الخلاصة في بيع المعدوم
الدرر السنية كاملة - (ج 61 / ص 58)
وقال الشيخ - رحمه الله -: يجوز بيع اللقطة الموجودة والمعدومة إلى أن تيبس المقثاة
قال ابن القيم - رحمه الله -: ليس في كتاب الله ولا سنة رسول الله جمعه ولا في كلام أحد من الصحابة، أن بيع المعدوم لا يجوز، لا بلفظ عام ولا بمعنى خاص، إنما في السنة النهي عن بيع بعض الأشياء التي هي معدومة، وفيها النهي عن بيع بعض الأشياء الموجودة، فليست العلة في المنع العدم ولا الوجود بل الذي وردت به السنة النهي عن بيع الغرر، وهو ما لا يقدر على تسليمه، سواء كان موجودا أو معدوما- إلى أن قال- وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم هبة المشاع المجهول في قوله لصاحب كبة الشعر، حين أخذها من المغنم، وسأله أن يهبها له فقال: "أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لك" 1 انتهى.
فكلام ابن القيم يؤيد قول مالك، وقول شيخه - رحمه الله -: أن بيع الرطبة ونحوها جائز، لأنه وإن كان معدوما فليس فيه غرر، لأنه يقدر على تسليمه فلا غرر.
وأجاب بعضهم: اعلم أن في هذه المسألة قولان للعلماء، أحدهما: أنه لا يجوز حتى يقلع، كما هو مذهب الشافعي، ورواية عن أحمد، قالوا: لأن هذه أعيان غائبة لم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أبو داود: الجهاد (2694).
ص -159-
ترَ، الثاني: جواز بيعه وإن لم يقلع، وهذا هو الصواب، لأن هذا ليس من الغرر، بل أهل الخبرة يستدلون بما ظهر من الورق على المغيب في الأرض، كما يستدلون بما يظهر في العقار من ظواهره على بواطنه، وكما يستدلون أيضا بما يظهر من الحيوان على بواطنه، ومن سأل أهل الخبرة أخبروه بذلك، والمرجع في ذلك إليهم..(1/1)
وأيضا: العلم بالمبيع شرط في كل شيء بحسبه، فما يظهر بعضه وكان في إظهار باطنه مشقة إذا خرج، اكتفى بظاهره، كالعقار، فإنه لا يشترط رؤية أساسه ودواخل الحيطان، وكذلك الحيوان وأمثال ذلك، وأيضا: إن ما احتيج إلى بيعه، فإنه يسوغ فيه ما لا يسوغ في غيره، فيبيحه الشارع للحاجة مع قيام السبب، كما رخص في العرايا بخرصها، وأقام الخرص مقام الكيل بجنسه إذا، ولم يكن ذلك من المزابنة المنهي عنها.
نصب الراية في تخريج أحاديث الهداية - (ج 9 / ص 226)
بَابُ السَّلَمُ : عَقْدٌ مَشْرُوعٌ بِالْكِتَابِ ، وَهُوَ آيَةُ الْمُدَايَنَةِ ، فَقَدْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا : أَشْهَدُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَحَلَّ السَّلَفَ الْمَضْمُونَ ، وَأَنْزَلَ فِيهَا أَطْوَلَ آيَةٍ فِي كِتَابِهِ وَتَلَا قَوْله تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا تَدَايَنْتُمْ بِدِينٍ إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ } الْآيَةَ .
وَبِالسُّنَّةِ وَهُوَ مَا رُوِيَ " { أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نَهَى عَنْ بَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَ الْإِنْسَانِ وَرَخَّصَ فِي السَّلَمِ } " وَالْقِيَاسُ وَإِنْ كَانَ يَأْبَاهُ وَلَكِنَّا تَرَكْنَاهُ بِمَا رَوَيْنَاهُ .
وَوَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّهُ بَيْعُ الْمَعْدُومِ إذْ الْمَبِيعُ هُوَ الْمُسْلَمُ فِيهِ .(1/2)
قَالَ : ( وَهُوَ جَائِزٌ فِي الْمَكِيلَاتِ وَالْمَوْزُونَاتِ ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : " { مَنْ أَسْلَمَ مِنْكُمْ فَلْيُسْلِمْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ إلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ } " وَالْمُرَادُ بِالْمَوْزُونَاتِ غَيْرِ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ لِأَنَّهُمَا أَثْمَانٌ وَالْمُسْلَمُ فِيهِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُثَمَّنًا فَلَا يَصِحُّ السَّلَمُ فِيهِمَا ؛ ثُمَّ قِيلَ يَكُونُ بَاطِلًا ، وَقِيلَ يَنْعَقِدُ بَيْعًا بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ تَحْصِيلًا لِمَقْصُودِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ وَالْعِبْرَةُ فِي الْعُقُودِ لِلْمَعَانِي ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ لِأَنَّ التَّصْحِيحَ إنَّمَا يَجِبُ فِي مَحَلٍّ أَوْجَبَا الْعَقْدَ فِيهِ وَلَا يُمْكِنُ ذَلِكَ .
قَالَ : ( وَكَذَا فِي الْمَذْرُوعَاتِ ) لِأَنَّهُ يُمْكِنُ ضَبْطُهَا بِذِكْرِ الذَّرْعِ وَالصِّفَةِ وَالصَّنْعَةِ ، وَلَا بُدَّ مِنْهَا لِتَرْتَفِعَ الْجَهَالَةُ فَيَتَحَقَّقُ شَرْطُ صِحَّةِ السَّلَمِ ، وَكَذَا فِي الْمَعْدُودَاتِ الَّتِي لَا تَتَفَاوَتُ كَالْجَوْزِ وَالْبَيْضِ لِأَنَّ الْعَدَدِيَّ الْمُتَقَارِبَ مَعْلُومُ الْقَدْرِ مَضْبُوطُ الْوَصْفِ مَقْدُورُ التَّسْلِيمِ فَيَجُوزُ السَّلَمُ فِيهِ وَالصَّغِيرُ وَالْكَبِيرُ فِيهِ سَوَاءٌ بِاصْطِلَاحِ النَّاسِ عَلَى إهْدَارِ التَّفَاوُتِ ، بِخِلَافِ الْبِطِّيخِ وَالرُّمَّانِ ، لِأَنَّهُ يَتَفَاوَتُ آحَادُهُ تَفَاوُتًا فَاحِشًا وَبِتَفَاوُتِ الْآحَادِ فِي الْمَالِيَّةِ يُعْرَفُ الْعَدَدِيُّ الْمُتَقَارَبُ .
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ : أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فِي بَيْضِ النَّعَامَةِ لِأَنَّهُ يَتَفَاوَتُ آحَادُهُ فِي الْمَالِيَّةِ ، ثُمَّ كَمَا يَجُوزُ السَّلَمُ فِيهَا عَدَدًا يَجُوزُ كَيْلًا .(1/3)
وَقَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَا يَجُوزُ كَيْلًا لِأَنَّهُ عَدَدِيٌّ وَلَيْسَ بِمَكِيلٍ .
وَعَنْهُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ عَدَدًا أَيْضًا لِلتَّفَاوُتِ ، وَلَنَا أَنَّ الْمِقْدَارَ مَرَّةً يُعْرَفُ بِالْعَدَدِ وَتَارَةً بِالْكَيْلِ وَإِنَّمَا صَارَ مَعْدُودًا بِالِاصْطِلَاحِ فَصُيِّرَ مَكِيلًا بِاصْطِلَاحِهِمَا ؛ وَكَذَا فِي الْفُلُوسِ عَدَدًا .
وَقِيلَ هَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ .
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُمَا أَثْمَانٌ ، وَلَهُمَا أَنَّ الثَّمَنِيَّةَ فِي حَقِّهِمَا بِاصْطِلَاحِهِمَا فَتَبْطُلُ بِاصْطِلَاحِهِمَا وَلَا تَعُودُ وَزْنِيًّا ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ مِنْ قَبْلُ .
نصب الراية في تخريج أحاديث الهداية - (ج 9 / ص 258)
قَالَ : ( وَكُلُّ مَا أَمْكَنَ ضَبْطُ صِفَتِهِ وَمَعْرِفَةُ مِقْدَارِهِ جَازَ السَّلَمُ فِيهِ ) لِأَنَّهُ لَا يُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ ( وَمَا لَا يَضْبِطُ صِفَتَهُ وَلَا يَعْرِفُ مِقْدَارَهُ لَا يَجُوزُ السَّلَمُ فِيهِ ) لِأَنَّهُ دَيْنٌ وَبِدُونِ الْوَصْفِ يَبْقَى مَجْهُولًا جَهَالَةً تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ ( وَلَا بَأْسَ بِالسَّلَمِ فِي طَسْتٍ أَوْ قُمْقُمَةٍ أَوْ خُفَّيْنِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ إذَا كَانَ يُعْرَفُ ) لِاسْتِجْمَاعِ شَرَائِطِ السَّلَمِ ( وَإِنْ كَانَ لَا يُعْرَفُ فَلَا خَيْرَ فِيهِ ) لِأَنَّهُ دَيْنٌ مَجْهُولٌ .
قَالَ : ( وَإِنْ اسْتَصْنَعَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ بِغَيْرِ أَجَلٍ جَازَ اسْتِحْسَانًا ) لِلْإِجْمَاعِ الثَّابِتِ بِالتَّعَامُلِ ، وَفِي الْقِيَاسِ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ بَيْعُ الْمَعْدُومِ .(1/4)
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعًا لَا عِدَّةً وَالْمَعْدُومُ قَدْ يُعْتَبَرُ مَوْجُودًا حُكْمًا وَالْمَعْقُودُ عَلَيْهِ الْعَيْنُ دُونَ الْعَمَلِ حَتَّى لَوْ جَاءَ بِهِ مَفْرُوغًا لَا مِنْ صَنْعَتِهِ أَوْ مِنْ صَنْعَتِهِ قَبْلَ الْعَقْدِ فَأَخَذَهُ جَازَ ، وَلَا يَتَعَيَّنُ إلَّا بِالِاخْتِيَارِ حَتَّى لَوْ بَاعَهُ الصَّانِعُ قَبْلَ أَنْ يَرَاهُ الْمُسْتَصْنِعُ جَازَ ، وَهَذَا كُلُّهُ هُوَ الصَّحِيحُ .
قَالَ : ( وَهُوَ بِالْخِيَارِ إذَا رَآهُ إنْ شَاءَ أَخَذَهُ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُ ) لِأَنَّهُ اشْتَرَى شَيْئًا لَمْ يَرَهُ وَلَا خِيَارَ لِلصَّانِعِ كَذَا ذَكَرَهُ فِي الْمَبْسُوطِ ، وَهُوَ الْأَصَحُّ لِأَنَّهُ بَاعَ مَا لَمْ يَرَهُ .
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ لَهُ الْخِيَارَ أَيْضًا لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ تَسْلِيمُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ إلَّا بِضَرَرٍ وَهُوَ قَطْعُ الصَّرْمِ وَغَيْرِهِ .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ لَا خِيَارَ لَهُمَا .
أَمَّا الصَّانِعُ فَلِمَا ذَكَرْنَا ، وَأَمَّا الْمُسْتَصْنِعُ فَلِأَنَّ فِي إثْبَاتِ الْخِيَارِ لَهُ إضْرَارًا بِالصَّانِعِ لِأَنَّهُ رُبَّمَا لَا يَشْتَرِيهِ غَيْرُهُ بِمِثْلِهِ ، وَلَا يَجُوزُ فِيمَا لَا تَعَامُلَ فِيهِ لِلنَّاسِ كَالثِّيَابِ لِعَدَمِ الْمُجَوِّزِ ، وَفِيمَا تَعَامَلَ إنَّمَا يَجُوزُ إذَا أَمْكَنَ إعْلَامُهُ بِالْوَصْفِ لِيُمْكِنَ التَّسْلِيمُ ، وَإِنَّمَا قَالَ بِغَيْرِ أَجَلٍ لِأَنَّهُ لَوْ ضَرَبَ الْأَجَلَ فِيمَا فِيهِ تَعَامُلٌ يَصِيرُ سَلَمًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ خِلَافًا لَهُمَا ، وَلَوْ ضَرَبَهُ فِيمَا لَا تَعَامُلَ فِيهِ يَصِيرُ سَلَمًا بِالِاتِّفَاقِ .(1/5)
لَهُمَا أَنَّ اللَّفْظَ حَقِيقَةٌ لِلِاسْتِصْنَاعِ فَيُحَافَظُ عَلَى قَضِيَّتِهِ ، وَيُحْمَلُ الْأَجَلُ عَلَى التَّعْجِيلِ بِخِلَافِ مَا لَا تَعَامُلَ فِيهِ لِأَنَّهُ اسْتِصْنَاعٌ فَاسِدٌ فَيُحْمَلُ عَلَى السَّلَمِ الصَّحِيحِ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ دَيْنٌ يَحْتَمِلُ السَّلَمَ ، وَجَوَازُ السَّلَمِ بِإِجْمَاعِ لَا شُبْهَةَ فِيهِ وَفِي تَعَامُلِهِمْ الِاسْتِصْنَاعُ نَوْعُ شُبْهَةٍ فَكَانَ الْحَمْلُ عَلَى السَّلَمِ أَوْلَى ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
شرح الأربعين النووية - (ج 1 / ص 424)
الحديث الرابع
عَنْ عَبْدِ الله بْنِ عُمَرَ رَضَي الله عَنْهُمَا: أن رَسُولَ اللّه صلى الله عليه وسلم نَهى عن بَيْعِ حَبَلِ الْحَبَلةِ. وَكَان بَيْعاً يَتَبَايَعُهُ أهْلُ الْجَاهِلِيةِ. كَانَ الرَّجُلُ يَتَبَايَعُ الْجزُورَ إلَى أنْ تُنْتَجَ النَّاقَةُ ثُمَّ تنتج التي في بَطْنِهَا.
قيل: إنه كان يبيع الشارِفَ- وهي الكبيرة الْمُسِنَّةُ بنتاج الجنينِ، الذي في بطنِ نَاقَتِهِ.
الغريب:
حَبَل الحَبَلة: بفتح الحاء والباء فيهما. و" الحبلة " جمع " حابل " كظالم وظلمة، وكاتب وكَتبة، واكثر استعمال الحبَل للنساء خاصة، والحمل لهن ولغيرهن، من إناث الحيوان.
الجزور: هو البعير ذكراً كان أو أنثى، وجمعه، جزر، وجزائر.
تنتج: بضم التاء الأولى وإسكان النون وفتح التاء الثانية، وبعدها جيم معناه، تلد. وهو آت على صيغة المبنى للمجهول دائما. وقد أسند إلى الناقة.
الجاهلية: يطلق هذا الاسم، على الزمن الذي قبل الإسلام وأهله، مشتق من الجهل، لغلبته عليهم تنتج التي في بطنها: يريد بيع نتاج النتاج، أي بيع أولاد أولادها. وذلك بأن ينتظر أن تلد الناقة، فإذا ولدت أنثى ينتظر حتى تشب، ثم يرسل عليها الفحل، فتلقح فله ما في بطنا.
المعنى الإجمالي :
أشهر تفاسير هذا البيع تفسيران(1/6)
1- فإما أن يكون معناه التعليق، وذلك بأن يبيعه الشيء بثمن مؤجل بمدة تنتهي بولادة الناقة، ثم ولادة الذي في بطنها، ونُهيَ عنه لما فيه من جهالة أجل الثمن ، والأجل له وقع في الثمن في طوله وقصره.
2- وإما أن يكون معناه بيع المعدوم المجهول، وذلك بأن يبيعه نتاج الحمل الذي في بطن الناقة المسنة، ونُهي عنه لما فيه من الضرر الكبير والغرر، فلا
يعلم: هل يكون أنثى، وهل هو واحد أو اثنان، وهل هو حي أو ميت؟ ومجهولة مدة حصوله-
وهذه من البيعات المجهولة، التي يكثر ضررها وعذرها، فتفضي إلى المنازعات.
ما يؤخذ من الحديث:
1- النهى عن هذا البيع على كلا التفسيرين، لأنه إن كان على الأول، فَلِمَا فيه من جهالة الأجل وإن كان على الثاني، فَلِمَا فيه، من فقدان المبيع، وجهالته.
2- النص على هذا النوع من البيع، لأنه من بيعات الجاهلية، وإلا فهو عام في كل بيع يحصل فيه جهالة وغرر.
3- حكمة النهى، أنه من بيع الغرر المفضي إلى الميسر والقمار، وأكل المال بالباطل، مع ما يحصل في ذلك من الشجار والخصام، والعداوة والبغضاء.
قاعدة في المعاملات المحرمة ملخصة
من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية
الأصل في ذلك أن اللّه حرم في كتابه أكل أموالنا بيننا بالباطل، وذم الأحبار والرهبان الذين يأكلون أموال الناس بالباطل، وذم اليهود على أخذهم الربا وقد نهوا عنه، وهذا يعم كل ما يؤكل بالباطل في المعاوضات والتبرعات وما يؤخذ بغير رضا المستحق.
وأكل أموال الناس بالباطل في المعاوضات نوعان ذكرهما الله في كتابه هما: الربا والميسر. فقد تحرم الربا الذي هو ضد الصدقة في سورة البقرة وآل عمران والروم والمدثر والنساء، وذكر تحريم الميسر في سورة المائدة.
ثم إن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فصل ما أجمله الله في كتابه، فنهى عن بيع الغرر، وهو المجهول العاقبة، لاًن بيعه من الميسر، وذلك مثل بيع العبد إذا أبق، أو الفرس والبعير إذا شرد.(1/7)
أما الربا فتحريمه في القرآن أشد، وذكره النبي صلى الله عليه وسلم في الكبائر، لأنه لا يضطر إليه إلا المحتاج، فيأخذ ألفا معجلة ليدفع ألفا ومائتينِ مؤجلات، والموسر لا يفعل ذلك، فيكون في هذه الزيادة ظلم للمحتاج.
وقد حرم الرسول صلى الله عليه وسلم أشياء يخفي فيها الفساد، لأنها مفضية إلى الفساد المحقق، مثل ربا الفضل فإن الحكمة فيه قد تخفى. ومفسدة الغرر أقل من الربا فلذلك رخص فيما تدعو إليه الحاجة منه. كبيع العقار ولم تعلم الأساسات، وبيع الدابة الحامل والمرضع. وإن لم يعلم الحمل واللبن، وبيع الثمرة بعد بدو صلاحها، وإن كانت الأجزاء التي يكمل بها الصلاح لم تتحقق بعد، فظهرا أنه يجوز من الغرر اليسير ضمنا وتبعا ما لا يجوز في غيره.
أما الربا فإنه لما احتاج الناس إلى العرايا أرخص في بيعها بالخرص، ولم يجوز المفاضلة المتيقنة، بل سوغ المساواة بالخرص في القليل الذي تدعو إليه الحاجة وهو قدر النصاب، أي خمسة أوسق ومادون. وأصول مالك في البيوع أجود من أصول غيره، والإمام أحمد موافق لمالك في الغالب منها، فإنهما يحرمان الربا، ويشددان فيه حق التشديد، حتى يسدا الذرائع المفضية إليه وإن لم تكن حيلة.
وفي الجملة فإن أهل المدينة وفقهاء الحديث مانعون من أنواع الربا منعاً محكما مراعون لمقصود الشريعة وأصولها، وقولهم في ذلك هو الذي يؤثر فعله عن الصحابة وتدل عليه معاني الكتاب والسنة.
وأما الغرر فمن أشد ما قيل فيه قولا أبي حنيفة والشافعي ، فإنه يدخل في هذا الاسم من الأنواع مالا يدخله غيره من الفقهاء. مثل الحب والثمر في قشره، كالباقلاء والجوز واللوز في قشره، وكالحب في سنبله، فإن القول الجديد عنده أن ذلك لا يجوز.
وأما مالك فمذهبه أحسن المذاهب في هذا، فيجوز عنده بيع هذه الأشياء وبيع جميع ما تدعو الحاجة إليه أو يقل غرره، حتى إنه يجوز عنده بيع المقاثي جملة وبيع المغيبات في الأرض كالجزر والفجل.(1/8)
وأحمد قريب منه، فقد خرج ابن عقيل عنه وجهين فيها، الثاني منهما أنه يجوز كمذهب مالك ، وهذا القول هو قياس أصول أحمد.
المبسوط - (ج 14 / ص 490)
قَالَ : ( وَإِذَا أَسْلَمَ الرَّجُلُ فِي الطَّعَامِ كَيْلًا مَعْلُومًا وَأَجَلًا مَعْلُومًا وَضَرْبًا مِنْ الطَّعَامِ وَسَطًا أَوْ رَدِيًّا أَوْ جَيِّدًا وَاشْتَرَطَ الْمَكَانَ الَّذِي يُوَفِّيهِ فِيهِ فَهُوَ جَائِزٌ ) قَالَ : - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - ( اعْلَمْ بِأَنَّ السَّلَمَ أَخْذُ عَاجِلٍ بِآجِلٍ وَهُوَ نَوْعُ بَيْعٍ لِمُبَادَلَةِ الْمَالِ بِالْمَالِ اُخْتُصَّ بِاسْمٍ ) لِاخْتِصَاصِهِ بِحُكْمٍ يَدُلُّ الِاسْمُ عَلَيْهِ وَهُوَ تَعْجِيلُ أَحَدِ الْبَدَلَيْنِ وَتَأْخِيرُ الْآخَرِ كَالصَّرْفِ وَقِيلَ السَّلَمُ وَالسَّلَفُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ وَإِنَّمَا سُمِّيَ هَذَا الْعَقْدُ بِهِ لِكَوْنِهِ مُعَجَّلًا عَلَى وَقْتِهِ فَإِنَّ أَوَانَ الْبَيْعِ مَا بَعْدَ وُجُودِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فِي مِلْكِ الْعَاقِدِ وَإِنَّمَا يُقْبَلُ السَّلَمُ فِي الْعَادَةِ فِيمَا لَيْسَ بِمَوْجُودٍ فِي مِلْكِهِ فَلِكَوْنِ الْعَقْدِ مُعَجَّلًا عَلَى وَقْتِهِ سُمِّيَ سَلَمًا وَسَلَفًا وَالْقِيَاسُ يَأْبَى جَوَازُهُ ؛ لِأَنَّهُ بَيْعُ الْمَعْدُومِ وَبَيْعُ مَا هُوَ مَوْجُودٌ غَيْرُ مَمْلُوكٍ لِلْعَاقِدِ بَاطِلٌ فَبَيْعُ الْمَعْدُومِ أَوْلَى بِالْبُطْلَانِ وَلَكِنَّا تَرَكْنَا الْقِيَاسَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ : - تَعَالَى - { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ } وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : أَشْهَدُ أَنَّ السَّلَمَ الْمُؤَجَّلَ فِي كِتَابِ اللَّهِ - تَعَالَى - أُنْزِلَ فِيهِ أَطْوَلُ آيَةٍ وَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ وَالسُّنَّةُ مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ(1/9)
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { نَهَى عَنْ بَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَ الْإِنْسَانِ وَرَخَّصَ فِي السَّلَمِ } فَفِي هَذَا دَلِيلُ أَنَّهُ جَوَّزَهُ لِلْحَاجَةِ مَعَ قِيَامِ السَّبَبِ الْمُعَجِّزِ لَهُ عَنْ التَّسْلِيمِ وَهُوَ عَدَمُ وُجُودِهِ فِي مِلْكِهِ وَلَكِنْ بِطَرِيقِ إقَامَةِ الْأَجَلِ مُقَامَ الْوُجُودِ فِي مِلْكِهِ رُخْصَةً ؛ لِأَنَّ بِالْوُجُودِ فِي مِلْكِهِ يَقْدِرُ عَلَى التَّسْلِيمِ وَبِالْأَجَلِ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى التَّسْلِيمِ إمَّا بِالتَّكَسُّبِ فِي الْمُدَّةِ أَوْ مَجِيءِ أَوَانِ الْحَصَادِ فِي الطَّعَامِ وَفِي الْحَدِيثِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ الْمَدِينَةَ فَوَجَدَهُمْ يُسَلِّفُونَ فِي الثِّمَارِ السَّنَةَ وَالسَّنَتَيْنِ فَقَالَ : - صَلَوَاتُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ - مَنْ أَسْلَمَ فَلْيُسْلِمْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ إلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ } فَقَدْ قَرَّرَهُمْ عَلَى أَصْلِ الْعَقْدِ
المبسوط - (ج 24 / ص 446)(1/10)
وَإِذَا زَادَ الرَّهْنُ دَرَاهِمَ مِنْ الْمُرْتَهِنِ ، وَجَعَلَهَا فِي الرَّهْنِ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ فِي الرَّهْنِ ، وَهُمَا فَصْلَانِ أَحَدُهُمَا : الزِّيَادَةُ ، وَصُورَتُهُ إذَا رَهَنَهُ ثَوْبًا بِعَشَرَةٍ يُسَاوِي عَشَرَةً ، ثُمَّ زَادَ الرَّاهِنُ الْمُرْتَهِنَ ثَوْبًا آخَرَ لِيَكُونَ مَرْهُونًا مَعَ الْأَوَّلِ بِالْعَشَرَةِ فَفِي الْقِيَاسِ : لَا تَصِحُّ هَذِهِ الزِّيَادَةُ ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ ( رَحِمَهُ اللَّهُ ) ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَجْعَلَ بَعْضَ الدَّيْنِ بِمُقَابَلَةِ الزِّيَادَةِ لِيَكُونَ مَضْمُونًا بِهِ ، وَذَلِكَ مُتَعَذِّرٌ مَعَ بَقَاءِ حُكْمِ الرَّهْنِ فِي الثَّوْبِ الْأَوَّلِ ؛ لِبَقَاءِ الْقَبْضِ فَهُوَ نَظِيرُ مَا لَوْ نَاقَصَهُ الرَّهْنَ أَوْ تَبَادَلَا رَهْنًا بِرَهْنٍ ، عَلَى مَا بَيَّنَّا : وَهَذَا فِي الْحَقِيقَةِ بِنَاءً عَلَى أَصْلِ زُفَرَ ( رَحِمَهُ اللَّهُ ) : أَنَّ الزِّيَادَةَ فِي الثَّمَنِ ، وَالْبَيْعُ لَا يَثْبُتُ مُلْحَقُهُ بِأَصْلِ الْعَقْدِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي الْبُيُوعِ ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ ، وَهُوَ قَوْلُ عُلَمَائِنَا الثَّلَاثَةِ ( رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى ) وَتَثْبُتُ الزِّيَادَةُ فِي الرَّهْنِ فِي حُكْمِ الدَّيْنِ ؛ لِأَنَّ تَرَاضِيَهُمَا عَلَى الزِّيَادَةِ بَعْدَ الْعَقْدِ بِمَنْزِلَةِ تَرَاضِيهِمَا عَلَيْهِ عِنْدَ الْعَقْدِ ، وَلَوْ رَهَنَهُ فِي الِابْتِدَاءِ يَوْمَيْنِ بِالْعَشَرَةِ جَازَ الرَّهْنُ ، وَانْقَسَمَ الدَّيْنُ عَلَى قِيمَتِهِ ، فَكَذَلِكَ هُنَا يُقْسَمُ الدَّيْنُ عَلَى قِيمَةِ الْأَصْلِ ، وَقْتَ الْعَقْدِ ، وَعَلَى قِيمَةِ الزِّيَادَةِ وَقْتَ الْقَبْضِ ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا تَبَادَلَا رَهْنًا بِرَهْنٍ ، فَلَمْ يُوجَدْ هُنَاكَ اقْتِرَاضٌ مِنْهُمَا عَلَى ثُبُوتِ حُكْمِ الرَّهْنِ فِيهِمَا(1/11)
جَمِيعًا .
