الدَّاعِيَةُ البَصِير...
"أخلاقُهُ وَصفاتُهُ وَمنهجُهُ"
في ضوء الكتاب والسنة الصحيحة
وأقوال علماء سلف الأمة
إعداد
د. علي بن عبد الله الصيَّاح
(الردمك)
Q
صفحة رقم (4)
فاضيه
توضع في ظهر الصفحة السابقة
إنَّ الحمدَ لله، نحمدُهُ ونستعينهُ، ونستغفرهُ، ونعوذُ باللهِ من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمداً عبدهُ ورسولهُ @.
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا (#qà)¨?$# اللَّهَ ¨,xm تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ tbqكJد=َ،-B (102) }
[آل عمران: 102]، { يَا أَيُّهَا النَّاسُ (#qà)¨?$# رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ ;oy‰دn¨ur وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا #[ژچدWx. [ن!$|،دSur وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1) } [النساء:1]، { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا (#qà)¨?$# اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) } [الأحزاب: 70].
أما بعد: فإنَّ الدعوةَ إلى الله - عز وجل - من أجل الأعمالِ التي يعملها المسلمُ في حياته وأفضلها وأشرفها مقاماً، وهي مهمة الرسل والأنبياء قال تعالى لنبيه محمد @: { قُلْ ¾دnة"yd 'ج?ٹخ6y™ (#ûqممôٹr& إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ سة_yèt6¨?$# وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108) } [يوسف:108].
وقال - سبحانه وتعالى -: { نيôٹ$# إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ دpyJُ3دtù:$$خ/ وَالْمَوْعِظَةِ دpuZ|،utù:$# وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ ¾د&ح#خ6y™ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125) } [النحل: 125].(1/1)
وقال - سبحانه وتعالى -: { y7د9¨s%ح#sù نيôٹ$$sù وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ } [الشورى: 15].
وقال - سبحانه وتعالى -: { وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ } [النور:54] والآياتُ في هذا المعنى كثيرة.
والدَّاعِيَة إلى الخير من المفلحين والسعداء في الدنيا والآخرة كما قال تعالى: { وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى خژِچsƒù:$# وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ حچs3YكJّ9$# وَأُولَئِكَ هُمُ ڑcqكsد=ّےكJّ9$# (104) } [آل عمران: 104]، فكل مَنْ دَعا الناس إلى خير على وجه العموم, أو على وجه الخصوص, أو قام بنصيحة عامة أو خاصة, فإنه داخل في هذه الآية الكريمة.
ولو لم يرد في فضل الدعوة والدعاة إلاّ قوله تعالى: { وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ $[sد="|¹ وَقَالَ سة_¯Rخ) مِنَ tûüدJد=َ،كJّ9$# (33) } [فصلت: 33] - وهذا استفهامٌ بمعنى النفي المتقرر أي: لا أحد أحسن قولاً - لكان ذلك كافياً، كيف والآياتُ والأحاديثُ في فضل الدعوة والدعاة كثيرة معلومة!.
ومن أعظم النعم على العبد أن يكون دعياً إلى الله، إماماً في الخير هاديا مهدياً، كما أنّ من أعظم العقوبات على العبد أن يكون إماماً في الشر وداعيا إليه، قال تعالى: { وَجَعَلْنَاهُمْ Zp£Jحr& يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا ڑcrمژ|اZمƒ (41) } [القصص: 41]، وقال - سبحانه وتعالى -: { $sYù=yèy_ur مِنْهُمْ Zp£Jحr& ڑcrك‰÷ku‰ بِأَمْرِنَا لَمَّا (#rمژy9|¹ وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يُوقِنُونَ (24) } [السجدة: 24].
ومشاركة في هذا الخير كتبتُ هذه الرسالة الوجيزة في صفات وأخلاق ومنهج الدَّاعِيَة البَصِير مراعياً في ذلك ما يلي:
1 - عدم الإطالة التي تسبب الملل والسآمة، منبهاً أنه ربما يحصل نوعٌ من الإطالة - النسبية - لحاجة تقتضيها.(1/2)
2 - بيان بعض القضايا الخطيرة على الدَّاعِيَة في مسيرته الدعوية والتي لها رواج في هذا العصر من ذلك "تصنيف الناس بالظنّ"، و"مسايرة الواقع" أو ما يسمى "العصرانية" وغير ذلك.
3 - الحديث عن بعض الأمور التي أُبتلينا بها في هذا الزمان من "الفتن المتتابعة" التي يرقق بعضها بعضاً، و"عدم التثبت من الأخبار"، و"عدم استشعار مسؤولية الكلمة"، و"استعمال المصطلحات ذات الدلالة الشرعية الصحيحة لمعان فاسدة".
4 - محاولة ربط هذه القضايا والمسائل المذكورة بالكتاب والسنة الصحيحة؛ لأنَّ الكتابَ والسنةَ هما المصدرانِ الأصليان اللذان تُوزن بهما الأعمال والأقوال، وما أحسنَ قول شيخ الإسلام ابن تيمية: "لكن اعتبار مقادير المصالح والمفاسد هو بميزان الشريعة، فَمَتَى قدر الإنسان على اتّباع النصوص لم يعدل عنها، وإلاّ اجتهد رأيه لمعرفة الأشباه والنظائر، وقلَّ أن تعوزَ النصوصُ مَنْ يكونُ خبيراً بها وبدلالتها على الأحكام"(1)، وقال سفيانُ الثوريُّ: "إنْ استطعتَ أنْ لا تحك رأسكَ إلا بأثرٍ فافعل"(2).
5 - الاستفادة من فهوم العلماء المحققين وكتبهم خاصةً كتب شيخ الإسلام ابن تيمية، والإمام ابن القيم الجوزية، والشيخ عبد الرحمن السّعديّ وأئمة الدعوة - عموماً - ففي كتبهم من غزارة العلم، ودقة العبارة وتحريرها، والاعتناء بالتنبيه عَلَى القواعدِ الكلية، والأصولِ الجامعة، والأدلةِ الشرعية، وحسن التصنيف، ما يعجب منه القارىء ويجزم أنه لا يوجد لها نظير إلاّ ما نَدَر، و { y7د9¨sŒ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ىىإ™¨ur يOٹد=tو } [ المائدة:54].
__________
(1) …الاستقامة (2/217).
(2) …الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع (1/142).(1/3)
وبعد: فهذا جهدُ المقل والقدر الذي واتاه { وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آَتَاهُ اللَّهُ } [الطلاق: 7]، وإليه - سبحانه وتعالى - السؤال أن يجعل ذلك خالصاً لوجهه الكريم، مقتضيا لرضاه، وأن لا يجعل العلم حجة على كاتبه في دنياه وأخراه، وعلى الله قصد السبيل،وهو حسبنا ونعم الوكيل.
} - { } - {
(1)
الدَّاعِيَة البَصِير..
يبدأ بالأهم فالمهم
وهو بذلك يسلك المنهج النبويّ القويم القائم على البدء بالأهم فالمهم والتدرج في ذلك، وقد دلَّ على ذلك وصية النبي @ لمعاذ > حين بعثه إلى اليمن فقال: "إِنَّكَ سَتَأْتِي قَوْمًا أَهْلَ كِتَابٍ فَإِذَا جِئْتَهُمْ فَادْعُهُمْ إِلَى أَنْ يَشْهَدُوا أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ فَإِيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ، وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ"(1).
قال الشيخُ ابنُ عثيمين ~: "هذه هي أصول الدعوة التي يجب أن نرتبها هكذا إذا كنا ندعو قوماً كافرين، لكن إذا كنا ندعو قوماً مسلمين قد عرفوا الأصل الأوَّل، وهو التوحيد ولم ينقصوه أو ينقضوه دعوناهم إلى ما بعده كما هو بيّن من هذا الحديث"(2).
__________
(1) …أخرجه: البخاريُّ في صحيحه (2/544رقم1425)، ومسلمٌ في صحيحه (1/50رقم19).
(2) …كتاب الدعوة (2/154) - فتاوى ابن عثيمين -.(1/4)
وعن عائِشَةَ أُمِّ المُؤْمِنينَ < قالَتْ: إنما نَزَلَ أوَّلَ ما نَزَلَ مِنْهُ سورَةٌ مِنَ المُفَصَّلِ؛ فِيها ذِكْرُ الجَنَّةِ والنَّارِ، حَتَّى إذا ثابَ الناسُ إلى الإسْلاَمِ، نَزَلَ الحَلاَلُ والحَرَامُ، ولوْ نَزَلَ أوَّلَ شَيْءٍ لا تَشْرَبُوا الخَمْر لَقالُوا: لا نَدَعُ الخَمْرَ أبَدا، ولَوْ نَزَلَ لا تَزْنُوا لَقالُوا: لا نَدَعُ الزِّنا أبَداً(1).
قال ابنُ حَجَر: "أشارتْ إلى الحكمة الإلهية في ترتيب التنزيل، وأنَّ أولَ ما نزل من القرآن الدعاء إلى التوحيد، والتبشير للمؤمن والمطيع بالجنة وللكافر والعاصي بالنار، فلما اطمأنتْ النفوس على ذلك أنزلت الأحكام، ولهذا قالت: ولو نَزَلَ أوَّل شيءٍ لا تشربوا الخمر، لقالوا: لا ندعها، وذلك لما طبعت عليه النفوس من النفرة عن ترك المألوف"(2).
وهنا أنبه على أمرين:
الأوَّلُ: أنّ مناطَ معرفة مهمات الدين العظيمة، ومقاصد الشريعة، وأولويات الدعوة - التي ينبغي العناية والبدء بها - كتابُ اللهِ وسنةُ رسوله @، فهذه المهمات والمقاصد والأولويات ليست خاضعة لرغبات شخصية، وأهواء فردية، وتوجهات حزبية لو فتح لها الباب لغيرت مراسيم الشريعة، وألغت أصول العقيدة بدعوى تحصيل مصالح متوهمة مصادمة لنصوص الشرع كما وُجد في زماننا هذا فأفسدت أكثر مما أصلحت!.
إذن المسألة منوطة بالعلمِ المبني على الكتاب والسنة الصحيحة، وما أحسنَ قول شيخ الإسلام ابن تيمية المتقدم: "لكن اعتبار مقادير المصالح والمفاسد هو بميزان الشريعة، فَمَتَى قدر الإنسان على اتّباع النصوص لم يعدل عنها".
__________
(1) …أخرجه: البخاري في صحيحه (4/1910رقم4707).
(2) …فتح الباري (9/40) طبعة مكتبة الرياض الحديثة.(1/5)
فمن مقاصد الدين العظيمة التي يقبح بالدَّاعِيَة عدم التفطن لها، والبدء بها والعناية بذلك: أركان الإيمان الستة وهي: الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره(1)، وكذلك شرائع الإسلام الكبار بعد الإيمان: إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت الحرام، وكذلك وجوب الاجتماع والائتلاف، والنهي عن التفرق والاختلاف، والأمر بكل معروف، والنهي عن كل منكر وغير ذلك مما دلت عليه نصوص الكتاب والسنة، وبينه علماءُ الأمة.
الثاني: أنه ليس معنى البدء بهذه الأصول والكليات إهمال بقية أمور الدين أو التقليل من شأنها، أو دعوى أنها قشور - سبحانك هذا بهتانٌ عظيمٌ - فما جاء في كتاب الله وسنة رسوله @ هو من الدين الذي ينبغي العناية به ودعوة الناس إليه قال تعالى: { وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا } [الحشر: 7]، ولكن هذه الأعمال فيها أعلى وأدنى، وفاضل ومفضول، وركن وواجب ومستحب، وأهم ومهم، والمسلم في تنزيله هذه الأعمال منزلتها يدور مع كتاب الله عزوجلّ وما صحّ من سنة رسوله @، وهذه حقيقة التسليم لله ولرسوله @.
} - { } - {
(2)
الدَّاعِيَة البَصِير..
لا يتعصب ولا يتحزب ولا ينتمي إلاّ للكتاب والسنة
__________
(1) …ومن فضل الله أنْ كتبتُ مع شيخي العلاّمة عبد الرحمن بن ناصر البراك- حفظه الله ورعاه- شرحاً مختصراً محرراً لجميع أركان الإيمان الستة، لعل الله أن ييسر طباعته قريباً.(1/6)
هذه أمراض فتكت في جسم الأمة الإسلامية، وزادت من أمراضها وبلائها، وهي نتيجة طبيعية لمخالفة قوله تعالى: { وَاعْتَصِمُوا ب@ِ7ut؟2 اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ $ZR¨uq÷zخ) وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا ;ouچّےمm مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا y7د9¨xx. يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ ِ/ن3¯=yès9 tbrك‰tG÷ksE (103) } [آل عمران:103].
وقوله بعدها: { وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا مMèduن!%y` àM"sYةi t6ّ9$# وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (105) } [آل عمران: 105].
وقوله تعالى: { وَأَنَّ هَذَا 'دغ¨uژإہ مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ ¾د&ح#خ7y™ ِNن3د9¨sŒ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153) } [الأنعام: 153].
قال شيخُ الإسلام ابنُ تيمية: "التفريقُ بين الأمة وامتحانها بما لم يأمر الله به ولا رسوله؛ مثلُ أنْ يقال للرجل: أنت شكيلي، أو قرفندي فإنَّ هذه أسماء باطلة ما أنزل الله بها من سلطان، وليس في كتاب الله ولا سنة رسوله @، ولا في الآثار المعروفة عن سلف الأئمة لا شكيلي، ولا قرفندي، والواجب على المسلم إذا سُئل عن ذلك أنْ يقولَ: لا أنا شكيلي، ولا قرفندي بل أنا مسلم متبع لكتاب الله وسنة رسوله"(1).
__________
(1) …مجموع الفتاوى (3/415) - جمع عبد الرحمن بن محمد بن قاسم وابنه رحمهما الله-.(1/7)
وقال الشيخُ بكرُ أبو زيد: "أهلُ الإسلام ليس لهم سمةٌ سوى الإسلام والسلام، فيا طالب العلم - بارك الله فيك وفي علمك -: اطلب العلم، واطلب العمل، وادع إلى الله تعالى، على طريقة السلف، ولا تكن خرّاجاً ولاّجاً في الجماعات فتخرج من السعة إلى القوالب الضيّقة، فالإسلام كله لك جادّة ومنهج، والمسلمون جميعهم هم الجماعة، وإنَّ يد الله مع الجماعة، فلا طائفيّة ولا حزبيّة في الإسلام، وأعيذك بالله أن تتصدّع فتكون نهّاباً بين الفرق والطوائف والمذاهب الباطلة والأحزاب الغالية، تعقد سلطان الولاء والبراء عليها، فكن طالب علم على الجادّة تقفوا الأثر، وتتّبع السنن تدعو إلى الله على بصيرة.. "(1).
وليقرأ الدَّاعِيَة كتاب "حكم الانتماء إلى الفرق والأحزاب والجماعات الإسلامية" تأليف: الشيخ بكر أبو زيد، فإنه نفيسٌ في هذا البابِ، فريدٌ في معناه.
} - { } - {
(3)
الدَّاعِيَة البَصِير..
يحقق مبدأ الوسطية الحقة
الوسطية - أو الوَسَط - كلمةٌ جميلةٌ جليلة، ولا أدلَّ على ذلك من استعمالها وصفاً لهذه الأمة كما قال تعالى: { y7د9¨xx.ur ِNن3"sYù=yèy_ أُمَّةً وَسَطًا } [البقرة: 143].
وقد فسر النبي @ الوسطَ بالعدل كما في الحديثِ الذي أخرجه البخاريّ في صحيحه عن أبي سعيد الخدري مرفوعاً(2).
وقال ابن كثير: "ولمّا جعل الله هذه الأمة وَسَطاً خصها بأكمل الشرائع، وأقوم المناهج، وأوضح المذاهب كما قال تعالى: { هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ 8luچxm مِلَّةَ أَبِيكُمْ zOٹدd¨uچِ/خ) هُوَ سَمَّاكُمُ tûüدJد=َ،كJّ9$# مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ } [الحج:78]"(3).
__________
(1) …حلية طالب العلم (ص59).
(2) …(4/1632رقم4217).
(3) …تفسير القرآن العظيم (1/191) دار الفكر.(1/8)
فتبين أنّ الوسطية والتوسط في الدين هي: كل حق بين باطلين من الاعتقادات والأعمال والأخلاق.
فمن سلم لله ولرسوله @، وعَمِلَ بما ورد في القرآن وصح عن رسول الله @ من العقائد والشرائع فهو من أهل هذه الوسيطة والاعتدال والخير، وكلّ من تعدى حدود الشرع أو قصر عن القيام بها فقد خرج عن دائرة الوسطية بحسب عدوانه أو تقصيره.
قال ابنُ القيم: "فدين الله بين الغالي فيه والجافي عنه، وخيرُ النَّاسِ النمط الأوسط الذين ارتفعوا عن تقصير المفرطين ولم يلحقوا بغلو المعتدين، وقد جعل الله سبحانه هذه الأمة وسطا وهي الخيار العدل، لتوسطها بين الطرفين المذمومين، والعدل هو الوسط بين طرفى الجور، والتفريط والآفات إنما تتطرق إلى الأطراف والأوساط محمية بأطرافها فخيار الأمور أوساطها"(1).
ومما ينبغي التفطن له خطأ ما انتشر في الكتابات المعاصرة من جعل "الوسطية" حالة تقوم على التوفيق بين السنة والبدعة، بل بين الكفر والإسلام كما في دعوتي التقريب بين السنة والشيعة، والنصرانية والإسلام التي هي فرع عن الدعوة لوحدة الأديان.
ومن هذه الوسطية الترخصات المذمومة التي أساسها اتباع الهوى بتتبع الأقاويل الشاذة والمخالفة للدليل، والتي قال فيها بعض العلماء: "من تتبع الرخص تزندق".
ومن أصحاب هذه الوسطية بعض المواقع والصحف التي تعطي الفرصة - باسم الحوار والمحايدة - لذوي الأقلام المسمومة والأفكار المشبوهة لينفثوا سمومهم وأفكارهم.
ومعلومٌ أنه ليس من أسس الدعوة إلى الله ومطالبها استدعاء الشبهات ونشرها بحجة الردّ عليها، بل المطلوب في الدعوة إلى الله - وهو نوعٌ من الجهاد - كشف شبهات المبطلين من الكافرين والمبتدعين، ونشر ذلك إذا ظهرت المصلحة.
__________
(1) …إغاثة اللهفان (1/182) تحقيق:محمد سيّد كيلاني، مكتبة الحلبي.(1/9)
ودعوى التوفيق منهجٌ قديم سلكه المنافقون أوَّلاً كما قال تعالى: { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا tAu"Rr& اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا (61) فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ 8pt7ٹإء-B بِمَا قَدَّمَتْ ِNخgƒد‰÷ƒr& ثُمَّ جَاءُوكَ tbqàےد=ّts† بِاللَّهِ إِنْ !$tRôٹu'r& إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا (62) } [النساء:61 - 62]، وَدَرَجَ على طريقتهم طوائف من المبتدعة، والمتفلسفة، والجهلة.
قال ابنُ أبي العزّ: "أخبر أنّ المنافقين يريدون أن يتحاكموا إلى غيره وأنهم إذا دعوا إلى الله والرسول وهو الدعاء إلى كتاب الله وسنة رسوله صدوا صدودا، وأنهم يزعمون أنهم إنما أرادوا إحساناً وتوفيقاً كما يقوله كثير من المتكلمة والمتفلسفة وغيرهم إنما نريد أن نحسن الأشياء بحقيقتها أي ندركها ونعرفها ونريد التوفيق بين الدلائل التي يسمونها العقليات، وهى في الحقيقة جهليات وبين الدلائل النقلية المنقولة عن الرسول، أو نريد التوفيق بين الشريعة والفلسفة وكما يقوله كثير من المبتدعة من المتنسكة والمتصوفة إنما نريد الأعمال بالعمل الحسن والتوفيق بين الشريعة وبين ما يدعونه من الباطل الذي يسمونه حقائق وهى جهل وضلال وكما يقوله كثير من المتملكة والمتأثرة إنما نريد الإحسان بالسياسة الحسنة والتوفيق بينها وبين الشريعة ونحو ذلك، فكل من طلب أن يحكم في شئ من أمر الدين غير ما جاء به الرسول ويظن أن ذلك حسن وأن ذلك جمع بين ما جاء به الرسول وبين ما يخالفه فله نصيب من ذلك بل ما جاء به الرسول كاف كامل يدخل فيه كل حق"(1).
__________
(1) …شرح العقيدة الطحاوية (ص70) -الطبعة 4، ط1391، المكتب الإسلامي-.(1/10)
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وفي هذه الآيات أنواع من العبر الدالة على ضلال من تحاكم إلى غير الكتاب والسنة وعلى نفاقه وإن زعم أنه يريد التوفيق بين الأدلة الشرعية وبين ما يسميه هو عقليات من الأمور المأخوذة عن بعض الطواغيت من المشركين وأهل الكتاب وغير ذلك من أنواع الاعتبار"(1).
وقال: "فإنَّ هؤلاء إذا دعوا إلى ما أنزل الله من الكتاب وإلى الرسول @ - والدعاء إليه بعد وفاته هو الدعاء إلى سنته - أعرضوا عن ذلك وهم يقولون: إنا قصدنا الإحسان علما وعملا بهذه الطريق التي سلكناها والتوفيق بين الدلائل العقلية والنقلية"(2).
وقال: "فوصف سبحانه من دعى إلى الكتاب والسنة فأعرض عن ذلك بالنفاق، وإن زعم أنه يريد التوفيق بذلك بين الدلائل العقلية والنقلية أو نحو ذلك، وأنه يريد إحسان العلم أو العمل"(3).
وقال ابنُ القيم: "هذه القواعد الفاسدة هي التي حملتهم على تلك التأويلات الباطلة لأنهم رأوها لا تلائم نصوص الوحي بل بينها وبينها الحرب العوان، فأجهدوا أنفسهم وكدوا خواطرهم في الصلح، وزعموا أن ذلك إحسان وتوفيق، وكأن الله سبحانه أنزل هذه الآيات في شأنهم { أَلَمْ uچs? إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آَمَنُوا بِمَا tAح"Ré& إِلَيْكَ } [النساء:60] - إلى قوله - { إِنْ !$tRôٹu'r& إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا } [النساء:62]"(4).
__________
(1) …الفتاوى الكبرى (1/459) -طبعة دار المعرفة-.
