تأليف
العلامة الشيخ سليمان بن عبد الرحمن الحمدان
ت 1397 - رحمه الله -
اعتنى به
عبد الإله بن عثمان الشايع
إذن نشر الكتاب
بسم الله الرحمن الرحيم
نعم أنا أحمد بن عبدالرحمن الحمدان أخو الشيخ سليمان بن عبدالرحمن ابن حمدان - رحمه الله -، أقول إنه ليس لدي مانع من إعادة طبع ونشر كتاب أخي المذكور «الدر النضيد على أبواب التوحيد» .
وهذا إذن مني لعبدالإله بن عثمان الشايع.
والله الموفق.
... ... ... ...
أحمد بن عبدالرحمن الحمدان
التوقيع
21/8/1422هـ
* * *
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة المعتني
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد:
فهذا كتابُ «الدر النضيد على أبواب التوحيد» للشيخ العلاَّمة سليمان بن عبدالرحمن ابن حمدان (ت 1397هـ) - رحمه الله تعالى -، وهو شرح لـ «كتاب التوحيد الذي هو حق الله على العبيد» للشيخ المجدد الإمام محمد بن عبدالوهاب (ت 1115هـ) – رحمه الله تعالى -.
وهذا الشرح يُعد من أفضل الشروح على هذا الكتاب العظيم(1)، وسبق أن طُبع في حياة مؤلفه - رحمه الله -، وقد أذن لي الأستاذ أحمد بن عبدالرحمن بن حمدان – وفقه الله -، وهو شقيق المؤلف بنشر الكتاب، فصارت هذه الطبعة شرعية ولله الحمد ، بعد أن صُوِّر هذا الكتاب من بعض المكتبات !! دون إذن، أو مراجعة.
وتميزت هذه الطبعة - ولله الفضل والمنة - بعدة ميزات ستراها قريباً.
وقد تلخص عملي في هذا الكتاب في النقاط التالية:
* ضبطُ نص الكتاب وتصحيح الأخطاء التي كانت في الطبعة السابقة،
__________
(1) انظر: الكلام على «كتاب التوحيد» وثناء العلماء عليه، ورصد شروحه في كتاب «عناية العلماء بكتاب التوحيد» نشر دار طيبة بالرياض، لراقمه.(1/1)
ورأيت أن لا أشير في الهامش لأكثر هذه التصحيحات حتى لا أثقل الكتاب بالحواشي التي لا تنفع كثيراً من القراء، وقد بلغت هذه الأخطاء ما يقرب من مائتي خطأ، ما بين سقط، وتحريف، وتقديم في بعض المواضع، وأخطاء طباعية، وقد كان اعتمادي على طبعة المكتبة السلفية بمصر، ولم أجد نسخةً خطيَّة للكتاب بعد البحث والتفتيش والسؤال.
* مقابلة النقول التي ينقلها الشارح من مصادرها.
* مقابلة متن «كتاب التوحيد» على أكثر من ثلاث نسخ مطبوعة.
* ترقيم الآيات القرآنية وعزوها إلى سورها.
* تخريج الأحاديث النبوية وعزوها باختصار ونقل حكم العلماء عليها(1).
* عزو ما تيسر من النقول إلى مصادرها.
* صنع فهارس متنوعة للآيات القرآنية، والأحاديث النبوية، والأعلام الذين ترجم لهم الشارح، والفوائد المتنوعة، والموضوعات.
* ترجمتُ للشيخ سليمان بن حمدان، وتكلمت عن كتابه وموارده وميزات شرحه.. وغير ذلك.
أسأل الله سبحانه أن يرحم الشيخَ محمد بن عبدالوهاب والشيخ سليمان بن حمدان، وأن يرفع درجاتهما في أعلى عليين، وأن يحشرنا معهم إنه جواد كريم، وأن يجعل هذا العمل – وهو جهد المُقِلّ – في ميزان حسناتي(2). والحمد لله رب العالمين.
أبو معاذ
عبدالإله بن عثمان بن عبدالله الشايع
19/2/1424هـ
ص.ب 23029 الرياض 11426
* * *
ترجمة المؤلف - رحمه الله ـ
وتتضمن المطالب التالية:
اسمه.
مولده.
شيوخه.
ثناء العلماء عليه.
أعماله.
صفاته الخَلقية.
__________
(1) وقد استفدتُ من كتب العلاَّمة المحدث محمد ناصرالدين الألباني -رحمه الله- كما استفدت من كتاب «الدر النضيد في تخريج كتاب التوحيد» للشيخ صالح العصيمي، وتحقيق الدكتور الوليد الفريان لكتاب «فتح المجيد»، وتحقيق الشيخ زهير الشاويش لكتاب «تيسير العزيز الحميد» وغيرها من الكتب.
(2) ولا يفوتني في هذا المقام أن أشكر الأخ الفاضل أبي عبدالرحمن الشاذلي بن عبدالمطلب عرمان حيث بذل الكثير من الجهد في تنضيد الكتاب وتصحيحه.(1/2)
صفاته وأخلاقه.
طلابه.
نسخه للكتب.
10- مؤلفاته.
11- وفاته.
* * *
ترجمة الشيخ سليمان بن عبدالرحمن بن حمدان(1)
1- اسمه:
هو العلامة الفقيه القاضي الواعظ الصادع بكلمة الحق الشيخ سليمان
ابن عبدالرحمن بن محمد بن حمدان المجمعي النجدي مؤلداً، ثم
المدني، ثم المكي، ثم الطائفي مدفناً.
2- مولده:
ولد في بلده المجمعة عاصمة سدير، عام 1322هـ، وأمه هي فلوة بنت محمد البتيلي.
تزوج ابنة عمه الجوهرة بنت محمد بن حمدان - رحمها الله تعالى -.
وله من الإخوة اثنان عبدالعزيز - رحمه الله -، و أحمد - حفظه الله -، والشيخ سليمان أكبرهم، وأخواته خمس مات منهن أربع - رحمهم الله جميعاً - وواحدة على قيد الحياة.
3- شيوخه:
__________
(1) مصادر ترجمته:
1- علماء نجد خلال ثمانية قرون (2/295-300).
2- موسوعة أسبار (1/353-354).
3- معجم الكتاب والمؤلفين (ص/43-44).
4- روضة الناظرين عن مآثر علماء نجد وحوادث السنين (1/149-150).
5- المجمعة، عبدالكريم بن حمد الحقيل (ص/44، 49، 129).
6- هداية الأريب الأمجد تحقيق الشيخ بكر أبوزيد المقدمة.
7- تتمة الأعلام (1/214) محمد خير رمضان يوسف.
8- معجم مصنفات الحنابلة (7/129-135).
9- مجلة العرب (7/222).
10- تكملة معجم المؤلفين (ص/216) محمد خير رمضان يوسف.
11- كتاب قضاة المدينة المنورة للشيخ عبدالله بن محمد بن زاحم (1/188-191) وهي ترجمة الشيخ عبدالله البسام في كتابه علماء نجد بنصها.
12- معجم المطبوعات العربية في المملكة العربية السعودية، علي جواد الطاهر (614-615).
13- إتمام الأعلام، للدكتور نزار أباظه ومحمد رياض المالح (ص/112)، دار صادر بيروت.
14- الشيخ سليمان بن سحمان وطريقته في تقرير العقيدة، محمد بن حمود الفوزان (ص/118-119)، مكتبة الرشد بالرياض 1420
15- معجم المعاجم والأثبات، للدكتور يوسف المرعشلي (2/566-568).
16- المرجان في ترجمة الشيخ سليمان بن حمدان، لراقمه، يسر الله نشره.(1/3)
أخذ العلم عن طائفة من المشايخ منهم:
الشيخ العلامة عبدالله بن عبداللطيف آل الشيخ (ت 1339هـ).
الشيخ العلامة المؤرخ إبراهيم بن صالح بن عيسى (ت1343هـ).
الشيخ الفقيه حمد بن فارس (ت1345هـ).
الشيخ العلامة الفقيه سعد بن حمد بن عتيق (ت1349هـ).
الشيخ العلامة سليمان بن سحمان (ت1349هـ).
الشيخ العلامة الفقيه عبدالله بن عبدالعزيز العنقري، قاضي سدير (ت 1373هـ).
الشيخ العلامة عبدالستار الدهلوي ثم المكي، أجازه برواية «كتاب التوحيد» عنه، كما أجازه بسائر مؤلفات الشيخ محمد بن عبدالوهاب – رحمه الله -.
4- ثناء العلماء عليه:
قال سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز (ت 1420هـ) - رحمه الله -: «أخونا العلامة الشيخ سليمان بن حمدان رحمه الله القاضي سابقاً في المدينة المنورة» (1) .
قال الشيخ العلامة بكر أبوزيد: «العلامة الفقيه الشيخ سليمان بن عبدالرحمن بن محمد بن حمدان»(2).
5- أعماله:
ولي قضاء المحكمة المستعجلة في الطائف.
عُيِّنَ إماماً وخطيباً لمسجد ابن عباس رضي الله عنهما في الطائف.
وَلِيَ القضاء في المدينة النبوية.
عُيِّنَ إماماً وخطيباً ومدرساً في المسجد النبوي، ومدرساً فيه.
نقل إلى مكة حيث عُيِّن قاضياً في المحكمة المستعجلة، و عضواً في رئاسة القضاء.
تولى القضاء بالمجمعة عام 1364هـ، حتى أحيل إلى التقاعد عام 1369هـ، ثم أقام باقي حياته في مكة شرفها الله.
تولى التدريس في المسجد الحرام.
6- صفاته الخَلقية (3):
كان رَبعةً من الرجال، حسن الطلعة، يعتني بلباسه وهندامه.
7- صفاته وأخلاقه:
تحلَّى الشيخ سليمان – رحمه الله – بالعديد من الصفات منها:
* غيرته الشديده على حرمات الله، وصراحته في قول الحق والصدع به، فهو لا يخشى في الله لومة لائم.
__________
(1) مجموع فتاوى الشيخ ابن باز (جمع الطيار (3/ 1303).
(2) هداية الأريب الأمجد (ص/ ج).
(3) هداية الأريب الأمجد (ص/ ج).(1/4)
* دفاعه عن العقيدة المبنية على الكتاب والسنة والنهج الذي سار عليه السلف الصالح من هذه الأمة
* التقلل من الدنيا ومتاعها وفضولها، والتفرغ لطاعة الله عزوجل، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله، والقيام بالتدريس ونشر العلم الشرعي، وتأليف الكتب النافعه ونسخها، وجمعها.
8- طلابه: منهم:
الشيخ صالح بن محمد الزغيبي.
الشيخ إبراهيم المحمد البسام.
الشيخ حمد بن إبراهيم البسام.
الشيخ عبدالمحسن بن محمد بن عبدالله المانع.
الشيخ محمد الحصان.
الشيخ علي بن عامر الأسدي.
الشيخ عبدالله بن عبدالغني خياط - رحمه الله -.
الشيخ حمود عبدالله التويجري (ت 1413هـ)، قرأ على الشيخ سليمان بن حمدان(1)، وأجازه، ولدي نسخه مصوره من هذه الإجازه.
الشيخ العلامة بكر بن عبدالله أبوزيد - حفظه الله - قرأ على الشيخ سليمان وأجازه، قال الشيخ بكر: «حصلت – بحمد الله – الإجازة مشافهة ومحررة، بجميع كتب الإمام أحمد، وبجميع كتب مسائل الرواية عنه من رواية ابنه عبدالله وغيره، وبجميع كتب مسائل الرواية عنه من رواية ابنه عبدالله وغيره، وبجميع كتب المذهب بدءاً من مختصر الخرقي إلى الآخر، المسندة بفقهاء الحنابلة،: عراقاً، وشاماً، ومصراً، ونجداً، شرقاً، وغرباً، في أثبات جماعة منهم: التغلبي، وعبدالرحمن البعلي، والمواهبي، والسفاريني، والرحيباني، وابن حميد النجدي، وابن حميدان النجدي، المذكورة أثباتهم سابقاً، وما لحقها من إجازات، وأثبات، حصلت لي بالإجازة عن بعض شيوخنا، منهم الشيخ سليمان بن عبدالرحمن بن حمدان النجدي ثم المكي...»(2).
__________
(1) معجم مصنفات الحنابلة (7/ 278).
(2) المدخل المفصل (2/1089).(1/5)
الشيخ يحيى بن الشيخ عثمان بن الحسين عظيم آبادي المكي المدرس. وقد أجازه الشيخ سليمان بن حمدان بالرواية عنه بثبته «إتحاف العدول الثقات بإجازة كتب الحديث والأثبات»، وذلك في يوم الإثنين 7/6/1395هـ(1).
شيخنا العلامة المحدث الشيخ محمد بن عبدالله بن أحمد بن حسن الأوغاديني الصومالي (ولد سنة 1335هـ تقريباً – وتوفي 1420هـ) – رحمه الله – أجازه الشيخ سليمان بالرواية.
الشيخ عبدالله بن ناجي بن محمد بن سيف بن أحمد بن صالح الحصيني المخلافي (ولد سنة 1343هـ - وتوفي سنة 1415هـ) رحمه الله(2).
الشيخ حماد الأنصاري (ت 1418هـ) - رحمه الله - أجازه الشيخ سليمان(3).
الشيخ محمد الشدي – حفظه الله – لازمه أكثر من تسع سنوات.
9- نسخه للكتب:
تميز الشيخ سليمان – رحمه الله - بجودة الخط وحسنه، وكان عنده عناية بنسخ الكتب، وجمع المخطوطات وقد نسخ الكثير منها، وكان له الفضل بعد الله عز وجل في حفظ كثيراً من الكتب منها:
1- جواب شبهة المعتزلة في نفي الصفات: لشيخ الإسلام ابن تيمية (ت 728هـ) - رحمه الله - ، 7 ورقات بخط الشيخ سليمان، نسخها في عام 1341هـ، ومحفوظة مع مكتبته بجامعة الإمام رقم 2239 خ(4).
2- ذيل طبقات الحنابلة: لابن رجب (ت 795هـ)، نسخه الشيخ سليمان في جزئين، 221 ورقة بتاريخ 9/10/1340هـ (5).
3- تقرير وتحرير الفوائد: لابن رجب (ت 795هـ)، نسخة بخط
الشيخ سليمان بتاريخ 1339، في 212 ورقة (6).
__________
(1) النجم البادي في ترجمة العلامة المحدث السلفي يحيى بن عثمان المدرس عظيم أبادي (ص/12)، حاشية 1
(2) المرجع السابق (ص / 17- 18)، ومعجم المعاجم (3/226).
(3) المجموع في ترجمة الشيخ حماد الأنصاري (2/ 859).
(4) الأثبات (ص/83).
(5) المرجع السابق (ص/ 329- 330).
(6) المرجع السابق (ص / 347).(1/6)
3- المغني: للإمام موفق الدين ابن قدامة، والشرح الكبير للإمام ابن أبي عمر، حيث كلفه شيخه الشيخ عبدالله العنقري بجمع نسخ هذين الكتابين مع بعض تلاميذ الشيخ عبدالله، فقاموا بجمع أجزاء نسخ الكتابين من بلدان نجد وقراها، حتى اجتمع لدى الشيخ عبدالله العنقري نسخة كاملة من كل من هذين الكتابين، فأمر تلاميذه بإخراج نسخة من كل من هذين الكتابين، وكان للشيخ سليمان بن حمدان النصيب الأوفر من هذا العمل، وذلك لجمال خطه ولاطلاعه على الأحكام الشرعية، ولجلده في النسخ والمقابلة.
فلما كمل نسخ الكتابين بعثهما الشيخ عبدالله العنقري إلى الملك عبدالعزيز بن سعود، فأمر محمد رشيد رضا بطباعتهما باثني عشر مجلداً(1).
وقد نسخ الشيخ سليمان كتاب «المغني» مراراً. وغير ذلك من الكتب.
10- مؤلفاته (2):
الأجوبة الحسان على أسئلة مرشد باكستان: مطبوع، اعتنى بنشره وقدم له الشيخ عبدالله بن جارالله الجارالله - رحمه الله -، دار التوحيد، الرياض، الطبعة الأولى 1414هـ، في 24 صفحه من القطع الصغير.
أدلة النصوص المصدقة في رد الأكاذيب الملفقة من أهل الإلحاد والزندقة: رقمها (2300)،63 صفحة .
بيان الحجج والأدلة، بحث في عدم الوصول إلى القمر: مخطوط.
تقريب المقاصد بترتيب الفوائد من تقرير القواعد وتحرير الفوائد: ترتيب لقواعد ابن رجب على أبواب الفقه. مخطوط، رقمه (2245) 82 ورقة. رأيته ناقصاً وبه آثار أرضه. قال عنه مؤلفه: «إنه ابتدأ في ترتيبه غرة جماد الآخر من سنة 1352 هـ»، ثم قال: «أسأل الله أن يَمُنَّ بإكماله على أحسن الوجوه وأَتمها، إنه ولي ذلك». كما في طرة المخطوطة.
قلت: رأيت آخر ما وصل له المؤلف إلى باب الفدية حسب ترتيبه.
__________
(1) علماء نجد (2/ 296).
(2) وأكثرها محفوظ في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض، حيث بيعت مكتبة الشيخ سليمان على الجامعة بعد وفاته، وكتبه المخطوطة أكثرها في المكتبة المذكورة.(1/7)
دلالة النصوص والاجماع على فرض القتال للكفر والدفاع: رسالة في أن الجهاد للقتال على الإسلام لا للدفاع. مطبوع، في مطابع دار الطباعة والنشر، عمان، في 115صفحة، والكتاب مخطوط في جامعة الإمام برقم (2301) في 85 صفحه .
الدر النضيد على أبواب كتاب التوحيد: للشيخ محمد بن عبدالوهاب – رحمه الله –، وهو كتابنا هذا.
الرسالة البيروتية: إجابة على أسئلة وردت إليه من بيروت. مطبوعة ، وعندي نسخه خطيه مصورة من هذا الكتاب في 8 صفحات.
الدرة الثمينة في الفرائض: منظومة له في الفرائض على المذهب. مطبوعة. مؤسسة النور، الرياض، في 16 صفحة.
تسهيل المطالب من الدرة الثمينة للطالب: وهو شرح للمنظومة المتقدمة، ويوجد لهذا الشرح نسختين خطيتين، رقم الأولى 2303 في 19 صفحة، والثانية برقم 2319 في 49 صفحة.
بحث في بيان حكم شرب البيبسي والكاكولا وغيرهما من المشروبات الغازية والكحولية. مخطوط.
وأظنه عند بعض تلاميذه في الطائف.
مجموع يضم فتاوى وأشعار ورسائل عدة، يقيد فيه ما يراه أو يسمعه أو يقرأه من الفوائد وغرائب المسائل، وأغلب نقله في الفوائد الحديثية، والألغاز الفقهية، والأسرار اللغوية، والنكات النحوية، والروائع البلاغية، والحكم الشعرية، وغيرها من عيون العلوم والفنون، وهو يدل على وفرة في العلم وسعة في الاطلاع، إلا أن مواد هذا المجموع مفرقة في كراريس متنوعة، ومتناثرة في أوراق مختلفة، لو جمعت ولخصت وبوبت ورتبت، لجاءت في مجلد كبير، ولحصل منها علم غزير.
ملاحظاتي حال مطالعاتي: وهو كما يظهر من اسمه مجموعة نفيسة، يقيد فيها ما يراه من التحقيقات والتصحيحات والتصويبات … حيال عدد من الكتب التي يطالعها، وهو متضمنة لفوائد منتخبة متنوعة. مخطوطة. لدي نسخه مصوره منها.
رسالة في مناسك الحج، وهي نبذة لطيفة مختصرة.
نظم دليل الطالب في الفقه الحنبلي، مخطوط.(1/8)
نقض المباني من فتوى اليماني، وتحقيق المرام فيما يتعلق بالمقام: مطبوع. مطبعة المدني، القاهرة 1383هـ، رقمها (2302) في 116صفحة.
وهذا الكتاب رد على الشيخ يحيى المعلمي اليماني - رحمه الله تعالى -.
هداية الأريب الأمجد في معرفة أصحاب الرواية عن الإمام أحمد: طبع بتحقيق الشيخ بكر أبوزيد ، ورقم مخطوطته (2305).
طبقات الحنابلة: (تراجم لمتأخري الحنابلة)، مطبوع بتحقيق الشيخ بكر أبوزيد، وهو مخطوط في مكتبة جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض تحت رقم (2261) في 159 صفحة.
ثبته في رواية كتب السنة: مطبوع.
ترجمة الشيخ سليمان بن سحمان: مخطوطه في مكتبة جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض تحت رقم (2329) في ورقتين. عندي نسختين منه، وقد طبع في مقدمة كتاب الشيخ سليمان بن سحمان (ص/ أ- و) «الهدية السنية التحفة الوهابية النجدية» مجموع خمس رسائل لكبار أئمة نجد وعلمائها ، طبع مكتبة التوفيق، 1389هـ.
البراهين والأدلة الكافية في القناعة برفع المسيح وأن نزوله من أشراط الساعة: مطبوع في مصر مطبعة الإمام، في 35 صفحة(1) . ومخطوطته برقم (2299).
الدرة الثمينة فيما يشرع و يمنع في حق قاصد المدينة: في 7 صفحات، رقمها (2288)، وعندي مصورة منها وقد انتهيت من تحقيقها.
ما رأيت وما سمعت من الفوائد في القضايا الفقهية: مخطوط رقم (2326) في 99 صفحه.
تجريد رؤوس مسائل التمهيد: مخطوط رقمه (2365)، وأظن أن نسخته عند الدكتور عبدالله التركي.
كشف النقاب عن مؤلفات الأصحاب: عندي صورة من مخطوطته وهو قيد التحقيق، ولم يكمله مؤلفه رحمه الله، وهذا الكتاب لم يذكره أحد ممن ترجم له.
مختصر التحرير في أصول الفقه: مخطوط ناقص في ورقتين رقمه 2312 .
11- وفاته:
__________
(1) ذكره محمد خير رمضان في تتمة الأعلام (1/214)، وفي تكملة معجم المؤلفين (ص/216).(1/9)
توفي الشيخ سليمان – رحمه الله – في مدينة الطائف، في الثاني عشر من شهرشعبان عام 1397هـ، حيث كان له مسكن يصطاف فيه أيام الصيف.
وصُلِّي عليه في مسجد ابن عباس، ودفن في الطائف. ولم يخلف ذرية - رحمه الله تعالى -.
* * *
الكلام على كتاب
«الدر النضيد»
* ميزات هذا الكتاب.
* ثناء الشيخ بكر أبوزيد على الكتاب.
* موارد الشارح.
* * *
ميزات كتاب الدر النضيد
تميز هذا الشرح لكتاب التوحيد بميزات عديدة منها:
أن هذا الشرح يُعد شرحاً متوسطاً ليس بالطويل الممل ولا بالقصير المخل.
عنايته بمسائل كتاب التوحيد ووضعها في مواضعها المناسبة والتعليق عليها.
أكثر الشارح - رحمه الله - من الاستشهاد بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي زادت على ثلاثمائة حديثاً.
أكثر الشارح - رحمه الله - من النقل من كتب شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم - وهما من هما في سعة العلم -.
تعرضه لبعض المسائل المعاصرة المهمة.
عنايته بترجمة الأعلام بشكل مختصر.
عنايته بذكر ما استنبطه المصنف من الفوائد بعد كل آية قرآنية وحديث نبوي.
ثناء الشيخ بكر أبوزيد على الكتاب
قال الشيخ بكر: «وكان تأليفه لكتاب «الدر النضيد في شرح كتاب التوحيد» و «نظم الفرائض» من حصيلة تدريسه سنين طويلة، لهذا كان شرحه «الدر النضيد» من أنفس شروح كتاب التوحيد».
وقال أيضاً: «الدر النضيد، حاشية على كتاب التوحيد للشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمه الله تعالى، وهي من أحسن مؤلفاته، بل هي من أنفس شروح هذا الكتاب، مطبوعة»(1).
موارد الشارح رحمه الله تعالى
تنوعت مصادر المؤلف – رحمه الله – في مختلف الفنون، فهو ينقل من كتب العقائد، وكتب الحديث، وشروحها، وكتب التفسير، وكتب الفقه المتنوعة المذاهب، وكتب التاريخ والسير والتراجم.
وقد يصرح أحياناً وقد لا يصرح، وقد قسمت هذه الموارد إلى قسمين:
__________
(1) مقدمة الشيخ بكر أبوزيد لـ«هداية الأريب الأمجد» (ص/ هـ، و، ك).(1/10)
القسم الأول: شروح كتاب التوحيد:
وهي:
«تيسير العزيز الحميد» للشيخ سليمان بن عبدالله بن محمد بن عبدالوهاب (ت 1233هـ).
«فتح المجيد» للشيخ عبدالرحمن بن حسن بن محمد بن عبدالوهاب (ت 1285).
«قرة عيون الموحدين» له أيضاً.
«إبطال التنديد باختصار شرح التوحيد» للشيخ حمد بن عتيق (ت 1301هـ).
القسم الثاني: المصادر العامة:
وقد أكثر من النقل من كتب شيخ الإسلام ابن تيمية (ت 728هـ)، وتلميذه ابن قيم الجوزية (ت 751هـ) - رحمهما الله تعالى -.
وإليك ما صرح الشارح بالنقل منه:
* صحيح البخاري. ... ... * شعب الإيمان للبيهقي.
* مسند الفردوس للديلمي. ... ... * سنن البيهقي.
* الحلية لأبي نعيم. ... ... ... * شرح السنة للبغوي.
* النهاية في غريب الحديث لابن الأثير.
* المفهم على صحيح مسلم للقرطبي. *الأسماء والصفات للبيهقي.
* البدع والحوادث.* الرد على من ادعى أن للأولياء تصرفات لصنع الله الحنفي. ... * الاستغاثة في الرد على البكري لابن تيمية.
* تطهير الاعتقاد للصنعاني. * الكافية الشافية (النونية) لابن القيم.
* الرد على الزنادقة والجهمية للإمام أحمد. * منهاج السنة لابن تيمية. * أعلام الموقعين لابن القيم. * الأموال لأبي عبيد. ...
* بدائع الفوائد لابن القيم. ... * شرح المنهاج للرافعي. ...
* شرح در البحار لقاسم الحنفي. * المبسوط في الفقه المالكي. ...
* الكافي لأبي محمد المقدسي. * الفروع لابن مفلح. ... ...
* الإنصاف للمرداوي. ... * الكبائر للذهبي. ... ...
... * الروض الأنف للسهيلي. ... * مغازي ابن إسحاق.
وغيرها من الموارد.
بسم الله الرحمن الرحيم
فائدة(1)
عن محمد بن النظر الحارثي قال: كان يُقال أول العلم الإنصات له، ثم الاستماع له، ثم حفظه، ثم العمل به، ثم لله.
__________
(1) من «كتاب الزهد» للإمام أحمد (ص368).(1/11)
من «كتاب الزهد»: في زهد عمر حدثنا عبدالله قال: حدثني أبي، حدثنا عفان، حدثنا جرير بن حازم قال: سمعت الحسن قال: حضر بابَ عمرَ بن الخطاب سُهيل بن عمر والحارث بن هشام وأبوسفيان بن حرب ونفر من قريش من تلك الرؤوس، وصهيب وبلال وتلك الموالي الذين شهدوا بدراً، فخرج ابن عمر فأذِنَ لهم وترك هؤلاء. فقال أبوسفيان: لم أرَ كاليوم قط ! يأذن لهؤلاء العبيد ويتركنا على بابه ولا يلتفت إلينا ! قال: فقال سُهيل بن عمرو - وكان رجلاً عاقلاً -: أيها القوم، إني - والله - لقد أرى الذي في وجوهكم، إن كنتم غِضاباً فاغضبوا على أنفسكم ؛ دُعِيَ القومُ ودُعِيتُم فأسرعوا وتباطأتم، فكيف بكم إذا دُعُوا ليوم القيامة وتُركتم، أما والله لما سبقوكم إليه من الفضل مما ترون أشدّ عليكم فوتاً من بابكم هذا الذي تنافستُم عليه. قال: ونفض ثوبه وانطلق.
* * *
مقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
ربِّ يَسِّرْ وأَعِنْ يا كريم
الحمد لله الذي جلّ عن الأنداد، وتنزّه عن أن يكون له ظهير من العباد، وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له شهادة من عرف المعنى منها والمراد، واعتقد ما دلّت عليه حقيقة الاعتقاد، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، الهادي إلى سبيل الرشاد، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فإن «كتاب التوحيد» الذي ألَّفه الإمام المجدد شيخ الإسلام محمد ابن عبدالوهاب رحمه الله ورضي عنه، كتاب بديع الوضع، عظيم النفع، لم أرَ من سبقه إلى مثاله أو نسج في تأليفه على منواله، فكل باب منه قاعدة من القواعد ينبني عليها كثير من الفوائد، وأكثر أهل زمانه قد وقعوا في الشرك الأكبر والأصغر، واعتقدوه ديناً فلا يُتاب منه ولا يُستغفر، فألّفه عن خبرة منه ومشاهدة للواقع، فكان لذاك الداء كالدواء النافع، فرحمه الله ورضي عنه.(1/12)
وقد شرحه بعض أحفاده وغيرهم، ووضعوا عليه بعض الحواشي المفيدة، إلا أنه لم يتعرض أحدٌ منهم لذكر المسائل التي استنبطها المصنف في آخر كل باب إلاّ نادراً، وهي تضمن علوماً جمّة وفوائد مهمة، فرأيتُ من الضروري استخراج خلاصة مما ذكروه تكون وافية بتوضيح مقاصده وتقريب شوارده مع ما منَّ الله به من الفوائد وتوضيح الشواهد، واتبعت كل آية أو حديث بما استنبطه المصنف من الفوائد، ومرادي بشيخ الإسلام أحمد بن تيمية رحمه الله ورضي عنه، وسميته:
«الدُّرُّ النَّضيد على أبواب التوحيد»
واللهَ أسألُ أن ينفع به كما نفع بأصله، وأن يجعله خالصاً لوجهه، ومن العمل المبرور، والسعي المشكور المقرب لديه، إنه وليُّ ذلك والقادر عليه، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وإني أروي كتاب التوحيد وسائر مؤلفات الشيخ في اليوم العاشر من شهر محرم الحرام عام ألفٍ وثلاثمائة وخمسين، بالإجازة عن الشيخ العلاّمة محدث الحجاز في وقته أبي الفيض وأبي الإسعاد عبدالستار بن عبدالوهاب الصديقي الحنفي الدهلوي ثم المكي، عن الشيخ العلاّمة السلفي أحمد بن إبراهيم بن عيسى النجدي الحنبلي، عن الشيخ العلاّمة حفيد المؤلف عبدالرحمن بن حسن، عن المؤلف الشيخ محمد بن عبدالوهاب أجزل له الله الأجر والثواب.
* * *
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1)
__________
(1) قال المؤلف رحمه الله «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ»: ابتدأ المصنف كتابه بالبسملة اقتداءً بالكتاب العزيز، وعملاً بحديث: «كل أمر ذي بال لا يفتتح بذكر الله فهو أبتر - أو - أقطع»* واقتصر المصنف في بعض نسخه على البسملة لأنها من أبلغ الثناء والذكر.
قال في «فتح المجيد»**: «ووقع لي نسخة بخطه - رحمه الله - بدأ فيها بالبسملة، وثنَّى بالحمد والصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعلى هذا فالابتداء بالبسملة حقيقي، وبالحمدلة نسبيّ إضافيّ».
والباء في «بِسْمِ اللَّهِ» للمصاحبة، وقيل للاستعانة، وهي طلب العون، والاسم الشريف مستعان مجرور، والجار والمجرور متعلق بمحذوف تقديره قرأت باسم الله، أو أقرأ باسم الله، ومن الناس من يضمر في مثل هذا ابتدائي باسم الله. قال شيخ الإسلام [الفتاوى 10/231]: «والأول أحسن ؛ لأن الفعل كله مفعول باسم الله ليس مجرد ابتدائه». والله عَلَمٌ على ذات الرب تبارك وتعالى. قال الكسائي والفرَّاء: أصله الإله حذفوا الهمزة وأدغموا اللام في اللام فصارت لاماً واحدة مشددة مفخمة. قال ابن عباس: الله ذو الألوهية والعبودية على خلقه أجمعي، ويقال إنه الاسم الأعظم؛ لأنه يوصف بجميع الصفات، وقد ذكر في القرآن في ألفين وثلاثمائة وستين موضعاً. وقال سيبويه: إنه أعرف المعارف.
وقوله: «الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ» قال ابن عباس: اسمان رقيقان، أحدهما أرق من الآخر، أي أوسع رحمة، وهما مشتقان من الرحمة على وجه المبالغة، فالرحمن أشد مبالغة من رحيم، والرحمن رحمان الآخرة والدنيا، والرحيم رحيم الآخرة، والرحمن دال على الصفة القائمة به سبحانه، وأن الرحمة صفته، والرحيم دال على تعلقها بالمرحوم وأنه يرحم خلقه برحمته، وأسمائه تعالى هي أسماء ونعوت، فإنها دالة على صفات كماله فلا تنافي فيها بين العَلَمية والوصفية، فالرحمن اسمه تعالى
..........................................................
* أخرجه أحمد (2/359)، والنسائي في عمل اليوم والليلة (497)، وهو ضعيف.
** (1/70).(1/13)
كتاب التوحيد(1)
__________
(1) صفته، فمن حيث هو صفة جرى تابعاً لاسم الله، ومن حيث هو اسم ورد في القرآن غير تابع بل ورود الاسم العَلَم، قال تعالى: { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } [طه:5]، { الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآَنَ } [الرحمن:1-2]
( ) وقوله: «كتاب التوحيد» كتاب: مصدر كتب يكتب كتاباً وكتابة وكتباً، وهو بمعنى الجمع لغة، واصطلاحاً: مكتوبٌ جامعٌ لمسائل أنواع التوحيد.
والتوحيد: مصدر وحَّد يوحِّد توحيداً، وسُمي دين الإسلام توحيداً لأن مبناه على أن الله واحد في ذاته وأسمائه وصفاته لا نظير له، وواحد في ملكه وأفعاله لا شريك له، وواحد في إلاهيته وعبادته لا ندَّ له، وإلى هذه الأنواع الثلاثة ينقسم توحيد الأنبياء والمرسلين. قال العلاّمة ابن القيم رحمه الله:
والعلم أنواعٌ ثلاث ما لها
علم بأوصاف الإله وفعله
والأمر والنهي الذي هو دينه
من رابع والحق ذو تبيان
وكذلك الأسماء للرحمن
وجزاؤه يوم المعاد الثاني
فالعلم بأوصاف الإله: توحيد الصفات. والعلم بالفعل: توحيد الربوبية كالخلق والرزق والإحياء والإماتة. والعلم بالأسماء: توحيد فهو توحيد المعرفة والإثبات، بإثبات ذات الرب وأسمائه وصفاته وأفعاله.
وقوله: والأمر والنهي الذي هو دينه: فهذا توحيد الإلهية والعبادة، وهو توحيد الطلب والقصد، وهو حق الله على عباده الذي يخلقهم من أجله، وهو أول واجب على المكلف، وهو مدلول شهادة أن لا إله إلا الله، ومن أجله أُرسلت الرسل، وأُنزلت الكتب، ونُصبت القبلة، وأُسست الملة، وجُردت سيوف الجهاد، وخُلقت الجنة والنار، فهو سر الخلق والأمر، وهو الذي وضع المصنف كتابه من أجله لوقوع الشرك فيه، وإليه أشار العلاّمة ابن القيم بقوله [الكافية الشافية (256)]:
هذا وثاني نوعي التوحيد تو
أن لا تكون لغيره عبداً ولا
حيد العبادة منك للرحمن
تعبد بغير شريعة الإيمان(1/14)
وقول الله تعالى: { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ } [الذاريات:56](1)
__________
(1) تقوم بالإسلام والإيمان و والـ
والصدق والإخلاص ركنا
إحسان في سر وفي إعلان
ذلك التوحيد كالركنين للبنيان
وليس المراد بالتوحيد مجرد توحيد الربوبية وهو: اعتقاد أن الله وحده خلق العالم كما يظن ذلك من يظنه من أهل الكلام والتصوف، فإن الرجل لو أقرّ بما يستحقه الرب تعالى من الصفات، ونزّهه عن كل ما يُنزَّه عنه، وأقرَّ بأنه وحده خالق كل شيء، لم يكن موحداً حتى يشهد: أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، فيُقرُّ أن الله وحده هو الإله المستحق للعبادة ويلتزم بعبادة الله وحده لا شريك له.
وقوله: فتقوم بالإسلام والإيمان والإحسان: كما في حديث جبريل.
وقوله: والصدق والإخلاص ركنا ذلك التوحيد: أي توحيد العبادة، فمن لم يكن صادقاً فهو منافق، ومن لم يكن مخلصاً فهو مشرك، فلابد في قول لا إله إلاّ الله من الصدق والإخلاص.
( ) قوله: «وقوله تعالى: { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ } بالجر عطف على التوحيد، ويجوز الرفع على الابتداء. قال القرطبي [الجامع لأحكام القرآن 1/225، 17/56]: أصل العبادة التذلل والخضوع. وسُميت وظائف الشرع على المكلفين عبادات لأنهم يلتزمونها ويفعلونها خاضعين لله تعالى. انتهى. فهي عبارة عما يجمع كمال المحبة مع غاية الخضوع فلا تكون المحبة بدون خضوع عباده، ولا الخضوع بدون محبة عباده.
قال العلامة ابن القيم [الكافية الشافية (64)]:
وعبادة الرحمن غاية حبه
وعليهما فلك العبادة دائر
ومداره بالأمر أمر رسوله
مع ذل عابده هما قطبان
ما دار حتى قامت القطبان
لا بالهوى والنفس والشيطان
شَبَّه دوران العبادة على المحبة والذل للمحبوب جل وعلا بدوران الفلك على قطبيه، وذكر أن دورانه بأمر الرسول وما شرعه لا بالهوى وما تأمر به النفس
والشيطان فليس ذلك من العبادة.
وقال الفقهاء: العبادة ما أمر به شرعاً من غير اطراد عرقي ولا اقتضاء عقلي. وقال شيخ الإسلام: العبادة اسمٌ جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه، من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة.
قلت: الظاهرة: أعمال الجوارح، والباطنة: أعمال القلب. قال: والعبودية خاصة وعامة، فالعامة عبودية أهل السموات والأرض كلهم، برُّهم وفاجرهم، مؤمنهم وكافرهم، فهذه عبودية الملك والقهر، قال تعالى: { إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ إِلا آَتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا } [مريم:93]، وأما الخاصة فعبودية الطاعة والمحبة واتباع الأوامر، قال تعالى: { فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ } [الزمر:17-18]. وأما قوله: { وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ } [غافر:31]، وقوله: { إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ } [غافر:40] فهذا يتناول العبوديتين. انتهى.
قال ابن القيم: ومدار العبادة على خمس عشرة قاعدة، من كملها فقد كمّل مراتب العبودية ؛ لأنها منقسمة على القلب واللسان والجوارح، والأحكام التي للعبودية خمسة: واجب ومستحب وحرام ومكروه ومباح، وهي لكل واحد من القلب واللسان والجوارح، فقول القلب هو اعتقاد ما أخبر الله سبحانه عن نفسه وأسمائه وصفاته وأفعاله وملائكته ولقائه، وقول اللسان الإخبار عنه بذلك والدعوة إليه والذَّب عنه وتبيين البدع المخالفة له والقيام بذكره وتبليغ أوامره، وعمل القلب كالمحبة له والتوكل عليه والإنابة إليه والخوف منه والرجاء له وإخلاص الدين له والصبر له على أوامره وعن نواهيه وعلى أقداره والرضى به وعنه والموالاة فيه والمعاداة، والذل له و الخضوع والإخبات إليه، والطمأنينة به وغير ذلك، وأعمال الجوارح كالصلاة والجهاد ونقل الأقدام إلى الجمع والجماعات ومساعدة العاجز والإحسان إلى الخلق ونحو ذلك.
واللام في قوله: { لِيَعْبُدُونِ } لام التعليل المعروفة عند النحاة بلام كي، كاللام في(1/15)
.
..................................................................
وقوله: { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ } [النحل: 36] (1)
__________
(1) وله: { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ } [النساء: 64]، ثم قد يُطاع وقد لا يُطاع، وكذلك ما خلق الجن والإنس إلا للعبادة، ثم قد يعبدون وقد لا يعبدون، وليست لأم الصيرورة والعاقبة. قال شيخ الإسلام: «لام الصيرورة والعاقبة لا تقع إلا في فعل من يجهل عاقبة فعله، كما قال تعالى عن موسى: { فَالْتَقَطَهُ آَلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا } [القصص: 8] فلو كانوا عالمين بعاقبة ما اتخذوه، ومعنى الآية: أن الله خلق الخلقَ ليعبدوه وحده لا شريك له، و يوحدوه وهذا هو الشاهد من الآية للترجمة ، وأخبر أنه غير محتاج إليهم بل هم الفقراء إليه وهو خالقهم ورازقهم، قال علي بن أبي طالب: وما خلقت الجن والإنس إلا لأمرهم أن يبعدون وأدعوهم إلى عبادتي. قال مجاهد: إلا لآمرهم وأنهاهم، واختاره الزجاج وشيخ الإسلام لقوله: { أَيَحْسَبُ الإنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى } [القيامة: 36].
قال الشاذلي: لا يُؤمر ولا يُنهى، وقال غيره: لا يُثاب ولا يعاقب، والصحيح الأمران، فإن الثواب والعقاب مترتب على الأمر والنهي، وحقيقة العبادة امتثالهما. وفي الآية بيان الحكمة في خلق الجن والإنس، وأن العبادة هي التوحيد لأن الخصومة فيه، وأن من لم يأت به لم يعبد الله ففيه معنى قوله: { وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ } [الكافرون:3،5].
( ) قاله المصنف رحمه الله: «قوله: وقول الله تعالى: { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ } أخبر تعالى أنه بعث في كل أمة -
أي كل طائفة وقرن من الناس - رسولاً قائلاً لهم الرسول الذي بعث فيهم: اعبدوا الله أي وحدوه، وهذا هو الشاهد من الآية للترجمة، وقوله: { وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ } أبلغ من قوله: اتركوا الطاغوت؛ لأن يتضمن الشرك والتباعد عنه فتضمنت الآية النفي والإثبات كما تضمنته لا إله إلا الله، فالإثبات قوله: { اُعْبُدُوا اللَّهَ } ،
والنفي قوله: { وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ } ، وهذا هو حقيقة التوحيد وهو معنى لا
إله إلا الله، فالنفي المجرد ليس بتوحيد وكذلك الإثبات المجرد.
قال ابن القيم رحمه الله: «والطاغوت مشتق من الطغيان، وهو مجاوزة الحد، وهو ما تجاوز به العبد حدَّه من معبود أو متبوع أو مطاع، فطاغوت كل قوم من يتحاكمون إليه غير الله ورسوله أو يعبدونه من دونه الله، أو يتبعونه على غير بصيرة من الله، أو يطيعونه فيما لا يعلمون أنه طاعة لله». انتهى.
وفي الآية بيان الحكمة في إرسال الرسل، وأن الرسالة عمَّت كل أمة، وأن دين الأنبياء واحد، وأن عبادة الله لا تحصل إلا بالكفر بالطاغوت ففيه معنى: { فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ } الآية [البقرة:256]، وأن الطاغوت عام في كل ما عُبد من دون الله.(1/16)
.
وقوله: { وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا } (1)
__________
(1) قاله المصنف رحمه الله: «قوله: وقول الله تعالى: { وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا } الآيات [الإسراء:23]. قال مجاهد: يعني وصى، وكذا قرأ أُبَيّ بن كعب، وابن مسعود، وابن عباس، وغيرهم. وقال ابن عباس أيضاً: { وَقَضَى } يعني: أمر، رواه ابن جرير. وقوله: { أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ } أي: أن تعبدوه وحده ولا تعبدوا غيره، وهذا هو الشاهد في الآية للترجمة وهو معنى لا إله إلاّ الله، فتضمنت الآية النفي والإثبات، كما تضمنته لا إله إلا الله. وقوله: { وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا } أي وقضى أن تحسنوا بالوالدين إحساناً، كما أمر بعبادته وحده لا شريك له، وعَطْفُ حقهما على حقه تعالى دليلٌ على تأكد حقهما وأنه أوجب الحقوق بعد حق الله تعالى وهذا كقوله: { أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ } [لقمان:14] ولم يخص نوعاً من أنواع الإحسان ليعم جميع أنواع الإحسان، وقوله: { إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ } أي لا تسمعهما قولاً سيئاً حتى ولا التأفيف الذي هو أدنى مراتب القول السيء:
{ وَلا تَنْهَرْهُمَا } أي لا يصدر منك إليهما فعل قبيح، قال عطاء بن أبي رباح: لا تنفض يديك عليهما، ولما نهاه عن الفعل القبيح والقول السيء أمره بالفعل الحسن
والقول الحسن فقال: { وَقُلْ لَهُمَا قَوْلا كَرِيمًا } أي ليناً لطيفاً بأدب وتوقير. وقوله: { وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ } أي تواضع لهما، { وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا } في كبرهما وعند وفاتهما { كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا } .
وفي هذه الآيات المحكمات من سورة الإسراء ثمان عشرة مسألة، بدأها الله بقوله: { لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولا } .
ختمها بقوله: { لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا } ونبهنا الله سبحانه على عظم شأن هذه المسائل بقوله: { ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ } . قاله المصنف رحمه الله تعالى.
«والمسائل التي أشار إليها الشيخ:
1- النهي عن الشرك. ...
2- الأمر بعبادة الله وحده.
3- الإحسان إلى الوالدين.
4- إيتاء ذا القربى حقه.
5- إيتاء المسكين حقه.
6- إيتاء ابن السبيل حقه.
7- النهي عن التبذير. ...
8- النهي عن الإمساك بدون إسراف.
9- النهي عن قتل الأولاد. ...
10- النهي عن الزنى.
11- النهي عن قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق.
12- النهي عن قربان مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن.
13- الأمر بالوفاء بالعهد. ... 14- الأمر بالوفاء بالكيل.
15- الأمر بالوفاء بالوزن. ... 16- النهي عن القول بغير علم.
17- النهي عن المشي في الأرض مرحاً.
وقد تواترت الأحاديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الأمر ببر الوالدين وتحريم عقوقهما، وفي صحيح البخاري عن ابن مسعود - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قلت: يا رسول الله، أي الأعمال أفضل قال: «الصلاة على وقتها». قلت: ثم أي؟ قال: «بر الوالدين».
قلت: ثم أي ؟ قال: «الجهاد في سبيل الله»*.
وفي الصحيحين عن أبي بكرة - رضي الله عنه - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟». قلنا: بلى يا رسول الله. قال: «الإشراك بالله، وعقوق الوالدين». وكان متكئاً فجلس فقال: «ألاَ وقول الزور، ألاَ وشهادة الزور» فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت**.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رجل: يا رسول الله، من أحق الناس بحسن صحابتي ؟ قال: «أمك». قال: ثم من ؟ قال: «أمك». قال: ثم من ؟ قال: «أمك». قال: ثم من ؟ قال: «ثم أباك». أخرجاه***.
وعن أبي أسيد الساعدي - رضي الله عنه - قال: بينما نحن جلوس عند النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ جاءه رجل من بني سلمة فقال: يا رسول الله، هل بقي من برِّ أبَوي شيءٌ أبرهما به بعد موتهما؟ قال: «نعم، الصلاة عليهما» يعني الدعاء لهما والاستغفار لهما «وإنفاذ عهدهما من بعدهما، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما، وإكرام صديقهما». رواه أبوداود وابن ماجه وابن حبان في صحيحه****.(1/17)
الآيات.
وقوله: { وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا } (1) [النساء:36].
__________
(1) ال شيخ الإسلام: «تجب طاعتهما فيما فيه نفعٌ لهما ولو شقَّ على الولد».
( ) «وقوله: { وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا } الآية. قال ابن كثير [التفسير 2/260]: يأمر تعالى عباده بعبادته وحده لا شريك له، فإنه الخالق الرازق المنعم المتفضل على خلقه في جميع الحالات، فهو المستحق منهم أن يوحدوه ولا يشركوا به شيئاً من مخلوقاته». وهذا هو الشاهد من الآية للترجمة، فقرن الأمر بعبادته بالنهي عن الشرك فيها، فدلّ على أن اجتناب الشرك شرط في صحة العبادة وشيئاً نكرة في سياق النهي تعم كل شيء مما يعبد من دون الله، سواءًَ كان ملَكَاً أو نبياً أو
..........................................................
* أخرجه البخاري (5970)، ومسلم (85).
** أخرجه البخاري (2654)، ومسلم (87).
*** أخرجه البخاري تعليقاً (5971)، ومسلم (2548)، وأحمد (14/86).
**** أخرجه أحمد (25/457)، وأبوداود (5142)، وابن ماجه (3664)، وابن حبان (418). وقال الألباني: ضعيف. انظر: ضعيف الأدب المفرد (ص/22-23).
ولياً أو غير ذلك. وهذه الآية تسمى آية الحقوق العشرة. قال المصنف رحمه الله تعالى ؛ لأنها تضمنت عشرة حقوق:
1) الأمر بعبادته وحده والنهي عن الشرك به.
2) الأمر بالإحسان إلى الوالدين.
3) الإحسان إلى ذي القربى.
4) الإحسان إلى اليتامى.
5) الإحسان إلى المساكين.
6) الإحسان إلى الجار القريب.
7) الإحسان إلى الجار الجانب.
8) الإحسان إلى الصاحب بالجنب، وهو الرفيق في السفر، وقيل المرأة، وقيل غير ذلك.
9) الإحسان إلى ابن السبيل.
10) الإحسان إلى ما ملكت اليمين.(1/18)
وقوله: { قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا } (1)
__________
(1) «وقوله تعالى: { قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } [الأنعام:151-153].
قال ابن كثير [التفسير 3/354]: «يقول تعالى لنبيه ورسوله محمد - صلى الله عليه وسلم -: قل يا محمد لهؤلاء المشركين الذين عبدوا غير الله وحرّموا ما رزقهم الله، وقتلوا أولادهم، وكل ذلك فعلوه بآرائهم الفاسدة، وتسويل الشيطان لهم، تعالوا: أي هلموا وأقبلوا،
أتل: أي أقص عليكم وأخبركم بما حرم ربكم عليكم حقاً، لا تخرُّصاً ولا
ظناً بل وحيٌ منه وأمر من عنده وأن لا تشركوا به شيئاً، وكأن في الكلام محذوفاً
دلّ عليه السياق تقديره وصاكم أن لا تشركوا به شيئاً، ولهذا قال في آخر الآية:
{ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ } . انتهى.
وشيئاً نكرة تعم كل ما عُبد من دون الله، والنهي عن الشرك يستدعي التوحيد بالاقتضاء وهو الشاهد من الآية للترجمة ؛ قال في «قرة العيون»*: «وقد وقع الأكثر من متأخري هذه الأمة في هذا الشرك الذي هو أعظم المحرمات كما وقع في الجاهلية قبل المبعث، عبدوا القبور والمشاهد والأشجار والأحجار والطواغيت والجن، كما عبد أولئك اللاتَ والعزى ومناة وهبل وغيرها من الأصنام والأوثان، واتخذوا هذا الشرك ديناً، ونفروا إذا دُعُوا إلى التوحيد أشدَّ النّفرة، واشتدّ غضبهم لمعبوداتهم كما قال تعالى: { وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ } [الزمر:45].
وقال تعالى: { إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ } الآية [الصافات:35] علموا أن «لا إله إلا الله» تنفي الشرك الذي وقعوا فيه، فأنكروا التوحيد الذي دلّت عليه؛ فصار أولئك المشركون الأولون أعلم بمعنى «لا إله إلا الله» من أكثر المتأخرين، لا سيما أهل العلم منهم، الذين لهم دراية في بعض الأحكام وعلم الكلام، فجهلوا توحيد العبادة فوقعوا في الشرك المنافي له وزيّنوه للناس، وجهلوا توحيد الأسماء والصفات وأنكروه أيضاً، وصنفوا فيه الكتب؛ لاعتقادهم أنه حق وهو باطل، وقد اشتدّت غربة الإسلام حتى عاد المعروف منكراً، والمنكر معروفاً، نشأ على هذا الصغير، وهرم عليه الكبير، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: «بدأ الإسلام غريباً، وسيعود غريباً كما بدأ»**».
وقوله: { وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا } قال القرطبي: الإحسان إلى الوالدين برهما وامتثال أمرهما وحفظهما وصيانتهما، وإزالة الرق عنهما، وترك السلطنة عليهما.
وإحساناً منصوب على المصدرية، وناصِبه فعلٌ من لفظه تقديره «وأحسنوا»
..........................................................
* (ص/18-19).
** أخرجه مسلم (145)، وأحمد (2/389) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.
بالوالدين إحساناً.
وقوله: { وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ } الإملاق: الفقر، أي: لا تئدوا بناتكم خشية العيلة والفقر، فإني رازقكم وإياهم، وكأن منهم من يفعل ذلك بالإناث خشية العار، وبالذكور خشية الافتقار.
وفي الصحيحين عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: قلت: يا رسول الله، أي الذنب أعظم؟ قال: «أن تجعل لله نداً وهو خلقك». قلت: ثم أي؟ قال: «أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك». قلت: ثم أي ؟ قال: «أن تزاني حليلة جارك».
ثم تلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: { وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلا مَنْ تَابَ } الآية [الفرقان:68-70]*.
وقوله: { وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ } قال ابن عطية [المحرر الوجيز 6/179]: نهي عام عن جميع الفواحش وهي المعاصي، وظهر وبطن حالتان تستوفيان أقسام ما جعلتا له من الأشياء. وقيل: الظاهر ما بينك وبين الخلق، والباطن ما بينك وبين الله.
وقوله: { وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ } قال ابن كثير: هذا مما نص الله على النهي عنه تأكيداً، وإلا فهو داخل في النهي عن الفواحش. وفي الصحيحين عن ابن مسعود - رضي الله عنه - مرفوعاً: «لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلاّ الله وأني رسول الله إلاّ بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة»**.
وقوله: { ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } قال ابن عطية [المحرر الوجيز 6/180]: ذلكم إشارة إلى هذه المحرمات، والوصية: الأمر المؤكّد المقرر.
..........................................................
* أخرجه البخاري (4477، 6861)، ومسلم (86).
** أخرجه البخاري (6878)، ومسلم (1676).
وقوله: { لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } أي تفهمون عنه ذكراً ولا تعقلون، ثم تذكرون، ثم تتقون ؛ لأنهم إذا عقلوا تذكروا، فإذا تذكّروا خافوا واتقوا المهالك.
وقوله: { وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ } قال ابن عطية [المحرر الوجيز 6/180]:
هذا نهي عن القرب الذي يعم وجوه التصرف، وفيه سدّ الذريعة ثم استثنى ما يحسن وهو التثمير والسعي في نمائه. قال مجاهد: التي هي أحسن التجارة فيه، فمن كان من الناظرين له ما يعيش به فالأحسن إذا ثمر مال اليتيم أن لا يأخذ منه نفقة ولا أجرة ولا غيرهما، ومن كان من الناظرين لا مال له ولا يتفق له نظر إلا بأن ينفق على نفسه من ربح نظره فالأحسن أن ينظر ويأكل بالمعروف.
قال ابن زيد: وقوله: { حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ } قال مالك وغيره: هو الرشد وزوال السفه مع البلوغ. قال ابن عطية: وهو أصح الأقوال وأليقها بهذا الموضع ويدل عليه قوله تعالى: { وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آَنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ } [النساء:6] فاشترط للدفع إليهم ثلاثة شروط:
الأول: ابتلاؤهم وهو اختبارهم وامتحانهم بما يظهر به معرفتهم لمصالح أنفسهم وتدبير أموالهم. والثاني: البلوغ. ... ... والثالث: الرشد. ...
وقوله: { وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ } والقسط: العدل، { لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا } أي من اجتهد في أداء الحق وأخذه فأخطأ بعد استفراغ وسعه وبذل جهده فلا حرج عليه.
وقوله: { وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى } هذا أمرٌ بالعدل في القول والفعل على القربب والبعيد، لا يتغير بالرضى والغضب.
وقوله: { وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا } قال ابن جرير وغيره: وبوصية الله التي وصاكم بها فأوفوا. قال في «الشرح»*: والظاهر أن الآية فيما هو أخص كالبيعة والذمّة
..........................................................
* (ص/39-40). و «الشرح» أي «تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد» لمؤلفه الشيخ سليمان بن عبدالله بن محمد بن عبدالوهاب - رحم الله الجميع -.
والأمان، فهذا هو المقصود بالآية، وإن كانت شاملة لما قالوا بطريق العموم.
وقوله: { ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } أي تتعظون فتنتهوا عما كنتم عليه.
وقوله: { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ } لما نهى وأمر حذر عن اتباع غير سبيله، وأمر باتباع طريقه، فإن الصراط الطريق الذي هو دين الإسلام مستقيماً ومعناه مستوياً قويماً لا إعوجاج فيه، فأمر باتباع طريقه الذي طرقه وشرعه على لسان محمد - صلى الله عليه وسلم -، ونهايته الجنة،
ونهى عن اتباع السبل، وروى الإمام أحمد والنسائي والدارمي وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: خطَّ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - خطاً بيده ثم قال: «هذا سبيل الله مستقيماً»، ثم خط خطوطاً عن يمين ذلك الخط وعن شماله ثم قال: «وهذه سُبل ليس منها سبيل إلا عليه شيطان يدعو إليه»، ثم قرأ: { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ } *.
قال شيخ الإسلام على حديث ابن مسعود هذا [الفتاوى 4/57]:
«وإذا تأمَّل العاقل هذا المثال وتأمل سائر الطوائف من الخوارج، ثم المعتزلة، ثم الجهمية والرافضة ومن أقرب منهم إلى السنة من أهل الكلام مثل الكرَّامية والكلاّبية والأشعرية وغيرهم، وأن كلا منهم له سبيل يخرج به عما عليه الصحابة وأهل الحديث، ويدَّعي أن سبيله هو الصواب وجد أنهم المراد بهذا المثال الذي ضربه المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلاّ وحي يُوحى». انتهى.
وقال أيضاً: «الصراط المستقيم هو أمور باطنة في القلب من اعتقادات وإرادات
وغير ذلك، وأمور ظاهرة من أقوال وأفعال قد تكون عبادات وقد تكون أيضاً عادات في الطعام واللباس والنكاح والمسكن والاجتماع و الافتراق والسفر والإقامة، وغير ذلك، وهذه الأمور الباطنة والظاهرة بينهما – ولابد – ارتباط
..........................................................
* أخرجه أحمد (7/207، 436)، والحاكم (2/318) وصححه وأقره الذهبي.
ومناسبة». انتهى.
وقال ابن القيم رحمه الله [بدائع الفوائد 2/40]: «ولنذكر في الصراط قولاً وجيزاً، فإن الناس قد تنوعت عباراتهم عنه بحسب صفاته ومتعلقاته. وحقيقته شيء واحد، وهو طريق الله الذي نصبه لعباده موصلاً لهم إليه، ولا طريق إليه سواه، وهو إفراده بالعبادة وإفراد رسوله بالطاعة، فلا يُشرك به أحد في عبادته، ولا يشرك برسوله أحداً في طاعته، فيجرّد التوحيد ويجرّد متابعة الرسول - صلى الله عليه وسلم -. وهذا مضمون شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، فأي شيء فُسِّر به الصراط فهو داخل في هذين الأصلين». انتهى.(1/19)
[الأنعام: 151] الآيات .
قال ابن مسعود: «من أراد أن ينظر إلى وصية محمّد - صلى الله عليه وسلم - التي عليها خاتَمُه فليقرأ قوله تعالى: { قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا - إلى قوله - وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا } الآية [الأنعام: 151-153] (1).
__________
(1) عن مجاهد في قوله: { وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ } قال: البدع والشبهات. رواه ابن جرير.
قال سهل بن عبدالله: عليكم بالسنة والأثر، فإني أخاف أنه سيأتي عن قليل زمان، إذا ذكر الإنسان النبي - صلى الله عليه وسلم - في جميع أحواله ذموه ونفروا عنه وتبرءوا منه، أو ذلّوه وأهانوه. وفيه عظم شأن الثلاث الآيات المحكمات من سورة الأنعام عند السلف وفيها عشر مسائل قاله المصنف. قلت: بل فيها أحد عشر مسألة:
1) النهي عن الشرك ... ... 2) الإحسان إلى الوالدين.
3) النهي عن قتل الأولاد 4) النهي عن قربان الفواحش.
5) النهي عن قتل النفس التي حرّم الله إلاَّ بالحق. 6) النهي عن قربان مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن. 7) الأمر بالوفاء بالكيل والوزن.
8) الأمر بالعدل في القول. 9) الامر بالوفاء بالعهد.
10) الأمر باتباع الصراط المستقيم. 11) النهي عن اتباع السبل.
( ) قوله: «قال ابن مسعود» وهو عبدالله بن مسعود بن غافل - بمعجمة وفاء - بن حبيب الهذلي، أبوعبدالرحمن، صحابي جليل، من السابقين الأولين وأهل بدر وأُحُد وبيعة الرضوان، ومن كبار علماء الصحابة، أَمَّره عمر على الكوفة، مات سنة اثنتين وثلاثين - رضي الله عنه -.
قوله: «من أراد أن ينظر إلى وصية محمّد - صلى الله عليه وسلم - التي عليها خاتَمُه»* يعني التي النبي - صلى الله عليه وسلم - كتبها وختمها فلم تُغيّر ولم تُبدَّل «فليقرأ قوله تعالى: { قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ … } إلى آخر الآيات الثلاث.(1/20)
وعن معاذ بن جبل - رضي الله عنه -(1) قال: كنتُ رديفَ النبي - صلى الله عليه وسلم - على حمار(2)، فقال لي: «يا معاذ، أتدري ما حقُّ الله على العباد، وما حقُّ العباد على الله؟»(3)
__________
(1) هذا الأثر رواه الترمذي وحسنه، وابن المنذر وابن أبي حاتم بنحوه، وليس المراد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كتبها وختم عليها، وإنما المراد أنه - صلى الله عليه وسلم - لو أوصى لما أوصى إلا بما أوصى به ربه في كتابه، كما قال - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه مسلم: «وإني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا: كتاب الله»**.
وفيه: التنبيه على وصية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند موته. قاله المصنف رحمه الله.
( ) قوله: «وعن معاذ بن جبل» بن عمرو بن أوس الأنصاري الخزرجي، أبوعبدالرحمن، صحابي مشهور من أعيان الصحابة - رضي الله عنه -، شهد بدراً، وما بعدها. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «معاذ أعلم أمتي بالحلال والحرام»*** كان إليه المنتهى في العلم والأحكام والقرآن، بعثه النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى اليمن معلماً ومفقهاً، وقد استخلفه النبي - صلى الله عليه وسلم - على أهل مكة يوم الفتح يعلمهم دينهم. مات سنة ثمان عشرة بالشام.
(2) قوله: «كنت رديف النبي - صلى الله عليه وسلم - على حمار» في رواية: اسمه عفير أهداه له المقوقس صاحب مصر، قاله في «فتح المجيد»****.
وفيه فضيلة معاذ إرداف النبي - صلى الله عليه وسلم - له خلفه، وجواز الإرداف على الدابة إذا كانت تطيق ذلك، وتواضعه - صلى الله عليه وسلم - لركوب الحمار مع الإرداف عليه. قاله المصنف رحمه الله.
(3) قوله: «فقال لي: يا معاذ أتدري ما حق الله على العباد، وما حق العباد على
..........................................................
* أخرجه الترمذي (3070) وقال: حسن غريب. والطبراني في «الكبير» (10060)، وفي «الأوسط» (1208). قال الألباني: ضعيف الإسناد.
** أخرجه مسلم (1218)، وأحمد (4/366)، والترمذي (3790).
*** أخرجه الترمذي (4043)، وابن ماجه (154)، وابن حبان (2218) و(2219) باختلاف في بعض ألفاظه، والحديث صححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (1224).
**** (1/107).
الله؟» أخرج السؤال بصيغة الاستفهام ليكون أوقع في النفس وأبلغ في الفهم، فإن الإنسان إذا سُئل عن مسألة لا علم له بها ثم أخبر عنها بعد الامتحان بالسؤال يكون أدعى لفهمها وحفظها. و «الدراية»: المعرفة.
وفيه: جواز تخصيص بعض الناس بالعلم دون بعض. قاله المصنف رحمه الله تعالى.(1/21)
.
فقلت: الله ورسوله أعلم(1). قال: «حقُّ اللهِ على العبادِ أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً(2)
__________
(1) قوله: «فقلت: الله ورسوله أعلم». وفيه: قول المسؤول عما لا يعلم: الله ورسوله أعلم. قاله المصنف رحمه الله. وهذا في حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وفيه: حُسن الأدب من المتعلم، وأنه ينبغي لمن سُئل عمّا لا يعلم أن يقول ذلك، بخلاف أكثر المتكلفين. قاله في «فتح المجيد»*.
(2) قوله: «قال حق الله على العباد أن يعبدوه» أي: يُوحِّدوه «ولا يُشركوا به شيئاً» وهذا هو الشاهد من الحديث للترجمة، فنفي الشرك أكبره وأصغره شرطٌ في صحة العبادة، و«شيئاً» نكرة في سياق النهي تعم كل شيء مما يُعبد من دون الله، وفي بعض الآثار الإلهية يقول الله تعالى: «إني والجن والإنس في نبأ عظيم، أخلقُ ويُعبَدُ غيري، وأرزقُ ويُشكر سواي، خيري إلى العباد نازل، وشرُّهم إليَّ صاعد، أتحبّب إليهم بالنعم، ويتبغضُون إليَّ بالمعاصي»**.
وفيه: معرفة حق الله علينا. قاله المصنف رحمه الله تعالى، هذا الحق أشار [إليه]*** العلاّمة ابن القيم رحمه الله بقوله:
حق الإله عبادة بالأمر لا
من غير إشراك به شيئاً هما
لم ينجُ من غضبِ الإله وناره
والناس بعدُ فمشرك بإلاهه
بهوى النفوس فذاك للشيطان
سبباً النجاة فحبذا السببان
إلا الذي قامت به الأصلان
أو ذو ابتداع أو له الوصفان
..........................................................
* (1/108).
** أخرجه البيهقي والحكيم الترمذي كما في الجامع الصغير، وضعّفه العلامة الألباني في «السلسلة الضعيفة» رقم (2371).
*** إضافة يقتضيها السياق.(1/22)
، وحقُّ العبادِ على اللهِ أن لا يعذِّبَ من لا يُشرك به شيئاً»(1). قلت: يا رسول الله، أفلا أبشر الناس؟ قال: «لا تبشِّرهم فيتّكلوا»(2)
__________
(1) قوله: «وحق العباد على الله أن لا يعذب من لايشرك به شيئاً» اقتصر على نفي الشرك ؛ لأنه يستدعي التوحيد بالاقتضاء وإثبات الرسالة باللزوم، إذ من كذَّب رسول الله فقد كذَّب الله، ومن كذَّب الله فهو مشرك كقول القائل من توضأ صحّت صلاته، أي مع سائر الشروط. قاله الحافظ ابن حجر.
(2) هذا الحق هو الذي أحقه تعالى على نفسه كرماً منه وفضلاً، ومعناه: أنه متحقق لا محالة ؛ لأنه قد وعدهم ذلك جزاء على توحيده، وعد الله، لا يخلف الله وعده، وليس على الله حق واجب بالعقل كما تقول المعتزلة ولذا قيل:
ما للعبادِ عليه حقٌّ واجبُ
إن عذَّبوا فبعدله، أو نُعِّموا
كلاّ ولا سعيٌ لديه ضائعُ
فبفضلِه وهو الكريمُ الواسعُ
قال شيخ الإسلام: «وهذا الحق هو استحقاق إنعام وفضل ليس هو استحقاق مقابلة كما يستحق المخلوق على المخلوق، فمن الناس من يقول لا معنى للاستحقاق إلاّ أنه أخبر بذلك ووعده صدق، ولكن أكثر الناس يثبتون استحقاقاً زائداً على هذا كما دلَّ عليه الكتاب والسنة، قال تعالى: { وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ } [الروم:47].
وكما في حديث معاذ هذا، ولكن أهل السنة يقولون: هو الذي كتب على نفسه الرحمة وأوجب هذا الحق على نفسه ولم يُوجبه عليه مخلوق، والمعتزلة يدّعون أنه واجب عليه بالقياس على المخلوق، وأن العباد هم الذين أطاعوه بدون أن يجعلهم له وأنهم مطيعين يستحقون الجزاء بدون أن يكون هو الموجب وغلطوا في ذلك».
وفيه: معرفة حق العباد على الله إذا أدُّوا حقه. قاله المصنف.
( ) قوله: «قلت: يا رسول الله، أفلا أبشر الناس ؟ قال: «لا تبشِّرهم فيتكلوا». وفي رواية: «إني أخاف أن يتّكلوا» - أي يعتمدوا على ذلك - فيتركوا التنافس في الأعمال الصالحة. وفي رواية: «فأخبر بها معاذ عند موته خوفاً من الإثم». قاله المصنف رحمه الله.
وفيه: أن هذه المسألة لا يعرفها أكثر الصحابة، وعظم شأن هذه المسألة، وجواز كتمان العلم للمصلحة، واستحباب بشارة المسلم بما يسره.
وفيه: ما كان عليه الصحابة من الاستبشار بمثل هذا والخوف من الاتكال على(1/23)
.
أخرجاه في الصحيحين(1) .
* * *
2- باب
فضل التوحيد(2) وما يُكفِّر من الذنوب(3)
__________
(1) عة رحمة الله. قاله المصنف رحمه الله.
( ) قوله: «أخرجاه»* أي: البخاري، وهو محمد بن إسماعيل بن إبراهيم الجعفي مولاهم، الحافظ، صاحب: الصحيح والتاريخ والأدب المفرد، روى عن الإمام أحمد والحميدي وابن المديني وغيرهم، وعنه مسلم والنسائي والترمذي والفربري راوي الصحيح، ولد سنة أربع وتسعين ومائة، ومات سنة ست وخمسين ومائتين. ومسلم: هو ابن الحجاج بن مسلم القشيري النيسابوري صاحب الصحيح والعلل والوحدان، روى عن أحمد بن حنبل ويحيى بن معين وأبي خيثمة وابن أبي شيبة وطبقتهم وعن البخاري، وعنه: الترمذي وإبراهيم بن محمد بن سفيان راوي الصحيح، ولد سنة أربع ومائتين** ومات سنة إحدى وستين ومائتين بنيسابور. رحمهما الله تعالى.
..........................................................
* أخرجه البخاري (2856) و(6267) و(6500) و(7373)، ومسلم (30).
** وفي كثير من المصادر ولد سنة 206هـ.
(2) قوله: «باب فضل التوحيد» إنما بُوِّبت الكتبُ ليكون أنشط للطالب إذا ختم باباً وشرع في آخر، وأبعث لهمّته، كالمراحل التي يطلبها المسافر ليرتاح عندها، ولذا كان القرآن سوراً؛ ولأنه أسهل في وجدان المسائل وأَدعَى لحسن الترتيب، وسُميت الأبواب تراجم؛ لأنها تترجم عما بعدها أي تبيِّنه بوجه إجمالي، ومنه الترجمان.
لما ذكر الشيخ رحمه الله التوحيد ناسب أن يذكر فضله ترغيباً فيه، والمراد بالتوحيد توحيد العبادة. قاله في «قرة العيون»*.
(3) قوله: «وما يكفِّر من الذنوب» يحتمل أن تكون ما موصولة والعائد محذوف، أي: وبيان الذي يكفره من الذنوب، وأن تكون مصدرية، أي: وتكفيره الذنوب، وهذا أظهر؛ لأن كونها موصولة يُوهمُ أنَّ هناك ذنوباً لا يكفّرها التوحيد، وهذا ليس بمراد.(1/24)
وقول الله تعالى: { الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ } الآية(1)
__________
(1) قوله: وقول الله تعالى: { الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ } ومعنى آمنوا: وحدوا. وقوله: { وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ } أي: لم يخلطوا توحيدهم بشرك. { أُولَئِكَ لَهُمُ الأمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ } قال الحسن والكلبي: لهم الأمن في الآخرة { وَهُمْ مُهْتَدُونَ } في الدنيا. وهذا هو الشاهد من الآية للترجمة.
وروى الإمام أحمد عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: لما نزلت { الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ } شقَّ ذلك على أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: يا رسول الله، وأيُّنا لا يظلم نفسه ؟.
قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إنه ليس الذي تعنون، ألم تسمعوا ما قال
..........................................................
* (ص/23).
العبد الصالح ؟ { يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } [لقمان:13]، إنما هو الشرك»*.
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى [الفتاوى 7/80-81]: «والذين شقَّ عليهم ظنوا أن الظلم المشروط هو ظلم العبد لنفسه، وأنه لا أمن ولا اهتداء إلا لمن لم يظلم نفسه. فبيَّن لهم النبي - صلى الله عليه وسلم - ما دلَّهم على أن الشرك ظلم في كتاب الله، فلا يحصل الأمن والاهتداء إلاّ لمن لم يُلبس إيمانه بهذا الظلم. فمن سلم من أجناس الظلم الثلاثة يعني: الظلم الذي هو الشرك، وظلم العباد، وظلمه لنفسه بما دون الشرك، كان له الأمن التام والاهتداء التام، ومن لم يسلم من ظلم نفسه كان له الأمن والاهتداء مطلقاً، ويحصل له من نقص الأمن والاهتداء بحسب ما نقص من إيمانه بظلمه لنفسه». قال: «وليس مراد النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: «إنما هو الشرك» أن من لم يشرك الشرك الأكبر يكون له الأمن التام والاهتداء التام، فإن أحاديثه الكثيرة مع نصوص القرآن تبيِّن أن أهل الكبائر معرضون للخوف لم يحصل لهم الأمن التام والاهتداء التام، فالأمن أمنان: أمنٌ مطلق، وأمنٌ مقيَّد.
فالأول: هو الأمن من العذاب، وهو لمن تاب على التوحيد ولم يصرّ على الكبائر.
الثاني: لمن مات على التوحيد مع الإصرار على الكبائر، فله الأمن من الخلود في النار.
ففرقٌ بين الأمن المطلق ومطلق الأمن.
وقوله: «إنما هو الشرك» إن أراد به الأكبر فمقصوده أن من لم يكن من أهله فهو آمن مما وعد به المشركون من عذاب الدنيا والآخرة وهو مهتد إلى ذلك، وإن كان مراده جنس الشرك فيقال: ظلم العبد لنفسه كبخله لحب المال ببعض الواجب هو شرك أصغر، وحبه ما يبغض الله حتى يقدِّم هواه على محبة الله شرك أصغر، ونحو ذلك، فهذا فاته من الأمن والاهتداء بحسبه، ولهذا كان السلف يدخلون الذنوب في هذا الظلم بهذا الاعتبار».
..........................................................
* أخرجه البخاري (32، 336، 3428)، ومسلم (124، 197)، وأحمد (6/68)، والترمذي (3069).(1/25)
[الأنعام: 82]. عن عُبادة بن الصامت - رضي الله عنه -(1) قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
__________
(1) قال أيضاً [الفتاوى 1/97-98]: «وهذه آية عظيمة تنفع المؤمن الحنيف في مواضع، فإن الإشراك في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل، وكثير من المتفقهة وأجناد الملوك وأتباع القضاة والعامة المتبعة لهؤلاء يشركون شرك الطاعة، فيجعل الواجب ما أوجبه متبوعه، والحرام ما حرَّمه متبوعه، والحلال ما حلَّله متبوعه، والدين ما شرعه إما ديناً وإما دنيا، وإما ديناً ودنيا، ثم يخوف من امتنع من هذا الشرك وهو لا يخاف أنه أشرك بالله شيئاً في طاعته بغير سلطان». انتهى.
وفيه: سعة فضل الله وكثرة ثواب التوحيد عند الله وتكفيره مع ذلك للذنوب، ومعرفة تفسير آية الأنعام. قاله المصنف - رحمه الله تعالى -.
( ) قوله: «عن عبادة بن الصامت» بن قيس الأنصاري الخزرجي أبوالوليد، أحد النقباء، بدري مشهور، مات سنة أربع وثلاثين وله اثنتان وسبعون سنة - رضي الله عنه -. «قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله، وأن عيسى عبدالله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وأنّ الجنة حقّ والنار حق، أدخله الله الجنة على ما كان من العمل»*. أخرجاه. قال النووي: «هذا حديث عظيم جليل الموقع، وهو من أجمع الأحاديث المشتملة على العقائد، جمع فيه ما يخرج من ملل الكفر على اختلاف عقائدهم، وما يباين به جميعهم». انتهى.(1/26)
«من شهد أن لا إله إلاّ الله(1)
__________
(1) قوله: «من شهد أن لا إله إلا الله» أي تكلم بهذه الكلمة العظيمة عارفاً لمعناها من أنه لا معبود بحق إلا الله عاملاً بمقتضاها باطناً وظاهراً كما دلّ عليه قوله: { فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ } [محمد:19]، وقوله: { إِلا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } [الشورى:86] أما النطق بها من غير معرفةٍ لمعناها ولا عمل بمقتضاها فإن ذلك غير نافع، يدل على هذا قوله: من شهد كيف يشهد وهو لا يعلم.
..........................................................
* أخرجه البخاري (3435)، ومسلم (28).
قال القرطبي في «المفهم على صحيح مسلم» باب: لا يكفي التلفظ بالشهادتين؛ بل لابد من استيفاء القلب: «هذه الترجمة تنبيه على فساد مذهب غلاة المرجئة، القائلين بأن التلفظ بالشهادتين كافٍ في الإيمان. وأحاديث هذا الباب يعني التي ذكرها مسلم تدلّ على فساده بل هو مذهب معلوم الفساد من الشريعة لمن وقف عليها، ولأنه يلزم منه تسويغ النفاق والحكم للمنافق بالإيمان الصحيح وهو باطل قطعاً». انتهى.
وقال شيخ الإسلام [الفتاوى 10/249]: «الإله هو المعبود المطاع، فإن الإله هو المألوه، والمألوه هو الذي يستحق أن يُعبد، وكونه يستحق أن يُعبد هو بما اتصف به من الصفات التي تستلزم أن يكون هو المحبوب غاية الحب المخضوع له غاية الخضوع. قال: فإن الإله هو المحبوب المعبود الذي تألهه القلوب بحبها وتخضع له وتذل له وتخافه وترجوه وتنيب إليه في شدائدها وتدعوه في مهماتها وتتوكل عليه في مصالحها وتلجأ إليه وتطمئن بذكره وتسكن إلى حبه وليس ذلك إلا لله وحده، ولهذا كانت: لا إله إلاّ الله أصدق الكلام، وكان أهلها أهل الله وحزبه، والمنكرون لها أعداءه وأهل غضبه ونقمته، فإذا صحّت صحَّ بها كل مسألة وحال وذوق، وإذا لم يصححها العبد فالفساد لازم له في علومه وأعماله». انتهى.
وقال الزمخشري: «الإله من أسماء الأجناس كالرجل والفرس يقع على كل معبود بحق أو باطل ثم غلب على المعبود بحق».
وقال ابن القيم في «بدائع الفوائد» [3/58] رداً لقول من قال: إن المستثنى مخرج من المستثنى منه، قال: «بل هو مخرج من المستثنى منه وحكمه، فلا يكون داخلاً في المستثنى؛ إذ لو كان كذلك لم يدخل الرجل في الإسلام بقوله: لا إله إلا الله؛ لأنه لم يثبت الإلهية لله تعالى. وهذه أعظم كلمة تضمنت بالوضع نفي الإلهية عما سوى الله، وإثباتها له بوصف الاختصاص، فدلالتها على إثبات الإلهية أعظم من دلالة قولنا: الله إله، ولا يستريب أحدٌ في هذا البتة» انتهى بمعناه.
وأما من زعم أن الإله القادر على الاختراع، أو الغني عما سواه، الفقير إليه(1/27)
................................................................
وحده(1)لا شريك له، وأنَّ محمداً عبده ورسوله(2)
__________
(1) ل ما عداه ونحو ذلك، فهذا من لوازم الإلهية وليس هو المراد بمعنى لا إله إلا الله؛ لأن معناها لا معبود بحق إلا الله، فما أجهل عباد القبور وما أعظم ما وقعوا فيه من الشرك المنافي لكلمة الإخلاص: لا إله إلا الله، فإن مشركي العرب جحدوا لا إله إلا الله لفظاً ومعنى، وهؤلاء المشركون أقروا بها لفظاً وجحدوها معنىً.
( ) وقوله: «وحده» تأكيدٌ للإثبات، «لا شريك له» تأكيدٌ للنفي.
(2) وقوله: «وأن محمداً عبده ورسوله» أي: وشهد أن محمداً عبده ورسوله وهو معطوف على ما قبله على نية تكرار العامل، والعبد هنا المملوك العابد أي مملوك الله تعالى وليس له من الربوبية والإلهية شيء.
فقوله: «عبده ورسوله» أعلى مراتب العبد العبودية الخاصة والرسالة، والنبي - صلى الله عليه وسلم - أكمل الخلق في هاتين الصفتين الشريفتين وجمعهما في حقه - صلى الله عليه وسلم - دفعاً للإفراط والتفريط، فإن كثيراً ممن يدَّعي أنه من أمته أفرَطَ بالغلوِّ فيه قولاً وفعلاً وفرط بترك متابعته واعتمد على الآراء المخالفة لما جاء به وتعسّف في تأويل أخباره بصرفها عن مدلولها والصدف عن الانقياد لها مع انطراحها.
وشهادة أن محمد رسول الله تقتضي طاعته فيما أمر، وتصديقه فيما أخبر، واجتناب ما نهى عنه وزجر، وأن لا يُعبد الله إلا بما شرع، وأن يُعظم أمره ونهيه، ولا يُقدَّم عليه قول أحدٍ كائناً من كان.(1/28)
،وأنَّ عيسى عبدُ(1)الله
ورسوله(2)
__________
(1) قوله: «وأن عيسى عبدالله ورسوله» وفي رواية: «وابن أمته»، فقوله عبدالله ردُّ على النصارى القائلين بأنه الله، أو ابن الله، أو ثالث ثلاثة، تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً: { مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ * عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ } [المؤمنون:91-92].
(2) وقوله: «ورسوله» ردٌّ على اليهود القائلين بأنه ولد بغي - لعنهم الله -.
قال القرطبي: «يستفاد من هذا الحديث ما يلقنه النصراني إذا أسلم».(1/29)
، وكلمته(1) ألقاها إلى مريم(2) وروحٌ منه(3)،
__________
(1) قوله: «وكلمته» قال الإمام أحمد رحمه الله: «إنما سمى عيسى عليه السلام كلمة الله لصدوره بكملة «كن» بلا أب، وكان عيسى بـ «كن»، وليس عيسى هو «كن»، ولكن بـ «كن» كان، فـ «كن» من الله قولٌ وليس «كن» مخلوقاً، وكذب النصارى والجهمية على الله في أمر عيسى، وذلك أن الجهمية قالت: عيسى روح الله وكلمته إلا أن الكلمة مخلوقة، وقالت النصارى: عيسى روح الله من ذات الله، وكلمة الله من ذاته.
(2) وقوله: «ألقاها إلى مريم» أي أرسل بها جبريل عليه السلام إليها فنفخ فيها من روحه بإذن الله، فجبريل نفخ، والله خلق بقول: «كن» فكان، فسبحان من لا يخلق غيره ولا يُعبد سواه.
(3) قوله: «وروح منه» يقول من أمره كان الروح فيه، وقال أُبَيّ بن كعب: عيسى روح من الأرواح التي خلقها الله واستنطقها بقوله: { أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى } [الأعراف:172] قال الحافظ ابن حجر [الفتح 6/475]: «ووصفه بأنه منه، فالمعنى: أنه كائن منه، كما في قوله: { وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ } [الجاثية: 13]، كما أن معنى الآية الأخرى أنه سخر هذه الأشياء كائنةً منه أي أنه مكون ذلك وموجده، بقدرته وحكمته».
قال شيخ الإسلام [الفتاوى 6/145، 9/290]: «المضاف إلى الله تعالى إذا كان معنى لا يقوم بنفسه، ولا بغيره من المخلوقات وجب أن يكون صفة لله تعالى قائمة به، وامتنع أن تكون إضافتها إضاقة مخلوق مربوب، وإذا كان المضاف عيناً قائمة بنفسها كعيسى وجبريل عليهما السلام وأرواح بني آدم امتنع أن تكون صفةً لله تعالى؛ لأن ما قام بنفسه لا يكون صفة لغيره، لكنّ الأعيان المضافة إلى الله تعالى على وجهين:(1/30)
وأنَّ الجنةَ حقٌّ والنَّار حقٌّ(1)،أدخله الله الجنة على ما كان من العمل(2)».
__________
(1) حدهما: أن تُضاف إليه لكونه خلقها وأبدعها، فهذا شاملٌ لجميع المخلوقات، كقولهم: سماء الله، وأرض الله، فجميع المخلوقين عبيدٌ لله، وجميع المال مالُ الله.
الوجه الثاني: أن تُضاف إليه لما خصَّها به من معنىً يحبه ويأمر به ويرضاه، كما خصَّ البيت العتيق بعبادةٍ فيه لا تكون في غيره، وكما يقال في مال الخمس والفيء مالُ اللهِ ورسوله، ومن هذا الوجه فعباد الله هم الذين عبدوه وأطاعوا أمره، فهذه إضافةٌ تتضمن ألوهيته وشرعه ودينه، وتلك إضافة تتضمن ربوبيته وخلقه». انتهى ملخصاً.
وفيه: الإيمان بالمعاد.
( ) وقوله: «وأنّ الجنة حقٌّ والنار حقٌّ» أي: وشهد أن الجنة حق لا شك فيها، وأنها موجودة الآن؛ لأن الله أخبر في كتابه بأنه أعدّها لمن آمن به وبرسله، قال تعالى: { سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ } [الحديد:21]، وشهد أن النار حق وأنها موجودة الآن أعدّها للكافرين كما قال تعالى: { وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ } [آل عمران:131]، ولحديث محاجّة الجنة والنار وغير ذلك من النصوص الدالة على وجودهما.
(2) قوله: «أدخله الله الجنة على ما كان من العمل» هذه الجملة جواب الشرط في قوله: «من شهد أن لا إله إلا الله» الخ، وفي رواية: «أدخله الله من أي أبواب الجنة الثمانية شاء».
قال الحافظ ابن حجر [الفتح 6/475]: «معنى قوله «على ما كان من العمل» من صلاح أو فساد؛ لأن أهل التوحيد لابد لهم من دخول الجنة، ويحتمل أن يكون معنى قوله «على ما كان من العمل» أن يدخل الجنة أهل الجنة على حسب أعمالهم في الدرجات».(1/31)
أخرجاه(1).
ولهما في حديث عِتبان(2): «فإن الله حرَّم على النار من قال: لا إله إلاّ الله يبتغي بذلك وجه الله»(3)
__________
(1) ال المصنف: «تأمّل الخمس اللواتي في حديث عبادة، وإذا جمعت بينه وبين حديث عتبان تبيَّن لك معنى قول: لا إله إلا الله، وتبين لك خطأ المغرورين، وتأمل الجمع بين كون عيسى ومحمد عبدي الله ورسوليه، ومعرفة اختصاص عيسى بكونه كلمة الله، ومعرفة كونه روحاً منه، ومعرفة فضل الإيمان بالجنة والنار، ومعرفة قوله على ما كان من العمل».
( ) قوله: «أخرجاه» أي البخاري ومسلم.
(2) قوله: «ولهما» أي البخاري ومسلم، «في حديث عِتبان» - بكسر العين بعدها مثناة فوقية ثم موحدة - ابن مالك بن عمرو بن العجلان الأنصاري، من بني سالم بن عوف، صحابي مشهور، مات في خلافة معاوية - رضي الله عنه -.
(3) قوله: «فإن الله حرم على النار من قال: لا إله إلاّ الله يبتغي بذلك وجه الله»* وهذا طرف من حديث طويل أخرجه البخاري ومسلم، ورواه أيضاً أحمد والنسائي وابن ماجه والبيهقي في «الأسماء والصفات»، اختصره المصنف وذكر منه ما يناسب الترجمة.
وفيه: التنبيه للشرط الذي في حديث عتبان ومعرفة ذكر الوجه. قاله المصنف رحمه الله.
واعلم أنه قد وردت أحاديث ظاهرها أن من أتى بالشهادتين حرمه الله على النار كحديث عتبان هذا، وحديث أنس قال كان النبي - صلى الله عليه وسلم - ومعاذ رديفه على الرَّحْل فقال: «يا معاذ» قال: لبيك وسعديك. قال: «يا معاذ» قال: لبيك وسعديك. قال: «يا معاذ» قال: لبيك وسعديك، ثلاثاً. قال: «ما من عبد يشهد أن لا إله
..........................................................
* أخرجه البخاري (425) و(1186، 5401، 6423، 6938)، ومسلم (263).
إلا الله وأن محمداً رسول الله صدقاً من قلبه إلاّ حرّمه الله على النار» الحديث أخرجاه، ولمسلم عن عبادة مرفوعاً: «من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمد عبده ورسوله حرمه الله على النار»*.
ووردت أحاديث فيها أن من أتى بالشهادتين دخل الجنة، وليس فيها أنه يحرم على النار؛ منها حديث عبادة الذي تقدّم قبل هذا، وحديث أبي هريرة أنهم كانوا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في غزوة تبوك.
وفيه: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أشهد أن لا إله إلاّ الله وأني رسول الله، لا يلقى اللهَ عبدٌ بهما غير شاك فيهما فيحجب عن الجنة» الحديث رواه مسلم**. وحديث أبي ذر في الصحيحين مرفوعاً: «ما من عبدٍ قال لا إله إلا الله ثم مات على ذلك إلاّ دخل الجنة»*** الحديث.
وأحسن ما قيل في ذلك ما قاله شيخ الإسلام وغيره أن هذه الأحاديث إنما هي فيمن قالها ومات عليها كما جاءت مقيدة بقوله، وقالها خالصاً من قلبه مستيقناً بها قلبه غير شاك فيها بصدق ويقين فإن حقيقة التوحيد انجذاب الروح إلى الله تعالى جملة، فمن شهد أن لا إله إلا الله خالصاً من قلبه دخل الجنة؛ لأن الإخلاص هو انجذاب القلب إلى الله تعالى بأن يتوب من الذنوب توبة نصوحاً، فإذا مات على تلك الحال قال ذلك، فإنه قد تواتر الأحاديث بأنه يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وكان في قلبه من الخير ما يزن شعيرة، وما يزن خردلة، وما يزن ذرة، وتواترت بأن كثيراً ممن يقول لا إله إلا الله يدخل النار ثم يخرج منها، وتواتر بأن الله حرّم على النار أن تأكل أثر السجود من ابن آدم؛ فهؤلاء كانوا يصلون ويسجدون لله، وتواترت بأن الله حرّم على النار من قال لا إله إلا الله ومن شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله لكن جاءت مقيدة بالقيود الثقال
..........................................................
* أخرجه البخاري (3435)، ومسلم (28).
** برقم (27).
*** أخرجه البخاري (5827)، ومسلم (154).
وأكثر من يقولها لا يعرف الإخلاص، وأكثر من يقولها إنما يقولها تقليداً أو عادة ولم تخالط حلاوة الإيمان بشاشة قلبه، وغالب من يفتن عند الموت وفي القبور أمثال هؤلاء كما في الحديث: «سمعت الناس يقولون بشيء فقلته»*، وغالب أعمال هؤلاء إنما تقليد واقتداء بأمثالهم وهم من أقرب الناس من قوله تعالى: { إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ } [الزخرف:23].
وحينئذٍ فلا منافة بين الأحاديث؛ لأنه إذا قالها بإخلاص ويقين تام لم يكن في هذه الحال مصراً على ذنب أصلاً، فإن كمال إخلاصه ويقينه يوجب أن يكون الله أحب إليه من كل شيء، فإذاً لا يبقى في قلبه إرادة لما حرم الله ولا كراهة لما أمر الله وهذا هو الذي يحرم على النار.
وإن كانت له ذنوب قبل ذلك فإن هذا الإيمان والإخلاص والتوبة والمحبة واليقين لا يترك له ذنباً إلا مُحيَ كما يمحو الليل النهار، فإذا قالها على وجه الكمال المانع من الشرك الأكبر والأصغر فهذا غير مصرٍّ على ذنب أصلاً فيغفر له ويحرم على النار، وإن قالها على وجه خلص به من الشرك الأكبر دون الأصغر ولم يأتِ بعدها بما ينقاض ذلك فهذه الحسنة لا يقاومها شيء من السيئات فيرجح بها ميزان حسناته كما في حديث البطاقة، فيحرم على النار بأيضاً لكن تنقص درجته في الجنة بقدر ذنوبه، وهذا بخلاف من رجحت سيئاته بحسناته ومات مصراً على ذلك فإنه يستوجب النار.
وإن قال: «لا إله إلا الله» وخلص بها من الشرك الأكبر لكنه لم يمت على ذلك بل أتى بعد ذلك بسيئات رجحت على حسنة توحيده فأوهنت ذلك التوحيد والإخلاص فأضعفته، وقويت نار الذنوب حتى أحرقت ذلك، بخلاف المخلص المستيقن؛ فإن حسناته لا تكون إلا راجحة على سيئاته، ولا يكون مصراً على
..........................................................
* جزء من حديثٍ أخرجه الإمام أحمد (42/13) قال محقق طبعة الرسالة: إسناده صحيح على شرط الشيخين.(1/32)
.
................................................................
وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - (1)
__________
(1) يئاته، فإن مات على تلك دخل الجنة، فمن قال لا إله إلا الله ولم يقم بموجبها بل اكتسب مع ذلك ذنوباً وسيئات وكان صادقاً في قولها موقناً بها لكن ذنوبه أضعفت صدقه ويقينه وانضاف إلى ذلك الشرك الأصغر العملي رجحت هذه الأشياء على هذه الحسنة وبات مصراً على الذنوب.
والذين يدخلون النار ممن يقولها فإنهم أحد هذين الشرطين: إما إنهم لم يقولوها بالصدق واليقين التامّين المنافيين للسيئات أو لرجحان السيئات، أو قالوها واكتسبوا بعد ذلك سيئات رجحت على حسناتهم.
( ) وقوله: «وعن أبي سعيد» سعد بن مالك بن سنان الأنصاري الخزرجي، صحابي جليل، وأبوه كذلك، استُصغر بأُحُد وشهد ما بعدها، مات بالمدينة سنة ثلاث أو أربع أو خمس وستين، وقيل سنة أربع وسبعين - رضي الله عنه -.
«عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «قال موسى: يا رب علمني شيئاً أذكركَ»* أي أثني عليك وأحمدك به، «وأدعوك» أي أتوسل «به» إليك إذا دعوتك «قال: قل يا موسى: لا إله إلا الله» فدلّ على أن هذه الكلمة العظيمة مشتملة على الذكر والدعاء، وأن الذاكر يقولها كلها، ولا يقتصر على ما تضمنته من الإثبات دون النفي، ولا على لفظ الجلالة كما يفعله جهال المتصوفة، ولا على الضمير كما يفعله غلاتهم في قولهم: «هو هو» فإن ذلك بدعة وضلالة بل لا بد في الذكر بها من الإتيان بما اشتملت عليه من النفي والإثبات فلا يكون النفي وحده ذكراً ولا توحيداً، وكذلك الإثبات وحده لا يكون ذكراً ولا توحيداً حتى يجمع في قولها بني النفي والإثبات من متكلم واحد، فلو قال بعضهم: «لا إله»، وقال الآخر: «إلا الله» لم يكن ذلك ذكراً ولا توحيداً.
..........................................................
* أخرجه النسائي في عمل اليوم والليلة (834، 1141)، وابن حبان (2324)، والحاكم (1/528) وصححه، وقال ابن حجر: أخرجه النسائي بسند صحيح. انظر: الفتح (11/210).(1/33)
عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:
«قال موسى: يا ربِّ، علِّمني شيئاً أذكُرُكَ وأدعُوكَ به. قال: قلْ
يا موسى: لا إله إلاَّ الله. قال: كلُّ عبادك يقولون هذا(1). قال: يا موسى، لو أنَّ السموات السبع وعامرهُنَّ(2)
__________
(1) قوله: «قال: كل عبادك يقولون هذا» بالجمع مراعاة لمعنى «كل»، والذي في الأصول: «يقول» بالإفراد مراعاة للفظها دون معناها، لكن قد روى الإمام أحمد* عن عبدالله بن عمرو هذا الحديث بهذا اللفظ الذي ذكره المصنف أطول منه. قاله في «الشرح»**، وفي رواية النسائي والحاكم: «إنما أريد شيئاً تخصني به».
(2) قوله: «قال يا موسى، لو أن السموات السبع وعامرهن» بالنصب عطفاً على السموات أي من فيهن من العمار يعني السكان «غيري» أي غير الله تبارك وتعالى «والأرضين السبع» ومن فيهن من السكان «وُضعواً في كِفَّة» بكسر الكاف وتشديد الفاء يعني من كفتي الميزان «ولا إله إلا الله في الكفة الأخرى مالت بهنّ لا إله إلا الله» أي رجحت عليهم، لما اشتملت عليه من التوحيد الذي هو أفضل الأعمال وأساس الملة ورأس الأمر، وهذا هو الشاهد من الحديث للترجمة.
وروى الإمام أحمد عن عبدالله بن عمرو عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أن نوحاً عليه السلام قال لابنه عند موته: آمرك بلا إله إلا الله، فإن السموات السبع والأرضين السبع لو وُضعت في كفة ولا إله إلا الله في كفة رجحت بهن لا إله إلا الله، ولو أن السموات السبع والأرضين السبع كن حلقة مبهمة فضمتهن لا إله إلا الله»***.
فمن قالها بإخلاص ويقين وعمل بمقتضاها واستقام على ذلك فهو من الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
ودل الحديث على أن «لا إله إلا الله» أفضل الذكر، كحديث عبدالله بن عمر مرفوعاً: «خير الدعاء دعاء يوم عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي لا إله
..........................................................
* برقم (6580).
** (ص68).
*** أخرجه أحمد (2/169-170، 225)، والبخاري في الأدب المفرد (548)، والحاكم (1/48-49). وصححه الألباني في الصحيحة (543).
إلاّ وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير»*. رواه أحمد والترمذي.
وعنه أيضاً: «يُصاح برجل من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة، فيُنشر له تسعة وتسعين سجلاً، كل سجل منها مد البصر، ثم يُقال له: أتنكر من هذا شيئاً؟ أظلمك كتبتي الحافظون ؟ فيقول: لا يا رب، فيُقال: أفلكَ عذرٌ أو حسنة؟ فيهاب الرجل فيقول: لا. فيقال: بلى، إن ذلك عندنا حسنة، وإنه لا ظلم عليك اليوم، فيخرج له بطاقة فيها: أشهد أن لا إله إلاّ الله، وأن محمداً عبده ورسوله. فيقول: يا رب، ما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟ فيقال: إنك لا تظلم، فتوضع السجلات في كِفة والبطاقة في كفة، فطاشت السجلات، وثقلت البطاقة»**. رواه الترمذي وحسنه، والنسائي وابن حبان والحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم، وقال الذهبي في تلخيصه: صحيح.
قال ابن القيم رحمه الله [مدارج السالكين 1/331]: «فالأعمال لا تتفاضل بصورها وعددها، وإنما تتفاضل بتفاضل ما في القلوب، فتكون صورة العملين واحدة، وبينهما من التفاضل كما بين السماء والأرض، ومعلوم أن كل واحد له هذه البطاقة، وكثيرٌ منهم يدخل النار بذنوبه».
وفيه: كون الأنبياء يحتاجون إلى التنبيه على فضل «لا إله إلا الله»، والتنبيه لرجحانها بجميع المخلوقات مع أن كثيراً ممن يقولها يخف ميزانه، والنص على أن الأرضين سبع كالسموات، وأنّ لهنّ عُمّاراً. وفيه: إثبات الصفات خلافاً للمعطلة، ومعرفة أن الميزان له كفتان. قاله المصنف رحمه الله تعالى.
..........................................................
* أخرجه الترمذي (3579)، وأحمد (2/210)، ومالك في الموطأ (1/214، 215، 422، 423). وصححه الألباني في الصحيحة (1503).
** أخرجه الترمذي (2641)، والحاكم (1/5، 6)، وابن ماجه (4300)، وأحمد (2/213، 221)، وصححه الألباني في الصحيحة رقم (135).(1/34)
- غيري -
والأرضين السبع في كِفَّةٍ، ولا إله إلاّ الله في كِفَّة، مالتْ بهن لا إله إلاّ الله».
رواه ابن حبان والحاكم وصححه(1).
وللترمذي(2) - وحسَّنه -(3) عن أنس(4): سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «قال الله تعالى: يا ابن آدم، لو أتيتني بقراب الأرض خطايا، ثم لقيتني لا تشركُ بي شيئاً لأتيتُك بقُرابها مغفرة»(5)
__________
(1) قوله: «رواه ابن حِبَان» وهو محمد بن حِبّان - بكسر المهملة وتشديد الموحدة - أبوحاتم التميمي البستي، الحافظ، صاحب التصانيف: كالصحيح، والتاريخ والضعفاء والثقات.
قال الحاكم: كان من أوعية العلم، مات سنة أربع وخمسين وثلاثمائة بمدينة «بُسْت» بضم الموحدة وسكون المهملة.
و«الحاكم» هو محمد بن عبدالله النيسابوري، أبوعبدالله، الحافظ، ويُعرف بابن البيِّع، ولد سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة، وصنّف: المستدرك وتاريخ نيسابور وغيرهما، ومات سنة خمس وأربعمائة، رحمهما الله تعالى.
(2) قوله: «وللترمذي» وهو محمد بن عيسى بن سَورة - بفتح السين -، السُّلمي، أبوعيسى، صاحب الجامع وأحد الأئمة الحفاظ، كان ضرير البصر، روى عن قتيبة وهنّاد والبخاري وخلق، مات سنة تسع وسبعين ومائتين.
(3) قوله: «وحسّنه» أي قال إنه حسن، والحسن عند الترمذي ما تعددت طرقه وليس فيها متهم ولا خالفه أحدٌ من الثقات. قاله شيخ الإسلام رحمه الله.
(4) قوله: «عن أنس بن مالك» بن النضر الأنصاري الخزرجي، خادم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، خدمه عشر سنين ودعا له النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: «اللهم أكثر ماله وولده وأدخله الجنة»*، مات سنة اثنتين، وقيل ثلاث وتسعين، وقد جاوز المائة - رضي الله عنه -، ولم يمت حتى رأى من ولده وولد ولده زيادة عن المائة.
(5) قوله: «قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: قال الله تعالى: يا ابن آدم إنك لو أتيتني
..........................................................
* أخرجه البخاري (424، 425)، ومسلم (33) و (657).
بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتُك بقرابها مغفرة» وهذا الذي ذكره المصنف قطعة من حديث رواه الترمذي عن أنس قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «قال الله تعالى: يا ابن آدم، إنك ما دعوتني ورجوتني غفرتُ لك على ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرتُ لك، يا ابن آدم لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة»*، وهذا هو الشاهد من الحديث للترجمة.
وقُراب الأرض – بضم القاف، وقيل بكسرها والضم أشهر –: ملؤها أو ما يقارب ملؤها.
وقوله: «ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً» شرط ثقيل في الوعد بحصول المغفرة وهو السلامة من الشرك، كثيره وقليله، صغيره وكبيره، ولا يسلم من ذلك إلا من سلمه الله تعالى.
قال شيخ الإسلام: «الشرك نوعان: أكبر وأصغر، فمن خلص منهما وجبت له الجنة، ومن مات على الأكبر وجبت له النار، ومن خلص من الأكبر وحصل له بعض الأصغر مع حسنات راجحة على ذنوبه دخل الجنة، فإن تلك الحسنات توحيد كثير مع يسير من الشرك الأصغر، ومن خلص من الأكبر ولكن كثر الأصغر حتى رجحت به سيئاته دخل النار، فالشرك يؤاخذ به العبد إذا كان أكبر أو كان كثيراً أصغر، والأصغر القليل في جانب الإخلاص الكثير لا يُؤخذ به». انتهى.
فإذا عرفتَ حديث أنس؛ عرفتَ أن قوله في حديث عِتبان: «فإن الله حرّم على النار من قال: لا إله إلاّ الله يبتغي بذلك وجه الله» أنَّ ترك الشرك ليس قولها باللسان. قاله المصنف رحمه الله.
وفيه: سعة كرمِ الله وجُودِه حيث لو أتاه العبد بمل الأرض خطايا وقد مات على التوحيد أنه يقابله بالمغفرة لذنوبه.
..........................................................
* تقدم تخريجه (ص/28).
وفيه: الردّ على الخوارج الذين يكفِّرون المسلم بالذنوب، وعلى المعتزلة الذين يقولون: بالمنزلة بين المنزلتين، وهي: أنه ليس بمؤمن ولا كافر ويُخلّد في النار؛ فيوافقون الخوارج في التخليد في النار ويخالفونهم في الاسم.
والصواب ما عليه أهل السنة أن لا يسلب عنه اسم الإيمان على الإطلاق ولا يُعطاه على الإطلاق بل يُقال هو مؤمن ناقص الإيمان، أو مؤمن عاص، أو مؤمنٌ بإيمانه، فاسقٌ بكبيرته، وعلى هذا يدل الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة.(1/35)
.
..........................................................................
* * *
3- باب
من حقَّقَ التوحيدَ دخل الجنة بغير حساب(1)
__________
(1) قوله: «باب من حقَّقَ التوحيد دخل الجنة بغير حساب» أي ولا عذاب؛ لأن العذاب نتيجة الحساب، فإذا لم يُحاسب لا يُعذَّب.
وتحقيق التوحيد تخليصه وتصفيته من شوائب الشرك والبدع والمعاصي، فلا يعمل شركاً يحبطه، ولا بدعة تقدح فيه، ولا معصية تنقصه، وتحقيق التوحيد عزيز في الأمّة لا يُوجد إلاَّ في أهل الإيمان الخالص الذين أخلصهم الله واصطفاهم من خلقه.
وما أحسن ما قال العلاّمة ابن القيم رحمه الله [الكافية الشافية (256)]:
وحقيقة الإخلاص توحيد المرا
لكن مراد العبد يبقى واحداً
إن كان ربك واحداً سبحانه
أو كان ربك واحداً أنشاك لم
فكذاك أيضاً وحده فاعبده لا
والصدق توحيد الإرادة وهو بذل
والسنة المثلى لسالكها فتو
فلواحدٍ كنْ واحداً في واحدٍ
هذي ثلاث مُسعِدَاتٌ للذي
د فلا يزاحمه مراد ثانِ
ما فيه تفريق لدى الإنسانِ
فاخصصه بالتوحيد مع إحسانِ
يشركه إذ أنشاك رب ثانِ
تعبد سواه يا أخا العرفانِ
الجهد لا كسلاً ولا متوانِ
حيد الطريق الأعظم السلطانِ
أعني سبيل الحق والإيمانِ
قد نالها والفضل للمنَّانِ
ومعنى قوله: «فلواحد» أراد توحيد المراد بالإخلاص، «كن واحداً» والمراد توحيد الإرادة بالصدق، «في واحدٍ» وهو توحيد الطريق باتباع الحق.
وقوله: «هذي ثلاث مسعدات» يعني أن هذه الثلاث هي أسباب السعادة لمن نالها، والفضل للمنان جل وعلا الذي يَمُنُّ على من يشاء من عباده.
قال شيخ الإسلام [الفتاوى 1/310-311]: «دين الإسلام مبني على أصلين وهما:
تحقيق شهادة أن لا إله إلاّ الله وأن محمداً رسول الله، أن لا تجعل مع الله إلهاً آخر، فلا تحب مخلوقاً كما تحب الله، ولا ترجوه كما ترجو الله، ولا تخشاه كما تخشى(1/36)
وقول الله تعالى: { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } (1)
__________
(1) لله، فمن سوَّى بين المخلوق والخالق في شيء من ذلك فقد عدل بالله، وهو من الذين هم بربهم يعدلون.
والأصل الثاني: أن يعبده بما شَرَع على ألسنةِ رُسِلِه، لا تعبده إلا بواجب أو مستحب، والمباح إذا قصد به الطاعة دخل في ذلك».
( ) قوله: «وقول الله تعالى: { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } » أثنى تعالى على خليله إبراهيم عليه السلام بهذه الصفات التي هي الغاية في تحقيق التوحيد:
الأولى: أنه كان «أُمَّة» أي قدوة وإماماً يقتدى به ومعلماً للخير.
روي معناه عن ابن مسعود، وقال مجاهد: كان إبراهيم أُمَّة أي مؤمناً وحده والناس كلهم كفار إذ ذاك.
الثانية: أنه كان «قانتاً لله» أي خاشعاً مطيعاً لربه دائماً على طاعته وعبادته. قال شيخ الإسلام: «القنوت في اللغة دوم الطاعة، والمصلِّي إذا أطال قيامه وركوعه وسجوده فهو قانت قال تعالى: { أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آَنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ } [الزمر:9]».
الثالثة: كونه «حنيفاً» أي مائلاً منحرفاً عن الشرك قاصداً إلى التوحيد.
قال ابن القيم رحمه الله [مفتاح دار السعادة 1/174]: «الحنيف المقبل على الله المعرض عما سواه». قال تعالى: { إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ } [الأنعام: 79]».
وقال المصنف على قوله: { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً } لئلا يستوحش سالك الطريق من قلة السالكين، { قَانِتًا لِلَّهِ } لا للملوك ولا للتجار المترفين { حَنِيفًا } لا يميل يميناً ولا شمالاً كفعل العلماء المفتونين { وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } خلافاً لمن كثر سوادهم وزعم أنه من المسلمين». انتهى.(1/37)
[النحل:120].
وقال: { وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ } (1) [المؤمنون:59].
__________
(1) ال في «قرة العيون»*: «فقد فارق المشركين بالقلب واللسان والأركان، وأنكر ما كانوا عليه من الشرك بالله في عبادته، وكسَّر الأصنام، وصبر على ما أصابه في ذات الله وهذا هو تحقيق التوحيد». انتهى.
قال في «الشرح»**: «ومناسبة الآية للترجمة أن الله تعالى وصف إبراهيم عليه السلام بهذه الصفات الجليلة ترغيباً في اتباعه في التوحيد وتحقيق العبودية باتباع الأوامر واجتناب النواهي».
( ) وقوله تعالى: { وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ } هذا من جملة صفات المؤمنين المذكورين في قوله: { إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ } [المؤمنون:57] أي مع إحسانهم وعملهم مصالح مشفقون من الله وَجِلون خائفون من مكره بهم كما قال الحسن البصري: المؤمن من جمع إحساناً وشفقاً، والمنافق من جمع إساءة وأمناً، ثم قال: { وَالَّذِينَ هُمْ بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ } [المؤمنون:57] أي يؤمنون بآيات الكونية والشرعية.
قال شيخ الإسلام [الفتاوى 11/322]: «فالآيات الكونية: هي التي استعاذ بها النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله: «أعوذ بكلمات الله التامَّات التي لا يجاوزهنَّ برٌّ ولا فاجر»*** والكون كله داخل تحت هذه الكلمات.
والكلمات الشرعية: هي القرآن وشرع الله الذي بعث به رسوله وهي أمره ونهيه»، ثم قال: { وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ } أي لا يعبدون مع الله غيره، فأثنى عليهم بتلك الصفات التي أعظمها سلامتهم من الشرك أكبره وأصغره. قاله المصنف رحمه الله تعالى. وهذا هو الشاهد من الآية للترجمة.
..........................................................
* (ص/36).
** (ص74).
*** أخرجه أبوداود (3893) بنحوه، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (3294).(1/38)
عن حصين بن عبدالرحمن(1) قال: كنت عند سعيد بن جُبير(2) فقال: أيُّكم رأى الكوكبَ الذي انقضَّ البارحة؟ فقلت: أنا. ثم قلتُ: أما إني لم أكن في صلاة ولكني لُدِغت(3). قال: فما صنعت؟ قلت: ارتقيت. قال: فما حملك على ذلك؟ قلت: حديث حدثناه الشعبي. قال: وما حدّثكم؟ قلت: حدثنا عن بُريدة بن الحصيب(4) أنه قال: لا رُقية إلا من عين أو حُمة. قال: قد أحسن مَن انتهى إلى
__________
(1) قوله: «عن حصين بن عبدالرحمن» السلمي أبوالهزيل الكوفي، ثقة من تابعي التابعين، مات سنة ستٍ وثلاثين ومائة وله ثلاث وتسعون سنة.
(2) قال: «كنت عند سعيد بن جبير» الوالبي الإمام الفقيه، من جلة أصحاب ابن عباس، كوفي مولى لبني أسد، قُتل بين يدي الحجّاج سنة خمس وتسعين ولم يكمل الخمسين، فما أمهله الله بعده «فقال» أي: سعيد بن جبير «أيُّكم رأى الكوكب» أي الشهاب، «الذي انقضَّ البارحة» أي رمى به، والبارحة يُقال لليلة الماضية إذا زالت الشمس، مشتقة من برح إذا زال، وأما قبل الزوال فيقال الليلة «فقلت: أنا» أي أنا رأيته «ثم قلت: أما إني لم أكنْ في صلاة» قال ذلك لئلا يُظن أنه قائم يصلي في ذلك الوقت، فما أشدَّ حذر السلف من الشرك.
وفيه: بُعد السلف عن مدح الإنسان بما ليس فيه. قاله المصنف رحمه الله.
(3) قوله: «ولكني لُدغتُ» أي لدغته عقرب أو نحوها «قال فما صنعت؟ قلت: ارتقيت» لفظ مسلم استرقيت أي: طلبت من يرقيني «قال: فما حملك على ذلك» فيه طلب الحجة على صحة المذهب، وأن من فعل شيئاً سُئل عن مستنده في فعله ومن لم يكن معه حجة فرعية فلا عذر له فيما فعله «قلت: حديثٌ حدّثناه الشعبي» وهو عامر بن شراحيل الهمداني بسكون الميم، الحميري، ولد في خلافة عمر وهو من ثقات التابعين وحفاظهم وفقهائهم، مات سنة ثلاث ومائة.
(4) قوله: «وما حدَّثكم؟ قلت: حدثنا عن بريدة» بضم أوله وفتح ثانيه تصغير بردة «بن الحصيب» بضم الحاء وفتح الصاد المهلمتين بن الحارث الأسلمي، صحابي شهير،(1/39)
ما سمع(1)، ولكن حدثنا ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «عُرضت عليَّ الأمم، فرأيتُ النبيَّ ومعه الرهط(2)
__________
(1) مات سنة ثلاث وستين، قاله ابن سعد. «أنه قال: لا رقية إلاّ من عين أو حُمَة» هكذا روى موقوفاً، وقد رواه أحمد وابن ماجه عنه مرفوعاً ورواه أحمد وأبوداود والترمذي عن عمران بن حصين به موقوفاً. قال الهيثمي: رجال أحمد ثقات. والعين هي إصابة العائن غيره بعينه، والحُمة بضم الميم وتخفيف الميم سُم العقرب وشبهها، ومعنى الحديث: لا رقية أشفى وأولى من رقية العين والحمة.
... قال الخطابي: وفيه الرخصة في الرقية من العين والحمة. قاله المصنف رحمه الله تعالى.
( ) قوله: «قال: قد أحسن من انتهى إلى ما سمع» أي من أخذ بما بلغه من العلم وعمل به فقد أحسن، بخلاف من يعمل بجهل أو لا يعمل بما علم فإنه مسيء آثم.
وفيه: عمق علم السلف لقوله: «قد أحسن من انتهى إلى ما سمع، ولكن حدثنا ابن عباس» فعلم أن الحديث الأول لا يخالف الثاني. قاله المصنف رحمه الله.
وفيه: فضيلة علم السلف وحسن أدبهم في تبليغ العلم وإرشاد من أخذ بشيء من العلم إلى الأفضل.
وابن عباس هو عبدالله بن عباس بن عبدالمطلب الهاشمي ابن عم النبي - صلى الله عليه وسلم - حَبر الأمة وترجمان القرآن، دعا له النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: «اللهم فقِّهُه في الدين، وعلِّمه التأويل»*. فكان آية في ذلك، مات بالطائف سنة ثمان وستين.
«عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: عُرضت عليَّ الأمم» في رواية الترمذي والنسائي من رواية عبثر ابن القاسم عن حصين بن عبد الرحمن أن ذلك كان ليلة الإسراء ولفظه: لما أسري بالنبي - صلى الله عليه وسلم - جعل يمر بالنبي ومعه الرهط.
(2) قوله: «فرأيت النبي ومعه الرهط» قال النووي: الرهط الجماعة دون العشرة.
..........................................................
* أخرجه البخاري (143).(1/40)
،والنبي ومع الرجل والرجلان، والنبي وليس
معه أحد(1)، إذ رُفع لي سوادٌ عظيم(2) فظننت أنهم أمتي، فقيل لي: هذا موسى وقومه(3)، فنظرتُ فإذا سواد عظيم، فقيل لي: هذه أُمّتُك ومعهم سبعون ألف يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب»(4).
__________
(1) قوله: «والنبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي وليس معه أحد» فيه الرد على من احتج بالكثرة.
وفيه: عرض الأمم عليه – عليه السلام – وأن كل أمة تُحشر وحدها مع نبيها وقلة من استجاب للأنبياء وأن من لم يجبه أحد يأتي وحده، وثمرة هذا العلم وهو عدم الاغترار بالكثرة وعدم الزهد في القلة. قاله المصنف رحمه الله تعالى.
(2) قوله: «إذ رفع لي سواد عظيم» والمراد الأشخاص التي تُرى في الأفق لايدرك منها إلا الصورة.
(3) قوله: «فظننت أنهم أمتي، فقيل لي: هذا موسى وقومه» وفيه: فضيلة أصحاب موسى عليه السلام. قاله المصنف رحمه الله.
قوله: «ثم نظرت» وفي صحيح مسلم «ولكن انظر إلى الأفق» ولم يذكره المصنف فلعله سقط من الأصل الذي نقل الحديث منه. والله أعلم.
(4) قوله: «فنظرت فإذا سواد عظيم» وفي رواية: «قد سدَّ الأفُق» «فقيل لي هذه أمتك ومعهم - أي من جملتهم - سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب» لتحقيقهم التوحيد. وهذا هو الشاهد من الحديث للترجمة.
وفي حديث أبي هريرة في الصحيحين وصفه السبعين ألفاً بأنهم تضيء وجوههم إضاءة القمر ليلة البدر، وفيهما عنه مرفوعاً: «أول زمرة تدخل الجنة على صورة القمر والذين على آثارهم كأحسن كوكب دري في السماء إضاءة»* وفي رواية أحمد والبيهقي في البعث «فاستزدت ربي فزادني مع كل ألف سبعون ألفاً»** قال الحافظ ابن حجر وسنده جيد.
..........................................................
* أخرجه البخاري (3254)، ومسلم (2179).
** أخرجه (1/6)، وأبويعلى (1/104) حديث (112)، وانظر فتح الباري (11/418-419).(1/41)
ثم نهض فدخل منزله، فخاض الناس في أولئك(1) فقال بعضهم:
فلعلهم الذين صحبوا رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، وقال بعضهم: فلَعلَّهُم الذين
وُلدوا في الإسلام فلم يُشركوا بالله شيئاً، وذكروا أشياء. فخرج عليهم
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبروه، فقال: «هم الذين لا يَسْترْقُون(2)
__________
(1) فيه: فضيلة هذه الأمة بالكمية والكيفية، قال المصنف رحمه الله تعالى: فالكمية العدد، والكيفية فضيلتهم هم.
قوله: «ثم نهض» أي قام النبي - صلى الله عليه وسلم - «فدخل منزله».
( ) قوله: «فخاض الناس في أولئك» بالخاء والضاد المعجمتين أي في الأعمال التي اقتضت دخولهم الجنة بلا حساب ولا عذاب «فقال بعضهم لعلهم الذين صحبوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -» لمزية الصحبة وفضلها «وقال بعضهم: فلعلّهم الذين وُلدوا في الإسلام فلم يشركوا بالله شيئاً، وذكروا أشياء».
وفيه: عمق علم الصحابة بمعرفتهم أنهم لم ينالوا ذلك إلا بعمل وحرصهم على الخير. قاله المصنف رحمه الله تعالى.
وفيه: إباحة المناظرة في العلم والمباحثة في نصوص الشرع على جهة الاستفادة وإظهار الحق. قاله النووي.
وفيه: جواز الاجتهاد فيما لم يعلم فيه دليل ؛ لأنهم قالوا ما قالوا اجتهاداً منهم، ولم ينكر - صلى الله عليه وسلم - ذلك عليهم، لكن المجتهد لا يجوز له أن يجزم بصواب قوله بل يقول لعل الحكم كذا وكذا، كقول الصحابة. قاله في «قرة العيون»*.
(2) قوله: «فخرج عليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبروه. فقال: «هم الذين لا يسترقون» هكذا أثبت في الصحيحين، وكذا هو في حديث ابن مسعود، وفي مسند أحمد، وفي رواية مسلم: «ولا يرقُون».
قال شيخ الإسلام [الفتاوى 1/182، 328]: «هذه الزيادة وهمٌ من الراوي، لم يقل النبي - صلى الله عليه وسلم - «لا يرقون» ؛ لأن الراقي محسنٌ إلى أخيه، وقد رقى النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه ورقاه
..........................................................
* (ص/41).(1/42)
،
ولا يكتوون(1)، ولا يتطيّرون(2)، وعلى ربهم يتوكلون(3)
__________
(1) بريل، والفرق بين الراقي والمسترقي أن المسترقي سائلٌ مستعطف ملتفت إلى غير الله بقلبه، والراقي محسن، وإنما المراد وصف السبعين الألف بتمام التوكل فلا يسألون غيرهم أن يرقيهم ولا يكويهم استسلاماً للقضاء وتلذذاً بالبلاء».
( ) قوله: «ولا يكتوون» أعمّ من أن يسألوا ذلك، ويُفعل ذلك باختيارهم. قاله في «فتح المجيد»*.
وأما الكيُّ في نفسه فجائز لما في الصحيح عن جابر بن عبدالله أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث إلى أُبَيّ بن كعب طبيباً فقطع له عرقاً وكواه.
وفي صحيح البخاري عن أنس - رضي الله عنه - أنه كوى من فات الجنب، والنبي - صلى الله عليه وسلم - حي، وروى الترمذي وغيره عن أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كوى أسعد بن زرارة من الشوكة.
وفي صحيح البخاري عن ابن عباس مرفوعاً: «الشفاء في ثلاث: شربة عسل، وشرطة محجم، وكيّة نار، وأنا أنهى عن الكيّ»** وفي لفظ: «ما أحب أن أكتوي».
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: «تضمنت أحاديث الكي أربعة أنواع:
أحدها: فعله. ... ... ... الثاني: عدم محبته له.
الثالث: الثناء على من تركه. ... الرابع: النهي عنه.
ولا تعارض بينها بحمد الله، فإن فِعْله يدل على جوازه وعدم محبته لا يدل على المنع منه، وأما الثناء على من تركه فيدل على أن تركه أفضل، وأما النهي عنه فعلى سبيل الاختيار والكراهة». انتهى.
(2) قوله: «ولا يتطيرون» أي: لا يتشاءمون بالطيور ونحوها، وسيأتي الكلام على الطيرة في بابها إن شاء الله تعالى.
(3) قوله: «وعلى ربهم يتوكلون» أي يعتمدون في أمورهم.
وفيه: معرفة مراتب الناس في التوحيد وما معنى تحقيقه، وأن ترك الرقية والكيّ من
..........................................................
* (1/166).
** أخرجه البخاري (5680).
تحقيق التوحيد، وأن الجامع لتلك الخصال هو التوكل. قاله المصنف رحمه الله تعالى. ولا يدل الحديث على ترك مباشرة الأسباب فإن مباشرة الأسباب في الجملة أمرٌ فطري ضروري لا انفكاك لأحد عنه، بل نفس التوكل مباشرة لأعظم الأسباب، فإنه سبب لوقاية الله وكفايته كما قال تعالى: { وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ } [الطلاق:3] أي كافيه، وإنما يدل على أنهم يتركون الأسباب المكروهة مع حاجتهم إليها توكلاً على الله، وأما مباشرة الأسباب والتداوي على وجه لا كراهة فيه فغير قادح في التوكل لما في الصحيحين عن أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعاً: «ما أنزل الله من داء إلاّ أنزل له شفاء، علمه من علمه، وجهله من جهله»*.
