( مغرب الأحد 10 / 7 / 1413 هـ )
فصل
فى هَدْيه صلى الله عليه وسلم فى الذِّكْر
كان النبىُّ صلى الله عليه وسلم أكملَ الخلق ذِكْراً للّه عَزَّ وجَلَّ، بل كان كلامُه كُلُّهُ فى ذِكر اللَّه وما والاه، وكان أمرُهُ ونهيُه وتشريعُه للأمة ذِكْراً منه لِلَّهِ، وإخبارُهُ عن أسماءِ الربِّ وصِفاتِه، وأحكامِهِ وأفعاله، ووعدِه ووعيده، ذِكراً منه له، وثناؤُه عليه بآلائه، وتمجيدُه وحمدُه وتسبيحُه ذكراً منه له، وسؤالُه ودعاؤه إياه، ورغبتُه ورهبتُه ذِكراً منه له، وسكوته وصمتُه ذِكراً منه له بقلبه، فكان ذاكراً للّه فى كل أحيانه، وعلى جميع أحواله، وكان ذِكْرُهُ لِلًَّهِ يجرى مع أنفاسه، قائماً وقاعداً وعلى جنبه، وفى مشيه وركوبه ومسيره، ونزولِه وظعنه وإقامته.
وكان إذا استيقظَ قال: ((الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى أحْيانَا بَعْدَ مَا أمَاتَنَا وإلَيْهِ النُّشُورُ)).
وقالت عائشةُ: كان إذَا هَبَّ مِنَ اللَّيْلِ، كَبَّر اللَّهَ عَشْراً، وحَمِدَ اللَّه عَشْراً، وقَالَ: ((سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ)) عَشْراً، ((سُبْحَانَ المَلِكِ القُدُّوسِ)) عَشْراً، واسْتَغْفَرَ اللَّهَ عَشْراً، وهَلَّلَ عَشْراً، ثُمَّ قَالَ: ((اللَّهُمَّ إنِّى أعُوذُ بِكَ مِنْ ضِيقِ الدُّنيَا، وَضِيقِ يَوْمِ القِيَامَةِ)) عَشْراً، ثُمَّ يَسْتَفْتِحُ الصلاة.
وقالت أَيْضاً: كَانَ إذا اسْتَيْقَظَ مِنَ اللَّيْلِ قَالَ: ((لاَ إلهَ إلاّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ، اللَّهُمَّ أَسْتَغْفِرُكَ لِذَنْبِى، وَأَسْأَلُكَ رَحْمَتَكَ، اللَّهُمَّ زِدْنِى عِلَمَاً وَلاَ تُزِغْ قَلْبِى بَعْدَ إذْ هَدَيْتَنِى، وَهَبْ لِى مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً، إنَّكَ أَنتَ الوَهَّابُ)) ذكرهما أبو داود(1/1)
وأخبر أنَّ مَن استيقظَ من اللّيْل فَقَالَ: ((لاَ إلَهَ إلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ، وَلَهُ الحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَئٍ قَدِيرٌ، الحمدُ لِلَّهِ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ، وَلاَ إلهَ إلاَّ اللَّهُ، واللَّهُ أَكْبَرُ، وَلاَ حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إلاَّ بِاللَّهِ } [العَلِىِّ العَظِيمِ])) - ثُمَّ قَالَ: ((اللَّهُمَّ اغْفِر لِى - أَوْ دعا بدعاء آخر، - استُجِيبَ لَهُ، فإنْ تَوَضَّأَ وَصَلَّى، قُبِلَتْ صَلاَتُه)) ذكره البخارى
وقال ابنُ عباس عنه صلى اللَّه عليه وسلم لَيْلَةَ مَبيتِهِ عِنْدَهُ: إنَّهُ لَمَّا اسْتَيْقَظَ، رَفَعَ رَأْسَهُ إلَى السَّمَاءِ وَقَرَأَ العَشْرَ الآيَاتِ الخَواتِيمُ مِنْ سُورَةِ ((آلِ عِمْرَانَ)): {إنَّ فِى خَلْقِ السَّموَاتِ والأرْضِ} [آل عمران: 190] إلى آخِرِها.
ثم قال: ((اللَّهُمَّ لَكَ الحَمْدُ أنْتَ نُورُ السَّمَاواتِ والأرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَلَكَ الحَمْدُ أنْتَ قَيِّمُ السَّمَاوَاتِ والأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَلَكَ الحَمْدُ أَنْتَ الحَقُّ، وَوَعْدُكَ الحَقُّ، وَقَوْلُكَ الحَقُّ، وَلِقَاؤُكَ حَقٌّ، وَالجَنَّةُ حَقٌّ، وَالنَّارُ حَقٌّ، وَالنَّبِيُّونَ حَقٌّ، ومُحَمَّدٌ حَقٌّ، وَالسَّاعَةُ حَقٌ، اللَّهُمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ، وبِكَ آمَنْتُ، وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ، وَإلَيْكَ أنَبْتُ، وَبِكَ خَاصَمْتُ، وَإلَيْكَ حَاكَمْتُ، فَاغْفِرْ لِى مَا قَدَّمتُ وَمَا أخَّرْتُ، وَمَا أسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ، أَنْتَ إلهِى، لاَ إلهَ إلاَّ أنْتَ، وَلاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إلاَّ باللَّهِ العَلِىِّ العَظِيمِ)). [ قال الشيخ ابن باز : الأظهر أن هذا يقال عند الاستفتاح في صلاة الليل ](1/2)
وقد قالت عائشةُ رضى اللَّه عنها: كَانَ إذَا قَامَ مِنَ اللَّيلِ قال: ((اللَّهُمَّ رَبَّ جِبْرَائِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَإسْرَافِيلَ، فَاطِرَ السَّمَاواتِ والأرْضِ، عَالِمَ الغَيْبِ والشَّهَادَةِ، أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ، إهْدِنِى لِمَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِنَ الحَقِّ بإذنك، إنَّكَ تَهْدِى مَنْ تَشَاءُ إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)).
ورُبَّمَا قالت: كان يفتتِحُ صلاتَهُ بِذَلكَ، وكانَ إذا أوتر، ختم وتره بعدَ فَراغِهِ بِقولِه: ((سُبْحَانَ الملِكِ القُدُّوسِ)) ثلاثاً، ويَمُدُّ بالثَّالِثَةِ صَوْتَه. [ قال الشيخ ابن باز : هذا هو السنة والرفع بالصوت في الثالثة جاء بسند صحيح عند النسائي وورد عند الدارقطني بسند جيد وهي صحيحة أنه يزيد بعد الثالثة ( رب الملائكة والروح ) وذلك في الوتر أول الليل أو آخره ]
وكَانَ إذَا خَرجَ مِن بَيتِهِ يَقُولُ: ((بسم اللَّه، تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ، اللَّهُمَّ إنِّى أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَضِلَّ أوْ أُضَلَّ، أَو أزِلَّ أَوْ أُزَلَّ، أَوْ أَظْلِمَ أَوْ أُظْلَمَ، أَوْ أَجْهَلَ أَوْ يُجْهَلَ عَلَىَّ)) حَدِيث صحيح. (قال الشيخ ابن باز في تحفة الأخيار( رواه الإمام أحمد وأبي داود والترمذي وابن ماجة وهذا لفظ أبي داود وإسناده صحيح ص ( 39 ) . )
وقال صلى اللَّه عليه وسلم: ((مَنْ قَالَ إذَا خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ: بِسْمِ اللَّهِ، تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ، وَلاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إلاَّ بِاللَّهِ، يُقَالُ لَهُ: هُدِيتَ، وَكُفِيتَ، وَوُقِيتَ، وَتَنَحَّى عَنْهُ الشَّيْطَانُ)) حديث حسن (قال الشيخ ابن باز في تحفة الأخيار ( رواه أبو داود والنسائي والترمذي بإسناد حسن ) ص ( 37 ) )
( مغرب الأحد 2 / 8 / 1413هـ )(1/3)
وقال ابنُ عباس عنه ليلةَ مبيته عِندهُ: إنَّهُ خرج إلى صَلاةِ الفجر وهُو يَقُولُ: ((اللَّهُمَّ اجْعَلْ فِى قَلْبِى نُوراً، واجْعَلْ فِى لِسَانِى نُورَاً، وَاجْعَلْ فِى سَمْعِى نُورَاً، واجْعَلْ فِى بَصَرِى نُورَاً، واجْعَلْ مِنْ خَلْفِى نُورَاً، ومِنْ أمَامِى نُوراً، واجْعَلْ مِنْ فَوْقِى نُوراً، وَاجْعَلْ مِنْ تَحْتِى نُوراً، اللَّهُمَّ أعْظِمْ لِى نُوراً)).
وقال فُضيل بن مرزوق، عَن عَطِيَّة العَوْفِى، عن أبى سعيدٍ الخُدْرِىِّ قال: قالَ رَسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ((مَا خَرَجَ رَجُلٌ مِنْ بَيْتِهِ إلى الصَّلاَةِ فَقَالَ: اللَّهُمَّ إنِى أسْأَلُكَ بِحَقِّ السَّائِلِينَ عَلَيْكَ، وَبِحَقِّ مَمْشَاىَ هذَا إلَيْكَ، فَإنِّى لَمْ أَخْرُجْ بَطَرَاً وَلاَ أشَراً، وَلاَ ريَاءً، وَلاَ سُمْعَةً، وَإنَّمَا خَرَجْتُ اتِّقَاءَ سُخْطِكَ، وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِكَ، أَسْأَلُكَ أنْ تُنْقِذَنِى مِنَ النَّارِ، وَأَنْ تَغْفِرَ لِى ذُنُوبِى، فَإنَّهُ لاَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلاَّ أنْتَ، إلاَّ وَكَّلَ اللَّهُ بِهِ سَبْعِينَ أَلْفَ مَلَكٍ يَسْتَغْفِرُونَ لَهُ، وَأَقْبَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِوَجْهِهِ حَتَّى يَقْضِى صَلاتَه)).[ قال الشيخ ابن باز : هذا الحديث لو صح لكان معنى قوله ( بحق السائلين عليك ) أي بحق إجابتك للسائلين وإثابتك للطائعين فهو توسل بصفة من صفات الله عز وجل وليس فيه دليل لمن قال بجواز التوسل بالأنبياء أو غيرهم .
وقد تابع الشيخ محمد بن عبد الوهاب ابن القيم في إيراد هذا الحديث في كتابه ( آداب المشي إلى الصلاة ) فلا يستحب قوله لضعفه ](1/4)
وذكر أبو داود عنه - صلى اللَّه عليه وسلم - أنه كان إذا دخل المسجدَ قال: ((أَعُوذُ بِاللَّهِ العَظِيمِ، وبِوَجْهِهِ الكَرِيمِ، وَسُلْطَانِهِ القَدِيمِ، مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، فَإذَا قَالَ ذلِكَ قال الشَّيْطَانُ: حُفِظَ مِنِّى سَائِرَ اليَوْمِ)). ( قال الشيخ ابن باز ( خرجه أبو داود بسند حسن ) ص ( 39 ))
وقال صلى اللَّه عليه وسلم: ((إذَا دَخَلَ أَحَدُكُمُ المَسْجِدَ، فَلْيُسَلِّمْ عَلَى النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم وَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ افْتَحْ لِى أبْوَابَ رَحْمَتِكَ، فَإذَا خَرَجَ، فَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ إنِّى أسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ)). (قال الشيخ ابن باز في تحفة الأخيار ( رواه مسلم وأبي داود واللفظ لأبي داود ، وقال على حديث أبي هريرة مرفوعاً ( إذا دخل أحدكم المسجد فليسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وليقل : اللهم افتح لي أبواب رحمتك فإذا خرج فليسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وليقل : اللهم اعصمني من الشيطان الرجيم ) أخرجه ابن ماجة بإسناد صحيح . ص 40 ) [ قال الشيخ ابن باز : هذا الحديث أثبت من الذي بعده . وقال أيضاً قول ( اللهم آجرني من الشيطان الرجيم ) ثابت برواية ابن خزيمة وغيره وسندها جيد ]
وَذُكر عنه: ((أنَّهُ كانَ إذَا دَخَلَ المَسْجِدَ صَلَّى عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ يَقُولُ: ((اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِى ذنوبى، وافْتَحْ لِى أبْوَابَ رَحْمَتِكَ، فَإذَا خَرَجَ صَلَّى عَلى مُحمَّدٍ وَآلِهِ وَسَلَّم، ثُمَّ يَقُولُ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِى ذُنُوبِى وَافْتَح لِى أبْوَابَ فَضْلِكَ)).
[ قال الشيخ ابن باز : الصواب أنه ضعيف ]
وكَانَ إذَا صلَّى الصُّبْحَ، جَلَسَ فى مُصلاَّه حَتَّى تطلُعَ الشَّمْسُ يَذْكُرُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ.(1/5)
[ قال الشيخ ابن باز : هذا ورد في صحيح مسلم والركعتين اللتين بعد طلوع الشمس الأفضل صلاتها في موضع جلوسه يعني في المسجد فلا يصليها في المنزل والمريض والمرأة تصليها في موضعها أما غيرهما فالصحيح أنه لا يناله ذلك الأجر يعني من صلى مع الجماعة ثم خرج إلى منزله وجلس حتى تشرق فلا يناله الأجر بصلاته في بيته .
وقال أيضاً : من تحول من مكانه وهو في المسجد فالأقرب أنه يناله ويعمه الأجر .
وقال أيضاً لا بأس بتسميتها بركعتي الإشراق لأن وقتها الشروق كما هو الحال في صلاة الضحى ]
( مغرب الأحد 9 / 8 / 1413هـ )
وكان يقول إذَا أَصْبَحَ: ((اللَّهُمَّ بِكَ أصْبَحْنَا، وَبِكَ أمْسَيْنَا، وَبِكَ نَحْيَا، وَبكَ نَمُوتُ، وَإلَيْكَ النُّشُورُ)) حديث صحيح
وكان يَقُولُ: ((أصْبَحْنَا وَأَصْبَحَ المُلْكُ لِلَّهِ، وَالحَمْدُ لِلَّهِ، وَلاَ إلَهَ إلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ، وَلَهُ الحَمْدُ، وهُوَ عَلَى كُلِّ شَىءٍ قَدِيرٌ، رَبِّ أسْأَلُكَ خَيْرَ مَا فِى هذَا اليَوْم، وَخَيْرَ مَا بَعْدَهُ، وَأعُوذُ بِكَ مِنْ شرِّ هذَا اليَوْمِ، وَشرِّ مَا بَعْدَهُ، رَبِّ أعُوذُ بِكًَ مِنَ الكَسَلِ، وَسُوءِ الكِبَر، رَبِّ أعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابٍ فى النَّارِ، وعَذَابٍ فى القَبْرِ، وإذَا أمْسَى قَالَ: أمْسَيْنَا وَأَمْسَى المُلْكُ لِلَّهِ...)) إلى آخِرِهِ. ذكره مسلم(1/6)
وقال له أبو بَكرٍ الصِّدِّيقُ رضىَ اللَّهُ عنهُ: مُرْنى بِكَلِمَاتٍ أقُولُهُنَّ إذَا أصْبَحْتُ وإذَا أَمْسَيْتُ، قَالَ: قُلْ: ((اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاواتِ والأرْضِ، عَالِمَ الغَيْبِ والشَّهَادَةِ، رَبَّ كُلِّ شَىءٍ وَمَلِيكَهُ وَمَالِكه، أشْهَدُ أَنْ لا إلهَ إلاَّ أنْتَ، أَعُوذُ بِك مِنْ شَرِّ نَفْسِى، وَمِنْ شَرِّ الشَّيْطَانِ وَشِرْكهِ، وأنْ أقْتَرِفَ عَلَى نَفسِى سُوءاً أوْ أَجُرَّهُ إلَى مُسْلِمٍ)) قال: ((قُلْهَا إذَا أَصْبَحْتَ وَإذَا أمْسَيْتَ، وإذَا أخَذْتَ مَضْجَعَكَ)) حديث صحيح ( قال الشيخ ابن باز في تحفة الأخيار : رواه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي والبخاري في الأدب المفرد بإسناد صحيح وهذا لفظ أحمد والبخاري . ص 28 ) [ قال الشيخ ابن باز : الذي أحفظه بدون لفظة ( ومالكه ) وضبط بعضهم ( شركه ) بكسر الشين وإسكان الراء وبعضهم ( شركه ) بفتح الشين والراء ,والافضل ضبطها بكسر الشين وإسكان الراء ]
وقال صلى اللَّه عليه وسلم: ((مَا مِنْ عَبْدٍ يَقُولُ فى صَبَاحِ كُلِّ يَوْمٍ وَمَسَاءِ كُلِّ لَيْلَةٍ: بِسْمِ اللَّهِ الَّذِى لاَ يَضُرُّ مَعَ اسْمِهِ شَىءٌ فى الأرْضِ وَلاَ فى السَّمَاءِ وَهُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ - ثَلاَتَ مَرَّاتٍ - إلاَّ لَمْ يَضُرَّهُ شَىْء)) حديث صحيح
( قال الشيخ ابن باز : رواه أحمد والترمذي وابن ماجة وقال الترمذي : حسن صحيح وهو كما قال رحمه الله . تحفة الأخيار -28 - )(1/7)
وقال: ((مَنْ قَالَ حِينَ يُصْبِحُ وَحِينَ يُمْسِى: رَضِيتُ بِاللَّهِ رَبَّاً، وَبِالإسْلاَمِ دِينَاً، وَبِمُحَمَّدٍ نَبِيَّاً، كَانَ حَقَّاً عَلَى اللَّهِ أنْ يُرْضِيَهُ)) صححه الترمذى والحاكم ( قال الشيخ ابن باز : رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة بإسناد حسن وهذا لفظ أحمد ولكنه لم يسم ثوبان وسماه الترمذي في روايته وأخرجه النسائي في عمل اليوم والليلة بلفظ أحمد . ص ( 29 ) { تنبيه : الرواية التي ذكرها الشيخ بلفظ ( ما من عبد مسلم يقول حين يصبح وحين يمسي ثلاث مرات ... } بمثله )
وقال: ((مَنْ قَالَ حِينَ يُصْبِحُ وَحِينَ يُمْسِى: اللَّهُمَّ إنِّى أصْبَحْتُ أُشْهِدُكَ، وَأُشْهِدُ حَمَلَةَ عَرْشِكَ وَمَلائِكَتَكَ، وَجَمِيعَ خَلْقِكَ، أنَّكَ أنتَ اللَّهُ الَّذِى لاَ إلَهَ إلاَّ أنْتَ، وَأَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُكَ وَرَسُولُكَ، أَعْتَقَ اللَّهُ رُبْعَهُ مِنَ النَّارِ، وَإنْ قَالَهَا مَرَّتَيْنِ، أَعْتَقَ اللَّهُ نِصْفَهُ مِنَ النَّارِ، وإنْ قَالَهَا ثَلاثاً، أَعْتَقَ اللَّهُ ثَلاثَة أَرْبَاعِهِ مِنَ النَّارِ، وَإنْ قَالَهَا أرْبَعاً أَعْتَقَهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ)) حديث حسن [ قال الشيخ ابن باز ( هذا حديث لا بأس به وهو مذكور في كتابنا تحفة الأخيار ]
(قال الشيخ ابن باز : رواه أبو داود بإسناد حسن وأخرجه النسائي في عمل اليوم والليلة بسند حسن. ص ( 30 )
وقالَ: ((مَنْ قَالَ حِينَ يُصْبِحُ: اللَّهُمَّ مَا أَصْبَحَ بِى مِنْ نِعْمَةٍ أوْ بأحَدٍ مِنْ خَلْقِكَ، فَمِنْكَ وَحْدَكَ لاَ شَرِيكَ لَكَ، لَكَ الحَمْدُ، وَلَكَ الشُّكْرُ، فَقَدْ أدَّى شُكْرَ يَوْمِهِ، وَمَنْ قَالَ مِثْلَ ذَلِكَ حِيْنَ يُمْسِى، فَقَدْ أدَّى شُكْرَ لَيْلَتِهِ)) حديث حسن(1/8)
(( قال الشيخ ابن باز : رواه أبو داود والنسائي في عمل اليوم والليلة بإسناد حسن وهذا لفظه لكنه لم يذكر ( حين يمسي ) وأخرجه ابن حبان بلفظ النسائي من حديث ابن عباس رضي الله عنه. ص (31 ) )
وكَانَ يدعو حينَ يُصبح وحينَ يُمْسِى بهذِهِ الدعَواتِ: ((اللَّهُمَّ إنِّى أسْأَلُكَ العَافِيَةَ فى الدُّنْيَا والآخِرَة، اللَّهُمَّ إنِّى أَسْأَلُكَ العَفْوَ وَالعَافِية فى دِينِى وَدُنْيَاىَ وَأهْلِى وَمَالِى، اللَّهُمَّ اسْتُرْ عَوْرَاتِى، وآمِنْ رَوْعَاتِى، اللَّهُمَّ احْفظْنِى مِنْ بَيْن يَدَيَّ، وَمِنْ خَلْفِى، وَعَنْ يمينى وَعَنْ شِمَالِى، وَمِنْ فَوْقِى، وَأَعُوذُ بِعَظَمَتِكَ أنْ أُغْتَالَ مِنْ تَحْتِى)) صححه الحاكم
[ قال الشيخ ابن باز وهو حديث جيد وهو من أحاديث البلوغ فيقال في الصباح والمساء ]
( قال الشيخ ابن باز : أخرجه الإمام أحمد في المسند وأبو داود والنسائي وابن ماجة وصححه الحاكم . ص ( 31 )
وقال: ((إذَا أصْبَحَ أحَدُكُم، فَلْيَقُلْ: أَصْبَحْنَا وَأَصْبَحَ المُلْكُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ، اللَّهُمَّ إنِّى أَسْأَلُكَ خَيْرَ هذَا الْيَوْمِ: فَتْحَهُ وَنَصْرَهُ وَنُورَهُ وَبَرَكَتَه وَهِدَايَتَهُ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا فِيهِ وَشَرِّ مَا بَعْدَهُ، ثُمَّ إذَا أمْسَى، فَلْيَقُلْ مِثْلَ ذلِكَ)) حديث حسن
وذكرَ أبو داود عنه أنه قال لِبعض بناتِهِ: ((قُولِى حِيْنَ تُصْبِحِينَ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ، وَلاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إلاَّ بِاللَّهِ العَلِىِّ العَظِيمِ، مَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ، وَمَا لَمْ يَشَأ لَمْ يَكُنْ، أعْلَمُ أنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَىْءٍ قديرٌ، وأنّ اللَّه قَدْ أحَاطَ بِكُلِّ شَىْءٍ عِلْماً، فَإنَّهُ مَنْ قَالَهُنَّ حِينَ يُصْبِحُ، حُفِظَ حَتَّى يُمْسِىَ، وَمَنْ قَالَهُنَّ حِينَ يُمْسِى حُفِظَ حَتَّى يُصْبِحَ)).
( مغرب الأحد 16 / 8 / 1413 هـ )(1/9)
وقال لرجل من الأنصار: ((ألاَ أُعَلِّمُكَ كَلاَماً إذَا قُلْتَهُ أذْهَبَ اللَّهُ هَمَّكَ، وَقَضَى عَنْكَ دَيْنَكَ))؟ قُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قالَ: ((قُل إذَا أصْبَحْتَ وَإذَا أمْسَيْتَ: اللَّهُمَّ إنِّى أعُوذُ بِكَ مِنَ الهَمِّ والحَزَنِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ العَجْزِ والكَسَلِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الجُبْنِ وَالبُخْلِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ غَلَبَةِ الدَّيْنِ وقَهْرِ الرِّجَالِ)) قال: فقلتُهن، فأذهب اللَّه همِّى وقضًَى عنى دَيْنى.
وكان إذا أصبح قال: ((أصْبَحْنَا عَلَى فِطْرَةِ الإسْلاَمِ، وَكَلِمَةِ الإخْلاصِ، ودِينِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، وَمِلَّةِ أبِينَا إبْرَاهِيمَ حَنِيفاً مُسْلِماً، وَمَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ)).
[ قال الشيخ ابن باز : وسنده جيد ] ( قال الشيخ ابن باز في التحفة : خرجه الإمام أحمد في مسنده بإسناد صحيح . ص ( 33 ) )
هكذا فى الحديث: ((ودين نبينا محمَّد صلى الله عليه وسلم)) وقد استشكله بعضُهم وله حُكْمُ نظائِره كقوله فى الخُطَبِ والتشهُّد فى الصلاة: ((أشهدُ أن محمداً رسولُ اللَّه)) فإنه صلى اللَّه عليه وسلم مكلَّف بالإيمان بأنه رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى خلقه، ووجوبُ ذلك عليه أعظمُ من وجوبه على المرسَل إليهم، فهو نبى إلى نفسه وإلى الأُمَّة التى هو منهم، وهو رسول اللَّه إلى نفسه وإلى أُمَّته.
ويُذكَرُ عنه صلى اللَّه عليه وسلم أنه قال لِفاطمة ابنتهِ: ((مَا يَمْنَعُكِ أنْ تَسْمَعِى مَا أُوصِيكِ بِهِ: أنْ تَقُولِى إذَا أصْبَحْتِ وَإذَا أمْسَيْتِ: يَا حَىٌُّ، يَا قَيُّومُ بك أستغيث، فأصلح لى شأنى، ولا تَكِلْنِى إلى نفسى طرفةَ عَيْنٍ)).
ويُذكرُ عنه صلى اللَّه عليه وسلم أنه قال لِرجل شكا إليهِ إصابةَ الآفاتِ: ((قُل: إذَا أصْبَحْتَ: بِسْمِ اللَّهِ عَلَى نَفْسِى، وَأَهْلِى وَمَالِى، فَإنَّهُ لا يَذْهَبُ عَلَيْكَ شَىءٌ)).(1/10)
ويُذكَر عنه أنه كان إذَا أصبح قالَ: ((اللَّهُمَّ إنِّى أسْأَلُكَ عِلْماً نَافِعاً، وَرِزْقاً طَيِّباً، وَعَمَلاً مُتَقَبَّلاً)).
ويُذكر عنه صلى اللَّه عليه وسلم: إن العبد إذا قالَ حِينَ يُصبِحُ ثلاثَ مرات: ((اللَّهُمَّ إنِّى أَصْبَحْتُ مِنْكَ فى نِعْمَةٍ وَعَافِيَةٍ وَسِتْرٍ، فَأَتْمِمْ عَلَىَّ نِعْمَتَكَ وَعَافِيَتَكَ وَسِتْرَكَ فى الدُّنيَا والآخِرَةِ، وإذَا أمْسى، قالَ ذلِك، كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أنْ يُتِمَّ عَلَيْهِ)).
[ قال الشيخ ابن باز : وقد تأملته وذكرت في تحفة الأخيار أنه لا بأس به ] { تنبيه : لم أجد الحديث في تحفة الأخيار فلعل الشيخ يقصد الحديث السابق بلفظ ((مَنْ قَالَ حِينَ يُصْبِحُ: اللَّهُمَّ مَا أَصْبَحَ بِى مِنْ نِعْمَةٍ أوْ بأحَدٍ مِنْ خَلْقِكَ، فَمِنْكَ وَحْدَكَ لاَ شَرِيكَ لَكَ، لَكَ الحَمْدُ، وَلَكَ الشُّكْرُ، فَقَدْ أدَّى شُكْرَ يَوْمِهِ، وَمَنْ قَالَ مِثْلَ ذَلِكَ حِيْنَ يُمْسِى، فَقَدْ أدَّى شُكْرَ لَيْلَتِهِ)) حديث حسن
(( قال الشيخ ابن باز : رواه أبو داود والنسائي في عمل اليوم والليلة بإسناد حسن وهذا لفظه لكنه لم يذكر ( حين يمسي ) وأخرجه ابن حبان بلفظ النسائي من حديث ابن عباس رضي الله عنه. ص (31 ) }
( مغرب الأحد 23 / 8 / 1413 هـ )
وَيذكر عنه صلى اللَّه عليه وسلم أنه قال: ((مَنْ قَالَ فى كُلِّ يَوْمٍ حِينَ يُصْبِحُ وَحِينَ يُمْسِى: حَسْبِىَ اللَّهُ لاَ إلَه إلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ العَرْشِ العَظِيمُ - سَبْعَ مَرَّاتٍ - كَفَاهُ اللَّهُ مَا أهَمَّهُ مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا والآخِرَةِ)).
[ قال الشيخ ابن باز : قول المحشي ( وسنده صحيح ) فيه نظر والذي أحفظه أنه ضعيف ويحتاج إلى زيادة نظر](1/11)
ويُذكر عنه صلى اللَّه عليه وسلم أنه من قالَ هذِهِ الكَلِمَاتِ فى أوَّلِ نَهَارِهِ، لَمْ تُصِبْهُ مُصِيبَةٌ حَتَّى يُمْسِىَ، وَمَنْ قَالَهَا آخِرَ نَهَارِهِ لَمْ تُصِبْهُ مُصِيبَةٌ حَتَّى يُصْبِحَ: ((اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّى، لاَ إله إلاَّ أنْتَ، عَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ، وَأنْتَ رَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ، مَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ، وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إلاَّ باللَّهِ العَلِىِّ العَظِيمِ، أعْلَمُ أنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ، وَأنَّ اللَّهَ قَدْ أحَاطَ بِكُلِّ شَىْءٍ عِلْماً، اللَّهُمَّ إنِّى أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ نَفْسِى، وَشَرِّ كُلِّ دَابَّةٍ أنْتَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا، إنَّ رَبِّى عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ))، وقَد قِيلَ لأبى الدرداء: قدِ احترق بيتُك فقالَ: ما احترقَ، ولم يكن اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ لِيفعل، لِكَلِمَاتٍ سمعتهُنَّ مِنْ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فذكرها.
[ قال الشيخ ابن باز : وهو ضعيف أيضاً ]
وقالَ: ((سَيِّدُ الاسْتِغْفَارِ أنْ يَقُولَ العبدُ: اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّى، لاَ إلهَ إلاَّ أنْتَ خَلَقْتَنِى وَأنَا عَبْدُكَ، وَأنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ، أعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ، أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَىَّ، وَأَبُوءُ بِذَنْبِى، فَاغْفِرْ لِى إنَّهُ لاَ يَغْفِرُ الذُنُوبَ إلاَّ أَنْتَ، مَنْ قالَهَا حِينَ يُصْبِحُ موقِناً بِهَا فَمَاتَ مِنْ يَوْمِهِ، دَخَلَ الجَنَّةَ، ومَنْ قَالَهَا حِينَ يُمْسِى مُوقِناً بِهَا، فَمَاتَ مِنْ لَيْلَتِهِ، دَخَلَ الجَنَّةَ)).
((ومَنْ قَالَ حِينَ يُصْبِحُ وَحِينَ يُمْسِى: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ - مِائَةَ مَرَّةٍ - لَمْ يَأْتِ أَحدٌ يَوْمَ القِيَامَةِ بِأَفْضَلَ مِمَّا جَاءَ بِهِ إلاَّ أحَدٌ قَالَ مِثْلَ مَا قَالَ، أوْ زَادَ عَلَيْهِ)).(1/12)
وَقَالَ: ((مَنْ قَالَ حِينَ يُصْبِحُ عَشْرَ مَرَّاتٍ: لاَ إلَهَ إلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ، ولَهُ الحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ، كَتَبَ اللَّه لَهُ بِهَا عَشْرَ حَسَنَاتٍ، وَمَحَا عَنْهُ بها عَشْرَ سَيِّئَاتٍ، وَكَانَتْ كَعِدْل عَشْر رِقَابٍ، وَأَجَارهُ اللَّهُ يَوْمَهُ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، وَإِذَا أمْسَى فَمِثْلُ ذلِكَ حَتَّى يُصْبِحَ)).[ قال الشيخ ابن باز : وإن زاد ( وله الحمد وهو حي لا يموت بيده الخير وهو على كل شيء قدير ) فهو حسن لان النصوص جاء بهذا وهذا ] ( قال الشيخ ابن باز : رواه الأمام أحمد في مسنده بإسناد حسن . ص ( 32 ) ) { تنبيه : لفظ الحديث عند أحمد (من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير من قالها عشر مرات حين يصبح كتب له بها مائة حسنة ومحي عنه بها مائة سيئة وكانت له عدل رقبة وحفظ بها يؤمئذ حتى يمسي ومن قال مثل ذلك حين يمسي كان له مثل ذلك. ) وهكذا ذكره الشيخ في التحفة }
وقال: ((مَنْ قَالَ حِيْنَ يُصْبِحُ: لاَ إلَه إلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ، وَلَهُ الحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىءٍ قَدِيرٌ، فى الْيَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ، كَانَتْ لَهُ عَدلَ عَشْر رِقَابٍ، وَكُتِبَ لَهُ مائةُ حَسَنَةٍ، وَمُحِيَتْ عَنْ مِائَةُ سَيِّئَة، وَكَانَتْ لَهُ حِرْزاً مِنَ الشَّيْطَانِ يَوْمَهُ ذلِكَ حتى يُمْسِىَ، وَلَمْ يَأْتِ أحَدٌ بِأَفْضَلَ مِمَّا جَاءَ بِهِ إلاَّ رَجُلٌ عَمِلَ أكْثَرَ مِنْهُ)).
[ قال الشيخ ابن باز : عدل بكسر العين وفتحها كلاهما واحد ](1/13)
وفى ((المسند)) وغيرهِ أنه - صلى اللَّه عليه وسلم - علَّم زيدَ بن ثابت، وأمره أن يتعَاهَدَ بهِ أهله فى كلِّ صباح: ((لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ، وَالخَيْرُ فى يَدَيْكَ، وَمِنْكَ وَبِكَ وَإلَيْكَ، اللَّهُمَّ مَا قُلْتُ مِنْ قَوْلٍ، أوْ حَلَفْتُ مِنْ حَلِفٍ، أوْ نَذَرْتُ مِنْ نَذْرٍ، فَمَشِيئَتُكَ بَيْنَ يَدَىْ ذلِكَ كُلّه، ما شِئْتَ كَانَ، وَمَا لَمْ تَشَأْ لَمْ يَكُنْ، وَلاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إلاَّ بِكَ، إنَّكَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ، اللَّهُمَّ مَا صَلَّيْتَ مِنْ صَلاَةٍ فَعَلَى مَنْ صَلَّيْتَ، وَمَا لَعَنْتَ مِنْ لَعْنَةٍ، فَعَلَى مَنْ لَعَنْتَ، أَنْتَ وَليى فى الدُّنْيَا والآخِرَةِ تَوَفَّنِى مُسْلِماً وَألْحِقْنِى بالصَّالِحِينَ، اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّماواتِ والأَرْضِ، عَالِمَ الغَيْبِ والشَّهادَةِ، ذَا الجَلاَلِ والإكْرَامِ. فَإنِّى أعْهَدُ إلَيْكَ فى هَذِهِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَأُشْهِدُكَ - وَكَفَى بِكَ شَهِيداً - بِأَنِّى أشْهَدُ أنْ لاَ إلهَ إلاَّ أنْتَ وَحْدَكَ لاَ شَرِيكَ لَكَ، لَكَ المُلْكُ، وَلَكَ الحَمْدُ، وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ، وَأَشْهَدُ أنَّ مُحَمَّداً عَبْدُكَ وَرَسُولُكَ، وَأَشْهَدُ أنَّ وَعْدَكَ حَقٌ، وَلِقَاءَكَ حَقٌ، وَالسَّاعَةُ حَقٌ آتِيَةٌ لاَ رَيْبَ فِيهَا، وَأَنَّكَ تَبْعَثُ مَنْ فى القُبُورِ، وَأشْهَدُ أنَّكَ إنْ تَكِلْنِى إلى نَفْسِى تَكِلْنِى إلى ضَعْفٍ وَعَوْرَةٍ وَذَنْبٍ وَخَطِيئَةٍ، وَإنِّى لاَ أثِقُ إلاَّ برَحْمَتِكَ، فَاغْفِرْ لِى ذُنُوبِى كُلَّهَا إنه لاَ يَغْفِرُ الذُنُوبَ إلاَّ أنْتَ، وَتُبْ عَلىَّ إنَّكَ أنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمٍُ)).
[ قال الشيخ ابن باز : ظاهره أنه ملفق من هاهنا وهاهنا وأبو بكر ساقط الحديث والرواية فهو ليس بشيء](1/14)
[ وقال أيضاً : قراءة الفاتحة وأول سورة البقرة في الصباح والمساء لا أعلم عليه دليلاً ٍ]
( مغرب الأحد 12 / 10 / 1413 هـ )
فصل
فى هَدْيه صلى الله عليه وسلم فى الذِّكْر عند لبس الثوب ونحوِهِ
كانَ صلى اللَّه عليه وسلم إذَا استجدَّ ثوباً سمَّاه باسمه، عِمامةً، أو قميصاً، أو رِدَاءً، ثم يقول: ((اللَّهُمَّ لَكَ الحَمْدُ، أنْتَ كَسَوْتَنِيهِ، أسْأَلُكَ خَيْرَهُ، وَخَيْرُ مَا صُنِعَ لَهُ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّهِ، وَشَرِّ مَا صُنِعَ لَهُ)) حديث صحيح.
ويُذكر عنه أنه قال: ((مَنْ لَبِسَ ثَوْباً فَقَالَ: الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى كَسَانِى هذَا وَرَزَقَنِيهِ مِنْ غَيْرِ حَوْلٍ مِنِّى وَلاَ قُوَّة، غَفَرَ اللَّه له مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ)).
وفى ((جامع الترمذى)) عن عُمر بن الخطاب رضى اللَّه عنه قال: سمعتُ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: ((مَنْ لَبِسَ ثَوْباً جَدِيداً فَقَالَ: الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى كَسَانِى مَا أُوَارِى بِهِ عَوْرَتِى، وَأتجَمَّلُ بِهِ فى حَيَاتِى، ثُمَّ عَمَدَ إلَى الثَّوْبِ الَّذِى أخْلَقَ فَتَصَدَّقَ به، كَانَ فى حِفْظِ اللَّهِ، وفى كَنَفِ اللَّهِ، وَفِى سَبِيلِ اللَّهِ، حَيّاً وَمَيْتاً)).
[ قال الشيخ ابن باز : في متنه غرابة تدل على ضعفه والغرابة في ترتب الأجر الكبير على العمل اليسير ]
وصحَّّ عنه أنه قال لأُمِّ خالد لما ألبسها الثوب الجديد: ((أبْلِى وَأَخْلِقِى، ثم أبلى وأخلقى - مَرَّتَيْنِ)).
وفى ((سنن ابن ماجه)) أنه صلى اللَّه عليه وسلم رأى على عُمَر ثوباً فقالَ: ((أَجَدِيدٌ هذَا، أمْ غَسِيلٌ))؟ فَقَالَ: بَلْ غَسِيلٌ، فقالَ: ((الْبَسْ جَدِيداً، وَعِشْ حَمِيداً، ومُتْ شَهِيداً)).
( مغرب الأحد 19 / 10 / 1413 هـ )
فصل
فى هَدْيه صلى الله عليه وسلم عند دخوله إلى منزله(1/15)
لم يكن صلى اللَّه عليه وسلم لِيفجأ أهله بغتةً يتخوَّنُهم، ولكن كان يدخلُ على أهله على عِلْم منهم بدخوله، وكان يُسَلِّمُ عليهم، وكان إذا دخل، بدأ بالسؤال، أو سأل عنهم، وربما قال: ((هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ غَدَاءٍ))؟ وربما سكت حتى يحضرَ بين يديه ما تيسّر.
[ قال الشيخ ابن باز في آية النور ( فإذا دخلتم بيوتاً فسلموا على أنفسكم ) فيه مشروعية السلام على أهل البيت إذا دخل بيته والسؤال عنهم وعن حالهم وهو من مكارم الأخلاق ]
[ وقال أيضاً : ومن دخل المسجد وليس فيه أحد فلا يسلم فلا يعلم فيه دليل ]
ويُذكر عنه صلى اللَّه عليه وسلم أنه كان يقولُ إذا انقلب إلى بيته: ((الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى كَفَانِى، وَآوَانِى، وَالحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى أَطْعَمَنِى وَسَقَانِى، وَالحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى مَنَّ عَلَىَّ فَأَفْضَلَ، أسْأَلُكَ أنْ تُجِيرَنِى مِنَ النَّار)).
وثبت عنه صلى اللَّه عليه وسلم أنه قال لأنَس: ((إذَا دَخلْتَ عَلَى أهْلِكَ فَسَلِّمْ يَكُنْ بَرَكَةً عَلَيْكَ وَعَلَىَ أهْلِكَ)). قال الترمذى: حديث حسَن صحيح.
