الخلاصةُ
في فقهِ القلوبِ
( طبع بموافقة وزارة الإعلام تاريخ19/11/2007 رقم (97070)
إعداد
الباحث في القرآن والسنة
علي بن نايف الشحود
حقوق الطبع لكل مسلم
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين ، وعلى آله وصحبه أجمعين ، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .
أما بعد :
فإنه كما للبدن فقه فكذلك للقلوب فقه ولكنه من نوع آخر ، ولبيان أهمية ذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أَلاَ وَإِنَّ فِى الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ . أَلاَ وَهِىَ الْقَلْبُ »أخرجه البخاري برقم(52) .
وقد كتب في هذا الموضوع الكثير ، وهذه خلاصته ، وقد قسمته للموضوعات التالية :
6- خلق القلب 2- منزلة القلب 3- صلاح القلب 4- حياة القلب 5- فتوحات القلب1
6- أقسام القلوب 7- غذاء القلوب 8- فقه أعمال القلوب 9- صفات القلب السليم 10- فقه سكينة القلب 11- فقه طمأنينة القلب 12- فقه سرور القلب 13- فقه خشوع القلب 14- فقه حياء القلب 15- أسباب مرض القلب والبدن 16- مفسدات القلب 17- مداخل الشيطان إلى القلب 18- علامات مرض القلب وصحته 19- فقه أمراض القلوب وعلاجها 20- أدوية أمراض القلوب
وقد قمت بعزو الآيات لمكانها من كتاب الله تعالى ، وقمت بتخريج الأحاديث والحكم عليها إذا لم تكن في الصحيحين أو أحدهما وغالبها يدور بين الصحة والحسن
لذا أرجو من المولى سبحانه وتعالى أن يكون كتابنا (هذا ) بابا لإصلاح القلوب وصقلها
قال تعالى : {الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} (28) سورة الرعد
جمع وإعداد
الباحث في القرآن والسنة
علي بن نايف الشحود
حمص في 27 شوال 1428 هـ الموافق ل 7/11/2007 م
- - - - - - - - - - - - - - -
- خلقُ القلب1(1/1)
قال الله تعالى: (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78) [النحل: 78].
وقال الله تعالى: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آَذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46)) [الحج: 46].
الله تبارك وتعالى خلق الإنسان، والإنسان له ظاهر وباطن، وفي باطنه أكثر الأعضاء وأهمها كالقلب والكبد والمعدة.
ولفظ القلب يطلق على معنيين(1):
أحدهما: اللحم الصنوبري الشكل، المودع في الجانب الأيسر من الصدر، وهو لحم مخصوص وفي باطنه تجويف، وفي ذلك التجويف دم أسود هو منبع الروح ومعدنه، يدخل فيه الدم، ثم يدفعه بواسطة العروق لتغذية البدن.
الثاني: لطيفة ربانية روحانية، لها بذلك القلب الجسماني تعلق، وتلك اللطيفة هي حقيقة الإنسان، وهو المدرك العالم العارف من الإنسان.
وهو المخاطب والمطالب، والمثاب والمعاقب، ولهذه اللطيفة علاقة مع القلب الجسماني.
أما الروح: فهو جسم لطيف منبعه تجويف القلب الجسماني، ينتشر بواسطة العروق إلى سائر أجزاء البدن.
وجريانه في البدن، وفيضان أنوار الحياة والحس، والسمع والبصر والشم منها على أعضائها، يضاهي فيضان النور من السراج الذي يدار في زوايا البيت.
وسريان الروح، وحركته في باطن الإنسان، يشبه حركة السراج في جوانب البيت بتحريك محركه.
أما النفس(2): فتطلق على ذات الإنسان، وهي اللطيفة التي هي نفس الإنسان وذاته، وتطلق على المعنى الجامع لقوة الغضب والشهوة في الإنسان.
__________
(1) - إحياء علوم الدين - (ج 2 / ص 206) وكتاب الكليات ـ لأبى البقاء الكفومى - (ج 1 / ص 738)
(2) - إحياء علوم الدين - (ج 2 / ص 207)(1/2)
أما العقل(1): فهو ما يعقل الإنسان عما يشينه ويدنسه من الأقوال والأفعال وضده الجنون.
فيطلق ويراد به العلم بحقائق الأمور، فيكون عبارة عن صفة العلم الذي محله القلب.
ويطلق ويراد به تلك اللطيفة المدرك للعلوم فيكون هو القلب.
ولما خلق الله عزَّ وجلَّ الإنسان ابتلاه وامتحنه، بما يعرف به صدقه وكذبه، وطاعته ومعصيته وطيبه وخبثه.
فمزج في خلقته وتركيبه أربع شوائب، فلذلك اجتمع عليه أربعة أنواع من الأوصاف وهي:
الصفات السبعية.. والبهيمية.. والشيطانية.. والربانية..(2)
وكل ذلك مجموع في قلبه.
فهو من حيث سلط عليه الغضب يتعاطى أفعال السباع، من العداوة والبغضاء، والتهجم على الناس بالشتم والضرب والقتل.
وهو من حيث سلطت عليه الشهوة يتعاطى أفعال البهائم، من الشره والحرص والنكاح والشبق وغير ذلك.
وهو من حيث اختصاصه عن البهائم بالتمييز، مع مشاركته لها في الغضب والشهوة، حصلت فيه شيطانية، فصار شريراً يستعمل التمييز في استنباط وجوه الشر، ويتوصل إلى الأغراض بالمكر والخداع، ويظهر الشر في معرض الخير، وهذه أخلاق الشياطين.
ومن حيث أنه في نفسه أمر رباني، فإنه يدعي لنفسه الربوبية، ويحب الاستيلاء والاستعلاء في كل شيء، ويحب الاستبداد في الأمور كلها، والتفرد بالرياسة، والانسلال عن ربقة العبودية والتواضع.
ويدعي لنفسه العلم والمعرفة والإحاطة بحقائق الأمور.
والإحاطة بجميع الحقائق، والاستيلاء بالقهر على جميع الخلائق من أوصاف الربوبية، وفي الإنسان حرص على ذلك.
وكل إنسان فيه شوب من هذه الأوصاف الأربعة.
فمعرفة القلب، وحقيقة أوصافه أصل الدين، وأساس طريق السالكين: (وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ (40)) [النور: 40].
__________
(1) - لقاءات الباب المفتوح - (ج 24 / ص 2) وفتاوى الإسلام سؤال وجواب - (ج 1 / ص 4228) ومجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين - (ج 7 / ص 228)
(2) - إحياء علوم الدين - (ج 2 / ص 213)(1/3)
والقلب يغرق فيما يستولي عليه من محبوب أو مكروه أو مخوف.
فالمحبوب يطلبه، والمكروه يدفعه.. والخوف يحذره.
والرجاء يتعلق بالمحبوب.. والخوف يتعلق بالمكروه.
ولا يأتي بالحسنات والمحبوبات إلاّ الله، ولا يذهب بالسيئات والمكروهات إلاّ الله ، والله أعلم حيث يجعل رسالته، قال تعالى : (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (107)) [يونس: 107].
- - - - - - - - - - - - - -
2
- منزلة القلب 5
قال الله تعالى: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37)) [ق: 37].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : « أَلاَ وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، أَلاَ وَإِنَّ حِمَى اللَّهِ مَحَارِمُهُ ،أَلاَ وَإِنَّ فِى الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ ،وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلاَ وَهِىَ الْقَلْبُ » متفق عليه(1).
الله تبارك وتعالى فضَّل الإنسان، وشرفه على كثير من خلقه، باستعداده لمعرفة الله سبحانه، التي هي في الدنيا جماله وكماله، وفخره وسعادته وأنسه، وفي الآخرة عدته وذخره.
وإنما استعد للمعرفة بقلبه، لا بجارحة من جوارحه، فالقلب هو العالم بالله، وهو المتقرب إلى الله، وهو العامل لله، وهو الساعي إلى الله، وهو العالم بما عند الله، وإنما الجوارح أتباع له وخدم وآلات.
يستخدمها القلب ويستعملها استعمال المالك للعبد، واستخدام الراعي للرعية، واستخدام الإنسان للآلة.
فالقلب هو المقبول عند الله، إذا سلم من غير الله، وهو المحجوب عن الله، إذا صار مستغرقاً بغير الله.
وهو الذي يسعد بالقرب من الله، فيفلح إذا زكاه، وهو الذي يخيب ويشقى إذا دنسه ودساه.
__________
(1) أخرجه البخاري برقم (52)، ومسلم برقم (4178).(1/4)
وهو المطيع في الحقيقة لله تعالى، وإنما الذي ينتشر على الجوارح من العبادات والأخلاق أنواره وآثاره.
وبحسب ما فيه من النور والظلام، تظهر محاسن الظاهر ومساويه، إذ كل إناء بما فيه ينضح، والقلوب كالقدور تغلي بما فيها.
وصلاح العالم وفساده يكون بحسب حركة الإنسان في الحياة، إذ هو قلب العالم ولبه، وصلاح بدن الإنسان وفساده قائم على صلاح القلب وفساده كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث السابق .
والقلب هو الذي إذا عرفه الإنسان فقد عرف نفسه، وإذا عرف نفسه عرف ربَّه،(1)وهو الذي إذا جهله الإنسان فقد جهل نفسه، ومن جهل نفسه فقد جهل ربَّه، ومن عرف ربه فقد عرف كل شيء، ومن جهل ربه فقد جهل كل شيء.
ومن جهل قلبه فهو بغيره أجهل، وأكثر الخلق جاهلون بقلوبهم وأنفسهم وربهم، وقد حيل بينهم وبين أنفسهم، فإن الله يحول بين المرء وقلبه كما قال سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24)) [الأنفال: 24].
وحيلولته: بأن يمنعه سبحانه عن مشاهدته ومراقبته، ومعرفة أسمائه وصفاته.
__________
(1) - انظر مجموع الفتاوى - (ج 9 / ص 295)والحاوي للفتاوي للسيوطي - (ج 3 / ص 357) وإيقاظ الهمم شرح متن الحكم - (ج 1 / ص 2) و إحياء علوم الدين - (ج 3 / ص 431) والفتاوى الحديثية لابن حجر الهيتمي - (ج 1 / ص 677)
ومعناه : من عرف نفسه بالعجز والافتقار والتقصير والذلة والانكسار عرف ربه بصفات الجلالة والجمالة على ما ينبغي لهما ، فأدام مراقبته حتى يفتح له باب مشاهدته فيكون من أخصائه الذين أفرغ عليهم سجال معرفته وألبسهم صوافي خلافته ؟ .(1/5)
وكيفية تقلبه بين إصبعين من أصابع الرحمن،(1)أنه كيف يهوي مرة إلى أسفل سافلين، وينخفض إلى رتبة الشياطين، وكيف يرتفع أخرى إلى أعلى عليين، ويرتقي إلى عالم الملائكة المقربين.
وحاجة القلب إلى معرفة الله وأسمائه وصفاته وأفعاله أعظم من حاجة البدن إلى الطعام والشراب.
بل نسبة حاجات القلب إلى الإيمان، ومعرفة الله عزَّ وجلَّ، وحاجات البدن للطعام والشراب كالذرة بالنسبة للجبل، والقطرة بالنسبة للبحر.
وقد خلق الله عزَّ وجلَّ في كل إنسان ثلاث أوانٍ أساسية وهي:
الدماغ... والقلب.. والمعدة.
فالدماغ آنية العقل والعلم.. والقلب آنية الإيمان والتوحيد.. والمعدة آنية الطعام والشراب.. فلكل آنية غذاء.. ولك غذاء ثمرة.
فالقلب محل الإيمان والتصديق، واليقين والتعظيم لرب العالمين، والخوف منه، والتوكل عليه، ومحبته والأنس به، ومعرفته، والانقياد له، والتسليم له سبحانه.
ولذا صار القلب محل نظر الله من العبد، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : « إِنَّ اللَّهَ لاَ يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ ». أخرجه مسلم(2).
__________
(1) - عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ يَقُولُ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ : « إِنَّ قُلُوبَ بَنِى آدَمَ كُلَّهَا بَيْنَ إِصْبَعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ كَقَلْبٍ وَاحِدٍ يُصَرِّفُهُ حَيْثُ يَشَاءُ ». ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « اللَّهُمَّ مُصَرِّفَ الْقُلُوبِ صَرِّفْ قُلُوبَنَا عَلَى طَاعَتِكَ ». صحيح مسلم برقم (6921 )
(2) أخرجه مسلم برقم (6707 و6708).(1/6)
وأصل العلم الذي يورث العمل.. ويوجب خشوع القلب.. وخشيته لربه.. ومحبته له.. والقرب منه.. والأنس به.. والإقبال عليه.. ولزوم طاعته.. هو العلم بالله.. وهو معرفة أسمائه وصفاته.. وآلائه ونعمه.. وصفات جلاله وجماله.. ثم معرفة وعده ووعيده.. وماذا أعد الله من النعيم للمتقين.. وماذا أعد من العذاب للمجرمين.
ثم يتلوه العلم بأحكام الله.. وما يحبه ويرضاه من العبد من قول أو عمل أو حال أو اعتقاد.. ويستقيم على ذلك إلى أن يموت.
ومن فاته هذا العلم النافع، وقع في الأربع التي استعاذ منها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: « اللَّهُمَّ إِنِّى أَعُوذُ بِكَ مِنْ عِلْمٍ لاَ يَنْفَعُ وَمِنْ قَلْبٍ لاَ يَخْشَعُ وَمِنْ نَفْسٍ لاَ تَشْبَعُ وَمِنْ دَعْوَةٍ لاَ يُسْتَجَابُ لَهَا » أخرجه مسلم(1).
والله تبارك وتعالى خلق الإنسان في أحسن تقويم(2).. خلق القلب للإنسان يعلم به الأشياء.. وخلق العين يرى بها الأشياء.. وخلق الأذن يسمع بها الأصوات.. وخلق العقل يعقل به الأشياء..
كما خلق سبحانه كل عضو من أعضائه لأمر من الأمور وعمل من الأعمال فاليد للبطش، والرجل للسعي، واللسان للنطق، والفم للأكل، والأنف للشم، وكذلك سائر الأعضاء الظاهرة والباطنة، لكل وظيفة وحكمة.
فإذا استعمل الإنسان العضو فيما خلق له، وأعدَّ لأجله فذلك هو الحق، وكان ذلك خيراً وصلاحاً لذلك العضو ولربه، وللشيء الذي استعمل فيه.
وإذا لم يستعمل العضو في حقه، بل ترك بطالاً، فذلك خسران، وصاحبه مغبون، وإن استعمل في خلاف ما خلق له فهو الضلال والهلاك، وصاحبه من الذين بدلوا نعمة الله كفراً(3).
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (7081).
(2) - قال تعالى : {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} (4) سورة التين
(3) - قال تعالى : {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَةَ اللّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ} (28) سورة إبراهيم(1/7)
وسيد الأعضاء، ورأسها وملكها هو القلب، والفكر للقلب كالإصغاء للأذن.
وصلاح القلب وحقه والذي خلق من أجله، هو أن يعقل الأشياء:
فيعرف ربه ومعبوده وفاطره.. وما ينفعه وما يضره.. وما يصلحه وما يفسده.. ويعرف أسباب النجاة وأسباب الهلاك.. ويميز بين هذا وهذا.. ويختار ما ينفعه وما يصلحه.. ويعتصم بالله.. ولا يلتفت إلى ما سواه.
والناس متفاوتون في الخلق.. ومتفاوتون في عقلهم الأشياء.. من بين كامل وناقص، وفيما يعقلونه من بين قليل وكثير.. وجيد ورديء.
وإذا آمن العبد بالله أكرم الله قلبه بعشر كرامات:
الأولى: الحياة:
كما قال سبحانه: (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (122) ) [الأنعام: 122].
و « مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيْتَةً فَهِىَ لَهُ .. »(1). ، وكذلك الله عزَّ وجلَّ خلق القلب، وجعل فيه نور الإيمان، فلا يجوز أن يكون لغيره فيه نصيب.
الثانية: الشفاء:
كما قال سبحانه: (وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14) [التوبة: 14].
فالعسل شفاء الأبدان.. والإيمان شفاء القلوب.. والعلم شفاء من الجهل.
الثالثة: الطهارة:
فالصائغ إذا امتحن الذهب مرة لا يدخله النار، وكذلك الله إذا امتحن قلوب المؤمنين لا يدخلهم النار: (إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3)) [الحجرات: 3].
الرابعة: الهداية:
كما قال سبحانه: (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (11)) [التغابن: 11].
الخامسة: ثبوت الإيمان:
__________
(1) - سنن أبى داود برقم (3075 ) وهو صحيح(1/8)
فكما أن الورقة إذا كتب فيها قرآن لم يجز إحراقها، فكذلك قلب المؤمن إذا كتب فيه الإيمان لم يجز إحراقه: (لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آَبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22)) [المجادلة: 22].
السادسة: السكينة:
كما قال سبحانه: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (4)) [الفتح: 4].
السابعة: الألفة:
كما قال سبحانه: (وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (63)) [الأنفال: 63].
الثامنة: الطمأنينة:
كما قال سبحانه: (الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28)) [الرعد: 28].
التاسعة: المحبة:
كما قال سبحانه: (وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7)) [الحجرات: 7].
العاشرة: الزينة والحفظ من السوء:(1/9)
كما قال سبحانه: (وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7)) [الحجرات: 7].
- - - - - - - - - - - - - - - - -
3- صلاح القلب(1)
قال الله تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) ) [الأنفال: 2].
وقال الله تعالى: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (11)) [التغابن: 11].
أصل كل خير وسعادة للعبد كمال حياته وكمال نوره، فالحياة والنور مادة الخير كله في الدنيا والآخرة.
فبالحياة تكون قوته وسمعه وبصره، وحياؤه وعفته، وشجاعته وصبره، وسائر أخلاقه الفاضلة، ومحبته للحسن، وبغضه للقبيح.
وكلما قويت حياته، قويت فيه هذه الصفات، وإذا ضعفت حياته، ضعفت فيه هذه الصفات.
وحياؤه من القبائح هو بحسب حياته في نفسه، فالقلب الحي إذا عرضت عليه القبائح نفر منها بطبعه، وأبغضها ولم يلتفت إليها، بخلاف القلب الميت فإنه لا يفرق بين الحسن والقبيح، وكذلك القلب المريض بالشهوة، فإنه لضعفه يميل إلى ما يعرض له من ذلك فيعطب.
وكذلك إذا قوي نور القلب وإشراقه انكشفت له صور المعلومات وحقائقها على ما هي عليه.
فاستبان حسن الحسن بنوره وآثره بحياته، وكذلك قبح القبيح.
والقرآن نور تستضيء به القلوب وتشرق به، وروح تحيا به القلوب، فالمؤمن حي أكرمه الله بالنور الذي يبصر به الحق من الباطل.
__________
(1) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 3 / ص 919)وموسوعة خطب المنبر - (ج 1 / ص 3876)(1/10)
والكافر ميت القلب، مغمور في ظلمة الجهل، والكافر لانصرافه عن طاعة الله، وجهله بمعرفته وتوحيده، وشرائعه وسننه، وترك العمل بما يؤد به إلى نجاته وسعادته، بمنزلة الميت الذي لا ينفع نفسه ولا يدفع عنها مكروه.
فإذا هداه الله للإسلام، وجعل قلبه حياً بعد موته، ومشرقاً ومستنيراً بعد ظلمته، فصار يعرف مضار نفسه ومنافعها، ويعمل في خلاصها من سخط الله وعقابه، وأبصر الحق بعد عماه عنه، وعرفه بعد جهله به، واتبعه بعد إعراضه عنه، وحصل له نور يستضيء به، ويمشي به في الناس كما قال سبحانه: (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (122)) [الأنعام: 122].
وحياة القلب واستنارته تحصل بالاستجابة لله والرسول صلى الله عليه وسلم ، وما يدعونا إليه الله والرسول من العلم والإيمان كما قال سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24)) [الأنفال: 24].
وحياة القلب وصحته لا تحصل إلا بأن يكون مدركاً للحق.. مريداً له.. مؤثراً له على غيره.. فاللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه.
والقلب فيه قوتان:
قوة العلم والتمييز.. وقوة الإرادة والمحبة.
وكمال القلب وصلاحه باستعمال هاتين القوتين فيما ينفعه.
فكمال استعمال قوة العلم في إدراك الحق ومعرفته، والتمييز بينه وبين الباطل، وباستعمال قوة الإرادة والمحبة في طلب الحق ومحبته، وإيثاره على الباطل.
فمن لم يعرف الحق فهو ضال.. ومن عرفه وآثر غيره عليه فهو مغضوب عليه.. ومن عرفه واتبعه فهو منعم عليه.
فالمسلمون أخص بالحق؛ لأنهم عرفوه واتبعوه.(1/11)
واليهود أخص بالغضب؛ لأنهم أمة عناد، عرفوا الحق فلم يتبعوه.
والنصارى أخص بالضلال؛ لأنهم أمة جهل، عرفوا الحق وضلوا عنه.
وقد أمرنا الله عزَّ وجلَّ بطلب الهداية إلى طريق الحق، وهو طريق المنعم عليهم بمعرفة الحق والعمل به بقوله سبحانه: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)) [الفاتحة: 6، 7].(1)
وكل إنسان خاسر في هذه الحياة، إلا من كملت قوته العلمية بالإيمان بالله، وقوته العملية بالعمل بطاعة الله تعالى، فهذا كماله في نفسه.
ثم كمَّل غيره بوصيته له بذلك، وأمره إياه به، والصبر على ذلك، كما قال سبحانه: (وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)) [العصر: 1-3].
وهاتان القوتان لا تتعطلان في القلب.
بل إن استعمل العبد قوته العلمية في معرفة الحق وإدراكه، وإلا استعملها في معرفة ما يليق به ويناسبه من الباطل.
وكذا قوته الإرادية، إن استعملها في العمل بالحق، وإلا استعملها في ضده. ولا سعادة للقلب ولا لذة ولا نعيم ولا صلاح إلا بأن يكون الله هو إلهه وفاطره ومعبوده وحده لا شريك له.(2)
__________
(1) - وهم الذين عناهم الله تعالى بقوله :{وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} (69) سورة النساء
(2) - موسوعة خطب المنبر - (ج 1 / ص 2579)العبد بين الألم والحزن(1/12)
فكلُّ مخلوق، وكل حي، سوى الله سبحانه، من ملك أو إنس أو جن أو حيوان أو نبات فهو فقير إلى ربه في جلب ما ينفعه، ودفع ما يضره، ولا يتم ذلك إلا بتصوره للنافع والضار.(1)
والمنفعة من جنس النعيم واللذة، والمضرة من جنس الألم والعذاب.
فلا بدَّ للعبد من أمرين:
أحدهما: معرفة ما هو المحبوب المطلوب الذي ينتفع به، ويلتذ بإدراكه.
والثاني: معرفة المعين الموصل المحصل لذلك المقصود.
وبإزاء ذلك أمران آخران:
أحدهما: مكروه بغيض ضار.
والثاني: معين دافع له عنه.
فهذه الأربعة ضرورية لكل عبد، بل لكل حيوان.
وإذا ثبت ذلك فالله تعالى هو الذي يجب أن يكون هو المقصود المدعو والمطلوب الذي يراد وجهه، ويبتغَى قربه، ويطلب رضاه، وهو المعين على حصول ذلك.
وعبودية ما سواه، والالتفات إليه، والتعلق به، هو المكروه الضار، والله هو المعين على دفعه، فهو سبحانه الجامع لهذه الأمور الأربعة دون سواه.
فهو المعبود المحبوب المراد.. وهو المعين لعبده على وصوله إليه وعبادته له.. والمكروه البغيض إنما يكون بمشيئته وقدره.. وهو المعين لعبده على دفعه عنه.
والله تبارك وتعالى خلق الخلق لعبادته الجامعة لمعرفته، والإنابة إليه، ومحبته، والإخلاص له.
فبذكره سبحانه تطمئن قلوبهم(2)، وتسكن نفوسهم، وبرؤيته في الآخرة تقر عيونهم، ويتم نعيمهم.
فلا يعطيهم سبحانه في الآخرة شيئاً خيراً لهم، ولا أحب إليهم، ولا أقر لعيونهم من النظر إليه، وسماع كلامه منه، ورضوانه عليهم(3).
__________
(1) - قال تعالى :{يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} (15) سورة فاطر
(2) - قال تعالى :{..أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} (28) سورة الرعد
(3) - قال تعالى :{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23) }[القيامة/22-24](1/13)
ولم يعطهم في الدنيا شيئاً خيراً لهم، ولا أحب إليهم، ولا أقر لعيونهم من الإيمان به، ومحبته والشوق إلى لقائه، والأنس بقربه، والتنعم بذكره وعبادته.(1)
وحاجة العباد إلى ربهم في عبادتهم إياه أعظم من حاجتهم إليه في خلقه لهم، ورزقه إياهم، ومعافاة أبدانهم.
فإن العبادة هي الغاية المقصودة لهم، ولا صلاح ولا سعادة لهم بدون ذلك.
والله تبارك وتعالى يريد من خلقه أن يعرفوا أطيب ما في الدنيا.. وأطيب ما في الآخرة.. فيقبلون عليه علماً وعملاً.
ويعرفوا شر ما في الدنيا.. وشر ما في الآخرة.. فيحذروه ويجتنبوه.
والأصل هو القلب، فإن كان صالحاً صلحت أعمال الجوارح، وإن كان فاسداً فسدت أعمال الجوارح.
والعين تبصر في ضوء الشمس صورة الشيء لا حقيقة الشيء، امتحاناً وابتلاءً، ولكن لا يعرف الحقيقة إلا القلب، ويعرف القلب ذلك إذا كان فيه نور الإيمان.
فكما تحتاج العين إلى الضوء الخارجي لمعرفة الأشياء ورؤيتها، فكذلك القلب لا يعرف حقيقة الشيء إلا بنور الإيمان، ومن اسود قلبه لا يعرف حقيقة الأشياء، بل يعرف صور الأشياء.
__________
(1) - ففي صحيح البخارى برقم (6549 )عَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ لأَهْلِ الْجَنَّةِ يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ . يَقُولُونَ لَبَّيْكَ رَبَّنَا وَسَعْدَيْكَ . فَيَقُولُ هَلْ رَضِيتُمْ فَيَقُولُونَ وَمَا لَنَا لاَ نَرْضَى وَقَدْ أَعْطَيْتَنَا مَا لَمْ تُعْطِ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ . فَيَقُولُ أَنَا أُعْطِيكُمْ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ . قَالُوا يَا رَبِّ وَأَىُّ شَىْءٍ أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ فَيَقُولُ أُحِلُّ عَلَيْكُمْ رِضْوَانِى فَلاَ أَسْخَطُ عَلَيْكُمْ بَعْدَهُ أَبَدًا » .(1/14)
وإذا استنار القلب بنور الإيمان أناب إلى الله، فأحبَّ الطاعات وكره المعاصي، وبنور القلب تبين قيمة الأموال والأشياء، وقيمة الإيمان والأعمال، ولا يبقى للعبد تعلقٌ بالدنيا، بل يكون تعلقه بالآخرة.
ونور الإيمان في القلب يرسخ حقيقة الوعد والوعيد.
وإذا جاءت حقيقة الوعد والوعيد زدنا في الطاعات، ونفرنا من المعاصي، وزهدنا في الدنيا، ورغبنا في الآخرة.
ونور القلب في الدنيا يكون مستوراً، وفي الآخرة يكون ظاهراً للمؤمنين.
وبامتثال أوامر الله، وفعل كل سنة، يزداد نور القلب، وبمخالفة السنن يزيد ظلام القلب، وتثقل الطاعات.
ومحبة الله نور في القلب والوجه.. ومحبة غير الله ظلام في القلب والوجه.
وكل من أقرَّ بـ (لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله) جاء النور في قلبه، وإذا جاء نور الهداية في القلب سهل تطبيق أوامر الله، والإكثار منها، والتلذذ بها، ودعوة الناس إليها، والصبر على كل ذلك.
ونور الهداية في القلب: أن يتيقن العبد أن المعطي والمانع، والمعزَّ والمذلَّ، والنافع والضارَّ، والمحيي والمميت فقط هو الله وحده لا شريك له.
وحاجات القلب كثيرة كالبحر، وحاجات البدن كالقطرة، لأن القلب محلُّ الإيمان، والإيمان ليس له حدٌّ، وبالإيمان يسعد الإنسان في الدنيا والآخرة.
والإيمان يزيد في القلوب بكثرة الطاعات، والنظر في الآيات الكونية، والآيات القرآنية، والجهد للدين، وتحصل بذلك الهداية.
ولكنَّ الباطل لا يزول إلا بالتضحية بكل شيء من أجل إعلاء كلمة الله بالأموال، والأنفس، والشهوات، والجاه، والأوقات.(1/15)
ولما تركت الأمة التضحية بذلك نقص الإيمان، وقلت الطاعات، وكثرت المعاصي، فجاء البلاء والفساد والعقاب(1).
فالشيطان يزين للإنسان الشهوات التي عاقبتها الهلاك، والأنبياء يأمرون الناس بالإيمان والأعمال الصالحة التي عاقبتها الفلاح.
وزينة القلب بالإيمان، وزينة الجوارح بالأعمال، وزينة الإنسان الداخلية والخارجية تكمل بالأخلاق الحسنة، التي وصف الله بها نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم بقوله: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)) [القلم: 4].
وليس في الوجود شيء غير الله سبحانه يسكن إليه القلب، ويطمئن به، ويأنس به، ويتلذذ بالتوجه إليه.
ومن عبد غير الله سبحانه، وحصل له به نوع لذة ومنفعة، فمضرته بذلك أضعاف أضعاف منفعته، وهو بمنزلة أكل الطعام المسموم اللذيذ.
وكما أن السموات والأرض لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا(2)، فكذلك القلب إذا كان فيه معبود غير الله تعالى، فسد فساداً لا يرجى صلاحه، إلا بأن يخرج ذلك المعبود من قلبه، ويكون لله وحده هو إلهه ومعبوده ومحبوبه.
وفقر العبد إلى أن يعبد الله وحده لا شريك له، ليس له نظير فيقاس به، ولكن يشبه من بعض الوجوه حاجة الجسد إلى الطعام والشراب والنفس، لكن بينهما فروق كثيرة.
__________
(1) - قال تعالى :{قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} (24) سورة التوبة
(2) - قال تعالى :{ لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} (22) سورة الأنبياء(1/16)
فإن حقيقة العبد قلبه وروحه، ولا صلاح له ولا سعادة إلا بإلهه الحق الذي لا إله إلا هو.
فلا يطمئن إلا بذكره.. ولا يسكن إلا بمعرفته وحبه.. ولو حصل له من اللذات والسرور بغيره ما حصل فلا يدوم له ذلك.
وكثيراً ما يكون ذلك الذي يتنعم به هو أعظم أسباب ألمه ومضرته.
وأما إلهه الحق فلا بدَّ له منه في كل وقت، وفي كل حال، وأينما كان.
فنفس الإيمان به، ومحبته وعبادته، وإجلاله وذكره، هو غذاء الإنسان وقوته، وصلاحه وقوامه(1).
أما من قال: إن عبادة الله وذكره وشكره تكليف ومشقة لمجرد الابتلاء والامتحان، أو لأجل مجرد التعويض بالثواب المنفصل، كالمعاوضة بالأثمان، أو لمجرد رياضة النفس وتهذيبها، ليرتفع عن درجة البهيم من الحيوان، فهذا قول من قلَّ نصيبه منَ العلم والتحقيق، ومنْ ذوقِِ حقائق الإيمان وحلاوته.
بل عبادته سبحانه ومعرفته وتوحيده وشكره قرة عين الإنسان، وأفضل لذة للروح والقلب والجنان.
وليس المقصود بالعبادات والأوامر المشقة والكلفة بالقصد الأول، وإن وقع ذلك ضمناً وتبعاً في بعضها لأسباب اقتضته لا بدَّ منها.
فأوامرُه سبحانه، وحقُّه الذي أوجبه على عباده، وشرائعه التي شرعها لهم، هي قرة العيون، ولذة القلوب، ونعيم الأرواح وسورها، وبها شفاؤها وسعادتها، وفلاحها، وكمالها في معاشها ومعادها كما قال سبحانه: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57) قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58) }[يونس:57-58]
__________
(1) -انظر مجموع الفتاوى - (ج 1 / ص 25)(1/17)
ولم يسم الله عزَّ وجلَّ أوامره ووصاياه وشرائعه تكليفاً، وإنما سماها روحاً ونوراً، وهدى وحياة، ورحمة وشفاء، وعهداً ووصية، ونحو ذلك، وما ذكر في القرآن من ذكر التكليف فإنما ورد في جانب النفي كما قال سبحانه: (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (286)) [البقرة: 286].
وأجل نعيم في الجنة، وأفضله وأعلاه على الإطلاق، هو النظر إلى وجه الرَّب جلَّ جلاله، وسماع خطابه.
فالمؤمنون مع كمال تنعمهم بما أعطاهم ربهم في الجنة، لم يعطهم ربهم شيئاً أحبَّ إليهم من النظر إليه.
وإنما كان ذلك أحب إليهم، لأن ما يحصل لهم به من اللذة والنعيم، والفرح والسرور، وقرة العين، فوق ما يحصل لهم من التمتع بالأكل والشرب، والحور العين، ولا نسبة بين اللذتين والنعمتين البتة.
وكما أنه لا نسبة لنعيم ما في الجنة، إلى نعيم النظر إلى وجه الأعلى سبحانه، فكذلك لا نسبة لنعيم الدنيا إلى نعيم محبته ومعرفته والشوق إليه، والأنس به.(1/18)
عَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ لأَهْلِ الْجَنَّةِ يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ . يَقُولُونَ لَبَّيْكَ رَبَّنَا وَسَعْدَيْكَ . فَيَقُولُ هَلْ رَضِيتُمْ فَيَقُولُونَ وَمَا لَنَا لاَ نَرْضَى وَقَدْ أَعْطَيْتَنَا مَا لَمْ تُعْطِ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ . فَيَقُولُ أَنَا أُعْطِيكُمْ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ . قَالُوا يَا رَبِّ وَأَىُّ شَىْءٍ أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ فَيَقُولُ أُحِلُّ عَلَيْكُمْ رِضْوَانِى فَلاَ أَسْخَطُ عَلَيْكُمْ بَعْدَهُ أَبَدًا » .متفق عليه(1).
والمخلوق كله، كبيره وصغيره، قويه وضعيفه، ليس عنده للعبد نفع ولا ضر، ولا عطاء ولا منع، ولا هدى ولا ضلال، ولا نصر ولا خذلان، ولا خفض ولا رفع، ولا عز ولا ذل.
بل الله الواحد القهار هو الذي يملك كل ذلك وحده دون سواه.
والعبد ضعيف مضطر إلى من يدفع عنه عدوه بنصره، وإلى من يجلب له منافعه برزقه، فلا بدَّ له من ناصر ورازق، والله وحده هو الذي ينصر ويرزق، {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ } (58) سورة الذاريات.
ومن كمال إيمان العبد أن يعلم أن الله إذا مسَّه بسوء، لم يرفعه عنه غيره، وإذا ناله بنعمة، لم يرزقه إياها سواه.
وهذا يقتضي من العبد التوكل على الله، والاستعانة به، ودعاؤه وسؤاله وحده دون سواه، ومحبته وعبادته، لإحسانه إلى عبيده، وإسباغ نعمه عليهم.
فإذا أحبوه وعبدوه وتوكلوا عليه، فتح الله لهم من لذيذ مناجاته، وعظيم الإيمان به، والإنابة إليه، ما هو أحب إليهم من قضاء حاجاتهم: (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (107)) [يونس:107]
__________
(1) أخرجه البخاري برقم (7518)، ومسلم برقم (7318)(1/19)
وقال الله سبحانه: (إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (160)) [آل عمران:160]
وتعلق العبد بما سوى الله تعالى مضرة عليه، إذا أخذ منه فوق القدر الزائد على حاجته، غير مستعين به على طاعته.
فإذا نال من الطعام والشراب والنكاح واللباس فوق حاجته ضره ذلك.
ولو أحب العبد ما سوى الله ما أحب، فلا بدَّ أن يُسلبه ويفارقه، فإن أحبه لغير الله فلا بدَّ أن تضره محبته، ويعذب بمحبوبه، إما في الدنيا أو في الآخرة، أو فيهما معاً، وهذا هو الغالب كما قال سبحانه: (فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (55)) [التوبة:55]
فكل من أحب شيئاً سوى الله تعالى، ولم تكن محبته له لله تعالى ولا لكونه معيناً له على طاعته، عذب به في الدنيا قبل يوم القيامة.
فإذا كان يوم القيامة ولَّى الحكم العدل سبحانه كلَّ محب ما كان يحبه في الدنيا، فكان معه إما منعماً أو معذباً.(1/20)
فالمؤمن الذي يحب المؤمنين، يكون معهم في الجنة(1)، والكافر الذي اجتمع مع الكفار على غير طاعة الله ورسوله، يجمع الله بينهم يوم القيامة في النار، ويعذب كلاًّ منهم بصاحبه، ويلعن بعضهم بعضاً كما قال سبحانه: (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ (67)) [الزخرف: 67].
فكل من أحبَّ شيئاً سوى الله فالضرر حاصل له بمحبوبه، إن وجد وإن فقد، فإنه إن فقده عذب بفراقه، وتألم على قدر تعلق قلبه به.
وإن وجده كان ما يحصل له من الألم قبل حصوله، ومن النكد والتعب في حال حصوله، ومن الحسرة عليه بعد فوته، أضعاف أضعاف ما في حصوله من اللذة.
واعتماد العبد على المخلوق، وتوكله عليه، يوجب له الضرر من جهته هو ولا بدَّ، عكس ما أمَّله منه، فلا بدَّ أن يُخذلَ من الجهة التي قدر أن يُنصر منها، ويُذم من حيث قدر أن يُّحمد كما قال سبحانه: (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آَلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81) كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (82)) [مريم:]
فالمشرك يرجو بشركه النصر تارة.. والعز تارة.. والسعادة تارة.. والحمد تارة.. والثناء تارة.. وأنى له ذلك.
