته من بين سائر العبادات ... 10
المبحث الأول في كون الدعاء يزيد في الإيمان والتوحيد وفي دلالته على وجود الله جل وعلا ... 10
المطلب الأول: في كون الدعاء يزيد في الإيمان والتوحيد: ... 10
المطلب الثاني: في دلالة الدعاء على وجود الله تعالى: ... 10
المبحث الثاني في علاقة الدعاء بالتوحيد بأنواعه الثلاثة ... 10
المطلب الأول: في علاقة الدعاء بتوحيد الربوبية: ... 10
1- علاقة الدعاء بتوحيد الربوبية: ... 10
اعتقاد من يدعو غير الله تعالى لمدعوه التصرف والقدرة على النفع والضر: ... 10
المطلب الثاني: في علاقته بتوحيد الأسماء والصفات: ... 10
صفة العلم: ... 10
صفتا السمع والبصر: ... 10
ومن الصفات التي هي من لوازم الدعاء صفة الحياة والقيومية: ... 10
الخلاصة: ... 10
دلالة الدعاء على علو الله تعالى: ... 10
أقوال العلماء الذين صرحوا بدلالة الدعاء على العلو: ... 10
شبهة في دلالة الدعاء على العلو: ... 10
المطلب الثالث: في علاقة الدعاء بتوحيد العبادة، ومنزلة الدعاء من بين سائر العبادات: ... 10
الفصل الثاني في عدم تنافي الدعاء والقدر ... 10
المبحث الأول في مذاهب الناس في الدعاء واتجاهاتهم وحجج كل فريق ومناقشتها ... 10
حاصل مذاهب الناس في الدعاء: ... 10
أ- المذهب الأول: إن الدعاء لا معنى له ولا يدعى الله تعالى: ... 10
سبب تأثير الدعاء عند أرسطو وأتباعه: ... 10(1/345)
ب- المذهب الثاني: إن الدعاء لا يجلب به منفعه، ولا يدفع به مضرة: ... 10
ج- المذهب الثالث: إن الدعاء علامة وأمارة ودلالة محضة على حصول المطلوب المسؤول: ... 10
المذهب الرابع: أن الدعاء يرد القضاء ويغيره من قضاء إلى قضاء: ... 10
المذهب الخامس: التفريق بين الأمور: ... 10
مناقشة من يفرق في الدعاء بين الأشياء: ... 10
المبحث الثاني في الصواب الذي تدل علية الأدلة الصحيحة وهو ... 10
المذهب السادس: ... 10
دلالة الكتاب على ذلك: ... 10
دلالة الفطرة على تأثير الدعاء: ... 10
دلالة العقل السليم على تأثير الدعاء: ... 10
دلالة الواقع التاريخي: ... 10
دلالة المشاهدة والحس: ... 10
الجواب عن الاعتراض بأن الدعاء قد أثر في الله تعالى: ... 10
الفصل الثالث في حكم الدعاء الشرعي ... 10
المبحث الأول في أقوال العلماء في حكم الدعاء ... 10
أقوال العلماء في حكم الدعاء: ... 10
مناقشة شبه المذاهب الأخيرة: ... 10
أصل شبهتهم: ... 10
المبحث الثاني في كون الراجح جريان الأحكام الخمسة فيه ... 10
الدعاء الواجب: ... 10
الأول: دعاء الفاتحة: ... 10
مدى ضرورة الإنسان إلى هذا الدعاء: ... 10
مكانةُ هذا الدعاء: ... 10
الثاني: التوبة والاستغفار: ... 10
الدعاء المختلف في وجوبه: ... 10
وأما الدعاء المكروه: ... 10
وأما الدعاء المباح: ... 10
الباب الثالث في الدعاء غير المشروع ... 10
الفصل الأول في دعاء غير الله تعالى، وما ورد في التحذير منه ومفاسده وأسباب انتشاره في العالم الإسلامي ... 10
المبحث الأول فيما ورد من التحذير من دعاء غير الله في كتاب الله تعالى والسنة النبوية وبيان مفاسده وآثاره الضارة ... 10
تمهيد: ... 10
المطلب الأول: الآيات الواردة في التحذير من دعاء غير الله تعالي، وأساليب القرآن المتنوعة في ذلك: ... 10
المطلب الثاني: فيما ورد من السنة المشرفة من التحذير من دعاء غير الله تعالى: ... 10(1/346)
المطلب الثالث: في مفاسد دعاء غير الله تعالى وآثاره الضارة وخطورته على سلامة العقيدة: ... 10
المبحث الثاني في أسباب انتشار دعاء غير الله تعالى في العالم الإسلامي ... 10
السبب الأول: الجهل والإعراض عن الكتاب والسنة: ... 10
السبب الثاني: الشبهات التي يتشبثون بها في جواز دعاء غير الله تعالى: ... 10
السبب الثالث: علماء السوء وأئمة الضلالة، والزنادقة: ... 10
السبب الرابع: التقليد الأعمى للآباء والأسلاف، واستصحاب العوائد وإلفها: ... 10
السبب الخامس: عدم امتثال أمر الشارع بسد ذرائع الشرك وحماية جناب التوحيد: ... 10
السبب السادس: الغلو في الصالحين: ... 10
السبب السابع: تأثر المسلمين بمن اختلط بهم من أصحاب الديانات الأخرى: ... 10
السبب الثامن: الأغراض الدنيوية والشهوات النفسية: ... 10
السبب التاسع: التعصب والحمية الجاهلية: ... 10
فهرس المحتويات ... 10(1/347)
بسم الله الرحمن الرحيم
الدعاء ومنزلته من العقيدة الإسلامية
المجلد الثاني
الفصل الثاني
في مراتب الدعاء غير المشروع، ومظاهر غلو المتأخرين فيه
وحكم من دعا غير الله عز وجل
ويشتمل على ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: في مراتب الدعاء غير المشروع، وحكم كل مرتبة.
المبحث الثاني: في مظاهر غلو المتأخرين فى دعاء غير الله عز وجل.
المبحث الثالث: في حكم من دعا غير الله تعالى وذكر أقوال العلماء في ذلك.
المبحث الأول: في مراتب الدعاء غير المشروع وحكم كل مرتبة:
إن الدعاء غير المشروع تتفاوت مراتبه ودرجاته، فليس كله على مرتبة واحدة فمنه ما هو في أعلى مراتب الشرك يخرج صاحبه من الملة، ومنه ما هو قريب من ذلك ومنه ما هو بدعة.
ولا بد من بيان كل مرتبة على حدة، حتى تتميز تلك المراتب بعضها عن بعض ولا يحصل تداخل بينها، فيحصل لبس وشبهة لبعض الناس الذين لا يميزون بين تلك المراتب، فيظنونها مرتبة واحدة.
ومن هنا صار هذا البيان أمرا ضرورياً؛ لأن الإنسان ربما يقع في مرتبة من تلك المراتب فيظنها معصية صغيرة، بينما هي في الحقيقة كفر محض وشرك واضح، بل يظن بعض المسلمين ما هو من الشرك الواضح قربة وطاعة وعبادة.
وذلك لغلبة الجهل بضروريات الإسلام وأساسه الذي هو كلمة الإخلاص وما تقتضيه وما يناقضها أو يناقض كمالها.
فوجب على من يعرف حقيقة ذلك شرحه وتؤضيحه حتى يعرف من لا يعرف وحتى تقوم الحجة، وتبرأ الذمة، ويهلك من هلك عن بينة ويحي من حي عن بينة.(2/1)
ثم إن هذه المراتب قد تدرج الشيطان في تزيينها لابن آدم فيزين له أخفها وأسهلها أولاً، ثم ينقله إلى درجة أخرى حتى يصل إلى مرتبة متناهية في البعد عن الإسلام، فيخرجه عن الملة الحنيفية السمحة إلى ملة الكفر والشرك، وذلك أن الشيطان- بلطف كيده- يُحسن أولاً الدعاء عند القبر وأنه أرجح منه في بيته ومسجده، فإذا تقرر هذا عنده نقله إلى درجة أخرى من الدعاء عنده إلى الدعاء به والإقسام على الله به، ثم إذا تقرر هذا عنده نقله إلى دعائه نفسه، ثم ينقله إلى أن يتخذ قبره وثناً، يعكف عليه ويسجد له ويطوف به، وحتى يرى الصلاة إليه أفضل من الصلاة إلى القبلة ويقول: هذه قبلة الخواص، والكعبة قبلة العوام، ثم ينقله حتى يعتقد أن الزيارة إليه أفضل من حج البيت مرات متعددة، ثم ينقله إلى دعاء الناس إلى عبادته، واتخاذه عيداً ومنسكاً( ).
ونحن نذكر هذه المراتب بالإجمال ثم بالتفصيل وهي كالآتي:
1- سؤال الميت حاجة.
2- سؤال الحي الغائب.
3- سؤال الحي الحاضر.
4- سؤال الميت أن يدعو الله له.
5- سؤال الحي الغائب أن يدعو الله له.
6- سؤال الحي الحاضر أن يدعو الله له.
7- سؤال الله تعالى بغير أسمائه الحسنى وصفاته العليا.
8- سؤال الله تعالى عند قبر نبي أو ولي أو ما يعتقد كذلك.
9- سؤال غير الله تعالى مع الله تعالى بالعطف والمشاركة.
10- سؤال غير الله تعالى بنية الشفاعة والوساطة.
وهذه هي أقسام المراتب بالإجمال، وهناك اعتبار آخر لتقسيم السؤال فيقال:
1- إما أن يسأل الله تعالى فقط.
2- أو أن يسأل المخلوق فقط.
3- أو أن يسألهما جميعاً.
4- أو أن يسأل سؤالاً مطلقاً ولا يعين المسؤول( ).
ونحن هنا نختار التقسيم الأول؛ لأنه مفصل فنقول وبالله التوفيق:
المرتبة الأولى( ):
وهي أن يسأل الميت حاجة أو يستغيث به فيها: وذلك بأن يسأل الميت تفريج الكربات، ونيل المرادات، والحصول على الطلبات، والوصول إلى الرغبات.(2/2)
مثل أن يسأله أن يزيل مرضه، أو مرص دوابه، أو يَقضِي دينه، أو ينتقم له من عدوه، أو يعافي نفسه وأهله ودوابه.
كأن يقول أحدهم: يا سيدي فلان أغثني، أو أستغيث بك أو أستجير بك، أو أعوذ بك، أو انصرني على عدوي، أو ارزقني ولداً، أو وسع علي رزقي، أو غير ذلك.
وقد يغالي بعضهم حتى يطلب من الميت هداية القلوب، وغفران الذنوب، وحُسن الخاتمة، وتسهيل أمور الاخرة، من ضيق القبر، وسؤال الملكين والجواز على الصراط والنجاة من النار.
ومما ينبغي أن يعلم أن الاستغاثة بالميت لا تجوز مطلقاً أي في الأشياء التي يقدر عليها في الحياة وفيما لا يقدر عليه.
قال شيخ الإسلام: [فالاستغاثة المنفية نوعان: أحدهما الاستغاثة بالميت مطلقاً في كل شيء، والثاني الاستغاثة بالمخلوق فيما لا يقدر عليه إلا الخالق]( ).
وهذه المرتبة لها صورتان:
الصورة الأولى: أن يسأل الميت وقد حضر عند قبره ووقف عليه أو قدام شباكه أو أمام باب القبة.
وهذا كالذي يقع من الزائرين عند الأضرحة والقباب والمشاهد حيث يصرخون وينادون ويستغيثون بصاحب القبر ويقولون: يا أيها الولي الفلاني أنا ببابك أرجو منك أن تفعل لي كذا وكذا.
الصورة الثانية: أن يسأل الميت ويستغيث به ويناديه من مكان بعيد، ومسافات شاسعة بينه وبين المستغاث به الصحارى والفيافي والجبال بل البحار مما لم يجر الله العادة على سماع الرجل الحي للنداء والاستغاثة من مثل تلك الأمكنة فضلاً عن المقبور الساكن تحت الأجداث والجنادل والتراب، والذي هو في شغل شاغل إما بالنعيم أو بالجحيم إذ القبر إما روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار.
حكم هذه المرتبة:
هذه المرتبة أبعد هذه المراتب عن الشرع، وهي شرك صريح وكفر بواح يجب أن يستتاب صاحبه، فإن تاب وإلا قُتِل( ).
والسبب في كون هذه المرتبة شركاً وجهان( ) في الأولى وثلاثة أوجه في الثانية.(2/3)
الوجه الأول: أن الداعي في هذه المرتبة نادى غيرُ الله تعالى، ووجه طلبه وقلبَه إلى غير الله تعالى، واستغاث به طالباً كشف ضُره، أو جلب نفع له مما لا يقدر عليه غير الله تعالى.
وهذا هو الدعاء الذي هو العبادة ولبها ومخها وقطب رحاها، فصرفُ هذا لله تعالى عبادة وطاعة وإخلاص وتوحيد، وصرفه لغير الله تعالى شرك وضلال وكفر وتنديد.
الوجه الثاني: أن هذا الداعي اعتقد في المدعو قوة غيبية، وسلطانا غيبيا، وتأثيراً بالقوة الغيبية التي ليست من جنس قوة البشر، ولا من صفاتهم؛ لأنه اعتقد للمدعو أنه يقدر على إيصال النفع، أو دفع الضر عنه بقوة غيبية لا ترى ولا تلامس الأشياء الملامسة المعروفة لدى البشر.
وهذه الصفة خاصة بالله تعالى لا تليق بغيره سبحانه وتعالى عما يشركون.
فاعتقادها لله وإفراده بالاتصاف بها، توحيد وإخلاصٌ وعبادة، واعتقاد اتصاف الغير بها شركٌ وضلال.
وهذان الوجهان موجودان في الصورتين جميعا وتزيد الصورة الثانية وجها ثالثا وهو ما يأتي:
الوجه الثالث: أن الداعي اعتقد علم الغيب، والسمع والبصر المحيطين لغير الله تعالى حيث ناداه من مكان بعيد، وهذا الاعتقاد صرفٌ لصفات الجلال والجمال- التي لا تليق بغير الله تعالى ولا يمكن أن يتصف بها أحد إلا إياه- إلى المدعو الضعيف الذي لا يسمع ولا يبصر ولا يعلم الغيب، وهذا هو الشرك بعينه وسيأتي إن شاء الله تعالى نقل كلام العلماء في كفر من اعتقد علم الغيب لغيره تعالى( ).
وهذا الوجه الثالث لا يلزم في الصورة الأولى؛ لأن العلماء اختلفوا في سماع الأموات عند قبورهم، والمسائل الاجتهادية يعذر فيها المخالف إذا اختار أحد الأوجه المختلف فيها فلهذا لا يمكن أن يعترض بالوجه الثالث عليهم وإنما يلزمهم الوجهان الأولان فقط.(2/4)
والحاصل أن أهل هذه المرتبة من جنس عباد الأصنام فلا فرق بينهم وبين المشركين، ولهذا قد يتمثل لهم الشيطان في صورة الميت المستغاث به كما كان يتمثل لعباد الأصنام وأهل الكتاب من أصناف المشركين، وقد يدعو أحدهم ويستغيث بمن يعظمه فيأتيه الشيطان على صورته أحياناً، وقد يخاطبهم ببعض الأمور الغائبة على صورة المكاشفة كما كان يخاطب الكهان، وقد يرى أحدهم القبر قد انشق وخرج منه الميت فعانقه أو صافحه أو كلمه، فيظن أن الميت هو الذي فعل ذلك أو يظن أن الله صور ملكا على صورته، ويقول أحدهم: هذا سر الشيخ وحاله.
وفي الحقيقة إنما هو الشيطان تمثل على صورته ليضل المشرك به المستغيث به كما تدخل الشياطين في الأصنام وتكلم عابديها وتقضي بعض حوائجهم، كما كان ذلك في مشركي العرب قبل الإسلام وفي غيرهم من أصناف المشركين وأهل الكتاب( ).
المرتبة الثانية:
أن يسأل الحي الغائب ويناديه ويستغيث به من مسافات بعيدة.
وهذه المرتبة لها صورتان:
الصورة الأولى: أن يسأله ما يقدر عليه لو كان حاضراً غير بعيد، مثل أن يسأله مساعدته في ضائقة مالية أو يطعمه من جوع، أو يكسوه من عري، أو ينقذه من بئر وقع فيه.
هذا كله فيما إذا كان المدعو المستغاث به يستطيع أن يغيث الداعي بقوته البشرية العادية.
وأما إذا كان الداعي يريد من المدعو أن يغيثه بقوته التي فوق قوة البشر وطاقتهم فهو من الصورة الثانية.
فهذه الصورة الأولى يوجد فيها من المحاذير اعتقاد علم الغيب لغير الله تعالى، واعتقاد سمع المدعو لنداء الغائب وصراخه وغواثه، وهذا يقتضي أن له سمعاً محيطاً شاملاً للداعي وأحواله بل ربما للكون كله. كما أن فيه من المحذور تعليق القلب بغير الله تعالى في السر والعلن، وتوجيه النيات والإرادات والقصود إلى من لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً فضلاً عن غيره.(2/5)
الصورة الثانية: أن يسأله ما لا يقدر عليه لو كان حاضراً مثل أن يسأله شفاء المريض، وإزالة موت نزلط به، وإهلاك عدو، وتوسعة فى الرزق، وقد يصل الأمر إلى أن يطلب منه هداية القلوب وغفران الذنوب. فهذه الأمور يعتقد الداعي فيها أن المدعو يستطيع التأثير فيها بقوته التي فوق مستوى البشر سواءً اعتقد أن تلك القوة مستقلة في التأثير أو هي سبب وشافعة وواسطة له( ). كما كان يعتقده كفار قريش في الأصنام حيث يعتقدون فيها الوساطة. قال تعالى: ((وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ)) [يونس:18].
حكم هذه المرتبة:
هذه المرتبة هي أيضاً من الشرك بل هي من أعظم الشرك( ) وذلك لوجهين( ) في الصورة الثانية، ولوجه واحد في الأولى، ففي الصورة الثانية يوجد صرف لب العبادة الذي هو الدعاء لغير الله تعالى، وصرف العبادة لغير الله شرك، هذا هو الوجه الأول، والوجه الثاني أن الداعي اعتقد علم الغيب وصفات الجلال والجمال المختصة ب الله تعالى لغيره تعالى، ومن اعتقد ذلك لغيره تعالى فقد أشرك، وهذا الوجه الثاني هو السبب في الحكم على الصورة الأولى بالشرك.
وهذه المرتبة قد وقعت صورها في كثير ممن ينتسب إلى الإسلام ومن مشركي الجاهلية الأولى ومن أهل الكتاب لاسيما النصارى. والحكايات في الاستغاثات بالغائبين الذين يعتقد فيهم كثيرة جداً، وقد تقضي حوائجهم ويغاثون ويرون الشيخ الذي استغاثوا به؛ وذلك أن الشياطين يفعلون معهم مثل ما يفعلون مع مشركي الجاهلية والنصارى وغيرهم حيث يرى أحدهم شيخاً يحسن الظن به ويقول له: أنا الشيخ فلان ويتسمى باسم المستغاث به، وربما يغيث من استغاث به ويقضي حاجته، وهذا واقع موجود اعترف به كبار المحققين.(2/6)
فقد ذكر شيخ الإسلام -رحمه الله- هذا الأمر ثم قال: [وأعرف من ذلك وقائع كثيرة في أقوام استغاثوا بي وبغيري في حال غيبتنا عنهم فرأوني أو ذاك الآخر الذي استغاثوا به قد جئنا في الهواء ورفعنا عنهم، ولما حدثوني بذلك بينت لهم أن ذلك إنما هو شيطان تصور بصورتي وصورة غيري من الشيوخ الذين استغاثوا بهم ليظنوا أن ذلك كرامات للشيخ فتقوى عزائمهم في الاستغاثة بالشيوخ الغائبين والميتين.
وهذا من أكبر الأسباب التي بها أشرك المشركون وعبدة الأوثان، وكذلك المستغيثون من النصارى بشيوخهم...]( ).
المرتبة الثالثة:
أن يسأل الحي الحاضر.
وهذا تحته صورتان:
الصورة الأولى: أن يسأله ما يقدر عليه بقدرته البشرية المحدودة الطاقة؛ فهذا جائز بدليل قوله تعالى: ((فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ)) [القصص:15].
فموسى عليه السلام يستطيع بقوته البشرية أن يغيث الرجل الذي استغاثه من عدوه وينقذه منه ويدفعه عنه؛ وهو حاضر معه حضوراً ذاتياً لا لبس في هذا.
وبدليل قوله تعالى: ((وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ)) [الأنفال:72]. (فهذا نصر بالقوة البشرية وهو جائز ولهذا قال بعض العلماء: والاستغاثة تجوز في الأسباب الظاهرة العادية من الأمور الحسية في قتال أو إدراك عدو أو سبع أو نحوه كقولهم يا لزَيدٍ، يَا لَلمسلمين، بحسب الأفعال الظاهرة بالفعل، وأما الاستغاثة بالقوة والتأثير، أو في الأمور المعنوية من الشدائد كالمرض وخوف الغرق والضيق والفقر وطلب الرزق من خصائص الله لا يطلب فيه غيره)( ).
وقد سمى بعضهم( ) الاستغاثة في الأمور الظاهرة بدعاء العادة وعرفه بأنه: (ما يطلبه الناس بعضهم من بعض مما يقدرون عليه بالأسباب التي سخرها الله لهم).(2/7)
الصورة الثانية: أن يسأل الحي الحاضر ما لا يقدر عليه إلا الله تعالى مثل شفاء المريض وكشف الكروب ودفع المرهوب، ونيل المرغوب، مما لا يقدر عليه إنسان بقوته البشرية بل يحتاج إلى قوة غيبية وسلطان غيبي، بأن يكون تأثيره بدون مباشرة الأسباب العادية، سواءً اعتقد تأثير تلك القوة تأثيراً مستقلاً أو بالتوسط لدى المؤثر الحقيقي، وهذه الصورة كثيراً ما تقع من المريدين في شيوخهم فيطلب المريد من شيخه إزالة مرض وكشف ضُر وإيصال نفع، بل ربما يطلب منه ستر العيوب وغفران الذنوب والخطايا والنجاة من النار، والمساعدة في سؤالى القبر وغير ذلك.
وربما يحبذ بعض شيوخ الضلال لمريديه دعاءه والاستغاثة به في حياته ومماته وحضوره ومغيبه( ).
حكم هذه المرتبة:
ففي الصورة الأولى يكون السؤال جائزاً لا مانع منه ولكن سؤال الناس ليس مأموراً به إلا في سؤال العلم( ).
وذلك لأن أصل سؤال الخلق الحاجات الدنيوية التي لا يجب عليهم فعلها ليس واجباً على السائل ولا مستحباً، بل المأمور به سؤال الله تعالى والرغبة إليه والتوكل عليه.
وسؤال الخلق في الأصل محرم لكنه أبيح للضرورة، وتركه توكلاً عليه واعتياضاً بسؤال الخالق أفضل، قال تعالى: ((فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ)) [الشرح:7-8]، أي ارغب إلى الله تعالى لا إلى غيره( ). كما يفيده تقديم المعمول على العامل.
وعنه صلى الله عليه وسلم أنه بايع طائفة من أصحابه وأسر إليهم كلمة خفيفة ألا تسألوا الناس شيئاً، قال راوي الحديث عوف بن مالك: [[فلقد رأيت بعض أولئك النفر يسقط السوط من يده فلا يقول لأحد ناولني إياه]]( ).
وقال صلى الله عليه وسلم: {لأن يأخُذ أحدكم حبله فيحتطب على ظهره خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه}( ).(2/8)
وإنما يباح من السؤال سؤال من له عند غيره حق من عين أو دين كالأمانات والغنيمة وغيره من الأموال المشتركة وسؤال النفقة لمن تجب عليه والغريم لمن عليه دينه ونحو ذلك( ).
وأما غير ذلك فلا يستحب السؤال بل هو مكروه إما تحريماً أو تنزيهاً؛ لأن (سؤال المخلوقين فيه ثلاث مفاسد: مفسدة الافتقار إلى غير الله وهي من نوع الشرك، ومفسدة إيذاء المسؤول وهي من نوع ظلم الخلق، وفيه ذل لغير الله وهو ظلم للنفس، فهو مشتمل على أنواع الظلم الثلاثة)( ).
وأما الحكم في الصورة الثانية وهي أن يسأل الحاضر ما لا يقدر عليه فهو الشرك المبين؛ لأن الدعاء عبادة، وقد صرفها الداعي لهذا المدعو العاجز.
ووجه كون هذا الدعاء عبادة هو أن الداعي اعتقد فيه التأثير بقوة غيبية حيث طلب منه ما هو فوق طاقة البشر؛ ولأجل هذا طلب منه جلب نفع أو دفع ضر، فاعتقد فيه خاصية من خصائص الربوبية من التأثير الغيبي، ثم صرف له خاصية من خصائص الألوهية ألا وهو توجه القلب والقالب إلى دعائه وندائه والاستغاثة به، ورجائه لقضاء حوائجه، وخوفه من عدم الاستجابة له، إلى غير ذلك من أنواع العبادات التي يتضمنها الدعاء.
المرتبة الرابعة( ):
أن يسأل الميت أن يدعو الله له.
وهذه لها صورتان:
إحداهما: أن يسأل ميتاً عند قبرهِ وباب قبته ومشهده أن يدعو الله له.
كالذي يفعله زوار القباب والأضرحة والمشاهد، يقول أحدهم: يا أيها الولي الفلاني ادع الله لي أن يفعل بي كذا وكذا.
وقد يظن أحدهم أن هذا مثل أن يسأل أحدهم في حياته فلا فرق عنده بين الحياة والموت.
فهذه الصورة حكمها أنها من البدع المنكرة الشنيعة، وأنها من وسائل الشرك، وأنها الباب الموصل إلى دعاء الميت نفسه فيما بعد.
وقد اتفق المسلمون على أنها بدعة( ).(2/9)
وقد يصل الحكم في هذه الصورة إلى الشرك الأكبر إذا أراد من صاحب القبر الشفاعة والواسطة الشركية التي يعتقدها الذين قالوا: ((مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى)) [الزمر:3]. وسيأتي بحث الشفاعة الشركية قريباً في المرتبة العاشرة.
ففي هذه الصورة مفاسد عظيمة، من صرف القلوب إلى غير باريها وفاطرها، والافتقار إلى غيره سبحانه وتعالى، وإيذاء المقبور بتكليفه سؤال الله تعالى، إن قُدرَ أنه يسأل الله تعالى.
ثم فيها الجزم بأن الولي الفلاني يستطيع السؤال، ومن يدري ما هو فيه من النعيم أو الجحيم؟ لأن مذهب أهل السنة أنه لا يجزم بذلك إلا في الوارد.
ثم إنه فتح لباب الشرك ولذرائعه التي يتدرج منها الشيطان إلى الشرك الأكبر، وقد قال السلف: إن البدعة باب للشرك.
ثم إن الظن بأنه لا فرق بين الحياة والموت وقياس أحدهما على الآخر ظَن سيىء وقياس مع الفارق وهو فاسد الاعتبار؛ لأن طلب الدعاء منه في حال حياته ليس فيه محذور ولا مفسدة فإن أحداً من الأنبياء عليهم السلام لم يعبد في حياته بحضوره فإنه ينهى من يعبده ويشرك به ولو كان شركاً صغيراً كما قال صلى الله عليه وسلم: {لا تقولوا ما شاء الله وشاء فلان ولكن قولوا ما شاء الله ثم شاء فلان}( ) ونهى من قال: {وفينا نبي يعلم ما في غد}( ).
وأما بعد موته فيخاف الفتنة والإشراك به كما أشرك بالمسيح والعزير وغيرهما عند قبورهم وغير قبورهم( ).
الصورة الثانية: وهي ما إذا سأل الميت أن يدعو الله له بعيداً عن قبره- فهذه الصورة كثيراً ما تقع ممن يدعون الأموات، فقد يقع أحدهم في شدة أو كرب فينادي صاحبه الولي ويستغيث به ويشتكي إليه هذه الشدة ويطلب منه الوساطة عند الله تعالى، فيقول: يا ولي الله فلان ادعُ الله لي أن يزيل عني كذا وكذا، أو يعطيني كذا وكذا.(2/10)
والسبب في وقوع هذه الصورة من كثير ممن ينتسب إلى الإسلام، ظنهم أنهم لم يشركوا حيث لم يدعوا الولي لمباشرة قضاء الحوائج بنفسه، بل طلبوا منه سؤال الله فقط، وهذا مثل ما يطلب منه وهو حي أن يدعو لمن طلب منه الدعاء، فلا فرق عندهم بين الحياة والموت، هكذا ظنوا ولا ينفعهم ظنهم هذا لأمرين:
الأول: أنهم وإن لم يشركوا بطلب الدعاء منه لكنهم أشركوا من جهة أنهم ظنوا أنه يعلم الغيب ويسمع النداء، وقد ذكر الشيخ محمد( ) إسماعيل الشهيد ظنهم هذا ثم رد عليهم بقوله: (وهذا باطل فإنهم وإن لم يشركوا عن طريق طلب قضاء الحاجة، فإنهم أشركوا عن طريق النداء، فقد ظنوا أنهم يسمعون نداءهم عن بعد، كما يسمعون نداءهم عن قرب)( ).
وقد ذكر نحو هذا الكلام صاحب صيانة الإنسان( ).
الأمر الثاني: أن ظنهم أنه ليس هناك فرق بين الحياة والموت ظن سيئ وقد تقدم ما في ذلك من المفسدة وخوف الفتنة في حال الموت دون الحياة.
والحكم في هذه الصورة أنها شرك؛ لأن صاحبها قد زعم أن الولي المدعو يعلم الغيب ويسمع كلامه في كل زمان ومكان، ويشفع له في كل حين وأوان، فهذا شرك صريح، فإن علم الغيب من الصفات المختصة بالله تعالى.
هذا ما قاله الشيخ الدهلوي والشيخ بشير السهسواني وغيرهما( ).
ولكن بعض عبارات ابن تيمية ربما يفهم منها أن هذه المرتبة لا تصل إلى الشرك فإنه قال: [الثانية أن يقال للميت أو الغائب من الأنبياء والصالحين: ادع الله لي أو ادع لنا ربك، أو اسأل الله لنا كما تقول النصارى لمريم وغيرها، فهذا لا يستريب عالم أنه غير جائز، وأنه من البدع التي لم يفعلها أحد من سلف الأمة، وإن كان السلام على أهل القبور جائزاً، ومخاطبتهم جائزة]( ).(2/11)
وهذا الكلام يدل على أن شيخ الإسلام لا يرى أن هذه المرتبة شرك، بل يراها بدعة( ) فقط، وشبيه بهذا كلامه الآخر حيث قال: (فعلم أنه لا يجوز أن يسأل الميت شيئاً لا يطلب منه أن يدعو الله له ولا غير ذلك، ولا يجوز أن يشكي إليه شيء من مصائب الدنيا والدين، ولو جاز أن يشكى إليه ذلك في حياته، فإن ذلك في حياته لا يفضي إلى الشرك، وهذا يفضي إلى الشرك...)( ).
وهذا الكلام يحتمل أنه يرى أنه يفضي ويجر إلى الشرك وأنه في ذاته ليس بشرك بل ذريعة إلى الشرك فقط.
ولكن لشيخ الإسلام كلام آخر يوافق كلام الذين عدوا هذه المرتبة شركاً، فإنه قال: [ومن رحمة الله تعالى أن الدعاء المتضمن شركاً كدعاء غيره أن يفعل، أو دعائه أن يدعو الله أو نحو ذلك..]( ).
فيفهم من هذه العبارة أن دعاء غير الله أن يدعو الله تعالى متضمن للشرك.
فهو إِذَن شركٌ، كما يدل مقارنته بين دعاء غير الله أن يفعل وبين دعائه أن يدعو الله على أنه يرى أنه لا فرق بين المرتبتين في الحكم، كما أن شيخ الإسلام جعل الخطاب بنحو سل الله لنا أن ينصرنا على عدونا، سل الله أن يغفر لنا وغير ذلك من أعظم أنواع الشرك( ).
وهناك أمر آخر وهو أن ما تقدم لنا من التفريق بين ما إذا كان قريباً من القبر وبين ما إذا كان بعيداً عنه، لاختلاف العلماء في سماع الميت القريب، فيكون القائل به مجتهداً متأولاً بخلاف البعيد، فلم يختلف في عدم سماعه فيكون القائل به غير متأول.(2/12)
ثم إنه ربما يفهم من كلام شيخ الإسلام أيضاً أنه لا يرى الفرق بين القرب من الميت والبعد عنه، فإنه ذكر صوراً مما يقع من المستغيثين بالأموات فذكر من يأتي القبر فيقول: أنا في حسبك، ومن يقول للميت:اقض ديني واغفر ذنبي، ومن يقول: سل لي ربك، ومن يقول: يا سيدي الشيخ فلان أو سيدي يا رسول الله نشكو إليك ما أصابنا من العدو، وذكر أن منهم من يظن أن الرسول أو الشيخ يعلم ذنوبه وحوائجه... إلخ. ثم قال بعد هذا كله: (فإن هذا الفعل، منه ما هو كفر صريح ومنه ما هو منكر ظاهر، سواء قُدرَ أن الميتَ يسمعُ الخطاب كما إذا خوطب من قريب، أو قُدرَ أنه لا يسمعه كما إذا خُوطِب من بعيد، فإن مجرد سماع الميت للخطاب لا يستلزم أنه قادر على ما يطلب الحي منه، وكونه قادراً عليه لا يستلزم أن نسأله ونطلب منه كل ما يقدر عليه)( )وكلامه هذا يحمل على أن احتمال السماع لا يمنع الحكم على أن الطلب من الميت ممنوع ومنكر مطلقاً ولا ينافي الفرق الملاحظ من ناحية أخرى وهي ناحية الحكم بوصول هذه الصورة إلى الشرك أو عدم وصولها إلى الشرك، ومن المعلوم أن شيخ الإسلام ممن يرى أن المجتهد المتأول يختلف حكمه عن غير المتأول( ).
كما أنه قد صرح في مكان آخر بأن الاختلاف في سماع الميت لنداء الحي لا يقتضي الحكم بالكفر على المخالف( ).
والذي يظهر- والله أعلم- أن الحكم في هذه المسألة له اعتباران:
فالاعتبار الأول: أن الداعي لم يسأل الميت ولم يطلب منه إلا دعاءه لله تعالى ولم يطلب منه قضاء حاجته بنفسه فبهذا الاعتبار قد لا يكون هذا الطلب مخرجاً له من الإسلام، ففيه احتمال التأويل وفيه شبهة قد تكون مانعة من الحكم بالشرك.
وقد يقال: إن هذا الاحتمال لا ينفع؛ لأن المشركين الأوائل كانوا يرون أن آلهتهم تشفع وتسأل الله لهم ولم يعتقدوا لها الاستقلال.(2/13)
ويمكن أن يُجاب عن هذا بأنهم وَجهُوا السؤال لها ودَعَوهَا من دون الله تعالى، ولم يصرحوا في الدعاء بهذا المراد فلم يقولوا لأصنامهم: ادعوا الله لنا أو سلوا الله لنا، بل قالوا: افعلوا لنا كذا وكذا.
وهناك فرق بين دعائه بأن يفعل بنفسه وبين دعائه بأن يدعو، وهذا الفرق كافٍ في التفريق بين الحكمين، وإن كان الذي طلب أن يفعل، مراده الشفاعة والوساطة لا أن يستقل بالفعل والتأثير.
والاعتبار الثاني: أن الداعي نادى الميت من مكان بعيد، وفي ذلك اعتقاد لعلمه للغيب ولسماعه لصراخه وغواثه، وهذا الاعتقاد شرك أكبر، فبهذا يكون الطلبُ من الميت سؤالَ اللهِ تعالى شركاً أكبر.
وإلى هذا الاعتبار أشار شيخ الإسلام أيضاً في معرض رده على من قال إنه صلى الله عليه وسلم يسمع صلاة المصلي عليه من البعيد، فقال: وقول القائل: إنه يسمع صوت السلام من البعيد ممتنع، فإنه إن أراد وصول صوت المصلي إليه، فهذا مكابرة وإن أراد أنه هو يكون بحيث يسمع أصوات الخلائق من بعيد فليس هذا إلا لله رب العالمين الذي يسمع أصوات العباد كلهم... وليس أحد من البشر بل ولا من الخلق يسمع أصوات العباد كلهم ومن قال: هذا في بشر فقوله من جنس قول النصارى الذين يقولون: إن المسيح هو الله، وأنه يعلم ما يفعله العباد ويسمع أصواتهم ويجيب دعاءهم. قال تعالى: ((لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ...)) الآية إلى قوله تعالى: ((وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ))( ) [المائدة: (72-76)].
ففي هذا أن من اعتقد سماع أصوات العباد لغير الله يُعَد من جنس النصارى أي فهو مشرك مثلهم، وربما يقال: إن هذا لازم لهم، وليس لازم المذهب بمذهب( ) فيجاب بأنه كذلك إِلا أن كثيراً منهم يلتزم بهذا اللازم ويعتقده ويدافع عنه وقد تقدم في مبحث علاقة الدعاء بالعقيدة ما يدل على اعتقادهم لذلك ومن المعلوم أن لازم المذهب مذهب إذا التزم به صاحب المذهب.
المرتبة الخامسة:(2/14)
أن يسأل الحي الغائب أن يدعو الله له.
وهذا كالذي يقع من المريدين في شيوخهم فقد يتفانى بعضهم في تعظيم شيخه، حتى يظن أن شيخه يعلم به وبأحواله وبمراده، فإذا وقع في شدة ينادي شيخه فيطلب منه أن يدعو الله له حتى يكشف الله عنه شدته بدعاء شيخه.
فهذه المرتبة حكمها كالصورة الثانية من المرتبة السابقة- أعني المرتبة الرابعة-.
المرتبة السادسة:
أن يسأل الحي الحاضر أن يدعو الله له، وهذا كالذي يقع من المؤمنين حيث يطلب بعضهم من بعض الدعاء.
فقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم طلب من عمر رضي الله عنه الدعاء عندما أراد العمرة فقال له: {أشركنا يا أخي في دعائك}( ).
وقال صلى الله عليه وسلم: {إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول... ثم سلوا الله لي الوسيلة}( ).
والرسول صلى الله عليه وسلم يقصد بهذا الأمر والطلب نفع المأمور والإحسان إليه (وهو صلى الله عليه وسلم أيضاً ينتفع بتعليمهم الخير وأمرهم به، وينتفع أيضاً بالخير الذي يفعلونه من الأعمال الصالحة ومن دعائهم له)( ).
ومثل النبي صلى الله عليه وسلم المؤمن المحسن المتبع لسنته صلى الله عليه وسلم إذا أمر أحداً بأمر كان مقصوده بذلك انتفاع المأمور وحصول مصلحته وله أجر الناصح، وإذا قال لغيره: ادع لي، فإنه يقصد شيئين:
الأول: انتفاع الداعي إذ يحصل له مثل دعائه كما في حديث: {ما من مسلم يدعو لأخيه بظهر الغيب بدعوة إِلأَ وكّل الله به ملكاً كلما دعا لأخيه بدعوة قال الملك آمين ولك بمثل}( ).
والثاني: أن ينتفع هو أيضاً باستجابة الله دعاء ذلك الداعي.
فتحصل مما سبق أن هذه المرتبة السادسة لها صورتان:
إحداهما: أن يقصد بهذا الطلب شيئين:
أولهما: انتفاع الداعي بهذا الدعاء؛ لأنه يحصل له مثل دعائه، فهو عندما يأمره بالدعاء له يقصد أن يحصل للداعي هذا الأجر.(2/15)
وثانيهما: انتفاعه باستجابة الله دعاء ذلك الداعي له، وهذا مثل ما يقصد الأمر بالمعروف فإنه ينتفع المأمور بعمله ويكون للآمر مثل أجره.
الصورة الثانية: أن يقصد بطلب الدعاء انتفاعه باستجابة الله دعاء ذلك الداعي فقط بدون أن يقصد انتفاع الداعي بذلك.
فالحكم في الصورة الأولى أنه جائز بل هو مستحب؛ لأن فيه الإحسان إلى الخلق وطلب الأجر من الله تعالى فيكون دائماً بحق الله وحق عباده ويكون السؤال راحجاً على الترك( ).
وفي الصورة الثانية أيضاً جائز، وهل هو منهي عنه فيكون خلاف الأولى أو مكرهاً تنزيهاً ويدل على أنه خلاف الأولى الأحاديث المانعة من السؤال فهي عامة، كما يدل له ما ورد في حديث السبعين ألفاً أنهم لا يسترقون، والرقية نوع من الدعاء( ).
لكن الذي يظهر من ظواهر الأخبار أنه ليس خلاف الأولى لما ورد عن كثير من الصحابة أنهم طلبوا الدعاء من النبي صلى الله عليه وسلم ولم ينكر عليهم.
وقد نقل ابن مفلح( ) عن شيخ الإسلام أنه ذكر أنه منهي عنه وإن كان لا يأثم، قال ابن مفلح: (ومن سأل غيره الدعاء لنفعه أو نفعهما أثبت، وإن قصد نفع نفسه فقط نهي عنه كالمال، وإن كان قد لا يأثم، كذا ذكره شيخنا، وظاهر كلام غيره خلافه كما هو ظاهر الأخبار). ثم ساق ابن مفلح حديث( ) أم سليم في طلبها من النبي صلى الله عليه وسلم الدعاء لأنس، وكثير من الصحابة الذين طلبوا الدعاء( ).
ويفهم من كلام ابن مفلح هذا أن هناك صورتان ثالثة وهي: أن يقصد بطلبه انتفاع الداعي فقط، فهذه الصورة نادرة الوقوع أو لا تقع مطلقاً؛ لأن من طبيعة البشر أياً كان أنه لا يقوم بعمل إلا وله فيه غرض دنيوي أو أخروي( ).(2/16)
والذي يظهر أن قول شيخ الإسلام بأن طلب الدعاء من الغير خلاف الأولى يحمل على أن ذلك ليس على حكم الأصالة، وإنما بسبب ما ينضم إلى ذلك من المحذور، ولهذا ورد عن بعض السلف( ) كراهية طلب الدعاء منهم لما يخاف من الفتنة، فقد ذكر الإمام الشاطبي رحمه الله أن كراهية السلف طلب الدعاء منهم لدخول أمر زائد على أصل الطلب فصار الدعاء بتلك الزيادة مخالفاً للسنة (لا على حكم الأصالة بل بسبب ما ينضم إليه من الأمور المخرجة عن الأصل). مثل أن يلزم منه أن يعتقد في الذي طلب الدعاء منه أنه يقبل دعاؤه أو يخاف أنه وسيلة إلى أن يعتقد فيه ذلك أو يعتقد أنه سنة تلزم أو يجري في الناس مجرى السنة الملتزمة( ).
هذا ومن- هذه المرتبة السادسة استغاثة الخلائق في المحشر بالأنبياء فإن الأنبياء والمستشفعين بهم في مكان واحد يرى بعضهم ويسمعون كلام بعضهم.
وبهذا نعلم أنه لا يصح الاحتجاج بهذه الاستغاثة على دعاء الموتى.
المرتبة السابعة( ):
أن يسأل الله تعالى بغير أسمائه الحسنى وصفاته العليا سواء كان ذلك الغير ميتاً أو غائبأ أو حاضراً، وسواء كان ذلك السؤال توسلاً به وبجاهه وحرمته، أو إقساماً به، فالصور الممكنة ستة، فالسؤال بالميت إما بالتوسل أو بالإقسام، وكذا بالغائب أو الحاضر إما بالتوسل أو الإقسام فهذه ست صور.
فهذه الصور يأتي الكلام عليها مفصلاً في مبحث التوسل إن شاء الله تعالى ونوجز الكلام عليها هنا.
فبالنسبة إلى التوسل فحكمه أنه بدعة ولم ينقل عن أحد من الصحابة والتابعين وسلف الأمة أنهم كانوا يدعون بمثل هذا الدعاء( ).
هذا إذا كان المتوسلُ به ميتاً أو غائباً.(2/17)
وأما إذا كان حاضراً، فإن كان المتوسلُ به الحاضرُ دعا الله تعالى وتوسلَ السائلُ المُتوسلُ بدعائه إلى الله تعالى فهذا جائز كما في حديث الأعمى حيث دعا له النبي صلى الله عليه وسلم، ودعا الأعمى أيضاً متوسلاً بدعائه صلى الله عليه وسلم وكما في حديث عمر حيث دعا العباسُ وطلبَ من الله السقيا ودعا عمرُ أيضاً متوسلاً بدعاء العباس رضي الله عنهم جميعاً.
وأما إذا كان الحاضر لم يدع الله تعالى فلا يجوز التوسل بذاته أو جاهه؛ لأنه لم يرد، ولما فيه من المفاسد التي تجر إلى الشرك، وسيأتي بيان بعض تلك المفاسد في مبحث التوسل إن شاء الله تعالى.
وأما الإقسام على الله بغيره فحكمه حرام لما روي في حديث جبير بن مطعم رضي الله عنه من أن أعرابياً أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، جُهِدَتِ الأنفسُ وضاعت العيالُ، ونُهِكَتِ الأموال وهلكت الأنعام، فَاستَسقِ الله لنا فإنا نستشفع بك على الله ونستشفع بالله عليك، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {ويحك أتدري ما تقول؟... ثم قال: ويحك إنه لا يستشفع بالله على أحد من خلقه، شأن الله أعظم من ذلك}( ).
وقد ذكر الفقهاء من أصحاب( ) أبي حنيفة وغيرهم أنه لا يجوز أن يقسم أحد بالمخلوق فجمهور العلماء لا يسوغون الحلف بغير الله تعالى من الأنبياء والملائكة ولا تنعقد اليمين بذلك، وهذه إحدى الروايتين عن أحمد، والرواية الأخرى تنعقد اليمين بالنبي صلى الله عليه وسلم خاصة دون غيره.
وعلى هذا يحمل ما روي عنه من إجازة التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم خاصة هذا على فرض ثبوت تلك الرواية عن أحمد.
فالجمهور من العلماء لا يجيزون القسم بغير الله تعالى.
وروي عن أحمد مثل ذلك أيضاً( ).(2/18)
ولعل هذه الرواية هي الراجحة لموافقتها لأقوال الجمهور؛ ولأن لم يعلم عن أحد من السلف أنه أجاز القسم بغير الله تعالى، والأهم من ذلك أن الأحاديث الكثيرة صحت في النهي عن الحلف بغير الله تعالى ولا تخفى على مثل الإمام أحمد، مع حرصه الشديد على التمسك بالسنة، ومن تلك الأحاديث قوله صلى الله عليه وسلم: {من حلف بغير الله فقد أشرك}( ).
وهذا وعيد شديد وتحذير بالغ، فمن هنا يبعد كل البعد أن يصح عن الإمام أحمد تجويزه صحة القسم بالنبي صلى الله عليه وسلم كما يبعد - والله أعلم - صحة تجويزه التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم خاصة، ولهذا أفتى أبو محمد العز بن عبد السلام رحمه الله بأنه لا يقسم على الله بالأنبياء والملائكة والأولياء.
وأما بالنسبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فعلق القول به على صحة الحديث وذكر أنه إن صح فينبغي أن يكون خاصاً بالنبي صلى الله عليه وسلم( ).
وسيأتي الكلام على الحديث وهو حديث الضرير وعدم دلالته على ذلك.
ويحمل التوسل الذي أجازه الإمام أحمد - على فرض صحة الرواية عنه - على التوسل بالإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم ومحبته وابتاعه( ).
والحاصل أنه قد اتفق العلماء على عدم جواز الإقسام بالمخلوق على المخلوق ومنعوا من ذلك، فإذا ثبت هذا فمن باب أولى أن يمنع أن يقسم بالمخلوق على الخالق فشأن الله أعظم من أن يقسم عليه بمخلوق كما في الحديث المتقدم.
ومن هنا يتضح أن الحكم في الصور التي فيها الإقسام على الله تعالى بغيره أنه محرم، ولكنه لا يصل إلى الشرك الأكبر إلا في بعض الأحيان، وقد أُولَ حديثُ: {من حلف بغير الله فقد أشرك}، إلى الشرك الأصغر وسيأتي الكلام عليه مع بيان قول من قال: إنه شرك أصغر ومن قال: إنه شرك أكبر( ).
المرتبة الثامنة( ):
أن يدعو الله تعالى عند قبر نبي أو ولي أو ما يعتقد أنه كذلك أو مطلق المقابر.
فهذه المرتبة لها ثلاث صور:(2/19)
الأولى: أن يقصد القبر ويتحراه للدعاء عنده وليس له غرض آخر معتقداً أن الدعاء هناك أجوب وأسرع، وأن لذلك المكان خصوصيةً في إجابة الدعاء، وأن الدعاء في المقابر والمشاهد أفضلُ من الدعاء في المسجد والبيت والسجود والأسحار.
والثانية: أن يقصد القبر للزيارة والدعاء عنده معتقداً لما تقدم، وذلك كالذي يحصل من الذين يزورون القبر الزيارة البدعية حيث كانوا يَجمَعون بين النيتَينِ: نيةِ زيارة القبر ونيةِ الدعاء عنده.
والثالثة: أن يحصل الدعاء عند القبر بحكم الاتفاق بدون قصدٍ سابق وتَحَر كمن يدعو الله في طريقه ويتفق أن يمر بالقبور، أو من يزورها فيسلم عليها ويسأل الله العافية له وللموتى كما جاءت به السنة( ).
وهذه المرتبة سيأتي الكلام عليها مفصلاً إن شاء الله تعالى في الكلام على الدعاء عند الأضرحة والقباب.
حكم هذه المرتبة:
في الجملة أنها من البدع المحدثة في الدين إلا الصورة الأخيرة فهي جائزة بشروط سيأتي التنبيه عليها إن شاء الله تعالى.
المرتبة التاسعة:
سؤال غير الله تعالى مع الله.
وهذه المرتبة تحصل بتشريك غير الله مع الله تعالى إما بالعطف أو الإتيان بما يدل على المشاركة.
وهذه المرتبة كانت كثيرة الوقوع في المشركين الأوائل، ولهذا نجد الله تعالى قد كرر التحذير من دعاء غير الله مع الله تعالى في آيات محكمات، منها قوله تعالى: ((فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ)) [الشعراء:213]، ((وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ)) [القصص:88]، ((وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا)) [الجن:18].
ولكن الشيطان لما عرف بُعدَ المسلمين ونفرتَهم عن إِقرَان غيرِ الله وإشراكِه مع الله في اللفظ وَعِظَمَ ذلك عندهم، زَين لهم مراتب أخرى تكون أخفى من هذه المرتبة قد لا يظنونها أنها تصل إلى الشرك فيقعون فيها.(2/20)
ومع وضوح كون هذه المرتبة شركاً صريحاً أنزل الله فيه اَيات واضحات تحذر منه، وقع فيها بعض من ينتسب إلى الإسلام، فكان بعضهم يقول: يا سيدي فلان ويا الله، فيعطف الله على مدعوه أو بالعكس. فإنا لله وإنا إليه راجعون.
فهم يدعون مشايخهم وأولياءهم ويعدون أسماءهم مستغيثين بهم ومستنجدين ويذكرون الله في جملتهم (كأنه واحد من تلك الأعداد)( ).
فعند هؤلاء دعاءُ الله تعالى ودعاءُ الشيخ أو الولي من باب واحد فالكل يُدعَى ومن هنا يَذكُر الكل لقضاء حاجته بل ربما وصل عند بعضهم أن باب الولي أسرع في الإجابة كما سيأتي.
حكم هذه المرتبة:
إن هذه المرتبة شرك واضح وكفر بواح، قال تعالى: ((وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ)) [المؤمنون:117].
المرتبة العاشرة:
سؤال غير الله تعالى بنية الشفاعة.
قد تقدم لنا ذكر معنى الشفاعة والمناسبة بينها وبين الدعاء في مبحث التعريفات والآن نذكر هنا الشفاعة الشركية التي هي إحدى مراتب دعاء غير الله تعالى.
هذا وقد كثر الخوض في الشفاعة ومسائلها وأنواعها وأُلفت فيها رسائل( ) مستقلة، فلذا أجتزىء الكلام عليها حسب ما يتعلق بموضوع البحث حتى تكتمل جوانب البحث فأقول وبالله التوفيق:
إن الشفاعة الشركية هي مرتبة من مراتب الدعاء غير المشروع ولها صورتان:
الصورة الأولى: أن يسأل الميت عند قبره الشفاعة والوساطة كالذي يقع من الزائرين للأموات حيث ينادون صاحب القبر: يا أيها الولي الفلاني اشفع لنا عند ربك، وتوسط لنا في كذا وكذا.
والصورة الثانية: أن يسأل الميت بعيداً عن قبره كالذي يقع من المتعلقين بالصالحين حيث يكون هجيراهم ودأبهم في حلهم وترحالهم طلب الشفاعة من الولي الفلاني.
والحكم في الشفاعة يتوقف على معرفة أقسامها فلذا أُشير إلى أقسامها بالإيجاز وبالله التوفيق..
الشفاعة قسمان:
1- شفاعة مثبة.(2/21)
2- شفاعة منفية.
فالشفاعة المثبتة هي التي استوفت شرطين:
الأول: إذن الله تعالى للشافع أن يشفع، قال تعالى: ((مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ)) [البقرة:255].
وقال سبحانه: ((وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ)) [سبأ:23] الثاني: رضاه عمن أذن للشافع أن يشفع فيه أي رضاه عن المشفوع، قال تعالى: ((وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى)) [الأنبياء:28]، وقال تعالى: ((وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى)) [النجم:26].
ومن المعلوم أن الله سبحانه لا يرضى إلا عن أهل التوحيد والإخلاص الذين لا يدعون غيره، فهذه الشفاعة خاصة بالمؤمنين الصادقين فلهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قال له أبو هريرة: [[من أسعد الناس بشفاعتك يا رسول الله]]؟ قال: {من قال لا إله إلا الله خالصاً من قلبه}( ). وفي معنى هذا الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: {لكل نبي دعوة مستجابة فتعجل كل نبي دعوته، وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة فهي نائلة إن شاء الله من مات لا يشرك بالله شيئاً}( ) فشيئاً نكرة في سياق النفي فتعم.
فمن دعا غير الله تعالى أياً كان فقد أشرك فلا تناله شفاعة المصطفى صلوات الله وسلامه عليه، ففي الحديثين السابقين: (جعل النبي صلى الله عليه وسلم أعظم الأسباب التي تنال بها شفاعته تجريد التوحيد عكس ما عند المشركين أن الشفاعة تنال باتخاذهم أولياءهم شفعاء وعبادتهم وموالاتهم من دون الله، فقلب النبي صلى الله عليه وسلم ما في زعمهم الكاذب، وأخبر أن سبب الشفاعة هو تجريد التوحيد فحينئذ يأذن الله للشافع أن يشفع)( ).
وأما الشفاعة المنفية فهي الشفاعة الشركية التي يعرفها الناس عند الإطلاق ويفعلها بعضهم مع بعض وهي أن يشفع الشفيع إلى غيره ابتداء فيقبل شفاعته.(2/22)
فأما إذا أذن له في أن يشفع فشفع فهي في الحقيقة منه فإنه الذي أذن والذي قبل والذي رضي عن المشفوع والذي وفقه لفعلِ ما يستحق به الشفاعة وقولِه( ).
وعرفها بعضهم بقوله: {هي أن يحمل الشافع المشفوع عنده على فعل أو ترك كان أراد غيره- حكم به أم لا- فلا تتحقق الشفاعة إلا بترك الإرادة وفسخها لأجل الشفيع}( ).
والمقصود هنا بيان الشفاعة الشركية التي تحصل من الداعين للأموات وذلك أن أحدهم إذا وقع في مشكلة ما ينادي ويستغيث بالميت قائلاً: يا سيدي فلان اشفع لي عند ربك أو توسط لي عند الله أو نحو هذا.
وبعضهم يطلب الشفاعة من الأموات أنبياء أو غيرهم من الملائكة والصلحاء في الدار الآخرة، يطلب ذلك الآن في الدنيا فيقول: يا رسول الله، اشفع لي يوم القيامة فيطلبها من الرسول صلى الله عليه وسلم قبل مجيء وقتها.
وهذه الشفاعة المذكورة ممنوعة في حق الله تعالى، وذلك لأن الشافع في هذه الحالة قَد أَثرَ في تغيير اختيار المشفوع عنده، فصار شريكاً له في المطلوب، والله منزه عن ذلك( ).
وهذه هي الشفاعة التي نفاها القرآن الكريم، قال تعالى: ((وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ)) [الأنعام:51]، وقال تعالى: ((وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلا هُمْ يُنصَرُونَ)) [البقرة:123].
وقال تعالى: ((وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ)) [الأنعام:70].
وقال تعالى: ((ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ)) [السجدة:4].
وقال تعالى: ((قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا)) [الزمر:44].(2/23)
فاتضح من هذه الآيات أن هذه الشفاغة قد نفاها القرآن وقطع جذورها واستأصل شأفتها حتى لا يعلق أحد قلبه بغير الله تعالى وحتى يتحقق تجريد التوحيد لله تعالى، فأبى أهل الضلال إلا معارضته فأثبتوها بدون شروط، وتعلقوا بها في دعائهم لغير الله تعالى.
وقابل هؤلاء آخرون من أهل البدع من الخوارج والمعتزلة فنفوها وقالوا لا شفاعة إلا الشفاعة التي لفصل القضاء أو رفع الدرجات، وأما الشفاعة فيمن استحق العذاب أو في إخراج من دخل النار فلم يثبتوها. وتوسط أهل الحق فأثبتوا ما أثبته الله، ونفوا ما نفاه الله، وهذه هي عادة أهل الحق في المسائل العلمية الاعتقادية والمسائل العملية فهم وسط بين الغالي والجافي كما أن هذه الأمة وسط بين الأمم.
والحاصل أن الناس في الشفاعة على ثلاثة أقوال:
فالمشركون والنصارى والمبتدعون من الغلاة في المشايخ وغيرهم يجعلون شفاعة من يعظمونه عند الله كالشفاعة المعروفة في الدنيا، والمعتزلة والخوارج أنكروا شفاعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في أهل الكبائر، وأما أهل السنة والجماعة فيقرون بشفاعة نبينا صلى الله عليه وسلم في أهل الكبائر وشفاعة غيره لكن لا يشفع أحد حتى يأذن الله ويحد له حداً( ).
هذا وقد علمنا مما سبق أن الشفاعة الشركية هي التي لم تستوف شروط الشفاعة المثبتة أي التي بدون إذن المُشَفع وبدون رضاه، ومن أنواع هذه الشفاعة المنفية الشفاعة التي أثبتها الفلاسفة وقلدهم فيها بعض من ينتسب إلى الملل السماوية.
فالفلاسفة أثبتوا شفاعة شركية أعظم شركاً من شفاعة المشركين حيث أجازوا دعاء الجواهر العلوية- الشمس والقمر والكواكب- وكذلك الأرواح التي يسمونها العقول والنفوس ويسميها من انتسب إلى أهل الملل الملائكة.(2/24)
وهذا الذي يَدعُونه من الشفاعة لآلهتهم أعظم كفراً من كفر مشركي العرب فإن الفلاسفة لا يقولون: إن الشفيع يسأل الله والله يجيب دعوته كما يقوله المشركون الذين يقولون: (إن الله خالق بقدرته ومشيئته) فإن هؤلاء عندهم أنه لا يعلم الجزئيات ولا يُحدِث شيئاَ بمشيئته وقدرته.
وإنما العالم فاض عنه فيقولون: إذا توجه الداعي إلى من يدعوه كتوجهه إلى الموتى عند قبورهم وتوجهه إلى الأرواح العالية فإنه يفيض عليه ما يفيض من ذلك المعظم الذي دعاه واستغاث به وخضع له من غير فعل من ذلك الشفيع ولا سؤال منه لله تعالى كما يفيض شعاع الشمس على ما يقابلها من الأجسام الصقيلة كالمرآة ونحوها ثم ينعكس الشعاع من ذلك الجسم الصقيل إلى حائط أو غيره( ).
ولأجل هذا يرون دعاء الموتى عند قبورهم وغير قبورهم ويتوجهون إليهم، وكثير منهم ومن غيرهم من الجهال يرون أن الصلاة والدعاء عند قبور الأنبياء والصالحين من أهل البيت وغيرهم أفضل من الصلوات الخمس والدعاء في المساجد وأفضل من حج البيت العتيق، كما أنهم جعلوا الفائدة في زيارة قبورهم من هذا الوجه، وقالوا: إن الأرواح المفارقة تجتمع هي والأرواح الزائرة فيقوى تأثيرها( ).
الحكم:
ولا يخفى بعد إيراد اعتقاد هؤلاء في معنى الشفاعة أن هذه الشفاعة التي أثبتوها هي من أعظم الشرك بالله تعالى.
وهذا الذي ذكروه هو السبب الرئيسي في عبادة أصناف المشركين لغير الله تعالى.
قال ابن القيم: [وبهذا السر عُبدت الكواكب واتخِذت لها الهياكل وصنفت لها الدعوات، واتخذت الأصنام المجسدة لها، وهذا بعينه هو الذي أوجب لعباد القبور اتخاذها أعياداً، وتعليق الستور عليها، وإيقاد السرج عليها، وبناء المساجد عليها، وهو الذي قصد رسول الله صلى الله عليه وسلم إبطاله ومحوه بالكلية، وسد الذرائع المفضية إليه... وهو سر عبادة الأصنام، وهو الذي بعث الله رسله وأنزل كتبه بإبطاله وتكفير أصحابه وأباح دماءهم وأموالهم وأوجب لهم النار.(2/25)
والقرآن من أوله إلى آخره مملوء من الرد على أهله وإبطال مذهبهم، قال تعالى: ((أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلا يَعْقِلُونَ * قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ)) [الزمر: (43-44)].
فأخبر أن الشفاعة لمن له ملك السموات والأرض وهو الله وحده فهو الذي يشفع بنفسه إلى نفسه ليرحم عبده فيأذن هو لمن يشاء أن يشفع فيه، فصارت الشفاعة في الحقيقة إنما هي له]( ).
ثم إن هذا الذي ذكروه ومثلوا له بشعاع الشمس هو من أصول الشرك ومن المقاييس الفاسدة التي قال فيها بعض السلف: [ما عبدت الشمس والقمر إلا بالمقاييس]( ).
وهي من أقوال من يقول: إن الدعاء إنما تأثيره بكون النفس تتصرف في العالم لا بكون الله يجيب الداعي، وهي مبنية على أن الله تعالى ليس بفاعل مختار يخلق الحوادث بمشيئته واختياره( ). وقد تقدم بحمد الله وتوفيقه ذكر ذلك.
المبحث الثاني: في مظاهر غلو المتأخرين في دعاء غير الله تعالى:(2/26)
ومما لا شك فيه أن المشركين الأوائل كانوا يعتقدون في اَلهتهم التي يدعونها اعتقادات باطلة، ويقدسونها بأنواع من التقديسات ويصرفون لها أنواعاً من العبادات، ولكن المتأخرين ممن يدعون الأموات والغائبين فَاقُوهم وتجاوزوهم بمراحل لم يصل إليها أسلافهم ومتقدموهم ووقفوا بمواقف خطيرة جداً ما كان يُتصور أن أي مسلم آمن بدين الله يقف بها، ويعتقدها ويتبناها، ولكن هذا هو الواقع المرير الذي وصل إليه حال المسلمين، فقد وقفوا مواقف خطيرة وحكوا حكايات عجيبة، فمنهم من زعم أن دعاء الموتى أفضل وأسرع إجابة من دعاء الله تعالى، فقد وصلت الوقاحة بهؤلاء إلى أنهم لم يقتصروا على دعاء الموتى وتجويزه بل بلغ بهم الأمر إلى أن يجعلوا دعاء الموتى أفضل من دعاء الله، فمنهم من يحكي أن بعض المريدين استغاث بالله فلم يغثه واستغاث بشيخه فأغاثه، فَإِغَاثةُ الشيخِ أسرعُ من إغاثة الله تعالى، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً.
ومنهم من يحكي أن بعض المأسورين دعى الله فلم يخرجه فدعا بعض الموتى فجاءه فأخرجه إلى بلاد الإسلام( ).
ولم يقتصروا على دعائهم للأموات بأنفسهم بل دعوا المسلمين إلى ذلك فصنفوا المصنفات في تجويز ذلك وتبريره بل في استحبابه ومشروعيته وتفننوا في كثرة التأليف فمن مؤلف في ألفاظ الأدعية التي تقال في المشاهد والمزارات وفيها الكفر الصريح والشرك الواضح، وآخر ينظم القصائد الشركية في الاستغاثة بغير الله تعالى، وآخر يؤلف في تبرير هذا العمل وتزيينه ويجمع الشبهات والحكايات والمنامات إلى غير ذلك من الكتب الخرافية المنتشرة في ديار المسلمين، فإنا لله وإنا إليه راجعون.(2/27)
ولم يقتصر هؤلاء على دعاء الأموات والتأليف فيه بل ألف بعضهم في دعاء الكواكب والنجوم ومخاطبتها، وبعضهم صنف في خواص الحروف والدعاء بأسماء معينة في أوقات معينة، فأدخلوا بذلك دينَ المشركين من الصابئة والفلاسفة في دين المسلمين، فقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية مذهب الفلاسفة ثم ذكر أن كثيراً من متأخري المتصوفة والمتكلمين أدخلوه في دين الحنفاء حتى صنف بعضهم تصنيفاً في ذلك مثل مصنف بعضهم المسمى (السر المكتوم في السحر ومخاطبة النجوم) وآخرون صنفوا في الحروف وطبائعها والدعاء بأسماء ذكروها في أوقات مخصوصة( ).
هذا وسأذكر- بعون الله وتوفيقه- بعض المواقف والمظاهر التي يتضح بها مدى ما وصل إليه غلو المتأخرين على الأوائل وبالله التوفيق.
1- ومن مظاهر غلوهم على الأولين: اعتقادهم التصرف المطلق في الكون لمدعويهم المقبورين أو الغائبين بخلاف الأولين حيث يعتقدون الشفاعة والوساطة لدى الإله الأكبر فقط، فلم يكونوا يعتقدون لمدعويهم التصرف بأنفسهم، وسيأتي التدليل على ذلك في مبحث إقرارهم للربوبية من باب الشبهات.
وأما المتأخرون فكثيرٌ منهم يعتقد التصرف المطلق لمدعوه، وقد ذكرنا ذلك بما فيه الكفاية في مبحث( ) علاقة الدعاء بتوحيد الربوبية ولله الحمد.
2- ومن مظاهر غلوهم: أن الأولين كانوا يدعون معبوديهم في حال السعة والرخاء واليسر.
وأما في حال الشدة والضيق ونزول المصائب كالتطام الأمواج وخوف الغرق والهلاك، فلا يدعون إلا الله تعالى لمعرفتهم أنه لا ينقذ من تلك الشدة إلا الواحد القهار.
قال تعالى: ((حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ)) [يونس:22].(2/28)
وقال تعالى: ((وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ)) [الإسراء:67].
وقال تعالى: ((وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ)) [لقمان:32].
هذا ما ذكره الله عنهم من إخلاص الدعاء عند التطام الأمواج، وقد ذكر الله عنهم إخلاصهم الدعاء عند الشدائد بصفة عامة فقال: ((قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ)) [الأنعام:40-41].
وقال تعالى: ((قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ)) [الأنعام:63-64].
وقال تعالى: ((وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ)) [يونس:12].
وقال تعالى: ((وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ)) [فصلت:51].
وفي آيات متعددة ذكر الله إخلاصَهم لله تعالى الدعاءَ في حال الشدة ونزول الضر وإشراكَهُمُ بالله في الرخاء والسعة.(2/29)
هذا عادة المشركين الأوائل يلتجئون إلى الله تعالى دعاء ورغبة ورهبة عند اشتداد الكرب وقرب الهلاك، فقد روى الحسن البصري عن عمران بن الحصين رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي: يا حصين كم تعبد اليوم إلهاً؟ قال أبي: سبعة، ستاً في الأرض وواحداً في السماء، قال: فأيهم تعد لرغبتك ورهبتك؟ قال: (الذي في السماء...)( ).
وأما المتأخرون فحالتهم أدهى وأمر وأشد غلواً وبعداً عن إخلاص الدعاء لله تعالى، فهم إذا وقعوا في شدة وأيقنوا بالهلاك وقرب الموت يستغيثون بالولي الفلاني.
فمثلاً عند التطام الأمواج ينسون دعاء الله تعالى ولا يخطر في بالهم إلا الاستغاثة بالولي والشيخ الفلاني، وهذا الأمر متواتر عنهم تواتراً يقطع أيئ شبهةِ على من يحاول الدفاع عنهم بشبهة واهية.
ومع هذا التواتر عنهم نذكر طرفاً من أقوال الثقات الذين أخبروا بذلك عن مشاهداتهم أو عن مشاهدات الثقات الذين أخبروهم، وذلك قطعاً للشبهة وإزالةً للريبة وإقامةً للحجة، وإلا فالأمر لا يحتاج إلى تطويل وإسهاب لوضوحه، لولا الدفاع المميت لبعض من يحاول التشبث بالعادات والتقاليد، ولو كانت شركاً صريحاً ما دام أنها توافق رغباته وشهواته ومألوفاته وعادات قومه، والله المستعان وهو الهادي إلى سواء السبيل.
هذا ونختار بعض أقاويل العلماء الثقات في ذلك:
1- فمن العلماء الذين ذكروا ذلك الشيخ حسين بن مهدي النعمي رحمه الله فإنه قال: (وطالما شاهدنا عباد أرباب هذه القباب، إذا التطمت عليهم أمواج البحر العباب سمعت ذكر الزيلعي والحداد، وكل يدعو شيخه عند ذلك الاضطراب إذ لكل طريقة لا ينتحي سواها في الهتف والانتساب)( ).(2/30)
2- ومنهم الإمام الشوكاني -رحمه الله- فقد ذكر أن هؤلاء المتأخرين وصلوا في الاعتقاد في الأموات إلى حد لم يبلغه المشركون الأوائل وذلك أنهم كانوا يخلصون في الشدة بخلاف المعتقدين في الأموات فإنهم إذا دهمتهم الشدائد استغاثوا بالأموات ونذروا لهم النذور وقل من يستغيث بالله سيما في تلك الحال، وهذا يعلمه كل من له بحث عن أحوالهم.
ثم قال الشوكاني: [ولقد أخبرني بعض من ركب البحر للحج أنه اضطرب اضطراباً شديداً فسمع من أهل السفينة من الملاحين وغالب الراكبين معهم ينادون الأموات ويستغيثون بهم ولم يسمعهم يذكرون الله قط، قال: ولقد خشيت في تلك الحال الغرق لما شاهدته من الشرك بالله]( ).
3- ومنهم الشيخ صديق حسن خان -رحمه الله- فقد وصف ما رآه من حالة الملاحين في رحلته للحج حيث ركب المركب من الحديدة إلى جدة مع الحجاج فيقول: [ومن العجائب التي لا ينبغي إخفاؤها أن الملاحين إذا ترددوا في أمر المركب من جمود الريح أو هبوبها مخالفة أو شيئاً من الخوف على السفينة وأهلها كانوا يهتفون باسم الشيخ عيدروس وغيره من المخلوقين مستغيثين ومستعينين به ولم يكونوا يذكرون الله عز وجل أبداً أو يدعونه بأسمائه الحسنى، وكنت إذا سمعتهم ينادون غير الله ويستعينون بالأولياء خفت على أهل المركب خوفاً عظيماً من الهلاك، وقلت في نفسي: بالله العجب، كيف يصل هذا المركب بأهله إلى ساحل السلامة فإن مشركي العرب قد كانوا لا يذكرون آلهتهم الباطلة في مثل هذا المقام...
وهؤلاء القوم الذين يسمون أنفسهم المسلمين يدعون غير الله ويهتفون بأسماء المخلوقين ولقد صدق تعالى فيما قال: ((وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ))( ) [يوسف:106].(2/31)
4- ومنهم الشيخ سليمان بن عبد الله -رحمهما الله-، فقد ذكر إخلاص المشركين الدعاء لله تعالى في الشدائد ثم قال: [وأما عباد القبور فكم ذا بينهم وبين المشركين الأولين من التفاوت العظيم في الشرك فإنهم إذا أصابتهم الشدائد براً وبحراً أخلصوا لآلهتهم وأوثانهم التي يدعونها من دون الله]( ).
5- ومنهم الشيخ علي محفوظ صاحب كتاب الإبداع في مضار الابتداع، فقد ذكر أن الشفاعة لا تكون إلا إذا أذن الله للشفيع ثم ذكر أنه قد يغفل عن هذا العوام فتراهم إذا نزل بهم أمر خطير وخطب جسيم في بر أو بحر تركوا دعاء الله تعالى، ودعوا غيره فينادون بعض الأولياء كالبدوي والدسوقي وزينب معتقدين أنهم يتصرفون في الأمور، ولا تسمع منهم أحداً يخص مولاه بتضرع ودعاء، وقد لا يخطر له على بال أنه لو دعا الله وحده ينجو من تلك الشدائد( ).
ومما يبين غلوهم في دعائهم للولي في حال الشدة، أنهم إذا كانوا ينذرون للولي في الرخاء بعيراً أو تبيعاً أو شاة أو ديناراً أو درهماً أو نحو ذلك فإذا أصابتهم الشدة زادوا ضعف ذلك فجعلوا له بعيرين أو تبيعين أو شاتين أو دينارين أو درهمين أو غير ذلك( ).
فكلما اشتد الكرب والضيق عليهم ازداد غلوهم في مدعويهم وبُعدُهم عن الطريق المستقيم.
ومما يؤكد ذلك أيضاً أنهم لم يقتصروا على دعائهم والاستغاثة بهم بل ادعوا أنه أولى من دعاء الله تعالى وأسرع في الإجابة؛ لأن هؤلاء يعتقدون أن دعاء الأموات والاستغاثة بهم عند قبورهم أو غير قبورهم أنفع لهم من دعاء الله تعالى في المساجد والأسحار حيث لا يحضرون المساجد، ويعمرون المشاهد، ويحصل لهم رقة وخشوع وحضور قلب عند المشاهد ودعاء الأموات مما لا يحصل مثله بل قريب منه في الصلوات والسجود ودعاء الله تعالى( ).(2/32)
3- ومن مظاهر تجاوزهم الحد على السابقين أن المشركين الأوائل إذا جهدوا في الأيمان وأرادوا تأكيد القسم أقسموا بالله تعالى، قال تعالى: ((وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ)) [النحل:38]، فهؤلاء كفار قُريش مع إنكارِهم للبعث يقسمون ب الله تعالى على ذلك.
وأما المتأخرون فقد انتكست عندهم المفاهيم وتغيرت فطرهم وعقولهم فكانوا إذا جهدوا في أيمانهم وأرادوا التأكيد أقسموا بالولي، وإذا حلف الرجل بالله وبأسمائه فإنه لا يطمئن باله ولا يرتاح قلبه ولا يصدق الحالف حتى يحلف له بشيخه، كما أن الحالف لا يتورع أن يحلف أشد الأيمان باسم الله تعالى كاذباً فاجراً وأما باسم الولى فلا يمكن أن يحلف كاذباً.
وقد يُلزِمُ بعضُ من نصب على القضاء الخصمَ بالحلف باسم الشيخ أو على باب العتبة إلى غير ذلك.
قال الشيخ حسين النعمي -رحمه الله-: (وكثيرون- لا يدخلون تحت حد الإحصاء- إذا كان الحلف باسم الله أقدم عليه الحالف بلا مبالاة حتى إذا طلب منه الحلف بصاحب القبر وبالأخص إذا ألزمه محلفه بإمساك حلق باب النصب فلا يتجاسر قط إن كانت يميناً فاجرة وقد لا يرضى المحلوف له إلا بذلك دون الرسم الشرعي، ويعتقد أنه إن أقدم الحالف فإن كان باراً وإلا بادره الولي بالعقوبة العاجلة والبطشة الكبرى). ثم ذكر الشيخ النعمي وقائع من ذلك( ).
وهذا الأمر متواتر عن العامة قد فشا فيهم وانتشر انتشار النار في الهشيم، قال الشوكاني -رحمه الله-: [وقد توارد إلينا من الأخبار ما لا يشك معه أن كثيراً من هؤلاء القبوريين أو أكثرهم إذا توجهت عليه يمين من جهة خصمه حلف بالله فاجراً فإذا قيل له بعد ذلك: احلف بشيخك ومعتقدك الولي الفلاني تلعثم وتلكأ وأبى واعترف بالحق، وهذا من أبين الأدلة الدالة على أن شِركُهم قد بلغ فوق شرك من قال: إنه تعالى ثاني اثنين أو ثالث ثلاثة]( ).(2/33)
4- ومن مظاهر غلو المتأخرين في دعاء غير الله تعالى أن الأولين كان غالب ما يدعونه من الصالحين من الملائكة والأنبياء وأتباعهم أو من غير المكلفين من الجمادات كالأشجار والأحجار والأنهار، وهذه الجمادات مطيعة لله تعالى، قال تعالى: ((وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ)) [الإسراء:44].
وأما المتأخرون فكانوا يدعون الطواغيت الذين يَدعُونَ الولاية المطلقة والتصرف في الكون والقطبية والغوثية فيصدقهم هؤلاء البلهاء المغرورون فيستغيثون بهم في كشف الملمات، وقضاء الحاجات، ودفع المضرات، ونيل المسرات، مع أن هؤلاء الطواغيت شواهد كذبهم ظاهرة، وعلى صفحات وجوههم بادية، فهم ما بين مجاذيب لا يصلون ولا يتطهرون ولا يتنظفون، بل هم مجمع الأوساخ والقاذورات، وما بين ساحر يحتال بأنواع من الشعوذة والدجل التي لا تخفى إلا على الخفافيش، وما بين كذاب استأجر جماعة يتجسسون له ما خفي ويلفقون له الكرامات واعتماداً على هذا التجسس يدعي العلم بالمغيبات والمكاشفات، مع أنه (من أهل الفجور لا يحضر للمسلمين مسجداً ولا يرى لله راكعاً ولا ساجداً ولا يعرف السُنة والكتاب ولا يهاب البعث ولا الحساب)( ).
وإن وجد في بعض من يدعونه صالح فإنه مع براءته عنهم فقد لفق القائمون على قبره حكايات وأساطير يندى لها الجبين ليستولوا على أموال المخدوعين والزائرين الطائفين بضريحه الناذرين لصندوقه.
ثم إننا لسنا الذين نقول إن هؤلاء المدعوين هم من أفسق الناس بل (الذين يدعونهم هم الذين يحكون عنهم الفجور من الزنا والسرقة وترك الصلاة وغير ذلك)( ).(2/34)
5- ومن مظاهر غلوهم على الأولين أنهم يجعلون الولد إن عاش ملكاً للمقبور ثم يشترونه منه إن قدر أنه عاش بأثمان باهظة تصرف للنصابين على باب الضريح وفي بعض البلدان لا يحلقون شعر المولود إلا عند باب ضريح الشيخ الذي نذر له وربما يمكث المولود بشعره الذي ولد به سنوات إذا لم يتمكن الوالد من توفير المال اللازم لشراء الولد من الولي المنذور له.
وإن كان المولود بنتاً يقسم مهرها للولي.
وهذه الأمور قد فشت في هذه الأمة وموجودة فعلاً في نواح كثيرة منها وأنا أعرف ذلك وقد عايشت تلك الأمور وعرفتها عن كثب وقرب ولكن لا بأس بالاستشهاد ببعض كلام الثقات في هذا الموضوع الذي قد يظن بعض من لم يعايش ذلك أنه مبالغة وتهويل.
ومن العلماء الذين أخبروا عن ذلك الأمير الصنعاني فإنه ذكر استغاثة القبوريين بأوليائهم وطلبهم منهم ما لا يطلب إلا من الله ثم قال: [بل أعجب من هذا أن القبوريين وغيرهم من الأحياء من أتباع من يعتقدون فيه قد يجعلون له حصة من الولد إن عاش ويشترون منه الحمل في بطن أمه ليعيش لهم ويأتون بمنكرات ما بلغ إليها المشركون الأوائل].
ثم ذكر من أتى بنصف مهر ابنته إلى من يتولى قبض أموال النذور ثم قال: [وهذا شيء ما بلغ إليه عُباد الأصنام وهو داخل تحت قول الله تعالى: ((وَيَجْعَلُونَ لِمَا لا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ)) [النحل:56]، بلا شك ولا ريب]( ).
وذكر نحو هذا أيضاً الشوكاني( ) والنعمي( ) رحمهما الله تعالى.
6- ومن غلوهم أنهم يستشفعون بالله ورسوله على مدعويهم نحو البدوي ويقول أحدهم مخاطباً البدوي سقت عليك الله ورسوله أو توسلت إليك بالله ورسوله، وهذا ما لم يصل إليه المشركون الأوائل( ).
فتبين مما سبق: أن المتأخرين وصلوا إلى مرحلة لم يصل إليها الأوائل وبهذا يستحقون الأوصاف التي ذكرها الله تعالى للمشركين وهم أحق بها منهم لأن المشركين الأوائل من هذه الحيثيثة (أصح عقولاً وأخف شركاً من هؤلاء)( ).(2/35)
قال المفسر الألوسي في قوله تعالى: ((حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ)) [يونس:22]: (الآية دالة على أن المشركين لا يدعون غيره تعالى في تلك الحال، وأنت خبير بأن الناس اليوم إذا اعتراهم أمر خطير وخطب جسيم في بر أو بحر دعوا من لا يضر ولا ينفع ولا يرى ولا يسمع، فمنهم من يدعو الخضر والياس، ومنهم من ينادي أب الخميس والعباس، ومنهم من يستغيث بأحد الأئمة، ومنهم من يضرع إلى شيخ من مشايخ الأمة، ولا ترى فيهم أحداً يخص مولاه بتضرعه ودعائه، ولا يكاد يمر له ببال أنه لو دعا الله وحده ينجو من هاتيك الأهوال.
فبالله تعالى عليك قل لي: أي الفريقين من هذه الحيثيثة أهدى سبيلاً؟؟! وأي الداعيين أقوم قيلاً؟؟! وإلى الله المشتكى من زمان عصفت فيه ريح الجهالة وتلاطمت أمواج الضلالة وخرقت سفينة الشريعة واتخذت الاستغاثة بغير الله تعالى للنجاة ذريعة، وتعذر على العارفين الأمر بالمعروف وحالت دون النهي عن المنكر صنوف الحتوف)( ).
فرحم الله الألوسي ما تجاوز الحقيقة، فهذا الذي اشتكى منه هو الواقع المرير الذي يعيش فيه بعض أفراد هذه الأمة، فنسأل الله تعالى أن يرد المسلمين إلى إخلاص التوحيد ونبذ الشرك فهو المستعان وعليه التكلان.
المبحث الثالث: في حكم من دعا غير الله تعالى:
لقد دل القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة وأجمع العلماء على كفر من دعا غير الله تعالى وصرح بذلك كثير من علماء المذاهب وإليك تفصيل ذلك:
أ- أدلة ذلك من القرآن الكريم:
لقد تنوعت دلالة القرآن على كفر من دعا غير الله تعالى وجاءت بأساليب شتى وبطرق متنوعة، ونذكر تلك الأساليب حسب المستطاع على شكل مجموعات:(2/36)
المجموعة الأولى: آيات تدل على أن الدعاء عبادة فقد دلت آيات عدة على كون الدعاء عبادة، وهذا يدل على أن من صرفه لغير الله تعالى فقد أشرك وكفر لأن من صرف شيئاً من العبادات لغير الله تعالى فقد أشرك، والله قد أمر بإخلاص العبادة له ونهى عن الإشراك به في غير ما آية، قال تعالى: ((وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ)) [البينة:5]، وقال عز من قائل: ((قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ)) [الزمر:11]، وقال سبحانه: ((وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا)) [النساء:36]، وقال: ((فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا)) [الكهف:110].
فهذه الآيات وغيرها تدل على أن صرف العبادة لله تعالى وحده إخلاصٌ وتوحيد، وصرفها لغيره إشراكٌ وتنديد.
فمن أمثلة الآيات الدالة على كون الدعاء عبادة: قوله تعالى: ((وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ)) [غافر:60].
وقوله تعالى: ((وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا * فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ)) [مريم: (48-49)].
وقوله تعالى: ((وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ)) [الأحقاف: (5-6)].
وقد تقدم بحمد الله بيان دلالة هذه الآيات على كون الدعاء عبادة وعلى إطلاق العبادة على الدعاء.(2/37)
والمقصود هنا أن نبين أن الدعاء عبادة وأن صرف العبادة لغير الله شرك وكفر.
الثانية: آيات وصفت دعاء غير الله بأنه شرك أو كفر ووصفت الداعين بصفة الشرك أو الكفر، وهي صريحة واضحة الدلالة على المقصود، وهي كثيرة جداً منها قوله تعالى: ((إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ)) [فاطر:14]، وقوله: ((قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ)) [الأنعام: (40-41)] وقوله تعالى: ((قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا)) [الجن:20]، وقوله تعالى: ((وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ)) [المؤمنون:117].
قال الشيخ سليمان بن عبد الله في هذه الاَية: (والآية نص فى أن دعاء غير الله والاستغاثة به شرك أكبر)( ).
وقوله تعالى: ((قَالُوا أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ)) [الأعراف:37]، وقوله تعالى: ((ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ)) [غافر:12].
فقد بينت هذه الآية أن الذي يكره إخلاص الدعاء لله تعالى ويفرح ويستبشر إذا دعي أصحاب القبور كافر ومشرك.
فهذه الآيات واضحة الدلالة على شرك من دعا غير الله تعالى وكفره والعياذ بالله.(2/38)
الثالثة: آيات دلت على أن دعاء الله وحده في الشدة إخلاص وتوحيد وأن دعاء غير الله في الرخاء شرك وكفر واتخاذ أنداد لله تعالى، فمن تلك الآيات قوله تعالى: ((فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ * لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ)) [العنكبوت:(65-66)].
وقوله تعالى: ((وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنِ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ * ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ * لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ)) [النحل: (53-55)].
وقوله تعالى: ((وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ)) [الزمر:8].
وقوله سبحانه: ((قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ)) [الأنعام: (40-41)].
الرابعة: آيات تتوعد من دعا غير الله بالعذاب والهلاك وأنه من جملة المعذبين. قال تعالى: ((فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ)) [الشعراء:213].
وقوله تعالى: ((وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ)) [المؤمنون:117].(2/39)
الخامسة: آيات تصف من دعا غير الله بالظلم والضلال، والظلم والضلال كثيراً ما يطلقان على الكفر( ).
قال تعالى: ((إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ)) [لقمان:13].
وقال تعالى: ((وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيدًا)) [النساء:116] وقال تعالى: ((فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ)) [المائدة:12].
أمثلة ذلك:
قال تعالى: ((وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ)) [يونس:106].
وقال تعالى: ((يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُ وَمَا لا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ)) [الحج:12].
وقال تعالى: ((لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ)) [الرعد:14].
ب- الأدلة من السنّة المشرفة:
لقد تنوعت دلالة السنة المطهرة على كفر من دعا غير الله تعالى كما تنوعت دلالة الكتاب العزيز.
فمن السنة ما دل على كون الدعاء عبادة نحو حديث {الدعاء هو العبادة}( )، وحديث {أفضل العبادة الدعاء}( ).
ومن المعلوم أن صرف العبادة لغير الله شرك كما تقدم.