وفى السنن عنه صلى اللَّه عليه وسلم: ((إذَا وَلَجَ الرَّجُلُ بَيْتَهُ، فَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ إنِّى أَسْأَلُكَ خَيْرَ المَوْلَجِ، وَخَيْرَ المَخْرَجِ، بِسْمِ اللَّهِ وَلَجْنَا، وعَلَى اللَّه رَبِّنَا تَوَكَّلْنَا، ثُمَّ لِيُسَلِّمْ عَلَى أَهْلِهِ)). [ قال الشيخ ابن باز في التحفة : خرجه أبو داود بإسناد حسن . ص ( 36 ) ](1/16)
وفيها عنه صلى اللَّه عليه وسلم: ((ثَلاثَةٌ كُلُّهُمْ ضَامِنٌ عَلَى اللَّه: رَجُلٌ خَرَجَ غَازياً فى سَبِيلِ اللَّهِ، فَهُوَ ضَامِنٌ عَلَى اللَّهِ حَتَّى يَتَوفَّاهُ فَيُدْخِلَهُ الجَنَّةَ أوْ يَرُدَّهُ بِمَا نَالَ مِنْ أجْرٍ وَغَنِيمةٍ، وَرَجُلٌ رَاحَ إلَى المَسْجِدِ، فَهُوَ ضَامِنٌ عَلَى اللَّه حَتَّى يَتَوفَّاهُ فَيُدْخِلَهُ الجَنَّةَ أوْ يَرُدَّهُ بِمَا نَالَ مِنْ أجْرٍ وَغَنِيمَةٍ، وَرَجُلٌ دَخَلَ بَيْتَهُ بِسَلامٍ، فَهُوَ ضَامِنٌ عَلَى اللَّه)) حديث صحيح.
وصح عنه صلى اللَّه عليه وسلم: ((إذَا دَخَلَ الرَّجُلُ بَيْتَهُ فَذَكَر اللَّهَ عِنْدَ دُخُولِهِ وَعِنْدَ طَعَامِهِ، قَالَ الشَّيْطَانُ: لا مَبِيتَ لَكُمْ وَلاَ عَشَاءَ، وَإذَا دَخَلَ، فَلَمْ يذْكُرِ اللَّهَ عِنْدَ دُخُولِهِ، قَالَ الشَيْطَانُ: أَدْرَكْتُمُ المَبِيتَ، وَإذَا لَمْ يذْكُرِ اللَّهَ عِنْدَ طَعَامِهِ، قَالَ: أدْرَكْتُمُ المَبِيتَ والعَشَاء)) ذكره مسلم.
( مغرب الأحد 26 / 10 / 1413 هـ )
فصل
فى هَدْيه صلى الله عليه وسلم فى الذِّكْرِ عند دخوله الخلاء
ثبت عنه فى ((الصحيحين)) أنه كان يقولُ عند دخوله الخلاء: ((اللَّهُمَّ إنِّى أعُوذُ بِكَ مِنَ الخُبُثِ والخَبَائِثِ)).
وذكر أحمد عنه أنه أمر مَنْ دخل الخلاء أن يقولَ ذلك.
ويُذكر عنه: ((لا يَعْجِزْ أحَدُكُم إذَا دَخَلَ مَرْفِقَهُ أنْ يَقُولَ: اللَّهُمَّ إنِّى أعُوذُ بِكَ مِنَ الرِّجْسِ النَّجِسِ، الخَبيث المُخْبِثِ، الشَّيْطَانِ الرَّجِيم)).
ويُذكر عنه صلى اللَّه عليه وسلم قال: ((سَتْرُ مَا بَيْنَ الجِنِّ وَعَوْرَاتِ بَنِى آدَمَ إذَا دَخَلَ أحَدُكُمُ الكَنِيفَ أنْ يَقُولَ: بِسْمِ اللَّهِ)).
وثبت عنه صلى اللَّه عليه وسلم أن رجلاً سلَّمَ عَلَيْهِ وَهُوَ يَبُولُ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ.(1/17)
وأخبر أن اللَّه سبحانه يمقُت الحديث على الغائط: فَقَالَ: ((لاَ يَخْرُج الرَّجُلاَنِ يَضْرِبَانِ الغَائِطَ كَاشِفينَ عَنْ عَوْرَاتِهِمَا يَتَحَدَّثَانِ، فإنَّ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ يَمْقُتُ عَلَى ذَلِكَ)).
وقد تقَدَّمَ أنه كان لا يستقْبِلُ القِبْلة ولا يستدبِرُهَا ببولٍ ولا بغائط، وأنه نهى عن ذلك فى حديث أبى أيوب، وسلمان الفارسى، وأبى هريرة، ومعقل بن أبى معقل، وعبد اللَّه بن الحارث بن جزء الزبيدى، وجابر بن عبد اللَّه، وعبد اللَّه بن عمر، رضى اللَّه عنهم، وعامةُ هذه الأحاديث صحيحةٌ، وسائُرها حسن، والمعارِضُ لها إما معلول السندِ، وإما ضعيفُ الدلالة، فلا يُرد صريحُ نهيه المستفيضُ عنه بذلك، كحديث عِراك عن عائشة: ذُكِرَ لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن أناساً يكرهون أن يستقبلوا القِبْلة بفرُوجهم، فقال: ((أَوَ قد فعلُوها؟ حوِّلوا مَقْعَدَتى قِبَلَ القِبْلَةِ)) رواه الإمام أحمد وقال: هو أحسن ما رُوى فى الرخصة وإن كان مرسلاً، ولكن هذا الحديث قد طعن فيه البخارىُّ وغيرُه من أئمة الحديث، ولم يُثِبتُوه، ولا يقتضى كلامُ الإمام أحمد تثبيتَه ولا تحسينَه. قال الترمذى فى كتاب ((العلل الكبير)) له: سألتُ أبا عبد اللَّه محمد ابن إسماعيل البخارى عن هذا الحديث، فقال: هذا حديثٌ فيه اضطراب، والصحيحُ عندى عن عائشة من قولها انتهى.
قلت: وله عِلَّة أُخرى، وهى انقطاعه بين عراك وعائشة، فإنه لم يسمع منها، وقد رواه عبد الوهَّاب الثقفى عن خالد الحذَّاء عن رجل عن عائشة، وله عِلَّة أخرى، وهى ضعف خالد بن أبى الصلت.(1/18)
ومن ذلك حديثُ جابرٍ: ((نهى رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم أن تُستقبل القِبْلةُ ببولٍ، فرأيتهُ قبل أن يُقبض بعام يستقبلها))، وهذا الحديث استغربه الترمذى بعد تحسينه، وقال الترمذى فى كتاب ((العلل)): سألت محمداً - يعنى البخارى - عن هذا الحديث، فقال: هذا حديث صحيح، رواه غيرُ واحد عن ابن إسحاق، فإن كان مراد البخارى صحته عن ابن إسحاق، لم يدل على صحته فى نفسه، وإن كان مراده صحته فى نفسه، فهى واقعة عين، حكمُها حكم حديث ابن عمر لما رأى رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم يقضى حاجَته مستدبر الكعبة، وهذا يحتمِلُ وجوهاً ستة: نسخُ النهى به، وعكسُه، وتخصيصُه به صلى اللَّه عليه وسلم، وتخصيصُه بالبنيان، وأن يكونَ لعذر اقتضاه لمكان أو غيره، وأن يكون بياناً، لأن النهى ليس على التحريم، ولا سبيلَ إلى الجزم بواحد من هذه الوجوه على التعيين، وإن كان حديثُ جابر لا يحتمل الوجه الثانى منها، فلا سبيل إلى ترك أحاديث النهى الصحيحة الصريحة المستفيضة بهذا المحتَمَلِ، وقولُ ابنِ عمر: إنما نهى عن ذلك فى الصحراء، فَهْمٌ منه لاختصاص النهى بها، وليس بحكاية لفظ النهى، وهو معارَض بفهم أبى أيوب للعموم مع سلامة قولِ أصحاب العموم من التناقض الذى يلزم المفرِّقين بين الفضاء والبنيان، فإنه يقال لهم: ما حدُّ الحاجز الذى يجوزُ ذلك معه فى البنيان؟ ولا سبيل إلى ذكر حدٍّ فاصل، وإن جعلوا مطلق البنيان مجوِّزاً لذلك، لزمهم جوازه فى الفضاء الذى يحول بين البائل وبينه جبل قريب أو بعيد، كنظيره فى البنيان، وأيضاً فإن النهى تكريمٌ لجهة القِبْلة، وذلك لا يختلف بفضاء ولا بنيان، وليس مختصاً بنفسِ البيت، فكم من جبل وأكَمَةٍ حائل بين البائل وبين البيت بمثل ما تحول جُدرانُ البنيان وأعظم، وأما جهةُ القِبْلة، فلا حائل بين البائل وبينها، وعلى الجهة وقع النهى، لا على البيت نفسه فتأمله.(1/19)
[ قال الشيخ ابن باز : ظاهر الأمر وحديث ابن عمر أن النهي بالتحريم خاص بالصحراء أو أن النهي عن الاستقبال والاستدبار عن جهة القبلة ليس للتحريم بل هو للكراهة فيجوز الاستقبال والاستدبار مع كراهة ذلك ]
فصل
فيما يقال عند الخروج من الخلاء
وكان إذا خرج من الخلاء قال: ((غُفْرَانَكَ))،[ قال الشيخ ابن باز : والحكمة في ذلك أن الإنسان يغلب عليه التقصير فيقول غفرانك إي عن تقصيري عن شكر نعمك عند دخولها وخروجها ]
ويُذكر عنه أنه كان يقول: ((الحَمْدُ لِلَّهِ الذي أذْهَبَ عَنِّى الأذَى، وَعَافَانِى)) ذكره ابن ماجة
( مغرب الأحد 4 / 11 / 1413 هـ )
فصل
فى هَدْيه صلى الله عليه وسلم فى أذكار الوضوء
ثبت عنه صلى اللَّه عليه وسلم أنه وضع يديه فى الإناء الذى فيه الماء، ثم قال للصحابة: ((تًَوَضَّؤوا بِسْمِ اللَّهِ)).
[ قال الشيخ ابن باز : هذا أحد الأحاديث التي تدل على مشروعية التسمية وقال ابن حجر : أن هذه الأحاديث يشد بعضها بعضاً وقد قال جماعة بوجوب التسمية عند الوضوء والأكثر على أنها سنة فهي مستحبة وهذا الحديث صحيح ولكنه ليس بصريح فهو لم يقل ( وقولوا بسم الله ) فينبغي للمسلم أن يسمي إما لكون الحديث من باب الحسن لغيره أو من باب الاحتياط فالتسمية عند الوضوء سنة مؤكدة فمن تركها ناسياً أو جاهلاً فلا شيء عليه ]
وثبت عنه أنه قال لجابر رضى اللَّه عنه: ((نَادِ بِوَضُوءٍ)) فجئ بالماء فقالَ: ((خُذْ يَا جَابِرُ فَصُبَّ علىَّ وقُلْ: بِسْمِ اللَّه)) قال: فَصَبَبْتُ عَلَيه، وقُلْتُ: بسم اللَّه، قال: فرأيتُ الماء يَفورُ مِنْ بَيْنَ أصَابِعه.
وذكر أحمد عنه من حديث أبى هريرة، وسعيد بن زيد، وأبى سعيد الخدرى رضى اللَّه عنهم: ((لاَ وُضُوءَ لِمَن لًَمْ يَذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ)). وفى أسانيدها لين. [ قال الشيخ ابن باز : بمجموعها يحكم على الحديث بالحسن كما قال ابن حجر وابن كثير في التفسير ](1/20)
وصحَّ عنه صلى اللَّه عليه وسلم أنه قال: ((مَن أسْبَغَ الوُضُوءَ ثُمَّ قَالَ: أشْهَدُ أنْ لاَ إلهَ إلاَّ اللَّه وَحْدَهُ لاَشَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ ورَسُولُهُ، فُتِحَتْ لَهُ أبْوَابُ الجَنَّةِ الثَّمَانِيَةُ يَدْخُلُ مِنْ أيَّهَا شَاءَ)) ذكره مسلم
وزاد الترمذى بعد التشهد: ((اللَّهُمَّ اجْعَلْنِى مِنَ التَّوَابِينَ واجْعَلْنِى مِنَ المُتَطَهِّرِينَ)) [ قال الشيخ ابن باز : واسنادها جيد فهي صحيحة ]
وزاد الإمام أحمد: ثمَّ رَفَعَ نَظَرَهُ إلى السَّمَاءِ. وزاد ابن ماجه مع أحمد: قول ذلك ثلاث مرات.
[ قال الشيخ ابن باز : رفع النظر إلى السماء فيها ضعف لأنها من رواية مجهول عند أحمد وكذلك ثلاثاً لا أعلم أنها صحيحة فهي ضعيفة كما قال المحشي ولم أتتبعها ففيها نظر تحتاج لبحث ]
وذكر بقىُّ بن مَخْلد فى ((مسنده)) من حديث أبى سعيد الخدرى مرفوعاً: ((مَنْ تَوَضَّأَ فَفَرَغَ مِنْ وضُوئِهِ، ثُمَّ قَالَ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبحَمْدِكَ أشْهَدُ أنْ لاَ إلهَ إلاَّ أنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وأتُوبُ إلَيْكَ، كُتِبَ فى رَقٍّ وطُبعَ عَلْيْهَا بِطَابعٍ، ثُمَّ رُفِعَتْ تَحْتَ العَرْشِ فَلَمْ يُكْسَرْ إلى يَوْمِ القِيَامَةِ))، ورواه النسائى فى كتابه الكبير من كلام أبى سعيد الخدرى،
[ قال الشيخ ابن باز : وإسنادها صحيح عند النسائي ولها حكم الرفع لأنها لا مجال للرأي فيها ]
وقالَ النسائى: باب ما يقول بعد فراغه من وضوئه، فذكر بعض ما تقدم. ثم ذكر بإسناد صحيح من حديث أبى موسى الأشعرى قال: أتيتُ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم بوضوءٍ فتوضَّأَ، فسمعتُه يقول ويدعو: ((اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِى ذَنْبِى، وَوَسِّعْ لِى فى دَارى، وبَارِكْ لِى فى رِزْقِى)) فقلتُ: يا نبىَّ اللَّهِ: سمعتُك تدعو بكذا وكذا، قال: ((وهَلْ تَرَكَتْ مِنْ شَىْءٍ))؟ وقالَ ابن السنى: باب ما يقول بين ظهرانى وضوئه فذكره.(1/21)
[ قال الشيخ ابن باز :وهذا في كونه من أذكار الوضوء فيه نظر فإن صح فإنه يكون بعد الوضوء وفي صحته نظر لأن أبا مجلز لم يلق أبا موسى ولم يسمع منه ولذا قال : قال أبو موسى وهو يرسل عمن لم يلقه ]
@@@ ( مغرب الأحد 2 / 5 / 1414هـ )
فصل
فى هَدْيه صلى الله عليه وسلم فى الأذان وأذكاره
ثبت عنه صلى اللَّه عليه وسلم أنه سنَّ التأذين بترجيع وبغير ترجيع، وشرع الإقَامَةَ مثنى وفُرادى، ولكن الذى صح عنه تثنيةُ كلمةِ الإقَامَةِ: ((قَدْ قَامَتِ الصَّلاةُ)) ولم يصح عنهُ إفرادُهَا البتة، وكذلك صحَّ عنه تكرارُ لفظ التكبير فى أول الأذان أربعاً، ولم يَصِحَّ عنه الاقتصارُ على مرتين، وأما حديثُ: ((أُمِرَ بِلاَلٌ أنْ يَشْفَعَ الأذَانَ وَيُوتِرَ الإقَامَةَ)) فلا ينافى الشفع بأربع، وقد صحّ التربيعُ صريحاً فى حديث عبد اللَّه بن زيد، وعمر بن الخطاب، وأبى محذورة رضى اللَّه عنهم.
وأما إفرادُ الإقامة، فقد صحَّ عن ابن عمر رضى اللَّه عنهما، استثناءُ كلمة الإقامة، فقال: إنما كانَ الأذانُ على عَهْدِ رسُولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم مرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ، والإقَامةُ مرَّةً مرَّةً، غيرَ أنه يقول: قَد قَامَتِ الصَّلاَةُ، قَدْ قَامَتِ الصَّلاَةُ)).
وفى ((صحيح البخارى)) عن أنس: ((أُمِرَ بِلالٌ أنْ يَشْفَعَ الأذَانَ، ويُوتِرَ الإقَامَةَ، إلا الإقَامَة)).
وصح من حديث عبد اللَّه بن زيد وعمر فى الإقامة: ((قَدْ قَامَتِ الصَّلاَةُ، قَدْ قَامَتِ الصَّلاَةُ)).
وصح من حديث أبى محذورة تثنيةُ كلمةِ الإقامة مع سائر كلماتِ الأذان.(1/22)
وكُلُّ هذه الوجوه جائزة مجزئة لا كراهة فى شئ منها، وإن كان بعضُها أفضلَ مِن بعض، فالإمام أحمد أخذ بأذان بلال وإقامته، والشافعى، أخذ بأذان أبى محذورة وإقامة بلال، وأبو حنيفة أخذ بأذان بلال وإقامة أبى محذورة، ومالك أخذ بما رأى عليه عملَ أهل المدينة من الاقتصار على التكبير فى الأذان مرتين، وعلى كلمة الإقامة مرة واحدة، رحمهم اللَّه كلهم، فإنهم اجتهدوا فى متابعة السُّنَّة.
[ قال الشيخ ابن باز : وهذا من اختلاف التنوع فكلاهما جائز والأفضل ما كان يقوم به بلال رضي الله عنه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذلك في الإقامة ]
فصل
فيما شرعه صلى الله عليه وسلم لأُمَّته من الذِّكْرِ عند الأذان وبعده
وأمّا هَدْيُه صلى اللَّه عليه وسلم فى الذِّكر عند الأذان وبعدَه، فشرع لأُمَّته منه خمسة أنواع:
أحدها: أن يقول السامع كما يقول المؤذِّن، إلا فى لفظ: ((حىّ على الصلاة))، ((حىّ على الفلاح)) فإنه صح عنه إبدالُهما بـ ((لا حَوْلَ ولاَ قُوَّةَ إلاَّ باللَّهِ)) ولم يجئ عنه الجمعُ بينها وبين: ((حىّ على الصلاة))، ((حىّ على الفلاح)) ولا الاقتصارُ على الحيعلة، وهَدْيُه صلى اللَّه عليه وسلم الذى صح عنه إبدالُهما بالحوقلة، وهذا مقتضى الحكمة المطابقةِ لحال المؤذِّن والسامع، فإن كلمات الأذان ذِكْرٌ، فَسَنَّ للسامع أن يقولها، وكلمة الحيعلة دعاءٌ إلى الصلاة لمن سمعه، فَسَنَّ للسامع أن يَسْتَعِينَ على هذه الدعوة بكلمة الإعانة وهى: ((لا حَوْلَ ولاَ قُوَّةَ إلاَّ باللَّهِ العَلِّى العظيم)).
[ قال الشيخ ابن باز : إجابة المؤذن سنة مؤكدة لأنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سمع المؤذن وقال على الفطرة ، فلم يردد وذلك ليبين للأمة أنه سنة ] وقال أيضاً [ ومن قال إنه يجمع في الأذان بين الحوقلة وقول حي على الصلاة ، حي على الفلاح فلا دليل عليه والمجمل يحمل على المبين والعام يحمل على الخاص ](1/23)
الثانى: أن يقول: وأَنَا أَشْهَدُ أنْ لا إلهَ إلاَّ اللَّهُ، وأنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللَّهِ، رَضِيتُ بِاللَّه رَباً، وَبالإسْلاَمِ دِينَاً، وبِمُحَمَّدٍ رَسُولاً، وَأَخْبَرَ أنَّ مَنْ قَالَ ذلِكَ غُفِرَ لَهُ ذَنْبُهُ.
[ قال الشيخ ابن باز : وهذا يقال عند الشهادتين وهو الصواب ]
الثالث: أن يُصلِّىَ على النبىِّ صلى الله عليه وسلم بعدَ فَراغه من إجابة المؤذِّن، وأكْمَلُ ما يُصلَّى عليه بِهِ، ويصل إليه، هى الصلاة الإبراهيمية كما علَّمه أُمَّته أن يُصلُّوا عليه، فلا صلاَةَ عليه أكملُ منها وإن تحذلق المتحذلقون.
الرابع: أن يقولَ بعد صلاته عليه: ((اللَّهُمَّ رَبَّ هذِهِ الدَّعْوَةِ التَّامَّةِ، والصَّلاةِ القَائِمَةِ، آتِ مُحَمَّداً الوَسِيلَةَ والفَضِيلَةَ، وابْعَثْهُ مَقَاماً مَحْمُوداً الذى وعَدْتَهُ إنَّكَ لا تُخْلِفُ المِيعَادَ)) هكذا جاء بهذا اللفظ: ((مقاماً محموداً)) بلا ألف ولا لام، وهكذا صح عنه صلى اللَّه عليه وسلم.
[ قال الشيخ ابن باز : زيادة ( إنك لا تخلف الميعاد ) الصواب أنها لا بأس بها ] [ قال الشيخ ابن باز في التحفة : وزاد البيهقي في آخره بإسناد حسن ( إنك لا تخلف الميعاد ) . ص -51 - ]
الخامس: أن يدعوَ لنفسه بعد ذلك، ويسألَ اللَّه من فضله، فإنه يُسْتَجَاب له، كما فى ((السنن)) عنه صلى اللَّه عليه وسلم: ((قُلْ كَمَا يَقُولُونَ - يَعْنِى المُؤَذِّنِينَ - فَإذَا انْتَهيْتَ فَسَلْ تُعْطَهْ)).
وذكر الإمام أحمد عنه صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ قَالَ حينَ يُنَادِى المُنَادِى: اللَّهُمَّ رَبَّ هذِهِ الدَّعْوَةِ التَّامَّة وَالصَّلاةِ النَّافِعَةِ، صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَارْضَ عَنْهُ رِضَىً لا سَخَطَ بَعْدَهُ، اسْتَجَابَ اللَّهُ لَهُ دَعْوَتَه)).(1/24)
وقَالت أمُّ سلمة رضى اللَّه عنها: علَّمنى رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم أن أقول عند أذان المغرب: ((اللَّهُمَّ إنَّ هذَا إقْبَالُ لَيْلِكَ، وَإدْبَارُ نَهَارِكَ، وَأَصْوَاتُ دُعَاتِكَ، فَاغْفِرْلى)) ذكره الترمذى.
وذكر الحاكم فى ((المستدرك)) من حديث أبى أُمامة يرفعه أنه كان إذا سمع الأذان قال: ((اللَّهُمَّ رَبِّ هَذِهِ الدَّعْوةِ التَّامَّةِ المُسْتَجَابَةِ، والمُسْتَجَابِ لَهَا، دَعْوةِ الحَقِّ وَكَلِمَةِ التَّقْوَى، تَوَفَّنى عَلَيْهَا وَأَحْيِنِى عَلَيْهَا، وَاجْعَلْنِى مِنْ صَالِحِى أهْلِهَا عَمَلاً يَوْمَ القِيَامَةِ))، وذكره البيهقى من حديث ابن عمر موقوفاً عليه.
وذُكر عنه - صلى اللَّه عليه وسلم - أنه كان يقول عند كلمةِ الإقامة: ((أقَامَهَا اللَّهُ وأدَامَهَا)).
[ قال الشيخ ابن باز : وهذا ضعيف والصواب أن يقول مثل ما يقول المقيم ( قد قامت الصلاة ) ومثله في صلاة الفجر عند قول المؤذن ( الصلاة خير من النوم ) فيقول مثل ما يقول ولا يقول ( صدقت وبررت ) ]
وفى السنن عنه صلى اللَّه عليه وسلم: ((الدُّعَاءُ لاَ يُرَدُّ بينَ الأذَانِ والإقامَةِ))
[ قال الشيخ ابن باز : وهذا ثابت وأما الزيادات عليه ففيها نظر ]
قالوا فما نقولُ يا رسول اللَّه؟ قال: ((سَلُوا اللَّه العَافِيةَ فى الدُّنْيَا والآخِرَةِ)) حديث صحيح.
وفيها عنه: ((سَاعَتَانِ، يَفْتَحُ اللَّهُ فِيهمَا أبْوابَ السَّمَاءِ وقَلَّما تُرَدُّ عَلَى دَاعٍ دَعْوتُه: عِنْدَ حُضُورِ النِّدَاءِ، والصَّفِّ فى سَبِيلِ اللَّه)).
وقد تقدَّم هَدْيُه فى أذكار الصلاة مفصَّلاً والأذكارِ بعد انقضائها، والأذكار فى العيدين، والجنائز، والكسوف، وأنه أمر فى الكسوف بالفزع إلى ذكر اللَّه تعالى، وأنه كان يسبِّح فى صلاتها قائماً رافعاً يديه يُهلِّل ويُكبِّر ويَحْمَدُ ويدعو حتى حُسِر عن الشمس، واللَّه أعلم.(1/25)
[ قال الشيخ ابن باز : وهذا محل نظر وإنما كان هذا في خطبة الاستسقاء وأما خطبة الجمعة والكسوف فلم يذكر أنه رفع يديه وفي رواية عبد الرحمن بن سمرة في مسلم التي فيها رفع اليدين عند صلاة الكسوف تحتاج إلى تأمل ]
@@@ ( مغرب الأحد 9 / 5 / 1414 هـ )
فصل
فى الإكثار من الدعاء والتهليل والتكبير والتحميد فى عشر ذى الحِجَّة
[ قال الشيخ ابن باز : هذه الأيام العشر أفضل من العشر الأواخر من رمضان عند أكثر أهل العلم وذلك لأن فيها يوم عرفة ، وليال العشر الأواخر من رمضان أفضل من هذه الليالي لأن فيها ليلة القدر وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنها صامها وفي سنده مقال ]
وكان صلى اللَّه عليه وسلم يُكثِرُ الدعاء فى عَشْرِ ذى الحِجَّة، ويأمُر فيه بالإكثار من التهليل والتكبير والتحميد.
[ قال الشيخ ابن باز : رواية أحمد ( فأكثروا فيهن من التهليل والتحميد والتكبير ) سندها حسن ]
ويُذكر عنه أنه كان يُكبِّر من صلاة الفجر يومَ عرفة إلى العصر من آخر أيام التشريق، فيقول: ((اللَّهُ أكْبَرُ، اللَّهُ أكْبَرُ، لاَ إلهَ إلاَّ اللَّهُ، واللَّه أكْبَرُ ولِلَّهِ الحَمْدُ)) وهذا وإن كان لا يصح إسناده، فالعمل عليه،
[ قال الشيخ ابن باز : سنده ضعيف وإنما جاء عن الصحابة
ويشرع التكبير المقيد من فجر يوم عرفة إلى عصر آخر أيام التشريق أما الحاج فيكبر عندما يرمي جمرة العقبة إلى آخر أيام التشريق والتكبير يكون بعد الاستغفار ثلاثاً وقول ( اللهم أنت السلام ....... ](1/26)
ولفظه هكذا يشفع التكبير، وأما كونه ثلاثاً، فإنما رُوى عن جابر وابن عباس مِن فعلهما ثلاثاً فقط، وكِلاهما حسن، قال الشافعى: إن زاد فقال: ((اللَّه أكبرُ كبيراً، والحمدُ للَّه كثيراًَ، وسُبْحانَ اللَّهِ بُكرةً وأصيلاً، لا إلهَ إلا اللَّهُ، ولا نعبدُ إلا إيَّاه، مخلصين له الدِّينَ ولو كره الكافرون، لا إله إلا اللَّهُ وحدَهُ، صدَقَ وعده، ونصرَ عبدَه، وهزم الأحزابَ وحده، لا إله إلا اللَّه واللَّهُ أكبرُ)) كان حسناً.
فصل
فى هَدْيه صلى الله عليه وسلم فى الذِّكْرِ عند رؤية الهلال
يُذكر عنه أنه كان يقول: ((اللَّهُمَّ أَهِلَّه عَلَيْنَا بِالأمْنِ والإيمَانِ، والسَّلاَمَةِ والإسْلامِ، رَبِّى وَرَبُّكَ اللَّهُ)) قال الترمذى: حديثٌ حسن.
ويُذكر عنه أنه كان يقول عند رؤيته: ((اللَّهُ أكْبَرُ، اللَّهُمَّ أهِلَّهُ عَلَيْنَا بِالأَمْنِ والإيمَانِ، والسَّلامَةِ والإسْلاَمِ والتَّوْفِيقِ لِمَا يُحبُّ ربُّنا ويَرْضَى، رَبُّنَا وَرَبُّكَ اللَّهُ)) ذكره الدارمى.
وذكر أبو داود عن قتادة أنه بلغه أن نبىَّ اللَّه صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى الهلال قال: ((هِلاَلُ خَيْرٍ وَرُشْدٍ، هِلاَلُ خَيْرٍ وَرُشْدٍ، آمَنْتُ بِالَّذِى خَلَقَكَ)) - ثَلاثَ مَرَّاتٍ- ثُمَّ يَقُولُ: الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى ذَهَبَ بشهرِ كَذَا، وَجَاءَ بشَهْرِ كَذَا)). وفى أسانيدها لين.
ويُذكر عن أبى داود وهو فى بعض نسخ سننه أنه قال: ليس فى هذا البابِ عن النبى صلى الله عليه وسلم حديثٌ مسند صحيح.
[ قال الشيخ ابن باز : الأسانيد في هذا الباب كلها معلولة ولكن قد يقال أنها بمجموعها تصل للحسن لغيره فمن قالها فلا بأس ومن لم يقلها فلا حرج عليه فأحسن أحوال أحاديث هذا الباب أن يكون من باب الحسن لغيره ]
فصل
فى هَدْيه صلى الله عليه وسلم فى أذكار الطعام قبله وبعده(1/27)
كان إذا وضع يده فى الطعام قال: ((بسْمِ اللَّهِ)) ويأمر الآكل بالتسمية، ويقول ((إذَا أكَلَ أحَدُكُم، فَلْيَذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ تعَالَى، فإنْ نَسِىَ أنْ يَذْكُرَ اسْمَ اللَّهِ فى أوَّلِهِ، فَلْيَقُلْ: بِسْمِ اللَّهِ فى أوَّلِه وَآخِرِهِ )) حديث صحيح.
[قال الشيخ ابن باز:والحديث صحيح] ( قال الشيخ ابن باز : رواه أبو داود والنسائي والترمذي وقال : حسن صحيح ، وصححه الحاكم وأقره الذهبي . التحفة ( 49) )
والصحيحُ وجوبُ التسمية عند الأكل، وهو أحدُ الوجهين لأصحاب أحمد، وأحاديث الأمر بها صحيحة صريحة، ولا مُعارِضَ لها، ولا إجماعَ يسوِّغُ مخالفتها ويُخْرِجُهَا عن ظاهرها، وتارِكُهَا شريكهُ الشيطان فى طعامه وشرابه.
[ قال الشيخ ابن باز : الأصل في الأوامر الوجوب فكما يجب الأكل باليمين تجب التسمية عند الأكل
وإذا قال ( بسم الله ) عند الأكل والوضوء كفى وإن زاد ( بسم الله الرحمن الرحيم ) فهو أكمل فيطلق بسم الله ويراد بها الزيادة فتشرع ( بسم الله الرحمن الرحيم ) في كل شيء وهو أكمل إلا عند الذبح ]
[ وسئل الشيخ أن بعض أهل العلم قال ( إن قول بسم الله الرحمن الرحيم ) كاملة لا تشرع إلا في قرأءة القرآن وكتابة الرسائل ) فقال الشيخ : هذا لا أصل له ]
فصل
فى إذا ما كان الآكلون جماعة فعلى كل واحد منهم أن يُسمِّىَ الله
وهاهنا مسألة تدعو الحاجة إليها، وهى أن الآكلين إذا كانوا جماعة، فسمَّى أحدُهم، هل تزولُ مشاركة الشيطان لهم فى طعامهم بتسميته وحدَه، أم لا تزول إلا بتسمية الجميع؟ فنصَّ الشافعى على إجزاء تسمية الواحد عن الباقين، وجعله أصحابُه كردِّ السلام، وتشميتِ العاطس، وقد يُقال: لا تُرفع مشاركةُ الشيطان للآكل إلا بتسميته هو، ولا يكفيه تسميةُ غيره،(1/28)
[ قال الشيخ ابن باز : وهذا هو الصواب أن تسمية غيره لا تكفي عنه والرسول صلى الله عليه وسلم قال لعمرو بن سلمة ( سم الله ) والرسول صلى الله عليه وسلم قد سمى هو وأصحابه فلم يكفي تسميتهم عنه ]
ولهذا جاء فى حديث حذيفة: إنَّا حضرنا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم طعاماً، فجاءت جارية كأنما تُدْفَع، فذهبتْ لتضع يدها فى الطعام، فأخذَ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم بيدها، ثمَّ جاء أعرابى كَأَنَّمَا يُدْفَعُ، فأخذ بيده، فقالَ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ الشَّيْطَانَ لَيَسْتَحِلُّ الطَّعَامَ أنْ لا يُذْكَرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ، وإنَّهُ جَاءَ بِهذِهِ الجَارِيَةِ لِيَسْتَحِلَّ بِهَا، فَأَخَذْتُ بِيَدِهَا، فَجَاءَ بِهذَا الأعْرَابىِّ لِيَسْتَحِلَّ بِهِ، فَأَخَذْتُ بِيَدِهِ، والَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ إنَّ يَدَهُ لَفِى يَدى مَعَ يَدَيْهِمَا)) ثم ذكرَ اسمَ اللَّه وأكل، ولو كانت تسمية الواحد تكفى، لما وضع الشيطان يده فى ذلك الطعام.
ولكن قد يُجاب بأن النبىَّ صلى الله عليه وسلم لم يكن قد وضع يده وسمَّى بعدُ، ولكنَّ الجارية ابتدأت بالوضع بغيرِ تسمية، وكذلك الأعرابىُّ، فشاركهما الشيطانُ، فمِن أين لكُم أن الشيطان شارك مَن لم يُسمِّ بعد تسمية غيره؟، فهذا مما يُمكن أن يُقالَ، لكن قد روى الترمذىُّ وصححه من حديث عائشة قالت: كان رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم يأكلُ طعاماً فى سِتَّةِ من أصحابه، فجاء أعرابى، فَأَكَلَهُ بِلُقْمَتَيْنِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: ((أمَا إنَّه لَوْ سَمَّى لَكَفَاكُم))، ومِن المعلوم أن رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم وأولئك الستة سَمَّوا، فلما جاء هذا الأعرابى فأكل ولم يسمِّ، شاركه الشيطانُ فى أكله فأكل الطعام بِلُقمتين، ولو سمَّى لكفى الجميع.(1/29)
وأمّا مسألةُ ردِّ السلام، وتشميتِ العاطس، ففيها نظر، وقد صحَّ عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إذَا عَطَسَ أحَدُكُم، فَحَمِدَ اللَّه فَحَقٌ عَلَى كُلِّ مَنْ سَمِعَهُ أنْ يُشَمِّتَهُ)) وإن سُلِّمَ الحُكم فيهما، فالفرقُ بينهما وبين مسألة الأكل ظاهِرٌ، فإن الشيطانَ إنما يتوصل إلى مشاركة الآكِل فى أكله إذا لم يُسمِّ، فإذا سمَّى غيرُه، لم تجُز تسميةُ مَن سمَّى عمن لم يُسمِّ مِن مقارنة الشيطانِ له، فيأكل معه، بل تَقِلُّ مشاركة الشيطان بتسمية بعضهم، وتبقى الشركةُ بين مَن لم يُسمِّ وبينه، واللَّه أعلم.
ويُذكر عن جابر عن النبى صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ نَسِىَ أنْ يُسَمِّىَ عَلَى طَعَامِهِ، فَلْيَقْرَأ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أحَدٌ} إذَا فَرَغَ)) وفى ثبوت هذا الحديث نظر.
[ قال الشيخ ابن باز : هذا الحديث لا يصح فإن نسي التسمية في أوله يسمي في آخره فإن نسي حتى فرغ فلا يضره ]
وكان إذا رُفِعَ الطعامُ من بين يديه يقول: ((الحَمْدُ لِلَّهِ حَمْداً كَثِيراً طيِّباً مُبَارَكاً فِيهِ، غيرَ مَكْفِىٍّ وَلاَ مُوَدَّعٍ وَلاَ مُسْتَغْنىً عَنْه رَبُّنا)) عَزَّ وَجَلَّ. ذكره البخارى.
[ قال الشيخ ابن باز : يقال هذا الذكر عند فراغه من طعامه ولو لم يرفع ]
وربمَا كانَ يقول: ((الحَمْدُ للَّهِ الَّذِى أطْعَمَنَا وَسَقَانَا وَجَعَلَنَا مُسْلِمِينَ)).
وكان يقول: ((الحَمْدُ للَّهِ الَّذِى أطْعَمَ وَسَقَى وسوَّغَهُ وَجَعَلَ لَهُ مَخْرَجاً)).
وذكر البخارىُّ عنه أنه كان يقولُ: ((الحَمْدُ للَّهِ الَّذِى كَفَانَا وَآوَانا))، وذكر الترمذى عنه أنه قال: ((مَنْ أكَلَ طَعامَاً فَقَالَ: الحَمْدُ للّهِ الَّذِى أَطْعَمَنِى هَذَا مِنْ غَيْرِ حَوْلٍ مِنِّى وَلا قُوَّةٍ، غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ)) حديث حسن.(1/30)
[ قال الشيخ ابن باز : في الحديث ( الحمد الله الذي أطعمني هذا ورزقنيه ) والحديث سنده حسن ] ( قال الشيخ ابن باز : رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة بإسناد حسن . التحفة (49 ) .
ويُذكر عنه أنه كان إذَا قُرِّبَ إليه الطعامُ قال: ((بِسْمِ اللَّهِ)) فإذَا فَرَغَ مِن طعامه قال: ((اللَّهُمَّ أطٌعَمْتَ وَسَقَيْتَ، وأَغْنَيْتَ وَأَقْنَيْتَ، وهَدَيْتَ وأَحْيَيْتَ، فَلَكَ الحَمْدُ عَلى مَا أَعْطَيْتَ)) وَإسْناده صحيح.
[ قال الشيخ ابن باز : الحديث سنده جيد ]
وفى السنن عنه أنه كان يقولُ إذا فرغ: ((الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى مَنَّ عَلَيْنَا وَهَدَانَا، والَّذِى أَشْبَعَنَا وَأَرْوَانَا، ومِنْ كُلِّ الإحْسَانِ آتَانَا)) حديث حسن.
وفى السنن عنه أيضاً: ((إذَا أكَلَ أَحَدُكُم طَعَاماً فَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِيهِ، وَأَطْعِمْنَا خَيْراً مِنْهُ، وَمَنْ سَقَاهَ اللَّهُ لَبَنَا، فَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِيهِ وَزِدْنَا مِنْهُ، فإنه ليس شئ ويُجزِئ عن الطعام والشراب غير اللبن)) حديث حسن.
[ قال الشيخ ابن باز : الحديث من طريق علي بن زيد بن جدعان والجمهور على تضعيفه والترمذي يتساهل فيه فإن كان السند مقتصراً عليه ليس له متابع فالحديث ضعيف ]
ويُذكر عنه أنه كَانَ إذَا شَرِبَ فى الإنَاءِ تَنَفَّسَ ثَلاثَة أنْفَاسٍ، ويَحْمَدُ اللَّهَ فى كُلِّ نَفَسٍ، وَيَشْكُرُهُ فى آخِرِهِنَّ.
[ قال الشيخ ابن باز : السنة التنفس في الشراب ثلاثاً دون ذكر الحمد والشكر ]
@@@ ( مغرب الأحد 16 / 5 / 1414 هـ )
فصل
وكان صلى اللَّه عليه وسلم إذا دخل على أهلِهِ رُبَّمَا يسأْلُهم: ((هَلْ عِنْدَكُم طَعَامٌ))؟ وَمَا عَابَ طَعَاماً قطٌّ، بَلْ كَانَ إذَا اشتهاهُ أكَلَهُ، وإنْ كَرِهَهُ تَرَكهُ وَسَكَت، وربما قال: ((أجِدُنى أعَافُهُ إنِّى لا أَشْتَهِيهِ)).
[ قال الشيخ ابن باز : الضب مباح كما في الحديث ](1/31)
وكان يمدح الطعامَ أحياناً، كقوله لما سأل أهلَهُ الإدامَ، فقالُوا: ما عِندنا إلا خَلٌّ، فدعا به فجعل يأكُلُ مِنْهُ ويقُولُ: ((نِعْمَ الأُدْمُ الخَلُّ))، وليس فى هذا تفضيل له على اللبن واللَّحم والعَسَل والمَرَق، وإنما هو مدح له فى تلك الحال التى حضر فيها، ولو حَضَرَ لحم أو لبن، كان أولى بالمدح منه، وقال هذَا جبراً وتطييباً لقلب مَن قدَّمه، لا تفضيلاً له على سائر أنواع الإدام.