(2) …العقود الدرية (ص99) تحقيق: محمد حامد فقي، دار الكاتب العربي.
(3) …الفتاوى الكبرى (5/12).
(4) …الصواعق المرسلة (1/341) تحقيق: د.علي الدخيل الله، ط3،1418، دار العاصمة.(1/11)
وربما تلتبس هذه الدعوات على بعض الناس فينساق خلفها فيضل ويُضِل قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "ولا ريب أن كثيرا من هؤلاء قد لا يعلم أنه منافق بل يكون معه أصل الإيمان لكن يلتبس عليه أمر المنافقين حتى يصير لهم من السماعين قال تعالى: { لَوْ (#qم_uچyz فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا (#qمè|ت÷r{ur خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ } [التوبة:47]، ومن المعلوم أنَّ كلامَ أهل الإفك في عائشة كان مبدأه من المنافقين وتلطخ به طائفة من المؤمنين، وهكذا كثير من البدع كالرفض والتجهم مبدؤها من المنافقين وتلوث ببعضها كثير من المؤمنين لكن كان فيهم من نقض الإيمان بقدر ما شاركوا فيه أهل النفاق والبهتان"(1).
ومن العجيب أنّ كلاً يدعي الوسطية لنفسه:
- فالخارجي يدعي أنّ مذهب الخوارج "وَسَطَ".
- والمرجئ يدعي أنّ مذهب المرجئة "وَسَطَ".
- والعقلاني يدعي أنّ منهجه "وَسَطَ".
- والمفرط يدعي أنّ منهجه "وَسَطَ".
- وربما العلماني - وغيره - يدعي أنّ منهجه "وَسَطَ"!!.
- والوسطية لا تعرف بمجرد الدعوى، وإنما تعرف بالدلائل والبينات.
- والدعاوى ما لم يقيموا عليها بينات أبناؤها أدعياء
وإنمّا تعرف الوسطية الحقة بطاعة الله ورسوله، والتسليم لهما ظاهراً وباطناً قال تعالى: { فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ 4س®Lxm يُحَكِّمُوكَ فِيمَا uچyfx© َOكgsY÷ t/ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ %[`uچxm مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا $VJٹد=َ،n@ (65) } [النساء:65].
} - { } - {
(4)
الدَّاعِيَة البَصِير..
يحذر أشدَّ الحذر من تصنيف الناس بالظنّ
__________
(1) …الفتاوى الكبرى (5/33).(1/12)
وهذا مرض من الأمراض التي سرت في جسد أمتنا، وأبتلي به عدد من الدعاة والمنتسبين للصلاح،وقد عُني العلاّمة بكرُ بن عبدالله أبو زيد ببيان هذه المسألة في عدد من كتبه؛ومن أبرزها كتاب"تصنيف الناس بين الظن واليقين"(1).
ومما قال في كتابه هذا(2): "ولا يلتبس هذا الأصل الإسلامي بما تراه مَعَ بَلَجِ الصُّبْح، وفي غَسَق الليل من ظهور ضمير أسود، وافد من كل فَجّ استعبد نفوساً بضراوة، أراه: "تصنيف الناس" وظاهرةٌ عجيب نفوذها هي: "رَمْزُ الجراحين" أو "مرض التشكيك وعدم الثقة" حَمَلَهُ فِئامٌ غِلاَظٌ من الناس يعبدون الله عَلَى حرفٍ، فألقوا جِلْباب الحياء، وشغلوا به أغراراً التبس عليهم الأمر فَضَلُّوا، وَأَضَلُّوا، فلبس الجميع أثوابَ الجرح والتعديل، وتدثروا بشهوة التجريح، ونسج الأحاديث، والتعلق بخيوط الأوهام، فبهذه الوسائل ركبوا ثَبَجَ التصنيف للآخرين؛ للتشهير، والتنفير، والصدِّ عن سواء السبيل.
ومن هذا المنطلق الواهي، غَمَسُوا ألسنتهم في رُكَام من الأوهام والآثام، ثم بسطوها بإصدار الأحكام عليهم، والتشكيك فيهم، وخدشهم، وإلصاق التهم بهم، وطمس محاسنهم، والتشهير بهم، وتوزيعهم أشتاتا وعزين:
في عقائدهم، وسلوكهم، ودواخل أعمالهم، وخلجات قلوبهم، وتفسير مقاصدهم، ونياتهم.. كل ذلك، وأضعاف ذلك مما هنالك من الويلات، يجري على طَرَفي التصنيف: الديني، واللاديني.
فترى وتسمع رمي ذاك، أو هذا بأنه: خارجي. معتزلي. أشعري. طرقي. إخواني. تبليغي. مقلد متعصب. متطرف. متزمت. رجعي. أصولي.
وفي السلوك: مداهن. مراء. من علماء السلطان. من علماء الوضوء والغسل.
ومن طرف لا ديني: ماسوني. علماني. شيوعي. اشتراكي. بعثي. قومي. عميل.
- وإن نقبوا في البلاد، وفتشوا عنه العباد، ولم يجدوا عليه أي عثرة، أو زلة، تصيدوا له العثرات، وأوجدوا له الزلات، مبنية على شبه واهية، وألفاظ محتملة.
__________
(1) …ط1، 1414، دار العاصمة.
(2) …(ص:9).(1/13)
- أما إن أفلست جهودهم من كل هذا رموه بالأخرى فقالوا: متستر، محايد.
إلى غير ذلك من ضروب تطاول سُعاة الفتنة والتفرق، وتمزيق الشمل والتقطع.
- وقد جرت هذه الظاهرة إلى الهلكة في ظاهرة أخرى من كثرة التساؤلات المتجنية - مع بسمة خبيثة - عن فلان، وعلان، والإيغال بالدخول في نيته، وقصده، فإذا رأوا "شيخاً" ثنى ركبتيه للدرس، ولم يجدوا عليه أي ملحظ، دخلوا في نيته، وكيّفوا حاله: ليبني نفسه، لسان حاله يقول: أنا ابن من فاعرفوني. ليتقمص شخصية الكبار. يترصد الزعامة".
} - { } - {
(5)
الدَّاعِيَة البَصِير..
يعتني بالقواعد الشرعية في دعوته
إنّ إتقان الدَّاعِيَة للقواعد والأصول والضوابط الشرعية يسهل مهمته في الدعوة إلى الله، ويبصره في أمور كثيرة بطرق يسيرة، وينشئ عنده ملكة الاستنباط والاجتهاد.
وهذه الأصول والقواعد من محاسن الشريعة وكمالها وجمالها فهي تضبط أحكامها، وتجمع متفرقاتها، فهي مبنية على الحكمة والصلاح، والهدى والرحمة، والخير والعدل، ونفي أضداد ذلك، ومن أهم القواعد التي يحتاجها الدَّاعِيَة كثيراً في مسيرته الدعوية:
أوَّلاً: القواعد الكلية الكبرى التي اتفق عليها العلماء، وذكروا أنَّ الفقه مبني عليها، وإليها ترجعُ بقية القواعد - غالباً - وعددها خمس(1):
1 - قاعدة:" الأمور بمقاصدها".
2 - قاعدة:"اليقين لا يزول بالشك".
3 - قاعدة:"المشقة تجلب التيسير".
4 - قاعدة:"الضرر يزال".
5 - قاعدة:"العادة محكمة".
ثانياً: ومن الأصول العظيمة:
__________
(1) …انظر الكلام عليها وشرحها في كتاب "الوجيز في إيضاح قواعد الفقه الكلية" للدكتور: محمد البورنو، وكتاب "الممتع في القواعد الفقهية" لمسلم الدوسري.(1/14)
1 - "أنَّ الشارع لا يأمر إلاّ بما مصلحته خالصة أو راجحة، ولا ينهى إلاّ عمّا مفسدته خالصة أو راجحة" قال الشيخ السّعديّ: "هذا الأصل شامل لجميع الشريعة، لا يشذ عنه شيء من أحكامها، لا فرق بين ما تعلق بالأصول أو بالفروع، وسواء تعلق بحقوق الله، أو بحقوق عباده قال الله تعالى: { * إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ ؤ!$tGƒخ)ur ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ حچx6YكJّ9$#ur وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ ڑcrمچھ.xs? (90) } [النحل: 90]، فلم يبق عدل ولا إحسان ولا صلة إلاّ أمر به في هذه الآية الكريمة، ولا فحشاء ومنكر متعلق بحقوق الله، ولا بغيّ على الخلق في دمائهم وأموالهم وأعراضهم إلاّ نهى عنه، ووعظ عباده أن يتذكروا هذه الأوامر وحسنها ونفعها فيمتثلوها، ويتذكروا ما في النواهي من الشر والضرر فيجنتبوها" إلى أنْ قال: "ويستدلُ بهذا الأصل العظيم والقاعدة الشرعية على أنّ العلوم العصرية وأعمالها، وأنواع المخترعات الحديثة النافعة للناس في أمور دينهم ودنياهم، أنها مما أمر الله به ورسوله @، ومما يحبه الله ورسوله @، ومن نعم الله على العباد، وبما فيها من المنافع الضرورية والكمالية، فالبرقيات بأنواعها، والصناعات كلها، وأجناس المخترعات الحديثة تنطبق عليها هذه القاعدة أتمّ انطباق، فبعضها يدخل في الواجبات، وبعضها في المستحبات، وشيء منها في المباحات بحسب ما تثمره، وينتج عنها من أعمال"(1).
__________
(1) …"القواعد والأصول الجامعة والفروق والتقاسيم البديعة النافعة"للسعديّ (ص9)، تحقيق د.خالد المشيقح، ط1، 1421، دار ابن الجوزيّ.(1/15)
2 - "أنَّ الشريعة مبنية على أصلين: الإخلاص للمعبود، والمتابعة للرسول @" قال السّعديّ: "هذان الأصلان شرطٌ لكل عمل ديني ظاهر كأقوال اللسان، وأعمال الجوارح، وباطن كأعمال القلوب، قال الله تعالى: { أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ كبد9$sƒù:$# } [الزمر:3]، وقال: { وَمَا (#ےrقگةDé& إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ tûüإءد=ّƒèC لَهُ الدِّينَ } [البينة:5]، والدِّينُ فسرهُ النبي @ في حديث جبريل أنه شرائع الإسلام الخمسة وأصول الإيمان الستة، وحقائق الإيمان وهو الإحسان الذي هو أصل أعمال القلوب، فهذه الأمور لا بدّ أن تكون خالصةً لله مراداً بها وجهه ورضوانه وثوابه، ولا بدَّ أنْ تكون مأخوذة من الكتاب والسنة"(1).
3 - "أنَّ الأحكامَ الأصوليةَ والفرعيةَ لا تتم إلاّ بأمرين: وجود شروطها، وأركانها، وانتفاء موانعها" قال السّعديّ: "وهذا أصلٌ كبيرٌ مطرد الأحكام في الأصول والفروع، فمن أعظم فوائده: كثيرٌ من نصوص الوعد بالجنة، وتحريم النار على أعمال لا تكفي وحدها بمجردها، وكثيرٌ من نصوص الوعيد التي رتب عليها دخول النار، أو تحريم دخول الجنة، أو حرمان بعض أجناس نعيمها، فلا بدَّ في هذه النصوص من اجتماع شروطها، ومن انتفاء موانعها، وبهذا يحصل الجواب عن كثير من الإيرادات والإشكالات على نصوص الوعد والوعيد، وهي كثيرةٌ جداً... "(2).
فهذه قواعدُ جليلةٌ، نفعها للدعاة كبير، وأثرها على تصحيح الدعوة عظيم، فينبغي للداعية البصير أنْ يعتني بها جيّداً.
} - { } - {
(6)
الدَّاعِيَة البَصِير..
يراعي فقه الموازنة بين المصالح والمفاسد
__________
(1) …المرجع السابق (ص:25).
(2) …المرجع السابق (ص:33).(1/16)
هذه المسألة من المسائل العظيمة التي ينبغي لكل داعيةٍ أن يتعلمها خاصةً في هذا الزمان؛ لعظم الحاجة إليها؛ ولأنَّ الدعاة فيها بين إفراط وتفريط، فطائفةٌ لم تعتد بالمصالح الراجحة فخالفت بذلك النصوص الصريحة من كتاب الله وسنة رسوله @ - ويأتي ذكرها -، وطائفة تساهلت في اعتبار المصالح و توسعت في استعمالها على حساب النصوص الشرعية الواضحة فلم تراعِ "فقه الموازنة بين المصالح والمفاسد"، ووفق الله طائفة فتوسطت بين هاتين الطائفتين فعملت "بفقه الموازنة بين المصالح والمفاسد" في ضوء نصوص الكتاب والسنة مراعية في ذلك الأصول والضوابط الشرعية مستفيدة من فهوم العلماء المحققين من سلف الأمة.
ويمكن إجمال الكلام على هذه المسألة في نقطتين(1):
__________
(1) …انظر للفائدة: كتاب "الموافقات" للشاطبيّ (4/272)، وكتاب "الأشباه والنظائر" للسيوطي(ص:87)، وكتاب "أضواء البيان" للشنقيطيّ (3/47، 7/500)، وكتاب "الوجيز في إيضاح قواعد الفقه الكلية" للدكتور: محمد البورنو (ص:82-86). وما كتب في هذه النقطة مُحَرر من هذه الكتب.(1/17)
النقطة الأولى: مراعاة القواعد التي دل عليها استقراء جملة النصوص الشرعية في هذه المسألة ومنها قاعدة:"درء(1) المفاسد أولى من جلب المصالح" - وهي الأصل في هذا الباب -، فإذا تعارضتْ مفسدةٌ ومصلحة قُدِّمَ دفع المفسدة غالباً - إلاّ أنْ تكون المصلحة راجحة فتقدم على المفسدة المرجوحة - لأن اعتناء الشارع بالمنهيات أشد من اعتنائه بالمأمورات(2)، ولذلك قال @:"فَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَدَعُوهُ"(3) فجعل المناهي آكد في الاعتبار من الأوامر؛ حيث حَتّمَ في المناهي من غير مثنوية، ولم يحتم ذلك في الأوامر إلا مع التقييد بالاستطاعة، وذلك إشعار بترجيح مطابقة المناهي على مطابقة الأوامر.
ومن النصوص الدالة على هذه القاعدة قوله تعالى: { وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ } [الأنعام: 108].
قال ابنُ كثير: "يقولُ اللهُ تعالى ناهياً لرسوله @ والمؤمنين عن سب آلهة المشركين وإن كان فيه مصلحة إلا أنه يترتب عليه مفسدة أعظم منها، وهي مقابلة المشركين بسب إله المؤمنين... ومن هذا القبيل وهو ترك المصلحة لمفسدة أرجح منها ماجاء في الصحيح أن رسول الله @ قال: ملعون من سب والديه قالوا: يارسول الله وكيف يسب الرجل والديه؟ قال: يسب أبا الرجل فيسب أباه ويسب أمه فيسب أمه"(4).
__________
(1) …الدرء هنا بمعنى: الرفع والإزالة.
(2) …هذا رأي جمهور العلماء ويرى شيخ الإسلام أنّ اعتناء الشرع بالمأمورات أكثر من اعتنائه بالمنهيات، وأيده ابنُ القيّم وقرره في عددٍ من كتبه منها: إعلام الموقعين (2/158)، والفوائد (ص:117)، وكذلك قرر ذلك ابنُ رجب في كتابه"جامع العلوم والحكم" (ص:90).
(3) …أخرجه: البخاري في صحيحه (6/2658رقم6858)، ومسلم في صحيحه (2/975 رقم 1337).
(4) …تفسير ابن كثير (2/165).(1/18)
ومن النصوص أيضاً: حديثُ عَائِشَةَ < قَالَتْ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ @ عَنْ الْجَدْرِ(1) أَمِنْ الْبَيْتِ هُوَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قُلْتُ: فَلِمَ لَمْ يُدْخِلُوهُ فِي الْبَيْتِ؟ قَالَ: إِنَّ قَوْمَكِ قَصَّرَتْ بِهِمْ النَّفَقَةُ، قُلْتُ: فَمَا شَأْنُ بَابِهِ مُرْتَفِعًا؟ قَالَ: فَعَلَ ذَلِكِ قَوْمُكِ لِيُدْخِلُوا مَنْ شَاءُوا وَيَمْنَعُوا مَنْ شَاءُوا، وَلَوْلا أَنَّ قَوْمَكِ حَدِيثٌ عَهْدُهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَأَخَافُ أَنْ تُنْكِرَ قُلُوبُهُمْ لَنَظَرْتُ أَنْ أُدْخِلَ الْجَدْرَ فِي الْبَيْتِ وَأَنْ أُلْزِقَ بَابَهُ بِالأَرْضِ(2). وقد بوّب البخاريّ على الحديث بقوله: "باب من ترك بعض الاختيار مخافة أن يقصر فهم بعض الناس عنه فيقعوا في أشد منه"(3)، قال
ابنُ حجر: "والمراد بالاختيار في عبارته المستحب، وفيه: اجتنابُ ولي الأمر ما يتسرع الناس إلى إنكاره، وما يخشى منه تولد الضرر عليهم في دين أو دنيا، وتألف قلوبهم بما لا يترك فيه أمر واجب، وفيه تقديم الأهم فالأهم من دفع المفسدة وجلب المصلحة، وإنهما إذا تعارضا بدئ بدفع المفسدة، وأنَّ المفسدة إذا أمن وقوعها عاد استحباب عمل المصلحة"(4).
__________
(1) …هو: الحجر.
(2) …أخرجه: البخاري في صحيحه (1/59 رقم126)، ومسلم في صحيحه (2/973رقم1333).
(3) …وقد تابعه على هذا التبويب النسائيّ فقال - كما في السنن الكبرى (3/454) - "الفتيا عند رمي الجمار ترك بعض الاختيار مخافة أن يقصر فهم بعض الناس فيقعوا في أشد منه". وكثيراً ما يتابع النسائيُّ البخاريَّ في التبويب فليعلم.
(4) …فتح الباري (3/448).وانظر: فتح الباري (1/225).(1/19)
قَالَ شيخُ الإسلام - أثناء كلامه على بعض المستحبات ومنها مسألة البسملة والجهر بها -:"وَيستحبُ للرجلِ أن يقصد إلى تأليف القلوب بترك هذه المستحباتِ؛ لأنَّ مصلحةَ التأليف في الدين أعظم من مصلحة فعل مثل هذا، كما تَرَكَ النبيّ @ تغيير بناء البيت لما في إبقائه من تأليف القلوب، وكما أنكر ابن مسعود على عثمان إتمام الصلاة في السفر ثم صلى خلفه متما وقال: الخلافُ شرٌّ"(1).
وقال أيضاً: "فالعملُ الواحدُ يكون فعله مستحباً تارةً، وتركه تارةً، باعتبار ما يترجح من مصلحة فعله وتركه بحسب الأدلة الشرعية، والمسلم قد يترك المستحب إذا كان في فعله فساد راجح على مصلحته كما ترك النبي @ بناء البيت على قواعد إبراهيم وقال لعائشة: لولا أن قومك حديثو عهد بالجاهلية لنقضت الكعبة ولألصقتها بالأرض ولجعلت لها بابين بابا يدخل الناس منه وبابا يخرجون منه - والحديث في الصحيحين - فترك النبي @ هذا الأمر الذي كان عنده أفضل الأمرين للمعارض الراجح وهو حِدْثانُ عهد قريش بالإسلام لما في ذلك من التنفير لهم فكانت المفسدة راجحة على المصلحة، ولذلك استحب الأئمةُ أحمد وغيره أن يدع الإمام ما هو عنده أفضل إذا كان فيه تأليف المأمومين مثل أن يكون عنده فصل الوتر أفضل بأن يسلم في الشفع ثم يصلي ركعة الوتر وهو يؤم قوما لا يرون إلا وصل الوتر فإذا لم يمكنه أن يتقدم إلى الأفضل كانت المصلحة الحاصلة بموافقته لهم بوصل الوتر أرجح من مصلحة فصله مع كراهتهم للصلاة خلفه وكذلك لو كان ممن يرى المخافتة بالبسملة أفضل أو الجهر بها وكان المأمومون على خلاف رأيه ففعل المفضول عنده لمصلحة الموافقة والتأليف التي هي راجحة على مصلحة تلك الفضيلة كان جائزاً حسناً"(2).
__________
(1) …مجموع الفتاوى (22/407).
(2) …مجموع الفتاوى (24/195).(1/20)
وقال أيضاً: "الواجبات والمستحبات لا بد أن تكون المصلحة فيها راجحة على المفسدة إذ بهذا بعثت الرسل، وأنزلت الكتب، والله لا يحب الفساد بل كل ما أمر الله به فهو صلاح، وقد أثنى الله على الصلاح والمصلحين والذين آمنوا وعملوا الصالحات، وذم الفساد والمفسدين في غير موضع، فحيث كانت مفسدة الأمر والنهي أعظم من مصلحته لم يكن مما أمر الله به وان كان قد ترك واجب وفعل محرم إذ المؤمن عليه أن يتقى الله في عباد الله وليس عليه هداهم وهذا من معنى قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ } [المائدة:105]، والاهتداء إنما يتم بأداء الواجب فإذا قام المسلم بما يجب عليه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما قام بغيره من الواجبات لم يضره ضلال الضال...وجماع ذلك داخل في القاعدة العامة فيما إذا تعارضت المصالح والمفاسد والحسنات والسيئات أو تزاحمت فانه يجب ترجيح الراجح منها فيما إذا ازدحمت المصالح والمفاسد وتعارضت المصالح والمفاسد فإن الأمر والنهى وإن كان متضمنا لتحصل مصلحة ودفع مفسدة فينظر في المعارض له فإن كان الذي يفوت من المصالح أو يحصل من المفاسد أكثر لم يكن مأمورا به بل يكون محرما إذا كانت مفسدته أكثر من مصلحته، لكن اعتبار مقادير المصالح والمفاسد هو بميزان الشريعة، فَمَتَى قدر الإنسان على اتّباع النصوص لم يعدل عنها، وإلاّ اجتهد رأيه لمعرفة الأشباه والنظائر، وقلَّ أن تعوزَ النصوصُ مَنْ يكونُ خبيراً بها وبدلالتها على الأحكام، إذا كان الشخص أو الطائفة جامعين بين معروف ومنكر، بحيث لا يفرقون بينهما، بل إما أن يفعلوهما جميعاً أو يتركوهما جميعاً لم يجز أن يؤمروا بمعروف ولا أن ينهوا عن منكر، بل ينظر فإن كان المعروف أكثر أُمر به، وإن استلزم ما هو دونه من المنكر، ولم يُنه عن منكر يستلزم تفويت معروف أعظم منه، بل يكون النهي حينئذ من باب(1/21)
الصد عن سبيل الله، والسعي في زوال طاعته وطاعة رسوله @ وزوال فعل الحسنات، وإنْ كان المنكر أغلب نُهي عنه، وإن استلزم ماهو دونه من المعروف، ويكون الأمر بذلك المعروف المستلزِم للمنكر الزائد عليه، أمراً بمنكر وسعياً في معصية الله ورسوله @، وإنْ تكافأ المعروف والمنكر المتلازمان لم يؤمر بهما ولم ينه عنهما فتارة يصلح الأمر، وتارة يصلح النهي، وتارة لا يصلح لا أمر ولا نهي حيث كان المنكر والمعروف متلازمين وذلك في الأمور المعينة الواقعة"(1).