فصلاح القلب وسعادته وفلاحه في عبادة الله وحده، والاستعانة به وحده: (فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (213)) [الشعراء:213]
__________
(1) -ففي صحيح البخارى برقم (6171 ) عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَجُلاً سَأَلَ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - مَتَّى السَّاعَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ « مَا أَعْدَدْتَ لَهَا » . قَالَ مَا أَعْدَدْتُ لَهَا مِنْ كَثِيرِ صَلاَةٍ وَلاَ صَوْمٍ وَلاَ صَدَقَةٍ ، وَلَكِنِّى أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ . قَالَ « أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ » .(1/21)
وهلاك القلب وشقاؤه، وضرره العاجل والآجل، في عبادة المخلوق والاستعانة به، فاحذر ذلك: (لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا (22)) [الإسراء: 22].
والله عزَّ وجلَّ غني كريم، عزيز رحيم، فهو محسن إلى عبده مع غناه عنه، يريد به الخير، ويكشف عنه الضر، لا لجلب منفعة إليه من العبد، ولا لدفع مضرة.
بل رحمة منه وإحساناً ومحبة له، وهو سبحانه لم يخلق خلقه ليتكثر بهم من قلة، ولا ليعتز بهم من ذلة، ولا ينفعوه أو يدفعوا عنه أو يرزقوه: كما قال سبحانه : (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58)) [الذاريات:56-58]
وماذا يملك العبد الفقير حتى يعطي؟.. وماذا يعلم من الخلق حتى يواسي غيره؟.. وماذا يملك من العمر حتى يبقى؟.
إن العبد المخلوق لا يعلم مصلحتك حتى يعرفه الله تعالى إياها، ولا يقدر على تحصيلها لك حتى يقدره الله تعالى عليها، ولا يريد ذلك حتى يخلق الله فيه إرادة ومشيئة لذلك.
فعاد الأمر كله لمن ابتدأ منه، فهو الذي بيده الخير كله، واليه يرجع الأمر كله، فتعلق القلب بغيره ضرر محض لا منفعة فيه، وما يحصل بذلك من المنفعة فهو سبحانه الذي قدرها ويسرها وأوصلها إليك، وغالب الخلق إنما يريدون قضاء حوائجهم منك، وإن أضرَّ ذلك بدينك ودنياك، فهم إنما يريدون قضاء حوائجهم ولو بمضرتك.
والرَّبُّ تبارك وتعالى إنما يريد لك المصلحة، ويريد الإحسان إليك لك لا لمنفعته، ويريد دفع الضرر عنك، فكيف تعلق أملك ورجاءك وخوفك بغيره؟
والله سبحانه رفيع الدرجات، الذي تعالت ذاته أن يُتقرب إليه إلا بالعمل الصالح الزكي الطاهر، وهو الإخلاص الذي يرفع درجات أصحابه ويقربهم إليه، ويجعلهم فوق خلقه.(1/22)
والوحي للأرواح والقلوب، بمنزلة الأرواح للأجساد، فكما أن الجسد بلا روح لا يحيا ولا يعيش، فكذلك الروح والقلب بدون روح الوحي لا يصلح ولا يفلح: (فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (14) رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ (15)) [غافر: 14، 15].
إن من لم يكن في قلبه نور الإيمان، يرى العزة بالأموال والأشياء، لا بالإيمان والأعمال، وبذلك يحرم من الأعمال الصالحة، ويتعلق قلبه بالفانية.
وكلما ضعف الإيمان نقص الدين، فتوجه الناس إلى غير الله، والعمل بلا يقين كالجسد بلا روح لا فائدة فيه، واليقين أن نعتقد أن جميع الفوز والفلاح، في الدنيا والآخرة، بيد الله وحده لا شريك له.
وإذا كانت القلوب متوجهة إلى الله.. والأجساد مزينة بالسنن، فتحت للإنسان أبواب الهداية والسعادة في الدنيا والآخرة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71) [الأحزاب:].
وإذا أحب الله عبداً، هداه إليه، وأدخله بيته، وأشغله فيما يحب، واستعمل قلبه وجوارحه فيما يحب: (اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13)) [الشورى: 13].
- - - - - - - - - - - - - -(1/23)
4- حياة القلب(1)
قال الله تعالى: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97)) [النحل: 97].
وقال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24)) [الأنفال: 24].
حياة القلب ونعيمه وسروره وبهجته بالإيمان بالله، ومعرفته ومحبته، والإنابة إليه، والتوكل عليه، وعبادته، وطاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم.
فإنه لا حياة أطيب من هذه الحياة، ولا نعيم فوق نعيمها إلا نعيم الجنة الذي يجتمع فيه كمال الإيمان، وكمال النعيم.
وإذا كانت حياة القلب حياة طيبة تبعته حياة الجوارح، فطابت كما طاب.
وقد جعل الله الحياة الطيبة لأهل معرفته ومحبته وعبادته كما قال سبحانه في الآية السابقة
وحياة القلب تكون بثلاثة أشياء:
قصر الأمل.. وتدبر القرآن.. وتجنب مفسدات القلب.
فأما قصر الأمل، فهو العلم بقرب الرحيل، وسرعة انقضاء مدة الحياة، وهو من أنفع الأمور للقلب.
__________
(1) - مجموع الفتاوى - (ج 10 / ص 104) ومجموع الفتاوى - (ج 10 / ص 109) وفتاوى يسألونك - (ج 4 / ص 198) وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 4 / ص 9355) وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 9 / ص 2688) وإحياء علوم الدين - (ج 2 / ص 358)وآفات على الطريق كامل - (ج 1 / ص 341) وففروا إلى الله1 - (ج 1 / ص 122) ومدارج السالكين - (ج 3 / ص 4)وتنبيه الغافلين، الإصدار 2 - (ج 1 / ص 36) وموسوعة خطب المنبر - (ج 1 / ص 2703)(1/24)
فإنه يبعثه على تدارك الأيام، وانتهاز الفرص التي تمر مرَّ السحاب، ويثير عزمات القلب إلى دار البقاء والخلود، ويزهده في الدنيا، ويرغبه في الآخرة كما قال سبحانه: (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ (35)) [الأحقاف: 35].
وأما تدبر القرآن، فهو تحديق ناظر القلب إلى معانيه، وجمع الفكر على تدبره وتعقله، وهو المقصود بإنزاله، لا مجرد تلاوته بلا فهم ولا تدبر، كما قال سبحانه: (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (29)) [ص: 29].
فليس شيء أنفع للعبد في معاشه ومعاده، وأقرب إلى نجاته من تدبر القرآن، وجمع الفكر فيه على معاني آياته، فإنها تطلع العبد على معالم الخير والشر، وتدله على مفاتيح كنوز السعادة والعلوم النافعة، وتثبت قواعد الإيمان في قلبه، وتريه صور الدنيا والآخرة، والجنة والنار.
وتحضره بين الأمم السابقة، وتريه أيام الله فيهم، وتشهده عدل الله وفضله، وتعرفه ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله، وما يحبه الله وما يبغضه.
وتريه طريق أهل الجنة، وأهل النار، ومراتب أهل السعادة، وأهل الشقاوة، وتطلعه على تفاصيل الأمر والنهي، والشرع والقدر، والحلال والحرام، والترغيب والترهيب، والمواعظ والصبر وغيرها.
وأما مفسدات القلب فكثرة الخلطة. والتمني.. والتعلق بغير الله.. وكثرة الشبع وكثرة النوم.. فهذه الخمسة أكبر مفسدات القلب.
فالقلب السليم يسير إلى الله تعالى والدار الآخرة، وهذه الخمسة تطفئ نوره، وتضعف قواه، قاطعة له عن الوصول إلى ما خلق له، وجعل نعيمه وسعادته وابتهاجه ولذته في الوصول إليه.(1/25)
فإنه لا نعيم للقلب ولا لذة، ولا ابتهاج ولا كمال، إلا بمعرفة الله ومحبته، والطمأنينة بذكره، والفرح والابتهاج بقربه، والشوق على لقائه، فهذه جنته العاجلة.
كما أنه لا نعيم له في الآخرة، ولا فوز ولا فلاح إلا بجوار ربه في دار النعيم في الجنة الآجلة.
فله جنتان: لا يدخل الثانية منهما حتى يدخل الأولى، وهذه الأشياء الخمسة قاطعة عن هذا، حائلة بين القلب وبينه.
ولحياة القلب علامات أهمها:
وجل القلب من الله سبحانه، وشدة خوفه منه، كما قال سبحانه: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2)) [الأنفال:2]
ومنها: القشعريرة في البدن، ولين الجلود والقلوب عند سماع القرآن كما قال الله سبحانه: (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (23)) [الزمر: 23].
ومنها: خشوع القلب عند ذكر الله سبحانه كما قال الله عزَّ وجلَّ: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (16)) [الحديد: 16].
ومنها: الإذعان للحق والإخبات له كما قال الله سبحانه: (وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (54)) [الحج: 54].(1/26)
ومنها: كثرة الإنابة إلى الله كما قال الله سبحانه: (مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (33) [ق: 33].
ومنها: السكينة والوقار كما قال الله سبحانه: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (4)) [الفتح: 4].
ومنها: خفقان القلب بحب المؤمنين كما قال الله سبحانه: (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (10)) [الحشر: 10].
ومنها: سلامة القلب من الأحقاد كما قال الله سبحانه(وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103)) [آل عمران: 103].
وإذا مات قلب العبد تعطلت جوارحه عن الطاعة والعبادة.. ولم يؤد حق الله من الطاعة والعبودية.. ولم يعمل بكتاب ربِّه.. ولا بسنة رسوله صلى الله عليه وسلم .. وعادَى الرحمن.. ووالَى الشيطان.
وأكل رزق الله ولم يشكره.. ودفن الموتى ولم يعتبر.. وعلم أن الموت حق ولم يستعد له.. وأقبل على الدنيا يعمرها ويجمعها وينافس في جمع حطامها.. ويتعذب بذلك ليله ونهاره كله(فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (55)) [التوبة: 55].(1/27)
ومحركات القلوب إلى الله عزَّ وجلَّ ثلاثة(1):
المحبة.. والخوف.. والرجاء.
فالمحبة أقواها، ويحركها في القلب كثرة ذكر المحبوب، ومطالعة آلائه ونعمائه، فيسير إلى محبوبه الذي يرى كل نعمة منه.
والخوف، المقصود منه المنع والزجر عن الخروج عن الطريق.
ويحركه في القلب مطالعة آيات الوعيد والزجر، والعرض والحساب والنار وأهوالها، والعقوبات التي حلت بالمجرمين.
أما الرجاء، فيقود الإنسان إلى الطريق،ويحركه في القلب مطالعة الكرم والإحسان، والحلم والعفو، والعطاء والمنّ.
وقلوب العباد كلهم بيد الله(2):
فمن أقبل على الله أقبل الله بقلوب عباده إليه فأحبوه.
ومن أعرض عن الله أعرض الله بقلوب عباده عنه.
(إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا (96)) [مريم: 96].
- - - - - - - - - - - - - - - -
5- فتوحات القلب(3)
قال الله تعالى: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69) ) [العنكبوت: 69].
__________
(1) - مجموع الفتاوى - (ج 1 / ص 89) ومجموع الفتاوى - (ج 1 / ص 95) وفتاوى يسألونك - (ج 6 / ص 283) وفتاوى الإسلام سؤال وجواب - (ج 1 / ص 5523) والتخويف من النار - (ج 1 / ص 17) ومدارج السالكين - (ج 3 / ص 42)
(2) - عَنْ أَنَسٍ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ « يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِى عَلَى دِينِكَ ». فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ آمَنَّا بِكَ وَبِمَا جِئْتَ بِهِ فَهَلْ تَخَافُ عَلَيْنَا قَالَ « نَعَمْ إِنَّ الْقُلُوبَ بَيْنَ أَصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ اللَّهِ يُقَلِّبُهَا كَيْفَ يَشَاءُ »مسند أحمد{6/251} برقم (26887) وسنن الترمذى برقم (2290 ) صحيح.
(3) - مدارج السالكين - (ج 7 / ص 32) وموسوعة فقه القلوب - (ج 3 / ص 17)(1/28)
وعَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ قَالَ حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ سَمِعْتُ مُعَاوِيَةَ خَطِيبًا يَقُولُ سَمِعْتُ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ « مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِى الدِّينِ ، وَإِنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ وَاللَّهُ يُعْطِى ، وَلَنْ تَزَالَ هَذِهِ الأُمَّةُ قَائِمَةً عَلَى أَمْرِ اللَّهِ لاَ يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِىَ أَمْرُ اللَّهِ » متفق عليه(1).
القلب إذا خلا من الاهتمام بالدنيا، وتعلق بالآخرة، وتأهب للقدوم على الله عزَّ وجلَّ، فذلك أول فتوحه، وتباشير فجره.
فعند ذلك يتحرك قلب العبد لمعرفة ما يرضى به ربه منه، فيفعله ويتقرب به إليه، وينبعث لمعرفة ما يسخطه منه فيجتنبه.
فإذا تمكن العبد في ذلك، فتح الله له باب الأنس بالخلوة والوحدة، ومحبة الأماكن الخالية التي تهدأ فيها الأصوات والحركات، فلا شيء أشوق إليه من ذلك.
فإنها تجمع عليه قوى قلبه وإرادته وإقباله على ربه، وتسد عليه الأبواب التي تفرق همه، وتمزق شمله.
ثم يفتح له باب حلاوة العبادة، بحيث لا يكاد يشبع منها، ويجد فيها من اللذة والراحة أضعاف ما كان يجده في لذة اللهو واللعب، ونيل الشهوات.
ثم يفتح له باب حلاوة استماع كلام الله فلا يشبع منه، وإذا سمعه هدأ قلبه كما يهدأ الصبي إذا أعطي ما هو شديد المحبة له.
ثم يفتح له باب شهود عظمة المتكلم به وجلاله، وكمال نعوته وصفاته، ومعاني خطابه، بحيث يستغرق قلبه في ذلك.
ثم يفتح له باب الحياء من الله عزَّ وجلَّ، وهو أول شواهد المعرفة، وهو نور يقع في القلب، يريه ذلك النور أنه واقف بين يدي ربه عزَّ وجلَّ، فيستحي منه في خلواته وجلواته.
ويرزقه الله عند ذلك دوام المراقبة للرقيب، ودوام التطلع إلى ربه، حتى كأنه يراه ويشاهده فوق سماواته ، ناظراً إلى خلقه، سامعاً لأصواتهم، مطلعاً على حركاتهم.
__________
(1) أخرجه البخاري برقم (71)، ومسلم برقم (2436).(1/29)
فإذا استولى هذا على العبد، غطى عليه كثيراً من الهموم بالدنيا وما فيها، فهو في وجود بين يدي ربه ووليه، والناس في وجود آخر.
ثم يفتح له باب الشعور بمشهد القيومية لربه على جميع الكائنات، فيرى سائر التقلبات الكونية، وتصاريف الوجود بيده سبحانه وحده.
فيشهده ذلك ربه العظيم، مالك النفع والضر، والخلق والرزق، والإحياء والإماتة، فيتخذه وحده وكيلاً، ويرضى به رباً ومدبراً، وعند ذلك إذا وقع نظره على شيء من المخلوقات دله على خالقه وبارئه.
فإذا استمر له ذلك، فتح عليه باب القبض والبسط، فيقبض عليه حتى يجد ألم القبض لقوة وارده، وتفيض أنوار المعرفة والمحبة والإخلاص من قلبه، كما يفيض نور الشمس من جرمها.
وكلما سار إلى ربه من الطريق الموصل إليه، زادت الهداية في قلبه، وزاد نور الإيمان، وانشرح صدره، ووجد اللذة في طاعة مولاه.
فإذا استمر على حاله، واقفاً بباب مولاه، لا يلتفت عنه يميناً ولا شمالاً، ولا يجيب غير من يدعوه إليه، ويعلم أنه لم يصل بعد، رجا أن يفتح له فتح آخر، هو فوق ما كان فيه.
فيستغرق قلبه في أنوار مشاهدة جلال الله، بعد ظهور أنوار الوجود الحق، ويبقى قلبه سابحاً في بحر من أنوار آثار الجلال والجمال لربه، فتنبع الأنوار من باطنه، كما ينبع الماء من العين، ويجد قلبه عالياً صاعداً إلى من ليس فوقه شيء.
ثم يرقيه الله تبارك وتعالى فيشهد قلبه أنوار الإكرام، بعد ما شهد أنوار الجلال والعظمة لمولاه.
فيستغرق في نور من أنوار أشعة الجمال والإكرام، والإنعام والإحسان، فيذوق المحبة الخاصة، الملهبة للأرواح والقلوب، الباعثة لحسن العبادة، ولذة المناجاة.(1/30)
فيبقى القلب مأسوراً في يد حبيبه العزيز الكريم، ووليه الغفور الرحيم، ممتحناً بحبه، مستسلماً لطاعته، متلذذاً بعبادته، مستغرقاً في جلاله وجماله، وهذا غاية مراد الرب من عبده: (ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4)) [الجمعة: 4].
والناس مفتونون ممتحنون بما يفنى، من الأموال والأشياء، والصور والرئاسة، معذبون بذلك قبل حصوله، وحال حصوله، وبعد حصوله.
وأشرفهم منزلة، وأعلاهم مرتبة، من يكون مفتوناً بالحور العين، أو عاملاً على تمتعه في الجنة، بالأكل والشرب والجماع واللباس.
وهذا المحب قد ترقى في درجات المحبة على غيره، ينظرون إليه في الجنة كما ينظرون إلى الكوكب الدري الغابر في الأفق، لعلو درجته عند ربه، وقرب منزلته من حبيبه.
ٍ عَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ : « إِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ لَيَتَرَاءَوْنَ أَهْلَ الْغُرَفِ مِنْ فَوْقِهِمْ كَمَا تَتَرَاءَوْنَ الْكَوْكَبَ الدُّرِّىَّ الْغَابِرَ مِنَ الأُفُقِ مِنَ الْمَشْرِقِ أَوِ الْمَغْرِبِ لِتَفَاضُلِ مَا بَيْنَهُمْ ». قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ تِلْكَ مَنَازِلُ الأَنْبِيَاءِ لاَ يَبْلُغُهَا غَيْرُهُمْ. قَالَ « بَلَى وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ رِجَالٌ آمَنُوا بِاللَّهِ وَصَدَّقُوا الْمُرْسَلِينَ ». متفق عليه(1).
وهذا العبد معية الله معه، فإن المرء مع من أحب، ولكل عمل جزاء، وجزاء المحبة المحبة: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31)) [آل عمران: 31].
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (3256)، ومسلم برقم (7322)، واللفظ له.(1/31)
فهذا العبد لا يزال ربه يرقيه طبقاً بعد طبق، ومنزلاً بعد منزل، إلى أن يوصله إليه، ويمكن له بين يديه، أو يموت في الطريق، فيقع أجره على الله، وله ما نوى.
والقلوب بيد الله، يقلبها كيف يشاء، ولها إقبال وإدبار، فإذا أقبلت نشطت للفرائض والسنن، وتلذذت بذلك، ونافست في الخير، وسارعت إليه قولاً وفعلاً.
وإذا أدبرت وضعفت نلزمها على الأقل الفرائض والواجبات.
- - - - - - - - - - - -
6- أقسام القلوب(1)
قال الله تعالى: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (16)) [الحديد: 16].
وقال الله تعالى: (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (74)) [البقرة: 74].
تنقسم قلوب العباد إلى ثلاثة أقسام(2)
صحيح.. وسقيم.. وميت.
فالقلب الصحيح هو السليم الذي قد صارت السلامة صفة ثابتة له، قد سلم من كل شهوة تخالف أمر الله ونهيه، ومن كل شبهة تعارض خبره.
فسلم من عبودية ما سواه، وسلم من تحكيم غير رسوله، وسلم من أن يكون لغير الله فيه شرك بوجه ما.
__________
(1) -موسوعة خطب المنبر - (ج 1 / ص 780 و2224و 4486و 4610و5066) وموسوعة فقه القلوب - (ج 3 / ص 19)
(2) -موسوعة خطب المنبر - (ج 1 / ص 1418)وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 2 / ص 4009) وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 2 / ص 4010) وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 3 / ص 5510)(1/32)
بل قد خلصت عبوديته لله تعالى إرادة ومحبة، وتوكلاً وإنابة، وخشية وإخباتاً وخوفاً ورجاء.
وخلص عمله لله، فإنْ أحبَّ أحب في الله، وإن أبغض أبغض في الله، وإن أعطى أعطى لله، وإن منع منع لله، ولا يكفيه هذا حتى يسلم من الانقياد والتحكيم لكل من عدا رسول الله صلى الله عليه وسلم .
فهذا أزكى القلوب، وهو القلب السليم الذي لا ينجو يوم القيامة إلا من أتى الله به: (يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89) [الشعراء: 88، 89].
والقلب الثاني: القلب الميت الذي لا حياة به، فهو لا يعرف ربه، ولا يعبده بأمره وما يحبه ويرضاه.
بل هو واقف مع شهواته ولذاته، ولو كان فيها سخط ربه وغضبه، فهو لا يبالي إذا فاز بشهوته وحظه، رضي ربه أم سخط، فهو متعبد لغير الله حباً وخوفاً ورجاءً، ورضاً وسخطاً، وتعظيماً وذلاً.
إنْ أحبَّ أحب لهواه.. وإن أبغض أبغض لهواه.. وهواه أحب إليه وآثر عنده من رضا مولاه.
فالهوى إمامه.. والشهوة قائده.. والجهل سائقه.. والغفلة مركبه.. والسيئات تجارته.. والمعاصي بضاعته.. والمحرمات سلعته.
لا يستجيب لداعٍ ولا ناصح، ويتبع كل شيطان مريد.. من الإنس والجن، فهذا أخبث القلوب وأنجسها وأركسها: (.?الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آَيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آَمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (35)) [غافر: 35].
والقلب الثالث: قلب له حياة وبه علة، فهو السقيم.
فله مادتان: تمده هذه مرة.. وهذه أخرى، وهو لما غلب عليه منهما.
ففيه من محبة الله تعالى، والإيمان به، والإخلاص له، والتوكل عليه، ما هو مادة حياته ونجاته.
وفيه من محبة الشهوات وإيثارها، والحرص على تحصيلها، والحسد والكبر والعجب، وحب العلو والفساد في الأرض بالرياسة، والظلم، ما هو مادة هلاكه وعطبه.(1/33)
وهو ممتحن بين داعيين:
داعٍ يدعوه إلى الله والدار الآخرة، وداعٍ يدعوه إلى العاجلة، وهو إنما يجيب أقربهما منه بابًا، وأعلاهما صوتًا، وأكثرها حضوراً.
فالقلب الأول حيٌّ مخبت واع لين، والثاني يابس ميت، والثالث مريض.
فإن كان له مذكر فهو إلى السلامة أدنى، وإن لم يكن له مذكر فهو إلى العطب أدنى، وهوصيد من يسبق إليه.
وقد جمع الله بين هذه القلوب الثلاثة في قوله سبحانه: (لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (53) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (54)) [الحج: 53، 54].
فالقلب الصحيح السليم ليس بينه وبين قبول الحق ومحبته وإيثاره سوى إدراكه، فهو الإدراك للحق، ثم الانقياد له والقبول.
والقلب الميت القاسي لا يقبل الحق ولا ينقاد له.
والقلب المريض إن غلبت عليه صحته التحق بالقلب السليم، وإن غلب عليه مرضه التحق بالقلب الميت القاسي.
وكل ما يلقيه الشيطان في الأسماع من الألفاظ.. وفي القلوب من الشبه والشكوك.. فتنة لهذين القلبين.. وقوة للقلب الحي السليم.. لأنه يرد ذلك ويكرهه ويبغضه.. ويعلم أن الحق في خلافه.
ويستدل على معرفة ما في القلوب بحركة اللسان، فإن القلوب كالقدور تغلي بما فيها، وألسنتها مغارفها.
فلسان المرء يغرف لك من قلبه:
حلو وحامض.. وعذب وأجاج.. وحار وبارد.. وطيب وخبيث.. وحسن وقبيح.. وحق وباطل.. وخير وشر.
فالقلب السليم هو الذي سلم من الشرك والغل.. ومن الحقد والحسد.. ومن الشح والبخل.. ومن الكبر والعلو.. ومن حب الدنيا.. وحب الرياسة.(1/34)
فسلم من كل آفة تبعده عن الله، وسلم من كل شبهة تعارض خبره، وسلم من كل شهوة تعارض أمره، وسلم من كل إرادة تزاحم مراده، وسلم من كل قاطع يقطع عن الله والدار الآخرة.
ولا تتم له سلامته مطلقًا حتى يسلم من خمسة أشياء:
من شرك يناقض التوحيد.. ومن بدعة تخالف السنة.. ومن شهوة تخالف الأمر.. ومن غفلة تناقض الذكر.. ومن هوى يناقض الإخلاص.
والقلوب بالنسبة للاستجابة للحق تنقسم إلى قسمين:
أحدها: قلوب مستجيبة للحق، فهذه بأرفع المنازل في الدنيا والآخرة.
الثاني: قلوب معرضة عن الحق، والإعراض مراتب:
فالإعراض مرتبة... والتكذيب مرتبة فوقها.. ثم الاستهزاء مرتبة فوقها.. والمرتبة الأسوأ من ذلك هي الصد عنه كما قال الله سبحانه: (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ (88)) [النحل: 88].
والله جل جلاله جعل القلوب على ثلاثة أقسام:
مخبتة.. ومريضة.. وقاسية.
فالقلوب المخبتة: هي التي تنتفع بالقرآن، وتزكو به.
والإخبات: سكون الجوارح على وجه التواضع والخشوع لله.
ومن آثار الإخبات:
وجل القلوب لذكر الله سبحانه، والصبر على أقداره، والإخلاص في عبوديته، والإحسان إلى خلقه كما قال سبحانه: (لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (53) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (54)) [الحج: 53، 54].
فالقلب المخبت ضد القاسي والمريض، وهو سبحانه الذي جعل بعض القلوب مخبتًا إليه، وبعضها قاسيًا، وجعل للقسوة آثارًا، وللإخبات آثارًا.(1/35)
أما القلوب القاسية الحجرية، فهي التي لا تقبل ما يبث فيها، ولا ينطبع فيها الحق، ولا ترتسم فيها العلوم النافعة، ولا تلين لإعطاء الأعمال الصالحة.
فالقسوة يبس في القلب يمنعه من الانفعال، وغلظة تمنعه من التأثر بالنوازل، فلا يتأثر لغلظه وقساوته، لا لصبره واحتماله.
ومن آثار قسوة القلب:
تحريف الكلم عن مواضعه.. وعدم قبول الحق.. والصدّ عنه.. ونسيان ما ذكِّر به، وهو ترك ما أمره الله به علمًا وعملاً كما قال سبحانه: (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (74)) [البقرة: 74].
أما القلوب المريضة فهي التي يكون الحق ثابتًا فيها، لكن مع ضعف وانحلال كما قال سبحانه: (لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (53)) [الحج: 53].
فذكر سبحانه القلب المريض وهو الضعيف المنحل الذي لا تثبت فيه صورة الحق، ثم القلب القاسي اليابس الذي لا يقبلها ولا تنطبع فيه.
فهذان القلبان شقيان معذبان.
ثم ذكر القلب المخبت المطمئن إليه، وهو الذي ينتفع بالقرآن ويزكو به.
وهذا الاختبار والامتحان مظهر لمختلف ما في القلوب الثلاثة.
فالقاسية والمريضة ظهر خبؤها من الشك والكفر، والمخبتة ظهر خبؤها من الإيمان والهدى، وزيادة محبة الرب، وبغض الكفر والشرك.
والقلب عضو من أعضاء الإنسان، وهو أشرف أعضائه، وكل عضو كاليد مثلاً، إما أن يكون جامدًا يابسًا، أو يكون مريضًا ضعيفًا، أو يكون حيًا قويًا.
فالقلوب كذلك ثلاثة:(1/36)
قلب قاسٍ بمنزلة اليد اليابسة.. وقلب مائع رقيق جدًا.. وقلب رقيق صاف صلب.
فالأول لا ينفعل بمنزلة الحجر، والثاني بمنزلة الماء، وكلاهما ناقص.
وأصح القلوب القلب الرقيق الصافي الصلب.. فهو يرى الحق من الباطل بصفائه.. ويقبله ويؤثره برقته.. ويحفظه ويحارب عدوه بصلابته.
وهذا أحب القلوب إلى الله، وهو القلب المستقيم المخبت المطمئن: (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34) الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (35)) [الحج: 34، 35].
وأبغض القلوب إلى الله القلب القاسي، والقلب القاسي والمريض كلاهما منحرف عن الاعتدال، هذا بمرضه، وهذا بقسوته: (أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (22)) [الزمر: 22].
وهؤلاء أصحاب القلوب المريضة والقاسية، المعرضون عن دين الله، المعارضون له، ألا يتدبرون كتاب الله، ويتأملونه حق التأمل؟.
فإنهم لو تدبروه لدلهَّم على كل خير، وحذرهم من كل شر، ولملأ قلوبهم من الإيمان، وأفئدتهم من الإيقان، ولأوصلهم إلى المطالب العالية، والمواهب الغالية، ولبين لهم الطريق الموصلة إلى الله وإلى جنته، والطريق الموصلة إلى العذاب، وبأي شيء تحذر؟.
ولعرفهم بربهم سبحانه، وبأسمائه وصفاته وإحسانه، ولشوقهم إلى الثواب الجزيل، ورهبهم من العقاب الوبيل.
أم قلوبهم مقفلة على ما فيها من الشر، فلا يدخلها خير أبدًا: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24)) [محمد: 24].(1/37)
اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك، وارزقنا حسن تلاوة كتابك، وحسن العمل بشرعك، وصدق الإخلاص في عبادتك: (رَبَّنَا آَمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (53)) [آل عمران: 53].
- - - - - - - - - - - - - - -
7- غذاء القلوب(1)
قال الله تعالى: (الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28)) [الرعد: 28].
وقال الله تعالى: (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآَنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا (82)) [الإٍسراء: 82].
الله عزَّ وجلَّ جعل للقلوب نوعين من الغذاء(2):
الأول: الطعام والشراب الحسي، وللقلب منه خلاصته وصفوه، ولكل عضو منه بحسب استعداده وقبوله.
الثاني: غذاء روحاني معنوي، خارج عن الطعام والشراب من السرور والفرح، والابتهاج واللذة، والعلوم والمعارف.
وبهذا الغذاء كان سماويًا علويًا، وبالغذاء المشترك كان أرضيًا سفليًا، وقوامه بهذين الغذاءين.
وللقلب ارتباط بكل واحدة من الحواس الخمس، وله غذاء يصل إليه منها كحاسة السمع والبصر، وحاسة اللمس والشم والذوق، وارتباطه بحاستي السمع والبصر أشد من ارتباطه بغيرهما، ووصول الغذاء منهما إليه أكمل وأقوى من سائر الحواس.
وانفعاله عنهما أشد من انفعاله عن غيرهما، واقترانه في القرآن بهما أكثر من اقترانه بغيرهما.
__________
(1) -آفات على الطريق كامل - (ج 1 / ص 195) وموسوعة خطب المنبر - (ج 1 / ص 3521) وموسوعة خطب المنبر - (ج 1 / ص 4888) وموسوعة فقه القلوب - (ج 3 / ص 24)
(2) -مدارج السالكين - (ج 5 / ص 17)(1/38)
بل لا يكاد يقرن إلا بهما أو بأحدهما كما قال سبحانه: (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78)) [النحل: 78].
وتأثر القلب بما يراه ويسمعه، أعظم من تأثره بما يلمسه ويذوقه ويشمه، ولأن هذه الثلاثة هي أهم طرق العلم وهي السمع والبصر والعقل.
وتعلق القلب بالسمع والبصر، وارتباطه بهما، وتأثره بهما لا يخفى، لكن ما يدركه بحاسة السمع من العلم والهدى أعم وأشمل، وما يدركه بحاسة البصر أتم وأكمل.
فللسمع العموم والشمول، والإحاطة بالموجود والمعدوم، والحاضر والغائب، والحسي والمعنوي، وللبصر التمام والكمال.
وهذه الحواس الخمس لها أشباح وأرواح، وأرواحها حظ القلب ونصيبه منها.
فمن الناس من ليس لقلبه منها نصيب إلا كنصيب الحيوانات البهيمية منها، فهو بمنزلتها كما قال سبحانه: (أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا (44)) [الفرقان: 44]
ولهذا نفى الله تبارك وتعالى عن الكفار السمع والبصر والعقل، لعدم انتفاعهم بها كما قال سبحانه: (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آَذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (179)) [الأعراف: 179].
فهم يسمعون ويبصرون بالحواس الظاهرة، وبهما قامت عليهم الحجة، ولا يسمعون ولا يبصرون بالحواس الباطنة، التي هي سماع القلب، التي هي روح حاسة السمع، التي هي حظ القلب، ولو سمعوه من هذه الجهة، لحصلت لهم الحياة الطيبة في الدنيا والآخرة.(1/39)
وتعلق السمع الظاهر الحسي بالقلب، أشد من تعلق البصر به، وآثاره على قلب الإنسان أسرع وأشد، فربما غشي على الإنسان إذا سمع كلامًا يسره أو يسوؤه، أو صوتًا لذيذًا طيبًا مناسبًا، ولا يحصل له ذلك من رؤية الأشياء بالبصر الظاهر إلا نادرًا.
فإذا كان المسموع معنى شريفًا بصوت لذيذ، حصل للقلب حظه ونصيبه من إدراك المعنى، وابتهج به أتم ابتهاج على حسب إدراكه له، كما يحصل للقلب عند سماع آيات القرآن المرتلة.
وللروح حظها ونصيبها من لذة الصوت ونغمته وحسنه، فيحصل لها الارتياح، ويتم الابتهاج، وتتضاعف اللذة، حتى ربما فاض الابتهاج والسرور على البدن والجوارح وعلى الجليس.
ويكاد القلب لكمال لذته، وتوفر غذائه، أن يفارق هذا العالم، ويلج عالمًا آخر، ويجد له لذة وحالة لا يعهدها في شيء غيره البتة.
وذلك لمحة من حال أهل الجنة في الجنة.
فيا له من غذاء ما أصلحه.. وما أنفعه.. وما أيسره.
والقلب يتأثر بالسماع بحسب ما فيه من المحبة، فإذا امتلأ من محبة الله، سمع كلام محبوبه، وتأثر به وانتفع به.
وقلوب البشر على ثلاثة أقسام :
أحدها: من اتصف قلبه بصفات نفسه، بحيث صار قلبه نفسًا محضة، فغلبت عليه آفات الشهوات والأهواء.
فهذا حظه من السماع الديني كحظ البهائم، لا يسمع إلا دعاءً ونداءً.(1)
الثاني: من اتصفت نفسه بصفات قلبه، فصارت نفسه قلبًا محضًا، فغلبت عليه المعرفة والمحبة، والعقل واللب.
وعشق صفات الكمال، فاستنارت نفسه بنور قلبه، واطمأنت إلى ربها، وقرت عينها بعبوديته، وصار نعيمها في حبه وقربه.
فهذا حظه من السماع مثل أو قريب من حظ الملائكة، وسماعه غذاء قلبه وروحه، وقرت عينه.
__________
(1) - قال تعالى : {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاء وَنِدَاء صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ } (171) سورة البقرة(1/40)
الثالث: من له منزلة بين منزلتين، وقلبه باق على فطرته الأولى، لكن ما تصرف في نفسه تصرفًا أحالها إليه، ولا قويت النفس على القلب فأحالته إليها، فبين النفس والقلب منازلات ووقائع.
تدال النفس عليه تارة.. ويدال عليها تارة.. والحرب سجال.
فهذا حظه من السماع حظ بين الحظين، فإن صادفه وقت دولة القلب كان حظه منه قويًا، وإن صادفه وقت دولة النفس كان ضعيفًا(1).
ومن هنا يقع التفاوت في الفقه عن الله، والفهم عنه، والابتهاج به، وحصول النعيم واللذة بسماع كلامه.
وخلاصة غذاء القلوب يمكن الحصول عليه من أربعة أبواب :
الأول: الكلام في عظمة الله، وعظمة أسمائه وصفاته وأفعاله والتحدث بذلك، والنظر في الآيات الكونية، والآيات القرآنية.
الثاني: الكلام في آلاء الله ونعمه، ورؤية إحسانه وجماله وإكرامه والتحدث بذلك كما قال سبحانه: (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11)) [الضحى: 11].
الثالث: معرفة وعد الله لعباده المتقين بالجنة، وذكر منازلها وقصورها، ورؤية ما فيها من النعيم واللذات، والتنعم برؤية الرب جل جلاله، وسماع كلامه، والتحدث بذلك بين الناس.
الرابع: معرفة وعيد الله لمن عصاه، وتذكر النار وما فيها من السعير والسموم، والقمع والإحراق، وعند ذلك ترق القلوب وتمتلئ بالخوف والوجل من معصية الرب، وتقبل على ربها بلباس الإيمان والتقوى.
وحاجات الإنسان قبل الموت كالقطرة، وحاجات الإنسان بعد الموت كالبحر.
وحاجات البدن في الدنيا كالقطرة، وحاجات القلب كالبحر.
وليس للقلوب سرور ولا لذة ولا نعيم إلا بالإيمان بالله ومحبته، والتقرب إليها بما يحبه، وليس في الدنيا نعيم يشبه نعيم الآخرة إلا نعيم الإيمان بالله والمعرفة به.
ومن كان محبًا لغير الله في الدنيا، فهو معذب في الدنيا والآخرة، فإن نال مراده عذب به، وإن لم ينله فهو في العذاب والحسرة والحزن.
__________
(1) -مدارج السالكين - (ج 5 / ص 19)(1/41)
وكل من استقام على الدين، واجتهد للدين، ظهرت شعب الإيمان في حياته، من التوكل والخشية، والخوف والرجاء، والمحبة والإنابة، والاستعانة بالله في جميع الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة.
وفاز بالسعادة في الدنيا.. ودخل الجنة في الآخرة.
- - - - - - - - - - - - - - - -
8- فقه أعمال القلوب(1)
قال الله تعالى: (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32)) [الحج: 32].
وقال الله تعالى: (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (52)) [النور: 52].
الأوامر تنزل في كل لحظة من ذات الله تبارك وتعالى، والأعمال تصدر من ذات الإنسان، فإذا تطابقت الأوامر والأعمال، فلهذا الإنسان السعادة في الدنيا والآخرة، وإذا خالفت أعمال الإنسان أوامر الرب، شقي هذا الإنسان في الدنيا والآخرة.
والأعمال التي تصدر من الإنسان نوعان:
أعمال القلوب.. وأعمال الجوارح.