ومن السنة ما دل على وجوب إفراد الله بالدعاء والسؤال والاستعانة نحو حديث ابن عباس في وصية النبي صلى الله عليه وسلم له: {إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله}( ).(2/40)
ومن السنة ما دل على أن من دعا غير الله تعالى يدخل النار دخول الخلود فيدل من هنا على كونه كفراً والعياذ بالله، من ذلك حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم كلمة وقلت أخرى، قال النبي صلى الله عليه وسلم: {من مات وهو يدعو من دون الله نداً دخل النار، وقلت أنا: من مات وهو لا يدعو لله نداً دخل الجنة}( ).
جـ- الإجماع:
قد أجمع العلماء على كفر من دعا غير الله تعالى وجعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم ويتوكل عليهم.
وقد حكى إجماع العلماء على ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية فقال: (فمن جعل الملائكة والأنبياء وسائط يدعوهم، ويتوكل عليهم ويسألهم جلب المنافع، ودفع المضار، مثل أن يسألهم غفران الذنوب، وهداية القلوب، وتفريج الكروب، وسد الفاقات، فهو كافر بإجماع المسلمين( ).
وقد نقل هذا الإجماع عن شيخ الإسلام غير واحد مقررين له، منهم صاحب الفروع( ) وصاحب الإنصاف( ) وصاحب الغاية( ) وصاحب الإقناع( ) وشارحه( ) ونقله راضياً مقرراً له صاحب القواطع في كتابه( ).
عن صاحب الفروع. وهذا الإجماع الذي ذكروه إجماع صحيح معلوم بالضرورة من الدين، وقد نص العلماء من أهل المذاهب الأربعة وغيرهم في باب حكم المرتد، على أن من أشرك بالله كفر أي من عبد مع الله غيره بنوع من أنواع العبادات، وقد ثبت بالكتاب والسنة والإجماع أن دعاء الله عبادة له فيكون صرفه لغير الله شركاً( ).
د- أقوال العلماء في حكم من دعا غير الله تعالى أو استعان به:
لقد بين الله تعالى في كتابه أوضح بيان حكم من دعا غير الله وكرر ذلك في مواضع كثيرة وبأساليب متنوعة، وذلك لأن الشرك في الدعاء هو الأكثر وقوعاً من غيره من أنواع الشرك كما تقدم.
ومع وضوح هذا الحكم وضوح الشمس في رائعة النهار فقد وقع من بعض الناس التردد فيه، ومن آخرين تأويله، ومن غير هؤلاء الزعم بأنه خاص بمن مضى وغبر.(2/41)
فلهذا أنقل كلام العلماء في المسألة؛ لأن أولئك المترددين لا يقتنعون بمجرد الأدلة ولو كانت واضحة إلا إن نقل لهم من علماء المذاهب الفقهية ظناً منهم أن الذين يعتنون بالكلام في مثل هذه المسائل من العلماء المتشددين، أو أنهم أتوا بمذهب جديد.
وهذا هو الذي اقتضى نقل كلام أهل العلم من فقهاء المذاهب وغيرهم لبيان سبق هؤلاء العلماء إلى هذا المعنى وأن من يؤكد على هذا ليس شاذاً ولكن له سلف صالح، ولتحصل الطمأنينة والثقة لمن يريد معرفة الحق، وأما من يريد التمسك بمألوفاته وعاداته ولا يريد التحول إلى الحق ولو ظهر له بالأدلة الواضحة، فهذا لا يرجى انتفاعه بكلام أهل العلم لقصده الفاسد وإصراره على رأيه وعدم تجرده للحق وحبه له.
وما على من يدعوه إلا بيان الحق وإقامة الحجة ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة.
أقوال علماء الحنفية:
قد ذكر علماء الحنفية أموراً كثيرة وعدوها مما يخرج عن الملة وهي أقل بكثير من دعاء غير الله تعالى وغالب ما ذكروه ليس هناك نص صريح بخصوصه في التكفير من الكتاب والسنة وقد يكون بعضه لا يسلم لهم التكفير به( ).
وقد تقدم كثرة النصوص القطعية المصرحة بالتكفير في دعاء غير الله تعالى: (بل لا نعلم نوعاً من أنواع الكفر والردة ورد فيه من النصوص مثل ما ورد في دعاء غير الله)( ). فمن باب أولى أن يقول هؤلاء الذين يكفرون بما هو أقل من ذلك بكفر من دعا غير الله تعالى.
ومما يؤكد أن علماء الحنفية يكفرون بدعاء غير الله تعالى أنهم يتشددون في باب الأدعية فقد حرموا التوسل المبتدع كما سيأتي النقل عنهم.
كما يؤكد ذلك أيضاً علماء الحنفية بما يفيد أنهم يكفرون من دعا غير الله تعالى وننقل هنا بعض كلامهم في ذلك:
1- فمن ذلك قولهم: (من قال: أرواح المشايخ حاضرة تعلم يكفر)( ).(2/42)
ودعاء غير الله تعالى يستلزم اعتقاد ذلك، إذ الداعي لو لم يعتقد سماع المدعو وعلمه بدعائه لما دعا ولا فتح فاه بالنداء والصراخ وقد تقدم الكلام على هذا في مبحث علاقة الدعاء بالتوحيد( )، وقد يقال: إن هذا من التكفير باللازم ولا يكفر به إذا لازم المذهب ليس بمذهب( )، فنقول جواباً لهذا وبالله التوفيق:
- إن الصحيح( ) في لازم المذهب أن ما كان من اللوازم يرضاه القائل بعد وضوحه له فهو قوله: (وما لا يرضاه فليس بقوله، فلو قال قولاً ولزِمَ هذا القولَ لازمٌ فاسدٌ وهو لم يشعر بذلك ففي هذه الحالة لا يلزمه، وأما ما لو ظهر له يرضاه فهو لازم له وهو قائل به).
- إذا عرفنا هذا فالداعون لغير الله تعالى والمستغيثون بأصحاب القباب يلتزمون بهذه القول وكثير منهم يعتقد حضور أرواح المشايخ وقد تقدم نقل عباراتهم في ذلك وسيأتي بعضها.
2- ومن ذلك قولهم: إن الرجل إذا تزوج امرأة بغير شهود فقال الرجل والمرأة: إن الله ورسوله شاهدان قالوا:
إن هذا القول كفر، وعللوا ذلك بأنه اعتقد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم الغيب وهو ما كان يعلم الغيب حين كان في الأحياء فكيف بعد الموت؟( ).
فإذا كان علماء الحنفية يكفرون من يعتقد شهادة النبي صلى الله عليه وسلم على النكاح فكيف بمن يعتقد علم الولي بما في ضمير الداعي وباستغاثته وندائه؟
3- من ذلك قولهم: من ادعى علم الغيب لنفسه أو صدق من يدعي ذلك كفر( ).
4- ومن ذلك قولهم: إن ظن أن الميت يتصرف في الأمور دون الله تعالى واعتقد ذلك كفر( ).
5- ومن ذلك قولهم: إن الرجل إذا خرج يوم النيروز مع المجوس موافقة لهم فيما يفعلونه في يوم عيدهم أو أهدى ولو بيضة إلى المجوسي في ذلك اليوم كفر؛ وذلك لأنه عظم عيد الكفرة أو تشبه بهم( ).
فإذا كان هذا قول العلماء بمن عظم يوم النيروز بنوع من التعظيم فكيف بمن يعظم ما يعبد من دون الله كأصحاب القبور؟(2/43)
ومما لا شك فيه أن الذي عظم يوم النيروز لا يبلغ تعظيمه مبلغ المستغيث الواقع في الشدة الذي ينادي ويستغيث بمن ينقذه معظماً له وراجياً وخائفاً صارفاً له خالص تذلله وخضوعه بل ومحبته له، فإذا كان علماء الحنفية يكفرونه بمجرد إهداء البيضة بدون أن يقوم بالقلب مثل ما يقوم بالمكروب المستغيث فمن باب أولى تكفيرهم للمكروب المستغيث.
6- ومن ذلك قولهم: إن الرجل إذا ذبح لقدوم الحاج أو الغزاة أو السلطان أو تهنئته اتفقوا على كون الذبيحة ميتاً على اختلاف بينهم في كفر الذابح( ).
فإذا كان صرف عبادة الذبيحة لغير الله كفراً فلأن يكون صرف الدعاء كفراً أولى وأحرى لكونه لب العبادة وروحها.
7- ومن ذلك قولهم: إنه يخاف الكفر على من قال: بحياتي وحياتك( ).
8- ومن ذلك قولهم فيما يفعله بعض النساء وهو صريح فيما نحن بصدده قالوا: (والذي شاع في زماننا- وكثير من نساء المسلمين مبتليات بذلك- هو أنهن في وقت طلوع الجدري للأطفال يفعلن صورة باسم ذلك الجدري ويعبدنها، ويطلبن منها شفاء الأولاد، ويعتقدن أن ذلك الحجر يشفي هذه الأطفال، فتلك النساء يصرن كافرات بهذا الفعل وبهذا الاعتقاد وبرضا أزواجهن بهذا الفعل يصيرون كفاراً.
ومن هذا القبيل أنهن يذهبن إلى عين ماء ويعبدن ذلك الماء ويذبحن على ذلك الماء شاة بالنية التي أضمرنها، فهاتيك العابدات للماء والذابحات يصرن كافرات، وتكون الشاة نجسة ولا يحل أكلها.
ومثل ذلك أنهن يتخذن صورة في البيوت، ويعبدنها مثل عبادة المجوس، وعند وضع المولود ينقشنها بالزنجفر، ويقطرن عليها الزيت ويعبدنها باسم الصنم الذي يقال له بهاني وكلما فعلن شيئاً مثل هذا يصرن كافرات ويبن من أزواجهن)( ).
وهذا النص مع دلالته على كفر من دعا غير الله تعالى يرد على أولئك الذين يزعمون أن الشرك لم يقع في هذه الأمة أو يقولون: إن بعض العلماء المتشددين هم الذين تفردوا بالتكفير في مثل هذه المسائل.(2/44)
9- ومن ذلك ما قالوا في قولهم: (يا شيخ عبد القادر شيئاً لله): إنه كفر( ).
ففي هذه الكلمة نداء الشيخ عبد القادر وطلب شيء منه إكراماً لله فهو سؤالى وتوسل بالله إلى الشيخ عبد القادر( ).
وقد علل بعضهم منع هذه الكلمة بأنها تتضمن نداء الأموات من أمكنة بعيدة.
ومن اعتقد أن غير الله سبحانه وتعالى حاضر وناظر، وعالم للخفي والجلي في كل وقت وآن فقد أشرك، والشيخ عبد القادر مع شهرة مناقبه وفضائله لم يثبت شرعاً أنه كان قادراً على سماع الاستغاثة والنداء من أمكنة بعيدة، وعلى إغاثة هؤلاء المستغيثين، واعتقاد أنه- رحمه الله- كان يعلم أحوال مريديه في كل وقت ويسمع نداءهم، من عقائد الشرك( ).
وهذه الكلمة فيها الاستشفاع بالمخلوق على الله تعالى وقد استعظم ذلك النبي صلى الله عليه وسلم عندما قال له الأعرابي: (إنا نستشفع بك على الله ونستشفع بالله عليك فقال: ويحك إن شأن الله عظيم) ( ).
10- ومن ذلك ما قاله الشيخ قاسم( ) في شرح درر البحار في باب النذر: (النذر الذي يقع من أكثر العوام بأن يأتي إلى قبر بعض الصلحاء قائلاً: يا سيدي إن رد غائبي أو عوفي مريضي أو قضيت حاجتي فلك من الذهب أو الطعام أو الشمع كذا وكذا باطل إجماعاً بوجوه منها: أن النذر للمخلوق لا يجوز، ومنها أنه ظن الميت يتصرف في الأمر، واعتقاد هذا كفر، إلى أن قال: وقد ابتلى الناس بذلك ولاسيما في مولد البدوي)( ).
قال الشوكاني: وتأمل ما أفاده من حكاية الإجماع على بطلان النذر المذكور وأنه كفر عنده مع ذلك الاعتقاد( ).
11- ومن علماء الحنفية الذين صرحوا بما يفيد منع دعاء الأموات وأنه مما أجمع العلماء على منعه وأنه عبادة لا يجوز صرفه لغير الله تعالى الشيخ محمد طاهر الفتني( )، فإنه ذكر كراهية الإمام مالك قول القائل:(2/45)
زرنا قبره صلى الله عليه وسلم وأن العلة في ذلك أن لفظ الزيارة صار مشتركاً بين ما شرع وبين ما لم يشرع ثم قال: (فإن منهم من قصد بزيارة قبور الأنبياء والصلحاء أن يصلى عند قبورهم ويدعو عندها، ويسألهم الحوائج وهذا لا يجوز عند أحد من علماء المسلمين فإن العبادة وطلب الحوائج والاستعانة حق لله وحده)( ).
12- ومن ذلك ما قاله صنع الله الحلبي( ) الحنفي في رده على من زعم أن للأولياء تصرفاً في الحياة وبعد الممات على سبيل الكرامة: (هذا وإنه قد ظهر الآن فيما بين المسلمين جماعات يدعون أن للأولياء تصرفاتٍ في حياتهم وبعد مماتهم ويستغاث بهم في الشدائد والبليات، وبهممهم تكشف المهمات، فيأتون قبورهم وينادونهم في قضاء الحاجات..) إلى أن قال: (وهذا كلام فيه تفريط وإفراط بل فيه الهلاك الأبدي والعذاب السرمدي لما فيه من روائح الشرك المحقق، ومصادمة الكتاب العزيز المصدق، ومخالفة لعقائد الأئمة وما اجتمعت عليه الأمة)( ).
13- ومن علماء الحنفية المتأخرين الشاه ولي الله الدهلوي( ) فإنه بعد أن ذكر تعريف الشرك ومظاهره وقوالبه ومظانه عند المشركين وذكر منها السجود قال: (ومنها أنهم كانوا يستعينون بغير الله في حوائجهم من شفاء المريض وغناء الفقير وينذرون لهم ويتوقعون إنجاح مقاصدهم بتلك النذور، ويتلون أسماءهم رجاء بركتها.
فأوجب الله تعالى عليهم أن يقولوا في صلواتهم: ((إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)) [الفاتحة:5]، وقال تعالى: ((فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا)) [الجن:18].
وليس المراد من الدعاء العبادة كما قاله بعض المفسرين بل هو الاستعانة لقوله تعالى: ((بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ))( )[الأنعام:41].(2/46)
وقوله وليس المراد من الدعاء العبادة.. إلخ، يعلم ما فيه بما تقدم من إطلاق الدعاء على النوعين وتلازمهما وأنه في مثل هذا الموضع في العبادة أظهر، وقال أيضاً: (واعلم أن طلب الحوائج من الموتى عالماً بأنه سبب لإنجاحها كفر يجب الاحتراز عنه تحرمه هذه الكلمة- يريد بها كلمة التوحيد- والناس اليوم فيها منهمكون)( ).
ومن أصرح كلام الدهلوي -رحمه الله- قوله: (كل من ذهب إلى بلدة أجمير أو قبر سالار ومسعود أو ما ضاهاها لأجل حاجة يطلبها فإنه أَثِمَ إِثماً أكبرَ من القتل والزنا وليس مثله إلا مثل من كان يعبد المصنوعات أو مثل من كان يدعو اللات والعزى)( ). فقد صرح بأن الذاهب لطلب الحاجة من القبور مثل الداعي للات.
14- ومن علماء الحنفية الذين صرحوا بكون دعاء الأموات وندائهم كفراً وشركاً ونددوا بذلك وجاهدوا في سبيل ذلك- الشيخ محمد إسماعيل بن عبد الغني الدهلوي الشهيد.(2/47)
فمما قاله في رسالته المسماة رسالة التوحيد أو تقوية الإيمان ما ترجمته: (نداءُ الأموات من بعيد أو قريب للدعاء- إشراكٌ في العلم، وقال الله تعالى: ((وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ)) [الأحقاف:5] وقد دلت هذه الآية على أن المشركين قد أمعنوا في السفاهة فقد عدلوا عن الله القادر العليم إلى أناس لا يسمعون دعاءهم وإن سمعوا ما استجابوا وهم لا يقدرون على شيء فظهر من ذلك أن الذين يستغيثون بالصالحين الذين كانوا في الزمن السابق من بعيد، وقد يكتفي بعض الناس فيقولون: يا سيدنا ادع الله لنا يقضي حاجتنا ويظنون أنهم ما أشركوا فإنهم ما طلبوا منهم قضاء الحاجة وإنما طلبوا منهم الدعاء وهذا باطل فإنهم وإن لم يشركوا عن طريق طلب قضاء الحاجة فإنهم أشركوا عن طريق النداء، فقد ظنوا أنهم يسمعون نداءهم عن بعد كما يسمعودن نداءهم عن قرب، وكان ذلك سواء في حقهم ولذلك نادوا من مكان بعيد مع أن الله سبحانه وتعالى قال: ((وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ))( )[الأحقاف:5].
ولهذا الدهلوي الشهيد في تلك الرسالة عدة تصريحات بشرك من دعا غير الله واستغاث به( ).
15- وممن صرح بكون دعاء غير الله شركاً الشيخ عبد العزيز بن ولي الله الدهلوي (ت:1239هـ) فإنه قال: (قد أفرط الناس من هذه الأمة في باب الاستعانة بالأرواح الطيبة، فما يفعله الجهلة والعوام وما يعتقدون لها من استقلال في كل عمل فهو من غير شك شرك جلي)( ).
فقد صرح بأنه يوجد في هذه الأمة من غلا في الأرواح واعتقد لها الاستقلال واستعان بها وفي هذا رد على من ينكر وقوع مثل هذا الاعتقاد في هذه الأمة المحمدية كما أنه صرح بأن مثل هذا الاعتقاد شرك جلي.
16- ومن علماء الحنفية الذين صرحوا بكفر من دعا غير الله تعالى الشيخ رشيد أحمد الجنجوهي( ).(2/48)
فقد قال: (من قال للعوام: إن الفيض يحصل من قبور الأولياء فقد فتح باب الشرك)( ).
وقال أيضاً: (الاستمداد من القبور حرام)( ).
ولما ذكر الحكاية التي تنسب إلى الشيخ عبد القادر الجيلاني: أنه أخرج فلكاً مشحوناً بعد اثني عشر سنة قال: (إنما هي من أكاذيب الجهلاء لا أصل لها وهذه العقيدة شرك ينبغي التوبة منها)( ).
17- ومن علماء الحنفية الذين صرحوا بذلك الشيخ محمود الألوسي( ) المفسر حيث قال: (إن الناس قد أكثروا من دعاء غير الله تعالى من الأولياء الأحياء منهم والأموات وغيرهم، مثل يا سيدي فلان أغثني، وليس ذلك من التوسل المباح في شيء، واللائق بحال المؤمن عدم التفوه بذلك وأن لا يحوم حول حماه، وقد عده أناس من العلماء شركاً، وإن لا يكنه فهو قريب منه، ولا أرى أحداً ممن يقول ذلك إلا وهو يعتقد أن المدعو الحي الغائب أو الميت المغيب يعلم الغيب أو يسمع النداء، ويقدر بالذات أو بالغير على جلب الخير ودفع الأذى وإلا لما دعاه ولا فتح فاه وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم)( ).
وللألوسي نحو هذا الكلام في عدة مواضع من تفسيره روح المعاني( ).
18- ومن علماء الحنفية المتأخرين الذين نددوا بدعاء غير الله تعالى وصرحوا بكفر فاعله- العلامة محمد سلطان المعصومي( )، فقد ألف رسالة مهمة جامعة لأقوال علماء الحنفية السابقين الذين حكموا بالكفر على من طلب المدد من غير الله واستغاث به وناداه من دون الله، وسمى رسالته بـ(حكم الله الواحد الصمد في حكم الطالب من الميت المدد).
ومما ذكره في هذه الرسالة رسالة مؤلفة في الاستمداد بالشيخ عبد القادر وفيها ما معناه: (أطلب منك الإمداد يا سلطان السلاطين ويا ملك الملوك أمددنا وأعنا).(2/49)
وفيها أيضاً: (المدد يا غوث غوثان المددد)، وضرب عدة أمثلة- من هذا القبيل ثم قال: (اعلموا يا أيها المسلمون- وفقني الله وإياكم لما فيه رضاه ويا أيها الحنفيون هداني الله تعالى وإياكم إلى الصراط المستقيم أن هذه الكلمات كلها شرك وكفر وضلال في الدين الإسلامي والشرع المحمدي، والمذهب الحنفي، بل المذاهب الأربعة إجماعاً وقائلها مشرك لا تصح صلاته ولا صيامه ولا حجه ولا إمامته إلا إذا تاب وآمن، وأعلن توبته كما أشهر شركه)( ).
أقوال المالكية:
إن الإمام مالكاً -رحمه الله تعالى- قد تشدد في باب الدعاء فمنع من قول الداعي يا سيدي ويا حنان من الألفاظ التي لم ترد في الكتاب والسنة، وأمر بالالتزام في الأدعية باللفظ الوارد عن الأنبياء يا رب يا رب( ).
فإذا كانت سيرته هكذا من الالتزام والتقيد في باب الدعاء بالوارد- فلا يمكن أن يجيز التوسل المبتدع فضلاً عن أن يجيز دعاء غير الله تعالى ونداءه والاستغاثة به واللهج بذكره في كل وقت وآن، فالذي يمنع من قول الداعي المخلص لله أن يقول لله تعالى: يا سيدي فمن باب أولى وأحرى أن يمنع من قول الداعي يا ولي الله فلان افعل لي كذا، فهذا ظاهر واضح.
ثم إن مالكاً -رحمه الله- كره الوقوف عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم للدعاء له أو الدعاء عنده( )، وكره لأهل المدينة التردد للسلام عليه( ) كما كره أن يقال زرنا قبره صلى الله عليه وسلم( ).(2/50)
فتحصل مما سبق أن الإمام مالكاً -رحمه الله- من أشد الناس محاربة للبدع لاسيما في باب الدعاء، فمن هنا يفهم عدم تجويزه لما هو شرك من باب أولى، وعلماء مذهبه لا بد أنهم يتبعون منهجه في ذلك فقد صرح بعضهم بما يفيد كفر من دعا غير الله تعالى فممن صرح بذلك القاضي عياض -رحمه الله تعالى- حيث قال: (إن كل مقالة صرحت بنفي الربوبية أو الوحدانية، أو عبادة أحد غير الله أو مع الله- فهو كفر)( )، فقوله أو عباده أحد غير الله أو مع الله يدخل فيه من يدعو غير الله دخولاً أولياً لأن الدعاء هو العبادة ولبها ومخها.
وقال القاضي أيضاً: (إن من نزع من الكلام لمخلوق بما لا يليق إلا في حق خالقه غير قاصد للكفر والاستخفاف، ولا عامد للإلحاد، فإن تكرر هذا منه وعرف به- دل على تلاعبه بدينه، واستخفافه بحرمة ربه، وجهله بعظيم عزله وكبريائه وهذا كفر لا مرية فيه)( ).
وقد ذكر القرافي المالكى الأدعية التي تخرج عن الإسلام وبعضها أقل بكثير مما نحن فيه ثم قال. (فينبغي للسائل أن يحذر هذه الأدعية وما يجري مجراها حذراً شديداً لما تؤدي إليه من سخط الديانة والخلود في النيران، وحبوط الأعمال وانفساخ الأنكحة واستباحة الأرواح والأموال، وهذا فساد كله يتحصل بدعاء واحد من هذه الأدعية ولا يرجع إلى الإسلام ولا ترتفع أكثر هذه المفاسيد إلا بتجديد الإسلام والنطق بالشهادتين فان مات على ذلك كان أمره كما ذكرناه نسأل الله العافية من موجبات عقابه)( ).
أقوال الشافعية:(2/51)
إن الإمام الشافعي -رحمه الله تعالى- أحد أئمة السنة الذين حاربوا البدعة ونشروا السنة فهو وإن لم نجد له نصاً صريحاً في الموضوع لعدم وقوع هذه المسألة في عصره كما تقدم بيان ذلك ولكن وجدنا له نصاً يستنبط منه مذهبه في الموضوع وهو أن الشافعي قال: (من حلف باسم من أسماء الله فحنث، فعليه الكفارة لأن اسم الله غير مخلوق، ومن حلف بالكعبة أو بالصفا والمروة فليس عليه الكفارة لأنه مخلوق، وذاك غير مخلوق)( ).
فإذا كان الشافعي -رحمه الله- لا يرى الحلف بغير أسماء الله تعالى فلا يعقل أن يجيز الدعاء بغير أسماء الله الحسنى ولو كانت معظمة كالكعبة والصفا والمروة وأسماء الأنبياء.
وقد تبع الشافعي علماء مذهبه وقد صرح بمنع مثل هذه الأدعية بعض متقدميهم.
فمنهم إمام الأئمة ابن خزيمة أحد كبار فقهاء المحدثين ويعد من الشافعية( ) فإنه قال: (هل سمعتم عالماً يجيز أن يقول الداعي: أعوذ بالكعبة من شر خلق الله؟ أو يجيز أن يقول: أعوذ بالصفا والمروة أو أعوذ بعرفات ومنى من شر ما خلق؟
هذا لا يقوله ولا يجيز القول به مسلم يعرف دين الله، محال أن يستعيذ مسلم بخلق الله من شر خلقه( )).
ومنهم الإمام الخطابي الفقيه المحدث اللغوي، فإنه نقل كلام الإمام أحمد في عدم جواز الاستعاذة بالمخلوق فأقره( ).
ومنهم البيهقي الذي قال فيه إمام الحرمين: (ما من شافعي إلا وللشافعي عليه في عنقه منة إلا البيهقي فإنه له على الشافعي منة لتصانيفه في نصرته لمذهبه وأقاويله)( ).
فهذا الإمام البيهقي ذكر بعض أحاديث الاستعاذة بكلمات الله تعالى ثم قال: (ولا يصح أن يستعيذ بمخلوق من مخلوق)( ).(2/52)
وممن صرح بكفر من دعا غير الله تعالى من علماء الشافعية الإمام المقريزي( ) الشافعي -رحمه الله- فإنه قال: (وشرك الأمم كله نوعان شرك في الإلهية وشرك في الربوبية، فالشرك في الإلهية والعبادة هو الغالب على أهل الإشراك وهو شرك عباد الأصنام وعباد الملائكة وعباد الجن وعباد المشايخ والصالحين الأحياء والأموات الذين قالوا ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى ويشفعوا لنا عنده وينالنا بسبب قربهم من الله وكرامته لهم قرب وكرامة...)( ).
وقال في زيارة القبور: إنها على ثلاثة أقسام: (قوم يزورون الموتى فيدعون لهم وهذه الزيارة شرعية، وقوم يزورونهم يدعون بهم فهؤلاء هم المشركون في الألوهية والمحبة، وقوم يزورونهم فيدعونهم أنفسهم وهؤلاء هم المشركون في الربوبية)( ).
وقوله في الذين يدعون بالمقبورين: إنهم مشركون في الألوهية قد يعترض عليه بأنه لا يصل إلى الشرك الأكبر إلا في بعض الأحيان ويعلم ذلك مما ذكرناه في مبحث مراتب دعاء غير الله تعالى، ولعله يريد بذلك من يقصد من الدعاء بهم الشفاعة الشركية لا مطلق التوسل بهم والله أعلم.
ومنهم أبو شامة( ) الشافعي فقد ذكر ما وقع من جهال العوام: من انتمائهم إلى طريقة الفقر والتصوف واعتقادهم في المشايخ المتصوفة الضالين المضلين ثم قال: (وبهذه الطرق وأمثالها كان مبادىء ظهور الكفر من عبادة الأصنام وغيرها) ثم ذكر ما تفعله العامة من تخليق الحيطان والعمد وإيقاد السرج على المواضع يزعم أحد أنه رأى في المنام أحداً ممن اشتهر بالصلاح والولاية إلى أن يصل بهم الحال إلى تعظيم تلك الأماكن ورجاء الشفاء وقضاء الحوائج منها بالنذر وهي مما بين عيون وشجر وحائط وحجر...( ).(2/53)
ومنهم ابن حجر الهيثمي الشافعي( ) في شرحه لحديث الأربعين عند الكلام على حديث: {إذا سألت فاسأل الله} أن من اعتقد النفع والضر لغير الله كفر( )، وقد ألف كتاباً مستقلاً سماه الأعلام بقواطع الإسلام ذكر فيه أنواعاً كثيرة من الأقوال والأفعال كل واحد منها ذكر أنه يخرج من الإسلام وغالب ما ذكره لا يساوي عشر ما نحن فيه( )، وكثير مما ذكره أنه يخرج من الإسلام لم يرد فيه نص مثل ما ورد في دعاء غير الله تعالى من الأدلة الدالة على كفر مرتكبه.
وقد نقل في هذا الكتاب عن صاحب الفروع إجماع العلماء على كفر من جعل بينه وبين الله واسطة ثم أقر ما نقله( ).
أقوال علماء الحنابلة:
قد تقدم( ) نقل كلام الخلال وارث علم أحمد أنه لا يجوز أن يقال أعيذك بالسماء أو بالأنبياء والملائكة الخ. كما تقدم( ) نقل كلام ابن بطة الحنبلي في ذلك.
وممن صرح بكفر من دعا غير الله تعالى من علماء الحنابلة الشيخ أبو الوفا بن عقيل الحنبلي -رحمه الله- فقد قال: (لما صعبت التكاليف على الجهال والطغام عدلوا عن أوضاع الشرع إلى تعظيم أوضاع وضعوها لأنفسهم فسهلت عليهم إذ لم يدخلوا بها تحت أمر غيرهم قال: وهم عندي كفار لهذه الأوضاع، مثل تعظيم القبور وإكرامها بما نهى عنه الشرع من إيقاد النيران وتقبيلها وتخليقها، وخطاب الموتى بالحوائج، وكتب الرقاع فيها يا مولاي افعل بي كذا وكذا، وأخذ تربتها تبركاً، وإفاضة الطيب على القبور، وشد الرحال إليها، وإلقاء الخرق على الشجر اقتداء بمن عبد اللات والعزى...)( ).
فقد صرح في هذا الكلام السابق بأن خطاب الموتى بالحوائج كفر.
وقد نقل هذا الكلام كثير من علماء الحنابلة وغيرهم( ) فأقروه، فهم قائلون بما قاله ابن عقيل من كفر من خاطب الموتى بالحوائج.(2/54)
وقال ابن عقيل أيضاً في الكلام على الصوفية: (وقد سمعنا عنهم أن الدعاء عند حدو الحادي... مجاب، اعتقاداً منهم أنه قربة، وهذا كفر أيضاً لأن من اعتقد المكروه والحرام قربة كان بهذا الاعتقاد كافراً والناس بين تحريمه وكراهيته)( ).
فإذا كان ابن عقيل يكفر من اعتقد ذلك فكيف بمن اعتقد استجابة الدعاء بواسطة الأولياء؟ فضلاً عمن دعاهم واستغاث بهم وناداهم سراً وجهاراً واعتقد سماعهم وعلمهم به وبما هو فيه، فهذا بلا شك أشد كفراً ممن ذكره ابن عقيل -رحمه الله-، فمقتضى قوله أنه يكفر هؤلاء من باب أولى وأحرى.
ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- فقد تقدم قوله في حكاية الإجماع على كفر من جعل الواسطة بينه وبين الله يدعوهم ويتوكل عليهم وأنه نقله كثير من علماء الحنابلة وغيرهم فأقروه( ).
وقال شيخ الإسلام أيضاً: فكل من غلا في نبي أو رجل صالح، وجعل فيه نوعاً من الإلهية مثل أن يدعوه من دون الله مثل أن يقول: يا سيدي فلان أغثني، أو أجرني، أو أنت حسبي، أو أنا في حسبك، فكل هذا شرك وضلال يستتاب صاحبه فإن تاب وإلا قتل( ).
ومنهم ابن القيم -رحمه الله- فمن أقواله ما ذكره في مدارج السالكين في باب التوبة بقوله: (ومن أنواعه- أي الشرك- طلب الحوائج من الموتى والاستغاثة بهم، والتوجه إليهم وهذا أصل شرك العالم، فإن الميت قد انقطع عمله وهو لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً فضلاً عمن استغاث به وسأله قضاء حاجته أو سأله أن يشفع له إلى الله فيها...)( ). وذكر -رحمه الله تعالى- زيارة القبور الزيارة الشرعية للدعاء لهم والترحم عليهم والاستغفار ثم قال: (فأبى المشركون إلا دعاء الميت والإشراك به والإقسام على الله به وسؤاله الحوائج والاستعانة به والتوجه إليه بعكس هديه صلى الله عليه وسلم فإنه هدي توحيد وإحسان إلى الميت، وهدي هؤلاء شرك وإساءة إلى نفوسهم وإلى الميت)( ).(2/55)
وذكر -رحمه الله- أنه يجب على الإمام هدم الأمكنة التي يعصى الله فيها فذكر مسجد ضرار ثم قال (فمشاهد الشرك التي تدعو سدنتها إلى اتخاذ من فيها أنداداً من دون الله أحق بالهدم وأوجب)( ).
ومنهم الحافظ ابن عبد الهادي -رحمه الله- فإنه قال: ما ملخصه إن المبالغة في تعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم بالحج إلى قبره والسجود له والطواف به واعتقاد أنه يعلم الغيب وأنه يعطي ويمنع ويملك لمن استغاث به من دون الله الضر والنفع، وأنه يقضي حوائج السائلين ويفرج كربات المكروبين وأنه يشفع فيمن يشاء ويدخل الجنة من يشاء- فهذه المبالغة مبالغة في الشرك وانسلاخ من ذمة الدين( ).
ومنهم الحافظ بن رجب -رحمه الله- فإنه قال: (إن قول العبد لا إله إلا الله- يقتضي أن لا إله له غير الله، والإله هو الذي يُطاعٍ فلا يعصى هيبة له وإجلالاً ومحبة وخوفاً ورجاءً، وتوكلاً عليه وسؤالا منه ودعاء له ولا يصلح ذلك كله إلا لله عز وجل، فمن أشرك مخلوقاً في شيء من هذه الأمور التي هي من خصائص الإلهية كان ذلك قدحاً في إخلاصه في قول لا إله إلا الله ونقصاً في توحيده وكان فيه من عبودية المخلوق بحسب ما فيه من ذلك، وهذا كله من فروع الشرك)( ).
علماء آخرون صرحوا بكفر من دعا غير الله:
وقد صرح علماء آخرون غير من ذكرناهم بكفر من دعا غير الله تعالى وقرروا ذلك في مؤلفاتهم وهم كثيرون منهم:
الشيخ محمد بن إسماعيل الأمير الصنعاني (ت:1182هـ) فقد قال:(2/56)
(إن من اعتقد في شجر أو حجر أو قبر أو ملك أو جني أو حي أو ميت أنه ينفع أو يضر أو أنه يقرب إلى الله، أو يشفع عنده في حاجة من حوائج الدنيا بمجرد التشفع به والتوسل به إلى الرب تعالى... فإنه قد أشرك مع الله غيره واعتقد ما لا يحل اعتقاده كما اعتقده المشركون في الأوثان، فضلاً عمن ينذر بماله وولده لميت أو حي أو يطلب من ذلك الميت ما لا يطلب إلا من الله تعالى من الحاجات من عافية مريضه أو قدوم غائبه أو نيله لأي مطلب من المطالب فإن هذا هو الشرك بعينه الذي كان ويكون عليه عباد الأصنام)( ).
وقال أيضاً: (ومن نادى الله ليلاً ونهاراً وسراً وجهاراً وخوفاً وطمعاً ثم نادى معه غيره فقد أشرك في العبادة فإن الدعاء من العبادة)( ).
ومنهم الشيخ حسين بن مهدي النعمي (ت:1187هـ) فقد قال بعد كلام طويل له في الموضوع: (فحينئذ علمت- إن شاء الله تعالى بالبرهان الصحيح واليقين الذي لا يخالطه أدنى ريبة ولا ينتابه أو يتصور عليه وهم أو يتطفل عليه شك- أن دعاء المخلوق، وقصده بذلك من متفاحش الظلم ومتبالغ الشرك ومنازعة في خاص حق الله، وخضوع وتذلل بخالص عبادته لسواه، إذ روح كونك عبداً له تعالى هو هذا المقام، وهذا التكيف والتصور بهذه الحالة....)( ).
فقد صرح النعمي -رحمه الله- بأن دعاء غير الله تعالى من أبلغ الشرك وأفحش الظلم إذ هو وضع للعبادة التي هي من خصائص الله في غير محلها الذي هو المخلوق.(2/57)
ومنهم الإمام محمد بن علي بن محمد الشوكاني (ت:1250هـ) فإنه قال: إن من اعتقد في ميت من الأموات أو حي من الأحياء أنه يضره أو ينفعه إما استقلالاً أو مع الله تعالى أو ناداه أو توجه إليه أو استغاث به في أمر من الأمور التي لا يقدر عليها المخلوق لم يخلص التوحيد لله ولا أفرده بالعبادة إذ الدعاء بطلب وصول الخير إليه ودفع الضر عنه هو نوع من أنواع العبادة، وإن الشرك هو دعاء غير الله تعالى، أو اعتقاد القدرة لغيره فيما لا يقدر عليه سواه، أو التقرب إلى غيره بشيء مما لا يتقرب به إلا إليه( ).
وقال أيضاً: إن الواجب على كل من اطلع على شيء مما يفعله المعتقدون في القبور أن يبلغهم الحجة الشرعية ويقول لمن صار يدعو الأموات عند الحاجات ويستغيث بهم عند حلول المصيبات وينذر لهم وينحر لهم النحور، ويعظمهم تعظيم الرب سبحانه: إن هذا الذي يفعلونه هو الشرك الذي كانت عليه الجاهلية( ).
وقال أيضاً: (وكم سرى عن تشييد أبنية القبور وتحسينها من مفاسد يبكي لها الإسلام، منها اعتقاد الجهلة لها كاعتقاد الكفار للأصنام وعظم ذلك فظنوا أنها قادرة على جلب النفع ودفع الضرر فجعلوها مقصداً لطلب قضاء الحوائج وملجأ لنجاح المطالب وسألوا منها ما يسأله العباد من ربهم وشدوا إليها الرحال، وتمسحوا بها واستغاثوا، وبالجملة إنهم لم يدعوا شيئاً مما كانت الجاهلية تفعله بالأصنام إلا فعلوه فإنا لله وإنا إليه راجعون.
ومع هذا المنكر الشنيع والكفر الفظيع لا نجد من يغضب لله ويغار حمية للدين الحنيف لا عالماً ولا متعلماً ولا أميراً ولا وزيراً ولا ملكاً...)( ).
فقد صرح الشوكاني -رحمه الله- بأن صرف الدعاء لغير الله تعالى شرك لكون الدعاء عبادة كما صرح بأدن التقرب إلى غير الله بما يتقرب به إلى الله شرك وأن هذا هو عين ما يفعله مشرك الجاهلية وأن قصد القبور لطلب قضاء الحوائج منكر شنيع وكفر فظيع.(2/58)
ومنهم الإمام محمد صديق خان( ) -رحمه الله- فقد قال: (فمن استغاث بغيره- أي الله- في الشدائد ودعا غيره فيها فقد كفر)( ).
وقال أيضاً: (والألوهية التي تسميها العامة في زماننا الولاية، والسر، وسر السر، ويسمون أهلها الفقراء والمشايخ... ويظنون أن الله جعل لخواص الخلق منزلة يرضى أن العامي يلتجىء إليهم ويرجوهم، ويخافهم، ويستغيث بهم، وبستعين منهم، في قضاء حوائجه،... هي الشرك الجلي الذي لا يغفره الله تعالى أبداً)( ).
وقال أيضاً: (فالدعاء هو التوحيد، فمن دعا غير الله فقد أشرك، ودعاء غيره سبحانه شرك لا شك فيه)( ).
أقوال أئمة الدعوة في ذلك:
أما أقوال أئمة الدعوة في ذلك فبحر لا ساحل له لأن الخصومة( ) التي وقعت بينهم وبين غيرهم في هذه المسألة، وهي أكبر مسألة دار عليها الجدل منذ زمن الأنبياء والرسل، فالرسل أول ما يطلبون من أممهم إفراد الله تعالى بالعبادة التي هي متضمنة لنوعي الدعاء، فكل نبي يقول لقومه: ((يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ)) [الأعراف:59، 65، 73، 85].
ولقد مكث النبي صلى الله عليه وسلم بمكة يدعو إلى هذا الأصل ثلاث عشرة سنة إلى أن استقام الدين وفهمت العقيدة الصحيحة، وأُفرد الله تعالى بنوعي الدعاء وظهر الإسلام وانتشر.
ثم لما ظهر بعض بوادر الفساد في الاعتقاد قيض الله تعالى من يذب عن العقيدة ويكشف انتحال المبطلين وينفي تحريف الغالين مصداقاً لقوله صلى الله عليه وسلم: {إن الله تعالى يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها}( ) فممن قيضهم الله لذلك أئمة السلف وعلماء الحديث فجزاهم الله عن الإسلام خيراً.(2/59)
ثم لما ظهرت بوادر الفساد في الاعتقاد في القرون الأخيرة وضعفت العقيدة في نفوس الناس ووقع الشرك وانتشر دعاء غير الله تعالى والاستغاثة بالصالحين قيض الله تعالى في القرن الثاني عشر شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله- وأتباعه لنصرة العقيدة الصحيحة وبيانها بالحجة والبرهان ثم بالسيف والسنان، وكان الشيخ يصرح بأن دعوته تقوم على النهي عن دعوة غير الله تعالى( ).
فلهذا كثر كلامه -رحمه الله تعالى- في هذه المسألة فكان يصرح بها مرات كثيرة، فتارة يتكلم عن الوسائل والأسباب التي تؤدي إليها وتارة عن عواقبها الوخيمة إلى غير ذلك، فكتبه ورسائله تدور حول هذا المعنى وإن كانت بأساليب متنوعة وبعبارات شتى، وإليك مقتطفات من أقواله:
قال رحمه الله: (اعلم أن نواقض الإسلام عشرة) فذكر الناقض الأول ثم قال: (الثاني: من جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم ويسألهم الشفاعة ويتوكل عليهم كفر إجماعاً)( ).
وعقد في كتاب التوحيد باباً بعنوان (باب من الشرك أن يستغيث بغير الله أو يدعو غيره) وذكر في مسائل هذا الباب المسألة الثالثة. أن هذا هو الشرك الأكبر( ).
وقال أيضاً: (وأما النذر له- أي القبر- ودعاؤه والخضوع له فهو من الشرك الأكبر)( ).
وقال أيضاً: (فمن عبد الله ليلاً ونهاراً ثم دعا نبياً أو ولياً عند قبره فقد اتخذ إلهين اثنين، ولم يشهد أن لا إله إلا الله لأن الإله هو المدعو)( ).(2/60)
وقال الشيخ سليمان بن عبد الله: (ت:1233هـ) بعد أن ذكر الآيات والأحاديث وأقوال العلماء في هذا الموضوع: (وقد تبين بما ذكر... أن دعاء الميت والغائب والحاضر فيما لا يقدر عليه إلا الله والاستغاثة بغير الله في كشف الضر أو تحويله هو الشرك الأكبر بل هو أكبر أنواع الشرك؛ لأن الدعاء مخ العبادة، ولأن من خصائص الإلهية إفراد الله بسؤال ذلك، إذ معنى الإله هو الذي يعبد لأجل هذه الأمور، ولأن الداعي إنما يدعو إلهه عند انقطاع أمله مما سواه، وذلك خلاصة التوحيد، وهو انقطاع الأمل مما سوى الله فمن صرف شيئاً من ذلك لغير الله فقد ساوى بينه وبين الله وذلك هو الشرك)( ).
وقال الشيخ عبد الرحمن بن حسن (ت:1285هـ): (فإذا عرفت بصحيح المنقول وصريح المعقول أن الدعاء عبادة وأن مدلوله السؤال والطلب، فمن صرف من هذه العبادات شيئاً لغير الله فقد أشرك مع الله غيره في عبادته كائناً ما كان لعموم النهي عن دعوة غير الله في القرآن كله من أوله إلى آخره فمن ادعى أنه يصرف منه شيء لأحد سوى الله فقد صادم الكتاب والسنة وخالف ما اجتمعت عليه دعوة الرسل من أولهم إلى آخرهم فيما دعوا إليه أممهم بقولهم: ((أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ))( )[المؤمنون:32].
آراء علماء مكة في عام (1218هـ):(2/61)
وقد اجتمع علماء مكة ونجد في عام (1218هـ) فتناقشوا في مسألة دعاء غير الله تعالى فقرروا أن من دعا غير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله أشرك الشرك الأكبر، وهذا نص بيانهم: (إن من قال: يا رسول الله، وقال: يا ابن عباس، أو يا عبد القادر أو غيرهم من المخلوقين طالباً بذلك دفع شر أو جلب خير من كل ما لا يقدر عليه إلا الله من شفاء المريض والنصر على العدو والحفظ من المكروه ونحو ذلك- أنه مشرك الشرك الأكبر الذي يهدر دمه ويبيح ماله، وإن كان يعتقد أن الفاعل المؤثر في تصريف الكون هو الله وحده، لكنه قصد المخلوقين بالدعاء متشفعاً بهم ومتقرباً لهم لقضاء حاجته من الله بسرهم وشفاعتهم له فيها أيام البرزخ)( ).
هذا وقد وافق هؤلاء الذين ذكرنا أقوالهم علماء آخرون( ) من القدماء والمحدثين أعرضنا صفحاً عن حكاية أقوالهم اكتفاء بالذين أوردنا كلامهم.
هذا والمسألة واضحة وضوح الشمس في رابعة النهار لا تحتاج إلى كل هذا لولا أن بعض الناس يظن أنها من أقوال طائفة معينة تعتبر في نظره متشددة أو أصحاب مذهب جديد فهذا هو الذي اقتضى أن نُطول بذكر آراء العلماء من جميع الطوائف حتى يعلم الحق ويتضح الصواب والله ولي التوفيق..
الخلاصة:
فقد اتضح مما سبق أن علماء المذاهب قد صرحوا بكفر من استغاث بغير الله تعالى وناداه من بعيد وكذلك من ادعى معرفة الغيب أو صدق من ادعاه أو من ذبح لغير الله أو حلف بغير الله أو غير ذلك مما سبق، وهذا دليل واضح على أن الحكم بكفر من دعا غير الله تعالى مما لم ينفرد به مذهب معين أو بعض العلماء كما يتوهمه بعضهم، وقد رأيت أقوال العلماء ونصوصهم الصريحة وغير الصريحة الدالة على كفر من دعا غير الله تعالى واستغاث به.
وربما يقول قائل: إن المتقدمين من السلف الصالح لم يصرحوا بكفر من دعا غير الله تعالى.
1- فيقال له إن القرآن الكريم قد بين ذلك أوضح بيان بأساليب متنوعة ولا يمكن لأحد أن ينكر أو يتوقف في ذلك.(2/62)
فعلماء السلف الصالح المتقدمون لهم القدح المُعَلى في معرفة دلالات القرآن وأحكامه، فهم قائلون بما صرح به القرآن ومعتصمون به، فتكفير من دعا غير الله من مذهبهم إذ روي عنهم أنهم قالوا: إذا صح الحديث فهو مذهبهم( )، فتكفير من دعا غير الله تعالى جاءت به آيات محكمات وأحاديث صحيحة، فهو إذاً من مذهبهم وهم قائلون به.
2- إن مسألة دعاء غير الله تعالى لم تكن موجودة في الصدر الأول وذلك لبعد وقوع الشرك في عهد السلف الصالح في وقت قوة الإسلام ولكن لما ضعف الإسلام وانتشر الجهل ببديهيات الإسلام سول الشيطان لبعض المسلمين دعاء الأولياء والاستغاثة بهم.
فلهذا لم ينقل عن السلف الكلام في هذه المسألة لأن السلف يكرهون الخوض في المسائل التي لم تقع والتي هي مسائل خيالية جدلية فرضية.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (وأما الحجاج إلى القبور والمتخذون لها أوثاناً ومساجد وأعياداً هؤلاء لم يكن على عهد الصحابة والتابعين وتابعيهم منهم طائفة تعرف، ولا كان في الإسلام قبر ولا مشهد يحج إليه بل هذا إنما ظهر بعد القرون الثلاثة)( ).
وقال غيره: (إن الاعتقاد في الأموات إنما حدث بعد موت الإمام أحمد ومن في طبقته من أهل الحديث والفقهاء والمفسرين)( ).
والسلف الصالح منهم من أنكر بعض البدع التي تتعلق بالقبور فقد أنكر الإمام أحمد ما يقع عند قبر الحسين بكربلاء( ).
والذي يظهر أن الذي يقع في ذلك الوقت لا يصل إلى حد دعوة القبر من دون الله تعالى لوضوح هذا الأمر في ذلك الوقت، وحتى ولو فرضنا وقوعه لا يكون بالصورة التي وقعت في المتأخرين من اتخاذ شهر معين عيداً للقبر والحج إليه كما يشير إلى ذلك كلام شيخ الإسلام السابق، فيكون الواقع من ذلك من بعض الأفراد لا بشكل جماعي، ويكون قاصراً في الدعاء عندها لا دعاء أصحابها والله أعلم.(2/63)
3- إن هذا السبب الذي تقدم من وضوح العقيدة في الصدر الأول - لاسيما فيما يتعلق بتوحيد الألوهية- هو السبب في عدم كثرة التأليف والردود في هذا الباب، لأن السلف لم يكونوا يؤلفون إلا فيما يرون أن الناس يحتاجون إليه من المسائل التي أثير حولها الجدل أو يخشى أن يلتبس فيها الأمر.
وأما مسألة حكم من دعا غير الله تعالى فليست محل اختلاف فيما بينهم لوضوح أمرها في كتاب الله العزيز وسنة النبي الكريم صلوات الله وسلامه عليه. ويشهد لهذا الذي قلناه ما ذكره شيخ الإسلام من أن السلف لم يتكلموا في القدرية الدافعين بالقدر الأمر والنهي والطاعنين به على الرب وإنما تكلموا في المكذبين به لوجود هؤلاء بكثرة دون الأولين، وقد تقدم نحو هذا فيما سبق والله أعلم.
ويشهد لهذا أيضاً أن بعض أئمة السلف، وهو ابن خزيمة، عَد وقوع ذلك من مسلم محالاً كما تقدم( ) كما يشهد له أن بعض أئمة السلف تعرضوا للكلام في هذه المسألة عندما احتاجوا للكلام بسبب خوضهم في مسألة القرآن، وممن تعرض للكلام فيها الإمام أحمد ونعيم بن حماد والبخاري وسوار القاضي والخلال وابن خزيمة وابن بطة والخطابي والبيهقي، وقد نقلنا عباراتهم فيما تقدم( ).
هذا ومما ينبغي أن يفهم أن الحكم بالكفر الذي سبق الكلام عليه مقيد بما هو معلوم عند أهل العلم من بلوغ الدعوة وإقامة الحجة.
وقد بين تقييد هذا الحكم بهذا القيد كثير من العلماء منهم شيخ الإسلام ابن تيمية في كتبه وكرره وإعاده في عدة مواضع من كتبه الكثيرة.(2/64)
من ذلك قوله -رحمه الله- في هذه المسألة التي نحن فيها وهي دعاء غير الله تعالى ما ملخصه: إننا نعلم بالضرورة أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يشرع لأمته دعاء الأموات كما لم يشرع السجود لميت ولا لغيره بل نعلم أنه نهى عن ذلك (وأن ذلك من الشرك الذي حرمه الله تعالى ورسوله، لكن لغلبة الجهل وقلة العلم بآثار الوسالة في كثير من المتأخرين لم يكن تكفيرهم بذلك حتى يتبين لهم ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم مما يخالفه)( ).
وقال أيضاً في الحكم العام في هذه المسألة: (وحقيقة الأمر في ذلك أن القول قد يكون كفراً فيطلق القول بتكفير صاحبه فيقال: من قال كذا فهو كافر لكن الشخص المعين الذي قاله لا يحكم بكفره حتى تقوم عليه الحجة التي يكفر تاركها وهذا كما في نصوص الوعيد... فإن الشخص المعين لا يشهد عليه بالوعيد، فلا يشهد على معين من أهل القبلة بالنار لجواز ألا يلحقه الوعيد لفوات شرط أو ثبوت مانع فقد لا يكون التحريم بلغه...
وهكذا الأقوال التي يكفر قائلها قد يكون الرجل لم تبلغه النصوص الموجبة لمعرفة الحق، وقد تكون بلغته ولم تثبت عنده، أو لم يتمكن من فهمها، وقد يكون عرضت له شبهات يعذره الله تعالى بها)( ).
ولشيخ الإسلام نحو هذا الكلام في عدة مواضع من كتبه( ).
ومنهم أيضاً شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله- فقد بين أن الجاهل الذي لم تبلغه الحجة لا يكفر لاسيما الذي لم يقصر ولم يكن يعيش في بيئة انتشر التوحيد وعلماؤه فيها( ).
هذا ومع تصريح شيخي الإسلام المتقدم بأن الحكم بالكفر متوقف على بلوغ الحجة نجد بعض الناس يتهمهما وكذلك يتهم من يعتني بالعقيدة الصحيحة ويحذر من الشرك ودعاء غير الله تعالى- بتكفير المسلمين وأن هذا فعل الخوارج.
وهذه تهمة باطلة لا أساس لها من الصحة فقد علمنا أن التكفير إنما يكون لمن بلغته الحجة الرسالية.(2/65)
ثم إن بعض الناس اعتمد على ما ينقل من عدم تكفير أهل القبلة فتوسع في ذلك توسعاً غير مرضي، فصار يؤول كل ما يقع من الشركيات حتى ولو قامت على أصحابها الحجة، ويعترض بهذا على من يدعو إلى التوحيد واخلاص نوعي الدعاء لله تعالى ويحذر من الشرك ومن دعاء الأموات والاستغاثة بهم.
وستأتي مناقشة هذه الشبهة في الباب الرابع إن شاء الله تعالى.
هذا وما تقدم من اشتراط بلوغ الدعوة وإقامة الحجة هو المذهب الراجح وهناك مذهب آخر له أدلة قوية، وهو أنه لا يشترط ذلك وقد ذهب إليه من المتقدمين الحافظ ابن منده فقد بوب في كتابه التوحيد بعنوان (ذكر الدليل على أن المجتهد المخطىء في معرفة الله عز وجل ووحدانيته كالمعاند) ثم أورد قوله تعالى: ((وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا)) [الكهف:104]، وقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه لما سئل عن الأخسرين أعمالاً: كفرة أهل الكتاب وأن منهم أهل حروراء وذكر أدلة أخرى( ).
وعلى هذه الأدلة مؤاخذات فإن الآيات وردت في الكافر الأصلي ونحن في المسلم لقوله تعالى: ((وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ)) [التوبة:115]، وقد قال علي رضي الله عنه في أهل حروراء: من الكفر فروا( ).
الفصل الثالث
في الأدعية المبتدعة وما ورد في التحذير من الابتداع في الدعاء وغيره من العبادات،
وآثارها الضارة، وأسباب انتشارها، وأنواعها
ويشتمل على مبحثين:
المبحث الأول: فيما ورد في التحذير من الابتداع في الدين عموماً وفي الدعاء خصوصاً.
المبحث الثاني: في أنواع الأدعية المبتدعة.
المبحث الأول: فيما ورد في التحذير من الابتداع في الدين عموماً وفي الدعاء خصوصاً من الكتاب والسنة، وآثار السلف، وأقوال العلماء، وآثار الأدعية المبتدعة الضارة وأسباب انتشارها:
ويشتمل على تمهيد وأربعة مطالب.
تمهيد:(2/66)
إن الدعاء من أجل العبادات وأعلاها، والعبادات مبناها على التوقيف من الشارع الحكيم لا على الهوى والابتداع، فإن الإسلام مبني على أصلين: أحدهما: أن نعبد الله وحده لا شريك له، والثاني: أن نعبده بما شرعه على لسان رسول صلى الله عليه وسلم ولا نعبده بالأهواء والبدع( ).
فأي عبادة لم يتوافر فيها هذان الأصلان لا تقبل بل هي مردودة على صاحبها.
فلذا ينبغي للإنسان أن يلزم الأدعية المشروعة فإنها معصومة كما يتحرى في سائر عباداته الصورة المشروعة فإن هذا هو الصراط المستقيم( ).
ثم إن الأدعية المشروعة كثيرة جداً ووافية للغرض على أكمل الحالات فلا حاجة لابتداع أدعية أخرى.
وقد وردت أدعية صحيحة تشمل جميع أحوال الإنسان من صحة وسقم ونعمة ومصيبة وفرح وسرور كما أنها تعم أغلب أوقات الإنسان من ليل ونهار وصباح ومساء، وقد حفظت تلك الأدعية في دواوين السنة العامة وفي كتب خاصة بالأدعية والأذكار فالسعادة كل السعادة لمن التزم الأدعية المشروعة الصحيحة وحافظ عليها واجتنب الأدعية المبتدعة.
ولا يشك من له اعتناء بالكتاب والسنة أن (الاقتصار على الدعوات الصحيحة المشروعة أولى من الدعوات المجموعات)( )والأوراد والأحزاب الصوفية هذا في الدعوات المجموعة الخالية عن الشركيات والاعتداء، وأما التي فيها هذه الأمور فهي من باب أولى، ونحن- إن شاء الله تعالى- نبحث عن الأدعية المبتدعة لأسباب عدة منها:
1- أن البدعة هي الباب الموصل إلى الشرك.
2- أن كثيراً من الأدعية المبتدعة مشتملة على اعتداء في الدعاء وشرك وتوسل بدعي.
3- أن كثيراً من الناس اعتقدوا أفضليتها على الأوراد والأدعية الواردة فصرفوا أنفس الأوقات فيها وهجروا الأدعية الثابتة وفي هذا بلاء عظيم.
4- أن تلك الأدعية مع بدعيتها قارنتها بدع أخرى من الاجتماع لقراءتها ورفع الصوت بها والتمايل عند قراءتها حتى يغمى على بعضهم، فوجب نصحهم وديان الحق في ذلك.(2/67)
المطلب الأول: في التحذير من الابتداع في الدين:
قد وردت عدة آيات في التحذير من الابتداع في الدين، فمن تلك الآيات:
قوله تعالى: ((الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا)) [المائدة:3].
وقوله تعالى: ((يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ)) [النساء:171]، قال قتادة: لا تبتدعوا( ).
وقوله تعالى: ((أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ)) [الشورى:21].
وقوله عز من قائل: ((وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا)) [الحديد:27].
وقوله تعالى: ((إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ)) [الأنعام:159].
وقد قرن الله سبحانه وتعالى البدعة بالشرك في قوله: ((قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ)) [الأعراف:33] فالإثم والبغي قرينان، والشرك والبدعة قرينان؛ وذلك لأن كلاً منهما يلزم منه التنقيص، فالشرك يلزم منه تنقيص الله تعالى، والبدعة يلزم منها تنقيص الرسول صلى الله عليه وسلم حيث زعم المبتدع أنها خير من السنة وأولى بالصواب أو أنها هي السنة مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يشرعها( ).
وقد وردت أيضاً أحاديث كثيرة تكفلت كتب الستة المطهرة بإيرادها في أبواب خاصة فبعض تلك الأبواب يسمى كتاب( ) الاعتصام، وبعضها كتاب السنة( ) أو اتباع السئة.(2/68)
وكثير من علماء الحديث أفردوا مؤلفات خاصة في الحث على الالتزام بالسنة والحض عليها والتحذير من البدع وتسمى بكتب السنة في اصطلاح المتقدمين وهي كثيرة( ).
ومن تلك الأحاديث الكثيرة التي اشتملت عليها هذه الكتب:
حديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد} وفي رواية: {من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد}( ).
وهذا الحديث أحد الأحاديث التي تدور عليها أصول الإسلام كما قاله أحمد وغيره( ).
وكان يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبة يوم الجمعة مكرراً تحذيره من الابتداع: {أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة}( ) فلم يستثن رسول الله صلى الله عليه وسلم أي بدعة بل أطلق وعمم.
وقال صلى الله عليه وسلم: {عليكم بسنتي وسنّة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة}( ).
كما وردت آثار كثيرة في التحذير من البدعة، من ذلك:
ما قاله ابن مسعود رضي الله عنه: [[إن أحسن الحديث كتاب الله وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها...]]( )، وقال أيضاً: [[القصد في السُنة خير من الاجتهاد في البدعة]]( ) ونحوه عن أبي بن كعب( ) وأبي الدرداء( ).
وقال ابن مسعود أيضاً: {كيف أنتم إذا لبستم فتنة يهرم فيها الكبير ويربو فيها الصغير ويتخذها الناس سنّة إذا ترك منها شيء قيل تركت السنة، قالوا: متى ذلك؟ قال: إذا ذهبت علماؤكم، وكثرت قراؤكم، وقلّت فقهاؤكم، وكثرت أمراؤكم، وقلّت أمناؤكم، والتمست الدنيا بعمل الاَخرة وتفقه لغير الدين}( ).
وهذا الأثر له حكم الرفع لأنه إخبار عن أمور مغيبة تقع في المستقبل، وهذا مما لا مجال للاجتهاد فيه فهو مرفوع إلى الرسول صلى الله عليه وسلم.(2/69)
وقد وقع هذا الذي أخبر به المصطفى صلوات الله وسلامه عليه فقد كان بعض الناس يغضب إذا أعرض من يحاول التمسك بالسنة - عن نحو التوسل المبتدع أو ترك الدعاء عقب الصلوات بالصورة الجماعية- ويتهمه بالخروج عن أهل السنة والجماعة وإنشاء مذهب خامس.
وقال ابن مسعود رضي الله عنه: [[اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم وكل بدعة ضلالة]]( ).
وقال حسان بن عطية أحد التابعين: [[ما ابتدع قوم بدعة في دينهم إلا نزع الله من سنتهم مثلها، ثم لا يعيدها إليهم إلى يوم القيامة]]( ).
وقد ورد ما يؤيد هذا الأثر مرفوعاً من حديث غضيف بن الحارث في قصة رفع الأبدي على المنبر يوم الجمعة: [[ما أحدث قوم بدعة إلا رفع مثلها من السنة، فتمسكٌ بسنة، خيرٌ من إحداث بدعة]]( ).
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: (وإذا كان هذا جواب هذا الصحابي في أمر له أصل في السنة فما ظنك بما لا أصل له فيها فكيف بما يشتمل على ما يخالفها؟)( ).
فمما يصدق هذا الأثر ما نحن فيه، فإنه لما ابتدعت الأدعية المحدثة ترك الناس الأدعية المأثورة الواردة في الكتاب والسنة، فلا تجد من يلازمها ويطبقها حسب ورودها إلا القليل من المتمسكين المعتصمين بالآثار وما أقلهم!
وذكر شيخ الإسلام -رحمه الله- أن من يكتم الحق يقيم موضعه باطلاً ثم قال: (وهكذا أهل البدع، لا نجد أحداً ترك بعض السنة التي يجب التصديق بها والعمل إلا وقع في بدعة، ولا نجد صاحب بدعة إلا ترك شيئاً من السنة كما جاء في الحديث: (ما ابتدع قوم بدعة إلا وتركوا من السنة مثلها) رواه الإمام أحمد، وقد قال تعالى: ((فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ)) [المائدة:14]، فلما تركوا حظاً مما ذكروا به اعتاضوا بغيره فوقعت بينهم العداوة والبغضاء)( ).
المطلب الثاني: في الأدلة الدالة على منع الابتداع في الأدعية الراتبة.(2/70)
وهناك أدلة كثيرة تدل على أن باب الدعاء توقيفي لا ينبغي الخروج عما رسمه الشارع في الجملة وذلك في الأدعية الراتبة التي تتكرر ويلازمها المكلف، أو في التي تختص بوقت معين أو صفة معينة.
وأما مطلق الأدعية التي تحصل من المكلف بدون تحز وتلازم فهي ليست توقيفية، ولكن الأفضل فيها الالتزام بالمأثور إلا إن عرضت له حاجة فينص عليها مثل أن يمرض له شخص عزيز عليه أو يخاف أحداً( )
فهذا ليس مما نحن فيه؛ لأن المقصود هنا الأدعية التي يلازمها العبد ويجعلها راتبة مكررة، ففي هذه الحالة لا يجوز الابتداع فيها.
قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: [الأذكار والدعوات من أفضل العبادات، والعبادات مبناها على الاتباع وليس لأحد أن يسن منها غير المسنون، ويجعله عادة راتبة يواظب الناس عليها، بل هذا ابتداع دين لم يأذن به الله بخلاف ما يدعو به المرء أحياناً من غير أن يجعله سنة]( ). الأحاديث الواردة في ذلك:
1- ما ورد في حديث البراء بن عازب رضي الله عنهما، قالى: قال النبي صلى الله عليه وسلم: {إذا أتيت مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة، ثم اضطجع على شقك الأيمن، ثم قل: (اللهم أسلمت وجهي إليك، وفوّضت أمري إليك وألجأت ظهري إليك رغبةً ورهبةً إليك، لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك، اللهم آمنت بكتابك الذي أنزلت وبنبيك الذي أرسلت، فإن مت من ليلتك فأنت على الفطرة، واجعلهن آخر ما تتكلم به)} قال: فرددتها على النبي صلى الله عليه وسلم، فلما بلغت:{اللهم آمنت بكتابك الذي أنزلت} قلت:ورسولك، قال: {لا، ونبيك الذي أرسلت}( ).
فقد منع النبي صلى الله عليه وسلم استبدال كلمة بأخرى مع صحة المعنى واستقامة التركيب والأسلوب، فكيف يكون الأمر في اختراع أوراد وأحزاب طويلة على عدد الأيام والشهور؟ لا شك أن هذا أولى بالمنع.(2/71)
قال الحافظ ابن حجر: [وأولى ما قيل في الحكمة في رده صلى الله عليه وسلم على من قال: الرسول بدل النبي، أن ألفاظ الأذكار توقيفية، ولها خصائص وأسرار لا يدخلها القياس فتجب المحافظة على اللفظ الذي وردت به... فيقتصر فيه على اللفظ الوارد بحروفه، وقد يتعلق الجزاء بتلك الحروف، ولعله أوحى إليه بهذه الكلمات فتعين أداؤها بحروفها]( ).
وقد ذكر النووي أيضاً هذا التعليل لمنع استبدال كلمة الرسول بالنبي فاستحسنه( ).
2- ما ورد في عدة أحاديث تتعلق بالأدعية والأذكار من أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعلمهم تلك الأدعية كما يعلمهم القرآن. فهذا التشبيه بتعليم القرآن يدل على أنها تحفظ وتنقل نقلاً حرفياً كما في القرآن ولا تغير. فمن تلك الأحاديث: حديث الإستخارة:
فقد ورد فيه: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا الإستخارة في الأمور كلها كما يعلمنا السورة من القرآن)( ).
فقد قيل في وجه هذا التشبيه أن ذلك في تحفظ حروفه وترتيب كلماته ومنع الزيادة والنقص منه والدرس له والمحافظة عليه( ).
وحديث ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعلمهم هذا الدعاء كما يعلمهم السورة من القرآن يقول: {اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم وأعوذ بك من عذاب القبر وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال، وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات}( ).
قال الباجي شارح الموطأ: (قوله: كان يعلمهم هذا الدعاء كما يعلمهم السورة دليل على تأكده وما ندب إليه من تحفظ ألفاظه)( ).
3- ما ورد من الأحاديث في بعض الأدعية من تقييد الأجر والثواب على لفظ معين مثل من قال كذا فله كذا. فمن لم يأت بذلك اللفظ لا يشمله ظاهر الحديث. فلو لم يكن هناك سر وحكمة في تلك الألفاظ المعينة لما قيد ترتب الثواب والأجر عليها ترتبَ الجزاء على الشرط.(2/72)
قال بعض العلماء: إن الأعداد الواردة كالذكر عقب الصلوات إذا رتب عليها ثواب مخصوص فزاد الآتي بها على العدد المذكور لا يحصل له الثواب المخصوص لاحتمال أن يكون لتلك الأعداد حكمة وخاصية تفوت بمجاوزة ذلك العدد.
وعلل ذلك بعضهم بأن من شأن العظماء إذا حدوا شيئاً أن يوقف عنده ويعد الخارج عنه مسيئاً للأدب، ومثل ذلك بعضهم بالدواء إذا زيد على وصف الطبيب لا يحصل الانتفاع به بل ربما يضر( ).
4- ما ورد عن بعض الصحابة أنهم طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم دعاء يدعون به، فلو كان الدعاء لا يحتاج إلى توقيف وتعليم وبيان لدعوا به من عند أنفسهم، وهم أهل الفصاحة والبلاغة، وقد عرفوا ما يدعى به من خيري الدنيا والآخرة، ولكن لمعرفتهم أن الدعاء عبادة وأنه يحتاج إلى توقيف من النبي صلى الله عليه وسلم طلبوا تعليمه.
ومما ورد في ذلك ما رواه عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: علمني دعاء أدعو به في صلاتي، قال: {قل: اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرةً من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم}( ).
فقد طلب الصديق الأكبر رضي الله عنه تعليم الدعاء فأرشده صلى الله عليه وسلم إلى هذا الدعاء.
قال الحافظ رحمه الله: (وفي هذا الحديث من الفوائد استحباب طلب التعليم من العالم خصوصاً في الدعوات المطلوب فيها جوامع الكلم)( ).
وقد ورد من الصديق حديث آخر طلب فيه تعليمه ما يقوله في الصباح والمساء وهو ما ورد في صحيفة عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: إن أبا بكر الصديق قال: يا رسول الله علمني ما أقول إذا أصبحت، وإذا أمسيت، فقال: يا أبا بكر قل: {اللهم فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة لا إله إلا أنت، رب كل شيء ومليكه، أعوذ بك من شر نفسي ومن شر الشيطان الرجيم وشركه، وأن أقترف على نفسي سوءاً أو أجره إلى مسلم}( ).(2/73)
الآثار الواردة في ذلك:
وقد حذر السلف الصالح من الابتداع في الدعاء عندما ظهر ما يمكن عده بداية انحراف عن الدعاء المشروع وذلك في أواخر عهد الصحابة.
ومن ذلك ما قاله ابن عباس رضي الله عنهما فيما أوصى به مولاه عكرمة، فإنه قال لعكرمة: [[حَدّثِ الناسَ كل جمعة مرة، فإن أبيت فمرتين، فإن أكثرت فثلاث مرات.. إلى أن قال: فانظر السجع من الدعاء فاجتنبه، فإني عهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه لا يفعلون إلاّ ذلك الاجتنابَ]]( ).
فهذا يدل على أن ابن عباس رضي الله عنهما ما كان ينهى عكرمة إلا عن أمر كان يوجد عند الناس ولو بصورة نادرة.
ولكن يحتمل أن يقال: إن هذا ليس نهياً عن الأمر الواقع، ولكنه فَهمٌ فهمه ابن عباس من تتبع أدعية النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته فلم يجد فيها السجع المتكلف فخاف أن يقوله عكرمة فنهاه، أو أنه فهم من نحو قوله صلى الله عليه وسلم: {سيأتي أقوام يعتدون في الدعاء} أن السجع في الدعاء سيقع فنهاه عنه.
ولكن هاك نص آخر عن ابن عباس رضي الله عنهما أصرح من هذا النص في المطلوب وهو ما ذكره أبو سليمان الخطابي رحمه الله عندما ذكر غلط كثير من الناس في مثل قولهم: يا رب طه ويس ويا رب القرآن العظيم، قال: (وأول من أنكر ذلك ابن عباس رحمه الله)( ) فهذا الأثر إن ثبت دليل على بداية الانحراف في الأدعية وابتداع كلمات غير واردة في الكتاب والسنة في أواخر القرن الأول لأن ابن عباس توفي في الثلث الأخير من القرن الأول عام (68هـ).
ويؤيد وقوع ذلك ما روي عن عروة بن الزبير أحد فقهاء السبعة وكبار التابعين أنه كان إذا عرض عليه دعاء فيه سجع عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه قال: كذبوا لم يكن وسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه سجاعين( ).
ويدل أثر ابن مسعود وأبي موسى الأشعري رضي الله عنهما على أن الابتداع في باب الذكر والدعاء قد حصل في عهد مبكر إذ وفاة ابن مسعود سنة (32هـ).(2/74)
وهذا الأثر هو ما روي أن ابن مسعود وأبا موسى أنكرا على قوم يجلسون حلقاً في المسجد ينتظرون الصلاة، في كل حلقة رجل، وفي أيديهم حصى فيقول: [كبروا مائة فيكبرون مائة، فيقول: هللوا مائة فيهللون مائة ويقول: سبحوا مائة فيسبحون مائة، فوقف عليهم ابن مسعود فقال لهم: ما هذا الذي أراكم تصنعون؟ قالوا: يا أبا عبد الرحمن حصى نعد به التكبير والتهليل والتسبيح قال: فعدوا سيئاتكم فأنا ضامن أن لا يضيع من حسناتكم شيء، ويحكم يا أمة محمد ما أسرع هلكتكم هؤلاء صحابة نبيكم صلى الله عليه وسلم متوافرون...]( ).
فقد أنكر هذان الصحابيان الجليلان الاجتماع للذكر على هذه الصورة المعينة كما أنكرا عد الذكر بالحصى.
وقد علمنا في التعريف العلاقة بين الذكر والدعاء فهما متلازمان أو مترادفان، فهذه البدعة التي أنكراها من البدع الإضافية لأن أصل الذكر مشروع وإنما السبب في كونه بدعة ما قارنه من الكيفية التي لم تكن في زمان النبي صلى الله عليه وسلم، وأكثر الأدعية المبتدعة التي سنذكرها من هذا الباب فهي من البدع الإضافية.
هذا وقد وردت قصة أخرى أسبق من هذه في زمن عمر رضي الله عنه إذ روي أنه كتب إليه عامل له أن ههنا قوماً يجتمعون فيدعون للمسلمين وللأمير، فكتب إليه عمر: أقبل وأقبل بهم معك، فأقبل وقال عمر للبواب: أعد لي سوطاً فلما دخلوا على عمر أقبل على أميرهم ضرباً بالسوط( ).
فهذه الحادثة تدل على حدوث البدعة الإضافية في الدعاء في وقت مبكر جداً وعلى أن عمر رضي الله عنه ينكر أشد الإنكار الابتداع في كيفية الدعاء لأن أصل الدعاء للأمير والمسلمين مشروع كما سيأتي( ).
وقد حذر بعد هؤلاء الصحابة أيضاً كثيرون من السلف ومن بعدهم، وإليك كلام بعض هؤلاء.(2/75)
فمن علماء السلف الذين حكوا عن السلف تركهم للدعاء المبتدع الإمام إبراهيم النخعي فإنه قال حاكياً عن الصحابة وكبار التابعين: (كانوا يجلسون ويتذاكرون العلم والخير، ثم يتفرقون لا يستغفر بعضهم لبعض، ولا يقول: يا فلان ادع لي)( ).
وممن حذر من الابتداع في الأدعية الإمام مالك بن أنس إمام دار الهجرة فقد شدد في الابتداع في الدعاء، فإنه قال في قوم يجتمعون لقراءة القرآن: (لا بأس أن يجتمعوا ويكره الدعاء بعد فراغهم)( )وهذا غاية ما يكون في إنكار الابتداع في الدعاء، لأن أصل الدعاء الجماعي أحياناً مشروع كما سيأتي( ).
كما أن مالكاً رحمه الله تعالى سئل عن الذي يقول في دعائه. يا سيدي. فكرهه وقال: (أحب إلي أن يدعو بما في القرآن، وبما دعت به الأنبياء يا رب، وكره الدعاء بيا حنان)( ).
فرحم الله مالكاً ما أشد تمسكه بالسنة وتحذيره من البدع!! فهو رحمه الله يكره الدعاء بغير الألفاظ التي ثبتت في الكتاب والسنة والتي دعا بها الأنبياء.
وروي عنه أيضاً كراهته للدعاء عند ختم القرآن. فقد سئل عن الذي يقرأ القرآن فيختمه ثم يدعو؟ قال: (ما سمعت أنه يدعو عند ختم القرآن، وما هو من عمل الناس)( ) هذا شأن الإمام مالك في هذه الأمور التي تعد من البدع الإضافية، فكيف لو رأى دعاء غير الله تعالى ونداء من في القبور لقضاء الحاجات والاستغاثة بهم لنيل الطلبات؟ وقد نقل عن مالك أنه ينكر دعاء الإمام في رمضان ويقول: [ولا أرى أن يعمل به]( ).
فإذا كان ينكر مثل الدعاء الذي ليس فيه أي محذور سوى تعيين الكيفية فكيف بما هو أعظم من ذلك بكثير؟
كما وردت عنه أشياء( ) أخرى أنكرها وعدها بدعاً مما يتعلق بكيفية الدعاء.
ومنهم الإمام أحمد:
فقد سئل عن الصلاة خلف من يقنت؟ فقال: [وقد كان المسلمون يصلون خلف من يقنت وخلف من لا يقنت، فإذا زاد في القنوت حرفاً أو دعا بمثل إنا نسيعينك أو عذابك الجد أو نحفد، فإن كنت في الصلاة فاقطعها]( ).(2/76)
وكان الإمام أحمد رحمه الله يمنع من الدعاء بحوائج الدنيا في الصلاة إلا بالمأثور( ).
يشير الإمام أحمد -رحمه الله- بقوله بمثل إنا نستعينك.. إلخ إلى القنوت الوارد عن عمر بن الخطاب أنه قنت به. وقد صح إسناده إلى عمر رضي الله عنه( ).
فإذا كان الإمام أحمد يمنع من ذلك مع كونه مروياً عن عمر بن الخطاب لكن كأنه لم يثبت لديه أو رأى أنه لا ينبغي الزيادة على قنوت النبي صلى الله عليه وسلم.
فإذا كان هذا حال أحمد مع الدعاء المأثور فكيف يقول في الأدعية المخترعة المبتدعة التي امتلأت بها كتب الفقهاء المتأخرين فضلاً عن الصوفية والقبوريين الذين يجيزون دعاء غير الله تعالى؟
هذا وقد تقدم منع علماء السلف من مثل قول الداعي أعوذ بالكعبة والصفا والعرش والكرسي، فقد صرح بعدم جواز نحو هذا كل من نعيم بن حماد والبخاري وابن خزيمة والخلال وابن بطة وغيرهم.
ومنهم الإمام أبو القاسم الطبراني (ت:360هـ):
فإنه عندما بدأ ظهور الأدعية المبتدعة في شكل مؤلفات قام إلى جمع الأدعية المأثورة الصحيحة فكان ذلك سبباً لتأليف كتاب مستقل نافع في الأدعية المأثورة وآدابها وقد بين في خطبة كتابه أن هذا هو الباعث له على التأليف فقال: (هذا كتاب ألفته جامعاً لأدعية رسول الله صلى الله عليه وسلم، حداني على ذلك أني رأيت كثيراً من الناس قد تمسكوا بأدعية سجع، وأدعية وضعت على عدد الأيام، مما ألفها الوراقون لا تروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من أصحابه، ولا عن أحد من التابعين بإحسان مع ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكراهية للسجع في الدعاء والتعدي فيه.( ).
ومنهم أبو سليمان الخطابي (ت:388هـ):
فإنه جاء بعد الطبراني فاشتكى أيضاً من انتشار الأدعية المبتدعة بين العوام فقال: (وقد أولع كثير من العامة بأدعية منكرة اخترعوها، وأسماء سموها، ما أنزل الله بها من سلطان.(2/77)
وقد يوجد في أيديهم دستور من الأسماء والأدعية يسمونه (ألف اسم) صنعها لهم بعض المتكلفين من أهل الجهل، والجرأة على الله عزوجل أكثرها زور وافتراء على الله عزوجل فليتجنبها الداعي إلا ما وافق منها الصواب...)( ).
ثم ضرب الخطابي بعض الأمثلة لما وقع على ألسنة العامة وكثير من القصاص من الألفاظ المستهجنة المهجورة والتي لا تليق بمخاطبة الله تعالى ومناجاته( ).
ومنهم عبيد الله بن محمد بن بطة (ت:387هـ):
فقد قال: (ومن البدع النظر في كتب العزائم( ) والعمل بها)( ).
والمراد بها الكتب التي ألفت في الأدعية التي يراد بها الرقية غير الشرعية وتقدم قول ابن بطة: (هل يجوز أن يعوذ إنسان نفسه أو غيره بمخلوق مثله فيقول: أعيذ نفسي بالسماء أو بالجبال أو بالأنبياء أو بالعرش أو بالكرسي أو بالأرض)( ).
ومنهم محمد بن الوليد الطرطوشي (ت:520هـ):
فإنه تعجب من الإعراض عن الدعوات المأثورة واختيار ألفاظ الشعراء والكتاب بدلاً عنها فقال في هذا المعنى. (ومن العجب العجاب أن تعرض عن الدعوات التي ذكرها الله فى كتابه عن الأنبياء والأصفياء مقرونة بالإجابة ثم تنتقي ألفاظ الشعراء والكتاب كأنك قد دعوت في زعمك بجميع دعواتهم ثم استعنت بدعوات من سواهم)( ).
ومنهم أبو بكر بن العربي المالكي (ت:543هـ):
فإنه ذكر الإلحاد في أسماء الله تعالى وأنه يكون بالزيادة فيها كما يكون بالنقصان منها ثم قال: (كما يفعله الجهال الذين يخترعون أدعية يسمون فيها الباري بغير أسمائه ويذكرونه بما لم يذكره من أفعاله إلى غير ذلك مما لا يليق به، فحَذَارِ منها، ولا يَدعُوَن أحذ منكم إلا بما في الكتب الخمسة وهي كتاب البخاري ومسلم وأبي داود والترمذي والنسائي فهذه الكتب هي بَدءُ الإسلام، وقد دخل فيها ما في الموطأ الذي هو أصل التصانيف، وذروا سواها ولا يقولن أحد: أختار دعاء كذا فإن الله قد اختار له وأرسل بذلك إلى الخلق رسوله)( ).(2/78)
وهذا ابن العربي المالكي قد تشدد في هذا حتى منع الدعاء بما في خارج الكتب الخمسة، وما ذلك إلا لما رأى من الأدعية المبتدعة المنتشرة في وقته، فماذا يقول لو رأى الأدعية المنتشرة اليوم والتي تشتمل على الاستمداد بالأموات؟؟
ومنهم القاضي عياض بن موسى اليحصبي (ت:544هـ):
فإنه ذكر فوائد الدعاء ثم ذكر الأدعية المنسوبة إلى الأنبياء محذراً منها فقال: (أذن الله في دعائه، وعلم الدعاء في كتابه لخليقته، وعلم النبي صلى الله عليه وسلم الدعاء لأمته، واجتمعت فيه ثلاثة أشياء: العلم بالتوحيد، والعلم باللغة، والنصيحة للأمة فلا ينبغي لأحد أن يعدل عن دعائه صلى الله عليه وسلم، وقد احتال الشيطان للناس من هذا المقام، فقيض لهم قوم سوء يخترعون لهم أدعية يشتغلون بها عن الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، وأشد ما في الحال أنهم ينسبونها إلى الأنبياء والصالحين فيقولون: دعاء نوح، دعاء يونس، دعاء أبي بكر الصديق، فاتقوا الله في أنفسكم ولا تشتغلوا من الحديث إلا بالصحيح)( ).
وهذه الأدعية المنسوبة إلى الأنبياء والصالحين التي أشار إليها القاضي عياض توجد إلى اليوم عند الروافض في كتبهم المؤلفة في الأدعية المعتبرة لديهم، وما أكثر أدعيتهم المبتدعة بل الشركية.(2/79)
ومنهم الإمام المحدث اللغوي الحسن بن محمد الصغاني (ت:650هـ): فإنه أشار إلى الأحاديث الموضوعة في فضيلة رجب وغيره من الشهور والليالي وذكر أن الصحيح ما ورد في الكتب الستة وغيرها من كتب أهل الحديث، ثم قال: [وهذا من جنس اعتناء بعض الأغبياء الجهال والعوام الضلال دعوتهم بدعاء (تمخيتا، وتمشيشا، وشمخيتا) ودعوتهم في الشدائد بأسماء أصحاب الكهف وبدعاء يمسح (وفي خ شمعخ) وغيره من الدعوات المجهولات بزعمهم أن هذا من الأسماء العظام، والأدعية المستجابة عند العلام، أو أنه من التوراة والإنجيل، ولسنا ملتزمين في شريعتنا بتلك الدعوات في الصباح والمساء، ولم يقل به أحد من العلماء والصلحاء بل وضعه أغبياء الأدباء، وسفهاء القصاص لتغرير العوام وجمع الحطام، والشيطان في أكثر الأحيان يُظهر لتلك الأسماء تأثيراتٍ ومنافعَ لأجل تغرير الجهال وافتتانهم، وربما يكون التلفظ بتلك الألفاظ كفراً لأنا لا نعرف معناها بالعربية، وقد قال الله تعالى: ((مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ)) [الأنعام:38]، وهو يقول: آهيا، شراها، آدونا لراهيا وشا (أصباؤت) فكن متفطناً لهذه الدقيقة فقد ضل بها خلق كثير، وقانا الله تعالى البدع والأهواء والفتنة المدلهمة الظلماء كالليلة السوداء. وكذلك الاعتناء بألف اسم واسم واحد، يدعو بعض العوام بها ولم يرد فيها خبر ولا أثر عن السلف الصالحين، وأئمة الهدى بل بعضها كفر، إذ أسماء الله تعالى توقيفية لا يجوز لنا أن ندعو إلا بما ورد في الكتاب والسنة فنقول: يا كريم ولا نقول يا سخي]( ).
وقد تعقب الصغاني عبدُ العزيز الغماري في كلامه هذا، وذكر أنه ورد الدعاء بأسماء أهل الكهف موقوفاً عن ابن عباس بسند ضعيف( ).(2/80)
وهذا التعقب لا قيمة له، لأن الغماري ممن يُجيز التوسل البِدعي، فمن هنا ينكر على الصغاني لمخالفته له، وأما محاولته للتقوية فليس بشيء فكأنه يشير إلى ما ذكره السيوطي في الدر المنثور( ) عن ابن عباس أسماءهم ثم ذكر بلاغاً أن أسماءهم تسكن الحريق ومثل هذه البلاغات لا تنفع في تقوية الأدعية الموضوعة التي يظهر وضعها جلياً، إلا عند من طمس الله بصيرته، واعتاد الأدعية المبتدعة وألفها فكان يدافع عنها دفاع المستميت والله المستعان.
ومنهم القرطبي أبو عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري (ت:671هـ): فقد قال: (فعلى الإنسان أن يستعمل ما في كتاب الله وصحيح السنة من الدعاء، ويدع ما سواه، ولا يقول: أختار كذا، فإن الله تعالى قد اختار لنبيه وأوليائه وعلمهم كيف يدعون)( ).
وقال أيضاً عند تعداده لأوجه الاعتداء في الدعاء: (ومنها: أن يدعو بما ليس في الكتاب العزيز ولا في السنة فيتخير ألفاظاً مفقرة، وكلمات مسجعة، وقد وجدها في كراريس لهؤلاء لا أصل لها ولا معول عليها فيجعلها شعاره، ويترك ما دعا به رسوله صلى الله عليه وسلم وكل هذا يمنع من استجابة الدعاء)( ).