[ قال الشيخ ابن باز : الخل هو ما حمص من الأشياء من الفواكه وغيرها كالعنب وغيره ]
وكان إذا قُرٍّبَ إليه طعام وهو صائم قال: ((إنِّى صَائِمٌ))، وأمر مَن قُرِّبَ إليه الطعامُ وهو صائم أن يُصَلِّىَ، أى يدعو لمن قدَّمه، وإن كان مفطراً أن يأكل منه.
[ قال الشيخ ابن باز : وإن أفطر إن كان نافلة فلا بأس ]
وكان إذا دُعىَ لِطعام وتبعه أحد، أعلمَ به ربَّ المنزل، وقال: ((إنَّ هذَا تَبِعَنَا، فَإنْ شِئْتَ أنْ تأذَنَ لَهُ، وَإنْ شِئْتَ رَجَعَ)).
[ قال الشيخ ابن باز : هذا إذا كانت الدعوة مقيدة مسمى أفرادها إما إذا كانت الدعوة مطلقة فلا يحتاج إلى الاستئذان ]
وكانَ يتحدَّث على طعامه، كما تقدَّم فى حديث الخل، وكما قال لِربيبه عمر ابن أبى سلمة وهو يُؤاكِلهُ: ((سَمِّ اللَّهَ، وكُلْ ممَّا يَليك)).
وربما كان يُكرِّر على أضيافه عرضَ الأكل عليهم مِراراً، كما يفعلهُ أهلُ الكرم، كما فى حديث أبى هريرة عند البخارى فى قصة شُرب اللبن وقولِهِ له مِراراً: ((اشْرَبْ)) فَمَا زَالَ يَقُولُ: ((اشْرَبْ)) حَتَّى قَالَ: وَالَّذِى بَعَثَكَ بِالحَقِّ لا أجدُ لَهُ مَسْلَكاً.
[ قال الشيخ ابن باز : وفي الحديث ( ساقي القوم آخرهم شرباً ]
وكان إذا أكل عند قوم لم يخرُج حتى يَدْعُوَ لهم، فدعا فى منزل عبد اللَّه ابن بُسر، فقالَ: ((اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُم فِيمَا رَزَقْتَهُم، وَاغْفِرْ لَهُمْ، وَارْحَمْهُمْ)) ذكره مسلم.(1/32)
ودعا فى منزل سعد بنِ عُبادة فقال: ((أفْطَرَ عِنْدَكُمْ الصَّائِمُونَ، وَأَكَلَ طَعَامَكُم الأبْرَارُ، وصَلَّتْ عَلَيْكُمُ المَلائِكَةُ)).
[ قال الشيخ ابن باز : وهذا الدعاء عام ولو لم يكن صائماً ويرفع الضيف صوته بالدعاء حتى يسمع صاحب المنزل ]
وذكر أبو داود عنه - صلى اللَّه عليه وسلم - أنه لما دعاه أبو الهيثم بن التَّيهان هو وأصحابهُ فأكلوا، فلما فرغُوا قال: ((أثِيبُوا أخَاكُمْ)) قَالُوا: يا رَسُولَ اللَّهِ ؛ وما إثابتهُ؟ قال: ((إنَّ الرَّجلَ إذَا دُخِلَ بَيْتُهُ، فأُكِلَ طَعَامُهُ، وشُرِبَ شَرَابُهُ، فَدَعَوْا لَهُ، فَذلِكَ إثَابَتُهُ)).
وصح عنه - صلى اللَّه عليه وسلم - أنه دخل منزله ليلَةً، فالتمس طعاماً فلم يجده، فقال: ((اللَّهُمَّ أَطْعِمْ مَنْ أَطْعَمَنِى، وَاسْقِ مَنْ سَقَانِى)).
[ قال الشيخ ابن باز : وهذا قبل الطعام وإذا دعا به بعد الطعام فطيب ]
وَذُكِرَ عنه أن عَمْرو بنَ الحَمِق سقاه لبناً فقال: ((اللَّهُمَّ أَمْتِعْهُ بِشَبَابِهِ))، فَمَرَّتْ عَلَيْهِ ثَمَانُونَ سَنَةً لَمْ يَرَ شَعْرَةً بَيْضَاءَ.
@@@ ( مغرب الأحد 23 / 5 / 1414هـ )
وكان يدعو لمن يُضيف المساكينَ، ويثنى عليهم، فقالَ مرَّة: ((ألا رَجُلٌ يُضِيفُ هذَا رحِمَهُ اللَّهُ))، وقال للأنصارىِّ وامرأته اللَّذَيْنِ آثرا بقُوتِهما وقُوتِ صِبيانهما ضَيْفَهُمَا: ((لَقَدْ عَجِبَ اللَّهُ مِنْ صَنِيعِكُمَا بِضَيْفِكُمَا اللَّيْلَةَ)).
وكَانَ لا يأْنَفُ مِن مؤاكلة أحدٍ صغيراً كان أو كبيراً، حُراً أو عبداً، أعرابياً أو مهاجراً، حتى لقد روى أصحاب السنن عنه أنه أخذ بيد مجذوم فوضعها معه فى القَصعة فقال: ((كُلْ بِسْمِ اللَّهِ ثِقَةً بِاللَّهِ، وَتَوَكُّلاً عَلَيْهِ)).(1/33)
[ قال الشيخ ابن باز : ينبغي الأخذ بالأسباب والتوقي من الأسباب الضارة وقول الرسول صلى الله عليه وسلم (لا عدوى ) هو ما كان على مفهوم الجاهلية فالأسباب الضارة تجتنب لا أنها تضر بنفسها ولكن لكونها أسباب تؤدي للضرر ]
وكان يأمُرُ بالأكل باليمين، وينهى عن الأكل بالشمال، ويقول: ((إنَّ الشَّيْطَانَ يَأكُلُ بشِمَالِهِ، وَيَشْرَبُ بشِمَالِهِ))، ومقتضى هذا تحريمُ الأكل بها، وهو الصحيح، فإن الآكلَ بِهَا، إما شيطان، وإما مشبَّه به، وصحَّ عنه أنه قال لرجل أكل عنده، فأكل بشماله: ((كُلْ بِيَمينِكَ))، فقال: لا أستطيعُ، فقال: ((لاَ اسْتَطَعْتَ)) فما رفع يده إلى فيه بعدها، فلو كان ذلك جائزاً، لما دعا عليه بفعله، وإن كان كِبْرُهُ حمله على ترك امتثال الأمر، فذلك أبلغُ فى العصيان واستحقاق الدعاء عليه.
[ قال الشيخ ابن باز : يجب الأكل باليمين ولا يجوز الأكل بالشمال لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بالأكل باليمين والأمر يقتضي الوجوب ونهى عن الأكل بالشمال والنهي يقتضي التحريم ]
وأمر مَن شَكَوْا إليه أنهم لا يشبعُونَ: أن يجتمِعُوا على طعامهم ولا يتفرَّقُوا، وأن يذكُروا اسمَ اللَّهِ عليه يُبارك لهم فيه.
وصحَّ عنه أنه قال: ((إنَّ اللَّه لَيرضَى عَنِ العَبْدِ يَأْكُلُ الأَكْلَةَ يَحْمَدُهُ عَلَيْهَا، وَيَشْرَبُ الشَّرْبَةَ يَحْمَدُهُ عَلَيْهَا)).
وروى عنه أنه قال: ((أَذِيبُوا طَعَامَكُم بِذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ والصَّلاَةِ، وَلا تَنَامُوا عَلَيْهِ فَتَقْسُوَ قلُوبُكُم)) وأحرى بهذا الحديث أن يكون صحيحاً والواقع فى التجربة يشهدُ به.
[ قال الشيخ ابن باز : جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم ( لا آكل متكئاً ) عند البخاري وهذا فيه الكراهة والإتكاء هو الميل يمنة أو يسرة ، ووضع اليد اليسرى على الأرض عند الأكل قد يكون من الإتكاء فإذا ثبت النهي عن الإتكاء فأقل أحواله الكراهة ]
فصل(1/34)
فى هَدْيِه صلى الله عليه وسلم فى السلام والاستئذانِ وتشميت العاطس
ثبت عنه صلى اللَّه عليه وسلم فى ((الصحيحين)) عن أبى هُريرة أن ((أفْضَلَ الإسْلاَمِ وَخَيْرَهُ إطْعَامُ الطًَّعَامِ، وَأَنْ تَقْرَأَ السَّلاَمَ عَلى مَنْ عَرَفْتَ وَعَلَى مَنْ لَمْ تَعْرِفْ)).
وفيهما ((أن آدَمَ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ لمَّا خلقَه اللَّهُ قَالَ لَهُ: اذْهَبْ إلى أولَئِكَ النَّفَرِ مِنَ المَلائِكَةِ، فَسَلِّم عَلَيْهِمْ، وَاسْتَمِعْ مَا يُحيُّونَكَ بِهِ، فَإنَّهَا تَحِيَّتُكَ وَتَحِيَّةُ ذُرِّيَّتِكَ، فَقَالَ: السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ، فَقَالُوا: السَّلامُ عَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللَّه، فَزَادُوهُ: ((وَرَحْمةُ اللَّهِ)).
وفيهما أنه - صلى اللَّه عليه وسلم - ((أمَرَ بِإفْشَاءِ السَّلام وأخبرهم أنهم إذا أفشوا السلام بَيْنَهُمُ تَحَابُّوا، وَأنَّهُمُ لا يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ حَتَّى يُؤْمِنُوا، وَلا يُؤمِنُونَ حَتَّى يَتَحَابُّوا)).
وقال البخارى فى ((صحيحه)): قال عمَّار: ثلاثٌ مَنْ جمعَهُنَّ، فَقَدْ جَمَعَ الإيمَانَ: الإنْصَافُ مِنْ نَفْسِكَ، وَبَذْلُ السَّلام لِلعَالَم، والإنْفَاقُ مِنَ الإقْتَارِ.
@@@ [ قال الشيخ ابن باز : وهذا فيه التواضع للناس أجمعين ](1/35)
وقد تضمنت هذه الكلماتُ أصول الخير وفروعه، فإن الإنصاف يُوجب عليه أداء حقوق اللَّه كاملة موفَّرة، وأداء حقوق الناس كذلك، وأن لا يُطالبهم بما ليس له، ولا يُحمِّلهم فوق وُسعهم، ويُعامِلَهم بما يُحِبُّ أن يعامِلوه به، ويُعفيهم مما يُحبُّ أن يُعْفُوه منه، ويحكم لهم وعليهم بما يحكُمُ بِهِ لنفسه وعليها، ويدخلُ فى هذا إنصافُه نفسه من نفسه، فلا يدَّعى لها ما ليسَ لها، ولا يُخبثها بتدنِيسه لها، وتصغيرهِ إياها، وتحقيرِها بمعاصى اللَّه، ويُنميها ويكبِّرُها ويرفعُها بطاعة اللَّه وتوحيده، وحبِّه وخوفِهِ، ورجائِهِ، والتوكل عليه، والإنابة إليه، وإيثارَ مرضاتِهِ ومحابِّه على مراضى الخلق ومحابِّهم، ولا يكونُ بها مع الخلق ولا مع اللَّه، بل يعزِلُهَا من البين كما عزلها اللَّهُ، ويكون باللَّه لا بنفسه فى حُبه وبُغضه، وعطائه ومنعه، وكلامِهِ وسكوتِهِ، ومدخلهِ ومخرجِهِ، فينجى نفسه مِن البين، ولا يرى لها مكانةً يعمل عليها، فيكون ممن ذمهم اللَّه بقوله: {اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ} [هود: 93، 121] [الأنعام: 135] [الزمر: 39] فالعبدُ المحض ليس له مكانة يعمل عليها، فإنه مستحقُ المنافع والأعمال لسيده، ونفسُه ملك لسيده، فهو عامل على أن يؤدىَ إلى سيده ما هو مستحق له عليه، ليس له مكانة أصلاً، بل قد كُوتب على حقوق مُنَجَّمَةٍ، كلما أدَّى نجماً حلَّ عليه نجمٌ آخر، ولا يزال المكاتَبُ عبداً ما بقى عليه شئ من نجوم الكتابة.
@@@ [ قال الشيخ ابن باز : فالعبد مطالب بحقوق الله عز وجل عليه حتى الموت ]
@@@ ( مغرب الأحد 1 / 6 / 1414هـ )(1/36)
والمقصود أن إنصافه من نفسه يُوجب عليه معرفَة ربه، وحقَّه عليه، ومعرفةَ نفسه، ومَا خُلِقَتْ له، وأن لا يُزاحِم بها مالكَها، وفاطرَها ويدَّعى لها الملكة والاستحقاق، ويزاحم مرادَ سيده، ويدفعَه بمراده هو، أو يقدِّمه ويؤثِرَه عليه، أو يقسِم إرادته بين مراد سيده ومُراده، وهى قسمة ضِيزى، مِثل قسمة الذِينَ قالوا: {هَذَا لِلَّهِ بَزَعْمِهِمْ وَهذَا لِشُركَائِنَا، فَمَا كَانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلاَ يَصِلُ إلَى اللَّه، وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إلى شُرَكَائِهِمْ، سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الأنعام: 136].
فلينظر العبد لا يكونُ مِن أهل هذه القسمة بين نفسه وشُركائه وبين اللَّه لجهله وظلمه وإلا لُبِّسَ عليه، وهو لا يشعرُ، فإن الإنسان خُلِقَ ظلوماً جهولاً، فكيف يُطلَبُ الإنصافُ ممن وصفُهُ الظلمُ والجهل؟، وكيف يُنصِفُ الخلَقَ مَن لم يُنْصِفِ الخَالِقَ؟، كما فى أَثر إلهى يقول اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ: ((ابْنَ آدَمَ مَا أنْصَفْتَنى، خَيْرِى إلَيْكَ نَازِلٌ، وشَرُّكَ إلىَّ صَاعِدٌ، كَمْ أَتَحَبَّبُ إلَيْكَ بِالنِّعَمِ، وَأَنَا غَنِىٌ عَنْكَ، وَكَمْ تَتَبَغَّضَ إلىَّ بِالمَعَاصِى وَأنْتَ فَقِيرٌ إلىَّ، ولا يَزَالُ المَلَكُ الكَرِيمُ يَعْرُجُ إلىَّ مِنْكَ بِعَمَلٍ قَبِيحٍ)).
وفى أثَر آخر: ((ابْن آدَمَ مَا أنْصَفْتَنِى، خَلَقتُكَ وَتَعْبُدُ غَيْرِى، وَأَرْزُقُكَ وَتَشْكُرُ سِوَاىَ)).
[ قال الشيخ ابن باز : وهذا من آثار بني إسرائيل ](1/37)
ثم كيف يُنصِفُ غيرَه مَن لم يُنْصِفْ نفسه، وظَلَمَهَا أقبحَ الظُّلْم، وسعَى فى ضررها أعظمَ السعى، ومنعَهَا أعظم لذَّاتِهَا من حيث ظن أنه يُعطيها إيَّاهَا، فأتعبها كُلَّ التعب، وأشقاها كُلَّ الشقاء من حيث ظن أنه يُريحها ويُسعدها، وجدَّ كل الجدِّ فى حِرمانها حظَّها من اللَّه، وهو يظن أنه ينيلها حظوظها، ودسَّاها كُلَّ التدسيةِ، وهو يظنُّ أنه يُكبرها ويُنميها، وحقَّرها كلَّ التحقير، وهو يظنُّ أنه يعظِّمها، فكيف يُرجى الإنصافُ ممن هذا إنصافُه لنفسه؟ إذا كان هذا فعلَ العبد بنفسه، فماذا تراه بالأجانب يفعل.
والمقصود أن قول عمار رضى اللَّه عنه: ((ثلاث مَن جمعهن، فقد جمع الإيمان: الإنصاف من نفسك، وبذل السلام للعالَم، والإنفاق من الإقتار))، كلام جامع لأصول الخير وفروعه.
وبذل السلام للعالَم يتضمن تواضعَه وأنَّه لا يتكبَّر على أحد، بل يبذُلُ السلام للصغير والكبير، والشريفِ والوضيعِ، ومَن يعرِفه ومَن لا يعرفه، والمتكبِّر ضِدُّ هذا، فإنه لا يَرُدُّ السلام على كُلِّ مَن سلَّم عليهِ كبراً منه وتِيهاً، فكيف يبذُلُ السلامَ لِكل أحد.
وأما الإنفاق من الإقتار، فلا يصدرُ إلا عن قوةِ ثِقة باللَّه، وأنَّ اللَّه يُخلِفُه ما أنفقه، وعن قوة يقين، وتوكُّل، ورحمة، وزُهد فى الدنيا، وسخاءِ نفس بها، ووثوق بوعد مَنْ وعده مغفرةً منه وفضلاً، وتكذيباً بوعد مَن يعدُه الفقر، ويأمر بالفحشاء، واللَّه المستعان.
@@@ [ قال الشيخ ابن باز : والمنصف من نفسه يؤدي حقوق الله عز وجل وحقوق العباد وكلام عمار هذا استنبطه من عموم النصوص ]
@@@ ( مغرب الأحد 8 / 6 / 1414هـ )
فصل
فى هَدْيه صلى الله عليه وسلم فى السلام على الصِبية والنساء
وثبت عنه - صلى اللَّه عليه وسلم - أنه مرَّ بِصبيان، فسلَّم عليهم، ذكره مسلم. وذكر الترمذى فى ((جامعه)) عنه صلى اللَّه عليه وسلم: ((مرَّ يَوْماً بجماعةِ نسوة، فألوى بيده بالتسليم)).(1/38)
[ قال الشيخ ابن باز : الإشارة باليد عند السلام إذا دعت الحاجة لذلك ولكن يسلم بالإشارة مع القول وأما الإكتفاء بالإشارة فلا يصح ]
وقال أبو داود: عن أسماء بنت يزيد: ((مرَّ علينا النبى صلى الله عليه وسلم فى نسوة، فسلَّم علينا))، وهى رواية حديثِ الترمذى، والظاهر أن القصة واحدة وأنه سلَّم عليهن بيده.
[ قال الشيخ ابن باز : هذه الأحاديث الواردة وإن كانت يشد بعضها بعضاً فتكون من باب الحسن لغيره ولكن عموم الأدلة في السلام دالة على شرعية السلام للرجال والنساء مع التحفظ والصيانة وعدم الخلوة ]
وفى ((صحيح البخارى)): أن الصحابه كانوا ينصرِفُونَ مِن الجمعة فيَمُرُّونَ عَلَى عجوز فى طريقهم، فَيُسلِّمونَ عليها، فتُقدِّم لهم طعاماً من أُصول السلق والشًَّعِيرِ.
وهذا هو الصوابُ فى مسألة السلام على النساء: يُسلِّم على العجوز وذواتِ المحارم دونَ غيرهن.
[ قال الشيخ ابن باز : هذا فيه نظر بل يسلم على المحارم وغير المحارم مع مراعاة ما حرم الله من الخلوة ووجوب غض البصر فالصواب السلام على العموم ولها البداءة بالسلام لعموم الأدلة الدالة على أفضلية البداءة بالسلام ]
فصل
فى تسليم الصغير على الكبير والماشى على القاعد
وثبت عنه فى ((صحيح البخارى)) وغيره تسليمُ الصغير على الكبير، والمارِّ على القاعد، والراكب على الماشى، والقليلِ على الكثير.
وفى ((جامع الترمذى)) عنه: يُسلِّم الماشى على القائم.
وفى ((مسند البزار)) عنه: يسلِّم الراكبُ على الماشى، والماشى على القاعِد، والماشيان أيهما بدأ، فهو أفضل.
وفى ((سنن أبى داود)) عنه: ((إنَّ أوْلَى النَّاسِ باللَّهِ مَنْ بَدَأَهُمْ بالسَّلامِ)).
@@@ ( مغرب الأحد 15 / 6 / 1414 هـ )(1/39)
وكان فى هَدْيه صلى اللَّه عليه وسلم السلامُ عند المجئ إلى القوم، والسلامُ عند الانصراف عنهم، وثبت عنه أنه قال: ((إذَا قَعَدَ أحَدُكُمْ، فَلْيُسَلِّمْ، وَإذَا قَامَ، فَلْيُسَلِّمْ، وَلَيْسَتِ الأُولَى أحَقَّ مِنَ الآخِرَةِ)).
وذكر أبو داود عنه: ((إذَا لَقِىَ أحَدُكُمْ صَاحِبَهُ فَلْيُسَلِّم عَلَيْهِ، فَإنْ حَالَ بَيْنَهُمَا شَجَرَةٌ أو جِدَارٌ، ثُمَّ لَقِيَهُ، فَلْيُسَلِّمْ عَلَيْهِ أيْضاً)).
وقال أنس: ((كانَ أصحابُ رَسُولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم يَتَمَاشَوْنَ، فَإذَا اسْتَقْبَلْتَهُم شَجَرَةٌ أَوْ أَكَمَةٌ، تَفَرَّقُوا يَمِيناً وَشِمَالاً، وَإذَا الْتَقَوْا مِنْ وَرَائِهَا، سَلَّمَ بَعْضُهُم عَلَى بَعْضٍ)).
ومن هَدْيه صلى اللَّه عليه وسلم أن الداخِل إلى المسجد يبتدئُ بركعتين تحيةَ المسجد، ثم يجئُ فيُسلِّم على القوم، فتكون تحيةُ المسجد قبلَ تحية أهله، فإن تلك حقُّ اللَّهِ تعالى، والسلامُ على الخلق هو حقٌ لهم، وحقُّ اللَّهِ فى مثل هذا أحقُّ بالتقديم، بخلاف الحقوق المالية، فإن فيها نزاعاً معروفاً، والفرقُ بينهما حاجةُ الآدمى وعدمُ اتساع الحق المالى لأداء الحقين، بخلاف السلام.
وكانت عادةُ القوم معه هكذا، يدخلُ أحدهم المسجدَ، فيُصلى ركعتين، ثم يجئُ، فيسلِّم على النبى صلى الله عليه وسلم، ولهذا جاء فى حديث رفاعة بن رافع أن النبى صلى الله عيه وسلم بَيْنَمَا هُو جَالِس فى المسجدِ يَوْماً قال رِفاعة: ونحن معه إذ جاء رجلٌ كالبدوى، فصلَّى، فأخَفَّ صلاته، ثمَّ انصَرفَ فَسَلَّمَ عَلَى النبىِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ النبىُّ صلى الله عليه وسلم: ((وَعَلَيْكَ فَارْجعْ، فَصَلِّ، فَإنَّكَ لَمْ تُصَلَّ)).. وذكر الحديث فأنكر عليه صلاته، ولم يُنكر عليه تأخيرَ السلام عليه صلى اللَّه عليه وسلم إلى ما بعد الصلاة.(1/40)
وعلى هذا: فيُسَن لداخل المسجد إذا كان فيه جماعة ثلاثُ تحيات مترتبة: أن يقولَ عند دخولِه: بسم اللَّه والصلاةُ على رسول اللَّه. ثم يصلِّى ركعتينِ تحيةَ المسجد، ثم يُسلِّمُ على القوم.
[ قال الشيخ ابن باز : المعانقة تكون حين القدوم من السفر على الأشهر وتكون في الحضر كما كان النبي صلى الله عليه وسلم مع ابنته فاطمة والإكتفاء بالمصافحة أفضل ومثله في الجنازة وحال التوديع وإن عانق فالأمر واسع .
والرافضي والجهمي إذا علم منه ذلك فلا يبدأ بالسلام ولا يرد عليه ، وأهل البدع والمعاصي الظاهرة إذا علم أن في هجره مصلحة فيهجر فلا يتخذ صديقاً وصاحباً وإذا كانت المصلحة له أو للإسلام في عدم هجره فلا يهجر والنبي صلى الله عليه وسلم هجر أقواماً ولم يهجر آخرين ]
فصل
((وكان إذا دخَلَ على أهله باللَّيل، يُسلِّم تسلِيماً لا يُوقِظُ النَّائِمَ، ويُسْمِعُ اليَقْظَانَ)) ذكره مسلم.
@@@ ( مغرب الأحد 22 / 6 / 1414 هـ )
فصل
فى البدء بالسلام قبل الكلام
وذكر الترمذى عنه عليه السلام: ((السَّلامُ قَبْلَ الكَلام)).
وفى لفظ آخر: ((لا تَدْعُوا أحَداً إلى الطَّعَامِ حَتَّى يُسلِّمَ)).
وهذا وإن كان إسناده وما قبله ضعيفاً، فالعمل عليه.
وقد روى أبو أحمد بإسناد أحسن منه من حديث عبد العزيز بن أبى رواد، عن نافع، عن ابن عمر قال: قال رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: ((السَّلامُ قَبْلَ السُّؤالِ، فَمَنْ بَدَأَكُم بالسُّؤَال قَبْلَ السَّلاَمِ، فَلا تُجِيبُوهُ)).
ويُذكر عنه أنه كانَ لا يَأذَنُ لِمَن لَمْ يَبْدأْ بالسَّلامِ، ويُذكر عنه: ((لا تَأْذَنُوا لِمَنْ لَمْ يَبْدأْ بالسَّلامِ)).
[ قال الشيخ ابن باز : العمدة على الأحاديث الصحيحة بأن السنة البداءة بالسلام لما رواه أبو داود بإسناد صحيح ( إن أولى الناس بالله من بدأهم بالسلام ](1/41)
وأجود منها ما رواه الترمذى عن كَلَدَةَ بنْ حَنْبَلٍ، أنَّ صفوان بن أُمية بعثه بِلَبَنٍ وَلَبأ وَجِدَايَةٍ وَضَغَابِيْسَ إلى
النبى صلى الله عليه وسلم والنبىُّ صلى الله عليه وسلم بأعْلَى الوَادِى قَالَ: فَدَخَلْتُ عَلَيّهِ، وَلَمْ أُسَلِّمْ، وَلَمْ أَسْتَأذِنْ، فَقَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم: ((ارْجِعْ فَقُلْ: السَّلامُ عَلَيْكُمْ، أأدْخُلُ))؟، قال: هذا حديث حسن غريب.
وكان إذَا أتى باب قوم، لم يسْتَقْبِل البابَ مِن تلقاء وجهه، ولكن مِن رُكته الأيمن، أو الأَيْسَرِ، فيقول: ((السَّلاَمُ عَلَيْكُم، السَّلامُ عَلَيْكُمْ)).
فصل
وكان يُسلِّم بنفسه على مَن يُواجهه، ويُحَمِّلُ السَّلامَ لمن يُريد السَّلام عليه مِن الغائبين عنه، ويتحمَّل السلامَ لمن يبلِّغه إليه، كما تحمَّل السلام مِن اللَّه عَزَّ وجَلَّ على صِّدِّيقةِ النساء خديجةَ بنت خويلد رضى اللَّه عنها لما قال له جبريلُ: ((هَذِهِ خَدِيجَةُ قَدْ أتَتْكَ بِطَعَامٍ، فَاقْرَأْ [عَلَيْهَا] السَّلامَ مِنْ ربِّهَا)) [ومِنِّى] وَبَشِّرْهَا بِبَيْتٍ فى الجَنَّةِ)).
وقال للصِّدِّيقة الثانية بنت الصِّديق عائشةَ رضى اللَّه عنها: ((هَذَا جِبْرِيلُ يَقْرَأْ عَلَيْكِ السَّلامَ)) فَقَالَتْ: وَعَلَيْهِ السَّلامُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُه، يَرَى مَا لاَ أرَى.
[ قال الشيخ ابن باز : من السنة تحمل السلام إن تيسر وإن لم يتيسر يقول ( إن شاء الله ) ]
فصل
فى انتهاء السلام إلى:(وبركاته)(1/42)
وكان هديُه انتهاء السلام إلى: ((وبركاتُهُ))، فذكر النَّسائى عنه ((أن رجلاً جاء فقال: السَّلامُ عليكم، فَرَدَّ عَلَيْهِ النبىُّ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ: ((عَشْرَةٌ)) ثُمَّ جلس، ثم جَاءَ آخَرُ، فَقَالَ: السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ، فَرَدَّ عَلَيْهِ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ: ((عِشْرُونَ)) ثُمَّ جَلَسَ وَجَاءَ آخَرُ، فَقَالَ: السَّلامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّه وبَرَكَاتُه، فَرَدَّ عَلَيْهِ رسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم، وَقَالَ: ((ثَلاثُونَ)) رواهُ النَّسائى، والترمذى من حديث عمران بن حصين، وحسَّنه.
وذكره أبو داود من حديثِ معاذِ بن أنسِ، وزاد فيه: ((ثُمَّ أتى آخَرُ فَقَالَ: السَّلامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ وَمَغْفِرَتُهُ، فَقَالَ: ((أرْبًَعُونَ)) فقَالَ: هكذَا تكُونُ الفَضَائِلُ)). ولا يثبت هذا الحديثُ، فإن له ثلاث علل: إحداها: أنه من رواية أبى مرحوم عبد الرحيم بن ميمون، ولا يُحتج به. الثانية: أن فيه أيضاً سهلَ بن معاذ وهو أيضا كذلك، الثالثة: أن سعيد بن أبى مريم أحدَ رواته لم يجزم بالرواية بل قال: أظنُّ أنى سمعتُ نافع بن يزيد.
وأضعفُ مِن هذَا الحديثُ الآخر عن أنس: كان رجل يمُر بالنبىِّ صلى الله عليه وسلم يقول: السَّلامُ عَلَيْكَ يا رسول اللَّه، فيقولُ له النبىُ صَلى الله عَليه وسلم: ((وَعَلَيْكَ السَّلامُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُه وَمَغْفِرَتُه وَرضْوَانُه)) فقيل له: يا رسول اللَّه ؛ تُسَلِّم على هذا سلاماً ما تُسلِّمه على أحدٍ من أصحابك؟ فقال: ((ومَا يَمْنَعُنى مِنْ ذلِكَ، وَهُوَ يَنْصَرِفُ بِأَجْرِ بِضْعَةَ عَشَرَ رَجُلاً))، وكَانَ يَرْعَى عَلَى أصْحَابِهِ.(1/43)
[ قال الشيخ ابن باز : السنة الإنتهاء في السلام على ( وبركاته ) وجاء في بعض الروايات ( ومغفرته ) وفي سنده نظر فالسنة الوقوف عند وبركاته ومغفرته زيادة غير صحيحة وإن زاد كيف حالك كيف أخبارك فلا بأس ]
@@@ ( مغرب الأحد 29 / 6 / 1414هـ )
فصل
وكان من هَدْيه صلى اللَّه عليه وسلم أن يُسلِّمَ ثلاثاً كما فى ((صحيح البخارى)) عن أنس رضى اللَّه عنهُ قال: كانَ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم ((إذَا تَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ أعَادَهَا ثَلاثاً حَتَّى تُفْهَمَ عَنْهُ، وَإذَا أتَى عَلَى قَوْمٍ فَسَلَّمَ عَلَيْهِمُ سَلَّمَ ثَلاثاً))، ولعل هذا كان هَدْيَه فى السلام على الجمع الكثير الذين لا يبلغُهم سلام واحد، أو هَدْيَه فى إسماع السلام الثانى والثالث، إن ظنَّ أن الأولَ لم يحصُل به الإسماع كما سلَّم لما انتهى إلى منزل سعد بن عُبادة ثلاثاً، فلما لم يُجبه أحد رجع، وإلا فلو كان هَدْيُه الدائمُ التسليمَ ثلاثاً لكان أصحابُه يُسلِّمونَ عليه كذلك، وكان يُسلِّمُ على كُلِّ مَن لقيه ثلاثاَ، وإذا دخل بيته ثلاثاً، ومَن تأمل هَدْيَه، علِم أن الأمر ليس كذلك، وأنَّ تكرار السلامِ كان منه أمراً عارضاً فى بعض الأحيان، واللَّه أعلم.
[ قال الشيخ ابن باز : تسليمه صلى الله عليه وسلم ثلاثاُ عند الحاجة إلى ذلك كالاستئذان أو كان يسلم على قوم كثيرين فظن أنه لم يبلغهم الأولى والثانية فيسلم الثالثة ]
فصل
فى بدئه مَن لقيه بالسلام والرد على التحية بمثلها أو أفضل منها
[ قال الشيخ ابن باز : ينبغي للمسلم أن يكون متواضعاً فيسلم على من لقي وعليه أن يتحرى السنة حتى ينشرها وحتى يتحبب إلى الناس والقول بوجوب السلام على الأصل في الأوامر ليس ببعيد ولكن المشهور عند أهل العلم أن ابتداء السلام سنة ورده واجب ](1/44)
وكان يبدأ مَن لقيه بالسلام، وإذا سلَّم عليه أحدٌ، ردَّ عليهِ مِثلَ تحيته أو أفضلَ منها على الفور من غير تأخير، إلا لِعذر، مثل حالة الصلاة، وحالة قضاء الحاجة.
وكان يُسمِعُ المسلم ردَّهُ عليه، ولم يكن يَرُدُّ بيده ولا رأسه ولا أصبعه إلا فى الصلاة، فإنه كان يرد على مَن سلَّم عليه إشارة، ثبتَ ذلك عنه فى عدة أحاديث، ولم يجئ عنه ما يعارضها إلا بشئ باطل لا يصح عنه كحديث يرويه أبو غطفان - رجل مجهول - عن أبى هريرة عنه صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ أَشَارَ فى صَلاَتِهِ إشَارَةً تُفْهمُ عَنْهُ، فَلْيُعِدْ صَلاتَهُ)) قال الدارقطنى: قال لنا ابن أبى داود: أبو غطفان هذا رجل مجهول، والصحيح عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه كان يُشير فى الصلاة، رواه أنس وجابر وغيرهما عن النبى صلى الله عليه وسلم.
[ قال الشيخ ابن باز : الأبكم والمصلى يسلم بالإشارة وكذا البعيد يسلم بالإشارة مع التلفظ بالسلام ]
فصل
وكان هَدْيه فى ابتداء السلام أن يقول: ((السَّلامُ عَلَيْكُم وَرَحْمَةُ اللَّهِ))، وكان يكره أن يقول المبتدئ: عليك السلام.
قال أبو جُرَىَّ الهُجيمىُّ: أتيتُ النبىَّ صلى الله عليه وسلم فَقُلْتُ: عَلَيكَ السَّلاَمُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ: ((لا تَقُلْ عَلَيْكَ السَّلامُ، فَإنَّ عَلَيْكَ السَّلامُ تَحيةُ المَوْتَى)) حديث صحيح.
[ قال الشيخ ابن باز : الحديث إما شاذ ضعيف وإن كان سنده صحيحاً لمخالفته الأحاديث الصحيحة في تحية الموتي ( السلام عليكم ) وهذا هو الأقرب وإما أن يقال إنه صحيح فتكون تحية الموتى بـ ( السلام عليكم وعليكم السلام ) ولكن تحية الموتى بالسلام عليكم أفضل ، والوجه الأول أقرب ](1/45)
وقد أشكل هذا الحديثُ على طائفة، وظنُّوهُ معارضاً لما ثبت عنه صلى اللَّه عليه وسلم فى السلام على الأموات بلفظ: ((السَّلامُ عَلَيْكُم)) بتقديم السلام، فظنوا أن قوله: ((فإن عليكَ السلام تَحيَّةُ المَوْتَى)) إخبار عن المشروع، وغلِطُوا فى ذلك غلطاً أوجب لهم ظَنَّ التعارض، وإنما معنى قوله: ((فإنَّ عَلَيْكَ السَّلامُ تَحيَّةُ المَوْتَى)) إخبار عن الواقع، لا المشروعُ، أى: إن الشعراء وغيرَهم يحيُّون الموتى بهذه اللفظة، كقول قائلهم:
عَلَيْكَ سَلاَمُ اللَّهِ قَيْسَ بْنَ عَاصِمٍ وَرَحْمَتُهُ مَا شَاءَ أنْ يَتَرحَّمَا
فَمَا كَانَ قَيْسُ هُلْكُه هُلْكَ واحِدٍ وَلَكنَّهُ بُنْيَانُ قَوْمٍ تهدَّمَا
فكره النبىُّ صلى الله عليه وسلم أن يُحيَّى بتحية الأموات، ومِن كراهته لذلك لم يردَّ على المسلِّم بها.
وكان يردُّ على المُسلِّمِ: ((وَعَلَيْكَ السَّلامُ)) بالواو، وبتقديم ((عَلَيْكَ)) على لفظ السلام.
@@@ ( مغرب الأحد 20 / 7 / 1414هـ
وتكلم الناسُ هاهنا فى مسألة، وهى لو حذف الرادُّ ((الواو)) فقالَ: ((عَلَيْكَ السَّلاَمُ)) هَلْ يكونُ صحيحاً؟ فقالت طائفة منهم المتولى وغيرُه: لا يكون جواباً، ولا يسقط به فرضُ الردِّ، لأنه مخالِف لسُنَّة الردِّ، ولأنه لا يُعلم: هل هو رد، أو ابتداء تحية؟ فإن صورته صالحة لهما، ولأن النبى صلى الله عليه وسلم قال: ((إذَا سَلَّمَ عَلَيْكُم أَهْلُ الكِتَابِ، فَقُولُوا: ((وعَلَيْكُم)) فهذا تنبيهٌ منه على وجوب الردِّ على أهلِ الإسلام، فإن ((الواو)) فى مثل هذا الكلام تقتضى تقريرَ الأول، وإثبات الثانى، فإذا أُمِرَ بالواو فى الرد على أهل الكتاب الذين يقولون: السام عليكم، فقالَ: ((إذَا سَلَّمَ عَلَيْكُم أهْلُ الكِتَابِ، فَقُولُوا: وعَلَيْكُم)) فَذِكْرُها فى الردِّ على المسلمين أولى وأحرى.(1/46)
وذهبت طائفة أخرى إلى أن ذلك ردٌ صحيح، كما لو كان بالواو، ونص عليه الشافعى رحمه اللَّه فى كتابه الكبير، واحتج لهذا القول بقوله تعالى: {هَلْ أتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إبْرَاهِيمَ المُكْرَمِينَ * إذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلاَماً} [الذاريات: 24-25]، قَالَ سَلامٌ أى: سلام عليكم، لا بد من هذا، ولكن حسُنَ الحذفُ فى الرد، لأجل الحذف فى الابتداء، واحتجوا بما فى ((الصحيحين)) عن أبى هريرة عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: ((خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ طُولُهُ سِتُّونَ ذِرَاعاً، فَلَمَّا خَلَقَهُ، قَالَ لَهُ: اذْهَبْ فَسَلِّم عَلَى أُولَئِكَ النَّفَر مِن المَلائِكَةِ، فَاسْتَمِعْ مَا يُحَيُّونَكَ، فَإنَّهَا تَحِيَّتُكَ وَتَحِيَّةُ ذُرِّيَّتِكَ، فقَالَ: السَّلامُ عَلَيْكُم فَقَالُوا: السَّلامُ عَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللَّه، فَزَادُوهُ: ((وَرَحْمَةُ اللَّهِ)). فقد أخبرَ النبىُّ صلى الله عليه وسلم أن هذه تحيتُهُ وتحيةُ ذُرِّيته، قالوا: ولأن المسلَّم عَلَيْهِ مَأْمُورٌ أن يُحيِّى المُسلِّمَ بمثل تحيته عدلاً، وبأحسنَ منها فضلاً، فإذا ردَّ عليه بمثل سلامه، كان قد أتى بالعدلِ.
[ قال الشيخ ابن باز : السنة إثبات الواو وهو الأكمل وإن حذفها فلا بأس وجاء بها الروايات . ]
وأما قوله: ((إذَا سَلَّمَ عَلَيْكُمْ أَهْلُ الكِتَابِ فَقُولُوا: وَعَلَيْكُم))، فهذا الحديثُ قد اختُلِفَ فى لفظة ((الواو)) فيه، فروى على ثلاثة أوجه، أحدها: بالواو، قال أبو داود: كذلك رواه مالك عن عبد اللَّه بن دينار، ورواه الثورى عن عبد اللَّه بن دينار، فقال فيه: ((فعليكم))، وحديث سفيان فى ((الصحيحين)) ورواه النسائى من حديث ابن عُيينة عن عبد اللَّه بن دينار بإسقاط ((الواو))، وفى لفظ لمسلم والنسائى: فقل: ((عليك)) - بغير واو.(1/47)
وقال الخطابى: عامةُ المحدِّثين يروونه: ((وعليكم)) بالواو، وكان سفيان ابن عيينة يرويه: ((عليكم)) بحذف الواو، وهو الصوابُ، وذلك أنه إذا حذف الواو، صار قولهم الذى قالوه بعينه مردوداً عليهم، وبإدخال الواو يقع الاشتراك معهم، والدخول فيما قالوا، لأن الواو حرفٌ للعطف والاجتماع بين الشيئين... انتهى كلامه.