ومما أنبه عليه أنّ ما تقدم إنّما هو تقريريّ نظريّ ينبغي أن يكون مستقراً عند الدَّاعِيَة البصير..ويبقى التطبيق العلميّ والممارسة الفعلية للتقرير النظريّ، والنقطةُ الثانيةُ تعالج هذا الأمر وهي:
النقطة الثانية: يستفاد من قول شيخ الإسلام المتقدم: "فالعملُ الواحدُ يكون فعله مستحباً تارةً، وتركه تارةً، باعتبار ما يترجح من مصلحة فعله وتركه بحسب الأدلة الشرعية"، وكذلك قوله ~: "فتفطن لحقيقة الدين، وانظر ما اشتملت عليه الأفعال من المصالح الشرعية والمفاسد، بحيث تعرف ما ينبغي من مراتب المعروف ومراتب المنكر، حتى تقدم أهمها عند المزاحمة، فإن هذا حقيقة العمل بما جاءت به الرسل، فإن التمييز بين جنس المعروف وجنس المنكر، وجنس الدليل وغير الدليل يتيسر كثيراً. فأما مراتب المنكر ومراتب الدليل، بحيث تقدم عند التزاحم أعرف المعروفين فتدعو إليه، وتنكر أنكر المنكرين: وترجح أقوى الدليلين، فإنه هو خاصة العلماء بهذا الدين"(2).
__________
(1) …الاستقامة (2/211-218).
(2) …اقتضاء الصراط المستقيم (ص: 28) تحقيق: محمد حامد،ط2، 1369، مطبعة السنة المحمدية.(1/22)
أنَّ الدَّاعِيَة لكي يوازن بين المصالح والمفاسد لا بدَّ له من الجمع بين القوة العلمية والقوة العملية - وسيأتي أنَّ الدَّاعِيَة البصير يجمع بين القوتين: العلمية والعملية قدر المستطاع - فليست المسألة خاضعة لرغبات شخصية، وأهواء فردية، وتوجهات حزبية لو فتح لها الباب لغيرت مراسيم الشريعة، وألغت أصول العقيدة بدعوى مصالح متوهمة مصادمة لنصوص الشرع كما وُجد في زماننا هذا من يدعو لنقل صلاة الجمعة إلى يوم الأحد في البلاد الكافرة الغربية مراعاة لأحوال الناس لأنّ الإجازة هناك يوم الأحد!!.
فالمسألة منوطة بالعلم الصحيح المبني على الكتاب والسنة الصحيحة، ومعرفة الواقع المعين، فإنْ كنتَ كذلك - أيها الدَّاعِيَة - وإلاّ فقد قال تعالى:
{ (#ûqè=t"َ،sù أَهْلَ حچّ.دe%!$# إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ } [النحل:43].
وقال: { وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ #'n<خ)ur أُولِي حچّBF{$# مِنْهُمْ çmyJد=yès9 الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ } [النساء:83].
} - { } - {
(7)
الدَّاعِيَة البَصِير..
وفِقْهُ إنكارِ المُنْكر(1/23)
قَالَ ابنُ القيّم: "النَّبِيُّ @ شَرَعَ لأمته إيجاب إنكار المنكر ليحصل - بإنكاره - من المعروف ما يحبه الله ورسوله، فإذا كَانَ إنكارُ المنكرِ يستلزمُ مَا هُوَ أنكر منه وأبغض إلى الله ورسوله فإنه لا يسوغ إنكاره، وإنْ كَانَ الله يبغضه ويمقت أهله، وهذا كالإنكارِ عَلَى الملوكِ والولاةِ بالخروجِ عليهم؛ فإنَّهُ أساسُ كلِّ شرٍ وفتنةٍ إلى آخرِ الدهر، وقد استأذن الصحابةُ رَسُولَ اللَّهِ @ في قتال الأمراء الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها وقالوا: أفلا نقاتلهم؟ فقال: لا ما أقاموا الصلاة، وقال: من رأى من أميره ما يكرهه فليصبر ولا ينزعن يدا من طاعته، وَمَنْ تأملَ مَا جَرَى على الإسلام في الفتن الصغار و الكبار، رآها من إضاعة هذا الأصل، و عدم الصبر على المنكر، فطلبوا إزالته، فتولد منه ما هو أكبر منه، و قد كان رسول الله @ يرى بمكة أكبر المنكرات و لا يستطيع تغييرها، بل لمّا فتح الله مكة صارت دار الإسلام، عَزَمَ على تغيير البيت و ردّه على قواعد إبراهيم، و منعه من ذلك - مع قدرته عليه - خشيته وقوع ما هو أعظم منه من عدم احتمال قريش لذلك لقرب عهدهم بالإسلام، و كونهم حديثو عهد بكفر، و لهذا لم يأذن في الإنكار على الأمراء باليد؛ لما يترتب عليه من وقوع ما هو أعظم منه من عدم احتمال قريش لذلك لقرب عهدهم بالإسلام وكونهم حديثي عهد بكفر ولهذا لم يأذن في الإنكار على الأمراء باليد لما يترتب عليه من وقوع ما هو أعظم منه كما وجد سواء.
فإنكار المنكر أربع درجات:
- الأولى أن يزول ويخلفه ضده.
- الثانية أن يقل وإن لم يزل بجملته.
- الثالثة أن يخلفه ما هو مثله.
- الرابعة أن يخلفه ما هو شر منه.
فالدرجتان الأوليان مشروعتان، والثالثة موضع اجتهاد،، والرابعة محرمة...(1/24)
وسمعتُ شيخَ الإسلام ابنَ تيمية - قدس الله روحه ونور ضريحه - يقول: مررتُ أنا وبعضُ أصحابي في زمن التتار بقوم منهم يشربون الخمر، فأنكر عليهم من كان معي، فأنكرتُ عليه!، وقلتُ له: إنما حرم الله الخمر لأنها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وهؤلاء يصدهم الخمر عن قتل النفوس وسبئ الذرية وأخذ الأموال فدعهم! "(1).
} - { } - {
(8)
الدَّاعِيَة البَصِير..
يعتني ببيان محاسن الإسلام
"إنَّ من أكبر الدعوة إلى دين الإسلام شرح ما احتوى عليه من المحاسن التي يقبلها ويتقبلها كلُّ صاحب عقلٍ وفطرة سليمة، فلو تصدّى للدعوة إلى هذا الدين رجالٌ يشرحون حقائقه، ويبينون للخلق مصالحه، لكان ذلك كافياً كفاية تامةً في جذب الخلق إليه، لما يرون من موافقته للمصالح الدينية والدنيوية، ولصلاح الظاهر والباطن من غير حاجة إلى التَّعرض لدفع شُبَهِ المعارضين، والطّعن في أديان المخالفين، فإنه في نفسه يدفع كلّ شُبهة تعارضه، لأنه حقٌ مقرونٌ بالبيان الواضح، والبراهين الموصّلة إلى اليقين، فإذا كُشف عن بعض حقائق هذا الدين صار أكبر داعٍ إلى قبوله ورجحانه على غيره، واعلم أنَّ محاسن الدين الإسلاميّ عامّة في جميع مسائله ودلائله، وفي أصوله وفروعه،و فيما دلَّ عليه من علوم الشرع والأحكام، وما دلَّ عليه من علوم الكون والاجتماع.." إلى آخر ما قاله وبينه ومثل عليه العلاّمة عبد الرحمن السَّعديّ في كتابه "الدُّرة المختصرة في محاسن الدين الإسلاميّ"(2).
__________
(1) …إعلام الموقعين (3/4).
(2) …(ص:8)، ط1، 1419، تحت إشراف رئاسة إدارة البحوث العلمية والإفتاء. =
=قلتُ: وهذا الكتاب على صغر حجمه حَوَى دُرَراً نفيسة من بيان محاسن الدين الإسلاميّ بأسلوبٍ سهلٍ واضح مقنع، فحريٌّ بالدعاة - خاصة الدعاة في الغرب - أن يعتنوا بهذا الكتاب، ويعقدوا دروساً علمية، ومحاضرات عامة لبيان محاسن الدين الإسلاميّ، مستفيدين من هذا الكتاب.(1/25)
وقال السّعديّ في كتابه "القواعد الحسان في تفسير القرآن"(1): "القاعدة العاشرة: في طرق القرآن إلى دعوة الكفار على اختلاف مللهم. يدعوهم إلى الإسلام، والإيمان بمحمد @ بما يصفه من محاسن شرعه ودينه، وما يذكره من براهين رسالة محمد @ ليهتدي منْ قصد الحق والإنصاف، وتقوم الحجة على المعاند، وهذه أعظم طريق يدعى بها جميع المخالفين لدين الإسلام، فإن محاسن دين الإسلام ومحاسن النبي @ وآياته وبراهينه فيها كفاية تامة للدعوة، بقطع النظر عن إبطال شبههم، وما يحتجون به، فإن الحق إذا اتضح علم أن كل ما خالفه فهو باطل وضلال..".
} - { } - {
(9)
الدَّاعِيَة البَصِير..
يحذر من مخالفة الكتاب والسنة مسايرةً للواقع(2)
مما يعترض الدَّاعِيَة فتنة مسايرة الواقع وضغط الفساد ومسايرة العادات، ومراعاة رضا الناس وسخطهم، وهي فتنة لا يستهان بها؛ فلقد سقط فيها كثير من الناس وضعفوا عن مقاومتها، والموفق من ثبته الله - عز وجل - كما قال تعالى:
{ يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي دo4quٹutù:$# الدُّنْيَا وَفِي دouچ½zFy$# }
[إبراهيم: 27].
وإذا كان الرسول @ قد قال له ربه تبارك وتعالى: { وَلَوْلَا أَنْ y7"sY÷G;rO لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ $Z"ّx© ¸xٹد=s% (74) } [الإسراء: 74]، فسواه من الناس أحوج إلى التثبيت من ربه تعالى، وفي هذا تأكيد على أهمية الدعاء وسؤال من بيده التثبيت والتوفيق وهو الله - سبحانه وتعالى -.
__________
(1) …(ص:31) ط1، 1408، مركز صالح بن صالح الثقافيّ بعنيزة.
(2) …هذه النقطة مستفادة من مقالٍ رائعٍ للشيخ: عبد العزيز الجليل - جزاه الله خيراً ونفع به- بعنوان" فتنة مسايرة الواقع" نشر في مجلة البيان العدد رقم (147).(1/26)
إن المطلوب من الدَّاعِيَة في مجتمعات المسلمين هو تغيير المجتمعات وتسييرها إلى ما هو أحسن لا مسايرتها ومداهنتها، فهذه والله هي مهمة الأنبياء والمصلحين من بعدهم، وهذه هي الحياة السعيدة للعالِم والدَّاعِيَة، وإلا فلا معنى لحياة الدَّاعِيَة والعالم ولا قيمة لها إذا هو ساير الناس واستسلم لضغوط الواقع وأهواء الناس. إن العالم والدَّاعِيَة لا قيمة لحياتهما إلا بالدعوة والتغيير للأحسن، ولا شك أن في ذلك مشقة عظيمة؛ ولكن العاقبة حميدة بإذن الله تعالى في الدارين لمن صبر وصابر واستعان بالله - عز وجل -.
ومن أخطر صور فتنة مسايرة الواقع مسايرة ركب الغرب في بعض الميادين من قِبَلِ دعاة العصرانية(1) من أبناء المسلمين، وهم لا يعترفون بأنها
مسايرة؛ ولكنهم يسمونها تجديداً وتطويراً يناسب العصر، وتحت هذا المسمى يقضون على كثير من الثوابت الشرعية ويتحللون من شرع الله - عز وجل - باسم
التطوير وهو في الحقيقة مسايرة للواقع الغربي وتقليد أعمى وانبهار بإنجازاته
المادية بل الهزيمة النفسية أمامه؛ والغريب في أمر هؤلاء أنهم يرفضون التقليد ويشنعون على من يقلد سلف الأمة ويتبعهم، وعلى من يبقى على الموروث
لا يتجاوزه ولا يطوره، ثم هم في الوقت نفسه يسقطون في تقليد الغرب ومحاكاته بصورة لا تدع مجالاً للريب والشك؛ وهم الذين يتشدقون بالعقلانية
ورفض التقليد! ويتحدث الأستاذ محمد حامد الناصر عن بعض شذوذات العصرانيين في ميادين الفقه فيقول: "لقد خرج العصرانيون علينا بفقه غريب
شاذ يريد تسويغ الواقع المعاصر لإدخال كثير من القيم الغربية في دائرة الإسلام؛ ذلك أن موقفهم من النصوص الشرعية عجيب؛ فإذا كانت الآية واضحة
__________
(1) …للتوسع انظر كتاب: (العصرانيون بين مزاعم التجديد وميادين التغريب) للأستاذ محمد حامد الناصر.(1/27)
الدلالة والأحاديث النبوية المتواترة قالوا: إن هذه النصوص كانت لمناسبات تاريخية لا تصلح لعصرنا الحاضر، وإذا كانت أحاديث آحاد قالوا لا يؤخذ من خبر الآحاد تشريع ولا تبنى عليه عقيدة، أو ألغوا بعض الأحاديث الصحيحة بحجة أنها سُنَّة غير تشريعية، ثم يتهمون الفقهاء بالجمود وضيق الأفق!!، إن هذه التجاوزات لو أخذ بها لن تترك من ثوابت الإسلام شيئاً إلا وحاولت مسخه أو تشويهه.
ومن شذوذاتهم:
1 - رفضهم تطبيق الحدود التي فيها رجم أو قتل أو قطع عضو إلا بعد الإصرار والمعاودة والتكرار، ويأتون بِشُبَهٍ من هنا وهناك.
2 - إباحتهم الربا في البنوك بحجة الحفاظ على اقتصاد البلاد، وأنَّ الربا المحرم عندهم هو الربح المركب.
3 - موقفهم من المرأة، والدعوة إلى تحريرها بزعمهم، ودعوتهم لها إلى محاكاة المرأة الغربية في عاداتها، وإلى الثورة على الحجاب الشرعي وتعدد الزوجات.
4 - أحكام أهل الذمة: كما يرى العصرانيون أن أحكام أهل الذمة كانت لعصر غير عصرنا وهي الآن لا تناسب عصرنا!! "(1).
ويوضح الأستاذ الناصر مفهومهم للتجديد والتطوير قائلاً: "إن مزاعم التجديد التي رفع هؤلاء لواءها كشفت الحقيقة جلية وهي أن التجديد لديهم يعني تطوير الدين على طريقة عصرنة الدين عند اليهود والنصارى". ولذلك فإن التجديد عندهم يعني: هدم العلوم المعيارية: أي علوم التفسير المأثور وأصوله، وعلم أصول الفقه، وعلم مصطلح الحديث ويعني: رفض الأحاديث الصحيحة جزئياً أو كلياً بحجة ضرورة ملاءمتها لعقولهم ولمصلحة الأمة، وظروف العصر الحاضر، ويعني: رفض السنة غير التشريعية أي: فيما يخص شؤون الحكم والسياسة وأمور الحياة والمجتمع عموماً، التجديد عندهم يعني: الانعتاق من إسار الشريعة إلى بحبوحة القوانين الوضعية، التي تحقق الحرية والتقدم، ولذلك هاجموا الفقه والفقهاء بلا هوادة.
__________
(1) …"العصرانيون بين مزاعم التجديد وميادين التغريب" (ص 353، 354) بتصرف.(1/28)
- الاجتهاد والتجديد عندهم يعني: تحقيق المصلحة وروح العصر.
مما سبق يتبين خطر هذه البدعة الجديدة وأن أصلها مسايرة الواقع والانهزامية أمام ضغطه مصحوباً ذلك بالجهل بالإسلام أحياناً، وبالهوى والشهوة أحياناً كثيرة.
إنَّ الدَّاعِيَة الذي تظهرُ عليه مظاهر مسايرة الواقع يفقد مصداقيته عند نفسه وعند الناس، وإن لم يتدارك نفسه فقد ييأس ويخسر ويترك الدعوة وأهلها؛ إذ كيف يساير الواقع من هو مطالب بتغيير الواقع وتسييره؟! وكلما كثر المسايرون كثر اليائسون والمتساقطون؛ وهذا بدوره يؤدي إلى ضعف الدعوة وضعف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
} - { } - {
(10)
الدَّاعِيَة البَصِير..
يتقن المحاورة وآدابها
لابدَّ للداعية في حياته الدعوية من محاورة ومجادلة ومناظرة ومحاجة..وإتقان الدَّاعِيَة - المخلص لله والمتبع لرسوله @ - للحوار وأصوله وآدابه سببٌ من أسباب نجاحه وقبول دعوته..وربما يكون هذا الدَّاعِيَة - ممن قل حظه من العلم لكنْ - لجودة حواره، وحسن أدبه فيه، يوفق في دعوته...
فما الحوار؟ وما أصوله؟ وما آدابه؟ وما غايته؟
الحوار والمحاورة: المرادة في الكلام، ومنه التحاور، وقد وردت هذه
المادة في كتاب الله بهذا المعنى في ثلاثة مواضع؛ موضعان في سورة الكهف
في محاورة الرجلين الشاكر لنعمة الله, والكافر لها { فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ ے¼çnâ'حr$utن† } [الكهف:34]، وقوله: { قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ ے¼çnâ'حr$utن† } [الكهف:37]، والموضع الثالث في سورة المجادلة قال تعالى: { قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ !$yJن.u'مr$utrB إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ يژچإءt/ (1) } [المجادلة:1].
ومن أهم أصول الحوار(1):
__________
(1) …هذه الأصول والآداب ملخصةٌ من كتاب " أصول الحوار وآدابه في الإسلام" بقلم فضيلة الشيخ صالح بن عبدالله بن حميد، وهذا الكتاب نفيسٌ في بابه.(1/29)
الأصل الأول: سلوك الطرق العلمية والتزامها، ومن هذه الطرق: تقديم الأدلة المُثبِتة أو المرجِّحة للدعوى، وصحة تقديم النقل في الأمور المنقولة.
الأصل الثاني: سلامة كلامِ المناظر ودليله من التناقض؛ فالمتناقض ساقط بداهة.
الأصل الثالث: الاتفاق على منطلقات ثابتة وقضايا مُسَلَّمة. وهذه المُسَلَّمات والثوابت قد يكون مرجعها؛ أنها عقلية بحتة لا تقبل النقاش عند العقلاء المتجردين؛ كحُسْنِ الصدق، وقُبحِ الكذب، وشُكر المُحسن، ومعاقبة المُذنب، أو تكون مُسَلَّمات دينية لا يختلف عليها المعتنقون لهذه الديانة أو تلك، وبالوقوف عند الثوابت والمُسَلَّمات، والانطلاق منها يتحدد مُريد الحق ممن لا يريد إلا المراء والجدل والسفسطة.قال الشيخ صالح بن حميد: "ولهذا فإننا نقول إن من الخطأ - غير المقصود - عند بعض المثقفين والكاتبين إثارة هذه القضايا، أعني: تطبيق الشريعة - الحجاب - تعدد الزوجات - وأمثالها في وسائل الإعلام، من صحافة وإذاعة على شكل مقالات أو ندوات بقصد إثباتها أو صلاحيتها. أما إذا كان المقصود: النظر في حِكَمِها وأسرارها وليس في صلاحيتها وملاءمتها فهذا لا حرج فيه، إذْ: { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ نouژzچدƒù:$# مِنْ ِNدdحچّBr& } [الأحزاب:36]، وأخيراً فينبني على هذا الأصل؛ أنَّ الإصرار على إنكار المُسلَّمات والثوابت مكابرة قبيحة، ومجاراة منحرفة عن أصول الحوار والمناظرة، وليس ذلك شأن طالبي الحق".
الأصل الرابع: التجرُّد، وقصد الحق، والبعد عن التعصب، والالتزام بآداب الحوار.(1/30)
الأصل الخامس: أهلية المحاور؛ إذا كان من الحق ألا يمنع صاحب الحق عن حقه، فمن الحق ألا يعطى هذا الحق لمن لا يستحقه، كما أن من الحكمة والعقل والأدب في الرجل ألا يعترض على ما ليس له أهلاً، ولا يدخل فيما ليس هو فيه كفؤاً..وكثير من الحوارات غير المنتجة مردُّها إلى عدم التكافؤ بين المتحاورين، ولقد قال الشافعي ~: (ما جادلت عالماً إلا وغلبته، وما جادلني جاهل إلا غلبني!). وهذا التهكم من الشافعي ~ يشير إلى الجدال العقيم؛ الذي يجري بين غير المتكافئين.
الأصل السادس: الرضا والقبول بالنتائج التي يتوصل إليها المتحاورون، والالتزام الجادّ بها، وبما يترتب عليها.
ومن أهم آداب الحوار:
1 - الإخلاص؛ قال الشيخ صالح بن حميد: "ومن التحسس الدقيق والنصح الصادق للنفس أن يحذر بعض التلبيسات النفسية والشيطانية فقد تتوهم بعض النفوس أنها تقصد إحقاق الحق، وواقع دخيلتها أنها تقف مواقف انتصار ذاتٍ وهوى. ويدخل في باب الإخلاص والتجرد توطين النفس على الرضا والارتياح إذا ظهر الحق على لسان الآخر ورأيه، ويعينه على ذلك أن يستيقن أن الآراء والأفكار ومسالك الحق ليست ملكاً لواحد أو طائفة، والصواب ليس حكراً على واحد بعينه. فهمُّ المخلص ومهمته أن ينتشر الحق في كل مكان، ومن أيّ مكان، ومن أيّ وعاء، وعلى أيّ فم، إن من الخطأ البيِّن في هذا الباب أن تظن أنّ الحق لا يغار عليه إلا أنت، ولا يحبه إلا أنت، ولا يدافع عنه إلا أنت، ولا يتبناه إلا أنت، ولا يخلص له إلا أنت".
