الدرس الرمضاني ( 1 )
دروس 1425 هـ
تأليف
أبي يزن حمزة بن فايع الفتحي
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ، ونستغفره ونتوب إليه ، ونعود بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .. أما بعد :
فإن القصص آسرة جذابة ، تخطف الأفئدة ، وتنبه البصائر ، وتحفز الهمم، وتورث المواعظ .
فكيف إذا كانت هذه القصص تفيض من القرآن الكريم ، والتنزيل المبين الذي يشع حقاً ، وينشرصدقاً ، ويشف حسناً وبياناً .
ولذلك وغيره آثرت تخصيص رمضان هذه السنة (1425هـ) بمعانٍ تربطنا بالقرآن وحلاوته ، ومدرسة تدبره وتفهمه عبر سرد (القصص القرآني) المكتمل حسناً وعظة وجمالاً ، وقد أعان الله ويسر ، أن ألقي ثلاث عشرة درساً تناولت إحدى عشرة قصة قرآنية .
فلسكنا في إلقائها مسلك التسهيل والإيجاز ليبلغ موعظها المبلغ ، وتصيب المقصد ، وتظفر بالمطلب .
وقد عزمت إصدارها إلحاقاً بجزئين سابقين تم نشرهما(1) ، وها هو الثالث، ويحوي القصص القرآني ، التي ينبغي علينا كطلبة علم نشرها في الناس ، وكشف عظاتها وأسرارها لتصلح القلوب ، وتنشرح النفوس ، وتعي قدراً كبيراً من كتاب ربها الذي احتوى قصصاً كثيرة ، وامتزج بأخبار تاريخية لها بالغ الأهمية ، وشديد الاعتبار في حياتنا الدعوية والإصلاحية والسلوكية .
( 1 ) لماذا قصص القرآن ؟!
يسرنا أن نجتمع ونلتقي في هذه الليالي المباركة في الدروس الرمضانية
المعتادة ، وكنا سالفاً نتحدث عن رمضان وأحكام الصيام ، وفي هذه السنة ، انشرحت نفسي للخروج عن الإطار المألوف في مواضيع ذات صلة بالقرآن الذي هو شرف رمضان ، حيث نزوله كان في رمضان .
فسوف نتذاكر هذه القصص القرآنية بأسلوب سهل مختصر ، نحرص فيه على إيصال الفائدة وإبراز الحكم والدروس .
__________
(1) الأول بين الآذانين والآخر الدرس الرمضاني .(1/1)
وهي وسيلة مهمة توفقنا لقضية هامة حول القرآن وهي (التدبر والتأمل) ، فلعلنا نحاول أن نتدبر هذا الكتاب الذي أهملته الأمة ، وغفلت عنه غفلة شديدة ، فنحن إذن في مائدة القرآن نتدبر قصصه ونعيش عبره ، ونقبس من مواعظه .
وقصص القرآن ذات أثر إيماني وتربوي على أهليها ومتأمليها لأنها قصص حق. ليس فيها مجال للدجل والكذب أو الزيادة .
ولها فوائد منها :
أنها أحسن القصص لفظاً ومعنى وأسلوباً وصياغة ، تشرح النفس ، وتطرب السمع، اسمع ما يقول الله تعالى عند ذكر يوسف عليه السلام : { نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنْ الْغَافِلِينَ } [يوسف: 3]
أنها طريق للتثبيت والتصبير لا سيما والمؤمن يعيش مآسي وابتلاءات قال تعالى
{ وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ } [ هود : 120 ] .
أنها موطن للعظة والاعتبار قال تعالى { لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى } [ يوسف : 111 ] . وقال تعالى { فَاقْصُصِ القَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } [ الأعراف : 176 ] .
ومثل هذه القصص تعين على تدبر القرآن وفهمه وإقبال الناس عليه ، فليس هو أحكام وشرائع فحسب ، بل فيه مادة محبوبة كهذه القصص المؤثرة .
إن فهمها يزيد في الإيمان لا سيما وأنت تشاهد فيها إيمان الأنبياء ، وقوة صبرهم ويقينهم بموعود الله ، وكيف نصرهم على أعدائهم .
وقراءة هذه القصص يعلم الفقه والبصيرة في الدعوة .
والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل ،،
( 2 ) قصة آدم عليه السلام أبو البشر(1/2)
شاءت حكمة الله تعالى ، بعد أن خلق الكون ، خلق الآرض في يومين ، { وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِّلسَّائِلِينَ } [ فصلت : 10 ] .
وخلق السماء ، وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى ، ثم خلق الملائكة العباد المكرمون ، ثم شاءت إرادته واقتضت حكمته أن يخلق (آدم) وذريته .
فأخبر ملائكته أنه سينشئ خلقاً آخر :
يسعون في الأرض .
ويمشون في مناكبها .
وينشر نسلهم في أرجائها .
فيأكلون من بينها .
ويستخرجون الخيرات من باطنها .
ويخلق بعضهم بعضا .
والملائكة الكرام : كانوا عباداً في غاية الخضوع والطاعة والانهماك { يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لاَ يَفْتُرُونَ } [ الأنبياء : 20 ] . لا تعب ولا كلل ، ولا انقطاع .
فخافت الملائكة ، أن الله سيخلق خلقاً خيراً منهم لتقصير وقع عنهم أو إشارة فسارعوا إليها تبرئة نفوسهم .
قائلين : (كيف يخلق غيرنا ونحن دائبون على التسبيح بحمدك ، وتقديس اسمك).
وقالوا : ومن تستخلفهم يا ربنا لابد أن يختلفوا على ما فيها من منافع وخيرات فيفسدوا فيها ، ويسفكوا الدماء الغزيرة .
{ قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ } [ البقرة : 30 ] .
فقال الله لهم { إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } [ البقرة : 30 ] .
أي أعرف من حكمة استخلافه ما لا تدركون فاطمأنت قلوبهم وقال لهم الله تعالى : { فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ } [ الحجر : 29 ] .
كرَّم الله هذا المخلوق أن أمر الملائكة بالسجود له بعد أن سواه من صلصال من حمأ مسنون . والحمأ : هو الطين الأسود . والمسنون : هو المصور .
فأمر الملائكة بالسجود إجلالاً ، فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين.(1/3)
ولما أتى إبليس سأله الله تعالى { مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ العَالِينَ } [ ص : 75 ] .
فزعم أنه خير من آدم عنصراً ، وأزكى منه جوهراً { قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ } [ ص : 76 ] .
فجهر بالمعصية ، وعاند واستكبر فجازاه الله على عصيانه بقوله { فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ } [ الحجر : 34 - 35 ] .
والرجيم : الملعون ، المبعد ، المطرود .
فجعله الله مطروداً ملعوناً إلى يوم القيامة .
ثم إن إبليس بعد ذلك سأل الله أن يمهله إلى يوم الدين وأن يمد له في الحياة إلى يوم يبعثون . فأجابه الله لما طلب { قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ إِلَى يَوْمِ الوَقْتِ المَعْلُومِ } [ الحجر : 37 - 38 ] .
لما استجاب الله سؤاله وطلبه ، لم يشكر الله على فضله ، بل قابل نعمته بالكفران وفضله بالجحود والنكران .
وقال : { قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ المُسْتَقِيمَ } [الأعراف: 16]. يترصد لهم . { ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ } [ الأعراف : 17 ] .
تأمل هذا المكر وهذا القعود والترصد .
طرد الله إبليس من رحمته ، ومدَّ له في أمله ، وقال له : امض لسبيلك الذي اخترته ، وسر في طريق الشر الذي أردته . { وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُم بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ وَعِدْهُمْ } [ الإسراء : 64].(1/4)
أي عِدهم بالمواعيد الكاذبة ، ومنِّهم بالأماني البعيدة ، فلن أخلي بينك وبين من صحّت عقيدته ، وقويت عزيمته من أهل الإيمان { إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ } [ الحجر : 42 ] . أما أحبابك وأتباعك كما قال : { لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ } [ ص : 85 ] .
ثم إن الله أكرم آدم بأن أفاض عليه من علمه ، وزاده نوراً وبصيرة { وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى المَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ قَالُوا سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ العَلِيمُ الحَكِيمُ قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُم بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُم بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ } [ البقرة : 31 - 33 ] .
فإن الملائكة حينئذ شرف آدم وفضله ، وأدركوا سر خلقه ، وظهرت لهم حكمة استخلافه .
ثم إن الله تعالى أكرم آدم وزوجه وأسكنهما الجنة يتمتعان بنعيمها ، وينهلان من رغدها ، ويرشفان من معينها .
قال تعالى { اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ } [ الأعراف : 19 ] .
وذكر الله شيئاً من صفة الجنة : { إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلاَ تَعْرَى وَأَنَّكَ لاَ تَظْمَأُ فِيهَا وَلاَ تَضْحَى } [ طه : 118 - 199 ] .(1/5)
استمتع آدم وزوجه بنعيم الجنة ، فترة طويلة ، وآلم ذلك (إبليس اللعين) وعز عليه أن ينعم آدم ، وهو مطرود من رحمة الله ، مبعد عن جنته .. ودنا من الجنة ، وكلمهما في سر وخفاء { وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الخَالِدِينَ } [ الأعراف : 20 ] . فلم يصغيا له ، مع تكرار المحاولات { وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ } [ الأعراف : 21 ] . بمعنى أنا لن أضركما ، ولن أوذيكما ، إنما ناصح ومشفق .. فاغراهما { فَأَكَلا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الجَنَّةِ } [ طه : 121 ] . { وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخَاسِرِينَ } [ الأعراف : 22 - 23 ] .
ومن فوائد هذه القصة :
فضل آدم على الملائكة .
شرف العلم .
عداوة إبليس لآدم وذريته .
ذم خصلة الكبر والحسد ، وأنها من صفات إبليس .
إثبات صفة الكلام لله تعالى .
إن الواجب على العبد التسليم لأمر الله ، واتهام عقله إذا لم تظهر له الحكمة .
الحذر من الشيطان وحبائله .
إن حال آدم بعد التوبة خير من قبل ذلك .
ابتلاء الإنسان في هذه الحياة .
سعة رحمة الله وعفوه عن آدم لما تاب وأناب إليه .
( 3 ) خبر ابني آدم
أهبط الله آدم وحواء الأرض ، وجعل بينهما مودة ورحمة ، وكان نزولهما للأرض ، ليؤديا رسالة الله من الاستخلاف في الأرض ، ولتظهر حكم آلهية ومقاصد عظيمة قد لا تدركها عقولنا .
ومن ذلك :
عمارة الأرض .
ظهور سنة الله في الامتحان .
ظهور مؤمنين وصالحين يعبدون الله .(1/6)
لقد كان آدم وزوجه مشتاقين لرؤية الأبناء والذرية التي تملأ عليهم الحياة ، فهيأ الله تعالى لهم أسباب ذلك من معرفة أسباب الإنجاب .
فرزقهما الله (توأمين) قابيل وأخته ، وهابيل وأخته ، وشب الأخوة في رعاية الأبوين ، ومالت البنتان إلى حال النساء ، وانبعث الولدان يضربان في الأرض كسباً للرزق ، وابتغاء للخير ، فكان قابيل من المزارعين وهابيل اشتغل برعي الغنم .
ملأ الشابان حياة آدم نوراً ونصرة وسعادة ، وشبا واكتملا وبلغا مبلغ الرجال .
وأحسا بالحاجة إلى النكاح وهي سنة الله في الحياة ، يحصل بها النسل ، وكسر الشهوة ، والسكن والاطمئان . كما قال تعالى : { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ }
[ الروم : 21 ] .
فأوحى الله إلى آدم ، أن يزوج كل فتى من بنيه بتوأم أخيه , وكلم آدم أبناءه بذلك ، فطابت نفس هابيل بذلك ، وثار قابيل على هذا الحكم ، لقلة جمال تؤأم أخيه .