والقرطبي في هذا الكلام يشير إلى الأحزاب المجموعة التي يلتزم بها أصحابها، وأما لو دعا في بعض الأحيان بما يستحضره من حوائجه التي يحتاج إليها من أمور الدنيا والآخرة من دون تقيد بالمأثور فلا حرج فيه، وإنما الممنوع جعلها شعاره وديدنه كأنها السنة.
ومنهم الإمام أبو العباس أحمد بن إدريس القرافي (ت:684هـ).
فإنه ذكر الأدعية المكفرة والمحرمة التي لا تخرج عن الإسلام ثم قال: (واعلم أن الجهل بما تؤدي إليه هذه الأدعية ليس عذراً) ثم بين أن الله تعالى بعث رسله إلى خلقه ليتعلموا ويعملوا وأن من ترك ذلك فهو عاص وأن الجاهل في العبادات كالعامد.(2/81)
ثم استدل على ذلك بقول نوح عليه السلام: (إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم) أي بجواز سؤاله: (فاشترط العلم بالجواز قبل الإقدام على الدعاء وهذا يدل على أن الأصل في الدعاء التحريم إلا ما دل الدليل على جوازه) ثم قال: (وهذه قاعدة جليلة يتخرج عليها كثير من الفروع الفقهية).
ثم قال محذراً من الأدعية الباطلة: (فينبغي للسائل أن يحذر هذه الأدعية وما يجري مجراها حذراً شديداً لما تؤدي إليه من سخط الديان، والخلود في النيران، وحبوط الأعمال وانفساخ الأنكحة، واستباحة الأرواح والأموال، وهذا فساد كله يتحصل بدعاء واحد من هذه الأدعية، ولا يرجع إلى الإسلام، ولا ترتفع أكثر هذه المفاسد إلا بتجديد الإسلام والنطق بالشهادتين، فإن مات على ذلك كان أمره كما ذكرنا نسأل الله العافية من موجبات عقابه)( ).
فقد بين القرافي -رحمه الله- مخاطر الأدعية المبتدعة وأنها تؤدي إلى فساد عظيم في الدين وأنها ربما تخرج عن الإسلام والعياذ بالله.
ومنهم الامام شيخ الإسلام أبو العباس أحمد بن تيمية (ت:728هـ) فإنه قال: (وينبغي للخلق أن يدعوا بالأدعية الشرعية التي جاء بها الكتاب والسنة فإنه لا ريب في فضله وحسنه وأنه الصراط المستقيم صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا)( ).
ونكتفي بهذا القدر من أقوال أهل العلم في التحذير من الأدعية المبتدعة.
مناقشة الحنفية في قولهم بأفضلية غير المأثور خارج الصلاة:
وهذه الأحاديث والآثار الماضية تدل على أفضلية الالتزام بالأدعية المأثورة وأن الابتداع فيها مذموم جداً، وهذه الدلالة واضحة جداً لكن بعض علماء الحنفية ذهبوا إلى أن غير المأثور أفضل، وعللوا ذلك بأن حفظ الأدعية وتكرارها يذهب برقة القلب، ولكنهم قالوا لا يجوز في الصلاة الدعاء إلا بما ورد في القرآن أو السنة، وأما إذا دعا بغير ذلك فتفسد صلاته( ).(2/82)
وهذا القول الذي ذهب إليه الحنفية في الصلاة ترده الأحاديث الكثيرة الدالة على جواز الدعاء في الصلاة بما يتخيره الداعي كما في حديث ابن مسعود في التشهد المشهور، وفيه: {ثم ليتخير من الدعاء ما شاء}( )
وقوله صلى الله عليه وسلم: {وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء}( ) ولم يقيد الدعاء بشيء( ).
وأما قولهم: إن الأفضل في غير الصلاة الدعاء بغير المأثور فقول مرجوح وتعليلهم بأنه يذهب الرقة يعترض عليه بأمور منها:
1- إن الفاتحة وغيرها مثل التشهد ونحوه تتكرر كل يوم فعلى هذا نترك هذه الأذكار ونأتي بغيرها، ولا يقول بهذا مسلم.
2- ثم إن بعض الأدعية المأثورة ورد تقييدها بأوقات معينة تتكرر كل وقت كأدعية النوم واليقظة والصباح والمساء فهل نتركها ونأتي بأدعية جديدة؟
3- إن المفاسد التي في الدعاء غير المأثور أرجح من هذه المفسدة الواحدة المحتملة التي في المأثور فمراعاة دفع المفاسد المحققة أولى من مراعاة مفسدة واحدة محتملة، وسنذكر بعض تلك المفاسد المحققة التي في الدعاء غير المأثور.
4- إن ما في الدعاء المأثور من الأسرار والحكم يذهب بهذه المفسدة المحتملة ويجعلها لا قيمة لها.
5- ثم إن الغالب في الدعاء حضور القلب وتوجهه كما تقدم( ) فلا ترد هذه المفسدة من الأصل.
المطلب الثالث: في آثار الأدعية المبتدعة ونتائجها السيئة:
إن الأدعية المبتدعة لها آثارها السيئة على عقيدة المسلم وأعماله التعبدية، وتلك الآثار الخطيرة كثيرة نوجزها فيما يأتي إن شاء الله تعالى.(2/83)
1- إن الأدعية المبتدعة لا تفي بالغرض المطلوب من العبادات من تزكية النفوس، وتطهيرها من الرعونات، وتقريبها إلى باريها، وتعليقها بربها رجاء ورغبة ورهبة، فهي لا تشفي عليلاً ولا تروي غليلاً ولا تهدي سبيلاً. وأما الأدعية المشروعة فهي الدواء الناجع والبلسم الشافي للأدواء النفسية، والأمراض القلبية والأهواء الشيطانية، فهي تحبب إلى النفوس الطيبة مناجاة خالقها والتملق له والتضرع إليه والتذلل له والانطراح بين يديه، فهي تجبر القلوب المنكسرة، وتشفي النفوس العديلة ولا تحيط العبارة بما يجد الداعي الملتزم بالدعاء المشروع من لذة المناجاة وحلاوة الضراعة بين يدي الرؤوف الودود ذي العرش الكريم، إذ في ألفاظ الأدعية المشروعة ما يأخذ بالألباب ويجذبها إلى باريها ويوصلها إلى محبة الله تعالى والتعلق به خوفاً ورجاءً، فمن يستبدلها بالأدعية المبتدعة فقد استبدل الخبيث بالطيب واستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير وترك النصيب الأوفى والحظ الأوفر.
2- إن الأدعية المبتدعة تفوت العبد الأجر العظيم والثواب الجزيل الذي يحصل لمن التزم بالأدعية الواردة وحافظ عليها وطبقها حسب ورودها ليل نهار، فهذا الداعي قد حاز السبق وتعرض لنفحات الرب واستفتح أبواب الرحمة وتعرض لفضل جود الرب بأقرب وسيلة، بخلاف الداعي المبتدع فقد فوت على نفسه الأجر والثواب، وتعرض لسخط الله وغضبه وابتدع في دين الله ما لم يشرعه فهو على خطر.
3- عدم إجابة الأدعية المبتدعة مع أن الهدف الأساسي للداعي في الغالب هو إجابة مطلوبه ونيل مرغوبه ودفع مرهوبه، والأدعية المبتدعة لايجاب الداعي بها في الغالب وإن كان قد يجاب المضطر لأسباب سيأتي ذكرها( ).(2/84)
فالعاقل يجتهد في الالتزام والتقيد بالأسباب التي تسرع في إجابة دعائه كما يجتهد في الابتعاد عما يسبب له عدم الإجابة، وقد دلت الأدلة على أن المبتدع لا يقبل الله منه عمله( )، والدعاء هو من العمل الذي يرجو الداعي قبوله، فإذا كان لا يقبل منه هذا الدعاء الذي ابتدع فيه فلماذا يسعى هذا الداعي المبتدع فيما يحبط عمله ويمنعه من الوصول إلى إجابة مطلوبه؟ كما أنه يحتمل أن لا يقبل له جميع أعماله، فعلى هذا يكون أثر الابتداع أشد حيث تسبب له في رد جميع الأعمال( ).
4- إن الأدعية المبتدعة تشتمل في الغالب على محذور شرعي وقد يكون ذلك المحذور وسيلة من وسائل الشرك وذرائعه، إذ البدعة تجر إلى الشرك والضلال، فمن الأدعية البدعية التي تجر إلى الشرك، التوسل البدعي فهو الذي فتح الباب لدعاء غير الله والاستغاثة- والاستمداد بغير الله إذ لولا اعتماد الجهال عليه لما حصل ما حصل، وقد يكون ذلك المحذور اعتداء في الدعاء ومجاوزة للحد وسوء أدب في خطاب الرب ومناجاته، وقد يكون ذلك المحذور ما يصحب تلك الأدعية من بدع أخرى من تحديدها بأوقات معينة وبصفات خاصة ومن رفع الأصوات على نغمات معينة وإيقاعات خاصة وأسجاع مصطنعة وتراكيب ركيكة تمجها الأسماع وتستقبحها القريحة السليمة.
والأدعية المبتدعة لا تخلو في الغالب من الاشتمال على بعض هذه الأمور فهي لا بد أن توقع في المحاذير والمفاسد التي لا ينجو منها إلا من التزم بالأدعية الصحيحة واعتنى بها حفظاً وتطبيقاً ونشراً، جعلنا الله تعالى منهم بفضله وكرمه.(2/85)
قال الخطابي -رحمه الله-: (أولى ما يدعى به ويستعمل منه ما صحت به الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وثبت عنه بالأسانيد الصحيحة، فإن الغلط يعرض كثيراً في الأدعية التي يختارها الناس، لاختلاف معارفهم وتباين مذاهبهم في الاعتقاد والانتحال، وباب الدعاء مطية مظنة للخطر، وما تحت قدم الداعي دحض فليحذر فيه الزلل وليسلك منه الجدد الذي يؤمن معه العثار، وما التوفيق إلا بالله عزوجل)( ).
فرحم الله الخطابي فماذا يقول لو رأى ما وصل إليه المسلمون في باب الدعاء من تجاوزات خطيرة وصلت إلى حد دعاء غير الله تعالى والاستغاثة به حتى صار ذلك أمراً معروفاً إذا أنكر قامت القيامة وأتهم المنكر بأنواع التهم من الشذوذ والتطرف والمذهب الخامس وبغض الصالحين وتنقصهم وغير ذلك؟!
وقال الغزالي: (والأولى أن لا يجاوز الدعوات المأثورة فإنه قد يعتدي في دعائه فيسأل ما لا تقتضيه مصلحته، فما كل أحد يحسن الدعاء)( ).
5- إن الأدعية المبتدعة من التزم بها واعتادها قلما يرجع عنها إلى الأدعية المشروعة إلا في بعض الأحيان التي يوفق الله فيها من يشاء وذلك لأن القلوب متى اشتغلت بالبدع أعرضت عن السنن( )، وذلك لأن الملتزم بتلك الأدعية المبتدعة يعتقدها مشروعة ويدافع عنها بكل قواه كل من ينكر عليه، ولا يستمع إلى حجة ولا برهان، ولا يفكر في حجة المنكر ولا يجري في خلده احتمال كونها غير مشروعة جرياً على عادته ومألوفه وتحسيناً للظن بالذين ابتدعوها.
وقد ذكر السلف الصالح -رضوان الله عليهم- أن صاحب البدعة لا يراجع السنة الصحيحة ولا يعود إليها( ) ويؤيد ما ورد عن السلف ما جاء في حديث الخوارج. (يخرجون من الدين كما يخرج السهم من الرمية ثم لا يعودون فيه)( )، ثم إذا كان هذا الداعي هو المبتدع لها بداية يكون عليه الإثم الزائد بحسب من يتبعه.(2/86)
قال الإمام الشاطبي -رحمه الله-: (وإذا ثبت أن كل بدعة تبتدع فلا تزاد على طول الزمان إلا مضياً واشتهاراً وانتشاراً فعلى وزان ذلك يكون إثم المبتدع لها، كما أن من سن سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة)( ).
6- إن استعمال الأدعية البدعية وترك الأدعية المشروعة من باب استبدال الطيب بالخبيث والنافع بالضار والخير بالشر وهو غبن فاحش، وتهور ظاهر، وفي ذلك إماتة للسنن وإحياء للبدع، وهذا تحريف للشريعة الغراء، ولكن مع الأسف الشديد هذا هو واقع المسلمين المرير، فقد تغيرت عندهم المفاهيم الإسلامية (فجعلوا التوحيد شركاً، والشرك توحيداً، وجاهدوا في إحياء البدع وإماتة السنن، وضاربوا بالأحزاب والأوراد والتوسلات الكتاب والسنة، فترى الأميين منهم يحفظون الاستغاثات والمنظومات والميمة والمنبهجة وكثيراً مما يسمونه التخمير ومع ذلك إذا قاموا إلى الصلاة وقرأوا قصار السور حرفوا وقرأوا بلغتهم العامية)( ).
وهؤلاء الذين أماتوا السنن وأحيوا البدع عليهم إثم آخر غير إثم الابتداع وذلك الإثم يتضاعف تضاعف إثم البدعة بالعمل بها لأنها كلما تجدد العمل بالبدعة تجددت إماتة السنة( ).
ونضرب مثالين ظاهرين استبدلوا فيهما بالدعاء المشروع دعاء مبتدعاً:
أ- استبدلوا دعاء الاستخارة المشروع وصلاتها بأشياء مبتدعة، منها ما هو شرك:
1- وذلك كالذهاب إلى الكهنة والرمالين والسحرة.
2- ومنهم من استبدلها بالاستخارة بالسبحة والهمهمة عليها وعدها عدداً معيناً قائلين: (الله، محمد، علي، أبو جهل)( ).
3- والبعض ممن يصليها زاد في كيفية الدعاء المشروع وهو أنه ينوي قبل النوم بعد الدعاء نية حادثة، وهي قولهم: (اللهم إن كان هذا الأمر خيراً لي فأرني في منامي بياضاً أو خضرة أو ماءً جارياً، وإن كان شراً فأرني في منامي سواداً أو دخاناً أو حمرة)( ).
3- ومنهم من يفتح مصحفاً أينما اتفق ويقرأ أي آية يقع النظر عليها أو سطراً معيناً( ).(2/87)
ب- استبدالهم صلاة الاستسقاء ودعاءه والخروج لها إلى ظاهر البلد بالذهاب إلى قبة الشيخ ودعائه، أو الدعاء هناك، قال النعمي -رحمه الله-: (فإن العامة في كثير من حالاتهم وتقلبهم قد أبدلوا معالم الشرع بسواها... فجعلوا الذهاب إلى قبة الشيخ والتضرع له والإلحاح عليه عوضاً عن الخروج إلى ظاهر البلد للاستسقاء، والإنابة إلى الله في كشف تلك النازلة)( ).
7- ومما يؤكد هذا الذي سبق هو أنه كان للعرب قبل الإسلام أدعية وتحايا كثيرة تحمل تفاؤلات جمة وتمنيات عامة، وأصلها الدعاء بالخير والحب ثم جاء الإسلام فأبدل تلك التحايا بأنواع الأدعية المقرونة باسم الله تعالى( ) والتي فيها طلب البركة والخير العميم، فمن ترك تلك الأدعية النبوية المباركة واستبدلها بأدعية مخترعة فقد تشبه بأولئك الجاهلين، كما أنه تشبه بأهل الكتاب في اختراعهم للأدعية المخالفة لما جاءت به رسلهم، فما أشبه أوراد الصوفية وأحزابهم بتراتيل أهل الكتاب لأدعيتهم في النغمات والإيقاعات والتمايلات وغير ذلك( ).
8- إن الذي يلازم الأدعية المبتدعة المخترعة لاسيما التي هي مؤلفة من أحزاب وأوراد يكون في الغالب جاهلاً لمعناها وتنصرف همته إلى ألفاظها وإلى سردها سرداً بدون تدبر مع أن المطلوب في الدعاء إحضار القلب والإخلاص في السؤال، وهذا الداعي بمثل هذه الأدعية غير سائل بل هو حاك لكلام غيره، ثم إن اختياره ذلك الدعاء على غيره من الأدعية لأجل الذي نظمه وإعجابه به( ) ففي ذلك تقديس لهذا الذي جمعها ورفع له فوق منزلته من حيث يعتقد الداعي أن لأدعيته خاصية لا توجد في غيرها، وإلا لما داوم عليها ليل نهار بل يصرح أتباع الطرق الصوفية بأن ورد شيخهم وحزبه أفضل من حزب وورد الشيخ الفلاني، بل منهم من يفضله على القرآن مرات كما وقع للتيجانيين وسيأتي نقل ذلك عنهم( ).
المطلب الرابع: في أسباب انتشار الأدعية المبتدعة:
تمهيد:(2/88)
لقد تكلمت فيما سبق عن الأسباب التي أدت إلى انتشار الأدعية الشركية وفي هذا المطلب أشير إلى نبذة يسيرة عن الأسباب التي تؤدي إلى الابتداع في الدين عموماً معتنياً ببيان الأسباب المباشرة لانتشار الأدعية المبتدعة خصوصاً، ومما ينبغي أن يعلم أن الأسباب التي ذكرت لانتشار الأدعية الشركية هي أيضاً أسباب لانتشار الأدعية البدعية، وإنما لم أكتف بذلك لأنه قد نص بعض العلماء على ذلك في موضوع البدعة فاحتاج الأمر إلى بيان ذلك، ثم هناك بعض الجوانب التي تخص موضوع البدعة. أسباب انتشار الأدعية المبتدعة:
1- الجهل بالكتاب والسنة، فقد ضعف لدى بعض المسلمين الاعتصام بالكتاب والسنة والتمسك الصحيح بالعمل بما فيهما من غير زيادة ولا نقصان فلم يعتنوا العناية اللائقة بالتطبيق الصحيح للعبادات فأدى ذلك إلى جهل المشروع، فكثرت البدع والحوادث، فمن ذلك جَهلُ كثيرٍ من المسلمين الأدعية الصحيحة ومكانتها العظيمة من الثواب العظيم والأجر الجزيل، مع وجازتها مع الفصاحة والبلاغة واشتمالها على أهم ما يطلب من خيري الدنيا والآخرة، ومع خلوها من التراكيب الفاسدة والاعتداء في الدعاء بل هي في غاية الأدب في خطاب الله تعالى ومناجاته والتضرع إليه والابتهال لديه، لقد أدى جهل هذا إلى عدم الاعتناء بها حفظاً واستعمالاً ونشراً وتعليماً فتساهل الناس فيها شيئاً فشيئاً حتى جهلوها، فانتشرت في أوساطهم الأدعية المبتدعة المخترعة التي يروج لها أصحابها من المتصوفة ومن على شاكلتهم فانتشرت الأحزاب والأورَاد المقيدة بعدد الأيام والأسابيع والشهور وانتشر التوسل المبتدع وغير ذلك من أنواع الأدعية المبتدعة.(2/89)
2- الثاني: الإعراض عن الأدعية المشروعة التي هي كثيرة جداً ووافية لحاجات ومتطلبات الرجل المسلم لأنها عامة لأوقاته ليل نهار وللعوارض التي تعرض له من مرض وفرح وسرور وهم وغم ولجميع المناسبات التي تحصل للإنسان، ولكن الشيطان يحبب إلى القلوب الأدعية المبتدعة فتعرض عن المشروعة.
فقد ذكر شيخ الإسلام أن سبب اشتغال قلوب بعض الناس بأنواع من العبادات المبتدعة من الأدعية وغيرها إعراضهم عن المشروع أو بعضه بقلوبهم حتى ولو قاموا بصورة المشروع مع هجر الحقيقة المقصودة منه (وإلا فمن أقبل على الصلوات الخمس بوجهه وقلبه عارفاً بما اشتملت عليه من الكلم الطيب والعمل الصالح واهتم بها كل الاهتمام أغنته عن كل ما يتوهم فيه خير من جنسها)... ومن اعتاد الدعاء المشروع في أوقاته كالأسحار وأدبار الصلوات والسجود ونحو ذلك، أغناه عن كل دعاء مبتدع في ذاته أو في بعض صفاته، فعلى العاقل أن يجتهد في إتباع السنة في كل شيء من ذلك ويعتاض عن كل ما يظن من البدع أنه خير بنوعه من السنن فإنه من يتحرى الخير يعطه ومن يتوقى الشر يوقه( ).
3- الأحاديث الضعيفة والموضوعة والحكايات والمنامات:
فقد يرد حديث ضعيف أو موضوع، أو تروى حكاية أو رؤية في دعاء مخصوص فيخفى ضعف تلك الأحاديث والحكايات على بعض أهل العلم ويظنها صحيحة فيعمل بها ويتقرب إلى الله تعالى بها ثم يقلده أتباعه في ذلك فتصير سنة متبعة( ) فإذا أنكر ذلك أحد احتج بذلك العالم وبما احتج به من الأحاديث الضعيفة وأنها لو لم تكن صحيحة لما عمل بها ومن هذا الباب انتشار الأدعية التي فيها التوسل المبتدع لاعتماد من أجازه على مثل هذه الحجة الضعيفة.
فمن أسباب انتشار التوسل المبتدع: اعتمادهم على الأدلة الضعيفة كما أنهم أعرضوا وانحرفوا عن الأصول الواضحة( ) التي تدل على منع الدعاء بغير أسماء الله وصفاته.(2/90)
ومن هذا الباب ما يضعه بعضهم من الثواب العظيم والأجر الجزيل للدعاء المبتدع فيغتر به الجاهل ويحسن الظن بذلك الأجر العظيم، ولا يخفى ما يتسبب من تحبيذ الصوفية لأدعية وأحزاب مشايخهم وأورادهم وما اخترعوه لها من الفضائل والخصائص، حتى صارت عند العوام بل بعض الفقهاء هي المقدمة على الأدعية الصحيحة بل على القرآن لدى البعض كما وقع لدى التيجانيين مع صلاة الفاتح وجوهرة الكمال وسيأتي ذلك( ). وهؤلاء الذين يضعون الأحاديث والحكايات للأدعية المبتدعة على أصناف: فمنهم الملاحدة الباطنية الذين يريدون أن يشغلوا المسلمين عن أدعية الكتاب والسنة بأدعية مبتدعة مخترعة يشغلونهم بها، فمقصودهم إفساد الدين الإسلامي بإدخال البدع فيه( ).
ومنهم من يبتدع طلباً للمال والاسترزاق أو طلباً للشهرة فقد ورد في الأثر ما يؤيد هذا وهو ما روي عن معاذبن جبل -رضي الله عنه- أنه ستأتي فتن سيكثر فيها انتشار القرآن فيقرأه المؤمن والمنافق، فيقول الرجل من هؤلاء القراء: (ما للناس لا يتبعوني وقد قرأت القرآن؟ ما هم بمتبعي حتى ابتدع لهم غيره) فيتخذ مسجداً ويبتدع كلاماً ليس من كتاب الله ولا من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم( ).
وهذا الأثر- وإن روي موقوفاً على معاذ- لكن له حكم الرفع لأنه من الإخبار بالغيب مما ليس للرأي فيه مجال، ومثله ما روي عن شاب كان في بني إسرائيل فابتدع طلباً للمال والشرف( ) ومنهم من يضع تلك الأدعية ظناً أنها تقوي الدين وتحببه إلى العامة قال بعضهم: (وإن كثيراً من البدع في العقائد والأحكام قد دخلت على المسلمين بتساهل رؤساء الدين وتوهمهم أنها تقوي أصل العقيدة، وتخضع العامة لسلطان الدين أو لسلطانهم المستند إلى الله)( ).(2/91)
4- صعوبة الكتب التي ألفت في الأدعية الصحيحة على العوام إما لأنها طويلة مسوقة بأساليب عالية عن فهم غير المتخصص، أو لأنها اختلط فيها الصحيح بالضعيف فلا يستطيع الإنسان العادي التمييز بينهما، كما أن بعضها مقتصر على بعض أنواع الأدعية ولا يفي المتعطش بكل رغباته( ) فيقتصر العامي على كتب الأدعية المبتدعة المنتشرة والتي هي سهلة عليه ومرتبة على وجه جذاب يأخذ بألباب العوام وأوقاتهم فيميلون إليها فتنتشر بينهم حتى تكون هي الغالبة دون الأدعية المشروعة.
5- تحريف الأدلة الواردة في الأدعية الصحيحة عن مواضعها، وذلك بأن يَرِدَ دليلٌ صحيحٌ من الكتاب والسنة بالندب إلى دعاء ما مطلقاً فإذا أتى به المكلف في الجملة من غير تقييد كان إتيانه على السنة ويعضده الدليل، وأما إن أتى المكلف في ذلك بكيفية مخصوصة أو زمان مخصوص أو مكان مخصوص أو مقارناً لعبادة مخصوصة، والتزم ذلك بحيث صار متخيلاً أن الكيفية أو الزمان أو المكان مقصود شرعاً من غير أن يدل الدليل عليه، كان الدليل بمعزل عن ذلك المعنى المستدل عليه، فعلى هذا إذا ندب الشارع إلى الذكر والدعاء مطلقاً ولكن المبتدع قيده بأوقات مخصوصة على صفة مخصوصة وذلك كالدعاء الجماعي بعد الصلوات المفروضة يكون ذلك ابتداعاً فهو حصل بسبب تحريف الدعاء الوارد الصحيح عن مناطه إلى مناط آخر موهماً أن المناطين واحد( ).(2/92)
6- تأثر بعض المسلمين بأهل الكتاب الذين حرفوا دينهم وأحدثوا في دينهم البدع، ومن تلك البدع التي أحدثوها في دينهم قراءتهم وتراتيلهم لكتبهم ولأدعيتهم بأصوات ونغمات تشبه أصوات المتصوفة الذين يجتمعون لقراءة الأدعية والأحزاب والأوراد المبتدعة، فبين الطائفتين شبه قوي، وتَاثرُ إحداهما بالأخرى ظاهرٌ، قال بعضهم واصفاً لما رآه في إحدى الكنائس: (ولقد دخلت كنيسة (بيت لحم) فسمعت هناك أصواتاً خيل إلي أنها أصوات طائفة من أهل الطريق يقرؤون حزب البر مثلاً، ثم علمت أنهم قسيسون، فهذه البدع قد سرت إلينا منهم كما سرت إليهم من الوثنيين استحساناً منهم ما استحسنوه من أولئك توهماً أنه يفيد الدين أبهة وفخامة ويزيد الناس به استمساكاً)( ).
هذه بعض الأسباب التي أدت إلى انتشار الأدعية المبتدعة على الصورة التي نراها ونكتفي بهذا القدر في ذلك، وندخل في ذكر أنواع الأدعية المبتدعة.
المبحث الثاني: في أنواع الأدعية المبتدعة:
ويحتوي على أربعة أنواع:
النوع الأول: الدعاء عند الأضرحة والقباب.
النوع الثاني: التوسل بالذوات.
النوع الثالث: الأدعية والأوراد الراتبة.
النوع الرابع: الأدعية الجماعية.
النوع الأول من الأدعية المبتدعة: دعاء الله تعالى عند الأضرحة والقباب.
ومن المعلوم أن الدعاء من أهم العبادات شرعه الله تعالى لعباده ووعد بالإجابة عليه تفضلاً وتكرماً.
وقد شرع الله له آداباً، منها الأمكنة الفاضلة والأزمنة الفاضلة جعلها أقرب في الإجابة من غيرها، كما رغب في الدعاء مطلقاً بدون تقييد بزمان أو مكان.(2/93)
ولكن الشيطان زين لبعض الناس أن يستبدلوا هذا المشروع الطيب بالمبتدع الخبيث، إذ استبدلوا الدعاء في المساجد والأسحار والسجود، بالدعاء عند الأضرحة والقباب والشبابيك، وظنوا أن الدعاء عند الأضرحة أجوَبُ منه في المساجد والبيوت، بل تجاوزوا ذلك إلى دعاء صاحب الضريح وندائه والاستغاثة به، واستبدلوا الزيارة الشرعية التي للدعاء للميت والاستغفار له بالزيارة البدعية التي للدعاء عنده أو الإقسام به أو التوسل به، بل ربما لدعائه وطلب الحوائج منه، فاقتضى هذا الصنيع منهم أن يبين الحكم الشرعي في ذلك والأدلة الدالة على منعه وبالله التوفيق.
هذا ونلخص البحث في هذا في أمرين:
1- الأدلة على كون الدعاء عند الأضرحة بدعة.
2- حكم الدعاء عند الأضرحة.
الأدلة على كون الدعاء عند الأضرحة بدعة:
1- إن الدعاء عبادة عظيمة من أهم العبادات، والعبادات مبناها على التوقيف؛ لأن دين الإسلام مبني على أصلين عظيمين( ):
1- أحدهما: أن لا نعبد إلا الله، وهو معنى شهادة أن لا إله إلا الله.
2- وثانيهما: أن لا نعبد الله إلا بما شرع لا بالحوادث والبدع، وهو معنى شهادة أن محمد رسول الله.
فالعبادة لا تصح ولا تقبل إلا بشرطين أساسيين: الإخلاص لله، وتجريد المتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
فثبت بهذا أن مبنى العبادة على التوقيف، ومن أهمها الدعاء، فلو كان الدعاء عند الأضرحة يتعبد به الله تعالى لشرعه الله ورسوله ولفعله السلف الصالح، فلم يرد في الكتاب والسنة ما يدل على مشروعية تحري الدعاء عند القبر، مع كثرة ما ورد في باب الأدعية، وكثرة مصنفات السلف فيها التي. ذكروا فيها آدابها ومواقيتها وأماكنها وغير ذلك ولم نجد أحداً منهم قال بمشروعية التحري للدعاء عند القبر.
فدل هذا على أنه لم يرد في الشرع ولم يفعله السلف الصالح فثبت أنه بدعة إذ لو كان خيراً لسبقونا إليه وهم أحرص الناس على الخير.(2/94)
وهذه المسألة بيانها يتوقف على معرفة قاعدة أصولية مهمة وهي أن (الترك الراتب سنة، كما أن الفعل الراتب سنة، بخلاف ما كان تركه لعدم مقتض، أو فوات شرط، أو وجود مانع، وحدث بعده صلى الله عليه وسلم من المقتضيات والشروط وزوال المانع ما دلت الشريعة على فعله حينئذ كجمع القرآن في مصحف، وجمع الناس في التراويح على إمام واحد، وتعلم العربية...
مما يحتاج إليه في الدين بحيث لا تتم الواجبات أو المستحبات الشرعية إلا به، وإنما تركه صلى الله عليه وسلم لفوات شرطه، أو وجود مانع، فأما ما تركه من جنس العبادات- مع أنه لو كان مشروعاً لفعله أو أذن فيه ولفعله الخلفاء بعده والصحابة- فيجب القطع بأن فعله بدعة وضلالة، ويمتنع القياس في مثله)( ).
هذا ويوضح هذا الدليل السابق الدليل الآتي:
2- إن الصحابة رضوان الله عليهم قد وقعوا في مصائب جسيمة ووقائع أليمة ومع هذا لم ينقل عنهم أنهم قصدوا قبر النبي صلى الله عليه وسلم أو قبور كبار الصحابة رضوان الله عليهم، بل عملوا المشروع الوارد مثل خروجهم إلى الصحراء في الاستسقاء، وكذلك لم ينقل عن التابعين والأئمة بعدهم أنهم تحروا القبر للدعاء.
ويدل على أنهم لم يفعلوا ذلك عدم النقل عنهم إذ لو فعلوا لنقل عنهم كما نقل عملهم المشروع.
لأن مثله مما تتوافر الدواعي والهمم على نقله بل على نقل ما دونه، وقد قال وارث علم السلف شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: (وما أحفظ لا عن صحابي ولا عن تابعي ولا عن إمام معروف أنه استحب قصد شيء من القبور للدعاء عنده ولا روى أحد في ذلك شيئاً لا عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا عن أحد من الأئمة المعروفين، وقد صنف الناس في الدعاء وأوقاته وأمكنته، وذكروا فيه من الآثار، فما ذكر أحد منهم في فضل الدعاء عند شيء من القبور حرفاً واحداً فيما أعلم)( ).(2/95)
فإذا ثبت أن الصحابة والتابعين لهم بإحسان لم يكونوا يقصدون القبر للدعاء عنده، يقال لمن يستحسن ذلك: إن الأمر لا يخلو:
1- إما أن يكون الدعاء عنده أفضل منه في غير تلك البقعة.
2- وإما أن لا يكون أفضل.
فعلى تقدير أنه أفضل يقال له:
لا يجوز أن يخفى علم ذلك على الصحابة والسلف الصالح فتكون القرون الثلاثة المفضلة جاهلة بهذا الفضل، ويعلمه من بعدهم.
وكذلك لا يجوز أن يعلموا ما فيه من الفضل ويزهدوا فيه مع حرصهم على كل خير لاسيما الدعاء، فإن المضطر يتشبث بكل سبب، وإن كان فيه نوع كراهة، فكيف يكونون مضطرين في كثير من الدعاء وهم يعلمون فضل الدعاء عند القبور ثم لا يقصدونه؟ هذا محال طبعاً وشرعاً. وأما على تقدير أن الدعاء عندها ليس بأفضل، فيقال له:
إن قصد الدعاء عندها مع عدم فضله، ضلالة ومعصية( ) لأنها عبادة، فتقييدها وتخصيصهما بمكان معين بدون دليل بدعة سيئة وضلال بين، وبدعيتها يأتي من هذا التخصيص فهي بدعة إضافية إذ أصل الدعاء مشروع وإنما صار بدعة بسبب تحري المكان وقصده بدون أن يكون هذا التحري مشروعاً. ثم إذا علمنا أن ترك الصحابة والسلف الصالح للدعاء عند القبر حجة على بدعيته نذكر دليلاً آخر وهو سعي الصحابة في منع الدعاء عند القبر واجتهادهم في منع وسائله وذرائعه وهو الدليل الآتي:
3- إن الصحابة -رضوان الله عليهم-: (لما فتحوا أرض الشام والعراق وغيرِهما إذا وجدوا قبراً يقصد الدعاء عنده غيبوه)( )وأخفوه.(2/96)
كما أنهم لما فتحوا بيت المقدس لم يقصدوا قبر الخليل ولا غيره من الأنبياء للدعاء ولا للصلاة، بل إذا رأوا أحداً ينتاب مكاناً معيناً للصلاة ونحوها نهوه وزجروه، ومن ذلك أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان إذا رآهم ينتابون مكاناً يصلون فيه لكونه صلى فيه النبي صلى الله عليه وسلم نهاهم عن ذلك ويقول: {هكذا هلك أهل الكتاب اتخذوا آثار أنبيائهم بيعاً، من عرضت له منكم فيها الصلاة فليصل، ومن لم يعرض له منكم فيه الصلاة فلا يصل}( ).
ومن ذلك ما فعل الصحابة بقبر دانيال، فقد روى ابن إسحاق عن أبي خلدة خالد بن دينار قال: حدثنا أبو العالية قال: [لما فتحنا تستر وجدنا في بيت مال الهرمزان سريراً عليه رجل ميت، عند رأسه مصحف له، فأخذنا المصحف، فحملناه إلى عمر بن الخطاب، فدعا له كعباً، فنسخه بالعربية، فأنا أول رجل من العرب قرأه، قرأته مثلما أقرأ القرآن هذا، فقلت لأبي العالية: ما كان فيه؟ فقال: سيرتكم وأموركم، ولحون كلامكم، وما هو كائن بعد، قلت:فما صنعتم بالرجل؟ قال: حفرنا بالنهار ثلاثة عشر قبراً متفرقة، فلما كان الليل دفناه، وسوينا القبور كلها، لنعميه على الناس لا ينبشونه، قلت:وما يرجون منه؟ قال. (كانت السماء إذا حبست عليهم، برزوا بسريره فيمطرون، قلت:من كنتم تظنون الرجل؟ قال: رجل يقال له دانيال...)( ).
وهذا الأثر ثابت عن أبي العالية( ) رفيع بن مهران الرياحي التابعي الكبير وكان حاضراً للقصة فصح بذلك هذا الفعل من الصحابة رضوان الله عليهم.
قال ابن كثير: وهذا إسناد صحيح إلى أبي العالية( ).(2/97)
وقد ورد في رواية أخرى أن الذي أمرهم بإخفاء قبره هو عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقد روى ابن أبي شيبة بإسناده عن أنس: (أنهم لما فتحوا تستر، قال: فوجد رجلاً أنفه ذراع في التابوت كانوا يستظهرون ويستمطرون به فكتب أبو موسى إلى عمر بن الخطاب بذلك فكتب عمر أن هذا نبي من الأنبياء، والنار لا تأكل الأنبياء والأرض لا تأكل الأنبياء فكتب أن انظر أنت وأصحابك- يعني أصحاب أبي موسى- فادفنوه في مكان لا يعلمه أحد غيركما قال: فذهبت أنا وأبو موسى فدفناه)( ).
وهذا الصنيع من الصحابة رضوان الله عليهم للمحافظة على صفاء العقيدة وحماية الأمة الإسلامية من الشرك ووسائله، وهو دليل على دقة فهم الصحابة لما يفسد العقيدة أو يشوبها بالخلل والنقصان، وأما المتأخرون فلو ظفروا بمثل هذا القبر المنسوب إلى نبي لاحتفلوا به وبنوا عليه قبة مذهبة وطافوا به واعتكفوا حوله ودعوه من دون الله تعالى، وهذا ليس تخميناً بل يصدقه الواقع فكم من قباب وأضرحة شيدت على قبور بسبب حكايات ومنامات وليس لها دليل ولا حجة سوى من يدعي المنام إما حلماً من الشيطان وتلبيساً منه، أو للتأكل والاسترزاق، قال ابن القيم: (ولو ظفر به المستأخرون لجالدوا عليه بالسيوف ولعبدوه من دون الله فهم قد اتخذوا من القبور أوثاناً من لا يداني هذا ولا يقاربه)( ).
4- إن السلف الصالح -رضوان الله عليهم- كرهوا تحري الدعاء عند القبر واعتبروه بدعة.
أ- فمن ذلك ما روي عن علي بن الحسين زين العابدين -رضي الله عنهما-، فإنه رأى رجلاً يجيء إلى فرجة كانت عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم فيدخل فيها فيدعو فنهاه فقال: ألا أحدثكم حديثاً سمعته من أبي عن جدي عن رسول الله قال: {لا تتخذوا قبري عيداً ولا بيوتكم قبوراً وصلوا علي وسلموا حيثما كنتم فسيبلغني سلامكم وصلاتكم}( ).(2/98)
ب- ومن ذلك ما روي عن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم: قال سهيل بن أبي سهيل: رآني الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عند القبر فناداني وهو في بيت فاطمة يتعشى فقال:
هلم إلى العشاء، فقلت:لا أريده، فقال: ما لي رأيتك عند القبر؟ فقلت:
سلمت على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إذا دخلت المسجد فسلم، ثم قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {لا تتخذوا بيتي عيداً ولا تتخذوا بيوتكم قبوراً، وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيثما كنتم، لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد}( ) ما أنتم ومن بالأندلس إلا سواء.( ).
فتبين من هذين الأثرين أن قصد قبر النبي صلى الله عليه وسلم للدعاء عنده من اتخاذه عيداً وذلك أن علي بن الحسين زين العابدين وهو أفضل التابعين من أهل البيت- نهى ذلك الرجل من أن يتحرى الدعاء عند قبره صلى الله عليه وسلم واستدل بالحديث الذي سمعه من أبيه عن جده وهو أعلم بمعناه من غيره، وكذلك ابن عمه حسن بن حسن شيخ أهل بيته- كره أن يقصد القبر للسلام ونحوه، غير دخول المسجد، ورأى أن ذلك من اتخاذه عيداً.
فهذه السنة مخرجها من أهل البيت وأهل المدينة الذين لهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم قرب النسب وقرب الدار؛ لأنهم إلى ذلك أحوج من غيرهم فكانوا لها أضبط( ).
جـ- ومن ذلك ما روي عن مالك رضي الله عنه أنه قال: (لا أرى أن يقف عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم يدعو ولكن يسلم ويمضي)( ).
وقال مالك أيضاً: [ذلك لأن هذا هو المنقول عن ابن عمر أنه كان يقول: [[السلام عليك يا رسول الله السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أبت أو يا أبتاه]] ثم ينصرف، ولا يقف يدعو( ) فرأى مالك ذلك من البدع]( ).(2/99)
وقال مالك أيضاً: [لا بأس لمن قدم من سفر أن يقف على قبر النبي صلى الله عليه وسلم فيصلي عليه ويدعو له، ولأبي بكر وعمر، فقيل له: فإن ناساً من أهل المدينة لا يقدمون من سفر ولا يريدونه، يفعلون ذلك في اليوم مرة أو أكثر وربما وقفوا في الجمعة أو في الأيام المرة والمرتين أو أكثر عند القبر فيسلمون، ويدعون ساعة؟ فقال: لم يبلغني هذا عن أحد من أهل الفقه ببلدنا، وتركه واسع، ولا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها، ولم يبلغني عن أول هذه الأمة وصدرها أنهم كانوا يفعلون ذلك ويكره إلا لمن جاء من سفر أَو أراده]( )فإذا كان هذا في حق خير خلق الله وأكرمهم على الله وسيد ولد اَدم( ) فكيف يكون رأي الإمام مالك في قبر غيره؟
فكلام الإمام مالك هذا يدل على أنه يرى الدعاء عند القبر بدعة( ).
ولا شك في أن ذلك بدعة وضلالة ومُخالف للسنة( ).
وهو مما ابتدعه بعض أهل القبلة مضاهاة للنصارى وغيرهم من المشركين فأصله من دين المشركين لا من دين عباد الله المخلصين( )، ويحتمل كلام مالك أنه يريد بالدعاء الذي كرهه هو الدعاء للنبي صلى الله عليه وسلم بصيغة الصلاة أو غيرها مع طول القيام.
وهذا الاحتمال هو الذي فهمه بعض العلماء، فقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: [وأما ما زاد على ذلك مثل الوقوف للدعاء للنبي صلى الله عليه وسلم مع كثرة الصلاة والسلام عليه فقد كرهه مالك وقال: هو بدعة لم يفعلها السلف ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها]( ).
ومثله ابن عبد الهادي( ).
ويحتمل أن الإمام مالكاً -رحمه الله- يريد ما يعم كل ذلك من الدعاء للنبي صلى الله عليه وسلم أو الدعاء لنفسه.
وهذا الذي يقتضيه صنيع شيخ الإسلام ابن تيمية فإنه استدل به في كل ذلك( ).(2/100)
ومما يستفاد من كلام الإمام مالك -رحمه الله- أنه إذا كان يكره أن يطيل الرجل الوقوف عند قبره صلى الله عليه وسلم للدعاء له أو عنده فكيف بمن لا يقصد لا السلام عليه ولا الدعاء له، وإنما يقصد دعاءه وطلب حوائجه منه، ويرفع صوته عنده، فيؤذي الرسول ويشرك بالله، ويظلم نفسه؟( ).
ولا يخالف هذا الذي سبق عن مالك، ما قاله مالك في رواية ابن وهب: [إذا سلم على النبي صلى الله عليه وسلم ودعا يقف ووجهه إلى القبر الشريف لا إلى القبلة ويدنو ويسلم، ولا يمس القبر بيده]( ).
فإن المراد بقوله: [ودعا] هو الدعاء للنبي صلى الله عليه وسلم بلفظ الصلاة ويؤيد هذا سياق الكلام لقوله فيما بعد [ويدنو ويسلم...] إلخ. كما يؤيده أن أبا الوليد الباجي( ) قال: [وعندي أنه يدعو للنبي صلى الله عليه وسلم بلفظ الصلاة ولأبي بكر وعمر لما في حديث ابن عمر من الخلاف]( )، أي يدعو لأبي بكر وعمر بلفظ السلام، لا بلفظ الصلاة. كما يؤيده ما نقله في المبسوط عن مالك أنه قال: [لا بأس لمن قدم من سفر أو خرج إلى سفر أن يقف على قبر النبي صلى الله عليه وسلم فيصلي عليه ويدعو له ولأبي بكر وعمر] وقد تقدم نقله كاملاً قريباً.
كما يؤيد ذلك الجمع بين الروايات عن مالك فلا يكون هناك اختلاف فيما روي عن مالك من كون الدعاء عند القبر بدعة، وكونه جائزاً( ).
ويحتمل أنه أراد الدعاء اليسير( ) الذي يجيء ضمناً وتبعاً، ولكن سياق الحكاية عن مالك لا يؤيد هذا الاحتمال بل يدل على أن مالكاً يرى عدم جواز الدعاء مطلقاً.
5- ومما يدل على أن السلف يرون الدعاء عند القبر بدعة أنهم قالوا في الرجل يسلم على النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يدعو مستقبلاً القبر الشريف، بل عليه إذا أراد الدعاء أن يستقبل القبلة.(2/101)
هذا هو مذهب الأئمة الأربعة، وغيرهم من أئمة الإسلام قالوا: إن الرجل إذا سلم على النبي صلى الله عليه وسلم، وأراد أن يدعو لنفسه فإنه يستقبل القبلة ويدعو في مسجده، ولا يستقبل القبر ويدعو لنفسه، واختلفوا في وقت السلام عليه فقال الثلاثة- مالك والشافعي وأحمد -: يستقبل الحجرة ويسلم عليه من تلقاء وجهه، وقال أبو حنيفة: لا يستقبل الحجرة وقت السلام كما لا يستقبلها وقت الدعاء باتفاقهم.
ثم في مذهبه قولان: قيل يستدبر الحجرة وقيل يجعلها عن يساره، فهذا نزاعهم في وقت السلام، وأما في وقت الدعاء فلم يتنازعوا في أنه إنما يستقبل القبلة لا الحجرة كما يستقبل القبلة إذا دعا بعرفة والصفا والمروة، وعند الجمرات( ).
وأما ما يروى عن بعض العلماء أنهم ذكروا الدعاء بعد السلام على النبي صلى الله عليه وسلم فهو إن ثبت محمول على أنهم إنما أرادوا الدعاء اليسير الذي لم يُتَحَر وإنما جاء ضمناً، وسيأتي أن الدعاء اليسير بدون تحر والذي يجيء ضمناً جائز، ويدل على هذا الحمل ألفاظ الأدعية المروية عنهم في ذلك فإنها يسيرة وفي ضمن السلام: فقد روي عن أحمد -رحمه الله- في منسك المروذي( ) أنه قال: [ثم ائت الروضة، وهي ما بين القبر والمنبر فصل فيها وادع بما شئت ثم ائت قبر النبي صلى الله عليه وسلم، ثم ذكر صيغة السلام والشهادتين والثناء على الرسول صلى الله عليه وسلم ثم ذكر الدعاء للرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: [فجزاك الله أفضل ما جزى نبياً عن أمته، ورفع درجتك العليا وتقبل شفاعتك الكبرى، وأعطاك سؤلك في الآخرة والأولى، كما تقبل من إبراهيم] ثم ذكر الدعاء لنفسه بقوله: (اللهم احشرنا في زمرته وتوفنا على سنته، وأوردنا حوضه واسقنا بكأسه مشرباً روياً لا نظمأ بعده أبداً]( ).(2/102)
فهذا الدعاء للنفس بعد الدعاء للنبي صلى الله عليه وسلم إنما جاء ضمناً ولم يتحر ثم إنه يسير، ومما يستفاد من ألفاظ الأدعية التي ذكرها الإمام أحمد أنه [لم يذكر أن يطلب منه صلى الله عليه وسلم شيئاً ولا يقرأ عند القبر قوله: ((وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ)) [النساء:64] الآية، كما لم يذكر مالك ذلك ولا المتقدمون من جمهور العلماء]( )؛ لأن هذه الأمور مما أحدث بعد القرون المفضلة، (فالسلف كلهم متفقون على أن الزائر لا يسأله شيئاً ولا يطلب منه ما يطلب منه في حياته، ويطلب منه يوم القيامة لا شفاعة، ولا استغفاراً ولا غير ذلك، وإنما نزاعهم في الوقوف للدعاء له والسلام عليه عند الحجرة)( ).
هذا ومما يدل على أن هذا الدعاء اليسير الذي ذكره أحمد لم يتحر فيه أن أحمد -رحمه الله- قال قبل ذلك: (ثم ائت الروضة... وادع بما شئت) فهذا يدل على أن الروضة هي المكان الذي يتحرى فيه الدعاء فلهذا أطلق الإمام أحمد الدعاء فيها، والزائر للمسجد عليه التحري والاجتهاد للدعاء في الروضة لا عند القبر.
وهذه النصوص من أئمة السلف وبعض الأئمة الأربعة ترد على المتأخرين الذين يَدعُون أنهم على مذهبهم فإن بعضهم قد استحب الدعاء عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم وغيره( ).
فتبين مما سبق أن علماء السلف أجمعوا في قبر النبي صلى الله عليه وسلم مع أنه أشرف الخلق واكرمهم على الله، وأفضل الأولين والآخرين، على أنه لا يستقبل عند الدعاء فضلاً أن يدعي من دون الله ويتخذ قبره عيداً، فكيف بقبر غيره ممن هو دونه بكثير؟( ).
ويعلم من هذا أنه إذا اتفق السلف في أن قبر النبي صلى الله عليه وسلم لا يتحرى الدعاء عنده دل ذلك على أن السلف يرون أن تحري باقي القبور بدعة من باب أولى وأحرى.
6- ومما يدل على بدعية تحري الدعاء عند القبور، أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة عند القبور وإليها، ونهى عن اتخاذها مساجد.(2/103)
فقد روى أبو مرثد الغنوي -رضي الله- عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [لا تصلوا إلى القبور ولا تجلسوا عليها]( )، وقال في مرضه الذي لم يقم منه: [لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يحذر ما صنعوا] ( )، وقد نصح أمته وأوصاهم قبل أن يموت بخمس، فقال: (ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد إني أنهاكم عن ذلك)( ). والعلة في النهي عن الصلاة عند القبور كون ذلك يؤدي إلى الافتتان بها، فمن باب أولى النهي عن الدعاء عندها لأن الفتنة هنا أشد.
قال شيخ الإسلام: (إن العلة التي نهى النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأجلها عن الصلاة عندها إنما هو لئلا تتخذ ذريعة إلى نوع الشرك بقصدها، وبالعكوف عليها وتعلق القلوب بها رغبة ورهبة، ومن المعلوم أن المضطر في الدعاء الذي قد نزلت به نازلة، فيدعو لاستجلاب خير كالاستسقاء أو لدفع شر كالاستنصار، فحاله بافتتانه بالقبور إذا رجا الإجابة عندها أعظم من حال من يؤدي الفرض عندها في حال العافية، فإن أكثر المصلين في حال العافية لا تكاد تفتن قلوبهم بذلك إلا قليلاً، أما الداعون المضطرون ففتنتهم بذلك عظيمة جداً، فإذا كانت المفسدة والفتنة التي لأجلها نهي عن الصلاة عندها متحققة في حال هؤلاء كان نهيهم عن ذلك أوكد وأوكد)( )، وذلك لأن الحكم يدور مع العلة وجوداً وعدماً، وقد تحقق وجود العلة هنا فالدعاء عند القبر ذريعة بدون شك ولا ريب إلى دعاء صاحب القبر فيكون منهياً عنه عند القبر كما نهي عن الصلاة عنده.
وهذا الذي سبق يبين أن علة النهي عن اتخاذ القبور مساجد هو الخوف من عبادتها وقد نص على هذه العلة الإمام الشافعي( ) وغيره، وهذا القول هو القول الصحيح من قولي العلماء( ).
وقيل النجاسة، وهذا قول ضعيف( ) لأنه لا يمكن في قبور الأنبياء ادعاء النجاسة كما هو واضح.(2/104)
ثم من العجب العجاب، أنه مع صحة الأحاديث الناهية عن اتخاذ القبور مساجد يقول بعض الناس: (إن من اتخذ مسجداً قرب رجل صالح أو صلى في مقبرة قصداً للتبرك بآثاره وإجابة دعائه هناك والاستظهار بروحه فلا حرج)( ).
ولا يخفى أن هذا مصادمة للنص الصحيح الصريح في دلالته، ولا سبب لهذا- والله أعلم- إلا الجري وراء مألوفات العوام والتقليد الأعمى.
وقد يكون هذا من تأثير الروافض في عوام أهل السنة؛ لأن من آداب زيارة الأئمة عندهم صلاة الزائر عند الفراغ وإهداءها إلى المزور وإن كان ممن يدعون له العصمة فالأفضل الصلاة عند رأسه، ولا يتقدم على القبر ولا يساويه ولا يستدبره، كما أن من الآداب عندهم الدعاء بعد الصلاة وتقبيل العتبة( ).
ومما يدل على تأثيرهم في أهل السنة ما ذكره ابن كثير من بعض ملوك أهل السنة من قصد قبور أئمتهم للدعاء عنده( ). وذكر نحوه ابن الجوزي( ).
ومما يزيد هذا الدليل وضوحاً: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى( ) عن الصلاة عند طلوع الشمس وغروبها واستوائها لسد ذريعة الشرك لئلا يفضي ذلك إلى التشبه بالذين يسجدون لها ويدعونها، كما يفعله أهل دعوة الشمس والقمر والكواكب الذين يدعونها بأنواع الأدعية، فيعلم من هذا أن دعوة الشمس والسجود لهما هو محرم في نفسه أعظم تحريماً من الصلاة التي نهى عنها لئلا يفضي إلى دعاء الكواكب، كذلك لما نهى عن اتخاذ قبور الأنبياء والصالحين مساجد- فنهى عن قصدها للصلاة عندها لئلا يفضي ذلك إلى دعائهم والسجود لهم- كان دعاؤهم والسجود لهم أعظم تحريماً من اتخاذ قبورهم مساجد( )، وذلك لأن الحكم في المقاصد والغايات أشد من الوسائل والذرائع، وهذا كله يدل على أن الدعاء عند القبور وسيلة وذريعة إلى دعاء صاحب القبر أكثر من كون الصلاة عند طلوع الشمس ذريعة إلى عبادتها أو دعائها فيكون أولى بالمنع وأحرى وأوكد.(2/105)
7- إن من قواعد الشرع الأصلية العظيمة قاعدة سد الذرائع، فهي قاعدة اتفق عليها العلماء، والدعاء عند القبر ذريعة إلى دعاء صاحب القبر، وذلك أن الشيطان العدو اللدود للإنسان يتلطف في إغوائه فيزين له في بداية أمره الدعاء عند القبر وأنه أرجح منه في بيته ومسجده وأوقات الأسحار، فإذا تقرر ذلك عنده نقله إلى درجة أخرى وهي الدعاء به، والإقسام على الله به، وهذه الدرجة أعظم من التي قبلها، فإذا قرر الشيطان عنده أن الإقسام على الله به، والدعاء به أبلغ في تعظيمه واحترامه، وأنجع في قضاء حاجته، نقله إلى درجة أخرى، وهي دعاء صاحب القبر من دون الله تعالى، فإذا تقرر ذلك نقله إلى درجة أخرى وهي اتخاذ قبره وثناً يعكف عليه ويوقد عليه القنديل، ويعلق عليه الستور ويبني عليه القبة، ويعبده بالسجود له والطواف به وتقبيله واستلامه، والحج إليه والذبح عنده.
ثم إذا تقرر هذا ينقله إلى درجة أخرى وهي دعوة الناس إلى عبادته واتخاذه عيداً ومنسكاً وأن ذلك أنفع لهم في دنياهم وآخرتهم( ).
ولهذا سد الشارع الحكيم على الشيطان هذه المداخل وحسم مادة الشرك ومنع من كل ما يؤدي إلى دعاء غير الله تعالى، ومن هنا يعلم سر منع الشريعة الإسلامية من تحري الدعاء عند القبر؛ لأن ذلك من أقرب الوسائل التي توصل إلى دعاء صاحب القبر، ومع أن الشارع قد سد هذه الطرق ومنعها، قد وقع ذلك، وحصل من بعض المسلمين اعتقاد إجابة الدعاء عند القبور فأدى ذلك إلى مفاسد كثيرة، وفتن بسببه خلائق من القبوريين حتى صاروا يقيمون الأعياد عندها في يوم معين من السنة ويقصدون ذلك اليوم كما تقصد عرفة ومنى ومزدلفة بل ربما أكثر من ذلك، وصاروا يسافرون إليها من مسافات بعيدة ويشدون الرحل لقصد الدعاء والعبادة عندها أو الدعاء بها أو دعائها، وهذا الذي يفعل عندها هو بعينه الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (لا تتخذوا قبري عيداً) ( ).(2/106)
وقد أنكر العلماء ذلك إنكاراً شديداً، منهم الإمام أحمد رحمه الله، فإنه أنكر ذلك وقال: وقد أفرط الناس في هذا جداً وأكثروا وذكر ما يفعل عند قبر الحسين( ).
فإذا كان هذا الحال في وقت الإمام أحمد وشدة إنكاره لما يقع في زمانه، فكيف لو رأى ما يفعله القبوريون في هذا الزمان؟
وهذه المفاسد الكثيرة سببها اعتقادهم استجابة الدعاء عند القبر أكثر من غيره، وأنه أفضل هناك، وإلا فلو لم يقم بالقلب اعتقاد فضل الدعاء عند القبور لانمحت هذه الفتن والمفاسد التي عمت بلاد المسلمين وشب عليها الصغير وشاب عليها الكبير، فتحصل من هذا أنه إذا كان اعتقاد فضل إجابة الدعاء عندها يؤدي إلى هذه المفاسد كان حراماً، كالصلاة عندها وأولى، وكان ذلك فتنة للخلق وفتحاً لباب الشرك، وإغلاقاً لباب الإيمان( ).
حكم الدعاء عند الأضرحة:
إن الدعاء عند قبر ولي أو نبي أو ما يعتقد أنه قبر نبي أو ولي ولم يكن كذلك له ثلاث صور والحكم يختلف بحسب اختلاف الصور:
فالصورة الأولى: أن يقصد القبر ويتحراه للدعاء عنده فقط معتقداً أن الدعاء هناك أجوب وأن لذلك المكان خصوصية في إجابة الدعاء، وأن الدعاء هناك أفضل من الدعاء في المساجد والبيوت.
الثانية: أن يقصد القبر للزيارة والدعاء عنده معتقداً لما تقدم.
الثالثة: أن يحصل الدعاء عند القبر بحكم الاتفاق بدون قصد وتحر كمن يدعو الله في طريقه، ويتفق أن يمر بالقبور، أو من يزورها فيسلم عليها ويسأل الله العافية له وللموتى كما جاءت به السنة( ).
الحكم في هذه الصور:(2/107)
إن الصورة الأولى والثانية فيهما تحري الدعاء عند القبر، والتحري له حكم خاص لأن الرجل ما يتحرى ويخصص مكاناً معيناً للدعاء إلا وقد سيطر على لبه وعقله اعتقاد أن لذلك المكان خصوصية ودخلاً في إجابة الدعاء، فلذا توجه إلى تلك البقعة، والأصل في الشرع (أنه لا يستحب للداعي أن يستقبل إلا ما يستحب أن يصلي إليه، ألا ترى أن الرجل لما نهي عن الصلاة إلى جهة المشرق وغيرها فإنه ينهى أن يتحرى استقبالها وقت الدعاء)( )فمن هنا صار تحري الدعاء عند القبر ممنوعاً.
وأما لو وقع الدعاء ضمناً بدون تحر فالحكم يختلف (كما أن من دخل المسجد فصلى تحية المسجد ودعا في ضمنها لم يكره ذلك، أو توضأ في مكان وصلى هناك ودعا في ضمن صلاته لم يكره ذلك، ولو تحرى الدعاء في تلك البقعة أو في مسجد لا خصيصة له في الشرع دون غيره من المساجد نهي عن هذا التخصيص)( ).
فتبين من هذا أن تحري الدعاء عند القبر بدعة منكرة وهي من البدع التي تضارع دين النصارى بل يخشى أن تصل في بعض الأحوال إلى الشرك الواضح( )، فهو وإن لم يصل في جميع صوره إلى الشرك لكنه باب واسع يوصل إلى الشرك وذريعة إليه.
قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: (أما بناء القباب عليها فيجب هدمها ولا علمت أنه يصل إلى الشرك الأكبر، وكذلك الصلاة عنده، وقصده لأجل الدعاء فكذلك لا أعلمه يصل إلى ذلك، ولكن هذه الأمور من أسباب حدوث الشرك فيشتد نكير العلماء لذلك... وذكر العلماء أنه يجب التغليظ في هذه الأمور لأنه يفتح باب الشرك)( ).
وأما الحكم في الصورة الثالثة: وهي ما إذا لم يتحر الدعاء عند القبر، وجاء عند القبر للزيارة فقط، أو مر على المقبرة فسلم ودعا لأهل المقبرة ثم دعا لنفسه، فالحكم في هذه الصورة أن الدعاء لا بأس به لأنه وقع ضمناً وتبعاً، ولم يقصد ويدل على ذلك الأحاديث الواردة في السلام على أهل القبور.(2/108)
فقد ورد في حديث بريدة بن الحصيب رضي الله عنه قوله عليه الصلاة والسلام: {أسأل اللّه لنا ولكم العافية}( )، وفي حديث عائشة رضي الله عنها مرفوعاً: {ويرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين}( ).
وهذا الدعاء الذي لم يتحر فيه يكون في الغالب يسيراً وخفيفاً كما في الحديثين السابقين، وعلى هذا يحمل ما ورد عن بعض السلف أنهم ذكروا في المناسك أنه بعد تحية النبي صلى الله عليه وسلم والصلاة والسلام عليه يدعو مستقبل القبلة (فقد ذكر الإمام أحمد وغيره أنه يستقبل القبلة، ويجعل الحجرة عن يساره لئلا يستدبره، وذلك بعد تحيته والصلاة والسلام، ثم يدعو لنفسه، وذكر أنه إذا حَياه وصلى عليه يستقبل وجهه- بأبي هو وأمي - صلى الله عليه وسلم، فإذا أراد الدعاء جعل الحجرة عن يساره واستقبل القبلة ودعا وهذا مراعاة منهم لذلك، فإن الدعاء عند القبر لا يكره مطلقاً، بل يؤمر به للميت كما جاءت به السنة فيما تقدم ضمناً وتبعاً، وإنما المكروه أن يتحرى المجيء للقبر للدعاء عنده]( ) فتقرر بهذا جواز الدعاء الواقع عند القبر بدون تحر.
ولكن جواز الدعاء إذا وقع بدون تحر ليس أمراً متفقاً عليه بين العلماء فقد اختلف السلف في ذلك، فمنهم من منع الدعاء مطلقاً، ومنهم من أجاز ذلك بشروط.
فالمنقول عن السلف والذي تقتضيه عباراتهم أنهم يكرهون الوقوف عند القبر مطلقاً وقد تقدم قول مالك -رحمه الله-: [لا أرى أن يقف عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم يدعو ولكن يسلم ويمضي].
فهذا يقتضي أن مالكاً يرى عدم الوقوف عند القبر مطلقاً سواء تحرى الدعاء أم لا.
وهذا هو الذي مال إليه شيخ الإسلام، فإنه بعد أن ذكر هذا القول قال: (وهو أصح)( )وذلك لأن الوقوف عند القبر للدعاء حتى ولو لم يتحر فيه صاحبه فإنه يخشى أن يكون ضرراً لغيره ممن يرونه لاسيما إذا كان الداعي ممن يقتدى به، ففيه تغرير لهم وإيهام.(2/109)
فالأولى الاقتصار على السلام الوارد في زيارة القبور وعلى الدعاء الذي تضمنه بدون زيادة عليه.
الخلاصة:
إن جواز الدعاء عند القبر له عدة شروط، قلما تتوافر في غير الملتزم بالزيارة الشرعية وتلك الشروط هي:
1- عدم التحري.
2- وقوعه ضمناً وتبعاً لا استقلالاً.
3- أن يكون يسيراً.
4- أن لا يحصل به تغرير على غيره( ).
5- واشترط ابن الهمام الحنفي صاحب فتح القدير أن يكون قائماً( ). وهذا الشرط يقتضيه المنقول عن النبي صلى الله عليه وسلم فلم ينقل أنه عكف عند القبر، وأما ما تفعله بعض الطوائف من الجلوس عند البقيع وغيره من القبور وقراءة الأدعية المكتوبة فبدعة ظاهرة لمخالفته لهذه الشروط كلها مع ما فيه من التوسل المبتدع، والسجع المتكلف، والبكاء المفتعل، وقراءة الأدعية بأصوات تشبه الغناء، والاجتماع على ذلك إلى غير ذلك من البدع المصاحبة لعمل أولئك الطوائف من الرافضة ومقلديهم من القبوريين.
النوع الثاني: التوسل بالذوات:
إن التوسل بالذوات قد انتشر في أدعية المتأخرين حتى كاد أن لا يخلو منه دعاء من أدعيتهم، كأنه شرط أساسي لقبول الدعاء، وكأن الله سبحانه وتعالى لا يقبل الدعاء إلا إذا توسل إليه الداعي بأنبيائه وأوليائه وأحبابه.
ثم إن بعض الناس جعلوه ذريعة لإباحة وتسويغ دعاء غير الله والاستغاثة بالأموات والغائبين، وسموا ذلك توسلاً بهتاناً وكذباً وزوراً وافتراء.
فاقتضى هذا الحاجة إلى معالجة قضايا التوسل وبيان بعض جوانبه المهمة؛ لأن دراسة جميع مسائله وقضاياه تحتاج إلى رسالة مستقلة تلم بجميع جوانبه.
فلهذا أقتصر على بعض مسائله التي هي ضرورة لاكتمال جوانب البحث في الرسالة والله ولي التوفيق.
المعنى اللغوي لكلمة التوسل:(2/110)
التوسل( ) مصدر لتوسل يقال: توسلت إليه أي تقربت إليه، وتوسلت إلى الله وسيلة أي عملت عملاً أتقرب به إليه، فمعناه التقرب، ومن معناه الرغبة والطلب، يقال: وسل إذا رغب، والواسل الراغب إلى الله تعالى ومنه قول الشاعر:
أرى الناس لا يدرون ما قدر أمرهم بلى كل ذي دين إلى الله واسل( )
ويقال أيضاً: وَسل فلان إلى ربه وسيلة، إذا عمل عملاً تقرب به إليه، والوسيلة هي الفعيلة من قول القائل توسلت إلى فلان بكذا بمعنى تقربت إليه، ومنه قول عنترة:
إن الرجال لهم إليكِ وسيلةٌ أَن يأخذوكِ تَكَحلِي وتَخَضبِي( ) يعني بالوسيلة القربة وفيه معنى الرغبة، قال الراغب الأصفهاني: (والوسيلة التوصل إلى الشيء برغبة، وهي أخص من الوصيلة لتضمنها لمعنى الرغبة).
والوسيلة أيضاً ما يتقرب به إلى الغير والجمع الوسيل والوسائل، ويحتمل أنه بمعنى الحاجة في بيت عنترة المتقدم كما قال أبو عبيدة معمر بن المثنى.
فتحصل من هذا أن الوسيلة تطلق على الأمور التالية:
1- القربة.
2- الرغبة.
3- الحاجة.
4- وورد إطلاقها على المنزلة عند الملك، ومنه (اللهم رب هذه الدعوة... آت محمداً الوسيلة).
وهذه المعاني متقاربة بل هي متداخلة ومتلازمة فإن الرغبة والحاجة والتقرب قرائب في المعنى ويستلزم بعضها بعضاً.
فهذا هو معنى التوسل والوسيلة حسبما تدور عليه عبارات اللغويين.
وأمما المعنى الشرعي فهو أيضاً مأخوذ من هذا المعنى اللغوي، فهو: التقرب إلى الله تعالى بالأعمال الصالحة على وفق ما شرعه الله تعالى.
ويكون معنى ابتغاء الوسيلة إلى الله الوارد في قوله تعالى ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ)) [المائدة:35]. هو (التوسل إليه باتباع ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم)( ).
هذا هو إطلاق التوسل في اللغة وفي الشرع.(2/111)
وأما التوسل في عرف بعض المتأخرين فيطلق على التوسل بالذوات الفاضلة كما يطلق على دعاء غير الله تعالى والاستغاثة به.
فقد تغيرت المفاهيم عندهم ودخل في الأسماء الشرعية تحريف عن وضعها الشرعي، فالعبادة عندهم لا تطلق إلا على نحو السجود والركوع، ومثل ذلك يقال في معنى الشرك والكفر وغير ذلك.
وقد تسبب هذا في أنهم أجازوا دعاء الموتى ونداءهم باسم التوسل.
فهذا هو السبب الذي اقتضى البحث في موضوع التوسل؛ لأنه لو سد باب إباحة التوسل البدعي لانسد باب دعاء غير الله تعالى؛ لأن التوسل البدعي هو الباب الرئيسي الذي يدخل منه الشيطان ليزين لبعض الناس دعاء غير الله تعالى.
خلاصة الكلام في هذه المسألة( ):
إن لفظ التوسل فيه اشتراك وإجمال قد حصل بسببه لبس وخلط وإيهام.
وذلك لأن التوسل يطلق شرعاً وفي عبارة السلف على أمرين:
أحدهما: التوسل والتقرب إلى الله تعالى بما شرعه من الإيمان به وتوحيده والإيمان برسوله وتصديقه ومحبته وطاعته، وجميع الأعمال الصالحة والمشروعة.
وثانيهما: طلب الدعاء والشفاعة من الرجل الحي الحاضر مثل قول عمر رضي الله عنه: كنا نتوسل إليك بنبينا إلى آخره، وسيأتي مفصلاً إن شاء الله تعالى.
وهذان الإطلاقان صحيحان ثابتان واردان في الشروع وفي عبارة السلف، إلا أن هناك إطلاقين آخرين عند المتأخرين لا يعرفون من التوسل إلا إياهما.
وهذان الإطلاقان:
أحدهما: التوسل بذوات الصالحين.
وثانيهما: نداء الأموات والغائبين واستغاثتهم، والصراخ والهتاف بأسمائهم.
فهذان المعنيان يطلق عليهما لفظ التوسل عند المتأخرين، مع أن هذا إطلاق لم يكن معروفاً لا في اللغة العربية ولا في الشرع ولا في إطلاقات السلف.
وحتى لا يقول أحد: إننا نفتري على الآخرين ننقل هنا كلام أحد المتأخرين وهو سلامة العزامي( )، فإنه ذكر أن التوسل بالذوات الفاضلة على ثلاثة أنواع فقال:(2/112)
النوع الأول: أن يسأل الله مستشفعاً بهم كأن يقول: اللهم إني أسألك بنبيك محمد أو أتوجه إليك به...( ).
النوع الثاني: أن يطلب المتوسِل من المتوسَل به أن يشفع إلى الله في حوائجه بأن يدعو الله له في قضائها( ).
النوع الثالث: أن يطلب نفس الحوائج منه وهو يريد أن يتسبب في قضائها من الله بشفاعته فيها عند الله سبحانه( ).
فقد صرح العزامي في هذا الكلام بأن التوسل بالذوات يطلق ويراد منه ثلاثة أنواع:
1- السؤال بهم.
2- التشفع بهم والمراد به الشفاعة الشركية التي تقدمت.
3- طلب الحوائج منهم أنفسهم.
فهو قد أدخل الشفاعة أيضاً في معنى التوسل كما أطلقها أيضاً على الاستغاثة ونداء الميت لطلب الحوائج منه، فهو بهذا يجيز بل يستحسن طلب قضاء الحوائج من الموتى وهو يصرح بهذا، والشرط الوحيد الذي يشترطه هو عدم اعتقاد الربوبية فإنه قال: (ولا يفسد التوسل بالأنبياء والصالحين إلا أن يجعلهم أرباباً من دون الله ويتخذ هذا الجعل وسيلة إليهم أن يشفعوا له، فهذا لا ينفعه شيء من التوسل ولا غيره)( ).
وسيأتي مناقشة ما يتعلق بمسألة قولهم: إن عدم اعتقاد الربوبية كافٍ في عدم الشرك.
إن هذا التوسع في معنى التوسل والخلط بين الأسماء الشرعية التي جاء بها الكتاب والسنة وبين الأسماء المبتدعة المستحدثة، هو أحد الأمور التي يلبس بها الشيطان على كثير من الناس فيظنون البدعة سنة والمنكر معروفاً.
مع العلم بأننا لم نجد أحداً من المفسرين واللغويين فسر التوسل بالتوسل بالذوات على هذا الوجه الذي ذكروه، وقد تقدم نقل كلام اللغويين الذي لا يخرج عن معنى التوسل المشروع.
وبعد أن انتهينا من التعريف لمعنى التوسل نذكر أنواعه وبالله التوفيق.
أقسام التوسل:
ينقسم التوسل إلى قسمين: مشروع، وممنوع. وكلاهما ينقسم إلى أنواع:
أنواع التوسل المشروع:
أوصلها بعضهم( ) إلى ستة أنواع، وعند التأمل ترجع تلك الأنواع المشروعة إلى ثلاثة أنواع:(2/113)
أ- التوسل بأسماء الله الحسنى وصفاته العليا:
ويدخل تحته التوسل بإضافة اسم الرب جل وعلا إلى عباده الصالحين كما في حديث عائشة رضي الله عنها: {اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل...} ( ).
فإن هذا توسل إلى الله تعالى بربوبيته لهؤلاء العباد المكرمين، فالربوبية صفة من صفاته العليا، فهذا قسم داخل تحت التوسل بالأسماء الحسنى والصفات العليا وليس قسيماً له، فلا حاجة لعده قسماً آخر. والتوسل بأسماء الله الحسنى مشروع قد أمرنا الله به، قال تعالى: ((وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا)) [الأعراف:180].
وفي الآمر بالدعاء بالأسماء الحسنى نهى عن الدعاء بغيرها.
وفي معنى هذه الآية قوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو هريرة رضي الله عنه: {إن لله تسعة وتسعين اسماً من أحصاها دخل الجنة}( ).
فمن معاني الإحصاء السؤال بها، وقد ذكر بعض العلماء أنه لا يجوز الدعاء بغير الأسماء التسعة والتسعين( )، فهذا القول وإن كان فيه نظر- لما ثبت من الدعاء بغيرها- لكنه يدل بطريق الأولى على عدم جواز الدعاء بغير أسماء الله وصفاته من أسماء المخلوقين.
ب- التوسل بالأعمال الصالحة:(2/114)
ويدخل تحته التوسل بالإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم وتصديقه وطاعته واتباعه، والتوسل بمحبة الصالحين في الله ولله، لأن هذا توسل بعمل الداعي وليس قسيماً له فلا حاجة لعده قسماً آخر، كما يدخل تحته التوسل بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا أيضاً توسل بعمل الداعي وليس قسيماً له كما هو واضح. وقد شرع الله لنا التوسل بالأعمال الصالحة التي عملها الداعي، وقد ورد هذا التوسل في آيات عدة ذكر الله فيها أدعية الأنبياء والصالحين التي توسلوا فيها بأعمالهم الصالحة، فمن تلك الآيات:((رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)) [آل عمران:16]. ((رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا)) [آل عمران:193].((رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ)) [المائدة:83]. ((رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ)) [المؤمنون:109].
ومنه حديث أصحاب الغار المشهور( ) حيث توسل أدهم ببره لوالديه والثاني بعفته والثالث بأداء للحقوق.
وهذا النوع الثاني تحته صورتان:
أحدهما: التوسل بالأعمال الصالحة إلى طلب حصول ثواب الله تعالى ورحمته ورضوانه، فإن الأعمال الصالحة هي الوسيلة التامة إلى سعادة الدارين.
ومن هذه الصورة الآيات السابقة، ففي تلك الآيات توسل بالإيمان إلى طلب المغفرة والرحمة.
وثانيتهما: التوسل بالأعمال الصالحة التي سبق للمتوسل أن عملها - إلى طلب إجابة دعاء وإطاء سؤله وقضاء حوائجه ونيل مرامه في الدنيا( ).
ويظهر من تتبع الأدعية المأثورة الواردة في الكتاب والسنة - كثرة الصور الأولى التي الهدف الأكبر منها الأمر الأخروي.
وأما الصورة الثانية فأقل من الأولى، فهي ليست بكثيرة بالنسبة إلى الأولى ولكنها جائزة ثبتت بأدلة صحيحة منها حديث الغار.(2/115)
والمقصود بهذا الكلام أن التوسل بالأعمال الصالحة إلى طلب قضاء الحاجات الدنيوية قليل في الأدعية الواردة إذا قسناه إلى التوسل بها إلى طلب النجاة من النار وطلب المغفرة ونحو ذلك من الأمور التي تتعلق بالآخوة، فهذا كثير في الأدعية الواردة.
وأما الموسل بالأعمال على قضاء الحوائج بإجابة الدعوات فهو أيضاً مأثور وثابت- وإن كان أقل من ذلك- ولم يرد في الأدعية القرآنية ولكنه ثابت صحيح، ومما ورد من ذلك حديث أصحاب الغار السابق.
ومن ذلك ما روي بإسناد صحيح عن هلال الوزان حدثنا عبد الله بن عكيم الجهني أحد الصحابة: [أنه أرسل إليه الحجاج بن يوسف، فقام فتوضأ ثم صلى ركعتين]، ثم قال: [اللهم إنك تعلم أني لم أزن قط، ولم أسرق قط، ولم آكل مال يتيم قط، ولم أقذف محصنة قط، إن كنت صادقاً فادرأ عني شره]( ).
هذا الصحابي قد توسل بأعماله الصالحة السابقة، ولم يتوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم ولا بأبي بكر وعمر وغيرهما من السابقين الأولين، فالتوسل بالأعمال الصالحة التي عملها المتوسل في حياته جائز ومشروع، فيدخل في ذلك توسل الرجل بإيمانه بالنبي صلى الله عليه وسلم وطاعته ومحبته فإن هذه الأمور من عمل الرجل المتوسل وليست أمراً أجنبياً عنه، ولكن من المعروف أن غالب المتوسلين بالذوات لا يعرفون هذا المعنى الصحيح ولا يخطر في مخيلتهم إلا المعنى المبتدع، فلهذا لا يصح تأويل توسلهم المبتدع بهذا المعنى الصحيح؛ لأنه حمل لكلام المتكلم على غير مراده.
جـ- التوسل بطلب الدعاء من الحي الحاضر:
فهذا النوع من التوسل جائز لثبوته من فعل الصحابة مع النبي صلى الله عليه وسلم وإقراره لهم حيث كان أحدهم يأتيه فيطلب منه صلوات الله وسلامه عليه الاستسقاء لعموم المسلمين، أو يأتي فيطلب حاجته الخاصة كما طلب منه الأعمى الدعاء له برد البصر وغير ذلك من الأمثلة.(2/116)
ولا يشترط في هذا أن لكون المطلوب منه أفضل من الطالب، فقد طلب عمر رضي الله عنه ومعه السابقون الأولون من العباس بن عبد المطلب الاستسقاء، ومما لا شك فيه أن عمر أفضل من العباس رضي الله عن الجميع.
وهذا النوع الثالث تحته صورتان( ):
إحداهما: أن يطلب من الحي الحاضر الدعاء فيدعو الحى الحاضر بدون أن يدعو الطالب المتوسل.
وثانيتهما: أن يطلب الدعاء من الحي الحاضر، ثم يدعو بنفسه أن يتقبل الله دعاء المتوسل به، أو يؤمنَ على دعائه، ففي هذه الصورة يوجد دعاءان أحدهما من الحي المطلوب منه الدعاء، والآخر من الطالب نفسه.. وهذا مثل ما وقع في حديث استسقاء عمر وطلبه من العباس الدعاء فدعا العباس ودعا معه عمر والحاضرون. ومثله ما وقع في حديث الأعمى حيث دعا له النبي صلى الله عليه وسلم ودعا الأعمى أيضاً أن يتقبل الله دعاء النبي صلى الله عليه وسلم له ومن جملة دعائه (فشفعه في) أي تقبل شفاعته ودعاءه لي وسيأتي بيان ذلك إن شاء الله تعالى( ).
التوسل غير المشروع:
إن أنواع التوسل غير المشروع ثلاثة قد تقدم ذكرها آنفا ولا حاجة لإعادتها وقد علمنا أن إطلاق اسم التوسل عليها لم يرد في الكتاب والستة وكلام السلف، لاسيما القسم الثاني الذي بمعنى الشفاعة الشركية والقسم الثالث الذي بمعنى الاستغاثة وطلب الحوائج والاستمداد من الموتى.
فهذه الإطلاقات محدثة مبتدعة ابتدعها المتأخرون، لتبرير وتسويغ دعاء غير الله تعالى بهذا الاسم- التوسل- المفتري عليه والذي حرفوا معناه وحقيقته الشرعية للتستر على دعاء غير الله تعالى.
والحقيقة لا تتغير بالادعاء وتغيير الأسماء، فإن العبرة بالمعاني والمقاصد لا بالألفاظ والعبارات.
فهذا التوسل بأنواعه الثلاثة ممنوع وبعضه أشد منعاً من بعض، وقد تقدم الكلام على النوعين الأخيرين في مبحث مراتب الدعاء غير المشروع، وهنا نتكلم على النوع الأول الذي هو السؤال بالذوات. وإليك بيان ذلك:(2/117)
الأدلة على بدعية التوسل بالذوات:
إن التوسل بالذوات الفاضلة من البدع التي انتشرت في أدعية المتأخرين انتشاراً واسعاً مع بدعيته، حتى كاد أن لا يخلو منه دعاء من أدعيتهم وهم يزعمون مشروعيته واستحبابه مع وضوح بدعيته، ونحن نوجز هنا الأدلة الدالة على بدعيته وبالله التوفيق وعليه التكلان.
1- إن الدعاء من أهم العبادات، والعبادات مبناها على التوقيف، والتوسل بالذوات لم يشرع في كتاب ولا سنة صحيحة صريحة، فهو بدعة لا يجوز التعبد به في الدعاء الذي هو من أهم العبادات، وقد سبق كيف نهى الشارع الحكيم عن الابتداع في الدين وحذر من ذلك أشد التحذير. فدين الإسلام مبني على أصلين عظيمين ألا نعبد إلا الله وألا نعبده إلا بما شرع، فلم يثبت أن الله شرع لنا التعبد بالتوسل بالذوات فلا يجوز التعبد به.
2- إن الله( ) سبحانه وتعالى قد ذكر في كتابه أدعية الأنبياء وأتباعهم وهي كثيرة جداً، فلم يذكر في واحدة منها هذا التوسل البدعي، وإنما الذي ذكره الله هو التوسل المشروع وهو التوسل بالإيمان والعمل الصالح.
ولنضرب نماذج من أدعية الأنبياء وأتباعهم حتى تتضح الصورة الصحيحة للتوسل المشروع ولا يلتبس الحق بالباطل.
من ذلك دعاء يوسف عليه السلام: ((رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ)) [يوسف:101]، فقد توسل يوسف عليه السلام بالثناء على الله تعالى بما أنعم عليه من الملك وعلم الرؤيا، كما توسل باسم من أسماء الله تعالى وهو فاطر السموات والأرض، وتوسل بولاية الله له، وهذا هو التوسل المشروع ولم يتوسل بالأنبياء السابقين قبله من آبائه الكرام وغيرهم فلم يقل: [اللهم إني أسألك بجاه أو منزلة أو شرف آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب عليهم السلام].(2/118)
ومن ذلك دعاء سليمان عليه السلام: ((رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ)) [النمل:19]، فقد سأل الله تعالى وتوسل إليه برحمته التي هي من صفاته العليا أن يدخله في عباده الصالحين ولم يتوسل إليه بآبائه إبراهيم ومن بعده إلى داود عليهم السلام.
ومن ذ لك دعاء أيوب عليه السلام: ((وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ)) [الأنبياء:83]، فقد توسل إلى الله تعالى بكونه أرحم الراحمين وهو توسل بالأسماء الحسنى ولم يتوسل بآدم ولا نوح ولا الملائكة المقربين ولا بحملة العرش كما يفعله المولعون بالتوسل المبتدع.
وإذا تجاوزنا أدعية الأنبياء عليهم السلام إلى أدعية أتباعهم التي ذكرها الله تعالى في كتابه نجدهم يتوسلون إلى الله تعالى بالتوسل المشروع ولا نجد حرفاً واحداً من توسلهم بأنبيائهم مع أنهم بلا شك يحبون أنبيائهم أكثر من غيرهم.
فمن أمثلة ذلك ما ذكره الله تعالى عن الحواريين الذين مع عيسى عليه السلام قال تعالى: ((فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ * رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ)) [آل عمران: (52-53)]، فقد توسلوا بإيمانهم بما أنزل الله وباتباعهم الرسول عيسى عليه السلام، ولم يتوسلوا بذات عيسى ولا بجاهه ولا بحرمته ولا شرفه.(2/119)
ومن ذلك ما ذكره الله عن الذين يقاتلون مع نبي من أنبياء بني إسرائيل ((وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ)) [البقرة:250].
فهؤلاء توسلوا إلى الله تعالى بربوبيته التي هي من مقتضى إجابته للدعاء ولم يتوسلوا بأنبياء بني إسرائيل ولا بالنبي الذي يقاتلون معه.
ومن ذلك ما ذكره الله في قوله: ((وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ...)) إلى قوله: ((وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا...)) [آل عمران: (146-147)].
ومن ذلك ما ذكره الله عن أدعية صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم- لم نجد فيها حرفاً واحداً من التوسل المبتدع، فمن أمثلتها قوله تعالى: ((وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا)) [النساء:75].
فهؤلاء المستضعفون لم يتوسلوا بالنبي صلى الله عليه وسلم ولا بصحابته الكرام وإنما توجهوا إلى الله تعالى بربوبيته فقط بل طلبوا منه أن يجعل لهم من عنده من يتولاهم وينصرهم ففي قولهم ((من لدنك)) ما يشعر أنهم لم يلتفتوا في هذا الدعاء لا إلى الرسولى صلى الله عليه وسلم ولا صحابته بل جردوا الطلب لله تعالى أن ييسر لهم من يشاء لينصرهم.(2/120)
ومنها قول النصارى الذين آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم: ((وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ)) [المائدة:83]. ومنها قوله تعالى: ((وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ)) [الحشر:10].
فقد توسلوا بربوبيته ورأفته ورحمته، وطلبوا الدعاء لمن سبقهم فجاء المتأخرون فعكسوا القضية فتركوا المأمور به وهو الدعاء لمن سبقهم وارتكبوا المحظور وهو الدعاء بهم أو دعاؤهم من دون الله تعالى.
3- إن الرسول صلى الله عليه وسلم قد علم أمته كل خير، ومما علمها الأدعية المباركة وقد جمعها علماء السنة المشرفة، فبعضهم جمعها ضمن الموضوعات المتفرقة كأصحاب السنن الستة والمسانيد والمعاجم، وبعضهم جمعها في مؤلف مستقل وهؤلاء أيضاً كثيرون كما سبق.
وهؤلاء الجامعون للأدعية النبوية لم ينقلوا حرفاً واحداً من توسل النبي صلى الله عليه وسلم بالأنبياء السابقين بطريق صحيح صريح، كما لم يذكروا أنه أمر أصحابه بالتوسل به وبجاهه أو بجاه الأنبياء السابقين وشرفهم، ولا نجد في تلك الأدعية المباركة، التوسل المبتدع الذي يلهج به المتأخرون والذي لا يخلو منه دعاء من أدعيتهم.
اللهم إلا ما قد يشتبه من ذلك في حديث الضرير وسيأتي التنبيه عليه وما يشبهه وأن ذلك ليس من التوسل المبتدع على فرض صحة تلك الأحاديث.(2/121)
4- قد ذكر علماء السنة والآثار أدعية الصحابة والتابعين فإذا بحثنا فيها فلا نجد توسلهم بحبيبهم المصطفى صلوات الله وسلامه عليه ورضي الله عنهم، ولا نجد توسلهم بكبار الصحابة أبي بكر وعمر، فهل ترى أن المتأخرين يحبون النبي صلى الله عليه وسلم أكثر منهم؟ كلا.
