بسم الله الرحمن الرحيم
الخمس
بين الفريضة الشرعية والضريبة المالية
تأليف/ علاء عباس الموسوي
المقدمة
هذا الكتاب
إن كنت ممن قَيَّد لجامُ التقليد عقله، أو غطى ضباب التعصب بصيرته، فلا تضيع دقائق عمرك الثمينة في قراءته، فإنك لن تنتفع به ولست من المقصودين بتأليفه.
وأما إذا كنت ممن تذوق حلاوة العيش في ظلال قول رسولك الكريم وإمامك الحكيم محمد صلى الله عليه وآله وسلم: {الحكمة ضالة المؤمن أنَّى وجدها فهو أحقُّ بها} فاقرأه فإنه نافعك بإذن الله، ولن تضيع فيك جهود أيام وليال، بل... سنين من عمري الثمين.
المؤلف
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي هدانا لمحكم كتابه وتنزيله ونجَّانا ممن ((فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ)) [آل عمران:7] والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله، الذي بعثه الله تعالى ليبين للناس ما نُزل إليهم ويحكم بينهم فيما اختلفوا فيه بقوله وفعله وتقريره.
وبعد:
فهذه رسالة مختصرة في حكم (الخمس): هل هو فرض جعله الله في الأموال المغنومة من الكفار المحاربين؟ أم هو (ضريبة دخل) على مكاسب المسلمين المسالمين؟ وذلك بالأدلة النقلية الصحيحة والحجج العقلية الصريحة التي يفرضها المنطق ويسندها الواقع ويؤيدها التاريخ أضعها بين يدي كل مسلم متفتح العقل، حي الضمير، ينظر إلى الأمور ببصيرة نافذة، وعقلية محايدة ونية خالصة.
لعلّنا نفيق من سكرتنا، ونقوم من وهدتنا فتجتمع كلمتنا، وما ذلك على الله بعزيز.
المؤلف
1419هـ - 1998م
تمهيد(1/1)
ورد ذكر (الخمس) في القرآن الكريم مرة واحدة فقط وذلك في سورة الأنفال في قوله تعالى: ((وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)) [الأنفال:41] * ((إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ)) [الأنفال:42].
ومن المعلوم أن سورة (الأنفال) كلها نزلت تعقيباً على معركة بدر الكبرى التي يسميها الله بـ(يوم الفرقان)، والتي هي أول معركة قادها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ضد المشركين انتصر فيها المسلمون وغنموا أموال أعدائهم فاحتاجوا إلى معرفة كيفية تقسيمها وتصريفها بعد أن اختلفوا في ذلك وصاروا فريقين ورأيين مختلفين، كما أخبر الله عنهم في مطلع السورة بقوله: ((يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَنْفَالِ قُلْ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ)) [الأنفال:1].
ثم في وسط السورة نزلت آية الخمس تبين لهم وتحكم بينهم في ما اختلفوا فيه.
ثم السورة كلها حديث عن تلك المعركة الفاصلة وأحداثها والدروس المستخلصة منها.(1/2)
وعلى هذا التقسيم سار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حياته كلها والخلفاء الراشدون من بعده- بما فيهم أمير المؤمنين علي عليه السلام في الأموال التي كانوا يظفرون بها من أعدائهم المحاربين.
ومن الناحية التاريخية، فإنه لا يعرف عن أحد منهم أنه كان يَفرض على مكاسب المسلمين وأموالهم شيئاً اسمه (الخمس)، بل ولا على أموال المسالمين من الكافرين -أهل الذمة- وإنما هي الزكاة والصدقات والخراج والجزية وأمثالها.
ومن خلال متابعتي لهذا الموضوع العلمية والميدانية، وتعرفي على أدلة الفريقين توصلت إلى حقائق مهمة جداً، قد يكون بعضها يكشف عنه النقاب لأول مرة! أحببتُ أن أضعها بين يدي إخواني المسلمين دون تفريق بين طائفة أو مذهب، بل خدمة للحق والحقيقة.
وسأبدأ بالكلام عن حكم خمس المكاسب في النصوص الواردة عن (الأئمة) في المصادر المعتمدة، واختلافه الواضح عنه في فتاوى الفقهاء، ثم أتكلم عن هذا الموضوع عموماً، وهل المقصود به في الآية الكريمة (آية الأنفال) خمس المكاسب أم خمس الغنائم؟ وذلك في الباب الثاني إن شاء الله تعالى.
الباب الأول: خمس المكاسب بين أقوال (الأئمة) وفتاوى الفقهاء
الفصل الأول: حقائق خطيرة ومثيرة:- [حقائق خطيرة ومثيرة حول الخمس]:=
من خلال دراستي لموضوع خمس المكاسب اكتشفت حقائق مهمة -في غاية الأهمية- ومع ذلك فهي -حسب علمي- مجهولة تماماً لدى جميع الذين يقومون بدفعه وأدائه إلى المجتهدين أو (السادة) المنتسبين إلى بيت أمير المؤمنين علي عليه السلام، وتأتي أهمية هذه الحقائق من كونها تحدث انقلاباً كاملاً في نظرة من يطلع عليها ومفهومه القديم (للخمس)، وسيكتشف لأول مرة الفرق الهائل بين التقاليد الموروثة والحقائق المجهولة! ولا يحتاج بعدها إلاَّ إلى شيء من الجرأة والاستقلالية في الرأي للتمرد على الموروث الخاطئ من أجل الحقيقة الصحيحة، من هذه الحقائق:
الحقيقة الأولى:(1/3)
إن أداء خمس المكاسب إلى الفقيه لا يستند إلى أي دليل ولا أصل له بتاتاً في أي مصدر من المصادر الحديثية الشيعية المعتمدة(1)، وبعبارة أخرى أصرح وأوضح:
إن هذا الأمر لا يستند ولو إلى نص واحد أو دليل منقول عن الأئمة المعصومين الذين ينبغي أن يكون اعتماد المذهب عليهم ومرجع فتاوى علمائه -لاسيما في الأمور العظيمة- إليهم يدل -أو حتى يشير مجرد إشارة- إلى ما يفعله الكثير اليوم طبقاً إلى الفتاوى التي توجب على المقلد إعطاء خمس أرباحه وأمواله وكسبه إلى الفقيه، إذ لا وجود لهذا النص في أي مصدر من المصادر المعتمدة -كما أسلفت- فهل تصدّق؟!!
الحقيقة الثانية:
وهي أعظم وأعجب! وبقدر ما هي كذلك فهي مجهولة أو مستورة بحيث لا يعرفها أحدٌ من الجماهير التي تعتقد بوجوب دفع (الخمس)... هذه الحقيقة هي:
إن كثيراً من النصوص الواردة عن الأئمة تسقط (الخمس) عن الشيعة وتبيحه لهم -خصوصاً- في زمن الغيبة إلى حين ظهور المهدي المنتظر.
الحقيقة الثالثة:
وهي أعظم وأطم!! إن هذه النصوص تجعل حكم أداء الخمس للإمام ذاته وفي حالة حضوره الاستحباب أو التخيير بين الأداء وتركه وليس الوجوب.
الحقيقة الرابعة:
وهي غريبة حقاً وملفتة للنظر بشكل مثير! إن أحداً من علماء المذهب الأقدمين الذين عليهم قام المذهب وتكون، كالشيخ المفيد (ت 413هـ) أو السيد المرتضى علم الهدى (ت 436هـ)، أو شيخ الطائفة أبي جعفر الطوسي (ت 460هـ)، وغيرهم لم يذكر قط مسألة إعطاء الخمس إلى الفقهاء، بل ربما لم تخطر لهم على بال.
الحقيقة الخامسة:
وهي عجب في عجب!! تظهر هذه الحقيقة جلية بمجرد إجراء مقارنة سريعة بين حكم أداء الخمس للفقيه وأدائه للإمام، إذ يلاحظ التناقض التام بين الحكمين:
__________
(1) هي الكتب الأربعة: الكافي للكليني، وفقيه من لا يحضره الفقيه لابن بابويه القمي، وتهذيب الأحكام، والاستبصار لشيخ الطائفة الطوسي.(1/4)
فمع أن الخمس -حسب النظرية الإمامية - هو حق الإمام إلا أن حكم أدائه إليه في كثير من الروايات المعتبرة الاستحباب وليس الوجوب -كما سيأتي من خلال عرض هذه الروايات لاحقاً- فكيف ارتقت درجة أدائه إلى الفقيه، فصار حكمه واجباً؟! في حين أن الفتوى التي أدخلت الفقيه في الموضوع إنما أدخلته بقياسات واجتهادات غايتها أن تجعل منه نائباً أو وكيلاً عن صاحب الحق (الإمام) لا أكثر.
فكيف تغير الحكم وارتفع من درجة الاستحباب إلى الوجوب مع أن المنطق يقضي في أن يكون -في أحسن أحواله- مشتركاً بينهما أي: مستحباً مع الالتفات إلى الفارق الكبير بين الفقيه وبين الإمام المعصوم في الدرجة والمنزلة فكان المفترض أن ينزل الحكم من الاستحباب إلى الإباحة وهذا هو الذي جاءت به كثير من النصوص عن الأئمة وقال به كثير من الفقهاء، والمقصود بالإباحة هنا أن صاحب المال يباح له التصرف بماله دون أن يطالب بأداء خمسه إلى أي جهة كانت.
الحقيقة السادسة:
إن نظرية الخمس في أصل تكوينها تجعل للإمام نفسه نصف الخمس، وهو حق الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم وذي القربى. أما النصف الآخر فهو لليتامى والمساكين وابن السبيل من بني هاشم، يُعطى له أي الإمام ليفرقه فيهم لا ليأخذه لنفسه(1).
إلا أن الواقع المشاهَد أن الفقيه يأخذ الخمس كله دون مراعاة هذه القسمة.
فكيف؟! هل يباح للفقيه من الحقوق ما لا يباح للإمام ذاته؟! أم ماذا؟
الحقيقة السابعة:
إن نظرية الخمس في شكلها الأخير تقسم الخمس نصفين -كما أسلفت في الحقيقة السادسة- نصف للفقيه باعتباره نائباً عن الإمام، ونصف لفقراء بني هاشم (يتاماهم ومساكينهم وأبناء سبيلهم) وليس للغني ذكر فيها.
__________
(1) انظر: النهاية في مجرد الفقه والفتاوى للطوسي (ص:265)..(1/5)
وإذن فليس للأغنياء الذين ينتسبون إلى أهل البيت نصيب فيه؛ لأنهم ليسوا من صنف الفقهاء ولا من صنف الفقراء، فما يفعله هؤلاء من أخذ الأموال باسم الخمس بحجة النسب باطل لا يسنده دليل.
وهذه الحقيقة مجهولة من قبل عامة من يقوم بدفع (الخمس) إليهم إذ يدفعون تلك الأموال لكل من يدعي النسبة دون النظر إلى كونه غنياً أم فقيراً.
الحقيقة الثامنة:
وهكذا نصل إلى القول بأن إخراج (الخمس) وإعطاءه إلى الفقهاء لا يستند إلى أي نص عن أي إمام معصوم، وإنما هو فتوى مختلفٌ فيها لبعض -وليس جميع- الفقهاء المتأخرين -وليس المتقدمين-.
وقد اختلف الفقهاء فيها وفي تفصيلاتها كثيراً، من فقيه إلى فقيه، ومن زمان إلى زمان، وظلت هذه الفتوى تعاني من النقص ومن إجراءات التحوير والتطوير جيلاً بعد جيل، وقرناً بعد قرن، دون أن تستقر على صورة نهائية وإلى اليوم!! مما يجعل كل عارف بهذه الحقائق على يقين من عدم استناد هذه الفتوى إلى دليل.
الفصل الثاني: الأدلة التفصيلية على الحقائق السابقة:-
النصوص الواردة عن الأئمة المعصومين في إسقاط الخمس:-
* عن أبي عبد الله عليه السلام -وقد سئل-: [[من أين دخل على الناس الزنا؟ قال: من قبل خمسنا أهل البيت. إلا شيعتنا الأطيبين فإنه محلل لهم لميلادهم]](1).
في هذا النص يظهر واضحاً أن الإمام الصادق أباح الخمس لشيعته، وهذا مع وجوده وحضوره، وأن الشيعة غير ملزمين بدفعه من أجل أن يطيب ميلادهم، ولا يكونوا أبناء زنا إذا امتنعوا عن أدائه كبقية الناس من غير الشيعة الذين دخل عليهم الزنا بذلك!
* عن أحدهما عليه السلام قال: [[إن أشد ما فيه الناس يوم القيامة صاحب الخمس، فيقول: يا رب خمسي.
وقد طيَّبنا ذلك لشيعتنا لتطيبَ ولادتهم ولتزكوَ أولادهم]].(2).
__________
(1) أصول الكافي للكليني (1/546).
(2) أصول الكافي للكليني (1/547)، وفقيه من لا يحضره الفقيه للقمي (2/22)..(1/6)
وقد رواه الطوسي في الاستبصار هكذا: [[إن أشد ما فيه الناس يوم القيامة أن يقوم صاحب الخمس فيقول: يا رب خمسي، وقد طيَّبنا ذلك لشيعتنا لتطيب ولادتهم وليزكو أولادهم]].(1).
وهذا النص كسابقه في إباحة الخمس للشيعة وعدم إلزامهم به حتى في زمن حضور الإمام.
* عن أبي عبد الله عليه السلام في قوله تعالى: [[((وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى)) [الأنفال:41]- قال: هي والله الإفادة يوماً بيوم إلا أن أبي جعل شيعته في حل ليزكوا]].(2).
* عن أبي عبد الله عليه السلام قال: [[إن الناس كلهم يعيشون في فضل مظلمتنا، إلا أنَّا أحللنا شيعتنا من ذلك]].(3).
والنصان الأخيران واضحا الدلالة على أن الأئمة قد أحلوا الخمس لشيعتهم وأسقطوه عنهم.
* عن أبي عبد الله عليه السلام قال:- [[وهو يتحدث عن أنهار الدنيا الخمسة فما سقت أو استقت فهو لنا، وما كان لنا فهو لشيعتنا، وليس لعدوّنا منه شيءٌ إلا ما غصب عليه، وإن وليَّنا لفي أوسع مما بين ذه إلى ذه]] يعني: ما بين السماء والأرض.(4).
تأمّل قول الإمام: (ما كان لنا فهو لشيعتنا) أي: إن حق الإمام ملك لشيعته أباحه لهم. والمالك حُرٌّ في تصرفه بملكه، فإذا كان الإمام نفسه قد ملّك شيعته ما كان له من نصيب في الخمس فبأي حق يأتي من وضع نفسه وكيلاً عنه دون توكيل منه ليطالب بحقه الذي تنازل عنه، بل يشدد في المطالبة؟!.
إذا كان لرجل على آخر دين تنازل له عنه والتنازل مكتوب في وثيقة مصدقة ومعتبرة، ثم مات الرجل فهل من حق ورثته المطالبة بالدين؟
أليست هذه الروايات وغيرها من أمثالها وثائق معتبرة يمكن إبرازها من قبل أي مسلم عند من يطالبه بشيء اسمه الخمس؟!
__________
(1) الاستبصار (2/57)..
(2) أصول الكافي للكليني (1/544)..
(3) فقيه من لا يحضره الفقيه للقمي (2/24)..
(4) أصول الكافي (1/409)..(1/7)
وإذا لم تكن هذه وثائق معتبرة فبأي رواية يمكن أن يكون الاعتبار؟ ولماذا يضرب بهذه الروايات عرض الحائط حتى كأنها لم توجد، ويؤخذ بغيرها من أمثالها؟! وتأمل-أيضاً- قوله عليه السلام: (وإن ولينا لفي أوسع مما بين ذه إلى ذه). أي: لا يجب عليه شيء إذ هو في سعة من أمره أوسع مما بين السماء والأرض!
* عن أبي عبد الله عليه السلام -وقد جاءه أحد أتباعه بمال فرده عليه وقال:- [[قد طيبناه لك وأحللناك فيه فضم إليك مالك وكل ما في أيدي شيعتنا من الأرض فهم فيه محللون حتى يقوم قائمنا]].(1).
وهذا تطبيق عملي للروايات السابقة في إباحة الخمس، وإذا جمعنا هذه الروايات إلى غيرها يتبين لنا أن الخمس مباح من قبل الإمام الصادق عليه السلام ومن بعده حتى يقوم القائم - أي المهدي المنتظر -، فمن أوجبه إذن، إذا كان الإمام نفسه قد أباحه؟!
* عن يونس بن يعقوب قال: [[كنت عند أبي عبد الله عليه السلام فدخل عليه رجل من القماطين فقال: جعلت فداك تقع في أيدينا الأرباح والأموال وتجارات نعرف أن حقك فيها ثابت وإنا عن ذلك مقصرون، فقال عليه السلام: ما أنصفناكم أن كلفناكم ذلك اليوم]].(2).
وهذا فيه أن التكليف بدفع الخمس ينافي الإنصاف!! هذا والإمام حاضر فكيف وقد غاب؟!
* عن علي بن مهزيار أنه قال: [[قرأت في كتاب لأبي جعفر عليه السلام إلى رجل يسأل أن يجعله في حل من مأكله ومشربه من الخمس فكتب عليه السلام بخطه: من أعوزه شيءٌ من حقي فهو في حل]].(3).
* جاء رجل إلى أمير المؤمنين عليه السلام قال: [[يا أمير المؤمنين أصبت مالاً أغمضتُ فيه أفلي توبة؟ قال: ائت بخمسه، فأتاه بخمسه فقال: هولك، إن الرجل إذا تاب تاب مالُه معه]].(4).
__________
(1) أصول الكافي (1/408)..
(2) فقيه من لا يحضره الفقيه للقمي (2/23)..
(3) فقيه من لا يحضره الفقيه للقمي (2/23)..
(4) فقيه من لا يحضره الفقيه للقمي (2/23)..(1/8)
وقد بوَّب الطوسي في الاستبصار: (باب ما أباحوه لشيعتهم -عليهم السلام- من الخمس حال الغيبة)(1) أورد تحته عدة روايات منها ما سبق ذكرها ومنها:
* عن أبي عبد الله عليه السلام قال: [[هذا لشيعتنا حلال الشاهد منهم والغائب، والميت منهم والحي ومن تولَّد منهم إلى يوم القيامة فهو لهم حلال]].(2).
* عن أبي جعفر عليه السلام قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام: [[هلك الناس في بطونهم وفروجهم؛ لأنهم لم يؤدوا إلينا حقنا، ألا وإن شيعتنا من ذلك وآباءهم في حل]].(3).
* وروى في موضع آخر الرواية التالية:- عن أبي عبد الله عليه السلام قال: {كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا أتاه المغنم أخذ صفوه وكان ذلك له، ثم يقسم ما بقي خمسة أخماس، ثم يأخذ خمسه ثم يقسم أربعة أخماس بين الناس}.(4).
وهذا يعني أن المغنم هو غنيمة الحرب خاصة؛ لأن أموال الناس ومكاسبهم وعقاراتهم لا ينطبق عليها هذا القول إذ هي لا يمكن -ولم يحدث- أن يؤتى بها ويأخذ منها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولا غيره ما يعجبه ثم بعد ذلك يقسمها خمسة أقسام يأخذ واحداً منها ثم يقسم الأربعة الأقسام الأخرى بين الناس. وهذا ما جاء في رواية أخرى:
* عن عبد الله بن سنان قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: [[ليس الخمس إلا في الغنائم خاصة]].(5).
* عن العبد الصالح عليه السلام: [[وله –أي: الإمام- نصف الخمس كاملاً، ونصف الخمس الباقي بين أهل بيته، فسهم ليتاماهم، وسهم لمساكينهم، وسهم لأبناء سبيلهم...]] وفي آخر الرواية يعود ليقول: [[وجعل للفقراء قرابة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم نصف الخمس]].(6).
__________
(1) الاستبصار (2/57)..
(2) المصدر السابق (2/58)..
(3) أيضاً (2/59)..
(4) أيضاً (2/57)..
(5) أيضاً (2/56)..
(6) أصول الكافي (1/540، 542)..(1/9)
فالخمس إذن نصفه للإمام -حسب هذه الرواية- ونصفه للفقراء (اليتامى والمساكين وأبناء السبيل) فليس للأغنياء فيه نصيب وإن كانوا من ذرية أهل البيت، وعلى هذا نص الفقهاء قديماً وحديثاً- كما سيأتي:
فهذه هي أقوال الأئمة وتوجيهاتهم في الروايات الواردة عنهم، فإن كان موضوع الخمس وأحكامه قد أسست على أقوال الأئمة، فهذه أقوالهم... وإن كانت أسست على شيء آخر فذلك شأن من أسسها والأئمة منه برآء، ولا علاقة لنا به ولا حجة له علينا، وهنا يحق لنا أن نتساءل ونقول: فمن أين نشأ القول بوجوب الخمس وأدائه إلى الفقيه؟! ومتى؟!!
هذا ما سأحاول الإجابة عنه من خلال استقراء أقوال فقهاء المذهب.
كبار الفقهاء يُسقطون الخمس أيضاً:-
لم يكن الحكم بإباحة الخمس وإسقاطه عن الشيعة، وعدم إلزامهم به قولاً للأئمة فقط -وإن كان هذا يكفي؛ لأن قول الإمام حجة -حسب قواعد المذهب- ولا اجتهاد مع النص أو قول الإمام، وإنما على هذا الحكم أيضاً كبار فقهاء المذهب ومشاهيره على مر التاريخ محتجين بهذه الروايات التي أسلفنا ذكرها مما يدل صراحة على اعتبارها عندهم.
من هؤلاء الفقهاء:
ا- العلامة أحمد الأردبيلي (ت 993هـ): الذي كان أبرز فقهاء عصره على الإطلاق حتى لُقب بالفقيه المقدس!!
يقول الأردبيلي: اعلم أن عموم الأخبار.. يدل على السقوط بالكلية في زمان الغيبة والحضور، بمعنى عدم الوجوب الحتمي... وهذه الأخبار هي التي دلت على السقوط حال الغيبة، وكون الإيصال مستحباً أي: زمن الحضور كما هو مذهب البعض مع ما مر من عدم تحقق الوجوب إلا قليلاً لعدم دليل قوي على الأرباح والمكاسب وعدم الغنيمة.(1).
تأمل التشابه بين هذه الفتوى ونصوص الأئمة السابقة، وكيف يستدل على سقوط الخمس بالأخبار الواردة عن الأئمة.
2- محمد الباقر السبزواري (1018هـ-1090هـ):
__________
(1) مجمع الفائدة والبرهان (4/355- 358)..(1/10)
قال في ذخيرة المعاد: المستفاد من الأخبار الكثيرة في بحث الأرباح كصحيحة الحارث بن المغيرة النضري، وصحيحة الفضلاء وصحيحة زرارة وصحيحة علي بن مهزيار، وصحيحة ضريس وحسنة الفضيل، ورواية محمد بن مسلم ورواية داود بن كثير ورواية الحارث بن المغيرة ورواية معاد بن كثير، ورواية إسحاق بن يعقوب، ورواية عبد الله بن سنان، ورواية حكم مؤذن بني عبس، إباحة الخمس للشيعة.(1).
وقد خير بين الإباحة وبين حفظ حصة الإمام إلى حين ظهوره أو قيام الفقيه بصرفه احتياطاً على سبيل الاستحباب لا الوجوب في موضع آخر(2) مع ميله الشديد إلى الإباحة عملاً بالأخبار الواردة.
3- الشيخ محمد حسن النجفي (ت 1266هـ)(3):
قال بعد استعراضه الأخبار التي تحلل الخمس للشيعة:
وكيف كان فسبر هذه الأخبار المعتبرة الكثيرة التي كادت تكون متواترة المشتملة على التعليل العجيب والسر الغريب يشرف الفقيه على القطع بإباحتهم عليهم السلام شيعتهم -زمن الغيبة بل والحضور الذي هو كالغيبة في قصور اليد وعدم بسطها- سائر حقوقهم عليهم السلام في الأنفال، بل وغيرها مما كان في أيديهم...
أما غير الشيعة فمحرم عليهم أشد تحريم وأبلغه ولا يدخل في أملاكهم شيء منها.(4).
لاحظ كيف يستدل على الإباحة بالأخبار الواردة عن الأئمة ويصفها بأنها معتبرة، ويقول عن الإباحة في كلامه اللاحق أنها ثبتت شرعاً، إذ قال أيضاً:
صرح جماعة –أي: من الفقهاء- بأنه ثبت شرعاً إباحتهم عليهم السلام المناكح والمساكن والمتاجر في حال الغيبة وإن كان ذلك بأجمعه للإمام أو بعضه فإنه مباح ولا يجب إخراج حصة الموجودين من أرباب الخمس منه.(5).
4- السيد محمد علي الطباطبائي (ت 1009هـ):
__________
(1) ذخيرة المعاد (ص:292)..
(2) ذخيرة المعاد (ص:291)..
(3) لاحظ تاريخ الوفاة المتأخر: منتصف القرن الثالث عشر الهجري.
(4) جواهر الكلام (16/141)..
(5) المصدر السابق (ص:145)..(1/11)
قال- عن الخمس والأنفال في حال الغيبة-: الأصح إباحة الجميع كما نص عليه الشهيدان وجماعة، للأخبار الكثيرة المتضمنة لإباحة حقوقهم في حال الغيبة وكيف كان، فإن المستفاد من الأخبار المتقدمة إباحة حقوقهم عليهم السلام من جميع ذلك.(1).