وأعمال القلوب من أصول الإيمان وقواعد الدين:
كالإيمان والتوحيد.. ومحبة الله ورسوله.. والتوكل على الله.. وإخلاص الدين له.. واليقين على ذاته وأسمائه وصفاته.. والخوف منه.. والرجاء له.. والخشية منه.. والخشوع له.. والتذلل والتضرع بين يديه.. والصبر على حكمه، والاستعانة به ونحو ذلك.
__________
(1) - موسوعة خطب المنبر - (ج 1 / ص 67) وموسوعة خطب المنبر - (ج 1 / ص 875) وموسوعة خطب المنبر - (ج 1 / ص 1291) وموسوعة خطب المنبر - (ج 1 / ص 2575) وموسوعة خطب المنبر - (ج 1 / ص 3138) وموسوعة خطب المنبر - (ج 1 / ص 3823) وموسوعة خطب المنبر - (ج 1 / ص 3936) وموسوعة فقه القلوب - (ج 3 / ص 27)(1/42)
فهذه الأعمال جميعها واجبة على جميع الخلق، والناس فيها على ثلاث درجات كما هم في أعمال الأبدان على ثلاث درجات(1):
ظالم لنفسه.. ومقتصد.. وسابق بالخيرات.
فالظالم لنفسه: هو العاصي بترك مأمور، أو فعل محظور.
والمقتصد: المؤدي للواجبات، التارك للمحرمات.
والسابق بالخيرات: المتقرب إلى ربه بما يقدر عليه من فعل واجب ومستحب، التارك للمحرم والمكروه، الذاكر لربه في كل حين.
وأعمال القلوب، وأعمال الجوارح، كلاهما مطلوب، لكن الأول أساسي للثاني، والثاني مظهره وعلامته، لكنه لا يقبل بدونه.
وإنما خص الله أعمال القلوب بالتحصيل دون أعمال الجوارح، لأن أعمال الجوارح تابعة لأعمال القلوب، فلولا إرادة القلب لم تحصل أفعال الجوارح ولهذا قال سبحانه: ( أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ (9) وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ (10) إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (11) ) [العاديات: 9-11].
وجعل الله القلوب الأصل في المدح كما قال سبحانه: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2)) [الأنفال: 2].
وجعلها الأصل في الذم كما قال سبحانه: (وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آَثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283)) [البقرة: 283].
__________
(1) - مجموع الفتاوى - (ج 7 / ص 368) ومجموع الفتاوى - (ج 10 / ص 6) وإحياء علوم الدين - (ج 3 / ص 152) وموسوعة خطب المنبر - (ج 1 / ص 2432) وموسوعة خطب المنبر - (ج 1 / ص 2906)(1/43)
وقد خلق الله عزَّ وجلَّ القلوب، وجعلها محلاً لمعرفته ومحبته وإرادته، فهي عرش المثل الأعلى الذي هو معرفة الله ومحبته وإرادته كما قال سبحانه: (لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (60)) [النحل: 60].
والقلب إن لم يكن أطهر الأشياء وأنزهها وأطيبها، لم يصلح لاستواء المثل الأعلى عليه معرفة ومحبة وإرادة، وإلا استوى عليه مثل الدنيا الأسفل ومحبتها وإرادتها، حتى تعود القلوب على قلبين:
قلب هو عرش الرحمن: ففيه النور والحياة، والفرح والسرور، والبهجة وذخائر الخير.
وقلب هو عرش الشيطان: فهناك الضيق والظلمة، والموت والحزن، والهم والغم.
والنور الذي يدخل القلب إنما هو من آثار المثل الأعلى، فلذلك ينفسح وينشرح، وإذا لم تكن فيه معرفة الله ومحبته فحظه الظلمة والضيق.
والتوحيد والإيمان والإخلاص شجرة في القلب، فروعها الأعمال الصالحة، وثمرها طيب الحياة في الدنيا، والنعيم المقيم في الآخرة.
والشرك والكذب والرياء شجرة في القلب فروعها الأعمال السيئة، وثمرها في الدنيا الخوف والهم والغم، وفي الآخرة عذاب الجحيم.
فشجرة الإيمان أصلها ثابت في قلب المؤمن علمًا واعتقادًا، وفرعها من الكلم الطيب، والعمل الصالح، والأخلاق المرضية، والآداب الحسنة، في السماء دائمًا، يصعد إلى الله منه من الأعمال والأقوال التي تخرجها شجرة الإيمان، ما ينتفع به المؤمن، وينفع غيره كما قال سبحانه: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25)) [إبراهيم: 24، 25].(1/44)
وأما شجرة الكفر فهي شجرة خبيثة المأكل والمطعم كشجرة الحنظل ونحوها، لا عروق تمسكها، ولا ثمرة صالحة تنتجها.
كذلك كلمة الكفر والمعاصي ليس لها ثبوت نافع في القلب، ولا تثمر إلا كل قول خبيث، وعمل خبيث، يضر صاحبه ولا ينفعه، ولا يصعد إلى الله منه عمل صالح كما قال سبحانه: (وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ (26) [إبراهيم: 26].
والقلوب المتعلقة بالشهوات محجوبة عن الله بقدر تعلقها بها.
والقلوب آنية الله في أرضه، وأحبها إليه ألينها وأرقها وأصفاها.
وإذا زهدت القلوب في موائد الدنيا، قعدت على موائد الآخرة، وإذا رضيت بموائد الدنيا فاتتها تلك الموائد الغالية.
ولا تدخل محبة الله في قلب فيه حب الدنيا، وإذا أحب الله عبدًا اصطنعه لنفسه، واستخلصه لعبادته، فشغل همه به، ولسانه بذكره، وجوارحه بخدمته، وصرف قلبه عما سواه.
والقلب يعمل، والبدن يعمل، والقلب يمرض كما يمرض البدن، وشفاؤه بالتوبة والحمية.. والقلب يصدأ كما تصدأ المرآة، وجلاؤه بالذكر.. والقلب يعرى كما يعرى الجسم، وزينته بالتقوى..
والقلب يجوع ويظمأ كما يجوع البدن ويظمأ، وطعامه وشرابه العلم بالله والمعرفة، والمحبة والتوكل، والإنابة والعبادة.
والوصول إلى المطلوب المحبوب موقوف على ثلاثة أمور:
هجر العوائد.. وقطع العلائق.. وإزالة العوائق.
فالعوائد: ما ألفه الناس واعتادوه من الرسوم والعادات التي جعلوها بمنزلة الشرع المتبع، بل هي عند بعضهم أعظم من الشرع، وهذه الرسوم قد استولت على طوائف من بني آدم من الملوك والولاة والفقهاء والعامة والخاصة.
ينكرون على من خالفها، وربما كفروه أو بدعوه، أو ضللوه أو قتلوه، واتخذها الناس سننًا، وهُجر لأجلها الكتاب والسنة.
وأما العلائق: فهي كل ما تعلق به القلب من دون الله من ملاذ الدنيا وشهواتها ورياساتها، وصحبة الناس، والتعلق بهم.(1/45)
ولا سبيل إلى قطعها إلا بقوة التعلق بالمطلوب الأعلى، فإن النفس لا تترك مألوفها ومحبوبها إلا لمحبوب هو أحب إليها منه.
وأما العوائق: فهي أنواع المخالفات التي تعوق القلب عن سيره إلى الله وهي ثلاثة: الشرك، والبدعة، والمعصية.
والإيمان مبني على أصلين:
أحدهما: تصديق الخبر عن الله ورسوله، وبذل الجهد في رد الشبهات التي توحيها شياطين الجن والإنس في معارضته.
الثاني: طاعة أمر الله ورسوله، ومجاهدة النفس في دفع الشهوات التي تحول بين العبد وبين كمال الطاعة.
فالشبهات والشهوات أصل فساد العبد وشقائه في معاشه ومعاده.
كما أن الأصلين الأولين: تصديق الخبر، وطاعة الأمر، أصل فلاح العبد وسعادته في معاشه ومعاده.
وكل عبد له قوتان:
الأولى: قوة الإدراك والنظر، وما يتبعها من العلم والمعرفة والكلام.
الثانية: قوة الإرادة والحب، وما يتبعهما من النية والعزم والعمل.
فالشبهات تؤثر فسادًا في القوة العلمية النظرية ما لم يداوها بدفعها.
والشهوات تؤثر فسادًا في القوة الإرادية العملية ما لم يداوها بإخراجها.
ومن تمام حكمة الله تعالى أنه يبتلي هذه النفوس بالشقاء والتعب في تحصيل مراداتها وشهواتها، فلا تتفرغ للخوض في الباطل إلا قليلاً، ولو تفرغت هذه النفوس لكانت أئمة تدعو إلى النار.
وهذا حال من تفرغ منها كما هو مشاهد بالعيان، فإن داء الأولين والآخرين أمران:
اتباع الشهوات المانعة من متابعة الأمر.. والخوض بالشبهات المانعة من الانقياد للأمر.(1/46)
وهذا شأن النفوس الباطلة التي لم تخلق لنعيم الآخرة، ولا تزال ساعية في نيل شهواتها، فإذا نالتها فإنما هي في خوض بالباطل الذي لا يجدي عليها إلا الضرر العاجل والآجل، فاحذر هؤلاء ومجالسهم: (وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آَيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (68)) [الأنعام: 68].
ومن رزقه الله قلبًا سليمًا، رأى الحق حقًا واتبعه، ورأى الباطل باطلاً واجتنبه.
فإذا رأى الناس متوكلين على تجارتهم، وصحة أبدانهم، توكل على الله: ( إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (3)) [الطلاق: 3].
وإذا رآهم يذلون أنفسهم في طلب الرزق اشتغل بما لربه عليه، لعلمه أن رزقه سيأتيه: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (6)) [هود: 6].
وإذا رآهم يتحاسدون في دنياهم ترك ذلك لهم، لعلمه أن نصيبه من الرزق سيصل إليه، ولن يأخذه غيره: (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (32)) [الزخرف: 32].
وإذا رأى الناس يطلبون العزة والمكانة عند المخلوق بالمال والجاه والمناصب، طلب المكانة عند ربه بالتقوى كما قال سبحانه: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)) [الحجرات: 13].
وإذا رأى الناس يركضون وراء شهواتهم، أجهد نفسه في دفع الهوى حتى تستقر على طاعة الله عزَّ وجلَّ: (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41)) [النازعات: 40، 41].(1/47)
وإذا رأى الخلق كل له محبوب، فإذا وصل إلى القبر فارقه محبوبه، جعل محبوبه حسناته التي لا تفارقه:( الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا (46) [الكهف: 46].
- - - - - - - - - - - - - - - - -
9- صفات القلب السليم(1)
قال الله تعالى: (يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89)) [الشعراء: 87-89].
وقال الله تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) [الأنفال: 2، 3].
القلب السليم الذي ينجو من عذاب الله يوم القيامة، هو القلب الذي قد سلم من مرض الشهوات، وسلم من مرض الشبهات، الذي قد سلم لربه، وسلم لأمره، ولم تبق فيه منازعة لأمره، ولا معارضة لخبره.
فهو سليم مما سوى الله وأمره، لا يريد إلا الله، ولا يفعل إلا ما أمره الله عزَّ وجلَّ.
فالله وحده غايته.. وأمره وشرعه وسيلته.. لا تعترضه شبهة تحول بينه وبين تصديق خبره.. ولا شهوة تحول بينه وبين متابعة رضاه.
ومتى كان قلب العبد كذلك فهو سليم من الشرك، وسليم من البدع، وسليم من المعاصي، وسليم من الغي، وسليم من الباطل.
فالقلب السليم هو الذي سلم لعبودية ربه حبًا وخوفًا، ورجاءً وطمعًا، وسلم لأمره وسلم لرسوله تصديقًا وطاعة، واستسلم لقضاء الله وقدره، فلم يتهمه ولم ينازعه، ولم يتسخط لأقداره.
فأسلم لربه ومولاه انقيادًا وخضوعًا، وذلاً وعبودية.
وسلم جميع أحواله وأقواله، وأعماله الظاهرة والباطنة، لما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
__________
(1) - موسوعة فقه القلوب - (ج 3 / ص 32)(1/48)
وسالم أولياء الله وحزبه المفلحين، الذابين عن دينه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ، والقائمين بها، والداعين إليها.
وعادى أعداءه المخالفين لكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ، الخارجين عنهما، الداعين إلى خلافهما.
والمؤمن حي، والكافر ميت، والميت لا يؤمر بصلاة ولا صيام حتى تنفخ فيه روح الإيمان، وإن كان سيحاسب على تركه الإيمان والأعمال يوم القيامة.
فإذا حيي قلبه بالإيمان، صار قابلاً ومستعدًا لقبول الأوامر والنواهي.
فالمؤمن حي، والحي إما صحيح، وإما مريض، فصاحب القلب السليم هو الصحيح، وصاحب القلب المريض هو السقيم.
والمرض قسمان(1):
مرض شبهة.. ومرض شهوة.
فالأول كما قال سبحانه عن المنافقين: (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10)) [البقرة: 10].
والثاني: كما قال سبحانه: (يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا (32)) [الأحزاب: 32].
وشفاء هذين المرضين في القرآن كما قال سبحانه: (إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (14)) [فصلت: 44].
ويحصل تأثر القلب بالقرآن أو بالمواعظ أو غيرها بأربعة أمور:
الأول: المؤثر كالقرآن مثلاً يسمعه أو يقرؤه.
الثاني: المحل القابل، وهو القلب الحي الذي يعقل عن الله.
الثالث: وجود الشرط، وهو الإصغاء.
الرابع: انتفاء المانع، وهو اشتغال القلب وذهوله عن معنى الخطاب.
__________
(1) - مجموع الفتاوى - (ج 10 / ص 95) وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 3 / ص 2753) ومجلة مجمع الفقه الإسلامي - (ج 2 / ص 14774)(1/49)
فإذا تمت هذه الشروط، حصل الأثر، وهو الانتفاع والتذكر والاستقامة.
كما قال سبحانه: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37)) [ق: 37].
(إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى) هذا هو المؤثر.
(لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ) هذا هو المحل.
(أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ) وهذا هو الشرط وهو الإصغاء.
(وَهُوَ شَهِيدٌ) وهذا انتفاء المانع.
وقلب الإنسان له أربعة أبواب، وكلها تصب في القلب وهي:
اللسان.. والأذن.. والعين.. والدماغ.
فما يتكلم به اللسان يتأثر به القلب، فإذا تكلم بالإيمان، وتلاوة القرآن، تأثر بذلك قلبه، وزاد إيمانه.
والأذن باب إلى القلب، فإذا سمع كلمات الإيمان والقرآن تأثر بها قلبه، وزاد إيمانه.
والعين باب إلى القلب، فالنظر إلى المخلوقات، وعظيم صنع الباري يؤثر في القلب، وتعلم الإيمان بالنظر للكاملين في الإيمان، فكلما نظروا إلى المخلوق زاد إيمانهم بالخالق سبحانه.
أما ناقص الإيمان فينظر إلى المخلوق ويغرق فيه، فينقص إيمانه، لأنه اشتغل به ولم يتعداه إلى خالقه: (قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآَيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (101)) [يونس: 101].
وكلما تفكر الدماغ في عظمة الله، وعظيم إحسانه، تأثر بذلك القلب، وزاد إيمانه.
والقلب السليم هو ما سلم من ستة أدواء:
فهو سليم من الشرك.. سليم من الجهل.. سليم من الكبر.. سليم من الغفلة.. سليم من حب الدنيا.. سليم من سيئ الأخلاق.
فهو قلب طاهر زكي، مملوء بالإيمان والتوحيد والعلم، والتواضع لربه، ولزوم ذكره، يحب الله والدار الآخرة، متجمل بمكارم الأخلاق.(1/50)
فهذا القلب السليم إذا نظر الله إليه، - رضي الله عنه - وأحبه واجتباه، وأعانه على كل خير، ومنع عنه كل سوء، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69) ) [العنكبوت: 69].
وإذا تأكد المسلم من صحة قلبه وسلامته، فهو مطالب بالمحافظة عليه بما يحفظ عليه قوته بالإيمان وأوراد الطاعات، وإلى حمية من المؤذي الضار، وذلك باجتناب الآثام والمعاصي والمحرمات.
وإلى استفراغ المواد الفاسدة التي تعرض له بالتوبة النصوح والاستغفار، وإلى شغله بكل ما يورث القلب إيمانًا، ويزيده من العلم النافع، والعمل الصالح، والدعوة إلى الله، فكل ذلك أغذية له.
والقلب السليم: هو الذي سلم من الغل والحقد، والحسد والشح، وسلم من كل آفة تبعده عن الله، وسلم من كل شبهة تعارض خبره، وسلم من كل شهوة تعارض أمره، وسلم من كل إرادة تزاحم مراده، وسلم من كل قاطع يقطعه عن الله.
فهذا القلب السليم في جنة معجلة في الدنيا، وفي جنة في البرزخ، وفي جنة يوم المعاد، حيث كمال النعمة، وكمال النعيم، ورؤية المنعم جل جلاله.
ولا تتم سلامته مطلقًا حتى يسلم من خمسة أشياء:
من شرك يناقض التوحيد.. ومن بدعة تخالف السنة.. ومن شهوة تخالف الأمر.. ومن غفلة تناقض الذكر.. ومن هوى يناقض التجريد.
وهذه الخمسة حجب عن الله، ولهذا اشتدت حاجة العبد بل ضرورته إلى أن يسأل الله أن يهديه الصراط المستقيم كل يوم، بل في كل صلاة، بل في كل ركعة.
والقلب يتعلق به أحكام من جهة خلقه وشكله.. ومن جهة الوارد عليه من الله، ومن النفس، والشيطان.. ومن جهة المطلوب منه من العبادة وطاعة الله ورسوله.
وخير القلوب ما كان داعيًا للخير ضابطًا له، وليس كالقلب القاسي الذي لا يقبله، فهذا قلب حجري، ولا كالمائع الأخرق الذي يقبل، ولكن لا يحفظ ولا يضبط.
والفرق بين سلامة القلب، والبله والتغفل:(1/51)
أن سلامة القلب تكون من عدم إرادة الشر بعد معرفته.. فيسلم قلبه من إرادته وقصده لا من معرفته والعلم به.. وهذا بخلاف البله والغفلة.. فإنها جهل وقلة معرفة.. وهذا لا يحمد إذ هو نقص.
فالكمال أن يكون القلب عارفًا بالخير، مريدًا له، عارفًا بالشر، سليمًا من إرادته.
وأصل أعمال القلوب المأمور بها:
الإيمان.. والإحسان.. والتقوى.. والتوكل.. والخوف.. والرجاء.. والإنابة.. والتسليم ونحوها.
وأصل ذلك كله الصدق، فكل عمل صالح ظاهر وباطن فمنشؤه الصدق، وأضداد ذلك من أعمال القلوب المنهي عنها هي:
الرياء.. والعجب.. والكبر.. والفخر.. والخيلاء.. والبطر.. والأشر.. والعجز.. والكسل.. والجبن، وغيرها.
وأصل ذلك كله الكذب، فكل عمل فاسد ظاهر وباطن فمنشؤه الكذب.
والله عزَّ وجلَّ يعاقب الكذاب، بأن يقعده ويثبطه عن مصالحه ومنافعه، ويثيب الصادق، بأن يوفقه للقيام بمصالح دينه ودنياه وآخرته.
فما استجلبت مصالح الدنيا والآخرة بمثل الصدق، ولا استجلبت مضار الدنيا والآخرة ومفاسدهما بمثل الكذب.
ولهذا رغب الله عباده المؤمنين بالصدق، وأمرهم بلزوم أهل الصدق في القول والعمل كما قال سبحانه: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119)) [التوبة: 119].
ولهذا كان الصدق أساس البر، والكذب أساس الفجور، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : « إِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِى إِلَى الْبِرِّ ، وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِى إِلَى الْجَنَّةِ ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَصْدُقُ حَتَّى يَكُونَ صِدِّيقًا ، وَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِى إِلَى الْفُجُورِ ، وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِى إِلَى النَّارِ ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَكْذِبُ ، حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا » . متفق عليه(1).
__________
(1) أخرجه البخاري برقم (6094)، واللفظ له، ومسلم برقم (6803).(1/52)
وأول ما يسري الكذب من النفس إلى اللسان فيفسده، ثم يسري إلى الجوارح فيفسد عليها أعمالها، كما أفسد على اللسان أقواله.
فيعم الكذب أقواله، وأعماله، وأحواله.
فيستحكم عليه الفساد، ويترامى داؤه إلى الهلكة، إن لم يتداركه الله بدواء الصدق الذي يقلع تلك المادة من أصلها: (رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8)) [آل عمران: 8].
- - - - - - - - - - - - - - - - -
10- فقه سكينة القلب(1)
قال الله تعالى: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا {4}) [الفتح: 4].
وقال الله تعالى: (لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا (18)) [الفتح: 18].
السكينة: هي الطمأنينة والوقار والسكون الذي ينزله الله في قلب عبده، عند اضطرابه من شدة المخاوف.
فلا ينزعج مما يرد عليه، ويوجب له زيادة الإيمان، وقوة اليقين والثبات.
ولهذا أخبر الله عزَّ وجلَّ عن إنزالها على رسوله صلى الله عليه وسلم وعلى المؤمنين في مواضع القلق والاضطراب، كيوم الهجرة إذ هو وصاحبه في الغار، والعدو فوق رؤوسهم، وكيوم حنين حين ولوا مدبرين من شدة بأس الكفار، وكيوم الحديبية حين اضطربت قلوبهم من تحكم الكفار عليهم.
والسكينة اسم لثلاثة أشياء:
أولها: سكينة بني إسرائيل التي أعطوها في التابوت، ففي أي مكان كان التابوت اطمأنوا إليه وسكنوا.
__________
(1) - مجموع الفتاوى - (ج 7 / ص 230) وموسوعة فقه القلوب - (ج 3 / ص 36)(1/53)
الثانية: التي تنطق عل لسان المحدثين، ليست شيئًا يملك، إنما هي شيء من لطائف صنع الحق، تلقى على لسان المحدث الحكمة.
فالسكينة إذا نزلت على القلب اطمأن بها، وسكنت إليها الجوارح وخشعت، وأنطقت اللسان بالصواب والحكمة، وحالت بينه وبين قول الخنا والفحش واللغو وكل باطل.
وربما ينطق من في قلبه السكينة بكلام لم يكن عن فكرة منه ولا روية، ويستغربه هو من نفسه.
وأكثر ما يكون هذا عند الحاجة، وصدق الرغبة من السائل والمجالس، وصدق الرغبة منه هو إلى الله، وحضرته مع تجرده من الأهواء.
الثالثة: السكينة التي نزلت على قلب النبي صلى الله عليه وسلم وقلوب المؤمنين.
وهذه السكينة تشتمل على النور.. والقوة.. والروح.
فبالروح الذي فيها حياة القلب.. وبالنور الذي فيها استنارته وإشراقه.. وبالقوة ثباته وعزمه ونشاطه.
فالنور يكشف للعبد عن دلائل الإيمان، ويميز له بين الحق والباطل، والهدى والضلال، والغي والرشد.. والحياة توجب كمال يقظته وفطنته.. والقوة توجب له الصدق وصحة المعرفة.. وقهر داعي الغي.. وضبط النفس عن جزعها وهلعها.. واسترسالها في النقائص والعيوب.. ولكي يزداد بالسكينة إيمانًا مع إيمانه.
والإيمان يثمر له النور والحياة والقوة، فإذا حصلت هذه الثلاثة بالسكينة، سكن إليها العاصي، وهو الذي سكونه إلى المعصية والمخالفة، لعدم سكينة الإيمان في قلبه، صار سكونه إليها عوض سكونه عن الشهوات والمخالفات.
فيجد في هذه السكينة مطلوبه، وهي اللذة التي كان يطلبها في المعصية، فإذا نزلت عليه السكينة اعتاض بلذتها وروحها ونعيمها عن لذة المعصية، وصارت لذته روحانية قلبية، بعد أن كانت لذته جسمانية بهيمية، وسكن خوفه، وذهب همه وغمه.
فالسكينة: هي طمأنينة القلب واستقراره.. وأصلها في القلب.. ويظهر أثرها على الجوارح.. والناس فيها متفاوتون:(1/54)
فسكينة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أخص مراتبها وأعلاها، وذلك مثل السكينة التي نزلت على إبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم حين ألقي في النار التي أضرمها له أعداؤه.
فلله عظمة وطمأنينة تلك السكينة التي أنزلها الله على قلبه.
وكذلك السكينة التي حصلت لموسى صلى الله عليه وسلم وقد غشيه فرعون وجنوده من ورائهم، والبحر أمامهم.
فلله ما ألذ تلك السكينة التي أنزلها الله على قلب موسى صلى الله عليه وسلم حين ضرب البحر، وحين عبر البحر، وحين رأى أعداءه يغرقون في البحر.
وكذلك السكينة التي حصلت له وقت تكليم الله له عند الشجرة.
وكذلك السكينة التي حصلت له وقد رأى العصا ثعبانًا مبينًا أمام فرعون وملئه.
وكذلك السكينة التي نزلت عليه وقد رأى حبال السحرة وعصيهم كأنها حيات تسعى، فأوجس في نفسه خيفة، ثم ألقى عصاه التي ابتلعت تلك العصي والحبال.
فلله عظمة تلك السكينة حين رأى فعل ربه بعدوه، ونصره لنبيه.
وكذلك السكينة التي حصلت لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم في الغار، وقد أشرف عليه أعداؤه، فصرفهم الله عنه.
فلله كم لذة تلك السكينة التي رأى فيها حفظ وليه من كيد أعدائه.
وكذلك السكينة التي نزلت عليه صلى الله عليه وسلم في مواقفه العظيمة، وأعداء الله قد أحاطوا به في يوم بدر، ويوم الخندق، ويوم حنين، وغيرها.
فهذه السكينة أمر فوق عقول البشر، وهي آية عظيمة على صدق الأنبياء.
وأما سكينة أتباع الأنبياء، فتكون للمؤمنين بحسب متابعتهم، وهي سكينة الإيمان واليقين.
وهي سكينة تسكن القلوب عن الريب والشك، ولهذا أنزلها الله على المؤمنين في أصعب المواطن أحوج ما كانوا إليها كما قال الله سبحانه: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (4)) [الفتح: 4].(1/55)
ولما علم الله ما في قلوب المؤمنين من الاضطراب والقلق، وذلك حين منعتهم قريش من دخول بيت الله عام الحديبية، وعلم ما فيها من الإيمان والصدق والخير، وحب الله ورسوله ثبتها بالسكينة وأنزلها عليهم كما قال سبحانه: (لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا (18)) [الفتح: 18].
ومنها السكينة التي يجدها العبد عند القيام بوظائف العبودية، وهي التي تورث الخشوع والخضوع، وجمعية القلب على الله، بحيث يؤدي عبوديته بقلبه وبدنه قانتًا لله عز وجل.
والخشوع نتيجة هذه السكينة، وثمرتها، وخشوع الجوارح نتيجة خشوع القلب.
والأسباب المؤدية إلى السكينة سببها استيلاء مراقبة العبد لربه جل جلاله حتى كأنه يراه.
وكلما اشتدت هذه المراقبة أوجبت له من الحياء والسكينة، والمحبة والخضوع، والخوف والرجاء، ما لا يحصل بدونها، فالمراقبة أساس الأعمال القلبية كلها.
وقد جمع النبي صلى الله عليه وسلم أصول أعمال القلوب وفروعها كلها في كلمة واحدة، وهي قوله: «الإحسان: أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ » متفق عليه(1).
وكل عبد محتاج إلى السكينة عند الوساوس المعترضة، وعند الخطرات السيئة، ليثبت قلبه ولا يزيغ، وعند المخاوف ليثبت قلبه ويسكنه جأشه، وعند الفرح، لئلا يطمح به مركبه فيجاوز الحد، وعند هجوم الأسباب المؤلمة، لئلا ييأس ويقنط.
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (50)، واللفظ له، ومسلم برقم (9).(1/56)
ولهذا أنزل الله السكينة على رسوله وعلى المؤمنين في مواقع القلق والاضطراب، كيوم الهجرة حينما أحاط المشركون بالغار، كما قال الله سبحانه: (إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ {40}) [التوبة: 40].
وكيوم حنين حين ولى المؤمنون مدبرين من شدة بأس الكفار، كما قال سبحانه: (ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ {26}) [التوبة: 26].
وكيوم الحديبية حين اضطربت قلوب المؤمنين من تحكم الكفار عليهم: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا {4}) [الفتح: 4].
وأما سكينة الوقار فهي نوع من السكينة، وسكينة الوقار كالضياء لتلك السكينة، كما يحصل الضياء عن الشمس.
وسكينة الوقار لها ثلاث درجات:
الأولى: سكينة الخشوع عند القيام للخدمة رعاية وتعظيمًا وحضورًا، فالخشوع في العبادة يكون برعاية حقوقها الظاهرة والباطنة، وتعظيم الخدمة وإجلالها، وذلك تبع لتعظيم المعبود وإجلاله ووقاره.
فعلى قدر تعظيمه في قلب العبد وإجلاله، يكون تعظيمه لخدمته وإجلاله ورعايته لها.(1/57)
وحضور القلب فيها بمشاهدة المعبود كأنه يراه، ويتقدم من مقام الإيمان إلى مقام الإحسان كما قال سبحانه: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ {16}) [الحديد: 16].
الثانية: السكينة عند المعاملة:
وتحصل بمحاسبة النفس، وملاطفة الخلق، ومراقبة الحق سبحانه.
فمحاسبة النفس حتى تعرف ما لها وما عليها، وزكاتها وطهارتها موقوف على محاسبتها.
وبمحاسبة النفس، يطلع على عيوبها ونقائصها، فيمكنه السعي في إصلاحها. وملاطفة الخلق بمعاملتهم بما يحب أن يعاملوه به من اللطف، ولا يعاملهم بالعنف والشدة والغلظة، فإن ذلك ينفرهم عنه، ويغريهم به، ويفسد عليه قلبه ووقته وحاله مع الله.
فليس للقلب شيء أنفع من معاملة الناس باللطف واللين، والحلم والرحمة.
فإن معاملة الناس بذلك ثمرته:
إما أجنبي تكسب مودته ومحبته.. وإما صاحب وحبيب فتستديم صحبته ومودته.. وإما عدو ومبغض فتطفئ بلطفك جمرته وتستكفي شره.
أما مراقبة الله سبحانه، فهي الموجبة لكل صلاح، وخير عاجل أو آجل، ومراقبة الحق سبحانه توجب إصلاح النفس، واللطف بالخلق.
الثالثة: السكينة التي تثبت الرضا بالقسم، وتمنع من الشطح، وتوقف صاحبها عند حده من رتبة العبودية.
فهذه الرتبة توجب لصاحبها أن يرضى بالمقسوم، ولا تتطلع نفسه إلى غيره، وهي من أعظم مواهب الحق جل وعلا، ومن أجلّ عطاياه.
ولهذا لم يجعلها الله في القرآن إلا لرسوله وللمؤمنين، والسكينة كأنها رداء ينزل، فيثبت القلوب الطائرة، ويهدئ الانفعالات الثائرة.
اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك.. وصرفها في طاعتك.. واهدنا لأحسن الأقوال والأعمال.. إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم.
- - - - - - - - - - - - - - -(1/58)
- فقه طمأنينة القلب(1)11
قال الله تعالى: (الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ {28}) [الرعد: 28].
وقال الله تعالى: (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ {27} ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً {28}) [الفجر: 27، 28].
الطمأنينة: سكون القلب إلى الشيء، وعدم اضطرابه وقلقه.
فالصدق مثلاً يطمئن إليه قلب السامع، والكذب يوجب له اضطرابًا وارتيابًا.
وذكر الله هو القرآن، وبه تحصل طمأنينة القلوب، فإن القلب لا يطمئن إلا بالإيمان واليقين، ولا سبيل إلى حصول الإيمان واليقين إلا من القرآن.
والفرق بين السكينة والطمأنينة:
أن الطمأنينة: سكون القلب مع قوة الأمن، والسكينة تصول على الهيبة الحاصلة في القلب فتخمدها في بعض الأحيان، فيسكن القلب في بعض الأوقات.
أما سكون أهل الطمأنينة فهو دائم، ويصحبه الأمن والراحة بوجود الأنس.
والطمأنينة أعم، فإنها تكون في العلم والخبر به واليقين والظفر بالمعلوم، ولهذا اطمأنت القلوب بالقرآن، لما حصل لها الإيمان به.
وأما السكينة فهي ثبات القلب عند هجوم المخاوف عليه وسكونه، وزوال قلقه واضطرابه.
والطمأنينة على ثلاث درجات:
الأولى: طمأنينة القلب بذكر الله عزَّ وجلَّ، وهي طمأنينة الخائف إلى الرجاء، فالخائف إذا طال عليه الخوف واشتد به، وأراد الله عزَّ وجلَّ أن يريحه ويحمل عنه، أنزل عليه السكينة، فاستراح قلبه إلى الرجاء واطمأن به.
__________
(1) - مجموع الفتاوى - (ج 3 / ص 329) ومجموع الفتاوى - (ج 7 / ص 426)وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 4 / ص 10117) وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 5 / ص 2102) وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 9 / ص 1061) وبريقة محمودية في شرح طريقة محمدية وشريعة نبوية - (ج 4 / ص 404) وغذاء الألباب في شرح منظومة الآداب - (ج 1 / ص 114) ومدارج السالكين - (ج 5 / ص 50)(1/59)
وطمأنينة الضجر إلى الحكم، فإن من أدركه الضجر من قوة التكاليف، وأعياه الأمر، لا سيما من يقوم بدعوة الناس إلى الخير وتعليمهم، وجهاد أعداء الله ونحو ذلك، فلا بدَّ أن يدركه الضجر، ويضعف صبره.
فإذا أراد الله أن يريحه ويحمل عنه، أنزل الله عليه سكينته، فاطمأن إلى حكمه الديني، وحكمه القدري.
وبحسب مشاهدة العبد لهما تكون طمأنينته وراحته، بل لذته.
فإذا اطمأن إلى حكمه الديني علم أنه دينه الحق، وهو صراطه المستقيم، وهو ناصره وناصر أهله وكافيهم.
وإذا اطمأن إلى حكمه الكوني، علم أنه لن يصيبه إلا ما كتب الله له، وأنه ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، فلا وجه للجزع والقلق إلا ضعف الإيمان واليقين.
فكل محذور، وكل مخوف، إن لم يقدر فلا سبيل إلى وقوعه، وإن قُدر فلا سبيل إلى صرفه، بعد أن أبرم تقديره العليم القدير.
وأما طمأنينة المبتلى إلى المثوبة، فإن المبتلى إذا قويت مشاهدته للمثوبة سكن قلبه، واطمأن قلبه بمشاهدة العوض.
وإنما يشتد عليه البلاء إذا غاب عنه ملاحظة الثواب على البلاء.
وقد تقوى ملاحظة الثواب حتى يستلذ بالبلاء ويراه نعمه، كالدواء الكريه يلتذ به لملاحظة نفعه.
الثانية: طمأنينة الروح إلى الطريق الموصل إلى المطلوب، ومعرفة عيوب النفس، وآفات الأعمال، ومعرفة المطلوب المقصود بالسير، وهو معرفة الأسماء والصفات، والإيمان والتوحيد.
فتسكن النفس لذلك، وتطمئن إليه، كما يطمئن الجائع الشديد الجوع إلى ما عنده من الطعام، ويسكن إليه قلبه.
الثالثة: طمأنينة القلب إلى لطف الله عند شهوده ذات الله وأسمائه وصفاته وأفعاله، فلولا الطمأنينة لمحقه الشهود، فقد خرَّ موسى صلى الله عليه وسلم صعقًا لمّا تجلّى ربُّه للجبل.
وتدكدك الجبل وساخ في الأرض من تجليه سبحانه، وكذلك القلب السليم يرى الحق سبحانه وحده قائمًا بذاته، ويرى كل شيء قائمًا به.
والله عزَّ وجلَّ قد فاوت بين قوى القلوب أشد من تفاوت قوى الأبدان.(1/60)
والطمأنينة إلى الله سبحانه حقيقة ترد منه سبحانه على قلب عبده، تجمعه عليه، وترد قلبه الشارد إليه، حتى كأنه جالس بين يديه، يسمع به، ويبصر به، ويتحرك به، ويبطش به.
فتسري تلك الطمأنينة في نفسه وقلبه ومفاصله، وقواه الظاهرة والباطنة تجذب روحه إلى الله، ويلين جلده ومفاصله وقلبه إلى خدمته والتقرب إليه.
ولا يحصل ذلك إلا بالله وبذكره، وهو كلامه الذي أنزله على رسوله كما قال سبحانه: (الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ {28}) [الرعد: 28].
وحقيقة الطمأنينة التي تصير بها النفس مطمئنة:
أن تطمئن في باب معرفة أسماء الله وصفاته إلى خبره الذي أخبر به عن نفسه، وأخبرت به عنه رسله.
فتتلقاه بالقبول والتسليم والإذعان، وانشراح الصدر له، وفرح القلب به، فلا يزال القلب في أعظم القلق والاضطراب، حتى يخالط الإيمان بأسماء الرب وصفاته وتوحيده وعلوه على عرشه، وتكلمه بالوحي، بشاشة قلبه.
فيطمئن إليه، ويفرح به، ويلين له قلبه، حتى كأنه شاهد الأمر كما أخبرت به الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
فلا يبالي بعد ذلك بأي مخالف، فهذه أول درجات الطمأنينة.
ثم لا يزال يقوى كلما سمع آية متضمنة لصفة من صفات ربه، فهذه الطمأنينة أصل أصول الإيمان، التي قام عليها بناؤه.
ثم يطمئن إلى خبره بما بعد الموت من أمور البرزخ، وما بعدها من أهوال القيامة حتى كأنه يشاهد ذلك كله عيانًا.
وهذا حقيقة اليقين الذي وصف الله به أهل الإيمان بقوله: (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) [البقرة: 4].
فلا يحصل الإيمان بالآخرة حتى يطمئن القلب إلى ما أخبر الله به عنها.
والطمأنينة إلى أسماء الرب تعالى وصفاته نوعان:
طمأنينة إلى الإيمان بها وإثباتها واعتقادها.. وطمأنينة إلى ما تقتضيه وتوجبه من أثار العبودية.(1/61)
فالطمأنينة إلى القدر وإثباته والإيمان به، يقتضي الطمأنينة إلى مواضع الأقدار التي لم يؤمر العبد بدفعها ولا قدرة له على دفعها، فيسلم لها ويرضى بها، ولا يسخط ولا يشكو، ولا يضطرب إيمانه.