وتمنى من أبيه أن يزوجه توأمته ، فرأى آدم أن ذلك مخالفاً لأمر الله فتهمم واغتم ، ثم شرح الله صدره لحل ، يحل به هذه المشكلة فطلب من ولديه أن يقرب كل واحد منهما (قُرْبَاناً) إلى الله .
وهو ما قصه الله في كتابه : { وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ } [ المائدة : 27 ] .(1/7)
وكان الحكم : أن من يقبل الله قربانه كان أحق بتلك الفتاة . فقدم هابيل حملاً من أنعام وقدم قابيل قمحاً من زراعته ، فأرسل الله تعالى ناراً فأكلت قربان هابيل دون قابيل فغضب واظهر الحقد لأخيه ، وقال له : { قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ المُتَّقِينَ } [ المائدة : 27 ] . ثم ساءه ذلك ، وتوعده بالقتل فكان يترصد له حتى قتله .
وفيها روايات :
قيل نحره بحديدة .
وقيل أتى عليه وهو نائم يرعى غنمه ، فشدج رأسه بصخرة .
وقيل علمه إبليس ذلك .
جاء في الصحيحين عن ابن مسعود مرفوعاً : (لا تُقتلُ نفسٌ ظلماً ، إلا كان على ابن آدم الأول كِفل من دمها ، لأنه كان أول من سن القتل) .
ولما قتل قابيل أخاه ، تركه بالعرَاء ، ما يدري ما يصنع ؟!
فبعث الله له غرابين فاقتتلا أمامه ، فقتل أحدهما صاحبه ، فحفر له ، ثم حثى عليه فقال : { قَالَ يَا وَيْلَتَى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ } [ المائدة : 31 ] .
ويذكر أن آدم مكث سنين حزيناً على هابيل ، إلى أن أتاه من الله (حياك الله وباركك) أي أضحكك .
ويروى أنه قال :
تغيرت البلاد ومن عليها
فلون الأرض مغبرٌ قبيح
تغير كل ذي لون وطعمٍ
وقلَّ بشاشة الوجه المليحِ
فأجيب :
أبا هابيل قد قُتلا جميعا
وصار الحي بالميْت الذبيحِ
وجاء بشره قد كان منه
على خوفٍ فجاء بها بصبيحُ
وذكر ابن كثير : أن القاتل عوجل بالعقوبة أن علقت ساقه بفخذه يوم قتله ، وجعل الله وجهه إلى الشمس حيث دارت ، عقوبة له وتنكيلاً .(1/8)
ثم قال تعالى : { مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِّنْهُم بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ } [ المائدة : 32 ] .
وهذه القصة فيها فوائد :
فضيلة التقوى ، وأن الله إنما يتقبل من المتقين .
فضيلة الانصياع لأمر الله ، كما صنع هابيل .
شؤم المعصية ، وقبحها على صاحبها .
حرمة القتل ، وعظم البلوى به .
أن من سن سنة فكان عليه وزرها ووزر من عمل بها .
إثبات الامتحان والبلاء .
اختلاف طبائع الناس وأخلاقهم .
والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل ،،
( 4 ) قصة نوح عليه السلام
هو أول رسول إلى أهل الأرض .
وأكثرهم مكثاً في قومه .
أن آياته من أضخم الآيات .
أبو الأنبياء الثاني { وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ البَاقِينَ } [ الصافات : 77 ] .
أول أولي العزم من الرسل .
نوح عليه السلام هو أول داعية ورسول إلى أهل الأرض ، والناس عقب آدم كانوا عشرة قرون على التوحيد كما قال تعالى : { كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ } [ البقرة : 213 ] .
فكانوا على الإسلام ، ثم ظهرت الأصنام وسبب ظهورها ، أن ثمة قوماً صالحين لما ماتوا { وَداًّ وَلاَ سُوَاعاً وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً } [ نوح : 23 ] بنوا على قبورهم مساجد ، وصوروا لهم صوراً حتى يتذكروهم ويتشبهوا بحالهم .(1/9)
فلما طال بهم الزمان ، جعلوا أجساداً على تلك الصور ، فلما طالت بهم المدة عبدوا تلك الأصنام ، وسموها بأسماء تلك الصالحين ، فلما تفاقم الأمر بعث الله تعالى نوحاً عليه السلام ، قال تعالى في موضع : { لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ قَالَ المَلأُ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ العَالَمِينَ أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ أَوَ عَجِبْتُمْ أَن جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِّنكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } [ الأعراف: 59 - 63 ].
بدأ نوح عليه السلام الدعوة بالتوحيد ، وتذكيرهم بعذاب الله ، ولكن الملأ (السادة والأشراف) رموه مباشرة (بالضلال المبين) يعني الظاهر .
ومع ذلك لم ييئس نوح عليه السلام بل عاود الكلام ، وحاورهم ، وجادلهم أشد المجادلة .
وأخبر عن ذلك الله تعالى عنهم { قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ } [ هود : 32 ] .
وفي السورة المسماة باسمه { قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلاَّ فِرَاراً وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَاراً ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَاراً ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً } [ نوح : 5 - 9 ] .(1/10)
الجهد الذي بذله : دعوة بالليل والنهار ، يتلمس أوقاتهم ومع ذلك ، لم تزدهم الدعوة ولا الإبلاغ إلا فرارا .
وإذا زاد في دعوتهم وكرر قابلوه بما يلي :
جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ : سدوها لئلا يسمعوا .
وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ : تنكروا له لئلا يعرفهم .
وَأَصَرُّوا : استمروا على الكفر والعناد .
وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَاراً : استنكفوا عن سماع الحق .
ثم ذكر الله بعض مواعظه الجميلة المؤثرة : { فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجاً وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنْ الأَرْضِ نَبَاتاً ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجاً وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ بِسَاطاً لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلاً فِجَاجاً } [ نوح : 10 - 20 ] .
الله خلقها لكم مبسوطة مجهزة لتستقروا عليها ، وتسلكوا في نواحيها وأرجائها . ومع هذه الأدلة والبراهين على وجود الله كفروا وكذبوا .
{ قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَسَاراً وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً وَلا تَزِدْ الظَّالِمِينَ إِلاَّ ضَلالاً } [ نوح : 21 – 24 ] .(1/11)
ومع ذلك طالت به المدة في قومه وكان من عنادهم له : { مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَراً مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِي الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ } [ هود : 27 ] . قالوا له :
أنت بشر .
أتباعك أراذل الناس بمعنى لستم أفضل منا .
ومعتقداتكم كاذبة .
{ قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ } [ هود : 28 ] . أي أنا على يقين ، ورحمة هي النبوة ، وخففت عليكم ، أنلزمكومها بها ، اني لن أكرهكم عليها .
ثم بين أنه لا يقصد مالاً ولا جاهاً { وَيَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أَجْرِي إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنصُرُنِي مِنْ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمْ اللَّهُ خَيْراً اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنفُسِهِمْ إِنِّي إِذاً لَمِنْ الظَّالِمِينَ } [ هود : 29 - 31 ] .(1/12)
ثم بعد ذلك ملوا منه ، وكرهوا دعوته ، وضاقوا به ذرعا { قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنتَ مِنْ الصَّادِقِينَ قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ وَلا يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } [ هود : 32 – 34 ] .
المعنى : سيصل إليكم أمر الله ، ولن تعجزوه ، ولا بقوتكم ولا بكفركم ولا بجاهكم .
ثم إن الله قال له : { لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاَّ مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ وَاصْنَعْ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ }
[ هود : 36 - 37 ] . أي من سيؤمن قليل يا نوح ، وابدأ بصنع الفلك بمرأى منا وعلمنا .
لما بدأ العمل في السفينة سخروا منه سخرية شديدة .
قالوا : (إنك يا نوح قد كنت قبل اليوم تزعم أنك نبي ورسول ، فكيف أصبحت اليوم نجاراً ، أزهدت في النبوة ، أم رغبت في التجارة) !!
وقال آخرون (ما بال سفينتك تصنعها عن البحار والأنهار ! أأعددت النيران لجرها ، أم كلفت الهواء حملها).
وانصرف لعمله الدائم في السفينة يجمع ألواحها ومساميرها ، كما قال تعالى { وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ } [ القمر: 13 ] . والدسر جمع دسار وهو المسمار.
فلما حانت الساعة منهم تفتحت أبواب السماء ، وعيون الأرض بالماء المنهمر { حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ } [ هود : 40 ] .(1/13)
وفي موضع آخر قال : { فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ } [ القمر : 10 - 16] .
{ وَفَارَ التَّنُّورُ } أي عيون الأرض كلها بما فيه موضع النار ، وقيل موضع بالهند ، وهذا غريب .
{ وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِاِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنْ الْمَاءِ قَالَ لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنْ الْمُغْرَقِينَ وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَاسَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } [ هود : 41 – 44] .
هذا ملخص قصة نوح .. وفيها فوائد :
صبر نوح الطويل .
تنوع أساليب الدعوة .
القيام بالدعوة دون الاهتمام بالنتائج .
حسن مجادلة واستعراض البراهين على وجود الله والآيات .
إن الضعفاء أتباع الرسل .
فضل نوح وأن ذريته هم الباقين .
بيان رعاية الله للمؤمنين .
أن الدائرة على الظالمين الكافرين .
بيان قدرة الله العظيمة ، وأنه لا راد لأمره ، ولا معقب لحكه .
( 5 ) قصة هود عليه السلام(1/14)
أرسل الله تعالى إلى قومه (عاد) وقد كانوا في مكان يسمى (الأحقاف) باليمن ، وقد كانوا في أطيب عيش ، وأحسن حياة ، حباهم الله نعماً غزيرة ، فجروا العيون ، وزرعوا الأرض ، وشادوا القصور .
وآتاهم الله بسطة في الأجسام ، وقوة في الأبدان ، كان حق ذلك الشكر والالتفات إلى منعمها وواهبها .
ولكن للأسف ، زين لهم الشيطان عبادة الأصنام ، بزعمهم أنها تقربهم إلى الله ، ونسوا حق الله والنعم التي بسطها عليهم .
وقد اتصفوا بصفات :
كانوا في غاية من طول الأجسام وقوتها .
كانوا أصحاب بطش شديد .
كانت أرزاقهم وفيرة ومساكن باهرة .
وهذا يظهر في سورة الشعراء { كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِي إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ }
[ الشعراء : 123 - 135 ] .
فتأمل هذه النصيحة التي حملها هود عليه السلام ، فهم كانوا في بُلَهنية من العيش ، نعمة ورخاء ، وعزاً وقوة ، وجنات وأنهار ، ومال وأبناء ، ويتفاخرون بالعمران والبنيان .
{ أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ } الريع : البنيان المرتفع المحكم عند الطرق المشهورة يفعلونه إظهاراً للقوة والزهو وليس للحاجة .
فحذرهم هود أن هذا البناء فيه مفاسد :
فيه تضييع للوقت .
وإتعاب للبدن بلا فائدة .
إضاعة للمال .
اشتغال بما لا يجدي في الدنيا ولا في الآخرة .(1/15)
ثم ذكرهم بتقوى الله { فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ } وصية الأنبياء .
فماذا كان ردهم { قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنْ الْوَاعِظِينَ } [الشعراء : 136] يعني : نصحت أو لم تنصح ، ذكرت أم لم تذكر ، لن نترك شريعة الآباء ، وطريقة الأجداد { إِنْ هَذَا إِلاَّ خُلُقُ الأَوَّلِينَ } [الشعراء : 137] يعني ما نحن عليه هو دين الأولين ، كيف نتركه ، كيف نهجره ، هذا محال ؟!!
{ وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ } [الشعراء : 138] ما تزعمه من عذاب تخافه علينا ، لا حقيقة له ، لا يوجد بعث ولا معاد ، ولا ثمة هناك عذاب ، يعني إنت من الكاذبين .
في موضع آخر : دعاهم إلى الله والتوحيد { اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ قَالَ الْمَلأ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنْ الْكَاذِبِينَ } [الأعراف : 65 - 66] . يعني يا هود : أنت سفيه ، طائش الحلم تسفه عبادتنا ، وتعيب ما وجدنا عليه آباءنا . ما ميزتك علينا ، نأكل كما تأكل ، ونشرب كما تشرب ، فكيف أختصك الله وآثرك علينا ، ما نظنك إلا من الكاذبين .