لاحظ كيف أن القائلين بالإباحة يحتجون لقولهم بالأخبار الواردة عن الأئمة، وكيف أن المخالفين لهم يغمضون أعينهم عنها!
5- الشهيد الثاني (911 هـ- 966هـ):
قال بإباحة الأنفال بشكل مطلق في حال الغيبة، وليس إباحة المناكح والمساكن والمتاجر فقط، وقال: إن الأصح هو ذلك.(2).
6- العلامة سلار:
قال: إن الأئمة عليهم السلام قد أحلوا الخمس في زمان الغيبة كرماً وفضلاً للشيعة خاصة.(3).
لاحظ تعبيره: إن الأئمة عليهم السلام قد أحلوا الخمس... إلخ.
7- الشيخ يحيى بن سعيد الحلي (601هـ-690هـ):
مال إلى إباحة الخمس وغيره للشيعة حال الغيبة كرماً من الأئمة وفضلاً، ولما استعرض اختلاف أقوال الفقهاء من الإباحة المطلقة إلى الحفظ والوصية والدفن والتفريق والصرف على الفقراء الصالحين عقَّب قائلاً: الله أعلم.(4).
وإذن فالأئمة أباحوا الخمس كرماً وفضلاً، فبأي حق نوجب على الناس ما أباحه الأئمة أنفسهم؟!!
وقد قال جماعة من الفقهاء بإباحة خمس المناكح والمساكن والمتاجر حال الغيبة منهم:
8- شيخ الطائفة أبو جعفر الطوسي (ت 460هـ).(5)
9- المحقق الحلي نجم الدين جعفر بن الحسن (602هـ- 676هـ)(6).
10- العلامة الحسن بن المطهر الحلي (ت 709 هـ).(7).
11- القاضي ابن براج (المتوفى في منتصف القرن الخامس الهجري).(8).
__________
(1) مدارك الأحكام (ص:344)..
(2) مسالك الأفهام (ص:68)..
(3) المراسم/ كتاب الخمس (ص:633).
(4) الجامع للشرائع (ص:151)..
(5) النهاية في مجرد الفقه والفتاوى (ص:22)..
(6) شرائع الإسلام / كتاب الخمس (1/182-183).
(7) تحرير الأحكام (ص:75)..
(8) الدروس الشرعية (ص:70)..(1/12)
12- الشهيد الأول (ت 786هـ).(1)
الفصل الثالث: اضطراب نظرية الخمس واختلافها بين المتقدمين من الفقهاء والمتأخرين:-
ماذا عند الشيخ المفيد (413هـ)؟:-
وهو شيخ الطوسي الملقب بشيخ الطائفة، جاء في ترجمته في بداية كتاب الإرشاد ما يلي: (... خاطبه إمام العصر عجل الله فرجه في كتابه الأول: بالأخ السديد والمولى الرشيد، أيها المولى المخلص في ودنا الناصر لنا... إلخ، ويقول في الثاني: من عبد الله المرابط في سبيله إلى ملهم الحق ودليله، سلام عليك أيها العبد الصالح الناصر للحق الداعي إليه بكلمة الصدق... إلخ)(2). وعلق المترجم على هذه الأقوال فقال: تعرف حينئذ أن من يتخذه حجة الزمن عليه السلام أخاً له ويعترف له بالصدق في الأقوال والرشد في الأمر هو فوق مستوى البشر بعد الحجج الأطهار(3).
يقول الشيخ المفيد: قد اختلف قوم من أصحابنا في ذلك –أي: الخمس- عند الغيبة وذهب كل فريق إلى مقال:
فمنهم من يسقط إخراجه لغيبة الإمام وما تقدم من الرخص فيه من الأخبار.
- وبعضهم يوجب كنزه –أي: دفنه- ويتأول خبراً ورد: إن الأرض تظهر كنوزها عند ظهور الإمام وإنه عليه السلام إذا قام دله الله على الكنوز فيأخذها من كل مكان.
- وبعضهم يرى صلة الذرية وفقراء الشيعة على طريق الاستصحاب.
- وبعضهم يرى عزله لصاحب الأمر، فإن خشي إدراك الموت قبل ظهوره وصى به إلى من يثق به في عقله وديانته حتى يسلم إلى الإمام إن أدرك قيامه وإلا أوصى به إلى من يقوم مقامه في الثقة والديانة، ثم على هذا الشرط إلى أن يظهر إمام الزمان.
__________
(1) الدروس الشرعية (ص:70)..
(2) الإرشاد للمفيد (ص:6)، ونسب المترجم الكتابين إلى كتاب الاحتجاج للطبرسي (ص:277) المصدر السابق..
(3) المصدر السابق..(1/13)
وهذا القول عندي أوضح من جميع ما تقدم؛ لأن الخمس حق لغائب لم ترسم فيه قبل غيبته شيئاً يجب الانتهاء إليه فوجب حفظه إلى وقت إيابه... وإن ذهب ذاهب إلى ما ذكرناه من شطر الخمس الذي هو خالص الإمام وجعل الشطر الآخر لأيتام آل محمد وأبناء سبيلهم ومساكينهم على ما جاء في القرآن لم يبعد إصابته الحق في ذلك، بل كان على صواب.
وإنما اختلف أصحابنا في هذا الباب لعدم ما يلجأ إليه من صريح الألفاظ، وإنما عدم ذلك لموضع تغليظ المحنة مع إقامة الدليل بمقتضى العقل في الأمر من لزوم الأصول في حفظ التصرف في غير المملوك إلا بإذن المالك وحفظ الودائع لأهلها ورد الحقوق.(1).
أول ما ينبغي أن يلاحظ أن القول الوحيد المستند إلى الأخبار الواردة عن الأئمة من بين كل الأقوال التي استعرضها الشيخ المفيد هو القول الأول الذي يسقط إخراج الخمس.
وأما باقي الأقوال فهي:
- إما عارية عن الدليل بالكلية أي: الدليل النقلي الذي يمثل قول الإمام. ويعترف الشيخ المفيد أن الخمس حق لغائب لم يرسم فيه قبل غيبته شيئاً يجب الانتهاء إليه!
- وإما مستندة إلى تأويل.
ويلاحظ أيضاً أن الفقيه أو السيد لا موقع لهما من إعراب هذه الأقوال جميعاً!
كذلك يلاحظ -كما يعبر أحمد الكاتب - أن المفيد يكشف عن الحيرة في موضوع الخمس والغموض الذي يلفه، ويتحدث عن عدم وجود نصوص صريحة عن الإمام المهدي أو غيره عن حكم الخمس في عصر الغيبة.(2).
وأخيراً أقول: كيف يمكن أن يقال بعدم وجود نصوص صريحة مع أنها موجودة في أمهات الكتب المعتمدة التي سبقت عصر المفيد، وهو نفسه أشار إليها عند حكايته القول الأول مما يدل على اطلاعه عليها!!.
قول الشيخ أبي جعفر الطوسي المتوفى سنة (460هـ):-
__________
(1) المقنعة للشيخ المفيد (ص:46)..
(2) تطور الفكر السياسي الشيعي من الشورى إلى ولاية الفقيه لأحمد الكاتب (ص:306)..(1/14)
وهو صاحب كتابي الاستبصار وتهذيب الأحكام وهما اثنان من كتب أربعة عليها مدار المذهب، وكذلك هو صاحب كتابين من كتب أربعة عليها مدار المذهب في الرجال جاء في التعريف به في بداية كتاب النهاية: إمام الفرقة بعد الأئمة المعصومين، وعماد الشيعة في كل ما يتعلق بالمذهب والدين شيخ الطائفة على الإطلاق.
يقول الطوسي: أما في حال الغيبة فقد رخصوا لشيعتهم التصرف في حقوقهم من المناكح والمتاجر والمساكن، فأما ما عدا ذلك فلا يجوز لهم التصرف فيه على حال، وما يستحقونه من الأخماس في الكنوز وغيرها فقد اختلف قول أصحابنا فيه، وليس فيه نص معين، إلا أن كل واحد منهم قال قولاً يقتضيه الاحتياط:
- فقال بعضهم: إنه جار في حال الاستتار مجرى ما أبيح لنا من المناكح والمتاجر.
- وقال قوم: إنه يجب حفظه مادام الإنسان حياً فإذا حضرته الوفاة وصى به إلى من يثق به من إخوانه المؤمنين ليسلمه إلى صاحب الأمر إذا ظهر، أو يوصي به حسب ما وصى به إلى أن يصل إلى صاحب الأمر.
- وقال قوم: يجب دفنه لأن الأرضين تخرج كنوزها عند قيام القائم.
- وقال قوم: يجب أن يقسم الخمس ستة أقسام، فثلاثة أقسام للإمام يدفن أو يودع عند من يثق به، والثلاثة الأقسام الأخر يفرق على مستحقيه من أيتام آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومساكينهم وأبناء سبيلهم.
وهذا مما ينبغي أن يكون العمل عليه، لأن هذه الثلاثة الأقسام مستحقها ظاهر، وإن كان المتولي لقبضها وتفريقها ليس بظاهر، كما أن مستحق الزكاة ظاهر، وإن كان المتولي لقبضها وتفريقها ليس بظاهر، ولا أحد يقول في الزكاة: إنه لا يجوز تسليمها إلى مستحقيها، ولو أن إنساناً استعمل الاحتياط وعمل على أحد الأقوال المقدم ذكرها من الدفن أو الوصاة لم يكن مأثوماً.(1).
ملاحظات مهمة:
__________
(1) النهاية في مجرد الفقه والفتاوى، (ص:200-201)..(1/15)
يلاحظ على هذه الفتوى/ أن الشيخ الطوسي -كشيخه المفيد - لم يذكر الفقهاء قط، لا في قبض الخمس، ولا تفريقه ولا عند الوصية إلى موثوق، ولا عند الدفن، بل صرح أن المتولي لتفريق الخمس ليس بظاهر –أي: غائب-، ولو كان يرى أن الفقهاء يتولون ذلك لما قال: إن المتولي لقبضها وتفريقها ليس بظاهر.
بل ذكر صراحة -عند ذكر الوصية- أن الذي يوصى إليه بالخمس هو من يثق به صاحب الخمس من إخوانه المؤمنين ولم يقل من الفقهاء!
ويلاحظ أيضاً: أن الشيخين الطوسي والمفيد لم يذكرا من بين جميع الأقوال التي ذكراها قولاً واحداً يشير إلى دفع الخمس إلى الفقيه أو السيد! وهذا يعني إجماع فقهاء المذهب الأقدمين على إغفال ذكرهما وإنهما لم يكونا واردين في حساب أولئك الفقهاء.
وكذلك يلاحظ أن جميع الأقوال لا تستند إلى أي نص عن الأئمة سوى القول الأول القاضي بإباحة الخمس وسقوط فرضيته..
ملاحظات أخرى:
وإذا رحنا نناقش الفتوى نقاشاً منطقياً عقلياً واقعياً، فإنا نجد أموراً خارجة عن كل ذلك مثل:
- أن يدفن إنسان عاقل خمس أمواله ومكاسبه وأرباحه طيلة حياته! أي: إن خمس أموال الأمة يذهب طعاماً للديدان والتراب! وهو أمر يتنافى مع المعقول، ولاشك في أن فاعله سفيه، يجب في حقه الحجر.
- أو أن يوصي به إلى ثقة وهو أمر خيالي غير واقعي، لا يمكن وجوده أو تحققه إلا تصوراً في الأذهان. وإلا فكيف يمكن أن يوصي بخمس أموال الأمة لتحفظ إلى قيام المهدي؟!.
إن هذا يعني أن تعاقب بضعة أجيال يولّد فائضاً من المال يساوي أموال الأمة جميعاً في جيل واحد. وهذا الفائض المتراكم يجب أن يحفظ! فأين؟ وعند من؟ وفي أي مصرف؟!
فكيف وقد مضى على غيبة المهدي ألف ومئة عام وأكثر، أي: ما يساوي أربعين جيلاً!! فإذا بقي غائباً عشرة آلاف سنة أو عشرين أو إلى يوم الدين؟!
فهل الفقهاء الذين أفتوا بذلك كانوا يعنون ما يقولون أو يتخيلونه مجرد تخيل؟!(1/16)
ولذلك قال الشيخ حسن الفريد في عصرنا الحالي (ت 1417هـ) ناقداً هذه الأقوال ومتأسفاً -كما يعبر أحمد الكاتب -: اختلف الأصحاب فيما يجب أو يجوز أن يصنع بسهم الإمام في عصر الغيبة على أقوال ليتهم لم يقولوا بها ولم ينحطوا بذلك عن شامخ مقامهم، وليت المتأخرين لم ينقلوا هذه الأقوال في مؤلفاتهم، ولعمري إني أجل فقه الشيعة عن نقل مثل القول بالدفن والوصية فيه.(1).
ونفى الشيخ محمد النجفي (ت 1266هـ) وجود أي دليل على القول بالعزل والحفظ والوصية بالخمس إلى أن يظهر الإمام المهدي سوى ما أشار إليه المفيد: من كون الخمس حقاً لغائب لم يأمرنا ما نصنع فيه فيجب حفظه له كما في سائر الأمانات الشرعية.(2).
فلم يبق -مما يقبله العقل- إلا القول الأول الذي ينص على الإباحة والسقوط، وهو الذي نطقت به الأخبار الواردة عن الأئمة، بإقرار الفقهاء أنفسهم وعمل بعضهم على أساسه.
وأنا لا أدري على أي فتوى كانت جماهير الشيعة تعمل طيلة القرون التي سبقت الفتوى بوجوب دفع (الخمس) إلى الفقيه!! لابد أن بعضهم عمل بالفتوى القائلة بالوصية، فهل وجد المتأخرون أموالاً متكدسة تراكمت بفعل تحولها من يد (ثقة مأمون) إلى (ثقة مأمون) جيلاً بعد جيل؟ وإن لم يجد أحد شيئاً من ذلك فأين كان مصير تلك الأموال التي أوصى بها أصحابها؟!
وحتى تتكون صورة واضحة المعالم يظهر فيها الفرق الشاسع بين أقوال الفقهاء المتقدمين والمتأخرين -ليعلم القارئ علماً يقينياً أن المسألة برمتها رأي واجتهاد اضطربت فيه الأقوال واحتارت به العقول وزلت في مخاضته الأقدام دون استناد إلى دليل- أنقل فتوى زعيم الحوزة النجفية السيد أبي القاسم الخوئي مقتصراً عليها من بين فتاوى المتأخرين طلباً للاختصار.
فتوى زعيم الحوزة السيد أبي القاسم الخوئي:-
يقول السيد الخوئي: (يقسم الخمس في زماننا -زمان الغيبة- نصفين:
__________
(1) رسالة في الخمس (ص:83-86)..
(2) جواهر الكلام (ص:165)..(1/17)
نصف لإمام العصر الحجة المنتظر، ونصف لبني هاشم، أيتامهم ومساكينهم وأبناء سبيلهم...
وقال: يجوز استقلال المالك في توزيع النصف المذكور(1)، والأحوط استحباباً الدفع إلى الحاكم الشرعي أو استئذانه في الدفع إلى المستحق.
والنصف الراجع للإمام عليه السلام يرجع فيه في زمان الغيبة إلى نائبه وهو الفقيه المأمون العارف بمصارفه، إما بالدفع إليه أو الاستئذان منه.
ومصرفه ما يوثق برضاه عليه السلام بصرفه فيه كدفع ضرورات المؤمنين من السادات وغيرهم، والأحوط استحباباً نية التصدق به عنه، واللازم مراعاة الأهم فالأهم. ومن أهم مصارفه في هذا الزمان الذي قلَّ فيه الراشدون والمسترشدون إقامة دعائم الدين ورفع أعلامه وترويج الشرع المقدس ونشر قواعده وأحكامه ومؤونة أهل العلم الذين يصرفون أوقاتهم في تحصيل العلوم الدينية... والأحوط لزوماً مراجعة المرجع الأعلم المطلع على الجهات العامة.(2)
جدول مقارنة مختصرة بين فتوى الطوسي شيخ الطائفة والخوئي زعيم الحوزة
إن هذا التفصيل الذي يذكره الخوئي - غير معلوم للغالبية العظمى من العوام المقلدين، إذ يدفعون الخمس كله بقسميه، ويجعلونه قسماً واحداً يسلمونه إلى الفقيه على أنه واجب مطلقاً!
ومما ينبغي التنبيه عليه إن هذا الأمر مخالف جملة وتفصيلاً لفتوى الطوسي شيخ الطائفة على الإطلاق.
حق السادة:-
ومما يلاحظ -وهو مما يستغرب جداً- أن الشيخ الطوسي والسيد الخوئي كليهما لم يجعلا لأغنياء السادة نصيباً في الخمس!! فالطوسي لا يذكر- آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم- إلا عند اليتامى والمساكين وأبناء السبيل. وهؤلاء كلهم ذوو حاجة، والخوئي يجعل من مصاريف الخمس دفع ضرورات المؤمنين من السادات وغيرهم.
__________
(1) أي: النصف العائد لبني هاشم.
(2) منهاج الصالحين (ص:347-349)..(1/18)
والضرورة شيء أشد من الحاجة، وهذا معناه أن السيد لا حق له في الخمس إلا عند الضرورة والحاجة الماسة. وأن هذه الضرورة لا تخص السادة وحدهم وإنما تعم المؤمنين من السادات وغيرهم.
إن هذا الذي أقوله ليس استنتاجاً استخلصته من أقوال العلماء، وإنما هو ما نطقت به فتاواهم، والنصوص التي وردت عن الأئمة:
فقد مرَّ بنا -قبل قليل- قول الخوئي: يقسَّم الخمس في زماننا نصفين، نصف لإمام العصر ونصف لبني هاشم أيتامهم ومساكينهم وأبناء سبيلهم... والنصف الراجع للإمام (ع) يرجع فيه في زمان الغيبة إلى نائبه وهو الفقيه المأمون.
أي: أن الخمس نصفه للفقيه ونصفه لفقراء بني هاشم فلم يبق لأغنيائهم شيء؛ لأنه موزع بين الفقيه والفقير.
وكون نصف الخمس يعطى للفقراء دون الأغنياء هو الذي جاء عن الأئمة، إذ يروي الكليني عن العبد الصالح عليه السلام أنه قال: [[ونصف الخمس الباقي بين أهل بيته، فسهم ليتاماهم، وسهم لمساكينهم، وسهم لأبناء سبيلهم...]] وفي آخر الرواية يعود ليقول: [[... وجعل للفقراء قرابة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم نصف الخمس]].(1).
وهذا تنصيص على الفقراء دون الأغنياء.
وهذا كله يخالف الواقع المشاهد تماماً!! إذ إن السادة الذين يتولون أخذ الخمس هم من أكثر الناس غنى وترفاً!! ومسكينة هي الجماهير... فقد ضاعت عليها الحقيقة!!
وضاعت الحقيقة!:-
وعلى أية حال فما قرأته وعاينته هو كلام زعيم الحوزة ومرجع الطائفة في العصر الحديث، وفتوى مؤسس الحوزة وشيخ الطائفة على الإطلاق، وبينهما من الفرق والاختلاف ما قد علمته وزيادة! فأين الحق؟! وعند من نعثر على الحقيقة؟! وأي منهما مذهبه وفتواه وكلامه يمثل قول المعصوم! أو الإمام جعفر الصادق عليه السلام وكلاهما إمامي اثنا عشري عقيدة، وجعفري فقهاً... والمذهب -كما أعلمونا- مؤسس جملة وتفصيلاً على أقوال الإمام جعفر الصادق عليه السلام.
__________
(1) أصول الكافي (1/540، 542) وقد مر بنا هذا النص سابقاً..(1/19)
فهل يصح في الأذهان أن الإمام جعفراً عليه السلام! متناقض إلى هذه الدرجة؟! أم إن المنطق يقضي بأن قوله في المسألة واحد، لاسيما إذا استحضرنا القول بعصمته عليه السلام، فأي القولين هو قوله؟ مع الانتباه إلى أن كل قول منهما هو نفسه عبارة عن مجموعة أقوال وترجيحات متناقضة!! ولا شك في أن الملايين وعلى مر مئات السنين عملوا بفتوى الشيخ الطوسي وأمثاله من الفقهاء، فلم يدفعوا أخماس أموالهم إلى أي فقيه أو سيد وماتوا على ذلك! فهل هؤلاء الذين يعيشون في زماننا ثم يموتون دون أن يدفعوا الخمس إلى أحد بريئو الذمة كأولئك؟! فعلام إذن يكلف الآخرون أنفسهم ويلزمونها به؟! أم إن أولئك الذين عملوا بفتوى الطوسي وأمثالهم هم وحدهم مسامحون وغيرهم آثمون مع أن كلا الفريقين مشترك في أمر واحد وهو عدم الدفع؟! أم إن كليهما آثم محاسب؟ فما ذنب الفريق الأول؟! أم ماذا؟!
وهل الطوسي كان على الحق والخوئي على الباطل؟ أم العكس؟ أم كلاهما على حق؟ أم على باطل؟ أم ماذا؟ أفتونا مأجورين!!
الفصل الرابع: تطور نظرية الخمس عبر التاريخ:-
يقول الأستاذ أحمد الكاتب: لقد كانت نظرية -التقية والانتظار- تقول: إن الخمس من حق الإمام المعصوم، وإنه في عصر غيبة الإمام المهدي مباح للشيعة. وقد تم الانسحاب من هذه النظرية في هذا المجال في وقت مبكر، ولكن خطوة... خطوة...
1- الخطوة الأولى: وكانت الخطوة الأولى هي القول بوجوب الخمس في عصر الغيبة مع القول بدفنه أو الاحتفاظ به حتى ظهور المهدي أو الإيصاء به بعد الموت من واحد إلى واحد حتى يوم الظهور.(1).
يلاحظ أن الجديد في الأمر هو انتقال حكم الخمس من الإباحة إلى الوجوب دون القول بصرفه إلى أحد لا فقيه ولا غيره، وإنما يعزل حق الإمام الغائب ليدفن أو يوصى به... وهذا لم يكن معروفاً من قبل.
2- وكانت الخطوة الثانية: إيداعه عند أمين من إخوانه المؤمنين دون اشتراط كونه فقيهاً.
__________
(1) تطور الفكر السياسي الشيعي.(1/20)
3- والخطوة الثالثة: إيداعه عند أمين من فقهاء المذهب على سبيل الاستحباب والأولى.
وينبغي أن يلاحظ هنا أن القضية قضية إيداع لا أكثر. أي: أن الفقيه لا يحق له التصرف فيه، وإنما يحتفظ به إلى حين ظهور الإمام ما عدا نصيب الأصناف الثلاثة، فإنه يتولى عملية قسمته فيهم لا أكثر، لاسيما إذا كان المالك لا يحسن القسمة.
4- الخطوة الرابعة: فبعد أن كان إيداعه عند الفقيه على سبيل الاستحباب جاءت الخطوة الرابعة لتنقله إلى الوجوب.
يقول أحمد الكاتب: وكان القاضي ابن براج -المتوفى في منتصف القرن الخامس- أول من أشار إلى ضرورة إيداع سهم الإمام عند من يوثق بدينه وأمانته من فقهاء المذهب، وإيصائه بدفع ذلك إلى الإمام عليه السلام إن أدرك ظهوره وإن لم يدرك ظهوره وصى إلى غيره بذلك.(1).
وكان العلماء السابقون يوصون بإيداعه عند أمين، ولكنه ابن براج أضاف -من فقهاء المذهب- دون أن يشير إلى مستنده في ذلك، وقد جاء العلماء المتأخرون عنه فطوروا هذه المسألة شيئاً فشيئاً.(2).
ولنا أن نسأل هنا: هل رأى أحد بعد أن تغير الزمان واختلفت الفتوى- أموالاً مكدسة عند الفقهاء أو غيرهم كانت قد تراكمت نتيجة العمل بالفتاوى القائلة بإيداعها عند أمين من فقهاء المذهب أو بقية المؤمنين؟! فأين مصير تلك الأموال التي أودعت عند أولئك الأمناء؟!!
5- الخطوة الخامسة: جواز أو وجوب إعطاء الخمس إلى الفقهاء لكي يقسموه(3). يقول أحمد الكاتب: وربما كان أول من مال إلى جواز أو وجوب إعطاء الخمس إلى الفقهاء لكي يقسموه هو: ابن حمزة في القرن السادس في الوسيلة إلى نيل الفضيلة(4)، واعتبر ذلك أفضل من قيام صاحب الخمس بتوزيعه بنفسه خاصة إذا لم يكن يحسن القسمة.(5).
__________
(1) المهذب (1/180)..
(2) تطور الفكر السياسي الشيعي (ص:352).
(3) أيضاً..
(4) ص:682)..
(5) تطور الفكر السياسي الشيعي (ص:352)..(1/21)
ويقول أحمد الكاتب: ولم يترسخ هذا القول بقوة في أوساط الشيعة حتى إن عالماً كبيراً هو الشهيد الأول (الذي جاء بعد ذلك بقرنين) تردد فقال بالتخيير بين القولين القديم: الدفن والإيصاء، والجديد: الصرف...