تَوْضِيحُهُ : أَنَّهُ بِالنَّاسِ حَاجَةٌ إلَى تَصْحِيحِ هَذِهِ الزِّيَادَةِ ، وَرُبَّمَا نَطَقَ الْمُرْتَهِنُ بِالِابْتِدَاءِ أَنَّهُ فِي الرَّهْنِ ، وَفَاءً بِدَيْنِهِ ثُمَّ ثَبَتَ لَهُ خِلَافُ ذَلِكَ فَلَا يَرْضَى بِرَهْنٍ ، لَا وَفَاءَ فِيهِ فَيَحْتَاجُ الرَّاهِنُ بِرَدِّ عَيْنٍ آخَرَ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبُهُ ، وَالزِّيَادَةُ فِي الرَّهْنِ تَجُوزُ إنْ ثَبَتَ حُكْمًا فَإِنَّ الْمَرْهُونَةَ إذَا وَلَدَتْ يَكُونُ الْوَلَدُ زِيَادَةً تَثْبُتُ فِي الرَّهْنِ حُكْمًا فَيَجُوزُ إثْبَاتُهُ أَيْضًا فَصْلًا ، وَالْفَصْلُ الثَّانِي فِي الزِّيَادَةِ بِالدَّيْنِ : أَنَّ الْمُرْتَهِنَ إذَا زَادَ الرَّاهِنَ عَشَرَةً أُخْرَى لِيَكُونَ الرَّهْنُ عِنْدَهُ رَهْنًا بِهِمَا جَمِيعًا فَهَذِهِ الزِّيَادَةُ لَا تَثْبُتُ فِي حُكْمِ الرَّهْنِ فِي الْقِيَاسِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَزُفَرَ ( رَحِمَهُمُ اللَّهُ ) وَفِي الِاسْتِحْسَانِ تَثْبُتُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُف ( رَحِمَهُ اللَّهُ ) وَأَوْجَهَهُ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الدَّيْنَ مَعَ الرَّهْنِ يَتَحَاذَيَانِ مُحَاذَاةَ الْمَبِيعِ مَعَ الثَّمَنِ حَتَّى يَكُونَ الْمَرْهُونُ مَحْبُوسًا بِالدَّيْنِ مَضْمُونًا بِهِ كَالْمَبِيعِ بِالثَّمَنِ عَنْ الزِّيَادَةِ فِي الرَّهْنِ يُجْعَلُ مُلْحَقُهُ بِأَصْلِ الْعَقْدِ ، فَكَذَلِكَ الزِّيَادَةُ فِي الدَّيْنِ ، كَمَا فِي الْبَيْعِ فَإِنَّ الزِّيَادَةَ فِي الثَّمَنِ ، وَالْمَبِيعِ ثَبَتَتْ عَلَى سَبِيلِ الِالْتِحَاقِ بِأَصْلِ الْعَقْدِ ، وَهُنَا مِثْلُهُ .(1/12)
وَكَمَا أَنَّ الْحَاجَةَ تُمَسُّ إلَى الزِّيَادَةِ فِي الرَّهْنِ فَقَدْ تُمَسُّ الْحَاجَةُ إلَى الزِّيَادَةِ فِي الدَّيْنِ ، بِأَنْ يَكُونَ فِي مَالِيَّةِ الرَّهْنِ فَضْلًا عَلَى الدَّيْنِ ، وَيَحْتَاجُ الرَّاهِنُ إلَى مَالٍ آخَرَ فَيَأْخُذَهُ مِنْ الْمُرْتَهِنِ لِيَكُونَ الرَّهْنُ رَهْنًا بِهِمَا ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْمُسْلَمِ فِيهِ فَالزِّيَادَةُ فِي الْمُسْلَمِ فِيهِ لَا تَجُوزُ ، وَإِنْ كَانَتْ تَجُوزُ فِي رَأْسِ الْمَالِ ؛ لِأَنَّ جَوَازَ السَّلَمِ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ فَإِنَّهُ بَيْعُ الْمَعْدُومِ ، وَإِنَّمَا جُعِلَ الْمُسْلَمُ فِيهِ كَالْمَوْجُودِ حُكْمًا لِحَاجَةِ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ ، وَالزِّيَادَةُ فِي رَأْسِ الْمَالِ بَيْنَ حَوَائِجِ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ فَأَمَّا الزِّيَادَةُ فِي الْمُسْلَمِ فِيهِ فَلَيْسَ مِنْ حَوَائِجِ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ فِي شَيْءٍ فَلَا يَظْهَرُ هَذَا الْعَقْدُ فِيهِ فَأَمَّا جَوَازُ الرَّهْنِ بِالدَّيْنِ فَثَابِتٌ بِمُقْتَضَى الْقِيَاسِ إذَا هُوَ لِحَاجَةِ الْمَدْيُونِ ، وَالزِّيَادَةُ فِي الدَّيْنِ مِنْ حَوَائِجِ الْمَدْيُونِ .(1/13)
وَالْفَرْقُ لِأَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ ( رَحِمَهُمَا اللَّهُ ) بَيْنَ الزِّيَادَةِ فِي الرَّهْنِ ، وَبَيْنَ الزِّيَادَةِ فِي الدَّيْنِ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا : أَنَّ الزِّيَادَةَ فِي الدَّيْنِ تُؤَدِّي إلَى الشُّيُوعِ فِي الرَّهْنِ ؛ لِأَنَّ بَعْضَ الرَّهْنِ يَفْرَغُ مِنْ الدَّيْنِ الْأَوَّلِ وَيَثْبُتُ فِيهِ ضَمَانُ الدَّيْنِ الثَّانِي ، وَيَبْقَى حُكْمُ الْأَوَّلِ فِي الْبَعْضِ مُشَاعًا ، وَيَثْبُتُ فِيمَا يُقَابِلُ الزِّيَادَةَ مُشَاعًا ، وَالشُّيُوعُ فِي الرَّهْنِ يَمْنَعُ صِحَّةَ الرَّهْنِ ، فَأَمَّا الزِّيَادَةُ فِي الرَّهْنِ فَتُؤَدِّي إلَى الشُّيُوعِ فِي الدَّيْنِ ؛ لِأَنَّ بَعْضَ الدَّيْنِ يَحُولُ ضَمَانُهُ مِنْ الرَّهْنِ الْأَوَّلِ إلَى الثَّانِي وَالشُّيُوعُ فِي الدَّيْنِ لَا يَصِيرُ كَمَا لَوْ رَهَنَهُ بِنِصْفِ الدَّيْنِ رَهْنًا ، وَلَا يُقَالُ الزِّيَادَةُ تَثْبُتُ عَلَى سَبِيلِ الِالْتِحَاقِ بِأَصْلِ الْعَقْدِ فَلَا يُؤَدِّي إلَى الشُّيُوعِ فِيهِ ؛ لِأَنَّا نُسَلِّمُ هَذَا ، وَلَكِنَّهُ مَعَ الِالْتِحَاقِ بِأَصْلِ الْعَقْدِ تَثْبُتُ قِيمَتُهُ مُلْحَقًا ، فَهُوَ كَمَا لَوْ رَهَنَهُ فِي الِابْتِدَاءِ ثَوْبًا بِعِشْرِينَ نِصْفُهُ بِعَشَرَةٍ ، وَنِصْفُهُ بِعَشَرَةٍ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ وَبِهِ فَارَقَ الْبَيْعَ فَالشُّيُوعُ ، وَتَفَرُّقُ التَّسْمِيَةِ لَا يُؤَثِّرُ فِي إفْسَادِ الْبَيْعِ ، وَالثَّانِي : أَنَّ الزِّيَادَةَ إنَّمَا تَصِحُّ مُلْحَقَةً بِأَصْلِ الْعَقْدِ فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ ، وَالْمَعْقُودِ بِهِ ، وَالدَّيْنُ لَيْسَ بِمَعْقُودٍ عَلَيْهِ ، وَلَا بِمَعْقُودٍ بِهِ ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ بِهِ مَا يَكُونُ وُجُوبُهُ بِالْعَقْدِ وَالدَّيْنُ كَانَ وَاجِبًا قَبْلَ عَقْدِ الرَّهْنِ بِسَبَبِهِ ، وَيَبْقَى فَسْخُ الرَّهْنِ ، فَلَا يَمْلِكُ إثْبَاتَ(1/14)
الزِّيَادَةِ فِيهِ مُلْحَقَةً بِأَصْلِ الْعَقْدِ ، فَأَمَّا الرَّهْنُ فَمَعْقُودٌ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَحْبُوسًا قَبْلَ عَقْدِ الرَّهْنِ ، وَلَا يَبْقَى مَحْبُوسًا بَعْدَ فَسْخِ عَقْدِ الرَّهْنِ فَالزِّيَادَةُ فِي الرَّهْنِ زِيَادَةٌ فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فَيُلْتَحَقُ بِأَصْلِ الْعَقْدِ ( وَفِقْهُ هَذَا الْكَلَامِ ) : أَنَّ صِحَّةَ الزِّيَادَةِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي الْعَقْدِ يَعْسُرُ وَصْفُهُ
بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع - (ج 11 / ص 71)
( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فَأَنْوَاعٌ ( مِنْهَا ) : أَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا فَلَا يَنْعَقِدُ بَيْعُ الْمَعْدُومِ ، وَمَالَهُ خَطَرُ الْعَدَمِ كَبَيْعِ نِتَاجِ النِّتَاجِ بِأَنْ قَالَ : بِعْتُ وَلَدَ وَلَدِ هَذِهِ النَّاقَةِ وَكَذَا بَيْعُ الْحَمْلِ ؛ لِأَنَّهُ إنْ بَاعَ الْوَلَدَ فَهُوَ بَيْعُ الْمَعْدُومِ ، وَإِنْ بَاعَ الْحَمْلَ فَلَهُ خَطَرُ الْمَعْدُومِ ، وَكَذَا بَيْعُ اللَّبَنِ فِي الضَّرْعِ ؛ لِأَنَّهُ لَهُ خَطَرٌ لِاحْتِمَالِ انْتِفَاخِ الضَّرْعِ .
، وَكَذَا بَيْعُ الثَّمَرِ ، وَالزَّرْعِ قَبْلَ ظُهُورِهِ ؛ لِأَنَّهُمَا مَعْدُومٌ ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الطُّلُوعِ جَازَ ، وَإِنْ كَانَ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهِمَا إذَا لَمْ يُشْتَرَطْ التَّرْكُ ، وَمِنْ مَشَايِخِنَا مَنْ قَالَ : لَا يَجُوزُ إلَّا إذَا صَارَ بِحَالٍ يُنْتَفَعُ بِهِ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ فَإِنْ كَانَ بِحَيْثُ لَا يُنْتَفَعُ بِهِ أَصْلًا لَا يَنْعَقِدُ .(1/15)
وَاحْتَجُّوا بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ { نَهَى عَنْ بَيْعِ الثِّمَارِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا } ، وَلِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَبْدُ صَلَاحُهَا لَمْ تَكُنْ مُنْتَفَعًا بِهَا فَلَا تَكُونُ مَالًا فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهَا ، وَهَذَا خِلَافُ الرِّوَايَةِ فَإِنَّ مُحَمَّدًا ذَكَرَ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ فِي بَابِ الْعُشْرِ أَنَّهُ لَوْ بَاعَ الثِّمَارَ فِي أَوَّلِ مَا تَطْلُعُ ، وَتَرَكَهَا بِأَمْرِ الْبَائِعِ حَتَّى أَدْرَكَتْ فَالْعُشْرُ عَلَى الْمُشْتَرِي ، وَلَوْ لَمْ يَجُزْ بَيْعُهَا حِينَ مَا طَلَعَتْ لَمَا وَجَبَ عُشْرُهَا عَلَى الْمُشْتَرِي ، وَالدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِ بَيْعِهِ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ بَاعَ نَخْلًا مُؤَبَّرَةً فَثَمَرَتُهُ لِلْبَائِعِ إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَهَا الْمُبْتَاعُ } جَعْلُ الثَّمَرَةِ لِلْمُشْتَرِي بِالشَّرْطِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ مَا إذَا بَدَا صَلَاحُهَا أَوْ لَا ، دَلَّ أَنَّهَا مَحَلُّ الْبَيْعِ كَيْفَ مَا كَانَ ، وَالْمَعْنَى فِيهِ ، وَهُوَ أَنَّهُ بَاعَ ثَمَرَةً مَوْجُودَةً ، وَهِيَ بِعَرَضٍ أَنْ تَصِيرَ مُنْتَفَعًا بِهَا فِي الثَّانِي ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُنْتَفَعًا بِهَا فِي الْحَالِ فَيَجُوزُ بَيْعُهَا كَبَيْعِ جَرْوِ الْكَلْبِ عَلَى أَصْلِنَا ، وَبَيْعِ الْمَهْرِ ، وَالْجَحْشِ ، وَالْأَرْضِ السَّبْخَةِ ، وَالنَّهْيُ مَحْمُولٌ عَلَى بَيْعِ الثِّمَارِ مُدْرَكَةٌ قَبْلَ إدْرَاكِهَا بِأَنْ بَاعَهَا ثَمَرًا ، وَهِيَ بُسْرٌ أَوْ بَاعَهَا عِنَبًا ، وَهِيَ حِصْرِمٌ دَلِيلُ صِحَّةِ هَذَا التَّأْوِيلِ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي سِيَاقِ الْحَدِيثِ { : أَرَأَيْتَ إنْ مَنَعَ اللَّهُ الثَّمَرَةَ بِمَ يَسْتَحِلُّ أَحَدُكُمْ مَالَ(1/16)
صَاحِبِهِ ؟ }
وَلَفْظَةُ الْمَنْعِ تَقْتَضِي أَنْ لَا يَكُونَ مَا ، وَقَعَ عَلَيْهِ الْبَيْعُ مَوْجُودًا ؛ لِأَنَّ الْمَنْعَ مَنْعُ الْوُجُودِ ، وَمَا يُوجَدُ مِنْ الزَّرْعِ بَعْضُهُ بَعْدَ بَعْضٍ كَالْبِطِّيخِ ، وَالْبَاذِنْجَانِ فَيَجُوزُ بَيْعُ مَا ظَهَرَ مِنْهُ ، وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ مَا لَمْ يَظْهَرْ ، وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ .
وَقَالَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إذَا ظَهَرَ فِيهِ الْخَارِجُ الْأَوَّلُ يَجُوزُ بَيْعُهُ ؛ لِأَنَّ فِيهِ ضَرُورَةً ؛ لِأَنَّهُ لَا يَظْهَرُ الْكُلُّ دَفْعَةً ، وَاحِدَةً بَلْ عَلَى التَّعَاقُبِ بَعْضُهَا بَعْدَ بَعْضٍ فَلَوْ لَمْ يَجُزْ بَيْعُ الْكُلِّ عِنْدَ ظُهُورِ الْبَعْضِ لَوَقَعَ النَّاسُ فِي الْحَرَجِ .
( وَلَنَا ) أَنَّ مَا لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُ مَعْدُومٌ فَلَا يَحْتَمِلُ الْبَيْعَ ، وَدَعْوَى الضَّرُورَةِ ، وَالْحَرَجِ مَمْنُوعَةٌ فَإِنَّهُ يُمْكِنُهُ أَنْ يَبِيعَ الْأَصْلَ بِمَا فِيهِ مِنْ الثَّمَرِ ، وَمَا يَحْدُثُ مِنْهُ بَعْدَ ذَلِكَ يَكُونُ مِلْكَ الْمُشْتَرِي .
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { نَهَى عَنْ بَيْعِ الْحَبَلِ ، وَحَبَلِ الْحَبَلِ ، وَرُوِيَ حَبَلُ الْحَبَلَةِ } ، وَهِيَ بِمَعْنَى الْأَوَّلِ ، وَإِنَّمَا زِيَادَةُ الْهَاءِ لِلتَّأْكِيدِ ، وَالْمُبَالَغَةِ ، وَرُوِيَ حَبَلُ الْحَبَلَةِ بِحِفْظِ الْهَاءِ مِنْ الْكَلِمَةِ الْأَخِيرَةِ وَالْحَبَلَةُ هِيَ الْحُبْلَى فَكَانَ نَهْيًا عَنْ بَيْعِ ، وَلَدِ الْحُبْلَى .(1/17)
وَرُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ { نَهَى عَنْ بَيْعِ اللَّبَنِ فِي الضَّرْعِ ، وَبَيْعِ عَسْبِ الْفَحْلِ } ؛ لِأَنَّ عَسْبَ الْفَحْلِ ضِرَابُهُ ، وَهُوَ عِنْدَ الْعَقْدِ مَعْدُومٌ ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { نَهَى عَنْ عَسْبِ الْفَحْلِ } ، وَلَا يُمْكِنُ حَمْلُ النَّهْيِ عَلَى نَفْسِ الْعَسْبِ ، وَهُوَ الضِّرَابُ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ بِالْإِعَارَةِ فَيُحْمَلُ عَلَى الْبَيْعِ ، وَالْإِجَارَةِ إلَّا أَنَّهُ حَذَفَ ذَلِكَ ، وَأَضْمَرَهُ فِيهِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { وَاسْأَلْ الْقَرْيَةَ } ، وَغَيْرِ ذَلِكَ .
وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الدَّقِيقِ فِي الْحِنْطَةِ ، وَالزَّيْتِ فِي الزَّيْتُونِ ، وَالدُّهْنِ فِي السِّمْسِمِ ، وَالْعَصِيرِ فِي الْعِنَبِ ، وَالسَّمْنِ فِي اللَّبَنِ ، وَيَجُوزُ بَيْعُ الْحِنْطَةِ ، وَسَائِرِ الْحُبُوبِ فِي سَنَابِلِهَا ؛ لِأَنَّ بَيْعَ الدَّقِيقِ فِي الْحِنْطَةِ ، وَالزَّيْتِ فِي الزَّيْتُونِ ، وَنَحْوَ ذَلِكَ بَيْعُ الْمَعْدُومِ ؛ لِأَنَّهُ لَا دَقِيقَ فِي الْحِنْطَةِ ، وَلَا زَيْتَ فِي الزَّيْتُونِ ؛ لِأَنَّ الْحِنْطَةَ اسْمٌ لِلْمُرَكَّبِ وَالدَّقِيقَ اسْمٌ لِلْمُتَفَرِّقِ ، فَلَا دَقِيقَ فِي حَالِ كَوْنِهِ حِنْطَةً ، وَلَا زَيْتَ حَالَ كَوْنِهِ زَيْتُونًا ، فَكَانَ هَذَا بَيْعَ الْمَعْدُومِ ، فَلَا يَنْعَقِدُ بِخِلَافِ بَيْعِ الْحِنْطَةِ فِي سُنْبُلِهَا ؛ لِأَنَّ مَا فِي السُّنْبُلِ حِنْطَةٌ ، إذْ هِيَ اسْمٌ لِلْمُرَكَّبِ .(1/18)
وَهِيَ فِي سُنْبُلِهَا عَلَى تَرْكِيبِهَا فَكَانَ بَيْعَ الْمَوْجُودِ حَتَّى لَوْ بَاعَ تِبْنَ الْحِنْطَةِ فِي سُنْبُلِهَا دُونَ الْحِنْطَةِ لَا يَنْعَقِدُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَصِيرُ تِبْنًا إلَّا بِالْعِلَاجِ ، وَهُوَ الدَّقُّ ، فَلَمْ يَكُنْ تِبْنًا قَبْلَهُ فَكَانَ بَيْعَ الْمَعْدُومِ ، فَلَا يَنْعَقِدُ ، وَبِخِلَافِ بَيْعِ الْجِذْعِ فِي السَّقْفِ ، وَالْآجُرِّ فِي الْحَائِطِ ، وَذِرَاعٍ مِنْ كِرْبَاسٍ أَوْ دِيبَاجٍ أَنَّهُ يَنْعَقِدُ حَتَّى لَوْ نُزِعَ ، وَقُطِعَ ، وَسُلِّمَ إلَى الْمُشْتَرِي يُجْبَرُ عَلَى الْأَخْذِ ، وَهَهُنَا لَا يَنْعَقِدُ أَصْلًا حَتَّى لَوْ طَحَنَ أَوْ عَصَرَ ، وَسَلَّمَ لَا يُجْبِرْ الْمُشْتَرِي عَلَى الْقَبُولِ ؛ لِأَنَّ عَدَمَ النَّفَاذِ هُنَاكَ لَيْسَ لِخَلَلٍ فِي الرُّكْنِ ، وَلَا فِي الْعَاقِدِ ، وَالْمَعْقُودِ عَلَيْهِ بَلْ لِمَضَرَّةٍ تَلْحَقُ الْعَاقِدَ بِالنَّزْعِ ، وَالْقَطْعِ فَإِذَا نَزَعَ ، وَقَطَعَ فَقَدْ زَالَ الْمَانِعُ فَنَفَذَ أَمَّا هَهُنَا فَالْمَعْقُودُ عَلَيْهِ مَعْدُومٌ حَالَةَ الْعَقْدِ .
وَلَا يُتَصَوَّرُ انْعِقَادُ الْعَقْدِ بِدُونِهِ فَلَمْ يَنْعَقِدْ أَصْلًا فَلَا يَحْتَمِلُ النَّفَاذَ فَهُوَ الْفَرْقُ ، وَكَذَا بَيْعُ الْبَزْرِ فِي الْبِطِّيخِ الصَّحِيحِ ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الزَّيْتِ فِي الزَّيْتُونِ ، وَبَيْعُ النَّوَى فِي التَّمْرِ ، وَكَذَلِكَ بَيْعُ اللَّحْمِ فِي الشَّاةِ الْحَيَّةِ ؛ لِأَنَّهَا إنَّمَا تَصِيرُ لَحْمًا بِالذَّبْحِ ، وَالسَّلْخِ فَكَانَ بَيْعَ الْمَعْدُومِ فَلَا يَنْعَقِدُ ، وَكَذَا بَيْعُ الشَّحْمِ الَّذِي فِيهَا ، وَأَلْيَتِهَا وَأَكَارِعِهَا ، وَرَأْسِهَا لِمَا قُلْنَا ، وَكَذَا بَيْعُ الْبُحَيْرِ فِي السِّمْسِمِ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَصِيرُ بُحَيْرًا بَعْدَ الْعَصْرِ .(1/19)
وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا قَالَ : بِعْتُكَ هَذَا الْيَاقُوتَ بِكَذَا فَإِذَا هُوَ زُجَاجٌ أَوْ قَالَ : بِعْتُكَ هَذَا الْفَصَّ عَلَى أَنَّهُ يَاقُوت بِكَذَا فَإِذَا هُوَ زُجَاج أَوْ قَالَ : بِعْتُكَ هَذَا الثَّوْبَ الْهَرَوِيَّ بِكَذَا فَإِذَا هُوَ مَرْوِيٌّ ، أَوْ قَالَ : بِعْتُكَ هَذَا الثَّوْبَ عَلَى أَنَّهُ مَرْوِيٌّ فَإِذَا هُوَ هَرَوِيٌّ لَا يَنْعَقِدُ الْبَيْعُ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ ؛ لِأَنَّ الْمَبِيعَ مَعْدُومٌ ، وَالْأَصْلُ فِي هَذَا أَنَّ الْإِشَارَةَ مَعَ التَّسْمِيَةِ إذَا اجْتَمَعَتَا فِي بَابِ الْبَيْعِ فِيمَا يَصْلُحُ مَحَلَّ الْبَيْعِ يُنْظَرُ إنْ كَانَ الْمُشَارُ إلَيْهِ مِنْ خِلَافِ جِنْسِ الْمُسَمَّى ، فَالْعِبْرَةُ لِلتَّسْمِيَةِ ، وَيَتَعَلَّقُ الْعَقْدُ بِالْمُسَمَّى ، وَإِنْ كَانَ مِنْ جِنْسِهِ لَكِنْ يُخَالِفُهُ فِي الصِّفَةِ فَإِنْ تَفَاحَشَ التَّفَاوُتُ بَيْنَهُمَا ، فَالْعِبْرَةُ لِلتَّسْمِيَةِ أَيْضًا عِنْدَنَا ، وَيُلْحَقَانِ بِمُخْتَلِفَيْ الْجِنْسِ ، وَإِنْ قَلَّ التَّفَاوُتُ فَالْعِبْرَةُ لِلْمُشَارِ إلَيْهِ ، وَيَتَعَلَّقُ الْعَقْدُ بِهِ ، وَإِذَا عُرِفَ هَذَا فَنَقُولُ : الْيَاقُوتُ مَعَ الزُّجَاجِ جِنْسَانِ مُخْتَلِفَانِ ، وَكَذَا الْهَرَوِيُّ مَعَ الْمَرْوِيِّ نَوْعَانِ مُخْتَلِفَانِ ؛ فَيَتَعَلَّقُ الْعَقْدُ فِيهِ بِالْمُسَمَّى وَهُوَ مَعْدُومٌ فَيَبْطُلُ وَلَا يَنْعَقِدُ .
قَالَ : بِعْتُكَ هَذَا الْعَبْدَ فَإِذَا هُوَ جَارِيَةٌ لَا يَنْعَقِدُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ وَعِنْدَ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَجُوزُ .
((1/20)
وَجْهُ ) قَوْلِهِ أَنَّ الْمُسَمَّى هَهُنَا مِنْ جِنْسِ الْمُشَارِ إلَيْهِ أَعْنِي الْعَبْدَ وَالْجَارِيَةَ ، وَإِنَّمَا يَخْتَلِفَانِ فِي صِفَةِ الذُّكُورَةِ ، وَالْأُنُوثَةِ ، وَهَذَا لَا يَمْنَعُ تَعَلُّقَ الْعَقْدِ بِالْمُشَارِ إلَيْهِ كَمَا إذَا قَالَ : بِعْتُكَ هَذِهِ الشَّاةَ عَلَى أَنَّهَا نَعْجَةٌ ، فَإِذَا هِيَ كَبْشٌ .
( وَلَنَا ) أَنَّهُمَا جِنْسَانِ مُخْتَلِفَانِ فِي الْمَعْنَى ؛ لِاخْتِلَافِ جِنْسِ الْمَنْفَعَةِ الْمَطْلُوبَةِ اخْتِلَافًا فَاحِشًا فَالْتُحِقَا بِمُخْتَلِفَيْ الْجِنْسِ حَقِيقَةً بِخِلَافِ النَّعْجَةِ مَعَ الْكَبْشِ ؛ لِأَنَّهُمَا اتَّفَقَا جِنْسًا ذَاتًا وَمَعْنًى أَمَّا ذَاتًا فَظَاهِرٌ ؛ لِأَنَّ اسْمَ الشَّاةِ يَتَنَاوَلُهُمَا .(1/21)
وَأَمَّا مَعْنًى ؛ فَلِأَنَّ الْمَطْلُوبَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَنْفَعَةُ الْأَكْلِ فَتَجَانَسَا ذَاتًا وَمَنْفَعَةً فَتَعَلَّقَ الْعَقْدُ بِالْمُشَارِ إلَيْهِ ، وَهُوَ مَوْجُودٌ مَحَلٌّ لِلْبَيْعِ ، فَجَازَ بَيْعُهُ ، وَلَكِنَّ الْمُشْتَرِيَ بِالْخِيَارِ ؛ لِأَنَّهُ فَاتَتْهُ صِفَةٌ مَرْغُوبَةٌ فَأَوْجَبَ ذَلِكَ خَلَلًا فِي الرِّضَا فَيَثْبُتُ لَهُ الْخِيَارُ وَكَذَا لَوْ بَاعَ دَارًا عَلَى أَنَّ بِنَاءَهَا آجُرٌّ ، فَإِذَا هُوَ لَبِنٌ لَا يَنْعَقِدُ ؛ لِأَنَّهُمَا يَتَفَاوَتَانِ فِي الْمَنْفَعَةِ تَفَاوُتًا فَاحِشًا فَكَانَا كَالْجِنْسَيْنِ الْمُخْتَلِفَيْنِ ، وَكَذَا لَوْ بَاعَ ثَوْبًا عَلَى أَنَّهُ مَصْبُوغٌ بِعُصْفُرٍ ، فَإِذَا هُوَ مَصْبُوغٌ بِزَعْفَرَانٍ لَا يَنْعَقِدُ ؛ لِأَنَّ الْعُصْفُرَ مَعَ الزَّعْفَرَانِ يَخْتَلِفَانِ فِي اللَّوْنِ اخْتِلَافًا فَاحِشًا ، وَكَذَا لَوْ بَاعَ حِنْطَةً فِي جَوْلَقٍ فَإِذَا هُوَ دَقِيقٌ أَوْ شَرَطَ الدَّقِيقَ فَإِذَا هُوَ خُبْزٌ لَا يَنْعَقِدُ ؛ لِأَنَّ الْحِنْطَةَ مَعَ الدَّقِيقِ جِنْسَانِ مُخْتَلِفَانِ وَكَذَا الدَّقِيقُ مَعَ الْخُبْزِ أَلَا تَرَى : أَنَّ مَنْ غَصَبَ مِنْ آخَرَ حِنْطَةً وَطَحَنَهَا يَنْقَطِعُ حَقُّ الْمِلْكِ دَلَّ أَنَّهَا تَصِيرُ بِالطَّحْنِ شَيْئًا آخَرَ فَكَانَ بَيْعَ الْمَعْدُومِ فَلَا يَنْعَقِدُ .
بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع - (ج 11 / ص 376)
وَالْكَلَامُ فِي الِاسْتِصْنَاعِ فِي مَوَاضِعَ : فِي بَيَانِ جَوَازِهِ أَنَّهُ جَائِزٌ أَمْ لَا ؟ وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ جَوَازِهِ ، وَفِي بَيَانِ كَيْفِيَّةِ جَوَازِهِ ، وَفِي بَيَانِ حُكْمِهِ .
((1/22)
أَمَّا ) الْأَوَّلُ : فَالْقِيَاسُ يَأْبَى جَوَازَ الِاسْتِصْنَاعِ ؛ لِأَنَّهُ بَيْعُ الْمَعْدُومِ كَالسَّلَمِ بَلْ هُوَ أَبْعَدُ جَوَازًا مِنْ السَّلَمِ ؛ لِأَنَّ الْمُسْلَمَ فِيهِ تَحْتَمِلُهُ الذِّمَّةُ ؛ لِأَنَّهُ دَيْنٌ حَقِيقَةً ، وَالْمُسْتَصْنَعُ عَيْنٌ تُوجَدُ فِي الثَّانِي ، وَالْأَعْيَانُ لَا تَحْتَمِلُهَا الذِّمَّةُ فَكَانَ جَوَازُ هَذَا الْعَقْدِ أَبْعَدَ عَنْ الْقِيَاسِ عَنْ السَّلَمِ وَفِي الِاسْتِحْسَانِ جَازَ ؛ لِأَنَّ النَّاسَ تَعَامَلُوهُ فِي سَائِرِ الْأَعْصَارِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ فَكَانَ إجْمَاعًا مِنْهُمْ عَلَى الْجَوَازِ فَيُتْرَكُ الْقِيَاسُ ، ثُمَّ هُوَ بَيْعٌ عِنْدَ عَامَّةِ مَشَايِخِنَا ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ : هُوَ عِدَّةٌ وَلَيْسَ بِسَدِيدٍ ؛ لِأَنَّ مُحَمَّدًا ذَكَرَ الْقِيَاسَ وَالِاسْتِحْسَانَ فِي جَوَازِهِ ، وَذِكْرُ الْقِيَاسِ وَالِاسْتِحْسَانِ لَا يَلِيقُ بِالْعِدَّاتِ ، وَكَذَا ثَبَتَ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ لِلْمُسْتَصْنِعِ وَإِنَّهُ مِنْ خَصَائِصِ الْبُيُوعِ ، وَكَذَا مِنْ شَرْطِ جَوَازِهِ أَنْ يَكُونَ فِيمَا لِلنَّاسِ فِيهِ تَعَامُلٌ ، وَالْعِدَّاتُ لَا يَتَقَيَّدُ جَوَازُهَا بِهَذِهِ الشَّرَائِطِ فَدَلَّ أَنَّ جَوَازَهُ جَوَازُ الْبِيَاعَاتِ لَا جَوَازُ الْعِدَّاتِ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .
بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع - (ج 11 / ص 385)(1/23)
وَالسَّلَمُ عَقْدٌ جُوِّزَ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ لِكَوْنِهِ بَيْعَ الْمَعْدُومِ فَتَجِبُ صِيَانَتُهُ عَنْ غَرَرِ الِانْقِطَاعِ مَا أَمْكَنَ ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْمَوْضِعَ الْمُضَافَ إلَيْهِ الطَّعَامُ ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يَنْفَدُ طَعَامُهُ غَالِبًا : يَجُوزُ السَّلَمُ فِيهِ ، سَوَاءٌ كَانَ وِلَايَةً أَوْ بَلْدَةً كَبِيرَةً ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ فِي أَحْكَامِ الشَّرْعِ مُلْحَقٌ بِالْمُتَيَقَّنِ ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَنْقَطِعَ طَعَامُهُ فَلَا يَجُوزُ فِيهِ السَّلَمُ كَأَرْضٍ بِعَيْنِهَا أَوْ قَرْيَةٍ بِعَيْنِهَا ؛ لِأَنَّهُ إذَا اُحْتُمِلَ الِانْقِطَاعُ لَا عَلَى سَبِيلِ النُّدْرَةِ لَا تَثْبُتُ الْقُدْرَةُ عَلَى التَّسْلِيمِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَا قُدْرَةَ لَهُ لِلْحَالِ ؛ لِأَنَّهُ بَيْعُ الْمَفَالِيسِ ، وَفِي ثُبُوتِ الْقُدْرَةِ عِنْدَ مَحَلِّ الْأَجَلِ شَكٌّ لِاحْتِمَالِ الِانْقِطَاعِ فَلَا تَثْبُتُ الْقُدْرَةُ مَعَ الشَّكِّ .
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ زَيْدَ بْنَ شُعْبَةَ { لَمَّا أَرَادَ أَنْ يُسْلِمَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ أُسْلِمُ إلَيْكَ فِي تَمْرِ نَخْلَةٍ بِعَيْنِهَا فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : أَمَّا فِي تَمْرِ نَخْلَةٍ بِعَيْنِهَا فَلَا } وَذَكَرَ فِي الْأَصْلِ إذَا أَسْلَمَ فِي حِنْطَةِ هَرَاةَ لَا يَجُوزُ وَأَرَادَ قَرْيَةً مِنْ قُرَى الْفُرَاتِ الْمُسَمَّاةِ بِهَرَاةَ ؛ لِأَنَّهُ مِمَّا يَحْتَمِلُ انْقِطَاعَ طَعَامِهِ ، ثُمَّ لَوْ أَسْلَمَ فِي ثَوْبِ هَرَاةَ وَذَكَرَ شَرَائِطَ السَّلَمِ يَجُوزُ .
((1/24)
وَوَجْهُ ) الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا ظَاهِرٌ ؛ لِأَنَّ إضَافَةَ الثَّوْبِ إلَى هَرَاةَ ذِكْرُ شَرْطٍ مِنْ شَرَائِطِ السَّلَمِ لَا جَوَازَ لَهُ بِدُونِهِ ، وَهُوَ بَيَانُ النَّوْعِ لَا تَخْصِيصُ الثَّوْبِ بِالْمَكَانِ الْمَذْكُورِ بِدَلِيلِ أَنَّ الْمُسْلَمَ إلَيْهِ لَوْ أَتَى بِثَوْبٍ نُسِجَ فِي غَيْرِ هَرَاةَ لَكِنْ عَلَى صِفَةِ ثَوْبِ هَرَاةَ يُجْبَرُ رَبُّ السَّلَمِ عَلَى الْقَبُولِ ، فَإِذَا ذَكَرَ النَّوْعَ وَذَكَرَ الشَّرَائِطَ الْأُخَرَ كَانَ هَذَا عَقْدًا اسْتَجْمَعَ شَرَائِطَهُ فَيَجُوزُ ، فَأَمَّا إضَافَةُ الطَّعَامِ إلَى هَرَاةَ فَلَيْسَ يُفِيدُ شَرْطًا - لَا جَوَازَ لِلسَّلَمِ بِدُونِهِ - ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ تَرَكَ الْإِضَافَةَ أَصْلًا جَازَ السَّلَمُ فَبَقِيَتْ الْإِضَافَةُ لِتَخْصِيصِ الطَّعَامِ بِمَوْضِعٍ مُعَيَّنٍ يَحْتَمِلُ انْقِطَاعَ طَعَامِهِ فَلَمْ يَجُزْ ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ .
بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع - (ج 14 / ص 124)
( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا بَيَانُ حُكْمِ الْعَقْدِ فَالْكَلَامُ فِيهِ فِي مَوْضِعَيْنِ : أَحَدُهُمَا فِي بَيَانِ أَصْلِ الْحُكْمِ ، وَالثَّانِي فِي بَيَانِ صِفَتِهِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَهُوَ مِلْكُ الْمَنْفَعَةِ لِلْمُسْتَعِيرِ بِغَيْرِ عِوَضٍ ، أَوْ مَا هُوَ مُلْحَقٌ بِالْمَنْفَعَةِ عُرْفًا وَعَادَةً عِنْدَنَا ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ إبَاحَةُ الْمَنْفَعَةِ حَتَّى يَمْلِكَ الْمُسْتَعِيرُ الْإِعَارَةَ ، عِنْدَنَا فِي الْجُمْلَةِ كَالْمُسْتَأْجِرِ يَمْلِكُ الْإِجَارَةَ ، وَعِنْدَهُ لَا يَمْلِكُهَا أَصْلًا ، كَالْمُبَاحِ لَهُ الطَّعَامُ لَا يَمْلِكُ الْإِبَاحَةَ مِنْ غَيْرِهِ .(1/25)
وَجْهُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ دَلَالَةُ الْإِجْمَاعِ وَالْمَعْقُولِ أَمَّا الْإِجْمَاعُ فَلِجَوَازِ الْعَقْدِ مِنْ غَيْرِ أَجَلٍ ، وَلَوْ كَانَ تَمْلِيكُ الْمَنْفَعَةِ لَمَا جَازَ مِنْ غَيْرِ أَجَلٍ كَالْإِجَارَةِ ، وَكَذَا الْمُسْتَعِيرُ لَا يَمْلِكُ أَنْ يُؤَجِّرَ الْعَارِيَّةَ ، وَلَوْ ثَبَتَ الْمِلْكُ لَهُ فِي الْمَنْفَعَةِ لِمِلْكٍ كَالْمُسْتَأْجِرِ وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَهُوَ أَنَّ الْقِيَاسَ يَأْبَى تَمْلِيكَ الْمَنْفَعَةِ ؛ لِأَنَّ بَيْعَ الْمَعْدُومِ لِانْعِدَامِ الْمَنْفَعَةِ حَالَةَ الْعَقْدِ ، وَالْمَعْدُومُ لَا يَحْتَمِلُ الْبَيْعَ ؛ لِأَنَّهُ بَيْعُ مَا لَيْسَ عِنْدَ الْإِنْسَانِ ، وَقَدْ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُ ، إلَّا أَنَّهَا جُعِلَتْ مَوْجُودَةً عِنْدَ الْعَقْدِ فِي بَابِ الْإِجَارَةِ حُكْمًا لِلضَّرُورَةِ ، وَلَا ضَرُورَةَ إلَى الْإِعَارَةِ ، فَبَقِيَتْ الْمَنَافِعُ فِيهَا عَلَى أَصْلِ الْعَدَمِ .
((1/26)
وَلَنَا ) أَنَّ الْمُعِيرَ سَلَّطَهُ عَلَى تَحْصِيلِ الْمَنَافِعِ وَصَرْفِهَا إلَى نَفْسِهِ عَلَى وَجْهٍ زَالَتْ يَدُهُ عَنْهَا ، وَالتَّسْلِيطُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ تَمْلِيكًا لَا إبَاحَةً كَمَا فِي الْأَعْيَانِ ، وَإِنَّمَا صَحَّ مِنْ غَيْرِ أَجَلٍ ؛ لِأَنَّ بَيَانَ الْأَجَلِ لِلتَّحَرُّزِ عَنْ الْجَهَالَةِ الْمُفْضِيَةِ إلَى الْمُنَازَعَةِ ، وَالْجَهَالَةُ فِي بَابِ الْعَارِيَّةِ لَا تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ ؛ لِأَنَّهَا عَقْدٌ جَائِزٌ غَيْرُ لَازِمٍ ، وَلِهَذَا الْمَعْنَى لَا يَمْلِكُ الْإِجَارَةَ ؛ لِأَنَّهَا عَقْدٌ لَازِمٌ وَالْإِعَارَةُ عَقْدٌ غَيْرُ لَازِمٍ ، فَلَوْ مَلَكَ الْإِجَارَةَ لَكَانَ فِيهِ إثْبَاتُ صِفَةِ اللُّزُومِ بِمَا لَيْسَ بِلَازِمٍ ، أَوْ سَلْبُ صِفَةِ اللُّزُومِ عَنْ اللَّازِمِ ، وَكُلُّ ذَلِكَ بَاطِلٌ ، وَقَوْلُهُ : الْمَنَافِعُ مُنْعَدِمَةٌ عِنْدَ الْعَقْدِ قُلْنَا : نَعَمْ ، لَكِنَّ هَذَا لَا يَمْنَعُ جَوَازَ الْعَقْدِ كَمَا فِي الْإِجَارَةِ ، وَهَذَا لِأَنَّ الْعَقْدَ الْوَارِدَ عَلَى الْمَنْفَعَةِ عِنْدَنَا عَقْدٌ مُضَافٌ إلَى حِينِ وُجُودِ الْمَنْفَعَةِ ، فَلَا يَنْعَقِدُ فِي حَقِّ الْحُكْمِ إلَّا عِنْدَ وُجُودِ الْمَنْفَعَةِ شَيْئًا فَشَيْئًا عَلَى حَسَبِ حُدُوثِهَا ، فَلَمْ يَكُنْ بَيْعُ الْمَعْدُومِ وَلَا بَيْعُ مَا لَيْسَ عِنْدَ الْإِنْسَانِ ، وَعَلَى هَذَا تَخْرُجُ إعَارَةُ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ أَنَّهَا تَكُونُ قَرْضًا لَا إعَارَةً ؛ لِأَنَّ الْإِعَارَةَ لَمَّا كَانَتْ تَمْلِيكَ الْمَنْفَعَةِ أَوْ إبَاحَةَ الْمَنْفَعَةِ عَلَى اخْتِلَافِ الْأَصْلَيْنِ ، وَلَا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ إلَّا بِاسْتِهْلَاكِهَا ، وَلَا سَبِيلَ إلَى ذَلِكَ إلَّا بِالتَّصَرُّفِ فِي الْعَيْنِ لَا فِي الْمَنْفَعَةِ ، وَلَا يُمْكِنُ - تَصْحِيحًا(1/27)
- إعَارَةٌ حَقِيقِيَّةٌ ، فَتُصَحَّحُ قَرْضًا مَجَازًا لِوُجُودِ مَعْنَى الْإِعَارَةِ فِيهِ ، حَتَّى لَوْ اسْتَعَارَ حُلِيًّا لِيَتَجَمَّلَ بِهِ صَحَّ ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهِ مِنْ غَيْرِ اسْتِهْلَاكٍ بِالتَّجَمُّلِ ، فَأَمْكَنَ الْعَمَلُ بِالْحَقِيقَةِ ، فَلَا ضَرُورَةَ إلَى الْحَمْلِ عَلَى الْمَجَازِ ، وَكَذَا إعَارَةُ كُلِّ مَا لَا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهِ إلَّا بِاسْتِهْلَاكِهِ كَالْمَكِيلَاتِ وَالْمَوْزُونَاتِ ، يَكُونُ قَرْضًا لَا إعَارَةً لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ مَحَلَّ حُكْمِ الْإِعَارَةِ الْمَنْفَعَةُ لَا بِالْعَيْنِ ، إلَّا إذَا كَانَ مُلْحَقًا بِالْمَنْفَعَةِ عُرْفًا وَعَادَةً ، كَمَا إذَا مَنَحَ إنْسَانًا شَاةً أَوْ نَاقَةً لِيَنْتَفِعَ بِلَبَنِهَا وَوَبَرِهَا مُدَّةً ثُمَّ يَرُدَّهَا عَلَى صَاحِبِهَا ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مَعْدُودٌ مِنْ الْمَنَافِعِ عُرْفًا وَعَادَةً ، فَكَانَ لَهُ حُكْمُ الْمَنْفَعَةِ ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ : { هَلْ مِنْ أَحَدٍ يَمْنَحُ مِنْ إبِلِهِ نَاقَةَ أَهْلِ بَيْتٍ لَا دُرَّ لَهُمْ } وَهَذَا يَجْرِي مَجْرَى التَّرْغِيبِ ، كَمَنْ مَنَحَ مِنْحَةَ وَرِقٍ أَوْ مِنْحَةَ لُبْسٍ كَانَ لَهُ بِعِدْلِ رَقَبَةٍ ، وَكَذَا لَوْ مَنَحَ جَدْيًا أَوْ عَنَاقًا كَانَ عَارِيَّةً ؛ لِأَنَّهُ يَعْرِضُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِلَبَنِهِ وَصُوفِهِ
بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع - (ج 17 / ص 425)
( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا حُكْمُ الْقَرْضِ فَهُوَ ثُبُوتُ الْمِلْكِ لِلْمُسْتَقْرِضِ فِي الْمُقْرَضِ لِلْحَالِ ، وَثُبُوتُ مِثْلِهِ فِي ذِمَّةِ الْمُسْتَقْرِضِ لِلْمُقْرِضِ لِلْحَالِّ ، وَهَذَا جَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ .(1/28)
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي النَّوَادِرِ لَا يُمْلَكُ الْقَرْضُ بِالْقَبْضِ مَا لَمْ يُسْتَهْلَكْ . حَتَّى لَوْ أَقْرَضَ كُرًّا مِنْ ، طَعَامٍ وَقَبَضَهُ الْمُسْتَقْرِضُ ، ثُمَّ إنَّهُ اشْتَرَى الْكُرَّ الَّذِي عَلَيْهِ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ ؛ جَازَ الْبَيْعُ ، وَعَلَى رِوَايَةِ أَبِي يُوسُفَ لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ الْمُقْرِضَ بَاعَ الْمُسْتَقْرِضَ الْكُرَّ الَّذِي عَلَيْهِ وَلَيْسَ عَلَيْهِ الْكُرُّ ؛ فَكَانَ هَذَا بَيْعَ الْمَعْدُومِ ؛ فَلَمْ يَجُزْ ، كَمَا لَوْ بَاعَهُ الْكُرَّ الَّذِي فِي هَذَا الْبَيْتِ ، وَلَيْسَ فِي الْبَيْتِ كُرٌّ ، وَجَازَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ؛ لِأَنَّهُ بَاعَ مَا فِي ذِمَّتِهِ ؛ فَصَارَ كَمَا إذَا بَاعَهُ الْكُرَّ الَّذِي فِي الْبَيْتِ ، وَفِي الْبَيْتِ كُرٌّ .
وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْكُرُّ الْمُقْرَضُ قَائِمًا فِي يَدِ الْمُسْتَقْرِضِ ؛ كَانَ الْمُسْتَقْرِضُ بِالْخِيَارِ : إنْ شَاءَ دَفَعَ إلَيْهِ هَذَا الْكُرَّ ، وَإِنْ شَاءَ دَفَعَ إلَيْهِ كُرًّا آخَرَ .
درر الحكام شرح غرر الأحكام - (ج 6 / ص 378)
((1/29)
بَابُ السَّلَمِ ) ( هُوَ ) لُغَةً بِمَعْنَى السَّلَفِ فَإِنَّهُ أَخْذُ عَاجِلٍ بِآجِلٍ سُمِّيَ بِهِ هَذَا الْعَقْدُ لِكَوْنِهِ مُعَجَّلًا عَلَى وَقْتِهِ فَإِنَّ وَقْتَ الْبَيْعِ بَعْدَ وُجُودِ الْمَبِيعِ فِي مِلْكِ الْبَائِعِ ، وَالسَّلَمُ عَادَةً يَكُونُ بِمَا لَيْسَ بِمَوْجُودٍ فِي مِلْكِهِ فَيَكُونُ الْعَقْدُ مُعَجَّلًا وَهُوَ مَشْرُوعٌ بِالْكِتَابِ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى { إذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى } الْآيَةَ فَإِنَّهَا تَشْمَلُ السَّلَمَ وَالْبَيْعَ بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ وَتَأْجِيلُهُ بَعْدَ الْحُلُولِ وَالسَّنَةِ وَهِيَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ أَسْلَمَ مِنْكُمْ فَلْيُسْلِمْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ إلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ } وَالْإِجْمَاعُ وَيَأْبَاهُ الْقِيَاسُ لِأَنَّهُ بَيْعُ الْمَعْدُومِ لَكِنَّهُ تُرِكَ لِمَا ذُكِرَ وَلَمْ يُسْتَدَلَّ بِمَا رُوِيَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { نَهَى عَنْ بَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَ الْإِنْسَانِ وَرَخَّصَ فِي السَّلَمِ } لِأَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ الْعِزِّ الْحَنَفِيَّ قَالَ فِي حَوَاشِي الْهِدَايَةِ هَذَا اللَّفْظُ هَكَذَا لَمْ يُرْوَ مِنْ أَحَدِ مِنْ الصَّحَابَةِ فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ وَكَأَنَّهُ مِنْ كَلَامِ وَاحِدٍ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَشَرْعًا ( بَيْعُ الشَّيْءِ عَلَى أَنْ يَكُونَ ) ذَلِكَ الشَّيْءُ ( دَيْنًا عَلَى الْبَائِعِ بِشَرَائِطَ مُعْتَبَرَةٍ شَرْعًا ) وَسَيَأْتِي بَيَانُهَا ( وَالْبَائِعُ ) فِي الِاصْطِلَاحِ ( مُسْلَمٌ إلَيْهِ وَالْمُشْتَرِي رَبُّ السَّلَمِ وَالْمَبِيعِ فِيهِ وَالثَّمَنُ رَأْسُ الْمَالِ وَيَصِحُّ فِيمَا يُعْلَمُ قَدْرُهُ ) أَيْ مِقْدَارُهُ أَعَمَّ مِنْ الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ وَالذَّرْعِ ( وَصِفَتُهُ ) أَيْ جَوْدَتُهُ وَرَدَاءَتُهُ(1/30)
وَنَحْوُ ذَلِكَ ( كَالْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ الْمُثَمَّنِ ) احْتِرَازًا عَنْ الدَّنَانِيرِ وَالدَّرَاهِمِ فَإِنَّهَا مِنْ الْمَوْزُونَاتِ لَكِنَّهَا لَيْسَتْ بِمُثَمَّنَةٍ بَلْ أَثْمَانٌ فَلَا يَجُوزُ فِيهَا السَّلَمُ ( وَالْعَدَدِيُّ الْمُتَقَارِبُ كَالْجَوْزِ وَالْبَيْضِ وَالْفَلْسِ وَاللَّبِنِ وَالْآجُرِّ بِمِلْبَنٍ مُعَيَّنٍ ، وَالذَّرْعِيُّ كَالثَّوْبِ مُبَيِّنًا قَدْرَهُ ) أَيْ طُولَهُ
رد المحتار - (ج 18 / ص 199)
( قَوْلُهُ : وَشَرْطُهُ أَهْلِيَّةِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ ) أَيْ بِكَوْنِهِمَا عَاقِلَيْنِ ، وَلَا يُشْتَرَطُ الْبُلُوغُ وَالْحُرِّيَّةُ .
مَطْلَبٌ : شَرَائِطُ الْبَيْعِ أَنْوَاعٌ أَرْبَعَةٌ وَذَكَرَ فِي الْبَحْرِ أَنَّ شَرَائِطَ الْبَيْعِ أَرْبَعَةُ أَنْوَاعٍ : شَرْطُ انْعِقَادٍ وَنَفَاذٍ وَصِحَّةٍ وَلُزُومٍ .
فَالْأَوَّلُ أَرْبَعَةُ أَنْوَاعٍ : فِي الْعَاقِدِ ، وَفِي نَفْسِ الْعَقْدِ ، وَفِي مَكَانِهِ ، وَفِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ ، فَشَرَائِطُ الْعَاقِدِ اثْنَانِ : الْعَقْلُ وَالْعَدَدُ ، فَلَا يَنْعَقِدُ بَيْعُ مَجْنُونٍ وَصَبِيٍّ لَا يَعْقِلُ ، وَلَا وَكِيلٍ مِنْ الْجَانِبَيْنِ ، إلَّا فِي الْأَبِ وَوَصِيِّهِ وَالْقَاضِي ، وَشِرَاءُ الْعَبْدِ نَفْسَهُ مِنْ مَوْلَاهُ بِأَمْرِهِ ، وَالرَّسُولِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ .
وَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْبُلُوغُ وَلَا الْحُرِّيَّةُ ، فَيَصِحُّ بَيْعُ الصَّبِيِّ أَوْ الْعَبْدِ لِنَفْسِهِ مَوْقُوفًا وَلِغَيْرِهِ نَافِذًا ، وَلَا الْإِسْلَامُ وَالنُّطْقُ وَالصَّحْوُ .(1/31)
وَشَرْطُ الْعَقْدِ اثْنَانِ أَيْضًا : مُوَافَقَةُ الْإِيجَابِ لِلْقَبُولِ ، فَلَوْ قَبِلَ غَيْرَ مَا أَوْجَبَهُ أَوْ بَعْضَهُ أَوْ بِغَيْرِ مَا أَوْجَبَهُ أَوْ بِبَعْضِهِ لَمْ يَنْعَقِدْ إلَّا فِي الشُّفْعَةِ بِأَنْ بَاعَ عَبْدًا وَعَقَارًا فَطَلَبَ الشَّفِيعُ الْعَقَارَ وَحْدَهُ ، وَكَوْنُهُ بِلَفْظِ الْمَاضِي .
وَشَرْطُ مَكَانِهِ وَاحِدٌ ، وَهُوَ اتِّحَادُ الْمَجْلِسِ .
وَشَرْطُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ سِتَّةٌ : كَوْنُهُ مَوْجُودًا مَالًا مُتَقَوِّمًا مَمْلُوكًا فِي نَفْسِهِ ، وَكَوْنُ الْمِلْكِ لِلْبَائِعِ فِيمَا يَبِيعُهُ لِنَفْسِهِ ، وَكَوْنُهُ مَقْدُورَ التَّسْلِيمِ فَلَمْ يَنْعَقِدْ بَيْعُ الْمَعْدُومِ وَمَا لَهُ خَطَرُ الْعَدَمِ كَالْحَمْلِ وَاللَّبَنِ فِي الضَّرْعِ وَالثَّمَرِ قَبْلَ ظُهُورِهِ وَهَذَا الْعَبْدُ فَإِذَا هُوَ جَارِيَةٌ ، وَلَا بَيْعُ الْحُرِّ وَالْمُدَبَّرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ وَالْمُكَاتَبِ وَمُعْتَقِ الْبَعْضِ وَالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ ، وَلَا بَيْعُ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ فِي حَقِّ مُسْلِمٍ وَكِسْرَةِ خُبْزٍ ؛ لِأَنَّ أَدْنَى الْقِيمَةِ الَّتِي تُشْتَرَطُ لِجَوَازِ الْبَيْعِ فَلْسٌ ، وَلَا بَيْعُ الْكَلَأِ وَلَوْ فِي أَرْضٍ مَمْلُوكَةٍ لَهُ ، وَالْمَاءِ فِي النَّهْرِ أَوْ بِئْرٍ ، وَالصَّيْدِ وَالْحَطَبِ وَالْحَشِيشِ قَبْلَ الْإِحْرَازِ ، وَلَا بَيْعُ مَا لَيْسَ مَمْلُوكًا لَهُ وَإِنْ مَلَكَهُ بَعْدَهُ ، إلَّا السَّلَمُ وَالْمَغْصُوبُ لَوْ بَاعَهُ الْغَاصِبُ ثُمَّ ضَمِنَ قِيمَتَهُ وَبَيْعُ الْفُضُولِيِّ فَإِنَّهُ مُنْعَقِدٌ مَوْقُوفٌ ، وَبَيْعُ الْوَكِيلِ ، فَإِنَّهُ نَافِذٌ ، وَلَا بَيْعُ مَعْجُوزِ التَّسْلِيمِ كَالْآبِقِ وَالطَّيْرِ فِي الْهَوَاءِ وَالسَّمَكِ فِي الْبَحْرِ إنْ كَانَ فِي يَدِهِ فَصَارَتْ شَرَائِطُ الِانْعِقَادِ أَحَدَ عَشَرَ .(1/32)
قُلْتُ : صَوَابُهُ تِسْعَةٌ .
رد المحتار - (ج 18 / ص 240)
.
( قَوْلُهُ : مَا يَسْتَجِرُّهُ الْإِنْسَانُ إلَخْ ) ذَكَرَ فِي الْبَحْرِ أَنَّ مِنْ شَرَائِطِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا ، فَلَمْ يَنْعَقِدْ بَيْعُ الْمَعْدُومِ ثُمَّ قَالَ : وَمِمَّا تَسَامَحُوا فِيهِ ، وَأَخْرَجُوهُ عَنْ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ مَا فِي الْقُنْيَةِ الْأَشْيَاءُ الَّتِي تُؤْخَذُ مِنْ الْبَيَّاعِ عَلَى وَجْهِ الْخَرْجِ كَمَا هُوَ الْعَادَةُ مِنْ غَيْرِ بَيْعٍ كَالْعَدَسِ وَالْمِلْحِ وَالزَّيْتِ وَنَحْوِهَا ثُمَّ اشْتَرَاهَا بَعْدَمَا انْعَدَمَتْ صَحَّ .
ا هـ .
فَيَجُوزُ بَيْعُ الْمَعْدُومِ هُنَا .
ا هـ .
وَقَالَ : بَعْضُ الْفُضَلَاءِ : لَيْسَ هَذَا بَيْعَ مَعْدُومٍ إنَّمَا هُوَ مِنْ بَابِ ضَمَانِ الْمُتْلَفَاتِ بِإِذْنِ مَالِكِهَا عُرْفًا تَسْهِيلًا لِلْأَمْرِ وَدَفْعًا لِلْحَرَجِ كَمَا هُوَ الْعَادَةُ ، وَفِيهِ أَنَّ الضَّمَانَ بِالْإِذْنِ مِمَّا لَا يُعْرَفُ فِي كَلَامِ الْفُقَهَاءِ حَمَوِيٌّ ، وَفِيهِ أَيْضًا أَنَّ ضَمَانَ الْمِثْلِيَّاتِ بِالْمِثْلِ لَا بِالْقِيمَةِ وَالْقِيَمِيَّاتِ بِالْقِيمَةِ لَا بِالثَّمَنِ ط .
قُلْتُ : كُلُّ هَذَا قِيَاسٌ ، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ اسْتِحْسَانٌ وَيُمْكِنُ تَخْرِيجُهَا عَلَى فَرْضِ الْأَعْيَانِ ، وَيَكُونُ ضَمَانُهَا بِالثَّمَنِ اسْتِحْسَانًا وَكَذَا حِلُّ الِانْتِفَاعِ فِي الْأَشْيَاءِ الْقِيَمِيَّةِ ؛ لِأَنَّ قَرْضَهَا فَاسِدٌ لَا يَحِلُّ الِانْتِفَاعُ بِهِ ، وَإِنْ مُلِكَتْ بِالْقَبْضِ وَخَرَّجَهَا فِي النَّهْرِ عَلَى كَوْنِ الْمَأْخُوذِ مِنْ الْعَدَسِ وَنَحْوِهِ بَيْعًا بِالتَّعَاطِي ، وَأَنَّهُ لَا يُحْتَاجُ فِي مِثْلِهِ إلَى بَيَانِ الثَّمَنِ ؛ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ .
ا هـ .(1/33)
وَاعْتَرَضَهُ الْحَمَوِيُّ بِأَنَّ أَثْمَانَ هَذِهِ تَخْتَلِفُ فَيُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ .
ا هـ .
قُلْتُ : مَا فِي النَّهْرِ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الثَّمَنَ مَعْلُومٌ ، لَكِنَّهُ عَلَى هَذَا لَا يَكُونُ مِنْ بَيْعِ الْمَعْدُومِ بَلْ كُلَّمَا أَخَذَ شَيْئًا انْعَقَدَ بَيْعًا بِثَمَنِهِ الْمَعْلُومِ قَالَ : فِي الْوَلْوَالِجيَّةِ : دَفَعَ دَرَاهِمَ إلَى خَبَّازٍ فَقَالَ : اشْتَرَيْتُ مِنْكَ مِائَةً مَنٍّ مِنْ خُبْزٍ ، وَجَعَلَ يَأْخُذُ كُلَّ يَوْمٍ خَمْسَةَ أُمَنَاءَ فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ وَمَا أَكَلَ فَهُوَ مَكْرُوهٌ ؛ لِأَنَّهُ اشْتَرَى خُبْزًا غَيْرَ مُشَارٍ إلَيْهِ ، فَكَانَ الْمَبِيعُ مَجْهُولًا وَلَوْ أَعْطَاهُ الدَّرَاهِمَ ، وَجَعَلَ يَأْخُذُ مِنْهُ كُلَّ يَوْمٍ خَمْسَةَ أَمْنَانٍ وَلَمْ يَقُلْ فِي الِابْتِدَاءِ اشْتَرَيْتُ مِنْكَ يَجُوزُ وَهَذَا حَلَالٌ وَإِنْ كَانَ نِيَّتُهُ وَقْتَ الدَّفْعِ الشِّرَاءَ ؛ لِأَنَّهُ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ لَا يَنْعَقِدُ الْبَيْعُ ، وَإِنَّمَا يَنْعَقِدُ الْبَيْعُ الْآنَ بِالتَّعَاطِي وَالْآنَ الْمَبِيعُ مَعْلُومٌ فَيَنْعَقِدُ الْبَيْعُ صَحِيحًا .
ا هـ .(1/34)
قُلْت : وَوَجْهُهُ أَنَّ ثَمَنَ الْخُبْزِ مَعْلُومٌ فَإِذَا انْعَقَدَ بَيْعًا بِالتَّعَاطِي وَقْتَ الْأَخْذِ مَعَ دَفْعِ الثَّمَنِ قَبْلَهُ ، فَكَذَا إذَا تَأَخَّرَ دَفْعُ الثَّمَنِ بِالْأَوْلَى ، وَهَذَا ظَاهِرٌ فِيمَا كَانَ ثَمَنُهُ مَعْلُومًا وَقْتَ الْأَخْذِ مِثْلَ الْخُبْزِ وَاللَّحْمِ أَمَّا إذَا كَانَ ثَمَنُهُ مَجْهُولًا فَإِنَّهُ وَقْتَ الْأَخْذِ لَا يَنْعَقِدُ بَيْعًا بِالتَّعَاطِي لِجَهَالَةِ الثَّمَنِ ، فَإِذَا تَصَرَّفَ فِيهِ الْآخِذُ وَقَدْ دَفَعَهُ الْبَيَّاعُ بِرِضَاهُ بِالدَّفْعِ وَبِالتَّصَرُّفِ فِيهِ عَلَى وَجْهِ التَّعْوِيضِ عَنْهُ لَمْ يَنْعَقِدْ بَيْعًا ، وَإِنْ كَانَ عَلَى نِيَّةِ الْبَيْعِ لِمَا عَلِمْتَ مِنْ أَنَّ الْبَيْعَ لَا يَنْعَقِدُ بِالنِّيَّةِ ، فَيَكُونُ شَبِيهَ الْقَرْضِ الْمَضْمُونِ بِمِثْلِهِ أَوْ بِقِيمَتِهِ فَإِذَا تَوَافَقَا عَلَى شَيْءٍ بَدَلَ الْمِثْلِ أَوْ الْقِيمَةِ بَرِئَتْ ذِمَّةُ الْآخِذِ ، لَكِنْ يَبْقَى الْإِشْكَالُ فِي جَوَازِ التَّصَرُّفِ فِيهِ إذَا كَانَ قِيَمِيًّا فَإِنَّ قَرْضَ الْقِيَمِيِّ لَا يَصِحُّ فَيَكُونُ تَصْحِيحُهُ هُنَا اسْتِحْسَانًا كَقَرْضِ الْخُبْزِ وَالْخَمِيرَةِ وَيُمْكِنُ تَخْرِيجُهُ عَلَى الْهِبَةِ بِشَرْطِ الْعِوَضِ ، أَوْ عَلَى الْمَقْبُوضِ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ .
ثُمَّ رَأَيْتُهُ فِي الْأَشْبَاهِ فِي الْقَوْلِ فِي ثَمَنِ الْمِثْلِ حَيْثُ قَالَ : وَمِنْهَا لَوْ أَخَذَ مِنْ الْأُرْزِ وَالْعَدَسِ وَمَا أَشْبَهَهُ ، وَقَدْ كَانَ دَفَعَ إلَيْهِ دِينَارًا مَثَلًا لِيُنْفِقَ عَلَيْهِ ثُمَّ اخْتَصَمَا بَعْدَ ذَلِكَ فِي قِيمَتِهِ هَلْ تُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ يَوْمَ الْأَخْذِ أَوْ يَوْمَ الْخُصُومَةِ .(1/35)
قَالَ : فِي التَّتِمَّةِ : تُعْتَبَرُ يَوْمَ الْأَخْذِ قِيلَ : لَهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ دَفَعَ إلَيْهِ شَيْئًا بَلْ كَانَ يَأْخُذُ مِنْهُ عَلَى أَنْ يَدْفَعَ إلَيْهِ ثَمَنَ مَا يَجْتَمِعُ عِنْدَهُ قَالَ : يُعْتَبَرُ وَقْتُ الْأَخْذِ ؛ لِأَنَّهُ سَوْمٌ حِينَ ذَكَرَ الثَّمَنَ .
ا هـ .
( قَوْلُهُ : بَيْعُ الْبَرَاءَاتِ ) جَمْعُ بَرَاءَةٍ وَهِيَ الْأَوْرَاقُ الَّتِي يَكْتُبُهَا كُتَّابُ الدِّيوَانِ عَلَى الْعَامِلِينَ عَلَى الْبِلَادِ بِحَظٍّ كَعَطَاءٍ أَوْ عَلَى الْأَكَّارِينَ بِقَدْرِ مَا عَلَيْهِمْ وَسُمِّيَتْ بَرَاءَةً ؛ لِأَنَّهُ يَبْرَأُ بِدَفْعِ مَا فِيهَا ط .
( قَوْلُهُ : بِخِلَافِ بَيْعِ حُظُوظِ الْأَئِمَّةِ ) بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَالظَّاءِ الْمُشَالَةِ جَمْعُ حَظٍّ ، بِمَعْنَى : النَّصِيبِ الْمُرَتَّبِ لَهُ مِنْ الْوَقْفِ أَيْ فَإِنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُهُ ، وَهَذَا مُخَالِفٌ لِمَا فِي الصَّيْرَفِيَّةِ فَإِنَّ مُؤَلِّفَهَا سُئِلَ عَنْ بَيْعِ الْحَظِّ فَأَجَابَ لَا يَجُوزُ ، ط عَنْ حَاشِيَةِ الْأَشْبَاهِ .
قُلْتُ : وَعِبَارَةُ الصَّيْرَفِيَّةِ هَكَذَا سُئِلَ عَنْ بَيْعِ الْخَطِّ قَالَ : لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو إمَّا إنْ بَاعَ مَا فِيهِ أَوْ عَيْنَ الْخَطِّ لَا وَجْهَ لِلْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّهُ بَيْعُ مَا لَيْسَ عِنْدَهُ وَلَا وَجْهَ لِلثَّانِي ؛ لِأَنَّ هَذَا الْقَدْرَ مِنْ الْكَاغَدِ لَيْسَ مُتَقَوِّمًا بِخِلَافِ الْبَرَاءَةِ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْكَاغَدَةَ مُتَقَوِّمَةٌ .
ا هـ .(1/36)
قُلْتُ : وَمُقْتَضَاهُ أَنَّ الْخَطَّ بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَالطَّاءِ الْمُهْمَلَةِ ، وَهَذِهِ لَا يُخَالِفُ مَا ذَكَرَهُ الشَّارِحُ ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِحُظُوظِ الْأَئِمَّةِ مَا كَانَ قَائِمًا فِي يَدِ الْمُتَوَلِّي مِنْ نَحْوِ خُبْزٍ أَوْ حِنْطَةٍ قَدْ اسْتَحَقَّهُ الْإِمَامُ ، وَكَلَامُ الصَّيْرَفِيَّةِ فِيمَا لَيْسَ بِمَوْجُودٍ .