فلا يأسى على ما فاته، ولا يفرح بما آتاه ربه، لأن المصيبة فيه مقدرة قبل أن تصل إليه وقبل أن يخلق كما قال سبحانه: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ {11}) [التغابن: 11].
وهكذا سائر الصفات كالسمع والبصر، والمحبة والعلم، والرضا والغضب، فهذه طمأنينة الإيمان.
وأما طمأنينة الإحسان: فهي الطمأنينة إلى أمر الله امتثالاً وإخلاصًا ونصحًا، فلا يقدم على أمره إرادة ولا هوى ولا تقليدًا، فلا يسكن إلى شبهة تعارض خبره، ولا إلى شهوة تعارض أمره.
وعلامات هذه الطمأنينة:
أن يطمئن من قلق المعصية وانزعاجها، إلى سكون التوبة وحلاوتها وفرحتها، وكل عاصٍ في قلبه الخوف والقلق، ولكن سكر الشهوة والغفلة يواري عنه ذلك الخوف والقلق.
ولكل شهوة سكر يزيد على سكر الخمر، وكذلك الغضب له سكر أعظم من سكر الشراب.
وكذلك يطمئن من قلق الغفلة والإعراض، إلى سكون الإقبال على الله وحلاوة ذكره، وتعلق الروح بحبه ومعرفته.
وإذا اطمأنت النفس وترحلت من الشك إلى اليقين.. ومن الجهل إلى العلم.. ومن الغفلة إلى الذكر.. فقد باشرت روح الطمأنينة.(1/62)
وأصل ذلك كله ومنشؤه من اليقظة، فهي أول مفاتيح الخير، فإن الغافل عن الاستعداد للقاء ربه، والتزود لمعاده، بمنزلة النائم، بل أسوأ حالاً منه، كما قال سبحانه: (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آَذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ {179}) [الأعراف: 179].
اللهم: (رَبَّنَا آَمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ {53}) [آل عمران: 53].
- - - - - - - - - - - - - - - -
12- فقه سرور القلب(1)
قال الله تعالى: (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ {58}) [يونس: 58].
وقال الله تعالى: (فَرِحِينَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ {170}) [آل عمران: 170].
الله عزَّ وجلَّ أمر عباده بالفرح بفضله ورحمته، وذلك تابع للفرح والسرور بصاحب الفضل والرحمة.
فإن من فرح بما يصل إليه من جواد كريم، محسن بر، يكون فرحه بمن أوصل ذلك إليه أولى وأحرى.
والفرح: لذة تقع في القلب بإدراك المحبوب، ونيل المشتهى، والسلامة من المكروه.
فيتولد من ذلك حالة تسمى الفرح والسرور.
__________
(1) - لقاءات الباب المفتوح - (ج 122 / ص 5) وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 9 / ص 6258) والموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 7827) ومدارج السالكين - (ج 3 / ص 54) و مدارج السالكين - (ج 4 / ص 29) وموسوعة خطب المنبر - (ج 1 / ص 144) وموسوعة خطب المنبر - (ج 1 / ص 3885) وموسوعة فقه القلوب - (ج 3 / ص 44)(1/63)
كما أن الحزن والغم من فقد المحبوب، وحصول المكروه، فيتولد من ذلك حالة تسمى الحزن والغم.
ولا شيء أحق أن يفرح العبد به من فضل الله ورحمته التي تتضمن الموعظة، وشفاء الصدور من أدواء الجهل والظلم، والغي والسفه، وهو أشد ألمًا لها من أدواء البدن، ويشتد ألمها به عند مفارقة الدنيا، فهناك يحضرها كل مؤلم محزن. وما آتاها من ربها من الهدى، الذي يتضمن ثلج الصدور باليقين، وطمأنينة القلب به، وسكون النفس إليه، فذلك خير من كل ما يجمع الناس من أعراض الدنيا وزينتها.
فهذا ليس بموضع فرح، لأنه عرضة للآفات، ووشيك الزوال.
وقد جاء الفرح في القرآن على نوعين:
فرح مطلق.. وفرح مقيد.
فالمطلق جاء في الذم كقوله سبحانه عن قارون: (إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآَتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ {76}) [القصص: 76].
والمقيد نوعان:
الأول: فرح مقيد بالدنيا، ينسي صاحبه فضل الله ورحمته فهو مذموم كما قال سبحانه: (فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ {44}) [الأنعام: 44].
الثاني: فرح مقيد بفضل الله ورحمته، فهو محمود كالفرح بالله ورسوله، والفرح بالإيمان والسنة والقرآن كما قال سبحانه: (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ {58}) [يونس: 58].(1/64)
والفرق بين الفرح والاستبشار، أن الفرح بالمحبوب بعد حصوله، والاستبشار يكون بالمحبوب قبل حصوله، إذا كان على ثقة من حصوله كما قال سبحانه: (فَرِحِينَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ {170}) [آل عمران: 170].
فالفرح أعلى وأعظم نعيم القلب ولذته وبهجته، والفرح والسرور نعيمه، والهم والحزن عذابه.
والسرور: اسم لاستبشار جامع يظهر أثره على الوجه، فإنه تبرق منه أسارير الوجه.
والاستبشار: مأخوذ من البشرى، والبشارة: أول خبر صادق سار، سميت بذلك لأنها تؤثر في بشرة الوجه بالنور والسرور.
والبشرى نوعان:
بشرى سارة.. وبشرى محزنة.
فالأولى: تكسب الوجه نضرة وبهجة.
والثانية: تكسبه سوادًا، وعبوسًا.
والبشرى إذا أطلقت كانت للسرور، وإذا قيدت كانت بحسب ما تقيد به من الأحوال.
والسرور على ثلاث مراتب:
الأولى: سرور ذوق طعم الإيمان، والإقبال على الله، والأنس به، وحلاوة مناجاته، والتلذذ بعبادته.
ففي القلب شعث لا يلمه إلا الإقبال على الله، وفيه وحشة لا يزيلها إلا الأنس بالله، وفيه حزن لا يذهبه إلا السرور بمعرفة الله، وصدق معاملته، وفيه قلق لا يسكنه إلا الالتجاء إليه، والفرار منه إليه.
وفيه نيران حسرات لا يطفئها إلا الرضا بأمره ونهيه، والتسليم لقضائه وقدره، وفيه فاقة لا يسدها إلا محبته، والإنابة إليه، ودوام ذكره.
الثانية: سرور شهود العبد آلاء ربه ونعمه، وجماله وجلاله، فيقبل على الطاعات مسرورًا، لأنه يراها غذاءً لقلبه، وسرورًا له، وقرة عين في حقه، ونعيمًا لروحه، يلتذ بها، ويتنعم بملابستها، أعظم مما يتنعم بملابسة الطعام والشراب.
فاللذات القلبية الروحانية أقوى وأتم من اللذات الجسمية، فلا يجد في العبادات كلفة، بل يسر بها، ويتلذذ بتكرارها والإكثار منها.(1/65)
الثالثة: سرور سماع الإجابة، وهو سماع انقياد القلب والروح والجوارح لما سمعته الآذان، ويزيل بقايا الوحشة التي سببها ترك الانقياد التام.
وهو إذا دعا ربه سبحانه فسمع ربه دعاءه سماع إجابة، وأعطاه ما سأله أو أعطاه خيرًا منه، حصل له بذلك سرور يمحو من قلبه آثار ما كان يجده من وحشة البعد.
فللعطاء والإجابة سرور وأنس وحلاوة في قلب العبد.
وللمنع وحشة ومرارة وضيق.
والفرح أعلى أنواع نعيم القلب ولذته وبهجته، ولا لذة له ولا سرور إلا بأن يكون ربه معبوده ومحبوبه ومطلوبه.
والفرح بالشيء فوق الرضا به، فإن الرضا طمأنينة وسكون وانشراح، والفرح لذة وبهجة وسرور، فكل فرح راضٍ، وليس كل راضٍ فرحًا.
والفرح صفة كمال، ولهذا يوصف الرب جل جلاله بأعلى أنواعه وأكملها، كفرحه سبحانه بتوبة التائب أعظم من فرحة الواجد لراحلته، التي عليها طعامه وشرابه، في الأرض المهلكة، بعد فقده لها، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : « لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ الْمُؤْمِنِ مِنْ رَجُلٍ فِى أَرْضٍ دَوِيَّةٍ مَهْلَكَةٍ مَعَهُ رَاحِلَتُهُ عَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ فَنَامَ فَاسْتَيْقَظَ وَقَدْ ذَهَبَتْ فَطَلَبَهَا حَتَّى أَدْرَكَهُ الْعَطَشُ ثُمَّ قَالَ أَرْجِعُ إِلَى مَكَانِى الَّذِى كُنْتُ فِيهِ فَأَنَامُ حَتَّى أَمُوتَ. فَوَضَعَ رَأْسَهُ عَلَى سَاعِدِهِ لِيَمُوتَ فَاسْتَيْقَظَ وَعِنْدَهُ رَاحِلَتُهُ وَعَلَيْهَا زَادُهُ وَطَعَامُهُ وَشَرَابُهُ فَاللَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ الْعَبْدِ الْمُؤْمِنِ مِنْ هَذَا بِرَاحِلَتِهِ وَزَادِهِ ». متفق عليه(1).
والفرق بين فرح القلب، وفرح النفس ظاهر.
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6309)، ومسلم برقم (2747)، واللفظ له.(1/66)
فإن الفرح بالله ومعرفته ومحبته ومحبة كلامه ودينه من القلب كما قال الله سبحانه: (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ {58}) [يونس: 58].
فهذا فرح القلب وهو من الإيمان، ويثاب عليه العبد.
والفرح يكون على قدر المحبة.. وعلى قدر المعرفة.
فالفرح بالله وأسمائه وصفاته ورسوله وسنته وكلامه محض الإيمان وصفوته ولبه، وله عبودية عجيبة، وأثر في القلب لا يعبر عنه، والفرح بذلك أفضل ما يعطاه العبد، بل هو أجلّ عطاياه.
والفرح في الآخرة بالله ولقائه، بحسب الفرح به، ومحبته في الدنيا.
فهذا شأن فرح القلب.
وله فرح آخر، وهو فرحه بما من الله به عليه من معاملته، والإخلاص له، والتوكل عليه، والثقة به، وحسن عبادته.
وله فرحة أخرى عظيمة الشأن، وهي الفرحة التي تحصل له بالتوبة، فإن لها فرحة عجيبة لا نسبة لفرحة المعصية إليها البتة.
وسر هذا الفرح، إنما يعلمه من علم سر فرح الرب تعالى بتوبة عبده أشد من فرح العبد الذي أضل راحلته في أرض فلاة ثم وجدها.
وفوق ذلك فرحة أعظم من هذا كله، وهي فرحته عند مفارقته الدنيا إلى الله، إذا أرسل الله إليه الملائكة فبشروه بلقائه، وقال له ملك الموت: أخرجي أيتها الروح الطيبة كانت في الجسد الطيب، أبشري بروح وريحان، ورب غير غضبان، فترجع الروح الطيبة إلى ربها راضية مرضية: (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ {27} ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً {28} فَادْخُلِي فِي عِبَادِي {29} وَادْخُلِي جَنَّتِي {30}) [الفجر: 27-30].
ومن بعدها أنواع من الفرح:
منها: صلاة الملائكة الذين بين السماء والأرض على روحه، وفتح أبواب السماء لها، وصلاة ملائكة السماء عليها، وكيف يقدر فرحها، وقد استؤذن لها على ربها ووليها فوقفت بين يديه، وأذن لها بالسجود فسجدت.(1/67)
ثم يذهب إلى الجنة فيرى مقعده فيها، وما أعد الله له، ويلقى أهله وأصحابه فيستبشرون به ويفرحون.
وهذا كله قبل الفرح الأكبر يوم حشر الأجساد: بجلوس المؤمن في ظل العرش.. وشربه من الحوض.. وأخذه كتابه بيمينه.. وثقل ميزانه.. وبياض وجهه.. وإعطائه النور التام.. وقطعه جسر جهنم.. وانتهائه إلى باب الجنة.
وقد أزلفت له في الموقف كما قال سبحانه: (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ {31}) [ق: 31].
وتلقاه خزنتها بالسلام والترحيب والبشارة والإكرام.
وقدومه عل منازله وقصوره وأزواجه.
والنعيم الذي لم تره عين، ولم تسمعه أذن، ولم يخطر على قلب بشر.
فلله ما أعظم هذا النعيم، وما أشد فرح العبد به.. وما أخسر من أضاعه.
وبعد ذلك فرح آخر لا يقدر قدره، تتلاشى هذه الأفراح والمسرات عنده، وهو رؤية المؤمنين لربهم، وسلامه عليهم، ورضاه عنهم، وتكليمه إياهم كما قال سبحانه: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ {22} إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ {23}) [القيامة: 22، 23].
- - - - - - - - - - - - - - - - - -
- فقه خشوع القلب(1)13
قال الله تعالى: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ {16}) [الحديد: 16].
__________
(1) - مجموع الفتاوى - (ج 7 / ص 29) ومجموع الفتاوى - (ج 11 / ص 590) وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 4 / ص 3456) وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 5 / ص 387) والرسالة القشيرية - (ج 1 / ص 68) وقوت القلوب - (ج 1 / ص 327) وبريقة محمودية في شرح طريقة محمدية وشريعة نبوية - (ج 4 / ص 215) ومدارج السالكين - (ج 3 / ص 31) و موسوعة خطب المنبر - (ج 1 / ص 257) وموسوعة فقه القلوب - (ج 3 / ص 48)(1/68)
وقال الله تعالى: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ {1} الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ {2}) [المؤمنون: 1، 2].
الله تبارك وتعالى هو الواحد القهار، ذو الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة، الذي خضعت رقاب العباد لعظمته، وخشعت الأصوات لهيبته، وذل الأقوياء لعزته، وافتقرت جميع الخلائق إليه.
والخشوع: قيام القلب بين يدي الرب بالخضوع والذل.
ومحله القلب، وثمرته على الجوارح، فإن حسن أدب الظاهر عنوان أدب الباطن، والكمال الخارجي ثمرة الكمال الداخلي.
فالخشوع معنى يلتئم من:
التعظيم للرب.. والمحبة له.. والذل له.. والانكسار بين يديه.
والخشوع أربعة أنواع:
الأول: اتضاع القلب والجوارح وانكسارها لنظر الرب إليها، وهو مقام الرب على عبده بالإطلاع والقدرة والربوبية، فخوفه من هذا المقام يوجب له خشوع القلب لا محالة، وكلما كان أشد استحضارًا لعظمة الرب وجلاله وجماله وإحسانه كان أشد خشوعًا.
الثاني: التذلل للأمر، بتلقيه بذلة القبول والانقياد والامتثال، مع إظهار الضعف والافتقار إلى الهداية للأمر قبل الفعل، والإعانة عليه حال الفعل، وقبوله بعد الفعل.
والاستسلام للحكم القدري، بعدم تلقيه بالتسخط والكراهة والاعتراض.
الثالث: ترقب آفات النفس وآفات العمل، وذلك بانتظار ظهور نقائص نفسك وعملك وعيوبهما لك.
فذلك يجعل القلب خاشعًا لمطالعة عيوب نفسه وأعماله ونقائصهما، من الكبر والعجب والرياء، وقلة اليقين، وتشتت النية، وعدم إيقاع العمل على الوجه الذي ترضاه لربك، ورؤية فضل كل ذي فضل عليك.
وذلك بأداء حقوق الناس، وعدم مطالبتهم بحقوق نفسك، وتعترف بفضلهم، وتنسى فضل نفسك عليهم.(1/69)
الرابع: ضبط النفس بالذل والانكسار عن البسط والإدلال الذي تقتضيه المكاشفة، وأن يخفى أحواله عن الخلق جهده، كخشوعه وذله وانكساره، لئلا يراها الناس، فيعجبه اطلاعهم عليها، ورؤيتهم لها، فيفسد عليه وقته وقلبه وحاله مع الله، فلا شيء أنفع للصادق من التحقق بالمسكنة والفاقة والذل.
وأن لا يرى الفضل والإحسان إلا من الله، فهو المانّ به بلا سبب منك. والشهقة التي تعرض أحيانًا عند سماع القرآن أو عند ذكر الله لها أسباب منها:
أن يلوح له عند سماع القرآن والذكر درجة ليست له فيرتاح لها، فيشهق، فهذه شهقة شوق.
أو يلوح له ذنب ارتكبه فيشهق خوفًا، فهذه شهقة خشية.
أو يلوح له نقص في العمل لا يقدر على دفعه فيحدث حزنًا، فيشهق شهقة حزن.
أو يلوح له كمال محبوبه، ويرى الطريق إليه مسدودة، فيشهق شهقة أسف.
أو يذكره ذلك بمحبوبه، ويرى الطريق إليه مفتوحًا، فيشهق شهقة فرح وسرور.
أو يذكره ذلك جلال ربه وجماله، وإحسانه وإكرامه، فيرى الخلائق كلها تحت قهره، مدينين لفضله وإحسانه، فيشهق لما يرى من كمال عظمة الرب، وجميل إحسانه إلى عباده: (إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ {18}) [الحديد: 16].
إنه عتاب مؤثر من المولى الكريم الرحيم، واستبطاء للاستجابة الكاملة من تلك القلوب التي أفاض عليها من فضله.
فبعث إليها الرسول يدعوها إلى الإيمان بربها، وأنزل عليها الآيات البينات، ليخرجها من الظلمات إلى النور.
وأراها من آياته في الكون والخلق ما يبصر ويحذر.
إنه عتاب فيه الود، وفيه الحض، وفيه الاستجاشة إلى الشعور بجلال الله، والخشوع لذكره، وتلقي ما نزل من الحق بما يليق بجلال الله من الخشية والطاعة والاستسلام، مع رائحة التنديد والاستبطاء في السؤال.(1/70)
وإلى جانب الحض والاستبطاء، تحذير من عاقبة التباطؤ والتقاعس عن الاستجابة، وبيان لما يغشى القلوب من الصدأ حين يمتد بها الزمن بدون جلاء، وما تنتهي إليه من القسوة بعد اللين، حين تغفل عن ذكر الله، وحين لا تخشع للحق.
وليس وراء قسوة القلوب إلا الفسق والخروج: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ {16}) [الحديد: 16].
إن القلب البشري سريع التقلب، كثير النسيان، وفيه نور الفطرة، فإذا طال عليه الأمد بلا تذكير ولا تذكر تبلد وقسا، وأظلم وأعتم، فلا بدَّ من تذكير هذا القلب حتى يذكر ويخشع.
ولا بدَّ من الطرق عليه حتى يشف ويرق، ولا بدَّ من اليقظة الدائمة كي لا يصيبه التبلد والقساوة.
ولكن لا بأس من قلب خمد وجمد، وقسا وتبلد، فإنه يمكن أن تدب فيه الحياة، وأن يشرق فيه النور، وأن يخشع لذكر الله.(1/71)
فالله عزَّ وجلَّ يحيي الأرض بعد موتها، فتزخر بالنبات والأزهار، وتخرج الحبوب والثمار، وتصبح الأرض مخضرة بعد أن كانت مغبرة: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ {5}) [الحج: 5].
وكذلك القلوب حين يشاء الله، وفي هذا القرآن ما يحيي القلوب بالإيمان، كما تحيا الأرض بالماء: (اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ {17}) [الحديد: 17].
والذي أحيا الأرض بعد موتها، قادر على أن يحيي الأموات بعد موتهم، فيجازيهم بأعمالهم.
والذي أحيا الأرض بعد موتها بماء المطر، قادر على أن يحيي القلوب الميتة بما أنزله من الحق على رسوله.
فمتى يجيء الوقت الذي تلين فيه القلوب، وتخشع لذكر الله الذي هو القرآن؟.. ومتى تنقاد لأوامره وزواجره؟.
ومتى يخشع القلب لربه، وما أنزله من الكتاب والحكمة؟.
ومتى نترقى من سمعنا وعصينا إلى سمعنا وأطعنا؟. ونقدم أوامر الرب على محبوبات النفس؟.. ونؤثر الحياة العالية على الشهوات الفانية؟.(1/72)
قال تعالى:( إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ {51}) [النور: 51]
ألا ما أحوج القلوب في كل وقت إلى أن تذكر بما أنزله الله، وتنطق بالحكمة والموعظة، لئلا تحصل لها الغفلة والقسوة وجمود العين: (نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآَنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ {45}) [ق: 45].
- - - - - - - - - - - - - - - - - -
14- فقه حياء القلب(1)
قال الله تعالى: (أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى {14}) [العلق: 14].
وقال الله تعالى: (يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا {1}) [النساء: 1].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «الإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً، أو بِضْعٌ وَسِتُّونَ شُعْبَةً، فَأَفْضَلُهَا قَوْلُ لا إلهّ إلاّ اللهُ، وَأَدْنَاهَا إماطَةُ الأذَى عَنِ الطَّريقِ، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الإِيمَانِ » أخرجه مسلم(2).
الحياء: رؤية الآلاء، ورؤية التقصير، فيتولد بينهما حالة تسمى الحياء.
والحياء خلق عظيم لا يأتي إلا بخير، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد حياء من العذراء في خدرها، فإذا رأى شيئًا يكرهه عرف في وجهه صلى الله عليه وسلم .
وحقيقة الحياء: خلق يبعث على ترك القبائح، ويمنع من التفريط في الطاعات والمحاسن، يتولد من امتزاج التعظيم بالمودة.
__________
(1) - موسوعة خطب المنبر - (ج 1 / ص 780) وموسوعة فقه القلوب - (ج 3 / ص 51)
(2) أخرجه مسلم برقم (35).(1/73)
وعلى حسب قوة حياة القلب تكون فيه قوة خلق الحياء، وقلة الحياء من موت القلب والروح.
ومن استحى من الله مطيعًا، استحى الله منه وهو مذنب، لكرامته عليه، فيستحي أن يرى من وليه ومن يكرم عليه ما يشينه عنده.
والحياء خلق جميل، خص الله به الإنسان دون جميع الحيوان.
وهو أفضل الأخلاق وأجلها وأعظمها قدرًا، وأكثرها نفعًا.
بل هو خاصة الإنسانية، فمن لا حياء فيه ليس معه من الإنسانية إلا اللحم والدم وصورتهما الظاهرة.
ولولا خلق الحياء لم يقر الضيف.. ولم يوف بالعهد.. ولم تؤد أمانة.. ولم تقضَ لأحد حاجة.. ولا ستر له عورة.. ولا آثر الجميل على القبيح من الأقوال والأعمال.. ولا امتنع من فاحشة.
وكثير من الناس لولا الحياء الذي فيه لم يؤد شيئًا من الأمور المفروضة عليه، ولم يرع لمخلوق حقًا، ولم يصل له رحمًا، ولا بر له والدًا.
فإن الباعث على هذه الخصال الحميدة:
إما ديني: وهو رجاء عاقبتها الحميدة.
وإما دنيوي علوي: وهو حياء فاعلها من الخلق.
فلولا الحياء إما من الخالق أو من الخلائق لم يفعلها صاحبها.
قال النبي صلى الله عليه وسلم : «إِنَّ مِمَّا أدْرَكَ النَّاسُ مِنْ كَلامِ النُّبُوَّةِ: إِذَا لَمْ تَسْتَحْيِ فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ» أخرجه البخاري(1).
فالرادع عن فعل القبيح إنما هو الحياء، فمن لم يستح فإنه يصنع ما يشاء، ولكل إنسان آمران وزاجران:
آمر وزاجر من جهة الحياء.. وآمر وزاجر من جهة الهوى والطبيعة.
فمن لم يطع آمر الحياء وزاجره، أطاع آمر الهوى والشهوة كما قال سبحانه: (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا {59}) [مريم: 59].
وحياء البشر على عشرة أوجه:
__________
(1) أخرجه البخاري برقم (3484).(1/74)
حياء جناية.. وحياء تقصير.. وحياء إجلال.. وعلى حسب معرفة العبد بربه يكون حياؤه منه.. وحياء كرم.. وحياء حشمة.. وحياء استصغار للنفس واحتقار لها.. وحياء محبة.. وهو حياء المحب من محبوبه.
وحياء عبودية.. وهو حياء ممتزج من محبة وخوف، ومشاهدة عدم صلاح عبوديته لمعبوده سبحانه، وأن قدره أعلى وأجل منها، فعبوديته له توجب استحياءه منه لا محالة.
وحياء الشرف والعزة.. وهو حياء النفس العظيمة الكبيرة، إذا صدر منها ما هو دون قدرها من بذل أو عطاء أو إحسان، فإنه يستحي مع بذله حياء شرف نفس وعزة.
وحياء المرء من نفسه.. وهو حياء النفوس الشريفة العزيزة الرفيعة من رضاها لنفسها بالنقص، وقناعتها بالدون، فيجد نفسه مستحيًا من نفسه.
وهذا أكمل ما يكون من الحياء، فإن العبد إذا استحى من نفسه، فهو بأن يستحي من غيره أجدر.
والحياء على ثلاث درجات:
الدرجة الأولى: حياء يتولد من علم العبد بنظر الحق إليه، وذلك يجذبه إلى احتمال أعباء الطاعة، ويحمله على استقباح الجناية، وأرفع منه درجة الاستقباح الحاصل عن المحبة، فاستقباح المحب أتم من استقباح الخائف.
وهذا الحياء يكف العبد أن يشتكي لغير الله، فيكون قد شكى الله إلى خلقه.
الثانية: حياء يتولد من النظر في علم القرب من الله، فيدعوه إلى ركوب المحبة، والله قريب من أوليائه وأهل طاعته، وكلما ازداد العبد حبًا ازداد قربًا.
والقرب نوعان:
قربه سبحانه من داعيه بالإجابة.. وقربه من عابده بالإثابة، وهؤلاء هم أهل طاعته.
فالأول: كقوله سبحانه: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ {186}) [البقرة: 186].
والثاني: كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : «أقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ، فَأكْثِرُوا الدُّعَاءَ» أخرجه مسلم(1).
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (482).(1/75)
الثالثة: حياء يتولد من انجذاب الروح والقلب من الكائنات، وعكوفه على رب البريات، فهو في حضرة قربه مشاهدًا لربه، وإذا وصل القلب إليه غشيته الهيبة والإجلال لمولاه.
فلا يخطر بباله في تلك الحال سوى الله وحده، فهو سبحانه ليس له غاية ولا نهاية لا في وجوده، ولا في مزيد جوده.
فهو الأول الذي ليس قبله شيء.. وهو الآخر الذي ليس بعده شيء.. ولا نهاية لحمده وعطائه.. ولا نهاية لعظمته وجلاله.
وكلما ازداد العبد شكرًا زاده الله فضلاً، وكلما ازداد له طاعة زاده لمجده وكرمه مثوبة.
وأهل الجنة في مزيد دائم بلا انتهاء، فإن نعيمهم متصل بمن لا نهاية لفضله ولا لعطائه، ولا لمزيده ولا لأوصافه، فتبارك الله رب العالمين، الرزاق ذو القوة المتين: (إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ {54}) [ص: 54].
اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل.. ونعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل.
- - - - - - - - - - - - - - - -
15- أسباب مرض القلب والبدن
قال الله تعالى: (يَا بَنِي آَدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ {31}) [الأعراف: 31].
وقال الله تعالى: (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آَذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ {179}) [الأعراف: 179].
مرض البدن: خروجه عن اعتداله الطبيعي لفساد يعرض له، يفسد به إدراكه، وحركته الطبيعية.
فإما أن يذهب إدراكه بالكلية كالعمى والصمم، وإما أن ينقص إدراكه لضعف في الآلات، وإما أن يدرك الأشياء على خلاف ما هي عليه كما يدرك الحلو مرًا، والطيب خبيثًا.(1/76)
وأما فساد حركته الطبيعية فمثل أن تضعف قوته الهاضمة، أو الماسكة، أو الدافعة، أو الجاذبة.
فيحصل له من الألم بحسب خروجه عن الاعتدال، وسبب هذا الخروج عن الاعتدال:
إما فساد في الكمية.. وإما فساد في الكيفية.
فالأول: إما لنقص في المادة فيحتاج إلى زيادتها، وإما لزيادة فيها فيحتاج إلى نقصها.
والثاني: إما بزيادة الحرارة، أو البرودة، أو الرطوبة، أو اليبوسة، أو نقصانها عن القدر الطبيعي.
فيداوى بمقتضى ذلك.
والصحة تقوم على ثلاثة أصول:
حفظ القوة.. والحمية عن المؤذي.. واستفراغ المواد الفاسدة.
ونظر الطبيب دائر على هذه الأصول الثلاثة.
وإذا عُرف هذا فالقلب محتاج إلى ما يحفظ عليه قوته.. وهو الإيمان والطاعات.
ومحتاج إلى حمية من الضار المؤذي.. وذلك باجتناب الآثام والمعاصي.. وأنواع المخالفات.
ومحتاج إلى استفراغه من كل مادة فاسدة تعرض له، وذلك بالتوبة النصوح ولزوم الاستغفار.
ومرض القلب: هو نوع فساد يحصل له، يفسد به تصوره للحق، وإرادته له، فلا يرى الحق حقًا، أو يراه خلاف ما هو عليه، أو ينقص إدراكه له، وتفسد به إرادته له.
فيبغض الحق النافع، أو يحب الباطل الضار، أو يجتمعان له وهو الغالب.
ولما كان البدن المريض، يؤذيه ما لا يؤذي الصحيح، من يسير الحر والبرد والحركة، فكذلك القلب إذا كان فيه مرض آذاه أدنى شيء من الشبهة أو الشهوة، وحتى لا يقوى على دفعها إذا وردا عليه.
والقلب الصحيح يطرقه أضعاف ذلك فيدفعه بقوته وصحته.
وإذا أظلم القلب رأى المخلوق يفعل، وإذا استنار القلب بالإيمان رأى الفاعل الحقيقي هو الله وحده.
وبقدر قوة اليقين على عظمة الله، تكون قوة الإيمان، ثم تكون قوة الأعمال، ثم حصول البركات.
وأعظم أسباب مرض القلب هي:
الغفلة عن الله.. والغفلة عن أوامر الله.. والغفلة عن اليوم الآخر.
فالغفلة عن الله سببها قلة ذكره، وتعلق القلب بغيره من المحبوبات.(1/77)
والغفلة عن أوامر الله سببها عدم الرغبة فيها، وإيثار الشهوات عليها، وتعلق القلب بالهوى والشيطان.
والغفلة عن اليوم الآخر سببها قلة المذكر بالموت والحشر، والجنة والنار.
وإذا تمت الغفلة بأركانها الثلاثة.. ثقلت على العبد الطاعات.. وشمرت النفس للمعاصي.. وآثرت الدنيا على الآخرة.. وقدمت الشهوات على أوامر الله.. وتجاوزت العدل إلى الإسراف.. وقدمت مراد النفس على مراد الرب كما قال سبحانه: (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا {59}) [مريم: 59].
فغذاء البدن بالطيبات، وغذاء القلب بالإيمان والأعمال الصالحة.
ولما كانت أعمال القلب، وأعمال البدن مستمرة، فلا بدَّ من الغذاء اليومي لهما.
فالبدن يصح على أكل الطيبات.. ويعتل يأكل الخبائث.
فكذلك القلب يزكو ويصح بمعرفة الطيب من القول.. وهو معرفة الله بأسمائه وصفاته.. ومعرفة جلاله وعظمته.. ومعرفة نعمه وآلائه.. ومعرفة وعده ووعيده.. ومعرفة دينه وشرعه.
ويفسد القلب بالجهل بذلك، واتباع الهوى، وطاعة الشيطان، والإعراض عن الله ورسوله ودينه.
- - - - - - - - - - - - - -
16- مفسدات القلب
قال الله تعالى: (لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا {22}) [الإسراء: 22].
وقال الله تعالى: (وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ {25}) [الرعد: 25].
مفسدات القلوب كثيرة ويجمعها خمسة أمور:
الأول: كثرة مخالطة الناس:
فامتلاء القلب من دخان أنفاس بني آدم حتى يسود، يوجب له تشتتًا وتفرقًا، وهمًا وغمًا، وإضاعة مصالحه، والاشتغال عن مصالحه بهم، وتقسم فكره في أودية مطالبهم ومجالسهم.
فماذا يبقى منه لله والدار الآخرة؟.(1/78)
وكم جلبت خلطة الناس من نقمة، ودفعت من نعمة؟.
وكل المشتركين في تحصيل غرض، يتوادون ما داموا متساعدين على حصوله، فإذا انقطع ذلك الغرض، أعقب ندامة وحزنًا، وانقلبت تلك المودة بغضًا، ولعنة من بعضهم لبعض إلا ما شاء الله.
ومحكم القول في أمر الخلطة:
أن يخالط الإنسان الخلق في الخير كالجمعة والجماعة.. والأعياد والحج.. والدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.. والعلم والجهاد.. والنصيحة وبذل المعروف.. ويعتزلهم في الشر.. وفضول المباحات.
فإن دعت الحاجة إلى خلطتهم في الشر، فليحذر أن يوافقهم، وليصبر على أذاهم، فإنهم لا بد أن يؤذوه، والصبر على أذاهم خير وأحسن عاقبة.
وإن دعت الحاجة إلى خلطتهم في فضول المباحات، فليجتهد أن يقلب ذلك المجلس إلى مجلس طاعة لله إن أمكنه، فإن عجز عن ذلك فليسل قلبه من بينهم كسل الشعرة من العجين.
وليكن فيهم حاضرًا غائبًا، قريبًا بعيدًا، ينظر إليهم ولا يبصرهم، ويسمع كلامهم ولا يعيه، لأنه قد أخذ قلبه من بينهم، ورقى به إلى الملأ الأعلى، مع الأرواح العلوية الزكية، ولا ينال هذا إلا بتوفيق الله وعونه.
المفسد الثاني: ركوبه بحر التمني.
وهو بحر لا ساحل له، وهو البحر الذي يركبه مفاليس العالم، وبضاعة ركابه مواعيد الشيطان، والخيالات، والأماني الكاذبة، وتلك بضاعة كل نفس مهينة خسيسة سفلية.
والناس متفاوتون في ذلك، وكل بحسب حاله:
فمِن متمَنٍّ للقدرة والسلطان.. وللضرب في الأرض.. والتطواف في البلدان.. أو متمنٍّ للأموال والأثمان.. أو للنسوة والمردان.. أو للعب واللهو.. أو للشهوات واللذات.
وصاحب الهمة العالية، أمانيه تحوم حول العلم والإيمان، والعمل الذي يقربه إلى الله، ويكون سبباً للفوز بالجنة.
فالقلوب جوالة منها ما يطوف حول العرش.. ومنها ما يطوف حول الحش.
والذي يتمنى الخير، ربما جعل الله أجره كأجر فاعله، كالقائل: لو أن لي مالاً لعملت فيه بعمل فلان الذي يتقى الله في ماله، ويصل فيه رحمه.(1/79)
وكما تمنى النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون متمتعًا وقد قرن، فأعطاه الله ثواب القران بفعله، وثواب التمتع الذي تمناه بأمنيته، فجمع له بين الأجرين، والله غني كريم.
الثالث: التعلق بغير الله تبارك وتعالى.
وهذا أعظم مفسدات القلب على الإطلاق.. فليس عليه أضر من ذلك.. ولا أقطع له عن مصالحه وسعادته منه.. فليحذره العبد.
فإنه إذا تعلق بغير الله وكله الله إلى ما تعلق به، وخذله من جهة ما تعلق به، وفاته تحصيل مقصوده من الله عزَّ وجلَّ بتعلقه بغيره، والتفاته إلى ما سواه.
فهو لا على نصيبه من الله حصل، ولا إلى ما أمله ممن تعلق به وصل.
فأعظم الناس خذلانًا من تعلق بغير الله.
وأساس الشرك وقاعدته التي بني عليها التعلق بغير الله، وصاحب ذلك مذموم مخذول كما قال سبحانه: (لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا {22}) [الإسراء: 22].
الرابع: الطعام.
والمفسد للقلب من الطعام نوعان:
أحدهما: ما يفسده لعينه وذاته كالمحرمات وهي نوعان:
محرم لحق الله كالميتة والدم ولحم الخنزير، وكل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير.
ومحرم لحق العباد كالمسروق والمغصوب والمنهوب، وما أخذ بغير رضا صاحبه، إما قهرًا، وإما حيلة.
الثاني: ما يفسده بقدره وتعدي حده كالإسراف في الحلال، والشبع المفرط، فإنه يشغله عن الطاعات، ويشغله بمزاولة مؤونة البطنة حتى يظفر بها، فإذا ظفر بها، شغله بمزاولة تصريفها والتأذي بثقلها، وقوي عليه مواد الشهوة، ووسع عليه طرق مجاري الشيطان، والشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، فكثرة الأكل يوسع طرق الشيطان في الإنسان، والصوم يضيق مجاريه، ويسد عليه طرقه.
الخامس: كثرة النوم:
فكثرة النوم تميت القلب، وتثقل البدن، وتضيع الأوقات، وتورث كثرة الغفلة والكسل.
والنوم درجات، فمنه المكروه جدًا، ومنه الضار غير النافع للبدن.(1/80)
وأنفع النوم: ما كان عند شدة الحاجة إليه، ونوم أول الليل أنفع وأحمد من آخره، ونوم وسط النهار أنفع من طرفيه.
وكلما قرب النوم من الطرفين قل نفعه، وكثر ضرره، ولا سيما نوم العصر، والنوم أول النهار إلا لسهران.
ويكره النوم بين صلاة الصبح وطلوع الشمس، فإنه وقت غنيمة، ووقت نزول الأرزاق والبركات، وأول النهار ومفتاحه، ومنه ينشأ النهار.
وأعدل النوم وأنفعه نوم نصف الليل الأول، وسدسه الأخير، وهو مقدار ثمان ساعات.
وهذا أعدل النوم عند الأطباء، وما زاد عليه، أو نقص منه، أثر عندهم في الطبيعة.
ومن النوم الذي لا ينفع، النوم أول الليل عقيب غروب الشمس، وهو مكروه شرعًا وطبعًا.
وكما أن كثرة النوم مورثة لهذه الآفات، فمدافعته وهجره مورث لآفات عظام، من سوء المزاج ويبسه، وانحراف النفس، وجفاف الرطوبات المعينة على الفهم والعمل، ويورث أمراضًا متلفة لا ينتفع صاحبها بقلبه ولا بدنه معها، وما قام الوجود إلا بالعدل.