وعن أسامة بن شريك قال: كنت عند النبي - صلى الله عليه وسلم - وجاءت الأعراب فقالوا: يا رسول الله أنتداوى؟ قال: «نعم يا عباد الله، تداووا، فإن الله عز وجل لم يضع داءً إلا وضع له شفاء غير داء واحد»**. قالوا: وما هو ؟ قال: «الهرم». رواه أحمد.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى [زاد المعاد 4/14-15]: «وقد تضمنت هذه الأحاديث إثبات الأسباب والمسببات وإبطال قول من أنكرها والأمر بالتداوي، وأنه لا ينافي التوكل، كما لا ينافي دفع ألم الجوع والعطش، والحر والبرد بأضدادها، بل لا تتم حقيقة التوكّل إلا بمباشرة الأسباب التي نصبها الله مقتضية لمسبباتها قدراً وشرعاً، وأن تعطيلها يقدح في نفس التوكل، كما يقدح في الأمر والحكمة، ويضعفه من حيث يظن معطلها أن تركها أقوى في التوكل. فإن تركها عجزٌ ينافي التوكل، الذي هو اعتماد القلب على الله في حصول ما ينفع العبد في دينه ودنياه، ودفع ما يضره في دينه ودنياه، ولابد مع هذا الاعتماد من مباشرة الأسباب، وإلا كان معطلاً للحكمة والشرع، فلا يجعل العبد عجزه توكلاً، ولا توكله عجزاً.
وقد اختلف العلماء في التداوي هل هو مباح، وتركه أفضل، أو مستحب، أو واجب؟. فالمشهور عن أحمد الأول لهذا الحديث وما في معناه، والمشهور عن
.........................................................................................
* أخرجه البخاري (5678).
** أخرجه أحمد (4/278)، وابن ماجه (3436)، وأبوداود (3855)، والترمذي (2039) وقال: حسن صحيح. وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (2/202) برقم (1660).(1/43)
».
فقام عُكَّاشة (1) بن مِحصَن فقال: ادعُ الله أن يجعلني منهم (2)
__________
(1) لشافعي الثاني حتى ذكر النووي في «شرح مسلم» أنه مذهبهم، ومذهب جمهور السلف وعامة الخلف. واختاره الوزير أبوالمظفر بن هبيرة قال: «ومذهب أبي حنيفة أنه مؤكّد حتى يداني به الوجوب. قال: ومذهب مالك أنه يستوي فعله وتركه فإنه قال: لا بأس بالتداوي ولا بأس بتركه».
وقال شيخ الإسلام [الفتاوى 24/269]: «ليس بواجب عند جماهير العلماء، وإنما أوجبه طائفة قليلة من أصحاب الشافعي وأحمد».
( ) قوله: «فقام عُكّاشة» بضم العين وتشديد الكاف ويجوز تخفيفها «ابن محصن» بكسر الميم وسكون الحاء وفتح الصاد المهملتين، الأسدي من بني أسد بن خزيمة، كان من السابقين إلى الإسلام، هاجر وشهد بدراً وقاتل فيها.
قال ابن القيم: «انقطع يوم بدر سيف عُكاشة بن محصن فأعطاه النبي - صلى الله عليه وسلم - جذلاً من حطب فقال: دونك هذا، فلما أخذه عكاشة وهزه عاد في يده سيفاً طويلاً شديداً أبيض، فلم يزل عنده يقاتل به حتى قتل في الردة أيام أبي بكر».
قال ابن إسحاق: وبلغني أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «خير فارس في العرب عكاشة بن محصن»* استشهد في قتال الردة مع خالد بن الوليد بيد طليحة الأسدي سنة اثنتي عشرة ثم أسلم طليحة بعد ذلك، جاهد الفرس يوم القادسية مع سعد بن أبي وقاص، واستشهد في وقعة الجسر المشهورة.
(2) قوله: «فقال: يا رسول الله، ادع الله أن يجعلني منهم» أي من السبعين الألف.
وفيه: طلب الدعاء من أهل الصلاح، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يملك لأحد نفعاً ولا ضراً إلا بالدعاء «فقال: أنت منهم» وفي رواية البخاري فقال: «اللهم اجعله منهم»**، وكذلك في حديث أبي هريرة عند البخاري مثله، وفي بعض الروايات: أمنهم أنا يا رسول الله ؟ قال: «نعم». قال الحافظ ابن حجر: «ويجمع بين الأحاديث بأنه
..........................................................
* ضعيف: ذكره صاحب الفردوس.
** أخرجه البخاري (6541) (6542).(1/44)
.
فقال: «أنت منهم»(1). ثم قام رجلٌ آخر فقال: ادع الله أن يجعلني منهم. فقال: «سبقك بها عُكاشة»(2).
* * *
4- باب
الخوف من الشرك(3)
__________
(1) أل الدعاء أولاً فدعا له، ثم استفهم هل أجيب فأخبره».
( ) وقوله: «أنت منهم» علم من أعلام النبوة. وفيه فضيلة عكاشة، قاله المصنف رحمه الله.
(2) قوله: «ثم قام رجل آخر فقال: ادع الله أن يجعلني منهم؟ فقال: سبقك بها عُكاشة». قال بعضهم: أي سبقك إلى إحراز هذه الصفات، أي التوكل وما ذكر معه.
وقال القرطبي: «لم يكن عند الثاني من الأحوال ما كان عند عكاشة فلذا لم يجبه؛ إذ لو أجابه لجاز أن يطلب ذلك من كان حاضراً فيتسلسل الأمر فسَدَّ الباب بذلك».
وفيه: استعمال المعاريض، وحسن خلقه - صلى الله عليه وسلم -. قاله المصنف رحمه الله تعالى.
أورد المصنف هذا الحديث غير معزوٍ، وقد رواه البخاري مختصراً ومطولاً، ومسلم واللفظ له وللترمذي والنسائي.
(3) قوله: «باب الخوف من الشرك» لما كان الشرك أعظم الذنوب عند الله لأنه هضمٌ لجناب الربوبية وتنقّص للإلهية وسوء ظن برب العالمين سبحانه، رتَّب عليه من عقوبات الدنيا والآخرة ما لم يرتب على ذنب سواه من إباحة دماء أهله، وأموالهم، وسبي نسائهم وأولادهم، وعدم مغفرته من بين الذنوب إلاّ بالتوبة منه والإقلاع عنه.
فنيّةُ المؤلفِ رحمه الله بهذه الترجمة على أنه ينبغي للموحّد أن يخاف منه ويحذره ويعرف أسبابه ووسائله وأنواعه لئلا يقع فيه وهو لا يشعر، ولذا قال حذيفة بن اليمان: كان الناس يسألون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن أقع فيه*. رواه البخاري.
لأن من لا يعرف الشر إما أن يقع فيه، وإما أن لا ينكره، ولهذا قال عمر ابن الخطاب - رضي الله عنه -: إنما تُنقض عُرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية.
قال شيخ الإسلام: «وهو كما قال عمر، فإن كمال الإسلام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتمام ذلك الجهاد في سبيل الله، ومن نشأ في المعروف فلم يعرف غيره فقد لا يكون عنده من العلم بالمنكر وضرره ما عند من عَلِمَه، ولا يكون عنده من الجهاد لأهله ما عند الخبير بهم، ولهذا كان الصحابة أعظم إيماناً وجهاداً ممن بعدهم ؛ لكمال معرفتهم بالخير والشر، وكمال محبتهم للخير وبغضهم للشر». انتهى ملخصاً.
وقال أيضاً: «والمشركون الذين وصفهم الله بالشرك أصلهم صنفان: قوم نوح وقوم إبراهيم.
فقوم نوح: أصل شركهم العكوف على قبور الصالحين ثم صوّروا تماثيلهم ثم عبدوهم.
وقوم إبراهيم: كان أصل شركهم عبادة الكواكب والشمس والقمر، وكل من
..........................................................
* أخرجه البخاري (3606، 7084).(1/45)
وقول الله تعالى: { إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } (1) [النساء:48].
__________
(1) ؤلاء إنما يعبدون الجن وقد يعتقدون أنهم يعبدون الملائكة، كما قال تعالى: { وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ } [سبأ:40-41]، والملائكة لا تعينهم على الشرك ولا يرضون بذلك ولكن الشياطين قد تعينهم وتتصور لهم في صور الآدميين فيرونهم بأعينهم ويقول أحدهم: أنا إبراهيم، أنا المسيح، أن الخضر. والجن كالإنس منهم الكافر، ومنهم الفاسق ومنهم العاصي وفيهم العابد الجاهل». انتهى.
( ) قوله: «وقول الله تعالى: { إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } » أخبر تعالى أنه لا يغفر لعبد لقيه وهو مشرك به، وهذا هو الشاهد من الآية للترجمة، ويغفر ما دون ذلك، أي: ما دون الشرك من الذنوب لمن يشاء من عباده.
وفي الآية: ردٌّ على الخوارج المكفِّرين بالذنوب، وعلى المعتزلة أصحاب المنزلة بين المنزلتين، فإن الله جعل مغفرة ما دون الشرك من الذنوب معلقة بالمشيئة.
قال شيخ الإسلام [الفتاوى 7/484-485]: «ولا يجوز أن يُحمل هذا على التائب، فإن التائب لا فرق في حقه بين الشرك وغيره، كما قال تعالى: { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا } [الزمر: 53] فهنا عمَّمَ وأطلق لأن المراد به التائب، وهناك خصَّ وعلَّق؛ لأن المراد من لم يتب». انتهى.(1/46)
وقول الخليل عليه السلام: { وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأصْنَامَ } (1) [إبراهيم:35].
وفي الحديث: «أخوفُ ما أخاف عليكم الشركُ الأصغر». فسئل عنه. فقال: «الرياء»(2)
__________
(1) قوله: «وقول الخليل عليه السلام: { وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأصْنَامَ } والصنم ما كان منحوتاً على صورة، والوثن ما كان موضوعاً على غير ذلك، ذكره الطبري عن مجاهد، وقد يسمى الصنم وثناً لقوله: { إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا } [العنكبوت:17] فالوثن أعمّ من الصنم، والأصنام تسمى أوثاناً كما أن القبور التي تُعبد من دون الله تُسمى أوثاناً، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «اللهم لا تجعل قبري وثناً
(2) ُعبد»*. ومعنى قوله: { وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأصْنَامَ } أي اجعلني وبنيَّ في جانب عن عبادة الأصنام، وباعد بيننا وبينها. فاشتدَّ خوفه على نفسه وعلى بنيه لما رأى كثيراً من الناس قد افتتنوا بها، ولذا قال: { رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ } [إبراهيم: 35] وفيه المسألة العظيمة سؤال الخليل له ولبنيه وقاية عبادة الأصنام، واعتباره بحال الأكثر لقوله: { رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ } . قاله المصنف رحمه الله.
وهذا مما يوجب الخوف من الشرك يكسر الصنم بيده ويسأل الله أن يجنبه عبادتها، وهذا هو الشاهد من الآية للترجمة، وقد استجاب الله دعاءه، وجعل بنيه أنبياء وجنَّبهم عبادة الأصنام.
قال إبراهيم التيمي: ومن يأمن البلاء بعد إبراهيم ؟.
والذي خافه إبراهيم عليه السلام قد وقع فيه أكثر الأمة بعد القرون المفضلة، فبُنيت المساجد والمشاهد على القبور، [وقدمت]** لها العبادات والنذور واتخذوا ذلك ديناً وهي أوثان كأصنام قوم نوح وأصنام العرب، فمن تدبَّر القرآن ورزقه الله فهماً ونوراً وعرف أحوال الخلق وما وقعوا به من الشرك الذي بعث الله رسله بالنهي عنه.
( ) قوله: «وفي الحديث: أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر» قالوا: وما الشرك الأصغر؟ قال: «الرياء»***. هذا الحديث ذكره المصنف غير معزوّ، وقد رواه الإمام أحمد والطبراني والبيهقي عن محمود بن لبيد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «أخوف
..........................................................
* أخرجه الإمام أحمد (2/246)، وأبويعلى (6681)، وأبونعيم في الحلية (7/317) بإسناد صحيح، والحديث صحيح لشواهده. انظر: أحكام الجنائز (ص/276-277).
** بياض في الأصل، وأضفتُ هذه الكلمة لأنها موافقة للسياق.
*** أخرجه أحمد (5/428، 429)، والبغوي في شرح السنة (14/323، 324). وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (1/102): ورجاله رجال الصحيح، وحسن ابن حجر إسناده في بلوغ المرام (302).(1/47)
.
وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَنْ مات وهو يدعو لله نِدَّاً دخل النار». رواه البخاري(1)
__________
(1) ا أخاف عليكم الشرك الأصغر» قالوا: وما الشرك الأصغر؟ قال: «الرياء، يقول الله تعالى يوم القيامة إذا جزى الناس بأعمالهم: «اذهبوا إلى الذين كنتم تراؤون في الدنيا فانظروا هل تجدون عندهم جزاء ؟» قال المنذري: ومحمود بن لبيد رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يصح له سماع فيما أرى. وذكر ابن أبي حاتم أن البخاري قال: له صحبة. ورجّحه ابن عبدالبر والحافظ ابن حجر، وقد رواه الطبراني بأسانيد جيدة عن محمود بن لبيد عن رافع بن خديج، مات محمود سنة ستٍ وتسعين. وقيل: سنة سبع وتسعين وله تسع وتسعون سنة، فإذا خاف النبي - صلى الله عليه وسلم - الشرك على أصحابه الذين وحّدوا الله وهاجروا وجاهدوا من كفر به وعرفوا ما أنزل الله في كتابه من الإخلاص والبراءة من الشرك.. فكيف لا يخافه من لا نسبة له إليهم في علم ولا عمل ؟ وهذا هو الشاهد من الحديث للترجمة.
وفيه: الخوف من الشرك وأن الرياء من الشرك، وأنه من الشرك الأصغر، وأنه أخوف ما يخاف منه على الصالحين. قاله المصنف رحمه الله تعالى.
وإذا كان الشرك الأصغر مخوفاً على الصحابة - مع كمال إيمانهم - فينبغي لك أن تخاف من الأكبر مع ضعف الإيمان. قاله في «إبطال التنديد»*.
وقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - عن وقوع الشرك الأكبر في أمته بقوله في حديث ثوبان: «ولا تقوم الساعة حتى يلحق حيٌّ من أمتي بالمشركين، وحتى تعبد فئام من أمتي الأوثان»، وقد وقع ما أخبر به - صلى الله عليه وسلم - وعمَّت به البلوى في أكثر الامصار حتى اتخذوه ديناً، فلا حول ولا قوة إلاّ بالله.
( ) قوله: «وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من مات وهو يدعو من دون الله نداً دخل النار». رواه البخاري»**.
..........................................................
* (ص/46)
** أخرجه البخاري (1238) و(4497) و(6683).
قال ابن القيم رحمه الله تعالى [إغاثة اللهفان 2/325]: «الند: الشبيه. يُقال: فلانٌ ندّ فلان أي مثله وشبهه»، قال تعالى: { فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } [البقرة: 22] أنه لا ندّ له. واعلم أن اتخاذ الند على قسمين: أكبر وأصغر.
فالشرك الأكبر: يوجب الخلود في النار ولا يغفر إلا بالتوبة منه، فمن دعا ميتاً أو غائباً وأقبل إليه بوجهه وقلبه رغبة إليه ورهبة منه سواء سأله أو لم يسأله فهذا هو الشرك الأكبر الذي لا يغفره الله.
والأصغر: كيسير الرياء، وقول الرجل لصاحبه: ما شاء الله وشئت. وقوله: ما لي إلاّ الله وأنت، ونحو ذلك. ولهذا لما قال رجل للنبي - صلى الله عليه وسلم -: ما شاء الله وشئت. قال: «أجعلتني لله نداً ؟ بل: ما شاء الله وحده»*. رواه أحمد وابن أبي شيبة والبخاري في الأدب المفرد والنسائي وابن ماجه، فهذا لا يكفر إلا برجحان السيئات بالحسنات». انتهى.
وقال ابن القيم في «الكافية الشافية» [ص157]:
والشرك فاحذره فشرك ظاهر
وهو اتخاذ الند للرحمن أيّا كان
يدعوه أو يرجوه ثم يخافه
والله ما ساووهم بالله في
لكنهم ساووهم بالله في
جعلوا محبتهم مع الرحمن ما
لو كان حبهم لأجل الله ما
ولما أحبوا سخطه وتجنبوا
شرط المحبة أن توافق من تحب
فإذا ادّعيت له المحبة مع
ذا القسم ليس بقابل الغفران
من حجر ومن إنسان
ويحبه كمحبة الديّان
خلق ولا رزق ولا إحسان
حبٍّ وتعظيم وفي إيمان
جعلوا المحبة قط للرحمن
عادوا أحبته على الإيمان
محبوبه ومواقع الرضوان
على محبته بلا عصيان
خلافك ما يحب فأنت ذو بهتان
..........................................................
* أخرجه أحمد (3/339) من حديث ابن عباس، وابن أبي شيبة (10/346)، والنسائي في عمل اليوم والليلة (988)، وابن ماجه (2117)، وصححه الألباني في الصحيحة برقم (139).(1/48)
.
ولمسلم عن جابر(1) أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَنْ لقي الله لا يُشرك به شيئاً دخل الجنة، ومن لقيه يُشرك به شيئاً دخل النار»(1)
__________
(1) تحب أعداء الحبيب وتدّعي
وكذا تعادي جاهداً أحبابه
حباً له ما ذاك في إمكان
أين المحبة يا أخا الشيطان
( ) قوله: «ولمسلم عن جابر» بن عبدالله بن حرام الأنصاري ثم السَّلَمي - بفتحتين - صحابي ابن صحابي مكثر له، ولأبيه مناقب مشهورة رضي الله عنهما، مات بالمدينة بعد السبعين، وقد كُفَّ بصره وله أربع وتسعون سنة «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من لقي الله لا يشرك به شيئاً دخل، ومن لقيه يشرك به شيئاً دخل النار» وهذا هو الشاهد من الحديث للترجمة.
قال القرطبي على قوله «من لقي الله»: «أي: من لم يتخذ مع الله شريكاً في الإلهية، ولا في الخلق، ولا في العبادة، ومن المعلوم المجمع عليه عند أهل السنة أن من مات على ذلك فلا بد له من دخول الجنة، وإن جرت عليه قبل ذلك أنواعٌ من العذاب والمحنة، وأن من مات على الشرك لا يدخل الجنة، ولا يناله من الله رحمة، ويُخلد في النار أبد الآباد، من غير انقطاع عذاب، ولا تصرم آماد، وهذا معلوم ضرورة من الدين، مجمع عليه بين المسلمين». انتهى.
وقال النووي [شرح مسلم 2/297]: «أما دخول المشرك النار فهو على عمومه، فيدخلها ويخلد فيها ولا فرق بين الكتابي اليهودي والنصراني وبين عبدة الأوثان وسائر الكفار، ولافرق عند أهل الحق بين الكافر عناداً وغيره، ولا بين من خالف ملة الإسلام وبين من انتسب إليها ثم حكم بكفره، بجحده وغير ذلك، وأما دخول من مات غير مشرك الجنة فهو مقطوع به، لكن إن لم يكن صاحب كبيرة مات مصراً عليها فهو تحت المشيئة، فإن عُفي عنه دخل الجنة أولاً وإلا عُذِّب ثم أُخرج فيدخل الجنة».
وقال غيره*: قوله: «من لقي الله لا يشرك به شيئاً» «اقتصر على نفي الشرك،
..........................................................
* الشيخ سليمان بن عبدالله في تيسير العزيز الحميد (ص/122).
لاستدعائه التوحيد بالاقتضاء والرسالة باللزوم، إذ من كذَّب رسل الله فقد كذَّب الله، ومن كذب الله فهو مشرك. وهو كقولك: من توضأ صحَّت صلاته أي مع سائر الشروط، فالمراد من مات حال كونه مؤمناً بجميع ما يجب الإيمان به، إجمالاً في(1/49)
.
..............................................................................
(1)
* * *
5- باب
الدعاء إلى شهادة أن لا إله إلاّ الله (2)
وقول الله تعالى: { قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ } (3)
__________
(1) لإجمالي، وتفصيلاً في التفصيلي». انتهى.
وفيه: قرب الجنة والنار، والجمع بين قربهما في حديث واحد، وأنه من لقيه لا يشرك به شيئاً دخل الجنة، ومن لقيه يشرك به شيئاً دخل النار ولو كان من أعبد الناس.
وفيه: تفسير لا إله إلا الله كما ذكره البخاري، وفضيلة من سلم من الشرك. قاله المصنف رحمه الله تعالى.
(2) قوله: «باب الدعاء إلى شهادة أن لا إله إلا الله» لما ذكر المصنف التوحيد وفضله وثواب من حقّقه، وما يوجب الخوف من ضده وهو الشرك، ذكر في هذه الترجمة أنه لا ينبغي لمن عرف ذلك أن يقتصر على نفسه، بل يجب عليه أن يدعو إلى الله تعالى بالحكمة والموعظة الحسنة، كما هو سبيل المرسلين وأتباعهم، كما قال الحسن البصري لما تلا قوله تعالى: { وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ } [فصلت: 33] فقال: هذا حبيب الله، هذا وليُّ الله، هذا صفوة الله، هذا خيرة الله، هذا أحب أهل الأرض إلى الله، أجاب الله في دعوته، ودعا الناس إلى ما أجاب الله فيه من دعوته وعمل صالحاً في إجابته { وقال: إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ } ، هذا خليفة الله.
(3) قوله: «وقول الله تعالى: { قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ } [يوسف: 108]» .
قال ابن جرير [التفسير 16/291]: «يقول تعالى ذكره لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم -: { قُلْ } يا محمد { هَذِهِ } الدعوة التي أدعو إليها والطريقة التي أنا عليها من الدعاء إلى توحيد الله وإخلاص العبادة له دون الآلهة والأوثان، والانتهاء إلى طاعته وترك معصيته: سبيلي وطريقتي ودعوتي، { أَدْعُو إِلَى اللَّهِ } وحده لا شريك له، { عَلَى بَصِيرَةٍ } بذلك ويقين وعلم مني به أنا، ويدعو إليه على بصيرة أيضاً من اتبعني وصدقني وآمن بي. قلت: وهذا هو الشاهد من الآية للترجمة، وسبحان الله.
قال ابن جرير: يقول تعالى ذكره: { قُلْ } تنزيهاً لله تعالى وتعظيماً له من أن يكون له شريك في ملكه أو معبود سواه في سلطانه { وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ } يقول: أنا برئ من أهل الشرك به لست منهم ولا هم مني». انتهى.(1/50)
الآية [يوسف:108].
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما بعث معاذاً إلى اليمن(1)
__________
(1) ال ابن القيم رحمه الله تعالى [مدارج السالكين 2/481]: «البصيرة التي تكون نسبة المعلوم فيها إلى القلب كنسبة المرئي إلى البصر. هي الخصيصة التي اختص بها الصحابة عن سائر الأمة، وهي أعلى درجات العلماء، قال الله تعالى: { قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي } أي أنا وأتباعي على بصيرة. وقيل: { وَمَنِ اتَّبَعَنِي } عطف على المرفوع في { أَدْعُو } ، أي أنا أدعو إلى الله على بصيرة، ومن اتبعني كذلك يدعو إلى الله على بصيرة، وعلى القولين فالآية تدل على أن أتباعه هم أهل البصائر الداعين إلى الله تعالى على بصيرة، ومن ليس منهم فليس من أتباعه على الحقيقة والموافقة وإن كان من أتباعه على الانتساب والدعوة».
وفيه: أن الدعوة إلى الله طريق من اتبع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. والتنبيه على الإخلاص ؛ لأن كثيراً لو دعا إلى الحق فهو يدعو إلى نفسه، وأن البصيرة من الفرائض، وأن من دلائل حسن التوحيد أنه تنزيه لله عن المسبّة، وإن من قبح الشرك كونه مسبة لله.
وفيه: -وهي أهمها- إبعاد المسلم عن المشركين لا يصير منهم ولو لم يشرك. قاله المصنف رحمه الله.
وقال ابن القيم [مفتاح دار السعادة 1/193] على قوله { ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ } الآية [النحل: 125]: «ذكر سبحانه مراتب الدعوة، وجعلها ثلاثة أقسام بحسب حال المدعو فإنه:
إما أن يكون طالباً للحق محباً له، مؤثراً له على غيره إذا عرفه، فهذا يُدعى بالحكمة، ولا يحتاج إلى موعظة وجدال.
وإما أن يكون مشتغلاً بضد الحق، لكن لو عرفه آثره واتبعه. فهذا يحتاج إلى الموعظة بالترغيب والترهيب.
وإما أن يكون معانداً معارضاً فهذا يُجادل بالتي هي أحسن، فإن رجع وإلاّ انتقل معه إلى الجلاد إن أمكن». انتهى.
( ) قوله: «وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما بعث معاذاً إلى اليمن» قال الحافظ ابن حجر: «كان بعث معاذ إلى اليمن سنة عشر قبل حج النبي - صلى الله عليه وسلم - كما(1/51)
قال: «إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب(1) فليكن أول
ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله(2).
__________
(1) كره البخاري في آخر المغازي. وقيل: كان في آخر سنة تسع عند منصرفه من تبوك، وحكى ابن سعد أنه كان في ربيع الآخر سنة عشر، واتفقوا على أنه لم يزل على اليمن إلى أن قدم في عهد أبي بكر الصديق، ثم توجه إلى الشام فمات بها. واختُلف: هل كان والياً أو قاضياً ؟ فجزم ابن عبدالبر بالثاني، والغساني بالأول. والظاهر أنه كان والياً قاضياً. قاله في «الشرح»*.
وقال شيخ الإسلام الفتاوى 10/654]: «ومن فضائل معاذ - رضي الله عنه - أنه - صلى الله عليه وسلم - بعثه إلى اليمن مبلغاً عنه ومفقهاً ومعلماً وحاكماً».
( ) قوله: «قال: «إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب» قال القرطبي: يعني من اليهود والنصارى ؛ لأنهم كانوا باليمن أكثر من مشركي العرب أو أغلب، وإنما نبهه على هذا ليتهيأ لمناظرتهم.
قال الحافظ ابن حجر: هو كالتوطئة للوصية ليجمع همَّته عليها.
وفيه: كشف العالم الشبهة عن المتعلم. قاله المصنف رحمه الله.
وفيه: أنّ مخاطبة العالم ليست كمخاطبة الجاهل، والتنبيه على الاحتراز من الشُّبَه والحرص على طلب العلم. قاله في «الشرح»*.
(2) قوله: «فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله» بنصب «أول» على أنه خبر يكن مقدماً و «شهادة» اسمها مؤخراً ويجوز العكس. وهذا هو الشاهد من الحديث للترجمة.
قال في «قرة العيون»**: «وكانوا يقولونها لكنهم جهلوا معناها الذي دلت عليه من أخلاص العبادة لله وحده وترك عبادة ما سواه، فكان قولهم «لا إله إلا الله» لا ينفعهم لجهلهم بمعنى هذه الكلمة العظيمة كحال أكثر المتأخرين من هذه الأمة
..........................................................
* (ص/96).
** (ص/48-49).(1/52)
(وفي رواية: إلى أن يوحدوا الله)(1)
__________
(1) إنهم كانوا يقولونها مع ما كانوا يفعلونه من الشرك بعبادة الأموات والغائبين والطواغيت والمشاهد، فيثبتون ما نفته من الشرك باعتقادهم وقولهم وفعلهم، وينفون ما أثبته من الإخلاص كذلك، وظنوا أن معناها القدرة على الاختراع تقليداً للمتكلمين من الأشاعرة وغيرهم، وأما قول المتكلمين إن أول واجب معرفة الله بالنظر والاستدلال، فذلك أمرٌ فطري فطر الله عليه عباده ولهذا كان مفتتح دعوة الرسل أممهم إلى إفراد الله تعالى بالعبادة. ولما قالوا: { إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ } [إبراهيم: 9] قالت الرسل: { أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ } [إبراهيم:10] قال ابن كثير: «وهو يحتمل وجهين:
أحدهما: أفي وجوده شك ؟ فإن الفطر شاهدة بوجوده ومجبولة على الإقرار به.
والثاني: أفي إلاهيته وتفرده بوجوب العبادة له شك؟ وهو الخالق لجميع الموجودات فلا يستحق العبادة إلا هو وحده لا شريك له». انتهى ملخصاً.
وهذا الاحتمال الثاني يتضمن الأول. قاله في «قرة العيون»*.
( ) قوله: «وفي رواية: إلى أن يوحدوا الله» ذكر هذه الرواية البخاري في التوحيد فأوردها المصنف ليبيّن أن معنى شهادة أن لا إله إلا الله أن يوحدوا الله بالعبادة وترك عبادة ما سواه. وفي رواية: «فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله» وذلك هو الكفر بالطاغوت والإيمان بالله. وفي رواية للبخاري فقال: «ادعهم على شهادة أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله» **.
قال في «فتح المجيد»***: «لابد في شهادة أن لا إله إلا الله من سبعة شروط، لا تنفع قائلها إلاّ باجتماعها:
أحدها: العلم، المنافي للجهل. ... الثاني: اليقين، المنافي للشك.
الثالث: القبول، المنافي للردّ. ... الرابع: الانقياد، المنافي للترك.
..........................................................
* (ص/49).
** أخرجه البخاري (496).
*** (1/190).(1/53)
فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض
عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة(1)
__________
(1) ... الخامس: الإخلاص، المنافي للشرك. ... السادس: الصدق، المنافي للكذب.
السابع: المحبة، المنافية لضدها».
قال شيخ الإسلام: «وقد عُلم بالاضطرار من دين الرسول - صلى الله عليه وسلم -، واتفقت عليه الأمة أن أصل الإسلام، وأول ما يؤمن به الخلق شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، فبذلك يصير الكافر مسلماً، والعدو ولياً، والمباح دمه معصوم الدم والمال. ثم إن كان ذلك من قلبه، فقد دخل في الإيمان، وإن قاله بلسانه دون قلبه فهو في ظاهر الإسلام دون باطن الإيمان». قال: «وأما إذا لم يتكلم بها مع القدرة فهو كافر باتفاق المسلمين باطناً وظاهراً، عند سلف الأمة وأئمتها وجماهير العلماء». انتهى. وفيه: كون التوحيد أول واجب، وأنه يبدأ به قبل كل شيء حتى الصلاة، وأن معنى يوحدوا الله معنى شهادة أن لا إله إلا الله، وأن الإنسان قد يكون من أهل الكتاب، يعني عالماً وهو لا يعرفها أو يعرفها ولا يعمل بها. والتنبيه على التعليم بالتدريج والبداءة بالأهم فالأهم. قاله المصنف رحمه الله تعالى.
( ) قوله: «فإن هم أطاعوك لذلك» أي شهدوا وانقادوا لذلك «فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة» فيه: أن الصلاة أعظم واجب بعد الشهادتين. وفيه: دليل على أن المشرك لا يطالب بفعل الصلاة إلا بعد الإسلام، ولا يلزم من ذلك أن لا يكونوا مخاطبين بفروع الشريعة المأمور به والمنهي عنه، ويزاد في عذابهم بسببها في الآخرة، وهذا قول الأكثرين. قاله النووي.
وفيه: أن الوتر غير واجب ؛ لأن هذا كان آخر الأمر.(1/54)
، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تُؤخذ من أغنيائهم فتُردّ على فقرائهم(1)، فإن هم
أطاعوك لذلك فإياك وكرائم أموالهم(2)، واتق دعوة المظلوم ؛ فإنه ليس بينها وبين الله حجاب(3)
__________
(1) قوله: «فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تُؤخذ من أغنيائهم فتُردّ على فقرائهم» فيه: دليل على أن الزكاة أوجب الأركان بعد الصلاة، وأن الإمام هو الذي يتولى قبضها وصرفها إما بنفسه أو نائبه، وأنها تُؤخذ من الأغنياء وتُصرف إلى الفقراء، وإنما خصّ النبي - صلى الله عليه وسلم - الفقراء لأن حقهم آكد من حقوق بقية الأصناف الثمانية، وأنه يكفي إخراج الزكاة في صنف واحد كما هو
(2) ذهب مالك وأحمد. وأنه لا يجوز دفعها إلى غني ولا إلى كافرٍ غير المؤلف، وأن الزكاة واجبة في مال الصبي والمجنون كما هو قول الجمهور لعموم الحديث، وأن الفقير إذا أفرد في اللفظ تناول المسكين وبالعكس، كنظائره كما قرره شيخ الإسلام. وأن الفقير لا الزكاة عليه، وأن من ملك نصاباً لا يُعطى من الزكاة من حيث أنه جعل المأخوذ منه غنياً وقابله بالفقير، ومن ملك نصاباً فالزكاة مأخوذة منه فهو غني.
( ) قوله: «فإن هم أطاعوك لذلك فإياك وكرائم أموالهم» بنصب كرائم على التحذير جمع كريمة. قاله «صاحب المطالع».
وهي الجامعة للكمال الممكن في حقها من غزارة لبن وجمال صورة وكثرة لحم وصوف. ذكره النووي. وفيه: النهي عن كرائم الأموال. قاله المصنف رحمه الله تعالى.
(3) قوله: «واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب» أي: احذر دعوة المظلوم واجعل بينك وبينها وقاية بالعدل وترك الظلم. وفيه: التحذير من الظلم مطلقاً واتقاء دعوة المظلوم والإخبار بأنها لا تحجب.
قال المصنف رحمه الله: فعلى العامل أن لا يأخذ زيادة على الحق ولا يحابي بترك شيء منه.(1/55)
» أخرجاه(1).
ولهما عن سهل بن سعد(2)
__________
(1) قوله: «أخرجاه» أي: البخاري ومسلم*. واعلم أنه لم يذكر في الحديث الصوم والحج فأشكل ذلك على كثير من العلماء.
قال شيخ الإسلام: «أجاب بعضهم أن بعض الرواة اختصر الحديث، وليس كذلك، فإن هذا طعن في الرواة ؛ لأن ذلك إنما يقع في الحديث الواحد، مثل حديث وفد عبد القيس، حيث ذكر بعضهم الصيام، وبعضهم لم يذكره. فأما الحديثان
..........................................................
* أخرجه البخاري (1395) و (1458) وكرره، ومسلم (19).
(2) لمنفصلان فليس الأمر فيهما كذلك، ولكن عن هذا جوابان:
أحدهما: أن ذلك بحسب نزول الفرائض، وأول ما فرض الشهادتين ثم الصلاة فإنه أمر بالصلاة في أول أوقات الوحي، ولهذا لم يذكر وجوب الحج كعامة الأحاديث إنما جاء في الأحاديث المتأخرة.
الجواب الثاني: أنه كان يذكر في كل مقام ما يناسبه، فيذكر تارة الفرائض التي يقاتل عليها كالصلاة والزكاة، ويذكر تارة الصلاة لمن لم يكن عليه زكاة، ويذكر تارة الصلاة والزكاة والصوم فإما أن يكون قبل فرض الحج، وإما أن يكون المخاطب بذلك لا حج عليه، وأما الصلاة والزكاة فلهما شأن ليس لسائر الفرائض، ولهذا ذكر الله تعالى في كتابه القتال عليهما لأنهما عبادتان ظاهرتان بخلاف الصوم فإنه أمرٌ باطن من جنس الوضوء والاغتسال من الجنابة ونحو ذلك مما يُؤتمن عليه العبد، فإن الإنسان يمكنه أن لا ينوي الصوم وأن يأكل سراً كما يمكنه أن يكتم حدثه وجنابته، وهو - صلى الله عليه وسلم - يذاكر في الأعمال الظاهرة التي يقاتل الناس عليها ويصيرون مسلمين بفعلها فلهذا علق ذلك بالصلاة والزكاة دون الصوم وإنه كان واجباً، كما في آيتي براءة نزلت بعد فرض الصيام باتفاق الناس، وكذلك لما بعث معاذاً إلى اليمن لم يذكر في حديث الصوم لأنه تبع وهو باطن ولا ذكر الحج لأن وجوبه خاص ليس بعام ولا يجب في العمر إلا مرة». انتهى بمعناه. قاله في «فتح المجيد»*.
( ) قوله: «ولهما -أي البخاري ومسلم – عن سهل بن سعد» بن مالك بن خالد الأنصاري الخزرجي الساعدي أبي العباس، صحابي شهير، وأبوه صحابي أيضاً، مات سنة ثمان وثمانين وقد جاوز المائة «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال يوم خيبر: «لأعطينّ الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله، يفتح الله على يديه، فبات الناس يدوكون ليلتهم أيهم يُعطاها، فلما أصبحوا غدوا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كلهم يرجو أن يُعطاها، فقال: أين علي بن أبي طالب» فقيل: هو يشتكي عينيه، فأرسلوا إليه فأتي
..........................................................
* (1/195-196).(1/56)
- رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال يوم خيبر:
«لأعطينّ الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله(1)
__________
(1) بصق في عينيه ودعا له، فبرأ، كأن لم يكن به وجع، فأعطاه الراية، وقال: «انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم على الإسلام وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله فيه، فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خيرٌ لك من حُمْر النَّعَم» يدوكون: يخوضون. وفي الصحيحين عن سلمة بن الأكوع قال: كان علي - رضي الله عنه - قد تخلّف عن النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم خيبر فقال: أنا أتخلف عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فخرج فلحق بالنبي - صلى الله عليه وسلم - فلما كان مساء الليلة التي فتحها الله – عز وجل – في صباحها قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لأعطينّ الراية - أو ليأخذ الراية - غداً رجلاً يحب الله ورسوله - أو قال - يحبه الله ورسوله، يفتح الله على يديه» فإذا نحن بعلي وما نرجوه. فقالوا: هذا علي فاعطاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الراية ففتح الله عليه. والراية: بمعنى اللواء، وهو العَلَم الذي يحمل في الحرب يُعرف به موضع صاحب الجيش وقد يحمله أمير الجيش، وقد يدفعه لمقدم العسكر. وقد صرّح جماعة من أهل اللغة بترادفهما لكن روى الإمام أحمد والترمذي من حديث ابن عباس: كانت راية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سوداء ولواؤه أبيض. ومثله عند الطبراني عن بريدة وعند ابن عدي عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، وزاد: مكتوب فيه: لا إله إلا الله محمد رسول الله*. «وهو ظاهر في التغاير ولعل التفرقة بينهما عرفية». قاله في «الشرح»**.
( ) قوله: «يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله» فيه: فضيلة علي - رضي الله عنه -. قاله المصنف.
وقال شيخ الإسلام [منهاج السنة 7/366]: «ليس هذا الوصف مختصاً بعليٍّ ولا بالأئمة؛ فإن الله ورسوله يحب كل مؤمن تقي يحب الله ورسوله، ولكن هذا الحديث من أحسن ما يُحتج به على النواصب، الذين لا يتولونه، أو يكفرونه أو يفسّقونه كالخوارج، لكن هذا الاحتجاج لا يتم على قول الرافضة، الذين يجعلون النصوص الدالة على فضائل الصحابة كانت قبل ردتهم، فإن الخوارج تقول في
..........................................................
* أخرجه أحمد (30/589)، وأبوداود (2591)، والترمذي (1680)، والطبراني في الأوسط (730). وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود برقم (2258) (2/491).
** التيسير (ص/103).(1/57)
، ويحبه الله ورسوله يفتح الله على
يديه»(1)
__________
(1) لي مثل ذلك، لكن هذا باطل ؛ فإن الله ورسوله لا يطلق مثل هذا المدح على من يعلم الله أنه يموت كافراً.
فإن قيل: إذا كان هذا ليس من خصائص علي فلم تمنى بعض الصحابة أن يكون له ذلك؟.
أجاب شيخ الإسلام بأنه: «إذا شهد النبي - صلى الله عليه وسلم - لمعين بشهادة أو دعا له بدعاء أحب كثير من الناس أن يكون له مثل تلك الشهادة، ومثل ذلك الدعاء وإن كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يشهد بذلك لخلق كثير ويدعو لخلق كثير وهذا كالشهادة بالجنة لثابت بن قيس وعبدالله بن سلام، وإن كان قد شهد بالجنة لآخرين، والشهادة بمحبة الله ورسوله الذي ضرب في الخمر، وكان تعيينه لذلك المعين من أعظم فضائله ومناقبه».
وفيه: إثبات المحبة خلافاً للجهمية ومن أخذ عنهم.
( ) قوله: «يفتح الله على يديه» صريح في البشارة بحصول الفتح فهو علم من أعلام النبوة.(1/58)
فبات الناس يدوكون ليلتهم(1) أيهم يُعطاها(2)، فلما أصبحوا غدوا(3) على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كلهم يرجو أن يُعطاها. فقال: «أين عليّ بن أبي طالب؟»(4). فقيل: هو يشتكي عينيه(5)، فأرسلوا إليه فأُتِيَ به فبَصَق
في عينيه(6)
__________
(1) قوله: «فبات الناس يدوكون لَيلَتَهُم» بنصب ليلة، ويدوكون: قال المصنف: يخوضون. أي فيمن يدفعها إليه. وفيه: حرص الصحابة على الخير واهتمامهم به وعلو مرتبتهم في العلم والإيمان. وفيه: فضل الصحابة في دوكهم تلك الليلة وشغلهم عن بشارة الفتح. قاله المصنف رحمه الله.
(2) قوله: «أيهم يُعطاها» هو برفع أي على البناء لإضافتها وحذف صدر صلتها.
(3) قوله: «فلما أصبحوا غدوا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كلهم يرجوا أن يُعطاها» وفي رواية أبي هريرة عند مسلم أن عمر - رضي الله عنه - قال: «ما أحببتُ الإمارة إلا يومئذ».
(4) قوله: «فقال أين علي بن أبي طالب ؟» فيه سؤال الإمام عن رعيته وتفقّد أحوالهم وشهادة النبي - صلى الله عليه وسلم - لعلي بإيمانه باطناً وظاهراً وإثبات موالاته لله تعالى ورسوله ووجوب موالاة المؤمنين له.
(5) قوله: «فقيل: هو يشتكي عينيه» أي من الرمد «فأرسل إليه» مبني للفاعل أي
(6) لنبي - صلى الله عليه وسلم -، ويحتمل أن يكون مبنياً لما لم يُسم فاعله، وفي صحيح مسلم: أن الذي جاء به سعد بن أبي وقاص، ولمسلم من طريق إياس بن سلمة بن الأكوع عن أبيه قال: فأرسلني إلي عليّ فجئتُ به أقوده أرمد.
( ) قوله: «فقيل: هو يشتكي عينيه» أي من الرمد «فأرسل إليه» مبني للفاعل أي النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويحتمل أن يكون مبنياً لما لم يُسم فاعله، وفي صحيح مسلم: أن الذي جاء به سعد بن أبي وقاص، ولمسلم من طريق إياس بن سلمة بن الأكوع عن أبيه قال: فأرسلني إلى عليّ فجئتُ به أقوده أرمد.(1/59)
ودعا له(1)، فبرأ (2)، كأن لم يكن به وجع،
فأعطاه الراية(3) فقال: «انفذ على رِسْلِك(4) حتى تنزل
__________
(1) قوله: «فبصق» بفتح الصاد أي تفل «في عينيه ودعا له».
(2) قوله: «فبرأ» - هو بفتح الراء والهمزة - أي: عوفي في الحال عافية كاملة كأن لم يكن به وجع من رمد ولا ضعف بصر، وعند الطبراني من حديث علي: فما رمدت ولا صدعت منذ دفع النبي - صلى الله عليه وسلم - إليَّ الراية.
وفيه: أن من أدلة التوحيد ما جرى على سيد المرسلين وسادات الأولياء من المشقة والجوع والوباء.
وقوله: «لأعطينَّ الراية غداً» علم من أعلام النبوة، وتفله في عينيه علم من أعلامها أيضاً. قاله المصنف.
(3) قوله: «فأعطاه الراية» وفيه الإيمان بالقدر لحصولها، لمن لَم يسعَ لها ومنعها عمَّن سعى، قاله المصنف رحمه الله تعالى. وفيه: أن فعل الأسباب المباحة أو الواجبة أو المستحبة لا ينافي التوكل. قاله في «فتح المجيد»*.
(4) قوله: «وقال: انفذ على رسلك» بضم الفاء، أي امض، ورسلك بكسر الراء وسكون السين أي على رفقك، أمره أن يسير إليهم على رفق من غير عجلة.
وفيه: الأدب في قوله: «على رسلك». قاله المصنف رحمه الله.
..........................................................
* (1/201)(1/60)
بساحتهم(1)، ثم ادعهم إلى الإسلام(2)، وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله فيه(3)
__________
(1) قوله: «حتى تنزل بساحتهم» ساحتهم: ما قرب من حصونهم.
(2) قوله: «ثم ادعهم إلى الإسلام» بزيادة ثم كما وقع في حديث بريدة في صحيح مسلم، وذكرها يوهم الابتداء بغير الدعوة إلى الإسلام، والصواب إسقاطها كما روى أبوداود وأبوعبيد في كتاب الأموال، وكماجاء مصرحاً بذلك في حديث ابن عباس الذي في الصحيحين المذكور أول الباب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لَمَّا بعث معاذاً إلى اليمن قال: «إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله»، وهنا أمره أن يدعوهم إلى الإسلام الذي دلَّت عليه شهادة أن لا إله إلاّ الله، وهذا هو الشاهد من الحديث للترجمة. وهكذا ينبغي لأهل الإسلام أن يكون قصدهم بالجهاد هداية الخلق إلى الإسلام والدخول فيه، وينبغي لولاة الأمر أن يكون هذا معتمدهم ومرادهم ونيتهم.
وفيه: الدعوة إلى الإسلام قبل القتال، وأنه مشروعٌ لمن دُعُوا قبل ذلك وقُوتلوا. قاله المصنف رحمه الله. لكن إن كانوا قد بلغتهم الدعوة جاز قتالهم ابتداءً ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أغار على بني المصطلق وهم غارُّون. قاله في «فتح المجيد»*.
قال شيخ الإسلام [الفتاوى 7/263]: «والإسلام هو الاستسلام لله وهو الخضوع له والعبودية له، كذا قال أهل اللغة»، وقال [الفتاوى 7/286]: «دين الإسلام الذي ارتضاه الله، وبعث به رسله هو الاستسلام لله وحده فأصله في القلب والخضوع لله وحده بعبادته دون ما سواه، فمن عبده وعبد معه إلهاً آخر لم يكن مسلماً، ومن استكبر عن عبادته لم يكن مسلماً، وأما الإيمان فأصله تصديق القلب وإقراره ومعرفته، فهو من باب قول القلب المتضمن عمل القلب». انتهى.
(3) قوله: «وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله فيه “، أي في الإسلام كالصلاة والزكاة وغيرهما مما أمر الله به وشرعه من حقوق لا إله إلا الله.
..........................................................
* (1/203).(1/61)
، فوالله لأن يهديَ الله بك رجلاً واحداً خيرٌ لك من
حُمْر النَّعَم»(1). يدوكون: أي يخوضون.
* * *
6- باب
__________
(1) فيه الدعوة بالحكمة لقوله «أخبرهم بما يجب عليهم» ومعرفة حق الله في الإسلام. قاله المصنف رحمه الله.
وهذا مما يدل على أن الأعمال من الإيمان خلافاً للأشاعرة والمرجئة في قولهم أنه القول، وزعموا أن الإيمان مجرد التصديق. وفي حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: «فإذا فعلوا ذلك فقد عصموا منك دماءهم وأموالهم إلا بحقها “ ولما قاتل أبوبكر الصديق مانعي الزكاة وهم يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله، قال له عمر: كيف تقاتلهم وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أُمِرتُ أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها ؟ “*. قال أبوبكر: إن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عناقاً كانوا يؤدّونها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقاتلتهم على منعها. فدلّ على أنَّ النطق بكلمتي الشهادة دليل العصمة لا أنه عصمة، أو يقال هو العصمة لكن بشرط العمل.
( ) قوله: «فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خيرٌ لك من حُمر النَّعَم “** بضم الحاء وسكون الميم، والنَّعَم بفتح النون والعين المهملة وهي أنفَس الأموال عند العرب.
وفيه: الحلف على الفتيا وثواب من اهتدى على يديه رجل واحد. قاله المصنف رحمه الله تعالى.
وفيه: تشبيه أمور الآخرة بأمور الدنيا للتقريب إلى الأفهام وإلا فذرّة من الآخرة خير من الدنيا وأمثالها. قاله النووي.
..........................................................
* أخرجه البخاري (7248) (7285)، ومسلم (22).
** أخرجه البخاري (2942) و(309) و(3701) و(4210) و(4210) و(2406) ومسلم (4/1871، 1872).(1/62)
تفسير التوحيد، وشهادة أن لا إله إلاّ الله(1)
وقول الله تعالى: { أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَة(2)
__________
(1) قوله: «باب: تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله» عطف الشهادة على التوحيد من عطف الدالّ على المدلول ؛ لأن التوحيد هو مقتضى هذه الكلمة العظيمة الذي دلَّت عليه.
(2) قوله: «وقول الله تعالى: { قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلا * أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ - وفي قراءة ابن زيد: تدعون - يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ } الآية، أخبر تعالى في هذه الآيات أن الذين يدعونهم من الملائكة والأنبياء والصالحين لا يملكون كشف الضر عمَّن دعاهم - أي إزالته - بالكلية ولا تحويله من مكان إلى مكانٍ ولا من صفة إلى صفة، وتحويلاً: نكرة تعمُّ جميع أنواع التحويل، وأنهم: { يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ } والذي يدعوهم قد عكس الأمر وطلب منهم ما لا قدرة لهم عليه. وهذا هو الشاهد من الآية للترجمة. وروى البخاري عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: كان ناسٌ من الإنس يعبدون ناساً من الجن، فأسلم الجن وتمسك هؤلاء بدينهم*.
وقال السدي عن أبي صالح عن ابن عباس قال: عيسى وأمه وعزير والشمس والقمر. وقال مجاهد: عيسى وعزير والملائكة.
قال شيخ الإسلام [قاعدة التوسل 79]: «وهذه الأقوال كلها حق، فإن الآية تعم كل من كان معبوده عابداً لله، سواء كان من الملائكة أو من الجن أو البشر، والسلف يذكرون في تفسيرهم جنس المراد بالآية على نوع التمثيل كما يقول الترجمان لمن سأله: عن معنى الخبز ؟ فيريه رغيفاً فيقول هذا، فالإشارة إلى نوعه لا
..........................................................
* أخرجه البخاري (4714)، ومسلم (3030).(1/63)
َ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ } الآية [الإسراء:57].
وقوله: { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلا الَّذِي فَطَرَنِي } (1) الآية [الزخرف:26-27].
__________
(1) لى عينه، وليس مرادهم بذلك تخصيص نوع دون نوع مع شمول الآية للنوعين، فالآية خطاب لكل من دعا من دون الله مدعواً وذلك المدعو يبتغي إلى الله الوسيلة ويرجو رحمته ويخاف عذابه “. انتهى.
وفي هذه الآية الرد على من يدعو صالحاً ويقول أنا لا أشرك بالله شيئاً، الشرك عبادة الأصنام.
( ) قوله: «وقول الله تعالى: { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ * وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } يخبر تعالى عن عبده ورسوله وخليله إبراهيم إمام الحنفاء أنه تبرأ من أبيه وقومه في عبادتهم الأوثان. فقال: إنني براء مما تعبدون إلا الذي فطرني، فعبَّر عن هذه الكلمة العظيمة لا إله إلا الله بمعناها الذي دلَّت عليه ووضعت له من البراءة من كل ما يُعبد من دون الله كالكواكب والأصنام والأوثان والأنداد التي يعبدها المشركون، فعبر عن المنفي بها بقوله إنني براء مما تعبدون، وعبَّر عما أثبته بقوله إلا الذي فطرني، فلم يستثن في المعبودات إلا الذي فطره. وهذا هو الشاهد من الآية للترجمة.
وقوله: { فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ } لدينه.
قوله: { وَجَعَلَهَا } يعني كلمة التوحيد لا إله إلا الله كلمة باقية في عقبه أي في ذريته. قال قتادة: لا يزال في ذريته من يعبد الله ويوحده لعلهم يرجعون إليها. وقال السدي: لعلهم يتوبون ويرجعون إلى طاعة الله عز وجل.(1/64)
وقوله: { اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ } (1) الآية [التوبة: 31](1)
__________
(1) وقوله: { اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ } الآية الأحبار: هم العلماء، والرهبان: هم العبّاد، أي اتخذوا علماءهم وعبّادهم أرباباً من دون الله في اتباعهم في تحريم ما أحل الله، وتحليل ما حرّم. وهذه الآية قد
... فسرها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعدي بن حاتم، وكان عدي من متنصرة العرب.
فإن العرب قبل مبعث النبي - صلى الله عليه وسلم - منهم من تنصَّر، ومنهم من تهوَّد، ومنهم من تمجَّس، ومنهم من بقي على وثنيته، فكان عدي من متنصرة العرب، ولما جاء مسلماً دخل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقرأ عليه هذه الآية، قال: فقلت: إنهم لم يعبدوهم. قال: «بلى، إنهم حرّموا عليهم الحلال، وحلَّلُوا لهم الحرام، فاتبعوهم، فذلك عبادتهم إياهم “*. رواه أحمد والترمذي وحسّنه. قال السدي: استنصحوا الرجال ونبذوا كتاب الله وراء ظهورهم.
قال شيخ الإسلام [الفتاوى 7/70]: «وهؤلاء الذين اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً حيث أطاعوهم في تحليل ما حرّم الله، وتحريم ما أحل الله، يكونون على وجهين:
أحدهما: أن يعلموا أنهم بدّلوا دين الله فيتبعونهم على هذا التبديل، فيعتقدون تحليل ما حرّم الله أو تحريم ما أحل الله، اتباعاً لرؤسائهم، مع علمهم أنهم خالفوا دين الرسل فهذا كفر، وقد جعله الله ورسوله شركاً وإن لم يكونوا يصلون لهم ويسجدون لهم، فكأن من اتبع غيره في خلاف الدين مع علمه أنه خلاف الدين واعتقد ما قاله ذلك دون ما قاله الله ورسوله مشركاً مثل هؤلاء.
الثاني: أن يكون اعتقادهم وإيمانهم بتحريم الحرام وتحليل الحلال ثابتاً، لكنهم أطاعوهم في معصية الله، كما يفعل المسلم ما يفعله من المعاصي التي يعتقد أنها معاصي، فهؤلاء لهم حكم أمثالهم من أهل الذنوب، كما قد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إنما الطاعة في المعروف “** “. انتهى.
قوله: { وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ } أي اتخذوه رباً بعبادتهم له من دون الله، ولهذا قال تعالى: { وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلا هُوَ سُبْحَانَهُ
عَمَّا يُشْرِكُونَ } [التوبة: 31]، فيسمي الله طاعتهم في معصيته عبادة لهم
..........................................................
* أخرجه أحمد (4/378)، والترمذي (3095)، وحسنه ابن تيمية في مجموع الفتاوى (7/67) والألباني في غاية المرام برقم (6)..
** أخرجه البخاري (4340، 7145، 7257)، ومسلم (184).(1/65)
.
....................................................................... وقوله تعالى: { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ } (1)
__________
(1) سمّاهم أرباباً.
وهذا هو الشاهد من الآية للترجمة، قال تعالى: { وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } [آل عمران:80] وقد عظمت الفتنة بالشرك المنافي للتوحيد لما حدث الغلو في الأموات وتعظيمهم بالعبادة حتى عاد المعروف منكراً والمنكر معروفاً، والبدعة سنة والسنة بدعة، نشأ على هذا الصغير وهرِمَ عليه الكبير، كما جاء في الحديث: «بدأ الإسلام غريباً، وسيعود غريباً كما بدأ، فطوبى للغرباء، الذين يصلحون إذا فسد الناس - وفي رواية -: يصلحون ما أفسد الناس “*.
( )قوله: «وقوله تعالى: { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ } الآية [البقرة:165] الأنداد: الأمثال والنظراء. قاله غير واحد من المفسرين.
قال العماد ابن كثير رحمه الله [التفسير 1/1352]: «يذكر تعالى حال المشركين به في الدنيا ومآلهم في الدار الآخرة، حيث جعلوا لله أنداداً، أي أمثالاً ونظراء يعبدونهم معه، ويحبونهم كحبه وهو الله لا إله إلا هو، ولا صنو له ولا ند له ولا شريك له“.
وفي الصحيحين عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قلت: يا رسول الله، أي الذنب أعظم؟ قال: «أن تجعل لله نداً وهو خلقك “. قلت: ثم أي ؟ قال: «أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك “** الحديث.
وقوله: « { يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ } “ قال شيخ الإسلام: في قوله: { يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ } قولان:
أحدهما: أنهم يحبونهم كما يحبون الله فيكون قد أثبت لهم محبة الله، ولكنها محبة
..........................................................
* تقدم تخريجه (ص/12).
** تقدم تخريجه (ص/13).
أشركوا فيها مع الله أندادهم.
والثاني: أن المعنى يحبون أندادهم كما يحب المؤمنون الله، وهذا متناقض وهو باطل ؛ فإن المشركين لا يحبون الأنداد مثل محبة المؤمنين الله، ثم بيَّن تعالى أن محبة المؤمنين لله أشد من محبة أصحاب الأنداد لأندادهم وإنما ذُمُّوا بأن شركوا بين الله وبين أندادهم في المحبة ولم يخلصوا لله كمحبة المؤمنين له، كما أخبر الله عنهم وهم في النار، أنهم يقولون لآلهتهم وأنداداً وهي محضرة معهم في العذاب: { تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ } [الشعراء:97-98] ومعلوم أنهم ما سوّوهم به في الخلق والربوبية وإنما سوّوهم به في المحبة والتعظيم. وهذا هو الشاهد من الآية للترجمة. قال ابن القيم في «الكافية الشافية» [257]:
والله ما ساووهم بالله في
لكنهم ساووهم بالله في
جعلوا محبته مع الرحمن ما
خلق ولا رزق ولا إحسان
حب وتعظيم وفي إيمان
جعلوا المحبة قط للرحمن
قوله: { وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا } والمراد بالظلم هنا الشرك كقوله: { الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ } [الأنعام: 82].
وقوله: { إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا } قال بعضهم: تقدير الكلام: لو عاينوا العذاب لعلموا حينئذٍ أن القوة لله جميعاً، أي أن الحكم له وحده لا شريك له فإن جميع الأشياء تحت قهره وغلبته وسلطانه، وإن الله شديد العذاب، كما قال تعالى: { فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ * وَلا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ } [الفجر: 25-26].
وقوله: { إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا } كما قال تعالى: { قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ - يعني الشياطين والمردة والدُعاة إلى الكفر - رَبَّنَا هَؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ } [القصص: 63] فشهدوا عليهم أنهم أغووهم ثم تبرأوا من عبادتهم.(1/66)
الآية [البقرة:165].
......................................................................
في الصحيح(1) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من قال لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله(2)
__________
(1) قوله «في الصحيح» أي صحيح مسلم عن أبي مالك الأشجعي واسمه سعد بن طارق كوفي، فقد مات في حدود الأربعين، عن أبيه طارق بن أشيم بالمعجمة والمثناة التحتية وزن أحمر، ابن مسعود الأشجعي صحابي له أحاديث. قال مسلم: لم يروِ عنه غير ابنه «عن النبي - صلى الله عليه وسلم - » أنه قال: «من قال لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه وحسابه على الله عز وجل »* ورواه الإمام أحمد من طريق يزيد بن هارون، قال: أخبرنا أبومالك الأشجعي عن أبيه، ورواه أحمد عن عبدالله بن إدريس قال: سمعت أبا مالك قال: قلت لأبي الحديث. ورواية الحديث بهذا اللفظ تفسر لا إله إلا الله.
(2) قوله: «من قال لا إله إلا الله وكفر بما يُعبد من دون الله » اعلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - علَّق عصمة المال والدم في هذا الحديث بأمرين:
الأول: قول لا إله إلا الله عن علم ويقين، كما هو قيد في قولها في غير ما حديث كما تقدم.
الثاني: الكفر بما يُعبد من دون الله، فلم يكتف باللفظ المجرد عن المعنى بل لابد من قولها والعمل بها.
وفيه: معنى: { فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا } . قاله «في فتح المجيد»**.
وفيه: أكبر المسائل وأهمها وهو تفسير التوحيد وتفسير الشهادتين وبَيَّنها بأمور واضحة. منها: آية الأسرى، بيَّن فيها الرد على المشركين الذي يدعون الصالحين، ففيها بيان أن هذا هو الشرك الأكبر.
ومنها: آية براءة، بيَّن فيها أن أهل الكتاب اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من
..........................................................
* أخرجه مسلم (23).
** (1/220-221).
دون الله، وبيَّن أنهم لم يُؤمروا إلا ليعبدوا إلهاً واحداً مع أن تفسيرها الذي لا إشكال فيه طاعة العلماء والعباد في المعصية لا دعائهم إياهم.
ومنها: قول الخليل عليه السلام للكفار: { إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلا الَّذِي فَطَرَنِي } فاستثنى من المعبودين ربه، وذكر سبحانه أن هذه البراءة وهذه الموالاة هي تفسير شهادة أن لا إله إلا الله، فقال: { وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } .
ومنها: آية الكفار الذين قال الله فيهم: { وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ } [البقرة: 167] ذكر أنهم يحبون أندادهم كحب الله، فدلّ على أنهم يحبون الله حباً عظيماً ولم يدخلهم في الإسلام فكيف بمن أحب الند أكبر من حب الله ؟ فكيف بمن لم يحب إلا الند وحده ولم يحب الله ؟؟.
ومنها: قوله - صلى الله عليه وسلم -: «من قال لا إله الله وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه وحسابه على الله». وهذا من أعظم ما يبيّن معنى لا إله إلا الله، فإنه لم يجعل التلفظ بها عاصماً للدم والمال؛ بل ولا معرفة معناها مع لفظها، بل ولا الإقرار بذلك، بل ولا كونه لا يدعو إلا الله وحده لا شريك له، بل لا يحرم ماله ودمه حتى يضيف إلى ذلك: الكفر بما يُعبد من دون الله، فإنْ شكَّ أو توقف لم يحرم ماله ودمه، فيا لها من مسألة ما أعظمها وأجلها! ويا له من بيان ما أوضحه وحجة ما أقطعها للمنازع! قاله المصنف رحمه الله تعالى.
قال شيخ الإسلام [الفتاوى 28/502]: «كل طائفة امتنعت عن بعض الصلوات المفروضات أو الزكاة، أو الصيام، أو الحج، أو عن تحريم الدماء والأموال، أو الخمور، أو الميسر، أو نكاح ذوات المحارم، أو عن التزام جهاد الكفار، أو غير ذلك من واجبات الدين أو محرماته التي يكفر الواحد بجحدها تُقاتَل وإن كانت مقرة بها، هذا مما لا أعلم فيه خلافاً بين العلماء، وهؤلاء عند المحققين ليسوا بمنزلة البغاة، بل هم خارجون عن الإسلام ». انتهى ملخصاً.
وقد أجمع العلماء على أن من قال لا إله إلا الله ولم يعتقد معناها ولم يعمل
بمقتضاها أنه يُقاتل حتى يعمل بما دلَّت عليه من النفي والإثبات.
قال أبوسليمان الخطابي [معالم السنن 2/11] في قوله: «أُمرتُ أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله »* معلوم أن المراد بهذا أهل عبادة الأوثان دون أهل الكتاب ؛ لأنهم يقولون لا إله إلا الله ثم يقاتلون، ولا يرفع عنهم السيف.
وقال القاضي عياض: «اختصاص عصمة المال والنفس بمن قال لا إله إلا الله تعبير عن الإجابة إلى الإيمان، وأن المراد بذلك مشركو العرب من أهل الأوثان، فأما غيرهم ممن يقر بالتوحيد فلا يكتفى في عصمته بقول لا إلا الله إذا كان يقولها في كفره ». انتهى ملخصاً.
قوله: «وحسابه على الله عز وجل » أي الله تعالى هو الذي يتولَّى حسابه فإن كان صادقاً جازاه بجنات النعيم، وإن كان منافقاً عذَّبه العذاب الأليم. وأما في الدنيا فالحكم على الظاهر.(1/67)
حَرُمَ ماله ودمه وحسابه على الله عز وجل».
وشرح هذه الترجمة ما بعدها من الأبواب(1) .
* * *
7- باب
من الشرك لبس الحلقة والخيط ونحوهما لرفع البلاء أو دفعه(2)
__________
(1) قوله: «وشرح هذه الترجمة ما بعدها من الأبواب» وذلك أن ما بعدها من الأبواب فيه بيان التوحيد وما يوضح معنى لا إله إلا الله، وبيان أشياء كثيرة من الشرك الأكبر والأصغر وما يوصل إلى ذلك من الغلو والبدع مما تركه من مضمون لا إله إلا الله، فمن عرف ذلك وتحققه تبيَّن له معنى لا إله إلا الله وما دلَّت عليه من الإخلاص ونفي الشرك. انتهى.
..........................................................
* تقدم تخريجه.
(2) قوله: «باب من الشرك لبس الحلقة والخيط ونحوهما » كالخرز والودع «لرفع البلاء » بعد نزوله «أو دفعه » قبل أن ينزل به، فمن تعلّق قلبه بشيء من هذه الأمور فهذا شرك بالله ؛ لأنه سبحانه هو الذي يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء، لا إله غيره، ومن هنا بدأ المصنف رحمه الله في بيان ما وعد به في قوله «وشرح هذه الترجمة ما بعدها من الأبواب » فذكر شيئاً فما يضاد التوحيد من أنواع الشرك الأكبر وما ينافي كماله من الشرك الأصغر وما يوصل إلى ذلك من الغلو والبدع مما تركه من مضمون لا إله إلا الله فبدأ بالشرك الأصغر الاعتقادي فقال:(1/68)
وقول الله تعالى: { قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ } (1) الآية [الزمر: 38].
وعن عِمران بن حصين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلاً في يده حلقة من صُفْرٍ. فقال: «ما هذه ؟» قال: من الواهنة. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «انزعها، فإنها لا تزيدك إلا وهناً ؛ فإنك لو مِت وهي عليك ما أفلحت أبداً»(2)
__________
(1) «وقول الله تعالى: { قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ } [الزمر:38] أي مرض أو فقر أو بلاء أو شدة { هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ } أي لا يستطيعون ذلك { قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ } أي الله كافيني { عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ } قال مقاتل: فسألهم النبي - صلى الله عليه وسلم - فسكتوا؛ لأنهم لا يعتقدون ذلك فيها بل يعلمون أن القادر على ذلك هو الله وحده كما قال تعالى: { مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ } [فاطر:2]، وهذا شأن كل من يدّعي من دون الله من الملائكة والأنبياء والصالحين لا يملك أحدٌ منهم كشف ضر ولا إمساك رحمة؛ فبطلت دعوتهم، ودعوة غيرهم في الأصنام والآلهة أبطل؛ لأنها جماد ولا تعقل شيئاً، ومن هذا القبيل لبس الحلقة والخيط ونحوهما، لا تستطيع دفع البلاء ولا رفعه، فاستدل المصنف رحمه الله تعالى بالآية التي نزلت في الشرك الأكبر على الأصغر، كما فعل حذيفة لما رأى رجلاً في يده خيطاً من الحمى فقطعه، وتلا
(2) وله تعالى: { وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلا وَهُمْ مُشْرِكُونَ } [يوسف: 106] وهذا هو الشاهد من الآية للترجمة.
( ) قوله: «وعن عمران بن حصين » بن عبيد بن خلف الخزاعي أبونجيد، بنون وجيم مصغر، صحابي ابن صحابي، أسلم عام خيبر ومات سنة اثنين وخمسين بالبصرة «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلاً في يده حلقة من صفر » هو عمران بن حصين راوي الحديث، كما رواه الحاكم قال: دخلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفي يدي حلقة من صفر. «فقال: «ما هذه ؟ » يحتمل أن يكون الاستفهام للاستفصال عن سبب لبسها، ويحتمل أن يكون للإنكار وهو أظهر «قال من الواهنة » وهي عرق يأخذ بالمنكب وفي اليد كلها فيرقى منها، وقيل: هو مرض يأخذ في العضد وربما علق عليها جنس من الخرز يقال له خرز الواهنة وهي تأخذ الرجال دون النساء «فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «انزعها» فأمره بنزعها. والنزع الجذب بقوة «فإنها لا تزيدك إلا وهناً » لأن المشرك يعامل بنقيض قصده «فإنك لو مِت وهي عليك ما أفلحت أبداً » والفلاح والفوز والظفر والسعادة، أي ما فزت ولا ظفرت ولا سعدت.
وفيه: التغليظ في لبس الحلقة والخيط ونحوهما لمثل ذلك، وأن الصحابي لو مات وهي عليه ما أفلح أبداً.
وفيه: شاهدٌ لكلام بعض الصحابة أن الشرك الأصغر أكبر من الكبائر، وأنه لم يعذر بالجهالة، وأنها لا تنفع في العاجل بل تضر، لقوله «لا تزيدك إلا وهناً » والإنكار بالتغليظ على من فعل مثل ذلك والتصريح بأن من تعلّق شيئاً وُكِلَ إليه. قاله المصنف رحمه الله.
قلت: ومن هذا القبيل ما يسمى بالمعضد الذي يُوتى به من الخارج ويلبس في الشمال عن الروماتيزم. ومنه أيضاً الحلق الذي يتخذ من الذهب أو الفضة ويُلبسه(1/69)
.
رواه الإمام أحمد بسند لا بأس به(1)
__________
(1) حد الزوجين الآخر ليلة الزفاف لئلا تقع بينهم فرقة ويسمونه بالشبكة أو الدبلة. ومنه التطعيم الذي يستعمل لبعض الأمراض كالجدري والكوليرا وغيرهما لدفعهما [كي] لا تقع*، فيجب النهي عن ذلك كله ؛ لأنه من أنواع الشرك الأصغر الاعتقادي وهو أكبر من الكبائر.
( ) وقوله: «رواه الإمام أحمد بسند لا بأس به»** الإمام أحمد: وهو أبوعبدالله أحمد بن محمد بن حنبل، إمام أهل عصره، وأعلمهم بالفقه وأشدهم ورعاً ومتابعة للسنة، يقول في حقه بعض أهل السنة: عن الدنيا ما كان أصبره، وبالماضين ما كان أشبهه، أتته الدنيا فأباها، والشُّبه فنفاها. ولد ببغداد سنة أربع وستين ومائة في شهر ربيع الأول، وطلب العلم سنة وفاة مالك وهي سنة تسع وسبعين، فسمع من هشم وجرير بن عبدالحميد وسفيان بن عيينة ويحيى بن سعيد القطان ومحمد بن إدريس الشافعي ويزيد بن هارون وعبدالرزاق وعبدالرحمن بن مهدي وخلق لا يُحصون بمكة والبصرة والكوفة وبغداد واليمن وغيرها من البلاد، وروى عنه ابناه صالح وعبدالله، والبخاري ومسلم وأبوداود وإبراهيم الحربي وأبوزرعة الرازي وأبوزرعة الدمشقي وابن أبي الدنيا وأبوبكر الأثرم وعثمان بن سعيد الدارمي وأبوالقاسم البغوي وهو آخر من حدث عنه. وروى عنه من شيوخه عبدالرحمن بن مهدي والأسود بن عامر، ومن أقرانه علي بن المديني ويحيى بن معين. قال البخاري: مرض أحمد ليلتين خلتا من ربيع الأول ومات يوم الجمعة لاثنتي عشرة خلت منه. وقال حنبل: مات يوم الجمعة في ربيع الأول سنة إحدى وأربعين ومائتين وله سبع وسبعون سنة. وقال ابن عبدالله بن الفضل بن زياد: مات ثاني عشر ربيع الآخر، رحمه الله ورضي عنه.
قوله: «وله - أي الإمام أحمد - عن عقبة بن عامر » وهو صحابي مشهور فقيه فاضل، ولي إمارة مصر لمعاوية ثلاث سنين ومات قريباً في الستين.
..........................................................
* إذا ثبت نفعه فهو من الأسباب المشروعة للوقاية من الأمراض.
** أخرجه أحمد (4/445)، وابن ماجه (3531)، وابن حبان (1410)، قال الألباني: ضعيف. انظر: ضعيف سنن ابن ماجه (ص287) برقم (709).(1/70)
.
وله عن عقبة بن عامر - رضي الله عنه - مرفوعاً: «من تعلّق تميمةً فلا أتمَّ الله له، ومن تعلَّق وَدَعَةً فلا وَدَع الله له»(1).
وفي رواية: «من تعلق تميمة فقد أشرك»(2).
__________
(1) قوله: «مرفوعاً - أي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - - «من تعلَّق تميمة فلا أتمَّ الله له، ومن تعلَّق ودعة فلا ودع الله له »*. رواه أيضاً أبويعلى، والحاكم وقال: صحيح الإسناد، وأقره الذهبي.
والتميمة: جمعها تمائم، وهي خرزات كانت العرب تعلقها على أولادها يتقون بها العين على زعمهم.
وقوله: «فلا أتم الله له » مقصوده: ومن تعلق ودعة - بفتح الواو وسكون الدال المهملة - قال في مسند الفردوس: شيء يخرج من البحر يشبه الصدف يتقون به العين.
قوله: «فلا ودع الله له» أي لا جعله في دعة ولا سكون. وقيل: لا خفَّف اللهُ عنه ما يجده ولا آمنه مما يخافه، وهذا دعاءٌ عليه.
(2) قوله: «وفي رواية: من تعلق تميمة فقد أشرك » رواه أحمد أيضاً فقال: حدثنا عبدالصمد بن عبدالوارث، حدثنا عبدالعزيز بن مسلم، حدثنا يزيد بن أبي منصور عن دجين الحجري عن عقبة بن عامر الجهني أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أقبل إليه رهطٌ فبايع تسعة وأمسك عن واحد، فقالوا: يا رسول الله، بايعتَ تسعة وأمسكت عن هذا، فقال: «إن عليه تميمة » فأدخل يده فقطعها فبايعه. وقال: «من تعلق تميمة فقد أشرك»** ورواه الحاكم بنحوه، ورواته ثقات.
«ولابن أبي حاتم» وهو الإمام أبومحمد عبدالرحمن بن أبي حاتم الرازي التميمي
..........................................................
* أخرجه أحمد (4/154)، و ابن حبان (1413)، والحاكم (4/216) وقال صحيح الإسناد، وأقره الذهبي، وضعّفه الألباني في ضعيف الجامع (5703).
** أخرجه الحاكم (4/219)، وأحمد (28/637) - الرسالة - رقم (17422)، وقال المحقق: إسناده قوي. وصححه الألباني في صحيح الجامع (6394).(1/71)
ولابن أبي حاتم عن حذيفة - رضي الله عنه -: أنه رأى رجلاً في يده خيط من الحُمَّى
فقطعه وتلى قوله تعالى: { وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلا وَهُمْ مُشْرِكُونَ } (1) [يوسف:106].
* * *
8- باب
__________
(1) لحنظلي صاحب «الجرح والتعديل» و «التفسير» وغيرهما، مات سنة سبع وعشرين وثلاثمائة «عن حذيفة» بن اليمان واسمه حُسيل - بمهملتين مصغراً، ويقال حِسل بكسر ثم سكون - العِبسي بالموحدة، حليف الأنصار صحابي جليل من السابقين، ويقال له صاحب السر، وأبوه أيضاً صحابي، مات حذيفة في أول خلافة علي - رضي الله عنه - سنة ست وثلاثين.
( ) قوله: «أنه رأى رجلاً في يده خيط من الحمى» أي من أجل الحمى، وكان الجهال يعلقون التمائم والخيوط ونحوها لدفع الحمى، فروى وكيع عن حذيفة أنه دخل على مريض يعوده فلمس عضده فإذا فيه خيط، فقال: ما هذا؟ قال: شيء رُقيَ لي فيه. «فقطعه» حذيفه وقال: لو مت وهو عليك ما صليت عليك. وفيه: إنكار مثل هذا وإن كان يعتقد أنه سبب، فالأسباب لا يجوز منها إلا ما أباحه الله ورسوله مع عدم الاعتماد عليها، وأما التمائم والخيوط والحروز والطلاسم ونحو ذلك مما يعلقه الجهال فهو شرك يجب إنكاره وإزالته بالقول والفعل وإن لم يأذن فيه صاحبه «وتلى - حذيفة - قوله تعالى: { وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلا وَهُمْ مُشْرِكُون } ففيه: الاستدلال على الشرك الأصغر بما أنزل الله في الشرك الأكبر لشمول الآية له ودخوله في مسمى الشرك.
وفيه: التصريح بأن من تعلّق تميمة فقد أشرك، وأن تعليق الخيط عن الحمى من ذلك. وتلاوة حذيفة الآية دليلٌ على أن الصحابة يستدلون بالآيات التي في الشرك الأكبر على الأصغر، كما ذكر ابن عباس في آية البقرة، و أن تعليق الودع عن العين من ذلك، والدعاء على من تعلّق تميمة أن الله لا يتم له، ومن تعلق ودعة فلا ودع الله له، أي: ترك له. قاله المصنف رحمه الله تعالى.(1/72)
ما جاء في الرُّقى والتمائم (1)
في الصحيح عن أبي بشير الأنصاري(2) - رضي الله عنه - أنه كان مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بعض أسفاره فأرسل رسولاً: أَنْ لا يبقَيَن(3) في رقبة بعيرٍ قلادة من وَتَر أو قلادة إلا قُطِعت(4).
__________
(1) قوله: «باب ما جاء في الرُّقى والتمائم» أي من النهي عن التمائم وما لا يجوز من الرُّقى.
(2) قوله: «في الصحيح عن أبي بشير» - بفتح الموحدة وكسر المعجمة - «الأنصاري» واسمه قيس بن عبيد. قاله ابن سعد. وقال ابن عبدالبر: «لا يوقف له على اسم صحيح، وهو صحابي شهد الخندق ومات بعد الستين، ويقال: إنه جاوز المائة - رضي الله عنه - «أنه كان مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بعض أسفاره » قال الحافظ ابن حجر: لم أقف على تعيينه «فأرسل رسولاً » هو زيد بن حارثة، روى ذلك الحارث بن أبي أسامة في مسنده. قاله الحافظ ابن حجر [الفتح 6/141].
(3) قوله: «أن لا يبقَيَن » بفتح الياء والقاف، ويحتمل أن يكون بضم الياء المثناة وكسر القاف «في رقبة بعير قلادة من وَ تَر » بفتحتين واحد أوتار القوس. وكان أهل الجاهلية إذا اخلولق الوتر أبدلوه بغيره وقلدوا به الدواب اعتقاداً منهم أنه يدفع عن الدابة العين، فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقطع الأوتار التي عُلقت على الإبل لما كان أهل الجاهلية يعتقدونه فيها.
(4) قوله: «أو قلادة إلا قطعت »* يحتمل أن ذلك شك من الراوي، ولأبي داود «ولا قلادة» بغير شك، فعلى هذه الرواية تكون «أو » بمعنى الواو، قال البغوي في «شرح السنة» [شرح السنة 11/27]: تأول مالك أمره عليه السلام بقطع القلائد على أنه من أجل العين؛ وذلك أنهم كانوا يشدون تلك الأوتار والتمائم والقلائد
..........................................................
* أخرجه البخاري (3005)، ومسلم (2115).(1/73)
وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إن الرُّقَى والتمائم والتِوَلة شرك». رواه أحمد وأبوداود(1)
__________
(1) يعلقون عليها العوذ يظنون أنها تعصمهم من الآفات فنهاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - عنها وأعلمهم أن الأوتار لا ترد من أمر الله شيئاً.
قلت: ومن هذا ما يفعله بعض الجهال من وضع رأس حمار ميت على باب بستانه أو شجرة صبار أو نعل قديمة على باب بيته لدفع العين، وما يفعله بعض النساء من وضع رسم صليب على جبهة ولدها، وهذا كله من الشرك الأصغر الاعتقادي المحرم، ولا يرد من قدر الله شيئاً.
( ) قوله: «وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إن الرقى والتمائم والتولة شرك». رواه أحمد وأبوداود »* وفيه قصة، ولفظ أبي داود: عن زينب امرأة عبدالله بن مسعود أن عبدالله رأى في عنقي خيطاً فقال: ما هذا؟ قلت: خيط رُقي لي فيه. قالت: فأخذه فقطعه. ثم قال: أنتم آل عبدالله الأغنياء عن الشرك! سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إن الرقى والتمائم والتولة شرك » فقلت: لقد كانت عيني تقذف، وكنت أختلف إلى فلان اليهودي فإذا رقاها سكنت. فقال عبدالله: إنما ذلك الشيطان كان ينخسها بيده فإذا رقى كفَّ عنها، إنما يكفيك أن تقول كما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «أَذهِبْ الباس رب الناس، أشف أنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك، شفاءً لا يغادر سقماً »** ورواه ابن ماجه وابن حبان والحاكم وقال صحيح، وأقره الذهبي.
فالرقى الموصوفة بكونها شركاً هي الرقى التي فيها شرك من دعاء غير الله أو الاستغاثة أو الاستعاذة به وكالرقى بأسماء الملائكة والأنبياء والأولياء والجن ونحو ذلك.
..........................................................
* أخرجه أبوداود (3883)، وأحمد (1/381)، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (2/735-736) رقم (3288).
** أخرجه مسلم (2191) من حديث عائشة رضي الله عنها.
وقال شيخ الإسلام [الفتاوى 1/264-265]: «حصول الغرض ببعض الأمور لا يدل على إباحته، وإن كان الغرض مباحاً، فإن ذلك الفعل قد يكون فيه مفسدة راجحة على مصلحته والشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، وإلا فجميع المحرمات من الشرك والخمر والميسر والفواحش والظلم قد يحصل لصاحبه به منافع ومقاصد، لكن لما كانت مفاسدها راجحة على مصالحها نهى الله ورسوله عنها كما أن كثيراً من الأمور كالعبادات والجهاد وإنفاق الأموال قد تكون مضرة، لكن لما كانت مصلحته راجحة على مفسدته أمر به الشارع ». انتهى.
قوله: «والرقى » هي التي تسمى العزائم، وخص منه الدليل ما خلا من الشرك، فقد رخص فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من العين والحمة، كالرقى بالقرآن وأسماء الله وصفاته ودعائه والاستغاثة به وحده لا شريك له فليست ممنوعة بل جائزة أو مستحبة، كما في صحيح مسلم عن عوف بن مالك قال: كنا نرقى في الجاهلية، فقلنا: يا رسول الله، كيف ترى في ذلك ؟ فقال: «أعرضوا عليَّ رقاكم، لا بأس بالرقى ما لم يكن فيها شرك»* وفيه: عن أنس - رضي الله عنه - قال: رخص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الرقية من العين والحُمَة والنملة**، وقد رقى جبريل النبي - صلى الله عليه وسلم -، ورقى النبي أصحابه.
قال الخطابي [معالم السنن 4/226]: «وكان عليه السلام قد رَقَى ورُقِي، وأمر بها وأجازها. فإذا كانت بالقرآن أو بأسماء الله تعالى فهي مباحة أو مأمور بها. وإنما جاءت الكراهة والمنع، فيما كان منها بغير لسان العرب، فإنه ربما كان كفراً أو قولاً يدخله الشرك.
قال: ويحتمل أن يكون الذي يكره منها ما كان على مذاهب الجاهلية التي يتعاطونها وأنها تدفع عنهم الآفات، ويعتقدون ذلك من قبل الجن ومعونتهم». انتهى. ولذا قال علي - رضي الله عنه -: إن كثيراً من هذه الرقى والتمائم شرك فاجتنبوه. رواه وكيع.
..........................................................
* أخرجه مسلم (2200).
** أخرجه البخاري (5741)، ومسلم (2196).
وقال ابن التِّين: «الرقى بالمعوذات وغيرها من أسماء الله تعالى هو الطب الرباني، فإذا كان على لسان الأبرار من الخلق، حصل الشفاء بإذن الله تعالى. فلما عَزَّ هذا النوع فزع الناس إلى الطب الجسماني وتلك الرقى المنهي عنها التي يستعملها المُعَزِّم وغيره ممن يدَّعِي تسخير الجن له، فيأتي بأمور مشتبهة مركبة من حق وباطل؛ يجمع إلى ذكر الله تعالى وأسمائه ما يشوبه من ذكر الشياطين والاستعانة بهم والتعوذ بمردتهم , ويقال: إن الحيَّة لعداوتها للإنسان بالطبع تصادق الشياطين لكونهم أعداء بني آدم، فإذا عزم على الحية بأسماء الشياطين أجابت وخرجت من مكانها، وكذلك اللديغ إذا رُقي بتلك الأسماء سالت سمومها من بدن الإنسان، ولذلك تكره الرقى ما لم تكن بآيات الله وأسمائه خاصة، وباللسان العربي الذي يعرف معناه، ليكون بريئاً من شوب الشرك ». انتهى.
وقال شيخ الإسلام: «كل اسم مجهول فليس لأحد أن يرقي به، فضلاً عن أن يدعو به ولو عُرف معناه ؛ لأنه يكره الدعاء بغير العربية، وإنما يُرخَّص لمن لا يعرف العربية، فأما جعل الألفاظ الأعجمية شعاراً فليس من دين الإسلام» انتهى.
وسُئل ابن عبدالسلام عن الحروف المقطعة فمنع منها ما لا يعرف لئلا يكون فيه كفر.
وقال السيوطي: «أجمع العلماء على جواز الرقى، عند اجتماع ثلاثة شروط:
* أن تكون بكلام الله أو بأسمائه وصفاته.
* وباللسان العربي وبما يعرف معناه.
* وأن يعتقد أن الرقية لا تؤثر بذاتها بل بتقدير الله تعالى».
قوله: «والتِّوَلة » بكسر المثناة وفتح الواو مخففة، شيء يصنعونه يزعمون أنه يحبب المرأة إلى زوجها والرجل إلى امرأته، بهذا فسرها ابن مسعود راوي الحديث وهو ضرب من السحر.(1/74)
.
........................................................................
وعن عبدالله بن عُكيم مرفوعاً: «من تعلق شيئاً وُكل إليه». رواه أحمد والترمذي(1).
__________
(1) قوله: «شرك » هنا خبر إن، وإنما كانت هذه الأمور شركاً لأنهم أرادوا بها دفع المقادير المكتوبة ودفع الضر وجلب النفع من غير الله تعالى، وهذا شرك أصغر ينافي كمال التوحيد وهو أكبر من الكبائر.
قوله: «رواه أحمد » وتقدّمت ترجمته، «وأبوداود»: وهو سليمان بن الأشعث ابن إسحاق الأزدي السجستاني صاحب الإمام أحمد ومصنف «السنن» و«المراسيل» وغيرهما، ثقة إمام حافظ من كبار العلماء، مات سنة خمس وسبعين ومائتين رحمه الله تعالى ورضي عنه.
( ) قوله: «وعن عبدالله بن عُكيم » بضم العين المهملة وفتح الكاف مصغراً، يكنى أبا سعيد الجهني، قال البخاري: أدرك النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يعرف له سماع صحيح، وكذا قال أبوحاتم. قال الخطيب: سكن الكوفة وقدم المدائن في حياة حذيفة وكان ثقة، وذكر ابن سعد عن غيره أنه مات في ولاية الحجاج.
قوله: «مرفوعاً -أي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -- «من تعلّق شيئاً وُكل إليه» رواه أحمد والترمذي*، أي وكله الله إلى ذلك الشيء الذي تعلّقه، والتعلق يكون بالقلب وينشأ عنه القول والفعل وهو التفات القلب عن الله إلى شيء يعتقد أنه ينفعه أو يدفع عنه. قاله في «قرة العيون»**. فمن تعلق بالله وأنزل حوائه به والتجأ إليه وفرض أمره إليه كفاه ويسر له كل عسير، ومن تعلق بغيره أو سكن إلى رأيه وعقله وتمائمه وكله الله إلى ذلك وخذله. وروى الإمام أحمد عمن سمع عطاء الخراساني قال: لقيت وهب بن منبه وهو يطوف بالبيت فقلت: حدِّثني حديثاً أحفظه عنك في مقامي هذا وأوجز.
..........................................................
* أخرجه أحمد (4/310، 311)، والترمذي (2072)، والحاكم (4/216)، وحسّنه الألباني في غاية المرام (297).
** (ص/70).(1/75)
التمائم: شيء يُعلّق على الأولاد يتقون به العين(1)، لكن إذا كان المُعلَّقُ من القرآن فرخص فيه بعض السلف(2)، وبعضهم لم يرخص فيه،
__________
(1) ال: نعم، أوحى الله تبارك وتعالى إلى داود: «يا داود أما وعزتي وعظمتي لا يعتصم بي عبدٌ من عبادي دون خلقي أعرف ذلك من نيته فتكيده السموات السبع ومن فيهن، والأرضون السبع ومن فيهن إلا جعلت له من بينهن مخرجاً، أما وعزتي وعظمتي لا يعتصم عبد من عبادي بمخلوق دوني أعرف ذلك من نيته إلا قطعت أسباب السماء من يديه وأسخت الأرض من تحت قدميه، ثم لا أبالي بأي أوديتها هلك ».
( ) قوله: «والتمائم شيء يُعلَّق على الأولاد عن العين » وهذا في الغالب وإلا فلا فرق بين تعليقها على الأولاد أو الرجال أو النساء أو الدواب أو البيوت أو البساتين، ولا فرق في الشيء المعلق بين أن يكون حلقاً أو خيوطاً أو ودعاً أو خرزاً أو غير ذلك مما اعتيد تعليقه عن العين، وكل هذا ونحوه من التمائم محرم لا يجوز؛ لأنه من الشرك الأصغر الاعتقادي، وهو أكبر من الكبائر.
(2) قوله: «لكن إذا كان المعَلَّقُ من القرآن فرخص فيه بعض السلف » وهو قول عبدالله ابن عمرو بن العاص، وظاهر ما روى عن عائشة رضي الله عنها، وبه قال أبوجعفر الباقر، وأحمد في رواية، وحملوا الحديث على التمائم الشركية وهو ظاهر اختيار ابن القيم. «وبعضهم لم يرخص فيه ويجعله من المنهي عنه منهم ابن مسعود» وابن عباس وهو ظاهر قول حذيفة وعقبة بن عامر وابن عُكيم رضي الله عنهم، وبه قال جماعة من التابعين منهم أصحاب عبدالله بن مسعود وأحمد في رواية اختارها كثير من أصحابه، وجزم به المتأخرون واحتجوا بالحديث وما في معناه، فإن ظاهره العموم لم يفرق النبي - صلى الله عليه وسلم - بين التي من القرآن وغيرها، بخلاف الرقى فقد فرق فيها. قال في «فتح المجيد»*: «هذا هو الصحيح لوجوه ثلاثة تظهر للمتأمل:
..........................................................
* (1/244).(1/76)
ويجعله من المنهي عنه، منهم ابن مسعود - رضي الله عنه -.
والرُّقى: هي التي تسمى العزائم، وخصّ منها الدليل ما خلا من الشرك، فقد رخص فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من العين والحُمَةِ.
والتِّوَلة: هي شيء يصنعونه، يزعمون أنه يحبب المرأة إلى زوجها والرجل إلى امرأته.
وروى أحمد عن رويفع(1) قال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يا رُويفع لعلّ الحياة ستطول بك فأخبر الناس(2)
__________
(1) لأول: عموم النهي، ولا مخُصِّص للعموم.
الثاني: سدُّ الذريعة، فإنه يفضي إلى تعليق ما ليس كذلك.
الثالث: أنه إذا عُلِّق فلابد أن يمتهنه المعَلِّق بحمله معه في حال قضاء الحاجة والاستنجاء ونحو ذلك ». انتهى.
وإذا كان هذا اختلاف العلماء في تعليق القرآن وأسماء الله وصفاته، فما ظنك بما حدث من تعليق أسماء الشياطين والتعلق عليهم والاستعاذة بهم والذبح لهم وسؤالهم كشف الضر وجلب النفع مما هو شرك أكبر محض. فالله المستعان.
( ) قوله: «وروى الإمام أحمد عن رويفع » بن ثابت بن السكن بن عدي بن الحارث الأنصاري نزل مصر وولي برقة، قال عبدالغني: ولي طرابلس وافتتح أفريقية سنة سبع وأربعين، وقال يونس: توفي ببرقة سنة ست وخمسين وله ثمانية أحاديث. «قال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يا رُويفع لعلّ الحياة ستطول بك» فيه علم من أعلام النبوة، فإن رويفعاً طالت حياته إلى سنة ست وخمسين فمات ببرقة من أعمال مصر أميراً عليها وهو من الأنصار. وقيل مات سنة ثلاث وخمسين.
(2) قوله: «فأخبر الناس » دليلٌ على وجوب إخبار الناس وليس هذا مختصاً برويفع بل كل من كان عنده علم ليس عند غيره مما يحتاج إلى الناس وجب إعلامهم به فإن
اشترك هو وغيره في علم ذلك فالتبليغ فرض كفاية. قاله أبوزرعة.
قوله: «أن من عقد لحيته » بكسر اللام لا غير. قال الخطابي: «وأما نهيه عن عقد اللحية فإن ذلك يفسر على وجهين:
أحدهما: ما كانوا يفعلونه في الحرب، كانوا يعقدون لحاهم، وذلك من زيِّ بعض الأعاجم يفتلونها ويعقدونها تكبراً وعجباً.
ثانيهما: أن معناه معالجة الشعر ليتعقد ويتجعد، وذلك من فعل أهل التأنيث.
وقال أبوزعة العراقي: «الأولى حمله على عقد اللحية في الصلاة كما دل عليه رواية محمد بن الربيع ».
وفيه: أن من عقد لحيته في الصلاة أو تقلد وتراً يريد تميمة فيه أنه شرك لما كانوا يقصدونه بتقليده.
قوله: «أو استنجى برجيع دابة أو عظم فإن محمداً بريءٌ منه »* أي من فعله. قاله النووي. وهذا خلاف الظاهر، والنووي كثيراً ما يتأوّل الأحاديث بصرفها عن ظاهرها فيغفر الله له. قاله في «فتح المجيد»**.
وقد ورد النهي عن الاستنجاء بالروث والعظام في أحاديث صحيحة، منها:
ما رواه مسلم عن ابن مسعود - رضي الله عنه - مرفوعاً «لا تستنجوا بالروث والعظام، فإنه زاد إخوانكم من الجن »***.
ولما روى ابن خزيمة والدارقطني عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: «نهى أن يُستنجى بعظم أو روث » وقال «إنهما لا يطهران »****.
..........................................................
* أخرجه أحمد (4/109)، وأبوداود (36)، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (1/10) رقم (27).
** (1/249-250).
*** أخرجه مسلم (450) بنحوه.
**** أخرجه ابن خزيمة (81، 82، 83)،، والدارقطني 1/56)، وفيه ابن الفرات منكر الحديث. انظر: تيسير العزيز (ص/139) تحقيق: زهير الشاويش.(1/77)
أن من عقد لحيته، أو تقلَّد وتراً، أو استنجى
برجيع دابة أو عَظم، فإن محمداً بَريءٌ منه».
وعن سعيد بن جُبير(1): قال: «من قطع تميمة من إنسان كان كعَدْل رقبة». رواه وكيع(2)
__________
(1) قوله «وعن سعيد بن جبير قال: «من قطع تميمة من إنسان كان كعدل رقبة، رواه وكيع»*. هذا عند أهل العلم له حكم الرفع ؛ لأن مثل هذا لا يُقال بالرأي. فيكون هذا مرسلاً ؛ لأن سعيداً تابعي. قاله في «فتح المجيد»**. وتعقّبه في «إبطال التنديد»*** بأن هذا الحكم عندهم لما أتى عن الصحابة على أن فيه خلافاً، أما ما جاء عن التابعين من هذا فلم يقل بذلك إلا قليل، ولا نقول على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما لم نعلم أنه قاله ؛ ولهذا لم يذكره السخاوي إلا عن ابن العربي، قال في «شرح الألفية»: «وقد ألحق ابن العربي بالصحابة في ذلك ما يجيئ عن التابعين مما لا مجال للاجتهاد فيه، فنصّ على أنه يكون في حكم المرفوع، وادّعى أنه مذهب مالك ». انتهى.
(2) وقوله: «رواه وكيع » وهو ابن الجراح الكوفي ثقة إمام صاحب تصانيف منها «الجامع» وغيره، روى عنه الإمام أحمد وطبقته، مات سنة سبع وتسعين ومائة.
قوله: «وله » أي لوكيع «عن إبراهيم » بن يزيد النخعي الكوفي، يُكنى أبا عمران، ثقة من كبار الفقهاء، قال المزي: دخل على عائشة ولم يثبت له سماع منها، مات سنة ست وتسعين وله خمسون سنة أو نحوها.
قوله: «كانوا » يعني أصحاب عبدالله بن مسعود كعلقمة والأسود وأبي وائل والحارث بن سويد وعبيدة السلماني ومسروق والربيع بن خيثم وسويد بن غفلة وغيرهم من سادات التابعين في زمانهم «يكرهون التمائم كلها من القرآن وغير القرآن» وهذه الصيغة يستعملها إبراهيم في حكاية أقوالهم.
قلت: والكراهة عند السلف كراهة التحريم كما هو المعروف في نصوص الكتاب والسنة لا كراهة التنزيه المصطلح عليها عند متأخري الفقهاء.
..........................................................
* أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (3524).
** (1/250).
*** (70-71).
وفيه: معرفة تفسير الرقى والتمائم وتفسير التولة وأن هذه الثلاث كلها من الشرك من غير استثناء، وأن الرقية بالكلام الحق من العين والحمه ليس من ذلك، وأن التميمة إذا كانت من القرآن فقد اختلف فيها العلماء هل هي من ذلك أم لا، وأن تعليق الأوتار على الدواب عن العين من ذلك والوعيد الشديد على من تعلق وتراً وفضل ثواب من قطع تميمة من إنسان، وأن كلام إبراهيم لا يخالف ما تقدم من الاختلاف؛ لأن مراده أصحاب عبدالله بن مسعود. قاله المصنف رحمه الله.(1/78)
.
وله عن إبراهيم قال: كانوا يكرهون التمائمَ كلها، من القرآن وغير القرآن.
* * *
9- باب
من تبرَّك بشجرةٍ أو حجرٍ و نحوهما(1)
وقول الله تعالى: { أَفَرَأَيْتُمُ اللاتَ وَالْعُزَّى } الآيات(2)
__________
(1) قوله: «باب من تبرك بشجرة أو حجر ونحوهما» كبقعة وقبر ومشهد ونحو ذلك و «من» اسم شرط والجواب محذوف تقديره فقد أشرك. يقال: تبرك يتبرك تبركاً إذا طلب البركة أو رجاها أو اعتقدها.
والبركة: نوعان:
أحدهما: بركة هي وصف الرب تعالى تضاف إليه إضافة الرحمة والعزة والفعل، منها تبارك قال تعالى: { تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ } [الأعراف:54]، { تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ } [الملك: 1].
والثاني: بركة هي فعل الرب تعالى وتقدّس، والفعل منها بارك ويتعدى بنفسه تارة وبأداة (على) تارة وبأداة (في) تارة، والمفعول منها مبارك وهو ما جعل منها كذلك، وكان مباركاً بجعله تعالى، يقال: بارك يبارك بركة، قال تعالى: { وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ } [فصلت:10] وقال: { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ } [الإسراء:1] وقال الشاعر:
ولست أبالي حين أُقتل مسلماً
وذلك في ذات الإله وإن يشأ
على أي شق كان في الله مصرعي
يبارك على أوصال شِلوٍ ممزّع
(2) قوله: «وقول الله تعالى: { أَفَرَأَيْتُمُ اللاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأخْرَى } [النجم:19-20] قال القرطبي: «إن فيها حذفاً تقديره: أفرأيتم هذه الآلهة هل نفعت أو ضرَّت حتى تكون شركاء لله». والشاهد من الآيات للترجمة أن أهل الجاهلية إنما عبدوا هذه الأوثان وعظّموها لما يعتقدونه ويرجونه ويؤمِّلونه من بركتها
وشفاعتها، وهذا هو الذي يقصده مشركو أزماننا ممن عبدوه سواء بسواء. فالتبرك بالمشايخ وقبور الصالحين كالتبرك باللاّت، والتبرك بالأشجار كالتبرك بالعُزَّى،
والتبرك بالأحجار كالتبرك بمناة، وهذه الأوثان الثلاثة من أعظم أوثان أهل الجاهلية من أهل الحجاز، فـ «اللاّت» كانت لأهل الطائف ومن حولهم من العرب، و«العزى» كانت لقريش وبني كنانة، و«مناة» لبني هلال. وقال ابن هشام: كانت لهذيل وخزاعة. و «اللات» بتخفيف التاء في قراءة الجمهور وقرأ ابن عباس وابن الزبير ومجاهد وغيرهم بتشديد التاء، فعلى الأول قال الأعمش: سموا اللات من الإله، والعزى من العزيز، ومناة من المنان. واللات كانت صخرة بيضاء منقوشة عليها بيت بالطائف له استار وسدنة وهم بنو مغيث. قاله ابن كثير، وحوله فناء معظم عند أهل الطائف وهم ثقيف يفتخرون بها على من عداهم من أحياء العرب بعد قريش. قال ابن هشام: وعلى قراءة التشديد كان رجلاً يلتُّ السويق للحاج، فمات، فعكفوا على قبره. ذكره البخاري.
وروى الفاكهي عن ابن عباس أن اللات لما مات قال لهم عمرو بن لحيّ: إنه لم يمت ولكنه دخل في الصخرة فعبدوها وبنو عليها بيتاً وكانت في موضع مسجد الطائف، فلما أسلمت ثقيف بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المغيرة بن شعبة فهدمها وحرقها بالنار.
وفيه: أن أهل الجاهلية كانوا يعبدون الصالحين مع عبادتهم الأصنام. قاله في «فتح المجيد»*.
وأما العزى فقال ابن جرير: كانت شجرة عليها بناء وأستار بنَخْلَةَ بين مكة والطائف كانت قرش يعظّمونها.
وعن أبي الطفيل قال: لما فتح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكة بعث خالد بن الوليد إلى نخلة وكانت بها العزى، فأتاها خالد وكانت على ثلاث سَمُرات فقطع السَمُرات وهدم البيت الذي كان عليها، ثم أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبره فقال: «ارجع فإنك لم تصنع شيئاً» فرجع خالد، فلما أبصرته السدنة وهم حجبتها أمعنوا في الجبل وهم يقولون: يا عزى! يا عزى!؛ فأتاها خالد فإذا امرأة ناشرة شعرها تحفن التراب على رأسها
..........................................................
* (1/255).(1/79)
[النجم:19].
عن أبي واقد الليثي(1) قال: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى حُنَين ونحن حُدثاء عهد بكفر(2)، وللمشركين سدرة يعكُفون عندها وينوطون بها أسلحتهم(3)
__________
(1) علاها خالد بالسيف حتى قتلها، ثم رجع إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبره فقال: «تلك العزى»*.
قال ابن هشام: وكانوا يسمعون منها الصوت. «وكل هذا وما هو أعظم منه يقع في هذه الأزمنة عند ضرائح الأموات والمشاهد». قاله في «فتح المجيد»**. وأما مناة فكانت بالمشلّل عند قديد بين مكة والمدينة وكانت خزاعة والأوس والخزرج يعظمونها ويهلون منها للحج إلى الكعبة. وأصل اشتقاقها من اسم الله المنان، وقيل سميت مناة لكثرة ما يمنى أي يراق عندها من الدماء للتبرك بها. قال البخاري في حديث عروة عن عائشة رضي الله عنها أنها صنم بين مكة والمدينة، قال ابن هشام: فبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليَّاً فهدمها عام الفتح. قال ابن إسحاق: وكانت العرب اتخذت مع الكعبة طواغيت وهي بيوت تعظمها كتعظيم الكعبة، لها سدنة وحجاب وتُهدى لها كما يُهدى للكعبة وتطوف بها وتنحر عندها.
وفيه: معرفة تفسير آية النجم. قاله المصنف.
( ) قوله: «عن أبي واقد الليثي» - وهو الحارث بن عوف - صحابي مشهور، مات سنة ثمان وستين وله خمس وثمانون سنة - رضي الله عنه - «قال: خرجنا مع رسول - صلى الله عليه وسلم - إلى حُنين» اسم واد شرقي مكة معروف قاتل فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هوازن.
(2) قوله: «ونحن حدثاء عهد بكفر» يشير إلى الذين خرجوا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ممن قرب عهدهم بالإسلام من مسلمة الفتح وكانوا ألفاً ونيفاً.
قوله: «ونحن حدثاء عهد بكفر» قيد أن غيرهم لا يجهل ذلك. قاله المصنف رحمه الله تعالى.
(3) قوله: «وللمشركين سدرة يعكفون عندها» والعكوف هو الإقامة على الشيء
..........................................................
* أخرجه النسائي في الكبرى (3944)، وأبويعلى في المسند (902).
** (1/256).(1/80)
،
... يقال لها ذات أنواط(1)
__________
(1) المكان ولزومه، ومنه { مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ } [الأنبياء:52] وعكوفهم عندها تبركاً وتعظيماً لها لما يعتقدونه فيها من البركة.
قوله: «وينوطون بها أسلحتهم» أي يعلقونها عليها للبركة، وفي هذا بيان أن عبادتهم لها بالتعظيم والعكوف والتبرك، وبهذه الأمور الثلاثة عبدت الأشجار ونحوها. قاله في «فتح المجيد»*.
( ) قوله: «يقال لها ذات أنواط» جمع نوط، وهو مصدر سمى به المنوط.
قوله: «فمررنا بسدرة فقلنا يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط» فلما رآها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عدل عنها في يوم صائف الظل هو أدنى منها، وقال: «الله أكبر»، وفي رواية الترمذي: «سبحان الله» كبَّر ربَّه وعظّمه ونزّهه عن أن يتقرب إليه بمثل هذا.
وفيه: أن المنتقل من الباطل الذي اعتاده قلبه لا يأمن أن يكون في قلبه بقيةٌ من تلك العادة لقوله: «ونحن حدثاء عهد بكفر».
وأنه متقرر عندهم: أن العبادات مبناها على الأمر فصار فيه التنبيه على مسائل القبر، أما من ربك فواضح، وأما من نبيك فمن إخباره بأنباء الغيب، وأما ما دينك فمن قولهم: «اجعل لنا.. إلى آخره».
وفيه: التكبير عند التعجب خلافاً لمن كرّهه وسد الذرائع والنهي عن التشبه بأهل الجاهلية والغضب عند التعليم. وفيه: معرفة صورة الأمر الذي طلبوا، وكونهم لم يفعلوا وكونهم قصدوا التقرب إلى الله بذلك لظنهم أنه يحبه وأنهم إذا جهلوا هذا فغيرهم أولى بالجهل، وأن لهم من الحسنات والوعد بالمغفرة ما ليس لغيرهم، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يعذرهم بل ردَّ عليها بقوله: «الله أكبر، إنها السُنن، لتتبعنَّ سنن من كان قبلكم» فغلظ الأمر بهذه الثلاث. قاله المصنف رحمه الله.
..........................................................
* (1/260).(1/81)
، فمررنا بسدرة فقلنا: يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذاتُ أنواط فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «الله أكبر، إنها السُنن(1)
__________
(1) قوله: «إنها السُنن» بضم السين أي الطرق أي ستفعل هذه الأمة ما فعلت الأمم قبلها من الشرك فما دونه كما في حديث أبي سعيد «لتتبعنّ سنن من كان قبلكم حذو القُذَّة بالقذّة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه»* قالوا: يا رسول الله، اليهود والنصارى ؟ قال: «فمن ؟» وفيه القاعدة الكلية لقوله «إنها السنن» وأن هذا علم من أعلام النبوة لكونه وقع كما أخبر، وأن ما ذمّ الله به اليهود والنصارى في القرآنه أنه لنا، يعني إذا عملنا كعملهم، وأن سنة أهل الكتاب مذمومة كسنة المشركين. قاله المصنف رحمه الله تعالى.
قال شيخ الإسلام: «هذا خرج منه مخرج الخبر عن وقوع ذلك والذم لمن يفعله كما يخبر عما يفعله الناس بين يدي الساعة من الأشراط والأمور المحرمة ولا يقال إن كان الكتاب والسنة قد دلاّ على قوع ذلك فما فائدة النهي عنه ؛ لأن الكتاب والسنة أيضاً قد دلاّ على أنه لا يزال في هذه الأمة طائفة متمسكة بالحق الذي بعث الله به محمداً - صلى الله عليه وسلم - إلى قيام الساعة، وأنها لا تجتمع على ضلالة، ففي النهي عن ذلك تكثير لهذه الطائفة المنصورة وتثبيتها، وزيادة إيمانها، فنسأل المجيب أن يجعلنا منها، وأيضاً لو فرض أن الناس لا يترك أحد منهم هذه المشابهة المنكرة لكان في العلم بها معرفة القبيح والإيمان بذلك فإن نفس العلم والإيمان بما كرهه الله خير وإن لم يعمل به، بل فائدة العلم والإيمان أعظم من فائدة مجرد العمل الذي لم يقترن به علم، ثم لو فرض أنّا علمنا أن الناس لا يتركون المنكر ولا يعترفون بأنه منكر لم يكن ذلك مانعاً من إبلاغ الرسالة وبيان العلم بل ذلك لا يسقط وجوب الإبلاغ ولا وجوب الأمر والنهي في إحدى الروايتين عن أحمد، وهو قول كثير من أهل العلم». انتهى ملخصاً.
..........................................................
* أخرجه البخاري (7320)، ومسلم (2669) عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -.(1/82)
قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى: { اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آَلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ } [الأعراف: 138] لتركبنَّ سَننَ من كان
قبلكم». رواه الترمذي وصحّحه(1)
__________
(1) قوله: «قلتم -والذي نفسي بيده- كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة، قال: إنكم قوم تجهلون، لتركبنّ سنن من كان قبلكم». رواه الترمذي وصححه»* وفيه: الأمر الكبير أنه أخبر أن طلبتهم كطلبة بني إسرائيل لما قالوا لموسى: { اجعل لنا إلها } . وأن نفي هذا من معنى لا إله إلا الله مع دقته وخفائه على أولئك، وأنه حلف على الفتيا وهو لا يحلف إلا لمصلحة، وأن الشرك فيه أكبر وأصغر لأنهم لم يرتدوا بهذا. قاله المصنف.
فإذا كان اتخاذ شجرة لتعليق الأسلحة والعكوف عندها كاتخاذ إله مع الله مع أنهم لا يدعونها ولا يسألونها ماذا يكون حكم ما حدث من عباد القبور من دعاء الأموات، والاستغاثة بهم، والذبح والنذر لهم، والطواف بقبورهم وتقبيلها، وتقبيل أعتابها وجدرانها، والتمسح بها، والعكوف عندها وجعل السدنة والحجاب لها ؟! وأي نسبة بين هذا، وبين تعليق الأسلحة على شجرة تبركاً. انتهى من «الشرح»** بتصرف.
وفيه: أن العبرة بالمعاني لا بالأسماء، ولهذا جعل طلبتهم كطلبة بني إسرائيل، ولم يلتفت إلى كونهم سموها ذات أنواط، فالمشرك مشرك وإن سمَّى شركه ما سماه. قاله في «فتح المجيد»***.
قلت: وهذا كتسمية مشركي زماننا دعاء الأموات والغائبين توسلاً. قال الحافظ أبومحمد عبدالرحمن بن إسماعيل الشافعي المعروف بأبي شامة في كتاب «البدع والحوادث» [ص23]: «ومن هذا؛ ما عمَّ الابتلاء به من تزيين الشيطان للعامة تخليق بعض الحيطان وإسراج مواضع مخصوصة في كل بلد يحكي لهم حاك أنه رأى في منامه بها أحداً ممن شهد بالصلاح والولاية فيفعلون ذلك يحافظون عليه مع تضييعهم الفرائض الله تعالى وسننه ويظنون أنهم متقربون بذلك، ثم يتجاوزون هذا
..........................................................
* أخرجه أحمد (36/225) – الرسالة – وقال المحقق: إسناده صحيح على شرط الشيخين، والترمذي (2180)، وابن أبي عاصم في السنة رقم (76).
** (ص/147).
*** (1/263).
إلى أن يعظم وقع تلك الأماكن في قلوبهم فيعظمونها ويرجون الشفاء لمرضاهم وقضاء حوائجهم بالنذر لها وهي من عيون وشجر وحائط وحجر، وفي مدينة دمشق من ذلك مواضع متعددة كعوينة الحمى خارج باب توما والعمود المخلق داخل الباب الصغير والشجرة الملعونة خارج باب النصر في نفس قارعة الطريق، سهل الله قطها واجتثاثها من أصلها، فما أشبهها بذات أنواط الواردة في الحديث». انتهى.
قلت: ومن هذا ؛ افتتان بعض العوام بعين نجم التي في الأحساء فيقصدونها للاسشفاء لمرضاهم فما أشبهها بعوينة الحمى، وكل هذا شرك وضلال فيجب النهي عنه. وفيه: الخوف من الشرك. وأن الإنسان قد يستحسن شيئاً يظن أنه يقربه إلى الله وهو مما يبعده من رحمته ويقرّبه من سخطه، ولا يعرف هذا على الحقيقة إلا من عرف ما وقع في هذه الأزمان من كثير من العلماء والعباد مع أرباب القبور من الغلو فيها وصرف حيل العبادة لها ويحسبون أنهم على شيء وهو الذنب الذي لا يغفره الله.
تنبيه: ذكر بعض المتأخرين أن التبرك بآثار الصالحين مستحب كشرب سؤرهم، والتمسّح بهم أو بثيابهم، وحمل المولود إلى أحدهم ليحنِّكه بتمرة حتى يكون أول ما يدخل جوفه ريق الصالحين، والتبرك بعرقهم، وقد أكثر من ذلك النووي في «شرح مسلم» في الكلام على الأحاديث التي فيها أن الصحابة فعلوا ذلك مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، وظن أن غير النبي - صلى الله عليه وسلم - ممن يدَّعي صلاحه مثله، وهذا خطأ صريح لوجوه:
* منها: عدم المقاربة فضلاً عن المساواة للنبي - صلى الله عليه وسلم - في الفضل.
* ومنها: عدم تحقق الصلاح، ولا يتحقق ذلك إلا بصلاح القلب، وهو أمر لا يمكن الاطلاع عليه إلا بنص.
* ومنها: أن الصحابة لم يكونوا يفعلون ذلك مع غيره - صلى الله عليه وسلم -، لا في حياته، ولا بعد موته، ولو كان خيراً لسبقونا إليه فيكون هذا من خصائص النبي - صلى الله عليه وسلم -. انتهى ملخصاً من «الشرح»*.
..........................................................
* (ص/150-151)(1/83)
.
..................................................................
10- باب
ما جاء في الذبح لغير الله(1)
وقول الله تعالى: { قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ } الآية(2) [الأنعام:162-163].
__________
(1) قوله: «باب ما جاء في الذبح لغير الله» أي من النهي الأكيد والوعيد الشديد، وأنه شرك ينافي التوحيد.
(2) قوله: «وقول الله تعالى: { قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ } أي: قل يا محمد لهؤلاء المشركين الذين يعبدون غير الله ويذبحون لغيره: إن صلاتي يشمل الفرائض والنوافل والصلوات كلها عبادة، وقد اشتملت الصلاة على نوعي الدعاء: دعاء المسألة ودعاء العبادة، فما كان فيها من السؤال والطلب فهو دعاء مسألة، وما كان فيها من الحمد والثناء والتسبيح والركوع والسجود وغير ذلك من الأركان والواجبات فهو دعاء عبادة، وهذا هو التحقيق في تسميتها صلاة ؛ لأنها اشتملت على نوعي الدعاء الذي هو صلاة لغة وشرعاً. قاله شيخ الإسلام رحمه الله تعالى.
قوله: { وَنُسُكِي } قال سعيد بن جبير: أي ذبحي. وقال مجاهد: النسك الذبح في الحج والعمرة.
قوله: { وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي } أي ما آتيه في حياتي وما أموت عليه من الإيمان والعمل الصالح { لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } خالصاً لوجهه لا شريك له في شيء من ذلك ولا في غيره من أنواع العبادة، فالصلاة أجلّ العبادات البدنية، والنسك أجلّ العبادات المالية.
قوله: { وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ } قال قتادة: من هذه الأمة؛ لأن إسلام كل نبي متقدم على إسلام أمته. ووجه مطابقة الآية للترجمة أن الله تعالى تعبّد عباده بأن يتقربوا إليه بالنسك كما تعبّدهم بالصلاة وغيرها من أنواع العبادات وأمرهم أن يخلصوا(1/84)
وقوله: { فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ } (1) [الكوثر:2].
عن عليٍّ(2) - رضي الله عنه - قال: حدَّثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأربع كلمات: «لعن اللهُ من ذبح لغير الله(2)
__________
(1) ميع ذلك له دون ما سواه، فإذا تقرّبوا إلى غير الله بالذبح أو غيره من أنواع العبادة فقد جعلوا لله شريكاً في عبادته وهو ظاهر في قوله: { لا شَرِيكَ لَهُ } ، نفى أن يكون لله شريك في هذه العبادات، وهو بحمد الله واضح. قاله في «فتح المجيد»*.
وفيه: معرفة تفسير { إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي } . قاله المصنف رحمه الله.
( ) وقوله: { فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ } قال شيخ الإسلام [الفتاوى 16/531]: «أمره الله أن يجمع بين هاتين العبادتين، وهما: الصلاة والنسك الدالتان على القرب والتواضع، والافتقار وحسن الظن، وقوة اليقين، وطمأنينة القلب إلى الله وإلى عِدته، عكس حال أهل الكبر والنفرة، وأهل الغنى عن الله الذين لا حاجة لهم في صلاتهم إلى ربهم، يسألونه إياها، والذين لا ينحرون له خوفاً من الفقر، ولهذا جمع بينهما في قوله: { فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ } فإنهما أجلّ ما يُتقرّب به إلى الله، ولهذا أتى فيهما بالفاء الدالة على السبب ؛ لأن فعل ذلك سبب للقيام بشكر ما أعطاه الله من الكوثر. وما يجتمع للعبد في الصلاة لا يجتمع له في غيرها، كما عرفه أرباب القلوب الحية، وما يجتمع له عند النحر إذا قارنه الإيمان والإخلاص من قوة اليقين وحسن الظن أمرٌ عجيب، وكان - صلى الله عليه وسلم - كثير الصلاة كثير النحر». انتهى.
وفيه: معرفة تفسير { فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ } . قاله المصنف رحمه الله تعالى.
(2) قوله: «عن علي» وهو الإمام أبوالحسن علي بن أبي طالب الهاشمي ابن عم النبي - صلى الله عليه وسلم - وزوج فاطمة الزهراء رضي الله عنهما، كان من السابقين الأولين ومن أهل بدر وبيعة الرضوان، وأحد العشرة المشهود لهم بالجنة، ورابع الخلفاء
..........................................................
* (1/266).
الراشدين، ومناقبه مشهورة، قتله ابن ملجم الخارجي في رمضان سنة أربعين. «قال حدثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأربع كلمات: لعن الله من ذبح لغير الله» أصل اللعن الطرد والإبعاد من الله، ومن الخلق السبّ والدعاء. قاله أبوالسعادات. وهذا هو الشاهد من الحديث للترجمة.
قال شيخ الإسلام على قوله تعالى: { وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ } [البقرة:173]: «ظاهره أنه ما ذبح لغير الله، مثل أن يقال: هذا ذبيحة لكذا. وإذا كان هذا هو المقصود فسواء لفظ به أو لم يلفظ. وتحريم هذا ظهر من تحريم ما ذبح النصراني للحم، وقال فيه: باسم المسيح ونحوه كما أن ما ذبحناه متقربين به إلى الله تعالى أزكى وأعظم مما ذبحناه للحم، وقلنا عليه: باسم الله، فإذا حرم ما قيل فيه باسم المسيح أو الزهرة، فلأن يحرم ما قيل فيه لأجل المسيح والزهرة أو قصد به ذلك أَوْلَى، فإن العبادة لغير الله أعظم كفراً من الاستعانة بغير الله، فعلى هذا لو ذبح لغير الله متقرباً إليه يحرم، وإن قال فيه باسم الله كما قد يفعله طائفة من منافقي هذه الأمة، الذين يتقربون إلى الكواكب بالذبح والبخور ونحو ذلك، وإن كان هؤلاء مرتدين لا تباح ذبيحتهم بحال، لكن يجتمع في الذبيحة مانعان:
الأول: أنها مما أهل به لغير الله.
والثاني: أنها ذبيحة مرتد.
ومن هذا ما يفعله الجاهلون بمكة من الذبح للجن ولهذا يروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه نهى عن ذبائح الجن».
قال الزمخشري: «كانوا إذا اشتروا داراً أو بنوها أو استخرجوا عيناً ذبحوا ذبيحة خوفاً من أن تصيبهم الجن فأضيفت إليهم الذبائح لذلك».
قال في «الشرح»*: «قال النووي: وذكر الشيخ إبراهيم المَرُّوذِي من
..........................................................
* (ص/155).(1/85)
،........................................................................
........................................................................
لعنَ اللهُ من لعن والديه(1)، لعن الله من آوى محدثاً(2)
__________
(1) صحابنا أن ما ذبح عند استقبال السلطان تقرباً إليه أفتى أهل بخارى بتحريمه ؛ لأنه مما أُهل به لغير الله».
قال الرافعي: «إنما يذبحونه استبشاراً بقدومه فهو كذبح العقيقة لولادة المولود». قال في «الشرح»*: «إن كان إنما يذبحونه استبشاراً كما ذكر الرافعي، فلا يدخل في ذلك، وإن كانوا يذبحونه تقرباً إليه فهو داخل في الحديث». انتهى.
وإني لأعجب من كلام الرافعي وقياسه الذبح للسلطان تقرباً إليه وتعظيماً له عند قدومه الذي هو شرك أكبر على العقيقة التي هي سنة نبوية، وأعجب منه موافقة الشارح له على ذلك وهذا القياس إنما يصح لو كانت العقيقة مشروعة عند وضع المولود وهي إنما تشرع في اليوم السابع من الولادة فما بعده، اللهم إنا نعوذ بك من سوء الفهم وانقلاب الحقائق.
( ) قوله: «لعن الله من لعن والديه» يعني: أباه وأمه وإن علوا، وفي الصحيح أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من الكبائر شتم الرجل والديه». قالوا: وهل يشتم الرجل والديه. قال: «نعم، يسب أبا الرجل فيسب أباه، ويسبّ أمه فيسب أمه»*.
(2) قوله: «لعن الله من آوى محدثاً» وهو بفتح الهمزة ممدودة إلى ضمة إليه، وحماه. وأما محدثاً فقال أبوالسعادات [النهاية 1/82، 351]: يُروى بكسر الدال وفتحها على الفاعل والمفعول، فمعنى الكسر: من نصر جانياً وآواه وأجاره من خصمه، وحال بينه وبين أن يُقتَصَّ منه، والفتح: هو الأمر المُبتَدَع نفسه، ويكون معنى الإيواء فيه الرضى به والنصر فإنه إذا ارتضى بالبدعة وأقر فاعلها ولم ينكر عليه فقد آواه». قال ابن القيم: «هذه الكبيرة تختلف مراتبها باختلاف مراتب الحدث في نفسه، فكلما كان الحدث في نفسه أكبر كانت الكبيرة أعظم».
..........................................................
* (ص/155).
** أخرجه البخاري (5973)، ومسلم (89).(1/86)
،
لعن الله من غيَّرَ منارَ الأرض(1)». رواه مسلم.
وعن طارق بن شهاب(2)
__________
(1) قوله: «لعن الله من غيَّر منار الأرض»* بفتح الميم، علامات حدودها، وهي التي توضع لتمييز حق الشركاء إذا اقتسموا ما بينهم في الأرض والدور. قال المصنف: وهي المراسيم التي تفرق بين حقك وحق جارك فتغيرها بتقديم أو تأخير. قال في «النهاية» [1/183]: «منار الأرض معالمها وحدودها». وفي الحديث: «من ظلم شبراً من الأرض طوقه من سبع أرضين يوم القيامة»**. ومن تغيير منار الأرض ما يفعله بعض فَسَقَة الكُتَّاب والمحامين من التلاعب في الحجج والسجلات وتغيير حدودها بزيادة أو نقص فيها، أو إخفاء الحجج وعمل استحكامات بخلافها حتى يعود الوقف ملكاً أو إخفاء شرط الواقف لإخراج مستحق وإدخال غيره، كما هو جار كثيراً، نسأل الله العافية.