2 - التزام القول الحسن، وتجنب منهج التحدي والإفحام.(1/31)
3 - الالتزام بوقت محدد في الكلام.ومن المفيد أن تعلم؛ أن أغلب أسباب الإطالة في الكلام ومقاطعة أحاديث الرجال يرجع إلى ما يلي: إعجاب المرء بنفسه، أوحبّ الشهرة والثناء، أوظنّ المتحدث أن ما يأتي به جديد على الناس، أوقِلَّة المبالاة بالناس في علمهم ووقتهم وظرفهم، والذي يبدوا أن واحداً منها إذا استقر في نفوس السامعين كافٍ في صرفهم،وصدودهم، ومللهم، واستثقالهم لمحدِّثهم.
4 - حسن الاستماع وأدب الإنصات وتجنب المقاطعة.
5 - تقدير الخصم واحترامه.
6 - حصر المناظرات في مكان محدود.
غاية الحوار:
الغاية من الحوار إقامةُ الحجة، ودفعُ الشبهة والفاسد من القول والرأي. فهو تعاون من المُتناظرين على معرفة الحقيقة والتَّوصُّل إليها، ليكشف كل طرف ما خفي على صاحبه منها، والسير بطرق الاستدلال الصحيح للوصول إلى الحق. يقول الحافظ الذهبي: (إنما وضعت المناظرة لكشف الحقِّ، وإفادةِ العالِم الأذكى العلمَ لمن دونه، وتنبيهِ الأغفلَ الأضعفَ).
قلتُ: ومما يعجب منه المرء ما نسمعه هذه الأيام من رمي بعض المنحرفين أهلَ الاستقامةَ بأحادية الرأي، وعدم قبول الحوار، والتشنج والانفعال، واستعداء السُّلْطة...إلى آخر ما قالوا؟!!
ولا أجد أبلغ في ردّ هذا الكلام من قول شيخنا عبد الله وكيل الشيخ - حفظه الله - في كتابه الماتع "المرأة وكيد الأعداء"(1): "ولم تعرف المنطقة الإسلامية طائفة تقفل أبواب الحوار كطائفة العلمانيين، واسألوا التاريخ من الذي ملأ السجون والمعتقلات هنا وهناك؟ ومن الذي علّق رواد الفكر على أعواد المشانق؟ ومن الذي صادر الكتاب الإسلاميّ؟ ولقد عشنا أشرس المواقف وأبعدها عن الحوار من خلال مواقف صدام حسين الذي لا يستطيع أن يتبرأ منه العلمانيون؛ بل طالما تغنوا بأمجاده وهدروا في مربده وأزجوا لها القصيد تباعاً...".
__________
(1) …(ص:40).(1/32)
ثمّ أين كانت هذه النداءات للحوار وقبول الآخر لما ضُرب الحصار الإعلامي الرهيب على الإسلاميين وأدبهم عن الجماهير والذي كان بمثابة "الحكم على الإسلاميين بالموت، وهم أحياء يراهم الناس" كما عبر عن ذلك الأديب الإسلامي الكبير علي أحمد بكثير يوماً(1).
} - { } - {
(11)
الدَّاعِيَة البَصِير..
يجمعُ بين القوتين: العلمية والعملية- قدر المستطاع -
وأكتفي للتعبير عن هذه الصفة بنقل كلامٍ قيّم لابن القيّم قال فيه: "فمن الناس من تكون له القوة العلمية الكاشفة عن الطريق، ومنازلها، وأعلامها، وعوارضها ومعاثرها، وتكون هذه القوة أغلب القوتين عليه، ويكون ضعيفاً في القوة العملية، يبصر الحقائق، ولا يعمل بموجبها، ويرى المتالف والمخاوف والمعاطب ولا يتوقاها، فهو فقيه ما لم يحضر العمل، فإذا حضر العمل شارك الجهال في التخلف، وفارقهم في العلم، وهذا هو الغالب على أكثر النفوس المشتغلة بالعلم، والمعصوم من عصمه الله ولا قوة إلا بالله.
ومن الناس من تكون له القوة العملية الإرادية وتكون أغلب القوتين عليه، وتقتضي هذه القوة السير، والسلوك، والزهد في الدنيا، والرغبة في الآخرة، والجِد، والتشمير في العمل، ويكون أعمى البصر عند ورود الشبهات في العقائد والانحرافات في الأعمال والأقوال والمقامات، كما كان الأول ضعيف العقل عند ورود الشهوات، فَداءُ هذا من جهله، وداء الأول من فساد إرادته وضعف عقله، وهذا حال أكثر أرباب الفقر والتصوف السالكين على غير طريق العلم، بل على طريق الذوق والوجد والعادة....
__________
(1) …راجع "صلتي مع الأدب الإسلامي" لنجيب الكيلاني.(1/33)
ومن كانت له هاتان القوتان: استقام له سيره إلى الله، ورُجي له النفوذ، وقوي على رد القواطع والموانع - بحول الله وقوته -، فإن القواطع كثيرة شأنها شديد لا يخلص من حبائلها إلا الواحد بعد الواحد، ولولا القواطع والآفات لكانت الطريق معمورة بالسالكين، ولو شاء الله لأزالها وذهب بها، ولكن الله يفعل ما يريد، والوقت - كما قيل - سيف فإن قطعته وإلا قطعك.
فإذا كان السير ضعيفاً، والهمة ضعيفة، والعلم بالطريق ضعيفاً، والقواطع الخارجة والداخلة كثيرة شديدة، فإنه جهد البلاء، ودرك الشقاء، وشماتة الأعداء، إلا أن يتداركه الله برحمة منه من حيث لا يحتسب، فيأخذ بيده ويخلصه من أيدي القواطع، والله ولي التوفيق"(1).
} - { } - {
(12)
الدَّاعِيَة البَصِير..
يتثبت دائماً ولا يتعجل
وهو بهذا ينفذ أمر الله - عز وجل - في قوله: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ (#ûqمZtB#uن إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا } [النساء:94]. وفي قراءة: (فتثبتوا).
وقوله: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ (#ûqمZtB#uن إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ (#ûqمY¨ t6tGsù أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ } [الحجرات: 6].
وقد عاب الله المتسرعين إلى إذاعة الأخبار التي يخشى من إذاعتها، فقال تعالى: { وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ #'n<خ)ur أُولِي حچّBF{$# مِنْهُمْ çmyJد=yès9 الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ } [النساء: 83] (2).
قال السعدي: "هذا تأديب من الله لعباده, عن فعلهم هذا, غير اللائق.
وأنه ينبغي لهم, إذا جاءهم أمر من الأمور المهمة, والمصالح العامة, ما يتعلق بالأمن, وسرور المؤمنين, أو بالخوف الذي فيه مصيبة عليهم, أن يتثبتوا, ولا يستعجلوا بإشاعة ذلك الخبر.
__________
(1) …طريق الهجرتين (ص:233).
(2) …القواعد الحسان للسعدي (117).(1/34)
بل يردونه إلى الرسول, وإلى أولي الأمر منهم, أهل الرأي, والعلم والنصح, والعقل, والرزانة, الذين يعرفون الأمور, ويعرفون المصالح وضدها، فإن رأوا في إذاعته مصلحة ونشاطا للمؤمنين, وسرورا لهم, وتحرزا من أعدائهم, فعلوا ذلك.
وإن رأوا ما فيه مصلحة, أو فيه مصلحة, ولكن مضرته تزيد على مصلحته, لم يذيعوه.
ولهذا قال " لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ " أي: يستخرجونه بفكرهم وآرائهم السديدة, وعلومهم الرشيدة.
وفي هذا دليل لقاعدة أدبية, وهي أنه إذا حصل بحث في أمر من الأمور, ينبغي أن يولى من هو أهل لذلك, ويجعل إلى أهله, ولا يتقدم بين أيديهم, فإنه أقرب إلى الصواب وأحرى للسلامة من الخطأ.
وفيه النهي عن العجلة والتسرع, لنشر الأمور, من حين سماعها.
والأمر بالتأمل قبل الكلام, والنظر فيه, هل هو مصلحة, فيُقْدِم عليه الإنسان, أم لا؟ فيحجم عنه"(1).
ولا يخفى كم جرَّ عدم التثبت من مصائب وشرور وأحقاد بل وصل أحيانا إلى إراقة دماء معصومة بغير ذنب وجريرة!.
} - { } - {
(13)
الدَّاعِيَة البَصِير..
وفقه الفتن
قال الحافظ أحمد بن صالح العِجْليُّ:
"حَدّثني أبي قال: هاجتْ فتنةٌ بالكوفة فعَمِلَ الحَسَنُ بنُ الحُرّ طعاماً كثيراً ودعا قُرّاء أهل الكوفة، فكتبوا كتاباً يأمرون فيه بالكف، وينهون عن الفتنة، فدعو سليمان الأعمش فتكلم بثلاث كلمات فاستغنوا بهن عن قراءةِ ذلكَ الكتاب فَقَالَ: رَحِمَ اللهُ امرأ "مَلَكَ لِسَانَهُ"(2)
__________
(1) …تفسير السعدي (190).
(2) …عَقَدَ الشيخُ محمدُ بنُ عبد الوهاب في كتابهِ "الفتن" باباً قال فيه "باب كف اللسان في الفتنة" وذكر عدداً من الأحاديث الواردة في ذلك فلتراجعْ. (ص114).
قال ابن رجب: "وقوله @ "ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟ قلت: بلى يا رسول الله، فأخذ بلسان نفسه ثم قال: كف عليك هذا إلى آخر الحديث، هذا يدلُ على أنَّ كفّ اللسانِ وضبطه وحبسه هو أصلُ الخير كلّه، وأنَّ من مَلَك لسانه فقد ملك أمره وأحكمه وضبطه". جامع العلوم والحكم (1/274).(1/35)
، "وَكفَّ يدَهُ"(1)، "وَعَالجَ مَا في صدرهِ"(2)
__________
(1) …قال أبو داود في سننه (4/103) "باب في النهي عن القتال في الفتن"، ثم ذكر حديث الحسن عن الأحنف بن قيس قال خرجت وأنا أريد يعني في القتال فلقيني أبو بكرة فقال ارجع فإني سمعت رسول الله @ يقول إذا تواجه المسلمان بسيفهما فالقاتل والمقتول في النار قال يارسول الله هذا القاتل فما بال المقتول قال إنه أراد قتل صاحبه. =
=وفي سنن أبي داود (4/97رقم4249)، ومسند أحمد (2/441) من طريق الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي @ قال: "ويل للعرب من شر قد اقترب أفلح من كف يده"، ورجاله ثقات، وقد اختلف في الحديث رفعاً ووقفاً، ورواية الرفع قوية.
وقد عَقَدَ الشيخُ محمدُ بنُ عبد الوهاب في كتابهِ "الفتن" باباً قال فيه "من أحاديث النهي عن السعي في الفتنة" وذكر عدداً من الأحاديث الواردة في ذلك فلتراجعْ. (ص118).
(2) …قال النوويُّ في رياض الصالحين (ص310) "باب فضل العبادة في الهرج وهو الاختلاط والفتن، ونحوها عن معقل بن يسار > قال قال رسول الله @ العبادة في الهرج كهجرة إلي رواه مسلم".
وقال في شرح صحيح مسلم: "المراد بالهرج هنا الفتنة واختلاط أمور الناس، وسببُ كثرةِ فضلِ العبادة فيه أنّ الناس يغفلون عنها، ويشتغلون عنها ولايتفرغ لها إلا أفراد".
قال المناويُّ: ""العبادة في الهرج" أي وقت الفتن واختلاط الأمور، "كهجرة إليّ " في كثرة الثواب، أو يقال المهاجر في الأول كان قليلا لعدم تمكن أكثر الناس من ذلك، فهكذا العابد في الهرج قليل، قالَ ابنُ العربي: وجهُ تمثيله بالهجرة أنَّ الزمن الأول كان الناس يفرون فيه من دار الكفر وأهله إلى دار الإيمان وأهله، فإذا وقعت الفتن تعين على المرء أن يفر بدينه من الفتنة إلى العبادة، ويهجر أولئك القوم وتلك الحالة وهو أحد أقسام الهجرة" فيض القدير (4/373).(1/36)
تَفَرَقوا فإنه كَانَ يُكره طول المجلس"(1).
وفي روايةٍ أُخرى: "فَقاَلَ الأعمشُ: مَلَكَ لسانَه رجلٌ، وحَفِظَ نفسَه، وعَلِمَ ما في قلبه، إنّه كانَ يُقَال: إنه إذا طَالَ المجلسُ كان للشيطان فيه مطمعٌ، أحضرْ طعامَكَ".
هذه ثلاث وصايا عظيمة مستقاة من كتاب الله وسنة رسوله @ قَالها شيخُ المقرئين والمُحدثين، وحافظُ أهل الكوفة في زمانه، وأحد الستة الذين حفظوا العلم على أمة محمد @(2): سُليمانُ بنُ مِهْرَان الأعمش - وَمَنْ قرأ سيرته عَرَفَ إمامة هذا الرجل في العلم والعمل والزهد -.
ونحن في هذا الزمان - زمان الفتن - بحاجة لمثل هذه الوصايا المبنية على كتاب الله وعلى سنة رسول الله @، وأخذ العبر والعظات والأحكام، والخروج بفقة ما ينبغي عمله عِندَ الفتن في ضوء كتاب الله وسنة رسوله @، قال عبدالرحمن بن أبزي: قلتُ لأبي بن كعب لما وقع الناس في أمر عثمان:
أبا المنذر ما المخرج؟ قال: كتابُ الله ما استبان لك فاعمل به، وما اشتبه عليك فكله إلى عالمه(3).
وكذا دراسة هدي صحابة رسول الله @ ومسلكهم عند الفتن التي مرت بهم بدءاً من فتنة مقتل أمير المؤمنين عثمان بن عفان >.
قال أحمدُ بنُ حنبل حدثنا إسماعيل قال: حدثنا أيوب عن محمد بن سيرين قال: "هاجتْ الفتنة وأصحابُ رسول الله @ عشرة آلاف فما خف فيها منهم مائة، بل لم يبلغوا ثلاثين"(4)
__________
(1) …معرفة الثقات (1/433)، وانظر: العلل ومعرفة الرجال (2/384)، تاريخ مدينة دمشق (13/56).
(2) …قال علي بن المديني: "حفظ العلم على أمة محمد @ ستة: عمرو بن دينار بمكة، والزهري بالمدينة، وأبو إسحاق السبيعي والأعمش بالكوفة، وقتادة ويحيى بن أبي كثير بالبصرة". تاريخ بغداد (9/9).
(3) …التاريخ الأوسط (1/64)، وإسناده صحيح.
(4) …العلل ومعرفة الرجال (3/182)، وانظر: أخبار المدينة (2/281)، قال شيخ الإسلام
ابن تيمية: "وهذا الإسناد من أصح إسناد على وجه الأرض، ومحمد بن سيرين من أورع الناس في منطقة ومراسيله من أصح المراسيل" منهاج السنة (6/236)، التمهيد (1/30).
ولا يفوتني هنا أن أوصي بقراءة سيرة مُطَرِّف بن عَبْدِ الله بنِ الشِّخِّيرِ ففيها وصايا قيمة عن فقه الفتن. انظر: طبقات ابن سعد (7/141)، وقد كتبتُ جزءاً مفرداً بعنوان "من سير علماء السلف عند الفتن مُطَرِّفُ بنُ عَبْدِ الله بنِ الشِّخِّيرِ نموذجاً"يسر الله طباعته.(1/37)
.
وفي ظني أنَّ مراعاة تلك الوصايا الثلاث من أعظم الأسباب لحفظ الدَّاعِيَة من الولوج في تلك الفتن التي تجعل الدعاة في حيرةٍ واشتباه.
وبالمقابل تجد من لم يملك لسانه يقطع في أمور لو وردت على الخليفة الراشد عمر بن الخطاب > لجمع لها أهل بدر، واستخار الله فيه شهراً، وربما ترتب على هذه المسائل عدم كف اليد عن دماء المسلمين المحرمة، وانتهاك حرمة المسلم بالظنون والتخرصات.
ولو أنَّ كلَّ مسلم اشتغل بنفسه وعالج ما في صدره لوجد في ذلك شغلاً عن الخوض في الفتن.
ومما ينبغي التفطن له: أنه ليس من ملك اللسان واعتزال الفتن الرد على شبهات المبطلين واعتراضاتهم على أحكام الله ورسوله @.
وليس من الخوض في الفتن كذلك:
-تقرير مشروعية الجهاد في سبيل الله وأنه ذروة سنام الإسلام.
-وبيان وجوب موالاة المؤمنين، ومعاداة الكافرين.
-والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
-والتحذير من البدع والخرافات، والمذاهب الهدامة من العلمانية والحداثة وغيرهما.
بل إنَّ الكلام في هذه المسائل في هذا الزمان أصبح من أهم المهمات وأفضل الجهاد لأمرين:
الأوَّل: أننا نرى محاولات عالمية جادّة لطمس معالم الإسلام في المسائل المتقدمة، وتصويرها بصورة الإرهاب والمنافة لحقوق الإنسان، وحرية الرأي، واحترام الآخر - زعموا!! -.
الثاني: عدم فهم بعض أبناء المسلمين للمسائل المتقدمة وعدم تصورها التصور الصحيح الموافق للكتاب والسنة الصحيحة مما ترتب عليه مفاسد عظيمة في الدين والدنيا، وإنّ من أخطر الأمور على النشء المسلم عدم المعرفة التامة بأحكام الإسلام في المسائل المتقدمة.
فينبغي على الجميع العمل، وبذل الجهد والطاقة في توضيح المفاهيم السابقة، لينالوا شرف خدمة هذا الدين العظيم.
فنسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العليا أن يشرفنا خدمة هذا الدين، وأنْ يجنبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن.
} - { } - {
(14)
الدَّاعِيَة البَصِير..
يتفقدُ قَلْبَهُ(1/38)
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بنُ يُوسف الأَصْبَهَانِيّ(1) لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ(2): "حَدّثْ النَّاسَ وَعَلمهُم، وَلكنْ انظرْ إِذَا اجْتَمَعَ النَّاسُ حَوْلَكَ كَيْفَ يَكُونُ قَلْبكَ؟"(3).
وقال عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ: كنتُ أجلسُ يومَ الجُمُعة في مَسْجِدِ الْجَامِعِ، فيجلس إلىَّ النَّاس فإذا كَانوا كثيراً فَرحتُ، وإذا قَلوا حَزنتُ، فسألتُ بشرَ بنَ منصور(4)
__________
(1) …من عُبّاد أهل البصرة وقرائها، يروى الرقائق، ويروى عنه في الورع الحكايات الكثيرة، وكان ابن المبارك يسميه عروس الزّهاد، قال الذهبيُّ: "الزاهد العابد القدوة.. عروس الزّهاد"، قال ابنُ مَهْدِيّ: كَتَبَ أخو مُحَمَّدُ بنُ يُوسف إلى أخيه يشكو إليه جور العمّال فكتب إليه مُحَمَّدُ:
يا أخي بَلَغني كِتابك، وأنّه ليسَ ينبغي لمن عَمِلَ بالمعصيةِ أنْ ينكرَ العقوبة، وما أرَى ما أنتم فيه إلا من شؤم الذنوب. الثقات لابن حبان (9/74)، طبقات المحدثين بأصبهان (2/24)، حلية الأولياء (8/225)، سير أعلام النبلاء (9/125).
(2) …هو: أبو سعيد البصري ثقة ثبت حافظ عارف بالرجال والحديث قال ابن المديني:ما رأيت أعلم منه، مات سنة ثمان وتسعين ومائة وهو ابن ثلاث وسبعين سنة. تقريب التهذيب (ص351).
(3) …حلية الأولياء (8/234).
(4) …هو:السليمي - بفتح المهملة وبعد اللام تحتانية - أبو محمد الأزدي، من خيار أهل البصرة وعبادهم، قال الذهبيُّ: "الإمام المحدث الرباني القدوة.. "، قال غسان بن الفضل: كان بشر ابن منصور من الذين إذا رؤا ذكر الله وإذا رأيت وجهه ذكرت الآخرة رجل منبسط ليس بمتماوت ذكي فقيه، وقال أسيد بن جعفر: بشر بن منصور ما فاتته التكبيرة الأولى قط، ولا رأيته قام في مسجدنا سائل قط فلم يعط شيئا إلا أعطاه، مات سنة ثمانين ومائة. الثقات
لابن حبان (8/140)، حلية الأولياء (6/240)، سير أعلام النبلاء (8/359).(1/39)
فَقَالَ: هَذا مجلسُ سوء لا تعدْ إليه، قَالَ: فَمَا عُدتُ إليهِ. وقَالَ عَبْدُالرَّحْمَنِ يوماً - وقام من المجلس وتبعه الناس - فَقَالَ: يَا قومِ لا تطؤا عَقبى، ولا تمشوا خَلْفي، وَوَقَفَ فَقَالَ: حَدّثَنا أبو الأشهب عَنْ الحَسَنِ قَالَ: قَالَ عُمَرُ ابنُ الخطّاب: إنَّ خَفْقَ النّعالِ خَلْفَ الأحمق قلَّ مَا يبقى مِنْ دِينهِ(1).
وقال عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ >:"أَخِّرُوا عَلَىَّ خَفْقَ نِعَالِكُمْ، فإنها مُفْسدةٌ لِقُلُوبِ نَوْكَى(2) الرِّجَال"(3).
إنَّ المُسْلمَ - وَخَاصةً العاَلِم المُرَبّي، والدَّاعِيَة، لأنَّهُما عُرْضةٌ لخَفْق النّعالِ خَلْفَهُما أكثر مِنْ غَيرهِما - بحاجةٍ مُلحة لتفقد قلبه وما يَرِدُ عَليهِ مِنْ خَطَرات وأفكار وهواجس، فالقلبُ إنَّما سُمي قلباً لكثرة تقلبهِ.