وكذلك فعل المحقق الكركي الذي استقدمته الدولة الصفوية التي قامت في بلاد فارس في القرن العاشر الهجري، وظل على الرأي القديم الذي يقول بالتخيير بين صرف سهم الإمام المهدي أو حفظه إلى حين ظهوره.(1).
وظلت هذه الفتوى تتردد في أوساط الفقهاء عدة قرون وظلت أقوالهم مضطربة ومتخالفة إلى اليوم، حتى إن السيد محسن الحكيم -المتوفى في أواخر القرن الرابع عشر الهجري- استشكل التصرف في سهم الإمام زمن الغيبة ثم استثنى بعد ذلك ما إذا أحرز رضاه عليه السلام –أي: الإمام الغائب- بصرفه في بعض الجهات التي يعلم رضاه بصرفه (فيها)... ولم يشترط مراجعة الحاكم الشرعي –أي: الفقيه-.(2).
أي: إنه لم يوجب على المقلد إذا أحرز رضا الإمام إعطاء خمسه إلى الفقيه، بل يستطيع أن يتولاه بنفسه.
حيرة الفقهاء المتأخرين في الذريعة التي تبرر أخذهم الخمس:-
وهكذا نصل إلى القول -متيقنين- أن نظرية إعطاء (الخمس) إلى الفقيه جاءت متأخرة ولم تكن معروفة عند المتقدمين، إلا أن بعض المتأخرين قالوا بها، وقد احتاروا في الذريعة أو المسوغ الشرعي الذي يبيح لهم ذلك. فمنهم من قال بإحراز رضا (الإمام) وذلك بصرفه في الوجوه الشرعية، أو بنية التصدق عنه، ومنهم من عكس هذا القول تماماً فسلب من (الإمام الغائب) حقه من الخمس، وجعل علة استحقاقه له القيام بواجبات (الإمامة) وبما أن الإمام غائب عن القيام بهذه الواجبات، فليس له شيء من (الخمس) وإنما الذي يستحقه القائم مقامه وهو الفقيه!
__________
(1) تطور الفكر السياسي الشيعي (ص:353)..
(2) مستمسك العروة الوثقى للسيد محسن الحكيم (9/584)..(1/22)
يقول الشيخ حسن الفريد (ت 1417هـ): إن مقتضى القاعدة سقوط النصف الذي هو للإمام عليه السلام إذ لاريب أنه إنما استحق ذلك بحق الرئاسة والإمامة، ولذا ينتقل هذا الحق إلى الذي يقوم بعده بالإمامة لا إلى ورثته، وإذا غاب عن الناس ولم يقم بالإمامة انتفت رئاسته خارجاً وينتفي حقه بانتفاء موضوعه.(1).
واحتاروا أيضاً في نيابة الفقيه وولايته هل هي مطلقة؟ أم إن نيابته عن (الإمام) تقتصر على القضاء والإفتاء؟ فإن كانت نيابته قاصرة فكيف يمكن حساب حصته من الخمس على قدر مساحة نيابته؟!
أما السيد محمود الهاشمي فينتقد المنهج الذي سلكه الفقهاء في مسألة الخمس ويجعل أساس أقوالهم فيه الذوق والوجدان ولذلك اختلفوا حسب اختلاف أذواقهم وسلائقهم ويصرح قائلاً: وهذا كله لا أساس له، ولا يبقي إلا على قول واحد هو قول الشيخ حسن الفريد الذي يجعل من الخمس ملكاً لمنصب الإمامة والولاية الشرعية فيكون الولي الشرعي في كل زمان هو المتولي على صرفه قانوناً وشرعاً.(2).
وفات السيد محمود الهاشمي أن قوله هذا كذلك لا أساس له إلا الذوق والوجدان.
شرعية الإنفاق لا تحلل حرمة المصدر (الكسب):-
ولذلك يقول الدكتور موسى الموسوي: كم أتمنى أن يترفع الفقهاء والمجتهدون عن أموال الشيعة ولا يرتضون لأنفسهم أن يكونوا عالة عليهم بذريعة ما أنزل الله بها من سلطان.
__________
(1) رسالة في الخمس (ص:83)، انظر: تطور الفكر السياسي الشيعي (ص:354)..
(2) كتاب الخمس (2/239)، انظر: تطور الفكر السياسي الشيعي (ص:356)..(1/23)
إن بعض علماء الشيعة يدافع عن أخذهم الخمس من أموال الشيعة بأنها تصرف على المدارس الدينية والحوزات العلمية والشؤون المذهبية الأخرى. ولكن المناقشة ليست في أن تلك الأموال تصرف كيف؟ ولماذا؟ بل المناقشة أصولية وواقعية ومذهبية وهي أن تلك الأموال تؤخذ زوراً وبطلاناً من الناس وحتى إذا صرفت في سبيل الله فإنها غير شرعية لا يجوز التصرف فيها.(1).
وهذا الكلام أو التأصيل لا غبار عليه فإن السارق لا ينقلب ماله حلالاً وإن أنفقه في الوجوه المحللة شرعاً؛ لأن أصله حرام، وكذلك الخمس لا يصح أن نناقش شرعيته بالمقلوب، فنقول: إنه يصرف في الوجوه الشرعية المذكورة إلا بعد إثبات شرعية مصدره وحلّية أخذه من الناس من قبل الفقيه، وهما –أي: الأخذ والإنفاق- أمران مختلفان تماماً وكون أحدهما حلالاً لا يحلل الآخر(2) فقد يكسب الإنسان ماله من وجه حلال ويصرفه في حرام، فيتحمل إثم الصرف والإنفاق، وقد يكسب ماله من حرام وينفقه على عياله أو على مسجد أو فقير، يتحمل إثم كسبه ولا أجر له في إنفاقه إلا على مذهب أحد السراق، إذ قال: إنه يستطيع أن يسرق عشرة دنانير دون أن يكسب إثماً!! قيل له: كيف؟ قال: الحسنة بعشر أمثالها والسيئة بمثلها، فأنفق ديناراً واحداً على فقير فأكسب عشر حسنات أمحو بها السيئات العشر من جراء السرقة ويصفو لي تسعة دنانير حلالاً زلالاً!! وكذلك (الخمس) وأخذه من قبل الفقهاء بلا فرق.
ويقول الدكتور موسى الموسوي: لقد كان باستطاعة الفقهاء الشيعة أن يبنوا أنفسهم على الاكتفاء الذاتي، وأن يكون الفقيه معتمداً على نفسه شأنه شأن أرباب الصناعات الأخرى، كما أن باستطاعتهم الحصول على أموال لتنمية العلم والعلماء، ولكن باسم التبرعات والهبات لا باسم الواجب الشرعي وأوامر السماء.
__________
(1) الشيعة والتصحيح (ص:68)..
(2) ولذلك جاء في الحديث الصحيح أن صاحب المال يسأل يوم القيامة عن ماله: (من أين اكتسبه؟ وفيم أنفقه؟)..(1/24)
ملخص تقريبي لتطور موضوع متولي الخمس عبر التاريخ:-
قام الشيخ أحمد الكاتب برسم صورة رائعة لمسلسل تطور الخمس ومتوليه عبر القرون، وهو عمل ليس باليسير لاضطراب أقوال الفقهاء وعدم اجتماعها على قول واحد في عصر واحد وتراجعها المستمر من وقت لآخر، وهذا ملخص ما قاله.(1).
وهكذا نرى محاولات الخروج من تلك النظرية في باب الخمس قد ابتدأت منذ قرون وانتقلت عبر التاريخ من:
1- القول بإباحة الخمس.
2- إلى تجميده ودفنه وحفظه إلى حين ظهور المهدي وتسليمه له.
3- إلى القول بالوجوب... وإلى جانب هذا التطور في ذات الموضوع شاهدنا تطوراً آخر شمل موضوع (المتولي للخمس):
1- فبعد قول المفيد والطوسي في القرن الخامس: أن المتولي لقبض الخمس وتفريقه في عصر الغيبة ليس بظاهر لانعدام النص المعين.
2- قال القاضي ابن براج في أواسط القرن الخامس: بضرورة إيداع الخمس أمانة عند الفقهاء لدفعه إلى الإمام المهدي عند ظهوره.
3- ثم جاء ابن حمزة في القرن السادس: ففضل دفع الخمس إلى الفقيه ليتولى القسمة وأوجب ذلك إذا لم يكن المالك يحسن القسمة.
4- ثم جاء المحقق الحلي في القرن السابع: فأوجب تسليم حصة الإمام وهي نصف الخمس إلى من له الحكم بحق النيابة لمن يتولى صرف حصة الإمام في الأصناف الموجودين.
5- وأشار الشهيد الأول في القرن الثامن إلى ضرورة استئذان نائب الغيبة العدل الإمامي الجامع لصفات الفتوى إن اختار المكلف توزيع نصيب الإمام على الأصناف.
6- وأوكل المحقق الحلي في القرن العاشر: مهمة صرف حصة الإمام إلى الحاكم الشرعي...
7- وأفتى محمد باقر السبزواري في القرن الحادي عشر: بتولية الفقيه العدل في عملية صرف الخمس في الأصناف الموجودين احتياطاً وتحدث عن نيابة الفقيه عن الإمام المهدي.
__________
(1) تطور الفكر السياسي الشيعي (ص:356-358)..(1/25)
8- وتطور الحكم في القرن الثالث عشر إلى درجة أقوى حين أفتى الشيخ محمد حسن النجفي بقوة: بوجوب تولي الفقيه العادل صرف سهم الإمام.
9- وبالرغم من عدم إيمان السيد كاظم اليزدي بنظرية (ولاية الفقيه) في سائر أبواب الفقه إلا أنه التزم بهذه النظرية في مجال الخمس، وقال في مطلع القرن الرابع عشر: بضرورة إيصال سهم الإمام في زمان الغيبة إلى نائبه وهو المجتهد الجامع للشرائط أو الدفع إلى المستحقين لإذنه.
10- وتراجع السيد محسن الحكيم في أواخر القرن الرابع عشر الهجري، ولم ير حاجة إلى مراجعة الفقيه في صرف المالك حصة الإمام في جهة معينة إذا أحرز رضا الإمام عليه السلام إلا برأي ضعيف.
11- وقام الشيخ حسن الفريد في مطلع هذا القرن الخامس عشر بثورة في باب الخمس عندما سلب حق الخمس من الإمام المهدي لغيبته وعدم قيامه بمهام الإمامة، وقال بضرورة قيام واحد من الناس باستلام الخمس وتوزيعه من باب الحسبة. وهو تطور لم يخطر على بال أحد من قبل، إذ إن غاية ما كان يقوله الفقهاء -وإلى أزمنة متأخرة جداً- إن الفقيه يأخذ نصيب الإمام بوصفه نائباً عنه، أما التطور الأخير فيعطي الشرعية للفقيه بتولي ذلك لا بوصفه نائباً عن الإمام وإنما بصورة مستقلة باعتباره ولياً وزعيماً وحاكماً وإماماً كما يقول به الشيخ الفريد والسيد محمود الهاشمي.
من أين جاءت الفكرة؟:-(1/26)
نترك الجواب عن هذا السؤال للدكتور موسى الموسوي، وهو حفيد السيد أبي الحسن الأصفهاني، أحد مجتهدي ومراجع الحوزة النجفية يقول: لم تكن الشيعة حتى ذلك التاريخ -العصر العباسي- متماسكة بالمعنى المذهبي حتى تقوم بإعالة فقهائها، فكان تفسير الغنيمة بالأرباح خير ضمان لمعالجة العجز المالي الذي كان يقلق حياة فقهاء الشيعة وطلاب العلوم الدينية الشيعية آنذاك... وبعد أن أسست هذه البدعة أضيفت إليها أحكام مشددة لكي تحمل الشيعة على قبول إعطاء الخمس، وهو الأمر الذي ليس من السهل على أحد أن يرتضيه إلا بالوعيد! فدفع الضرائب في كل عصر ومصر في أي مجتمع يواجهه امتعاض من الناس، وبما أن فقهاء الشيعة لم تكن لهم السلطة لكي يرضخوا العامة على استخراج الخمس من أرباح مكاسبهم طوعاً ورغبة، فلذلك أضافوا إليها أحكاماً مشددة منها الدخول الأبدي في نار جهنم لمن لم يؤد حق الإمام، وعدم إقامة الصلاة في دار الشخص الذي لم يستخرج الخمس من ماله، أو الجلوس على مائدته وهكذا دواليك.
كما أن فقهاء الشيعة أفتوا بأن خمس الأرباح الذي هو من حق الإمام الغائب يجب تسليمه إلى المجتهدين والفقهاء الذين يمثلون الإمام.
وهكذا سرت هذه البدعة في المجتمع الشيعي تحصد أموال الشيعة في كل زمان ومكان، وكثير من الشيعة حتى هذا اليوم يدفع هذه الضريبة إلى مرجعه الديني، وذلك بعد أن يجلس الشخص المسكين أمام مرجعه صاغراً ويقبل يده بكل خشوع وخضوع ويكون فرحاً مستبشراً بأن مرجعه تفضل عليه وقبل منه حق الإمام.(1)
الخلاصة:-
إن أمراً لا وجود له في القرآن الكريم ولا السنة النبوية المطهرة، ولا ذكر له في أقوال الأئمة المعصومين، ولا إجماع عليه بين الفقهاء المتأخرين، ولم يرد على ألسنة الفقهاء المتقدمين! ما المسوغ الشرعي الذي يلجئ المسلم أو يحمله على الالتزام به؟!
__________
(1) الشيعة والتصحيح (ص:67-68)..(1/27)
وهل يمكن لأي عالم من العلماء أن يثبت لمقلده وجوب أو شرعية إخراج خمس أرباحه ومكاسبه وأمواله وإعطائها له بعد اطلاع هذا المقلد على هذا الكلام؟!
التساؤل الأخير:-
قد يعترض معترض أو يتساءل قائلاً: أليس (الخمس) مذكوراً في القرآن؟ ألم يقل الله: ((وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ)) [الأنفال:41]؟!
إن الجواب عن هذا السؤال سيكون -إن شاء الله- موضوع الباب الثاني من هذا البحث، ولكن قبل ذلك أرى من المناسب تثبيت الملاحظة المهمة الآتية:
ما علاقة الفقيه بالآية؟!:-
إن الخمس المذكور في الآية هو الخمس بمعناه العام، وبغض النظر عن كون اللفظ يحتمل خمس المكاسب أم لا؟ فإن القائل بهذا الخمس، حتى يتسنى له الاحتجاج بالآية، عليه أن يثبت أولاً علاقة الفقيه بخمس المكاسب من الآية الكريمة نفسها لا من غيرها! أو بمعنى آخر عليه أن يجيب عن السؤال الآتي:
ما الذي أدخل الفقيه في موضوع الآية؟! وما الدليل القرآني الذي يلزم المسلم بدفع خمس أمواله ومكاسبه إلى الفقيه بالذات؟ وما مدى شرعية أخذ الفقيه لهذه الأموال؟ وبأي حق؟
كل هذا عليه أن يجيب عنه من خلال الآية نفسها حتى يتسنى له الاحتجاج بها. فإن ورود الخمس في الآية بمعناه العام شيء ودخول الفقيه في موضوعها شيء آخر تماماً، إنه معنى خاص زائد عن كون الخمس هنا خمس المكاسب أو الغنائم؟ والآية لا تشير إليه حتى مجرد إشارة، ولا يشم له منها أدنى رائحة! وقد ورد فيها ذكر ستة أصناف ليس من بينهم الفقيه... فما علاقته بالآية؟!
الباب الثاني: الخمس بين الغنائم والمكاسب
الفصل الأول: دلالة آية الخمس:-
قاعدة مهمة في شروط أدلة مهمات الشرع وضرورياته:(1/28)
أقصد بمهمات الشرع وضرورياته كل أمر تتوقف عليه سعادة الإنسان في معاشه ومعاده، دينياً كان أم دنيوياً، كأصول الإيمان والعقيدة أو الأصول الشرعية العملية كالصلاة والزكاة والصيام والحج، أو بر الوالدين والإحسان إلى الخلق عموماً، أو الانتهاء عن الفواحش والمنكرات عموماً، كقتل النفس والزنا والربا وأمثالها.
إن هذه الأمور المهمة جميعاً، أقام القرآن على كل واحد منها أدلة واضحة قطعية الدلالة، غير قابلة للرد أو التأويل بحيث لا يمكن لأحد بعدها أن يتشكك فيه أو يتفلت من سلطان الحجة الذي يحاصره من كل جهة، ولا يمكن أيضاً أن يتطرق الظن إلى المقصود بها هل هو كذا أم كذا؟ بل هي نصوص لا تحتمل غير دلالة واحدة لا أكثر، اقرأ مثلاً في وجوب الصلاة والزكاة: ((وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ)) [البقرة:43].. ((وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ)) [الماعون:3] * ((فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ)) [الماعون:4].. ((وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ)) [فصلت:6] * ((الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ)) [فصلت:7].
وفي وجوب بر الوالدين: ((وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً)) [الإسراء:23] وأمثالها كثير.
وعن حرمة الربا: ((وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا)) [البقرة:275] وأمثالها كثير.
وحرمة الزنا: ((وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً)) [الإسراء:32] وأمثالها كثير... وهكذا...(1/29)
وبهذا يكون الطريق مسدوداً أمام الراغبين في التفلت من التكاليف الشرعية والالتفاف عليها بالتأويل أو الإنكار؛ لأن النصوص الدالة عليها واضحة بينة لا تحتمل إلا وجهاً واحداً فقط!، وهذا معنى قوله تعالى: ((لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ)) [الحديد:25] أي: بالحجج الواضحات القاطعات، لاسيما الأمور المالية لتعلّق النفوس بها، فإذا لم تكن النصوص واضحة بيِّنة والأدلة قطعية محكمة وإلا حصل النزاع، وتفرق الناس، وتقطعت الأرحام وفسد الدين والدنيا.
وهذا هو السر في ورود أحكام الإرث ومقاديره مفصلة وبالأرقام في القرآن، كما في أوائل سورة النساء وآخرها.
فالإرث ورد أصله وكذلك تفصيله في القرآن بالنصوص القطعية الدلالة التي لا تحتمل إلا معنى واحداً محدداً.
بينما الصلاة مثلاً -وهي أعظم من المال- ثبتت شرعية أصلها في القرآن أما تفصيلاتها وتفريعاتها فغالبها ورد في السنة النبوية.
وإذن فالمسائل المهمة التي يتوقف عليها صلاح الإنسان في دنياه وأخراه لابد من أن تثبت بالنصوص القرآنية الواضحة القاطعة الدلالة، أي: التي لا تقبل تطرق الاحتمال إلى دلالتها على المعنى المراد، خصوصاً ما تعلق منها بالمسائل المالية الضرورية، وهكذا ثبت أصل الصلاة والزكاة والصيام والحج، وقبل ذلك أصول العقيدة في الشريعة الإسلامية.
فهل خمس المكاسب ثبت بمثل هذه الأدلة أي: النصوص القرآنية أولاً... القاطعة الدلالة ثانياً؟ كما ثبتت الزكاة والإرث وأمثالهما؟!
آية الخمس:-
((وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)) [الأنفال:41].
الموضع الوحيد:-(1/30)
هذا هو الموضع الوحيد الذي ورد فيه لفظ الخمس في القرآن الكريم.
ولما كان المال الذي تعلق به الخمس في الآية هو الغنيمة ولا خلاف في إطلاق هذا اللفظ على المال الذي يغنم ويؤخذ من الكفار المحاربين، لذلك لم يختلف أحد في وجوب تخميس هذا النوع من المال لوضوح وقطعية دلالة اللفظ عليه، أما خمس المكاسب فأقل ما يقال في دلالة اللفظ عليه أنها -في أحسن أحوالها- ظنية.. وإذا أردنا الدقة فليس هناك إلا التشابه اللفظي ولو كان اللفظ قطعي الدلالة على خمس المكاسب لما حصل الاختلاف كما لم يختلف المسلمون جميعاً في دلالة قوله تعالى: ((قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ)) [المؤمنون:1] * ((الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ)) [المؤمنون:2] * ((وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ)) [المؤمنون:3] * ((وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ)) [المؤمنون:4] على شرعية الصلاة والزكاة.
ولا دلالة قوله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)) [البقرة:183] على شرعية الصيام، ولا دلالة قوله تعالى: ((وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ)) [الأنفال:41] على شرعية تخميس مال الغنيمة المأخوذ من الكفار المحاربين، ولا دلالة أمثالها من الآيات القرآنية على الأمور العظيمة والمهمة في الشريعة.
إن هذه الأمور لا يتركها الله عز وجل لاجتهاد المجتهدين وفهم الفقهاء؛ لأن الاجتهاد يؤدي إلى الاختلاف حتماً، ومثل هذه الأمور لا تحتمل الاختلاف كالأمور الفرعية من الدين، إن الاختلاف في الأمور المهمة يؤدي -ولابد- إلى الفرقة والفساد في الدنيا والدين، فكيف نصدق أن ضريبة مالية باهظة هائلة يفرضها الله على عباده ويعاقب على تركها أشد العقوبات، ثم لا يذكرها في كتابه أو يثبتها بدليل قطعي لا يقبل التأويل؟!(1/31)
لماذا يشذ خمس المكاسب عن هذه القاعدة؟! مع أن الزكاة -وهي لا تعني كثيراً بالنسبة إليه- ثبتت بعشرات الآيات القرآنية؟! كيف؟!
مقارنة بين الزكاة وخمس المكاسب:-
تكرر ذكر الزكاة في كتاب الله تعالى في عشرات الآيات، بينما لم يرد لخمس المكاسب ذكر فيه مع أنه أضعاف أضعاف الزكاة، وضريبة بهذه الضخامة لابد وأن تستند -كما أسلفنا- إلى أدلة قطعية تمنع من التشكيك فيها أو التنصل منها، إذ كيف تريد مني تسليمك عشرين بالمئة من أموالي وأرباحي، أو من كل ألف أملكه مئتين؟ هكذا دون دليل واضح أو حجة بيِّنة؟!
هل يعقل في عالم الإنسان أو دين من الأديان أن الله جل وعلا يفرض على أغنيائنا ربع العشر من أموالهم أي: من كل أربعين واحداً (1/40) أو من كل مئة اثنين ونصفاً (5،2%) فقط، إذا بلغت النصاب، وهو ما يعادل عشرين مثقالاً من الذهب مرة واحدة في العام فريضة سماها الزكاة فيقيم عليها عشرات من الآيات البينات، أدلة قاطعة في كتابه حتى لا يتقول متقول أو يشكك متشكك، ثم لا يفرض الخمس بمثل هذه الطريقة، بل لا يذكره ولو مرة واحدة مع أنه أضخم منها وأكبر أضعافاً مضاعفة؟! ثم هو غير مرتبط بوقت أو نصاب -إلا ما ندر- أو صنف من المال، إذ هو مفروض حتى على الدار التي تسكن وأثاثها وحاجات المطبخ، والهدية التي تهدى، بل السلعة التي خمست لكن زاد سعرها بعد التخميس فيخمس الزائد!
من يصدق هذا من العقلاء؟!!
وإليك الأمثلة من فتاوى الفقهاء المتأخرين دليلاً على ما أقول:
بعض الفتاوى المتعلقة بالخمس:-(1/32)
يتعلق الخمس بكل ما يفضل عن مؤونة سنته من أرباح وفوائد الصناعات والزراعات والتجارات والإجارات وحيازة المباحات، وكل فائدة مملوكة كالهبة والهدية والجائزة والمال الموصى به(1)، ومهر الزوجة إذا لم يكن الزوج قد دفع خمسه(2)، وكل ما يفضل في البيت من الأرز والدقيق والحنطة والشعير والسكر والشاي والنفط حتى الحطب والفحم والدهن والحلوى وغير ذلك من أمتعة البيت، حتى الكتب والثياب والفرش والأواني المعدة للطعام والشراب الزائدة عن الحاجة(3)، وتخمس أدوات العمل ومقتنيات المحال التجارية كل سنة إلا إذا أذن الفقيه، فإنها تخمس مرة واحدة ثم عند البيع تخمس مرة أخرى(4)، حتى شُغل الطالب الفقير في العطلة الصيفية(5) والمال المعد للسفر.(6).
وللمكلف أن يعين يوماً خاصاً في السنة أو يخمس كل ما يحصل عليه فوراً إذ يتعلق الخمس بالربح بمجرد حصوله وإن جاز تأخير الدفع إلى السنة احتياطاً للمؤونة(7)، وتخمس السيارة إذا اشتريت بمال غير مخمس.(8).
وتخميس الدار واجب.(9).
وإذا اشترى في السنة الأولى عرصة لبناء الدار وفي الثانية خشباً وفي الثالثة آجراً أو طابوقاً، فعلى المالك (الفقير) تخميس تلك الأعيان جميعاً.(10).
__________
(1) منهاج الصالحين للسيد الخوئي (1/331)..
(2) الخمس بين السائل والمجيب للسيد محمد صادق الصدر (ص:9).
(3) المصدر السابق (ص:13)..
(4) أيضاً (ص:33)..
(5) أيضاً (ص:32)..
(6) أيضاً (ص:35)..
(7) منهاج الصالحين للسيد الخوئي (1/346)..
(8) الخمس بين السائل والمجيب (ص:20)..
(9) أيضاً (ص:15، 32، 39)..