5- إن التوسل بالذوات لو كان جائزاً عند الصحابة لما جاء الأعمى إلى الرسول صلى الله عليه وسلم بل جلس في بيته وتوسل بجاهه، ولما عدل عمر وَمن معه إلى العباس ولما أمر النبي صلى الله عليه وسلم عمر أن يطلب من أويس القرني الاستغفار بل كان يكفيه أن يقول: اللهم أني أسألك بحق أويس القرني( ).
6- أننا قد ذكرنا( ) تشدد السلف الصالح في الأدعية،- تحذيرهم الشديد من الابتداع في الدين عموماً وفي الأدعية خصوصاً وذكرنا -بحمد الله- ما يدل على أن الالتزام بالأدعية المأثورة هو الأولى، وإن كان غير المأثور الذي هو المفضول جائزاً لكن السلف الصالح ومن تبعهم من الفقهاء المعتبرين حذروا من الأدعية المبتدعة، فدل هذا على أن التوسل المبتدع قد حذر منه السلف ضمناً، مع أنه لم يقع في زمانهم الابتداع بالتوسل ونحوه إلا بصورة نادرة إذا قارناه بما وقع للمتأخرين، هذا على فرض ثبوت ما يروى عن بعضهم من التوسل بالذوات وإلا فيظهر أنه لم يقع التوسل المبتدع إلا في القرون المتأخرة.
فإذا كان السلف ينكرون على من يقول: يا سبحان يا غفران ونحو هذا( ) مع أنه إنما نادى صفة من صفات الله وأراد التوسل بها إلى الله تعالى، فكيف يكون إنكارهم على من ينادي الولي أو القبر متوسلاً به إلى الله تعالى؟ بل كيف يكون إنكارهم على من يطلب المدد والاستغاثة من دون الله تعالى؟(2/122)
ومن السلف الذين أنكروا الابتداع في الأدعية الإمام مالك رحمه الله فإنه كان يكره أن يقول الداعي يا سيدي بل يقول كما قالت الأنبياء يا رب، كما أنكر( ) غير هذا مما ابتدع في الدعاء في زمانه، فإذا كان مالك إمام دار الهجرة يكره في الدعاء إلا متابعة الأنبياء في قولهم مع صحة المعنى في نحو يا سيدي، فكيف تكون كراهة مالك للتوسل المبتدع بل ولطلب المدد؟ فلا يشك عاقل أن كراهته له أشد.
7- إن الذي يتوسل( ) في الدعاء يعتقد أنه مشروع في الدعاء وينوي به التعبد والتقرب والطاعة وأنه مما يستجاب به الدعاء وما كان من هذا النوع فإما أن يكون واجباَ وإما أن يكون مستحباً، إذ العبادات لا تكون إلا أحدهما، فما ليس بواجب ولا مستحب فليس بعبادة ودعاء الله تعالى عبادة، والتوسل بالذوات ليس بواجب ولا مستحب، فثبت بهذا كون التوسل بالذوات غير عبادة فهو إذن بدعة.(2/123)
8- إن العلماء اختلفوا( ) في مسألة دعاء الله تعالى والتوسل إليه بغير التسعة والتسعين اسماً التي وردت في الحديث، فمن العلماء من قال: لا يدعي بغير التسعة والتسعين وإن كان يسمى بها ويخبر بها عنه، فالدعاء لا يجوز إلا بما في هذا العدد، فهذا القول وإن كان مرجوحاً لكن المقصود أنه إذا كان العلماء منهم من يجيز الدعاء بغير التسعة والتسعين مع ثبوت كونه من الأسماء الحسنى، دل هذا على تشدد العلماء في باب الدعاء وتحذيرهم عن الابتداع فيه، فيدل هذا على أنه لا يجوز من باب أولى دعاء الله تعالى بما لم يثبت كونه من الأسماء الحسنى ولا من صفاته نحو الأنبياء والأولياء، وذلك لأن الله تعالى قيد دعاءه بالأسماء الحسنى فقال. ((وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا)) [الأعراف:180]،. ففي هذه الآية أمر بالدعاء بها ونهى عن الدعاء بغيرها كما قال تعالى: ((ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ)) [الأحزاب:5]، فهو نهى أن يدعوا لغير آبائهم، وفي هذه الآية أيضاً أن الله تعالى لا يدعى إلا بالأسماء الحسنى، فالحسنى اسم تفضيل أي لا يدعى إلا بالاسم الأحسن، وأما الاسم الحسن أو الذي ليس بسيء وإن لم يحكم بحسنه فلا يدعى به وإن كان يجوز ذلك في باب الإخبار عنه وأما في باب الدعاء فلا.
9- إن علماء السلف رحمهم الله تعالى قد فهموا من أحاديث الاستعاذة بالله وكلماته أنه لا تجوز الاستعاذة بالمخلوق.
وقد تقدم -بحمد الله- ذكر نصوص كلامهم في ذلك.
وكذلك ينبغي لنا أن نفهم مما ورد في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأمر بالتوسل بأسماء الله تعالى أنه لا يجوز التوسل بذوات المخلوقين.
فكلا المسألتين- متطابقة والمأخذ واحد.(2/124)
10- إن السؤال بالذوات سؤال بسبب لا يقتضي المطلوب؛ لأن الله سبحانه وتعالى لم يجعل السؤال بالذوات سبباً لحصول المطلوب؛ لأنه سؤال بذات لا رابط بينها وبين ذات السائل، لأن السائل إذا توسل بإيمانه وأعماله الصالحة فقد توسل بسبب له علاقة وارتباط به لأن أعماله له الأجر عليها، ومن ذلك إجابة الدعاء، وأما ذات مخلوق آخر فأي وسيلة بينهما وأي علاقة تربطهما؟( ).
اللهم إلا إن توسل بإيمانه بالنبي صلى الله عليه وسلم ومحبته له أو محبته للصالحين ولكن هذا القصد قلما يخطر ببال المتوسلين بالذوات.
وحاصل هذا الوجه أنهم يقولون إن التوسل سبب لإجابة الدعاء، فهم مطالبون بأمرين: أحدهما الدليل على أنه سبب لتحصيل الإجابة، وثانيهما الدليل على أنه سبب مشروع لا يحرم فعله فإنه ليس كل ما كان سبباً كونياً يجوز تعاطيه، فإن قتل المسافر قد يكون سبباً لأخذ ماله وكلاهما محرم( ).
وهؤلاء المدافعون عن مشروعية التوسل ليس لديهم الأدلة الكافية لإثبات هذين الأمرين إلا بعض الشبهات وسيأتي الكلام عليها إن شاء الله تعالى.
11- إن اعتقاد مشروعية التوسل بالذوات أدى إلى مفاسد جسيمة وعواقب وخيمة، وما كان كذلك فلا يمكن أن يشرعه الله تعالى؛ لأن الشريعة الإسلامية إنما جاءت بترجيح المصالح وتكثيرها وتقليل المفاسد وإزالتها فثبت بهذا أنه بدعة لم يشرعه الله تعالى..
وإليك بيان بعض تلك المفاسد التي في التوسل بالذوات:
أ- إن التوسل بالذوات هو الباب الرئيسي الذي دخل منه الشيطان إلى المسلمين لنشر دعاء غير الله تعالى والاستغاثة بالأموات والاستمداد بهم.
ولا يستريب في هذا من له اهتمام ومعرفة بأسباب انتشار الشركيات والبدع، فتجويز التوسل يؤدي بلا شك إلى انتشار دعاء غير الله تعالى لأن الشيطان يزين للإنسان أولاً الدعاء بمن يعتقد فيه ثم ينقله إلى دعائه نفسه والعياذ بالله.(2/125)
ب- إن من مفاسده صرف الافتقار إلى غير الله تعالى، فقد قال الإمام النووي -رحمه الله- في التوسل المشروع، الذي هو التوسل بالأعمال الصالحة إن في ذلك نوعاً من ترك الافتقار المطلق إلى الله تعالى( ).
فإذا كان الإمام النووي -رحمه الله- يخاف من ترك الافتقار المطلق في التوسل بالأعمال مع ثبوته ومشروعيته فكيف يكون الأمر في التوسل بالذوات حيث علق الداعي قلبه بغير الله والتفت في دعائه إلى غير الله تعالى؟ فالتوسل المبتدع يتضح فيه ترك الافتقار المطلق من العبد أكثر من وضوحه في التوسل المشروع، فإذا قدرنا أنه لم يلتفت بقلبه إلى المتوسل به ولم يترك الافتقار المطلق إلى الله تعالى فلماذا أقحم اسم المخلوق في مخاطبة الله ومناجاته؟
ففيه بلا شك ترك الافتقار المطلق إلى الله تعالى وهذه مفسدة عظيمة.
جـ- إن التوسل بالذوات هو الذي فتح للعوام نداء الأموات والاستغاثة بهم بحجة أن ذلك توسل لعدم معرفة بعضهم بالفرق بين الأمرين، ولتساهل آخرين، ولاعتقاد البعض أدن الكل جائز من باب واحد فالولي أعطي السلطة الغيبية والتصرف المطلق عند هؤلاء فلا مانع من الطلب منه إلى غير ذلك.
د- إن التوسل له أثر واضح في اعتقاد المتوسل أن المتوسل به له أثر في إجابة الدعاء إذ لو كان يعتقد أنه ليس له أثر ما في استجابة الدعاء فوجوده وعدمه سواء، لما أجهد نفسه بزيادة ذكر اسمٌ المتوسل به أثناء مخاطبة الله تعالى.
مع أن المعلوم أن المتوسل به ليس له دخل في الاستجابة إذ لا علم له بمن يتوسل به حتى يقال: إنه دعا الله تعالى أو شفع عند الله. ولهذه المفاسد وغيرها يترجح منع التوسل البدعي وبدعيته وأن الله سبحانه وتعالى لا يشرع ما يترتب عليه مثل هذه المفاسد حاشا وكلا شرع الله من ذلك.
ثم إن من القواعد المقررة سد الذرائع ولا يخفى أن التوسل المبتدع ذريعة إلى هذه المفاسد والتي منها دعاء غير الله تعالى والاستغاثة به.(2/126)
فلو أن العلماء منعوا العوام من التوسل البدعي، لما وصل العوام إلى ما نراهم فيه من دعاء الأموات ليلاً ونهاراً واللهج بأسمائهم عند كل ملمة، وجعل ذلك هجيراهم ودأبهم.
12- التوسل بالذوات هو مثل الإقسام بالذوات وقد ورد النهي عن القسم بمخلوق فقد قال صلى الله عليه وسلم: {من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك}. فكماً أنه لا يجوز أن يحلف بمخلوق فكذلك لا يجوز أن يقسم على الله بمخلوق ولا يسأل بنفس مخلوق، فالسؤال بالمخلوق والإقسام به كلاهما من باب واحد، وقد تقدم بيان أن العلماء منعوا الحلف بغير الله ومنهم من جعله من الشرك الأكبر كما منعوا الإقسام على الله تعالى بالمخلوق.
ومن هذا الباب التوسل البدعي. فهو مثل القسم والحلف بغير الله تعالى فلا فرق بين ذلك.
13- ثم يقال لمن يجيز الإقسام على الله تعالى بالمخلوق أو السؤال به: ما هو الضابط الذي تتبعه في السؤال بالمخلوقات والإقسام بها؟ هل يقسم بكل مخلوف أو بالمخلوقات المعظمة أو ببعضها؟.
فإن قال بكل مخلوف لزمه أن يسأل بالشياطين؛ فهذا لا يقوله مسلم وإن قال بالمعظمة فيقال: هل هو خاص بنوع معين أم لا؟ فإن قال بالمخلوقات التي أقسم الله بها لزمه السؤال بالليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى وبكل ذكر وأنثى ولزمه أن يسأله بالشمس والقمر والكواكب مع أنها عبدت من دون الله. وإن قال بمعظم دون معظم فيقال له: بعض المخلوقات وإن كان أفضل من بعض فكلها مشتركة في أنه لا يجعل شيء منها نداً لله تعالى، فلا يعبد ولا يتوكل على أحد من المخلوقات كائناً ما كان، ونهى الله عن الشرك به في أي مخلوق، قال تعالى: ((مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ)) [آل عمران:79].(2/127)
والله سبحانه سوى بين المخلوقات فلم يجعل لأحد منها سواء كان نبياً أو غيره أن يقسم به ولا يتوكل عليه ولا يرغب إليه، فكذلك السؤال إما أن يسوغ بالكل وإما ألا يسوغ مطلقاً أو بكل معظم والتفريق بين معظم ومعظم كتفريق من فرق، فزعم أنه يجوز الحلف ببعض المخلوقات دون بعض فكما أن هذا فرف باطل فكذلك الآخر( ).
14- ثم إن مسألة التوسل أمر اختلف فيه العلماء ما بين مجيز ومحرم أفلا يكون منعه من باب اجتناب الشبهات التي أمرنا بالاجتناب عنها في مثل قوله صلى الله عليه وسلم: {دع ما يريبك إلى ما لا يريبك}( )، فإذا كان الفقهاء يراعون الخلاف حتى في المسائل التي أدلتها ضعيفة فلماذا لا نراعي هنا الخلاف مع قوة الأدلة التي تدل على المنع وقد ذكرناها؟
فالإنصاف يقتضي أن نراعي هنا أكثر فأكثر لعلاقة المسألة بإخلاص العبادة لله الذي ضده الكفر والعياذ بالله، وسيأتي قريباً( ) قول بعض علماء الحنفية: إن مثل هذا لا ينبغي أن يطلق إلأَ بنص قطعي أو إجماع قوي وكلاهما ممتنع، فالوجه المنع، وقول آخرين منهم: إنما يروي في مثل هذا لا يكون حجة في باب العقائد.
15- ثم إن التوسل بالذوات لو قلنا بجوازه فلا يخلو إما أن نقول:
إن التوسل المشروع أفضل منه أو هو أفضل ولا يمكن لأحد أن يدعي أنه هو الأفضل؛ فإذا كان الأمر كذلك فلماذا نترك الأفضل ونبحث عن المفضول؟ فهل هذا إلا استبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير؟
16- إن كثيراً من العلماء السابقين ذهبوا إلى منع التوسل بالذوات ونص غير واحد منهم على أنه لا يجوز.(2/128)
قال الإمام أبو حنيفة -رحمه الله- ونقله عنه أصحابه مقررين له: (ويكره أن يدعو الله إلا به). وفي رواية عن أبي يوسف عن أبي حنيفة: [لا ينبغي لأحد أن يدعو الله إلا به]، والدعاء المأذون فيه المأمور به- ما استفيد من قوله تعالى: ((وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا)) [الأعراف:180]. (ويكره أن يقول في دعائه أسألك بمعقد العز من عرشك)، وقالوا أيضاً: (ويكره أن يقول في دعائه أعطني بحق فلان كذا وبحق محمد صلى الله عليه وسلم كذا أو بحق أنبيائك وأولياءك أو بحق البيت أو المشعر الحرام...)( ).
والمراد من قول أبي حنيفة -رحمه الله- يكره أن يدعو الله إلا به أو لا ينبغي... كراهة التحريم كما هي عادة السلف يطلقون هذه العبارات على ما هو محرم وهي لغة الكتاب والسنة والسلف الصالح، قبل أن يحدث المصطلح المتعارف عليه بين الفقهاء المتأخرين من التفريق بين الكراهة والتحريم.
فاللائق حمل كلام أئمة السلف على ما هو مرادهم لا على مصطلحات المتأخرين وقد بين ابن القيم -رحمه الله- غلط المتأخرين على الأئمة، بسبب عدم مراعاة مراد الأئمة من إطلاق مثل هذه العبارات( ). وقد نص علماء الحنفية على أن مراد الإمام في هذه العبارة السابقة - التحريم-.
قال ابن عابدين: (وتحمل الكراهة المذكورة على كراهة التحريم)( ).
وقال غيره: (إن المروي عن محمد -رحمه الله- نصاً أن كل مكروه حرام إلا أنه لما لم يجد فيه نصاً قاطعاً لم يطلق عليه الحرام، وعن أبي حنيفة وأبي يوسف -رحمهما الله- أنه إلى الحرام أقرب)( ).(2/129)
وبما تقدم يتبين أن الإمام أبا حنيفة -رحمه الله- لا يجيز الدعاء إلا بالله وبأسمائه الحسنى وصفاته العليا وهذا هو التوسل الشرعي الوارد في قوله تعالى: ((وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا)) [الأعراف:180]، ولهذا قال -رحمه الله- تعالى: [والدعاء المأذون فيه المأمور به ما استفيد من قوله تعالى: ((وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا)).
فرحم الله الإمام ما أدق فقهه، فقد فهم -رحمه الله تعالى- أن الدعاء عبادة وأنه لا يجوز بغير المأذون فيه والمأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم، لأن العبادة توقيفية، وأن الدعاء بغير أسمائه الحسنى وصفاته العليا- غير مأذون فيه-.
فلهذا كره أن يقول الرجل أسألك بمعقد العز من عرشك لأنه ليس دعاء بأسماء الله وصفاته فلا يجوز. والعلة في المنع من الدعاء المذكور هو ما صرح به الإمام -رحمه الله- من أن الدعاء خاص بالوارد المأذون فيه، وهو ما دلت عليه الآية المذكورة، ويتبين من هذا أن سبب منعه من الدعاء المذكور هو عدم كونه توسلاً بالأسماء الحسنى والصفات العليا. وبهذا يتضح ضعف ما علل به متأخروا فقهاء الحنفية منع الإمام أبي حنيفة من الدعاء المذكور بأن العبارة توهم- على رواية معقد العز من عرشك بتقديم العين- تعلق عزه بالعرش، وهومحدث، والله تعالى بجميع صفاته قديم، لم يزل موصوفاً بها في الأزل( )، وقالوا: إن معناه لا ينكشف لكل أحد( ).
وقالوا على رواية مقعد العز من عرشك بتقديم القاف على العين( ): لا ريب في منعه لأنه يكون من القعود الذي هو الجلوس لاستحالته على الله تعالى.
ووجه ضعف ما عللوا به، هو أن علة المنع في كلام الإمام واضحة جداً وهو عدم جواز دعاء الله تعالى إلا ما دلت عليه الآية، وهي علة عامة تعم هذا المثال الذي ذكره الإمام وغيره مما يدخل في التوسل البدعي أو الشركي.
وهؤلاء المتأخرون ظنوا أن علة المنع هو ما في المثال من الإيهام.(2/130)
وقد يقال: إن الإيهام المذكور سبب من أسباب المنع إلا أنه ليس هو السبب الذي يدل عليه كلام الإمام.
ثم على كلام هؤلاء إن هذا الإيهام لو لم يكن لجاز هذا الدعاء، وهذا خلاف مراد الإمام المفهوم من سياق كلامه.
ومما يدل على ضعف قولهم اعتراض بعضهم على الإيهام الذي ذكروه وأنه لا محذور فيه، لأن تعلق الصفة بشيء حادث لا يوجب حدوث تلك الصفة( ).
وبعضهم تأول وقال: إن العز صفة للعرش ولا مانع من ذلك( ).
وهذا كله يدل زيادة على ما سبق على ضعف ما عللوا به، وأن الصحيح ما يدل عليه كلام الإمام من اشتراط كونه بالله وأسمائه وصفاته.
ولهذه العلة نفسها كره الإمام قول الرجل في دعائه أسألك بحق فلان أو بحق أنبيائك ورسلك؛ لأنه ليس دعاء بالله ولا بأسمائه وصفاته.
ولكن فقهاء الحنفية المتأخرون عللوا أيضاً سبب المنع بأنه لا حق لمخلوق على الله تعالى، فيعترض عليهم بأن الله أثبت على نفسه تفضلاً وتكرماً حقاً لعباده الموحدين كما في حديث معاذ المتفق عليه (أتدري ما حق الله على العباد وما حق العباد على الله؟)( ).
فثبت بهذا ضعف علتهم هذه أيضاً.
وبهذا يعلم دقة فقه السلف وغوصهم على المعاني، وأن المتأخرين قد يصعب عليهم معرفة مرادهم، وأنهم يعللون كلام السابقين بغير مرادهم.
ويعلم أيضاً أن أبا حنيفة وأصحابه لا يجيزون التوسل البدعي، ولم يخالف في هذا من أصحابه إلا أبو يوسف في بعض صوره، وتبعه الفقيه أبو الليث، فقد قالا: بجواز قوله: (بمعاقد العز من عرشك).(2/131)
وأما قول الرجل بحق فلان وحق أنبيائك ورسلك... إلخ، فقد اتفق( ) جميع أصحاب أبي حنيفة أبو يوسف وغيره على عدم جوازه، فلم يختلفوا في هذه المسألة وإنما خلاف أبي يوسف خاص بمسألة (معاقد العز من عرشك) وذلك لأن أبا يوسف إنما أجازه احتجاجاً بما ورد من الأثر إلا أن الأثر الذي احتج به ضعيف جداً بل هو موضوع، وهو ما روي من طريق عمر بن هارون البلخي عن ابن جريج، عن داود بن أبي عاصم عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اثنتا عشرة ركعة تصليهن من ليل أو نهار، وتتشهد بين كل ركعتين، فإذا تشهدت في آخر صلاتك فاثن على الله عز وجل وصل على النبي صلى الله عليه وسلم واقرأ وأنت ساجد فاتحة الكتاب سبع مرات، وآية الكرسي سبع مرات وقل: لا إلا إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، عشر مرات، ثم قال: (اللهم إني أسألك، بمعاقد العز من عرشك ومنتهى الرحمة من كتابك واسمك الأعظم، وكلماتك التامة، ثم سل حاجتك، ثم ارفع رأسك ثم سلم يميناً وشمالاً، ولا تعلموها السفهاء فإنهم يدعون بها فيستجاب)( ).
قال ابن الجوزي: هذا حديث موضوع بلا شك، وإسناده [مخبط] كما ترى، وفي إسناده عمر بن هارون قال ابن معين فيه كذاب، وقال ابن حبان يروى عن الثقات المعضلات ويدعي شيوخاً لم يرهم( ).
وقد قال فيه ابن مهدي وأحمد والنسائي: متروك الحديث، وقال أبو داود: غير ثقة، وقال علي بن المديني والدار قطني: ضعيف جداً( ).
ثم تفرد به عن عمر بن هارون- عامر بن خداش وهو صاحب مناكير( ).
هذا ما يتعلق بنقد هذا الحديث من جهة الإسناد.
وقد انتقده ابن الجوزي أيضاً من جهة المعنى بأنه قد صح( ) عن النبي صلى الله عليه وسلم النهي عن القراءة في السجود.
وقد نقل كلام ابن الجوزي الحافظ الزيلعي وأقره( ) وقال الشوكاني: هذا من أعظم الدلائل على كون هذا المروي موضوعاً( ).(2/132)
وهذا الانتقاد من جهة المتن قوي جداً يدل على وضع هذا الحديث دلالة واضحة؛ لأن علماء مصطلح الحديث ذكروا أن مما يدل على وضع الحديث مخالفته للحديث الصحيح، وقد تقدم ذكر هذا.
وقد روي نحوه من طريق آخر من رواية أنس ولكنه فيه كذاب( ) أيضاً.
فثبت بهذا أن الأثر الوارد في السؤال بمعاقد العز الذي تمسك به أبو يوسف في إجازته لهذا الدعاء - موضوع.
وقد اتضح من هذا أن الصواب قول أبي حنيفة من عدم جواز الدعاء إلا بالمأذون فيه من الدعاء بالله وأسمائه وصفاته، وأن قوله بمعاقد العز من عرشك أو بحق فلان غير جائز لأنه ليس من الدعاء المأذون فيه من أسماء الله وصفاته.
وأن قول أبي يوسف ضعيف لأمرين:
1- كون الأثر الذي احتج به موضوعاً.
2- ما ذكره علماء الحنفية في رد حجة أبي يوسف من أن هذا الأثر الذي احتج به أبو يوسف خبر واحد فيما يخالف القطعى، والمتشابه الذي كهذا الدعاء إنما يثبت بالقطعي( ).
ومعلوم أن خبر الواحد إذا خالف القطعي يرد ما لم يمكن الجمع.
ومن هنا قال بعض علماء الحنفية: (فالحق أن مثله لا ينبغي أن يطلق إلا بنص قطعي أو بإجماع قوي، وكلاهما منتف، فالوجه المنع)( ).
ولهذا قال ابن عابدين بعد أن ذكر بعض صيغ الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم المبتدعة، وذكر اختلات المتأخرين في جوازها وعدمه: (أقول: ومقتضى كلام أئمتنا المنع من ذلك إلا فيما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم...)( ).
ومن علماء الحنفية المتأخرين الذين قالوا بمثل هذا القول: الشيخ علي محفوظ صاحب كتاب الإبداع، فإنه ذكر التوسل بمعنى الإقسام بذاته عنييه وأنه لم يرد عن الصحابة ولا يعرف في شيء من الأدعية المشهورة المأثورة عنهم ثم قال: (وما يروى في ذلك فضعيف لا يصلح حجة في باب العقائد)( ).(2/133)
وإذا اتضح أن المنع من التوسل بغير أسماء الله تعالى وصفاته- هو مذهب أبي حنيفة وأصحابه، وأنهم اتفقوا في منع مثل (بحق أنبيائك ورسلك) بدون اختلاف فيما بينهم تبين كذب من زعم أن ابن تيمية هو الذي ابتدع منع التوسل بالذوات.
وأن العلماء مجمعون على جوازه، كما ادعى ذلك السبكي( ) والنبهاني( ). والكوثري الذي قال: (وقد جرى عمل الأمة على التوسل والزيارة إلى أن ابتدع إنكار ذلك- الحراني فرد أهل العلم كيده في نحره...)( ).
ومن العجب العجاب أن الكوثري متفان في تقليد أبي حنيفة في الفروع والدفاع عنه ولو أدى ذلك إلى اتهام بعض الصحابة كما فعل مع أنس بن مالك( )، ومن هنا لقبه بعض أصدقائه بمجنون أبي حنيفة( ).
ومع هذا كله يترك تقليد أبي حنيفة في الأصول كما هو شأن المقلدين المتأخرين، فهذه المسألة التي نحن بصددها خير شاهد على ما نقول.
فقد اتضح بدون أدنى شك أن مذهب أبي حنيفة المنع من التوسل البدعي، وهذا منقول عن أبي حنيفة في أغلب كتب علماء الحنفية. وقد تقدمت الإشارة في الحاشية إليها، ويبعد كل البعد ألا يطلع الكوثري على تلك الكتب الحنفية لأن المسألة مذكورة في أغلب كتبهم، والكوثري حريص على فقههم، ويرى أن له مميزات على غيره من المذاهب( ).
فكيف يمكن عدم اطلاعه على تلك النصوص في تلك الكتب؟
والظاهر أن الهوى وبغضه لشيخ الإسلام ابن تيمية هو الذي حمله على ما قال، وأعماه عن تقليد إمامه في هذه المسألة وغيرها من مسائل أصول العقيدة والله أعلم.(2/134)
ومثل الكوثري البوطي فإنه قال: (وأما ما يتعلق بالتوسل بجاه رسول الله صلى الله عليه وسلم أو غيره من الصالحين والمقربين، فلا نعلم أي نقاش أو بحث دار حول ذلك في عصر السلف بقرونه الثلاثة المشهود لها بالفضل)، ثم ذكر بعض الأحاديث التي يتعلق بها من يجيز التوسل البدعي ثم قال: (والمهم أن هذا هو كل ما وصلنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وبقية السلف في شأن التوسل، وظل الأمر على ذلك حتى جاء الإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى ففرق بين التوسل بالأنبياء والصالحين في حال حياتهم والتوسل بهم بعد موتهم فأجاز ذلك بهم في الحالة الأولى وحرمه في الحالة الثانية، ولا ندري لهذا التفريق أي مستند يرجع إلى عصر السلف)( ).
ثم زعم أن أدلة التوسل في حال الحياة مطلقة تجري على إطلاقها( ).
وفي هذا الكلام الذي ذكره البوطي عدة دعاوي.
1- إن السلف لم يتكلموا في هذا الموضوع.
2- إن ابن تيمية هو المبتدع لهذا الكلام.
3- إنه فرق بين الحالتين الحياة والموت.
4- إنه لا دليل على هذا التفريق.
5- بل الدليل على عدم التفريق لإطلاق أدلة التوسل التي تعم الحالتين.
الجواب عن هذه الدعاوي:
إن هذه الدعاوي التي ادعاها البوطي غير صحيحة بل هي باطلة وبيان ذلك كالآتي:
أ- أما ما ادعاه من عدم كلام السلف في هذا الموضوع فغير صحيح لما عرفت من كلام أبي حنيفة وأصحاب مذهبه.
ثم من غير الحنفية قد تكلم فيه آخرون منهم العز بن عبد السلام فقد تكلم في هذه المسألة وأشار إلى حديث الضرير وأنه إن صح فهو مقصور على النبي صلى الله عليه وسلم( ). وهو قبل شيخ الإسلام ابن تيمية فإنه توفي عام (660هـ).(2/135)
وبهذا اندفعت الدعوتان الأوليتان فثبت أن ابن تيمية ليس مبتدعاً تلك المسألة وليس أول قائل بها بل سبقه أبو حنيفة وأصحابه والعز بن عبد السلام وقد يكون هناك آخرون لم نطلع على كلامهم، بل شيخ الإسلام ابن تيمية يمنع من إحداث قول لم يسبق إليه من السلف، فتبين بهذا أنه متبع للأدلة ولكلام السلف وليس مبتدعاً.
ب- والتفريق بين الحالتين الذي ادعاه غير حاصل وذلك للأمور التالية:
1- إن التوسل الذي أجازه ابن تيمية غير التوسل الذي منعه وهذا يعرف مما سبق لنا ذكره في تعريف التوسل.
2- إن ابن تيمية لا يعلق الحكم على الحياة والموت وإنما مدار الحكم عنده على المشروع الوارد فما ورد في الشرع أجازه، وما لم يرد منعه لأن الدعاء عبادة توقيفية، والدليل على ذلك أن ابن تيمية لا يجيز التوسل بالحي الغائب لأنه لم ينقل أن الصحابة في غزواتهم وهجراتهم توسلوا بالنبي صلى الله عليه وسلم الغائب عنهم والذي لم يدع لهم، فلو كانت المسألة تدور على الحياة والموت لأجاز التوسل بالحي الغائب.
3- ثم إن الفرق بين حالتي الحياة والموت- واضح جداً، وأمر منطقي تقتضيه الأدلة الشرعية والعقلية فليس بصحيح قوله إنه لا دليل على الفرق بين الحالتين وسيأتي بيان الفرق بين الحالتين إن شاء الله تعالى.(2/136)
د- إن ادعاء الإطلاق في الأدلة فيه نظر لا يخفى، فهل يريد به أنها مطلقة ولم تقيد بحال الحياة؟ فهذا غير مقبول، فإن حديث الضرير الذي استدل به- في حال الحياة، مع العلم بأنه ليس توسلاً بالغائب فضلاً عن الميت بل هو توسل بالحاضر، وحديث التوسل بالعباس على نقيض دعواه كما هو واضح لأنه توسل بالحاضر، وحديث فاطمة بنت أسد موضوع، وحديث مالك الدار منكر، فلو صح يمكن الاستدلال به فقط دون غيره من الأدلة، فلم يبق مما استدل به إلا ما زعمه من الاستدلال على التوسل بالتبرك الواقع من الصحابة بعرقه صلى الله عليه وسلم وشعره ووضوئه، فهذا التبرك صحيح، ولكن الفرق واضح بين التوسل والتبرك، وذلك لأن التوسل لا يستلزم حضور المتوسل به، وأما التبرك فيقتضي حضور الشيء المتبرك به( ).
وسيأتي تفصيل مناقشة هذه الشبهات التي أجبنا عليها إجمالاً في الباب الرابع إن شاء الله تعالى..
وقد اتضح مما تقدم -ولله الحمد- أن التوسل بالذوات في الدعاء بدعة، وأن الأدلة الكثيرة تشهد ببدعيته، وأن كثيراً من العلماء منعوه منهم الإمام أبو حنيفة وأصحابه، وأن شيخ الإسلام ابن تيمية لم ينفرد بمنعه.
النوع الثالث: الأحزاب والأوراد الراتبة:
إن الدعاء عبادة وهي توقيفية، فلا يجعل ما كان مطلقاً مقيداً وبالعكس، ومع ذلك قد التزم أناس بأدعية معينة في أوقات معينة على هيئات خاصة من الاجتماع وغير ذلك، وانتشر هذا في كثير من الناس، حتى صار كثير من المتصوفة والمتفقرة وكثير من العامة لا يعرفون إلا الأدعية المبتدعة.
وأما الأدعية الصحيحة الثابتة فلا يستعملها إلا المتمسكون بالسنة وقليل ما هم.
وأما الآخرون فلكل شيخ طريقة دعاء خاص، يسمى بحزب فلان أو ورده، فأتباع ذلك الشيخ يحافظون عليه قراءة وتبركاً وتقديساً أشد من محافظتهم على القرآن الكريم، وهذا ليس مبالغة بل هو الواقع المرير.
فقد ألزموا أنفسهم أو ألزموا أن يقرأوا لكل يوم حزباً معيناً، فإذا فات يجب أن بقضى.(2/137)
وكل أهل طريقة يرون أن حزبهم أفضل من الأحزاب الأخرى، بل جاوز بعضهم هذا إلى أن فضل حزبه المخترع على القرآن الكريم بستة آلاف مرة، فقد ادعى التيجاني الكذاب الدجال أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن فضل صلاة الفاتح، فأخبرني أولاً بأن المرة الواحدة منها تعدل من القرآن ست مرات، ثم أخبرني ثانياً بأن المرة الواحدة منها تعدل من كل تسبيح وقع في الكون ومن كل ذكر ومن كل دعاء كبير أو صغير، ومن القرآن ستة آلاف مرة لأنه من الأذكار)( ).
كما أن التيجانيين يعتقدون أنها من كلام الله تعالى، وأنها وردت من الحضرة القدسية مكتوبة بقلم القدرة في صحيفة نورانية، وأنها لم تكن من تأليف أحد من البشر، وإنما هي من كلام الله تعالى كالأحاديث القدسية( ).
بل وصل الأمر إلى أن قالوا: (من لم يعتقد أنها- أي صلاة الفاتح من القرآن لم يصب الثواب فيها)( ).
وأما وجه كون هذه الأحزاب والأوراد بدعة فهو كونها راتبة مقيدة بوقت خاص فلكل يوم ورد خاص فلا يدعي في ذلك اليوم بورد اليوم الآخر.
فأشبه شيئاً مشروعاً فكأن الشيخ الذي وضعه صار مُشَرعاً لا يجوز تجاوز ما وضعه.
فمثل هذا يسمى بدعة إضافية من حيث إن أصل الدعاء مشروع ولكن التقييد ليس مشروعاً، فصار بدعة من حيث التقييد والتخصيص، فالبدعة الإضافية لها جهتان: جهة أصل المشروعية وجهة الكيفية، قال الإمام الشاطبي -رحمه الله-:
وأما البدعة الإضافية فلها شائبتان: إحداهما لها من الأدلة متعلق فلا تكون من تلك الجهة بدعة، والأخرى ليس لها متعلق إلا مثل ما للبدعة الحقيقية، وسميت إضافية لأنها لم تتخلص لأحد الطرفين فهي من جهة الأصل لها دليل قائم، ومن جهة الكيفيات أو الأحوال أو التفاصيل لم يقم عليها دليل، مع أنها محتاجة إلى الدليل أيضاً في الكيفيات( ).(2/138)
فمن هنا لا يقال: لا مانع من الأدعية المبتدعة ما لم تشتمل على المحظور من الاعتداء وغيره، لأننا نقول: إن الدوام على الأدعية وملازمتها مدة طويلة يجعلها سنة راتبة ويجعلها في مصاف الأدعية المشروعة.
قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله-: (الأذكار والدعوات من أفضل العبادات، والعبادات مبناها على الاتباع، وليس لأحد أن يسن منها غير المسنون ويجعله عادة راتبة يواظب الناس عليها، بل هذا ابتداع دين لم يأذن به الله بخلاف ما يدعو به المرء أحياناً من غير أن يجعله سنة)( ).
ثم إن هذه الأحزاب لو كانت خالية مما يقارنها من أنواع البدع لا يشك مسلم أن الأفضل والأحسن أن يلتزم الأكمل والأفضل وهي الأدعية النبوية (فإنها أفضل وأكمل باتفاق المسلمين من الأدعية التي ليست كذلك وإن قالها بعض الشيوخ- فكيف يكون في عين الأدعية ما هو خطأ أو إثم أو غير ذلك، ومن أشد الناس عيباً من يتخذ حزباً ليس بمأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم وإن كان حزباً لبعض المشايخ، وبدع الأحزاب النبوية التي كان يقولها سيد بني آدم وإمام الخلق، وحجة الله على عباده)( ) فالمتخذ حزباً مبتدعاً قد استبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير.
والأدعية والأوراد التي عند بعض المتصوفة قد تضم إلى كونها مبتدعة اشتمالها على الشرك والاعتداء في الدعاء والتوسل البدعي، كما يقارئها أنواع أخر من البدع والمفاسد.
1- فمن اشتمالها على الشرك: أنهم ذكروا( ) أنه ينبغي للمريد أثناء الذكر استحضار صورة الشيخ في القلب، والتصور بأن عموداً من النور يخرج من قلبه، ويدخل قلب المريد ويسمون هذا استمداداً، أي الشيخ يهدي القلب ويمده بالهداية، وهذا كفر صريح.
ومن العجب أنه وصل الأمر ببعضهم إلى استحضار صورة الشيخ أثناء الصلاة بحجة منع الوسواس( ).(2/139)
وهذا الاستحضار يسمى عندهم بالمراقبة، استبدلوا مراقبة الله تعالى الذي هو الإحسان الوارد في حديث جبريل عليه السلام بمراقبة الشيخ واستحضاره، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
ومن أمثلة أحزاب وأوراد المتصوفة التي فيها الشرك الصريح مع الاعتداء ما جاء في وظيفة ابن مشيش وهي: (اللهم انشلني من أوحال التوحيد وألقني في بحار الوحدة)( )
فتوحيد الرسل أوحال من الطين فيدعو الله أن ينشله منها، كما أنه يدعو بإغراقه في بحار الوحدة فيتحد مع الله تعالى عما يقول الظالمون( )، وهذه الوظيفة يلازمها المبتدعة ليل نهار، قال الشيخ عبد الرحمن الوكيل يخبر عن ذكرياته في الصبا: (وما زال الصبي يذكر أن صلوات ابن بشيش، ومنظومة الدردير كانتا أحب التراتيل إلى أولئك الشيوخ- أي شيوخ قريته- وما زال يذكر أن أصوات الشيوخ كانت تشرق بالدموع وتئن فيها الآهات حين كانوا ينطقون من الأولى: (اللهم انشلني من أوحال التوحيد!!) ومن الثانية: (وجد لي بجمع الجمع منك تفضلاً) يا للصبي الغرير التعس المسكين... فما كان يدري أنه بهذه الصلوات المجوسية يطلب أن يكون هو الله هوية وماهية وذاتاً وصفة، ما كان يدري ما التوحيد الذي يضرع إلى الله أن ينشله من أوحاله ولا ما جمع الجمع الذي يبتهل إلى الله أن يمن به عليه؟)( ).(2/140)
فالصلاة البشيشية لها قدر عظيم عند الصوفية حيث يعتنون بها أشد الاعتناء، ومن مظاهر اعتنائهم أنهم يأخذون إجازتها عن شيوخهم ويهتمون بتلك الإجازة حتى وصل الأمر أن ادعوا أن من طرقها الإجازية ما كان من طريق الخضر عليه السلام عن عبد السلام بن مشيش صاحبها( )، فقد جعلوا الخضر الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يتمنى أن يصبر موسى ليقص الله علينا من أخباره جعلوه يأخذ الإجازة عن ابن بشيش، فإنا لله وانا إليه راجعون. ب- ومن اشتمالها على الاعتداء في الدعاء ما يوجد في تلك الأدعية من سوء مناجاة الله تعالى وخطابه حيث يطلبون من الله تعالى ما لا يليق بهم، كمنازل الأنبياء وتعطيل الأمر والنهي نحو الذي يوجد في حزب البحر للشاذلي من قوله: (اللهم اعصمني في الحركات والسكنات) فهذا طلب للعصمة وهي من منازل الأنبياء( )، قال شيخ الإسلام: (ويوجد في كلامه- أي الشاذلي- وكلام غيره أقوال، وأدعية، وأحزاب، تستلزم تعطيل الأمر والنهي، مثل أن يدعو أن يعطيه الله إذا عصاه أعظم مما يعطيه إذا أطاعه، ونحو هذا مما يوجب أنه يجوز عنده أن يجعل الذين اجترحوا السيئات كالذين آمنوا وعملوا الصالحات بل أفضل منهم، ويدعون بأدعية فيها اعتداء كما يوجد في حزب الشاذلي)( ).
ولا يقولن قائل: إن تلك الأحزاب هي أذكار وتسابيح وتحاميد وليست من الدعاء الذي نحن نبحث فيه، وذلك لعدة أمور منها ما تقدم في تعريف الدعاء من ترادفهما أو تلازمهما، ومنها أن تلك الأحزاب الشاذلية بالخصوص وغيرها بالعموم ممزوجة بالدعاء.(2/141)
يقول الدكتور عبد الحليم محمود في ثنائه على طريقة الشاذلي في الذكر: (وكانت طريقته في أكثر الأحيان أن يمزج الذكر بالدعاء...)( ). ومع هذا الاعتداء السافر الذي هو منهي عنه في الدعاء، فالصوفية يفضلون أحزابهم وأورادهم على الأدعية المأثورة كما يفضل كل شيخ حزبه ويذكر له خصوصية، فمن ذلك أن الشاذلي كان يحبذ قراءة أحزابه فمما قال في حزبه الكبير: (من قرأه كان له ما لنا وعليه ما علينا)( )ويقول في حزب البحر: (حفظوه لأولادكم فإن فيه اسم الله الأعظم)( )مع أن حزب البحر تراكيبه العربية غير مستقيمة في بعض المواضع من ناحية المعنى ولا ترابط بينها.
وهناك أوائل السور المبدوءة بالحروف المقطعة( )، مع أن مثل هذه الحروف المقطعة لم ترد في الأدعية المأثورة.
ومثل الشاذلي التجافي، فقد ادعى لصلاة الفاتح إتيان الملك بها ومعادلتها للقرآن مرات، كما ادعى لجوهرة الكمال أفضليتها على جميع العبادات( )، مع أن جوهرة الكمال المزعومة كلام ركيك وفيها كلمات لا يستقيم بناؤها على القواعد العربية مثل الصراط الأسقم والمطلسم.
قال الشيح تقي الدين الهلالي -رحمه الله-: (وأنت إذا نظرت في كلمات هذه الصلاة- من أولها إلى آخرها- وجدتها في غاية البعد عن الكلام الفصيح ولم تستبعد صدور الأسقم والمطلسم من مؤلفها)( ).
جـ- وتشتمل تلك الأوراد والأحزاب على التوسل المبتدع، فهو كثير في تلك الأحزاب وكلما تأخر الزمان واشتدت غربة الإسلام كثر انتشاره في أحزاب متأخري الصوفية، وقلدهم العوام، ثم انتشر هذا الوباء حتى في أدعية الفقهاء المتأخرين.
ومن دعاء الشاذلي- إن صح- (اللهم إني أسألك بجاه محمد المصطفى، وإبراهيم الذي وفي، وبحرمة كل رسول ونبي، وصديق وولي وشهيد، وصالح، وتقي...)( ).(2/142)
ويقول في حزب الفتح: (أسألك بحرمة الأستاذ بل بحرمة النبي الهادي صلى الله عليه وسلم، وبحرمة الاثنين، والأربعة، وبحرمة السبعين والثمانية، وبحرمة أسرارها منك إلى محمد رسولك صلى الله عليه وسلم...)( ).
د- ثم إن الأحزاب والأوراد الصوفية يقترن بها مع بدعيتها أشياء أخرى من المحاذير والمفاسد والبدع الأخرى، ومن ذلك:
1- أن المريد الصوفي يبقى في هذه الأورااد سنين عديدة يكررها فيتعودها فتصير له عادة، وطبعاً لا يتنبه عند قراءتها فيغفل عن ذكر الله تعالى.
فأما لو لم يقيد نفسه بهذه الأوراد التي ما أنزل الله بها من سلطان وذكر الله تعالى ودعاه بما حضر له متى وجد نشاطاً وهمة وإقبالاً على الله تعالى فإن ذلك يكون له تأثير على نفسه وعلى قبول دعوته.
2- أنهم يأخذون العهد من المريد لئلا يترك فيوجبون عليه شيئاً لم يكلفه الله، فربما يقع في حرج شديد إن لم يتركها( ).
3- إن بعضها يكتنفه الغموض( ) والخفاء فلا يدري ما معناه؟
فعندهم إشارات غامضة تارة إلى وحدة الوجود، وتارة إلى رفع التكليف، وتارة إلى الحب والغرام.
4- إنهم يجتمعون لقراءة تلك الأحزاب بصوت واحد ويرفعون أصواتهم على نغمات معينة، وقد يصحب ذلك الصفق بالأيدي والضرب بالدف مع تمايل وتكسر وصياح حتى يغمى على بعضهم إلى غير ذلك مما هو معروف.
وأشهر كتاب عندهم في الأدعية والأذكار والصلاة والسلام على النبي المختار صلى الله عليه وسلم هو كتاب (دلائل الخيرات) وهذا الكتاب متداول بكثرة بين الناس حتى أن بعض الفقهاء يروونه بالإجازات( ).(2/143)
وهذا الكتاب مشتمل على اعتداء في الدعاء والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم زيادة على ما يترتب عى التزام صيغة مبتدعة من الصلاة واعتقاد أنها أفضل من الصيغ الواردة في الصلاة والسلام، واعتقاد أن تلك الصيغ خصائص ومميزات ما أنزل الله بها من سلطان، وربما اعتقد بعضهم فضله على القرآن( )، وإن لم يصرح بلسانه ولكنه عملياً يفضل حيث يلازم قراءته ويعتني به أكثر من القرآن.
ومن أمثلة الاعتداء الذي في دلائل الخيرات قوله في ثلاثة مواضع: (اللهم صل على سيدنا محمد عدد معلوماتك وأضعاف ذلك)( )، ففي هذا جعل معلومات الله معلومات محدودة( ).
وقوله: (اللهم صل على سيدنا محمد حتى لا يبقى من الصلاة شيء) وقوله: (اللهم ارحم سيدنا محمداً حتى لا يبقى من الرحمه شيء) وقوله: (اللهم بارك على سيدنا محمد حتى لا يبقى من البركة شيء).
ثم في الكتاب أشياء عليها لوائح الوضع والكذب مثل حزب يوم الجمعة، وثواب من قرأه، ذكر أن له ثواب حجة مقبولة وعتق رقبة من ولد إسماعيل، وإعطاء قصر في الجنة بكل حرف، وأن وجهه كالقمر وكفه في كف حبيبي محمد صلى الله عليه وسلم.
وهذا الحزب قال شارح الدلائل: العمدة في ذلك على المؤلف فلم يجدوا له أصلاً غير ما ذكره المؤلف( ).
الخلاصة: أن الالتزام بالأحزاب والأوراد التي لم يرد بها الشرع- بدعة- وأن الأولى التزام الأدعية المأثورة، فالأوراد المبتدعة فيها مفاسد جسيمة من الاشتمال على الشرك أو الاعتداء أو غير ذلك.
النوع الرابع: الأدعية الجَمَاعية:
وهي الأدعية التي يدعو بها جماعة من الناس على كيفية معينة أو يدعو واحد منهم ويُؤمن الآخرون على دعائه، وهي أدعية كثيرة نذكر بعضها على سبيل الإيجاز.
1- الأدعية الجَمَاعية بعد الصلوات:
فالدعاء في أثناء الصلاة لاسيما في السجود، وفي التشهد الأخير، مشروع ومتفق عليه، فهو أولى بدون شك.(2/144)
وأما الدعاء بعد الفراغ من الصلاة فقد اختلف فيه، فمن قائل باستحبابه ومن قائل بعدم ذلك( ).
والذي تدل عليه أحاديث صفة النبي صلى الله عليه وسلم أنه لم يكن يداوم على ذلك لأنه لو كان يداوم عليه لنقله من نقل صفة صلاته صلى الله عليه وسلم، ويدل على أصل مشروعيته أدلة أخرى مثل قوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ: أوصيك يا معاذ لا تدعن في دبر كل صلاة أن تقول: (اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك)( ).
وقد مال ابن القيم -رحمه الله- إلى أنه لا بأس بالدعاء بعد الفراغ من الصلاة ولكن بعد أن قدم بين يدي دعائه الأذكار المشروعة بعد السلام( ).
هذا الذي تقدم في الدعاء بعد الصلاة بدون اجتماع عليه، وأما إذا اجتمعوا عليه بأن يدعو الإمام أو أحد المصلين ويؤمن الآخرون كما هو منتشر في كثير من بلدان المسلمين فهو بدعة، إلا إن وقع أحياناً فيجوز.
وأما إذا كان دائماً بعد كل صلاة فهو بدعة لأنه لم يعهد ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته والسلف الصالح( ).
قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: [الاجتماع على القراءة والذكر والدعاء حسن مستحب إذا لم يتخذ ذلك عادة راتبة كالاجتماعات المشروعة ولا اقترن به بدعة منكرة]( ).
وقد روي عن الإمام أحمد -رحمه الله- أنه أجاز الدعاء للإخوان إذا اجتمعوا بدون تعمد مسبق، وبدون الإكثار من ذلك حتى لا يصير عادة تتكرر( ).
وقال الإمام الشاطبي -رحمه الله-: (لو فرضنا أن الدعاء بهيئة الاجتماع وقع من أئمة المساجد في بعض الأوقات للأمر يحدث عن قحط أو خوف من ملم لكان جائزاً... إذا لم يقع ذلك على وجه يخاف منه مشروعية الانضمام، ولا كونه سنة تقام في الجماعات ويعلن به في المساجد كما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاء الاستسقاء بهيئة الاجتماع وهو يخطب...)( ).
فأصل الدعاء عقب الصلوات بهيئة الاجتماع بدعة وإنما يباح منه ما كان لعارض كقنوت النازلة.(2/145)
وإنما كان هذا الدعاء بعد الصلوات بهيئة الاجتماع بدعة، مع ثبوت مشروعية الدعاء مطلقاً وورود بعض الأحاديث بمشروعية الدعاء بعد الصلوات خاصة لما قارنه من هذه الهيئة الاجتماعية ثم الالتزام بها في كل الصلوات حتى تصير شعيرة من شعائر الصلاة.
فقد وصل الأمر في بعض البلاد إلى أن اعتقد الجهال بأن الدعاء بعد الصلوات بالصورة الجَمَاعية من مستحبات الصلاة، مثل الراتبة التي تصلى بعد الصلاة أو أوكد منها.
فإذا لم يدع لهم الإمام -بعد الصلاة- يرون أن صلاتهم ناقصة ويسيئون الظن فيه ويتهمونه بأنواع من التهم، فهذه المفسدة إنما حصلت من التزام الأئمة بالدعاء عقب الصلوات في تلك البلدان.
فأما لو دعا الإمام بعض الأحيان مثل أن تقع نازلة فيدعو بها عقب الصلوات وأَمن على ذلك المأمومون ففي هذه الحالة لا يكون الدعاء بدعة، فيكون مثل ما دعا به النبي صلى الله عليه وسلم بالاستسقاء في خطبة الجمعة عندما طلب منه الأعرابي ذلك( ).
2- ومثل الدعاء عقب الصلوات- الدعاء للأئمة في خطبة الجمعة.
فقد نص العلماء على أن الالتزام به في كل خطبة بدعة وأما لو دعا لهم للحاجة فليس ببدعة( ).
وأتت بدعيته من جهة الالتزام وعدم الترك- لأن ذلك يؤدي إلى الاعتقاد بأنه من شروط الخطبة وأنه شعيرة من شعائره، مع أن أصل الدعاء للأئمة مشروع ومطلوب، فإن إمام المسلمين أحق من يدعي له، لأن بصلاحه صلاح الأمة، فالدعاء له دعاء للأمة.
3- ومثل ذلك الاجتماع للدعاء بصفة دورية في مكان معين فقد عده كثير من العلماء من البدع( ).(2/146)
4- ومن الأدعية البدعية الجماعية ما يحصل من بعض الناس في أعمال الحج من الطواف والسعي وغيرها، حيث إن بعضهم يؤجرون من يدعو لهم ويرددون وراءه أدعية معينة لكل شوط، بدون أن يكون لكل أحد الدعاء في حاجته الخاصة التي يريدها، وقد يكون بعض هؤلاء المرددين لصوت الداعي لا يعرفون معنى ما يدعو به الداعي، إما لكونهم لا يعرفون اللغة العربية أو للأخطاء التي تحصل من الداعي وتحريفه للكلام ومع هذا يحاكونه في دعائه، وهذه الأدعية إنما جاءتها البدعية من جهتين:
الأولى: تخصيص كل شوط بدعاء خاص مع عدم وروده.
الثانية: الهيئة الجماعية مع رفع صوت وحكاية ألفاظ بدون تدبر واستحضار معنى.
قال الشيخ عبد العزيز بن باز -حفظه الله-: (وأما ما أحدثه بعض الناس من تخصيص كل شوط من الطواف أو السعي بأذكار مخصوصة أو أدعية مخصوصة فلا أصل له، بل مهما تيسر من الذكر والدعاء كفي)( ).
ومثل الطواف والسعي ما يقع عند الزيارة للقبر النبوي أو قبور الشهداء أو البقيع أو غير ذلك من ترديد الزائرين صوت المزورين، قال الشيخ الألباني- حفظه الله- في تعداده لبدع الزيارة في المدينة النبوية: (تلقين من يعرفون بالمزورين جماعات الحجاج بعض الأذكار والأوراد عند الحجرة أو بعيداً عنها بالأصوات المرتفعة، وإعادة هؤلاء ما لقنوا بأصوات أشد منها)( ). وبما تقدم اتضح أنواع الأدعية المبتدعة وبهذا القدر نكتفي في سرد أنواع الأدعية المبتدعة، وبه لم نختم مباحث باب الدعاء غير المشروع، ونبدأ الآن في الإجابة على بعض الشبهات التي أوردها المجيزون للدعاء غير المشروع، والله المستعان وعليه التكلان.
الباب الرابع
في مناقشة بعض شبه المجيزين للدعاء غير المشروع
ويحتوي على تمهيد وثلاثة فصول:
التمهيد: في أنواع الشبهات وأسبابها والجواب الإجمالي عنها.
الفصل الأول: في مناقشة ما احتجوا به من الأدلة الصحيحة.
الفصل الثاني: في مناقشة ما احتجوا به من الأدلة غير الصحيحة.(2/147)
الفصل الثالث: في مناقشة ردودهم وإجاباتهم عن الأدلة المانعة للدعاء غير المشروع.
الفصل الأول
في مناقشة ما احتجوا به من الأدلة الصحيحة
ويحتوي على مبحثين:
المبحث الأول: ما احتجوا به من القرآن.
المبحث الثاني: ما احتجوا به من السنة الصحيحة.
تمهيد:
إن الشيطان لبس على كثير من الناس فأوقع في قلوبهم الشبهات التي أظهر لهم أنها تدل على جواز دعاء الموتى والغائبين والاستغاثة بهم من دون الله تعالى.
وقد سعى بعض أهل الضلال بترويج تلك الشبه، فألفوا فيها رسائل تدافع عن صنيع القبوريين وأعمالهم الشركية، وتبحث لهم عن الشبهات ولو كانت أوهى من خيط العنكبوت.
فاغتر بتلك الرسائل بعض الناس وظن أن فيها حججاً وبراهين وإنما هي في الحقيقة أوهام وظنون وخيالات، وزبالة أفكار في مقابلة ومعارضة الآيات البينات والحجج القاطعات المانعة من الدعاء غير المشروع.
وقد ظهر لي بالتتبع أنه لا يوجد لديهم دليل صحيح صريح، وإنما يوجد لهم دليل صحيح غير صريح، أو صريح ضعيف، أو مكذوب، ثم إن أغلب تلك الشبهة إنما تدل على جواز التوسل بالذوات، وأما ما يدل على جواز دعاء الموتى فقليل جداً، ولكن هؤلاء يفسرون التوسل بما يشمل الطلب من الموتى كما تقدم. وهذا هو السبب الذي اقتضى مناقشتهم فيما يستدلون به على التوسل. والسبب الثاني أن التوسل هو السبب الرئيسي الذي جر إلى فتح باب الشرك ودعاء غير الله تعالى على مصراعيه كما تقدم.
فلهذا فمناقشتهم في أدلتهم في التوسل مهمة جداً لأن الخلاف فيه خلاف في أصل من أصول العقيدة، ألا وهو إخلاص الدعاء لله تعالى وليس خلافاً فرعياً لا يمس العقيدة حتى نتركهم فيما ذهبوا إليه أو نعذرهم فيما اجتهدوا فيه إن كان هناك اجتهاد.(2/148)
فلهذا فإني أرى أن مناقشتهم في أدلتهم التي استدلوا بها على جواز التوسل من ضروريات البحث في هذه الرسالة، كما أن مناقشتهم فيما استدلوا به على جواز الاستغاثة بغير الله ضرورة، فكلاهما سواء لأن مآلهما واحد، ولهذا فإني عند ذكر احتجاجهم أجمع بين استدلالهم على التوسل وبين استدلالهم على الاستغاثة، فأناقش كليهما بدون تفريق، وقد أخص واحداً منهما على حسب ما يقتضيه المقام.
وهذه الشبهات قد لا يدرك مدى الحاجة إلى بيانها وكشف زيفها من يعيش في مجتمع انتشرت فيه العقيدة السلفية الصحيحة، وإنما يدرك ذلك من يعيش في بعض البلاد التي يوجد فيها من يدعو إلى دعاء الموتى والغائبين، ويلبس على العوام بتلك الشبه ويعارض بها الداعين إلى إخلاص نوعي الدعاء لله تعالى.
فالدعاة إلى التوحيد الخالص يحتاجون في مثل تلك البلاد إلى معرفة هذه الشبه وكيفية مناقشتها، حتى يستطيعوا دحضها وإبطالها فبذلك تقوم الحجة وتبرأ الذمة، ويهلك من هلك عن بينة، ويحيا من حي عن بينة.
ومما ينبغي أن يعلم أن أصحاب هذه الشبه يتبع بعضهم بعضاً في الاحتجاج بها، ويقلد لاحقهم سابقهم بدون تبصر ولا بحث عن أدلة حتى إن بعض معاصريهم كان ينتحل كلام من سبقه من أهل مشربه بحروفه.
وهذا هو الذي اقتضى تتبع من احتج بهذه الشبه حتى يتضح تقليدهم الأعمى.
أنواع الشبهات التي احتجوا بها:
يمكن حصر تلك الشبه في أنواع ثلاثة:
النوع الأول( ):
نصوص صحيحة مجملة غير صريحة لم يفهموها فهماً صحيحاً ولم يفقهوا ما دلت عليه، ويحتجون بها من غير فهم لمعناها، إما لجهلهم الحاصل لهم من قصورهم في أدوات الفهم أو في مقاصد الشريعة، أو للهوى الذي يُعمِيهم عن معناها الحقيقي الذي يوافق المحكم، وهذا ما نتكلم عليه- إن شاء الله تعالى- في الفصل الأول.
النوع الثاني:(2/149)
أدلة غير صحيحة، وقد تكون صريحة فيما يحتجون بها، وربما تكون غير صريحة، فهم يحتجون بها مع عدم صحتها؛ لأنه لا يهمهم صحتها ما دامت توافق أهواءهم ورغباتهم ومألوفاتهم.
وهذا النوع الثاني سنتكلم عليه- بعون الله- في الفصل الثاني.
النوع الثالث:
إجاباتهم عن الأدلة المانعة للدعاء غير المشروع، وشبهاتهم التي يوردونها على الأدلة الصحيحة، ومرادهم بها دفع دلالتها الصريحة على منع الدعاء غير المشروع، وأن تلك الأدلة لا تنطبق عليهم.
وهذا النوع الثالث سنتكلم عليه في الفصل الثالث إن شاء الله تعالى.
وقبل الخوض في الجواب التفصيلي عن هذه الشبهات نتكلم بإيجاز عن الأسباب الرئيسية الباعثة لإثارة هذه الشبهات، والله الموفق.
الأسباب الباعثة على إثارة هذه الشبهات:
الأسباب( ) الرئيسية لإثارة هذه الشبهات ثلاثة:
السبب الأول: الجهل:
وهو إما جهل بأدوات الفهم، أو جهل بمقاصد الشريعة، وذلك لأن الجهل إنما يحصل في مسائل الدين (إما لعدم الرسوخ في معرفة كلام العرب، والعلم بمقاصدها، وإما لعدم الرسوخ في العلم بقواعد الأصول التي من جهتها تستنبط الأحكام الشرعية، وإما لعدم الأمرين جميعا)( ). فعدم الرسوخ في معرفة كلام العرب يجعل الإنسان يفهم من الآيات والأحاديث الصحيحة غير ما تدل عليه فيستدل بها على حكم لا تدل عليه.
وعدم الرسوخ في قواعد الأحكام، ومقاصد الشريعة، يجعله يحتج لنفسه (بأدلة فاسدة وبأدلة صحيحة اقتصاراً بالنظر على دليل ما، واطراحاً للنظر في غيره من الأدلة الأصولية والفروعية العاضدة لنظره، أو المعارضة له)( ).
فيأخذ ببعض الأدلة دون الإحاطة بباقي الأدلة، ودون النظر إلى مقاصد الشريعة التي جاءت متكاملة متناسقة متعاضدة فيأتي هذا الجاهل إلى دليلٍ فا فيأخذ بظاهره دون الإحاطة بمراميه ومقاصده، ودون النظر إلى ملابساته وما يكتنفه من أدلة أخرى من عمومات الكتاب والسنة. السبب الثاني( ): تحسين الظن بالعقل:(2/150)
إن الله سبحانه جعل للعقول في إدراكها حدا لا تتعداه، فالعقول مداركها محدودة ومتناهية، ولا تحيط بالشيء من جميع الجوانب، فلا يمكن أن تستقل بإدراك مصالحها الدنيوية فضلاً عن الأخروية، فلهذا وغيره لا يمكن أن يجعل العقل حاكماً بإطلاق بل الحاكم بإطلاق هو الشرع، ومع هذا فإن العقل السليم لا يخالف النص الصريح الصحيح بل يعاضده ويناصره، ولا تأتي الشريعة بما يناقض العقل، ولكن قد تأتي بما تحار فيه العقول.
وهذا هو حقيقة العقل مع الشرع فهو تابع ومنقاد للشرع، فهو معه كالعامي مع العالم( ) وأما عدم إدراك هذه الحقيقة لمقدار العقل، ورفعه فوق منزلته، فينشأ عنه مفاسد، منها تحسين الظن بالعقل حتى يعارض النصوص الواضحة بالشبهات التي هي من زبالة الأفكار وحثالة الأوهام، فيترك النص الواضح الجلي لما يتصور في عقله القاصر من شبهات وهمية واعتراضات خيالية التي هي كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً.
السبب الثالث: اتباع الهوى:
فاتباع الهوى من الأسباب الرئيسية لمعارضة أدلة الكتاب والسنة الصحيحة، وهو ملازم لمن يترك الاعتصام بهما، ومن هنا سمي من يترك الاعتصام بهما- في الأحاديث وكلام السلف- بأهل الأهواء لأنهم (اتبعوا أهواءهم، فلم يأخذوا الأدلة الشرعية مأخذ الافتقار إليها، والتعويل عليها حتى يصدروا عنها، بل قدموا أهواءهم، واعتمدوا على آرائهم، ثم جعلوا الأدلة الشرعية منظوراً فيها من وراء ذلك)( ).
فمن هنا اشتق لهم الاسم مما غلب عليهم وهو الهوى فسموا أهل الأهواء( ).
ولكونهم متبعين لأهوائهم تركوا الأصول الواضحة المحكمة التي تمنع من الدعاء غير المشروع وأخذوا بالمشتبهات، وحرفوا الأدلة الصحيحة عن مدلولاتها وأولوها إلى غير مقصودها، كما لجأوا إلى الأدلة الواهية من الموضوعات والحكايات والمنامات، فنسأل الله تعالى أن يقينا شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا وهو الهادي إلى الصراط المستقيم.(2/151)
الجواب الإجمالي عن هذه الشبهات:
1- الجواب الأول( ):
إن هذه الشبهات التي احتجوا بها ما صح منها يعد من المتشابهات والواجب في مثل هذا رد المتشابهات إلى المحكمات، وهذا هو شأن الراسخين في العلم.
قال تعالى: ((هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُوا الأَلْبَابِ)) [آل عمران:7].
فالآيات والأحاديث الدالة على منع الدعاء غير المشروع محكمات فهي صريحة في دلالتها، قطعية الثبوت، وقطعية الدلالة، وذلك أن القرآن الكريم كله في التوحيد وبيان ما يناقضه أو يناقض كماله من الذرائع والوسائل، وبيان جزاء أهل التوحيد وأهل من اتصف بضده في الدنيا والآخرة( ).
وقد تقدم أنه لم يرد في القرآن الكريم في نوع من أنواع الشرك والكفر- مثل ما ورد في الدعاء بنوعيه- مما يدل على التحذير منه وكفر من ارتكبه، ومثل القرآن السنة النبوية التي تشرح القرآن وتبينه، فإذا كان الأمر كذلك فالواجب أن يرد ما يشتبه أنه يخالف هذا المحكم البين إليه لا أن يؤخذ بالمتشابهات ويتعسف في تأويل المحكمات كما هو صفة الذين في قلوبهم زيغ، وقد حذر الرسول صلى الله عليه وسلم من الذين يتبعون المتشابهات فقال في حديث عائشة رضي الله عنها: [[فإذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم]]( ).
2- الجواب الثاني:(2/152)
إن هؤلاء الذين يحتجون بهذه الشبهات لا يقبلون في باب العقائد- حسب زعمهم- إلا القطعي من الأدلة، إذ من أصولهم( ) المقررة لديهم أن غير قطعي الثبوتِ والدلالةِ- يريدون بذلك ما لم يكن متواتراً صريح الدلالة- لا يقبل، فالأحاديث المشهورة الصحيحة الثابتة الصريحة الدلالة- يردونها في باب العقائد بهذه القاعدة المقررة لديهم ولكنهم تناقضوا- في هذه المسألة التي معنا- لاحتجاجهم إما بما هو ليس صريح الدلالة أو بما هو غير ثابت أصلاً، وهكذا شأن من لم يعتصم بالكتاب والسنة فلا بد أن يتناقض.
قال ابن عبد البر -رحمه الله- في معرض رده على من احتج بحديث ضعيف في مسألة الاستواء: (وهم لا يقبلون أخبار الآحاد العدول، فكيف يسوغ لهم الاحتجاج بمثل هذا من الحديث لو عقلوا أو أنصفوا؟)( ).
وقد تنبه بعض علماء الحنفية إلى هذا الذي يلزم من استدل بهذه الحجج المتشابهات من التناقض فمنع من التوسل بالذوات بهذه الحجة كما تقدم، وهذا هو اللازم لكل من يريد أن لا يتناقض في قواعده التي أَصلَها وقررها بنفسه، فعليه أن يلتزم بها سواء كانت له أو عليه.
3- الجواب الثالث:
إن النصوص التي استدلوا بها إما نصوص صحيحة ولكنها غير صريحة، وإما نصوص صريحة ولكنها ضعيفة أو موضوعة مكذوبة وليس لديهم دليل صحيح ثابت صريح، ففي الأدلة الصحيحة- نطالبهم بدلالتها الصريحة على مرادهم، ولن يجدوا إلى ذلك سبيلاً.
وفي الأدلة غير الصحيحة نطالبهم بإثبات صحتها، فإذا لم يثبتوا صحتها وثبوتها- يسقط احتجاجهم بها ولا يلتفت إليه.
4- الجواب الرابع:
إننا لو سلمنا دلالة تلك الأدلة التي ساقوها- على ما احتجوا به- دلالة صريحة تكون تلك الأدلة معارضة للأدلة الأخرى الدالة على المنع أليس الواجب في هذه الحالة- الجمع إن أمكن -ثم الترجيح-؟؟(2/153)
فإذا اخترنا الجمع وذهبنا إليه فإننا نجد أن تلك الأدلة التي احتجوا بها الصحيح منها يدل على ما يوافق الأدلة المانعة من الدعاء غير المشروع، كما ستأتي الإشارة إلى ذلك عند المناقشة التفصيلية.
وإذا لم يمكن الجمع نذهب إلى الترجيح، وقد أشرنا أن الأدلة الدالة على المنع من الدعاء غير المشروع أقوى ثبوتاً ودلالة لأنها قطعية الثبوت وقطعية الدلالة، وأما الأدلة التي احتجوا بها فهي ما بين صريح غير صحيح الدلالة وما بين ضعيف أو مكذوب صريح الدلالة.
هذا بعض ما يجاب به عن شبههم إجمالاً، وبعد أن رأينا أنه يمكن الاكتفاء بهذه الأجوبة الإجمالية لقوتها ووضوحها لمن يريد الحق ويتحراه وينشده، فإننا نشرع في الإجابة التفصيلية زيادة في البيان ورغبة في إقناع من بقيت عنده شبهة أوشك فيما يتعلق بهذا الباب. وإليك مناقشة بعض الآيات التي احتجوا بها أولاً، ثم بعض الأحاديث الصحيحة ثم الأحاديث الضعيفة والواهية والموضوعة، ثم الحكايات والنظريات القياسية، ثم ردودهم وإجاباتهم فهذا أوان الشروع في ذلك وبالله التوفيق.
المبحث الأول: في مناقشة بعض ما احتجوا به من كتاب الله العزيز
لقد تعلق المجيزون للدعاء غير المشروع بعدة آيات زعموا أنها تدل لهم، فنحن نورد هنا تسع اَيات من أهم الآيات التي استدلوا بها مبينين وجهة نظرهم ثم نناقشهم حسب ما يسره الله تعالى.
الآية الأولى:
قوله تعالى: ((وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ)) [البقرة:89].(2/154)
استدل بهذه الآية بعضهم( ) على التوسل بالذوات لأن اليهود استفتحوا بالنبي صلى الله عليه وسلم قبل وجوده أي توسلوا به، واحتج هؤلاء على هذا بما رواه عبد الملك بن هارون بن عنترة عن أبيه عن جده عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال:
(كانت يهود خيبر تقاتل غطفان، فكلما التقوا هزمت يهود خيبر، فعاذت اليهود بهذا الدعاء: (اللهم إنا نسألك بحق محمد النبي الأمي الذي وعدتنا أن تخرجه لنا في آخر الزمان إلا نصرتنا عليهم) قال: فكانوا إذا التقوا دعوا بهذا الدعاء فهزموا غطفان، فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم كفروا به فأنزل الله وقد كانوا يستفتحون بك يا محمد على الكافرين)( ).
الجواب عن هذا من ناحيتين: إحداهما: ناحية الإسناد، وثانيتهما:
ناحية المتن.
أما ناحية الإسناد: فنقول وبالله التوفيق:
إن عبد الملك بن هارون قال فيه ابن معين: كذاب، وقال البخاري:
منكر الحديث، وقالى أبو حاتم: متروك ذاهب الحديث، وقال ابن حبان:
يضع الحديث، وقال أحمد: ضعيف الحديث، وقال الدارقطني عن أبيه:
وأبوه أيضاً متروك أي فهما متروكان، وقال السعدي: دجال كذاب، وقال ابن عدي: له أحاديث غرائب عن أبيه عن جده عن الصحابة مما لا يتابعه عليه أحد، وقال الحاكم: روي عن أبيه أحاديث موضوعة( ).
وأبوه هارون بن عنترة قال فيه ابن حبان: منكر الحديث جداً يروي المناكير الكثيرة حتى يسبق إلى قلب المستمع لها أنه المتعمد لذلك من كثرة ما روى مما لا أصل له، لا يجوز الاحتجاج به بحال وقد تقدم قول الدارقطني فيه، ولكن وثقه بعضهم، وقال الذهبي: الظاهر أن النكارة من الراوي عنه( ).
وقد ضعف الحفاظ هذه الرواية:
فقد قال الحاكم بعد أن أخرج الحديث: (أدت الضرورة إلى إخراجه في التفسير وهو غريب من حديثه) وتعقبه الذهبي بقوله: (لا ضرورة في ذلك، فعبد الملك متروك هالك)( ).(2/155)
وقال الحافظ ابن حجر تعقيباً على كلام الحاكم: (وأي ضرورة تحوج إلى إخراج من يقول فيه يحيى بن معين: كذاب في المستدرك على البخاري ومسلم؟ وما هذا إلا اعتذار ساقط)( )، وضعف إسنادها أيضاً السيوطي( ).
ثم إن الحاكم نفسه قد قال في عبد الملك: روى عن أبيه أحاديث موضوعة كما سبق، فكيف يخرج له بعد هذا في المستدرك؟ وما هذا إلا من تناقضاته، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية بعد أن ذكر قول ابن معين السابق: (وهذا الحديث من جملتها)( )وبهذا نصل إلى سقوط هذه الرواية من ناحية الإسناد.
ومع وضوح سقوط هذه الرواية من جهة الإسناد حاول الغماري تقويتها مع اعترافه بضعفها فذكر أن للأثر طرقاً، فقد أخرج أبو نعيم من طريق عطاء والضحاك عن ابن عباس نحوه.
كما أخرج أبو نعيم أيضاً من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس به( ).
الجواب عن هذا أن هذه الطرق الثلاثة لا تزيد هذا الأثر قوة لأنها في غاية الضعف والوهن لأن عطاء هو الخراساني فعطاء الذي يروي التفسير عن ابن عباس هو الخراساني كما ذكره الحافظ( ).
وعطاء الخراساني مختلف فيه ومع هذا لم يسمع من ابن عباس كما قاله أحمد ويحيى بن معين وغيرهما( ).
والضحاك هو ابن مزاحم وثقه الجمهور وضعفه القطان، واتفق كل علماء الجرح على أنه لم يسمع من ابن عباس شيئاً ولم يره( ).
وأما الكلبي عن أبي صالح فالكلبي كذبه كثيرون وقد قال هو عن نفسه لسفيان الثوري: كل ما حدثتك عن أبي صالح فهو كذب، فهو اعترف بكذبه وقال الحافظ: متهم بالكذب ورمي بالرفض( ).(2/156)
وكذلك شيخه أبو صالح وهو باذام مولى أم هانىء قال فيه الحافظ: ضعيف يرسل وضعفه كثيرون، ثم إنه لم يسمع من ابن عباس أيضاً( ). وبهذا عرفنا أن هذه الطرق كلها في غاية الضعف والوهن فلا تزيد الأثر إلا وهناً على وهن، وقد يكون فيها علل أخرى ولكن لم نستطع الكشف عنها لأن السيوطي في الدر المنثور لم يسق الإسناد ولم أجدها في دلائل النبوة لأبي نعيم المطبوع وإنما الذي في المطبوع: ص (19) رواية سعيد بن جبير أو عكرمة عن ابن عباس وستأتي، ولعله حذف من المطبوع أو وهم السيوطي في إسناده إلى الدلائل والله أعلم.
ثم هاهنا أمر مهم وهو أن ما زعمه الغماري من تقوية الأثر بطريق عطاء والضحاك فيه نظر واضح وهو أن الغماري اعتمد في هذه الروايات فيما يظهر على السيوطي في الدر المنثور، ولكن الطبري وابن أبي حاتم أخرجا عن الضحاك عن ابن عباس ما يخالف ذلك.
كما أخرج الطبري من طريق ابن جريج عن عطاء قوله: (كانوا يستفتحون على كفار العرب بخروج النبي صلى الله عليه وسلم)( ).
وأخرج هو وابن أبي حاتم عن الضحاك عن ابن عباس قوله: (كانوا يستظهرون يقولون: نحن نعين محمداً عليهم وليسوا كذلك يكذبون)( ).
فهذه الرواية التي توافق رواية الجماعة أولى على فرض ثبوت طريقة أبي نعيم عنهما، فتبين بهذا أنه لا يوجد ما يصلح للتقوية إلا طريق الكلبي وقد عرفت أنه متهم.
ثم إن هذه الرواية لو كانت ضعيفة فقط فهي مخالفة للرواية الصحيحة، فهي في اصطلاح المحدثين منكرة، فهي إن سلمت من الوضع لا تسلم من كونها منكرة لهذه المخالفة، وإليك هذه الرواية الصحيحة التى خالفتها هذه الرواية.(2/157)
وهي ما رواه محمد بن إسحاق صاحب السيرة قال: حدثني عاصم بن عمر بن قتادة قال: حدثني أشياخ منا قالوا: لم يكن أحد من العرب أعلم بشأن رسول الله صلى الله عليه وسلم منا، كان معنا يهود، وكانوا أهل كتاب، وكنا أصحاب وثن، فكنا إذا بلغنا منهم ما يكرهون قالوا: إدن نبياً مبعوثاً الآن قد أظل زمانه نتبعه، فنقتلكم معه قتل عاد وإرم، فلما بعث الله رسوله اتبعناه وكفروا به، ففينا والله وفيهم أنزل الله عز وجل: ((وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ)) [البقرة:89]( ).
وهذه الرواية إسنادها لا يقل عن رتبة الحسن لأن ابن إسحاق صرح بالتحديث فزال ما يخشى من التدليس، والكلام فيه معروف والذي عليه أكثر النقاد أنه حسن الحديث إذا صرح بالسماع لاسيما في المغازي والسير كالذي نحن فيه( ).
وأما عاصم بن عمر فمن رجال الجماعة قال فيه الحافظ: ثقة عالم بالمغازي وهو تابعي من الرابعة( ).
والشيوخ الذين حدث عنهم من الصحابة ولا تضر جهالتهم؛ لأن الصحابة كلهم عدول فهم أيضاً آل من الأنصار رضي الله عنهم.
فالحديث له حكم الرفع لأنه حكاية عن وقائع حدثت في عهد النبوة وكانت سبباً لنزول الاية( ).
ويؤيد هذه الرواية الصحيحة ثلاث طرق أخرى ومراسيل عن التابعين، وإليك بيان تلك الطرق.
1- طريق سعيد بن جبير أو عكرمة عن ابن عباس:
أخرجه ابن إسحاق قال. حدثني محمد بن أبي محمد مولى آل زيد بن ثابت عن سعيد بن جبير أو عكرمة عن ابن عباس أن يهود كانوا يستفتحون على الأوس والخزرج برسول الله صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه... وفيه قول معاذ بن جبل وغيره لهم: اتقوا الله وأسلموا فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد صلى الله عليه وسلم وتخبروننا أنه مبعوث... إلخ( ). وهذه الطريقة وإن كان فيها ضعف( ) لكنها تتقوى بالأولى.(2/158)
2- طريق عطية العوفي عن ابن عباس (وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا) يقول: (يستنصرون بخروج محمد صلى الله عليه وسلم على مشركي العرب)( )، وهذه الطريقة فيها ضعف( ) أيضاً.
3- طريق السدي عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود وناس من الصحابة في الآية قال: (كانت العرب تمر باليهود فيؤذونهم وكانوا يجدون محمداً صلى الله عليه وسلم في التوراة فيسألون الله تعالى أن يبعثه نبياً فيقاتلون معه العرب لما)( ).
وهذا الإسناد كثيراً ما يروي به السدي تفسير الصحابة ولكن فيه كلام( ).
والحاصل أن هذه الروايات الثلاثة تؤيد رواية ابن إسحاق الحسنة فترتفع من الحسن إلى الصحة، ثم يقوي هذه الرواية الصحيحة مراسيل التابعين الذين فسروا هذه الآية فمنهم قتادة وأبو العالية وعلي الأزدي وابن زيد ومجاهد وتقدم عن عطاء والضحاك، فقد قال الثلاثة الأول أنهم كانوا يقولون: (اللهم ابعث هذا الذي نجده في التوراة يعذبهم ويقتلهم...)( ).
وقال ابن زيد كانت يهود يستفتحون على كفار العرب يقولون: أما والله لو قد جاء النبي الذي بشر به موسى وعيسى- أحمد- لكان لنا عليكم)( ).
وقال مجاهد: (يستفتحون بمحمد صلى الله عليه وسلم تقول: إنه يخرج)( ).
وهناك رواية أخرى من طريق معمر عن قتادة قال: (كانوا يقولون إنه سيأتي نبي)( )، وبهذه الطرق اتضح جلياً أن الرواية المعروفة المحفوظة عن ابن عباس هى رواية ابن إسحاق وقد أيدته هذه الروايات الكثيرة المستفيضة، وبهذا يعلم نكارة رواية عبد الملك بن هارون لمخالفتها لهذه الروايات المعروفة مع ما في عبد الملك من تهمة الوضع وبهذا نصل إلى بطلان ما احتجوا به سنداً.
وأما ناحية المتن فنقول وبالله التوفيق:
إن هذا الأثر منقوض من جهة المعنى بعدة أوجه:(2/159)
1- إن هذا الأثر يدل على أن الآية نزلت في يهود خيبر الذين يقاتلون غطفان، وهذا يخالف ما اتفق عليه أهل التفسير والسير من أن الآية نزلت في يهود المدينة وهم بنو قينقاع وقريظة والنضير، وهم الذين كانوا يخبرون الأوس والخزرج بقرب بعثة نبي جديد، وهذه المخالفة تدل على كذب هذه الرواية.
قال شيخ الإسلام بعد أن ذكر هذه المخالفة: [فكيف يقال نزلت في يهود خيبر وغطفان؟ فإن هذا من كذاب جاهل لم يحسن كيف يكذب]( ).
2- إن هذا يخالف ما ثبت تاريخياً ودل عليه القرآن الكريم، وهو أن اليهود لم ينتصروا منذ أن خالفوا أنبياءهم وكتب الله عليهم الذلة والمسكنة، فلم يعرف في التاريخ غلبة اليهود للعرب ولا لغيرهم بل هم دائماً مغلوبون، أو كانوا يحالفون العرب فيحالف كل فريق فريقاً فلم يكونوا ينتصرون بمجردهم، وإنما كانوا يقاتلون مع حلفائهم( ).
فهذه الرواية تدل على انتصار اليهود على العرب وهذا لم ينقله أحد غير هذا الكذاب ولو كان هذا مما وقع لكان مما تتوافر دواعي الصادقين على نقله.
3- ثم إن هذه الرواية لو صحت -مع أن دون ذلك خرط القتاد- لا يستقيم الاحتجاج بها لأمرين وهما:
أ- إن هذه الحكاية عن فعل اليهود الذين كانوا قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم وقد وصفهم الله تعالى بالتحريف والتبديل فيمكن أن يكون هذا الدعاء بهذا الأسلوب التوسلي من بدعهم وتحريفهم، ويقوي هذا التحريف أن الله تعالى لم يذكر لنا عن موسى وبقية أنبياء بني إسرائيل مثل هذا التوسل المبتدع.
ولا يقال إن الله تعالى قد أقرهم على هذا التوسل المبتدع؛ لأن الله تعالى إنما ذكر هذا احتجاجاً عليهم باعترافهم بهذا النبي الكريم قبل مبعثه.(2/160)
ويدل على هذا أن الله تعالى ذكر في النصارى أنهم ابتدعوا الرهبانية ومع ذلك لم يحافظوا عليها، قال تعالى: ((وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا)) [الحديد:27].
فكما أن احتجاج الله على النصارى بما ابتدعوه من الرهبنة لا يدل( )
على إقرارهم على هذا العمل، فكذلك احتجاج الله تعالى على اليهود بما ابتدعوه من التوسل بالذات- لا يدل على إقرار الله تعالى لهم.
ب- إن هذا( ) لو ثبت أنه من شريعة موسى- مع أنه لا يمكن إثبات أنه من شريعة موسى- فلا يصح دليلاً أيضاً لأن شرع من قبلنا ليس شرعاً لنا إلا فيما ورد شرعنا بموافقته.
وقد أخبرنا الله تعالى عن سجود إخوة يوسف وأبويه له، وعن قول الذين غلبوا على أمرهم: ((لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا)) [الكهف:21].
والسجود لغير الله، واتخاذ المساجد على القبور لا يجوز في شرعنا، وهذا التوسل بالذوات لو ثبت يكون مثل هذا فلا يجوز في شرعنا.
والحاصل أن التفسير الصحيح للآية هو أن اليهود كانوا يستفتحون أي يطلبون الفتح وهو النصر كقوله تعالى: ((إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ)) [الأنفال:19]، أي يطلبون من الله النصر بالتعجيل بإرسال الرسول الذي يقاتلون معه حتى ينتصروا، فالذي يطلبونه هو تعجيل إرسال الرسول الذي يجدونه عندهم في التوراة ويجدون انتصاره على المشركين، أو المعني أنهم كانوا يخبرون الذين يحاربونهم أنه قد قرب زمن بعثة نبي فسوف ننتصر معه عليكم.
فالآية يدور معناها بين الإخبار بقرب بعثته وبين سؤال الله تعالى أن يعجل ببعثته.
الآية الثانية:(2/161)
قوله تعالى: ((وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ)) [البقرة:248].
استدل بهذه الآية بعضهم على التوسل بآثار الأنبياء؛ لأن هؤلاء كانوا ينصرون على الأعداء بسبب تقديمهم للتابوت.
وأن (هذا في الحقيقة ليس إلا توسلاً بآثار أولئك الأنبياء، إذ لا معنى لتقديمهم التابوت بين أيديهم في حروبهم إلا ذلك، والله سبحانه وتعالى راض عن ذلك بدليل أنه رده إليهم وجعله علامة وآية على صحة ملك طالوت، ولم ينكر عليهم ذلك الفعل)( ).
والجواب عن هذه الشبهة- بعون الله وتوفيقه- بعدة وجوه:
1- إن هذه( ) الآية ليس فيها ما يدل على أنهم يتوسلون بالتابوت، وإنما غاية ما في الآية أن مجيء التابوت جعل آية وعلامة على صحة ملك طالوت، وذلك دليل على صدق ما أخبرهم به رسولهم من أن الله ملك طالوت عليهم، وهذا واضح من الآية وقد فسر هذه الآية على هذا المعنى جمهور المفسرين. قال ابن جرير رحمه الله تعالى في معنى السكينة بعد أن ذكر ما قيل في معنى السكينة من الأقاويل الواردة في تفسيرها عن السلف، قال: أولى الأقوال بالحق في معنى السكينة ما قاله عطاء ابن أبي رباح من الشيء تسكن إليه النفوس من الآيات التي يعرفونها، وذلك لأن السكينة في كلام العرب الفعيلة من قول القائل: سكن فلان إلى كذا وكذا إذا اطمأن إليه وهدأت عنده نفسه فهو يسكن سكوناً وسكينة، ثم ذكر رحمه الله تعالى أن السكينة تحتمل أن تكون كل ما ذكر لأن كل ذلك آيات كافيات تسكن إليهن النفوس وتثلج بها الصدور( ).