قال هود : يا قوم ليس بي سفاهة عقل ، ولا حماقة رأي ، ولقد عشت فيكم دهراً فما أنكرتم عليَّ شيئا ، وما الغريب أن يختص الله واحداً من قومه برسالته ، ويحمل دعوته .
قال تعالى : { قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } [الأعراف : 67 - 69] .(1/16)
والآلاء هي النعم عليهم ، فيقول تذكروا نِعم الله ، وآمنوا به واستغفروه { وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ } [هود : 52] . أي لا تصيروا كالمجرمين بإعراضكم وتكذيبكم .
ردوا عليه قائلين : لا شك أن بعض آلهتنا قد أصابك بسوء ، فأصبت في عقلك، فأصبحت تهذي بما لا حقيقة له .. كما قال تعالى { إِنْ نَقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ } [هود : 54] .
زاد هود في النصيحة وكرر ، وذكرهم بعذاب الله ، وتبرأ من شركهم { قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } [هود : 54 - 56] . أي كل دابة تحت حكمه وقهره وسلطانه .
وبعد ذلك ازداد كفرهم وعنادهم ولم ينقطع هود ، بل تعاظموا بقوتهم وبطشهم وأن العذاب لن يصل إليهم { وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً } [فصلت : 15] . غرتهم الأجسام الضخمة والقوة المنيعة ، أنه لا يصل إليها قوة الله ، ومكره وبطشه عن ظلم وكفر وأبى وعاند .
فعندها قامت عليهم الحجة ، وأعذر إليهم هود عليه السلام ، وزاد كفرهم بقولهم { فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنتَ مِنْ الصَّادِقِينَ } [الأعراف : 70] . سألوا العذاب بأنفسهم { قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ } [الأعراف : 71] .
وبالفعل جاءتهم أمارة العذاب وهي عبارة عن (سحاب أسود) يعترض السماء ، فاستشرفوا له وفرحوا ، لأنهم كانوا ممحلين من الأمطار .(1/17)
قال تعالى { فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ } [الأحقاف : 24 - 25] .
ثم شاهدوا هذه الريح تحمل دوابهم وتقذف بها إلى مكان سحيق ، وأصابهم الهلع وهرعوا سراعاً إلى بيوتهم يغلقونها عليهم ، يظنون أنهم سينجون ، ولكن الريح كانت باردة شديدة .. شيء عظيم لا يُوصف .
قال تعالى : { وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ } [الحاقة : 6 - 8] .
صَرْصَرٍ : باردة . ………عَاتِيَةٍ : بلا رحمة .…
حُسُوماً : كوامل متعاقبات .……خَاوِيَةٍ : بالية .
وفي آية أخرى { فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ } [فصلت: 16] جعلت الريح العاتية ، تحمل الرجل الضخم منهم فترفعه ، ثم تلقيه على أم رأسه ، فيصبح كالجثة الهامدة ، كالنخلة إذا سقطت بلا أغصان ، كما قال : { كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ } [الحاقة : 7] ، { كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ } [القمر : 20] ، { مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ } [الذاريات : 42] .
أما هود فقد أوى إليه أصحابه من المؤمنين واختبئوا في مكان آمن ، والريح حولهم يشاهدونها ، لكن لا يصيبهم ضررها ، إلى أن هدأت بعد الأيام النحسات .(1/18)
ثم انتقل هود إلى حضرموت وهناك مات عليه السلام .
فوائد القصة ودروسها :
شفقة هود عليه السلام على قومه .
بيان رعاية الله للمؤمنين .
ظهور سنة الله في المكذبين الظالمين .
عظم بطش الله بأهل الظلم والفساد في الأرض .
هوان الكاذبين إذ عذبهم بالهواء .
حقارة البشر إذ يبارزون الله بالعداوة والحرب .
إن العاقبة للمتقين مهما طغا الظلمة وتجبروا .
صبر هود على قومه وكثرة دعوتهم .
ونكتفي بهذه الفوائد الموجزة وصلى الله وسلم على نبينا محمد ،،
( 6 ) قصة صالح عليه السلام
وهو نبي عربي أرسله الله إلى أمة ثمود العربية ، كانت من العرب العاربة قبل إبراهيم عليه السلام .
ومساكنهم مشهورة بين الحجاز والشام وتسمى (الحِجر) ، كما قال في القرآن { وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا فَكَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ } [الحجر: 80 - 81] .
وتعرف حالياً بمدائن صالح ، وقد مر بها صلى الله عليه والسلام لما كان غادياً إلى تبوك وقال : (لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين) وكان النبي قد نزل قريباً من دارهم فدخل الصحابة ديارهم ، واستعملوا مياههم ، وطبخوا حيث نصبوا القدور فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بإراقتها ونهاهم عن دخول ديار المعذبين .
وهو كذلك لا يجوز دخول أماكن العذاب لأية أمة من الأمم ، إلا من باب العظة والاعتبار . قال صلى الله عليه وسلم (لا تدخول على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين فإن لم تكونوا باكين فتباكوا لا يصيبكم ما أصابهم) .
اصطفى الله تعالى صالحاً على صومه ، وآثره بهذه الدعوة ، فبدأ الدعوة كعادة الأنبياء { اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ } [الأعراف : 73] . دعاهم إلى التوحيد ، لأنهم كانوا على آثار من سبقهم في عبادة الأصنام التي لا تغني ولا تنفع ولا تضر .(1/19)
كان من مواعظ صالح لهم ما ذكره الله تعالى في سورة الأعراف : { وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتاً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ } [الأعراف : 74] . وفي موضع آخر : { قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُمْ مِنْ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ } [هود: 61].
فهذتان الموعظتان شملت أمور :
الدعوة إلى التوحيد ، ونبذ الأصنام .
تذكيرهم بخلق الله لهم .
استعمارهم في الأرض وبوأهم فيها .
جعلهم خلفاء بعد عاد .
تشييد القصور .
نحت البيوت من الجبال كما قال { وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ } [الفجر: 9] . ينحتونه ويحرقوه ، وقال { وَتَنْحِتُونَ مِنْ الْجِبَالِ بُيُوتاً فَارِهِينَ } [الشعراء : 149] . وقال { وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنْ الْجِبَالِ بُيُوتاً آمِنِينَ } [الحجر: 82] . معنى فَارِهِينَ : حاذقين وقيل شرهين ولا منافاة بينهما .
ولم يزل صالح عليه السلام ينصحهم ويذكرهم بآلاء الله ، فقد قال لهم : { أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ وَتَنْحِتُونَ مِنْ الْجِبَالِ بُيُوتاً فَارِهِينَ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ } [الشعراء : 146 - 152] .
من هؤلاء المفسدون ؟!(1/20)
إنهم الرؤساء والكبراء ، من عادتهم الكذب والكفر والصد والعناد ، فهو يحذرهم من هؤلاء لأنهم من أول ما دعاهم قالوا : { قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنْ الْمُسَحَّرِينَ } [الشعراء: 185] . أي المسحورين لا عقل لهم ولا بصيرة .
وأيضاً وصفوه بالبشرية المماثلة لهم فكيف يصطفيك الله علينا بلا آية ولا دليل { مَا أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنْ الصَّادِقِينَ } [الشعراء: 154] . { أَؤُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنْ الْكَذَّابُ الأَشِرُ } [القمر
25-26] .
لما اشتد الحوار بينه وبينهم وهو يدعو ويكرر ، اقترحوا عليه أن يخرج لهم (ناقة عشراء) من صخرة عندهم يعرفونها . فقام صالح عليه السلام ، وصلى ودعا الله فانشقت الصخرة عن ناقة عشراء فانبهروا ، فآمن بعضهم ، وكفر أكثرهم . فقال : { قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ } [الشعراء : 155 - 156] .
وفي موضع آخر { قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [الأعراف : 73] .
وفي آية آخرى { وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ } [هود : 64] .
فبين لهم أن هذه الناقة ، ناقة الله وقد كانت عظيمة الجسم ، جميلة الشكل ، إذا مرت بأنغامهم نفرت منها .
وأعطاهم أوامر تجاهها :
تشرب يوماً ، وأنتم يوماً ، وفي اليوم الذي لها تنتفعون بحلبها ولبنها { وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ } [القمر : 28] .(1/21)
إياكم وأذيتها ولا تمسوها بسوء { وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [الأعراف : 73] .
ذروها تأكل كما شاءت { فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ } [الأعراف : 73] .
ظلت الناقة مدة على هذا الحال لها يوم ، ولهم يوم ، ثم إنهم تضايقوا من هذا الحال ربما :
لأنها ضايقتهم في الماء .
أو لانجذاب الناس إليه بسبب الناقة .
ومن حسد وحقد على صالح وظهور حجته عليهم .
فبدأوا يفكرون ، ويمعنون النظر ، ماذا يصنعون مع صالح وآيته العجيبة ، وكانت نفوسهم الشريرة تؤزهم إلى قتل الناقة ، فيحاولون ، ثم يتخوفون يتذكرون وعيد صالح لهم .
وعلمت النساء بما يريد السادة الكبار من الفتك بالناقة ، وتحطيم دعوة صالح ، فقالت إحداهن لرجل يُدعي (قدار بن سالف) إن هو قتل الناقة زوجته إحدى بناتها ، ولا تسأله مالاً ولا نواة .
فتآمرت هذه المرأة وقدار ، وبحثوا عمن يؤازرهم ، فاستجاب لهم سبعة آخرون وهم من عناهم الله بقوله : { وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ } [النمل : 48] .
هؤلاء المفسدون تآمروا ، وتشاوروا على قتل الناقة ، ومن ثم قتل صالح عليه السلام . قال تعالى { قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ } [النمل : 49 - 51] .
فهؤلاء تحالفوا وتبايعوا على قتل صالح ، وكان المتولي لقتلها أخيبهم وأشقاهم وهو (قدار بن سالف)، كما قال تعالى: { فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ } [القمر:29]. وقال تعالى : { إِذْ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا } [ الشمس : 12 ] .(1/22)
ويقال : إنه لم يباشر حتى طاف على أهل القرية يسألهم فكلهم أشاروا عليه { فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا } [ الشمس : 14 ] .
فانطلق التسعة ورصدوا الناقة بعدما شربت من الماء فرماها رجل اسمه (مصدع بن مهرب) بسهم ، ثم ضربها فدار بالسيف في عرقوبها فسقطت ، ثم طعنها في لبتها ونحرها ، وفر فصيلها ويُقال إنهم قتلوه ، وقيل بل اختفى في صخرة .
علم صالح بفعلهم الآثيم ، فقال : { تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ } [ هود : 65 ] . وقالوا : نذهب نقتل صالح ، إن كان صادقاً عجلناه قبلنا ، وإن كان كاذباً ألحقناه بناقته ، وهو ما عناه الله بقوله : { وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ } [ النمل : 50 ] .
فانطلقوا لقتل صالح ، فسلط الله عليهم حجارة فرضختهم خرصتهم وماتوا ثم إن وجوههم اصفرت – ثم احمرت – ثم اسودت ، ثم آخر اليوم الثالث : جاءتهم صيحة من السماء ، ورجفة من أسفل منهم ، فاضت لأجلها الأرواح وزهقت النفوس ، فأصبحوا في ديارهم جاثمين .
وعندئذ قال صالح تقريعاً وتوبيخاً : { لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ } [ الأعراف : 79 ] .
ونجى الله صالحاً والذين آمنوا معه .. قال تعالى : { فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِثَمُودَ } [ هود : 66 - 68 ] .
نعم بعداً وسحقاً لكل مكذب ومستنكف عن الحق .
هذا ما يتعلق بخبر صالح مع قومه المكذبين .
ولعلكم أدركتم ما في هذه القصص من فوائد وعظات فمنها :(1/23)
اتفاق الأنبياء في أول واجب على الناس وهو التوحيد .