(10) منهاج الصالحين للسيد الخوئي (1/338)..(1/33)
وتخمس جميع الأعيان والأراضي(1) وقطعة الأرض تخمس سواء كانت للاقتناء أم للتجارة ولا عبرة بمرور الحول ما دامت تخمس لأول مرة(2)، وكذلك الأرض التي توزعها الحكومة على المحتاجين الذين يعجزون عن بنائها لصعوبة حياتهم المعيشية، وإذا تأخر إكمال البناء لعدم قدرة المالك على بنائها خلال سنة وجب تخميس الأرض والبناء.(3).
ومن الأموال ما يخمس مرتين مثل: الهبة من واهب لا يخرج خمسه فيجب على الموهوب له تخميسها مرتين(4) وكذلك المال المخلوط بالحرام يخمس مرتين: مرة للتحليل فيحل بإخراج خمسه، ومرة للمال المتبقي بعد إخراج خمس التحليل.(5).
أي: إن المال الحرام يصير حلالاً بمجرد إخراج خمسه مع أن الزكاة وهي حق الله جل وعلا ليس لها هذه الميزة، فإنها لا تحل حراماً، فالحرام يظل حراماً ولا مخرج منه إلا بالتوبة بشروطها التي منها: إذا كان المال غصباً أو سرقة فلا توبة إلا لإرجاعه إلى صاحبه أو ترضيته.
ومن الأموال المحرمة التي يتعلق بها الخمس: ما يؤخذ من الكفار بغير القتال من غيلة أو سرقة أو ربا أو دعوى باطلة، ويسمَّى خمس الفائدة(6) مع إن خمسها جزء منها وهي حرام كلها، فكيف يحل أخذه وأكله، وهو جزء من الحرام؟!
وإخراج الخمس أوجب من ركن الحج، فإنه إذا تردد الأمر بينه وبين تعطيل الحج، وجب إخراج الخمس وإن أدى ذلك إلى نقصان المال عن قيمة الاستطاعة.(7).
وصلاة الذي لا يخمس في اللباس والمكان غير المخمس باطلة لا تقبل.(8).
__________
(1) الخمس بين السائل والمجيب (ص:31)..
(2) أيضاً (ص:30)..
(3) أيضاً (ص:18)..
(4) أيضاً (ص:11)..
(5) منهاج الصالحين للسيد الخوئي (1/331، 329)..
(6) أيضاً (1/325)..
(7) الخمس بين السائل والمجيب (ص:26)..
(8) أيضاً (ص:25)..(1/34)
علماً أن هذه الأصناف جميعاً لا زكاة فيها شرعاً، إلا ما كان من عروض التجارة، ويشترط له حولان الحول وبلوغه النصاب، أو زرعاً إذا بلغ النصاب أيضاً، وعش رجباً تجد عجباً!
مثال.. كي تتضح المقارنة:-
لو افترضنا أن رجلاً يملك بيتاً وبستاناً وسيارة ومالاً على شكل نقد. فما مقدار الزكاة الواجبة عليه؟ وما مقدار الخمس؟
الزكاة:
البيت: لا زكاة عليه.
السيارة: كذلك لا زكاة عليها.
البستان: لا زكاة إلا على ثماره عند جنيها إذا بلغت النصاب.
النقود: إن لم تكن بالغة النصاب فلا زكاة عليها، والنصاب ما يعادل عشرين مثقالاً ذهباً.
فلو فرضنا أن مثقال الذهب بخمسين ألف دينار، فينبغي أن يبلغ المال مليون دينار، ويحول عليه الحول (العام) حتى تجب فيه الزكاة، ومقدارها خمسة وعشرون ألف ديناراً فقط. فإن لم تبلغ النقود هذا المقدار، فإن هذا الرجل لا زكاة عليه رغم كونه يملك بيتاً وسيارة وبستاناً ومالاً! هذا بالنسبة للزكاة...
الخمس:
إذا فرضنا أن قيمة البيت ثلاثة ملايين، والبستان ثلاثة ملايين، والسيارة ثلاثة ملايين، وعند هذا الرجل قيمة النصاب أي: مليون ديناراً، فيكون المجموع عشرة ملايين ديناراً، خمسها يساوي مليونين!! أي: ما يعادل الزكاة الواجبة عليه ثمانين مرة فقط!! أي: إن هذا الرجل لو ظل يزكي أمواله ثمانين سنة، لما بلغ مقدار خمس واحد يدفعه مرة واحدة!! فهل تصورت الأمر على حقيقته المروعة؟! وقس على ذلك.
كل هذا ولا آية واحدة في القرآن كله تنص على هذا المبلغ الهائل بصراحة تقطع الظن أو تبلغ قريباً من ذلك!
بعض الآيات الواردة في الزكاة:-
قال تعالى: ((وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ)) [البقرة:43] ولم يقل: (وآتوا الخمس)!
وقال تعالى: ((وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ)) [البقرة:83] ولم يقل: (وآتوا الخمس)!(1/35)
وقال تعالى: ((وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ)) [البقرة:110] ولم يقل: (وآتوا الخمس)!
وقال تعالى: ((وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ)) [البقرة:177] ولم يقل: (وآتى الخمس)!
وقال تعالى: ((إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ)) [البقرة:277] ولم يذكر (الخمس)!
هذا كله في سورة واحدة جمعت كل شرائع الإسلام وأوامره ونواهيه، فأين (الخمس) منها؟!
وقال تعالى: ((وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ)) [الأعراف:156] ولم يقل: (ويؤتون الخمس)!
وقال تعالى: ((فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ)) [التوبة:5].
وقال تعالى: ((فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ)) [التوبة:11] ولم يذكر (الخمس).
وقال عن نبيه عيسى عليه السلام: ((وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً)) [مريم:31]، ولم يوصه بالخمس!!
وقال عن إسماعيل عليه السلام: ((وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيّاً)) [مريم:55]، ولم يذكر أنه كان يوصي أهله بالخمس.(1/36)
وقال عن أنبيائه عليهم السلام: ((وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَةِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ)) [الأنبياء:73]، ولم يذكر أنه أوحى إليهم إيتاء شيء اسمه الخمس.
وقال تعالى عن صفة أمراء المسلمين: ((الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ)) [الحج:41] ولم يقل: وآتوا الخمس.
وعدم ورود الخمس هنا بالذات يستدعي النظر... لأن الآية تخاطب ولاة الأمر، فلو كان (الخمس) أمراً مشروعاً لما أغفل الله ذكره في هذا الموضع مع ذكره الزكاة.
وقال عن المؤمنين جميعاً: ((قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ)) [المؤمنون:1] * ((الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ)) [المؤمنون:2] * ((وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ)) [المؤمنون:3] * ((وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ)) [المؤمنون:4] * وذكر أموراً أخرى، ولم يكن من بينها (الخمس).
وقال عن عُمَّار المساجد: ((رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ)) [النور:37] ولم يذكر (الخمس) مع ذكره التجارة والبيع وإنما ذكر الزكاة!
وقال عنهم أيضاً: ((إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ)) [التوبة:18].
وقال عن أمهات المؤمنين: ((وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ)) [الأحزاب:33]، ولم يقل: (وآتين الخمس)!
وقال: ((وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ)) [فصلت:6] * ((الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ)) [فصلت:7]. ولم يقل: (الذين لا يؤتون الخمس)!(1/37)
وقال: ((وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ)) [البينة:5] ولم يذكر (الخمس).
وهكذا... وفي كل مرة في عشرات الآيات يتكرر ذكر الزكاة ولا يرد ذكر (الخمس) ولو مرة واحدة لا مقروناً معها ولا مستقلاً في غيرها من الآيات... فما وجه الحكمة في هذا السكوت لو كان الخمس مشروعاً ومراداً من الله؟!
كل الذي قاله تعالى، وطالب به عباده على لسان نبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم ملخص في قوله تعالى: ((خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا)) [التوبة:103].
جدول مقارنة أخرى بين الزكاة والخُمس
وحتى تكون صورة المقارنة واضحة لابد من ملاحظة أن النسبة العائدة للزكاة تتعلق بمقدار من المال أصغر بكثير من مقدار المال الذي تتعلق به نسبة الخمس وذلك للأسباب المبينة في الفقرات (2-6) من الجدول السابق، فلا يصح أن نقول: إن قيمة الخمس ثمانية أضعاف قيمة الزكاة على اعتبار أن نسبة 20% تعادل 2.5% ثماني مرات. بل الخمس أكبر من ذلك بكثير، مع أن الفارق بين مقدارين أحدهما أكبر من الآخر ثماني مرات كبير جداً، فكيف إذا كانت قيمة أحدهما تربو على الآخر عشرات المرات؟!
لقد تبين لنا من المثال المضروب قبل صفحات تحت عنوان (مثال كي تتضح المقارنة) أن قيمة الخمس في مال معين يمكن أن تكون أكبر من قيمة زكاته ثمانين مرة!!
مثال آخر:-(1/38)
لو أن رجلاً أقرض رجلاً مبلغاً من المال قدره مئة ألف دينار، ثم أقرضه بعد ذلك مبلغاً آخر قدره مليون دينار، حتى إذا جاء أجل تسديد الدين وكان بين الرجلين مسافة تفصل بينهما، فأرسل الدائن إلى المدين يطالبه بتسديد المال، أفيعقل أن يقوم بإرسال ثلاثين أو أربعين رسالة يطالب فيها بالمبلغ الأول ليس في واحدة منها ذكر شيء عن المبلغ الثاني الذي هو عشرة أضعاف الأول؟! أم إن العكس هو المعقول والممكن أن يكون؟ بل ليس من السائغ عقلاً أن يرسل عشر رسائل -مثلاً- يطالب فيها بالمبلغ الأول ثلاثاً منها فقط فيها إشارة إلى المبلغ الثاني.
فإذا أرسل عشرين رسالة، واحدة منها فقط يذكر فيها المبلغ الثاني، هل هذا الرجل عاقل أم فاقد للذاكرة؟! أم ماذا؟!
فكيف إذا كان أرسل أكثر من ثلاثين رسالة يطالب فيها بوضوح ومن دون لبس وبلهجة شديدة ومحذرة بتسديد المبلغ الأول، ورسالة واحدة مبهمة غير واضحة الدلالة في الحديث عن المبلغ الثاني، بل موضوعها الرئيس أمر آخر بعيد كل البعد عن موضوع الذين، صحيح أن فيها ذكراً للفظ مليون دينار، ولكن جاء في سياق الحديث عن شراء بيت مثلاً قيمته مليون دينار، وليس من علاقة بين الموضوعين إلا اللفظ. هل يُعقل هذا؟!
كذلك الحال مع الزكاة وخمس المكاسب في القرآن، فإن الله جل وعلا أنزل أكثر من ثلاثين آية عن الزكاة ولم ينزل آية واحدة عن خمس المكاسب! كل ما يمكن أن يقال آية واحدة مذكور فيها لفظ (الخمس) هذه الآية نزلت أساساً للحديث عن موضوع آخر، هو خمس الغنائم الذي لا يختلف أحد من أهل السنة أو الشيعة على أنه مقصود الآية.
مع أن الخمس أضعاف أضعاف الزكاة فلو كان مشروعاً لكان المعقول أن ينعكس الأمر فتكون آياته أضعاف أضعاف الآيات التي تتحدث عن الزكاة.
أما أن يكون الأمر بالمقلوب... فهذا لا يمكن لعاقل أن يتصوره إلا إذا انقلب عقله.
سبب نزول الآية:-(1/39)
إن سورة الأنفال التي وردت فيها الآية أنزلها الله جل وعلا تعليقاً على معركة بدر الكبرى - هذه المعركة العظيمة الفاصلة التي سمى يومها يوم الفرقان، وبياناً لما فيها من دروس وعبر ومبادئ ووصايا وحكم وأوامر وزواجر وأحكام، منها كيفية تقسيم الأنفال أو الغنائم التي ينفلهما الله إياهما من المشركين، فأنزل الله هذه السورة وسمَّاها باسم هذه الأموال المغنومة (الأنفال)، وبدأها بذكر سؤال المؤمنين عن حكمها وكيفية قسمتها فقال: ((يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَنْفَالِ قُلْ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ)) [الأنفال:1].
ثم ذكر أوصاف المؤمنين حقاً ثم أخذ ببيان أحداث المعركة من أول خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم من بيته إلى دخوله ساحة القتال إلى ذكر صور من القتال نفسه، وإنزال الملائكة ونصر المؤمنين وهزيمة الكافرين والوصية بإعداد القوة، وحكم الأسرى وفدائهم ودعوتهم إلى الإسلام إلى أن عاد في نهاية السورة إلى ما بدأها به من ذكر المؤمنين حقاً فأفصح عنهم وأعلن إنهم المهاجرون والأنصار: ((وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا)) [الأنفال:74].
وفي منتصف السورة تقريباً، ذكر حكم تقسيم الغنيمة والأصناف التي تقسم عليها ومقاديرها فقال: ((وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ)) [الأنفال:41] فما علاقة المكاسب والأرباح بالموضوع؟ حتى يكون لها خمس تتحدث عنه الآية؟!.
سياق الآية:-
من المعلوم أن سياق الكلام له علاقة أساسية في تفسيره ومعرفة معناه ومقصود المتكلم به.(1/40)
فالكلمة الواحدة أو العبارة يكون لها معنى في موضع ومعنى آخر في موضع آخر بحسب موقعها من الكلام، أو حسب تركيب الكلام وترتيبه وحسب الموضوع الذي من أجله سيق الكلام، فإخراجها عن سياقها وموضوعها وحملها على أحد معانيها المحتملة عند الإطلاق دون قرينة أو علاقة بينهما يقتضيها السياق لا يكون إلا في كلام المجانين وهذيانات المجاذيب!.
فكيف يجوز أن نعامل كلام أحكم الحاكمين معاملة هذيان المجانين؟ فنخرج الآية من سياقها وموضوعها الذي هو كله حديث عن الجهاد والقتال إلى موضوع مغاير تماماً هو أموال المسالمين من المسلمين؟! إن الآية موضوعها الأموال المغنومة من الكفار المحاربين في ساحة القتال، لا أموال التجار والمتكسبين في أسواق المسالمين من المسلمين أو بيوتهم ومقتنياتهم!.
القرآن فرَّق بين المكاسب والغنائم:-
لقد فرق الله تعالى في كتابه بين الكسب والغنيمة، وبين أن في الأول الزكاة والصدقة فقال: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنْ الأَرْضِ)) [البقرة:267].
جاءت هذه الآية ضمن أربع عشرة آية تتحدث عن الإنفاق بدأت بقوله تعالى: ((مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ...)) [البقرة:261].(1/41)
وانتهت بقوله تعالى: ((الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرّاً وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ)) [البقرة:274] ثم ذكر الله بعدها سبع آيات عن الربا، وآيتين عن الدين، ثم ختم السورة بثلاث آيات، ولم يذكر قط أن في المكاسب شيئاً اسمه الخمس؛ لكنه في سورة الأنفال لما ذكر القتال بيَّن أن في غنائمه (الخمس)، فقال: ((وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ)) [الأنفال:41] فالخمس في الغنائم لا المكاسب، والله تعالى قادر -لو أراد- على أن يقول: (واعلموا أنما كسبتم من شيء فأن لله خمسه) لكنه لم يقل ذلك وإنما قال: ((وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ)) [الأنفال:41] فتأمل، وإياك واتباع ما تشابه منه.
الغنيمة في لغة القرآن:-
وردت الغنيمة في القرآن ست مرات فقط، أربع مرات بصيغة الفعل (غنم) ومرتين بصيغة الجمع (مغانم)، ولم ترد بصيغة اشتقاق أخرى غير هاتين الصيغتين.
وفي المواضع الستة -دون استثناء- ترد الغنيمة في معرض الحديث عن المال المأخوذ من الكفار في الحرب وليس في واحد منها قط الإشارة إلى ما يمتلكه المسلم أو يكتسبه من مال.
وهذه هي مواضع ورود الغنيمة في القرآن الكريم:(1/42)
1- ((سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلاَّ قَلِيلاً)) [الفتح:15] * ((قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنْ الأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ...)) [الفتح:16] إلى أن قال: ((لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً)) [الفتح:18].(1).
2- ((وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً)) [الفتح:19](2).
3- ((وَعَدَكُمْ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً)) [الفتح:20].
4- ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمْ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً)) [النساء:94].(3).
__________
(1) وهو فتح خيبر، وقد كان بعد صلح الحديبية.
(2) وهي مغانم خيبر..
(3) أي: سافرتم وخرجتم للجهاد في سبيل الله لا تقولوا لمن سلم عليكم: إنما ألقيت التحية وسلمت تقية. والغنيمة هي ماله الذي يسلبونه إياه بعد قتله..(1/43)
5- ((مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)) [الأنفال:67] * ((لَوْلا كِتَابٌ مِنْ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ)) [الأنفال:68] * ((فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)) [الأنفال:69].(1).
6- وقال الرب جل وعلا في الآية (41) من السورة نفسها (الأنفال): ((وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ...)).
وإذن فلفظ الغنيمة لم يرد في القرآن إلا في غنائم الحرب التي تؤخذ من الكفار في ساحة القتال، أو فداء للأسرى، وفيها جاء ذكر الخمس مرة واحدة في القرآن. فمن أدخل الخمس على مكاسب المسلمين وتجاراتهم وممتلكاتهم -التي عظم الله حرمتها وحرَّم غنمها أو الاستيلاء عليها- فقد عامل أموالهم معاملة الغنيمة، والغنيمة هي: المال المأخوذ من أعداء الإسلام عن طريق الحرب والقتال، ولم ترد في القرآن في غير هذا المعنى قط، فمن أخذها من المسلمين فقد عامل المسلمين المسالمين معاملة الكفار المحاربين.
فمن قال بغير هذا فعليه بالدليل النقلي القاطع من القرآن، لا نرضى بغيره بدلاً؛ لأنه اشتمل على كل عظيم ومهم من شرائع الدين ولم يغادر منه شيئاً.
وهؤلاء المسلمون ليسوا خارجين عن الدين، ولا هم في حرب مع أهله أو قتال، فكيف تُخمَّس أموالهم؟!
اللفظ بين معناه اللغوي ومعناه الاصطلاحي:-
تنقسم الألفاظ الواردة في لغة الشرع -كما هي في لغة الناس- إلى قسمين:
__________
(1) الفداء الذي يؤخذ من الأسير، وسُمِّي الفداء الذي يؤخذ من الأسير غنيمة، وبين أنه حلال بعد أن كفَّ الصحابة عن أخذه بعد نزول الآيتين (67 و68) فنزلت الآية (69) بياناً لحلية أخذه إذ هو من الغنيمة..(1/44)
1- منها ما يرد بالمعنى اللغوي العام مثل ألفاظ: الحمد والشكر، والرزق والنعمة، والغدو والرواح، والغنى والفقر، والفرح والحزن، والموت والحياة، إلى ما لا يحصى من الألفاظ.
2- ومنها ما يرد بالمعنى الاصطلاحي الخاص، كألفاظ: الإيمان والنفاق، والإسلام والكفر، والصلاة والصيام والزكاة، والحج والجهاد، والفيء والغنيمة... إلخ.
والخلط بين موارد القسمين يؤدي إلى اللبس في فهم مقاصد الشرع الحكيم. فما ورد بالمعنى اللغوي لا ينبغي أن نحمله إلا على معناه اللغوي، وكذلك ما ورد بالمعنى الاصطلاحي لا يصح أن نحمله إلا على معناه الاصطلاحي، وإلا خرجنا عن مقصود الرب جل وعلا بكلامه وحرفنا الكلم عن مواضعه التي وضع لها، وهي طريقة المبطلين الذين ((فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ)) [آل عمران:7] فمثلاً قوله تعالى عن الصابرين عند المصيبة: ((أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُهْتَدُونَ)) [البقرة:157] الصلاة هنا ليست هي الصلاة المصطلح عليها شرعاً والمطلوب أداؤها فرضاً من كل مسلم، والتي وردت في مثل قوله تعالى: ((وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ)) [البقرة:43] وإنما هي الصلاة بالمعنى اللغوي.
ولفظ (السنة) في قول تعالى: ((سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً)) [الأحزاب:62] غير المقصود به اصطلاحاً عند الفقهاء وهو المستحب، وإنما المقصود بها معناها اللغوي وهي الطريقة والقانون الكوني العام.
وإذا أردنا أن نضرب أمثلة على ما ورد من الألفاظ بالمعنى الاصطلاحي وليس اللغوي نأخذ مثلاً لفظ (الإيمان) فالإيمان لغة:(1/45)
التصديق مع الاطمئنان. أما (الإيمان) المقصود شرعاً فليس هو مطلق التصديق بأي شيء، كالتصديق بأن الشمس طالعة أو أن الكل أكبر من الجزء، وإنما هو التصديق الجازم بأمور معينة حددها الشرع مع انفعال القلب المؤدي إلى العمل: قال تعالى: ((إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمْ الصَّادِقُونَ)) [الحجرات:15] وهذا اصطلاح شرعي يخصص المعنى اللغوي.
وكذلك لفظ (الرسول) في قوله تعالى: ((مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ)) [الفتح:29] فانه يختلف في معناه عن لفظ (الرسول) في قوله تعالى: ((فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ)) [يوسف:50] فالأول جاء بالمعنى الاصطلاحي والثاني بالمعنى اللغوي... وهكذا.
نعم!! توجد علاقة أساسية بين المعنى الاصطلاحي للفظ ومعناه اللغوي. فإنه لابد للمصطلح في اللغة من لفظ يناسبه يُشق منه ويُبنى عليه: ففي المثال الأخير لفظ (الرسول) معناه لغة: الشخص الذي يحمل رسالة من مُرسِل إلى مرسل إليه، وهو مقصود الآية الأخيرة، أما (الرسول) في الآية التي قبلها فإنما قصد به معناه الاصطلاحي وهو: من يختاره الله تعالى لتحمل رسالته وأدائها إلى خلقه، وهو يختلف عن معناه اللغوي وإن استند إليه.
وكذلك لفظ (الصلاة) و(الزكاة) و(الصوم) و(الحج)، و(الجهاد) و(الفيء) و(الغنيمة)... إلخ، جاءت في لغة الشرع بمعانيها الاصطلاحية المحددة المقيدة، فلا يصح تفسيرها بمعانيها اللغوية المطلقة، أو حملها على معاني اصطلاحية حادثة متأخرة لم تكن معروفة عند نزول القرآن، وإلاَّ وقعنا في فخ كبير نصبته لنا أيدي الزنادقة والغلاة من زمن بعيد.(1/46)
لقد قام هؤلاء -ومن وقت مبكر- بدور كبير وخطير من أجل تشويه الدين وإبطال أحكامه ومحو معالمه، وكان من أساليبهم في تحقيق ذلك: التلبيس على عوام الناس باتباع المتشابه ومنه الدخول من ثغرة الخلط بين المعاني اللغوية والمعاني الاصطلاحية للألفاظ حتى أخرجوها عن مقاصدها الشرعية ولبسوا على الناس أمر دينهم وبلبلوا أفكارهم، ومن أمثلة ما فعلوه أنهم أولوا (الصيام) بالإمساك عن إباحة سرهم اعتماداً على معناه في اللغة، وهو الإمساك وقالوا عن (الحج): إنه قصد زيارة شيخهم أو بيته أو مرقده على أساس أن الحج في اللغة هو قصد الشيء وهكذا..
وكذلك لفظ (الغنيمة): فإن أصل اشتقاقه اللغوي يدور حول الفوز بالشيء والظفر به، إلا أن (الغنيمة) التي وردت في النص القرآني أو على لسان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم مصطلح شرعي محدد المعنى، معناه: (ما أخذ من الكفار قهراً بقتال أو إيجاف خيل أو ركاب).(1).
وهذا يعني أن له شرطين:
1- أن يكون المأخوذ منه كافراً.
2- أن يؤخذ منه قهراً بواسطة القتال وما في معناه.
وكلا الأمرين مفقودان في أموال ومكاسب المسلمين، فلا هم كفار، ولا محاربون، ولا أخماسهم تؤخذ منهم قهراً.
وبما أن الغنيمة في نصوص الشرع جاءت بالمعنى الاصطلاحي فلا يصح إذن إطلاقها على كل ظفر بأي حال ليعم أو يشمل ما يمتلكه المسلم أو يكسبه أو يربحه بحجة إن اللفظ لغة يشمله، إن هذا القول يساوي -تماماً- إطلاق لفظ (الصلاة) على أي دعاء بأي كيفية كانت بحجة أن اللفظ لغة يشمله! إن هذا تلاعب بالألفاظ، واللعب بمسميات الشرع المقدس يرفضه الدين وتأباه اللغة، وهو مشابه -بالضبط- لما قام به الزنادقة الباطنيون -من قبل- من تأويل للعبادات والمسميات الشرعية.
هذا كله من ناحية، والناحية الأخرى المهمة جداً يوضحها الموضوع الآتي:
التنافر اللغوي بين خصوص لفظ (الغنيمة) وعموم لفظ (المكاسب):-
__________
(1) صفوة البيان لمعان القرآن.(1/47)
قلنا: إنه لابد من علاقة بين المصطلح المشتق والأصل اللغوي المشتق منه، وهذه العلاقة لابد أن تكون متناسبة وليست متنافرة.