[ قال الشيخ ابن باز : إذا زاد الكافر السلام كاملاً فلا يرد عليهم إلا بقوله ( وعليكم ) فقط ولا يزيد ]
وما ذكره من أمر الواو ليس بمشكل، فإن ((السَّام)) الأكثرون على أنه الموت، والمسلِّم والمسلَّم عليه مشتركون فيه، فيكون فى الإتيان بالواو بيانٌ لعدم الاختصاص، وإثبات المشاركة، وفى حذفِهَا إشعار بأن المسلِّم أحقُّ به وأولى من المسلَّم عليه وعلى هذا فيكون الإتيانُ بالواو هو الصواب، وهو أحسنُ من حذفها، كما رواه مالك وغيرُهُ، ولكن قد فُسِّر السَّام بالسآمة، وهى الملالة وسآمة الدين، قالوا: وعلى هذا فالوجه حذف الواو ولا بدَّ، ولكن هذا خلافُ المعروف من هذه اللفظة فى اللغة، ولهذا جاء فى الحديث: ((إنَّ الحَبَّةَ السَّوْدَاءَ شِفَاءٌ مِنْ كُلِّ دَاءٍ إلاَّ السَّامَ)) ولا يختلفون أنه الموت، وقد ذهب بعض المُتحذلقين إلى أنه يرد عليهم السِّلام - بكسر السين - وهى الحجارة، جمع سِلَمة، وردُّ هذا الرَّدُّ متعيَّن.
[ قال الشيخ ابن باز : ( السام ) بالتخفيف ]
فصل
فى هَدْيه صلى الله عليه وسلم فى السلام على أهلِ الكِتاب(1/48)
صَحَّ عنه صلى اللَّه عليه وسلم أنَّه قال: ((لا تَبْدَؤوهُمْ بِالسَّلامِ، وَإذَا لَقيتُموهُمْ فى الطَّرِيقِ، فاضْطَّروهُمْ إلَى أضْيَقِ الطَّرِيقِ))، لكن قَد قِيل: إن هذا كان فى قضيةٍ خاصةٍ لمَّا سارُوا إلى بنى قُريظة قال: ((لاَ تَبْدَؤوهُمْ بالسَّلام)) فهل هذا حُكْمٌ عام لأهْلِ الذمّة مطلقاً، أو يختَصُّ بِمَنْ كانَتْ حالُه بمثل حالِ أولئك؟ هذا موضِعُ نظر، ولكن قد روى مسلم فى ((صحيحه)) من حديث أبى هُريرة أن النبىَّ صلى الله عليه وسلم قال: ((لاَ تَبْدَؤوا اليَهُودَ وَلاَ النَّصَارَى بالسَّلامِ، وَإذَا لَقِيْتُم أحَدَهُم فى الطَّريق، فَاضْطَرُّوهُ إلى أَضْيَقِهِ)) والظَّاهر أن هذا حكم عام.
وقد اختلف السَلَفُ والخَلَفُ فى ذلك، فقال أكثرُهم: لا يُبدؤون بالسلام، وذهب آخرون إلى جواز ابتدائهم كما يُردُّ عليهم، رُوى ذلك عن ابن عباس، وأبى أُمامة، وابْنِ مُحَيْرِيز، وهو وجه فى مذهب الشافعى رحمه اللَّه، لكن صاحبُ هذا الوجه قال: يُقال له: السَّلامُ عَلَيْكَ، فقط بدونِ ذكر الرحمة، وبلفظ الإفراد، وقالت طائفة: يجوزُ الابتداءُ لِمصلحة راجحة مِن حاجة تكون له إليه، أو خوف مِن أذاه، أو لِقرابةٍ بينهما، أو لِسببٍ يقتضِى ذلك، يُروى ذلك عن إبراهيم النَّخعى، وعلقمَة. وقال الأوزاعىُّ: إن سلَّمْتَ، فقد سلَّمَ الصالحونَ، وإن تركتَ، فقد ترك الصَّالِحون.
[ قال الشيخ ابن باز : الصواب عموم السنة فلا يخرج عنها فإذا عرف أنه كافر فلا يبدؤه بالسلام فإن سلم الكافر فإنه يرد عليه وإن لم يعرف من يقابله فإنه يسلم لحديث ( تقرئ السلام على من عرفت ومن لم تعرف ) ولا وجه لأي قول يخالف صريح السنة إذا وردت وإما إذا لم يرد في السنة شيء فهو محل اجتهاد ](1/49)
واختلفوا فى وجوب الرد عليهم، فالجمهورُ على وجوبه، وهو الصوابُ، وقالت طائفة: لا يجبُ الردُّ عليهم، كما لا يجبُ على أهل البدع وأولى، والصواب الأول، والفرق أنَّا مأمورون بهجر أهلِ البدع تعزيراً لهم، وتحذيراً منهم، بخلاف أهل الذمة.
[ قال الشيخ ابن باز : الصواب هو الرد عليهم وأما أهل البدع فيهجرون تعزيراًُ لفعل النبي صلى الله عليه وسلم مع كعب بن مالك ]
@@@ ( مغرب الأحد 5 / 8 / 1414هـ )
فصل
وثبت عنه - صلى اللَّه عليه وسلم - أنه مرَّ على مجلس فيه أخلاطٌ مِن المُسْلِمِينَ، والمُشْرِكِينَ عَبَدَةِ الأَوْثَانِ، واليَهُودِ، فَسَلَّم عليْهم.
[ قال الشيخ ابن باز : وهذا هو السنة إذا كان في المجلس أخلاط ويقصد المسلمين ]
وصحّ عنه أنه كتب إلى هِرَقلَ وَغَيْرِهِ: ((السَّلامُ على مَنِ اتَّبَعَ الهُدَى)).
[ قال الشيخ ابن باز : لأنه لا يبدأ الكافر بالسلام ]
فصل
فى هل يجزئ عن الجماعة إذا مروا أن يُسلِّم أحدهم
ويُذكُر عنه - صلى اللَّه عليه وسلم - أنه قال: ((يُجْزِىءُ عَنِ الجَمَاعَةِ إذَا مَرُّوا أنْ يُسَلِّمَ أَحَدُهُم، وَيُجْزِىءُ عَن الجُلُوسِ أنْ يَرُدَّ أحَدُهُم)) فذهب إلى هذا الحديثِ مَنْ قال: إن الردَّ فرضُ كِفاية يقومُ فيه الواحدُ مقام الجميع، لكن ما أحسنه لو كان ثابتاً، فإن هذا الحديث رواه أبو داودَ مِن رواية سعيد بن خالد الخزاعى المدنى، قال أبو زرعة الرازى: مدنى ضعيف، وقال أبو حاتم الرازى: ضعيف الحديث، وقال البخارى: فيه نظر. وقال الدارقطنى: ليس بالقوى.
[ قال الشيخ ابن باز : لكن إذا سلموا جميعاً كان أكمل ]
فصل
فى هَدْيه إذ بلَّغه أحد السلام عن غيره أن يرد عليه وعلى المبلِّغ(1/50)
وكان من هَدْيه - صلى اللَّه عليه وسلم - إذا بلَّغَهُ أحدٌ السلامَ عن غيره أن يردَّ عليه وعلى المبلِّغ، كما فى ((السنن)) أن رجلاً قال له: إنَّ أبى يُقْرِئُكَ السَّلامَ، فَقَالَ لهُ: ((عَلَيْكَ وَعَلَى أبِيكَ السَّلامَ)).
[ قال الشيخ ابن باز : وهذا وإن كان فيه مجهول إلا أنه يتقوى بالمرسل وهو من مكارم الأخلاق ]
وكان من هَدْيه تركُ السَّلام ابتداءً ورَداً على مَن أحدث حدثاً حتى يتوبَ منه، كما هجر كعبَ بنَ مالك وصاحبَيْه، وكان كعب يُسلِّم عليه، ولا يَدرى هَلْ حَرَّكَ شَفتيه بردِّ السَّلامِ عَلَيْهِ أم لا؟.
[ قال الشيخ ابن باز : وهذا من باب التأديب للعاصي والمجاهر والمبتدع ]
وسلَّم عليه عمارُ بنُ ياسرٍ، وقد خَلَّقه أهلُهُ بزَعفران، فلم يردَّ عليه، فقال: ((اذْهبْ فاغْسِلْ هَذَا عَنْكَ)).
وهجر زينب بنت جحش شهرين وبعضَ الثالث لمَّا قال لها: ((أعْطِى صفيَّة ظهَراً)) لما اعتلَّ بعيرُها، فَقَالت: أنَا أعْطِى تِلْكَ اليهودِيَّةَ؟، ذكرهما أبو داود.
[ قال الشيخ ابن باز : والأقرب عدم صحته ولا يظن بزينب أن يقع هذا الفعل منها فالأظهر أنه غلط من سمية البصرية ]
@@@ ( مغرب الأحد 15 / 10 / 1414هـ )
فصل
في هَدْيه صلى الله عليه وسلم في الاستئذان
وصحَّ عنه - صلى اللَّه عليه وسلم - أنه قال: ((الاسْتِئذَانُ ثَلاَثٌ، فَإنْ أُذِنَ لَكَ وَإلاَّ فارْجِعْ)).
وصحَّ عنه - صلى اللَّه عليه وسلم - أنه قال: ((إنَّمَا جُعِلَ الاسْتِئْذَانُ مِنْ أجْلِ البَصَر)).
وصحَّ عنه - صلى اللَّه عليه وسلم - أنه أراد أن يفَقَأ عَيْنَ الذي نَظَر إلَيْهِ مِنْ جُحْرٍ في حجرته، وقال: ((إنَّمَا جُعِلَ الاسْتِئْذَانُ مِنْ أجْلِ البَصَر)).
وصحَّ عنه أنه قال: ((لَوْ أنَّ امْرءاً اطَّلَعَ عَلَيْكَ بِغَيْرِ إذْنٍ، فَخَذَفْتَهُ بِحَصَاةٍ فَفَقَأْتَ عَيْنَهُ، لَمْ يَكُنْ عَلَيْكَ جُنَاحٌ)).(1/51)
وصحَّ عنه أنه قال: ((مَنِ اطَّلَعَ عَلَى قَوْمٍ في بَيْتِهِمْ بِغَيْرِ إذْنِهِم، فَقَدْ حَلَّ لَهُمْ أنْ يَفْقَؤوا عَيْنَهُ)).
وصحَّ عنه أنه قال: ((مَنِ اطَّلَعَ في بَيْتِ قَوْمٍ بِغَيْرِ إذْنِهِمْ، فَفَقَؤوا عَيْنَهُ، فلاَ دِيةَ لَهُ، ولا قِصَاصَ)).
وصح عنه: التسليمُ قبل الاستئذان فعلاً وتعليماً، واستأذن عليه رجلٌ، فقالَ: أَأَلِجُ؟ فقال رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم لِرَجُلٍ: ((اخْرُجْ إلى هَذَا، فَعَلِّمْهُ الاسْتِئْذَان))، فَقَالَ لَهُ: قل: السَّلامُ عَلَيْكُمْ، أَأَدْخُل؟ فسمعه الرَّجُلُ، فَقَالَ: السَّلامُ عَلَيْكُم، أَأَدْخُلُ؟ فَأَذِنَ له النبي صلى الله عليه وسلم فَدَخَلَ.
[ قال الشيخ ابن باز : أنكر عليه لأنه ترك اللفظ الشرعي في الاستئذان وهو السلام . وإذا كان فتح الباب دليل على الإذن فهنا لا يحتاج إلى الاستئذان ]
ولمَّا اسْتَأْذَنَ عليه عُمَرُ رَضِىَ اللَّه عنه، وهو فى مَشْرُبِتَهِ مُؤلِياً مِنْ نِسَائِهِ، قال: السَّلامُ عَلَيْكَ يَا رسول اللَّه، السَّلامُ عليكم، أيَدْخُلُ عُمَرُ؟.
وقد تقدَّم قولهُ - صلى اللَّه عليه وسلم - لِكَلَدَةَ بْنِ حَنْبَل لما دخل عليه ولم يُسلِّم: ((ارْجعْ فَقُلْ: السَّلامُ عَلَيْكُم أَأَدْخُل))؟.
وفى هذه السنن ردٌ على مَن قال: يُقدَّمُ الاستئذان على السلام، وردٌ على مَن قال: إن وقعت عينُه على صاحب المنزل قبل دخوله، بدأ بالسَّلام، وإن لم تقع عينه عليه، بدأ بالاستئذان، والقولان، مخالفان للسُّنَّة.
وكان من هَدْيه - صلى اللَّه عليه وسلم - إذا استأذَنَ ثلاثاً ولم يُؤذن له، انصرف، وهو ردٌ على مَن يقول: إن ظنَّ أنهم لم يسمعوا، زاد على الثلاث، وردٌ على مَن قال: يُعيدُهُ بلفظٍ آخر، والقولان مخالفان للسُّنَّة.(1/52)
[ قال الشيخ ابن باز : إذا كان يعلم أن محلهم بعيد فإن له أن يزيد على الثلاث أما إذا غلب على ظنه أنهم يسمعون فلا يزيد على الثلاث . وهذه الأجراس للاستئذان والمنهي عنه هي الأجراس المعلقة على الدواب ]
فصل
فى المستأذِن كيف يرد إذا سُئِل عن اسمه
وكان من هَدْيه أن المستأذِنَ إذا قِيلَ له: مَنْ أنْتَ؟ يقول: فلانُ بنُ فلان، أو يذكر كُنيته، أو لَقبه، ولا يقول: أنا، كما قال جِبْرِيلُ للملائكة فى ليلة المعراج لما استفتح بابَ السماء فسألوه: مَنْ؟ فقال: جِبريلُ، واستمر ذلك فى كل سماء سماء.
وكذلك فى ((الصحيحين)) لما جَلَس النبى صلى الله عليه وسلم فى البُسْتَان، وجاء أبو بكر رضى اللَّه عنه، فاستأذن فقال: ((مَن))؟ قال: أبو بكر، ثم جاء عمر، فاستأذنَ فقالَ: ((مَن))؟ قال: عمر، ثم عثمانُ كذلك.
وفى ((الصحيحين))، عن جابر: أتيتُ النبى صلى الله عليه وسلم، فدققتُ البابَ فقال: ((مَن ذا))؟ فقلت: أنَا، فَقَالَ: ((أنَا أنَا))، كَأَنَّهُ كَرِهَهَا.
ولما استأذنت أُمُّ هانئ، قال لها: ((مَنْ هذِهِ))؟ قالت: أُمُّ هانئ، فلم يكره ذِكرها الكُنية، وكذلك لما قال لأبى ذر: ((مَنْ هَذَا))؟ قَالَ: أَبُو ذر، وكذلك لما قال لأبى قتادة: ((مَنْ هَذَا))؟ قال: أبو قتادة.
[ قال الشيخ ابن باز : دل على أنه إذا قال أبو فلان صار جواباً ]
@@@ ( مغرب الأحد 22 / 10 / 1414 هـ )
فصل
فى أن رسول الرجل إلى الرجل إذن له(1/53)
وقد روى أبو داود عنه - صلى اللَّه عليه وسلم - من حديث قتادة، عن أبى رافع، عن أبى هُريرة: ((رَسُولُ الرَّجُلُ إلَى الرَّجُلِ إذْنُه)). وفى لفظ: ((إذَا دُعِىَ أحَدُكُم إلى طَعَامٍ، ثُمَّ جَاءَ مَعَ الرَّسُولِ، فَإنَّ ذلِكَ إذْنٌ لَهُ. وهذا الحديث فيه مقال، قال أبو على اللؤلؤى: سمعتُ أبا داود يقول: قتادة لم يسمع من أبى رافع. وقال البخارى فى ((صحيحه)): وقال سعيد: عن قتادة، عن أبى رافع، عن أبى هريرة، عن النبى صلى الله عليه وسلم: ((هو إذنه))، فذكره تعليقاً لأجل الانقطاع فى إسناده.
وذكر البخارى فى هذا الباب حديثاً يدلُّ على أن اعتبار الاستئذان بعد الدعوة، وهو حديثُ مجاهد عن أبى هريرة: دخلتُ مع النبى صلى الله عليه وسلم، فوجدتُ لبناً فى قدح، فقال: ((اذْهَبْ إلى أهْلِ الصُّفّةِ، فادْعهُمُ إلىَّ)) قال: فَأَتَيْتُهم، فدعوتُهم، فأقبلوا، فاستأذنوا، فأذن لهم، فدخَلُوا. وقد قالت طائفةٌ: بأن الحديثين على حالين، فإن جاء الداعى على الفور مِن غير تراخ، لم يحتج إلى استئذان، وإن تراخى مجيئه عن الدعوة، وطال الوقتُ، احتاجَ إلى استئذان.
وقال آخرون: إن كان عند الداعى مَن قد أذِنَ له قبل مجئ المدعو، لم يحتج إلى استئذان آخر، وإن لم يكن عنده مَن قد أذِنَ له، لم يدخل حتى يستأذن.
[ قال الشيخ ابن باز : إذا كان المكان مهيئاً لدخوله فلا يحتاج للاستئذان وأما إذا لم يكن مهيئاً احتاج إلى الاستئذان وهذه أمور يحكمها العرف ]
وكان رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم، إذا دخل إلى مَكَان يُحب الانفراد فيه، أمَرَ مَن يُمْسِكُ البابَ، فلم يَدخلْ عليه أحد إلا بإذن.(1/54)
[ قال الشيخ ابن باز : حديث أبي موسى - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل حائطاً وأمره أن يحفظ الباب- لم يأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بإمساك الباب ولكنه هو الذي فعل ذلك فلعله يؤخذ من إقرار النبي صلى الله عليه وسلم له وإذا كان فيه رواية ( فأمره أن يحفظ الباب فتكون صريحة وحديث نافع بن عبد الحارث شاهد له ]
فصل
فى الاستئذان الذى أمر الله به المماليكَ ومَن لم يبلغ الحُلُم
وأما الاستئذانُ الذى أمر اللَّه به المماليكَ، ومَنْ لم يَبْلُغِ الحُلُمَ، فى العوراتِ الثلاثِ: قبلَ الفجر، ووقتَ الظهيرة، وعند النوم، فكان ابنُ عباس يأمرُ به، ويقول: ترك الناسُ العملَ بها، فقالت طائفة: الآيةُ منسوخة، ولم تأتِ بحُجة، وقال طائفة: أمرُ ندبٍ وإرشاد، لا حتم وإيجاب، وليس معها ما يدل على صرف الأمر عن ظاهره، وقالت طائفة: المأمور بذلك النساءُ خاصة، وأما الرجالُ، فيستأذِنون فى جميع الأوقات، وهذا ظاهرُ البطلان، فإن جمع ((الذين)) لا يختص به المؤنث، وإن جاز إطلاقُه عليهن مع الذكور تغليباً. وقالت طائفة عكس هذا: إن المأمورَ بذلك الرجال دون النساء، نظراً إلى لفظ: ((الذين)) فى الموضعين، ولكن سياقُ الآية يأباه فتأمله.(1/55)
وقالت طائفة: كان الأمرُ بالاستئذان فى ذلك الوقت للحاجة، ثم زالت، والحكمُ إذا ثبت بعلَّةٍ زال بزوالها، فروى أبو داود فى ((سننه)) أن نفراً من أهل العراق قالوا لابن عباس: يا ابن عباس، كيف ترى هذه الآية التى أُمِرْنَا فيها بِمَا أُمِرْنَا، ولا يَعملُ بها أحدٌ: {يَأيُّها الَّذِينَ آمَنُواْ لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ... } [النور: 58] الآية. فقال ابنُ عباس: إن اللَّه حَكيمٌ رحيمٌ بالمؤمنين، يُحِبُّ السِّتْرَ، وكان الناسُ ليسَ لِبيُوتهم سُتُور ولا حِجَال، فربمَا دخلَ الخادِمُ، أو الولدُ أو يتيمُة الرجل، والرجلُ على أهله، فأمرهم اللَّهُ بالاستئذان فى تلك العَوَرَاتِ، فجاءهم اللَّهُ بالسُّتُور والخير، فلم أر أحداً يَعْمَلُ بذلك بَعْدُ.
وقد أنكر بعضُهم ثبوتَ هذا عن ابن عباس، وطعن فى عِكرمة، ولم يصنع شيئاً، وطعن فى عَمْرو بن أبى عمرو مولى المطلب، وقد احتج به صاحبا الصحيح، فإنكارُ هذا تعنُّت واستبعاد لا وجه له.
وقالت طائفة: الآية محكمة عامة لا مُعارِضَ لها ولا دافع، والعملُ بها واجب، وإن تركه أكثرُ الناس.
والصحيح: أنه إن كان هناك ما يقوم مقامَ الاستئذانِ من فتح باب فتحُه دليل على الدخول، أو رفع ستر، أو تردُّد الداخل والخارج ونحوه، أغنى ذلك عن الاستئذان، وإن لم يكن ما يقومُ مقامه، فلا بُد منه، والحكم معلَّلٌ بعلَّة قد أشارت إليها الآية، فإذا وُجِدَتْ، وُجِدَ الحكمُ، وإذا انتفت انتفى. واللَّه أعلم.
[ قال الشيخ ابن باز : الاستئذان يكون عند الحاجة وعدم وجود بينة تدل على الإذن بالدخول والخروج فإذا وجدت أغنى ذلك عن الاستئذان كما قال المؤلف ويراعى في ذلك قرائن الأحوال وعرف كل أحد ]
@@@ ( مغرب الأحد 29 / 10 / 1414 هـ )
فصل
فى هَدْيه صلى الله عليه وسلم فى أذكار العطاس(1/56)
ثبت عنه صلى اللَّه عليه وسلم: ((إنَّ اللَّه يُحِبُّ العُطَاسَ، وَيَكْرَهُ التَّثَاؤبَ، فَإذَا عَطَسَ أَحَدُكُم وَحَمِدَ اللَّه، كَانَ حَقّاً عَلَى كُلِّ مُسْلِم سَمِعَهُ أنْ يَقُولَ لَهُ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ، وأمَّا التَّثَاؤُبُ، فإنَّمَا هُوَ مِنَ الشَّيْطَانِ، فَإذَا تَثَاءَبَ أحدُكُم، فَلْيَرُدَّهُ مَا اسْتَطَاعَ، فَإنَّ أَحَدَكُم إذَا تَثَاءَبَ، ضَحِكَ مِنْهُ الشَّيْطَانُ)) ذكره البخارى.
وثبت عنه فى ((صحيحه)): ((إذا عَطَسَ أَحَدُكُم فَلْيَقُلْ: الحَمْدُ لِلَّهِ، وَلْيَقُلْ لَهُ أَخُوهُ أَوْ صَاحِبُهُ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ، فَإذَا قَالَ لَهُ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ، فَلْيَقُل: يَهْدِيكُم اللَّهُ وَيُصْلِحُ بَالَكُم)).
وفى ((الصحيحين)) عن أنس: ((أنه عَطَسَ عِنْدَهُ رَجُلانِ، فشمَّتَ أحَدَهُمَا، ولم يُشمِّتِ الآخَر، فَقَالَ الَّذى لم يُشَمِّتْهُ: عَطَسَ فُلانٌ فَشَمَّتَّهُ، وَعَطَسْتُ، فَلَمْ تُشَمِّتْنِى، فَقَالَ: ((هَذَا حَمِدَ اللَّهَ، وأنْتَ لَمْ تَحْمَدِ اللَّه)).
[ قال الشيخ ابن باز : من لم يحمد الله فلا يشمت وإن ذكره من عنده فهو من باب التعاون على الخير لحديث ( من دل على خير فله مثل أجر فاعله ) وترك الرسول صلى الله عليه وسلم التشميت لكي يسأل ويستفيد الحاضرون ]
وثبت عنه فى ((صحيح مسلم)): ((إذا عَطَسَ أحَدُكُم فَحَمِدَ اللَّهَ، فَشَمِّتُوهُ، فإنْ لَمْ يَحْمَدِ اللَّه، فَلاَ تُشَمِّتُوهُ)).
وثبت عنه فى ((صحيحه)): من حديث أبى هريرة: ((حَقُّ المُسْلِمِ عَلَى المُسْلِمِ سِتٌ: إذَا لَقِيتَهُ، فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، وَإذَا دَعَاك َ فَأجبْهُ، وَإذَا اسْتَنْصَحَكَ، فانْصَحْ لَهُ، وَإذَا عَطَسَ وَحَمِدَ اللَّهَ، فَشَمِّتْهُ، وَإذَا مَرِضَ، فَعُدْه، وَإذَا مَاتَ فَاتْبَعْهُ)).(1/57)
وروىأبو داودعنه بإسناد صحيح: ((إذَا عَطَسَ أَحَدُكُم فَلْيَقُلْ: الحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَلْيَقُلْ أَخُوهُ أَوْ صَاحِبُه: يَرْحَمُكَ اللَّه، وَلْيَقُلْ هُوَ: يَهْدِيكُمُ اللَّهُ وَيُصْلِحُ بَالَكُم)).
وروى الترمذى، أن رَجُلاً عَطَسَ عِندَ ابنِ عمر، فقال: الحَمْدُ لِلَّه، والسلامُ عَلَى رسولِ اللَّهِ، فَقَالَ ابنُ عُمَرَ: وأنَا أقُولُ: الحمدُ لِلَّهِ والسلامُ على رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وَلَيْسَ هَكَذَا عَلَّمَنَا رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم، وَلَكِن عَلَّمَنَا أنْ نَقُولَ: الحمْدُ لِلَّهِ على كُلِّ حال.
[ قال الشيخ ابن باز : المشروع للعاطس أن يحمد الله وأقلها ( الحمد لله ) وإن زاد ( الحمد لله على كل حال ) أو ( الحمد لله رب العالمين ) أو ( الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه ) فقد جاءت به الروايات ]
وذكر مالك، عن نافع، عن ابن عمر: ((كَانَ إذَا عَطَسَ فَقِيلَ لَهُ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ، قَالَ: يَرْحَمُنَا اللَّهُ وإيَّاكُم، ويَغْفِرُ لَنَا وَلَكُمْ)).
[ قال الشيخ ابن باز : السنة أن يقول ( يهديكم الله ويصلح بالكم ) ولعله لم يبلغه ]
فظاهر الحديثِ المبدوء به: أن التشميتَ فرضُ عَيْن على كُلِّ مَنْ سمع العاطس يحمَدُ اللَّه، ولا يُجْزِئ تشميتُ الواحد عنهم، وهذا أحدُ قولى العلماء، واختاره ابنُ أبى زيد، وأبو بكر بن العربى المالكيان، ولا دافع له.
[ قال الشيخ ابن باز : وهذا هو الأظهر ](1/58)
وقد روى أبو داود: أن رجلاً عَطَسَ عند النبى صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: السَّلامُ عَلَيْكُمْ، فَقَالَ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: ((وَعَلَيْكَ السَّلامُ وعَلَى أُمِّكَ))، ثُمَّ قَالَ: ((إذَا عَطَسَ أَحَدُكُم، فَلْيَحْمَدِ اللَّه)) قال: فذكر بَعضَ المَحَامِدِ، وليقُلْ لَهُ، مَنْ عِنْدَهُ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ، وَلَيَرُدَّ - يَعْنِى عَلَيْهِم - يَغْفِرُ اللَّهُ لَنَا وَلَكُمْ)).
[ قال الشيخ ابن باز : رواية البخاري ( يهديكم الله ويصلح بالكم ) أصح وهذه الرواية هنا عند الترمذي وغيره معلولة . ]
وفى السلام على أُمِّ هذا المُسلِّم نُكتةٌ لطيفةٌ، وهى إشعارُه بأن سلامَه قد وقع فى غير موقعه اللائق بِه، كما وقع هذا السلامُ على أُمِّه، فكما أن سلامه هَذَا فى غير موضعه كذلك سلامه هو.
ونكتةٌ أخرى ألطفُ منها، وهى تذكيرُه بأُمِّه، ونسبه إليها، فكأنه أُمِّىٌ محض منسوب إلى الأُم، باقٍ على تربيتها لم تربِّه الرجالُ، وهذا أحدُ الأقوال فى الأُمِّى، أنه الباقى على نسبته إلى الأُم.
وأما النبى الأُمِّى: فهو الذى لا يُحسِنُ الكِتَابة، ولا يقرأ الكِتَابَ.
وأمَّا الأُمِّىُّ الذى لا تَصِحُّ الصلاةُ خلفه، فهو الذى لا يُصحح الفاتحة، ولو كان عالماً بعلوم كثيرة.
ونظيرُ ذكر الأُم هاهنا ذكرُ هَنِ الأب لمن تعزَّى بعزاءِ الجاهلية فيقال له: اعضُضْ هَنَ أَبِيكَ، وكَانَ ذِكرُ هَنِ الأب هاهنا أحسن تذكيراً لهذا المتكبِّرِ بدعوى الجاهلية بالعُضو الذى خَرَجَ منه، وهو هَنُ أبيه، فَلاَ يَنْبَغِى لَهُ أن يتعدَّى طَوْرَهُ، كما أن ذِكرَ الأُم هاهنا أحسنُ تذكيراً له، بأنه باقٍ على أُمِّيته. واللَّه أعلم بمراد رسوله صلى الله عليه وسلم.(1/59)
ولما كان العاطِسُ قد حصلت له بالعُطاسِ نعمةُ ومنفعةُ بخروج الأبخرة المحتقِنة فى دِماغه التى لو بقيت فيه أحدثت له أدواءً عَسِرَةً، شُرعَ له حمدُ اللَّه على هَذِهِ النعمة مع بقاء أعضائه على التئامها وهيئتها بعد هذه الزلزلة التى هى للبدن كزلزلة الأرض لها.
ولهذا يقال: سمَّته وشمَّته - بالسين والشين - فقيل: هما بمعنىً واحد، قاله أبو عبيدة وغيره. قال: وكلُّ داعٍ بخير، فهو مُشمِّتٌ ومُسَمِّتٌ. وقيل: بالمهملة دعاء له بحُسن السَّمتِ، وبعوده إلى حالته من السكون والدعة، فإن العُطاس يُحدث فى الأعضاء حركةً وانزعاجاً. وبالمعجمة: دعاء له بأن يصرفَ اللَّه عنه ما يُشمِّتُ به أعداءَه، فشمَّته: إذا أزال عنه الشماتة، كقرَّد البعيرَ: إذا أزال قُرادَه عنه.
وقيل: هو دعاء له بثباته على قوائمه فى طاعة اللَّه، مأخوذ من الشوامِت، وهى القوائم.
وقيل: هو تشميتٌ له بالشيطانِ، لإغاظته بحمْدِ اللَّهِ على نِعمة العُطاس، وما حصل له به من محابِّ اللَّه، فإن اللَّه يُحبه، فإذا ذكر العبدُ اللَّهَ وحَمِدَه، ساء ذلك الشيطان من وجوه، منها: نفسُ العُطاس الذى يُحبُّه اللَّهُ، وحمدُ اللَّهِ عليه، ودعاءُ المسلمين له بالرحمة، ودعاؤه لهم بالهداية، وإصلاحُ البال، وذلك كُلُّه غائظ للشيطان، محزن له، فتشميتُ المؤمن بغيظ عدوه وحزنه وكآبته، فسمى الدعاءُ له بالرحمة تشميتاً له، لما فى ضمنه من شماتته بعدوه، وهذا معنى لطيف إذا تنبه له العاطِسُ والمشمِّت، انتفعا به، وعَظُمَتْ عندهما منفعةُ نعمةِ العُطاس فى البدن والقلب، وتبيَّن السِّرُّ فى محبة اللَّه له، فلِلَّهِ الحمْدُ الذى هو أهلُه كما ينبغى لكريم وجهه وعِزِّ جلاله.
[ قال الشيخ ابن باز : المزكوم يشمت ما دام يعطس واستعمال مادة للعطاس لا أصل له . ]
@@@ ( مغرب الأحد 6 / 11 / 1414هـ )
فصل
فى غض الصوت فى العُطاس(1/60)
وكان من هَدْيه - صلى اللَّه عليه وسلم - فى العُطاس ما ذكره أبو داود والترمذى، عن أبى هريرة: كانَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم ((إذَا عَطَس، وَضَعَ يَدَهُ أوْ ثَوْبَهُ عَلَى فِيهِ، وَخَفَضَ، أو غَضَّ بِهِ صَوْتَه)) . قال الترمذى: حديث صحيح
[ قال الشيخ ابن باز : الحكمة من غص الصوت ووضع الشيء على وجهه لكي لا يؤذي من حوله بالصوت وما يطير من أنفه من أثر العطاس ]
ويُذكر عنه - صلى اللَّه عليه وسلم -: أنَّ التَثَاؤُبَ الشَّدِيدَ، والعَطْسَةَ الشَّدِيدَةَ مِنَ الشَّيْطَانِ.
[ قال الشيخ ابن باز : التثاؤب جاءت الاحاديث أنه من الشيطان وهو مطلق سواء كان شديداً أو غير شديد وأما العطسة الشديدة ففيها حديث ضعيف ]
ويُذكر عنه: أنَّ اللَّه يَكْرَهُ رَفْعَ الصَّوْتِ بِالتَّثَاؤُبِ والعُطَاسِ.
@@@ [ قال المحشي : رواه ابن السني في عمل اليوم والليلة وفي سنده علي بن عروة وهو متروك . قال الشيخ ابن باز معلقاً ( وهذا يدل على أن ابن السني يجمع الغث والسمين ولا يعتني بذلك فيجب الاعتناء بالصحيح حتي يستفيد الناس ويحفظوه وفيه غنية ]
وصحَّ عنه: أنه عطسَ عنده رجلٌ، فقال له: ((يَرْحَمُكَ اللَّهُ)). ثُمَّ عَطَسَ أُخْرَى، فقالَ: ((الرَّجُلُ مَزْكُوم)). هذا لفظ مسلم أنه قال فى المرة الثانية، وأما الترمذى: فقال فيه عَنْ سلمة بن الأكوع: عَطَس رجلٌ عِند رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم وأنا شاهد، فقالَ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: ((يَرْحَمُكَ اللَّهُ))، ثُمَّ عَطَسَ الثَّانِيَةَ والثَّالِثَةَ، فَقَالَ رسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: ((هَذَا رَجُلٌ مَزْكُومٌ)). قال الترمذى: هذا حديث حسن صحيح.
وقد روى أبو داود عن سعيد بن أبى سعيد، عن أبى هريرة موقوفاً عليه: ((شَمِّتْ أخَاكَ ثلاثاً، فَمَا زَادَ، فَهُوَ زُكَامٌ)).(1/61)
[ قال الشيخ ابن باز : قوله ( مزكوم ) لا يمنع التشميت فما دام يحمد الله فإنه يشمت للأدلة الآمرة بالتشميت عندما يحمد الله العاطس وقوله ( مزكوم ) لا يقتضي عدم تشميته ]
وفى رواية عن سعيد، قال: لا أعلمه إلا أنه رفع الحديث إلى النبى صلى الله عليه وسلم بمعناه. قال أبو داود: رواه أبو نعيم، عن موسى بن قيس، عن محمد بن عجلان، عن سعيد، عن أبى هريرة، عن النبى صلى الله عليه وسلم.. انتهى.
وموسى بن قيس هذا الذى رفعه هو الحضرمى الكوفى يُعرف بعُصفور الجنَّة. قال يحيى ابن معين: ثقة. وقال أبو حاتم الرازى: لا بأس به.
وذكر أبو داود، عن عُبيد بن رِفاعة الزُّرَقى، عن النبى صلى الله عليه وسلم، قال: ((تُشَمِّتُ العَاطِسَ ثَلاثاً، فَإنْ شِئْتَ، فَشَمِّتْهُ، وإنْ شِئْتَ فَكُفَّ))، ولكن له عِلّتان، إحداهما: إرساله، فإن عبيداً هذا ليست له صحبة، والثانية: أن فيه أبا خالد يزيد بن عبد الرحمن الدالانى، وقد تكلم فيه.
وفى الباب حديث آخر، عن أبى هريرة يرفعه: ((إذَا عَطَسَ أحَدُكُم، فَلْيُشَمِّتْهُ جَلِيسُه، فإنْ زادَ عَلَى الثَّلاثَةِ، فَهُوَ مَزْكُومٌ، ولا تُشَمِّتْهُ بَعْدَ الثَّلاث))، وهذا الحديثُ هو حديثُ أبى داود الذى قال فيه: رواه أبو نعيم، عن موسى بن قيس، عن محمد بن عجلان، عن سعيد، عن أبى هريرة، وهو حديث حسن.
[ قال الشيخ ابن باز : الأحاديث الصحيحة دالة على التشميت ما دام يحمد الله عز وجل وهو الأصل وأما زيادة (فلا تشمته بعد الثلاث ) إما ضعيفة من جهة الإسناد أو شاذة لمخالفتها للأحاديث الصحيحة والمسألة تحتاج إلى زيادة بحث ومزيد عناية فالنصوص الصحيحة دالة على التشميت فلا تترك إلا بدليل صريح ]
فإن قيل: إذا كان به زُكام، فهو أولى أن يُدعى له ممن لا عِلَّة به؟ قيل: يُدعى له كما يُدعى للمريض، ومَن بِه داء ووجع.(1/62)
وأما سُنَّة العُطاس الذى يُحبه اللَّه، وهو نِعمة، ويدلُّ على خِفة البدنِ، وخرُوج الأبخرة المحتَقِنَةِ، فإنما يكون إلى تمام الثلاث، وما زاد عليها يُدعى لصاحبه بالعافية.
وقوله فى هذا الحديث: ((الرَّجُلُ مَزْكُومٌ)) تنبيه على الدعاء له بالعافية، لأن الزكمة عِلَّة، وفيه اعتذار من ترك تشميته بعد الثلاث، وفيه تنبيهٌ له على هذه العِلَّة ليتداركها ولا يهملها، فيصعُبَ أمرُهَا، فكلامه - صلى الله عليه وسلم - كله حكمة ورحمة، وعلم وهدى.
وقد اختلف الناس فى مسألتين: إحداهما: أن العاطِسَ إذا حَمدَ اللَّهَ، فسمعه بعضُ الحاضرين دون بعض، هل يُسَنُّ لمن لم يسمعه تشميتُه؟ فيه قولان، والأظهر: أنه يُشمته إذا تحقَّق أنه حَمِدَ اللَّه، وليس المقصودُ سماعَ المشمِّت للحمد، وإنما المقصود نفس حمده، فمتى تحقق ترتب عليه التشميتُ، كما لو كان المشمت أخرسَ، ورأى حركة شفتيه بالحمد. والنبى صلى الله عليه وسلم قال: ((فإن حَمِدَ اللَّه، فشمِّتوه)) هذا هو الصواب.
الثانية: إذا ترك الحمد، فهل يُستحبُّ لمن حضره أن يُذكِّرَه الحمد؟ قال ابن العربى: لا يُذكِّره، قال: وهذا جهل من فاعله. وقال النووى: أخطأ مَن زعم ذلك، بل يُذكِّره، وهو مروى عن إبراهيم النخعى. قال: وهو من باب النصيحة، والأمر بالمعروف، والتعاون على البرِّ والتقوى، وظاهر السُّنَّة يقوى قول ابن العربى لأنَّ النبىَّ صلى الله عليه وسلم لم يُشمِّتِ الذى عَطَسَ وَلَمْ يَحْمَدِ اللَّه، ولم يذكِّره، وهذا تعزير له، وحرمانٌ لبركة الدعاء لمَّا حرم نفسه بركة الحمد، فنسى اللَّه، فصرفَ قلوب المؤمنين وألسنتهم عن تشميته والدعاء له، ولو كان تذكيرُه سُنَّة، لكان النبى صلى الله عليه وسلم أولى بفعلها وتعليمِها، والإعانة عليها.(1/63)
[ قال الشيخ ابن باز : الأقرب تذكيره لعله يكون جاهلاً أو ناسياً والنبي صلى الله عليه وسلم لما لم يشمته لكي يتنبه ويسأل عن سبب عدم تشميته فالنصوص الأخرى دالة على التذكير والتنبيه . والاستعاذة عند التثاؤب لم يرد فيها نص ولكن لو استعاذ لأنه يعلم أنه من الشيطان وأخذاً بقوله تعالى ( وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم ) ولكن من غير اعتقاد أنها سنة ]
فصل
وصحَّ عنه - صلى الله عليه وسلم -: ((أنَّ اليَهُودَ كَانُوا يَتَعَاطَسُونَ عِنْدَهُ، يَرْجُونَ أَنْ يَقُولَ لَهُمْ: يَرْحَمُكُمُ اللَّهُ، فكان يقولُ: يَهْدِيكُمُ اللَّهُ وَيُصْلِحُ بالَكُم)).