وشياطين الإنس والجن يقتحمون النفس البشرية بسلاحين:
أحدهما: سلاح الشهوات، لإفساد سلوكه فيغوى: (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا {59}) [مريم: 59].
الثاني: سلاح الشبهات، لإفساد فكره فيضل: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آَيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ {7}) [آل عمران: 7].
وقد حث الله المؤمنين على مجاهدة هؤلاء الأعداء بسلاحين أمضى وأقوى:
أحدهما: سلاح الصبر، وبه يجتث شجرة الشهوات والأهواء.(1/81)
الثاني: اليقين الذي يحطم الشبهات والأوهام كما قال سبحانه: (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يُوقِنُونَ {24}) [السجدة: 24].
والذنوب والخطايا، والمعاصي والسيئات، توجب للقلب حرارة ونجاسة وضعفًا، فيرتخي القلب، وتضطرم فيه نار الشهوة وتنجسه.
فالخطايا والذنوب للقلب بمنزلة الحطب الذي يمد النار ويوقدها.
ولهذا كلما كثرت الخطايا اشتدت نار القلب، وضعف عن الطاعة.
والماء يغسل الخبث، ويطفئ النار.
فإن كان باردًا أورث الجسم صلابة وقوة، فإن كان معه ثلج وبرد كان أقوى في التبريد وصلابة الجسم وشدته، فكان أذهب لأثر الخطايا.
فالنجاسة التي تزول بالماء هي ومزيلها حسيان.
وأثر الخطايا التي تزول بالتوبة والاستغفار هي ومزيلها معنويان، وصلاح القلب ونعيمه وحياته لا يتم إلا بهذا.. وهذا كما قال الله تبارك وتعالى: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ {222}) [البقرة: 222].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : « اللَّهُمَّ بَاعِدْ بَيْنِى وَبَيْنَ خَطَايَاىَ كَمَا بَاعَدْتَ بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ ، اللَّهُمَّ نَقِّنِى مِنَ الْخَطَايَا كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الأَبْيَضُ مِنَ الدَّنَسِ ، اللَّهُمَّ اغْسِلْ خَطَايَاىَ بِالْمَاءِ وَالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ » . متفق عليه(1).
وهذا يدل على شدة حاجة البدن والقلب إلى ما يطهرهما ويبردهما ويقويهما.
وكما أن النجو يثقل البدن ويؤذيه باحتباسه، فكذلك الذنوب تثقل القلب وتؤذيه باحتباسها فيه.
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (744)، ومسلم برقم (598).(1/82)
فهما مؤذيان مضران بالبدن والقلب، وخروجهما فيه راحة البدن والقلب.
و عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ صُهَيْبٍ قَالَ سَمِعْتُ أَنَسًا يَقُولُ كَانَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا دَخَلَ الْخَلاَءَ قَالَ « اللَّهُمَّ إِنِّى أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْخُبُثِ وَالْخَبَائِثِ » . متفق عليه(1).
فالماء والغسل لإزالة الأوساخ والأدران عن البدن، والتوبة والاستغفار لإزالة الآثام والذنوب التي تراكمت على القلب.
فالأول به جمال الظاهر، والثاني به جمال الباطن والظاهر.
- - - - - - - - - - - - - - - - -
17- مداخل الشيطان إلى القلب(2)
قال الله تعالى: (قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ {16} ثُمَّ لَآَتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ {17}) [الأعراف: 16، 17].
وقال الله تعالى: (يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا {120} أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا {121}) [النساء: 120، 121].
سبب الخاطر الداعي إلى الخير يسمى ملكًا، وسبب الخاطر الداعي إلى الشر يسمى شيطانًا.
واللطف الذي يتهيأ به القلب لقبول إلهام الخير يسمى توفيقًا، والذي يتهيأ به لقبول وسواس الشيطان يسمى إغواء وخذلانًا.
والملك عبارة عن خلق خلقه الله من نور، شأنه إفاضة الخير، وإفادة العلم، وكشف الحق، والوعد بالخير، وكمال الطاعة، والأمر بالمعروف، وقد خلقه الله وسخره لذلك.
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (142)، ومسلم برقم (375).
(2) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 10 / ص 1555) وإحياء علوم الدين - (ج 2 / ص 234) وموسوعة فقه القلوب - (ج 3 / ص 60) والزواجر عن اقتراف الكبائر - (ج 1 / ص 219)(1/83)
والشيطان عبارة عن خلق خلقه الله من نار، وشأنه ضد عمل الملك، فعمله الوعد بالشر، والأمر بالفحشاء والمنكر، والتخويف عند الهم بالخير بالفقر، وإيقاع العداوة والبغضاء بين الناس، والأمر بالسوء، وتزيين المعاصي للعباد، وهو عدو بني آدم قاطبة: (إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ {6}) [فاطر: 6].
والقلب بأصل الفطرة صالح لقبول آثار الملك.. ولقبول آثار الشيطان.. صلاحًا متساويًا.
ويترجح أحد الجانبين على الآخر باتباع الهوى، والانغماس في الشهوات، أو الإعراض عنها ومخالفتها.
فإن اتبع الإنسان مقتضى الغضب والشهوة، ظهر تسلط الشيطان بواسطة الهوى، وصار القلب عش الشيطان ومعدنه، لأن الهوى مرعى الشيطان ومرتعه.
وإن جاهد الشهوات ولم يسلطها على نفسه، وتشبه بأخلاق الملائكة، صار قلبه مستقر الملائكة ومهبطهم.
ومهما غلب على القلب ذكر الدنيا بمقتضيات الهوى، وجد الشيطان مجالاً فوسوس.
ومهما انصرف القلب إلى ذكر الله تعالى ارتحل الشيطان، وضاق مجاله، وأقبل الملك، وألهم فعل الخير.
والتطارد بين جندي الملائكة والشياطين دائم، إلى أن ينفتح القلب لأحدهما فيستوطن ويستمكن، ويكون اجتياز الثاني اختلاسًا.
ولا يمحو وسوسة الشيطان من القلب إلا ذكر ما سوى ما يوسوس به، لأنه إذا خطر في القلب شيء، انعدم منه ما كان فيه من قبل.
فينبغي للعبد أن يشتغل بدفع العدو عن نفسه، لا بالسؤال عن أصله ونسبه ومسكنه.
وأن يعرف سلاح عدوه، ليدفعه عن نفسه، وسلاح الشيطان الهوى والشهوات، وذلك كافٍ للعالمين.
فالقلب كالحصن، والشيطان عدو يريد أن يقتحم الحصن ويدخله، فيملكه ويستولي عليه.
ولا يقدر الإنسان على حفظ الحصن من العدو إلا بحراسة أبواب الحصن ومداخله، ومواضع ثلمه.(1/84)
فمن أبوابه العظيمة: الغضب والشهوة، فالغضب غول العقل، وإذا ضعف جند العقل، هجم جند الشيطان، فأفسد القصر ومن فيه.
ومهما غضب الإنسان، لعب الشيطان به، وفجر شهواته فيما يغضب الله.
ومن أبوابه العظيمة: الحسد والحرص، فمهما كان الإنسان حريصًا على كل شيء، أعماه حرصه، وأصمه عن الإيمان، وأقعده عن الطاعات، وزين له الكفر والفسوق والعصيان.
ومن أبوابه العظيمة: الطمع في الناس، وإذا غلب عليه الطمع زين له الشيطان، وحبب إليه التصنع والتزين لمن طمع فيه بأنواع الرياء والتلبيس، حتى يصير المطموع فيه معبوده، فلا يزال يتفكر في حيلة التودد والتحبب إليه ولو على حساب دينه.
ومن أبوابه العظيمة: الدراهم والدنانير، وسائر أصناف الأموال من العروض والدواب والعقار والأشياء.
فكل ما يزيد على قدر القوت والحاجة، فهو مستقر الشيطان، فإن من معه قوته فهو فارغ القلب.
فلو وجد مائة دينار مثلاً على طريق، انبعث من قلبه عشر شهوات، تحتاج كل شهوة إلى مائة دينار أخرى، فلا يكفيه ما وجد، فيزيد في الطلب، ويزيد في الإنفاق، وذلك أمر لا آخر له.
ومن أبوابه العظيمة: العجلة وترك التثبت في الأمور، حتى يقع فيما لا يحمد عقباه.
ومن أبوابه العظيمة: البخل وخوف الفقر، ليمنع به الصدقات والزكوات والإحسان إلى العباد، لتكثر الجرائم والسرقات.
ومن آفات البخل: الحرص على ملازمة الأسواق لجمع المال، والأسواق مسرح الشياطين، تزين لأهلها الكذب والغش والاحتيال.
ومن أبوابه العظيمة: حب التزين في الأثاث والثياب، والمراكب والمساكن.
فإن الشيطان إذا رأى ذلك غالبًا على قلب الإنسان باض فيه وفرخ، فلا يزال يدعوه إلى عمارة الدار وتزيينها وتوسيعها، ويدعوه إلى التزين بالثياب والدواب والمراكب، وتجديد الأواني والأثاث، ويستسخره فيها طول عمره، ويشغله بها عما خلق له، من طاعة الله وعبادته والدعوة إليه.(1/85)
ولا يزال يغريه ويزين له، حتى ينقله من صف المحسنين المتقين إلى صف المسرفين والمبذرين والمترفين.
ومن أبوابه المهلكة: التعصب للمذاهب والقبائل والأهواء والأشخاص، والحقد على الخصوم، والنظر إليهم بعين الازدراء والاستخفاف والاحتقار.
وذلك مما يهلك العباد والفساق جميعًا.
فالطعن في الناس، والاشتغال بذكر عيوبهم ونقصهم، وأكل لحومهم، من صفات السباع المهلكة.
ومن أبوابه كذلك سوء الظن بالمسلمين، فيغريه الشيطان بغيبته فيهلك، ويقصر في القيام بحقه، أو يتوانى في إكرامه، وينظر إليه بعين الاحتقار، ويرى نفسه خيرًا منه، وكل ذلك من المهلكات.
ومن أبوابه العظيمة: الإسراف في إضاعة الأموال بالشهوات، وإضاعة الأوقات بالباطل، وإضاعة العقول بالعلوم السافلة، وإضاعة الحسنات بجمع الحطام الفاني.
والملائكة والشياطين تتوارد على القلوب، وتحوم حول أبوابها، فإن أصابه هذا من جانب، أصابه الآخر من جانب آخر.
فإذا نزل به الشيطان، فدعاه إلى الهوى، نزل به الملك فصرفه عنه، وإن جذبه شيطان إلى شر، جذبه شيطان آخر إلى غيره، وإن جذبه ملك إلى خير، جذبه ملك آخر إلى خير غيره.
فتارة يكون القلب متنازعًا بين ملكين.. وتارة بين شيطانين، وتارة بين ملك وشيطان.
والقلوب في التقلب والثبات على الخير والشر ثلاثة:
أحدها: قلب عُمر بالتقوى، وطهر عن خبائث الأخلاق، تنقدح فيه خواطر الخير، المفتوحة فيه أبواب الملائكة، المسدودة عنه أبواب الشياطين، يرى الحق ويحبه، ويعمل به، ويدعو إليه، ويصبر عليه، وينفر مما سوى ذلك.
الثاني: قلب مخذول مشحون بالهوى، مدنس بالأخلاق المذمومة، والقبائح والخبائث، المفتوح فيه أبواب الشياطين، المسدود عنه أبواب الملائكة.
ومبدأ الشر فيه، أن ينقدح فيه خاطر الهوى فيأنس به ويستجيب له، فيرى الباطل ويحبه، ويعمل به، ويدعو إليه، ويصبر عليه، وينفر مما سواه.(1/86)
الثالث: قلب تبدو فيه خواطر الهوى فتدعوه إلى الشر، فيلحقه خاطر الإيمان والهدى، فيدعوه إلى الخير والهدى.
فتنبعث النفس بشهواتها إلى نصرة خاطر الشر فتقوى الشهوة، وتحسن التمتع والتنعم، فينبعث العقل إلى خاطر الخير، فيدفع عن وجهه الشهوة، ويقبحها ويقبح فعلها، وينسبها إلى الجهل، ويشبهها بالبهيمة والسبع في تهجمها على الشر، وقلة اكتراثها بالعواقب.
فتميل النفس إلى نصح العقل، فيحمل الشيطان حملة على العقل، فيقوي داعي الهوى، ثم يحمل الملك على الشيطان، فعند ذلك تستجيب النفس إلى قول الملك.
ولا تزال الأحزاب والجنود متوالية عليه، حتى يظفر به أقواهما وأصبرهما.
وقد جعل الله للشيطان دخولاً في جوف العبد، ونفوذًا إلى قلبه وصدره، فهو يجري منه مجرى الدم، ويتجول على سائر أعضائه وجوارحه.
وقد وكل بالعبد فلا يفارقه إلى الممات.
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ وَقَدْ وُكِّلَ بِهِ قَرِينُهُ مِنَ الْجِنِّ ». قَالُوا وَإِيَّاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ « وَإِيَّاىَ إِلاَّ أَنَّ اللَّهَ أَعَانَنِى عَلَيْهِ فَأَسْلَمَ فَلاَ يَأْمُرُنِى إِلاَّ بِخَيْرٍ ». أخرجه مسلم(1).
وقد وصف الله عزَّ وجلَّ الشيطان بأعظم صفاته، وأشدها خطرًا، وأقواها تأثيرًا، وأعمها فسادًا، وهي الوسوسة التي هي مبادئ الإرادة.
فإن القلب يكون فارغًا من الشر والمعصية فيوسوس إليه الشيطان، ويخطر الذنب بباله، ويشهيه له، فيصير شهوة، ويزينها له ويحسنها، ويخيلها له في خيال تميل نفسه إليه، فيصير إرادة، وينسيه علمه بضررها، ويطوي عنه سوء عاقبتها، فلا يرى إلا صورة المعصية فقط، وينسيه ما وراء ذلك.
فتصير الإرادة عزيمة جازمة، فيشتد الحرص عليها من القلب، فيبعث الجنود في الطلب، فيبعث الشيطان معهم مددًا لهم وعونًا.
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (2814).(1/87)
فإن فتروا حركهم، وإن سكنوا أزعجهم كما قال سبحانه: (أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا {83}) [مريم: 83].
فأصل كل معصية الوسوسة، ولهذا وصفه الله بها، وحذرنا: (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ {1} مَلِكِ النَّاسِ {2} إِلَهِ النَّاسِ {3} مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ {4} الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ {5} مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ {6}) [الناس: 4-6].
فالذي يوسوس في صدور الناس نوعان:
إنس.. وجن.
فالجني يوسوس في صدور الناس.. والإنسي أيضًا يوسوس إلى الإنسي.
والوسوسة: الإلقاء الخفي في القلب، وهذا مشترك بين الجن والإنس كما قال سبحانه: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ {112}) [الأنعام: 112].
فشياطين الإنس والجن يشتركون في الوحي الشيطاني، ويشتركون كذلك في الوسوسة، ويشتركون كذلك في الفساد والإفساد.
وكما أن الملائكة ليس لهم عمل إلا عبادة الله وطاعته، فهم يسبحون الليل والنهار لا يفترون، ولا يعصون الله ما أمرهم، ويفعلون ما يؤمرون.
فكذلك الشيطان وذريته ليس لهم هم ولا عمل إلا إضلال بني آدم، وإغوائهم ابتلاء من الله، ليعلم من يطيعه ممن يطيع عدوه.
وحيل الشيطان، ومكره، وكيده، وخطواته في تحقيق ما يريد، من أعجب العجب.
فإذا أقبل على الإنسان بجنوده وعساكره.. فوجد القلب في حصنه جالسًا على كرسي مملكته.. أمره نافذ، وجنده قد أحاطوا به.. يحرسونه ويدافعون عنه.
فلا يتمكن الشيطان وجنوده من الهجوم عليه إلا بمخارة بعض أمرائه، وأخص جنده وهي النفس، فزينوا لها الشهوات والمحبوبات، حتى استولت على القلب، ومكنت للشياطين من الاستيلاء على ثغور المملكة:(1/88)
العين.. والأذن.. واللسان.. والفم.. واليد.. والرجل.
وأمر الشيطان جنوده بالمرابطة على هذه الثغور.
وقال: ادخلوا منها إلى القلب لتقتلوه أو تثخنوه، ولا تمكنوا أحداً يدخل منها إلى القلب، فيخرجكم منه، ويفسده عليكم.
وامنعوا ثغر العين أن يكون نظرها اعتبارًا، بل اجعلوه تفرجًا وتلهيًا، وبالعين تنالون بغيتكم من بني آدم.
فابذروا في القلوب بذور الشهوة، ثم اسقوه بماء الأمنية، ثم عِدوه ومنّوه حتى تقوى عزيمته، فيقع في المعصية فيهلك.
ثم امنعوا ثغر الأذن أن يدخل منه ما يفسد عليكم أمركم.
واجتهدوا ألا يدخل منه إلا الباطل واللهو، فإنه خفيف على النفس، تستحليه وتستملحه وتطرب له.
وإياكم أن يدخل من هذا الثغر شيء من كلام الله ورسوله، لئلا يفسد عليكم أمركم، ويحرق سلعتكم.
فإن دخل شيء فأفسدوه عليه بإدخال ضده عليه أو تهويله.
ثم امنعوا ثغر اللسان أن يدخل منه ما ينفع القلب، من ذكر الله واستغفاره وتلاوة كتابه، ونصح عباده، والدعوة إليه.
وزينوا له الكلام بما يضره ولا ينفعه، إما بالتكلم بالباطل، وإما بالسكوت عن الحق.
فالرباط.. الرباط.. الرباط.. على هذا الثغر أن يتكلم بحق، أو يمسك عن باطل.
وهذا الثغر هو الثغر الأعظم، الذي أهلك منه الشيطان بني آدم، وأكبهم على مناخرهم في النار.
واقعدوا لبني آدم بكل رصد.. وبكل طريق.. وبكل مناسبة: (قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ {16} ثُمَّ لَآَتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ {17}) [الأعراف: 16، 17].(1/89)
وعَنْ سَبْرَةَ بْنِ أَبِى فَاكِهٍ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ « إِنَّ الشَّيْطَانَ قَعَدَ لاِبْنِ آدَمَ بِأَطْرُقِهِ فَقَعَدَ لَهُ بِطَرِيقِ الإِسْلاَمِ فَقَالَ تُسْلِمُ وَتَذَرُ دِينَكَ وَدِينَ آبَائِكَ وَآبَاءِ أَبِيكَ فَعَصَاهُ فَأَسْلَمَ ثُمَّ قَعَدَ لَهُ بِطَرِيقِ الْهِجْرَةِ فَقَالَ تُهَاجِرُ وَتَدَعُ أَرْضَكَ وَسَمَاءَكَ وَإِنَّمَا مَثَلُ الْمُهَاجِرِ كَمَثَلِ الْفَرَسِ فِى الطِّوَلِ فَعَصَاهُ فَهَاجَرَ ثُمَّ قَعَدَ لَهُ بِطَرِيقِ الْجِهَادِ فَقَالَ تُجَاهِدُ فَهُوَ جَهْدُ النَّفْسِ وَالْمَالِ فَتُقَاتِلُ فَتُقْتَلُ فَتُنْكَحُ الْمَرْأَةُ وَيُقْسَمُ الْمَالُ فَعَصَاهُ فَجَاهَدَ ». فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ وَمَنْ قُتِلَ كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ وَإِنْ غَرِقَ كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ أَوْ وَقَصَتْهُ دَابَّتُهُ كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ ». أخرجه أحمد والنسائي (1).
والسبل التي يسلكها الإنسان أربعة:
اليمين.. والشمال.. والأمام.. والخلف.
وأي سبيل سلكها الإنسان من هذه وجد الشيطان عليها رصدًا له.
فإن سلكها العبد في طاعة وجد الشيطان عليها يثبطه عنها، ويبطئه ويعوقه.
وإن سلكها في معصية وجده عليها حاملاً له وخادمًا، ومعينًا ومزينًا.
__________
(1) أخرجه أحمد برقم (16054)، و سنن النسائى برقم (3147 )صحيح =الطول : حبل يشد به قائمة الدابة =وقصت : كسرت عنقه انظر السلسلة الصحيحه رقم (2937).وأخرجه النسائي برقم (3134)، وهذا لفظه، صحيح سنن النسائي رقم (2973).(1/90)
ثم الزموا ثغر الأيدي والأرجل، فامنعوها أن تبطش بما يضركم أو تمشي فيه، وقيدوها عن الأعمال الصالحة، وحركوها لتمشي في كل شر وفساد، وتبطش بكل صالح تقي.
واعلموا أن أكبر أعوانكم النفس الأمارة، فاستعينوا بها على حرب النفس المطمئنة.
فإذا قويت النفس الأمارة، فاستنزلوا القلب من حصنه، واعزلوه عن مملكته، وولوا مكانه النفس الأمارة، فإنها لا تأمر إلا بما تهوونه وتحبونه.
واستعينوا على بني آدم بجنديين عظيمين:
أحدهما: جند الغفلة، فأغفلوا قلوب بني آدم عن الله، وعن أوامر الله، وعن الدار الآخرة، فإن القلب إذا غفل عن الله تعالى تمكنتم منه.
والثاني: جند الشهوة، فزينوا الشهوات في قلوب بني آدم، وحسنوها في أعينهم، فإن رأيتم جماعة اجتمعوا على ذكر الله، ولم تقدروا على تفريقهم، فاستعينوا عليهم ببني جنسهم من الإنس البطالين.
وانتهزوا فرصة الشهوة والغضب، فلا تصطادوا بني آدم في أعظم من هذين الوطنين، فإني أخرجت أبويهم من الجنة بالشهوة، وألقيت العداوة بين أولادهم بالغضب: (وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ {20}) [سبأ: 20].
فالمداخل التي يأتي الشيطان من قبلها إلى الإنسان ثلاثة:
الشهوة.. والغضب.. والهوى.
فالشهوة بهيمية، وبها يصير الإنسان ظالمًا لنفسه، ومن نتائجها الحرص والبخل.
والغضب سبعية، وهو آفة أعظم من الشهوة، وبالغضب يصير الإنسان ظالمًا لنفسه ولغيره، ومن نتائجه العجب والكبر.
والهوى شيطانية، وهو آفة أعظم من الغضب، وبالهوى يتعدى ظلمه إلى خالقه بالشرك والكفر، ومن نتائجه الكفر والبدعة والمعصية.
وأكثر ذنوب الخلق بهيمية، لعجزهم عن غيرها، ومنها يدخلون إلى بقية الأقسام.
- - - - - - - - - - - - - - - -(1/91)
18- علامات مرض القلب وصحته(1)
قال الله تعالى: (وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ {124} وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ {125}) [التوبة: 124، 125].
وقال الله تعالى: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا {61}) [النساء: 61].
خلق الله تبارك وتعالى كل عضو من أعضاء البدن لفعل خاص به، وجعل كماله في حصول ذلك الفعل منه.
ومرضه أن يتعذر عليه الفعل الذي خلق له، حتى لا يصدر منه، أو يصدر مع نوع من الاضطراب والنقص.
فمرض اليد أن يتعذر عليها البطش، ومرض العين أن يتعذر عليها النظر والرؤية، ومرض اللسان أن يتعذر عليه النطق، ومرض البدن أن تتعذر عليه حركته الطبيعية، أو يضعف عنها.
ومرض القلب أن يتعذر عليه ما خلق له من المعرفة بالله، ومحبته، والشوق إلى لقائه، والإنابة إليه، وإيثار ذلك على جميع شهواته.
فلو عرف العبد كل شيء ولم يعرف ربه فكأنه لم يعرف شيئًا.
ولو نال كل حظ من حظوظ الدنيا ولذاتها وشهواتها، ولم يظفر بمحبة الله والشوق إليه، والأنس به، فكأنه لم يظفر بلذة ولا نعيم ولا قرة عين.
بل إذا كان قلب العبد خاليًا عن ذلك، عادت تلك الحظوظ واللذات عذابًا له ولا بدَّ، فيصير معذبًا بنفس ما كان منعمًا به من جهتين:
من جهة حسرة فوته، وأنه حيل بينه وبينه مع شدة تعلق روحه به.
ومن جهة فوت ما هو خير له وأنفع وأدوم، حيث لم يحصل له.
__________
(1) - آفات على الطريق كامل - (ج 1 / ص 79)وموسوعة خطب المنبر - (ج 1 / ص 1464) وموسوعة خطب المنبر - (ج 1 / ص 4446) وموسوعة خطب المنبر - (ج 1 / ص 5066) وموسوعة فقه القلوب - (ج 3 / ص 68)(1/92)
وكل من عرف الله عزَّ وجلَّ أحبه، وأخلص له العبادة، ولم يؤثر عليه شيئًا من المحبوبات.
فمن آثر عليه شيئًا من المحبوبات فقلبه مريض ولا بدَّ، كما أن المعدة إذا اعتادت أكل الخبيث وآثرته على الطيب، سقطت عنها شهوة الطيب.
وقد يمرض قلب الإنسان ويشتد مرضه، ولا يعرف به صاحبه، لانشغاله عنه، بل قد يموت وصاحبه لا يشعر بموته.
وعلامة ذلك:
أن لا تؤلمه جراحات القبائح.. ولا يوجعه جهله بالحق.
فإن القلب إذا كان فيه حياة تألم بورود القبيح عليه، وتألم بجهله بالحق بحسب حياته.
وقد يشعر بمرضه، ولكن يشتد عليه تحمل مرارة الدواء والصبر عليها، فهو يؤثر بقاء ألمه على مشقة الدواء، فإن دواءه في مخالفة الهوى، وذلك أصعب شيء على النفس، وليس لها أنفع منه.
وتارة يوطن نفسه على الصبر، ثم ينفسخ عزمه، لضعف علمه وبصيرته وصبره.
والقلب يبصر الحق كما تبصر العين الشمس، والحق إذا لاح وتبين، لم يحتج إلى شاهد يشهد به، كما أن الأجسام إذا تجلت أمام العين لم تحتج إلى شاهد.
والحق هو الذي كانت عليه الجماعة الأولى، من عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، والجماعة ما وافق الحق وإن كنت وحدك، وإذا فسدت الجماعة فعليك بما كانت عليه الجماعة قبل أن تفسد وإن كنت وحدك، فإنك أنت الجماعة حينئذ فالزم الحق.
فالعصر إذا كان فيه إمام عارف بالسنة داعٍ إليها، فهو الحجة، وهو الإجماع، وهو السّواد الأعظم، وهو سبيل المؤمنين التي من فارقها واتبع سواها ولاه الله ما تولى، وأصلاه جهنم وساءت مصيرًا: (وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا {115}) [النساء: 115].
ومن علامات أمراض القلوب عدولها عن الأغذية النافعة الموافقة لها إلى الأغذية الضارة.. وعدولها عن دوائها النافع إلى دائها الضار.(1/93)
والقلب الصحيح يؤثر النافع الشافي على الضار المؤذي، والقلب المريض بضد ذلك، يؤثر الضار المهلك على النافع الشافي.
وأنفع الأغذية غذاء الإيمان.. وأنفع الأدوية دواء القرآن.. وكل منهما فيه الغذاء والدواء، والشفاء والرحمة.
ومن علامات صحة القلب أن يرتحل عن الدنيا حتى ينزل بالآخرة، ويحل فيها حتى يبقى كأنه من أهلها وأبنائها، جاء إلى هذه الدار غريبًا يأخذ حاجته ويعود إلى وطنه فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رضى الله عنهما - قَالَ أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِمَنْكِبِى فَقَالَ « كُنْ فِى الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ ، أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ » . وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ إِذَا أَمْسَيْتَ فَلاَ تَنْتَظِرِ الصَّبَاحَ ، وَإِذَا أَصْبَحْتَ فَلاَ تَنْتَظِرِ الْمَسَاءَ ، وَخُذْ مِنْ صِحَّتِكَ لِمَرَضِكَ ، وَمِنْ حَيَاتِكَ لِمَوْتِكَ .. أخرجه البخاري(1).
وكلما صح القلب من مرضه، ترحل إلى الآخرة، وقرب منها حتى يصير من أهلها، يعمل بأعمالها، ويجني من ثمارها.
وكلما مرض القلب واعتل، آثر الدنيا واستوطنها، حتى يصير من أهلها.
ومن علامات صحة القلب، أنه لا يزال يضرب على صاحبه، حتى ينيب إلى الله، ويخبت إليه، ويتعلق به تعلق المحب المضطر إلى محبوبه الذي لا حياة له ولا نعيم ولا سرور إلا برضاه وقربه والأنس به.
ومن علامات صحته كذلك أن لا يفتر عن ذكر ربه، ولا يسأم من خدمته، ولا يأنس بغيره إلا بمن يدله عليه، ويذكره به.
ومن علامات صحته أنه إذا فاته فرض من فرائض الله، أو فاته ورده، وجد لفواته ألمًا عظيمًا، أعظم من تألم الحريص بفوات ماله وفقده.
ومن علامات صحته أنه يشتاق إلى الخدمة والعبادة، كما يشتاق الجائع إلى الطعام أو الشراب، وأنه إذا دخل في الصلاة ذهب عنه همه وغمه بالدنيا، واشتد عليه خروجه منها، ووجد فيها راحته ونعيمه.
__________
(1) أخرجه البخاري برقم (6416).(1/94)
ومن علامات صحته أن يكون همه واحدًا، وأن يكون في الله، وأن يكون أشح بوقته أن يذهب ضائعًا من أشد الناس شحًا بماله.
وأن يكون اهتمام العبد بتصحيح العمل أعظم منه بالعمل.
فيحرص فيه على الإخلاص والمتابعة والإحسان، ويشهد مع ذلك منة الله عليه فيه، وتقصيره في حق الله جل جلاله.
فالقلب السليم الصحيح هو الذي همه كله في الله، وحبه كله لله، وقصده له، وبدنه له، وأعماله له، ونومه له، ويقظته له، وحديثه له، والحديث عنه أشهى إليه من كل حديث، وأفكاره تحوم حول مراضيه، ومحابه سبحانه.
وكلما وجد من نفسه تقاعسًا أو التفاتًا إلى غيره تلا عليها: (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ {27} ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً {28} فَادْخُلِي فِي عِبَادِي {29} وَادْخُلِي جَنَّتِي {30}) [الفجر: 27-30].
فإذا انصبغ القلب بين يدي إلهه ومعبوده الحق بصبغة العبودية، صارت العبودية صفة له، وأتى بها توددًا وتحببًا وتقربًا.
فكلما عرض له أمر من ربه أو نهي قال: لبيك وسعديك، والمنّة لك، والحمد فيه عائد إليك: (آَمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آَمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ {285}) [البقرة: 285].
وإن أصابه قدر قال: أنت ربي العزيز الرحيم، وأنا الفقير العاجز الضعيف، لا صبر لي إن لم تصبرني، ولا ملجأ لي منك إلا إليك.
وإن أصابه ما يكره قال رحمة أهديت إلي، وإن صرف عنه ما يحب قال شرًا صرف عني.
فكل ما مسه به من السراء والضراء، اهتدى بها طريقًا إليه، وانفتح له منه باب يدخل منه عليه.
والقلب الصحيح: هو الذي عرف الحق واتبعه، وعرف الباطل واجتنبه.
فاللهم أرنا الحق حقًا، وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً، وارزقنا اجتنابه.(1/95)
ومرض القلوب نوعان:
مرض شبهات وشكوك.. ومرض شهوات وفسوق.
وصحة القلب الكاملة تتم بشيئين:
كمال معرفته بالله وعلمه ويقينه.. وكمال إرادته وحبه لما يحبه الله ويرضاه.
فإن كان عند الإنسان شبهات تعارض ما أخبر الله به، في أصول الدين وفروعه، كان علمه منحرفًا.. وإن كانت إرادته ومحبته مائلة لشيء من معاصي الله، كان ذلك انحرافًا في إرادته، وهما متلازمان لا ينفك أحدهما عن الآخر.
فلا تغلب على العبد الشبهات إلا بفساد علمه بالله، وجهله بعدله وقضائه، وحكمته وشرعه وجزائه.
ولا تغلب عليه الشهوات إلا بفساد نفسه، وغلبة شهوات الدنيا عليه، وغلبة رياساتها وحظوظها على ما عند الله والدار الآخرة.
وإنما يكون فقط أحدهما أبرز من الآخر.
فمن الأول قوله سبحانه: (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ {10}) [البقرة: 10].
ومن الثاني قوله سبحانه: (يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا {32}) [الأحزاب: 32].
والقلب مكان الإيمان والتقوى، كما أن المعدة مكان الطعام والشراب، والإيمان في القلب يحرك البدن لطاعة الله، كما أن الطعام في المعدة يمد البدن بالغذاء الذي به تتم صحته وتكمل حركته.
فالقلب يحتاج إلى غذاء الإيمان، والبدن يحتاج إلى أكل الطيبات، وكلاهما لازم للإنسان، وكماله باجتماعهما، وهلاكه بفقدهما.
ولهذا أمرنا الله عزَّ وجلَّ بهذا وهذا فقال سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ {172}) [البقرة: 172].(1/96)
والقلب منزل الملائكة، ومهبط أثرهم، والصفات الرديئة فيه مثل الغضب والشهوة المحرمة، والحقد والحسد، والكبر والعجب، وأخواتها كلها كلاب نابحة، فأنى تدخله الملائكة وهو مشحون بالكلاب؟.
وحرام على قلب أن يدخله النور، وهو مظلم فيه شيء مما يكره الله عزَّ وجلَّ.
وعلل القلب كثيرة مؤلمة أشد من ألم البدن.
وعلاجها: أن ينظر إلى العلة أولاً.. فإن كان المرض داء البخل.. فعلاجه بذل المال.. ولكن لا يسرف، أو يبذر، ولا يقتر.
ومعرفة الوسط تكون بأن تنظر إلى نفسك.
فإن كان إمساك المال وجمعه، ألذ عندك من بذله لمستحقه، فاعلم أن الغالب عليك البخل، فعالج نفسك بالبذل.
وإن كان البذل ألذ عندك وأخف عليك من الإمساك، فقد غلب عليك التبذير، فارجع إلى المواظبة على الإمساك.
ولا تزال تراقب نفسك، حتى تنقطع علاقة قلبك بالمال، فلا تبالي من قلته أو كثرته، ولا تميل إلى بذله ولا إمساكه.
فكل قلب صار كذلك فقد جاء الله سليمًا.
وإذا أراد الله بعبد خيرًا بصره بعيوب نفسه.. وإذا عرف العيوب أمكنه العلاج.. وما أنزل الله داء إلا أنزل له دواء.. علمه من علمه وجهله من جهله.
وعلاج أدواء القلوب معلوم موجود، وهو أن تعرف فاطرها ومعبودها وتطيع أمره.. وتحب ما يحب.. وتحذر مما يكره.. وذلك كله في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم : (وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآَنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آَيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آَذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ {44}) [فصلت: 44].
- - - - - - - - - - - - -
19- فقه أمراض القلوب وعلاجها(1)
__________
(1) - موسوعة خطب المنبر - (ج 1 / ص 2256) وموسوعة فقه القلوب - (ج 3 / ص 73)(1/97)
قال الله تعالى: (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ {10}) [البقرة: 10].
وقال الله تعالى: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا {28}) [الكهف: 28].
مرض القلب: هو نوع فساد يحصل له، ويفسد به تصوره وإرادته.
ففساد تصوره يكون بالشبهات التي تعرض له، حتى لا يرى الحق، أو يراه خلاف ما هو عليه.
وفساد إرادته يكون ببغض الحق النافع، وحب الباطل الضار.
فلهذا يفسر المرض تارة بالشك كما قال سبحانه عن المنافقين: (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا) [البقرة: 10].
وتارة يفسر بالشهوة كما قال سبحانه: (يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا {32}) [الأحزاب: 32].
والمريض يؤذيه ما لا يؤذي الصحيح، والمرض في الجملة يضعف الإنسان، ويجعل قوته ضعيفة لا تطيق ما يطيقه القوي.
والمرض يقوى بمثل سببه ويزول بضده، فإذا حصل للمريض مثل سبب مرضه زاد مرضه، وزاد ضعف قوته، حتى ربما هلك.
ومرض القلب: ألم يحصل في القلب كالغيظ من عدو استولى عليك، فإن ذلك يؤلم القلب.
وكذلك الشك والجهل يؤلم القلب، وشفاء العي السؤال.
والمرض دون الموت، فالقلب يموت بالجهل المطلق، ويمرض بنوع من الجهل، فللقلب موت ومرض، وحياة وشفاء.. كالبدن تماماً.
وحياة القلب وموته، ومرضه وشفاؤه، أعظم من حياة البدن وموته، ومرضه وشفائه.(1/98)
فلهذا مريض القلب إذا ورد عليه شبهة أو شهوة قوت مرضه، وإن حصلت له حكمة وموعظة كانت من أسباب صلاحه وشفائه.
والقرآن شفاء لما في الصدور، ومن في قلبه أمراض الشبهات والشهوات، ففي القرآن من البينات ما يزيل الحق من الباطل.
فيزيل أمراض الشبهة المفسدة للعلم والتصور والإدراك، بحيث يرى الأشياء على ما هي عليه.
وفيه من الحكمة، والموعظة الحسنة، والقصص التي فيها عبرة، ما يوجب صلاح القلب، فيرغب فيما ينفعه، ويحذر ما يضره.
فالقلب يتغذى من الإيمان والقرآن بما يزكيه ويشفيه، كما يتغذى البدن من الطعام والشراب بما ينميه ويقومه، فزكاة القلب مثل نماء البدن.
والقلب يحتاج أن يتربى فينمو ويزيد، حتى يكمل ويصلح، كما يحتاج البدن أن يربى بالأغذية المصلحة له، ولا بدَّ مع ذلك من منع ما يضره.
فالصدقة مثلاً تزكي القلب، وكذلك ترك الفواحش والمعاصي يزكو بها القلب، فإنها بمنزلة الأخلاط الرديئة في البدن.
فإذا استفرغ البدن من الأخلاط الرديئة، استراح البدن ونما، وكذلك القلب إذا تاب من الذنوب، كان استفراغًا من تخليطاته، حيث خلط عملاً صالحًا وآخر سيئًا.
فإذا تاب العبد من الذنوب والمعاصي، تخلصت قوة القلب وإرادته للأعمال الصالحة، واستراح القلب من تلك المواد الفاسدة التي كانت فيه.
فصلاح القلب في العدل وهو التوحيد والإيمان، وفساده في الظلم وهو الشرك والكفر.