2- وأما ما روي في القصة أنهم كانوا إذا لقوا عدواً لهم قدموه أمامهم، وزحفوا معه فلا يقوم لهم معه عدو ولا يظهر عليهم أحد حتى إذا كثر اختلافهم على أنبيائهم سلبوا...(2/162)
فهذا من الأخبار الإسرائيليات فلا نصدقه ولا نكذبه ولا نستطيع أن نحتج به على أمر شرعي لاسيما وهو يتعلق بأصل الدين وبتوحيد العبادة لله تعالى.
3- إن هذا لو ثبت يكون من باب التبرك وليس من باب التوسل وبينهما فرق كما تقدم.
4- ولو ثبت أنهم توسلوا بالتابوت- مع أن دون ذلك خرط القتاد- فلا يصح الاحتجاج بهذه القصة الأمور:
أ- إنها شرع من قبلنا وليس شرعاً لنا إلا فيما أقرته شريعتنا، وهذه المسألة جاءت مخالفة له فقد نهينا عن تتبع آثار الأنبياء.
ب- إن البقية التي في التابوت هي من آثار موسى مثل عصاه ورضاض الألواح، وقيل: عصا موسى وعصا هارون وشيء من الألواح، وقد ثبت التبرك بأثر نبينا صلى الله عليه وسلم، ويمكن أن يحمل هذا على مثل ذلك، ولكن لا يقاس على الأنبياء غيرهم لأنه قياس مع الفارق.
جـ- إن مما يقوي أننا لا نتبع شرع من قبلنا في مثل هذا ما روي عن عمر بن الخطاب حيث زجره الرسول صلى الله عليه وسلم عندما رأى في يده صحيفة من التوراة( ).
د- إن تتبع الآثار هو سبب ضلال الأمم السابقة وهلاكهم، قال عمر رضي الله عنه: [[إنما هلك من كان قبلكم بمثل هذا يتبعون آثار نبيهم فيتخذونها كنائس وبيعاً]]( ).
هـ - ويمكن أن يشرع لهم في دينهم تعظيم ذلك التابوت والاستنصار به كما أنه شرع لنا تعظيم الكعبة والحجر الأسود، ولا يقاس على ذلك كما هو معلوم.
الآية الثالثة:
قوله تعالى: ((وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ)) [النساء:1].
هذه الآية قد استُدِل بها( ) على جواز السؤال بالمخلوق والإقسام به، فيجاب عن ذلك بأنه قد ورد في (الأرحام) قراءتان( )، نصب الأرحام عطفاً على لفظ الجلالة وهذه القراءة هي قراءة العامة.
والقراءة الأخرى جر الأرحام عطفاً على الضمير في به وهذا جائز على القول الصحيح كما قال ابن مالك:(2/163)
وعود خافض لدى عطف على ضمير خفض لازماً قد جعلا وليس عندي لازماً إذ قد أتى في النظم والنثر الصحيح مثبتاً( )
فعلى قراءة العامة ليست الآية مما نحن فيه، وهذه القراءة رجحها الطبري والبغوي وغيرهما لأن العطف على الضمير المجرور لا يكاد يوجد في كلام العرب إلا قليلاً ومعنى الآية على هذه القراءة: اتقوا الله واتقوا الأرحام أن تقطعوها أو اتقوا الله في الأرحام كما نقله ابن جرير عن كثير من مفسري السلف( ).
أما على قراءة الجر وهي أيضاً جائزة في اللغة على القول الصحيح كما ذهب إليه ابن مالك -يكون المعنى- واتقوا الله الذي إذا تساءلتم بينكم، قال السائل للمسؤول: أسألك به وبالرحم وهذا ليس من باب الإقسام على المخلوق بالمخلوق، بل هو من باب طلب إيفاء حق الرحم فهو تذكير لما يستحقه من صلة الرحم، أو يقال: هو إخبار عما كانوا يقولونه، ولا يدل على جوازه في الشرع، والأول أولى.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: (وهذا إخبار عن سؤالهم، وقد يقال إنه ليس بدليل، على جوازه، فإن كان دليلاً على جوازه فمعنى قوله: أسألك بالرحم ليس إقساماً بالرحم -والقسم هنا لا يسوغ- لكن بسبب الرحم أي لأن الرحم توجب لأصحابها بعضهم على بعض حقوقاً.
ومن هذا الباب ما روي عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أن ابن أخيه عبد الله بن جعفر كان إذا سأله بحق جعفر أعطاه، وليس هذا من باب الإقسام، فإن الإقسام بغير جعفر أعظم بل من باب حق الرحم لأن حق الله إنما وجب بسبب جعفر، وجعفر حقه على علي)( ).
ومما يؤيد أن الآية على قراءة الجر ليست من باب الإقسام ما تقدم من النهي عن الحلف بغير الله تعالى واتفاق العلماء على عدم جواز الإقسام بغير الله تعالى.
فلا يمكن حمل معنى الآية على أمر ورد النهي عنه واتفق العلماء على منعه.
الآية الرابعة:(2/164)
قوله تعالى: ((وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا)) [النساء:64]، استدل بهذه الآية جماعة( ) على جواز طلب الدعاء من الرسول صلى الله عليه وسلم وقالوا: الآية وإن وردت في أقوام معينين في حالة الحياة تعم بعموم العلة كل من وجد فيه ذلك الوصف في الحياة وبعد الموت، فتعم الحالتين الحياة والموت وقالوا: ويؤيد هذا حكاية العتبي وحكاية مالك مع المنصور وستأتي مناقشة هاتين الحكايتين إن شاء الله تعالى في مبحث الحكايات.
الجواب: إن هذه الآية لا تدل على ما ادعوه لوجوه:
1- أن الآية خاصة بحياة النبي صلى الله عليه وسلم وذلك لأن الآية نزلت فيمن ترك الرسول صلى الله عليه وسلم وذهب إلى الطاغوت وتحاكم إليه، فهذا أساء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وترك حقاً من حقوقه واعتدى على حق الرسول صلى الله عليه وسلم. وهو التحاكم إليه.
فهذا لا تتحقق توبته إلا بالمجيء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم والاعتراف بالخطأ بترك التحاكم إليه، ويدل على ذلك أن (لو) من حروف الشرط.وحرف الشرط يدل على أن وجود الجواب يتوقف على وجود الشرط، ففي هذه الآية قد اشترط لحصول التوبة مجيئهم إلى الرسول صلى الله عليه وسلم واستغفارهم الله واستغفار الرسول صلى الله عليه وسلم لهم، ومثل هذا الشرط لم يأت في الكتاب والسنة لغير هذا الذنب فدل ذلك على أن ذنب التحاكم إلى غير الرسول صلى الله عليه وسلم مع وجوده ليس إساءة إلى الله فقط، بل فيه اعتداء على حقوق الرسول صلى الله عليه وسلم ولذا اشترط مجيئهم إلى الرسول صلى الله عليه وسلم( ).
2- ثم الخطاب في جاؤوك، يدل على حال الحياة لأنه لا يقال لمن جاء إلى قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم إنه جاء الرسول صلى الله عليه وسلم وإنما يقال جاء قبر الرسول صلى الله عليه وسلم.(2/165)
3- قوله: (استغفر لهم) يدل على حال الحياة؛ لأن استغفار الرسول صلى الله عليه وسلم لمن أتاه إنما يتحقق في حياته صلوات الله وسلامه عليه، وأما أنه يستغفر بعد موته لمن أتاه فهذا يحتاج إلى نص صحيح صريح وليس هناك نص صريح صحيح، وسيأتي مناقشة حديث عرض الأعمال الذي يدل على الاستغفار مع أن حديث العرض لو صح إنما يدل على عرض جميع أعمال الأمة وليس لمن جاءه فقط.
4- إن الصحابة رضوان الله عليهم لم يفهموا من الآية العموم مع أنهم أعلم الناس بمعاني القرآن ومراد الله تعالى به، إذ لو فهموا من الآية عمومها لحالتي الحياة والموت لطلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم بعد موته الإستغفار لهم وحل مشكلاتهم، فقد اختلفوا بعد لحوقه بالرفيق الأعلى- مباشرة في أمور مهمة للغاية مثل اختلافهم في محل دفنه وفي ميراثه وفي الخلافة، وحصلت لهم كروب وحروب مثل وقعة الجمل وصفين، وفي هذا ظلم بعضهم لنفسه، ومع هذا لم يأتوا إلى قبره صلوات الله وسلامه عليه ولم يطلبوا منه لا استغفاراً ولا غيره، وقد كانوا في حياته يراجعونه فيما هو أقل من هذا بكثير فكان الرجل منهم يراجعه فيما يقع بينه وبين أهله، فلو فهموا العموم لأتوه ولو أتوه لنقل إلينا لأنه مما تتوافر الهمم على نقله- فدل تركهم الدائم على أنهم لم يفهموا من الآية العموم.(2/166)
وقد سبق أن علمنا أن الترك الراتب مع وجود المقتضي وعدم المانع سنة، وقد حصل هنا المقتضي وهو ظلم بعضهم لنفسه ولا مانع من الإتيان، فدل هذا على أن ترك المجيء سنة، فعلى هذا فلو قلنا: إن الآية عامة لزم منه أن خير القرون قد عطلوا هذا الواجب وأغفلوه حتى جاء المتأخرون وعملوا به وهذا لا يقول به من يعرف البون الشاسع بين السلف والمتأخرين في الحرص على الخير، ومن المعلوم (أنه لا يجوز إحداث تأويل في آية، أو لسنة، لم يكن على عهد السلف ولا عرفوه ولا بينوه للأمة؛ فإن هذا يتضمن أنهم جهلوا الحق في هذا وضلوا عنه)( ). وبهذا اتضح أن من قال: إنها تدل على العموم فقد خالف بذلك (إجماع الصحابة والتابعين لهم بإحسان وسائر المسلمين فإن أحداً منهم لم يطلب من النبي صلى الله عليه وسلم بعد موته أن يشفع له ولا سأله شيئاً ولا ذكر ذلك أحد من أئمة المسلمين في كتبهم)( ).
5- ثم إن المجيء إليه صلى الله عليه وسلم في حياته لو دُعِيَ إليه مسلم ظلم نفسه ليستغفر له- وجب عليه المجيء مع القدرة لأن المنافقين هم الذين ((وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ)) [المنافقون:5].
ولا يمكن أن نقول: كذلك فيمن دعي إلى قبره (ليستغفر له، ومن سوى بين الأمرين وبين المدعوين وبين الدعوتين فقد جاهر بالباطل وقال على الله وكلامه ورسوله وأمناء دينه غير الحق)( ).
ونكتفي بهذا القدر لأن كثيراً من المحققين( ) قد بينوا عدم دلالة الآية على ما زعم هؤلاء بأوجه كثيرة فلا حاجة للتطويل.
الآية الخامسة:
قوله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)) [المائدة:35].(2/167)
قد استدل بهذه الآية بعضهم على مشروعية الاستغاثة بالصالحين وجعلهم وسيلة بين الله تعالى وبين العباد، والقسم على الله تعالى بهم وعلى الطلب من الموتى والغائبين دعاء الله تعالى.
وقالوا: إن الوسيلة في الآية عامة تشمل التوسل بالذوات الفاضلة( )، وفسر بعض هؤلاء المستدلين الوسيلة في الآية بأنها (كل ما جعله الله سبباً في الزلفى عنده ووصلة إلى قضاء الحوائج منه، والمدار فيها على أن يكون للوسيلة قدر وحرمة عند المتوسل إليه)( ).
الجواب عن هذه الآية على وجوه:
أ- إننا قد ذكرنا فيما مضى معنى التوسل في اللغة والشرع وعبارات السلف، وليس من معناه اللغوي ولا الشرعي التوسل بهذا المعنى المحدث الذي هو التوسل بالذات، فلا يجوز حمل الآية على المعنى الذي لم يكن متعارفاً عليه وقت النزول، فلهذا لم نجد أحداً من مفسري السلف فسر الآية بالتوسل بالذوات وستأتي قريباً عباراتهم وألفاظهم، فعلى هذا يكون تفسير الوسيلة في الآية بالتوسل بالذات- من التفسير بالرأي المجرد وهو مذموم كما هو معروف، ولهذا لم نجد أيضاً أحداً ممن ألف في تفسير القرآن الكريم أو شرح معاني غريبه- ذكر هذا المعنى الذي هو التوسل بالذوات، وهذا كله يدل على أن الوسيلة في الآية هو التقرب إلى الله تعالى بالأعمال الصالحة التي يكتسبها الإنسان بنفسه لا بأمر خارج عنه أجنبي لا علاقة له به.
ب- إن قوله تعالى: ((وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ)) [المائدة:35] أمر بطلب الوسيلة إلى الله تعالى والأمر للوجوب إن لم يصرف بدليل آخر فلو قلنا: إن الوسيلة هنا تشمل التوسل بالذوات، لزم أن التوسل بالذوات واجب إذ لا صارف لهذا الأمر، وقد أجمع المسلمون على أن التوسل بالذوات غير واجب وإنما الخلاف في الجواز وعدمه ولم يقل باستحبابه إلا بعض المتأخرين بدون دليل، ولو طلبوا بالصارف الذي صرفه عن الوجوب لم يجدوا فثبت بهذا أنه غير مراد من الآية وليس داخلاً في عمومها.(2/168)
جـ- إن هذا الأمر بطلب الوسيلة كان ينبغي للنبي صلى الله عليه وسلم أن يبينه للأمة إما بقوله أو عمله وذلك عملاً بقوله تعالى: ((وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)) [النحل:44]، ولم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث صحيح أو حسن أنه توسل بذاته الشريفة أو بالأنبياء أو الملائكة المقربين أو بصحابته في أدعيته الكثيرة المتواترة، والتي صنفت فيها المجلدات والتي فيها جميع أنواع صيغ الدعاء بأساليب شتى، فكيف يعقل ترك النبي صلى الله عليه وسلم لبيان هذا الأمر الإلهي؟
د- إن الصحابة لم يطبقوا هذا الأمر الإلهي بالتوسل بالذوات في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وقت وقوعهم في الشدائد والعظائم، فلم ينقل أن السرايا والمسافرين منهم توسلوا به، فلو كانت الآية تعني ابتغاء الوسيلة بذوات الأنبياء لرأينا في أدعية الصحابة التي نقلت بألفاظ كثيرة، وفي مناسبات شتى، توسلهم بالنبي صلى الله عليه وسلم، وبكبار الصحابة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وباقي العشرة وأصحاب بدر وبيعة الرضوان، فكيف فاتهم هذا الفهم لعموم الآية وأدركه المتأخرون؟
وقد ذكرنا فيما مضى أن الترك الراتب مع وجود المقتضي وعدم المانع سنة متبعة كما قرره العلماء المحققون.
هـ- إن الوسيلة التي أمرنا بابتغائها من العبادات والطاعات بلا شك ولا ريب والعبادات مبناها على التوقيف، ولم يأت نص صحيح صريح في كون التوسل بالذوات من الطاعات التي يتقرب بها إلى الله تعالى فإذا لم يأت نص فهو من البدعة وليس من الطاعات التي شرع لنا التعبد بها والتي أمرنا بابتغاء الوسيلة إلى الله بها.(2/169)
و- الآية تدل على عكس فهم هؤلاء؛ لأن فيها تقديم المعمول وهو يفيد الحصر فقد قدم الجار والمجرور وهو (إليه) على المتعلق به وهو (الوسيلة)، أي اطلبوا القربة إلى الله وحده لا إلى غيره، فالتوسل البدعي توجه إلى غير الله وتعليق للقلب بغير الله، وليس فيه حصر التوجه والتعلق على الله الذي تفيده الآية بتقديم الجار والمجرور، ويدل على أن التوسل البدعي ليس فيه حصر التوجه ما خافه الإمام النووي -رحمه الله- من التوسل بالأعمال الصالحة، فإنه ذكر حديث الغار وتوسل الثلاثة بأعمالهم وإن العلماء استحبوا لمن وقع في شدة أن يدعو بصالح عمله عملاً بحديث الغار، ثم قال -رحمه الله-: (وقد يقال في هذا شيء لأن فيه نوعاً من ترك الافتقار المطلق إلى الله تعالى، ومطلوب الدعاء الافتقار)، ثم أجاب عن الاستشكال بأن النبي صلى الله عليه وسلم صَوبَ أعمالهم فدل على جوازه( ).
فإذا كان مثل النووي -رحمه الله- يخاف في التوسل المشروع عدم حصر الافتقار في الله تعالى، فكيف يكون الأمر في التوسل المبتدع؟ لا شك أن ترك الافتقار المطلق فيه أولى وأظهر.
ز- إن لفظ الوسيلة الذي ورد في هذه الآية هو مثل لفظ الوسيلة الذي ورد في آية الإسراء: ((قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلا تَحْوِيلًا * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا)) [الإسراء:57].(2/170)
ففي هذه الآية لا يمكن تفسير الوسيلة بما يشمل التوسل بالذوات لأن ذلك خلاف سياق الآية، فالآية تبين أن المدعوين أنفسهم يطلبون إلى الله الزلفى والقربة، ويرجون رحمته وبخافون عذابه فكيف أنتم تدعونهم مع هذا؟، بل اللائق بكم أن تدعوا وتطلبوا الزلفى إلى الله كما هم يطلبونها من الله تعالى وحده وهذا واضح من الآية بحمد الله تعالى فهي في نفي الواسطة إلى الله تعالى فيشمل ذلك التوسل البدعي، فكما أن الوسيلة في آية الإسراء لا تعم التوسل البدعي فكذلك لا تعمه في آية المائدة وخير ما فسر القرآن بالقرآن، ومن فرق بين المتماثلين فعليه البيان والبرهان، ولا برهان له إلا الاحتمالات الواهية والظنون الكاذبة.
ح- إن الوسيلة التي أمرنا بابتغائها لا بد أن يبينها الله لنا في كتابه لأنها مما يقربنا إليه وهي من الدين، وقد قال تعالى في أول هذه السورة: ((الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا)) [المائدة:3]، فإذا لم يرد في القرآن الكريم كله التوسل بالذوات ولا مرة واحدة، ولم يحك الله لنا هذا التوسل في أدعية الأنبياء والصالحين وابتهالاتهم ومناجاتهم مع الله تعالى وهي كثيرة جداً في القرآن الكريم، دل ذلك على أن هذا التوسل ليس مما يقربنا إلى الله تعالى وليس من الدين في شيء وليس من أدعية الأنبياء والصالحين، فثبت أنه محدث في الدين وأنه ليس مراداً من الآية.(2/171)
فثبت بما تقدم -ولله الحمد- أن معنى الآية: ليس في التوسل بذوات الصالحين وإنما معناها تقربوا إلى الله بطاعته والعمل بما يرضيه كما قاله قتادة وأبو وائل وعطاء ومجاهد والحسن وعبد الله بن كثير( )، وقاله حذيفة أيضاً( ) ويرجع إلى هذا المعنى تفسير( ) عبد الرحمن بن زيد الوسيلة بالمحبة، أي تحببوا إلى الله أي تقربوا إلى الله بطلب رضاه ومحبته، وكذلك تفسير السدي( ) بالمسألة والقربة لأن المعنى اطلبوا منه المسألة والقربة ولا تسألوا غيره.
وكذلك ما روي عن ابن عباس( ) أنه فسرها بالحاجة، أي اطلبوا منه الحاجة ولا تطلبوا من غيره، قال الألوسي: (وكأن المعنى حينئذ اطلبوا متوجهين إليه حاجتكم فإن بيده عز شأنه مقاليد السموات والأرض، ولا تطلبوها متوجهين إلى غيره فتكونوا كضعيف عاذ بقرملة)( ).
فكل هذه المعاني في إخلاص الطاعة لله وإفراده بالمحبة والسؤال والحاجة وليس فيها ما يدل على طلب الحاجة من الله بواسطة الذوات، ثم إن هذه المعاني متقاربة فلذا قال ابن كثير بعد أن حكى تفسيرها بالقربة: (وهذا الذي قاله هؤلاء الأئمة لا خلاف بين المفسرين فيه)( ).
ويدل على أن هذه المعاني مآلها واحد أن ابن جرير الطبري فسر الوسيلة بالقربة ثم قال: (وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل)، ثم ساق أقوال من فسرها بالقربة والمسألة والمحبة استدلالاً على أنها مثل تفسيره( ).
وصنع القرطبي مثل صنع الطبري أيضاً( ).
وذلك أن مفسري السلف قد يقع في عباراتهم تباين في الألفاظ يحسبها من لا علم له اختلافاً، وليس كذلك، فإن منهم من يعبر عن الشيء بلازمه أو بنظيره، ومنهم من ينص على الشيء بعينه، والكل بمعنى واحد في أكثر الأماكن( ).(2/172)
وبما قدم من تفسير السلف وعلماء التفسير للوسيلة في الآية بما حاصله التقرب إلى الله تعالى بالأعمال الصالحة، يعلم ما في قول بعضهم في تعريف الوسيلة: (كل ما جعله الله سبباً في الزلفى عنده ووصلة إلى قضاء الحوائج منه). ثم هنا أمر آخر وهو أن الخلاف في جعل الله التوسل بالذوات سبباً للزلفى عنده، فهو مورد النزاع فيحتاج إلى دليل خارجي يثبت أنه سبب للزلفى ووصلة إلى قضاء الحاجات؛ لأن الأسباب الشوعية لا بد من ثبوتها بالأدلة وإلا لجعل الناس أسباباً للقربات من عند أنفسهم وادعوا أنها أسباب( ).
والأسباب الشرعية للتقرب إلى الله ولقضاء الحاجات معروفة في الكتاب والسنة، والتوسل البدعي ليس منها، فمن ادعى أنه منها فعليه البيان بالأدلة الثابتة الصحيحة التي تدل على أن الله تعالى جعل التوسل بالذوات سبباً لقضاء الحاجات، ولا يقبل ذلك بالادعاء لأنه أمر شرعي تعبدي فلا بد من النص الواضح على أنه سبب، ولا يكفي في كون الشيء سبباً يتوسل به إلى الله تعالى أن يكون له قدر وحرمة عند المتوسل إليه، وذلك لأن المتوسل إليه إذا لم يأمرنا بأن نتقرب إليه بذلك الذي له قدر وحرمه عنده يكون التوسل إليه من إساءة الأدب إليه، ومن الافتئات عليه لاسيما وقد بين لنا ما نتوسل به غليه وسكت عن هذا من غير نسيان، ثم إن فيه اتهاماً له بعدم النصح لنا بعدم البيان لما فيه الخير لنا أو التقصير في ذلك وحاشا الشارع الحكيم من ذلك.
ثم إن هذا الكلام فتح لباب الشرك الذي أمرنا بسد الذرائع إليه، إذ أصل شرك العالم هو بسبب ادعاء الواسطة بين الله وبين خلقه وادعاء الحرمة والقدر عند الله للمعبودين، فثبت بهذا أن المدار في جواز التوسل وعدمه ليس على الحرمة والقدو، وإنما المدار على الشرع، فما أجازه الشرع وجعله سبباً للتوسل جاز، وما لم يرد في الشر، لا يكون سبباً للتوسل لأن المدار على الاتباع لا على القياس والاستحسان.(2/173)
ط- ويقال أيضاً: إن الآية الكريمة تحث على تقوى الله تعالى والتقرب إليه بما يرضاه من الأعمال الصالحة، كما تحث على الجهاد في سبيله، وهذه الأمور كلها الهدف منها النفع الأخروي الآجل، وليس في سياق الآية ما يدل من قريب ولا من بعيد على طلب النفع الدنيوي العاجل، أو التقرب إليه بالذوات لطلب النفع العاجل؛ فالاية فيما هو أسمى من ذلك الذي هو الأمر الأخروي فقوله: ((ابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ)) [المائدة:35] يكتنفه الأمر بالتقوى والأمر بالجهاد ثم هو مذيل بتعليل ذلك بأنه يؤدي إلى الفلاح، وهذا السياق كله يدل على أن المقصود من الآية الأمر الأخروي والله أعلم.
ويؤيد هذا الوجه الأخير ما ذكره شيخ الإسلام من أن قوله تعالى: ((وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ)) معطوف على قوله: ((اتَّقُوا اللَّهَ)) وأنه من باب عطف الخاص على العام فيكون ابتغاء الوسيلة من تمام تقوى الله تعالى، وأن الفائدة من ذكر الخاص بعد العام هو ما في الخاص من مزية تستحق التنويه بها( ).
ولا يمكن لأحد أن يدعي أن التوسل بالذوات له مزية على غيره من أنواع الطاعات التي يحصل بها تقوى الله تعالى.
الآية السادسة:
قوله تعالى في قصة سليمان عليه السلام: ((قَالَ يَا أَيُّهَا المَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ)) [النمل:38].
استدل بها بعضهم( ) على جواز طلب ما لا يقدر عليه إلا الله تعالى من المخلوق.
الجواب عن هذا على وجوه:(2/174)
1- إن سليمان عليه السلام عندما طلب من الملأ الذين معه- كان فيهم الجن والشياطين وهم آتاهم الله تعالى قدرة يستطيعون إحضار مثل هذا وقد سخرهم الله له. قال تعالى: ((وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ)) [الأنبياء:82]، وقال: ((يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ...)) [سبأ:13]، وقال: ((وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ)) [ص:37]، فهو قد طلب منهم ما يقدرون عليه فلم يطلب ما لا يقدرون عليه.
2- ثم( ) إن القصة من أدلة التوحيد لأن الرجل الذي عنده علم من الكتاب توسل إلى الله بتوحيده وإلاهيته وكرر ذلك في دعائه، وقد روي( ) أنه يعرف الاسم الأعظم فهو طالب من الله راغب إليه سائل له، وقد روي أنه قال: (يا ذا الجلال والإكرام) أو قال: (يا إلهنا وإله كل شيء إلهاً واحداً لا إله إلا أنت ائتني بعرشها)، وقيل إنه توضأ وصلى ركعتين ودعا الله تعالى ولم يدع سليمانَ ولا توسل به ولا بالأنبياء السابقين بل توجه إلى الله تعالى بالدعاء والصلاة.
3- ثم إن سليمان ليس داعياً بل هو آمر وقد ذكرنا الفرق بين المعنيين فيما تقدم؛ وذلك لأن سليمان عليه السلام ملك يأمر رعيته بما يقدرون عليه وهكذا حال الملوك وغيرهم، خصوصاً إذا كان مما يحبه الله ويرضاه...
4- ثم إن هذا من باب طلب الدعاء من الحي الحاضر لاسيما إذا كان معروفاً بإجابة الدعاء، فإن الرجل قيل: إنه كان يعرف الاسم الأعظم الذي إذا دعى الله به أجاب ولا يشترط في طلب الدعاء أن يكون المطلوب منه أفضل من الطالب، كما في طبب النبي صلى الله عليه وسلم من عمر إشراكه في الدعاء وطلب عمر من العباس الاستسقاء وأمر النبي صلى الله عليه وسلم لعمر بطلب الاستغفار من أويس القرني( )، وبهذا علم أن هذا ليس من الطلب من الغائب ولا من الميت وإنما من الحاضر.(2/175)
5- ثم إن هذا الأمر من سليمان يمكن أن يكون بوحي من الله سبحانه وتعالى لأنه نبي يعمل ما يعمله بالوحي، وقد يريد الله تعالى إظهار فضل أتباع نبيه سليمان عليه السلام وإظهار كرامتهم عند الله تعالى، فيأمر سليمان بأن يأمر الحاضرين بالتسابق في تقديم الدعاء إلى الله تعالى فمنهم الجن والشياطين ومنهم الإنس، ففي قبول الدعاء من أتباع النبي كرامة لهذا التابع كما أنه من جهة معجزة للرسول المتبوع.
فهذه القصة تحتمل أن تكون بوحي فلهذا لا يمكن القياس عليها.
6- ثم إن هذه القصة قد وقعت في شريعة غير شريعتنا، ومن المعلوم أن شرع من قبلنا ليس شرعاً لنا إلا فيما وافق شرعنا، وقد علم قطعاً في شرعنا أنه لا يجوز طلب ما لا يقدر عليه إلا الله إلا من الله تعالى.
الآية السابعة:
قوله تعالى في حق موسى: ((فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ)) [القصص:15].
احتجوا( ) بهذه الآية على جواز الاستغاثة بالأموات والغائبين، كما احتجوا أيضاً بالأحاديث الواردة في مطلق الاستغاثة والإعانة، مثل ما ورد في حديث( ) الشفاعة الكبرى: {فبينما هم كذلك استغاثوا بآدم ثم بموسى ثم بمحمد صلى الله عليه وسلم}( ) وحديث( ) ابن عباس في قصة هاجر من قولها: {أغث إن كان عندك غواث}( )، وما روي( ) أن جبريل قال لإبراهيم عليهما السلام لما ألقي في النار ألك حاجة فقال أما إليك فلا.
قالوا: وهذه الأمور فيها الاستغاثة بغير الله تعالى.
الجواب( ):
1- إن هؤلاء الذين يذكرون ما تقدم على أحد احتمالين: إما أنهم لم يفهموا الاستغاثة الممنوعة من المباحة ولم يستطيعوا التمييز بينهما، وإما أنهم يتعمدون التشويش وتلفيق الحجج والشبهات، وعلى كل فنقول جواباً لهذا ولذاك سائلين الله تعالى التوفيق.
2- إن الاستغاثة على قسمين جائزة وممنوعة.(2/176)
فالجائزة: الاستغاثة بالحي الحاضر فيما يقدر عليه، وهي ما كان (في الأسباب الظاهرة العادية من الأمور الحسية في قتال، أو إدراك عدو، أو سبع أو نحوه، كقولهم يا لَزَيدِ يا للمسلمين كما ذكروا ذلك في كتب النحو)( ).
وأما القسم الممنوع فهو أن يستغاث بالمخلوق الحاضر فيما لا يقدر، وكذلك بالغائب أو الميت فيما يقدر عليه حياً ولا فيما لا يقدر.
فالاستغاثة الممنوعة محصورة بالاستغاثة بالقوة والتأثير الغيبي أو في الأمور المعنوية من الشدائد، كالمرض وخوف الغرق والضيق والفقر وطلب الرزق ونحوه( ).
فهذه الاستغاثة من خصائص الله تعالى لا يطلب فيها غيره، والسبب في منع الاستغاثة بغير الله في هذا لأن (ما لا يقدر عليه من الأمور العامة الكلية كهداية القلوب ومغفرة الذنوب، والنصر على الأعداء، وطلب الرزف من غير جهة معينة والفوز بالجنة والإنقاذ من النار ونحو ذلك غاية في القصد والإرادة، فسؤاله وطلبه غاية في السؤال والطلب، وفي ذلك من الذل وإظهار الفاقة والعبودية ما لا ينبغي أن يكون لمخلوق أو يقصد به غير الله)( ).
وقد تقدم ذكر ما يبين هذا في مبحث مراتب الدعاء غير المشروع، فاتضح مما سبق أن ما استدلوا به كله من القسم الأول الجائز فإن موسى عليه السلام في المثال الأول قادر على إغاثة الرجل الذي استغاث به وهو حي حاضر، ومثل ذلك ما ورد في أحاديث الشفاعة فإن الأنبياء حاضرون مع الناس فيطلبون منهم الدعاء والشفاعة، وذلك في مقدورهم، ومما يدل على ذلك دلالة واضحة أن الناس يذهبون إليهم واحداً بعد واحد، فلو كان من الاستغاثة المدعية لما تجشموا الذهاب في ذلك الموقف الحرج بل اكتفوا بذكر أسمائهم أو ندائهم والصراخ بأسمائهم بدون أن يحضروا عندهم ويتجشموا الذهاب إليهم.
فدل هذا على أن هذه الاستغاثة من باب طلب الدعاء من الحي الحاضر، ومن هذا النوع استغاثة هاجر فإنها لما سمعت صوتاً طلبت من صاحب الصوت أن يغيثها وهو حاضر قريب إليها.(2/177)
وأما ما روي في قصة إبراهيم على فرض صحته فإنه أيضاً من هذا النوع، فإن جبريل شديد القوى كما وصفه الله يقدر على إغاثة إبراهيم وإلقائه خارج النار، أو إلقاء النار في مكان بعيد.
الآية الثامنة:
قوله تعالى: ((لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ)) [الزمر:34، الشورى:22].
استدل( ) بهذه الآية بعضهم على جواز دعاء الأولياء في قبورهم، أي أن الأولياء إذا أرادوا شيئاً في قبورهم وطلبوه من الله فلا بد أن يحصل وبتحقق فإذا كان الأمر كذلك فإذا دعاهم أحد فإنهم يشاءون له الإجابة. الجواب عن هذا بوجوه:
1- يلزم على تفسير الآية بقول هؤلاء الذين فسروها بالمشيئة المطلقة للأولياء أن الأولياء في قبورهم لهم التصرف المطلق في الكون، فهم لا يشاؤون أي شيء إلا كان، ولا يقول بهذا مسلم لأن المشيئة المطلقة ليست إلالله تعالى.
2- إن الآية ليست في الأولياء فقط بل تشمل جميع المؤمنين كما يدل عليه أول الآية في سورة الشورى: ((وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ)) [الشورى:22]، وفي سورة الزمر أيضاً في جميع المؤمنين كما رجحه ابن جرير الطبري مستدلاً بمقابلة هذه الآية بالآية التي قبلها ((فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ)) [الزمر:32]، وبقوله: ((أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ)) [الزمر:33]، وبقراءة من قرأ (والذين جاءوا بالصدق وصدقوا به).( ).
فإذا ثبت أن قوله تعالى: ((لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ)) [الزمر:34] في الموضعين عام لكل المؤمنين يلزم على قولهم أن كل المؤمنين لهم المشيئة المطلقة في القبور ويتصرفون في الإجابة فيجوز دعاؤهم لقضاء الحاجات وتفريج الكربات.
وهؤلاء يخصون الدعاء بالأولياء فقط ولا يقولون بذلك في عامة المؤمنين.(2/178)
3- إن هذا التفسير خلاف الأدلة الصحيحة، فقد دلت النصوص الصحيحة أن الميت ليس له تصرف في الأمور الدنيوية، وليس لمشيئته تأثير على ما يجري في الدنيا.
4- سياق الآية يدل على أنها جزاء في الجنة وليس في القبور، ويدل على ذلك قوله تعالى: ((فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ)) [الشورى:22]، كما يدل على ذلك مقابلة هؤلاء الصنف المصدقين بالمكذبين الذين قال الله فيهم: ((أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ)) [العنكبوت:68] فكما أن هذا يقع في الآخرة فكذلك الآخر.
5- ثم لو سلمنا جدلاً أن المراد من الآية أن لهم المشيئة المطلقة في القبر يلزمنا أنهم يعلمون ما يجري في الدنيا وهذا يخالف النصوص وتأتي تلك النصوص في حديث عرض الأعمال.
6- إن التفسير الصحيح للآية هو ما تدل عليه آيات أخر مثل هذه الآية تماماً وهي واضحة أن هذه المشيئة هي في الجنة وأنهم ما يشاءون ويشتهون شيئاً إلا حصل لهم، ومن تلك الآيات قوله تعالى: ((وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ * هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ * ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ * لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ)) [ق: (31-35)]، وقوله تعالى: ((قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا * لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولًا)) [الفرقان:15-16].
فهاتان الآيتان في الجنة بدون شك ولا ريب، فكذا الآية التي احتجوا بها، فكل هذه الآيات في الجنة لا في البرزخ، ومثل هذه الآيات قوله تعالى: ((وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ)) [الزخرف:71].(2/179)
فتبين مما سبق أن المراد من الآية ليس مشيئة مطلقة وإنما هي مشيئة خاصة بما يشتهونه في الجنة، ودل على هذه الآيات الأخرى والسياق وأقوا ل المفسرين.
فقد فسر ابن جرير( ) وابن كثير( ) والقرطبي( ) وغيرهم الآية بالطلب في الجنة بعد قيام الساعة، ولم نطلع على أحد فسرها بما يدل على الطلب أيام البرزخ في القبر، فيكون تفسيرها بذلك من التفسير بالرأي المذموم الذي نهينا عنه كما يكون أيضاً مخالفاً لسياق الآية.
قال الشيخ محمد صديق حسن خان -رحمه الله- في رد هذه الشبهة: (إن ذلك وعد لهم والله لا يخلف الميعاد وهذا لهم في الآخرة كما صرحت به الآيات والأحاديث ودعوى العموم بعيدة محالة، ما شاء الله كان وما لم يشألم يكن...)( ).
الآية التاسعة:
قوله تعالى: ((فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا)) [النازعات:5].
قد احتجوا بهذه الآية على دعاء الموتى وندائهم بالحوائج، وقالوا هي الأرواح الفاضلة فإنها إذا فارقت البدن يظهر لها آثار في أحوال هذا العالم فهي المدبرات أمراً، فإن الإنسان قد يرى شيخه في المنام ويسأله عن مشكلة فيرشده إليها( ).
الجواب:
1- إن هذا التفسير من التفسير بالرأي المجرد المذموم لأنه لم يرد عن مفسري السلف ولا يدل عليه نظم القرآن وسياقه.
2- قد فسر علماء التفسير من السلف المدبرات بالملائكة ولم يختلفوا في ذلك، وانما اختلفوا في تفسير النازعات والناشطات والسابحات والسابقات، وأما المدبرات فلم يختلفوا في تفسيرها بالملائكة، قال ابن كثير -رحمه الله-: (قال علي ومجاهد وعطاء وأبو صالح والحسن وقتادة والربيع بن أنس والسدي هي الملائكة، زاد الحسن تدبر الأمر من السماء إلى الأرض يعني بأمر ربها عز وجل ولم يختلفوا في هذا)( )، فعلى هذا فلا يجوز إحداث تفسير لم يذهبوا إليه لأن ذلك يعد مخالفة لاتفاقهم.(2/180)
3- ثبت أن المراد من المدبرات هي الملائكة التي تدبر الأمور الكونية بأمر الله تعالى، ومع تدبيرها للكون لا يجوز دعاؤهم ولا الاستغاثة بهم.
لأننا نعلم أن الملائكة يدعون لنا بالاستغفار ومع ذلك لا نطلب منهم ذلك؛ لأن ذلك إنما يكون منهم بالأمر الكوني لا يزيد بسؤال سائل، وفي هذا رد لما نقل عن بعضهم من القول بأن رفع اليدين إلى السماء في الدعاء لأجل دعاء الملائكة( ) فالملائكة لا يدعون من دون الله تعالى، قال تعالى: ((أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ)) [الإسراء:57].
وجاء تفسيرها بالملائكة( ).
4- ثم إن القول بأن أرواح الموتى هي المدبرة للأمور فيه خطورة بالغة وفتح لباب الشرك على مصراعيه، وهل عبدت الأصنام إلا بمثل هذا، بل لا يعتقد أكثر عباد الأصنام لها التدبير استقلالاً كما سيأتي، فاعتقاد التدبير للأموات من أشنع المسائل التي صرح بها بعض من ينتسب إلى الإسلام وهي من أقوال الصابئة وبعض الفلاسفة الذين يعتقدون تأثيراً وارتباطاً لأرواح الموتى بالأحياء، ولا يتصور من مسلم أن يتفوه بمثل هذا مع وضوح مناقضته لبديهيات الإسلام، فالقول بهذا مع مناقضته للإسلام (رجوع إلى عبادة الملائكة والنجوم والأنفس المفارقة وهذا حقيقة دين الصابئة)( ).
وبهذه الآية نصل إلى الانتهاء من ذكر أهم الآيات التي احتجوا بها والإجابة عليها بما يوضح أنها لا تدل على مقصودهم بل هي على نقيض قصدهم.
ومن هنا نقول: إننا لم نجد لهم دليلاً صريحاً من الكتاب العزيز يدل لما ذهبوا إليه من جواز دعاء غير الله تعالى من الأموات والغائبين أو التوسل بهم.
والآن نبدأ في عرض ما بقي من حججهم من السنة الصحيحة والإجابة عليها وبالله التوفيق.
المبحث الثاني: في مناقشة بعض ما احتجوا به من السنة الصحيحة
ومن الأحاديث الصحيحة التي استدلوا بها:(2/181)
1- ما رواه أنس بن مالك رضي الله عنه: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان إذا قحطوا استسقى بالعباس بن عبد المطلب فقال: (اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا، قال: فيسقون)( ).
قد احتج بهذا المحديث طائفة( ) ممن أجازوا السؤال بالذوات، والاستشفاع بها، أو استحبوا ذلك ومنهم من احتج به على جواز الاستغاثة بغير الله تعالى.
الجواب كالآتي:
إن هذا الحديث ليس من التوسل بالذوات والسؤال بها.
وإنما هو من التوسل المشروع وهو طلب الدعاء من الحي الحاضر، ويدل على ذلك أمور:
1- إن علماء السلف فهموا من هذا الحديث التوسل المشروع، ويدل لذلك صنيع الإمام البخاري( ) -رحمه الله- تعالى فقد بوب لهذا الحديث بقوله: (باب سؤال الناس الإمام الاستسقاء إذا قحطوا) وأورد تحت هذا الباب هذا الحديث وحديث ابن عمر رضي الله عنهما.
ربما ذكرت قول الشاعر وأنا أنظر إلى وجه النبي صلى الله عليه وسلم يستسقي فما ينزل حتى يجيش كل ميزاب:
وأبيض يستسقي الغمام بوجهه ... ... ثمال اليتامى عصمة للأرامل
وقد اعترض( ) على البخاري بعضهم، لإيراد هذين الحديثين تحت الباب المذكور لأن الحديثين في نظر المعترض ليس فيهما ما يدل على طلب الاستسقاء من الإمام، وعند التأمل يظهر دقة استنباط البخاري وصحته وأن الحديثين يدلان على سؤال الناس الإمام الاستسقاء ولا صحة لاعتراض من اعترض عليه، والسبب في هذا الاعتراض أن لفظ التوسل قد دخل فيه لبس وخلط فمفهومه في لغة الصحابة غير مفهومه عند المتأخرين. قال شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى-: (ولفظ التوسل والاستشفاع ونحوهما دخل فيها من تغيير لغة الرسول وأصحابه ما أوجب غلط من غلط عليهم في دينهم ولغتهم)( ).(2/182)
وذلك لأن التوسل والتوجه ونحوهما لفظ فيه إجمال واشتراك بحسب الاصطلاح، فمعناه في لغة الصحابة أن يطلب منه الدعاء والشفاعة، فيكونون متوسلين ومتوجهين بدعائه وشفاعته، ودعاؤه وشفاعته صلى الله عليه وسلم من أعظم الوسائل عند الله عز وجل.
وأما في لغة كثير من الناس فمعناه أن يسأل الله تعالى ويقسم عليه بذاته( )، فالمعنى الصحيح لقول عمر -رضي الله عنه-: (كنا نتوسل بنبينا فتسقينا)- كنا نطلب منه الدعاء والشفاعة ونطلب من الله أن يقبل دعاءه وشفاعته (ونحن نقدمه بين أيدينا شافعاً وسائلاً لنا- بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم- فإنه كان يدعو للمتوسل به المستشفع به، والناس يدعون معه( ).
وليس معناه أننا نذكر اسمه في الدعاء مع غيبته كأن يقال: اللهم إنا نسألك بحرمة نبيك وجاهه... إلخ.
2- إن الثابت في الأحاديث الصحاح أن الصحابة كان توسلهم في حياة النبي صلى الله عليه وسلم في الاستسقاء وغيره- بطلب الدعاء منه، وذلك كما في حديث أنس وعائشة رضي الله عنهما، بل قد ثبت أن الكفار كانوا يتوسلون بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم فكانوا يطلبون منه الدعاء ليسقيهم الله تعالى، كما في حديث ابن مسعود رضي الله عنه.
فحديث أنس هو ما رواه البخاري ومسلم عن أنس، أن رجلاً دخل يوم الجمعة من باب كان وجاه المنبر، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يخطب فاستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم قائماً فقال: يا رسول الله هلكت المواشي، وانقطعت السبل، فادع الله يغيثنا قال: فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه فقال: اللهم اسقنا، اللهم اسقنا، اللهم اسقنا، قال أنس: ولا والله ما نرى في السماء من سحاب ولا قزعة ولا شيئاً...( ).(2/183)
وأما حديث عائشة رضي الله عنها فهو قولها: (شكا الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قحوط المطر، فأمر بمنبر فوضع له في المصلى ووعد الناس يوماً يخرجون فيه قالت:فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بدا حاجب الشمس فقعد على المنبر فكبر وحمد الله ثم قال: (إنكم شكوتم جدب دياركم واستئخار المطر عن إبان زمانه عنكم، وقد أمركم الله أن تدعوه ووعدكم أن يستجيب لكم...)( ).
فقد صرح في الحديث أنهم شكوا إليه تأخر المطر وهذه الشكوى لأجل أن يدعو النبي صلى الله عليه وسلم.
فالصحابة لم يكونوا يتوسلون بذكر اسمه فقط بدون أن يدعو لهم النبي صلى الله عليه وسلم وبدون أن يعلمه وبدون أن يحضروا عنده.
وأما توسل الكفار واستشفاعهم بالنبي صلى الله عليه وسلم فقد أخرجه البخاري تحت باب إذا استشفع المشركون بالمسلمين عند القحط من طريق مسروق قال: أتيت ابن مسعود فقال: (إن قريشاً أبطؤوا عن الإسلام فدعا عليهم النبي صلى الله عليه وسلم فأخذتهم سنة حتى هلكوا فيها، وأكلوا الميتة والعظام، فجاءه أبو سفيان فقال: يا محمد جئت تأمر بصلة الأرحام، وإن قومك هلكوا فادع الله... فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسقوا الغيث فأطبقت عليهم سبعاً وشكا الناس كثرة المطر فقال: اللهم حوالينا ولا علينا، فانحدرت السحابة عن رأسه فَسُقوا الناسُ حولهم]( ).(2/184)
فدلت هذه الأحاديث على أن التوسل المعهود في حياة النبي صلى الله عليه وسلم هو المجيء إليه وطلب الدعاء منه وهذا يفسر التوسل الوارد في كلام عمر رضي الله عنه: [[كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا]] فكما أن قوله الأول نتوسل إليك بنبينا يحمل على هذا كما دلت عليه هذه الأحاديث، يحمل قوله: (وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا) على التوسل المعهود بينهم وهو طلب الدعاء من الحي الحاضر الذي يدعو، قال شيخ الإسلام: [والصحابة رضي الله عنهم: كانوا إذا أجدبوا إنما يتوسلون بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم واستسقاءه، لم ينقل عن أحد منهم أنه كان في حياته صلى الله عليه وسلم سأل الله تعالى بمخلوق لا به ولا بغيره، لا في الاستسقاء ولا غيره]( ).
3- ويدل لهذا أيضاً ما رواه عبد الرزاق من طريق عكرمة عن ابن عباس: (أن عمر استسقى بالمصلى فقال للعباس: [[قم فاستسق فقام العباس فقال: اللهم إن عندك سحاباً وإن عندك ماء.. اللهم شفعنا في أنفسنا وأهلينا، اللهم إنا شفعنا إليك عمن لا منطق له عن بهائمنا، وأنعامنا، اللهم لا نرغب إلا إليك وحدك لا شريك لك...]]( ).
ففي هذا تصريح بطلب عمر من العباس رضي الله عنهما الدعاء، وهو التوسل المشروع ولم يكتف عمر بذكر اسم العباس في الدعاء فقط، بل طلب منه الدعاء، ثم إن قول العباس فشفعنا في أنفسنا إلخ يدل على أن كل الحاضرين مشتركون في الدعاء وأنهم يشفعون في أنفسهم وأهليهم كما يشفعون عن البهائم.
ثم إن قوله لا نرغب إلا إليك يؤكد إفراد الله تعالى بالرغبة والسؤال وهذا كله يدل على أن التوسل الوارد في قول عمر معناه طلب الدعاء من الحي الحاضر.
4- كما يشهد لذلك أيضاً ما ورد في بعض طرق الحديث عن أنس قال: [كانوا إذا قحطوا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم استسقوا به، فيستسقي لهم فيسقون فلما كان في إمارة عمر..]( ).(2/185)
فهذا واضح في طلب الدعاء منه صلى الله عليه وسلم، وكذلك العباس إنما طلب منه عمر الدعاء فكلمة استسقوا السين والتاء فيها للطلب أي طلبوا منه الدعاء بالسقيا.
5- ومما يشهد لذلك أيضاً صيغة ما دعا به العباس حين طلب منه عمر فإنه قال: (اللهم إنه لم ينزل بلاء إلا بذنب ولم يكشف إلا بتوبة، وقد توجه القوم بي إليك لمكاني من نبيك، وهذه أيدينا إليك بالذنوب ونواصينا إليك بالتوبة فاسقنا الغيث)( ).
فلو كان توسل عمر بالذات لما دعا العباس ولسكت لأنه يكفي توسل عمر بذاته بل يكفي عدم حضور العباس معهم بذاته، فيكتفي بذكر اسم العباس في الدعاء بدون أن يدعو العباس وبدون أن يحضر كما يفعله المتأخر ون.
6- إن هذا التوسل لو كان توسلاً بالذات لما عدل عمر والصحابة عن التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى التوسل بالعباس، وكان يمكنهم أن يأتوا قبر النبي صلى الله عليه وسلم فيتوسلوا به أو يقولوا وهم في الصحراء: اللهم إنا نسألك بجاه نبيك أو نحوه ولكنهم عدلوا عن هذا إلى التوسل بالعباس.
ولا شك أنهم أعلم منا بما أمر الله به ورسوله من الأدعية وغيرها وما هو أقرب إلى الإجابة.
فدل هذا العدول عن التوسل بالأفضل إلى التوسل بالمفضول على أن التوسل بالأفضل لم يكن ممكناً( ).
وقد ذكرنا فيما سبق أن من القواعد الأصولية المقررة أن الترك الراتب مع وجود المقتضي وعدم المانع- يدل على أن الترك سنة وأن خلافه بدعة.
ومما يدل على أن الصحابة يرون أن ترك التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم هو السنة أنهم لم يكونوا في حياته يتوسلون بغيره مع حضوره معهم، فلو كان التوسل به مشروعاً بعد موته لما عدلوا عنه.
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: (فلو كان توسلهم به في مماته كتوسلهم به في حياته لكان توسلهم به أولى من توسلهم بعمه العباس ويزيد وغيرهم.(2/186)
فهل كان فيهم في حياته من يعدل عن التوسل به والاستشفاع إلى التوسل بالعباس وغيره؟ وهل كانوا وقت النوازل والجدب يَدَعُونه، ويأتون العباس أم هل يفعل هذا مؤمن؟ فلو كان التوسل به في مماته كما كان في حياته لزم أن يكون المهاجرون والأنصار إما جاهلين بهذه التسوية وهذا الطريق أو أنهم سلكوا في مطلوبهم أبعد طريق، وكلاهما لا يصفهم به إلا من كان من جنس الرافضة الأراذل القادحين في أولئك الأفاضل. ثم سلف الأمة وأئمتها سلكوا سبيل الصحابة في التوسل في الاستسقاء بالأحياء الصالحين الحاضرين.
ولم يذكر أحد منهم في ذلك التوسل بالأموات لا من الرسل ولا من الأنبياء ولا من الصالحين)( ).
وأما جواب من( ) قال: إن عمر رضي الله عنه فعل ذلك للإشارة إلى جواز التوسل بالمفضول مع وجود الفاضل.
فيقال في( ) جوابه:
1- إنه يمتنع في العادة أن يلجأ المضطر في حالة الشدة إلى المشكوك فيه مع وجود من يتيقين إجابة دعائه، فالمضطر يلجأ إلى أعظم من يخلصه وينسى غيره، ويدل لهذا صنيع المشركين في الشدة. قال تعالى: ((وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ)) [الإسراء:67]،. قال شيخ الإسلام على لسان الصحابة: [فلم نعدل عن الأمر المشروع... وفي ذلك ترك السنة المشروعة وعدول عن الأفضل وسؤال الله بأضعف السببين، مع القدرة على أعلاهما ونحن مضطرون غاية الاضطرار في عام الرمادة الذي يضرب به المثل في الجدب]( ).
2- ثم إن بيان الجواز يكفي فيه المرة الواحدة وقد تكرر من عمر هذا كما تدل عليه كلمة (كان).
3- ثم إن هذا العدول ليس من عمر فقط بل فعله معاويةً أيضاً حيث استسقى بيزيد بن الأسود، فقد روي عن سليم بن عامر الخبائري. (أن السماء قحطت، فخرج معاوية بن أبي سفيان وأهل دمشق يستسقون فلما قعد معاوية على المنبر قال: أين يزيد بن الأسود الجرشي؟(2/187)
فناداه الناس فأقبل يتخطى الناس فأمره معاوبة فصعد المنبر فقعد عند رجليه فقال معاوية: [اللهم إنا نستشفع إليك اليوم بخيرنا وأفضلنا اللهم إنا نستشفع إليك بيزيد بن الأسود الجرشي، يا يزيد ارفع يديك إلى الله فرفع يزيد يديه ورفع الناس أيديهم.
فما كان أوشك أن ثارت سحابة في الغرب كأنها ترس، وهبت لها ريح فسقينا حتى كاد الناس أن لا يبلغوا منازلهم]( ).
وقد صحح إسناد هذا الأثر الحافظ في التلخيص والإصابة( )، وكذلك فعل الضحاك بن قيس استسقى بيزيد بن الأسود( )، فلا يمكن أن يقال: إن معاوية والضحاك فعلا أيضاً لبيان الجواز، فاجتماع هؤلاء الثلاثة إلى العدول عن النبي صلى الله عليه وسلم وعدم إنكار أحد من الصحابة عليهم يدل على أن العدول هو المشروع.
وهناك رواية أخرى في استسقاء معاوية بأبي مسلم الخولاني( ).
وأما من( ) أجاب عن عدول عمر رضي الله عنه إلى العباس بأن ذلك- مبالغة من عمر في التوسل برسول الله صلى الله عليه وسلم ما استطاع وذلك لقرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقال في جوابه:
إن هذا يمكن أن يكون سبباً في تخصيص العباس دون غيره من الصحابة ولا يكون سبباً للعدول( ).
ثم يعترض عليه بأن التعليل بالقرابة لا يمكن في صنيع معاوية والضحاك فليست العلة مطردة. وكذلك إجابة( ) من أجاب بأن ذلك للاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم في إكرام العباس وإجلاله، واحتج بما روي من طريق داود بن عطاء عن زيد بن أسلم عن ابن عمر قال: (استسقى عمر بن الخطاب عام الرمادة بالعباس بن عبد المطلب فخطب عمر فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرى للعباس ما يرى الولد للوالد، فاقتدوا أيها الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم واتخذوه وسيلة إلى الله...).
وهذه الرواية فيها عدة علل( ) وعلى فرض ثبوتها فإنما تدل على سبب التخصيص فقط، ولا تدل على سبب العدول المتنازع عليه.(2/188)
كما أن هذا يعترض عليه بقصة معاوية والضحاك- فلا يمكن أن يقال فيه: إن ذلك للقرابة أو للاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم.
ثم إن قول عمر في هذه الرواية على فرض صحتها- وأنى لها الصحة؟-: (واتخذوه وسيلة إلى الله) أي اجعلوه يدعو لكم، وليس معناه:
اذكروا اسمه فقط، فلا حجة فيه كما ادعاه بعضهم( ).
وأما من( ) أجاب بأن عمر إنما عدل إلى العباس رضى الله عنهما خوفاً على ضعفاء المسلمين وعوامهم.
1- فيقال: هذا الظن لا دليل عليه لأن الاطلاع على مقاصد عمر رضي الله عنه من الغيب، ولم يرد في لفظ الحديث ما يدل عليه.
2- ثم هل يقال مثل هذا في معاوية والضحاك، هل العلة في الكل الخوف؟
3- ثم لو سلم ذلك فيقال إذا كان الخليفة الملهم رضي الله عنه يخاف على الذين في القرن الأول المفضل مع قوة نور النبوة، فكيف لا يخاف على الخلوف الذين بعدوا عن نور النبوة وعادوا إلى الجاهلية الأولى؟
فلا بد من القول إما بأن المتأخرين أعلم منهم وأفقه.. إلخ، فلا يخاف عليهم، وإما بأن الخوف في المتأخرين أشد وأنهم أولى بأن يبتعدوا عما يزلزل إيمانهم بالله تعالى من ذرائع الشرك ووسائله، ومن تلك الذرائع التوسل بالذوات الذي باسمه أجاز من أجاز الاستغاثة بغير الله تعالى.
وأما قول الكوثري: إن قول عمر: كنا نتوسل إليك بنبينا غير خاص بعهده صلى الله عليه وسلم، بل يشمله وما بعده إلى عام الرمادة والتقييد تقييد بدون مقيد( ).
وقوله أيضاً: إن قوله: وإنا نتوسل إليك بعم نبينا إنشاء للتوسل بذات العباس وليس خبراً وكذلك كنا نتوسل إليك بنبينا إنشاء وليس خبراً، أو أنه منصب على ما قبل هذا القول، فالصحابة على هذا كانوا يتوسلون بالنبي صلى الله عليه وسلم في حياته، وبعد لحوقه بالرفيق الأعلى.
وأما قصر ذلك على ما قبل وفاته صلى الله عليه وسلم تقصير عن هوى، وتحريف لنص الحديث وتأويل بدون دليل( ).(2/189)
فهذا القول الذي زعمه الكوثري باطل وافتراء على الصحابة بل هو الأنسب بأن يوصف بما قاله من كونه تقصيراً عن هوى وتحريفاً وتأويلاً بلا دليل، وهذا ليس تحاملاً عليه ولكن لما ثبت وورد في طرق الحديث من التقييد بعهد النبي صلى الله عليه وسلم نصاً مصرحاً به.
فقد أخرج الحديث نفسه ابن حبان والإسماعيلي في مستخرج البخاري مقيداً وإليك لفظه: (عن أنس قال: كانوا إذا قحطوا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم استسقوا بالنبي صلى الله عليه وسلم فيستسقى لهم فيسقون، فلما كان بعد وفاة النبي صلىالله عليه وسلم في إمارة عمر قحطوا فخرج عمر بالعباس يستسقي به فقال: (اللهم إنا كنا إذا قُحِطنا على عهد نبيك صلى الله عليه وسلم واستقينا به فسقيتنا به، وإنا نتوسل إليك اليوم بعم نبيك صلى الله عليه وسلم فاسقنا، قال: فسقوا)( ). فتبين بهذا أنه جاء مقيدأ بعهده صلى الله عليه وسلم وأنه خبر لا إنشاء، وفائدة الخبر هو ذكر إجابة الله لهم سابقاً وأنه لا يخيبهم كما قال زكريا عليه السلام: ((وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا)) [مريم:4].
وأما القول بأن قول عمر كنا نتوسل بنبينا إذا قلنا توسل بالذات لا يحتاج إلى تقدير، وأما إذا قلنا إنه توسل بدعائه فيحتاج إلى تقدير مضاف محذوف ولا حاجة إلى الحذف، والقول به بدون أي حاجة( ).
فيقال: بأنه لا حاجة إلى تقدير مضاف لأن معنى التوسل والتوجه والاستشفاع في عرف الصحابة ولسانهم هو التوسل بالدعاء، ولا يفهمون منه غير هذا كما تقدم بيان ذلك فلا نقدر أَي محذوف.
أو يقال: (بأنه لا بد من تقدير مضات إما بدعاء أو يذات نبينا والأدلة تؤيد تقدير بدعاء نبينا)( ).
والجواب الأول أولى لأن هذا التوهم لحاجة الكلام إلى التقدير إنما وقع عندما حصل خلط ولبس في معنى التوسل، وأما الأوائل فلا يفهمون منه إلا التوسل بالدعاء.(2/190)
وبهذا اتضح أن الحديث إنما يدل على التوسل بدعاء الحي الحاضر ولا يدل على التوسل بذوات الموتى أو الغائبين.
ومن الأحاديث الصحيحة التي استدلوا( ) بها على نفع الأموات وجواز دعائهم ما ورد في أحاديث الإسراء من قوله صلى الله عليه وسلم: (مررت على موسى يصلي في قبره)، ومراجعته للنبي صلى الله عليه وسلم في تخفيف الصلاة.
وحديث صلاة موسى في قبره أخرجه مسلم( )، وأما حديث المراجعة فمتواتر من طرق كثيرة في أحاديث الإسراء( ).
ولكن صلاة موسى، وقصه مراجعته، وكذلك صلاة الأنبياء خلف الرسول صلى الله عليه وسلم، كل هذا لا يدل إلا على حياة الأنبياء في قبورهم حياة برزخية لا نعلم حقيقتها وكيفيتها، وثبوت هذه الحياة لا يستلزم جواز دعائهم ولا الاستغاثة بهم لأوجه:
1- الأنبياء في حال حياتهم الدنيوية لا يجوز دعاؤهم ولا الاستغاثة بهم إلا فيما يقدرون عليه، فمن باب أولى إذا انتقلوا من هذه الدار أن لا يجوز ذلك.
2- الغائب عن النبي صلى الله عليه وسلم في حال حياة النبي صلى الله عليه وسلم لا يمكن أن يطلب منه الدعاء والشفاعة والاستغاثة فمن باب أولى في حال وفاته صلوات الله وسلامه عليه.
3- إن دعاء الأنبياء- وإن كانوا أحياء في قبورهم- يستلزم اعتقاد أنهم يعلمون بمن يدعوهم ويستغيث بهم، ويسمعون نداءه واستغاثته والعلم المحيط والسمع المحيط من خواص الله تعالى.
4- ولو فرضنا علمهم وسمعهم لذلك فلا يجوز دعاؤهم لأن الأنبياء كانوا يحذرون من يفعل ذلك معهم في حال حياتهم بل يحذرون مما هو أقل من ذلك، فقد ورد عن نبينا صلى الله عليه وسلم قوله لمن قال له: ما شاء الله وشئت: (أجعلتني لله نداً)( )، ولما سمع قول الفتاة في العرس: (وفينا نبي يعلم ما في غد) نهاها.(2/191)
5- ثم ما يفعلونه في الحياة البرزخية من الأمر الكوني فلا يزيد بسؤال السائل، وذلك مثل دعاء حملة العرش والملائكة للمؤمنين فلا يجوز مع علمنا بأن الملائكة يدعون لنا أن ندعوهم وكذلك الأنبياء بعد مماتهم، وسيأتي بيان هذا.
ومن تلك الأحاديث الصحيحة التي استدلوا بها: (اللهم رب جبريل وإسرافيل وميكائيل ومحمد النبي صلى الله عليه وسلم أعوذ بك من النار).
استدل به بعضهم( ) على التوسل وزعم أن تخصيص هؤلاء بالذكر في معنى التوسل بهم فكأنه يقول: (اللهم إني أسألك وأتوسل إليك بجبريل... إلخ).
الجواب:
1- الحديث ليس فيه توسل بالذوات، وإنما هو توسل بصفة من صفات الله وهي ربوبيته لهؤلاء الملائكة، فهو يدعو رب هؤلاء ولم يدع هؤلاء كما أنه لم يدع بهؤلاء، والحكمة في التوسل بربوبية الله لهؤلاء الثلاثة كما قال ابن القيم: إن الله وكلهم بالحياة فجبريل بالوحي الذي به حياة القلوب، وميكائيل بالمطر وبه حياة الأبدان، وإسرافيل بالنفخ في الصور وبه حياة العالم وعود الروح إلى الجسد، فالتوسل إليه سبحانه في حياة القلب بالهداية بربوبيته لهؤلاء الموكلين بالحياة له مناسبة وتأثير في حصو ل المطلوب( ).
2- ثم إن الحديث باللفظ الذي استدلوا به ضعيف( ) ولكن الحديث جاء من طريق صحيح وفيه ما يدل على أن المراد بالإضافة إلى هؤلاء هو التوسل بربوبية الله لهم وهو ما روي من طريق عائشة رضي الله عنها قالت:{كان إذا قام من الليل افتتح صلاته: اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم}( ).
ففي هذا الحديث جاء قوله: {فاطر السموات...} فلا يمكن ادعاء أنه من باب التوسل بالذوات.(2/192)
فدل هذا الحديث على أن هذا الدعاء توسل بأسماء الله الحسنى وصفاته العليا من ربوبيته لملائكته المقربين وخلقه السموات والأرض وعلمه للغيب والشهادة، وأما تأويل ذلك إلى التوسل البدعي وادعاء أنه أراد اللهم إني أتوسل إليك بهؤلاء ادعاء باطل لا دليل عليه، ولا قرينة لفظية ولا معنوية تدل عليه، وهل الرسول صلى الله عليه وسلم عجز أن يقول: اللهم إني أتوسل إليك بجبريل بدل أن يقول: {اللهم رب جبريل...} وهو أفصح الخلق صلوات الله وسلامه عليه؟.
ثم إن قوله: (ومحمد النبي صلى الله عليه وسلم) يلزم منه على ادعاء أنه توسل بالذوات- توسل النبي صلى الله عليه وسلم بذاته- فيلزم الدور.
ويلزم( ) هؤلاء أيضاً التوسل بالمخلوقات الحقيرة أو الشياطين فإنه قد ورد إضافة الرب إلى الشياطين، ففي حديث بريدة بن الحصيب رضي الله عنه مرفوعاً: (إذا أويت إلى فراشك: اللهم رب السموات السبع وما أظلت، ورب الأرضين وما أقلت، ورب الشياطين وما أضلت:كن لي جاراً من شر خلقك...)( )، وفي حديث صهيب نحوه( ).
حديث الضرير:
وهو ما رواه أبو جعفر عمير بن يزيد عن عمارة بن خزيمة عن عثمان بن حنيف: (أن رجلاً ضرير البصر أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: {ادع الله أن يعافيني، قال: إن شئت دعوت لك، وإن شئت أخرت ذلك فهو خير}، وفي رواية: {وإن شئت صبرتِ فهو خير لك} فقال: ادعه، فأمره أن يتوضأ فيحسن وضوءه فيصلي ركعتين، ويدعو بهذا الدعاء: (اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، يا محمد إني توجهت بك إلى ربك في حاجتي هذه، فتقضى لي، اللهم فَشَفعهُ فِيي وشَفعنِي فيه، قال: ففعل الرجل فبرأ).
قد استدل بهذا الحديث طائفة( ) ممن أجازوا السؤال بالذوات الفاضلة.
كما استدل به الذين أجازوا نداء الموتى والاستغاثة بهم وقالوا: إن فيه نداء النبي صلى الله عليه وسلم وهو غائب، واحتجوا في هذا بقصة تعليم عثمان للرجل التي في بعض طرق الحديث.(2/193)
وقد ذكر بعض( ) هؤلاء الذين استدلوا بهذا الحديث أن هذا الحديث أصرح حديث وأصح حديث في الباب وحجة قاصمة.
ولتشبث هؤلاء بهذا الحديث واعتنائهم به ظناً منهم أنهم وجدوا الدليل القوي فيما ذهبوا إليه- لا بد من دراسة هذا الحديث سنداً ومتناً ومناقشة ما ادعوه ليعلم عدم دلالة الحديث على دعواهم بل دلالته على نقيضها.
دراسة الإسناد:
قد اشتهر هذا الحديث عن أبي جعفر.
فقد رواه عنه أربعة: شعبة بن الحجاج، وحماد بن سلمة، وهشام الدستوائي، وروح بن القاسم.
فهؤلاء الأربعة وإن اتفقوا في الرواية عن أبي جعفر إلا أنهم اختلفوا في شيخ أبي جعفر، فشعبة وابن سلمة روياه عن أبي جعفر عن عمه عمارة بن خزيمة بن ثابت عن عثمان بن حُنَيف.
وأما هشام الدستوائي وروح بن القاسم فروياه عن أبي جعفر عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف عن عمه عثمان بن حنيف، وسيأتي الكلام على هذا الاختلاف في الإسناد والمتن إن شاء الله تعالى.
فأقوى هذه الطرق طريق شعبة لأنه أحفظهم وأتقنهم، وقد رواه عن شعبة ثلاثة: عثمان بن عمر، وروح بن عبادة، وغندر.
فأما رواية عثمان فقد أخرجها الترمذي( ) والنسائي( ) كلاهما عن محمود بن غيلان.
وأخرجه أحمد( ) وعبد بن حميد( ) وابن ماجه( ) عن أحمد بن منصوربن يسار. وابن خزيمة( ) عن محمد بن بشار وأبي موسى. والطبراني عن إدريس بن جعفر العطار( )، والحاكم من طريق الحسن بن مكرم( )، ومن طريق العباس بن محمد الدوري( )، والبيهقي عن الحاكم بطريق الدوري( ).
وأخرجه البيهقي أيضاً من طريق محمد بن يونس( )، وأخرجه البخاري في التاريخ الكبير على صورة التعليق عن شيخه علي وهو ابن المديني( ).
كل هؤلاء- وهم: محمودبن غيلان وأحمد وابن حميد وابن يسار وابن بشار وأبو موسى والعطار وابن مكرم والدوري وابن يونس وابن المديني- عن عثمان بن عمر عن شعبة عن أبي جعفر عن عمارة بن خزيمة عن عثمان بن حنيف به.
وأما رواية روح بن عبادة:(2/194)
فقد أخرجها أحمد ثنا روح قال: ثنا شعبة به( ).
والبيهقي في الدعوات من طريق أحمد بن الوليد، ثنا روح( ).
وقال البيهقي في الدلائل: ورويناه في كتاب الدعوات بإسناد صحيح عن روح بن عبادة عن شعبة( ).
وأما رواية غندر محمد بن جعفر، فقد أخرجها الحاكم من طريق عبد الله بن أحمد عن أبيه ثنا محمد بن جعفر ثنا شعبة به( ).
وأما بالنسبة إلى لفظ الحديث فقد اتفقت رواية شعبة في قوله: [اللهم فشفعه في] ثم اختلفت في قوله: [وشفعني فيه] فبعضهم شك في زيادتها.
وأما طريق حماد بن سلمة، فقد أخرجه الإمام أحمد رحمه الله عن مؤمل وهو ابن إسماعيل قال: ثنا حماد يعني ابن سلمة، قال: ثنا أبو جعفر الخطمي عن عمارة بن خزيمة بن ثابت عن عثمان بن حنيف به( )، وأخرجه البخاري في التاريخ الكبير تعليقاً عن شيخه شهاب بن عباد عن حماد( )، وأخرجه أيضاً النسائي عن محمد بن معمر قال: حدثنا حبان قال: حدثنا حماد به( )، وأخرجه ابن أبي خيثمة حدثنا مسلم بن إبراهيم حدثنا حماد بن سلمة به( ).
وأما طريق هشام بن أبي عبد الله الدستوائي فأخرجه النسائي عن محمد بن المثنى قال: حدثنا معاذ بن هشام قال: حدثني أبي عن أبي جعفر عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف عن عمه به( )، وأخرجه البخاري في التاريخ تعليقاً عن شيخه محمد بن المثنى به( ).
ولفظ هشام الدستوائي: [فشفعه في وشفعنى في نفسي]، ولفظ حمادبن سلمة عند النسائي: [اللهم شفع في نبيي وشفغنِي في نفسي]. وأما طريق روح بن القاسم فقد روى عنه راويان: شبيب بن سعيد الحبطي، وعون بن عمارة البصري.
رواية شبيب بن سعيد:
فقد روى عنه ثلاثة: ولداه أحمد وإسماعيل ابنا شبيب، وعبد الله بن وهب.
وأما رواية أحمد بن شبيب:
فلها أربعة طرق، وقد أخرجها ابن السني من طريق العباس بن فرح الرياشي، والحسين بن يحيى الثوري( ).
والحاكم من طريق أبي عبد الله محمد بن علي بن زيد الصائغ( ).
ومن طريق الحاكم البيهقي( ).(2/195)
ثلاثتهم- العباس الرياشي، والحسين الثوري، والصائغ- عن أحمد بن شبيب بن سعيد به، بدون ذكر القصة في أول الحديث.
وخالف هؤلاء الثلاثة يعقوب الفسوي، فزاد في أول الحديث قصة أخرجها في تاريخه فقال: ثنا أحمد بن شبيب بن سعيد، ثنا أبي عن روح بن القاسم إلخ وذكر القصة( ).
ومن طريقه البيهقي في الدلائل( )، ومن طريقه أيضاً عبد الغني المقدسي في كتاب الترغيب في الدعاء( ).
وأما رواية إسماعيل بن شبيب:
فقد أخرجها البيهقي من طريق أبي عروبة عن العباس بن الفرج ثنا إسماعيل بن شبيب وذكر القصة( ).
ولكن هذه الرواية فيها احتمال خطأ أحد الرواة لأن ابن السني أخرجها من هذه الطريقة فجعلها من رواية أحمد لا إسماعيل وليس فيها القصة كما تقدم.
أما رواية عبد الله بن وهب:(2/196)
فقد أخرجها البخاري في تاريخه عن شيخه عبد المتعال بن طالب حدثنا ابن وهب عن أبي سعيد وهو شبيب عن روح بن القاسم به ولم يسق لفظه( )، وأخرجها الطبراني في كتبه الدعاء( )، والمعجم الصقير( )، والمعجم الكبير( ) عن طاهر بن عيسى عن أصبغ بن الفرج عن ابن وهب عن أبي سعيد المكي وهو شبيب بن سعيد عن روح بن القاسم عن أبي جعفر الخطمي المدني عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف عن عمه عثمان بن حنيف وزاد قصة في أوله وهي: (إن رجلاً كان يختلف إلى عثمان بن عفان رضي الله عنه في حاجة له، وكان عثمان لا يلتفت إليه، ولا ينظر في حاجته فلقي ابن حنيف فشكا ذلك إليه فقال له عثمان بن حنيف: ايت الميضأة فتوضأ ثم ايت المسجد فصل فيه ركعتين، وقل: اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبينا نبي الرحمة، يا محمد إني أتوجه بك إلى ربك، فيقضي لي حاجتي، وتذكر حاجتك حتى أروح معك، فانطلق الرجل فصنع ما قال له، ثم أتى باب عثمان بن عفان رضي الله عنه، فجاء البواب حتى أخذ بيده فأدخله على عثمان بن عفان فأجلسه معه على الطنفسة فقال: حاجتك، فذكر حاجته، وقضاها له، وقال له: ما فهمت حاجتك حتى كان الساعة، وقال له: ما كان لك من حاجة فسل، ثم إن الرجل خرج من عند عثمان فأتى عثمان بن حنيف فقال له: جزاك الله خيراً ما كان ينظر إلي في حاجتي ولا يلتفت إلي حتى كلمته في، فقال عثمان بن حنيف: ما كلمته فيك، ولكن شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتاه ضرير فذكر الحديث وفي آخره، قال ابن حنيف: والله ما تفرقنا حتى دخل علينا الرجل كأنه لم يكن به ضرر قط). رواية عون بن عمارة البصري:
أخرجه الحاكم من طريق العباس الدوري ثنا عون بن عمارة البصري ثنا روح بن القاسم به بدون القصة( ).(2/197)
فتكون رواية عون بن عمارة المجردة عن القصة راجحة على رواية شبيب بن سعيد التي فيها القصة لموافقتها لرواية الجماعة، وإن كان ضعيفاً ولأنه قد اختلف على شبيب في زيادة القصة، وقد يقال: إن عوناً قد اختلف عليه فقد أخرج الطبراني في الدعاء هذا الحديث من طريقه عن روح بن القاسم عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه فذكر القصة، وقال الطبراني: (وَهِمَ عونٌ في الحديث وهماً فاحشاً) وأبدى محقق كتاب الدعاء احتمال كون الوهم من شيخ الطبراني وليس من عون بدليل رواية الحاكم السابقة( ).
الخلاصة:
1- أن أقوى الطرق طريق شعبة لكونه أحفظ من روى هذا الحديث عن أبي جعفر؛ ولأنه لم يختلف عليه فيه.
2- أن شعبة وحماد بن سلمة اتفقا على أن شيخ أبي جعفر هو عمارة بن خزيمة بن ثابت.
3- وخالفهما هشام الدستوائي وروح بن القاسم فجعلا شيخ أبي جعفر أبا أمامة بن سهل بن حنيف.
4- اتفقت رواية شعبة وابن سلمة وهشام الدستوائي في عدم زيادة القصة في أول الحديث.
5- اختلف على روح بن القاسم بذكر القصة في أوله وعدم ذكرها فروى عنه عون بن عمارة البصري بدون القصة مثل الجماعة، وروى عنه شبيب بن سعيد فاختلف عليه فروى عنه ابنه أحمد بدون القصة في أكثر الروايات عنه، وانفرد يعقوب الفسوي عنه بزيادة القصة في أولها.
وروي عن شبيب ابنه إسماعيل وابن وهب بزيادة القصة، فاتضح من هذا أن زيادة القصة في أول الحديث منكرة وذلك للآتي:
1- ضعف المتفرد بها وهو شبيب( ).
2- مخالفته للثقات الذين لم يذكروها.
3- اضطرابه فيها حيث يزيد مرة ولا يزيد مرة أو يقال: الاختلاف عليه فيها.
وقد ذكر شيخ الإسلام( ) ابن تيمية ما في هذه الزيادة من علل ونقدها سنداً ومتناً، وإليك خلاصة كلامه في ذلك، فقد ذكر أربعة علل تتعلق بالإسناد فقال: فهذه الزيادة فيها عدة علل:
1- انفراد هذا بها عمن هو أكبر وأحفظ منه.
2- وإعراض أهل السنن عنها.
3- واضطراب لفظها.(2/198)
4- وأن راويها عرف له عن روح هذا أحاديث منكرة.
ومثل هذا يقتضي حصول الريب والشك فى كونها ثابتة فلا حجة فيها.
ثم أجاب -رحمه الله تعالى- على فرض صحتها:
1- بأن الاعتبار بما رواه الصحابي لا بما فهمه إذا كان اللفظ الذي رواه لا يدل على فهمه بل على خلافه لأن قوله: [فشفعه في] لا يستقيم فيمن لم يشفع له الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يدع له؛ لأن الشفاعة إنما تكون في حياته صلى الله عليه وسلم لمن أتى إليه ودعا له الرسول صلى الله عليه وسلم.
2- ثم إن مثل هذا الأمر لا تثبت به شريعة كسائر ما ينقل عن آحاد الصحابة في جنس العبادات أو الإباحات أو الإيجابات أو التحريمات- إذا لم يوافقه غيره من الصحابة عليه- وكان ما يثبت عن النبى صلى الله عليه وسلم يخالفه لا يوافقه لم يكن فعله سنة يجب على المسلمين اتباعها، بل غايته أن يكون ذلك مما يسوغ فيه الاجتهاد، ومما تنازعت فيه الأمة فيجب رده إلى الله والرسول، مثل إدخال ابن عمر الماء في عينيه في الوضوء، وغسل أبى هريرة إلى العضد، وغير ذلك مما فعله آحاد الصحابة ولم يجمعوا عليه.
3- وأما قول من قال من العلماء: إن قول الصحابى حجة فمقيد بما إذا لم يخالفه غيره من الصحابة ولم يعرف نص يخالفه أو اشتهر ولم ينكروه، وأما إذا كانت السنة تدل على خلافه كانت الحجة في السنة بلا ريب عند أهل العلم.(2/199)
4- ثم إنه لو ثبت عن عثمان بن حنيف أو غيره أنه يستحب التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد موته من غير أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم داعياً وشافعاً- يرد أن عمر وأكابر الصحابة لم يروا هذا مشروعاً بعد مماته كما كان يشرع في حياته لأنهم كانوا يتوسلون به في حياته في الاستسقاء فلما مات لم يتوسلوا به وإذا قدر أن بعض الصحابة أمر غيره بالتوسل بذاته لا بشفاعته، ولم يأمر بالدعاء المشروع بل ببعضه وترك سائره المتضمن للتوسل بشفاعته- كان ما فعله عمر هو الموافق للسنة، وكان المخالف لعمر محجوجاً بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان الحديث الذي رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم حجة عليه لا له.
رجال الإسناد:
ليس في رجال الإسناد من يحتمل أن يكون فيه كلام إلا أبا جعفر وهو الخطمي، كما جاء مصرحاً به في مصادر كثيرة التي أخرجت الحديث والتي تقدمت الإشارة إليها( ).
كما يؤيد ذلك أن أبا جعفر الذي يروي عنه شعبة ويروي عن عمارة بن خزيمة هو الخطمي( ). واسمه عمير بن يزيد بن عمير بن حبيب الأنصاري المدني البصري الخطمي، وقد وثقه ابن معين والنسائي وابن مهدي وابن نمير والعجلي والطبراني، وقال أبو الحسن ابن المديني هو مدني قدم البصرة، وليس لأهل المدينة عنه أثر ولا يعرفونه( ).
وقال الحافظ فيه: صدوق من السادسة( )، وهذه العبارة من الحافظ تدل على أن حديثه في مرتبة الحسن، وبهذا يعرف عدم صحة قول من ذهب إلى أن أبا جعفر ليس الخطمي وأنه الرازي وهو ضعيف( ).
أقوال النقاد في الحديث:
قد رجح أبو زرعة الرازي رواية شعبة عن أبي جعفر عن عمارة عن عثمان، على رواية الدستوائي عن أبي جعفر عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف عن عثمان لكون شعبة أحفظ( ) لكن خالفه ابن أبي حاتم فرجح رواية الدستوائي فقال في ترجيحه: تابع هشاماً الدستوائي روح بن القاسم وهو ممن يجمع حديثه ثقة، وهو أشبع متناً، فروايتهما أصح( ).(2/200)
وقال علي بن المديني: (وما أرى روح بن القاسم إلا قد حفظه)( )، فعلى قول ابن المديني وابن أبي حاتم تكون رواية الدستوائي وروح بن القاسم أرجح لتقوية رواية أحدهما بمتابعة الآخر، ولكن يعترض على هذا بأن شعبة أيضاً توبع، تابعه حماد بن سلمة؛ ثم إن شعبة أقوى من الدستوائي وروح بن القاسم فتساوت الروايتان فلا يمكن ترجيح إحداهما على الأخرى، فيحتمل أن هذا الاختلاف من أبي جعفر فهو الذي اضطرب فيه، فمرة روى هكذا ومرة هكذا، وإن كان الأمر كذلك دل على ضعف حفظه.
وأبدى الحافظ ابن حجر احتمال كون أبي جعفر روى بطريقين( )، ولكن هذا الاحتمال لا يلجأ إليه إلا عند التأكد من كون الراوي المختلف عليه حافظاً ضابطاً، وأبو جعفر ليس من الحفاظ المتقنين ويدل على ذلك هذا الاضطراب في اسم شيخه، وفي المتن حيث يقولى مرة: فشفعني في نفسي، ومرة وشفعني فيه، ومرة فشفعه في.
والحاصل: أن الحديث فيه الأمور التالية:
1- اضطراب أبي جعفر في اسم شيخه فيما يتعلق بالسند وكذلك في المتن تارةً يقول فشعفه في وتارةً يقول: فشفعني فيه، ومرةً وشفعني في نفسي وتارةً يذكر الوضوء والصلاة وتارةً لا يذكر، وهذا يدل على أقل تقدير على عدم ضبطه للقصة، أو روايته لها بالمعنى.
2- ليس قوياً يعتمد عليه فيما انفرد به من السنن التي لم يشاركه فيها غيره؛ لأنه ليس من الحفاظ المتقنين الذين يقبل ما تفردوا به، ويدل على ذلك أن الحافظ ابن حجر قال فيه: صدوق، وهذه المرتبة هي مرتبة الحسن وهو من ليس تام الضبط.
3- تفرده( ) بقصة وقعت بمحضر الصحابة وتعد من أقوى المعجزات الدالة على صدقه صلى الله عليه وسلم، ومثل هذا مما تتوافر الدواعي والهمم على نقله.
فهذه الأمور تجعل في النفس في صحة هذا الحديث وفي ضبط أبي جعفر لألفاظه شيئاً والله أعلم.
الكلام على حديث الأعمى من جهة المعنى:(2/201)
فحديث الأعمى -إن ثبت- يدل على التوسل المشروع وهو طلب الدعاء من الحي الحاضر؛ لأن ألفاظ الحديث: (تدل على أن ذلك مشروع إذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم حياً مسؤولاً سائلاً لله)( )ولا تدل على التوسل به إذا لم يكن سائلاً وإليك تفصيل هذا:
أ- إن الأعمى( ) جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم طالباً منه الدعاء له، فلو كان يكفي مجرد التوسل بذكر اسم الرسول صلى الله عليه وسلم لجلس في بيته وقال: اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد أن ترد علي بصري، أو مثل هذا ولم يتعب نفسه بالمجيء والحضور إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
ب- إنه لم يكتف بالحضور فقط بل طلب صراحة من النبي صلى الله عليه وسلم الدعاء له فقال: [ادع الله أن يعافيني].
ولم يفعل مثل ما يفعله بعض المريدين مع شيوخهم حيث يعتقدون أن الشيخ مطلع على الأسرار وأنه يعرف حوائج المريدين، فلا حاجة لإخباره ولا للطلب منه، ومثل ذلك ما يفعله بعضى القبوريين الذين يقولون للولي عند زيارته: [العارف لا يعرف]( ).
جـ- وعده( ) صلى الله عليه وسلم إياه بالدعاء إن لم يصبر، [إن شئت دعوت، وإن شئت صبرت فهو خير لك]، والرسول صلى الله عليه وسلم خير من وفى بما وعد، فلا يقال: لم يثبت في ألفاظ الحديث أنه دعا له.
د- إصرار( ) الأعمى على الدعاء فقد ورد في بعض طرقه أنه قال: [ادع الله لي مرتين أو ثلاثاً]( )وفي رواية: {ألا تصبر؟، قال: يا رسول الله ليس لي قائد وقد شق علي...}( ).
فبعد هذا الإصرار على الدعاء لا بد أن النبي صلى الله عليه وسلم أن يفى له بما وعد وهو الدعاء له.(2/202)
هـ- ما ورد في لفظ الدعاء الذي علمه النبي صلى الله عليه وسلم: [اللهم شفع في نبيي...]( )وفي رواية: [اللهم شفعه في]( )، وهذا يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم شفع له، ودعا الله له. وإلا فكيف يطلب الأعمى من الله تعالى قبول شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم إذا لم تحصل الشفاعة ولم تقع من النبي صلى الله عليه وسلم؟.
و- ما ورد في الروايات من قوله: [وتشفعني فيه]( ). إذ يطلب الأعمى أن يقبل الله تعالى شفاعته التي يطلب فيها من الله تعالى قبول شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم في حاجة الأعمى، وليس المراد أنه يشفع للنبي صلى الله عليه وسلم في حاجة للنبي صلى الله عليه وسلم، وانما المراد أنه يدعو الله تعالى أن يقبل شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم فيه فهو كالشفاعة في الشفاعة( )، فهذا يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم قد شفع له ودعا له.
ز- إن العلماء فهموا من هذا الحديث التوسل بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم، ولهذا: [ذكره العلماء في معجزات النبي صلى الله عليه وسلم ودعائه المستجاب وما أظهر الله ببركة دعائه من الخوارق والإبراء من العاهات فإنه صلى الله عليه وسلم ببركة دعائه لهذا الأعمى أعاد الله عليه بصره]( ).