[ قال الشيخ ابن باز : فيه شرعية تشميت الكفار ]
@@@ ( مغرب الأحد 27 / 4 / 1415هـ )
فصل
فى هَدْيه صلى الله عليه وسلم فى أذكار السفر وآدابه
صحَّ عنه - صلى اللَّه عليه وسلم - أنه قال: ((إذَا هَمَّ أحَدُكُم بِالأمْر، فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ الفَرِيضَةِ، ثُمَّ لْيَقُلْ: اللَّهُمَّ إنِّى أَسْتَخْيِرُكَ بِعِلْمِكَ، وَأَسْتَقْدِرُكَ بِقُدْرَتِكَ، وَأَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ العَظِيمِ، فَإنَّكَ تَقْدِرُ وَلاَ أَقْدِرُ، وَتَعْلَمُ وَلاَ أَعْلَمُ، وَأَنْتَ عَلاَّمُ الغُيوب، اللَّهُمَّ إنْ كُنْتَ تَعْلَم أنَّ هَذَا الأمْرَ خَيْرٌ لى فى دينى وَمَعَاشِى، وَعَاجِلِ أمْرِى وَآجِلِهِ، فَاقْدُرْهُ لى، وَيًَسِّرْهُ لى، وَبَارِكْ لى فيه، وإنْ كُنْتُ تَعْلَمُه شَراً لى فى دِينِى ومَعَاشى، وَعَاجلِ أمْرِى وَآجِلِهِ، فَاصْرِفْهُ عنِّى، وَاصْرِفْنِى عَنْهٌُ، وَاقْدُرْ لى الخَيْرَ حَيْثُ كَانَ، ثُمَّ رَضِّنى به)) قال: ويُسَمِّى حاجته، قال: رواه البخارى.(1/64)
[ قال الشيخ ابن باز : هذا هو السنة في الأمر الذي يهم به فيشكل عليه أيقدم عليه أو لا يقدم من سفر أو زواج أو تجارة وما سواها من الأمور التي تشتبه عليه وله تكرار الاستخارة حتى ينشرح صدره ويتبين له الصواب]
فعوَّض رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أُمَّته بهذا الدعاء، عما كان عليه أهلُ الجاهلية من زجر الطَّيْرِ والاستسقامِ بالأزلام الذى نظيرُه هذه القرعة التى كان يفعلُها إخوانُ المشركين، يطلُبون بها عِلمَ ما قُسِمَ لهم فى الغيب، ولهذا سُمى ذلك استقساماً، وهو استفعال من القَسْم، والسين فيه للطلب، وعوَّضهم بهذا الدعاء الذى هو توحيدٌ وافتقارٌ، وعبوديةٌ وتوكُّلٌ، وسؤالٌ لِمن بيده الخيرُ كلُّهُ، الذى لا يأتى بالحسناتِ إلا هو، ولا يصرِفُ السيئات إلا هُو، الذى إذا فتح لعبده رحمة لم يستطِع أحدٌ حبسَها عنه، وإذا أمسكها لم يستطع أحدٌ إرسالَها إليه من التطيرِ والتَّنْجيمِ، واختيارِ الطالع ونحوه. فهذا الدعاءُ، هو الطالِعُ الميمونُ السعيد، طالِعُ أهل السعادة والتوفيق، الذين سبقت لهم من اللَّه الحسنى، لا طالِع أهل الشِرك والشقاء والخِذلان، الذين يجعلون مع اللَّه إلهاً آخر، فسوف يعلمون.
فتضمن هذا الدعاءُ الإقرار بوجوده سبحانَه، والإقرارَ بصفاتِ كماله من كمال العِلم والقُدرة والإرادة، والإقرار بربوبيته، وتفويضَ الأمر إليه، والاستعانةَ به، والتوكُّلَ عليه، والخروجَ من عُهدة نفسه، والتبَّرِّى مِن الحَوْل والقوة إلا به، واعترافَ العبد بعجزه عن علمه بمصلحة نفسه وقدرته عليها، وإرادتِهِ لها، وأن ذلك كلَّه بيد وَليِّه وافطِرِهِ وإلههِ الحقِّ.
وفى ((مسند الإمام أحمد)) من حديث سعد بن أبى وقاص، عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((مِنْ سَعَادَةِ ابْنِ آدَمَ اسْتِخَارَةُ اللَّهِ ورضَاهُ بما قَضَى اللَّه، ومِنْ شَقَاوَةِ ابْنِ آدَمَ تَرْكُ اسْتِخَارَةِ اللَّه، وَسَخَطُهُ بِمَا قَضَى اللَّه)).(1/65)
[ قال الشيخ ابن باز : الحديث ضعيف بهذا الإسناد ولكن لعله له شواهد ترفعه إلى الحسن كما قال ابن حجر ]
فتأمل كيف وقع المقدور مكتنفاً بأمرين: التوكل الذى هو مضمونُ الاستخارة قبله، والرِّضا بما يقضى اللَّه له بعده، وهما عنوانُ السعادة. وعنوان الشقاء أن يكتنِفَه تركُ التوكل والاستخارة قبله، والسخط بعده، والتوكّل قبل القضاء. فإذا أُبرم القضاء وتم، انتقلت العبودية إلى الرضا بعده، كما فى ((المسند))، وزاد النسائى فى الدعاء المشهور: ((وَأَسْأَلُكَ الرِّضَا بَعْدَ القَضَاء)). وهذا أبلغ من الرضا بالقضاء، فإنه قد يكون عزماً فإذا وقع القضاءُ، تنحل العزيمةُ، فإذا حصل الرضا بعد القضاء، كان حالاً أو مقاماً.
والمقصودُ أن الاستخارة تَوكُّلٌ على اللَّه وتفويضٌ إليه، واستقسَام بقُدرته وعلمه، وحسن اختياره لعبده، وهى من لوازم الرضا به رباً، الذى لا يذوق طعم الإيمان مَنْ لم يكن كذلك، وإنْ رضى بالمقدورِ بعدها، فذلك علامةُ سعادته.
وذكر البيهقى وغيره، عن أنس رضى اللَّه عنه قال: لم يُرد النبىُّ صلى الله عليه وسلم سَفَراً قطُّ إلا قال حين ينهض من جلوسه: ((اللَّهُمَّ بِكَ انْتَشَرْتُ، وَإلَيْكَ تَوَجَّهْتُ، وبِكَ اعْتَصَمْتُ، وعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ، اللَّهُمَّ أنْتَ ثِقَتِى، وأنْتَ رَجَائِى، اللَّهُمَّ اكْفِنى مَا أَهَمَّنِى وَمَا لاَ أَهْتَمُّ لَهُ، وَمَا أنْتَ أعْلَمُ بِهِ مِنِّى. عَزَّ جَارُكَ، وَجَلَّ ثَنَاؤكَ، ولا إلَه غَيْرُكَ، اللَّهُمَّ زَوِّدنى التَّقْوَى، وَاغْفِرْ لِى ذَنْبِى، وَوَجِّهْنِى لِلْخَيْر أَيْنَمَا تَوَجَّهْتُ))، ثم يخرج.
@@@ (( مغرب الأحد 4 / 5 / 1415 هـ )
فصل
وكانَ إذا ركب راحِلته، كبَّر ثلاثاً، ثم قال: ((سُبْحَانَ الَّذى سَخَّر لَنَا هذَا، وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِيْن، وَإنَّا إلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُون)).
@@@ [ قال الشيخ ابن باز : ظاهر النصوص أن هذا يقال في السفر خاصة ](1/66)
ثم يقول: ((اللَّهُمَّ إنِّى أَسْأَلُكَ فى سَفَرِنَا هذَا البِرَّ والتَّقْوَى، ومِنَ العَمَلِ مَا تَرْضَى، اللَّهُمَّ هَوِّنْ عَلَيْنَا سَفَرَنَا هذا، واطْو عنَّا بُعْدَه، اللَّهُمَّ أنْتَ الصَّاحِبُ فى السَّفَرِ، والخَلِيفَةُ فى الأهْلِ، اللَّهُمَّ اصْحَبْنَا فى سَفَرِنَا، واخلُفْنَا فى أهْلِنَا)). وإذَا رجع قالهنَّ وزاد فيهنَّ: ((آيِبُونَ تائِبُون، عابِدُونَ لِرَبِّنَا حَامِدُونَ)).
وذكر أحمد عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه كانَ يقول: ((أنْتَ الصَّاحبُ فى السَّفَر، وَالخَلِيفَةُ فى الأهْلِ، اللَّهُمَّ إنِّى أعُوذُ بِكَ مِنَ الضِّبْنَةِ فى السَّفَرِ والكآبَةِ فى المُنْقَلَبِ، اللَّهُمَّ اقْبِضْ لَنَا الأرْضَ، وَهَوِّنْ عَلَيْنَا السَّفَرَ))، وَإذَا أراد الرجوع قال: ((آيبون تَائِبُونَ عَابِدُونَ لِرَبّنَا حَامِدُونَ))، وإذَا دخل أهْلَهُ قالَ: ((تَوْبَاً تَوْباً، لِرَبِّنَا أوْباً، لا يُغادِرُ عَلَيْنَا حَوْباً)).
وفى ((صحيح مسلم)): أنه كان إذا سافر يقول: ((اللَّهُمَّ إنِّى أعُوذُ بِكَ مِن وَعْثَاءِ السَّفَرِ، وَكآبَةِ المُنْقَلَبِ، وَمنَ الحَوْرِ بَعْدَ الكَوْرِ، ومِنْ دَعْوَةِ المَظْلُومِ، ومِنْ سُوءِ المَنْظَر فى الأهْلِ والمال)).
فصل(1/67)
وكانَ إذَا وَضَعَ رِجْلَه فى الرِّكَابِ لِرُكُوبِ دَابَّتِهِ، قال: ((بِسْمِ الله))، فَإذَا اسْتَوَى عَلَى ظَهْرِهَا، قَالَ: ((الحَمْدُ لِلَّهِ))- ثَلاثاً- ((الله أكْبَرُ))- ثَلاثاً، ثُمَّ يَقُولُ: ((سُبْحَانَ الَّذِى سَخَّرَ لَنَا هَذَا، وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ، وإنَّا إلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُون))- ثمَّ يقولُ: ((الحَمْدُ لِلَّهِ))- ثَلاثاً- ((الله أكْبَرُ)) ثَلاثاً، ثمَّ يَقُولُ: ((سُبْحَانَ الله))- ثلاثاً، ثمَّ يقول: ((لا إلَه إلاَّ أنْتَ سُبْحَانَكَ إنِّى كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ، سُبْحَانَكَ إنِّى ظَلَمْتُ نَفْسِى، فَاغْفِرْ لِى، إنَّه لا يَغْفِرُ الذُّنوبَ إلاَّ أنْتَ)).
وكانَ إذَا ودَّعَ أصحابَه فى السفر يقولُ لأحدهم: ((أَسْتَوْدِعُ الله دِينَكَ وَأَمَانَتَكَ، وَخَواتيمَ عَمَلِكَ)).
وجاء إليه رجل وقال: يا رسولَ الله: إنِّى أُرِيدُ سَفَراً، فَزَوِّدْنِى. فقال:((زَوَّدَكَ الله التَّقْوَى)). قال: زِدْنِى. قال: ((وَغَفَرَ لَكَ ذَنْبَكَ)). قال: زدنى. قال: ((ويَسَّرَ لَكَ الخَيْرَ حَيْثُمَا كُنْتَ)).
وقال له رجل: إنِّى أريدُ سفراً، فقال: ((أُوصيك بتقْوَى الله، والتَّكْبِيرِ عَلَى كُلِّ شَرَفٍ))، فلمَّا ولَّى، قال: ((اللَّهُمَّ ازْوِ لَهُ الأَرْضَ، وَهَوِّنْ عَلَيْهِ السَّفَرَ)).
وكان النبىُّ صلى الله عليه وسلم وأصحابُه، إذَا عَلوُا الثنايا، كبَّرُوا، وَإذَا هَبَطُوا، سبَّحُوا، فوضعت الصلاة على ذلك.
@@@ [ قال الشيخ ابن باز : معناه أن القيام كان حال الأنتصاب بالتكبير والركوع والسجود بالتسبيح حال الهبوط والإنخفاض ]
وقال أنس: كان النبىُّ صلى الله عليه وسلم إذا عَلا شَرَفاً مِنَ الأرْضِ، أو نَشْزاً قال: ((اللَّهُمَّ لَكَ الشَّرَفُ عَلَى كلِّ شَرَفٍ، وَلَكَ الحَمْدُ عَلَى كُلِّ حَمْدٍ)).(1/68)
وكان سيرُه فى حَجَّه العَنَقَ، فإذَا وَجَدَ فجوةً، رَفَعَ السَّيرَ فوقَ ذلكَ، وكَانَ يقول: ((لا تَصْحَبُ المَلائِكَةُ رفْقَةً فيها كَلْبٌ وَلا جَرَسٌ)).
وكان يكرهُ للمُسَافر وحْدَهُ أن يسيرَ بالليل، فقالَ: ((لَوْ يَعْلَمُ النَّاسَُ ما فى الوحْدَةِ ما سَار أحَدٌ وَحْدَه بِلَيْلٍ)).
[ قال الشيخ ابن باز : ظاهر النهي العموم ولكن الطرق اليوم معمورة فلا يتعرض لخطر فإذا احتاج للسفر ولم يجد رفقة فلا بأس بسفره ولكن الأولى له طلب الرفقة إن تيسر فالأولى والأكمل أن يكونوا ثلاثة فأكثر فإذا دعت الحاجة لسفر الاثنين أو الواحد فلا بأس مع الأمن في السفر ]
بل كان يَكْرَهُ السفرَ للواحد بلا رفقة، وأخبر: ((أنَّ الوَاحِدَ شَيْطَانٌ والاثْنَانِ شَيْطَانَانِ، والثَّلاَثَةُ رَكْبٌ)).
وكان يقول: ((إذَا نَزَلَ أحَدُكُمْ مَنْزِلاً فَلْيَقُلْ: أَعُوذُ بكَلماتِ الله التَّامَّات مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ، فَإنَّهُ لا يَضُرُّهُ شَئ حَتَّى يَرْتَحِلَ مِنْهُ)). ولفظ مسلم: ((مَنْ نَزَلَ مَنْزِلاً ثم قَالَ: أعُوذُ بِكَلِمَاتِ الله التَّامَّاتِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ، لَمْ يَضُرَّهُ شَىءٌ حَتَّى يَرْتَحِلَ مِنْ مَنْزله ذلك)).
وذكر أحمد عنه أنه كانَ إذَا غزَا أو سافر، فَأدرَكَهُ الليل، قال: ((يا أرضُ رَبِّى وَرَبُّكِ الله، أَعُوذُ باللهِ مِنْ شَرِّكِ وَشَرِّ مَا فِيكِ، وشَرِّ ما خُلِقَ فِيكِ، وَشَرِّ ما دَبَّ عَلَيْكِ، أعوذُ بالله مِنْ شَرِّ كُلِّ أسَدٍ وأَسْود، وَحَيّةٍ وَعَقْرَبٍ، ومِنْ شَرِّ سَاكِنِ البَلَد، ومِنْ شَرِّ وَالد، ومَا وَلَدَ)).(1/69)
وكان يقولُ: ((إذا سَافَرْتم فى الخِصْب، فَأَعْطُوا الإبَلَ حَظَّهَا مِنَ الأرض، وَإذَا سَافَرْتُمْ فى السَّنَةِ، فبادروا نِقْيَها)). وفى لفظ: ((فأسْرِعُوا عَلَيْهَا السَّيْرَ، وإذَا عَرَّسْتُم، فَاجْتَنِبُوا الطَّرِيقَ، فَإنَّهَا طُرُقُ الدَّوَابِّ وَمَأوَى الهَوَامِّ باللَّيْلِ))
@@@ ( مغرب الأحد 11 / 5 / 1415 هـ )
وكان إذا رأى قريةً يُريد دخولها قال حين يراها: ((اللَّهُمَّ رَبَّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وما أَظْلَلْنَ، وَرَبَّ الأرْضين السَّبْعِ ومَا أَقْلَلْنَ، ورَبَّ الشَّياطينِ وَمَا أضْلَلْنَ، وَرَبَّ الرِّيحِ وَمَا ذَرَيْن، إنَّا نَسْأَلُكَ خَيْرَ هذِهِ القَرْيَةِ وَخَيْرَ أهْلِهَا، ونَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّهَا وَشَرِّ مَا فيهَا)).
@@@ [ قال الشيخ ابن باز في تحفة الأخيار : رواه النسائي بإسناد حسن . ص ( 50 )
وقال رحمه الله : وقد ذكرته في تحفة الأخيار وما ذكرت فيها إلا ما هو حسن أو صحيح وقد تحريت فيها ]
وكانَ إذا بدا له الفجرُ فى السَّفرِ، قال: ((سَمِعَ سَامِعٌ بِحَمْدِ الله وحُسْنِ بَلائِهِ عَلَيْنَا، رَبَّنَا صَاحِبْنَا وَأَفْضِلْ عَلَيْنَا عَائِذاً بالله مِنَ النَّارِ)).
[ قال الشيخ ابن باز : الأقرب عندي ( سمّع ) بتشديد الميم ]
وكان يَنْهَى أن يُسَافَرَ بالقُرْآنِ إلى أرْضِ العَدُوِّ، مخَافَةَ أنْ يَنَالَهُ العَدُوُّ.
وَكَانَ يَنْهى المَرْأَةَ أنْ تُسَافِرَ بِغَيْرِ مَحْرَمٍ، وَلَوْ مَسَافَةَ بَرِيدٍ.
[ قال الشيخ ابن باز : الأقرب العموم فلا تسافر المرأة أي سفر إلا مع المحرم ]
وكانَ يَأْمُرُ المُسَافِرَ إذَا قَضَى نَهْمَتَهُ مِنْ سَفَرِهِ، أن يُعَجِّلَ الأوْبَةَ إلَى أهْلِهِ.(1/70)
وَكَانَ إذَا قَفَلَ مِنْ سَفَرِهِ يُكَبِّر عَلَى كُلِّ شَرَفٍ مِنَ الأرْضِ ثَلاثَ تَكْبِيرَاتٍ، ثُمَّ يَقُولُ: ((لا إله إلا الله وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ، ولَهُ الحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىءٍ قَدِيرٌ، آيُبونَ تَائِبُونَ، عَابِدُونَ، لِرَبِّنَا حَامِدُونَ، صَدَقَ الله وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَهَزَمَ الأحْزَابَ وَحْدَهُ)).
وكان ينهى أنْ يَطْرُقَ الرَّجُلُ أهْلَهُ لَيْلاً إذَا طَالَتْ غَيْبَتُهُ عَنْهُمْ.
[ قال الشيخ ابن باز : وهذا عام لا يخص المتزوج ]
وفى ((الصحيحين)): كان لا يَطْرُقُ أهْلَه لَيْلاً يَدْخُلُ عَلَيْهنَّ غُدْوَةً أوْ عَشِيَّةً.
وَكَانَ إذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرِهِ يُلَقَّى بِالْوِلْدَانِ مِنْ أهْلِ بَيْتِهِ، قالَ عبد الله بنُ جعفر: وإنه قَدِمَ مَرَّةً مِن سفر، فَسُبِقَ بى إليه، فَحَمَلَنِى بَيْنَ يَدَيْهِ، ثم جِئَ بأَحَدِ ابنى فاطمَةَ، إما حَسَن وإما حُسين، فأردفه خلفَه، قالَ: فدخلنا المَدِينَةَ ثَلاثَةً على دَابَّةٍ.
[ قال الشيخ ابن باز : وهذا يدل على حسن خلقه وتواضعه ورحمته بالصغار وفيه جواز الإرداف على الدابة بالعدد الذي تطيقه ]
وكان يعتنِق القَادِمَ مِنْ سَفَرِهِ، ويُقَبِّلُه إذا كَان مِنْ أهْلِهِ. قال الزهرى: عن عُروة، عن عائشة: قدم زيدُ بنُ حارثة المدينةَ، ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم فى بيتى، فأتاه، فَقَرَعَ البَابَ، فَقَامَ إليه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عُرياناً يَجُرُّ ثَوْبَهُ، واللهِ ما رأيته عُرياناً قَبْلَه ولا بَعْدَه، فاعْتَنَقَهُ وَقَبَّلَهُ.
قالت عائشةُ: لما قَدِمَ جعفرٌ وأصحابُه، تلقاه النبىُّ صلى الله عليه وسلم، فَقَبَّلَ مَا بَيْنَ عَيْنَيْهِ وَاعْتَنَقَهُ.
قال الشعبى: وكان أصحابُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم إذا قَدِمُوا مِنْ سَفَرٍ، تَعَانَقُوا.(1/71)
[ قال الشيخ ابن باز : المعانقة عند القدوم من السفر وطول السفر وجاء عن أبي بكر رضي الله عنه أنه قبل عائشة في خدها رضي الله عنها ]
وكَانَ إذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ، بَدَأَ بِالمَسْجِدِ، فَرَكعَ فِيهِ رَكْعَتَيْنِ.
@@@ ( مغرب الأحد 18 / 5 / 1415هـ )
فصل
فى هَدْيه صلى الله عليه وسلم فى أذكار النكاح
ثبت عنه- صلى الله عليه وسلم- أنه علَّمهم خُطبة الحاجَةِ: ((الحَمْدُ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، ونَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، ونَعُوذُ باللَّهِ مِنْ شُرُورِ أنفُسِنَا، وَسَيِّئَاتِ أعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِ الله، فَلا مُضِلَّ له، ومَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِىَ له، وأَشْهَدُ أنْ لا إلهَ إلاَّ الله، وَأَشْهَدُ أنَّ مُحَمَّداً عبدُه وَرَسُولُهُ))، ثُمَّ يَقْرَأُ الآيَاتِ الثَّلاثَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إلاَّ وَأَنتُم مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِى خَلَقَكُم مِّنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً، وَاتَّقُوا الله الَّذِى تَسَاءلُونَ بِهِ والأَرْحَامَ، إنَّ الله كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء: 1]، { يَا أَيُّهَا الَّذِين آمَنُوا اتَّقُوا الله وقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ، وَمَنْ يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب: 70-71].
قال شعبة: قلت لأبى إسحاق: هذه فى خطبة النكاح، أو فى غيرها؟ قال: فى كل حاجة.
[ قال الشيخ ابن باز : النبي صلى الله عليه وسلم لم يخصها بحاجة فهي مستحبة عند النكاح ](1/72)
وقال: ((إذَا أفَادَ أحَدُكُم امْرَأةً، أو خَادِماً، أو دابَّةً، فَلْيَأْخُذْ بناصِيَتِها، وَلْيَدْعُ الله بِالبَرَكَةِ، وَيُسَمِّى الله عَزَّ وَجَلَّ، وَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ إنِّى أسْأَلُكَ خَيْرَها، وخَيْرَ مَا جُبِلَتْ عَلَيْهِ، وأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّهَا وَشَرِّ ما جُبِلَتْ عَلَيْهِ)).
[ قال الشيخ ابن باز : الأقرب المراد بالخادم أي المملوك
صلاة ركعتين عند الدخول على المرأة فعله بعض السلف وورد عن بعض الصحابة وإذا صح عن أحدهم فهل يعتبر سنة ؟ العبادة توقيفية فلا تؤخذ إلا من كتاب وسنة . ]
وكان يقولُ للمتزوج: ((بَارَكَ الله لَكَ وَبَارَكَ عَلَيْكَ، وَجَمَعَ بَيْنَكُمَا فى خَيْرٍ)).
وقال: ((لَو أنَّ أحَدَكم إذا أراد أنْ يَأْتِىَ أَهْلَه، قال: بِسْمِ الله، اللَّهُمَّ جَنِّبْنَا الشَّيْطَانَ، وَجَنِّبِ الشَّيْطَانَ مَا رَزَقْتَنَا، فإنه إنْ يُقَدَّرْ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ فى ذلِكَ، لَمْ يَضُرَّهُ شَيْطَانٌ أَبَداً)).
فصل
فى هَدْيه صلى الله عليه وسلم فيما يقول مَنْ رأى ما يُعجبه مِن أهله ومالِه
يُذكر عن أنس أنه قال: ((ما أنعم الله عَلَى عَبْدٍ نِعْمَةً فى أهلٍ، ولا مَالٍ، أو ولدٍ، فيقول: ما شَاءَ الله، لا قُوَّة إلاَّ باللَّهِ، فَيَرَى فِيهِ آفَةً دُونَ المَوْتِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَلَوْلاَ إذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ الله لا قُوَّةَ إلا بِاللَّهِ} [الكهف: 39])).
[ قال الشيخ ابن باز : الآية الكريمة تفيد هذا المعنى إذا رأي ما يعجبه فهو مشروع في مال نفسه أو مال غيره ]
فصل
فيما يقول مَن رأى مُبْتَلى
صحَّ عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((ما مِنْ رَجُلٍ رأى مُبْتَلى فقالَ: الحمْدُ لِلَّهِ الَّذِى عَافَانِى ممَّا ابْتَلاكَ بِهِ، وَفَضَّلَنِى عَلَى كَثير ممَّن خَلَقَ تَفْضِيلاً، إلاَّ لَمْ يْصِبْه ذَلِكَ البَلاءُ كَائِناً مَا كَانَ)).(1/73)
[ قال الشيخ ابن باز : الأقرب أنه يقول هذا بينه وبين نفسه حتى لا يؤذي المبتلى ]
فصل
فيما يقوله مَن لحقته الطِّيرَةُ
ذُكِرَ عنه- صلى الله عليه وسلم- أنه ذُكِرَتِ الطِّيَرَةُ عِنْدهُ، فَقَالَ: ((أحْسَنُهَا الفَأْلُ وَلاَ تَرُدُّ مُسْلِماً، فَإذَا رَأَيْتَ مِنَ الطِّيَرَةِ مَا تَكْرَهُ فَقُلْ: اللَّهُمَّ لا يَأتِى بالحَسَنَاتِ إلاَّ أنْتَ، وَلاَ يَدْفَعُ السَّيِّئاتِ إلاَّ أنْتَ، ولا حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إلاَّ بِكَ)).
وكَانَ كَعب يقول: ((اللَّهُمَّ لا طَيْرَ إلاَّ طَيْرُكَ، وَلاَ خَيْرَ إلا خَيْرُكَ، وَلاَ رَبَّ غَيرُكَ، ولا حَوْلَ ولا قُوَّةَ إلاَّ بِكَ، والَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ، إنَّهَا لرأْسُ التَّوَكُّلِ، وكَنْزُ العَبْدِ فى الجَنَّةِ، ولا يقُولُهُنَّ عَبْدٌ عِنْدَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَمْضِى إلاَّ لَمْ يَضُرَّهُ شَىء)).
@@@ ( مغرب الأحد 25 / 5 / 1415 هـ )
فصل
فيما يقوله مَن رأى فى منامه ما يكرهه
صَحَّ عنهُ- صلى الله عليه وسلم-: ((الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ مِنَ الله، والحُلْمُ مِنَ الشَّيْطَانِ، فمَنْ رَأى رُؤيَا يَكْرَهُ مِنْهَا شَيْئاً، فَلّيَنْفُثْ عَنْ يَسَارِهِ ثلاثاً، وَلْيَتَعَوَّذْ باللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ، فَإنَّهَا لا تَضُرُّهُ، وَلاَ يُخْبِرْ بِهَا أحَداً. وَإنْ رَأَى رُؤيَا حَسَنَةً، فَلْيَسْتَبْشِرْ، وَلاَ يُخْبِرْ بِهَا إلاَّ مَنْ يُحِبُّ)).
[ قال الشيخ ابن باز : جاء في رواية ( وليتعوذ بالله من الشيطان الرجيم ومن شر ما رأى .... ) ثلاث مرات وهذا يعم الرؤيا في الليل والنهار ]
[ قال الشيخ ابن باز : العبد يرى ربه عز وجل في المنام على وجه يليق بجلال الله وعظمته فقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم ربه في المنام وليس خاصاً بالنبي صلى الله عليه وسلم ]
وَأَمَرَ مَنْ رَأى مَا يَكْرَهُهُ أنْ يَتَحَوَّلَ عَنْ جَنْبِهِ الَّذِى كَانَ عَلَيْهِ، وَأَمَرَهُ أنْ يُصَلِّىَ.(1/74)
فأمره بخمسةِ أشياء: أن ينفُثَ عَنْ يساره، وَأن يستعيذَ باللَّهِ من الشَّيطان، وأن لا يُخبر بها أحداً، وأن يتحوَّل عن جنبه الذى كان عليه، وأن يقومَ يُصلِّى، ومتى فعل ذلك، لم تضرَّه الرؤيا المكروهة، بل هذا يدفَعُ شرَّها.
وقال: ((الرُّؤْيَا عَلَى رِجْلِ طَائِرٍ مَا لَمْ تُعَبَّرْ، فإذَا عُبِّرَتْ، وَقَعَتْ، ولا يَقُصُّهَا إلاَّ على وَادٍّ، أوْ ذي رَأْى)).
[ قال الشيخ ابن باز : ما ذكره المحشي من تحسين الأحاديث غير صحيح فالأحاديث كلها ضعيفة والرؤيا على ما أرادها الله عز وجل وقد عبر أبو بكر رؤيا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له ( أصبت بعضاً وأخطأت بعضاً ) . والأولى للمعبر أن يرشد الناس إلى ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم في الرؤيا الصالحة والتي من الشيطان لأن أكثر التعبير اليوم تخرص ولا يوافق الواقع والحقيقة ومن أولّ الرؤيا بغير علم فإنه يأثم لقوله على الله بغير علم ]
وكان عمر بن الخطاب رضى الله عنه، إذَا قُصَّت عليه الرؤيا، قال: اللَّهُمَّ إنْ كَانَ خَيْراً فَلَنَا، وإنْ كَانَ شَرَّاً، فَلِعَدُوِّنَا.
ويُذكر عن النبى صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ عُرِضَتْ عَلَيهِ رُؤْيَا، فَلْيَقُلْ لِمَنْ عَرَضَ عَلَيْهِ خَيْراً)).
ويُذكر عنه أنه كان يقول للرائى قبل أن يعبرُها له: ((خَيْراً رَأَيْتَ)) ثم يَعْبُرُهَا.
وذكر عبد الرزاق، عن معمر، عن أيوب، عن ابن سيرين، قال: كان أبو بكر الصِّدِّيق إذا أراد أن يَعْبُر رُؤيا، قال: إن صَدَقَتْ رُؤياكَ، يكونُ كذا وكذا.
[ قال الشيخ ابن باز : ابن سيرين لم يدرك الصديق ]
@@@ ( مغرب الأحد 3 / 6 / 1415هـ )
فصل
فيما يقولُه ويفعلُه مَن ابتُلى بالوَسْوَاسِ، ومَا يستعينُ به على الوسوسة(1/75)
روى صالحُ بن كَيْسان، عن عُبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، عن ابن مسعود يرفعه: ((إنَّ لِلمَلَكِ الموَكَّلِ بِقَلْبِ ابْنِ آدَمَ لَمّةً، وَلِلْشَّيْطَانِ لَمَّةً، فَلَمَّةُ المَلَكِ إيعَادٌ بِالخَيْرِ، وَتَصْدِيقٌ بِالحَقِّ، وَرَجَاءُ صَالِحِ ثَوابه، وَلَمَّةُ الشَّيْطَانِ، إيعَادٌ بالشَّرِّ، وَتَكْذِيبٌ بالحَقِّ، وقُنُوطٌ مِنَ الخَيْرِ، فَإذَا وجَدْتُمْ لَمَّةَ المَلَكِ، فَاحْمدُوا الله، وسَلُوه مِنْ فَضْلِهِ، وَإذَا وَجَدْتُمْ لَمَّةَ الشَّيْطَانِ، فَاسْتَعِيذُوا بِاللَّه وَاسْتَغْفِرُوه)).
[ قال الشيخ ابن باز : إذا صح عن ابن مسعود فهو من قبيل المرفوع لأن هذا لا يقال بالرأي ]
وقال له عثمانُ بنُ أبى العاص: يا رَسُولَ الله ؛ إنَّ الشيطانَ قد حال بينى وَبَيْنَ صَلاتِى وقِراءتى، قال: ((ذَاكَ شَيْطَانٌ يُقَالُ له: خِنْزَبٌ، فَإذَا أحْسَسْتَهُ، فَتَعَوَّذْ بِاللَّهِ مِنْهُ، واتْفُلْ عَنْ يَسَارِكَ ثَلاثاً)).
وشكى إليه الصحَابَةُ أنَّ أحدهم يَجِدُ فى نفسِهِ- يُعرِّض بالشىء- لأن يَكُونَ حُمَمَةً أحبُّ إليه من أنْ يتَكلَّمَ به، فقال: ((الله أكْبَرُ، الله أكْبَرُ، الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى رَدَّ كَيْدَهُ إلى الوَسْوَسَةِ)).
وأرشد من بُلى بشىءٍ مِن وسوسة التسلسل فى الفاعلين، إذا قيل له: هذَا الله خَلَق الخلق، فمَن خَلَقَ الله؟ أن يقرأ: {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ والظَّاهِرُ والبَاطِنُ، وَهُوَ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ} [الحديد: 3].(1/76)
كذلك قال ابنُ عباسٍ لأبى زُميل سماك بن الوليد الحنفى وقد سأله: ما شىءٌ أجِدُهُ فى صدرى؟ قال: ما هُو؟ قال: قلتُ: واللَّهِ لا أتكلَّمُ به. قال: فقال لى: أشىء مِن شَك؟ قلتُ: بلى، فَقَالَ لى: ما نَجا مِنْ ذلِكَ أحد، حتى أنزلَ الله عَزَّ وجَلَّ: {فَإن كُنتَ فِى شَكٍّ مِّمَّا أنْزَلْنَا إلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الكِتَابَ مِن قَبْلِكَ} [يونس: 94] قال: فقال لى: فإذا وجدتَ فى نفسك شيئاً، فَقُلْ: {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ والظَّاهِرُ والبَاطِنُ، وَهُوَ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ} [الحديد: 3].
فأرشدهم بهذه الآية إلى بطلانِ التسلسل الباطل ببديهة العقل، وأن سلسلةَ المخلوقات فى ابتدائها تنتهى إلى أولٍ ليس قَبلَه شئ، كما تنتهى فى آخرِها إلى آخر ليس بعَده شئ، كما أن ظهورَه هو العلوُّ الذى ليس فوقَه شئ، وبُطونَه هو الإحاطة التى لا يكون دونه فيها شئ، ولو كان قبله شئ يكون مؤثراً فيه، لكان ذلك هو الربَّ الخلاق، ولا بدَّ أن ينتهىَ الأمر إلى خالقٍ غيرِ مخلوقٍ، وغنى عن غيره، وكلُّ شىء فقير إليه، قائم بنفسه، وكل شئ قائم به، موجود بذاته، وكل شئ موجود به. قديمٌ لا أول له، وكُلُّ ما سواه فوجودهُ بعد عدمه، باقٍ بذاته، وبقاءُ كل شىء به، فهو الأوَّلُ الذى ليس قبله شىء، والآخر الذى ليس بعده شئ، الظاهر الذى ليس فوقَه شئ، الباطنُ الذى ليس دونه شئ.
وقال صلى الله عليه وسلم: ((لا يَزالُ النَّاسُ يَتَسَاءلونَ حَتَّى يقول قائِلُهم: هذا الله خَلَقَ الخَلْقَ، فَمَنْ خَلَقَ الله؟ فَمَنْ وَجَدَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئاً، فَلْيَسْتَعِذْ باللَّهِ وَلْيَنْتَهِ))،
[ قال الشيخ ابن باز : وهذا يقوله في الصلاة وخارجها حال الوسوسة
وجاء في رواية أنه يقول ( الله أحد ، الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد ) وهو بجموع طرقه يرتقي إلى الحسن ](1/77)
وقدْ قال تَعالى: {وَإمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فاسْتَعِذْ باللَّهِ، إنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ} [فصلت: 36].
ولما كان الشيطانُ على نوعين: نوعٍ يُرى عياناً، وهو شيطانُ الإنس، ونوعٍ لا يُرى، وهو شيطانُ الجن، أمرَ سبحانه وتعالى نبيَّه صلى الله عليه وسلم أن يكتَفىَ مِن شر شيطان الإنس بالإعراض عنه، والعفو، والدفع بالتى هى أحسنُ، ومن شيطان الجن بالاستعاذة باللَّهِ منه، وجمع بينَ النوعين فى سورة الأعراف، وسورة المؤمنين، وسورة فصلت، والاستعاذة فى القراءة والذِّكر أبلغُ فى دفع شر شياطين الجن، والعفوُ والإعراضُ والدفعُ بالإحسان أبلغُ فى دفع شرِّ شياطينِ الإنس. قال:
فما هو إلا الاسْتِعاذَةُ ضَارِعَاً أَو الدَّفْعُ بالحُسْنى هُمَا خَيْرُ مَطْلُوبِ
فَهذَا دَوَاءُ الدَّاءِ مِنْ شَرِّ ما يُرَى وَذَاكَ دَوَاءُ الدَّاء مِنْ شَرِّ مَحْجُوبِ
@@@ ( مغرب الأحد 10 / 6 / 1415هـ )
فصل
فى ما يقوله ويفعله مَن اشتد غضبه
أمره- صلى الله عليه وسلم- أن يُطفئ عَنْهُ جَمْرَةَ الغضب بالوُضُوءِ، والقعودِ إنْ كَانَ قَائِمَاً، والاضطِجَاع إن كَانَ قَاعِدَاً، والاستعاذةِ باللَّه مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجيمِ.
ولما كان الغضبُ والشهوةُ جمرتين مِن نارٍ فى قلبِ ابن آدم، أمر أن يُطفئهما بالوضوء، والصلاة، والاستعاذةِ من الشيطان الرجيم، كما قال تعالى: {أتَأْمُرُونَ النَّاسَ بالبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: 44] ... الآية. وهذا إنما يحمل عليه شدَّة الشهوةِ، فأمرهم بما يُطفئون بها جمرتها، وهو الاستعانةُ بالصبرِ والصلاة، وأمر تعالى بالاستعاذةِ من الشيطان عند نزغاته، ولما كانت المعاصى كلها تتولد مِن الغضب والشهوة، وكان نهايةُ قوةِ الغضبِ القتل، ونهايةُ قوةِ الشهوة الزِّنى، جمع الله تعالى بين القتل والزِّنى، وجعلهما قرينين فى سورة الأنعام، وسورة الإسراء، وسورة الفرقان، وسورة الممتحنة.(1/78)
والمقصودُ: أنه سبحانه أرشد عباده إلى ما يدفعون به شرَّ قوتَى الغضب والشهوة من الصلاة والاستعاذة.
فصل
وكان- صلى الله عليه وسلم- إذا رَأَى مَا يُحِبُّ، قال: ((الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى بِنِعْمَتِهِ تَتِمُّ الصَّالِحَاتُ)). وَإذَا رَأَى مَا يَكْرَهُ، قال: ((الحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ)).
[ قال الشيخ ابن باز : الحديث ضعيف وهو شديد الضعف بمجموع طرقه وأمثل طرقه رواية الوليد بن مسلم عن منصور عن أمه عن عائشة ]
فصل
وكان- صلى الله عليه وسلم- يدعو لِمَن تقرَّب إليه بما يُحِبُّ وبما يُنَاسِبُ، فلما وَضَعَ لهُ ابن عبَّاس وَضُوءَهُ قال: ((اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ فى الدِّين، وَعَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ)).
ولمَّا دَعَّمَهُ أبو قَتَادَة فى مَسيرِهِ بالليل لمَّا مالَ عن راحِلته، قال: ((حَفِظَكَ الله بِما حَفِظَتَ بِهِ نَبِيَّه)).
وقال: ((مَنْ صُنِعَ إليهِ مَعْرُوفٌ، فَقَالَ لِفَاعِلِهِ: جَزَاكَ الله خَيْرَاً، فَقَدْ أَبْلَغَ فى الثَّنَاءِ)).
واستقرض من عبد الله بن أبى ربيعة مالاً، ثم وفَّاه إياه، وقال: ((بَارَكَ الله لَكَ فى أهْلِكَ وَمالِكَ، إنَّمَا جَزَاءُ السَّلَفِ الحَمْدُ والأدَاءُ)).
ولمَّا أرَاحَهُ جَرِيرُ بن عبد الله البَجَلِى مِن ذِى الخَلَصَةِ: صَنَمِ دَوْس، بَرَّكَ عَلَى خَيْلِ قَبِيلَتِهِ أَحْمس وَرِجَالِهَا خَمْسَ مَرَّاتٍ.
وكان- صلى الله عليه وسلم- إذا أُهديت إليه هديةٌ فقبلها، كافأ عليها بأكثر منها، وإن ردّهَا اعتذَرَ إلى مُهْدِيهَا، كَقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم لِلصَّعْبِ ابن جَثَّامةَ لما أَهْدَى إلَيْهِ لَحْمَ الصَّيْدِ: ((إنَّا لَمْ نَرُدَّهُ عَلَيْكَ إلاَّ أنَّا حُرُمٌ)) واللَّه أعلمُ.
[ قال الشيخ ابن باز : الأقرب أن قبولها للاستحباب إذا لم تضره فإذا كانت تضره في دينه كالقاضي فإنه لا يقبلها والأقرب أن المدرس لا يقبل الهدية من طالبه فهو كالقاضي ](1/79)
@@@ مغرب الأحد 17 / 6 / 1415هـ
فصل
فى ما يقوله مَن سمع نهيق الحمار أو صياح الدِّيَكة
وأمر- صلى الله عليه وسلم- أُمَّته إذا سَمِعُوا نَهِيقَ الحِمَارِ أن يتعوَّذُوا باللَّهِ منَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيم، وإذَا سَمِعُوا صِيَاحَ الدِّيَكَةِ، أَنْ يَسْأَلُوا الله مِنْ فَضْلِهِ.