( قَوْلُهُ : ثَمَّةَ ) أَيْ هُنَاكَ أَيْ فِي مَسْأَلَةِ بَيْعِ حُظُوظِ الْأَئِمَّةِ وَأَشَارَ إِلَيْهَا بِالْبَعِيدِ ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ كَانَ فِي بَيْعِ الْبَرَاءَاتِ ؛ وَلِذَا أَشَارَ إِلَيْهَا بِلَفْظِ هُنَا .
( قَوْلُهُ : مِنْ الْمُشْرِفِ ) أَيْ الْمُبَاشِرِ الَّذِي يَتَوَلَّى قَبْضَ الْخُبْزِ .
( قَوْلُهُ : بِخِلَافِ الْجُنْدِيِّ ) أَيْ إذَا بَاعَ الشَّعِيرَ الْمُعَيَّنَ لِعَلَفِ دَابَّتِهِ مِنْ حَاشِيَةِ السَّيِّدِ أَبِي السُّعُودِ .
مَطْلَبٌ فِي بَيْعِ الِاسْتِجْرَارِ .
( قَوْلُهُ : وَتَعَقَّبَهُ فِي النَّهْرِ ) أَيْ تَعَقَّبَ مَا ذُكِرَ مِنْ مَسْأَلَةِ بَيْعِ الِاسْتِجْرَارِ وَمَا بَعْدَهُ حَيْثُ قَالَ : أَقُولُ : الظَّاهِرُ أَنَّ مَا فِي الْقُنْيَةِ ضَعِيفٌ لِاتِّفَاقِ كَلِمَتِهِمْ عَلَى أَنَّ بَيْعَ الْمَعْدُومِ لَا يَصِحُّ ، وَكَذَا غَيْرُ الْمَمْلُوكِ ، وَمَا الْمَانِعُ مِنْ أَنْ يَكُونَ الْمَأْخُوذُ مِنْ الْعَدَسِ وَنَحْوِهِ بَيْعًا بِالتَّعَاطِي وَلَا يُحْتَاجُ فِي مِثْلِهِ إلَى بَيَانِ الثَّمَنِ ؛ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ كَمَا سَيَأْتِي ، وَحَظُّ الْإِمَامِ لَا يُمْلَكُ قَبْلَ الْقَبْضِ فَأَنَّى يَصِحُّ بَيْعُهُ ، وَكُنْ عَلَى ذِكْرٍ مِمَّا قَالَهُ ابْنُ وَهْبَانَ فِي كِتَابِ الشُّرْبِ مَا فِي الْقُنْيَةِ إذَا كَانَ مُخَالِفًا لِلْقَوَاعِدِ لَا الْتِفَاتَ إلَيْهِ مَا لَمْ يُعَضِّدْهُ نَقْلٌ مِنْ غَيْرِهِ .
ا هـ .(1/37)
وَقَدَّمْنَا الْكَلَامَ عَلَى بَيْعِ الِاسْتِجْرَارِ وَأَمَّا بَيْعُ حَظِّ الْإِمَامِ فَالْوَجْهُ مَا ذَكَرَهُ مِنْ عَدَمِ صِحَّةِ بَيْعِهِ ، وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ مَاتَ يُورَثُ عَنْهُ ؛ لِأَنَّهُ أُجْرَةٌ اسْتَحَقَّهَا وَلَا يَلْزَمُ مِنْ الِاسْتِحْقَاقِ الْمِلْكُ كَمَا قَالُوا فِي الْغَنِيمَةِ بَعْدَ إحْرَازِهَا بِدَارِ الْإِسْلَامِ فَإِنَّهَا حَقٌّ تَأَكَّدَ بِالْإِحْرَازِ ، وَلَا يَحْصُلُ الْمِلْكُ فِيهَا لِلْغَانِمِينَ إلَّا بَعْدَ الْقِسْمَةِ ، وَالْحَقُّ الْمُتَأَكَّدُ يُورَثُ كَحَقِّ الرَّهْنِ وَالرَّدِّ بِالْعَيْبِ ، بِخِلَافِ الضَّعِيفِ كَالشُّفْعَةِ وَخِيَارِ الشَّرْطِ كَمَا فِي الْفَتْحِ .
وَعَنْ هَذَا بَحَثَ فِي الْبَحْرِ هُنَاكَ بِأَنَّهُ يَنْبَغِي التَّفْصِيلُ فِي مَعْلُومِ الْمُسْتَحِقِّ بِأَنَّهُ إنْ مَاتَ بَعْدَ خُرُوجِ الْغَلَّةِ وَإِحْرَازِ النَّاظِرِ لَهَا قَبْلَ الْقِسْمَةِ يُورَثُ نَصِيبُهُ لِتَأَكُّدِ الْحَقِّ فِيهِ كَالْغَنِيمَةِ بَعْدَ الْإِحْرَازِ ، وَإِنْ مَاتَ قَبْلَ ذَلِكَ لَا يُورَثُ ، لَكِنْ قَدَّمْنَا هُنَاكَ أَنَّ مَعْلُومَ الْإِمَامِ لَهُ شِبْهُ الصِّلَةِ وَشِبْهُ الْأُجْرَةِ وَالْأَرْجَحُ الثَّانِي ، وَعَلَيْهِ يَتَحَقَّقُ الْإِرْثُ
رد المحتار - (ج 18 / ص 385)
ثَمَرٍ أَوْ زَرْعٍ أَوْ شَجَرٍ مُفَصَّلًا مُوَضَّحًا فَرَاجِعْهُ .
( قَوْلُهُ : أَمَّا قَبْلَ الظُّهُورِ ) أَشَارَ إلَى أَنَّ الْبُرُوزَ بِمَعْنَى الظُّهُورِ ، وَالْمُرَادُ بِهِ انْفِرَادُ الزَّهْرِ عَنْهَا وَانْعِقَادُهَا ثَمَرَةً وَإِنْ صَغُرَتْ .
((1/38)
قَوْلُهُ : ظَهَرَ صَلَاحُهَا أَوْ لَا ) قَالَ : فِي الْفَتْحِ لَا خِلَافَ فِي عَدَمِ جَوَازِ بَيْعِ الثِّمَارِ قَبْلَ أَنْ تَظْهَرَ وَلَا فِي عَدَمِ جَوَازِهِ بَعْدَ الظُّهُورِ قَبْلَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ ، بِشَرْطِ التَّرْكِ وَلَا فِي جَوَازِهِ قَبْلَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ بِشَرْطِ الْقَطْعِ فِيمَا يُنْتَفَعُ بِهِ ، وَلَا فِي الْجَوَازِ بَعْدَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ ، لَكِنَّ بُدُوَّ الصَّلَاحِ عِنْدَنَا أَنْ تُؤْمَنَ الْعَاهَةُ وَالْفَسَادُ ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ هُوَ ظُهُورُ النُّضْجِ وَبُدُوُّ الْحَلَاوَةِ وَالْخِلَافُ إنَّمَا هُوَ فِي بَيْعِهَا قَبْلَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ عَلَى الْخِلَافِ فِي مَعْنَاهُ ، لَا بِشَرْطِ الْقَطْعِ فَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ لَا يَجُوزُ ، وَعِنْدَنَا إنْ كَانَ بِحَالٍ لَا يُنْتَفَعُ بِهِ فِي الْأَكْلِ ، وَلَا فِي عَلْفِ الدَّوَابِّ فِيهِ خِلَافٌ بَيْنَ الْمَشَايِخِ قِيلَ : لَا يَجُوزُ وَنَسَبَهُ قَاضِي خَانْ لِعَامَّةِ مَشَايِخِنَا ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَجُوزُ ؛ لِأَنَّهُ مَالٌ مُنْتَفَعٌ بِهِ فِي ثَانِي الْحَالِ إنْ لَمْ يَكُنْ مُنْتَفَعًا بِهِ فِي الْحَالِ ، وَالْحِيلَةُ فِي جَوَازِهِ بِاتِّفَاقِ الْمَشَايِخِ أَنْ يَبِيعَ الْكُمَّثْرَى أَوَّلَ مَا تَخْرُجُ مَعَ أَوْرَاقِ الشَّجَرِ فَيَجُوزَ فِيهَا تَبَعًا لِلْأَوْرَاقِ كَأَنَّهُ وَرَقٌ كُلَّهُ ، وَإِنْ كَانَ بِحَيْثُ يُنْتَفَعُ بِهِ وَلَوْ عَلْفًا لِلدَّوَابِّ فَالْبَيْعُ جَائِزٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْمَذْهَبِ إذَا بَاعَ بِشَرْطِ الْقَطْعِ أَوْ مُطْلَقًا .
ا هـ .
((1/39)
قَوْلُهُ : لَا يَصِحُّ فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ ) قَالَ : فِي الْفَتْحِ : وَلَوْ اشْتَرَاهَا مُطْلَقًا أَيْ بِلَا شَرْطِ قَطْعٍ أَوْ تَرْكٍ فَأَثْمَرَتْ ثَمَرًا آخَرَ قَبْلَ الْقَبْضِ فَسَدَ الْبَيْعُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ تَسْلِيمُ الْمَبِيعِ لِتَعَذُّرِ التَّمْيِيزِ فَأَشْبَهَ هَلَاكَهُ قَبْلَ التَّسْلِيمِ ، وَلَوْ أَثْمَرَتْ بَعْدَ الْقَبْضِ يَشْتَرِكَانِ فِيهِ لِلِاخْتِلَاطِ ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي فِي مِقْدَارِهِ مَعَ يَمِينِهِ ؛ لِأَنَّهُ فِي يَدِهِ وَكَذَا فِي بَيْعِ الْبَاذِنْجَانِ وَالْبِطِّيخِ إذَا حَدَثَ بَعْدَ الْقَبْضِ خُرُوجُ بَعْضِهَا اشْتَرَكَا كَمَا ذَكَرْنَا .
ا هـ .
وَمُقْتَضَاهُ أَنَّهَا لَوْ أَثْمَرَتْ بَعْدَ الْقَبْضِ يَصِحُّ الْبَيْعُ فِي الْمَوْجُودِ وَقْتَ الْبَيْعِ ، فَإِطْلَاقُ الْمُصَنِّفِ تَبَعًا لِلزَّيْلَعِيِّ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا بَاعَ الْمَوْجُودَ وَالْمَعْدُومَ كَمَا يُفِيدُهُ مَا يَأْتِي عَنْ الْحَلْوَانِيِّ ، مَا ذَكَرَهُ فِي الْفَتْحِ مِنْ التَّفْصِيلِ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا بَاعَ الْمَوْجُودَ فَقَطْ ، وَعَلَى هَذَا فَقَوْلُ الْفَتْحِ عَقِبَ مَا قَدَّمْنَاهُ عَنْهُ ، وَكَانَ الْحَلْوَانِيُّ يُفْتِي بِجَوَازِهِ فِي الْكُلِّ إلَخْ ، لَا يُنَاسِبُ التَّفْصِيلَ الَّذِي ذَكَرَهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا وَجْهَ لِجَوَازِ الْبَيْعِ فِي الْكُلِّ إذَا وَقَعَ الْبَيْعُ عَلَى الْمَوْجُودِ فَقَطْ فَاغْتَنِمْ هَذَا التَّحْرِيرَ .
((1/40)
قَوْلُهُ : وَأَفْتَى الْحَلْوَانِيُّ بِالْجَوَازِ ) وَزَعَمَ أَنَّهُ مَرْوِيٌّ عَنْ أَصْحَابِنَا وَكَذَا حَكَى عَنْ الْإِمَامِ الْفَضْلِيِّ ، وَقَالَ : اُسْتُحْسِنَ فِيهِ لِتَعَامُلِ النَّاسِ ، وَفِي نَزْعِ النَّاسِ عَنْ عَادَتِهِمْ حَرَجٌ قَالَ : فِي الْفَتْحِ : وَقَدْ رَأَيْتُ رِوَايَةً فِي نَحْوِ هَذَا عَنْ مُحَمَّدٍ فِي بَيْعِ الْوَرْدِ عَلَى الْأَشْجَارِ فَإِنَّ الْوَرْدَ مُتَلَاحِقٌ ، وَجُوِّزَ الْبَيْعُ فِي الْكُلِّ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ .
ا هـ .
قَالَ : الزَّيْلَعِيُّ وَقَالَ : شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ : وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ الْمَصِيرَ إلَى مِثْلِ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ عِنْدَ تَحَقُّقِ الضَّرُورَةِ وَلَا ضَرُورَةَ هُنَا ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ أَنْ يَبِيعَ الْأُصُولَ عَلَى مَا بَيَّنَّا أَوْ يَشْتَرِيَ الْمَوْجُودَ بِبَعْضِ الثَّمَنِ ، وَيُؤَخِّرَ الْعَقْدَ فِي الْبَاقِي إلَى وَقْتِ وُجُودِهِ أَوْ يَشْتَرِيَ الْمَوْجُودَ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ : وَيُبِيحَ لَهُ الِانْتِفَاعَ بِمَا يَحْدُثُ مِنْهُ ، فَيَحْصُلَ مَقْصُودُهُمَا بِهَذَا الطَّرِيقِ ، فَلَا ضَرُورَةَ إلَى تَجْوِيزِ الْعَقْدِ فِي الْمَعْدُومِ مُصَادِمًا لِلنَّصِّ ، وَهُوَ مَا رُوِيَ " { أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نَهَى عَنْ بَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَ الْإِنْسَانِ وَرَخَّصَ فِي السَّلَمِ } " ا هـ .(1/41)
قُلْتُ : لَكِنْ لَا يَخْفَى تَحَقُّقُ الضَّرُورَةِ فِي زَمَانِنَا وَلَا سِيَّمَا فِي مِثْلِ دِمَشْقَ الشَّامِ كَثِيرَةِ الْأَشْجَارِ وَالثِّمَارِ فَإِنَّهُ لِغَلَبَةِ الْجَهْلِ عَلَى النَّاسِ لَا يُمْكِنُ إلْزَامُهُمْ بِالتَّخَلُّصِ بِأَحَدِ الطُّرُقِ الْمَذْكُورَةِ ، وَإِنْ أَمْكَنَ ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إلَى بَعْضِ أَفْرَادِ النَّاسِ لَا يُمْكِنُ بِالنِّسْبَةِ إلَى عَامَّتِهِمْ وَفِي نَزْعِهِمْ عَنْ عَادَتِهِمْ حَرَجٌ كَمَا عَلِمْت ، وَيَلْزَمُ تَحْرِيمُ أَكْلِ الثِّمَارِ فِي هَذِهِ الْبُلْدَانِ إذْ لَا تُبَاعُ إلَّا كَذَلِكَ ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا رَخَّصَ فِي السَّلَمِ لِلضَّرُورَةِ مَعَ أَنَّهُ بَيْعُ الْمَعْدُومِ ، فَحَيْثُ تَحَقَّقَتْ الضَّرُورَةُ هُنَا أَيْضًا أَمْكَنَ إلْحَاقُهُ بِالسَّلَمِ بِطَرِيقِ الدَّلَالَةِ ، فَلَمْ يَكُنْ مُصَادِمًا لِلنَّصِّ ، فَلِذَا جَعَلُوهُ مِنْ الِاسْتِحْسَانِ ؛ لِأَنَّ الْقِيَاسَ عَدَمُ الْجَوَازِ ، وَظَاهِرُ كَلَامِ الْفَتْحِ الْمَيْلُ إلَى الْجَوَازِ وَلِذَا أَوْرَدَ لَهُ الرِّوَايَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ بَلْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْحَلْوَانِيَّ رَوَاهُ عَنْ أَصْحَابِنَا وَمَا ضَاقَ الْأَمْرُ إلَّا اتَّسَعَ وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا مُسَوِّغٌ لِلْعُدُولِ عَنْ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ كَمَا يُعْلَمُ مِنْ رِسَالَتِنَا الْمُسَمَّاةِ نَشْرَ الْعُرْفِ فِي بِنَاءِ بَعْضِ الْأَحْكَامِ عَلَى الْعُرْفِ فَرَاجِعْهَا .
( قَوْلُهُ : لَوْ الْخَارِجُ أَكْثَرَ ) ذَكَرَ فِي الْبَحْرِ عَنْ الْفَتْحِ أَنَّ مَا نَقَلَهُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ عَنْ الْإِمَامِ الْفَضْلِيِّ لَمْ يُقَيِّدْهُ عَنْهُ بِكَوْنِ الْمَوْجُودِ وَقْتَ الْعَقْدِ أَكْثَرَ بَلْ قَالَ : عَنْهُ أَجْعَلُ الْمَوْجُودَ أَصْلًا ، وَمَا يَحْدُثُ بَعْدَ ذَلِكَ تَبَعًا .
((1/42)
قَوْلُهُ : وَيَقْطَعُهَا الْمُشْتَرِي ) أَيْ إذَا طَلَبَ الْبَائِعُ تَفْرِيغَ مِلْكِهِ وَهَذَا رَاجِعٌ لِأَصْلِ الْمَسْأَلَةِ .
( قَوْلُهُ : جَبْرًا عَلَيْهِ ) مُفَادُهُ أَنَّهُ لَا خِيَارَ لِلْمُشْتَرِي فِي إبْطَالِ الْبَيْعِ إذَا امْتَنَعَ الْبَائِعُ عَنْ إبْقَاءِ الثِّمَارِ عَلَى الْأَشْجَارِ ، وَفِيهِ بَحْثٌ لِصَاحِبِ الْبَحْرِ وَ النَّهْرِ سَيَذْكُرُهُ الشَّارِحُ آخِرَ الْبَابِ
رد المحتار - (ج 19 / ص 216)
( قَوْلُهُ وَمِنْهُ ) أَيْ مِنْ بَيْعِ الْمَعْدُومِ .
مَطْلَبٌ فِي بَيْعِ الْمَغِيبِ فِي الْأَرْضِ ( قَوْلُهُ بَيْعُ مَا أَصْلُهُ غَائِبٌ ) أَيْ مَا يَنْبُتُ فِي بَاطِنِ الْأَرْضِ ، وَهَذَا إذَا كَانَ لَمْ يَنْبُتْ أَوْ نَبَتَ وَلَمْ يُعْلَمْ وُجُودُهُ وَقْتَ الْبَيْعِ وَإِلَّا جَازَ بَيْعُهُ كَمَا يَأْتِي قَرِيبًا ( قَوْلُهُ وَفُجْلٌ ) بِضَمِّ الْفَاءِ وَبِضَمَّتَيْنِ قَامُوسٌ ( قَوْلُهُ كَوَرْدٍ وَيَاسَمِينٍ ) فَإِنَّهُ يَخْرُجُ بِالتَّدْرِيجِ ط ( قَوْلُهُ وَوَرَقِ فِرْصَادٍ ) قِيلَ هُوَ التُّوتُ الْأَحْمَرُ .
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ : هُوَ التُّوتُ .
وَفِي التَّهْذِيبِ : قَالَ اللَّيْثُ : الْفِرْصَادُ الشَّجَرُ مَعْرُوفٌ مِصْبَاحٌ ( قَوْلُهُ وَبِهِ أَفْتَى بَعْضُ مَشَايِخِنَا ) بِالْيَاءِ فِي مَشَايِخَ لَا بِالْهَمْزَةِ .
قَالَ الْقُهُسْتَانِيُّ : وَأَفْتَى الْعُقَيْلِيُّ وَغَيْرُهُ بِجَوَازِهِ بِتَبَعِيَّةِ الْمَوْجُودِ إذَا كَانَ أَكْثَرَ مِنْ الْمَعْدُومِ ا هـ ط .(1/43)
قُلْت : وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ مُحَمَّدٍ ، وَقَدَّمْنَا الْكَلَامَ عَلَيْهِ فِي فَصْلِ مَا يَدْخُلُ تَبَعًا ( قَوْلُهُ هَذَا إذَا نَبَتَ إلَخْ ) الْإِشَارَةُ إلَى قَوْلِهِ مَا أَصْلُهُ غَائِبٌ وَكَانَ الْأَوْلَى أَنْ يَقُولَ هَذَا إذَا لَمْ يَنْبُتْ أَوْ نَبَتَ وَلَمْ يُعْلَمْ وُجُودُهُ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ فِيهِمَا كَمَا فِي ط عَنْ الْهِنْدِيَّةِ ( قَوْلُهُ وَلَهُ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ إلَخْ ) قَالَ فِي الْهِنْدِيَّةِ إنْ كَانَ الْمَبِيعُ فِي الْأَرْضِ مِمَّا يُكَالُ أَوْ يُوزَنُ بَعْدَ الْقَلْعِ كَالثُّومِ وَالْجَزَرِ وَالْبَصَلِ فَقَلَعَ الْمُشْتَرِي شَيْئًا بِإِذْنِ الْبَائِعِ أَوْ قَلَعَ الْبَائِعُ ، إنْ كَانَ الْمَقْلُوعُ مِمَّا يَدْخُلُ تَحْتَ الْكَيْلِ أَوْ الْوَزْنِ إذَا رَأَى الْمَقْلُوعَ وَرَضِيَ بِهِ لَزِمَ الْبَيْعُ فِي الْكُلِّ وَتَكُونُ رُؤْيَةُ الْبَعْضِ كَرُؤْيَةِ الْكُلِّ إذَا وَجَدَ الْبَاقِي كَذَلِكَ ، وَإِنْ كَانَ الْمَقْلُوعُ شَيْئًا يَسِيرًا لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْوَزْنِ لَا يَبْطُلُ خِيَارُهُ .
قَالَ فِي الْبَحْرِ : وَإِنْ كَانَ يُبَاعُ بَعْدَ الْقَلْعِ عَدَدًا كَالْفُجْلِ فَقَلَعَ الْبَائِعُ أَوْ قَلَعَ الْمُشْتَرِي بِإِذْنِ الْبَائِعِ لَا يَلْزَمُ الْكُلُّ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ الْعَدَدِيَّاتِ الْمُتَفَاوِتَةِ بِمَنْزِلَةِ الثِّيَابِ وَالْعَبِيدِ ، وَإِنْ قَلَعَهُ بِلَا إذْنِ الْبَائِعِ لَزِمَهُ الْكُلُّ إلَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ شَيْئًا يَسِيرًا ، وَإِنْ أَبَى كُلَّ الْقَلْعِ تَبَرَّعَ مُتَبَرِّعٌ بِالْقَلْعِ أَوْ فَسَخَ الْقَاضِي الْعَقْدَ ا هـ ط .(1/44)
مَطْلَبٌ فِي بَيْعِ أَصْلِ الْفِصْفِصَةِ قُلْت : بَقِيَ شَيْءٌ لَمْ أَرَ مَنْ نَبَّهَ عَلَيْهِ ، وَهُوَ مَا يَكُونُ أَصْلُهُ تَحْتَ الْأَرْضِ وَيَبْقَى سِنِينَ مُتَعَدِّدَةً مِثْلُ الْفِصْفِصَةِ تُزْرَعُ فِي أَرْضِ الْوَقْفِ وَتَكُونُ كَالْكِرْدَارِ لِلْمُسْتَأْجِرِ فِي زَمَانِنَا فَإِذَا بَاعَ ذَلِكَ الْأَصْلَ وَعُلِمَ وُجُودُهُ فِي الْأَرْضِ صَحَّ بَيْعُهُ لَكِنَّهُ لَا يُرَى وَلَا يُقْصَدُ قَلْعَهُ ؛ لِأَنَّهُ أُعِدَّ لِلْبَقَاءِ فَهَلْ لِلْمُشْتَرِي فَسْخُ الْبَيْعِ بِخِيَارِ الرُّؤْيَةِ ؟ الظَّاهِرُ نَعَمْ ؛ لِأَنَّ خِيَارَ الرُّؤْيَةِ يَثْبُتُ قَبْلَ الرُّؤْيَةِ تَأَمَّلْ . رد المحتار - (ج 19 / ص 239)
( وَبَيْعُ مَا لَيْسَ فِي مِلْكِهِ ) لِبُطْلَانِ بَيْعِ الْمَعْدُومِ وَمَا لَهُ خَطَرُ الْعَدَمِ .
( لَا بِطَرِيقِ السَّلَمِ ) فَإِنَّهُ صَحِيحٌ ؛ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { نَهَى عَنْ بَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَ الْإِنْسَانِ ، وَرَخَّصَ فِي السَّلَمِ }
الشَّرْحُ
( قَوْلُهُ وَبَيْعُ مَا لَيْسَ فِي مِلْكِهِ ) فِيهِ أَنَّهُ يَشْمَلُ بَيْعَ مِلْكِ الْغَيْرِ لِوَكَالَةٍ أَوْ بِدُونِهَا مَعَ أَنَّ الْأَوَّلَ صَحِيحٌ نَافِذٌ وَالثَّانِي صَحِيحٌ مَوْقُوفٌ .(1/45)
وَقَدْ يُجَابُ بِأَنَّ الْمُرَادَ بَيْعُ مَا سَيَمْلِكُهُ قَبْلَ مِلْكِهِ لَهُ ثُمَّ رَأَيْته كَذَلِكَ فِي الْفَتْحِ فِي أَوَّلِ فَصْلِ بَيْعِ الْفُضُولِيِّ ، وَذَكَرَ أَنَّ سَبَبَ النَّهْيِ فِي الْحَدِيثِ ذَلِكَ ( قَوْلُهُ لِبُطْلَانِ بَيْعِ الْمَعْدُومِ ) إذْ مِنْ شَرْطِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ : أَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا مَالًا مُتَقَوِّمًا مَمْلُوكًا فِي نَفْسِهِ ، وَأَنْ يَكُونَ مِلْكَ الْبَائِعِ فِيمَا بِبَيْعِهِ لِنَفْسِهِ ، وَأَنْ يَكُونَ مَقْدُورَ التَّسْلِيمِ مِنَحٌ ( قَوْلُهُ وَمَا لَهُ خَطَرُ الْعَدَمِ ) كَالْحَمْلِ وَاللَّبَنِ فِي الضَّرْعِ فَإِنَّهُ عَلَى احْتِمَالِ عَدَمِ الْوُجُودِ ، وَأَمَّا بَيْعُ نِتَاجِ النِّتَاجِ فَهُوَ مِنْ أَمْثِلَةِ الْمَعْدُومِ فَافْهَمْ .
( قَوْلُهُ لَا بِطَرِيقِ السَّلَمِ ) فَلَوْ بِطَرِيقِ السَّلَمِ جَازَ وَكَذَا لَوْ بَاعَ مَا غَصَبَهُ ثُمَّ أَدَّى ضَمَانَهُ كَمَا قَدَّمْنَاهُ أَوَّلَ الْبُيُوعِ .
رد المحتار - (ج 19 / ص 248)
( قَوْلُهُ وَفَسَدَ بَيْعُ سَمَكٍ لَمْ يُصَدْ لَوْ بِالْعَرْضِ إلَخْ ) ظَاهِرُهُ أَنَّ الْفَاسِدَ بَيْعُ السَّمَكِ ، وَأَنَّهُ يُمْلَكُ بِالْقَبْضِ .(1/46)
وَفِيهِ أَنَّ بَيْعَ مَا لَيْسَ فِي مِلْكِهِ بَاطِلٌ كَمَا تَقَدَّمَ ؛ لِأَنَّهُ بَيْعُ الْمَعْدُومِ ، وَالْمَعْدُومُ لَيْسَ بِمَالٍ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ بَيْعُهُ بَاطِلًا ، وَأَنْ يَكُونَ الْفَاسِدُ هُوَ بَيْعُ الْعَرْضِ ؛ لِأَنَّهُ مَبِيعٌ مِنْ وَجْهٍ وَإِنْ دَخَلَتْ عَلَيْهِ الْبَاءُ ، وَيَكُونُ السَّمَكُ ثَمَنًا فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ بَاعَ الْعَرْضَ وَسَكَتَ عَنْ الثَّمَنِ أَوْ بَاعَهُ بِأُمِّ الْوَلَدِ ، بَلْ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ : إنَّ بَيْعَ الْعَرْضِ أَيْضًا بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّ السَّمَكَ لَيْسَ بِمَالٍ فَيَكُونُ كَبَيْعِ الْعَرْضِ بِمَيْتَةٍ أَوْ دَمٍ ، لَكِنْ جَعْلُهُ كَأُمِّ الْوَلَدِ أَظْهَرُ ؛ لِأَنَّهُ مَالٌ فِي الْجُمْلَةِ ، فَإِنَّهُ لَوْ صَادَهُ بَعْدَهُ مَلَكَهُ ، نَعَمْ هَذَا يَظْهَرُ لَوْ بَاعَ سَمَكَةً بِعَيْنِهَا قَبْلَ صَيْدِهَا ، أَمَّا لَوْ كَانَتْ غَيْرَ مُعَيَّنَةٍ ثُمَّ صَادَ سَمَكَةً لَمْ تَكُنْ عَيْنَ مَا جُعِلَتْ ثَمَنَ الْعَرْضِ حَتَّى يُقَالَ إنَّهَا مُلِكَتْ بِالصَّيْدِ .(1/47)
وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ لَوْ بَاعَ سَمَكَةً مُطْلَقَةً بِعَرْضٍ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْبَيْعُ بَاطِلًا مِنْ الْجَانِبَيْنِ كَبَيْعِ مَيْتَةٍ بِعَرْضٍ أَوْ عَكْسِهِ وَلَوْ كَانَتْ السَّمَكَةُ مُعَيَّنَةً بَطَلَ فِيهَا ؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ مَمْلُوكَةٍ وَفَسَدَ فِي الْعَرْضِ ؛ لِأَنَّ السَّمَكَةَ مَالٌ فِي الْجُمْلَةِ ، وَمِثْلُهَا مَا لَوْ كَانَ الْبَيْعُ عَلَى لَحْمِ سَمَكٍ ؛ لِأَنَّهُ مِثْلِيٌّ ، وَلَوْ بَاعَهَا بِدَرَاهِمَ بَطَلَ الْبَيْعُ لِتَعَيُّنِ كَوْنِهَا مَبِيعَةً ، وَهِيَ غَيْرُ مَمْلُوكَةٍ ، هَذَا مَا ظَهَرَ لِي فِي تَقْرِيرِ هَذَا الْمَحَلِّ ، وَلَمْ أَرَ مَنْ تَعَرَّضَ لِشَيْءٍ مِنْهُ ( قَوْلُهُ صَدْرُ الشَّرِيعَةِ ) حَيْثُ قَالَ : فَفِي السَّمَكِ الَّذِي لَمْ يُصَدْ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْبَيْعُ بَاطِلًا إذَا كَانَ بِالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ ، وَيَكُونُ فَاسِدًا إذَا كَانَ بِالْعَرْضِ ؛ لِأَنَّهُ مَالٌ غَيْرُ مُتَقَوِّمٍ ؛ لِأَنَّ التَّقَوُّمَ الْإِحْرَازُ وَالْإِحْرَازُ مُنْتَفٍ ( قَوْلُهُ وَلَهُ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ ) وَلَا يُعْتَدُّ بِرُؤْيَتِهِ وَهُوَ فِي الْمَاءِ ؛ لِأَنَّهُ يَتَفَاوَتُ فِي الْمَاءِ وَخَارِجَهُ شُرُنْبُلَالِيَّةٌ ( قَوْلُهُ إلَّا إذَا دَخَلَ بِنَفْسِهِ إلَخْ ) اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ مِنْ قَوْلِهِ وَإِنْ أَخَذَ بِدُونِهَا صَحَّ ، يَعْنِي أَنَّهُ لَوْ صِيدَ فَأُلْقِيَ فِي مَكَان يُؤْخَذُ مِنْهُ بِدُونِ حِيلَةٍ كَانَ صَحِيحًا ، وَأَمَّا إذَا دَخَلَ بِنَفْسِهِ وَلَمْ يَسُدَّ مَدْخَلَهُ يَكُونُ بَاطِلًا لِعَدَمِ الْمِلْكِ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ فَلَوْ سَدَّهُ مَلَكَهُ فَافْهَمْ ، ( قَوْلُهُ فَلَوْ سَدَّهُ مَلَكَهُ ) أَيْ فَيَصِحُّ بَيْعُهُ إنْ أَمْكَنَ أَخْذُهُ بِلَا حِيلَةٍ وَإِلَّا فَلَا لِعَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَى التَّسْلِيمِ .(1/48)
وَالْحَاصِلُ كَمَا فِي الْفَتْحِ أَنَّهُ دَخَلَ السَّمَكُ فِي حَظِيرَةٍ : فَإِمَّا أَنْ يَعُدَّهَا لِذَلِكَ أَوْ لَا فَفِي الْأَوَّلِ يَمْلِكُهُ ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَخْذُهُ ثُمَّ إنْ أَمْكَنَ أَخْذُهُ بِلَا حِيلَةٍ جَازَ بَيْعُهُ ؛ لِأَنَّهُ مَمْلُوكٌ مَقْدُورَ التَّسْلِيمِ وَإِلَّا لَمْ يَجُزْ لِعَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَى التَّسْلِيمِ .