ح- قد ثبت بهذه الأدلة دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم للأعمى، فإذا ثبت دعاؤه له فلا يمكن أن يقاس عليه من لم يدع الرسول صلى الله عليه وسلم له، إذ من شرط القياس المماثلة ولا توجد هنا مماثلة، إذ الفرق [ثابت شرعاً وقدراً بين من دعا له النبي صلى الله عليه وسلم، وبين من لم يدع له فلا يجوز أن يجعل أحدهما كالآخر]( ).(2/203)
ط- وقد دل عمل الصحابة ومن بعدهم على الفرق المذكور لأنه [لو كان كل أعمى توسل به وإن لم يدع له الرسول صلى الله عليه وسلم بمنزلة ذلك الأعمى لكان عميان الصحابة أو بعضهم يفعلون مثل ما فعل الأعمى، وأن كل أعمى دعا بدعاء ذلك الأعمى وفعل كما فعل من الوضوء والصلاة بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم وإلى زمننا هذا لم يوجد على وجه الأرض أعمى، فعدولُهم عن هذا إلى هذا- مع أنهم السابقون الأولون المهاجرون والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان فإنهم أعلم منا بالله ورسوله، وبحقوق الله ورسوله وما يشرع من الدعاء، وينفع، وما لم يشرع ولا ينفع، وما يكون أنفع من غيره...- دليلٌ على أن المشروع ما سلكوه دون ما تركوه]( ).
وقد ذكرنا فيما مضى أن الترك الراتب سنة متبعة وأن خلافه بدعة.
ي- لو سلمنا دلالته على التوسل بالذات الغائبة- لا نسلم أنه عام في كل الأحوال والأشخاص بل هو قضية عين( ) لا عموم لها فهو خاص بمن دعا له الرسول صلى الله عليه وسلم وهو هذا الأعمى الذي جاءه وطلب منه الدعاء.
ولو تنازلنا وقلنا: إنه ليس خاصاً بهذا الأعمى أو بمن دعا له في حياته- لا نسلم أنه يعم غير النبي صلى الله عليه وسلم فهو خاص به؛ لأنه لا يمكن قياس غير النبي صلى الله عليه وسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وإلى هذا ذهب العز بن عبد السلام رحمه الله على فرض صحة الحديث( ).
ك- ثم لو سلمنا دلالته على العموم- وهيهات ذلك- فهو حديث شاذ عن قواعد الشرع فلا يعمل به لمخالفته للقطعيات من نصوص الكتاب والسنة( ).(2/204)
ل- ثم لو سلمنا دلالته على التوسل بالذوات تنازلاً مع المخالف- لا نسلم دلالته على الاستغاثة ونداء الموتى ودعائهم، لأن هذا الحديث غاية ما يدل عليه أن الأعرابي طلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو له مع حضوره في حياته صلى الله عليه وسلم، فأين هذا من دعاء الأموات والالتجاء إليهم في الشدائد؟ ومن هنا يعلم أننا لو تنازلنا وقلنا: إن الحديث يدل على جواز التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم في مغيبه فلا يدل على جواز دعائه والاستغاثة به والاستنجاد به وذلك لأن (الفرق بين هذين متفق عليه بين المسلمين: المتوسل إنما يدعو الله ويخاطبه ويطلب منه، لا يدعو غيره إلا على سبيل استحضاره لا على سبيل الطلب منه، وأما الداعي والمستغيث فهو الذي يسأل المدعو ويطلب منه ويستغيثه ويتوكل عليه)( ).
والذي يستحق السؤال والاستغاثة والتوكل هو الله وحده، وهو الذي يجيب المضطر إذا دعاه، ولا يمكن أن يدعى ويسأل غير الله تعالى، كما لا يمكن قياس سؤاله صلى الله عليه وسلم ودعائه على السؤال به والتوسل به فالفرق شاسع بين البابين.
وأما تعليمه صلى الله عليه وسلم الأعمى الدعاء فلا ينافي دعاءه صلى الله عليه وسلم له، لأن دعاء الأعمى ووضوءه وصلاته من التوسل بالأعمال الصالحة، ويكون دعاء النبي صلى الله عليه وسلم سؤله من التوسل بدعاء الحي الحاضر [فحصل الدعاء من الجهتين]( ).
وبهذا تسقط دعوى من يقول: إن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يدع للأعمى وإنما أرشده إلى الصلاة والتوسل به فقط( ).
وأما قوله: [اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد] فليس معناه بذات أو جاه نبيك؛ وذلك لأن معنى التوسل والتوجه في لسان الشرع وسلف هذه الأمة هو التوسل بالدعاء، وقد تقدم شرح ذلك.(2/205)
أو نقول: إنه لا بد من التقدير إما أن يقدر بذات أو بدعاء والأدلة تدل على أن المقدر دعاء، وهذا الجواب الثاني- وإن ذكره بعض العلماء( ) - لكن الجواب الأول أولى؛ لأن أصل وضع الكلمة لا يحتاج إلى تقدير مضاف محذوف، والأصل عدم التقدير، وأما قوله: [وشفعني في نفسي] فأقوى الطرق ليس فيه هذا اللفظ وهي رواية شعبة، وأقواها رواية فشفعه في وشفعني فمِه، لورودها في طريق شعبة القوية.
وأما على تقدير كونها محفوظة فمعناه [إنه طلب أن يكون شفيعاً لنفسه مع دعاء النبي صلى الله عليه وسلم، ولو لم يدع له النبي صلى الله عليه وسلم كان سائلاً مجرداً كسائر السائلين، ولا يسمى مثل هذا شفاعة، وإنما تكون الشفاعة إذا كان هناك اثنان يطلبان أمراً فيكون أحدهما شفيعاً للآخر بخلاف الطالب الواحد الذي لم يشفع غيره]( ).
وأما توجيه الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم في قول الأعمى: [إني توجهت بك إلى ربي] وفي رواية: [يا محمد إني أتوجه بك إلى ربي]. فليس فيه دليل على نداء الغائب والاستغاثة به وذلك:
1- لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان حاضراً عند الأعمى، كما يدل على ذلك سياق الرواية، وليس هناك دليل على أن الأعمى ذهب إلى مكان آخر، فصلى فدعا فيه بهذا الدعاء.
وأما ما ورد في بعض رواية شبيب عن روح بن القاسم من زيادة القصة والقول في آخرها، قال ابن حنيف: والله ما تفرقنا حتى دخل علينا الرجل كأنه لم يكن به ضرر قط.
فقد ذكرنا أن هذه الرواية منكرة وبينا ما فيها من العلل، فتبين بهذا أنها لا يقوم بها حجة.
2- ثم لو سلمنا صحتها- يكون معنى الخطاب والنداء هو خطاب ونداء استحضار-: [يطلب به استحضار المنادى في القلب فيخاطب لشهوده بالقلب كما يقول المصلي: (السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته) والإنسان يفعل مثل هذا كثيراً يخاطب من يتصوره في نفسه وإن لم يكن في الخارج من يسمع الخطاب]( ).(2/206)
3- وأما الإجابة( ) بأن الخطاب والنداء لم يثبت في طرق الحديث ففيه نظر، فأكثر طرق الحديث إما فيها النداء بيان محمد أو فيها الخطاب بقوله: (إني توجهت بك إلى ربي)، فإذا ثبت أصل الحديث فالخطاب ثابت، ولكن قد عرفت أن أصل الحديث في ثبوته تردد، واحتمال رواية هذا الحديث بالمعنى وارد بسبب ما نراه من الاختلاف في ألفاظه.
وأما ما ورد في بعض طرف حديث حماد بن سلمة فيما رواه ابن أبي خيثمة حدثنا مسلم بن إبراهيم ثنا حمادبن سلمة (اللهم فشفعني في نفسي وشفع نبيي في رد بصري)، وإن كانت حاجة فعل مثل ذلك أو قال: (افعل مثل ذلك) فهذه الرواية فيها عدة علل:
أ- تفرد حماد( ) بن سلمة بها من بين سائر من روى هذا الحديث وهم أحفظ وأقوى منه فهو لو خالف واحداً منهم يعتبر شاذاً فكيف وقد خالف جميعهم؟
وأما الإجابة( ) عن هذا التفرد بأنه من زيادة الثقة وهي مقبولة فسيأتي أن هذا ليس مطرداً( ).
ب- ومما يقوي شذوذ هذه الزيادة أن الرواة عن حماد بن سلمة لم يتفقوا على ذكرها فقد روى عنه ثلاثة: مسلم بن إبراهيم، ومؤمل بن إسماعيل، وحبان بن هلال، فرواية مسلم عند ابن أبي خيثمة ورواية مؤمل عند أحمد ورواية حبان عند النسائي، ولم تذكر هذه الزيادة إلا في رواية مسلم بن إبراهيم فهي أيضاً شاذة عن حماد بن سلمة.
جـ- ويحتمل أن هذه الزيادة رويت بالمعنى فحصل فيها تغيير، قال شيخ الإسلام: (واختلاف الألفاظ يدل على أن مثل هذه الرواية قد تكون بالمعنى)( ).
د- وبحتمل أيضاً أن هذه الزيادة قد تكون مدرجة من كلام عثمان بن حنيف لا من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، وبدل على ذلك لفظ هذه الزيادة إذ وردت بلفظ: [وإن كانت حاجة فعل ذلك] والمفترض أنها إذا كانت من كلام النبي صلى الله عليه وسلم أن تكون بلفظ الخطاب: [وإن كانت لك حاجة فعلت مثل ذلك]( ).(2/207)
وقد اتضح مما سبق -ولله الحمد- أن حديث الأعمى -على فرض ثبوته- لا يدل على التوسل بالذوات وإنما يدل على التوسل بدعاء الحي الحاضر.
وقد تقدم ذكر استدلالهم بحديث الشفاعة الكبرى وبحديث هاجر: [أغث إن كان عندك غواث]، وبينا عدم دلالتهما على مرادهم بما لا يدع مجالاً للشك.
ومن هنا نقول: لم نجد لهم دليلاً صريحاً من السنة الصحيحة يدل على جواز دعاء الأموات أو الغائبين أو التوسل بذواتهم.
وبعد أن أنهينا الكلام على الأدلة الصحيحة ندخل في ذكر أدلتهم غير الصحيحة ومناقشتها وبالله التوفيق وهو المستعان.
الفصل الثاني
في مناقشة ما احتجوا به من الأدلة غير الصحيحة
ويحتوي على ثلاث مباحث:
المبحث الأول: الأحاديث الضعيفة.
المبحث الثاني: الأحاديث الواهية والموضوعة.
المبحث الثالث: الحكايات والنظريات.
المبحث الأول: في الأحاديث الضعيفة
احتج من يجيز الدعاء غير المشروع بأحاديث ضعيفة جداً، وغالبها خارجة عن الموضوع، والباقي لا يمكن انجباره للضعف الشديد الذي فيه، وسأذكر هنا أهم حديث ضعيف احتجوا به وأناقشه وبالله التوفيق وهو:
حديث عرض الأعمال على النبي صلى الله عليه وسلم:
وهو ما روي مرفوعاً: [حياتي خير لكم تحدثون وبحدث لكم، ووفاتي خير لكم تعرض أعمالكم علي، فما رأيت من خير حمدت الله وما رأيت من شر استغفرت الله لكم].
فهذا الحديث قد احتُج( ) به على جواز دعاء النبي صلى الله عليه وسلم والطلب منه لعلمه بذلك، ثم لم يكتف هؤلاء بالنبي صلى الله عليه وسلم، بل عدوا الحكم إلى غيره لأن هذا الحديث هو عمدة من يدعي أن الموتى يعلمون بندائهم ودعاء الأحياء لهم، لأن شفاعتهم ووساطتهم للسائلين فرع عن علمهم بسؤالهم وحوائجهم.
وقد بلغ الأمر ببعضهم إلى القول بأن (مخاطبته صلى الله عليه وسلم بعد موته أبلغ، لأن أعمال أمته تعرض عليه في قبره)( ).
فادعى أن الخطاب بعد الموت أبلغ من الخطاب في الحياة وهذه مبالغة وغلو شديد.(2/208)
هذا وإن عرض الأعمال لم يقتصروا فيه على النبي صلى الله عليه وسلم كما قلنا بل جاوزوا به إلى غيره، فالروافض قالوا بعرض الأعمال على أئمتهم، فقد روى الكليني في كافيه الذي هو عمدة عندهم: أن قوله تعالى: ((وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ)) [التوبة:105] أنهم الأئمة( ).
وروي أيضاً عن علي الرضا أحد الأئمة عندهم أنه قال له أحدهم: (ادع الله لي ولأهل بيتي فقال: أو لست أفعل؟ والله إن أعمالكم لتعرض على في كل يوم وليلة، قال: فاستعظمت ذلك فقال لي: أما تقرأ كتاب الله عز وجل: ((وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ)) [التوبة:105] قال: هو والله علي بن أبي طالب عليه السلام)( ).
وقد عقد الصفار( ) عدة أبواب( ) في إثبات عرض الأعمال على الأئمة في كتاب بصائر الدرجات، الذي يعتبر من أهم مصادرهم الأصلية، ثم ساق عجائب وغرائب، في تلك الأبواب، فانظر إلى مدى ما وصل إليه اعتقاد عرض الأعمال؛ لأنه لو اقتصر على النبي صلى الله عليه وسلم لكان الأمر أخف، ولكن ادعى ذلك هؤلاء لأئمتهم كما ترى، وادعى آخرون من المريدين لشيوخهم.
فيعقد عرض الأعمال على الأموات هي أصل لدعائهم؛ لأن الواحد من هؤلاء الذين يزعمون الأموات لو تصور أن مدعوه لا يعلم بأعماله لم يدعه، ولم يطمع في أنه يشفع له عند الله تعالى ويتوسط له فكل ذلك فرع عن تصوره بعلمه ومعرفته به وبأحوال.
وهذا ومناقشة حديث العرباض من ناحيتين ناحية الإسناد وناحية المتن:
مناقشة الحديث من ناحية الإسناد:(2/209)
قد أخرج هذا الحديث البزار في مسنده فقال: [حدثنا يوسف بن موسى، حديثنا عبد المجيد ابن عبد العزيز بن أبي رواد، عن سفيان عن عبد الله بن السائب، عن زاذان عن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إن لله ملائكة سياحين يبلغون عن أمتي السلام}، قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {حياتي خير لكم تحدثون ويحدث لكم....}.
قال البزار: [لا نعلمه يروى عن عبد الله إلا بهذا الإسناد]( ).
هذا الحديث يشتمل على شطرين وقد رواه كثيرون فاقتصروا على الشطر الأول، وخالفهم عبد المجيد بن أبي رواد فزاد الشطر الثاني.
فالشطر الأول: قد روي عن سفيان وهو الثوري بهذا الإسناد من طرق متعددة، فهو مشهور مستفيض عن الثوري قد رواه عنه عدد كثير اطلعنا على رواية نحو عشرة منهم، وهم: عبد الرحمن بن مهدي ويحيى بن سعيد القطان، ووكيع بن الجراح، وعبد الله بن المبارك، ومعاذ بن معاذ، وعبد الرزاق بن همام وعبد الله بن نمير، ومحمد بن يوسف الفريابي وأبو إسحاق الفزاري، وفضيل بن عياض.
وإليك تفصيل هذه الطرق ومن أخرجها:
طريق عبد الرحمن بن مهدي: أخرجه أحمد في المسند( ).
طريق القطان: أخرجه إسماعيل القاضي( ).
طريق وكيع: أخرجه ابن أبي شيبة( )، وأحمد( )، والنسائي( )، وابن حبان( ).
طريق ابن المبارك: أخرجه النسائي( ).
طريق معاذ بن معاذ: أخرجه أحمد( )، والنسائي( ).
طريق عبد الرزاق: أخرجه هو في مصنفه( )، ومن طريقه النسائي والطبراني( ).
طريق عبد الله بن نمير: أخرجه أحمد( ).
طريق الفريابي: أخرجه الدارمي( ).
طريق أبي إسحاق الفزاري: أخرجه الحاكم( )، والطبراني( )، وأبو نعيم( ).
طريق فضيل بن عياض أخرجه الطبراني( ).
وقد روى أبو إسحاق الفزاري هذا الحديث عن الأعمش والثوري فيكون الأعمش متابعاً للثوري.
وقد ذكر الدارقطني أن ممن رواه من أصحاب الثوري، فضيل بن عياض وغيره.(2/210)
كما ذكر ممن تابع الثوري- الأعمش والحسين الحلقاني ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى والعوام بن حوشب وشعبة كل هؤلاء تابعوا الثوري فرووه عن عبد الله بن السائب عن زاذان عن ابن مسعود( ) به واقتصروا على الشطر الأول.
والحاصل أن الذين عرفنا أسماءهم ممن روى هذا الحديث عن الثوري مقتصرين على الشطر الأول، هم عشرة وهم ثقات أثبات، وهم أوثق أصحاب الثوري، بل أوثق تلك الطبقة على الإطلاق، وخالفهم عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي رواد، فزاد الشطر الثاني: [حياتي خير لكم...].
فهذه الزيادة شاذة، أو منكرة، فعلى قول من وثق عبد المجيد فهي شاذة، وعلى قول من ضعفه فهي منكرة وذلك لتفرده بها ومخالفته بذلك الثقات، مع أنه مختلف فيه فقد وثقه بعضهم وضعفه بعضهم، وهم كثيرون وممن وثقه أحمد، وابن معين، وأبو داود.
وهؤلاء الذين وثقوه بينوا مع ذلك أنه مبتدع داعية في الأرجاء.
وممن ضعفه الحميدي وأبو حاتم وعبد الرزاق والدارقطني ومحمد بن يحيى وابن سعد والساجي وابن حبان، وبين هؤلاء الذين ضعفوه أنه روى أحاديث عن ابن جريج لم يتابع عليها، وروي عن مالك أحاديث أخطأ فيها، وقال ابن حبان: كان يقلب الأخبار ويروي المناكير عن المشاهير فاستحق الترك( ).
وهذا الجرح المفسر مقدم على التوثيق مع أن الذين وثقوه بينوا أنه داعية إلى الإرجاء.
وأيضاً فلو قلنا: إنه ثقة يكون هذا الحديث شاذاً لأنه من مخالفة الثقة لمن هو أرجح منه ضبطاً واتقاناً وعدداً.
كل واحد منهم أعلى مكانة من عبد المجيد، ويعرف هذا بالرجوع إلى تراجمهم، وفيهم من هو في أعلى درجات الحفظ والإتقان باتفاق المحدثين، كعبد الرحمن بن مهدي ويحيى القطان ووكيع بن الجراح وابن المبارك وأبي إسحاق الفزاري فهؤلاء أئمة الحديث ورؤساء تلك الطبقة وأخص أصحاب الثوري.(2/211)
فلو خالف عبد المجيد واحداً من هؤلاء - يعد شاذاً فكيف وقد خالف جميعهم؟ فهو شاذ بدون أدنى شك، بل يمكن اعتبار هذه الزيادة منكرة باعتبار الكلام الذي في عبد المجيد.
وربما يقول قائل: إن هذه الزيادة تعد من زيادة الثقة باعتبار قول من وثق عبد المجيد فلا بأس بها. فنقول جواباً لهذا الادعاء المفترض:
هذه القاعدة ليست مطردة عند نقاد الحديث، وإنما كانوا ينظرون إلى القرائن والأحوال( ).
فالذي يدل عليه كلام الحفاظ مثل أحمد وغيره أن زيادة الثقة إن لم يكن مبرزاً في الحديث والتثبت على غيره ممن لم يذكر الزيادة ولم يتابع عليها فلا يقبل تفرده، وإن كان ثقة مبرزاً في الحفظ على من لم يذكرها ففيه عن أحمد روايتان( ).
وقد نقل الحافظ ابن حجر عن العلائي قوله: (وكلام الأئمة المتقدمين في هذا الفن كعبد الرحمن بن مهدي ويحيى بن سعيد القطان وأحمد بن حنبل والبخاري وأمثالهم يقتضي أنهم لا يحكمون في هذه المسألة بحكم كلي، بل عملهم في ذلك دائر مع الترجيح بالنسبة إلى ما يقوى عند أحدهم في كل حديث حديث)( ).
ووجه عدم قبول زيادة الثقة مطلقاً- هو لأجل ما يحصل من غلبة الظن أن الثقة الواحد الزائد هو الذي أخطأ، حيث إن مخرج الحديث واحد فيرويه جماعة من الحفاظ الأثبات على وجه، ويرويه ثقة دونهم في الضبط والاتقان على وجه يشتمل على زيادة تخالف ما رووه إما في المتن وإما في الإسناد، فكيف تقبل زيادته وقد خالفه من لا يغفل مثلهم عنها لحفظهم أو كثرتهم، أو لهما معاً كما هنا؟ ولاسيما إن كان شيخهم ممن يجمع حديثه ويعتني بمروياته كالزهري وأضرابه مثل الثوري كما هنا. بحيث يقال: إنه لو رواها لسمعها منه حفاظ أصحابه، ولو سمعوها لرووها ولما تطابقوا على تركها، والذي يغلب على الظن في هذا وأمثاله تغليط راوي الزيادة( ).(2/212)
فحاصل كلام الأئمة أن الزيادة إنما تقبل ممن يكون حافظاً متقناً حيث يستوي مع من زاد عليهم في ذلك، فإن كانوا أكثر منه عدداً أو كان فيهم من هو أحفظ منه أو كان غير حافظ، ولو كان في الأصل صدوقاً فإن زيادته لا تقبل( ).
فاتضح مما سبق أن هذا الحديث ضعيف، وقد ضعفه الشيخ محمد ناصر الدين الألباني في السلسلة الضعيفة رقم (975)، وفي ضعيف الجامع رقم (2745) و(2746)، وقال. (فاتفاف جماعة من الثقات على رواية الحديث عن سفيان دون اَخر الحديث: [حياتي...] ثم متابعة الأعمش له على ذلك، مما يدل عندي على شذوذ هذه الزيادة لتفرد عبد الحميد بن عبد العزيز بها، لاسيما وهو متكلم فيه من قبل حفظه... ثم نقل الكلام فيه وقال: [وإذا عرفت ما تقدم فقول الحافظ الهيثمي في المجمع: (6/24) رواه البزار ورجاله رجال الصحيح فهو يوهم أنه ليس فيهم من هو متكلم فيه. ولعل السيوطي اغتر بهذا حين قال في الخصائص الكبرى: (2/281)، سنده صحيح، ولهذا فإني أقول: إن الحافظ العراقي- شيخ الهيثمي- كان أدق في التعبير عن حقيقة إسناد البزار حين قال عنه في تخريج الإحياء: (4/128):
[ورجاله رجال الصحيح إلا أن عبد المجيد بن أبي رواد وإن أخرج له مسلم ووثقه ابن معين والنسائي فقد ضعفه بعضهم].
قلت:وأما قوله هو أو ابنه في طرح التثريب في شوح التقريب: (3/297): (إسناده جيد) فهو غير جيد عندي، وكان يكون كذلك لولا مخالفة عبد المجيد للثقات على ما سبق فهي علة الحديث( ).
وقد أشار إلى هذه العلة البزار( ) والحافظ ابن كثير( ). وقد سبقا الألباني.
ولهذا فاتهام الألباني( ) بعدم الإنصاف مردود بقول هذين الحافظين.
هذا وفي الحديث علة أخرى، وهي أن عبد المجيد قد وصفه كثير من النقاد بأنه داعية إلى الإرجاء وأنه غال في ذلك.(2/213)
وهذا الحديث يؤيد مذهبه لأنه يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم يستغفر لأمته ومن يستغفر له الرسول صلى الله عليه وسلم دائماً فلا يخاف عليه من المعاصي ما دام يشهد بالإسلام، وهذا المعنى يقوي مذهب الإرجاء.
وقد ذهب علماء الجرح والتعديل إلى أن الداعية لا يقبل حديثه فيما يؤيد مذهبه لاسيما إذا كان غالياً في هواه، وهذا المذهب هو الصحيح في رواية المبتدع( ).
كما أن في الحديث علة أخرى وهي أن هذا الحديث روي عن ابن مسعود مرفوعاً في عرض الأعمال على الله تعالى.
وهو ما رواه ابن عدي من طريق عبيد الله بن زحر عن علي بن يزيد عن القاسم عن أبي أمامة عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {تعرض أعمال بني آدم في كل يوم اثنين، وفي كل يوم خميس فيرحم المترحمين ويغفر للمستغفرين ويترك أهل الحقد بغلهم}.
أخرجه ابن عدي في ترجمة عبيد الله بن زحر مشيراً إلى أنه مما أنكر عليه حيث قال في آخر كلامه: (ولعبيد الله بن زحر غير ما ذكرت من الحديث ويقع في أحاديثه ما لا يتابع عليه)( ).
وقد وثقه بعضهم وضعفه بعضهم حتى قال ابن حبان: يروي الموضوعات عن الإثبات، وإذا روى عن علي بن يزيد أتى بالطامات، وإذا اجتمع في إسناد خبر عبيد الله وعلي بن يزيد والقاسم أبو عبد الرحمن - لم يكن ذلك الخبر إلا مما عملته أيديهم( ).
وهذه الطريقة وإن كانت ضعيفة لكنها يمكن أن يعل بها الحديث، إذ هذه الطريقة واردة في حق الله تعالى، والسابقة في حق رسول الله صلى الله عليه وسلم.
هذا وللحديث طريقان آخران:
أ- أحدهما: عن أنس وله عنه طريقان فيهما كذابان:
أولاهما: طريق أبي سعيد الحسن بن علي العدوي ثنا خراش ثنا مولاي أنس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [حياتي خير لكم، وموتي خير لكم، أما حياتي فأحدث لكم وأما موتي فتعرض علي أعمالكم عشية الاثنين والخميس، فما كان من عمل صالح حمدت الله عليه، وما كان من عمل سيء، استغفرت لكم]( ).(2/214)
فالعدوي الحسين بن علي كذاب اتهمه بالكذب ابن عدي( ) وابن حبان( ) وقال الدارقطني: كذاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم يقل( ).
وخراش بن عبد الله قال ابن عدي: مجهول( ) وقال ابن حبان: لا يحل كتب حديثه إلا للاعتبار ثم ذكر حديثاً من روايته فقال مع أشياء تشبه هذا إذا تأملها من هذا الشأن صناعته علم أنه كان يضع الحديث( ).
فبهذا يعرف أن هذه الطريقة موضوعة فلا يفرح بها( ).
ثانيهما: طريق يحيى بن خدام حدثنا محمد بن عبد الملك بن زياد أبو سلمة الأنصاري ثنا مالك بن دينار عن أنس به نحوه وفيه: [تعرض علي أعمالكم كل خميس]( ). فهذه الطريقة أيضاً موضوعة لأن الأنصاري أبا سلمة قال فيه العقيلي: منكر الحديث( ). وقال ابن حبان: منكر الحديث جداً يروي عن الثقات ما ليس من حديثهم، لا يجوز الاحتجاج به بحال( ).
وقال ابن طاهر: (كذاب وله طامات)( )، وقال الذهبي: متهم( ).
وأما يحيى بن خدام فقال الذهبي: صدوق إن شاء الله ما علمت به أساً إلا قول أبي أحمد الحاكم الحافظ في الكنى في ترجمة أبي سلمة وروى عنه يحيى بن خدام أحاديث منكرة فالله أعلم الحمل فيها على أبي سلمة أو على ابن خدام( ).
ب- وثانيهما: حديث عن التابعي بكر بن عبد الله المزني مرسلاً، وله عنه ثلاث طرق:
الأولى: عن غالب القطان عنه أخرجه ابن سعد من طريق( ).
وإسماعيل القاضي( ) قال: حدثنا سليمان بن حرب قال: ثنا حماد بن زيد قال: حدثنا غالب القطان به.
وقد صحح هذا الإسناد ابن عبد الهادي إلى بكر المزني( ).
الثانية: عن كثير بن يسار أبي الفضل عنه، أخرجه إسماعيل القاضي( ) حدثنا الحجاج بن منهال قال: ثنا حماد بن سلمة عن كثير أبى الفضل به.(2/215)
الثالثة: عن جسر بن فرقد عنه، أخرجه الحارث بن أبي أسامة عنه في مسنده( ) من طريق جسر بن فرقد عن بكر به، وهذا إسناد ضعيف لاتفاقهم على ضعف جسر بن فرقد( ) وبهذا نعلم مدى عدم صحة ما قاله بعضهم: رواه أيضاً الحارث بن أسامة في مسنده بسند صحيح( ). فكيف يكون السند صحيحاً وفيه من اتفق النقاد على تضعيفه؟
والحاصل أن الحديث بجميع طرقه ضعيف، وأحسنها مرسل بكر بن عبد الله المزني، ومن المعروف أن المرسل من أقسام الضعيف لا يحتج به، ولا يمكن تقويته بالطريقين الآخرين لشدة ضعف حديث أنس، حيث إن فيه وضاعاً ولنكارة حديث ابن مسعود.
وهذا هو الذي تقتضيه الصناعة الحديثية لا ما ادعاه الغماري من أنها تقتضي تصحيحه وأن من ضعفه ليس بمنصف( ).
وأما من ناحية المتن فمن وجوه:
أ- إنه ثبت في الأحاديث الصحيحة أن الأعمال تعرض على الله يوم الاثنين والخميس، فقد روى أبو هريرة مرفوعاً: {تعرض الأعمال في كل يوم خميس واثنين، فيغفر الله عز وجل في ذلك اليوم لكل امرىء لا يشرك باللّه شيئاً إلا امرءاً كانت بينه وبين أخيه شحناء، فيقال: اركوا( ) هذين حتى يصطلحا، اركوا هذين حتى يصطلحا}( ).
وفي حديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما: {ذانك يومان تعرض فيهما الأعمال على رب العالمين وأحب أن يعرض عملي وأنا صائم}( ).
فإذا ثبت بهذا عرض الأعمال على الله سبحانه وتعالى كل خميس واثنين يكون القول بثبوت هذا العرض على النبي صلى الله عليه وسلم تشريكاً للمخلوق بالخالق، وتشبيهاً للمخلوق بالخالق، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم نفسه في حياته كان يحب أن تعرض أعماله على الله وهو صائم فكيف يقال: إن الأعمال تعرض عليه صلى الله عليه وسلم؟(2/216)
وعلى هذا فيحتمل أن بعض الرواة جعل للنبي صلى الله عليه وسلم ما ورد في حق الله تعالى، ويقوى هذا الاحتمال ما تقدم من أن حديث ابن مسعود في عرض الأعمال على النبي صلى الله عليه وسلم قد ورد في لفظ بعرض الأعمال على الله، وإن كانت الرواية ضعيفة؛ لأن الحديث طرقه لا تخلو من ضعف فيمكن إعلال بعضها ببعض.
ب- إن النبي صلوات الله وسلامه عليه لما كان في الحياة الدنيوية لم يكن يعلم بأحوال من غاب عنه إلا عندما يوحى إليه.
وقد أمره الله تعالى أن يبين للناس أنه لا يعلم الغيب إلا في الأمور التي أوحى إليه فيها، وأما العلم بكل الأشياء من جميع المغيبات وجميع أحوال من غاب عنه من أصحابه- فهذا هو الذي أمره الله أن يبين للناس أنه لا يعلمه-، قال تعالى: ((قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ)) [الأعراف:188].
والأحاديث الدالة على هذا كثيرة، منها قصة الإفك، فلم يعلم النبي صلى الله عليه وسلم براءة عائشة رضي الله عنها إلا بعد نزول القرآن، وقصة ضياع عقد عائشة حيث أضر بطلبه مع وجوده تحت البعير الذي تركبه عائشة رضي الله عنها( ).
والحاصل أنه إذا كان صلوات الله وسلامه عليه لا يعلم الغيب إلا ما علمه الله في الدنيا، فكيف نقول بعلمه في البرزخ؟ إلا على قول الغلاة الذين قالوا: إن علم الله تعالى وعلم النبي صلى الله عليه وسلم متساويان، وأن آية سورة الأعراف الماضية إنما كانت في أول الأمر قبل أن يوحى إليه بجميع الغيب( ).
فعلى هذا القول فقط يمكن الادعاء، وبطلان هذا القول واضح لا شك فيه وكذلك ما يلزم منه هذا القول فهو باطل.(2/217)
جـ- إن هذا الحديث يخالف الأحاديث الصحيحة الثابتة، منها حديث الحوض المتواتر حيث ورد فيه: (ليردن علي ناس من أصحابي الحوض حتى إذا عرفتهم اختلجوا دوني، فأقول أصحابي فيقول: لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول: سحقاً سحقاً لمن غير بعدي)( ). وفي رواية أبي هريرة عند البخاري: (إنك لا علم لك بما أحدثوا بعدك)( ).
فهذا الحديث يدل دلالة واضحة على عدم علم النبي صلى الله عليه وسلم بما أحدثه هؤلاء بعده صلوات الله وسلامه عليه، فيناقض حديث عرض الأعمال الذي يدل على علمه بأعمال أمته، فهذا ضعيف وذاك متواتر، ومن المعروف أن القطعي لا يعارض بالضعيف وإنما يكون مردوداً.
د- إن العرض إنما ثبت في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم خاصة دون سائر الأعمال كما في حديث أوس بن ثابت رضي الله عنه، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة فأكثروا علي من الصلاة فيه فإن صلاتكم معروضة علي، قال: فقالوا: يا رسول الله فكيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت؟، قال: يقولون بليت، قال: إن الله حرم على الأرض أجساد الأنبياء صلى الله عليه وسلم)( ). وإذا ثبت عرض الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فيقال: لماذا خص الصلاة إذا كانت كل الأعمال تعرض عليه فيكون التخصيص بدون فائدة؟
فعلى هذا يحتمل أن بعض الرواة ظن عموم عرض الأعمال استنباطاً من عرض الصلاة فروى بالعموم.(2/218)
ومما يقوي هذا الاحتمال أن حديث ابن مسعود السابق اتفق أغلب الرواة على رواية عرض الصلاة فقط، وانفرد عبد المجيد بن عبد العزيز برواية عرض الأعمال عامة، وقد قال شيخ الإسلام -رحمه الله- بعد أن أورد نصوصاً في عرض الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم: [فهذه النصوص التي ذكرنا تدل على أنه يسمع سلام القريب، ويبلغ سلام البعيد وصلاته، لا أنه يسمع ذلك من المصلي والمسلم، وإذا لم يسمع الصلاة والسلام من البعيد إلا بواسطة فإنه لا يسمع دعاء الغائب واستغاثته بطريق الأولى والأحرى، والنص إنما يدل على أن الملائكة تبلغه الصلاة والسلام ولم يدل على أنه يبلغه غير ذلك]( ).
وقال -رحمه الله- أيضاً: [وقول القائل: إنه يسمع الصلاة من البعيد ممتنع، فإنه إن أراد وصول صوت المصلي إليه فهذه مكابرة، وإن أراد أنه هو يكون بحيث يسمع أصوات الخلائق من بعيد، فليس هذا إلا لله رب العالمين الذي يسمع أصوات العباد كلهم، قال تعالى: ((أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ)) [الزخرف:80]، وقال: ((مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ)) [المجادلة:7]، وليس أحد من البشر بل ولا من الخلق يسمع أصوات العباد كلهم...]( ).
هـ- ثم إنه لو ثبت عرض الأعمال لا يصح الاستدلال به على جواز الدعاء بالرسول صلى الله عليه وسلم أو دعائه، وذلك لأمور:
ا- إنه صلى الله عليه وسلم كان يستغفر لأمته في حياته فلم يكن الصحابة يسألون الله تعالى بذلك الاستغفار، ولم يدعوا الرسول صلى الله عليه وسلم به مع أنه أبلغ وأقطع من استغفاره بعد موته.
2- الدعاء عبادة، ولم يشرع لنا هذا الدعاء لأنه لو شرع لسبقنا إليه خير القرون، ومن قال بمشروعيته فقد جهلهم( ).(2/219)
3- إن عرض الأعمال على فرض ثبوته يكون مثل ما كان يقع في حياة النبي صلى الله عليه وسلم من الأخبار التي تصله عن بعض الصحابة الذين غابوا عنه، إما في سرية أو تجارة أو الذين هاجروا إلى الحبشة أو المدينة وهو في مكة، ولم يثبت أن أحداً من هؤلاء الصحابة ممن وقعوا في الشدة والكرب أنهم استغاثوا بالنبي صلى الله عليه وسلم، فقد وقع كثير منهم في الشدة كما في قصة خبيب بن عدي، وأصحاب بئر معونة( )، والمهاجرين إلى الحبشة الذين طال مكثهم هناك أكثر من عشر سنوات ومرت عليهم ظروف قاسية( ). لم ينقل أنهم استغاثوا بالنبي صلى الله عليه وسلم ولا توسلوا بجاهه، وقد قال خبيب بن عدي عندما أرادوا قتله:
لقد جمع الأحزاب حولي وألبوا قبائلهم واستجمعوا كل مجمع إلى أن قال:
إلى الله أشكو غربتي ثم كربتي وما أرصد الأحزاب لي عند مصرعي فذا العرش صبرني على ما يرافى بي فقد بضعو الحمى وقد ياس مطمعي)( ).
ولم يقل خبيب: إلى رسول الله أشكو بل إلى الله أشكو بصيغة الحصر بتقديم الجار والمجرور. وقد أقِروا على هذا من الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم.
ولو تتبع ما وقع للصحابة من الشدائد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وبعد وفاته لطال البحث.
والمقصود أنهم لم يدعوا باستغفار الرسول صلى الله عليه وسلم ولا توسلوا بذلك.(2/220)
4- ثم إن الله سبحانه وتعالى حذر من دعاء الملائكة والأنبياء في قوله تعالى: ((قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلا تَحْوِيلًا * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا)) [الإسراء:57]، فنهى سبحانه عن دعاء الملائكة والأنبياء مع إخباره لنا أن الملائكة يدعون لنا ويستغفرون، ومع هذا فليس لنا أن نطلب ذلك منهم، وكذلك الأنبياء والصالحون وإن كانوا أحياء في قبورهم، وإن قُدرَ أنهم تعرض عليهم أعمال الأحياء وأنهم يدعون لذلك فليس لأحد أن يطلب منهم ذلك ولم يفعل ذلك أحد من السلف؛ لأن ذلك ذريعة إلى الشرك بهم وعبادتهم من دون الله تعالى، بخلاف الطلب من أحدهم في حياته، فإنه لا يفضي إلى الشرك لأنهم لا يقرون أحداً على الشرك.
ولأن ما تفعله الملائكة ويفعله الأنبياء والصالحون بعد الموت هو بالأمر الكوني، فلا يؤثر فيه سؤال السائلين، بخلاف سؤال أحدهم في حياته، فإنه يشرع إجابة السائل، وبعد الموت انقطع التكليف عنهم فما يفعلونه بعد الموت فهو أمر محدود يفعلون منه ما أمر الله به، لا يزداد بسؤال السائلين فليس في سؤالهم إياه منفعة بل مضرة( ).
ثم إنهم إذا شفعوا لعبد بعد إذن الله لهم- شفعوا رغبة في رضا الله تعالى وطاعة له فقط( ).
وأما تأييد الحديث( ) بما ثبت من شهادته صلى الله عليه وسلم على أمته يوم القيامة بالقول بأن ذلك يستلزم علمه بأعمالها- فمنقوض من وجوه:
1- إن شهادته صلى الله عليه وسلم لا يلزم أن تكون على أعمالهم بالتفصيل وإنما هي خاصة بالشهادة بإيمانهم به وبما جاء به وبأنه بلغهم، كما قاله ابن جرير ونقله أيضاً عن عطاء وقتادة( )، وهذا هو قول المفسرين.(2/221)
2- إن هذه الشهادة قد جاء تفسيرها مرفوعاً من حديث ابن مسعود: ((فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا)) [النساء:41] قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {شهيداً عليهم ما دمت فيهم، فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد}( ).
فعلى هذا التفسير فهي خاصة بدوام النبي صلى الله عليه وسلم في الأمة ولا تشمل ما بعد وفاته صلوات الله وسلامه عليه.
3- هذه الشهادة التي ثبتت للرسول صلى الله عليه وسلم مثل شهادة باقي الأنبياء على أممهم، وقد صرح في قصة عيسى أنها شهادة مقيدة بدوام عيسى عليه السلام في قومه ولا تعم ما بعد الموت، قال تعالى: ((مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ)) [المائدة:117].
4- هذه الشهادة مثل شهادة هذه الأمة على الأمم السابقة، ولم يلزم من ذلك اطلاع هذه الأمة على تفاصيل أحوال الأمم السابقة كما هو واضح.
5- هذه الشهادة جاء تفسيرها وبيان كيفيتها في الأحاديث الصحيحة منها حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {يدعى نوح يوم القيامة فيقول: لبيك وسعديك يا رب فيقول: من يشهد لك؟ فيقول: محمد وأمته، فيشهدون أنه قد بلغ، ويكون الرسول عليكم شهيداً، فذلك قوله جل ذكره: ((وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا)) [البقرة:143]، والوسط: العدل}( ).(2/222)
فقد صرح في هذا الحديث بأن هذه الأمة ونبيها يشهدون لنوح عليه السلام بالتبليغ فقط وعلى هذا تكون شهادة النبي صلى الله عليه وسلم لهذه الأمة أيضاً بتبليغها وإيمانها فقط، وليس على جميع أعمال الأمة والله أعلم.
فاتضح مما سبق أن شهادته صلى الله عليه وسلم على أمته لا تقتضي ولا تستلزم أن تعرض أعمالهم عليه.
وأما الأثر الذي استدل به( ) الغماري لتقوية الحديث وهو ما رواه ابن المبارك أخبرنا رجل من الأنصار عن المنهال بن عمرو أنه سمع سعيدبن المسيب يقول: [[ليس من يوم إلا يعرض فيه على النبي صلى الله عليه وسلم أمته غدوةً وعشياً، فيعرفهم بأسمائهم وأعمالهم، فلذلك يشهد عليهم. يقول الله تعالى: ((فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا)) [النساء:41]]]( ).
فقد قال ابن كثير -رحمه الله-: [إنه أثر، وفيه انقطاع، فإن فيه رجلاً مبهماً لم يسم وهو من كلام سعيد بن المسيب لم يرفعه]( )أي فهو ضعيف لوجود هذه العلل من جهالة الرجل الأنصاري، وكونه مقطوعاً أي من كلام التابعي لم يرفعه، حتى تقول: إنه مرسل يحتج به عند بعضهم، ثم هو معارض بالأدلة القطعية مثل ما سبق في حديث الحوض حيث صرح هنا بأنه يعرفهم بأسمائهم وأعمالهم مع أنه يقال له: {لا تدري ما أحدثوا بعدك}. وعبارة ابن كثير المتقدمة أدق من قول الحافظ ابن حجر في أثر سعيد بن المسيب إنه مرسل( ).
فقد تعلق الغماري بعبارة الحافظ بأنه مرسل، والصحيح ما قاله ابن كثير من أنه ليس مرسلاً؛ لأنه لم يرفعه فلا ينفع القول بأن مراسيل ابن المسيب قوية.
ثم هذا الأثر في هذه الآية معارض بثلاثة أحاديث مرفوعة وردت في تفسير الآية وهي:(2/223)
1- حديث ابن فضالة، فقد أخرج الطبراني وابن أبي حاتم وغيرهما من طريق يونس بن محمد بن فضالة الظفري عن أبيه: [[أن النبي صلى الله عليه وسلم أتاهم في بني ظفر ومعه ابن مسعود وناس من أصحابه فأمر قارئاً فقرأ، فأتى على هذه الآية: ((فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا)) [النساء:41]، فبكى حتى ضرب لحياه ووجنتاه، فقال: يا رب هذا على من أنا بين ظهرانيه فكيف بمن لم أره؟]]( ).
2- حديث عبد الرحمن بن لبيبة عن أبيه قال: [[كان إذا قرأ هذه الآية ((فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا...)) بكى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: {يا رب هذا شهدت على من أنا بين ظهرانيه فكيف بمن لم أره؟}]]( ).
3- حديث ابن مسعود الذي تقدم.
4- ويؤيد هذه الأحاديث ما ورد في عيسى من قوله: ((وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا...)) [المائدة:117]، وأما ما قاله الحافظ ابن حجر -رحمه الله- بعد ذكره لأثر سعيد بن المسيب: [ففي هذا المرسل ما يرفع الإشكال الذي تضمنه حديث ابن فضالة والله أعلم]( ) فقد سبق أنه ليس مرسلاً وإنما هو مقطوع، ويعترض عليه بما سبق بيانه من الأدلة القاطعة على عدم العرض، فلو صحت أحاديث العرض يمكن أن يلجأ إلى الجمع، وأما ما دام أنها ضعيفة فلا يمكن أن تعارض الأدلة الصحيحة كما هو معروف في فن المصطلح من أنه لا يعل الصحيح بالضعيف، كما أن الأحاديث الواردة في تفسير الآية أقوى بمجموعها من أثر ابن المسيب. وقد ذهب ابن كثير( ) إلى ترجيح حديثي ابن فضالة وابن مسعود على أثر سعيد بن المسيب، وهذا الذي ذهب إليه ابن كثير هو الراجح لما تقدم من الأدلة الكثيرة الشاهدة له والله أعلم..
وبهذا اتضح سقوط احتجاجهم بحديث العرض وعليه نقتصر لأنه أهم حديث ضعيف يدل لقولهم، والآن نبدأ في مناقشة الأحاديث الواهية والموضوعة وبالله التوفيق ومنه نستمد العون والسداد.
المبحث الثاني: الأحاديث الواهية والموضوعة(2/224)
ومن الأحاديث الواهية التي احتجوا بها( ):
ما روي عن سواد بن قارب من أنه أنشد بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم أبياتاً منها:
فأشهد أن الله لا رب غيره ... ... وأنك مأمون على كل غائب
وأنك أدنى أدنى المرسلين وسيلة ... ... إلى الله يا ابن الأكرمين الأطايب
وكن لي شفيعاً يوم لا ذو شفاعة ... ... بمغن فتيلاً عن سواد بن قارب
قالوا: لم ينكر عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله أدنى المرسلين وسيلة، ولا قوله وكن لي شفيعاً.
الجواب عن هذين البيتين من ناحيتين:
أولاً: ناحية الإسناد:
قد روي خبر سواد بن قارب في صحيح البخاري في سؤال عمر بن الخطاب له عن إسلامه وما كانت تأتي به الجن وإخبارها له ببعثة النبي صلى الله عليه وسلم.
ولا يوجد في الصحيح محل الشاهد، وأما الطرق التي فيها محل الشاهد فكلها واهية جداً، وهذه الطرق هي نحو ستة طرق، وإليك بيانها:
أ- ما روي من طريق علي بن منصور الأنباري عن عثمان بن عبد الرحمن الوقاصي عن محمد بن كعب القرظي قال: [بينما عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- ذات يوم جالس... فذكر سؤال عمر له عن كهانته في الجاهلية وفي آخره أنه أتى النبى صلى الله عليه وسلم فأنشده شعراً وفيه البيتان( )، وهذا الإسناد فيه عدة علل:
1- علي بن منصور مجهول كما قاله الذهبي( ).
2- عثمان بن عبد الرحمن الوقاصي متفق على تركه كما قاله الذهبي أيضاً( ).
3- الانقطاع بين محمد بن كعب القرظي وعمر بن الخطاب إذ ولادة محمد بن كعب في سنة (40) على الصحيح كما قاله الحافظ( )، فلم يدرك قصة عمر مع سواد بن قارب رضي الله عنهما.
ولهذا قال الحافظان الذهبي وابن كثير رحمهما الله تعالى أن هذا الطريق منقطع( )، وذكر الهيثمي هذا الطريق وطريقاً آخر ثم قال: (وكلا الإسناد ين ضعيف)( ).
فتبين مما سبق أن هذه الطريقة واهية جداً لاجتماع هذه العلل الثلاثة فيها، إذ الواحدة منها كافية لإسقاطه عن الاعتبار فكيف وهي مجتمعة؟(2/225)
ب- ما روي من طريق سعيد بن عبيد الله الوصافي عن أبيه عن أبي جعفر محمد بن علي وهو الباقر قال: دخل سواد بن قارب السدوسي على عمر بن الخطاب به وفيه قوله: وإنك أدنى المرسلين وسيلة، وليس فيه فكن لي شفيعاً( )، وهذه الطريقة فيها عدة علل أيضاً.
1- سعيد بن عبيد الله الوصافي ضعفه أبو حاتم وذكره ابن حبان في الثقات( ). ومن المعروف تساهل ابن حبان في توثيق المجاهيل.
2- أبوه عبيد الله الوصافي تركه الفلاس والنسائي وابن حبان، وضعفه ابن معين وأبو زرعة وأبو حاتم وغيرهم( ).
3- الانقطاع بين أبي جعفر الباقر وعمر بن الخطاب فإن أبا جعفر وُلِدَ وَالِدُه الذي هو زين العابدين بعد وفاة عمر فضلاً عنه( ).
فتبين بهذا أن هذا الطريق ضعيف جداً لا يصلح للاعتبار والاعتضاد، وبما تقدم يعلم أن قول الحافظ في الفتح: وهما طريقان مرسلان يعضد أحدهما الآخر( ). فيه نظر إذ أن كلاً منهما إسناده ضعيف جداً فكيف يصلح للاعتضاد؟ إلأَ إن أراد الحافظ أصل القصة لورودها في الصحيح دون الزيادة التي في الطريقين المرسلين.
جـ- ما روي من طريق زياد بن يزيد بن بادويه أبو بكر القصري قال:
حدثنا محمد بن تراس الكوفي قال: حدثنا أبو بكر بن عياش عن أبي إسحاق عن البراء قال: بينما عمر إلخ.. وفيه البيتان، وفيه أنك أدنى المرسلين شفاعة بدل وسيلة( ). فهذا الإسناد فيه عدة مقادح:
1- أبو بكر القصري زياد بن يزيد مجهول.
2- محمد بن تراس الكوفي كذلك مجهول، قال ذلك فيهما الذهبي وسيأتي نص كلامه.
3- أبو بكر بن عياش ثقة إلا أنه لما كبر ساء حفظه( ).(2/226)
4- وأبو إسحاق هو السبيعي، ثقة إلا أنه مدلس وقد اختلط( ) ولم يصرح بالسماع، كما أن سماع أبي بكر بن عياش منه ليس بالقوي كما قاله أبو حاتم( )، وهذه العلل الثلاث الأخيرة ربما يستغنى عنها لأن الحمل على الضعيف أولى من الحمل على الثقة ولهذا لم يتعرض لها الذهبي، بل حمل على العلتين الأوليتين فقال: [هذا حديث منكر بالمرة، ومحمد بن تراس وزياد مجهولان لا تقبل روايتهما وأخاف أن يكون موضوعاً على أبي بكر بن عياش، ولكن أصل الحديث مشهور]( ).
يريد قصة سواد بن قارب مع عمر بن الخطاب -رضي الله عنهما- وليس في أصل الحديث البيتان المذكوران.
وهذه الطريقة لا تصلح للاعتبار فقد خاف الذهبي أن تكون موضوعة.
د- ما روي من طريق الفضل بن عيسى القرشي عن العلاء بن زيدل عن أنس بن مالك فذكر القصة بطولها وفي آخرها قوله:
فكن لي شفيعاً يوم لا ذو شفاعة سواك بمغن عن سواد بن قارب( ) وهذه الطريقة فيها العلاء بن زيدل، قال فيه ابن المديني: يضع الحديث، وقال البخاري والعقيلي وابن عدي: منكر الحديث، وقال ابن حبان والحاكم: روى عن أنس نسخة موضوعة( ).
وهذه الطريقة في غاية الضعف لا تصلح للاعتضاد كما هو واضح.
هـ- ما روي من طريق محمد بن السائب الكلبي عن أبيه عن عمر بن حفص، وفيه قوله: وكن لي شفيعاً( ). والكلبي متهم بالكذب( ).
و- ما روي من طريق الحسن بن عمارة عن عبد الله بن عبد الرحمن قال: دخل سواد بن قارب على عمر فذكر الحديث بطوله( ).
فهذه الطريقة أيضاً في غاية الوهن فالحسن بن عمارة قال فيه الحافظ: متروك( ).
فتبين مما سبق أن هذه الطرق كلها واهية جداً لأنها لا تخلو من كذاب، أو متروك، أو مجهول، فمن هنا يعرف أنه لا يصلح الاحتجاج بما ورد فيها من البيتين المذكورين، إذ يعد زيادة البيتين رواية منكرة لعدم وقوعها في روايات الثقات الذين رووا أصل القصة ولم يذكروا البيتن. هذا ما يتعلق بناحية الإسناد.
ثانياً: ناحية المتن:(2/227)
وأما ما يتعلق بالمتن فنقول وبالله التوفيق: إنه لو صحت هذه الطرق فلا دليل على المدعي لأمور( ):
فإن قوله: وإنك أدنى المرسلين وسيلة إلى الله يحتمل في معناه أوجهاً:
أظهرها: أنه صلى الله عليه وسلم أقرب المرسلين إلى الله منزلة ورتبة وقدراً وقد تقدم ذكر معنى الوسيلة وأنها تطلق على المنزلة.
وثانيها: أنه وسيلة إلى الله في التبليغ والرسالة وأن شريعته أقرب إلى الله تعالى من شرائع المرسلين.
وثالثها: أنه وسيلة في الدعاء للناس حال حياته على معنى قوله تعالى: ((وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ...)) [النساء:64].
ومثل ذلك كونه وسيلة في الشفاعة العظمى يوم القيامة..
ولا يفهم منه أنه وسيلة بعد الممات في الحياة البرزخية مع تلك الاحتمالات الظاهرة فمن ادعى فعليه البرهان، والدليل إذا دخله الاحتمال بطل به الاستدلال لاسيما أن تلك الاحتمالات أظهر من الاحتمال المدعي.
وأما قوله: وكن لي شفيعاً يوم لا ذو شفاعة، فعلى تقدير ثبوته فمعناه طلب الدعاء منه صلى الله عليه وسلم بالشفاعة يوم القيامة بعد الإذن.
وهذا طلب من الرسول -صلى الله عليه وسلم- ما يقدر عليه وهو الدعاء فلا يمكن أن يدعي أنه يدل على طلب الشفاعة أو الدعاء منه في الحياة البرزخية.
ومن الأحاديث الواهية التي احتجوا بها( ): خبر مازن بن الغضوب أو الغضوبة وهو ما روي من طريق هشام بن الكلبي عن أبيه قال: حدثني عبد الله العماني قال مازن بن الغضوبة فذكر حديثاً طويلاً وفيه أنه أنشد رسول الله صلى الله عليه وسلم:
إليك رسول الله خبت مطيتي تجوب الفيافي من عمان إلى العرج لتشفع لي يا خير من وطىء الحصا فيغفر لي ذنبي وأرجع بالفلج( )
الإسناد فيه:
هشام بن محمد بن السائب الكلبي متروك، رافضي( )، وأبوه الكلبي كذلك متروك رافضي وقد تقدم آنفاً.
وقال الهيثمي: رواه الطبراني من طريق هشام بن محمد بن السائب الكلبي عن أبيه وكلاهما متروك( ). وعلى كل فالحديث ضعيف جداً.(2/228)
ولو صح فالمعنى واضح لا غبار عليه فهو في طلب الشفاعة من الرسول صلى الله عليه وسلم في مغفرة الذنب مثل قوله تعالى: ((وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ...)) [النساء:64]، وذلك في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وهذا ليس من مورد النزاع.
توسل آدم بالنبي صلى الله عليه وسلم:
وهو ما روي من طريق أبي الحارث عبد الله بن مسلم الفهري حدثنا إسماعيل بن مسلمة أنبأ عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن جده عن عمر مرفوعاً: (لما اقترف آدم الخطيئة قال: يا رب أسألك بحق محمد لما غفرت لي، فقال: يا آدم وكيف عرفت محمداً ولم أخلقه؟ قال: يا رب لما خلقتني بيدك ونفخت في من روحك رفعت رأسي، فرأيت على قوائم العرش مكتوباً: لا إله إلا الله محمد رسول الله، فعلمت أنك لم تضف إلى اسمك إلا أحب الخلق إليك. فقال: غفوت لك، ولولا محمد لما خلقتك)( ).
قد احتج جماعة بهذا( ) الحديث على جواز التوسل بذات النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: إن هذا توسل بذاته ولا يمكن القول بأن هذا توسل بدعائه لكونه قبل وجوده.
مناقشة هذا الحديث سنداً:
قد تكلم كبار نقاد الحديث وجهابذاته على هذا الحديث فحكموا بوضعه وبطلانه فمن الحفاظ الذين حكموا بوضعه وبطلانه:
1- الذهبي فقد حكم بوضعه وبطلانه( ).
1- وابن حجر حكم ببطلانه( ).
3- وابن تيمية حكم بوضعه وبأنه لا أصل له( ).
4- وابن عبد الهادي( ).
5- والألباني( ).
وعِيبَ على الحاكم إخراج هذا الحديث وقوله: (صحيح الإسناد، وهو أول حديث ذكرته لعبد الرحمن بن زيد بن أسلم في هذا الكتاب)( ) مع أن الحاكم نفسه ذكر عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في كتابه (المدخل) في المجروحين وقال: (روى عن أبيه أحاديث موضوعة لا يخفى على من تأملها من أهل الصناعة أن الحمل فيها عليه)( ).
وأما محاولة( ) تقوية عبد الرحمن بن زيد بأنه لم يتهم بالكذب فيرده كلام الحاكم نفسه السابق من أنه روى أحاديث موضوعة فهذه محاولة يائسة.(2/229)
وكذلك تأييده( ) بالحكاية المكذوبة عن مالك وسيأتي مناقشتها قريباً.
هذا من ناحية السند، ومن ناحية المتن فالحديث منقوض بأوجه:
1- إن الراجح في تفسير الكلمات التي تلقاها آدم ما ورد في آية أخرى ((قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ)) [الأعراف:23].
وهذا ما رجحه إمام المفسرين الطبري( ) -رحمه الله-، وأولى ما يفسر القرآن بالقرآن، فإذا وجد فلا يعدل عنه.
2- قد ذكر ابن جرير وأبو حاتم الأقوال الواردة في تفسير الكلمات وليس فيها هذا المزعوم، وقد نص ابن أبي حاتم بأنه قد اختلف في تفسير الآية على ستة أوجه، ثم ذكرها واحدة تلو الأخرى ولم يذكر هذا( ).
3- إن التفسير الذي ورد عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم يخالف هذا.
فقد أخرج الطبري عن يونس بن عبد الأعلى قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد في قوله: ((فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ...)) [البقرة:37] الآية، قال: لقاهما هذه الآية: ((رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ)) [الأعراف:23]( ).
فلو كان عند عبد الرحمن بن زيد حديث مرفوع في تفسير الآية لما عدل عنه إلى غيره.
4- ثم إن في الرواية أن آدم هو الذي اطلع بنفسه على اسم النبي صلى الله عليه وسلم والآية تدل على أنه تلقى الكلمات من الله تعالى، فهذه الرواية المكذوبة تخالف الآية.
5- لو كان آدم عليه السلام قد قال هذا وحصلت له التوبة به لكانت أمة محمد عليه الصلاة والسلام أحق به منه.
وقد علم كل عالم بالآثار أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر أمته به، ولا نقل عن أحد من الصحابة الأخيار، ولا نقله أحد من العلماء الأبرار( ).(2/230)
6- إن التوبة تكون بالاعتراف بالذنب والإقرار له والاستغفار، ويتضمن ذلك قوله: ((رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ)) [الأعراف:23].
وإذا حصلت المغفرة بالتوبة حصل المقصود بها لا بغيرها( ).
7- إن من المعلوم بالاضطرار أن الكفار والفساق لا يحتاج أحدهم إذا تاب إلى الله بالإقسام بأحد فكيف يحتاج آدم إلى ما لا يحتاج إليه أحد من المذنبين؟( ).
8- ثم إنه لو ثبت لم يكن فيه حجة. لأنه شرع من قبلنا، وليس شرعاً لنا إلا إذا ورد شرعنا بموافقته، ومن المعلوم أن شرعنا لم يرد بالإقسام بالمخلوق على الخالق في التوبة وغيرها.
9- إن( ) هذه الرواية تخالف القطعي من خلق آدم وبنيه لأجل العبادة لا لأجل محمد صلى الله عليه وسلم قال تعالى: ((وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)) [الذاريات:56]. وقد ذكر علماء علوم الحديث أن من علامات وضع الحديث مخالفته للقطعي كما تقدم.
10- ومما يقوي وضع الحديث وبطلانه أن بعض الشيعة ذكروا بأسانيدهم عن أبي عبد الله (جعفر الصادق)، أن الله عرض على آدم في الميثاق ذريته وفيهم النبي صلى الله عليه وسلم وعلي وفاطمة والحسن والحسين فحسدهم، وفي رواية عندهم لم يقر بالولاية لهم فطرد لهذا من الجنة، فلما تاب من حسده وأقر بالولاية ودعا بحق الخمسة محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين -غفر الله له- وذلك قوله تعالى: ((فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ...)) [البقرة:37]( ).
والظاهر أن بعض الضعفاء نقل عن هؤلاء الروافض هذا الذي عندهم من توسل آدم بحق هؤلاء الخمسة، فقصره على النبي صلى الله عليه وسلم، ومثل هذا الصنيع معروف من الذين يسرقون الأحاديث فيركبون لها أسانيد أو متوناً بزيادة أو نقصان تعمية وإخفاء.(2/231)
ومن العجب أن هؤلاء الذين ادعوا توسل آدم بالنبي صلى الله عليه وسلم لم يقتصروا عليه، بل ما نجا نوح في السفينة ولا إبراهيم في النار إلا بالدعاء به وهذا عين ما تزعمه الروافض في أئمتهم.
قال زيني دحلان في المواهب: ويرحم الله ابن جابر حيث قال:
به قد أجاب الله آدم إذا دعا ونجى في بطن السفينة نوح وما ضرت النار الخيل لنوره ومن أجله نال الفداء ذبيح( ).
حديث فاطمة بنت أسد:
وهو ما روي عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: لما ماتت فاطمة بنت أسد أم علي -رضي الله عنها- دخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس عند رأسها فقال: (رحمك الله يا أمي، كنت أمي بعد أمي،- تجوعين وتشبعينني، وتعرين وتكسينني، وتمنعين نفسك طيباً وتطعميني، تريدين بذلك وجه الله والدار الآخرة)، ثم أمر أن تغسل ثلاثاً ثلاثاً، فلما بلغ الماء الذي فيه الكافور سكبه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده، ثم خلع رسول الله صلى الله عليه وسلم قميصه، فألبسها إياه، وكفنها ببرد فوقه ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد وأبا أيوب الأنصاري وعمر بن الخطاب وغلاماً أسود يحفرون، فحفروا قبرها، فلما بلغوا اللحد حفره رسولى الله صلى الله عليه وسلم بيده وأخرج ترابه بيده، فلما فرغ دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فاضطجع فيه، وقال: (الله الذي يحيي ويميت وهو حي لا يموت اغفر لأمي فاطمة بنت أسد ولقنها حجتها ووسع عليها مدخلها بحق نبيك والأنبياء الذين من قبلي فإنك أرحم الراحمين) وكبر عليها أربعاً وأدخلها اللحد هو والعباس وأبو بكر -رضي الله عنهما-.
فقد احتجوا( ) بهذا الحديث على جواز التوسل بالذوات.
والجواب عن هذا الحديث من ناحيتين:
أ- ناحية الإسناد: روي هذا الحديث عن أنس وابن عباس وجابر رضي الله عنهم وروي مرسلاً عن محمد بن الحنفية، ومحمد بن عمر بن علي بن أبي طالب.(2/232)
1- حديث أنس أخرجه الطبراني في الكبير( ) والأوسط( )، ومن طريقه أبو نعيم في الحلية( ) عن أحمد بن حماد- زغبة-( ) حدثنا روح بن صلاح حدثنا سفيان الثوري عن عاصم الأحول عن أنس، وهذا الإسناد فيه عدة علل:
أ- روح بن صلاح قد اختلفوا فيه، وثقه ابن حبان والحاكم، وضعفه ابن عدي وقال بعد أن ساق له حديثين: له أحاديث ليست بالكثيرة، وفي بعض حديثه نكرة، وقال ابن ماكولا: ضعفوه، وقال ابن يونس: رويت له مناكير، وقال الدارقطني: ضعيف في الحديث( ).
فالجرح هنا مقدم لأمرين:
1- إن الذين ضعفوه الدارقطني، وابن عدي، من المعتدلين( )، وأما الذين وثقوه ابن حبان والحاكم فمعروفون بالتساهل( ).
2- الجرح هنا مفسر وهو روايته المناكير.
ب- تفرده بهذا الحديث حيث لم يرو عن سفيان غيره، والتفرد عن مثل سفيان الثوري علة؛ لأن الشيخ إذا كان ممن يجمع حديثه كالثوري وانفرد أحد تلامذته عنه بحديث ولم يكن من الحفاظ المتقنين فإنه يرد ويعد منكراً( )، وهنا انفرد روح بهذا دون بقية أصحاب سفيان وليس هو من الحفاظ المتقنين، وقد أشار إلى هذه العلة الطبراني فقال: لم يرو هذا الحديث عن عاصم الأحول إلا سفيان الثوي، تفرد به روح بن صلاح( ) كما أشار إلى ذلك أبو نعيم، فقال: كريب من حديث عاصم والثوري لم نكتبه إلا من حديث روح بن صلاح تفرد به( ).
وقد أعل هذا الحديث بهاتين العلتين الشيخ الألباني( ) -حفظه الله-.
جـ- ثم إن في النفس شيئاً من سماعه من سفيان الثوري لأن صلاحاً توفي (233) وهو مصري، ووفاة الثوري عام (161) وبين الوفاتين ما يقارب (74) سنة فلا بد لصحة سماعه من الثوري أن يكون سنه نحو عشرين سنة قبل وفاة الثوري حتى يمكن طلبه للعلم وسماعه من كبار الشيوخ.
ويقوي هذا أن ابن حبان عندما ذكره في الثقات قال: روح بن صلاح من أهل مصر يروي عن يحيى بن أيوب وأهل بلده( ).(2/233)
فخص روايته عن أهل بلده، والثوري كوفي، كما أنه لم يذكره المزي في تهذيبه في تلاميذ الثوري مع محاولته الاستقصاء.
2- حديث ابن عباس أخرجه الطبراني في الأوسط( )، وابن عبد البر( ) تعليقاً من طريق سعدان بن الوليد السابري عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس قال: لما ماتت فاطمة أم علي بن أبي طالب ألبسها رسول الله صلى الله عليه وسلم قميصه، واضطجع معها في قبرها، فقالوا: ما رأيناك صنعت ما صنعت بهذه؟ فقال: إنه لم يكن أحد بعد أبي طالب أبر بي منها إنما ألبستها قميصي لتكسى من حلل الجنة، واضطجعت معها ليهون عليها. وفي هذا الإسناد سعدان بن الوليد السابري وهو مجهول، قال الهيثمي: رواه الطبراني في الأوسط وفيه سعدان بن الوليد، ولم أعرفه وبقية رجاله ثقات( ).
3- حديث جابر أخرجه ابن شبة( ) من طريق القاسم بن محمد بن عبد الله بن محمد بن عقيل عن جده عبد الله بن عقيل عن جابر به.
وهذه الطريقة ضعيفة جداً لأن فيها القاسم بن محمد الهاشمي، قال فيه أبو حاتم: متروك وقال أحمد: ليس بشيء، وقال أبو زرعة: أحاديثه منكرة( ).
4- مرسل محمد بن الحنفية: أخرجه ابن شبة( ) من طريق عبد العزيز، وهو ابن محمد الدراوردي عن عبد الله بن جعفر بن المسور بن مخرمة عن عمرو بن دينار عن محمد بن علي بن أبي طالب به.
وليس فيه التوسل المذكور إلا أن فيه أنه قرأ فيه القرآن.
وهذا الإسناد فيه عبد العزيز وهو الدراوردي وهو مختلف فيه( ) وهو مرسل أيضاً.
5- مرسل محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب:
أخرجه ابن أبي عاصم( ) ومن طريقه ابن الأثير( ) من طريق عبد الله بن محمد بن علي بن أبي طالب عن أبيه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كفن فاطمة بنت أسد في قميصه، واضطجع في قبرها وجزاها خيراً.
فعبد الله بن محمد هو العلوي، قال فيه الحافظ: مقبول( ) ووالده محمد بن عمر قال فيه أيضاً: صدوق من السادسة، وروايته عن جده مرسلة( ).(2/234)
فإذا كانت روايته عن جده علي بن أبي طالب مرسلة فكيف بروايته المرفوعة؟ فهي معضلة.
والحاصل أنه قد تحصل لنا أن الحديث قد روي من خمسة طرق، ثلاثة موصولة ومرسلان فلم تخل واحدة منها من عدة علل فهو شديد الضعف، ومع هذا لم يرد التوسل المزعوم إلا في طريقة واحدة وهي طريق أنس، فهذه الأحاديث يمكن أن يعل بها الحديث لأن الكل ضعيف فيعل بعضه ببعض.
ولكن هذه الطرق الضعيفة تدل على أنه صلى الله عليه وسلم لم يدع بالدعاء المزعوم، فتكون زيادة الدعاء الذي فيه التوسل منكرة.
هذا على فرض تقوية هذه الطرق مع أنها ضعيفة جداً لا يمكن تقويتها بمجيئها من عدة طرق، فلا يزيد بعضها بعضاً إِلا وهناً وضعفاً.
هذا ما يتعلق بأسانيد هذا الحديث.
وأما من ناحية المتن فهو منقوض من عدة وجوه أيضاً.
أ- إن في( ) هذا الحديث مبالغة وإطراء متجاوزاً المألوف فى ذلك العهد النبوي.
ب- إن( ) فيه ركاكة الألفاظ.
جـ- هذا الحديث يخالف هديه وسنته في غسل جنازة المرأة وذلك في أمور:
1- سكبه بيده الشريفة لم يرد إلا في هذه القصة، وأما الذي ورد في غسل بنته زينب أنه أمرهن بالغسل، ولم يسكب بنفسه، فقد روى البخاري ومسلم عن محمد بن سيرين عن أم عطية قالت:[[دخل علينا النبي صلى الله عليه وسلم ونحن نغسل ابنته، فقال: اغسلنها ثلاثاً أو خمساً أو أكثر من ذلك إن رأيتن ذلك بماء وسدر، واجعلن في الآخرة كافوراً، فإذا فرغتن فآذنني، قالت:فلما فرغنا ألقى إلينا حقوه فقال: أشعرنها إياه ولم يزد على ذلك...]]( ).
2- ثم إلباسه إن كان بيده ففيه مخالفة هديه في كفن المرأة الذي دل عليه الحديث السابق.
3- إن الحفر بيده وإخراجه التراب بيده والاضطجاع فيه كلها لم تعهد إلا في هذا الحديث الضعيف، مخالفاً هديه صلى الله عليه وسلم المشهور عنه وهو من المبالغة والإطراء.(2/235)
4- ثم لفظُ الدعاء الذي بدأ بلفظ الغيبة ثم الخطاب بعيدٌ عن الأسلوب المعهود في الدعوات المأثورات (اللهم أنت...) ولم نر في غير هذا الدعاء (الله الذي...).
5- ومما يدل على ضعفه أن الراوي اعترف بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعل هذه الأفعال إلا في هذه المرة، ولكنه أراد أن يبرر ذلك بما ذكره، وهيهات.
د- يمكن أن يكون هذا من وضع الغلاة في علي رضي الله عنه ليرفعوا من شأنه وشأن أسرته بمثل هذه المبالغات، وأن بعضهم سرق ذلك منهم، ويؤيد ما نقول من المبالغة واحتمال أن بعضهم أخذه من الشيعة، أن الكليني روى بسنده عن أبي عبد الله ما يشبه هذه الروايات مع بعض الاختلاف وذكر أنه أدخلها القبر واضطجع فيه ثم زاد (أنه انكب عليها طويلاً يناجيها ويقول لها ابنك ابنك، ثم خرج وسوى عليها ثم انكب على قبرها فسمعوه يقول: لا إله إلا الله اللهم إني استودعها إياك، ثم ذكر أنهم سألوه عن سبب الانكباب فأجاب بأنها سئلت عن ربها ورسولها فأجابت وسئلت عن وليها وإمامها فارتج عليها، فقلت ابنك ابنك)( )، وهذا واضح أنه من وضع الشيعة.
من الأحاديث الموضوعة التي استدلوا بها حديث دعاء حفظ القرآن وهو: (اللهم إني أسألك بمحمد نبيك، وإبراهيم خليلك، وموسى نجيك، وعيسى كلمتك وروحك، وبتوراة موسى وإنجيل عيسى وزبور داود وفرقان محمد...).
استدل به بعضهم( ) على جواز التوسل المبتدع.
وهذا الحديث قد روي من حديث أبي بكر الصديق وابن مسعود وابن عباس ومرسل الزهري.
أ- حديث أبي بكر الصديق أخرجه أبو الشيخ في كتاب ثواب( ) الأعمال وأبو العباس ابن إبراهيم بن تركمان في كتاب الدعاء( ). كلاهما من طريق الحسن بن عرفة العبدي حدثنا زيد بن الحباب العكلي حدثنا عبد الملك بن هارون بن عنترة الشيباني عن أبيه أن أبا بكر الصديق أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني أتعلم القرآن فيتفلت مني فقال النبي صلى الله عليه وسلم، قل: (اللهم...).(2/236)
وهذا الحديث لهذا الإسناد موضوع كما أشار( ) إلى ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية وابن الجوزي لأن فيه عبد الملك بن هارون بن عنترة وقد تقدم بيان أنه وضاع.
2- ثم إن أباه ضعفه الدارقطني أيضاً فقال: (وأبوه أيضاً متروك)( ).
3- ثم الانقطاع بين هارون بن عنترة وبين الصديق كما في بعض الطرق فعلى هذا فهو إعضال كما عبر به السيوطي( ). أو بين جد عبد الملك وهو عنترة الشيباني وبين الصديق. فعلى هذا يكون انقطاعاً كما عبر به أبو موسى المديني( ).
4- وقد حكم نقاد الحديث بوضع هذا الحديث منهم ابن الجوزي وشيخ الإسلام( ) والسيوطي( )، وابن عراق( ).
حديث ابن مسعود:
أخرجه الخطيب في الجامع من طريق موسى بن إبراهيم المروزي نا وكيع عن عبيدة عن شقيق عن ابن مسعود مرفوعاً وفيه: (أسألك بحق محمد رسولك ونبيك وإبراهيم خليلك...)( ).
وهذا حديث موضوع أيضاً، قالى الذهبي -رحمه الله تعالى- في ترجمة موسى بن إبراهيم بعد أن نقل عن يحيى تكذيبه وعن الدارقطني وغيره أنه متروك.
قال: فمن بلاياه، قال: حدثنا وكيع عن عبيدة فذكر ما تقدم( ) وزاد في تنزيه الشريعة نقلاً عن الذهبي قوله: (فإما وضعه أو سرقه ممن وضعه وركب له إسناداً والله أعلم( )).
وأخرجه ابن الجوزي أيضاً من طريق عمر بن الصبح عن أبي عبد الله الشامي ومحمد بن أبي عائشة السندي عن يزيد بن عمر عن عمر بن عبد العزيز عن مجاهدبن جبر عن ابن مسعود مرفوعاً.
قال ابن الجوزي: هذا حديث موضوع والمتهم به عمر بن الصبح( ).
وقال شيخ الإسلام في هذه الطريقة: إنها أضعف من الطريق الأول( ). وعمر بن صبح قال فيه ابن حبان: كان ممن يضع الحديث على الثقات، لا يحل كتابة حديثه إلا على جهة التعجب لأهل الصناعة فقط( ).
حديث ابن عباس:(2/237)
أخرجه الطبراني في الدعاء( ) من طريق موسى بن عبد الرحمن الصنعاني المفسر، حدثني ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس (ح) وحدثنا( ) مقاتل بن حيان عن مجاهد عن ابن عباس، وموسى بن عبد الرحمن هذا من الكذابين قال فيه ابن حبان: دجال يضع الحديث، وضع على ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس كتاباً في التفسير جمعه من كلام الكلبي ومقاتل بن سليمان وألزقه بابن جريج عن عطاء عن ابن عباس، ولم يحدث به ابن عباس ولا عطاء سمعه ولا ابن جريج سمع من عطاء( ).
وقال ابن عدي: منكر الحديث( ).
وقال الذهبي: مشهور هالك( ). وقال فيه أيضاً: دجال( ).
مرسل الزهري:
وهو ما روي من حديث أحمد بن إسحاق الجوهري، حدثنا أبو الأشعث حدثنا زهير بن العلاء العتبي( ) حدثنا يوسف بن يزيد عن الزهري ورفع الحديث قال: (من سره أن يحفظ فليصم سبعة أيام وليكن إفطاره في آخر الأيام السبعة على هؤلاء الكلمات...)( ).
وهذا مرسل أيضاً موضوع. فإن زهير بن العلاء قال فيه أبو حاتم: أحاديثه موضوعة( ).
وقال شيخ الإسلام بعد أن ساق إسناد مرسل الزهري: (وهذه أسانيد مظلمة لايثبت بها شيء)( ).
ثم إن العلماء ذكروا أن مراسيل الزهري من أضعف المراسيل قال يحيى بن سعيد القطان: مرسل الزهري شر من مرسل غيره لأنه حافظ كلما قدر أن يسمي سمى، وإنما يترك من لا يستجيز أن يسميه وقال فيه وفي مرسل قتادة: هو بمنزلة الريح( ) وقال ابن معين: مراسيل الزهري ليس بشيء( ).
والحاصل أن هذا الحديث موضوع بكل طرقه لأن في كل الطرق أحد الوضاعين.
وقد أصاب ابن الجوزي في حكمه عليه بالوضع( ) وتبعه السيوطي( ) وابن عراق( )، وقبلهما شيخ الإسلام( ).
هذا ما يتعلق بالإسناد.
وأما من ناحية المتن ففي بعض طرقه أنه يكتب هذا الدعاء في إناء نظيف أو في صحفة قوارير بعسل وزعفران وماء مطر.
وهذا دليل آخر على وضعه.(2/238)
فكتابة القرآن والأدعية بالزعفران والعسل من التلاعب بالقرآن الكريم، ولم يعهد في شيء من الأحاديث الصحيحة كتابة الرقى بهذه الكيفية، وإنما يفعل هذا المشعوذون الدجالون الأكالون لأموال ضعفاء العقول، وقد يكون هذا من وضع بعض أهل الأهواء فقد روى الكليني في الكافي هذا الدعاء عن أبي عبد الله الصادق بهذه الكيفية( )، فكتابة الحروز والاعتقاد بالخرافات منتشر بين هؤلاء ثم تتسرب هذه الاعتقادات إلى عوام المسلمين بطريق المتصوفة، كما أن الوضاعين للحديث يسرقون هذه الأحاديث التي عندهم ثم يركبون لها أسانيد أخر.
ومن الأحاديث الموضوعة التي احتجوا بها ما روي مرفوعاً: (إذا كانت لكم إلى الله حاجة فسلوه بجاهي فإن جاهي عند الله عظيم).
قد احتج بهذا الحديث الموضوع بعضهم( ) على جواز التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم وهذا الحديث حكم عليه الحفاظ بالوضع والبطلان، قال شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى-: (حديث باطل لم يروه أحد من أهل العلم ولا هو في شيء من كتب الحديث)( ). وقال أيضاً: (وهو كذب موضوع من الأحاديث المشينات التي ليس لها زمام ولا خطام)( ).
وقال الشيخ الألباني -حفظه الله تعالى-: (لا أصل له)( ).
وقال الألوسي: لم يروه أحد من أهل العلم ولا هو شيء في كتب الحديث( ).
وقد أراد سلامة العزامي أن يقويه بأنه ثابت المعنى وإن لم يرد التصريح بخصوص هذا اللفظ وأن المختار جواز الرواية بالمعنى متى صح فهم الراوي وحسنت معرفته بالعربية( )، ويلزم على قوله هذا صحة رواية الأحاديث الموضوعة إذا صح معناها واستقامت ألفاظها، والقول بهذا في غاية الخطورة لأمور:
1- إن هذا ليس من رواية الحديث بالمعنى في شيء؛ لأن ذلك حيث يثبت الحديث لكن الراوي لا يستحضر لفظه فيجوز له روايته بالمعنى، وأما هذا الحديث المزعوم فلم يرد بهذا اللفظ ولا بمعناه حتى يصح روايته بالمعنى.(2/239)
2- إن هذا الكلام قول من يقول: إنه يجوز نسبة كل كلام حسن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهذا المذهب هو مذهب الكرامية وهم يجيزون الوضع في الترغيب والترهيب( ).
3- إن هذا خلاف إجماع المسلمين الذين يعتد بهم كما قاله النووي( ). وذلك لأنه داخل في عموم قوله صلى الله عليه وسلم: {من كذب عليّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار}( ). وفي رواية: {من يقل علي ما لم أقل فليتبوأ مقعده من النار} أخرجها البخاري من حديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه( ).
4- إن هذا الحديث بعد ثبوت وضعه لا يجوز الاستدلال به بأي حال لا بلفظه ولا بمعناه، والعلماء الذين أجازوا العمل بالضعيف لا يجيزون العمل بالموضوع بأي حال.
5- هذا الحديث يشبه ما يأمر به الصوفية مريديهم من أن يتوسلوا بجاههم أو جاه غيرهم وقد يصل الحال ببعضهم إلى الأمر بدعائه أو بدعاء قبره بعد الوفاة.
ومما يشبه هذا الحديث الموضوع ما نقل عن الشاذلي أنه قال: (إذا عرضت لكم إلى الله حاجة فتوسلوا إليه بالإمام أبي حامد)( ).
ومما ينبغي أن يعلم أن الحكم بوضع هذا الحديث ليس معناه نفي جاهه صلى الله عليه وسلم فإن جاهه صلى الله عليه وسلم ومقامه عند الله عظيم، فقد وصف الله تعالى موسى بقوله: ((وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا)) [الأحزاب:69]، وقال في عيسى: ((وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ)) [آل عمران:45]. فإذا كان موسى وعيسى وجيهين عند الله عزوجل فكيف بسيد ولد اَدم صاحب المقام المحمود الذي يغبطه به الأولون والآخرون، وصاحب الكوثر والحوض المورود وهو إمام الأنبياء إذا اجتمعوا وخطيبهم إذا وفدوا، ذو الجاه العظيم صلى الله عليه وسلم وآله؟ ولكن جاه المخلوق عند الخالق تعالى ليس كجاه المخلوق عند المخلوق فإنه لا يشفع أحد إلا بإذنه( ).
من الأحاديث الموضوعة التي احتجوا بها: (إذا أعيتكم الأمور- أو إذا تحيرتم في الأمور- فعليكم بأصحاب القبور، أو فاستعينوا بأهل القبور).(2/240)
قد احتج به بعضهم( ) على الاستغاثة بأصحاب القبور عند المدلهمات وحدوث النائبات، وهذا الحديث موضوع باتفاق أهل الحديث. قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: [فهذا الحديث كذب مفترى على النبي صلى الله عليه وسلم بإجماع العارفين بحديثه لم يروه أحد من العلماء بذلك، ولا يوجد في شيء من كتب الحديث المعتمدة]( ).
وقال أيضاً: [هذا مكذوب باتفاق أهل العلم لم يروه عن النبي صلى الله عليه وسلم أحد من علماء الحديث]( ).
كما أن شيخ الإسلام عده من الأحاديث المكذوبة التي هي من جنس أكاذيب الرافضة( ).
وذكره ابن القيم: من الأحاديث المكذوبة التي وضعها أشباه عُباد الأصنام من المقابرية على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي تناقض دينه وما جاء به( ). ومن الأحاديث الموضوعة التي احتجوا بها: (لو اعتقد أحدكم بحجر لنفعه) وفي لفظ: (لو أحسن أحدكم ظنه بحجر لنفعه الله به).
هذا الحديث من الأحاديث المشتهرة على الألسنة التي يستدلون بها على جواز دعاء غير الله تعالى، ولشهرته على الألسنة وضعه السخاوي في المقاصد الحسنة( ).
وقد حكم الحفاظ عليه بالوضع، فمن حكم عليه بالوضع شيخ الإسلام( ).
وابن القيم فقد ذكره من جملة الأحاديث الموضوعة التي بسببها انتشر الشرك وأنه من وضع المشركين عباد الأوثان( ).
كما ذكره من الأحاديث التي وضعها أشباه عباد الأصنام من المقابرية والتي تناقض دين الإسلام، والله بعث رسوله صلى الله عليه وسلم بقتل من حسن ظنه بالأحجار( ).
وقال الحافظ ابن حجر: لا أصل له( ).
ونقل السخاوي كلام شيخ الإسلام والحافظ فأقره( ).
ونقل الملا علي القاري كلام السخاوي وابن تيمية فأقره( ).
وحكم عليه بالوضع الشيخ الألباني أيضاً( ).
ثم إن هذا الحديث وأمثاله هو الذي بسببه صار كثير من الناس يحسنون الظن بالكهنة والمشعوذين والدجالين، ولو كان مشركاً كافراً مجاهراً بذلك، ومع هذا يزورونه وينذرون له ويلتمسون دعاءه وبركته( ) تحسيناً للظن.(2/241)
وبهذا القدر نكتفي في مناقشة أدلتهم من الأحاديث الواهية والموضوعة، ونبدأ في مناقشة شبههم من الحكايات والمنامات والعقليات، وبالله نستعين وعليه نتوكل، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
المبحث الثالث: في الحكايات والمنامات والنظريات:
تمهيد في الجواب الإجمالي:
ومما لا شك فيه أن الحكايات لها أثر كبير في انتشار الأدعية الشركية والبدعية؛ وقد كان كثير من الناس يصدق تلك الحكايات والمنامات ويحتج بها على صحة تلك الأدعية الباطلة ومشروعيتها، كما أن كثيراً من سدنة الأضرحة يختلقون تلك الحكايات ليكثر سواد الزائرين ضعفاء العقول. وقد تقدم ذكر أثر الحكايات والسدنة في انتشار الأدعية الشركية والبدعية. والمقصود هنا مناقشة احتجاجهم بتلك الحكايات وبيان عدم حجيتها، وقبل الخوض في ذكر بعض تلك الحكايات نذكر الجواب الإجمالي عن الاحتجاج بالحكايات والنظريات، فنقول وبالله التوفيق:
1- الجواب الإجمالي:
أ- إن الله سبحانه وتعالى أكمل دينه وأتم شرعه، قال تعالى: ((الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا)) [المائدة:3]. فلا يقبل في دين الله تعالى إلا ما دل عليه الكتاب والسنة أو أجمعت عليه الأمة.
وأما الحكايات والمنامات فليست من الأدلة الشرعية عند أهل العلم، وكذلك القياس لا يدخل في العبادات لكون مبناها على التوقيف (وإنما المتبع عند علماء الإسلام في إثبات الأحكام هو كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وسبيل السابقين الأولين، ولا يجوز إثبات حكم شرعي بدون هذه الأصول الثلاثة نصاً أو استنباطاً بحال)( ).
ب- إن أغلب هذه الحكايات والمنامات لا تصح عمن نقلت عنه وإنما هي من اختلاق الدجالين الأكالين لأموال الناس، الذين لا يهمهم إلا قبض النذور والدجل على ضعاف العقول واختلاق الإفك والكذب والزور.(2/242)
قال شيخ الإسلام رحمه الله: (المنقول في ذلك إما أن يكون كذباً على صاحبه مثل ما حكى بعضهم عن الشافعي -رحمه الله-) فذكر الحكاية التي تأتي والتي تقول: إنه يتبرك بقبر أبي حنيفة. ثم قال: (وإما أن يكون المنقول من هذه الحكايات عن مجهول لا يعرف)، ومن المعلوم أننا لا نقبل مثل هذه الحكايات المجهولة الإسناد في الحديث المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فكيف بالمنقول عن غيره؟( ).