فالصلاة: نجد معناها الشرعي الاصطلاحي مناسباً تماماً لمعناها اللغوي الذي هو الدعاء. فإن الدعاء، إما دعاء طلب، أو دعاء تقرب، وقد يكون بالأقوال أو بالأفعال. والصلاة منقسمة بين أقوال وأفعال، فأدعيتها القولية إما أدعية سؤال وطلب مثل: ((اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ)) [الفاتحة:6] وإما أدعية عبادة وتقرب مثل: ((الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)) [الفاتحة:2] أما أفعالها وحركاتها، فكلها دعاء وتذلل وتقرب، ولكن بلسان الحال لا لسان المقال.
وهذا التناسب اللغوي لابد أن يتوفر بين كل معنى اصطلاحي ومعناه اللغوي.
وكذلك الأمر بالنسبة للغنائم والمكاسب فإنه لابد من علاقة بينهما مناسبة لا يشوبها التنافر، وهذا غير موجود.
(فالغنيمة) يدور معناها اللغوي حول الظفر بالشيء وهو يستلزم وجود مقاومة من ضد تظفر به، وخصم يحاول الإمساك بما تريد الحصول عليه منه، ولذلك قيل: ظفر فلان بعدوّه، أي: انتصر عليه، وهو مشتق من (الظفر) وهو المخلب. قال الراغب الأصفهاني في مفردات ألفاظ القرآن: ظفره: أي نشب ظفره فيه، قال: ((مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ)) [الفتح:24] ا هـ.
وهذا هو السر اللغوي في إطلاق الشارع الحكيم لفظ الغنيمة لا غيره - على المال المأخوذ قهراً من الكفار المحاربين؛ لأنه مال مأخوذ على سبيل الظفر به من خصم مقاتل لا يرضى بتسليمه، فكأن الغانم أنشب ظفره فيه وانتزع ما انتزعه منه به.
ولذلك لا يطلق النفل على الغنيمة إلا إذا قصدنا واعتبرنا معنى الظفر والاستيلاء، قال الراغب في مفرداته عن النفل: قيل: هو الغنيمة بعينها، لكن اختلفت العبارة عنه لاختلاف الاعتبار، فإنه إذا اعتبر بكونه مظفوراً به، يقال له غنيمة. ا هـ.(1/48)
ولذلك لما قال تعالى -وهو يذكر هذه الأحوال المظفور بها من الكفار: ((يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَنْفَالِ)) [الأنفال:1] جاء الجواب عن هذا السؤال الذي هو عن الأموال المعبر عنها بلفظ (الأنفال): ((وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ)) [الأنفال:41] بلفظ (الغنيمة) لهذا الاعتبار.
وهذا المعنى لا يستقيم مع مطلق لفظ المكاسب فإن الكسب -كما يقول الراغب: ما يتحراه الإنسان مما فيه اجتلاب نفع وتحصيل حظ ككسب المال. ا هـ.
وهو معنى عام خصص منه الشرع ما يؤخذ من الكفار بالقوة بلفظ الغنيمة وأطلقه على ما يستحصل بالتراضي وبالطرق الشرعية من البيع والشراء وغيره دون وجود خصم يستحصل منه بالقسر والإكراه.
ولهذا جاء سياق ذكر المكاسب في القرآن مختلفاً عن سياق ذكر الأنفال والغنائم والفيء، فالأول جاء عند ذكر الإنفاق وتشبيهه بالزرع، وإن الحبة الواحدة منه تنبت سبع سنابل في كل سنبلة مئة حبة، واستمر السياق يذكر شروط الإنفاق الطيب من عدم المنة والأذى ومن الإخلاص وعدم الرياء، وضرب لذلك أمثلة تتعلق بالمطر والتربة والنخيل والأعناب ثم قال: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنْ الأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ)) [البقرة:267].
ثم ذكر النذر وربطه بالإنفاق فقال: ((وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ)) [البقرة:270] ثم انتهت الآيات بالتحذير من الربا وهو نقيض الإنفاق والصدقة، ثم بعدها جاءت آية الدين. وكلها أمور متعلقة بالسلم ولا ذكر لخصومة فيها أو قتال.(1).
__________
(1) انظر الآيات من آية رقم (261) إلى آية رقم (283) من سورة البقرة.(1/49)
أما ذكر الأنفال والغنائم فقد جاء في سياق ذكر القتال وذلك في معركة بدر التي استغرق ذكرها سورة (الأنفال) كلها تقريباً، كذلك الفيء فقد جاء ذكره في سياق ذكر حصار بني النضير وذلك في سورة الحشر ويمكن لكل قارئ مراجعتها ليعلم الفرق بين السياقين.
وخلاصة القول: إن المكاسب غير المغانم.
وبما أن الخمس إنما هو خمس الغنائم، فالمكاسب إذن لا خمس فيها، لسبب بسيط جداً هو أنها ليست غنائم.
الغنيمة مال خاص مستقل:-
ومن أراد المزيد نقول له: إن الغنيمة وإن صح دخولها تحت مسمى المكاسب إلا إنه ليس كل كسب غنيمة؛ لأن الغنيمة كسب خاص له شروطه التي إن عدمت لم يصح تسميته بالغنيمة فإن ساغ لغة أن نقول: كل غنيمة كسب فلا يسوغ قولنا: كل كسب غنيمة.
كما تقول: كل ثوب لباس، ولكن ليس كل لباس ثوباً.
فإذا فرضت ضريبة على كل ثوب مثلاً، فليس من حق جابي الضرائب أن يأخذ ضريبة على السراويل أو غطاء الرأس على أساس أن الكل يدخل تحت مسمى اللباس، فيقول: بما أن الثوب لباس والسراويل لباس فلابد أن تكون الضريبة على الكل، فإننا سنقول له: صحيح إن كليهما لباس، ولكن الضريبة على لباس خاص هو الثوب، فلا ندفع إلا عن الثوب، وينتهي الإشكال إذا لم يكن عند الجابي مقاصد مبيتة فيحاول التلاعب بالألفاظ والالتفاف عليها.
وكذلك الغنيمة كسب خاص، فإذا فرض الشارع الحكيم عليها ضريبة شرعية مقدارها الخمس فلا يصح أن نعمم هذه الضريبة الخمس لتشمل كل كسب، غنيمة كان أم غيرها؛ لأن الخمس لم يعلقه القرآن ولم يضفه إلاَّ إلى الغنيمة التي هي كسب خاص، فهو إذن على الغنائم خاصة وليس على جميع أنواع الكسب، كما أن الضريبة في المثال السابق تعلقت بلباس خاص هو الثوب وليست في جميع أنواع اللباس.
وهؤلاء الذين علقوا (الخمس) بالمكاسب والأرباح وعموم الممتلكات تلاعبوا بالألفاظ قائلين:
بما أن كل غنيمة كسب، فإذن كل كسب غنيمة.(1/50)
وهو ممتنع وبذلك ينهار (خمس المكاسب) لانهيار سنده اللغوي، والله تعالى لا يعجز -لو كان في المكاسب خمس- أن يختار لهذه الفريضة لفظاً واضحاً محدداً يناسبها فيقول مثلاً: (واعلموا أنما كسبتم من شيء فأن لله خمسه)، لكن الله تعالى لم يقل ذلك وإنما قال: ((وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ)) [الأنفال:41].
الإمام الصادق عليه السلام يؤيد ما نقول:
وتعريف الغنائم بما عرفناها به جاء في أكثر من رواية عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام وقد مرت بنا:
فقد روى الطوسي عن أبي عبد الله عليه السلام قال: {كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا أتاه المغنم أخذ صفوه وكان ذلك له، ثم يقسم ما بقي خمسة أخماس، ثم يأخذ خمسه ثم يقسم أربعة أخماس بين الناس}.(1).
وروي عن أبي عبد الله عليه السلام أيضاً قوله: [[ليس الخمس إلا في الغنائم خاصة]].(2).
وكذلك جاء في أكثر من مصدر من المصادر التي تكلمت عن (الخمس). فقد عرفها السيد الخوئي هكذا:
الغنائم: المنقولة المأخوذة بالقتال من الكفار الذين يحل قتالهم.(3).
وعرفها السيد محمد صادق الصدر فقال في تعريفها: الأموال والعيان المنقولة المأخوذة بالقتال من الكفار الذين يحل قتالههم).(4).
والتعريفان متطابقان تماماً، وذكر السيد محمد صادق أيضاً أن (الخمس) يجب في سبعة أشياء هي:
1- الغنائم. 2- المعدن. 3- الكنز.... 7- ما يفضل عن مؤونة سنته.(5).
__________
(1) الاستبصار للطوسي (2/57)..
(2) الاستبصار للطوسي (2/56)..
(3) منهاج الصالحين للسيد الخوئي (1/325)..
(4) الخمس بين السائل والمجيب (ص:4)..
(5) المصدر السابق..(1/51)
ففرق بين الغنيمة وبين بقية الأموال فلم يجعلها من الغنيمة، وهذا يؤكد كلامنا بوضوح أن (الخمس) المتعلق بغير الغنيمة من الأرباح والمكاسب والمقتنيات لم يرد له ذكر في القرآن أبداً، وإذن لا دليل من القرآن يمكن أن يستدل به على خمس المكاسب وهو المطلوب.
بطلان التسمية (الخمس) من الأساس:-
من الملاحظ على (الزكاة) أن نسبتها ونصابها يختلفان من مال إلى مال، فزكاة الذهب والنقد وعروض التجارة، مثلاً نسبتها ربع العشر أي: (1/40) ونصابها عشرون مثقالاً من الذهب أو ما يعادلها.
أما نصاب الفضة فمئتا درهم.
وأما زكاة الزروع فنصابها ستون صاعاً، وهو ما يقارب خمسمئة كيلو غرام، أما نسبتها فتتراوح ما بين العُشر ونصف العُشر. وزكاة الماشية يختلف نصابها ونسبتها في الغنم عنها في البقر وعنها في الإبل. وزكاة الفطر يختلف مقدارها والأعيان الذين تتعلق بهم عن الزكاة بمعناها العام... وهكذا.
ولا شك في أن هذا الاختلاف ينطوي على حكمة عظيمة ومصلحة كبيرة يراعيها الشارع الحكيم، لا تتحقق فيما لو تساوت النسبة في جميع أصناف المال.
فلماذا لم تختلف النسبة في ما يسمى بـ(الخمس) حسب صنف المال المتعلق به؟ إذ هي خمس المال في جميع أصنافه؟! وذلك يتناقض مع الحكمة الإلهية؛ لأن مبناها على تنوع النسبة حسب صنف المال لا على ثبوتها.
إن السبب في هذا الإشكال الكبير أنهم ورطوا أنفسهم وربطوا الموضوع بلفظ (الخمس) نفسه، وهو رقم محدد لا يقبل الزيادة ولا النقصان، ولذلك فهم مضطرون لتعميم النسبة ولا محيص لهم عن ذلك نظرياً وإن كانوا عملياً يتصرفون بالمقادير، حسب ما تسمح به الظروف -كما سيأتي إن شاء الله تعالى- وهو أمر غريب على طبيعة الدين وغير معروف من أحكامه الشرعية فإنه:
لا وجود في الشرع لشيء اسمه (الخمس):(1/52)
إذ إن من الملاحظ أن الحقوق المالية المفروضة شرعاً لها أسماء في هذا الشرع، مثلاً: الصدقة والزكاة والخراج والنفقة والجزية والفيء والغنيمة، ولم نجد من بين هذه الأسماء شيئاً اسمه (الخمس) بهذه التسمية المطلقة المجردة من كل قيد أو إضافة!
وإنما يوجد شيء اسمه (الغنيمة) لا تحل لمن غنمها إلا إذا أدى (خمسها). فـ(الخمس) مقيد بالغنيمة ومضاف إليها إضافة لا انفكاك له عنها فيقال: (خمس الغنيمة)، وهكذا جاء النص القرآني الوحيد: ((وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ)) [الأنفال:41] إذ ورد (الخمس) مقيداً ومضافاً إلى الضمير (الهاء) العائد إلى مال الغنيمة.
أما أن يوجد حق مالي شرعي له اسم مطلق كالزكاة والخراج... هو الخمس دون تقييد فهذا لا وجود له. وإذا قيل أحياناً (الخمس) فإن (الألف واللام)، تشير إلى المضاف المحذوف وهو (الغنيمة) فكيف ظهر هذا الاسم (الخمس) على صفحة الوجود وصار له كيان مستقل؟ وما الذي حصل؟
إن الذي حصل هو أنهم: حرروا باللفظ -أولاً- عن قيده وهو (الغنيمة) ثم استعملوه مجرداً حتى ذلت له الألسنة واعتادت عليه الأسماع فقيل: الخمس، وأكثروا من استعماله حتى اعتاد عليه الناس واعتقدوا وجود شيء مستقل اسمه (الخمس)! فلما حصل ذلك أضافوه إلى كل شيء مادام المفروض شرعاً -كما تصوروا- هو (الخمس). ووضعوا له الروايات المرعبة حتى يُلجئوا العامة إلى دفعه طوعاً، خوفاً من العقاب الأخروي أو هرباً من الازدراء الدنيوي الذي يلاحق كل من سولت له نفسه أمر التنصل عن أدائه، فرضخ كثير من الناس للأمر الواقع واستساغوا راغبين أم كارهين تخميس كل مال مهما كان نوعه غنيمة كان أم كسباً أم داراً أم أرضاً، بل تطور الأمر إلى درجة لا يتصورها أكثرهم وليس من السهل عليهم التصديق بوجودها إذ فرضوا (الخمس) حتى على أواني الطعام والشراب والملابس والأثاث والهدايا وحطب النار وكل شيء!!(1/53)
مع أن كل واحد منا لا يحتاج إلى أكثر من الجرأة وشيء من التفكير المستقل من عقل متحرر من ربقة التقليد الأعمى ليعرف أن الدليل على كل هذا هو.. لاشيء!!.
الفيء والخمس.. وقفة مع سورة (الحشر):-
الفيء: هو الغنائم التي يأخذها المسلمون من الكفار دون قتال، كالحصار ونحوه، قال تعالى: ((وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ)) [الحشر:6].
والذي يهمنا من الفيء عدة أمور منها:
ا- قسمته... فقد قسم الله جل وعلا بالضبط، فقال: ((مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ)) [الحشر:7].
وقال عن الخمس: ((وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ)) [الأنفال:41].
وتتجلى أهمية معرفة القسمة بما يلي:
2- ((كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ)) [الحشر:7]: ذكرت الآية السابقة من سورة الحشر أن تقسيم الفيء على المذكورين فيها إنما هو من أجل أن لا يتجمع عند طبقة واحدة من المجتمع وينحصر التداول به بين الأغنياء منهم فقط، فلا يصل إلى الفقير منه شيء، وذلك في قوله تعالى: ((مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ)) [الحشر:7].(1/54)
فجعل الفيء عدة حصص في عدة جهات، أن حصره في جهة واحدة فقط يؤدي إلى عكس مقصود الآية ومراد الرب من هذه القسمة، وقد أكد جل وعلا مراده وحذر من مخالفته تحذيراً شديداً فقال في نهاية الآية نفسها: ((وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ)) [الحشر:7] فإذا حصر في جهة واحدة صارت هذه الجهة غنية -ولابد- وصار المال متجمعاً لدى طبقة الأغنياء يتداولونه بينهم، وكذلك شأن (الخمس) إذا خصصنا به جهة واحدة فإن ذلك يؤدي إلى النتيجة نفسها التي حذر الله منها، إذ تبرز في المجتمع طبقة غنية مترفة هم طبقة (رجال الدين) تتداول المال فيما بينها ولا يخرج منه شيء إلى المحتاجين.
وكل وضع ينتهي إلى أن يكون المال دولة بين الأغنياء وحدهم هو وضع يخالف النظرية الاقتصادية الإسلامية، ولابد أن تتولد من هذا الوضع أمور سيئة منها فساد هذه الطبقة التي كان المعول عليها في إصلاح أحوال الناس.
3- أيهما أكبر... الفيء أم الخمس؟
إن الفيء قليل الحدوث كما هو معروف من وقائع التاريخ، وأما في العصر الحاضر فيكاد ينعدم، بل هو معدوم لا وجود له.
أما خمس الأرباح والمكاسب فعلى العكس من ذلك إذ هو مورد هائل ودائم.
فإذا كان حصر الفيء في صنف واحد يؤدي إلى أن يكون المال ((دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ)) [الحشر:7] فماذا نقول في (الخمس)؟!! الجواب ما ترى لا ما تسمع! وانظر إلى الواقع ليغنيك عن مجلدات من الكلام!!
4- يتامى ومساكين وأبناء سبيل الأمة جميعاً:(1/55)
بعد الآية السابعة من سورة (الحشر) جاءت الآية الثامنة تفسرها وتبين هؤلاء الذين يستحقون الفيء وأنه: ((لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَاناً)) [الحشر:8] أي: هو لهؤلاء الفقراء المهاجرين: ((وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ)) [الحشر:9].
وهؤلاء هم الأنصار، و(الخصاصة) هي: الفقر والاحتياج الشديد. وفي السيرة النبوية: أن النبي أعطى الفيء -الذي جاء من يهود بني النضير والذي بسببه نزلت الآية السابقة- المهاجرين لفقرهم وثلاثة من الأنصار كانوا شديدي الفقر.
ثم ذكر الله صنفاً ثالثاً من مستحقي الفيء فقال: ((وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ)) [الحشر:10] أي: من بعد المهاجرين والأنصار وهم أجيال المسلمين إلى يوم القيامة متى وأينما وجد الفيء.
وهكذا جعل الله -جل وعلا- الفيء لجميع فقراء الأمة في جميع أجيالها دون حصره بذوي قربى نبيه صلى الله عليه وآله وسلم وحدهم، وهذا يعني أن قوله تعالى: ((وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ)) [الحشر:7] في الأنفال، المطابق لقوله تعالى: ((وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ)) [الأنفال:41] في خمس الغنيمة، ليس خاصاً بيتامى ومساكين وأبناء سبيل بني هاشم، وإنما هو عام في يتامى ومساكين وأبناء سبيل الأمة جميعاً، وليس من دليل على التخصيص إلا الظن والتحكم المحض!، وما نحتاجه هنا هو النص القطعي الدلالة الخالي من الاحتمال وهو معدوم تماماً.
فتأمل هذا فإنه كاف شاف بإذن الله!!(1/56)
وهكذا تبين أنه لا وجود لذكر خمس المكاسب ولا إعطائه إلى الفقيه في القرآن الكريم، بل هو مناقض لنصوصه وقواعده العامة.
الفصل الثاني: خمس المكاسب في محكمة التاريخ:-
جباة الخمس:-
يقول د. موسى الموسوي: إن تفسير الغنيمة بالأرباح من الأمور التي لا نجدها إلا عند فقهاء الشيعة، فالآية صريحة وواضحة في أن الخمس شرع في غنائم الحرب وليس في أرباح المكاسب. وأظهر دليل قاطع على أن الخمس لم يشرع في أرباح المكاسب هو سيرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وسيرة الخلفاء من بعده بما فيهم الإمام علي عليه السلام وحتى سيرة أئمة الشيعة، حيث لم يذكر أرباب السير الذين كتبوا سيرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ودونوا كل صغيرة وكبيرة عن سيرته وأوامره ونواهيه، أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كان يرسل جباته إلى أسواق المدينة ليستخرج من أموالهم خمس الأرباح، مع أن أرباب السير يذكرون حتى أسامي الجباة الذين كان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يرسلهم لاستخراج الزكاة من أموال المسلمين، والخلفاء الراشدين، بما فيهم الإمام علي لم يذكروا الناس بخمس الأرباح، أو أنهم أرسلوا الجباة لأخذ الخمس بخمس الأرباح، أو أنهم أرسلوا الجباة لأخذ الخمس.
وحياة الإمام علي معروفة في الكوفة فلم يحدث قط أن الإمام بعث الجباة إلى أسواق الكوفة ليأخذوا الخمس من الناس أو أنه طلب من عماله في أرجاء البلاد الإسلامية الواسعة التي كانت تحت إمرته أن يأخذوا الخمس من الناس ويرسلوها إلى بيت المال في الكوفة، كما أن مؤرخي الأئمة لم يذكروا قط إن الأئمة كانوا يطالبون الناس بالخمس أو أن أحداً قدم إليهم مالاً بهذا الاسم.(1).
النبي صلى الله عليه وآله وسلم والخمس:-
هل حدث -ولو مرة واحدة في حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم- أن النبي جمع خمس أموال المسلمين أو مكاسبهم واحتازها لنفسه؟
من ذكر ذلك؟
أين؟
ومتى؟
__________
(1) الشيعة والتصحيح (ص:66- 67)..(1/57)
لماذا لم يفعله لو كان (الخمس) حقاً مشروعاً وواجباً مفروضاً على الأمة تجاه نبيها كما كان يفعل مع الزكاة، بل يقاتل من امتنع عن أدائها؟
أقارب النبي صلى الله عليه وآله وسلم والخمس:-
هل عرف عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه أعطى علياً عليه السلام أو فاطمة عليها السلام أو إحدى بناته الأخريات عليهن السلام أو أحداً من أقاربه، كعمه عباس أو ابن عمه جعفر أو أحداً من أولادهم خمس أموال الرعية المسلمة؟
هل حدث هذا؟ متى؟ وأين؟ ومن ذكره؟ وأين سجله؟
ولو افترضنا أنه كان يقوم بجباية أخماس أموال الناس ليسلمها إلى أقاربه فماذا سيقول عنه المسلمون أو الكافرون؟ هل تتصور بماذا كانوا سيصفونه؟
قتال الصديق لمانعي الزكاة:-
قاتل الخليفة أبو بكر الصديق المرتدين ومانعي الزكاة على السواء، وقد ذكرت كتب الفقه والسير والتاريخ: أن هؤلاء امتنعوا عن دفع الزكاة، ولم تذكر أنهم امتنعوا عن أداء شيء اسمه (الخمس) مع أنه لو كان مشروعاً لكانوا يمتنعون عنه أيضاً مع الزكاة، فيكون من الأولى أن يقدم ذكره على ذكرها، فيقال: قتال مانعي الخمس؛ لأنه أكثر أو على الأقل أن يقال: قتلا مانعي الخمس والزكاة إذ الامتناع عنه أولى فالمطالبة به أوكد، والقتال عليه أوجب، وذكره أحرى.
أفيعقل أنهم امتنعوا عن الزكاة دون (الخمس)؟ أم إنهم امتنعوا عنه أيضاً؟ أو المؤرخين وكتاب السير والمغازي والفقهاء جميعاً تواطئوا -سامحهم الله- على إغفاله وإسقاطه من الحساب!!
أم أن المعقول أن أمراً كهذا لم يكن له وجود أصلاً، حتى يمتنعوا عن أدائه أو يطالب به أحد من خلق الله.
العباسيون و(الخمس):-(1/58)
العباسيون هم أبناء العباس عم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وذريته، وهم من ذوي قربى النبي صلى الله عليه وآله وسلم دون خلاف، وهم داخلون في مسمى (ذي القربى) في الآية الكريمة، قطعاً قال الكليني: وهؤلاء الذين جعل الله لهم الخمس، هم قرابة النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذين ذكرهم الله فقال: ((وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ)) [الشعراء:214] وهم بنو عبد المطلب الذكر منهم والأنثى.(1).
وعباس أحد أبناء عبد المطلب العشرة، فالنص القرآني يشمله وذريته بالاتفاق على أي وجه من وجوه التفسير، وقد آلت إليهم الخلافة وصاروا ملوكاً وحاكمين لدولة الإسلام قروناً عديدة، فكانوا قادرين على حمل الناس على دفع (حقهم) من خمس المكاسب، لكنهم لم يفعلوا ذلك أبداً، ولم يذكر التاريخ شيئاً عن ذلك قط، فلماذا؟
هل جهلوا حقهم فلم يعرفوه؟ أم لم يكونوا عرباً فصعب عليهم تفسير القرآن واستشكلوه؟ أم عرفوا مالهم من حق لكنهم تركوه؟ فلماذا أيضاً؟!!. هل خوفاً؟ وبيدهم القوة، وحجتهم الشريعة - على فرض شرعيته.
أو ورعاً؟ أو رحمة بالناس؟ وهم متهمون بعدم الورع والرحمة من قبل القائلين بالخمس!!
وهل أحد أرحم بأحد من شرع الله؟ حاشا وكلا؟!
أم عفة وزهداً، أم ماذا؟!
إن الجواب الوحيد هو إن خمس المكاسب لا مشروعية له في الإسلام... ولذلك لم نجد دولة إسلامية عباسية أم علوية أم غيرها تنتمي إلى بني هاشم، فرضته على رعاياها، لاسيما وأن الظَّلمة في التاريخ مسلمين أم غيرهم لا يتورعون عن أكل أموال الناس بالباطل، تحت أية ذريعة أو اسم، فكيف يتورعون عن (الخمس)؟! لو كان مشروعاً ومحللاً مع أنهم لا يتورعون عن مثله أو ما هو دونه مع حرمته وإثارته الناس عليهم؟!
أفيترك المشروع لو كان مشروعاً إلى غيره وهو غير مشروع؟!
أيعقل أن يَعاف ظالم ماله الكثير عند غيره ليسلبه ما ليس له بحق وهو أقل ومقرون بالمخاطر والسمعة السيئة؟!