[ قال الشيخ ابن باز : زيادة ( ونباح الكلاب ) لا بأس بها ]
ويُروى عنه- صلى الله عليه وسلم- أنه أَمَرَهُم بالتَّكْبِيرِ عِنْدَ رؤية الحَرِيق، فَإنَّ التَّكْبِيرَ يُطْفِئُه.
[ قال الشيخ ابن باز : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رأى ما يعجبه أو يستكرهه كبر كما كبر عندما قالوا له ( اجعل لنا ذات أنواط ) ولكن لا يكتفى به عن الإطفاء فالتكبير للإعانة على إطفائه ]
وكره- صلى الله عليه وسلم- لأَهل المجلسِ أن يُخْلُوا مَجْلِسَهُم مِنْ ذِكْرِ الله عَزَّ وجَلَّ، وقال: ((مَا مِنْ قَوْمٍ يقومُونَ مِنْ مَجْلِسٍ لا يَذْكُرونَ الله فيهِ إلاَّ قَامُوا عَنْ مِثْلِ جِيفةِ الحِمارِ)).
وقال: ((مَنْ قَعَدَ مَقعَداً لم يَذكُرِ الله فِيهِ كَانَتْ عَلَيْهِ مِنَ الله تِرَةٌ، ومَنِ اضطجع مضجعاً لا يذكرُ الله فيه، كانت عليه من الله تِرَةٌ)).
والتِّرَةُ: الحسرة.
وفى لفظ: ((وما سَلَكَ أَحَدٌ طَرِيقاً لَمْ يَذْكُرِ الله فِيهِ، إلاَّ كَانَتْ عَلَيْهِ تِرَةٌ)).
وقالَ صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ جَلَسَ فى مَجْلسٍ، فَكَثُرَ فيهِ لَغَطُهُ، فقال قبل أن يقوم من مجلسه: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وبحَمْدِكَ، أشْهَدُ أنْ لا إله إلاَّ أنْتَ، أسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إلَيْكَ، إلا غُفِرَ لَهُ ما كانَ فى مَجْلِسه ذَلِكَ)).(1/80)
وفى ((سنن أبى داود)) و ((مستدرك الحاكم)) أنه- صلى الله عليه وسلم- كَانَ يقُولُ ذلِكَ إذَا أرَادَ أنْ يَقُومَ مِنَ الْمَجْلِسِ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ الله ؛ إنَّكَ لَتَقُولُ قَوْلاً مَا كُنْتَ تَقُولُه فِيمَا مَضَى. قال: ((ذَلِكَ كَفَّارةٌ لِمَا يَكُونُ فى المَجْلِسِ)).
[ قال الشيخ ابن باز : ولا حرج على من قاله بعد قيامه ]
فصل
وشكى إليه خالدُ بنُ الوليد الأرقَ بالليل، فقال له: ((إذَا أوَيْتَ إلى فِرَاشِكَ فقل: اللَّهُمَّ رَبِّ السماوات السَّبْعِ وَما أَظَلَّتْ، وَرَبَّ الأَرْضِينَ السَّبْعِ وَمَا أَقَلَّتْ، وَرَبَّ الشَّيَاطِين وَمَا أَضَلَّتْ، كُنْ لى جَاراً مِنْ شَرِّ خَلْقكَ كُلِّهِم جَميعاً مِنْ أنْ يَفْرُطَ أَحَدٌ مِنْهُم عَلَىَّ، أَوْ أَنْ يَطْغى عَلَىَّ، عَزَّ جَارُكَ، وَجَلَّ ثَناؤُكَ، ولاَ إلهَ إلاَّ أنْتَ)).
وكان- صلى الله عليه وسلم- يُعَلِّمُ أصحابَه من الفزع: ((أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ الله التَامَّة مِنْ غَضَبِهِ وَمِنْ شَرِّ عباده، ومن شرِّ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِين، وأنْ يَحْضُرُون)).
ويُذكر أن رجلاً شَكَى إلَيْهِ- صلى الله عليه وسلم- أنه يفزع فى مَنَامِه، فقال: ((إذَا أوَيْتَ إلى فِرَاشِكَ فقل ...)) ثم ذكرها، فقالها فذهب عنه.
@@@ ( مغرب الأحد 24 / 6 / 1415 هـ )
فصل
فى ألفاظ كان صلى الله عليه وسلم- يَكْرَهُ أن تُقَال
فَمِنْهَا: أن يقول: خَبُثَتْ نَفْسِى، أَوْ جَاشَتْ نَفْسِى، وَلْيَقُلْ: لَقِسَتْ.
ومنها: أن يُسَمِّى شَجَرَ العِنَبِ كَرْماً، نَهَى عَنْ ذلِكَ، وقال: ((لا تَقُولُوا: الكَرْمَ، وَلَكِنْ قُولُوا: العِنْبُ والحَبَلةُ)).
[ قال الشيخ ابن باز : وجاء في بعض الروايات تسميته كرماً فدل على أن النهي للكراهة لا للتحريم ]
وكرِه أن يقولَ الرجلُ: هلكَ النَّاسُ. وقال: ((إذَا قَالَ ذلِكَ، فَهُوَ أهْلَكُهُمْ)). وفى معنى هذا: فسد الناسُ، وفسد الزمانُ ونحوهُ.(1/81)
[ قال الشيخ ابن باز : لأن هذا فيه تعميم ويشعر النفس بشيء من التزكية وأنه هو السالم ويفضي إلى اليأس والقنوط ]
ونهى أن يُقَالَ: ما شَاءَ الله، وَشَاءَ فُلانٌ، بَلْ يُقَالُ: مَا شَاءَ الله، ثُمَّ شَاءَ فُلانٌ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: مَا شَاءَ الله وَشِئْتَ، فَقَالَ: ((أَجَعَلْتَنِى للهِ نِدّاً؟، قل: مَا شَاءَ الله وَحْدَهُ)).
[ قال الشيخ ابن باز : وهذا هو الأفضل والأكمل والجائز ( ما شاء الله ثم شاء فلان ) والممنوع والشرك الأصغر ( ما شاء الله وشاء فلان ) ]
وفى معنى هذَا: لولا الله وفلانٌ، لما كانَ كذا، بل هو أقبحُ وأنكر، وكذلك: أنا باللَّهِ وبفُلان، وأعوذُ باللَّهِ وبفُلان، وأنا فى حَسْبِ الله وحَسْبِ فلان، وأنا متَّكِل على الله وعلى فلان، فقائلُ هذا، قد جعل فلاناً نِدَّاً للهِ عَزَّ وجَلَّ.
ومنها: أن يُقال: مُطِرْنا بَنَوْءِ كَذَا وَكَذَا، بل يقُولُ: مُطِرْنَا بِفَضْلِ الله وَرَحْمتهِ.
[ قال الشيخ ابن باز : إذا قال مطرنا في الوسمي أو في المربعانية أو غيرها فلا بأس لأنه أراد الوقت ]
ومنها: أن يحلِفَ بغير الله. صحَّ عنه- صلى الله عليه وسلم- أنه قال: ((مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ الله فَقَدْ أَشْرَكَ)).
ومنها: أن يقول فى حَلِفِهِ: هو يَهُودِى، أو نصرانى، أو كافر، إن فعل كذا.
[ قال الشيخ ابن باز : ومثله لا يقول هو ملعون ]
ومنها: أن يقولَ لِمسلمٍ: يا كَافِرُ.
ومنها: أن يقولَ للسلطان: مَلِكُ المُلُوكِ. وعلى قياسه: قاضى القضاة.
[ قال الشيخ ابن باز : لو قال ( قاضي القضاة في الرياض أو في مصر ) فهو أسهل ولكن الأولى أن يقول ( رئيس القضاة أو الحكام ) ]
ومنها: أن يقول السَّيِّدُ لِغلامه وجارِيته: عَبْدِى، وأمَتِى، ويقول الغلامُ لسيده: ربى، وليقُل السَّيِّدُ: فَتَاى وفتاتى، وليَقُلِ الغلامُ: سيِّدى وسيِّدتى.
@@@ ( مغرب الأحد 16 / 7 / 1415هـ )(1/82)
ومنها: سبُّ الرِّيحِ إذَا هبَّتْ، بل يسألُ الله خَيْرَهَا، وَخَيْرَ مَا أُرْسِلَتْ بِهِ، ويَعُوذُ باللَّهِ مِنْ شرِّهَا وشر ما أُرسلت به.
ومنها: سبُّ الحُمَّى، نهى عنه، وقال: ((إنَّهَا تُذْهِبُ خَطَايَا بَنِى آدَمَ، كمَا يُذْهِبُ الكِيْرُ خَبَثَ الحَدِيدِ)).
ومنها: النَّهىُ عن سب الدِّيكِ، صحَّ عنه- صلى الله عليه وسلم- أنه قال: ((لا تَسُبُّوا الدِّيكَ، فَإنَّهُ يُوقِظُ للصَّلاةِ)).
[ قال الشيخ ابن باز : لا يسب معيناً إلا على سبيل القصاص في مقابل الأذى كما سب النبي صلى الله عليه وسلم أناساً لأنهم آذوه وآذوا أصحابه والمعلن بفسقه لا غيبة له فيما أظهره ]
ومنها: الدعاء بدعوى الجاهلية، والتَّعَزِّى بعزائهم، كالدُّعَاء إلى القبائل والعَصبِيَّة لها وللأنساب، ومثلهُ التعصبُ لِلمذاهب، والطرائِقِ، والمشايخ، وتفضيلُ بعضها على بعض بالهوى والعصبية، وكونُهُ منتسباً إليه، فيدعو إلى ذلك، ويُوالى عليه، ويُعادِى عليه، وَيزِنُ الناس به، كُلُّ هذا مِن دعوى الجاهلية.
ومنها: تسميةُ العِشَاء بِالعَتَمَةِ تسمية غالبة يُهجَرُ فيها لفظُ العِشَاء.
[ قال الشيخ ابن باز : المشروع أن يكون الغالب تسميتها العشاء فإذا سماها أحياناً العتمة فلا بأس به ]
ومنها: النهىُ عَن سِبَابِ المُسْلِم، وأن يتناجى اثنَانِ دُونَ الثَّالِث.
[ قال الشيخ ابن باز : وكذا كلامهم بلغة لا يعرفها الثالث ]
وأن تُخْبِرَ المرأةُ زَوْجَها بِمَحَاسِنِ امرأةٍ أُخْرَى.
[ قال الشيخ ابن باز : لأنه قد يفتن بها ]
ومنها: أن يقولَ فى دُعائه: ((اللَّهُمَّ اغْفِرْ لى إنْ شِئْتَ، وارْحَمْنِى إنْ شِئْتَ)).
[ قال الشيخ ابن باز : لأنه يدل على ضعف في الطلب ]
ومنها: الإكثارُ مِنَ الحَلِفِ.
[ قال الشيخ ابن باز : لأنه وسيلة للكذب والحنث . ويجوز الحلف مازحاً إذا كان بحق ( لا يدخل الجنة عجوز ]
@@@ ( مغرب الأحد 23 / 7 / 1415 هـ )(1/83)
ومنها: كراهةُ أن يقول: قَوْسُ قُزَح، لِهذَا الذى يُرى فى السَمَاء.
[ قال الشيخ ابن باز : لا دليل على الكراهة ]
ومنها: أن يسأل أحَداً بِوَجهِ الله.
[ قال الشيخ ابن باز : تركه أحوط وحديث جابر ( لا يسأل بوجه الله إلا الجنة ) فيه سليمان بن معاذ التميمي وهو ضعيف ]
ومنها: أن يسمِّىَ المدينة بيثرب.
@@@ [قال الشيخ ابن باز : معلقاً على حديث البراء بن عازب الذي ذكره المحشي ( من سمى المدينة يثرب فليستغفر الله هي طابة هي طابة ) فيه إبراهيم بن مهدي وهو مقبول فيحتاج إلى متابع وإلا فهو ضعيف]
ومنها: أن يُسألَ الرجلُ فيم ضرَبَ امرأته، إلا إذا دعت الحاجة إلى ذلك.
[ قال الشيخ ابن باز : لأنها عورات و ( من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه ) ]
ومنها: أنْ يقول: صُمْتُ رمضانَ كُلَّهُ، أو قمتُ اللَّيْلَ كُلَّهُ.
[ قال الشيخ ابن باز : لأن فيه تزكية ]
فصل
فى كراهة الإفصاح عن الأشياء التى ينبغى الكناية عنها بأسمائها الصريحة
ومن الألفاظِ المكروهَةِ الإفصاحُ عَنِ الأشياءِ التى ينبغى الكنايةُ عنها بأسمائها الصَّريحة:
ومنها: أن يقولَ: أطالَ الله بقاءَك، وأدامَ أيَّامَكَ، وعِشتَ ألفَ سنة ... ونحو ذلك.
[ قال الشيخ ابن باز : إلا إذا قال أطال بقاءك على الطاعة أو الخير . ولا يصح قول ( ودمتم ) وأقل أحواله الكراهة لأن الدوام غير حاصل ]
ومنها: أن يقول الصائِمُ: وحقِّ الذى خَاتِمه على فمِ الكافر.
ومنها: أن يقول للمُكُوس: حقوقاً. وأن يقول لِمَا يُنْفِقُهُ فى طاعةِ الله: غَرِمْتُ أو خَسِرْتُ كَذَا وَكَذَا، وأن يقولَ: أنفقتُ فى هذه الدنيا مالاً كثيراً.
ومنها: أن يقولَ المفتى: أحلَّ اللهُ كذَا، وحرّم الله كذا فى المسائل الاجتهادية، وإنما يقولُه فيما ورد النصُّ بتحريمه.(1/84)
ومنها: أن يُسَمِّىَ أدلةَ القرآن والسُّنَّة ظواهِرَ لفظية ومجازاتٍ، فإن هذه التسمية تُسْقِطُ حُرمتَها مِن القلوب، ولا سيما إذا أضَافَ إلى ذلك تسمية شُبَهِ المتكلمينَ والفلاسفة قَواطِعَ عَقلية، فلا إله إلا الله، كم حَصَلَ بهاتين التسميتين مِن فساد فى العقول والأديان، والدنيا والدين.
فصل
فى كراهة أن يُحدِّث الرجل بجِماع أهله وما يكون بينه وبينها
ومنها: أن يُحدِّث الرجلُ بجِمَاع أهله، وما يكونُ بينه وبينها، كما يفعله السَّفَلَةُ.
ومما يُكره من الألفاظ: زعموا، وذكروا، وقالوا... ونحوه.
ومما يُكره منها أن يقول للسلطان: خليفةُ الله، أو نائِبُ الله فى أرضه، فإن الخليفة والنائبَ إنما يكونُ عن غائب، واللَّهُ سبحانه وتعالى خليفةُ الغَائِبِ فى أهلهِ، ووكيلُ عبده المؤمن.
[ قال الشيخ ابن باز : الصواب أنه لا حرج في قوله لأن الله تعالى قال ( إني جاعل في الأرض خليفة ) قال بعض أهل العلم : خليفة عن الله في الأرض فالكراهة تحتاج إلى دليل والقول بالكراهة فيه نظر ]
فصل
فى التحذير من طغيان ((أنا))، و((لى))، و((عندى))
وليحذر كُلَّ الحذر من طغيان ((أنا))، و((لى))، و((عندى))، فإن هذه الألفاظَ الثلاثةَ ابتُلى بها إبليسُ، وفرعون، وقارون: فـ {أنَا خَيْرٌ مِنْهُ} [الأعراف: 12] [ص: 76] لإبليس، و{لِى مُلْكُ مِصْرَ} [الزخرف: 51] لفرعون، و{إنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِى} [القصص: 78] لقارون. وأحسنُ ما وُضِعَت ((أنا)) فى قول العبد: أنا العبدُ المذنب، المخطئ، المستغفر، المعترِف ... ونحوه. و((لى))، فى قوله: لى الذنب، ولى الجُرم، ولى المسكنةُ، ولى الفقرُ والذل. و((عندى)) فى قوله: ((اغْفِرْ لى جِدِّى، وَهَزْلِى، وخَطَئِى، وَعَمْدِى، وَكُلُّ ذلِكَ عِنْدِى)).(1/85)
فصل
فى هَدْيه صلى الله عليه وسلم فى الهدايا والضحايا والعقيقة
@@@ [ قال الشيخ ابن باز : الهدايا والضحايا السنة كونها من الإبل والبقر والغنم أما العقيقة فالسنة كونها من الغنم ]
وهى مختصة بالأزواج الثمانيةِ المذكورةِ فى سُورة ((الأنعام)) ولم يُعرف عنه صلى اللَّه عليه وسلم، ولا عن الصَّحابة هَدْى، ولا أُضحية، ولا عقيقةٌ مِن غيرها، وهذا مأخوذ من القرآن من مجموع أربع آيات..
إحداها: قوله تعالى: {أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنعَامِ} [المائدة: 1].
والثانية: قولُه تعالى: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فى أيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِّنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ} [الحج: 28].
والثالثة: قولُه تعالى: {وَمِنَ الأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشَاً، كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطَانِ، إنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌ مُبِينٌ * ثَمَانِيَةَ أَزْوَاج} [الأنعام: 142-143] ثم ذكرها.
الرابعة: قولُه تعالى: {هَدْياً بَالِغَ الكَعْبَةِ} [المائدة: 95].
فدلَّ على أنَّ الذى يبلُغ الكعبةَ من الهَدْى هو هذه الأزواجُ الثمانية وهذا استنباطُ علىّ بن أبى طالب رضى اللَّه عنه.
والذبائح التى هى قُرْبة إلى اللَّه وعبادة: هى ثلاثة: الهَدْىُ، والأُضحية، والعقيقةُ.
فأهدى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الغنَم، وأهدى الإبل، وأهدى عن نسائه البقرَ، وأهدى فى مقامه، وفى عُمرته، وفى حَجته، وكانت سُنَّتُه تقليدَ الغنم دون إشعارها.
وكان إذا بعث بهَدْيِه وهو مُقيم لم يَحْرُمْ عَلَيْهِ شىء كان مِنه حَلالاً.
وكان إذا أهدى الإبل، قلَّدها وأَشْعَرَها، فيشُقُّ صفحة سَنَامِها الأيمنِ يسيراً حتى يَسيلَ الدم. قال الشافعى: والإشعار فى الصفحة اليمنى، كذلك أشعر النَّبىُّ صلى الله عليه وسلم.(1/1)
وكان إذا بعث بهَدْيهِ، أمرَ رسولَه إذا أشرف على عَطَبٍ شىءٌ منه أن يَنحره، ثم يَصْبغَ نعلَه فى دمه، ثم يجعلَه على صفحته، ولا يأكل منه هو، ولا أحدٌ من أهل رفقته ثم يقسِمُ لحمه، ومنعه من هذا الأكل سداً للذريعة، فإنه لعلَّه ربَّما قصَّر فى حفظه ليُشارِفَ العطَب، فينحره، ويأكل منه، فإذا علم أنه لا يأكلُ منه شيئاً، اجتهَد فى حفظه.
وشرَّك بين أصحابه فى الهَدْى كما تقدَّم:البدنةُ عن سبعة، والبقرةُ كذلك.
وأباح لسائق الهَدْى ركوبَه بالمعروف إذا احتاج إليه حتى يَجِدَ ظهراً غيرَه وقال علىُّ رضى اللَّه عنه: يشربُ مِن لَبنها ما فضَل عن ولدها.
وكان هَديُه صلى اللَّه عليه وسلم نحرَ الإبل قياماً، مقيَّدة، معقولَة اليُسرى، على ثلاث،
@@@ [ قال الشيخ ابن باز : وهذا هو السنة في نحرها إذا تيسر ذلك ، والحكمة في ذلك والله أعلم حتى يأمن شرها فينحرها فتسقط مباشرة ]
وكان يُسمِّى اللَّهَ عِند نحره، ويُكبِّرُ،
@@@ [ قال الشيخ ابن باز : إذا ترك التسمية والتكبير أو أحدهما ناسياً فلا شيء عليه وإذا ترك التكبير متعمداً فلا شيء عليه لأن العمدة على التسمية والسنة الجمع بينهما ]
وكان يذبح نُسُكه بيده، وربما وكَّل فى بعضه، كما أمر علياً رضى اللَّه عنه أن يذبح ما بقى من المائة. وكان إذا ذبح الغنم، وضع قدَمه على صِفاحها ثم سمَّى وكبَّر، وذبح، وقد تقدَّم أنه نحر بمِنَى وقال:((إنَّ فِجاجَ مَكَّةَ كُلَّهَا مَنْحَرٌ))وقال ابنُ عباس: مناحِرُ البُدن بمكة، ولكنها نُزِّهَتْ عن الدماء، ومِنَى مِن مكة، وكان ابنُ عباس ينحرُ بمكة.
@@@ [ قال الشيخ ابن باز : الأفضل الذبح بمنى إن تيسر والذبح بعرفة لا يجزئ لأنها حلٌ والذبح يكون بالحرم ](1/2)
وأباحَ صلى اللَّه عليه وسلم لأُمَّتِه أن يأكُلوا من هَداياهم وضحاياهم، ويتزوَّدوا منها، ونهاهم مرةً أن يدَّخِروا منها بعد ثلاثٍ لدافَّةٍِ دَفَّتْ عليهم ذلكَ العامَ مِن الناس، فأحبَّ أن يُوسِّعوا عليهم.
@@@ [ قال الشيخ ابن باز : الذبح المنذور لا يأكل منه ولا يتزود منه لأنه للفقراء ]
وذكر أبو دواد من حديث جُبير بن نفير، عن ثوبان قال: ضَحَّى رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثم قَالَ: ((يا ثَوْبَانُ أَصْلِحْ لَنَا لَحْمَ هذِهِ الشَّاةِ)) قال: فَمَا زِلْتُ أُطْعِمُهُ مِنْهَا حَتَّى قَدِمَ المَدِينَةَ.
وروى مسلم هذه القصة، ولفظه فيها:أن رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم قال له فى حَجة الوداع:((أَصْلِحْ هذَا اللَّحْمَ)) قال: فَأصْلحْتُه، فَلَمْ يَزَلْ يَأْكُلُ مِنْهُ حَتَّى بَلَغَ المَدِينَة.
@@@ [ قال الشيخ ابن باز : في هذين الحديثين جواز الإدخار من لحوم الهدي ]
وكان رُبَّما قسم لُحوم الهَدْى، ورُبما قال: ((مَنْ شَاءَ اقْتَطَعَ)) فعل هذا، وفعل هذا، واستدل بهذا على جواز النُّهبة فى النِّثار فى العُرس ونحوه، وفُرِّقَ بينهما بما لا يَتَبَّينُ.
@@@ [ قال الشيخ ابن باز : يعنى فعل التقسيم وتركه ، والنثار ما يطرحه النساء في الأعراس من الأموال للصغيرات والدفافات ]
فصل
وكان مِن هَدْيه صلى اللَّه عليه وسلم ذبحُ هَدْى العُمرة عند المروةِ، وهَدْىِ القِران بمِنَى، وكذلك كان ابنُ عمر يفعل، ولم ينحر هَدْيَه صلى اللَّه عليه وسلم قطُّ إلا بعد أن حَلَّ، ولم ينحره قبل يومِ النحر، ولا أحدٌ مِن الصحابة البتة، ولم ينحره أيضاً إلا بعد طُلوع الشمس، وبعد الرمى، فهى أربعة أُمور مرتبة يوم النحر، أولها: الرمىُ، ثم النَّحرُ، ثمَّ الحلقُ، ثم الطوافُ، وهكذا رتَّبها صلى اللَّه عليه وسلم ولم يُرخِّص فى النحر قبل طلوعِ الشمس البتة، ولا ريبَ أن ذَلكَ مخالف لهَدْيِه، فحكمُه حكمُ الأُضحية إذا ذُبحت قبلَ طلوعِ الشمسِ.(1/3)
@@@ [ قال الشيخ ابن باز : وهذا قول لبعض أهل العلم وهو جواز النحر قبل طلوع الشمس بعد الفجر والأولى النحر بعد طلوع الشمس ]
فصل
وأما هديُه صلى الله عليه وسلم فى الأضاحى
فإنه صلى اللَّه عليه وسلم لم يكن يَدَعُ الأُضحية، وكان يُضَحِّى بكبشين، وكان ينحرُهما بعد صلاة العيد، وأخبر أن: ((مَنْ ذَبَحَ قَبْلَ الصَّلاةِ، فَلَيْسَ مِنَ النُّسُكِ فى شَىءٍ، وإنَّمَا هُوَ لَحْمٌ قَدَّمَهُ لأَهْلِهِ)). هذا الَّذى دلَّت عليه سُنَّتُه وهَدْيُه، لا الاعتبارُ بوقت الصلاة والخطبة، بل بنَفس فِعلها، وهذا هو الذى ندينُ اللَّه به، وأمرهم أن يَذبحوا الجَذَعَ مِن الضَّأْنِ والثَّنِىَّ مِمَّا سِوَاهُ، وهى المُسِنَّة.
وروى عنه أنه قَال: ((كُلُّ أيَّامِ التَّشْرِيقِ ذَبْحٌ)) لكنَّ الحديثَ مُنقطعٌ لا يثبُت وصلُه.
وأما نهيهُ عن ادِّخارِ لحومِ الأضاحى فوقَ ثلاثٍ، فلا يدُل على أن أيام الذبح ثلاثة فقط، لأن الحديث دليل على نهى الذابح أن يدَّخِرَ شيئاً فوق ثلاثة أيام مِن يوم ذبحه، فلو أخَّر الذبح إلى اليوم الثالث، لجاز له الادِّخارُ وقتَ النهى ما بينه وبين ثلاثة أيام، والَّذين حدَّدوه بالثلاث، فهموا من نهيه عن الادِّخار فوقَ ثلاث أنَّ أولها من يوم النحر، قالوا: وغيرُ جائز أن يكون الذبحُ مشروعاً فى وقت يحرُم فيه الأكلُ، قالوا: ثم نُسِخَ تحريم الأكل فبقى وقت الذبح بحاله.
فيقال لهم: إن النبىَّ صلى الله عليه وسلم لم يَنْهَ إلا عن الادِّخارِ فوق ثلاث، لم ينه عن التضحية بعد ثلاث، فأين أحدهما من الآخر، ولا تلازم بين ما نهى عنه، وبين اختصاصِ الذبح بثلاث لوجهين..
أحدهما: أنه يسوغُ الذبحُ فى اليوم الثانى والثالثِ، فيجوزُ له الادِّخار إلى تمام الثلاث من يوم الذبح، ولا يَتِمُّ لكم الاستدلالُ حتى يثبت النهىُ عن الذبح بعد يوم النحر، ولا سبيلَ لكم إلى هذا.(1/4)
الثانى: أنه لو ذبح فى آخر جزءٍ من يوم النحر، لساغ له حينئذ الادِّخارُ ثلاثة أيامٍ بعده بمقتضى الحديث، وقد قال علىُّ بن أبى طالب رضى اللَّه عنه: أيامُ النحر: يوم الأضحى، وثلاثة أيام بعده، وهو مذهبُ إمام أهلِ البصرةِ الحسنِ، وإمام أهل مكة عطاءِ بن أبى رباح، وإمامِ أهلِ الشام الأوزاعى، وإمامِ فقهاء أهلِ الحديث الشافعى رحمه اللَّه، واختاره ابنُ المنذر، ولأن الثلاثة تختصُّ بكونها أيام مِنَى، وأيام الرمى، وأَيام التشريق، ويحرُم صيامُها، فهى إخوة فى هذه الأحكام، فكيف تفترق فى جواز الذبح بغير نص ولا إجماع. وروى من وجهين مختلفين يَشُدُّ أحدُهما الآخر عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((كُلُّ مِنَى مَنْحَرٌ، وَكُلُّ أَيامِ التَّشريِقِ ذَبْحٌ))، وروى من حديث جبير بن مطعم وفيه انقطاع، ومن حديث أُسامة بن زيد، عن عطاء، عن جابر.
قال يعقوب بن سفيان: أُسامة بن زيد عند أهل المدينة ثقة مأمون، وفى هذه المسألة أربعةُ أقوال، هذا أحدُها.
والثانى: أنَّ وقتَ الذبح، يومُ النَّحر، ويومانِ بعده، وهذا مذهبُ أحمد، ومالك، وأبى حنيفة رحمهم اللَّه، قال أحمد: هو قولُ غيرِ واحدٍ من أصحابِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وذكره الأثرم عن ابن عمر، وابن عباس رضى اللَّه عنهم.
الثالث: أنَّ وقتَ النحر يومٌ واحد، وهو قولُ ابنِ سيرين، لأنه اختصَّ بهذه التسميةِ، فدلَّ على اختصاص حكمِها به، ولو جاز فى الثلاثة، لقيل لها: أيامُ النحر، كما قيل لها: أيامُ الرمى، وأيامُ مِنَى، وأيامٍُ التشريقِ، ولأن العيد يُضاف إلى النَّحر، وهو يومٌ واحد، كما يقال: عيد الفطر.
الرابع: قولُ سعيدِ بنِ جبير، وجابرِ بن زيد: أنه يوم واحد فى الأمصار، وثلاثةُ أيام فى مِنَى، لأنها هناك أيام أعمالِ المناسكِ من الرمىِ والطواف والحلقِ، فكانت أياماً للذبح، بخلاف أهلِ الأمصار.
@@@ ( مغرب الأحد 29 / 4 / 1413هـ )
فصل(1/5)
ومن هَدْيه - صلى اللَّه عليه وسلم -: أن مَن أراد التَّضحيةَ، ودخل يومُ العشر، فلا يأخُذْ مِن شعره وبشره شيئاً، ثبت النهىُ عن ذلك فى ((صحيح مسلم)) وأما الدارقطنى فقال: الصحيحُ عندى أنه موقوف على أُمِّ سلمة.
@@@ [ قال الشيخ ابن باز :الأضحية سنة مؤكدة وهو قول الجمهور والمضحي هو الذي يمسك عن شعره وبشرته وأما أولاده ونساؤه فلا يلزمهم الإمساك عن أبشارهم وشعورهم ومن أخذ من شعره وبشره شيئاً فلا شيء عليه ]
وكان مِن هَدْيه صلى اللَّه عليه وسلم اختيارُ الأُضحيةِ، واستحسانُها، وسلامُتها مِن العُيوب، ونهى أَنْ يُضَحَّى بِعَضْبَاءِ الأَذُنِ والقَرْنِ، أى: مقطوعة الأذن، ومكسورة القَرن، النصف فما زاد، ذكره أبو داود، وأمرَ أَنْ تُسْتَشْرَفَ العَيْنُ والأُذُنُ، أى: يُنظر إلى سلامتها، وأن لا يُضحَّى بِعَوْرَاءَ، ولا مُقابَلَة، ولا مُدَابَرَة، ولا شرقاءَ، ولا خَرْقَاءَ. والمُقَابَلَةُ: هى التى قُطِعَ مُقَدَّمُ أُذُنِها، والمُدَابَرَةُ: الَّتِى قُطِعَ مُؤَخَّرُ أُذُنِهَا، والشَّرُقَاءُ: الَّتى شُقَّتْ أُذُنُها، والخَرْقَاءُ: الَّتى خُرِقَتْ أُذُنُها. ذكره أبو داود.
وذكر عنه أيضاً: ((أَرْبَعٌ لاَ تُجْزِئُ فى الأَضَاحِى: العَوْرَاءُ البَيِّنُ عَوَرُهَا، والمَرِيضَةُ البَيِّنُ مَرَضُهَا، والعَرْجَاءُ البَيِّنُ عَرَجُهَا، والكَسيرَةُ الَّتى لا تُنْقى، والعَجْفَاءُ التى لا تُنْقى)) أى: من هزالها لا مُخَّ فيها.
وذكر أيضاً أنَّ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم نهى عن المُصْفَرةِ، والمُسْتَأْصَلَةِ، والبَخْقَاء، والمُشَيَّعَةِ، والكَسْراء. فالمُصُفَرة: التى تُستأصل أذُنها حتى يَبْدُوَ صِمَاخُها، والمُستَأْصَلَةُ: التى استُؤصِلَ قَرْنُها مِنْ أَصْلِهِ، والبَخْقَاء: التى بخقت عينُها، والمشيَّعة: التى لا تتبع الغنم عَجَفاً وضَعْفاً، والكَسْرَاءُ: الكَسِيرة، واللَّه أعلم.(1/6)
@@@ [ قال الشيخ ابن باز : لا بأس بالتضحية بالمخصي والفحل من المعز والضأن والإبل والبقر ]
فصل
فى أن من هَدْيه صلى الله عليه وسلم أن يُضحِّى بالمُصلَّى
وكان مِن هَدْيه صلى اللَّه عليه وسلم أن يُضحِّىَ بالمُصلَّى، ذكره أبو داود عن جابر أنه شَهِدَ معه الأضحى بالمصلَّى، فلما قَضَى خُطبته نزل مِن منبره، وأُتى بِكَبْشٍ، فذبحه بيده وقال: ((بِسْمِ اللَّه، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، هذَا عَنِّى وَعَمَّن لَمْ يُضَحِّ مِنْ أمتى)) وفى ((الصحيحين)) أنَّ النبىَّ صلى الله عليه وسلم كان يَذْبَحُ وينحَرُ بالمصَلَّى.
@@@ [ قال الشيخ ابن باز : ذبحه صلى الله عليه وسلم بالمصلى والله أعلم ليعرف الناس السنة ولتعليمهم وهو خاص به صلى الله عليه وسلم لأن السنة استقرت بعده ]
وذكر أبو داود عنه: أنه ذبح يومَ النحر كبشيْنِ أقرنين أمْلَحَيْنِ مَوْجُوءَينِ، فلما وجَّهَهُمَا قال: ((وجَّهْتُ وَجْهِىَ لِلَّذِى فَطَرَ السَّمَاواتِ وَالأَرْضَ حَنِيفاً، ومَا أَنَا مِنَ المُشْركِينَ، إنَّ صَلاتى وَنُسُكِى وَمَحْيَاىَ وَمَمَاتى للَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ، لا شَريكَ لَهُ، وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أوَّلُ المُسْلِمِينَ، اللَّهُمَّ مِنْكَ وَلَكَ، عَنْ مُحَمَّدٍ وَأُمَّتِهِ، بِسْمِ اللَّهِ، واللَّهُ أكْبَرُ)) ثُمَّ ذَبَح.
وأمَر الناسَ إذا ذبحوا أن يُحسِنُوا الذبح، وإذا قتلُوا أن يُحسِنوا القِتلة، وقال: ((إن اللَّهَ كَتَبَ الإحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَىءٍ)).
وكان من هَدْيه صلى اللَّه عليه وسلم أن الشاة تُجزِئُ عَنًِ الرَّجُلِ، وعَنْ أَهْلِ بَيْتِهِ ولو كَثُرَ عددُهم، كما قال عطاءُ بن يسار: سألتُ أبا أيوبٍ الأنصارىَّ: ((كيف كانت الضَّحايا على عهدِ رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم؟ فقال: إنْ كَانَ الرَّجُلُ يُضَحِّى بالشَّاةِ عَنْهُ وَعَنْ أَهْلِ بَيْتِهِ فَيَأْكُلُونَ وَيُطْعِمُونَ)).
قال الترمذى: حديث حسن صحيح.(1/7)
@@@ ( مغرب الأحد 7 / 5 / 1413هـ )
فصل
فى هَدْيه صلى الله عليه وسلم فى العقيقة
فى ((الموطأ)) أنَّ رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عَنِ العَقِيقَةِ، فقالَ: ((لاَ أُحِبُّ العُقُوقَ)) كأنه كَرِهَ الاسم، ذكره عن زيد بن أسلم، عن رجل من بنى ضَمْرَةَ، عن أبيه. قال ابن عبد البر: وأحسنُ أسانيده ما ذكره عبد الرزاق: أنبأ داود ابن قيس، قال: سمعتُ عمرو بن شعيب يُحدِّث عن أبيه، عن جده قال: سُئل رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ العَقِيقَةِ، فقال: ((لا أُحِبُّ العُقُوقَ)) وكَأَنَّهُ كَرِهَ الاسْمَ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ يَنْسُكُ أَحَدُنَا عَنْ وَلَدِهِ؟ فَقَالَ: ((مَنْ أَحَبَّ مِنْكُم أنَ يَنْسُكَ عَنْ وَلَدِهِ، فَلْيَفْعَلْ: عَنِ الغُلاَم شَاتَانِ، وَعَنِ الجَارِيَةِ شَاة)).
@@@ [ قال الشيخ ابن باز : سنده لا بأس به والعقيقة سنة مؤكدة والأفضل أن تكون في اليوم السابع لحديث سمرة والأفضل أن تكون من الغنم والأفضل في الشاتان أن تكونا في يوم واحد ولا بأس إن عق بالأولى والثانية بعدها بفترة ]
وصح عنه من حديث عائِشَةَ رضى اللَّه عنها: ((عَنِ الغُلام شَاتَانِ، وَعَنِ الجَارِيَةِ شَاةٌ)).
وقال: ((كُلُّ غُلاَم رَهِينَةٌ بِعَقِيقَتِهِ تُذْبَحُ عَنْهُ يَوْمَ السَّابِعِ، ويُحْلَقُ رَأْسُهُ وَيُسَمَّى)).(1/8)
قال الإمام أحمد: معناه: أنه محبوسٌ عن الشفاعة فى أبويه، والرهن فى اللُّغة: الحبس، قال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [المدثر: 38]، وظاهر الحديثِ أنه رهينةٌ فى نفسه، ممنوعٌ محبوس عن خير يُراد به، ولا يلزمُ من ذلك أن يُعاقَب على ذلك فى الآخرة، وإن حُبِسَ بترك أبويه العقيقةَ عما ينالُه مَنْ عَقَّ عنه أبواه، وقد يفوتُ الولَد خير بسبب تفريطِ الأبوين وإن لم يكن مِن كسبه، كما أنَّه عند الجِماع إذا سمَّى أبوه، لم يضرَّ الشيطانُ ولَدَه، وإذا ترك التسميةَ، لم يحصل للولد هذا الحِفْظُ.
@@@ [ قال الشيخ ابن باز : هذا الكلام ليس بجيد وليس عليه دليل وقوله صلى الله عليه وسلم ( كل غلام رهينة بعقيقته ) الله أعلم به ولم يفسره الرسول صلى الله عليه وسلم وتفسير ابن القيم هنا اجتهاد منه ولا يقر عليه ]
وأيضاً فإنَّ هذا إنما يدُلُّ على أنها لازمة لا بُد منها، فشبه لزومَها وعدَمَ انفكاك المولود عنها بالرهن. وقد يَسْتَدِلُّ بهذا مَن يرى وجوبَها كالليث بن سعْد والحسن البصرى، وأهل الظاهر. واللَّه أعلم.
فإن قيل: فكيف تصنعون فى رواية همَّام عن قتادة فى هذا الحديث: ((ويُدَمَّى)) قال همام: سُئِلَ قتادةُ عن قوله: و ((يُدَمَّى)) كيف يصنعُ بالدم؟ فقال: إذا ذُبِحَت العقيقةُ، أُخِذَتْ منها صوفة، واستُقبِلَت بها أوداجُها، ثم تُوضعُ على يافوخِ الصَّبىِّ حتى تَسِيلَ على رأسه مثلَ الخيط، ثم يُغسل رأسه بعد ويُحلق.
@@@ [ قال الشيخ ابن باز : الصواب ( ويسمى ) ورواية ( ويدمى ) وهم ، والسنة في اليوم السابع أن يعق عنه ويسمى ويحلق رأسه ولم يذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم ماذا يفعل باللحم فهو بالإختيار يفعل به كيف شاء ومن لم يعق عنه فيعق عن نفسه ](1/9)
قيل: اختَلَف الناسُ فى ذلك، فمِن قائل: هذا من رواية الحسن عن سَمُرَةَ، ولا يَصِحُّ سماعُه عنه، ومِن قائل: سماعُ الحسن عن سَمُرَةَ حديث العقيقة هذا صحيح، صحَّحه التِرمِذىُّ، وغيرُه، وقد ذكره البخارىُّ فى ((صحيحه)) عن حبيب بن الشهيد قال: قال لى محمَّدُ بنُ سيرين: اذهب فَسَلِ الحَسَنَ ممن سمِع حديثَ العقيقة؟ فسأله فقال: سمعته من سَمُرَة.