جـ- ثم إن هذه الحكايات لو صحت إلى أصحابها فلا يمكن أن تكون حجة أيضاً لعدة وجوه:
1- يحتمل أنها فهمت عنهم فهماً غير صحيح، فآفة الأخبار رواتها، فيمكن أن تلك الحكايات دخل فيها زيادة أو نقصان أو تأويل على وجه لم يرده أصحابها.
فيحتمل أن صاحب الحكاية قالها أو فعلها (بقيود وشروط كثيرة على وجه لا محذور فيه فحرف النقل عنه)( ).
2- كما يحتمل أن صاحبها قد اجتهد وأخطأ لأنها محكية عن غير معصوم، والحكايات كما قال ابن كثير -رحمه الله-: (قصاراها أنها صحيحة إلى من ليس بمعصوم من صحابي أو غيره لأنه يجوز عليه الخطأ)( )وقال شيخ الإسلام في معرض بيان حجة هؤلاء: (إن عمدتهم إما أحاديث ضعيفة أو موضوعة أو منقولات عمن لا يحتج بقوله، إما أن يكون كذباً عليه وإما أن يكون غلطاً منه، إذ هي نقل غير مصدق عن قائل غير معصوم، وإن اعتصموا بشيء مما ثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم حرفوا الكلم عن مواضعه وتمسكوا بمتشابهه وتركوا محكمه كما يفعل النصارى)( ).
3- كما يحتمل أنها من تخييل الشيطان لهم فإنه كثيراً ما يلبس على الصالحين بتخييل الحكايات والكرامات لهم، وقد يقضي بعض حوائج من استغاث بالأموات وقد يتراءى لبعضهم في صورة من يعتقد فيه، وقد تقدم ذكر هذا، وقال الصغاني بعد ذكر الأدعية المبتدعة: (والشيطان في أكثر الأحيان يظهر لتلك الأسماء تأثيرات ومنافع لأجل تغرير الجهال وافتتانهم)( ).(2/243)
والحاصل أن تلك الحكايات إن صحت عن أصحابها فلا يستقيم الاحتجاج بها، بل ينبغي الرد عليهم وبيان الحق في ذلك بدون محاباة لهم، قال ابن الجوزي في معرض رده على حكايات الصوفية: (وإذ قد ثبت هذا من أقوال شيوخهم وقعت من بعض أشياخهم غلطات لبعدهم عن العلم، فإن كان ذلك صحيحاً عنهم توجه الرد عليهم بدون محاباة في الحق، وإن لم يصح عنهم حذرنا من مثل هذا القول وذلك المذهب من أي شخص صدر)( ).
د- ثم إن مثل( ) هذه الحكايات موجود عند اليهود والنصارى والمشركين بكثرة، فهل يمكن أن نقبل منهم هذا في صحة مذهبهم؟
فكذلك فيما نحن بصدده لا يمكن أن نقبل الاحتجاج بمثل هذا.
هـ- ثم إن هذه الحكايات -لو صحت من هؤلاء- تكون معارضة للقطعيات من الكتاب والسنة فتكون مردودة.
و- إن العلماء( ) رحمهم الله تعالى بينوا حكم مثل هذه الحكايات والمنامات وأنه لا يجوز إثبات حكم شرعي بالمنامات، حتى في رؤية النبي صلى الله عليه وسلم الذي لا يتمثل به الشيطان كما ورد في الحديث( ). وعللوا ذلك بأن حالة النوم ليست حالة ضبط وتحقيق لما يسمعه الرائي.
والحاصل أن شرع الله تعالى كامل وواضح وهو الكتاب والسنة وإجماع الأمة على ضوئهما، وأما الحكايات والمنامات وكذا القياس في العبادات فخارجة عن شرع الله تعالى ودينه.
ز- إن أغلب تلك الحكايات تدور على أن الله قد استجاب لفلان عندما استغاث بالولي أو عندما دعا عند قبره إلى مثل هذه الحكايات.
فهي تدور على الاستدلال بوقائع أجاب الله فيها الدعاء مع مخالفتها للشرع، وهذا لا يستقيم الاحتجاج به لأمور:(2/244)
1- إننا قد ذكرنا فيما تقدم أن إجابة الدعاء من مقتضى ربوبية الله تعالى، فلهذا إن الله سبحانه وتعالى قد يجيب الدعاء غير المشروع فيجيب الله تعالى أحياناً دعاء المشركين، وقد يستسقون فيسقون ويستنصرون فينصرون، وكانوا كما قال الله تعالى: ((وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا)) [الجن:6]( ).
2- إن الاستجابة( ) التي تحصل في الدعاء غير المشروع قد يكون سببها اضطرار صاحبها واشتداد حاجته فيكشف الله عنه كربته لأن الله سبحانه يجيب دعوة المضطر ولو كان كافراً، قال تعالى: ((كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا)) [الإسراء:20]، وقد يكون سببها حسنة تقدمت منه جعل الله إجابة دعوته شكراً لحسنته، وقد يكون سببها أن صاحبها دعا بحرقة وانكسار وذلة وصدق لجأ فيجيب الله دعوته لما قام بقلبه لا لكون دعائه مشروعاً، أو أن الله يجيبه لمحض فضله ورحمته، أو أن الله يجيبه لكونه وافق ما قدره الله تعالى أو وافق وقت الإجابة، لا لأجل مشروعية دعائه.
3- وقد يكون( ) استدراجاً له، وفي ذلك هلاكه الأبدي، (فكم من عبد دعا دعاء غير مباح فقضيت حاجته فى ذلك الدعاء، وكانت سبب هلاكه في الدنيا والآخرة).
قال تعالى: ((فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ)) [الأنعام:44].
4- إن تأثير الدعاء( ) غير المشروع لا يدل على إباحته فضلاً عن مشروعيته، فنحن نعلم أن السحر يؤثر حقيقة كما هو المذهب الصحيح( )، وهو كفر فلا ملازمة بين التأثير وبين المشروعية كما هو واضح.(2/245)
5- إن( ) فساد هذه الأدعية يربو على مصلحتها، ونفعها قليل وإنما يستجاب لهم في النادر، ولا يبارك لهم حتى في نفس ذلك المطلوب، فهي فتنة في حق من لم يهده الله ولم يفرق بين الأمر الشرعي والأمر الكوني. فتبين بهذا أنه لا ملازمة بين إجابة الدعاء وحصول المقصود به وبين كونه مشروعاً، قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: (وليس مجرد كون الدعاء حصل به المقصود مما يدل على أنه سائغ في الشريعة... فحصول الغرض ببعض الأمور لا يستلزم إباحته، وإن كان الغرض مباحاً، فإن ذلك الفعل قد يكون فيه مفسدة راجحة على مصلحته، والشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها...)( ).
الجواب التفصيلي لبعض تلك الحكايات:
فمن تلك الحكايات التي يستدلون بها ويحتجون بها ويَدعُونَ وقوعَ الاستغاثة بالأموات في الصدر الأول.
أثر مالك الدار:
وهو ما روي عن مالك الدار- وكان خازن عمر على الطعام- قال: (أصاب الناس قحط في زمن عمر فجاء رجل إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله استسق لأمتك فإنهم قد هلكوا فأتى الرجل في المنام فقيل له: ائت عمر فاقرئه السلام وأخبره أنكم مسقون، وقل له: عليك الكيس الكيس، فأتى الرجل عمر فأخبره فبكى عمر رضي الله عنه، ثم قال: (يا رب ما آلو إلا ما عجزت عنه)، وروى سيف بن عمر التميمي في الفتوح أن الذي رأى المنام هو بلال بن الحارث المزني أحد الصحابة.
قد استدل بهذا الأثر جماعة( ) على جواز طلب الدعاء من الرسول صلى الله عليه وسلم بعد وفاته وقاسوا عليه غيره.
الجواب عن هذا من وجهين:
أ- الوجه الأول ما يتعلق بالإسناد.
قد روي هذا الأثر من طريق الأعمش عن أبي صالح عن مالك الدار به أخرجه ابن أبي شيبة وغيره( ).
قد حكم على إسناد هذا الأثر الحافظ ابن كثير بالصحة حيث ذكر هذا الأثر من طريق البيهقي ثم قال: (وهذا إسناد صحيح)( ).(2/246)
وأدق منه عبارة الحافظ ابن حجر فإنه قال: (روى ابن أبى شيبة بإسناد صحيح من رواية أبي صالح السمان عن مالك الدار)( ).
فإن عبارة الحافظ إنما تفيد صحة الإسناد إلى أبي صالح السمان فقط؛ وذلك لأن مالك الدار مجهول الحال، وقد قال فيه كل من الحافظ المنذري والحافظ الهيثمي: لا أعرفه( ).
وهذه الجهالة هي علة هذا الأثر كما ذكرها الشيخ الألباني- حفظه الله- وقال: [إن مالك الدار غير معروف العدالة والضبط وهذان شرطان أساسيان في كل سند صحيح كما تقرر في علم المصطلح، وقد أورده ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل (4/1-213) ولم يذكر راوياً عنه غير أبي صالح هذا، ففيه إشعار بأنه مجهول ويؤيده أن ابن أبي حاتم نفسه- مع سعة حفظه واطلاعه- لم يحك فيه توثيقاً فبقي على الجهالة]( ).
ولكن يمكن أن يقال: إنه غير مجهول، فقد ذكره ابن حجر في الإصابة في القسم الثالث وهم الذين كانوا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وقد أدركوا الجاهلية ولكن لم يرد في خبر قط أنهم اجتمعوا به صلى الله عليه وسلم، وهم المخضرمون( )، وقال: [له إدراك، وسمع من أبي بكر الصديق، وروى عن الشيخين ومعاذ وأبي عبيدة وروى عنه أبو صالح السمان وابناه عون وعبد الله ابنا مالك]( ) فهؤلاء ثلاثة رووا عنه، ثم ذكر الحافظ قصة مروية من طريق عبد الرحمن بن سعيد بن يربوع المخزومي عن مالك الدار، فهؤلاء أربعة من الرواة رووا عنه، فبهذا ترتفع عنه الجهالة، ويؤيد ذلك أن ابن سعد ذكره في الطبقة الأولى من التابعين في أهل المدينة، وقال: [كان معروفاً]( ).
وقال أبو عبيدة: [ولاه عمر كيلة عيال عمر، فلما قدم عثمان ولاه القسم، فسمي (مالك الدار) وقال إسماعيل القاضي عن علي بن المديني: كان مالك الدار خازناً لعمر]( ).
وذكره خليفة في حلفاء بني عدي وقال: (مولى عمر بن الخطاب)( ).
ويقال في سكوت ابن أبي حاتم( ) والبخاري( ) إن ذلك لا يستلزم جهالته، لاسيما إذا عرفه غيرهما.(2/247)
ولكن يمكن أن يقال: إن ما سبق يفيد أنه ترتفع عنه جهالة العين فقط ولم ترتفع جهالة الحال إلا أنه يقال: إن قول ابن سعد وكان معروفاً يفيد رفع جهالة الحال لكنه غير صريح في التوثيق.
ولو سلمنا أنه مجهول الحال فقط يمكن أن يقال: إن مجهول الحال إنما يقبل حديثه عند الجمهور إذا لم يأت بما ينكر عليه، كما ذكره الذهبي( ).
وهنا قد أتي بما ينكر عليه، وتفرد بحادثة تتوافر الهمم على نقل مثلها. فتحصل من هذا أن علة هذا الأثر هو تفرد مالك الدار مع كونه مجهول الحال -بحادثة تعد من أهم الحوادث العظيمة- وهي مما تتوافر الهمم على نقله.
وأما إعلاله( ) بعدم علم سماع أبي صالح السمان من مالك الدار، وكذلك إدراكه له فقد يقال فيه: إنه سمع من بعض كبار الصحابة كسعد بن أبي وقاص وأبي هريرة وغيرهما، واللقاء ممكن لأن كليهما مدنيان ولا تضر عنعنته لأنه لم يوصف بالتدليس، فالإسناد على شرط مسلم في الاقتصار على إمكان اللقاء مع المعاصرة، ولكن لا يزال احتمال عدم السماع وارداً ما دام أننا لم نعلم تاريخ وفاة مالك، ولم يصرح أبو صالح بالسماع.
وأما إعلاله( ) بعنعنة الأعمش لكونه مدلساً فقد يقال: إن الحافظ الذهبي ذكر أن الأعمش إذا روى عن كبار شيوخه الذين أكثر عنهم كأبي صالح السمان- كما هنا- وأبي وائل وإبراهيم النخعي، فإن روايته المعنعنة عن هذا الصنف تحمل على السماع( ).
فتبين من هذا أن أقوى العلل التي في الأثر تفرد مالك الدار بهذه الحادثة العظيمة مع جهالة حاله.
الوجه الثاني: ما يتعلق بالمتن:
أ- إن الذي يظهر -والله أعلم- أنه قد حصل زيادة في القصة وتغيير، ومما زيد فيها قصة مجيء الرجل إلى القبر، وهذه الزيادة ضعيفة منكرة، وإنما الذي يمكن أن يتقوى من الأثر هو رؤية الرجل المنام. ويدل على هذا عدة أمور:(2/248)
1- إن الإمام البخاري -رحمه الله- ذكر هذا الأثر فاقتصر على قول عمر رضي الله عنه: [[يا رب ما آلو إلا ما عجزت عنه]]( ) ولم يذكر مجيء الرجل إلى القبر، فهذا يدل على أن ذلك مما زيد في الرواية.
2- ومما يدل أيضاً على أن قصة مجيء الرجل إلى القبر ضعيفة ما رواه عبد الرزاق بن همام الصنعاني عن معمر بن راشد عن إسماعيل أبي المقدام عن عبد الله بن عبيد بن عمير قال: [أصاب الناس سنة، وكان رجل في بادية فخرج فصلى بأصحابه ركعتين، واستسقى ثم نام، فرأى في المنام أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه، وقال: اقرىء عمر السلام وأخبره أن الله قد استجاب لكم وكان عمر قد خرج فاستسقى أيضاً، وأمره فليوف العهد وليشد العقد، قال: فانطلق الرجل حتى أتى عمر فقال: استأذنوا لرسول رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فسمعه عمر فقال: من هذا المفتري على رسول الله؟ فقال الرجل: لا تعجل علي يا أمير المؤمنين فأخبره الخبر، فبكى عمر]( ).
وهذا الإسناد رجاله ثقات وابن عمير ثقة من أوساط التابعين من الثالثة( ) ويمكن ادعاء عدم لقائه عمر وأن فيه انقطاعاً والله أعلم.
وفي إسماعيل أبي المقدام كلام لا يضر لأن معمراً عندما سئل عنه أشار إلى أنه لم يكثر من الرواية عنه لعدم إتيانه بالكلام على وجهه( )، وهنا من رواية معمر فكأنه انتقى من أحاديثه ما أتى به على وجهه.
فهذا الأثر يبين أن الرجل فعل المشروع وهو الخروج إلى الصحراء ثم الصلاة وطلب السقيا من الله تعالى، ولم يأت القبر، والذي رآه في المنام بعد فعل المشروع لا مانع منه من ناحية الشرع.
وهذا يدل على أن الرواية التي فيها أنه أتى القبر غير صحيحة ولا يقال: إن هذه القصة غير تلك القصة وذلك لأن الحمل على التعدد شأن غير المحققين من المحدثين، الذين كلما رأوا اختلافاً في ألفاظ الحديث أو نوع اختلاف في المعنى حملوه على التعدد، وأما المحققون فلا يرون ذلك كما ذكره ابن القيم( ) -رحمه الله-.(2/249)
3- ومما يؤيد أثر عبد الله بن عبيد بن عمير رواية سيف بن عمر عن سهل بن يوسف السلمي عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك قال: كان عام الرمادة في آخر سنة سبع عشرة وأول سنة ثماني عشرة، أصاب أهل المدينة وما حولها جوع فهلك كثير من الناس حتى جعلت الوحوش تأوي إلى الأنس، فكان الناس بذلك حتى أقبل بلال بن الحارث المزني فاستأذن على عمر فقال: أنا رسولُ رسول الله إليك، يقول لك رسول الله صلى الله عليه وسلنم: {لقد عهدتك كيساً، وما زلت على ذلك فما شأنك؟ قال: متى رأيت هذا؟ قال: البارحة، فخرج فنادى في الناس الصلاة جامعة، فصلى بهم ركعتين ثم قام، فقال: أيها الناس أنشدكم الله هل تعلمون مني أمراً غيره خير منه؟ فقالوا: اللهم لا، فقال: إن بلال بن الحارث يزعم ذية وذية. قالوا: صدق بلال فاستغث بالله ثم بالمسلمين... وأخرج الناس إلى الاستسقاء فخرج وخرج معه العباس بن عبد المطلب ماشياً فخطب وأوجز وصلى ثم جثا لركبتيه وقال: اللهم إياك نعبد وإياك نستعين، اللهم اغفر لنا وارحمنا وارض عنا...}( ).
فهذا الأثر- وإن كان ضعيفاً لأن سيف بن عمر قال فيه الحافظ: ضعيف الحديث عمدة في التاريخ أفحش ابن حبان القول فيه( ) - إلا أنه يدل على أن ما يتوهم من عبارة الحافظ في الفتح( ) من أن الرجل الذي أتى القبر هو بلال بن الحارث المزني- كما رواه سيف في الفتوح- غير صحيح لأن الحافظ لم ينقل لنا لفظ الأثر عند سيف كما هو، وفي الحقيقة الأثر يدل بوضوح وجلاء على أن بلالاً لم يأت القبر وإنما رأى رؤيا في المنام، وهو يؤيد ما تقدم من أثر ابن عمير وبهذا تسقط دعوى أن الرجل الذي أتى القبر صحابي وأن الحافظ صححه.
4- ويشهد له أيضاً ما رواه سيف أيضاً عن مبشر بن الفضيل عن جبير بن صخر عن عاصم بن عمر بن الخطاب أن رجلاً من مزينة عام الرمادة سأله أهله أن يذبح لهم شاة.
وفيه أنه ذبح الشاة ورأى في المنام الرسول صلى الله عليه وسلم وأمره بإتيان عمر( )...(2/250)
فهذه الرواية- وإن كانت ضعيفة- إلا أنها تدل كسابقتها على أن الرجل لم يأت القبر وإنما رأى المنام فقط.
ب- وأما لو قلنا: إن الرواية لم يحصل فيها زيادة فنقول في الجواب:
1- إنها على فرض صحتها لا يصح الاستدلال بها؛ لأن الرجل الذي فعل لم يعرف من هو؟ وحتى لو عرف فلا حجة في فعل آحاد الصحابة إذا خالف السنة كما هنا وقد تقدم ذلك، ولا يقال إن عمر( ) أقره لأنه ربما لم يخبره بالمجيء إلى القبر وإنما أخبره بالرؤيا فقط وليس في الرواية أنه أخبره بالمجيء إلى القبر.
3- إن مجيء الرجل إلى القبر يخالف السنة التي شرعها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي الخروج إلى الصحراء للاستسقاء.
وهكذا فعل الخلفاء الراشدون وكبار الصحابة فلم ينقل أنهم يستسقون بالمجيء إلى القبر.
4- إنها لو صحت يدل قوله صلى الله عليه وسلم: {عليك الكيس الكيس} على أنه صلى الله عليه وسلم أمر عمر بالمشروع وهذا هو الذي فهمه عمر من الرؤيا، حيث أسرع في الاستسقاء بالناس على الوجه المشروع.
5- ثم إن الرؤيا ليست من الأدلة الشرعية كما هو معروف ولا يقال( ) يستدل بإقرار النبي صلى الله عليه وسلم على فعله حيث لم يؤنبه في المنام- لأنه صلى الله عليه وسلم كان في الدنيا ربما يعطي السائل المسألة وهو كاره له، وقد قال في حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه: [إنهم خيروني أن يسألوني بالفحش أو يبخلوني فلست بباخل]( ).
وقد علم أن الدعاء غير المشروع قد يجاب لأسباب ككون الداعي مضطراً أو ما يخشى عليه من الفتنة إذا لم يستجب له( )، فلهذا فهذه الرؤية على فرض وقوعها- بعد الذهاب إلى القبر- لا تدل على تحسين النبي صلى الله عليه وسلم وإقراره لعمل الرائي من المجيء إلى القبر والطلب منه الاستسقاء.
أثر فتح الكوة:(2/251)
وهو ما روي أن أهل المدينة قحطوا قحطاً شديداً فشكوا إلى عائشة فقالت:انظروا قبر النبي صلى الله عليه وسلم فاجعلوا منه كواً إلى السماء حتى لا يكون بينه وبين السماء سقف، قال: ففعلوا، فمطروا مطراً حتى نبت العشب وسمنت الإبل حتى تفتقت من الشحم فسمي عام الفتق.
قد احتج( ) به على جواز التوسل بالذوات..
الجواب عن هذا الأثر من وجهين.
الوجه الأول: ما يتعلق بنقد الإسناد:
أخرج هذا الأثر الدارمي في سننه( ): حدثنا أبو النعمان، ثنا سعيد بن زيد، ثنا عمرو بن مالك النكري حدثنا أبو الجوزاء أوس بن عبد الله قال: قحط أهل المدينة.. إلخ.
فهذا الإسناد فيه عدة علل:
1- سعيد بن زيد فيه ضعف( ).
2- إن أبا النعمان محمد بن الفضل وهو الملقب بعارم قد اختلط، ولم يذكر الدارمي فيمن سمع منه قبل الاختلاط( ).
3- إن الأثر لو صح فهو موقوف، فلا حجة فيه لأنه يمكن أن يكون من قبيل الاجتهادات التي تقع من آحاد الصحابة، وقد تقدم أن فعل الصحابي إذا خالف السنة لا يحتج به.
وقد ذكر هذه العلل الثلاث( ) الشيخ الألباني -حفظه الله- وبقي في الأثر علتان أخريان رابعة وخامسة( )، وهما:
4- إن عمرو بن مالك النكري قال فيه ابن عدي في ترجمة أبي الجوزاء: [حدث عنه عمرو بن مالك قدر عشرة أحاديث غير محفوظة]( ).
وهذا الأثر من روايته عنه فيكون غير محفوظ.
وقال البخاري أيضاً في أبي الجوزاء: [في إسناده نظر]( ).(2/252)
وقد ذكر الحافظ ابن حجر أن كلام البخاري هذا يحمل على رواية خاصة وهي رواية عمرو بن مالك النكري عن أبي الجوزاء والنكري ضعيف عنده( )، أي البخاري، وقال ابن حبان في ترجمة ابنه يحيى بن عمرو بن مالك النكري: [كان منكر الرواية عن أبيه- يريد يحيى- ثم قال: ويحتمل أن يكون السبب في ذلك منه أو من أبيه أو منهما معاً، ولا نستحل أن يطلق الجرح على مسلم قبل الاتضاح، بل الواجب تنكب كل رواية يرويها عن أبيه لما فيها من مخالفة الثقات والوجود من الأشياء المعضلات، فيكون هو وأبوه جميعاً متروكين من غير أن يطلق وضعها على أحدهما....]( ).
فيفهم من هذا أن ابن حبان متوقف فيه لا يوثقه ولا يجزم بجرحه ومع هذا فقد ذكره في الثقات وقال: (ويعتبر حديثه من غير رواية ابنه عنه (ت:129هـ) يخطىء ويغرب)( ).
ولكن هذا ليس توثيقاً مطلقاً فإنه إنما يفيد أنه يعتبر به فى المتابعات والشواهد ولا يفيد أنه يقبل تفرده.
وقد ذكره ابن أبي حاتم ولم يذكر فيه جرحاً ولا تعديلاً( ) مما يوحي إلى جهالة حاله عنده.
لكن ابن معين قال فيه: ثقة( ).
ووثقه الذهبي أيضاً( ).
وقال الحافظ ابن حجر: (صدوق له أوهام)( ).
فتبين مما سبق أن النكري روايته عن أبي الجوزاء كما هنا، غير محفوظة كما قاله ابن عدي، وأنه ضعيف عند البخاري كما قاله الحافظ، ويعتبر به فقط عند ابن حبان على ما قاله في الثقات، ويتوقف في أحاديثه على ما مال إليه في المجروحين إذا كان من رواية ابنه عنه. ولم نجد له توثيقاً من المتقدمين إلا ابن معين، فيعارض هذا التوثيق بجرح البخاري وابن حبان وابن عدي وهم أكثر عدداً منه، وجرح بعضهم مفسر لاسيما إذا روي عن أبي الجوزاء، كما هنا فيقدم على توثيق ابن معين والذهبي وابن حجر.
فتحصل من هذا أنه لا يقبل فيما تفرد به لاسيما عن أبي الجوراء كما هنا وإنما يعتبر به في المتابعات والشواهد.(2/253)
5- الانقطاع بين عائشة رضي الله عنها وبين أبي الجوزاء أوس بن عبد الله الربعي فقد قال البخاري: (في إسناده نظر)( ).
وقد حمل ابن عدي كلام البخاري هذا على أنه يريد أنه لم يسمع من مثل ابن مسعود وعائشة وغيرهما، لا أنه ضعيف عنده( ).
وقال ابن عدي أيضاً: وأبو الجوزاء روى عن الصحابة ابن عباس وعائشة وابن مسعود وغيرهم وأرجو أنه لا بأس به ولا يصحح روايته عنهم أنه سمع منهم( ).
وممن ذكر عدم سماعه عن عائشة الحافظ ابن عبد البر، قال أبو زرعة ابن الحافظ العراقي: (وذكر ابن عبد البر في التمهيد أنه لم يسمع من عائشة وحديثه عنها مرسل)( )ونقله عن ابن عبد البر أيضاً الحافظ في التهذيب فأقره( ).
فهؤلاء الحفاظ البخاري وابن عدي وابن عبد البر والعراقى وابن حجر يقررون عدم سماعه من عائشة، فاتضح بهذا أن فيه انقطاعاً.
وبهذه العلل الخمس يتبين ضعف إسناد الأثر ضعفاً شديداً لأن الواحدة منها تكفي لرده فكيف وهي مجتمعة؟؟
الوجه الثاني: ما يتعلق بنقد المتن:
وأما ما يتعلق بنقد متن هذا الأثر فعلى وجوه:
1- إن هذا( ) الأثر يخالف ما ثبت من الصحابة باتفاق أهل العلم من استسقائهم بالدعاء المشروع إما في المسجد في خطبة الجمعة ونحوها، وإما بالخروج إلى الصحراء وهذا ثابت عنهم قطعاً.
ومن المعلوم أن من علامة وضع الحديث مخالفته للقطعي.(2/254)
2- ومما يبين( ) كذب هذه الرواية أنه لم يكن في حياة عائشة للبيت كوة بل كان بعضه باقياً على ما كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، بعضه مسقوف وبعضه مكشوف، وكانت الشمس تنزل فيه كما ثبت في الصحيحين عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي العصر والشمس في حجرتها لم يظهر الفيء بعد( )، ولم تزل الحجرة كذلك حتى زاد الوليد بن عبد الملك في المسجد وأدخلت الحجر في المسجد، ثم بنى حول حجرة عائشة التي فيها القبر جداراً عالياً، وبعد ذلك جعلت الكوة لينزل منها إذا احتيج إلى ذلك لأجل كنس أو تنظيف، وأما وجود الكوة في حياة عائشة فكذب بين.
3- ولو صح( ) هذا الأثر- لكان حجة ودليلاً على أن القوم لم يكونوا يقسمون على الله بمخلوق ولا يتوسلون في دعائهم بميت ولا يسألون الله به، وإنما فتحوا على القبر لتنزل الرحمة عليه، ولم يكن هناك دعاء يقسمون به عليه فأين هذا من هذا؟؟
حكاية الإمام مالك مع المنصور:
وهي ما روي من طريق يعقوب بن إسحاق بن أبي إسرائيل، حدثنا ابن حميد قال: ناظر أبو جعفر أمير المؤمنين مالكاً في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له مالك: يا أمير المؤمنين لا ترفع صوتك في هذا المسجد،... فاستكان لها أبو جعفر، وقال: يا أبا عبد الله، أأستقبل القبلة وأدعو أم أستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: ولِمَ تصرف وجهك عنه، وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم- عليه السلام- إلى الله تعالى يوم القيامة؟ بل استقبله واستشفع به، فيشفعك الله، قال الله تعالى: ((وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا))( ) [النساء:64]، وقد احتج بهذه الحكاية جماعة( ) على جواز التوسل بالذوات.
مناقشة هذه الحكاية رواية ودراية:
فأما رواية فإن في إسناد هذه الحكاية العلل التالية:(2/255)
العلة الأولى: محمد بن حميد الرازي راوي الحكاية عن مالك متهم بالكذب، قال البخاري: في حديثه نظر، وقال النسائي: ليس بثقة، وقال الجوزقاني: رديء المذهب، غير ثقة، وقال إسحاق بن منصور الكوسج:
أشهد على محمد بن حميد وعبيد بن إسحاق العطار بين يدي الله أنهما كذابان، وقال صالح بن محمد: كل شيء يحدثنا ابن حميد كنا نتهمه فيه، وقال أبو زرعة وابن وارة: صح عندنا أنه يكذب، وقد وثقه أحمد وابن معين، والراجح عدم توثيقه، وأما الذين وثقوه فعذرهم أنهم لم يعرفوه، قال ابن خزيمة عندما قيل له: لو حدث الأستاذ عن محمد بن حميد فإن أحمد قد أحسن الثناء عليه، قال: إنه لم يعرفه ولو عرفه كما عرفناه ما أثنى عليه أصلاً( ).
والسبب في هذا أن الذين كذبوه هم أهل بلده من الخراسانيين الذين خبروا حاله عن كثب، ولعله عندما اجتمع بأحمد وابن معين ببغداد اختار لهم أحاديثه الصحيحة، ويدل لذلك قول ابن معين عندما سأل أبا حاتم الرازي: أي شيء تنقمون عليه؟ فأخبره السبب، فذكر ابن معين أنه عندما قدم أخذوا منه كتاب يعقوب القمي ففرقوا الأوراق وسمعوه( )، فهذا يدل على الرجوع عن توثيقه، وهناك رواية تدل على رجوع أحمد عن توثيقه ذكرها ابن حبان من طريق صالح بن أحمد عن أبيه( ).
وبهذا نصل إلى أن جرحه مقدم على توثيقه للأمور التالية:
1- إنه جرح مفسر.
2- إن الذين جرحوه، بعضهم من أهل بلده وهم أخبر بحاله.
3- ثم هناك ما يدل على أن الذين وثقوه رجعوا عن توثيقه عندما أخبروا بحاله الحقيقي.
وبهذا يسقط اتهام الكوثري لابن عبد الهادي بإهمال كلام من أثنى عليه، وأنه يذكر الجرح ويغفل التعديل في الأدلة التي تساق ضد شذوذ شيخه( )، يعني ابن تيمية، هكذا زعم الكوثري، ولكن هذه التهمة ساقطة لأن ابن عبد الهادي من النقاد الكبار، يعرف أن ثناء من أثنى عليه لا قيمة له مع ثبوت الجرح المفسر فيتركه.(2/256)
ثم إن الكوثري نفسه رجح عدم توثيقه في مكان آخر فقال في المقالات:محمد بن حميد الرازي مختلف فيه، وقد كذبه كثيرون أشنع تكذيب( ).
كما قال في موضع آخر: (لا يحتج به عند كثيرين)( ).
وما هذا إلا من التناقض العجيب الذي يقع فيه من يتبع الهوى.
العلة الثانية: الانقطاع بين ابن حميد هذا وبين مالك بن أنس الإمام فإنه لم يسمع من مالك ولم يلقه( ) ويدل على هذا أمور:
1- أن مولده كما قال الذهبي في حدود الستين ومئة( ) وتوفي مالك عام (179هـ).
2- ولم يخرج من بلده حين رحل في طلب العلم إلا وهو كبير مع أبيه كما قاله شيخ الإسلام( ).
3- ويؤكد هذا أن أبا جعفر المنصور قد حج عدة مرات:في عام (140هـ) و(144 و147 و152)، وهذه الأعوام هي التي يمكن أن يجتمع بمالك في المدينة، وأما حجته الأخيرة وهي عام (158) فقد توفي في الحج ولم يصل المدينة( )، ولا يمكن لابن حميد أن يحضر المناظرة في هذه الأعوام التي أشرنا إليها؛ لأنه لا يمكن أن يحضر المدينة في آخر قدمة قدمها المنصور وهو عام (152) لأمرين:
الأول: أنه لم يولد إلا في حدود الستين كما قاله الذهبي، فهذه المناظرة على فرض صحتها قبل ولادته.
الثاني: لو فرضنا ولادته لا يمكن حضوره المناظرة لأنه لم يرحل إلا وهو كبير، وهو في خراسان، والقصة في المدينة.
وقد حاول الكوثري نفي هذا الانقطاع بأن عمر ابن حميد عند وفاة مالك لا يقل عن نحو خمس عشرة سنة، وهذا الذي قاله يشهد عليه لا له؛ لأن المناظرة على فرض وقوعها حصلت على أكبر تقدير عام (152هـ)، وبين هذا التاريخ ووفاة مالك عام (179هـ) سبع وعشرون سنة، وباعترافه هذا فابن حميد ولد بعد المناظرة قطعاً، وليس من أهل المدينة ولم يرحل إلا بعد ما كبر وتوفي عام (248هـ).
العلة الثالثة: إن في الطريق إلى ابن حميد من ليس بمعروف كما قاله شيخ الإسلام( ).
وقال ابن عبد الهادي: (إسناد مظلم منقطع وهو مشتمل على من يتهم بالكذب، وعلى من يجهل حاله)( ).(2/257)
العلة الرابعة: إن مالكاً -رحمه الله- لو ثبت عنه- وهيهات ذلك- لم يسندها فهي مقطوعة فليس في ذلك حجة بل الحجة فيما ثبت بالكتاب والسنة.
العلة الخامسة( ): إن محمد بن حميد تفرد برواية هذه الحكاية عن مالك، حيث لم يذكرها أحد من أصحاب مالك المعروفين بالأخذ عنه وهو ضعيف عند أهل الحديث إذا أسند فكيف إذا أرسل حكاية لا تعرف إلا من جهته؟ وأصحاب مالك متفقون على أنه بمثل هذا النقل لا يثبت عن مالك قول له في مسألة في الفقه، بل إذا روى عنه الشاميون ضعفوا روايتهم وإنما يعتمدون على رواية المدنيين والمصريين، فكيف بحكاية تناقض مذهبه المعروف عنه من وجوه كثيرة رواها واحد من الخراسانيين لم يدركه وهو ضعيف عند أهل الحديث؟؟
وقد قال الخطابي في مثل هذا: (فتجد أصحاب مالك لا يعتمدون من مذهبه- أي في الفقه- إلا ما كان من رواية ابن القاسم والأشهب وضربائهم من تلاد أصحابه، فإذا جاءت رواية عبد الله بن عبد الحكم وأضرابه لم تكن عندهم طائلاً... فإذا كان هذا دأبهم وكانوا لا يقنعون في أمر هذه الفروع وروايتها عن هؤلاء الشيوخ إلا بالوثيقة والثبت، فكيف يجوز لهم في الأمر الأهم والخطب الأعظم؟)( ).
ويؤيد هذا الوجه أن من القواعد المقررة عند النقاد أن الشيخ إذا كان ممن يجمع حديثه ويشترك في الأخذ عنه كثيرون من الحفاظ المتقنين وذلك كمالك والثوري وشعبة والأعمش، ثم انفرد عن هؤلاء التلاميذِ الحفاظِ أحدٌ من الرواة ولم يكن من الحفاظ المتقنين، فإن روايته ترد كما ذكره مسلم في مقدمة صحيحة( ) وغير واحد من النقاد.
مناقشة هذه الحكاية دراية:
1- إن هذه( ) الحكاية تخالف ما ثبت عن مالك رحمه الله من نهيه عن الوقوف عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم.(2/258)
وهذا ثابت عن مالك بأسانيد الثقات في كتب أصحابه كما ذكره إسماعيل بن إسحاق القاضي وغيره مثل العتبي. فقد ذكروا عن مالك أنه سئل عن أقوام يطيلون القيام مستقبلي الحجرة يدعون لأنفسهم فأنكر مالك ذلك( ). وقد حاول الكوثري تضعيف( ) رواية إسماعيل القاضي بحكاية ابن حميد هذه وأن ابن وهب روى ما يخالفها وقد تقدم أن رواية ابن وهب لا تخالف الرواية المشهورة. كما حاول الغماري الجمع بين الروايتين نقلاً عن غيره: بأن المنع من الدعاء عند القبر للعوام الذين يخاف عليهم سوء الأدب. وأن هذه الحكاية فيمن يعلم آداب الدعاء كالمنصور( ).
وهذا الجمع غير صحيح لأن هذه الحكاية غير ثابتة عنه حتى يجمع بينهما وبين ما ثبت مما يخالفها، ثم إن منع مالك عام يشمل الجميع فمن تأمل الألفاظ الواردة عن مالك في النهي عن الوقوف، يعرف أنه يمنع الوقوف عند القبر للدعاء مطلقاً، وأحكام الشريعة الغراء تأتي عامة شاملة لا تخص طائفة دون طائفة.
2- إن مالكاً( ) -رحمه الله- كان من أبعد الناس عن البدع، وقد كره قول الرجل: زرت قبر النبي صلى الله عليه وسلم وكره تتبع( ) الآثار التي بالمدينة حتى كره زيارة قباء مع وروده، وكل ذلك للمحافظة على السنة، فإذا كان الأمر كذلك فلا يمكن أن يأمر بما لم يثبت بالسنة من الدعاء عند القبر.
3- إن( ) هذه الرواية تخالف ما ثبت عن السلف، فالآثار الواردة عنهم تدل على أن هذا ليس من عملهم ولا عاداتهم، فلو كان استقبال الحجرة عند الدعاء مشروعاً لكانوا أسبق إلى ذلك لحرصهم على الخير.
4- إن لفظ( ) الرواية فيها ركاكة من الناحية اللغوية في قوله: (استشفع به فيشفعك الله) لأن الاستشفاع به معناه في اللغة أن يطلب منه الشفاعة كما يستشفع به يوم القيامة، وإذا كان المراد به الاستشفاع منه أي طلب شفاعته فإنما يقال: (استشفع به فيشفعه الله فيك) ولا يقال فيشفعك الله فيه.(2/259)
وهذا اللفظ الذي في الحكاية يشبه لفظ كثير من العامة الذين يستعملون لفظ الشفاعة في معنى التوسل، فيقول أحدهم اللهم إنا نستشفع إليك بفلان أي نتوسل به وهذا ليس لغة السلف ولا لغة العرب.
5- ثم إن عقد المناظرة بين العلماء والخلفاء غير معروف في التاريخ غالباً لأن المناظرة إنما تعقد بين العلماء، وقد تكون في بعض الأحيان القليلة بحضور بعض الخلفاء وإشرافهم.
وقد ذكر العلماء المناظرة بين مالك وأبي حنيفة وبين مالك وأبي يوسف بحضور بعض خلفاء بني العباس.
6- ثم لو صحت( ) هذه الحكاية يمكن أن يكون مالك نهى عن رفع الصوت في مسجده صلى الله عليه وسلم، ويكون مالك آمراً بما أمر الله به من توقيره وتعزيره صلى الله عليه وسلم، لكن وقع تحريف في ألفاظ الحكاية.
فعلى فرض صحتها ليس معنى التوسل الذي في الحكاية هو التوسل في الدنيا بل هو التوسل بشفاعته يوم القيامة، ولكن من الناس من يحرف نقلها مع أن أصلها ضعيف.
والحاصل( ) أن هذه الحكاية على هذا الوجه إما أن تكون في غاية الضعف والوهن مكذوبة على مالك أو تكون مغيرة، وإما آن تفسر بما يوافق مذهب الإمام مالك -رحمه الله تعالى-، فعلى كل تقدير فليس فيها حجه.
حكاية توسل الشافعي بأبي حنيفة -رحمهما الله تعالى-:
وهي ما روي من طريق عمر بن إسحاق بن إبراهيم قال: نبأنا علي بن ميمون قال: سمعت الشافعي يقول: (إني لأتبرك بأبي حنيفة وأجيء إلى قبره في كل يوم- يعني زائراً- فإذا عرضت لي حاجة صليت ركعتين، وجئت إلى قبره، وسألت الله تعالى الحاجة عنده فما تبعد عني حتى تقضى)( ).
1- وقد احتج يهذه الحكاية جماعة( ) على التوسل بالذوات والدعاء عند القبور.(2/260)
وسند هذه الحكاية ضعيف وليس بصحيح كما زعمه بعضهم( ) وذلك لأن فيه عمر بن إسحاق بن إبراهيم، وهو غير معروف( ). ثم إنه يظهر جلياً كذب هذه الحكاية من جهة المعنى، قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: هذا كذب معلوم كذبه بالاضطرار عند من له معرفة بالنقل فالشافعي لما قدم بغداد لم يكن ببغداد قبر ينتاب للدعاء عنده ألبتة، بل ولم يكن هذا على عهد الشافعي معروفاً.
2- وقد رأى الشافعي بالحجاز واليمن والشام والعراق ومصر من قبور الأنبياء والصحابة والتابعين من كان أصحابها عنده وعند المسلمين أفضل من أبي حنيفة وأمثاله من العلماء، فما باله لم يتوخ الدعاء إلا عنده؟
3- ثم إن أصحاب أبي حنيفة الذين أدركوه مثل أبي يوسف ومحمد وغيرهما، لم يكونوا يتحرون الدعاء لا عند أبي حنيفة ولا غيره.
4- ثم قد تقدم عن الشافعي ما هو ثابت في كتابه من كراهة تعظيم قبور المخلوقين خشية الفتنة بها( ).
5- ومما يؤكد كذب هذه الحكاية ما ذكر من مجيء الشافعي إلى قبر أبي حنيفة كل يوم، وهذه مبالغة مكشوفة، إذ لا يتصور في العقل أن الشافعي ليس له عمل كل يوم إلا التردد إلى المقبرة، والوقوف لديها. حكاية التوسل بقبر موسى الكاظم:
وهي ما روي عن الحسن بن إبراهيم الخلال يقول: (ما همني أمر فقصدت قبر موسى بن جعفر فتوسلت به إلا سهل الله لي ما أحب)( ). احتج بهذه الحكاية جماعة( ) على جواز التوسل بالذوات والدعاء عند القبور.
الجواب:
إن الحكايات، والمنامات لا تقوم بها حجة في شرع الله الذي أكمله الله وأتمه على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: ((الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي..)) [المائدة:3].(2/261)
وهذه الحكاية تؤكد ما سبق عند ذكر أسباب انتشار دعاء غير الله تعالى من أن الشيعة لهم أثر في نشر ذلك، إذ موسى الكاظم -رحمه الله- تعالى يَدعُون أنه من أئمتهم الإثني عشر، فاقتدى بهم جهال أهل السنة في التردد على مقبرتهم والدعاء عندها أو دعائها.
شبهة( ) الوساطة والشفاعة:
ولهؤلاء المدافعين عن دعاء الموتى والاستغاثة بهم شبه نظرية أرادوا بها إثبات مشروعية نداء الأموات من دون الله تعالى والاستغاثة بهم، وهذه الشبه النظرية هي من باب قياس الخالق بالمخلوق مع عدم المماثلة، ومن تلك الشبه شبهة الوساطة والشفاعة:
إذ قالوا نحن مذنبون بعيدون عن الله تعالى وليس لنا قدر ولا جاه عند الله فلذا نجعل أحبابه وأولياءه وسطاء بيننا وبينه، لما نعلم من أن لهم عند الله جاهاً ومنزلة وقدراً فلا يرد شفاعتهم ووساطتهم، كما أن الملوك يتشفع لديهم بالمقربين لديهم من الوزراء والندماء وفي ذلك سلوك للأدب مع الله تعالى لعدم، أهليتنا لخطاب الله تعالى وعدم معرفتنا لآداب خطابه، كما أن في ذلك سرعة لقضاء حوائجنا( ).
الجواب من وجوه:
الوجه الأول:
إن هذه العقيدة هي عقيدة المشركين، فهم لا يعتقدون غير الوساطة والشفاعة لمعبوديهم. قال تعالى: ((وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ)) [يونس:18].
وقال تعالى: ((وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى)) [الزمر:3].(2/262)
قال الفخر الرازي في تفسير هذه الآية: (وحاصل الكلام لعباد الأصنام أن قالوا: إن الإله الأعظم أجل من أن يعبده البشر لكن اللائق بالبشر أن يشتغلوا بعبادة الأكابر من عباد الله، مثل الكواكب ومثل الأرواح السماوية ثم إنها تشتغل بعبادة الإله الأكبر فهذا هو المراد من قولهم: ((مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى)) [الزمر:3]( ).
فهذه الآية نص قاطع في أن عبادتهم لغير الله ليست إلا لشيء واحد وهو طلب القربى والزلفى إلى الله تعالى وذلك لأن الآية وردت بصيغة القصر والحصر وهي النفي والاستثناء ففي الاية حصر غرض عبادة الأولياء في التقريب إلى الله تعالى.
وقال تعالى: ((أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ)) [الزمر:43].
وقال تعالى: ((فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً)) [الأحقاف:28].
والقربان: ما يتقرب به إلى المعبود كما هو معروف وفسره به العلماء.
وإنما قيل للآلهة قرباناً لما أنها غير مقصودة لذواتها ألا تراه يقول في غير هذا الموضع ((شفعاء)) ويحكى ((لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى))( ).
وقال تعالى في قصة صاحب آل يس: ((أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا)) [يس:23].
فهذه الآيات قد دلت على أن مقصود المشركين الأوائل هو الشفاعة والوساطة لا غير.
ثم إن الذين يدعون الملائكة والصالحين على عدة( ) أنواع وكلهم مجمعون على اعتقاد الشفاعة وهم أربع فرق:
1- ففرقة قالت:ليس لنا أهلية مباشرة دعاء الله ورجائه بلا واسطة تقربنا إليه وتشفع لنا لعظمته، فتوهموا أن عبادة الواسطة أشد في تعظيم الله من عبادته.
2- وفرقة قالت:الأنبياء والملائكة ذو وجاهة عند الله ومنزلة عنده، فاتخذوا صورهم من أجل حبهم لهم ليقربوهم إلى الله زلفى.
3- وفرقة جعلتهم قبلة في دعائها وعبادتها.(2/263)
4- وفرقة اعتقدت أن لكل صورة مصورة على صورة الملائكة والأنبياء وكيلاً موكلاً بأمر الله، فمن أقبل على دعائه ورجائه وتبتل إليه قضى ذلك الوكيل ما طلب منه بأمر الله وإلا أصابته نكبة بأمره تعالى.
والحاصل أن المشركين بأصنافهم من عبدة الملائكة والأنبياء والكواكب والأوثان والفلاسفة الذين يعتقدون في العلويات، كلهم يقصدون من دعائهم لمعبوديهم التقريب والوساطة، وإنما يدعون الأصنام والأوثان والهياكل باعتبار أنها تماثيل للصالحين وهي من وسائل التقريب فقط، وهذا حاصل عقيدتهم ومنتهى مزاعمهم، فلم يقولوا: إن المطلوب الذي يطلبونه صار رهيناً في أيدي الوسائط والشفعاء وأنهم مسلطون على الرفع والوضع والنفع والدفع والعطاء والمنع، ويدل على ذلك التعبير القرآني بالشفعاء والقربان والحكاية عنهم بيقربونا، وأن مصب إنكار الأنبياء عليهم هو اتخاذهم للشفعاء( ).
هذه الشبهة جاءت إليهم من قبل تعظيمهم في الظاهر لله تعالى وهي من كيد الشيطان. قال عبد الرحمن بن مهدي: (قد هلك قوم من هذا الوجه قالوا: الله أعظم من أن ينزل كتاباً أو يرسل رسولاً وثم قرأ: ((وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ)) [الأنعام:91] ثم قال: فهل هلكت المجوس إلا من جهة التعظيم، قالوا: الله أعظم من أن نعبده نحن ولكن نعبد من هو أقرب إليه منا، فعبدوا الشمس وسجدوا لها فأنزل الله: ((وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى))( ) [الزمر:3].
وقد اتضح مما سبق أن هؤلاء الذين يدعون الأموات لا فرق بينهم وبين المشركين السابقين، لاعتقاد الكل الشفاعة والوساطة دون الخلق والإيجاد.(2/264)
قال الرازي بعد أن ذكر عقيدة السابقين في الأصنام التي وضعت على صور الأنبياء والأكابر، قال: (ونظيره في هذا الزمان اشتغال كثير من الخلق بتعظيم قبور الأكابر على اعتقاد أنهم إذا عظموا قبورهم فإنهم يكونون شفعاء لهم عند الله)( ).
الوجه الثاني:
إن هذا الاعتقاد بالوساطة فيه مفاسد ومحاذير تهدم العقيدة وتزلزل أركانها من ذلك إساءة الظن بالله تعالى.
والاعتقاد بالوساطة يستلزم إساءة الظن بالله تعالى، وبعلمه وسمعه وجوده وكرمه وذلك أن الذي ظن أن الرب سبحانه وتعالى لا يسمع له ولا يستجيب له إلا بواسطة تطلعه على ذلك، أو تسأل ذلك منه فقد ظن بالله ظن السوء، فإنه إن ظن أنه لا يعلم أو لا يسمع إلا بإعلام غيره له وإسماعه، فذاك نفي لعلم الله وسمعه وكمال إدراكه وكفى بذلك ذنباً، وإن ظن أنه يسمع ويرى ولكن يحتاج إلى من يلينه ويعطفه عليه فقد أساء الظن بإفضال ربه وبره وإحسانه وسعة جوده.
وقد قال تعالى عن خليله إبراهيم عليه السلام: ((أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ * فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ)) [الصافات:86-87] أي: فما ظنكم أن يجازيكم إذا عبدتم معه غيره وظننتم أنه يحتاج في الاطلاع على ضرورات عباده لمن يكون باباً للحوائج إليه، وهذا بخلاف الملوك فإنهم محتاجون إلى الوسائط لعجزهم وقصور علمهم، فأما من لا يشغله سمع عن سمع وسبقت رحمته غضبه، وكتب على نفسه الرحمة فما تصنع الوسائط عنده؟
فمن اتخذ واسطة بينه وبين الله تعالى فقد ظن به أقبح الظن، ومستحيل أن يشرعه لعباده بل ذلك يمتنع في العقول والفطر( ).
لأنه قد ثبت في العقول والفطر أن الله سبحانه هو المدبر لأمور الخلائق بدون الاستغاثة بأحد، وأنه لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء، وأنه (يسمع ضجيج الأصوات، باختلاف اللغات، على تفنن الحاجات، لا يشغله سمع عن سمع، ولا تغلطه المسائل، ولا يتبرم بإلحاح الملحين)( ).(2/265)
وأي عقل سليم يترك هذا الرب الجليل ويترك الالتجاء إلى بابه ويطلب الوسطاء فإنه عقل مختل.
3- ومن المحاذير التي في ذلك تشبيه الخالق بالمخلوق:
وقد اعترفوا بهذا التشبيه في تجويزهم الوساطة وعللوا جوازها بأن الناس جبلوا على معرفة (أن إكرام عبيد السلطان وأتباعه وتعظيمهم هو من أحسن وجوه التقرب إليه لقضاء حوائجهم عنده، وكلما كان ذلك العبد أو التابع أقرب له وأحب إليه كان إكرامه وتعظيمه والتوسل به إليه أقرب في نجاح الحاجة وحصول المقصود...)( ).
ولا يخفى ما في هذا التشبيه من المفاسد العظيمة فالله سبحانه وتعالى ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، ولا يمكن أن يشبه بالملوك والرؤساء وقد علم أن الوسائط بين الملوك والناس يكونون على أحد وجوه ثلاثة، وكلها مستحيلة في حق الله تعالى والوجوه الثلاثة هي:
1- لإخبارهم من أحوال الناس بما لا يعرفونه.
2- أو يكون الملك عاجزاً عن تدبير الرعية فيحتاج إلى مساعد.
3- أو يكون الملك لا يريد الخير لرعيته فيحتاج إلى من يحركه وينصحه( )، وهذه الأوجه الثلاثة مستحيلة في حق الله تعالى، والاعتقاد بالوساطة يستلزم هذه الأوجه.
4- ثم من المحاذير التي في اعتقاد الوساطة أن ذلك الاعتقاد يلزم منه الخضوع والتذلل، والتأله من العبد لتلك الوسائط حتى ترفع أمره إلى الله تعالى.
وهذا التأله قبيح في الشرع والعقل صرفه لغير الله تعالى( ).
فلو لم يكن فيه إلا نقص محبة الله تعالى وخوفه ورجائه والتوكل عليه، والإنابة إليه من قلب من يطلب الشفاعة والوساطة بسبب قسمته ذلك بينه سبحانه وتعالى وبين من أشرك به، فينقص ويضعف أو يضمحل ذلك التعظيم والمحبة والخوف والرجاء بسبب صرف أكثره أو بعضه إلى من يطلب شفاعته- لكفى في شناعة اعتقاد الوساطة( ).(2/266)
5- ومن المحاذير التي في ذلك أنه قول على الله بغير علم، حيث زعم هؤلاء أن لله وسطاء بينه وبين خلقه لا يفعل شيئاً بدون وساطتهم، فحولوا بذلك قلوب عباده عنه وعن سنته في خلقه ووجهوها إلى القبور وإلى عبيد ضعفاء لا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً، ثم سموا هذا توسلاً إليه فهم يتقربون إليه بالشرك به ودعاء غيره من دونه أو معه( ).
وهذا كله يدل على فساد قياس الذين قاسوا الخالق بالمخلوف الملك أو الرئيس فالملك لقبل الشفاعة تارة لحاجته إلى من يشفع إليه، وتارة لخوفه منه، وتارة لجزاء إحسانه ومكافأة له حتى إنه يقبل شفاعة ولده وزوجته وخدمه فإنه محتاج إليهم لأنه لو لم يقبل شفاعتهم لتضرر بذلك. وشفاعة العباد بعضهم عند بعض كلها من هذا الجنس فلا يقبل أحد شفاعة أحد إلا لرغبة أو رهبة أو حياء أو مودة أو غير ذلك، وهذا بخلاف الشفاعة عند الله فإنه سبحانه لا يخاف أحداً ولا يرجوه ولا يحتاج إلى أحد( ).
الوجه الثالث:
إن الله سبحانه وتعالى لم يجعل واسطة بينه وبين عباده في رفع الحوائج ودفع المضار والله قال: ((وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ)) [البقرة:186].
قال بعضهم: والسر في أن الله لم يقل: فقل إني قريب الآية، كما هو عادة أساليب القرآن في الجواب عن الأسئلة الموجهة للرسول صلى الله عليه وسلم، السر في ذلك الإشارة إلى عدم الوساطة في الدعاء حيث لم يجعل الله الوساطة في الجواب على السؤال فكيف بالوساطة في الدعاء نفسه؟( ).(2/267)
وهذا مما يعلم فساده بالضرورة من دين الإسلام فإنه لا يوجد في الإسلام وساطة بين الله وبين خلقه، (في الخلق والتدبير، والززقِ والإحياء والإماتة، وسماع الدعاء وإجابة الداعي، بل الرسل كلهم وأتباع الرسل متفقون على أنه لا يعبد إلا الله وحده فهو الذي يسأل ويعبد، وله يصلى ويسجد، وهو الذي يجيب دعاء المضطرين ويكشف الضر عن المضرورين، ويغيث عباده المستغيثين ((مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ))( ) [فاطر:2].
ومن هذا يتبين أن المسلمين بل الحنفاء جميعاً (ليس بينهم وبين الله تعالى واسطة في العبادة والدعاء والاستغاثة بل يناجون ربهم ويدعونه ويعبدونه بلا واسطة)( ).
والوساطة التي جعلها الله تعالى للأنبياء إنما هي في( ) تبليغ رسالته وأمره ونهيه ووعده ووعيده كما قال تعالى: ((وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ...)) [الأنعام:48].
وقال نوح: ((وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا...)) [هود:31].
ومثل هذا ما أمر الله به خاتم رسله أن يقوله: ((قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ...)) [الأنعام:50].
الوجه الرابع:
ثم إن هذه الشفاعة والوساطة التي يريدها هؤلاء من الأنبياء والصالحين لا يتصور من عباد الله الصالحين أن يشفعوا فيها ويطلبوا من الله ذلك؛ لأنهم ممتثلون لأمر الله تعالى فلا يفعلون ما لا يرضاه الله تعالى من الإشراك به.
فإذا دعاهم رجل وتوسط بهم فهم لا يرضون ذلك فيتبرؤون منه ومن دعاه.(2/268)
ولقد نهى الله تعالى النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين من الاستغفار للمشركين فقال: ((مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى...)) [التوبة:113].
وقال في دعوة نوح لابنه: ((قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ))( )[هود:46].
فتحصل من هذا أن الداعي إن كان مستحقاً للعقاب ورد الدعاء، فالنبي أو الصالح لا يعين على ما يكرهه الله ولا يسعى فيما يبغضه الله، وإن لم يكن كذلك فالله أولى بالرحمة( ).
ثم إن الأنبياء والصالحين إنما يشفعون يوم القيامة بعد الإذن وهم يفعلون ذلك طاعة لربهم ورغبة في رضاه، فهم يشفعون لمن أذن لهم فيه وان لم يطلب منهم( ).
الوجه الخامس:
إن قولهم: نحن بعيدون عن الله ومذنبون.. إلخ.
قول باطل من أقوال المشركين فإن الله يقول: ((وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ)) [البقرة:186].
وقد روي في سبب نزولها أن الصحابة قالوا: يا رسول الله، ربنا قريب فنناجيه أم بعيد فنناديه؟ فأنزل الله هذه الآية.
وقد أمر الله تعالى العباد كلهم بالصلاة له ومناجاته فيها بقولهم: ((إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ))( ) [الفاتحة:5].
فالعباد يخاطبون الله جل جلاله في صلواتهم ودعواتهم بدون حجاب ولا واسطة توصل خطابهم إليه.
الوجه السادس:(2/269)
شواهد الحال تكذب دعواهم فإن نية الشفاعة والوساطة (على فرضها بعيدة الخطورة في البال، وشواهد هذا ظاهرة في حالاتهم تلك، بحيث إن جماهير من العامة لا يحصون في أقاليم واسعة وأقطار متباعدة، ونواحي متباينة- لما كانوا قد نشأوا لا يعرفون إلا ما وجدوا عليه من قبلهم من الآباء والشيوخ من هذه العقائد الوثنية والمفاسد - فتجدهم إذا شكى أحدهم على الآخر نازلة نزلت فلعله لا يخطر له في بال إلا: هل قد ذهبت إلى الولي...)( ).
فقولهم: إننا نقصد بدعائهم التوسط والشفاعة والتوسل- بعيد عن واقع أحوالهم فالذي تدل عليه أحوالهم وأقوالهم أنهم يريدون من الولي الإجابة والإغاثة، إذ يرون له التصرف المطلق والعلم المحيط وغير ذلك. وإن كان هذا ليس عاماً في الجميع لأنه يكفي في المنع أن يحصل من البعض.
بقية شبهة الشفاعة والوساطة:
ثم إنهم استدلوا على جواز طلب الشفاعة من الأنبياء والصالحين بل على جواز الاستغاثة ودعاء الموتى والغائبين بما ورد في أحاديث الشفاعة المتواترة من طلب الناس الشفاعة من الأنبياء يوم القيامة، وقاسوا على ذلك طلب الشفاعة منهم أو من الصالحين في حال مماتهم ومغيبهم والاستغاثة بهم( ).
واستدلوا( ) بأحاديث فيها طلب بعض الصحابة من النبي صلى الله عليه وسلم الدعاء والشفاعة لهم يوم القيامة. مثل حديث ابن عباس رضي الله عنهما في حديث طويل أن عكاشة بن محصن قال للنبي صلى الله عليه وسلم: {ادع الله أن يجعلني منهم فقال: أنت منهم}( ).
وحديث ربيعة بن كعب الأسلمي رضي الله عنه قال: [كنت أبيت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتيته بِوَضُوئِه وحاجته، فقال لي: (سل) فقلت:أسألك مرافقتك في الجنة قال: (أو غير ذلك؟) قلت:هو ذاك، قال: (فأعني على نفسك بكثرة السجود)( ).
الجواب:(2/270)
1- إن أحاديث الشفاعة يوم القيامة ليست مما نحن فيه لأن ذلك من سؤال الحي ما يقدر عليه، فيوم القيامة يجمعهم الموقف بعد أن أحياهم الله فليس هو من سؤال الغائب ولا الميت.
ثم إن الأحاديث الأخرى ليست مما نحن فيه أيضاً لأنها تدل على جواز سؤال النبي صلى الله عليه وسلم في حياته ما يقدر عليه- وهو الدعاء، فهو يقدر على دعاء الله تعالى.
ويدل لهذا قول عكاشة -رضي الله عنه-: (ادع الله أن يجعلني منهم) فهو إنما طلب الدعاء وهو أمر مشروع، وهو مثل طلب الاستغفار منه صلى الله عليه وسلم قال تعالى: ((وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ...)) [النساء:64].
2- ثم إنه لا يمكن القياس على هؤلاء الذين طلبوا الشفاعة من الرسول صلى الله عليه وسلم في حياته للفارق بينهم ومن بعدهم، إذ هو صلى الله عليه وسلم يمكن أن يعلم من يشفع له ومن لا يشفع له فلهذا وافق في عكاشة وأغلق الباب على الذي بعده.
3- ثم إن الرسول صلى الله عليه وسلم ذكر في حديث ربيعة الأسلمي ما يشير إلى ما يكون سبباً للدخول في شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الإيمان الخالص والعمل الصالح كما في حديث أبي هريرة: {من أسعد الناس بشفاعتك يا رسول الله؟ قال: من قال: لا إله إلا الله خالصاً من قلبه}( ).
فهذا هو السبب الذي يقتضي الشفاعة فلهذا قال لربيعة الأسلمي فأعني بكثرة السجود، فعلى هذا فالذي لا يسجد ولا يؤمن بل يشرك بدعاء غير الله تعالى كيف يعين النبي صلى الله عليه وسلم على شفاعته، بل هو إنما يعين الشيطان على إضلاله وإغوائه نسأل الله السلامة.
4- ثم في بعض طرق حديث ربيعة ما يشعر بأنه إنما طلب الدعاء له بالشفاعة ولم يطلب الشفاعة( ).
ومن جملة شبههم القياسية ما ذكروه من قياس الذوات على الأعمال حيث قالوا: (إذا جاز السؤال بالأعمال، وهي مخلوقة، فالسؤال بالنبي صلى الله عليه وسلم أولى)( ).(2/271)
فهذه الشبهة المبنية على أساس جامع الاشتراك بين الأعمال والذوات الفاضلة في كونهما مخلوقين هي من أضعف الشبه، وذلك لأن القياس لا يدخل في باب العبادات إذ مبناها على التوقيف، والاتباع( ).
وهذا القياس فاسد من ناحية أخرى أيضاً وهي أنه قياس مع الفارق وذلك لأن علة صحة التوسل بالأعمال كونها من كسب الإنسان وعمله يرجو عليه الجزاء والثواب في الدنيا والآخرة، وهذا الذي جعلها سبباً للوسيلة وهذه العلة مفقودة في الذوات الفاضلة لأنها أجنبية عن المتوسل بها، فبهذا يتضح أن هذا القياس قياس مع الفارق وهو فاسد الاعتبار كما هو مقرر في علم الأصول.
ومن شبههم القياسية قياس حال الموت على حال الحياة، قال بعضهم: (ولو لم يكن للفقيه من الدليل على صحة التوسل، والاستغاثة به صلى الله عليه وسلم بعد وفاته إلا قياسه على التوسل، والاستغاثة به في حياته الدنيا، لكفى فإنه حي الدارين دائم العناية بأمته، متصرف بإذن الله في شؤونها خبير بأحوالها...)( ).
وهذا القياس الذي ذكروه فاسد الاعتبار من وجوه:
1- إن الفرق بين الحياة والموت واضح وضوح الشمس في رائعة النهار، وهذه قضية مسلمة منطقية لا جدال فيها بين العقلاء، ومن شرط القياس المماثلة فلا مماثلة بين الحالتين.
2- ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم وغيره من الأنبياء والصالحين كانوا في حياتهم يدعون الله تعالى لمن توسل بدعائهم وطلب منهم الدعاء حيث يسمعون كلامه ويعرفون مراده، وأما في دار البرزخ فلا يمكن ادعاء ذلك وحتى لو حصل منهم الدعاء فرضاً فإنما هو بأمر كوني لا يزيد بسؤال سائل كما تقدم بيانه.
3- ثم إنه لا يمكن لأحد أن يدعي أن جميع الأحكام التي كانت للنبي صلى الله عليه وسلم في حال حياته مستمرة له بعد وفاته، فقد كان في حياته يصلي خلفه فهل يمكن لأحد الآن أن يصلي متجهاً إلى قبره صلوات الله وسلامه عليه؟
وكذلك كان في حياته يطلب منه أن يفتي ويقضي فهل يمكن الآن أن يطلب منه ذلك( ) ؟(2/272)
4- ثم إن الصحابة في حياته لم يكونوا يستغيثون به في مغيبه ولا يتوسلون بذكر اسمه وجاهه وإنما كانوا يطلبون الدعاء منه إذا كانوا في مجلسه فقط، فمن باب أولى أن لا يستغاث به بعد الموت، (والدعاء داخل في المقدورات العادية كما لا يخفى، وكانوا إذا بعدوا عنه فاحتاجوا أن يراجعوه في شيء كتبوا إليه أو أرسلوا على ما جرت به العادة، فإذا لم بمكن ذلك قال أحدهم: (اللهم أخبر عنا رسولك كما قال عاصم بن بن ثابت...).
(5) ثم إنه صلى الله عليه وسلم( ) وكذلك الأنبياء والصالحون عندما كانوا في الحياة لا يمكن أن يشرك بهم من دون الله تعالى، وأما بعد وفاتهم فيمكن أن يشرك بهم فيمنع القياس من هنا. وقد فند هذه الشبهة الشيخ أبا بطين بعدة وجوه قوية( ) منطقية لا يمكن لمبتدع الإجابة عنها، فلنقتصر على هذه الأوجه التي ذكرناها ففيها الكفاية لمن يريد الحق.
الفصل الثالث
في مناقشة ردودهم وإجاباتهم عن الأدلة المانعة للدعاء غير المشروع
ويحتوي على تمهيد، وتسع شبه.
تمهيد:
إن الذين أباحوا دعاء الموتى والغائبين لما رأوا كثرة الأدلة الدالة على منع دعاء غير الله تعالى ودلالتها الواضحة الصريحة وعجزوا عن معارضتها، بحثوا عن شبهات يمكن أن يدفعوا بها دلالة تلك الأدلة على واقعهم المرير وعملهم المشين.
ومقصدهم بذلك ادعاء أن تلك النصوص لا تنطبق على أعمالهم الشركية- وهيهات ذلك- كما أن مقصودهم إخضاع النصوص الشرعية لتوافق ما عليه عباد القبور وسدنة الأضرحة، وهؤلاء المبيحون لدعاء الموتى ينسبون إلى العلم ومعدودون من أهله.
وكان الواجب عليهم النصح لله ولرسوله ولهؤلاء الداعين للأموات من عوام المسلمين، فاستبدلوا بهذا الواجب البحث عن الشبهات التي يمكن أن تدفع عنهم دلالة النصوص الشرعية على واقعهم الشركي، فأتوا بهذه الشبهات التي نناقشها- إن شاء الله تعالى- في هذا الفصل.(2/273)
والفرق بين هذه الشبهات والتي مرت في الفصلين السابقين هو أن المراد من هذه الشبهات هو منع دلالة النصوص المحرمة لدعاء غير الله تعالى على أعمال القبوريين، وصرفها إلى غيرهم والإجابة اليائسة المستميتة عن النصوص الواضحة المانعة لأعمالهم فهذه الشبهات تتعلق بما يسمى في علم الأصول بتحقيق المناط.
وأما المراد من الشبهات السابقة فهو إثبات مشروعية تلك الأعمال.
ومما ينبغي أن يعلم أن أغلب هذه الشبهات التي في هذا الفصل إنما أثيرت بعد انتشار دعوة شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله-، فلما رأوا انتشارها الواسع أرادوا معارضة هذه الدعوة السلفية المباركة بهذه الشبهة الواهية.
فلهذا لا نجد هذه الشبهات في كلام من سبق هؤلاء ممن هو على مشربهم بخلاف الشبهات التي سبقت في الفصلين السابقين.
ومن هنا رد عليهم شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله- في كتبه ورسائله، كما رد عليهم آخرون ممن جاء بعده فجزاهم الله عن الإسلام خير الجزاء.. وهذه المناقشات التي ستأتي إن شاء الله تعالى مجموعة مما تفرق في كلام هؤلاء المحققين السابقين، وإن كان هناك إضافة فقليلة لا تستحق الذكر، والغرض مشاركة هؤلاء في هذا الصنيع المبارك لعل الله ينفع به من يشاء من عباده وهو وحده المرجو لذلك، وهو المستعان وهو ولي التوفيق.
الشبهة الأولى( ):
قولهم: إن تلك النصوص فيمن لا يعترف بأن الله هو الخالق الرازق النافع الضار، أي الذي لا يعترف بتوحيد الربوبية، وأما من اعترف بذلك فلا تشمله تلك النصوص ولو دعا غير الله تعالى واستغاث به، وذبح له، ونذر له.
وقالوا: إن من أقر بالربوبية فقد أقر بالألوهية، فعلى هذا فالآيات والأحاديث لا تشمل المسلمين من هذه الأمة المحمدية المرحومة الذين يعترفون بربوبية الله تعالى وأنه الخالق... إلخ.
الجواب:(2/274)
حاصل شبهتهم ادعاء الفرق بينهم وبين المشركين الأوائل في اعتقاد الربوبية، وفحوى كلامهم أن الأوائل لا يعترفون بتوحيد الربوبية، بل صرح بذلك بعضهم كما سيأتي.
والصواب الذي لا مرية فيه أن المشركين الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ووردت فيهم تلك النصوص- يعترفون بالربوبية-، وإليك الأدلة القاطعة:
1- قال تعالى: ((قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ)) [يونس:31].
2- وقال عز من قائل: ((قُلْ لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ * قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ * قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ)) [المؤمنون:84-89].
3- وقال سبحانه: ((وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ)) إلى أن قال: ((وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ)) [العنكبوت:61-63].
4- وقال تعالى: ((وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ...)) [الزمر:38].
5- وقال سبحانه: ((وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ)) [الزخرف:9].(2/275)
6- وقال عز من قائل: ((وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ)) [الزخرف:87].
7- وقال تعالى: ((أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ...)) إلى آخر الآيات:[النمل:60-64].
8- قال تعالى: ((وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ)) [يوسف:106]، فقد اتفقت أقوال مفسري السلف( ) على أن من إيمانهم قولَهم: الله خالقنا ويرزقنا ويميتنا، وعلى أن شركهم هو عبادتهم غيره ويوضح ذلك ما نقله ابن جرير عن قتادة أنه قال: (إنك لست تلقى أحداً منهم إلا أنبأك أن الله ربه، وهو الذي خلقه ورزقه وهو مشرك في عبادته)( ).
9- ومن الأدلة القطعية على اعترافهم بتوحيد الربوبية، ما ذكره الله عنهم في وقت الشدائد والتطام الأمواج من إخلاص الدعاء لله رب العالمين، قال تعالى: ((وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ)) [الإسراء:67]، وقال: ((وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ...)) [لقمان:32]، وقال: ((وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنِ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ * ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ)) [النحل:53-54].
قال قتادة بن دعامة -رحمه الله- في تفسير هذه الآية: (الخلق كلهم يقرون لله أنه ربهم ثم يشركون بعد ذلك)( ).
10- الآيات التي تحدثت عن المشركين بأنهم يتخذون مع الله شركاء ووصفتهم بالشرك أو باتخاذهم وجَعلِهم مع الله آلهةً أخرى.(2/276)
وذلك لأن الشرك مأخوذ من الشركة فيفيد إقرارهم بالربوبية إلا أنهم يجعلون معه شريكاً في العبادة، كشريكين في شيء مثلاً مع أنهم ما كانوا يساوون آلهتهم بالله في كل شيء بل في المحبة والخضوع لا في الخلق والإيجاد والنفع والضر( )، فتلك الآيات تدل على أنهم لم يزعموا إلا الشراكة. والآيات التي وردت بالصفة المذكورة كثيرة جداً ويمكن الإشارة إلى بعضها، منها قوله تعالى: ((ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ)) [النحل:54]، ولو قيل يفهم من الآية أن فريقاً منهم لا يشرك بالرب بعد كشف الضر لاستقام، ومن المعلوم أنه يوجد فيهم حنفاء موحدون.
وقوله تعالى: ((وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ)) [النحل:86]، وقوله تعالى: ((وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ...)) إلى قوله: ((...وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ)) [الأنعام:94].
وقوله تعالى: ((قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا)) [الإسراء:42]، فإن قوله: ((كما يقولون)) صريح في أنهم إنما يدعون الشراكة لا الاستقلال كما هو واضح بين.(2/277)
11- الآيات التي فيها اعتراف المشركين بالمشيئة المطلقة لله تعالى والتي فيها الاحتجاج بالقدر مثل قوله تعالى: ((سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ)) [الأنعام:148]، وقال تعالى: ((وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ)) [النحل:35]، وقال تعالى: ((وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ)) [يس:47]، ففي هذه الآيات اعتراف منهم بالمشيئة الكونية لله تعالى وإن كان احتجاجهم وزعمهم الجبر غيرَ صحيح.
12- الآيات التي وصف الله المشركين فيها بأنهم جعلوا الملائكة بنات لله تعالى، فهم يعبدون الملائكة على أنها بنات لله تعالى، وتقرب إليه، لا على أنها خالقة الكون، قال تعالى: ((وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الإِنسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ * أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ)) إلى قوله: ((وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ * وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ...)) [الزخرف: (15-20)]، وقال سبحانه: ((أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ * أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ * وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ)) [الصافات:150-153].(2/278)
قال المعلمي -رحمه الله تعالى-: إن أول ما سرى إلى العرب نسبة الولد إليه تعالى كانوا يقولون: الملائكة بنات الله على معنى أنهم مقربون إليه ولم يقولوا: أبناء الله خشية إيهام أن يكونوا نظراءه فقالوا: بنات الله لأن الإناث عندهم ضعيفات( ).
13- الآيات التي وردت بصيغة الاستفهام التقريري، نحو قوله تعالى: ((قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ)) [إبراهيم:10].
وقوله: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ)) [فاطر:3].
وقوله سبحانه: ((أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ)) [النحل:17]. وقوله جل شأنه: ((هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ)) [لقمان:11].
وقوله تقدست أسماؤه: ((قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَوَاتِ)) [فاطر:40].
فالأستفهام في هذه الآيات استفهام تقرير لهم لأنهم به مقرون( ).
وقوله تعالى: ((قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ)) [الزمر:38]، قال مقاتل في تفسير هذه الآية: فسألهم النبي صلى الله عليه وسلم فسكتوا أي لأنهم لا يعتقدون ذلك فيها، وإنما كانوا يدعونها على معنى أنها وسائط وشفعاء عند الله لا لأنهم يكشفون الضر، ويجيبون دعاء المضطر، فهم يعلمون أن ذلك لله وحده كما قال تعالى: ((ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ * ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ))( ) [النحل:53-54].(2/279)
ومن تلك الآيات قوله تعالى: ((أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ)) [الرعد:16]. قال شيخ الإسلام: [وهذا استفهام إنكار بمعنى النفي، أي ما جعلو الله شركاء خلقوا كخلقه، فإنهم مقرون أن آلهتهم لم يخلقوا كخلقه وإنما كانوا يجعلونهم شفعاء ووسائط]( ).
14- الآيات التي تدل( ) على أن المشركين إنما أنكروا على الرسل الدعوة إلى إفراد الله بالعبادة لا أصل العبادة ولا الإقرار بالربوبية، منها قوله تعالى في قصة هود: ((أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ)) [الأعراف:70]، وقول قريش: ((أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا)) [ص:5]، ((وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ...)) [الزمر:45]، ((وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا)) [الإسراء:46].
15- الآيات الدالة على أنهم إنما يريدون من الأصنام الشفاعة والتقريب فقط، ومن تلك الآيات:((مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى)) [الزمر:3]. ((وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ)) [يونس:18]، ((فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً)) [الأحقاف:28]، ((أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ)) [الزمر:43].(2/280)
16- الآيات الدالة على أنهم يعبدون الله تعالى ويعبدون معه آلهة أخرى، فمن تلك الايات قول الله تعالى: ((وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي)) [الزخرف: (26-27)]. وقوله تعالى: ((قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأَقْدَمُونَ * فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ)) [الشعراء: (75-77)]. وقوله تعالى: ((وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ)) [الكهف:16].
فالاستثناء في هذه الآيات يدل على أنهم يعبدون الله تعالى مع عبادتهم للآلهة، وهذا هو الذي أوجب الاستثناء وإلا فلو كانوا لا يعبدون الله فضلاً عن كونهم يعتقدون ربوبيتها فلا حاجة إلى هذا الاستثناء.
والخلاصة أن القرآن الكريم قد دل دلالة قطعية وصريحة على أن المشركين لم يكونوا يشركون في الربوبية وإنما كان شركهم في الألوهية ومع هذه الدلالة الواضحة أنكر ذلك بعضهم فلهذا نتبع هذا بالإشارة إلى أقوال العلماء الذين ذكروا ذلك، وقبل ذلك نذكر بعض الأدلة من غير القرآن فنقول وبالله التوفيق.
ومما يدل على أن المشركين يعترفون بتوحيد الربوبية، ما وجد في حكاياتهم وقصصهم من اعتقادهم بالربوبية ويشهد بذلك أشعارهم وما نقل عن حكمائهم وحنفائهم، كخطب قس بن ساعدة وزيد بن عمرو وأبي ذر الغفاري قبل إسلامه( ).
كما يدل على ذلك اعتقادهم بأنهم كانوا على دين إبراهيم وإسماعيل وكانوا يعترفون برسالتهما وإن حصل لهم فيها خبط( ).
كما يدل لذلك ما كانوا يقولونه في تلبيتهم. قال ابن عباس رضي الله عنهما: [[كان المشركون يقولون: لبيك لا شريك لك، قال: فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: {ويلكم قد قد} فيقولون: إلا شريكاً هو لك تملكه وما ملك يقولون: هذا وهم يطوفون بالبيت]]( ).
الاستشهاد بأقوال العلماء الذين صرحوا باعتراف المشركين بالربوبية:(2/281)
هذه المسألة واضحة جداً لا تحتاج إلى تطويل لولا أن بعض الناس ظنوا أن المشركين لا يعترفون بالربوبية- مع وضوح الأدلة- فاقتضى الأمر إلى الاستشهاد بأقوال العلماء الذين، صرحوا بذلك، فالعلماء الذين صرحوا بذلك كثيرون، نقتصر على الإشارة إلى بعضهم فنقول وبالله التوفيق:
1- فمن العلماء الذين صرحوا بذلك الإمام أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة (ت:267هـ) فإنه ذكر الفطرة التي فطر الناس عليها ثم قال: (فلست واجداً أحداً إلا وهو مقر بأن له صانعاً ومدبراً، وإن سماه بغير اسمه، أو عبد شيئاً دونه ليقربه منه عند نفسه، أو وصفه بغير صفته أو أضاف إليه ما تعالى عنه علواً كبيراً، قال تعالى: ((وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ))( )[الزخرف:87].
2- الإمام أبو الحسن الأشعري (ت:324هـ) فإنه قال: إن الله بعث محمداً صلى الله عليه وسلم إلى سائر العالمين، وهم أحزاب وفرق منهم كتابي وبرهمي ودهري، ووثني ومجوسي (وصاحب صنم يعتكف عليه، ويزعم أن له رباً يتقرب بعبادة ذلك الصنم إليه)( )فبين الأشعري أن أهل الأصنام مقرون بالرب تعالى.
3- الإمام أبو محمد علي بن أحمد بن حزم (ت:456هـ) فإنه ذكر في مسألة الفرق بين الكفر والشرك، أن المشركين واليهود والنصارى والمجوس والبراهمة مقرون بالله تعالى فلم ينكره جملة ويجحده إلا الدهرية فقط( ).(2/282)
4- الشهرستاني محمد بن عبد الكريم المتكلم (ت:548هـ)، فقد ذكر أن تعطيل العالم عن الصانع لا يعرف قائله إلا ما نقل عن شرذمة قليلة من الدهرية ثم ذكر مجمل مقالتها في تفسير خلق العالم، ثم ذكر أن هذا القول لا يدل على إنكار قائله بالصانع، ثم ذكر أن الفطرة الضرورية دلت على الصانع، ثم ذكر أنه لهذا لم يرد التكليف بمعرفة الصانع وأن هذا هو السبب في كون محل النزاع بين الرسل وبين الخلق في التوحيد ونفي الشريك، ثم استدل على ذلك بقوله تعالى: ((ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا)) [غافر:12]، وغير ذلك من الآيات( ).
5- القاضي أبو يعلى محمد بن الحسين بن الفراء (ت:458هـ): (فليس أحد إلا وهو يقر بأن له صانعاً ومدبراً وإن سماه بغير اسمه. قال تعالى: ((ولئن سألتهم))( ).
6- أبو الفرج عبد الرحمن بن علي ابن الجوزي (ت:597هـ)، فقد ذكر الفلاسفة ثم قال: (وما قد حكى لهؤلاء الفلاسفة من جحد الصانع محال، فإن أكثر القوم يثبتون الصانع، ولا ينكرون النبوات، وإنما أهملوا النظر فيها، وشذ منهم قليل فتبعوا الدهرية الذين فسدت أفهامهم با لمرة)( ).
وذكر ابن الجوزي أيضاً أن كثيراً من أهل الهند يعتقدون الربوبية وأن لله ملائكة( ).
7- الفخر الرازي محمد بن عمر (ت:604هـ).
فقد ذكر إقرار المشركين بالربوبية في تفسيره في مواضع منه( )، منها قوله: (اعلم أنه ليس في العالم أحد يثبت لله تعالى شريكاً يساويه في الوجوب والقدرة والعلم والحكمة، وهذا مما لم يوجد إلى الآن، لكن الثنوية يثبتون إلهين، أحدهما حكيم يفعل الخير، والثاني سفيه يفعل الشر، وأما الاشتغال بعبادة غير الله ففي الذاهبين إليه كثرة...)( ).(2/283)
8- أبو محمد العز بن عبد السلام: (ت:660هـ) فقد ذكر في قوله تعالى: ((أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ)) [النحل:17]، أنه لا يمكن أن يقال: (إنهم كانوا يعظمون الأصنام أكثر من تعظيم الله؛ لأنه ليس الأمر كذلك بل قالوا: ((مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى))( )[الزمر:3]، وذكر العز أيضاً أن السجود للصنم قد يقصد به التقرب إلى الله تعالى واستدل على ذلك بآية الزمر( ).
9- ابن منظور محمد بن مكرم أبو الفضل اللغوي (ت:711هـ)، فإنه ذكر في مادة (شرك) حديث تلبية الجاهلية وقولهم: إلا شريكاً هو لك تملكه وما ملك ثم قال: اللهم إنا نسألك صحة التوحيد والإخلاص في الإيمان، انظر إلى هؤلاء لم ينفعهم طوافهم ولا تلبيتهم ولا قولهم عن الصنم هو لك ولا قولهم تملكه وما ملك، مع تسميتهم الصنم شريكاً بل حبط عملهم بهذه التسمية، ولم يصح لهم التوحيد مع الاستثناء ولا نفعتهم معذرتهم بقولهم: ((إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى))( )[الزمر:3].
15- شيخ الإسلام ابن تيمية، فقد قرر هذه المسألة بأدلة مختلفة وذكرها في مواضع كثيرة من كتبه( ) نذكر بعضها، فمنها: [ما ذكره من أن المتكلمين غاية أمرهم إثبات واجب الوجود (وهذا حق لم ينازع فيه لا معطل ولا مشرك)؛ لأن الناس متفقون على إثباته إلا ما يحكى عن بعضهم أنه قال: إن العالم حدث بنفسه وهذا لا يعرف قائله وإنما هو يقدر تقديراً، وهو مما يخطر في قلوب الناس فقط وليس قولاً معروفاً لطائفة معينة]( ).
وقال أيضاً: [ومعلوم أن أحداً من الخلق لم يزعم أن الأنبياء والأحبار والرهبان والمسيح ابن مريم شاركوا الله في خلق السموات والأرض؛ بل ولا زعم أحد من الناس أن العالم له صانعان متكافئان في الصفات والأفعال؛ بل ولا أثبت أحد من بني آدم إلهاً مساوياً لله في جميع صفاته بل عامة المشركين بالله مقرون بأنه ليس شريكه مثله]( ).(2/284)
وقال أيضاً: (وإثبات توحيد الربوبية لم ينازع في أصله أحد من بني آدم وإنما نازعوا في بعض تفاصيله...)( ).
وقد نبه شيخ الإسلام -رحمه الله- على أن هذا الموضع عظيم ينبغي معرفته لالتباسه على بعض الطوائف حتى وقعوا فيما ينافي الإسلام( ).
11- ابن القيم شمس الدين أبو عبد الله (ت:751هـ) فإنه قال بعد أن ذكر اللات والعزى ومناة: (ولم يكن أحد من أرباب الطواغيت يعتقد أنها تخلق وترزق وتميت وتحيي، وإنما كانوا يفعلون عندها وبها ما يفعله إخوانهم اليوم عند طواغيتهم)( ).
12- ابن أبي العز الحنفي علي بن علي (ت:792هـ) فقد ذكر توحيد الربوبية ثم ذكر أنه لم يذهب إلى نقيضه طائفة معروفة من بني آدم وذكر أنه مفطور في البشر( ).
13- المقريزي أحمد بن علي (ت:845هـ) فإنه ذكر قول المشركين في النار: ((تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ)) [الشعراء: (97-98)] ثم قال: (ومعلوم قطعاً أن هذه التسوية لم تكن بينهم وبين الله في كونه ربهم وخالقهم، فإنهم كانوا كما أخبر الله عنهم مقرين بأن الله تعالى وحده هو ربهم وخالقهم...)( ).
14- القاري علي بن سلطان الهروي الحنفي (ت:1514هـ) فقد ذكر أن توحيد الألوهية يستلزم توحيد الربوبية دون العكس لقوله تعالى: ((ولئن سألتهم...))( ).
15- الدهلوي أحمدبن عبد الرحيم (ت:1176هـ)، فقد ذكر هذه المسألة وقررها في عدة مواضع من كتبه( ) بتقرير حسن.
16- شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب (ت:1206هـ) فإنه قد ذكر هذا الأصل وقرره في مواضع( ) من كتبه ورسائله على أحسن الوجوه.(2/285)
17- ابن عابدين محمد بن عمر الحنفي (ت:1252هـ) فقد ذكر في حاشيته على رد المحتار تعقيباً على كلام المؤلف أن الوثنية لا ينكرون الصانع تعالى كما لا يخفى، ثم ذكر أن عبدة الأوثان كانوا يقرون بالله تعالى، قال تعالى: ((ولئن سألتهم..)) الآية، ولكن كانوا لا يقرون بالوحدانية. قال تعالى: ((إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ))( ) [الصافات:35].
18- ثم هناك علماء كثيرون( ) صرحوا بهذا فنكتفي بهذا القدر.