وَفِي الثَّانِي لَا يَمْلِكُهُ فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ لِعَدَمِ الْمِلْكِ إلَّا أَنْ يَسُدَّ الْحَظِيرَةَ إذَا دَخَلَ فَحِينَئِذٍ يَمْلِكُهُ ، ثُمَّ إنْ أَمْكَنَ أَخْذُهُ بِلَا حِيلَةٍ جَازَ بَيْعُهُ وَإِلَّا فَلَا ، وَإِنْ لَمْ يَعُدَّهَا لِذَلِكَ لَكِنَّهُ أَخَذَهُ وَأَرْسَلَهُ فِيهَا مَلَكَهُ ، فَإِنْ أَمْكَنَ أَخْذُهُ بِلَا حِيلَةٍ جَازَ بَيْعُهُ ؛ لِأَنَّهُ مَقْدُورَ التَّسْلِيمِ ، أَوْ بِحِيلَةٍ لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ مَمْلُوكًا فَلَيْسَ مَقْدُورَ التَّسْلِيمِ ا هـ .
رد المحتار - (ج 19 / ص 338)
قُلْت : فِي الْخَانِيَّةِ : وَلَوْ بَاعَ عَلَى أَنْ يُحِيلَ الْبَائِعُ رَجُلًا بِالثَّمَنِ عَلَى الْمُشْتَرِي فَسَدَ الْبَيْعُ قِيَاسًا وَاسْتِحْسَانًا ؛ وَلَوْ بَاعَ عَلَى أَنْ يُحِيلَ الْمُشْتَرِي الْبَائِعَ عَلَى غَيْرِهِ بِالثَّمَنِ فَسَدَ قِيَاسًا وَجَازَ اسْتِحْسَانًا .
ا هـ ( قَوْلُهُ أَيْ صَرْمٍ ) بِفَتْحِ الصَّادِ الْمُهْمَلَةِ : وَهُوَ الْأَدِيمُ أَيْ الْجِلْدُ ( قَوْلُهُ سَمَّاهُ بِاسْمِ مَا يَئُولُ ) أَيْ كَتَسْمِيَةِ الْعَصِيرِ خَمْرًا ، وَذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُ عَلَى أَنْ يَحْذُوَهُ : أَيْ يَقْطَعَهُ لَا يُنَاسِبُ النَّعْلَ ، وَإِنَّمَا يُنَاسِبُ الْجِلْدَ فَإِنَّهُ يُقْطَعُ ثُمَّ يَصِيرُ نَعْلًا .(1/49)
وَجَوَّزَ فِي الْفَتْحِ أَنْ يَكُونَ حَقِيقَةً : أَيْ اشْتَرَى نَعْلَ رِجْلٍ وَاحِدَةٍ عَلَى أَنْ يَحْذُوَهَا أَيْ يَجْعَلَ مَعَهَا مِثَالًا آخَرَ لِيَتِمَّ نَعْلَا الرِّجْلَيْنِ ، وَمِنْهُ : حَذَوْتُ النَّعْلَ بِالنَّعْلِ قَدَّرْته بِمِثَالٍ قَطَّعْته .
قَالَ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ أَوْ يُشَرِّكَهُ فَجَعَلَهُ مُقَابِلًا لِقَوْلِهِ نَعْلًا ، وَلَا مَعْنَى لَأَنْ يَشْتَرِيَ أَدِيمًا عَلَى أَنْ يَجْعَلَ لَهُ شِرَاكًا فَلَا بُدَّ أَنْ يُرَادَ حَقِيقَةُ النَّعْلِ ا هـ .
وَأَجَابَ فِي النَّهْرِ بِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالنَّعْلِ الصَّرْمُ ، وَضَمِيرُ يُشَرِّكَهُ لِلنَّعْلِ بِالْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِخْدَامِ ا هـ .
قُلْت : إرَادَةُ الْحَقِيقَةِ أَظْهَرُ فِي عِبَارَةِ الْهِدَايَةِ حَيْثُ قَالَ عَلَى أَنْ يَحْذُوَهَا أَوْ يُشَرِّكَهَا بِضَمِيرِ التَّأْنِيثِ ؛ لِأَنَّ النَّعْلَ مُؤَنَّثَةٌ ، أَمَّا عَلَى عِبَارَةِ الْمُصَنِّفِ كَالْكَنْزِ مِنْ تَذْكِيرِ الضَّمِيرِ فَالْأَظْهَرُ إرَادَةُ الْمَجَازِ وَهُوَ الْجِلْدُ ( قَوْلُهُ وَمِثْلُهُ تَسْمِيرُ الْقَبْقَابِ ) أَصْلُهُ لِلْمُحَقِّقِ ابْنِ الْهُمَامِ حَيْثُ قَالَ : وَمِثْلُهُ فِي دِيَارِنَا شِرَاءُ الْقَبْقَابِ عَلَى أَنَّهُ يَسْتَمِرُّ لَهُ سَيْرًا ( قَوْلُهُ اسْتِحْسَانًا لِلتَّعَامُلِ ) أَيْ يَصِحُّ الْبَيْعُ وَيَلْزَمُ لِلشَّرْطِ اسْتِحْسَانًا لِلتَّعَامُلِ .(1/50)
وَالْقِيَاسُ فَسَادُهُ ؛ لِأَنَّ فِيهِ نَفْعًا لِأَحَدِهِمَا وَصَارَ كَصَبْغِ الثَّوْبِ ، مُقْتَضَى الْقِيَاسِ مَنْعُهُ ؛ لِأَنَّهُ إجَارَةٌ عُقِدَتْ عَلَى اسْتِهْلَاكِ عَيْنِ الصِّبْغِ مَعَ الْمَنْفَعَةِ وَلَكِنْ جُوِّزَ لِلتَّعَامُلِ وَمِثْلُهُ إجَارَةُ الظِّئْرِ ، وَلِلتَّعَامُلِ جَوَّزْنَا الِاسْتِصْنَاعَ مَعَ أَنَّهُ بَيْعُ الْمَعْدُومِ ، وَمِنْ أَنْوَاعِهِ شِرَاءُ الصُّوفِ الْمَنْسُوجِ عَلَى أَنْ يَجْعَلَهُ الْبَائِعُ قَلَنْسُوَةً ، أَوْ قَلَنْسُوَةً بِشَرْطِ أَنْ يَجْعَلَ الْبَائِعُ لَهَا بِطَانَةً مِنْ عِنْدِهِ ، وَتَمَامُهُ فِي الْفَتْحِ .
وَفِي الْبَزَّازِيَّةِ : اشْتَرَى ثَوْبًا أَوْ خُفًّا خَلَقًا عَلَى أَنْ يُرَقِّعَهُ الْبَائِعُ وَيُسَلِّمَهُ صَحَّ ا هـ .
وَمِثْلُهُ فِي الْخَانِيَّةِ .
قَالَ فِي النَّهْرِ : بِخِلَافِ خِيَاطَةِ الثَّوْبِ لِعَدَمِ التَّعَارُفِ ا هـ .
قَالَ فِي الْمِنَحِ : فَإِنْ قُلْت : { نَهَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعٍ وَشَرْطٍ } فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الْعُرْفُ قَاضِيًا عَلَى الْحَدِيثِ .
قُلْت : لَيْسَ بِقَاضٍ عَلَيْهِ ، بَلْ عَلَى الْقِيَاسِ ؛ لِأَنَّ الْحَدِيثَ مَعْلُومٌ بِوُقُوعِ النِّزَاعِ الْمُخْرِجِ لِلْعَقْدِ عَنْ الْمَقْصُودِ بِهِ وَهُوَ قَطْعُ الْمُنَازَعَةِ ، وَالْعُرْفُ يَنْفِي النِّزَاعَ فَكَانَ مُوَافِقًا لِمَعْنَى الْحَدِيثِ ، فَلَمْ يَبْقَ مِنْ الْمَوَانِعِ إلَّا الْقِيَاسُ .
رد المحتار - (ج 20 / ص 142)
((1/51)
قَوْلُهُ لَوْ اتَّحَدَ ) كَلَحْمِ الْبَقَرِ وَالْجَامُوسِ وَالْمَعْزِ وَالضَّأْنِ ، وَكَذَا أَلْبَانُهَا نَهْرٌ ( قَوْلُهُ إلَّا فِي لَحْمِ الطَّيْرِ ) فَيَجُوزُ بَيْعُ الْجِنْسِ الْوَاحِدِ مِنْهُ كَالسِّمَانِ وَالْعَصَافِيرِ مُتَفَاضِلًا فَتْحٌ : وَفِي الْقُهُسْتَانِيِّ : وَلَا بَأْسَ بِلُحُومِ الطَّيْرِ وَاحِدٌ بِاثْنَيْنِ يَدًا بِيَدٍ كَمَا فِي الظَّهِيرِيَّةِ ( قَوْلُهُ حَتَّى لَوْ وُزِنَ ) أَيْ وَاتَّحَدَ جِنْسُهُ لَمْ يَجُزْ : أَيْ مُتَفَاضِلًا ( قَوْلُهُ أَنَّ الِاخْتِلَافَ ) أَيْ اخْتِلَافَ الْجِنْسِ ( قَوْلُهُ بِاخْتِلَافِ الْأَصْلِ ) كَخَلِّ الدَّقَلِ مَعَ خَلِّ الْعِنَبِ وَلَحْمِ الْبَقَرِ مَعَ لَحْمِ الضَّأْنِ ( قَوْلُهُ أَوْ الْمَقْصُودِ ) كَشَعْرِ الْمَعْزِ وَصُوفِ الْغَنَمِ ، فَإِنَّ مَا يُقْصَدُ بِالشَّعْرِ مِنْ الْآلَاتِ غَيْرُ مَا يُقْصَدُ بِالصُّوفِ بِخِلَافِ لَحْمِهِمَا وَلَبَنِهِمَا ، فَإِنَّهُ جُعِلَ جِنْسًا وَاحِدًا كَمَا مَرَّ لِعَدَمِ الِاخْتِلَافِ أَفَادَهُ فِي الْفَتْحِ ( قَوْلُهُ أَوْ بِتَبَدُّلِ الصِّفَةِ ) كَالْخُبْزِ مَعَ الْحِنْطَةِ وَالزَّيْتِ الْمُطَيَّبِ بِغَيْرِ الْمُطَيَّبِ ، وَعِبَارَةُ الْفَتْحِ وَزِيَادَةِ الصَّنْعَةِ بِالنُّونِ وَالْعَيْنِ ( قَوْلُهُ وَجَازَ الْأَخِيرُ ) وَهُوَ بَيْعُ خُبْزٍ بِبُرٍّ أَوْ دَقِيقٍ ( قَوْلُهُ وَلَوْ الْخُبْزُ نَسِيئَةً ) عِبَارَةُ الدُّرَرِ وَبِالنَّسَاءِ فِي الْأَخِيرِ فَقَطْ وَالشَّارِحُ أَخَذَ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ بِهِ يُفْتَى لِأَنَّهُ إذَا كَانَ الْمُتَأَخِّرُ هُوَ الْبُرُّ جَازَ اتِّفَاقًا لِأَنَّهُ أَسْلَمَ وَزْنِيًّا فِي كَيْلِيٍّ ، وَالْخِلَافُ فِيمَا إذَا كَانَ الْخُبْزُ هُوَ النَّسِيئَةُ فَمَعْنَاهُ وَأَجَازَهُ أَبُو يُوسُفَ ط .
((1/52)
قَوْلُهُ وَالْأَحْوَطُ الْمَنْعُ إلَخْ ) قَالَ فِي الْفَتْحِ لَكِنْ يَجِبُ أَنْ يُحْتَاطَ وَقْتَ الْقَبْضِ بِقَبْضِ الْجِنْسِ الْمُسَمَّى ، حَتَّى لَا يَصِيرَ اسْتِبْدَالًا بِالسَّلَمِ فِيهِ قَبْلَ قَبْضِهِ إذَا قُبِضَ دُونَ الْمُسَمَّى صِفَةً ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالِاحْتِيَاطُ فِي مَنْعِهِ ، لِأَنَّهُ قَلَّ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ النَّوْعِ الْمُسَمَّى خُصُوصًا فِيمَنْ يَقْبِضُ فِي كُلِّ يَوْمٍ كَذَا كَذَا رَغِيفًا ( قَوْلُهُ الْأَحْسَنُ إلَخْ ) أَيْ فِي بَيْعِ الْخُبْزِ بِالْبُرِّ نَسِيئَةً ، وَوَجْهُ كَوْنِهِ أَحْسَنَ كَوْنُ الْخُبْزِ فِيهِ ثَمَنًا لَا مَبِيعًا ، فَلَا يَلْزَمُ فِيهِ شُرُوطُ السَّلَمِ تَأَمَّلْ .
وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ فِي الذَّخِيرَةِ حَيْثُ قَالَ فِي السَّلَمِ : وَإِذَا دَفَعَ الْحِنْطَةَ إلَى خَبَّازٍ جُمْلَةً ، وَأَخَذَ الْخُبْزَ مُفَرَّقًا يَنْبَغِي أَنْ يَبِيعَ صَاحِبُ الْحِنْطَةِ خَاتَمًا أَوْ سِكِّينًا مِنْ الْخَبَّازِ بِأَلْفٍ مِنْ الْخُبْزِ مِثْلًا ، وَيَجْعَلُ الْخُبْزَ ثَمَنًا وَيَصِفُهُ بِصِفَةٍ مَعْلُومَةٍ حَتَّى يَصِيرَ دَيْنًا فِي ذِمَّةِ الْخَبَّازِ ، وَيُسَلِّمُ الْخَاتَمَ إلَيْهِ ، ثُمَّ يَبِيعُ الْخَبَّازُ الْخَاتَمَ مِنْ صَاحِبِ الْحِنْطَةِ بِالْحِنْطَةِ مِقْدَارَ مَا يُرِيدُ الدَّفْعَ وَيَدْفَعُ الْحِنْطَةَ ، فَيَبْقَى لَهُ عَلَى الْخَبَّازِ الْخُبْزُ الَّذِي هُوَ بِمَنٍّ هَكَذَا قِيلَ ، وَهُوَ مُشْكِلٌ عِنْدِي قَالُوا إذَا دَفَعَ دَرَاهِمَ إلَى خَبَّازٍ فَأَخَذَ مِنْهُ كُلَّ يَوْمٍ شَيْئًا مِنْ الْخُبْزِ فَكُلَّمَا أَخَذَ يَقُولُ هُوَ عَلَى مَا قَاطَعْتُك عَلَيْهِ ا هـ مَا فِي الذَّخِيرَةِ .(1/53)
قُلْت : وَلَعَلَّ وَجْهَ الْإِشْكَالِ أَنَّ اشْتِرَاطَهُمْ أَنْ يَقُولَ الْمُشْتَرِي كُلَّمَا أَخَذَ شَيْئًا هُوَ عَلَى مَا قَاطَعْتُك عَلَيْهِ لِيَكُونَ بَيْعًا مُسْتَأْنَفًا عَلَى شَيْءٍ مُتَعَيِّنٍ وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ الْخُبْزَ لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ ، وَإِلَّا لَمْ يُحْتَجْ إلَى أَنْ يَقُولَ الْمُشْتَرِي ذَلِكَ ، وَرَأَيْت مَعْزِيًّا إلَى خَطِّ الْمَقْدِسِيَّ مَا نَصُّهُ أَقُولُ : يُمْكِنُ دَفْعُهُ بِأَنَّ الْخُبْزَ هُنَا ثَمَنٌ بِخِلَافِ الَّتِي قِسْت عَلَيْهَا فَتَأَمَّلْ ا هـ أَقُولُ : بَيَانُهُ أَنَّ الْمَبِيعَ هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ الْبَيْعِ ، وَلِذَا لَمْ يَجُزْ بَيْعُ الْمَعْدُومِ إلَّا بِشُرُوطِ السَّلَمِ ، بِخِلَافِ الثَّمَنِ ، فَإِنَّهُ وَصْفٌ يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ وَلِذَا صَحَّ الْبَيْعُ مَعَ عَدَمِ وُجُودِ الثَّمَنِ لِأَنَّ الْمَوْجُودَ فِي الذِّمَّةِ وَصْفٌ يُطَابِقُهُ الثَّمَنُ لَا عَيْنُ الثَّمَنِ كَمَا حَقَّقَهُ فِي الْفَتْحِ مِنْ السَّلَمِ عَلَى أَنَّ الْمَقِيسَ عَلَيْهَا لَا يَلْزَمُ فِيهَا قَوْلُ الْمُشْتَرِي ذَلِكَ ، لِأَنَّهُ لَوْ أَخَذَ شَيْئًا وَسَكَتَ يَنْعَقِدُ بَيْعًا بِالتَّعَاطِي .(1/54)
نَعَمْ لَوْ قَالَ حِينَ دَفَعَ الدَّرَاهِمَ اشْتَرَيْت مِنْك كَذَا مِنْ الْخُبْزِ وَصَارَ يَأْخُذُ كُلَّ يَوْمٍ مِنْ الْخُبْزِ يَكُونُ فَاسِدًا وَالْأَكْلُ مَكْرُوهٌ ، لِأَنَّهُ اشْتَرَى خُبْزًا غَيْرَ مُشَارٍ إلَيْهِ ، فَكَانَ الْمَبِيعُ مَجْهُولًا كَمَا قَدَّمْنَاهُ عَنْ الْوَلْوَالِجيَّةِ أَوَّلَ الْبُيُوعِ فِي مَسْأَلَةِ بَيْعِ الِاسْتِجْرَارِ ( قَوْلُهُ وَكَذَا عَدَدًا وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى ) هَذَا مَوْجُودٌ فِي عِبَارَةِ الْقُهُسْتَانِيِّ عَنْ الْمُضْمَرَاتِ بِهَذَا اللَّفْظِ ، فَمَنْ نَفَى وُجُودَهُ فِيهَا فَكَأَنَّهُ سَقَطَ مِنْ نُسْخَةٍ ، وَلَعَلَّ وَجْهَ الْإِفْتَاءِ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلَى الْإِفْتَاءِ بِقَوْلِ مُحَمَّدٍ الْآتِي فِي اسْتِقْرَاضِهِ عَدَدًا ( قَوْلُهُ وَسَيَجِيءُ ) أَيْ قَرِيبًا مَتْنًا .
رد المحتار - (ج 24 / ص 111)
( قَوْلُهُ وَتَنْعَقِدُ بِأَعَرْتُك إلَخْ ) وَبِلَفْظِ الصُّلْحِ كَمَا ذَكَرَهُ الْحَلْوَانِيُّ .
وَالْأَظْهَرُ أَنَّهَا تَنْعَقِدُ بِلَفْظِ الْبَيْعِ إذَا وُجِدَ التَّوْقِيتُ وَإِلَيْهِ رَجَعَ الْكَرْخِيُّ كَمَا فِي الْبَحْرِ ، لَكِنْ فِي الشُّرُنْبُلَالِيَّةِ جَزَمَ فِي الْبُرْهَانِ بِعَدَمِ الِانْعِقَادِ فَقَالَ : لَا تَنْعَقِدُ بِبِعْت مَنْفَعَتَهَا ؛ لِأَنَّ بَيْعَ الْمَعْدُومِ بَاطِلٌ ، فَلَا يَصِحُّ تَمْلِيكًا بِلَفْظِ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ ا هـ وَنُقِلَ مِثْلُهُ عَنْ الْخَانِيَّةِ ( قَوْلُهُ بِخِلَافِ الْعَكْسِ ) يَعْنِي أَنَّ الْإِجَارَةَ بِلَا عِوَضٍ لَا تَنْعَقِدُ إعَارَةً .
قَالَ فِي الْبَزَّازِيَّةِ : لَوْ قَالَ آجَرْتُكَ مَنَافِعَهَا سَنَةً بِلَا عِوَضٍ تَكُونُ إجَارَةً فَاسِدَةً لَا عَارِيَّةً ا هـ .(1/55)
وَفِي الْمِنَحِ عَنْ الْخَانِيَّةِ : لَوْ قَالَ آجَرْتُكَ هَذِهِ الدَّارَ بِغَيْرِ عِوَضٍ كَانَتْ إجَارَةً فَاسِدَةً وَلَا تَكُونُ عَارِيَّةً ، كَمَا لَوْ قَالَ : بِعْتُكَ هَذِهِ الْعَيْنَ بِغَيْرِ عِوَضٍ كَانَ بَاطِلًا أَوْ فَاسِدًا لَا هِبَةً ، وَيُخَالِفُهُ مَا فِي عَارِيَّةِ الْبَحْرِ عَنْ الْخَانِيَّةِ : آجَرْتُكَ هَذِهِ الدَّارَ شَهْرًا بِلَا عِوَضٍ كَانَتْ إعَارَةً ، وَلَوْ لَمْ يَقُلْ شَهْرًا لَا تَكُونُ إعَارَةً ا هـ .
قَالَ فِي التتارخانية بَلْ إجَارَةٌ فَاسِدَةٌ ، وَقَدْ قِيلَ بِخِلَافِهِ ا هـ ، وَانْظُرْ مَا قَدَّمْنَاهُ فِي الْعَارِيَّةِ ( قَوْلُهُ مَنَافِعَهَا شَهْرًا بِكَذَا ) تَنَازَعَ فِي هَذِهِ الْمَعْمُولَاتِ الثَّلَاثِ الْفِعْلَانِ قَبْلَهَا ، وَمَا فِي الْمَتْنِ ذَكَرَهُ فِي الْبَحْرِ ، لَكِنْ ذَكَرَهُ بَعْدَهُ لَوْ أَضَافَ الْعَقْدَ إلَى الْمَنَافِعِ لَا يَجُوزُ ، بِأَنْ قَالَ آجَرْتُكَ مَنَافِعَ هَذِهِ الدَّارِ شَهْرًا بِكَذَا وَإِنَّمَا يَصِحُّ بِإِضَافَتِهِ إلَى الْعَيْنِ ا هـ وَبَيْنَهُمَا تَنَافٍ ، لَكِنْ قَالَ الرَّمْلِيُّ : ذَكَرَ فِي الْبَزَّازِيَّةِ وَكَثِيرٍ مِنْ الْكُتُبِ قَوْلَيْنِ فِي الْمَسْأَلَةِ ا هـ .
وَفِي الشُّرُنْبُلَالِيَّةِ عَنْ الْبُرْهَانِ : لَا تَنْعَقِدُ بِأَجَّرْتُ مَنْفَعَتَهَا ؛ لِأَنَّهَا مَعْدُومَةٌ ، وَإِنَّمَا تَجُوزُ بِإِيرَادِ الْعَقْدِ عَلَى الْعَيْنِ وَلَمْ يُوجَدْ .
وَقِيلَ تَنْعَقِدُ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِالْمَقْصُودِ مِنْ إضَافَةِ الْإِجَارَةِ إلَى الْعَيْنِ ا هـ وَظَاهِرُهُ تَرْجِيحُ خِلَافِ مَا مَشَى عَلَيْهِ الْمُصَنِّفُ وَالشَّارِحُ ، وَلِذَا اقْتَصَرَ عَلَيْهِ الزَّيْلَعِيُّ
وفي المجموع :(1/56)
قَالَ الْمُصَنِّفُ - رحمه الله تعالى - وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الْمَعْدُومِ كَالثَّمَرَةِ الَّتِي لَمْ تُخْلَقْ لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم { نَهَى عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ } وَالْغَرَرُ مَا انْطَوَى عَنْهُ أَمْرُهُ , وَخَفِيَ عَلَيْهِ عَاقِبَتُهُ , وَلِهَذَا قَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها فِي وَصْفِ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه " فَرَدَّ نَشَرَ الْإِسْلَامِ عَلَى غَرِّهِ " أَيْ عَلَى طَيِّهِ وَالْمَعْدُومُ قَدْ انْطَوَى عَنْهُ أَمْرُهُ , وَخَفِيَ عَلَيْهِ عَاقِبَتُهُ , فَلَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ , وَرَوَى جَابِرٌ رضي الله عنه " { أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ الْمُعَاوَمَةِ - وَفِي بَعْضِهَا - عَنْ بَيْعِ السِّنِينَ }
((1/57)
الشَّرْحُ ) حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَحَدِيثُ جَابِرٍ رَوَاهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا وَلَفْظُهُ : { أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ بَيْعِ السِّنِينَ } وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد ذَكَرَ السِّنِينَ وَالْمُعَاوَمَةَ , كَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ وَإِسْنَادُهُ إسْنَادُ الصَّحِيحِ وَلَفْظُ الْمُعَاوَمَةِ فِي التِّرْمِذِيِّ أَيْضًا , وَقَالَ : هُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ , وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ : بَيْعُ تَمْرِ سَنَتَيْنِ . وَهُوَ مُفَسِّرٌ لِبَيْعِ السِّنِينَ وَبَيْعِ الْمُعَاوَمَةِ . ( وَأَمَّا ) الْأَثَرُ الْمَذْكُورُ عَنْ عَائِشَةَ فَمَشْهُورٌ مِنْ جُمْلَةِ خُطْبَتِهَا الْمَشْهُورَةِ الَّتِي ذَكَرَتْ فِيهَا أَحْوَالَ أَبِيهَا وَفَضَائِلَهُ , وَ ( قَوْلُهَا : ) نَشَرَ الْإِسْلَامِ هُوَ بِفَتْحِ النُّونِ وَالشِّينِ , وَالْإِسْلَامُ مَجْرُورٌ بِالْإِضَافَةِ أَيْ رَدَّ مَا انْتَشَرَ مِنْ الْإِسْلَامِ وَدَخَلَهُ مِنْ الِاخْتِلَافِ وَتَفَرُّقِ الْكَلِمَةِ إلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ فِي زَمَانِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهَا : عَلَى غَرِّهِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ . ( أَمَّا حُكْمُ الْمَسْأَلَةِ ) فَبَيْعُ الْمَعْدُومِ بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ وَنَقَلَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَغَيْرُهُ إجْمَاعَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى بُطْلَانِ بَيْعِ الثَّمَرَةِ سَنَتَيْنِ وَنَحْوَ ذَلِكَ .
((1/58)
فَرْعٌ ) فِي مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ فِي بَيْعِ الْعَيْنِ الْغَائِبَةِ . قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ أَصَحَّ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِنَا بُطْلَانُهُ , وَبِهِ قَالَ الْحَكَمُ وَحَمَّادٌ , وَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ : يَصِحُّ , نَقَلَهُ الْبَغَوِيّ وَغَيْرُهُ عَنْ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ , قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : فِيهِ ثَلَاثَةُ مَذَاهِبَ ( مَذْهَبُ ) الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ ( وَالثَّانِي ) يَصِحُّ الْبَيْعُ إذَا وَصَفَهُ , وَلِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ , إذَا رَآهُ , سَوَاءٌ كَانَ عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ أَمْ لَا , وَهُوَ قَوْلُ الشَّعْبِيِّ وَالْحَسَنِ وَالنَّخَعِيِّ وَالثَّوْرِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِ مِنْ أَهْلِ الرَّأْيِ ( وَالثَّالِثُ ) يَصِحُّ الْبَيْعُ , وَلِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ , إنْ كَانَ عَلَى غَيْرِ مَا وُصِفَ , وَإِلَّا فَلَا خِيَارَ , قَالَهُ ابْنُ سِيرِينَ وَأَيُّوبُ السِّخْتِيَانِيُّ وَمَالِكٌ وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ وَأَحْمَدُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَابْنُ نَصْرٍ , قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : وَبِهِ أَقُولُ .(1/59)
وَاحْتَجَّ لِمَنْ صَحَّحَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ } وَهَذَا عَلَى عُمُومِهِ إلَّا بَيْعًا مَنَعَهُ كِتَابٌ أَوْ سُنَّةٌ أَوْ إجْمَاعٌ وَبِحَدِيثِ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ عَنْ مَكْحُولٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : { مَنْ اشْتَرَى شَيْئًا لَمْ يَرَهُ فَهُوَ بِالْخِيَارِ إذَا رَآهُ إنْ شَاءَ أَخَذَهُ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُ } وَبِحَدِيثِ عُمَرَ بْنِ إبْرَاهِيمَ بْنِ خَالِدٍ عَنْ وَهْبٍ الْبَكْرِيِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : { مَنْ اشْتَرَى شَيْئًا لَمْ يَرَهُ فَهُوَ بِالْخِيَارِ إذَا رَآهُ } وَبِحَدِيثِ عُثْمَانَ وَطَلْحَةَ الْمَذْكُورِ فِي الْكِتَابِ وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُهُ . قَالُوا : وَقِيَاسًا عَلَى النِّكَاحِ فَإِنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ رُؤْيَةُ الزَّوْجَيْنِ بِالْإِجْمَاعِ وَقِيَاسًا عَلَى بَيْعِ الرُّمَّانِ وَالْجَوْزِ وَاللَّوْزِ فِي قِشْرَةِ الْأَسْفَلِ , وَقِيَاسًا عَلَى مَا لَوْ رَآهُ قَبْلَ الْعَقْدِ , وَاحْتَجَّ الْأَصْحَابُ بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم { نَهَى عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ } رَوَاهُمَا مُسْلِمٌ , وَهَذَا غَرَرٌ ظَاهِرٌ فَأَشْبَهَ بَيْعَ الْمَعْدُومِ الْمَوْصُوفِ , كَحَبَلِ الْحَبَلَةِ وَغَيْرِهِ , وَبِحَدِيثِ : { لَا تَبِعْ مَا لَيْسَ عِنْدَك } وَسَبَقَ بَيَانُهُ , وَقِيَاسًا عَلَى مَنْ بَاعَ النَّوَى فِي التَّمْرِ . ((1/60)
وَأَمَّا ) الْجَوَابُ عَنْ احْتِجَاجِهِمْ بِالْآيَةِ الْكَرِيمَةِ فَهِيَ عَامَّةٌ مَخْصُوصَةٌ بِحَدِيثِ النَّهْيِ عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ ( وَالْجَوَابُ ) عَنْ حَدِيثِ مَكْحُولٍ فَهُوَ أَنَّهُ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ بِاتِّفَاقِ الْمُحَدِّثِينَ وَضَعْفُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ ( أَحَدُهُمَا ) أَنَّهُ مُرْسَلٌ لِأَنَّ مَكْحُولًا تَابِعِيٌّ ( وَالثَّانِي ) أَنَّ أَحَدَ رُوَاتِهِ ضَعِيفٌ , فَإِنَّ أَبَا بَكْرِ بْنَ أَبِي مَرْيَمَ الْمَذْكُورَ ضَعِيفٌ بِاتِّفَاقِ الْمُحَدِّثِينَ , وَكَذَا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فَإِنَّهُ أَيْضًا ضَعِيفٌ بِاتِّفَاقِهِمْ وَعُمَرُ بْنُ إبْرَاهِيمَ بْنِ خَالِدٍ مَشْهُورٌ بِالضَّعْفِ وَوَضْعِ الْحَدِيثِ . وَمِمَّنْ رَوَى هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ وَضَعَّفَهُمَا الدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيُّ , قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ : أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ ضَعِيفٌ , وَعُمَرُ بْنُ إبْرَاهِيمَ يَضَعُ الْحَدِيثَ قَالَ : وَهَذَا حَدِيثٌ بَاطِلٌ لَمْ يَرْوِهِ غَيْرُهُ , وَإِنَّمَا يُرْوَى هَذَا عَنْ ابْنِ سِيرِينَ مِنْ قَوْلِهِ . ( وَالْجَوَابُ ) عَنْ قِصَّةِ عُثْمَانَ وَطَلْحَةَ وَجُبَيْرِ بْنِ مُطْعَمٍ أَنَّهُ لَمْ يَنْتَشِرْ ذَلِكَ فِي الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم ( وَالصَّحِيحُ ) عِنْدَنَا أَنَّ قَوْلَ الصَّحَابَةِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ إلَّا أَنْ يَنْتَشِرَ مِنْ غَيْرِ مُخَالَفَةٍ ( وَالْجَوَابُ ) عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى النِّكَاحِ أَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ هُنَاكَ اسْتِبَاحَةُ الِاسْتِمْتَاعِ وَلَا يُمْكِنُ رُؤْيَتُهَا , وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ تَدْعُو إلَى تَرْكِ الرُّؤْيَةِ هُنَاكَ لِمَشَقَّتِهَا غَالِبًا .(1/61)
وَالْجَوَابُ ) عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الرُّمَّانِ وَالْجَوْزِ أَنَّ ظَاهِرَهُمَا يَقُومُ مَقَامَ بَاطِنِهِمَا فِي الرُّؤْيَةِ , كَصُبْرَةِ الْحِنْطَةِ , وَلِأَنَّ فِي اسْتِتَارِ بَاطِنِهَا مَصْلَحَةً لَهَا كَأَسَاسِ الدَّارِ بِخِلَافِ بَيْعِ الْغَائِبِ . ( وَالْجَوَابُ ) عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى مَا لَوْ رَآهُ قَبْلَ الْعَقْدِ أَنَّ الْمَبِيعَ هُنَاكَ يَكُونُ مَعْلُومًا لِلْمُشْتَرِي حَالَ الْعَقْدِ , وَبِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .
مجموع فتاوى ابن تيمية - (ج 4 / ص 355)
وَسُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَحْمَد بْنُ تيمية رَحِمَهُ اللَّهُ عَمَّا يَقَعُ فِي كَلَامِ كَثِيرٍ مِنْ الْفُقَهَاءِ مِنْ قَوْلِهِمْ : هَذَا خِلَافُ الْقِيَاسِ لِمَا ثَبَتَ بِالنَّصِّ أَوْ قَوْلِ الصَّحَابَةِ أَوْ بَعْضِهِمْ وَرُبَّمَا كَانَ حُكْمًا مُجْمَعًا عَلَيْهِ فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ : تَطْهِيرُ الْمَاءِ إذَا وَقَعَ فِيهِ نَجَاسَةٌ خِلَافُ الْقِيَاسِ بَلْ وَتَطْهِيرُ النَّجَاسَةِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ وَالتَّوَضُّؤُ مِنْ لُحُومِ الْإِبِلِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ وَالْفِطْرُ بِالْحِجَامَةِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ وَالسَّلَمُ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ وَالْإِجَارَةُ وَالْحَوَالَةُ وَالْكِتَابَةُ وَالْمُضَارَبَةُ وَالْمُزَارَعَةُ وَالْمُسَاقَاةُ وَالْقَرْضُ وَصِحَّةُ صَوْمِ الْمُفْطِرِ نَاسِيًا وَالْمُضِيُّ فِي الْحَجِّ الْفَاسِدِ كُلُّ ذَلِكَ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْأَحْكَامِ : فَهَلْ هَذَا الْقَوْلُ صَوَابٌ أَمْ لَا ؟ وَهَلْ يُعَارِضُ الْقِيَاسُ الصَّحِيحُ النَّصَّ أَمْ لَا ؟
الْجَوَابُ(1/62)
فَصْلٌ وَأَمَّا الْإِجَارَةُ فَاَلَّذِينَ قَالُوا : هِيَ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ قَالُوا : إنَّهَا بَيْعُ مَعْدُومٍ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ مَعْدُومَةٌ حِينَ الْعَقْدِ وَبَيْعُ الْمَعْدُومِ لَا يَجُوزُ . ثُمَّ إنَّ الْقُرْآنَ جَاءَ بِإِجَارَةِ الظِّئْرِ لِلرَّضَاعِ فِي قَوْله تَعَالَى { فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } فَقَالَ كَثِيرٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ : إنَّ إجَارَةَ الظِّئْرِ لِلرَّضَاعِ عَلَى خِلَافِ قِيَاسِ الْإِجَارَةِ فَإِنَّ الْإِجَارَةَ عَقْدٌ عَلَى مَنَافِعَ وَإِجَارَةُ الظِّئْرِ عَقْدٌ عَلَى اللَّبَنِ وَاللَّبَنُ مِنْ بَابِ الْأَعْيَانِ لَا مِنْ بَابِ الْمَنَافِعِ وَمِنْ الْعَجَبِ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ ذَكَرَ إجَارَةٍ جَائِزَةٍ إلَّا هَذِهِ وَقَالُوا : هَذِهِ خِلَافُ الْقِيَاسِ وَالشَّيْءُ إنَّمَا يَكُونُ خِلَافَ الْقِيَاسِ إذَا كَانَ النَّصُّ قَدْ جَاءَ فِي مَوْضِعٍ بِحُكْمِ وَجَاءَ فِي مَوْضِعٍ يُشَابِهُ ذَلِكَ بِنَقِيضِهِ فَيُقَالُ : هَذَا خِلَافٌ لِقِيَاسِ ذَلِكَ النَّصِّ . وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ ذِكْرُ الْإِجَارَةِ الْبَاطِلَةِ حَتَّى يُقَالَ : الْقِيَاسُ يَقْتَضِي بُطْلَانَ هَذِهِ الْإِجَارَةِ بَلْ فِيهِ ذِكْرُ جَوَازِ هَذِهِ الْإِجَارَةِ وَلَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ فَسَادِ إجَارَةٍ تُشْبِهُهَا بَلْ وَلَا فِي السُّنَّةِ بَيَانُ إجَارَةٍ فَاسِدَةٍ تُشْبِهُ هَذِهِ وَإِنَّمَا أَصْلُ قَوْلِهِمْ ظَنُّهُمْ أَنَّ الْإِجَارَةَ الشَّرْعِيَّةَ إنَّمَا تَكُونُ عَلَى الْمَنَافِعِ الَّتِي هِيَ أَعْرَاضٌ لَا عَلَى أَعْيَانٍ هِيَ أَجْسَامٌ وَسَنُبَيِّنُ إنْ شَاءَ اللَّهُ كَشْفَ هَذِهِ الشُّبْهَةِ .(1/63)
وَلَمَّا اعْتَقَدَ هَؤُلَاءِ أَنَّ إجَارَةَ الظِّئْرِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ صَارَ بَعْضُهُمْ يَحْتَالُ لِإِجْرَائِهَا عَلَى الْقِيَاسِ الَّذِي اعْتَقَدُوهُ فَقَالُوا : الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ فِيهَا هُوَ إلْقَامُ الثَّدْيِ أَوْ وَضْعُهُ فِي الْحِجْرِ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ مِنْ الْمَنَافِعِ الَّتِي هِيَ مُقَدِّمَاتُ الرَّضَاعِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذِهِ الْأَعْمَالَ إنَّمَا هِيَ وَسِيلَةٌ إلَى الْمَقْصُودِ بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ وَإِلَّا فَهِيَ بِمُجَرَّدِهَا لَيْسَتْ مَقْصُودَةً وَلَا مَعْقُودًا عَلَيْهَا بَلْ وَلَا قِيمَةَ لَهَا أَصْلًا وَإِنَّمَا هُوَ كَفَتْحِ الْبَابِ لِمَنْ اكْتَرَى دَارًا أَوْ حَانُوتًا أَوْ كَصُعُودِ الدَّابَّةِ لِمَنْ اكْتَرَى دَابَّةً وَمَقْصُودُ هَذَا هُوَ السُّكْنَى وَمَقْصُودُ هَذَا هُوَ الرُّكُوبُ وَإِنَّمَا هَذِهِ الْأَعْمَالُ مُقَدِّمَاتٌ وَوَسَائِلُ إلَى الْمَقْصُودِ بِالْعَقْدِ . ثُمَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ جَعَلُوا إجَارَةَ الظِّئْرِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ طَرَدُوا ذَلِكَ فِي مِثْلِ مَاءِ الْبِئْرِ وَالْعُيُونِ الَّتِي تَنْبُعُ فِي الْأَرْضِ فَقَالُوا : أُدْخِلَتْ ضِمْنًا وَتَبَعًا فِي الْعَقْدِ حَتَّى إنَّ الْعَقْدَ إذَا وَقَعَ عَلَى نَفْسِ الْمَاءِ كَاَلَّذِي يَعْقِدُ عَلَى عَيْنٍ تَنْبُعُ لِيَسْقِيَ بِهَا بُسْتَانَه أَوْ لِيَسُوقَهَا إلَى مَكَانِهِ لِيَشْرَبَ مِنْهَا وَيَنْتَفِعَ بِمَائِهَا قَالُوا : الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ الْإِجْرَاءُ فِي الْأَرْضِ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا يَتَكَلَّفُونَهُ وَيُخْرِجُوا الْمَاءَ الْمَقْصُودَ بِالْعُقُودِ عَنْ أَنْ يَكُونَ مَعْقُودًا عَلَيْهِ .(1/64)
وَنَحْنُ نُنَبِّهُ عَلَى هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ : عَلَى قَوْلِ مَنْ جَعَلَ الْإِجَارَةَ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ وَعَلَى قَوْلِ مَنْ جَعَلَ إجَارَةَ الظِّئْرِ وَنَحْوَهَا عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ . أَمَّا الْأَوَّلُ فَنَقُولُ : قَوْلُهُمْ : الْإِجَارَةُ بَيْعُ مَعْدُومٍ وَبَيْعُ الْمَعْدُومِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ : مُقَدِّمَتَانِ مُجْمَلَتَانِ فِيهِمَا تَلْبِيسٌ ؛ فَإِنَّ قَوْلَهُمْ : الْإِجَارَةُ بَيْعٌ إنْ أَرَادُوا أَنَّهَا الْبَيْعُ الْخَاصُّ الَّذِي يُعْقَدُ عَلَى الْأَعْيَانِ فَهُوَ بَاطِلٌ وَإِنْ أَرَادُوا الْبَيْعَ الْعَامَّ الَّذِي هُوَ مُعَاوَضَةٌ إمَّا عَلَى عَيْنٍ وَإِمَّا عَلَى مَنْفَعَةٍ فَقَوْلُهُمْ فِي الْمُقَدِّمَةِ الثَّانِيَةِ : أَنَّ بَيْعَ الْمَعْدُومِ لَا يَجُورُ إنَّمَا يَسْلَمُ - إنْ سَلِمَ - فِي الْأَعْيَانِ لَا فِي الْمَنَافِعِ وَلَمَّا كَانَ لَفْظُ الْبَيْعِ يَحْتَمِلُ هَذَا وَهَذَا تَنَازَعَ الْفُقَهَاءُ فِي الْإِجَارَةِ : هَلْ تَنْعَقِدُ بِلَفْظِ الْبَيْعِ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ . وَالتَّحْقِيقُ : أَنَّ الْمُتَعَاقِدَيْنِ إنْ عَرَفَا الْمَقْصُودَ انْعَقَدَتْ فَأَيُّ لَفْظٍ مِنْ الْأَلْفَاظِ عَرَفَ بِهِ الْمُتَعَاقِدَانِ مَقْصُودَهُمَا انْعَقَدَ بِهِ الْعَقْدُ وَهَذَا عَامٌّ فِي جَمِيعِ الْعُقُودِ فَإِنَّ الشَّارِعَ لَمْ يَجِدْ فِي أَلْفَاظِ الْعُقُودِ حَدًّا بَلْ ذَكَرَهَا مُطْلَقَةً فَكَمَا تَنْعَقِدُ الْعُقُودُ بِمَا يَدُلُّ عَلَيْهَا مِنْ الْأَلْفَاظِ الْفَارِسِيَّةِ وَالرُّومِيَّةِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ الْأَلْسُنِ الْعَجَمِيَّةِ فَهِيَ تَنْعَقِدُ بِمَا يَدُلُّ عَلَيْهَا مِنْ الْأَلْفَاظِ الْعَرَبِيَّةِ وَلِهَذَا وَقَعَ الطَّلَاقُ وَالْعِتَاقُ بِكُلِّ لَفْظٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ وَكَذَلِكَ الْبَيْعُ وَغَيْرُهُ .(1/65)
وَطَرَدَ هَذَا النِّكَاحَ فَإِنَّ أَصَحَّ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ يَنْعَقِدُ بِكُلِّ لَفْظٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ لَا يَخْتَصُّ بِلَفْظِ الْإِنْكَاحِ وَالتَّزْوِيجِ وَهَذَا مَذْهَبُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ كَأَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَهُوَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ بَلْ نُصُوصُهُ لَمْ تَدُلُّ إلَّا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ وَأَمَّا الْوَجْهُ الْآخَرُ مِنْ أَنَّهُ إنَّمَا يَنْعَقِدُ بِلَفْظِ الْإِنْكَاحِ وَالتَّزْوِيجِ فَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَامِدٍ وَأَتْبَاعِهِ كَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَمُتَّبِعِيهِ . وَأَمَّا قُدَمَاءُ أَصْحَابِ أَحْمَدَ وَجُمْهُورُهُمْ فَلَمْ يَقُولُوا بِهَذَا الْوَجْهِ وَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ عَلَى أَنَّهُ إذَا قَالَ : أَعْتَقْت أَمَتِي وَجَعَلْت عِتْقَهَا صَدَاقَهَا انْعَقَدَ النِّكَاحُ وَلَيْسَ هُنَا لَفْظُ إنْكَاحٍ وَتَزْوِيجٍ وَلِهَذَا ذَكَرَ ابْنُ عَقِيلٍ وَغَيْرُهُ : أَنَّ هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَخْتَصُّ النِّكَاحُ بِلَفْظِ . وَأَمَّا ابْنُ حَامِدٍ فَطَرَدَ قَوْلَهُ وَقَالَ : لَا بُدَّ أَنْ يَقُولَ مَعَ ذَلِكَ : وَتَزَوَّجْتهَا وَالْقَاضِي أَبُو يَعْلَى جَعَلَ هَذَا خَارِجًا عَنْ الْقِيَاسِ فَجَوَّزَ النِّكَاحَ هُنَا بِدُونِ لَفْظِ الْإِنْكَاحِ وَالتَّزْوِيجِ . وَأُصُولُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَنُصُوصُهُ تُخَالِفُ هَذَا فَإِنَّ مِنْ أَصْلِهِ أَنَّ الْعُقُودَ تَنْعَقِدُ بِمَا يَدُلُّ عَلَى مَقْصُودِهَا مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ فَهُوَ لَا يَرَى اخْتِصَاصَهَا بِالصِّيَغِ . وَمِنْ أَصْلِهِ أَنَّ الْكِنَايَةَ مَعَ دَلَالَةِ الْحَالِ كَالصَّرِيحِ لَا تَفْتَقِرُ إلَى إظْهَارِ النِّيَّةِ وَلِهَذَا قَالَ بِذَلِكَ فِي الطَّلَاقِ وَالْقَذْفِ وَغَيْرِ ذَلِكَ .(1/66)
وَاَلَّذِينَ قَالُوا إنَّ النِّكَاحَ لَا يَنْعَقِدُ إلَّا بِلَفْظِ الْإِنْكَاحِ وَالتَّزْوِيجِ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ قَالُوا : لِأَنَّ مَا سِوَى اللَّفْظَيْنِ كِنَايَةٌ ؛ وَالْكِنَايَةُ لَا يَثْبُتُ حُكْمُهَا إلَّا بِالنِّيَّةِ وَالنِّيَّةُ بَاطِنٌ وَالنِّكَاحُ مُفْتَقِرٌ إلَى شَهَادَةٍ وَالشَّهَادَةُ إنَّمَا تَقَعُ عَلَى السَّمْعِ فَهَذَا أَصْلُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ الَّذِينَ خَصُّوا عَقْدَ النِّكَاحِ بِاللَّفْظَيْنِ . وَابْنُ حَامِدٍ وَأَتْبَاعُهُ وَافَقُوهُمْ لَكِنَّ أُصُولَ أَحْمَدَ وَنُصُوصَهُ تُخَالِفُ هَذَا ؛ فَإِنَّ هَذِهِ الْمُقَدِّمَاتِ بَاطِلَةٌ عَلَى أَصْلِهِ . أَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ : مَا سِوَى هَذَيْنِ كِنَايَةٌ فَإِنَّمَا يَسْتَقِيمُ أَنْ لَوْ كَانَتْ أَلْفَاظُ الصَّرِيحِ وَالْكِنَايَةِ ثَابِتَةً بِعُرْفِ الشَّرْعِ كَمَا يَقُولُهُ الشَّافِعِيُّ وَمَنْ وَافَقَهُ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ كالخرقي وَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَغَيْرِهِمَا : أَنَّ الصَّرِيحَ فِي الطَّلَاقِ هُوَ الطَّلَاقُ وَالْفِرَاقُ وَالسَّرَاحُ لِمَجِيءِ الْقُرْآنِ بِذَلِكَ .(1/67)
فَأَمَّا جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ كَأَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَغَيْرِهِمَا ؛ وَجُمْهُورُ أَصْحَابِ أَحْمَدَ كَأَبِي بَكْرٍ وَابْنِ حَامِدٍ وَأَبِي الْخَطَّابِ وَغَيْرِهِمْ ؛ فَلَا يُوَافِقُونَ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ بَلْ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : الصَّرِيحُ هُوَ لَفْظُ الطَّلَاقِ فَقَطْ كَأَبِي حَنِيفَةَ وَابْنِ حَامِدٍ وَأَبِي الْخَطَّابِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ وَبَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : بَلْ الصَّرِيحُ أَعَمُّ مِنْ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ كَمَا يَذْكُرُ عَنْ مَالِكٍ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ وَغَيْرِهِ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ وَالْجُمْهُورُ يَقُولُونَ : كِلَا الْمُقَدِّمَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ أَنَّ صَرِيحَ الطَّلَاقِ تَلِيهِ مُقَدِّمَةٌ بَاطِلَةٌ .(1/68)
أَمَّا قَوْلُهُمْ : إنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ صَرِيحَةٌ فِي خِطَابِ الشَّارِعِ فَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ لَفْظُ السَّرَاحِ وَالْفِرَاقِ فِي الْقُرْآنِ مُسْتَعْمَلٌ فِي غَيْرِ الطَّلَاقِ قَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا } فَأَمَرَ بِتَسْرِيحِهِنَّ بَعْدَ الطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ وَهُوَ طَلَاقٌ بَائِنٌ لَا رَجْعَةَ فِيهِ وَلَيْسَ التَّسْرِيحُ هُنَا تَطْلِيقًا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَقَالَ تَعَالَى : { وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ } وَفِي الْآيَةِ الْأُخْرَى { أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ } فَلَفْظُ الْفِرَاقِ وَالسَّرَاحِ لَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ هُنَا الطَّلَاقَ فَأَمَّا الْمُطَلَّقَةُ الرَّجْعِيَّةُ فَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ ارْتِجَاعِهَا وَبَيْنَ تَخْلِيَةِ سَبِيلِهَا لَا يَحْتَاجُ إلَى طَلَاقٍ ثَانٍ . وَأَمَّا الْمُقَدِّمَةُ الثَّانِيَةُ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ اللَّفْظِ صَرِيحًا فِي خِطَابِ الشَّارِعِ أَنْ يَكُونَ صَرِيحًا فِي خِطَابِ كُلِّ مَنْ يَتَكَلَّمُ .(1/69)
وَبَسْطُ هَذَا لَهُ مَوْضِعٌ آخَرُ وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ : إنَّ الْإِجَارَةَ نَوْعٌ مِنْ الْبَيْعِ إنْ أَرَادَ بِهِ الْبَيْعَ الْخَاصَّ - وَهُوَ الَّذِي يُفْهَمُ مِنْ لَفْظِ الْبَيْعِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ - فَلَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّ ذَاكَ إنَّمَا يَنْعَقِدُ عَلَى أَعْيَانٍ مُعَيَّنَةٍ أَوْ مَضْمُونَةٍ فِي الذِّمَّةِ وَإِنْ أَرَادَ بِهِ أَنَّهَا نَوْعٌ مِنْ الْمُعَاوَضَةِ الْعَامَّةِ الَّتِي تَتَنَاوَلُ الْعَقْدَ عَلَى الْأَعْيَانِ وَالْمَنَافِعِ : فَهَذَا صَحِيحٌ لَكِنَّ قَوْلَهُ ؛ إنَّ الْمُعَاوَضَةَ الْعَامَّةَ لَا تَكُونُ عَلَى مَعْدُومِ دَعْوَى مُجَرَّدَةٍ بَلْ دَعْوَى كَاذِبَةٍ فَإِنَّ الشَّارِعَ جَوَّزَ الْمُعَاوَضَةَ الْعَامَّةَ عَلَى الْمَعْدُومِ . وَإِنْ قَاسَ بَيْعَ الْمَنَافِعِ عَلَى بَيْعِ الْأَعْيَانِ فَقَالَ : كَمَا أَنَّ بَيْعَ الْأَعْيَانِ لَا يَكُونُ إلَّا عَلَى مَوْجُودٍ فَكَذَلِكَ بَيْعُ الْمَنَافِعِ - وَهَذِهِ حَقِيقَةُ كَلَامِهِ - فَهَذَا الْقِيَاسُ فِي غَايَةِ الْفَسَادِ فَإِنَّ مِنْ شَرْطِ الْقِيَاسِ أَنْ يُمْكِنَ إثْبَاتُ حُكْمِ الْأَصْلِ فِي الْفَرْعِ وَهُوَ هُنَا مُتَعَذَّرٌ ؛ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُعْقَدَ عَلَيْهَا فِي حَالِ وُجُودِهَا فَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ تُبَاعَ الْمَنَافِعُ فِي حَالِ وُجُودِهَا كَمَا تُبَاعُ الْأَعْيَانُ فِي حَالِ وُجُودِهَا .(1/70)
وَالشَّارِعُ أَمَرَ الْإِنْسَانَ أَنْ يُؤَخِّرَ الْعَقْدَ عَلَى الْأَعْيَانِ الَّتِي لَمْ تُخْلَقْ إلَى أَنْ تُخْلَقَ فَنَهَى عَنْ بَيْعِ السِّنِينَ وَبَيْعِ حَبَلِ الْحَبَلَةِ وَبَيْعِ الثَّمَرِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهِ ؛ وَعَنْ بَيْعِ الْحَبِّ حَتَّى يَشْتَدَّ وَنَهَى عَنْ بَيْعِ الْمَضَامِينِ والملاقيح وَعَنْ الْمَجْرِ وَهُوَ الْحَمْلُ ؛ وَهَذَا كُلُّهُ نَهْيٌ عَنْ بَيْعِ حَيَوَانٍ قَبْلَ أَنْ يُخْلَقَ ؛ وَعَنْ بَيْعِ حَبٍّ وَثَمَرٍ قَبْلَ أَنْ يُخْلَقَ وَأَمَرَ بِتَأْخِيرِ بَيْعِهِ إلَى أَنْ يُخْلَقَ . وَهَذَا التَّفْصِيلُ وَهُوَ : مَنْعُ بَيْعِهِ فِي الْحَالِ وَإِجَارَتُهُ فِي حَالٍ يَمْتَنِعُ مِثْلُهُ فِي الْمَنَافِعِ فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ تُبَاعَ إلَّا هَكَذَا فَمَا بَقِيَ حُكْمُ الْأَصْلِ مُسَاوِيًا لِحُكْمِ الْفَرْعِ إلَّا أَنْ يُقَالَ : فَأَنَا أَقِيسُهُ عَلَى بَيْعِ الْأَعْيَانِ الْمَعْدُومَةِ فَيُقَالُ لَهُ : هُنَا شَيْئَانِ : أَحَدُهُمَا : يُمْكِنُ بَيْعُهُ فِي حَالِ وُجُودِهِ وَحَالِ عَدَمِهِ فَنَهَى الشَّارِعُ عَنْ بَيْعِهِ إلَّا إذَا وُجِدَ .(1/71)
وَالشَّيْءُ الْآخَرُ : لَا يُمْكِنُ بَيْعُهُ إلَّا فِي حَالِ عَدَمِهِ فَالشَّارِعُ لَمَّا نَهَى عَنْ بَيْعِ ذَاكَ حَالَ عَدَمِهِ فَلَا بُدَّ إذَا قِسْت عَلَيْهِ أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ الْمُوجِبَةُ لِلْحُكْمِ فِي الْأَصْلِ ثَابِتَةً فِي الْفَرْعِ فَلِمَ قُلْت : إنَّ الْعِلَّةَ فِي الْأَصْلِ مُجَرَّدُ كَوْنِهِ مَعْدُومًا ؟ وَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَيْعُهُ فِي حَالِ عَدَمِهِ مَعَ إمْكَانِ تَأْخِيرِ بَيْعِهِ إلَى حَالِ وُجُودِهِ ؟ وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَالْعِلَّةُ مُقَيَّدَةٌ بِعَدَمِ خَاصٍّ وَهُوَ مَعْدُومٌ يُمْكِنُ بَيْعُهُ بَعْدَ وُجُودِهِ وَأَنْتَ إنْ لَمْ تُبَيِّنْ أَنَّ الْعِلَّةَ فِي الْأَصْلِ الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ كَانَ قِيَاسُك فَاسِدًا وَهَذَا سُؤَالُ الْمُطَالَبَةِ وَهُوَ كَافٍ فِي وَقْفِ قِيَاسِك . لَكِنْ نُبَيِّنُ فَسَادَهُ فَنَقُولُ : مَا ذَكَرْنَاهُ عِلَّةٌ مُطَّرِدَةٌ وَمَا ذَكَرْته عِلَّةٌ مُنْتَقَضَةٌ ؛ فَإِنَّك إذَا عَلَّلْت الْمَنْعَ بِمُجَرَّدِ الْعَدَمِ اُنْتُقِضَتْ عِلَّتُك بِبَعْضِ الْأَعْيَانِ وَالْمَنَافِعِ وَإِذَا عَلَّلْته بِعَدَمِ مَا يُمْكِنُ تَأْخِيرُ بَيْعِهِ إلَى حَالِ وُجُودِهِ ؛ أَوْ بِعَدَمِ هُوَ غَرَرٌ اطَّرَدَتْ الْعِلَّةُ وَأَيْضًا فَالْمُنَاسَبَةُ تَشْهَدُ لِهَذِهِ الْعِلَّةِ ؛ فَإِنَّهُ إذَا كَانَ لَهُ حَالُ وُجُودٍ وَعَدَمٍ كَانَ بَيْعُهُ حَالَ الْعَدَمِ فِيهِ مُخَاطَرَةٌ وَقِمَارٌ وَبِهَا عَلَّلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَنْعَ حَيْثُ قَالَ : { أَرَأَيْت إنْ مَنَعَ اللَّهُ الثَّمَرَةَ فَبِمَ يَأْخُذُ أَحَدُكُمْ مَالَ أَخِيهِ بِغَيْرِ حَقٍّ ؟ } بِخِلَافِ مَا لَيْسَ لَهُ إلَّا حَالٌ وَاحِدَةٌ وَالْغَالِبُ فِيهِ السَّلَامَةُ ؛ فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ مُخَاطَرَةً فَالْحَاجَةُ دَاعِيَةٌ إلَيْهِ .(1/72)
وَمِنْ أُصُولِ الشَّرْعِ أَنَّهُ إذَا تَعَارَضَ الْمَصْلَحَةُ وَالْمَفْسَدَةُ قُدِّمَ أَرْجَحُهُمَا فَهُوَ إنَّمَا نَهَى عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ لِمَا فِيهِ مِنْ الْمُخَاطَرَةِ الَّتِي تَضُرُّ بِأَحَدِهِمَا وَفِي الْمَنْعِ مِمَّا يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ مِنْ الْبَيْعِ ضَرَرٌ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ فَلَا يَمْنَعُهُمْ مِنْ الضَّرَرِ الْيَسِيرِ بِوُقُوعِهِمْ فِي الضَّرَرِ الْكَثِيرِ بَلْ يُدْفَعُ أَعْظَمُ الضَّرَرَيْنِ بِاحْتِمَالِ أَدْنَاهُمَا وَلِهَذَا لَمَّا نَهَاهُمْ عَنْ الْمُزَابَنَةِ لِمَا فِيهَا مِنْ نَوْعِ رِبَا أَوْ مُخَاطَرَةٍ فِيهَا ضَرَرٌ أَبَاحَهَا لَهُمْ فِي الْعَرَايَا لِلْحَاجَةِ لِأَنَّ ضَرَرَ الْمَنْعِ مِنْ ذَلِكَ أَشَدُّ وَكَذَلِكَ لَمَّا حَرَّمَ عَلَيْهِمْ الْمَيْتَةَ لِمَا فِيهَا مِنْ خُبْثِ التَّغْذِيَةِ أَبَاحَهَا لَهُمْ عِنْدَ الضَّرُورَةِ ؛ لِأَنَّ ضَرَرَ الْمَوْتِ أَشَدُّ وَنَظَائِرُهُ كَثِيرَةٌ . فَإِنْ قِيلَ : فَهَذَا كُلُّهُ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ ؟ قِيلَ : قَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ الْفَرْعَ اُخْتُصَّ بِوَصْفِ أَوْجَبَ الْفَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَصْلِ فَكُلُّ فَرْقٍ صَحِيحٌ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ الْفَاسِدِ . وَإِنْ أُرِيدَ بِذَلِكَ أَنَّ الْأَصْلَ وَالْفَرْعَ اسْتَوَيَا فِي الْمُقْتَضِي وَالْمَانِعِ وَاخْتَلَفَ حُكْمُهُمَا فَهَذَا بَاطِلٌ قَطْعًا .(1/73)
فَفِي الْجُمْلَةِ : الشَّيْءُ إذَا شَابَهَ غَيْرَهُ فِي وَصْفٍ وَفَارَقَهُ فِي وَصْفٍ كَانَ اخْتِلَافُهُمَا فِي الْحُكْمِ بِاعْتِبَارِ الْفَارِقِ مُخَالِفًا لِاسْتِوَائِهِمَا بِاعْتِبَارِ الْجَامِعِ لَكِنَّ هَذَا هُوَ الْقِيَاسُ الصَّحِيحُ طَرْدًا وَعَكْسًا وَهُوَ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ وَالتَّفْرِيقُ بَيْنَ الْمُخْتَلِفَيْنِ وَأَمَّا التَّسْوِيَةُ بَيْنَهُمَا فِي الْحُكْمِ مَعَ افْتِرَاقِهِمَا فِيمَا يُوجِبُ الْحُكْمَ وَيَمْنَعُهُ فَهَذَا قِيَاسٌ فَاسِدٌ . وَالشَّرْعُ دَائِمًا يُبْطِلُ الْقِيَاسَ الْفَاسِدَ كَقِيَاسِ إبْلِيسَ وَقِيَاسِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ قَالُوا : { إنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا } وَاَلَّذِينَ قَاسُوا الْمَيِّتَ عَلَى الْمُذَكَّى وَقَالُوا : أَتَأْكُلُونَ مَا قَتَلْتُمْ وَلَا تَأْكُلُونَ مَا قَتَلَ اللَّهُ ؟ فَجَعَلُوا الْعِلَّةَ فِي الْأَصْلِ كَوْنَهُ قَتْلَ آدَمِيٍّ وَقِيَاسِ الَّذِينَ قَاسُوا الْمَسِيحَ عَلَى أَصْنَامِهِمْ فَقَالُوا : لَمَّا كَانَتْ آلِهَتُنَا تَدْخُلُ النَّارَ لِأَنَّهَا عُبِدَتْ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَكَذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يَدْخُلَ الْمَسِيحُ النَّارَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ } { وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ } وَهَذَا كَانَ وَجْهَ مُخَاصَمَةِ ابْنِ الزبعرى لَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ : { إنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ } { لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ } فَإِنَّ الْخِطَابَ لِلْمُشْرِكِينَ لَا لِأَهْلِ الْكِتَابِ .(1/74)