وفيه: البداءة بلعنة من ذبح لغير الله ولعن من لعن والديه. ومنه: أن تلعن والدي الرجل فيلعن والديك، ولعن من آوى محدثاً وهو الرجل يحدث شيئاً يجب فيه حق لله فيلتجئ إلى من يجيره من ذلك، والفرق بين لعن المعيَّن ولعن أصحاب المعاصي على سبيل العموم. قاله المصنف رحمه الله تعالى. وأما لعن الفاسق المعيَّن ففيه قولان: أحدهما: أنه جائز، اختاره ابن الجوزي وغيره.
والثاني: لا يجوز، اختاره أبوبكر عبدالعزيز، وشيخ الإسلام.
(2) قوله: «وعن طارق بن شهاب» البجلي الأحمسي أبوعبدالله - رضي الله عنه -، قال أبوداود: رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يسمع منه شيئاً.
قال الحافظ: إذا ثبت أنه لقي النبي - صلى الله عليه وسلم - فهو صحابي، وإذا ثبت أنه لم يسمع منه
..........................................................
* أخرجه مسلم (1918).
** أخرجه أحمد (40/412) (41/51)، وأصله في الصحيحين.(1/87)
أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «دخل الجنة رجل في ذباب، ودخل النار رجل في ذباب. قالوا: وكيف ذلك يا رسول الله؟ قال: «مرَّ رجلان على قوم لهم صنمٌ لا يَجُوزُه أحدٌ حتى يقرِّب له شيئاً. فقالوا لأحدهما: قرِّب. قال: ليس عندي شيء أقرِّب. قالوا: قرِِّب ولو ذباباً، فقرب ذباباً فخلوا سبيله فدخل النار. وقالوا للآخر: قَرِّب. فقال: ما كنت لأقرِّب لأحدٍ شيئاً دون الله -عز وجل- فضربوا عنقه، فدخل الجنة»(1)
__________
(1) روايته عنه مرسل صحابي وهو مقبول على الراجح، وكانت وفاته على ما جزم به ابن حبان سنة ثلاث وثمانين «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -» قال: «دخل الجنة رجل في ذباب، ودخل النار رجل في ذباب» أي من أجله وبسببه، قالوا: وكيف ذلك يا رسول الله ؟ كأنهم تقالوا ذلك ؛ لأن الجنة لا يدخلها أحدٌ إلا بالأعمال الصالحة، والنار لا يدخلها أحدٌ إلا بالأعمال السيئة، واحتقروا الذباب، فتعجبوا من ذلك فبيَّن لهم النبي - صلى الله عليه وسلم - ما صَيَّر هذا الأمر الحقير عظيماً يستحق هذا عليه الجنة، ويستحق هذا عليه النار. «فقال: مرَّ رجلان على قوم لهم صنم» والصنم ما كان منحوتاً على صورة ويعلق عليه الوثن.
( ) قوله: «لا يجاوزه - أي لا يمر - به أحدٌ حتى يقرِّب له شيئاً. فقالوا لأحدهما: قرِّب. قال: ليس عندي شيء أقرِّب. قالوا: قرِِّب ولو ذباباً، فقرب ذباباً فخلوا سبيله فدخل النار. وقالوا للآخر: قِّرب. فقال: ما كنت لأقرِّب لأحدٍ شيئاً دون الله – عز وجل – فضربوا عنقه، فدخل الجنة»*. وفي هذه القصة العظيمة وهي قصة الذباب أنه دخل النار بسبب الذباب الذي لم يقصده بل فعله تخلّصاً من شرهم وأنه مسلم قبل تقريب الذباب ؛ لأنه لو كان كافراً لم يقل دخل النار في ذباب.
وفيه: أن عمل القلب هو المقصود الأعظم حتى عند عبدة الأوثان.
قال المصنف رحمه الله: وفيه بيان عظم الشرك ولو في شيء يسير حقير، فكيف بمن يستسمن الإبل والبقر والغنم ويقرّبها لغير الله من ميت أو غائب أو طاغوت
..........................................................
* أخرجه أحمد في الزهد (ص/25) عن طارق بن شهاب عن سلمان الفارسي موقوفاً بسند صحيح، وأبونعيم في الحلية (1/203).
أو مشهد أو غير ذلك، وقد عمَّت البلوى بهذا في الأمصار وما هو أعظم منه، فلا حول ولا قوة إلا بالله.
وفيه: معرفة قدر الشرك في قلوب المؤمنين كيف صبر على القتل ولم يوافقهم على طلبتهم مع كونهم لم يطلبوا إلا العمل الظاهر.
وفيه: شاهد للحديث الصحيح «الجنة أقرب إلى أحدكم من شِراك نعليه، والنار مثل ذلك»*. قاله المصنف رحمه الله تعالى.
..........................................................
* أخرجه البخاري (4688).(1/88)
رواه أحمد.
..............................................................................
* * *
11- باب
لا يُذبح لله بمكانٍ يُذبح فيه لغير الله(1)
وقول الله تعالى: { لا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا } (2)
__________
(1) قوله: «باب لا يُذبح لله في مكان يُذبح فيه لغير الله» لا: نافية، ويحتمل أنها للنهي وهو أظهر. قاله في «فتح المجيد»*.
ذكر المصنف رحمه الله هذه الترجمة في النهي عن الذبح لله في المكان الذي يُذبح فيه لغير الله لئلا تقع مشابهة أهل الشرك في ذبحهم لطواغيتهم.
(2) قوله: «وقول الله تعالى: { لا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا } الآية» هذا نهي من الله تعالى لنبيه أن يقوم في مسجد الضرار الذي بناه المنافقون ضراراً وكفراً وتفريقاً بين المؤمنين وإرصاد لمن حارب الله ورسوله والأمة تبعٌ له في ذلك. والشاهد من الآية للترجمة أن الله نهى رسوله أن يقوم في مسجد الضرار ؛ لأنه أُسِس على معصية الله، مع أنه لا يقوم فيه إلا لله فكذلك المواضع التي أُعدت للذبح لغير الله لا يجوز أن يذبح فيها الموحد لله ؛ لأنها قد أُسست على معصية الله والشرك به. وقد كان سبب نزول هذه الآيات الكريمة أنه كان بالمدينة قبل مقدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجل من الخزرج يقال له أبوعامر الراهب وكان قد تنصّر في الجاهلية وكان له شرف في الخزرج كبير فلما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة واجتمع المسلمون عليه وأظهرهم الله يوم بدر شَرِق اللعين بريقه وخرج إلى مكة، فألَّبهُم على حرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاجتمعوا بمن وافقهم من أحياء العرب وقدموا عام أُحد، وكان من أمر المسلمين ما كان، وامتحنهم الله عز وجل، وكانت العاقبة للمتقين، وكان هذا الفاسق قد حَفر حُفراً فيما بين الصفين فوقع في إحداهن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأُصيب ذلك اليوم
وجهه وكُسرت رباعيته اليمنى السفلى، وشُجّ رأسه صلوات الله وسلامه
عليه، وتقدّم أبو عامر في أول المبارزة إلى قوم من الأنصار فخاطبهم
..........................................................
* (1/279).
فاستمالهم إلى نصره، فقالوا: لا أنعم الله بك عيناً يا فاسق. فرجع وهو يقول: والله لقد أصاب قومي بعدي شر. وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد دعاه قبل فراره وقرأ عليه القرآن فأبى أن يسلم وتمرد، فدعا عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يموت بعيداً طريداً فنالته هذه الدعوة، وذلك أنه لما فرغ الناس من أُحُد ورأى أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ارتفاع ذهب إلى هرقل ملك الروم يستنصره على النبي - صلى الله عليه وسلم - فوعده ومنّاه وأقام عنده وكتب إلى جماعة من قومه من أهل النفاق يعدهم أنه سيقدم بجيش يقاتل به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأمرهم أن يتخذوا له معقلاً لمن يقدم عليهم من عنده، فشرعوا في بناء المسجد الضرار، وذكروا أنهم بنوه للضعفة وأهل العلّة في الليلة الشاتية وطلبوا من النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يصلي فيه، وكان قد تأهَّب للخروج إلى غزوة تبوك، فقال: «إذا رجعنا إن شاء الله تعالى» فلما قفل راجعاً إلى المدينة ولم يبقَ بينه وبينها إلا يوم أو بعض يوم، نزل عليه الوحي بخبر المسجد، فبعث إليه مالك بن الدخثم أخا بني سالم بن عوف ومعن بن عدي أو أخاه عامر بن عدي فهدماه وحرقاه، وأنزل الله فيه: { وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * لا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا } [التوبة:107-108] روى الإمام أحمد وابن خزيمة وغيرهما عن عويم بن ساعدة الأنصاري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أتاهم في مسجد قباء فقال: «إن الله أحسن عليكم الثناء بالطهور في قصة مسجدكم، فما هذا الطهور ؟»* فقالوا: والله يا رسول الله ما نعلم شيئاً إلاّ أنه كان لنا جيران من اليهود فكانوا يغسلون أدبارهم من الغائط فغسلنا كما غسلوا. وفي رواية عن جابر
..........................................................
* أخرجه أحمد (15463)، وابن خزيمة (83)، والطبراني (17/348)، والحاكم (1/155). قال الدكتور محمد مصطفى الأعظمي: إسناده ضعيف.
وأنس: «هو ذاك فعليكموه».رواه ابن ماجه وابن أبي حاتم والدارقطني والحاكم*.
قوله: { وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ } قال أبوالعالية: إن الطهور بالماء لحسن، ولكنهم المتطهرون من الذنوب. فنهى اللهُ رسولَه - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة فيه وحثََّه على الصلاة في مسجد قباء الذي أُسس من أول يوم بُني على التقوى وهي طاعة الله ورسوله وجمعاً لكلمة المسلمين، ومعقلاً للإسلام وأهله.
قال ابن كثير [التفسير 4/216]: «وفيه دليل على استحباب الصلاة مع الجماعة الصالحين المتنزهين عن ملابسة القاذورات، المحافظين على إسباغ الوضوء» وفيه: إثبات المحبة. قاله في «الشرح»**.
وقد جاء في الصحيح أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يزور قباء راكباً وماشياً، وجاء فيه أيضاً أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: صلاة في مسجد قباء كعمرة.
وقد ذهب جماعة من السلف منهم: ابن عباس، وعروة، وعطية، والشعبي، وغيرهم إلى أن المسجد المذكور في الآية هو مسجد قباء ويؤيّده قوله تعالى: { فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا } . قاله في «فتح المجيد»***. وقيل: هو مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لحديث أبي سعيد الذي رواه مسلم قال: تمارى رجلان في المسجد الذي أسس على التقوى من أول يوم، فقال أحدهما: هو مسجد قباء. وقال الآخر: هو مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «هو مسجدي هذا»***، وهو قول عمر وابنه وزيد بن ثابت وغيرهم.
قال ابن كثير [التفسير 4/214]: «وهذا صحيح ولا منافاة بين الآية والحديث ؛
.........................................................
* أخرجه ابن ماجه (355)، والدارقطني (1/62)، والحاكم (1/55) و(2/334). وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه (1/128) رقم (290).
** (ص/161).
*** (1/280).
**** أخرجه مسلم (1398) بنحوه.(1/89)
الآية [التوبة: 108].
......................................................................
عن ثابت بن الضَّحَّاك(1) - رضي الله عنه - قال: نَذَر رجلٌ أن ينحر إبلاً ببُوانَةَ، فسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: «هل كان فيها وثنٌ من أوثان الجاهلية يُعبَد؟» (1)
__________
(1) أنه إذا كان مسجد قباء قد أُُسِّسَ على التقوى من أول يوم فمسجدُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بطريق الأَوْلَى». انتهى.
وقال شيخ الإسلام على قوله: { لا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا } : «فإنه من أمكنة العذاب. قال سبحانه: { أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ } [التوبة:109]، وقد روي أنه لم هُدم خرج منه دخان، وهذا كما أنه ندب إلى الصلاة في أمكنة الرحمة كالمساجد الثلاثة ومسجد قباء، فكذلك نهى عن الصلاة في أماكن العذاب، وأما أماكن الكفر التي لم يكن فيها عذاب، إذا جعلت مكاناً للإيمان والطاعة فهذا حسن، كما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أهل الطائف أن يجعلوا المسجد مكان طاغيتهم، وأمر أهل اليمامة أن يتخذوا المسجد مكان بيعة كانت عندهم». انتهى.
وفيه: معرفة تفسير: { لا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا } ، وأن المعصية قد تؤثر في الأرض وكذلك الطاعة. قاله المصنف رحمه الله.
( ) قوله: «عن ثابت بن الضحاك» بن خليفة الأشهلي صحابي مشهور روى عنه أبوقلابة وغيره، مات سنة أربع وستين «قال نذر رجل أن ينحر إبلاً ببُوانة» بضم الموحدة وقيل بفتحها.
قال البغوي: «موضع في أسفل مكة دون يلملم».
وقال أبوالسعادات: «هضبة من وراء ينبع».
«فسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يُعبد ؟. قالوا: لا» والوثن ما ليس منحوتاً على صورة، والصنم ما كان منحوتاً على صورة، ويطلق عليه أيضاً الوثن.
«فقال: هل كان فيها عيد من أعيادهم ؟ قالوا: لا» قال شيخ الإسلام [الاقتضاء 1/441]: «العيد اسم لما يعود من الاجتماع العام على وجه معتاد عائداً إما بعود
السنة، أو بعود الأسبوع أو الشهر ونحو ذلك، والمراد هنا الاجتماع المعتاد من اجتماع أهل الجاهلية، فالعيد يجمع أموراً منها: يوم عائد كيوم الفطر، ويوم الجمعة، ومنها اجتماع فيه، ومنها أعمال تتبع ذلك من العبادات والعادات، وقد يختص العيد بمكان وقد يكون مطلقاً، وكل من هذه الأمور يُسمى عيداً، والزمان كقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في يوم الجمعة «إن هذا يوم جعله الله للمسلمين عيداً»*، والاجتماع والأعمال كقول ابن عباس رضي الله عنهما: شهدت العيد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والمكان كقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا تتخذوا قبري عيداً»** وقد يكون لفظ العيد اسماً لمجموع اليوم والعمل وهو الغالب كقول النبي - صلى الله عليه وسلم - للجاريتين اللتين تغنيان عند النبي - صلى الله عليه وسلم - بما تناشدته الأنصار يوم بُعاث «دعهما يا أبا بكر، فإن لكل قوم عيداً»***».
وفيه: رد المسألة المشكلة إلى المسألة البيّنة ليزول الإشكال، والاستفصال للمفتي إذا احتاج إلى ذلك.(1/90)
قالوا: لا. قال: «فهل كان فيها عيدٌ من أعيادهم؟». قالوا: لا. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أوفِ بنذرِكَ(1)
__________
(1) قوله: «فقال أوفِ بنذرك» حيث تحقّق عدم المانع من الوفاء به «فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله». وفيه: أنه لا وفاء لنذر في معصية الله. قاله المصنف رحمه الله ؛ وهذا يدل على تحريم الوفاء بنذر المعصية، وهل تجب فيه كفارة يمين ؟ على قولين هما روايتان عن أحمد:
إحداهما: تجب، وهي المذهب، روي عن ابن عباس وابن مسعود، وبه قال أبوحنيفة وأصحابه لحديث عائشة رضي الله عنها مرفوعاً «لا نذر في معصية،
..........................................................
* أخرجه ابن ماجه (1098)، وأحمد (2/303، 532)، وحسَّنه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه (1/326) رقم (908).
** أخرجه أحمد (2/367). قال الألباني: إسناده حسن، وهو على شرط مسلم، وهو صحيح، لما له من طرق وشواهد. انظر أحكام الجنائز (ص/280).
*** أخرجه البخاري (952)، ومسلم (892).
وكفّارته كفّارة يمين»*. رواه أحمد وأهل السنن، واحتج به أحمد وإسحاق.
والثاني: لا تجب فيه كفارة يمين، روي ذلك عن مسروق والشعبي والشافعي لحديث الباب.
قال شيخ الإسلام: «وأما نذره لغيره الله فهو بمنزلة أن يحلف بغير الله، والحالف بالمخلوقات لا وفاء عليه ولا الكفارة، وكذلك الناذر للمخلوقات، فإن كليهما شرك، والشرك ليس له حرمة بل عليه أن يستغفر الله من هذا العقد، ويقول ما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من حلف باللات والعزى فليقل: لا إله إلا الله»**.
وفيه: أن تخصيص البقعة بالنذر لا بأس به إذا خلا من الموانع، والمنع منه إذا كان فيه وثن من أوثان الجاهلية ولو بعد زواله، والمنع منه إذا كان فيه عيدٌ من أعيادهم ولو بعد زواله، وأنه لا يجوز الوفاء بما نذر في تلك البقعة لأنه نذر معصية، والحذر من مشابهة المشركين في أعيادهم ولو لم يقصده». قاله المصنف رحمه الله.
قال في «قرة العيون»***: «وفيه: المنع من اتخاذ آثار المشركين محلاً للعبادة لكونها صارت محلاً لما حرم الله من الشرك والمعاصي، والحديث وإن كان في النذر فيشمل كل ما كان عبادة، فلا تفعل في هذه الأماكن الخبيثة التي اتخذت محلاً لما يسخط الله تعالى، فبهذا صار الحديث شاهداً للترجمة، والمصنف لم يرد التخصيص بالذبح وإنما ذكر الذبح كالمثال، وقد استشكل جعل محل اللاّت بالطائف مسجداً». انتهى.
قلت: لا إشكال مع ما ذكرناه عن شيخ الإسلام فيما تقدم أول الباب.
..........................................................
* أخرجه أحمد (6/247)، وأبوداود (3290، 3291)، والترمذي (1524) وقال: هذا حديث لا يصح، وابن ماجه (2125)، والنسائي (7/26). وضعَّفه النووي في شرحه صحيح مسلم (11/101) قال: «حديث ضعيف باتفاق المحدثين».
** أخرجه البخاري (6650)، ومسلم (1647).
*** (ص/83-84).(1/91)
، فإنه لا وفاء لنذرٍ في معصية الله، ولا فيما لا يملكُ ابنُ آدم».
...................................................................................
رواه أبوداود(1)، وإسناده على شرطهما(2).
* * *
12- باب
من الشرك النَّذرُ لغير الله(3)
__________
(1) قوله: «ولا فيما لا يملك ابن آدم». رواه أبوداود». يعني: إذا أضاف النذر إلى
معين لا يملكه بأن قال: إن شفى الله مريضي فلله عليَّ أن أعتق عبد فلان، فأما إذا التزم في الذمة شيئاً لا يملكه كأن يقول: إن شفى الله مريضي فلله عليَّ أن أعتق رقبة، وهو في تلك الحال لا يملكها ولا قيمتها فيصح نذره، وإذا شُفي مريضه ثبت النذر في ذمته.
وفيه: أنه لا نذر فيما لا يملك. قاله المصنف رحمه الله.
(2) قوله: «وإسناده على شرطهما » أي البخاري ومسلم، وشرط البخاري في صحة المعنعن اللقى مع المعاصرة، وأما غير المعنعن فيكتفى فيه المعاصرة وبدونها مثل حدثنا لأنها صريحة في المشافهة، وأما مسلم فاكتفى بالمعاصرة مع إمكان اللقى.
(3) قوله: «باب من الشرك النذرُ لغير الله» تعالى أي لكونه عبادة يجب الوفاء به إذا نذره لله تعالى.
«وقول الله تعالى { يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا } قال ابن كثير [التفسير 8/287]: «أي يتعبّدون لله تعالى فيما أوجبه عليهم من فعل الطاعات الواجبة بأصل الشرع، وما أوجبوه على أنفسهم بطريق النذر ». والشاهد من الآية للترجمة أن الله مدح الموفين بالنذر، والله لا يمدح إلا على فعل واجب أو مستحب أو ترك محرم، وذلك هو العبادة، فمن فعل شيئاً من ذلك لغير الله متقرباً به إليه فقد أشرك، فالنذر لغير الله شرك أصغر كالحلف بغيره».
وقال شيخ الإسلام [الفتاوى 1/81]: «النذر أعظم من الحلف ».
وقال ابن القيم رحمه الله: «النذر عبادة يتقرب بها الناذر إلى المنذور له».(1/92)
وقول الله تعالى: { يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا } [الإنسان: 7].
وقوله: { وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ } (2) [البقرة:270] (1)
__________
(1) قوله: «وقول الله تعالى: { وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ } قال ابن كثير [التفسير 1/705]: «يخبر تعالى بأنه عالم بجميع ما يعمله العاملون من [الخيرات من]* النفقات والمنذورات وتضمن ذلك مجازاته على ذلك أوفر الجزاء للعاملين به ابتغاء وجهه ». انتهى.
وقال شيخ الإسلام: «النذر لغير الله كالنذر للأصنام والشمس والقمر والقبور ونحو ذلك، بمنزلة أن يحلف بغير الله من المخلوقات، والحالف بالمخلوقات لا وفاء عليه ولا كفارة، وكذلك الناذر للمخلوقات فإن كليهما شرك، والشرك ليس له
..........................................................
* من تفسير ابن كثير.
حرمة بل عليه أن يستغفر الله من هذا ويقول ما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - «من حلف وقال في حلفه: واللات والعزى، فليقل لا إله إلا الله »*. رواه البخاري ومسلم وأبوداود والترمذي والنسائي وابن ماجه عن أبي هريرة - رضي الله عنه - ».
وقال فيمن نذر للقبور ونحوها دهناً لتُنوَّر بها به ويقول إنها تقبل النذر كما يفعله بعض المشركين فهذا النذر معصية باتفاق المسلمين لا يجوز الوفاء به، وكذلك إذا نذر مالاً للسدنة أو المجاورين العاكفين بتلك البقعة فإن فيهم شبهاً من السدنة التي كانت عند اللات والعزى ومناة، يأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله، والمجاورون هناك فيهم شَبَهٌ من الذين قال فيهم الخليل عليه السلام: { مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ } [الأنبياء:52]، وفيهم شبه من النذر لسدنة الصلبان والمجاورين عندها، أو لسدنة الأبداد في الهند والمجاورين عندها. قال الرافعي في «شرح المنهاج »: «وأما النذر المشاهد التي على قبر ولي أو شيخ أو على اسم من حلها من الأولياء أو تردد في تلك البقعة أو المشهد أو الزاوية، أو تعظيم من دفن بها أو نسبت إليه أو بنيت على اسمه، فهذا النذر باطلٌ غير منعقد، فإن معتقدهم أن لهذه الأماكن خصوصيات، ويرون أنها مما يدفع به البلاء، أو يستجلب به النعماء، أو يُستشفى بالنذر لها من الأدواء، حتى إنهم لينذرون لبعض الأحجار لما قيل لهم إنه استند إليه عبد صالح، وينذرون لبعض القبور السرج والشمع والزيت ويقولون: القبر الفلاني يقبل النذر، ويعنون بذلك أنه يحصل به الغرض المأمول من شفاء مريض، وقدوم غائب، وسلامة مال، وغير ذلك من أنواع نذر المجازات، فهذا النذر على هذا الوجه باطلٌ لا شك فيه، بل نذر الزيت و الشمع ونحوهما للقبور باطل، ومن ذلك نذر الشموع الكثيرة العظيمة وغيرها لقبر إبراهيم الخليل عليه السلام، ولقبر غيره تبركاً وتعظيماً ظاناً أن ذلك قربة، فهذا مما لا ريب في بطلانه، والإيقاد المذكور محرم سواء انتفع به منتفعٌ أم لا».
..........................................................
* سبق تخريجه قريباً.(1/93)
.
.....................................................................
وفي الصحيح(1)
__________
(1) قال الشيخ قاسم الحنفي في شرح «درر البحار»: «النذر الذي ينذره أكثر العوام على ما هو مشاهد كأن يكون للإنسان غائب أو مريض أو له حاجة فيأتي إلى بعض الصلحاء ويجعل على رأسه سترة، ويقول: يا سيدي فلان، إن ردَّ الله غائبي أو قضيت حاجيتي فلَكَ من الذهب كذا، أو من الفضة كذا، أو من الطعام كذا، أو من الماء كذا، أو من الشمع والزيت كذا، فهذا النذر باطل بالإجماع، لوجوه:
منها: أنه نذر لمخلوق، والنذر لمخلوق لا يجوز ؛ لأنه عبادة، والعبادة لا تكون لمخلوق.
ومنها: أن المنذور له ميّتُ، والميّتُ لا يملك شيئاً.
ومنها: أنه ظن أن الميت يتصرف في الأمور دون الله - عز وجل -، واعتقاد ذلك كفر... إلى أن قال: إذا علمتَ هذا ؛ فما يُؤخذ من الدراهم والشمع والزيت وينقل إلى ضرايح الأولياء تقرباً إليهم فحرام بإجماع المسلمين. نقله عنه ابن نجيم في «البحر الرائق»، ونقله المرشدي في «تذكرته» وغيرهما عنه، وزاد: وقد ابتلي الناس بهذا، لا سيما في مولد البدوي». انتهى.
( ) قوله: «وفي الصحيح » أي صحيح البخاري* «عن عائشة » زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - وابنة الصديق رضي الله عنهما، تزوجها النبي - صلى الله عليه وسلم - وهي ابنة سبع ودخل بها وهي ابنة تسع، وكان الصحابة رضي الله عنهم بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - يرجعون إليها فيما أشكل عليهم من أحوال النبي - صلى الله عليه وسلم - وحديثه صلوات الله وسلامه عليه، توفيت عائشة رضي الله عنها سنة سبع وخمسين. «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من نذر أن يطيع الله فليطعه » أي: يجب عليه الوفاء بنذر الطاعة ؛ لأنه نذره لله خالصاً فوجب عليه الوفاء به. وقد أجمع العلماء على أن من نذر طاعة لشرط يرجوه كإن شفى
..........................................................
* أخرجه البخاري (6696) و(6700).(1/94)
عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:
«من نذر أنْ يُطيعَ اللهَ فليُطِعْهُ، ومَنْ نذَر أن يَعصي اللهَ، فلا يعصه»(1).
* * *
13- باب
من الشرك الاستعاذة بغير الله (2)
__________
(1) لله مريضي فعَلَيَّ أن أتصدق بكذا ونحوه ؛ وجب عليه إن حصل ما علق نذره على حصوله، إلا أن أبا حنيفة قال: لا يلزمه الوفاء إلا بما جنسه واجب بأصل الشرع كالصوم، وأما ما ليس كذلك فلا يوجب الوفاء به كالاعتكاف.
( ) قوله: «ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه »: زاد الطحاوي: وليكفِّر عن يمينه. وقد أجمع العلماء على أنه لا يجوز الوفاء بنذر المعصية.
وفيه: وجوب الوفاء بالنذر، وإذا ثبت كونه عبادة فصَرْفُه لغير الله شرك، وإن نذر المعصية لا يجوز الوفاء به. قاله المصنف رحمه الله تعالى.
(2) قوله: «باب من الشرك الاستعاذة بغير الله» الاستعاذة: الالتجاء والاعتصام، ولهذا يُسمى المستعاذ به معاذاً وملجأً ووزراً، وقد أمر الله عباده في كتابه بالاستعاذة به في عدة آيات فقال: { وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ } [الأعراف:200]، وقال: { فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآَنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ } [النحل: 98]، وفي المعوذتين وغيرهما. فالاستعاذة عبادة يجب إخلاصها لله، وأن لا يُستعاذ بغيره، والعياذ يكون لدفع الشر، واللياذ لطلب الخير، قال بعض الشعراء في بعض الملوك:
يا مَنْ ألوذُ به فيما أومِّلُه
لا يجبر الناسُ عظماً أنت كاسره
ومَنْ أعوذ به مما أحاذره
ولا يهيضون عظماً أنت جابره
وهذا لا ينبغي أن يُقال إلا لله – عز وجل – ؛ ولهذا ذُكر عن شيخ الإسلام رحمه الله تعالى أنه كان يجعل هذين البيتين في دعائه لربه.(1/95)
وقول الله تعالى: { وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا } (1) [الجن: 6].
عن خَولةَ بنت حكيم (2)
__________
(1) قوله: «وقول الله تعالى: { وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا } ذكر ابن جرير في تفسير هذه الآية عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «كان رجال من الإنس يبيت أحدُهم بالوادي في الجاهلية فيقول أعوذُ بعزيز هذا الوادي من سفهاء قومه، فزادهم ذلك إثماً، وقال بعضهم: فزاد الإنس الجن باستعاذتهم بعزيزهم جراءة عليهم، وزادوهم بذلك إثماً. وقال مجاهد: فازداد الكفار طغياناً. وقال ابن زيد: وزادهم الجن خوفاً». انتهى.
وفيه: معرفة تفسير سورة الجن وكون الاستعاذة بالجن من الشرك. قاله المصنف رحمه الله تعالى. وقد قال تعالى: { يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الإنْسِ }
(2) الأنعام: 128] أي من إغوائهم { وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الإنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ } فاستمتاع الإنسي بالجني في قضاء حوائجه وامتثال أوامره وإخباره بشيء من المغيبات، واستمتاع الجني بالإنسي تعظيمه إياه واستعاذته به وخضوعه له. وفيه: كون الشيء يحصل به منفعة دنيوية من كف شر، أو جلب نفع ؛ لا يدل على أنه ليس من الشرك. قاله المصنف رحمه الله تعالى.
وقال ابن القيم رحمه الله تعالى [بدائع الفوائد 2/235]: «ومن ذبح للشيطان ودعاه، واستعاذ به وتقرَّب إليه بما يحب فقد عبده، وإن لم يسمِّ ذلك عبادة ويسميه استخداماً، وصدق هو استخدام من الشيطان له، فيصير من خدم الشيطان وعابديه، وبذلك يخدمه الشيطان، لكن خدمة الشيطان له ليست خدمة عبادة ؛ فإن الشيطان لا يخضع له ولا يعبده كما يفعل هو». انتهى.
( ) قوله: «عن خولة بنت حكيم» بن أمية السلمية، يقال لها أم شريك ويقال إنها الواهبة، وكانت قبل تحت عثمان بن مظعون. قال ابن عبدالبر: كانت صالحة فاضلة. «قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «من نزل منزلاً - أي حضراً أو سفراً، براً أو بحراً - فقال: أعوذ بكلمات الله التامات » قال القرطبي: قيل معناها: الكاملات التي لا يلحقها نقص ولا عيب كما يلحق كلام البشر. وقيل: الشافية الكافية، والكلمات هنا هي القرآن، فإن الله أخبر عنه أنه هدى وشفاء، وهذا الأمر على جهة الإرشاد إلى ما يدفع به الأذى، فهذا الذي شرعه الله لأهل الإسلام أن يستعيذوا به لا كما يفعله أهل الجاهلية من الاستعاذة بالجن.
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: «كلمات الله نوعان: كلمات كونية، وكلمات دينية، فكلماته الكونية هي التي استعاذ بها النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله: «أعوذ(1/96)
رضي الله عنها قالت: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «مَنْ نَزَلَ منزلاً فقال: أعوذُ بكَلِمَاتِ اللهِ التَّامَّاتِ
مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ(1)
__________
(1) كلمات الله التامات التي لا يجاوزهنّ بَرٌّ ولا فاجر ». وقال سبحانه: { إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } [يس: 82]، وقال تعالى: { وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلا لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ } [الأنعام:115] والكون كله داخل تحت هذه الكلمات.
والنوع الثاني: الكلمات الدينية: وهي القرآن وشرع الله الذي بعث به رسوله، وهي أمره ونهيه، وخبره وحظ العبد منها العلم بها والعمل، والأمر بما أمر الله به كما أن حظ العبد عموماً وخصوصاً من الأولى العلم بالكونيات والتأثير فيها أي بموجبها، فالأولى قدرية كونية، والثانية شرعية دينية، وكشف الأولى العلم بالحوادث الكونية، وكشف الثانية العلم بالمأمورات الشرعية، وقدرة الأولى التأثير في الكونيات، وقدرة الثانية التأثير في الشرعيات ». انتهى ملخصاً.
وقد نصَّ الأئمة كأحمد وغيره على أنه لا تجوز الاستعاذة بمخلوق، وردوا على الجهمية والمعتزلة في قولهم بخلق القرآن، فلو كانت كلمات الله مخلوقة لم يأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالاستعاذة بها ؛ لأن الاستعاذة بالمخلوق شرك.
( ) قوله: { مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ } أي من شر كل ذي شر في أي مخلوق قام به الشر من حيوان أو غيره إنسياً أو جنياً أو هامة أو دابة أو ريحاً أو صاعقة، أي نوع كان من أنواع البلاء في الدنيا والآخرة. قاله ابن القيم.
قال: «و { مَا } هاهنا موصولة وليس المراد بها العموم الإطلاقي، بل المراد التقييد الوصفي والمعنى: من شر كل مخلوق فيه شر، لا من شر ما خلقه الله ؛ فإن الجنة والملائكة والأنبياء ليس فيهم شر، والشر يقال على شيئين: على الألم، وعلى ما يفضي إليه.
..........................................................
* برقم (2708).
وقوله: «لم يضره شيء حتى يرتحل من منزله ذلك ». رواه مسلم*». وفيه جواز الاستعاذة بكلمات الله والاستدلال على ذلك بالحديث ؛ لأن العلماء استدلوا به على أن كلمات الله غير مخلوقة، قالوا: لأن الاستعاذة بالمخلوق شرك. وفيه: فضيلة هذا الدعاء مع اختصاره. قاله المصنف رحمه الله تعالى.(1/97)
، لَمْ يَضُرّهُ شَيءٌ حَتَّى يَرْحَل من منزِلِهِ ذلك». رواه مسلم.
.......................................................................................
* * *
14- بابٌ
من الشرك أن يستغيث بغير الله أو يدعُوَ غيره (1)
__________
(1) قوله: «باب من الشرك أن يستغيث بغير الله أو يدعو غيره» عطف الدعاء على الاستغاثة من عطف العام على الخاص. قاله المصنف رحمه الله تعالى، والمراد بالدعاء هنا دعاء المسألة. قاله في «الشرح»*.
والاستغاثة: طلب الغوث وهو إزالة الشدة كالاستنصار طلب النصر، والاستعانة طلب العون، ومن أسمائه سبحانه: المغيث بمعنى المجيب، ومعناه المدرك عباده في الشدائد إذا دعوه ومجيبهم ومخلصهم، لكن الإغاثة أخص بالأفعال، والإجابة أخص بالأقوال، والاستغاثة دعاء المكروب، والدعاء أعم منها ؛ لأنه يكون من المكروب وغيره.
قال شيخ الإسلام: «والدعاء نوعان: دعاء مسألة، ودعاء عبادة، فدعاء المسألة: هو طلب ما ينفع الداعي من جلب نفع أو دفع ضر، فالمعبود لابد أن يكون مالكاً للنفع والضر ولهذا أنكر الله على من عبد من دونه ما لا يملك نفعاً ولا ضراً، وأما دعاء العبادة فهو عبادة الله بأنواع العبادات من الصلاة والزكاة والذبح وغيرها خوفاً وطمعاً يرجو رحمته ويخاف عذابه وإن لم يكن في ذلك صيغة سؤال وطلب، وهما متلازمان، فكل دعاء عبادة فهو مستلزم لدعاء المسألة، وكل دعاء مسألة فهو متضمن لدعاء العبادة، ويُراد به في القرآن هذا تارة وهذا تارة، ويراد به مجموعهما، وقد فُسِّر قوله تعالى: { ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ } [غافر: 60] بالنوعين، قيل: اعبدوني وامتثلوا أمري أستجب لكم، وقيل: سلوني أعطكم.
وقد أجمع العلماء على أن من صرف شيئاً من نوعي الدعاء لغير الله فقد أشرك ولو قال لا إله إلا الله محمد رسول الله وصلى وصام وزعم أنه مسلم ». انتهى ملخصاً.
وقال الشيخ صنع الله الحنفي في كتابه في الرد على من ادَّعى أن للأولياء تصرفات:
..........................................................
* (ص/176).
«قد ظهر الآن فيما بين المسلمين جماعاتٌ يدَّعون أن للأولياء تصرفات في حياتهم وبعد مماتهم ويستغاث بهم في الشدائد والبليات، وبهِمَمِهم تُكشف الملمات، فيأتون قبورهم وينادونهم في قضاء الحاجات مستدلين أن ذلك منهم كرامات، وجوّزوا لهم الذبائح والنذور وأثبتوا فيهما الأجور، وهذا كلام فيه تفريط وإفراط، بل فيه الهلاك الأبدي والعذاب السرمدي لما فيه من روائح الشرك المحقق ومصادمة الكتاب العزيز المصدَّق ومخالفته لعقائد الأئمة وما أجمعت عليه الأمة.
فأما قولهم إن للأولياء تصرفات في حياتهم وبعد الممات فيرده قوله تعالى: { أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ } [النمل: 62]، { أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأمْرُ } [الأعراف:54] ونحوها من الآيات الدالة على أنه المنفرد بالخلق والتدبير والتصرف والتقدير ؛ لا شيء لغيره في شيء ما بوجه من الوجوه.
وأما القول بالتصرف بعد الممات فهو أشنع من القول بالتصرف في الحياة، قال جل ذكره: { إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ } [الزمر: 30]، { اللَّهُ يَتَوَفَّى الأنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ } [الزمر: 42]، { كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ } [المدثر: 38].
وفي الحديث: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث.. »* الحديث، فجميع ذلك وما هو نحوه دالٌّ على انقطاع الحس والحركة من الميت، وأن أرواحهم ممسكة وأن أعمالهم منقطعة عن زيادة ونقصان، فدلَّ على أنه ليس للميت تصرفٌ في ذاته فضلاً عن غيره.
وأما اعتقادهم أن هذه التصرفات من الكرامة فهو من المغالطات ؛ لأن الكرامة شيء من عند الله يكرم به أولياءه لا قصد لهم فيه ولا تحدي ولا قدرة ولا علم، كما في قصة مريم بنت عمران، وأسيد بن حضير، وأبي مسلم الخولاني، يعني قوله
..........................................................
* أخرجه مسلم (1631)، وأبوداود (2880)، والترمذي (1376).
تعالى: { كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ } [آل عمران: 37]، وروى البخاري تعليقاً عن أنس بن مالك أن عباد بن بشر وأسيد بن حضير خرجا من عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فأضاءت عصا أحدهما لهما حتى مشيا في ضوئها، فلما افترقت بهما الطريق أضاءت للآخر عصاه حتى بلغ أهله.
وأما أبومسلم الخولاني واسمه عبدالله بن ثوب فروى البيهقي عن سليمان بن المغيرة أن أبا مسلم الخولاني جاء إلى دجلة وهي ترمى بالخشب من مدها، فمشى على الماء، والتفت إلى أصحابه وقال: هل تفقدون من متاعكم شيئاً فندعو الله – عز وجل – ؟. قال البيهقي: هذا إسناد صحيح، ذكر ذلك ابن كثير في «البداية والنهاية».
وأما قولهم فيستغاث بهم في الشدائد فهذا أقبح مما قبله لمصادمته قوله جل ذكره: { أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ } [النمل: 62]، وقوله: { قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً } إلى قوله: { ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ } [الأنعام: 63-64]، فإنه جل ذكره الكاشف للضر والمنفرد بإجابة المضطر والمستغاث لذلك كله، فإذا تعيَّن هو جل ذكره خرج غيره من مَلَكٍ ونبيٍّ ووليٍّ.
والاستغاثة تجوز في الأسباب الظاهرة والعادية من الأمور الحسية في قتال عدو، أو إدراك عدو، أو سبع، أو نحوه، وأما الاستغاثة بالقوة والتأثير أو في الأمور المعنوية كالمرض وخوف الغرق والضيق والفقر وطلب الرزق ونحو ذلك فمن خصائص الله لا يطلب فيها غيره، فمن اعتقد أن لغير الله من نبيٍّ أو وليٍّ أو روح أو غير ذلك في كشف كربة أو قضاء حاجة تأثيراً فقد وقع في وادي جهل خطير فهو على شفا حفرة من السعير ». انتهى ملخصاً.(1/98)
.......................................................................
وقول الله تعالى: { وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ(1) فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ(2) * وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلا هُوَ } الآية(3) [يونس: 106-107].
__________
(1) وقوله { ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك } وهذا أمر مشترك بين جميع المخلوقين سواء كانوا ملائكة أو أنبياء أو أولياء أو إيرهم مما يُدعى من دون الله لا يقدر أحد منهم على نفع ولا ضر.
(2) وقوله { فإن فعلت } أي دعوتَ غير ربك { فإنك إذا من الظالمين } أي المشركين، فالظلم هنا الشرك كما قال لقمان: { يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم } [لقمان: 13] .
(3) وقوله: { وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلا هُوَ } أي هو القادر على ذلك دون ما سواه وإن يردك بخير فلا راد لفضله فإنه المنفرد بالملك والعطاء والمنع والضر والنفع فيجب أن يكون هو المدعو المعبود وحده دون من لا يملك ضراً ولا نفعاً. وفيه: معرفة تفسير { وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ } وأن هذا هو الشرك الأكبر، وإن أصلح الناس لو يفعله إرضاء لغيره صار من الظالمين، وتفسير الآية التي بعدها وكون ذلك لا ينفع في الدنيا مع كونه كفر. قاله المصنف رحمه الله.(1/99)
وقوله: { فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ(1)وَاعْبُدُوهُ } الآية(2) [العنكبوت:17].
وقوله: { إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ } الآيتين(3)
__________
(1) وقوله تعالى عن خليله إبراهيم مخاطباً قومه: { إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ } أي اطلبوا الرزق عنده لا عند غيره ولم يقل فابتغوا الرزق عند الله ؛ لأن تقديم الظرف يشعر بالاختصاص والحصر، كأنه قال: لا تبتغوا الرزق إلا عند الله. قاله شيخ الإسلام [الفتاوى 10/183].
(2) وقوله: { وَاعْبُدُوهُ } أي أخلصوا له العبادة من عطف العام على الخاص فإن ابتغاء الرزق عنده من العبادة التي أمر بها، واشكروا له على ما أنعم
(3) ليكم، إليه ترجعون فيجازى كل عامل بعمله.
وفيه: معرفة تفسير { فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ } وأن الرزق لا يُبتغى إلا من الله، كما أن الجنة لا تُطلب إلا منه. قاله المصنف رحمه الله.
( )وقوله تعالى: { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ } [الأحقاف: 5-6] أخبر تعالى أن المدعو لا يستجيب لداعية في الدنيا كما قال تعالى: { وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ } [الرعد: 14] الآية، ولا يستجيب له أيضاً في الآخرة كما قال تعالى: { وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ } [القصص: 64]، وقال: { وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ } [الكهف:52] فتناولت الآية كل داع وكل مدعو من دون الله. قاله في «فتح المجيد»*.
ففي الآية أنه لا أضل ممن دعا غير الله، وأنه غافل عن دعاء الداعي لا يدري عنه، وأن تلك الدعوة سبب لبغض المدعو الداعي وعداوته له وتسمية تلك الدعوة عبادة للمدعو وكفر المدعو بتلك العبادة، وأن هذه الأمور هي سبب كونه أضل الناس. قال المصنف رحمه الله تعالى.(1/100)
[الأحقاف:5].
وقوله: { أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ } (1) الآية [النمل:62].
وروى الطبراني بإسناده(2)
__________
(1) وقوله تعالى: { أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلا مَا تَذَكَّرُون } يحتج تعالى على المشركين بما أقروا به من توحيد الربوبية على ما أشركوا فيه من توحيد الألهية، يقول إذا كنتم
..........................................................
* (1/315).
(2) تقرون أنه لا إله مع الله يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء النازل بكم ويجعلكم خلفاء الأرض أي يستخلف في الأرض منكم بعد أمواتكم خلفاء أحياء يخلفونهم. فلماذا عبدتم غيره ممن لا يستطيع شيئاً من ذلك { قَلِيلا مَا تَذَكَّرُون } أي قليلاً اتعاظكم، فلذلك أشركتم بالله غيره في عبادته.
وفيه معرفة تفسير { أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ } ، والأمر العجيب وهو إقرار عبدة الأوثان أنه لا يجيب المضطر إلا الله ؛ ولأجل هذا يدعونه في الشدائد مخلصين له الدين. قاله المصنف رحمه الله.
( ) قوله: «وروى الطبراني بإسناده »* وهو الإمام الحافظ سليمان بن أحمد بن أيوب اللخمي الطبراني صاحب المعاجم الثلاثة وغيرها، روى عن النسائي وإسحاق بن إبراهيم الديري وخلق، مات سنة ستٍ وثلاثمائة، عن عُبادة، هو ابن الصامت - رضي الله عنه - «أنه كان في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - منافق يؤذي المؤمنين » وهذا المنافق هو عبدالله بن أبيّ كما جاء مصرّحاً به في رواية ابن أبي حاتم، وهذا شأن المنافقين في كل زمان ومكان طبعهم السعي في أذية المؤمنين بالقول والفعل ورميهم بالعظائم لا سيما في هذا الزمن الذي ضعف فيه أمر الدين في قلوب الذين يُرجى منهم نصرته وتأييده فلذا رفع المنافقون رؤوسهم وأظهروا نفاقهم، قال حذيفة - رضي الله عنه -: المنافقون الذين فيكم اليوم شرٌّ من المنافقين الذين كانوا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قالوا: وكيف ذلك ؟ قال: أولئك يُخفون نفاقهم وهؤلاء أعلنوه. وإذا كان هذا قول حذيفة عن المنافقين الذين كانوا في آخر عصر الصحابة فكيف بمنافقي الرابع عشر قرناً ؟! فالله المستعان.(1/101)
أنه كان في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - منافقٌ يؤذي المؤمنين فقال بعضهم(1): قوموا بنا نستغيثُ برسول الله - صلى الله عليه وسلم - من هذا المنافق. فقال
النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إنه لا يُستغاث بي، وإنما يُستغاثُ بالله»(2)
__________
(1) قوله: «فقال بعضهم »: أي الصحابة، وهو أبوبكر الصديق - رضي الله عنه - «قوموا بنا
..........................................................
* أخرجه الطبراني في المعجم الكبير كما في مجمع الزوائد (10/159) وقال: رجاله رجال الصحيح غير ابن لهيعة وهو حسن الحديث، وأحمد في المسند (5/317) قال ابن كثير في تفسيره (5/333) وهذا الحديث غريب جداً.
(2) نستغيث برسول الله - صلى الله عليه وسلم - من هذا المنافق » في كف أذاه.
( ) قوله: «فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - إنه لا يُستغاث بي وإنما يُستغاث بالله عز وجل » أخبرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه لا يُستغاث به، ومن دونه من باب أولى أن لا يُستغاث به، كره - صلى الله عليه وسلم - أن يستعملوا هذا اللفظ في حقه، وإن كان مما يقدر عليه في حياته: حمايةً لجناب التوحيد وسداً، لذرائع الشرك، وأدباً وتواضعاً لربه، وتحذيراً للأمة من وسائل الشرك في الأقوال والأفعال. فإذا كان هذا قوله فيما يقدر عليه في حياته، فكيف تجوز الاستغاثة به بعد وفاته، ويطلب منه أمور لا يقدر عليها إلا الله - عز وجل - ؟!، كما جرى على ألسنة كثيرٍ من الشعراء كالبوصيري والبُرَعي وغيرهما من الاستغاثة بمن لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً، والإعراض عن الاستغاثة بالرب العظيم القادر على كل شيء، لا إله غيره ولا رب سواه. قاله في «فتح المجيد»*.
وفيه: حماية المصطفى - صلى الله عليه وسلم - حمى التوحيد، والتأدب مع الله - عز وجل -. قاله المصنف رحمه الله تعالى.
وذكر شيخ الإسلام في كتاب «الاستغاثة» عن بعض أهل زمانه أنه جوَّز الاستغاثة بالرسول - صلى الله عليه وسلم - في كل ما يُستغاث فيه بالله، وصنف في ذلك مصنفاً وكان يقول إن النبي - صلى الله عليه وسلم - يعلم ما يعلمه الله ويقدر علىما يقدر عليه الله، وأن بعضهم قال في قوله { وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلا } [الفتح: 9] أن الرسول هو الذي يُسبح، ومنهم من قال: نحن نعبد الله ورسوله إلى غير ذلك من الكفر الصريح، والله يقول: { قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ الْغَيْبَ إِلا اللَّهُ } [النمل:65]، ويقول: { قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ } [الأنعام:50]. انتهى.
..........................................................
* (1/323-324).(1/102)
.
* * *
15- باب
قول الله تعالى: { أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ * وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا } (1) الآية [الأعراف: 191-192].
وقوله: { وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ } (2)
__________
(1) قوله: «باب قول الله تعالى: { أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ * وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ } وهذا توبيخٌ وتعنيفٌ للمشركين في عبادتهم مع الله تعالى ما لا يخلق شيئاً وهو مخلوق والمخلوق لا يكون شريكاً للخالق في العبادة التي خلقهم لها، و «شيئاً» نكرة في سياق النفي تعم كل شيء وإن قل، كما قال تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ * مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ } [الحج: 73-74] الآية. فذكر أنهم لا يستطيعون لمن عبدهم نصراً ولا أنفسهم ينصرون، فنفى عنهم النصر القاصر وهو نصرهم لأنفسهم والمتعدي وهو نصرهم لغيرهم، فكيف يشركون مع الله في عبادته من لا يستطيع نصر عابديه ولا نصر نفسه ؟. وهذا وصف كل مخلوقٍ حتى الملائكة والأنبياء والأولياء والصالحين.
(2) وقوله تعالى: { وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ } بعد قوله: { ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ } يخبر تعالى أن الملك له وحده لا شريك له، وأن الذين يدعون من دونه من الملائكة والأنبياء والأولياء والأصنام وغيرها ما يملكون لمن دعاهم من قطمير، وهو اللفافة التي على ظهر نواة التمر. قاله ابن عباس وغيره، أي: لا يملكون قليلاً ولا كثيراً.
ثم قال تعالى: { إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ } ولو فرض أنهم سمعوا ما استجابوا لكم بل قد انتفت عنهم الأسباب التي تكون في المدعو المعبود وهي الملك(1/103)
الآية [فاطر: 13].
وفي الصحيح(1)
__________
(1) سماع الدعاء وإجابة الداعي، فمن لم تُوجد فيه هذه الشروط بطلت دعوته وعبادته.
ثم قال: { وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ } أي: يجحدون عبادتكم إياهم وينكرونها، كما قال تعالى: { وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ * فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ } [يونس: 28-29]. وهذه الآية نصٌّ في أنَّ دعاء غير الله شرك، { ولا ينبئك مثل خبير } أي: لا يخبرك بعواقب الأمور ومآلها وما تصير إليه مثل خبير. قال قتادة: يعني نفسه تبارك وتعالى.
وفيه: معرفة تفسير الآيتين. قاله المصنف رحمه الله تعالى.
( ) قوله: «وفي الصحيح» أي: الصحيحين علَّقه البخاري عن حميد عن أنس، ووصله أحمد والترمذي والشافعي عن حميد «عن أنس بن مالك» خادم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - - رضي الله عنه -. «قال: شُجَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم أُحُد وكُسِرت رُباعيّته »* قال أبوالسعادات [النهاية 2/399]: «الشَّج في الرأس خاصة في الأصل، وهو أن يضربه بشيء فيجرحه فيه ويشقه، ثم استُعمل في غيره من الأعضاء»، وذكر ابن هشام من حديث أبي سعيد الخدري أن عتبة بن أبي وقاص هو الذي كسر رباعية النبي - صلى الله عليه وسلم - السفلى، وأن عبدالله بن شهاب الزهري هو الذي شجَّه في جبهته، وأن عبدالله بن قمئة جرحه في وجنته فدخلت حلقتان من حلق المغفر في وجنته، وأن مالك بن سِنان مصَّ الدم من وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم ازدرده فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - له: «لن َتمسَّكَ النارُ »**.
وروى الطبراني من حديث أبي أمامة قال: رمى عبدالله بن قمئة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم أُحُد فشجَّ وجهه وكسر رباعيته فقال: خذها وأنا ابن قمئة.
فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما لك أقمأك الله »***. فسلَّط الله عليه تيس الجبل فلم يزلْ
..........................................................
* علَّقه البخاري في صحيحه (7/365)، ووصله مسلم (1791) عن أنس - رضي الله عنه -.
** أخرجه البيهقي في «الدلائل» (3/266). وانظر: سيرة ابن هشام (3/28)، ومغازي الواقدي (1/244).
*** أخرجه الطبراني في الكبير (8/154) رقم (7596) وهو ضعيف.(1/104)
عن أنس قال: شُجَّ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يومَ أُحُدٍ وكُسِرتْ
رُباعيتُه فقال: «كيف يفلح قومٌ شَجُّوا نبيَّهم(1) ؟» فنزلت: { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ } (2) [آل عمران: 128].
__________
(1) نطحه حتى قطَّعه قطعةً قطعة.
قال القرطبي: «الرَّباعيَة - بفتح الراء وتخفيف الياء -: كل سِن بعد ثنية». قال النووي: «وللإنسان أربع رباعيات ». قال الحافظ ابن حجر: «والمراد أنها كسرت فذهب منها فلقة ولم تقلع من أصلها ». قال النووي: «وفي هذا وقوع الأسقام والابتلاء بالأنبياء - صلوات الله وسلامه عليهم - لينالوا بذلك جزيل الأجر والثواب، ولتعرف الأمم ما أصابهم ويأتسوا بهم. قال القرطبي «وليعلم أنهم من البشر تصيبهم محن الدنيا ويطرأ على أجسامهم ما يطرأ على أجسام البشر ليتيقن أنهم مخلوقون مربوبون ولا يفتتن بما ظهر على أيديهم من المعجزات ويلَبِّس الشيطان من أمرهم ما لبَّسه على النصارى وغيرهم”. انتهى. يعني: من الغلو، والعبادة. قاله في «فتح المجيد»*.
قوله «يوم أُحُد »: هو جبل شرقي المدينة، قال - صلى الله عليه وسلم -: «أُحُد جبلٌ يحبنا ونحبه »**. وكانت عنده الوقعة المشهورة فأُضيفت إليه.
( ) قوله: «فقال: كيف يُفلح قومٌ شجُّوا نبيَّهم » زاد مسلم: «وكسروا رباعيته، وأدموا وجهه ».
(2) قوله: «فأنزل الله { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ } . قال ابن عطية: «كان النبي - صلى الله عليه وسلم - لحقه في تلك الحال يأسٌ من فلاح كفار قريش، فقيل له بسبب ذلك { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ } أي عواقب الأمور بيد الله، فامضِ أنت لشأنك ودُمْ على طاعة ربك ». قال ابن إسحاق: «أي ليس لك من الحكم شيء في عبادي إلا ما أمرتك به فيهم ».
..........................................................
* (1/331).
** أخرجه البخاري (1482)، ومسلم (1392).(1/105)
وفيه عن ابن عمر رضي الله عنهما(1) أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول
إذا رفع رأسه من الركوع(2)
__________
(1) قوله: «وفيه أيضاً » أي الصحيح «عن ابن عمر » بن الخطاب رضي الله عنهما، صحابي جليل شهد له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالصلاح، مات سنة ثلاث وسبعين في آخرها أو في أول التي تليها.
(2) قوله: «أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول إذا رفع رأسه من الركوع في الركعة الأخيرة من الفجر «اللهم العن فلاناً وفلاناً » بعد ما يقول «سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد »* قال أبوالسعادات [النهاية4/220]: «أصل اللعن الطرد والإبعاد من الله، ومن الخلق السَّبُّ والدعاء ».
وقوله: «فلاناً وفلاناً » يعني صفوان بن أمية، وسهيل بن عمرو، والحارث بن هشام كما بيَّنه في الرواية الآتية.
وفيه: جواز الدعاء على المشركين بأعيانهم في الصلاة، وأنّ ذلك لا يضر في الصلاة.
قوله: «بعد ما يقول «سمع الله لمن حمده » قال أبوالسعادات [النهاية 2/361]: «أي أجاب حَمْدَه وتقبَّلَه». قال السهيلي: «مفعول سمع محذوف ؛ لأن السمع متعلق بالأقوال والأصوات دون غيرها، فاللام تؤذن بمعنى زائد وهو الاستجابة للسمع فاجتمع في الكلمة الإيجاز والدلالة على الزائد وهو الاستجابة لمن حمده».
وقال ابن القيم ما معناه: «عدَّى سمع الله لمن حمده باللام المتضمنة معنى استجاب له ولا حذف هناك، وإنما هو مضمن قوله «ربنا ولك الحمد» في بعض روايات البخاري بإسقاط الواو ».
قال ابن دقيق العيد: «كان إثباتها دال على معنى زائد لأنه يكون التقدير: ربنا استجب ولك الحمد، فيشتمل على معنى الدعاء ومعنى الخير ». قال شيخ الإسلام [الفتاوى 14/312]: «والحمد ضد الذم، والحمد يكون على محاسن المحمود مع المحبة له، كما أن الذم يكون على مساوئه مع البغض له ».
..........................................................
* أخرجه البخاري (4069) و (4070، 4559، 7346).(1/106)
في الركعة الأخيرة من الفجر «اللهم العن فلاناً وفلاناً» بعدما يقول: «سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد»، فأنزل الله { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ } .
وفي رواية: يدعو على صفوان(1)
__________
(1) فيه: التصريح بأن الإمام يجمع بين التسميع والتحميد، وهو قول الشافعي وأحمد، وخالفه في ذلك مالك وأبوحنيفة وقالا: يقتصر على «سمع الله لمن حمده ».
( ) قوله: «وفي رواية: يدعو على صفوان بن أمية، وسهيل بن عمرو، الحارث بن هشام » عيَّنهم - صلى الله عليه وسلم - لأنهم من أشد الناس عداوة له، وهم السبب في غالب ما جرى عليه - صلى الله عليه وسلم - وعلى أصحابه، هم وأبوسفيان، ومع ذلك ما أُجيب فيهم بل أنزل الله عليه: { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ } [آل عمران: 128] فتاب عليهم فآمنوا، فدلَّ هذا على أنه - صلى الله عليه وسلم - لا يملك لأحدٍ ضراً ولا نفعاً كما قال تعالى: { قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَدًا * قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا * إِلا بَلاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالاتِهِ } [الجن: 21-23] بل لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً فضلاً عن غيره كما قال تعالى: { قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلا ضَرًّا إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } [الأعراف: 188].
وفيه: قنوت سيد المرسلين وخلفه سادات الأولياء يؤمِّنُون في الصلاة، وأن المدعو عليهم كفَّار، وأنهم فعلوا أشياء ما فعلها غالب الكفار منها شجّهم نبيهم وحرصهم على قتله، ومنها التمثيل بالقتلى مع أنهم بنو عمهم، فأنزل الله عليهم في ذلك: { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ } فتاب عليهم فآمنوا، والقنوت في النوازل وتسمية المدعو عليهم في الصلاة بأسمائهم وأسماء آبائهم ولعنة المعين في القنوت. قاله المصنف رحمه الله.(1/107)
بن أُميَّة وسُهيل بن عمرو والحارث بن هشام فنزلت: { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ } .
وفيه عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قام فينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين أُنزِل عليه { وأنذر عشيرتك الأقربين } (1)
__________
(1) قوله: «وفي الصحيح » أي صحيح البخاري «عن أبي هريرة - رضي الله عنه - » واختلف في اسمه على أكثر من ثلاثين قولاً، وصحَّح النووي أن اسمه عبدالرحمن بن صخر كما رواه الحاكم في المستدرك عن أبي هريرة قال: «كان يسمى في الجاهلية عبد شمس بن صخر فسُمّيت في الإسلام عبدالرحمن». وروى الدولابي بإسناده عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سمَّاه عبدالله وهو دوسي من فضلاء الصحابة وحفاظهم - رضي الله عنه -، حفظ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أكثر مما حفظ غيره، مات سنة سبع أو ثمان أو تسع وخمسين وهو ابن ثمان وسبعين سنة، ولما حصل الخلاف بين علي ومعاوية - رضي الله عنهما - كان مقيماً في جبل مطل على الفريقين فإذا جاءت الصلاة نزل فصلى مع علي، وإذا جاء وقت الأكل نزل فأكل مع معاوية، فقيل له في ذلك فقال: الصلاة وراء علي أتم، وحفنة معاوية أدسم، ورأس الجبل لأبي هريرة أسلم.
( ) قوله: «قام فينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين أُنزل عليه { وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ } [الشعراء: 214]، والإنذار هو الإعلام بأسباب المخافة والتحذير منها، وهذه نذارة خاصة أمر فيها بإنذار عشيرته الأقربين، وعشيرة الرجل بنو أبيه الأدنون أو قبيلته، والأقربون: الأقرب فالأقرب، فأنذر بطون قريش وأنذر عمه وعمته وابنته وهم أقرب الناس إليه فعمَّ وخصَّ، وأخبرهم أنه لا يغني عنهم من الله شيئاً إذا لم يؤمنوا به ويقبلوا ما جاء به من التوحيد و ترك الشرك.
وأما النذارة العامة ففي قوله تعالى: { وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآَنُ لأنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ } [الأنعام:19]، وقوله: { أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ } [يونس: 2] وغيرها من الآيات.(1/108)
[الشعراء: 214]فقال: «يا معشر قريش(1) -أو كلمةً نحوها(2)- اشتروا أنفسَكم(3)، لا أغني عنكم من الله شيئاً(4)، يا عباسُ بنَ عبدِالمطلب(5) لا أغني عنكَ من الله شيئاً، يا صفيَّةُ عمةَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا أُغني عنكِ من الله شيئاً، ويا فاطمةُ بنتَ محمد، سليني من مالي ما شئتِ(6)
__________
(1) قوله: «فقال: يا معشر قريش » المعشر: كمسكن الجماعة، وفي صحيح البخاري «يا بني عبد مناف ».
(2) وقوله: «اشتروا أنفسَكُم » أي بتوحيد الله وإخلاص العبادة له وحده لا شريك له، وطاعته فيما أمر به والانتهاء عمّا نهى عنه، فإن ذلك هو الذي ينجي من عذاب الله، لا الاعتماد على الأنساب والأحساب، فإن ذلك غير نافع عند رب الأرباب.
(3) قوله: «أو كلمةً نحوها » هو بنصب كلمة عطفاً على ما قبله.
(4) وقوله: «لا أغني عنكم من الله شيئاً » فيه حُجَّةٌ على من تعلّق على الأنبياء والصالحين؛ ليشفعوا له وينفعوه، أو يدفعوا عنه، فإن هذا هو الشرك الذي حرَّمه الله، وأمر نبيه بالإنذار عنه. قاله في «فتح المجيد»*.
(5) قوله: «يا عباس بن عبدالمطلب» بنصب ابن، ويجوز في عباس الرفع والنصب، كذا في قوله «يا صفية عمة رسول الله، ويا فاطمة بنت محمد ».
(6) قوله: «سَلِيني من مالي ما شئتِ » أي الذي أنا أملكه «لا أغني عنك من الله شيئاً»** بيَّنَ - صلى الله عليه وسلم - أنه لا ينجي من عذاب الله إلا الإيمان والعمل الصالح، وهذا نفي لماعسى أن يتوهموه من أنه يغني عنهم من الله شيئاً بشفاعته، فإذا كان لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً كما أخبر الله عنه بقوله: { قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلا ضَرًّا إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ } [الأعراف: 188] الآية بل ولا يدفع عن نفسه عذاب الله لو عصاه: { قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } [الأنعام:15] فكيف يملك لغيره نفعاً أو ضراً ؟ أو يدفع عنه عذاب الله ؟!. وأما شفاعته في بعض العصاة فهو أمرٌ من الله له ابتداءً فضلاً عليه وعليهم لا أنه يشفع من تلقاء نفسه فيمن يشاء.
وفيه: جِدُّه - صلى الله عليه وسلم - لما أنزل عليه { وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ } بحيث فعل ما نسب
..........................................................
* (1/337).
** أخرجه البخاري (2753)، و (3537) و (4771)، ومسلم (206).
بسببه إلى الجنون وكذلك لو يفعله مسلم الآن، وقوله: للأبعد والأقرب «لا أغني عنك من الله شيئاً » فإذا صرح وهو سيد المرسلين أنه لا يغني شيئاً عن سيدة نساء العالمين وآمن الإنسان أنه لا يقول إلا الحق ثم نظر فيما وقع في قلوب خواص الناس الآن تبيَّن له التوحيد وغربة الدين. قاله المصنف رحمه الله تعالى.(1/109)
لا أُغني
عنكِ من الله شيئاً».
* * *
16- باب
قول الله تعالى: { حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ } (1)
__________
(1) قوله: «باب قول الله تعالى: { حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ } أراد المصنف رحمه الله تعالى بالترجمة بهذه الآية بيان حال الملائكة الذين هم أقوى وأعظم من عُبد من دون الله وأقربهم منه منزلة، فإذا كانت هذه هيبتهم وخوفهم من الله عند سماعهم لكلامه فكيف يُدعَون من دونه وهم لا يملكون شيئاً لمن دعاهم، وإذا كان لا يملكون شيئاً فغيرهم من الأنبياء والأولياء أولى أن لا يُدعى، ففيها ردٌّ على جميع فرق المشركين الذين يدعون من لا يداني الملائكة في صفة من صفاتهم، وهذه الآية مرتبطة بما قبلها، وهي قوله تعالى: { قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ * وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ } أي زال عنها الفزع.
قاله ابن عباس وغيره { قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ } الآية.
قال أبوحيان: «تظاهرت الأحاديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن قوله: { حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ } إنما هي في الملائكة، إذا سمعوا الوحي إلى جبريل وأمر الله تعالى له، سمعت كجرِّ السلسلة الحديد على الصفوان فتفزع عند ذلك تعظيماً وهيبةً.
قال: «وبهذا المعنى من ذكر الملائكة مشار إليهم من أول قوله: { الَّذِينَ زَعَمْتُمْ } لم تتصل له هذه الآية بما قبلها». انتهى.
قال ابن جرير [التفسير 22/90]: «قال بعضهم: الذين فُزِّع عن قلوبهم الملائكة، قالوا: وإنما فُزِّع عن قلوبهم من غشية تصيبهم عند سماع كلام الله عز وجل ».
قال ابن كثير [التفسير 6/503]: «وهو الحق الذي لا مرية فيه لصحة الأحاديث فيه والآثار». انتهى.
وفي الآية: الرد على من زعم أن كلام الله مخلوق وعلى القائلين بالكلام النفسي، وقد كان المشركون يعبدون الملائكة ويزعمون أنهم بنات الله تعالى وتقدس، ويقولون: نعبدهم ليقربونا إليه ويشفعوا لنا عنده كما أخبر الله عنهم في قوله: { وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ } [سبأ:40]، وقال تعالى: { وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ } [الزخرف:19]، وقال تعالى: { وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ * وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ } [الأنبياء: 26-29]، فلذا يقول تعالى: قل يا محمد لهؤلاء المشركين الذين يدعون الملائكة { ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأرْضِ } يستقلون به، والذَّرة قيل إنها صغار النمل، وقيل إنها الهباء الذي يرى في الكُوَّة إذا نزلت الشمس معها.
وقوله: { وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ } أي: لا يملكون مثقال ذرة يستقلون به ولا على طريق المشاركة.
وقوله: { وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ } والظهير: المعين.
وقوله: { وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ } ، وهذه الآية تقطع عروق الشرك بأمور أربعة:
الأول: أنهم لا يملكون مثقال ذرة مع الله، والذي لا يملك مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض لا ينفع ولا يضر.
الثاني: قوله: { مَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ } أي في السموات والأرض.(1/110)
[سبأ: 23].
.......................................................................
في الصحيح(1) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا قضى
اللهُ الأمرَ في السماء ضَرَبتِ الملائكةُ(2) بأجنحتها خَضَعاناً لقوله، كأنه سلسلةٌ على صفوان(3) ينفُذُهم ذلك(4)
__________
(1) لثالث: قوله: { وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ } ، والظهير: المعين، فليس له معين من خلقه بل هو الذي يعينهم على ما ينفعهم لكمال غناه عنهم وفقرهم إليه فيما قلَّ أو كثر من أمور دنياهم وأخراهم.
الرابع: قوله: { وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ } وفيه معرفة تفسير الآية وما فيها من الحجة على إبطال الشرك خصوصاً ما تعلق على الصالحين وهي الآية التي قيل إنها تقطع عروق شجرة الشرك من القلب. قاله المصنف رحمه الله تعالى.
( ) قوله: «في الصحيح » أي صحيح البخاري، «عن أبي هريرة » - رضي الله عنه - «عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا قضى الله الأمر في السماء »* أي إذا تكلم بأمره الذي قضاه في السماء مما يكون.
(2) قوله: «ضربت الملائكة بأجنحتها خضعاناً» - بفتحتين - من الخضوع، وفي رواية «خُضعاناً» بضم أوله وسكون ثانيه مصدر أي: خاضعين «لقوله» عز وجل.
(3) قوله: «كأنه سلسلة على صفوان » وهو الحجر الأملس، وقد روى ابن مردويه من حديث ابن مسعود رفعه: «إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السموات صلصلة كصلصلة السلسلة على الصفوان.. »** الحديث.
(4) قوله: «ينفذهم ذلك » بفتح التحتية وسكون النون وضم الفاء والذال المعجمة، أي يمضي كلام الله الذي تكلم به وينفذ قلوب الملائكة حتى يفزعوا من ذلك،
..........................................................
* أخرجه البخاري (4701) (4800) (7481)، والترمذي (3221)، وابن ماجه (182).
** أخرجه أبوداود (4738)، والبخاري تعليقاً (13/452 الفتح)، وابن خزيمة في كتاب التوحيد رقم (207-211)، والبيهقي (201)، والحديث صححه الألباني في الصحيحة (1293).(1/111)
: { حَتَّى إِذَا فُزِّع عَنْ
قُلُوبِهِمْ(1) قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ(2) قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ(3) } فيسمعها مسترق السَّمع(4)، ..........................................
__________
(1) عند ابن مردويه من حديث ابن عباس : « فلا ينزل على أهل سماء إلا صُعقوا » * وعند أبي داود وغيره مرفوعاً : « إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السماء الدنيا صلصلة كجر السلسلة على الصفا فيُصعقون » ** .
( ) قوله : « { حتى إذا فزع عن قلوبهم } “ أي زال عنها الفزع قال ابن عباس وغيره.
(2) قوله : « { قالوا ماذا قال ربكم } “ ولم يقولوا : ماذا خلق ربكم؟ . أي : قال الملائكة بعضهم لبعض : ماذا قال ربكم؟ ولو كان كلام الله مخلوقاً لقالوا: ماذا خلق ربكم ؟ .
(3) وقوله : { قالوا الحق وهو العلي الكبير } أي قالوا : قال الله الحق ، علموا أن الله لا يقول إلا حقاً .
(4) قوله: «فيسمعها مسترق السمع » أي يسمع الكلمة التي قضاها الله وسمعتها الملائكة وتحدثوا بها، ومسترق السمع هم الشياطين. وفي صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها مرفوعاً: «إن الملائكة تنزل في العنان وهو السحاب فتذكر الأمر قُضي في السماء، فتسترق الشياطين السمع فتسمعه، فتوحيه إلى الكهان فيكذبون معها مائة كذبة من عند أنفسهم»***. فظاهر هذا أنهم لا يسمعون كلام الملائكة الذين في السماء الدنيا وإنما يسمعون كلام الملائكة الذين في السحاب. قاله في «الشرح»**** قال في «إبطال التنديد»*****: وليس كما قال، فإن هذا الحديث إنما دلَّ على أنهم يسمعون من الذين في السحاب، وسماعهم منهم لا ينفي سماعهم من الذين
..........................................................
* أخرجه ابن مردويه كما في فتح الباري (8/538).
** تقدم تخريجه.
*** أخرجه البخاري (3210، 3288، 5762).
**** (ص/222).
***** (ص/108).(1/112)
ومسترق السمع هكذا(1) بعضه فوقَ بعض - وصفه سفيان بكفِّه فحرَّفها(2) وبدَّد(3) بينَ أصابعه - فيسمع الكلمة فيُلقيها إلى من تحته(4)، ثم يلقيها الآخرُ إلى من تحته حتى يُلقيها على لسان الساحر أو الكاهن، فربما أدركه الشهاب قبل أن يُلقيها، وربما ألقاها قبل أن يدركه(5)
__________
(1) ي السماء الدنيا بل سماعهم منها دل عليه دليل آخر، وقد قال تعالى: { وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ * إِلا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ } [الحجر:17-18]، وقال: { إِلا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ } [الصافات: 10]، وقال تعالى إخباراً عنهم: { وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا * وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا } [الجن: 8،9]، والشهب إنما يُرمى بها من السماء لا من السحاب، فالحق أن يقال إنهم كما يسمعون من ملائكة السماء، فكذلك يسمعون من ملائكة السحاب، ولا تنافي بين الأمرين ». انتهى.
( ) قوله: «ومسترق السمع هكذا.. وصفه سفيان بكفه » أي وصف ركوب بعضهم فوق بعض، وسفيان: هو ابن عيينة الهلالي، أبومحمد الكوفي ثم المكي، ثقة حافظ فقيه إمام حجة، إلا أنه تغير حفظه بآخرة وربما دلّس لكن عن الثقات، مات سنة ثمان وتسعين ومائة وله إحدى وتسعون سنة.
(2) قوله: «فحرَّفها » بحاء مهملة وراء مشددة وفاء.
(3) قوله: «وبدَّد » أي فرَّق بين أصابعه.
(4) قوله: «فيسمع الكلمة فيلقيها إلى من تحته » أي يلقي الشيطان الفوقاني المستمع الكلمة التي سمعها إلى الشيطان الذي تحته وهكذا «حتى يلقيها آخرهم على لسان الساحر أو الكاهن ».
(5) قوله: «فربما أدركه الشهاب قبل أن يلقيها، وربما ألقاها قبل أن يدركه» والشهاب النجم الذي يُرمى به مسترق السمع، وهو لا يقتله لما روى ابن جرير عن(1/113)
، فيكذب معها
مائة كذبة(1)
__________
(1) بن عباس: فأتبعه شهاب ثاقب. قال: لا يقتلون بشهاب ولا يموتون ولكنها تحرقهم من غير قتل وتخبل وتخدج من غير قتل، وهذا يدل على أن الرجم بالنجوم كان قبل المبعث، لما روى أحمد ومسلم والترمذي والنسائي عن معمر عن الزهري عن علي بن حسين عن ابن عباس قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - جالساً في نفر من أصحابه فرُمي بنجم فاستنار، فقال: «ما كنتم تقولون إذا كان هذا في الجاهلية ؟ » قالوا: نقول يُولد عظيم، أو يموت عظيم. فقال: «إنها لا يُرمى بها لموت أحد ولا لحياته، ولكن ربنا إذا قضى أمراً سبَّح حملة العرش ثم سبح أهل السماء الذين يلون حملة العرش فيقول الذين يلون حملة العرش لحملة العرش: ماذا قال ربكم ؟ فيخبرونهم، ويخبر أهل كل سماء سماء حتى ينتهي الخبر إلى هذه السماء، وتخطف الجن السمع فيرمون، فما جاؤوا به على وجهه فهو حق لكنهم يحرفونه ويزيدون فيه»*. قال معمر: قلت للزهري: كان يُرمى بها في الجاهلية؟ قال: نعم، أرأيتَ وأنَّا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهاباً رصداً، قال: غلظت وشدد أمرها حين بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
وفيه: الرد على المنجِّمين الذين ينسبون الحوادث التي تقع في الأرض إلى الكواكب؛ لما في الرمي بها من الدلالة على أنها مسخرة لما خلقت له، لقوله تعالى: { وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ } [الأعراف: 54].
( ) قوله: «فيكذب معها مائة كذبة » بفتح الكاف وسكون الذال المعجمة، أي يكذب الكاهن أو الساحر مع الكلمة التي ألقاها إليه وَليُّه من الشياطين مائة كذبة، أو يكذب الشيطان مع الكلمة التي استرقها مائة كذبة ويخبر بالجميع وليَّه من الإنس فيفتتن الإنسُ بالإنسيِّ الساحر أو الكاهن ويفتتان بوليِّهما من الشياطين ويقبلون ما جاؤوا به من الصدق والكذب لكونهم قد يصدقون فيما يأتون به من خبر السماء.(1/114)
فيُقال: أليس قد قال لنا يومَ كذا وكذا: كذا وكذا؟(1) فَيُصََّق
بتلك الكلمة التي سُمعت من السماء».
وعن النوَّاس بن سِمعَان(2)
__________
(1) قوله: «فيُقال: أليس قد قال لنا يوم كذا وكذا: كذا وكذا » فيصدِّقون بكونهم قد
..........................................................
* أخرجه مسلم (2299)، وأحمد (1/218)، والترمذي (3222).
(2) صدقون بعض الأحيان كما في الصحيح عن عائشة رضي الله عنها، قلت: يا رسول الله، إن الكهان كانوا يحدثونا بالشيء فنجده حقاً. قال: «تلك الكلمة التي يخطفها الجني فيقذفها في أُذن وليِّه ويزيد فيها مائة كذبة »*.
وفيه: ذكر استراق الشياطين وصفة ركوب بعضهم بعضاً وإرسال الشهب، وأنه تارة يدركه الشهاب قبل أن يلقيها، وتارة يلقيها في أُذن وليِّه من الإنس قبل أن يدركه، وكون الكاهن يصدق في بعض الأحيان وكونه يكذب معها مائة كذبة وأنه لم يصدق كذبه «إلا بتلك الكلمة التي سمعت من السماء » وكونهم يتلقى بعضهم من بعض تلك الكلمة ويحفظونها.
وفيه: قبول النفوس للباطل ؛ كيف يتعلقون بواحدة ولا يعتبرون بمائة كذبة. قاله المصنف رحمه الله تعالى.
وفيه: أن الشيء إذا كان فيه شيء من الحق فلا يدل على أنه كله حق، فكثيراً ما يلبس أهل الضلال الحق بالباطل ليكون أقبل لباطلهم، قال تعالى: { وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } [البقرة:42]، وفي هذه الأحاديث وما بعدها وما في معناها: إثبات علو الله تعالى على خلقه على ما يليق بجلاله وعظمته، خلافاً للأشاعرة والجهمية ونفاة المعتزلة. قاله في «فتح المجيد»**.
( ) قوله: «وعن النواس بن سِمعَان » - بكسر السين - بن خالد الكلابي، ويقال الأنصاري صحابي، ويقال: إن أباه صحابي أيضاً «قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «إذا أراد الله أن يوحي بالأمر »*** والإرادة صفة من صفاته عز وجل، وهي نوعان:
..........................................................
* أخرجه البخاري (5762، 7561)، ومسلم (2228).
** (1/347).
*** أخرجه ابن خزيمة في كتاب التوحيد رقم (206)، وابن أبي عاصم في السنة رقم (515)، والبيهقي في الأسماء والصفات (263)، وإسناده ضعيف.(1/115)
- رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا أراد اللهُ
تعالى أن يُوحيَ بالأمر تكلَّم بالوحي(1) أخذتِ السموات منه رجفةٌ(2) -أو قال رِعدَةٌ شديدة(3)-، خوفاً من الله عز وجل، فإذا سمع ذلك أهلُ السموات صَعِقُوا وخَرُّوا لله سُجَّداً(4)
__________
(1) إرادة شرعية دينية، فتكون هي المحبة، وإرادة كونية قدرية فتكون هي المشيئة.
( ) قوله: «تكلم بالوحي » فيه التصريح بأن الله يتكلم بالوحي فيوحيه إلى جبريل عليه السلام. ففيه: الرد على الأشاعرة في إنكارهم كلام الرب تعالى وزعمهم أن القرآن عبارة عن كلام الله.
(2) قوله: «أخذت السموات منه رجفة » هو برفع رجفة على أنه فاعل، أي أصاب السموات منه رجفة أي ارتجفت، كما روى ابن أبي حاتم عن عكرمة قال: إذا قضى الله تبارك وتعالى أمراً رجفت السموات والأرض والجبال وخرَّت الملائكة كلهم سجداً.
(3) قوله: «أو قال: رِعدَة شديدة » شكٌّ من الراوي.. هل قال النبي - صلى الله عليه وسلم - رجفة أو قال رعدة ؟ - وهو بفتح الراء - «خوفاً من الله عز وجل » يعني أن ارتجافها وارتعادها ناشئ عن خوفها من الله تعالى، فالسموات تخاف الله بما جعل فيها من الإحساس ومعرفة من خلقها كما قال تعالى: { تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالأرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا } [الإسراء:44]، وفي البخاري عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: «كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يُؤكل »*.
وفي حديث أبي ذر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخذ في يده حصيات فسمع لهن تسبيحاً كحنين النحل**، وكذا في يد أبي بكر وعمر وعثمان، وهو حديث مشهور في المسانيد.
(4) قوله: «فإذا سمع ذلك أهل السموات صعقوا وخروا لله سُجّداً » أي يحصل لهم
..........................................................
* أخرجه البخاري (3579)، وأحمد (1/460).
** أخرجه البزار في المسند (3413، 2414)، قال الهيثمي في مجمع الزوائد (8/299) ورجال أحدهما ثقات، وفي بعضهم ضعف.(1/116)
، فيكونُ أولَ من يرفع رأسَه جبريلُ(1)، فيكلِّمه اللهُ من وَحيه بما أراد(2)، ثم يمرُّ جبريل على الملائكة كلما مرَّ بسماء سأله ملائكتها: ماذا قال ربُّنا يا جبريل ؟ فيقول جبريل: قال الحقَّ وهو العليُّ الكبير(3)، فيقولون كلهم مثلَ ما قال جبريلُ. فينتهي جبريلُ بالوحي إلى حيثُ أمرَهُ اللهُ عز وجل(4)
__________
(1) لأمران: الصعق وهو الغشي، والسجود هيبية وتعظيماً لربهم وخشية لما سمعوا من كلام الله تعالى وتقدس.
( ) قوله: «فيكون أول من يرفع رأسه جبريل » لأنه مَلَك الوحي. وفيه: فضيلة جبريل عليه السلام كما قال تعالى: { إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ } [التكوير:19-21]، قال أبو صالح في قوله: { عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ } قال جبريل: يدخل في سبعين حجاباً من نور، بغير إذن*.
(2) قوله: «فيكلمه الله من وحيه بما أراد » وفيه: إثبات صفة الكلام والإرادة.
(3) قوله: «ثم يمر جبريل على الملائكة كلما مرَّ بسماء يسأله ملائكتها ماذا قال ربنا يا جبريل ؟ فيقول: قال الحق وهو العلي الكبير » فله العلو المطلق سبحانه علو القدر وعلو القهر وعلو الذات.
(4) قوله: «فيقولون كلهم مثل ما قال جبريل فينتهي بالوحي إلى حيث أمره الله عز وجل » وتمامه «من السماء والأرض»، وقد بيَّض المصنف لتمام الحديث ومن رواه. وقد رواه ابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني قاله في «الشرح»**.
وفيه: ارتجاف السموات لكلام الله عز وجل وأن تلك الرجفة والغشي خوفاً من الله - عز وجل -، وأن الغشي يعم أهل السموات كلهم وأنهم يخرون لله سجداً، وأن أول من يرفع رأسه جبريل، وسبب سؤال الملائكة وتفسير قوله: «قال الحق وهو العلي الكبير»، وأن جبريل ينتهي بالوحي إلى حيث أمره الله - عز وجل -،
..........................................................
* أخرجه ابن جرير الطبري في تفسيره (30/80).
** (ص/227).
وأنه يجيب الملائكة بعد ذلك بقوله: قال كذا وكذا، وأنه يقول لأهل السموات كلهم، وإثبات الصفات خلافاً للأشعرية المعطلة. قاله المصنف رحمه الله تعالى.
والآيات المذكورة في هذا الباب والأحاديث تقرر التوحيد، الذي هو مدلول شهادة أن لا إله إلا الله، فإن الملك العظيم، الذي تصعق الأملاك من كلامه خوفاً منه ومهابة، وترجف منه المخلوقات، الكامل في ذاته وصفاته، وعلمه وقدرته، وملكه وعِزِّه وغناه عن جميع خلقه، وافتقارهم جميعاً إليه، ونفوذ تصرفه وقدره فيهم لعلمه وحكمته ؛ لا يجوز شرعاً ولا عقلاً أن يُجعل له شريك من خلقه في عبادته التي هي حقه عليهم، فكيف يجُعل المربوب رباً، والعبد معبوداً ؟ أين ذهبت عقول المشركين؟! سبحان الله عما يصفون. قاله في «فتح المجيد»*.
..........................................................
* (1/352).(1/117)
».
..................................................................................
* * *
17- باب
الشفاعة(1)
__________
(1) قوله: «باب الشفاعة»: الشفاعة هي إعانة الطالب والمشفوع إليه في المطلوب حتى يصير كل منهما معه شفعاً بعد أن كان وتراً، فكل من أعان غيره على أمر فقد شفعه فيه، فإن أعنتَ على بر وتقوى كانت شفاعة حسنة، وإن أعنتَ على إثم وعدوان كانت شفاعة سيئة. والبر ما أُمرتَ به، والإثم ما نُهيتَ عنه، والله تعالى وتر لا يشفعه أحدٌ، فلا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، فالأمر كله إليه وحده لا شريك له بوجه.
قال شيخ الإسلام رحمه الله [الفتاوى 14/414]: «والشفاعة سببٌ من الأسباب التي يرحم الله بها من يرحم من عباده، وأحق الناس برحمته أهل التوحيد والإخلاص له، فكل من كان أكمل في تحقيق إخلاص «لا إله إلا الله» علماً وعقيدة وعملاً وبراءة وموالاة ومعاداة كان أحق بالرحمة». قال: «وأحاديث الشفاعة كثيرة متواترة في الصحيحين والسنن والمسانيد». انتهى.
* وشروطها: إذنه تعالى للشافع، ورضاه عن المشفوع فيه.
* ومانعها: الشرك بالله.
* ومستحقها: الموحِّد.
* والمالك لها: هو الله عز وجل.
* وأنواعها: ستة. فيما ذكر العلامة ابن القيم رحمه الله:
الأول: الشفاعة الكبرى التي يتأخر عنها أولي العزم من الرسل حتى تنتهي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهي الشفاعة لإراحتهم من موقف القيامة، وهذه خاصة بالنبي - صلى الله عليه وسلم - لا يشركه فيها أحد.
الثاني: شفاعته لأهل الجنة في دخولها.
الثالث: شفاعته لقوم من العصاة من أمته قد استوجبوا النار فيشفع لهم أن لا يدخلوها.(1/118)
وقول الله تعالى: { وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ(1) لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } [الأنعام:51] .
وقوله: { قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا } (2)
__________
(1) لرابع : شفاعته في العصاة من أهل التوحيد الذين يدخلون النار بذنوبهم أن يخرجوا منها، والأحاديث بها متواترة، وقد أجمع عليها الصحابة وأهل السنة قاطبة، وبَدَّعُوا من أنكرها أي نسبوهم إلى البدعة.
الخامس : شفاعته لقوم من أهل الجنة في زيادة ثوابهم ورفع درجاتهم، وهذه لم ينازع فهيا أحدٌ وكلها مختصة بأهل الإخلاص .
السادس : شفاعته في بعض الكفار من أهل النار حتى يخفّف عنهم العذاب، وهذه خاصة بأبي طالب وحده» . انتهى .
( ) قوله : « وقول الله تعالى : { وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم } يقول تعالى : وأنذر يا محمد به ، أي : بالقرآن . قاله ابن عباس ، وهم أهل الإخلاص الذين لم يتخذوا من دون الله شفيعاً بل أخلصوا قصدهم وطلبهم وجميع أعمالهم لله وحده، ولم يلتفتوا إلى أحدٍ سواه فيما يرجونه أو يخافونه . والإنذار هو الإعلام بأسباب المخافة والتحذير منها، وهذه نذارة خاصة أمره الله تعالى أن ينذر الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم، { ليس له من دونه ولي ولا شفيع } أي : ليس لهم من دونه ولي يتولاهم ولا شفيع من عذابه يوم القيامة ، { لعلهم يتقون } في هذه الدار فيعملون عملاً ينجيهم الله به من عذابه يوم القيامة . والتقوى : أن تجعل بينك وبين النار وقاية بأن تعمل بطاعة الله، على نورٍِ من الله، ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله على نور من الله تخاف عقاب الله . وأما النذارة العامة ففي قوله تعالى : { وأوحى إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ } [الأنعام :19] وغيرها .
(2) قوله: «وقول الله تعالى: { قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا } بعد قوله: { أَمِ اتَّخَذُوا
مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ } » قل يا محمد: أو لو كان الشفعاء الذين اتخذوهم لا يملكون شيئاً ولا يعقلون ؟ وشيئاً: نكرة في سياق النفي تعم كل شيء، أي لا يملكون شفاعة ولا غيرها ولا يعقلون؛ لأنهم إما أموات غير أحياء وما يشعرون أيَّان يُبعثون، أو جماد لا تعلم شيئاً ولا تعقل. ثم قال: { قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا } أي هو المالك لها، وهذا إنكار منه تعالى على المشركين في اتخاذهم الشفعاء من دونه مع كونهم لا يملكون شفاعة ولا غيرها، فليس لمن يطلبونها منه شيء منها وإنما تطلب ممن يملكها وهو الله جل وعلا دون ما سواه.(1/119)
[الزمر:44].
وقوله: { قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا } (1) [البقرة:255].
__________
(1) وقوله تعالى: { مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلا بِإِذْنِهِ } قال ابن جرير: نزلت لما قال الكفار: ما نعبد أوثاننا هذه إلا ليقربونا إلى الله زلفى، فقال تعالى: { لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلا بِإِذْنِه } .
* والإذن نوعان:
إذن بمعنى المشيئة والخلق. وإذن بمعنى الإباحة والإجازة.
* فمن الأول: قوله في السحر { وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ } أي بمشيئته وقدره وإلا فهو لم يبحْ السحر، وكذا قوله { وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ } [آل عمران:166] من القتل والجراح والتمثيل والهزمية فبإذن الله، فهو خالق أفعال الكفار والمؤمنين.
* والنوع الثاني: قوله { إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ } [الأحزاب:45-46]، وقوله: { مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ } [الحشر: 5] فإن هذا يتضمن إباحته لذلك وإجازته ورفع الحرج عن فاعله مع كونه بمشيئته وقضائه، فقوله: { مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلا بِإِذْنِهِ } هو هذا الإذن الكائن بقدره وشرعه، ولم يرد بمجرد المشيئة والقدر. انتهى ملخصاً من كلام شيخ الإسلام رحمه الله.(1/120)
وقوله: { وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى } (1) [النجم:26].
وقوله: { قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأرْضِ } الآيتين [سبأ:22-23].
قال أبوالعباس(2): «نفى الله عما سواه كل ما يتعلق به المشركون، فنفى أن يكون لغيره مُلْكٌ، أو قِسطٌ منه، أو يكون عوناً لله، ولم يبقَ إلا(2)
__________
(1) وقوله: { وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى } [النجم:26] قال أبوحيان: «كم » خبرية، ومعناها التكثير وهي في موضع رفع بالابتداء والخبر «لا تغني » وإذا كانت الملائكة لا تغني شفاعتهم إلا بعد إذن الله ورضاه أي يرضاه أهلاً للشفاعة فكيف تشفع الأصنام لمن عبدها ؟.
قال ابن كثير: «وهذا من عظمته وجلاله وكبريائه عز وجل أنه لا يتجاسر أحدٌ على أن يشفع لأحد عنده إلا بإذنه له في الشفاعة، كما جاء في حديث الشفاعة: «آتي تحت العرش فأخرّ ساجداً فيدعني ما شاء الله أن يدعني، ثم يقال: ارفع رأسك، وقل يُسمع، واشفع تُشفع »*. الحديث.
وقول الله تعالى: { قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ * وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ } [سبأ:22-23]، وقد تقدّم الكلام على هذه الآية في الباب الذي قبل هذا.
وفيه: معرفة تفسير الآيات. قاله المصنف رحمه الله تعالى.
(2) قوله: «قال أبوالعباس »: هو شيخ الإسلام وعلم الهداة الأعلام أحمد ابن تيمية
..........................................................
* أخرجه البخاري برقم (4712)، ومسلم (194).
رحمه الله ورضي عنه*: «نفى الله عما سواه كل ما يتعلق به المشركون، فنفى أن يكون لغيره ملك أو قسط منه أو يكون عوناً لله ولم يبقَ إلا الشفاعة فبيَّنَ أنها لا تنفع إلا لمن أذِنَ له الرب كما قال تعالى: { وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى } [الأنبياء:28] فهذه الشفاعة التي يظنها المشركون هي مُنتفيةٌ يوم القيامة كما نفاها القرآن، وأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه يأتي فيسجد لربه ويحمده لا يبدأ بالشفاعة أولاً، ثم يُقال له: ارفع رأسك، وقل يُسمع، وسلْ تُعط، واشفع تُشفع ».
وقال ابن القيم رحمه الله تعالى: «وقد قطع الله الأسباب التي يتعلق بها المشركون جميعها قطعاً، يعلم من تأمّله وعرفه أن من اتخذ من دون الله ولياً فمثله كمثل العنكبوت اتخذت بيتاً، وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت، فالمشرك إنما يتخذ معبوده لما يحصل لديه من النفع، والنفع لا يكون إلا ممن فيه خصلة من هذه الخصال الأربع: إما مالكاً لما يريده منه، فإن لم يكن مالكاً كان شريكاً للمالك، فإن لم يكن شريكاً كان معيناً له وظهيراً، فإن لم يكن معيناً له وظهيراً كان شفيعاً عنده. فنفى سبحانه المراتب الأربع نفياً مرتباً منتقلاً من الأعلى إلى ما دونه، فنفى: الملك والشركة والمظاهرة والشفاعة التي يطلبها المشرك، وأثبت شفاعة لا نصيب فيها لمشرك وهي الشفاعة بإذنه، فهو الذي يأذن للشافع، وإن لم يأذن له لم يتقدم بالشفاعة بين يديه، وكفى بهذه الآية نوراً وبرهاناً وتجريداً للتوحيد، وقطعاً لأصول الشرك ومواده لمن عقلها. والقرآن مملوءٌ من أمثالها ونظائرها ولكن أكثر الناس لا يشعر بدخوله تحت الواقع وتضمنه له، ويظنه في قوم قد خلوا ولم يعقبوا وارثاً، وهذا الذي يحول بين القلب وبين فهم القرآن، ولعمر الله إن كان أولئك قد خلوا فقد ورثهم من هو مثلهم وشر منهم، وتناول القرآن لهم كتناوله لأولئك ولكن
..........................................................
* وهذا المقام لا يتسع لذكر ترجمة هذا الإمام، ومن أراد الوقوف على تاريخ حياته فليراجع «العقود الدرية في مناقب شيخ الإسلام الإمام أحمد بن تيمية»لابن عبدالهادي، وهي في مجلد ضخم. [ابن حمدان].
الأمر كما قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: «إنما تُنقض عُرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية »؛ لأنه إذا لم يعرف الشرك وما عابه القرآن وذمَّه وقع فيه وأقرَّه ودعا إليه وصوّبه وحسَّنه وهو لا يعرف أنه الذي كان عليه أهل الجاهلية فتنقض بذلك عرى الإسلام ويعود المعروف منكراً والمنكر معروفاً، والبدعة سنة والسنة بدعة، ويُكفَّر الرجل بمحض الإيمان وتجريد التوحيد، ويبدَّع بتجريد متابعة الرسول، ومن له بصيرة وقلب حي يرى ذلك عياناً، فالله المستعان». انتهى ملخصاً.
وقال أيضاً: «ومن أنواع الشرك: طلب الحوائج من الموتى والاستغاثة بهم، وهذا أصل شرك العالم، فإن الميّت قد انقطع عمله وهو لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً فضلاً عن من استغاث به وسأله أن يشفع له، وهذا من جهله بالشافع والمشفوع عنده فإنه لا يقدر أن يشفع له عند الله إلا بإذنه، والله لم يجعل استغاثته وسؤاله سبباً لإذنه وإنما السبب كمال التوحيد، فجاء هذا المشرك بسبب يمنع الإذن وهو بمنزلة من استعان في حاجته بما يمنع حصولها وهذه حالة كل مشرك، فجمعوا بين الشرك بالمعبود وتغيير دينه ومعاداة أهل التوحيد ونسبة أهله إلى التنقص بالأموات، وهم قد تنقّصوا الخالق بالشرك وأوليائه الموحدين بذمّهم وعيبهم ومعاداتهم، وتنقصوا من أشركوا به غاية التنقص إذ ظنوا أنهم راضون منهم بهذا، وأنهم أمروهم به وأنهم يوالونهم عليه، وهؤلاء هم أعداء الرسل في كل زمان ومكان، وما أكثر المستجيبين لهم، وما نجا من شَرَك هذا الشرك الأكبر إلا من جرّد توحيده لله وعادى المشركين في الله وتقرَّب بمقتهم إلى الله واتخذ الله وحده وليَّه وإلهه ومعبوده، فجرّد حبَّه لله وخوفه لله ورجاءه لله، وذلّه لله، وتوكله على الله، واستعانته بالله والتجاءه إلى الله، واستغاثته بالله، وقصده لله متبعاً لأمره متطلباً لمرضاته، إذا سَألَ سَألَ اللهَ، وإذا استعان استعان بالله، وإذا عمل عمل لله، فهو لله وبالله ومع الله ». انتهى كلامه رحمه الله.
وقال شيخ الإسلام: «وهذا الموضع افترق الناس فيه ثلاث فرق: طرفان ووسط، فالمشركون ومن وافقهم من مبتدعة أهل الكتاب كالنصارى ومبتدعة هذه الأمة أثبتوا الشفاعة التي نفاها القرآن، والخوارج والمعتزلة أنكروا شفاعة نبينا - صلى الله عليه وسلم - في أهل الكبائر من أمته بل أنكر طائفة من أهل البدع انتفاع الإنسان بشفاعة غيره ودعائه، كما أنكروا انتفاعه بصدقة غيره وصيامه، فأنكروا الشفاعة بقوله تعالى: { مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ } [البقرة:254]، وبقوله: { مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ } [غافر:18]، وأما سلف الأمة وأئمتها ومن تبعهم من أهل السنة والجماعة فأثبتوا ما جاءت به السنة عن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - من شفاعته لأهل الكبائر من أمته وغير ذلك من أنواع شفاعاته وشفاعة غيره من النبيين والملائكة، وقالوا: إنه لا يخلد في النار من أهل التوحيد أحدٌ، وأقروا بما جاءت به السنة من انتفاع الإنسان بدعاء غير وشفاعته والصدقة عنه والصوم عنه في أصح قولي العلماء كما ثبتت به السنة الصحيحة وما كان في معنى الصوم. وأما من علَّق قلبه بأحد المخلوقين يرجوه ويخافه فهذا من أبعد الناس عن الشفاعة، فشفاعة المخلوق عند المخلوق تكون بإعانة الشافع للمشفوع له بغير إذن المشفوع عنده، بل يشفع إما لحاجة المشفوع عنده وإما لخوفه منه، فيحتاج أن يقبل شفاعته، والله غني عن العالمين كلهم فما من شفيع إلا من بعد إذنه فله - صلى الله عليه وسلم - شفاعات يختص بها لا يشركه فيها أحد، وشفاعات يشركه فيها غيره من الأنبياء والصالحين لكن ما له فيها أفضل مما لغيره، فإنه - صلى الله عليه وسلم - أفضل الخلق وأكرمهم على ربه عز وجل، وله من الفضائل التي ميّزه بها على سائر النبيين ما يضيق هذا الموضع عن بسطه ومن ذلك المقام المحمود الذي يغبطه به الأولون والآخرون ». انتهى.(1/121)
الشفاعة فبيَّنَ أنها لا تنفع إلا لمن أذِنَ له الرب كما قال تعالى: { وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى } [الأنبياء: 28] فهذه الشفاعة التي يظنها المشركون هي منتفية يوم القيامة كما نفاها القرآن، وأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه يأتي
فيسجد لربه ويحمده - لا يبدأ بالشفاعة أولاً -، ثم يُقال له: «ارفع رأسك، وقل يُسمع، وسلْ تُعط، واشفع تُشفع» .
وقال له أبوهريرة(1): من أسعد الناس بشفاعتك يا رسول الله ؟ قال: «من قال لا إله إلا الله خالصاً من قلبه». فتلك الشفاعة لأهل الإخلاص بإذن الله ولا تكون لمن أشرك بالله(2).
وحقيقتها: أن الله سبحانه هو الذي يتفضّل على أهل الإخلاص فيغفر لهم بواسطة دعاء من أُذن له أن يشفع ليُكرمه وينال المقام المحمود.
__________
(1) قوله: «وقال له أبوهريرة - رضي الله عنه -: من أسعد الناس بشفاعتك يا رسول الله ؟ قال: «من قال لا إله إلا الله خالصاً من قلبه »*. وهذا الحديث رواه البخاري والنسائي عن أبي هريرة، ورواه الإمام أحمد وصححه ابن حبان.
وفيه: «وشفاعتي لمن قال: لا إله إلا الله مخلصاً يصدق قلبه لسانه، ولسانه قلبه ». وشاهده: ما رواه مسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لكل نبيٍّ دعوةٌ مستجابة، فتعجل كل نبي دعوته، وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة، فهي نائلة - إن شاء الله - من مات لا يشرك بالله شيئاً »**.
(2) قوله: «قال شيخ الإسلام: فتلك الشفاعة لأهل الإخلاص بإذن الله ولا تكون لمن أشرك بالله. وحقيقتها: أن الله سبحانه هو الذي يتفضّل على أهل الإخلاص فيغفر لهم بواسطة دعاء من أذِن له أن يشفع ليكرمه وينال المقام المحمود ».(1/122)
فالشفاعة التي نفاها القرآن(1)ما كان فيها شرك وتلك منفية مطلقاً،
بإذنه في مواضع، وقد بيَّن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنها لا تكون إلا لأهل التوحيد والإخلاص». انتهى كلامه.
* * *
18- باب
__________
(1) قوله: «فالشفاعة التي نفاها القرآن ما كان فيها شرك وتلك منفية مطلقاً، ولهذا أثبت الشفاعة بإذنه في مواضع، وقد بيَّن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنها لا تكون إلا لأهل التوحيد والإخلاص». انتهى كلامه رحمه الله. وقال أيضاً: «والإخلاص محبة الله وإرادة وجهه ».
..........................................................
* أخرجه البخاري (99)، وأحمد (2/307)، وابن حبان في صحيحه (8/131).
** أخرجه مسلم (199)، وأحمد (2/257).
وفيه: معرفة صفة الشفاعة المنفية، والشفاعة المثبتة، وذكر الشفاعة الكبرى وهي المقام المحمود، وصفة ما يفعله - صلى الله عليه وسلم -، وأنه لا يبدأ بالشفاعة أولاً بل يسجد، فإذا أُذن له شفع، ومن أسعد الناس بها، وأنها لا تكون لمن أشرك بالله، وبيان حقيقتها. قاله المصنف رحمه الله تعالى.(1/123)
قول الله تعالى: { إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ } الآية(1) [القصص: 56].
__________
(1) قوله: «باب قول الله تعالى: { إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ } » أراد المصنف رحمه الله تعالى بهذه الترجمة الرد على عُبّاد القبور الذين يعتقدون في الأنبياء والأولياء أنهم ينفعون ويضرون فيسألونهم مغفرة الذنوب وتفريج الكروب وهداية القلوب، ويعتقدون أن لهم التصرف بعد الموت على سبيل الكرامة، فإذا عرف الإنسان معنى هذه الآية المترجم بها ومن نزلت فيه تبيَّن له أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي هو أفضل الخلق عند الله وأعظمهم جاهاً عنده حرص واجتهد في هداية عمه أبي طالب في حال حياته وعند موته فلم يستطع ذلك ولم يقدر عليه، ثم استغفر له بعد موته فلم يغفر له بل نهاه الله عن ذلك. قال الزجَّاج: «أجمع المسلمون على أن هذه الآية نزلت في أبي طالب، وذلك أن أبا طالب قال عند موته: يا معشر بني عبد مناف، أطيعوا محمداً وصدِّقوه تفلحوا وترشدوا، فقال عليه السلام: «يا عمّ، تأمرهم بالنصح لأنفسهم وتدعها لنفسك؟ » قال: فما تريد يا ابن أخي ؟ قال: «أريد منك كلمة واحدة، فإنك في آخر يوم من أيام الدنيا أن تقول: لا إله إلا الله، أشهد لك بها عند الله تعالى »*. قال: يا ابن أخي، قد علمتُ أنك صادق، ولكني أكره أن يُقال جزع عند الموت، ولولا أن يكون عليك وعلى بني أبيك غضاضة ومسبَّة بعدي لقلتها، ولأقررتُ بها عينك عند الفراق لما أرى من شدة وجدك ونصحك، ولكني سوف أموت على ملة الأشياخ عبدالمطلب وهاشم وعبدمناف ». انتهى.
..........................................................
* لم أجده بهذا اللفظ.(1/124)
في الصحيح(1) عن ابن المُسيِّبِ عن أبيه(2) قال: لما حضَرَت أبا طالب الوفاةُ جاءه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، وعنده عبدُالله بن أبي أُميَّة وأبوجهل، فقال له: «يا عمّ(3)، قل: لا إله إلا الله(4)
__________
(1) قوله: «في الصحيح » أي الصحيحين «عن ابن المسيب» وهو سعيد بن المسيب المخزومي القرشي، أحد العلماء الأثبات والفقهاء الكبار الحفَّاظ العبَّاد، اتفقوا على أن مراسيله أصح المراسيل. قال ابن المديني: لا أعلم في التابعين أوسع علماً منه، مات بعد التسعين وقد ناهز الثمانين.
(2) قوله: «عن أبيه » وأبوه المسيب صحابي، وكذا جده حَزَن صحابي، استشهد باليمامة. قال: «لما حضرت أبا طالب الوفاة » أي ظهرت عليه علامات الموت «جاءه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعنده عبدالله بن أبي أمية وأبوجهل » يحتمل أن يكون المسيب حضر هذه القصة، فإن المذكورين من بني مخزوم، وهو أيضاً مخزومي وكانوا يومئذٍ كفاراً فمات أبوجهل على الكفر وأسلم الآخران، وفي هذا جواز عيادة المشرك إذا رُجي إسلامه، وجواز حمل العلم إذا كان فيه مصلحة راجحة على عدمه.
(3) قوله: «فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «يا عم » منادى مضاف يجوز فيه إثبات الياء وحذفها. قاله في «الشرح»*.
(4) قوله: «قل: لا إله إلا الله كلمةً أُحاجّ لك بها عند الله »** أي قل هذه الكلمة لأنه يعرف معناها وما دلَّت عليه من البراءة من كل معبود سوى الله، فلو قالها في تلك الحال لنفعته؛ لأنه لا يقولها إلا عن اعتقاد لمعناها وما دلت عليه.
وفيه معرفة تفسير قوله «قل: لا إله إلا الله » بخلاف ما عليه من يدعي العلم، وأن أبا جهل ومن معه يعرفون مراد النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا قال الرجل: قل لا إله إلا الله، فقبَّح اللهُ مَنْ أبوجهلٍ أعلمَ منه بأصل الإسلام. قاله المصنف رحمه الله.
وقوله «كلمة » بالنصب على أنه بدل من لا إله إلا الله، ويجوز رفعها على
..........................................................
* (ص/250)
** أخرجه البخاري (1360، 3884)، ومسلم (24).(1/125)
، كلمةً أُحاجُّ لك بها
عند الله(1)». فقالا له(2): أترغبُ عن ملةِ عبدالمطلب ؟ فأعاد عليه
النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأعادا، فكان آخر ما قال: هو على ملة عبدالمطلب،
وأبَى أن يقول لا إله إلا الله. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لأستغفرنّ لك ما لم
__________
(1) حتمال لمبتدأ. قاله القرطبي.
( ) قوله: «أُحاجّ لك بها عند الله » هو بتشديد الجيم من المحاجَّة جواب الأمر، أي أشهد لك بها عند الله. وفيه دليل على أن الأعمال بالخواتيم، فلو قالها نفعته وإن لم يعمل شيئاً غير ذلك.
(2) قوله: «فقالا له » أي أبوجهل وعبدالله بن أبي أمية «أترغب عن ملة عبدالمطلب » ذكَّراه الحُجَّة الملعونة التي يتعلق بها المشركون الأولون والآخرون وهي تقليد الآباء والكبراء، وأخرجا الكلام مخرج الاستفهام مبالغة في الإنكار لعظمة هذه الحجة عندهم، ولذا اكتفياء بها في المجادلة مع مبالغته - صلى الله عليه وسلم - وتكراره، فلأجل وضوحها عندهم اقتصرا عليها. قاله المصنف رحمه الله.
و «ملة عبدالمطلب » هي عبادة الأوثان والشرك بالله في إلهيته «فأعاد عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - فأعاد، فكان آخر ما قال » الأحسن فيه الرفع على أنه اسم «كان » وجملة «هو » وما بعدها الخبر «هو على ملة عبدالمطلب ». وقد رواه الإمام أحمد بلفظ: أنا على ملة عبدالمطلب فغيره الراوي استقباحاً للفظ المذكور؛ لأنه لو حكاه بلفظه لأوهم عود الضمير إلى المتكلم وهو من التصرفات الحسنة. قاله الحافظ ابن حجر.
قوله: «وأبى أن يقول لا إله إلا الله » قال الحافظ ابن حجر: «هذا تأكيدٌ من الراوي في نفي وقوع ذلك من أبي طالب ».
وفيه: الرد على من زعم إسلام عبدالمطلب وأسلافه، ومضرّة أصحاب السوء على الإنسان، ومضرة تعظيم الأسلاف. قاله المصنف رحمه الله تعالى.(1/126)
أُنْهَ عنك(1)» فأنزل الله عز وجل: { مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ
يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ(2)
__________
(1) قوله: «فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: لأستغفرن لك ما لم أُنْه عنك ». وفي رواية مسلم: «أَمَا والله لأستغفرن لك ». قال النووي: وفيه جواز الحلف من غير استحلاف، والحلف
(2) ... والحلف هنا لتأكيد العزم على الاستغفار .
( ) قوله : «فأنزل الله { مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} الآية» أي : ما ينبغي لهم ذلك ، وهو خبر بمعنى النهي . والظاهر أن هذه الآية نزلت في أبي طالب، فإن الإتيان بالفاء المفيدة للترتيب في قوله فأنزل الله بعد قوله : « لأستغفرن لك ما لم أُنْه عنك» يفيد ذلك ، وقد ذكر العلماء لنزول هذه الآية أسباباً أُخر ، فلا منافاة ؛ لأن أسباب النزول قد تتعدّد، وقد روى الطبراني عن عمرو بن دينار قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «استغفر إبراهيم لأبيه وهو مشرك فلا أزالُ أستغفر لأبي طالب حتى نهاني عنه ربي». فقال أصحابه : نستغفر لآبائنا كما استغفر نبينا لعمه فنزلت : { مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ * وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأبِيهِ إِلا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ } [التوبة :113-114]. قال الحافظ ابن حجر [الفتح 7/195]: «ويظهر أن الآية المتعلقة بالاستغفار نزلت بعد أبي طالب بمدة، وهي عامة في حقه وحق غيره ، يوضح ذلك ما يأتي في التفسير ، فأنزل الله بعد ذلك : { مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ } الآية ، ونزل في أبي طالب { إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْت } كلُّه ظاهر في أنه مات على غير الإسلام ، ويضعف ما ذكره السهيلي أنه رأى في بعض كتب المسعودي أنه أسلم ؛ لأن مثل ذلك لا يعارض ما في الصحيحين». انتهى .
وفيه : تحريم الاستغفار للمشركين وموالاتهم ومحبتهم؛ لأنه إذا حرم الاستغفار لهم فموالاتهم ومحبتهم أولى . قاله الحافظ ابن حجر .
..........................................................
* أخرجه الطبري في تفسيره (11/31) ، والسيوطي في الدر المنثور (3/283) .(1/127)
} [التوبة:113].
وأنزل في أبي طالب: { إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ } (1)
__________
(1) قوله: «وأنزل الله في أبي طالب: { إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ } .
قال ابن كثير [التفسير 6/245-246]: «يقول تعالى لرسوله محمد - صلى الله عليه وسلم -: إنك يا محمد { لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ } ، أي ليس ذلك إليك إنما عليك البلاغ والله يهدي من يشاء».
والمنفي هنا هداية التوفيق والقبول، فإن أمر ذلك إلى الله وحده وهو القادر عليه، فنفى عنه هذه الهداية وأثبت له هداية الدعوة والبيان في قوله: { وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } [الشورى:52].
وفيه: جِدُّه - صلى الله عليه وسلم - ومبالغته في إسلام عمِّه وكونه استغفر له فلم يغفر له، بل نُهي عن ذلك. قاله المصنف رحمه الله. وكانت وفاة أبي طالب بمكة قبل الهجرة بقليل.
قال ابن فارس: «مات أبوطالب ولرسول الله - صلى الله عليه وسلم - تسع وأربعون سنة وثمانية أشهر وأحد عشر يوماً، وتوفيت خديجة رضي الله عنها بعد موت أبي طالب بثمانية أيام، ومن حكمة الرب تبارك وتعالى في عدم هداية أبي طالب إلى الإسلام ليبيِّن لعباده أن ذلك إليه، وهو القادر عليه دون ما سواه، فلو كان عند النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي هو أفضل خلقه وأكرمهم عليه من هداية القلوب وتفريج الكروب، ومغفرة الذنوب، والنجاة من العذاب ونحو ذلك شيء لكان أحق الناس بذلك وأولاهم به عمه الذي كان يحوطُه ويحميه ويؤويه، وناله بسببه من الأذى ما ناله، وحُصر في الشعب سنوات، وقاطعته قريش من أجله، وكان ينشد الأشعار في الذَّبِّ عنه ومدحه والثناء عليه وعلى دينه الذي يدعو إليه، ومن ذلك قوله في قصيدته اللامية المشهورة:
ولما رأيتُ القوم لا ودَّ فيهم
وقد صارحونا بالعداوة والأذى صبرت لهم نفسي بسمراء سمحة وأحضرت عند البيت رهطي وإخوتي
وقد قطعوا كل العُرى والوسائل
وقد طاوعوا أمر العدو المزايل
وأبيض عضب من تراث المقاول
وأمسكتُ من أثوابه بالوصائل
قياماً معاً مستقبلين رتاجه
لدى حيث يقضي حلفه كل تافل
كذبتم وبيت الله نترك مكة
كذبتم وبيت الله نبزي محمداً
ونسلمه حتى نُصرع حوله
ونظعن إلا أمركم في بلابل
ولما نطاعن دونه ونناضل
ونذهل عن أبنائنا والحلائل
إلى أن قال:
لعمري لقد كلفت وجداً بأحمد
وأبيض يستسقى الغمامُ بوجهه
فلا زال في الدنيا جمالاً لأهلها
فمن مثله في الناس أي مؤمِّل
وإخوته دأب المحب المواصل
ثمال اليتامى عصمة للأرامل
وزيناً لمن والاه رب المشاكل
إذا قاسه الحكَّام عند التفاضل
حليم رشيد عادل غير طائش
فوالله لولا أن أجيء بسبّة
لكنا اتبعناه على أي حالة
فأصبح فينا أحمد في أرومة
حديث بنفسي دونه وحميته
فأيَّده ربُّ العباد بنصره
يوالي إلهاً ليس عنه بغافل
تجرُّ على أشياخنا في المحافل
من الدهر جداً غير قول التهازل
تقصر عنه سورة المتطاول
ودافعت عنه بالذرى والكلاكل
وأظهر ديناً حقاً غير باطل
وفي قصة وفاة أبي طالب المروية في الصحيحين* وحرص النبي - صلى الله عليه وسلم - على إسلامه فلم يسلم بل مات على ملة عبدالمطلب التي هي عبادة الأوثان والشرك بالله ونزل في حقه: { إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ } واستغفار النبي - صلى الله عليه وسلم - له فلم يغفر له بل نهى عن ذلك وأنزل الله في النهي عنه قوله تعالى: { مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ
..........................................................
* البخاري (4772)، ومسلم (24).
أَصْحَابُ الْجَحِيمِ } [التوبة:113]: الرد على الرافضة الذين يزعمون إسلام أبي طالب وعلى الشيخ أحمد زيني دحلان الذي ألَّف لهم كتاباً في إسلامه سماه «أسنى المطالب في إسلام أبي طالب » مع ما ورد في قصة وفاته وما نزل في ذلك من الآيات، وما تظاهرت به الأحاديث من أن له نعلان من نار يغلي منهما دماغه كما يغلي المرجل، نسأل الله السلامة والعافية بمَنِّه وكرمه، ونعوذ به من زيغ القلوب ورين الذنوب وعمى البصائر.(1/128)
[القصص:56].
...........................................................................................
* * *
19- باب
ما جاء أنَّ سببَ كُفر بني آدمَ وتركهم دينَهم هو الغُلُوُّ في الصالحين(1)
وقول الله عز وجل: { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ } (2) الآية [النساء: 171].
__________
(1) قوله: «باب ما جاء أن سبب كفر بني آدم وتركهم دينهم هو الغلو في الصالحين»: أراد المصنف رحمه الله تعالى بهذه الترجمة أن يبيِّن أن الغلو في الصالحين يكون سبباً للخروج من الدين، فإن الشيطان يخرج الغلو فيهم في قالب محبتهم وأنه من الدين الذي يقرّبهم إلى الله تعالى، ويثابون عليه وهو يجر إلى أعظم الذنوب وهو الشرك بالله وعبادة من غلوا فيه
(2) قوله: «وقول الله تعالى: { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ } أهل الكتاب هم اليهود والنصارى،والغلو هو الإفراط في التعظيم بالقول والفعل والاعتقاد، أي لا تجاوزوا الأمر المشروع في الدين ولا ترفعوا المخلوق عن منزلته التي أنزله الله وهي العبودية إلى المنزلة التي لا تنبغي إلا لله، والخطاب وإن كان لأهل الكتاب فإنه عام يتناول جميع الأمة تحذيراً لهم أن يفعلوا كفعل اليهود والنصارى، وبسبب الغلو وقع الشرك في العبادة في هذه الأمة.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: ومن تشبَّه من هذه الأمة باليهود والنصارى، وغلا في الدين بإفراط فيه أو تفريط فقد شابههم، قال: وعليٌّ - رضي الله عنه - حرق الغالية من الرافضة، فأمر بأخاديد خُدّت لهم عند باب كندة فقذفهم فيها وقال:
... ... لما رأيتُ الأمرَ مُنكَراً * * أجَّجتُ ناري ودعوتُ قُنبرا
يعنى مولى ليساعده على قذفهم في النار.
واتفق الصحابة على قتلهم لكن ابن عباس مذهبه أن يُقتلوا بالسيف من غير تحريق وهو قول أكثر العلماء. قال ابن عباس: كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الإسلام ثم ظهر الشرك بسبب تعظيم قبور صالحيهم.(1/129)
في الصحيح(1) عن ابن عباس رضي الله عنهما في قول الله تعالى: { وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آَلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا } [نوح:23](1)
__________
(1) قوله: «وفي الصحيح » أي: صحيح البخاري، «عن ابن عباس رضي الله عنهما في قول الله تعالى: { وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آَلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا } " قال: «هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصاباً وسموها بأسمائهم، ففعلوا، ولم تُعبد، حتى إذا هلك أولئك ونُسي العلم عُبدت »* هذا الأثر اختصره المصنف والذي في البخاري عن ابن عباس صارت الأوثان التي في قوم نوح في العرب بعد، أما ودّ فكانت لكلب بدومة الجندل، وأما سواع فكانت لهُذيل، وأما يغوث فكانت لمراد ثم لبني غطفان بالجرف عند سبأ، وأما يعوق فكانت لهمدان، وأما نسر فكانت لحمير لآل ذي الكلاع، أسماء رجال صالحين في قوم نوح، وكان لهم أتباع يقتدون بهم، فلما ماتوا قال أصحابهم الذين كانوا يقتدون بهم: لو صوّرناهم كان أشوق لنا إلى العبادة إذا ذكرناهم. فصوّروهم، فلما ماتوا وجاء آخرون دبَّ إليهم إبليس فقال: إنما كانوا يعبدونهم وبهم يسقون المطر فعبدوهم، وكانوا يتبركون بدعائهم، وكلما مات منهم أحدٌ مثلوا صورته وتمسحوا بها، فعبدوهم بتدريج الشيطان لهم ثم صارت سنة في العرب في الجاهلية.
قال القرطبي [التفسير 18/308]: «وإنما صور أوائلهم الصور ليستأنسوا بهم ويتذكروا أفعالهم الصالحة فيجتهدوا كاجتهادهم، ثم خلفهم قوم جهلوا مرادهم فوسوس لهم الشيطان أن أسلافهم كانوا يعبدون هذه الصور ويعظمونها ». انتهى.
وروى الفاكهي عن ابن الكلبي قال: «كان لعمرو بن ربيعة رئي من الجن فأتاه فقال: أجب أبا ثمامة، ودخل بلا ملامة، ثم إتِ سيف جُدة تجد بها أصناماً معدة ثم أوردها تهامة، ولا تهب، ثم ادع العرب إلى عبادتها تجب.
..........................................................
* أخرجه البخاري (4940).
قال: فأتى عمرو ساحل جُدة فوجد بها وداً وسواعاً ويغوث ويعوق ونسراً وهي الأصنام التي عُبدت على عهد نوح وإدريس، ثم إن الطوفان طرحها هناك فسفى عليها الرمل فاستثارها عمرو وخرج بها إلى تهامة وحضر الموسم ودعى إلى عبادتها فأجيب. وعمرو بن ربيعة هو عمرو بن لُحي وكانت العرب قبله على دين إبراهيم عليه السلام حتى نشأ فيهم عمرو فأحدث الشرك، روى ابن جرير عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول لأكثم بن الجون: «يا أكثم، رأيتُ عمرو بن لحي بن قمئة بن خندق يجر قُصْبَه في النار، فما رأيتُ رجلاً أشبه برجل منك به ولا به منك». فقال أكثم: أتخشى أن يضرني شبهه يا رسول الله ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إنك مؤمن وهو كافر، إنه أول من غيَّر دين إبراهيم، وبحر البحيرة، وسيَّب السائبة، وحمى الحامي »*. إسناده حسن. والأنصاب: المراد بها الأصنام المصورة على صورهم المنصوبة في مجالسهم.
وقوله: «حتى إذا هلك أولئك » أي الذين نصبوها ليكون أشوق لهم إلى العبادة وليتذكروا برؤيتها أفعالهم.
قوله: «ونُسِيَ العلمُ » أي المعرفة بحالها وما قصده من صورها وغلب الجهَّال الذين لا يميِّزون بين التوحيد والشرك، وذهب العلماء الذين يعرفون ذلك عُبدت وقالوا: ما عَظَّم أولونا هؤلاء إلا وهم يرجون شفاعتهم عند الله فعبدوهم، فهذا هو السبب في عبادة هؤلاء الصالحين وهو رجاء شفاعتهم عند الله.
..........................................................
* أخرجه ابن أبي عاصم (ق20/1)، والحاكم (4/605)، وقال: صحيح على شرط مسلم. ووافقه الذهبي. وقال الألباني: هو حسن فقط. انظر الصحيحة (4/243-244).(1/130)
قال: هذه أسماء رجالٍ صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصاباً وسمُّوها بأسمائهم، ففعلوا، ولم تُعبَد، حتى إذا هلك أولئك ونُسي العلمُ عُبدَتْ.
وقال ابن القيم: «قال غير واحد من السلف: لما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم صوَّروا تماثيلهم، ثم طال عليهم الأمدُ فعبدوهم»(1)
__________
(1) قوله: «وقال ابن القيم » هو العلاّمة المحقق محمد بن أبي بكر بن أيوب الزرعي الدمشقي المعروف بابن قيم الجوزية، قال السخاوي: «العلامة الحجة المتقدم في سعة العلم ومعرفة الخلاف وقوة الجنان، المجمع عليه بين الموافق والمخالف، صاحب التصانيف السائرة والمحاسن الجمة، مات سنة إحدى وخمسين وسبعمائة». «قال غير واحد من السلف: لما ماتوا عكفوا على قبورهم ثم صوروا تماثيلهم ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم ». فتبيَّن أن مبدأ الشرك بالصالحين هو الغلو فيهم وهو أول شرك حدث في الأرض.