بيان كثرة النعم والآلاء التي امتن الله بها على ثمود .
كان حق هذه النعم الشكر والانقياد .
تأييد الأنبياء بالمعجزات لتظهر حجتهم .
خطر الدنيا ومفاتنها إذا لم يهتد العبد .
بيان خطر النساء على ألباب الرجال .
إن أول المكذبين للرسل السادة والكبراء .
بيان شدة مكر المجرمين .
إتيان صفة المكر لله ، وإن الله يمكر بمن يمكر بدينه .
حفظ الله لصالح والمؤمنين معه .
بيان العذاب الشديد وهو الصيحة والرجفة { وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ }
[ فصلت : 17 ] .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد ،،
( 7 ) قصة شعيب عليه السلام
(خطيب الأنبياء)
شعيب نبي من أنبياء الله ، أرسله الله إلى عرب معان ، في مكان يسمى مدين كما قال تعالى : { وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً } [ الأعراف : 85 ] . ومدين يطلق على القبيلة ، وعلى المدينة جهة معان .
وقوم شعيب عُرفوا بلقب في القرآن هو (أَصْحَابُ الأَيْكَةِ) كما قال تعالى : { كَذَّبَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ } [ الشعراء : 177 ] . فهم أمة واحدة ، وليسوا أمتين . والعجيب أنه قال في كل نبي أخاهم إلا شعيب .
والجواب أنه نسبهم لعبادة الشجرة ، فناسب تنزيه شعيب عنهم فليس هو بأخ للعباد لمن يعبد الشجر والأوثان .
وقد عرف قوم شعيب إضافة إلى الشرك والكفر عرفوا :
بالتطفيف في المكيال والميزان .
ويبخس الناس أشياءهم وأموالهم .
الإفساد في الأرض .
قطع الطريق لأجل المال .(1/24)
قال تعالى : { وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ } [ الأعراف : 85 ].
وقال لهم { وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجاً وَاذْكُرُوا إِذْ كُنتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ } [ الأعراف : 86 ] .
فهذه الموظعة شملت أمور :
الدعوة إلى التوحيد .
تأييد الله له بالمعجزات .
نهيهم عن بخس الكيل .
تحذيرهم من الإفساد .
تحذيرهم من قطع الطريق لنهب الأموال أو توعد المؤمنين بالقتل .
تذكيرهم بنعمة الله ، إذ كثرهم بعد قلة وأغناهم بعد فقر .
دعوتهم إلى الاعتبار بحال السابقين المفسدين .
وفي موضع آخر : { لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ } [ هود : 89 - 90 ] .
والمعنى اعتبروا من حال الأمم السالفة ، وذروا الكفر ، وذروا ما أنتم عليه من نهب الأموال والتطفيف .
وقد قال تعالى : { بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ } [ هود : 86 ] ، أي رزق الله خير لكم من بخس الناس .(1/25)
فرموه بالسحر والسخرية { قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنْ الْمُسَحَّرِينَ وَمَا أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنَا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنْ الْكَاذِبِينَ } [ الشعراء : 185 - 186] ، فكان جوابهم مملوء بالسخرية والتهكم (كيف تنهانا عن دين ألفناه ، وشرع ورثناه ، وأنت الراجح عقلاً ، والسديد رأياً ، الواسع حلماً) ، وهو ما عناه الله تعالى بقوله : { قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ } [ هود : 87 ] . يعنون : قراءتك تأمرك ، أن نترك دين الآباء كلا والله !!
ثم بين لهم مقصده في الدعوة : { إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ } [ هود : 88 ] .
إن دعوته فيهم قائمة على الإصلاح .
أسند التوفيق إلى الله ، وأن الرزق والفضل والصلاح بيد الله .
تحقيق التوكل على الله .
وإليه الإنابة على كل حال ، لا سيما عند الخلل والتقصير .
مكث شعيب مدة يناظرهم ، ويقيم الأدلة عليهم ، وأنه لهم الناصح الأمين ، فلما يأسوا لجأوا إلى المراوغة في الرد ، ومدافعة الحجة بالشتم .
فقالوا : إننا لم نفقه كثيراً مما تقول ، لأنه ليس لكلامك سبيل إلى قلوبنا ، ولا منفد إلى عقولنا ، ولتكف عن إثارة من اغتروا بك وأنت المستضعف الذليل ولولا عشيرتك لقتلناك ، قال تعالى : { قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفاً وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ } [ هود : 91 ] .
يعني ليس لك عندنا قيمة ولا معزة .(1/26)
قال لهم { قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنْ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيّاً إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ } [ هود : 92 ] .
ثم لما اشتد نكير شعيب عليهم هددوه وأتباعه من طائفة المستكبرين . { قَالَ الْمَلأ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ } [ الأعراف : 88 ] .
يعني : هما خيارن ، إما طردكم من القرية ونهجركم ، أو تتركوا الدين الجديد وتعودون لملة الآباء .
وهنا إشكال { أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا } هل معناه إن كان على الشرك ؟ ! لأن ليس كذلك .
والجواب :
عاد هنا بمعنى صار .
أو المراد أتباعه .
ثم قال : { قَدْ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ } [ الأعراف : 89 ] . والمعنى : أنه أعظم فرية في ادعاء الأنداد مع الله . وربنا وسع كل شيء علما ، هو يحكم بيننا وبينكم ، وهو خير الحاكمين .
بعد ذلك ، لم يترك دعوتهم شعيب ، ولم يخف من تهديدهم ، بل بقى صامداً قوي العزيمة .
وكان مما قال : { وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ } [ هود : 93 ] . والمعنى : اعملوا على طريقتكم ، فأنا على طريقتي ، سوف يبين من يستحق العذاب ، ومن هو الصادق من الكاذب ، وانتظروا وارتقبوا ذلك .(1/27)
ثم جاءت سنة الله في المكذبين :
{ وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتْ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ } [ هود : 94 - 95 ] .
وفي الأعراف ذكر عنهم { فَأَخَذَتْهُمْ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ }
[ الأعراف : 91 ] .
وفي الشعراء قال تعالى : { فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } [ الشعراء : 189 ] .
ثلاث نقم جمعها الله لهم : صيحة ورجفة وعذاب الظلة ، حسب السياق ، حيث قالوا : { فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفاً مِنْ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنْ الصَّادِقِينَ } [ الشعراء : 187 ]. يعنون عذاباً من السماء ، يتحدون ، فجزاهم الله تعالى بأن أصابهم حر شديد مدة سبعة أيام لا يكنهم فيه شيء ، ثم أقبلت إليهم سحابة أظلتهم فجعلوا يستظلون بها ، فلما اجتمعوا تحتها ، أرسل الله عليهم منها شرراً ولهباً ، ورجفت بهم الأرض ، وجاءتهم صيحة عظيمة أزهقت أرواحهم { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ } [ الشعراء : 190 - 191 ] .
وقال شعيب موبخاً لهم { وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ } [ الأعراف : 93 ] .
فوائد القصة :
عظمة التوحيد في تاريخ الدعوات .
تواصي الأمم بتهم باطلة لا حقيقة لها كالسحر ، والكذب ، والبشرية .
شفقة شعيب على قومه .
حرمة الاعتداء على الناس وبخسهم أموالهم .
حرمة التطفيف في الكيل والميزان .
صبر الداعية على صور التهكم والسخرية .
سلامة النبي من كفريات قومه .(1/28)
فساد المال إذا كان مما حرم الله (بَقِيَّةُ اللَّهِ) .
إن دعوات الأنبياء قائمة على نفع الناس وإصلاحهم .
عزو الفضل والتوفيق إلى الله وأن المرء لا حول ولا قوة له .
من وسائل أعداء الدعوة الصد عن سبيل الله وتهديد المستضعفين .
الاعتبار بمصارع الهالكين قبلنا .
انتهت القصة والله الموفق ،،
( 8 ) قصة أصحاب الجنة
وأصحاب الجنة نقصد بهم ملاك البستان ، فالجنة تطلق على بستان الثمار والفواكه .
وهذه القصة قصة عظيمة ، مليئة بالعبرة والعظة قال تعالى : { إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ } [ القلم : 17 ] .
وقد كانوا من أهل اليمن ، وقبل الحبشة ، حزروان باليمن .
وكان أبوهم رجلاً صالحاً ، سار في الجنة بسيرة حسنة :
يرد فيها ما نحتاجه .
وندخر لعياله قوت سنة .
ويتصدق بالفاضل .
ويحسن للفقراء والمساكين .
حيث إذا دنا موسم الحصاد يتجمع عنده جموع الفقراء ، فيهش فيهم ويبتسم ، ويؤذن لهم بالأخذ فيتحمل هذا في مكتله ، وذاك في ثيابه ، ولهم بعد ذلك ما تناثر وأخطأته الأيدي .
تضايق الأبناء من فعل أبيهم ، وأحسوا أن أباهم يبدد الثروة ، حيث صار البستان مستباحاً للمساكين .
فقال الأول منهم : ما أتى إنك بإنفاقك على الفقراء ، لتضيق علينا في رزقنا ، وتبخسنا حقنا .
وقال الثاني : إذا بقيت يا أبتي على هذه الحال ، فسنغدو بعدك فقراء ، نتكفف الناس.
وازداد الثالث أن يتكلم ، فأشار إليه بالصمت .
فقال الأب الصالح : (ما أراكم إلا خاطئين في الوهم والتقدير ، إن هذا الحال ليس مالي ولا مالكم ، إنما هو مال الله ، مكنني فيه ، وآمنني عليه ، على أن أبذله في وجوهه ، فللقراء حقهم ، ولأبناء السبيل نصيبهم ، والطيور والبهائم طعامها ، وما فضل بعد ذلك فهو لي ولكم .
ثم ذكرهم أن هذا حكم الله ، إن المال بذلك يزيد ، وقد التزمتها شاباً طرياً ، فكيف أتركها شيخاً فانياً .(1/29)
وقال لهم : ها أنتم ترون شعري قد أشهب ، وجسمي قد نحل ، وعودي قد ذوى والأسقام أخذت سبيلها إليَّ ، ولن ألبث إلا قليلاً حتى ألقى الله تعالى : وإنكم سترثون هذا البستان والمال والنعم ، وأنتم بين خطتين : إن اتعظتم فإن الله وعد كل منفق خلفاً ، وإن بخلتم ، فإن الله أنذرك تلفاً .
كذا هي وصية الرجل الصالح : تشع بالهدى والإيمان والصدق ومحبة الناس .
ثم لم يلبث الشيخ مدة حتى توالت عليه الأسقام ، ومضت إلى الله على خير حاله وأحسن خاتمة .
توالت الأيام سراعاً ، وتهيأت الحديقة للجني ، ودنت ثمارها للقطوف ، وتسامع الفقراء ، وهبوا كعادتهم السنوية .
وأحس الأبناء بخطر الفقراء ، فبدأوا يتشاورون ، فقال الأول : ليس للفقراء منها حق ولا نصيب ولكلٍ نصيب يثمره كيف يشاء .
وقال أوسطهم وحدهم وهو أقرب بهم للوالد ، إنكم إن حرمتم الفقراء ، لا تأمنون منهم شراً أو اعتداء ، امنحوهم حقهم ، واذهبوا منها مذهب أبيكم ، وما بقي فإن الله ينميه .
فصاحوا في وجه أخيهم : لا تقترح شيئاً فيما لا تملك .
ثم أرشدهم للصلاة قائلاً : إنها تنهي عن الفحشاء والمنكر ، وقد تردكم إلى الحق وتعطف قلوبكم إلى الفقراء ، ولكن ما استجابوا له .
ثم خلص اجتماعهم إلى أن يبكروا لقطفها مع طلوع الفجر وظلمته ، قبل استيقاظ الفقراء ، كما قال تعالى : { إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ وَلا يَسْتَثْنُونَ }
[ القلم : 17 – 18 ] .