ولهذا جميع الذنوب يكون العبد فيها ظالمًا لنفسه، وظالماً لغيره.
والعمل له أثر في القلب، من نفع وضر، وصلاح وفساد، قبل أثره في الخارج.
وصحة القلب وصلاحه في العدل، ومرضه من الزيغ والانحراف والظلم.
والظلم كله من أمراض القلوب بأنواعه الثلاثة:
الظلم في حق الرب.. والظلم في حق النفس.. والظلم في حق الخلق.(1/99)
وأصل صلاح القلب هو حياته واستنارته كما قال سبحانه: (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ {122}) [الأنعام: 122].
ومن أمراض القلوب الحسد: وهو البغض والكراهة لما يراه من حسن حال المحسود.
والحسد نوعان:
أحدهما: كراهة الإنسان للنعمة على غيره مطلقًا، وهذا هو الحسد المذموم، وإذا أبغض ذلك فإنه يتألم ويتأذى بوجود ما يبغضه، فيكون ذلك مرضًا في قلبه، ويلتذ بزوال النعمة عنه، وإن لم يحصل له نفع بزوالها، لكن نفعه زوال الألم الذي كان في نفسه.
الثاني: أن يكره فضل ذلك الشخص عليه، فيحب أن يكون مثله، أو أفضل منه، فهذا حسد، وهو الذي يسمى الغبطة والمنافسة.
وهذا وإن كان مباحاً، إلا أن السالم من هذه الأمور أرفع درجة ممن عنده منافسة وغبطة.
ويعرض لكل قلب مرضان عظيمان وهما:
مرض الرياء.. ومرض الكبر.
فدواء مرض الرياء بـ: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) [الفاتحة: 5].
ودواء مرض الكبر بـ: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) [الفاتحة: 5].
فإذا عوفي المسلم من مرض الرياء بإياك نعبد.. ومن مرض الكبر بإياك نستعين.. ومن مرض الجهل والضلال باهدنا الصراط المستقيم.. فقد عوفي من أمراضه وأسقامه.. وكان من المنعم عليهم، غير المغضوب عليهم.. وهم الذين عرفوا الحق وعدلوا عنه.. ولا الضالين.. وهم الذين جهلوا الحق ولم يعرفوه.(1/100)
وزكاة القلب موقوفة على طهارته، كما أن زكاة البدن موقوفة على استفراغه من أخلاطه الرديئة الفاسدة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (21)) [النور: 21].
وقال سبحانه: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15)) [الأعلى: 14، 15].
فأصل ما تزكو به الأرواح والقلوب هو التوحيد والإيمان، الذي بهما يزكو القلب، وينشرح الصدر.
فإن ذلك يتضمن نفي إلهية ما سوى الحق من القلب، وذلك طهارته، وإثبات إلهيته سبحانه، وهو أصل كل زكاة ونماء.
فإن التزكي وإن كان أصله النماء والزيادة والبركة، فإنه كذلك يحصل بإزالة الشر.
فلهذا صار التزكي ينتظم الأمرين جميعًا.
فمن غض بصره عما حرم الله عزَّ وجلَّ، عوضه الله تعالى من جنسه ما هو خير منه، فمن أمسك نور بصره عن المحرمات، أطلق الله نور بصيرته وقلبه، فرأى به ما لم يره من أطلق بصره، ولم يغضه عن محارم الله تعالى، وهذا أمر يحسه الإنسان من نفسه.
والقلوب تمرض كما تمرض الأبدان، وتعتريها الآفات كما تعتري الأعضاء والجوارح.
وكما أن للأبدان غذاءً ودواءً، فكذلك للقلوب غذاء ودواء.
وعلامة صحة القلب قبوله ما ينفعه ويغذيه من الإيمان، ومعرفة ربه، ومعرفة أسمائه وصفاته وأفعاله، وحب الطاعات والأعمال الصالحة، والإعراض والنفرة عما سوى ذلك.
وعلامة فساد القلب، عدوله عن الأغذية النافعة إلى الأغذية الضارة، من الكذب والنفاق والرياء، والحقد والحسد، والعجب والكبر، والجهل والظلم، ونحو ذلك من حب المعاصي والفواحش والمنكرات.(1/101)
وإذا أراد الله بعبدٍ خيرًا بصّره بعيوب نفسه، فإذا عرف العيوب أمكنه العلاج، ولكن أكثر الخلق جاهلون بعيوب أنفسهم، بسبب موت قلوبهم أو مرضها أو نقص إدراكها، بحيث لا تميز بين القبيح والمليح وما يزينها وما يشينها، وما ينفعها وما يضرها: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آَذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46)) [الحج: 46].
والله عزَّ وجلَّ خلق طبيعة الغضب من النار، وغرزها في الإنسان، فإذا صدَّ الإنسان عن غرض من أغراضه، اشتعلت نار الغضب، وثارت ثورانًا يغلي به دم القلب، وينتشر في العروق، ويرتفع إلى أعالي البدن كما ترتفع النار.
وقوة الغضب محلها القلب، ومعناها: غليان دم القلب بطلب الانتقام، وإنما تتوجه هذه القوة عند ثورانها إلى دفع المؤذيات قبل وقوعها، وإلى التشفي والانتقام بعد وقوعها.
والانتقام قوت هذه القوة وشهوتها ولا تسكن إلا به.
والأسباب المهيجة للغضب هي:
الزهو.. والعجب.. والمزاح.. والهزل.. والهزء.. والتعيير.. والغدر.. وشدة الحرص على فضول المال والجاه.. ونحوها من الأخلاق الرديئة.. ولا خلاص من الغضب مع بقاء هذه الأسباب.
فلا بدَّ من إزالة هذه الأسباب المهلكة بأضدادها المنجية:
فتميت الزهو بالتواضع.. وتميت العجب بمعرفتك بنفسك.. وتزيل الفخر بأنك من جنس عبدك.. وإنما الفخر بالفضائل.
والفخر والعجب والكبر أكبر الرذائل، وأشدها هلاكاً للعبد.
وأما المزاح فتزيله بالمهمات الدينية التي تستوعب العمر، من الذكر والعبادة، والعلم والدعوة.
وأما الهزل فتزيله بالجد في طلب الفضائل، والأخلاق الحسنة، والعلوم الشرعية التي تبلغك إلى سعادة الآخرة.
وأما الهزء فتزيله بالتكرم عن إيذاء الناس، وبصيانة النفس عن أن يُستهزأ بها.(1/102)
وأما التعيير فتزيله بالحذر عن القول القبيح، وصيانة النفس عن مُرّ الجواب.
وأما شدة الحرص فتزال بالقناعة بقدر الضرورة، طلبًا لعز الاستغناء، وترفعًا عن ذل الحاجة.
فهذا حسم لمواد الغضب، وقطع لأسبابه، حتى لا يهيج، فيهلك صاحبه:
فإذا جرى سبب هيجانه، فعند ذلك يجب الصبر والتثبت، حتى لا يقع ما لا تحمد عقباه.
وإنما يعالج الغضب عند هيجانه بمعجون العلم.. والعمل.. والصبر.
أما العلم فيعلم العبد فضل كظم الغيظ، والعفو والحلم، وما في ذلك من الثواب، فتمنعه شدة الحرص على الثواب من التشفي والانتقام، فيسكن غضبه، ويخوف نفسه بعقاب الله، ويقول: قدرة الله علي أعظم من قدرتي على هذا الإنسان.
ويحذر نفسه عاقبة العداوة والانتقام، وتشمر العدو لمقابلته والسعي في هدم أغراضه، ويفكر بقبح صورته عند الغضب، وأنه كالكلب الضاري، والسبع العادي.
أما الحليم الهادي فهو كالأنبياء والأولياء في علمه وحلمه، وكالقمر في نوره.
ويقول لنفسه: تأنفين من الاحتمال الآن، ولا تأنفين من خزي يوم القيامة، وتحذرين من أن تصغري في أعين الناس، ولا تحذرين من أن تصغري عند الله والملائكة، وأنه يوشك أن يكون غضب الله عليه أعظم من غضبه.
وأما العمل، فإنه يقول من أصابه الغضب:
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فإن لم يزُلْ بذلك فاجلس إن كنت قائمًا، واضطجع إن كنت جالسًا، فإن لم يزل بذلك فليتوضأ بالماء البارد وليصلّ. وأما الصبر فيتذكر عاقبته، وثوابه الجزيل في الدنيا والآخرة.
وأما الحقد، فإن الغضب إذا لزم كظمه، لعجز عن التشفي في الحال، رجع إلى الباطن واحتقن فيه، فصار حقدًا ينشأ عنه الحسد للإنسان، وهجره، والاستصغار له، وذمه، والاستهزاء به، وإيذاؤه، ومنعه حقه من قضاء دين، أو صلة رحم، أو رد مظلمة، وكل ذلك حرام.(1/103)
والحسد من نتائج الحقد، والحقد من نتائج الغضب، والحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب(1)، ولا حسد إلا على نعمة، فإذا أنعم الله على أخيك بنعمة فلك فيها حالتان:
الأولى: أن تكره تلك النعمة وتحب زوالها.
والثانية: أن لا تحب زوالها عنه، ولا تكره وجودها، ولكن تشتهي لنفسك مثلها، فالأولى حرام، والثانية جائزة.
وأشد أسباب الحسد العداوة والبغضاء، فمن آذاه شخص وخالفه أبغضه قلبه، وغضب عليه وحقد عليه، وانتقم منه إن قدر.
ومنها التعزز، فإن أصاب أحد أقرانه ولاية أو مالاً أو علمًا ثقل عليه، وخاف أن يتكبر عليه، ولا يطيق تكبره فيحسده.
ومن أسباب الحسد الكبر، وهو أن يكون في طبعه أن يتكبر عليه، ويستصغره ويستخدمه، فإذا نال نعمة خاف ألا يحتمل تكبره ويترفع عن متابعته.
ومنها العجب، فيتعجب أن يفوز برتبة عالية من دونه، وهو أقل منه فيما يرى فيحسده.
ومنها الخوف من فوت المقاصد، ومنه تزاحم الضرات على مقاصد الزوجية، وتزاحم الأخوة على نيل المنزلة في قلب الأبوين.
ومنها حب الانفراد بالرياسة، وطلب الجاه لنفسه، كمن يحب أن يكون عديم النظير، ليس مثله أحد، ليقال أنه فريد عصره.
ومنها خبث النفس وشحها بالخير لعباد الله، فيضيق ذرعًا إذا سمع بأحد نال نعمة، ويفرح بإدبار أحوال الناس، نعوذ بالله من ذلك الخلق الشيطاني.
ومنشأ جميع ذلك حب الدنيا، فإن الدنيا هي التي تضيق على المتزاحمين، أما الآخرة فلا ضيق فيها، ومجال المسارعة والمسابقة إلى الخيرات مفتوح لجميع العباد.
والله عزَّ وجلَّ يحدث في قلب من يشاء من عباده ما شاء، ويطلعه على أمور تخفى على غيره، وقد يمسكها عنه بالغفلة عنها، ويواريها عنه بالغين الذي يغشى قلبه، وهو أرق الحجب.. أو بالغيم، وهو أغلظ منه.. أو بالران، وهو أشدها.
__________
(1) - سنن أبى داود برقم (4905) حديث حسن(1/104)
فالأول: وهو الغين يقع للأنبياء والرسل، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : «إِنَّهُ لَيُغَانُ عَلَى قَلْبِي، وَإِنِّي لأسْتَغْفِرُ اللهَ، فِي الْيَوْمِ، مِائَةَ مَرَّةٍ» أخرجه مسلم(1).
والثاني: وهو الغيم، يكون للمؤمنين.
والثالث: وهو الران، يكون لمن غلبت عليه الشقوة، كما قال سبحانه: (كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14)) [المطففين: 14].
والحجب التي تحول بين القلب وبين الله عشرة:
الأول: حجاب التعطيل والكفر، وهو أغلظها، فلا يتهيأ لصاحب هذا الحجاب أن يعرف الله، ولا يصل إ ليه البتة.
الثاني: حجاب الشرك، وهو أن يعبد مع الله غيره.
الثالث: حجاب البدعة القولية، كحجاب أهل الأهواء.
الرابع: حجاب البدعة العملية، كحجاب أهل السلوك المبتدعين في طرقهم المخالفة للسلف الصالح.
الخامس: حجاب أهل الكبائر الباطنة، كحجاب أهل الكبر والعجب، والرياء والحسد، والفخر والخيلاء، ونحوها.
السادس: حجاب أهل الكبائر الظاهرة، وهؤلاء حجابهم أرق وأخف من حجاب أهل الكبائر الباطنة مع كثرة عبادتهم وزهدهم كالخوارج، وكبائر هؤلاء أقرب إلى التوبة من كبائر أهل الكبائر الباطنة.
السابع: حجاب أهل الصغائر.
الثامن: حجاب أهل الفضلات والتوسع في المباحات.
التاسع: حجاب أهل الغفلة عن استحضار ما خلقوا له، وما أريد منهم، وما لله عليهم من دوام ذكره وشكره وعبوديته.
العاشر: حجاب المجتهدين السالكين المستمرين في السير عن المقصود.
فهذه عشرة حجب تحول بين القلب وبين الله سبحانه وتعالى.
وهذه الحجب تنشأ من أربعة عناصر:
عنصر النفس.. وعنصر الشيطان.. وعنصر الهوى.. وعنصر الدنيا.
فلا يمكن كشف هذه الحجب مع بقاء أصولها وعناصرها في القلب البتة.
وهذه الأربعة تفسد القول والعمل والقصد أن يصل إلى القلب، وما وصل إلى القلب قطعت عليه الطريق أن يصل إلى الرب.
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (2702).(1/105)
فإن حاربها العبد، وخلص العمل إلى قلبه دار فيه، وطلب النفوذ من هناك إلى الله، فإنه لا يستقر دون الوصول إليه: (وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى (42)) [النجم: 42].
فإذا وصل إلى الله عزَّ وجلَّ أثابه عليه مزيدًا من الإيمان واليقين، وجمل به ظاهره وباطنه، فهداه به لأحسن الأخلاق والأعمال، وصرف عنه به سيئ الأخلاق والأعمال.
وأقام الله سبحانه من ذلك العمل جندًا يحارب به قطاع الطريق للوصول إليه.
فيحارب الدنيا بالزهد فيها، وإخراجها من قلبه.
ويحارب الشيطان بترك الاستجابة لداعي الهوى، فإن الشيطان مع الهدى لا يفارقه.
ويحارب الهوى بتحكيم الأمر الشرعي المطلق، والوقوف مع الهدى.
ويحارب النفس بقوة الإخلاص، وتقديم مراد الله على مرادها.
وإن دار العمل في القلب، ولم يجد منفذًا إلى الله، وثبت عليه النفس فأخذته وصيرته جندًا لها، فصالت به وعلت وطغت: (وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (53)) [يوسف: 53].
- - - - - - - - - - - - - - - - - -
20- أدوية أمراض القلوب(1)
قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57)) [يونس: 57].
وقال الله تعالى: (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآَنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا (82)) [الإسراء: 82].
تنقسم أدوية أمراض القلوب إلى قسمين:
أدوية طبيعية.. وأدوية شرعية.
ومرض القلب نوعان:
__________
(1) - موسوعة فقه القلوب - (ج 3 / ص 80)(1/106)
الأول: مرض لا يتألم به صاحبه في الحال كمرض الجهل، ومرض الشبهات والشهوات والشكوك، وهذا النوع هو أشد النوعين ألمًا، ولكن لفساد القلب لا يحس بالألم، ولأن سكر الجهل والهوى يحول بينه وبين إدراك الألم، وهو متوارٍ عنه لاشتغاله بضده.
وهذا أخطر المرضين وأصعبهما، وعلاجه إلى الرسل وأتباعهم، فهم أطباء هذا المرض، ولا شفاء منه إلا باتباع ما جاءوا به من الهدى.
والنوع الثاني: مرض مؤلم له في الحال كالهم والغم، والحزن والغيظ ونحوها، وهذا المرض قد يزول بأدوية طبيعية كإزالة أسبابه، أو بالمداواة بما يضاد تلك الأسباب، وما يدفع موجبها مع قيامها.
فقلب الإنسان يتألم بما يتألم به بدنه، ويشقى بما يشقى به البدن، وأمراض القلب التي تزول بالأدوية الطبيعية من جنس أمراض البدن، وهذه قد لا توجب وحدها شقاءه وعذابه بعد الموت.
وأما أمراض القلب التي لا تزول إلا بالأدوية الإيمانية النبوية، فهي التي توجب له الشقاء والعذاب الدائم، إن لم يتداركها بالأدوية المضادة لها، فإذا استعمل تلك الأدوية حصل له الشفاء.
فالغيظ مثلاً مؤلم للقلب، ودواؤه في شفاء غيظه، فإن شفاه بحق اشتفى، وإن شفاه بظلم وباطل زاد مرضه، واستحق العقوبة عليه، كمن شفى مرض العشق بالفجور بالمعشوق.
وكذلك الهم والغم والحزن من أمراض القلب، وشفاؤها بأضدادها من الفرح والسرور والأنس.
فإن كان بحق شفي القلب، وصح وبرئ من مرضه، وإن كان بباطل توارى ذلك واستتر، وأعقب أمراضًا أصعب وأخطر.
وكذلك الجهل مرض مؤلم للقلب، فمن الناس من يداويه بعلوم لا تنفع، بل تزيده مرضًا إلى مرضه، وإنما شفاؤه وصحته بالعلوم الإيمانية النافعة.
وكذلك الشاك المرتاب في الشيء، يتألم قلبه حتى يحصل له العلم واليقين به، ولما كان ذلك يوجب له حرارة، قيل لمن حصل له اليقين ثلج صدره، وحصل له برد اليقين.
فمن أمراض القلوب ما يزول بالأدوية الطبيعية، ومنها ما لا يزول إلا بالأدوية الشرعية الإيمانية.(1/107)
والقلب له حياة وموت.. ومرض وشفاء.. وذلك أعظم مما للبدن.
وجماع أمراض القلوب هي أمراض الشبهات، وأمراض الشهوات، والقرآن شفاء للنوعين، وجميع الأسقام:
ففيه من الآيات والبراهين القطعية ما يبين الحق من الباطل.. فتزول أمراض الشبه المفسدة للعلم والتصور والإدراك.. بحيث يرى الأشياء على ما هي عليه.
وفيه إثبات التوحيد.. وإثبات الصفات.. وإثبات المعاد.. وإثبات النبوات.. وفي ذلك كله شفاء من الجهل.
وهو الشفاء على الحقيقة من أدواء الشبه والشكوك، ولكن ذلك موقوف على فهمه ومعرفة المراد منه.
فمن رزقه الله تعالى ذلك أبصر الحق والباطل عيانًا بقلبه، كما يرى الليل والنهار، وعلم أن ما عداه من كتب الناس بين علوم لا ثقة بها، وبين ظنون كاذبة لا تغني من الحق شيئًا، وبين أمور صحيحة لا منفعة للقلب فيها، وبين علوم صحيحة قد وعروا الطريق إلى تحصيلها.
وأما شفاؤه لمرض الشهوات.. فذلك بما فيه من الحكمة والموعظة الحسنة.. بالترغيب والترهيب.. والتزهيد في الدنيا.. والترغيب في الآخرة.. والأمثال والقصص التي فيها أنواع العبر والاستبصار.
فيرغب القلب السليم إذا أبصر ذلك فيما ينفعه في معاشه ومعاده، ويرغب عما يضره، فيصير القلب محبًا للرشد مبغضًا للغي، ويعود للفطرة التي فطره الله عليها، كما يعود البدن المريض إلى صحته.
ويتغذى القلب من الإيمان والقرآن بما يزكيه ويقويه، ويؤيده ويفرحه، ويسره وينشطه كما يتغذى البدن بما ينميه ويقويه.
وكل من القلب والبدن محتاج إلى أن يتربى، فينمو ويزيد حتى يكمل ويصلح.
فكما أن البدن محتاج إلى أن يزكو بالأغذية المصلحة له، والحمية عما يضره، فلا ينمو إلا بإعطائه ما ينفعه، ومنع ما يضره، فكذلك القلب لا يزكو ولا ينمو ولا يتم صلاحه إلا بذلك، ولا سبيل له إلى الوصول إلى ذلك إلا من القرآن.
ونجاسة الفواحش والمعاصي في القلب بمنزلة الأخلاط الرديئة في البدن، وبمنزلة الخبث في الذهب والفضة.(1/108)
فكما أن البدن إذا استفرغ من الأخلاط الرديئة، تخلصت القوة الطبيعية منها فاستراحت، فعملت عملها بلا معوق ولا ممانع فنما البدن.
فكذلك القلب إذا تخلص من الذنوب بالتوبة، فقد استفرغ من تخليطه، فتخلصت قوة القلب وإرادته للخير، فاستراح من تلك الجواذب الفاسدة، والمواد الرديئة فزكا القلب ونما، وقوي واشتد، وجلس على سرير ملكه، ونفذ حكمه في رعيته، فسمعت له وأطاعت، فصلحت المملكة.
فزكاة القلب موقوفة على طهارته، كما أن زكاة البدن موقوفة على استفراغه من أخلاطه الرديئة الفاسدة كما قال سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (21)) [النور: 21].
وقال سبحانه: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10)) [الشمس: 9، 10].
والإنسان إذا اعتاد سماع الباطل وقبوله، أكسبه ذلك تحريفًا للحق عن مواضعه، فإنه إذا قبل الباطل أحبه ورضيه، فإذا جاء الحق بخلافه رده وكذبه إن قدر على ذلك وإلا حرفه.(1/109)
فهذا وإخوانه من الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم، فإنها لو طهرت لما أعرضت عن الحق، وتعوضت بالباطل عن كلام الله ورسوله: ( يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آَمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آَخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (41)) [المائدة: 41].
أما القلب الطاهر، فلكمال حياته ونوره وتخلصه من الأدران والخبائث لا يشبع من القرآن، ولا يتغذى إلا بحقائقه، ولا يتداوى إلا بأدويته.
وأما القلب الذي لم يطهره الله تعالى، فإنه يتغذى من الأغذية التي تناسبه، بحسب ما فيه من النجاسة، فإن القلب النجس كالبدن العليل المريض، لا تلائمه الأغذية التي تلائم الصحيح.
وطهارة القلب موقوفة على إرادة الله تعالى الذي يعلم ما في القلوب، ويعلم ما يصلح له منها وما لا يصلح، ومن لم يطهر الله قلبه فلا بدّ أن يناله الخزي في الدنيا، والعذاب في الآخرة، بحسب نجاسة القلب وخبثه.
فالجنة دار الطيبين لا يدخلها خبيث، ولا من فيه شيء من الخبث، فمن تطهر في الدنيا بالإيمان والأعمال الصالحة، ولقي الله طاهرًا من نجاساته دخلها بغير معوق؛ لأنه جاء ربه بقلب سليم، وعمل سليم.
ومن لم يتطهر في الدنيا، فإن كانت نجاسته عينية كالكافر لم يدخلها بحال، وإن كانت نجاسته كسبية عارضة دخلها بعد ما يتطهر في النار من تلك النجاسة، ثم يخرج منها إلى الجنة بعد طهارته.(1/110)
وكذلك المؤمنون إذا جاوزوا الصراط حبسوا على قنطرة بين الجنة والنار فيهذبون وينقون، ثم يؤذن لهم في دخول الجنة.
والله جل جلاله بحكمته جعل الدخول عليه موقوفًا على الطهارة، فلا يدخل المصلى عليه حتى يتطهر، وكذلك جعل الدخول إلى جنته موقوفًا على الطيب والطهارة، فلا يدخلها إلا كل طيب طاهر.
والذنوب والخطايا توجب للقلب حرارة ونجاسةً وضعفًا، فيرتخي القلب، وتضطرم فيه نار الشهوة وتنجسه.
فالخطايا والذنوب للقلب بمنزلة الحطب الذي يمد النار ويوقدها.
ولذلك كلما كثرت الخطايا اشتدت نار القلب، واشتد ضعفه.
والماء يغسل الخبث، ويطفئ النار.
فإن كان باردًا أورث الجسم صلابة وقوة، وإن كان معه ثلج وبرد كان أقوى في التبريد وصلابة الجسم وشدته، فكان أذهب لأثر الخطايا والذنوب.
فالقلب والبدن بأشد الحاجة إلى ما يطهرهما ويبردهما ويقويهما، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في دعاء الاستفتاح في الصلاة: « اللَّهُمَّ بَاعِدْ بَيْنِى وَبَيْنَ خَطَايَاىَ كَمَا بَاعَدْتَ بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ ، اللَّهُمَّ نَقِّنِى مِنَ الْخَطَايَا كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الأَبْيَضُ مِنَ الدَّنَسِ ، اللَّهُمَّ اغْسِلْ خَطَايَاىَ بِالْمَاءِ وَالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ » . متفق عليه(1).
وقلوب البشر لها آفات وعلل، وأمرض وأسقام.
والحسد من الأمراض العظيمة التي تصيب القلوب، ولا تداوي أمراض القلوب إلا بالعلم والعمل.
فالعلم النافع لمرض الحسد، هو أن يعرف الإنسان أن الحسد ضرر عليه في الدنيا والدين.
أما في الدين فهو أنك سخطت قضاء الله تعالى، وكرهت نعمته التي قسمها بين عباده، وعدله الذي أقامه في ملكه بحكمته، فاستنكرت وكرهت واستبشعت ما قضاه الله وقدّره واختاره لعبده.
وهذه جناية كبرى على التوحيد والإيمان والدين.
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (744)، واللفظ له، ومسلم برقم (598).(1/111)
وأما كونه ضررًا عليك في الدنيا، فهو أنك تتألم في الدنيا، أو تتعذب به، فالذين تحسدهم لا يخليهم الله من نعم يفيضها عليهم، فلا تزال تتألم بكل نعمة تراها، وتتعذب بكل بلية تصرف عنهم، فتبقى مغمومًا محرومًا، قد نزل بك ما تشتهيه لأعدائك.
فهذه هي الأدوية العلمية، فإذا فكر الإنسان فيها بذهن صافٍ، انطفأت نار الحسد من قلبه، وعلم أنه مهلك لنفسه، ومفرح عدوه، ومسخط ربه، ومنغص عيشه.
وأما العمل النافع فيه، فهو أن يحكم الحسد، ويكلف نفسه نقيضه، فإن حمله الحسد على القدح في محسوده، كلف لسانه المدح له، والثناء عليه.
وإن حمله الحسد على التكبر عليه، ألزم نفسه التواضع له، والاعتذار إليه.
وإن بعثه على كف الإنعام عليه، ألزم نفسه الزيادة في الإنعام عليه، فإذا عرف المحسود ذلك طلب قلبه وأحبه، وجاءت الموافقة التي تقطع مادة الحسد.
فهذه أهم أدوية الحسد، وهي نافعة جدًا، إلا أنها مرة على القلوب جدًا، ولكن النفع في الدواء المر، فمن لم يصبر على مرارة الدواء، لم ينل حلاوة الشفاء.
ومن أمراض القلوب حب الدنيا فكرًا.. وطلبًا.. وتمتعًا، والإعراض عن الآخرة، ومن اتخذ الدنيا ربًا اتخذته عبدًا، والعاقل من يرضى منها بالقليل مع سلامة الدين، كما رضي أهل الدنيا بقليل الدين مع سلامة الدنيا.
ومن أحب شيئًا أكثر من ذكره، وبقدر ما يحزن الإنسان للدنيا يخرج هم الآخرة من قلبه.
وبقدر ما يحزن العبد للآخرة يخرج هم الدنيا من قلبه.
فالدنيا والآخرة ضُرَّتان.. فبقدر ما ترضى إحداهما تسخط الأخرى، وبقدر ما تعمر إحداهما تهدم الأخرى.. وبقدر ما تقدم إحداهما تؤخر الأخرى.
وطالب الدنيا مثل شارب ماء البحر، كلما ازداد شربًا ازداد عطشًا، حتى يقتله الشرب.
والدنيا سريعة الفناء، تعد بالبقاء ثم تخلف في الوفاء، تنظر إليها فتراها ساكنة مستقرة، وهي سائرة سيرًا عنيفًا، وهي كالظل فإنه متحرك ساكن، متحرك في الحقيقة ساكن في الظاهر.(1/112)
والدنيا كالأرض إن مشيت عليها حملتك، وإن حملتها على رأسك قتلتك.
وهي دار ضيافة سبلت على المجتازين لا على المقيمين.. ودار عارية لا دار ملك.. ودار فناء لا دار بقاء.. ودار زوال والآخرة هي دار القرار.
والعاقل من صرف همه عنها حتى لا يتألم عند فراقها، ويأخذ منها بقدر الحاجة ما يستعين به على عبادة ربه.
وأما الشهوات فيقمع منها ما خرج عن طاعة الشرع والعقل، ولا يتبع كل شهوة، ولا يترك كل شهوة، بل يتبع العدل، وخير الأمور أوسطها.
ولا يترك كل شيء في الدنيا، ولا يطلب كل شيء من الدنيا، بل يعلم مقصود كل ما خلق من الدنيا، ويأخذ منه قدر حاجته.
فيأخذ من القوت ما يقوى به البدن على العبادة.. ويأخذ من المسكن ما يكن من الحر والبرد.. ويحفظ الأهل والمال من اللصوص.. ويستقل من المركب ما يحمله لحاجاته من غير إسراف ولا مخيلة.. ويلبس من الكسوة ما يستر عورته.. ويتجمل به في صلاته، ويتزين به في العيد ولقاء الضيوف.
حتى إذا فرغ القلب من شغل البدن أقبل على الله بكليته، واشتغل بالذكر والفكر والطاعات في جل وقته، وكل ميسر لما خلق له، والله شكور حليم.
ومن أمراض القلب: الحرص والطمع.
فالمال وسيلة إلى مقصود صحيح، ويصلح أن يكون آلة ووسيلة إلى مقاصد فاسدة، فهو بحسب استخدامه يكون محمودًا أو مذمومًا.
ولما كانت الطباع مائلة إلى اتباع الشهوات القاطعة عن سبيل الله، وكان المال مسهلاً وآلة إليها، عظم الخطر فيما يزيد على قدر الكفاية من المال.
فعلى العبد القناعة، فإن تشوف إلى الكثير أو طول أمله فاته عز القناعة، وتدنس لا محالة بالطمع وذل الحرص.
وجره الحرص والطمع إلى مساوئ الأخلاق، وارتكاب المنكرات الخارقة للمروءات، والوقوف بأبواب اللئام.
وقد جبل الآدمي على الحرص والطمع، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب.
ودواء الحرص والطمع:
الاقتصاد في المعيشة.. والرفق في الإنفاق.. والرضا بما قسم الله له.(1/113)
فإذا تيسر للعبد في الحال ما يكفيه، فلا يضطرب لأجل المستقبل، ويعينه على ذلك قصر الأمل، واليقين بأن الرزق الذي قدر له لا بدَّ أن يأتيه وإن لم يشتد حرصه، وأن يعرف ما في القناعة من عز الاستغناء، وما في الحرص والطمع من الذل.
وبذلك تنبعث رغبته في القناعة، لأنه في الحرص لا يخلو من تعب، وفي الطمع لا يخلو من ذل، وكلاهما مذموم.
وينظر في أحواله المتنعمين من اليهود والنصارى وأراذل الناس.
ثم ينظر في أحوال الأنبياء والأولياء، ويخير نفسه بين أن يكون مشابهًا لأراذل الناس، أو مقتديًا بأعز الخلق عند الله، ويفهم ما في جمع المال من الخطر، وما فيه من خوف السرقة والنهب، والضياع والفساد، وما في خلو اليد من الراحة والأمن والفراغ.
وبهذه الأمور يقدر على التخلص من الحرص والطمع، وعلى اكتساب خلق القناعة.
والمال إن كان مفقودًا فينبغي أن يكون حال العبد القناعة وقلة الحرص، وإن كان موجودًا فينبغي أن يكون حاله الإيثار والسخاء، واصطناع المعروف، والتباعد عن الشح والبخل، فإن الجود والسخاء من أخلاق الأنبياء والفضلاء.
ومن أمراض القلب: البخل والشح.
وسببهما حب المال، ولحب المال سببان:
أحدهما: حب الشهوات التي لا وصول إليها إلا بالمال مع طول الأمل، وإن كان قصير الأمل ولكن له أولاد، أقام الولد مقام طول الأمل.
الثاني: أن يحب عين المال، فمن الناس من يملك ما يكفيه بقية عمره وهو شيخ بلا ولد، ومعه أموال كثيرة، ولا تسمح نفسه بإخراج الزكاة، ولا بمداواة نفسه منها عند المرض، بل صار محبًا لها، عاشقًا لها، يلتذ بوجودها في يده، ويكنزها تحت الأرض أو في مكان أمين، وهو يعلم أنه يموت فتضيع أو يأخذها غيره.
ومع هذا فلا تسمح نفسه بأن يأكل أو يتصدق أو يعالج نفسه منها.
وهذا مرض للقلب عظيم.. عسير العلاج.. لا سيما في كبر السن.(1/114)
فعلاج كل علة في القلب بمضادة سببها.. فتعالج حب الشهوات بالقناعة باليسير وبالصبر.. ويعالج طول الأمل بكثرة ذكر الموت.. ويعالج التفات القلب إلى الولد بأن خالقه خلق معه رزقه.
ومن الأدوية النافعة: كثرة التأمل في أحوال البخلاء، ونفرة الطبع عنهم، واستقباحه لهم، والتفكر في مقاصد المال، وأنه لماذا خلق؟.
وما هو ثواب إنفاقه في سبيل الله ومرضاته؟.
فإذا عرف الإنسان هذا، وعرف أن البذل خير له من الإمساك في الدنيا والآخرة، هاجت رغبته في البذل إن كان عاقلاً.
فإن هاجت شهوة الإمساك، قمعها برؤية ثمرة الإنفاق وثوابه، وحسن عاقبته.
ومن أمراض القلب: الرياء والسمعة.
والرياء: مشتق من الرؤية، والسمعة: مشتقة من السماع.
والرياء: أصله طلب المنزلة في قلوب الناس بإيرائهم خصال الخير، والمراءى به كثير، وهو كل ما يتزين به العبد للناس.
والرياء يحصل بستة أشياء هي:
البدن.. واللباس.. والقول.. والعمل.. والأتباع.. والأشياء.
وكذلك أهل الدنيا يراؤون بهذه الأسباب.
فالرياء في الدين بالبدن يكون بإظهار النحول والصفار ليوهم بذلك شدة الاجتهاد، وعظم الحزن على أمر الدين.
والرياء بالهيئة والزي بشعث الرأس، وإطراق الرأس في المشي، ولبس غليظ الثياب، وترك تنظيف الثياب، وترك الثوب مخرقًا، كل ذلك يرائي به ليظهر أنه متبع للسنة.
وأما الرياء بالقول فيكون بالوعظ والتذكير، والنطق بالحكمة، وحفظ الأخبار والآثار لأجل البروز في المحاورة، وإظهارًا لغريزة العلم، وتحريك الشفتين بالذكر في محضر الناس، ونحو ذلك.
وأما المراءاة بالعمل فكمراءاة المصلي من حوله بطول القيام والركوع والسجود، وإطراق الرأس، وكذلك بالصوم والصدقة، وإطعام الطعام ونحو ذلك.
وأما المراءاة بالأصحاب والزوار كالذي يتكلف أن يستزير عالمًا من العلماء ليقال إن العالم فلانًا قد زار فلانًا، أو عابدًا من العباد، ليقال إن أهل الدين يتبركون بزيارته، ونحو ذلك.(1/115)
فالرياء محبط للأعمال، وسبب للمقت عند الله تعالى، وهو من كبائر الذنوب والمهلكات.
وما هذا وصفه فجدير بالعاقل التشمير عن ساق الجد في إزالته، وذلك بقلع عروقه واستئصال أصوله.
وأصله: حب المنزلة والجاه عند الناس، والفرار من ألم الذم، والطمع فيما في أيدي الناس.
فيعلم أن طلب المنزلة والجاه عند الله بالطاعة، أعظم وأولى من طلبها عند الناس بالرياء والنفاق.
ويعلم أن الله تعالى هو المسخر للقلوب بالمنع والإعطاء، وأن الخلق كلهم مضطرون إليه سبحانه، فلا رازق إلا الله، ومن طمع في الخلق لم يخلُ من الذل والخيبة، وإن وصل إلى المراد لم يخلُ عن المنة والمهانة، فكيف يترك ما عند الله لذلك.
وأما ذمهم فلم يحذر منه؟.. ولا يزيده ذمهم شيئًا ما لم يكتبه الله عليه، ولا يعجل أجله، ولا يؤخر رزقه، ولا يجعله من أهل النار إن كان من أهل الجنة.
وما يعرض من الرياء أثناء العبادة لا بدَّ أنه يشمر لدفعه وقهره، بذكر ومراعاة باطن العبادة وظاهرها.
ففي إسرار الأعمال فائدة الإخلاص والنجاة من الرياء.
وفي الإظهار فائدة الاقتداء، وترغيب الناس في الخير، ولكن فيه آفة الرياء.
والسر أحرز العملين، ولكن في الإظهار فائدة الاقتداء، وفي كل خير، وذلك يختلف باختلاف الأحوال والأعمال والأشخاص: (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (274)) [البقرة: 274].
وقال الله سبحانه: (إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (271)) [البقرة: 271].
ومن أعظم أمراض القلوب: الكبر والعجب.
والكبر ينقسم إلى ظاهر وباطن.(1/116)
فالباطن هو خلق في النفس، والظاهر هو أعمال تصدر عن الجوارح، وهي ثمرات ذلك الخلق.
وعلامة المتكبر:
إن حاج أحدًا أنف أن يرد عليه.. وإن وعظه أحدٌ استنكف من القبول.. وإن وعظ عنّف في النصح.. وإن رُد عليه شيء من قوله غضب.. وإن علم لم يرفق بالمتعلمين.. واستذلهم وامتنّ عليهم.. وإن رأى لمن دونه تكريماً حقد عليه.
ويحب قيام الناس له أو بين يديه.. ولا يمشي إلا ومعه غيره يمشي خلفه.. ويحب أن يثنى عليه في المجالس.. وأن يصدر في المجالس.
فهذا داء الكبر، وفيه يهلك الخواص من الخلق، وقلما ينفك عنه الزهاد والعبّاد والعلماء والولاة فضلاً عن عوام الخلق.
ولا يتكبر إلا من استعظم نفسه، ولا يستعظمها إلا وهو يعتقد لها صفة من صفات الكمال.