ثم اختُلِفَ فى التدميةِ بعدُ: هل هى صحيحة، أو غلط؟ على قولين. فقال أبو داود فى ((سننه)): هى وهم مِن همَّام بن يحيى. وقوله: ((ويُدَمَّى))، إنما هو ((ويُسَمَّى)) وقال غيرُه: كان فى لسان هَمَّام لُثْغَةٌ فقال: ((ويُدَمَّى)) وإنما أراد أن يُسمَّى، وهذا لا يصِح، فإن هماماً وإن كان وَهِمَ فى اللفظ، ولم يُقِمْه لِسانُه، فقد حكى عن قتادة صفةَ التدمية، وأنه سئل عنها فأجاب بذلك، وهذا لا تحتمِلُه اللُّغة بوجه، فإن كان لفظُ التدمية هنا وَهْماً، فهو من قتادة، أو من الحسن، والذين أثبتوا لفظَ التدمية قالوا: إنه من سُنَّة العقيقة، وهذا مروى عن الحسن وقتادة، والذين منعوا التدمية، كمالك، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، قالوا: ((ويُدَمَّى)) غلط، وإنما هو: ((ويُسمَّى))، قالوا: وهذا كان مِن عملِ أهلِ الجاهلية، فأبطله الإسلامُ، بدليل ما رواه أبو داود، عن بُريدة بنِ الحُصَيْبِ قال: كُنَّا فى الجَاهِلِيَّةِ إذَا وُلِدَ لأَحَدِنَا غُلامٌ ذَبَحَ شَاةً وَلَطَّخَ رَأْسَهُ بِدَمِهَا، فَلَمَّا جَاءَ اللَّهُ بالإسْلاَم، كُنَّا نَذْبَحُ شَاةً وَنَحْلِقُ رَأْسَهُ وَنُلَطِّخُه بِزَعْفَرَان. قالوا: وَهَذَا وإنْ كَانَ فى إسناده الحسين بن واقد، ولا يُحتَجُّ به، فإذا انضاف إلى قولِ النبىَّ صلى الله عليه وسلم: ((أَمِيطُوا عَنْهُ الأَذَى)) والدم أذى، فكيف يأمرهم أن يلطِّخوه بالأذى؟ قالوا: ومعلومٌ أن النبىَّ صلى الله عليه وسلم عَقَّ عَنِ الحَسَنِ والحُسَيْنِ بِكَبْشٍ كَبْشٍ، وَلَمْ(1/10)
يُدَمِّهِمَا، ولا كانَ ذلكَ مِنْ هَدْيه، وهَدْىِ أصحابِه، قالوا:وكيفِ يكونُ مِن سُنَّته تنجيسُ رأسِ المولود، وأين لهذا شاهدٌ ونظيرٌ فى سُنَّته؟؟وإنما يَليقُ هذا بأهلِ الجَاهلية.
فصل
فإن قيل: عَقُّه عن الحسن والحُسينِ بِكبش كبشٍ، يَدُلُّ على أن هَدْيه أن على الرأسِ رأساً، وقد صحح عبدُ الحق الإشبيلى من حديثِ ابنِ عبَّاس وأنسٍ أنَّ النبى صلى الله عليه وسلم عَقَّ عَنِ الحَسَنِ بِكَبْشٍ، وعَنِ الحُسينِ بِكَبْشٍ وكَانَ مولدُ الحسن عامَ أُحُدٍ والحسين فى العام القابل منه.
@@@ [ قال الشيخ ابن باز : الصواب أنه صلى الله عليه وسلم عق بكبشين كبشين عن الحسن والحسين ورواية الزيادة مقدمة على من لم يذكر الزيادة فالصواب على ما رواه النسائي ( كبشين كبشين ) والعقيقة تعم كل غلام سواء مات قبل السابع أو بقي على قيد الحياة ]
وروى الترمذىُّ من حديث علىّ رضى اللَّه عنه قال: عَقَّ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عن الحسنِ شاة، وقال: ((يا فَاطِمَةُ احْلِقِى رَأْسَهُ، وَتَصَدَّقِى بِزِنَةِ شَعْرِهِ فِضَّةً))، فوزنَّاه فَكَانَ وزنُه دِرهماً أوْ بعضَ دِرهمَ، وهذا وإن لم يكن إسناده متصلاً فحديثُ أَنس وابن عباس يكفيان.
@@@[ قال الشيخ ابن باز : المحفوظ هو الحلق والتسمية والعقيقة وأما وزن شعره والتصدق به على الفقراء فهو غير محفوظ وليس بشيء فالحديث فيه ضعيف من جهة السند شاذ من حيث المتن حيث أنه يخالف الأحاديث الصحيحة فالصدقة بوزن الشعر فضة لا دليل عليه والحلق يكون للذكر دون الأنثى ولا بأس في حلق رأس الأنثى للمصلحة لا أنه سنة فالثابت هو الحلق ولم يثبت في الصدقة شيء ، أما السقط فإذا ظهر فيه التخليق فيعق عنه وإلا فلا ]
قالُوا: لأنه نُسُكٌ، فكان على الرأس مثلُه، كالأُضحية ودمِ التمتع. فالجواب أن أحاديثَ الشّاتين عن الذكر، والشاة عن الأُنثى، أولى أن يؤخذ بها لوجوه..(1/11)
أحدُها: كثرتُها، فإن رواتَها: عائشةُ، وعبدُ اللَّه بن عمرو، وأمَُّ كُرْزِ الكعبية، وأسماءُ.
فروى أبو داود عن أمِّ كُرز قالت: سمعتُ رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يقول: ((عَنِ الغُلامِ شَاتَانِ مُكَافِئَتَانِ، وَعَنِ الجَارِيةِ شَاةٌ)).
قال أبو داود: وسمعتُ أحمد يقولُ: مُكافئتانِ: مستويتانِ أو مقاربتان، قلتُ: هو مكَافَأتانِ بفتح الفاء، ومكَافِئَتان بكسرها، والمحدِّثون يختارونَ الفتحَ، قال الزمخشرى: لا فرقَ بين الروايتين، لأن كل مَنْ كافأْته، فقد كافأَك. وروى أيضاً عنها ترفعُه: سمعتُ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: ((أَقِرُّوا الطَّيْرَ عَلَى مَكِنَاتِهَا)) وسمعتُه يقول: ((عَن الغُلامِ شَاتَانِ مُكَافِئَتَانِ، وَعَنِ الجَارِيَةِ شَاةٌ، لاَ يَضُرُّكُم أذُكْرَاناً كُنَّ أَمْ إنَاثاً))، وعنها أيضاً ترفعه: ((عَنِ الغُلامِ شَاتَانِ مِثْلانِ، وَعَنِ الجَارِيَةِ شَاةٌ))، وقال الترمذى: حديثٌ صحيح.
وقد تقدَّم حديثُ عمرو بن شُعيب، عن أبيه، عن جدِّه فى ذلك، وعَنْ عائِشة أنَّ النبىَّ صلى الله عليه وسلم أَمرَهُم عَنِ الغُلامِ شَاتَانِ مُكَافِئَتَانِ، وَعَنِ الجَاريَةِ شَاةٌ. قال الترمذى: حديث حسن صحيح.
وروى إسماعيل بن عَيَّاش، عن ثابتِ بنِ عَجلان، عن مجاهد عن أسماء، عَن النبىِّ صلى الله عليه وسلم قال: ((يُعَقُّ عَنِ الغُلامِ شَاتَانِ مُكَافِئَتَانِ وَعَنِ الجَارِيَةِ شَاةٌ)).
قال مهنا: قلتُ لأحمد: مَن أسماء؟ فقال: ينبغى أن تكون أسماءَ بنتَ أبى بكر.(1/12)
وفى كتاب الخلال: قال مهنا: قلتُ لأحمد: حدثنا خَالِدُ بنُ خِداش، قال: حدثنا عبد اللَّه بن وهب، قال: حدثنا عمرو بن الحارث أن أيوب ابن موسى حدَّثه، أن يزيد بن عبد المزنى حدَّثه، عن أبيه، أن النبىَّ صلى الله عليه وسلم قال: ((يُعَقُّ عَنِ الغُلامِ، وَلاَ يُمَسُّ رَأْسُهُ بِدَمٍ))، وقال: ((فى الإبِلِ الفَرَعُ، وَفى الغَنَمِ الفَرَعُ)) فقال أحمد: ما أعرفه، ولا أعرِفُ عبد بن يزيد المزنى، ولا هذا الحديث، فقلتُ له: أتنكره؟ فقال: لا أعرِفه، وقصةُ الحسنِ والحسين رضى اللَّه عنهما حديثُ واحد.
@@@ ( مغرب الأحد 14 / 5 / 1413هـ )
الثانى: أنها من فعل النبى صلى الله عليه وسلم، وأحاديثُ الشاتين من قَوله، وقولُه عام، وفِعْلُه يحتمل الاختصاص.
الثالث: أنها متضمِّنة لزيادة، فكان الأخذُ بها أولى.
الرابع: أن الفعل يدُلُّ على الجواز، والقول على الاستحباب، والأخذُ بهما ممكن، فلا وجه لتعطيل أحدهما.
الخامس: أن قصة الذبح عن الحسن والحسين كانت عام أُحُد والعام الذى بعده، وأم كُرز سَمِعَتْ مِن النبى
صلى الله عليه وسلم ما روته عام الحُديبية سنة ست بعد الذبح عن الحسن والحسين، قاله النسائى فى كتابه الكبير.
السادس: أن قِصة الحسنِ والحُسين يحتمِل أن يُراد بها بيان جنسِ المذبوح، وأنه مِن الكِباش لا تخصيصه بالواحد، كما قالت عائشة: ضحَّى رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم عن نسائه بقرة، وكن تِسعاً، ومرادها: الجنس لا التخصيص بالواحدة.
السابع: أن اللَّه سُبْحَانَه فضَّل الذَّكَرَ على الأُنثى، كما قال: {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى} [آل عمران: 36]، ومقتضى هذا التفاضل ترجيحُه عليها فى الأحكام، وقد جاءت الشريعةُ بهذا التفضيل فى جعل الذكر كالأُنثيين، فى الشهادة، والميراثِ، والديةِ، فكذلك أُلْحِقَتِ العقيقةُ بهذه الأحكام.(1/13)
@@@ [ قال الشيخ ابن باز : السنة أن يذبح عن الابن شاتان وعن البنت شاة ويذبحها ويتصدق بها أو يعملها وليمة فلم تحدد السنة ماذا يفعل بها بعد الذبح فهو بالخيار ]
الثامن: أن العقيقة تُشبه العِتق عن المولود، فإنه رهينٌ بعقيقته، فالعقيقةُ تَفُكُّه وتعتِقه، وكانَ الأولى أن يُعَقَّ عن الذكر بشاتين، وعن الأُنثى بشاة، كما أن عِتق الأُنثيين يقومُ مقام عِتق الذكر. كما فى ((جامع الترمذى)) وغيره عن أبى أُمامة قال: قال رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: ((أيُّمَا امْرىءٍ مُسْلِمٍ أَعْتَقَ امْرَءاً مُسْلِماً، كَانَ فِكَاكَهُ مِنَ النَّارِ، يُجْزِى كُلُّ عُضْوٍ مِنْهُ عُضْواً مِنْهُ، وَأيُّمَا امْرِىءٍ مُسْلِمٍ أَعْتَق امْرَأتَيْنِ مُسْلِمَتَيْنِ كَانَتَا فِكَاكَهُ مِنَ النَّارِ، يُجزى كُلُّ عُضْوٍ مِنْهُمَا عُضْواً مِنْهُ، وأَيُّمَا امْرأَةٍ مُسْلِمَةٍ أَعْتَقَتْ امْرأَةً مُسْلِمَةً كانت فِكَاكَهَا مِنَ النَّارِ، يُجْزى كُلُّ عُضْوٍ مِنْهَا عُضْواً مِنْهَا)) وهذا حديث صحيح.
فصل
ذكر أبو داود فى ((المراسيل)) عن جعفر بن محمد، عن أبيه أن النبىَّ صلى الله عليه وسلم قال فى العقيقة التى عقَّتْها فاطِمةُ عن الحسن والحسين رضى اللَّه عنهما: ((أَنِ ابْعَثُوا إلَى بَيْتِ القَابِلَةِ بِرِجْلٍ وَكُلُوا وَأَطْعِمُوا وَلاَ تَكْسِرُوا مِنْهَا عَظْماً)).
@@@ [ قال الشيخ ابن باز : وهذا مرسل ولا حجة فيه فلا حرج أن يأكل منها ويتصدق ويكسر عظمها ولا شيء عليه وقالوا لا يكسر عظمها تفاؤلاً ]
فصل(1/14)
وذكر ابنُ أيمن مِن حديث أنس رضى اللَّه عنه، أن النبىَّ صلى الله عليه وسلم عَقَّ عَنْ نَفْسِهِ بَعْدَ أَنْ جَاءَتْهُ النُّبُوَّةُ، وهذا الحديثُ قال أبو داود فى ((مسائله)): سمعتُ أحمد حدََّّثهم بحديث الهيثم بنِ جميل، عن عبد اللَّه بن المثنى عن ثُمامة عن أنس أن النبىَّ صلى الله عليه وسلم عَقَّ عن نفسه، فقال أحمد: عبد اللَّه بن محرر عن قتادة عن أنس أن النبى صلى الله عليه وسلم عَقَّ عن نفسه، قال مهنا: قال أحمد: هذا منكر، وضعَّف عبد اللَّه بن المحرر.
@@@ [ قال الشيخ ابن باز : مع ضعف السند فالأفضل للإنسان أن يعق عن نفسه إذا لم يعق عنه والده ولو كان كبيراً هذا هو السنة ]
فصل
ذكر أبو داود عن أبى رافع قال:((رأيتُ النبىَّ صلى الله عليه وسلم أَذَّنَ فى أُذُنِ الحَسَنِ بِنْ عَلِىٍّ حِينَ وَلَدَتْهُ أُمُّه فَاطِمَةُ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهَا بِالصَّلاةِ)).
@@@ [ قال الشيخ ابن باز : هذا الحديث صححه الترمذي عملاً بمن قوى عاصم بن عبيد الله والأكثرون على تضعيفه ويتقوى بما ورد عند البيهقي وأما الإقامة فلم يثبت فيها شيء ووردت عن السلف فالأذان والإقامة لا بأس بفعلهما وتركهما وقد فعلهما السلف فالأذان في اليمنى والإقامة في اليسرى والأذان أقوى من الإقامة من حيث استحبابه ]
فصل
فى هَدْيه صلى الله عليه وسلم فى تسمية المولود وخِتانه(1/15)
قد تقدَّم قولُه فى حديث قتادة عن الحسن، عن سَمُرَةَ فى العقيقة: ((تُذْبَحُ يَوْمَ سًَابِعِهِ وَيُسَمَّى)) قال الميمونى: تذاكرنا لِكَم يُسَمَّى الصبىُّ؟ قال لنا أبو عبد اللَّه: يُروى عن أنس أنه يُسمَّى لثلاثة، وأما سَمُرة، فقال: يُسمَّى فى اليوم السابع، فأمّا الخِتَان، فقال ابنُ عبّاس: كانوا لا يختنون الغلام حتى يُدرِكَ، قال الميمونى: سمعتُ أحمد يقول: كان الحسن يكره أن يُختن الصبىُّ يومَ سابعه، وقال حنبل: إن أبا عبد اللَّه قال: وإن خُتِنَ يومَ السابع، فلا بأس، وإنما كره الحسن ذلك لئلا يتشبه باليهود، وليس فى هذا شىء. قال مكحول: ختن إبراهيمُ ابنه إسحاق لسبعة أيام، وختن إسماعيل لثلاث عشرة سنة، ذكره الخلال. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: فصار خِتان إسحاق سُنَّة فى ولده، وخِتان إسماعيل سُنَّة فى ولده، وقد تقدَّم الخلافُ فى ختان النبىَّ صلى الله عليه وسلم متى كان ذلك.
@@@ [ قال الشيخ ابن باز : التسمية السنة فيها أن تكون في اليوم الأول أو السابع والحلق والعقيقة السنة أن تكون في اليوم السابع وأما الختان فالأمر فيه واسع فمتى اختتن فلا بأس سواء كان صغيراً أو كبيراً ]
@@@ ( مغرب الأحد 21 / 5 / 1413هـ )
فصل
فى هَدْيه صلى الله عليه وسلم فى الأسماء والكُنى
ثبت عنه صلى اللَّه عليه وسلم أنه قال: ((إنَّ أَخْنَعَ اسْمٍ عِنْدَ اللَّهِ رَجُلٌ تَسَمَّى مَلِكَ الأَمْلاَكِ، لاَ مَلِكَ إلاَّ اللَّهُ)).
وثبت عنه أنه قال: ((أحَبُّ الأسْمَاءِ إلَى اللَّهِ عَبْدُ اللَّهِ وعَبْدُ الرَّحْمَنِ، وَأَصْدَقُهَا حَارِثٌ وهَمَّامٌ، وأَقْبَحُهَا حَرْبٌ وَمُرَّةٌ)).
@@@[ قال الشيخ ابن باز : الثابت من الحديث ( أحب الاسماء إلى الله عبد الله وعبد الرحمن ) والزيادة ( وأصدقها حارث وهمام ) فيها نظر وتراجع ](1/16)
وثبت عنه أنه قال: ((لا تُسَمِينَّ غُلامَكَ يَسَاراً وَلاَ رَبَاحاً وَلاَ نَجِيحاً وَلاَ أَفْلَحَ، فَإنَّكَ تَقُولُ: أَثَمَّتَ هُوَ؟ فَلاَ يَكُونُ، فَيُقَالُ: لا)).
... ... ... ... ...
@@@[ قال الشيخ ابن باز : كان هذا النهي أولاً ثم أذن لهم بالتسمي بها ففي الصحابة رباح ويسار ونافع ... فيحتمل أن ذلك نسخاً فنسخ الحكم من التحريم إلى الإباحة أو يكون النهي هنا للكراهة لا للتحريم ]
وثبت عنه أنه غيَّر اسم عاصية، وقال: ((أنتِ جَميلَةٌ)).
وكان اسم جُوَيْريَةَ: بَرَّةً، فغيَّره رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم باسم جُوَيْرِيَة.
وقالت زينبُ بنتُ أمِّ سلمة: نهى رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم أن يُسَمَّى بِهذا الاسمِ، فَقَالَ: ((لاَ تُزَكُّوا أَنْفُسَكُم، اللَّهُ أَعْلَمُ بِأَهْلِ البِّر مِنْكُم)).
وغيَّر اسم أَصْرَم بزُرعةَ، وغيَّرَ اسمَ أبى الحَكَم بأبى شُرَيْحٍ.
@@@[ قال الشيخ ابن باز : ورد من اسماء الصحابة مروان بن الحكم وحكيم بن حزام ولم يغيرها صلى الله عليه وسلم فيكون النهي أولاً ثم نسخ إلى الإباحة أو يكون النهي للكراهة لا للتحريم وهذا هو الأقرب ]
وغيَّرَ اسم حَزْن جدِّ سعيد بن المسيب وجعله سَهلاً فأبَى، وقال ((السَّهْلُ يُوطَأ وَيُمْتَهَنُ)).
قال أبو داود: وغيَّرَ النبىُّ صلى الله عليه وسلم اسمَ العَاصِ، وعَزِيز، وعَتْلَةَ، وشَيطَان والحَكَم، وغُراب، وحُباب، وشِهاب، فسماه هِشاماً، وسمِّى حرباً سِلْماً، وسمَّى المضطجعَ المنبعِثَ، وأرضاً عَفْرَةً سمَّاها خَضِرَةً، وشِعْبُ الضَّلالَةِ سماه شِعْبَ الهُدى، وبنو الزِّنية سماهم بنى الرِّشدة، وسمَّى بنى مُغوِيَةَ بنى رِشْدَةَ.(1/17)
@@@ [ قال الشيخ ابن باز : وهذا يحتاج إلى تحقيق لأن المؤلف ألفه في السفر فيذكر الصحيح والضعيف فقد جاء اسم العزيز في القرآن ( امرأة العزيز ) وسمي الرسول صلى الله عليه وسلم ( رؤوف رحيم ) فهذا إذا أطلق على العبد يكون له ما يليق به ولله عز وجل المعنى الأكمل في هذا الإطلاق ]
@@@[ وقال الشيخ ابن باز : اسم إيمان وإسلام لعلها تكون كما سبق ويكون حكمها الكراهة ولكن النبي صلى الله عليه وسلم ترك تغييرها في آخر الأمر مما يدل على أن الأفضل تركها ]
[ وقال أيضاً : التسمية بأفنان وملاك وجبريل لا شيء فيها ]
فصل
فى فقه هذا الباب
لما كانت الأسماءُ قوالِبَ للمعانى، ودالَّةً عليها، اقتضتِ الحكمةُ أن يكونَ بينها وبينها ارتباطٌ وتناسبٌ، وأن لا يكون المعنى معها بمنزلة الأجنبى المحضِ الذى لا تعلُّقَ له بها، فإن حِكمة الحكيم تأبى ذلك، والواقِعُ يشهد بِخَلافه، بل للأسماء تأثيرٌ فى المسميَات، وَلِلْمُسَمَّيَاتِ تأثُّر عن أسمائها فى الحُسن والقبح، والخِفَّة والثِّقَل، واللطافة والكَثَافة، كما قيل:
وقلَّما أَبْصَرَتْ عَيْنَاكَ ذَا لَقَبٍ إلاَّ وَمَعْنَاهُ إن فَكَّرتَ فى لَقَبِهْ
وكان صلى اللَّه عليه وسلم يستحِبُّ الاسم الحسَن، وأمر إذا أَبْرَدُوا إليهِ بَرِيداً أن يَكُونَ حَسَنَ الاسْمِ حَسَنَ الوَجْهِ.
@@@[ قال الشيخ ابن باز : الحديث فيه نظر ]
وكانَ يأخذ المعانى من أسمائِهَا فى المنامِ واليقظة، كما رأى أنه وأصحابَه فى دار عُقبة بن رافِع، فأُتُوا بِرُطَبٍ مِنْ رُطَبِ ابْنِ طَابَ، فأَوَّله بأن لهم الرفعةَ فى الدنيا، والعاقبةَ فى الآخرةِ، وأنَّ الدِّينَ الذى قد اختاره اللَّه لهم قد أرطب وطَابَ، وتَأوَّلَ سُهولة أمرِهم يومَ الحديبية مِن مجيئ سُهيل بن عمرو إليه.(1/18)
وندب جماعة إلى حلب شاة، فقام رجلٌ يحلُبها، فقال: ((ما اسْمُكَ))؟ قال: مُرَّة، فقال: ((اجْلِسْ))، فَقَامَ آخَرُ فقال: ((ما اسْمُكَ))؟ قال: أظنه حَرْب، فقال: ((اجْلِسْ))، فَقَامَ آخرُ فقال: ((ما اسْمُكَ))؟ فقال: يَعِيشُ، فَقَال: ((احلُبها)).
@@@[ قال الشيخ ابن باز : الحديث ضعيف فسنده ليس بجيد ]
وكان يكره الأمكِنةَ المنكرةَ الأسماء، ويكره العُبُورَ فيها، كمَا مَرَّ فى بعضِ غزواته بين جبلين، فسأل عن اسميهما فقالوا: فاضِحٌ ومُخزٍ، فعدلَ عنهما، ولَم يَجُزْ بينهما.
ولما كان بين الأسماء والمسميَّاتِ مِن الارتباط والتناسُبِ والقرابةِ، ما بين قوالب الأشياءِ وحقائِقها، وما بينَ الأرواحِ والأجسامِ، عَبَرَ العَقْلُ مِن كل منهما إلى الآخر، كما كان إياسُ بن معاوية وغيرُه يرى الشخصَ، فيقولُ: ينبغى أن يكونَ اسمُه كَيْتَ وكَيْتَ، فلا يكاد يُخطىءُ، وضِدُّ هذا العبور من الاسم إلى مسماه، كما سأل عمر بن الخطاب رضى اللَّه عنه رجلاً عن اسمه، فقال: جَمْرَةُ، فقال: واسمُ أبيك؟ قال: شِهَابٌ، قال: مِمَّن؟ قال: مِنَ الحُرَقَةِ، قال: فمنزلُك؟ قال: بِحرَّة النَّار، قال: فأينَ مسكنُكَ؟ قال: بِذَاتِ لَظَى. قال: اذهَبْ فقد احترق مسكنك، فذهب فوجد الأمرَ كذلك، فَعَبَرَ عمر من الألفاظ إلى أرواحها ومعانيها، كما عَبَرَ النبى صلى الله عليه وسلم من اسم سُهيل إلى سهولة أمرهم يَوْم الحُديبية، فكان الأمرُ كذلك،
@@@[ قال الشيخ ابن باز : وهذا من الفأل فكان النبي صلى الله عليه وسلم يعجبه الفأل وهو إعجابه بالكلمة الطيبة . وإذا كره الأنسان شيئاً فلم يرده عن حاجته فهذا لا شيء فيه أما إذا رده عن حاجته فهذا من الطيرة والتشاؤم وفعل النبي صلى الله عليه وسلم عندما ترك المسير بين جبلين فهنا لم يحجم عن حاجته بل مضى فيها ولكنه غير طريقه ]
@@@ مغرب الأحد 28 / 5 / 1413 هـ(1/19)
وقد أمر النبىُّ صلى الله عليه وسلم أُمَّته بتحسين أسمائهم، وأخبر أنهم يُدعَوْنَ يومَ القِيَامَةِ بها، وفى هذا - واللَّه أعلم - تنبيهٌ على تحسين الأفعال المناسبة لتحسين الأسماء، لتكون الدعوة على رؤوس الأشهاد بالاسم الحسنِ، والوصفِ المناسِبِ له.
وتأمل كيف اشتُقَّ للنبىِّ صلى الله عليه وسلم مِن وصفه اسمان مطابقان لمعناه، وهما أحمد ومحمَّد، فهو لكثرة ما فيه من الصفات المحمودة محمَّد، ولِشرفها وفضلها على صفات غيره أحمد، فارتبط الاسمُ بالمسمى ارتباطَ الروحِ بالجسد، وكذلك تكنيتُه صلى اللَّه عليه وسلم لأبى الحكم بن هشام بأبى جهل كنية مطابقة لوصفه ومعناه، وهو أحقُّ الخَلْقِ بهذه الكُنية، وكذلِك تكنيةُ اللَّه عَزَّ وجَلَّ لعبد العُزَّى بأبى لهب، لما كان مصيره إلى نار ذاتِ لهب، كانت هذه الكُنية أليقَ به وأوفقَ، وهو بها أحقُّ وأخلقُ.
ولما قَدِمَ النبىُّ صلى الله عليه وسلم المدينة، واسمها يَثْرِبُ لا تُعرف بغير هذا الاسم، غيَّره بـ ((طيبة)) لمَّا زال عنها ما فى لفظ يثرِب من التثريب بما فى معنى طَيبة من الطِّيب، استحقت هذا الاسم، وازدادت به طيباً آخر، فأثَّر طِيبُها فى استحقاق الاسم، وزادها طِيباَ إلى طيبها.
ولما كان الاسمُ الحسنُ يقتضى مسمَّاه، ويستدعيه من قرب، قال النبى صلى الله عليه وسلم لبعض قبائل العرب وهو يدعوهم إلى اللَّه وتوحيده: ((يَابَنى عَبْد اللَّهِ، إنَّ اللَّهَ قَدْ حَسَّنَ اسْمَكُم واسْمَ أَبِيكُم)) فانظر كيف دعاهم إلى عبودية اللَّه بحسن اسم أبيهم، وبما فيه من المعنى المقتضى للدعوة، وتأمل أسماءَ الستة المتبارِزين يومَ بدر كيف اقتضى القَدَرُ
@@@[ قال الشيخ ابن باز : هذا فيه نظر والأولى أن يقال اقتضت رحمة الله أو حكمته ](1/20)
مطابقة أسمائهم لأحوالهم يومئذ، فكان الكفارُ: شيبة، وعُتبةَ، والوليدَ، ثلاثة أسماء من الضعف، فالوليدُ له بداية الضعف، وشيبة له نهاية الضعف، كما قال تعالى: {اللَّهُ الَّذِى خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً} [الروم: 54] وعُتْبة من العتب، فدلت أسماؤهم على عتبٍ يَحِلُّ بهم، وضَعْفٍ ينالُهم، وكان أقرانهم من المسلمين: علىٌ، وعبيدةُ، والحارِث، رضى اللَّه عنهم، ثلاثة أسماء تُناسب أوصافهم،
@@@[ قال الشيخ ابن باز : وكلامه هنا فيه نظر ]
وهى العلو، والعبودية، والسعى الذى هو الحرث فعَلَوْا عليهم بعبوديتهم وسعيهم فى حرث الآخرة، ولما كان الاسم مقتضياً لمسماه، ومؤثِّراً فيه، كان أحبُّ الأسماءِ إلى اللَّهِ ما اقتضى أحبَّ الأوصاف إليه، كعبدِ اللَّه، وعبدِ الرحمن، وكان إضافةُ العبودية إلى اسم الله، واسم الرحمن، أحبَّ إليه من إضافتها إلى غيرهما، كالقاهر، والقادر، فعبدُ الرحمن أحبُّ إليه من عبد القادر، وعبدُ اللَّهِ أحبُّ إليه من عَبْدِ ربِّه، وهذا لأن التعلق الذى بين العبد وبين اللَّه إنما هو العبوديةُ المحضة، والتعلُّقُ الذى بين اللَّهِ وبينَ العبد بالرحمة المحضة، فبرحمته كان وجودُه وكمالُ وجوده، والغايةُ التى أوجده لأجلها أن يتألّه له وحده محبةً وخوفاً، ورجاءاً وإجلالاً وتعظيماً، فيكون عَبْداً لِلَّهِ وقد عبده لما فى اسم اللَّه من معنى الإلهية التى يستحيلُ أن تكون لغيره، ولما غلبت رحمتُه غضَبه وكانت الرحمةُ أحبَّ إليه من الغضب، كان عبدُ الرحمن أحبَّ إليه من عبد القاهر.
فصل(1/21)
ولما كان كلُّ عبد متحركاً بالإرادة، والهمُّ مبدأُ الإرادة، ويترتب على إرادته حركتُه وكسبُه، كان أصدقَ الأسماء اسمُ همَّام واسمُ حارث، إذ لا ينفكُّ مسماهما عن حقيقة معناهما، ولما كان المُلْكُ الحقُّ لِلَّهِ وحده، ولا ملك على الحقيقة سواه، كان أخنع اسم وأوضَعه عند اللَّه، وأغضَبه له سمُ ((شاهان شاه)) أى: ملكُ الملوك، وسلطانُ السلاطين، فإن ذلك ليس لأحد غير اللَّه، فتسميةُ غيره بهذا من أبطل الباطل، واللَّه لا يُحب الباطلَ.
وقد ألحقَ بعض أهل العلم بهذا: ((قاضى القضاة)) وقال: ليس قاضى القضاة إلا مَن يقضى الحقّ وهو خيرُ الفاصلين، الذى إذا قضى أمراً فإنما يقول له: كن فيكون.
@@@[ قال الشيخ ابن باز : لأنه بمعنى حاكم الحكام ولكن لو قال قاضي قضاة الرياض فهو أخف فالمحذور هو الإطلاق ]
ويلى هذا الاسم فى الكراهة والقبح والكذب: سيِّدُ الناس، وسيِّدُ الكل، وليس ذلك إلا لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم خاصة، كما قال: ((أنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ القِيَامَةِ وَلاَ فَخْرَ)) فلا يجوز لأحد قطُّ أن يقول عن غيره: إنَّه سيِّدُ الناس وسيِّدُ الكل، كما لا يجوز أن يقول: إنَّه سيِّد ولدِ آدم.
@@@ مغرب الأحد 5 / 6 / 1413 هـ
فصل
ولما كان مسمى الحربِ والمُرَّة أكرَه شئ للنفوس وأقبَحَها عندها، كان أقبحُ الأسماء حرباً ومُرَّة، وعلى قياس هذا حنظلة وحَزْن، وما أشبههما، وما أجدرَ هذه الأسماء بتأثيرها فى مسمياتها، كما أثَّر اسم ((حَزْن)) الحزونة فى سعيد بن المسيِّب وأهلِ بيته.
فصل
فى ندبه صلى الله عليه وسلم أُمَّته إلى التسمى بأسماء الأنبياء(1/22)
ولما كان الأنبياءُ ساداتِ بنى آدم، وأخلاقُهم أشرفَ الأخلاق، وأعمالُهم أَصَحَّ الأعمال، كانت أسماؤهم أشرفَ الأسماء، فندب النبىُّ صلى الله عليه وسلم أُمَّته إلى التسمى بأسمائهم، كما فى سنن أبى داود والنسائى عنه: ((تَسَمَّوْا بأَسْمَاءِ الأنْبِيَاءِ)) ولو لم يكن فى ذلك من المصالح إلا أن الاسمَ يُذَكِّرُ بمسمَّّاه، ويقتضى التعلُّقَ بمعناه، لكفى به مصلحةً مع ما فى ذلك من حفظ أسماء الأنبياء وذِكرها، وأن لا تُنسى، وأن تُذكِّر أسماؤُهم بأوصافهم وأحوالهم.
@@@[ قال الشيخ ابن باز : أشرف الاسماء ما عبّد لله عز وجل واسماء الانبياء حسنة ولكن إطلاقه فيه نظر حيث لا يلزم منها أن تكون أشرف الاسماء ]
فصل
وأما النهى عن تسمية الغلام بـ: يسار وأفلحَ ونجيح ورباح، فهذا لمعنى آخر قد أشار إليه فى الحديث، وهو قوله: ((فإنك تقولُ: أَثَمَّتَ هو؟ فيُقال: لا)) - واللَّه أعلم - هل هذه الزيادة من تمام الحديث المرفوع، أو مدرجةٌ من قول الصحابى، وبكل حال فإن هذه الأسماء لما كانت قد تُوجب تطيُّراً تكرَهه النفوس، ويَصُدُّها عما هى بصدده، كما إذا قلت لرجل: أعندك يَسار، أو رَبَاح، أو أفلَح؟ قال: لا، تطيَّرت أنْتَ وهو مِن ذلك، وقد تقع الطِّيَرةُ لا سيما على المتطيِّرين، فقلَّ مَن تطيَّر إلا ووقعت به طِيرَتُه، وأصابه طائرُه، كما قيل:
تَعَلَّمْ أنَّه لاَ طَيْرَ إلاَّ عَلَى مُتَطَيِّرٍ فَهُو الثُّبُورُ
@@@[ قال الشيخ ابن باز : توقف النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا النهي فسمي من الصحابة نجيح ويسار ونافع وحكيم وغيرها فلعل النهي نسخ فتكون التسمية بها جائزة بلا كراهة وهو الصواب ](1/23)
اقتضت حكمةُ الشارع، الرءوف بأُمَّته، الرحيمِ بهم، أن يمنعَهم من أسبابٍ تُوجب لهم سماعَ المكروه أو وقوعَه، وأن يعدل عنها إلى أسماء تُحَصِّلُ المقصودَ من غير مفسدة، هذا أولى، مع ما ينضاف إلى ذلك من تعليق ضد الاسم عليه، بأن يُسمى يساراً مَن هو مِن أعسر الناس، ونجيحاً مَن لا نجاح عنده، ورَبَاحاً مَن هو من الخاسرين، فيكون قد وقع فى الكذب عليه وعلى اللَّه، وأمر آخر أيضاً وهو أن يُطالَب المسمَّى بمقتضى اسمه، فلا يُوجد عنده، فيجعل ذلك سبباً لذمِّة وسبِّه، كما قيل:
سَمَّوْكَ مِنْ جَهْلِهِم سَدِيداً واللَّه ِ مَا فِيكَ مِن ْ سَدَادِ
أنتَ الَّذِى كَوْنُه فَسَاداً فِى عَالَمِ الكَوْنِ والفَسَادِ
فتوصل الشاعر بهذا الاسم إلى ذم المسمَّى به، ولى من أبيات:
وسَمَّيْتُه صَالِحَاً فاغْتَدَى بِضِدِّ اسْمِهِ فى الوَرَى سَائِراً
وَظَنَّ بأنَّ اسْمَهُ سَاتِرٌ لأوْصَافِهِ فَغَدَا شَاهِراً
وهذا كما أن من المدح ما يكون ذماً وموجِباً لسقوط مرتبة الممدوح عند الناس، فإنه يُمدح بما ليس فيه، فتُطالبه النفوسُ بما مُدِحَ به، وتظنّه عنده، فلا تجدهُ كذلك، فتنقلِبُ ذَمّاً، ولو تُرِكَ بغير مدح، لم تحصُلْ له هذه المفسدة، ويُشبه حاله حال مَن ولى وِلاية سيئة، ثم عُزِلَ عنها، فإنه تَنْقُصُ مرتبتُه عما كان عليه قبل الولاية، وينقُصُ فى نفوس الناس عما كان عليه قبلها، وفى هذا قال القائل:
إذَا مَا وَصَفْتَ امْرَءَاً لامْرئٍ فَلاَ تَغْلُ فى وَصْفِهِ وَاقْصِدِ
فَإنَّْكَ إنْ تَغْلُ تَغْلُ الظُّنُو نُ فيهِ إلى الأمَدِ الأَبْعَدِ
فَيَنْقُصُ مِنْ حَيْثُ عَظَّمْتَه لِفَضْلِ المَغِيبِ عَنِ المَشْهَدِ(1/24)
وأمر آخر: وهو ظنُّ المسمى واعتقادُه فى نفسه أنه كذلك، فيقعُ فى تزكية نفسه وتعظيمها وترفُّعِهَا على غيره، وهذا هو المعنى الذى نهى النبىُّ صلى الله عليه وسلم لأجله أن تُسمى ((بَرَّة)) وقال: ((لا تُزَكُّوا أنْفُسَكُم، اللَّه أعْلَمُ بِأَهْلِ البِرِّ مِنْكُم)).
وعلى هذا فتُكره التسمية بـ: التَّقى، والمتَّقى، والمُطيعِ، والطائع، والراضى، والمُحسن، والمخلِص، والمنيب، والرشيدِ، والسديد. وأما تسميةُ الكفار بذلك، فلا يجوز التمكينُ منه، ولا دُعاؤُهُم بشئٍ من هذه الأسماء، ولا الإخبارُ عنهم بها، واللَّه عَزَّ وجَلَّ يغضَب مِن تسميتهم بذلك.
@@@[ قال الشيخ ابن باز : ينبغي أن يقتصد المرء في الأوصاف بالتقي والورع والزاهد لأنه قد يكون المزكى خلاف ما وٌصِفَ به أما الأسماء فالغالب أنه لا يقصد بها معناها وإنما المقصود بها التعريف فقط ]
@@@ مغرب الأحد 12 / 6 / 1413هـ
فصل
فى الكُنَى
وأما الكُنْية فهى نوعُ تكريم لِلمَكْنِّى وتنويهٌ به كما قال الشاعر:
أَكْنِيهِ حينَ أُنَادِيهِ لأُكْرِمَه وَلاَ أُلِقِّبُهُ وَالسَّوْءَةُ اللَّقَبُ
وكنَّى النبى صلى الله عليه وسلم صُهيباً بأبى يحيى، وكًَنَّى علياً رضى اللَّه عنه بأبى تراب إلى كنيته بأبى الحسن، وكانت أحبَّ كنيته إليه، وكنَّى أخا أنسِ بن مالك وكان صغيراً دون البلوغ بأبى عُمير.
وكان هَدْيُه صلى اللَّه عليه وسلم تكنيةَ مَن له ولد، ومَن لا ولد له، ولم يثبُت عنه أنه نهى عن كُنية إلا الكنية بأبى القاسم، فصح عنه أنه قال: ((تسمَّوْا بِاسْمِى وَلاَ تَكَنَّوْا بِكُنْيتِى)) فاختلف الناسُ فى ذلك على أربعة أقوال:(1/25)
أحدها: أنه لا يجوزُ التَّكَنِّى بكُنيته مطلقاً، سواء أفردها عن اسمه، أو قرنها به، وسواء محياه وبعدَ مماته، وعمدتُهم عمومُ هذا الحديث الصحيح وإطلاقُه، وحكى البيهقى ذلك عن الشافعى، قالوا: لأن النهى إنما كان لأَنَّ معنى هذه الكُنية والتسمية مختصةٌ به صلى اللَّه عليه وسلم، وقد أشار إلى ذلك بقوله: ((واللَّهِ لاَ أُعْطِى أَحَداً، وَلاَ أَمْنَعُ أحَداً، وَإنَّمَا أنَا قَاسِمٌ، أَضَعُ حَيْثُ أُمِرْتُ)) قالوا: ومعلوم أن هذه الصفة ليست على الكمال لغيره، واختلف هؤلاء فى جواز تسمية المولود بقاسم، فأجازه طائفة، ومنعه آخرون، والمجيزون نظروا إلى أنَّ العِلَّة عدمُ مشاركة النبى صلى الله عليه وسلم فيما اختصَّ به من الكُنية، وهذا غيرُ موجود فى الاسم، والمانعون نظروا إلى أن المعنى الذى نهى عنه فى الكُنية موجود مثله هنا فى الاسم سواء، أو هو أولى بالمنع، قالوا: وفى قوله: ((إنما أنا قاسم)) إشعار بهذا الاختصاص.