قال شيخ الإسلام: «الغلو في الأمة في طائفتين: طائفة من ضلاَّل الشيعة الذي يعتقدون في الأنبياء والأئمة من أهل البيت الألوهية، وطائفة من جهال المتصوفة يعتقدون نحو ذلك في الأنبياء والصالحين ».
وقال العلاَّمة ابن القيم رحمه الله: فالغلو في الصالحين هو الذي أوحاه الشيطان إلى عُبَّاد القبور في هذه الأزمان، فإنه ألقى إليهم أن البناء على القبور والعكوف عندها من محبة الصالحين وتعظيمهم، وأن الدعاء عندها أرجى في الإجابة من الدعاء في المسجد الحرام والمساجد فاعتادوها لذلك، فإذا تقرر ذلك عندهم نقلهم إلى الدعاء به والإقسام على الله به وهذا أعظم من الذي قبله، فإن شأن الله أعظم من أن يقسم عليه أو يسأل بأحد من خلفه. فإذا تقرر ذلك عندهم نقلهم منه إلى دعاء الناس إلى عبادته واتخاذه عيداً ومنسكاً، فإذا تقرر ذلك عندهم نقلهم منه إلى أن من نهى عن ذلك فقد تنقص أهل الرتب العالية وحطَّهم عن منزلتهم وزعم أنه لا حرمة لهم ولا قدر، وغضب المشركون وأشمأزت قلوبهم كما قال تعالى: { وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ } [الزمر:45]، وسرى ذلك في نفوس كثير من الجهال والطغام وكثير ممن ينتسب إلى العلم والدين حتى عادوا أهل التوحيد، ورموهم
بالعظائم، ونفروا الناس عنهم ووالوا أهل الشرك وعظّموهم وزعموا أنهم أولياء الله وأنصار دينه ورسوله، ويأبى الله ذلك وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلا المتقون. فكل ما عُبد من دون الله من قبر أو مشهد أو صنم أو طاغوت، فالأصل في عبادته هو الغلو كما لا يخفى على من له بصيرة في الدين، فانظر إلى ما يفعل في مصر عند أحمد البدوي وهو لا يعرف له أصل ولا فضل ولا علم ولا عبادة ومع هذا صار أعظم آلهتهم مع أنه لا يعرف إلا أنه دخل المسجد يوم الجمعة فبال فيه ثم خرج ولم يصلِّ. ذكره السخاوي عن أبي حيان. فزيَّن لهم الشيطان عبادته فاعتقدوا أنه يتصرف في الكون ويطفئ الحريق وينجي الغريق، وصرفوا له أنواع العبادة من الدعاء والذبح والنذور واعتقدوا أنه يعلم الغيب وأنه يسمع من دعاه من الديار البعيدة ويستجيب له، وكذلك أهل الشام قد فُتنوا بابن عربي إمام أهل الوحدة الذين هم أكفر من اليهود والنصارى، وجعلوا على قبره قبة وصاروا يطوفون به ويذبحون له النذور ويدعونه، وقد ألَّف السخاوي كتاباً في ترجمته سماه «القول المنبي عن ترجمة ابن عربي » ذكر فيها أشياء من أقواله الشنيعة.
وما قاله أهل العلم فيه وفتاواهم بكفره، وفيه يقول محمد بن إسماعيل الأمير الصنعاني:
وأكفر أهل الأرض من قال إنه
مسماه كل الكائنات جميعها
وإن عذاب النار عذاب لأهلها
وعباد عجل السامري على هدى
وتنشدنا عنه نصوص فصوصه
وكنت امرءاً من جند إبليس فارتمى
فلو مات قبلي كنت أدركت بعده
إله فإن الله جل عن النِّدِ
من الكلب والخنزير والقرد والفهد
سواء عذاب النار أو جنة الخلد
ولائمهم في اللوم ليس على رُشدِ
تنادى خذوا في النظم مكنون ما عندي
بي الدهر حتى صار إبليس من جندي
دقائق كفر ليس يدركها بعدي
وكذا أهل العراق ومن حولهم كأهل عمان يعتقدون في عبدالقادر الجيلاني كاعتقاد
أهل مصر في البدوي، وجرى في نجد والحجاز واليمن وحضرموت وغيرها من عبادة الجن والطواغيت والأشجار والقبور ما عمّت به البلوى ولكن الله أزال ذلك من نجد بسبب الدعوة المباركة التي قام بها الإمام المجدد الشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمه الله ورضي عنه وعن أئمة الهدى من آل سعود الذين أيَّدوه ونصروه، وبعد دخول الحكومة السعودية الحجاز زال كثير من الأوثان والطواغيت التي كانت تُعبد من دون الله، فقد كان لقبر خديجة رضي الله عنها سدنة، وفي الليلة الحادية عشرة من كل شهر يذهب الناس إليها ينادونها: يا صاحبة الليلة يا بنت خويلد، علماؤهم وعامتهم، فلله الحمد والمنة على زوال ذلك، ونسأله أن ينصر دينه ويعلي كلمته ويزيل الشرك وآثاره من سائر البلاد إنه على كل شيء قدير وبالإجابة جدير.
ومن فهم هذا الباب وبابين بعده تَبَيَّن له غربة الإسلام، ورأى من قدرة الله وتقليبه للقلوب العجب.
وفيه: معرفة أول شرك حدث في الأرض أنه بشبهة الصالحين، وأول شيء غُيِّر به دين الأنبياء وما سبب ذلك مع معرفة أن الله أرسلهم، وقبول النفوس للبدع مع كون الشرائع والفطر تردها، وأن سبب ذلك كله مزج الحق بالباطل، فالأول: محبة الصالحين. والثاني: فعل أناس من أهل العلم والدين شيئاً أرادوا به خيراً فظن من بعدهم أنهم أرادوا به غيره.
وفيه: معرفة تفسير الآية التي في سورة نوح ومعرفة جبلة الإنسان في كون الحق ينقص في قلبه والباطل يزيد، وفيه شاهد لما نقل عن السلف أن البدعة سبب الكفر ومعرفة الشيطان بما تؤول إليه البدعة، ولو حسن قصد الفاعل وأنها أحب إلى الشيطان من المعصية ؛ لأن المعصية يتاب منها والبدعة لا يُتاب منها، ومضرة العكوف على القبر لأجل عمل صالح ومعرفة النهي عن التماثيل والحكمة في إزالتها ومعرفة عظم شأن هذه القصة وشدة الحاجة إليها مع الغفلة عنها.(1/131)
.
وعن عمر(1) أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تُطروني كما أطْرَت النصارى ابن مريم(2)، إنما أنا عبدٌ، فقولوا عبدُ الله ورسوله»(3)
__________
(1) ومنها - وهي أعجب -: قراءتهم إياها في كتب التفسير والحديث ومعرفتهم بمعنى الكلام وكون الله حال بينهم وبين قلوبهم حتى اعتقدوا أن فعل قوم نوح أفضل العبادات، واعتقدوا أن ما نهى الله ورسوله عنه هو الكفر المبيح للدم والمال، والتصريح بأنهم لم يريدوا إلا الشفاعة، وظنهم أن العلماء الذين صورو الصور أرادوا ذلك، والتصريح بأنها لم تُعبد حتى نُسي العلم، ففيها بيان معرفة قدر وجود العلم ومضرة فقده، وأن سبب فقد العلم موت العلماء. قاله المصنف رحمه الله تعالى.
( ) قوله: «وعن عمر - رضي الله عنه - » وهو الخليفة الراشد عمر بن الخطاب بن نفيل العدوي أمير المؤمنين وأفضل الصحابة بعد أبي بكر الصديق - رضي الله عنه -، ولي الخلاف عشر سنين ونصفاً فامتلأت الدنيا عدلاً وفتحت في أيامه ممالك كسرى وقيصر وأنفقت كنوزهما في سبيل الله، كما أخبر بذلك الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يُوحى. واستشهد في ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين من الهجرة.
(2) قوله: «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم » الإطراء هو مجاوزة الحد في المدح والكذب فيه. قاله أبوالسعادات.
(3) وقوله: «إنما أنا عبدٌ، فقولوا: عبدُ الله ورسوله » أخرجاه*. أمرهم رسول - صلى الله عليه وسلم - أن لا يتجاوزوا هذا القول، أي صفوني بما وصفني به ربي في قوله { تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ } [الفرقان:1]، وقوله: { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ } [الإسراء:1]، وقوله: { وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا } [البقرة:23] فمنزلة العبودية أخصّ أوصافه - صلى الله عليه وسلم -.
وفيه: البيان العظيم في قوله: «لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم»،
..........................................................
* أخرجه البخاري (3445) و (6830)، ومسلم (1691).(1/132)
. أخرجاه.
وقال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إياكم والغلو(1)، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو».
__________
(1) صلوات الله وسلامه عليه فقد بلغ البلاغ المبين. قاله المصنف رحمه الله تعالى. فأبى المشركون إلا مخالفة أمره، وارتكاب نهيه. وعظّموه بما نهاهم عنه وحذّرهم منه، وناقضوه أعظم مناقضة، وضاهوا النصارى في غلوّهم وشركهم، ووقعوا في المحذور، وجرى منهم من الغلو والشرك شعراً ونثراً ما يطول عدُّه. قاله في «فتح المجيد»*.
قلت: ومن الإطراء قول البوصيري:
دعْ ما ادّعته النصارى في نبيهم
لو ناسبَتْ قدرَه آياتُه عظماً
واحكم بما شئت مدحاً فيه واحتكم
أحيا اسمُه حين يُدعى دارسَ الرمم
يقول: دَعْ ما ادّعته النصارى في نبيهم فلا تقل: محمد هو الله، ولا ابن الله، ولا ثالث ثلاثة، واحكم بما شئت. قل: محمد يخلق ويرزق ويحيي ويميت.
وقوله «لو ناسبت قدره آياته عظماً » فيه نسبة الظلم إلى الله، وأنه لم يعطِ محمداً آيات تناسب قدره، ولو أعطاه آيات تناسب قدره لأحيا الأموات إذا دعوته باسمه.
( ) قوله: «وعن ابن عباس » رضي الله عنهما «قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إياكم والغلو، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو »** هذا الحديث رواه الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه عن ابن عباس قال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غداة العقبة وهو على ناقته: «القطْ لي حصى » فلقطتُ له سبع حصيات هن حصى الخذف فجعل ينفضهن في كفه ويقول: «أمثال هؤلاء فارمُوا، وإياكم والغلو... » الحديث.
قال شيخ الإسلام: «هذا عام في جميع أنواع الغلو في الاعتقادات والأقوال والأعمال».
..........................................................
* (1/380).
** أخرجه أحمد (1/215، 347)، والنسائي (5/268، 269)، وابن ماجه (3029)، وصححه الألباني في الصحيحة (1283).(1/133)
ولمسلم عن ابن مسعود(1) أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «هلك المتنطعون». قالها ثلاثاً.
* * *
20- باب
ما جاء من التغليظ فيمن عَبَد الله
عند قبر رجل صالح فكيف إذا عَبَده ؟(2)
__________
(1) وفيه: القاعدة الكلية وهي النهي عن الغلو ومعرفة ما يؤول إليه. قاله المصنف رحمه الله تعالى.
( ) قوله: «ولمسلم عن ابن مسعود » - رضي الله عنه - «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «هلك المتنطعون ». قالها ثلاثاً »* قال في «النهاية» [5/63]: «المتنطعون المتعمقون الغالون في الكلام المتكلمون بأقصى حلوقهم، مأخوذ من النطع وهو الغار الأعلى من الفم، ثم استُعمل في كل تعمق قولاً وفعلاً». قال النووي: «فيه كراهة التقَّعُر في الكلام بالتشدق وتكلُّف الفصاحة، واستعمال وحشي اللغة ودقائق الإعراب في مخاطبة العوام ونحوهم».
قوله: «قالها ثلاثاً » مبالغة في التعليم والتحذير. قاله المصنف رحمه الله تعالى.
..........................................................
* أخرجه مسلم (2670).
(2) قوله: «باب ما جاء من التغليظ فيمن عبدَ الله عند قبر رجل صالح فكيف إذا عبده» أراد المصنف رحمه الله تعالى بهذه الترجمة أن يبيِّن أنه إذا كانت عبادة الله عند القبور منهياً عنها ومحرمة فكيف إذا عُبد أصحاب القبور، فإن عبادتها هي الشرك الأكبر، وعبادة الله عندها وسيلة إلى عبادتها، ووسائل الشرك محرمة لأنها تؤدي إلى الشرك.(1/134)
في الصحيح(1) عن عائشة رضي الله عنها أنَّ أمَّ سَلَمة ذكرتْ لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -(2) كنيسةً رأتها بأرض الحبشة وما فيها من الصور فقال: «أولئكِ(3) إذا مات فيهم الرجلُ الصالح -أو العبدُ الصالح(4)- بنوْا على قبر مسجداً(5)، وصوَّروا فيه تلك الصُّور، أولئكِ شرارُ الخلقِ عند الله»(6)
__________
(1) قوله: «وفي الصحيح » أي الصحيحين «عن عائشة رضي الله عنها أن أم سلمة » وهي هند بنت أبي أمية بن المغيرة بن عمرو بن مخزوم القرشية المخزومية تزوجها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد أبي سلمة سنة أربع، وقيل ثلاث، وكانت قد هاجرت مع أبي سلمة إلى أرض الحبشة، وفي «الصحيحين» أن أم سلمة وأم حبيبة ذكرتا ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، تُوفيت سنة اثنتين وستين.
(2) قوله: «ذكرت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - » والكنيسة بفتح الكاف وكسر النون: معبد النصارى وما فيها من الصور.
(3) قوله: «فقال: أولئكِ » بكسر الكاف خطاب للمرأة.
(4) قوله «إذا مات فيهم الرجل الصالح أو العبد الصالح » هذا - والله أعلم - شك من أحد رواة الحديث، هل قال النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا أو هذا؟ وفيه التحري في الرواية والرواية بالمعنى. قاله في «الشرح»*.
(5) قوله: «بنوا على قبره مسجداً » أي موضعاً للصلاة، «وصوروا فيه تلك الصور » والإشارة إلى ما ذكرت أم سلمة وأم حبيبة من التصاوير التي في الكنيسة.
..........................................................
* (ص/267).
(6) قوله: «أولئكِ شرار الخلق عند الله »* وفيه: ما ذكر الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيمن بنى مسجداً يُعبد الله فيه عند قبر رجل صالح، ولو صحَّت نية الفاعل والنهي عن التماثيل وغلظ الأمر في ذلك. قاله المصنف رحمه الله.
وهذا يقتضي تحريم بناء المساجد على القبور وتصوير الصور لا سيما وقد ثبت اللعن عليه. قال البيضاوي: «ولما كانت اليهود والنصارى يسجدون لقبور الأنبياء تعظيماً لهم ويجعلونها قبلة يتوجهون في الصلاة نحوها واتخذوها أوثاناً، لعنهم النبي - صلى الله عليه وسلم - ومنع المسلمين عن مثل ذلك، وإنما كانوا شرار الخلق عند الله لبناء المساجد على القبور، والتصوير لكونه ذريعة إلى عبادة من بنوا عليه المسجد وصوروا صورته».(1/135)
. فهؤلاء جمعوا بين الفتنتين: فتنة القبور، وفتنة التماثيل(1).
ولهما عنها(2)
__________
(1) قوله: «فهؤلاء جمعوا بين الفتنتين: فتنة القبور، وفتنة التماثيل » هذا من كلام شيخ الإسلام أحمد بن تيمية - رحمه الله -، ذكره المصنف تنبيهاً على ما وقع من شدة الفتنة بالقبور والتماثيل، فإن الفتنة بالقبور كالفتنة بالأصنام أو أشد. قاله في «فتح المجيد»**.
قال شيخ الإسلام [الاقتضاء 2/674]: «وهذه العلة التي لأجلها نهى الشارع - صلى الله عليه وسلم - عن اتخاذ المساجد على القبور هي التي أوقعت كثيراً من الأمم إما في الشرك الأكبر، أو فيما دونه من الشرك، فإن النفوس قد أشركت بتماثيل الصالحين وتماثيل يزعمون أنها طلاسم الكواكب ونحو ذلك، فإن الشرك بقبر الرجل الذي يُعتقد صلاحه أقرب إلى النفوس من الشرك بخشبة أوحجر، ولهذا تجد أهل الشرك يتضرعون عندها ويخشعون، ويعبدون بقلوبهم عبادة لا يفعلونها في بيوت الله، ولا وقت السَّحَر، ومنهم من يسجد لها، وأكثرهم يرجون من بركة الصلاة عندها والدعاء ما لا
..........................................................
* أخرجه البخاري (427) و(474) و(1341) و(3873)، ومسلم (528).
** (1/387).
(2) رجونه في المساجد، فلأجل هذه المفسدة حسم النبي - صلى الله عليه وسلم - مادتها حتى نهى عن الصلاة في المقبرة مطلقاً، وإن لم يقصد المصلي بركة البقعة بصلاته، وأما إذا قصد الرجل الصلاة عند القبور متبركاً بالصلاة في تلك البقعة فهذا عين المحادَّة لله ولرسوله، والمخالفة لدينه، وابتداع دين لم يأذن به الله». انتهى ملخصاً.
( ) قوله: «ولهما» أي البخاري ومسلم «عنها » أي عن عائشة رضي الله عنها «قالت: لما نُزِلَ برسول الله - صلى الله عليه وسلم - » بضم النون وكسر الزاي أي: نزلَ به ملكُ الموت والملائكة الكرام لقبض روحه الشريفة «طَفِقَ» بكسر الفاء أي جعل «يطرح خميصة له على وجهه » والخميصة كساء له أعلام «فإذا اغتمّ بها كشفها عن وجهه » وفيه: ما بُلِيَ به - صلى الله عليه وسلم - من شدة النزع. قاله المصنف.(1/136)
قالت: لما نُزِلَ برسول الله - صلى الله عليه وسلم - طَفِقَ يطرحُ خميصة له على وجهه، فإذا اغتمَّ بها كشَفَها، فقال وهو كذلك: «لعنةُ الله على اليهود والنصارى؛ اتخذوا قبورَ أنبيائهم مساجد(1)». يُحذِّر ما صنعُوا(2)، ولولا ذلك أُبرزَ قبرُه(3)،
غير أنه خَشي أن يُتَّخذَ مسجداً(4). أخرجاه.
__________
(1) قوله: «فقال وهو كذلك: لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد»* وهذا هو الشاهد من الحديث للترجمة، وهذا يُبيِّن أن من فعل مثل ذلك حلَّ عليه من اللعنة ما حل على اليهود والنصارى.
(2) وقوله: «يحذِّر ما صنعوا » والظاهر أن هذا مدرجٌ في الحديث من كلام عائشة رضي الله عنها؛ لأنها فهمت من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك تحذير أمَّته عن أن يفعلوا هذا الصنيع الذي كانت تفعله اليهود والنصارى معه ومع الصالحين من أمته. وهذا الذي لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاعله تحذيراً لأمته أن يفعلوه معه ومع الصالحين من أمته قد فعله الخلق الكثير من متأخري هذه الأمة واعتقدوه قربةً من القربات، وهو من أعظم السيئات والمنكرات وما شعروا أن ذلك محادَّة لله ورسوله.
(3) قوله: «ولولا ذلك» أي ما كان يحذر من اتخاذ قبره مسجداً «لأبرز قبره» وجعل مع قبور أصحابه في البقيع.
..........................................................
* يأتي تخريجه (ص/94) وهو في الصحيحين.
(4) قوله: «غير أنه خُشي أن يتخذ مسجداً »* بفتح الخاء وضمها، فعلى الفتح يكون هو الذي خشي ذلك - صلى الله عليه وسلم - وأمرهم أن يدفنوه في المكان الذي قُبض فيه، وعلى رواية الضم يحتمل أن يكون الصحابة هم الذين خافوا أن يقع ذلك من بعض الأمة فلم يبرزوا قبره.(1/137)
ولمسلم عن جُندَب(1) بن عبدالله قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
قبل أنْ يموتَ بخمسٍ وهو يقول: «إني أبرَأُ إلى الله أن يكون لي منكم
__________
(1) قوله: «ولمسلم عن جندب » بن سفيان البجلي وينسب إلى جده، صحابي مشهور مات بعد الستين - رضي الله عنه - «قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يموت بخمس » أي خمس ليال «وهو يقول: إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليلٌ، فإن الله قد اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً »، والخليل هو المحبوب غاية المحبة. قال في «النهاية» [2/68]: «الخُلَّة - بالضم -: الصداقة والمحبة التي تخلّلت القلب فصارت في خِلاَلَه: أي في باطنه. والخليل: الصديق فَعِيل بمعنى مُفَاعِل، وقد يكون بمعنى مفعول، وإنما قال ذلك لأن خُلَّته كانت مقصورة على حب الله تعالى فليس لغيره فيها مُتَّسع».
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: «الخُلَّة توحيد المحبة، فالخليل هو الذي توحَّد حبُّه لمحبوبه وهي رتبة لا تقبل المشاركة، ولهذا اختص بها في العالم الخليلان إبراهيم ومحمد صلوات الله وسلامه عليهما، وأما ما يظنه بعض الغالطين من أن المحبة أكمل من الخلة وأن إبراهيم خليل الله ومحمد حبيب الله فمن جهله، فإن المحبة عامة، والخلة خاصة، وهي نهاية المحبة. وقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الله اتخذه خليلاً ونفى أن يكون له خليل غير ربه مع إخباره بحبه لعائشة، ولأبيها، ولعمر بن الخطاب رضي الله عنهم، وأيضاً فإن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين ويحب الصابرين، وخلته خاصة بالخليلين ».
..........................................................
* أخرجه البخاري (435) و (1330) و(1390)، ومسلم (531).(1/138)
خليلٌ، فإن الله قد اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيمَ خليلاً، ولو كنتُ مُتّخذاً من أُمتي خليلاً لاتخذتُ أبابكر خليلاً(1)
__________
(1) وفيه: ما أُكرم به - صلى الله عليه وسلم - من الخُلّة والتصريح بأنها أعلى من المحبة. قاله المصنف رحمه الله تعالى.
( ) قوله: «ولو كنت متخذاً من أمتي خليلاً لاتخذتُ أبابكر خليلاً » وهو عبدالله ابن عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب الصديق خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأفضل أصحابه بإجماع من يعتد بقوله من أهل العلم، مات سنة ثلاث عشرة وله ثلاث وستون سنه رضي الله عنه وأرضاه.
وفيه: التصريح بأن الصديق أفضل الصحابة والإشارة إلى خلافته؛ لأن من كانت محبته لشخص أشد كان أولى به من غيره، وقد استخلفه في الصلاة بالناس، وغضب لما قيل: يصلي بهم عمرُ في مرضه الذي توفي فيه.
وفيه الردُّ على الرافضة الذين يبخسون الصديق حقه. قاله المصنف رحمه الله تعالى. وهم أعظم المنتسبين إلى القبلة إشراكاً بعبادة عليٍّ وغيره من البشر. قاله شيخ الإسلام.
وقد استنبط الإمام مالك رحمه الله كفر الرافضة من القرآن من قوله تعالى في سورة الفتح: { مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآَزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ } [الفتح: 29] قال: من غاظ أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهو كافر. ذكره ابن كثير في «تفسيره» [7/362] قال: وقد وافقه طائفةٌ من العلماء.
وفيه: ذكره قبل موته بخمس الرد على الطائفتين اللتين هما شرار أهل البدع بل أخرجهما بعض أهل العلم من الثنتين والسبعين فرقة وهم: الرافضة والجهمية، وبسبب الرافضة حدث الشرك وعبادة القبور، وهم أول من بنى عليها المساجد. قاله المصنف رحمه الله تعالى.(1/139)
، أَلاَ(1) وإنَّ مَنْ كان
قبلكم(2) كانوا يتخذون قبورَ أنبيائهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبورَ مساجدَ، فإني أنهاكُم عن ذلك».
فقد نهى عنه في آخر حياته(3)
__________
(1) قوله: «أَلاَ » حرف استفتاح.
(2) قوله: «وإن من كان قبلكم » يعني: اليهود والنصارى «كانوا يتخذون القبور مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك »*. قال بعض أهل العلم: وإنكار النبي - صلى الله عليه وسلم - صنيعهم هذا يخرج على وجهين:
أحدهما: أنهم كانوا يسجدون لقبور الأنبياء تعظيماً لهم.
والثاني: أنهم يجوِّزون الصلاة في مدافن الأنبياء والسجود في مقابرهم والتوجه إليها حال الصلاة وعبادة الله مبالغة في تعظيم الأنبياء.
والأول: هو الشرك الجلي.
والثاني: الخفي ؛ فلذلك استحقوا اللعن ». انتهى.
وقال شيخ الإسلام: «أما بناء المساجد على القبور فقد صرَّح عامة الطوائف بالنهي عنه للأحاديث في ذلك... إلى أن قال: وهذه المساجد المبنية على قبور الأنبياء والصالحين والملوك وغيرهم تتعيَّن إزالتها بهدم أو غيره، هذا مما لا أعلم فيه خلافاً بين العلماء المعروفين ».
وقال ابن القيم رحمه الله: «يجب هدم هذه القباب التي بُنيت على القبور ؛ لأنها أُسِّسَت على معصية الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وقد أفتى جماعة من الشافعية بهدم ما في القرافة من الأبنية، منهم ابن الجميزي والظهير الترميني وغيرهما ».
(3) قوله: «فقد نهى عنه في آخر حياته » كما في حديث جندب من قوله: «ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك »، «ثم إنه لعن - وهو في السياق - من فعله » كما في حديث عائشة من قوله: «لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد » والصلاة عندها من ذلك أي من اتخاذها مساجد، وإن لم يُبنَ
..........................................................
* أخرجه مسلم (232).
مسجد فيكون المصلي عندها داخلاً في اللعنة، وهو معنى قولها: «خُشي أن يُتخذ مسجداً » فإن الصحابة لم يكونوا ليبنوا حول قبره مسجداً، وكل موضع قُصدت الصلاة فيه فقد اتُخذ مسجداً، بل كل موضع يصلى فيه يُسمى مسجداً كما قال - صلى الله عليه وسلم -: «جُعلت لي الأرضُ مسجداً وطهوراً »*. قال البغوي في «شرح السنة»: «أراد أن أهل الكتاب لم تُبحْ لهم الصلاة إلا في بِيَعهم وكنائسهم، فأباح الله لهذه الأمة الصلاة حيث كانوا تخفيفاً عليهم وتيسيراً، ثم خصَّ من جميع المواضع الحمام والمقبرة والمكان النجس ». انتهى.
وفيه: العبرة في مبالغته - صلى الله عليه وسلم - كيف بيَّنَ لهم هذا أولاً ثم قبل موته بخمس قال ما قال، ثم لما كان في السياق لم يكتف بما تقدم ونهيه عن فعله عند قبره قبل أن يُوجد القبر، وأنه من سنن اليهود والنصارى في قبور أنبيائهم ولعنه إياهم على ذلك، وأن مراده تحذيره إيانا عن قبره وللعلة في عدم إبرازه وفي معنى اتخاذه مسجداً وأنه قرن بين من اتخذها مساجد وبين من تقوم عليه الساعة فذكر الذريعة إلى الشرك قبل وقوعه مع خاتمته. قاله المصنف رحمه الله تعالى.
قال ابن القيم رحمه الله: «وبالجملة فمن له معرفة بالشرك وأسبابه وذرائعه وفَهِم عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - مقاصده جزم جزماً لا يحتمل النقيض أن هذه المبالغة واللعن والنهي بصيغتيه، صيغة: لا تفعلوا. وصيغة: إني أنهاكم ليس لأجل النجاسة بل هو لأجل نجاسة الشرك اللاحقة من عصاه وارتكب ما عنه نهاه واتبع هواه ولم يخش ربه ولا مولاه وقل نصيبه، أو عَدِمَ من تحقيق: لا إله إلا الله، فإن هذا وأمثاله من النبي - صلى الله عليه وسلم - صيانةً لحمى التوحيد أن يلحقه الشرك ويغشاه، وتجريد له وغضب له به أن يعدل به سواه، فأبى المشركون إلا معصية لأمره وارتكاباً لنهيه وغرَّهم الشيطان بأن هذا تعظيم لقبور المشايخ والصالحين، وكلما كنتم أشد لها تعظيماً وأشدَّ فيهم
..........................................................
* أخرجه البخاري (335)، ومسلم (521).(1/140)
، ثم إنه لعن - وهو في السياق - من فَعَلهُ.
.......................................................................
والصلاة عندها من ذلك، وإن لم يُبنَ مسجدٌ، وهو معنى قولها: «خُشي أن يتخذَ مسجداً»، فإن الصحابة لم يكونوا ليبنُوا حولَ قبره مسجداً، وكل موضع قُصدَتِ الصلاةُ فيه فقد اتُّخِذَ مسجداً، بل كل موضعٍ يُصَلَّى فيه يُسمَّى مسجداً، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: «جُعلت ليَ الأرضُ مسجداً وطهوراً».
ولأحمد بسند جيّد(1) عن ابن مسعود - رضي الله عنه - مرفوعاً «إن من شِرار الناس من تُدركهم الساعة وهم أحياء(2) ؛ والذين يتخذون القبور مساجد(3)». ورواه أبوحاتم في صحيحه.
* * *
21- باب
__________
(1) لّوا كنتم بقربهم أسعد، ومن أعدائهم أبعد، ولعمر الله من هذا الباب بعينه دخل الشيطان على عُبَّاد يغوث ويعوق ونسرا، ودخل على عُبَّاد الأصنام منذ كانوا إلى يوم القيامة.
( ) قوله: «ولأحمد بسند جيد عن ابن مسعود - رضي الله عنه - مرفوعاً «إن من شِرار الناس » بكسر الشين، جمع شِرِّير.
(2) قوله: «من تُدركهم الساعة وهم أحياء » أي مقدماتها كخروج الدابة وطلوع الشمس من مغربها، وبعد ذلك يُنفخ في الصور نفخة الفزع.
(3) قوله: «والذين يتخذون القبور مساجد » بالصلاة عندها وإليها وبناء المساجد عليها «رواه أبوحاتم في صحيحه »*.
..........................................................
* أخرجه أحمد (1/475)، وابن خزيمة (789)، وابن حبان (340، 341). قال الدكتور محمد الأعظمي: إسناده حسن. وعلقه البخاري في الفتن بصيغة الجزم.(1/141)
ما جاء أن الغُلُوّ في قبور الصالحين يصيّرها أوثاناً تُعبَد من دون الله (1)
__________
(1) قوله: «باب ما جاء أن الغُلو في قبور الصالحين يصيّرها أوثاناً تُعبد من دون الله» الغلو هو: مجاوزة الحد في التعظيم بالقول والفعل والاعتقاد. «روى مالك في الموطأ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: اللهم لا تجعل قبري وثناً يُعبد، اشتدَّ غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد »* مالك هو: الإمام أبوعبدالله مالك بن أنس بن مالك الأصبحي المدني، إمام دار الهجرة وأحد الأئمة الأربعة، وأحد المتقنين للحديث حتى قال البخاري: أصح الأسانيد مالك عن نافع عن ابن عمر. حكى شيخ الإسلام أحمد ابن تيمية إجماع أهل الإسلام الخاص منهم والعام على تعظيمه، وقال: بل لم يكن في وقته مثله، وقد روى الترمذي وغيره عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «يوشك أن يضرب الناس من أكباد الإبل في طلب العلم فلا يجدون أعلَم من عالم المدينة»**، قال غير واحد: كانوا يرونه مالك بن أنس، مات سنة تسع وسبعين ومائة، وكان مولده سنة ثلاث وتسعين وقيل أربع وتسعين. قال الواقدي: بلغ تسعين سنة. وهذا الحديث رواه مالك في الموطأ مرسلاً عن زيد بن أسلم عن عطاء ابن يسار، ورواه ابن أبي شيبة في مصنفه عن ابن عجلان عن زيد بن أسلم به ولم يذكر عطاء، ورواه البزار عن زيد عن عطاء عن أبي سعيد الخدري مرفوعاً وله شاهد عند الإمام أحمد بسنده عن سهيل بن أبي صالح عن أبي هريرة رفعه «اللهم لا تجعل قبري وثناً، لعن الله قوماً اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد »، وفي «القِرَى» للطبري المالكي عن مالك أنه كره أن يقول زرتُ قبر النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعلّل ذلك بقوله - صلى الله عليه وسلم -: «اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد» الحديث. كره إضافة هذا اللفظ إلى القبر لئلا يقع
..........................................................
* تقدم تخريجه (ص/50).
** أخرجه الترمذي (2820) وقال: حسن صحيح، وأحمد (13/358 – ط. الرسالة)، والحاكم (1/90)، قال الذهبي: حديث نظيف الإسناد، غريب المتن، وضعفه الألباني في ضعيف الجامع رقم (1228).(1/142)
روى مالكُ في الموطأ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «اللهم لا تجعل قبري وثناً يُعبد(1)
__________
(1) التشبه بفعل أولئك سداً للذريعة، وقد ذكروا في أسباب كراهته لذلك أن هذا اللفظ قد صار كثير من الناس يريدون به الزيارة البدعية الشركية وهي قصد الميت لسؤاله ودعائه والرغبة إليه في قضاء الحوائج وغير ذلك مما يفعله كثير من الناس، فهم يعنون بلفظ الزيارة مثل هذا، وهذا ليس بمشروع.
( ) قوله - صلى الله عليه وسلم -: «اللهم لا تجعل قبري وثناً يُعبد » قد بالغ النبي - صلى الله عليه وسلم - في النهي وتحذير أمته عن اتخاذ القبور مساجد، وأخبر أن الله لعن اليهود والنصارى على اتخاذ قبور أنبيائهم مساجد وقال: «ألا وإن من كان قبلكم - يعني اليهود والنصارى - كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك ». ودعا الله بأن لا يجعل قبره وثناً يُعبد، ودلّ الحديث على أن قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - لو عُبد لكان وثناً، ودلَّ على أن الوثن هو ما يباشره العابد من القبور والتوابيت التي عليها. قال القرطبي: «ولهذا بالغ المسلمون في سد الذريعة في قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - فأعلوا حيطان تربته وسدُّوا المداخل إليها وجعلوها محدقة بقبره - صلى الله عليه وسلم -، ثم خافوا أن يتخذ موضع قبره قبلة إذا كان مستقبل المصلين فتُصوّر الصلاة إليه بصورة العبادة فبنوا جدارين من ركني القبر الشماليين وحرّفوهما حتى التقيا على زاوية مثلثة من ناحية الشمال حتى لا يتمكن أحدٌ من استقبال قبره ». انتهى. وإلى هذا أشار العلامة ابن القيم بقوله [الكافية الشافية (292)]:
ودعا بأن لا يجعل القبر الذي
فأجاب ربُّ العالمين دعاءه
حتى غدت أرجاؤه بدعائه
قد ضمّه وثناً من الأوثان
وأحاطه بثلاثة الجدران
في عزة وحماية وصيان(1/143)
، اشتدَّ غضبُ الله على قومٍ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد(1)
__________
(1) وقوله: «اشتدَّ غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد » هذا الوعيد يدل على تحريم البناء على القبور وتحريم الصلاة عندها وأن ذلك من الكبائر، وفي الحديث تفسير الأوثان وتفسير العبادة، وأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يستعذ إلا مما يخاف وقوعه
وقرن بهذا اتخاذ قبور الأنبياء مساجد، وذكر شدة الغضب من الله. قاله المصنف رحمه الله.
وقد عظمت الفتنة بتعظيم القبور وعبادتها كما قال ابن مسعود: كيف أنتم إذا لبستكم فتنة يهرم فيها الكبير، وينشأ فيها الصغير، تجري على الناس يتخذونها سنة، إذا غُيِّرت قيل: غُيّرت السُّنَة ؛ ولخوف الفتنة نهى عمر - رضي الله عنه - عن تتبع آثار النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال ابن وضّاح: سمعت عيسى بن يونس يقول: أمر عمرُ - رضي الله عنه - بقطع الشجرة التي بُويع تحتها النبي - صلى الله عليه وسلم - ؛ لأن الناس كانوا يذهبون فيصلُّون تحتها فخاف عليهم الفتنة. وقال المعرور بن سويد: صليتُ مع عمر - رضي الله عنه - بطريق مكة صلاة الصبح ثم رأى الناس يذهبون مذاهب، فقال: أين يذهب هؤلاء ؟ فقيل: يا أمير المؤمنين، مسجد صلَّى فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهم يصلّون فيه. فقال: إنما هلك من كان قبلكم بمثل هذا، كانوا يتبعون آثار أنبيائهم ويتخذونها كنائس وبِيَع، فمن أدركته الصلاة في هذه المساجد فليصل، ومن لا فليمض ولا يتعمّدها.
وفي «مغازي» ابن إسحاق عن زيادات يونس بن بكير عن أبي خلدة خالد بن دينار حدثنا أبوالعالية قال: لما فتحنا تُستُر وجدنا في بيت مال الهرمزان سريراً عليه رجل ميّت عند رأسه مصحف، فأخذنا المصحف فحملناه إلى عمر فدعى كعباً فنسخه بالعربية فأنا أول رجل قرأه من العرب قرأته مثل ما أقرأ القرآن. فقلت لأبي العالية: ما كان فيه ؟ قال: سيرتكم وأموركم ولحون كلامكم وما هو كائن بعد. قلت: فما صنعتم بالرجل ؟ قال: حفرنا له بالنهار ثلاثة عشر قبراً متفرقة فلما كان الليل دفناه و سوّينا القبور كلها لنعميه على الناس لا ينبشونه. قلت: ما يرجون منه ؟ قال: كانت السماء إذا حبست عنهم برزوا بسريره فيمطرون. فقلت: من كنتم تظنون الرجل ؟ قال: رجلٌ يُقال له دانيال. فقلت: منذ كم وجدتموه مات ؟ قال: منذ ثلاثمائة سنة. قلت: ما كان تغير منه شيء ؟ فقال: لا، إلا شُعيرات من قفاه، إن لحوم الأنبياء لا تبليها الأرض.(1/144)
».
.....................................................................
ولابن جرير(1) بسنده عن سفيان(2) عن منصور(3) عن مجاهد(4) { أَفَرَأَيْتُمُ اللاتَ وَالْعُزَّى } (5) [النجم:19] قال: كان يَلُتُّ لهم السَّويق؛ فمات، فعكفوا
__________
(1) ال ابن القيم رحمه الله تعالى: «ففي هذه القصة ما فعله المهاجرون والأنصار رضي الله عنهم من تعمية قبره لئلا يفتتن به ولم يبرزوه للدعاء عنده والتبرك به، ولو ظفر به المتأخرون لجالدوا عليه بالسيوف، ولعبدوه من دون الله ».
( ) قوله: «ولابن جرير » وهو إمام المفسرين محمد بن جرير بن يزيد الطبري أبوجعفر، صاحب التفسير والتاريخ، و تفسيره أجل التفاسير وأحسنها. قال ابن خزيمة: لا أعلم على الأرض أعلم منه. ولد سنة مائتين وأربعة وعشرين ومات ليومين بقيا من شوال سنة ثلاثمائة وعشر.
(2) قوله: «بسنده عن سفيان » الظاهر أنه ابن سعيد الثوري أبوعبدالله الكوفي، ثقة، حافظ فقيه، إمام عابد، كان له أتباع يتفقهون على مذهبه، مات سنة إحدى وستين ومائة وله أربع وستون سنة.
(3) قوله: «عن منصور » هو ابن المعتمر بن عبدالله السلمي ثقة ثبت فقيه، مات سنة اثنتين وثلاثين ومائة.
(4) قوله: «عن مجاهد » وهو ابن جبر - بالجيم والموحدة -، أبوالحجاج المخزومي مولاهم المكي، ثقة إمام في التفسير، أخذ عن ابن عباس وغيره رضي الله عنهم، مات سنة أربع ومائة، قاله يحيى القطان، وقال ابن حبان: مات سنة اثنتين أو ثلاث ومائة وهو ساجد، ووُلد سنة إحدى وعشرين في خلافة عمر - رضي الله عنه -.
(5) قوله: « { أَفَرَأَيْتُمُ اللاتَ وَالْعُزَّى } قال: كان يَلُتُّ لهم السويق فمات، فعكفوا على قبره» وفي رواية: فيطعم من يمر به من الناس، فلما مات عبدوه، وقالوا: هو اللات. رواه سعيد بن منصور، وقد قيل: إنه صرمة بن غُنم. قاله في «الشرح»*.
..........................................................
* (ص/289-290).(1/145)
على قبره. وكذا قال أبوالجوزاء(1) عن ابن عباس(2)
__________
(1) قوله: «وكذا قال ابن الجوزاء » وهو أوس بن عبدالله الربعي بفتح الراء والباء، مات سنة ثلاث وثمانين «عن ابن عباس كان يلُتُّ السويق للحاج »، وهذا الأثر رواه البخاري في صحيحه. والشاهد منه للترجمة أنهم غلوا فيه لأجل صلاحه واتخذوه وثناً بتعظيمه وعبادته، وصار من أكبر أوثان أهل الجاهيلة.
... وفيه: معرفة صفة عبادة اللاَّت التي هي من أكبر الأوثان، ومعرفة أنّه قبر رجل صالح، وأنه اسم صاحب القبر، وذكر معنى التسمية. قاله المصنف رحمه الله تعالى.
(2) قوله: «وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زائرات القبور»* أي من النساء «والمتخذين عليها المساجد والسُّرُج ». رواه أهل السنن ». وهذا يدل على تحريم زيارة القبور عليهن كما هو مذهب أحمد وطائفة، وقيل في تعليل ذلك: إنه يخرجها إلى الجزع والندب والنياحة، وحديث ابن عباس هذا في إسناده أبوصالح مولى أم هاني، وقد ضعّفه بعضهم ووثقه بعضهم، قال علي بن المديني عن يحيى القطان: «لم أرَ أحداً من أصحابنا ترك أبا صالح مولى أم هاني وما سمعت أحداً من الناس يقول فيه شيئاً، ولم يتركه شعبة ولا زائدة ولا عبد الله بن عثمان، قال ابن معين: «لا بأس به ؛ ولهذا أخرجه ابن السكن في صحيحه ». انتهى من «الذهب الإبريز» عن الحافظ المزي. وقال شيخ الإسلام [الفتاوى 24/348-351]: «وقد جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من طريقين: فعن أبي هريرة - رضي الله عنه -: «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعن زوّارات القبور». وذكر حديث ابن عباس ثم قال: رجال هذا ليس رجال هذا، فلم يأخذه أحدهما عن الآخر، وليس في الإسنادين من يُتهم بالكذب، ومثل هذا حجة بلا ريب، وهذا من أجود الحسن الذي شرطه الترمذي، فإنه جعل
..........................................................
* أخرجه أبوداود (3236)، والنسائي (4/95، 96)، والترمذي (320)، وابن ماجه (1575)، وأحمد (1/229، 287، 237، 324)، والحاكم (1/374). قال الألباني: «ضعيف ». انظر ضعيف سنن أبي داود (ص326) رقم (706).
الحسن ما تعددت طرقه وليس فيها متهم ولا خالفه أحدٌ من الثقات، هذا لو كان عن صاحب واحد، فكيف إذا كان هذا رواه عن صاحب وذلك عن آخر ويكفي في الاحتجاج به رواية أهل السنن له، ولم يذكر أحدٌ منهم له علة ولا معارض له». وقال أيضاً: «وما علمنا أحداً من الأئمة استحب لهن زيارة القبور، ولا كان النساء على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وخلفائه الراشدين يخرجن إلى زيارة القبور، ويؤيده ما في الصحيحين أنه نهى النساء عن اتباع الجنائز، والذين رخصوا في الزيارة اعتمدوا على ما رُوي عن عائشة رضي الله عنها أنها زارت قبر أخيها عبدالرحمن وقالت: لو شهدتك ما زرتك. وهذا يدل على أن الزيارة ليست مستحبة للنساء كما تستحب للرجال، ولو كانت كذلك لاستُحبت زيارته سواء شهدته أم لا. وهذا لا حجة فيه لمن قال بالرخصة، وهذا السياق لحديث عائشة. رواه الترمذي من رواية عبدالله بن أبي مليكة عنها يخالف سياق الأثر له عن عبدالله بن أبي مليكة أيضاً أن عائشة رضي الله عنها أقبلت ذات يوم من المقابر فقلت لها: يا أم المؤمنين، أليس نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن زيارة القبور ؟ قالت: نعم، نهى عن زيارة القبور، ثم أمر بزيارتها*. ولا حجة في حديث عائشة، فإن المحتج عليها احتج بالنهي العام، فدفعت بأن ذلك منسوخ ولم يذكر لها المحتج عليها النهي الخاص بالنساء الذي فيه لعنهن على الزيارة، يبيّن ذلك قولها: أمر بزيارتها، فهذا يبيِّن أنه أمر بها أمراً يقتضي الاستحباب، والاستحباب إنما هو ثابت للرجال خاصة، ولو كانت تعتقد أن النساء مأمورات بزيارة القبور لكانت تفعل ذلك كما يفعله الرجال ولم تقل لأخيها لما زرتك، واللعن صريح في التحريم والخطاب بالأول في قوله: فزوروها، لم يتناول النساء، فلا يدخلن في الحكم الناسخ، والعام إذا عرف أنه بعد الخاص لم
....................................
* أخرجه الحاكم (1/376)، وعنه البيهقي (4/78)، وقد سكت عنه الحاكم، وقال الذهبي: «صحيح»، وأعلَّه الإمام ابن القيم. انظر: أحكام الجنائز للألباني (ص/230).(1/146)
: كان يلُتُّ السَّويق للحاج.
...............................................................
وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: «لعن رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - زائرات القبور والمتخذين عليها المساجدَ والسُّرُج». رواه أهل السنن(1)
__________
(1) كن ناسخاً له عند جمهور العلماء، وهو مذهب الشافعي وأحمد في أشهر الروايتين عنه، وهو المعروف عند أصحابه، فكيف إذا لم يعلم أن هذا العام بعد الخاص إذ قد يكون قوله «لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زوارات القبور » بعد إذنه للرجال في الزيارة يدل على ذلك أنه قرنه بالمتخذين عليها المساجد والسرج، ومعلوم أن اتخاذ المساجد والسرج المنهي عنه محكم كما دلت عليه الأحاديث الصحيحة، وكذلك الآخر، ومن العلماء من يقول التشييع كذلك، ويحتج بقوله - صلى الله عليه وسلم - «ارجعن مأزورات غير مأجورات، فإنكنّ تفتنّ الحيَّ وتؤذين الميت»*، وقوله لفاطمة: «أما إنكِ لو بلغتِ معهم الكدَى لم تدخلي الجنة »**، ويؤيّده ما في الصحيحين أنه نهى النساء عن اتباع الجنائز، وفي هذا الحديث لعن المتخذين على القبور المساجد والسُّرج وهو من فعل أهل الكتاب. قال أبومحمد المقدسي: «لو صحَّ اتخاذ السرج عليها لم يلعن من فعله؛ لأن فيه تضييعاً للمال في غير فائدة، وإفراطاً في تعظيم القبور أشبه بتعظيم الأصنام». وفيه لعنه - صلى الله عليه وسلم - زوارات القبور ولعنه من أسرجها. قاله المصنف رحمه الله.
( ) قوله: «رواه أهل السنن » يعني أبا داود والترمذي وابن ماجه ولم يروه النسائي. قاله في «الشرح»*. قال ابن القيم رحمه الله [إغاثة اللهفان 1/215]: «اتخاذها مساجد وإيقاد السرج عليها من الكبائر». وقال محمد بن إسماعيل الصنعاني في «تطهير الاعتقاد» [ص/48]: «فإن هذه القباب والمشاهد التي صارت أعظم ذريعة للشرك
..............................
* أخرجه الخطيب البغدادي في التاريخ (6/201)، وابن الجوزي في الواهيات (1506) وقال فيه أبوهدبة: «وقد أجمعوا على أنه كذاب». وقال الألباني: ضعيف. انظر ضعيف الجامع (ص/111) برقم (773).
** أخرجه أبوداود (3123)، والنسائي (3/27)، وأحمد (2/168، 169). قال الألباني: ضعيف. انظر: ضعيف سنن أبي داود (ص/317) رقم (684).
*** (ص/292).
والإلحاد، وأكبر وسيلة إلى هدم الإسلام، وخراب بنيانه غالب بل كل من يعمرها هم الملوك والسلاطين والرؤساء والولاة إما على قريب لهم أو على من يحسنون الظن به من فاضل أو عالم أو صوفي أو فقير أو شيخ كبير، ويزوره الناس الذي يعرفونه زيارة الأموات من دون توسل ولا هتف باسمه، بل يدعون له ويستغفرون حتى ينقرض من يعرفه أو أكثرهم فيأتي من بعدهم فيجد قبراً قد شيّد عليه البناء وسُرجت عليه الشموع وفرش بالفراش الفاخر وأُرخيت عليه الستور وأُلقيت عليه الأوراد والزهور فيعتقد أن ذلك لنفع أو دفع ضر وتأتيه السدنة يكذبون على الميت بأنه فعل وفعل، وأنزل بفلان الضر وبفلان النفع حتى يغرسوا في جبلته كل باطل، والأمر ما ثبت في الأحاديث النبوية من لعن من أسرج على القبور وكتب عليها وبنى عليها، وأحاديث ذلك واسعة معروفة، فإن ذلك في نفسه منهي عنه، ثم هو ذريعة إلى مفسدة عظيمة ». انتهى.(1/147)
.
..............................................................................
* * *
22- باب
ما جاء في حماية المصطفى - صلى الله عليه وسلم - جنابَ التوحيد
وسدِّه كل طريق يُوصلُ إلى الشرك (1)
وقول الله تعالى: { لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ(2) عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ(3)
__________
(1) قوله: «باب ما جاء في حماية المصطفى - صلى الله عليه وسلم - جناب التوحيد وسدِّه كل طريق يوصل إلى الشرك». الجناب: هو الجانب، قاله في «الشرح»*، ذكر الشيخ هذه الترجمة في بيان أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حَمَى جانب التوحيد من شرك يبطله، أو بدعة تقدح فيه، أو معصية تنقصه؛ حرصاً على أمته وخوفاً عليهم أن يقعوا فيما وقع فيه من قبلهم من الأمم، فلم يترك طريقاً ولا وسيلة تؤدي إلى الشرك إلا نهى عنها وحذرهم منها، منها: تعظيم القبور والغلو في أصحابها وبناء المساجد عليها وإسراجها، والعكوف والمجاورة عندها، وتحرِّي الصلاة والدعاء والصدقة عندها؛ لا سيما قبره الشريف، فصلوات الله وسلامه عليه.
(2) قوله: «وقول الله تعالى: { لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ } » يقول تعالى ممتنّاً على المؤمنين إذْ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم أي من جنسهم وعلى لغتهم كما قال إبراهيم عليه السلام { رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولا مِنْهُمْ } ، وقال تعالى: { مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولا مِنْ أَنْفُسِهِمْ } [آل عمران:164]. قال سفيان بن عيينة عن جعفر بن محمد عن أبيه: قال لم يصبه شيء من ولادة الجاهلية.
(3) وقوله: { عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ } أي يعز عليه الشيء الذي يُعنت أمته ويشق عليها، ولذا جاء في الحديث عنه - صلى الله عليه وسلم - «بُعثتُ بالحنيفية السمحة»**، وفي الصحيح:
................................
* (ص/292).
** أخرجه أحمد (6/116، 233) من حديث عائشة رضي الله عنها، قال السخاوي في المقاصد الحسنة (ص186): وسنده حسن. وأخرجه أحمد (5/266)، والطبراني في الكبير (7868) من حديث أبي أمامة - رضي الله عنه -.(1/148)
............................................................ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ(1) بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ } [التوبة:128] .
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تجعلوا بيوتكم قبوراً (2)
__________
(1) إن هذا الدين يسر »*.
( ) وقوله: { حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ } أي على هدايتكم ووصول النفع الدنيوي والأخروي إليكم، وهذا هو الشاهد من الآية للترجمة. وروى الطبراني بسند جيد عن أبي ذر - رضي الله عنه - قال: تركنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما طائرٌ يقلّب جناحيه في الهواء إلا وهو يذكر لنا فيه علماً، وقال - صلى الله عليه وسلم -: «ما بقي شيء يقرِّب من الجنة ويُباعد من النار إلا وقد بيّنتُه لكم »**.
وقوله: { بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ } أي المؤمنين به، فحرصه على الهداية عام لجميع الأمة، ورأفته ورحمته خاصة بالمؤمنين به، قال أبوعبيدة: الرأفة أرقّ الرحمة، وفيه: معرفة تفسير آية براءة وإبعاد أمته عن هذا الحمى غاية البعد، وذكر حرصه علينا ورأفته ورحمته. قاله المصنف رحمه الله.
(2) قوله: «وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تجعلوا بيوتكم قبوراً ».
قال شيخ الإسلام: أي لا تعطّلوها من الصلاة فيها، والدعاء والقراءة فتكون بمنزلة القبور، فأمر بتحري العبادة في البيوت ونهى عن تحرِّيها عند القبور عكس ما يفعله المشركون من النصارى ومن تشبَّه بهم من هذه الأمة ممن يدّعي الإسلام. وفي الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما «لا تجعلوا بيوتكم مقابر، فإن الشيطان يفر من البيت الذي يسمع سورة البقرة تقرأ فيه»***. وفيه الحث على النافلة في البيت، وأنه متقرر عندهم أنه لا يُصلَّى في المقبرة. قاله المصنف.
..........................................................
* أخرجه البخاري (39، 5673، 6463، 7235)، والنسائي (7/121)، وأحمد (5/69) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.
** أخرجه الطبراني في الكبير (1647)، قال الهيثمي في مجمع الزوائد (8/264): ورجال الطبراني رجال الصحيح، غير محمد بن عبدالله بن يزيد المقري وهو ثقة.
*** أخرجه البخاري (432، 1187)، ومسلم (777).(1/149)
،
ولا تجعلوا قبري عيداً(1)، وصلُّوا عليَّ فإن صلاتكم تبلُغني حيث كنتم(2)
__________
(1) قوله: «ولا تجعلوا قبري عيداً » وهذا هو الشاهد من الحديث للترجمة، وفيه: نهيه عن زيارة قبره على وجه مخصوص مع أن زيارته من أفضل الأعمال، ونهيه عن الإكثار من الزيارة وتعليله ذلك بأن صلاة الرجل وسلامه عليه يبلغه وإن بَعُد فلا حاجة إلى ما يتوهمه من أراد القرب، وكونه تعرض عليه في البرزخ أعمال أمته في الصلاة والسلام عليه. قاله المصنف رحمه الله.
... قال شيخ الإسلام [الاقتضاء 1/441]: «العيد اسم لما يعود من الاجتماع العام على وجه معتاد عائد، إما بعود السنة أو بعود الأسبوع أو الشهر ونحو ذلك ». وقال ابن القيم [إغاثة اللهفان 1/209]: «العيد ما يعتاد مجيئه وقصده من زمان ومكان مأخوذ من المعاودة والاعتياد، فإذا كان اسماً للمكان فهو الذي يقصد فيه الاجتماع، وانتيابه للعبادة أو لغيرها كما أن المسجد الحرام ومنى ومزدلفة وعرفة والمشاعر جعلها الله عيداً للحنفاء ومثابة كما جعل أيام العيد فيها عيداً، وكان للمشركين أعياد زمانية ومكانية فلما جاء الله بالإسلام أبطلها وعوض الحنفاء منها عيد الفطر وعيد النحر وأيام منى، كما عوّضهم عن أعياد المشركين المكانية بالكعبة ومنى ومزدلفة وعرفة والمشاعر».
(2) وقوله: «وصلُّوا عليّ فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم » يشير على أن ما ينالني منكم من الصلاة والسلام يحصل مع قربكم من قبري وبعدكم، فلا حاجة لكم إلى اتخاذه عيداً. قاله شيخ الإسلام رحمه الله [الاقتضاء 2/657]. وهذا الحديث رواه أبوداود وغيره من حديث عبدالله بن نافع الصائغ. قال: أخبرني ابن أبي ذئب عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة فذكره. «ورواته ثقات» مشاهير لكن عبدالله بن نافع قال فيه أبوحاتم: ليس بالحافظ، تعرف وتنكر. وقال ابن معين: هو ثقة. وقال أبوزرعة: لا بأس به. قال شيخ الإسلام [الاقتضاء 2/654]: «ومثل هذا إذا كان لحديثه شواهد عُلم أنه محفوظ، وهذا له شواهد متعددة ». وقال الحافظ محمد بن(1/150)
». رواه أبوداود بإسناد حسن، ورواته ثقات.
وعن عليّ بن الحسين(1) أنه رأى رجلاً يجيء إلى فُرْجَةٍ(2) كانت عند قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - فيدخل فيها فيدعو، فنهاه(3)
__________
(1) بدالهادي [الصارم المنكي (414)]: «هو حديث حسن جيد الإسناد، وله شواهد يُرتقى بها إلى درجة الصحة».
( ) قوله: «وعن علي بن الحسين » بن علي بن أبي طالب المعروف بزين العابدين، أفضل التابعين من أهل بيته وأعلمهم - رضي الله عنه -، مات سنة ثلاث وتسعين على الصحيح، وأبوه الحسين سبط رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وريحانته، حفظ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - واستشهد يوم عاشوراء سنة إحدى وستين وله ست وخمسون سنة، - رضي الله عنه -، «أنه » أي علي بن الحسين «رأى رجلاً يجي إلى فرجة كانت عند قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - فيدخل فيها فيدعو، فنهاه وقال: ألا أحدِّثكم حديثاً سمعته من أبي» الحسين «عن جدي» علي بن أبي طالب «عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لا تتخذوا قبري عيداً ولا بيوتكم قبوراً، وصلُّوا عليَّ فإن تسليمكم يبلغني أين كنتم. رواه في المختارة »* هذا الحديث رواه أبويعلى والقاضي إسماعيل والحافظ الضياء في المختارة. قال شيخ الإسلام [الاقتضاء 2/660]: «فانظر إلى هذه السُّنّة كيف مخرجها من أهل المدينة وأهل البيت، الذي لهم في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قرب النسب وقرب الدار لأنهم إلى ذلك أحوج من غيرهم وكانوا لها أضبط ».
(2) قوله: «إنه رأى رجلاً يجيء إلى فُرْجة » بضم الفاء وسكون الراء وهي الكُوّة في الجدار والخوخة ونحوهما.
(3) قوله «فيدخل فيها فيدعو، فنهاه » وهذا يدل على النهي عن قصد القبور والمشاهد لأجل الدعاء والصلاة عندها. وقال شيخ الإسلام: «ما علمت أحداً رخص فيه؛ لأن ذلك نوع من اتخاذه عيداً ». ويدل أيضاً على أن قصد القبر للسلام إذا دخل المسجد للصلاة منهي عنه ؛ لأن ذلك لم يشرع، وكره مالك لأهل المدينة كلما دخل إنسان المسجد أن يأتي قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - ؛ لأن السلف لم
..........................................................
* أخرجه أحمد (2/367)، وحسّنه الألباني، وقد تقدم.
..........................................................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يكونوا يفعلون ذلك، قال: ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها. وكان الصحابة والتابعون - رضي الله عنهم - يأتون إلى مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - فيصلون، فإذا قضوا الصلاة قعدوا أو خرجوا ولم يكونوا يأتون القبر للسلام لعلمهم أن الصلاة والسلام عليه عند دخول المسجد هو السنة. وأما دخولهم عند قبره للصلاة والسلام عليه هناك أو للصلاة والدعاء فلم يشرعه لهم ؛ بل نهاهم عنه في قوله «لا تتخذوا قبري عيداً، وصلُّوا عليَّ فإن صلاتكم تبلغني»، فبيَّن أن الصلاة تصل إليه من بعد، وكذلك السلام، ولعن من اتخذ قبور الأنبياء مساجد، وكانت الحجرة في زمانهم يدخل إليها من الباب، إذ كانت عائشة - رضي الله عنها - فيها وبعد ذلك إلى أن بني الحائط الآخر، وهم مع ذلك التمكن من الوصول إلى قبره لا يدخلون عليه للسلام ولا للصلاة ولا للدعاء لأنفسهم ولا لغيرهم، ولا لسؤال عن حديث أو علم، ولا كان الشيطان يطمع فيهم حتى يسمعهم كلاماً أو سلاماً ؛ فيظنون أنه هو كلمهم وأفتاهم وبيَّن لهم الأحاديث، أو أنه قد ردَّ عليهم السلام بصوت من خارج كما طمع الشيطان في غيرهم فأضلهم عند قبره وقبر غيره حتى ظنوا أن صاحب القبر يأمرهم وينهاهم ويحدّثهم في الظاهر، وأنه يخرج من القبر فيرونه خارجاً من القبر فيظنون أن نفس أبدان الموتى خرجت تكلمهم، وأن أرواح الموتى تجسّدت لهم فرأوها.
وقال سعيد بن منصور في سننه: حدثنا عبدالعزيز ابن محمد أخبرني سهيل بن أبي سهيل قال: رآني الحسن بن علي بن الحسين بن علي ابن أبي طالب عند قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - فناداني وهو في بيت فاطمة يتعشى، فقال: هلم إلى العشاء، قلت: لا أريده، قال: ما لي رأيتك عند القبر ؟ فقلت: سلّمتُ على النبي - صلى الله عليه وسلم -. فقال: إذا دخلت المسجدَ فسلِّم، ثم قال لي: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تتخذوا قبري عيداً، ولا تتخذوا بيوتكم قبوراً، وصلُّوا عليَّ فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم، لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد »*. ما أنتم ومن بالأندلس إلا
..........................................................
* تقدم تخريجه (ص/108).
سواء. والمقصود: أن الصحابة - رضي الله عنهم - لم يكونوا يعتادون الصلاة والسلام عليه عند قبره كما يفعله من بعدهم من الخلوف، وإنما كان بعضهم يأتي من خارج فيسلم(1/151)
وقال: أَلاَ أُحدِّثكَ حديثاً
سمعتُه من أبي عن جدِّي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تتخذوا قبري عيداً، ولا بيوتكم قبوراً، وصلُّوا عليَّ فإن تسليمكم يبلغني أين كنتم». رواه في المختارة(1)
__________
(1) ليه إذا قدم من سفر كما كان ابن عمر يفعله، قال عبيدالله بن عمر عن نافع: كان ابن عمر إذا قدم من سفر أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبابكر، السلام عليك يا أبتاه، ثم ينصرف. قال عبدالله: ما نعلم أحداً من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فعل ذلك إلا ابن عمر. وهذا يدل على أنه لا يقف عند القبر للدعاء إذا سلّم كما يفعله كثير. قال شيخ الإسلام[الفتاوى 27/396]: «لأن ذلك لم ينقل عن أحد من الصحابة فكان بدعة محضة». وفي «المبسوط»: «قال مالك: لا أرى أن يقف عند قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - ولكن يسلّم ويمضي ». ونص أحمد أنه يستقبل القبلة ويجعل الحجرة عن يساره لئلا يستدبره. وبالجملة فقد اتفق الأئمة على أنه إذا دعا لا يستقبل القبر، وتنازعوا هل يستقبله عند السلام أم لا؟ وفي الحديث دليل على منع شد الرحال إلى قبره - صلى الله عليه وسلم - وإلى غيره من القبور والمشاهد لأن ذلك من اتخاذها أعياداً ومن أعظم أسباب الإشراك بأصحابها، وهذه أفتى فيها شيخ الإسلام بمنع السفر لا مجرد زيارة قبور الأنبياء والصالحين، ونقل فيها اختلاف العلماء، فمن مبيح لذلك كالغزالي وأبي محمد المقدسي، ومن مانع لذلك كابن بطة وابن عقيل وأبي محمد الجويني والقاضي عياض، وهو قول الجمهور، نص عليه مالكٌ ولم يخالفه أحدٌ من الأئمة وهو الصواب لما في الصحيحين عن أبي سعيد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تشدّ الرِّحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى »* فإما أن يكون نهياً، وإما أن يكون نفياً، وجاء في رواية بصيغة النهي فتعيَّن أن يكون للنهي فدخل في النهي شدها لزيارة القبور والمشاهد.
( ) قوله: «رواه في المختارة » لأبي عبدالله محمد بن عبدالواحد المقدسي الحافظ
..........................................................
* أخرجه البخاري (1197، 1995)، ومسلم (827).
ضياء الدين الحنبلي، أحد الأعلام، قال الذهبي: أفنى عمره في هذا الشأن مع الدين المتين والورع والفضيلة التامة والإتقان. و«المختارة» كتاب جمع فيه الأحاديث الجياد الزائدة على الصحيحين وتصحيحه في مختارته خير من تصحيح الحاكم بلا ريب. قاله شيخ الإسلام [الاقتضاء 2/655]، مات سنة ثلاث وأربعين وستمائة.(1/152)
.
..........................................................................
* * *
23- باب
ما جاء أن بعض هذه الأمة يعبد الأوثان(1)
وقول الله تعالى: { أَلَمْ تَرَ(2)
__________
(1) قوله: «باب ما جاء أن بعض هذه الأمة يعبد الأوثان» أراد المصنف رحمه الله تعالى بهذه الترجمة الردّ على عباد القبور الذين يفعلون الشرك ويقولون: إنه لا يقع في هذه الأمة المحمدية شرك وهم يقولون: لا إله إلا الله محمد رسول الله.
(2) قوله: «وقول الله تعالى: { أَلَمْ تَرَ } يا محمد { إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ } أي: أعطوا حظاً من العلم { يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ } قال عمر بن الخطاب: الجبت: السحر، والطاغوت: الشيطان. وكذا قال ابن عباس وأبوالعالية ومجاهد والحسن وغيرهم. وعن ابن عباس: الجبت الكاهن. وعن مجاهد: كعب بن الأشرف. قال الجوهري: الجبت كلمة تقع على الصنم والكاهن والساحر ونحو ذلك.
قوله: { وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا سَبِيلا وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا سَبِيلا } وروى الإمام أحمد عن ابن عباس قال: لما قدم كعب بن الأشرف اليهودي مكة قالت قريش: ألا ترى إلى هذا الصبي المنبتر من قومه يزعم أنه خير منا ونحن أهل الحجيج وأهل السدانة والسقاية. قال: أنتم خير. فنزل فيهم { إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأبْتَرُ } [الكوثر:3]، ونزل: { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ } .. إلى قوله.. { نَصِيرًا } . وروى ابن أبي حاتم عن عكرمة نحوه.
وفيه: معرفة تفسير آية النساء. ومعرفة الإيمان بالجبت والطاغوت في هذا الموضع هل هو اعتقاد قلب أو هو موافقة أصحابها مع بغضها ومعرفة بطلانها، وقولهم: إن الكفار الذين يعرفون كفرهم أهدى سبيلاً من المؤمنين. ومنها: وهي المقصود بالترجمة أن هذا لابد أن يُوجد في هذه الأمة كما تقرر في حديث أبي سعيد. قاله(1/153)
إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا سَبِيلا } [النساء:51].
وقوله تعالى: { قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّه(1)
__________
(1) لمصنف رحمه الله. وهذا هو الشاهد من الآية للترجمة.
( ) قوله: «وقوله تعالى: { قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ } قال البغوي: قل يا محمد { هَلْ أُنَبِّئُكُمْ } أخبركم { بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ } يعني قولهم: لم نرَ أهل دين أقل حظاً في الدنيا والآخرة منكم ولا ديناً شراً من دينكم، فذكر الجواب بلفظ الابتداء وإن لم يكن الابتداء شراً، كقوله: { قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ } .
وقوله: { مَثُوبَةً } أي ثواباً وجزاءً، نصب على التفسير.
قوله: { عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ } أي هو من لعنه الله وغضب عليه يعني: اليهود، وجعل منهم القردة والخنازير، فالقردة أصحاب السبت، والخنازير كفار مائدة عيسى، وعن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس أن المسخين كلاهما من أصحاب السبت فشبابهم مُسخوا قردة وشيوخهم مُسخوا خنازير. وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: سُئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن القردة والخنازير هي مما مسخ الله ؟ فقال: «إن الله لم يهلك أُمّة، أو قال لم يمسخ قوماً فجعل لهم نسلاً، وإن القردة والخنازير كانت قبل ذلك ». رواه مسلم*.(1/154)
ِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ(1) أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ } [المائدة:60].
وقوله: { قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا } (2)
__________
(1) قوله : « { وعبد الطاغوت } أي : وجعل منهم من عبد الطاغوت أي أطاع الشيطان فيما سوَّل له، وهذا هو الشاهد من الآية للترجمة، وفيه معرفة تفسير الآية . قاله المصنف رحمه الله تعالى ، قال شيخ الإسلام في قوله { وعبد الطاغوت } [الفتاوى 14/455] : «الصواب أنه معطوف على ما قبله من الأفعال ، أي من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير ، ومن عبد الطاغوت ، فهو فعل ماض معطوف على ما قبله من الأفعال الماضية ، لكن الأفعال المتقدمة الفاعل فيها
..........................................................
* أخرجه مسلم (2663) ، وأحمد (1/390، 433، 445، 466) .
(2) و اسم الله مظهراً ومضمراً، وهنا الفاعل اسم من عبد الطاغوت وهو الضمير في عَبَد، ولم يعد سبحانه لفظ «من» لأنه جعل هذه الأفعال كلها صفة لصنف واحد، وهم اليهود».
... وقوله: { أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا } ممن تظنون بنا { وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ } .
( ) وقوله: { قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا } حكى ابن جرير في القائلين ذلك قولين، أحدهما: أنهم المسلمون، والثاني: أنهم المشركون. وعلى القولين فهم مذمومون على ذلك؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد » - يحذر ما صنعوا -. رواه البخاري ومسلم*، ولما فعلته اليهود والنصارى جرَّهم ذلك إلى الشرك، وما فعلته اليهود والنصارى ستفعله هذه الأمة. وهذا هو الشاهد من الآية للترجمة كما في حديث أبي سعيد الآتي. وفيه: معرفة تفسير الآية. قاله المصنف.(1/155)
[الكهف:21].
عن أبي سعيد(1) - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لتتبعُنَّ سَنَن مَنْ كان قبلكم حَذو القُذّة بالقُذّة، حتى لو دخلوا جُحر ضَبٍّ لدخلتموه(2)».
قالوا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟(3)
__________
(1) قوله: «عن أبي سعيد » سعد بن مالك بن سنان الأنصاري - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لتتبعنّ سَنن من كان قبلكم» بفتح المهملة وقد تضم والفتح أولى. قاله المهلب, أي: طريق من كان قبلكم «حذوَ القذة بالقذة » بنصب حَذو على المصدر، والقُذة بضم القاف واحدة القذذ وهو ريش السهم، أي لتتبعنّ طريقهم في كل ما فعلوه وتشبهوهم في ذلك كما تشبه قُذّة السهم القذة الأخرى، وبهذا تظهر مناسبة الآيات للترجمة، وقد وقع كما أخبر وهو علم من أعلام النبوة.
(2) قوله: «حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه »** وفي حديث آخر: «حتى لو
..............................
* أخرجه البخاري (1330، 4441)، ومسلم (529).
** تقدم تخريجه (ص/94).
(3) كان فيهم من يأتي أُمَّه علانية لكان في أمتي من يفعل ذلك ».
( ) وقوله: «قالوا: يا رسول الله، اليهود والنصارى ؟ قال: فمن ؟ » هو برفع اليهود خبر مبتدأ محذوف أي: أهم اليهود والنصارى الذين نتبع سننهم ؟ ويجوز النصب بفعل محذوف تقديره: تعني.
وقوله: «فمن ؟» استفهام إنكاري، أي: فمن هم غير أولئك؟. وفي رواية أبي هريرة عند البخاري أنه فسّرهم بفارس والروم، والتفسير ببعض الأمم لا ينفي التفسير بأمة أخرى، إذ المقصود التمثيل لا الحصر. قاله في «الشرح»*.
قال شيخ الإسلام: «وهذا خرج مخرج الخبر والذمّ لمن يفعله كما كان يخبر عما يكون بين يدي الساعة من الأشراط والأمور المحرّمة».(1/156)
. قال: «فمن؟ “. أخرجاه(1).
ولمسلم عن ثوبان(2) أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إنَّ الله زَوَى ليَ
__________
(1) قوله «أخرجاه » أي البخاري ومسلم، واللفظ لمسلم، أخبر - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث أن كل ما وقع من أهل الكتاب مما ذمهم الله به في هذه الآيات وغيرها لابد أني قع جميعه في هذه الأمة، وهذا هو الشاهد من الحديث للترجمة. وقد وقع كما أخبر - صلى الله عليه وسلم - فاتبع كثير من أمته اليهود والنصارى وفارس والروم في ملابسهم ومساكنهم ولغتهم وإقامة شعائرهم في الأديان والأعياد والعادات والحروب وزخرفة المساجد وتعظيم القبور وبناء المساجد عليها حتى عبدوا الأموات واتخذوا الأحبار والرهبان أرباباً من دون الله وأعرضوا عن تدبر كتاب الله وسنة رسوله والعمل بهما وأقبلوا على كتب الإلحاد ومجلات الخلاعة والمجون والمصورات واستماع الأغاني الخليعة والملاهي وغير ذلك مما هو مشاهد بالعيان، فلا حول ولا قوة إلا بالله.
(2) قوله: «ولمسلم عن ثوبان » مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، صحبه ولازمه ونزل الشام بعده ومات بحمص سنة أربع وخمسين - رضي الله عنه - «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن الله زوى ليَ الأرضَ
..........................................................
* (ص/312-313).(1/157)
الأرضَ(1)
__________
(1) رأيتُ مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زُويَ لي منها، وأُعطيتُ الكنزين: الأحمرَ والأبيض، وإني سألتُ ربي لأمتي أن لا يهلكها بسَنَة بعامة، وأن لا يسلِّط عليهم عدوّاً من سوى أنفسهم، فيستبيح بيضتهم، وإني ربي قال: يا محمد، إني إذا قضيتُ قضاءً فإنه لا يُرَدّ، وإني أعطيتُك لأمّتك أن لا أهلكهم بسنة بعامّة، وأن لا أسلّط عليهم عدواً من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم، ولو اجتمع عليهم من بأقطارها، حتى يكون بعضهم يهلك بعضاً ويسبي بعضُهم بعضاً ». رواه البرقاني في صحيحه. وزاد: «وإنما أخاف على أُمّتي الأئمة المضلين، وإذا وقع عليهم السيف لم يُرفع إلى يوم القيامة، ولا تقوم الساعة حتى يلحق حيٌّ من أمتي بالمشركين، وحتى تعبُد فئامٌ من أمتي الأوثان، وأنه سيكون في أمتي ثلاثون كذّابون كلهم يزعُم أنه نبيٌّ، وأنا خاتم النبيّين، لا نبي بعدي، ولا تزال طائفةٌ من أُمتي على الحق منصورة، لا يضرُّهم من خذلهم ولا مَنْ خالفهم حتى يأتيَ أمر الله تبارك وتعالى »*. وهذا الحديث رواه أيضاً أبوداود في سننه، وابن ماجه بالزيادة التي ذكرها المصنف. قاله في «فتح المجيد»**.
( ) قوله: «إن الله زوى لي الأرضَ » قال التوربشتي: «زويتُ الشيء جمعته وقبضته، يريد تقريب البعيد منها حتى اطلع عليه اطلاعه على القريب، وحاصله أنه طوى له الأرض وجعلها مجموعة كهيئة كف في مرآة ينظره ». قال الطيبي: «جمعها لي حتى أبصرت ما تملكه أمتي من أقصى المشارق والمغارب منها ».(1/158)
فرأيتُ مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها(1) ما زُويَ لي
منها(2)، وأُعطيتُ الكنزين: الأحمرَ والأبيض(3)
__________
(1) قوله: «وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زُوي لي منها ». قال القرطبي: «وهذا الخبر قد وجد مخبره، كما قال - صلى الله عليه وسلم -، وكان ذلك من دلائل نبوته، وذلك أن ملك أمته اتسع إلى أن بلغ أقصى طنجة - بالنون والجيم - الذي هو منتهى عمارة المغرب إلى أقصى المشرق مما وراء خراسان والنهر وكثير من بلاد السند و الهند والصين، ولم يتسع ذلك الاتساع من جهة الجنوب والشمال، ولذا لم يذكر - عليه السلام - أنه أُريَه، ولا أخبر أن ملك أمته يبلغه».
..........................................................
* أخرجه مسلم (2889).
** (1/445).
(2) قوله: «ما زوي لي منها » يحتمل أن يكون مبنياً للفاعل وأن يكون مبنياً للمفعول. وفيه: إخباره بأن الله زوى له المشارق والمغارب، وأخبر بمعنى ذلك، فوقع كما أخبر بخلاف الجنوب والشمال. قاله المصنف.
(3) قوله: «وأُعطيت الكنزين: الأحمر والأبيض » قال القرطبي: «يعني بهما كنز كسرى وهو ملك الفرس، وكنز قيصر وهو ملك الروم وقصورهما وبلادهما، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - «والذي نفسي بيده لتنفقن كنوزهما في سبيل الله »* وعبَّر بالأحمر عن كنز قيصر لأن الغالب عندهم كان الذهب، وبالأبيض عن كنز كسرى ؛ لأن الغالب عندهم كان الجوهر والفضة ».
وفيه: إخباره بأنه أُعطي الكنزين فوقع كما أخبر. قاله المصنف رحمه الله. وقد وجد ذلك في خلافة عمر، فإنه سيق إليه تاج كسرى وحليته وما كان في بيوت أمواله وجميع ما حوته مملكته على سعتها وعظمتها، وكذلك فعل الله بقيصر، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - في حياته قال لسراقة بن مالك المدلجي: «كيف بك يا سراق إذا وضع تاج كسرى على رأسك وسواره في يديك »** فلما جيء بهما إلى عمر - رضي الله عنه - دعا سراقة فألبسهما إياه تصديقاً لما أخبر به النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال: قل الحمد لله الذي نزع تاج كسرى من رأسه وسواريه من يديه وجعلهما على أعرابي من بني مدلج، وذلك بعز الإسلام وقوته لا بحولنا ولا بقوتنا. ذكر ذلك السهيلي في «الروض».(1/159)
، وإني سألتُ ربي لأمتي أن لا يهلكها بسَنَة بعامة(1)، وأن لا يسلِّط عليهم عدوّاً من سوى أنفسهم، فيستبيح
بيضتهم(2)، وإنَّ ربي قال: يا محمد، إني إذا قضيتُ قضاءً فإنه لا يُرَدّ(3)، وإني أعطيتُك لأمّتك أن لا أُهلكهم بسَنَةٍ بعَامّة، وأن لا أسلّط عليهم عدواً من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم، ولو اجتمع عليهم من بأقطارها(4)
__________
(1) قوله: «وإني سألت ربي لأمتي أن لا يهلكها بسنة بعامة » هكذا ثبت في أصل المصنف بعامة بالباء وهي رواية صحيحة في صحيح مسلم وفي بعضها بحذفها، قال القرطبي: «كأنها زائدة؛ لأن عامة صفة للسَنة، والسنة الجدب الذي يكون به الهلاك العام ».
..........................................................
* أخرجه البخاري (6629)، ومسلم (2919) من حديث جابر بن سمرة.
** لم أجده بهذا اللفظ، وأصل الحديث عند البخاري برقم (3906).
(2) قوله: «وأن لا يسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم » أي: من غيرهم من الكفار «فيستبيح بيضتهم» قال الجوهري [الصحاح 3/1068]: «بيضة كل شيء حوزته، وبيضة القوم ساحتهم». فيكون معنى الحديث أن الله لا يسلط العدو على كافة المسلمين حتى يستبيح ما حازوه من البلاد والأرض، وقيل بيضتهم معظمهم وجماعتهم وإن قلوا.
(3) قوله: «وإن ربي قال: يا محمد، إذا قضيتُ قضاءً فإنه لا يُرد » قال بعضهم إذا حكمتُ حكماً مبرماً نافذاً لا يرد بشيء ولا يقدر أحدٌ على رده، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: «لا رادَّ لما قضيت »*.
(4) قوله: «وإني أعطيتُك لأمّتك أن لا أهلكهم بسنة بعامّة، وأن لا أسلّط عليهم عدواً من سوى أنفسهم - أي من غيرهم من الكفار - فيستبيح بيضتهم، ولو اجتمع عليهم من بأقطارها » أي مَن بأقطار الأرض وهي جوانبها. وفيه إخباره بإجابة دعوته في الاثنتين وإخباره بأنه منع الثالثة. قاله المصنف رحمه الله.
قلت: الثالثة هي أن يجعل بأسهم بينهم ولم يذكرها المصنف، فلعلّها سقطت من الناسخ. ... ... ...(1/160)
، حتى يكون بعضهم يهلك بعضاً ويسبي بعضُهم بعضاً(1)».
ورواه البرقاني في صحيحه(2).
__________
(1) وقوله: «حتى يكون بعضهم يهلك بعضاً، ويسبي بعضهم بعضاً » الظاهر أن حتى عاطفة أو تكون لانتهاء الغاية، أي أن أمر أمته ينتهي إلى أن يكون بعضهم يهلك بعضاً ويسبي بعضهم بعضاً، فإذا وجدت هذه الأوصاف فقد يسلط الكفار على جماعتهم ومعظمهم كما وقع، فإن هذه الأمة لما جعل الله بأسها بينها تفرقت
..........................................................
* قطعة من حديث: أخرجه عبدالرزاق في المصنف (19638)، وقال ابن حجر: سنده صحيح كما في فتح الباري (11/513).
(2) ماعتهم واشتغل بعضهم ببعض عن جهاد العدو فاستولى على كثير من بلاد المسلمين، فلا حول ولا قوة إلا بالله. وفيه: إخباره بإهلاك بعضهم بعضاً وسبي بعضهم بعضاً. قاله المصنف رحمه الله تعالى.
( ) قوله: «ورواه البرقاني في صحيحه » وهو الحافظ أبوبكر أحمد بن محمد بن غالب الخوارزمي الشافعي، ولد سنة ست وثلاثين وثلاثمائة ومات سنة خمس وعشرين وأربعمائة. قال الخطيب: كان ثبتاً ورعاً لم نرَ في شيوخنا أثبت منه، عارفاً بالفقه كثير التصانيف، صنّف مسنداً ضمّنه ما اشتمل عليه الصحيحان وجمع حديث الثوري وحديث شعبة وطائفة، ورواه أيضاً أبوداود بتمامه عن أبي قلابة عن أبي أسماء عن ثوبان.(1/161)
وزاد: «وإنما أخاف على أُمّتي الأئمة المضلّين(1)، وإذا وقع عليهم السيف لم
يُرفع إلى يوم القيامة(2)
__________
(1) قوله: «وإنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين » وهم الأمراء والعلماء والعباد، فيحكمون فيهم بغير علم فيضلونهم كما قال تعالى: { وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا } [الأحزاب:67]، وقال: { وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ } [الأنعام:119]، وفي الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من صدور الرجال ولكن يقبض العلم بموت العلماء، حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤساء جهالاً فسُئلوا فأفتوا بغير علم، فضلُّوا وأضلُّوا »*. وعن أبي الدرداء - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن أخوف ما أخاف على أمتي الأئمة المضلين »**.
رواه أبوداود الطيالسي، وعن زياد بن حدير قال: قال لي عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: هل تعرف ما يهدم الإسلام؟ قلت: لا. قال: يهدمه زلة العالم
..........................................................
* أخرجه البخاري (100)، ومسلم (2673).
** أخرجه أبوداود (4225)، وابن ماجه (3952)، وأحمد (5/278، 284)، وأبوداود الطيالسي في مسنده رقم (1068) (2/321). قال الألباني: صحيح، انظر: صحيح سنن أبي داود (3/801) رقم (3577).
(2) جدال المنافق بالكتاب، وحكم الأئمة المضلين. رواه الدارمي*، ولذا قال عبدالله ابن المبارك:
رأيتُ الذنوبَ تمُيتُ القلوبَ
وتَرْكُ الذنوبِ حَياةُ القُلُوبِ
وَهَلْ أَفْسَدَ الدِّينَ إِلاَّ الملوك
وقد يُورِثُ الذلَّ إدمانُهَا
وَخَيْرٌ لِنفْسِكَ عِصْيَانُهَا
وأَحْبَارُ سُوءٍ ورُهْبَانُهَا
وقال سفيان بن عيينة وغيره: من فسد من علمائنا ففيه شَبَهٌ من اليهود، ومن فسد من عُبّادنا ففيه شَبَهٌ من النصارى. وسُئل سعيد بن جبير: من أين يُهلك الناس؟ قال: من قِبَل علمائهم. وروى ابن أبي الدنيا عن علي - رضي الله عنه - قال: يأتي على الناس زمانٌ لا يبقى فيه من الإسلام إلى اسمه، ولا من القرآن إلا رسمه، مساجدهم يومئذ عامرة وهي خراب من الهدى، علماؤهم شر من تحت أديم السماء، منهم خرجت الفتنة وفيهم تعود. وفيه: حصره الخوف على أمته من الأئمة المضلين. قاله المصنف رحمه الله.
( ) قوله: «وإذا وقع عليهم السيف لم يُرفع إلى يوم القيامة » وقد حصل ما أخبر به - صلى الله عليه وسلم - فإن السيف وقع بقتل الخليفة الراشد عثمان بن عفان - رضي الله عنه - ولم يُرفع، لكن قد يكثر تارة ويقل أخرى، ويكون في جهة ويرتفع عن أخرى، وقد يكون مشروعاً كقتال أهل الإسلام لأهل الشرك، وقد يكون ظلماً وبغياً وفيه إخباره بوقوع السيف وأنه لا يُرفع إذا وقع. قاله المصنف رحمه الله تعالى.(1/162)
، ولا تقوم الساعة حتى يلحق حيٌّ من أمتي بالمشركين(1)،
وحتى تعبُد فئامٌ من أمتي الأوثان(2)
__________
(1) قوله: «ولا تقوم الساعة حتى يلحق حيٌّ من أمتي بالمشركين » الحي واحد الأحياء وهي القبائل، وفي رواية أبي داود: «وحتى يلحق قبائل من أمتي بالمشركين » والمعنى: أنهم يكونون معهم ويرتدون برغبتهم عن أهل الإسلام ويلحقون بأهل الشرك في السكنى والديانة.
..........................................................
* أخرجه الدارمي في سننه (1/76) رقم (218) ط. البغا.
(2) قوله: «وحتى تعبد فِئامٌ من أمتي الأوثان» - بكسر الفاء مهموز - الجماعات الكثيرة. قاله أبوالسعادات [النهاية 3/364]. وفي رواية أبي داود: «حتى تعبد قبائل من أمتي الأوثان» والوثن يطلق على ما قصد بنوع من أنواع العبادة من القبور والمشاهد وغيرها لقول الخليل: { إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا } [العنكبوت:17]، مع قوله: { قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ } [الشعراء:71]، وقوله: { أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ } [الصافات:95]، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد »* فعُلم بهذا أن الوثن يُطلق على ما عُبد من دون الله من القبور والمشاهد والأصنام وغيرها، وهذا هو الشاهد من الحديث للترجمة. وفيه: التصريح بوقوع عبادة الأوثان في هذه الأمة في جموع كثيرة والتنبيه على معنى عبادة الأوثان. قاله المصنف رحمه الله تعالى.
وفيه: الرد على عبّاد القبور الذين ينكرون وقوع الشرك وعبادة الأوثان في هذه الأمة لجهلهم بحقيقة التوحيد وما ينافيه من الشرك والتنديد، وفي الصحيحين عن أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعاً: «لا تقوم الساعة حتى تضطرب أليات نساء دوس على ذي الخلصة»**. قال: وذو الخلصة طاغية دوس التي كانوا يعبدونها في الجاهلية. وروى ابن حبان عن معمر قال: إن عليه الآن بيتاً مبنياً مغلقاً. وفي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها مرفوعاً: «لا يذهب الليل والنهار حتى تُعبد اللات والعزى»***. قال ابن القيم رحمه الله تعالى [زاد المعاد 3/506]: «المشاهد التي بُنيت على القبور والتي اتخذت أوثاناً تُعبد من دون الله والأحجار التي تقصد للتبرك والنذر لا يجوز إبقاء شيء منها على وجه الأرض مع القدرة على إزالتها، وكثير منها بمنزلة اللاَّت والعزى ومناة، أو أعظم شركاً عندها وبها، فاتبع هؤلاء سنن من
..........................................................
* تقدم تخريجه (ص/50).
** أخرجه البخاري (7116)، ومسلم (2906).
*** أخرجه مسلم (52).(1/163)
، وأنه سيكون في أمتي
كذّابون ثلاثون كلهم يزعُم أنه نبيٌّ(1)
__________
(1) ان قبلهم، وسلكوا سبيلهم حذو القذة بالقذة، وغلب الشرك على أكثر النفوس لظهور الجهل وخفاء العلم، وصار المعروف منكراً، والمنكر معروفاً، والسنة بدعة والبدعة سنة، وطمست الأعلام، واشتدت غربة الإسلام، وقل العلماء، وغلب السفهاء،وتفاقم الأمر، واشتدّ البأس، وظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس، ولكن لا تزال طائفة من العصابة المحمدية بالحق قائمين، ولأهل الشرك والبدع مجاهدين إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين». انتهى ملخصاً.
وقد استحكمت الفتنة بعبادة الأوثان حتى إنه لا يُعرف أحدٌ في هذه القرون المتأخرة أنكر ما وقع من ذلك، حتى أقام الله الإمام المجدد شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب رحمه الله فأنكر ذلك ونهى عنه ودعا الناس إلى أن يعبدوا الله وحده لا شريك له، فرماه الملوك وأتباعهم من علماء الضلال بقوس العداوة، فأظهره الله بالحجة وأعزّ أنصاره، وبلغت دعوته مشارق الأرض ومغاربها، وانتفع بدعوته الكثير من الناس، فلله الحمد على هذه النعمة العظيمة.
( ) قوله: «وأنه سيكون في أمتي كذّابون ثلاثون كلهم يزعم أنه نبي» قال القرطبي: «وقد جاء عددهم معيّناً في حديث حذيفة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يكون في أمتي كذّابون دجّالون سبع وعشرون، منهم أربع نسوة »* أخرجه أبونعيم وقال: هذا حديث غريب تفرد به معاوية بن هشام، وحديث ثوبان أصحّ. قاله في «فتح المجيد»**.
قال الحافظ ابن حجر: قد ظهر مصداق ذلك في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - فخرج مسيلمة الكذاب باليمامة، والأسود العنسي باليمن، ثم خرج في خلافة أبي بكر الصديق طليحة
بن خويلد في بني أسد بن خزيمة، وسجاح التميمية في بني تميم، وقتل الأسود
قبل أن يموت النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقتل مسيلمة الكذاب في خلافة أبي بكر
..........................................................
* أخرجه أحمد (5/396)، وأبونعيم في الحلية (4/179). وقال ابن حجر في الفتح (13/87): سنده جيد.
** (1/455-456).
الصديق - رضي الله عنه -، ويقال إن سجاح تابت، ثم خرج المختار ابن أبي عبيد الثقفي وغلب على الكوفة في أول خلافة ابن الزبير وأظهر محبة أهل البيت ودعا الناس إلى طلب قتلة الحسين فقتل كثيراً ممن باشر ذلك وأعان عليه فأحبه الناس، ثم ادّعى النبوة وزعم أن جبريل - عليه السلام - يأتيه، ومنهم الحارث الكذاب خرج في خلافة عبدالملك بن مروان فقتل وخرج في خلافة بني العباس جماعة، وليس المراد بالحديث من ادعى النبوة مطلقاً فإنهم لا يُحصون كثرة لكون غالبهم تنشأه دعواه عن جنون أو سوداء، وإنما المراد من قامت له شوكة، وقد أهلك الله من وقع له منهم ذلك وبقي من يلحقه بأصحابه وآخرهم الدجّال الأكبر. وفيه: إخباره بظهور المتنبئين في هذه الأمة فوقع كما أخبر، والعجب العجاب خروج من يدعي النبوة مثل المختار مع تكلمه بالشهادتين وتصريحه أنه من هذه الأمة، وأن الرسول حق، وأن القرآن حق. وفيه: أن محمداً خاتم النبيين، ومع هذا يصدق في هذا كله مع التضاد الواضح، وقد خرج المختار في آخر عصر الصحابة وتبعه فئام كثيرة. قاله المصنف رحمه الله.(1/164)
،
وأنا خاتم النبيّين(1)، لا نبي بعدي، ولا تزال طائفةٌ من أُمتي على الحق منصورة، لا يضرُّهم من خذلهم(2)
__________
(1) قوله: «وأنا خاتم النبيين » قال الحسن: الخاتم الذي ختم به، يعني آخر النبيين قال تعالى: { مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ } [الأحزاب:40]، و إنما ينزل عيسى بن مريم في آخر الزمان حاكماً بشريعة محمد - صلى الله عليه وسلم - مصلياً إلى قبلته، فهو كأحد أمته، بل هو أفضل هذه الأمة، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «والذي نفسي بيده لينزلنّ فيكم ابن مريم حكماً مقسطاً، فليكسرنّ الصليب، وليقتلنّ الخنزير، وليضعنّ الجزية »*.
(2) قوله: «ولا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم » قال يزيد بن هارون وأحمد بن حنبل: «إن لم يكونوا أهل الحديث
..........................................................
* أخرجه البخاري (2222، 2476، 3448)، ومسلم (242).
فلا أدري من هم ». قال ابن المبارك وعلي بن المديني وأحمد بن سنان والبخاري وغيرهم: «إنهم أهل الحديث »، وعن ابن المديني رواية «هم العرب » واستدل برواية من روى «هم أهل الغرب »، وفُسِّر «الغرب » بالدلو العظيمة؛ لأن العرب هم الذين يستقون بها. قال النووي: «يجوز أن تكون الطائفة جماعة متعددة من أنواع المؤمنين ما بين شجاع وبصير بالحرب وفقيه ومحدث ومفسر وقائم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وزاهد وعابد، ولا يلزم أن يكونوا مجتمعين في بلد واحد، بل يجوز اجتماعهم في قطر واحد وافتراقهم في أقطار الأرض، ويجوز أن يجتمعوا في البلد الواحد وأن يكونوا في بعض دون بعض منه، ويجوز إخلاء الأرض من بعضهم أولاً فأول إلى أن لا يبقى إلا فرقة واحدة ببلد واحد، فإذا انقرضوا جاء أمر الله ». انتهى ملخصاً مع زيادة فيه. قاله الحافظ ابن حجر [الفتح 13/295].
وفيه: إخباره ببقاء الطائفة المنصورة والبشارة بأن الحق لا يزول بالكلية كما زال فيما مضى، بل لا تزال عليه طائفة، والآية العظمى أنهم مع قلتهم لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم وأن ذلك الشرط إلى قيام الساعة. قاله المصنف رحمه الله تعالى. قال القرطبي: «وفيه دليل على أن الاجماع حجة لأن الأمة إذا اجتمعت فقد دخل فيهم الطائفة المنصورة »، واحتج به الإمام أحمد على أن الاجتهاد لا ينقطع ما دامت هذه الطائفة موجودة.(1/165)
ولا من خالفهم،
حَتَّى يَأتِيَ أَمْرُ اللهِ(1)
تبارك وتعالى(2)
__________
(1) قوله: «حتى يأتي أمر الله » الظاهر أن المراد به ما روي من قبض من بقي من المؤمنين بالريح الطيبة، ووقوع الآيات العظام، ثم لا يبقى إلا شرار الناس، فعليهم تقوم الساعة. كما روى الحاكم: أن عبدالله بن عمرو قال: لا تقوم الساعة إلا على شرار الخلق هم شر أهل الجاهلية. فقال عقبة بن عامر لعبدالله: أعلم ما تقول، وأما أنا فسمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «لا تزال عصابة من أمتي يقاتلون على أمر الله ظاهرين لا يضرهم من خالفهم حتى تأتيهم الساعة وهم على ذلك »*.
..........................................................
* أخرجه مسلم (1924).
(2) ال عبدالله: ويبعث الله ريحاً، ريحُهَا ريحُ المسك، ومَسُّها مسُّ الحرير، فلا تترك أحداً في قلبه مثقال ذرة من إيمان إلا قبضته، ثم يبقى شرار الناس فعليهم تقوم الساعة. وعلى هذا؛ فالمراد بقوله في حديث عقبة وما أشبهه «حتى تأتيهم الساعة» ساعتهم وهي وقت موتهم بهبوب الريح. ذكره الحافظ ابن حجر [الفتح 13/294].
وقد اختلف في محل هذه الطائفة فقال بعضهم: إنها تكون في بيت المقدس. كما رواه الطبراني من حديث أبي أمامة: قيل يا رسول الله أين هم؟ قال: «ببيت المقدس »*. وقال معاذ بن جبل: هم بالشام.
وفي كلام الطبري ما يدل على أنه لا يجب أن تكون في الشام أو في بيت المقدس دائماً بل قد تكون في موضع آخر في بعض الأزمنة قال في «الشرح»**: «وهذا هو الحق؛ فإن ليس في الشام منذ أزمان أحد بهذه الصفة؛ بل ليس فيه إلا عُبَّاد القبور وأهل الفسق وأنواع الفواحش والمنكرات، ويمتنع أن يكونوا هم الطائفة المنصورة، وأيضاً فهم منذ أزمان لا يقاتلون أحداً من أهل الكفر وإنما بأسهم وقتالهم بينهم». انتهى.
قلت: ويشهد له الواقع، وحال أهل الشام وأهل بيت المقدس، فإنهم من أزمنة طويلة لا يعرف فيهم من قام بهذا الأمر بعد شيخ الإسلام ابن تيمية وأصحابه، فإنهم كانوا في زمانهم على الحق يدعون إليه، ويناظرون عليه، ويجاهدون فيه، وقد يجيء من أمثالهم بعد بالشام من يقوم مقامهم بالدعوة إلى الحق والتمسك بالسنة، والله على كل شيء قدير. قاله في «فتح المجيد»***.
( ) وقوله: «تبارك وتعالى » جاء بناء تبارك على بناء تعالى الذي هو دالٌّ على كمال العلو ونهايته، فكذلك تبارك دالّ على كمال بركته وعظمتها وسعتها، وهذا معنى
..........................................................
* أخرجه الطبراني في «الكبير» (7643)، وأحمد (5/269).
** (ص/323).
*** (1/460).
قول من قال من السلف: تبارك تعاظم. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: جاء بكل بركة. قاله ابن القيم رحمه الله تعالى.
وهذا الحديث رواه أيضاً أبوداود في سننه وابن ماجه بالزيادة التي ذكرها المصنف رحمه الله. وكل جملة من هذا الحديث عَلَم من أعلام النبوة، فإن كل ما أخبر به النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث وقع كما أخبر. قاله في «فتح المجيد»*.
..........................................................
* (1/461 – حاشية/3).(1/166)
».
.............................................................................
* * *
24- باب
ما جاء في السحر(1)
__________
(1) قوله: «باب ما جاء في السحر» أي من الوعيد الشديد وأنه كفر.
السحر لغة: عبارة عما خفي ولطف سببه ؛ ولهذا جاء في الحديث «إن من البيان لسحراً »* وسُمي السَّحرُ سَحراً لأنه يقع خفياً آخر الليل. وقال أبومحمد المقدسي في «الكافي»: «السحر عزائم ورُقى وعقد يؤثر في القلوب والأبدان فيمرض ويقتل ويفرق بين المرء وزوجه ». قال ابن العربي: «منه ما يفرق بين المرء وزوجه، ومنه ما يجمع بين المرء وزوجه، ويسمى التولة وكلاهما كفر، وحقيقته - يعني السحر - أنه كلام مؤلف يعظم به غير الله تعالى وتنسب إليه فيه المقادير والكائنات». انتهى. ولذا جاء في الحديث «ومن سحر فقد أشرك »**، ولما كان السحر لا يتأتّى بدون الشرك سواء كان الشرك أكبر أو أصغر فالأكبر ينافي التوحيد والأصغر ينافي كماله. ذكره المصنف رحمه الله تعالى تحذيراً منه.
... وقد زعم قومٌ من المعتزلة وغيرهم أن السحر تخييل لا حقيقة له، وهذا ليس بصحيح؛ فإن التخييل إنما هو في نظر المسحور، فهو ناشئ عن السحر لا نفس السحر، ولولا أن للسحر حقيقة لم يأمر الله بالاستعاذة منه في قوله: { وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ } [الفلق:4]، يعني السواحر اللاتي يعقدن السحر وينفثن في عقدهن، وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سُحر حتى إنه ليُخيل إليه أنه يفعل الشيء وما يفعله، وأنه قال لها ذات يوم: «أتاني ملكان فجلس أحدُهما عند رأسي والآخر عند رجلي فقال: ما وجع الرجل ؟ قال: مطبوب. قال: ومن طبَّه؟. قال: لبيد ابن الأعصم في مشط ومشاطة وفي جف طَلْع ذكر في بئر ذروان »***. رواه البخاري.
..............................
* أخرجه البخاري (5146)، و (5767)، ومسلم من حديث ابن عمر (869).
** أخرجه النسائي (4079)، وأوله: «من عقد عقدة ثم نفث فيها فقد سحر، ومن...». قال الألباني: ضعيف. انظر: ضعيف سنن النسائي(ص/163)، رقم (276).
*** أخرجه البخاري (3175، 5763، 6063)، ومسلم (2189).(1/167)
وقول الله تعالى: { وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ } (1) [البقرة: 102].
وقوله: { يؤمنون بالجبت والطاغوت (2) } [النساء: 51].
__________
(1) التخييل الذي كان يراه - صلى الله عليه وسلم - ناشئ عن السحر الذي في المشط والمشاطة، وليس هو نفس السحر، ولذا لما استخرجه وأتلف ذهب عنه ما يجده من التخييل.
( ) قوله: «وقول الله تعالى: { وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ } أي: ولقد علم اليهود الذين استبدلوا السحر عن متابعة الرسل والإيمان بالله ما له في الآخرة من خلاق، قال ابن عباس: من نصيب. وقال قتادة: وقد علم أهل الكتاب فيما عهد إليهم أن الساحر لا خلاق له في الآخرة. وقال الحسن: ليس له دين، فدلّت الآية على تحريم السحر، وهو كذلك محرم في جميع الشرائع لم يبح في ملة من الملل كما قال تعالى: { وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى } [طه:69]. قاله في «الشرح»*.
وفيه: معرفة تفسير آية البقرة. قاله المصنف رحمه الله. واختلفوا: هل يكفر الساحر أم لا ؟ فذهب طائفة من السلف إلى أنه يكفر، وبه قال مالك وأبوحنيفة وأحمد رحمهم الله تعالى. قال أصحابه إلا أن يكون سحره بأدوية وتدخين وسقي شيء يضر فلا يكفر. وقال الشافعي: «إذا تعلم السحر قلنا له: صفْ لنا سحرك، فإن وصف ما يوجب الكفر مثل ما اعتقد أهل بابل من التقرب للكواكب السبعة وأنها تفعل ما يلتمس منها فهو كافر، وإن كان لا يوجب الكفر فإن اعتقد إباحته كفر ». انتهى.
(2) «وقوله: تعالى: { يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ } قال عمر: الجبت: السحر، والطاغوت: الشيطان». رواه ابن أبي حاتم، وفيه: أن السحر من الجبت. قاله المصنف. وقال جابر بن عبدالله بن عمرو بن حرام الأنصاري ثم السلمي بفتحتين، صحابي ابن صحابي - رضي الله عنهما -.
..........................................................
* (ص/326).(1/168)
قال عمر: الجبت: السحر، والطاغوت: الشيطان.
وقال جابر: الطواغيت(1) كهّان كان ينزل عليهم الشيطان(2)، في كل حيٍّ واحدٌ.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:«اجتنبوا السبع الموبقات»(3)
__________
(1) قوله: «الطواغيت: كهان » أراد أن الكهان من الطواغيت، فهو من إفراد المعنى.
(2) قوله: «كان ينزل عليهم الشيطان » أراد الجنس لا الشيطان الذي هو إبليس خاصة، بل تنزل عليهم الشياطين ويخاطبونهم ويخبرونهم بما يسترقون من السمع «في كل حيٍّ واحد» قال وهب بن منبه: سألتُ جابر بن عبدالله عن الطواغيت التي كانوا يتحاكمون إليها. فقال: إن في جهينة واحداً، وفي أسلم واحداً، وفي هلال واحداً، وفي كل حيٍّ واحد، وهم كهان كانت تنزل عليهم الشياطين. رواه ابن أبي حاتم. والحي: واحد الأحياء، وهي القبائل أي في كل قبيلة كاهن يتحاكمون إليه ويسألونه عن الغيب، وكذلك كان الأمر قبل مبعث النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأبطل الله ذلك بالإسلام، وحرست السماء بكثرة الشهب. وفيه: معرفة تفسير آية النساء وتفسير الجبت والطاغوت والفرق بينهما، وأن الطاغوت قد يكون من الجن وقد يكون من الإنس. قاله المصنف رحمه الله تعالى. ومطابقة أثر جابر للترجمة من جهة أن الساحر طاغوت من الطواغيت إذ كان هذا الاسم يطلق على الكاهن، فالساحر أولى ؛ لأنه أشَرُّ وأخبث. قاله في «الشرح»*.
(3) قوله: «وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «اجتنبوا السبع الموبقات». قالوا: يا رسول الله، وما هُنّ ؟ قال: «الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرّم الله إلا قالوا: يا رسول الله، وما هُنّ ؟ قال: «الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكلُ الربا، وأكلُ مال اليتيم، والتولِّي يومَ الزحف، وقذفُ المحصنات الغافلات المؤمنات »**.
................................
* (ص/328).
** أخرجه البخاري (2766) و(5764)، ومسلم (89).
فقوله: «اجتنبوا » أبلغ في النهي من قوله: «اتركوا »؛ لأنه يتضمن الترك والتباعد عنها.
وقوله: «السبع » لا ينفي ما زاد ؛ لأنه مفهوم عدد، ومفهوم العدد إذا خالفه منطوق قُدم عليه.
وقد أخرج الطبراني وإسماعيل القاضي عن ابن عباس أنه قيل له: الكبائر سبع. قال: هن أكثر من سبع وسبع، وفي رواية: هي إلى السبعين أقرب. وفي رواية: إلى السبعمائة.
وقوله: «الموبقات » أي المهلكات، وسميت موبقات لأنها تهلك فاعلها في الدنيا بما يترتب عليها من العقوبات، وفي الآخرة من العذاب.
قوله: «الشرك بالله » بداية من البداءة بالأهم، وهو أن يجعل لله نداً يدعوه أو يرجوه أو يخافه كما يخاف الله عز وجل، وفي الصحيحين عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: قلت: يا رسول الله: أي الذنب أعظم عند الله ؟ قال: «أن تجعل لله نداً وهو خلقك»* الحديث، قال ابن القيم رحمه الله تعالى في «الكافية الشافية» [257]:
والشركَ فاحذره فشرك ظاهر
وهو اتخاذ الند للرحمن أيَّا
يدعوه أو يرجوه ثم يخافه
ذا القسم ليس بقابل الغفرانِ
كان من حجرٍ ومن إنسانِ
ويحبه كمحبة الدَّيَّانِ
قوله: «والسحر » وهذا هو الشاهد من الحديث للترجمة.
قوله: «وقتل النفس التي حرّم الله إلا بالحق » بأن تفعل ما يوجب قتلها. قال في «الشرح»**: كقتل المشرك المحارب.
قلت: وهذه سبقة قلم من الشارح رحمه الله، فإن قتل المشرك ليس من قتل النفس التي حرّم الله إلا بالحق؛ لأنه مباح الدم والمال، وليست محاربته أيضاً شرطاً في قتله وإنما المراد قتل المسلم المعصوم الدم لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يحلّ دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس،
........................................
* تقدم تخريجه (ص/13).
** (ص/330).
والتارك لدينه المفارق للجماعة »*.
وقوله: «وأكل الربا » أي تناوله بأي وجه كما قال تعالى: { الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ } [البقرة:275] الآيات، قال ابن دقيق العيد: وهو موجب لسوء الخاتمة.
قوله: «وأكل مال اليتيم » عبر بالأكل لأنه أعمّ وجوه الانتفاع، قال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا } [النساء:10].
قوله «والتولّي يوم الزحف » أي الإدبار عن الكفار وقت التحام القتال، وإنما يكون كبيرة إذا فرَّ إلى غير فئة أو غير متحرف لقتال، كما قيد به في قوله { وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ } الآية [الأنفال:16].
قوله: «وقذف المحصنات » بفتح الصاد: المحفوظات من الزنا، وبكسرها: الحافظات فروجهن منه. والمراد: العفيفات بأن يُرمين بزنا أو لواط، والغافلات عما رمين به، فهو كناية عن البريئات؛ لأن الغافل برئ عما بُهت به، و «المؤمنات» أي بالله تعالى احترازاً عن قذف الكافرات. قال الله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } [النور:23] وهذا الحديث ذكره المصنف غير معزوّ، وقد رواه البخاري ومسلم.
وفيه: معرفة السبع الموبقات المخصوصات بالنهي. قاله المصنف رحمه الله تعالى.
..............................
* أخرجه البخاري (6878)، ومسلم (1676).(1/169)
قالوا: يا رسول الله، وما هُنّ ؟ قال: «الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرّم الله إلا بالحق، وأكلُ الربا، وأكلُ مال اليتيم، والتولِّي يومَ الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات».
وعن جندب مرفوعاً: «حدُّ الساحر ضربةٌ بالسيف». رواه الترمذي
وقال: الصحيح أنه موقوف (1).
وفي صحيح البخاري عن بَجَالَة بن عَبَدَة(2) قال: كتب عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنِ اقتلوا كل ساحر وساحرة. قال: فقتلنا ثلاث سواحر(2)
__________
(1) قوله: «وعن جندب مرفوعاً: «حدُّ الساحر ضربةٌ بالسيف ». رواه الترمذي وقال: الصحيح أنه موقوف »*. هذا الحديث رواه الطبراني في ترجمة جندب بن عبدالله البجلي، قال الحافظ ابن حجر: والصواب أنه غيره.
وقد رواه ابن قانع والحسن ابن سفيان من وجهين عن الحسن عن جندب الخير أنه جاء إلى ساحر فضربه بالسيف حتى مات وقال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول:.. فذكره.
وجندب الخير هو جندب بن كعب.
وقوله: «ضربة » روي بالهاء والتاء وكلامها صحيح، وبهذا الحديث أخذ مالك وأحمد وأبوحنيفة فقالوا: يُقتل الساحر، وروى ذلك عن عمر وعثمان وابن عمر وحفصة وجندب بن عبدالله وجندب بن كعب وقيس بن سعد وعمر بن عبدالعزيز ولم يرَ الشافعي القتل عليه بمجرد السحر إلا إنْ عمل في سحره ما يبلغ الكفر، وبه قال ابن المنذر، وهو رواية عن أحمد، والأول أولى للحديث ولأثر عمر، وعمل به الناس في خلافته من غير نكير.
(2) قوله: «وفي صحيح البخاري عن بجالة » بفتح الموحدة بعدها جيم «ابن عبدة » بفتحتين، التميمي العنبري بصري ثقة «قال: كتب عمرُ بن الخطاب: أن اقتلوا كل ساحر وساحرة، قال: فقتلنا ثلاث سواحر »**. وهذا الأثر رواه البخاري كما قال المصنف لكن لم يذكر قتل السواحر، فلعل المصنف أراد أصله لا لفظه.
................................
* أخرجه الترمذي (1460)، والطبراني في الكبير (1665)، والحاكم (4/360). قال الألباني: ضعيف، انظر: ضعيف سنن الترمذي (ص168)، رقم (244).
** أصله في البخاري (3156)، وأخرجه أبوداود (3043)، وأحمد (1/190، 191).
قاله في «الشرح»*. وفيه: أن الساحر يكفر ووجود هذا في المسلمين على عهد عمر فكيف بعده. قاله المصنف رحمه الله تعالى. وظاهر أنه يقتل من غير استتابة، قال المصنف: يقتل ولا يُستتاب، وهو المشهور عن أحمد وبه قال مالك؛ لأن علم السحر لا يزول بالتوبة، وعن أحمد يُستتاب فإن تاب قُبلت توبته، وبه قال الشافعي؛ لأن ذنبه لا يزيد عن الشرك، والمشرك يُستتاب وتُقبل توبته؛ ولذا صح إيمان سحرة فرعون وتوبتهم.(1/170)
.
وصحَّ عن حفصةَ(1) رضي الله عنها أنها أمرت بقتل جاريةٍ لها سَحرتها، فقُتِلتْ.
وكذلك صحّ عن جُنْدَب(2).
قال أحمد: عن ثلاثة من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -(3).
* * *
25- باب
__________
(1) قوله «وصح عن حفصة أنها أمرت بقتل جارية لها سحرتها فقُتلت »**. هذا الأثر رواه مالك في الموطأ، وحفصة هي أم المؤمنين بنت عمر بن الخطاب، تزوجها النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد خنيس بن حذافة وماتت سنة خمس وأربعين - رضي الله عنها -.
(2) قوله «وكذا صحّ عن جندب » وأثر جندب هذا رواه البخاري في تاريخه عن أبي عثمان النهدي قال: كان عند الوليد رجلٌ يلعب فذبح إنساناً وأبان رأسه فعجبنا، فأعاد رأسه فجاء جندب الأزدي فقتله. ورواه البيهقي في الدلائل مطولاً، وفيه: فأمر به الوليد فسجن فذكر القصة بتمامها، ولها طرق كثيرة.
(3) قوله: «قال أحمد عن ثلاثة من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - » أي صح قتل الساحر عن ثلاثة يعني: عمر، وحفصة، وجندب -رضي الله عنهم-.
..............................
* (ص/333).
** أخرجه عبدالله بن أحمد في المسائل (1543)، والبيهقي (8/136)، ومالك في الموطأ (871).(1/171)
بيان شيء من أنواع السحر(1)
قال أحمد: حدثنا محمد بن جعفر(2)، حدثنا عوف، عن حيّان بن العلاء، حدثنا قَطَن بن قَبيصة، عن أبيه أنه سمع رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال:
__________
(1) قوله «باب بيان شيء من أنواع السحر» لما ذكر المصنف السحر وما جاء فيه وأنه كفرٌ، وأنه يجب قتل الساحر، ناسب أن يذكر شيئاً من أنواعه لكثرة وقوعها وخفائها، حتى اعتقد كثير من الناس أن من صدرت منه هذه الأمور من الأولياء، وعدّوها من كرامات الأولياء، وليس كل من جرى على يده شيء من خوارق العادة يكون ولياً لله؛ لأن العادة تنخرق بفعل الساحر والمشعوذ وخبر المنجم والكاهن بشيء من الغيب مما يخبره به الشياطين المسترقون للسمع، فأولياء الله هم المتبعون للرسول - صلى الله عليه وسلم - باطناً وظاهراً، ومن كان بخلاف ذلك فليس بمؤمن فضلاً عن أن يكون ولياً لله تعالى، فلو أن الرجل طار في الهواء أو مشى على الماء لم يغتر به حتى يُنظر متابعته لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وموافقته لأمره ونهيه.
(2) قوله: «قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر» هو المشهور بغندر الهذلي البصري، ثقة مشهور، مات سنة ست ومائتين أو سبع وأربعين ومائتين وله ست وثمانون سنة، «عن عوف»: هو ابن أبي جميلة بفتح الجيم، العبدي البصري المعروف بعوف الأعرابي، ثقة، مات سنة ست ومائتين «عن حيان» بالمثناة التحتية «ابن العلاء» ويقال حيان بن مخارق أبوالعلاء البصري، مقبول، «حدثنا قَطَن» بفتحتين أبوسهل البصري، صدوق «بن قبيصة عن أبيه» قَبيصة بفتح أوله وكسر الموحدة ابن المخارق بضم الميم وتخفيف المعجمة، أبوعبدالله الهلالي، صحابي نزل البصرة.(1/172)
«إن العيافةَ والطَّرقَ والطِّيَرَةَ من الجبت»(1).
قال عوف: العيافة: زجر الطير ، والطَّرقُ: الخطُّ يُخطُّ بالأرض.
والجبتُ(2) قال الحسن: رَنَّةُ الشيطان. إسناده جيد. ولأبي داود والنسائي وابن حبان في صحيحه المسند منه(3).
__________
(1) قوله: «إنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن العيافة والطرق والطيرة من الجبت»*. قال عوفٌ: العيافة: زجر الطير» وفي «النهاية» [3/297]: زجر الطير والتفاؤل بأسمائها وأصواتها وممرها. وهو من عادات العرب وهو كثير في أشعارهم. يقال: عاف يعيف عيفاً، إذا زجر وحدس وظن. وبنو أسد يُذكَرُون بالعيافة ويُوصَفون بها. «والطَّرْق» قال عوف: «الخط يُخط بالأرض». وفي «النهاية» [3/111]: الطَّرْق: الضرب بالحصى الذي يفعله النساء، وقيل: هو الخَطُّ في الرمل.
(2) قوله: «والجبت قال الحسن: رنَّة الشيطان. إسناده حسن».
(3) قوله: «ولأبي داود والنسائي وابن حبان في صحيحه المسند منه» أي من الحديث دون تفسير عوف، وقد رواه أبوداود في التفسير دون كلام الحسن وذكر إبراهيم بن مفلح أن في تفسير بقي بن مخلد أنّ إبليس رنَّ أربع رنات: رنَّة حين لُعن، ورنة حين أُهبط، ورنّة حين وُلد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ورنة حين أنزلت فاتحة الكتاب. وقال سعيد بن جبير: لما لُعن إبليس تغيرت صورته عن صور الملائكة، ورنَّ رنة فكل رنة في الدنيا منها إلى يوم القيامة. رواه ابن أبي حاتم، وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: لما فتح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكة رنَّ إبليس رنّة اجتمعت إليه جنوده. رواه الحافظ الضياء في «المختارة». والرنين: الصوت، وقد رنّ يرن رنيناً. وبهذا يظهر معنى قول الحسن رحمه
..........................................................
* أخرجه أبوداود (3907)، والنسائي في الكبرى (8/275)، وأحمد (3/477، 5/60). قال الألباني: ضعيف. انظر: ضعيف سنن أبي داود (ص/387)، رقم (842).(1/173)
وعن ابن عباس - رضي الله عنهما -(1) قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من اقتبس شعبةً من النجوم فقد اقتبس شعبةً من السحر(2)، زاد ما زاد(3)». رواه أبوداود وإسناده صحيح.
وللنسائي(4)
__________
(1) الله تعالى. وفيه: أن العيافة والطرق والطيرة من الجبت، ومعرفة تفسير العيافة والطرق والطيرة. قاله المصنف.
( ) قوله: «وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من اقتبس شعبة من النجوم» أي طائفة من علم النجوم، قال في «النهاية» [4/4]: قَبستُ العلم واقتبسته إذا تَعلَّمته.
(2) قوله: «فقد اقتبس شعبة من السحر»* المحرم تعلمه، قال شيخ الإسلام [الفتاوى 35/193]: فقد صرّح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأن علم النجوم من السحر، وقال تعالى: { وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى } [طه:69].
(3) قوله: «زاد ما زاد» رواه أبوداود وإسناده صحيح أي: كلما زاد من تعلم علم النجوم، زاد في الإثم الحاصل بزيادة الاقتباس من شُعَبه، فإن ما يعتقده في النجوم من التأثير باطل، كما أن تأثير السحر باطل. قاله في «فتح المجيد»**.
وفيه: أنّ علم النجوم من أنواع السحر. قاله المصنف رحمه الله تعالى.
(4) قوله: «وللنسائي» وهو الإمام الحافظ أحمد بن شعيب أبوعبدالرحمن صاحب السنن وغيرها، كان إليه المنتهى في العلم بعلل الحديث، مات سنة ثلاث وثلاثمائة وله ثمان وثمانون سنة -رحمه الله تعالى-: «من حديث أبي هريرة
..........................................................
* أخرجه أبوداود (3905)، وابن ماجه (3726)، وأحمد (1/227، 311). والحديث حسّنه الألباني. انظر: صحيح سنن أبي داود (2/739) رقم (3305).
** (2/481).
- رضي الله عنه - «من عقد عقدة ثم نفث فيها فقد سحر»* اعلم أن السحرة إذا أرادوا عمل السحر عقدوا الخيوط ونفثوا في كل عقدة حتى ينعقد ما يريدون من السحر، قال الله تعالى: { وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ } [الفلق:4] يعني السواحر اللاتي يفعلن ذلك، والنفث هو النفخ مع الريق وهو دون التفل، والنفث فعل الساحر، فإذا تكيّفت نفسه بالخبث والشر الذي يريده بالمسحور ويستعين عليه بالأرواح الخبيثة نفخ في تلك العُقدة نفخاً مع ريق ممازج فيخرج من نفَسِه الخبيث نَفَسٌ ممازج للشر والأذى مقارن للريق الممازج لذلك، وقد يتساعد هو والروح الشيطانية على أذى المسحور، فيصيبه بإذن الله الكوني القدري لا الشرعي. قاله ابن القيم رحمه الله تعالى [بدائع الفوائد 2/221].
وفيه: أن العقد مع النفث من أنواع السحر. قاله المصنف رحمه الله تعالى.(1/174)
من حديث أبي هريرة: «من عَقَد عُقدةً ثم نفث فيها فقد
سَحَرَ، ومن سَحَرَ فقد أشرك(1)، ومن تعلَّق شيئاً وُكِل إليه(2)».
وعن ابن مسعود أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «أَلاَ هل أُنبئكم ما العَضْهُ؟ هي النميمة، القالة بين الناس». رواه مسلم(3)
__________
(1) قوله: «ومن سحر فقد أشرك» نص في أن الساحر مشرك، ولا يتأتَّى السحر بدون الشرك كما حكاه الحافظ ابن حجر عن بعضهم.
(2) قوله: «ومن تعلق شيئاً وُكل إليه» أي من تعلّق قلبه شيئاً بحيث يعتمد عليه وكله الله إلى ذلك الشيء، فمن تعلّق على ربه وإلهه وسيده ومولاه كفاه ووقاه وحفظه وتولاّه، فنعم المولى ونعم النصير، ومن تعلّق على السحرة والشياطين وغيرهم من المخلوقين وكَلَه الله إلى من تعلّقه، فهلك.
(3) قوله: «وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ألا هل أنبئكم ما العَضْهُ:
..........................................................
* أخرجه النسائي (7/112)، تقدم تخريجه.
هي النميمة، القالة بين الناس». رواه مسلم»*. والعَضْهُ بفتح المهملة وسكون المعجمة. قال أبوالسعادات [النهاية 3/230-231]: «هكذا يروى في كتب الحديث والذي في كتب الغريب «ألا أنبئكم ما العِضَة» بكسر العين وفتح الضاد، ومنه الحديث: «لعن الله العَاضِهَة والمُسْتَعْضِهة» قيل: هي الساحرة والمستسحرة، وسُمي السحر عَضْهاً لأنه كذب وتخييل لا حقيقة له، قال الزمخشري: أصلها العِضهَة فعلة من العَضْة وهو البهَتُ فحُذفت لامُه كما حُذفت من السَّنَة والشَّفَة ويجمع على عِضينَ» ثم فسّره بقوله «هي النميمة القالة بين الناس» فأطلق عليها العضة لأنها لا تنفك عن الكذب والبهتان غالباً. ذكره القرطبي، وذكر ابن عبدالبر عن يحيى بن أبي كثير قال: «يفسد النمام والكذاب في ساعة ما لا يفسد الساحر في سنة». وقال أبوالخطاب في «عيون المسائل»: «ومن السحر السعي بالنميمة والإفساد بين الناس». قال في «الفروع» [6/180]: «ووجهه أن يقصد الأذى بكلامه وعمله على وجه المكر والحيلة أشبه السحر، وهذا يُعرف بالعرف و العادة أنه يؤثر وينتج ما يعمله الساحر أو أكثر فيُعطى حكمة تسوية بين المتماثلين أو المتقاربين. لكن يقال: إن الساحر إنما يكفر لوصف السحر وهو أمر خاص ودليله خاص وهذا ليس بساحر وإنما يؤثر عمله ما يؤثره السحر فيُعطى حكمه إلا فيما اختص به من الكفر وعدم قبول التوبة». انتهى ملخصاً. وبه يظهر مطابقة الحديث للترجمة. قاله في «الشرح»**. وقال أبومحمد ابن حزم [مراتب الإجماع 156]: «اتفقوا على تحريم الغيبة والنميمة في غير النصيحة الواجبة، وفيه دليل على أنها من الكبائر». وفيه: دليل على أنها من السحر. قاله المصنف رحمه الله تعالى.