فعلم الله سوء نيتهم ، وخبث طويتهم ، فعاملهم بنقيض قصدهم ، حيث أرسل على البستان ، حاصباً من السماء ، قلع نبتها ، وأسقط شجرها ، وبدد أوراقها ، فعادت كالصريم وهو الليل الأسود .
قال تعالى مبيناً ذلك : { فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ } [ القلم : 19 – 20 ] .(1/30)
تدمرت الحديقة واسودت ، وهؤلاء اللئام لا يشعرون ، عازمين على تنفيذ لؤمهم وبخلهم { فَتَنَادَوا مُصْبِحِينَ أَنْ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَارِمِينَ فَانطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ } [ القلم : 21 - 24 ] .
تنادوا للذهب صباحاً مبكرين لجذها ، وأخفوا سراً بينهم ، أن لا يدخلنها اليوم عليكم مسكين ، أي يقول بعضهم : لا تمكنوا اليوم فقيراً يدخلها ، واندفعوا وهم في حالة من الغيظ والحقد على المساكين { وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ } [ القلم : 25 ] .
وصل هؤلاء الأبناء إلى الحديقة ، فما صدقوا ما رأوا ! رأوا حديقة سوداء مدلهمة لا ثمر ولا زرع ولا عنب ، فظنوا أنهم أخطأوا الطريق . قال تعالى { فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ } [ القلم : 26 ] . والمعنى أخطأنا الطريق .
نظروا ودققوا ، فعلموا أنها هي : فقالوا : { بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ } [القلم : 27] إنها هي الجنة ، لكن لاحظ لكم فيها ولا نصيب .
فقال أوسطهم وخيرهم { قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ } [القلم : 28] أي هلا تسبحون وتشكرون على ما أعطاكم إنها حديقتكم حُرمتم منها قبل أن يحرم الفقير ، وجُزيتم بأسوأ ما يجازى الشحيح .
فندم الأخوة { قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ } [القلم : 29] . اعترفوا حيث لا ينفع الندم .
ثم طفقوا يلوم بعضهم بعضا على البخل وبخس المساكين { فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ } [القلم : 30 - 31] أي اعتدينا وبغينا ، فأصابنا ما أصابنا ، ثم قالوا : { عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْراً مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ } [ القلم : 32 ] . نقل عن ابن مسعود أنهم تابوا وأخلصوا وأن لهم لله جنة يُقال لها : الحيوان .(1/31)
ثم قال تعالى : { كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ } [ القلم: 33 ] . إن هذه العقوبة جازيناكم بها لبخلكم ومنعكم حق المسكين والفقير ، ثم رغم ما لقيتم ، فإن عذاب الآخرة أعظم وأشد لو علمتم وتفكرتم .
أما فوائد هذه القصة :
إن هذه القصة ضربها الله مثلاً لأهل مكة حين امتن الله عليه رحمة النبوة ، فقابلوه بالكذب والمعاندة . وأهل الجنة امتن الله بالحديقة المزهرة فلم يؤدوا حق الله فيها فعاقبتم .
إن مال الأغنياء مال الله استأمنهم عليه ، وأوجب فيهم حقوقاً { وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ } [ النور : 33 ] .
في القصة ذم البخل والشح ، وأن الله قد يعجل العقوبة لأصحابها .
وأيضاً فضل الكرم والإحسان إلى الناس .
إن نماء المال وبركته في بذله وإخراج حق الله فيه ، وليس بحفظه وحراسته .
بيان شؤم عاقبة البخل ، وأنه قد يكون سبباً في ذهاب المال ، ومحق الثروة .
مشروعية الاعتراف بالذنب والظلم وعدم المكابرة .
وجوب الإنكار عند الخطأ { قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ } [القلم : 28].
إثبات البلاء والامتحان في هذه الحياة .
الاعتراف بالذنب سبب إلى التوبة كما قد حصل منهم .
إن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة .
مشروعية الاستثناء في القسم ، قال : { وَلا يَسْتَثْنُونَ } .
ضعف المخلوق أمام قدرة الله ، ومشيئته في الخلق ، وإن قدره نافذ سريع كما قيل :
دع المقادير تجري في أعنتها ... ولا تنامنَّ إلا خالي البالِ
ما بين طرفة عين وانتباهتها ... يغير الله من حال إلى حالِ
والله الموفق ،،
( 9 ) قصة يونس عليه السلام
هناك في بلدة (نينوي) في العراق ، طغت ظلمات الشرك ، وانصرف الناس إلى أوثان لا قيمة لها ، وأصنام لا فائدة منها فأرسل الله إليهم نبياً منهم هو يونس بن متى عليه السلام فدعاهم إلى التوحيد وعبادة الله وحده ، وأن ينبذوا تلك الأوثان .(1/32)
وقال لهم : إن الله أرسلني هداية لكم ، ورحمة بكم لأدلكم عليه وأرشدكم إليه .
فدُهش القوم من كلامه حيث سمعوا كلاماً لم يألفوه ، كبُر عليهم أن يروا واحداً منهم ينصب نفسه نبياً عليهم .
فقالوا : ما هذا القول الذي تهذر به والبهتان الذي تدعو إليه ، هذه آلهة عبدها آباؤنا من قبل ونعبدها نحن اليوم .
ثم عاد يونس عليه السلام بالتذكير والنصح مرة أخرى محاولاً بإقناعهم بأن هذا هو الدين الحق .
وقال لهم : ما لكم تُعرضون عن هذا الدين الذي أدعوكم إليه ، وهو يأمركم بما فيه صلاح أموركم ، واستقامة أحوالكم ، وتقويم جماعتكم .
إنه يأمر بالمعروف ، وينهي عن المنكر ، ويبغضكم في الظلم ، ويحبب إليكم العدل .
فكيف كان جواب قومه له ، وبماذا ردوا ؟
أجابوه بجواب الجاهلية ، وبحجة المتعنتين { مَا أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنَا }
[ الشعراء : 186 ] .
فقال : يا قوم لقد دعوتكم بالهوادة واللين وجادلتكم بالتي هي أحسن ، فإن أمنتم فهذا الخير الذي أرجوه .
وإن أبيتم ، فإني أنذركم عذاباً واقعاً وبلاء نازلاً ، ترون طلائعه ، وتقدم إليكم دلائله .
ثم ردوا عليه بعد هذا الوعيد : ( يا يونس ، ما نحن بمستيقنين لك ، ولا خائفين من وعيدك ، فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين) .
لم يُطق يونس بعد ذلك صبرا ، بل ضاق بهم ذرعاً فرحل عنهم مغاضباً لهم ، يائساً من إيمانهم ، كما قال تعالى : { وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ } [ الأنبياء : 87 ] .
ولم يكن يبعد يونس قليلاً عن نينوي ، حتى وافت أهلها نذرُ العذاب ، واقتربت منهم طلائع الهلاك :
اغبر الجو حولهم .
تغيرت ألوانهم .
وتشوهت وجوههم ، ونتج عن ذلك قلق ألمَّ بهم ، وخوف داخلهم .
فعلموا عندئذ أن دعوة يونس دعوة حق ، نذارته صدق ، وأن العذاب واقع لا محالة وأنه سيصيبهم ما سمعوه عن عاد وثمود وقوم نوح .(1/33)
وأثناء ذلك ، وقع في نفوسهم أن يلجأوا إلى إله يونس ، فيؤمنوا ، ويعلنوا توبتهم واستغفارهم .
وبالفعل خرجوا إلى شغاف الجبال ، ووصلوا الصحراء ، شاكين متضرعين وفرقوا بين الأمهات وأطفالها ، والإبل وفُصلانَها وأولادها ، والغنم وحُملانها ثم
أعول ، فصاحت الأمهات ، ورغَت الإبل ، وخارت البقر ، وثغت الغنم ، وكانت ساعة عظيمة ، بسط الله عليهم رحمته ، ورفع عنهم نقمته ، وقبل الله توبتهم ، إذ كانوا مخلصين في توبتهم ، صادقين في إيمانهم .
وتمنوا بعد ذلك لو يعود يونس ، ليعيش بينهم رسولاً ونبياً ، ومعلماً وإماما .
قال تعالى مشيراً إلى حال قوم يونس : { فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ } [ يونس : 98 ] .
رفع الله عنهم العذاب بسبب إيمانهم وتوبتهم ، فلم توجد قرية آمنت كلها بنبيهم ، وأيضاً رأت علامات العذاب ، ثم تابت وأنابت إلا قوم يونس .
أما يونس لما انتهى إلى البحر ، وجد أناساً مسافرين فسألهم أن يركبوه ففعلوا وأنزلوه منزلاً كريما ، ومقاماً عزيزا ، لما لاحظوا عليه آثار التقوى والصلاح .
ولكنهم ما ابتعدوا عن الشاطئ ، وجاوزوا البر ، حتى هاجت الأمواج ، وتوقع الركاب سوى المصير ، وأحسوا بالهلكة .
ثم تشاوروا ، فاصطلحوا على أن يخففوا من المتاع . وقالوا : لعل منكم من أساء ، فاستهموا ، فوقعت القرعة على يونس ، ثم أعادوها .
فعلم يونس أن وراء ذلك سراً ، وأن لله في ذلك تدبيرا ، وأدرك أنه أخطأ حيث رحل عن قومه قبل الإذن بالهجرة ، أو يستخير الله في الرحيل ، فألقى بنفسه في البحر وأسلم نفسه للأمواج ، يتقلب فيها .(1/34)
وهو ما عناه الله بقوله { وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنْ الْمُرْسَلِينَ إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنْ الْمُدْحَضِينَ فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ } [ الصافات : 139-142 ] .
أوحى الله إلى الحوت فابتلعه على أن لا يأكل لحمه ، ولا يهشم عظمه .
واستقر به الحال في الحوت الكبير ، يشق به الأمواج ، ويهوي إلى الأعماق في ظلمات متضاعفة ، وشدائد صعبة ، فضاق صدره وفزع إلى ملجأ المضطرين ومفزع المنكوبين ودعا المكروب المشهور : { فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنْ الظَّالِمِينَ } [ الأنبياء : 87 ] .
فسمعت الملائكة صوته ، فعرفته وقالت : (صوت معروف من عبد معروف) فاستجاب الله دعاه ، وأوحى للحوت أن ألقه في العراء { فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ } [ الصافات : 145 ] . قيل باليمن وقيل على جانب دجلة . { فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ } [ الصافات : 143 - 144 ] . من المستحسن قبل المصلين أوله عمل صالح سابق .
خرج من الحوت وهو عليل سقيم ، هزيل فرحمه الله بأن أنبت عليه شجرة من يقطين طعم من ثمرها ، واستظل بورقها ، حيث أن هذه الشجرة لا تقربها الحشرات قال تعالى { فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنْ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ } [ الأنبياء : 88 ] . ولما استوى وعوفى لما جاءه ، أمره الله أن يرجع إلى بلده ، وأخبره أنهم آمنوا ، وقد نبذوا الأصنام .
قال الله تعالى لرسول محمد صلى الله عليه وسلم { فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ لَوْلا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنْ الصَّالِحِينَ } [ القلم : 48 - 50 ] .(1/35)
هذا ملخص القصة وفيها فوائد :
سعة رحمة الله وعظيم عفوه لمن تاب وأقبل .
أهمية الصبر في حياة المسلم والداعية .
فضيلة يونس عليه السلام وأن له سابقة حسنة عند الله ، ويذكر : إنه لما قال الدعاء : جاءت الكلمة تحن عند العرش فقالت الملائكة : هذا صوت ضعيف معروف ، من بلاد غريبة ، فقال الله: أما تعرفون هذا ؟ قالوا : لا قال: هذا يونس ، قالوا : يا رب هذا عبدك الذي لا يزال يُرفع له عمل صالح ودعوة مستجابة قال : نعم قالوا : أفلا ترحم ما كان يعمله في الرخاء فنجيه من البلاء فأمر الله الحوت فنبذه في العراء ، وفي الصحيحين (ما ينبغي لأحد أن يقول أنا خير من يونس بن متى ) .
تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة .
فضيلة الدعاء بهذه لاكلمة (لا إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنْ الظَّالِمِينَ) .