__________
(1) أصول الكافي (1/540)..(1/59)
دول الشيعة و(الخمس):
لقد قامت دول عديدة وحكمت باسم (أهل البيت) ودانوا بالعقيدة الإمامية عموماً أو الإثني عشرية على الخصوص، كالدولة الفاطمية الإسماعيلية، والدولة الصفوية الإثني عشرية، وكان حكام هاتين الدولتين يدعون النسب العلوي وكذلك الدولة الجلائرية، وحكم البويهيون بغداد ردحاً من الزمن، لكن لم يعرف عن هؤلاء جميعاً أنهم قاموا بجباية خمس مكاسب الناس وتجاراتهم.
يقول الأستاذ أحمد الكاتب:
(وبالرغم من قيام الدولة الجلائرية الشيعية في خراسان أيام الشهيد الأول(1) واستعانتها به وطلبها منه المجيء إليها لتولي الجوانب الشرعية والتشريعية فإنه لم يطوّر هذه المسألة(2) بما يخدم إدارة الدولة الشيعية التي تحتاج إلى المال لصرفها إلى المحتاجين والفقراء، وكذلك المحقق الكركي الذي استقدمته الدولة الصفوية التي قامت في بلاد فارس في القرن العاشر الهجري وظل على الرأي القديم الذي يقول بالتخيير بين صرف سهم الإمام المهدي أو حفظه إلى حين ظهوره.(3)
الفراعنة وخمس المكاسب:-
لقد خلا القرآن الكريم وخلت سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وسيرته، وكذلك سيرة الخلفاء الراشدين وغيرهم من حكام المسلمين من ذكر (الخمس)، ولم نجد في تاريخ الإسلام ولا غيره ضريبة كانت تفرض على أموال الناس وتجاراتهم بهذا القدر.
__________
(1) في القرن الثامن.
(2) أي: الخمس فقد كان يقول بإباحة خمس المتاجر والمناكح والمساكن -وكم مر بنا- ويميل إلى حفظ نصيب (الإمام المهدي) بالوصية والدفن، وإن خيّر بينه وبين صرف العلماء له..
(3) تطور الفكر السياسي الشيعي (ص:353)..(1/60)
إلا أن توراة اليهود تذكر أكثر من نص أن ملك مصر زمن النبي يوسف عليه السلام فرضه على شعب مصر بعد أن اشتد بهم الجوع، فاشتراهم واشترى أراضيهم فصاروا عبيداً له، ثم استعملهم في زراعتها على أن يكون له خمس الوارد ولهم أربعة أخماسه، وكلف وزيره يوسف بجبايته، إلا الكهنة (رجال الدين) فقد كانوا مستثنين -كما هو الحال اليوم-.
جاء في (الكتاب المقدس) عند اليهود: (فاشترى يوسف كل أرض مصر لفرعون إذ باع المصريون كل واحد حقله؛ لأن الجوع اشتد عليهم فصارت الأرض لفرعون، وأما الشعب فنقلهم إلى المدن من أقصى حد مصر إلى أقصاه إلا أن أرض الكهنة لم يشترها إذ كانت للكهنة فريضة من قبل فرعون فأكلوا فريضتهم التي أعطاهم فرعون، لذلك لم يبيعوا أرضهم فقال يوسف للشعب: إني قد اشتريتكم اليوم وأرضكم لفرعون هو ذا لكم بذار فتزرعون الأرض ويكون عند الغلة أنكم تعطون خمساً لفرعون والأربعة أجزاء تكون لكم بذاراً للحقل وطعاماً لكم ولمن في بيوتكم وطعاماً لأولادكم، فقالوا: أحييتنا ليتنا نجد نعمة في عيني سيدي فنكون عبيداً لفرعون، فجعلها يوسف فرضاً على أرض مصر إلى هذا اليوم لفرعون الخمس، إلا أن أرض الكهنة وحدهم لم تصر لفرعون).(1).
وقفة تأمل مع هذا النص:
في هذا النص من التوراة: إن فرعون -على طاغوتيته واستكباره- لم يستحل أخذ الخمس من مكاسب شعبه إلا بعد أن اشتراهم واشترى أراضيهم فصاروا عبيداً له وصارت أراضيهم ملكاً له كذلك! أي: إن فرعون حين أخذ الخمس منهم عاملهم معاملة (السيد) مع (العامة) من عبيده، بمعنى أن (الخمس) -في حس فرعون وشريعته- لا يؤديه إلا العبد المملوك تجاه سيده المالك!!
__________
(1) الفصل السابع والأربعون من سفر التكوين/ الآيات (20-27)، وكذلك ورد (الخمس) في الفصل الحادي والأربعين/ آية (25)..(1/61)
فهل شريعة فرعون أو إسرائيل أرحم وأرقى نظرة إلى الإنسان؟ وفي تلك الأزمنة البعيدة التي كانت البشرية فيها تعاني من التخلف الاجتماعي والنظرة القاصرة إلى الإنسان!! ومع ذلك اعتبرت إعطاء (الخمس) معناه أن المعطي قد صار عبداً لمن يعطيه!! فلم تستحل أخذه من الأحرار وإنما جعلت ذلك أمراً لا يليق إلا بالعبيد، فكيف تأتي -من بعد ذلك- شريعة محمد صلى الله عليه وآله وسلم السماوية التي حررت البشرية من الظلم والاستعباد لتجعل من قيود العبودية أوسمة للأحرار!!
فأن يصفع أحدهم آخر بحذائه شيء مشين لا يمكن السكوت عليه، لكن الأدهى منه أن يجعل من ذلك فضيلة يشرفه بها!
إلا إن الأدهى من ذلك كله، أن يقوم ذلك الإنسان الذليل بأداء واجب الشكر ومراسيم الاحترام تجاه من قام بصفعه بحذائه!
وفيه أيضاً: أن فرعون كان يستكثر على نفسه -رغم علو منزلته وسعة سلطانه وعظمة ملكه وشدة سطوته وجبروته- أن يأخذ خمس مكاسب الناس دون مقابل، ولهذا لم يفعل ذلك إلا بعد أن وجد نفسه قد اشتراهم واشترى أراضيهم بماله، وما ذاك إلا لعظمة هذه الضريبة -خمس ممتلكات الأمة وأرباحها- وضخامتها!!
واليوم يأتي من لم يدفع ديناراً ولا درهماً ولم يبذل جهداً ولا عرقاً ليقاسم الناس أموالهم فيأخذ خمسها مجاناً دون تردد أو حياء، بل هو المتفضل وصاحب المنة!!
وأخيراً... فإن سؤالاً يتلجلج في صدري: هل عبر إلينا (الخمس) من هناك وقمنا باستيراده من توراة اليهود وأحبارهم؟!
الفصل الثالث: خمس المكاسب بين النظرية والتطبيق:-
بغض النظر عن بطلان نظرية (الخمس) وخطئها فإن الواقع يشهد تناقضاً صارخاً بين النظرية والتطبيق!(1/62)
إن المجتمع يعج بالكثير من الفقراء، بل المسحوقين، حتى من الذين ينتهي بهم النسب إلى عبد المطلب عموماً أو إلى أمير المؤمنين علي عليه السلام خصوصاً، بل إلى الحسن عليه السلام أو الحسين عليه السلام حصراً، ومع ذلك فلا ينالهم شيء من (الخمس) قليل ولا كثير!! وإنما هو دولة بين طبقة معينة دون الفقراء والمحتاجين الذين يعيشون في عوز وعسر حال وسوء أوضاع تتفطر لها أكباد الغيارى وقلوب المؤمنين، قد نسيهم تماماً أولئك الذين يحوزون القناطير المقنطرة من الذهب والفضة ويتبوءون القصور الفخمة والسرر المرفوعة والمراكب الفارهة ويديرون المؤسسات المالية الكبيرة داخل البلد وخارجه، لا يسألون عن أحوال إخوانهم في الدين وأتباعهم في المذهب ولا يرقبون الله فيهم!
فبأي حق يحرم هؤلاء المساكين وكثير منهم من ذوي قربى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟!
بل علاوة على ذلك، يقوم كثير من هؤلاء المساكين رغم حاجتهم بإعطاء أموالهم إلى أولئك الأغنياء المترفين!
لو كانوا جادين:-
إن الاعتقاد بأن (الخمس) من حق ذرية أهل البيت، وأقارب النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوجب على من يستلم هذه الأموال الهائلة أن يقوم بعمل إحصائية في كل حي من الأحياء لكل من يسكنه ممن ينتسب إلى أهل البيت لاسيما الفقراء منهم من أجل تقسيم (الخمس) عليهم، أو على الأقل سد حاجة المحتاجين منهم. وليس ذلك بمستحيل، أو عسير على من في حوزته تلك الأكداس المكدسة من الأموال - لو كانوا جادين في اعتقادهم.
وإذا كان هذا القول لا يجد أذناً واحدة يمكن أن تصغي إليه عند من يقوم فعلاً بحيازة هذه الأموال، فإننا نتوجه بالقول إلى أولئك المحرومين من إخواننا وأبناء جلدتنا: لماذا لا يطالبون بحقوقهم التي تمنحهم إياها فتاوى المذهب؟(1/63)
ألا يعلمون أن الفتوى التي تواطأ عليها متأخرو علماء المذهب تنص على: أن نصف الخمس وهو حق الله ورسوله والإمام الغائب يعطى للمجتهد، أما النصف الآخر فعليه أن يقسمه على فقراء الهاشميين واليتامى والمساكين منهم.(1).
ومن مصارف النصف الذي يُعطى للمجتهد عامة الفقراء من أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فهل لهذه الفتوى تطبيق على أرض الواقع؟ وهل حقاً يوزع نصف (الخمس) على بني هاشم الذين منهم أبناء العباس، وأبناء جعفر وعقيل، أخوي أمير المؤمنين علي... وغيرهم؟ أم إن المجتهد يتصرف بالكل دون مراعاة هذه القسمة ودون سؤال أو رقابة أو مطالبة من أي أحد؟!!
ما هي علاقة المجتهد بـ(الخمس)؟:-
الواقع المشاهد، إن كل مجتهد يحق له استلام (الخمس) دون النظر إلى كونه ينتمي إلى بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم أم لا؟ بل دون النظر -حتى- في كونه عربياً أم أعجمياً، مع إن نص الآية يذكر قيد (ذي القربى) لا (ذي الفتوى)! فبأي حق يكون لهم نصيب فيه؟! وما علاقة الاجتهاد بالموضوع؟! إن الآية جعلت مناط الحكم وعلته (القربى) والنسب وليس العلم والاجتهاد، فكيف يناط (الخمس) ويعلق بغير مناطه؟!
ولنا أن نسأل: إذا كان المجتهد يفعل ذلك باعتباره نائباً عن (الإمام) في مسائل القضاء والإفتاء أو نيابة مطلقة، فهل كان الفقهاء في زمن الخليفة الراشد علي عليه السلام في المناطق البعيدة كالحجاز ومصر وخراسان يأخذون (خمس) مكاسب الناس في تلك الأمصار باعتبارهم نواباً عن (الإمام)؟!
والسؤال يطرح نفسه من باب أولى في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: فهل كان الفقهاء أو الأمراء في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أو علي عليه السلام، أو أي زمن يأخذون خمس مكاسب الناس وأموالهم وتجاراتهم بصفتهم المستقلة، أم بصفتهم نواباً عن الإمام في الأماكن التي يغيب عنها ولا يستطيع أن يقوم بمهام الإمامة فيها بنفسه؟!
__________
(1) منهاج الصالحين للسيد الخوئي (1/347)..(1/64)
والجواب الوحيد: النفي القطعي! وإذن ما علاقة المجتهد بـ(الخمس) وقد كانت العلاقة منتفية في زمن الأئمة، مع أن الفقيه أو الأمير يقوم بالدور نفسه والإمام غير قادر على إدارة البلاد وأداء مهام منصب الإمامة مباشرة في البلدان الغائبة عنه؟!
ولنا سؤال آخر: إذا كان المقلد يعطي (خمسه) إلى الفقيه، فلمن يعطي الفقيه (خمسه)، إذا لم يكن من ذرية (أهل البيت)؟ أو كان أعجمياً ليس بعربي؟!
هل هناك نص يستثنيه أو يعفيه من أداء هذا (الواجب)؟!
وإذا لم يكن المسلم مقلداً بل كان (محتاطاً أي: لا يأخذ برأي فقيه واحد... فهل إن الخمس ساقط عنه أم إنه يستطيع التصرف فيه كما يشاء؟!)(1).
ومن الأدلة الواضحة على أنه لا علاقة بين المجتهد و(الخمس) تأخر ظهور فكرة إعطائه إلى المجتهد عدة قرون حتى تفتقت عنها الأذهان بعد طول نظر وشدة عناء وتفكير، إذ لو كانت العلاقة ظاهرة لما تأخرت الفتوى طيلة تلك الأزمنة المتطاولة، ولظهرت من أول يوم نزلت فيه الآية أو انتهى عنده عصر (الأئمة). إن هذه الفكرة إنما ولدتها الحاجة وأملتها الظروف وهي أوضح مثال على القول بأن (الحاجة أم الاختراع).
المجتهد لا يخمس ماله ولا يزكيه:-
لا يوجد أمر شرعي كلف الله تعالى به الأمة لوحدها دون نبيها صلى الله عليه وآله وسلم بل العكس هو الصحيح، إذ كلف الله تعالى رسوله صلى الله عليه وآله وسلم بأمور وأوجبها عليه مثل قيام الليل، جعلها نافلة مستحبة لبقية أفراد الأمة، وهكذا الزكاة والجهاد والحج والصيام الذي كان يواصل فيه اليومين والثلاثة دون فطور أو سحور، وهو أمر منهي عنه لغيره.
ولقد فرض الله تعالى الزكاة على عباده، ولم يسقطها عن أحد منهم حتى الأنبياء عليهم السلام!.
__________
(1) الشيعة والتصحيح للدكتور موسى الموسوي (ص:69)..(1/65)
قال تعالى: ((وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ)) [الأنبياء:73] وقال عن المؤمنين جميعاً ولم يستثن منهم لا علياً عليه السلام، ولا أحداً من أهل بيته: ((إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ)) [المائدة:55].
أما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلم يكن يؤدي ما عليه من حقوق مالية تجاه الناس فحسب، بل فوق ذلك حرم على نفسه وأقربائه أموال الصدقة والزكاة -أوساخ الناس- فلم يحل لهم أخذها، وكان أهل بيته الكرام يزكون ويتصدقون ولا يأخذون من أحد من العالمين شيئاً!
والآن نأتي إلى الواقع لنراه مقلوباً تماماً، إذ إن المجتهدين يأخذون كل ما حل بأيديهم من جميع أصناف المال من الزكاة إلى الصدقة إلى النذور إلى (الخمس) إلى ما يسمونه بـ(الحقوق الشرعية) وأموال (المظالم)... إلخ، وفي المقابل لا يزكون أموالهم! وهل رأيت مجتهداً أو (سيداً) يزكي ماله؟! أين؟ ومتى؟
وهذا هو الواقع المر! فهل هذا الركن العظيم من أركان الإسلام مرفوع عنهم، وهل هناك أحد فوق القانون الإلهي؟!
يقول تعالى: ((وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ)) [فصلت:6] * ((الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ)) [فصلت:7].
وإذا قيل إن (الخمس) لا يجب على من كان من ذرية أهل البيت، فما حكمه بالنسبة للمجتهد من سواهم عربياً كان أم أعجمياً كما هو الغالب؟! هل رأيتم أحداً منهم يخمَّس أمواله ويضعها مع (الخمس) الذي يستلمه ليصرف الجميع في وجوهها؟! بل هو مع هذا كله لا يؤدي الزكاة الواجبة عليه!! بل وفوق ذلك هو يأخذ الزكاة مع أنها لا تحل له لأنه غني، بل قد يكون من (آل البيت) الذين حرمت عليهم أصلاً! فكيف؟!!
نسيان الزكاة:-(1/66)
لقد ألغى (الخمس) الاهتمام بالزكاة من الواقع، فلا تذكر كما يذكر الخمس، ولا يحرص عليها ولا يتحسس الناس لها وجوداً أو تأثيراً قط في كل المناطق المأهولة بمن يعتقد شرعية (الخمس)، وعامتهم لا يعرفون عن أحكامها البسيطة الواضحة شيئاً، قليلاً ولا كثيراً مع أن الله تعالى ملأ كتابه الكريم من ذكرها على عكس (الخمس)!!
ولعل السبب في ذلك -والله أعلم- أن مقدار الزكاة لا يعد شيئاً في مقابل (الخمس)، فإذا طولب صاحب المال بخمس ماله، كيف يمكن معه أن يطالب بأداء زكاته؟!
فالجمع بين (الخمس) والزكاة صعب على النفوس ومحرج للمعطي والآخذ. وإذن فعلى المجتهد أن يخير نفسه بين هذا وهذا، فإذا طالب بأحدهما فعليه أن ينسى الآخر أو يتناساه، ولا شك في أن الاختيار يقع على (الخمس)، ويتغافل عن الزكاة أو لا يذكرها بقوة فإن حصلت فبها ونعمت وإلا فـ(الخمس) يكفي وزيادة!
ولذلك فإن الواقع المشاهد أن المجتهد يصرح أحياناً بمسألة التخيير بين (الخمس) والزكاة دون تردد أو توقع أن أحداً سيسأله: هل إن إسقاط الواجبات الشرعية من حقه مع أنها مفروضة من قبل الله؟! وهل إذا حكم الله بأمر يحتاج حكمه ويفتقر إلى تعقيب معقب، مع أنه في كتابه يقول: ((وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ)) [الرعد:41]؟ وهل الفقيه مصدر تشريعي في مقابل مصادر الشرع الأخرى؟!
وهكذا نسيت الزكاة وعمي أمرها على سواد الناس فتركوا أداءها، بل لا يستشعرون وجوبها مع قيامهم بدفع الخمس ((وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً)) [الكهف:104].
ضريبة خيالية:-
إذا أضفنا (الخمس) إلى الزكاة والصدقة وغيرهما من الحقوق المالية المترتبة على المسلم يكون المجموع زهاء ربع المال!(1/67)
أي: أن المسلم هو الوحيد -من دون بقية الخلق وأجناس الأرض- الذي يُلزم بأداء ربع ماله ومكسبه ومقتنياته إلى دولته كي يتحلل من ذمته أمام ربه!! وحتى لو لم يكن سوى (الخمس)، فالخمس يعني خمس المال أو المكسب وهو قريب من الربع.
فهلا تصورت -والحالة هذه- مدى العنت والإرهاق والظلم الذي يتحمله المواطن تجاه دولة كهذه؟! بل.. هل يمكن لدولة مهما بلغت من الظلم والسطوة أن توقع بمواطنيها مثل هذا الجور؟! وهل يرضى مواطنو أي دولة يستشعرون الكرامة والحرية أن يرضخوا فيؤدوا (ضريبة دخل) بهذه الضخامة تحت أي ظرف؟ حتى لو كان ظرف حرب أو مجاعة شديدة أو حصار!
ولذلك فلا يُعرف في التاريخ أن ملكاً أو حاكماً عادلاً ولا ظالماً فرض مثل ذلك على شعبه، إلا ما جاء في التوراة عن ملك مصر زمن نبي الله يوسف عليه السلام من أنه فرض (الخمس) على المحاصيل الزراعية حين اجتاحت المجاعة شعب مصر، ولكن بعد أن اشترى الأرض وأهلها فصاروا له عبيداً -وقد سبق ذكر ذلك.
هذا إذا فرضنا أن الجهة التي يعطى لها (الخمس) دولة بحالها- كما يقول به بعض علماء المذهب- فكيف إذا كانت هذه الضريبة الخيالية تؤدى إلى أفراد معدودين لا دولة أو مؤسسة عامة، فماذا ستكون النتيجة؟! وإلى أي مدى يمكن أن يذهب بنا التصور والخيال؟!
فكيف إذا التفت إلى أن هؤلاء الأفراد المعدودين هم الذين يجب أن يكون الحاكم منهم، فيكونون هم أمراء المجتمع الإسلامي! أي: إن هذه الضريبة لا يستفيد منها إلا الحاكم وأفراد عشيرته الكبيرة، أي: العائلة المالكة فقط!! التي تمارس اليوم دور الإمارة و(السيادة) بأجلى صورها قبل تسلم مقاليد الحكم!
هل يمكن لحاكم في الكون أن يفرض على رعيته خمس مكاسبهم وأموالهم ومقتنياتهم له ولعشيرته فقط؟! وهل حدث مثل هذا في التاريخ؟!
وهل تصورت الآن الأمر على حقيقته وأبعاده البشعة؟! وإذن هل يمكن أن يكون ذلك ديناً منزلاً من عند الله؟(1/68)
إن هذا يستحيل أن يفعله أي حاكم مهما بلغ من الظلم والاستبداد أو الاستهتار بمقدرات شعبه وإرادته، فهل تعتقد أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فعله؟! فعل أمراً تعفف فرعون عنه؟!
أو هل تعتقد أن ذلك كان الواجب عليه أو على أي من خلفائه -وأهل بيته أن يفعلوه؟!
حقاً إنه لتشويه لا يليق بصورة هذا الدين العظيم ولا رسوله الكريم.
لازال البعض يدفع (الخمس)! لماذا؟:-
لازال بعض المتدينين -بل الكثيرون منهم- وإلى اليوم يزاولون دفع (الخمس)، فلماذا!
والجواب: إما أن يكون ذلك جهلاً منهم وحسن نية، إذ يتصورون أن (الأئمة) أمروا به أو أن نصوص الشرع تفرضه عليهم، دون أن يكلف أحد منهم نفسه يوماً ما ليراجع بنفسه النصوص والأدلة ويحكم بعقله الذاتي المستقل وإرادته المنعتقة عن القيود، بعيداً عن فتاوى الفقهاء في (رسائلهم العملية) المجردة عن الدليل، لاسيما وأن السواد الأعظم من المتدينين ذوي النوايا الطيبة، يتصور أن تقليد الفقهاء في كل شيء واجب محتم عليه وإلا كان معرضاً للعقاب الأخروي!
هكذا خيلوا له، وهكذا قيَّدوا عقله عن أن يفكر، وكبلوا إرادته عن أن تنطلق، وعصبوا عينه حتى لا تبصر الطريق! وكسروا الحاجز المقدس بين المعصوم الذي لا يخطئ، وبين الفقيه الذي يجوز عليه الخطأ والصواب، ولم يعد بينهما فرق حقيقي سوى الاسم، فإذا اعتقدت أن الفقيه لا يجوز الاعتراض عليه أو مخالفته فقد جعلت منه معصوماً! وهذا باطل!.
وقد يكون بعضهم يفعله بدافع التعصب المذهبي، وان كانت الغالبية تفعله بحسن نية مبنية على الجهل بحقائق الأمور ولكن -مع ذلك- تشعر أنهم يحسون في دواخلهم بثقل الوطأة وضخامة الحساب فترى الكثيرين قد تفلتوا منه أو احتالوا عليه وأقنعوا أنفسهم بأنهم يؤدون هذا (الواجب) مع أنهم في الحقيقة لا يقومون إلا بدفع جزء يسير منه! وهذا يتضح بالفقرة التالية:
صعوبة التطبيق ومهازل الواقع:-(1/69)
لما رأى القائمون على أمر (الخمس) واستغلاله صعوبة دفع مثل هذا المبلغ الهائل على النفس وتحرج الكثيرين وتفلتهم من ربقته، وهي حالة طبيعية جداً لا عيب فيها ولا شذوذ بل هي تعبير عن الفطرة الإنسانية السوية، فكم من بني آدم تسخو نفسه فتسمح له بأن يعطي خمس أمواله وأرباحه التي اكتسبها بعرق جبينه وكد يمينه ليأخذها منه من لم يبذل فيها جهداً ولا فكراً ولا قلقاً أو خوفاً من خسارة أو سرقة أو عقاب قانون ولا علاقة له باكتسابها من قريب ولا بعيد؟!!
حقاً إنه لأمر ثقيل جداً! يقول تعالى: ((وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ)) [محمد:36] * ((إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ)) [محمد:37].
فالله يعلم أن طاقة عبده في دفع أمواله محدودة؛ لأنه مجبول على حب المال: ((وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ)) [العاديات:8] فلابد أن يكون الطلب بحدود تتناسب وطاقته، وإلا بخل وامتنع وخرج من فمه ما لا يحمد ولا تثريب عليه في كل ذلك؛ لأنه تصرف بمقتضى الطبيعة البشرية التي خلقه الله تعالى عليها ((لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ)) [الروم:30].
لذلك لم يكلف الله عبده إلا ما يسع، بل دون وسعه بكثير وهو الزكاة التي لا تجب إلا على من ملك مالاً زائداً عن حاجته وبيته ومركبه يساوي قيمة عشرين مثقالاً من الذهب بشرط أن تمر على ذلك المال سنة كاملة، وكم نسبة الزكاة فيه؟ اثنان ونصف في المئة (2.5%) فقط، وهي نسبة قليلة جداً يستطيع أي إنسان دفعها. بل لو أن أي فقير كلف بها لما أرهقه ذلك!