.............................................
* أخرجه مسلم (2606).
** (ص/345).(1/175)
.
.......................................................................
ولهما عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن من البيان لسحراً»(1)
__________
(1) وقوله: «القالة بين الناس» قال ابن الأثير [النهاية 4/107]: «أي كثرة القول، وإيقاع الخصومات بين الناس بما يُحكى لبعضهم عن بعض». ومنه: الحديث: «فشت القالة بين الناس» *.
( ) قوله: «ولهما» أي البخاري ومسلم «عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:«إنَّ من البيان لسحراً»** البيان: البلاغة والفصاحة. قال صعصعة ابن صوحان: صدق نبي الله، فإن الرجل يكون عليه الحق، وهو ألحن بالحجج من صاحب الحق، فيسحر القوم ببيانه فيذهب الحق. وسبب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا ما رواه أبوبكر الرازي عن محمد بن الزبير قال: قدم على النبي - صلى الله عليه وسلم - الزبرقان بن بدر وعمرو بن الأهتم وقيس بن عاصم فقال لعمرو: «أخبرني عن الزبرقان» قال: فقال مطاع في ناديه، شديد العارضة، مانع لما وراء ظهره. فقال الزبرقان: هو والله يعلم أني أفضل منه. فقال عمرو: إنه ذَمِرُ المروءة، ضَيّقُ العَطَنِ، حَمِقُ الأبِ، لَئيمُ الخالِ، يا رسول الله صدقت فيهما، أرضاني فقلت أحسن ما علمتُ، وأسخطني فقلتُ أسوأ ما علمتُ. فقال عليه السلام: «إن من البيان لسحراً». انتهى.
قال ابن عبدالبر: «تأوّله طائفة على الذمّ لأن السحر مذموم، وذكر أهل العلم وجماعة أهل الأدب أنه على المدح ؛ لأن الله تعالى مدح البيان، والأول
..........................................
* أخرجه البخاري (2506).
** تقدم تخريجه.
أصح، والمراد بالبيان الذي فيه تمويهٌ على السامع وتلبيس، وهذا من التشبيه البليغ لكون ذلك يعمل عمل السحر فيجعل الحق في قالب الباطل، والباطل في قالب الحق، وفي الحديث: «إن الله يبغض البليغ من الرجال الذي يتخلّل بلسانه كما تخلّل البقرة بلسانها»*. رواه أحمد وأبوداود. قال في «النهاية» [2/70]: «هو الذي يتشدّق في الكلام ويُفخَّم به لسانه ويلفه كما تلف البقرة الكلأ بلسانها لفاً». انتهى. وأما البيان الذي يوضح الحق ويقرره ويبطل الباطل ويبيّنه فهذا هو الممدوح. وفيه: أن بعض الفصاحة من السحر.
..........................................
* أخرجه أبوداود (5005)، والترمذي (2857) وقال: حديث حسن. وقال الألباني: صحيح. انظر: صحيح سنن أبي داود (3/944) رقم (4185).(1/176)
.
..............................................................................
* * *
26- باب
ما جاء في الكهان ونحوهم(1)
روى مسلم في صحيحه عن بعض أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -(2) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من أتى عرَّافاً(3)فسأله عن شيء فصدَّقه، لم تُقْبَل له صلاةٌ أربعين يوماً(4)
__________
(1) قوله: «باب ما جاء في الكهان ونحوهم» قال في «النهاية» [4/186]: الكاهن الذي يتعاطى الخبر عن الكائنات في مستقبل الزمان ويدّعي معرفة الأسرار، فمنهم من كان يزعم أن له تابعاً من الجن ورَئيَّاً يُلقي إليه الأخبار، ومنهم من كان يزعم أنه يعرف الأمور بمقدمات أسباب يستدل بها على مواقعها من كلام من يسأله أو فعله أو حاله، وهذا يخصونه بالعرّاف، كالذي يدّعي معرفة الشيء المسروق ومكان الضالّة ونحوهما». «والكهّان الذين يأخذون عن مسترق السمع موجودون اليوم لكنهم قليل بالنسبة لما كانوا عليه في الجاهلية؛ لأن الله حرس السماءَ بالشهب». قاله في «الشرح»*. وأكثر ما يقع في هذه الأمة: ما يخبر به الجنُ أولياءَهم من الإنس عن الأشياء الغائبة مما يقع في الأرض من الأخبار، فيظنه الجاهل كشفاً وكرامة، وقد اغترَّ بذلك كثير من الناس، يظنون المخبرُ لهم بذلك عن الجن وليّاً لله، وهو من أولياء الشيطان. قاله في «فتح المجيد»**.
(2) قوله «روى مسلم في صحيحه عن بعض أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -» وهي حفصة بنت عمر بن الخطاب - رضي الله عنهما - ذكره أبومسعود الثقفي؛ لأنه ذكر هذا الحديث في الأطراف في مسندها.
(3) قوله: «عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من أتى عرّافاً» وسيأتي بيان العراف.
(4) قوله: «فسأله عن شيء فصدّقه لم تُقبل له صلاة أربعين يوماً»*** قال في
..........................................................
* انظر: (ص/346).
** (2/487).
*** أخرجه مسلم (2230)، و أحمد (4/68) (5/380).
«الشرح»*: ليس في رواية مسلم «فصدقه» وظاهر الحديث أن الوعيد مرتب على مجيئه وسؤاله سواء صدّقه أو شكّ في خبره، فإن في بعض روايات الصحيح «من أتى عرّافاً فسأله عن شيء لم تُقبل له صلاةٌ أربعين ليلة»**. قال النووي وغيره: معناه لا ثواب له فيها، وإن كانت مجزئة بسقوط الفرض عنه. ولابد من هذا التأويل في هذا الحديث، فإن العلماء متفقون على أنه لا يلزم من أتى العرّاف إعادة صلاة أربعين ليلة. انتهى ملخصاً.
قلت: وفي هذا التأويل الذي ذكره نظر؛ لحديث عائشة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار»***. رواه أبوداود، والأصل في نفي القبول نفي الصحة إلا بدليل، وإذا لم تكن صحيحة لم تكن مجزئة.
وفي الحديث النهي عن إتيان الكهّان ونحوهم. قال القرطبي: «يجب على من قدر على ذلك من محتسب وغيره أن يقيم من يتعاطى شيئاً من ذلك من الأسواق وينكر عليهم أشدّ النكير وعلى من يجيء إليهم، ولا يغترّ بصدقهم في بعض الأمور ولا بكثرة من يجيء إليهم ممن ينتسب إلى العلم فإنهم غير راسخين في العلم، بل من الجهّال بما في إتيانهم من المحذور».(1/177)
».
وعن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من أتى كاهناً فصدّقه بما يقول فقد كفر بما أُنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم -». رواه أبوداود(1).
وللأربعة، والحاكم وقال: صحيح على شرطهما عن [ ]: «مَنْ أتى عرَّافاً أو كاهناً فصدَّقه بما يقولُ فقد كَفَر بما أُنزلَ على محمد - صلى الله عليه وسلم -(2)
__________
(1) قوله: «وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من أتى كاهناً فصدّقه بما يقول فقد كفر بما أُنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم -». رواه أبوداود»****. وهذا الحديث
..........................................................
* (ص/347).
** سبق تخريجه قريباً.
*** أخرجه أبوداود (641)، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (1/126)، رقم (596).
**** أخرجه أبوداود (3904)، والنسائي في الكبرى (130، 131)، والترمذي (135)، وابن ماجه (639)، وأحمد (2/408، 476)، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (2/739) رقم (3304).
(2) اختصره المصنف واقتصر منه على ما يناسب الترجمة، قال في «الشرح»*. «رواه الترمذي والنسائي وابن ماجه بنحوه، وقال الترمذي: لا نعرفه إلا من حديث حكيم الأثرم، وضعف محمد هذا الحديث من جهة إسناده. وقال البغوي: سنده ضعيف. وقال الذهبي: ليس إسناده بالقائم. وأطال أبوالفتح اليعمري في بيان ضعفه وادّعى أن متنه منكر، وأخطأ في ذلك، فإن إتيان الكاهن له شواهد صحيحة، وكذا إتيان المرأة في الدبر له شواهد، وغاية ما ينكر من متنه إتيان الحائض. والله أعلم».
( ) قوله: «وللأربعة، والحاكم وقال: صحيح على شرطهما عن [ ]: «من أتى عرَّافاً أو كاهناً فصدَّقه بما يقولُ فقد كَفَر بما أُنزلَ على محمد - صلى الله عليه وسلم -»** هكذا بيَّضَ المصنفُ لاسم الرواي. وقد رواه الإمام أحمد والبيهقي والحاكم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعاً، فعزو المصنف إلى الأربعة ليس كذلك، فإنه لم يروه أحد، وأظنه اتبع في ذلك الحافظ ابن حجر، فإنه عزاه في «الفتح» إلى أصحاب السنن والحاكم فوَهِمَ، ولعلّه أراد الذي قبله. قاله في «الشرح»***.
وقوله «من أتى كاهناً» لا تعارض بين هذا وبين حديث «من أتى عرّافاً فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين ليلة» هذا على قول من يقول هو كفر دون كفر، أما على قول من يقول بظاهر الحديث فيسأل عن وجه الجمع
ج
..........................................................
* (ص/349).
** أخرجه أحمد (9515)، والحاكم (1/8) وعنه البيهقي (8/135)، قال الألباني: صحيح. انظر: صحيح الجامع (ص/1031) رقم (5939).
*** (ص/349).(1/178)
».
ولأبي يعلى(1) بسندٍ جيد عن ابن مسعود مثله موقوفاً(2).
__________
(1) ين الحديثين. وظاهر الحديث أن يكفر متى اعتقد صدقه بأي وجه كان. قاله في «فتح المجيد»*. قال في «الشرح»**: «الذي فيه الوعيد بعدم قبول الصلاة أربعين ليلة ليس فيه ذكر تصديقه، والأحاديث التي فيها إطلاق الكفر مقيّدة بتصديقه».
وقوله: «فقد كفر بما أُنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم -» قال القرطبي: «المراد بالمنزّل على محمد: الكتاب والسنة». انتهى. وفيه: أنه لا يجتمع تصديق الكاهن مع الإيمان بالقرآن والتصريح بأنه كفر. قاله المصنف رحمه الله.
* وهل الكفر في هذا الموضع كفر دون كفر ؟ أو يجب التوقف ؟ ولا يقال ينقل عن الملة أو لا ينقل الملة ؟
... وهذا أشهر الروايتين عن أحمد رحمه الله تعالى.
( ) قوله: «ولأبي يعلى» وهو أحمد بن علي بن المثنى الموصلي الإمام صاحب التصانيف كالمسند وغيره، روى عن يحيى بن معين وأبي خيثمة وأبي بكر بن أبي شيبة وخلق، وكان من الأئمة الحفّاظ، مات سنة سبع وثلاثمائة.
(2) قوله: «بسند جيد عن ابن مسعود مثله موقوفاً» ورواه أيضاً البزار وإسناده على شرط مسلم ولفظه: «من أتى كاهناً أو ساحراً فصدّقه بما يقول فقد كفر بما أُنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم -»***. وفيه: دليل على كفر الكاهن والساحر والمصدق لهما في ذلك؛ لأنهما يدّعيان لهما علم الغيب وذلك كفر، والمصدق لهما يعتقد ذلك ويرضى به، وذلك كفر أيضاً. قاله في «الشرح»****.
..........................................................
* (2/490).
** (ص/350).
*** أخرجه البزار (2/443 - كشف الأستار) رقم (2067)، والبيهقي (8/136)، والطبراني في الكبير (10) رقم (10005)، وقال عنه الحافظ في الفتح (10/217): إسناده جيد.
**** (ص/350-351).(1/179)
وعن عمران بن حُصَين مرفوعاً(1): «ليس منا من تَطَّيَر أو تُطيِّر له، أو تَكَهَّنَ أو تُكُهِّنَ له، أو سَحَر أو سُحِرَ له، ومن أتى كاهناً فصدَّقه بما يقول فقد كَفَر بما أُنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم -»(2). رواه البزّار بإسناد جيد(3)، ورواه الطبراني في الأوسط بإسناد حسن من حديث ابن عباس دون قوله «ومن أتى..» إلى آخره.
__________
(1) قوله: «وعن عمران بن حصين مرفوعاً» إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ليس منا من تطيَّر أو تُطيِّر له، أو تَكهَّن أو تُكهِن له، أو سَحَر أو سُحِر له» * فيه دليل على نفي الإيمان الواجب، وهذا لا ينافي ما تقدم من أن الطيرة شرك والكهانة كفر. قاله في «قرة العيون»**. وفيه: وعيدٌ شديدٌ على أن هذه الأمور من الكبائر، وتقدّم أن الكهانة والسحر كفر.
... قوله: «من تطيَّر» أي فعل الطيرة «أو تُطيِّر له» أي عملت له الطيرة «أو تَكهَّن» أي عمل الكهانة «أو تُكهِّن له» أي عُملت له الكهانة، «أو سَحَر» أي عمل السحر، «أو سُحر له» أي عُمل له السحر: فكل من فعل هذه الأمور أو عُملت له فقد برئ منه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لكونها إما شركاً كالطيرة، أو كفراً كالكهانة والسحر، فمن فعل ذلك أو فُعل له ورضي به فهو كالفاعل؛ لقبوله الباطل واتباعه. قاله في «فتح المجيد»***.
(2) قوله: «ومن أتى كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أُنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم -» والذي أُنزل على محمد هو الكتاب والسنة.
(3) قوله: «رواه البزار بإسناد جيد» والبزار هو: أحمد بن عمر بن عبدالخالق، أبوبكر البزار البصري صاحب «المسند الكبير». روى عن ابن بشّار
..........................................................
* أخرجه البزار كما في الترغيب (334)، وقال الألباني: صحيح لغيره. انظر: صحيح الترغيب (3/170) رقم (3041).
** (ص/147).
*** (2/491-492).(1/180)
قال البغوي(1): العرَّافُ: الذي يدَّعي معرفة الأمور بمقدمات يُستدلُّ بها على المسروق ومكان الضالَّة(2) ونحو ذلك. وقيل: هو الكاهن.
والكاهن: هو الذي يخبر عن المغيّبات في المستقبل. وقيل: الذي يخبرُ عمّا في الضمير.
وقال أبوالعباس ابن تيمية: العرَّافُ اسمٌ للكاهن والمنجِّم والرمّال ونحوهم، ممن يتكلّم في معرفة الأمور بهذه الطرق.
__________
(1) ابن المثنى وخلق، مات سنة اثنتين وتسعين ومائتين. ورواه الطبراني في «الأوسط» بإسناد حسن من حديث ابن عباس دون قوله «ومن أتى» إلخ. قاله في «الشرح»*.
( ) قوله: «قال البغوي» بفتحتين، وهو الحسين بن مسعود الفرّاء الشافعي، صاحب التصانيف وعالم أهل خراسان، كان ثقة فقيهاً زاهداً، مات في شوال سنة ست عشرة وخمسمائة - رحمه الله تعالى -.
(2) قوله: «العرّاف الذي يدعي معرفة الأمور بمقدمات يستدل بها على المسروق ومكان الضالة ونحو ذلك. وقيل: هو الكاهن، والكاهن الذي يخبر عن المغيّبات في المستقبل. وقيل: الذي يُخبر عما في الضمير. وقال أبوالعباس أحمد» ابن عبدالحليم بن عبدالسلام (ابن تيمية) الإمام المشهور - رحمه الله ورضي عنه -: «العراف: اسم الكاهن والمنجِّم والرمّال ونحوهم ممن يتكلم في معرفة الأمور بهذه الطرق كالحازِر الذي يدعي الكشف». وقال أيضاً [الفتاوى 35/173، 193]: «والمنجم يدخل في اسم العرّاف، وعند بعضهم هو معناه، ويدخل في اسم الكاهن عند الخطّابي وغيره من العلماء، وحكى ذلك عن العرب، وعند آخرين هو من جنس الكاهن وأسوأ حالاً منه فيُلحق به من جهة المعنى». وقال الإمام أحمد: العرافة طرف من السحر والساحر أخبث وكل هذه الأمور يُسمى صاحبها كاهناً وعرافاً أو في معناهما، فمن أتاهم فصدّقهم بما يقولون لحقه الوعيد. وفيه: معرفة الفرق بين الكاهن والعرّاف. قاله المصنف رحمه الله.
..........................................................
* (ص/351).(1/181)
وقال ابن عباس في قوم يكتبون «أبا جاد»(1)
__________
(1) قد ورث هذه العلوم عنهم أقوامٌ فادّعوا بها علم الغيب الذي استأثر الله بعلمه وادّعوا أنهم أولياء وأن ذلك كرامة، ولا ريب أن من ادّعى الولاية واستدل بإخباره ببعض المغيبات فهو من أولياء الشيطان لا من أولياء الرحمن. إذ الكرامة أمرٌ يجريه الله على يد عبده المؤمن التقي إما بدعاء أو أعمال صالحة لا صنع للولي فيها ولا قدرة له عليها بخلاف من يدّعي أنه ولي ويقول للناس اعلموا أني أعلم الغيب، وحسبك بحال الصحابة والتابعين - رضي الله عنهم - وهم سادات الأولياء، أفكان عندهم في هذه الدعاوى شيء ؟ حاشا وكلا. ويكفيك في صفات الأولياء ما ذكره الله عنهم في قوله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ } [المؤمنون: 57-61] وغيرها من الآيات، فالمتصفون بتلك الصفات هم الأولياء الأصفياء لا أهل الدعاوى والكذب ومنازعة رب العالمين فيما اختص به من الكبرياء والعظمة وعلم الغيب، بل مجرد دعوى علم الغيب كفر، فكيف يكون المدعي لذلك وليّاً لله ؟!.
( ) قوله: «وقال ابن عباس في قوم يكتبون أبا جاد وينظرون في النجوم: ما أرى من فعل ذلك له عند الله من خلاق» هذا الأثر رواه الطبراني عن ابن عباس مرفوعاً وإسناده ضعيف ولفظه: «رب متعلم حروف أبي جاد دارس في النجوم ليس
له عند الله خلاق يوم القيامة»*. ورواه حميد بن زنجويه عنه بلفظ «رًبَّ ناظرٍ في النجوم ومتعلم حروف أبي جاد وليس له عند الله خلاق».
وقوله: «ما أَرى» يجوز بفتح الهمزة بمعنى: لا أعلم. ويجوز ضمها بمعنى: لا أظن. وكتابة أبي جاد وتعلمها لمن يدّعي بها علم الغيب هو الذي يُسمى علم الحرف، وهو الذي جاء فيه الوعيد، فأما تعلُّمها للتهجي وحساب الجُمل فلا بأس به.
وقوله: «وينظرون في النجوم» ويعتقدون أن لها تأثيراً كما سيأتي في باب التنجيم. وفيه: ذكر من تُكهن له، وذكر من تُطيِّر له، وذكر من سُحر له، وذكر من تعلم أباجاد. قاله المصنف رحمه الله تعالى.
..........................................................
* أخرجه الطبراني في الكبير رقم (10980) قال الهيثمي في مجمع الزوائد (5/117): وفيه خالد بن يزيد العُمري، وهو كذاب. انظر فتح المجيد (2/497) بتحقيق الدكتور/ الوليد الفريان - حفظه الله -.(1/182)
وينظرون في النجوم: ما
أرى من فعل ذلك له عند الله من خلاق.
* * *
27- باب
ما جاء في النُّشرة(1)
عن جابر(2) أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سُئل عن النُّشْرَة فقال: «هي من عمل الشيطان». رواه أحمد بسند جيد، وأبوداود وقال: سُئل أحمدُ عنها فقال: ابنُ مسعود يَكْرَهُ هذا كله(2).
__________
(1) قوله: «باب ما جاء في النُّشرة» النُّشرة: بضم النون كما في «القاموس»، قال في «النهاية» [5/46-47]: «النُّشرة ضرب من العلاج والرقية يعالج به من يُظَنُّ أن به مسَّاً من الجن، سُميت نُشرة لأنه ينشر بها عنه ما خامره من الداء، أي يُكشف ويُزال. قال الحسن: النُّشرة من السحر، وقد نَشَّرت عنه تنشيراً، ومنه الحديث: «لعلّ طبّاً أصابه» ثم نَشَّره بقل أعوذ برب الناس «أي رقاه». انتهى. وقال ابن الجوزي [غريب الحديث 2/408]: «النشرة حل السحر عن المسحور، ولا يكاد يقدر عليه إلا من يعرف السحر».
(2) قوله: «عن جابر - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سُئل عن النشرة فقال: «هي من عمل الشيطان». رواه أحمد بسند جيد وأبوداود»*.
قوله: «سُئل عن النشرة» والألف واللام في النشرة للعهد، أي النشرة المعهودة، التي كان أهل الجاهلية يصنعونها، هي من عمل الشيطان «وقال أبوداود: سُئل أحمد عنها. فقال: ابنُ مسعودٍ يكرهُ هذا كله». أراد أحمد أن ابنَ مسعود يكره النشرة التي هي من عمل الشيطان كما يكره تعليق التمائم مطلقاً. قاله في «فتح المجيد»**.
..........................................................
* أبوداود (3868)، وأحمد (3/294)، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (2/733) رقم (3277).
** (2/500).
قلت: والكراهة في عرف السلف كراهة التحريم. أما النشرة بالتعويذ والرُّقى بأسماء الله وكلامه من غير تعليق، فلا أعلم أحداً كرهه. قاله في «الشرح»*.(1/183)
وفي البخاري عن قتادة(1) قلت لابن المسيَّب(2): رجلٌ به طِبٌّ(3) أو يُؤخَّذُ(4) عن امرأته، أَيُحَلُّ عنه(5)، أو يُنَشَّرُ(6) ؟ قال: لا بأسَ به، إنما يريدون به الإصلاح، فأما ما ينفعُ فلم يُنْهَ عنه. انتهى.
ورُوي عن الحسن(7) أنه قال: لا يَحُلُّ السِّحر إلا ساحر.
__________
(1) قوله: «وللبخاري عن قتادة» وهو ابن دِعامَة - بكسر الدال - السدوسي، ثقة فقيه من أحفظ التابعين، قالوا: إنه وُلد أكمه، مات سنة بضع عشر ومائة.
(2) قوله: «قلت لابن المسيب» وهو سعيد بن المسيَّب.
(3) قوله: «رجلٌ به طِبٌّ» بكسر الطاء، أي: سحر. يقال: طُبَّ الرجلُ بالضم إذا سُحر، ويقال: كنوا عن السحر بالطب تفاؤلاً كما يقال للديغ: سليم. وقال ابن الأنباري [كتاب الأضداد (231)]: الطب من الأضداد، يقال لعلاج الداء طب والسحر من الداء يقال له طب.
(4) قوله: «أو يُؤخَّذُ» بفتح الواو مهموزة وتشديد الخاء المعجمة وبعدها ذال معجمة، أي يحبس عن امرأته فلا يصل على جماعها، والأُخذة بضم الهمزة: الكلام الذي يقوله الساحر.
(5) قوله: «أيُحَلّ عنه ؟» بضم الياء وفتح الحاء، مبني للمفعول.
(6) قوله: «أو يُنشَّر» بتشديد المعجمة «قال: لا بأس به» يعني أن النشرة لا بأس بها «لأنهم يريدون بها الإصلاح» أي إزالة السحر ولم ينه عما يراد به الإصلاح، وهذا من ابن المسيب يُحمل على نوع من النشرة لا يُعلم أنه سحر.
..........................................................
* (ص/357).
(7) قوله: «ورُوي عن الحسن» وهو ابن أبي الحسن واسمه يسار - بالتحتية والمهملة - البصري الأنصاري مولاهم، ثقة فقيه إمام من خيار التابعين، مات سنة عشر ومائة - رحمه الله - وقد قارب التسعين «أنه لا يحل السحر إلا ساحر» هذا الأثر رواه ابن الجوزي في «جامع المسانيد».(1/184)
قال ابن القيم: «النُّشرة حَلُّ السحر عن المسحور، وهي نوعان: حَلٌّ بسحرٍ مثله، وهو الذي مِنْ عمل الشيطان، وعليه يُحمَلُ قولُ الحسن، فيتقرّب الناشر والمنتشرُ إلى الشيطان بما يحبّ، فيبطُلُ عملُه عن المسحور. والثاني: النُّشْرة بالرُّقية والتعوّذات والأدوية والدعوات المباحة، فهذا جائز»(1)
__________
(1) قوله: «قال ابن القيم» رحمه الله تعالى «النشرة: حل السحر عن المسحور، وهي نوعان: حَلٌّ بسحرٍ مثله، وهو الذي من عمل الشيطان، وعليه يُحمَلُ قولُ الحسن، فيتقرّب الناشر والمنتشرُ إلى الشيطان بما يحبّ، فيبطُلُ عملُه عن المسحور.
والثاني: النُّشْرة بالرُّقية والتعوّذات والأدوية والدعوات المباحة، فهذا جائز». ومما جاء في صفة النشرة الجائزة ما رواه ابن أبي حاتم وأبوالشيخ عن ليث بن أبي سليم قال: بلغني أن هؤلاء الآيات شفاء من السحر بإذن الله تُقرأ في إناء ثم يُصب على رأس المسحور الآية التي في سورة يونس { فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ * وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ } ، وقوله في سورة الأعراف: { وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ * فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ * وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ * قَالُوا آَمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ } ، وقوله في سورة طه: { وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى } . وفي كتاب وهب بن منبه أنه يُؤخذ سبع ورقات من سدر أخضر فيُدق بين حجرين ثم يضربه بالماء ويقرأ فيه آية الكرسي والقواقل ثم يحسو منه ثلاث حسوات ثم يغتسل به يذهب عنه كل ما به، وهو جيد للرجل إذا حُبس عن أهله. وفيه: النهي عن النشرة، والفرق بين المنهي عنه والمرخّص فيه مما يزيل الإشكال. قاله المصنف رحمه الله تعالى.(1/185)
.
..............................................................................
* * *
28- باب
ما جاء في التطيُّر(1)
__________
(1) قوله: «باب ما جاء في التطير» أي من النهي عنه والوعيد فيه. التطيُّر: مصدر تطيَّر يتطيَّر تطيُّراً، والطِّيَرة - بكسر الطاء وفتح الياء، وقد تُسكن - اسم مصدر من تطيَّر طيرة كما يقال: تخيَّر خيَرة، ولم يجيء في المصادر على هذه الزنة غيرها، وأصله التطير بالسوانح والبوارح من الطير والظباء وغيرهما، وهو الشيء المكروه من قول أو فعل أو مرئي. قاله النووي. وكان ذلك يصدّهم عن مقاصدهم، فنفاه الشارع وأبطله وأخبر أنه لا تأثير له في جلب نفع ولا دفع ضر. قال المدائني: سألتُ رُؤبة بن العجاج. قلت: ما السانح ؟ قال: ما ولاك ميامنه. قلت: فما البارح ؟ قال: ما ولاّك مياسره، والذي يجيء من أمامك فهو الناطح والنطيح، والذي يجيء من خلفك فهو القاعد والقعيد. ولما كانت الطيرة من الشرك المنافي لكمال التوحيد الواجب لكونها من إلقاء الشيطان ووسوسته وتخويفه ذكرها المصنف رحمه الله تعالى في «كتاب التوحيد» تحذيراً منها.(1/186)
وقول الله تعالى: { أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ(2) وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ } [الأعراف: 131] (1).
__________
(1) قوله : (( وقول الله تعالى : { ألا إنما طائرهم عند الله } )) ذكر تعالى هذه الآية في سياق قوله عن آل فرعون { فإذا جاءتهم الحسنة } أي الخصب والسعة والعافية كما فسره مجاهد وغيره { قالوا لنا هذه } أي نحن الجديرون والحقيقون بها ونحن أهلها { وإن تصيبهم سيئة } أي بلاء وقحط { يطيروا بموسى ومن معه } فيقولون هذا بسبب موسى وأصحابه أصبانا شؤمهم فقال تعالى : { ألا إنما طائرهم عند الله } قال ابن عباس : طائرهم ما قضى عليهم وقدر لهم ، وفي رواية : شؤمهم عند الله ومن قبله ، أي إنما جاءهم الشؤم من قبله بكفرهم وتكذيبهم بآياته ورسله، ولكن أكثرهم لا يعلمون أي : إن أكثرهم جُهّال لا يدرون، ولو
فهموا وعقلوا لعلموا أنه ليس فيما جاء به موسى -عليه السلام- إلا الخير والبركة والسعادة والفلاح لمن آمن به واتبعه .(1/187)
وقوله: { قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ } [يس: 19]. الآية(1).
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا عدوى(2)
__________
(1) وقوله تعالى: { قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ } هذا خبر من الله تعالى عن المرسلين وما أجابوا به أصحاب القرية في قولهم: { إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ * قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ } والمعنى - والله أعلم -: حظكم وما نابكم من شر معكم؛ بسبب كفركم ومخالفتكم الناصحين، ليس هو من أجلنا ولا بسببنا بل ببغيكم وعدوانكم، وذلك بقضاء الله وقدره وحكمته وعدله، ويحتمل أن يكون المعنى { طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ } أي: راجع عليكم. فالتطيُّر الذي حصل لكم إنما يعود عليكم، { أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ } أي: من أجل أنَّا ذكّرناكم وأمرناكم بتوحيد الله قابلتمونا بهذا الكلام { بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ } قال قتادة: إن ذكّرناكم تطيرتم بنا. ومناسبة الآيتين للترجمة: أن التطير من عمل أهل الجاهلية والمشركين، وقد ذمّهم الله تعالى به ومقتهم. وقد نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن التطيّر، وأخبر أنه شرك، كما سيأتي في أحاديث الباب. قاله في «فتح المجيد»*. وفيه: التنبيه على قوله: { أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ } مع قوله { طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ } . قاله المصنف رحمه الله تعالى.
(2) قوله: «وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر» أخرجاه**. زاد مسلم: «ولا نوء ولا غول». قال أبوالسعادات [النهاية 3/174]: «العدوى: اسم من الإعداء كالرَّعوى، يقال: أعداه الداء، يُعديه إعداءً
..........................................................
* (2/507-508).
** أخرجه البخاري برقم (5757)، و مسلم (2220).
إذا أصابه مثل ما بصاحب الداء». وقال غيره: من عدوى هو اسم من الإعداء، وهو مجاوزة العلة من صاحبها إلى غيره، والمنفي نفس سراية العلة أو إضافتها - أي السراية - إلى العلة، والأول هو الظاهر. قاله في «فتح المجيد»*. وفيما قاله نظر؛ فإن المنفي إضافة السراية إلى العلة على ما يعتقده أهل الجاهلية لا نفس سراية العلة. وفي رواية لمسلم: أن أبا هريرة كان يحدث بحديث «لا عدوى» ويحدث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «لا يُورَدُ ممرض على مصح»** وأمسك عن حديث «لا عدوى» فراجعوه وقالوا: سمعناك تحدث به، فأبى أن يعترف به.
وقد روى حديث «لا عدوى» جماعة من الصحابة: أنس بن مالك وجابر بن عبدالله، والسائب بن يزيد، وابن عمر وغيرهم، وفي بعض روايات هذا الحديث «وفِرّ من المجذوم كما تفر من الأسد»*** وقد اختلف العلماء في ذلك وأحسن ما قيل فيه: أن قوله «لا عدوى» على الوجه الذي يعتقده أهل الجاهلية من إضافة الفعل إلى غير الله تعالى وأن هذه الأمور تعدي بطبعها وإلا فقد يجعل الله بمشيئته مخالطة الصحيح من به شيء من الأمراض سبباً لحدوث ذلك المرض؛ ولهذا قال: «فر من المجذوم كما تفر من الأسد»، وقال: «لا يُورَد ممرض على مصح»، وقال في الطاعون: «إذا سمعتم به في أرض فلا تقدموا عليه»****، وكل ذلك بتقدير الله تعالى، ولأحمد والترمذي عن ابن مسعود مرفوعاً «لا يعدي شيء» قالها ثلاثاً.
فقال أعرابي: يا رسول الله: إن النقبة من الجرب تكون بمشفر البعير أو بذنبه في الإبل العظيمة فتجرب كلها. فقال رسول الله: «فمن أجرب الأول، لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر، خلق الله كل نفس وكتب حياتها
..........................................................
* (2/508).
** أخرجه البخاري (5771)، ومسلم (2221)، وأبوداود (2/158).
*** أخرجه البخاري تعليقاً (5707)، وأحمد ووصله (2/443).
**** أخرجه البخاري (5728)، ومسلم (2218).
ومصائبها ورزقها»*. فأخبر الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن ذلك كله بقضاء الله وقدره. والعبد مأمور باتقاء أسباب الشر الظاهرة إذا كان في عافية منها كما أنه يُؤمر أن لا يلقي نفسه في الماء وفي النار مماجرت العادة أنه يهلك أو يضر، فكذلك اجتناب مقاربة المريض كالمجذوم والقدوم على بلد الطاعون فإن هذه كلها أسباب للمرض والتلف، والله سبحانه وتعالى خالق الأسباب ومسبباتها لا خالق غيره ولا مقدر سواه. وأما ما خفي منها فلا يشرع اتقاؤه واجتنابه بل ذلك من الطيرة المحرمة فإنها سوء ظن بالله بغير سبب محقق، وأما إذا قوي التوكل على الله والإيمان بقضائه وقدره فقويت النفس على مباشرة بعض هذه الأسباب اعتماداً على الله ورجاءً منه أن لا يحصل به ضرر ففي هذه الحال تجوز مباشرة ذلك وعلى هذا يُحمل الحديث الذي رواه أبوداود والترمذي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخذ بيد مجذوم فأدخلها معه في القصعة ثم قال: «كل باسم الله، ثقةً بالله وتوكلاً عليه»** وقد أخذ به الإمام أحمد وروى ذلك عن عمر وابنه وسلمان - - رضي الله عنهم - -.(1/188)
،..............
ولا طِيَرة(1)، .............................................................................
ولا هامةَ(2)
__________
(1) قوله: «ولا طيرة» قال ابن القيم: يحتمل أن يكون نفياً أو نهياً أي: لا تطيروا. والنفي في هذا أبلغ من النهي؛ لأن النفي يدل على بطلان ذلك وعدم تأثيره، والنهي إنما يدل على المنع منه، وقد جاءت أحاديث ظن بعض الناس أنها تدل على جواز الطيرة كقوله - صلى الله عليه وسلم -: «الشؤم في ثلاث: في المرأة، والدابة، والدار»*** ونحو هذا. قال ابن القيم رحمه الله: «إخباره - صلى الله عليه وسلم - بالشؤم في هذه الثلاث ليس فيه إثبات
الطيرة التي نفاها الله سبحانه وإنما غايته أن الله سبحانه يخلق منها أعياناً
..........................................................
* أخرجه أحمد (1/440)، والترمذي (2144)، قال الألباني: صحيح. انظر: الصحيحة (1152).
** أخرجه أبوداود (3925)، والترمذي (1818) وقال: هذا حديث غريب من حديث جابر، وأخرجه ابن ماجه (3542)، قال الألباني: ضعيف. انظر: الضعيفة (1144).
*** أخرجه البخاري (2858)، ومسلم (2225).
(2) مشؤومة على من قاربها، وساكنها، وأعياناً مباركة لا يلحق من قاربها منها شؤم ولا شر، وهذا كما يعطي سبحانه الوالدين ولداً مباركاً يريان الخير على وجهه، ويعطي غيرهما ولداً مشؤوماً يريان الشر على وجهه فكذلك الدار والمرأة والفرس، والله سبحانه خالق الخير والشر، والسعود والنحوس لا خالق غيره، ولا مقدّر سواه».
( ) قوله: «ولا هامة» بتخفيف الميم على الصحيح، قال الفرّاء: الهامة طير من طير الليل كأنه يعني البومة. قال ابن الأعرابي: كانوا يتشاءمون بها إذا وقعت على بيت أحدهم يقول: نَعَتْ إليَّ نفسي أو أحداً من أهل داري. فجاء الحديث بنفي ذلك وإبطاله.(1/189)
، ولا صَفَرَ(1)». أخرجاه.
زاد مسلم: «ولا نوء(2)
__________
(1) قوله: «ولا صَفَرَ» بفتح الفاء، روى أبوعبيد في «غريب الحديث» عن رؤبة أنه قال: هي حية تكون في البطن تصيب الماشية والناس وهي أعدى من الجرب عند العرب. وممن قال بهذا سفيان بن عيينة والإمام أحمد والبخاري وابن جرير وقال آخرون: المراد به شهر صفر، والنفي لما كان أهل الجاهلية يفعلونه في النسيء وكانوا يحلّونه المحرم ويحرّمون صفر مكانه وهو قول مالك. وروى أبوداود عن محمد بن راشد عن من سمعه يقول: إن أهل الجاهلية يتشاءمون بصفر ويقولون: إنه شهر مشؤوم، فأبطل النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك*. قال ابن رجب [لطائف المعارف (74)]: «ولعل هذا أشبه الأقوال». وفيه: نفي العدوى والطيرة ونفي الهامة والصفر. قاله المصنف رحمه الله تعالى، وما زالت هذه العادات السيئة سارية في الناس مثل التشاؤم بصفر وربما نهو عن السفر فيه، وحتى إن منهم من لا يكاد يذكر صفر إلا ويضيف إليه لفظة الخير نظراً لما قام بقلوبهم من هذه الأمور، ومثل تشاؤمهم
..........................................................
* أخرجه أبوداود (3915)، وقال الألباني: صحيح مقطوع. انظر صحيح سنن أبي داود (2/742) رقم (3315).
(2) شوال في النكاح خاصة لما قيل من أن طاعوناً وقع فيه مات منه كثير من العرائس فتشاءموا به، وقد صحّ عن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت: تزوجني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في شوال وبنى بي في شوال. فأي نسائه كان أحظى عنده مني ؟*، وكانت تستحب أن يدخل على نسائه في شوال، وتزوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أم سلمة في شوال أيضاً، وهذا منه - صلى الله عليه وسلم - مخالفة لما عليه أهل الجاهلية.
( ) قوله: «وزاد مسلم: ولا نوء» والنوء واحد الأنواء، وهي: منازل القمر، وسيأتي الكلام عليه في باب الاستسقاء بالأنواء.(1/190)
، ولا غُول(1)».
ولهما عن أنس(2)
__________
(1) قوله: «ولا غُول»** هو بالضم اسم وجمعه أغوال وغيلان. قال أبوالسعادات [النهاية 3/354]: «الغول واحد الغيلان، وهو جنس من الجن والشياطين كانت العرب تزعم أن الغول في الفلاة تتراءى للناس تتلون تلوناً في صور شتى وتغولهم أي تُضِلُّهم عن الطريق وتُهلكُهم فنفاه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبطله. فإن قيل ما معنى النفي وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إذا تغوّلت الغيلان فبادروا بالأذان»*** أُجيب عنه: بأن ذلك كان في الابتداء، ثم دفعها الله عن عباده، أو يقال: المنفي ليس وجود الغول بل ما يزعمه العرب من تصرفه في نفسه، أو يكون المعنى بقوله: «لا غول» أنها لا تستطيع أن تضل أحداً مع ذكر الله والتوكل عليه ويشهد له الحديث: «لا غول، ولكن السَّعَالي سَحَرة الجن»**** أي: ولكن في الجن سحرة لهم تلبيس وتخييل. ومنه الحديث: «إذا تغولت الغيلان فبادروا بالأذان» أي: ادفعوا شرّها بذكر الله، وهذا
..........................................................
* أخرجه مسلم (1423)
** أخرجه مسلم (2222)، وأحمد (3/293، 312).
*** أخرجه أحمد (3/305، 381، 382)، وابن خزيمة (2548)، وقال الدكتور محمد الأعظمي: إسناده ضعيف، وأبويعلى في المسند (2219)، والنسائي في عمل اليوم والليلة (955)، وضعفه الألباني في ضعيف الجامع (436).
**** أخرجه الخطابي في غريب الحديث (1/463) من مرسل الحسن بن محمد ابن الحنفية. انظر: تعليق زهير الشاويش على تيسير العزيز (ص/372).
(2) دل على أنه لم يرد بنفيها عدمها. ومنه حديث أبي أيوب: «كان لي تمر في سهوة فكانت الغول تجيء فتأخذ»*».
( ) قوله: «ولهما» أي البخاري ومسلم «عن أنس بن مالك - رضي الله عنه -» قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا عدوى ولا طيرة» وتقدم الكلام على العدوى والطيرة أول الباب.(1/191)
قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا عدوى، ولا طِيَرة، ويعجبني الفألُ». قالوا: وما الفأل ؟ قال: «الكلمةُ الطيبة»(1).
ولأبي داود بسند صحيح عن عُقبة بن عامر(2)
__________
(1) قوله: «ويعجبني الفأل» قالوا: وما الفأل ؟. قال: «الكلمة الطيبة»**. قال أبوالسعادات [النهاية 3/364]: «الفأل مهموز فيما يسر ويسوء، والطيرة لا تكون إلا فيما يسوء، وربما استعملت فيما يسر يقال: تفاءلت بكذا وتفألت على التخفيف والقلب، وقد أولع الناس بترك الهمزة تخفيفاً». قال الحليمي: «وإنما كان يعجبه الفأل لأن التشاؤم سوء ظن بالله بغير سبب محقق، والتفاؤل حسن ظن بالله، والمؤمن مأمور بحسن الظن بالله على كل حال». وقال ابن القيم - رحمه الله تعالى - [مفتاح دار السعادة ص592]: «ليس في الإعجاب بالفأل ومحبته شيء من الشرك، بل ذلك إبانة عن مقتضى الطبيعة والفطرة الإنسانية التي تميل إلى ما يوافقها ويلائمها، والله سبحانه قد جعل في غرائز الناس الإعجاب بسماع الاسم الحسن ومحبته وميل نفوسهم إليه، وكذلك جعل فيها الارتياح والاستبشار والسرور باسم الفلاح والسلام والنجاح والتهنئة والبشرى والفوز والظفر ونحو ذلك، فإذا قرعت هذه الأسماء الأسماع استبشرت بها النفوس، وانشرح لها الصدر، وقوي بها القلب، وإذا سمعت أضدادها أوجب لها ضد هذه الحالة فأحزنها ذلك وأثار لها خوفاً وطيرة وانكماشاً وانقباضاً عما قصدت له وعزمت
..........................................................
* أخرجه الترمذي (2880) وقال: حسن غريب. وأحمد (5/425)، قال الألباني: صحيح. انظر: صحيح سنن الترمذي (2309) (3/4).
** أخرجه البخاري (5756) و (5776)، ومسلم (2224).
(2) عليه، فأورث لها ضرراً في الدنيا ونقصاً في الإيمان ومقارفة للشرك».
( ) قوله «ولأبي داود بسند صحيح عن عقبة بن عامر» هكذا وقع في نسخ «التوحيد» وصوابه: عروة بن عامر، كذا أخرجه أحمد وأبوداود وغيرهما وهو مكي اختلف في نسبه فقال أحمد: عروة بن عامر القرشي. وقال غيره: الجهني. واختلف في صحبته أيضاً فقال الماوردي: له صحبة. وذكره ابن حبان في ثقات التابعين. وقال المزي: لا صحبة له تصح.(1/192)
قال: ذُكرتِ الطِّيَرةُ عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: «أحسَنها الفألُ، ولا تَرُدُّ مُسلماً(1)، فإذا رأى أحدُكم ما يكره فليقل: اللهمّ لا يأتي بالحسنات إلا أنت، ولا يدفعُ السيئاتِ إلا أنت(2)،
ولا حول ولا قوةَ إلا بك(3)
__________
(1) قوله: «ذُكرت الطيرة عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: «أحسنها الفألُ، ولا تردُّ مسلماً»* قال ابن القيم رحمه الله تعالى [مفتاح دار السعادة (593)]: «أخبر - صلى الله عليه وسلم - أن الفأل من الطيرة وهو خيرها، فأبطل الطيرة وأخبر أن الفأل منها، ففصّل بين الطيرة والفأل لما بينهما من الامتياز والتضاد ونفع أحدهما ومضرة الآخر». انتهى.
وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «أحسنها الفأل» وفي رواية: «خيرها الفأل» مع أن الطيرة كلها لا خير فيها؛ لأن أفعل التفضيل في ذلك إنما هو في القدر المشترك بين الشيئين، والقدر المشترك بين الطيرة والفأل تأثير كل منهما فيما هو فيه، والفأل في ذلك أبلغ. قاله الحافظ ابن حجر. وفيه: أن الفأل ليس من الطيرة بل مستحب، وتفسير الفأل. قاله المصنف رحمه الله تعالى.
قوله: «ولا ترد مسلماً» وهذا تعريض بأن الكافر بخلافه.
(2) قوله: «فإذا رأى أحدُكم ما يكره فليقل: اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت،
..........................................................
* أخرجه أبوداود (3919)، وابن السني في عمل اليوم والليلة (294). قال الألباني: ضعيف، انظر: ضعيف سنن أبي داود (ص/387) رقم (843).
(3) ولا يدفع السيئات إلا أنت» أي لا تأتي الطيرة بالحسنات ولا تدفع السيئات بل أنت وحدك لا شريك لك الذي تأتي بالحسنات وتدفع السيئات، والحسنات هنا النعم، والسيئات: المصائب. ففيه: نفي تعلق القلب بغير الله في جلب نفع أو دفع ضر، وهو دعاء مناسب لمن وقع في قلبه شيء من الطيرة.
( ) قوله: «ولا حول ولا قوة إلا بك» والحول التحول والانتقال من حال إلى حال، أي: لا تحول من حال إلى حال ولا قوة على ذلك إلا بالله وحده، ففيه: التبرئ من الحول والقوة إلا بالله سبحانه، وهذا هو توحيد الربوبية وهو دليل على توحيد الإلهية الذي هو إفراد الله تعالى بجميع أنواع العبادة. وفيه: ذكر ما يقوله من وجد شيئاً من ذلك. قاله المصنف رحمه الله.(1/193)
».
وله من حديث ابن مسعود مرفوعاً(1): «الطيرةُ شرك، الطيرة شرك،
وما منا إلاّ(2)
__________
(1) قوله: «وله» أي أبي داود عن «ابن مسعود - رضي الله عنه - مرفوعاً: «الطيرة شرك، الطيرة شرك، وما منا إلا.. ولكن الله يذهبه بالتوكّل». ورواه الترمذي وصححه وجعل آخره من كلام ابن مسعود»*. ورواه ابن ماجه وابن حبان ولفظ أبي داود «الطيرة شرك، الطيرة شرك، الطيرة شرك» ثلاثاً. وهذا صريح في تحريمها وأنها من الشرك لما فيها من تعلق القلب على غير الله تعالى، قال ابن حمدان: تكره الطيرة، وكذا قال غير واحد من أصحاب أحمد، وقال ابن مفلح [الآداب الشرعية 3/362]: «الأوْلَى القطع بتحريمها؛ لأنها من الشرك، وكيف يكون الشرك مكروهاً الكراهة الاصطلاحية؟». قال: «ولعلّ مرادهم - يعني الأصحاب - بالكراهة التحريم».
قلت: وما قاله هو موجب النصوص والقواعد تقتضيه؛ لأن الأحكام الخمسة لا
..........................................................
* أخرجه أبوداود (3910)، والترمذي (1614)، وابن ماجه (3538)، وأحمد (1/389، 438، 440). قال الألباني: صحيح. انظر: غاية المرام (303).
(2) ُؤخذ إلا عن الله ورسوله، وقد قام الدليل الموجب للتحريم، فتعيّن القول به وحمل كلام من أطلق الكراهة عليه بلا تردد.
( ) قوله: «وما منا إلا..» قال أبوالقاسم الأصبهاني والمنذري: «في الحديث إضمار، والتقدير: وما منا إلا وقد وقع في قلبه شيء من ذلك. قال بعضهم حذف المستثنى لما يتضمنه من الحالة المكروهة، وهذا من أدب الكلام. ومنه الحديث «ثلاث لا يسلم أحدٌ منهن: الطيرة، والحسد، والظن» قيل فما نصنع؟ قال: «إذا تطيّرت فامضِ، وإذا حسدت فلا تبغِ، وإذا ظننت فلا تحقق»*.(1/194)
... ولكن اللهَ يذهبه بالتوكل(1)». رواه أبوداود والترمذي وصححه وجعل آخره من قول ابن مسعود(2).
ولأحمد من حديث عبدالله بن عمرو(3): «مَنْ ردَّتهُ الطيرةُ عن حاجته
__________
(1) قوله: «ولكن الله يذهبه بالتوكّل» يعني إذا خطر عارض التطير فتوكلنا على الله وسلّمنا الأمر إليه ولم نعمل بذلك الخاطر غفره الله ولم يُؤاخذنا به. وفيه: أن الواقع في القلب من ذلك مع كراهته لا يضر بل يُذهبه الله بالتوكّل. قاله المصنف رحمه الله. وفيه: أن الطيرة من الشرك الأصغر لأنها لو كانت من الأكبر لما أذهبه إلا التوبة منه.
(2) قوله: «وجعل آخره من قول ابن مسعود» قال ابن القيم [مفتاح دار السعادة (581)]: «وهو الصواب، فإن الطيرة نوع من الشرك».
(3) قوله: «ولأحمد من حديث عبدالله بن عمرو» بن العاص بن وائل السهمي أبومحمد، وقيل أبوعبدالرحمن، أحد السابقين المكثرين من الصحابة، وأحد العبادلة الفقهاء، مات في ذي الحجة ليالي الحرة على الأصح بالطائف.
..........................................................
* أخرجه أحمد (11/623) رقم (7045) الرسالة، وحسّنه المحقق. والحديث فيه عبدالله بن لهيعة. انظر: فتح الباري (10/482).(1/195)
فقد أشرك»(1). قالوا: فما كفّارة ذلك ؟ قال: «أن تقول: اللهم لا خيرَ إلا خيرُك، ولا طيرَ إلا طيرُك(2)، ولا إله غيرُك»(3).
وله(4) من حديث الفضل بن العباس: «إنما الطيرةُ ما أمضاكَ أو ردَّكَ(5)
__________
(1) قوله: «من ردته الطيرة عن حاجته» فمنعه ما رأى وما سمع عما أراده «فقد أشرك»* لأنه لم يخلص توكّله على الله بالتفاته إلى غيره مما يخامر قلبه من الخوف فيكون شركاً بهذا الاعتبار.
(2) قوله: «قالوا: فما كفّارة ذلك. قال: «أن تقول: اللهم لا خير إلا خيرك، ولا طير إلا طيرك». وفيه: تفويض الأمور إلى الله تعالى تقديراً وتدبيراً وخلقاً والبراءة مما فيه تعلق بغير الله تعالى.
(3) قوله: «ولا إله غيرك» أي: لا معبود بحق سواك، فإذا قال ذلك وأعرض عما وقع في قلبه ولم يلتفت إليه واستمر على فعل ما عزم عليه توكلاً على الله وتفويضاً إليه كفَّر الله عنه ما وقع في قلبه من ذلك، وأما من لم يخلص توكله على الله واسترسل مع الشيطان في ذلك فقد يعاقب بالوقوع فيما يكره. وفيه: التصريح بأن الطيرة شرك، وتفسير الطيرة المذمومة، وذكر ما يقوله من وجد ذلك. قاله المصنف رحمه الله تعالى.
(4) قوله: «وله» أي الإمام أحمد من حديث الفضل بن عباس بن عبدالمطلب ابن عم النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال ابن معين: قتل يوم اليرموك. وقال غيره: وقتل يوم مرج الصفر سنة ثلاث عشرة وهو ابن اثنتين وعشرين سنة - رضي الله عنه -. وقال أبوداود: قُتل بدمشق، كان عليه درع النبي - صلى الله عليه وسلم -.
(5) قوله: «إنما الطيرة ما أمضاك أو ردَّك»** هذا الحديث رواه الإمام أحمد من
..........................................................
* أخرجه أحمد (2/220)، وصححه الألباني رحمه الله في السلسلة الصحيحة (1065).
** أخرجه أحمد (1/213)، وإسناده ضعيف. انظر طبعة الرسالة.
حديث الفضل بن عباس قال: خرجتُ مع النبي - صلى الله عليه وسلم - يوماً فبرح ظبي فمال في شقه فاحتضنته. فقلت: يا رسول الله تطيرتُ. قال: «إنما الطيرة ما أمضاك أو ردّك». وفي إسناده انقطاع بين مسلمة راويه والفضل. وهذا حدُّ الطيرة المنهي عنها، فهي ما يحمل الإنسان على المضي فيما أراده أو يمنعه منه. وأما الفأل الذي كان يُحبه - صلى الله عليه وسلم - ففيه نوع بشارة فيُسرّ به العبد ولا يعتمد عليه، فافهم الفرق. ومن شرط الفأل أن لا يقصده.(1/196)
».
..............................................................................
* * *
29- باب
ما جاء في التنجيم(1)
قال البخاري في صحيحه: قال قتادة: خلقَ اللهُ هذه النجومَ لثلاث: زينةً للسماء، ورُجوماً للشياطين، وعلاماتٍ يُهتدى بها. فمن تأوَّل فيها غير ذلك أخطأ وأضاع نصيبَه، وتكلَّف ما لا علمَ له به(2)
__________
(1) قوله: «باب ما جاء في التنجيم» التنجيم: هو الاستدلال بالأحوال الفلكية، على الحوادث الأرضية. قاله شيخ الإسلام أحمد بن تيمية رحمه الله تعالى [الفتاوى 35/192]. واعلم أن التنجيم مما ينافي التوحيد ويوقع في الشرك؛ لأنه ينسب الحوادث إلى غير من أحدثها وهو الله سبحانه. قاله في «قرة العيون»*. وقال الخطابي [معالم السنن 4/230]: «علم التنجيم المنهي عنه هو ما يدعيه أهل التنجيم من علم الكائنات والحوادث التي لم تقع وستقع في مستقبل الزمان، كأوقات هبوب الرياح ومجيء المطر وتغير الأسعار وما في معنى ذلك من الأمور التي يزعمون أنهم يدركون معرفتها بمسير الكواكب في مجاريها واجتماعها وافتراقها، ويدّعون أن لها تأثيراً في السفليات، وأنها تجري على قضايا موجباتها، وهذا منهم تحكّم على الغيب وتعاطٍ لعلم قد استأثر الله به لا يعلمه سواه». انتهى. ولا ريب في تحريم ذلك، واختلف المتأخرون في تكفير القائل بذلك، وينبغي القطع بكفره؛ لأنها دعوى لعلم الغيب الذي استأثر الله بعلمه بما لا يدل عليه.
(2) قوله: «قال البخاري في صحيحه: قال قتادة: خلقَ اللهُ هذه النجومَ لثلاث: زينةً للسماء، ورُجوماً للشياطين، وعلاماتٍ يُهتدى بها. فمن تأوَّل فيها غير ذلك أخطأ وأضاع نصيبَه، وتكلَّف ما لا علمَ له به» هذا الأثر علّقه البخاري في صحيحه بصيغة الجزم، وأخرجه عبدالرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وغيرهم، وأخرجه الخطيب في كتاب النجوم، ولفظه: قال إنما جعل الله هذه
........................................................
* (ص/157).
النجوم لثلاث خصال: جعلها زينة للسماء، وجعلها يُهتدى بها، وجعلها رجوماً للشياطين، فمن تعاطى فيها غير ذلك فقد قال برأيه وأخطا حظه وأضاع نصيبه وتكلف ما لا علم له به. وإن ناساً جهلة بأمر الله قد أحدثوا في هذه النجوم كهانة، من أعرس بنجم كذا وكذا كان كذا وكذا، ومن سافر بنجم كذا وكذا كان كذا وكذا، ولعمري ما من نجم إلا يُولد فيه الأحمر والأسود والطويل والقصير والحسن والدميم، وما علم هذه النجوم وهذه الدابة وهذا الطائر بشيء من الغيب، ولو أن أحداً علم الغيب لعلمه آدم الذي خلقه الله بيده، وأسجد له ملائكته وعلّمه أسماء كل شيء». انتهى. قال في «قرة العيون»*: «وقول قتادة هذا يدل على أن علم التنجيم هذا قد حدث في عصره فأوجب له إنكاره على من اعتقده».
قلت: بل علم التنجيم كان معروفاً في زمن الجاهلية، يدل على هذا حديث أبي مالك الأشعري أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «أربع في أمتي من أمر الجاهلية..»** وذكر منها الاستسقاء بالنجوم، أي نسبة المطر إلى النوء، [و]حديث زيد بن خالد الجهني الذي فيه: «أصبح من عبادي مؤمنٌ بي وكافر»***، وحديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من اقتبس شعبة من النجوم فقد اقتبس شعبة من السحر، زاد ما زاد»**** رواه أبوداود وإسناده صحيح.
وقول ابن عباس في الذين يكتبون أباجاد وينظرون في النجوم: ما أرى من فعل ذلك له عند الله من خلاق.
وقوله: «خلق الله هذه النجوم لثلاث: زينة للسماء، ورجوماً للشياطين» كما
.........................................................
* (ص/158).
** أخرجه مسلم (934).
*** أخرجه البخاري (846)، (1038) و (4147) و (7503)، ومسلم (71).
**** تقدم تخريجه (ص/216).
قال تعالى: { وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ } [الملك:5]، قال في «فتح المجيد»*: «وفيه إشارة إلى أن النجوم في السماء الدنيا، كما روى ابن مردويه عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أما السماء الدنيا فإن الله خلقها من دخان، وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً، وزيّنها بمصابيح، وجعلها رجوماً للشياطين وحفظاً من كل شيطان رجيم»**.
وقوله: «وعلامات يُهتدى بها» أي دلالات على الجهات لا على الحوادث كما قال تعالى: { وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ } [النحل:16]، وقال تعالى: { وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ } [الأنعام:97] أي لتعرفوا بها جهة قصدكم، وليس المراد أنه تهتدي بها في علم الغيب كما يزعمه أهلُ النجامة، وقال تعالى: { وَأَلْقَى فِي الأرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ } [النحل:15-16] روى ابن جرير عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قوله { وَعَلامَاتٍ } معطوف على ما تقدم مما ذكره في الأرض ثم استأنف فقال: { وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ } انتهى بمعناه.
وقوله: «فمن تأوّل فيها غير ذلك» أي زعم فيها غير ما ذكر الله في كتابه من هذه الثلاث فقد أخطأ حيث زعم شيئاً ما أنزله الله به من سلطان وأضاع نصيبه من كل خير؛ لأنه شغل نفسه بما يضره ولا ينفعه، وفيه الحكمة في خلق النجوم، والردّ على من زعم غير ذلك. قاله المصنف رحمه الله تعالى. وقد جاءت الأحاديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بالنهي عن التنجيم كحديث ابن عباس الذي رواه أبوداود أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من اقتبس شعبةً من النجوم فقد اقتبس شعبةً من السحر، زاد ما زاد»***.
..........................................................
* (2/529).
** انظر: الدر المنثور (3/328).
*** تقدم تخريجه (ص/216).(1/197)
. انتهى.
.......................................................................
وَكَرِهَ قتادةُ(1)
__________
(1) وعن رجاء بن حيوة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إنما أخاف على أمتي التصديق بالنجوم والتكذيب بالقدر وحيف الأئمة»*. رواه عبد بن حميد، وعن أبي محجن مرفوعاً: «أخاف على أمتي ثلاثاً: حيف الأئمة، وإيماناً بالنجوم، وتكذيباً بالقدر»**. رواه ابن عساكر وحسّنه السيوطي، وعن أنس - رضي الله عنه - مرفوعاً «أخاف على أمتي بعدي خصلتين: تكذيباً بالقدر، وإيماناً بالنجوم» *** رواه أبويعلى وابن عدي والخطابي في كتاب النجوم، وحسّنه السيوطي أيضاً.
( ) قوله: «وَكَرِهَ قتادة» وهو ابن دعامة السدوسي «تعلُّمَ منازل القمر، ولم يرخّص ابن عيينة فيه. ذكره حرب عنهما». وحرب: هو ابن إسماعيل الكرماني الفقيه من أجلة أصحاب الإمام أحمد، روى عن أحمد وإسحاق وابن المديني وابن معين وأبي خيثمة وابن أبي شيبة وغيرهم، وله مصنفات جليلة منها «كتاب المسائل» التي سأل عنها أحمد وغيره، مات سنة ثمان ومائتين. ومنازل القمر هي الثمانية والعشرون منزلة ينزل القمر كل ليلة منزلة منها كما قال تعالى: { وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ } [يس:39]، يسقط في المغرب كل ثلاثة عشرة ليلة منها منزلة مع طلوع الفجر وتطلع أخرى مقابلتها ذلك الوقت من المشرق «ورخّص في تعلُّمها» لمعرفة الأوقات الإمام «أحمد وإسحاق» بن إبراهيم بن مخلد، أبويعقوب
..........................................................
* أخرجه الحاكم، وأبونعيم كما في الإصابة (4/173)، وأخرجه ابن عبدالبر في جامع بيان العلم وفضله (2/48).
** أخرجه ابن عبدالبر في جامع بيان العلم (2/39)، وابن عساكر (16/308/1). قال الألباني: سنده ضعيف...، ولكن يتقوّى الحديث بشواهده. انظر: السلسلة الصحيحة (3/119).
*** أخرجه أبويعلى في المسند (4135)، وابن عدي في الكامل (4/1350) وصححه الألباني في صحيح الجامع (1/103) رقم (214).(1/198)
تعلّمَ منازلَ القمرِ. ولم يرخِّص ابنًُ عيينة فيه. ذكره حربٌ عنهما. ورخّص في تعلُّم المنازل أحمد وإسحاق.
وعن أبي موسى(1) قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ثلاثةٌ لا يدخلون(2) الجنة: مدمنُ الخمر(3)، وقاطعُ الرحم(4)
__________
(1) لحنظلي النيسابوري، المعروف بابن راهويه، روى عن ابن المبارك وأبي أسامة وابن عيينة وطبقتهم، قال الإمام أحمد: إسحاق عندنا إمام من أئمة المسلمين، روى عنه البخاري ومسلم وأبوداود وغيرهم، وروى هو عن أحمد أيضاً، مات سنة تسع وثلاثين ومائتين، وفيه: ذكر الخلاف في تعلّم المنازل. قاله المصنف - رحمه الله -. قال الخطابي [معالم السنن 4/230]: «أما علم النجوم الذي يدرك بطريق المشاهدة والخبر الذي يعرف به الزوال، وتعلم به جهة القبلة فإنه غير داخل فيما نُهي عنه، وهذا علم يصح إدراكه بالمشاهدة، إلا أن أهل هذه الصناعة قد دبّروها بما اتخذوه من الآلات التي يستغني بها الناظر فيها عن مراعاة مدته ومراصدته».
( ) قوله: «وعن أبي موسى» عبدالله بن قيس بن سليم بن حَضَّار - بفتح المهملة وتشديد الضاد - الأشعري، صحابي جليل، مات سنة خمسين - رضي الله عنه -.
(2) قوله: «قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ثلاثة لا يدخلون الجنة»* هذا من نصوص الوعيد التي كره السلف تأويلها، وقالوا أمرّوها كما جاءت، ومن تأوّلها فهو على خطر من القول على الله بلا علم. وأحسن ما يُقال: إن كل عمل دون الشرك والكفر المخرج عن الملة فإنه يرجع إلى مشيئة الله، فإن عذّبه فقد استوجب العذاب، وإن غفر له فبفضله وعفوه ورحمته. قاله في «فتح المجيد»**. وكأن المصنف رحمه الله يميل إلى هذا قاله في «الشرح»***.
(3) قوله: «مدمن الخمر» أي المداوم على شربها.
(4) قوله: «وقاطع الرحم» يعني: القرابة. قال الله تعالى: { فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ
..........................................................
* أخرجه أحمد (4/339)، وابن حبان (1380، 1381)، والحاكم (4/146). قال الألباني: ضعيف، انظر: الضعيفة (1463).
** (2/534).
*** (ص/386).(1/199)
،..................................................
ومصدِّقٌ بالسحر(1)». رواه أحمد، وابن حبان في صحيحه.
* * *
30- باب
__________
(1) َنْ تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ } [محمد:22]. الآية.
( ) قوله: «ومصدق بالسحر» أي مطلقاً ومنه التنجيم لحديث: «من اقتبس شعبة من النجوم فقد اقتبس شعبة من السحر، زاد ما زاد» وهذا وجه مطابقة الحديث للترجمة. قال الذهبي في «الكبائر»: «ويدخل فيه تعلُّم السيمياء وعملها». انتهى. وفيه: الوعيد فيمن صدق بشيء من السحر ولو عرف أنه باطل. قاله المصنف رحمه الله تعالى. وهذا الحديث رواه أحمد وابن حبان في صحيحه، ورواه أيضاً الطبراني والحاكم وقال: صحيح. وأقره الذهبي، وتمامه: «ومن مات وهو مدمن الخمر سقاه الله من نهر الغوطة» نهر يجري من فروج المومسات يؤذي أهل النار ريح فروجهن.(1/200)
ما جاء في الاستسقاء بالأنواء(1)
وقول الله تعالى: { وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ } (2)[الواقعة: 82].
__________
(1) قوله: «باب ما جاء في الاستسقاء بالأنواء» أي من الوعيد، والاستسقاء نسبة مجيء المطر إلى الأنواء جمع نوء وهي منازل القمر الثمانية والعشرون منزلة ينزل القمر كل ليلة منها منزلة كما قال تعالى: { وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ } [يس: 39] يسقط في المغرب كل ثلاث عشرة ليلة، منها منزلة مع طلوع الفجر وتطلع أخرى مقابلتها في ذلك الوقت من المشرق، ما خلا الجبهة فإن لها أربعة عشر يوماً فتنقضي جميعها مع انقضاء السنة، قال شمر: «وهي بالعربية فيما أخبرني به ابن الأعرابي: الشرطان، والبطين، والنجم، والدبران، والهقعة، والهنعة، والذراع، والنثرة، والطرف، والجبهة، والحرثان، والعواء، و السماك، والغفر، والزبانا، والإكليل، والقلب، والشولة، والنعايم، والبلدة، وسعد الذابح، وسعد بلع، وسعد السعود، وسعد الأخبية، وفرغ الدلو المقدم، وفرغ الدلو المؤخر، والحوت. ولا تستثني العرب بها كلها إنما تذكر بالانواء بعضها وهي معروفة في أشعارهم وكلامهم». انتهى. وإنما سُمي نوءً لأنه إذا سقط القارب ناء الطالع أي نهض وطلع،وذلك النهوض هو النوء، وبعضهم يجعل النوء السقوط كأنه من الأضداد. وقال أبوعبيد: ولم يسمع في النوء أنه سقوط إلا في هذا الموضع، وكانت العرب تضيف الأمطار والرياح والحر والبرد إلى الساقط منها. وقال الأصمعي: إلى الطالع منها.
(2) قوله: «وقول الله تعالى: { وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ } روى الإمام أحمد والترمذي وحسنه وابن جرير وابن أبي حاتم والضياء في المختارة عن علي - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: { وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ } يقول شكركم { أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ } .(1/201)
وعن أبي مالك الأشعري(1) - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «أربعٌ في أمتي
__________
(1) قولون: مُطرنا بنوء كذا وكذا، وبنجم كذا وكذا»*. وهذا أولى ما فسرت به الآية. رُوي ذلك عن علي وابن عباس وقتادة والضحاك وعطاء الخراساني وغيرهم، وهو قول جمهور المفسرين، وبه يظهر وجه استدلال المصنف رحمه الله تعالى بالآية. قاله في «الشرح»**. وقال ابن القيم رحمه الله [التبيان في أقسام القرآن 1/418]: «أي تجعلون حظكم من هذا الرزق الذي به حياتكم التكذيب به. يعني القرآن». قال الحسن: «تجعلون حظكم ونصيبكم من القرآن أنكم تكذبون». قال: «وخسر عبدٌ لا يكون حظه من القرآن إلا التكذيب». والآية تشمل المعنيين. قاله في «الشرح»***. وقال ابن القيم: «وأظهر القولين أنه قَسَمٌ بمواقع هذه النجوم التي في السماء؛ لأن اسم النجم عند الإطلاق ينصرف إليها، وأنه لم تجر عادته سبحانه باستعمال النجوم في آيات القرآن ولا في موضع واحد من كتابه حتى تحمل عليه هذه الآية. وفيه: معرفة تفسير آية الواقعة. قاله المصنف رحمه الله.
( ) قوله: «وعن أبي مالك» الحارث بن الحارث «الأشعري» الشامي صحابي تفرد بالرواية عنه أبوسلام، وفي الصحابة أبومالك الأشعري اثنان غير هذا «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «أربعٌ في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن..»**** أي ستفعلها هذه الأمة مع العلم بتحريمها، أو مع الجهل بذلك مع كونها من أعمال الجاهلية المذمومة المحرمة، فيجب على كل مسلم أن يجتنبها، والمراد بالجاهلية هنا ما قبل المبعث، سُموا بذلك لفرط جهلهم، وكل ما يخالف ما
..........................................................
* أخرجه أحمد (849)، والترمذي (3526) وحسَّنه، والحديث ضعفه الألباني في ضعيف سنن الترمذي (ص/420-421) رقم (649).
** (ص/388).
*** (ص/388).
**** سبق تخريجه (ص/246).(1/202)
من أمر الجاهلية لا يتركونهنّ: الفخرُ بالأحساب(1)، والطعن في الأنساب(2)
__________
(1) اءت به الأنبياء والمرسلون فهو جاهلية. قاله في «الشرح»*.
وقال شيخ الإسلام [الاقتضاء 1/205]: «أخبر - صلى الله عليه وسلم - أن بعض أمر الجاهلية لا يتركه الناس كلهم ذمّاً لمن لم يتركه، وهذا يقتضي أن ما كان من أمر الجاهلية وفعلهم فهو مذموم في دين الإسلام، وإلا لم يكن في إضافة هذه المنكرات إلى الجاهلية ذمٌّ لها. ومعلوم أن إضافتها إلى الجاهلية خرج مخرج الذمِّ، وهذا كقوله: { وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأولَى } [الأحزاب:33] وذلك يقتضي المنع من مشابهتم في الجملة». انتهى. ولشيخنا رحمه الله مصنف لطيف فيما خالف فيه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أهلَ الجاهلية بلغ مائة وعشرين مسألة. قاله في «فتح المجيد»**.
( ) قوله: «الفخر بالأحساب» أي التعاظم على الناس بالآباء ومآثرهم وذلك جهلٌ عظيم إذ لا كرم إلا بالتقوى، قال تعالى: { إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ } [الحجرات: 13]، ولأبي داود عن أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعاً: «إن الله قد أذهب عنكم عُبِّيَّةِ الجاهلية وفخرها بالآباء، إنما هو مؤمنٌ تقي، أو فاجر شقي، الناس بنو آدم، وآدم خُلق من تراب، ليدعُنَّ رجالٌ فخرَهم بأقوام إنما هم فحمٌ من فحم جهنم، أو ليكوننَّ أهون على الله من الجُعلان التي تدفع النَّتَنَ بأنفها»***.
(2) قوله: «والطعن في الأنساب» أي ذمّها وعيبها، ولَمَّا عيَّرَ أبوذر رجلاً بأمه، قال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أعيّرتَهُ بأُمِّه ؟ إنك امروٌ فيك جاهلية»**** متفق عليه. فدلَّ على أن الطعن في الأنساب من عمل الجاهلية، وأن الرجل مع فضله وعلمه ودينه قد يكون فيه بعض هذه الخصال المسماة بجاهلية ويهودية ونصرانية، ولا
..........................................................
* (ص/389).
** (2/537).
*** أخرجه أبوداود (5116)، والترمذي (2/331)، وأحمد (2/361، 524)، وقال الترمذي: حسن صحيح. وحسّنه الألباني في غاية المرام برقم (312).
*** أخرجه البخاري (30) و (6050)، ومسلم (1661).(1/203)
،
والاستسقاء بالنجوم(1)، والنياحة(2)
__________
(1) وجب ذلك كفره ولا فسقه. قاله شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى - [الاقتضاء 1/220]
( ) قوله: «والاستسقاء بالنجوم» أي نسبة المطر إلى النوء وهو سقوط النجم وهذا هو الشاهد من الحديث للترجمة، فإن اعتقد أن للنجم تأثيراً في نزول المطر فهذا شركٌ وكفرٌ لنسبه المطر إلى غير من أنزله وهو الله وحده، وأما إذا قال مُطرنا بنوء كذا مع اعتقاد أن الله هو الفاعل لذلك لكن أجرى العادة بنزول المطر عند ظهور ذلك النجم فقد صرّح ابنُ مفلحٍ في «الفروع» [2/163] بتحريمه، وكذلك صاحب «الإنصاف» [2/461] ولم يذكر خلافاً؛ وذلك أن القائل لذلك نسب ما هو من فعل الله الذي لا يقدر عليه غيره إلى خلق مسخّر لا ينفع ولا يضر ولا قدرة له على شيء فيكون ذلك شركاً أصغر. والله أعلم.
(2) قوله: «والنياحة» أي رفع الصوت بالندب على الميت وضرب الخدود وشق الجيوب؛ لأنها تسخُّط لقضاء الله وذلك ينافي الصبر الواجب، وهي من الكبائر لشدة الوعيد الوارد فيها. وعن الأوزاعي أن عمر بن الخطاب سمع صوت بكاء فدخل ومعه غرة فمال عليهن ضرباً حتى بلغ النائحة فضربها حتى سقط خمارها، وقال: أضرب فإنها ناحئة ولا حرمة لها، إنها لا تبكي بشجوكم إنها تهريق دموعها لأخذ دراهمكم، وإنها تؤذي موتاكم في قبورهم وأحياءكم في دورهم، لأنها تنهى عن الصبر وقد أمر الله به، وتأمر بالجزع وقد نهى الله عنه وكان أهل الجاهلية يوصون بذلك كما قال الشاعر:
... إذا مِتُّ فانعيني بما أنا أهلُه * * وشُقِّي عليَّ الجيبَ يا ابنةَ معبدِ
فأما البكاء من غير نياحة وندب وشق جيب فحسن ولا ينافي الرضاء بقضاء الله. قاله شيخ الإسلام.(1/204)
». وقال: «النائحة إذا لم تتب قبلَ موتها(1)
تُقام يومَ القيامة وعليها سربالٌ من قطران، ودرعٌ من جَرَب(2)». رواه مسلم.
ولهما(3) عن زيد بن خالد - رضي الله عنه - قال: صلّى لنا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الصبح بالحُديبية(4) على إثر(5) سماء كانت من الليل(6)، فلمَّا انصرف(7)
__________
(1) قوله: «وقال: النائحة إذا لم تتب قبل موتها» فيه أن التوبة تكفّر الذنب وإن عظُم، وهذا مجمع ٌ عليه في الجملة ويكفّر أيضاً بالحسنات الماحية والمصائب ودعاء المسلمين بعضهم لبعض وبالشفاعة بإذن الله وعفو الله عن من شاء ممن لا يشرك به شيئاً.
(2) قوله: «تُقام يوم القيامة وعليها سربالٌ من قطران ودرعٌ من جرب»* قال القرطبي: «السربال واحد السرابيل وهي الثياب من سرابيل أهل النار، يعني يلطخن بالقطران حتى يكون اشتعال النار في أجسادهن أعظم ورائحتهنّ أنْتَن. وروي عن ابن عباس أن القطران: النحاس المذاب، والدرع: قميص المرأة وليكون ألمهن بسبب الجرب أشد». وفيه: معرفة الأربع التي من أمر الجاهلية وذكر الكفر في بعضها، وأن من الكفر ما لا يخرج من الملة ووعيد النائحة. قاله المصنف رحمه الله تعالى.
(3) قوله: «ولهما» أي البخاري ومسلم «عن زيد بن خالد الجهني» صحابي مشهور، مات سنة ثمان وستين، وقيل غير ذلك،وله خمس وثمانون سنة، قال: «صلَّى لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -» أي صلى بنا، فاللام بمعنى الباء. وفيه: إطلاق ذلك مجازاً، وإنما الصلاة لله. قاله الحافظ ابن حجر [الفتح 2/523].
(4) قوله: «صلاة الصبح بالحديبيَة» بتخفيف يائها وقد تُثقّل.
(5) قوله: «على إِثْر» بكسر الهمزة وسكون الثاء على المشهور: وهو ما يعقب الشيء.
(6) قوله: «سماء كانت من الليل» أي مطر، والسماء يطلق على كل ما ارتفع.
(7) قوله: «فلما انصرف» من صلاته إلى المأمومين كما يدل عليه.
..........................................................
* أخرجه مسلم (934)، وأحمد (5/342، 343، 344).(1/205)
أقبل على الناس(1)، فقال: «هل تدرون(2) ماذا قال ربُّكم ؟» قالوا: الله ورسوله أعلم(3). قال: «قال أصبح من عبادي(4) مؤمنٌ بي وكافر، فأما من قال مُطرنا بفضل الله ورحمته(5)فذلك مؤمنٌ بي(6)كافرٌ بالكوكب، وأما من قال:
__________
(1) قوله: «أقبل على الناس» ويحتمل أنه أراد السلام.
(2) قوله: «فقال: هل تدرون»* لفظ استفهام ومعناه التنبيه، وفي النسائي «ألم تسمعوا ما قال ربكم الليلة ؟» وهذا من الأحاديث القدسية. وفيه: إخراج العالم للمتعلِّم المسألة بالاستفهام عنها لقوله: «أتدرون ماذا قال ربكم ؟». قاله المصنف.
(3) قوله: «قالوا: اللهُ ورسوله أعلم» وفيه: حسن الأدب للمسؤول إذا سُئل عمّا لا يعلم وجب عليه أن يكل العلم إلى عالمه، وذلك يجب.
(4) قوله: «قال: أصبح من عبادي» الإضافة هنا للعموم بدليل التقسيم إلى «مؤمن وكافر».
(5) قوله: «فأما من قال: مُطرنا بفضل الله ورحمته» والفضل والرحمة صفتان لله تعالى، ومذهب أهل السنة والجماعة: أن ما وصف الله به نفسه أو وصفه به رسول الله من صفات الذات كالحياة، والعلم. وصفات الأفعال؛ كالرحمة التي يرحم بها عباده، كلها صفات لله قائمةٌ بذاته، ليست قائمة بغيره، فتفطَّن لهذا، فقد غلط فيه طوائف. قاله في «فتح المجيد»**.
(6) قوله: «فذلك مؤمنٌ بي» لأنه نسب الفعل إلى فاعله، والنعمةَ إلى المنعم بها «كافر بالكوكب».
..........................................................
* أخرجه البخاري (846) (1038) (4147) (7503)، ومسلم (71).
** (2/544).(1/206)
مُطرنا بنوءِ كذا وكذا فذلك كافرٌ بي مؤمنٌ بالكوكب(1)».
ولهما(2) من حديث ابن عباس معناه. وفيه: قال بعضهم: لقد صدق نوءُ كذا وكذا. فأنزل الله هذه الآية: { فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ } إلى قوله { تُكَذِّبُونَ } [الواقعة:75-82] (2)
__________
(1) قوله: «وأما من قال: مُطرنا بنوء كذا وكذا، فذلك كافر بي مؤمنٌ بالكوكب» حيث جعل للنوء تأثيراً في إنزال المطر؛ لأنه شرك في الربوبية، والمشرك كافر. وفيه: معرفة قوله: «أصبح من عبادي مؤمن بي كافر» بسبب نزول النعمة والتفطن للإيمان في هذا الموضع والتفطن للكفر في هذا الموضع. قاله المصنف رحمه الله تعالى.
(2) قوله: «ولهما» أي البخاري ومسلم «من حديث ابن عباس معناه. وفيه: قال بعضهم: لقد صدقَ نوءُ كذا وكذا» وفيه: التفطّن لقوله «لقد صدق نوءُ كذا وكذا». «فأنزل الله هذه الآية { فلا أقسم بمواقع النجوم } إلى قوله: { وتجعلون رزقكن أنكم تكذبون } » هذا قسم من الله عز وجل يقسم بما شاء من خلقه على ما شاء { إِنَّهُ لَقُرْآَنٌ كَرِيمٌ } [الواقعة:77]، وجواب القسم فتكون لا صلة لتأكيد النفي فتقدير الكلام: ليس الامر كما زعمتم في القرآن أنه سحر أو كهانة بل هو قرآن كريم. ومواقع النجوم قال ابن عباس: يعني نجوم القرآن، فإنه نزل جملة من السماء العليا إلى السماء الدنيا، ثم نزل مفرقاً في السنين بعد، ثم قرأ ابن عباس هذه الآية، ومواقعها نزولها شيئاً بعد شيء. وقال مجاهد: مواقع النجوم: مطالعها ومشارقها. واختاره ابن جرير.
... وقوله: { وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ } قال ابن كثير [التفسير 7/544]: وإن هذا القسم الذي أقسمت به لقسم عظيم لو تعلمون عظمته لعظّمتم المُقسَم به عليه.
... قوله: { إِنَّهُ لَقُرْآَنٌ كَرِيمٌ } هذا هو المقسم عليه وهو القرآن أي إنه وحي الله وتنزيله وكلامه لا كما يقول الكفار إنه سحر، أو كهانة، أو شعر، والكريم
البهي الكثير الخير العظيم، وهو من كل شيء أحسنه وأفضله.
قال الأزهري: «الكريم: اسمٌ جامعٌ لما يُحمد، والله تعالى كريمٌ جميلُ الفعال، وإنه لقرآن كريم: يُحمد لما فيه من الهدى والبيان والعلم والحكمة».
قوله: { فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ } أي: معظم محفوظ موقر. قاله ابن كثير [التفسير 7/544].
قال ابن القيم: «اختلف المفسرون في هذا فقيل: هو اللوح المحفوظ، والصحيح أنه الكتاب الذي بأيدي الملائكة، وهو المذكور في قوله: { فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ * مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ * بِأَيْدِي سَفَرَةٍ * كِرَامٍ بَرَرَةٍ } [عبس:13-16]، ويدل على هذا قوله: { لا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ } فهذا يدل على أنه بأيديهم يمسّونه.
وقوله { لا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ } قال ابن عباس: الكتاب الذي في السماء. وفي رواية: { لا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ } يعني: الملائكة.
وقال قتادة: لا يمسه عند الله إلا المطهرون، فأما في الدنيا فإنه يمسه المجوسي النجس والمنافق الرجس، واختار هذا القول كثيرون، منهم ابن القيم ورجّحه.
وقال ابن زيد: «زعمت قريشٌ أن هذا القرآن تنزلت به الشياطين، فأخبر الله تعالى أنه لا يمسه إلا المطهرون، كما قال تعالى: { وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ * وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ * إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ } [الشعراء: 210-212].
قال ابن كثير [التفسير 8/22]: «هذا قول جيد، وهو لا يخرج عن القول قبله».
وقال البخاري في «صحيحه»: «في الآية لا يجد طعمه إلا من آمن به».
قال ابن القيم [التبيان في أقسام القرآن 1/410]: «هذا من إشارة الآية وتنبيهها، وهو أنه لا يلتذ به وبقراءته وفهمه وتدبره إلا من يشهد أنه كلام الله تكلم به حقّاً وأنزله على رسوله وحياً»، وقال آخرون: لا يمسه إلا المطهرون من الجنابة والحدث ولفظ الآية خبر، ومعناه الطلب، والمراد بالقرآن ههنا المصحف، واحتجوا على ذلك بما رواه مالك في الموطأ أن الكتاب الذي كتبه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعمرو بن حزم: «أن لا يمس القرآنَ إلا طاهر»*.
وقوله: { تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ } قال ابن كثير [التفسير 7/545]: «هذا القرآن منزّل من الله رب العالمين، وليس كما يقولون إنه سحر أو كهانة أو شعر».
..........................................................
* أخرجه مالك في الموطأ (317) مرسلاً، وعبدالرزاق في المصنف (1/341)، والدارمي (2278)، والحاكم في المستدرك (3/485). وصحّحه ووافقه الذهبي، وصححه الألباني أيضاً في صحيح الجامع (2/1284) رقم (7780).(1/207)
.
..............................................................................
* * *
31- باب
قول الله تعالى { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ } الآية(1)
__________
(1) قوله: «باب قول الله تعالى: { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ } الآية لما كانت محبة الله سبحانه هي أصل دين الإسلام فبكمالها يكمل وبنقصها ينقص توحيد العبد، نبَّه المصنف رحمه على ذلك بهذه الترجمة بالآية. قاله في «فتح المجيد»*.
قال ابن كثير في الآية [التفسير 1/480]: «يذكر تعالى حال المشركين في الدنيا وما لهم في الآخرة من العذاب والنكال حيث جعلوا لله أنداداً أي أمثالاً ونظراء يحبونهم كحب الله، أي ساوونهم بالله في المحبة والتعظيم». انتهى. وهذا اختيار شيخ الإسلام في الآية، ثم بيَّن تعالى أن محبة المؤمنين لله أشد من محبة أصحاب الأنداد لأندادهم وإنما ذُمُّوا بأن شركوا بين الله وبين أندادهم في المحبة ولم يخلصوها كمحبة المؤمنين له كما أخبر الله عنهم وهم في النار، وأنهم يقولون لآلهتهم وأندادهم وهي محضرة معهم في العذاب { تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ } [الشعراء: 97-98]، ومعلوم أنهم ما سوّوَهم به في الخلق والربوبية وإنما سوّوهم به في المحبة والتعظيم.
وقال تعالى: { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ } [آل عمران:31]، وهذه تُسمَّى آية المحنة، قال بعض السلف: «ادّعى قومٌ محبة الله فأنزل الله تعالى آية المحنة { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ } إشارة على دليل المحبة وثمرتها وفائدتها. فدليلها وعلامتها: اتباع الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وفائدتها وثمرتها: محبة المرسِل إليكم، فما لم تحصل منكم المتابعة فمحبتكم له غير حاصلة، ومحبته لكم منتفية. ومن
..........................................................
* (2/553).(1/208)
[البقرة: 165].
وقوله: { قُلْ إِنْ كَانَ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ } - إلى قوله - { أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ } (1)
__________
(1) ازم محبة الله محبة أنبيائه ورسله وملائكته وكتبه والصالحين من عباده وكراهة ما يكرهه الله سبحانه، ومعاداة أعدائه وموالاة أوليائه، فلا تحصل كمال محبة الله الواجبة إلا بكمال ذلك وإيثاره على ما تهواه النفوس، فمن ادّعى محبة الرسول بدون متابعته وتقديم قوله فقد كذب. وذكر أبوبكر الكناني أن الأسباب الجالبة لمحبة الله عشرة:
أحدها: قراءة القرآن بالتدبر والتفهم لمعانيه وما أُريد به. الثاني: التقرب إل الله تعالى بالنوافل بعد الفرائض. الثالث: دوام ذكره على كل حال باللسان والقلب والعمل والحال فنصيبه من المحبة على قدر هذا. الرابع: إيثار محابه على محابك عند غلبة الهوى. الخامس: مطالعة القلب لأسمائه وصفاته ومشاهدتها وتقلبه في رياض هذه المعرفة وميادينها. السادس: مشاهدة بره وإحسانه ونعمه الظاهرة والباطنة. السابع - وهو أعجبها -: انكسار القلب بين يديه. الثامن: الخلوة وقت النزول الإلهي وتلاوة كتابه ثم ختم ذلك بالاستغفار والتوبة. التاسع: مجالسة المحبين الصادقين والتقاط أطيب ثمرات كلامهم ولا تتكلم إلا إذا ترجّحت مصلحة الكلام وعلمتَ أن فيه مزيداً لحالك ومنفعة لغيرك. العاشر: مباعدة كل سبب يحول بين القلب وبين الله عز وجل.
فمن هذه الأسباب العشرة وصل المحبون إلى منازل المحبة ودخلوا على الحبيب. وفيه: معرفة تفسير آية البقرة، وأن من اتخذ نداً تساوى محبته محبة الله فهو الشرك الأكبر، وإن من المشركين من يحب الله حباً شديداً.
قاله المصنف رحمه الله تعالى.
( ) قوله: «وقول الله تعالى: { قُلْ إِنْ كَانَ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ }(1/209)
[التوبة:24] الآية.
عن أنس(1)، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا يؤمن أحدُكم حتى أكون أحبَّ إليه من ولده ووالده والناس أجمعين». أخرجاه.
ولهما(2)
__________
(1) ال ابن كثير [التفسير 4/124]: «أي إن كانت هذه الأشياء { أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا } أي انتظروا ماذا يحل بكم من عقابه». روى الإمام أحمد وأبوداود واللفظ له من حديث عبدالرحمن السلمي عن عطاء الخراساني عن نافع عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد، سلّط الله عليكم ذلاً لا ينزعه عنكم حتى تراجعوا دينكم»*. وفيه: معرفة تفسير آية براءة والوعيد على من كانت الثمانية أحب إليه من دينه. قاله المصنف رحمه الله تعالى.
( ) قوله: «وعن أنس - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا يؤمن أحدُكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين». أخرجاه**. أي البخاري ومسلم.
وقوله: «لا يؤمن» أي لا يكون آتياً بالإيمان الواجب عليه، فدلّ على أن من لم يكن الرسول أحب إليه من ولده ووالده بل ومن نفسه فهو من أصحاب الكبائر إن لم يكن كافراً. قال شيخ الإسلام [الكلام على حقيقة الإسلام (66)]: «فإنه لا يعهد نفي اسم مسمى أمر الله به ورسوله إلا إذا ترك بعض واجباته، فإذا كان الفعل مستحباً في العبادة لم ينفها الانتفاء المستحب ولو صلح هذا النفي عن جمهور المؤمنين اسم الإيمان والصلاة ونحو ذلك، وهذا لا يقوله عاقل، فمن قال
..........................................................
* أخرجه أبوداود (3462)، وصححه الألباني. انظر: السلسلة الصحيحة رقم (11).
** أخرجه البخاري (15)، ومسلم (14).
(2) نه نفي الكمال فإن أراد المستحب فهذا لم يقع قط في كلام الله ورسوله». انتهى ملخصاً.
وفيه: أن الأعمال من الإيمان، لأن المحبة عمل القلب وأن محبة الرسول - صلى الله عليه وسلم - واجبة تابعة لمحبة الله لازماً لها فإنها محبة لله ولأجله تزيد بزيادة محبة الله في قلب المؤمن وتنقص بنقصها. وفيه: وجوب تقديم محبته - صلى الله عليه وسلم - على النفس والأهل والمال، وأن نفي الإيمان لا يدل على الخروج من الإسلام. قاله المصنف رحمه الله.
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى [الكلام على حقيقة الإسلام (281)]: «وعامة الناس إذا أسلموا بعد كفر أو ولدوا على الإسلام والتزموا شرائعه وكانوا من أهل الطاعة لله ورسوله فهم مسلمون ومعهم إيمان مجمل، لكن دخول حقيقة الإيمان إلى قلوبهم يحصل شيئاً فشيئاً إن أعطاهم الله ذلك، وإلا فكثير من الناس لا يصلون إلى اليقين ولا إلى الجهاد ولو شُكِّكوا لشَكُّوا، ولو أُمِرُوا بالجهاد لما جاهدوا، إذ ليس عندهم من علم اليقين ما يدرأ الريب ولا عندهم من قوة الحب لله ورسوله ما يقدمونه على الأهل والمال، فهؤلاء إن عُوفوا من المحنة وماتوا دخلوا الجنة، وإن ابتُلوا بمن يُدخل عليهم شبهات توجب ريبهم فإن لم ينعم الله عليهم بما يزيل الريب وإلا صاروا مرتابين وانتقلوا إلى نوع من النفاق». انتهى.
( ) قوله: «ولهما» أي البخاري ومسلم «عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ثلاثٌ من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما»* ثنّى الضمير لتلازم المحبتين «وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره
..........................................................
* أخرجه البخاري (16) (21) (6041) (6941)، ومسلم (43).(1/210)
عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ثلاثٌ من كنّ فيه وجد بهنّ حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحبّ إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا
يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه، كما يكرهُ أن يُقذف في النار».
وفي رواية: «لا يجدُ أحدٌ حلاوة الإيمان حتى..»إلى آخره(1).
وعن ابن عباس(2)
__________
(1) ن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يُقذف في النار». قال شيخ الإسلام [الفتاوى 10/206]: «أخبر - صلى الله عليه وسلم - أن هذه الثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان، فحلاوة الإيمان المتضمنة للذة والفرح تتبع كمال محبة العباد لله، وذلك بثلاثة أمور: تكميل هذه المحبة وتفريغها ودفع ضدها، فتكميلها: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، فإن محبة الله ورسوله لا يكتفى فيها بأصل الحب، بل لابد أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وتفريغها: أن يحب المرء لا يحب إلا لله، ودفع ضدها: أن يكره ضد الإيمان كما يكره أن يقذف في النار». انتهى.
ويجب معرفة الفرق بين المحبة لله والمحبة مع الله، فمن أحب مخلوقاً كما يحب الله فقد جعله نداً لله، وهذه المحبة تضره ولا تنفعه، وأما من كان الله أحب إليه مما سواه وأحب أنبياءه وعباده الصالحين له فحبه لله هو أنفع الأشياء، والفرق بين هذين من أعظم الأمور. قال يحيى بن معاذ: حقيقة الحب في الله أن لا يزيد بالبر، ولا ينقص بالجفاء.
( ) قوله: «وفي رواية: لا يجد أحدٌ حلاوة الإيمان حتى...» إلى آخره» هذه الرواية ذكرها البخاري في «الأدب المفرد» من صحيحه ولفظه: «لا يجد أحدٌ حلاوة الإيمان». قال النووي: «معنى حلاوة الإيمان: استلذاذ الطاعات، وتحمّل المشاق، وإيثار ذلك على أغراض الدنيا». وفيه: أن للإيمان حلاوة قد يجدها الإنسان، وقد لا يجدها. قاله المصنف رحمه الله.
(2) قوله: «وعن ابن عباس» رضي الله عنهما «قال: من أحب في الله، وأبغض في
الله، ووالى في الله، وعادى في الله، فإنما تنالُ ولايةُ الله بذلك، ولن يجد عبدٌ طعم الإيمان - وإن كثرت صلاتُه وصومُه - حتى يكون كذلك، وقد صارت عامّةُ مؤاخاة الناس على أمر الدنيا، وذلك لا يجدي على أهله شيئاً». رواه ابن جرير. وأخرج ابن أبي شيبة وابن أبي حاتم الجملة الأولى منه فقط.
قوله: «من أحب في الله» أي أحب أهل الإيمان بالله وطاعته من أجل ذلك.
قوله: «وأبغض في الله» أي أبغض من كفر بالله وأشرك به وفسق عن طاعته وإن كان أقرب قريب إليه.
قوله: «ووالى في الله» أي والى أولياءه.
قوله: «وعادى في الله» أي عادى أهل معصيته وإن كان أقرب قريب، وجاهد أعداءه، ونصر أنصاره، وكلما قويت محبة العبد لله في قلبه قويت هذه الأعمال المترتبة عليها، وبكمالها يكمل توحيد العبد، ويكون ضعفها على قدر ضعف محبة العبد لربه، فمستقل ومستكثر ومحروم.
قوله: «فإنما تُنال ولاية الله بذلك» أي توليه لعبده. ولاية بفتح الواو لا غير الأخوة والنصرة والمحبة، وبالكسر الإمارة والمراد هنا الأول. قاله في «فتح المجيد»*، ولمحبة الله شروط ذكرها العلاّمة ابن القيم في قوله [الكافية الشافية (258)]:
شرطُ المحبةِ أن توافقَ من تحب
فإذا ادَّعيتَ المحبَّةَ مع خِلا
أتحب أعداءَ الحبيبِ وتدَّعِي
وكذا تُعادِي جَاهِداً أحبَابَه
على محبتهِ بلا عصيانِ
فِكَ ما يحُب فأنتَ ذو بهتانِ
حباً له ما ذاك في إمكانِ
أين المحبة يا أخا الشيطانِ
قوله: «ولن يجد عبدٌ طعم الإيمان وإن كثرت صلاته وصومه حتى يكون كذلك» أي
..........................................................
* (2/568).(1/211)
قال: من أحبّ في الله، وأبغض في الله، ووالى في
.......................................................................
الله، وعادى في الله، فإنما تنالُ ولايةُ الله بذلك، ولن يجد عبدٌ طعم الإيمان - وإن كثرت صلاتُه وصومُه - حتى يكون كذلك، وقد صارت عامّةُ مؤاخاة الناس على أمر الدنيا، وذلك لا يجدي على أهله شيئاً». رواه ابن جرير.
وقال ابنُ عباس(1)
__________
(1) تى يحب في الله ويبغض في الله، ويوالي في الله ويعادي في الله. ولأحمد والطبراني عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا يجد العبد صريح الإيمان حتى يحب في الله، ويبغض في الله، فإذا أحب في الله وأبغض في الله فقد استحق الولاية»*، وفي حديث أبي أمامة مرفوعاً: «من أحب لله وأبغض لله، وعادى لله، وأعطى لله ومنع لله، فقد استكمل الإيمان»** رواه أبوداود. وفيه معرفة أعمال القلب الأربع التي لا تنال ولاية الله إلا بها ولا يجد أحدٌ طعم الإيمان إلا بها. قاله المصنف رحمه الله تعالى.
قوله: «وقد صارت عامة مؤاخاة الناس على أمر الدنيا» هذا في زمن ابن عباس رضي الله عنهما فكيف لو رأى مؤاخاة أهل زماننا على الكفر والفسوق والعصيان؟.
قوله: «وذلك لا يجدي على أهله شيئاً» يعني أنه إذا ضعف داعي الإيمان أحب دنياه وإيثار ما يهواه على ما يحبه الله ورسوله وذلك غير نافع لهم بل يضر في العاجل والآجل، فالله المستعان. وفيه: فهم الصحابي للواقع أن عامة المؤاخاة على أمر الدنيا. قاله المنصف رحمه الله تعالى.
( ) قوله: «وقال ابن عباس في قوله تعالى: { وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأسْبَابُ } " قال: المودة». هذا الأثر روا عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه.
..........................................................
* أخرجه أحمد (3/430). قال الحافظ ابن حجر: في إسناده رشدين بن سعد وهو ضعيف. انظر: موسوعة ابن حجر الحديثية (1/33).
** أخرجه أبوداود (4681) وصححه الألباني في صحيح الجامع (2/1034) رقم (5965).(1/212)
في قوله: { وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأسْبَابُ } [البقرة:166].
قال: المودّة(1) .
* * *
32- باب
__________
(1) وقوله: «المودة» أي التي كانت بينهم في الدنيا خانتهم أحواج ما كانوا إليها كما قال تعالى: { إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ } [العنكبوت:25]، وقال العلامة ابن القيم رحمه الله [الرسالة التبوكية (57)] في قوله: { إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأسْبَابُ } [البقرة: 166] الآيتين: «فهؤلاء المتبوعون كانوا على الهدى وأتباعهم ادَّعوا أنهم على طريقتهم ومنهاجهم، وهم مخالفون لهم سالكون غير طريقهم ويزعمون أن محبتهم لهم تنفعهم مع مخالفتهم فيتبرؤون منهم يوم القيامة فإنهم اتخذوهم أولياء من دون الله. وهذا حال كل من اتخذ من دون الله وليجة وأولياء يوالي لهم ويعادي لهم ويرضى لهم ويغضب لهم، فإن أعماله كلها باطلة يراها يوم القيامة حسرات عليه إذ لم يجرد موالاته ومعاداته وحبه وبغضه وانتصاره وإيثاره لله ورسوله، فأبطل الله عز وجل ذلك العمل كله وقطع تلك الأسباب، ولا يبقى إلا السبب الواصل بين العبد وربه، وتجريده عبادته لله وحده ولوازمها من الحب والبغض والعطاء والمنع والموالاة والمعاداة، وتجريد متابعة رسوله تجريداً بريئاً من شوائب الالتفات إلى غيره فضلاً عن تقديم قول غيره عليه، فهذا السبب الذي لا ينقطع بصاحبه»*. انتهى ملخصاً. وفيه: معرفة تفسير { وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأسْبَابُ } . قاله المصنف رحمه الله تعالى.
..........................................................
* الرسالة التبوكية، لابن القيم (ص/57).(1/213)
قول الله تعالى: { إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } (1) [آل عمران: 175].
__________
(1) قوله: «باب قول الله تعالى: { إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } وهذا نهي من الله تعالى للمؤمنين أن يخافوا غيره، وأمرٌ لهم أن يقصروا خوفهم عليه فلا يخافون إلا إياه، وهذا هو الإخلاص الذي أمر الله به عباده ورضيه منهم، فالخوف من أفضل مقامات الدين وأجلّها، وأجمع أنواع العبادة التي يجب إخلاصها لله تعالى. قال ابن القيم رحمه الله تعالى [إغاثة اللهفان 1/130]: «ومن كيد عدو الله أنه يخوف المؤمنين من جنده وأوليائه لئلا يجاهدوهم ولا يأمروهم بمعروف ولا ينهوهم عن منكر، [وأخبر تعالى أن هذا من كيد الشيطان وتخويفه]* ونهانا أن نخافهم، قال: والمعنى عند جميع المفسرين: يخوفهم بأوليائه. قال قتادة: يعظمهم في صدوركم، فكلما قوي إيمان العبد زال خوف أولياء الشيطان من قلبه، وكلما ضعف إيمانه قوي خوفه منهم، فدلت الآية على أن إخلاص الخوف من كمال شروط الإيمان». وقال أيضاً [طريق الهجرتين (362)]: «الخوف عبودية القلب فلا يصلح إلا لله كالذلّ والإنابة والمحبة والتوكل والرجاء وغيرها من عبودية القلب». والخوف من حيث هو ثلاثة أقسام:
أحدها: خوف السر: وهو أن يخاف من وثن أو طاغوت أن يصيبه بما يكره، كما قال تعالى عن قوم هود: { إِنْ نَقُولُ إِلا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آَلِهَتِنَا بِسُوءٍ } [هود:54] الآية، وقال تعالى: { وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ } [الزمر: 36]، فعُبّاد القبور ونحوها من الأوثان يخافونها ويخوفون بها أهل التوحيد إذا أنكروا عبادتها وهذا ينافي التوحيد.
..............................................
* ساقطة من المطبوع.(1/214)
وقوله: { إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلا اللَّهَ } (1)
__________
(1) لثاني: أن يترك الإنسان ما يجب عليه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خوفاً من بعض الناس، وهذا محرّم، وهو نوع شرك بالله ينافي كمال التوحيد، وفي الحديث: «يقول الله تعالى للعبد يوم القيامة: ما منعك إذ رأيتَ المنكر أن لا تغيّره؟ فيقول: يا رب خشية الناس. فيقول: إياي كنت أحقَّ أن تخشى»*.
الثالث: الخوف الطبيعي، كالخوف من عدو أو سبع فهذا لا يُذم، قال تعالى عن موسى: { فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ } [الشعراء:14]. وفيه: معرفة تفسير آية آل عمران، وأن إخلاص الخوف لله من الفرائض، وذكر ثواب من فعله وذكر عقاب من تركه. قاله المصنف رحمه الله تعالى.
( ) قوله: «وقول الله تعالى: { إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلا اللَّهَ } الآية» أخبر تعالى أن مساجد الله لا يعمرها بالطاعة والعمل الصالح إلا أهل الإيمان بالله واليوم الآخر، الذين آمنوا بقلوبهم وعملوا بجوارحهم وأخلصوا له الخشية دون ما سواه، فأثبت لهم عمارة المساجد بعد أن نفاها عن المشركين.
قوله: { وَلَمْ يَخْشَ إِلا اللَّهَ } وهذا هو الشاهد من الآية للترجمة. قال ابن عطية: «يريد خشية التعظيم والعبادة والطاعة ولا محالة أن الإنسان يخشى المحاذير الدنيوية وينبغي أن يخشى في ذلك كله قضاء الله وتصريفه». قال في «قرة العيون»**: «لأن النفع والضر إنما يكون بمشيئته وإرادته، فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن».
وقوله: { فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ } قال ابن أبي طلحة عن ابن عباس يقول: «إن أولئك هم المهتدون، وكل «عسى» في القرآن فهي واجبة».
..........................................................
* أخرجه أحمد (3/27، 29، 77)، وابن حبان في صحيحه (9/230).
** (ص/168)(1/215)
الآية [التوبة:18].
وقوله: { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ } (1) الآية [العنكبوت:10].
__________
(1) قال محمد بن إسحاق: «وعسى من الله حق». وفيه: معرفة تفسير آية براءة. قاله المصنف رحمه الله.
( ) قوله: { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ } الآية. قال ابن القيم رحمه الله تعالى [إغاثة اللهفان 2/189]: «أخبر تعالى عن حال الداخل في الإيمان بلا بصيرة أنه إذا أُوذيَ في الله جعل فتنة الناس وهي أذاهم أو نَيْلهم له بالمكروه وهو الألم الذي لابد أن ينال الرسل وأتباعهم ممن خالفهم، جعل ذلك في الفرار منه وتركه السبب الذي يناله به كعذاب الله الذي فرَّ منه المؤمنون بالإيمان، فالمؤمنون لكمال بصيرتهم فروا من ألم عذاب الله إلى الإيمان وتحمّلوا ما فيه من الألم الزائل المفارق عن قريب، وهذا لضعف بصيرته فرَّ من ألم أعداء الرسل إلى موافقتهم ومتابعتهم ففرّ من ألم عذابهم إلى ألم عذاب الله، وغبن كل الغبن ؛ إذا استجار من الرمضاء بالنار، وفرّ من ألم ساعة إلى ألم الأبد، وإذا نصر الله جنده وأولياءه قال: إني كنت معكم والله أعلم بما انطوى عليه صدره من النفاق». انتهى. وإنما حمل ضعيف البصيرة على أن جعل فتنة الناس كعذاب الله هو الخوف منهم أن ينالوه بما يكره، وذلك من جملة الخوف من غير الله، وهذا وجه مطابقة الآية للترجمة. قاله في «الشرح»*. وفيه: معرفة تفسير آية العنكبوت. قاله المصنف رحمه الله تعالى. وفيه: الخوف من مداهنة الخلق في الحق، والمعصوم من عصمه الله. قاله في «فتح المجيد»**.(1/216)
عن أبي سعيد - رضي الله عنه - مرفوعاً(1)
__________
(1) قوله: «وعن أبي سعيد - رضي الله عنه - مرفوعاً: «إنّ من ضُعْف اليقين أن تُرضيَ الناس بسخط الله، وأن تحمدَهم على رزق الله، وأن تذمَّهُم على ما لم يُؤتك الله، إن رزق الله لا يجرُّه
..........................................................
* (ص/421-422).
** (2/579).
حرصُ حريص، ولا يردُّهُ كراهيةُ كاره»* هذا الحديث رواه أبونعيم في الحلية، والبيهقي وأعله بمحمد ابن مروان السدي. وقال: ضعيف. وفيه أيضاً عطية العوفي ذكره الذهبي في الضعفاء والمتروكين، ومعنى الحديث صحيح وتمامه: «وأن الله بحكمته جعل الروح والفرح في الرضى واليقين، وجعل الهم والحزن في الشك والسخط».
قوله: «إن من ضُعف اليقين» الضُعف بالضم ويحرك ضد القوة، والضَّعف بالفتح في الردى، وبالضم في البدن، واليقين كمال الإيمان. قال ابن مسعود: اليقين الإيمان كله، والصبر نصف الإيمان. رواه أبونعيم في الحلية والبيهقي في الزهد من حديثه مرفوعاً.
قوله: «أن ترضي الناس بسخط الله» أن تُؤثر رضاهم على رضى الله وذلك إذا لم يقم بقلبه من إعظام الله وإجلاله وهيبته، ما يمنعه من استجلاب رضى المخلوق بما يجلب له سخط خالقه وربه ومليكه، الذي يتصرف في القلوب، ويفرِّج الكروب، ويغفر الذنوب، وبهذا الاعتبار يدخل في نوع من الشرك ؛ لأنه آثر رضى المخلوق على رضى الله، وتقرب إليه بما يسخط الله، ولا يسلم من ذلك إلا من سلمه الله ووفقه لمعرفته ومعرفة إثبات صفاته على ما يليق بجلاله، وتنزيهه تعالى عن كل ما ينافي كماله، ومعرفة توحيده في ربوبيته وإلهيته. قاله في «فتح المجيد»**. وقال ابن رجب رحمه الله تعالى: «فمن تحقق أن كل مخلوق فوق التراب فهو تراب فكيف يقدّم طاعة من هو تراب على طاعة رب الأرباب ؟ أو كيف يرضى التراب بسخط الملك الوهاب؟ إن هذا لشيء عجاب».
..........................................................
* أخرجه أبونعيم في الحلية (10/41)، و البيهقي (1/152-153) في شعب الإيمان، بلفظ «إن من ضعف اليقين..». قال الألباني: «موضوع». انظر: الضعيفة (1482).
** (2/581-582).
قوله: «وأن تحمدهم على رزق الله» أي على ما وصل إليك من أيديهم بأن تضيفه إليهم وتحمدهم عليه، والله تعالى هو الذي كتبه لك ويسّره لك، فإذا أراد أمراً قيّض له أسباباً، ولا ينافي هذا حديث: «من لا يشكر الناس لا يشكر الله»* لكون الله ساقه على أيديهم فتدعو لهم أو تكافئهم لحديث: «من صنع إليكم معروفاً فكافئوه»** الحديث.
قوله: «وأن تذمهم على ما لم يؤتك الله» لأنه لم يقدر لك ما طلبته على أيديهم، فلو قدر ساقه إليك، فمن علم أن الله سبحانه هو المنفرد بالعطاء والمنع بمشيئته وإرادته وأنه الذي يرزق العبد بسبب وبلا سبب، ومن حيث لا يحتسب لم يسأل حاجته إلا منه وحده، ولم يمدح مخلوقاً على رزق، ولم يذمه على منع، ويفوض أمره إلى الله ويعتمد عليه في أمر دينه ودنياه، ولعل ما منع من ذلك يكون خيراً له ويحسن الظن بالله سبحانه ولا يرغب إلا إليه ولا يخاف إلا من ذنبه، وقد قرّر النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا المعنى بقوله: «إن رزق الله لا يجره حرص حريص، ولا يرده كراهية كاره»*** كما قال تعالى: { مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ } [فاطر:2] .
قال شيخ الإسلام [الفتاوى 1/51]: «اليقين يتضمن اليقين في القيام بأمر الله وما وعد أهل طاعته. ويتضمن القيام بقدر الله وخلقه وتدبيره، فإذا أرضيتهم بسخط
الله لم تكن موقناً لا بوعده ولا برزقه، فإنه إنما يحمل الإنسان على ذلك إما
ميل إلى ما في أيديهم فيترك القيام فيهم بأمر الله لما يرجوه
..........................................................
* أخرجه الترمذي (2021) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -، وقال: حديث حسن، والإمام أحمد (7939) (13/322) الرسالة، وصححه الألباني في صحيح الجامع رقم (6601) (2/822).
** أخرجه أبوداود (1672)، والنسائي (2567). قال الألباني: صحيح. انظر: صحيح سنن أبي داود (1/314) رقم (1468).
*** أخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد (ص: 4، 74).(1/217)
: «إنّ من ضُعْف اليقين أن تُرضيَ الناس
.......................................................................
بسخط الله، وأن تحمدَهم على رزق الله، وأن تذمَّهُم على ما لم يُؤتك الله، إن رزق الله لا يجرُّه حرصُ حريص، ولا يردُّهُ كراهيةُ كاره».
وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من التمس رضى الله بسخط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه الناس، ومن التمس رضى الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس». رواه ابن حبان في صحيحه(1)
__________
(1) منهم، وإما ضعف تصديقه بما وعد الله أهل طاعته من النصر والتأييد والثواب في الدنيا والآخرة، فإنك إذا أرضيتَ اللهَ نصرك ورزقك وكفاك مؤونتهم، وإرضاؤهم بما يسخط الله إنما يكون خوفاً منهم ورجاء لهم، وذلك من ضعف اليقي». انتهى. وهذا هو الشاهد من الحديث للترجمة. وفيه: أن اليقين يضعف ويقوى، وعلامة ضعفه ومن ذلك هذه الثلاثة. قاله المصنف رحمه الله تعالى. وفيه: أن الإيمان يزيد وينقص، وأن الأعمال داخلة في مسمى الإيمان، وإلا لم تكن هذه الثلاث من ضعفه وأضدادها من قوته. قاله في «الشرح»*.
( ) قوله: «وعن عائشة - رضي الله عنها - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من التمس رضا الله بسخط الناس؛ رضي الله عنه وأرضى عنه الناس، ومن التمس رضى الناس بسخط الله ؛ سخط الله عليه وأسخط عليه الناس»**. رواه ابن حبان في صحيحه. ورواه الترمذي عن رجل من أهل المدينة قال: كتب معاوية - رضي الله عنه - إلى عائشة - رضي الله عنها - أن اكتبي لي كتاباً توصيني فيه ولا تكثري عليّ. فكتبت عائشةُ - رضي الله عنها -: (إلى معاوية، سلام عليك، أما بعد: فإني سمعت
..........................................................
* (ص/424).
** أخرجه ابن حبان في صحيحه (1/510) رقم (276)، من طريق الترمذي (2414)، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي (2/288).
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «من التمس رضا الله بسخط الناس كفاه الله مؤنة الناس، ومن التمس رضا الناس بسخط الله وكله الله إلى الناس». والسلام عليك. ورواه أبونعيم في الحلية*.
قوله: «من التمس» أي: طلب. قال شيخ الإسلام [الفتاوى 1/52): «وكتبت عائشة - رضي الله عنها - إلى معاوية، ورُوي أنها رفعته: «من أرضى الله بسخط الناس كفاه الله مؤونة الناس، ومن أرضى الناس بسخط الله لم يُغْنوا عنه من الله شيئاً» هذا لفظ المرفوع، ولفظ الموقوف «من أرضى الله بسخط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه الناس، ومن أرضى الناس بسخط الله عاد حامده من الناس له ذامَّاً». وهذا من أعظم الفقه في الدين، فإن من أرضى الله بسخطهم كان قد اتقاه وكان عبده الصالح والله يتولى الصالحين والله كاف عبده، { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ } [الطلاق: 2-3]، والله يكفيه مؤونة الناس بلا ريب. وأما كون الناس كلهم يرضون عنه فقد لا يحصل ذلك لكن يرضون عنه إذا سلموا من الأغراض، وإذا تبين لهم العاقبة، «ومن أرضى الناس بسخط الله لم يُغنوا عنه من الله شيئاً»، كالظالم الذي يعض على يديه. وأما كون حامده ينقلب ذامَّاً فهذا يقع كثيراً ويحصل في العاقبة، فإن العاقبة للمتقين لا تحصل ابتداء». انتهى.
..........................................................
* (8/188).(1/218)
.
..............................................................................
* * *
33- باب
قول الله تعالى: { وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } (1)
__________
(1) قوله: «باب قول الله تعالى: { وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } أراد المصنف رحمه الله بالترجمة بهذه الآية بيان أن التوكل فريضة يجب إخلاصها لله تعالى، فإن تقديم المعلول يفيد الحصر، أي: وعلى الله فتوكلوا لا على غيره، فهو من أجمع أنواع العبادة وأعظمها. قال الإمام أحمد: «التوكل عمل القلب». وقال ابن القيم في الآية المترجم بها [طريق الهجرتين (327-330): «جعل التوكل على الله شرطاً في الإيمان، فدل على انتفاء الإيمان عند انتفائه. وفي الآية الأخرى { قَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آَمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ } [يونس:84] فجعل دليل صحة الإسلام التوكل، وكلما قوي إيمان العبد كان توكله أقوى، وإذا ضعف الإيمان ضعف التوكل، وإذا كان التوكل ضعيفاً كان دليلاً على ضعف الإيمان ولابد، والله تعالى يجمع بين التوكل والعبادة، وبين التوكل والإيمان، وبين التوكل والتقوى، وبين التوكل والإسلام، وبين التوكل والهداية، فظهر أن التوكل أصل لجميع مقامات الإيمان والإحسان ولجميع أعمال الإسلام، وأن منزلته منها كمنزلة الجسد من الرأس. فكما لا يقوم الرأس إلا على البدن، فكذلك لا يقوم الإيمان ومقاماته وأعماله إلا على ساق التوكل». قال شيخ الإسلام رحمه الله: «وما رجا أحدٌ مخلوقاً ولا توكل عليه إلا خاب ظنه، فإنه مشرك { وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ } [الحج:31]. انتهى.
والتوكل على غير الله قسمان: أحدهما: التوكل في الأمور التي لا يقدر عليها إلا الله تعالى: كالذين يتوكلون على الأموات والطواغيت في رجاء مطالبهم من نصر أو حفظ أو رزق أو شفاعة، فهذا شرك أكبر. الثاني: التوكل في الأسباب الظاهرة: كمن يتوكل على أمير أو سلطان فيما أقدره الله عليه من رزق أو دفع أذى ونحو ذلك، فهو نوع شرك أصغر. والوكالة الجائزة هي: توكيل الإنسان في(1/219)
[المائدة:23].
وقوله: { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ } (1)
__________
(1) عل ما يقدر عليه نيابة عنه. لكن ليس له أن يعتمد في حصول ما وكل فيه، بل يتوكل على الله في تيسير أمره الذي يطلبه بنفسه أو بنائبه، وذلك من جملة الأسباب التي يجوز فعلها ولا يعتمد عليها بل يعتمد على المسبب الذي أوجد السبب والمسبب. قاله في «الشرح»*. وفي الآية: أن التوكل من الفرائض وأنه من شروط الإيمان. قاله المصنف رحمه الله تعالى.
( ) قوله: «وقول الله تعالى: { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ } قال البغوي: «أي خافت وفرقت قلوبهم». وقيل: إذا خُوفوا بالله انقادوا خوفاً من عقابه. قال ابن عباس - رضي الله عنهما - في الآية أن المنافقين لا يدخل قلوبهم شيء من ذكر الله عند أداء فرائضه ولا يؤمنون بشيء من آياته ولا يتوكلون على الله ولا يصلون إذا غابوا ولا يؤدون زكاة أموالهم، فأخبر الله أنهم ليسوا بمؤمنين، ثم وصف المؤمنين فقال: { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ } فأدوا فرائضه. رواه ابن جرير وابن أبي حاتم.
... وقوله: { وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا } أي تصديقاً ويقنياً، وقد استدل الصحابة والتابعون ومن تبعهم من أئمة السلف بهذه الآية ونظائرها على أن «الإيمان: قول وعمل، يزيد وينقص». قال عمير بن حبيب الصحابي: إن الإيمان يزيد وينقص، فقيل له: وما زيادته وما نقصانه ؟ قال: إذا ذكرنا الله وخشيناه فذلك زيادته، وإذا غفلنا ونسينا وضيعنا فذلك نقصانه. وحكى الإجماع على ذلك الشافعي وأحمد وأبوعبيدة وغيرهم.
وقوله: { وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } أي يعتمدون عليه بقلوبهم مفوضين إليه أمورهم وحده لا شريك له، فلا يرجون سواه ولا يقصدون إلا إياه ولا يرغبون إلا إليه،
................................................
* (ص/428-429).(1/220)
[الأنفال:2].
وقوله: { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } (1)
__________
(1) علمون أن ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، وأنه المتصرف في الملك وحده لا شريك له، وهذا هو الشاهد من الآية في الترجمة. وفي الآية: وصف المؤمنين حقاً بثلاث مقامات من مقامات الإحسان وهي: الخوف، وزيادة الإيمان، والتوكُّل على الله وحده.
وقوله: { الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ } قال قتادة: «إقامة الصلاة: المحافظة على مواقيتها ووضوئها وركوعها وسجودها وتلاوة القرآن فيها والتشهد والصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - فيها، هذا هو إقامتها».
وقوله: { وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } الإنفاق مما رزقهم الله يشمل إخراج الزكاة وسائر الحقوق للعباد من واجب ومستحب. قال قتادة في قوله { وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } فأنفقوا مما أعطاكم الله، فإنما هذه الأموال عوار وودائع عندك يا ابن آدم أوشكتَ أن تفارقها». وهذه الأعمال الخمسة مستلزمة لباقي الواجبات، فلذا اقتصر عليها. وفيه: معرفة تفسير آية الأنفال. قاله المصنف رحمه الله تعالى.
( ) وقوله: { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } أي كافيك وكافي أتباعك، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى. قال ابن القيم رحمه الله [زاد المعاد 1/37-38]: «أي: الله وحده كافيك وكافي أتباعك فلا تحتاجون معه إلى أحد، فإن الحسْب والكفاية لله وحده كالتوكل والتقوى والعبادة. قال تعالى: { وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ } [الأنفال:62]، ففرَّق بين الحَسْب والتأييد، فجعل الحَسْبَ له وحده، وجعل التأييد له بنصره وبعباده، وأثنى على أهل التوحيد [والتوكل] من عباده حيث أفردوه بالحَسْب فقال تعالى: { الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ } [آل عمران:173] ولم يقولوا:
حسبنا الله ورسوله، فإذا كان هذا قولهم ومدح الرب تعالى لهم فكيف يقول لرسوله «الله وأتباعك حسبك»؟. وأتباعه قد أفردوا الرب تعالى بالحسْب ولم(1/221)
[الأنفال:64].
{ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ } [الطلاق: 3].
عن ابن عباس قال: { حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ } (1)
__________
(1) شركوا بينه وبين رسوله، فكيف يُشرك بينه وبينهم في حسْب رسوله - صلى الله عليه وسلم - ؟ هذا من أمحل المحال وأبطل الباطل». انتهى.
... وبهذا يتبيّن مطابقة الآية للترجمة. فإذا كان هو الكافي لعبده وجب أن لا يتوكل إلا عليه ومتى التفت إلى سواه وَكَلَه الله إلى من التفت إليه. وفيه: معرفة تفسير آية آخر الأنفال. قاله المصنف رحمه الله تعالى.
... وقوله: { وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ } .
قال ابن القيم رحمه الله تعالى [زاد المعاد 1/38-39]: « { فَهُوَ حَسْبُهُ } أي كافيه وواقيه فلا مطمع فيه لعدو، ولا يضره إلا أذى لابد منه كالحر والبرد والجوع والعطش، وأما أن يضره بما يبلغ به مراده فهذا لا يكون أبداً.
قال بعض السلف: جعل الله لكل عمل جزاء من نفسه، وجعل جزاء التوكل عليه نفس كفايته فقال: { وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ } أي كافيه، فلم يقل: فله كذا وكذا من الأجر كما قال في الأعمال، بل جعل الله سبحانه نفسه كافي عبده المتوكل عليه وحسبه وواقيه، فلو توكل العبدُ على الله حق توكله وكادته السمواتُ والأرضُ ومن فيهن لجعل الله له مخرجاً وكفاه ونصره». انتهى.
... وفي الآية دليل على فضل التوكل وأنه أعظم الأسباب في جلب المنافع ودفع المضار؛ لأن الله تعالى علق الجملة الأخيرة على الأولى تعليق الجزاء على الشرط فيمتنع أن يكون وجود الشرط كعدمه لأنه تعالى رتّب الحكم على الوصف المناسب له فعلم أن توكّله هو سبب كون الله حَسْباً له. ذكره شيخ الإسلام رحمه الله. وفيها: تنبيه على القيام بالأسباب مع التوكل، فالتوكل بدون القيام بالأسباب المأمور بها عجزٌ.
وفيه: معرفة تفسير آية الطلاق. قاله المصنف رحمه الله تعالى.
( ) قوله: «وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: { حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ } قالها إبراهيم عليه السلام حين أُلقيَ في النار، وقالها محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - حين قالوا له: { إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ } رواه البخاري والنسائي»*. وفي رواية ابن عباس قال: كان آخر قول إبراهيم عليه السلام حين أُلقي في النار: حسبنا الله ونعم الوكيل. رواه البخاري.
وقوله: { حَسْبُنَا اللَّهُ } أي كافينا فلا نتوكل إلا عليه.