وأنها عامة لأهل الإيمان .
وقد جاء في فضل هذه الدعوة ما رواه الترمذي والنسائي (دعوة ذي النون إذ هو في بطن الحوت لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين فإنه لم يدع بها مسلم ربه في شيء قط إلا استجاب له) .
فضل قوم يونس بعد توبتهم ، حيث أثنى الله عليهم { إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ } [يونس:98] .
إنهم بإيمانهم رفع عنهم العذاب الدنيوي والأخروي لقوله { فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ } [ الصافات : 148 ] .
إن الإيمان طريق للسعادة والمتاع والحياة الطيبة .
فضل شجر اليقطين وقد ذكر أن له فوائد : سرعة نباته ، وتظليل ورقه لكبره ونعومته ، وأنه يفر منها الذباب ، وجودة ثمره ، وأنه يؤكل نيئاً ومطبوخاً ، وقشره أيضاً .
وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يحب الدعاء ويتبعه من نواحي الصحفة كما جاء في الصحيح .
ضرورة اعتراف لعبد بخطيئته { إِنِّي كُنتُ مِنْ الظَّالِمِينَ } .(1/36)
لا مخرج للعبد في الشدائد إلا بالرجوع إلى الله وتصحيح التوحيد { لا إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ } . ولشيخ الإسلام ابن تيمية كلام طويل في الفتاوى في فضل هذه الدعوة وكشف أسرارها .
والله الموفق ،،
( 10 ) قصة أصحاب السبت
وهم طائفة من بني إسرائيل من قوم موسى عليه السلام ، كانوا يسكنون بلدة تسمى (أيلة) على شاطئ البحر الأحمر .
وكان من تعليم الله لنبيه موسى ، أن ينقطع قومه عن أعمالهم الدنيوية يوماً كل أسبوع يعبدون الله فيه ، ويذكرونه ويعظمونه .
واختار الله لهم يوم الجمعة لعبادتهم ، لكن رغبوا أن يكون يوم السبت .
وكان موسى يأتيهم في هذا اليوم مذكراً ومرشداً ، ثم توالت الأيام وهم على ذلك وسار الأبناء على طريقة آبائهم من تعظيم السبت ، وعدم مزاولة أي عمل من صيد أو صناعة أو تجارة فيه .
ثم إن الله ابتلى هذه الأمة ، بأن جعل الأسماك والحيتان تغدو يوم سبتهم شرعاً بيضاً سماناً ، ليختبر إيمانهم وصبرهم فإذا قفل السبت اختفت .
ولا يستطيعون السبت لأنهم مشغولون بالذكر والتسبيح ، يخرجون الأحد فلا يجدون ما يجدونه السبت وهو ما قصه الله علينا في كتابه العزيز : { وَاسْأَلْهُمْ عَنْ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ } [ الأعراف:163 ].
أي اسأل يا محمد من حولك من اليهود عن إخوانهم الذين خالفوا أمر الله عندما حرم عليهم الصيد يوم السبت .
شُرَّعاً : ظاهرة على الماء .
قال تعالى { كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ } أي بسبب فسقهم وخروجهم عن طاعة الله ابتليناهم .(1/37)
المهم إن هؤلاء ساءهم رؤية الأسماك الكثيرة يوم السبت ، وشحها يوم الأحد ، فتحركت دواعي الطمع فيهم ، وثارت عوامل الجشع عندهم ، وغفلوا عن تعليم نبيهم ، ونسوا حظاً مما ذكروا به ، فتشاوروا ما يصنعون فقال بعضهم (ما بالنا نترك الحيتان في يوم تكثر فيه وتزيد ، ونأتي لصيدها في أيام ، فلا تصل إلا بجهد ومشقة ، فلا سبيل إليها إلا يوم السبت ، فصادوها ، وغنموا منها الكثير .
وقيل بل أوحى إليهم الشيطان إنما نهيتم عن أكلها يوم السبت فخذوها فيه ، وكلوها في بقية الأيام .
وقالت طائفة أخرى : بل نهيتم عن أكلها وأخذها وصيدها يوم السبت وهؤلاء الصالحون .
لكن فعلوا ما عزموا عليه ، وصادوها يوم السبت ، اليوم المحرم عليهم .
علم الصالحون ما صنع إخوانهم ، فخرجوا إليهم وذكروهم ، فما زادهم ذلك إلا استهتاراً وإمعاناً في غيهم ، فثار أهل الإيمان وحملوا أسلحتهم لمنع هؤلاء من دخول القرية .
فقال العصاة : إن القرية لنا ولكم ، ولا حق لكم في دفعنا عنها ، إنها موطننا ومحط رزقنا ، فإن صممتم على ذلك فلتقاسمونا القرية ، ونبني حائطاً بيننا وبينكم .
ورضى الصالحون بقسمة القرية ، وانفردت كل طائفة بحظها ، وشغل الفساق بلهوهم وصيدهم ، وصنعوا سدوداً للحيتان يوم السبت ، وصادوها الأحد .
ومع ذلك لم يغفل المؤمنون من نصحهم وتحذيرهم عذاب الله ، بل لما قال لهم بعض إخوانهم لماذا ينصحون أناساً قد هلكوا ، واستحقوا عقوبة الله ، قالوا (معذرة إلى ربكم) أي فيما أوجب علينا من الأمر والنهي ، قال تعالى { وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } [ الأعراف : 164 ] .
فانقسمت القرية إلى ثلاث طوائف :
طائفة باغية عاصية .
وطائفة أعرضت وسكتت .
وطائفة صالحة صدعت وأنكرت .(1/38)
والمهم أن هؤلاء الفساق لم يزالوا على حيلتهم ومخالفتهم لنبيهم وعصيانهم حتى جاءهم عذاب الله الشديد . قيل : تزلزلت عليهم أرضهم ، وفرح المؤمنون .
ومسخ الفساق إلى قردة وخنازير ، قال تعالى : { فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ } [ الأعراف : 166 ] . أي ذليلين ذهب إليهم بعض جيرانهم يسألونهم أشياء فوجدوا المدينة مغلقة فنادوهم فلم يجيبوا ، فتسوق بعضهم فرآوهم قردة ، فجعل القرد يدنو مما يعرفه ، ويتمسح به ... عياذ بالله من ذلك .
وفي موضع قال تعالى في أصحاب السبت : { وَلَقَدْ عَلِمْتُمْ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ } [ البقرة : 66 ] .
أي قد علمتم يا معشر اليهود ما حل بأصحابكم يوم السبت ، لما عَصوا وبدلوا..
قيل :
مسخت قلوبهم .
وقيل الشباب قردة والشيوخ خنازير .
وقيل بل صاروا قردة تعاوي لها أذناب رجالهم ونساؤهم .
والحكمة في مسخهم قردة ، لشبهها بالأناسي في الشكل ، وليس حقيقة لأن فعلهم كان تحايلاً لنسيان الحق ، وهو مخالف له في الباطن .
أما مآل القرية ، فقد هلك الفساق ونجا المؤمنون .
كما قال تعالى : { فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنْ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ } [ الأعراف : 165 ] .
واختلف العلماء في الفئة الثالثة الساكنين . ما حالهم : هل هلكوا أم نجوا ؟!
والأرجح الأقرب : إنهم من الناجين بفضل الله ورحمته .(1/39)
وجاء عن عكرمة أنه دخل على ابن عباس فوجده يبكي ، وإذا المصحف في حَجره ، فقال له : ما يبكيك ، جعلني الله فداك ، فقال : تعرف أنك فتلا الآيات وخرج له خبر القرية ثم قال : فأرى الذين نهوا قد نجوا ، ولا أرى الآخرين ذكروا ، ونحن نرى الأشياء ولا ننكرها ، ولا نقول فيها ، فقال : جعلني الله فداك ، ألا ترى أنهم قد كرهوا ما هم عليه وقالوا { لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً }
[ الأعراف : 164 ] . قال : فأمر لي فكسيت ثوبين غليظين .
وجاء عنه رواية أنهم من الهالكين ، لكن لعله قال به أولاً قبل أن يتبين له حالهم.
فوائد القصة :
بيان تعنت بني إسرائيل ، ومخالفتهم لأوامر الله .
اختلاف النفوس في ميلانها للخير أو الشر ، أو الصلاح والفساد .
وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأنه سبب النجاة .
الاتعاظ بمصير العصاة والمخالفين { وَاسْأَلْهُمْ عَنْ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ } [ الأعراف:163 ].
بيان شدة عذاب الله لمن خالف واستكبر .
تحريم الحيل ، وهي ما يتوصل بها إلى محرم ، وقد جاء في الحديث بسند جيد (لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود فتستحلوا محارم الله بأربى الحيل) .
حفظ الله لأهل الإيمان الناصحين في كل زمان ومكان .
إثبات الابتلاء في هذه الحياة ، وأنها ظرف المحن والأحداث .
بيان شؤم المعصية على أهلها ، فقد قال تعالى بعد ذلك : { وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ } [ الأعراف : 167 ] .(1/40)
ومن ذلك : إن موسى ضرب عليهم الخراج سبع سنين وقتل 13 سنة .
ثم صاروا إلى قهر الملوك من اليونانيين والكلدانيين ، ثم صاروا إلى قهر النصارى وإذلالهم .
ثم قهرهم عن صلى الله عليه وسلم وأصحابه ثم يقتلهم المسلمون مع عيسى وهم مع الدجال .
إثبات المسخ في الأمة ، وأنه صورة شديدة من عذاب الله .
بيان أن الظلم والاعتداء من أسباب غضب الله .
ظهور حجة الصالحين على الساكتين { قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } [ الأعراف : 164 ] .
وعظ المخالفين بمثل هذه القصص { وَاسْأَلْهُمْ } اليهود الكاتمين لصفتك في كتبهم وقد عرفوها .
والله تعالى أعلم ،،
( 11 ) قصة لوط عليه السلام
هو نبي من أنبياء الله المرسلين واسمه لوط بن هارون بن آزر ، وهو ابن أخي إبراهيم عليه السلام . وقد كان آمن مع إبراهيم عليه السلام ، وهاجر معه إلى أرض الشام .
ثم إن الله أرسله إلى (أهل سدوم) وما حولها من القرى تدعوهم إلى الله ويأمرهم بالمعروف ، وينهاهم عما كانوا يرتكبونه من المآشم والفواحش التي اخترعوها ، وهي إتيان الذكور دون النساء ، كما قال تعالى : { مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ الْعَالَمِينَ }
[ العنكبوت : 28 ] .
فهذه القرية تميزت بالخبث والخبائث فكانوا أصحاب أخلاق فاسدة ونوايا سيئة :
لا ينفكون عن معصية .
ولا يتناهون عن منكر فعلوه .
وكانوا من أفجر الناس وأقبحهم سيرة .
يقطعون الطريق ، ويخونون الرفيق .
يتربصون لكل شار ويسلبونه ما حمل .
وزادوا إلى ذلك الفاحشة النكراء ، الجريمة الشنعاء ، وهي إتيان الذكور على النساء ، وليتهم استتروا ، بل أشاعوا هذا المنكر وحملوا الناس على مشايعتهم والعياذ بالله .
حينئذ أوحى الله تعالى إلى لوط أن يدعوهم إلى الله ، وينهاهم عن تلك الفواحش والجرائم .(1/41)
قال تعالى : { كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِي إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنْ الْعَالَمِينَ وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ } [ الشعراء : 160 - 166 ] .
فهذه الرسالة النبوية من لوط حوت أموراً :
إنهم كانوا كفاراً ، وبكفرهم بلوط كأنهم كفار بسائر الأنبياء .
دعاهم إلى تقوى الله .
أخبارهم بصدق رسالته وإمامته .
ثم توصيتهم بالتقوى وبطاعته .
وليس همي الأجر ولا المال .
استنكاره عليهم إتيان الذكور وترك الأزواج .
ثم وصفهم بالاعتداء { بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ } .
فكيف كان ردهم عليه ؟! { قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنْ الْمُخْرَجِينَ } [ الشعراء : 167 ] .