ولذلك -في المقابل- امتنع عن دفع (الخمس) الكثيرون وتناسوه أو احتالوا عليه!(1/70)
فلما رأى المستفيدون ذلك وواجهوا الصعوبة العملية في تطبيق نظرية (الخمس) على الواقع صاروا يخففون في القضية حتى لا يقضوا على البقية الباقية منهم فما لا يدرك كله لا يترك بعضه أو جله، وعلى رأي المثل: (إذا أردت أن تُطاع فأمر بما يستطاع).
وهذه بعض الصور التي عشناها في الواقع الهزيل:
- كأن يكون حساب (الخمس) على أحدهم مئة ألف دينار فيأتي إلى المجتهد أو السيد فيقول: عليَّ مئة ألف، ولكني محتاج وليس معي إلا عشرون ألفاً فيجيبه: لا بأس هاتها ويعد قائلاً: عشرون ثم يرجعها إليه باعتباره قد وهبه إياها، ثم يأخذها ثانية قائلاً: أربعون... وهكذا ينتقل المبلغ بينهما عدة مرات إلى أن ينتهي العد إلى مئة! أرأيت؟!
وبعض مستلمي (الخمس) يتنافسون فيما بينهم على التنقيص من المبلغ فهذا ينقص أكثر من ذلك وهكذا... حتى صار من المتعارف عليه أن يقول القائل: أنا أدفع خمسي لفلان؛ لأنه يُنقص أكثر من سيد أو شيخ فلان.
أو يدفع بعضهم (الخمس) مرة واحدة في حياته وعن بعض أمواله، خصوصاً إذا كان غنياً فاحش الغنى فيسقطون عنه الزكاة بعد أن يخيروه بين الزكاة التي تؤخذ منه سنوياً طيلة حياته، وبين (الخمس) مرة واحدة وقد نقصوا له منه وخففوه كثيراً فيختار الثاني. ولا شك أن من يقبض (الخمس) مستفيد أيضاً فإن الدفع نقداً خير من التقسيط. وهكذا يفسدون على المسلم ركناً عظيماً من أركان الدين الخمسة متصوراً أن ذلك يعفيه عند الله وينجيه من حسابه يوم القيامة، وهكذا يتم التلاعب بشرع الله، فالله يقول ويأمر بشيء (والمفتي) يقول ويأمر بما يغايره ويلغيه فيجعل من نفسه رباً آخر تماماً كما قال تعالى: ((اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ)) [التوبة:31].
وهذا في الأمر والنهي والتشريع في مقابل شرع الله.(1/71)
إن القصد من كل هذا جمع المال ولذلك قال تعالى بعد الآية السابقة بعدة آيات: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنْ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ)) [التوبة:34].
الفصل الرابع: علماء الدين والمال:-
أكد القرآن الكريم على قضية مهمة جداً هي:
أن علماء الدين ودعاته من الأنبياء -عليهم السلام- وغيرهم لا يسألون الناس أجراً أو مالاً مقابل دعوتهم أو كونهم علماء، فليس في شرع الله الذي أنزله على مر العصور طبقة من (رجال الدين) تتكسب بدينها وتعتاش على أموال غيرها، إنما يوجد هذا عند أصحاب المناهج المخترعة والديانات المبدلة كالأحبار والرهبان الذين ((يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ)) [التوبة:34]، لقد تكرر ذكر هذه القضية المهمة كثيراً في القرآن وجاءت على لسان كل نبي بعثه الله تقريباً.
فهذا نوح عليه السلام يقول: ((فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِي إِلاَّ عَلَى اللَّهِ)) [يونس:72]، ويقول: ((وَيَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أَجْرِي إِلاَّ عَلَى اللَّهِ)) [هود:29]، بل قال: ((وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ)) [هود:31] حتى لا يغري الناس باتباعه طمعاً بالمال وزخارف الدنيا، فلا هو يسألهم مالاً ولا هو يعطيهم شيئاً، وذلك من أجل أن تظل الدعوة خالصة لله.(1/72)
ويقول هود عليه السلام لقومه: ((يَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِي إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُونَ)) [هود:51] وكان كل نبي يقول لقومه: ((وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِي إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ)) [الشعراء:109] جاءت هذه الآية مكررة خمس مرات في سورة الشعراء على لسان خمسة من الرسل نوح وهود وصالح ولوط وشعيب عليهم السلام، وأما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فما أكثر الآيات التي جاءت على لسانه تؤكد هذه القضية المهمة:
((قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِي إِلاَّ عَلَى اللَّهِ)) [سبأ:47].
((قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ)) [الأنعام:90].
((قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاَّ مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً)) [الفرقان:57].
((أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ)) [المؤمنون:72].
((أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ)) [الطور:40].
((قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى)) [الشورى:23].
إلى غيرها من الآيات المشابهة.
ولما كان الدجالون الذين يتزيَّون بزي الدين وينطقون باسمه يكوِّنون -دائماً وأبداً- طبقة محترفة بالدين عليه تعتاش وباسمه تتأكّل وفي ظله ترتع وتتطفل فقد جعل الله جل ذكره أخذ أموال الناس باسم الدين علامة دالة على كل كذاب.
فكل من ادعى العلم والدين فنطق باسمه وتزيَّى برسمه ثم سأل الناس أموالهم فهو دعي لا يحل اتباعه، كما قال سبحانه: ((وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ)) [يس:20] * ((اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ)) [يس:21].(1/73)
وتأمل مدى تأصل الطبقة المحترفة بالدين في المجتمعات على مر التاريخ وكونها في كل جيل تجعل من نفسها بديلاً يخدع الناس ويصدهم عن سبيل الله وعن دعاته من الأنبياء والمصلحين الذين يتبعون منهاج الأنبياء فيدعون إلى الله ولا يأخذون على دعوتهم أجراً.
وحيثما يوجد الدين يوجد الاحتراف ويوجد كذلك الإخلاص، والفارق بين أهل هذا وأهل هذا هو طلب المال وكنزه: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنْ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ)) [التوبة:34] * ((يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ)) [التوبة:35].
وهذا هو السر في أن كل نبي ينبه أمته على أنه على الحق بدليل كونه لا يسألهم أجراً كما هو ديدن المبطلين.
وعلى المنهاج ذاته سار أمير المؤمنين علي عليه السلام وأهل بيته من بعده فما كانوا يسألون الناس شيئاً، بل الناس كانوا يسألونهم.
ولكن... انظر إلى واقع (علماء الدين) اليوم الذين يدَّعون الانتساب إليه لترى الفرق الهائل والبون الشاسع بين ما عليه الأدعياء وما عليه أتباع الأنبياء!
يقول الدكتور موسى الموسوي:(1/74)
وعندما أكتب هذه السطور أعرف مجتهداً... لا يزال على قيد الحياة وقد ادخر من الخمس ما يجعله زميلاً لقارون الغابر أو القوارين المعاصرين، وهناك مجتهد شيعي في إيران قتل قبل سنوات معدودة كان قد أودع باسمه في المصارف مبلغاً يعادل عشرين مليون دولار أخذها من الناس طوعاً أو كرهاً باسم الخمس والحقوق الشرعية وبعد التي واللتيا ومحاكمات كثيرة استطاعت الحكومة الإيرانية وضع اليد على تلك الأموال كي لا يقتسمها الورثة فيما بينهم، هذه صورة محزنة من آثار بدعة الخمس التي تبناها فقهاء الشيعة.(1).
بل منهم من بنى لنفسه وذريته من بعده مؤسسات مالية ضخمة خارج الوطن الذي من فقرائه وجهد أبنائه جمع تلك الأموال وبنى تلك المؤسسات.
لقد مات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ودرعه مرهونة عند يهودي على حفنات من شعير وخرج من الدنيا وهو فقير، وكذلك خرج منها الإمام الراشد والعبد الزاهد علي بن أبي طالب عليه السلام، وهؤلاء يخرجون منها وقد تركوا القناطير المقنطرة من الذهب والفضة والكنوز التي لا يعلم مقدارها وخزائنها إلا الله!!
الإسلام يحارب الاحتراف أو الارتزاق باسم الدين:-
__________
(1) الشيعة والتصحيح (ص:69)..(1/75)
إن أعضاء الأسرة النبوية وأهل البيت الكرام وفي مقدمتهم وعلى رأسهم الإمام علي المرتضى عليه السلام وأولاده الأماجد إنما كانوا غيارى أشد الغيرة في الرحم الذي كان يصلهم برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فما كانوا يستغلون هذه النسبة لمصالح دنيوية شأن أبناء أسر الزعماء الدينيين في الديانات والأمم الأخرى ممن ينالون تقديساً زائداً في كل حال ويعاملون من أتباعهم كشخصيات تفوق البشر، وكانوا بعيدين كل البعد عن كسب حطام الدنيا بأسمائهم، وبناء قصور الفخر على عظامهم، وما تتحدث عنه كتب التاريخ والسيرة من حكايات لآبائهم واستغنائهم وعزة أنفسهم تصور سيرتهم وسلوكهم تصويراً يختلف تماماً عن سيرة الطبقة المحترفة بالدين (من البراهمة والكهنة) في الديانات والملل الأخرى؛ فإنها تعتبر ذاتاً قدسية وعظمة عن طريق الولادة فهي لا تحتاج لكسب المعاش وتحقيق حاجات الحياة إلى بذل شيء من الجهد والسعي... دخل سيدنا الحسن بن علي عليه السلام السوق لحاجة يقضيها فساوم صاحب دكان في سلعة فأخبره بالسعر العام ثم علم أنه الحسن بن علي عليه السلام سبط رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فنقص في السعر إجلالاً له وإكراماً، ولكن الحسن بن علي عليه السلام لم يقبل منه ذلك وترك الحاجة وقال: [[إنني لا أرضى أن أستفيد من مكانتي من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في شيء تافه]].
ويقول جويرية بن أسماء -وهو من أخص خدم الإمام علي بن الحسين عليه السلام:
[[ما أكل علي بن الحسين عليه السلام بقرابته من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم درهماً قط، وكان إذا سافر كتم نفسه، فقيل له في ذلك فقال: أنا أكره أن آخذ برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما لا أعطى به]].
لمن شرَّع الاقتصاد الإسلامي:-(1/76)
الناظر في التشريعات الاقتصادية الإسلامية كالزكاة والصدقة والفيء والخراج وخمس الغنائم يعرف أنها جاءت لمنفعة المجتمع كله، ولا يعرف أن الله شرع شيئاً لصالح فرد معين أو طبقة معينة، فكيف يشذ خمس المكاسب -إذا كان مشروعاً- عن هذه القاعدة فيكون لطبقة أو طبقتين من المجتمع؟! بل يكون سبباً أساسياً في تكوين الطبقية التي جاء الإسلام لهدمها؟!.
تأمين المعاش للأقارب من خصائص الملوك لا الأنبياء عليهم السلام:-
إن من عادة الملوك والظلمة من الحكام حيازة الأموال والمناصب وإعطاءها لمن لا يستحقها من الأهل والأقارب.
أما الأنبياء -عليهم السلام- فليس هذا من أخلاقهم وأفعالهم وعاداتهم، إنهم لم يكونوا يأخذون على دعوتهم من أحد ديناراً ولا درهماً، بل كان كل واحد يكرر على مسامع قومه: ((وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِي إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ)) [الشعراء:109].
أما نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم فقد خاطبه الله تعالى بقوله الكريم: ((وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِنْ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ)) [الحجر:87] * ((لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ)) [الحجر:88] فبين أن عطاءه لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم إنما هو السبع المثاني (الفاتحة) والقرآن العظيم. وهو من العظمة والسعة بحيث يقطع نظر من أوتيه عن أن يمتد إلى متاع الدنيا مهما عظم واتسع ويقصر رغبته وغناه على ذلك العطاء الرباني الجليل.(1/77)
ولم يكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مشغولاً باله بمستقبل أهله وأقاربه ولا قلقاً أو مهموماً بما ستؤول إليه حالتهم المادية من بعده، فإن هذا لا يليق بعامة زهاد الأمة وصالحيها، فكيف بسيد المتوكلين العالمين بـ((إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ)) [الذاريات:58] وأعظم المؤمنين العاملين بقول ربه: ((وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً)) [الطلاق:2] * ((وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ)) [الطلاق:3]؟! أليس هو الذي كان يعلِّم أصحابه ويقول: [[إن روح القدس نفث في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستوفي رزقها وأجلها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب]]؟!
وفوق ذلك كان صلى الله عليه وآله وسلم على حالة شديدة من التقشف والزهد، وكذلك كان أهل بيته الأطهار وعلى رأسهم علي عليه السلام وفاطمة عليها السلام اللذين لم نعرف عنهما إلا الزهد والقناعة والتخفف من الدنيا ومتعتها.
إن القول بأن (الخمس) شُرِع لأقارب النبي صلى الله عليه وآله وسلم يعكس هذه المقاصد ويظهر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته على صورة غير ما هم عليه في الحقيقة.
أمير المؤمنين علي عليه السلام يحرم على نفسه وأهله أموال المسلمين من الصدقات والزكوات والصِّلات:-(1/78)
تأمل هذا النص الذي جاء في نهج البلاغة(1) عن أمير المؤمنين علي عليه السلام: [[والله لقد رأيت عقيلاً وقد أمدق حتى استماحني من بُركم صاعاً، ورأيت صبيانه شعث الشعور غبر الألوان من فقرهم كأنما سوِّدت وجوههم بالعظلم(2) وعاودني مؤكداً وكرَّر عليّ القول مردداً فأصغيت إليه سمعي فظن أني أبيعه ديني وأتبع قياده مفارقاً طريقي فأحميت له حديدة ثم أدنيتها من جسمه ليعتبر بها، فضج ضجيج ذي دنف من ألمها وكاد أن يحترق من ميسمها فقلت له: ثكلتك الثواكل يا عقيل، أتئن من حديدة أحماها إنسانها لِلَعِبِهِ وتجرني إلى نار سجرها جبارها لغضبه؟!
أتئن من الأذى ولا أئن من لظى؟!]].
قلت: كيف يصل عقيل وصبيانه وأهله -وهو أخو علي - إلى هذه الدرجة من الفقر يتردد مراراً على أخيه وقد شعثت شعور صبيانه واغبرت ألوانهم واسودَّت وجوههم من الجوع والإملاق ويعاود أخاه مؤكداً، ويكرر له القول مردداً من أجل كيلوين من الطحين؟! ويعاود ويكرر القول؟!
أيعقل هذا وخمس أرباح المسلمين وتجاراتهم وأموالهم تجبى إليهم من أطراف دولة الإسلام المترامية؟!! ثم يواصل أمير المؤمنين الزاهد التقي كلامه السابق قائلاً:
[[وأعجب من ذلك طارق طرقنا بملفوفة في وعائها ومعجونة شنئتها كأنما عجنت بريق حية أو قيئها فقلت: أصلة؟ أم صدقة؟ أم زكاة؟ فذلك محرم علينا أهل البيت.
فقال: لا ذا ولا ذاك ولكنها هدية.
فقلت: هبلتك الهبول أعن دين الله أتيتني لتخدعني؟!]].
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقدم أقرباءه في الخطر ويؤخرهم في المنافع:-
وقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم لدى جميع مناسبات الراحة والعطايا والجوائز والشرف يؤخر دائماً أقرباءه ويؤثر عليهم غيرهم خلافاً لعادة عامة الملوك والسلاطين وطريقة الحكام السياسيين.
__________
(1) 2/217-218)..
(2) صبغ أسود.(1/79)
عن علي عليه السلام {أن فاطمة عليها السلام اشتكت ما تلقى من الرحى مما تطحن فبلغها أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أُتي بغنيمة فأتته تسأل خادماً فلم توافقه فذكرت لعائشة فجاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم فذكرت ذلك عائشة له فأتانا وقد دخلنا مضاجعنا فذهبنا لنقوم فقال: على مكانكما حتى وجدت برد قدميه على صدري فقال: ألا أدلكما على خير مما سألتماه؟ إذا أخذتما مضاجعكما فكبرا الله أربعاً وثلاثين، واحمدا ثلاثاً وثلاثين وسبحا ثلاثاً وثلاثين، فإن ذلك خير لكما مما سألتماه}(1).
وفي رواية أخرى في هذه القصة وفيها: {والله لا أعطيكم وأدع أهل الصفة تطوى بطونهم من الجوع، لا أجد ما أنفق عليهم، ولكن أبيعهم وأنفق عليهم أثمانهم}.(2)
أوساخ الناس:-
حرَّم النبي صلى الله عليه وآله وسلم الزكاة والصدقة على نفسه وأهل بيته؛ لأنها (أوساخ الناس) أراد الله أن يطهرهم منها وأحب لهم أن يترفعوا عنها، وجعل لهم عوضاً عنها حقاً في الخمس.
فإذا طبقنا هذه القاعدة وأنه على أساسها حرم الله على نبيه وأهله الزكاة، فلننظر أي خمس هذا الذي هو ليس من أوساخ الناس أحله الله لهم؟
الزكاة: تؤخذ من أموال المسلمين بنسبة واحد في الأربعين (1/40).
وخمس المكاسب: يؤخذ من أموال المسلمين أيضاً، ولكن بنسبة ثمانية في الأربعين (8/40).
فهل من فرق بينهما إلا في كمية الأوساخ؟! إذ تبلغ أوساخ (الخمس) أضعاف أضعاف أوساخ الزكاة!!
فهل يصح في الأذهان أن يطهرهم الله من الزكاة والصدقة لأنها وسخ ولا يطهرهم من (الخمس) هذا وهو كذلك بلا فرق قط سوى أنه يزيد عليها في كمية هذه الأوساخ؟! هل يصح أن تطهِّر ثوبك من رشاش ماء الطريق بماء المجاري أو المياه الثقيلة؟! هل يفعل ذلك عاقل؟!!
خمس الغنائم:-
__________
(1) من لا يحضره الفقيه للقمي (1/321)..
(2) المجازات النبوية للشريف الرضى (355)..(1/80)
لقد أباح الله تعالى لنبيه وأهل بيته خمس الغنائم؛ لأنه يؤخذ عنوة وإرغاماً بحد السيف من الكفار الذين فقدوا أحقية ملكيته بمقاتلتهم أهل الإسلام فصار ملكاً للمسلمين يتصرفون فيه بأمر الله، فكان في الخمس حق لأهل البيت أمراً من الله لا تفضلاً وتكرماً من الناس، إذ لم يتملكه أحد من المسلمين قبلهم له فيه حق، ولا هو من الوسخ الذي يلقيه الناس عن أموالهم لتطيب وتزكو كما هو الحال في الزكاة التي قال الله عنها: ((خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا)) [التوبة:103].
فهو بهذا المعنى ليس من الوسخ الذي أراد الله تطهيرهم منه، أما خمس المكاسب فهو الوسخ بعينه أو هو عين الوسخ.
لأن المال حتى لا يكون وسخاً ينبغي أن لا يكون ملكاً لأحد يتفضل به على غيره وإلا فهو وسخ يُلقي به ذلك الغير إلى من يأخذه، وهذا المعنى موجود في الزكاة وموجود كذلك وأكثر في مكاسب الناس إذ هي ملكهم فما الفرق الذي جعل الزكاة وسخاً ولم يجعل خمس المكاسب كذلك وكلاهما خارج من عين واحدة؟!
الفرق بين خمس المكاسب وخمس الغنائم:-
خمس المكاسب يؤخذ من أموال المسلمين المسالمين وأرباحها فلا فرق بينه وبين الزكاة من هذه الناحية إلا في المقدار فإذا كانت الزكاة وسخاً فهو زيادة في الوسخ لا غير.
أما خمس الغنائم فيؤخذ من أموال الكفار المحاربين الذين سقطت ملكيتهم له بمحاربتهم المسلمين، فهو ليس ملكاً لأحد ولا فضل فيه لأحد على أحد حتى يكون وسخاً. إنما هو مال الله قال عنه في كتابه: ((يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَنْفَالِ قُلْ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ)) [الأنفال:1] شاء أن يقسمه هذا التقسيم الوارد في قوله الكريم بعد الآية السابقة بأربعين آية: ((وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ)) [الأنفال:41].(1/81)
فإذا أخذ أهل البيت منه شيئاً فإنهم لا يأخذونه من أحد وإنما يأخذونه من مال الله فلا منِّة لأحد عليهم سوى الله جلَّ وعلا.
وبهذا يظهر التوافق وعدم التناقض بين حرمان أهل البيت من الزكاة والصدقات وإعطائهم من خمس الغنائم.
وإلا لماذا يحرم الإسلام عليهم صدقات الناس ليبيح لهم أرباح مكاسبهم وأموالهم، ولا فرق بينهما؟!
تأمل هذا الكلام جيداً فإنه يكفي بإذن الله من غايته الحقيقية والبحث المجرد البعيد عن الذات.
أيهما أشر العشار؟ أم الخماس؟:-
جاء في نهج البلاغة(1) عن علي عليه السلام أنه قال: [[طوبى للزاهدين في الدنيا الراغبين في الآخرة، أولئك قوم اتخذوا الأرض بساطاً وترابها فراشاً وماءها طيباً والقرآن شعاراً والدعاء دثاراً، ثم قرضوا الدنيا قرضاً على منهاج المسيح -كحال آكلي الخمس اليوم!- يانوف إن داود عليه السلام قام في مثل هذه الساعة من الليل فقال: إنها ساعة لا يدعو فيها عبد إلا استجيب له إلا أن يكون عشاراً أو عريفاً أو شرطياً أو صاحب عربطة -وهي الطنبور- أو صاحب كوبة -وهي الطبل-]] ا هـ.
جاء في شرحه:
العريف: من يتجسس على أحوال الناس وأسرارهم فيكشفها لأميرهم مثلاً.
والشرطي: نسبة إلى الشرطة وهو أعوان الحكام (أي: الظالم).
والعشار: من يتولى أخذ أعشار الأموال وهو المكاس.
قلت هذه منزلة العشار عند الإمام علي عليه السلام وهذه حاله في بعده عن الله وعدم استجابته دعاءه، وقد جاء في الحديث الشريف عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في المرأة التي تابت وأقرت بالزنا فرجمت: {لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لقبل منه} وصاحب المكس هو: العشار فهذا حال من يأخذ أعشار أموال الناس!
فكيف هي حال من يأخذ (أخماسها)؟! والخمس ضعف العشر كما تقول لغة الرياضيات!! اللهم نسألك العافية.
الفصل الخامس: اتِّباع المتشابه:-
__________
(1) 4/24)..(1/82)
بعد كل الذي قدمناه -والحمد لله- يتبين بوضوح تام أن فكرة (خمس المكاسب) من ناحية ثم إعطاء هذا (الخمس) إلى الفقيه من ناحية أخرى لا دليل عليها من الشرع ولا مستند لها إلا المتشابه والمتشابه المحض!
فليس هناك إلا نص قرآني واحد، ورد فيه لفظ (الخمس) اللفظ فقط!، أما موضوعه ومعناه أو مضمونه ومحتواه فشيء آخر لا علاقة له به، هو خمس الغنائم التي تؤخذ من محاربي الكفار في ساحة القتال.
تعضية النصوص:-
اتبع مع هذا النص القرآني الجليل أسلوب التعضية والتقطيع الذي نهى الله تعالى عنه فقال: ((كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ)) [الحجر:90] * ((الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ)) [الحجر:91].
أي: جعلوه أجزاء أو أعضاء متفرقة أصلها من: عضيَّت الشيء تعضية أي: فرقته وجعلته أعضاء وأجزاء ممزقة ومقطعة ومفصولة العلاقة ببعضها، حتى يسهل حملها على المراد وعلى الإيمان ببعض والكفر ببعض، وحينذاك يكون من فَعل هذا كاذباً ومدعياً زوراً على الله وكتابه فإنك لو تلوت قوله تعالى: ((ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ)) [الأنعام:131] وسكتّ ولم تكمل الآية، صار المعنى أن الله لا يهلك القرى الظالمة أما إذا أكملت وأضفت إليها: ((وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ)) [الأنعام:131] تغير المعنى إلى الضد تماماً، وكان المعنى الأول كذباً بل النص نفسه لا يصح نسبته إلى الله ومن فعل ذلك فقد افترى عليه مع أنك جئت به من القرآن نفسه، وهكذا لو قرأت قوله تعالى: ((فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ)) [الماعون:4] ولم تكمل.
وتأمل دقة لفظ (عضين) فإنه جمع عِضَة والعضة لها معنيان:
الأول: عضة وأصلها عِضوة أي: جزء.
والثاني: عضة التي أصلها العضة وهو الكذب والبهتان يقال: عَضَهَه عضها أي: رماه بالكذب(1).
__________
(1) صفوة البيان لمعاني القرآن..(1/83)
فاجتمع المعنيان في لفظ (عضين) فكل من فرق كلام الله وجزأه وفصله عن بعضه فقد افترى على الله واحتمل بهتاناً وإثماً مبيناً، ولذلك يقول الله تعالى بعد الآيتين السابقتين في سورة الحجر: ((فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ)) [الحجر:92] * ((عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ)) [الحجر:93].
مثال عن التعضية والتقطيع من الأدلة:-
قال السيد محمد صادق الصدر في كتابه الخمس بين السائل والمجيب:
إن الخمس من أهم الواجبات الشرعية وقد ورد فيه التأكيد البليغ.(1).
فلننظر في أدلته التي استند إليها لإثبات قوله هذا:
1- قال مباشرة بعد قوله السابق قال تعالى: ((وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا)) [الأنفال:41].