وقوله: { وَنِعْمَ الْوَكِيلُ } أي نعم الموكول إليه، ومخصوص «نعم» محذوف تقديره «هو»، قال ابن القيم [طريق الهجرتين (331)]: «هو حسب من توكّل عليه وكافي من لجأ إليه وهو الذي يؤمن خوف الخائف ويجير المستجير، فمن تولاّه واستنصر به وتوكل عليه تولاّه وحفظه، ومن خافه واتقاه أمنه مما يخاف ويحذر». انتهى. قال شيخ الإسلام [الفتاوى 1/183]: «وما يُروى أن الخليل لما أُلقي في المنجنيق قال [له] جبريل: سَلْ ؟ قال: «حسبي من سؤالي علمه بحالي». ليس له إسناد معروف، وهو باطل. وقد رُوي أن جبريل عليه السلام قال: هل من حاجة؟ قال: «أما إليك فلا». وقد ذكر هذا الأثر الإمام أحمد وغيره. وأما سؤال الخليل لربه عز وجل فهذا مذكور في القرآن في غير موضع فكيف يقول: حسبي من سؤالي علمه بحالي، والله بكل شيء عليم، وقد أمر العباد أن يعبدوه ويتوكّلوا عليه ويسألوه ؛ لأن الله سبحانه جعل هذه الأمور أسباباً لما يرتبه عليها من إثابة العابدين وإجابة السائلين، وهو سبحانه يعلم الأشياء على ما هي عليه، فعلمه بأن هذا محتاج وهذا مذنب لا ينافي أن يأمر هذا بالتوبة والاستغفار، ويأمر هذا بالدعاء، وغيره من الأسباب التي تقضى بها حاجته، كما يأمر هذا بالعبادة والطاعة التي ينال بها كرامته». انتهى.(1/222)
[آل عمران: 173]
قالها إبراهيم عليه السلام حين أُلقي في النار، وقالها محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - حين قالوا له { إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا } (1) [آل عمران: 173]. رواه البخاري والنسائي(1).
..............................................................................
* * *
34- باب
__________
(1) قوله: «وقالها محمد - صلى الله عليه وسلم - حين قالوا له: { إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ } الآية»،
..........................................................
* أخرجه البخاري (4563) و (4564).
وذلك بعد منصرف قريش من أُحُد، لقي أبوسفيان ركباً من عبدالقيس فقال: أين تريدون ؟ قالوا: نريد المدينة. قال: فهل أنتم مبلغون محمداً عني رسالة. قالوا: نعم. قال: أخبروه أنا قد أجمعنا السير إليه وإلى أصحابه لنستأصلهم. فمرَّ الركبُ برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو بحمراء الأسد فأخبروه بالذي قال أبوسفيان. فقال: «حسبنا الله ونعم الوكيل» أي: نعم من توكل عليه المتوكلون. ومخصوص (نعم) محذوف تقديره «نعم الوكيل الله». قاله في «قرة العيون»*. فألقى الله الرعبَ في قلب أبي سفيان فرجع إلى مكة بمن معه، ففي هاتين القصتين فضل هذه الكلمة العظيمة، وأنها قول الخليلين - عليهما السلام - في الشدائد. قاله المصنف رحمه الله تعالى. وجاء في الحديث: «إذا وقعتم في الأمر العظيم فقولوا حسبنا الله ونعم الوكيل»**. رواه ابن مردويه.
..........................................................
* (ص/175).
** أخرجه ابن مردويه، وضعَّفه الألباني في ضعيف الجامع رقم (729).(1/223)
قول الله تعالى: { أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ } (1)
__________
(1) قوله: «باب قول الله تعالى: { أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ } أراد المصنف رحمه الله بالترجمة بهذه الآية أن يبيِّن أن أهل القرى المكذبين للرسل إنما حملهم على ذلك الأمن من مكر الله بهم وعدم خوفهم منه، فالأمن من مكر الله من أعظم الذنوب المنافية لكمال التوحيد، ودليل على ضعف الإيمان، فمن أمن مكر الله لم يُبال بما ترك من الواجبات وما فعل من المحرمات لعدم خوفه من الله، بل يجب على الإنسان في هذه الحياة أن يجمع بين الخوف والرجاء، ولهذا عقب الآية التي ترجم بها بقوله: { وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلا الضَّالُّونَ } فلا يغلب عليه الرجاء حتى يوجب له الامن من مكر الله ولا يغلب عليه الخوف حتى يقنط من رحمة الله بل يتساوى خوفه ورجاؤه وهذا مقام الأنبياء والصدِّيقين كما قال تعالى: { وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ } [الإسراء:57] .
ولهذا يقال الخوف والرجاء بمنزلة الجناحين للطائر، وأما عند الموت والانتقال إلى الدار الآخرة فيغلب الرجاء لما في الصحيحين عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «يقول الله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرتُه في نفسي، وإن ذكرني في ملأٍ، ذكرته في ملأ خير منهم»*. وفي الحديث: «إذا رأيتَ الله يعطي العبدَ على معاصيه ما يحب فإنما هو استدراج»** قال تعالى: { سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ } [الأعراف:182]، وقال تعالى: { أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ *
..........................................................
* أخرجه البخاري (7405)، ومسلم (2675).
** أخرجه أحمد (4/145)، وابن جرير الطبري في تفسيره رقم (13240، 13241). قال الألباني: «صحيح». انظر: صحيح الجامع (1/158) رقم (561).(1/224)
[الأعراف:99].
وقوله: { وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلا الضَّالُّونَ } (1) [الحجر: 56].
__________
(1) ُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لا يَشْعُرُونَ } [المؤمنون: 55-56].
قال الحسن البصري: «من وُسِّع عليه فلم يرَ أنه يَمكر به فلا رأي له، ومن قُتِر عليه فلم يرَ أنه ينظر له فلا رأي له».
وقال قتادة: «بَغَتَ القومَ أمرُ الله، وما أخذ الله قوماً إلا عند سلوتهم وغرتهم ونعمتهم، فلا تغتروا بالله، إنه لا يغتر بالله إلا القوم الفاسقون».
وقال إسماعيل بن رافع: «من الأمن من مكر الله إقامة العبد على الذنب يتمنى على الله المغفرة». رواه ابن أبي حاتم*.
وهذا هو تفسير المكر في قول بعض السلف يستدرجهم الله بالنعم ويُملي لهم ثم يأخذهم أخذ عزيز مقتدر، وهذا هو معنى المكر والخديعة. ذكره ابن جرير بمعناه. وفيه: معرفة تفسير آية الأعراف. قاله المصنف رحمه الله تعالى.
( ) قوله تعالى: { وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلا الضَّالُّونَ } القنوط: استبعاد الفرج واليأس منه، وهو يقابل الأمن من مكر الله، وكلا الأمرين ذنبٌ عظيم ينافي كمال التوحيد. ومعنى الآية: أن الملائكة لما بشّرت إبراهيمَ بإسحاق { قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ * قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ } - الذي لا ريب فيه - { فَلا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ } [الحجر:54-55] أي: الآيسين. فقال عليه السلام: { وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلا الضَّالُّونَ } قال بعضهم إلا المخطئون طريق الصواب، أو إلا الكافرون، كقوله: { إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ } [يوسف: 87].(1/225)
وعن ابن عباس: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سُئل عن الكبائر فقال: «الشرك بالله، واليأسُ من رَوْح الله، والأمنُ من مكر الله»(1).
__________
(1) قوله: «وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سُئل عن
..........................................................
* رواه ابن أبي حاتم، كما في الدر المنثور (3/507).
الكبائر فقال: «الشرك بالله، واليأس من روح الله، والأمن من مكر الله»*. هذا الحديث رواه البزّار وابن أبي حاتم من طريق شبيب بن بشر، قال ابن معين: ثقة. وليَّنه أبوحاتم. وقال ابن كثير: في إسناده نظر، والأشبه أن يكون موقوفاً.
قوله: «الشرك بالله» بدأ به من باب البداءة بالأهم فالأهم، وهو أكبر الكبائر، قال ابن القيم رحمه الله تعالى: «الشرك بالله هضمٌ للربوبية،وتنقّصُ للإلهية، وسوء ظن برب العالمين سبحانه». قال في «الكافية الشافية»:
والشرك فاحذره فشرك ظاهر
وهو اتخاذ الند للرحمن أيا
يدعوه أو يرجوه ثم يخافه
والله ما ساووهم بالله في
لكنهم ساووهم بالله في
جعلوا محبتهم مع الرحمن ما
ج
ذا القسم ليس بقابل الغفران
كان من حجر ومن إنسان
ويحبه كمحبة الديّان
خلق ولا رزق ولا إحسان
حب وتعظيم وفي إيمان
جعلوا المحبة قط للرحمن
ج
قوله: «واليأس من روح الله» أي قطع الرجاء والامل من الله، فيما يخافه ويرجوه وذلك إساة ظن بالله، وجهل به وبسعة رحمته وجوده ومغفرته. قاله في «فتح المجيد»**.
قوله: «والأمن من مكر الله» أي الأمن من استدراجه للعبد وسلبه ما أعطاه من الإيمان - نعوذ بالله من ذلك - وذلك جهلٌ بالله وبقدرته، وثقةٌ بالنفس وعجب بها. قاله في «الشرح»***. وهذه الثلاث من أكبر الكبائر، وهي
..........................................................
* أخرجه البزار (106)، وابن أبي حاتم في التفسير كما في الدر المنثور (2/147) وقال: إسناده حسن.
** (2/600).
*** (ص/439).(1/226)
وعن ابن مسعود(1) قال: أكبر الكبائر الإشراك بالله، والأمنُ من مكر الله، والقُنوط من رحمة الله، واليأس من رَوْح الله. رواه عبدالرزاق.
* * *
35- باب
من الإيمان بالله الصبرُ على أقدار الله(2)
__________
(1) ثيرة جداً. وإنما ذكر هذه الثلاث لجمعها للشر كله وبُعدها عن الخير، وقد وقع فيها كثيرٌ من الناس قديماً وحديثاً، نسأل الله العافية. قاله في «قرة العيون»*.
واعلم أن هذا الحديث لا يدل على حصر الكبائر، وضابطها: ما قاله المحقّقون من العلماء أنها: كل ذنب ختمه الله بنار أو لعنة أو غضب أو عذاب. زاد شيخ الإسلام [الفتاوى 11/652]: أو نفي الإيمان. وزاد في «فتح المجيد»**: من برئ منه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أو قال: ليس منا من فعل كذا وكذا.
( ) قوله: «وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: أكبر الكبائر: الإشراك بالله، والأمن من مكر الله، والقنوط من رحمة الله، واليأس من رَوْح الله. رواه عبدالرزاق». قال في «الشرح»***: «ورواه ابن جرير بأسانيد صحاح». وقد تقدم الكلام على ما جاء في حديث ابن مسعود فأغنى عن إعادته. وفيه: شدة الوعيد فيمن أَمِنَ مكر الله، وشدة الوعيد في القنوط. قاله المصنف رحمه الله.
..........................................................
* (ص/176).
** (2/601).
*** (ص/439).
(2) قوله: «باب من الإيمان بالله الصبرُ على أقدار الله» قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى: ذكر الله الصبرَ في تسعين موضعاً من القرآن. واشتقاقه من صُبِر: إذا حُبس ومُنع. قال ابن القيم [المدارج 2/156]: الصبر حبس النفس عن الجزع، واللسان عن التشكّي والتسخّط، والجوارح عن لطم الخدود وشق الجيوب ونحوهما.
والصبر ثلاثة أنواع: صبرٌ على طاعة الله، وصبر عن معصية الله، وصبرٌ على أقدار الله. زاد شيخ الإسلام نوعاً رابعاً وهو: الصبر عن الأهواء المخالفة للشرع.
وقال - عليه الصلاة والسلام -: «ما أُعطي أحدٌ عطاءً خيراً وأوسع من الصبر»*. متفق عليه، وفي حديث آخر: «الصبر نصف الإيمان»**. رواه أبونعيم والبيهقي في الشُّعَب. وقال علي - رضي الله عنه -: الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد. ثم رفع صوته فقال: ألاَ لا إيمان لمن لا صبر له.(1/227)
وقول الله تعالى: { وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } (1) [التغابن: 11].
قال علقمةُ: هو الرجلُ تُصيبُه المصيبةُ فيعلمُ أنها من عند الله فيرضى ويُسلّم(2)
__________
(1) قوله: «وقول الله تعالى: { وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } وقبلها { مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ } أي بمشيئته وإرادته وحكمته، { وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ } قال ابن عباس: يهد قلبه لليقين؛ فيعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه. هذا تفسير الإيمان في الآية. وفي الآية: بيان أن من ثواب الصبر هداية القلب. قال ابن كثير [التفسير 8/137]: «أي من أصابته مصيبة فعلم أنها بقدر الله فصبر واحتسب واستسلم لقضاء الله تعالى هدى الله قلبه وعوّضه عما فاته من الدنيا هُدىً في قلبه ويقيناً صادقاً، وقد يخلف عليه
..........................................................
* أخرجه البخاري (1469، 6470)، ومسلم (1053).
** أخرجه ابن الأعرابي في معجمه (56/2)، وأبونعيم في الحلية (5/34)، وابن الجوزي في العلل المتناهية (1364). وقال الألباني: منكر. انظر الضعيفة رقم (499).
(2) ما كان أخذ منه». وهذا هو الشاهد من الآية للترجمة.
وقوله: { وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } تنبيهٌ على أن ذلك إنما يصدر عن علمه تعالى المتضمن لحكمته وذلك يوجب الصبر والرضى.
( ) قوله: «قال علقمة: هو الرجلُ تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلِّم» هذا الأثر رواه ابن جرير وابن أبي حاتم، وهذا سياق ابن جرير. وعلقمةُ هو ابن قيس بن عبدالله النخعي الكوفي، وُلد في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - وسمع من أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وسعد وابن مسعود وعائشة وغيرهم - رضي الله عنهم - وهو من كبار التابعين وأجلاّئهم وعلمائهم وثقاتهم، مات بعد الستين. وفي هذا دليلٌ على أن الأعمال من مسمى الإيمان. وقال سعيد بن جبير: { وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ } يعني: يسترجع يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون.
وفيه: معرفة تفسير آية التغابن، وأن هذا من الإيمان بالله. قاله المصنف رحمه الله. وفي الآية: أن الصبر سبب لهداية القلب، وأن من ثواب الحسنة الحسنة بعدها. وفيها: إثبات القدر. قاله في «الشرح»*.(1/228)
.
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «اثنتان في الناس هما بهم كفر: الطعنُ في النسب، والنياحةُ على الميّت»(1).
ولهما عن ابن مسعود مرفوعاً: «ليس منا من ضرب الخدود، وشقَّ الجيوبَ، ودعا بدعوى الجاهلية»(2)
__________
(1) قوله: «وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «اثنتان في الناس هما بهم كفر: الطعنُ في النسب، والنياحةُ على الميّت»** قال شيخ الإسلام: «أي: هاتان الخصلتان هما كفر قائم بالناس، فنفس الخصلتين كفرٌ، حيث كانتا من أعمال الكفار وهما قائمتان بالناس، لكن ليس من قام به شعبة من شعب الكفر يصير
..........................................................
* (ص/442).
** أخرجه مسلم (67)، وأحمد (2/377، 441، 496).
(2) كافراً الكفر المطلق حتى يقوم به حقيقة الكفر، كما أنه ليس من قام به شعبة من شعب الإيمان يصير مؤمناً الإيمان المطلق حتى يقوم به أصل الإيمان، وفرقٌ بين الكفر المعرّف باللام كما في قوله «ليس بين العبد وبين الكفر أو الشرك إلا ترك الصلاة»* وبين كفر منكر في الإثبات». انتهى.
قوله: «الطعن في النسب» أي عيبه، ويدخل فيه أني قال: هذا ليس ابن فلان مع ثبوت نسبه. وفيه: أن الطعن في النسب من أمر الجاهلية. قاله المصنف رحمه الله تعالى.
قوله: «والنياحة على الميت» أي رفع الصوت بالندب وتعداد فضائله؛ لما فيه من التسخط على قدر الله المنافي للصبر، وهذا هو الشاهد من الحديث للترجمة.
وفيه: دليل على أن الصبر واجب، وأن من الكفر ما لا ينقل عن الملة. قاله في «الشرح»**.
( ) قوله: «ولهما» أي البخاري ومسلم «عن ابن مسعود - رضي الله عنه - مرفوعاً أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «ليس منا من ضرب الخدود وشقّ الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية»*** وهذا هو الشاهد من الحديث للترجمة ؛ لما في هذه الأمور من التسخط المنافي للصبر، وقد تأوّل بعضهم قوله: «ليس منا» أي ليس من أهل طريقتنا، وليس المراد إخراجه من الإسلام، وفائدة إيراده بهذا اللفظ المبالغة في الردع عن مثل ذلك. وروي عن سفيان الثوري والإمام أحمد وغيرهما من أهل العلم أنهم كرهوا الخوض في تأويله، ويرون أن يمسك عن ذلك ليكون أوقع في النفوس وأبلغ في الزجر. وقال شيخ الإسلام على حديث «من غشنا فليس منا»****: «ليس المراد
..........................................................
* أخرجه مسلم (82) بنحوه، وابن ماجه (1080).
** (ص/443).
*** أخرجه البخاري (1294) و(1297) و(1298) و(3519)، ومسلم (103).
**** أخرجه ابن حبان (1107) والطبراني في المعجم الصغير (ص153)، والمعجم الكبير (3/69/1) وصححه الألباني. انظر الصحيحة رقم (1058).(1/229)
.
وعن أنس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا أراد الله بعبده الخيرَ عجّل له العقوبةَ في الدنيا، وإذا أراد بعبده الشرّ أمسك عنه بذنبه حتى يُوافي به يوم القيامة»(1)
__________
(1) نه كافر كما تأوّلته الخوارج، ولا أنه ليس من خيارنا كما تأوّلته المرجئة، ولكن المضمر يطابق المظهر، والمظهر هم المؤمنون المستحقون للثواب السالمون من العذاب، والغاش ليس منا ؛ لأنه متعرض لعذاب الله وسخطه». انتهى.
قوله: «من ضرب الخدود» أي: أو بقية البدن، وإنما خصّ الخدّ لأنه الفأل.
قوله: «وشقّ الجيوب» والمراد كمال فتحه. قاله الحافظ ابن حجر.
قوله: «ودعا بدعوى الجاهلية» قال شيخ الإسلام [الاقتضاء 1/204]: «هو ندب الميت». وقال ابن القيم: «الدعاء بدعوى الجاهلية كالدعاء إلى القبائل والعصبية للأنساب ومثله التعصب للمذاهب والطوائف والمشايخ، وتفضيل بعضهم على بعض يدعو إلى ذلك ويوالي عليه ويعادي عليه، فكل هذا من دعوى الجاهلية، وليس في هذه الأحاديث ما يدل على النهي عن البكاء على الميت لما في الصحيح أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما مات ابنه إبراهيم قال: «تدمع العين، ويحزن القلبُ، ولا نقول إلا ما يرضى الرب، وإنا بك يا إبراهيم لمحزونون»*. وقال شيخ الإسلام [الفتاوى 10/47]: «البكاء على الميت على وجه الرحمة حسن مستحب، ولا ينافي الرضاء بقضاء الله، بخلاف البكاء عليه لفوات حظه منه». انتهى. وفيه: شدة الوعيد فيمن ضرب الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية. قال المصنف رحمه الله.
( ) قوله: «وعن أنس - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا أراد الله بعبده الخيرَ عجّل له العقوبةَ في الدنيا، وإذا أراد بعبده الشرّ أمسك عنه بذنبه حتى يُوافي به يوم القيامة»**
..........................................................
* أخرجه البخاري (1303)، ومسلم (2315).
** أخرجه الترمذي (2396)، والبغوي في شرح السنة (5/245)، والحاكم (1/349). قال الألباني: «صحيح». انظر: صحيح الجامع (1/118) رقم (308).
هذا الحديث رواه الترمذي وحسّنه والحاكم وأخرجه الطبراني والحاكم عن عبدالله ابن مغفل، وأخرجه ابن عدي عن أبي هريرة، والطبراني عن عمار بن ياسر. قاله في «الشرح»*.
وقال شيخ الإسلام: «رواه الروياني في مسنده من طريق الليث عن يزيد بن أبي حبيب عن سعيد بن سنان عن أنس». انتهى.
قوله: «إذا أراد الله بعبده الخير عجّل له العقوبة في الدنيا» أي على ذنوبه إذا صبر فيخرج منها وليس عليه ذنب يوافى به يوم القيامة. وهذا هو الشاهد من الحديث للترجمة. وقال شيخ الإسلام [الفتاوى 10/48]: «المصائب نعمة؛ لأنها مكفّرة للذنوب، ولأنها تدعو إلى الصبر فيثاب عليها، ولأنها تقتضي الإنابة إلى الله والذل، فنفس البلاء يكفر الله به الخطايا، ومعلوم أن هذا من أعظم النعم ولو كان الرجل من أفجر الناس، فلابد أن يخفف الله عنه عذابه بمصائبه». وقال: «يقول الله في بعض الكتب «أهل ذكري أهل مشاهدتي، وأهل شكري أهل زيادتي، وأهل طاعتي أهل كرامتي، وأهل معصيتي لأؤايسهم من رحمتي، إن تابوا فأنا حبيبهم، وإن لم يتوبوا فأنا طبيبهم، أبتليهم بالمصائب لاطهرهم من المعائب»، فالمصائب نعمة ورحمة في حق عموم الخلق إلا أن يدخل صاحبها بسببها في معاص أعظم مما كان قبل ذلك، فتكون شراً عليه من جهة ما أصابه في دينه، فإن من الناس من إذا ابتُليَ بفقر أو مرض أو جوع حصل له من الجزع والسخط والنفاق ومرض القلب والكفر الظاهر، أو ترك الواجبات، أو فعل المحرمات ما يوجب له ضرراً في دينه بحسب ذلك، فهذا كانت العافية خيراً له من جهة ما أورثته المصيبة لا من جهة نفس المصيبة، كما أن من أوجبت له المصيبة صبراً وطاعة كانت في حقه نعمة دينية، فهي بعينها فعل الرب عز وجل رحمة للخلق والله تبارك وتعالى محمود عليها، فمن ابتُلي فرزق الصبر كان الصبر نعمة في دينه وحصل له مع ما كفر من خطاياها رحمة وحصل له بثنائه على ربه صلاة ربه عليه، قال تعالى: { أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ } [البقرة:157]، وحصل له غفران السيئات ورفع الدرجات». انتهى ملخصاً.
..........................................................
* (ص/446).(1/230)
.
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ عِظَم الجزاء مع عِظَم البلاء(1)
__________
(1) قوله: «وإذا أراد بعبده الشر أمسك عنه بذنبه حتى يُوافِي به يوم القيامة» وهو بضم الياء وكسر الفاء منصوب بحتى مبني للفاعل أي لا يجازى بذنبه في الدنيا حتى يجيء يوم القيامة موفر الذنوب فيُستوفى ما يستحقه من العذاب. وفيه: معرفة علامة إرادة الله بعبده الخير وإرادته بعبده الشر. قاله المصنف رحمه الله تعالى.
قلت: وفيه إثبات الإرادة لله عز وجل، وهي نوعان: إرادة شرعية دينية، وإرادة كونية قدرية، فالسعيد من أراد منه تشريعاً ما أراد به تقديراً، والشقي من أراد به تقديراً ما لم يرد منه تشريعاً. قاله شيخ الإسلام رحمه الله.
وفيه: التنبيه على حسن الرجاء وحسن الظن بالله فيما يقضيه لك، كما قال تعالى: { وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ } [البقرة: 216].
( ) قوله: «وقال - صلى الله عليه وسلم -: «إن عِظَم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم، فمن رضي فله الرضى، ومن سخط فله السُّخط»*. وهذا الحديث رواه الترمذي بسند الحديث الذي قبله، ثم قال: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه، ورواه ابن ماجه. وروى الإمام أحمد عن محمود بن لبيد رفعه «إذا أحب الله قوماً ابتلاهم، فمن صبر فله الصبر، ومن جزع فله الجزع»** قال المنذري رواته ثقات.
وقوله: «إن عظم الجزاء مع عظم البلاء» بكسر العين وفتح الظاء فيهما، ويجوز ضمها مع سكون الظاء، أي من كان ابتلاؤه أعظم كان جزاؤه أعظم. وقد يحتج بهذا الحديث من يقول: إن المصائب يُثاب عليها مع تكفير الخطايا، ورجّح العلاّمة ابن القيم أن ثوابها تكفير الخطايا فقط إلا إذا كانت سبباً لعمل صالح كالصبر والرضى والاستغفار فإنه حينئذ يُثاب على ما تولد منها.
..........................................................
* أخرجه الترمذي (2396)، وابن ماجه (4031). وحسنه الألباني في صحيح الجامع (2/286) رقم (1954).
** أخرجه أحمد (5/427، 429)، قال الألباني: صحيح. انظر صحيح الجامع (1/114)
رقم (285).
قوله: «وأن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط». حسّنه الترمذي، ولهذا سُئل النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث سعد: أي الناس أشد بلاء؟ قال: «الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، يُبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلابة اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رِقّة ابتلي على قدر دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض وما عليه خطيئة»*. رواه الدارمي وابن ماجه والترمذي وصححه.
وهذا الحديث ونحوه من أدلة التوحيد، فإذا عرف العبد أن الأنبياء والأولياء يصيبهم البلاء في أنفسهم، الذي هو في الحقيقة رحمة ولا يدفعه عنهم إلا الله، عرف أنهم لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً، فلأن لا يملكوه لغيرهم أولى وأحرى، فيحرم قصدهم والرغبة إليهم في قضاء حاجةٍ أو تفريج كربة. وفي وقوع الابتلاء بالأنبياء والصالحين من الأسرار والحكم والمصالح وحسن العاقبة ما لا يُحصى. قاله في «فتح المجيد»**.
قوله: «فمن رضي فله الرضى» أي من الله «ومن سخط» بكسر الخاء «فله السخط» أي من سخط على الله فيما قضاه وقدّره، فله السخط أي من الله وكفى بذلك عقوبة، وهذا هو الشاهد من الحديث للترجمة، والرضى والسخط صفتان وصف الله بهما نفسه في كتابه، ومذهب السلف وأتباعهم من أهل السنة إثبات الصفات التي وصف الله بها نفسه أو وصفه بها رسوله - صلى الله عليه وسلم - على ما يليق بجلاله وعظمته إثباتاً بلا تمثيل، وتنزيهاً بلا تعطيل. وقد يستدل بهذا الحديث من يرى وجوب الرضاء كابن عقيل، واختار القاضي عدم الوجوب، ورجّحه شيخ
الإسلام وابن القيم. قال شيخ الإسلام: «ولم يجيء الأمر به كما جاء الأمر بالصبر، وإنما جاء الثناء على أصحابه.. قال: وأما ما يُروى: من لم يصبر على
..........................................................
* أخرجه ابن ماجه (4023)، والترمذي (2400)، وأحمد (1/172، 174، 180، 185)، وصححه الألباني في «الصحيحة» رقم (144).
** (2/613).
بلائي ولم يرضَ بقضائي فليتخذ رباً سوائي. فهذا إسرائيلي لم يصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم -». انتهى.
قال شيخ الإسلام [الفتاوى 11/260]: «وأعلى من ذلك - أي من الرضا - أن يشكر الله على المصيبة لما يرى من إنعام الله عليه بها». انتهى. وفيه: علامة حب الله تعالى للعبد، وتحريم السُّخط وثواب الرضا بالبلاء. قاله المصنف رحمه الله تعالى.(1/231)
، وإن الله تعالى إذا أحبّ قومًا ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط» حسنه الترمذي.
...............................................................................
* * *
36- باب
ما جاء في الرياء (1)
وقول الله تعالى: { قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا } (2)
__________
(1) قوله: «باب ما جاء في الرياء» أي من النهي والتحذير وأنه شرك ينافي كمال التوحيد، والرياء مشتق من الرؤية، والمراد إظهار العبادة لقصد رؤية الناس لها فيُحمد صاحبها. والفرق بين الرياء والسمعة أن الرياء لما يرى من العمل كالصلاة، والسمعة لما يُسمع كالقراءة والوعظ والذكر ويدخل في ذلك التحدث بما عمله. قاله الحافظ ابن حجر.
(2) قوله: «وقول الله تعالى: { قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا } يقول تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: قل يا محمد للناس إنما أنا بشر مثلكم - أي في البشرية - وليس لي من الربوبية ولا من الإلهية شيء بل ذلك لله وحده.
وقوله: { يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ } أي معبودكم واحد لا شريك له { فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ } أي من كان يخشى البعث في الآخرة. رواه ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير. قال شيخ الإسلام [الفتاوى 6/488]: «أما اللقاء فقد فسّره طائفةٌ من السلف والخلف بما يقتضي المعاينة، وقالوا: لقاء الله يتضمن رؤيته سبحانه وتعالى يوم القيامة..» وذكر الأدلة على ذلك.
وقوله: { فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا } قال ابن القيم رحمه الله تعالى [الداء والدواء (136)]: «العمل الصالح هو السالم من الرياء المقيد بالسنة». وفي الآية دليل على أن أصل الدين الذي بعث الله به رسوله والمرسلين قبله هو إفراد الله تعالى بأنواع العبادة كما قال تعالى: { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ } [الأنبياء:25] والمخالف لهذا الأصل من هذه الأمة إما طاغوت ينازع الله(1/232)
[الكهف:110].
عن أبي هريرة مرفوعاً: «قال الله تعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركتُه وشركَه». رواه مسلم(1) .
__________
(1) ي ربوبيته وإلاهيته، ويدعو الناس إلى عبادته، أو طاغوت يدعو الناس إلى عبادة الأوثان، أو مشرك يدعو غير الله ويتقرب إليه بأنواع العبادة أو بعضها، أو شاك في التوحيد أو جاهل يعتقد أن الشرك دين يقرب إلى الله، وهذا هو الغالب على أكثر العوام لجهلهم وتقليدهم من قبلهم لما اشتدت غربة الدين ونُسي العلم بدين المرسلين.
وقوله { وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا } و «أحداً» نكرة في سياق النهي تعم كل أحدٍ، سواء كان ملكاً أو نبياً أو ولياً أو غيرهم. وهذا هو الشاهد من الآية للترجمة. وفيه: معرفة تفسير آية الكهف. قاله المصنف. وفيها: دليل على الشهادتين، وتسمية الرياء شركاً، والتصريح بأن الشرك الواقع من المشركين إنما هو في العبادة، والرد على من قال: أولئك يستشفعون بالأصنام ونحن نستشفع بصالح. قاله في «الشرح»*.
( ) قوله: «وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعاً قال الله تعالى: «أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه». رواه مسلم» **. ولابن ماجه «فأنا منه برئ وهو للذي أشرك»***. قال الطيبي: الضمير المنصوب في قوله: «تركته» يجوز أن يرجع إلى العمل.
قلت: وهذا هو الشاهد من الحديث للترجمة. قال ابن رجب: «واعلم أن العمل لغير الله أقسام: تارة يكون رياءً محضاً كحال المنافقين الذين يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلاً، وهذا الرياء المحض لا يكاد يصدر من مؤمن في فرض
الصلاة والصيام، وقد يصدر في فرض الصدقة الواجبة أو الحج أو غيرهما من
..........................................................
* (ص/453-454).
** أخرجه مسلم (2985).
*** أخرجه ابن ماجه (4255)، والإمام أحمد (2/301، 435).(1/233)
وعن أبي سعيد مرفوعاً: «ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الدجّال ؟» قالوا: بلى يا رسول الله. قال: «الشركُ الخفي ؛ يقوم الرجلُ فيصلِّي، فيزيِّن صلاتَه لما يرى من نظر رجل». رواه أحمد(1)
__________
(1) لأعمال الظاهرة أو التي يتعدّى نفعها فإن الإخلاص فيها عزيز وهذا العمل لا يشك مسلم أنه حابط وأن صاحبه يستحق المقت من الله والعقوبة. وتارة يكون العمل لله ويشاركه الرياء، فإن شاركه من أصله فالنصوص الصحيحة تدل على بطلانه، وأما إذا كان أصل العمل لله ثم طرأ عليه نية الرياء فإن كان خاطراً ثم دفعه فلا يضره بغير اختلاف، وإن استرسل معه فهل يُحبط عمله أم لا ويجازى على أصل نيته ؟ في ذلك اختلاف بين العلماء من السلف قد حكاه الإمام أحمد وابن جرير ورجّحا أن عمله لا يبطل بذلك وأنه يجازى بنيته الأولى وهو مروي عن الحسن وغيره». انتهى ملخصاً.
... وذكر ابن جرير أن هذا الاختلاف إنما هو في عمل مرتبط آخره بأوله كالصلاة والصيام والحج، فأما ما لا ارتباط فيه كالقراءة والذكر وإنفاق المال ونشر العلم فإنه ينقطع بنية الرياء الطارئة عليه ويحتاج على تجديد نية. انتهى. وفيه: الأمر العظيم في ردّ العمل الصالح إذا خالطه شيء لغير الله وذكر السبب الموجب لذلك وهو كمال الغنى، وأن من الأسباب أنه تعالى خير الشركاء. قاله المصنف رحمه الله تعالى.
( ) قوله: «وعن أبي سعيد - رضي الله عنه - مرفوعاً أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الدجّال ؟» قالوا: بلى. قال: «الشرك الخفي يقوم الرجل
فيصلي فيزيّن صلاته لما يرى من نظر رجل. »*. رواه أحمد وروى ابن خزيمة في صحيحه عن محمود بن لبيد قال: خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: «أيها الناس
..........................................................
* أخرجه أحمد (3/30)، وابن ماجه (4204)، والحاكم (4/329)، وحسَّنه الألباني في صحيحه الجامع (1/509) رقم (2607).
إياكم وشرك السرائر» قالوا: يا رسول الله، و ما شرك السرائر؟ قال: «يقوم الرجل فيصلي فيزيّن صلاته لما يرى من نظر الرجل إليه، فذلك شرك السرائر»*.
قوله: «الشرك الخفي» سماه خفياً لأنه عمل قلب لا يعلمه إلا الله، ولأن صاحبه يظهر أنه لله وقد قصد غيره أو شركه فيه بتزيين صلاته لأجله، ولا خلاف أن الإخلاص شرط لصحة العمل وقبوله وكذا المتابعة، وعن شدّاد ابن أوس - رضي الله عنه - قال: كنا نعد الرياء على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الشرك الأصغر. رواه ابن أبي الدنيا في كتاب الإخلاص وغيره. قال ابن القيم [المدارج 1/334]: «وأما الشرك الأصغر فكيسير الرياء، والتصنع للخلق، والحلف بغير الله، وقول الرجل للرجل: ما شاء الله وشئت، وهذا من الله ومنك، وأنا بالله وبك، وما لي إلا الله وأنت، وأنا متوكل على الله وعليك، ولولا الله وأنت لم يكن كذا وكذا، وقد يكون هذا شركاً أكبر بحسب حال قائله وقصده». انتهى.
... وقوله: «كيسير الرياء» فدلّ على أن كثيره أكبر. قاله في «الشرح»**. قال الفضيل بن عياض في قوله: { لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا } [الملك:2] قال: أخلصه وأصوبه، قيل: يا أبا علي، ما أخلصه وأصوبه ؟ قال: إن العمل إذا كان خالصاً ولم يكن صواباً لم يُقبل، وإذا كان صواباً ولم يكن خالصاً لم يقبل حتى يكون خالصاً صواباً. فالخالص ما كان لله، والصواب ما كان على السنة. وفي الحديث: شفقته - صلى الله عليه وسلم - على أمته ونصحه لهم، وأن الرياء أخوف على الصالحين من فتنة الدجّال. قاله في «فتح المجيد»***. وفيه: خوفه - صلى الله عليه وسلم - على أصحابه من الرياء، وأنه فسر ذلك بأن يصلي المرء لله لكن يُزيّنها لما يرى من نظر رجل إليه. قاله المصنف رحمه الله تعالى.
..........................................................
* أخرجه ابن خزيمة رقم (937) (2/67، 290)، والبيهقي (2/290، 291)، والمنذري في الترغيب والترهيب (1/34)، وحسّنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب رقم (31) (1/119).
** (ص/460).
*** (2/623).(1/234)
.
.............................................................................................
37- باب
من الشرك إرادةُ الإنسان بعمله الدنيا(1)
__________
(1) قوله: «باب من الشرك إرادة الإنسان بعمله الدنيا» أي عمله الصالح الذي يتقرب به إلى الله تعالى. وأراد المصنف رحمه الله بهذه الترجمة بيان أن العمل لأجل الدنيا شرك ينافي كمال التوحيد الواجب، ويحبط الأعمال، وهو أعظم من الرياء لأن مريد الدنيا قد تغلب إرادته تلك على كثير من عمله، وأما الرياء فقد يعرض له في عمل دون عمل، ولا يسترسل معه. قاله في «فتح المجيد»*.
والفرق بين هذا الباب والذي قبله أنه في هذا إنما أراد بالعمل الصالح الذي يتقرّب به إلى الله عرضاً من الدنيا، وفي الذي قبله إنما أراد مراءاة الناس ليثنوا عليه، وكلاهما مشرك خاسر وعمله حابط ؛ لأنه لم يُردْ بعمله وجه الله والدار الآخرة.(1/235)
وقول الله تعالى: { مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } (1)
__________
(1) قوله: «وقول الله تعالى: { مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } قال ابن عباس: { مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا } أي ثوابها وزينتها، أي مالها، { نُوَفِّ َ } أي نوفر لهم ثواب أعمالهم بالصحة والسرور في المال والأهل والولد، { وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ } لا ينقصون، ثم نسختها { مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ } [الإسراء: 18] الآيتين. رواه النحاس في كتاب «الناسخ والمنسوخ» له. وقوله: ثم نسختها أي قيّدتها أو خصّصتها فلم تبق الآية على إطلاقها، فإن السلف كانوا
..........................................................
* (2/625-626).
يسمون التقييد والتخصيص نسخاً وإلا فالآية محكمة. قال الضحاك: من عمل صالحاً من أهل الإيمان من غير تقوى عجل له ثواب عمله في الدنيا. واختاره الفراء. قال ابن القيم: «وهذا القول هو الراجح». انتهى. وقد سُئل المصنف عن هذه الآية فأجاب بما حاصله: ذُكر عن السلف فيها أنواع مما يفعله الناس اليوم، فمن ذلك: العمل الصالح الذي يفعله كثير من الناس ابتغاء وجه الله من صلاة وصدقة وإحسان ونحو ذلك مما يفعله الإنسان أو يتركه خالصاً لله، لكنه لا يريد به ثواب الآخرة وإنما يريد به أن يحفظ الله ماله وينميه، أو حفظ أهله وعياله، ولا همّة له في طلب الجنة والهرب من النار، فهذا يعطى ثواب عمله في الدنيا وليس له في الآخرة من نصيب، وهذا النوع ذكره ابن عباس.
النوع الثاني: وهو أكبر من الأول وأخوف وهو الذي ذكر مجاهد أن الآية نزلت فيه وهو أن يعمل أعمالاً صالحة ونيته رياء الناس لا طلب ثواب الآخرة.
النوع الثالث: أن يعمل أعمالاً صالحة يقصد بها مالاً مثل أن يحج لمال يأخذه، أو يهاجر لدنيا يصيبها، أو امرأة يتزوجها، أو يجاهد لأجل المغنم، فقد ذكر هذا النوع أيضاً في تفسير هذه الآية.
النوع الرابع: أن يعمل بطاعة الله مخلصاً في ذلك لله وحده لا شريك له لكنه على عمل يُكَفِّره كفراً يخرجه عن الإسلام، مثل اليهود والنصارى إذا تصدقوا أو عبدوا الله أو صاموا ابتغاء وجه الله، ومثل كثير من هذه الأمة الذين فيهم كفر أو شرك أكبر يخرجهم من الإسلام بالكلية إذا أطاعوا الله طاعة خالصة يريدون بها ثواب الله في الدار الآخرة لكنهم على أعمال تخرجهم من الإسلام وتمنع قبول أعمالهم.
فهذا النوع قد ذكر في هذه الآية عن أنس ابن مالك وغيره. وكان السلف يخافون منها». انتهى ملخصاً. وفيه: إرادة الإنسان الدنيا بعمل الآخرة ومعرفة تفسير آية هود. قاله المصنف رحمه الله. وفي الآية أن الشرك محبط للأعمال، وأن إرادة(1/236)
[هود:15-16].
......................................................................
في الصحيح(1) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «تَعِس
عبدُ الدينار(2)، تعس عبدُ الدرهم(3)، تعس عبد الخميصة(4)، تعس
__________
(1) لدنيا وزينتها بالعمل كذلك، وأن الله يجازي الكافر بحسناته في الدنيا، وكذلك طالب الدنيا، ثم يفضي إلى الآخرة وليس له حسنة، وشدة الوعيد على ذلك، والفرق بين الحبوط والبطلان. قاله في «الشرح»*.
( ) قوله: «وفي الصحيح» - أي صحيح البخاري - «عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «تعس عبدالدينار، تعس عبدالدرهم، تعس عبدالخميصة، تعس عبدالخميلة، إن أُعطي رضي، وإن لم يُعطَ سخط، تعس وانتكس، وإذا شِيك فلا انتقش، طوبى لعبدٍ آخذ بعنان فرسه في سبيل الله أشعث رأسه، مغبرة قدماه، إن كان في الحراسة كان في الحراسة، وإن كان في الساقة كان في الساقة، إن استأذن لم يُؤذن له، وإن شفع لم يشفع»**.
قوله: «تعس» بكسر العين، ويجوز الفتح، أي سقط والمراد هنا هلك، قاله الحافظ ابن حجر، قال وهو ضد سعد أي شقي. وقال أبوالسعادات [النهاية 1/186]: «يُقال تعس إذا عثَر وانكَبَّ لوجهه، وهو دعاء عليه بالهلاك».
(2) وقوله: «عبدالدينار» هو المعروف من الذهب كالمثقال في الوزن. قاله في «فتح المجيد»***.
(3) قوله: «تعس عبدالدرهم» وهو من الفضة قدره الفقهاء بالشعير وهو زنة خمسين حبة شعير وخمساً حبة.
(4) قوله: «تعس عبدالخميصة» قال أبوالسعادات [النهاية 2/76]: «هي ثوب خز أو صوف مُعْلَم، وقيل لا تسمى خميصة إلا أن تكون سوداء مُعْلَمة».
..........................................................
* (ص/464).
** أخرجه البخاري (2886، 2887).
*** (2/630).(1/237)
عبدُالخميلة(1)، إن أُعطيَ رضي، وإن لم يُعطَ سَخِط، تعس وانتكَس(2)، وإذا شِيكَ فلا انتقش(3)
__________
(1) وقوله: «تعس عبد الخميلة» بفتح الخاء المعجمة. قال أبوالسعادات [النهاية 2/76]: «الخمل والخميلة: القطيفة، وهي ثوب له خَمْل من أي شيء كان».
(2) وقوله: «تعس وانتكس» قال الحافظ: «أي عاوده المرض». وقال أبوالسعادات [النهاية 5/101]: «أي انقلب على رأسه، وهو دعاء عليه بالخيبة؛ لأن من انتكس في أمره فقد خاب وخسر».
(3) وقوله: «وإذا شيك فلا انتقش» قال أبوالسعادات [النهاية 2/455]: «أي إذا شاكته شوكة فلا يقدر على انتقاشها وهو إخراجها بالمنقاش». قال شيخ الإسلام [الفتاوى10/180-190]: «سمّاه النبي - صلى الله عليه وسلم - عبد الدينار والدرهم والقطيفة والخميصة، وذكر فيه ما هو دعاء وخبر وهو قوله: «تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش» وهذه حال من [إذا] أصابه شر لم يخرج منه ولم يفلح لكونه تعس وانتكس، فلا نال المطلوب، ولا خلص من المكروه، وهذه حال من عَبَد المالَ، وقد وصف بأنه «إن أُعطي رضي وإن منع سخط»، كما قال تعالى: { وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ } [التوبة: 58]، فرضاهم لغير الله وسخطهم لغير الله، وهكذا حال من كان متعلقاً برياسة أو بصورة أو نحو ذلك من أهواء نفسه إن حصل له رضي، وإن لم يحصل له سخط، فهذا عبد ما يهواه من ذلك وهو رقيق له إذ الرق والعبودية في الحقيقة رق القلب وعبوديته، فما استرقَّ القلب واستعبده فهو عبده، وهذه الأمور نوعان: فمنها ما يحتاج إليه العبد كما يحتاج إلى طعامه وشرابه ومنكحه ومسكنه ونحو ذلك، فهذا يطلبه من الله ويرغب إليه فيه، فيكون المال عنده يستعمله في حاجته بمنزلة حماره الذي يركبه وبساطه الذي يجلس عليه من غير أن يستعبده فيكون هلوعاً. ومنها: ما لا يحتاج إليه العبد فهذا ينبغي له أن لا يعلق قلبه بها، فإذا تعلق قلبه بها صار مستعبداً لها، وربما(1/238)
،
طوبى لعبدٍ(1) آخذٍ بعنان
__________
(1) ار مستعبداً لها معتمداً على غير الله فيها فلا يبقى معه حقيقة العبودية، ولا حقيقة التوكل على الله بل فيه شعبة من العبادة لغير الله، وشعبة من التوكل على غير الله، وهذا من أحق الناس بقوله - صلى الله عليه وسلم -: «تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميصة، تعس عبد الخميلة»، وهذا عبد لهذه الأمور، ولو طلبها من الله فإن الله إذا أعطاه إياها رضي وإن منعه إياها سخط، وإنما عبدالله من يرضيه ما يرضي الله ويسخطه ما يسخط الله، ويحب ما أحب الله ورسوله، ويبغض ما أبغض الله ورسوله، ويوالي أولياء الله، ويعادي أعداء الله، فهذا الذي استكمل الإيمان». انتهى ملخصاً. وفيه: تسمية المسلم عبدالدينار والدرهم والخميصة، وتفسير ذلك بأنه إن أُعطي رضي، وإن لم يُعط سخط. وقوله: «تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش» قاله المصنف رحمه الله، والمراد أن من كانت هذه حاله فإنه يستحق أن يُدعى عليه بما يسؤوه في العواقب ومن كانت هذه حاله فلابد أن يجد أثر هذه الدعوات في الوقوع فيما يضره في عاجل دنياه وآجل أخراه. قاله في «فتح المجيد»*.
( ) قوله: «طوبى لعبد» قال أبوالسعادات [النهاية 3/128]: «طوبى اسم الجنة، وقيل: شجرة فيها»، ويؤيد هذا ما روى ابن وهب بسنده عن أبي سعيد قال: قال رجل: يا رسول الله، وما طوبى ؟ قال: «شجرة في الجنة مسيرة مائة سنة، ثياب أهل الجنة تخرج من أكمامها». ورواه الإمام أحمد، حدثنا حسن بن موسى، سمعت عبدالله بن لهيعة، حدثنا درّاج أبوالسمح، أن أبا الهيثم حدّثه عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن رجلاً قال: يا رسول الله، طوبى لمن رآك وآمن بك. قال: «طوبى لمن رآني وآمن بي، وطوبى ثم طوبى ثم طوبى لمن آمن بي ولم يرني». قال رجل: وما طوبى ؟ قال: «قال شجرة في الجنة
..........................................................
* (2/631).(1/239)
فرسه في سبيل الله(1)، أشعثَ رأسُهُ(2)، مُغْبَرَّةٍ قدمَاه(3)، إن كان في الحراسة كان في الحراسة(4)، وإن كان في الساقة كان في الساقة(5)،
إن استأذن لم يُؤذن له(6)
__________
(1) سيرة مائة عام، ثياب أهل الجنة تخرج من أكمامها»*. وله شواهد في الصحيحين وغيرهما. قاله في «فتح المجيد»**.
( ) وقوله: «آخذ بعنان فرسه في سبيل الله» أي في جهاد المشركين.
(2) قوله: «أشعث رأسه» بنصب أشعث صفة لعبد غير مصروف للوصف، ووزن الفعل، ورأسه مرفوع فاعل، أي: شغله الجهاد في سبيل الله عن التنعُّم بالادّهان وتسريح الشعر.
(3) وقوله: «مغبرّة قدماه» بالجر صفة ثانية لعبد. وفيه: فضل إصابة الغبار في سبيل الله. قاله في «الشرح»***.
(4) وقوله: «إن كان في الحراسة» بكسر الحاء أي حماية الجيش عن أن يهجم عليهم العدو «كان في الحراسة» أي قام بواجبها غير مقصر فيها.
(5) قوله: «وإن كان في الساقة» أي مؤخّر الجيش «كان في الساقة» أي صار فيها ولزمها. وقال ابن الجوزي: «المعنى أنه خامل الذكر، لا يقصد السمو، فأي موضع اتفق له كان فيه». وقال غيره: «المعنى ائتماره لما أُمر، وإقامته حيث أُقيم لا يفقد من مقامه.
وفيه: فضل الحراسة في سبيل الله. قاله في «الشرح» ****.
..........................................................
* أخرجه أحمد (3/71) (5/248) وكرره، والحاكم (3/86)، وابن حبان (2303)، وصححه الألباني في صحيح الجامع رقم (3923) (2/728).
** (2/633).
*** (ص/467).
**** (ص/468).
(6) روى الإمام أحمد عن مصعب بن ثابت بن عبدالله بن الزبير قال: قال عثمان - رضي الله عنه - وهو يخطب على المنبر: إني أُحدّثكم حديثاً سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يمنعني أن أحدّثكم به إلا الظن بكم، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «حرس ليلة في سبيل الله أفضل من ألف ليلة يُقام ليلها ويُصام نهارها»*.
( ) وقوله: «إن استأذن لم يُؤذن له» أي إن استأذن على الأمراء ونحوهم لم يُؤذن له؛ لأنه ليس له جاه ولا منزلة عندهم.(1/240)
، وإن شَفَعَ لم يُشفّع(1)».
* * *
38- باب
من أطاع العلماء والأمراء في تحريم ما أحلّ الله،
__________
(1) قوله: «وإن شَفَعَ» أي عندهم «لم يُشفَّع» بفتح الفاء مشدداً أي: لم تقبل شفاعته، وفي الحديث الذي رواه الإمام أحمد ومسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعاً: «رب أشعث مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبرَّه»**. وفيه: ترك حب الرياسة والشهرة وفضل الخمول والتواضع. قاله الحافظ ابن حجر [الفتح 6/83]. وفيه: الثناء على المجاهد الموصوف بتلك الصفات. قاله المصنف رحمه الله تعالى.
..........................................................
* أخرجه أحمد في المسند (1/488) رقم (433) ط. الرسالة، والطبراني في الكبير (145)، والحاكم في المستدرك (2/81)، وصححه ووافقه الذهبي، وقال ابن حجر في الفتح (6/83): إسناده حسن.
** أخرجه مسلم (2622، 2854).(1/241)
أو تحليل ما حرّمَه فقد اتخذهم أرباباً(1)
وقال ابنُ عباس(2): يُوشِكُ أن تنزلَ عليكم حجارةٌ من السماء ! أقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وتقولون: قال أبوبكر وعمر؟ (2)
__________
(1) قوله: «باب من أطاع العلماء والأمراء في تحريم ما أحل الله، أو تحليل ما حرّم فقد اتخذهم أرباباً من دون الله» لما كانت العبادة هي طاعة الله تعالى بامتثال ما أمر به على ألسنة رسله عليهم السلام. نبَّه المصنف رحمه الله بهذه الترجمة على وجوب اختصاص الخالق تبارك وتعالى بالطاعة، فلا يُطاع أحدٌ من الخلق إلا إذا كانت طاعته مندرجة تحت طاعة الله، وإلاّ فلا تجب طاعة أحد استقلالاً، وأما قوله: { أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأمْرِ مِنْكُمْ } [النساء: 59] قيل: هم العلماء، وقيل: هم الأمراء، وهما روايتان عن أحمد. قال ابن القيم: «والتحقيق أن الآية تعمّ الطائفتين، فإنما تجب طاعتهم إذا أمروا بطاعة الله وطاعة رسوله، فكان العلماء مبلغين لأمر الله ورسوله، والأمراء منفّذين له فتجب طاعتهم تبعاً لطاعة الله ورسوله، وفي الحديث: «إنما الطاعة في المعروف»*، وقال - صلى الله عليه وسلم -: «على المرء السمع والطاعة ما لم يُؤمر بمعصية، فإذا أُمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة» **.
(2) قوله: «وقال ابن عباس رضي الله عنهما: «يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء، أقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتقولون قال أبوبكر وعمر»***.
..........................................................
* تقدم تخريجه (ص/69).
** أخرجه البخاري (2955، 7144)، ومسلم (1839).
*** أخرجه أحمد (1/337)، والخطيب في الفقيه والمتفقه (1/145)، وابن عبدالبر في جامع بيان العلم وفضله (2/239-240)، و هو صحيح. انظر: الدر النضيد في تخريج كتاب التوحيد (ص/129).
قوله: «يوشك» بضم أوله وكسر الشين المعجمة أي يقرب ويدنو ويسرع. قاله أبوالسعادات [النهاية 5/165].
وقوله: «أن تنزل عليكم حجارة من السماء فتلثغ رؤوسكم، أقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتقولون قال أبوبكر وعمر ؟» وسبب قول ابن عباس هذا ما رواه الأثرم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: تمتّع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال عروة ابن الزبير: نهى أبوبكر وعمر عن المتعة. فقال ابن عباس: إنهم سيهلكون، أقول: قال رسول لله - صلى الله عليه وسلم - ويقولون قال أبوبكر وعمر. وهذا هو الشاهد من قول ابن عباس للترجمة، وأبوبكر وعمر رضي الله عنهما لا يريان التمتع بالعمرة إلى الحج ويريان أن إفراد الحج أفضل، وأن يفرد الحج بسفر والعمرة بسفر ليكثر تردد الناس إلى البيت، وابن عباس يرى أن التمتع بالعمرة إلى الحج واجب، ويقول إذا طاف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة سبعة أشواط فقد حل من عمرته شاء أم أبى؛ لحديث سراقة بن مالك حين أمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يجعلوها عمرة ويحلوا إذا طافوا بالبيت وسعوا بين الصفا والمروة، فقال سراقة: ألعامنا هذا أم للأبد؟ فقال: «بل للأبد». والحديث في الصحيحين*، وكان شيخ الإسلام يقول: فرض على الصحابة فسخ الحج إلى العمرة لأمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - لهم به، وأما الجواز والاستحباب فللأمة إلى يوم القيامة لكن أبى ذلك ابن عباس وجعل الوجوب للأمة إلى يوم القيامة، وأن فرضاً على كل مفرد وقارن لم يسق الهدي أن يحل ولابد بل قد حلّ وإن لم يشأ. قال ابن القيم: «وأنا إلى قوله أميل مني إلى قول شيخنا». انتهى.
وإذا كان هذا قول ابن عباس لمن عارض قوله الرسول - صلى الله عليه وسلم - بقول أبي بكر وعمر فماذا يقول فيمن يعارض سنن الرسول - صلى الله عليه وسلم - بقول شيخه أو إمام مذهبه،
..........................................................
* أخرجه البخاري (1561، 1762)، ومسلم (1211).(1/242)
.
...........................................................................
وقال الإمام أحمدُ بن حنبل: عجبتُ لقومٍ عرَفوا الإسناد وصحته، يذهبون إلى رأي سفيان(1)
__________
(1) ما وافق مذهبه أو قول شيخه قبله وما خالفه ردّه أو تأوّله. وقد قال الشافعي: «أجمع العلماء على أن من استبانت له سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يكن له أن يدعها لقول أحد».
... وحينئذ فلا عذر لمن استفتى أن ينظر في مذاهب العلماء وما استدل به كل إمام، ويأخذ من أقوالهم ما دل عليه الدليل إذا كان له مَلَكَةٌ يقتدر بها على ذلك، وأن مَنْ بلغه الدليل فلم يأخذ به فإنه يجب الإنكار عليه بالتغليظ، فيجب الإنكار على من ترك الدليل لقول أحدٍ من العلماء كائناً من كان، ونصوص الأئمة على هذا، وأنه لا يسوغ التقليد إلا في مسائل الاجتهاد التي لا دليل فيها من كتاب ولا سنة. فهذا هو الذي عناه بعض العلماء بقوله: لا إنكار في مسائل الاجتهاد، وأما من خالف الكتاب والسنة فيجب الرد عليه، كما قال ابن عباس والإمام أحمد وذلك مجمع عليه. قاله في «فتح المجيد»*.
( ) قوله: «وقال الإمام أحمد: عجبتُ لقوم عرفوا الإسناد وصحته يذهبون إلى رأي سفيان والله يقول: { فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } أتدري ما الفتنة ؟ الفتنة الشرك، لعله إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من لازيغ فيهلك». وكلام الإمام أحمد هذا رواه عنه الفضل ابن زياد وأبوطالب، قال الفضل: قال أحمد: نظرتُ في المصحف فوجدت طاعة الرسول في ثلاثة وثلاثين موضعاً. ثم جعل يتلو: { فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } وجعل يكررها ويقول: وما الفتنة إلا الشرك، لعله إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك، وجعل يتلو هذه الآية: { فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا
..........................................................
* (2/646).
شَجَرَ بَيْنَهُمْ } [النساء:65]، وقال أبوطالب: قيل لأحمد: إن قوماً يدَّعون الحديث ويذهبون إلى رأي سفيان. فقال: عجبتُ لقوم سمعوا الحديث وعرفوا الإسناد وصحته يدّعونه ويذهبون إلى رأي سفيان وغيره. قال الله: { فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } وتدر ما الفتنة ؟ الكفر. قال الله تعالى: { وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ } [البقرة: 217] فيدّعون الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتغلبهم أهواؤهم إلى الرأي.
قوله: «عرفوا الإسناد» أي إسناد الحديث وصحته أي صحة الإسناد، وصحته دليل على صحة الحديث.
وقوله: «يذهبون إلى رأي سفيان» أي الثوري الإمام الزاهد العابد الفقيه كان له أصحاب ومذهب انقرض. وفيه: معرفة تفسير آية النور، وتمثيل ابن عباس بأبي بكر وعمر وتمثيل أحمد بسفيان. قاله المصنف رحمه الله تعالى، وهذا هو الشاهد من كلام أحمد للترجمة. وقد عمّت البلوى بهذا المنكر الذي أنكره الإمام أحمد، خصوصاً فيمن ينتسب إلى العلم والإفتاء والتدريس، وزعموا أنه لا يأخذ بأدلة الكتاب والسنة إلا المجتهد، والاجتهاد قد انقطع وقد أخطأوا في ذلك، وقد استدل الإمام أحمد رحمه الله تعالى بقوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك»* على أن الاجتهاد لا ينقطع. قاله في «قرة العيون»**.
قوله: «لعله إذا ردّ بعض قوله» أي النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك، وهذا تنبيه على أن رد قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - سبب لزيغ القلب الذي هو سبب الهلاك؛ لأن مخالفة أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - مخالفة لأمر المُرسل واستخفاف بحق
..........................................................
* أخرجه أحمد (28/94)، وصححه الألباني. انظر صحيح الجامع (2/1220).
** (ص/190).(1/243)
، والله تعالى يقول: { فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [النور:63] أتدري ما الفتنة؟ الفتنةُ
الشرك، لعلّه إذا ردَّ بعض قوله أن يقع في قلبه شيءٌ من الزَّيغ فيهلك.
عن عدي بن حاتم(1) أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ هذه الآية { فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [التوبة:31]الآية. فقلت له: (1)
__________
(1) الآمر كما فعل إبليس لعنه الله.
( ) قوله: «عن عدي بن حاتم» بن عبدالله بن سعد بن الحَشرج - بفتح الحاء - الطائي المشهور بالسخاء والكرم، قدم عدي على النبي - صلى الله عليه وسلم - في شعبان سنة تسع من الهجرة فأسلم وعاش مائة وعشرين سنة، وكان من متنصرة العرب «أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ هذه الآية { اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } فقلت له: إنا لسنا نعبدهم. قال: «أليس يحرّمون ما أحلّ الله فتحرّمونه، ويحلّلون ما حرّم الله فتحلّونه؟» فقلت: بلى. قال: «فتلك عبادتهم»*. رواه أحمد والترمذي وحسنه، وهذا هو الشاهد من الحديث للترجمة. وفي الحديث دليل على أن طاعة الأحبار والرهبان في معصية الله عبادة لهم من دون الله، ومن الشرك الأكبر الذي لا يغفره الله، لقوله في آخر الآية { وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } . قاله في «فتح المجيد»**. قال شيخ الإسلام: «فمما أحلّوه مما حرمه الله استحلال لحم الخنزير وإسقاط الختان، والصلاة إلى المشرق، وزيادة الصوم ونقله من زمان إلى زمان، واتخاذ الصور في الكنائس، وتعظيم الصليب، واتباع الرهبانية، قال هذه كلها خالفوا فيها شرع الله الذي بعث به الأنبياء». وقال أيضاً: «وهؤلاء الذين اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله على وجهين:
..........................................................
* أخرجه الترمذي (3095) وحسّنه، وأحمد (4/257، 378) والحديث صحيح.
** (2/653).
إِنَّا لسنا نعبُدهم. قال: «أليس يُحرِّمون ما أحل اللهُ، فتحرِّمونه، ويُحلِّون ما حرَّم الله، فتُحلّونه؟». فقلت: بلى. قال: «فتلك عبادتهم». رواه أحمد والترمذي وحسّنه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أحدهما: أن يعلموا أنهم بدّلوا دين الله اتباعاً لرؤسائهم مع علمهم أنهم خالفوا دين الرسل فهذا كفر، وقد جعله الله ورسوله شركاً وإن لم يكونوا يصلون لهم ويسجدون.
الثاني: أن يكون اعتقادهم وإيمانهم بتحريم الحلال وتحليل الحرام ثابتاً لكنهم أطاعوهم في معصية الله كما يفعل المسلم ما يفعله من المعاصي التي يعتقد أنها معاصي، فهؤلاء لهم حكم أمثالهم من أهل الذنوب كما ثبت في الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إنما الطاعة في المعروف»*، وفي الحديث دليل على أن طاعة الأحبار والرهبان في معصية الله عبادة لهم من دون الله، وأما طاعة الأمراء ومتابعتهم، فيما يخالف ما شرعه الله ورسوله فقد عمّت به البلوى قديماً وحديثاً، في أكثر الولاة بعد الخلفاء الراشدين وهلم جرا. وقد قال تعالى: { فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } [القصص:50]. قاله في «فتح المجيد»**. وفيه: معرفة تفسير آية براءة، والتنبيه على معنى العبادة التي أنكرها عدي، وتغير الأحوال إلى هذه الغاية، حتى صار عند الأكثر عبادة الرهبان هي أفضل الأعمال، وتُسمى الولاية، وعبادة الأحبار هي العلم والفقه ثم تغيّرت الأحوال إلى أن عُبد من دون الله من ليس من الصالحين، وعُبد بالمعنى الثاني من هو من الجاهلين. قاله المصنف رحمه الله تعالى.
وقوله: «وعبادة الأحبار» هي العلم والفقه المؤلَّف على مذاهب الأئمة
..........................................................
* تقدم تخريجه (ص/69).
** (2/654).
في كل ما يقولون سواء وافق حكم الله أم لا، بل يصرحون فإنه لا يحل العمل بالكتاب والسنة ولا تلقي العلم والهدى منهما.
وقوله: «حتى صار عند الأكثر عبادة الرهبان هي أفضل الأعمال» يشير إلى ما يعتقده كثير من الناس فيمن ينتسب إلى الولاية من الضر والنفع، ويسمون ذلك الولاية والسر وهو الشرك.
وقوله: «ثم تغير الأحوال» إلى أن عُبد من ليس من الصالحين كاعتقادهم فيمن ينتسب إلى الولاية من الفساق والمجاذيب.
وقوله: «وعبد» بالمعنى الثاني من هو من الجاهلين كاعتقادهم العلم في أناس من جهلة المقلدين. قاله في «الشرح»*.
.........................................................
* (ص/479).(1/244)
...............................................................................
* * *
39- باب
قول الله تعالى: { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آَمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوت(1)
__________
(1) قوله: «باب قول الله تعالى: { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آَمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالا بَعِيدًا } الآيات.
قال ابن كثير [التفسير 2/305]: «هذه الآية ذامّة لمن عدل عن الكتاب والسنة وتحاكم إلى ما سواهما من الباطل، وهو المراد بالطاغوت هاهنا».
وفيه: معرفة تفسير الآية وما فيها من الإعانة على فهم الطاغوت. قاله المصنف رحمه الله تعالى.(1/245)
ِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِه(1)ِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالا بَعِيدًا(2)
__________
(1) قوله: { وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ } أي بالطاغوت، فالكفر بالطاغوت ركن التوحيد فلا يصح الإيمان بالله إلا بالكفر بالطاغوت، فمن لم يكفر بالطاغوت لم يؤمن بالله. قال الإمام مالك - رحمه الله -: «الطاغوت ما عبد من دون الله». قال ابن القيم رحمه الله: «الطاغوت ما تجاوز به العبد حدّه من معبود أو متبوع أو مطاع، فطاغوت كل قوم من يتحاكمون إليه غير الله ورسوله، أو يعبدونه دون الله أو يتبعونه على غير بصيرة من الله أو يطيعونه فيما لا يعلمون أنه طاعة لله، فهذه طواغيت العالم إذا تأملت أحوال الناس معها رأيت أن أكثرهم ممن أعرض عن عبادة الله إلى عبادة الطاغوت ومتابعته». انتهى.
(2) وقوله: { وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالا بَعِيدًا } تضمنت هذه الآية أربعة أمور: الأول: أنه من إرادة الشيطان يعني التحاكم إلى الطاغوت. الثاني: أنه ضلال. الثالث: تأكيده بالمصدر. الرابع: وصفه بالبعد عن سبيل الحق والهدى.
وقوله: { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ
الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا } قال ابن القيم: «هذا دليل على أن من دُعي إلى التحاكم إلى الكتاب والسنة فأبى أنه من المنافقين.
قوله: { يَصُدُّونَ } لازم وهو بمعنى يعرضون؛ لأن مصدره صدوداً فما أكثر من اتصف بهذا الوصف خصوصاً من يدّعي العلم، فإنهم صدوا عما توجبه الأدلة من كتاب الله وسنة رسوله إلى أقوال من يخطئ كثيراً ممن ينتسب إلى الأئمة الأربعة في تقليدهم من لا يجوز تقليده واعتمادهم على قول من لا يجوز الاعتماد على قوله، ويجعلون قوله المخالف لنص الكتاب والسنة وقواعد الشريعة هو المعتمد عندهم الذي لا تصح الفتوى إلا به فصار المتبع لسنة الرسول - صلى الله عليه وسلم - بين أولئك غريباً». انتهى.
وقوله: { فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ } قال ابن القيم: المصيبة فضيحتهم إذ أنزل القرآن بحالهم، ولا ريب أن المصائب التي تصيبهم بما قدمت أيديهم في أبدانهم وقلوبهم وأديانهم بسبب مخالفة الرسول أعظمها مصائب القلب والدين، فيرى المعروف منكراً، والهدى ضلالاً، والرشاد غيّاً، والجود باطلاً، والصلاح فساداً، وهذا من المصيبة التي أصيب بها في قلبه.
وقوله: { ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا } أي المداراة والمصانعة وتوفيقاً بين الخصمين.
وقوله: { أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ } قال ابن كثير [التفسير 2/347]: «أي هذا الضرب من الناس هم المنافقون، والله أعلم بما في قلوبهم وسيجزيهم على ذلك».
وقوله: { فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلا بَلِيغًا } قال ابن القيم: «أمر الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - فيهم بثلاثة أشياء: أحدها: الإعراض عنهم إهانة لهم وتحقيراً لشأنهم وتصغيراً لأمرهم لا إعراض متاركة وإهمال، وبهذا يعلم(1/246)
} [النساء:60] الآيات.
.......................................................................
وقوله: { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ } [البقرة:11] (1).
وقوله: { وَلا تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا } الآية [الأعراف:56] (2)
__________
(1) نها غير منسوخة.
والثاني: قوله: { وَعِظْهُمْ } وهو تخويفهم عقوبة الله وبأسه ونقمته إن أصروا على التحاكم إلى غير رسوله وما أُنزل عليه.
والثالث: { وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلا بَلِيغًا } أي يبلغ تأثيره إلى قلوبهم، ليس قولاً ليناً لا يتأثر به المقول له، وهذه المادة تدل على بلوغ المراد بالقول، فهو قول يبلغ به مراد قائله من الزجر والتخويف، وهذا القول البليغ يتضمن ثلاثة أمور:
أحدها: عظم معناه وتأثر النفوس به.
الثاني: فخامة لفظه وجزالته.
الثالث: كيفية القائل في إلقائه إلى المخاطَب، فإن القول كالسهم والقلب كالقوس الذي يدفعه وكالسيف والقلب كالساعد الذي يضرب به». انتهى.
( ) قوله: { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ } قال أبوالعالية في الآية { لا تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ } يعني: لا تعصوا في الأرض؛ لأن من عصى الله في الأرض أو أمر بمعصية الله فقد أفسد في الأرض، لأن صلاح الأرض والسماء إنما هو بطاعة الله ورسوله، ومناسبة الآية للترجمة أن التحاكم إلى غير الله ورسوله من أعمال المنافقين وهو من الفساد في الأرض. قاله في «فتح المجيد»*.
وفيه: معرفة تفسير آية البقرة { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ } . قاله المصنف رحمه الله.
(2) وقوله: { وَلا تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا } قال أبوبكر بن عيّاش
..........................................................
* (2/659).
في الآية: «إن الله بعث محمداً إلى أهل الأرض وهم في فساد فأصلحهم الله بمحمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، فمن دعا إلى خلاف ما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - فهو من المفسدين في(1/247)
.
وقوله: { أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ } [المائدة:50](1).
__________
(1) لأرض». وقال ابن القيم [بدائع الفوائد 3/17]: «قال أكثر المفسرين: لا تفسدوا فيها بالمعاصي والدعاء إلى غير طاعة الله بعد إصلاح الله لها ببعث الرسل وبيان الشريعة والدعاء إلى طاعة الله، فإن عبادة غير الله والدعوة إلى غيره والشرك به هو أعظم فساد في الأرض، بل فساد الأرض في الحقيقة إنما هو بالشرك به ومخالفة أمره، ولا صلاح لها ولا لأهلها إلا بأن يكون الله وحده هو المعبود المطاع والدعوة له لا لغيره، والطاعة والاتباع لرسوله ليس إلا، وغيره إنما تجب طاعته إذا أمر بطاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فإذا أمر بمعصيته فلا سمع ولا طاعة، ومن تدبّر أحوال العالم وجد كل صلاح في الأرض فسببه توحيد الله وعبادته وطاعة رسوله، وكل شر في العالم وفتنة وبلاء وقحط وتسليط عدو وغير ذلك فسببه مخالفة رسوله والدعوة إلى غير الله ورسوله». انتهى ملخصاً. ووجه مناسبة الآية للترجمة أن التحاكم إلى غير الله ورسوله من أعظم ما يفسد الأرض من المعاصي، فلا صلاح لها إلا بتحكيم كتاب الله وسنة رسوله. قاله في «فتح المجيد»*. وفيه: معرفة تفسير آية الأعراف: { وَلا تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا } قاله المصنف رحمه الله.
( ) وقوله تعالى: { أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ } .
قال ابن كثير [التفسير 3/123]: «ينكر الله تعالى على من خرج عن حكم الله تعالى المشتمل على كل خير والناهي عن كل شر، وعدل إلى ما سواه من الآراء والأهواء والاصطلاحات التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الجهالات والضلالات، كما يحكم به التتار من
..........................................................
* (2 /661).(1/248)
عن عبدالله بن عمرو(1) أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا يؤمن أحدُكم حتى يكون هواهُ تبعاً لما جئت به» قال النووي: حديث صحيح، رويناه في كتاب الحجة بإسناد صحيح(1)
__________
(1) لسياسات المأخوذة عن جنكيز خان الذي وضع لهم الياسق وهو عبارة عن كتاب أحكام اقتبسها من شرائع شتى من اليهودية والنصرانية والملة الإسلامية، وفيها كثير من الاحكام أخذها من مجرد نظره وهواه فصارت في بنيه شرعاً يقدمونها على الحكم بالكتاب والسنة، فمن فعل ذلك فهو كافر يجب قتاله حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله، فلا يحكم بسواه في قليل ولا كثير». وفيه: معرفة تفسير { أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ } قاله المصنف.
وقوله: { وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ } استفهام إنكار، أي: لا حكم أحسن من حكمه تعالى، وهذا من باب استعمال أفعل التفضيل فيما ليس له في الطرف الآخر مشارك، أي: ومن أعدل من الله حكماً لمن عقل عن الله شرعه وآمن وأيقن أنه تعالى أحكم الحاكمين، الحكيم في أقواله وأفعاله وشرعه وقدره، وفي الآية التحذير من حكم الجاهلية واختياره على حكم الله ورسوله فمن فعل ذلك فقد أعرض عن الأحسن وهو الحق إلى ضده من الباطل. قاله في «فتح المجيد»*.
( ) قوله: (عن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا يؤمن أحدُكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به» قال النووي: حديث صحيح رويناه في كتاب الحجة بإسناد صحيح)**. هذا الحديث رواه الشيخ أبوالفتح نصر ابن إبراهيم المقدسي الشافعي في كتاب «الحُجّة على تارك المحجَّة» بإسناد
..........................................................
* (2/662)
** أخرجه ابن أبي عاصم في السنة رقم (15) (1/46)،دار الصميعي، والبغوي في شرح السنة (1/213)، وأبوالفتح نصر بن إبراهيم المقدسي في كتاب الحجة على تارك المحجة (1/238) رقم (25)، ط. الجامعة السلفية، وضعفه ابن رجب في جامع العلوم والحكم (2/394).
صحيح كما قاله النووي، ورواه الطبراني وأبوبكر بن عاصم والحافظ أبونعيم في «الأربعين» التي شرط لها أن تكون من صحيح الأخبار. قال ابن رجب: «تصحيح هذا الحديث بعيد جداً من وجوه..» ذكرها وتعقّبه بعضهم.
قلت: ومعناه صحيح قطعاً، وإن لم يصح إسناده، وأصله في القرآن كثير كقوله: { فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ } [النساء:65] الآية قاله في «الشرح»*.
قوله: «لا يؤمن أحدكم» أي لا يكون من أهل كمال الإيمان الواجب الذي وعد الله أهله عليه بدخول الجنة والنجاة من النار.
قوله: «حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به» الهوى بالقصر ما يهواه وتحبه نفسه، فإن كان الذي يحبه وتميل إليه نفسه تابعاً لما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - فهذه صفة أهل الإيمان المطلق، وإن كان بخلاف ذلك أو في بعض أحواله أو أكثرها انتفى عنه من الإيمان كماله الواجب، ونزل عنه في درجة الإسلام كما في حديث أبي هريرة «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن..»** الحديث، فلا يطلق عليه الإيمان إلا بقيد المعصية أو الفسوق فيقال: «مؤمن عاص» أو «مؤمن بإيمانه، فاسق بمعصيته» فيكون معه مطلق الإيمان الذي لا يصح إسلامه إلا به، والذي عليه سلف الأمة وأئمتها أن: «الإيمان قولٌ وعملٌ ونية، يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية» والأدلة على ذلك من الكتاب والسنة أكثر من أن تُحصى خلافاً لمن قال: «إن الإيمان هو القول»، وهم المرجئة. ومن قال: «هو التصديق» كالأشاعرة، ومن المعلوم عقلاً وشرعاً أن نية الحق تصديق، والعمل به تصديق، وقول الحق تصديق، وليس مع أهل البدع ما ينافي قول أهل السنة والجماعة، ولله الحمد والمنّة. انتهى ملخصاً من «فتح المجيد»***.
..........................................................
* (ص/492)
** أخرجه البخاري (2475، 6810)، ومسلم (57).
*** (2/664).(1/249)
.
.......................................................................
وقال الشعبي:(1) كان بين رجل من المنافقين ورجل من اليهود خُصومة، فقال اليهودي: نتحاكم إلى محمد - لأنه عَرَف أنه لا يأخذ الرِّشوة(1)
__________
(1) وأما الخوارج الذين يكفِّرون بالذنوب فيخرجون الزاني والسارق من الإسلام ويحكمون بكفره وتخليده في النار. والمعتزلة يقولون ليس بمؤمن ولا كافر، له منزلة بين المنزلتين، ومع ذلك فهو مخلد في النار. ومناسبة الحديث للترجمة بيان الفرق بين أهل الإيمان وأهل النفاق والمعاصي في أقوالهم وأفعالهم وإراداتهم. قاله في «فتح المجيد»*.
( ) قوله: «وقال الشعبي» - بفتح الشين - وهو عامر بن شراحيل الكوفي، أبوعمرو، ثقة مشهور، فقيه فاضل. قال مكحول: ما رأيتُ أفقه منه، عالم أهل زمانه، أدرك خلقاً كثيراً من الصحابة، كان حافظاً علاّمة ذا فنون، كان يقول: ما كتبتُ سوداء في بيضاء. عاش بضعاً وثمانين سنة. قاله الذهبي. قال: «كان بين رجل من المنافقين ورجل من اليهود خُصومة، فقال اليهودي: نتحاكم إلى محمد - لأنه عَرَف أنه لا يأخذ الرِّشوة - وقال المنافق: نتحاكم إلى اليهود - لعلمه أنهم يأخذون الرِّشوة - فاتفقا على أن يأتيا كاهناً في جُهينة فيتحاكما إليه، فنزلت: { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ } الآية. وقيل: نزلت في رجلين اختصما فقال أحدهما: نترافع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقال الآخر: إلى كعب بن الأشرف. ثم ترافعا إلى عمر، فذكر له أحدهما القصة، فقال للذي لم يرضَ برسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أكذلك ؟ قال: نعم. فضربه بالسيف فقتله.» هذا الأثر رواه ابن جرير وابن المنذر بنحوه. وذكر شيخ الإسلام أن عمر - رضي الله عنه - لما قتل المنافق قال: هكذا أقضي بين من لم يرضَ بقضاء الله وقضاء رسوله، فنزلت { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ } الآية. فقال جبريل: إن عمر فرّق بين الحق والباطل فسُمي فاروقاً». انتهى.
وقد رُويت هذه القصة من طرق متعددة. قاله في «الشرح»**. وفيه: معرفة
..........................................................
* (2/667)
** (ص/495).
تفسير: { أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ } ، وما قاله الشعبي في سبب نزولها وتفسير الإيمان الصادق والكاذب وقصة عمر مع المنافق. قاله المصنف رحمه الله تعالى. وفيه: أن التحاكم إلى غير الله ورسوله من صفات المنافقين، ولو كان الدعاء إلى تحكيم إمام فاضل ومعرفة أعداء الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - بما كان عليه من العلم والعدل في الأحكام والغضب لله والشدة في أمر الله كما فعل عمر - رضي الله عنه - وأن من طعن في أحكام النبي - صلى الله عليه وسلم - أو في شيء من دينه قتل كهذا المنافق بل أولى، وفيها: جواز تغيير المنكر وإن لم يأذن فيه الإمام. قاله في «الشرح»*. وفيها: ما يبيّن أن المنافق يكون أشدّ كراهية لحكم الله ورسوله من اليهود والنصارى، وأشدّ عداوة منهم لأهل الإيمان كما هو الواقع في هذه الأزمنة وقبلها من إعانة العدو على المسلمين، وحرصهم على إطفاء نور الإسلام والإيمان وقتل من أظهر الكفر والنفاق. قاله في «فتح المجيد»**.
..........................................................
* (ص/497)
** (2/668)(1/250)
- وقال المنافق: نتحاكم إلى اليهود - لعلمه أنهم يأخذون الرِّشوة - فاتفقا على أن يأتيا كاهناً في جُهينة فيتحاكما إليه، فنزلت: { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ } الآية [النساء: 60].
وقيل: نزلت في رجلين اختصما فقال أحدهما: نترافع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقال الآخر: إلى كعب بن الأشرف. ثم ترافعا إلى عمر، فذكر له أحدهما القصة، فقال للذي لم يرضَ برسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أكذلك ؟ قال: نعم. فضربه بالسيف فقتله.
* * *
40- باب
من جَحَد شيئاً من الأسماء والصفات(1)
وقول الله تعالى: { وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ } (2)
__________
(1) قوله: «باب مَنْ جحد شيئاً من الأسماء والصفات» أي ما حكمه ؟ و «مَنْ» اسم شرط، والجواب محذوف تقديره: فقد كفر، لما كان التوحيد الذي بعث الله به رسله وأنزل به كتبه نوعين:
أحدهما: توحيد في المعرفة والإثبات وهو إثبات حقيقة ذات الرب تعالى وصفاته وأفعاله وأسمائه.
والثاني: توحيد في الطلب والقصد، وهو توحيد الإلهية، وهما متلازمان لا يصح أحدهما بدون الآخر.
نبّه المصنف رحمه الله بهذه الترجمة على أن من جحد شيئاً من الأسماء والصفات التي وردت في الكتاب والسنة لم يصحّ توحيده، وإن جحدها كفر يخرج من الإسلام.
(2) قوله: «وقول الله تعالى: { وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ } ولما سمعت قريش رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يذكر الرحمن أنكروا ذلك فأنزل الله { وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ } .
ذكر المفسِّرون أن سبب نزول هذه الآية في صلح الحديبية لما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - عليَّاً بكتابة وثيقة الصلح، فكتب: «بسم الله الرحمن الرحيم» قالوا: لا نعرف الرحمن إلا رحمان اليمامة - وكان مسيلمة قبَّحه الله قد تسمى برحمان اليمامة - فأنزل الله: { وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ } أي لا يقرون به، ووجه مطابقة الآية للترجمة أن الله عز وجل سمى جحود اسمه الرحمن الذي هو اسم وصفة كفراً، فدلّ على أن جحود شيء من الأسماء والصفات كفر.
وقوله: { قُلْ هُوَ رَبِّي } أي قل يا محمد رداً عليهم في كفرهم بالرحمن تبارك وتعالى، { هُوَ } أي الرحمن { لا إِلَهَ إِلا هُوَ } أي لا معبود بحق سواه، { عَلَيْهِ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ } أي: إليه مرجعي وأوبتي، فالرحمن اسمه وصفته، فالرحمة وصفه القائم به، فإذا كان المشركون جحدوا اسماً من أسمائه الذي دل على كماله تعالى فجحود معناه كجحود لفظه، فإن الجهمية يزعمون أنه لا يدل على صفة قائمة به تعالى، وتبعهم على ذلك طوائف من المعتزلة والأشاعرة، فلهذا كفَّرهم كثير من أئمة السنة، ولذا قال العلاّمة ابن القيم في «الكافية الشافية شرح ابن عيسى 1/290»:
ولقد تقلّد كفرهم خمسون في
واللالكائي الإمام حكاه عنهم
عشر من العلماء في البلدان
بل حكاه قبله الطبراني
ج
فإن الجهمية ومن تبعهم على التعطيل وجحد ما وصف الله به نفسه ووصفه به رسوله بنوا تعطيلهم على أصل باطل أصّلوه من عند أنفسهم قالوا هذه صفات الأجسام فيلزم من إثباتها أن يكون الله جسماً، هذا منشأ ضلال عقولهم لم يفهموا من صفات الله إلا ما فهموا من خصائص المخلوقين فشبهوا الله أولاً بخلقه ثم عطّلوه من صفات كماله، وشبّهوه ثانياً بالناقصات والجمادات.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: «فجعل المعطلة جحد الصفات توحيداً، وجعلوا إثباتها تشبيهاً وتجسيماً وتركيباً، فسموا الباطل باسم الحق ترغيباً فيه، وسموا الحق باسم الباطل تنفيراً عنه، والذي عليه سلف الأمة وأئمتها إثبات ما وصف الله به نفسه أو وصفه به رسوله على ما يليق بجلاله وعظمته إثباتاً بلا تمثيل، وتنزيهاً بلا تعطيل، فإن الكلام في الصفات فرعٌ عن الكلام في الذات يحتذى حذوه، فكما أَنَّا نثبت لله ذاتاً لا تشبه الذوات، فكذلك نثبت له صفاتاً لا تشبه الصفات، والجهمية المعطلة ومن تبعم على ضلالهم أثبتوا لله ذاتاً لا تشبه الذوات ولم يثبتوا له صفاتاً لا تشبه الصفات فتناقضوا.
وقد ألَّف العلماء من أئمة السلف كتباً في الردّ عليهم كالإمام
أحمد في ردِّه المشهور، وكتاب «السنة» لابنه عبدالله، وكتاب «الحيدة» المشهور لعبدالعزيز الكناني، وكتاب «السنة» لأبي عبدالله المروزي، ورد عثمان بن سعيد على المريسي، وكتاب «التوحيد» لإمام الأئمة محمد بن خزيمة، وكتاب «السنة» لأبي بكر الخلال، وغيرهم رحمهم الله ورضي عنهم. وفيه: معرفة تفسير آية الرعد وإن جَحْدَ شيءٍ من الأسماء والصفات كفرٌ. قاله المصنف رحمه الله.(1/251)
[الرعد:20].
وفي صحيح البخاري(1) قال عليٌّ: حدِّثوا الناسَ بما يعرفون، أتريدون أن يُكذّب الله ُ ورسولُه ؟(2).
__________
(1) قوله: «وفي صحيح البخاري عن علي - رضي الله عنه - قال: حدِّثوا الناس بما يعرفون» زاد آدم بن أبي إياس في كتاب «العلم»: ودعوا ما ينكرون. قاله الحافظ ابن حجر، أي: ما يشتبه عليهم فهمه. ومثله قول ابن مسعود: ما أنت محدِّث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة. رواه مسلم.
(2) وقوله: «أتريدون أن يُكذّب الله ورسوله» وسبب قول عليّ هذا - والله أعلم - ما حدث في خلافته من إقبال الناس على الحديث وكثرة القُصّاص، فيأتون في قصصهم بأحاديث من هذا القبيل لا تُعرف، فربما استنكرها بعض الناس، وقد يكون لبعضها أصل أو معنى صحيح فيقع بعض المفاسد، فأرشدهم أمير المؤمنين إلى أنهم لا يحدّثون عامة الناس إلا بما هو معروف ينفع الناس في أصل دينهم وأحكامه من بيان حلاله وحرامه الذي كُلّفوا به علماً وعملاً دون ما يشغل عن ذلك مما قد يؤدِّي إلى رد الحق وعدم قبوله فيفضي بهم إلى التكذيب. وقد كان أمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان ينهى القُصّاص عن القصص لما في قصصهم من الغرائب والتساهل في النقل ويقول: «لا يقُص إلا أمير أو مأمور». وكل هذا محافظة على لزوم الثبات على الصراط المستقيم علماً وعملاً ونية وقصداً، وترك كل ما كان وسيلة إلى الخروج عنه إلى البدع. والله أعلم.(1/252)
وروى عبدالرزاق عن مَعْمر عن ابن طاوُس عن أبيه، عن ابن عباس أنه رأى رجلاً انتفض لَمّا سمع حديثاً عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصفات استنكاراً لذلك، فقال: ما فَرَق هؤلاء ؟ يجدون رِقّة عند مُحكمه، ويهلكون عند متشابهه. انتهى(1). ولما سمعت قريشٌ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يذكر الرحمنَ، أنكروا ذلك، فأنزل الله فيهم: { وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ } [الرعد:30] (1)
__________
(1) قوله: «وروى عبدالرزاق» بن همام الصنعاني، محدّث اليمن، صاحب التصانيف، أكثر الرواية عن شيخه معمر بن راشد صاحب الزهري، ومَعْمَر
ـ بفتح الميمين وسكون العين - ابن راشد أبوعروة بن أبي عمرو بن راشد الأزدي الحراني ثم اليماني، أحد الأعلام من أصحاب محمد بن شهاب الزهري يروي عنه كثيراً «عن ابن طاوس» وهو عبدالله بن طاووس اليماني، قال معمر: أعلم الناس بالعربية.
وقال ابن عيينة: مات سنة اثنتين وثلاثين ومائة وأبوه طاووس ابن كيسان الجَنَدي - بفتح الجيم والنون - الإمام العلم، قيل اسمه ذكوان قاله ابن الجوزي «عن ابن عباس» وهو حبر الأمة وترجمان القرآن، دعا له النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال: «اللهم فقهه في الدين وعلِّمه التأويل»* روى عنه أصحابه أئمة التفسير كمجاهد وسعيد بن جبير وعطاء بن أبي رباح وطاووس غيرهم «أنه» أي ابن عباس «رأى رجلاً انتفض لما سمع حديثاً عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصفات استنكاراً لذلك. فقال: ما فَرَق هؤلاء ؟» ** يستفهم من أصحابه يشير إلى أناس ممن يحضر مجلسه من عامة الناس يجدون رقة عند محكمه أي إذا سمعوا شيئاً من محكم القرآن ومعناه حصل معهم رقة أي خوف «ويهلكون عند متشابهه» أي إذا سمعوا شيئاً مما يشتبه علهيم فهمه لا أن آيات الصفات هي المتشابه كما تقوله الجهمية ونحوهم. قال شيخ
..........................................................
* أخرجه الإمام أحمد (1/266، 335)، والطبراني في الكبير (10587)، والحاكم (3/534) وصححه ووافقه الذهبي.
** أخرجه عبدالرزاق (20895)، وابن أبي عاصم في السنة (485) بسند صحيح.
الإسلام [الفتاوى 13/294-295]: «وأما إدخال أسماء الله وصفاته أو بعض ذلك في المتشابه الذي لا يعلم تأويله إلا الله فما أعلم عن أحدٍ من سلف الأمة ولا من الأئمة لا أحمد بن حنبل ولا غيره أنه جعل ذلك من المتشابه، ونفى أن يُعلم معناه وجعلوا أسماء الله وصفاته من الكلام الأعجمي الذي لا يفهم معناه، ولا أن الله ينزل كلاماً لا يفهم أحدٌ معناه، وإنما قالوا كلمات الله لها معان صحيحة.
وقالوا في أحاديث الصفات تمر كما جاءت، ونهوا عن تأويلات الجهمية وردوها وأبطلوها التي معناها تعطيل النصوص عن ما دلّت عليه، ويقرون النصوص على ما دلّت عليه من معناها، ويفهمون منها بعض ما دلت عليه، وكذلك نصّ أحمد في كتاب «الرد عل الزنادقة والجهمية» أنهم تمسكوا بمتشابه القرآن، وتكلّم أحمد على ذلك المتشابه وبيَّن معناه وتفسيره بما يخالف تأويل الجهمية، وجرى في ذلك على سنن الأئمة قبله - رحمه الله -.
قال الذهبي: «حدث وكيع عن إسرائيل بحديث «إذا جلس الرب على الكرسي» فاقشعر رجل عند وكيع، فغضب وكيعٌ وقال: أدركنا الأعمش وسفيان يحدثون بهذه الأحاديث ولا ينكرونها ». أخرجه عبدالله بن الإمام أحمد في كتاب «الرد على الجهمية».
فهؤلاء الذين ذكرهم ابن عباس تركوا ما وجب عليهم من الإيمان بما لم يفهموا معناه من الكتاب والسنة وهو حق لا يرتاب فيه مؤمن وبعضهم يفهم منه غير المراد من المعنى فيحمله على غير معناه كما جرى لأهل البدع كالخوارج والرافضة والقدرية ونحوهم ممن يتأول بعض آيات القرآن على بدعته.
وسبب هذه البدع: جهل أهلها وقصورهم في الفهم وعدم أخذ العلوم الشريعة على وجهها وتلقيها عن أهلها. فالتشابه أمرٌ نسبي إضافي، فقد يكون مشتبهاً بالنسبة إلى قوم بيناً جليّاً بالنسبة إلى آخرين، ولهذا لما خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - على قوم يتراجعون في القرآن غضب، وقال: «بهذا ضلّت الأمم قبلكم، باختلافهم على أنبيائهم،(1/253)
.
.............................................................................. .(1)
__________
(1) ضرب الكتاب بعضه ببعض، وأن القرآن لم ينزل ليكذّب بعضه بعضاً ولكن أنزل لأن يُصدق بعضه بعضاً، فما عرفتم منه فاعملوا به، وما تشابه عليكم فآمنوا به» رواه ابن سعد وابن مردويه، وغيرهم.
وأما قوله تعالى: { هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آَيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ } [آل عمران:7] أي بينات واضحات الدلالة لا التباس فيها على أحد { هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ } أي أصله الذي يرجع إليه عند الاشتباه { وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ } أي تحتمل دلالتها موافقة المحكم، وقد تحتمل معنى آخر من حيث اللفظ والتركيب لا من حيث المعنى المراد { فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ } أي ضلال وخروج عن الحق إلى الباطل { فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ } أي إنما يأخذون منه بالمتشابه الذي يمكنهم أن يحرّفوه أي يصرفوه إلى مقاصدهم الفاسدة لاحتمال لفظه لما يصرفونه { ابْتِغَاءَ الْفِتْنَة } أي الإضلال لأتباعهم ليوهموهم أنهم يحتجون على بدعتهم بالقرآن، وهو حجة عليهم لا لهم، فمن رد ما اشتبه عليه إلى الواضح منه، وحكّم محكمه على متشابهه فقد اهتدى، ومن عكس انعكس. قال شيخ الإسلام: «والله جعل المحكمَ مقابل المتشابه تارة ومقابل المنسوخ تارة، والمنسوخ يدخل فيه كل ظاهر ترك ظاهره لمعارض راجحه كتخصيص العام وتقييد المطلق، فإن هذا متشابه لأنه يحتمل معنيين ويدخل فيه المجمل فإنه متشابه وإحكامه رفع ما يتوهم فيه من المعنى الذي ليس بمراد.
وقد روي أن من نصارى نجران الذين وفدوا على النبي - صلى الله عليه وسلم - من تأوّل «أَنّا» و «نحن» على أن الآلهة ثلاثة ؛ لأن هذا ضمير جمع، ومعلوم أن «أنّا» و «نحن» من المتشابه، فإنه يراد بها الواحد الذي معه غيره من جنسه ويراد بها الواحد الذي معه أعوانه، وإن لم يكونوا من جنسه ويراد بها الواحد المعظّم نفسه الذي يقوم مقام من معه غيره لتنوع أسمائه التي كل اسم منها يقوم مقام مسمى فصار متشابهاً؛ لأن اللفظ واحد، والمعنى متنوع، والأسماء المشتركة في اللفظ هي من المتشابه، فالذين في قلوبهم زيغ يدّعون المحكم الذي لا اشتباه فيه
مثل: { وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ } [البقرة:163]، { إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدْنِي } [طه:14]، { مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ } [المؤمنون:91]، { وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ } [الفرقان:2]، { وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ } [الإخلاص:4] ويتبعون المتشابه». انتهى باختصار.
وفيه: ترك التحديث بما لا يفهم السامع، وذكر العلة أنه: يفضي على تكذيب الله ورسوله ولو لم يتعمد المنكر، وكلام ابن عباس لمن استنكر شيئاً من ذلك وأنه هلكة. قاله المصنف رحمه الله تعالى.(1/254)
............................................................................
.........................................................................
* * *
41- باب
قول الله تعالى: { يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ } (1) [النحل:83].
__________
(1) قوله: «باب قول الله تعالى: { يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ } ترجم المصنف رحمه الله تعالى بهذه الآية من سور النحل المسماة سورة النعم ليبيّن أن إنكار النعمة بعد معرفتها كفر كنسبة النعمة إلى غير المنعم بها وهو من الشرك الخفي المنافي لكمال التوحيد. وقد اختلف المفسرون في المراد بالنعمة، فذكر عن سفيان عن السدي يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها، قال: محمد - صلى الله عليه وسلم -. ذكره ابن جرير.
ولا شك أن بعثة محمد - صلى الله عليه وسلم - أعظم نعمة أنعم الله بها على أهل الأرض، قال شيخ الإسلام: «فبمحمدٍ تبيَّن الكفر من الإيمان، والربح من الخسران، والهدى من الضلال، والنجاة من الوبال، والغيّ من الرشاد، والزيغ من السداد، وأهل الجنة من أهل النار، والمتقون من الفجار، وسبيل من أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين من سبيل المغضوب عليهم والضالين. فالنفوس أحوج إلى معرفة ما جاء به واتّباعه منها إلى الطعام والشراب، فإن هذا إن فات حصل الموت في الدنيا، وذاك إذا فات حصل العذاب، فحق على كل أحد بذل جهده ما استطاع في معرفة ما جاء به وطاعته ؛ إذ هذا طريق النجاة من العذاب الأليم والسعادة في دار النعيم». انتهى. وقال مجاهد في الآية: «النعمة هي المساكن والأنعام وسرابيل الثياب والحديد يعرفه كفار قريش ثم ينكرونه بأن يقولوا هذا كان لآبائنا وورثانه عنهم». رواه ابن جرير وابن أبي حاتم واختار هذا القول ابن جرير، واختار غيره أن الآية تعم ما ذكر العلماء في معناها.(1/255)
قال مجاهد ما معناه: هو قولُ الرجل: هذا مالي، ورثته عن آبائي.
وقال عون بن عبدالله(1): يقولون: لولا فلان لم يكن كذا.
وقال ابن قُتيبة(2): يقولون هذا بشفاعة آلهتنا.
وقال أبوالعباس(3)
__________
(1) قوله: «وقال عون بن عبدالله» بن عتبة بن مسعود أبوعبدالله الكوفي ثقة عابد، مات في سنة عشرين ومائة في الآية «يقولون: لولا فلان لم يكن كذا» رواه ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم.
وقال ابن القيم: «ما معناه هذا يتضمن قطع إضافة النعمة عن من لولاه لم تكن وإضفاتها إلى من لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً، فضلاً عن غيره، وغايته أن يكون جزاء من السبب أجرى الله نعمته على يده، والسبب لا يستقل بالإيجاد، وجعله سبباً هو من نعم الله عليه فهو المنعم بتلك النعمة وهو المنعم بما جعله سبباً من أسبابها، فالسبب والمسبب من إنعامه وهو سبحانه كما قد ينعم بذلك السبب، فقد ينعم بدونه ولا يكون له أثر، وقد يسلبه سببيته وقد يجعل لها معارضاً يقاومها، وقد يرتب على السبب ضد مقتضاه فهو وحده المنعم على الحقيقة».
(2) قوله: «وقال - أبومحمد عبدالله بن مسلم - بن قتيبة» الدينيوري الحافظ، صاحب «التفسير» و «المعارف» وغيرهما، وثّقه الخطيب وغيره، ومات سنة سبع وستين ومائتين أو قبلها «يقولون: هذا بشفاعة آلهتنا» قال ابن القيم: «هذا يتضمن الشرك مع إضافة النعمة إلى غير وليها، فالآلهة التي تُعبد من دون الله أحقر وأذلّ من أن تشفع عند الله وهي محضرة في الهوان والعذاب مع عابديها، وأقرب الخلق إلى الله وأحبهم إليه لا يشفع عنده إلا من بعد إذنه لمن ارتضاه، والشفاعة عنده بإذنه من نعمه فهو المنعم بالشفاعة وهو المنعم بقبولها وهو المنعم بتأهيل المشفوع له، إذ ليس كل أحد أهلاً أن يشفع له، فمن المنعم على الحقيقة سواه ؟». انتهى.
(3) قوله: «وقال الإمام أبوالعباس» شيخ الإسلام أحمد بن عبدالحليم بن عبدالسلام
ابن تيمية الحراني رحمه الله تعالى ورضي عنه بعد حديث زيد بن خالد الذي فيه أن الله قال: «أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر» وهذا كثير في الكتاب والسنة يذم سبحانه من يضيف إنعامه إلى غيره ويشرك به، قال بعض السلف: هو كقولهم: كانت الريح طيبة والملاّح حاذقاً ونحو ذلك مما هو جارٍ على ألسنة كثير»*. انتهى. وكلام الشيخ هذا يدل على أن حكم هذه الآية عام في كل من نسب النعم إلى غير الله الذي أنعم بها، وأسند أسبابها إلى غيره كما هو مذكور في كلام المفسرين المذكور بعضه هنا وذلك من أنواع الشرك كما لا يخفى. قاله في «قرة العيون»**.
وفيه: معرفة النعمة وإنكارها، ومعرفة أن هذا جار على ألسنة كثير، وتسمية هذا الكلام إنكاراً للنعمة، واجتماع الضدين في القلب. قاله المصنف رحمه الله تعالى.
قلت: والمراد بالضدين معرفة النعمة وإنكارها.
..........................................................
* تقدم تخريجه (ص/246).
** (ص/203).(1/256)
-بعد حديث زيد بن خالد الذي فيه أن الله تعالى قال:
«أصبح من عبادي مؤمنٌ بي وكافر» الحديث، - وقد تقدم -: وهذا كثيرٌ في الكتاب والسنة، يذُمُّ سبحانه من يُضيف إنعامه إلى غيره، ويشرك به.
قال بعض السلف: هو كقولهم كانت الريحُ طيبةً والملاّحُ حاذقاً، ونحو ذلك مما هو جارٍ على ألسنة كثير.
* * *
42- باب
قول الله تعالى: { فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } (1)
__________
(1) قوله: «باب قول الله تعالى: { فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } ينهى تبارك وتعالى عباده أن يجعلوا له أنداداً ونظراء يشركونهم معه في عبادته وهم يعلمون أنه لا ند له ويذكرهم بنعمه التي امتنّ بها عليهم في قوله: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } قال البغوي: « { يَا أَيُّهَا النَّاسُ } خطاب لأهل مكة و { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا } خطاب لأهل المدينة وهو هنا عام إلا من حيث أنه لا يدخله الصغار والمجانين، وقال ابن عباس: كل ما في القرآن من العبادة فمعناه التوحيد، ثم شرع تعالى في بيان وحدانية ألوهيته بأنه المنعم على عباده بإخراجهم من العدم إلى الوجود وإسباغ نعمه عليهم الظاهرة والباطنة، فجعل الأرض فراشاً مثبتة بالرواسي الشامخات، والسماء بناءً وهو السقف، وأنزل من السماء - والمراد السحاب - ماءً في وقت احتياجهم إليه فأخرج به أنواع الزروع والثمار رزقاً لكم. ومضمون هذا أنه الخالق الرازق، مالك الدار وساكنيها ورازقهم، فهو المستحق أن يُعبد وحده ولا يُشرك معه غيره من الأنداد.
قال ابن القيم رحمه الله: «فتأمل هذه، وشدة لزومها لتلك المقدمات قبلها وظفر العقل بها بأول وهلة وخلوصها من كل شبهة وريب وقادح إذا كان الله وحده هو الذي فعل هذه الأفعال، فكيف تجعلون لله أنداداً، وقد علمتم أنه لا ند له يشاركه في فعله».(1/257)
[البقرة: 22].
قال ابن عباس في الآية(1): الأندادُ هو الشرك، أخفى من دبيب النمل
على صفاةٍ سوداء في ظلمة الليل. وهو أن تقول: والله، وحياتِك يا فلان، وحياتي. وتقول: لولا كُليبة هذا لأتانا اللصوص، ولولا البطُّ في الدار لأتى اللصوص. وقول الرجل لصاحبه: ما شاء اللهُ وشئتَ. وقول الرجل: لولا اللهُ وفلان. لا تجعل فيها فلاناً، هذا كله به شرك. رواه ابن أبي حاتم.
وعن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -(2)
__________
(1) قوله: «وعن ابن عباس رضي الله عنهما في الآية: الأنداد هو الشرك، أخفى من دبيب النمل على صفاة سوداء في ظلمة الليل، وهو أن تقول: والله، وحياتِك يا فلان،
(2) حياتي. وتقول: لولا كُليبة هذا لأتانا اللصوص، ولولا البطُّ في الدار لأتى اللصوص. وقول الرجل لصاحبه: ما شاء اللهُ وشئتَ. وقول الرجل لصاحبه: لولا اللهُ وفلان. هذا كله به شرك. رواه ابن أبي حاتم». وفيه: معرفة تفسير آية البقرة في الأنداد، وأن الصحابة يفسرون الآية النازلة في الشرك الأكبر أنها تعم الأصغر. قاله المصنف رحمه الله تعالى. وهذا الذي ذكره ابن عباس كله من الشرك الأصغر، وهو الجاري على ألسنة كثير من الناس ممن لا يعرف التوحيد ولا الشرك، وهو من المنكر العظيم الذي يجب النهي عنه والتغليظ فيه ؛ لكونه أكبر من الكبائر، وهذا من ابن عباس تنبيه بالأدنى من الشرك على الأعلى. قاله في «فتح المجيد»*، وهذا هو الشاهد من كلام ابن عباس للترجمة.
( ) قوله: «وعن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -» قال في «الشرح»** صوابه ابن عمر كذا. أخرجه أحمد وأبوداود والترمذي والحاكم وصححه ابن حبان. قال ابن العراقي: وإسناده ثقات. «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك»*** يحتمل أن يكون شكاً من الراوي، ويحتمل أن تكون، أو بمعنى
..........................................................
* (2/691).
** (ص/511).
*** أخرجه أحمد (2/34، 86)، وأبوداود (3251)، والترمذي (1535)، وابن حبان (1177)، وصححه الألباني في الصحيحة (2042).(1/258)
أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من حلف بغير الله فقد كفر، أو أشرك». رواه الترمذي وحسّنه، وصحّحه الحاكم.
وقال ابن مسعود(1): لأن أحلِفَ بالله كاذباً أحبُّ إليَّ من أن أحلف بغيره صادقاً.
وعن حذيفة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تقولوا: ما شاء اللهُ وشاء فلان، ولكن قولوا: ما شاء الله ثم شاء فلان»(2)
__________
(1) لواو فيكون قد كفر وأشرك، ويكون من الكفر الذي هو دون الكفر الأكبر كما هو من الشرك الأصغر. وهذا هو الشاهد من الحديث للترجمة، قال ابن عبدالبر: «لا يجوز الحلف بغير الله بالإجماع». ذكره في «إبطال التنديد»*. وأما قوله: «أفلح وأبيه إن صدق»** ونحوه. فقال في «الشرح»***: الحق أن هذا كان قبل النهي عنه ثم نُسخ. قال السهيلي: وعليه أكثر الشرّاح.
( ) قوله «وقال ابن مسعود: لأن أحلف بالله كاذباً أحبّ إلي من أن أحلف بغيره صادقاً» وهذا لأن الحلف بالله كاذباً من الكبائر، والحلف بغير الله شرك أصغر وهو أكبر من الكبائر، وكلام ابن مسعود هذا رواه الطبراني وذكره ابن جرير غير مسند. وقال شيخ الإسلام: «وإنما رجّح ابن مسعود الحلف بالله كاذباً على الحلف بغيره صادقاً؛ لأن الحلف بالله توحيد، والحلف بغيره شرك، وإن قدر الصدق في الحلف بغير الله فحسنة التوحيد أعظم من حسنة الصدق، وسيئة الكذب أسهل من سيئة الشرك». وفيه: أن الحلف بغير الله شرك، وأنه إذا حلف بغير الله صادقاً فهو أكبر من اليمين الغموس. قاله المصنف رحمه الله تعالى.
(2) قوله: «وعن حذيفة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تقولوا ما شاء الله وشاء فلان ولكن قولوا: ما شاء الله ثم شاء فلان». رواه أبوداود بسند صحيح» **** وهذا لأن
..........................................................
* ... (ص/233).
** ... أخرجه البخاري (46) دون قوله «وأبيه»، وهي عند مسلم (11).
*** (ص/513).
**** أخرجه أبوداود (4980)، وأحمد (5/384، 394، 398) وصححه النووي في الأذكار (ص/308).(1/259)
. رواه أبوداود بسند صحيح.
وجاء عن إبراهيم النخعي أنه يكره: أعوذ بالله وبك، ويجوز أن يقول: بالله ثم بك. قال: ويقول: لولا الله ثم فلان، ولا تقولوا: لولا الله وفلان(1).
* * *
43- باب
ما جاء فيمن لم يَقنَع بالحلف بالله(2)
__________
(1) لعطف بالواو يقتضي المساواة لأنها في وضعها لمطلق الجمع بخلاف الفاء، وثم وتسوية المخلوق بالخالق بكل نوع من أنواع العبادة شرك وهو من الشرك الأصغر.
( ) قوله: «وجاء عن إبراهيم النخعي أنه يكره: أعوذ بالله وبك، ويجوز أن يقول: أعوذ بالله ثم بك، قال: ويقول لولا الله ثم فلان، ولا تقولوا لولا الله وفلان» وكلام إبراهيم هذا الذي ذكره المصنف رواه عبدالرزاق وابن أبي الدنيا في كتاب «الصمت» عن مغيرة قال: كان إبراهيم يكره أن يقول الرجل.. إلخ؛ لأن الواو لمطلق الجمع بخلاف ثم فإنها تقتضي الترتيب. وفيه: معرفة الفرق بين الواو وثم في اللفظ. قاله المصنف رحمه الله.
تنبيه: الكراهة في عرف السلف إنما يُراد بها كراهة التحريم لا كراهة التنزيه المصطلح عليها عند متأخري الفقهاء. ومطابقة الحديثين والأثرين للترجمة ظاهرة على ما فسر به ابن عباس رضي الله عنهما الآية. قاله في «الشرح»*.
..........................................................
* (ص/516).
(2) قوله: «باب ما جاء فيمن لم يقنع بالحلف بالله» أي من الوعيد؛ لأن ذلك يدل على قلة تعظيمه لجناب الربوبية، إذ القلب الممتلئ بمعرفة عظمة الله وجلاله وعزته وكبريائه لا يفعل ذلك. قاله في «الشرح»*.(1/260)
عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تحلفوا بآبائكم(2)، من حلف بالله فليصدق، ومن حُلف له بالله فليرضَ، ومن لم يَرضَ فليس من الله» رواه ابن ماجه بسند حسن(1)
__________
(1) قوله: «عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تحلفوا بآبائكم، من حلف بالله فليصدق، ومن حُلف له بالله فليرض، ومن لم يرضَ فليس من الله»** رواه ابن ماجه بسند حسن.
قوله: «لا تحلفوا بآبائكم» تقدم النهي عن الحلف بغير الله عموماً.
وقوله: «من حلف بالله فليصدق» هذا مما أوجبه الله على عباده وحضّهم عليه في كتابه، قال الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ } [التوبة: 119].
قوله: «ومن حُلف له بالله فليرض، ومن لم يرضَ فليس من الله» قال ابن كثير: «أي فقد برئ من الله. وهذا عام في الدعاوى وغيرها»، وحدثت عن المصنف أنه حمل حديث الباب على اليمين في الدعاوى، كمن يتحاكم عند الحاكم فيحكم على خصمه باليمين فيحلف، فيجب عليه أن يرضى. قاله في «الشرح»***.
..........................................................
* (ص/516).
** أخرجه ابن ماجه (2131)، وصححه الألباني في الإرواء (2698).
*** (ص/518).
قلت: تعبير الشارح بالحكم على خصمه باليمين سبقة قلم منه - رحمه الله - ؛ لأنه إذا لم يكن للمدعي بينة عُرض عليه هل يطلب إحلاف خصمه، فإن طلب ذلك أحلفه لا يحكم عليه باليمين، فإن نكل عن اليمين حكم عليه بالنكول، وإن حلف فعليه أن يرضى باليمين، ولا تكن يمين خصمه مبطلة لدعواه بل إذا وجد بيّنة فله إقامة الدعوى وإقامة البينة.
قال في «فتح المجيد»*: «أما إذا لم يكن له بحكم الشريعة على خصمه إلا اليمين فأحلفَه، فلا ريب أنه يجب عليه الرضا. وأما إذا كان فيما يجري بين الناس مما قد يقع في الاعتذارات من بعضهم لبعض ونحو ذلك، فهذا من حق المسلم أن يقبل منه إذا حلف معتذراً أو متبرئاً من تهمة. ومن حقه عليه: أن يحسن الظن به إذا لم يتبيّن خلافه، كما في الأثر عن عمر - رضي الله عنه -: ولا تظن بكلمة خرجت من مسلم شراً وأنت تجد لها في الخير محملاً». انتهى.
وفيه: النهي عن الحلف بالآباء، والأمر للمحلوف له بالله أن يرضى، ووعيد من لم يرضَ. قاله المصنف رحمه الله تعالى.
..........................................................
* (2/698).(1/261)
.
..............................................................................
* * *
44- باب
قول ما شاء الله وشئتَ (1)
عن قُتَيْلَة(2)
__________
(1) قوله: «باب قول: ما شاء الله و شئتَ» أي ما حكم التلفظ بذلك، وحكمه: أنه تشريك في اللفظ ؛ لأنه عطف مشيئة المخلوق على مشيئة الخالق جل وعلا بحرف العطف المقتضي التشريك بين المعطوف والمعطوف عليه، وهو من أنواع الشرك الأصغر.
(2) قوله: «عن قُتيلة» بضم القاف وفتح التاء بعدها مثناة تحتية مصغرة، بنت صيفي الجهنية أو الأنصارية، صحابية مهاجرة لها حديث في سنن النسائي واليوم والليل، وهو هذا الذي ذكره المصنف، وأشار ابن سعد إلى أنه ليس لها غير هذا الحديث «أن يهودياً أتى إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: إنكم تشركون، تقولون: ما شاء اللهُ وشئتَ، وتقولون: والكعبة. فأمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أرادوا أن يحلفوا أن يقولوا: وربّ الكعبة، وأن يقولوا ما شاء الله ثم شئتَ. رواه النسائي وصححه»*. وهذا نص في أن هذا اللفظ من الشرك لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقر اليهودي على تسمية هذا اللفظ شركاً، ونهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك وأرشد إلى اللفظ الذي لا محذور فيه، وهو قول «ما شاء الله ثم شئت» وإن كان الأولى قول «ما شاء الله وحده»، والعبد وإن كانت له مشيئة فمشيئته تابعة لمشيئة الله كما قال تعالى: { وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ } [التكوير:29]، وقوله: { لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ } [التكوير:28] الآية وغيرها.
وفي الحديث والآيات الرد على القدرية والمعتزلة نفاة القدر الذين يثبتون للعبد مشيئة تخالف ما أراده الله تعالى من العبد وشاءه، وأما أهل السنة والجماعة
..........................................................
* أخرجه النسائي (3773)، وأحمد (6/371-372)، والحاكم (4/297) وصححه الألباني في الصحيحة (136).(1/262)
أن يهودياً أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: إنكم تشركون، تقولون: ما شاء اللهُ وشئتَ، وتقولون: والكعبة. فأمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أرادوا أن يحلفوا
أن يقولوا: وربّ الكعبة، وأن يقولوا ما شاء الله ثم شئتَ. رواه النسائي وصححه.
وله - أيضاً - عن ابن عباس أنّ رَجُلاً قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: «ما شاء اللهُ وشئت. فقال: «أجعلتني لله نداً ؟ ما شاء الله وحده»(1)
__________
(1) تمسكوا بالكتاب والسنة في هذا الباب وغيره، واعتقدوا أن مشيئة العبد تابعة لمشيئة الله في كل شيء مما شرعه الله وما يخالفه من أفعال العباد وأقوالهم، فالكل بمشيئة الله وإرادته، فما وافق ما شرعه رضيه وأحبه، وما خالفه كرهه من العبد كما قال تعالى: { إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ } الآية [الزمر:7]. وفيه: أن الحلف بالكعبة شرك لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقر اليهودي على قوله: إنكم تشركون. وفيه: فهم الإنسان إذا كان له هوى. قاله المصنف رحمه الله. وفيه: معرفة اليهود بالشرك الأصغر. قال في «الشرح»*: وكثير ممن يدّعي الإسلام لا يعرف الشرك الأكبر، بل يصرف خالص العبادات من: الدعاء، والذبح، والنذر لغير الله، ويظن أن ذلك من الدين. وفيه: قبول الحق ممن جاء به وإن كان عدواً مخالفاً في الدين، وأن الحلف بالكعبة من الشرك الأصغر.
( ) قوله «عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلاً قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: ما شاء الله وشئتَ. فقال: أجعلتني لله نداً ؟ بل ما شاء الله وحده»**. هذا الحديث رواه النسائي في «اليوم والليلة». ورواه ابن ماجه في الكفارات من «السنن» عن هشام بن عمار، عن عيسى نحوه.
قوله: «أجعلتني لله نداً» هذه رواية ابن مردويه، ورواية النسائي وابن ماجه:
..........................................................
* (ص/520-521).
** أخرجه النسائي في عمل اليوم والليلة (988)، وأحمد (1/214، 224، 283، 347)، وابن ماجه (2117). وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة رقم (139).(1/263)
.
ولابن ماجه، عن الطفيل أخي عائشة لأمّها(1) قال: رأيت كأني أتيتُ على نفر من اليهود، قلت: إنكم لأنتم القومُ، لولا أنكم تقولون: عُزير ابنُ الله(1)
__________
(1) أجعلتني لله عدلاً» والمعنى واحد. قاله في «الشرح»*. قال ابن القيم رحمه الله تعالى: «ومن الشرك في الألفاظ قول القائل للمخلوق: ما شاء الله وشئت كما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن رجلاً قال له: ما شاء الله وشئت. فقال: «أجعلتني لله نداً؟» هذا مع أن الله قد أثبت للعبد مشيئة كقوله { لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ } [التكوير:28] فكيف بمن يقول: أنا متوكل على الله وعليك، وأنا في حسب الله وحسبك، وما لي إلا الله وأنت، وهذا من الله ومنك، وهذا من بركات الله وبركاتك، والله لي في السماء وأنت لي في الأرض، فوازن بين هذه الألفاظ وبين قول القائل: ما شاء الله وشئت. ثم انظر أيهما أفحش؟
وقوله «أجعلتني لله نداً ؟ فكيف بمن قال:
يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به
فإن من جودك الدنيا وضرتها
إن لم تكن في معادي آخذا بدي
سواك عند حلول الحادث العمم
ومن علومك علم اللوح والقلم
فضلاً وإلا فيا زلَّة القدم
وقوله:
دع ما ادعته النصارى في نبيهموا
لو ناسبَتْ قدره آياته عظماً
واحكم بما شئتَ مدحاً فيه واحتكم
أحيا اسمُه حين يُدعى دارسَ الرمم
( ) قوله: «عن الطفيل أخي عائشة لأمها» وهو الطفيل بن عبدالله بن سخبرة صحابي له حديث عند ابن ماجه، وهو ما ذكره المصنف في الباب، قال البغوي لا أعلم له غيره «قال: رأيتُ» أي فيما يرى النائم «كأني أتيتُ» أي مررتُ «على نفر من اليهود فقلت: إنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون عزير ابن الله» أي نعم القوم أنتم لولا ما أنت عليه من الشرك والمسبّة لله بنسبة الولد إليه «قالوا: وأنتم
..........................................................
* (ص/521).
لأنتم القوم لولا أنكم تقولون ما شاء الله وشاء محمد»* عارضوه بذكر شيء مما في المسلمين من الشرك الأصغر «ثم مررتُ بنفر من النصارى فقلت: إنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون المسيح ابن الله. قالوا: إنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون ما شاء الله وشاء محمد، قال فلما أصبحتُ أخبرتُ بها من أخبرتُ ثم أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبرته، فحمد الله وأثنى عليه» والثناء هو تكرار المحامد. قاله ابن القيم رحمه الله. «ثم قال: أما بعد فإن طفيلاً رأى رؤيا أخبر بها من أخبر منكم، وإنكم قلتم كلمة كان يمنعني كذا وكذا أن أنهاكم عنها». وفي رواية أحمد والطبراني «كان يمنعني الحياء منكم أن أنهاكم عنها» وهذا الحياء منهم ليس على سبيل الحياء من الإنكار عليهم، بل كان - صلى الله عليه وسلم - يكرهها ويستحي أن يذكرها؛ لأنه لم يُؤمر بإنكارها، فلما جاء الأمر الإلهي بالرؤيا الصالحة أنكرها، ولم يستحِ في ذلك. وفيه: دليل على أنها من الشرك الأصغر، إذ لو كانت من الأكبر لأنكرها من أول مرة قالوها. قاله في «الشرح»**. وهذه رؤيا حق أقرها النبي - صلى الله عليه وسلم - وعمل بمقتضاها «فنهاهم أن يقولوا: ما شاء الله وشاء محمد، وأمرهم أن يقولوا: ما شاء الله وحده». قال في «فتح المجيد»***: «وإن كانت رؤيا منام فهي وحي، يثبت بها ما يثبت بالوحي أمراً ونهياً. والله أعلم».
وفيه: معنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: «الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة»**** لأنه - صلى الله عليه وسلم - قبل النبوة وهو يتحنث في غار حراء كان يرى الرؤيا التي كانت تجيء مثل فلق الصبح مدة ستة أشهر وهي بالنسبة إلى مدة النبوة الثلاثة
..........................................................
* أخرجه ابن ماجه (2118) بنحوه، وأحمد (5/393). وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه (2/200).
** (ص/703).
*** (2/703).
**** أخرجه البخاري (6988) من حديث أبي هريرة، و(6987) من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنهما، ومسلم (2263، 2265).
والعشرين سنة جزء من ستة وأربعين جزءاً منها. وذكر الحليمي أن الوحي كان يأتيه على ستة وأربعين نوعاً فذكرها، وغالبها من صفات حامل الوحي، ومجموعها يدخل فيما ذكر. انتهى.
وفيه: أن الرؤيا الصالحة من أقسام الوحي، وأنها قد تكون سبباً لشرع بعض الأحكام، وأن قول ما شاء الله وشئت ليس من الشرك الأكبر لقوله: «يمنعني كذا وكذا». قاله المصنف رحمه الله تعالى.(1/264)
. قالوا: وأنتم لأنتم القومُ، لولا أنكم تقولون: ما شاء اللهُ وشاء محمد. ثم مررتُ بنفر من النصارى، فقلت: إنكم لأنتم القوم، لولا أنكم تقولون: المسيحُ ابنُ الله. قالوا: وأنتم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون: ما شاء الله وشاء محمد. فلما أصبحتُ أخبرتُ بها من أخبرتُ، ثم أتيتُ النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبرته قال: «هل أخبرتَ بها أحداً ؟». قلت: نعم. فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: «أما بعد: فإن طُفيلاً رأى رؤيا أخبر بها من أخبر منكم، وإنكم قلتم كلمةً كان يمنعني كذا وكذا أن أنهاكم عنها، فلا تقولوا: ما شاء الله وشاء محمد، ولكن قولوا: ما شاء الله وحده».
* * *
45- باب
من سبّ الدهر فقد آذى الله(1)
__________
(1) قوله: «باب من سب الدهر فقد آذى الله» تبارك وتعالى، مناسبة هذا الباب لـ«كتاب التوحيد» ظاهرة ؛ لأن سبّ الدهر يتضمن الشرك ولفظ «الأذى» في اللغة هو لما خف أمره، وضعف أثره من الشرك والمكروه. ذكره الخطابي. قال شيخ الإسلام: «وهو كما قال، وهذا بخلاف الضرر، فقد أخبر سبحانه أن العباد لا يضرونه كما قال تعالى: { وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا } [آل عمران: 176]، فبيَّن أن الخلق لا يضرونه، لكن يؤذونه إذا سَبُّوا مقلب الأمور». قاله في «الشرح»*.(1/265)
وقول الله تعالى: { وَقَالُوا مَا هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلا الدَّهْرُ } (1) [الجاثية: 24] الآية.
في الصحيح(2)
__________
(1) قوله: «وقول الله تعالى: { وَقَالُوا مَا هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلا الدَّهْرُ } الآية قال ابن كثير [التفسير 7/268]: «يخبر تعالى عن قول الدهرية من الكفار ومن وافقهم من مشركي العرب في إنكار المعاد، { وَقَالُوا مَا هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا } ». قال ابن جرير: «أي ما حياة إلا حياتنا التي نحن فيها، لا حياة سواها تكذيباً منهم للبعث بعد الموت، نموت ونحيا». قال ابن كثير [التفسير 7/269]: «أي يموت قوم ويعيش آخرون، وما ثَمَّ معاد ولا قيامة، وهذا يقوله مشركو العرب المنكرون للمعاد، وتقوله الفلاسفة الإلهيون منهم، وهم ينكرون البداءة والرجعة، وتقوله الفلاسفة الدهرية الدورية المنكرون للصانع المعتقدون أن في كل ستة وثلاثين ألف سنة يعود كل شيء إلى ما كان عليه، وزعموا أن هذا قد تكرر مرات لا تتناهى، فكابروا المعقول وكذبوا المنقول، ولهذا قالوا: { وَمَا يُهْلِكُنَا إِلا الدَّهْرُ } ». قال ابن جرير: «أي ما يهلكنا إلا مر الليالي والأيام
..........................................................
* (ص/526).
(2) طول العمر إنكاراً منهم أن يكون لهم رب يفنيهم ويهلكهم. قال الله تعالى: { وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلا يَظُنُّونَ } أي يتوهمون ويتخيلون. فإن قلت: أين مطابقة الآية للترجمة إذا كانت خبراً عن الدهرية المشركين ؟ قلت: المطابقة ظاهرة لأن من سب الدهر فقد شاركهم في سبِّه وإن لم يشاركهم في الاعتقاد. قاله في «الشرح»*.