والمُسْلمُ الفطن لدينه يستشعرُ قَوْلَهُ تَعَالَى: { (#ûqكJn=ôم$#ur أَن اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ دنِچyJ9$# وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ ڑcrمژ|³ّtéB } [الأنفال:24]، إنَّ هذه الآية تستوجب اليقظة الدائمة، والحذر الدائم، والاحتياط الدائم. اليقظة لخلجات القلب; والحذر من كل هاجسة فيه وكل ميل مخافة أن يكون انزلاقاً؛ والاحتياط الدائم للمزالق والهواتف والهواجس.
كما تستوجب التعلق الدائم بالله سبحانه مخافة أنْ يقلّب هذا القلب في سهوة من سهواته.
__________
(1) …حلية الأولياء (9/12)، شعب الإيمان (2/310).
(2) …النُّوكُ: بالضم: الحُمْق؛ وجمعه نَوْكَى.
قال الشاعرُ: ودَاءُ الجِسْمِ مُلْتَمِسٌ شِفاءً * وداءُ النُّوكِ ليسَ له دَواءُ.
…لسان العرب (10/ 501)، وانظر: القاموس (ص1234).
(3) …فضائل الصحابة لأحمد بن حنبل (1/548)، الدارمي في سننه (1/144)، المدخل إلى السنن الكبرى للبيهقي (ص319).(1/40)
إنَّ هذه الآية تهز القلب حقا؛ ويجد لها المؤمن رجفة في نفسه حين يخلو إليها لحظات، ناظرا إلى قلبه الذي بين جنبيه، وهو في قبضة الواحد القهار؛ وهو لا يملك من تصريف قلبه شيئا، وإن كان يحمله بين جنبيه.
وقد كَانَ أكثر حَلف النَّبِيّ @ لا ومقلب القلوب قَالَ البخاريُّ في صَحيحهِ(1): بَاب مُقَلِّبِ الْقُلُوبِ وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: { وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ ِNèduچ"|ءِ/r&ur } [الأنعام:110]، حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ ابْنِ الْمُبَارَكِ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عَنْ سَالِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن عُمر قَالَ: "أَكْثَرُ مَا كَانَ النَّبِيُّ @ يَحْلِفُ لا وَمُقَلِّبِ الْقُلُوبِ".
وعَنْ أَنَس بنِ مَالك قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ @ يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ: يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ، قَالَ: فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ آمَنَّا بِكَ وَبِمَا جِئْتَ بِهِ فَهَلْ تَخَافُ عَلَيْنَا؟ قَالَ: فَقَالَ: نَعَمْ، إِنَّ الْقُلُوبَ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ اللَّهِ - عز وجل - يُقَلِّبُهَا(2). فإذا كان النبي @ يكثر من ذلك وهو سيّد الخلق فكيف بالناس وهم غير مرسلين ولا معصومين!.
ولذا كان مِنْ دعاء الراسخين في العلم { $sY/u' لَا ùّح"è? $sYt/qè=è% بَعْدَ إِذْ $sYoK÷ƒy‰yd وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً y7¯Rخ) أَنْتَ الْوَهَّابُ (8) } [ آل عمران:8].
وقد تفاوت الفضلاء في العناية بهذا الجانب - أعني ملاحظة القلب وما يرد عليه -:
1 - فصنفٌ لا يلتفت لهذا أصلاً، وكأنه في مأمنٍ من هذه الخطرات والواردات، بل ربما عدَّ الخوف من هذا، والعناية به ضرباً من الوسوسة والتنطع!.
__________
(1) …(6/2691رقم6956).
(2) …أخرجه: الترمذي (2140)، وأحمد بن حنبل في المسند (3/112) وغيرهما، وإسنادهُ قويّ، وللحديث شواهد تقويه.(1/41)
وهذا التصور فيهِ غفلةٌ عن نصوص الكتاب والسنة التي تبين أهمية القلب وأنَّ عليه مدارَ القولِ والعملِ وفي الحَدِيث عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ @: "إِنَّ اللَّهَ لا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ"(1).
وأدلُّ شيءٍ عَلَى أهميةِ العنايةِ بالقلب وأحوالهِ قولُه @:"أَلا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلا وَهِيَ الْقَلْبُ"(2).
وفي الأثرِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: "الْقَلْبُ مَلِكٌ، وَلَهُ جُنودٌ فَإذا صَلَحَ المَلِكُ صَلَحَتْ جُنُودُهُ وإذا فَسَدَ المَلِكُ فَسَدَتْ جُنُودُهُ"(3).
كمَا أنَّهُ فيهِ غفلةٌ عن سير الصحابة والتابعين والعلماء المحققين الذين كانت لهم عناية عظيمة بجانب الإخلاص والصدق والخوف من الرياء والنفاق.
__________
(1) …أخرجه: مسلم في صحيحه (4/1987رقم2564).
(2) …أخرجه: البخاري في صحيحه (1/28رقم52)، ومسلم في صحيحه (3/1219رقم1599) من حديث النُّعْمَان بْنِ بَشِيرٍ.
(3) …أخرجه: معْمَر في جامعه - ضمن مصنف عبد الرزاق - (11/221رقم20375)، والبيهقيّ في شعب الإيمان (1/133)، وإسنادهُ جيّد.(1/42)
قال البُخاريُّ في صَحيحهِ(1): بَاب خَوْفِ الْمُؤْمِنِ مِنْ أَنْ يَحْبَطَ عَمَلُهُ وَهُوَ لا يَشْعُرُ، وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ التَّيْمِيُّ: مَا عَرَضْتُ قَوْلِي عَلَى عَمَلِي إِلا خَشِيتُ أَنْ أَكُونَ مُكَذِّبًا، وَقَالَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ: أَدْرَكْتُ ثَلاثِينَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ @ كُلُّهُمْ يَخَافُ النِّفَاقَ عَلَى نَفْسِهِ مَا مِنْهُمْ أَحَدٌ يَقُولُ إِنَّهُ عَلَى إِيمَانِ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ، وَيُذْكَرُ عَنْ الْحَسَنِ: مَا خَافَهُ إِلا مُؤْمِنٌ وَلا أَمِنَهُ إِلا مُنَافِقٌ وَمَا يُحْذَرُ مِنْ الإِصْرَارِ عَلَى النِّفَاقِ وَالْعِصْيَانِ مِنْ غَيْرِ تَوْبَةٍ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: { وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ ڑcqكJn=÷ètƒ } [آل عمران:135].
قال ابنُ رَجَبَ: "كان الصحابة ومن بعدهم من السلف الصالح يخافون على أنفسهم النفاق، ويشتد قلقهم وجزعهم منه، فالمؤمن يخاف على نفسه النفاق الأصغر، ويخاف أن يغلب ذلك عليه عند الخاتمة فيخرجه إلى النفاق الأكبر كما تقدم أنَّ دسائس السوء الخلفية توجب سوء الخاتمة"(2).
وتجد عند بعض هذا الصنّف من الجرأة في إظهار النفس، وحب الشهرة ما يعجب منه الناظر وقد قالَ إبراهيمُ بنُ أدهم: "مَا صَدَقَ اللهَ عَبْدٌ أحبَّ الشهرة"(3):
-فمنهم من يسجل تلاوته ليُعرف(4).
-ومنهم من يكتب ويؤلف ليشتهر.
-وربما يحزن هذا الصنف إذا رأى فلاناً يحضر عنده المئات والألوف من النّاس، وهو لا يحضر عنده إلاّ عددٌ قليل، وربما وَقَعَ في الحسد المحرم، ورُبّما استعدى عليه الولاة كما وقع ذلك من خصوم شيخ الإسلام
__________
(1) …(1/26).
(2) …جامع العلوم والحكم (1/58).
(3) …التاريخ الكبير للبخاريّ (4/363).
(4) …نعم ربما يكون هناك من يكون مقصده صحيحاً سليماً فيريد نفع الناس، ورفع الجهل، وهذا مأجور على نيته، ولكن مع ذلك عليه دوام المراقبة لقلبه ونواياه.(1/43)
ابنِ تيمية قال الشيخُ بكر أبو زيد مبيناً ذلك: "ولمَّا بلغ ~ الثانية والثلاثين من عمره وبعد عودته من حجته، بدأ تعرضه ~ لأخبئة السجون، وبلايا الاعتقال، والترسيم عليه - الإقامة الجبرية -. خلال أربعة وثلاثين عاماً، ابتداء من عام 693 إلى يوم وفاته في سجن القلعة بدمشق يوم الاثنين 20/11/ 728، وكان سجنه سبع مرات: أربعٌ بمصر بالقاهرة وبالإسكندرية، وثلاث مرات بدمشق، وجميعها نحو خمس سنين، وجميعها كذلك باستعداء السلطة عليه من خصومه الذين نابذ ما هم عليه في الاعتقاد والسلوك والتمذهب عسى أنْ يفتر عنهم، وأنْ يُقصر لسانه وقلمه عمَّا هم عليه، لكنه لا يرجع"(1).
-وهذا المُعجب لا يقنع بأن يكونَ عضواً في لجنة بل لابدَّ أن يكون رئيساً يرجع إليه في هذه اللجنة، فليتنبه الدعاة الفضلاء الذين يتنافسون على رئاسة المراكز الإسلامية لهذا المدخل على قلوبهم، والذي ربما كان على حساب دينهم وقلوبهم، وَكَانَ مُحَمَّدُ بنُ إبراهيم الكَرْجيّ(2) يَقولُ لسبط أخيهِ - والنّاس ينتابون بابه على طبقاتهم لسؤدده -: يا أسفي على ابني أبي القاسم سَالَ بهِ السيلُ أينَ هُوَ - والحالة هذه - مِنْ دِينهِ؟ وكان يقولُ إذا خلا بهِ: يا بني عليك بدينك فإن خَفْقَ النّعالِ خَلْفَ الإنسان وعلى بَابِ دَارهِ مَعَاول تهدم دينه وعقله(3).
-ورأيه هو الصواب المعتمد، ورأي غيره خطأ دائماً.
-وأيّ كتابٍ أوْ مَقال يُعْرضُ عليه:ضعيف!.
- وأي محاضرة: هزيلة!.
-وأيّ عالمٍ أو طالبِ علمٍ أو داعيةٍ: منهجه كيتَ وكيت..!، عنده قصور في كذا وكذا..! مِنْ غيرِ عَدلٍ ولا نَصَفة.
__________
(1) …الجامع لسيرة شيخ الإسلام ابن تيميّة (ص28).
(2) …هو: أبو بكر العجلي الكرجي القَزوينيّ، قَالَ عبدُالكريم القَزوينيّ: "شيخٌ مُعمّر، موصوفٌ بالعلمِ والورع، وفي بيته أئمة مقدمون، وإليهم إمامة لجامع العتيق بقزوين". التدوين في أخبار قزوين (1/148).
(3) …التدوين في أخبار قزوين (1/149).(1/44)
عَنْ سُفْيَانَ بْنِ حُسَيْنٍ قَالَ:كُنْتُ عِنْدَ إِيَاسِ بْنِ مُعَاوِيَةَ وعنده رَجلٌ، تخوَّفتْ إنْ قمتُ مِنْ عنده أنْ يَقَعَ فيَّ، قَالَ: فَجَلَستُ حَتى قَامَ فَلمَّا قَامَ ذَكرتُهُ لإيَاس قَالَ: فَجَعَلَ يَنْظر في وَجهي، وَلا يقولُ لي شيئاً حَتى فَرغتُ، فَقَالَ لي: أغزوتَ الدَّيلمَ؟ قُلتُ: لا، قَالَ: فغزوتَ السِّند؟ قُلتُ: لا، قَالَ: فغزوتَ الهند؟ قُلتُ: لا، قَالَ: فغزوتَ الرُّوم؟ قُلتُ: لا، قَالَ: يَسْلمُ مِنْكَ الدَّيلم والسِّند والهند والرُّوم، وَلَيسَ يَسْلمُ مِنْكَ أَخُوكَ هذَا؟!! قَالَ: فلمْ يَعُدْ سُفْيَانُ إلى ذاكَ "(1).
2 - وصنفٌ بالغَ في الحذر والتحري حتى وصل به الأمر إلى ترك بعض العبادات والعلم، وربما حصل لهذا الصنف نوعٌ من الوسوسة، وقد قال بعضُ العلماء: الوسوسة إنما تحصل للعبد من جهل بالشرع أو خبل في العقل، وكلاهما من أعظم النقائص والعيوب.
__________
(1) …شعب الإيمان (5/314)، تاريخ مدينة دمشق (10/18).
قلتُ: وهذا أسلوبٌ تربويٌّ عميق ولطيفٌ، ولكَ أنْ تتصور - أخي الكريم - حالنا لو فعلنا= =كما فعل إياس عند مَنْ جعَلَ أعراض الناس فاكهةً له، هل تراه يعود؟!.(1/45)
قال ابنُ رَجَب: "والقدرُ الواجبُ مِنْ الخَوفِ مَا حَمَلَ عَلَى أداءِ الفَرائضِ وَاجتنابِ المَحَارمِ فَإنْ زَادَ عَلَى ذَلكَ بحيث صَارَ بَاعِثَاً للنّفوسِ عَلَى التشميرِ في نوافلِ الطاعاتِ وَالانكفافِ عَنْ دقائق المكُروهاتِ وَالتبسطِ في فُضولِ المُبَاحاتِ كَانَ ذَلكَ فَضْلاً مَحْموداً، فَإنْ تَزايدَ عَلَى ذَلكَ بأنْ أورثَ مَرْضاً أوْ مَوتاً أوْ هَمّاً لازماً بحيث يَقْطعُ عَنْ السّعي في اكتسابِ الفضائلِ المطلوبةِ المحبوبةِ لله - عز وجل - لم يكنْ مَحْموداً...، والمقصودُ الأصلي هُوَ طاعةُ الله - عز وجل - وَفعل مراضيه ومحبوباته وترك مناهيه ومكروهاته، وَلا نُنكر أنَّ خشيةَ اللهِ وَهيبته وعظمته في الصدور وإجلاله مقصودٌ أيضاً، ولكنْ القدر النافع من ذلكَ مَا كَانَ عوناً عَلى التقرب إلى الله بفعل ما يحبه وترك ما يكرههُ، وَمَتى صَارَ الخوفُ مانعاً مِنْ ذلكَ وقاطعاً عنه فَقد انعكس المقصود منه، وَلكنْ إذَا حَصَلَ ذَلكَ عَنْ غَلَبة كَانَ صاحبه مَعْذوراً"(1).
3 - وصنفٌ توسط واعتدل فلم يغفل هذا الجانب، وكذلك لم يبالغ في الحذر، بل يعمل ويدعو، ويتحرز من تقلب القلب، فهو دائماً يدعو: يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ، وَمِنْ عَلاَمةِ هذا الصنف أنَّه لا يبالي إذا ظَهَرَ الحق والخير على لسان مَنْ، قال الإمام الشافعي: "ما كلمت أحداً قط إلا أحببت أن يوفق ويسدد ويعان، وما كلمت أحداً قط إلا ولم أبال بَيّنَ الله الحق على لساني أو لسانه"(2)، وقال أيضا: "ما ناظرت أحداً قط فأحببت أن يخطئ".
فاسأل الله تعالى - مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ - أنْ يثبتَ قَلْبِي وَقَلْبَكَ عَلَى دينهِ، وأنْ لا يزيغه بعد أنْ هداه عَنْ سبيل الهدى والإيمان.
} - { } - {
(15)
__________
(1) …التخويف من النار (ص:20).
(2) …آداب الشافعي و مناقبه لابن أبي حاتم (ص 326)، حلية الأولياء (9/118)، والفقيه والمتفقه (2/26).(1/46)
الدَّاعِيَة البَصِير..
لا يستوحش من قلة السالكين
لأنه يقرأ كلام الحكيم الخبير: { وَمَا مژnYٍ2r& النَّاسِ وَلَوْ |Mô¹uچxm بِمُؤْمِنِينَ (103) } [يوسف:103].
وقولَه: { ×@د=s%ur مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ } [سبأ:13].
وقولَه: { إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا دM"ysد="¢ء9$# ×@د=s%ur مَا هُمْ } [ص:24].
وقولَه: { وَإِنْ تُطِعْ uژnYٍ2r& مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (116) } [الأنعام:116].
وقولَه: { وَلَكِنَّ uژnYٍ2r& النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ } [هود: 17] وفي عدد من السور.
وقولَه: { وَلَكِنَّ uژnYٍ2r& النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ } [يوسف: 38].
وقولَه: { وَلَوْ أَنَّا $sYِ;tFx. ِNخkِژn=tم أَنِ (#ûqè=çFّ%$# أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ Nن.حچ"tƒدٹ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا ×@ٹد=s% مِنْهُمْ وَلَوْ ِNهk®Xr& فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ #[ژِچyz لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا (66) } [النساء:66].
وقولَه: { وَمَا آَمَنَ مَعَهُ إِلَّا ×@د=s% } [هود:40].
وفي الحديث عن النبي @ قال: "يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى:يَا آدَمُ فَيَقُولُ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ وَالْخَيْرُ فِي يَدَيْكَ فَيَقُولُ: أَخْرِجْ بَعْثَ النَّارِ قَالَ: وَمَا بَعْثُ النَّارِ قَالَ: مِنْ كُلِّ أَلْفٍ تِسْعَ مِائَةٍ وَتِسْعَةً وَتِسْعِينَ..."(1).
__________
(1) …أخرجه: البخاريّ في صحيحه (3/1221رقم3170) ومسلمٌ في صحيحه (رقم222)عن
أبي سعيد الخدري.(1/47)
قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب في تفسير قوله تعالى: { إِنَّ zOٹدd¨uچِ/خ) كَانَ أُمَّةً $[FدR$s% لِلَّهِ $ZےٹدZxm وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) } [النحل:120]: ""إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً" لئلا يستوحش سالك الطريق من قلة السالكين،" قَانِتاً لِلَّهِ" لا للملوك ولا للتجار المترفين، "حَنِيفاً" لا يميل يميناً ولا شمالاً كفعل العلماء المفتونين، "وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ" خلافاً لمن كثر سوادهم وزعم أنه من المسلمين"(1).
قال بعضُ السلف: "عليك بطريق الحق، ولا تستوحش لقلة السالكين، وإياك وطريق الباطل!، ولا تغتر بكثرة الهالكين".
قال ابنُ القيم: "وكلما استوحشت في تفردك فانظر إلى الرفيق السابق، واحرص على اللحاق بهم، وغض الطرف عمن سواهم فإنهم لن يغنوا عنك من الله شيئاً، وإذا صاحوا بك في طريق سيرك فلا تلتفت إليهم فإنك متى التفت إليهم أخذوك وعاقوك، وقد ضربتُ لذلك مثلين فليكونا منك على بال: المثل الأول رجل خرج من بيته إلى الصلاة لا يريد غيرها فعرض له في طريقه شيطان من شياطين الإنس فألقى عليه كلاما يؤذيه فوقف ورد عليه وتماسكا فربما كان شيطان الإنس أقوى منه فقهره ومنعه عن الوصول إلى المسجد حتى فاتته الصلاة وربما كان الرجل أقوى من شيطان الإنس ولكن اشتغل بمهاوشته عن الصف الأول وكمال إدراك الجماعة فإن التفت إليه أطمعه في نفسه وربما فترت عزيمته فإن كان له معرفة وعلم زاد في السعي والجمز بقدر التفاته أو أكثر فإن أعرض
عنه واشتغل بما هو بصدده وخاف فوت الصلاة أو الوقت لم يبلغ عدوه منه ما شاء.
المثل الثاني الظبي أشد سعيا من الكلب ولكنه إذا أحس به التفت إليه فيضعف سعيه فيدركه الكلب فيأخذه.
__________
(1) …نقله صاحب "تيسير العزيز الحميد" (ص:78) وقال عقبه: "وهو من أحسن ما قيل في تفسير هذه الآية".(1/48)
والقصد أنَّ في ذكر هذا الرفيق ما يزيل وحشة التفرد ويحث على السير والتشمير للحاق"(1).
الدَّاعِيَة البَصِير..يتيقن أن الكثرة لا تستلزم الصواب والحق.. ولا يغتر بقول الجاهلين: لو كان هؤلاء على حق لم يكونوا أقل الناس عددا، فإنّ الحق لا يعرف بالرجال، ولكن الرجال يُعرفون بالحق، ومن جميل ما وقفتُ عليه في هذا الباب قول الشاطبيّ في كتابه القيّم "الاعتصام"(2): "وكنتُ في أثناء ذلكَ قد دخلتُ في بعضِ خطط(3) الجمهور من الخطابة والإمامة ونحوها، فلمّا أردتُ الاستقامة على الطريق، وجدتُ نفسي غريباً في جمهور أهل الوقت لكون خططهم قد غلبت عليها العوائد، ودخلت على سننها الأصلية شوائب من المحدثات الزوائد، ولم يكن ذلك بدعا في الأزمنة المتقدمة فكيف في زماننا هذا فقد روى عن السلف الصالح من التنبيه على ذلك كثير كما روى عن أبي الدرداء أنه قال لو خرج رسول الله @ عليكم ما عرف شيئا مما كان عليه هو وأصحابه إلا الصلاة.....إلى ما أشبه هذا من الآثار الداله على أن المحدثات تدخل في المشروعات، وأن ذلك قد كان قبل زماننا وإنما تتكاثر على توالى الدهور إلى الآن، فَتَردد النظر بين أن أتبعَ السنة عَلى شرط مخالفةِ ما اعتاد الناسُ؛ فلا بدَّ من حصولِ نحوٍ مما حَصَلَ لمخالفي العوائد - لاسيما إذا ادعى أهلُها أنَّ مَا هُم عليه هو السنة لا سواها - إلا أنَّ في ذلك العبء الثقيل ما فيه من الأجر الجزيل، وبين أن أتبعهم على شرط مخالفة السنة والسلف الصالح، فأدخلُ تحتَ ترجمة الضُّلاّلِ - عائذا بالله من ذلك - إلا أني أوافق المعتاد، وأعد من المؤالفين لا من المخالفين، فرأيتُ أنَّ الهلاكَ في اتباع السنة هو النجاة، وأنَّ النّاس لن يغنوا عني مِنْ اللهِ شيئاً... ".
} - { } - {
(16)
الدَّاعِيَة البَصِير..
يقابل الضعف بالقوة
__________
(1) …مدارج السالكين (1/22).
(2) …(1/25).
(3) …أي: وظائف.(1/49)
وهو بهذا يمتثل قوله تعالى: خُذُوا { مَا Nن3"sY÷ s?#uن بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ ِNن3¯=yès9 تَتَّقُونَ } [البقرة:63].