وجماع ذلك يرجع إلى أمرين:
كمال ديني.. وكمال دنيوي.
فالديني هو العلم والعمل.. والدنيوي هو النسب، والمال، والجمال، والقوة، والذكاء، وكثرة الأنصار ونحو ذلك.
فالكبر استعظام النفس، ورؤية قدرها فوق قدر الغير، وهذا الشعور الباطن له موجب واحد، وهو العجب الذي يتعلق بالمتكبر، فإنه إذا أعجب بنفسه أو بعلمه أو بعمله، أو بشيء من أسبابه، استعظم نفسه وتكبر.
فالعجب يورث كبر الباطن، وكبر الباطن يثمر التكبر الظاهر في الأقوال والأعمال والأحوال: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60)) [غافر: 60].(1/117)
و عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « يُحْشَرُ الْمُتَكَبِّرُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْثَالَ الذَّرِّ فِى صُوَرِ الرِّجَالِ يَغْشَاهُمُ الذُّلُّ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَيُسَاقُونَ إِلَى سِجْنٍ فِى جَهَنَّمَ يُسَمَّى بُولَسَ تَعْلُوهُمْ نَارُ الأَنْيَارِ يُسْقَوْنَ مِنْ عُصَارَةِ أَهْلِ النَّارِ طِينَةِ الْخَبَالِ ». أخرجه أحمد والترمذي (1).
ولما كان الكبر من المهلكات، ولا يخلو أحد من الخلق عن شيء منه، وإزالته واجبة، وهو لا يزول بمجرد التمني، بل بالمعالجة، واستعمال الأدوية القامعة له، وذلك يتم بأمرين:
أحدهما: استئصال أصله، وقلع شجرته من مغرسها في القلب، وذلك بأن يعرف نفسه، ويعرف ربه تعالى، ويكفيه ذلك في إزالة الكبر.
فإنه مهما عرف نفسه حق المعرفة، علم أنه أذل من كل ذليل، وأقل من كل قليل، وأنه لا يليق به إلا التواضع والذلة والمهانة.
وإذا عرف ربه علم أنه لا تليق العظمة والكبرياء إلا بالله وحده لا شريك له.
ثم يتواضع لله بالفعل، ولسائر الخلق بالمواظبة على أخلاق المتواضعين.
وأما علاج التكبر بالأسباب المذكورة السابقة:
فيعلم نسبه الحقيقي، ويذكر أباه وجده، فإن أباه القريب نطفة قذرة، وجده البعيد تراب ذليل.
ومن تكبر بجماله فدواؤه أن ينظر إلى باطنه نظر العقلاء، ولا ينظر إلى الظاهر نظر البهائم، ومهما نظر في باطنه رأى من القبائح ما يكدر عليه تعززه بالجمال.
فالأقذار في جميع أجزائه:
البول في مثانته.. والرجيع في أمعائه.. والمخاط في أنفه.. والبزاق في فيه.. والدم في عروقه.. والصديد تحت بشرته.. والصنان تحت إبطه.. والوسخ في أذنيه.. ورائحة العرق تنبعث من جلده.
فهل لأحد أن يتكبر بعد هذا؟.
__________
(1) الترمذي برقم (2680 ) وأخرجه أحمد برقم (6677) حسن.
وأخرجه الترمذي برقم (2492)، وهذا لفظه، صحيح سنن الترمذي رقم (2025).(1/118)
وأما التكبر بالقوة والأيدي، فيمنعه منه علمه بما سلط عليه من العلل والأمراض، وأنه لو اعتل عرق واحد من بدنه، لصار أعجز من كل عاجز، وأذل من كل ذليل.
ثم إنه لا يطيق شوكة، ولا يقاوم بقة، ولا يدفع عن نفسه ذبابة، فلا ينبغي أن يفتخر بقوته وهذه حاله.
ثم إن قوي الإنسان فلا يكون أقوى من حمار أو بقرة أو جمل.
وأي افتخار في صفة يسبقك فيها البهائم؟.. ويأكل بها القوي الضعيف؟.
أما الغنى وكثرة المال، وفي معناه كثرة الأتباع والأنصار، فكل ذلك تكبر خارج عن ذات الإنسان.
وهذا أقبح أنواع الكبر.
فإن المتكبر بماله كأنه متكبر بفرسه وداره، ولو مات فرسه وانهدمت داره لعاد ذليلاً.
والمتكبر بمعرفة السلطان وتمكينه له على وجل، فلو تغير عليه كان أذل الخلق.
أما الكبر بالعلم، فهو أعظم الآفات، وأغلب الأدواء، وأبعدها عن قبول العلاج إلا بجهد جهيد، وتعب شديد، لأن قدر العلم عظيم عند الله، عظيم عند الناس، وللعلم طغيان في النفوس كطغيان المال.
ولن يقدر العالم على دفع الكبر إلا أن يعلم أن حجة الله على أهل العلم آكد، وأنه يحتمل من الجاهل ما لا يحتمل عشره من العالم، إذ من عصى الله تعالى عن معرفة وعلم فجنايته أفحش وذنبه أعظم من الجاهل.
وأن يعرف كذلك أن الكبر لا يليق إلا بالله الملك العزيز الجبار المتكبر وحده، وأنه إذا تكبر صار ممقوتًا عند الله، لأن اللائق بالمخلوق الضعيف العاجز التذلل والخضوع لا الكبر.
وأما التكبر بالورع والعبادة فذلك فتنة عظيمة على العباد، وسبيله أن يلزم قلبه التواضع لسائر الخلق، ويعلم أن من تقدم عليه بالعلم لا ينبغي أن يتكبر عليه كيفما كان، لما عرفه من فضيلة العلم.
والعجب من أمراض القلوب، وهو يدعو إلى الكبر، ويدعو إلى نسيان الذنوب وإهمالها، لظنه أنه مستغنٍ عن تفقدها، وما يتذكره منها يستصغره ولا يستعظمه فلا يتداركه، بل يظن أنه يغفر له.(1/119)
وأما العبادات والأعمال فإنه يستعظمها ويستعلي بها، ويمن على الله بفعلها، وينسى نعمة الله عليه بالتوفيق لها، والتمكين منها، ثم إذا أعجب بها عمي عن آفاتها، والأعمال ما لم تكن خالصة لله، نقية من الشوائب، قلما تنفع.
والمعجب يغتر بنفسه وبرأيه، ويأمن مكر الله وعذابه، ويظن أنه عند الله بمكان، وأن له عند الله منّة وحقًا بأعماله التي هي نعمة من نعمه.
ويخرجه العجب إلى أن يثني على نفسه ويحمدها ويزكيها، وإن أعجب بعلمه ورأيه وعقله منعه ذلك من الاستفادة، ومن الاستشارة والسؤال، فيستبد بنفسه ورأيه، ويستنكف عن سؤال من هو أعلم منه، ويستجهل غيره، ويصر على خطئه.
فإن كان في أمر دنيوي أخفق فيه، وإن كان في دين هلك به.
ومن أعظم آفات العجب أنه يفتر عن السعي، لظنه أنه قد فاز، وأنه قد استغنى، وهو الهلاك الصريح الذي لا شبهة فيه.
وعلاج العجب:
أن من أعجب ببدنه في جماله وهيئته.. وقوته وصحته.. وحسن صوته وصورته.. أن يعلم أن ذلك كله نعمة من الله تعالى عليه.. وواجب النعم الشكر للمنعم.. وأن يعلم أن النعم عرضة للزوال كالأنفس.. وعلاجه بما ذكرناه في الكبر.. وأن يعلم أن الوجوه الحسان.. والأبدان الناعمة سوف تتمزق في التراب.. وسوف تنتن في القبور حتى تستقذرها الطباع.
وعلاج العجب بالعقل والفطنة والذكاء.
أن يعلم أن ذلك نعمة من الله فليشكر الله عليها.. ويتفكر أنه بأدنى مرض يصيب دماغه يوسوس ويجن، ويضحك منه الخلق.
وعلاج العجب بالنسب الشريف.
أن يعلم أنه مهما خالف آباءه في أفعالهم وأخلاقهم، وظن أنه يلحق بهم فقد جهل، فليتشرف بما شرفوا به من الإيمان والأخلاق والتقوى.
ومن أعجب بكثرة العدد من الأولاد والخدم والغلمان والأنصار.
فعلاجه: أن يتفكر في ضعفه وضعفهم، وأنهم كلهم عبيد عجزة، لا يملكون لأنفسهم نفعًا ولا ضرًا.
ثم كيف يعجب بهؤلاء وهم سيفترقون عنه إذا مات، ويهربون منه يوم القيامة؟.(1/120)
ومن أعجب بالمال وافتخر به فعلاجه: أن يتفكر في آفات المال، وكثرة حقوقه، وعظم غوائله، وينظر إلى فضيلة الفقراء، وسبقهم إلى الجنة يوم القيامة، ويعلم أن المال غاد ورائح لا أصل له، وأن في اليهود والكفار والفساق واللئام من يزيد عليه في المال، وغاية المال بلا إيمان أن يكون كقارون الذي خسف الله به وبداره الأرض.
ومن أعجب برأيه الخطأ فعلاجه: أن يعلم أن جميع أهل البدع والضلال، إنما أصروا عليها، لعجبهم بآرائهم، وتعصبهم لها.
وعلاج هذا العجب أشد من علاج غيره، لأن صاحب الرأي الخطأ جاهل بخطئه، ولو عرفه لتركه، ولا يعالج الداء الذي لا يعرف، والجهل داء لا يعرف، فعسرت مداواته جدًا.
فعلاجه أبدًا أن يكون متهمًا لرأيه لا يغتر به، إلا أن يشهد له قاطع من كتاب أو سنة أو دليل عقلي صحيح.
ومن أمراض القلب: الغرور.
والغرور: هو سكون النفس إلى ما يوافق الهوى، ويميل إليه الطبع، عن شبهة وخدعة من الشيطان.
فمن اعتقد أنه على خير إما في العاجل أو في الآجل عن شبهة فاسدة فهو مغرور، وأكثر الناس مغرورون، وإن اختلفت أصناف غرورهم، وأشدهم غرورًا الكفار.. والعصاة.. والفساق.
فالكفار منهم من غرته الحياة الدنيا، ومنهم من غرَّه بالله الغَرور كما قال سبحانه: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (5)) [فاطر: 5].
فالذين غرتهم الحياة الدنيا قالوا: النقد خير من النسيئة، والدنيا نقد، والآخرة نسيئة، فهي إذاً خير، فلا بدَّ من إيثارها.
وقالوا: اليقين خير من الشك، ولذات الدنيا يقين، ولذات الآخرة شك، فلا نترك اليقين بالشك.. فانظر كيف صاغ لهم الشيطان هذه المقدمات التي جرهم بها إلى النار؟
وعلاج هذا الغرور والجهل بالإيمان والتصديق بما جاء عن الله ورسوله.(1/121)
وأما غرور الكفار بالله فقولهم: إنه لو كان لله معاد فنحن أحق به من غيرنا، ونحن أوفر حظًا فيه وأسعد حالاً: (وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (35)) [سبأ: 35].
وأما غرور العصاة من المؤمنين فهو قولهم: إن الله كريم، وإنا نرجو عفوه، واتكالهم على ذلك، وإهمالهم الأعمال، وظنهم أن الرجاء مقام محمود في الدين، وأن رحمة الله واسعة وكرمه عميم، وربما كان رجاؤهم مستندًا إلى صلاح الآباء، وعلو مرتبتهم.
والمغرورون من البشر أصناف، والأصناف فرق ودرجات:
فأولهم: أهل العلم، والمغترون منهم فرق:
ففرقة أحكموا العلوم الشرعية والعقلية واشتغلوا بها، وأهملوا تفقد الجوارح وحفظها من المعاصي، وإلزامها الطاعات، واغتروا بعلمهم، وظنوا أنهم عند الله بمكان، ولو كانوا مقصرين في العمل.
وفرقة أحكموا العلم والعمل، فواظبوا على الطاعات الظاهرة، وتركوا المعاصي، إلا أنهم لم يتفقدوا قلوبهم، ليمحوا عنها الصفات المذمومة عند الله من الكبر والحسد والرياء، وطلب الرياسة والشهرة في البلاد والعباد، فهؤلاء زينوا ظواهرهم وأهملوا بواطنهم.
وفرقة علموا أن هذه الأخلاق مذمومة من جهة الشرع، إلا أنهم لعجبهم بأنفسهم يظنون أنهم منفكون عنها، وأنهم أرفع عند الله من أن يبتليهم بذلك، وإنما يبتلى به العوام دون من بلغ مبلغهم في العلم، ثم إذا ظهرت عليهم مخايل الكبر والرياسة، وطلب العلو والشرف قالوا: ما هذا كبر، وإنما هو طلب عز الدين، وإظهار شرف العلم، ونصرة دين الله، ونسي هؤلاء ما عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من التواضع والتبذل، والقناعة ولين الجانب.
ونسي المغرور من هؤلاء أن عدوه الذي حذره الله منه هو الشيطان.. وأنه يفرح بما يفعله ويسخر به.. وينسى أن النبي صلى الله عليه وسلم بماذا نصر الدين؟.. وبماذا أرغم الكافرين؟.. وبماذا جذب قلوب العالمين؟.(1/122)
وفرقة أخرى أحكموا العلم والعمل، وطهروا الجوارح، وزينوها بالطاعات، واجتنبوا المعاصي، وتفقدوا أخلاق النفس، وصفات القلب من الرياء والحسد والكبر وطلب العلو، وجاهدوا أنفسهم على التبري منها، وقلعوا من القلوب منابتها القوية.
ولكنهم بعد مغرورون، إذ بقيت في زوايا القلب من خفايا مكايد الشيطان وخداع النفس ما دق وغمض مدركه، فلم يفطنوا لها وأهملوها.
فالعالم قد يفعل كل ذلك، ويغفل عن المراقبة للخفايا، فتراه يسهر ليله، ويتعب في نهاره في جمع العلوم وترتيبها، وتحسين ألفاظها ونشرها، وهو يرى أن باعثه الحرص على إظهار دين الله ونشر شريعته.
ولعل باعثه الخفي: هو طلب الذكر، وانتشار الصيت في الأطراف، وكثرة الرحلة إليه من الآفاق، وانطلاق الألسنة عليه بالثناء، والمدح بالزهد والورع والعلم.
فنسأل الله السلامة، وحسن الإخلاص، وحسن العمل، ابتغاء وجهه سبحانه.
وفرقة اشتغلوا بعلم الكلام، وفنون الجدل والمناظرات، والمجادلة في الأهواء، فتقطعت أعمارهم في تعلم الجدل، وهذيانات المبتدعة، وأهملوا أنفسهم وقلوبهم، حتى عميت عليهم ذنوبهم وخطاياهم الظاهرة والباطنة.
وأحدهم يظن أن اشتغاله بالجدل أولى وأقرب وأفضل عند الله.
ومجموعة أخرى اشتغلوا بالوعظ والتذكير، وأعلاهم رتبة من يتكلم في أخلاق النفس، وصفات القلب من الخوف والرجاء، والصبر والشكر، والإخلاص واليقين، وهم مغرورون، يظنون أنهم إذا تكلموا بهذه الصفات، ودعوا الخلق إليها، فقد صاروا موصوفين بهذه الصفات، وهم منفكون عنها عند الله، إلا عن قدر يسير لا ينفك عنه عوام المسلمين.
وغرور هؤلاء أشد الغرور، لأنهم معجبون بأنفسهم غاية الإعجاب، ويظنون أنهم ما تبحروا في علم المحبة إلا وهم محبون لله، وهكذا.
فالمسكين بهذه الظنون يرى أنه من الراضين بقضاء الله وهو من الساخطين، ويرى أنه من المتوكلين على الله وهو من المتكلين على العز والجاه والمال والأسباب، ويرى أنه من المخلصين وهو من المرائين.(1/123)
وفرقة أخرى عدلوا عن المنهاج الشرعي في الوعظ والتعليم، فاشتغلوا بالطامات والشطح، وتلفيق الكلمات طلبًا للإغراب، وشغفوا بطيارات النكت والسجع في الألفاظ، وغرضهم أن يكثر الناس حولهم، ويكثر في مجالسهم الزعاق والصراخ، ولو على أغراض فاسدة، فهؤلاء شياطين الإنس قد ضلوا وأضلوا عن سواء السبيل، وما يفسدونه أكثر مما يصلحونه.
وطائفة أخرى قنعوا بحفظ كلام الزهاد وأحاديثهم في ذم الدنيا، وتكلموا به على المنابر وفي الأسواق ومجامع الناس.
وكل منهم يظن أنه تميز بهذا القدر، وأنه قد أفلح ونال الغرض، وصار مغفورًا له، وأمن عقاب الله، من غير أن يحفظ ظاهره وباطنه عن الآثام، لكونه يظن أن حفظه لكلام أهل الدين يكفيه، وغرور هؤلاء أظهر من غرور من قبلهم.
وطائفة استغرقوا أوقاتهم في علم الحديث في سماعه، وجمع الروايات الكثيرة منه، وطلب الأسانيد الغريبة العالية.
فهمة أحدهم أن يدور في البلاد، ويرى الشيوخ ليقول: أنا أروي عن فلان، وفلان، وفلان، وفلان.
فهؤلاء أكثرهم مغرور ليس معه إلا النقل، يحفظ الأسانيد والروايات، ويظن أنه يكفيه العمل بما يروى ويحفظ، ويتركون العلم الذي يحصل به علاج القلب من معرفة الله وأسمائه وصفاته وأفعاله، ووعده ووعيده، والعلم الذي يحصل به معرفة الدين وأحكامه والعمل به.
ويشتغلون بكثرة الأسانيد، وتعدد الطرق، وطلب العالي منها، همة أحدهم أن يقول: معي من الإسناد ما ليس مع غيري.
وهل نزل الوحي إلا للعلم والعمل والتعليم للدين؟.
فما أشد غرور هؤلاء، والأمة تحتاج من هؤلاء من كان تقيًا عاملاً بعلمه.
وطائفة أخرى اشتغلوا بعلم النحو واللغة والشعر وغريب اللغة، وزعموا أنهم من علماء الأمة، إذ قوام الدين بالكتاب والسنة، وقوام الكتاب والسنة بعلم اللغة والنحو، فأفنى هؤلاء أعمارهم في طلب ذلك.(1/124)
فهؤلاء كمن يفني عمره في تعلم الخط وتحسين الكتابة، ويزعم أن العلوم لا يمكن حفظها إلا بالكتابة، وكان يكفيه معرفة أصل الخط والباقي زيادة.
فهؤلاء مغرورون أضاعوا أوقاتهم وأوقات غيرهم، واشتغلوا في غير ما خلقوا له، فيكفيهم من اللغة معرفة الغريب في القرآن والسنة، ومن النحو ما يتلعق بالقرآن والحديث.
فأما التعمق فيه إلى درجات لا تتناهى، فهو فضول مستغنى عنه، يضيع الأوقات، ويشغل عن أداء الحقوق والواجبات.
والصنف الثاني: أرباب العبادة والعمل.
والذين غرهم الشيطان منهم فرق كثيرة:
فمنهم من غروره في الصلاة.. ومنهم من غروره في تلاوة القرآن.. ومنهم من غروره في الحج أو الصيام أو الأذكار.. ومنهم من غروره في الوضوء.. ومنهم من غروره في الزهد.
وكل عامل غالبًا لا يخلو من غرور إلا من رحم الله.
فمنهم فرقة أهملوا الفرائض، واشتغلوا بالنوافل والفضائل، وربما تعمقوا في الفضائل حتى وصلوا إلى حد العدوان والسرف، كمن غلبه الوسواس في الوضوء والغسل.
وفرقة أخرى غلب عليها الوسواس في الصلاة، فلا يدعه الشيطان يعقد نية صحيحة، بل يشوش عليه حتى تفوته الجماعة أو الركعة، ويخرج الصلاة عن وقتها، وإن كبَّر شككه الشيطان في صحة نيته.
ومنه من تغلب عليه الوسوسة في إخراج حروف الفاتحة وسائر الأذكار من مخارجها، فلا يزال يحتاط ويردد التشديدات لا يهمه غيره، ذاهلاً عن معاني الآيات، والاتعاظ بها وفهمها، وهذا من أقبح أنواع الغرور، فإن الله لم يكلف عباده في تلاوة القرآن إلا بما جرت به عادتهم في الكلام.
وطائفة اغتروا بتلاوة القرآن يهذونه هذًا، وربما ختموه في اليوم والليلة مرتين، يتلوه هذا المغرور، وقلبه في أودية الأماني يتجول، فهو مغرور يظن أن المقصود من إنزال القرآن الهمهمة مع الغفلة عن تدبره والعمل بموجبه.
وفرقة أخرى اغتروا بالصوم، وربما صاموا الدهر، أو صاموا الأيام الشريفة، لكن صام الظاهر منهم دون الباطن.(1/125)
فأطلقوا ألسنتهم في كل شيء من الهذيان والغيبة، وملؤوا بطونهم بالحرام عند الإفطار، وقعدوا عن الدعوة إلى الحق، ونشر الهداية.
وكذلك الحج غرهم الشيطان فحجوا بزادٍ حرام، وعليهم من المظالم والديون ما عليهم، وأشغلهم بالرفث والفسوق والخصام.
وفرقة أخرى أخذت في طريق الحسبة، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ينكرون على الناس ما ظهر من المعاصي، وينسون ما في بواطن أنفسهم من المنكرات التي تأكل ما جمعوه من الحسنات.
وفرقة زهدت في المال، وقنعت من اللباس والطعام بالدون، ومن المساكن بالمساجد، وظنت أنها أدركت رتبة الزهاد، وهم مع ذلك راغبون في الرياسة والجاه، إما بالعلم، وإما بالوعظ أو بمجرد الزهد.
وهكذا في كل عمل للشيطان منه نصيب.
ومنهم فرقة غرهم الشيطان، وجعل لهم زيًا وهيئة ومنطقًا وحركات ومراسم، واختار لهم أدعية باطلة، وحالات مشينة كالتماوت والسماع والتنفس إلى غير ذلك من الشمائل والهيئات المشينة التي غرهم بها الشيطان.
وفرقة منهم ادعت علم المعرفة ومشاهدة الحق، ومجاوزة المقامات والأحوال، والملازمة في عين الشهود والكشف والوجد، وغيرها من الطامات والهذيان والبهتان، حتى ظن بعضهم أن ما هم عليه من الباطل أعلى من علم الأولين والآخرين، وينظر هؤلاء إلى الفقهاء والعلماء والمحدثين والمفسرين بعين الازدراء، فضلاً عن العوام، فكم يفرح الشيطان بمثل هؤلاء؟.
وفرقة أخرى وقعت في الإباحة، وطووا بساط الشرع، ورفضوا الأحكام، وسووا بين الحلال والحرام.
فبعضهم يزعم أن الله مستغنٍ عن عمله فلِمَ يتعب نفسه؟.
وقال بعضهم: كلف العباد ما لا يطيقون من تطهير القلوب من الشهوات وحب الدنيا وذلك محال.
فلله كم أضل الشيطان من البشر بمثل هذه الخواطر والأفكار؟.
الصنف الثالث: أرباب الأموال.
والمغترون منهم فرق:(1/126)
ففرقة منهم يحرصون على بناء المساجد والمدارس والقناطر، وما يظهر للناس، ويكتبون أسماءهم عليها، ليتخلد ذكرهم ويدعى لهم، ويظنون أنهم يغفر لهم بذلك، وهم مغرورون حيث بنوها من أموال محرمة، فهم قد تعرضوا لسخط الله في كسبها، وتعرضوا لسخطه في إنفاقها، وكتابة الأسماء تنافي الإخلاص، والله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصًا صوابًا، والله أعلم بما في صدور العالمين.
وربما اكتسبت هذه الفرقة المال من الحلال، وأنفقت على المساجد، وهي أيضًا مغرورة إما بالرياء، وحب الثناء، أو بالإسراف الذي زينه الشيطان بزخرفة المساجد ونقشها، والتي تشغل المصلين، وتخطف أبصارهم.
والمقصود من الصلاة الخشوع، وحضور القلب، وهذه الزخرفة تشغلهم عن ذلك، وتحبط ثواب أعمالهم. ووبال ذلك كله يرجع إليه، وهو مع ذلك يغتر به، ويرى أنه من الخيرات.
وطائفة أخرى من الأغنياء ينفقون الأموال في الصدقات على الفقراء والمساكين، ويطلبون بذلك المحافل الجامعة، ويرون إخفاء الفقير لما يأخذ منهم جناية عليهم، وكفرانًا لإحسانهم إليه.
ويكرهون التصدق في السر طلبًا لمحمدة الناس، وعلو الجاه عندهم.
وفرقة أخرى من الأغنياء اشتغلوا بحفظ، الأموال وإمساكها بحكم البخل، ثم هم يشتغلون بالعبادات البدنية التي لا يحتاج فيها إلى النفقة كصيام النهار، وقيام الليل، وختم القرآن ونحو ذلك.
وهم مغرورون بذلك، لأن البخل المهلك قد استولى على قلوبهم.
وفرقة أخرى غلبهم البخل، فلا تسمح نفوسهم إلا بأداء الزكاة فقط، ثم إنهم يخرجون من المال الخبيث الرديء الذي يرغبون عنه، ويطلبون من الفقراء من يخدمهم، ويتردد في حاجاتهم، وكل ذلك من مفسدات النية، ومحبطات الأعمال.(1/127)
وفرقة أخرى من أرباب الأموال والفقراء وعوام الخلق اغتروا بحضور مجالس الذكر، واعتقدوا أن ذلك يغنيهم ويكفيهم، واتخذوا ذلك عادة، ويظنون أن لهم على مجرد سماع الوعظ دون الاتعاظ أجرًا، وهم مغرورون، لأن فضل مجالس الذكر لكونها مرغبة في الخير، فإن لم يهيج المجلس الرغبة في العمل فلا خير فيه.
فهذه وسائل الشيطان ومداخله إلى القلب وهي كثيرة، فليس في الإنسان صفة مذمومة إلا وهي سلاح للشيطان، ومدخل من مداخله، ومطيَة من مطاياه.
وعلاجها على وجه العموم بثلاثة أمور:
الأول: اللجوء إلى الله بالدعاء وسؤاله إبعاد الشيطان عنه.
قال الله تعالى: (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36)) [فصلت: 36].
الثاني: العناية في إزالة هذه الصفات المذمومة من القلوب، وقلعها منها، فإن الشيطان مثل الكلب في التسلط على الإنسان، فإذا كان الإنسان متصفًا بهذه الصفات الذميمة من الغضب والحسد والحرص ونحوها، كان بمنزلة من يكون بين يديه خبز ولحم، فإن الكلب لا محالة يتهور عليه ويتوثب، ويشق دفعه.
وإن لم يكن متصفًا بها لم يطمع فيه، لأنه لا داعي له هناك، ويكون دفعه أسهل ما يكون.
وتزال تلك الصفات بضدها.. فيزال الغضب بالرضا.. ويزال الكبر بالتواضع.. ويزال الطمع بالورع.. ويزال الحسد بمعرفة أن النعم فضل الله يؤتيه من يشاء.. وهو أعلم بمن يصلح لها.. ويزال البخل بالإنفاق.. وهكذا.
الثالث: ذكر الله تعالى والفكر، فكلما ألم بقلوبهم شيء من تلك الصفات المذمومة ذكروا الله وتفكروا في حقه، وفيما أمر به، وفيما نهى عنه، فعند ذلك تحصل لهم البصيرة كما قال سبحانه: (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ (201)) [الأعراف: 201].
والغين على القلب ألطف شيء وأرقه.(1/128)
وعَنِ الأَغَرِّ الْمُزَنِىِّ - وَكَانَتْ لَهُ صُحْبَةٌ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « إِنَّهُ لَيُغَانُ عَلَى قَلْبِى وَإِنِّى لأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ فِى الْيَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ ». أخرجه مسلم(1).
والران من أغلظ الحجب على القلب وأكثفها، فإذا كثرت الذنوب والمعاصي عند العبد، وتوالى الذنب بعد الذنب، أحاطت تلك الذنوب والمعاصي بالقلب وتغشته، فيموت القلب إذا غمرته تلك الأعمال الخبيثة.
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا أَخْطَأَ خَطِيئَةً نُكِتَتْ فِى قَلْبِهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ فَإِذَا هُوَ نَزَعَ وَاسْتَغْفَرَ وَتَابَ سُقِلَ قَلْبُهُ وَإِنْ عَادَ زِيدَ فِيهَا حَتَّى تَعْلُوَ قَلْبَهُ وَهُوَ الرَّانُ الَّذِى ذَكَرَ اللَّهُ ( كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) ». أخرجه الترمذي (2).
فالذنب بعد الذنب يغطي القلب حتى يصير كالران عليه كما قال سبحانه: (كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14)) [المطففين: 14].
فالغين ألطف شيء وأرقه.. والران أن يسود القلب من الذنوب.. والطبع أن يطبع على القلب، وهو أشد من الران.. والأقفال أشد من الطبع.. وهي أن يقفل على القلب فلا يصل إليه شيء كما قال سبحانه: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24)) [محمد: 24].
وجميع أمراض القلوب إنما تنشأ من جانب النفس، ومن جانب الشيطان، ولكل منهما على القلب آثار وأضرار.. ولكل منهما علامات، ولكل منهما دواء.
ولا تزكو القلوب إلا بثلاثة أمور:
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (2702).
(2) أخرجه الترمذي برقم (3334)، وقال حسن صحيح وهو كما قال .وأخرجه ابن ماجه برقم (4244)، صحيح سنن ابن ماجه رقم (3422).(1/129)
تزكية القلوب بالتوحيد والإيمان.. والتزكية بفعل الواجبات وترك المحرمات.. والتزكية بفعل النوافل المشروعة.
فإذا زكت القلوب ذكرت ربها في كل حين، وعبدته بكل جارحة، وأطاعته في كل أمر، وتخلقت بأحسن الأخلاق، مع الله بالإيمان وأحسن الأعمال، ومع الخلق بأحسن المعاملات والمعاشرات: (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (18)) [فاطر: 18].
===================
1- علاج مرض القلب من استيلاء النفس عليه
قال الله تعالى: (وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (53)) [يوسف: 53].
وقال الله تعالى: (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41)) [النازعات: 40، 41].
إن جميع أمراض القلوب إنما تنشأ من جانب النفس.
فالمواد الفاسدة كلها تنصب إليها، ثم تنبعث منها إلى الأعضاء، وأول ما تنال القلب.
وقد استعاذ النبي صلى الله عليه وسلم من شرها عمومًا، ومن شر ما يتولد منها من الأعمال، ومن شر ما يترتب على ذلك من المكاره والعقوبات.(1/130)
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رضى الله عنه قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مُرْنِى بِكَلِمَاتٍ أَقُولُهُنَّ إِذَا أَصْبَحْتُ وَإِذَا أَمْسَيْتُ. قَالَ « قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ رَبَّ كُلِّ شَىْءٍ وَمَلِيكَهُ أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ نَفْسِى وَشَرِّ الشَّيْطَانِ وَشِرْكِهِ ». قَالَ « قُلْهَا إِذَا أَصْبَحْتَ وَإِذَا أَمْسَيْتَ وَإِذَا أَخَذْتَ مَضْجَعَكَ ». أخرجه البخاري في الأدب المفرد والترمذي (1).
والنفس قاطعة بين القلب وبين الوصول إلى الرب، فإنه لا يدخل عليه سبحانه ولا يوصل إليه إلا بعد إماتتها وزجرها ومخالفتها.
فإن الناس على قسمين:
قسم ظفرت به نفسه فملكته وأهلكته، وصار طوعًا لها، ينفذ أوامرها.
وقسم ظفروا بنفوسهم فقهروها، فصارت طوعًا لهم، منقادة لأوامرهم.
فالنفس تدعو إلى الطغيان، وإيثار الحياة الدنيا.. والرب يدعو عبده إلى طاعته وخوفه، ونهي النفس عن الهوى، والقلب بين الداعيين.
يميل إلى هذا الداعي مرة.. وإلى هذا مرة.. وهذا موضع المحنة والابتلاء.
والنفس واحدة باعتبار ذاتها، وثلاث باعتبار صفاتها:
نفس مطمئنة.. ونفس لوامة.. ونفس أمارة بالسوء.
فالنفس إذا سكنت إلى الله واطمأنت بذكره، وأنابت إليه، واشتاقت إليه، وأنست بقربه، فهي المطمئنة، وهي التي يقال لها عند الموت: (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30)) [الفجر: 27-30].
__________
(1) أخرجه البخاري في الأدب المفرد برقم (1239)، وهذا لفظه، صحيح الأدب المفرد رقم (914). صحيح وأخرجه الترمذي برقم (3529)، صحيح سنن الترمذي رقم (2792).(1/131)
وحقيقة الطمأنينة: السكون والاستقرار، فهي التي قد سكنت إلى ربها وطاعته وأمره وذكره، ولم تسكن إلى أحدٍ سواه.
فقد اطمأنت إلى محبته وعبوديته وذكره.. واطمأنت إلى أمره ونهيه وخبره.. واطمأنت إلى لقائه ووعده.. واطمأنت إلى قضائه وقدره.. واطمأنت إلى كفايته وحسبه.. واطمأنت إلى التصديق بحقائق أسماء الله وصفاته.. واطمأنت بأن الله وحده ربها وإلهها ومعبودها ومليكها.. ومالك أمرها كله.. وأن مرجعها إليه.. وأنه لا غنى لها عنه طرفة عين.. واطمأنت إلى الرضى بالله ربًا.. وبالإسلام دينًا.. وبمحمد رسولاً.
والنفس الأمارة بالسوء هي التي بضد ذلك تأمر صاحبها بالسوء.. وبما تهواه من شهوات الغي والباطل.. فهي مأوى كل سوء.. وإن أطاعها العبد قادته إلى كل قبيح.. وساقته إلى كل مكروه.. وهي التي ذكرها الله بقوله: (وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (53)) [يوسف: 53].
وعادة النفس ودأبها الأمر بالسوء إلا إذا رحمها الله، وجعلها زاكية تأمر صاحبها بالخير، فذلك من رحمة الله لا منها، فإنها بذاتها أمارة بالسوء، لأنها في الأصل خلقت جاهلة ظالمة إلا من رحمه الله، والعدل والعلم طارئ عليها بإلهام ربها وفاطرها لها ذلك.
فإذا الله لم يلهمها رشدها، بقيت على ظلمها وجهلها، فلم تكن أمارة إلا بموجب الجهل والظلم.
فلولا فضل الله ورحمته على المؤمنين ما زكت منهم نفس واحدة كما قال سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (21)) [النور: 21].
وسبب الظلم إما جهل.. وإما حاجة.(1/132)
والنفس في الأصل جاهلة، والحاجة لازمة لها، فلذلك كان أمرها بالسوء لازمًا لها إن لم تدركها رحمة الله وفضله.
فإذا أراد الله بها خيرًا جعل فيها ما تزكو به من الإيمان والأعمال الصالحة.
وإن لم يرد بها ذلك تركها على حالها التي خلقت عليها من الجهل والظلم.
أما النفس اللوامة فهي اللؤم كما أخبر الله عنها بقوله: (لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (1) وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2)) [القيامة: 1، 2].
فكل نفس تلوم نفسها يوم القيامة:
تلوم المحسن نفسه أن لا يكون ازداد إحسانًا.. وتلوم المسيء نفسه أن لا يكون رجع عن إساءته.
والمؤمن ما تراه إلا يلوم نفسه على كل حالاته:
يلومها على كل ما يفعل، ويلومها على ترك ما أمر الله به.. ويلومها على تأخيره ونقصه إن فعله، ويلومها على فعل ما نهى الله عنه وعلى كثرته وإعلانه.
والنفس قد تكون تارة لوامة.. وتارة أمارة بالسوء.. وتارة مطمئنة، بل في اليوم الواحد، والساعة الواحدة، يحصل منها هذا وهذا، والحكم للغالب عليها من أحوالها.
فكونها مطمئنة وصف مدح لها.. وكونها أمارة بالسوء وصف ذم لها، وكونها لوامة ينقسم إلى المدح والذم بحسب ما تلوم عليه من ترك واجب، أو فعل محرم.
ومرض القلب باستيلاء النفس الأمارة عليه له علاجان هما:
محاسبة النفس.. ومخالفة النفس.
وهلاك القلب من إهمال محاسبتها، ومن موافقتها واتباع هواها.
والنفس مع صاحبها كالشريك في المال بينهما شروط وعهود، فكذلك النفس حتى تزكو لا بدَّ أن يتفق معها على شروط.
يشارطها أولاً على حفظ الجوارح السبعة التي حفظها هو رأس المال، والربح بعد ذلك وهي: العين، والأذن، والفم، واللسان، والفرج، واليد، والرجل.
وهذه هي مراكب العطب والنجاة، فمنها عطب من عطب بإهمالها وعدم حفظها، ونجا من نجا بحفظها ومراعاتها.
فحفظها أساس كل خير، وإهمالها أساس كل شر.(1/133)
قال تعالى :( قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30)) [النور: 30].
وقال الله تعالى: (وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آَبَائِهِنَّ أَوْ آَبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31)) [النور: 30].
وقال الله تعالى: (وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36)) [الإسراء: 36].
وقال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71)) [الأحزاب: 70].
فإذا شارط العبد نفسه على حفظ هذه الجوارح انتقل منها إلى مطالعتها ومراقبتها، فلا يهملها لئلا ترتع في الخيانة، ومتى أحس بالنقصان بادر إلى محاسبتها وتذكيرها بما شارطها عليه.(1/134)
فإن أحس بالخسران استدرك منها ما يستدركه الشريك من شريكه، من الرجوع عليه بما مضى، والقيام بالحفظ والمراقبة في المستقبل، ولا مطمع له في فسخ عقد الشركة مع هذا الخائن والاستبدال بغيره فإنه لا بدَّ له منه.
فليجتهد في مراقبته ومحاسبته، وليحذر من إهماله، ويعينه على هذه المراقبة والمحاسبة، معرفته أنه كلما اجتهد فيها اليوم استراح منها غدًا، إذا صار الحساب إلى غيره يوم القيامة.
ويعينه كذلك معرفته أن ربح هذه التجارة سكنى الفردوس، والنظر إلى وجه الرب سبحانه، والفوز برضوانه.
وخسارتها دخول النار والحجاب عن الرب تعالى، والتعرض لسخطه.
فإذا تيقن هذا هان عليه الحساب اليوم وغدًا: (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (30)) [آل عمران: 30].