( ) قوله: «في الصحيح» أي صحيح البخاري «عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «قال الله تعالى: يؤذيني ابن آدم يسب الدهر وأنا الدهر، أقلّب الليل والنهار»**. وأخرجه أحمد بهذا اللفظ، وأخرجه مسلم بلفظ آخر، قال في «شرح السنة» [12/357]: «ومعناه أن العرب كان من شأنها ذم الدهر أي سبه عند النوازل؛ لأنهم كانوا ينسبون إليه ما يصيبهم من المصائب والمكاره، فيقولون: أصابتهم قوارع الدهر، وأبادهم الدهر، فإذا أضافوا إلى الدهر ما نالهم من الشدائد سبُّوا فاعلها، فكان مرجع سبِّهم إلى الله عز وجل، إذ هو الفاعل في الحقيقة للأمور التي يصفونها فنهوا عن سب الدهر». انتهى ملخصاً.
وقوله: «أقلّب الليل والنهار» تقليبه تصرفه تعالى فيه بما يحبه الناس ويكرهونه. وفي هذا الحديث زيادة لم يذكرها المصنف وهي قوله: بيدي الأمر.(1/266)
عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «قال الله تعالى: يُؤذيني ابنُ آدم، يَسُبُّ الدهرَ، وأنا الدهرُ، أُقلِّبُ الليلَ والنهارَ».
وفي رواية: «لا تسبُّوا الدهرَ، فإن الله هو الدهر»(1)
__________
(1) قوله «وفي رواية: لا تسبُّوا الدهر فإن الله هو الدهر»*** هذه الرواية ذكرها
مسلم وغيره. قال الشافعي وأبوعبيد وغيرهما من الأئمة في تفسير قوله «لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر» كانت العرب في جاهليتها إذا أصابهم شدة أو
..........................................................
* (ص/527).
** أخرجه البخاري (4826)، (6181)، (7491).
*** عند مسلم (2246).
بلاء أو نكبة قالوا: يا خيبة الدهر، فيسندون تلك الأفعال إلى الدهر ويسبونه، وإنما فاعلها هو الله تعالى فكأنما سبوا الله سبحانه لأنه فاعل ذلك في الحقيقة، فلهذا نهى عن سب الدهر بهذا الاعتبار لا أن الله هو الدهر الذي يعنونه ويسندون إليه تلك الأفعال وهذا أحسن ما قيل في تفسيره وهو المراد. والله أعلم. وقد تبيَّن بهذا خطأ ابن حزم في عدِّه الدهر من أسماء الله الحسنى، ولو كان كذلك لكان الذين قالوا: { وَمَا يُهْلِكُنَا إِلا الدَّهْرُ } صادقين. قاله في «الشرح»*.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: «وفي مسبّة الدهر ثلاث مفاسد عظيمة:
أحدها: مسبة من ليس أهلاً للسبّ، فإن الدهر خلق مسخر من خلق الله منقاد لأمره متذلل لتسخيره فسابه أولى بالسب والذم منه.
والثانية: أن سبَّه متضمن للشرك فإنما سبّه لظنه أنه يضر وينفع وأنه مع ذلك ظالم قد ضر من لا يستحق الضرر ورفع من لا يستحق الرفعة، وحرم من لا يستحق الحرمان،و أعطى من لا يستحق العطاء وهو عند شاتميه من أظلم الظلمة، وأشعار هؤلاء الظلمة الخونة في سبِّه كثيرة جداً، وكثير من الجهَّال يصرِّح بلعنه وتقبيحه.
الثالثة: أن السبَّ منهم إنما يقع على من فعل هذه الأفعال التي لو اتبع الحق أهواءهم فيها لفسدت السموات والأرض، فإذا وافقت أهواءهم حمدوا الدهر وأثنوا عليه، وفي حقيقة الأمر فرب الدهر هو المعطي المانع الخافض الرافع المعز المذل، والدهر ليس له من الأمر شيء فمسبّتهم مسبة لله عز وجل؛ ولهذا كانت مؤذية لله تعالى، فساب الدهر دائر بين أمرين لابد له من أحدهما: إما مسبة الله، أو الشرك به، فإنه إن اعتقد أن الدهر فاعل مع الله فهو مشرك، وإن اعتقد أن الله
..........................................................
* (ص/530).
وحده هو الذي يفعل ذلك وهو يسبّ من فعله فهو سب لله تعالى». انتهى.
وليس من مسبة الدهر وصف السنين بالشدة، لقوله تعالى: { ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ } الآية [يوسف:48].
وفيه: النَّهيُ عن سبِّ الدهر، وتسميتُه أذىً لله، والتأمل في قوله «فإن الله هو الدهر»، وأنه قد يكون سابَّاً وإن لم يقصده بقلبه. قاله المصنف رحمه الله تعالى.(1/267)
.
..............................................................................
* * *
46- باب
التسمِّي بقاضي القضاة ونحوه(1)
في الصحيح(2) عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن أخنعَ اسمٍ عند الله رجلٌ تسمَّى مَلِكَ الأملاك، لا مَالِكَ إلا الله»(2)
__________
(1) قوله: «باب التسمي بقاضي القضاة ونحوه» ذكر المصنف رحمه الله هذه الترجمة: إشارة إلى النهي عن التسمي بقاضي القضاة، قياساً على ما في حديث الباب ؛ لكونه شبهة في المعنى فينهى عنه. قاله في «فتح المجيد»*.
(2) قوله: «في الصحيح» أي الصحيحين عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن أخنع اسم عند الله رجل تسمّى ملك الأملاك، لا مالك إلا الله» ** لأن هذا اللفظ إنما يصدق على الله تعالى فهو ملك الأملاك لا مَلِكَ أعظم منه ولا أكبر منه مالك الملك ذو الجلال والإكرام، وكل ملك يؤتيه الله من يشاء من عباده فهو عارية يسرع ردها إلى المعير وهو الله تعالى ينزع الملك من ملكه تارة وينزع الملك منه تارة فيصير لا حقيقة له سوى اسم زال مسماه، وأما رب العالمين فملكه دائم كامل لا انتهاء له، بيده القسط يخفضه ويرفعه، ويحفظ على عباده أعمالهم بعلمه سبحانه وتعالى وما تكتبه الحفظة عليهم فيجازي كل عامل بعمله إن خيراً فخير، وإن شراً فشر، كما ورد في الحديث: «اللهم لك الحمد كله، ولك الملك كله، وبيدك الخير كله، وإليك يرجع الأمر كله، أسألك من الخير كله، وأعوذ بك من الشر كله»***.
قوله: «إن أخنع» اسم، ذكر المصنف أن معناه أوضع، وهذا التفسير رواه مسلم عن الإمام أحمد عن أبي عمرو الشيباني، قال عياض: معناه أنه أشد
الأسماء صغاراً. وبنحو ذلك فسر أبوعبيد، والخانع: الذليل. وخنع الرجل: ذلَّ
..........................................................
* (2/711).
** أخرجه البخاري (6209) و(6206)، ومسلم (2143).
*** أخرجه أحمد (38/378) ط. الرسالة من حديث حذيفة - رضي الله عنه - بنحوه وقال المحقق: إسناده ضعيف لإبهام الراوي عن حذيفة.(1/268)
.
قال سفيان: مثلُ شاهان شاه(1). وفي رواية: «أغيظُ رجلٍ على الله يوم القيامة وأخبثه»(2)
__________
(1) اله في «الشرح»*، وفي رواية: «اشتد غضب الله على من زعم أنه ملك الأملاك» **. رواه الطبراني.
وقوله: «تسمى» بفتح التاء الفوقية والسين المهملة، أي سمّى نفسه، وقيل بضم الياء التحتية أي يُدعى بذلك ويرضى به.
وقوله: «لا مالك إلا الله» أي هو الذي يستحق هذا الاسم، ومن تسمّى به فقد كذب وافترى وادّعى ما ليس له فلذا صار أذلّ الناس عند الله يوم القيامة.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: «المالك المتصرف بفعله، والملِك المتصرف بفعله وأمره».
( ) وقوله: «قال سفيان - هو ابن عيينة - مثل شاهنشاه» قال ابن القيم: «ملك الملوك وسلطان السلاطين»، ومراد سفيان أن الحديث متناول لمثل هذا بأي لسان فلا ينحصر في لفظه بعينه بل ما أدى هذا المعنى فهو داخل في الحديث، هذا معنى كلام الحافظ ابن حجر. قاله في «إبطال التنديد» ***.
(2) قوله: «وفي رواية: أغيظ رجل على الله يوم القيامة وأخبثه»**** هذه الرواية ذكرها مسلم في صحيحه. قاله في «الشرح»*****.
قوله: «أغيظ» من الغيظ وهو مثل الغضب، فيكون بغيضاً إلى الله مغضوباً عليه. والله أعلم. وهذا من الصفات التي تُمرُّ كما جاءت، ويجب
..........................................................
* (ص/530).
** أخرجه الطبراني في الكبير (11/396) رقم (12113) وصححه الألباني في صحيح الجامع رقم (988).
*** (ص/243).
**** أخرجه مسلم (2143)، وأحمد (2/315).
***** (ص/533).
اتباع الكتاب والسنة في ذلك وإثباته على وجه يليق بجلال الله وعظمته تعالى. قاله في «فتح المجيد»*.
قوله: «وأخبثه» وهو يدل على أن هذا خبيث عند الله فاجتمعت في حقه هذه الأمور لتعاظمه في نفسه وتعظيم الناس له بما ليس له بأهل فصار أخبث الخلق وأبغضهم إلى الله وأحقرهم عنده، وهذا المذكور ينافي كمال التوحيد الذي دلّت عليه كلمة الإخلاص، فيكون فيه شائبة من الشرك، وإن لم يكن أكبر. قاله في «قرة العيون»**.
قوله: «أخنع» يعني: أوضع. وفيه: النهي عن التسمِّي بِمَلِكِ الأملاك، وأن ما في معناه مثله كما قال سفيان، والتفطن للتغليظ في هذا ونحوه مع القطع أن القلب لم يقصد معناه، والتفطن في أن هذا لأجل الله سبحانه. قاله المصنف رحمه الله تعالى.
..........................................................
* (2/712، 713-714).
** (ص/213-214).(1/269)
.
قوله: «أخنع»: يعني أوضع
* * *
47- باب
احترام أسماء الله تعالى وتغيير الاسم لأجل لذلك (1)
عن أبي شُرَيح(2) أنه كان يُكنى أبا الحَكَم، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله هو الحَكَم، وإليه الحُكْمُ»(3)،
__________
(1) قوله: «باب احترام أسماء الله تعالى وتغيير الاسم لأجل ذلك».
(2) قوله: «عن أبي شُرَيح» بضم المعجمة وفتح الراء وآخره مهملة مصغر. قاله في «الشرح»*. واسمه: هانئ بن يزيد الكندي. قاله الحافظ ابن حجر، وقيل: الحارث الضبابي. قاله المزي. وقيل: خويلد بن عمرو الخزاعي. قاله في «الخلاصة» وجزم به في «قرة عيون الموحدين»**، وذكر أنه أسلم عام الفتح، له عشرون حديثاً اتفقاً على حديثين، وانفرد البخاري بحديث وعنه أبوسعيد المقبري ونافع بن جبير وطائفة، قال ابن سعد: مات بالمدينة سنة ثمان وستين، وقيل غير ذلك، والصحيح الأول. وقد جاء مصرّحاً باسمه في رواية أبي داود من طريق يزيد بن المقدام بن شريح عن أبيه عن جده عن أبيه هانئ وهو أبوشريح «أنه لما وفد على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع قومه سمعهم يكنونه بأبي الحكم فدعاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: «إن الله هو الحَكَم» *** أي الذي إذا حكم لا يرد حكمه، وهذه الصفة لا تليق بغيره سبحانه. قاله في «شرح السنة».
(3) قوله: «وإليه الحكم» أي الفصل بين العباد في الدنيا والآخرة، فالحكم في الدنيا بين خلقه بوحيه الذي أنزله على أنبيائه ورسله وما من قضية إلا ولله
..........................................................
* (ص/534).
** (ص/214).
*** أخرجه أبوداود (4955)، والنسائي (8/227)، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (3/936) رقم (4145).(1/270)
فقال: إن قومي إذا اختلفوا في شيء أتوني فحكمتُ بينهم، فرضيَ كلا الفريقين(1). فقال: «ما أحسن هذا،
__________
(1) يها حكم، قال تعالى: { وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ } [الشورى:10]، وقال: { فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ } [النساء: 59]، فالحكم إلى الله هو الحكم إلى كتابه والحكم إلى رسوله هو الحكم إليه في حياته وإلى سنته بعد وفاته.
قوله: «فلِمَ تُكنى أبا الحكم ؟» والكنية ما صُدِّر بأب أو أم، واللقب ما أشعر بمدح أو ذم، قال بعضهم: الكنية قد تكون بالأوصاف كأبي الفضائل، وأبي المعالي، وأبي الخير وأبي الحكم، وقد تكون بالنسبة إلى الأولاد كأبي سلمة، وأبي شريح، وإلى ما يلابسه كأبي هريرة، وقد تكون للعَلَمية الصرفة كأبي بكر. ذكره في «الشرح»*.
( ) قوله: «قال: إني قومي إذا اختلفوا في شيء أتوني فحكمتُ بينهم فرضي كلا الفريقين». فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ما أحسن هذا». والمعنى - والله أعلم - أن أبا شريح كان مرضياً عندهم يتحرَّى ما يصلحهم إذا اختلفوا فيرضون حكمه، وهذا هو الصلح لأن مداره على الرضى لا على الإلزام فكنَّوه أبا الحكم. فأما ما يحكم به الجهلاء من سوالف آبائهم وأهوائهم فليس من هذا الباب لما فيه من النهي الشديد، والخروج عن حكم الله ورسوله إلى ما يخالفه كما قال تعالى: { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ } [المائدة:44]، وهذا كثير، فمن الناس من يحكم بين الخصمين برأيه وهواه، ومنهم من يتبع في ذلك سلفه ويحكم بما كانوا يحكمون به وهذا كفر إذا استقر وغلب على من تصدى لذلك ممن يرجع الناس إليه. قاله في «قرة العيون»**.
..........................................................
* (ص/534).
** (ص/215).(1/271)
فمالك من الولد ؟»(1). قلت: شُريحٌ ومسلمٌ وعبدُ الله. قال: «فمن أكبرهم؟» قلت: شُرَيح. قال: «فأنت أبوشُريح». رواه أبوداود وغيره.
* * *
48- باب
من هزلَ بشيء فيه ذكرُ الله أو القرآن أو الرسول(2)
__________
(1) قوله: «فما لك من الولد؟» قال: شريح ومسلم وعبدالله. قال: «فمن أكبرهم؟» قلت: شريح. قال: «فأنت أبوشريح» رواه أبوداود وغيره». قال ابن مفلح: وإسناده جيد. ورواه الحاكم وزاد فدعا له ولولده فكناه بالكبير وهو السنة، وغيَّر كنيته بأبي الحكم، فإن الله هو الحكم، وهذا هو الشاهد من الحديث للترجمة. قال في «قرة العيون»*: «ومنه: تسمية الأئمة بالحكام فينبغي ترك ذلك والنهي عنه».
قلت: وفيما قاله نظر ؛ لقول الله تعالى: { وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ } [البقرة:188] فسمَّاهم حُكَّاماً فدل على جواز ذلك.
وفيه: احترام أسماء الله تعالى وصفاته ولو لم يقصد معناه، وتغيير الاسم لأجل ذلك، واختيار أكبر الأبناء للكنية. قاله المصنف رحمه الله تعالى. فإن لم يكن له ابن فبأكبر بناته، وكذلك المرأة. قاله في «شرح السنة».
..........................................................
* (ص/215).
(2) قوله: «باب من هزل بشيء فيه ذكر الله أو القرآن أو الرسول» أي فقد كفر بذلك لاستخفافه بجناب الربوبية وذلك مناف للتوحيد، ولهذا أجمع العلماء على كفر من فعل شيئاً من ذلك، فمن استهزأ بالله أو بكتابه أو برسوله أو بدينه كفر ولو هازلاً لم يقصد حقيقة الاستهزاء إجماعاً.(1/272)
وقول الله تعالى: { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآَيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ } (1) [التوبة:65].
عن ابن عمرَ ومحمد بن كعب وزيد بن أسلم وقتادة(2)
__________
(1) قوله: «وقول الله تعالى: { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآَيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ } يقول تعالى مخطاباً لرسوله محمد - صلى الله عليه وسلم -: { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ } أي: المنافقين الذين تكلموا بكلمة الكفر استهزاء { لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ } أي: يعتذرون بأنهم لم يقصدوا الاستهزاء والتكذيب إنما قصدنا الخوض في الحديث واللعب.
وقوله: { قُلْ أَبِاللَّهِ وَآَيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ } لم يعبأ باعتذارهم: إما لأنهم كانوا كاذبين فيه، وإما لأن الاستهزاء على وجه الخوض واللعب لا يكون صاحبه معذوراً، فلذا كان الجواب مع ما قبله { لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ } . انتهى ملخصاً من «الشرح»*.
(2) قوله: «عن ابن عمر ومحمد بن كعب القرظي وزيد بن أسلم وقتادة - دخل حديث بعضُهم في بعض - أنه قال رجل في غزوة تبوك: ما رأينا مثل قرَّائنا هؤلاء، ارغَبَ بُطوناً، ولا أكذب ألسُناً، ولا أجبنَ عند اللقاء - يعني رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
..........................................................
* (ص/536).(1/273)
- دخل حديث بعضُهم في بعض -(1)
__________
(1) أصحابه القُرّاء -، فقال له عوف بن مالك: كذبتَ، ولكنّك منافق، لأخبرنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -. فذهب عوفٌ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليخبره فوجد القرآن قد سبقه، فجاء ذلك الرجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - - وقد ارتحل وركِبَ ناقته - فقال: يا رسول الله، إنما كنا نخوضُ ونلعب ونتحدَّثُ حديثَ الركبِ نقطَعُ به عناء الطريق. قال ابن عمر: كأني أنظر إليه متعلقاً بنسعَة ناقةِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإن الحجارة لتنكبُ رجليه، وهو يقول: إنما كنا نخوض ونلعب، فيقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: { أَبِاللَّهِ وَآَيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ } ؟. ما يلتفت إليه، وما يزيده عليه»* هذا الأثر ذكره المصنف مجموعاً من رواية ابن عمر ومحمد بن كعب وزيد بن أسلم وقتادة، وقد ذكره قبله شيخ الإسلام. فأما أثر ابن عمر فرواه ابن جرير وابن أبي حاتم وغيرهما بنحو مما ما ذكره، وأما أثر محمد بن كعب وزيد بن أسلم وقتادة فهي معروفة لكن بغير هذا اللفظ، وابن عمر هو: عبدالله بن عمر بن الخطاب - رضي الله عنهما -، ومحمد بن كعب هو محمد بن كعب بن سليم أبوحمزة القرظي المدني. قال البخاري: إن أباه كان ممن لم يثبت من بني قريظة، وهو ثقة عالم مات سنة عشرين ومائة، وزيد بن أسلم هو: مولى عمر بن الخطاب، والد عبدالله وإخوته، يُكنى أبا عبدالله، ثقة مشهور، مات سنة ست وثلاثين ومائة. وقتادة هو: ابن دعامة السدوسي.
( ) قوله: «دخل حديث بعضهم في بعض» أي أن الحديث مجموع من رواياتهم.
قوله: «أنه قال رجل» لم أقف على تسمية القائل أبهم اسمه في جميع الروايات التي وقفت عليها إلا أن في بعض الروايات أنه عبدالله بن أبيّ، لكن ردّه ابن القيّم بأن ابن أُبيّ تخلَّف عن غزوة تبوك.
..........................................................
* أخرجه ابن أبي حاتم وابن جرير (10/119). انظر الصحيح المسند من أسباب النزول للشيخ مقبل الوادعي (ص/122-123).(1/274)
أنه قال رجل في غزوة تبوك:
ما رأينا مثل قرَّائنا هؤلاء(1)، أرغَبَ بُطوناً، ولا أكذب ألسُناً، ولا أجبنَ عند اللقاء(2) -يعني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه القُرّاء -، فقال له عوف بن مالك: كذبتَ، ولكنّك منافق، لأخبرنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -(3)
__________
(1) قوله: «ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء» القرّاء جمع قارئ، وهم عند السلف: الذين يقرؤون القرآن، ويعرفون معانيه، فأما قراءته من غير فهم لمعناه فلا يوجد في ذلك العصر، وإنما حدث بعد ذلك. قاله في «الشرح»*.
(2) قوله: «أرغب بطوناً» أي أوسع بطوناً، يصفونهم بسعة البطون، وكثرة الأكل «ولا أكذب ألسناً ولا أجبن عند اللقاء» يعني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه القرّاء، وقد كذب ؛ فإن الصحابة هم أحسن الناس اقتصاداً في الأكل وغيره، بل المنافقون والكفّار أوسع بطوناً وأكثر أكلاً كما صحت بذلك الأحاديث «إن المؤمن يأكل في معاء واحد والكافر يأكل في سبعة أمعاء»** وكذلك المنافقون، وهم أشدّ الناس جبناً وأكذب خلق الله كما وصفهم بذلك في كتابه، وهذا القول الصريح في الاستهزاء. وأما الفعل الصريح فمثل مدّ الشفة، وإخراج اللسان، ورمز العين. قاله في «إبطال التنديد»*** ؛ ولهذا قال له عوف: كذبتَ، ولكنّك منافق.
وفيه: المبادرة في الإنكار والشدّة على المنافقين، وجواز وصف الرجل بالنفاق إذا قال أو فعل ما يدل عليه. قاله في «الشرح»****.
(3) قوله: «لأخبرنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -» فيه المسألة العظيمة: أن من هزل بهذا فهو كافر، وأن هذا هو تفسير الآية فيمن فعل ذلك كائناً من كان، والفرق بين النميمة وبين النصيحة لله ولرسوله. قال المصنف رحمه الله: «فينبغي معرفة الفرق بين
..........................................................
* (ص/539).
** أخرجه البخاري (5397)، 5394)، ومسلم (2060).
*** (ص/248).
**** (ص/539-540).(1/275)
. فذهب عوفٌ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليخبره فوجد القرآن قد سبقه(1)، فجاء ذلك الرجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - - وقد ارتحل وركِبَ ناقته(2)
__________
(1) لغيبة والنميمة وبين النصيحة لله ورسوله، فذكر أفعال المنافقين والفساق لولاة الأمور ليزجروهم ويقيموا عليهم أحكام الشريعة ليس من الغيبة والنميمة». انتهى.
( ) قوله: «فوجد القرآنَ قد سبقه» أي جاء الوحي من الله بما قالوه. وفيه: دلالة على علم الله وقدرته وإلهيته، وأن محمداً عبده ورسوله.
(2) قوله: «فجاء ذلك الرجل» تقدم أنه ابن أُبيّ، رواه ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عمر، لكن ردَّه ابن القيم بأن ابن أُبيٍّ تخلّف عن غزوة تبوك. قال ابن إسحاق: «وقد كان جماعة من المنافقين منهم وديعة بن ثابت أخو بني أمية بن زيد بن عمرو بن عوف ورجل من أشجع حليف لبني سلمة يقال له مخشي بن حمير يشيرون إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو منطلق إلى تبوك فقال بعضهم لبعض: أتحسبون جلاد بني الأصفر كقتال العرب بعضهم بعضاً ؟ والله لكأنا بكم غداً مقرّنين في الحبال. إرجافاً وترهيباً للمؤمنين، فقال مخشي بن حمير: والله لوددتُ أني أقاضي على أن يضرب كل رجل منا مائة جلدة وأنَّا ننقلب أن ينزل فينا قرآن لمقالتكم هذه. وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما بلغني لعمار بن ياسر: أدرك القوم فقد احترقوا، فسَلْهُم عما قالوا، فإن أنكروا فقل: بلى، قلتم كذا وكذا. فانطلق إليهم عمار فقال لهم ذلك فأتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعتذرون إليه، فجعل وديعة بن ثابت ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - واقف على راحلته وهو آخذ بحقبها يقول: يا رسول الله، إنما كنا نخوض ونلعب. فقال مخشي ابن حمير: يا رسول الله، قعد بي اسمي واسم أبي، فكان الذي يتمناه أي بقوله: { إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً } [التوبة:66] في هذه الآية مخشي بن حمير فسُمي عبدالرحمن وسأل الله أن يقتل شهيداً لا يعلم بمكانه، فقُتل يوم اليمامة فلم يُوجد له أثر».انتهى. وقال عكرمة: كان رجل ممن(1/276)
- فقال: يا رسول الله، إنما كنا
نخوضُ ونتحدَّثُ حديثَ الركبِ نقطَعُ به عناء الطريق. قال ابن عمر: كأني أنظر إليه مُتَعَلِّقاً بنسعَة ناقةِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإن الحجارة تنكبُ رجليه، وهو يقول: إنما كنا نخوض ونلعب، فيقول له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: { أَبِاللَّهِ وَآَيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ } (1) ؟. ما يلتفت إليه، وما يزيده عليه. (1)
__________
(1) نشأ الله عفى عنه يقول: اللهم إني أسمع آية أنا أعني بها تقشعر منها الجلود، وتوجل منها القلوب، اللهم فاجعل وفاتي قتلاً في سبيلك لا يقول أحد: أنا غَسَّلتُ، أنا كَفَّنتُ، أنا دَفنتُ. قال: فأصيب يوم اليمامة فما أحدٌ من المسلمين إلا قد وجد غيره.
( ) وقوله: { لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ } أي بهذه المقالة، وهذا هو الشاهد من الآية للترجمة، وفيه الفرق بين العفو الذي يحبه الله وبين الغفلة على أعداء الله، وأن من الأعذار ما لا ينبغي أن يقبل. قاله المصنف رحمه الله تعالى.
وقوله: { إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ } أي مخشي بن حمير { نُعَذِّبْ طَائِفَةً } أي لا يعفى عن جميعكم، ولابد من عذاب بعضكم أنهم { كَانُوا مُجْرِمِينَ } أي بهذه المقالة الفاجرة الخاطئة. انتهى. وفي الآية: دليل على أن الرجل إذا فعل الكفر ولم يعلم أنه كفر لا يعذر بذلك بل يكفر، وعلى أنَّ السابَّ كافر بطريق الأولى. نبَّه عليه شيخ الإسلام. قاله في «الشرح»*. وقال شيخ الإسلام [كتاب الإيمان ص/259]: «أمره الله أن يقول لهم { قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ } ، وقول من يقول: إنهم كفروا بعد إيمانهم بلسانهم مع كفرهم أولاً بقلوبهم لا يصح؛
لأن الإيمان باللسان مع كفر القلب قد قارنه الكفر فلا يُقال: قد كفرتم بعد
إيمانكم، فإنهم لم يزالوا كافرين في نفس الأمر، وإن أُريد أنكم
..........................................................
* (ص/537).
أظهرتم الكفر بعد إظهاركم الإيمان فهم لم يُظهروا ذلك إلا لخواصهم، وهم مع خواصهم ما زالوا هكذا بل لما نافقوا وحذروا أن تنزل عليهم سورة تبيِّن ما في قلوبهم من النفاق وتكلموا بالاستهزاء صاروا كافرين بعد إيمانهم، ولا يدل اللفظ على أنهم ما زالوا منافقين»، وقال أيضاً: «أخبر أنهم كفروا بعد إيمانهم مع قولهم: إنما تكلمنا بالكفر من غير اعتقاد له. بل إنما كنا نخوض ونلعب. وبيَّن الاستهزاء بآيات الله كفر، ولا يكون هذا إلا ممن شرح صدراً بهذا الكلام، ولو كان الإيمان في قلبه لمنعه أن يتكلم بهذا الكلام، والقرآن يبيِّن أن إيمان القلب يستلزم العمل الظاهر بحسبه كقوله تعالى: { وَيَقُولُونَ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ } [النور:47]، { إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } [النور:51]، فنفى الإيمان عمن تولَّى عن طاعة الرسول، وأخبر أن المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم سمعوا وأطاعوا، فبيَّن أنّ هذا من لوازم الإيمان». انتهى.
وفيه: أن الإنسان قد يكفر بكلمة يتكلم بها أو عمل يعمل به، وأشدّها خطراً إرادات القلوب فهي البحر الذي لا ساحل له.
ويفيد: الخوف من النفاق الأكبر، فإن الله أثبت لهؤلاء إيماناً قبل أن يقولوا ما قالوه. قال ابن أبي مليكة: أدركتُ ثلاثين من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كلهم يخاف النفاق على نفسه. نسأل الله السلامة والعفو والعافية في الدنيا والآخرة. قاله في «الشرح»*.
..........................................................
* (ص/540-541).(1/277)
............................................................................................
* * *
49- باب
ما جاء في قول الله تعالى: { وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ } (1) [فصلت:50].
قال مجاهد: هذا بعملي وأنا محقوقٌ به.
وقال ابن عباس: يريد من عندي.
__________
(1) قوله: «باب ما جاء في قول الله تعالى { وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ } قال مجاهد: هذا بعملي وأنا محقوق به، وقال ابن عباس: يريد من عندي.(1/278)
وقوله: { قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي } (1) [القصص: 78] قال قتادة: على علم مني بوجوه المكاسب. وقال آخرون: على علم من الله أني له أهل.
وهذا معنى قول مجاهد: أُوتيته على شرف.
وعن أبي هريرة أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول(2)
__________
(1) وقوله: « { قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي } قال قتادة: على علم مني بوجوه المكاسب. وقال آخرون: علىعلم من الله أني له أهل. وهذا معنى قول مجاهد: أُوتيته على شرف» وليس فيما ذكروه اختلاف وإنما هي أفراد المعنى. قاله في «الشرح»*. قال ابن كثير - رحمه الله - [التفسير 7/296] في معنى الآية { ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ } يخبر تعالى أن الإنسان في حال الضرِّ يضرع إلى الله تعالى وينيب إليه ويدعوه، ثم إذا خوَّله نعمةً منه طغى وبغى. وقال: { إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ } أي: لَمَا يعلم الله من استحقاقي له ولولا أني عند الله حظيظ لما خولّني هذا، قال الله تعالى: { بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ } أي اختبار { وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ } فلهذا يقولون ما يقولون، ويدعون ما يدعون.
..........................................................
* (ص/541).
(2) فيه: معرفة تفسير الآية، وما معنى قوله: أوتيته على علم عندي. قاله المصنف رحمه الله.
( ) قوله: «وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إن ثلاثة من بني إسرائيل: أبرص وأقرع وأعمى، فأراد الله أن يبتليهم»* هذا سياق مسلم ورواية البخاري بدأ الله بالباء الموحدة والدال المهملة وكسر لام الجلالة قال ابن قرقول ضبطناه بالهمز ورواه كثير من الشيوخ بلا همز «فبعث إليهم مَلَكاً فأتى الأبرص فقال: أي شيء أحب إليك ؟ قال: لونٌ حسن وجلد حسن ويذهب عني الذي قد قذِرَني الناس به» بكسر الذال المعجمة أي: كرهني «فمسحه، فذهب عنه قذره، وأُعطي جلداً حسناً، ولوناً حسناً. قال: فأي المال أحبّ إليك ؟ قال: الإبل والبقر - شك إسحاق -» أي ابن عبدالله بن أبي طلحة راوي الحديث فأُعطي ناقة عُشَراء» بعين مهملة مضمومة وشين معجمة مفتوحة وبالمد غير منصرف، قال في «تيسير الوصول»: هي الحامل، وقيل: هي التي أتى على حملها عشرة أشهر. «وقال» أي: المَلَك «بارك الله لك فيها. قال فأتى الأقرع فقال: أي شيء أحب إليك قال: شعر حسن ويذهب عني الذي قذرني الناس به، فمسحه فذهب عنه قذره وأُعطي شعراً حسناً، فقال: أي المال أحب إليك ؟ قال: البقر أو الإبل، فأُعطي بقرة حاملاً، وقال: بارك الله لك فيها. فأتى الأعمى فقال: أي شيء أحب إليك ؟ قال: أن يرد الله إليَّ بصري فأبصر به الناس، فمسحه، فردَّ الله إليه بصره، قال: فأي المال أحب إليك ؟ قال: الغنم فأعطي شاة والداً» أي ذات ولد، قال في
..........................................................
* أخرجه البخاري (3464)، (6653)، ومسلم (2964).(1/279)
: «إن ثلاثة من بني إسرائيل: أبرص وأقرع وأعمى. فأراد الله أن يبتليهم فبعث إليهم مَلَكَاً فأتى الأبرص فقال: أيُّ شيء أحبُّ إليك ؟ قال: لونٌ حسنٌ، وجلدٌ حسن، ويذهب عني الذي قد قَذَرني الناس به. قال: فمسَحَه، فذهب عنه قذره، وأُعطي لوناً حسناً وجلداً حسناً. قال: فأي المال أحبُّ إليك ؟ قال: الإبل - أو البقر (شك إسحاق) - فأُعطي ناقة عُشراء، وقال: بارك اللهُ لك فيها. قال: فأتى الأقرع فقال: أي شيء أحبُّ إليك ؟ قال: شعرٌ حسن، ويذهبُ عني الذي قذرني الناس به. فمسحه فذهبَ عنه. وأُعطي شعراً حسناً. فقال: أيُّ المال أحب إليك ؟ قال: البقرُ - أو الإبل - فأُعطيَ بقرةً حاملاً، قال: بارك الله لك فيها. فأتى الأعمى فقال: أي شيء أحب إليك ؟ قال: أن يرُدَّ الله إليَّ بصري فأُبصرَ به الناسَ، فمسحه، فردَّ الله إليه بصره. قال: فأيُّ المال أحبُّ إليك؟ قال: الغنمُ. فأُعطي شاةً والداً، فأنتج هذان وولد هذا، فكان لهذا وادٍ من الإبل، ولهذا وادٍ من البقر، ولهذا وادٍ من الغنم. قال: ثم إنه أتى الأبرص في صورته وهيئته فقال: رجلٌ مسكين قد انقطعت بي الحبالُ في سفري، فلا بلاغَ لي اليوم إلا بالله ثم بك، أسألك - بالذي أعطاك اللونَ الحسن والجلد الحسن والمال - بعيراً أتبلَّغ به في سفري، فقال: الحقوق كثيرة. فقال له: كأني أعرفك، ألم تكن أبرص يقذّرُك الناس، فقيراً فأعطاك الله عز وجل المال ؟ فقال: إنما وَرِثتُ هذا المال كابراً عن كابر. فقال: إن كنتَ كاذباً فصيَّركَ اللهُ إلى ما كنتَ. قال: وأتى الأقرع في صورته، فقال له مثل ما قال لهذا، وردَّ عليه مثل ما ردَّ عليه هذا. فقال: إن كنت كاذباً فصيَّرك اللهُ إلى ما كنت. قال: وأتى الأعمى في صورته فقال: رجلٌ مسكينٌ وابنُ سبيل، قد انقطعت بي الحبال في سفري، فلا بلاغ لي اليومَ إلا بالله ثم بك -أسألك بالذي ردَّ عليك بصرك- شاةً أتبلغُ بها في سفري. فقال: قد كنت أعمى فردّ الله إليَّ بصري،(1/280)
فخذ ما شئتَ ودعْ ما شئت، فوالله لا أجهدُك اليوم بشيء أخذتَه لله. فقال: أمسكْ مالَك، فإنما ابتُلِيتُم، فقد رضي الله عنك وسخطَ على صاحبيك». أخرجاه (1)
__________
(1) «التيسير»: الشاة الوالد التي عرف منها كثرة الولد والنتاج «فأنتج هذان» بفتح الهمزة والتاء المثناة فوق أي: صاحب الناقة والبقرة، «ووُلِّد» بتشديد اللام «هذا أي» صاحب الشاة، قال في «تيسير الوصول»: ومعناه اعتنى بها عند الولادة أي: حفظها وقام بمصالحها، فكان لهذا واد من الإبل، ولهذا واد من البقر، ولهذا واد من الغنم «ثم إنه» أي المَلَك «أتى الأبرص في صورته وهيئته» قال ابن القيم في كتاب «الأعلام»: «وهذا ليس بتعريض، وإنما هو تصريح على وجه ضرب المثال وإيهام أني أنا صاحب هذه القصة كما أوهم الملكان داود أنهما صاحبا القصة «فقال: رجلٌ مسكين وابن سبيل قد انقطعت بي الحبال» بالحاء المهملة بعدها باء موحدة، أي: الأسباب التي يقطعها في طلب الرزق، ولبعض رواة مسلم: الحيال. بياء تحتية جميع حيلة «في سفري فلا بلاغ لي اليوم إلا بالله ثم بك أسألك بالذي أعطاك اللون الحسن والجلد الحسن والمال بعيراً أتبلّغ به في سفري» من البُلْغة وهي الكفاية: أي أتوصل به إلى مرادي «فقال: الحقوق كثيرة، فقال له: كأني أعرفك! ألم تكن أبرصَ يقذرك الناس فقيراً فأعطاك الله عز وجل المال. فقال: إنما ورثت هذا المال كابراً عن كابراً. فقال: إن كنتَ كاذباً فصيّرك الله إلى ما كنت» أي ردّك الله إلى ما كنت عليه سابقاً من البرص والفقر «قال: فأتى الأقرع في صورته. فقال له مثل ما قال لهذا، وردّ عليه» أي الأقرع «مثل ما رد عليه» هذا الأبرص «فقال: إن كنت كاذباً فصيّرك الله إلى ما كنت» أي ردّك الله عليك ما كنت عليه سابقاً من القرع والفقر. «قال: وأتى الأعمى في صورته وهيئته، فقال: رجل مسكين وابن سبيل، قد انقطعت بي الحبال في سفري فلا بلاغ
لي اليوم إلا بالله ثم بك، أسألك بالذي ردّ عليك بصرك شاة أتبلّغ
بها في سفري، فقال: قد كنت أعمى فردّ الله إليَّ بصري، فخذْ ما شئتَ ودعْ ما شئتَ، فوالله لا أجهدك اليوم بشيء أخذته لله عز وجل» هكذا لبعض رواه مسلم، أي لا أشق عليك في الأخذ والامتنان، ورواية البخاري: «لا أحمدك» بالحاء المهملة والميم: أي على طلب شيء أو أخذ شيء مما تحتاج إليه من مالي، كما قيل: ليس على طول الحياة ندم، أي على فوت طول الحياة «فقال» المَلَك: «أمسكْ عليك مالك، فإنما ابتُليتم، فقد رضي الله عنك وسخط على صاحبيك». أخرجاه. أي البخاري ومسلم، وهذا حديث عظيم، وفيه معتبر، فإن الأوَلَين جحدا نعمة الله فما أقرَّا لله بنعمة، ولا نسبا النعمة إلى المنعم بها، ولا أَدَّيَا حقَّ الله فيها ؛ فحَلَّ عليهما السخط، وأما الأعمى فاعترف بنعمة الله ونسبها إلى المنعم عليه بها وأدَّى حق الله فيها؛ فاستحق الرضا من الله بقيامه بشكر النعمة لَمَّا أتى بأركان الشكر وهي: الإقرار بالنعمة، ونسبتها إلى المنعم بها، وبذلها فيما يحب.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى [المدارج 2/242]: «أصل الشكر هو: الاعتراف بإنعام المنعم على وجه الخضوع له والذل والمحبة، فمن لم يعرف النعمة بل كان جاهلاً بها لم يشكرها، ومن عرفها ولم يعرف المنعم بها لم يشكرها أيضاً، ومن عَرَف النعمة والمنعم بها لكن جحدها لم يشكرها، ومن عرف النعمة والمنعم بها وأقر بها ولم يجحدها ولكن لم يخضع للمنعم بها ولم يرضَ به وعنه، لم يشكرها أيضاً، ومن عرفها وعرف المنعم بها وأقر بها وخضع للمنعم بها وأحبه ورضي عنه واستعملها في محابه فهذا هو الشاكر لها، فلابد في الشكر من علم القلب وعمل يتبع العلم وهو الميل إلى المنعم ومحبته والخضوع له». انتهى.
وفيه: معرفة ما هذه القصة العجيبة من العبر العظيمة. قاله المصنف رحمه الله تعالى.(1/281)
.
..............................................................................................
50- باب
قول الله تعالى: { فَلَمَّا آَتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آَتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } (1)
__________
(1) قوله: «باب قول الله تعالى: { فَلَمَّا آَتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آَتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } وقبلها: { هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ } أي من أبينا آدم { وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا } أي حواء خلقها منه { لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا } أي يطمئن إليها ويألفها { فَلَمَّا تَغَشَّاهَا } أي وطئها { حَمَلَتْ حَمْلا خَفِيفًا } أي لا يثقلها أولاً، إنما هو نطفة وعلقة ومضغة { فَمَرَّتْ بِهِ } أي استمرت بالماء قامت به وقعدت { فَلَمَّا أَثْقَلَتْ } أي صارت ذات ثقل بحملها ودنت ولادتها { دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا } أي آدم وحواء { لَئِنْ آَتَيْتَنَا صَالِحًا } أي بشراً سوياً { لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ } قال الإمام أحمد في معنى الآية: حدثنا عبدالصمد حثنا عمر بن إبراهيم حدثنا قتادة عن الحسن عن سمرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لما ولدت حواء طاف بها إبليس، وكان لا يعيش لها ولد. فقال: سمِّيه عبدالحارث فإنه يعيش، فسمته عبدالحارث فعاش، وكان ذلك من وحي الشيطان وأمره»*، وهكذا رواه ابن جرير عن محمد بن بشار بندار عن عبدالصمد بن عبدالوارث به. ورواه الترمذي في تفسير هذه الآية عن محمد بن المثنى عن عبدالصمد به وقال: هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث عمر بن إبراهيم، ورواه بعضهم عن عبدالصمد ولم يرفعه، ورواه الحاكم في مستدركه من حديث عبدالصمد مرفوعاً وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ورواه الإمام أبومحمد بن أبي حاتم في تفسيره عن أبي زرعة الرازي عن هلال بن فياض عن عمر بن إبراهيم به مرفوعاً، قال ابن كثير بعد حكاية ما تقدم: وهذا الحديث
..........................................................
* أخرجه أحمد (5/11)، والترمذي (3079) وحسنه، والحاكم (2/545) وصححه ووافقه الذهبي. وطعن ابن كثير في تفسيره في هذا الحديث وأعله. انظر: تيسير العزيز الحميد (ص/545) تعليق المحقق.
معلول من ثلاثة أوجه:
أحدها: قول أبي حاتم الرازي: إن عمر بن إبراهيم هو البصري لا يُحتج به.
والثاني: إنه قد روي من قول سمرة نفسه.
والثالث: قول الحسن هم: اليهود والنصارى. انتهى.
فأما قول أبي حاتم فجوابه: أن عمر بن إبراهيم قد وثقه ابن معين وروى أبوبكر بن مردويه له متابعاً من حديث المعتمر عن أبيه عن الحسن عن سمرة مرفوعاً.
* وأما قول ابن كثير بأنه قد رُويَ من قول سمرة نفسه.
فجوابه: أن هذا لا يقتضي عدم رفع سمرة للحديث؛ لأن رفعه زيادة والزيادة من الثقة مقبولة لا سيما الصحابي، ولأنه يجوز أن يسمع الرجل حديثاً فيفتي به في وقت ويرفعه في وقت، ومما يؤيّد صحة رفع الحديث رواية الإمام أحمد له في مسنده، والأصل أنه لا يروي فيه إلا الأحاديث المرفوعة دون أقوال الصحابة. قاله الحافظ ابن حجر.
* وأما قول الحسن: هم اليهود والنصارى.
فجوابه: أن هذا لا يُعد من الحسن عدولاً عما رواه عن سمرة، ولا ينفي أن يكون سبب نزول الآية آدم وحواء وحكمها عام للشريكين من الذرية من اليهود والنصارى وغيرهم ؛ لأنه لا يجوز قصر الآيات على سبب نزولها.(1/282)
[الأعراف:190].
قال ابن حزم(1): اتفقوا على تحريم كل اسم معبَّدٍ لغير الله، كعبدِ عمر
وعبد الكعبة وما أشبه ذلك، حاشا عبدالمطلب(2)
__________
(1) قوله: «قال ابن حزم» وهو عالم الأندلس أبومحمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم القرطبي الظاهري، صاحب التصانيف، توفي سنة ست وخمسين وأربعمائة وله اثنتان وسبعون سنة. «اتفقوا» يعني: أهل العلم «على تحريم كل اسم معبَّد لغير الله كعبد عمر وعبدالكعبة وما أشبه ذلك» حكى ابن حزم اتفاق العلماء على تحريم كل ما عُبِّد لغير الله؛ لأنه شرك في الربوبية والإلهية ؛ لأن الخلق كلهم ملك لله وعبيد له، خلقهم لعبادته وحده وتوحيده في ربوبيته وإلهيته، فمنهم من
(2) بدَ الله ووحّده في ربوبيته وإلهيته، ومنهم من أشرك به في إلهيته وأقرّ له بربوبيته وأسمائه وصفاته. قاله في «فتح المجيد»*.
( ) قوله: «حاشا عبدالمطلب» وعبدالمطلب هذا جد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واسمه شيبة الحمد وهو ابن هاشم بن عبدمناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي ابن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان، ولا ريب أن عدنان من ذرية إسماعيل بن إبراهيم الخليل عليه السلام وقوله: «حاشا عبدالمطلب» هذا استثناء من العموم المستفاد من كل، وذلك أن تسميته بهذا الاسم لا محذور فيه ؛ لأنه لم يعبَّد لغير الله، وإنما أصله من عبودية الرق، وذلك أن المطلب أخو هاشم قدم المدينة، وكان ابن أخيه شيبة هذا قد نشأه في أخواله بني النجار من الخزرج ؛ لأن هاشماً تزوج فيهم امرأة فجاءت منه بهذا الأب، فلما شبَّ في أخواله وبلغ سن التمييز سافر به عمه المطلب إلى مكة بلد أبيه وعشيرته فقدم به مكة وهو رديفه فرآه أهل مكة وقد تغيّر لونه بالسفر فحسبوه عبداً للمطلب فقالوا: هذا عبدالمطلب، فعَلِق به هذا الاسم، فصار لا يُُذكر ولا يُدعى إلا به، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبدالمطلب»** وقد صار معظماً في قريش والعرب، فهو سيد قريش وأشرفهم في جاهليته، وهو الذي حفر زمزم وصارت له السقاية وفي ذريته من بعده، ووالد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحد بني عبدالمطلب، وتوفي في حياة أبيه وكان سن أبيه عبدالله حين حملت منه آمنة برسول الله نحو ثمانية عشر عاماً. قال الحافظ الذهبي [تاريخ الإسلام / السيرة ص/49]: «توفي أبوه عبدالله وللنبي - صلى الله عليه وسلم - ثمانية وعشرون شهراً، وقيل أقل من ذلك، وقيل وهو حمل، توفي بالمدينة وعاش خمسةً وعشرين سنة». قال الواحدي: «وذلك أثبت الأقاويل في سنه ووفاته».
..........................................................
* (2/734).
** أخرجه البخاري (2864، 2874) وكرره، ومسلم (1776).(1/283)
.
وعن ابن عباس في الآية(1) قال: لما تغشَّاها آدمُ حملتْ، فأتاهما إبليس فقال: إني صاحبكما الذي أخرجتكما من الجنة لتطيعانني أو لأجعلنّ له(1)
__________
(1) تُوفيت أمه آمنة بالأبواء وهي راجعة به من المدينة إلى مكة من زيارة أخوال أبيه بني عدي بن النجار وهو يومئذ ابن ست سنين ومائة يوم، وقيل ذلك أربع سنين، فلما ماتت أمه حملته أم أيمن مولاته إلى جده، فكان في كفالته إلى أن توفي جده وللنبي - صلى الله عليه وسلم - ثمان سنين فأوصى به إلى عمه أبي طالب.
... وقال شيخ الإسلام [الفتاوى 1/378-379]: «كان المشركون يعبِّدون أنفسهم وأولادهم لغير الله، فيضيفون فيه التعبيد إلى غير الله من شمس أو وثن أو بشر أو غير ذلك مما قد يشرك بالله، فغيَّر ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - فعبَّدهم لله وحده فسَمَّى جماعة من أصحابه، كان اسم عبدالرحمن بن عوف عبدالكعبة فسمَّاه عبدالرحمن، وكان اسم أبي هريرة عبدشمس فغَيَّر اسمه، وسَمَّى أبا معاوية عبدالرحمن وكان اسمه عبدالعزى، وكان اسم مولاه قيوم فسمَّاه عبدالقيوم، فشريعة الإسلام الذي هو الدين الخالص لله وحده تعبيد الخلق لربهم كما سنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتغيير الأسماء الشركية إلى الأسماء الإسلامية والأسماء الكفرية إلى الأسماء الإيمانية». انتهى ملخصاً. إذا عُلم هذا، فلا تجوز التسمية بـ: عبدالنبي وعبدالرسول وعبدالمسيح وعبد علي وعبدالحسين وعبدالكعبة وعبدالدار وما أشبه ذلك؛ مما فيه تعبيد لغير الله. وفيه: تحريم كل اسم معبد لغير الله. قاله المصنف رحمه الله تعالى.
( ) قوله: «وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - في الآية قال: لما تغشّاها آدم حملت، فأتاهما إبليس فقال: إني صاحبكما الذي أخرجتكما من الجنة، لتطيعانني أو لأجعلن له»* أي الولد «قرني أيِّل» بالتثنية والإضافة، والأيِّل: بفتح الهمزة وكسر المثناة التحتية المشددة ذكر الأوعال «فيخرج من بطنك فيشقه،
..........................................................
* أخرجه ابن أبي حاتم في التفسير، وسعيد بن منصور، وابن المنذر كما في الدر المنثور (3/624).
ولأفعلنّ ولأفعلنّ» والمعنى أنه «يخوفهما، سميّاه عبدالحارث» قال سعيد بن جبير كان اسمه - يعني إبليس في الملائكة - الحارث، وكان مراده أن يسميّاه بذلك ليكون قد وجد له صورة الاشتراك به «فأبيا أن يطيعاه فخرج ميتاً، ثم حملت فأتاهما، فذكر مثل قوله، فأبيا أن يطيعاه فخرج ميتاً، ثم حملت فأتاهما فذكر لهما، فأدركهما حب الولد فسمياه عبدالحارث، فذلك قوله: { جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آَتَاهُمَا } ، رواه ابن أبي حاتم». وأما قول ابن كثير ليس المراد من السياق آدم وحواء وإنما المراد المشركون من ذريته ولهذا قال: { فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } وقوله هذا مما لا يساعد عليه لفظ سياق الآيات الكريمة، فإنها من أولها إلى آخرها خبر عن آدم وحواء من حين خلقهما الله إلى أن جعلا له شركاء فيما آتاهما من الولد، ولذا ذُكرا بضمير التثنية، ودعوى أن المراد بالآية الذرية لقوله: { فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } بضمير الجمع لا يقتضي صرف الآية عن مدلولها لفظاً ومعنى ؛ لأن أقل الجمع اثنان فيكون سبب نزولها آدم وحواء وحكمها عام يشمل المشركين من الذرية كغيرها من الآيات، وأما قول ابن كثير عن أثر ابن عباس وكأنه أصله - والله أعلم - مأخوذ عن أهل الكتاب فقد استبعده في «فتح المجيد»* جداً، وهو كما قال، لا سيما وقد تلقى هذا الأثر عن ابن عباس جماعة من أصحابه كمجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة، ومن الطبقة الثانية قتادة والسدي وغير واحد من السلف وجماعة من الخلف، ومن المفسرين من المتأخرين جماعات لا يحصون كثرة، وعلى فرض تلقيه عن أهل الكتاب فهو ممما دل على صحته ظاهر سياق الآيات الكريمة، فيكون من القسم الذي يشهد له شرعنا بالصحة، والله أعلم. «وروى ابن أبي حاتم بسند صحيح عن مجاهد في قوله: { لَئِنْ آَتَيْتَنَا صَالِحًا } قال أشفقا أن لا يكون إنساناً، وذكر معناه عن الحسن وسعيد
..........................................................
* (2/733).
وغيرهما». وقال أبوصالح أشفقا أن يكون بهيمة، فقالا: لئن آتيتنا صالحاً بشراً سوياً، رواه ابن أبي حاتم.
وفيه: أن هبة الله للرجل البنت السوية من النعم. قاله المصنف رحمه الله تعالى، وذلك أن الله قادرٌ على أن يجعلها غير سوية، أو من غير الجنس، فلا ينبغي للرجل أن يسخط مما وهبه الله كأهل الجاهلية، بل يحمد الله الذي جعلها بشرية سوية ؛ فلهذا كانت عائشة -رضي الله عنها- إذا بُشرت بمولود لم تسأل إلا عن صورته لا عن ذكوريته وأنوثيته. قاله في «الشرح»*.(1/284)
قرني أَيِّل فيخرُجُ من بطنكِ فيشقه، ولأفعلنّ، ولأفعلنّ - يخوفهما - سميّاه عبدَ الحارث. فأبيا أن يطيعاه، فخرج ميتاً. ثم حملت، فأتاهما فقال مثل قوله، فأبيا أن يطيعاه فخرج ميتاً. ثم حملت فأتاهما فذكر لهما، فأدركهما حُبُّ الولد، فسمَّيَاه عبد الحارث. فذلك قوله: { جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آَتَاهُمَا } [الأعراف:19]. رواه ابن أبي حاتم.
وله بسند صحيح(1) عن قتادة قال: شركاء في طاعته، ولم يكن في عبادته.
وله بسند صحيح عن مجاهد في قوله: { لَئِنْ آَتَيْتَنَا صَالِحًا } [الأعراف:189] قال: أشفقا أن لا يكون إنساناً. وذكر معناه عن الحسن وسعيد وغيرهما.
51- باب
__________
(1) قوله: «وله -أي ابن أبي حاتم- بسند صحيح عن قتادة قال: جعلا له شركاء في طاعته ولم يكن في عبادته» أي لكونهما أطاعاه في التسمية بعبد الحارث لا أنهما عبداه، فهو دليل على الفرق بين شرك الطاعة وبين شرك العبادة. وفيه معرفة تفسير الآية، وأن هذا الشرك في مجرد تسميته لم تقصد حقيقتها. قاله المصنف رحمه الله تعالى.
..........................................................
* (ص/551).(1/285)
قول الله تعالى: { وَلِلَّهِ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى(1) فَادْعُوهُ بِهَا(2) وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ } (3) [الأعراف:180] الآية. ذكر ابن أبي حاتم عن ابن عباس { يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ } : يشركون(3)
__________
(1) قوله: «باب قول الله تعالى: { وَلِلَّهِ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } أشار المصنف رحمه الله تعالى بالترجمة بهذه الآية إلى الرد على الذين يتوسلون بذوات الأموات، مع أن المشروع التوسل بالأسماء والصفات والأعمال الصالحات. قاله في «قرة العيون»*. أخبر تعالى أن له أسماء وأنها حسنى، أي قد بلغت الغاية في الحسن فلا أحسن منها ولا أكمل، فله من كل صفة كمال أحسن اسم وأكمله وأتمه معنى وأبعده وأنزهه عن شائبة النقص، فأسماؤه أحسن الأسماء كما أن صفاته أكمل الصفات فلا يعدل عما سمى به نفسه إلى غيره، كما لا يتجاوز ما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله إلى ما وصفه به المبطلون.
(2) وقوله { فَادْعُوهُ بِهَا } ودعاؤه بها نوعان: دعاء ثناء وعبادة، ودعاء طلب ومسألة. فلا يُثنى عليه إلا بأسمائه الحسنى، كذلك لا يُسأل إلا بها، فلا يُسأل في كل مطلوب إلا باسم يكون مقتضياً لذلك المطلوب فيكون السائل متوسلاً بذلك الاسم، تقول: رب اغفر لي وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم، ولا يحسن: إنك أنت السميع البصير، ونحو ذلك. قاله ابن القيم رحمه الله. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «إن لله تسعةً وتسعين اسماً من أحصاها دخل الجنة»** رواه البخاري قال ابن حزم: «جاءت في إحصائها أحاديث مضطربة لا يصح شيء
..........................................................
* (ص/224).
** أخرجه البخاري (6410)، ومسلم (2677).
(3)
منها». انتهى. وقال ابن القيم رحمه الله تعالى: «أما قوله «إن لله تسعة وتسعين اسماً من أحصاها دخل الجنة» فالكلام جملة واحدة. وقوله: «من أحصاها دخل الجنة» صفة لا خبر مستقل. والمعنى: له أسماء متعددة من شأنها أن من أحصاها دخل الجنة، وهذا لا ينبغي أن يكون له أسماء غيرها، ويدل عليه قوله - صلى الله عليه وسلم -: «أسألك بكل اسم هو لك، سمَّيت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علّمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك»* فجعل أسماءه ثلاثة أقسام: قسماً: سمى به نفسه فأظهره لمن شاء من ملائكته أو غيرهم ولم ينزل به كتابه. وقسماً: أنزل به كتابه وتعرف به إلى عباده. وقسماً: استأثر به في علم الغيب عنده، لم يطلع عليه أحداً من خلقه». انتهى.
( ) قوله: { وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ } أي اتركوهم وأعرضوا عن مجادلتهم، قال العوني «عن ابن عباس - في قوله { يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ } - يشركون، وعنه سموا اللاّت من الإله، والعزّى من العزيز».(1/286)
.
وعنه: سَمَّوا اللاَّت من الإله، والعُزَّى من العزيز.
وعن الأعمش(1)
__________
(1) قوله: «وعن الأعمش» وهو سليمان بن مِهران أبومحمد الكوفي، الفقيه ثقة، حافظ ورع، مات سنة مائة وسبع وأربعين وكان مولده سنة إحدى وستين، قال: «يدخلون فيها ما ليس منها» كتسمية النصارى له أباً ونحوه. قاله في «الشرح»**.
وأصل الإلحاد في كلام العرب العدول عن القصد والميل والجور والانحراف، ومنه اللحد في القبر لانحرافه إلى جهة القبلة عن سمت الحفر. وقال ابن القيم
..........................................................
* أخرجه أحمد (6/247)، وابن حبان (2372)، والحاكم (1/509) وقال: حديث صحيح على شرط مسلم، وصحح الحديث ابن تيمية وابن القيم والألباني رحمهم الله. انظر: الصحيحة رقم (199).
** (ص/562).
رحمه الله تعالى: «الإلحاد في أسمائه هو العدول بها وبحقائقها ومعانيها عن الحق الثابت، وهو أنواع: أحدها: أن تُسمى الأصنام بها كتسمية اللات من الإله ونحوه. الثاني: تسميته بما لا يليق بجلاله كتسمية النصارى له أباً، وتسمية الفلاسفة له موجباً بذاته أو علة فاعلة. وثالثها: وصفه بما يتعالى عنه ويتقدّس من النقائص كقول أخبث اليهود: إن الله فقير، وقولهم: إنه استراح، وقولهم: يد الله مغلولة. ورابعها: تعطيل الأسماء الحسنى عن معانيها وجحد حقائقها كقول من يقول من الجهمية: إنها ألفاظ مجردة لا تتضمن صفات ولا معاني فيُطلقون عليه اسم السميع البصير الحي، ويقولون: لا سمع له ولا بصر ولا حياة ونحو ذلك.
وخامسها: تشبيه صفاته بصفات خلقه - تعالى الله عن قول الملحدين علواً كبيراً - فجمعهم الإلحاد وتفرقت بهم طرقه وبرأ الله أتباع رسوله وورثته القائمين بسنته عن ذلك كله فلم يصفوه إلا بما وصف به نفسه ولم يجحدوا صفاته ولم يشبهوها بصفات خلقه ولم يعدلوا بها عما أنزلت لفظاً ولا معنى بل أثبتوا له الأسماء والصفات ونفوا عنه مشابهة المخلوقات فكان إثباتهم بريئاً من التشبيه وتنزيههم خلياً من التعطيل، لا كمن شبَّه حتى كأنه يعبد صنماً، أو عطَّل حتى كأنه يعبد عدماً». انتهى.
وقال أيضاً في «الكافية الشافية» [253-254]:
فصل: في بيان حقية الإلحاد في أسماء رب العالمين وذكر انقسام الملحدين:
أسماؤه أوصاف مدح كلها
إياك والإلحاد فيها إنه
وحقيقة الإلحاد فيها الميل بال
فالملحدون إذاً ثلاث طوائف
المشركون لأنهم سموا بها
ج
مشتقة قد حُمِّلت لمعانِ
كفر معاذ الله من كفرانِ
إشراك والتعطيل والنكرانِ
فعليهم غضب من الرحمنِ
أوثانهم قالوا إلهٍ ثانِ
ج
هم شبَهوا المخلوق بالخلاق عكـ
وكذاك أهل الاتحاد فإنهم
أعطوا الوجود جميعه أسماءه
والمشركون أقل شركاً منهمُ
ولذاك كانوا أهل شرك عندهم
والملحد الثاني فذو التعطيل إذ
ما ثَمَّ غير الاسم أوَّله بما
فالقصد دفع النص عن معنى الحقـ
عَطِّل وحَرِّف ثُمَّ أوِّل وأنفها
للمثبتين حقائق الأسماء والأ
فإذا هُمُ احتجوا عليك فقل لهم
فإذا غُلبتَ على المجاز فقل لهم
أنَّى وتلك أدلة لفظية
فإذا تضافرت الأدلة كثرة
فعليك حينئذٍ بقانون وضعنـ
ولكل نص ليس يقبل أن يؤو
قل عارض المنقول معقول وما
ما ثَمَّ إلا واحدٌ من أربع
أعمال ذين وعكسه أو تلغي
العقل أصل النقل وهو أبوه إن
فتعين الإعمال للمعقول والإ
أعماله يفضي إلى إلغائه
ج
ـس مشبه الخلاَّقِ بالإنسان
إخوانهم من أقرب الإخوان
إذ كان عين الله ذي السلطان
هم خصصوا ذا الاسم بالأوثان
لو عمَّمُوا ما كان من كفران
ينفي حقائقها بلا برهان
ينفي الحقيقة نفي ذي بطلان
يقة فاجتهد فيه بلفظ بيان
واقذف بتجسيم وبالكفران
وصاف بالأخبار والقرآن
هذا مجاز وهو وضع ثانِ
لا يستفاد حقيقة الإيقان
عزلت عن الإتقان منذ زمان
وغُلِبتَ عن تقرير ذا ببيان
ـاه لدفع أدلة القرآن
ل بالمجاز ولا بمعنى ثانِ
الأمران عند العقل يتفقان
متقابلات كلها بوزان
المعلول ما هذا بذي إمكان
تُبطله يبطل فرعه التحتاني
لغاء للمنقول ذي البرهان
فاهجره هجر الترك والنسيان
إلى أن قال [ص/255]:
هذا وثالثهم فنافيها ونا
ذا جاحد الرحمن رأساً لم يُقِرّ
في ما تدل عليه بالبهتان
بخالق أبداً ولا رحمن
هذا هو الإلحاد فاحذره لعل
وتفوز بالزلفى لديه وجنة المـ
الله أن ينجيك من نيران
ـأوى مع الغفران والرضوان
وفيه: إثبات الأسماء وكونها حسنى، والأمر بدعائه بها وترك من عارض من الجاهلين الملحدين، وتفسير الإلحاد فيها ووعيد من ألحد فيها. قاله المصنف رحمه الله تعالى.
فائدة:
ما يجري صفةً أو خبراً عن الرب تعالى أقسام:
أحدها: ما يرجع إلى نفس الذات كقولك: ذات وموجود.
الثاني: ما يرجع إلى صفاته ونعوته كالعليم والقدير.
الثالث: ما يرجع إلى أفعاله كالخالق والرازق.
الرابع: التنزيه المحض ولابد من تضمنه ثبوتاً كالقدوس والسلام.
الخامس: ولم يذكره أكثر الناس وهو الاسم الدالّ على جملة أوصاف لا تختص بصفة معينة نحو المجيد العظيم الصمد.
السادس: صفة تحصل من اقتران أحد الاسمين والوصفين بالآخر، وذلك قدر زائد على مفرديهما نحو: الغني الحميد، الغفور القدير، الحميد المجيد. وهكذا عامة الصفات المقترنة والأسماء المزدوجة في القرآن، فإن الغِنى صفة كمال، والحمد كذلك، واجتماع الغنى مع الحمد كمال آخر، فله ثناء من غناه وثناء من حمده وثناء من اجتماعهما. فتأمله فإنه من أشرف المعارف. انتهى باختصار. قاله ابن القيم رحمه الله [بدائع الفوائد 1/159].(1/287)
: يدخلون فيها ما ليس منها.
............................................................................................
* * *
52- باب
لا يُقال السلام على الله(1)
في الصحيح(2) عن ابن مسعود ( قال: كنا من النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة. قلنا: السلام على الله من عباده، السلام على فلان وفلان. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا تقولوا السلامُ على الله، فإن الله هو السلام»(2)
__________
(1) قوله: «باب لا يقال السلام على الله» قلت: وجه مناسبة الترجمة لكتاب التوحيد أن السلام دعاء للمُسَلَّم عليه وهو يستلزم مدعواً ومدعو له، والله سبحانه غنيٌّ عن دعاء الداعي وليس هناك مدعواً سواه، فنُهوا عن السلام عليه تنزيهاً لله وتحقيقاً لجناب التوحيد. والله أعلم.
(2) قوله: «في الصحيح» أي الصحيحين «عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: كنا إذا كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة قلنا: السلام على الله من عباده، السلام على فلان وفلان. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا تقولوا السلام على الله من عباده فإن الله هو السلام ولكن قولوا: التحيات لله»* إلخ. هذا الحديث دليلٌ على النهي عن قول: السلام على الله ؛ لأن الله هو السلام، أي هو تعالى سالم من كل نقص ومن كل تمثيل، فهو الموصوف بكل كمال، المنزَّه عن كل عيب ونقص جل وعلا. قال ابن القيم رحمه الله [بدائع 2/137-142]: «السلام اسم مصدر وهو من ألفاظ الدعاء يتضمن الإنشاء والإخبار، فجهته الخبرية فيه لا تنافي الجهة الإنشائية، وهو معنى السلام المطلوب عند التحية، وفيه قولان مشهوران: أحدهما: أن السلام هنا هو الله عز وجل، ومعنى الكلام نزلت بركته عليكم، فاختير في هذا المعنى من أسماء الله عز وجل اسم السلام دون غيره. الثاني: أن السلام مصدر بمعنى السلامة، وهو المطلوب المدعو به عند
..........................................................
* أخرجه البخاري (835)، ومسلم (402).
التحية، وحق من دعا الله بأسمائه الحسنى أن يسأل في كل مطلوب بالاسم المقتضي لذلك المطلوب المناسب لحصوله فيكون الداعي مستشفعاً إلى الله تعالى متوسلاً إليه به، فالمقام لما كان مقام طلب السلامة التي هي أهم شيء عند الإنسان أتى في طلبها بصيغة اسم من أسماء الله تعالى وهو السلام الذي تطلب منه السلامة، فتضمن لفظ السلام معنيَين:
أحدهما: ذكر الله.
والثاني: طلب السلامة، وهو مقصود المسلم». انتهى ملخصاً. ثم أرشدهم إلى ما ينبغي في حقه تعالى وهو قول التحيات لله أي: جميع التعظيمات المستحقة لله تعالى والصلوات أي الخمس أو العبادات كلها، والطيبات أي: من الأعمال الصالحة كلها لله، السلام عليكم أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، تسلِّم على نفسك وعلى كل عبد صالح في السماء والأرض. ففي هذا الحديث بيان الفرق بين تحية الخالق وتحية المخلوق. فتحية الخالق: التعظيم. وتحية المخلوق: السلام الذي هو دعاء له بالسلامة. فالتعظيم بالتحية لا ينبغي إلا لله وحده، فاستبدال بعض الناس السلام في مخاطباتهم بالتحية لا يجوز، فينبغي النهي عن ذلك.
وفيه: معرفة تفسير السلام، وأنه تحية، وأنها لا تصلح إلا لله والعلّة في ذلك، وتعليمهم التحية التي تصلح لله. قاله المصنف رحمه الله تعالى.(1/288)
.
.............................................................................................
* * *
53- باب
قول: اللهم اغفر لي إن شئت(1)
في الصحيح(2) عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا يقولنّ أحدكم: اللهم اغفر لي إن شئت، اللهم ارحمني إن شئت، ليعزم المسألة(3)
__________
(1) قوله: «باب قول: اللهم اغفر لي إن شئت» لما كان العبد لا غناء له عن ربه ومغفرته طرفة عين، كما قال تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ } [فاطر:15] نُهي عن قول اللهم اغفر لي إن شئت ؛ لما فيه من إيهام الاستغناء عن مغفرة الله ورحمته، وذلك مضادّ للتوحيد. قاله في «الشرح»*.
(2) قوله: «في الصحيح» أي الصحيحين «عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا يقولن أحدكم اللهم اغفر لي إن شئت، اللهم ارحمني إن شئت»**. قال القرطبي: «إنما نهى الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن هذا القول لانه يدل على فتور الرغبة وقلة الاهتمام بالمطلوب، وكان هذا القول يتضمن أن هذا المطلوب إن حصل وإلا استغنى عنه. ومن كان هذا حاله لم يتحقق من حاله الافتقار والاضطرار الذي هو روح عبادة الدعاء، وكان ذلك دليلاً على قلة معرفته بذنبه وبرحمة الله. وأيضاً فإنه لا يكون موقناً بالإجابة، وقد قال عليه السلام «ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، واعلموا أن الله لا يستجيب دعاء من قلب غافل» ***.
(3) قوله: «ليعزم المسألة» قال القرطبي: أي ليجزم في طلبته ويحقق رغبته ويتيقن الإجابة فإنه إذا فعل ذلك دلّ على علمه بعظيم ما يطلب من المغفرة والرحمة وعلى أنه مفتقر إلى ما يطلب مضطر إليه، وقد وعد الله المضطر
..........................................................
* (ص/565).
** أخرجه البخاري (6339)، (7477)، ومسلم (2679).
*** أخرجه أبوداود (3725)، وحسَّنه الألباني في صحيح سنن أبي داود (3/164) رقم (2766).(1/289)
، فإن الله لا
مُكْرِهَ له»(1).
ولمسلم: «وليعظم الرغبة(2)، فإن الله لا يتعاظمه شيءٌ أعطاه».
54- باب
لا يقول عبدي وأَمَتي(3)
__________
(1) بالإجابة بقوله: { أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ } [النمل:62].
( ) قوله: «فإن الله لا مُكره له» هذا لفظ البخاري في الدعوات، ولفظ مسلم
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يقولنّ أحدُكم اللهم اغفر لي إن شئت، اللهم ارحمني إن شئت، ليعزم على المسألة في الدعاء، فإن الله صانع ما شاء، لا مُكرِه له». قال القرطبي: هذا إظهار لعدم فائدة تقييد الاستغفار والرحمة بالمشيئة، فإن الله تعالى لا يضطره إلى فعل شيء دعاء ولا غير بل يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، ولذلك قيّد تعالى الإجابة بالمشيئة في قوله: { فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ } [الأنعام:41]، فلا معنى لاشتراط المشيئة بقِيلِه.
وقوله: «فإن الله لا مكره له» بخلاف العبد، فإنه قد يعطي السائل مسألته وهو كاره لحاجته إليه أو لخوفه أو لرجائه. فالأدب مع الله أن لا يعلِّق مسألته لربه بشيء لسعة فضله وإحسانه وجوده وكرمه. وفيه: النهي عن الاستثناء في الدعاء وبيان العلة في ذلك، وقوله: «ليعزم المسألة». قاله المصنف.
(2) قوله: «ولمسلم: «وليُعظِّم الرغبة» هو بالتشديد «فإن الله لا يتعاظمه شيءٌ أعطاه»* يُقال: تعَاظم زيدٌ هذا الأمر، أي: كبر عليه وعسر، والرغبة يعني: الطُّلبة والحاجة التي يريد، وقيل: السؤال والطلب والتعظيم على هذا بالإلحاح، والأول أظهر. قاله في «الشرح»**.
وفيه: إعظام الرغبة والتعليل لهذا الأمر. قاله المصنف رحمه الله تعالى.
..........................................................
* عند مسلم برقم (2679).
** (ص/566).
(3) قوله: «باب لا يقول عبدي وأمتي» أي:لما في ذلك من إيهام المشاركة في الربوبية فنُهي عن ذلك أدباً، وحماية لجناب التوحيد. قاله في «الشرح»*.(1/290)
في الصحيح(2) عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا يقلْ أحدُكم: أطعمْ ربَّكَ، وَضِّئ ربَّك، وليقل: سيدي ومولاي، ولا يقل أحدُكم: عبدي وأمَتي، وليقلْ: فتايَ وفتاتي وغلامي»(1)
__________
(1) قوله: «في الصحيح» أي الصحيحين «عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا يقلْ أحدكم»** هو بالجزم على النهي أي لمملوكه «أطعم ربك» بفتح الهمزة من الإطعام، «وضئ ربك» أمر من الوضوء، وفيهما في هذا الحديث «اسق ربك»، وكأن المؤلف اختصرها، وهذه الألفاظ المنهي عنها وإن كانت تطلق لغةً فالنبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عنها تحقيقاً للتوحيد وسداً لذرائع الشرك، لما فيها من التشريك في اللفظ؛ لأن الله هو رب العباد جميعهم، فإذا أطلق على غيره ما يطلق عليه تعالى وقع الشبه في اللفظ، فينبغي أن يجتنب هذا اللفظ في حق المخلوق من ذلك، وأرشدهم إلى ما يقوم مقام هذه الألفاظ فقال: «وليقل سيدي ومولاي» وكذا قوله: «ولا يقل أحدكم عبدي وأمتي» لأن العبيد عبيد الله والإماء إماء الله، قال تعالى: { إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ إِلا آَتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا } [مريم:93] ففي إطلاق هاتين الكلمتين على غير الله تشريك في اللفظ فنهاهم عن ذلك تعظيماً لله تعالى وأدباً وتحقيقاً للتوحيد، وأرشدهم إلى ما ينبغي بقوله: «وليقل فتاي وفتاتي وغلامي» وهذا من باب حماية جناب التوحيد، قال الخطّابي:
جج
..........................................................
* (ص/566).
** أخرجه البخاري (2552)، ومسلم (2249).
«وسبب المنع أن الإنسان مربوب متعبد بإخلاص التوحيد لله تعالى، وترك الإشراك به، فأُمر بترك المضاهاة بالاسم لئلا يدخل في معنى الشرك،ولا فرق في ذلك بين الحر والعبد، وأما من لا تَعبُّد عليه من سائر الحيوانات والجمادات، فلا يكره أن يطلق ذلك عليه عند الإضافة كقوله: «رب الدار والثوب». قاله في «الشرح»*. قال ابن مفلح: «وظاهر النهي التحريم، وقد يحتمل أنه للكراهة، وجزم به غير واحد من العلماء».
وفيه: النهي عن قول عبدي وأمتي، ولا يقول العبد لسيده ربي، ولا يُقال له أطعم ربك، وتعليم الأول قول: فتاي وفتاتي وغلامي، وتعليم الثاني قول: سيدي ومولاي، والتنبّه للمراد وهو تحقيق التوحيد حتى في الألفاظ. قاله المصنف رحمه الله تعالى.
..........................................................
* (ص/567).(1/291)
.
.......................................................................................
* * *
55- باب
لا يُرد من سأل بالله(1)
عن ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من سأل بالله فأعطوه(2) ومن استعاذ بالله فأعيذوه(3)،...........................................................
__________
(1) قوله: «باب لا يُرد من سأل بالله» أي إعظاماً وإجلالاً لله تعالى أن يُسأل به في شيء ولا يجاب السائل إلى سؤاله ومطلوبه. قاله في «الشرح»*، أي إن رده مكروه أو محرم إذا كان المطلوب ليس محرماً ولا مكروهاً؛ لأن رده دليل على عدم إعظام الله.
(2) قوله: «عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من سأل بالله فأعطوه»** أي إذا قال السائل أسألك بالله. قال شيخ الإسلام: «وإذا قال السائل أسألك بالله فإنما سأله بإيمانه بالله، وذلك سبب لإعطاء من سأله به». وفيه: إعطاء من سأل بالله. قاله المصنف.
وقد جاء الوعيد على منع من سُئل بالله أو بوجه الله ثم منع سائله. قال في «فتح المجيد» ***: «ظاهر الحديث النهي عن ردِّ السائل إذا سأل بالله، لكن هذا العموم يحتاج إلى تفصيل، فيجب إذا سأل السائل ما لَهُ فيه حَقٌّ كبيت المال أن يُجاب، فيُعطى منه على قدر حاجته وما يستحقه وجوباً، وكذلك إذا سأل المحتاج من في ماله فضل فيجب أن يعطيه على قدر حالة المسؤول ما لا يضر بعائلته، وإن كان مضطراً وجب أن يعطيه ما يدفع ضرورته». انتهى.
(3) قوله: «ومن استعاذ بالله فأعيذوه» أي: تعظيماً لله وتقرباً إليه.
وفيه: إعاذة من استعاذ بالله. قاله المصنف. ولهذا لما استعاذت منه الجونية
..........................................................
* (ص/570).
** أخرجه أبوداود (1763، 5109)، والنسائي (5/82) وأحمد (2/68، 99، 127)، وصححه الألباني في الصحيحة (254).
*** (2/757-758).(1/292)
ومن دعاكم فأجيبوه(1)، ومن صنع إليكم معروفاً فكافئوه(2)، فإن لم تجدوا ما تكافئونه فادعوا له(3) حتى تُرَوا(4)
__________
(1) ال - صلى الله عليه وسلم -: «لقد عُذتِ بمعاذ، الحقي بأهلك»*.
( ) قوله: «ومن دعاكم فأجبيوه» أي من دعاكم إلى طعام فأجيبوه، والحديث أعم من الوليمة وغيرها، وهو يدل على الوجوب.
قلت: هذا إذا لم يكن في الدعوة منكر، فإن كان فيها منكر لم تجب إجابتها إلا إذا كان المدعو يستطيع إزالته، فتجب الإجابة حينئذ.
وفيه: إجابة الدعوة. قاله المصنف رحمه الله.
(2) قوله: «ومن صنع إليكم معروفاً فكافئوه» على إحسانه ليخلص القلب من إحسان الخلق، ويتعلق بالحق؛ لأنك إذا لم تكافئ من صنع إليك معروفاً ؛ بقي في قلبك له نوع تألُّه، فشُرِع قطعُ ذلك بالمكافأة. هذا معنى كلام شيخ الإسلام رحمه الله. قاله في «إبطال التنديد»**. وفيه: المكافأة على الصنيعة، ولا يهمل المكافأة على المعروف إلا اللئام من الناس، وبعض اللئام يكافي على الإحسان بالإساءة. قاله في «فتح المجيد» ***.
(3) قوله: «فإن لم تجدوا ما تكافئونه فادعو له» أي إذا لم تقدروا على مكافأته. وفيه: أن الدعاء مكافأة لمن لم يقدر إلا عليه، وقد روى الترمذي وصححه والنسائي وابن حبان عن أسامة بن زيد مرفوعاً «من صُنع إليه معروفٌ فقال لفاعله: جزاك الله خيراً. فقد أبلغ في الثناء»****.
(4) قوله: «حتى تُرَوا» بضم التاء، أي تظنوا، ويحتمل أن تكون مفتوحة بمعنى
..........................................................
* أخرجه البخاري (5254).
** (ص/271).
*** (2/760).
**** أخرجه الترمذي (2120) وصححه، وصححه الألباني أيضاً في صحيح سنن الترمذي (2/200)، رقم (1657).
تعلموا أنكم قد كافأتموه، ويؤيده ما في سنن أبي داود من حديث ابن عمر «حتى تعلموا»، فتعين الثاني للتصريح به. قاله في «فتح المجيد»*.
..........................................................
* (2/760).(1/293)
أنكم قد كافأتموه».
رواه أبوداود والنسائي بسند صحيح.
* * *
56- باب
لا يُسأل بوجه الله إلا الجنة(1)
عن جابر قال(2): قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يُسأل بوجه الله إلا الجنة» رواه أبوداود(2)
__________
(1) قوله: «باب لا يُسأل بوجه الله إلا الجنة» أي إجلالاً وإكراماً لوجه الله تعالى أن يُسأل به إلا غاية المطالب وهي الجنة.
(2) قوله: «عن جابر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يُسأل بوجه الله إلا الجنة» رواه أبوداود*.
قوله: «لا يُسأل بوجه الله» روي بالنفي والنهي، وروي بالبناء للمجهول وهو الذي في الأصل، ورُوي بالخطاب للمفرد. قاله في «الشرح»**. وأما سؤال المخلوق بوجه الله فحرام لما روى الطبراني عن أبي موسى مرفوعًا: «ملعون من سأل بوجه الله، وملعون من سئل بوجه ثم منع سائله ما لم يسأل هجراً»***. وعن أبي عبيدة مولى رفاعة بن رافع مرفوعاً: «ملعون من سأل بوجه الله، وملعون من سُئل بوجه الله فمنع سائله»****. رواه الطبراني أيضاً.
وعن ابن عباس - رضي الله عنه - مرفوعاً: «ألا أخبركم بشر الناس؟ رجلٌ سُئل بوجه الله
..........................................................
* أخرجه أبوداود (1671)، وضعَّف إسناده الألباني، انظر: رياض الصالحين (ص/586).
** (ص/573).
*** أخرجه الطبراني، ورجاله رجال الصحيح ؛ إلا شيخه يحيى بن عثمان بن صالح وهو ثقة، وفيه كلام. وحسَّنه الألباني. انظر: صحيح الترغيب رقم (851) (1/513).
**** أخرجه الطبراني، قال الألباني: حسن لغيره. انظر: صحيح الترغيب رقم (853) (1/513).
ولا يُعطي»*. رواه الترمذي وحسنه، وابن حبان في صحيحه، وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ألا أخبركم بشرِّ البرية ؟» قالوا: بلى يا رسول الله. قال: «الذي يُسأل بوجه الله ولا يُعطِي»**. فهذه الأحاديث مع حديث الباب تدل على وجوب إعطاء السائل.
وفيه: «لعن من سأل أحداً بوجه الله». قاله في «إبطال التنديد»***.
قوله: «إلا الجنة» كأن يقول: اللهم إني أسألك بوجهك الكريم أن تدخلني الجنة. وقيل: المراد لا تسألوا الناس شيئاً بوجه الله، كأن يقول: أعطني شيئاً لوجه الله. فإن الله أعظم من أن يُسأل به شيء من الحطام. قال في «الشرح»****: إن كلا المعنيين صحيح. قال الحافظ العراقي: «وذكر الجنة إنما هو للتنبيه على الأمور العظام لا للتخصيص، فلا يُسأل بوجه الله في الأمور الدنيئة بخلاف الأمور العظام تحصيلاً أو دفعاً كما يشير إليه استعاذة النبي - صلى الله عليه وسلم - به، قال في «إبطال التنديد»****: والحديث أحق مما قال.
وحديث الباب من جملة الأدلة المتواترة في الكتاب والسنة على إثبات الوجه لله تعالى كما هو طريقة أهل السنة والجماعة سلفاً وخلفاً.
وفيه: النهي عن أن يُسأل بوجه الله إلا غاية المطالب، وإثبات صفة الوجه. قاله المصنف رحمه الله تعالى.
......................................................
* أخرجه أحمد (5/96-97) الرسالة، والترمذي (1719). وقال الألباني: صحيح. انظر الصحيحة (255).
** أخرجه أحمد (2/396)، وفي إسناده ضعف ويشهد له غيره من الأحاديث.
*** (ص/273).
**** (ص/573).
***** (ص/273)(1/294)
.
(1)...............................................................................
.............................................................................................
* * *
57- باب
ما جاء في اللّو(2)
__________
(1) قال في «فتح المجيد» *: «وهنا سؤال: وهو أنه قد ورد في دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات»** وحديث: «أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له السموات والأرض»***، وحديث: «أعوذ بوجهك الكريم»**** وأمثال ذلك في الأحاديث المرفوعة بالأسانيد الصحيحة أو الحسان. فالجواب: أن ما ورد من ذلك فهو في سؤال ما يقرب إلى الجنة أو ما يمنعه من الأعمال التي تمنعه من الجنة، فيكون قد سأل بوجه الله وبنور وجهه ما يقرب إلى الجنة..» إلى آخره.
فأقول: هذا السؤال الذي أورده الشيخ رحمه الله تعالى وتكلَّف الجواب عنه ليس من السؤال بوجه الله، وإنما هو استعاذة بوجه الله، وفرق بين السؤال والاستعاذة، فتنبَّه لذلك.
..........................................................
* ... (2/761-762).
** أخرجه الطبراني في الكبير من حديث عبدالله بن جعفر (المجمع 6/35)، وقال الألباني في تخريج فقه السيرة للغزالي: ضعيف السند. (ص/132).
*** أخرجه الطبراني في الكبير (8027) وهو ضعيف.
**** أخرجه البيهقي في الأسماء والصفات (389) وقال: وهو إسناد صحيح.
(2) قوله: «باب ما جاء في اللّو» أي من الوعيد والنهي عنه عند الأمور المكروهة كالمصائب إذا جرى بها القدر لما فيه من الإشعار بعدم الصبر والأسى على ما فات مما لا يمكن استدراكه، فالواجب التسليم للقدر والقيام بالعبودية الواجبة وهي الصبر على ما أصاب العبد مما يكره، والإيمان بالقدر أصل من أصول الإيمان الستة، وأدخل المصنف رحمه الله تعالى أداة التعريف على «لو» وهي في هذا المقام لا تفيد تعريفاً كنظائرها؛ لأن المراد هنا اللفظ كما قال الشاعر:
... ... رأيتُ الوليد بن اليزيد مباركاً شديداً بأعباء الخلافة كاهِلُه(1/295)
وقول الله تعالى: { يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا } [آل عمران: 154](1).
وقوله: { الَّذِينَ قَالُوا لإخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا } [آل عمران:168] الآية(2)
__________
(1) قوله: «وقول الله تعالى: { يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا } هذا قول بعض المنافقين يوم أُحُد. روى ابن إسحاق بإسناده عن عبدالله بن الزبير قال: قال الزبير: لقد رأيتُني مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين اشتد الخوف علينا أرسل الله علينا النومَ فما منا رجل إلا ذقنه في صدره، قال: فوالله إني لأسمع قول مُعَتِّب ابن قُشير ما أسمعه إلا كالحُلم: لو كان لنا من الأمر شيء ما قُتلنا ههنا فحفظتها منه، وفي ذلك أنزل الله { يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا } لقول مُعتِّب. رواه ابن أبي حاتم*. وهذا من المنافقين معارضة منهم للقدر بـ«لو»، ولهذا ردَّ الله عليهم بقوله: { قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ } [آل عمران:154].
(2) وقوله: { الَّذِينَ قَالُوا لإخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } وهذا أيضاً معارضة للقدر من المنافقين بقولهم لمن خرج مع
..........................................................
* أخرجه ابن أبي حاتم في التفسير (1697)، وابن جرير الطبري في التفسير (8094).
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم أُحُد. قيل: وإنما قال لإخوانهم أي لمشاركتهم لهم في الظاهر، وقيل لإخوانهم في النسب لا في الدين { لَوْ أَطَاعُونَا } في مشورتنا عليهم بعدم الخروج ما قُتلوا، قل: { فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ } أي إن عدم الخروج لا ينجي من الموت، فإن كنتم صادقين فادفعوا الموت إذا جاءكم، أي إذا كان القعود يسلم به الشخص من القتل والموت فينبغي لكم أن لا تموتوا، والموت لابد آتيكم ولو كنتم في بروج مشيدة. قال مجاهد عن جابر بن عبدالله: نزلت هذه الآية في عبدالله بن أُبيّ وأصحابه يعني أنه هو الذي قال ذلك. قال شيخ الإسلام [الفتاوى 7/280]: «انخزل عبدالله بن أُبي يوم أُحُد، وقال: يدع رأيي ورأيه ويأخذ برأي الصبيان. وانخزل معه خلقٌ كثير، كان كثير منهم لم ينافق قبل ذلك، فأولئك كانوا مسلمين وكان معهم إيمان هوالضوء الذي ضرب الله به المثل، فلو ماتوا قبل المحنة والنفاق لماتوا على الإسلام ولم يكونوا من المؤمنين حقاً، الذين امتحنوا فثبتوا على المحنة، ولا من المنافقين حقاً الذين ارتدوا عن الإيمان بالمحنة، وهذا حال كثير من المسلمين في زماننا أو أكثرهم إذا ابتلوا بالمحنة التي يتضعضع فيها أهل الإيمان ينقص إيمانهم كثيراً وينافق كثير منهم، ومنهم من يُظهر الردة إذا كان العدو غالباً، وقد رأينا من هذا ورأى غيرنا من هذا ما فيه عبرة، وإذا كانت العافية أو كان المسلمون ظاهرين على عدوهم كانوا مسلمين وهم مؤمنون بالرسل باطناً وظاهراً لكنه إيمان لا يثبت على المحنة؛ ولهذا يكثر في هؤلاء ترك الفرائض وانتهاك المحارم، وهؤلاء من الذين قالوا آمنا فقيل لهم: { لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ } [الحجرات:14] أي الإيمان المطلق الذي أهله هم المؤمنون حقاً فإن هذا هو الإيمان إذا أطلق في كتاب الله كما دل عليه الكتاب والسنة، فلم يحصل له ريب عند المحن التي تقلقل الإيمان في القلوب». انتهى. وفيه: معرفة تفسير الآيتين من آل عمران. قاله المصنف رحمه الله تعالى.(1/296)
.
في الصحيح(1) عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «احرِص على
ما ينفعك(2)
__________
(1) قوله: «في الصحيح» أي صحيح مسلم «عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجزن» اختصر المصنف رحمه الله هذا الحديث، وأوله أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «المؤمن القوي خيرٌ وأحبُّ إلى الله
(2) ن المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك..»* إلى آخره. قال ابن القيم رحمه الله: «تضمَّن هذا الحديث أصولاً عظيمة من أصول الإيمان، أحدها: أن الله سبحانه موصوف بالمحبة وأنه يحب حقيقةً. الثاني: أنه يحب مقتضى أسمائه وصفاته وما يوافقها، فهو القوي يحب المؤمن القوي، وهو وتر يحب الوتر، وجميل يحب الجمال، وعليم يحب العلماء، ونظيف يحب النظافة، ومؤمن يحب المؤمنين، ومحسن يحب المحسنين، وصابر يحب الصابرين، وشاكر يحب الشاكرين. ومنها أن محبته للمؤمنين تتفاضل فيحب بعضهم أكثر من بعض، ومنها أن سعادة الإنسان في حرصه على ما ينفعه في معاشه ومعاده. والحرص هو بذل الجهد واستفراغ الوسع.
( ) وقوله: «احرص على ما ينفعك» أي في معاشك ومعادك، والمراد الحرص على فعل الأسباب التي تنفع العبد في دنياه وأخراه مما شرعه الله تعالى لعباده من الأسباب الواجبة والمستحبة والمباحة ويكون العبد في حال فعله السبب مستعيناً بالله وحده ليتم له مطلوبه، ويكون اعتماد العبد على الله مع فعل السبب ؛ لأن الله هو الذي خلق السبب والمسبب ولا ينفعه سبب إلا إذا نفعه الله به، ففعل السبب سنة والتوكل على الله توحيد، فإذا جمع بينهما تم له مراده بإذن الله.(1/297)
، واستعن بالله(1) ولا تعجزنَّ(2)
__________
(1) قوله: «واستعن بالله» لما كان حرص الإنسان وفعله إنما هو بمعونة الله ومشيئته وتوفيقه أمره أن يستعين به ليجمع له بين مقام { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } [الفاتحة:5] فإن حرصه على ما ينفعه عبادةٌ لله، ولا تتم إلا بمعونة الله، فأمرَه أن يعبده وأن يستعين به. قاله ابن القيم رحمه الله تعالى.
(2) قوله: «ولا تعجزن» النون نون التوكيد الخفيفة، نهاه - صلى الله عليه وسلم - عن العجز وذمَّه، والعجز مذموم شرعاً وعقلاً، وفي الحديث «الكيِّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني»**. قال ابن القيم:
..........................................................
* أخرجه مسلم (2664).
** أخرجه الترمذي (2461) وقال: هذا حديث حسن، وابن ماجه (4261)، وأحمد (4/124). قال الألباني: ضعيف. انظر: ضعيف سنن الترمذي ص(279 رقم (2590).
«فالحريص على ما ينفعه المستعين بالله ضد العاجز فهذا إرشاد له قبل وقوع المقدور إلى ما هو من أعظم أسباب حصوله وهو الحرص عليه مع الاستعانة بمن أَزِمَّة الأمور بيده ومصدرها منه ومردَّها إليه، فإذا وقع المقدور فللعبد حالتان: حالة عجز، وهي مفتاح عمل الشيطان فيلقيه العجز إلى «لو»، ولا فائدة فيها؛ بل هي مفتاح اللوم والعجز والسخط والحزن، وهذا من عمل الشيطان، فنهاه عن افتتاح عمله بهذا المفتاح، وأمره بالحالة الثانية وهي النظر إلى القدر وأنه لو قُدر لم يفته ولم يغلبه عليه أحدٌ ولهذا قال: «وإن أصابك شيء» أي غلبك الأمر ولم يحصل المقصود بعد بذل الجهد والاستعانة بالله «فلا تقل: لو أني فعلت كذا كان كذا وكذا، قل: قدَّر الله وما شاء فعل» فأرشده إلى ما ينفعه حالة حصول مطلوبه، وحالة فواته ؛ ولهذا كان هذ الحديث مما لا يُستغنى عنه، وهو يتضمن إثبات القدر والكسب والاختيار والقيام بالعبودية ظاهراً وباطناً في حالتي حصول المطلوب وعدمه». انتهى ملخصاً. وفيه: الأمر بالحرص على ما ينفع مع الاستعانة بالله والنهي عن ضد ذلك وهو العجز. قاله المصنف رحمه الله.(1/298)
، وإن أصابك شيء فلا تقل لو
أني فعلتُ كذا لكان كذا وكذا، ولكن قل: قدَّر اللهُ وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان»(1).
.........................................................................
* * *
58- باب
__________
(1) قوله: «فإن (لو) تفتح عمل الشيطان» أي: لما فيها من التأسف على ما فات والتحسر ولوم القدر، وذلك ينافي الصبر، والرضى واجب، والإيمان بالقدر فرض. وفيه: النهي الصريح عن قول «لو» إذا أصابك شيء، وتعليل المسألة: بأن ذلك يفتح عمل الشيطان والإرشاد إلى الكلام الحسن. قاله المصنف.
تنبيه: وأما قوله - صلى الله عليه وسلم -: «لولا حُدثان قومِكِ بالكفر لأتممتُ البيت على قواعد إبراهيم»*، وقوله: «لو كنت راجماً أحداً بغير بيّنة لرجمت هذه»**، وقوله:
..........................................................
* أخرجه البخاري (1585) و (1586).
** أخرجه ابن ماجه (2607)، والبيهقي في السنن الكبرى (7/407). وقال الألباني: صحيح... وشطره الأول متفق عليه. انظر: صحيح سنن ابن ماجه رقم (2089).
«لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك»*، وشبه ذلك. فأجاب القاضي عياض بأن هذا كله مستقبل لا اعتراض فيه على قدر، ولا كراهة فيه؛ لأنه إنما أخبر عن اعتقاده فيما كان يفعل لولا المانع وعما هو في قدرته، فأما ما ذهب فليس في قدرته، وكذا قوله: «لو استقبلتُ من أمري ما استدبرتُ ما سُقتُ الهدي ولجعلتها عمرةً» ** فليس من المنهي عنه بل هو إخبار لهم عما كان يفعل في المستقبل لو حصل، ولا خلاف في جواز ذلك، وإنما ينهى عن ذلك في معارضة القدر، أو مع اعتقاد أن ذلك المانع لو ارتفع لوقع خلاف المقدر». انتهى ملخصاً.
..........................................................
* أخرجه البخاري (887).
** أخرجه البخاري (1651)، ومسلم (1218).(1/299)
النهي عن سَبِّ الريح (1)
عن أُبيّ بن كعب - رضي الله عنه -(2) أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تَسُبُّوا الريحَ(3)، فإذا
رأيتم ما تكرهون(4)
__________
(1) قوله: «باب النهي عن سب الريح» أي لأنها مأمورة، فسبُّها مسبَّةٌ لآمرها فيكون إذاً لله كمسبة الدهر، وهو من أفعال أهل الجاهلية.
(2) قوله: «عن أبيّ بن كعب» أي ابن عبيد بن زيد بن معاوية بن قيس بن عمرو بن مالك بن النجار الأنصاري الخزرجي أبوالمنذر، صحابي جليل، وكان من قرّاء الصحابة وعلمائهم، وله مناقب مشهورة، منها: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: «إن الله أمرني أن أقرأ عليك { لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا } . قال: وسمَّاني؟. قال: «نعم»، فبكى أُبيّ *. قال الهيثم بن عدي: مات سنة تسع عشرة، وقال خليفة بن خياط في سنة اثنتين وثلاثين. يُقال مات فيها أبيّ بن كعب، ويُقال: مات في خلافة عمر. وقيل غير ذلك، - رضي الله عنه -، «أن رسول الله قال: «لا تسبُّوا الريح، فإذا رأيتم ما تكرهون فقولوا: اللهم إنا نسألك من خير هذه الريح وخير ما فيها، وخير ما أُمرت به، ونعوذ بك من شر هذه الريح وشر ما فيها، وشر ما أُمرت به»**. صححه الترمذي.
(3) قوله «لا تسبُّوا الريح» أي لا تشتموها ولاتلعنوها، فإنها مأمورة فلا يجوز سبها، بل تجب التوبة عند التضرر بها وهو تأديب من الله لعباده وتأديبه رحمةٌ للعباد، فلهذا جاء في حديث أبي هريرة مرفوعاً: «الريح من روح الله تأتي بالرحمة وبالعذاب، فلا تسبُّوها، ولكن سلوا اللهَ من خيرها، وتعوّذوا بالله من
..........................................................
* أخرجه البخاري (65)، ومسلم (44).
** أخرجه أحمد (5/123)، والترمذي (2252)، والنسائي في عمل اليوم والليلة (933، 934)، قال الألباني: صحيح، انظر:الصحيحة (2756).
(4) شرها»*. رواه أحمد وأبوداود وابن ماجه.
( ) قوله: «فإذا رأيتم ما تكرهون» أي من الريح، إما شدة حرها أو بردها، أو قوتها فارجعوا إلى ربكم بالتوحيد وقولوا: «اللهم إنا نسألك من خير هذه الريح وخير ما فيها وخير ما أُمرت به، ونعوذ بك من شر هذه الريح وشر ما فيها، وشر ما أُمرت به»** ففي هذا عبودية لله وطاعة ولرسوله واستدفاعٌ للشر، وتعرُّضٌ لفضله ونعمته، وهذه حال أهل التوحيد والإيمان خلافاً لحال أهل الفسوق والعصيان الذين حُرموا ذوق طعم التوحيد الذي هو حقيقة الإيمان.
وفيه: النهي عن سب الريح، والإرشاد إلى الكلام النافع إذا رأى الإنسان ما يكره، والإرشاد إلى أنها مأمورة، وأنها قد تُؤمر بخير وقد تُؤمر بشر. قاله المصنف رحمه الله تعالى.
..........................................................
* أخرجه أبوداود (5097)، وابن ماجه (3727) بسند جيد كما قال النووي وصححه غيره. انظر: صحيح سنن أبي داود (3/960) رقم (4250).
** أخرجه الترمذي (2253) وقال: هذا حديث حسن صحيح، وأحمد (5/123). قال الألباني: ضعيف. انظر: ضعيف سنن الترمذي (ص/459) رقم (702).(1/300)
فقولوا: اللهم إنا نسألك من خير هذه الريح، وخير ما فيها، وخير ما أُمِرَت به، ونعوذ بك من شر هذه الريح، وشر ما فيها، وشر ما أُمِرت به». صححه الترمذي.
* * *
59- باب(1)
__________
(1) قوله: «باب قول الله تعالى: { يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الأمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ } الآية» أراد المصنف رحمه الله تعالى بهذه الترجمة التنبيه على وجوب حسن الظن بالله؛ لأن ذلك من واجبات التوحيد ولذلك ذمَّ اللهُ من أساءَ الظن به، لأن مبنى حسن الظن على العلم برحمة الله وعزته وإحسانه وقدرته وعلمه وحسن اختياره وقوة التوكل عليه، فإذا تم العلم بذلك أثمر له حسن الظن بالله. قاله في «الشرح»*. وقد جاء في الحديث القدسي: «قال الله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه حين يذكرني»**. رواه البخاري ومسلم، وعن جابر - رضي الله عنه - أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل موته بثلاثة أيام يقول: «لا يموتنَّ أحدُكم إلا وهو يحسن الظن بالله عز وجل» ***. رواه مسلم وأبوداود.(1/301)
قول الله تعالى: { يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ(1) يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الأمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ } [آل عمران:154] الآية.
__________
(1) قوله: { يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ } هذه الآية نزلت خبر من الله عن المنافقين وما جرى لهم في وقعة أُحُد فقال تعالى: { ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ } يعني المؤمنين الصادقين الذين هم على يقين بأن الله سينصر رسوله ويظهره على عدوه، وطائفة قد أهمتهم أنفسهم، يعني المنافقين، لا يغشاهم النعاس من القلق والجزع والخوف على أنفسهم يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية من أهل الشرك شكَّاً في أمر الله وتكذيباً لنبيه لما رأوا من الهزيمة على المسلمين بسبب مخالفتهم لأمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - وتركهم الثغر الذي أمرهم بلزومه، فكَرَّ عليهم العدوُّ فقتل مَنْ قتل منهم، وشُجَّ النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكُسرت رباعيته،
..........................................................
* (ص/582-583).
** أخرجه البخاري (7405)، ومسلم (2675).
*** أخرجه مسلم (2877).(1/302)
وقوله: { الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ(1)
__________
(1) ظن المنافقون أنها الفيصلة، وأن الإسلام قد باد أهلُه فقال مُعتِّب بن قشير أخو بني عمرو بن عوف: لو كان لنا من الأمر شيء ما قُتلنا هاهنا. ولما قيل لعبدالله بن أُبيّ: قُتل بنوالخزرج اليوم. قال: وهل لنا من الأمر شيء؟. قال ابن القيم رحمه الله تعالى: «فليس مقصودهم بالكلمة الأولى والثانية إثبات القدر وردِّ الامر كله لله، ولو كان هذا مقصودهم لما ذُمُّوا ولما حَسُن الرد عليهم بقوله: { قُلْ إِنَّ الأمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ } ، ولا كان هذا الكلام ظن الجاهلية، ولهذا قال غير واحد من المفسرين: إن ظنهم الباطل هاهنا هو التكذيب بالقدر، وأن الأمر لو كان إليهم وكان الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه تبعاً لهم يسمعون منهم لما أصابهم القتل، ولكان النصر والظفر لهم، فكذَّبهم الله في هذا الظن الباطل الذي هو ظن الجاهلية وهو المنسوب إلى أهل الجهل الذين يزعمون بعد نفاذ القضاء والقدر الذي لم يكن بُد من نفاذه أنهم كانوا قادرين على دفعه، وأن الأمر لو كان إليهم لما نفذ القضاء، فأكذبهم الله بقوله: { قُلْ إِنَّ الأمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ } فلا يكون إلا ما سبق به قضاؤه وقدرُه، وجرى به قلمُه وكتابُه السابق.
( ) وقوله: { الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ } الآية قال ابن كثير [التفسير 7/329]: «يتهمون الله تعالى في حكمه ويظنون بالرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه أن يقتلوا ويذهبوا بالكلية، ولهذا قال: { عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ } أي أبعدهم من رحمته { وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا } ، «قال ابن القيم رحمه الله في الآية الأولى [زاد المعاد 3/228]: «فُسِّر هذا الظن بأنه سبحانه لا ينصر رسولَه، وأن أمرَه سيضمحل، وفُسِّر بظنهم أن ما أصابهم لم يكن بقدر الله وحكمته، ففُسِّر بإنكار الحكمة، وإنكار القدر ؛ وإنكار أن يتمَّ أمرُ رسوله، وأن يظهره على الدين كلِّه. وهذا هو ظنُّ السوء الذي ظنّه المنافقون والمشركون في سورة الفتح، وإنما كان هذا ظن السوء لأنه ظنَّ غير ما يليقُ به سبحانه، وما يليق بحكمته وحمده ووعده الصادق، فمن ظنَّ أنه يُديلُ الباطلَ على الحق إدالةً مستمرة يضمحلُّ معها الحقُّ، أو أنكر أن يكون ما جرى بقضائه وقدره، أو أنكر أن يكون قدَره لحكمة بالغة يستحق عليها الحمد، بل زعم أن ذلك لمشيئة مجرّدة، فذلك ظنُّ الذين كفروا، فويلٌ للذين كفروا من النار» وفيه: معرفة تفسير آية آل عمران وتفسير آية الفتح. قاله المصنف رحمه الله تعالى.(1/303)
} [الفتح:6] الآية.
قال ابنُ القيِّم في الآية الأولى: «فُسِّر هذا الظن بأنه سبحانه لا ينصر رسولَه، وأن أمرَه سيضمحل، وفُسِّر بأن ما أصابه لم يكن بقدر الله وحكمته، ففُسِّر بإنكار الحكمة، وإنكار القدر ؛ وإنكار أن يتمَّ أمرُ رسوله - صلى الله عليه وسلم - وأن يظهره على الدين كلِّه. وهذا هو ظنُّ السوء الذي ظنّه المنافقون والمشركون في سورة الفتح.
وإنما كان هذا ظنّ السوء لأنه ظنُّ غير ما يليقُ به سبحانه، وما يليق بحكمته وحمده ووعده الصادق، فمن ظنَّ أنه يُديلُ الباطلَ على الحق إدالةً مستقرة يضمحلُّ معها الحقُّ، أو أنكر أن يكون ما جرى بقضائه وقدره، أو أنكر أن يكون قدَرُه بحكمةٍ بالغةٍ يستحق عليها الحمد، بل زعم أن ذلك لمشيئة مجرّدة، فذلك ظنُّ الذين كفروا، فويلٌ للذين كفروا من النار. وأكثر الناس يظنون بالله ظنَّ السَّوء فيما يختص بهم(1) وفيما يفعله بغيرهم، ولا يَسلَم من ذلك إلا من عَرَفَ اللهَ وأسماءَه وصفاته وموجبَ حكمتِه وحمدِه(2)
__________
(1) قوله: «وأكثر الناس يظنون بالله ظن السوء فيما يختص بهم» بل غالب بني آدم إلا من شاء الله يعتقد أنه مبخوس الحق ناقص الحظ، وأنه يستحق فوق ما أعطاه الله، ولسان حاله يقول: ظلمني ربي ومنعني ما أستحق، ونفسه تشهد عليه بذلك، وهو بلسانه ينكر ولا يتجاسر على التصريح.
(2) قوله: «وفيما يفعله بغيرهم ولا يسلَم من ذلك إلا من عرف الله وأسماءَه وصفاته وموجبَ حكمته وحمده» فإذا رأوا رجلاً صالحاً قد قُتِر عليه قالوا: هذا ما يستحق. أو رأوا رجلاً قد وُسِّع عليه في الدنيا قالوا: هذا ليس بكفؤ ؛ قدحاً في القدر واعتراضاً عليه. قال أبوالفرج ابن الجوزي: «وهذه حالة قد شملت خلقاً كثيراً من العلماء والجهال أولهم إبليس، فإنه نظر بعقله فقال: كيف يفضل الطين على جوهر النار؟ وفي ضمن اعتراضه أن حكمتك قاصرة وأنا أجود، واتّبع إبليس في تفضيله واعتراضه خلقٌ كثير مثل الراوندي والمعري، ومن قوله:(1/304)
،
فليعتنِ اللبيبُ(1) الناصحُ لنفسه بهذا، وليتبْ إلى الله ويستغفره من ظنه بربه ظنَّ السَّوء، ولو فتَّشتَ من فتشت(2) لرأيتَ عنده تعنُّتَاً على القدر وملامةً له، وأنه كان ينبغي أن يكون كذا وكذا، فمستقِلٌ ومستكثر، وفتِّش نفسَكَ ؛ هل أنت سالم ؟
فإنْ تَنْجُ منها تنجُ من ذي عظيمةٍ وإلاَّ فإني لا إِخالُك(3) ناجيا
.............................................................................
* * *
60- باب
__________
(1) ذا كان لا يحظى برزقك عاقل
فلا ذنب يا رب السماء على امرئ
وترزق مجنوناً وترزق أحمقا
رأى منك ما لا يُرتضى فتنزندق
( ) قوله: «فليعتن اللبيب» أي العاقل «الناصح لنفسه، ولا يعترض على ربه في قضائه وقدره، وليتب إلى الله ويستغفره من ظنه بربه ظن السوء».
(2) قوله: «ولو فتشت من فتشت» يعني من الناس «لرأيت عنده تعنُّتاً على القدر وملامة له، وأنه كان ينبغي أن يكون كذا وكذا» أي خلاف ما جرى به القدر «فمستقل ومستكثر» أي مستقل من الاعتراض ومستكثر منه «وفتش نفسك هل أنت سالم ؟» من الاعتراض على قضاء الله وقدره أم لا ؟
... فإنْ تَنْجُ منها تنجُ من ذي عظيمةٍ وإلاَّ فإني لا إِخالُك ناجيا
(3) قوله: «لا إِخَالُكَ» بكسر الهمزة، أي: لا أظنك، ولله درُّ القائل:
فلا تظننَّ بربك ظن سوء
ولا تظننَّ بنفسك قط خيراً
فإن الله أولى بالجميلِ
فكيف بظالم جانٍ جهول
[وقل يا نفس مأوى كل سوءٍ
وظُنَّ بنفسك السوءَ تجدها
وما بك من تُقَىً فيها وخير
وليس لها ولا منها ولكن
أترجو الخير من ميِّتٍ بخيلٍ]
كذاك وخيرها كالمستحيلِ
فتلك مواهب الرب الجليلِ
من الرحمن فاشكر للدليلِ
وفيه: الإخبار بأن ذلك أنواع لا تُحصر، وأنه لا يسلم من ذلك إلا من عرف الأسماء والصفات وعرف نفسه. قاله المصنف رحمه الله تعالى.(1/305)
ما جاء في منكري القدر (1)
وقال ابنُ عمر: والذي نفس ابن عمرَ بيده؛ لو كان لأحدهم مثلَ أُحُدٍ ذهباً ثم أنفقه في سبيل الله ما قَبلَه اللهُ منه حتى يؤمِن بالقدر. ثم استدلَّ بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «الإيمان أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمنَ بالقدر خيره وشره» (2)
__________
(1) قوله: «باب ما جاء في منكري القدر» أي من الوعيد الشديد، قال في «المصباح»: «والقدر بالفتح لا غير القضاء الذي يقدره الله تعالى، والقدر منشؤه عن علم الرب وقدرته»، ولهذا قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى: القدر هو قدرة الله، واستحسن ابن عقيل هذا الكلام من أحمد غاية الاستحسان وقال: إنه شفى بهذه الكلمة وأفصح بها عن حقيقة القدر، وإلى هذا أشار العلاَّمة ابن القيم بقوله [الكافية الشافية]:
وحقيقة القدر الذي حار الورى
واستحسن ابنُ عقيل ذا من أحمد
قال الإمام شفى القلوب بلفظة
ج
في شأنه هو قدرة الرحمن
لما حكاه عن الرضى الرباني
ذات اختصار وهي ذات بيان
ج
قال شيخ الإسلام: وقول الإمام أحمد «القدر قدرة الله» يعني أن مَنْ أنكر القدر فقد أنكر قدرة الله، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: الإيمان بالقدر نظام التوحيد، فمن آمن بالله وكذب بقدره نقض تكذيب توحيده، ومن آمن بالقدر صدَّق إيمانُه توحيدَه.
(2) قوله: «وقال ابنُ عمر: والذي نفس ابن عمرَ بيده؛ لو كان لأحدهم مثلَ أُحُدٍ ذهباً ثم أنفقه في سبيل الله ما قَبلَه اللهُ منه حتى يؤمِن بالقدر. ثم استدلَّ بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «الإيمان أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمنَ بالقدر خيره وشره»* حديث ابن عمر هذا أخرجه مسلم وأبوداود والترمذي والنسائي
..........................................................
* أخرجه مسلم (8).
وابن ماجه، فالإيمان بالله: هو التصديق بأنه سبحانه وتعالى موجود موصوف بصفات الجلال والكمال، منزَّه عن صفات النقص، وأنه فرد صمد خالق جميع المخلوقات، متصرف فيها بما يشاء، يفعل في ملكه ما يريد. والإيمان بالملائكة: هو التصديق بعبوديتهم لله { بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ } [الأنبياء:26-28]. والإيمان بالرسل: هو التصديق بأنهم صادقون فيما أخبروا به عن الله تعالى، أيَّدهم الله بالمعجزات الدالة على صدقهم، وأنهم بلَّغوا عن الله رسالاته، وبيَّنوا للمكلفين ما أمرهم الله به، وأنه يجب احترامهم وأن لا يُفرق بين أحدٍ منهم. والإيمان باليوم الآخر: هو التصديق بيوم القيامة وما اشتمل عليه من الإعادة بعد الموت والنشر والحشر والحساب والميزان والصراط والجنة والنار، وأنهما دار ثوابه وعقابه للمحسنين والمسيئين، إلى غير ذلك مما صح به النقل، والإيمان بالقدر: هو التصديق بما دلَّ عليه قوله: { وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ } [الصافات:96]، وقوله: { إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ } [القمر: 49] وكلام ابن عمر هذا أراد به غلاة القدرية المنكرين أن يكون الله عالماً بشيء من أعمال العباد قبل وقوعها منهم، وإنما يعلمها بعد كونها.
قال القرطبي: ولا شك في تكفير من يذهب إلى ذلك، فإنه جحد معلوماً من الشرع بالضرورة؛ لذلك تبرأ منهم ابن عمر وأفتى بأنه لا تُقبل منهم أعمالهم ونفقاتهم.
وقال شيخ الإسلام [الفتاوى 8/449-450]: «مذهب أهل السنة في هذا الباب وغيره ما دلَّ عليه الكتاب والسنة، وكان عليه السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، وهو أن الله خالق كل شيء وربه ومليكه، وقد دخل في ذلك جميع الأعيان القائمة بأنفسها وصفاتها القائمة بها من أفعال العباد وغير أفعال العباد، وأنه سبحانه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، فلا يكون في الوجود شيء إلا بمشيئته وقدرته، ولا يمتنع عليه شيءٌ شاءه؛ بل هو قادر على كل شيء، ولا يشاء شيئاً إلا هو قادر عليه، وأنه سبحانه يعلم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف يكون، وقد دخل في ذلك أفعال
العباد وغيرها،وقد قدَّر مقادير الخلائق قبل أن يخلقهم، وقدّر أرزاقهم وآجالهم وأعمالهم وكتب ما يصيرون إليه من شقاوة وسعادة، فهم يؤمنون بخلقه لكل شيء وقدرته على كل شيء ومشيئته لكل ما كان، وعلمه بالأشياء قبل أن تكون، وتقديره لها وكتابته إياها قبل أن تكون». وقد سُئل الشافعي رحمه الله عن القدر فقال:
فما شئتَ كان وإن لم أشأ
خلقتَ العباد على ما علمتَ
على ذا مننتَ وهذا خذلتَ
فمنهم شقي ومنهم سعيد
وما شئتُ إن لم تشأ لم يكن
ففي العلم يجري الفتى والمسن
وهذا أعنتَ وذا لم تُعن
ومنهم قبيح ومنهم حسن
ج
والإيمان بالقدر على درجتين:
إحداهما: الإيمان بأن الله تعالى سبق في علمه ما يعمل العباد من خير وشر وطاعة ومعصية قبل خلقهم، ومن هو منهم من أهل الجنة، ومن هو منهم أهل النار، وأعد لهم الثواب والعقاب وكتب ذلك، وأن أعمال العباد تجري على ما سبق في علمه وكتابه، وهذه الدرجة أثبتها كثير من القدرية ونفاها غلاتهم كمعبد الجهني وعمرو بن عبيد وغيرهما. وقد قال كثير من أئمة السلف: «ناظروهم - يعني القدرية - بالعلم فإن أقَرُّوا به خُصِموا، وإن جحدوا كفروا». يريدون أن من أنكر العلم القديم السابق بأفعال العباد، وأن الله قسمهم قبل خلقهم إلى شقي وسعيد، وكتب ذلك عنده في كتاب حفيظ، فقد كذب بالقرآن فيكفر بذلك، وإن أقروا بذلك وأنكروا أن الله خلق أفعال العباد وشاءَها منهم وأرادها إرادة كونية قدرية فقد خُصموا؛ لأن ما أقروا به حجة عليهم فيما أنكروه.
والدرجة الثانية: أن الله خلق أفعال العباد كلها من الكفر والإيمان والطاعة والعصيان وشاءها منهم، وفي تكفير هؤلاء نزاعٌ مشهور بين العلماء.(1/306)
. رواه مسلم.
.......................................................................
وعن عُبادة بن الصامت(1) أنه قال لابنه(2): يا بني، إنك لن تجد طعمَ الإيمان حتى(3) تعلمَ أنَّ ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليُصيبك. سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إن أولَ ما خلق الله القلمَ(4)
__________
(1) قوله: «وعن عُبادة بن الصامت أنه قال لابنه: يا بني، إنك لن تجد طعمَ الإيمان حتى تعلمَ أنَّ ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليُصيبك. سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إن أولَ ما خلق الله القلمَ، فقال له: اكتب. فقال: ربِّ وماذا أكتب ؟ قال: اكتُب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة». يا بني سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «مَنْ مات على غير هذا فليس مني»*. أورد المصنف رحمه الله حديث عبادة هذا ولم يعزه. وقد رواه أبوداود مختصراً والترمذي، ورواه الإمام أحمد مطولاً.
(2) قوله: «أنه قال لابنه» هو الوليد بن عبادة كما جاء مصرحاً به في رواية الترمذي.
(3) قوله: «إنك لن تجد طعم الإيمان حتى» إلى آخره. فيه: بيان فرض الإيمان بالقدر، وبيان كيفية الإيمان به، وإحباط عمل من لم يؤمن به والإخبار أن أحداً لا يجد طعم الإيمان حتى يؤمن به. قاله المصنف. وأن من لم يؤمن بالقدر بأن يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه لا يجد طعم الإيمان. وفيه: براءته - صلى الله عليه وسلم - ممن لم يؤمن بالقدر. قاله المصنف رحمه الله.
(4) قوله: «سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «أول ما خلق الله القلمَ» وفي رواية لأحمد: «إن أول ما خلق الله القلم فقال له: اكتب، فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة»**. وفيه: ذكر أول ما خلق الله وأنه جرى بالمقادير في تلك الساعة إلى يوم القيامة. قاله المصنف رحمه الله. قال الحافظ ابن حجر: «حكى أبوالعلاء الهمداني للعلماء قولين في أيهما خُلق أولاً: العرش أو القلم ؟. قال: والأكثر
..........................................................
* أخرجه أبوداود (4700)، والترمذي (2155)، وأحمد (5/317) وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (3/891).
** أخرجه أحمد (5/317)، وابن أبي عاصم (107).(1/307)
، فقال له: اكتب. فقال: ربِّ وماذا أكتب؟ قال: اكتُب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة». يا بني سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «مَنْ مات على غير هذا فليس مني».
وفي رواية لأحمد: «إن أول ما خلق الله تعالى القلمُ فقال له: اكتُب، فجرى في تلك الساعة بما هو كائنٌ إلى يوم القيامة».
وفي رواية لابن وهب(1): قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «فمن لم يُؤمن بالقدر خيره
__________
(1) لى سبق خلق العرش، واختار ابن جرير ومن تبعه الثاني. روى ابن أبي حاتم من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: «خلق الله اللوحَ المحفوظ مسيرة خمسمائة عام، فقال للقلم قبل أن يَخلق الخلق وهو على العرش: اكتب. فقال: وما أكتب؟ قال: علمي في خلقي إلى يوم القيامة». ذكره في تفسير سورة «سبحان»، وليس فيه سبق خلق القلم على العرش بل فيه سبق العرش. وقد أشار العلاَّمة ابن القيم إلى هذا الخلاف في قصيدته «الكافية الشافية» [96] فقال:
والناس مختلفون في القلم الذي
هل كان قبل العرش أو هو بعده
والحق أن العرش قبل لأنه
وكتابة القلم الشريف تعقبت
لما براه الله قال: اكتب كذا
كُتب القضاء به من الرحمن*
قولان عند أبي العلاء الهمداني
قبل الكتابة كان ذا أركانِ
إيجاده من غير فصل زمانِ
فغدا بأمر الله ذا جريانِ
( ) قوله: «وفي رواية لابن وهب» وهو الإمام الحافظ عبدالله بن وهب بن مسلم القرشي، مولاهم، المصري الفقيه، ثقة إمام مشهور عابد، له مصنفات منها الجامع وغيره، مات سنة سبع وتسعين ومائة وله اثنتان وسبعون سنة.
..........................................................
* في الكافية الشافية: الديانِ.(1/308)
وشره أحرقه اللهُ بالنار»(1).
وفي المسند(2) والسنن عن ابن الدَّيلَمي(3) قال: أتيتُ أُبيَّ بن كعب فقلت: في نفسي شيء من القدر، فحدِّثني بشيءٍ لعلَّ الله يُذهبُه من قلبي(3)
__________
(1) قوله: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «فمن لم يؤمن بالقدر خيره وشره أحرقه الله بالنار»* أي: لكفره، أو بدعته إن كان ممن يُقرّ بالعلم السابق وينكر خلق أفعال العباد، فإن صاحب البدعة معرَّضٌ للوعيد كأصحاب الكبائر، بل أعظم. قاله في «الشرح»**.
(2) قوله: «وفي المسند» أي مسند الإمام أحمد «والسنن» أي سنن أبي داود وابن ماجه.
(3) قوله: «عن ابن الديلمي» وهو عبدالله بن فيروز الديلمي، وفيروز قاتل الأسود العنسي الكذّاب، وعبدالله هذا ثقة من كبار التابعين، بل ذكره بعضهم في الصحابة، والديلمي نسبة إلى جبل الديلم، وهو من أبناء فارس الذين بعثهم كسرى إلى اليمن «قال: أتيتُ أُبيَّ بن كعب فقلت: في نفسي شيءٌ من القدر، فحدِّثني بشيء لعل الله يُذهبه من قلبي، فقال: لو أنفقتَ مثلَ أُحُد ذهباً ما قَبِله الله منك حتى تؤمن بالقدر، وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليُصيبك، ولو مُت على غير هذا لكنتَ من أهل النار. قال: فأتيتُ عبدالله بن مسعود وحُذيفة بن اليمان وزيد بن ثابت، كلُّهم حدثني بمثل ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. حديث صحيح، رواه الحاكم في صحيحه»***. وفي رواية ابن ماجه زيادة اختصرها المصنف وهي: «لو أن الله عذَّب أهل سمواته وأهل أرضه لعذَّبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم لكانت رحمته خيراً لهم من أعمالهم». وفيه: عادة
..........................................................
* أخرجه ابن أبي عاصم في السنة (111) وصححه الألباني. ...
** (ص/606).
*** أخرجه أحمد (5/182، 185، 189)، وأبوداود (4699)، وابن ماجه (77). قال الألباني: صحيح، انظر: سنن أبي داود (3/890) رقم (3932).
السلف في إزالة الشبهة بسؤال العلماء، وأن العلماء أجابوه بما يُزيل الشبهة، وذلك أنهم نسبوا الكلام إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقط. قاله المصنف رحمه الله تعالى.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: «وهاهنا أمرٌ يجب التنبيه عليه والتنبُّه له، وبمعرفته تزول إشكالات كثيرة تعرض لمن لم يحط به علماً: وهو أن الله سبحانه له الخلقُ والأمر، وأمرُه سبحانه نوعان: أمرُ كوني قدري، وأمرٌ ديني شرعي. فمشيئته سبحانه متعلقه بخلقه وأمره الكوني، وأما محبته ورضاه فمتعلقةٌ بأمره الديني وشرعه الذي شَرَعَه على ألسنة رسله، فما وجد منه تعلقت به المحبة والمشيئة جميعاً فهو محبوب للرب واقع بمشيئته، وما لم يُوجد منه تعلّقت به محبته وأمره الديني ولم تتعلق به مشيئته، وما وجد من الكفر والفسوق والمعاصي تعلقت به مشيئته ولم تتعلق به محبته ولا رضاه ولا أمره الديني، وما لم يُوجد منها لم تتعلق به مشيئته ولا محبته، فلفظ المشيئة كوني، ولفظ المحبة ديني شرعي، ولفظ الإرادة ينقسم إلى إرادة كونية فتكون هي المشيئة، وإرادة دينية فتكون هي المحبة». انتهى.