هددوه بالنفي والإخراج من القرية ، وفي موضع آخر { قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ } [ النمل : 56 ] . باتت الطهارة عندهم شيئاً منكراً ، فقد طبعوا على الفساد والقذارة .
ولما رأى أنهم مصرون على غيهم ، قال لهم { قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنْ الْقَالِينَ } [ الشعراء : 168 ] أي من المبغضين .
ثم إن لوطاً استمر في دعوتهم وتحذيرهم نقمة الله ، وحذرهم عاقبة سوئهم وفسادهم ، فما ازدادوا إلا عناداً واستهزاءاً ، عندئذ سأل لوط ربه أن ينصره على القوم المفسدين { رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ } [ الشعراء : 169 ] .(1/42)
أجاب الله دعوة لوط ، وحقق له مطلبه ، وبعث إلى أهل هذه القرية الظالمة ملائكة لتنزل عليهم عذاباً ورجزاً من السماء ، فمروا أولاً بدار إبراهيم عليه السلام ، فظنهم عابري سبيل ، فقدم لهم ما يقدم للأضياف لكنهم لم يمدوا أيديهم إلى الطعام فنكرهم وأوجس منه خيفة .
وهو ما ذكره الله تعالى في مواضع :
قال تعالى : { وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلاماً قَالَ سَلامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ } [ هود : 69 - 70 ] .
ثم إنهم بشروه بغلام عليم ، ثم استفسرهم إبراهيم عليه السلام ما الذي جاء بكم { قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ } [الحجر 57-58] لننزل بهم عذاب الله ، جزاء ما كذبوا لوطاً وما فعلوا من الموبقات والآثام .
فاشتد حزن إبراهيم عليه السلام ، فأخذ يجادلهم ويقول لهم : إن فيها لوطاً ، وكان يرجو توبتهم وإنابتهم إلى الله تعالى ، قال تعالى : { وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطاً قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنْ الْغَابِرِينَ } [ العنكبوت : 31 – 32 ] أي من الهالكين ، لأنها كانت تعينهم على كفرهم وفسادهم .
وأخذت الملائكة تؤنس إبراهيم وتطمئنه إن الله سينجي لوطاً والمؤمنين ، وبشروه بالولد الصالح من سارة وهو إسحاق عليه السلام .(1/43)
ثم دخلت الملائكة وانطلقت إلى سدوم في صورة (شبان حسان) ، فلما دخلوا وجدوا جارية بيت تستقي الماء لأهلها فسألوها أن تضيفهم فأشفقت من ذلك ، واعتذرت بضعفها .
ثم عادت إلى أبيها لوط ، فقالت له : (أرادك فتيان على باب المدينة ، ما رأيت وجوه قوم أصبح من وجوههم ، وأخاف أن يعلم بأمرهم قومك فيفضحوهم) ، فأحس لوط بالحرج والضيق ، وتردد في ضيافتهم ، وحدثته نفسه بأن يرسل لهم معتذراً ، لكن أريحية الكرم هزته ، فانطلق إليهم مسرعاً متخفياً عن عيون قومه ، وكانوا قد حذروه أن يلتقي بأحد ولا يستضيف أحداً .
فوصل إلى الملائكة ، ورحَّب بهم ، وأخذهم إلى منزله ، لكنه كان كئيباً حزيناً أن يعلم بهم قومه .
قال الله تعالى : { وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقَالُوا لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلاَّ امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنْ الْغَابِرِينَ إِنَّا مُنزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنْ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ } [ العنكبوت: 33 – 34 ].
وفي موضع آخر : { قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنْ اللَّيْلِ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمْ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ } [ هود : 81 ] .(1/44)
تستر لوط على الأضياف لكن علمت زوجته بأمرهم ، فانطلقت وأخبرت قومها عن الشباب الثلاثة وعن جمالهم وصباحتهم فاندفعوا يُهرعون إليه ، قال تعالى : { وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ قَالَ إِنَّ هَؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنْ الْعَالَمِينَ قَالَ هَؤُلاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ } [ الحجر : 67 - 72 ] .
أحاطوا بمنزل لوط ، وقد جاشت نفوسهم للمنكر العظيم ، فأخذ يناشدهم ويذكرهم بالله فقالوا { قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ } [ هود : 79 – 80 ] .
فعلمت الملائكة فأخبروه عندئذ إنهم رسل الله ، وأنهم مفاتيح عذاب هذه القرية الخبيثة .
فجاء جبريل عليه السلام فضرب وجوههم بجناحه فطمس أعينهم ، فرجعوا وهم لا يهتدون فهو وعد أن يأتي بالعذاب قال تعالى : { وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ } [ القمر : 37 ] .
ثم أمروه أن يسير في آخر الليل هو وأهله ولا يتلفت للعذاب إذا حلَّ بهم ، وبالفعل حمل متاعه وأهله وامرأته خرجت معه ولما سمعت صوت العذاب التفت وقالت: واقوماه فجاءها حجر من السماء فقتلها ، قالوا { إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمْ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ } [ هود : 81 ] .
قال تعالى : { فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنْ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ } [ هود : 82 - 83 ] .(1/45)
أي حجارة من طين منضود متتابعة ، مسومة ، معدة ومكتوب عليها أسماء أصحابها . ورفعها جبريل إلى السماء . { وَمَا هِيَ مِنْ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ } .
هذه قصتهم العجيبة وفيها فوائد :
خبث الجريمة التي حملها قوم لوط وإنهم قد تميزوا بها وسبقوا بها .
حرمة اللواط وشناعته من الأمم السابقة وكذلك في شريعتنا هو محرم ومن كبائر الذنوب . وقد قال الوليد بن عبد الملك (لولا أن الله حكى علينا خبر قوم لوط ، لم صدقت أن ذكراً يعلو ذكراً) وهذا يدل على عفته وتمام خلقه ورجولته.
عظم عقوبة فاعل هذه الرذيلة ، وقد صح في الحديث (من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط ، فاقتلوا الفاعل والمفعول به) .
ولذلك اتفق الصحابة بلا خلاف على قتل اللوطي ولكن اختلفوا في الكيفية ، فقيل: يُحرق وقيل برجم وقيل يُرمي من أعلى شاهق في المدينة ثم تصب عليه حجارة .
وجوب الفرار إلى الله والاعتماد عليه { أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ } وهو الله تبارك وتعالى .
وفي ذلك أهمية حشد الداعية الأتباع والأنصار له في مثل هذه الظروف .
مشروعية إكرام الضيف .
مشروعية الأمر والنهي .
إن النبي يعتبر والداً لقومه { هَؤُلاءِ بَنَاتِي } .
إن الزواج سبب لطهارة الإنسان وبعده عن المآثم والمناكر .
إن الظلم وغلبة الفواحش من أسباب الهلاك .
إن العبرة بالأعمال لا الأنساب فها هي زوجة تخونه ، وتطاوع قومه في شركهم وعنادهم .
( 12 ) قصة عيسى عليه السلام
وسوف نتحدث عن ولادته هنا .
عيسى من أنبياء الله المصطَفين الذين أكرمهم الله عز وجل برسالته .
وجعله الله آية للعالمين ، حيث إنه جاء من أم بلا أب .
وأمه هي المرأة الصديقة الصالحة مريم بنت عمران ، التي نذرتها أمها للعبادة والخدمة في بيت المقدس .(1/46)
في يوم من الأيام اعتكفت مريم كعادتها وجلست تصلي وتعبد الله وتعظمه وتسبحه فأحست برهبة ، وخالطها اضطراب لم تألفه من قبل ، وتبدى أمامها ملك من السماء جاءها على صورة بشر ، لكيلا تفر وتخاف ، ومع ذلك حاولت الهرب ، واستعاذت بالله منه ، إذ ظنته معتدياً أثيماً وفاجراً ، زنيماً وهي المرأة العفيفة الطاهرة .
وهذا ما قصه الله علينا في سورة مريم : { وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذْ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِيّاً فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَاباً فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنتَ تَقِيّاً } [ مريم : 16 - 18 ] .
فهذه الآيات تفيد أموراً :
إن مريم انتبذت وتنحت عن أهلها مكاناً شرقياً قيل للعبادة ، وقيل لسقي الماء ، وقيل لمرض أصابها .
أنها تواجدت واحتميت بحيث لا يراها أحد .
إن الله أرسل إليها جبريل على صورة بشر سوي .
إنها لما رأته أنكرته واستعاذت بالله منه أن يصيبها بسوء { إِنْ كُنتَ تَقِيّاً } فقد أشارت إلى أن المتقي هو من يعظم حرمات الله .
بعد ذلك أبان لها الملك بأنه رسول الله ، وطمأنها بأنه إنما جاء ليهب لها غلاماً صالحاً زكياً ، فاستنكرت أشد مما سبق وقالت : كيف يكون لها ولد وليس لها زوج ولم تتلبس بالفجور .
قال تعالى : { قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيّاً قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُنْ بَغِيّاً قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْراً مَقْضِيّاً } [ مريم : 19 - 21 ] .
فوضح لها الملك بأن هذا الولد آية من الله ، فهو هين في قدرته ، وسنجعله آية للناس ، ودلالة على قدرة الله تعالى، وأنه خلق الناس ونوَّع خلقهم .(1/47)
وأيضاً جعله رحمة من الله للناس يذكرهم ويدعوهم إلى عبادة الله وحده ، كما قال تعالى : { إِذْ قَالَتْ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنْ الْمُقَرَّبِينَ وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنْ الصَّالِحِينَ } [ آل عمران : 45 - 46 ] .
وهنا جعل هذا الولد بشارة لها وليس فاجعة ولا مصيبة :
يكون كلمة من الله كن فيكون .
وهو وجيه له مكانة في الدنيا والآخرة .
وهو يدعو إلى الله في مهده وكهولته .
قضى الله ذلك الأمر وقدره كما قال { وَكَانَ أَمْراً مَقْضِيّاً } .
قدر الله عليها الحمل بهذا المولود الصالح المنتظر ، حيث نفخ الملك في جيب درعها ، فنزلت النفخة حتى ولجت في الفرج فحملت بإذن الله .
فلما حملت شعرت بالضيق والحرج ، حيث إنها امرأة عفيفة ، ومن أسرة صالحة ، فماذا ستقول للناس ، وهل سيصدقونها ؟ إن الأمر كرب خطير ، ومصاب جسيم عليها ، لكنها بفضل دينها وصلاحها ، أسلمت أمرها لقضاء الله ، واحتملت ما حصل لها ، وإن كانت تتمنى لو أنها ماتت قبل أن يجري الذي جرى ، قال تعالى : { فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَاناً قَصِيّاً فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْياً مَنْسِيّاً } [ مريم : 22 - 23 ] .
حصل الحمل لها ، وقد اختلف هل حملت كسائر النساء تسعة أشهر ؟
قال بعضهم : حملت ووضعت مباشرة .
والذي عليه الجمهور : إنها حملت كسائر النساء وهذا أبلغ في الفتن والبلاء .
وهو ما صوبه ابن كثير في التفسير .
والأخبار تدل على أن مخايل الحمل ظهرت عليها ومن ذلك اتهام الناس لها برجل صالح كان يخدم معها اسمه (يوسف النجار) وسألها : (هل يكون شجر من غير حب ، وزرع من غير بذر) .(1/48)
ولما حصلت التهمة لها خرجت هاربة من قومها مكاناً قاصياً بعيداً ، ثم لما وصلت جذع نخلة بالية ضربها المخاض وأصابها ، قيل في قرية تسمى (بيت لحم) ، وهناك اشتد الكرب عليها ، وحزنت حزناً شديداً ، وقالت : { يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْياً مَنْسِيّاً } أي ليتني مت قبل هذه المصيبة ، ولم أطلق ، ولم أخلق ولم أُعرف وفيه جواز تمني الموت خشية الفتنة .
حينئذ جاءها الفرج من الله { فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلاَّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيْنَ مِنْ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيّاً } [ مريم : 24 - 26 ] . جاءها الملك فناداها لا تحزني ولا تيئسي إن الله قد جعل لكي سريا وهو الجدول من الماء قيل هو بالسريانية والنهر الصغير .