القول الثانى: أن النهى إنما هو عن الجمع بين اسمه وكُنيته، فإذا أُفِرد أحدُهما عن الآخر، فلا بأس. قال أبو داود: باب مَن رأى أن لا يجمع بينهما، ثم ذكر حديث أبى الزبير عن جابر أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: ((مَن تسمَّى باسمى فلا يَتَكَنَّ بكُنيتى، ومَن تكنَّى بكُنيتى فلا يتسَمَّ باسمى)) ورواه الترمذى وقال: حديث حسن غريب، وقد رواه الترمذى أيضاً من حديث محمد ابن عجلان عن أبيه عن أبى هريرة وقال: حسن صحيح، ولفظه: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أن يَجْمَعَ أحَدٌ بَيْنَ اسمِهِ وكُنيته، ويُسمِّى مُحمَداً أبا القاسم. قال أصحابُ هذا القول: فهذا مقيِّد مفسِّر لما فى ((الصحيحين)) من نهيه عن التكنى بكُنيته، قالوا: ولأن فى الجمع بينهما مشاركةً فى الاختصاص بالاسم والكُنية، فإذا أُفْرِدَ أحدُهما عن الآخر، زال الاختصاص.(1/26)
القول الثالث: جوازُ الجمع بينهما وهو المنقولُ عن مالك، واحتجَّ أصحابُ هذا القول بما رواه أبو داود، والترمذى من حديث محمد ابن الحنفية، عن علىّ رضى اللَّه عنه قال: قلت: يا رسولَ اللَّه ؛ إنْ وُلِدَ لى وَلَدٌ مِنْ بَعْدِكَ أُسَمِّيهِ بِاسْمِكَ وَأَكْنِيةِ بِكُنْيَتِكَ؟ قال: ((نعم)) قال الترمذى: حديث حسن صحيح.
وفى سنن أبى داود عن عائشة قالت: جاءت امرأة، إلى النبى صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رَسُولَ اللَّه ؛ إنى وَلَدْتُ غُلاماً فسميتُه محمداً وكنًَّيته أبا القاسم، فذُكِرَ لى أنك تكره ذلك؟ فقال: ((ما الَّذى أحَلَّ اسْمِى وَحَرَّمَ كُنْيَتِى))، أو ((مَا الَّذِى حَرَّمَ كُنْيَتِى وَأَحَلَّ اسْمِى))؟ قال هؤلاء: وأحاديث المنع منسوخة بهذين الحديثين.(1/27)
القول الرابع: أن التكنى بأبى القاسم كان ممنوعاً منه فى حياة النبى صلى الله عليه وسلم، وهو جائز بعد وفاته، قالوا: وسببُ النَّهى إنَّما كان مختصاً بحياته، فإنه قد ثبت فى ((الصحيح)) من حديث أنس قال: نادى رجل بالبَقيع: يا أبا القاسم، فالتفتَ إليه رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسولَ اللَّه إنى لَمْ أَعْنِكَ، إنما دعوتُ فلاناً، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: ((تسمَّوْا باسْمِى وَلا تَكنَّوا بكُنيتى)) قالوا: وحديثُ علىّ فيه إشارة إلى ذلك بقوله: إن وُلِدَ مِنْ بعدك وَلَدٌ، ولم يسأله عمن يولد له فى حياته، ولكن قال علىّ رضى اللَّه عنه فى هذا الحديث،: ((وكانت رخصة لى)) وقد شذَّ مَن لا يُؤبَه لقوله، فمنع التسمية باسمه صلى اللَّه عليه وسلم قياساً على النهى عن التكَّنى بكُنيته، والصواب أن التسمى باسمه جائز، والتكنى بكُنيته ممنوع منه، والمنع فى حياته أشدُّ، والجمعُ بينهما ممنوع منه، وحديثُ عائشة غريب لا يُعارَض بمثله الحديث الصحيح، وحديث علىّ رضى اللَّه عنه فى صحته نظر، والترمذى فيه نوع تساهل فى التصحيح، وقد قال علىّ: إنها رخصة له، وهذا يدل على بقاء المنع لمن سواه، واللَّه أعلم.
@@@[ قال الشيخ ابن باز : الصواب جواز التكني والتسمي به بعد وفاته صلى الله عليه وسلم لزوال المحذور من الاستخفاف بالرسول صلى الله عليه وسلم والإيذاء له كما في حديث أنس وأدلة الجواز حديث علي رضي الله عند الترمذي ولأن النبي صلى الله عليه وسلم سمى بعض أبناء الصحابة محمداً فالتسمي باسمه جائز مطلقاً حياته وبعد مماته وأما التكني بكنيته فجائزة بعد وفاته ]
فصل(1/28)
وقد كره قومٌ من السَلَف والخَلَف الكنيةَ بأبى عيسى، وأجازها آخرون، فروى أبو داود عن زيد بن أسلم أن عُمَرَ بنَ الخطاب ضرب ابناً له يُكنى أبا عيسى، وأن المغيرةَ بنَ شعبة تكنَّى بأبى عيسى، فقال له عمر: أما يكفيك أن تُكْنَى بأبى عبد اللَّه؟ فقال: إنَّ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم كنَّانى، فقال: إن رسولَ اللَّه قَد غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وما تأخر، وإنَّا لفى جَلْجَتِنَا فلم يَزَل يُكنَّى بأبى عبد اللَّه حتى هَلَكَ.
@@@[ قال الشيخ ابن باز : لا حرج في التكني بأبي عيسى والأثر الذي رواه أبو داود لا يصح عن عمر فزيد بن أسلم لم يدرك عمر فالمحذور أن يقال أن عيسى بن مريم له أب أم التكني بأبي عيسى فلا بأس به ]
وقد كنَّى عائشة بأُمِّ عَبْدِ اللَّه، وكان لنسائه أيضاً كُنَى كأُمِّ حبيبة، وأُمّ سلمة.
فصل
فى النهى عن تسمية العنب كَرْماً
ونهى رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم عن تسمية العِنَبِ كَرْماً وقال: ((الكَرْمُ قَلْبُ المُؤمِنِ)) وهذا لأن هذه اللفظةَ تَدُلُّ على كثرة الخير والمنافع فى المسمَّى بها، وقلبُ المؤمن هو المستحِقُّ لذلك دون شجرة العِنَب، ولكن: هل المرادُ النهىُ عن تخصيصِ شجرة العِنب بهذا الاسم، وأن قلب المؤمن أولى به منه، فلا يُمنع من تسميته بالكَرْم كما قال فى ((المِسكين)) و ((الرَّقُوب)) و ((المُفلِسِ))؟ أو المرادُ أنَّ تسميته بهذا مع اتخاذ الخمرِ المحرَّم منه وصف بالكرم والخير والمنافع لأصل هذا الشراب الخبيثِ المحرَّمِِ، وذلك ذريعةٌ إلى مدح ما حرَّم اللَّه وتهييجِ النفوس إليه؟ هذا محتمل، واللَّه أعلم بمراد رسوله صلى الله عليه وسلم، والأولى أن لا يُسمى شجرُ العنب كَرْماً.
@@@[ قال الشيخ ابن باز : النهي ليس للتحريم لكن لا يلزم من كون الأولى أن لا يسم العنب كرماً أن يكون ذلك ممنوعاً ]
@@@ مغرب الأحد 19 / 6 / 1413
فصل
فى كراهة تسمية العِشاء بالعتمة(1/29)
قال صلى اللَّه عليه وسلم: ((لا تَغْلِبَنَّكُمُ الأعْرَابُ عَلَى اسم صَلاتِكُم، أَلاَ وَإنَّهَا العِشَاءُ، وَإنَّهُمْ يُسَمُّونَهَا العَتَمَةَ))، وصح عنه أنه قال: ((لَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِى العَتَمَةِ والصُّبْحِ، لأَتَوْهُمَا وَلَو حَبْواً)) فقيل: هذا ناسخ للمنع، وقيل بالعكس، والصواب خلافُ القولين، فإن العلم بالتاريخ متعذِّر، ولا تعارُضَ بين الحديثين، فإنه لم يَنْهَ عن إطلاق اسم العتمة بالكُلِّية، وإنما نهى عن أن يُهْجَرَ اسمُ العِشَاء، وهو الاسمُ الذى سمَّاها اللَّه به فى كتابه، ويَغْلِبَ عليها اسمُ العَتَمَةِ، فإذا سُميت العِشَاءَ وأُطلق عليها أحياناً العتمة، فلا بأس، واللَّه أعلم.
@@@[ قال الشيخ ابن باز : وهذا الصواب ]
وهذا محافظة منه صلى اللَّه عليه وسلم على الأسماء التى سمَّى الله بها العبادات، فلا تُهجر، ويؤثر عليها غيرُها، كما فعله المتأخرون فى هجران ألفاظ النصوص، وإيثار المصطلحات الحادثة عليها، ونشأ بسبب هذا من الجهل والفساد ما اللَّهُ به عليم، وهذا كما كان يُحافظ على تقديم ما قدَّمه اللَّه ُ وتأخيرِ ما أخرَّه، كما بدأ بالصفا، وقال: ((أَبْدَأ بمَا بَدَأ اللَّهُ بِهِ)) وبدأ فى العيد بالصلاة. ثم جعل النَّحْرَ بعدها، وأخبر أن: ((مَنْ ذَبَحَ قَبْلَهَا، فَلا نُسَكَ لَهُ)) تقديماً لما بدأ اللَّهُ به فى قوله: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وانْحَرْ} [الكوثر: 2] وبدأ فى أعضاء الوضوء بالوجه، ثم اليدين، ثم الرأس، ثم الرِّجلين، تقديماً لما قدَّمه اللَّه، وتأخيراً لما أخَّره، وتوسيطاً لما وسَّطه، وقدَّم زكاة الفطر على صلاة العيد تقديماً لما قدَّمه فى قوله: {قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى: 13-14] ونظائرهُ كثيرة.
فصل
فى هَدْيه صلى الله عليه وسلم فى حفظ المنطق واختيار الألفاظ(1/30)
كان يتخيَّر فى خِطابه، ويختارُ لأُمته أحسنَ الألفَاظ، وأجملها، وألطفها، وأبعَدها من ألفاظ أهلِ الجفاء والغِلظة والفُحش، فلم يكن فاحشاً ولا متفحِّشاً ولا صَخَّاباً ولا فَظَّاً.
وكان يكرهُ أن يُسْتَعْمَلَ اللفظُ الشريفُ المصونُ فى حقِّ مَنْ ليس كذلك، وأن يُسْتَعمل اللفظُ المَهينُ المكروه فى حقِّ مَن ليس مِن أهله.
فمِن الأول منعهُ أن يُقال للمنافق: ((يا سيدنا)) وقال: ((فإنَّه إنْ يكُ سَيِّداً فَقَدْ أَسْخَطْتُمْ رَبَّكُم عَزَّ وَجَلَّ))،
[ قال الشيخ ابن باز : لا يطلق السيد على شخص على سبيل التبجيل إلا أن يكون معروفاً باسم السيد فلا بأس ]
ومنعُه أن تُسمى شجرةُ العِنب كَرْماً، ومنعُه تسمية أبى جهل بأبى الحَكَم، وكذلك تغييره لاسم أبى الحكم من الصحابة: بأبى شريح، وقال: ((إنَّ اللَّه هو الحكم، وإليه الحكمُ)).
ومِن ذلك نهيُه للمملوك أن يقول لسيِّده أو لسيدته: ربِّى وَرَبَّتِى، وللسَّيِّدِ أن يقول لمملوكِهِ: عَبْدِى، ولَكِن يَقُولُ المالِكُ: فَتَاىَ وفَتَاتِى، ويَقُولُ المملوكُ: سيِّدى وسيِّدتى، وقال لمن ادَّعى أنه طبيب: ((أنْتَ رجلٌ رَفِيقٌ، وَطَبِيبُها الَّذِى خَلَقَهَا))، والجاهِلون يُسمُّون الكافرَ الذى له عِلْمٌ بشئ من الطبيعة حكيماً، وهو مِن أسفه الخلق.
ومن هذا قولُه للخطيب الذى قال: مَنْ يُطع اللَّهَ وَرَسُولَه فَقَدْ رَشَدَ، ومَنْ يَعْصِهِمَا فَقَد غَوَى: ((بئسَ الخَطِيبُ أنْتَ)).
ومن ذلك قولُه: ((لاَ تَقُولُوا: مَاشَاءَ اللَّهُ وشَاءَ فُلانٌ، وَلَكِن قُولُوا: مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ مَا شَاءَ فُلاَنٌ))، وقال له رجل: ما شَاءَ اللَّهُ وشِئْتَ، فَقَالَ: ((أَجَعلْتَنِى لِلَّهِ نِدَّاً؟ قُل: مَا شَاءَ اللَّهُ وَحْدَهُ)).(1/31)
وفى معنى هذا الشرك المنهى عنه قولُ مَن لا يتوقَّى الشرك: أنا باللَّهِ وَبِكَ، وأنا فى حَسْبِ اللَّهِ وحَسْبِكَ، وما لى إلا اللَّهُ وأنتَ، وأنا متوكِّل على اللَّه وعليك، وهذا من اللَّهِ ومِنك، واللَّهُ لى فى السماء وأنت لى فى الأرض، وواللَّهِ وحياتِك، وأمثال هذا من الألفاظ التى يجعل فيها قائِلُهَا المخلوقَ نِدّاً للخالق، وهى أشدُّ منعاً وقُبْحاً من قوله: ما شَاءَ اللَّهُ وشئتَ.
[ قال الشيخ ابن باز : وهذه الألفاظ كلها لا تجوز وشرك وإطلاق الطبيب والخبير على العبد لا بأس به فللعبد ما يناسبه ولله عز وجل الكمال المطلق منها ]
فأما إذا قال: أنا باللَّهِ، ثم بك، وما شاء اللَّهُ، ثم شئتَ، فلا بأس بذلك، كما فى حديث الثلاثة: ((لاَ بَلاَغَ لِىَ اليَوْمَ إلا بِاللَّهِ ثُمَّ بِكَ))، وكما فى الحديث المتقدِّم الإذن أن يقال: ما شاء اللَّهُ ثم شاءَ فلان.
فصل
فى النهى عن سب الدهر
وأما القِسْمُ الثانى وهو أن تُطلق ألفاظُ الذمِّ على مَن ليس مِن أهلها، فمثلُ نهيه صلى اللَّه عليه وسلم عن سبِّ الدهرِ، وقال: ((إنَّ اللَّهَ هُوَ الدَّهْرُ))، وفى حديث آخر: ((يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: يُؤْذِينى ابْنُ آدَمَ فَيَسُبُّ الدَّهْرَ، وأنا الدَّهْرُ، بِيَدِى الأَمْرُ أَقلِّبُ اللَّيلَ والنَّهَارَ))، وفى حديث آخر ((لا يَقُولَنَّ أحَدُكُم: يا خَيْبَةَ الدَّهْرِ)).
[ قال الشيخ ابن باز : أي هو الذي يتصرف في الدهر ويدبره وهكذا سب الأرض والجبال والبهائم فالمقصود هو عدم سب من لا يستحق السب ويستثنى ما كان على سبيل القصاص فمن سب رجلاً وقال أخزاك الله فرد عليه بقوله : بل أنت أخزاك الله فلا بأس به والإثم على المبتديء ]
فى هذا ثلاثُ مفاسد عظيمة. إحداها: سَبُّه مَنْ ليس بأهلٍ أن يُسَب، فإن الدهرَ خَلْقٌ مُسَخَّرٌ مِن خلق اللَّه، منقادٌ لأمره، مذلَّلٌ لتسخيره، فسابُّه أولى بالذمِّ والسبِّ منه.(1/32)
الثانية: أن سبَّه متضمِّن للشرك، فإنه إنما سبَّه لظنَّه أنه يضرُّ وينفع، وأنه مع ذلك ظالم قد ضرَّ مَن لا يستحق الضرر، وأعطى مَن لا يستحقُّ العطَاءَ، ورفع مَن لا يستحقُّ الرِّفعة، وحرم مَن لا يستحِقُ الحِرمان، وهو عند شاتميه من أظلم الظلمة، وأشعارُ هؤلاء الظلمة الخونة فى سبِّه كثيرةٌ جداً، وكثيرٌ من الجُهَّال يُصرِّح بلعنه وتقبيحِه.
الثالثة: أن السبَّ منهم إنما يقعُ على مَن فعل هذه الأفعال التى لو اتَّبَعَ الحقُّ فيها أهواءَهم لفسدتِ السماواتُ والأرض، وإذا وقعت أهواؤُهم، حَمِدُوا الدهرَ، وأَثْنَوْا عليه. وفى حقيقةِ الأمر، فَربُّ الدهر تعالى هو المعطى المانِعُ، الخافِضُ الرافعُ، المعزُّ المذِلُّ، والدهرُ ليس له من الأمر شئ، فمسبَّتهم للدهر مسبَّة للَّه عَزَّ وجَلَّ، ولهذا كانت مؤذيَةً للربِّ تعالَى، كما فى ((الصحيحين)) من حديث أبى هريرة، عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: ((قالَ اللَّه تَعالَى: يُؤْذِينى ابْنُ آدَمَ ؛ يَسُبُّ الدَّهْرَ وأَنَا الدَّهْرُ))، فسابُّ الدهر دائر بين أمرين لا بد له من أحدهما. إما سبُّه لِلَّهِ، أو الشِّركُ به، فإنه إذا اعتقد أن الدهر فاعل مع اللَّه فهو مشرك، وإن اعتقد أن اللَّه وحده هو الذى فعل ذلك وهو يسبُّ مَن فعله، فقد سبَّ اللَّه.
ومن هذا قولُه صلى اللَّه عليه وسلم: ((لاَ يَقُولَنَّ أحَدُكُم: تَعِسَ الشَّيْطَانُ فَإنَّهُ يَتَعَاظَمُ حَتَّى يَكُونَ مِثْلَ البَيْتِ، فَيَقُولُ: بِقُوَّتِى صَرَعْتُهُ، وَلَكِنْ لِيَقُلْ: بسْمِ اللَّهِ، فَإنَّهُ يَتَصَاغَرُ حَتَّى يَكُونَ مِثْلَ الذُّبَابِ)).
[ قال الشيخ ابن باز : الحديث سنده جيد ولعن الشيطان لا بأس به ولا شيء فيه لوروده في السنة ]
وفى حديث آخر: ((إنَّ العَبْدَ إذَا لَعَنَ الشَّيْطَانَ يَقُولُ: إنَّكَ لَتَلْعَنُ مُلَعَّناً)).(1/33)
ومثل هذا قولُ القائل: أخزى اللَّه الشيطان، وقبَّح اللَّهُ الشيطان، فإن ذلك كله يفرحه ويقول علم ابن آدم أنى قد نلته بقوتى ، وذلك مما يعينه على إغوائه ، ولا يفيده شيئاً ، فأرشد النبى صلى الله عليه وسلم من مسه شىء من الشيطان أن يذكر الله تعالى ، ويذكر اسمه ، ويستعيذ بالله منه ، فإن ذلك أنفع له ، وأغيظ للشيطان
[ قال الشيخ ابن باز : الأقرب في هذا الاقتصار على النص فلا يقل ( تعس الشيطان ) وغيره لا بأس به مثل أخزى الله الشيطان لعن الله الشيطان فهذا جائز فالأصل في هذا الجواز إلا ما ورد النص بالنهي عنه ]
@@@ مغرب الأحد 26 / 6 / 1413 هـ
فصل
فى النهى عن قول الرجل: خبثت نفسى
مِن ذلك: نهيُه صلى اللَّه عليه وسلم أن يقولَ الرجل: ((خَبُثَتْ نَفْسِى، ولَكِنْ لِيَقُلْ: لَقِسَتْ نَفْسِى)) ومعناهما واحد: أى: غَثَتْ نفسى، وساء خُلُقُها، فكره لهم لفظَ الخُبث لما فيه من القُبح والشنَاعة، وأرشدهم إلى استعمال الحسن، وهجران القبيح، وإبدالِ اللفظ المكروه بأحسن منه.
ومِن ذلك نهيه صلى اللَّه عليه وسلم عن قول القائل بعد فواتِ الأمر: ((لَو أنِّى فَعَلْتُ كَذَا وَكَذَا)) وقال: ((إنَّ ((لو)) تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ)) وأرشده إلى ما هو أنفعُ له من هذه الكلمة، وهو أن يقول: ((قَدَّرَ اللَّهُ ومَا شَاءَ فَعَلَ))
[ قال الشيخ ابن باز : ويصح أن يقال ( قَدَرُ الله ) وهو الأقرب والأولى والمعنى ( هذا قدر الله ) ](1/34)
وذلك لأن قوله: لو كنتُ فعلتُ كذا وكذا، لم يَفُتْنِى ما فاتنى، أو لم أقع فيما وقعتُ فيه، كلامٌ لا يُجدى عليه فائدةً البتة، فإنه غيرُ مستقبِل لما استدبر من أمره، وغيرُ مستقِيل عَثْرَتَه بـ ((لو))، وفى ضمن ((لو)) ادعاء أن الأمر لو كان كما قدَّره فى نفسه، لكان غيرَ ما قضاه اللَّه وقدَّرَه وشاءه، فإنَّ ما وقع مما يتمنَّى خلافَه إنما وقع بقضاء اللَّه وقَدَرِه ومشيئته، فإذا قال: لو أنى فعلتُ كذا، لكان خلافَ ما وقع فهو مُحال، إذ خلافُ المقدَّر المقْضىِّ مُحال، فقد تضمَّن كلامُه كذباً وجهلاً ومُحالاً، وإن سَلِمَ من التكذيب بالقَدَر، لم يَسْلَم مِن معارضته بقوله: لو أنى فعلتُ كذا، لدفعتُ ما قَدَّر اللَّهُ علىَّ.
فإن قيل: ليس فى هذا ردٌ للقَدَر ولا جَحدٌ له، إذ تلك الأسبابُ التى تمنَّاها أيضاً مِن القَدَر، فهو يقول: لو وقفتُ
لهذا القَدَر،
[ قال الشيخ ابن باز : الأقرب ( لو وفقت لهذا القدر ) ]
لاندفع به عنِّى ذلك القَدَرُ، فإن القَدَرَ يُدفع بعضُه ببعض، كما يُدفع قَدَرُ المرضِ بالدواءِ، وقدرُ الذنوب بالتوبةِ، وقدرُ العدوِّ بالجهاد، فكلاهما من القَدَر.(1/35)
قيل: هذا حقّ، ولكن هذا ينفعُ قبل وقوعِ القَدَر المكروه، وأما إذا وقع، فلا سبيلَ إلى دفعه، وإن كان له سبيلٌ إلى دفعه أو تخفيفه بقَدَر آخر، فهو أولى به من قوله: لو كنتُ فعلته، بل وظيفتُه فى هذه الحالة أن يستقبلَ فعلَه الذى يدفع به أو يخفف أثرَ ما وقع، ولا يتمنَّى ما لا مطمع فى وقوعه، فإنه عجزٌ محضٌ، واللَّه يلومُ على العجز، ويُحب الكَيْسَ، ويأمر به، والكَيْسُ: هو مباشرةُ الأسباب التى ربطَ اللَّهُ بها مُسِّبباتِها النافعة للعبد فى معاشه ومعاده، فهذه تفتحُ عمل الخيرِ، وأما العجزُ، فإنه يفتحُ عملَ الشيطان، فإنه إذا عَجَزَ عما ينفعُه، وصار إلى الأمانى الباطِلة بقوله: لَوْ كَانَ كَذَا وكَذَا، ولو فعلتُ كَذَا، يُفتح عليه عمل الشيطان، فإن بابَه العجزُ والكسل، ولهذا استعاذ النبىُّ صلى الله عليه وسلم منهما، وهما مفتاحُ كلِّ شر، ويصدر عنهما الهمُّ، والحَزَنُ، والجُبْنُ، والبُخْلُ، وَضَلَعُ الدَّيْنِ، وغَلَبَةُ الرِّجَالِ، فمصدرُها كُلها عن العجز والكسل، وعنوانها ((لو))، فلذلك قال النبى صلى الله عليه وسلم: ((فإن ((لو)) تفتحُ عمل الشيطان)) فالمتمنِّى مِن أعجز الناس وأفلسهم، فإن التمنى رأسُ أموال المفاليسِ، والعجزُ مفتاح كُلِّ شر.(1/36)
وأصل المعاصى كُلها العجزُ، فإن العبدَ يَعجِز عن أسباب أعمالِ الطاعات، وعن الأسباب التى تُبْعِدُه عن المعاصى، وتحول بينه وبينها، فيقعُ فى المعاصى، فجمع هذا الحديثُ الشريف فى استعاذته - صلى اللَّه عليه وسلم - أُصولَ الشر وفروعه، ومبادِيَه وغاياتِه، وموارِدَه ومصادرَه، وهو مشتمل على ثمانى خصال، كُلُّ خصلتين منها قرينتان فقال: ((أعُوذُ بِكَ مِنَ الهمِّ والحَزَنِ)) وهما قرينان، فإن المكروه الوارد على القلب ينقسِمُ باعتبار سببه إلى قمسين، فإنه إما أن يكون سببُه أمراً ماضياً، فهو يُحدِثُ الحَزَنَ، وإما أن يكون توقع أمر مستقبل، فهو يُحدِث الهم، وكلاهما مِن العجز، فإن ما مضى لا يُدفع بالحزن، بل بالرضى، والحمد، والصبر، والإيمان بالقَدَر، وقول العبد: قَدَرُ اللَّهِ وَمَا شَاءَ فَعَلَ، وما يُستقبل لا يُدفع أيضاً بالهمِّ، بل إما أن يكون له حيلة فى دفعه، فلا يعجز عنه، وإما أن لا تكون له حيلة فى دفعه، فلا يجزع منه، ويلبسُ له لباسه، ويأخذُ له عُدته، ويتأهّبُ له أُهبته اللائقة به، ويَسْتَجِنُّ بجُنَّةٍ حصينة من التوحيد، والتوكل، والانطراح بين يدى الرب تعالى والاستسلام له والرضى به رباً فى كل شئ، ولا يرضى به رباً فيما يحب دون ما يكره، فإذا كان هكذا، لم يرضَ به رباً على الإطلاق، فلا يرضاه الرب له عبداً على الإطلاق، فالهمُّ والحَزَنُ لا ينفَعَانِ العبد البتة، بل مضرَّتُهما أكثرُ من منفعتهما، فإنهما يُضعفان العزم، ويُوهنان القلبَ، ويحولان بينَ العبدِ وبين الاجتهاد فيما ينفعُه، ويقطعان عليه طريقَ السير، أو يُنكسانه إلى وراء، أو يَعوقَانِهِ ويَقِفَانه، أو يَحْجُبانه عن العَلَمِ الذى كلَّما رآهُ، شمَّر إليه، وجدَّ فى سيره، فهما حِمل ثقيل على ظهر السائر، بل إن عاقه الهمُّ والحزن عن شهواته وإراداته التى تضرُّهُ فى معاشه ومعاده، انتفع به من هذا الوجه، وهذا من حكمة العزيز الحكيم أن سلَّط هذَيْن(1/37)
الجندَيْنِ على القلوب المعرضة عنه، الفارغَةِ من محبته، وخوفه، ورجائه، والإنابة إليه، والتوكل عليه، والأُنسِ به، والفِرار إليه، والانقطاع إليه، ليردَّهَا بما يبتليها به من الهموم والغمومِ، والأحزانِ والآلام القلبية عن كثير من معاصيها وشهواتها المُرْدِية، وهذه القلوبُ فى سجن من الجحيم فى هذه الدار، وإن أريد بها الخيرُ، كان حظُّها من سجن الجحيم فى معادها، ولا تزال فى هذا السجن حتى تتخلَّص إلى فضاء التوحيد، والإقبال على اللَّه، والأُنس به، وجعل محبته فى محل دبيبِ خواطِر القلب ووساوسه، بحيث يكون ذِكْرُه تعالى وحُبُّه وخوفُه ورجاؤُه والفرحُ به والابتهاجُ بذكره، هو المستولى على القلب، الغالبَ عليه، الذى متى فقده، فقد قُوتَهُ الذى لا قِوام له إلا به، ولا بقاء له بدونه، ولا سبيلَ إلى خلاصِ القلب من هذه الآلام التى هى أعظمُ أمراضِه وأفسدُها له إلا بذلك، ولا بلاغَ إلا باللَّه وحدَه، فإنه لا يُوصِل إليه إلا هو، ولا يأتى بالحسنات إلا هو، ولا يَصرِف السيئات إلا هو، ولا يدُلُّ عليه إلا هو، وإذا أرادَ عَبْدَه لأمر، هيَْأَهُ له، فمنه الإيجاد، ومنه الإعداد، ومنه الإمداد، وإذا أقامه فى مقام أىِّ مقام كان، فبحمده أقامه فيه وبحكمته أقامه فيه، ولا يليق به غيرُه ولا يصلُح له سواه، ولا مانِع لما أعطى اللَّهُ، ولا مُعطِىَ لما منع، ولا يمنع عبدَه حقاً هو للعبد، فيكون بمنعه ظالماً له، بل إنما منعه لِيتوسَّل إليه بمحابِّه ليعبُدَه، وليتضرَّع إليه، ويتذلَّل بين يديه، ويتملَّقه، ويُعطى فقرَه إليه حقَّه، بحيث يشهد فى كل ذرَّةٍ من ذَرَّاته الباطنةِ والظاهرةِ فاقة تامةً إليه على تعاقُب الأنفاس، وهذا هو الواقعُ فى نفس الأمر، وإن لم يشهده العبدُ فلم يمنع الربُّ عبده ما العبدُ محتاج إليه بخلاً منه، ولا نقصاً مِن خزائنه، ولا استئثاراً عليه بما هو حقٌّ للعبد، بل منعه ليردَّه إليه، ولِيعزَّه بالتَّذَلُّلِ له،(1/38)
وليُغنيَه بالافتقار إليه، ولِيَجْبُرَهُ بالانكسار بين يديه، وليُذيقَه بمرارةِ المنع حلاوةَ الخضوع له، ولذةَ الفقر إليه، وليُلبسه خلعة العبودية، ويولِّيه بعز له أشرفَ الولايات، ولِيُشْهِدَهُ حكمته فى قُدرته، ورحمتَه فى عزته، وبِرَّه ولطفَه فى قهره، وأنَّ منعه عطاءٌ، وعزلَه تولية، وعقوبتَه تأديبٌ، وامتحانَه محبةٌ وعطية، وتسليطَ أعدائه عليه سائقٌ يسوقه به إليه.
وبالجملة فلا يليق بالعبد غير ما أقيم فيه، وحكمتهُ وحمدُه أقاماه فى مقامه الذى لا يليقُ به سِوَاه، ولا يَحْسُنُ أن يتخطَّاه، واللَّهُ أعلمُ حيثُ يجعلُ مواقعَ عطائِهِ وفضله، واللَّهُ أعلمُ حيثُ يجعل رسالتَهُ {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهم بِبَعْضٍ لِّيَقُولُوا أَهَؤُلاَءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِّن بَيْنِنَا، ألَيْسَ اللَّهُ بأَعْلَمَ بِالشَّاكِربنَ} [الأنعام: 53]، فهو سبحانه أعلمُ بمواقع الفضل، ومحالِّ التخصيص، ومحالِّ الحِرمان، فبحمده وحكمته أعطى، وبحمده وحكمته حَرَم، فمن ردَّه المنعُ إلى الافتقار إليه والتذلُّلِ له، وتملُّقهِ، انقلب المنعُ فى حقه عطاءاً، ومَن شغله عطاؤهُ، وقطعه عنه، انقلب العطاءُ فى حقِّه منعاً، فكلُّ ما شغل العبدَ عن اللَّه، فهو مشؤوم عليه، وكلُّ ما ردَّه إليه فهو رحمة به، والربُّ تعالى يُريد من عبده أن يفعل، ولا يقع الفعلُ حتى يُريد سبحانَه مِن نفسه أن يُعينَه، فهو سُبحانه أراد منَّا الاستقامةَ دائماً، واتخاذَ السبيل إليه، وأخبرنا أن هذا المرادَ لا يقع حتى يُريد من نفسه إعانَتنا عليها ومشيئته لنا، فهما إرادتان: إرادة من عبده أن يفعل، وإرادة من نفسه أن يُعينه، ولا سبيلَ له إلى الفعل إلا بهذه الإرادة، ولا يملِك منها شيئاً، كما قال تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إلاَّ أَن يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير: 29] فإن كان مع العبد روح أخرى، نِسبتُها إلى روحه، كنسبة روحِه إلى بدنه يستدعى بها إرادَةَ(1/39)
اللَّه من نفسه أن يفعلَ به ما يكون به العبدُ فاعلاً، وإلا فمحلُّه غير قابلٍ للعطاء، وليس معه إناء يوضع فيه العطاءُ، فمَن جاء بغير إناءٍ، رجع بالحِرمَانِ، ولا يلومنَّ إلا نفسه.
@@@ مغرب الأحد 3 / 7 / 1413 هـ
والمقصودُ أنَّ النبى صلى الله عليه وسلم استعاذ مِن الهمِّ والحَزَنِ، وهما قرينانِ، ومِنَ العَجزِ والكَسَلِ، وهما قرينان، فإنَّ تَخلُّفَ كمالِ العبد وصلاحِهِ عنه، إما أن يكون لِعدم قدرته عليه، فهو عجز، أو يكونَ قادراً عليه، لكن لا يُريدُ فهو كسل، وينشأ عن هاتين الصفتين، فواتُ كُلِّ خير، وحصولُ كلِّ شر، ومن ذلك الشر تعطيلُه عن النفع ببدنه، وهو الجبن، وعن النفع بماله، وهو البخل، ثم ينشأ له بذلك غلبتان: غلبة بحق، وهى غلبة الدَّيْن، وغلبة بباطل، وهى غلبةُ الرِّجال،
[ قال الشيخ ابن باز : غلبة الرجال قد تكون بحق كمن كان مجرماً متمرداً فسجن أو قتل وغلبة بالباطل وهو الذي استعاذ منه النبي صلى الله عليه وسلم ]
وكلُّ هذه المفاسد ثمرة العجز والكسل، ومن هذا قولُه فى الحديث الصحيحِ للرجل الذى قضى عليه، فقال: حَسْبِىَ اللَّهُ ونِعْمَ الوَكِيلُ، فَقَالَ: ((إنَّ اللَّه يَلُومُ عَلَى العَجْزِ، وَلَكِنْ عَلَيْكَ بالكَيْسِ، فإذَا غَلَبَكَ أمْرٌ فَقُلْ: حَسْبِىَ اللَّهُ وَنِعْمَ الوَكِيلُ))، فهذا قال: حَسْبِىَ اللَّهُ ونِعمَ الوكيلُ بعد عجزه عن الكَيْس الذى لو قام به، لقضى له على خصمه، فلو فعلَ الأسبابَ التى يكون بها كَيِّساً، ثمَّ غُلِبَ فقال: حَسْبِىَ اللَّهُ ونِعْمَ الوكيلُ، لكانت الكلمةُ قد وقعت موقعها، كما أن إبراهيم الخليلَ، لما فعل الأسباب المأمورَ بها، ولم يعجِزْ بتركِها، ولا بتركِ شئ منها، ثم غلبهُ عدوُّه، وألقَوْه فى النار، قال فى تلك الحال: حَسْبِىَ اللَّهُ ونِعْمَ الوَكيلُ فوقعت الكلمةُ موقعها، واستقرت فى مظانِّها، فأثَّرت أثرها، وترتَّب عليها مقتضاها.(1/40)
وكذلك رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم وأصحابُه يوم أُحُد لما قيل لهم بعد إنصرافهم من أُحُد: إن الناسَ قد جمعوا لكم فاخشوهم، فتجهزوا وخرجوا للقاء عدوِّهم، وأعطَوهم الكَيْسَ من نفوسهم، ثم قالوا: حَسْبُنَا اللَّهُ ونِعْمَ الوكيلُ.
[ قال الشيخ ابن باز : المقصود أن المسلم يأخذ بالأسباب - الكيس - ثم يقول ( حسبنا الله ونعم الوكيل ) والكيس هو الأخذ بالأسباب ]
فأثرت الكلِمة أثرَهَا، واقتضت موجبَها، ولهذا قال تعالى: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَّهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 2-3]، وَمَن يَتَوكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ فجعل التوكل بعد التقوى الذى هو قيامُ الأسباب المأمور بها، فحينئذ إن توكَّل على الله فهو حسبُه، وكما قال فى موضع آخر: {وَاتَّقُوا اللَّهَ، وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُؤْمِنُونَ} [المائدة: 11] فالتوكل والحسب بدون قيام الأسباب المأمور بها عجز محض، فإن كان مشوباً بنوعٍ من التوكل، فهو توكُّل عجز، فلا ينبغى للعبد أن يجعلَ توكُّلَهُ عجزاً، ولا يجعلَ عجزَه توكلاً، بل يجعل توكُّلَه مِن جملة الأسباب المأمور بها التى لا يَتِمُّ المقصودُ إلا بها كلِّها.(1/41)
ومن هاهنا غلط طائفتان من الناس، إحداهما: زعمت أن التوكلَ وحده سبب مستقلّ كافٍ فى حصول المراد، فعطَّلت له الأسبابَ التى اقتضتها حِكمةُ اللَّه الموصلة إلى مسبِّباتها، فوقعوا فى نوع تفريط وعجز بحسب ما عطَّلوا من الأسباب، وضَعُفَ توكُّلُهم من حيث ظنوا قوتَه بانفراده عن الأسباب، فجمعوا الهمَّ كُلَّه وصيَّروه هماً واحداً، وهذا وإن كان فيه قوة من هذا الوجه، ففيه ضَعفٌ من جهة أُخرى، فكلما قوى جانبُ التوكل بإفراده، أضعفه التفريطُ فى السبب الذى هو محلُّ التوكل، فإن التوكلَ محلُّه الأسباب، وكمالُه بالتوكل على اللَّه فيها، وهذا كتوكل الحرَّاثِ الذى شق الأرض، وألقى فيها البِذر، فتوكل على اللَّه فى زرعه وإنباتِه، فهذا قد أعطى التوكُّل حقه، ولم يضعُف توكُّله بتعطيل الأرض وتخليتها بوراً، وكذلك توكُّل المسافر فى قطع المسافة مع جِدِّه فى السَّيْرِ، وتوكُّل الأكياس فى النجاة من عذاب اللَّه والفوزِ بثوابه مع اجتهادهم فى طاعته، فهذا هو التوكلُ الذى يترتَّبُ عليه أثرُه، ويكون اللَّهُ حَسْبَ مَن قام به. وأما توكلُ العجز والتفريطِ، فلا يترتبُ عليه أثرُه، وليس اللَّه حَسْبَ صاحِبه، فإن اللَّه إنما يكون حَسْبَ المتوكِّل عليه إذا اتّقاه، وتقواه فعلُ الأسباب المأمور بها، لا إضاعتُها.
والطائفة الثانية: التى قامت بالأسباب، ورأت ارتباطَ المسبِّبات بها شرعاً وقدَراً، وأعرضت عن جانب التوكل، وهذه الطائفةُ وإن نالت بما فعلته من الأسباب ما نالته، فليس لها قوةُ أصحابِ التوكل، ولا عونُ اللَّه لهم وكفايتُه إياهم ودفاعُه عنهم، بل هى مخذولةٌ عاجزة بحسب ما فاتها من التوكّل.(1/42)
فالقوّةُ كلُّ القُوَّة فى التوكل على اللَّه كما قال بعضُ السَلَف: مَن سرَّه أن يكون أقوى الناس فليتوكل على اللَّه، فالقوةُ مضمونة للمتوكِّل، والكفاية والحَسْبُ والدفع عنه، وإنما يَنْقُصُ عليه من ذلك بقدر ما يَنْقُصُ من التقوى والتوكل، وإلا فمع تحققه بهما لا بد أن يجعل اللَّه له مخرجاً مِن كُلِّ ما ضاق على الناس، ويكونُ اللَّهُ حسبَه وكافيه، والمقصودُ أن النبى صلى الله عليه وسلم أرشد العبدَ إلى ما فيه غايةُ كماله، ونيلُ مطلوبه، أن يحرصَ على ما ينفعُه، ويبذُلَ فيه جهده، وحينئذ ينفعُه التحسُّب وقولُ: ((حَسْبِىَ اللَّهُ ونِعْمَ الوكيلُ)) بخلاف مَن عجز وفرَّط حتى فاتته مصلحته، ثم قال:((حَسْبِى اللَّهُ وَنِعْمَ الوَكيلٌُ)) فإن اللَّه يلومه، ولا يكون فى هذا الحال حَسْبَه، فإنما هو حَسَبُ مَن اتَّقاه، وتوكَّل عليه.
[ قال الشيخ ابن باز : التوكل هو الأخذ بالأسباب مع الثقة والاعتماد على الله عز وجل
وقال أيضاً : الدواء مستحب وبعضهم قال مستوي الطرفين لا مستحب ولا مكروه فهو مباح والأفضل التداوي وقول الرسول صلى الله عليه وسلم ( تداووا عباد الله ) يدل على السنية لكن إذا علم أن ترك التداوي يؤدي إلى الموت والهلاك فهنا يقال بالوجوب لئلا يؤدي إلى قتل النفس والصارف حديث الجارية المصابة بالصرع وهو من أقوى الأدلة على أنه سنة ](1/43)