وقال أيضاً: «وهو يُعاقب الخلق على مخالفة أمره وإرادته الشرعية وإن كان ذلك بإرادته القدرية، فإن القدر كما جرى بالمعصية جرى أيضاً بعقابها». انتهى.(1/309)
. فقال: لو أنفقتَ مثلَ أُحُد ذهباً ما قَبِله الله منك حتى تؤمن بالقدر، وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليُصيبك، ولو مُت على غير هذا لكنتَ من أهل النار. قال: فأتيتُ عبدالله بن مسعود وحُذيفة بن اليمان وزيد بن ثابت، فكلُّهم حدثني بمثل ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. حديث صحيح، رواه الحاكم في صحيحه.
* * *
61- باب
ما جاء في المصورين (1)
عن أبي هريرة - رضي الله عنه -(2) قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «قال الله تعالى: ومَنْ أظلمُ ممن ذهبَ يخلُق كخلقي(3)، فليخلُقُوا ذرَّة، أو ليخلُقُوا حبَّة، أو ليخلقوا شَعِيرةً» أخرجاه.
__________
(1) قوله: «باب ما جاء في المصورين» أي من الوعيد.
(2) قوله: «عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «قال الله تعالى: ومَنْ أظلمُ ممن ذهبَ يخلُق كخلقي، فليخلُقُوا ذرَّة، أو ليخلُقُوا حبَّة، أو ليخلقوا شعيرة» أخرجاه*. هذا من الأحاديث القدسية التي يرويها النبي - صلى الله عليه وسلم - عن جبريل عن ربه تبارك وتعالى.
(3) قوله: «ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي» فلا أظلم من المصورين الذين عملوا صوراً تشبه خلق الله عز وجل؛ لأنه تعالى هو الخالق البارئ المصور وهم بعملهم قد نازعوه في أسمائه، وتشبهوا به في صفات ربوبيته حيث عملوا ما يضاهي خلقه، ولذا تحدَّاهم تعالى بقوله: «فليخلقوا ذرة» فيها روح تتصرف بنفسها كمثل ما خلق الله من ذوات الأرواح، «أو ليخلقوا حبة، أو ليخلقوا شَعِيرةً» مثل ما خلق الله من النباتات التي تُزرع وتنمو وتحيا بالماء، فإن للنبات حياة تخصه وهي النمو والزيادة كما للحيوان حياة تخصه وهي النمو والحركة، فنبَّه بالذرة والحبة والشعيرة على ما هو أعظم منها وأكبر، فإنهم لا يستطيعون ذلك بل هم عاجزون عنه.
... وقوله: «أخرجاه» أي البخاري ومسلم.(1/310)
ولهما(1) عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «أشدُّ
الناسِ عذاباً يومَ القيامة الذين يُضاهئون بخلق الله».
ولهما عن ابن عباس: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «كل مصور في النار، يُجعل له بكل صورة صورها نفس يُعذَّب بها في جهنم».
ولهما عنه(1) مرفوعاً: «من صوَّر صورةً في الدنيا كُلِّف أن ينفخ فيها الروح، وليس بنافخ»(2)
__________
(1) قوله: «ولهما» أي البخاري ومسلم «عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أن
..........................................................
* أخرجه البخاري (5953) و (7559)، ومسلم (2111).
(2) سول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «أشد الناس عذاباً يوم القيامة الذين يضاهئون بخلق الله»* قال في «النهاية»: أراد المصورين، والمضاهاة المشابهة، وقد تُهمز، فالمصور لما صور الصورة على مثل ما خلق الله صار مضاهئاً لخلق الله فكان أشد الناس عذاباً ؛ لأن ذنبه من أعظم الذنوب. وأما قول من قال هذا محمول على صانع الصورة لتُعبد، فهذا تخصيص لكلام النبوة بغير دليل؛ بل يردُّه قوله في نفس الحديث: «يضاهئون خلق الله» فذكر العلة وهي المضاهاة. وأما قوله: وقيل هو فيمن قصد المضاهاة واعتقد ذلك فهذا الاعتقاد الذي اشترطه تقييد للحديث مردود؛ لأنه من المعلوم لدى كل ذي عقل سليم أن المصور إنما قصد بعمل الصورة نفس مضاهاة خلق الله أي مشابهته، ولا يخطر بباله سوء ذلك ولكن بمثل هذه المحامل التي لا تحتمل والقيود التي لا دليل عليها والتأويلات التي هي صرف اللفظ عن ظاهره أوهَنُوا دلالة الأحاديث عند ضعفاء البصائر وجنوا على الشريعة، وصار ما قالوه حجَّة لكل مبطل فلا حول ولا قوة إلا بالله.
( ) قوله «ولهما» أي البخاري ومسلم «عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «كل مصور في النار، يُجعل له بكل صورة صوَّرها نَفْسٌ يُعذَّب بها في جهنم»**، ولهما عنه مرفوعاً: «من صوَّر صورةً في
..........................................................
* أخرجه البخاري (2479) و (5954، 5955) و(5961)، ومسلم (2107).
** أخرجه البخاري (2225) و(5963) و(7042)، ومسلم (2110).
الدنيا كُلِّف أن ينفخ فيها الرُّوح، وليس بنافخ»*. وفيه: التغليظ الشديد في المصورين والتنبيه على العلة وهو ترك الأدب مع الله لقوله: «ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي»، والتنبيه على قدرته وعجزهم لقوله: «فليخلقوا ذرة أو حبة أو شعيرة»، والتصريح بأنهم أشد الناس عذاباً، وأن الله يخلق بعدد كل صورة نفساً يُعذب بها في جهنم، وأنه يُكلَّف أن ينفخ فيها الروح. قاله المصنف رحمه الله. واعلم أن التعليل في أحاديث التصوير قد ورد بألفاظ متعددة، فعلل في بعضها بالمضاهاة يعني المشابهة، وفي بعضها بتكليفه بأن ينفخ فيها الروح، وفي بعضها بقوله: «احيوا ما خلقتم» فأما التعليل بالمضاهاة والإحياء فيقتضي تحريم تصوير ما خلق الله من حيوان ونبات لوجود المضاهاة والحياة. قال تعالى: { وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ } [الأنبياء:30]، فإن للنبات حياة تخصه وهي النمو والزيادة، كما أن للحيوان حياة تخصه وهي النمو والحركة، ولقوله: «فليخلقوا ذرة أو ليخلقوا حبة أو ليخلقوا شعيرة» وبهذا قال مجاهد بن جبر إمام التفسير وراوية ابن عباس، وسواء كانت صورة كاملة أو بعض صورة حتى الرأس والكف لحصول المضاهاة بذلك، وقوله في بعض الروايات «يجعل له بكل صورة نفس يُعذب بها» وتكليفه في الرواية الأخرى بأن ينفخ فيها الروح لا ينفي تحريم ما علّته المضاهاة والحياة وإلا لم يكن للتعليل بذلك فائدة. وأما ما احتج به من أراد استحلال ما حرم الله من أن الصورة الشمسية ليست من الصور المحرمة بحجة أنها مسك للظل كما يرى الناظر صورته في المرآة فهذا غير صحيح؛ لأن ما يبدو في المرآة صورة غير ثابتة ولا صنع للناظر فيها ولا يُسمى الناظر مصوراً، ولا تُسمى صورة لغة ولا شرعاً ولا عرفاً، وأما الصورة الشمسية فلا يشك من له أدنى معرفة بأحكام الشرع وعِلَلِه أنها من جملة الصور المحرمة ؛ لأنها لا تتأتّى إلا
..........................................................
* أخرجه البخاري (5963)، ومسلم (2110).(1/311)
.
.......................................................................
ولمسلم عن أبي الهيَّاج(1) قال: قال لي عليٌّ: ألاَ أبعثك على ما بعثني عليه رسول ُ الله - صلى الله عليه وسلم -: ألاَّ تدعَ صورةً إلا طمستها، ولا قبراً مشرفاً إلا سوَّيتَه(1)
__________
(1) الآلة المخصوصة التي صنعت لها وعمل من المصور بوضعها في مواد التحميض لتكون ثابتة وملونة فهي صورة حقيقة، وعاملها يُسمى مصوراً لغة وشرعاً وعرفاً، والتصوير محرم سواء كانت الصورة لها شخص منتصب، أو كانت منقوشة في سقف أو جدار، أو موضوعة في نمط أو في نقد، أو منسوجة في ثوب أو بساط أو مكان، وسواء كانت من شمع أو عجين أو حلاوة أو غير ذلك، فإن قضية العموم تأتي على ذلك كله.
( ) قوله: «ولمسلم عن أبي الهياج الأسدي» واسمه حبان بن حصين «قال: قال لي عليٌّ: ألاَ أبعثك على ما بعثني عليه رسول ُ الله - صلى الله عليه وسلم -: ألاَّ تدعَ صورةً إلا طمستها، ولا قبراً مشرفاً إلا سوَّيتَه»* فدل هذا الحديث على إتلاف الصورة لمن قدر على إتلافها، وإزالتها لمضاهاتها لخلق الله، وطمسها إن كانت غير مجسمة، وتسوية القبور المشرفة لما في تعليتها من الفتنة بأربابها وتعظيمها، وهو من ذرائع الشرك ووسائله، فصرف الهمم إلى هذا وأمثاله من مصالح الدين ومقاصده وواجباته. ولما وقع التساهل في هذه الأمور وقع المحذور، وعظمت الفتنة بأرباب القبور، وصارت محطاً لرحال العابدين المعظِّمين لها فصرفوا لها جُلّ العبادة من: الدعاء والاستغاثة والاستعانة، والتضرع لها، والذبح والنذور وغير ذلك من كل شركٍ محظور. قاله في «الشرح»**. قال ابن القيم رحمه الله تعالى [إغاثة اللهفان 1/214-215]: «ومن جمع بين سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في القبور وما أمر به ونهى عنه وما كان عليه أصحابه وبين ما عليه أكثر الناس اليوم رأي أحدهما مضاداً للآخر
..........................................................
* أخرجه مسلم (969).
** من فتح المجيد وليس التيسير (2/799).
مناقضاً له:
فنهى عن الصلاة إلى القبور وهؤلاء يصلون عندها وإليها.
ونهى عن اتخاذها مساجد، وهؤلاء يبنون المساجد عليها ويسمونها مشاهد مضاهاة لبيوت الله.
ونهى عن إيقاد السُّرج عليها، وهؤلاء يوقفون الوقوف على إيقاد القناديل عليها.
ونهى أن تتخذ أعياداً، وهؤلاء يتخذونها أعياداً ومناسك ويجتمعون لها كاجتماعهم للعيد أو أكثر.
وأمر بتسويتها كما في حديث أبي الهياج وفضالة ابن عبيد، وهؤلاء يبالغون في مخالفة هذين الحديثين ويرفعونها عن الأرض كالبيت ويعقدون عليها القبب.
ونهى عن تجصيصها والبناء عليها والكتابة عليها، وهؤلاء يتخذون عليها الألواح ويكتبون عليها القرآن وغيره». انتهى ملخصاً.
وقيد الأمر بطمس الصور إذا وُجدت. قاله المصنف رحمه الله تعالى.(1/312)
.
.............................................................................................
* * *
62- باب
ما جاء في كثرة الحلف(1)
وقول الله تعالى: { وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ } (2) [المائدة: 89] .
عن أبي هريرة(3) قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «الحَلِف مَنفَقةٌ للسلعة، مَمْحَقةٌ للكَسْب». أخرجاه.
__________
(1) قوله: «باب ما جاء في كثرة الحلف» أي من النهي عنه والوعيد عليه.
(2) قوله: «وقول الله تعالى: { وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ } ذكر غير واحد من المفسرين عن ابن عباس: يريد لا تحلفوا. وهذا هو الشاهد من الآية للترجمة، قال في «فتح المجيد»*: وهو المعنى الذي أراد المصنف من الآية، وقال آخرون: احفظوا أيمانكم عن الحنث فلا تحنثوا. وقال ابن جرير: لا تتركوها بغير تكفير؛ لأنه يلزم من كثرة الحلف كثرة الحنث، مع ما في ذلك من الاستخفاف بعظمة الله، وهذا مما ينافي كمال التوحيد الواجب أو عدمه. قاله في «فتح المجيد»**. وفيه: الوصية بحفظ الأيمان. قاله المصنف رحمه الله.
(3) قوله: «وعن أبي هريرة: قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: الحلف منفقة للسلعة، ممحقة للكسب» أخرجاه»***. أي البخاري ومسلم، وأخرجه أبوداود والنسائي.
قوله: «الحلف منفقة للسلعة» أي مظنة لنفاقها ورواجها عند المشتري، فإذا حلف أنه أعطى بها كذا أو أنه اشتراها بكذا ظنه صادقاً فيأخذها بزيادة على ما ذكره.
... وقوله: «ممحقة للكسب» أي مظنة لمحق الكسب، فإنه يحلف بالله كاذباً قد عصى الله فيعاقب بمحق البركة، فإذا ذهبت بركة كسبه دخل عليه من النقص أعظم من تلك الزيادة التي دخلت عليه بسبب حلفه، وربما ذهب ثمن تلك السلعة رأساً،
..........................................................
* (2/809).
** (2/809).
*** أخرجه البخاري (2087)، ومسلم (1606).(1/313)
وعن سلمان(1) أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ثلاثةٌ لا يكلمهم اللهُ(2)
__________
(1) إن ما عند الله لا ينال إلا بطاعته، وإن تزخرفت الدنيا للعاصي فعاقبتها اضمحلال وذهاب وعقاب. قاله في «فتح المجيد»*. وفيه: الإخبار بأن الحلف منفقة للسلعة ممحقة للكسب. قاله المصنف.
( ) قوله: «وعن سلمان - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ثلاثة لا يكلمهم الله ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: أُشيمط زان، وعائل مستكبر، ورجل جعل اللهَ بضاعته لا يشتري إلا بيمينه، ولا يبيع إلا بيمينه». ورواه الطبراني بسند صحيح»* سلمان لعله سلمان الفارسي أبوعبدالله، أسلم مقدم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة وشهد الخندق، روى عنه أبوعثمان النهدي وشرحبيل بن السمط وغيرهما، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «سلمان منا أهل البيت، إن الله يحب من أصحابي أربعة: علياً وأباذر وسلمان والمقداد»**. أخرجه الترمذي، توفي في خلافة عثمان - رضي الله عنه -، ويحتمل أنه سلمان ابن عامر بن أوس الضبي.
(2) قوله: «إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ثلاثة لا يكلمهم الله» هذا وعيد شديد في حقهم، ونفيُ كلامه تعالى وتقدس عن هؤلاء العصاة دليل على أنه يكلم من أطاعه ويكلمونه في عرصات القيامة، وأن الكلام صفة من صفات كماله، والأدلة على ذلك من الكتاب والسنة أظهر شيء وأبينه. وفيه: الرد على الجهمية والأشاعرة نفاة الكلام. قال في «فتح المجيد»***: «والذي عليه أهل السنة والجماعة من المحققين قيام الأفعال بالله سبحانه، وأن الفعل يقع بمشيئته تعالى وقدرته شيئاً فشيئاً، ولم يزل متصفاً به. فهو حادث الآحاد، قديم النوع، كما يقول ذلك أئمة
..........................................................
* أخرجه الطبراني في الكبير رقم (6111)، وفي الصغير (2/21)، وفي الأوسط (166- مجمع البحرين)، وصححه الألباني في صحيح الجامع رقم (3072).
** رواه الطبراني في الكبير (6/260-261)، والحاكم (3/598). قال الألباني: ضعيف جداً، وذكر أنه يصح موقوفاً على علي - رضي الله عنه -. انظر: ضعيف الجامع (3272)، والضعيفة (3704).
*** (2/811-812).(1/314)
ولا يُزكيهم
ولهم عذابٌ أليم(1): أُشيمطٌ زانٍ(2)، وعائل مستكبر(3)، ورجلٌ جعل اللهَ بضاعته(4)، لا يشتري إلا بيمينه، ولا يبيع إلا بيمينه». رواه الطبراني بسند صحيح.
وفي الصحيح(5) عن عمران بن حُصين - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «خيرُ
__________
(1) صحاب الحديث، وغيرهم من أصحاب الشافعي، وأحمد، وسائر الطوائف، كما قال تعالى: { إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } [يس:82]، فأتى بالحروف الدالة على الاستقبال، والأفعال الدالة على الحال والاستقبال أيضاً. وذلك في القرآن كثير». انتهى.
( ) قوله: «ولا يزكيهم» أي لا يطهرهم «ولهم عذاب أليم» لما عظم ذنبهم عظمت عقوبتهم، فعُوقبوا بهذه الثلاث التي هي من أعظم العقوبات.
(2) قوله: «أشيمط زان» صغره تحقيراً له، والأشمط الذي قد اختلط شعره الأبيض بالأسود؛ لأن داعي المعصية قد ضعف في حقه فدل على أن الحامل له على الزنا محبته المعصية والفجور وعدم خشية الله عز وجل.
(3) قوله: «وعائل مستكبر» أي فقير ؛ لأنه لا داعي له إلى الكبر، فإن الكبر إنما يحمل عليه في الغالب كثرة المال والنعم والرياسة، فاستكباره مع عدم الداعي يدل على أن الكبر طبيعة له، كامن في قلبه. وفيه: أن الذنب يعظم مع قلة الداعي. قاله المصنف.
(4) قوله: «ورجلٌ جعل اللهَ بضاعته» بنصب الاسم الشريف أي الحلف به جعله بضاعته لكثرة استعماله اليمين في بيعه وشرائه، وهذا هو الشاهد من الحديث للترجمة. وفيه: الوعيد الشديد فيمن لا يبيع ولا يشتري إلا بيمينه. قاله المصنف رحمه الله.
(5) قوله: «وفي الصحيح» أي صحيح مسلم عن عمران بن حُصين - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «خيرُ أمتي قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم» قال عمران:(1/315)
أمتي قرني(1)
__________
(1) لا أدري أذكَرَ بعد قرنه مرتين أو ثلاثاً، «ثم إن بعدكم قوماً يشهدون ولا يُستشهدون، ويخونون ولا يُؤتمنون، وينذرون ولا يُوفون، ويظهر فيهم السَّمَنُ»*. وأخرجه البخاري وأبوداود والترمذي.
( ) قوله: «قال رسول الله: «خير أمتي قرني» ولفظ البخاري: «خيركم قرني» قال في «النهاية» [4/45]: «والقرن أهل كل زمان، وهو مقدار التوسط في أعمار أهل كل زمان مأخوذ من الاقتران، وكأنه المقدار الذي يقترن فيه أهل ذلك الزمان في أعمارهم وأحوالهم». وقيل القرن أربعون سنة، وقيل ثمانون، وقيل مائة سنة، وقيل هو مطلق من الزمان، بدأ - صلى الله عليه وسلم - بقرنه لفضيلة أهل ذلك القرن في العلم والإيمان والأعمال الصالحة، ولذا لم يعرف فيهم - ولله الحمد - من تعمد الكذب على النبي - صلى الله عليه وسلم -، كما لم يعرف فيهم من كان من أهل البدع المعروفة كبدعة الخوارج والرافضة والقدرية والمرجئة. قال الشافعي رحمه الله تعالى: «وقد أثنى الله على الصحابة في القرآن والتوراة والإنجيل وسبق لهم من الفضل على لسان نبيهم ما ليس لأحد بعدهم». وفي الصحيحين من حديث أبي سعيد قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تسبوا أصحابي، فلو أن أحدكم أنفق مثل أُحُد ذهباً ما بلغ مُدَّ أحدهم ولا نصيفه»**. وقال ابن مسعود: إن الله نظر في قلوب عباده فوجد قلب محمد خير قلوب العباد، ثم نظر في قلوب الناس بعده فرأى قلوب أصحابه خير قلوب العباد فاختارهم لصحبته، وجعلهم أنصار دينه ووزراء نبيه. وقال ابن الحاج في «المدخل»: «فالقرن الأول خصهم الله عز وجل بخصوصيته لا سبيل لأحد أن يلحق غبار أحدهم فضلاً عن عمله؛ لأن الله عز وجل قد خصَّهم برؤية نبيه عليه الصلاة والسلام ومشاهدته ونزول القرآن عليه غضاً طرياً يتلقونه من فِيِّ النبي - صلى الله عليه وسلم - حين
..........................................................
* أخرجه البخاري (2651) و(3650) و(6428)، ومسلم (2535).
** أخرجه البخاري (3673)، ومسلم (2540).(1/316)
، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم». قال عمران: فلا أدري
أذكَرَ بعد قرنه مرتين أو ثلاثاً(1)
__________
(1) تلقاه من جبريل عليه السلام، وخصَّهم بالقتال بين يدي نبيه ونصرته وحمايته، وإذلال الكفر وإخماده، ورفع منار الإسلام وإعلائه، وحفظهم القرآن الذي كان ينزل نجوماً فأهّلهم الله لحفظه حتى لم يضيع منه حرف واحد، فجمعوه ويسَّروه لمن بعدهم وفتحو البلاد والأقاليم للمسلمين ومهدوها لهم، وحفظوا أحاديث نبيهم عليه الصلاة والسلام في صدورهم وأثبتوها على ما ينبغي من عدم اللحن واللغط والسهو والغفلة، فوضعهم في الحفظ والضبط لا يمكن الإحاطة به ولا يصل إليه أحد، فجزاهم الله عن أمة نبيه خيراً، لقد أخلصوا لله الدعوة، وذَبُّوا عن دينه بالحُجَّة». انتهى ملخصاً.
قوله: «ثم الذين يلونهم» أي قرن التابعين، فُضِّلوا على من بعدهم لظهور الإسلام فيهم وكثرة الداعي إليه والراغب فيه، وما ظهر فيهم من البدع أُنكر وأُزيل كبدعة الخوارج والقدرية والرافضة، فهذه البدع وإن كانت قد ظهرت فيه فأهلها في غاية الذل والهوان والقتل لمن عاند منهم ولم يتبْ.
( ) قوله: «ثم الذين يلونهم» فلا أدري أذكر بعد قرنه مرتين أو ثلاثاً». هذا شك من راوي الحديث عمران بن حصين، قال القرطبي: «ما شك فيه عمران تحقيقه في حديث ابن مسعود حيث ذكر بعد قرنه ثلاثاً». انتهى. والمشهور في الروايات أن القرون المفضلة ثلاثة، والثالث دون الأولين في الفضل لكثرة البدع فيه، لكن العلماء متوافرون والإسلام فيه ظاهر والجهاد فيه قائم، ثم ذكر ما يقع بعد القرون الثلاثة من الجفاء في الدين وكثرة الأهواء.
وفيه: ثناؤه - صلى الله عليه وسلم - على القرون الثلاثة أو الأربعة، وذكر ما يحدث بعدهم. قاله المصنف رحمه الله.
قوله: «ثم إن بعدكم قوماً يشهدون ولا يستشهدون» لاستخفافهم بأمر الشهادة وعدم تحرِّيهم الصدق لقلة دينهم وضعف إسلامهم، ولا يعارض هذا حديثَ:(1/317)
، «ثم إن بعدكم قوماً يشهدون ولا يُستشهدون،
ويخونون ولا يُؤتمنون(1)، وينذرون ولا يُوفون(2)، ويظهر فيهم السِّمَنُ(3)».
وفيه(4) عن ابن مسعود أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يجيء قومٌ تسبق شهادةُ أحدهم يمينَه، ويمينُه شهادتَه».
__________
(1) خير الشهداء الذي يأتي بشهادته قبل أن يُسألها»* لأن الأول في حقوق الآدميين، وهذه في حقوق الله التي لا طالب لها. وقيل الأول في الشهادة على الغيب في أمر الخلق فيشهد أنه من أهل النار، والآخرين بغيره، وقيل أن يتحملوا الشهادة من غير تحميل. قاله في «إبطال التنديد»**.
وفيه: ذم الذين يشهدون ولا يستشهدون. قاله المصنف.
( ) قوله: «ويخونون ولا يُؤتمنون» أي لخيانتهم الظاهرة بحيث لا يُعتمد عليهم. قاله في «إبطال التنديد» ***.
(2) قوله «وينذرون ولا يُوفون» لا يعارض حديث النهي عن النذر، وإنما هو تأكيد لأمره وتحذير من التهاون به بعد إيجابه. قاله في «إبطال التنديد» ****.
(3) قوله: «ويظهر فيهم السِّمن» أي يحبون التوسع في المآكل والمشارب وهي أسباب السمن. قاله في «إبطال التنديد» *****.
(4) قوله: «وفيه» أي صحيح مسلم «عن ابن مسعود - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يجيء قوم تسبق شهادة
..........................................................
* أخرجه أحمد (28/294) بنحوه، طبعة الرسالة، وقال المحقق «حديث صحيح، وهذا إسناد ضعيف».
** (ص/301). ... ...
*** (ص/301).
**** (ص/301-302).
***** (ص/302).(1/318)
وقال إبراهيم(1): كانوا يضربوننا على الشهادة والعهدِ ونحن صغار.
* * *
63- باب
ما جاء في ذمة الله وذمة نبيه - صلى الله عليه وسلم -(2)
__________
(1) حدهم يمينه، ويمينه شهادته»*. إشارة إلى التسارع في الشهادة واليمين، وهذه حال من صرف رغبته إلى الدنيا ونسي المعاد فخف أمر الشهادة واليمين عنده تحملاً وأداءً لقلة خوفه من الله وعدم مبالاته بذلك، وهذا عَلَم من أعلام النبوة، فإنه قد وجد ذلك كما أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم -.
( ) قوله: «وقال إبراهيم» هو ابن يزيد النخعي: «كانوا يضربوننا على الشهادة والعهد ونحن صغار». قوله: «كانوا» الظاهر أن مراده أصحاب عبدالله بن مسعود كما هي عادة إبراهيم في النقل عنهم. قاله في «إبطال التنديد»**.
قلت: ولا وجه لتخصيص كلام إبراهيم بأصحاب عبدالله بن مسعود بل كان هذا حال السلف في تربية أولادهم؛ لأنهم إذا اعتادوا ذلك في حال الصغر أدى ذلك إلى التساهل في ذلك في حال الكبر، وكانت هذه حالة السلف الصالح محافظة على أولادهم لا يتركون شيئاً مما يكره إلا أنكروه على الصغار وأدّبوهم عليه. وفيه: كون السلف يضربون الصغار على الشهادة والعهد. قاله المصنف رحمه الله تعالى.
..........................................................
* أخرجه البخاري (2652) و (3651) و (6451) و (6429) و(6658).
** (ص/302).
(2) قوله: «باب ما جاء في ذمة الله وذمة نبيه - صلى الله عليه وسلم -» أي من الأدلة على وجوب الوفاء بها وإتمامها إذا عُقدت لأحد، والذمة: العهد.(1/319)
وقول الله تعالى: { وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الأيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا } (1) [النحل:91] الآية.
عن بريدة(2) قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أَمَّر أميراً على جيش أو سرية
__________
(1) قوله: «وقول الله تعالى { وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الأيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلا } الآية» قال ابن كثير [التفسير 4/516]: «وهذا مما أمر الله به وهو الوفاء بالعهود والمواثيق والمحافظة على الأيمان، ولهذا قال: { وَلا تَنْقُضُوا الأيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا } ، وهذه الأيمان المراد بها الأيمان الداخلة في العهود والمواثيق لا الأيمان الواردة على حث أو منع». «ونكث العهد دليل على عدم تعظيم الله، فهو قادح في التوحيد». قاله في «إبطال التنديد»*.
... وقوله: { إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ } تهديد ووعيد على نقض الإيمان.
(2) قوله: «عن بريدة» هو ابن الحصيب - بمهملتين مصغر - أبوسهل الأسلمى، صحابي أسلم قبل بدر، مات سنة ثلاث وستين. قاله في «التقريب». وهذا من رواية ابنه سليمان عنه. قاله في «المفهم» «قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أَمَّر أميراً على جيش أو سرية أوصاه بتقوى الله» قال الحربي: السرية الخيل تبلغ أربعمائة ونحوها، والجيش ما كان أكثر من ذلك، وتقوى الله: التحرز بطاعته من عقوبته بأن تعمل بطاعة الله على نور من الله ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله على نور من الله تخاف عقاب الله.
..........................................................
* (ص/304).(1/320)
أوصاه بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيراً(1)، فقال: «اغزوا بسم الله في سبيل الله(2)، قاتلوا من كفر بالله(3)، اغزوا ولا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تُمثِّلُوا(4)، ولا تقتلوا وليداً، وإذا لقيتَ عدوك من
المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال - أو خلال -(5) فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم وكُفَّ عنهم(6)، ثم ادعهم
__________
(1) قوله: «ومن معه من المسلمين خيراً» أي وأوصاه بمن معه من جنود المسلمين أن يفعل معهم خيراً من الرفق بهم والإحسان إليهم وخفض الجناح لهم وترك التعاظم عليهم.
(2) قوله: «فقال اغزوا باسم الله» الباء هنا للاستعانة، أي: اشرعوا في فعل الغزو مستعينين بالله مخلصين له متوكلين عليه. وفيه: قوله اغزوا بسم الله «في سبيل الله» قاله المصنف رحمه الله.
(3) وقوله: «قاتلوا من كفر بالله» بيان لعلة القتال وهي الكفر. قاله المصنف.
وفيه: الرد على من زعم أن علة القتال المقاتلة. وهذا العموم شامل لجميع أهل الكفر المحاربين وغيره، وقد خصّ من هذا العموم من له عهد والرهبان والنساء ومن لم يبلغ الحلم، ومن أعطى الجزية من أهل الكتاب والمجوس.
(4) قوله: «اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا» الغلول: الأخذ من الغنيمة قبل أن تُقسم، والغدر: نقض العهد، والتمثيل: التشويه بالقتيل كجدع أنفه وقطع أذنه ومذاكيره وشق بطنه، وما أشبه ذلك، ولا خلاف في تحريم الغلول والغدر وكراهة التمثيل.
(5) قوله: «وإذا لقيتَ عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال - أو خلال -» شكٌ من الراوي، ومعناهما واحد.
(6) قوله: «فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم» قيَّدناه عمَّن يوثق بعلمه وتقييده بنصب «أيتهن» ؛ على أن يعمل فيها «أجابوك» لا على إسقاط حرف الجر، وما زائدة، ويكون تقدير الكلام: إلى أيتهن أجابوك فاقبل منهم، كما(1/321)
إلى الإسلام(1)، فإن أجابوك فاقبل منهم، ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين(2)، وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك(3)
__________
(1) قول: أجبتك إلى كذا فيُعدَّى إلى الثاني بحرف الجر. قاله في «الشرح»*. قال في «فتح المجيد»**: فيكون في ناصب «أيَّتهن» وجهان ذكرهما الشارح:
الأول: منصوب على الاشتغال.
والثاني: على نزع الخافض. انتهى.
( ) قوله: «ثم ادعهم إلى الإسلام» كذا وقعت الرواية في جميع نسخ كتاب مسلم، ثم ادعهم بزيادة «ثم»، والصواب إسقاطها كما روى أبوداود في سننه، وأبوعبيد في كتاب «الأموال»، وقال المازري: ليست «ثم» زائدة بل دخلت لاستفتاح الكلام.
(2) قوله: «فإن هم أجابوك فاقبل منهم ثم ادعهم إلى التحول إلى دار المهاجرين» يعني المدينة، وذلك مستحب إذا أسلموا أو واجب في أول الأمر على من أسلم، أو على أهل مكة خاصة من أسلم منهم قبل الفتح، وأما بعد الفتح فقال - صلى الله عليه وسلم -: «لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهادٌ ونية»***. قاله في «إبطال التنديد» ****. قال في «قرة العيون»*****: «حديث «لا هجرة بعد الفتح» يعني من مكة؛ لأنها صارت دار إسلام، وهذا لا ينفي وجوب الهجرة من بلاد الشرك والكفر، وكذا إذا ظهرت المعاصي في بلدة، نصَّ عليها الفقهاء في كتبهم». انتهى.
(3) قوله: «وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك» أي تحولوا إلى دار المهاجرين فلهم ما
..........................................................
* يعني: القرطبي، صاحب كتاب «المفهم شرح صحيح مسلم» الذي نقل عنه صاحب «فتح المجيد». قاله الدكتور الوليد الفريان في تحقيقه للفتح.
** (2/820).
*** أخرجه الإمام أحمد (3/22 و5/187)، والطيالسي (601 و967 و2205). قال الألباني: إسناده صحيح على شرط الشيخين. انظر: الإرواء (5/11) حديث (1187).
**** (ص/306).
***** (ص/251).(1/322)
فلهم ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين، فإن أبوا أن يتحولوا منها فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين يجري عليهم حكم الله تعالى، ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء، إلا أن يجاهدوا مع المسلمين، فإن هم أبوا فاسألهم الجزية(1)
__________
(1) لمهاجرين أي من الاستحقاق في الفيء والغنيمة «وعليهم ما على المهاجرين»
وإلا فهم كسائر أعراب المسلمين المقيمين في البادية من غير هجرة ولا غزو، وتجري عليهم أحكام الإسلام ولا حق لهم في الغنيمة والفيء، وإنما يكون لهم نصيب من الزكاة إذا كانوا مستحقين.
( ) قوله: «فإن هم أبوا فاسألهم الجزية» فيه حجة لمالك والأوزاعي في أخذ الجزية من كل كافر عربياً كان أو غيره، كتابياً كان أو غيره. وذهب أبوحنيفة إلى أنها تؤخذ من الجميع إلا مشركي العرب ومجوسهم. وقال الشافعي: لا تُؤخذ إلا من أهل الكتاب عرباً كانوا أو عجماً. وهو قول الإمام أحمد في ظاهر مذهبه، وتُؤخذ من المجوس لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخذها من مجوس هجر، وقال: «سنوا بهم سنة أهل الكتاب»* واختلفوا في القدر المفروض من الجزية، فقال مالك: أربعة دنانير على أهل الذهب، وأربعون درهماً على أهل الورِق، وهل ينقص منها الضعيف أو لا؟ قولان. وقال الشافعي: فيه دينار على الغني والفقير. وقال أبوحنيفة والكوفيون: على الغني ثمانية وأربعون درهماً، والوسط أربعة وعشرون درهماً، والفقير اثنا عشر درهماً، وهو قول الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله، قال يحيى بن يوسف الصرصري الحنبلي:
وقاتل يهودا والنصارى وعصبة الـ
على الأدوَن اثني عشر درهما افرضن
لأوسطهم حالاً ومن كان موسراً
وتسقط عن صبيانهم ونسائهم
وذي الفقر والمجنون أو عبد مسلم
ـمجوس فإن هم سلَّموا الجزية اصدد
وأربعة من بعد عشرين زيِّد
ثمانية مع أربعين لتنقد
وشيخ لهم فانٍ وأعمى ومُقعَد
ومن وجبت منهم عليه فيهتدي
..........................................................
* أخرجه مالك في الموطأ (618)، وضعفه الألباني، انظر: غاية المرام في تخريج أحاديث الحلال والحرام رقم (43).(1/323)
،
فإن هم أجابوك(1) فاقبل منهم وكُفَّ عنهم، فإن هم أبوا فاستعن بالله وقاتلهم، وإذا حاصرتَ أهل حصن فأرادوك أن تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه(2) فلا تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه، ولكن اجعل لهم ذمتك وذمة أصحابك، فإنكم إن تُخفروا ذممكم وذمة أصحابكم أهون من أن تُخفروا ذمة الله وذمة نبيه، وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تُنزلهم على حكم الله فلا تنزلهم على حكم الله، ولكن أنزلهم على حكمك، فإنك لا تدري أتصيب فيهم حكم الله أم لا». رواه مسلم(3)
__________
(1) قوله: «فإن هم أجابوك» يعني إلى إعطاء الجزية «فاقبل» الجزية منهم «وكف عنهم فإن هم أبوا» أن يعطوا الجزية «فاستعن بالله وقاتلهم» وفيه الاستعانة بالله وقتالهم عند امتناعهم من أداء الجزية.
(2) قوله: «وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه» والذمة العهد «فلا تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه ولكن اجعل لهم ذمتك وذمة أصحابك، فإنكم إن تُخفروا ذممكم وذمة أصحابكم أهون من أن تخفروا ذمة الله وذمة نبيه».
وقوله: «تخفروا» أي تنقضوا، قال في «في النهاية» أخفرت الرجل إذا نقضت عهده وذمامه. قال في «إبطال التنديد» *: وهذا نهي تنزيه، أي لا تجعل لهم ذمة الله فإنه قد ينقضها من لا يعرف حقها كبعض الأعراب وسواد الجيش، فكأنه يقول: إن وقع نقض عهد من متعد أو جاهل كان نقض عهد الخلق أهون من نقض عهد الخالق تعالى.
(3) قوله: «وإذا حاصرتَ أهل حصن فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله فلا تنزلهم علىحكم الله ولكن أنزلهم على حكمك، فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا» رواه مسلم، فيه: دليل على أنه ليس كل مجتهد مصيب، بل المصيب واحد، وهو الموافق لحكم الله في نفس الأمر، ووجه الاستدلال به أنه - صلى الله عليه وسلم - قد
..........................................................
* (ص/307-308).
نصَّ على أن لله تعالى حكماً معيناً في المجتهدات، فمن وافقه فهو المصيب، ومن لم يوافقه فهو المخطئ. قاله في «فتح المجيد»*. وفيه: الفرق بين ذمة الله وذمة نبيه وذمة المسلمين، والإرشاد إلى أقل الأمرين خطراً، والفرق بين حكم الله وحكم العلماء، وكون الصحابي يحكم عند الحاجة بحكم لا يدري أيوافق حكم الله أم لا. قاله المصنف.
..........................................................
* (2/823).(1/324)
.
.............................................................................................
* * *
64- باب
ما جاء في الإقسام على الله(1)
عن جُندب بن عبدالله قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «قال رجلٌ: والله لا يغفر الله لفلان، فقال الله عز وجل: مَنْ ذا الذي يتألَّى عليَّ أن لا أغفر لفلان؟ إني قد غفرتُ له وأحبطتُ عملك» رواه مسلم(2)
__________
(1) قوله: «باب ما جاء في الإقسام على الله» الإقسام على الله هو التألِّي عليه، والإليَّة - بالتشديد - هو الحلف. قال في «النهاية» [1/64]: «يُقال تألَّى يتألَّى تأليَّاً، والاسم الإليَّة، ومنه الحديث: «ويل للمتألِّين من أمّتي»* يعني الذين يحكمون على الله ويقولون: فلان في الجنة، وفلان في النار، وكذا الحديث الآخر: «من المتألِّي على الله»**».
(2) قوله «عن جندب بن عبدالله قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «قال رجلٌ: والله لا يغفر الله لفلان، فقال الله عز وجل: مَنْ ذا الذي يتألَّى عليَّ أن لا أغفر لفلان؟ إني قد غفرتُ له وأحبطتُ عملك» رواه مسلم»*** وقد رواه أبوداود من حديث أبي هريرة بأبسط من رواية مسلم، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «كان رجلان في بني إسرائيل متواخيين، فكان أحدهما يذنب والآخر يجتهد في العبادة، فكان المجتهد لا يزل يرى الآخر على الذنب، فيقول: اقصر. فوجده يوماً على ذنب فقال له: اقصر. فقال: خلني وربي، أبُعِثت عليَّ رقيباً ؟ فقال: والله لا يغفر الله لك، ولا يدخلك الجنة. فقبض أرواحهما فاجتمعا عند رب العالمين فقال لهذا المجتهد: أكنت بي عالماً وعلى ما في يدي قادراً ؟ وقال للمذنب: اذهب فادخل الجنة برحمتي، وقال للآخر: اذهبوا به إلى النار».
..........................................................
* أخرجه البخاري في التاريخ عن جعفر العبدي مرسلاً، وضعّفه الألباني. انظر: ضعيف الجامع برقم (6143).
** أخرجه البخاري (2550)، ومسلم (1554) بنحوه.
*** أخرجه مسلم (2621).(1/325)
.
وفي حديث أبي هريرة أن القائل رجلٌ عابد. قال أبوهريرة: تكلَّم بكلمةٍ أوبقت دنياه وآخرته(1)
__________
(1) وله: «من ذا الذي يتألَّى عليَّ؟» استفهام على جهة الاستنكار والوعيد؛ لأن هذا
يقتضي الحكم على الله بعدم المغفرة لفلان، وهذا جهل وسوء أدب، وأما إذا أقسم العبد على ربه في أمر من الأمور بناءً على حسن الظن به سبحانه في إبرار قسمه فليس من ذلك، كما ثبت في الصحيح أن أنس بن النضر قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: والذي بعثك بالحق لا تُكسر ثنية الرُّبيِّع. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «يا أنس، كتاب الله القصاص» فعفا القوم. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبرَّه»* أي لأبرَّ قسمه ولم يحنث، وفي الصحيح أيضاً عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «رُبَّ أشعث أغبر ذي طمرين مدفوعٍ بالأبواب، لو أقسم على الله لأبرَّه»**، وكما كان البراء بن مالك وغيره من السلف يقول: أقسمتُ عليك يا رب لتفعلنَّ كذا.
( ) قوله: «وفي حديث أبي هريرة أن القائل رجلٌ عابد. قال أبوهريرة: تكلَّم بكلمةٍ أوبقت دنياه وآخرته» وفي هذا بيان خطر اللسان، وفي حديث معاذ: قلت: يا رسول الله: وإنَّا لمؤاخذون بما نتكلم به ؟ قال: «ثكلتك أُمُّك يا معاذ، وهل يُكب الناس في النار على وجوههم - أو قال: على مناخرهم - إلا حصائد ألسنتهم»***. رواه أحمد والترمذي وابن ماجه، وقال الترمذي: حسن صحيح. وفيه: التحذير من التألِّي على الله، وكون النار أقرب إلى أحدنا من شراك نعله، وأن الجنة مثل ذلك. وفيه: شاهد لقوله: «إن الرجل ليتكلم بالكلمة..» الخ، وأن الرجل قد يُغفر له بسبب هومن أكره الأمور إليه. قاله المصنف رحمه الله تعالى.
..........................................................
* أخرجه البخاري (2806) و(4500) و(4611)، ومسلم (1675).
** أخرجه مسلم (2622) و(2854).
*** أخرجه الترمذي (2762) وقال: حديث حسن صحيح. وابن ماجه (3973). وقال الألباني: صحيح. انظر صحيح الترمذي (2/329).(1/326)
.
65- باب
لا يُستشفع بالله على خلقه(1)
عن جبير بن مطعم(2) قال: جاء أعرابيٌّ إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول
__________
(1) قوله: «باب لا يُستشفع بالله على خلقه» الاستشفاع بالله طلب الشفاعة به في حصول الشيء، أي جعله واسطة في ذلك، وهذا لا يليق بجلال الله سبحانه لأنه الكبير المتعال الذي لا يشفع أحد عنده إلا بإذنه، فكيف يُستشفع به عند أحد من خلقه، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
(2) قوله: «عن جبير بن مطعم» بن عدي بن نوفل بن عبد مناف القرشي، يُكنى أبا محمد، كان من أكابر قريش وعلماء النسب، أسلم قبل الفتح، ومات في خلافة معاوية بالمدينة سنة سبع أو ثمان أو تسع وخمسين - رضي الله عنه - قال: «جاء أعرابي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، نهكت الأنفس - أي هزلت -، وجاع العيال، وهلكت الأموال فاستسق لنا ربك» والاستسقاء طلب السقيا «فإنا نستشفع بالله عليك» أي نطلب الشفاعة به في حصول المطر «وبك على الله». فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «سبحان الله، سبحان الله» فما زال يسبح حتى عُرف ذلك في وجوه أصحابه»* قال شيخ الإسلام: «وهذا يبيّن أن معنى الاستشفاع بالشخص في كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه هو الاستشفاع بدعائه وشفاعته ليس هو السؤال بذاته، فإنه لو كان هذا السؤال بذاته لكان سؤال الخلق بالله تعالى أولى من سؤال الله بالخلق، ولكن لما كان معناه هو الأول أنكر النبي - صلى الله عليه وسلم - قوله: «نستشفع بالله عليك» ولم ينكر قوله: «نستشفع بك على الله» ؛ لأن الشفيع يسأل المشفوع إليه أن يقضي حاجة الطالب، والله تعالى لا يسأل أحداً من عباده أن يقضي حوائج خلقه». انتهى.
..........................................................
* أخرجه البخاري في التاريخ الكبير (2/224)، وأبوداود (4726)، وضعَّفه الألباني في ضعيف سنن أبي داود (1017).(1/327)
الله، نُهِكَت الأنفُس، وجاع العيال، وهلكت الأموال، فاستسق لنا ربك،
فإنا نستشفع بالله عليك، وبك على الله. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «سبحان الله، سبحان الله» فما زال يسبِّحُ حتى عُرف ذلك في وجوه أصحابه، ثم قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ويحك(1)، أتدري ما الله ؟ إن شأن الله أعظمُ من ذلك(2)، إنه لا يُستشفعُ بالله على أحدٍ من خلقه»(3). وذكر الحديث. رواه أبوداود(4)
__________
(1) قوله: «ثم قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ويحك» كلمة تُقال للزجر، كذا في «قرة العيون»*، وفي «النهاية» [5/204]: «ويح: كلمة ترحُّم وتوجّع تُقال لمن وقع في هلكة لا يستحقها».
(2) وقوله: «أتدري ما الله ؟ إن شأن الله أعظم من ذلك» فيه إشارة إلى قلة علمه بعظمة الله وجلاله.
(3) وقوله: «إنه لا يُستشفع بالله على أحد من خلقه» لأن الأمر كله بيده تعالى ليس في يد المخلوق منه شيء، لا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع، تعالى وتقدَّس.
(4) قوله: «وذكر الحديث، رواه أبوداود» في السنن بتمامه، لكن المصنف اقتصر منه على الشاهد للترجمة وبقية الحديث: «شأن الله أعظم من ذلك، ويحك أتدري ما الله ؟ إن عرشه على سمواته لهكذا - وقال بأصابعه مثل القبة عليه - وإنه ليئط به أطيط الرحل بالراكب» قال ابن يسار في حديثه «إن الله فوق عرشه، وعرشُه فوق سماواته» قال الحافظ الذهبي: رواه أبوداود بإسناد حسن عنده في «الرد على الجهمية» من حديث محمد بن إسحاق بن يسار. وفي هذا الحديث إثبات علو الله على خلقه وأن عرشه فوق سماواته. وفيه: تفسير الاستواء بالعلو، كما فسره الصحابة والتابعون والأئمة خلافاً للمعطلة والجهمية والمعتزلة ومن أخذ عنهم كالأشاعرة ونحوهم ممن ألحد في أسماء الله وصفاته. قاله في «الشرح»**.
وهذا الحديث رواه أبوداود ورضيه على عادته فيما كان عنده صحيحاً أو حسناً وسكت عليه. وفيه دليل على أنه لا يجوز الاستشفاع بالله على أحد من خلقه،
..........................................................
* (ص/254).
** هو في فتح المجيد (2/830).
وأما الاستشفاع بالرسول - صلى الله عليه وسلم - في حياته فإنما المراد الاستشفاع بدعائه - صلى الله عليه وسلم - وليس هذا خاصاً بالنبي - صلى الله عليه وسلم - بل كل حي صالح يُرجى أن يُستجاب له لا بأس أن يُطلب منه الدعاء كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لعمر لما استأذنه في العمرة: «لا تنسنا يا أخي من صالح دعائك»*، وأما الميت فإنما يشرع في حقه الدعاء له في الصلاة على جنازته وعلى قبره عند زيارته. وفيه: إنكاره - صلى الله عليه وسلم - على من قال «نستشفع بالله عليك» وتغيُّره تغيّراً عرف في وجوه أصحابه من هذه الكلمة، وأنه لم يُنكر عليه قوله «نستشفع بك على الله».
والتنبيه على تفسير «سبحان الله»، وأن المسلمين يسألونه - صلى الله عليه وسلم - الاستسقاء. قاله المصنف رحمه الله تعالى.
..........................................................
* أخرجه أبوداود (1498)، والترمذي (3557) وقال: حديث حسن صحيح، وابن ماجه (2894)، وأحمد (1/29، 2/59)، وضعَّفه الألباني في ضعيف الجامع (6278).(1/328)
.
.................................................................................................
* * *
66- باب
ما جاء في حماية النبي - صلى الله عليه وسلم - حمى التوحيد وسدِّه طُرق َ الشرك(1)
عن عبدالله بن الشِّخِّير(2)
__________
(1) قوله: «باب ما جاء في حماية النبي - صلى الله عليه وسلم - حمى التوحيد وسده طرقَ الشرك» قد بالغ - صلى الله عليه وسلم - في حماية التوحيد في الأقوال والأفعال وحذَّر أمته من كل ما يبطله أو يقدح فيه أو ينقصه، حتى قال: «لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم»* وقال: «إنه لا يُستغاث بي وإنما يُستغاث بالله»**، ولما خاطبوه بالسيادة قال: «السيد الله، أنا محمد عبدالله ورسوله» خوفاً على أمته من الوقوع في الضلال، وأدباً مع ربه الكبير المتعال، فصلوات الله وسلامه عليه.
(2) قوله: «عن عبدالله بن الشِّخِّير» - بكسر الشين وتشديد الخاء المعجمتين - ابن عوف بن كعب بن عامر الحريشي - بفتح المهملة وكسر الراء وآخره معجمة - العامري ثم الحريشي، صحابي من مسلمة الفتح - رضي الله عنه - «قال: انطلقتُ في وفد بني عامر إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقلنا: أنت سيدنا. فقال: «السيد اللهُ تبارك وتعالى». قلنا: وأفضلُنا فضلاً، وأعظمُنا طَوْلاً. فقال: «قولوا بقولكم، أو بعض قولكم، ولا يستجرينكم الشيطان». رواه أبوداود بسند جيد»*** وفي هذا الحديث نهى عن أن يقولوا أنت سيدنا، وقال: «السيد الله تبارك وتعالى»، ونهاهم أن يقولوا: «وأفضلنا فضلاً، وأعظمنا طولاً»، وقال: «لا يستجرينكم الشيطان». قاله في «فتح المجيد»****.
..........................................................
* تقدم تخريجه (ص/166).
** تقدم تخريجه (ص/124).
*** أخرجه النسائي في عمل اليوم والليلة (247)، وأحمد (4/25)، وأبوداود (4806)، والنسائي (248). قال الألباني: صحيح. انظر صحيح الجامع (3700).
**** (2/836).(1/329)
قال: انطلقت في وفدِ بني عامر إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -
فقلنا: أنت سيدنا. فقال: «السيد اللهُ(1) تبارك وتعالى». قلنا: وأفضلُنا فضلاً، وأعظمُنا طَوْلاً. فقال: «قولوا بقولكم، أو بعض قولكم، ولا يستجرينكم الشيطان». رواه أبوداود بسند جيد.
وعن أنس(2)
__________
(1) قوله: «السيد الله» قال الخطابي: «يريد - عليه السلام - السؤدد حقيقة لله عز وجل، وأن الخلق كلهم عبيد له، فعلَّمهم الثناء عليه - عليه السلام -، وأرشدهم إلى الأدب في ذلك، وقال عليه السلام: «قولوا بقولكم» يريد قولوا بقول أهل دينكم وملتكم، وادعوني نبياً ورسولاً كما سماني الله في كتابه فقال: { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ } و { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ } ولا تسموني سيداً كما تسمون رؤساءكم وعظماءكم، ولا تجعلوني مثلهم، فإني لستُ كأحدهم إذ كانوا يسودونكم في أسباب الدنيا وأنا أسودكم بالنبوة والرسالة فسَمُّوني: رسولاً ونبياً».
وقوله: «أو بعض قولكم» فيه حذف واختصار ومعناه: دعوا بعض قولكم واتركوه، يريد بذلك الاقتصار في المقال.
وقوله عليه السلام: «لا يستجرينكم الشيطان» معناه: لا يتخذكم جرياً، والجري: الوكيل. ويقال: الأجير. انتهى كلام الخطابي باختصار. قاله في «إبطال التنديد»*. وفي «النهاية» [1/255-256]: «ولا يستجرينكم الشيطان أي: لا يستغلبنكم فيتخذكم جريَّاً، أي رسولاً ووكيلاً، وذلك أنهم كانوا مدحوه فكره لهم المبالغة في المدح فنهاهم عنه، يريد: تكلموا بما يحضركم من القول ولا تكلفوا كأنكم وكلاء الشيطان ورسله تنطقون عن لسانه». انتهى.
(2) قوله: «وعن أنس - رضي الله عنه - أن أناساً قالوا: يا رسول الله، يا خيرنا وابن خيرنا، وسيدنا وابن سيدنا: فقال: «يا أيها الناس، قولوا بقولكم أو بعض قولكم ولا يستهوينكم الشيطان، أنا: محمد عبدالله ورسوله، ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله
..........................................................
* (ص/315).
عز وجل». رواه النسائي بسند جيد»* قال في «إبطال التنديد» **: «وهذان الحديثان دليل على الأدب مع الله عز وجل، وقوله: «أنا سيد ولد آدم» وشبهه دليل على الجواز».
فأقول: إذا كان الحديثان دليلاً على الأدب مع الله عز وجل فما الذي أجاز سوء الأدب ومخالفة الأحاديث الصحيحة ؟ أما الاستدلال على جواز سوء الأدب بقوله - صلى الله عليه وسلم - «أنا سيد ولد آدم ولا فخر»*** فلا يدل على الجواز؛ لأن هذا إخبار منه - صلى الله عليه وسلم - عن ما فضله الله به على البشر؛ تحدثاً بنعمة الله عليه، عملاً بقوله: { وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ } [الضحي:11]، قال شيخ الإسلام في «المنهاج»: «فإن الله خيَّر محمداً بين أن يكون عبداً رسولاً وبين أن يكون ملَكَاً نبياً، فاختار أن يكون عبداً رسولاً». انتهى. فجعله سيد ولد آدم لما تواضع لربه عز وجل، وليس هذا تشريعاً للأمة حتى يخاطبوه أويصفوه بذلك، ولهذا لم ينقل عن أحد من الصحابة رضوان الله عليهم أنه خاطبه بذلك، ولو كان خيراً لسبقونا إليه بل نهاهم عن إطرائه فقال: «لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبدٌ، فقولوا: عبدالله ورسوله»، ولما قيل له: أنت سيدنا. قال: «السيد الله»، وعدَّ مخاطبتهم له بذلك من استجراء الشيطان واستهوائه، ثم أرشدهم إلى ما ينبغي في مخاطبته، فقال: «أنا محمد عبدالله ورسوله، ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله عز وجل» وهي العبودية التي وصفه بها في أشرف المقامات فقال: { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ } [الإسراء:1]، وقال: { تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ } [الفرقان: 1]، وقال: { وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا } [البقرة:23]. وفيه: تحذير الناس عن الغلو، وما ينبغي أن يقول من قيل له: أنت سيدنا. وقوله: «لا يستهوينكم
..........................................................
* أخرجه النسائي في عمل اليوم والليلة (248، 249) والترمذي (3148، 3615)، وابن ماجه (4308)، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي رقم (2516).
** (ص/316).
*** أخرجه البخاري (4712)، ومسلم (2278).
وسيِّدَنا وابنَ سيِّدنا. فقال: «يا أيها الناس، قولوا بقولكم، ولا يستهوينكم الشيطان، أنا محمدٌ عبدُ الله ورسوله، ما أُحبُّ أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني اللهُ عز وجل». رواه النسائي بسند جيد.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الشيطان» مع أنهم لم يقولوا إلا الحق. وقوله: «ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي». قاله المصنف رحمه الله تعالى. قال ابن القيم رحمه الله تعالى [بدائع الفوائد 3/213]: «اختلف العلماء في جواز إطلاق السيد على البشر، فمنعه قوم، ونُقل عن مالك، واحتجوا بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لما قيل له «أنت سيدنا» قال: «السيد الله»، وجوّزه قوم، واحتجوا بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - للأنصار: «قوموا إلى سيدكم»* وهذا أصح من الحديث الأول، قال هؤلاء: السيد أحدُ ما يضاف إليه، فلا يقال للتميمي سيد كندة، ولا للملك سيد البشر، وعلى هذا فلا يجوز أن يطلق على الله هذا الاسم، وفي هذا نظر؛ فإن السيد إذا أُطلق عليه تعالى فهو بمنزلة المالك والمولَى والرب لا بمعنى الذي يُطلق على المخلوق». انتهى.
قلت: والصواب المنع من إطلاق لفظ السيد على البشر لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - «السيد الله»، ولما صح عن ابن عباس في قوله تعالى: { قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا } [الأنعام:164] أي إلهاً وسيداً، ولما صح عنه أيضاً في قوله: { اللَّهُ الصَّمَدُ } [الإخلاص:2] أنه السيد الذي كمل في جميع أنواع السؤدد. وقال أبووائل: هو السيد الذي انتهى سؤدده. أما ما احتج به من أجاز ذلك من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - للأنصار «قوموا إلى سيدكم» فهذا لا حجة فيه ؛ لأنه قال ذلك عام الخندق سنة خمس حينما جاء سعد للحكم في بني قريظة، وقوله «السيد الله» قاله لوفد بني عامر سنة الوفود سنة تسع وإنما يُؤخذ بالمتأخر من قوله - صلى الله عليه وسلم -، وإذا كان محمد بن عبدالله أفضل الخلق وأكرمهم على ربه لم يقبل مخاطبته بالسيادة أدباً وتواضعاً لربه عز وجل فغيره أولى أن لا يخاطب بذلك،
..........................................................
* أخرجه أحمد (6/141-142)، وابن ماجه (6989)، وصححه الألباني في الصحيحة برقم (67).
لا سيما وقد اتخذ هذا اللفظ بعض الدجالين أداة للسيطرة على ضعفاء العقول وأوهموهم أن لهم مزية وفضلاً على غيرهم، وأن لهم حقاً في أموالهم بل استعبدوهم وأوهموهم أنهم ينفعون ويضرون ويتبرك بهم وأنهم أولياء، واتخذوا لهم علامة على السيادة خضراء، وكل هذا جهل وضلال، فإنه لا فضل لعربي على عجمي ولا لأحمر على أسود إلا بالتقوى، هذا الذي ندين الله تعالى به، والله الموفق، لا إله غيره ولا رب سواه.(1/330)
- رضي الله عنه - أن ناساً قالوا: يا رسول الله، يا خيرنا وابنَ خيرنا،
.............................................................................................
* * *
67- باب
ما جاء في قول الله تعالى: { وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ … } [الزمر:67] الآية(1).
عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال(2)
__________
(1) قوله: «باب ما جاء في قول الله تعالى { وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ } أي من الأحاديث والآثار في معنى هذه الآية الكريمة. قال ابن كثير رحمه الله تعالى [التفسير 7/103]: «يقول تعالى: ما قدر المشركون اللهَ حق قدره حتى عبدوا معه غيره، وهو العظيم الذي لا أعظم منه، القادر على كل شيء، المالك لكل شيء، وكل شيء تحت قهره وقدرته. وقال السدي: ما عظّموه حق عظمته. وقال محمد بن كعب: لو قدروه حق قدره ما كذبوه. قال مجاهد: نزلت في قريش. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: هم الكفار الذين لم يؤمنوا بقدرة الله عليهم، فمن آمن أن الله على كل شيء قدير فقد قدَّر الله حق قدره، ومن لم يؤمن بذلك فلم يقدِّر الله حق قدره».
(2) قوله: «عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: جاء حبرٌ من الأحبار إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا محمد، إنَّا نجدُ أنَّ اللهَ يجعلُ السموات على إصبع، والأرضين على إصبع، والماء على إصبع، والشجر على إصبع، والثرى على إصبع، وسائر الخلقِ على إصبع، فيقول: أنا الملك. فضحك النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى بدت نواجذُه تصديقاً لقول الحَبر، ثم قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: { وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } الآية*.
..........................................................
* مسلم (2786).(1/331)
: جاء حَبْرٌ من الأحبار إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا محمد، إنَّا نجدُ أنَّ اللهَ يجعلُ السموات على إصبع، والأرضين على إصبع، والماء على إصبع، والشجر على إصبع، والثرى على إصبع، وسائر
الخلقِ على إصبع، فيقول: أنا الملك. فضحك النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى بدت نواجذُه تصديقاً لقول الحَبْر، ثم قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: { وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ … } الآية [الزمر:67]. أخرجاه.
وفي رواية لمسلم: «والجبال والشجر على إصبع، ثم يهزُّهُنَّ فيقول: أنا الملك، أنا الله». وفي رواية للبخاري: «يجعل السموات على إصبع، والماء والثرى على إصبع، وسائر الخلق على إصبع». أخرجاه.
ولمسلم عن ابن عمر مرفوعاً(1)
__________
(1) في رواية لمسلم: والجبال والشجر على إصبع، ثم يهزُّهُنَّ فيقول: أنا الملك، أنا الله. وفي رواية للبخاري: يجعل السموات على إصبع، والماء والثرى على إصبع، وسائر الخلق على إصبع. أخرجاه»*، وروى الإمام أحمد عن ابن مسعود قال: جاء رجل من أهل الكتاب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا أبا القاسم، أَبَلَغَك أن الله تعالى يجعل الخلائق على إصبع، والسموات على إصبع، والأرضين على إصبع، والشجر على إصبع، والثرى على إصبع، وسائر الخلق على إصبع فيقول: أنا الملك. فضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى بدت نواجذه تصديقاً لقول الحبر. قال وأنزل الله: { *وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ } الآية**، وهكذا رواه البخاري ومسلم والنسائي من طرق عن الأعمش به.
( ) قوله: «ولمسلم عن ابن عمر مرفوعاً: «يطوي الله السموات يوم القيامة ثم يأخذهن بيده اليمنى، ثم السبع، ثم يأخذهن بشماله، ثم يقول: أنا الملك ؟ أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟»*** يقول: أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ ثم يطوي الأرضين
..........................................................
* البخاري 4811، 7414، 7415/ 7451، 7513).
** أخرجه البخاري (7415) و(7451)، ومسلم (2786) و(22)، وأحمد (6/69).
*** أخرجه مسلم (2788).(1/332)
: «يطوي الله السموات يوم القيامة ثم يأخذهن بيده اليمنى، ثم يقول: أنا الملك، أين الجبارون ؟ أين المتكبرون ؟ ثم
يطوي الأرضين السبع، ثم يأخذهن بشماله، ثم يقول: أنا الملك ؟ أين الجبارون؟ أين المتكبرون ؟».
ورُويَ عن ابن عباس قال: ما السمواتُ السبع والأرضون السبع في كفِّ الرحمن إلا كخردلة في يد أحدكم.
وقال ابن جرير(1)
__________
(1) رُويَ عن ابن عباس قال: ما السمواتُ السبع والأرضون السبع في كفِّ الرحمن إلا كخردلة في يد أحدكم»* وفيه: معرفة قوله تعالى: { وَالأرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } وأن هذه العلوم وأمثالها باقية عند اليهود الذين في زمنه - صلى الله عليه وسلم - لم ينكروها ولم يتأولوها، وأن الحبر لما ذكر للنبي - صلى الله عليه وسلم - صدق، ونزل القرآن بتقرير ذلك، ووقوع الضحك من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما ذكر الحبر هذا العلم العظيم، والتصريح بذكر اليدين وأن السموات في اليد اليمنى، والأرضين في الأخرى، والتصريح بتسميتها الشمال، وذكر الجبارين والمتكبرين عند ذلك. وقوله «كخردلة في كف أحدكم» قاله المصنف رحمه الله.
( ) قوله: «وقال ابن جرير حدثني يونس أنبأنا ابن وهب قال: قال ابن زيد حدثني أبي قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما السموات السبع في الكرسي إلا كدراهم سبعة أُلقيت في ترس»**. قال: قال أبوذر: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «ما الكرسي في العرش، إلا كحلقة من حديد أُلقيت بين ظهري فلاة من الأرض» وروى ابن جرير عن أسباط عن السدي { وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ } [البقرة:255] فإن السموات والأرض في جوف الكرسي، والكرسي بين يدي العرش وهو موضع قدميه.
..........................................................
* أخرجه ابن جرير (24/17)، وانظر: «العلو» للذهبي (ص/91)، وهو ضعيف.
** أخرجه ابن جرير (3/7، 8) وهو ضعيف.(1/333)
: حدثني يونس، أنبأنا ابن وهب قال: قال ابن زيد: حدثني أبي قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما السموات السبع في الكرسي إلا كدراهم سبعة أُلقيت في تُرس». قال: وقال أبوذر: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «ما الكرسي في العرش إلا كحلقةٍ من حديد أُلقيت بين ظهري فلاةٍ من الأرض».
وعن ابن مسعود(1) قال: «بين السماء الدنيا والتي تليها خمسمائة عام، وبين كل سماء وسماء خمسمائة عام، وبين السماء السابعة والكرسي خمسمائة عام، وبين الكرسي والماء خمسمائة عام، والعرش فوق الماء، والله فوق العرش، لا يخفى عليه شيءٌ من أعمالكم». أخرجه ابن مهدي عن حمّاد بن سلمة عن عاصم عن زِرّ عن عبدالله. ورواه بنحوه المسعوديُّ عن عاصم عن أبي وائل عن عبدالله. قاله الحافظ الذهبي رحمه الله تعالى. قال: وله طرق.
وعن العباس بن عبدالمطلب(2)
__________
(1) فيه: معرفة عِظَم الكرسي بالنسبة إلى السماء، وعظم العرش بالنسبة إلى الكرسي، وأن العرش غير الكرسي والماء. قاله المصنف رحمه الله.
( ) قوله: «وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال:: «بين السماء الدنيا والتي تليها خمسمائة عام، وبين كل سماء وسماء خمسمائة عام، وبين السماء السابعة والكرسي خمسمائة عام، وبين الكرسي والماء خمسمائة عام، والعرش فوق الماء، والله فوق العرش، لا يخفى عليه شيءٌ من أعمالكم». أخرجه ابن مهدي عن حمّاد بن سلمة عن عاصم عن زِرّ عن عبدالله. ورواه بنحوه المسعوديُّ عن عاصم عن أبي وائل عن عبدالله. قاله الحافظ الذهبي رحمه الله تعالى. قال: وله طرق»* وفيه: معرفة كم بين كل سماء إلى سماء، وكم بين السماء السابعة والكرسي، وكم بين الكرسي والماء، وأن العرش فوق الماء، وأن الله فوق العرش.
(2) قوله: «وعن العباس بن عبدالمطلب قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «هل تدرون كم بين
..........................................................
* أخرجه ابن خزيمة (105-106، 376-377)، و الدارمي في الرد على الجهمية (ص/26، 27) وفي النقض على بشر المريسي (ص/73، 90، 105).
كم بين السماء والأرض ؟» قلنا: الله ورسوله أعلم. قال: «بينهما مسيرة خمسمائة سنة، ومن كل سماءٍ إلى سماء مسيرةُ خمسمائة سنة، وكِثَفُ كل سماء مسيرةُ خمسمائة سنة، وبين السماء السابعة والعرش بحرٌ بين أسفله وأعلاه كما بين السماء والأرض، والله تعالى فوق ذلك، وليس يخفى عليه شيءٌ من أعمال بني آدم». أخرجه أبوداود وغيره.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
السماء والأرض ؟» قلنا: الله ورسوله أعلم. قال: «بينهما مسيرة خمسمائة سنة، ومن كل سماءٍ إلى سماء مسيرةُ خمسمائة سنة، وكِثَفُ كل سماء مسيرةُ خمسمائة سنة، وبين السماء السابعة والعرش بحرٌ بين أسفله وأعلاه كما بين السماء والأرض، والله سبحانه وتعالى فوق ذلك، وليس يخفى عليه شيءٌ من أعمال بني آدم». أخرجه أبوداود وغيره»* وحديث العباس هذا ساقه المصنف مختصراً، والذي في سنن أبي داود عن العباس قال: كنت في البطحاء في عصابة فيهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فمرَّت سحابةٌ فنظر إليها فقال: «ما تسمون هذه ؟» قالوا: السحاب. قال: «المزن» قالوا: والمزن. قال: «والعنان» قالوا: والعنان - قال أبوداود: لم أُتقن العنان جيداً - قال: «هل تدرون ما بعد ما بين السماء والأرض» قالوا: لا ندري. قال: «إن بعد ما بينهما واحدة أو اثنتان أو ثلاث وسبعون سنة ثم السماء التي فوقها كذلك حتى عد سبع سموات، ثم فوق السابعة بحر بين أسفله وأعلاه مثل ما بين سماء إلى السماء، ثم فوق ذلك ثمانية أوعال بين أظلافهم وركبهم مثل ما بين سماء إلى سماء ثم على ظهورهم العرش بين أسفله وأعلاه كما بين سماء إلى سماء، ثم الله تعالى فوق ذلك». وأخرجه الترمذي وابن ماجه وقال الترمذي: حسن غريب. وقال الحافظ الذهبي: رواه أبوداود بإسناد حسن. وروى الترمذي نحوه من حديث أبي هريرة، وفيه: «ما بين سماء إلى سماء خمسمائة عام». قال في «الشرح»**: «ولا منافاة بينهما ؛ لأن تقدير ذلك بخمسمائة عام هو على سير القافلة مثلاً، ونيف وسبعون سنة على سير البريد». وفيه: معرفة كم بين السماء والأرض
..........................................................
* أخرجه أبوداود (4723)، والترمذي (3320)، وابن ماجه (193)، وأحمد (1/206، 207)، وضعفه الألباني كما في ضعيف سنن أبي داود (ص/104).
** في فتح المجيد (2/854).
وكِثف كل سماء خمسمائة سنة، وأن البحر الذي فوق السماء بين أسفله وأعلاه خمسمائة سنة. والله أعلم. قاله المصنف.
وهذه الأحاديث التي ذكرها المصنف وما في معناها تدل على عظمة الله وعظيم قدرته وعِظَم مخلوقاته، وأنه المستحق للعبادة وحده لا شريك له في ربوبيته وإلهيته، وتدل أيضاً على إثبات الصفات التي وصف بها نفسه في كتابه أو وصفه بها رسوله - صلى الله عليه وسلم - على ما يليق بجلال الله وعظمته إثباتاً بلا تمثيل، وتنزيهاً بلا تعطيل، وعلى هذا مضى سلف الأمة وأئمتها ومن تبعهم بإحسان.
وصلى الله وسلَّم على محمد خاتم الأنبياء والمرسلين المبعوث رحمة للعالمين
وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
* * *
حُرر في اليوم الثالث والعشرين من شهر جمادى الآخرة سنة ألف وثلاثمائة وست وثمانين من هجرة النبي الكريم عليه من الله أفضل الصلاة وأتم التسليم بمنزلي بالطائف.
* * *(1/334)
قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «هل تدرون
................................................................................................
* * *
فهرس الفهارس
ويشمل ما يلي:
فهرس الآيات القرآنية.
فهرس الأحاديث النبوية.
فهرس الأعلام الذين ترجم لهم الشارح.
فهرس الفوائد.
فهرس أهم المراجع.
فهرس الموضوعات.
* * *
فهرس الآيات القرآنية
الآية ... رقمها ... الصفحة
سورة الفاتحة
إياك نعبد وإياك نستعين ... 5 ... 386
سورة البقرة
وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض ... 11 ... 313
يا أيها الناس اعبدوا ربكم ... 21 ... 329
فلا تجعلوا لله أنداداً ... 22 ... 329،52
وإن كنتم في ريب مما نزلنا ... 23 ... 166، 428
ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا ... 42 ... 140
ولقد علموا لمن اشتراه ما له ... 102 ... 146، 208
أولئك عليهم صلوات من ربهم ... 157 ... 289
وإلهكم إله واحد ... 163 ... 324
ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً ... 165 ... 260،71،70
إذ تبرأ الذين اتُبعوا من الذين اتَّبعوا ... 166 ... 71، 266
وما هم بخارجين من النار ... 167 ... 73
وما أُهِلَّ به لغير الله ... 173 ... 99
ولاتأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ... 188 ... 349
وعسى أن تكرهوا شيئاً ... 216 ... 290
والفتنة أكبر من القتل ... 217 ... 307
من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ... 254 ... 150
من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه ... 255 ... 146، 433
فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله ... 256 ... 72،7
وما أنفقتم من نفقة أو نذرتم ... 270 ... 111
الذين يأكلون الربا لا يقومون ... 275 ... 211
سورة آل عمران
هو الذي أنزل عليك الكتاب ... 7 ... 323
قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني ... 31 ... 260
كلما دخل عليها زكريا المحراب ... 37 ... 121
ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة ... 80 ... 70
ليس لك من الأمر شيء ... 128 ... 130،128(1/335)
واتقوا النار التي أعدت للكافرين ... 131 ... 27
ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة ... 154 ... 384،391
لقد مَنَّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم ... 164 ... 185
وما أصابكم يوم التقى الجمعان ... 166 ... 146
الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا ... 168 ... 385،384
الذين قال لهم الناس إن الناس ... 173 ... 279، 278،277
إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه ... 175 ... 268
ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر ... 176 ... 340
سورة النساء
وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا ... 6 ... 14
إن الذين يأكلون أموال اليتامى ... 10 ... 211
واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً ... 36 ... 10
إن الله لا يغفر أن يشرك به ... 48 ... 49
ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب ... 51 ... 208،192
أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ... 59 ... 348،304
ألم ترى إلى الذين يزعمون أنهم أمنوا ... 60 ... 318،317،312،311
فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك ... 65 ... 316،307،306
يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ... 171 ... 160
سورة المائدة
وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين ... 23 ... 275
ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ... 44 ... 348
أفحكم الجاهلية يبغون ... 50 ... 318،315،314
قل هل أنبئكم بشر من ذلك ... 60 ... 193
واحفظوا أيمانكم ... 89 ... 408
سورة الأنعام
قل إني أخاف إن عصيت ربي ... 15 ... 132
وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ... 19 ... 145،131
فيكشف ما تدعون إليه إن شاء ... 41 ... 375
قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ... 50 ... 125
وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا ... 51 ... 145
قل من ينجيكم من ظلمت البر ... 63 ... 121
إني وجهت وجهي للذي فطر السموات ... 79 ... 38
الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم ... 82 ... 71،21
وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها ... 97 ... 247
وتمت كلمت ربك صدقاً وعدلاً ... 115 ... 117
وإن كثيراً ليضلون بأهوائهم ... 119 ... 199(1/336)
يا معشر الجن قد استكثرتم ... 128 ... 116،115
قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ... 151-153 ... 16،13،12،11
ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن ... 152 ... 14،13
وأن هذا صراطي مستقيماً ... 153 ... 15،14
قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ... 162-163 ... 97
قل أغير الله أبغي رباً ... 164 ... ... 429
سورة الأعراف
والشمس والقمر والنجوم مسخرات ... 54 ... 120،90،139
ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها ... 56 ... 313
أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله ... 99 ... 281
وأوحينا إلى موسى أن ألق عصاك ... 117-122 ... 231
ألا إنما طائركم عند الله ... 131 ... 234،233
اجعل لنا إلهاً كما لهم ألهة ... 138 ... 95،94
ألست بربكم قالوا بلى ... 172 ... 26
ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها ... 180 ... 368،367
سنستدرجهم من حيث لا يعلمون ... 182 ... 281
قل لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً ... 188 ... 132،130
لئن ءاتيتنا صالحاً ... 189 ... 366،365
فلما ءاتاهما صالحاً جعلا له شركاء ... 190 ... 361
أيشركون ما لا يخلق شيئاً وهم يخلقون ... 191-192 ... 126
وإما ينزغنك من الشيطان نزغ ... 200 ... 115
سورة الأنفال
إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله ... 2 ... 276
ومن يولِّهم يومئذ دبره إلا ... 16 ... 211
وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله ... 62 ... 277
يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك ... 64 ... 277
سورة التوبة
إنما يعمر مساجد الله من أمن ... 18 ... 269
قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم ... 24 ... 261
اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً ... 31 ... 308،69،68
ومنهم من يلمزك في الصدقات ... 58 ... 300
ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب ... 65 ... 354،351
،350
إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة ... 66 ... 353
فيه رجال يحبون أن يتطهروا ... 108 ... 107،106،104
أفمن أسس بنيانه على تقوى ... 109 ... 107(1/337)
ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا ... 113 ... 158،156
،155
يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ... 119 ... 333
لقد جاءكم رسول من أنفسكم ... 128 ... 185
سورة يونس
أكان للناس عجباً أن أوحينا إلى رجل ... 2 ... 131
وقال شركاؤهم ما كنتم إيانا تعبدون ... 28-29 ... 127
فلما ألقوا قال موسى ما جئتم به ... 81-82 ... 231
قال موسى يا قوم إن كنتم آمنتم ... 84 ... 275
ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ... 106-107 ... 122
سورة هود
من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها ... 15-16 ... 297
إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا ... 54 ... 268
سورة يوسف
ثم يأتي من بعد ذلك سبع شداد ... 48 ... 343
إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون ... 87 ... 282
وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون ... 106 ... 79،76
قل هذه سبيلي ادعوا إلى الله ... 108 ... 56،55
سورة الرعد
والذين يدعون من دونه ... 14 ... 123
وهم يكفرون بالرحمن قل هو ربي ... 20 ... 325،319
سورة إبراهيم
إنا كفرنا بما أرسلتم به ... 9 ... 58
أفي الله شك ... 10 ... 58
واجنبني وبني أن نعبد الأصنام ... 35 ... 50،49
سورة الحجر
وحفظناها من كل شيطان رجيم ... 17-18 ... 138
قال أبشرتموني على أن مسني الكبر ... 54-55 ... 282
ومن يقنط من رحمة ربه ... 56 ... 282
سورة النحل
وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم ... 15-16 ... 247
ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً ... 18 ... 7، 36
يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها ... 83 ... 326
وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ... 91 ... 415
فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله ... 98 ... 115
إن إبراهيم كان أمة ... 120 ... 38
ادعوا إلى سبيل ربك بالحكمة ... 125 ... 56
سورة الإسراء
سبحان الذي أسرى بعبده ... 1 ... 428،166،90
من كان يريد العاجلة عجلنا له ... 18 ... 297
وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه ... 21-23 ... 8
تسبح له السموات السبع والأرض ومن فيهن ... 44 ... 141(1/338)
قل ادعوا الذين زعمتم من دونه ... 56 ... 67
أولئك الذين يدعون يبتغون ... 57 ... 67
سورة الكهف
قال الذين غلبوا على أمرهم لنتخذن ... 21 ... 194
ويوم يقول نادوا شركاءكم الذين زعمتم ... 52 ... 123
قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي ... 110 ... 293
سورة مريم
إن كل من في السموات والأرض إلا آتي الرحمن 93 ... 376،6
سورة طه
الرحمن على العرش استوى ... 5 ... 4
إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني ... 14 ... 325
وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا ... 69 ... 208، 216،231
سورة الأنبياء
وما أرسلنا من قبلك إلا رسولا ... 25 ... 293
وقالوا اتخذ الرحمن ولداً سبحانه ... 26-29 ... 397،150،148،135
وجعلنا من الماء كل شي حي ... 30 ... 405
ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون ... 52 ... 93، 112
سورة الحج
يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له ... 73-74 ... 126
سورة المؤمنون
ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء ... 31 ... 275
أيحسبون أنما نمدهم به من مال ... 55-56 ... 282،281
إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون ... 57 -61 ... 39،227
والذين هم بربهم لا يشركون ... 59 ... 39
ما اتخذ الله من ولد وما كان معه ... 91-92 ... 25، 325
سورة النور
إن الذين يرمون المحصنات الغافلات ... 23 ... 211
ويقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا ... 47 ... 355
إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ... 51 ... 355
فليحذر الذين يخالفون عن أمره ... 63 ... 307،306
سورة الفرقان
تبارك الذي نزل الفرقان ... 1 ... 166، 428
ولم يتخذ ولداً ولم يكن له ... 2 ... 325
والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر ... 68-70 ... 12-13
سورة الشعراء
قالوا نعبد أصناماً فنظل لها عاكفين ... 71 ... 201
تالله إن كنا لفي ضلال مبين ... 97-98 ... 71،260
وما تنزلت به الشياطين ... 210-212 ... 258
وأنذر عشيرتك الأقربين ... 214 ... 32،131
سورة النمل(1/339)
أمن يجيب المضطر إذا دعاه ... 62 ... 121،120،375،124،123
قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب ... 65 ... 125
سورة القصص
فإن لم يستجيبوا لك فاعلم ... 50 ... 309
إنك لا تهدي من أحببت ... 56 ... 158،157،153
قال الذين حق عليهم القول ... 63 ... 71
وقيل ادعوا شركاءكم فدعوهم ... 64 ... 123
قال إنما أوتيته على علم عندي ... 78 ... 356
سورة العنكبوت
ومن الناس من يقول أمنا بالله ... 10 ... 270
إنما تعبدون من دون الله أوثاناً ... 17 ... 49،122،201
إنما اتخذتم من دون الله أوثاناً مودة ... 25 ... 267
سورة الروم
وكان حقاً علينا نصر المؤمنين ... 47 ... 19
سورة لقمان
يا بني لا تشرك بالله إن الشرك ... 13 ... 22،122
أن أشكر لي ولوالديك ... 14 ... 8
سورة الأحزاب
ولا تبرجن تبرج الجاهلية ... 33 ... 253
ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ... 40 ... 203
إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ... 45-46 ... 146
وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا ... 67 ... 199
سورة سبأ
قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله ... 22 ... 134،147
حتى إذا فزع عن قلوبهم ... 23 ... 136،134،147
ويوم يحشرهم جميعاً ثم يقول للملائكة ... 40-41 ... 49،135
سورة فاطر
ما يفتح الله للناس من رحمة ... 2 ... 75،272
والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير ... 13 ... 126
سورة يس
قالوا طائركم معكم ... 19 ... 234
والقمر قدرناه منازل ... 39 ... 251،248
إنما أمره إذا أراد شيئاً ... 82 ... 117،410
سورة الصافات
إلا من خطف الخطفة فاتبعه شهاب ... 10 ... 138
إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون ... 35 ... 12
أتعبدون ما تنحتون ... 95 ... 201
والله خلقكم وما تعملون ... 96 ... 397
سورة الزمر
وإن تكفروا فإن الله غني عنكم ... 7 ... 336
أمن هو قانت أناء الليل ساجداً ... 9 ... 38
فبشر عباد، الذين يستمعون القول ... 17-18 ... 6
إنك ميت وإنهم ميتون ... 30 ... 120(1/340)
ويخوفونك بالذين من دونه ... 36 ... 268
قل أفرءيتم ما تدعون من دون الله ... 38 ... 75
الله يتوفى الأنفس حين موتها ... 42 ... 120
قل لله الشفاعة جميعاً ... 44 ... 146،145
وإذا ذُكر الله وحده اشمأزت قلوب ... 45 ... 12،163
وما قدروا الله حق قدره ... 67 ... 433،432،
431
سورة غافر
وما للظالمين من حميم ولا شفيع ... 18 ... 150
وما الله يريد ظلماً للعباد ... 31 ... 6
إن الله قد حكم بين العباد ... 40 ... 6
قل ياعبادي الذين أسرفوا على أنفسهم ... 53 ... 49
ادعوني استجب لكم ... 60 ... 119
سورة فصلت
وبارك فيها وقدر فيها أقواتها ... 10 ... 90
ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله ... 33 ... 56
ولئن أذقناه رحمة منا من بعد ضراء ... 50 ... 356
سورة الشورى
وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله ... 10 ... 348
وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم ... 52 ... 157
إلا من شهد بالحق وهم يعلمون ... 86 ... 23
سورة الزخرف
وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن ... 19 ... 135
وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إني براء ... 26-27 ... 73،68
وجعلها كلمة باقية في عقبه ... 28 ... 73
سورة الجاثية
وسخر لكم مافي السموات وما في الأرض ... 13 ... 26
وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا ... 24 ... 342،341،340
سورة الأحقاف
ومن أضل ممن يدعوا من دون الله ... 5 ... 123
سورة محمد
فاعلم أنه لا إله إلا الله ... 19 ... 23
فهل عسيتم إن توليتم ... 22 ... 250،249
سورة الفتح
الظانين بالله ظن السوء ... 6 ... 392
وتسبحوه بكرة وأصيلاً ... 9 ... 125
محمد رسول الله والذين معه أشداء ... 29 ... 173
سورة الحجرات
إن أكرمكم عند الله أتقاكم ... 13 ... 253
لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ... 14 ... 385
سورة الذاريات
وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ... 56 ... 5
سورة النجم
أفرأيتم اللات والعزى ... 19 ... 90 ،180
وكم من مَلَك في السموات لا تغني شفاعتهم ... 26 ... 147(1/341)
سورة القمر
إنا كل شيء خلقناه بقدر ... 49 ... 397
سورة الرحمن
الرحمن * علم القرآن ... 1-2 ... 4
سورة الواقعة
فلا أقسم بمواقع النجوم ... 75-82 ... 257
وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون ... 82 ... 257،251
سورة الحديد
سابقوا إلى مغفرة من ربكم ... 21 ... 27
سورة الحشر
ما قطعتم من لينة أو تركتموها ... 5 ... 146
سورة التغابن
ومن يؤمن بالله يهد قلبه ... 11 ... 286،285
سورة الطلاق
ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ... 2-3 ... 274
ومن يتوكل على الله فهو حسبه ... 3 ... 45،277، 278
سورة الملك
تبارك الذي بيده الملك ... 1 ... 90
ليبلوكم أيكم أحسن عملاً ... 2 ... 296
ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح ... 5 ... 247
سورة نوح
وقالوا لا تذرن ألهتكم ولا تذرن وداً ... 23 ... 161
سورة الجن
وأنه كان رجال من الإنس يعوذون ... 6 ... 115
وأنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت ... 8-9 ... 138
قل إني لا أملك لكم ضراً ولا رشداً ... 21-23 ... 130
سورة المدثر
كل نفس بما كسبت رهينة ... 38 ... 120
سورة الإنسان
يوفون بالنذر ويخافون يوماً ... 7 ... 111
سورة عبس
في صحف مكرمة ... 13-16 ... 258
سور التكوير
إنه لقول رسول كريم ذي قوة ... 19-21 ... 142
لمن شاء منكم أن يستقيم ... 28 ... 335،337
سورة الفجر
فيؤمئذٍ لا يعذب عذابه أحد ... 25-26 ... 71
سورة الكوثر
فصل لربك وانحر ... 2 ... 98
إن شانك هو الأبتر ... 3 ... 192
سورة الكافرون
ولا أنتم عابدون ما أعبد ... 5،3 ... 7
سورة الاخلاص
الله الصمد ... 2 ... 429
ولم يكن له كفواً أحد ... 4 ... 325
سورة الفلق
ومن شر النفاثات في العقد ... 4 ... 207، 217
* * *
فهرس الأحاديث النبوية
طرف الحديث أو الأثر ... رقم الصفحة
(أ)
أبالله وءاياته ورسوله كنتم تستهزؤن ... 351-354
أتاني ملكان فجلس أحدهما عند رأسي ... 207
أتي تحت العرش فأخر ساجداً ... 147
أجعلتني لله نداً ... 336
أحد جبل يحبنا ونحبه ... 128(1/342)
أحسنها الفأل ولا ترد مسلماً ... 240
أخاف على أمتى بعدي خصلتين ... 248
أخاف على أمتي ثلاثاً حيف الأئمة ... 248
أخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - في يده حصيات ... 141
أخوف ما اخاف عليكم الشرك ... 51،50
إذا أحب الله قوماً ابتلاهم ... 290
إذا أراد الله بعبده الخير عجل له ... 289،288
إذا أراد الله تعالى أن يوحي بالأمر تكلم ... 140-141
إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر ... 262
إذا تغولت الغيلان فبادروا ... 238
إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل ... 136
إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السماء الدنيا صلصلة ... 137
إذا رأيت الله يعطي العبد على معاصيه ... 281
إذا سمعتم به في أرض فلا تقدموا عليه ... 235
إذا قضى الله الأمر في السماء ... 136
إذا وقعتم في الأمر العظيم ... 280
أذهب البأس رب الناس ... 81
أربع في أمتى من أمر الجاهلية ... 252،246
أرسل رسولاً أن لا يبقين في رقبة ... 80
أسألك بكل اسم هو لك ... 368
أشتد غضب الله على من زعم أنه ملك الأملاك ... 345
أشد الناس عذاباً يوم القيامة الذين ... 404،403
أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله ... 29
أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر ... 246،328
أعرضوا علي رقاكم لا بأس ... 82
أعوذ بكلمات الله التامات التي لا ... 39
أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له السموات ... 383
أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات ... 383
أعوذ بوجهك الكريم ... 383
أعيرته بأمه ؟ ... 253
أغيظ رجل على الله يوم القيامة ... 345
أكبر الكبائر الإشراك بالله - ابن مسعود – ... 284
ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ... 406
ألا أخبركم بشر البرية ... 382
ألا أخبركم بشر الناس – ابن عباس – ... 381
ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي ... 295
ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ... 9
أليس يحرمون ما أحل الله ... 309،308
أما إنك لو بلغت معهم الكدى ... 183(1/343)
أما السماء الدنيا فإن الله خلقها من دخان ... 247
أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعلوها عمرة ... 305
أمرت أن أقاتل الناس حتى ... 66،74
أمك، ثم أمك ... 9
إن أخنع اسم عند الله ... 344
إن أخوف ما أخاف على أمتي الأئمة ... 199
إن أول ما خلق الله القلم ... 400،399
إن أول ما خلق الله القلم فقال له اكتب فجرى ... 400،399
إن الرجل ليتكلم بالكلمة ... 422
إن الرقى والتمائم والتولة شرك ... 81
إن العيافة والطرق والطيرة من الجبت ... 215
إن الله زوى لي الأرض ... 195-196
إن الله قد أذهب عنكم عبية الجاهلية ... 253
إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ... 199
إن الله لم يهلك أمة أو قال ... 193
إن الله هو الحكم ... 347
إن الله يبغض البليغ من الرجال ... 220
إن المؤمن يأكل في معاء واحد ... 352
إن الملائكة تنزل في العنان ... 137
أن تجعل لله نداً وهو خلقك - أي الذنب أعظم - ... 12،13،210،70
إن ثلاثة من بني إسرائيل: أبرص وأقرع ... 357-360
إن رزق الله لا يجره حرص حريص ... 272
إن عظم الجزاء مع عظم البلاء ... 290
أن لا يمس القرآن إلا طاهر ... 259
إن لله تسعة وتسعين اسماً ... 368،367
إن من البيان لسحرا ... 219،207
إن من شرار الناس من تدركهم الساعة ... 176
إن من ضعف اليقين أن ترضي الناس ... 270-271
أن نوحاً عليه السلام قال لابنه عند موته ... 32
إن هذا الدين يسر ... 186
إن هذا يوم جعله الله للمسلمين عيداً ... 108
أن يهودياً أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال إنكم تشركون ... 335
أنا النبي لا كذب ... 363
أنا سيد ولد آدم ولا فخر ... 428
الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل ... 291
إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب ... 57
إنما أخاف على أمتى التصديق بالنجوم ... 248
إنما الطاعة في المعروف ... 69،309،304
إنما الطيرة ما أمضاك أو ردك ... 244،243
إنما تنقض عرى الإسلام عروة - عمر بن الخطاب- ... 149(1/344)
إنه لا يستغاث بي وإنما يستغاث ... 125،426
إنه ليس الذي تعنون ألم ... 21-22
إني أبرأ إلى الله أن يكون لي ... 172-173
أول زمرة تدخل الجنة ... 42
أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح ... 169
إياكم والغلو فإنما أهلك من كان ... 167
الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته ... 396
أيها الناس إياكم وشرك السرائر ... 295-296
ألا هل أنبئكم ما العضة ... 217-218
اثنتان في الناس هما بهم كفر ... 286
اجتنبوا السبع الموبقات ... 209
اجعلتني لله نداً ... 52
احرص على ما ينفعك ... 386،385
ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة ... 374
ارجعن مأزورات غير مأجورات ... 183
استغفر إبراهيم لأبيه وهو مشرك ... 156
الله أكبر إنها السنن ... 94،93
اللهم ألعن فلاناً وفلاناً ... 129
اللهم إنا نسألك من خير هذه الريح ... 390
اللهم فقه في الدين ... 41،322
اللهم لا تجعل قبري وثناً ... 49-50،177،178،201
اللهم لك الحمد كله ولك الملك كله ... 344
انفذ على رسلك ... 64
(ب)
ببيت المقدس ... 205
بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً ... 70،12
بعثت بالحنيفية السمحة ... 185
بلى إنهم حرموا عليهم الحلال ... 69
بين السماء الدنيا والتي تليها خمسمائة عام – ابن مسعود – ... 434
(ت)
تدمع العين ويحزن القلب ولا نقول ... 288
تعس عبدالدينار تعس عبدالدرهم ... 303،301،299
تلك العزى ... 92
تلك الكلمة التي يخطفها الجني ... 140
(ث)
ثكلتك أمك يا معاذ ... 422
ثلاث لا يسلم أحد منهن ... 242
ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان ... 263
ثلاثة لا يدخلون الجنة ... 249
ثلاثة لا يكلمهم الله ... 409
(ج)
جاء حبر من الأحبار إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال يا محمد إنا نجد ... 431
جعلت لي الأرض مسجداً ... 176،175
الجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله ... 103
(ح)
حد الساحر ضربة بالسيف ... 212،211
حدثوا الناس بما يعرفون – علي بن أبي طالب – ... 321(1/345)
حرس ليلة في سبيل الله أفضل من ألف ليلة ... 303
(حسبنا الله ونعم الوكيل) قالها إبراهيم - ابن عباس – ... 278-279
الحلف منفقة للسلعة ... 408
(خ)
خطَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطاً ... 15
خلق الله اللوح المحفوظ مسيرة خمسمائة عام – ابن عباس- ... 400
خير أمتي قرني ... 411،410
خير الدعاء دعاء يوم عرفه ... 32
خير الشهداء الذي يأتي بشهادته قبل أن ... 413
خير الناس قرني ... 413
(د)
دخل الجنة رجل في ذباب ... 102،101
دعهما يا أبا بكر فإن لكل قوم عيداً ... 108
(ر)
رأى رجلاً أنتفض لما سمع حديثاً - أثر – ... 322
الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين ... 338
رب أشعث أغبر ذي طمرين ... 422
رب أشعث مدفوع بالأبواب ... 303
رخص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الرقية ... 82
الريح من روح الله تأتي بالرحمة ... 389
(س)
سبحان الله سبحان الله ... 424،423
سمعت الناس يقولون بشيء فقلته ... 30
سنوا بهم سنة أهل الكتاب ... 418
السيد الله تبارك وتعالى ... 428،427،426
(ش)
الشؤم في ثلاث في المرأة والدابة ... 236
شج النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد ... 127
شجرة في الجنة – طوبى – ... 301
الشرك بالله واليأس من روح الله -سئل عن الكبائر– ... 283،282
الشفاء في ثلاث شربة عسل ... 44
(ص)
الصبر نصف الإيمان ... 285
الصلاة على وقتها ... 9
(ط)
طوبى لمن رآني وآمن بي ... 301
الطيرة شرك الطيرة شرك ... 241-242
(ع)
عرضت على الأمم فرأيت النبي ... 41
على المرء السمع والطاعة ما لم يؤمر ... 304
(ف)
فإن الله حرم على النار من قال لا إله ... 35،28
فاستزدت ربي فزادني ... 42
فلا ينزل على أهل سماء إلا صعقوا ... 137
فمن لم يؤمن بالقدر خيره وشره أحرقه الله بالنار ... 401
فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً ... 66
(ق)
قال الله تعالى أصبح من عبادي مؤمن بي ... 328
قال الله تعالى أنا أغنى الشركاء عن الشرك ... 294(1/346)
قال الله تعالى أنا عند ظن عبدي بي ... 391
قال الله تعالى ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي ... 405،403
قال الله تعالى يؤذيني ابن آدم ... 341
قال الله تعالى يا ابن آدم لو أتيتني بقراب الأرض ... 35،34
قال الله تعالى يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني ... 35
قال رجل والله لا يغفر الله لفلان ... 421
قال موسى يا رب علمني شيئاً أذكرك ... 31
قل لا إله ألا الله كلمة أحاج ... 154
قوموا إلى سيدكم ... 429
(ك)
كان بين رجل من المنافقين ورجل من اليهود – الشعبي – ... 317-318
كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أمر أميراً على جيش ... 416،415
كان لي تمر في سهوة فكانت الغول ... 238-239
كان ناس من الإنس يعبدون ... 67
كُل أمر ذي بال لا يفتتح بذكر الله ... 3
كُلْ باسم الله ثقة بالله ... 236
كل مصور في النار ... 404
كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل - ابن مسعود - ... 141
الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ... 386
كيف بك ياسراق إذا وضع ... 197
كيف يفلح قوم شجوا نبيهم ... 128
(ل)
لأعطينا الراية غداً رجلاً ... 62،61
لأن أحلف بالله كاذباً – ابن مسعود – ... 331
لا تتخذوا قبري عيداً وصلوا علي ... 108،189
لا تتخذوا قبري عيداً ولا بيوتكم قبوراً ... 190،189،188
لا تجعلوا بيوتكم مقابر ... 186-187
لا تحلفوا بآبائكم من حلف بالله ... 333
لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة ... 307
لا تزال عصابة من أمتى يقاتلون ... 204
لا تسبوا أصحابي ... 411
لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر ... 343،341
لا تسبوا الريح فإذا رأيتم ما تكرهون ... 389-390
لا تستنجوا بالروث والعظام ... 87
لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد ... 190
لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم ... 166،428،426
لا تقولوا السلام على الله ... 372
لا تقولوا ما شاء الله وشاء فلان ... 331
لا تقوم الساعة حتى تضطرب ... 201
لا تنسنا يا أخي من صالح دعائك ... 425(1/347)
لا راد لما قضيت ... 198
لا رقية إلا من عين أو حمة ... 41
لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ... 239،234
لا غول ولكن السعالي سحرة الجن ... 238
لا نذر في معصية ... 108
لا هجرة بعد الفتح ... 417
لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه ... 262
لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه ... 315، 316
لا يجد العبد صريح الإيمان حتى يحب ... 266
لا يحل دم امرىء مسلم يشهد أن ... 13،210
لا يذهب الليل والنهار حتى تعبد اللات ... 201
لا يزني الزاني حين يزني ... 316
لا يُسأل بوجه الله إلا الجنة ... 381
لا يعدي شيء ... 235
لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار ... 222
لا يقل أحدكم أطعم ربك ... 376
لا يقولن أحدكم اللهم اغفرلي إن شئت ... 375،374
لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله ... 391
لا يورد ممرض على مصح ... 235
لتتبعن سنن من كان قبلكم ... 94،194
لعن الله العاضهة ... 218
لعن الله من ذبح لغير الله ... 99،98
لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زائرات القبور ... 183،181
لعنة الله على اليهود والنصارى ... 171،194
لقد عذتِ بمعاذ ... 379
لكل نبي دعوة مستجابة ... 151
لما ولدت حواء طاف بها إبليس ... 361
لن تمسك النار ... 127
لو استقبلت من أمري ما استدبرت ... 388
لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك ... 388
لولا حدثان قومك بالكفر ... 387
ليس بين العبد وبين الكفر أو الشرك ... 287
ليس منا من تطيرا أو تطير له ... 225
ليس منا من ضرب الخدود ... 287
(م)
ما أعطي أحد عطاء خيراً ... 285
ما أنزل الله من داء إلا أنزل شفاء ... 45
ما السموات السبع والأرضون السبع ... 433
ما السموات السبع في الكرسي إلا كدراهم ... 433
ما الكرسي في العرش إلا كحلقة من حديد ... 434
ما بقي شيء يقرب من الجنة ويباعد ... 186
ما كنتم تقولون إذا كان هذا ... 139
ما لك أقماك الله ... 127
ما من عبد قال لا إله إلا الله ثم مات على ذلك ... 29(1/348)
ما هذه ؟... أنزعها فإنها لا تزيدك ... 76
معاذ أعلم أمتى بالحلال والحرام ... 17
ملعون من سأل بوجه الله وملعون من سُئل ... 381
ملعون من سُئل بوجه الله فمنع سائله ... 381
من أتى كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر ... 222
من أتى عرافاً أو كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر ... 223
من أتى عرافاً فسأله عن شيء فصدقه لم تقبل له ... 223،222،221
من أتى كاهناً أو ساحراً فصدقه بما يقول فقد كفر ... 224
من أحب لله وأبغض لله ... 266
من أراد أن ينظر إلى وصية محمد - ابن مسعود - ... 16
من اقتبس شعبة من النجوم ... 216،250،247،246
من التمس رضى الناس بسخط الله ... 273
من تعلق تميمة فقد أشرك ... 78
من تعلق تميمة فلا أتم الله له ... 78
من تعلق شيئاً وكل إليه ... 84
من حلف بغير الله فقد كفر ... 330
من حلف وقال في حلفه واللات ... 112
من حلف باللات والعزى فليقل ... 109
من ردته الطيرة عن حاجته ... 242-243
من سأل بالله فأعطوه ومن ... 378
من شهد أن لا إله إلا الله ... 23
من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمد عبده ورسوله ... 29
من صنع إليكم معروفاُ فكافئوه ... 272
من صنع إليه معروف فقال ... 379
من صور صورة في الدنيا كلف أن ينفخ فيها ... 405،404
من ظلم شبراً من الأرض طوقه ... 101
من عقد عقدة ثم نفث فيها ... 216-217
من غشنا فليس منا ... 287
من قال لا إله إلا الله خالصاً ... 151
من قال لا إله إلا الله وكفر بما يعبد ... 73،72
من قطع تميمة من إنسان كان كعدل - سعيد بن جبير - ... 88
من الكبائر شتم الرجل والديه ... 100
من لا يشكر الناس لا يشكر الله ... 272
من لقي الله لايشرك به شيئاً ... 53
من مات وهو يدعو من دون الله ... 51
من المتألي على الله ... 421
من نذر أن يطيع الله فليطعه ... 114،113
من نزل منزلاً فقال أعوذ بكلمات ... 116
(ن)
النائحة إذا لم تتب قبل موتها ... 254-255
نعم الصلاة عليهما وإنفاذ عهدهما ... 10(1/349)
نعم يا عباد الله تداووا فإن الله ... 45
نهى أن يستنجي بعظم أو روث ... 87
(هـ)
هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح ... 161-162
هل تدرون كم بين السماء والأرض ... 435،434
هل تدرون ماذا قال ربكم ؟ ... 256
هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية ... 107
هلك المتنطعون ... 168
هو ذاك فعليكموه ... 106
هو مسجدي هذا ... 106
هي من عمل الشيطان – النشرة – ... 229
(و)
وإني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن ... 17
والذي نفسي بيده لتنفقن كنوزهما ... 197
والذي نفسي بيده لينزلن فيكم ابن مريم ... 203
وفر من المجذوم كما تفر من الأسد ... 235
ولا تقوم الساعة حتى يلحق ... 51
وليعظم الرغبة ... 375
ومن سحر فقد أشرك ... 207
ويل للمتألين من أمتي ... 421
(ي)
يا أكثم رأيت عمرو بن لحي ... 162
يا أنس كتاب الله القصاص ... 422
يا عم تأمرهم بالنصح لأنفسهم ... 153
يا معاذ ما من عبد يشهد أن لا إله إلا الله ... 28-29
يا معاذ أتدري ما حق الله على العباد ... 17
يا معشر قريش اشتروا أنفسكم ... 131-132
يارويفع لعل الحياة ستطول بك ... 86
يجعل السموات على إصبع ... 432
يصاح برجل على رؤوس الخلائق يوم القيامة ... 33
يطوي الله السموات يوم القيامة ... 432
يقول الله تعالى أنا عند ظن عبدي بي ... 281
يقول الله تعالى للعبد يوم القيامة ما منعك ... 269
يكون في أمتى كذابوان دجالون ... 202
يوشك أن تنزل عليكم حجارة - ابن عباس – ... 304
يوشك أن يضرب الناس من أكباد ... 177
* * *
فهرس الأعلام الذين ترجم لهم الشارح
إبراهيم النخعي ... 88
أبو بشير الأنصاري ... 80
أبو بكر الصديق رضي الله عنه ... 173
أبو داود سليمان بن الأشعث ... 84
أبو سعيد الخدري رضي الله عنه ... 31
أبو مالك الأشجعي ... 72
أبو مالك الأشعري ... 252
أبو موسى الأشعري ... 249
أبو واقد الليثي رضي الله عنه ... 92
أبوهريرة ... 131
أُبَيّ بن كعب رضي الله عنه ... 389
أحمد بن حنبل ... 77(1/350)
أحمد بن شعيب النسائي ... 216
أحمد بن عبدالحليم ابن تيمية أبوالعباس ... 147-148
أحمد بن علي أبو يعلى ... 224
أحمد بن عمر البزار ... 225-226
أحمد بن محمد البرقاني ... 199
إسحاق بن إبراهيم بن مخلد ... 248-249
أم سلمة هند بنت أبي أمية ... 169
أنس بن مالك بن النضر رضي الله عنه ... 34
أوس بن عبدالله الربعي ابن الجوزاء ... 181
ابن القيم ... 163
ابن حزم ... 362
بجالة بن عبدة ... 212
بُريدة بن الحصيب رضي الله عنه ... 40-41،415
ثابت بن الضحاك رضي الله عنه ... 107
ثوبان مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ... 195
جابر بن عبدالله رضي الله عنهما ... 53
جبير بن مطعم رضي الله عنه ... 423
جُندب بن سفيان رضي الله عنه ... 172
حذيفة ابن اليمان رضي الله عنه ... 79
حرب ابن إسماعيل الكرماني ... 248
الحسن ابن أبي الحسن ... 231
الحسين بن مسعود البغوي ... 226
حصين بن عبدالرحمن ... 40
حفصة بنت عمر رضي الله عنها ... 213
حيان ابن العلاء ... 214
خولة بنت حكيم رضي الله عنها ... 116
رويفع بن ثابت رضي الله عنه ... 86
زيد بن أسلم ... 351
زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه ... 255
سعيد بن المسيب ... 154
سعيد بن جبير ... 40
سفيان الثوري ... 307،180
سفيان بن عيينة ... 138
سلمان الفارسي رضي الله عنه ... 409
سليمان بن أحمد الطبراني ... 124
سليمان بن مهران الأعمش ... 368
سهل بن سعد رضي الله عنه ... 61
طارق بن أشيم ابن مسعود رضي الله عنه ... 72
طارق بن شهاب البجلي رضي الله عنه ... 101-102
الطفيل بن عبدالله رضي الله عنه ... 337
عائشة بنت أبي بكر رضي الله عنها ... 113
عامر بن شراحيل الشعبي ... 317
عبادة بن الصامت رضي الله عنه ... 23
عبدالرحمن بن أبي حاتم الرازي ... 78-79
عبدالرزاق بن همام ... 322
عبدالله بن الشخير رضي الله عنه ... 426
عبدالله بن طاووس اليماني ... 322
عبدالله بن عباس رضي الله عنهما ... 322،41(1/351)
عبدالله بن فيروز الديلمي ... 401
عبدالله بن مسعود رضي الله عنه ... 16
عبدالله بن مسلم ابن قتيبة ... 327
عبدالله بن وهب القرشي ... 400
عبدالله عُكيم رضي الله عنه ... 84
عبدالمطلب جد النبي - صلى الله عليه وسلم - ... 363
عتبان ابن مالك رضي الله عنه ... 28
عدي بن حاتم رضي الله عنه ... 308
عقبة ابن عامر رضي الله عنه ... 77
عكاشة بن محصن رضي الله عنه ... 46
علقمة ابن قيس النخعي ... 286
علي بن أبي طالب رضي الله عنه ... 98-99
علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ... 188
عمر بن الخطاب رضي الله عنه ... 129، 166
عمران بن حصين رضي الله عنه ... 76
عوف ابن أبي جميلة ... 214
عون بن عبدالله بن عتبة بن مسعود ... 327
الفضل بن عباس بن عبدالمطلب رضي الله عنه ... 243
قبيصة رضي الله عنه ... 214
قتادة بن دعامة ... 230
قُتيلة بنت صيفي الجهنية رضي الله عنها ... 335
مالك بن أنس ... 177
مجاهد ابن جبر ... 180
محمد بن إسماعيل البخاري ... 20
محمد بن جرير الطبري ... 180
محمد بن جعفر غندر ... 214
محمد بن حبان أبو حاتم البستي ... 34
محمد بن عبدالله النيسابوري الحاكم ... 34
محمد بن عبدالواحد المقدسي ... 190-191
محمد بن عيسى الترمذي ... 34
محمد بن كعب القرظي ... 351
محمود بن لبيد بن رافع ... 51
معاذ بن جبل رضي الله عنه ... 17
منصور بن المعتمر ... 180
النواس بن سمعان رضي الله عنه ... 140
هاني بن يزيد الكندي أبوشريح ... 347
وكيع بن الجراح ... 88
* * *
فهرس الفوائد
الفوائد المنثورة ... الصفحة
الشرك نوعان وذكر كلام ابن تيمية - رحمه الله - ... 35
تحريم الشارح للمعضد الذي يلبس في اليد الشمال لعلاج الروماتيزم، وكذلك تحريمه للتطعيم ! ... 76-77
لماذا نُنهَى عن أمر وهو سيقع ؟ ... 94
من تغيير منارات الأرض تغيير الحجج والاستحكامات ... 101
الخلاف في أول مسجد أُسس على التقوى ... 106(1/352)
الدعاء نوعان: دعاء مسألة ودعاء عبادة ... ... 119
الاستغاثة الجائزة والممنوعة ... 121
الكلام عن منافقي القرن الرابع عشر! ... 124
شروط الشفاعة ومانعها ومستحقها والمالك لها وأنواعها ... 144
أصح الأسانيد ... ... ... ... ... 177
ثناء الشارح على تفسير ابن جرير الطبري ... ... 180
وقوع مشابهة أهل الكتاب اليوم ... ... ... 195
آية المحنة ... 260
عامة مؤاخاة الناس اليوم على أمر الدنيا ... 266
الأسباب الجالبة لمحبة الله ... 261
قال الإمام أحمد: ذكر الله الصبر في تسعين موضعاً من القرآن ... 285
أنواع الصبر. ... 285
رجح ابن القيم أن المصائب ثوابها تكفير الخطايا فقط ... 290
رد الشارح على من أجاز التصوير (مهم) ... 403-404
اختيار الشارح منع إطلاق السيد على المخلوق ... 429-430
الفروق
الفرق بين الصنم والوثن ... 107
الفرق بين العياذ واللياذ ... 115
الفرق بين الإغاثة والإجابة ... 119
الفرق بين الخلة والمحبة ... 172
الفرق بين الطيرة والفأل ... 239
الفرق بين المحبة لله والمحبة مع الله ... 264
الفرق بين الرياء والسمعة ... 293
الفرق بين الجيش والسرية ... 415
تعقبات ابن حمدان على بعض العلماء (الشراح، وغيرهم):
* * *
فهرس أهم المراجع
إبطال التنديد باختصار شرح كتاب التوحيد للشيخ حمد بن عتيق، تقديم ومراجعة الشيخ إسماعيل بن سعد بن عتيق، دار الهداية.
إتمام الأعلام، للدكتور نزار أباظه و محمد رياض المالح، دار صادر بيروت.
الأثبات، لعلي الشبل.
إرواء الغليل للألباني، المكتب الإسلامي.
تتمة الأعلام محمد خير رمضان، دار ابن حزم.
تراجم متأخري الحنابلة للشيخ سليمان بن حمدان، تحقيق بكر أبوزيد، دار ابن الجوزي.
تفسير ابن كثير، تحقيق سامي السلامة، دار طيبة.
تكملة معجم المؤلفين محمد خير رمضان، دار ابن حزم.
تيسير العزيز الحميد، للشيخ سليمان بن عبدالله، تحقيق زهير الشاويش، المكتب الإسلامي.(1/353)
جامع العلوم والحكم، تحقيق إبراهيم باجس، مؤسسة الرسالة.
الجامع المفهرس لأطراف الأحاديث النبوية التي خرجها الألباني، سليم الهلالي، دار ابن الجوزي.
الجامع للمتون العلمية، عبدالله بن محمد الشمراني، دار الوطن.
جمع الفوائد من جامع الأصول ومجمع الزوائد، لمحمد بن سليمان المغربي، تحقيق سليمان بن دريع، دار ابن حزم.
الحجة على تارك المحجة، لابن نصر، الجامعة السلفية بالهند.
الدر النضيد على أبواب التوحيد للشيخ سليمان بن حمدان، دار الصحابة.
الدر النضيد في تخريج أحاديث كتاب التوحيد، صالح العصيمي، دار ابن خزيمة.
روضة الناظرين عن مآثر علماء نجد وحوادث السنين، للقاضي.
زوائد السنن على الصحيحين، صالح الشامي، دار القلم.
السلسلة الصحيحية، للألباني، مكتبة المعارف.
السلسلة الضعيفة، للألباني، مكتبة المعارف.
السنة لابن أبي عاصم، تحقيق باسم الجوابرة، دار الصميعي.
سنن أبي داود.
سنن أبي داود الطيالسي، تحقيق الدكتور محمد التركي، دار هجر.
سنن ابن ماجه.
سنن الترمذي.
سنن النسائي.
شرح السنة، تحقيق زهير الشاويش وشعيب الأرناؤط، المكتب الإسلامي.
الشيخ سليمان بن سحمان وطريقته في تقرير العقيدة، محمد بن حمود الفوزان مكتبة الرشد بالرياض .
صحيح ابن حبان بترتيب ابن بلبان، تحقيق شعيب الأرناؤط، مؤسسة الرسالة.
صحيح ابن خزيمة تحقيق محمد مصطفى الأعظمي، المكتب الإسلامي.
صحيح البخاري.
صحيح الترغيب والترهيب للألباني، مكتبة المعارف.
صحيح الجامع للألباني، المكتب الإسلامي.
الصحيح المسند من أسباب النزول، مقبل الوادعي، دار ابن حزم.
صحيح سنن أبي داود للألباني.
صحيح سنن ابن ماجه للألباني.
صحيح سنن الترمذي للألباني.
صحيح سنن النسائي للألباني.
صحيح مسلم.
ضعيف الترغيب والترهيب للألباني، مكتبة المعارف.
ضعيف الجامع للألباني، المكتب الإسلامي.
علماء نجد خلال ثمانية قرون، عبدالله البسام، دار العاصمة.(1/354)
عناية العلماء بكتاب التوحيد، عبدالإله الشايع، دار طيبة.
غاية المرام في تخريج أحاديث الحلال والحرام للألباني، المكتب الإسلامي.
فتح المجيد على كتاب التوحيد تحقيق الوليد الفريان، دار الصميعي.
قرة عيون الموحدين، تحقيق إسماعيل الأنصاري،دار الإفتاء.
الكافية الشافية في الأنتصار للفرقة الناجية، تحقيق عبدالله العمير، دار ابن خزيمة.
كتاب التوحيد الذي هو حق الله على العبيد، ط جامعة الإمام محمد بن سعود.
كتاب قضاة المدينة المنورة، عبدالله بن محمد بن زاحم، مكتبة العلوم والحكم.
كنز العمال، بيت الأفكار الدولي.
المجمعة، عبدالكريم بن حمد الحقيل.
مجموع فتاوى ابن باز، جمع الطيار، دار الوطن.
مجموع فتاوى ابن تيمية.
المجموع في ترجمة الشيخ حماد الأنصاري، عبدالأول بن حماد الأنصاري.
المدخل المفصل إلى فقه الإمام أحمد بن حنبل، بكر أبوزيد، دار العاصمة.
مستدرك الحاكم، دار المعرفة.
مسند الإمام أحمد، مؤسسة الرسالة.
المعجم الأوسط، للطبراني، تحقيق طارق عوض الله، دار الحرمين.
المعجم الكبير، للطبراني، تحقيق مجدي السلفي.
معجم المطبوعات العربية في المملكة العربية السعودية، علي جواد الطاهر.
معجم المعاجم والأثبات، للدكتور يوسف المرعشلي، مكتبة الرشد.
المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، محمد فؤاد عبدالباقي.
المعجم المفهرس لكلمات القرآن الكريم، الشيخ عبدالوحيد نور أحمد، دار السلام
معجم مصنفات الحنابلة، للدكتور عبدالله بن محمد الطريقي.
موسوعة أسبار للعلماء والمتخصصين في الشريعة الإسلامية في الممملكة العربية السعودية.
موسوعة أطراف الحديث النبوي الشريف، محمد السعيد زغلول، دار الكتب العلمية.
موسوعة الحافظ ابن حجر العسقلاني الحديثية،جمع وإعداد وليد الزبيري وإياد القيسي وجماعة، مجلة الحكمة.
النجم البادي في ترجمة العلامة المحدِّث السلفي يحيى بن عثمان عظيم أبادي، أحمد بازمول.(1/355)
النهاية في غريب الحديث، تخريج وتعليق صلاح عويضة، دار الكتب العلمية.
هداية الأريب الأمجد للشيخ سليمان بن حمدان، تحقيق بكر أبوزيد، دار العاصمة.
وغيرها من المراجع .
* * *
فهرس
الموضوعات والأبواب
* * *
فهرس الموضوعات والأبواب
الموضوع ... الصفحة
إذن نشر الكتاب ... 3
أصل إذن نشر الكتاب ... 4
مقدمة المعتني ... 5
ترجمة المؤلف ... 9
اسمه ... 10
مولده ... 11
شيوخه ... 11
ثناء العلماء عليه ... 12
أعماله ... 12
صفاته الخَلقية ... 12
صفاته وأخلاقه ... 13
طلابه ... 13
نسخه للكتب ... 15
مؤلفاته ... 16
الكلام على كتاب الدر النضيد ... 21
ميزات كتاب الدر النضيد ... 23
ثناء الشيخ بكر أبو زيد على الكتاب ... 23
موارد الشارح – رحمه الله تعالى - ... 24
فائدة
مقدمة الشارح ... 1
رقم الباب
الباب
الصفحة
1
كتاب التوحيد
3
2
باب فضل التوحيد وما يكفر من الذنوب
21
3
باب من حقق التوحيد دخل الجنة بغير حساب
37
4
باب الخوف من الشرك
48
5
باب الدعاء إلى شهادة أن لا إله الله
55
6
باب تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله
67
7
باب من الشرك لبس الحلقة والخيط ونحوهما لرفع البلاء أو دفعه
75
8
باب ما جاء في الرقى والتمائم
80
9
باب من تبرك بشجرة أو حجر ونحوهما
90
10
باب ما جاء في الذبح لغير الله
97
11
باب لا يذبح لله بمكان يذبح فيه لغير الله
104
12
باب من الشرك النذر لغير الله
111
13
باب من الشرك الاستعاذة بغير الله
115
14
باب من الشرك أن يستغيث بغير الله أو يدعو غيره
119
15
باب قول الله تعالى: { أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ }
126
16
باب قول الله تعالى: { حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ }
134
17
باب الشفاعة
144
18
باب قول الله تعالى: { إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ } الآية
153
19(1/356)
باب ما جاء أن سبب كفر بني آدم وتركهم دينهم هو الغلو في الصالحين
160
20
باب ما جاء من التغليظ فيمن عبد الله عند قبر رجل صالح فكيف إذا عبده ؟
169
21
باب ما جاء أن الغلو في قبور الصالحين يصيرها أوثاناً تعبد من دون الله
177
22
باب ما جاء في حماية المصطفى - صلى الله عليه وسلم - جناب التوحيد وسده كل طريق يوصل إلى الشرك
185
23
باب ما جاء أن بعض هذه الأمة يعبد الأوثان
192
24
باب ما جاء في السحر
207
25
باب بيان شيء من أنواع السحر
214
26
باب ما جاء في الكهان ونحوهم
221
27
باب ما جاء في النشرة
229
28
باب ما جاء في التطير
233
29
باب ما جاء في التنجيم
245
30
باب ما جاء في الاستسقاء بالأنواء
251
31
باب قول الله تعالى: { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ }
260
32
باب قول الله تعالى: { إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } .
268
33
باب قول الله تعالى: { وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ }
275
34
باب قول الله تعالى: { أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ } .
281
35
باب من الإيمان بالله الصبر على أقدار الله
285
36
باب ما جاء في الرياء
293
37
باب من الشرك إرادة الإنسان بعمله الدنيا
297
38
باب من أطاع العلماء والأمراء في تحريم ما أحل الله أو تحليل ما حرمه فقد اتخذهم أرباباً من دون الله
304
39
باب قول الله تعالى: { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آَمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ }
311
40
باب من جحد شيئاً من الأسماء والصفات
319
41
باب قول الله تعالى: { يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ }
326
42(1/357)
باب قول الله تعالى: { فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ }
329
43
باب ما جاء فيمن لم يقنع بالحلف بالله
333
44
باب قول: ما شاء الله وشئت
335
45
باب من سب الدهر فقد آذى الله
340
46
باب التسمي بقاضي القضاة ونحوه
344
47
باب احترام أسماء الله وتغيير الاسم لأجل ذلك
347
48
باب من هزل بشيء فيه ذكر الله أو القرآن أو الرسول
350
49
باب ما جاء في قول الله تعالى: { وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي }
356
50
باب قول الله تعالى: { فَلَمَّا آَتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آَتَاهُمَا }
361
51
باب قول الله تعالى: { وَلِلَّهِ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ }
367
52
باب لا يقال: السلام على الله
372
53
باب قول: اللهم اغفر لي إن شئت
374
54
باب لا يقول: عبدي وأمتي
376
55
باب لا يرد من سأل بالله
378
56
باب لا يسأل بوجه الله إلا الجنة
381
57
باب ما جاء في الّلو
384
58
باب النهي عن سب الريح
389
59
باب قول الله تعالى: { يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ } الآية
391
60
باب ما جاء في منكري القدر
396
61
باب ما جاء في المصورين
403
62
باب ما جاء في كثرة الحلف
408
63
باب ما جاء في ذمة الله وذمة نبيه
415
64
باب ما جاء في الإقسام على الله
421
65
باب لا يستشفع بالله على خلقه
423
66
باب ما جاء في حماية النبي - صلى الله عليه وسلم - حِمَى التوحيد وسده طرق الشرك
426
67
باب ما جاء في قول الله تعالى: { وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ } الآية
431
فهرس الفهارس
437
فهرس الآيات القرآنية
439
فهرس الأحاديث النبوية
455
فهرس الأعلام الذين ترجم لهم الشارح
473
فهرس الفوائد
478
فهرس أهم المراجع
481
فهرس الموضوعات(1/358)
485
صدر للمحقق
492
صدر للمحقق
آراء ابن قدامة حول الإعاقة، دار الصميعي.
آراء ابن تيمية حول الإعاقة، دار الصميعي.
آراء ابن القيم حول الإعاقة، دار الصميعي.
اللؤلؤ الثمين من فتاوى المعوقين، مجلدان، دار الصميعي.
عناية العلماء بكتاب التوحيد، دار طيبة.
فتاوى عن الكتب، دار الصميعي
الدر النضيد على أبواب التوحيد للشيخ سليمان بن حمدان (تحقيق)، دار الصميعي.
مختصر كتاب نكت الهميان في نكت العميان للصفدي، دار الصمعي.
9. ملخص منهاج السنة للشيخ عبدالرحمن بن حسن آل الشيخ (تحقيق)، مكتبة الرشد.
10. كشف النقاب عن مؤلفات الأصحاب للشيخ سليمان بن حمدان (تحقيق) تحت الطبع.
11. كتب أثنى عليها العلماء – المجموعة الأولى – قسم العقيدة (تحت الطبع).
12. الكتب التي تكلم عنها ابن القيم – رحمه الله – (تحت الإعداد)
13. إبطال التنديد باختصار شرح كتاب التوحيد للشيخ حمد بن عتيق (تحقيق) تحت الطبع.
* * *(1/359)