وَالْمُشْرِكُونَ لَمْ يَعْبُدُوا الْمَسِيحَ وَإِنَّمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ : { وَمَا تَعْبُدُونَ } الْأَصْنَامَ فَالْآيَةُ لَمْ تَتَنَاوَلْ الْمَسِيحَ لَا لَفْظًا وَلَا مَعْنًى . وَقَوْلُ مَنْ قَالَ : إنَّ الْآيَةَ عَامَّةٌ تَتَنَاوَلُ الْمَسِيحَ وَلَكِنْ أُخِّرَ بَيَانُ تَخْصِيصِهَا غَلَطٌ مِنْهُ وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ صَحِيحًا لَكَانَتْ حُجَّةُ الْمُشْرِكِينَ مُتَوَجِّهَةً ؛ فَإِنَّ مَنْ خَاطَبَ بِلَفْظِ الْعَامِّ يَتَنَاوَلُ حَقًّا وَبَاطِلًا لَمْ يُبَيِّنْ مُرَادَهُ تَوَجَّهَ الِاعْتِرَاضُ عَلَيْهِ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا } أَيْ : هُمْ ضَرَبُوهُ مَثَلًا كَمَا قَالَ : { مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إلَّا جَدَلًا } أَيْ : جَعَلُوهُ مَثَلًا لِآلِهَتِهِمْ فَقَاسُوا الْآلِهَةَ عَلَيْهِ وَأَوْرَدُوهُ مَوْرِدَ الْمُعَارَضَةِ فَقَالُوا : إذَا دَخَلَتْ آلِهَتُنَا النَّارَ لِكَوْنِهَا مَعْبُودَةً فَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِي الْمَسِيحِ فَيَجِبُ أَنْ يَدْخُلَ النَّارَ وَهُوَ لَا يَدْخُلُ النَّارَ فَهِيَ لَا تَدْخُلُ النَّارَ وَهَذَا قِيَاسٌ فَاسِدٌ لِظَنِّهِمْ أَنَّ الْعِلَّةَ مُجَرَّدُ كَوْنِهِ مَعْبُودًا وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ الْعِلَّةُ أَنَّهُ مَعْبُودٌ لَيْسَ مُسْتَحِقًّا لِلثَّوَابِ أَوْ مَعْبُودٌ لَا ظُلْمَ فِي إدْخَالِهِ النَّارَ . فَالْمَسِيحُ وَالْعُزَيْرُ وَالْمَلَائِكَةُ وَغَيْرُهُمْ مِمَّنْ عُبِدَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهُوَ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ وَهُوَ مُسْتَحِقٌّ لِكَرَامَةِ اللَّهِ بِوَعْدِ اللَّهِ وَعَدْلِهِ وَحِكْمَتِهِ فَلَا يُعَذَّبُ بِذَنْبِ غَيْرِهِ فَإِنَّهُ لَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى .(1/75)
وَالْمَقْصُودُ بِإِلْقَاءِ الْأَصْنَامِ فِي النَّارِ إهَانَةُ عَابِدِيهَا وَأَوْلِيَاءُ اللَّهِ لَهُمْ الْكَرَامَةُ دُونَ الْإِهَانَةِ فَهَذَا الْفَارِقُ بَيَّنَ فَسَادَ تَعْلِيقِ الْحُكْمِ بِذَلِكَ الْجَامِعِ . وَالْأَقْيِسَةُ الْفَاسِدَةُ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ . فَمَنْ قَالَ : إنَّ الشَّرِيعَةَ تَأْتِي بِخِلَافِ مِثْلِ هَذَا الْقِيَاسِ فَقَدْ أَصَابَ وَهَذَا مِنْ كَمَالِ الشَّرِيعَةِ وَاشْتِمَالِهَا عَلَى الْعَدْلِ وَالْحِكْمَةِ الَّتِي بَعَثَ اللَّهُ بِهَا رَسُولَهُ . وَمَنْ لَمْ يُخَالِفْ مِثْلَ هَذِهِ الْأَقْيِسَةِ الْفَاسِدَةِ بَلْ سَوَّى بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ بِاشْتِرَاكِهِمَا فِي أَمْرٍ مِنْ الْأُمُورِ لَزِمَهُ أَنْ يُسَوِّيَ بَيْنَ كُلِّ مَوْجُودَيْنِ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي مُسَمَّى الْوُجُودِ فَيُسَوِّي بَيْنَ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَبَيْنَ بَعْضِ الْمَخْلُوقِينَ فَيَكُونُ مِنْ الَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ وَيُشْرِكُونَ فَإِنَّ هَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْقِيَاسِ الْفَاسِدِ وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ : { تَاللَّهِ إنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ } { إذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ } وَلِهَذَا قَالَ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ : أَوَّلُ مَنْ قَاسَ إبْلِيسُ وَمَا عُبِدَتْ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ إلَّا بِالْمَقَايِيسِ أَيْ : بِمِثْلِ هَذِهِ الْمَقَايِيسِ الَّتِي يَشْتَبِهُ فِيهَا الشَّيْءُ بِمَا يُفَارِقُهُ كَأَقْيِسَةِ الْمُشْرِكِينَ .(1/76)
وَمَنْ كَانَ لَهُ مَعْرِفَةٌ بِكَلَامِ النَّاسِ فِي الْعَقْلِيَّاتِ رَأَى عَامَّةَ ضَلَالِ مَنْ ضَلَّ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ والمتكلمين بِمِثْلِ هَذِهِ الْأَقْيِسَةِ الْفَاسِدَةِ الَّتِي يُسَوَّى فِيهَا بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي بَعْضِ الْأُمُورِ مَعَ أَنَّ بَيْنَهُمَا مِنْ الْفَرْقِ مَا يُوجِبُ أَعْظَمَ الْمُخَالَفَةِ وَاعْتُبِرَ هَذَا بِكَلَامِهِمْ فِي وُجُودِ الرَّبِّ وَوُجُودِ الْمَخْلُوقَاتِ ؛ فَإِنَّ فِيهِ مِنْ الِاضْطِرَابِ مَا قَدْ بَسَطْنَاهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِي الْإِجَارَةِ بِنَاءً عَلَى تَسْلِيمِ قَوْلِهِمْ : إنَّ بَيْعَ الْأَعْيَانِ الْمَعْدُومَةِ لَا يَجُوزُ . وَهَذِهِ الْمُقَدِّمَةُ الثَّانِيَةُ وَالْكَلَامُ عَلَيْهَا مِنْ وَجْهَيْنِ .(1/77)
أَحَدُهُمَا : أَنْ نَقُولَ : لَا نُسَلِّمُ صِحَّةَ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةِ فَلَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَلَا سُنَّةِ رَسُولِهِ ؛ بَلْ وَلَا عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ أَنَّ بَيْعَ الْمَعْدُومِ لَا يَجُوزُ لَا لَفْظٌ عَامٌّ وَلَا مَعْنًى عَامٌّ وَإِنَّمَا فِيهِ النَّهْيُ عَنْ بَيْعِ بَعْضِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي هِيَ مَعْدُومَةٌ كَمَا فِيهِ النَّهْيُ عَنْ بَيْعِ بَعْضِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي هِيَ مَوْجُودَةٌ وَلَيْسَتْ الْعِلَّةُ فِي الْمَنْعِ لَا الْوُجُودَ وَلَا الْعَدَمَ بَلْ الَّذِي ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ { عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ نَهَى عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ } وَالْغَرَرُ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ سَوَاءٌ كَانَ مَوْجُودًا أَوْ مَعْدُومًا كَالْعَبْدِ الْآبِقِ وَالْبَعِيرِ الشَّارِدِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا قَدْ لَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ بَلْ قَدْ يَحْصُلُ وَقَدْ لَا يَحْصُلُ هُوَ غَرَرٌ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ وَإِنْ كَانَ مَوْجُودًا فَإِنَّ مُوجَبَ الْبَيْعِ تَسْلِيمُ الْمَبِيعِ وَالْبَائِعُ عَاجِزٌ عَنْهُ وَالْمُشْتَرِي إنَّمَا يَشْتَرِيهِ مُخَاطَرَةً وَمُقَامَرَةً فَإِنْ أَمْكَنَهُ أَخْذُهُ كَانَ الْمُشْتَرِي قَدْ قَمَرَ الْبَائِعَ . وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ أَخْذُهُ كَانَ الْبَائِعُ قَدْ قَمَرَ الْمُشْتَرِيَ . وَهَكَذَا الْمَعْدُومُ الَّذِي هُوَ غَرَرٌ نَهَى عَنْ بَيْعِهِ لِكَوْنِهِ غَرَرًا لَا لِكَوْنِهِ مَعْدُومًا كَمَا إذَا بَاعَ مَا يَحْمِلُ هَذَا الْحَيَوَانُ أَوْ مَا يَحْمِلُ هَذَا الْبُسْتَانُ فَقَدْ يَحْمِلُ وَقَدْ لَا يَحْمِلُ وَإِذَا حَمَلَ فَالْمَحْمُولُ لَا يُعْرَفُ قَدْرُهُ وَلَا وَصْفُهُ فَهَذَا مِنْ الْقِمَارِ وَهُوَ مِنْ الْمَيْسِرِ الَّذِي نَهَى اللَّهُ عَنْهُ .(1/78)
وَمِثْلُ هَذَا إذَا أَكْرَاهُ دَوَابَّ لَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهَا ؛ أَوْ عَقَارًا لَا يُمْكِنُهُ تَسْلِيمُهُ بَلْ قَدْ يَحْصُلُ وَقَدْ لَا يَحْصُلُ فَإِنَّهُ إجَارَةُ غَرَرٍ . الْوَجْهُ الثَّانِي أَنْ نَقُولَ : بَلْ الشَّارِعُ صَحَّحَ بَيْعَ الْمَعْدُومِ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ فَإِنَّهُ ثَبَتَ عَنْهُ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ { أَنَّهُ نَهَى عَنْ بَيْعِ الثَّمَرِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهُ } { وَنَهَى عَنْ بَيْعِ الْحَبِّ حَتَّى يَشْتَدَّ } وَهَذَا مِنْ أَصَحِّ الْحَدِيثِ وَهُوَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ قَدْ فَرَّقَ بَيْنَ ظُهُورِ الصَّلَاحِ وَعَدَمِ ظُهُورِهِ فَأَحَلَّ أَحَدَهُمَا وَحَرَّمَ الْآخَرَ . وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ قَبْلَ ظُهُورِ الصَّلَاحِ لَوْ اشْتَرَاهُ بِشَرْطِ الْقَطْعِ كَمَا يَشْتَرِي الْحِصْرِمَ لِيَقْطَعَ حِصْرِمًا جَازَ بِالِاتِّفَاقِ وَإِنَّمَا نَهَى عَنْهُ إذَا بِيعَ عَلَى أَنَّهُ بَاقٍ ؛ فَيَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ جَوَّزَهُ بَعْدَ ظُهُورِ الصَّلَاحِ أَنْ يَبِيعَهُ عَلَى الْبَقَاءِ إلَى كَمَالِ الصَّلَاحِ وَهَذَا مَذْهَبُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ كَمَالِكِ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِمْ . وَمَنْ جَوَّزَ بَيْعَهُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ بِشَرْطِ الْقَطْعِ ؛ وَنَهَى عَنْهُ بِشَرْطِ التَّبْقِيَةِ أَوْ مُطْلَقًا : لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ لِظُهُورِ الصَّلَاحِ فَائِدَةٌ وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ مَا نَهَى عَنْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا أَذِنَ فِيهِ . وَصَاحِبُ هَذَا الْقَوْلِ يَقُولُ : مُوجَبُ الْعَقْدِ التَّسْلِيمُ عَقِيبَهُ فَلَا يَجُوزُ التَّأْخِيرُ .(1/79)
فَيُقَالُ لَهُ : لَا نُسَلِّمُ أَنَّ هَذَا مُوجِبُ الْعَقْدِ : إمَّا أَنْ يَكُونَ مَا أَوْجَبَهُ الشَّارِعُ بِالْعَقْدِ أَوْ مَا أَوْجَبَهُ الْمُتَعَاقِدَانِ عَلَى أَنْفُسِهِمَا وَكِلَاهُمَا مُنْتَفٍ فَلَا الشَّارِعُ أَوْجَبَ أَنْ يَكُونَ كُلُّ بَيْعٍ مُسْتَحِقٍّ التَّسْلِيمَ عَقِبَ الْعَقْدِ وَلَا الْعَاقِدَانِ الْتَزَمَا ذَلِكَ بَلْ تَارَةً يَعْقِدَانِ الْعَقْدَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ كَمَا إذَا بَاعَ مُعَيَّنًا بِدَيْنِ حَالٍّ وَتَارَةً يَشْتَرِطَانِ تَأْخِيرَ تَسْلِيمِ الثَّمَنِ كَمَا فِي السَّلَمِ ؛ وَكَذَلِكَ فِي الْأَعْيَانِ . وَقَدْ يَكُونُ لِلْبَائِعِ مَقْصُودٌ صَحِيحٌ فِي تَأْخِيرِ التَّسْلِيمِ كَمَا كَانَ لِجَابِرِ حِينَ بَاعَ بَعِيرَهُ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاسْتَثْنَى ظَهْرَهُ إلَى الْمَدِينَةِ ؛ وَلِهَذَا كَانَ الصَّوَابُ أَنَّهُ يَجُوزُ لِكُلِّ عَاقِدٍ أَنْ يَسْتَثْنِيَ مِنْ مَنْفَعَةِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ مَا لَهُ فِيهِ غَرَضٌ صَحِيحٌ كَمَا إذَا بَاعَ عَقَارًا وَاسْتَثْنَى سُكْنَاهُ مُدَّةً أَوْ دَوَابَّهُ وَاسْتَثْنَى ظَهْرَهَا أَوْ وَهَبَ مِلْكًا وَاسْتَثْنَى مَنْفَعَتَهُ أَوْ أَعْتَقَ الْعَبْدَ وَاسْتَثْنَى خِدْمَتَهُ مُدَّةً ؛ أَوْ مَا دَامَ السَّيِّدُ أَوْ وَقَفَ عَيْنًا وَاسْتَثْنَى غَلَّتَهَا لِنَفْسِهِ مُدَّةَ حَيَاتِهِ وَأَمْثَالَ ذَلِكَ . وَهَذَا مَنْصُوصُ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ وَبَعْضِ أَصْحَابِ أَحْمَدَ قَالَ : لَا بُدَّ إذَا اسْتَثْنَى مَنْفَعَةَ الْمَبِيعِ مِنْ أَنْ يُسَلِّمَ الْعَيْنَ إلَى الْمُشْتَرِي ثُمَّ يَأْخُذَهَا لِيَسْتَوْفِيَ الْمَنْفَعَةَ بِنَاءً عَلَى هَذَا الْأَصْلِ الْفَاسِدِ وَهُوَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ اسْتِحْقَاقِ الْقَبْضِ عَقِبَ الْعَقْدِ . وَهُوَ قَوْلٌ ضَعِيفٌ .(1/80)
وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ قَالَ مَنْ قَالَ : إنَّهُ لَا تَجُوزُ الْإِجَارَةُ إلَّا لِمُدَّةِ تَلِي الْعَقْدَ وَهَؤُلَاءِ نَظَرُوا إلَى مَا يَفْعَلُهُ النَّاسُ أَحْيَانًا جَعَلُوهُ لَازِمًا لَهُمْ فِي كُلِّ حَالٍ وَهُوَ مِنْ الْقِيَاسِ الْفَاسِدِ . وَعَلَى هَذَا بَنَوْا إذَا بَاعَ الْعَيْنَ الْمُؤَجَّرَةَ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : الْبَيْعُ بَاطِلٌ لِكَوْنِ الْمَنْفَعَةِ لَا تَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ فَلَا يَحْصُلُ التَّسْلِيمُ . وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : هَذَا مُسْتَثْنًى بِالشَّرْعِ بِخِلَافِ الْمُسْتَثْنَى بِالشَّرْطِ . وَلَوْ بَاعَ الْأَمَةَ الْمُزَوَّجَةَ صَحَّ بِاتِّفَاقِهِمْ وَإِنْ كَانَتْ مَنْفَعَةُ الْبُضْعِ لِلزَّوْجِ وَقَدْ فَرَّقَ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا بِمَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوْضِعِهِ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا : أَنَّ هَذَا كُلَّهُ تَفْرِيعٌ عَلَى ذَلِكَ الْأَصْلِ الضَّعِيفِ وَهُوَ أَنَّ مُوجِبَ الْعَقْدِ اسْتِحْقَاقُ التَّسْلِيمِ عَقِبَهُ وَالشَّرْعُ لَمْ يَدُلّ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ ؛ بَلْ الْقَبْضُ فِي الْأَعْيَانِ وَالْمَنَافِعِ كَالْقَبْضِ فِي الدَّيْنِ تَارَةً يَكُونُ مُوجَبُ الْعَقْدِ قَبْضَهُ عَقِبَهُ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ وَتَارَةً يَكُونُ مُوجَبُ الْعَقْدِ تَأْخِيرَ التَّسْلِيمِ لِمَصْلَحَةِ مِنْ الْمَصَالِحِ .(1/81)
وَعَلَى هَذَا فَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَوَّزَ بَيْعَ الثَّمَرِ بَعْدَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ مُسْتَحِقٌّ الْإِبْقَاءَ إلَى كَمَالِ الصَّلَاحِ وَعَلَى الْبَائِعِ السَّقْيُ وَالْخِدْمَةُ إلَى كَمَالِ الصَّلَاحِ وَيَدْخُلُ فِي هَذَا مَا هُوَ مَعْدُومٌ لَمْ يُخْلَقْ وَهَذَا إذَا قُبِضَ كَانَ بِمَنْزِلَةِ قَبْضِ الْعَيْنِ الْمُؤَجَّرَةِ فَقَبْضُهُ يُبِيحُ لَهُ التَّصَرُّفَ فِيهِ فِي أَظْهَرِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ أَصَحُّ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ وَقَبْضُهُ لَا يُوجِبُ انْتِقَالَ الضَّمَانِ إلَيْهِ بَلْ إذَا تَلِفَ الثَّمَرُ بَعْدَ بُدُوِّ صَلَاحِهِ كَانَ مِنْ ضَمَانِ الْبَائِعِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ الْحَدِيثِ : أَحْمَدَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَغَيْرِهِ وَهُوَ قَوْلٌ مُعَلَّقٌ لِلشَّافِعِيِّ وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إنْ بِعْت مِنْ أَخِيك ثَمَرَةً فَأَصَابَتْهَا جَائِحَةٌ فَلَا يَحِلُّ لَك أَنْ تَأْخُذَ مِنْ مَالِ أَخِيك شَيْئًا بِمَ يَأْخُذُ أَحَدُكُمْ مَالَ أَخِيهِ بِغَيْرِ حَقٍّ ؟ } وَلَيْسَ مَعَ الْمُنَازِعِ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ قَبْضٍ جَوَّزَ التَّصَرُّفَ يَنْقُلُ الضَّمَانَ وَمَا لَمْ يُجَوِّزْ التَّصَرُّفَ لَمْ يَنْقُلْ الضَّمَانَ ؛ بَلْ قَبْضُ الْعَيْنِ الْمُؤَجَّرَةِ يُجَوِّزُ التَّصَرُّفَ وَلَا يَنْقُلُ الضَّمَانَ .
مجموع فتاوى ابن تيمية - (ج 6 / ص 456)(1/82)
وَدَلَائِلُ تَحْرِيمِ الْحِيَلِ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ وَالِاعْتِبَارِ كَثِيرَةٌ ذَكَرْنَا مِنْهَا نَحْوًا مِنْ ثَلَاثِينَ دَلِيلًا فِيمَا كَتَبْنَاهُ فِي ذَلِكَ وَذَكَرْنَا مَا يَحْتَجُّ بِهِ مَنْ يُجَوِّزُهَا كَيَمِينِ أَيُّوبَ وَحَدِيثِ تَمْرِ خَيْبَرَ وَمَعَارِيضِ السَّلَفِ ، وَذَكَرْنَا جَوَابَ ذَلِكَ . وَمِنْ ذَرَائِعِ ذَلِكَ : " مَسْأَلَةُ الْعِينَةِ " وَهُوَ أَنْ يَبِيعَهُ سِلْعَةً إلَى أَجَلٍ ثُمَّ يَبْتَاعُهَا مِنْهُ بِأَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ . فَهَذَا مَعَ التَّوَاطُؤِ يُبْطِلُ الْبَيْعَيْنِ ؛ لِأَنَّهَا حِيلَةٌ . وَقَدْ رَوَى أَحْمَد وَأَبُو داود بِإِسْنَادَيْنِ جَيِّدَيْنِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { إذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ وَاتَّبَعْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ وَتَرَكْتُمْ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ : أَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلًّا لَا يَرْفَعُهُ عَنْكُمْ حَتَّى تَرَاجَعُوا دِينَكُمْ } . وَإِنْ لَمْ يَتَوَاطَآ فَإِنَّهُمَا يُبْطِلَانِ الْبَيْعَ الثَّانِيَ سَدًّا لِلذَّرِيعَةِ . وَلَوْ كَانَتْ عَكْسَ مَسْأَلَةِ الْعِينَةِ مِنْ غَيْرِ تَوَاطُؤٍ : فَفِيهِ رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد وَهُوَ أَنْ يَبِيعَهُ حَالًّا ثُمَّ يَبْتَاعَ مِنْهُ بِأَكْثَرَ مُؤَجَّلًا . وَأَمَّا مَعَ التَّوَاطُؤِ فَرِبًا مُحْتَالٌ عَلَيْهِ . وَلَوْ كَانَ مَقْصُودُ الْمُشْتَرِي الدِّرْهَمَ وَابْتَاعَ السِّلْعَةَ إلَى أَجَلٍ لِيَبِيعَهَا وَيَأْخُذَ ثَمَنَهَا . فَهَذَا يُسَمَّى : " التَّوَرُّقَ " . فَفِي كَرَاهَتِهِ عَنْ أَحْمَد رِوَايَتَانِ .(1/83)
وَالْكَرَاهَةُ قَوْلُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَمَالِكٍ فِيمَا أَظُنُّ ؛ بِخِلَافِ الْمُشْتَرِي الَّذِي غَرَضُهُ التِّجَارَةُ أَوْ غَرَضُهُ الِانْتِفَاعُ أَوْ الْقِنْيَةُ فَهَذَا يَجُوزُ شِرَاؤُهُ إلَى أَجَلٍ بِالِاتِّفَاقِ . فَفِي الْجُمْلَةِ : أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَفُقَهَاءُ الْحَدِيثِ مَانِعُونَ مِنْ أَنْوَاعِ الرِّبَا مَنْعًا مُحْكَمًا مُرَاعِينَ لِمَقْصُودِ الشَّرِيعَةِ وَأُصُولِهَا . وَقَوْلُهُمْ فِي ذَلِكَ هُوَ الَّذِي يُؤْثَرُ مِثْلُهُ عَنْ الصَّحَابَةِ وَتَدُلُّ عَلَيْهِ مَعَانِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ . وَأَمَّا الْغَرَرُ : فَأَشَدُّ النَّاسِ فِيهِ قَوْلًا أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَمَّا الشَّافِعِيُّ : فَإِنَّهُ يُدْخِلُ فِي هَذَا الِاسْمِ مِنْ الْأَنْوَاعِ مَا لَا يُدْخِلُهُ غَيْرُهُ مِنْ الْفُقَهَاءِ ؛ مِثْلَ الْحَبِّ وَالثَّمَرِ فِي قِشْرِهِ الَّذِي لَيْسَ بِصَوَّانِ : كَالْبَاقِلَاءِ وَالْجَوْزِ وَاللَّوْزِ فِي قِشْرِهِ الْأَخْضَرِ وَكَالْحَبِّ فِي سُنْبُلِهِ فَإِنَّ الْقَوْلَ الْجَدِيدَ عِنْدَهُ : أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ مَعَ أَنَّهُ قَدْ اشْتَرَى فِي مَرَضِ مَوْتِهِ بَاقِلَاءَ أَخْضَرَ فَخَرَجَ ذَلِكَ لَهُ قَوْلًا وَاخْتَارَهُ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ كَأَبِي سَعِيدٍ الإصطخري ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ ذُكِرَ لَهُ : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { نَهَى عَنْ بَيْعِ الْحَبِّ حَتَّى يَشْتَدَّ } فَدَلَّ عَلَى جَوَازِ بَيْعِهِ بَعْدَ اشْتِدَادِهِ وَإِنْ كَانَ فِي سُنْبُلِهِ . فَقَالَ : إنْ صَحَّ هَذَا أَخْرَجْته مِنْ الْعَامِّ أَوْ كَلَامًا قَرِيبًا مِنْ هَذَا ، وَكَذَلِكَ ذُكِرَ أَنَّهُ رَجَعَ عَنْ الْقَوْلِ بِالْمَنْعِ .(1/84)
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : جَوَازُ ذَلِكَ هُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ وَأَهْلِ الْبَصْرَةِ وَأَصْحَابِ الْحَدِيثِ وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ . وَقَالَ الشَّافِعِيُّ مَرَّةً لَا يَجُوزُ ثُمَّ بَلَغَهُ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فَرَجَعَ عَنْهُ وَقَالَ بِهِ . قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : وَلَا أَعْلَمُ أَحَدًا يَعْدِلُ عَنْ الْقَوْلِ بِهِ . وَذَكَرَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ لَهُ قَوْلَيْنِ وَإِنَّ الْجَوَازَ هُوَ الْقَدِيمُ . حَتَّى مَنَعَ مِنْ بَيْعِ الْأَعْيَانِ الْغَائِبَةِ بِصِفَةٍ وَغَيْرِ صِفَةٍ مُتَأَوِّلًا أَنَّ بَيْعَ الْغَائِبِ غَرَرٌ وَإِنْ وُصِفَ حَتَّى اشْتَرَطَ فِيمَا فِي الذِّمَّةِ - كَدَيْنِ السَّلَمِ - مِنْ الصِّفَاتِ وَضَبْطِهَا مَا لَمْ يَشْتَرِطْهُ غَيْرُهُ . وَلِهَذَا يَتَعَذَّرُ أَوْ يَتَعَسَّرُ عَلَى النَّاسِ الْمُعَامَلَةُ فِي الْعَيْنِ وَالدَّيْنِ بِمِثْلِ هَذَا الْقَوْلِ . وَقَاسَ عَلَى بَيْعِ الْغَرَرِ جَمِيعَ الْعُقُودِ ؛ مِنْ التَّبَرُّعَاتِ وَالْمُعَاوَضَاتِ فَاشْتَرَطَ فِي أُجْرَةِ الْأَجِيرِ وَفِدْيَةِ الْخُلْعِ وَالْكِتَابَةِ وَصُلْحِ أَهْلِ الْهُدْنَةِ وَجِزْيَةِ أَهْلِ الذِّمَّةِ : مَا اشْتَرَطَهُ فِي الْبَيْعِ عَيْنًا وَدَيْنًا ؛ وَلَمْ يُجَوِّزْ فِي ذَلِكَ جِنْسًا وَقَدْرًا وَصِفَةً إلَّا مَا يُجَوِّزُ مِثْلَهُ فِي الْبَيْعِ وَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ الْعُقُودُ لَا تَبْطُلُ بِفَسَادِ أَعْوَاضِهَا أَوْ يُشْتَرَطُ لَهَا شُرُوطٌ أُخَرُ . وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ : فَإِنَّهُ يُجَوِّزُ بَيْعَ الْبَاقِلَاءِ وَنَحْوَهُ فِي الْقَشِرَيْنِ وَيُجَوِّزُ إجَارَةَ الْأَجِيرِ بِطَعَامِهِ وَكِسْوَتِهِ وَيُجَوِّزُ أَنْ تَكُونَ جَهَالَةُ الْمَهْرِ كَجَهَالَةِ مَهْرِ الْمِثْلِ .(1/85)
وَيُجَوِّزُ بَيْعَ الْأَعْيَانِ الْغَائِبَةِ بِلَا صِفَةٍ مَعَ الْخِيَارِ ؛ لِأَنَّهُ يَرَى وَقْفَ الْعُقُودِ ؛ لَكِنَّهُ يُحَرِّمُ الْمُسَاقَاةَ وَالْمُزَارَعَةَ وَنَحْوَهُمَا مِنْ الْمُعَامَلَاتِ مُطْلَقًا . وَالشَّافِعِيُّ يُجَوِّزُ بَيْعَ بَعْضِ ذَلِكَ وَيُحَرِّمُ أَيْضًا كَثِيرًا مِنْ الشُّرُوطِ فِي الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَالنِّكَاحِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُخَالِفُ مُطْلَقَ الْعَقْدِ . وَأَبُو حَنِيفَةَ يُجَوِّزُ بَعْضَ ذَلِكَ وَيُجَوِّزُ مِنْ الْوِكَالَاتِ وَالشَّرِكَاتِ مَا لَا يُجَوِّزُهُ الشَّافِعِيُّ حَتَّى جَوَّزَ شَرِكَةَ الْمُفَاوَضَةِ وَالْوِكَالَةِ بِالْمَجْهُولِ الْمُطْلَقِ . وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : إنْ لَمْ تَكُنْ شَرِكَةُ الْمُفَاوَضَةِ بَاطِلَةً فَمَا أَعْلَمُ شَيْئًا بَاطِلًا . فَبَيْنَهُمَا فِي هَذَا الْبَابِ عُمُومٌ وَخُصُوصٌ لَكِنَّ أُصُولَ الشَّافِعِيِّ الْمُحَرَّمَةَ أَكْثَرُ مِنْ أُصُولِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي ذَلِكَ . وَأَمَّا مَالِكٌ : فَمَذْهَبُهُ أَحْسَنُ الْمَذَاهِبِ فِي هَذَا . فَيُجَوِّزُ بَيْعَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَجَمِيعَ مَا تَدْعُو إلَيْهِ الْحَاجَةُ أَوْ يَقِلّ غَرَرُهُ بِحَيْثُ يُحْتَمَلُ فِي الْعُقُودِ حَتَّى يُجَوِّزَ بَيْعَ المقاثي جُمْلَةً وَبَيْعَ الْمُغَيَّبَاتِ فِي الْأَرْضِ كَالْجَزَرِ وَالْفُجْلِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَأَحْمَد قَرِيبٌ مِنْهُ فِي ذَلِكَ فَإِنَّهُ يُجَوِّزُ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ وَيُجَوِّزُ - عَلَى الْمَنْصُوصِ عَنْهُ - أَنْ يَكُونَ الْمَهْرُ عَبْدًا مُطْلَقًا أَوْ عَبْدًا مِنْ عَبِيدِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا لَا تَزِيدُ جَهَالَتُهُ عَلَى مَهْرِ الْمِثْلِ ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِهِ مَنْ يُجَوِّزُ الْمُبْهَمَ دُونَ الْمُطْلَقِ كَأَبِي الْخَطَّابِ . وَمِنْهُمْ مَنْ يُوَافِقُ الشَّافِعِيَّ .(1/86)