{ خُذُوا مَا آَتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا } [البقرة: 93].
{ $sYِ;tFں2ur لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ } [الأعراف:145].
{ يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ } [مريم:12].
- قَالَ سعيدُ بنُ المُسَيَّب ~: "مَا لقيتُ النَّاسَ منصرفين مِنْ صلاةٍ منذُ أربعينَ سنة"(1).
- وقَالَ أيضاً: "مَا دَخَلَ عليّ وقتُ صلاةٍ إلاّ وقد أخذتُ أهبتها، ولا دَخَلَ عليّ قضاء فرضٍ إلاّ وأنا إليه مشتاقٌ".
- وقَالَ أيضاً: "مَا فاتتني التكبيرةُ الأولى منذُ خمسينَ سنة، وما نظرتُ في قَفَا رجلٍ في الصلاةِ منذُ خمسينَ سنة".
- وقَالَ بُرْدُ مولى ابنِ المُسَيَّب ~: "مَا نُودي للصلاةِ منذُ أربعين سنة إلا وسعيدٌ في المسجد"(2).
- وقَالَ رَبِيعةُ بنُ يزيد ~: "مَا أذّن المؤذنُ لصلاةِ الظهر منذُ أربعين سنة إلا وأنا في المسجدِ، إلاّ أنْ أكونَ مريضاً أو مسافراً"(3).
- وقَالَ وَكِيعُ بنُ الجراح ~: "كَانَ الأعمشُ قَريباً مِنْ سبعين سنةً لمْ تفتهُ التكبيرةُ الأولى، واختلفتُ إليهِ قريباً مِنْ ستين فمَا رأيتُهُ يَقضي رَكْعةً"(4).
- وقَالَ محمد بن سماعه القاضي ~: "مَكثتُ أربعين سنةً لم تفتني التكبيرةُ الأولى إلا يوماً واحداً ماتتْ فيه أمي ففاتتني صلاةٌ واحدةٌ في جماعةٍ"(5).
__________
(1) …الطبقات الكبرى (5/131).
(2) …حلية الأولياء (2/ص163)، حلية الأولياء (2/162)، سير أعلام النبلاء (4/221).
(3) …المعرفة والتاريخ (2/217)، الثقات (4/)232.
(4) …حلية الأولياء(5/49).
(5) …تاريخ بغداد(5/341).(1/50)
- وقَالَ أسيد بن جعفر ~: "بشرُ بنُ منصور ما فاتته التكبيرةُ الأولى قط، ولا رأيته قام في مسجدنا سائلٌ قط فلم يُعط شيئاً إلا أعطاه"(1).
- وقَالَ يحيى بنُ مَعِين ~: "أقامَ يحيى بنُ سعيد(2) عشرين سنة يختم القران في كلِّ ليلةٍ(3)، ولم يفته الزوالُ في المسجد أربعين سنة، وما رؤى يطلب جماعة قط"(4).
فما أحسنَ أنْ يعاهدَ الدَّاعِيَة نفسه فيحافظ على الصلاة كما حَافظَ عليها أولئكَ..فيكون في المسجدِ مع الآذان أو قبله ولا يتأخر!.
قَالَ إبراهيمُ النخعيُّ: "إذا رأيتَ الرجلَ يتهاونُ في التكبيرةِ الأولى فاغسلْ يدكَ منهُ"(5).
} - { } - {
(17)
الدَّاعِيَة البَصِير..
يُفرّق بين مرتكبي المعاصي، وينزل كلاً منزلته
__________
(1) …حلية الأولياء(6/240).
(2) …هو القطان.
(3) …صحَّ النهي عن ختم القرآن في أقل من ثلاث ليال، وفي المسألة خلاف بين أهل العلم، ويظهر أنَّ القطان ممن اجتهد ورأى أنه يجوز، والله أعلم.
(4) …تاريخ بغداد (14/141).
(5) …حلية الأولياء (4/215).(1/51)
قال ابنُ القيم: "وهاهنا أمرٌ ينبغي التفطن له: وهو أنَّ الكبيرة قد يقترن بها - من الحياء والخوف والاستعظام لها - ما يلحقها بالصغائر، وقد يقترن بالصغيرة - من قلةِ الحياء وعدمِ المبالاة وتركِ الخوف والاستهانةِ بها - ما يلحقها بالكبائر؛ بل يجعلُها في أعلى رتبها، وهذا أمرٌ مرجعه إلى ما يقوم بالقلب، وهو قدرٌ زائدٌ على مجرد الفعل، والإنسانُ يعرفُ ذلكَ من نفسه ومن غيره، وأيضاً فإنه يُعْفى للمحب ولصاحب الإحسان العظيم ما لا يعفى لغيره ويسامح بما لا يسامح به غيره، وسمعتُ شيخَ الإسلام ابنَ تيمية - قدس الله روحه - يقول: انظر إلى موسى - صلوات الله وسلامه عليه - رَمَى الألواحَ التي فيها كلام الله الذي كتبه بيده فكسرها، وجرَّ بلحيةٍ نبي مثله، وهو هارون، ولطم عين ملك الموت ففقأها، وعاتب ربه ليلة الإسراء في محمد ورفعه عليه، وربه تعالى يحتمل له ذلك ويحبه ويكرمه ويدنيه(1)، لأنه قام لله تلك المقامات العظيمة في مقابلة أعدى عدو له، وصدع بأمره، وعالج أمتي القبط وبني إسرائيل أشد المعالجة، فكانت هذه الأمور كالشعرة في البحر، وانظر إلى يونس بن مَتّى حيث لم يكن له هذه المقامات التي لموسى غاضب ربه مرة فأخذه وسجنه في بطن الحوت، ولم يحتمل له ما احتمل لموسى، وفرقٌ بين من إذا أتى بذنب واحد، ولم يكن له من الإحسان والمحاسن ما يشفع له، وبين من إذا أتى بذنبٍ جاءت محاسنه بكل شفيع كما قيل:
وإذَا الحبيبُ أتى بِذَنْبٍ وَاحدٍ جَاءتْ مَحَاسِنُه بأَلْفِ شَفِيعِ"(2).
} - { } - {
(18)
الدَّاعِيَة البَصِير..
يستشعر مسؤولية الكلمة ويفكر قبل أن يجيب
__________
(1) …في النسخة المطبوعة (ويُدَلّله) والذي يظهر لي أنَّ الصواب ما أثبته، وكلمة يدلّله لم أقف عليها في نص شرعيّ، فالأولى عدم وصف الله بها ولو على طريق الإخبار لوجود ما يقوم مقامها،= =على أنّي - كما تقدم - أشك في صوابه في المطبوع كما تقدم.
(2) …مدارج السالكين (1/ 328).(1/52)
وهو بهذا الهدي يستشعر قوله تعالى: { مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18) } [ق:18].
وقوله: { وَإِنَّ عَلَيْكُمْ tûüدàدے"utm: (10) $YB#uچد. كَاتِبِينَ (11) tbqçHs>÷ètƒ مَا تَفْعَلُونَ (12) } [الانفطار:10 - 12]، وقوله: { أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا ِNخkِ‰y‰s9 يَكْتُبُونَ (80) } [الزخرف:80].
قال حماد بنُ زيد: سئل أيوب السختياني عن مسألةٍٍ فسكتْ فقالَ الرجلُ: يا أبا بكر لم تفهم أعيدُ عليكَ؟ قال: فقال أيوب: قد فهمتُ، ولكني أفكرُ كيفَ أجيبك(1).
وقَالَ شدادُ بنُ أوس: "مَا تَكَلَّمْتُ بِكَلِمَةٍ مُنْذُ أَسْلَمْتُ إِلا وَأَنَا أَخْطِمُهَا وَأَزُمُّهَا"(2).
رَوَى الْحَاكِمُ فِي تَارِيخِهِ بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي قُدَامَةَ عَنْ النَّضْرِ بْنِ شُمَيْلٍ قَالَ: سُئِلَ الْخَلِيلُ عَنْ مَسْأَلَةٍ فَأَبْطَأَ بِالْجَوَابِ فِيهَا قَالَ: فَقُلْتُ مَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ كُلُّ هَذَا النَّظَرِ قَالَ: فَرَغْتُ مِنْ الْمَسْأَلَةِ وَجَوَابِهَا وَلَكِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُجِيبَك جَوَابًا يَكُونُ أَسْرَعَ إلَى فَهْمِكَ قَالَ أَبُو قُدَامَةَ: فَحَدَّثْتُ بِهِ أَبَا عُبَيْدٍ فَسُرَّ بِهِ(3).
وقال ابنُ دقيق العيد: "ما تكلمتُ بكلمةٍ ولا فعلتُ فعلاً إلا أعددتُ لذلك جواباً بين يدي الله تعالى"(4).
وقال سُحْنونُ: "كَانَ بعضُ مَنْ مَضَى يريد أنْ يتكلمَ بالكلمةِ ولو تكلم بها لانتفع بها خلقٌ كثير، فيحبسها ولا يتكلم بها مخافة المباهاة، وكان إذا أعجبه الصمت تكلم، ويقول: أجرأ الناس على الفتيا أقلهم علما"(5).
__________
(1) …المعرفة والتاريخ (2/138).
(2) …أخرجه: أحمد بن حنبل في مسنده (4/123)، وابن عساكر في تاريخ مدينة دمشق= =(22/412).
(3) …الآداب الشرعية (3/156).
(4) …فتح المغيث (1/93).
(5) …سير أعلام النبلاء (12/66).(1/53)
وإذا أردتَ المزيدَ من أخبار السلف في هذا الباب فراجع كتاب "الصمت" لابنِ أبي الدنيا "باب قلة الكلام والتحفظ في النطق"، وسترى ما يطول منه عجبك، وتعرف قدر نفسك والله المستعان.
} - { } - {
(19)
الدَّاعِيَة البَصِير..
مباركٌ أينما كان
قال عيسى #: { سة_n=yèy_ur %¹.u'$t7مB أَيْنَ مَا كُنْتُ } [مريم:31] "أي: في أي مكان, وأي زمان، فالبركة جعلها الله فيَّ من تعليم الخير والدعوة إليه, والنهي عن الشر, والدعوة إلى الله في أقواله, وأفعاله فكل من جالسه, أو اجتمع به, نالته بركته, وسعد به مصاحبه"(1).
قال ابنُ القيم: "وسمعتُ شيخ الإسلام ابنَ تيمية قدس الله روحه يقولُ:
- إنَّ في الدنيا جنةً من لم يدخلها لا يدخلُ جنة الآخرة.
- وقال لي مرةً: ما يصنع أعدائي بي أنا جنتي وبستاني في صدري إن رحتُ فهي معي لا تفارقني، إنَّ حبسي خلوة، وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة.
- وكان يقولُ في محبسه في القلعة: لو بذلتُ ملء هذه القلعة ذهبا ما عدل عندي شكر هده النعمة أو قال ما جزيتهم على ما تسببوا لي فيه من الخير ونحو هذا.
- وكان يقولُ في سجودهِ - وهو محبوسٌ -: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، ما شاء الله.
- وقال لي مرةً: المحبوسُ من حُبس قلبه عن ربه تعالى والمأسور من أسره هواه.
ولما دخل إلى القلعة وصار داخل سورها نظر إليه وقال: { فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ د&ح#t6د% الْعَذَابُ } [الحديد:13].
وعَلِم الله ما رأيتُ أحداً أطيب عيشاً منه قط مع كل ما كان فيه من ضيق العيش وخلاف الرفاهية والنعيم بل ضدها ومع ما كان فيه من الحبس والتهديد والإرهاق وهو مع ذلك من أطيب الناس عيشا وأشرحهم صدرا وأقواهم قلبا وأسرهم نفسا تلوح نضرة النعيم على وجهه.
__________
(1) …تفسير السعدي (ص492).(1/54)
وكنّا إذا اشتد بنا الخوف وساءت منا الظنون وضاقت بنا الأرض أتيناه فما هو إلا أن نراه ونسمع كلامه فيذهب ذلك كله وينقلب انشراحها وقوة ويقينا وطمأنينة فسبحان من أشهد عباده جنته قبل لقائه، وفتح لهم أبوابها في دار العمل فأتاهم من روحها ونسيمها وطيبها ما استفرغ قواهم لطلبها والمسابقة إليها"(1).
وقالَ محمدُ المقدم: "وأعرف أخاً يعيش في ألمانيا أحسبه - والله حسيبه - مجتهداً في الدعوة إلى الله غاية الاجتهاد، حتى لا يكاد يذوق طعماً للراحة، وقد استحوذت الدعوة على كيانه، حتى أرهق نفسه، وشغل عن بيته وأهله وولده، فرأى إخوانه أن يمنح عطلة إجبارية، وذهبوا به صحبة أسرته إلى منتجع ناء لا يعرفه أحد، ولا يعرف فيه أحداً، كي يهنأ ببعض الراحة، وواعدوه أن يعودوا لإرجاعه بعد أيام، ولما رجعوا إليه وجدوه قد أسس جمعية أسلامية في هذا المكان قوامها بعض العمال المغاربة وغيرهم ممن انقطعت صلتهم بالدين، ففتش عنهم في مظان وجودهم، ودعاهم إلى طاعة الله سبحانه وألف بينهم، وأقاموا مسجداً كان فيما بعد منطلقا للدعوة إلى الله في تلك البلدة"(2).
حقاً هذا هو الدَّاعِيَة البَصِير المبارك، والله المستعان.
} - { } - {
(20)
الدَّاعِيَة البَصِير..
لا يُشغل نفسه بالآفات ما لم تعترضه
قال ابنُ القيم: "وسألتُ يوماً شيخ الإسلام ابن تيمية ~ عن هذه المسألة وقطع الآفات والاشتغال بتنقية الطريق وبتنظيفها فقال لي - جملة كلامه -: النفس مثل الباطوس - وهو جب القذر - كلما نبشته ظهر وخرج، ولكن إن أمكنك أن تسقف عليه وتعبره وتجوزه فافعل، ولا تشتغل بنبشه فإنك لن تصل إلى قراره، وكلما نبشت شيئا ظهر غيره.
فقلتُ: سألتُ عن هذه المسألة بعض الشيوخ فقال لي: مثال آفات النفس مثال الحيات والعقارب التي في طريق المسافر فإن أقبل على تفتيش الطريق
__________
(1) …الوابل الصيب (ص: 69).
(2) …"علو الهمة" (ص283).(1/55)
عنها والاشتغال بقتلها انقطع ولم يمكنه السفر قط ولكن لتكن همتك المسير والإعراض عنها وعدم الالتفات إليها فإذا عرض لك فيها ما يعوقك عن المسير فاقتله ثم امض على سيرك فاستحسن شيخ الإسلام ذلك جدا وأثنى على قائله"(1).
ومن ذلك ما يعترض الدعاة من الشائعات والوشايات والقيل والقال مما لو أشغل نفسه بها والرد عليها لذهب عمره وضاع وقته ولمَّا تنقضي، والواقع خير شاهد!!.
} - { } - {
(21)
الدَّاعِيَة البَصِير..
يُداري ولا يداهن
وهو بهذا يقتدي بسيد الخلق ومبين الحلال والحرام ففي الحديث:
- عَنْ عُرْوَةُ بنُ الزُّبَيْرِ أنَّ عائِشَةَ أخبرَتْهُ أنَّهُ اسْتأذَنَ عَلَى النبيِّ @ رَجُلٌ فقال: ائْذَنُوا لَهُ فَبِئْسَ ابنُ العَشِيرَةِ، أوْ بِئْسَ أخُوا العَشِيرَةِ فَلَمَّا دَخَلَ ألانَ لَهُ الكَلاَمَ فَقُلْتُ لَهُ: يا رسولَ الله قُلْتَ ما قُلْتَ ثُمَّ ألَنْتَ لَهُ في القَولِ فقال: أيْ عائِشَةُ إنَّ شَرَّ النَّاسِ مَنْزِلَةً عِنْدَ الله مَنْ تَرَكَهُ أوْ وَدَعَهُ النَّاسُ اتِّقاءَ فحْشِهِ(2).
- وعَنْ عَبْدِ الله بنِ أبِي مُلَيْكَة أنَّ النبيَّ @ أُهْدِيَتْ لَهُ أقْبِيَةٌ مِنْ ديباجٍ مُزَرَّرةٌ بالذَّهَبِ فَقَسَمَها في ناسٍ مِنْ أصْحابِهِ وَعَزَلَ مِنْها واحِداً لِمَخْرَمَةَ فَلما جاءَ قال: خَبأْتُ هذا لَكَ قال أيُّوبُ بِثَوْبِهِ أنَّهُ يُرِيدِ إيَّاهُ وكانَ في خُلُقِهِ شَيْءٌ(3).
والمداراة والمداهنة فعلان يشتبهان في الظاهر، ويتباينان في الباطن.
__________
(1) …مدارج السالكين (2/ 314).
(2) …أخرجه: البخاري في صحيحه (5/2271رقم5780)، ومسلم في صحيحه (4/2002 رقم 2591)، وبوب عليه البخاريّ: "باب المداراة مع الناس ويُذْكَرُ عَنْ أبي الدَّرْداءِ إنَّا لَنَكْشِرُ في وُجُوهِ أقْوَامٍ وإنَّ قُلُوبَنا لَتَلْعَنُهُمْ".
(3) …أخرجه: البخاري في صحيحه الموضع السابق.(1/56)
قال ابنُ القيم: "المداراةُ صفةُ مدحٍ، والمداهنةُ صفةُ ذمٍ، والفرقُ بينهما أنّ المدارى يتلطفُ بصاحبهِ حتى يستخرجَ منه الحق أو يرده عن الباطل، والمداهن يتلطف به ليقره على باطله ويتركه على هواه، فالمداراة لأهل الإيمان، والمداهنة لأهل النفاق، وقد ضرب لذلك مثل مطابق وهو حال رجل به قرحة قد آلمته فجاءه الطبيب المداوي الرفيق فتعرف حالها ثم أخذ في تليينها حتى إذا نضجت أخذ في بطها برفق وسهولة، حتى أخرج ما فيها، ثم وضع على مكانها من الدواء والمرهم ما يمنع فساده ويقطع مادته، ثم تابع عليها بالمراهم التي تنبت اللحم، ثم يذر عليها بعد نبات اللحم ما ينشف رطوبتها، ثم يشد عليها الرباط، ولم يزل يتابع ذلك حتى صلحت، والمداهن قال لصاحبها: لا بأس عليك منها، وهذه لا شيء فاسترها عن العيوب بخرقة ثم إله عنها فلا تزال مادتها تقوى وتستحكم حتى عظم فسادها"(1).
} - { } - {
(22)
الدَّاعِيَة البَصِير..
يتعاهدُ المسلمين بالزيارة والتواصل
وهو بهذا يقتدي بالرسول @؛ ومن تأمل هدي الرسول في الزيارة وحثه عليها وترتيب الفضل العظيم على الزيارة الخالصة علم أهمية زيارة المسلمين في الله، وأثرها العميق في توطيد المحبة والرحمة في المجتمع المسلم، فما أحسنَ هذا الدين وأعظمه(2)!.
__________
(1) …الروح (2/690).
(2) …للمزيد من أحاديث الزيارة يراجع - مع الكتب الستة -: كتاب الإخوان لابن أبي الدنيا (ص147) "باب في زيارة الإخوان"، والترغيب والترهيب للمنذري (3/247) "الترغيب في زيارة الإخوان والصالحين وما جاء في إكرام الزائرين"، ورياض الصالحين (ص110) "باب زيارة أهل الخير ومجالستهم وصحبتهم ومحبتهم وطلب زيارتهم والدعاء".(1/57)
- قال الإمام البخاريّ: "بَاب هَلْ يَزُورُ صَاحِبَهُ كُلَّ يَوْمٍ أَوْ بُكْرَةً وَعَشِيًّا" ثم ذَكَرَ حَدِيثَ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ @ قَالَتْ: لَمْ أَعْقِلْ أَبَوَيَّ إِلا وَهُمَا يَدِينَانِ الدِّينَ، وَلَمْ يَمُرَّ عَلَيْنَا يَوْمٌ إِلا يَأْتِينَا فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ @ طَرَفَيْ النَّهَارِ بُكْرَةً وَعَشِيَّةً(1).
- وقال: "بَاب الزِّيَارَةِ وَمَنْ زَارَ قَوْمًا فَطَعِمَ عِنْدَهُمْ وَزَارَ سَلْمَانُ أَبَا الدَّرْدَاءِ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ @ فَأَكَلَ عِنْدَهُ" ثم ذكر حديث أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ > أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ @ زَارَ أَهْلَ بَيْتٍ مِنْ الأَنْصَارِ فَطَعِمَ عِنْدَهُمْ طَعَامًاً، فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ أَمَرَ بِمَكَانٍ مِنْ الْبَيْتِ فَنُضِحَ لَهُ عَلَى بِسَاطٍ فَصَلَّى عَلَيْهِ وَدَعَا لَهُم(2).
- وعَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ > بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ @ لِعُمَرَ: انْطَلِقْ بِنَا إِلَى أُمِّ أَيْمَنَ نَزُورُهَا كَمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ @ يَزُورُهَا فَلَمَّا انْتَهَيْنَا إِلَيْهَا بَكَتْ فَقَالا لَهَا: مَا يُبْكِيكِ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِرَسُولِهِ @؟ فَقَالَتْ: مَا أَبْكِي أَنْ لا أَكُونَ أَعْلَمُ أَنَّ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِرَسُولِهِ @، وَلَكِنْ أَبْكِي أَنَّ الْوَحْيَ قَدْ انْقَطَعَ مِنْ السَّمَاءِ فَهَيَّجَتْهُمَا عَلَى الْبُكَاءِ فَجَعَلا يَبْكِيَانِ مَعَهَا(3).
__________
(1) …أخرجه: البخاري في صحيحه (5/2257 رقم5729).
(2) …أخرجه: البخاري في صحيحه (5/2257 رقم5730).
(3) …أخرجه: مسلم في صحيحه (4/1907رقم2454).(1/58)
وأمّا حديث "زُرْ غِباً تزددْ حُباً"(1) فلا يصح وإن تعددت طرقه(2).
وينبغي أنْ تُشغلَ الزيارة بالحديثِ النافع من تذاكرِ علمٍ أو قراءةٍ في كتابٍ أو ذكر أحوال المسلمين وكيفية نفعهم ونحو ذلك.