__________
(1) الخمس بين السائل والمجيب (ص:3)..(1/84)
وتوقف عند هذا الحد ولم يكمل الآية، بل بترها عن خاتمتها وسياقها وهو: ((... يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)) [الأنفال:41] * ((إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً)) [الأنفال:42]. وبترُ الآية هكذا يمنع القارئ من معرفة كون الآية تتحدث عن معركة التقى فيها جمعان هما جمع المؤمنين بالعدوة الدنيا من الوادي، وجمع الكافرين بالعدوة القصوى منه، وقد فات الركب أي: القافلة وسلم من استيلاء المسلمين عليه (والركب أسفل منكم) أما اليوم فهو يوم الفرقان (يوم بدر)... إلخ وهكذا وبهذه الطريقة لا يتبين للأكثرية الغالبية التي لا تقرأ القرآن، وإذا قرأته لا تقرأه إلا على نية الأجر والبركة لا نية التدبر والتفهم، ولا ترجع إلى مواضع الأدلة وسياقها في القرآن، لا يتبين لهذه الأكثرية أن (الخمس) المذكور في جزء الآية المبتور إنما هو في غنيمة المعارك لا في عموم المكاسب.
2- لم يأت بدليل آخر من القرآن يؤيد به (أن الخمس من أهم الواجبات الشرعية وقد ورد فيه التأكيد البليغ) ولا وجود لهذا الدليل أبداً. وقد تبين لنا أن الدليل الوحيد هو في خمس المغانم لا المكاسب، لاسيما وأنه قال في الصفحة التالية معرفاً الغنيمة: (الأموال والعيان المنقولة المأخوذة بالقتال من الكفار الذين يحل قتالهم).(1).
وإذن لم يرد أي تأكيد في القرآن لا بليغ ولا غيره على (الخمس) الذي قال عنه: إنه (من أهم الواجبات الشرعية).
وأنا لا أدري كيف لا يرد في القرآن كله وعلى مدى ثلاث وعشرين سنة من تنزّله آية واحدة تنص على أمر هو (من أهم الواجبات الشرعية)!!
__________
(1) الخمس بين السائل والمجيب (ص:4)..(1/85)
3- ثم احتج لكلامه بروايات موضوعة على لسان (الأئمة) منها ما لا وجود له في المصادر المعتمدة كالكافي، أو فقيه من لا يحضره الفقيه للقمي، أو الاستبصار للطوسي، ومنها ما هو موجود لكن استعمل معه أسلوب البتر والتقطيع أيضاً، حتى يسلم له الاستدلال بها وإلا انتقض كلامه!!
وإليك الدليل:
1- قال: قال إمام العصر عجل الله فرجه الشريف: [[من أكل من مالنا شيئاً، في بطنه ناراً وسيصلى سعيراً]] هكذا أوردها دون نسبتها إلى أي مصدر معتمد فضلاً عن القيام بتحقيق سندها ومتنها من أجل معرفة صحتها من ضعفها، ولم أجد هذه الرواية لا في كتاب الكافي ولا فقيه من لا يحضره الفقيه للقمي، ولا الاستبصار للطوسي، مع أن كتاب الكافي هو المصدر الوحيد من المصادر المعتمدة التي ألف في زمن الغيبة الصغرى، فلو كان للغائب قول في الخمس لكان من المنطقي أن يُذكر أول ما يُذكر فيه.
2- وأورد الرواية الآتية: وقال عجل الله فرجه: [[لعنة الله والملائكة والناس أجمعين على من أكل من مالنا درهماً حراماً]].(1) دون إسناد ولا نسبة لمصدر ولا تحقيق، ولم يكلف نفسه شيئاً من ذلك وكأن الأمر لا يتعلق بسلب الناس خمس أموالهم، وإنما بمسألة غاية في البساطة، تقليم الأظافر مثلاً!! وأورد كذلك روايات أخرى مماثلة.
3- استدل بروايتين وردتا في المصادر الروائية، ولكن بعد أن أعمل فيهما مبضع البتر والتقطيع وأوردهما هكذا:
قال في الأولى: وقال عليه السلام –أي: الإمام الصادق -: [[إن أشد ما فيه الناس يوم القيامة إذا قام صاحب الخمس فقال: يا رب خمسي]].(2).
__________
(1) الخمس بين السائل والمجيب (ص:3)..
(2) الخمس بين السائل والمجيب (ص:3)..(1/86)
والرواية على هذه الصورة تعني عكس ما تعنيه لو أوردها بتمامها هكذا: [[إن أشد ما فيه الناس يوم القيامة إذا قام صاحب الخمس فقال: يا رب خمسي، وقد طيبنا ذلك لشيعتنا لتطيب ولادتهم ولتزكو أولادهم]] وأورد الرواية الثانية بعد أن قام بعملية بترها هكذا: وقال أبو عبد الله عليه السلام: [[أتدري من أين دخل على الناس الزنا؟ فقلت: لا أدري فقال: من قبل خمسنا أهل البيت]](1) مع حذفه لآخرها وهو [[... إلا شيعتنا الأطيبين فإنه محلل لهم لميلادهم]].(2) وهذا المحذوف يستثني الشيعة من حكم الرواية ويقصره على غيرهم، فقام بحذفه وبتره لئلا تكون الرواية حجة عليه.. فتصور!!
4- أورد في هذا الكتيب الذي لا يتجاوز الأربعين صفحة 184 مسألة فقهية تتناول قضايا تفصيلية ودقيقة من دون أن يقدم دليلاً واحداً من الكتاب أو السنة أو أقوال الأئمة على أي مسألة من تلك المسائل!!
وهكذا ترددت الأدلة التي استند إليها بين:
1- آية قرآنية قام ببترها وهي لا تدل على أكثر من مال الغنيمة الذي لا وجود له في الوقت الحاضر.
2- وروايات مختلفة لا وجود لها في المصادر المعتمدة، ولا ندري متى اختلقت، ومن هو صاحبها إذ لا مصدر قديماً لها.
3- وروايات مبتورة بغض النظر عن صحة الروايات وضعفها. هذا من حيث الإجمال.
4- ومن حيث التفصيل فلم يقدم أي دليل على الإطلاق!!
لا عجب:-
وقد يعجب الكثيرون من تهافت هذه الأدلة مع رواجها على الألوف المؤلفة من العقول واقتناعها بها رغم تهافتها الواضح!!
إن السر الذي يكمن وراء ذلك بسيط جداً هو:
__________
(1) الخمس بين السائل والمجيب (ص:3)..
(2) أصول الكافي (1/546)..(1/87)
إن قوة هذه الأدلة ومصدرها الوحيد هو ضعف المتلقي لها، وليست ذاتية متأتية من طبيعة الأدلة نفسها إلا إن الضعيف يظهر قوياً عندما يجد من هو أضعف منه، وضعف الجماهير وعجزها عن التفكير المستقل أمر يعرفه علماؤهم، ولذلك تجدهم يحتجون لهم بمثل هذه الحجج الواهية وقد اطمأنوا إلى أنهم لن يجدوا من يعترض عليهم أو يفكر بذلك مجرد تفكير.
إن هؤلاء (العلماء) قد ألقوا في روع الجماهير أن القرآن صعب الفهم، وأن الروايات منوط فهمها بالعلماء فقط، وما على سواد الناس إلا الانقياد والتقليد الأعمى، ولا يحل لهم غير ذلك، وفي وسط هذا المحيط المدلهم كيف يمكن لأحد أن يتلمس سبيل الخلاص؟!
ولذلك فإن المقلد لا يتعب نفسه في مناقشة أدلة من يقلده بقدر ما يحاول التعرف على الفتوى ليعمل بها، ولذلك لا يكلف الفقهاء أنفسهم بالإتيان بالحجج والأدلة من أجل إقناع أتباعهم؛ لأن هؤلاء الأتباع مضمونة قناعتهم أصلاً، فإذا ذكروا لهم (الأدلة) فعلى سبيل التنزل والتفضل لا أكثر!!
ومع ذلك لا يجد (الفقيه) وسيلة أمامه لإثبات قوله إلا البتر والتقطيع والتصرف في النقل دون مراعاة للأمانة العلمية، وإيراد الروايات التي لا أصل معتمداً لها.
إن هذا الصنيع يدلل بوضوح على الاضطراب النفسي الذي يعاني منه (الفقيه)، والخوف من الأدلة ذاتها والرعب من مواجهتها كما هي، أو الصمود أمامها إذا انتصبت له حية كاملة.
إن الخائف الجبان لا يمكن أن يتصدى للأسد كما هو دون أن يراه مقطوع الرأس.
وإلا فصاحب الحق ثابت لا يخاف ولا يضطرب، أمين لا يزور الحقائق ولا يتلاعب بالأدلة، بل الحقيقة مطلبه والحق غايته والدليل سائقه، أينما توجه به توجه، وحيثما حل به نزل، فهو آمن لا يخاف وواثق لا يتزعزع.
كيف مُزِّقت آية الخمس؟:-
والآن نعود إلى آية الخمس فقد قطعوا الآية:(1/88)
أولاً: عن سياقها وهو الحديث عن معركة بدر الكبرى، إذ إن سورة الأنفال كلها عن هذه المعركة العظيمة، وقد بدأت بسؤال المؤمنين عن حكم الأنفال أي: الأموال التي غنموها من الكفار في ساحة القتال وكيفية قسمتها ولمن تكون؟ بعد أن اختلفوا في ذلك كما قص الله تعالى عنهم كل هذا بقوله في الآية الأولى من السورة: ((يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَنْفَالِ)) [الأنفال:1] أي: عن الغنائم وهي الأموال المأخوذة من الكفار قهراً بقتال جمع نفل وأصلة الزيادة تقول: نفلتك وأنفلتك أي: زدتك وسميت أنفالاً؛ لأنها زيادة خص الله تعالى بها هذه الأمة إذ كانت محرمة على من قبلهم من الأمم، سأل بعض أهل بدر النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن حكمها حين تنازعوا في قسمتها فنزلت الآية باختصاص حكمها بالله ورسوله: ((قُلْ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ)) [الأنفال:1] أي: مفوض إليهما أمرها(1) ((فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ)) [الأنفال:1] فلا تختلفوا ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بينكم ينزل عليه الأمر من الله ((وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ)) [الأنفال:1].
واستمرت السورة تحكي وقائع المعركة إلى أن جاء الجواب عن التساؤل المذكور في الآية الأولى في منتصفها ليبين كيفية قسمة هذه الأموال المغنومة فجاءت الآية الحادية والأربعون توضح ذلك بقوله تعالى: ((وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ)) [الأنفال:41].
__________
(1) صفوة البيان لمعاني القرآن.(1/89)
ثم استمرت السورة في سياقها دون انقطاع تكمل الحديث عن المعركة وأحداثها وما تبع ذلك من آثار ونتائج بصورة لا تقبل الفصل أو القطع ((إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى...)) [الأنفال:42]إلخ، فلفظ (إذ) متعلق بالآية تعلقاً كاملاً لا انفكاك عنه ولا محيص.
وثانياً: قطعوا النص المحتج به عن الآية نفسها التي جاء فيها، فقطعوا أول الآية عن آخرها حتى يسهل حمل ما احتجوا به منفصلاً عن نهايته وجزئه المكمل له على المعنى الذي يريدون! إذ إن تكملته: ((إِنْ كُنتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)) [الأنفال:41] وهو مرتبط تمام الارتباط بما بعده من قوله: ((إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ)) [الأنفال:42] فتكون الآية وما بعدها هكذا: ((وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)) [الأنفال:41] * ((إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ)) [الأنفال:42].(1/90)
فـ(يوم الفرقان) يوم بدر و(الجمعان) جمع المؤمنين الذي كان بجانب الوادي وحافته الأقرب على المدينة (العدوة الدنيا) وجمع الكافرين الذي كان بالجانب الآخر الأبعد منها (العدوة القصوى) و(الركب) هو: العير، وأصحابها أبو سفيان ومن معه (أسفل منكم) أي: في مكان أسفل من مكانكم إلى ساحل البحر الأحمر على ثلاثة أميال من بدر.(1).
وثالثاً: لم يلتفتوا إلى سبب نزول الآية فقطعوها عنه، وهو السؤال عن كيفية قسمة الغنيمة بعد أن اختلفوا فيها، فالآية نزلت جواباً على سؤال وإزالة لإشكال لا علاقة للمكاسب أو الأرباح التجارية وغيرها به فما الذي أدخلها في الموضوع؟!!
ورابعاً: قطعوا المعنى اللغوي للفظ الغنيمة عن معناه الاصطلاحي الشرعي.
ثم ما هي علاقة الفقيه بالآية والذي لم يرد ذكره أبداً لا أولاً ولا آخراً ولا ضمناً ولا إشارة ولا تصريحاً ولا تلميحاً ولا لفظاً ولا معنى؟! فإن كان (الخمس) قد ورد لفظاً فإن الفقيه لم يرد أصلاً.
قضيتان منفصلتان:
ومما تجدر الإشارة إليه هنا هو أن موضوع خمس المكاسب في صورته الحالية مركب من قضيتين.
الأولى: أن في المكاسب خمساً.
الثانية: أن هذا (الخمس) يجب تسليمه إلى الفقيه.
وهما قضيتان منفصلتان تحتاج كل واحدة منهما إلى دليل منفصل فلا يصح دمجهما معاً والاستدلال عليهما بدليل واحد وردت فيه إحداهما لفظاً والأخرى لم ترد أصلاً!!
علاقة لفظية بحتة:-
وهكذا يظهر أن دعوى القول بخمس المكاسب بدليل الآية هي بالضبط كدعوى رجل اسمه إبراهيم احتج بقوله تعالى: ((وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَبِيّاً)) [مريم:41] على أنه نبي؛ لأن لفظ إبراهيم ورد فيها، وبما أن اسمه إبراهيم هو نبي اعتماداً على تشابه الاسمين وتطابق اللفظين!!
صحيح إن الآية فيها لفظ إبراهيم، ولكن أي إبراهيم هو المقصود؟!
__________
(1) صفوة البيان لمعاني القرآن.(1/91)
وصحيح أن آية (الأنفال) ورد فيها لفظ الخمس، ولكن أي خمس هو المقصود؟! خمس (ما غنمتم) أم خمس (ما كسبتم)؟!
إن الاحتجاج بالآية على خمس المكاسب يدخل تمام الدخول تحت قاعدة (ما تشابه منه) واستمع إلى الله جل وعلا ماذا يقول في ذلك:
((هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ)) [آل عمران:7].
فجعل سبحانه اتباع المتشابه والاحتجاج به من صنيع أهل الزيغ والأهواء، وأنهم يفعلون ذلك من أجل إيقاع الفتنة، أي: فتنة المؤمنين عن دينهم الحق بالتشكيك والتلبيس، وفتنة أتباعهم الجهال بذلك، ومن أجل تأويله وتحريفه التأويل الباطل الذي يشتهونه والتحريف السقيم الذي يقصدونه زاعمين أنه الغاية المرادة منه، وذلك شأن أهل البدع والأهواء والملاحدة في كل عصر.(1)
خلاصة البحث
وبعد... فهذه أهم الحقائق التي توصلت إليها من خلال هذا البحث:
أولاً: إن تفسير قوله تعالى: ((وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى...)) [الأنفال:41] بأرباح المكاسب وتسليمها للفقهاء لا دليل عليه البتة.
1- لا من القرآن الكريم فإن الآية نفسها موضوعها غنائم الحرب التي تؤخذ قسراً من الكافرين لا مكاسب السلم التي تؤخذ فرضاً من المسلمين.
وأما علاقة خمس المكاسب بها فهي لفظية بحتة لا حقيقة لها.
2- ولا من السنة النبوية المطهرة إذ لم يرد من قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولا من فعله ولا تقريره.
3- ولم يرد عن أحد من الخلفاء الراشدين بما فيهم أمير المؤمنين علي عليه السلام.
__________
(1) صفوة البيان لمعاني القرآن.(1/92)
4- ولا يوجد فيه أي نص عن الأئمة المعصومين في أي مصدر معتمد كالكافي للكليني أو من لا يحضره الفقيه للقمي، أو الاستبصار للطوسي وغيرها.
5- ولم يُفت به أي فقيه من الفقهاء المعتبرين المتقدمين كالشيخ المفيد والشيخ الطوسي والسيد المرتضى علم الهدى وغيرهم.
6- سقوط السند اللغوي لهذه التسمية (الخمس) من حيث تعلقها بالمكاسب.
7- سقوط السند الشرعي لهذه التسمية أيضاً.
ثانياً: وجود نصوص عديدة واردة عن (الأئمة) تنص على أن:
1- حكم الخمس وإعطائه للإمام المعصوم نفسه هو الاستحباب وليس الوجوب.
2- جواز تصرف صاحب (الخمس) به دون شرط الرجوع إلى الإمام متى احتاج إلى ذلك، ومراجعة الإمام إنما هي على سبيل الاستحباب غير الملزم.
3- بعض هذه النصوص تصرح أن الأئمة أباحوا الخمس لأتباعهم وأسقطوه عنهم مطلقاً تكرماً وتفضلاً.
4- وبعضها تنص على إباحته لهم حتى يقوم القائم الغائب.
5- لا يوجد أي نص يتعلق بالفقهاء وإدخالهم في موضوع الخمس.
ثالثاً: إن فتوى إعطاء الخمس للفقيه إنما قال بها بعض الفقهاء المتأخرين دون المتقدمين وأن هذه الفتوى تمتاز بما يلي:
1- مختلف فيها ولا إجماع عليها.
2- عدم اعتمادها على أي نص عن الأئمة المعصومين أو القرآن الكريم أو السنة النبوية المطهرة.
3- اضطراب أقوال الفقهاء الذين اعتمدوها وحيرتها وترددها وتناقضها فيما بينها في أقوال الفقيه نفسه ومن فقيه إلى فقيه ومن زمان إلى زمان.
4- والأهم من ذلك كله تناقضها التام مع الأقوال الواردة عن الأئمة المعصومين.
5- عدم إمكانية تطبيقها على الواقع فهي خير مثال يمكن أن يضرب على تناقض النظرية مع التطبيق.(1/93)
وبعد... فهذه أهم ما توصلت إليه من حقائق ونتائج أضعها بين يدي إخوتي وبني جلدتي ممن يحبون الحق ويبحثون عن الحقيقة ويتحلّون بالإنصاف ممن لازال -عن حسن نية وقصد وابتغاء للثواب والأجر- يرهق نفسه بدفع (الخمس)، أداء للأمانة الدينية والبحث العلمي المنصف المجرد، وبراً بالإخوة ونصيحة لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم، وتبصيراً للعقول النيرة المنعتقة من نير التقليد الأعمى اتباعاً للحق الأسنى والطريقة المثلى، والحجة الواضحة الناصعة والأدلة البينة الساطعة، ونشراً للوعي بين الجماهير العاقلة ذات النفوس الطيبة والعقلية المحايدة والإرادة الحرة المستقلة الفاعلة.
ويا رب! هذا الجهد وعليك التكلان، وأنت المستعان وبك المستغاث، ولا حول ولا قوة إلا بك.
المؤلف
جمادى الأولى 1419هـ- أيلول 1998م
مراجع البحث:
- القرآن الكريم.
2- أصول الكافي- للكليني الرازي ط طهران 1381 هـ.
3- الإرشاد- للشيخ المفيد ط الحيدرية النجف 1392- 1972.
4- تطور الفكر السياسي الشيعي من الشورى إلى ولاية الفقيه- الأستاذ أحمد الكاتب- الطبعة الأولى- 1997م.
5- الخمس بين السائل والمجيب -السيد محمد صادق الصدر ط 1418.
6- الاستبصار فيما اختلف من الأخبار- أبي جعفر الطوسي.
7- الشيعة والتصحيح- للدكتور موسى الموسوي.
8- صفوة البيان لمعاني القرآن- للشيخ حسنين محمد مخلوف.
9- فقيه من لا يحضره الفقيه- القمي ط طهران.
10- الكتاب المقدس- العهد القديم.
11- منهاج الصالحين- للسيد أبي القاسم الخوئي مطبعة الديواني بغداد الطبعة التاسعة والعشرون.
12- مختار الصحاح- للرازي المركز العربي للثقافة والعلوم.
13- مفردات ألفاظ القرآن- للعلامة الراغب الأصفهاني المكتبة المرتضوية إيران.
14- النهاية في مجرد الفقه والفتاوى- لشيخ الطائفة الطوسي.
15- نهج البلاغة- بشرح محمد عبده ط دمشق.
فهرس المحتويات
الخمس ... 1
بين الفريضة الشرعية والضريبة المالية ... 1(1/94)
تأليف/ علاء عباس الموسوي ... 1
المقدمة ... 2
تمهيد ... 3
الباب الأول: خمس المكاسب بين أقوال (الأئمة) وفتاوى الفقهاء ... 5
الفصل الأول: حقائق خطيرة ومثيرة:- [حقائق خطيرة ومثيرة حول الخمس]:= ... 5
الفصل الثاني: الأدلة التفصيلية على الحقائق السابقة:- ... 7
النصوص الواردة عن الأئمة المعصومين في إسقاط الخمس:- ... 7
كبار الفقهاء يُسقطون الخمس أيضاً:- ... 11
الفصل الثالث: اضطراب نظرية الخمس واختلافها بين المتقدمين من الفقهاء والمتأخرين:- ... 14
ماذا عند الشيخ المفيد (413هـ)؟:- ... 14
قول الشيخ أبي جعفر الطوسي المتوفى سنة (460هـ):- ... 16
فتوى زعيم الحوزة السيد أبي القاسم الخوئي:- ... 18
حق السادة:- ... 19
وضاعت الحقيقة!:- ... 20
الفصل الرابع: تطور نظرية الخمس عبر التاريخ:- ... 21
حيرة الفقهاء المتأخرين في الذريعة التي تبرر أخذهم الخمس:- ... 23
شرعية الإنفاق لا تحلل حرمة المصدر (الكسب):- ... 24
ملخص تقريبي لتطور موضوع متولي الخمس عبر التاريخ:- ... 25
من أين جاءت الفكرة؟:- ... 26
الخلاصة:- ... 27
التساؤل الأخير:- ... 27
ما علاقة الفقيه بالآية؟!:- ... 27
الباب الثاني: الخمس بين الغنائم والمكاسب ... 29
الفصل الأول: دلالة آية الخمس:- ... 29
آية الخمس:- ... 30
الموضع الوحيد:- ... 30
مقارنة بين الزكاة وخمس المكاسب:- ... 31
بعض الفتاوى المتعلقة بالخمس:- ... 31
مثال.. كي تتضح المقارنة:- ... 33
بعض الآيات الواردة في الزكاة:- ... 34
مثال آخر:- ... 36
سبب نزول الآية:- ... 37
سياق الآية:- ... 38
القرآن فرَّق بين المكاسب والغنائم:- ... 38
الغنيمة في لغة القرآن:- ... 39
اللفظ بين معناه اللغوي ومعناه الاصطلاحي:- ... 40
التنافر اللغوي بين خصوص لفظ (الغنيمة) وعموم لفظ (المكاسب):- ... 42
الغنيمة مال خاص مستقل:- ... 44
بطلان التسمية (الخمس) من الأساس:- ... 46
الفيء والخمس.. وقفة مع سورة (الحشر):- ... 48
الفصل الثاني: خمس المكاسب في محكمة التاريخ:- ... 50
جباة الخمس:- ... 50
النبي صلى الله عليه وآله وسلم والخمس:- ... 50
أقارب النبي صلى الله عليه وآله وسلم والخمس:- ... 51(1/95)
قتال الصديق لمانعي الزكاة:- ... 51
العباسيون و(الخمس):- ... 51
الفراعنة وخمس المكاسب:- ... 53
الفصل الثالث: خمس المكاسب بين النظرية والتطبيق:- ... 54
لو كانوا جادين:- ... 55
ما هي علاقة المجتهد بـ(الخمس)؟:- ... 56
المجتهد لا يخمس ماله ولا يزكيه:- ... 57
نسيان الزكاة:- ... 58
ضريبة خيالية:- ... 58
لازال البعض يدفع (الخمس)! لماذا؟:- ... 60
صعوبة التطبيق ومهازل الواقع:- ... 60
الفصل الرابع: علماء الدين والمال:- ... 62
الإسلام يحارب الاحتراف أو الارتزاق باسم الدين:- ... 64
لمن شرَّع الاقتصاد الإسلامي:- ... 65
تأمين المعاش للأقارب من خصائص الملوك لا الأنبياء عليهم السلام:- ... 65
أمير المؤمنين علي عليه السلام يحرم على نفسه وأهله أموال المسلمين من الصدقات والزكوات والصِّلات:- ... 66
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقدم أقرباءه في الخطر ويؤخرهم في المنافع:- ... 67
أوساخ الناس:- ... 67
خمس الغنائم:- ... 68
الفرق بين خمس المكاسب وخمس الغنائم:- ... 68
أيهما أشر العشار؟ أم الخماس؟:- ... 69
الفصل الخامس: اتِّباع المتشابه:- ... 70
تعضية النصوص:- ... 70
مثال عن التعضية والتقطيع من الأدلة:- ... 71
لا عجب:- ... 73
كيف مُزِّقت آية الخمس؟:- ... 74
علاقة لفظية بحتة:- ... 76
خلاصة البحث ... 78(1/96)