وهزي بجذع النخلة تساقط عليكي رطباً جنيا أي ثمراً عجوة من النخلة .
(صَوْماً) صمتاً ، كان من شريعتهم الصوم عن الأكل والكلام .
وضعته وطعمت من النهر والتمر ، ثم أخذته وحملته إلى قومها ، وأرشدها الله أن لا تكلم أحداً يسألها في طريق ، فلما وصلت إلى قومها { قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً } [ مريم : 27 ] . أي عظيماً { يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً } [ مريم : 27 ] .
لم تتكلم ، وعقد الحياء لسانها ، فالتزمت الصمت .
وأشارت إلى المولود الصغير ، هو سيخبركم وسيحدثكم ما الخطب ؟!!
{ فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيّاً } [ مريم : 29 ] .(1/49)
فانطلق الصغير يتكلم بكل وضوع وفصاحة لم يدفع التهمة عن أمه ، لكن أخبر أن الله جعله نبياً وآتاه الحكمة والكتاب { قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِي الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً } [ مريم : 30 - 33 ] .
فهذه الكلمات العظيمات من عيسى حوت مسائل :
إثبات العبودية لله .
اصطفاء الله له بالكتاب وجعله نبياً .
إحاطته بالبركة أينما كان وقيل معناها : كان نفاعاً للناس .
أهمية الصلاة والزكاة .
وفاؤه لوالدته بالبر والإحسان { وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً } أي مستكبراً عن عبادته ويحتمل تعلقها بالبر قال بعض السلف : (لا تجد عاقاً لوالديه إلا وجدته جباراً شقياً) .
إخباره بأنه عبد مخلوق خلقه الله ، وسيحيا ويموت ويبعث كسائر الخلائق .
كان المنظر مهولاً ، والموقف عجيباً ، بهَر العقول ، وخطَف الأفئدة ، بقوله ومقاله ، فاختلف الناس فيه ، ما هذا الغلام وما قصته ، وهل وهو دليل كاف لبراءة
أمه مريم .
قال الله تعالى { ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ } [ مريم : 34 - 36 ] .
ثم ذكر الله أن أهل الكتاب اختلفوا في أمره { فَاخْتَلَفَ الأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ } [ مريم : 37 ] .
اختلفوا فيه على طوائف :
طائفة قالت : ولد زنا وكلامه سحر وهؤلاء جمهور اليهود عليهم لعائن الله .
إنما تكلم الله .(1/50)
هو ابن الله .
ثالث ثلاثة .
هو عبد الله ورسوله ، وهذا مسلك أهل الإيمان .
لأن الله لا يعجزه في خلقه شيء ، ولا يجوز في حقه الزوجة والولد سبحانه وتعالى . كما قال { مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلا وَلَداً } .
فوائد القصة :
فضل مريم عليها السلام ، واصطفاء الله لها وهذا صح في الحديث (كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا مريم بنت عمران وآسيا امرأة فرعون) .
إثبات البلاء في هذه الحياة ، وأن المؤمن يُبتلى على قدر دينه .
إن الله لا يُقدِّر للمؤمنين إلا خيراً ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (عجباً لأمر المؤمن أن أمره كله له خير) .
تبرئة الله عن الصاحبة والولد وأن ذلك محال في حقه .
براءة مريم من التهمة التي ألحقها بلها الجهلة .
أن البيئة الطيبة لا يخرج منها إلا طيباً { يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً } .
حرمة الزنا في الشرائع السابقة .
إسباغ الرزق على أهل الإيمان ، ورعايتي لعباده { وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً } .
إن مريم مثل عظيم في العفة والصلاح والتقوى .
إثبات عبودية عيسى لله تعالى { قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ } . وفي ذلك رد على النصارى من أدعياء التأليه والتثليث .
إن الله يحكم لا معقب لحكمه ، ويخلق ويأمر ولا راد لأمره .
اصطفاء الله لعيسى عليه السلام وجعله نبياً ، وجعله ممن يتكلم في المهد .
جواز تمني الموت لمن خشى الفتنة .
أهمية الماء والتمر للحامل .
فضيلة بر الوالدين .
أهمية الصلاة والزكاة .
إثبات البعث يوم القيامة .
اختلاف الناس في عيسى ، ولكن أهل الإيمان مقرين بعبوديته ، وأنه عبد الله ورسوله ولا إشكال في ذلك .
وغير هذه من الفوائد ، ونكمل القصة في الدرس القادم إن شاء الله
والله أعلم ،،
( 12 ) تابع _قصة عيسى عليه السلام(1/51)
نكمل بقية قصة عيسى عليه السلام حيث نذكر نبوته ، وخبر المائدة من السماء والنهاية التي آل إليها عيسى .
نشأ عيسى عليه السلام كما ينشأ أكثر الأطفال ، إلا أن بوادر فضله ، وعلامات نبوته بدأت تظهر للناس ، فحين يلعب مع أقرانه يخبرهم بما يأكلون وما يدخرون في بيوتهم .
وإذا حضر لمعلم القرية ، يصغى له بكل جد واهتمام ويعي ما يقوله بكل ذكاء وفطنة .
ثم إن أمه رحلت به إلى بيت المقدس ، وعمره 12 سنة ، وهناك اندمج مع الناس ، ورأى الكهنة ، وسمع حديثهم ، ورد عليهم شبهاتهم .
ثم حضر مجالس العلماء ، وانتفع بمجالستهم ، وخاض معهم بالسؤال والبحث والمناقشة حتى نسى دنياه ، وغفل عن طعامه ولباسه .
فغاب عن أمه مدة ، فخافت عليه ، فصارت تبحث في كل مكان ، ولا حس ولا خبر ثم عادت إلى منزلها وقد يئست من العثور عليه .
ولما عيت من البحث ظنت أنه قد رجع مع بعض أقاربه أو سافر به بعض أهل بلده فعادت إلى القرية تبحث وتسأل فلم تجده .
ثم عادت مرة أخرى إلى (بيت المقدس) ، وهي جادة في البحث مرة أخرى ، حتى وصلت لمقام العلماء فوقعت عيناها عليه ، فإذا هو لصيق العلماء يحاورهم ، ويجادلهم ، فاندهشت لما رأته ، وأنبته لغيابه عنها .
ثم سارت به أمه إلى بلدة (الناصرة) وهي الموضع التي نشأ بها .
ولما بلغ الثلاثين من عمره ، هبط عليه الروح الأمين ، فكان ذلك بدء رسالته ، فأتاه الله الكتاب والحكمة ، وبدأ بالدعوة يخبر الناس برسالته ، ويدعوهم إلى متابعته في ظل وجود جماعات من (اليهود) طغوا وانغمسوا في الضلالة .
حيث حرفوا شريعة موسى .
وانصرفوا لجمع المال .
تحريض الفقراء لتقديم النذور للهيكل .
ومن اليهود طائفة تنكر القيامة ، وتستبعد الحشر .
وطائفة ألهتهم الدنيا ، وانغمسوا في لذائذها فأرسله الله تعالى بالدعوة ليخرج الناس من هذه الضلالات وتلك الانحرافات إلى هدى الرحمن .(1/52)
فأخذ في النصح والتذكير ، بين فساد اليهود ، وفساد قادتهم الذين ينهبون أموال الناس ، ويستهترون بالدين .
عندئذ أحس (رجال الدين) بأن الخطر يداهمهم ، وأن عيسى سيعكر عليهم حياتهم بما يدعو إليه .
فاتفقوا على مناوأته ومحاربته .. ومع ذلك لم يبال بهم بل :
صمد بكل جرأة وشجاعة .
وتنقل في الأرياف يفنِّد زيفهم .
ويشيع رسالته .
فأيده الله تعالى بمعجزات باهرة منها :
إنه يخلق من الطين كهيئة الطير منتفخ فيه ويبريء الأكمه والأعمى والأبرص ، ويحيي الموتى ، كما ذكر الله ذلك في القرآن : { وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنْ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنينَ وَمُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنْ التَّوْرَاةِ وَلأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ } [ آل عمران : 48 - 51 ] .
ذكر أهل التفسير أن قوم عيسى برعوا في الطب ، فناسب أن تكون المعجزة من صميم ما برعوا فيه . فأيده الله بهذه الآيات ، وأيضاً نسخ بعض شريعة موسى .
ومع هذه الآيات والبراهين ، لم يؤمن به إلا القليل وكذبه كثيرون ، واسكتبر اليهود ورجال الدين ، قال تعالى : { فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمْ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ } [ آل عمران : 52 ] .(1/53)
أي لما استشعر منهم التصميم على الكفر قال من أنصاري إلى الله ، أي من يتبعني إلى الله بالدعوة والعمل ، فأجابه الحواريون : { قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ } [ آل عمران : 52 – 53 ] .
ثم خرج عيسى عليه السلام داعياً إلى الله ينتقل من مكان إلى آخر وهؤلاء الحواريون معه ، يتحملون وعثاء السفر ، وشدائد الطريق فتشاوروا فيما بينهم ، وقد ألم بهم حاجة وفقر .
فقالوا لعيسى ادع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء ، والمائدة هي : الخوان عليه طعام ، فأجابهم المسيح : إن اتقوا الله ولا تسألوا مثل هذا لئلا يكون فتنة لكم ، وتوكلوا على الله في طلب الرزق ، فذكروا له أنهم محتاجون ، وأيضاً تطمئن القلوب ونزداد إيماناً بك وبرسالتك .
فدعا عيسى ربه أن أنزل علينا مائدة ، وهي ما ذكره الله { إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنْ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنْ الشَّاهِدِينَ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنْ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيداً لأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيرُ الرَّازِقِينَ قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنْ الْعَالَمِينَ } [ المائدة 112-115 ] .
وفي المائدة كلام كثير للسلف في وصفها وهيئتها وطريقة وصولها يطول جداً.(1/54)
وجابر عن مجاهد إنه لم ينزل شيء وإنما هو مثل ضربه الله .
أما ما انتهى عليه أمر عيسى ، فإن أعداءه من اليهود ضاقوا من وجوده فوشوا به إلى ملك ذلك الزمان ، أن هناك رجلاً يضل عن الله ، ويفسد الرعية ، ويصدهم عنك كما قال تعالى : { وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ } [ آل عمران : 54 ] .
فحاصروه في بيته مع الحواريين ، فقال عيسى : من أيكم يُلقى عليه شبهي وهو رفيقي في الجنة ، فانتدب لذلك شاب منهم ، قيل إنه استصغره .
قال تعالى : { وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً } [ النساء : 157 - 158 ] .
وافترق أهل الكتاب ثلاث فرق :
كان الله بيننا ثم صعد إلى السماء .. وهذا قول اليعقوبيين .
كان بيننا ابن الله ، ثم رفعه الله وهم النسطوريون .
كان بيننا عبد الله ورسوله ما شاء الله وهؤلاء المسلمون ، فتظارت الكافرتان على المسلمة فقتلوها ، فلم يزل الإسلام طامساً حتى بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم وهذا سند صحيح عن ابن عباس .
وهذا آخر درس ، وآخر قصة في هذا الشهر والله الموفق .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ،،
الفهرس
م ... الموضوع ... ص
1 ... لماذا قصص القرآن ؟! ... 2
2 ... قصة آدم عليه السلام أبو البشر ... 3
3 ... خبر ابني آدم ... 7
4 ... قصة نوح عليه السلام ... 10
5 ... قصة هود عليه السلام ... 15
6 ... قصة صالح عليه السلام ... 19
7 ... قصة شعيب عليه السلام (خطيب الأنبياء) ... 24
8 ... قصة أصحاب الجنة ... 29
9 ... قصة يونس عليه السلام ... 33
10 ... قصة أصحاب السبت ... 38(1/55)
11 ... قصة لوط عليه السلام ... 43
12 ... قصة عيسى عليه السلام ... 48
13 ... تابع - قصة عيسى عليه السلام ... 54(1/56)