} - { } - {
(23)
الدَّاعِيَة البَصِير..
لا تفارق الابتسامة والبشاشة وجه
وهو بهذا يمتثل قوله @:"تَبَسُّمُكَ فِي وَجْهِ أَخِيكَ صَدَقَةٌ"(3).
ويهتدي بهديه @:
- فعَنْ جَرِيرٍ > قَالَ: مَا حَجَبَنِي النَّبِيُّ @ مُنْذُ أَسْلَمْتُ وَلا رَآنِي إِلا تَبَسَّمَ فِي وَجْهِي، وَلَقَدْ شَكَوْتُ إِلَيْهِ إِنِّي لا أَثْبُتُ عَلَى الْخَيْلِ فَضَرَبَ بِيَدِهِ فِي صَدْرِي وَقَالَ: "اللَّهُمَّ ثَبِّتْهُ وَاجْعَلْهُ هَادِيًا مَهْدِيًّا"(4).
__________
(1) …قال ابن الأثير: "الغب من أوراد الإبل أن ترد الماء يوما وتدعه يوما ثم تعود فنقله إلى الزبارة وإن جاء بعد أيام يقال غب الرجل إذا اء زائرا بعد أيام وقال الحسن في كل أسبوع". النهاية في غريب الأثر (3/336).
(2) …قال أبو حاتم الرازي: "هذا حديثٌ منكرٌ" - علل الحديث (2/341) -، وقال العقيلي في الضعفاء (2/138): "وليس في هذين البابين عن النبي @ شيء يثبت"، وتوسع=
=ابن الجوزيّ في ذكرها ومناقشتها في كتابه العلل المتناهية (2/741) وقال: "هذه الأحاديث ليس فيها ما يثبت عن رسول الله @". وقال ابن حجر: "وكأن البخاري رمز بالترجمة إلى توهين الحديث المشهور "زر غبا تزدد حبا"، وقد ورد من طرق أكثرها غرائب لا يخلو واحد منها من مقال وقد جمع طرقه أبو نعيم وغيره.. ". فتح الباري (10/498).
(3) …أخرجه: الترمذي في جامعه (328، رقم 1956).
(4) …أخرجه: البخاري في صحيحه (5/2260رقم5739)، ومسلم في صحيحه (4/1925رقم2475).(1/59)
- وفي حديث سَعْدٍ: سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ اسْتَأْذَنَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ > عَلَى رَسُولِ اللَّهِ @ وَعِنْدَهُ نِسْوَةٌ مِنْ قُرَيْشٍ يَسْأَلْنَهُ وَيَسْتَكْثِرْنَه، عَالِيَةً أَصْوَاتُهُنَّ عَلَى صَوْتِهِ، فَلَمَّا اسْتَأْذَنَ عُمَرُ تَبَادَرْنَ الْحِجَابَ فَأَذِنَ لَهُ النَّبِيُّ @ فَدَخَلَ وَالنَّبِيُّ @ يَضْحَكُ فَقَالَ: أَضْحَكَ اللَّهُ سِنَّكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي... (1).
وعَنْ عَائِشَةَ < قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ @ مُسْتَجْمِعًا قَطُّ ضَاحِكًا حَتَّى أَرَى مِنْهُ لَهَوَاتِهِ إِنَّمَا كَانَ يَتَبَسَّمُ(2).
وقد بوب البخاريُّ على هذه الأحاديث بقوله: "بَاب التَّبَسُّمِ وَالضَّحِكِ وَقَالَتْ فَاطِمَةُ: أَسَرَّ إِلَيَّ النَّبِيُّ @ فَضَحِكْتُ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:إِنَّ اللَّهَ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى".
فالدَّاعِيَة كما يتصدق بالمال يتصدق بالابتسامة فهل تعجز - أخي - عن هذا.
قال بعض العقلاء: "التبسم والبشر من آثار أنوار القلب، وجوه يومئذ مسفرة ضاحكة مستبشرة".
قال ابن عيينة: "البشاشة مصيدة المودة والبر شيء هين وجه طليق وكلام لين".
والناس لا يقبلون من الدَّاعِيَة الذي يصعر خده للناس كأنه معرض عنهم، و يعبس وجهه ويقطب جبينه كأنه منزه عن الناس مستقذر لهم أو غضبان عليهم.
وقال حماد بن زيد: "ما رأيت أحدا قط أشد تبسما في وجوه الرجال من أيوب إذا لقيهم".
قال الذهبيُّ: "وقال محمد بنُ النعمان: لم أر أعبدَ من يحيى بن حماد، وأظنه لم يضحك"، قلتُ: الضحكُ اليسيرُ والتبسمُ أفضلُ، وعدم ذلك من مشايخ العلم على قسمين:
أحدهما: يكون فاضلا لمن تركه أدبا وخوفا من الله وحزنا على نفسه المسكينة.
__________
(1) …أخرجه: البخاري في صحيحه (5/2259رقم5735).
(2) …أخرجه: البخاري في صحيحه (5/2261رقم5741).(1/60)
والثاني: مذموم لمن فعله حمقا وكبراً وتصنعا كما أنّ من أكثر الضحك استخف به، ولا ريب أنَّ الضحكَ في الشباب أخف منه وأعذر منه في الشيوخ.
وأمَّا التبسمُ وطلاقة الوجه فأرفعُ من ذلك كله قال النبي @: تَبَسُّمُكَ فِي وَجْهِ أَخِيكَ صَدَقَةٌ، وقال جرير: ما رآني رسول الله @ إلا تبسم، فهذا هو خُلُقُ الإسلام فأعلى المقامات من كان بكّاءً بالليل، بساما بالنهار، وقال #: لن تسعوا الناس بأموالكم فليسعهم منكم بسط الوجه، بقي هنا شيء ينبغي لمن كان ضحوكاً بساما أن يقصر من ذلك ويلوم نفسه حتى لا تمجه الأنفس، وينبغي لمن كان عبوسا منقبضا أن يتبسم ويحسن خلقه ويمقت نفسه على رداءة خلقه،وكل انحراف عن الاعتدال فمذموم ولا بدَّ للنفس من مجاهدة وتأديب"(1).
} - { } - {
(24)
الدَّاعِيَة البَصِير..
حليمٌ ذو وَقارٍ وسكينة
قال الحسنُ البصريّ في قوله تعالى: { وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا } [الفرقان:63]: "الهون بالعربية: السكينةُ والحلمُ والوقارُ، فالمؤمنُ حليم، وإنْ جُهِلَ عليه حَلِمَ، ولا يظلم وإنْ ظُلِمَ غَفَر، ولا يبخل وإنْ بُخِلَ عليه صَبَر"(2).
وفي حديثِ عبد الله بن عَبَّاسٍ أنَّ النَّبِيّ @ قَالَ للأَشَجِّ أَشَجِّ عَبْدِالْقَيْسِ: "إِنَّ فِيكَ خَصْلَتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللَّهُ الْحِلْمُ وَالأَنَاةُ"(3).
قال ابن القيم: "وفيها مدح صفتي: الحلم والأناة، وأنَّ الله يحبهما، وضدهما: الطيش والعجلة، وهما خلقان مذمومان، مفسدان للأخلاق والأعمال.
وفيه دليلٌ على أنّ الله يحبُ من عبده ما جبله عليه من خصال الخير كالذكاء والشجاعة والحلم.
وفيه دليلٌ على أنَّ الخلق قد يحصل بالتخلق والتكلف لقوله في
__________
(1) …سير أعلام النبلاء (10/140)، وانظر: السير (20/538).
(2) …أخرجه: ابن أبي حاتم في تفسيره (8/2721) وغيره.
(3) …أخرجه: مسلم في صحيحه (1/48رقم17).(1/61)
هذا الحديث:خلقين تخلقت بهما أو جبلني الله عليهما فَقَالَ: بل جبلتَ عليهما"(1).
وقال: "فالحليم لا يستفزه البدوات، ولا يستخفه الذين لا يعلمون، ولا يقلقه أهل الطيش والخفة والجهل، بل هو وقورٌ ثابتٌ ذو أناةٍ، يملكُ نفسه عند ورود أوائل الأمور عليه ولا تملكه أوائلها، وملاحظته للعواقب تمنعه من أن تستخفه دواعي الغضب والشهوة"(2).
وقال: "والفرق بين الصبر والحلم: أنَّ الصبر ثمرةُ الحلم وموجبه، فعلى قدر حلم العبد يكون صبره، فالحلم في صفات الرب تعالى أوسع من الصبر، ولهذا جاء اسمه الحليم في القرآن في غير موضع ولسعته يقرنه سبحانه باسم العليم كقوله وكان الله عليما حليما والله عليم حليم"(3).
ولعل القارئ الكريم..يقرأ سيرة معاوية بن أبي سفيان، والأحنف بن قيس وهما من مشاهير العرب في الحلم ففي سيرتهما كلمات جميلة، وتنبيهات لطيفة، ونصائح بديعة في الحلم والتحلم.
فمن ذلك قول الأحنف بن قيس(4): "لست بحليم، ولكني أتحالم".
- وقوله: "لا يتبين حلم الرجل حين لا يغضب، إنَّ الحلمَ لا يكون إلا عند الغضب".
- وقال عبد الله بن بكر المزني: جاء رجلٌ إلى الأحنف فشتمه فسكت عنه فأعاد عليه وألح والأحنف ساكت فقال الرجل: والهفاه ما يمنعه من الرد علي إلا هواني عليه.
- وقال يونسُ بنُ عُبيد: شتم رجلٌ الأحنفَ بنَ قيس، قال: فقام الأحنف إلى منزله فاتبعه الرجل يسبه ويشتمه حتى بلغ منزله فالتفت إليه الأحنف قال: حسبك الآن ثم دخل.
- وقال شعبةُ: قال رجلٌ لأحنف بن قيس: لتسمعن عشراً، فقال الأحنف له: لبيك لئن قلتَ عشراً لم تسمعْ واحدة.
- وكان معاويةُ بنُ أبي سفيان يتمثل بهذه الأبيات وهي هذه:
فما قَتَلَ السفاهةَ مثل حلم
... * ... يعود به على الجهل الحليم
... فلا تسفه وإن ملئت غيظا
__________
(1) …زاد المعاد (3 / 608).
(2) …إعلام الموقعين (4/200).
(3) …عدة الصابرين (ص: 236).
(4) …جميع هذه النقول من تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر (24/300).(1/62)
... * ... على أحد فإن الفحش لوم
... ولا تقطع أخا لك عند ذنب
... * ... فإن الذنب يغفره الكريم
} - { } - {
(25)
الدَّاعِيَة البَصِير..
رفيقٌ رحيمٌ، وغليظٌ شديدٌ
وهذه هي الحكمة: الرفق والرحمة في موضعها، والغلظة والشدة في موضعها.
قال السعدي: "من الحكمة استعمال اللين في معاشرة المؤمنين، وفي مقام الدعوة للكافرين كما قال تعالى: { فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا xلد=xî الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ y7د9ِqxm } [آل عمران:159].
وقال: { فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ مچھ.xtFtƒ أَوْ يَخْشَى (44) } [طه:44]، فأمر باللين في هذه المواضع، وذكر ما يترتب عليه من المصالح.
كما أنّ من الحكمة استعمال الغلظة في موضعها، قال تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ tûüة)دے"sYكJّ9$#ur وَاغْلُظْ ِNخkِژn=tم } [التحريم:9].
لأن المقام هنا مقام لا تفيد فيه الدعوة، بل قد تعين فيه القتال، فالغلظة فيه من تمام القتال، وقد جمع الله بين الأمرين في قوله في وصف خواص الأمة
{ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ } [الفتح:29]"(1).
ومن تأمل دعوة موسى رأى أنه استعمل الحكمة فقال لفرعون في موضع
{ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ 4'ھ1u"s? (18) وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى (19) } [النازعات:18 - 19]، وفي هذا الكلام من لطف القول وسهولته, وعدم بشاعته, ما لا يخفى على المتأمل. فإنه أتى بهل" الدالة على العرض والمشاورة, التي لا يشمئز منها أحد, ودعاه إلى التزكي والتطهر من الأدناس, التي أصلها, التطهر من الشرك, الذي يقبله كل عقل سليم, ولم يقل "أزكيك" بل قال "تزكى" أنت بنفسك. ثم دعاه إلى سبيل ربه, الذي رباه, وأنعم عليه بالنعم الظاهرة والباطنة التي ينبغي مقابلتها بشكرها, وذكرها فقال: " وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى ".
__________
(1) …تيسير اللطيف المنان (ص444).(1/63)
فلمّا علم أنه لا ينجع فيه تذكير قال: { قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا tAu"Rr& هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ دN¨uq"yJ،،9$# وَالْأَرْضِ uچح!$|ءt/ 'دoTخ)ur y7'Zàك{ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا (102) } [الإسراء:102]، أي ممقوتا ملقى في العذاب لك والذم واللعنة.
وهذه من الحكمة التي أمر الله بها فتنبه!.
} - { } - {
(26)
الدَّاعِيَة البَصِير..
يكثر من الاستشارة
وهو بهذا يهتدي بأمر الله بها نبيه @ - والنبي @ أكملُ الناس عقلاً، وأغزرهم علماً، وأفضلهم رأياً - في قوله تعالى: { وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ }
[ آل عمران:159].
وبما مدح - سبحانه وتعالى - عباده بقوله - في سورة تسمى:سورة الشورى -: { وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا ِNخkحh5uچد9 وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ } [الشورى:38]، وهذا يشمل جميع أمورهم الدينية والدنيوية، الداخلية والخارجية، العامة والخاصة(1).
قال الحسنُ البصريّ: "واللهِ ما تشاور قومٌ إلا هدوا لأفضل ما يحضر بهم ثم تلا { وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ } [الشورى:38]"(2).
وقال الضحاكُ بنُ مزاحم: "ما أمر الله نبيه بالمشورة إلا لما يعلم فيها من الفضل"(3).
__________
(1) …الرياض الناضرة، والحدائق النيرة الزاهرة في العقائد والفنون المتنوعة والفاخرة (ص:59) للسعدي، تصحيح أشرف بن عبد المقصود، مؤسسة قرطبة.
(2) …أخرجه: البخاري في " الأدب المفرد"،و ابن أبي شيبة في المصنف، و عبد الله بن أحمد في كتاب الزهد لأبيه، وابن أبي حاتم وغيرهم وإسناده جيد، وروي نحوه عن قتادة بن دعامة.
(3) …المراجع السابقة.(1/64)
قال ابنُ القيم: "وكان شيخ الإسلام ابن تيمية يقولُ: ما ندم من استخار الخالق، وشاور المخلوقين، وتثبت في أمره، وقد قال - سبحانه وتعالى -: { وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ ِ@ھ.uqtGsù عَلَى اللَّهِ } [آل عمران: 159]، وقال قتادةُ: ما تشاور قوم يبتغون وجه الله إلا هدوا إلى أرشد أمرهم"(1).
وكان النبي @ يشاور أصحابه في كل ما يحتاج إلى المشاورة من دقيق وجليل، ويأخذ برأيهم المصيب، وربما ابتدؤه بالرأي الذي يرونه فيرجع إليه إذا اتضح له صوابه، وإنما كانت المشاورة لها هذا المقام الجليل لما يترتب عليها من المصالح الكلية العامة في الشؤون الدينية والشؤون الدنيوية وأمور السياسة وتوابعها(2).
وقد كانت المسألة تنزل بعمر بن الخطاب > وهو المُحَدّث الملهم فيستشير لها من حضر من الصحابة، وربما جمعهم وشاورهم حتى كان يشاور عبد الله بن عباس > - وهو إذا ذاك أحدث القوم سنا - وكان يشاور عليا وعثمان وطلحة والزبير وعبدالرحمن بن عوف وغيرهم } أجمعين.
ولا ريب أنَّ الاستشارة فيها من الفوائد والمصالح الدينية والدنيوية ما لا يمكن حصره، ولو لم يكن فيها إلاّ أنَّ المشاورَ لا يكاد يخطئ في فعله، وإن أخطأ أو لم يتم له مطلوب فليس بملوم لكفى.
ولمّا كان المسلمون قد طبقوا هذا الأصل في صدر الإسلام على أمورهم الدينية والدنيوية كانت الأمور مستقيمة، والأحوال في رقيّ وازدياد، فلمّا انحرفوا عن هذا الأصل ما زالوا في انحطاط في دينهم ودنياهم، حتى وصل بهم إلى الحال ما ترى، فلو راجعوا دينهم في هذا الأصل وغيره لأفلحوا ونجحوا.
__________
(1) …الوابل الصيب (ص: 158).
(2) …فائدةٌ: حديث أبي هريرة: "ما رأيت أحدا أكثر مشاورة لأصحابه من رسول الله @"، أخرجه: ابن حبان في صحيحه، و عبد الرزاق في مصنفه، ومن طريقه رواه أحمد وابن راهويه في مسنديهما، وفيه انقطاع بين الزهري وأبي هريرة، ولكن دلت على معناه أحاديث كثيرة صحيحة.(1/65)
ومن آثار عدم الاستشارة ما نرى في واقعنا المعاصر من إقدام بعض المصلحين - عن حسن نية - على أعمالٍ عَامّة كانت لها أضرار سيئة على الإسلام والمسلمين، وعلى الدعوة عموماً..لمَّا لم يستشر أهل العلم والحلم والعقل!، والله غالبٌ على أمرهِ، ولهُ الحكمةُ البالغةُ - سبحانه وتعالى -.
} - { } - {
(27)
الدَّاعِيَة البَصِير..
يستخير الله قبل العمل
وهو بهذا يعمل بحديث جَابِرِ بنِ عَبْدِ الله { قال: كانَ رسولُ الله @ يُعَلِّمُنَا الاسْتِخَارَةَ فِي الأُمُورِ كُلِّهَا كَمَا يُعَلِّمُنَا السُّورَةَ مِنَ القُرآنِ يَقُولُ: إذَا هَمَّ أحَدُكُمْ بِالأمْرِ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ الفَرِيضَةِ ثُمَّ لِيَقُل: اللَّهُمَّ إنِّي أسْتَخِيرُكُ بِعِلْمِكَ، وَأسْتَقْدِرُكَ بِقُدْرَتِكَ، وَأسْألُكَ مِنْ فَضْلِكَ العَظِيمِ، فَإنَّكَ تَقْدِرُ وَلاَ أقْدِرُ وتَعْلَمُ وَلا أعْلَمُ وأنْتَ علاَّمُ الغُيُوبِ، اللَّهُم إنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أنَّ هذَا الأمْرَ خَيْرٌ لِي فِي دِينِي ومَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أمْرِي أوْ قال عاجِلِ أمْرِي وآجِلِهِ فاقْدُرْهُ لِي ويَسِّرْهُ لِي ثُمَّ بَارِكْ لِي فيهِ وَإنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أنَّ هذا الأمْرَ شَرٌّ لِي فِي دِينِي ومَعَاشِي وعَاقِبَةِ أمْرِي أوْ قالَ: فِي عاجِلِ أمْرِي وَآجِلِهِ فاصْرِفْهُ عَنِّي وَاصْرِفْنِي عَنْهُ وَاقْدُرْ لِيَ الخَيْرَ حَيْثُ كانَ ثُمْ أرْضِنِي قال: ويُسَمِّي حاجَتَهُ(1).
قال عبد الله بن عمر: "إنَّ الرجلَ ليستخير اللهَ فيختار له، فيسخط على ربه، فلا يلبث أنْ ينظر في العاقبة فإذا هو خيرٌ له"(2).
__________
(1) …أخرجه: البخاريّ في صحيحه (1/391رقم1109) وغيرهُ، وقد وردت عدد من الأحاديث في الاسْتِخَارَة أضربتُ عن ذكرها لضعفها.
(2) …أخرجه: ابن المبارك في الزهد (رقم129)، وابن أبي الدنيا في الرضا عن الله بقضائه (56).(1/66)
قال أبو عبد الله الزبير بن أحمد الزبيري: "ولا ينبغي لأحد أن يدع الاستخارة، وليستعملها كما أمر فإن فيها إتباع أمر النبي @، والتبرك بذلك، مع ما فيها من الدعاء والرد إلى الرب تعالى"(1).
قال ابنُ القيم: "وكان شيخ الإسلام ابنُ تيمية يقول: ما ندم من استخار الخالق، وشاور المخلوقين، وتثبت في أمره، وقد قال - سبحانه وتعالى -: { وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ ِ@ھ.uqtGsù عَلَى اللَّهِ } [آل عمران:159]، وقال قتادة: ما تشاور قوم يبتغون وجه الله إلا هدوا إلى أرشد أمرهم"(2).
وقال أيضاً: "فالمقدور يكتنفه أمران: الاستخارة قبله، والرضا بعده، فمن توفيق الله لعبده وإسعاده إياه أن يستخير قبل وقوعه، ويرضى بعد وقوعه، ومن خذلانه له أن لا يستخيره قبل وقوعه، ولا يرضى به بعد وقوعه"(3).
فائدةٌ:
قال السبكيُّ: "سمعتُ الشيخَ جمالَ الدين ابن قاضي الزبداني - مدَّ اللهُ في عُمره - يحكي عن الشيخِ كمالِ الدين أنه كان يقولُ: إذا صلى الإنسان ركعتي الاستخارة لأمر فليفعل بعدها ما بدا له سواء انشرحت نفسه له أم لا؛ فإنَّ
فيه الخير وإن لم تنشرح له نفسه، قال: وليس في الحديث اشتراط انشراح النفس"(4).
} - { } - {
(28)
الدَّاعِيَة البَصِير..
يُوطنُ نفسَهُ عَلَى البَلاءِ وَيَصبرُ إذَا نَزَلَ بهِ
__________
(1) …الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع (2/237).
(2) …الوابل الصيب (ص: 158).
(3) …شفاء العليل (ص:34).