كما اعترف بهذه الحقيقة( ) كثير من أهل هذا العصر نكتفي منهم بما ذكره محمد عبد الله دراز، من أن المتدينين مهما بلغوا في الخرافة أي مبلغ لا بد أن يعترفوا بالإله الأعظم، وأما الأصنام والأوثان فيزعمون أنها مهبط لقوة غيبية... إلخ( ).
ولا حاجة إلى إطالة البيان لهذا الواضح البين لولا زعم من يقول( ): (إن أولئك المشركين ما كانوا جادين فيما يحكي ربنا عنهم من قولهم مسوغين عبادة الأصنام: ((مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى)) [الزمر:3].
ثم احتج هذا القائل بشبهة وهي:
1- أن الله سبحانه قد نهى المسلمين من سب أصنامهم بقوله تعالى: ((وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ)) [الأنعام:108].
وزعم أن قول كلمة نقص في الحجارة التي يعبدونها- يتسبب عنه غضبهم غيرة على تلك الحجارة التي يعتقدون من صميم قلوبهم أنها آلهة تنفع وتضر، وأنهم (لو كانوا صادقين بأن عبادتهم لأصنامهم تقربهم إلى الله زلفى ما اجترؤوا أن يسبوه انتقاماً ممن يسبون آلهتهم، فإن ذلك واضح جداً في أن الله تعالى في نفوسهم أقل من تلك الحجارة).
الجواب عن هذه الشبهة على وجوه:
الوجه الأول( ):(2/286)
أن سبهم الذي يخشى أن يقع عند سب آلهتهم هو مقابلتهم لمن سب معبودهم بمثل سبه يريدون محض المجاراة فيتجاوزون الحد فيها، كما يقع كثيراً من المختلفين في الدين والمذهب، يسب نصراني نبي المسلم فيسب المسلم نبيه ويريد عيسى عليهما الصلاة والسلام، ويسب شيعي- يلاحي سنياً ويماريه- أبا بكر فيسب علياً والأول يعلم أن سب عيسى كفر كسب محمد عليهما الصلاة والسلام والثاني يعلم أن سب علي فسق( ) كسب أبي بكر -رضي الله عنهما-، ومثل هذا يقع كثيراً بل كثيراً ما يتساب أخوان من أهل دين واحد يسب أحدهما أب الآخر أو معبوده فيقابله بمثل سبه، يغيظه بسب أبيه مضافاً إليه، ويعده إهانة له، فيسبه مضافاً إلى أخيه إهانة لأخيه، وهذا كله من حب الذات، والجهل الحامل على المعاقبة على الجريمة بارتكابها عينها يهين والده المعظم عنده ومعبوده الذي هو أعظم منه احتماء لنفسه وعصبية لها، وقد جاء في الصحيح عن عبد الله بن عمرو مرفوعاً: (من الكبائر شتم الرجل والديه قالوا: يا رسول الله وهل يشتم الرجل والديه؟ قال: يسب أبا الرجل فيسب أباه...)( ).
ومما يشهد لهذا الوجه ما ورد في حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: (استب رجل من المسلمين ورجل من اليهود، فقال المسلم: والذي اصطفى محمد على العالمين، فقال اليهودي: والذي اصطفى موسى على العالمين، فلطم المسلم اليهودي فذهب اليهودي إلى النبي صلى الله عليه وسلم واشتكى فقال النبي صلى الله عليه وسلم: {الا تخيروني على موسى}( ).
وقال عليه الصلاة والسلام: {ما ينبغي لعبد أن يقول: إني خير من يونس بن متى}( )، وكل هذا لئلا يفضي إلى المخاصمة والمنازعة ثم يؤدي ذلك إلى الازدراء والانتقاص للمفضول بدون قصد.(2/287)
وعلى هذا الوجه المتقدم يحمل قوله تعالى: ((عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ)) [الأنعام:108]، على أن المراد بالعلم المنفي: (العلم الحضوري الباعث على العمل وهو إرادة السب التي يقصد بها إهانة المسبوب، فإن الساب هنا لا يتوجه قصده إلا إلى إهانة مُخَاطَبه الذي سبه)( ).
الوجه الثاني:
ليس المراد أنهم يسبونه صريحاً ولكن يخوضون في ذكره فيذكرونه بما لا يليق به ويتمادون في ذلك بالمجادلة فيزدادون في ذكره بما لا يليق بالله تعالى، وقد قال بهذا الوجه الراغب الأصفهاني( ).
فالمراد أنهم يقولون ما يستلزم سبه بحيث يفهم ذلك منهم، وإن لم يَعلَم ذلك قَائِلُه( ) وليس ذلك غرضه.
الوجه الثالث:
أن معنى سبهم لله تعالى هو سبهم وعيبهم لأمر المسلمين فيعود ذلك إلى الله تعالى، لا أنهم كانوا يصرحون بسب الله تعالى لأنهم كانوا يقرون أنه خالقهم وإن أشركوا به، وقد قال بهذا الوجه ابن الجوزي( ).
ويقرب هذا الوجه أن الكفار إذا عيب دينهم فلا بد أن يعيبوا دين المسلمين والشريعة الإسلامية وما جاءت به من العبادات والأحكام، فيؤدي ذلك إلى سب من شرع هذا الدين الحنيف وهو الله تعالى.
الوجه الرابع:
أنهم ربما كان في جهالهم من كان يعتقد بأن إله محمد شيطان يحمله على ادعاء الرسالة، وليس خالق السموات والأرض، فكان يشتم إله محمد على هذا التأويل، وهذا الوجه أبداه الرازي احتمالاً( ).
ويؤيد هذا الوجه أن المتخاصم ربما يعتقد أن خصمه لا يعبد الله تعالى بل يعبد إلهاً آخر؛ لأنه يصف معبوده بما لا يصح أن يوصف به الله تعالى عنده، وقد ثبت عن بعض المختلفين في الأديان وفي مذاهب الدين الواحد وصف ربهم وإلههم بصفات، ورب خصومهم وإلههم بصفات تناقضها، أو تضادها كما يقول مثبتو الصفات ونفاتها بعضهم في بعض، مع أن الجميع يقولون: إنهم يعبدون الله خالق السموات والأرض وما بينهما وما فيهما( ).
الوجه الخامس:(2/288)
أن هؤلاء يعلمون أن الله أجل وأعظم من أصنامهم، ولكن تهوى أنفسهم هذه الأصنام أكثر وتحبها حباً أفضل من حب الله تعالى في أشياء مخصوصة باعتباراتٍ مخصوصةٍ، وليس تفضيلاً مطلقاً، وقد أشار إلى هذا الوجه شيخ الإسلام ابن تيمية، حيث ذكر هذه الآية والآية الآتية وقول أبي سفيان الآتي فأجاب بهذا الوجه( ).
الوجه السادس:
معنى السب لله تعالى هو تماديهم في الشرك به، فالشرك مسبة لله تعالى، وأي مسبة أعظم من عبادة غيره معه أو ادعاء الولد والصاحبة له؟ ويدل على هذا الحديث القدسي، قال تعالى: (يشتمني ابن آدم وما ينبغي له أن يشتمني ويكذبني وما ينبغي له، أما شتمه فقوله إن لي ولداً...)( ).
وهذا التمادي في الشرك يحصل من التعصب للآلهة وذلك أن الخصم عندما يسمع سبه وسب معبوده- لا يصغي إلى الحجة ولا يلقي لها بالاً بل يحاول أن يدفع البراهين الساطعة والأدلة الدامغة بدون تأمل ولا روية، ولكن عندما يعلم أن خصمه لا يريد إهانته ولا سب معبوده وإنما يريد الحق والإنصاف- يصغي إلى حجة خصمه وأدلته، ويفكر فيها بجد، وقد يصل في النهاية إلى الاقتناع ولهذا أمرنا الله تعالى بالمجادلة بالتي هى أحسن، قال تعالى: ((وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ...)) [العنكبوت:46].
هذا وقد بقيت وجوه أخرى ذكرت( ) في توجيه الآية مثل أن المراد من سب الله سب رسوله، أو أن الآية في القائلين بالدهر ونفاة الصانع، وهذه الوجوه ضعيفة لا تناسب سياق الآية فالوجوه السابقة كافية لمن يريد الحق والله الموفق.(2/289)
2- كما احتج هذا القائل( ) أيضاً بآية ثانية زاعماً أنها تدل على أن الله تعالى أقل في نفوسهم من الحجارة وهي قوله تعالى: ((وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ)) [الأنعام:136].
الجواب: أن الآية- بحمد الله- تدل على عكس فهم هذا الزاعم وذلك لأن معناها كما قال ابن عباس ومجاهد.
أنهم- يسمون لله جزءاً من الحرث- ولشركائهم وأوثانهم جزءاً، فما ذهبت به الريح أو سقط من جزء أوثانهم إلى جزء الله ردوه وقالوا: الله غني عن هذا، وأما ما ذهب من جزء الله إلى جزء أوثانهم لم يردوه وقالوا: إنها فقيرة ومحتاجة.
وقال السدي: (إذا هلك الذي يصنعون لشركائهم وكثر الذي لله قالوا: ليس بُد لآلهتنا من نفقة، وأخذوا الذي لله فأنفقوه على آلهتهم، وإذا أجدب الذي لله وكثر الذي لآلهتهم قالوا لو شاء أزكى الذي له فلا يردون عليه شيئاً مما للآلهة]( ).
هذان التفسيران المأثوران يدلان على أن الله تعالى أعظم في نفوسهم من آلهتهم، لوصفهم الله تعالى بالغنى على التفسير الأول وبالمشيئة المطلقة على الثاني، ولوصفهم أوثانهم بالفقر والحاجة، وعدم المشيئة.
وهذا واضح جداً فالآية تدل على عكس ما زعمه، ثم إنا لو سلمنا أنها تدل على أن الله أقل من أصنامهم فلا نسلم أنها تدل على عدم اعتقادهم بالربوبية، لما مر في الآية السابقة من الوجه الخامس من أن التفضيل في أشياء مخصوصة ليس تفضيلاً مطلقاً.
3- واحتج أيضاً بشبهة أخرى ثالثة وهي قول( ) أبي سفيان يوم أحد (اعل هبل) وقال: (ينادي صنمهم المسمى بهبل أن يعلو في تلك الشدة رب السموات والأرض ويقهره ليغلب هو وجيشه جيش المؤمنين الذي يريد أن يغلب آلهتهم)( ).
الجواب عن هذه الشبهة بوجوه:(2/290)
1- إن معنى اعل هبل- ظهر دينك( ) - أو أظهر دينك( )، وعلى هذا فهو يخبر بظهور دين هبل على دين المسلمين وليس على خالق السموات والأرض، أو يدعوه بأن يظهر دينه على دين المسلمين ويؤيد الأول تفسير ابن الجوزي له بقوله: (أي علا دينك)( ).
2- ولو سلمنا أن معناه أن هبل أعلى من إله المسلمين فهو على قصد أن إله المسلمين غير خالق السموات والأرض، فإن المشركين لا يعترفون بأن الله هو الذي أرسل محمداً صلى الله عليه وسلم بل يقولون إنه ساحر وكاذب وشاعر إلى آخر ذلك.
ومن الدلائل الصريحة في ذلك قول سهيل بن عمرو في قصة الحديبية عندما أملى الرسول صلى الله عليه وسلم على الكاتب وهو علي بن أبي طالب: {هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله} فقال سهيل: والله لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك، ولكن اكتب محمد بن عبد الله فقال النبي صلى الله عليه وسلم: {والله إني لرسول الله وإن كذبتموني، اكتب محمد بن عبد الله}( ).
3- وإذا كان هناك احتجاج بكلام الكفار في الحرب فيقال لهذا القائل: ماذا تقول في قول أبي جهل يوم بدر: (اللهم أقطعنا للرحم وأتانا بما لا نعرف فأحنه الغداة فكان ذلك استفتاحاً منه فنزلت:((إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ))( )[الأنفال:19].
فقد استفتح أبو جهل بالرب دون اللات والعزى وهبل.
الخلاصة:(2/291)
قد تبين مما سبق أن أكثر الأمم معترفون بتوحيد الربوبية، وخاصة مشركو العرب الذين نزل فيهم القرآن وأنهم إنما أشركوا بصرفهم العبادة لغير الله تعالى بزعمهم الشفاعة والوساطة والتقريب، وأن القول بنفي الربوبية لا يعرف إلا ما يقال احتمالاً وافتراضاً، أو من شرذمة قليلة فسدت فطرتها فتنكرت لما تفرضه الفطرة، وتوجبه البديهة وتظاهرت بالإنكار مع أنها في الحقيقة تقر بذلك: ((وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ)) [النمل:14]، وقال موسى لفرعون: ((قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ)) [الإسراء:102].
وهذا الاعتقاد بالوساطة للأصنام والأوثان وغيرها- لا يمنع من أنه قد يوجد( ) بعض الأفراد القليلين الذين قد ينسون الله بالكلية فيقصدون آلهتهم فقط وإن كانوا يعترفون ويعلمون بالنظر البرهاني أن لا بد من الاعتراف بالله تعالى.
ولكن مناقشتنا ليست في هؤلاء القلة وإنما هي في جمهور المشركين الذين نزل فيهم القرآن وقاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فهؤلاء قطعاً يقرون بالربوبية ويعتقدون في الأصنام الشفاعة والتقريب وهم جَادونَ فيما يعتقدونه من ذلك كما دلت عليه الأدلة القاطعة التي ذكرناها ولله الحمد.
الشبهة( ) الثانية:
قالوا: إن دعاء الصالحين والاستغاثة بهم ليس عبادة لهم وبالتالي فليس شركاً ولا تنطبق عليه النصوص الواردة في منع دعاء غير الله تعالى، لأن المراد بالدعاء في تلك الآيات هو العبادة وليس بمعنى السؤال والنداء والطلب.
وأما الدعاء بمعنى النداء والسؤال فيجوز صرفه لغير الله تعالى، فالممنوع هو دعاء غير الله تعالى بمعنى العبادة لا بمعنى السؤال.
وقالوا: فنحن لم نعبد غير الله تعالى، وإنما المقصود بدعائنا هو التوسل والتشفع فقط لا العبادة.
الجواب عن هذه الشبهة بوجوه:(2/292)
1- إن هذا القول يصادم النصوص الواضحة التي سمت دعاء المسألة عبادة وهي كثيرة: فمن ذلك قوله لمجم: {الدعاء هو العبادة}( ).
ومن ذلك بعض الآيات التي وردت فيها كلمة الدعاء ومتصرفاتها وأريد بها دعاء المسألة نصاً، فلا يمكن تأويلها بالعبادة فهي آيات صريحة في موضع النزاع، منها قوله تعالى: ((قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ)) [الأنعام: (40-41)].
وقوله تعالى: ((قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلا تَحْوِيلًا)) [الإسراء:56].
وقوله تعالى: ((لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ)) [الرعد:14].
فالمراد بالدعاء في هذه الآيات دعاء المسألة كما هو واضح من سياق الآيات.
ويدل على ذلك في الآية الأولى قوله: ((فيكشف ما تدعون إليه)) لأن الكشف هو إجابة الدعاء.
كما يدل على ذلك في الآية الثانية قوله: ((فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلا تَحْوِيلًا)) [الإسراء:56]؛ لأن كشف الضر أو تحويله هو إجابة الدعاء.
ويدل السياق في الآية الثالثة مع المثل المضروب وكلمة لا يستجيبون على أن المراد بالدعاء دعاء المسألة.
وقد ذكرنا فيما تقدم أمثلة أخرى مع نقل كلام العلماء في ذلك.
2- إن أكثر استعمال الدعاء في الكتاب والسنة واللغة ولسان العرب ومن بعدهم من العلماء في السؤال والطلب كما قال العلماء من أهل اللغة وغيرهم( ).
وقد تقدم بيان ذلك في تعريف الدعاء ولله الحمد.(2/293)
ومن الأدلة على أن الاستعمال الأكثر للدعاء إنما هو في السؤال والطلب صنيع المؤلفين من المحدثين وغيرهم، حيث يعقدون في كتبهم بباب الدعوات أو كتاب الدعوات أو مثل هذه العبارة ثم يوردون ما يتعلق بدعاء المسألة فقط( ).
وأغلبهم لا يتعرضون لدعاء العبادة في تلك الكتب والأبواب.
ومثل هؤلاء آخرون الذين أفردوا كتباً خاصة بالدعاء وهي كتب كثيرة للمتقدمين( ) والمتأخرين لم يذكروا في تلك الكتب إلا مما يتعلق بدعاء المسألة.
فهذا يدل على أن الاستعمال الغالب لكلمة الدعاء في لسان المصنفين من العلماء- إنما هو في دعاء المسألة-.
3- لو سلمنا أن المراد بالدعاء في الآيات- العبادة- لا نسلم بأن دعاء المسألة لا يدخل في العبادة، فإنه إن لم يكن الدعاء من العبادة فلا عبادة يمكن تصورها؛ لأن الدعاء يتضمن أنواعاً من العبادات وليس عبادة واحدة فقط، فهو يتضمن الرجاء والخوف والتوكل والتضرع والابتهال والخشية والطمع والتوجه إلى الله والإقبال عليه والانطراح بين يديه وحسن الظن بالله، والمراقبة لله، كما أنه يتضمن سؤاله وذكره وثناءه والتوسل إليه بأسمائه الحسنى وصفاته العليا.
فإذا لم تكن هذه الأمور عبادة فلا يمكن أن نتصور عبادة وقد وردت الأدلة الصحيحة بأن الدعاء هو العبادة وأنه مخها وروحها، قال صلى الله عليه وسلم في حديث النعمان بن بشير -رضي الله عنهما-: الدعاء هو العبادة (فثبت بهذا أن الدعاء عبادة من أجل العبادات فإن لم يكن الإشراك فيه شركاً، فليس في الأرض شرك، وإن كان في الأرض شرك فالشرك في الدعاء أولى أن يكون شركاً من الإشراك في غيره من أنواع العبادات)( ).(2/294)
فتحصل من هذا أن الدعاء داخل في العبادة، وأن الآيات والأحاديث الواردة في العبادة والتحذير من صرفها لغير الله تعالى تشمل وتعم جميع أنواع العبادت ومن أجلها دعاء المسألة، وقد قدمنا تلازم نوعي الدعاء وأن دعاء العبادة يستلزم الطلب والسؤال، فلا ينفع الخصم تأويل معنى الدعاء إلى العبادة وتضييقه لمفهوم العبادة حيث يظن أنها خاصة بالصلاة والصوم والحج.
قال الأمير الصنعاني جواباً لمن حصرها في الصلاة والصوم إلخ: (هذا جهل بمعنى العبادة فإنها ليست منحصرة فيما ذكرت بل رأسها وأساسها الاعتقاد، وقد حصل في قلوبهم ذلك بل يسمونه معتقداً ويصنعون له ما تفرع عن الاعتقاد من دعائهم وندائهم والتوسل بهم والاستغاثة والحلف والنذر وغير ذلك)( ).
4- وأما ادعاء( ) أن هذا الطلب والسؤال الذي يصرف لغير الله ليس بدعاء بل هو نداء فالآيات إنما وردت في التحذير من الدعاء، وأما النداء للغائب فجائز.
فهذا الادعاء غير صحيح لأمور( ):
أ- إن الله سبحانه وتعالى قد سمى النداء دعاء في كثير من الآيات منها ((ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا * إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا * قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا))[مريم:2-4].
سمى الله النداء دعاء في هذه الآية لأن مدلولهما واحد من باب الترادف على معنى واحد( )، وقال تعالى: ((وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً)) [البقرة:171]. فعطف النداء على الدعاء عطف مرادف. وقال تعالى: ((وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ)) [الأنبياء:76]، وسمي ذلك دعاء في آية أخرى فقال: ((فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ)) [القمر:10].(2/295)
ب- ثم يقال: وأي فرق بين ما إذا سأل العبد ربه حاجة وبين ما إذا طلبها من غيره ميت أو غائب بأن الأول يسمى دعاء والثاني نداء؟( ).
ولا فرق بين الأمرين لا في اللغة ولا في الشرع.
جـ- ثم يقال أيضاً: وأي فرق بين سؤال الميت حاجة وبين سؤالها من صنم ونحوه بأن الثاني يسمى دعاء والأول نداء؟ فإن قال: الكل يسمى نداء لا دعاء، فهذا مشاقة للقرآن ومحادة لله ورسوله( )؛ لأنه قد وردت آيات كثيرة جداً تسمي نداءَ ما يعبد من دون الله دعاء وذكرنا أمثلتها في التعريف فيما تقدم.
5- وأما ادعاء أن دعاء الصالحين لا يسمى عبادة وإنما يسمى توسلاً أو شفاعة أو تبركاً إلى آخر تلك التأويلات فهو قول باطل لأن الأسماء لا أثر لها ولا تغير المعاني، ضرورة لغوية وعقلية وشرعية، فتغيير الاسم لا يغير حقيقة المسمى ولا يزيل حكمه( ) ؛ لأن العبرة بالمقاصد لا بالألفاظ والأسماء، كما يدل على ذلك قوله تعالى: ((وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ)) [الأحزاب:5]، وقال عليه الصلاة والسلام: {إنما الأعمال بالنيات}( ).
وقد أخبر المصطفى صلوات الله وسلامه عليه أنه سيأتي قوم يشربون الخمر ويسمونها بغير اسمها( ).
فالخمر هي الخمر ولو سموها -زوراً وبهتاناً- شراباً روحياً أو غير ذلك من الأسماء البراقة الخادعة.
وكذلك دعاء- غير الله تعالى- لا يتغير بتسميته توسلاً وتشفعاً وتبركاً، وكذلك تسمية من يعتقدون فيه أولياء لا تخرجهم عن اسم الأصنام والأوثان، إذ هم معاملون لهم معاملة المشركين للأصنام ويطوفون بهم طواف الحجاج ببيت الله الحرام ويخاطبون الميت بالكلمات الكفرية ويهتفون بأسمائهم عند الشدائد( ).(2/296)
قال ابن القيم: فالشرك والكفر هو شرك وكفر لحقيقته ومعناه لا لاسمه ولفظه، فمن سجد لمخلوق وقال: ليس هذا بسجود له هذا خضوع وتقبيل الأرض بالجبهة أو هذا إكرام لم يخرج بهذه الألفاظ عن كونه سجوداً لغير الله، وكذلك من ذبح للشيطان ودعاه واستعاذ به وتقرب إليه بما يحب فقد عبده وإن لم يسم ذلك عبادة( ).
فتبين مما سبق أن ما يفعله عباد القبور من دعاء أصحابها وسؤالهم قضاء الحاجات وتفريج الكربات والتقرب إليهم بالذبائح والنذور عبادة منهم للمقبورين وإن كانوا لا يسمونه ولا يعتقدونه عبادة.
ومن كيد الشيطان أنه لما علم أن كل من قرأ القرآن أو سمعه ينفر من الشرك ومن عبادة غير الله تعالى ألقى في قلوب الجهال أن ما يفعلونه مع المقربين وغيرهم ليس عبادة لهم وإنما هو توسل وتشفع بهم والتجاء إليهم ونحو ذلك، فسلب العبادة والشرك اسمهما من قلوبهم وكساهما أسماء لا تنفر عنها القلوب( ).
6- إن السبب الذي أوقعهم فيما قالوا أنهم ضيقوا مفهوم العبادة وظنوا أنها لا تشمل إلا نحو السجود والركوع.
كما ظنوا أن العبادة لا يكون صرفها لغير الله شركاً إلا إذا اعتقد التأثير من دون الله، وقد صرح بعضهم بذلك. فقال: وإنما النداء الذي يكون عبادة هو نداء من يعتقدون ألوهيته واستحقاقه العبادة، فيرغبون إليه ويخضعون بين يديه فالذي يوقع في الإشراك هو اعتقاد ألوهية غير الله تعالى واعتقاد التأثير، وأما النداء لمن لا يعتقد ألوهيته ولا تأثيره فليس بشرك وإن كان لميت أو غائب أو جماد( ). وقال غيره: إن العبادة هي اعتقاد ربوبية المخضوع له فإن انتفى ذلك الاعتقاد لم يكن ما يأتي به من الخضوع الظاهري من العبادة شرعاً مهما كان المأتي به ولو سجوداً( ). وهذا باطل لأمور:(2/297)
أ- لأن الشرك جعل شريك لله تعالى فيما يستحقه ويختص به من العبادة الباطنة والظاهرة، كالحب والخضوع والخوف والرجاء والدعاء... فمتى أشرك مع الله غيره في شيء من ذلك فهو مشرك بربه، قد عدل به سواه وجعل له نداً من خلقه، ولا يشترط في ذلك أن يعتقد له شركة في الربوبية أو استقلالاً بشيء منها( ).
ب- ثم يقال لهم إن ظنكم أن العبادة لا يكون صرفها لغير الله شركاً إلا إذا اعتقد التأثير- يدل على أن الشرك لا يكون إلا اعتقادياً، وأن اللفظ لا يكون كفراً إلا إذا طابق الاعتقاد، وهذا يقتضي سد أبواب الشرائع ويخالف ما ذكره الفقهاء في باب الردة من التكفير بألفاظ يذكرها بعض الناس من غير اعتقاد( )، وهذا الجواب على سبيل التنزل معهم وإلا فكثير منهم يعتقدون ما يقولون.
جـ- ثم يقال لهؤلاء الذين ضيقوا مفهوم العبادة: إن السجود عبادة ومثله الدعاء والنذر والذبح فما الفارق الذي أباح صرف هذا دون هذا؟ بل الذي ورد في خصوص الدعاء أكثر مما ورد من السجود( ).
د- ويقال لهم أيضاً: إن هذا جهل بمعنى العبادة فإنها ليست منحصرة في السجود والصلاة والصيام إلخ، (بل رأسها وأساسها الاعتقاد، وقد حصل في قلوبهم ذلك بل يسمونه معتقداً ويصنعون له ما تفرع عن الاعتقاد من دعائهم وندائهم والتوسل بهم والاستغاثة والاستعانة والحلف والنذر وغير ذلك)( ).
هـ- ويقال أيضاً لمن قال: إنه لم يقصد بدعاء الأموات والنحر لهم عبادتهم: (فلأي مقتضى صنعت هذا الصنيع؟ فدعاؤك للميت عند نزول أمر بك لا يكون إلا لشيء في قلبك عبر عنه لسانك، فإن كنت تهذي بذكر الأموات عند عروض الحاجات من دون اعتقاد منك فأنت مصاب بعقلك)( ).(2/298)
7- هذا ومما يدل على أن ادعاءهم بأنهم يريدون من الدعاء التوسل.. الخ ليس صحيحاً أن بعض هؤلاء يعترف بأنه لا فرق بين التوسل والاستشفاع بالأولياء؛ وبين الاستغاثة والدعاء والنداء وطلب تفريج الكربات من الأولياء فالكل من باب واحد لأن المهم هو عدم اعتقاد التأثير المستقل للأولياء.
ومع هذا إذا نوقشوا واحتج عليهم بأن القسم الثاني الذي هو الاستغاثة.. إلخ شرك صريح بدليل الآيات البينات.
قالوا: إنها تؤول إلى التوسل والشفاعة.
فدل هذا على أن- هذا الكلام إنما هو تلبيس للحقائق وتسمية للأشياء بغير اسمها وإلا فهم باعترافهم لا يرون فرقاً بين الأمرين؛ وأن الكل ليس بمحظور بل هو مستحب وأدب من آداب الدعاء.
وهذه عبارات بعضهم تنادي عليهم بذلك:
قال السبكي: (اعلم أنه يجوز ويحسن التوسل، والاستغاثة، والتشفع بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى ربه سبحانه وتعالى)( ).
ثم ذكر أن معنى الاستغاثة طلب الغوث، فالمستغيث يطلب من المستغاث به أن يحصل له الغوث من غيره، وإن كان أعلى منه، فالتوسل والتشفع والتوجه والاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم وسائر الأنبياء والصالحين ليس لها معنى في قلوب المسلمين غير ذلك... وإذا صح المعنى فلا عليك في تسميته توسلاً أو تشفعاً أو توجهاً أو استغاثة.
ثم ذكر أنه لو سلم أن لفظ الاستغاثة يستدعي النصر على المستغاث منه، فالعبد يستغيث بالنبي صلى الله عليه وسلم وغيره من الصالحين متوسلاً بهم إلى الله ليغيثه على من استغاث منه، والمستغاث به في الحقيقة هو الله تعالى، والنبي صلى الله عليه وسلم واسطة بينه وبين المستغيث( )، ويقول أيضاً: (فالله تعالى مستغاث، فالغوث منه خلقاً وإيجاداً، والنبي صلى الله عليه وسلم مستغاث، والغوث منه تسبباً وكسباً)( ).(2/299)
فهو يعترف بأن الاستغاثة بالصالحين لا مانع منها، ويعلل ذلك بأن القصد من الاستغاثة بهم كونهم واسطة بين المستغيث بهم وبين الله تعالى. وقد عرف أن هذا الاعتقاد بالواسطة هو عين ما يعتقده المشركون الأوائل.
كما يرى أن إسناد الاستغاثة إلى المخلوق بمعنى أنهم مكتسبون لها ومتسببون فيها لا مانع، فهو يشير بهذا إلى كسب الأشعري المعروف. فعلى قوله فإسناد الاستغاثة إلى النبي صلى الله عليه وسلم في حال مماته كإسناد الاستغاثة إليه في حال حياته؛ لأن الكل من باب الكسب والتسبب، وأما المؤثر الحقيقي في الحالتين فهو الله تعالى.
وذكر الهيتمي مثل كلام السبكي السابق ولعله نقله منه ومما قاله( ): (فهو سبحانه وتعالى مستغاث به حقيقة والغوث منه خلقاً وإيجاداً، والنبي صلى الله عليه وسلم مستغاث به مجازاً( ) والغوث منه تسبباً وكسباً فهو على حد قوله تعالى: ((وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى)) [الأنفال:17]، أي وما رميت خلقاً وإيجاداً إذ رميت تسبباً وكسباً ولكن الله رمى خلقاً وإيجاداً، وقوله تعالى: ((فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ)) [الأنفال:17].
وبالجملة فإطلاق لفظ الاستغاثة لمن يحصل منه غوث باعتبار الكسب أمر معلوم لا شك فيه لغة ولا شرعاً، فإذا قلت:أغثني يا الله، تريد الإسناد الحقيقي باعتبار الخلق والإيجاد، وإذا قلت:أغثني يا رسول الله، تريد الإسناد المجازي باعتبار الكسب والتوسط).
ففي هذا الكلام الأمور التالية:
1- أنه يجوز طلب الاستغاثة من الرسول صلى الله عليه وسلم، وكذا من الصالحين لأنه لا فرق بين ذلك عندهم.
2- إن المستغاث به الذي هو النبي صلى الله عليه وسلم أو الولي، يغيث ويقع الغوث منه في حال مماته مثل ما يقع منه في حال حياته بدون أدنى أي فرق بين الحالتين، وقد علم بالضرورة الفرق بين الحالتين، فعدم الفرق باطل.(2/300)
3- إن إسناد الغوث إلى المخلوق إسناد كسب وتسبب، وليس إسناد إيجاد وخلق، وهذه العقيدة في الإسناد في الأفعال هي عامة عندهم في الأفعال الاختيارية، وهو قول الأشعري في مسألة قدرة العبد على الفعل وأن ذلك كسب وليس فعلاً، وهو يرجع في الحقيقة إلى قول الجبرية كما تقدمت الإشارة إلى ذلك. فهذا اعتراف منهم بأنهم يعتقدون أن الاستغاثة قد وقعت فعلاً وحصلت من المستغاث به، وأنه يقدر على الإغاثة وإن كانوا يؤولون في معنى القدرة، وأن المؤثر الحقيقي هو الله تعالى.
4- إنه لا فرق بين الاستغاثة وبين التوسل والتشفع وأن المراد من الكل هو توسط النبي أو الولي في قضاء الحاجات.
وقد علمنا أن عقيدة التوسط والشفاعة هي التي يعتقدها المشركون.
وقد نقل( ) كلام الهيتمي هذا -أحمد زيني دحلان- واحتج به وممن صرح بذلك الدجوي( ) فإنه قال: (والحاصل أنه لا يكفر المستغيث إلا إذا اعتقد الخلق والإيجاد لغير الله تعالى... فإنه إن اعتقد الإيجاد لغير الله كفر على خلاف للمعتزلة في خلق الأفعال وإن اعتقد التسبب والاكتساب لم يكفر، وأنت تعلم أن غاية ما يعتقد الناس في الأموات هو أنهم متسببون ومكتسبون كالأحياء لا أنهم خالقون موجدون كالإله، إذ لا يعقل أن يعتقد فيهم الناس أكثر من الأحياء، وهم لا يعتقدون في الأحياء إلا الكسب والتسبب، فإذا كان هناك غلط فليكن في اعتقاد التسبب والاكتساب لأن هذا هو غاية ما يعتقده المؤمن في المخلوق وإلا لم يكن مؤمناً والغلط في ذلك ليس كفراً ولا شركاً)( ).
وهذا الكلام مع خطورته واعتراف صاحبه بأنه لا يضر قصد الميت للاستغاثة على قضاء الحاجات- قد انتحله بعض المعاصرين( ).
وممن صرح بعدم الفرق بين الاستغاثة والتوسل وغيرهما الكوثري، فقد ذكر أن الاستغاثة والاستعانة والتوسل من باب واحد( ).(2/301)
هذا ومما يلاحظ على هؤلاء الذين نقلنا كلامهم أنهم احتجوا بمسألة خلق أفعال العباد على المذهب الأشعري، وهذا لا يفيدهم شيئاً بل يبين اعتقادهم ويكشفه على حقيقته لاعتقادهم للموتى ما يعتقدونه للأحياء.
ثم إن مسألة خلق أفعال العباد لا تلازم بينها وبين دعاء الأولياء والصالحين بوجه ما وإنما ظن هؤلاء أن من قال بأن الله يخلق أفعال العباد يبيح ويجيز دعاء الصالحين، ومن قال: إن العبد يخلق أفعال نفسه يحرم عليه ذلك( ).
وهذا ظن سيىء لأن كلا الفريقين لا فرق بينهم في منع طلب ما لا يقدر عليه إلا الله من غير الله تعالى؛ لأن ذلك ليس من باب الكسب المباشر بل يكون من التأثير بالقوة والسلطان الغيبي بدون مباشرة الأسباب؛ لأن من يدعوهم يعتقد أنهم يؤثرون في حاجته بدون مباشرة للأسباب الظاهرة، وهذا من خصائص الله تعالى.
الشبهة الثالثة:
قولهم: إن تلك النصوص إنما وردت في الأصنام فقط، والأولياء والصالحون ليسوا مثل الأصنام، فمن يدعوهم ليس مثل من يدعو الأصنام. والجواب( ):
1- إن المشركين الذين وردت فيهم تلك النصوص ليسوا كلهم يعبدون الأصنام فإن منهم من يعبد الأولياء والصالحين، ومنهم من يعبد الملائكة، ومنهم من يعبد الأنبياء، ومنهم من يعبد الأحجار وهي في الأصل صور رجال صالحين، والأدلة على ذلك كثيرة من القرآن الكريم ومن أوضحها قوله تعالى: ((قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلا تَحْوِيلًا * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا)) [الإسراء: (56-57)].
فهذه الآية في العقلاء بدون شك وإن اختلف المفسرون في تعيينهم:(2/302)
أ- فقيل الجن، فقد روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (كان نفر من الإنس يعبدون نفراً من الجن فأسلم النفر من الجن واستمسك الإنس بعبادتهم فنزلت:((أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ)) [الإسراء:57] وفي رواية: {فأسلم الجنيون، والإنس الذين كانوا يعبدونهم لا يشعرون}( ).
ب- وفي رواية أخرى عن عبد الله بن مسعود أنها نزلت في الملائكة ومثله عن عبد الرحمن بن زيد( ).
جـ- وفي رواية أنهم عزير وعيسى وأمه والملائكة، روي ذلك عن ابن عباس ومجاهد( ).
فهذه الأقوال المنقولة عن السلف في تفسير هذه الآية ليس بينها اختلاف؛ لأنها عامة تشمل كل هذه الأقوال إذ العبر بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، ثم إنه ليس مراد من فسرها بالجن أو الملائكة أنها خاصة بذلك وإنما مراده مجرد التمثيل.
قال شيخ الإسلام: [وهذه الأقوال كلها حق، فإن الآية تعم كل من كان معبوده عابداً لله سواء كان من الملائكة أو من الجن أو من البشر والسلف -رضي الله عنهم- في تفسيرهم يذكرون جنس المراد بالآية على نوع التمثيل، كما يقول الترجمان لمن سأله ما معنى لفظ الخبز فيريه رغيفاً فيقول هذا، فالإشارة إلى نوعه لا إلى عينه.
وليس مرادهم بذلك تخصيص نوع دون نوع مع شمول الآية للنوعين، فالآية خطاب لكل من دعا من دون الله مدعواً وذلك المدعو يبتغي إلى الله الوسيلة، ويرجو رحمته ويخاف عذابه، وهذا موجود في الملائكة والجن والإنس]( ).
فمعنى( ) الآية: أن الذين يدعونهم المشركون هم أنفسهم يتقربون إلى الله بالطاعات ويرجونه ويخافونه فكيف يجوز دعاؤهم؟ وهكذا كقوله تعالى: ((أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ)) [الكهف:102].
وأما القول بأنها لا تعم إلا الذين كانوا أحياء في وقت النزول وهم الملائكة والجن لأنهم هم الذين يتقربون ويرجون ويخافون وقت نزول الآية.(2/303)
وأما الذين ماتوا مثل عزير ومريم فلا تشملهم( ) ففيه نظر؛ لأنه يمكن أن يقال: إن الآية تذكر صفتهم في حال حياتهم فقد كانوا يتقربون إلى الله تعالى( )، ويمكن أن يقال أيضاً: إنهم لا زالوا يتقربون كما ورد أن موسى يصلي في قبره( )، وأما الرجاء والخوف فلا ينقطع إلا بعد دخول الجنة يوم القيامة.
فتبين بهذا أن الآية عامة في المعبودين من العقلاء بدون تخصيص صنف دون صنف.
وقد اتفقت أقوال المفسرين على أن هذه الآية في المدعوين العقلاء وليست في الأصنام وإليك قول الرازي: (اعلم أن المقصود من هذه الآية الرد على المشركين وقد ذكرنا أن المشركين كانوا يقولون: ليس لنا أهلية أن نشتغل بعبادة الله تعالى، فنحن نعبد بعض المقربين من عباد الله، وهم الملائكة، ثم أنهم اتخذوا لذلك الملك الذي عبدوه تمثالاً وصورة، واشتغلوا بعبادته على هذا التأوبل، والله تعالى احتج على بطلان قولهم في هذه الآية فقال: ((قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ)) [الإسراء:56] وليس المراد الأصنام لأنه تعالى قال في صفتهم: ((أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ)) [الإسراء:57] وابتغاء الوسيلة إلى الله تعالى لا يليق بالأصنام البتة)( ).(2/304)
ومما يدل على أن المشركين الذين نزل فيهم القرآن يعبدون غير الأصنام ما بينه الله سبحانه وتعالى في كتابه من الشرك بالملائكة، والشرك بالأنبياء، والشرك بالصالحين، والشرك بالكواكب، والشرك بالأصنام، والشرك بالجن، وأصل ذلك كله الشرك بالشيطان، فقال تعالى في الشرك بالملائكة والأنبياء: ((مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ * وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)) [آل عمران: (79-80)]. وقال تعالى: ((وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ)) [المائدة:116]، وقال في الشرك بالملائكة والأنبياء والصالحين: ((أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ)) [الإسراء:57]. وقال: ((اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ)) [التوبة:31].(2/305)
وقال في الشرك بالملائكة والجن: ((وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ)) [سبأ: (40-41)]. ((وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا)) [الجن:6]، وقال تعالى في الشرك بالشيطان: ((إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ)) [النحل:100].
2- ثم لو سلمنا أن تلك النصوص وردت في الأصنام فقط على سبيل التنزل فإننا نقول: إن تلك الأصنام هي تماثيل لقوم صالحين فقد ثبت في ود وسواع ويغوث.. إلخ أنها أسماء رجال صالحين من قوم نوح. كما ثبت أن اللات رجل يلت السويق للحجيج.
وقد تقدم ذكر ذلك.
وعلى هذا فعبادة الأصنام ترجع في الحقيقة إلى عبادة الصالحين فهي الأساس في العبادة وأصل الفتنة.
وقد ذكر كثير من علماء الإسلام هذا المعنى وبينوا أن عبادة الأصنام ترجع إلى عبادة العقلاء من الملائكة والأنبياء والصالحين أو الكواكب( ).(2/306)
كما أقر بهذا الباحثون المعاصرون كما ذكر ذلك الدكتور محمد عبد الله دراز فإنه قال: [فاعلم أن كلمات الباحثين في نفسيات المتدينين وعقلياتهم قد تطابقت على أنه ليس هناك دين أياً كانت منزلته من الضلال والخرافة، وقف عند ظاهر الحس، واتخذ المادة المشاهدة معبودة لذاتها وأنه ليس أحد من عباد الأصنام والأوثان كان هدف عبادته في الحقيقة هياكلها الملموسة، ولا رأى في مادتها من العظمة الذاتية ما يستوجب لها منه هذا التبجيل والتكريم، وكل أمرهم هو أنهم كانوا يزعمون هذه الأشياء مهبطاً لقوة غيبية أو رمزاً لسر غامض يستوجب منهم هذا التقديس البليغ فهي في نظرهم أشبه شيء بالتمائم والتعويذات التي يتفاءل أو يتبرك بها أو يستدفع بها شيء من الحسد أو السحر... ثم ضرب مثالاً لذلك بالزنوج الذين في جبال النوبة وأنهم يعبدون رجلاً يسألونه دفع البلاء وجلب النفع بالمطر والرزق، ويبالغون في دعائه واسترضائه، فإن لم يحصل مطلوبهم سجنوه وربما قتلوه.
فدل هذا على أنهم يعتقدون فيه علم الأسرار والقدرة على قضاء الحاجات إلى حد محدود، كما هو الحال في المعتقدين في الأولياء والقديسين ولا يمنع ذلك من اعتقادهم في الإله الأعظم)( ).
3- ثم إن تلك النصوص عامة شاملة لجميع المدعوين من دون الله سواء كانوا من الأصنام الجامدات أو العقلاء؛ لأن تلك النصوص وردت بألفاظ العموم فتشمل الجميع.
وبعض تلك النصوص جاءت بألفاظ خاصة بالعقلاء نحو: ((وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ * أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ)) [النحل:20-21]. وليست هذه الآية في الأصنام كما يزعمه من لم يتدبر؛ لأن الذين لم يخبر به إلا عن العقلاء ولأن الأصنام من الأخشاب والأحجار لا يحلها الموت( ).(2/307)
وبهذا يتبين أن النصوص عامة لكل المدعوين من العقلاء وغيرهم، ومن ادعى التخصيص بغير العقلاء فعليه البرهان ولا برهان له يدل على الفرق بين العقلاء وغيرهم؛ (لأن الحكم واحد إذا حصل لمن يعتقد في الولي والقبر ما كان يحصل لمن كان يعتقد في الصنم والوثن، إذ ليس الشرك هو مجرد إطلاق بعض الأسماء على بعض المسميات، بل الشرك هو أن يفعل لغير الله شيئاً يختص به سبحانه سواء أطلق على ذلك الغير ما كان تطلقه عليه الجاهلية أو أطلق عليه اسماً آخر فلا اعتبار بالاسم قط...
وقد علم كل عالم أن عبادة الكفار للأصنام لم تكن إلا بتعظيمها واعتقاد أنها تضر وتنفع، والاستغاثة بها عند الحاجة والتقرب لها في بعض الحالات بجزء من أموالهم وهذا كله قد وقع من المعتقدين في القبور...)( ).
وإنما قلنا بأن الآيات جاءت بألفاظ العموم لأنها جاءت بصيغة الموصول وهي من صيغ العموم( ) كقوله: ((وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ)) [فاطر:13]، وقوله: ((وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ)) [يونس:106]، وقوله: ((قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ)) [الإسراء:56].
فهذه الموصولاِت فى كلام الله وكلام رسوله واقعة على كل مدعو ومعبود نبياً كان أو ملكاً أو صالحاً إنسياً أو جنياً، حجراً أو شجراً متناولة لذلك بأصل الوضع، فإن الصلة كاشفة ومبينة للمراد وهي واقعة على كل مدعو من غير تخصيص، وهي أبلغ وأدل وأشمل من الأعلام الشخصية والجنسية.
وهذا هو الوجه في إيثارها على الأعلام، وشرط الصلة أن تكون معهودة عند المخاطب، والمعهود عند من يعقل من أصناف بني آدم أن الأنبياء والملائكة والصالحين قد عُبِدوا مع الله وقصدهم المشركون بالدعاء في حاجاتهم( ).
فتبين مما سبق بطلان القول بأن النصوص واردة في الأصنام، واتضح أنها عامة لكل معبود من دون الله تعالى.
الشبهة( ) الرابعة:(2/308)
قولهم: إن المشركين الذين نزل فيهم القرآن لا يشهدون أن لا إله إلا الله ويكذبون الرسول صلى الله عليه وسلم، وينكرون البعث ويكذبون القرآن ونحن نشهد الشهادتين ونؤمن بالبعث ونصلي ونصوم.. إلخ فكيف تجعلوننا مثلهم بمجرد قصدنا الأولياء للشفاعة؟ واحتجوا على هذا بحديث: أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا... وحديث أسامة وغيرهما من الأحاديث الآمرة بالكف عمن قال: لا إله إلا الله.
جـ( )- الإقرار بالشهادتين والاعتراف بالشريعة الإسلامية لا يغني عن الاحتراز من الوقوع في نواقض الإسلام، ولا يلزم من ذلك بقاء الرجل على الإسلام ولو أتى بالكفريات وبما يناقض الشهادتين، والأدلة على ذلك كثيرة:
1- إجماع( ) العلماء -رحمهم الله تعالى- على أن من صدق الرسول صلى الله عليه وسلم في شيء وكذبه في شيء يكفر، قال تعالى: ((إِنَّ الَّذِينَ يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلاً أولئك هم الكافرون حقاً وأعتدنا للكافرين عذاباً مهيناً)) [النساء:150-151].
وقد علم أن التوحيد أهم أركان الإسلام فمن أنكره أو أنكر بعض جوانبه فقد كفر.
2- وقد وقع في التاريخ الإسلامي ما يدل على إجماع العلماء على تكفير من أنكر بعض الشيء من الدين ومن ذلك:
أ- إجماع الصحابة -رضوان الله عليهم- على قتال المرتدين بعد مناقشة عمر لأبي بكر وبيانه له، فلم يحصل بينهم في قتالهم خلاف مع أن بعضهم لا زال يقر بالإسلام.
ب- قد حرق علي -رضي الله عنه- الذين غلوا فيه وألهوه، ولم ينكر عليه أحد من الصحابة ولا التابعين وقد أنكر عليه ابن عباس الإحراق بالنار، لا أصل قتلهم.
3- فقهاء المذاهب يعقدون أبواباً في أحكام الردة ولو أن المسلم لا يمكن وقوع الكفر منه لما كانت حاجة إلى عقد تلك الأبواب.
وقد ذكروا في تلك الأبواب ما هو أقل بكثير مما نحن فيه.(2/309)
4- قد وردت آيات تدل على ارتداد من ارتكب بعض الكفريات مع كونهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يجاهدون معه ويقاتلون الكفار، قال تعالى: ((يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا)) [التوبة:74]. وقال سبحانه: ((وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ)) [التوبة: (65-66)]. وهؤلاء كانوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك فلو كان مجرد الشهادتين يمنع الحكم بالكفر لما كفرهم، وحكم بأنهم كفروا بعد إيمانهم.
5- كما أنه قد وردت آيات أخر تبين أن من أشرك يبطل عمله حتى ولو كان من الأنبياء والمرسلين مع أن الله عصمهم، فكيف بغيرهم؟ قال تعالى بعد ذكر جملة من الأنبياء: ((وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)) [الأنعام:88]. وقال جل شأنه: ((وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ)) [الزمر:65].(2/310)
6- الأنبياء والرسل الكرام وجلة الصالحين كانوا يخافون على أنفسهم الشرك، ولو كان مجرد النطق بالشهادتين يكفي ولا يضر الإتيان بما يناقض ذلك لما خافوا على أنفسهم من الشرك. قال إبراهيم عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والتسليم: ((وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ * رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ)) [إبراهيم: (35-36)]. وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم أمته من الشرك فقال: يا أيها الناس اتقوا هذا الشرك فإنه أخفى من دبيب النمل فقيل له: وكيف نتقيه وهو أخفى من دبيب النمل يا رسول الله؟
قال: قولوا: اللهم إنا نعوذ بك أن نشرك بك شيئاً نعلمه ونستغفرك لما لا نعلم( ).
7- ويقال أيضاً في الجواب: (إن الجامع بين المشركين من الأولين والآخرين موجود وهو الشرك؛ فالحكم في ذلك واحد لا فرق فيه لعدم الفارق ووجود الجامع.
وفي أصول الفقه: إن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، ويلزم من هذا الاعتراض أن يقال: كل حكم نزل على سبب مخصص في قضية سالفة فهو لا يتعداها إلى غيرها.
وهذا باطل، وتعطيل لجريان الأحكام الشرعية على جميع البرية)( ) لأنه يلزم من اعتقاد أن الآيات لا تشمل إلا المشركين الأوائل الذين نزلت فيهم أنها لا حكم لها الآن، فالذي يجب على الإنسان إذا قرأ القرآن أن لا يحسب أن المخاصمة كانت مع قوم انقرضوا، بل الواقع أنه ما من بلاء كان فيما سبق من الزمان إلا وهو موجود اليوم بطريق الأنموذج( ) بحكم الحديث: {لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة...}( ).(2/311)
وأما احتجاجهم بالأحاديث الآمرة بالكف عمن قال: لا إله إلا الله فيقال: إن الأحاديث تدل على وجوب الكف عمن قالها إلا إن تبين منه ما يناقض تلك الكلمة( )، كدعاء غير الله تعالى والاستغاثة بالأولياء.. إلخ. وقد ثبت في بعض طرق الأحاديث ما يفيد ذلك وهو قوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة رضي الله عنه في بعض طرقه عند مسلم: {أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، ويؤمنوا بي وبما جئت به}( ). فقوله صلى الله عليه وسلم: {ويؤمنوا بي وبما جئت به} يدل على وجوب الإيمان بكل ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا يكفي مجرد الإيمان بالشهادتين فقط.
كما ورد نحوه في حديث آخر وهو ما أخرجه مسلم أيضاً من حديث أبي مالك الأشجعي عن أبيه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {من قال: لا إله إلا الله، وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه وحسابه على الله}( ).
فدل على اشتراط الكفر والبراءة مما يعبد من دون الله وأنه لا يكتفي بمجرد النطق بلا إله إلا الله.
ويدل لذلك أيضاً قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي احتجوا به {إلا بحقها}. وفي رواية: {إلا بحق الإسلام}( ).
وحقها إفراد الإلهية والعبودية لله تعالى، والقبوريون لم يفردوا الإلهية والعبادة فلم تنفعهم كلمة الشهادة فإنها لا تنفع إلا مع التزام معناها، كما لم ينفع اليهود قولها لإنكارهم بعض الأنبياء)( ).
وقد صرح بعض العلماء بأن حديث الأمر بالكف بالإقرار بالشهادة خاص بمشركي العرب، وأما من كان يقر بالتوحيد كاليهود فلا يكتفي بقوله: لا إله إلا الله لأنها من اعتقاده، فلا بد من إيمانه بجميع ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم( ).
فاتضح بما سبق أن كلمة الشهادتين وإقامة الصلاة.. إلخ إنما يفيد من التزم: بمقتضى ذلك ولم يأت بما يناقضه، وأما من لم يلتزم بذلك وأتى بالنواقض فلا يمنعه.
الشبهة( ) الخامسة:(2/312)
قولهم: إن الشرك لا يقع في الأمة المحمدية الأمة المرحومة خير الأمم ولاسيما في الجزيرة العربية المطهرة. واحتجوا على هذا بأحاديث:
1- حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: {إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب ولكن في التحريش بينهم}( ).
2- وحديث: {اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد}( ) فدعاء النبي صلى الله عليه وسلم مجاب فيقتضي ذلك أن قبره لن يعبد.
3- وحديث عقبة بن عامر مرفوعاً: {وإني والله ما أخاف عليكم أن تشركوا بعدي ولكن أخاف عليكم أن تتنافسوا فيها}( ).
الجواب عن الحديث الأول بأوجه:
1- إن معنى الحديث: {إنه يئس أن يجتمعوا كلهم على الكفر}( )
وأن يرتدوا عن الإسلام عن بكرة أبيهم لأن الله تعالى قد وعد باستخلاف المسلمين في الأرض وتمكينه لهم فيها، وأول ما تنطبق عليه تلك الأرض الموعود أهلها بالتمكين فيها جزيرة العرب. قال تعالى: ((وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ)) [النور:55].
وقد أجاب الله تعالى دعوة النبي صلى الله عليه وسلم بأن لا يسلط على أمته عدواً يستبيح بيضتهم( ).
فكل هذا يدل على أن أهل الجزيرة العربية لا يمكن اجتماعهم على الارتداد عن الإسلام.
2- الذي ثبت في لفظ الحديث هو نسبة اليأس إلى الشيطان مبنياً للفاعل ولم يقل الرسول صلى الله عليه وسلم {أيس} بالبناء للمفعول، ولو قدر أنه يئس من عبادته في جزيرة العرب أبد الآبدين فإنما ذلك حسب ظنه وتخمينه لا عن علم؛ لأنه لا يعلم الغيب وهذا من مفاتيح الغيب الخمس لأنه من الأمور المستقبلية( ). قال تعالى: ((إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)) [لقمان:34].(2/313)
وهذا الظن منه يخالف ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم وهو الوجه التالي.
3- قد أخبر الصادف المصدوق صلوات الله وسلامه عليه في أحاديث صحيحة ومتعددة بوقوع الشرك في أمته، ومن ذلك ما هو خاص بالجزيرة، فمن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو هريرة رضي الله عنه: {لا تقوم الساعة حتى تضطرب أليات نساء دوس حول ذي الخلصة}( ). وذو الخلصة صنم لدوس كانوا يعبدونه في الجاهلية وهو في جنوب الجزيرة.
وقوله صلى الله عليه وسلم: {لا يذهب الليل والنهار حتى تعبد اللات والعزى}( ).
واللات كانت بالطائف والعزى كانت بوادي نخلة( ) قرب مكة.
4- والواقع التاريخي يؤيد ذلك ولا يمكن إنكار الأمر الواقع، ومن ذلك:
1- أن أكثر من في الجزيرة ارتدوا بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، فكثير منهم رجعوا إلى الكفر وعبادة الأوثان وكثير صدقوا من ادعى النبوة كمسيلمة وغيره( ).
2- القرامطة الذين أخذوا الحجر الأسود وقتلوا الحجيج وأجمعت الأمة على كفرهم كانوا في شرق الجزيرة.
5- اعتراف كثير من العلماء السابقين بوقوع الشرك في هذه الأمة ونكتفي باعتراف الرازي فإنه ذكر أقوال الكفار في عبادتهم الأصنام والأسباب الباعثة لهم على عبادتها ثم قال: [ورابعها: أنهم وضعوا هذه الأصنام والأوثان على صور أنبيائهم وأكابرهم، وزعموا أنهم متى اشتغلوا بعبادة هذه التماثيل فإن أولئك الأكابر يكونون شفعاء لهم عند الله تعالى، ونظيره في هذا الزمان اشتغال كثير من الخلق بتعظيم قبور الأكابر على اعتقاد أنهم إذا عظموا قبورهم فإنهم يكونون شفعاء لهم عند الله]( ).
وهذا اعتراف من الرازي بأن كثيراً من أهل زمانه يشتغلون بتعظيم القبور وأنه مثل عبادة التماثيل عند المشركين.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: {اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد}. فالجواب عنه بوجوه:(2/314)
1- إن الرسول صلى الله عليه وسلم لو لم يخف وقوع الشرك بقبره لما دعا وهو يدل على إمكان وقوعه، وقد دل الواقع على وقوعه، فكم من مستغيث بقبره داع له؟
2- إن الحديث يحمل على إجماع الأمة على جعل قبره وثناً كما حصل في الأمم السابقة وهذا لم يحصل- بحمد الله تعالى- فلا تجتمع هذه الأمة على ضلالة.
3- أو يقال كما قال بعض العلماء بأن الله أجاب دعوة نبيه بأن حفظ قبره بالحيطان الثلاثة التي بنيت على قبره صلى الله عليه وسلم، فلا يستطيع أحد أن يصل إليه حتى ولو أراد عبادته ودعاءه من دون الله تعالى.
4- قد حذر المصطفى صلوات الله وسلامه عليه من الشرك بقبره في آخر حياته فقال وهو ينازع: {لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، قالت عائشة: يحذر ما صنعوا}( ). وقال قبل موته بخمس ليال: {ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد إني أنهاكم عن ذلك}( ).
وهذا التحذير البليغ منه صلى الله عليه وسلم لخوفه أن يتخذ قبره مسجداً ولو كان ذلك لا يمكن وقوعه لما خاف وحذر منه في مثل تلك الحالة التي يحتاج فيه إلى التحذير من الشيء الأهم والأشد خطراً.
وأما الجواب( ) عن الحديث الثالث وهو قوله صلى الله عليه وسلم: {وإني والله ما أخاف عليكم أن تشركوا بعدي} فعلى وجوه:
1- إن الحديث خاص بالصحابة الذين خاطبهم الرسول صلى الله عليه وسلم- كما هو ظاهر الخطاب الموجه إليهم- وليس المقصود من الحديث الأمة المحمدية بأجمعها.
وهذا يقتضيه الجمع بين هذا الحديث والأحاديث الدالة على وقوع الشرك وقد تقدمت الإشارة إليها.
2- أو أن هذه الأمة تفتن في أول أمرها بغير الشرك من فتنة الدنيا، ولا يمنع وقوع الشرك في آخرها.
3- أو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال هذا قبل أن يوحى إليه بأن الشرك سيقع في طوائف من أمته.(2/315)
4- أو أن الحديث يحمل على أن الشرك لا يقع في جميع الأمة حتى يرجعوا إلى ما كانوا عليه وتجتمع الأمة عليه ولا يمنع هذا وقوعه من بعضها. والله أعلم.
الشبهة( ) السادسة:
قول بعضهم: إن أعمال هؤلاء شرك وكفر، ولكنهم لا يعلمون أن ما يفعلونه شرك بل لو عرض أحدهم على السيف لم يقر بأنه شرك بالله تعالى ولا فاعل لما هو شرك، بل لو علم أن ذلك شرك لم يفعله. الجواب:
1- إن الحكم بالكفر- والعياذ بالله- لا يشترط فيه أن يعلم متلبسه أنه كفر، فقد ذكر الشوكاني أنه تقرر في باب الردة أنه لا يعتبر في ثبوتها العلم بأن ما فعله كفر ثم قال: [وعلى كل حال فالواجب على من اطلع على شيء من هذه الأمور الشركيات التي اتصف بها القبوريون أن يبلغهم الحجة الشرعية، ويخبرهم بأن هذا هو عين ما يفعله المشركون في الجاهلية. فإذا علموا بهذا علماً لا يبقى معه شك ولا شبهة ثم أصروا على ما هم فيه، أخبرهم بأنهم إن لم يتوبوا فقد حلت دماؤهم وأموالهم وانطبق عليهم حكم المشركين]( ).
2- والعلماء صرحوا بأن كلمة الكفر إذا تكلم بها العبد عمداً وإن كانت بغير الاعتقاد- كفر- وممن صرح بذلك علماء الحنفية، ففي أغلب كتبهم في أبواب الردة نصوا على ذلك وقالوا: لا يعذر بالجهل، وقالوا:
إن ذلك هو الأصح عندهم( )، ومثل الحنفية علماء المالكية فقد صرحوا بأن الجهل لا يعذر به عندهم( )، وذهب إلى ذلك بعض علماء الشافعية فيما إذا تهاون بعدم تعلمه( ).(2/316)
قال الإمام القرافي المالكي بعد أن ذكر الأدعية المحرمة أو المكفرة: (واعلم أن الجهل بما تؤدي إليه هذه الأدعية ليس عذراً عند الله تعالى؛ لأن القاعدة الشرعية دلت على أن كل ما يمكن المكلف دفعه لا يكون حجة للجاهل على الله، فإن الله تعالى بعث رسله إلى خلقه برسالته وأوجب عليهم كافة أن يعملوا بها، فالعلم والعمل بها واجبان، فمن ترك التعلم والعمل وبقي جاهلاً فقد عصى معصيتين لتركه واجبين، وإن علم ولم يعمل فقد عصى معصية واحدة بترك العمل.
وأما الجهل الذي يمكن رفعه لاسيما مع طول الزمان واستمرار الأيام والذي لا يعلم اليوم يعلم في غد، ولا يلزم من تأخير ما يتوقف على هذا العلم فساد فلا يكون عذراً لأحد، ولذلك ألحق مالك الجاهل في العبادات بالعامد دون الناسي؛ لأنه جهل يمكنه رفعه فسقط اعتباره، وكذلك قال الله تعالى في كتابه العزيز حكاية عن نوح عليه السلام: ((إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ)) [هود:47] أي بجواز سؤاله فاشترط العلم بالجواز قبل الإقدام على الدعاء وهو يدل على أن الأصل في الدعاء التحريم، إلا ما دل الدليل على جوازه، وهذه قاعدة جليلة يتخرج عليها كثير من الفروع الفقهية)( ).
هذا كلام القرافي المالكي وقد نقل بعض كلامه هذا ابن حجر الهيتمي الشافعي مقرراً له( ).
3- ثم إن العلماء الذين أعذروا بالجهل قيدوه بشرط عدم قيام الحجة، فأما إذا قامت الحجة الرسالية فلم يعذروه، كما أن الجاهل إذا كان معرضاً عن طلب الحق ولا يريد الحق إذا تمكن منه فلا يعذر، فقد ذكروا( ) أن من الكفر كفر إعراض، وكفر عناد، وإنما الذي يعذر من يريد الهدى ويؤثره ويحبه ولكنه غير قادر عليه ولا على طلبه لعدم مرشد وبعضهم إنما أعذر من المسائل الدقيقة الخفية، وأما مثل هذه المسألة التي هي أصل الإسلام فلم يعذروا فيه بالجهل.
وقد تقدمت الإشارة إلى هذه المسألة.(2/317)
4- ثم كون الجهل يعذر به على القول به- لا يجعل الشرك أمراً جائزاً ومباحاً ولا يبيح الدفاع عمن يفعل الشرك ولا السكوت عن إنكاره والرضا به. مثال ذلك لو أن رجلاً كان قريب عهد بالإسلام وشرب الخمر لجهله فهو معذور ولكن هذا لا يبيح لمن يراه أن يسكت عنه ولا أن ينكر على من ينكر عليه، كما أن هذا الشارب للخمر إذا عرف بتحريم الخمر في الإسلام ثم استمر- يكون عاصياً.
ومثل هذا ما نحن فيه لا يصلح الاعتذار بمسألة الجهل عمن يدعو غير الله تعالى في ديار المسلمين، ويعيش بينهم، كما أنه لا يكون له عذر بعد تعريفه وإقامة الحجة عليه.
5- ثم إن العاقل ينبغي له الابتعاد عن الشرك وذرائعه والاحتياط في ذلك حتى ولو كانت المسألة مختلفاً فيها، فإذا كان العلماء في المسائل الخلافية في الفروع يأخذون بالأحوط فكيف يكون الأمر في المسائل العقدية التي يدور الأمر فيها بين الخروج عن الملة والارتداد والخلود في النار، وإبانة الزوجة وعدم الإرث وغير ذلك، وبين كونه معصية لا تخرج عن الإسلام؟ فالاحتياط فيها أوجب وأوكد بلا شك ولا ريب.
الشبهة السابعة( ):
ما قيل إن كفر هؤلاء المعتقدين في الأموات من الكفر العملي لا الكفر الجحودي، وقد قيل مثل ذلك في كفر تارك الصلاة، وكفر تارك الحج وغير ذلك من النصوص التي وردت بالحكم بالكفر، وحملها العلماء على الكفر العملي ولم يحملوها على الكفر الاعتقادي الجحودي. وذلك لأنهم مؤمنون بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم وباليوم الآخر لكن زين لهم الشيطان أن هؤلاء عباد الله الصالحون ينفعون ويشفعون ويضرون فاعتقدوا ذلك جهلاً كما اعتقد ذلك أهل الجاهلية في الأصنام لكن هؤلاء مثبتون للتوحيد لا يجعلون الأولياء آلهة بخلاف الكفار.
الجواب( ) عن هذه الشبهة:
إننا نسلم أن الكفر ينقسم إلى قسمين: اعتقادي وعملي. ولكن دعوى أن ما يفعله هؤلاء القبوريون من الكفر العملي في غاية الفساد وذلك للأمور الآتية:(2/318)
1- لأن هذا القائل اعترف بكونه يتعلق بالاعتقاد بقوله هؤلاء المعتقدين في الأموات، وهذا من التناقض.
2- ثم ما هو الحامل لهؤلاء على دعاء الأموات والاستغاثة بهم وغير ذلك، هل هو مجرد اللعب والعبث من دون اعتقاد فهذا لا يمكن أن يكون عن العقلاء، أم الباعث عليه الاعتقاد في الميت؟
وإذا ثبت أن الحامل على ذلك هو الاعتقاد فكيف يقال إنه كفر عملي؟
3- ثم إنه لا يقبل الاعتذار عنهم بأن هذا الاعتقاد ناشىء عن الجهل وتزيين الشيطان، وذلك لأن طوائف الكفر وأهل الشرك قاطبة إنما حملهم على الكفر ودفع الحق والبقاء على الباطل الاعتقاد جهلاً، وهل يمكن أن يقال: إن اعتقاد الكفار اعتقاد علم؟
4- قد ثبت أن هؤلاء القبوريين أشد غلواً في الاعتقاد في الأموات من الكفار، وقد بينا ذلك فيما سبق.
5- ثم قد تقدم -بحمد الله تعالى وتوفيقه- بيان استلزام الدعاء للاعتقاد بصفات الربوبية والألوهية وأنه لا يمكن تصور الدعاء بدون اعتقاد، وذكرنا الأدلة على ذلك بما لا يدع مجالاً للشك، فلهذا فالقول بأن دعاء غير الله تعالى كفر عملي- يتنافى مع وضع الدعاء وحقيقته ومقتضى معناه، فهو قول غير صحيح.
الشبهة الثامنة( ):
قولهم: إن دعاء الصالحين من دون الله تعالى- من الشرك الأصغر كالحلف بغير الله تعالى والطيرة.
فالإجابة عن هذه الشبهة على أوجه:
أ- لا مساواة بين دعاء غير الله تعالى وبين الحلف بغير الله تعالى والطيرة، فهناك فروق كثيرة بين الدعاء والحلف، كما أن هناك فرقاً بين الدعاء والطيرة، فالفروق التي بين الدعاء والحلف هي:
1- أن الدعاء من أجل العبادات وهو مأمور به شرعاً إما أمر وجوب أو استحباب على ما مر في حكمه.(2/319)
وأما الحلف فلم يأمرنا الله به، فهو ليس من العبادات المأمور بها وإنما هو من المباح، وقد استحب إذا كان هناك مصلحة راجحة في التأكيد بالحلف واليمين، ولهذا ورد في القرآن الكريم أَمرُ الله نبيه بالقسم في أمر الساعة في ثلاثة مواضع( )، ولم يأت في غير ذلك البتة( ).
وهذه المواضع الثلاثة كلها فيما يتعلق بالتأكيد على بعث العباد ومعادهم، وأما في غير ما يتعلق بأمر المعاد فلم يرد في القرآن الكريم.
2- الدعاء يشتمل على الرغبة والرهبة والرجاء والخوف والتوكل وغيرها من لوازم الدعاء، فمن دعا غير الله فقد أشرك في هذه الأنواع من العبادات وليس كذلك الحلف( ).
ب- ويقال لهذا القائل إنه شرك أصغر:
ما الفرق عندك بين السجود لغير الله تعالى وبين الدعاء لغير الله حيث إن الأول شرك أكبر والثاني شرك أصغر عندك، مع أن كليهما قد جاء الأمر بطلبه من العباد، كما أن كليهما من أنواع العبادات، والعبادة صرفها لا يجوز لغير الله تعالى أياً كانت.
مع العلم بأن النهي عن دعاء غير الله تعالى في القرآن أضعاف أضعاف النهي عن السجود لغير الله تعالى؛ بل لا يعلم نوع من أنواع الكفر والردة ورد فيه من النصوص مثل ما ورد في دعاء غير الله تعالى بالنهي عنه والتحذير من فعله والوعيد عليه( ).
جـ- قد وقع( ) النهي عن الشرك في الدعاء في أول الإسلام وجاءت آيات كثيرة جداً في التحذير عنه؛ لأن الدعاء لقضاء الحاجات وإغاثة اللهفان وشفاء المريض هو الذي عليه المشركون وهو أصل شركهم والعكوف والذبح ونحوهما فروع عنه.
فلهذا وقع النهي عنه في أول الإسلام بدون تأخير، وأما الحلف بغير الله فلم يرد في القرآن النهي عنه إلا أنه ورد في الأحاديث بعد مدة طويلة وليس في أول الإسلام، وقد وقع من بعض الصحابة ومع ذلك لم يكفرهم الرسول صلى الله عليه وسلم.
فقد حلف عمر بأبيه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: {لا تحلفوا بآبائكم}، وقال: {من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت}( ).(2/320)
ويقال( ) في الطيرة مثل هذ الذي سبق، فإنها لم يقع النهي عنها في القرآن وفي أول الدعوة، كما أنها قد يقع شيء منها في قلوب المؤمنين الموحدين، فقد ورد في حديث ابن مسعود رضي الله عنه: {الطيرة شرك وما منا إلا... ولكن الله يذهبه بالتوكل}( ).
فتبين مما سبق الفرق الواضح بين من استغاث بغير الله في الشدائد مبتهلاً متضرعاً، وبين من حلف بغير الله يميناً مجردة لم يقصد تعظيمه كتعظيم الله، أو خطر في قلبه شيء من الطيرة، فالفرق شاسع جداً ولا يخفى إلا على من طمس الله بصيرته.
هذا وقد مال الأمير الصنعاني إلى أن الحلف بغير الله يخرج من الملة تمسكاً بظاهر الأدلة( )، وذهب الجمهور إلى أنه شرك أصغر، هذا إذا لم يقصد تعظيمه كتعظيم الله وإلا فقد اتفقوا على أنه شرك أكبر، وكذلك الطيرة قد تصل إلى الشرك الأكبر إذا كان يرى المتطير أن ذلك من علم الغيب، وأن الطير تخبره عما هو صائر إليه في المستقبل أو أن الأفلاك تدبر أمر الخلائق( ).
الشبهة التاسعة: شبهة المجاز( ) العقلي:
قالوا: ينبغي حمل كلام المسلم على محمل حسن، فإذا أسند فعلاً إلى غير الله تعالى وهو مما لا يصح إسناده إلا إلى الله تعالى ينبغي حمله على المجاز العقلي، وهو شاح معروف.
وقالوا: إن القرينة هنا، كونه مسلماً موحداً، وإن العلاقة في ذلك هي التسبب والشفاعة.
وقبل الخوض في الجواب عن هذه الشبهة نقدم تعريفاً موجزاً للمجاز العقلي.
تعريف المجاز العقلي:
كلمة المجاز:
هي في الأصل مَفعل من جاز المكان يجوزه إذا تعداه إلى مكان آخر، سمي بذلك لأنهم جازوا به معناه الأصلي إلى معنى اَخر( ).
وفي الاصطلاح كلمة استعملت في غير ما وضعت له لعلاقة وقرينة مانعة من إرادته( ).
وأما المجاز العقلي:
فهو إسناد الفعل أو معناه إلى مُلاَبسٍ له- غير ما هو له بتأويل( )
فالمراد من معنى الفعل ما يتضمن معنى الفعل من اسم الفاعل واسم المفعول والمصدر والصفة المشبهة واسم التفضيل.(2/321)
وللفعل ملابسات شتى منها الفاعل والمفعول والزمان والمكان والسبب( ) فإذا أسند الفعل إلى هذه الأمور فقد أسند إلى ما يلابسه.
وقوله بتأويل أي بنصب قرينة صارفة للإسناد عن أن يكون إلى ما هو له( ).
وقد عرفه السكاكي بقوله: (هو الكلام المفاد به خلاف ما عند المتكلم من الحكم فيه لضرب من التأويل إفادة للخلاف لا بوساطة وضع، كقولك أنبت الربيع البقل وشفى الطبيب المريض وكسا الخليفة الكعبة) ثم قال شارحاً للتعريف: (وإنما قلت خلاف ما عند المتكلم من الحكم فيه دون أن أقول خلاف ما عند العقل لئلا يمتنع طرده بما إذا قال الدهري عن اعتقادِ جهلٍ، أو جاهل كيره: أنبت الربيع البقل رائياً إِنباتَ البقلِ من الربيع فإنه لا يسمى كلامه مجازاً وإن كان بخلاف العقل في نفس الأمر، ولذلك لا تراهم يحملون نحو:
أشابَ الصغيرَ وأفنى الكبيرَ ... ... كَر الغداة ومَر العَشِي( )
على المجاز، ما لم يعلموا أو يغلب في ظنهم أن قائله ما قاله عن اعتقاد...)( ).
ويستفاد من تعريفه وشرحه له أن شرط إطلاق المجاز العقلي أن يكون ظاهر الكلام يفيد خلاف ما عند المتكلم حسب ما يفهمه المخاطب من ظاهر حال المتكلم وكلامه.
ومما يوضح معنى المجاز العقلي معرفة ضده وهو الحقيقة العقلية لأنه كما قيل: وبضدها تتميز الأشياء.
فلهذا نشير إلى تعريفها بالإيجاز، ومما قيل في تعريفها: (إسناد الفعل أو ما في معناه إلى ما هو له عند المتكلم في الظاهر)( ).
فقولهم (عند المتكلم) يريدون به أن الاعتبار في الحكم هو ما يراه المتكلم في ذلك الحكم ويعتقده، وليس الواقع ونفس الأمر، وقولهم (في الظاهر) إشارة إلى أنه لا يشترط موافقته لاعتقاد المتكلم الحقيقي. فمثلاً لو أخفى المتكلم عقيدته وتظاهر بالإسناد الحقيقي فنحن نعد إسناداً حقيقياً( ).(2/322)
وقد عرف السكاكي الحقيقة العقلية بقوله: (وهي الكلام المفاد به ما عند المتكلم من الحكم فيه، كقولك أنبت الله البقل وشفى الله المريض وكسا خدم الخليفة الكعبة... وإنما قلت:ما عند المتكلم من الحكم فيه، دون أن أقول ما في العقل من الحكم فيه، ليتناول كلام الدهري إذا قال: أنبت الربيع البقل رائياً إنبات البقل من الربيع، وكلام الجاهل إذا قال: شفى الطبيب المريض رائياً شفاء المريض من الطبيب، حيث عُدا منهما حقيقتين مع كونهما غير مفيدين لما في العقل من الحكم فيهما)( ).
وبعد هذا العرض للتعريف نبدأ في مناقشة الشبهة والجواب عنها بحول الله تعالى وقوته.
ويكون الجواب على طريقتين إحداهما: طريقة من ينفي وجود المجاز في اللغة، وثانيتهما: طريقة من يثبت وجود المجاز في اللغة.
الجواب على طريقة من ينفي المجاز:
اختلف العلماء في وجود المجاز في اللغة وعدمه، وهذا الخلاف جار( ) في المجاز العقلي:
1- فقال قوم: لا يوجد المجاز في اللغة أصلاً.
2- وقال آخرون: لا يوجد في القرآن الكريم، ويوجد في اللغة.
3- وقالت فرقة ثالثة: بوجوده في القرآن وفي اللغة.
وممن قال بالقول الأول: أبو إسحاق( ) الإسفراييني وأبو علي( ) الفارسي.
وممن قال بالقول الثاني: الظاهرية وبعض الحنابلة وبعض المالكية وبعض الشافعية.
وممن قال بالثالث: أغلب علماء البلاغة والمتأخرون من الأصوليين والفقهاء( ).
وقد رجح شيخ الإسلام ابن تيمية المذهب الأول ونصره بعدة أوجه( )، كما نصره ابن القيم بأكثر من خمسين وجهاً( ).
وممن رجح هذا القول الشيخ محمد الأمين الشنقيطي( ) والدكتور لطفي عبد البديع( ).
وهذا المذهب الأول هو الراجح لقوة أدلته، وسلامته من الاعتراضات، وإليك بعض تلك الأدلة والاعتراضات:
1- إن تقسيم الكلام إلى الحقيقة والمجاز تقسيم حادث بعد انقضاء القرون المفضلة، لم يتكلم به أحد من أئمة اللغة والنحو كالخليل وسيبويه وأبي عمرو بن العلاء( ).(2/323)
2- ثم إن الذين قسموا لم يستطيعوا أن يفرقوا بينهما بحد صحيح جامع مانع( ).
3- العرب نطقت بالحقيقة والمجاز على وجه واحد، فجَعلُ هذا حقيقةً، وهذا مجازاً ضَربٌ من التحكم لأن اسم الأسد وضعٍ للسبع كما وضع للرجل الشجاع( )، فمن زعم أنها استخدمت هذا أولا في كذا ثم في كذا ثانياً فقد ادعى دعوى لا برهان عليها ولا يمكن لبشر على وجه الأرض إثبات ذلك، ولا سبيل إلى العلم بذلك إلا بوحي من الله تعالى( ).
4- بعض الكلمات لها معان كثيرة، من ذلك أن بعض حروف المعاني تدل على عدة معان كمن والباء، وكذلك الأسماء الدالة على عدة معان كالرأس يطلق على رأس الإنسان وأول الدرب ومنبع العين وسيد القوم وأول الشهر وغير ذلك.
5- إن بعض الكلمات العربية تدل على المعنى وضده كالجون يدل على السواد وعلى البياض، والقر - يدل على الطهر والحيض فأيهما حقيقة وأيهما مجاز؟( ).
6- (إن الألفاظ المفردة التي هي من أوضاع اللغة لم توضع لتعرف معانيها في أنفسها ولكن لأن يضم بعضها إلى بعض فيعرف فيما بينها فوائد)( ).
فيبطل بهذا ادعاء أن الأسد وضع للحيوان المفترس ولم يوضع للرجل الشجاع.. إلخ.
وذلك لأنه لم يوضع ليدل بمفرده وأما إذا وقع في الكلام التام نحو رأيت أسداً يرمي، فلم يدل إلا على الرجل الشجاع ففي مثل هذا التركيب لا يمكن ادعاء أنه وضع لغير هذا المعنى.(2/324)
هذا ومما ينبغي أن يفهم أن الذين أنكروا وجود المجاز في اللغة لم ينكروا وجود تلك الأمثلة التي ضربها المثبتون له، وإنما ذهبوا إلى أن ذلك أسلوب من أساليب اللغة العربية وأن الكل حقيقة، والكلمة إذا استعملت في هذا الأسلوب فهي حقيقة، وإذا استعملت في أسلوب آخر فهي أيضاً حقيقة، ولا يمكن أن نقول: إنها في هذا الأسلوب حقيقية وفي الآخر مجازية. قال الدكتور لطفي عبد البديع: (إن منازعة القوم في المجاز، إنما كانت منازعة في صحته على أنه خلاف الأصل الذي ينبغي أن يكون عليه الكلام، وإلا فإن ما أطلق عليه المجاز ثابت في اللغة لا يسع أحداً إنكاره وهو أكثر من أن يحصى فالعرب كما ذكر ابن فارس قالت استوى فلان على متن الطريق ولا متن لها، وفلان على جناح السفر ولا جناح للسفر وشابت لمة الليل، وقامت الحرب على ساق وليس لليل لمة ولا للحرب ساق...
ولم يؤثر عن أحد ممن سمعوا هذا الضرب من الكلام قبل ظهور القول بالمجاز بعد القرون الثلاثة الأولى أنه على خلاف الأصل، أو أن ألفاظه استعملت في غير ما وضعت له بحيث ينبغي تأويله لدفع شبهة الكذب عنه والمبالغة)( ).
وأما على قول من أثبت المجاز في اللغة فالإجابة تكون على وجوه.
وقبل الخوض في تلك الوجوه لا بد من الإشارة إلى أن العلماء من أهل الأصول وأهل البلاغة، الذين أثبتوا المجاز اتفقوا على أن الأصل في الكلام الحقيقة( )، فلا يخرج عنها إلا بدليل قوي يصرفه إلى المجاز.
ومن هنا يمكن لنا الطلب من المخالفين إقامة دليل قوي وصارف واضح للكلام عن الحقيقة، ولن يجدوا إلا الاحتمالات البعيدة والقرائن البعيدة، ومع أنه يمكن أن نكتفي بهذا الأصل ونتمسك به، لكنا لا نكتفي بذلك ونتبرع بالجواب عن هذه الشبهة بوجوه:(2/325)
أ- إن حد المجاز العقلي- الذي أشرنا إليه من قبل- لا ينطبق على دعاء الأموات وندائهم والاستغاثة بهم إذا اعتبرنا حال الداعين واعتقادهم فالإسناد الواقع في كلام من يدعو الأموات- إسناد حقيقي ينطبق عليه حد الحقيقة العقلية، ولا ينطبق عليه حد المجاز العقلي؛ وذلك لأن علماء البلاغة ذكروا أن العبرة في الإسناد ليكون مجازاً عقلياً- أن يكون الحكم المفاد منه خلاف ما يعتقده المتكلم ولا يشترط أن يكون خلاف الواقع ونفس الأمر، وقالوا: إن قول الدهري: أنبت الربيع البقل لا يسمى مجازاً، وكذلك قول الشاعر:
أشاب الصغير وأفنى الكبير ... ... كر الغداة ومر العشي
وكذلك قالوا في نحو شفى الطبيب المريض.
قالوا هذه الأمثلة حقيقة عقلية إذا وقعت ممن يرى تأثير المسند إليه في النسبة وقد تقدم بيان ذلك في التعريف.
فعلى هذا فكثير ممن يدعون الأموات والغائبين، فالإسناد الواقع في كلامهم حقيقة عقلية وليس مجازاً عقلياً، لاعتقادهم التأثير والتصرف في الكون وغير ذلك لمن يدعونهم كما تقدم في مبحث علاقة الدعاء بالعقيدة، فقد بينا هناك بما لا يدع مجالاً للشك أن كثيراً منهم يعتقد التأثير والتصرف وسيأتي قريباً نقل عباراتهم الصريحة في اعتقاداتهم وقد علم في علم البلاغة أن الكلام يحمل على الحقيقة إذا لم يعلم حال المتكلم، وأما إذا علم حاله كما هنا فيحمل على الحقيقة من باب أولى. وعلى هذا فتأويلهم لكلام من يصرح بتصرفه في الكون، وإغاثته لمن يستغيث به في البر والبحر، وعلمه بحال المريد وخواطره.
وكذلك تأويلهم لكلام من يدعو الأموات معتقداً فيمن يدعوه السماع والعلم بحاله وضره ونفعه واستطاعته على الإغاثة.. إلخ فتأويل كلام هؤلاء لا يدخل تحت المجاز العقلي بل هو صريح وواضح أنه من الحقيقة العقلية.(2/326)
ثم إن بعض علماء البلاغة ذكروا أن تقدير الفاعل الموجد المؤثر في نحو (سرتني رؤيتك) حيث قدر بعضهم (سرني الله وقت رؤيتك)- إن هذا التقدير تقدير لما لم يقصد في الاستعمال، ولا يتعلق به الغرض في التراكيب( ).
ومثل هذا المثال الإسناد الواقع في كلام الداعين لغير الله تعالى لأن المتكلمين به لا يقصدون تقدير الفاعل الذي هو الله تعالى، ولا يتعلق به الغرض في التركيب.
ويزيد هذا الوجه وضوحاً الوجه التالي:
ب- إن كل تأويل يعود على أصل النص بالإبطال فهو باطل( ) ومن هذا القبيل تأويل كلام الداعين لغير الله، فإنه يوجد في كلامهم ما يدل صراحة على إخلاص الرجاء والرغبة للمدعو وحده، فلو أولنا كلامهم فقد أبطلنا تلك الدلالة الصريحة على إسناد الرجاء إلى الولي، والتأويل معناه إخبار عن مراد المتكلم لا إنشاؤه.
(ويعرف مراد المتكلم بطرق متعددة منها أن يصرح بإرادة ذلك المعنى، ومنها أن يستعمل اللفظ الذي له معنى ظاهر بالوضع، ولا يبين بقرينة تصحب الكلام أنه لم يرد ذلك المعنى، فكيف إذا حف بكلامه ما يدل على أنه أراد حقيقته وما وضع له؟)( ).
وقد علمنا مراد بعض هؤلاء بما صرحوا به في كلامهم أنهم يريدون إسناداً حقيقياً فكيف نؤول كلامهم بما يبطل دلالته؟ وسيأتي سرد كلام بعضهم في مبحث (صور من الدعاء غير المشروع) وفيه التصريح بإخلاص الاستغاثة بغير الله تعالى.(2/327)
فتبين من هذا أن الذي يدعي صرف كلامهم عن ظاهره وحقيقته فقد ادعى معرفته لمراد كلامهم ومراد الواضع أيضاً، فإن لم تكن دعواه مطابقة لمراد المتكلم والواضع- كان كاذباً على المتكلم والواضع معاً( ) ومراد هؤلاء الداعين للأموات بكلامهم واضح جداً، قال النعمي: (والذي يدل عليه سيرهم وأحوالهم القولية والفعلية أن ما يقع منهم عند التطام موج البحر ونازلة باغتة وجزئيات لا تنحصر- ليس من قبيل التوسل، بل لا يتبادر إلى أذهانهم ولا يخطر في أفكارهم إلا الولي وأما الله تعالى فمنسي أو يشرك معه الولي)( ).
والذي بقي لله في عقائدهم هو الإمكان فقط دون الأثر( )، ومن هنا نستطيع أن نقول: (إن في هذه الألفاظ ما يتعذر أو يتعسر تأويله أو كلها كذلك)( ).
والحاصل أن الحمل على المجاز العقلي إنما يجوز إذا: (لم يصدر من ذلك المتكلم شيء من الألفاظ والأعمال الكفرية مما هو كفر بواح وشرك قراح. وأما إذا صدر منه شيء من تلك الألفاظ والأعمال فلا يحمل كلامه على المجاز العقلي)( ).
جـ- إن الأمثلة التي ضربوها للمجاز العقلي مثل أنبت الربيع البقل هي في الأمور الظاهرة التي تكون العلاقة والقرينة واضحة، وتكون تلك القرينة من الأسباب الظاهرة ولها تعلق ومباشرة حقيقية، فأما في الأمور التي يكون التأثير فيها بالقوة الغيبية وبدون مباشرة الأسباب الظاهرة فلا يمكن قياس ذلك على تلك الأمثلة، وذلك لعدم المماثلة المشروطة في القياس.
والمشكلة الرئيسية عند هؤلاء أنهم لم يفرقوا بين الإسناد إلى الأسباب الظاهرة التي هي موجودة في كلام العرب وهي محمولة على السببية، وهو الذي سموه بالمجاز العقلي، وبين الإسناد إلى الأسباب الباطنة التي تأثيرها غير مباشر ويكون بقوة غيبية وتأثير غيبي.(2/328)