ومحاسبة النفس لها مرحلتان:
الأولى: محاسبتها قبل العمل.
فإذا تحركت النفس لعمل من الأعمال، وهم به العبد، فلينظر هل ذلك العمل مقدور له أم غير مقدور له؟.
فإن لم يكن مقدورًا لم يقدم عليه، وإن كان مقدورًا له، نظر هل فعله خير له من تركه؟.. أو تركه خير له من فعله؟.
فإن كان الثاني تركه، وإن كان الأول وقف ونظر هل الباعث عليه إرادة وجه الله وثوابه، أو إرادة الجاه والثناء والمال من المخلوق؟.
فإن كان الثاني لم يقدم عليه، وإن أفضى به إلى مطلوبه، لئلا تعتاد النفس الشرك، ويخف عليها العمل لغير الله، فبقدر ما يخف عليها ذلك، يثقل عليها العمل لله تعالى.
وإن كان الأول وقف ونظر هل هو معان عليه، وله أعوان يساعدونه وينصرونه، إذا كان العمل محتاجًا إلى ذلك أم لا؟.
فإن لم يكن له أعوان أمسك عنه كما أمسك النبي صلى الله عليه وسلم عن الجهاد، بمكة حتى صار له شوكة وأنصار في المدينة.(1/135)
وإن وجد نفسه معانًا فليقدم عليه فإنه منصور.
ولا يفوت النجاح والفوز والفلاح إلا من فوت خصلة من هذه الخصال.
الثانية: محاسبة النفس بعد العمل.
وتكون بمحاسبتها على طاعة قصرت فيها في حق الله تعالى.
وحق الله في الطاعة ستة أمور وهي:
الإخلاص في العمل.. والنصيحة فيه لله.. ومتابعة الرسول فيه.. وشهود مشهد الإحسان فيه.. وشهود منة الله عليه فيه.. وشهود تقصيره فيه بعد ذلك كله.
ويحاسبها كذلك على كل عمل كان تركه خيرًا له من فعله، وعلى كل أمر مباح أو معتاد لم فعله؟، وهل أراد به الله والدار الآخرة؟، أو أراد به الدنيا وعاجلها؟.
وصلاح القلب بمحاسبة النفس، وفساده بإهمالها والاسترسال معها.
وجماع ذلك أن يحاسب نفسه أولاً على الفرائض، فإن تذكر فيها نقصًا تداركه إما بقضاء أو إصلاح أو الإكثار من النوافل.
ثم يحاسبها على المناهي، فإن عرف أنه ارتكب منها شيئًا، تداركه بالتوبة والاستغفار والحسنات الماحية.
ثم يحاسب نفسه كذلك على الغفلة، فإن كان قد غفل عما خلق له، تداركه بالذكر والإقبال على الله تعالى.
ثم يحاسبها على ما تكلم به لسانه، أو مشت إليه رجلاه، أو بطشت يداه، أو سمعته أذناه، ماذا أردت بهذا؟.. ولم فعلته؟.. وعلى أي وجه فعلته؟.
فكل عبد سيسأل عن الإخلاص والمتابعة في كل عمل: (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110)) [الكهف: 110].
وإذا كان العبد مسؤولاً ومحاسبًا على كل شيء، فهو حقيق أن يحاسب نفسه قبل أن يناقش الحساب: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18)) [الحشر: 18].(1/136)
وأنفع ما للقلب النظر في حق الله على العبد، فإن ذلك يورثه مقت نفسه، والازدراء عليها، ويخلصه من العجب ورؤية العمل، ويفتح له باب الذل والخضوع والانكسار بين يدي الله، واليأس من نفسه، وأن النجاة لا تحصل له إلا بعفو الله ومغفرته ورحمته.
فإن من حقه سبحانه أن يطاع فلا يُعصى، وأن يُذكر فلا يُنسى، وأن يُشكر فلا يُكفر، وأن يعبد وحده دون سواه.
فمن نظر في هذا الحق الذي لربه عليه، علم علم اليقين أنه غير مؤدٍ له كما ينبغي، وأنه لا يسعه إلا طلب العفو والمغفرة، وأنه إن أحيل على عمله هلك.
فهذا محل نظر أهل المعرفة بالله تعالى وبنفوسهم، وهذا الذي أيأسهم من أنفسهم، وعلق رجاءهم كله بعفو الله ورحمته.
قال الله تعالى: (قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23)) [المائدة: 23].
و عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « سَدِّدُوا وَقَارِبُوا ، وَاعْلَمُوا أَنْ لَنْ يُدْخِلَ أَحَدَكُمْ عَمَلُهُ الْجَنَّةَ ، وَأَنَّ أَحَبَّ الأَعْمَالِ أَدْوَمُهَا إِلَى اللَّهِ ، وَإِنْ قَلَّ » متفق عليه(1).
وإذا تأمل العبد حال أكثر الناس وجدهم بضد ذلك، ينظرون في حقهم على الله، ولا ينظرون في حق الله عليهم، ومن هنا انقطعوا عن الله، وحجبت قلوبهم عن معرفته ومحبته، والشوق إلى لقائه، والتلذذ بذكره، والابتهاج بطاعته، وهذا غاية جهل الإنسان بنفسه وربه.
فمحاسبة النفس تكون بنظر العبد في حق الله عليه أولاً، ثم نظره هل قام به كما ينبغي لجلال الله ثانيًا، ثم نظره هل أداه في وقته ثالثًا ثم نظره في تقصيره عن شكر ما أنعم الله به عليه رابعاً.
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6464)، ومسلم برقم (2818) واللفظ له.(1/137)
وأفضل الفكر الفكر في ذلك.. فإنه يسير بالقلب إلى الله.. ويطرحه بين يديه ذليلاً خاضعًا.. منكسرًا كسرًا فيه جبره.. ومفتقرًا فقرًا فيه غناه.. وذليلاً ذلاً فيه عزه.
ومعرفة العبد بحق الله عليه يجعله لا يدلي بعمل أصلاً كائنًا ما كان، ومن أدلى بعمله لم يصعد إلى الله تعالى، والله غني عن كل ما سواه: (وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (6)) [العنكبوت: 6].
« اللَّهُمَّ إِنِّى ظَلَمْتُ نَفْسِى ظُلْمًا كَثِيرًا وَلاَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ أَنْتَ ، فَاغْفِرْ لِى مَغْفِرَةً مِنْ عِنْدِكَ ، وَارْحَمْنِى إِنَّكَ أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ » . متفق عليه(1).
=======================
2- علاج مرض القلب من وسوسة الشيطان
قال الله تعالى: (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36)) [فصلت: 36].
وقال الله تعالى: (وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (97) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (98)) [المؤمنون: 97، 98].
الشيطان عدو لجميع بني آدم، ولذلك جاء ذكره في الكتاب والسنة أكثر من ذكر النفس، وحذر الله عباده منه أكثر من تحذيره من النفس، وذلك لعظيم خطره، وكثرة حيله، وشدة عداوته وكثرة جنوده.
وشر النفس وفسادها ينشأ من وسوسته، فهي مركبه، وموضع شره، ومحل طاعته، ولذلك فهو ملازم لها، ويجري في ابن آدم مجرى الدم.
وقد أمرنا الله عزَّ وجلَّ بالاستعاذة منه عند قراءة القرآن وغيرها، لشدة الحاجة إلى التعوذ منه، ولم يأمر سبحانه بالاستعاذة من النفس في موضع واحد.
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (834)، ومسلم برقم (2705)، واللفظ له,.(1/138)
وإنما جاءت الاستعاذة من شر النفس، وشر الشيطان فعَنْ أَبِى رَاشِدٍ الْحُبْرَانِىِّ قَالَ أَتَيْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِى فَقُلْتُ لَهُ حَدِّثْنَا مِمَّا سَمِعْتَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-.فَأَلْقَى إِلَىَّ صَحِيفَةً فَقَالَ هَذَا مَا كَتَبَ لِى رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ فَنَظَرْتُ فِيهَا فَإِذَا فِيهَا إِنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رضى الله عنه قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلِّمْنِى مَا أَقُولُ إِذَا أَصْبَحْتُ وَإِذَا أَمْسَيْتُ. فَقَالَ « يَا أَبَا بَكْرٍ قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ رَبَّ كُلِّ شَىْءٍ وَمَلِيكَهُ أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ نَفْسِى وَمِنْ شَرِّ الشَّيْطَانِ وَشَرَكِهِ وَأَنْ أَقْتَرِفَ عَلَى نَفْسِى سُوءًا أَوْ أَجُرَّهُ إِلَى مُسْلِمٍ ». أخرجه البخاري في الأدب المفرد والترمذي (1).
فالشر كله إما أن يصدر من النفس.. أو يصدر من الشيطان.
وغايته: إما أن تعود على العامل، أو على أخيه المسلم، فتضمن الحديث الاستعاذة من الشر وأسبابه وغايته، وبيان مصدري الشر، وغايتيه التي يصل إليهما.
وأمر الله عزَّ وجلَّ بالاستعاذة من الشيطان عند قراءة القرآن كما قال سبحانه: (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآَنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99)) [النحل: 98، 99].
__________
(1) أخرجه البخاري في الأدب المفرد برقم (1239)، وهذا لفظه، صحيح الأدب المفرد رقم (914). وأخرجه الترمذي برقم (3529)، صحيح سنن الترمذي رقم (2789). صحيح(1/139)
فالقرآن شفاء لما في الصدور، يذهب ما يلقيه الشيطان فيها من الوساوس والشهوات، والإرادات الفاسدة، فأمر الله العبد أن يطرد مادة الداء، ويخلي منه القلب.
والقرآن مادة الهدى والعلم والخير في القلب، وكلما أحس الشيطان بنبات الخير في القلب سعى في إفساده وإحراقه، فأمر أن يستعيذ بالله عزَّ وجلَّ منه، لئلا يفسد عليه ما يحصل له بالقرآن من المنافع.
والملائكة تدنو من قارئ القرآن، وتستمع لقراءته، والشيطان ضد الملك وعدوه، فأمر القارئ أن يطلب من الله تعالى مباعدته عنه، حتى يحضره خاص ملائكته.
وكذلك الشيطان يجلب على القارئ بخيله ورجله، حتى يشغله عن الانتفاع بالقرآن، ويحول بينه وبينه، فأمر عند الشروع في القراءة أن يستعيذ بالله منه.
وكذلك الشيطان يلقي في قراءة القارئ، ويلبس عليه، ولهذا يغلط القارئ تارة، ويخلط عليه تارة، فأمر الله سبحانه بالاستعاذة منه عند قراءة القرآن.
والله عزَّ وجلَّ لا يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلاً، لكن قد تصدر من المؤمنين من المعاصي والمخالفات التي تضاد الإيمان، ما يصير به للكافرين عليهم سبيل بحسب تلك المخالفة، فهم الذين تسببوا إلى جعل السبيل عليهم، كما تسببوا إليه يوم أُحُد بمعصية الرسول ومخالفته.
فالأصل نصر الله لمن أطاعه، وخذلان من عصاه: (الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا (141)) [النساء: 141].(1/140)
وقال الله سبحانه: (إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (160)) [آل عمران: 160].
والله سبحانه لم يجعل للشيطان على العبد سلطانًا، حتى جعل له العبد سبيلاً إليه بطاعته والشرك به، فجعل الله حينئذ للشيطان على الإنسان تسلطًا وقهرًا بالإغواء والإضلال، بحيث يؤزهم إلى الكفر والشرك والمعاصي، ويزعجهم إليها، ولا يدعهم يتركونها كما قال سبحانه: (أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (83)) [مريم: 83].
فالتوحيد والإيمان، والإخلاص والتوكل على الله يمنع سلطانه كما قال الله سبحانه: (إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99)) [النحل: 99].
والشرك وفروعه من المعاصي والمنكرات والفواحش يوجب سلطانه على البشر الذين تولوه، ودخلوا في طاعته، وانضموا لحزبه.
فهؤلاء الذين جعلوا للشيطان ولاية على أنفسهم، فأزهم إلى المعاصي أزًا، وقادهم إلى النار من حيث لا يشعرون: (إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100)) [النحل: 100].
وقد استولى الشيطان على كثير من قلوب البشر وأبدانهم، أمرهم بالكفر فكفروا، وزين لهم المعاصي فعصوا: (وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20)) [سبأ: 20].
وجميع ذلك بقضاء من أزمة الأمور بيده، فمن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه، والله حكيم عليم.
والشيطان دأبه وديدنه الوسوسة، فإذا ذكر العبد ربه هرب الشيطان وخنس واختفى، فإن ذكر الله هو مقمعته التي يقمع بها كما يقمع المفسد والشرير بالمقامع التي تروعه من سياط وحديد وعصي ونحوها.(1/141)
فذكر الله عزَّ وجلَّ يقمع الشيطان ويؤلمه ويؤذيه، كالمقامع التي تؤذي من يُضرب بها من البشر.
ولهذا يكون شيطان المؤمن هزيلاً ضئيلاً مضنى، مما يعذبه المؤمن ويقمعه به من ذكر الله وطاعته.
فكلما اعترضه صب عليه سياط الذكر والتوجه والاستغفار والطاعة، فشيطانه معه في عذاب شديد.
أما شيطان الكافر فهو معه في راحة ودعة، ولهذا يكون قويًا عاتيًا شديدًا، لأنه مطاع فيما يأمر به من المعاصي والمنكرات، فمن لم يعذب شيطانه بذكر الله في الدنيا وتوحيده واستغفاره وطاعته، عذبه شيطانه في الآخرة بعذاب النار.
فلا بدَّ لكل أحد أن يعذب شيطانه.. أو يعذبه شيطانه.. وأنت أحدهما ولا بد.
والشر نوعان:
شر من داخل النفس.. وشر من خارج النفس.
وسورة الفلق تضمنت الاستعاذة من الشر الخارجي، وهو ظلم الغير له، كما قال سبحانه: (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ (2) وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ (3) وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ (4) وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ (5)) [الفلق: 1-5].
والشر الخارجي الذي أمر العبد أن يستعيذ بالله منه أربعة أقسام:
الأول: الاستعاذة من كل شر في أي مخلوق قام به الشر من إنسان أو غيره من جن أو حيوان أو هامة أو دابة أو ريحًا أو صاعقة أو غيرها.
الثاني: شر الغاسق إذا وقب، وهو الليل إذا أظلم، والقمر علامته، وهو محل سلطان الأرواح الشريرة الخبيثة، وفيه تتسلط شياطين الإنس والجن ما لا تتسلط في النهار، والفلق هو الصبح الذي يطرد الظلام.
الثالث: شر النفاثات في العقد، وهي الأرواح الشريرة، والأنفس الخبيثة، فإذا تكيفت نفسه بالخبث والشر الذي يريده بالمسحور، ويستعين عليه بالأرواح الخبيثة، نفث في تلك العقد فيقع السحر.
الرابع: شر الحاسد إذا حسد من الإنس والجن، وكل عنده حسد، ولكن المؤمن يدفعه، والحاسد عدو النعم يتمنى زوالها.(1/142)
فسورة الفلق تضمنت الاستعاذة من هذه الشرور الخارجية الأربعة، ويسمى ذلك كله شر المصائب.
أما سورة الناس فقد تضمنت الاستعاذة من الشر الذي هو ظلم العبد لنفسه، وهو شر من داخل الإنسان، ويسمى شر المعائب التي أصلها الوسوسة كما قال الله سبحانه: (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلَهِ النَّاسِ (3) مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ (4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6)) [الناس: 1-6].
والشر كله يرجع إلى العيوب والمصائب، ولا ثالث لهما.
فالأول: وهو شر المصائب، لا يدخل تحت التكليف، لأنه ليس من كسب الإنسان.
والثاني وهو شر المعائب، يدخل تحت التكليف، ويطلب من العبد الكف عنه، وهو منشأ العقوبات في الدنيا والآخرة.
والله عزَّ وجلَّ سميع لاستعاذة عبده، عليم بما يستعيذ منه، مرة يقرن السمع بالعلم، ومرة يقرنه بالبصر، لاقتضاء حال المستعيذ ذلك.
فالاستعاذة من الشيطان الذي نعلم وجوده ولا نراه جاءت بلفظ السميع العليم كما قال سبحانه: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200)) [الأعراف: 200].
والاستعاذة من شر الإنس الذين يرون بالأبصار جاء بلفظ السميع البصير كما قال سبحانه: (إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آَيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (56)) [غافر: 56].
وذلك لينبسط المستعيذ، وليعلم أن الله سميع لاستعاذته، مجيب له، عليم بكيد عدوه، يراه ويبصره، فيقبل الداعي على الدعاء.(1/143)
وقد اشتملت الإضافات الثلاث في قوله سبحانه: (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلَهِ النَّاسِ (3)) على جميع قواعد الإيمان، وتضمنت معاني أسماء الله الحسنى.
فالإضافة الأولى: (بِرَبِّ النَّاسِ)إضافة الربوبية المتضمنة لخلق العباد وتدبيرهم، وتربيتهم وإصلاحهم، وجلب ما ينفعهم، ودفع ما يضرهم، وحفظهم مما يفسدهم.
والإضافة الثانية: (مَلِكِ النَّاسِ) إضافة الملك، فهو الملك المتصرف فيهم، وهم عبيده ومماليكه، وهو المدبر لهم كما يشاء، النافذ القدرة فيهم، الذي له السلطان التام عليهم، فهو ملكهم الحق الذي إليه مفزعهم عند الشدائد والنوائب، فليس لهم ملك غيره يلجؤون إليه إذا دهمهم العدو، ويستنصرونه إذا نزل العدو بساحتهم، فهو الملك الآمر الناهي، العزيز الجبار، الحكم العدل، القوي العظيم، الذي له كل شيء، وبيده كل شيء.
والإضافة الثالثة: (إِلَهِ النَّاسِ) إضافة الإلهية إليهم، فهو إلههم الحق، ومعبودهم الذي لا إله لهم سواه، ولا معبود لهم غيره، فكما أنه وحده ربهم وملكهم، لم يشركه في ربوبيته ولا في ملكه أحد، فكذلك هو وحده إلههم ومعبودهم، فلا يحل لهم أن يجعلوا معه شريكًا في إلهيته.
وقدم سبحانه الربوبية لعمومها وشمولها لكل مربوب.. وأخر الألوهية لخصوصها، لأنه سبحانه إله من عبده ووحده، وإن كان في الحقيقة لا إله سواه.
ووسط الملك، لأن الملك هو المتصرف بقوله وأمره، فهو المطاع إذا أمر، فملكه سبحانه من كمال ربوبيته، وكونه إلههم الحق من كمال ملكه.
والمستعيذ: هو كل مكلف سواء كان نبيًا أو ملكًا، أو إنسيًا أو جنيًا، لأن كل عبد وكل مخلوق محتاج، والمحتاج لا ملجأ له إلا الله الذي خلقه، فلا ملجأ منه إلا إليه سبحانه.
والمستعاذ به: هو الله عزَّ وجلَّ، فإن المستعاذ به لا بدَّ أن يكون قادرًا مطلقًا على الإجارة والتعويذ، عالمًا بجميع أحوال المستعيذ، وذلك لا يعلمه إلا الله، فكل استعاذة بغير الله شرك وخيبة.(1/144)
أما المستعاذ منه فكثير كما ورد في القرآن والسنة من الاستعاذة من الشيطان، وشر ما خلق الله، وشر الغاسق، وشر النفاثات، وشر الحاسد إذا احسد، والجهالة، والسؤال عما لا يليق.
وفي السنة الاستعاذة بالله من جهد البلاء، ودرك الشقاء، وسوء القضاء، وشماتة الأعداء.
والاستعاذة من الهم والحزن، والعجز والكسل، وعذاب القبر، وفتنة المحيا والممات، وفتنة المسيح الدجال، ومن عذاب جهنم، ومن البرص والجنون والجوع ونحو ذلك.
ولما كان شر الشيطان جنيًا أو إنسيًا أكبر الأمور المانعة من قراءة القرآن والدعوة إليه، اختص بالذكر بالاستعاذة منه عند قراءة القرآن.
ومخلوقات الله تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
الأول: شر محض كالنار وإبليس باعتبار ذاتهما، أما باعتبار الحكمة التي خلقهم الله من أجلها فهي خير، وفيها من المنافع ما لا يحصيه إلا الله.
الثاني: خير محض كالجنة والرسل والملائكة.
الثالث: ما فيه خير وشر، ونفع وضر، كعامة المخلوقات.
والاستعاذة إنما تكون من شر ما فيه شر فعَنِ الْحَارِثِ بْنِ يَعْقُوبَ أَنَّ يَعْقُوبَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَهُ أَنَّهُ سَمِعَ بُسْرَ بْنَ سَعِيدٍ يَقُولُ سَمِعْتُ سَعْدَ بْنَ أَبِى وَقَّاصٍ يَقُولُ سَمِعْتُ خَوْلَةَ بِنْتَ حَكِيمٍ السُّلَمِيَّةَ تَقُولُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ « مَنْ نَزَلَ مَنْزِلاً ثُمَّ قَالَ أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ. لَمْ يَضُرُّهُ شَىْءٌ حَتَّى يَرْتَحِلَ مِنْ مَنْزِلِهِ ذَلِكَ ». أخرجه مسلم(1).
والذي يوسوس في صدور الناس نوعان:
إنس.. وجن.
كما قال سبحانه: (الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6) ) [الناس: 5، 6].
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (2708).(1/145)
فالجني يوسوس في صدور الإنس، والإنسي أيضًا يوسوس للإنسي، والوسوسة الإلقاء الخفي في القلب، وهذا مشترك بين الإنس والجن، وإن كان الإنسي يلقى بواسطة الأذن، والجني لا يحتاج لذلك، لأنه يدخل في ابن آدم، ويجري منه مجرى الدم.
ونظير اشتراكهما في هذه الوسوسة، اشتراكهما في الوحي الشيطاني كما قال سبحانه: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112)) [الأنعام: 112].
فالشيطان يوحي إلى الإنسي باطله، ويوحيه الإنسي إلى إنسي مثله.
فشياطين الإنس والجن يشتركون في الوحي الشيطاني، ويشتركون في الوسوسة.
نسأل الله السلامة من شر هؤلاء.. وشر هؤلاء: (وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (97) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (98) [المؤمنون: 97، 98].
« اللَّهُمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ وَبِكَ آمَنْتُ وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْكَ أَنَبْتُ وَبِكَ خَاصَمْتُ اللَّهُمَّ إِنِّى أَعُوذُ بِعِزَّتِكَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ أَنْ تُضِلَّنِى أَنْتَ الْحَىُّ الَّذِى لاَ يَمُوتُ وَالْجِنُّ وَالإِنْسُ يَمُوتُونَ ». متفق عليه(1).
=======================
3- شفاء القلوب والأبدان
قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57)) [يونس: 57].
وقال الله تعالى: (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآَنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا (82)) [الإسراء: 82].
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (7383)، ومسلم برقم (2717)، واللفظ له.(1/146)
القرآن كتاب الله عزَّ وجلَّ، شفاء لما في الصدور من أمراض الشهوات الصادة عن الانقياد للشرع، وأمراض الشبهات القادحة في العلم اليقيني.
وإذا شفي العبد من أمراض الشهوات، وأمراض الشبهات، زال سقمه، فقدم مراد الله على مراد النفس، وصار ما يرضي الله أحب إلى العبد من شهوة نفسه، ووصل القلب إلى أعلى درجات اليقين.
وإذا صح القلب من مرضه، ورفل بأثواب العافية، تبعته الجوارح كلها، فإنها تصلح بصلاحه، وتفسد بفساده.
فعَنْ عَامِرٍ قَالَ سَمِعْتُ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ يَقُولُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ « الْحَلاَلُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ ، وَبَيْنَهُمَا مُشَبَّهَاتٌ لاَ يَعْلَمُهَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ ، فَمَنِ اتَّقَى الْمُشَبَّهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِيِنِهِ وَعِرْضِهِ ، وَمَنْ وَقَعَ فِى الشُّبُهَاتِ كَرَاعٍ يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى ، يُوشِكُ أَنْ يُوَاقِعَهُ . أَلاَ وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى ، أَلاَ إِنَّ حِمَى اللَّهِ فِى أَرْضِهِ مَحَارِمُهُ ، أَلاَ وَإِنَّ فِى الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ . أَلاَ وَهِىَ الْقَلْبُ » . متفق عليه(1).
ويحصل للمؤمنين بالقرآن كل هدى.. وكل رحمة.
فالهدى: هو العلم بالحق والعمل به.
والرحمة: هي ما يحصل من الخير والإحسان، والثواب العاجل والآجل لمن اهتدى به.
وإذا حصل الهدى للعبد، وحلت الرحمة الناشئة عنه، حصلت السعادة والفلاح، والربح والنجاح، والفرح والسرور.
ولذلك أمر الله عزَّ وجلَّ بالفرح بذلك فقال: (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58)) [يونس: 58].
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (52)، ومسلم برقم (1599).(1/147)
فالقرآن مشتمل على الشفاء والرحمة، وليس ذلك لكل أحد، وإنما ذلك للمؤمنين به، المصدقين بآياته، وأما الظالمون بعدم التصديق به، أو عدم العمل به، فلا يزيدهم إلا خسارًا، إذ به تقوم عليهم الحجة.
والشفاء الذي تضمنه القرآن، عام لشفاء القلوب من الشبه والجهالات، والانحرافات والآراء الفاسدة ونحوها.
فهو مشتمل على العلم اليقيني الذي تزول به كل شبهة وجهالة.
ومشتمل على الوعظ والتذكير الذي تزول به كل شهوة تخالف أمر الله، ومشتمل على شفاء الأبدان من أسقامها وآلامها.
فالقرآن شفاء للأسقام القلبية، والأسقام البدنية، لأنه يحث على الإيمان والتوبة من الذنوب، ويزجر عن مساوئ الأخلاق، وأقبح الأعمال، ويأمر بالعدل وعدم الإسراف، واجتناب الخبائث والمضرات.
وأهل الهدى والإيمان لهم شرح الصدر واتساعه وانفساحه، وأهل الضلال لهم ضيق الصدر والحرج كما قال سبحانه: (فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (125)) [الأنعام: 125].
فقلب الكافر لا يصل إليه شيء من الخير، فيجعل الله صدره ضيقًا حرجًا، إذ سمع ذكر الله اشمأز قلبه، وإذا ذكر شيء من عبادة الأصنام واللهو ارتاح إلى ذلك: (وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (45)) [الزمر: 45].
ولما كان القلب محلاً للإيمان والتوحيد، والعلم والمعرفة، والمحبة والسكينة، والصدق والإخلاص ونحوها، وكانت هذه الأشياء إنما تدخل في القلب إذا اتسع لها.
فإذا أراد الله هداية عبد، وسع صدره وشرحه، فدخلت فيه وسكنته.(1/148)
وإذا أراد ضلاله، ضيق صدره وأحرجه، فلم يجد محلاً يدخل فيه، فيعدل عنه إلى غيره ولا يساكنه.
وكل شيء فارغ إذا دخل فيه الشيء ضاق به، وكلما أفرغت فيه زيادة ضاق إلا القلب اللين السليم، فكلما أفرغ فيه الإيمان والعلم، اتسع وانفسح وانشرح، وهذا من آيات قدرة الرب عزَّ وجلَّ.
وشرح الصدر من أعظم أسباب الهدى، وضيق الصدر من أعظم أسباب الضلال، وشرح الصدر للإيمان والهدى من أجلّ النعم، كما أن ضيق الصدر من أعظم النقم.
وكلما دخل نور العلم والإيمان والهدى في القلب انفسح وانشرح، والمؤمن منشرح الصدر في هذه الدار على ما ناله من مكروهاتها، وإذا قوي الإيمان كان على مكارهها أشرح صدرًا منه على شهواتها ومحابها.
فإذا فارقها كان انفساح روحه، والشرح الحاصل له بفراقها أعظم بكثير، كحال من خرج من سجن ضيق إلى فضاء واسع موافق له، فالدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر.
فإذا بعث الله المؤمن يوم القيامة، رأى من انشراح صدره وسعته ما لا نسبة لما قبله إليه، فشرح الصدر كما أنه سبب الهداية، فهو أصل كل نعمة، وأساس كل خير، وقد طلب موسى من ربه أن يشرح له صدره، لما علم أنه لا يتمكن من تبليغ رسالة الله إلا بشرح صدره فـ: (وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي (28)) [طه: 25-28].
أما الأسباب التي تشرح الصدور فهي نور يقذفه الله في القلب، فإذا دخله ذلك النور اتسع بحسب قوة النور وضعفه، وإذا فقد ذلك النور أظلم وضاق، وهو هبة من الله تعالى.
والأمر كله لله، والخير كله بيديه، وليس مع العبد من نفسه شيء، بل الله واهب الأسباب ومسبباتها، يمنحها من يشاء، ويمنعها من يشاء، وهو أعلم حيث يجعل رسالته.
وإذا أراد الله بعبده خيرًا، وفقه لاستفراغ وسعه، وبذل جهده، فيما يحبه الله ويرضاه، وفي الرغبة إليه، وفي الرهبة منه.(1/149)
وبقدر قيام الرغبة والرهبة في القلب يحصل التوفيق للعبد، والرغبة في الطاعات، والحذر من المعاصي.
والرغبة والرهبة بيد الله لا بيد العبد، وهما مجرد فضل الله ومنته.
يجعلهما الله في المحل الذي يصلح لهما، ويليق بهما، ويحبسهما عما لا يصلح لهما، ولا يليق بهما.
فإن قيل فما ذنب من لا يصلح؟.
قيل: أكثر ذنوبه أنه لا يصلح، لأن صلاحيته بما اختاره لنفسه، وآثره وأحبه من الضلال والغي على بصيرة من أمره.
فآثر هواه على حق ربه ومرضاته، واستحب العمى على الهدى، وكان كفر المنعم عليه بصنوف النعم، وجحد إلهيته، والشرك به، والسعي في مساخطه، أحب إليه من شكره وتوحيده، والسعي في مرضاته، فهذا من عدم صلاحيته لتوفيق خالقه ومالكه.
وأي ذنب وإعراض فوق هذا؟.
فإذا أمسك الحكم العدل توفيقه عمن هذا شأنه، كان قد عدل فيه، وانسدت عليه أبواب الهداية، وطرق الرشاد، فأظلم قلبه، فضاق عن دخول الإسلام والإيمان فيه.
فلو جاءته كل آية لم تزده إلا ضلالاً وكفرًا وعنادًا كما قال سبحانه: (إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آَيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (97)) [يونس: 96، 97].
وقال سبحانه: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآَيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آَذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا (57)) [الكهف: 57].
ومن شرح الله صدره للإسلام والإيمان، وأنار قلبه بالتوحيد، وعرف عظمة ربه، وجميل إحسانه وإنعامه، صار لقلبه عبودية أخرى، ومعرفة خاصة، وعلم أنه عبد من كل وجه، وبكل اعتبار.
وعلم أن الله تعالى رب كل شيء ومليكه، والأمر كله بيده، والحمد كله له، وأزمة الأمور كلها بيده، ومرجعها كلها إليه.(1/150)
وأعظم أسباب شرح الصدر التوحيد، وعلى حسب كماله وقوته وزيادته يكون انشراح صدر صاحبه: (أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (22)) [الزمر: 22].
فالتوحيد من أعظم أسباب شرح الصدر، والشرك من أعظم أسباب ضيق الصدر.
ومنها نور الإيمان الذي يقذفه الله في قلب العبد، فيشرح الصدر ويوسعه.
ومنها العلم، فإنه يشرح الصدر ويوسعه حتى يكون أوسع من الدنيا، والجهل يورثه الضيق والحصر، فكلما اتسع علم العبد بالله وأسمائه وصفاته ودينه وشرعه انشرح صدره واتسع.
ومنها الإنابة إلى الله سبحانه، ومحبته بكل القلب، والإقبال عليه، والتلذذ بعبادته، فلا شيء أشرح لصدر العبد من ذلك.
وكلما كانت المحبة لله أقوى وأشد، كان الصدر أفسح وأشرح.
ومن أعظم أسباب ضيق الصدر الإعراض عن الله تعالى.. وتعلق القلب بغيره.. والغفلة عن ذكره.. ومحبته سواه.. فإن من أحب غير الله عذب به.. وسجن قلبه في محبة ذلك الغير، فما في الأرض أشقى منه.
ومن أسباب شرح الصدر وشفاء القلب الإحسان إلى الخلق، ونفعهم بما يمكنه من المال والجاه.
فالكريم المحسن أشرح الناس صدرًا، وأطيبهم نفسًا، والبخيل أضيق الناس صدرًا، وأعظمهم همًا، وأنكدهم عيشًا.
ومن أسباب شرح الصدر دوام ذكر الله على كل حال، وفي كل موطن.
ومنها الشجاعة، فإن الشجاع أشرح الناس صدرًا، وأوسعهم صدرًا، والجبان أضيق الناس صدرًا لا فرحة له ولا سرور.
وحال العبد في القبر كحال القلب في الصدر نعيمًا وعذابًا، وسجنًا وانطلاقًا.
ومنها ترك فضول النظر والكلام، والسماع والمخالطة، والأكل والنوم، فإن هذه الفضول إذا لم تترك، تستحيل آلامًا وغمومًا وهمومًا في القلب، تحصره وتحبسه ويتعذب بها.
فما أضيق صدر من ضرب في كل آفة من هذه الآفات بسهم؟.
وما أنكد عيشه؟.. وما أسوأ حاله؟.. وما أشد حصر قلبه؟.(1/151)
وما أنعم عيش من ضرب في كل خصلة من الخصال المحمودة بسهم؟.
وكانت همته دائرة عليها حائمة حولها، فلهذا نصيب وافر من قوله سبحانه: (إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13)) [الانفطار: 13].
ولذلك نصيب وافر من قوله سبحانه: (وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14)) [الانفطار: 14].
وبينهما مراتب متفاوتة لا يحصيها إلا الله تبارك وتعالى.
والنبي صلى الله عليه وسلم أكمل الخلق في كل صفة يحصل بها انشراح الصدر.. وأكمل الخلق متابعة له أكملهم انشراحًا.. وعلى حسب متابعته ينال العبد من انشراح صدره، وقرة عينه ما نال: (أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (22)) [الزمر: 22].
اللهم حبب إلينا الإيمان، وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين.
- - - - - - - - - - - - - - - -
المصادر والمراجع الهامة
1. القرآن الكريم
2. صحيح البخارى
3. الأدب المفرد للبخاري
4. صحيح مسلم
5. سنن أبى داود
6. سنن الترمذى
7. سنن النسائى
8. مصنف ابن أبي شيبة مرقم ومشكل
9. مسند أحمد
10. السنن الكبرى للإمام النسائي الرسالة
11. المستدرك على الصحيحين للحاكم
12. المعجم الكبير للطبراني
13. السنن الكبرى للبيهقي وفي ذيله الجوهر النقي
14. شعب الإيمان للبيهقي
15. سنن الدارمى
16. مسند البزار 1-14
17. مسند الحميدى
18. سنن الدارقطنى
19. صحيح ابن حبان
20. مسند الشاميين للطبراني
21. مجمع الزوائد للهيثمي مدقق
22. موسوعة السنة النبوية
23. عشرة النساء للنسائي مشكل
24. مجموع الفتاوى
25. فتاوى الأزهر
26. فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
27. مجموع فتاوى ابن تيمية
28. لقاءات الباب المفتوح
29. فتاوى يسألونك
30. فتاوى الإسلام سؤال وجواب
31. فتاوى واستشارات الإسلام اليوم(1/152)
32. فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة
33. فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
34. الموسوعة الفقهية1-45 كاملة
35. مجلة مجمع الفقه الإسلامي
36. إحياء علوم الدين
37. إيقاظ الهمم شرح متن الحكم
38. الرسالة القشيرية
39. حلية الأولياء
40. صفة الصفوة
41. قوت القلوب
42. عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين
43. صفة صاحب الذوق السليم ومسلوب الذوق اللئيم
44. أدب الدنيا والدين
45. المدخل
46. الآداب الشرعية
47. الزواجر عن اقتراف الكبائر
48. بريقة محمودية في شرح طريقة محمدية وشريعة نبوية
49. غذاء الألباب في شرح منظومة الآداب
50. لواقح الأنوار القدسية في بيان العهود المحمدية
51. آفات على الطريق كامل
52. ففروا إلى الله1
53. مدارج السالكين
54. التبصرة ـ لابن الجوزى
55. تنبيه الغافلين، الإصدار 2
56. موسوعة خطب المنبر
57. موسوعة فقه القلوب
58. تلبيس إبليس لابن الجوزي
59. كتاب الكليات ـ لأبى البقاء الكفومى
60. الحاوي للفتاوي للسيوطي
61. الفتاوى الحديثية لابن حجر الهيتمي
62. المكتبة الشاملة 2
63. برنامج قالون
64. كثير من مواقع النت
الفهرس العام
1- خلقُ القلب ... 3
2- منزلة القلب 5 ... 5
الأولى: الحياة: ... 7
الثانية: الشفاء: ... 7
الثالثة: الطهارة: ... 7
الرابعة: الهداية: ... 8
الخامسة: ثبوت الإيمان: ... 8
السادسة: السكينة: ... 8
السابعة: الألفة: ... 8
الثامنة: الطمأنينة: ... 8
التاسعة: المحبة: ... 8
العاشرة: الزينة والحفظ من السوء: ... 8
3- صلاح القلب ... 9
6- أقسام القلوب ... 24
7- غذاء القلوب ... 28
8- فقه أعمال القلوب ... 31
9- صفات القلب السليم ... 36
10- فقه سكينة القلب ... 40
- فقه طمأنينة القلب 11 ... 44
12- فقه سرور القلب ... 48
- فقه خشوع القلب 13 ... 52
14- فقه حياء القلب ... 55
14- فقه حياء القلب ... 55
15- أسباب مرض القلب والبدن ... 58
16- مفسدات القلب ... 60
الأول: كثرة مخالطة الناس: ... 60
المفسد الثاني: ركوبه بحر التمني. ... 60
الثالث: التعلق بغير الله تبارك وتعالى. ... 61(1/153)
الرابع: الطعام. ... 61
الخامس: كثرة النوم: ... 61
17- مداخل الشيطان إلى القلب ... 64
19- فقه أمراض القلوب وعلاجها ... 76
1- علاج مرض القلب من استيلاء النفس عليه ... 101
2- علاج مرض القلب من وسوسة الشيطان ... 106
3- شفاء القلوب والأبدان ... 112(1/154)