(4) …طبقات الشافعية الكبرى (9/206).(1/67)
قَالَ الشيخُ بكر أبو زَيد: "ويذكِّرني في الوصيةِ بالصبر في سبيل الدعوة: أنه لمّا تخرج فوجٌ من الجامعةِ الإسلامية بمدينة النبي @ بعد سنة 1385 أعد حفل التخرج، وكانت كلمة الأساتذة لشيخنا العلامة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي - المتوفى سنة 1393 ~ - فأخذ في كلمته يوصي بتقوى الله والصبر على ما يلاقيه الداعي إلى الله من المشاق، وقال ما محصله: إنَّ طريق الدعوة شاق وطويل، ومملوء بالشوك والحفر فتسلحوا بالأيمان والصبر والتحمل...الخ، فكانت وصية وقعت في القلوب موقعاً، ثمّ كان من الحضور الشيخ:محمد محمود الصواف - المتوفى سنة 1413 ~ - فعقب على ما ذكر، وقال ما محصله: إنَّ طريق الدعوة سهل، ومفروش بالورود والرياحين، والعالم الإسلامي يفتح ذراعيه لاستقبالكم...الخ، فَعَقَّب عليه الشيخ الأمين ~ بقوله: إذا كان ما يقوله الصواف صحيحاً فليرجع إلى مسقط رأسه العراق داعيةً إلى الله لينظر ماذا سيلاقيه؟ فضجت الصالة بالتكبير وانصرف الحضور وهم للأمين شاكرون؟!"(1).
__________
(1) …"المداخل إلى آثار شيخ الإسلام ابن تيمية" (ص:38)، ط1،1422، دار عالم الفوائد.(1/68)
قلتُ: وقد دلتْ نصوصُ الشرعِ مِنْ الكتابِ والسُّنة عَلى هذا المعنى فكم من نبي أُوذي في سبيل الله فمنهم من ضُرِب ومنهم قُتل، وكم من صالح تقي نقي أصيب بأنواع من البلايا والأذايا والمحن قال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ 9d,xm وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ Oèdِژإe³t7sù بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (21) } [آل عمران:21]، وقال تعالى: { لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ ûسة_t/ ں@ƒدن¨uژَ خ) وَأَرْسَلْنَا ِNخkِژs9خ) رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ $Z)ƒحچsù كَذَّبُوا $Z)ƒحچsùur يَقْتُلُونَ (70) } [المائدة:70]، { وَكَأَيِّنْ مِنْ &cسة<¯R قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ ضژچدWx. فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146) وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا $sYt/qçRèŒ $sYsù#uژَ خ)ur فِي $tRحچّBr& وَثَبِّتْ $sYtB#y‰ّ%r& وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (147) } [آل عمران: 146 - 147] والآيات في هذا المعنى كثيرة.(1/69)
قال الشيخُ عبدُ الرحمن السّعدي في تفسير الآيات السابقة: "هذا تسليةٌ للمؤمنين، وحث على الاقتداء بهم، والفعل كفعلهم، وأنّ هذا أمر قد كان متقدماً، لم تزل سنة الله جارية بذلك، فقال: (وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ) أي: وكم من نبي (قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ) أي: جماعات كثيرون من أتباعهم, الذين قد ربتهم الأنبياء بالإيمان, والأعمال الصالحة, فأصابهم قتلٌ وجراح, وغير ذلك،"فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا" أي: ما ضعفت قلوبهم, ولا وهنت أبدانهم, ولا استكانوا أي: ذلوا لعدوهم، بل صبروا وثبتوا, وشجعوا أنفسهم, ولهذا قال: "وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ"، ثم ذكر قولهم, واستنصارهم لربهم فقال: "وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ" أي: في تلك المواطن الصعبة "إِلا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا"، والإسراف هو: مجاوزة الحد إلى ما حرم، علموا أن الذنوب والإسراف, من أعظم أسباب الخذلان, وأن التخلي منها, من أسباب النصر, فسألوا ربهم مغفرتها، ثم إنهم لم يتكلوا على ما بذلوا جهدهم به, من الصبر, بل اعتمدوا على الله, وسألوه أن يثبت أقدامهم عند ملاقاة الأعداء الكافرين, وأن ينصرهم عليهم، فجمعوا بين الصبر وترك ضده، والتوبة والاستغفار، والاستنصار بربهم"(1).
__________
(1) …تفسير السعدي (ص:151)تحقيق: عبد الرحمن اللويحق، ط1، 1421، مؤسسة الرسالة.(1/70)
قال ابنُ كثير عند تفسير قوله تعالى: { * لَتُبْلَوُنَّ فِي ِNà6د9¨uqّBr& وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ z`ƒة©9$# أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ ِNà6د=ِ6s% وَمِنَ الَّذِينَ (#ûqن.uژُ°r& أَذًى #[ژچدWx. وَإِنْ (#rمژة9َءs? وَتَتَّقُوا فَإِنَّ y7د9¨sŒ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (186) } [آل عمران:186]: "فكلُّ مَنْ قَامَ بحقٍ أو أمر بمعروفٍ أو نهى عن منكر فلا بدَّ أنْ يؤذي فما له دواء إلا الصبر في الله، والاستعانة بالله، والرجوع إلى الله"(1).
وفي الحديث عَنْ خَبَّابِ بْنِ الأَرَتِّ قَالَ: شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ @ وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ قُلْنَا لَهُ: أَلا تَسْتَنْصِرُ لَنَا أَلا تَدْعُو اللَّهَ لَنَا قَالَ: "كَانَ الرَّجُلُ فِيمَنْ قَبْلَكُمْ يُحْفَرُ لَهُ فِي الأَرْضِ فَيُجْعَلُ فِيهِ فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ فَيُشَقُّ بِاثْنَتَيْنِ وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ مَا دُونَ لَحْمِهِ مِنْ عَظْمٍ أَوْ عَصَبٍ وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَاللَّهِ لَيُتِمَّنَّ هَذَا الأَمْرَ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ لا يَخَافُ إِلا اللَّهَ أَوْ الذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ، وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ"(2).
__________
(1) …تفسير ابن كثير (1/437).
(2) …أخرجه: البخاري في صحيحه (6/2546رقم6544)، وبوَّب عليه"بابٌ من اختار الضرب والقتل والهوان على الكفر"، "، وبوَّب عليه في موضع آخر "باب علامات النبوة في الإسلام ".(1/71)
وعَنْ عَبْد اللَّهِ قَالَ: كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى النَّبِيِّ @ يَحْكِي نَبِيًّا مِنْ الأَنْبِيَاءِ ضَرَبَهُ قَوْمُهُ فَأَدْمَوْهُ وَهُوَ يَمْسَحُ الدَّمَ عَنْ وَجْهِهِ وَيَقُولُ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ(1).
وعن أبي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ @:"مَنْ يُرِدْ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُصِبْ مِنْهُ"(2).
وكم يتألم المسلم في هذا الزمان وهو يرى إخواناً له في شتى بقاع الأرض يؤذون بأنواع الأذايا والبلايا من ضربٍ وسجنٍ، ومنهم من يقتل بغير ذنب ولا جريرة إلاّ أنه مسلم متمسكٌ بدينه، يطلب رضى الله بإتباع رسوله @ قال تعالى: { وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ د‰دJutù:$# (8) } [البروج:8].
فلابدّ من تذكير هؤلاء بمثل هذه النصوص العظيمة التي تمدهم بزاد من الإيمان وتصبرهم على أقدار الله المؤلمة.
قال تعالى: { فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ 'دoTr& لَا أُضِيعُ عَمَلَ 5@دJ"tم مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا (#qم_حچ÷zé&ur مِنْ ِNدdحچ"tƒدٹ وَأُوذُوا فِي 'ج?خ6y™ وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا ¨buچدeےx._{ عَنْهُمْ ِNخkجE$t"حhy™ ِNكg¨Yn=د{ôٹ_{ur جَنَّاتٍ "حچّgrB مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ (195) } [آل عمران:195].
} - { } - {
(29)
الدَّاعِيَة البَصِير..
يكثر من الدعاء لنفسه بالتوفيق
__________
(1) …أخرجه: البخاري في صحيحه (3/1282رقم3290)، ومسلمٌ في صحيحه (3/1417 رقم 1792).
(2) …أخرجه: البخاري في صحيحه (5/2138رقم5321). قال ابن الأثير: "أي: ابتلاه بالمصايب ليثيبه عليها". النهاية في غريب الأثر (3/57)، وهذه المصائب شاملة للأمراض وغيرها من البلايا والمحن التي تصيب المسلم، والله المستعان.(1/72)
في الحديث الصحيح عَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ عَنْ النَّبِيِّ @ فِي قَوْلِهِ: { وَقَالَ رَبُّكُمُ 'دTqممôٹ$# َ=إftGَ™r& لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ tbrمژة9ُ3tGَ،o" عَنْ 'دAyٹ$t6دم سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ ڑْïحچ½z#yٹ (60) } [غافر:60]، قَالَ @:"الدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةُ، وَقَرَأَ وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ - إِلَى قَوْلِهِ - دَاخِرِينَ"(1).
والآيات والأحاديث في الحث على الدعاء وبيان فضله وأثره وشروطه كثيرة، وقد أفردت لها مؤلفات(2).
وما زالت إجابة الداعين أمرا مشهودا إلى يومنا هذا لمن صدق اللجوء إلى الله تعالى وأتى بشرائط الإجابة.
قال ابنُ القيم: "كلُّ خيرٍ فأصلهُ التوفيق وهو بيد الله لا بيد العبد، فمفتاحُهُ الدعاءُ والافتقارُ وصدقُ اللَّجأ والرغبةِ والرهبة إليه، فمتى أَعْطَي العبدَ هذا المفتاحَ فقد أراد أن يفتح له، ومتى أضله عن المفتاح بقي بابُ الخير مُرتجاً دونه"(3).
__________
(1) …رواه: أبو داود في الصلاة (رقم 1479)، والترمذي في الدعوات (رقم2969) والنسائي في التفسير من السنن الكبرى (رقم11464)، وابن ماجة في الدعاء (رقم3828) من حديث النعمان بن بشير، وقال الترمذي حديث حسن صحيح، وصححه ابنُ حبان (رقم 890)، والحاكمُ في مستدركه (رقم1802).
(2) …ومن أحسن من كتب في الدعاء من المعاصرين - في رأيي - زميلنا وشيخنا د.عبد الرزاق بن عبدالمحسن البدر - حفظه الله - في كتابه القيّم "فقه الأدعية والأذكار" (2/271) فليراجع.
(3) …الفوائد (ص:127).(1/73)
فحقيقٌ بالدَّاعِيَة البَصِير أنْ يكثر من الدعاء بالحديث الصحيح: "اللَّهُمَّ رَبَّ جَبْرَائِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَإِسْرَافِيلَ، فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ، عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ، اهْدِنِي لِمَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِنْ الْحَقِّ بِإِذْنِكَ، إِنَّكَ تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ"(1).
قال ابنُ القيم: "وكان شيخنا كثيرُ الدعاءِ بذلك، وكان إذا أشكلت عليه المسائل يقول: يا معلم إبراهيم علمني، ويكثر الاستعانة بذلك اقتداء بمعاذ بن جبل > حيث قال لمالك بن يخامر السكسكي عند موته - وقد رآه يبكي - فقال: والله ما أبكي على دنيا كنت أصيبها منك، ولكن أبكي على العلم والإيمان اللذين كنت أتعلمهما منك، فقال معاذ بن جبل >: إنَّ العلم والإيمان مكانهما، من ابتغاهما وجدهما اطلب العلم عند أربعة عند: عويمر أبي الدرداء، وعند عبد الله بن مسعود، وأبي موسى الأشعري، وذكر الرابع، فإن عجز عنه هؤلاء فسائر أهل الأرض عنه أعجز، فعليك بمعلم إبراهيم - صلوات الله عليه -، وكان بعض السلف يقول عند الإفتاء: سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، وكان مكحول يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله، وكان مالك يقول: ما شاء الله لا قوة إلا بالله العلي العظيم، وكان بعضهم يقول: رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري، واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي، وكان بعضهم يقول: اللهم وفقني واهدني وسددني واجمع لي بين الصواب والثواب وأعذني من الخطأ"(2).
وقد ختمتُ هذا الجزء المتواضع بهذه الوصية لكي تكون آخر ما يرسخ في ذهن القارئ الكريم، وأوَّل ما يعمله بعد قراءة الكتاب!.
__________
(1) …أخرجه: مسلم في صحيحه، كتاب صلاة المسافرين وقصرها(1/534رقم770).
(2) …إعلام الموقعين (4/257).(1/74)
آملاً من الدَّاعِيَة البَصِير أنْ يُشركني معه في دعوةٍ صالحةٍ متضمنة سؤال الله العلمَ النافعَ والعملَ الصالحَ، مُذكّراً بما رَوَاهُ صَفْوَانُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَفْوَانَ - وَكَانَتْ تَحْتَهُ الدَّرْدَاءُ - قَالَ: قَدِمْتُ الشَّامَ فَأَتَيْتُ أَبَا الدَّرْدَاءِ فِي مَنْزِلِهِ فَلَمْ أَجِدْهُ، وَوَجَدْتُ أُمَّ الدَّرْدَاءِ، فَقَالَتْ: أَتُرِيدُ الْحَجَّ الْعَامَ؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ، قَالَتْ: فَادْعُ اللَّهَ لَنَا بِخَيْرٍ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ @ كَانَ يَقُولُ: "دَعْوَةُ الْمَرْءِ الْمُسْلِمِ لأَخِيهِ بِظَهْرِ الْغَيْبِ مُسْتَجَابَةٌ، عِنْدَ رَأْسِهِ مَلَكٌ مُوَكَّلٌ كُلَّمَا دَعَا لأَخِيهِ بِخَيْرٍ قَالَ الْمَلَكُ الْمُوَكَّلُ بِهِ: آمِينَ وَلَكَ بِمِثْلٍ"، قَالَ: فَخَرَجْتُ إِلَى السُّوقِ فَلَقِيتُ أَبَا الدَّرْدَاءِ فَقَالَ لِي مِثْلَ ذَلِكَ يَرْوِيهِ عَنْ النَّبِيِّ @(1).
} - { } - {
الموضوع ... الصفحة
` ... المقدمة… ... 5
` ... (1) الدَّاعِيَة البَصِير..يبدأ بالأهم فالمهم. … ... 9
` ... (2) الدَّاعِيَة البَصِير..لا يتعصب ولا يتحزب ولا ينتمي إلاّ للكتاب والسنة. … ... 13
` ... (3) الدَّاعِيَة البَصِير..يحقق مبدأ الوسطية الحقة. … ... 15
` ... (4) الدَّاعِيَة البَصِير..يحذر أشدَّ الحذر من تصنيف الناس بالظنّ. … ... 21
` ... (5) الدَّاعِيَة البَصِير..يعتني بالقواعد الشرعية في دعوته. … ... 24
` ... (6) الدَّاعِيَة البَصِير..يراعي فقه الموازنة بين المصالح والمفاسد. … ... 28
` ... (7) الدَّاعِيَة البَصِير..وفِقْهُ إنكارِ المُنْكر. … ... 36
` ... (8) الدَّاعِيَة البَصِير..يعتني ببيان محاسن الإسلام. … ... 38
` ... (9) الدَّاعِيَة البَصِير..يحذر من مخالفة الكتاب والسنة مسايرةً للواقع. … ... 40
__________
(1) …أخرجه: مسلم في صحيحه (4/2094رقم2733).(1/75)
` ... (10) الدَّاعِيَة البَصِير.. يتقن المحاورة وآدابها. … ... 45
` ... (11) الدَّاعِيَة البَصِير.. يجمعُ بين القوتين:العلمية والعملية ــ قدر المستطاع ــ. … ... 51
` ... (12) الدَّاعِيَة البَصِير..يتثبت دائماً ولا يتعجل. … ... 53
` ... (13) الدَّاعِيَة البَصِير..وفقه الفتن. … ... 55
` ... (14) الدَّاعِيَة البَصِير..يتفقدُ قَلْبَهُ. … ... 60
` ... (15) الدَّاعِيَة البَصِير..لا يستوحش من قلة السالكين. … ... 70
` ... (16) الدَّاعِيَة البَصِير..يقابل الضعف بالقوة. … ... 74
` ... (17) الدَّاعِيَة البَصِير..يُفرّق بين مرتكبي المعاصي، وينزل كلاً منزلته. … ... 77
` ... (18) الدَّاعِيَة البَصِير..يستشعر مسؤولية الكلمة ويفكر قبل أن يجيب. … ... 79
` ... (19) الدَّاعِيَة البَصِير..مباركٌ أينما كان. … ... 81
` ... (20) الدَّاعِيَة البَصِير..لا يُشغل نفسه بالآفات ما لم تعترضه. … ... 84
` ... (21) الدَّاعِيَة البَصِير..يُداري ولا يداهن. … ... 86
` ... (22) الدَّاعِيَة البَصِير..يتعاهدُ المسلمين بالزيارة والتواصل. … ... 88
` ... (23) الدَّاعِيَة البَصِير..لا تفارق الابتسامة والبشاشة وجه. … ... 91
` ... (24) الدَّاعِيَة البَصِير..حليمٌ ذو وَقارٍ وسكينة. … ... 94
` ... (25) الدَّاعِيَة البَصِير..رفيقٌ رحيمٌ، وغليظٌ شديدٌ. … ... 97
` ... (26) الدَّاعِيَة البَصِير..يكثر من الاستشارة. … ... 99
` ... (27) الدَّاعِيَة البَصِير..يستخير الله قبل العمل. … ... 102
` ... (28) الدَّاعِيَة البَصِير..يُوطنُ نفسَهُ عَلَى البَلاءِ وَيَصبرُ إذَا نَزَلَ بهِ. … ... 105
` ... (29) الدَّاعِيَة البَصِير..يكثر من الدعاء لنفسه بالتوفيق. … ... 110
` ... فهرس الموضوعات … ... 113
`
صَدَرَ للدكتور: علي بن عبد الله الصياح:
`"الجزء العاشر من مسند يعقوب بن شيبة" ــ تحقيق ودراسة ــ. دار الغرباء للنشر والتوزيع.(1/76)
`"جهود المحدثين في بيان علل الحديث" دار المحدّث للنشر والتوزيع.
`"قَصَصٌ وَنَوادرٌ لأئمةِ الحديثِ المُتقدّمين في تتبعِ سُنّةِ سيّدِ المُرْسلين والذبِّ عنها". دار المحدّث للنشر والتوزيع.
`"إِشْكَالٌ وَجَوَابُه فِي حَدِيثِ أُمِّ حَرَام بِنْتِ مِلْحَانَ" دار المحدّث للنشر والتوزيع.
`"الدَّاعِيَةُ البَصِير..أخلاقُهُ وَصفاتُهُ وَمنهجُهُ في ضوءِ الكِتابِ والسُّنةِ الصحيحة" مدار الوطن للنشر.
`"مِنْ سِيَرِ عُلَماءِ السلفِ عِنْدَ الفتنِ مُطَرِّفُ بنُ عبدِ الله بنِ الشِّخِّيرِ نَمُوذَجَاً" مدار الوطن للنشر.
`"أحاديث تعظيم الربا على الزنا دراسة نقدية" مركز بحوث كلية التربية في جامعة الملك سعود.
`"الموسوعة العلمية الشاملة عن الإمام الحافظ يعقوب بن شيبة السدوسي" أضواء السلف.
`"المدخل إلى الثقافة الإسلامية" مقرر لطلاب جامعة الملك سعود، بالاشتراك مع بعض زملائه، مدار الوطن للنشر.
تحت الطباعة:
`"المنهج العلمي في دراسة الحديث المعل" بحث محكم في جامعة الإمام محمد بن سعود.
`"الثِّقَاتُ الَّذِينَ تَعَمَّدُوا وَقْفَ الْمَرْفُوعِ أو إِرْسَالَ الْمَوْصُولِ" بحث محكم في الجامعة الإسلامية.
`تحقيق" مُلَخَّصٌ مِنْ مُسْنَدِ أبي يوسف يَعْقُوب بنِ شَيْبَةَ بنِ الصَّلْتِ مِنْ مُسْنَدِ عُمَرَ بنِ الخَطَّاب" للكاملي (ت835).
`"هَكَذَا حَجَّ الصَّالِحُونَ والصالحات...!".
وصَدَرَ من سلسلة "تحقيقات طلاب وطالبات شعبة التفسير والحديث قسم الثقافة الإسلامية جامعة الملك سعود" والتي يشرف عليها الدكتور علي الصياح:
`"التراجم الساقطة من إكمال تهذيب الكمال لمغلطاي المطبوع" تحقيق ودراسة: طُلاّب وطالبات مرحلة الماجستير (لعام 1424-1425)، دار المحدّث للنشر والتوزيع.(1/77)
`"العلل الواردة في الأحاديث النبوية للإمام أبي الحسن علي بن عمر الدار قطني من "مسند أمِّ الفضل بنتِ حمزة" إلى "مسند خنساء بنت خدام" ــ وهو آخر مسند في الكتاب ــ" تحقيق ودراسة: طُلاّب وطالبات مرحلة الدكتوراه (لعام 1425ــ 1426)، كنوز إشبيليا للنشر والتوزيع.
إن الدعوة إلى الله - عز وجل - من أجلّ الأعمال التي يعملها المسلم في حياته وأفضلها وأشرفها مقاماً، وهي مهمة الرسل والأنبياء، قال تعالى لنبيه محمد @ { قُلْ ¾دnة"yd 'ج?ٹخ6y™ (#ûqممôٹr& إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ سة_yèt6¨?$# وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108) } [يوسف:108]، وقال تعالى: { وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ $[sد="|¹ وَقَالَ سة_¯Rخ) مِنَ tûüدJد=َ،كJّ9$# (33) } [فصلت: 33]. ولم أن لم يرد في فضل الدعوة والدعاة إلا هذا لكان ذلك كافياً أن يسعى كل مسلم ليفوز بهذا الفضل العظيم.
ولكن حتى يكون الداعية ناجحاً، يحتاج أن يكون بصيراً، بطبيعة الدين الذي يدعو إليه، والمنهج الذي يدعو به، والوسط الذي يدعو فيه، والناس الذين يدعوهم وهذه البصيرة مهمة جداً لفوزه بهدفه المنشود.
كما يجب عليه أن يفحص شخصيته جيداً، ليقوم ما قد يكون فيها من عوج، ويعيد ترتيب منظومته الفكرية، حتى يمكنه استغلال كل قدراته من أجل البلوغ إلى هدفه السامي في هداية الناس إلى الحق.
وهذا الكتاب يضع خطوطاً لإنجاح عمل الدعاة إلى الله بإذنه - عز وجل -، في شيء في التفصيل غير الممل أحياناً، وبإيجاز غير مُخلٍّ أحياناً أخرى.. رجاء أن يستفيد منه كل من يمارس هذا العمل العظيم أو تهفو به نفسه لممارسته، ولكن يسأل.. كيف تتم الدعوة إلى الله؟(1/78)