فَلَا يُجَوِّزُ فِي الْمَهْرِ وَفِدْيَةِ الْخُلْعِ وَنَحْوِهِمَا إلَّا مَا يُجَوِّزُ فِي الْمَبِيعِ كَأَبِي بَكْرٍ عَبْدِ الْعَزِيزِ : وَيُجَوِّزُ - عَلَى الْمَنْصُوصِ عَنْهُ - فِي فِدْيَةِ الْخُلْعِ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ حَتَّى مَا يَجُوزُ فِي الْوَصِيَّةِ وَإِنْ لَمْ يَجُزْ فِي الْمَهْرِ كَقَوْلِ مَالِكٍ مَعَ اخْتِلَافٍ فِي مَذْهَبِهِ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ لَكِنَّ الْمَنْصُوصَ عَنْهُ : أَنَّهُ لَا يُجَوِّزُ بَيْعَ الْمُغَيَّبِ فِي الْأَرْضِ كَالْجَزَرِ وَنَحْوِهِ إلَّا إذَا قُلِعَ . وَقَالَ : هَذَا الْغَرَرُ شَيْءٌ لَيْسَ يَرَاهُ كَيْفَ يَشْتَرِيهِ ؟ وَالْمَنْصُوصُ عَنْهُ : أَنَّهُ لَا يُجَوِّزُ بَيْعَ الْقِثَّاءِ وَالْخِيَارِ وَالْبَاذِنْجَانِ وَنَحْوِهِ إلَّا لَقْطَةً لَقْطَةً وَلَا يُبَاعُ مِنْ المقاثي وَالْمَبَاطِخِ إلَّا مَا ظَهَرَ دُونَ مَا بَطَنَ وَلَا تُبَاعُ الرُّطَبَةُ إلَّا جِزَّةً جِزَّةً كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ غَرَرٌ ، وَهُوَ بَيْعُ الثَّمَرَةِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا . ثُمَّ اخْتَلَفَ أَصْحَابُهُ فَأَكْثَرُهُمْ أَطْلَقُوا ذَلِكَ فِي كُلِّ مُغَيَّبٍ كَالْجَزَرِ وَالْفُجْلِ وَالْبَصَلِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ . كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ . وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ : إذَا كَانَ مِمَّا يَقْصِدُ فُرُوعَهُ وَأُصُولَهُ كَالْبَصَلِ الْمَبِيعِ أَخْضَرَ وَالْكُرَّاثِ وَالْفُجْلِ أَوْ كَانَ الْمَقْصُودُ فُرُوعَهُ . فَالْأَوْلَى جَوَازُ بَيْعِهِ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ ظَاهِرٌ .(1/87)
فَأَشْبَهَ الشَّجَرَ وَالْحِيطَانَ وَيَدْخُلُ مَا لَمْ يَظْهَرْ فِي الْمَبِيعِ تَبَعًا ، وَإِنْ كَانَ مُعْظَمُ الْمَقْصُودِ مِنْهُ أُصُولَهُ لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ فِي الْأَرْضِ ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ لِلْأَغْلَبِ وَإِنْ تَسَاوَيَا لَمْ يَجُزْ أَيْضًا لِأَنَّ الْأَصْلَ اعْتِبَارُ الشَّرْطِ وَإِنَّمَا سَقَطَ فِي الْأَقَلِّ التَّابِعُ . وَكَلَامُ أَحْمَد يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ . فَإِنَّ أَبَا داود قَالَ . قُلْت لِأَحْمَدَ : بَيْعُ الْجَزَرِ فِي الْأَرْضِ ؟ قَالَ : لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ إلَّا مَا قُلِعَ مِنْهُ . هَذَا الْغَرَرُ شَيْءٌ لَيْسَ يَرَاهُ . كَيْفَ يَشْتَرِيهِ ؟ فَعَلَّلَ بِعَدَمِ الرُّؤْيَةِ . فَقَدْ يُقَالُ : إنْ لَمْ يُرَ كُلَّهُ لَمْ يُبَعْ . وَقَدْ يُقَالُ : رُؤْيَةُ بَعْضِ الْمَبِيعِ تَكْفِي إذَا دَلَّتْ عَلَى الْبَاقِي كَرُؤْيَةِ وَجْهِ الْعَبْدِ . وَكَذَلِكَ اخْتَلَفُوا فِي المقاثي إذَا بِيعَتْ بِأُصُولِهَا . كَمَا هُوَ الْعَادَةُ غَالِبًا ، فَقَالَ قَوْمٌ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ : يَجُوزُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ بَيْعَ أُصُولِ الْخَضْرَاوَات . كَبَيْعِ الشَّجَرِ وَإِذَا بَاعَ الشَّجَرَةَ وَعَلَيْهَا الثَّمَرُ لَمْ يَبْدُ صَلَاحُهُ جَازَ ، فَكَذَلِكَ هَذَا . وَذَكَرَ أَنَّ هَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ . وَقَالَ الْمُتَقَدِّمُونَ : لَا يَجُوزُ بِحَالِ وَهُوَ مَعْنَى كَلَامِهِ وَمَنْصُوصُهُ . وَهُوَ إنَّمَا نَهَى عَمَّا يَعْتَادُهُ النَّاسُ وَلَيْسَتْ الْعَادَةُ جَارِيَةً فِي الْبِطِّيخِ وَالْقِثَّاءِ وَالْخِيَارِ أَنْ يُبَاعَ دُونَ عُرُوقِهِ .(1/88)
وَالْأَصْلُ الَّذِي قَاسُوا عَلَيْهِ مَمْنُوعٌ عِنْدَهُ ؛ فَإِنَّ الْمَنْصُوصَ عَنْهُ فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ وَإِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ فِي الشَّجَرِ الَّذِي عَلَيْهِ ثَمَرٌ لَمْ يَبْدُ صَلَاحُهُ : أَنَّهُ إنْ كَانَ الْأَصْلُ هُوَ مَقْصُودَهُ الْأَعْظَمُ جَازَ . وَأَمَّا إنْ كَانَ مَقْصُودُهُ الثَّمَرَةَ فَاشْتَرَى الْأَصْلَ مَعَهَا حِيلَةً : لَمْ يَجُزْ . وَكَذَلِكَ إذَا اشْتَرَى أَرْضًا وَفِيهَا زَرْعٌ أَوْ شَجَرٌ مُثْمِرٌ لَمْ يَبْدُ صَلَاحُهُ فَإِنْ كَانَتْ الْأَرْضُ هِيَ الْمَقْصُودَ : جَازَ دُخُولُ الثَّمَرِ وَالزَّرْعِ مَعَهَا تَبَعًا . وَإِنْ كَانَ الْمَقْصُودُ هُوَ الثَّمَرَ وَالزَّرْعَ فَاشْتَرَى الْأَرْضَ لِذَلِكَ : لَمْ يَجُزْ . وَإِذَا كَانَ هَذَا قَوْلَهُ فِي ثَمَرَةِ الشَّجَرِ فَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ المقاثي وَالْمَبَاطِخِ إنَّمَا هُوَ الْخَضْرَاوَات دُونَ الْأُصُولِ الَّتِي لَيْسَ لَهَا إلَّا قِيمَةٌ يَسِيرَةٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْخُضَرِ . وَقَدْ خَرَّجَ ابْنُ عَقِيلٍ وَغَيْرُهُ فِيهَا وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : كَمَا فِي جَوَازِ بَيْعِ الْمُغَيَّبَاتِ بِنَاءً عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ فِي بَيْعِ مَا لَمْ يَرَهُ . وَلَا شَكَّ أَنَّهُ ظَاهِرٌ فَإِنَّ الْمَنْعَ إنَّمَا يَكُونُ عَلَى قَوْلِنَا : لَا يَصِحُّ بَيْعُ مَا لَمْ يَرَهُ . فَإِذَا صَحَّحْنَا بَيْعَ الْغَائِبِ فَهَذَا مِنْ الْغَائِبِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُهَا مُطْلَقًا كَمَذْهَبِ مَالِكٍ إلْحَاقًا لَهَا بِلُبِّ الْجَوْزِ .(1/89)
وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ قِيَاسُ أُصُولِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ لِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ أَهْلَ الْخِبْرَةِ يَسْتَدِلُّونَ بِرُؤْيَةِ وَرِقِ هَذِهِ الْمَدْفُونَاتِ عَلَى حَقِيقَتِهَا وَيَعْلَمُونَ ذَلِكَ أَجْوَدَ مِمَّا يَعْلَمُونَ الْعَبْدَ بِرُؤْيَةِ وَجْهِهِ . وَالْمَرْجِعُ فِي كُلِّ شَيْءٍ إلَى الصَّالِحِينَ مِنْ أَهْلِ الْخِبْرَةِ بِهِ وَهُمْ يُقِرُّونَ بِأَنَّهُمْ يَعْرِفُونَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ كَمَا يُعْرَفُ غَيْرُهَا مِمَّا اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى جَوَازِ بَيْعِهِ وَأَوْلَى . الثَّانِي : أَنَّ هَذَا مِمَّا تَمَسُّ حَاجَةُ النَّاسِ إلَى بَيْعِهِ ؛ فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يُبَعْ حَتَّى يُقْلَعَ حَصَلَ عَلَى أَصْحَابِهِ ضَرَرٌ عَظِيمٌ ؛ فَإِنَّهُ قَدْ يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِمْ مُبَاشَرَةُ الْقَلْعِ وَالِاسْتِنَابَةِ فِيهِ . وَإِنْ قَلَعُوهُ جُمْلَةً فَسَدَ بِالْقَلْعِ . فَبَقَاؤُهُ فِي الْأَرْضِ كَبَقَاءِ الْجَوْزِ وَاللَّوْزِ وَنَحْوِهِمَا فِي قِشْرِهِ الْأَخْضَرِ . وَأَحْمَد وَغَيْرُهُ مِنْ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ يُجَوِّزُونَ الْعَرَايَا مَعَ مَا فِيهَا مِنْ الْمُزَابَنَةِ لِحَاجَةِ الْمُشْتَرِي إلَى أَكْلِ الرُّطَبِ أَوْ الْبَائِعِ إلَى أَكْلِ التَّمْرِ ، فَحَاجَةُ الْبَائِعِ هُنَا أَوْكَدُ بِكَثِيرِ . وَسَنُقَرِّرُ ذَلِكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى . وَكَذَلِكَ قِيَاسُ أُصُولِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ مِنْ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ : جَوَازُ بَيْعِ المقاثي بَاطِنَهَا وَظَاهِرَهَا . وَإِنْ اشْتَمَلَ ذَلِكَ عَلَى بَيْعٍ مَعْدُومٍ إذَا بَدَا صَلَاحُهَا كَمَا يَجُوزُ بِالِاتِّفَاقِ إذَا بَدَا صَلَاحُ بَعْضِ نَخْلَةٍ أَوْ شَجَرَةٍ : أَنْ يُبَاعَ جَمِيعُ ثَمَرِهَا . وَإِنْ كَانَ فِيهَا مَا لَمْ يَصْلُحْ بَعْدُ .(1/90)
وَغَايَةُ مَا اعْتَذَرُوا بِهِ عَنْ خُرُوجِ هَذَا مِنْ الْقِيَاسِ أَنْ قَالُوا : إنَّهُ لَا يُمْكِنُ إفْرَادُ الْبَيْعِ لِذَلِكَ مِنْ نَخْلَةٍ وَاحِدَةٍ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَفْرَدَ الْبُسْرَةَ بِالْعَقْدِ اخْتَلَطَتْ بِغَيْرِهَا فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ لِأَنَّ الْبُسْرَةَ تَصْفَرُّ فِي يَوْمِهَا . وَهَذَا بِعَيْنِهِ مَوْجُودٌ فِي المقثاة . وَقَدْ اعْتَذَرَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد عَنْ بَيْعِ الْمَعْدُومِ تَبَعًا بِأَنَّ مَا يَحْدُثُ مِنْ الزِّيَادَةِ فِي الثَّمَرَةِ بَعْدَ الْعَقْدِ لَيْسَ بِتَابِعٍ لِلْمَوْجُودِ ؛ وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ لِلْمُشْتَرِي ؛ لِأَنَّهُ مَوْجُودٌ فِي مِلْكِهِ . وَالْجُمْهُورُ مِنْ الطَّائِفَتَيْنِ يَعْلَمُونَ فَسَادَ هَذَا الْعُذْرِ ؛ لِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْبَائِعِ سَقْيُ الثَّمَرَةِ وَيَسْتَحِقُّ إبْقَاءَهَا عَلَى الشَّجَرِ بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ وَلَوْ لَمْ يَسْتَحِقَّ الزِّيَادَةَ بِالْعَقْدِ لَمَّا وَجَبَ عَلَى الْبَائِعِ مَا بِهِ يُوجَدُ ؛ فَإِنَّ الْوَاجِبَ عَلَى الْبَائِعِ بِحُكْمِ الْبَيْعِ تَوْفِيَةُ الْمَبِيعِ الَّذِي أَوْجَبَهُ الْعَقْدُ ؛ لَا مَا كَانَ مِنْ مُوجِبَاتِ الْمِلْكِ .
الفتاوى الكبرى - (ج 5 / ص 300)
، وَجَوَازُ بَيْعِ الْمَقَاثِي بَاطِنِهَا وَظَاهِرِهَا وَإِنْ اشْتَمَلَ ذَلِكَ عَلَى بَيْعِ مَعْدُومٍ إذَا بَدَا صَلَاحُهَا ، كَمَا يَجُوزُ بِالِاتِّفَاقِ إذَا بَدَا صَلَاحُ بَعْضِ نَخْلَةٍ ، أَوْ شَجَرَةٍ أَنْ يُبَاعَ جَمِيعُ ثَمَرِهَا ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَمْ يَصْلُحْ بَعْدُ .(1/91)
وَغَايَةُ مَا اعْتَذَرُوا بِهِ عَنْ خُرُوجِ هَذَا مِنْ الْقِيَاسِ أَنْ قَالُوا إنَّهُ لَا يَكُنْ أَفْرَادُ الْبَيْعِ لِذَلِكَ مِنْ نَخْلَةٍ وَاحِدَةٍ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَفْرَدَ الْبُسْرَةَ بِالْعَقْدِ اخْتَلَطَتْ بِغَيْرِهَا فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ ؛ لِأَنَّ الْبُسْرَةَ تَصْفَرُّ فِي يَوْمِهَا ، وَهَذَا بِعَيْنِهِ مَوْجُودٌ فِي الْمَقْثَاةِ ، وَقَدْ اعْتَذَرَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ عَنْ بَيْعِ الْمَعْدُومِ تَبَعًا بِأَنَّ مَا يَحْدُثُ مِنْ الزِّيَادَةِ فِي الثَّمَرِ بَعْدَ الْعَقْدِ لَيْسَ تَابِعًا لِلْمَوْجُودِ ، وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ لِلْمُشْتَرِي ؛ لِأَنَّهُ مَوْجُودٌ فِي مِلْكِهِ ، وَالْجُمْهُورُ مِنْ الطَّائِفَتَيْنِ يَعْلَمُونَ فَسَادَ هَذَا الْعُذْرِ ؛ لِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْبَائِعِ سَقْيُ الثَّمَرَةِ ، وَيُسْتَحَقُّ إبْقَاؤُهَا عَلَى الشَّجَرِ بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ ، وَلَوْ لَمْ يُسْتَحَقَّ الزِّيَادَةُ بِالْعَقْدِ لَمَا وَجَبَ عَلَى الْبَائِعِ مَا بِهِ يُوجَدُ ، فَإِنَّ الْوَاجِبَ عَلَى الْبَائِعِ بِحُكْمِ الْبَيْعِ بِوَقْتِهِ الْمَبِيعُ الَّذِي أَوْجَبَهُ الْعَقْدُ ، لَا مَا كَانَ مِنْ مُوجِبَاتِ الْمِلْكِ ، وَأَيْضًا فَإِنَّ الرِّوَايَةَ اخْتَلَفَتْ عَنْ أَحْمَدَ ، إذَا بَدَا الصَّلَاحُ فِي حَدِيقَةٍ مِنْ الْحَدَائِقِ ، هَلْ يَجُوزُ بَيْعُ جَمِيعِهَا أَمْ لَا يُبَاعُ إلَّا مَا صَلُحَ مِنْهَا ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ : أَشْهَرُهُمَا عَنْهُ : أَنَّهُ لَا يُبَاعُ إلَّا مَا بَدَا صَلَاحُهُ ، وَهِيَ اخْتِيَارُ قُدَمَاءِ أَصْحَابِهِ ، كَأَبِي بَكْرٍ وَابْنِ شَاقِلَا .(1/92)
الثَّانِيَةُ : يَكُونُ بُدُوُّ الصَّلَاحِ فِي الْبَعْضِ صَلَاحًا لِلْجَمِيعِ ، وَهِيَ اخْتِيَارُ أَكْثَرِ أَصْحَابِهِ كَابْنِ حَامِدٍ وَالْقَاضِي مِنْ بَعْدِهِمَا ، ثُمَّ الْمَنْصُوصُ عَنْهُ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ قَالَ : إذَا كَانَ فِي بُسْتَانٍ بَعْضُهُ بَالِغٌ وَغَيْرُ بَالِغٍ يَبِيعُ إذَا كَانَ الْأَغْلَبُ عَلَيْهِ الْبُلُوغُ ، فَمِنْهُمْ كَالْقَاضِي وَأَبِي حَكِيمٍ النِّهْرَوَانِيِّ وَأَبِي الْبَرَكَاتِ وَغَيْرِهِمْ ، مَنْ قَصَرَ الْحُكْمَ بِمَا إذَا غَلَبَ الصَّلَاحُ وَمِنْهُمْ مَنْ يُسَوِّي بَيْنَ الصَّلَاحِ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ كَأَبِي الْخَطَّابِ وَجَمَاعَاتٍ ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ ، وَاللَّيْثِ وَزَادَ مَالِكٌ فَقَالَ يَكُونُ صَلَاحًا لِمَا جَاوَرَهُ مِنْ الْأَفْرِحَةِ ، وَحَكَوْا ذَلِكَ رِوَايَةً عَنْ أَحْمَدَ ، وَاخْتَلَفَ هَؤُلَاءِ هَلْ يَكُونُ صَلَاحُ النَّوْعِ كَالْبَرْنِيِّ مِنْ الرُّطَبِ إصْلَاحًا لِسَائِرِ أَنْوَاعِ الرُّطَبِ ، عَلَى وَجْهَيْنِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ : أَحَدُهُمَا : الْمَنْعُ وَهُوَ قَوْلُ الْقَاضِي ابْنِ عَقِيلٍ ، وَأَبِي مُحَمَّدٍ .
وَالثَّانِي : الْجَوَازُ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ الْخَطَّابِ ، وَزَادَ اللَّيْثُ عَلَى هَؤُلَاءِ فَقَالَ : صَلَاحُ الْجِنْسِ كَالتُّفَّاحِ وَاللَّوْزِ يَكُونُ صَلَاحًا لِسَائِرِ أَجْنَاسِ الثِّمَارِ ، وَمَأْخَذُ مَنْ جَوَّزَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْحَاجَةَ تَدْعُو إلَى ذَلِكَ ، فَإِنَّ بَيْعَ بَعْضِ ذَلِكَ دُونَ بَعْضٍ يُفْضِي إلَى سُوءِ الْمُشَارَكَةِ ، وَاخْتِلَافِ الْأَيْدِي ، وَهَذِهِ عِلَّةُ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الْبُسْتَانِ الْوَاحِدِ وَالْبَسَاتِينِ ، وَمَنْ سَوَّى بَيْنَهُمَا .(1/93)
قَالَ : الْمَقْصُودُ الْأَمْنُ مِنْ الْعَاهَةِ ، وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِشُرُوعِ الثَّمَرِ فِي الصَّلَاحِ ، وَمَأْخَذُ مَنْ مَنَعَ ذَلِكَ أَنَّ قَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهَا يَقْتَضِي بُدُوَّ صَلَاحِ الْجَمِيعِ .
وَالْغَرَضُ مِنْ هَذِهِ الْمَذَاهِبِ أَنَّ مَنْ جَوَّزَ بَيْعَ الْبُسْتَانِ مِنْ الْجِنْسِ الْوَاحِدِ لِبُدُوِّ الصَّلَاحِ فِي بَعْضِهِ ، فَقِيَاسُ قَوْلِهِ جَوَازُ بَيْعِ الْمَقْثَاةِ إذَا بَدَا صَلَاحُ بَعْضِهَا وَالْمَعْدُومُ هُنَا فِيهَا كَالْمَعْدُومِ مِنْ أَجْزَاءِ الثَّمَرَةِ ، فَإِنَّ الْحَاجَةَ تَدْعُو إلَى ذَلِكَ أَكْثَرَ ، إذْ تَفْرِيقُ الْأَشْجَارِ فِي الْبَيْعِ أَيْسَرُ مِنْ تَفْرِيقِ الْبِطِّيخَاتِ وَالْقِثَّاتِ وَالْخِيَارَاتِ ، وَتَمْيِيزُ اللُّقَطَةِ عَنْ اللُّقَطَةِ لَوْ لَمْ يَشُقَّ فَإِنَّهُ دَامِرٌ لَا يَنْضَبِطُ ، فَإِنَّ اجْتِهَادَ النَّاسِ فِي ذَلِكَ مُتَفَاوِتٌ وَالْغَرَضُ بِهَذَا أَنَّ أُصُولَ أَحْمَدَ تَقْتَضِي مُوَافَقَةَ مَالِكٍ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ ، كَمَا قَدْ رُوِيَ عَنْهُ فِي بَعْضِ الْجَوَابَاتِ ، أَوْ قَدْ خَرَّجَهُ أَصْحَابُهُ عَلَى أُصُولِهِ ، وَكَمَا أَنَّ الْعَالِمَ مِنْ الصَّحَابَةِ ، وَالتَّابِعِينَ ، وَالْأَئِمَّةِ كَثِيرًا مَا يَكُونُ لَهُ فِي الْمَسْأَلَةِ الْوَاحِدَةِ قَوْلَانِ فِي وَقْتَيْنِ ، فَكَذَلِكَ يَكُونُ لَهُ فِي النَّوْعِ الْوَاحِدِ مِنْ الْمَسَائِلِ قَوْلَانِ فِي وَقْتَيْنِ ، فَيُجِيبُ فِي بَعْضِ أَفْرَادِهِ بِجَوَابٍ فِي وَقْتٍ ، وَيُجِيبُ فِي بَعْضٍ بِجَوَابٍ آخَرَ فِي وَقْتٍ آخَرَ ، وَإِذَا كَانَتْ الْأَفْرَادُ مُسْتَوِيَةً ، وَكَانَ لَهُ فِيهَا قَوْلَانِ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا فَرْقٌ يَذْهَبُ إلَيْهِ مُجْتَهِدٌ فَقَوْلُهُ فِيهَا وَاحِدٌ بِلَا خِلَافٍ ،(1/94)
وَإِنْ كَانَ مِمَّا قَدْ يَذْهَبُ إلَيْهِ مُجْتَهِدٌ .
فَقَالَتْ طَائِفَةٌ ، مِنْهُمْ أَبُو الْخَطَّابِ : لَا يَخْرُجُ ، وَقَالَ الْجُمْهُورُ ، كَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى : يَخْرُجُ الْجَوَابُ إذَا لَمْ يَكُنْ هُوَ مِمَّنْ يَذْهَبُ إلَى الْفَرْقِ كَمَا اقْتَضَتْهُ أُصُولُهُ ، وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُخَرِّجُ الْجَوَابَ إذَا رَآهُمَا مُسْتَوِيَيْنِ ، وَإِنْ لَمْ يَعُمَّ ، هَلْ هُوَ مِمَّنْ يُفَرَّقُ أَمْ لَا ؟ وَإِنْ فُرِّقَ بَيْنَ بَعْضِ الْأَفْرَادِ وَبَعْضٍ مُسْتَحْضِرًا لَهُمَا ، كَانَ سَبَبُ الْفَرْقِ مَأْخَذًا شَرْعِيًّا كَانَ الْفَرْقُ قَوْلَهُ ، وَإِنْ كَانَ مَأْخَذًا عَادِيًا أَوْ حِسِّيًّا وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا قَدْ يَكُونُ أَهْلُ الْخِبْرَةِ أَعْلَمَ بِهِ مِنْ الْفُقَهَاءِ الَّذِينَ لَمْ يُبَاشِرُوا ذَلِكَ ، فَهَذَا فِي الْحَقِيقَةِ لَا يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا شَرْعًا ، وَإِنَّمَا هُوَ أَمْرٌ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا لَمْ يَعْلَمْهُ الْعَالِمُ ، فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِأَمْرِ دُنْيَاكُمْ ، فَأَمَّا مَا كَانَ مِنْ أَمْرِ دِينِكُمْ فَإِلَيَّ } .(1/95)
وَهَذَا الِاخْتِلَافُ فِي عَيْنِ الْمَسْأَلَةِ أَوْ نَوْعِهَا مِنْ الْعِلْمِ قَدْ يُسَمَّى تَنَاقُضًا أَيْضًا ؛ لِأَنَّ التَّنَاقُضَ اخْتِلَافُ مَقَالَتَيْنِ بِالنَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ ، فَإِذَا كَانَ فِي وَقْتٍ قَدْ قَالَ إنَّ هَذَا حَرَامٌ ، وَقَالَ فِي وَقْتٍ آخَرَ فِيهِ أَوْ فِي مِثْلِهِ إنَّهُ لَيْسَ بِحَرَامٍ ، أَوْ قَالَ مَا يَسْتَلْزِمُ أَنَّهُ لَيْسَ بِحَرَامٍ فَقَدْ يُنَاقِضُ قَوْلَاهُ ، وَهُوَ مُصِيبٌ فِي كِلَاهُمَا عِنْدَ مَنْ يَقُولُ إنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ ، كَأَنَّهُ لَيْسَ لِلَّهِ فِي الْبَاطِنِ حُكْمٌ عَلَى الْمُجْتَهِدِ غَيْرَ مَا اعْتَقَدَهُ .
وَأَمَّا الْجُمْهُورُ الَّذِينَ يَقُولُونَ إنَّ لِلَّهِ حُكْمًا فِي الْبَاطِنِ عَلِمَهُ الْعَالِمُ فِي إحْدَى الْمَقَالَتَيْنِ ، وَلَمْ يَعْلَمْهُ فِي الْمُقْبِلَةِ الَّتِي يُنَاقِضُهَا ، وَعَدَمُ عِلْمِهِ مَعَ اجْتِهَادِهِ مَغْفُورٌ لَهُ مَعَ مَا يُثَابُ عَلَيْهِ مِنْ قَصْدِهِ الْحَقَّ وَاجْتِهَادِهِ فِي طَلَبِهِ ، وَلِهَذَا شَبَّهَ بَعْضُهُمْ تَعَارُضَ الِاجْتِهَادَاتِ مِنْ الْعُلَمَاءِ بِالنَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ فِي شَرَائِعِ الْأَنْبِيَاءِ ، مَعَ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ الثَّابِتِ بِخِطَابِ حُكْمِ اللَّهِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا بِخِلَافِ أَحَدِ قَوْلَيْ الْعَالِمِ الْمُتَنَاقِضِ ، هَذَا فِيمَنْ يَتَّقِي اللَّهَ فِيمَا يَقُولُهُ مَعَ عِلْمِهِ بِتَقْوَاهُ وَسُلُوكِهِ الطَّرِيقَ الْمُرْسَلَ ، وَأَمَّا أَهْلُ الْأَهْوَاءِ وَالْخُصُومَاتِ فَهُمْ مَذْمُومُونَ فِي مُنَاقَضَاتِهِمْ ؛ لِأَنَّهُمْ يَتَكَلَّمُونَ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا قَصْدٍ لِمَا يَجِبُ قَصْدُهُ .
وَعَلَى هَذَا فَإِنَّ لَازِمَ قَوْلِ الْإِنْسَانِ نَوْعَانِ .(1/96)
أَحَدُهُمَا : لَازِمُ قَوْلِهِ الْحَقُّ فَهَذَا مِمَّا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَلْتَزِمَهُ ، فَإِنَّ لَازِمَ الْحَقِّ حَقٌّ وَيَجُوزُ أَنْ يُضَافَ إلَيْهِ إذَا عُلِمَ مِنْ حَالِهِ أَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ مِنْ الْتِزَامِهِ بَعْدَ ظُهُورِهِ .
وَكَثِيرًا مَا يُضِيفُ النَّاسُ إلَى مَذْهَبِ الْأَئِمَّةِ مِنْ هَذَا الْبَابِ .
وَالثَّانِي : لَازِمُ قَوْلِهِ الَّذِي لَيْسَ بِحَقٍّ ، فَهَذَا لَا يَجِبُ الْتِزَامُهُ إذْ أَكْثَرُ مَا فِيهِ أَنَّهُ قَدْ تَنَاقَضَ وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ التَّنَاقُضَ وَاقِعٌ مِنْ كُلِّ عَالِمٍ غَيْرِ النَّبِيِّينَ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ .(1/97)
ثُمَّ إنَّ مَنْ عُرِفَ مِنْ حَالِهِ أَنَّهُ يَلْتَزِمُهُ بَعْدَ ظُهُورِهِ لَهُ فَقَدْ يُضَافُ إلَيْهِ ، وَإِلَّا فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُضَافَ إلَيْهِ قَوْلٌ لَوْ ظَهَرَ لَهُ لَمْ يَلْتَزِمْهُ لِكَوْنِهِ قَدْ قَالَ مَا يَلْزَمُهُ وَهُوَ لَا يَشْعُرُ بِفَسَادِ ذَلِكَ الْقَوْلِ وَلَا يُلَازِمُهُ وَهَذَا التَّفْضِيلُ فِي اخْتِلَافِ النَّاسِ فِي لَازِمِ الْمَذْهَبِ ، هَلْ هُوَ مَذْهَبٌ أَوْ لَيْسَ بِمَذْهَبٍ هُوَ أَجْوَدُ مِنْ إطْلَاقِ أَحَدِهِمَا ، فَمَا كَانَ مِنْ اللَّوَازِمِ يَرْضَى الْقَائِلُ بَعْدَ وُضُوحِهِ بِهِ فَهُوَ قَوْلُهُ ، وَمَا لَا يَرْضَاهُ فَلَيْسَ قَوْلَهُ ، وَإِنْ كَانَ مُتَنَاقِضًا وَهُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ اللَّازِمِ الَّذِي يَجِبُ الْتِزَامُهُ مَعَ الْمَلْزُومِ ، وَاللَّازِمِ الَّذِي يَجِبُ تَرْكُ الْمَلْزُومِ لِلُزُومِهِ ، وَهَذَا مُتَوَجَّهٌ فِي اللَّوَازِمِ الَّتِي لَمْ يُصَرِّحْ هُوَ بِعَدَمِ لُزُومِهَا ، فَأَمَّا إذَا نَفَى هُوَ اللُّزُومَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُضَافَ إلَيْهِ اللَّازِمُ بِحَالٍ ، وَإِلَّا أُضِيفَ إلَى كُلِّ عَالِمٍ مَا اعْتَقَدْنَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَهُ ، لِكَوْنِهِ مُلْتَزِمًا لِرِسَالَتِهِ .(1/98)
فَلَمَّا لَمْ يُضِفْ إلَيْهِ مَا نَفَاهُ عَنْ الرَّسُولِ وَإِنْ كَانَ لَازِمًا لَهُ ، ظَهَرَ الْفَرْقُ بَيْنَ اللَّازِمِ الَّذِي لَمْ يَنْفِهِ وَاللَّازِمِ الَّذِي نَفَاهُ ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهِ نَصَّ عَلَى الْحُكْمِ نَفْيَهُ لِلُّزُومِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ عَنْ اجْتِهَادٍ فِي وَقْتَيْنِ ، وَسَبَبُ الْفَرْقِ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ وَأَهْلِ الْأَهْوَاءِ مَعَ وُجُودِ الِاخْتِلَافِ فِي قَوْلِ كُلٍّ مِنْهُمَا أَنَّ الْعَالِمَ فَعَلَ مَا أُمِرَ بِهِ مِنْ الِاقْتِضَاءِ ، وَالِاجْتِهَادِ ، وَهُوَ مَأْمُورٌ فِي الظَّاهِرِ بِاعْتِقَادِ مَا قَامَ دَلِيلُهُ .
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُطَابِقًا لَكِنْ اعْتِقَادًا لَيْسَ بِيَقِينٍ ، كَمَا يُؤْمَرُ الْحَاكِمُ بِتَصْدِيقِ الشَّاهِدَيْنِ ذَوِي الْعَدْلِ ، وَإِنْ كَانَا فِي الْبَاطِنِ قَدْ أَخْطَآ أَوْ كَذَبَا وَكَمَا يُؤْمَرُ الْمُفْتِي بِتَصْدِيقِ الْمُخْبِرِ الْعَدْلِ الضَّابِطِ ، أَوْ بِاتِّبَاعِ الظَّاهِرِ فَيَعْتَقِدُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ ذَلِكَ ،وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ الِاعْتِقَادُ مُطَابِقًا فَالِاعْتِقَادُ الَّذِي يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ هُوَ الْمَأْمُورُ بِهِ الْعِبَادُ ، وَإِنْ كَانَ قَدْ يَكُونُ غَيْرَ مُطَابِقٍ وَلَمْ يُؤْمَرُوا فِي الْبَاطِنِ بِاعْتِقَادٍ غَيْرِ مُطَابِقٍ قَطُّ فَإِذَا اعْتَقَدَ الْعَالِمُ اعْتِقَادَيْنِ مُتَضَادَّيْنِ فِي قَضِيَّةٍ أَوْ قَضِيَّتَيْنِ مَعَ قَصْدِهِ الْحَقَّ وَاتِّبَاعِهِ لِمَا أُمِرْنَا بِاتِّبَاعِهِ مِنْ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ عُذِرَ بِمَا لَمْ يَعْلَمْهُ ، وَهُوَ الْخَطَأُ الْمَرْفُوعُ هُنَا بِخِلَافِ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ فَإِنَّهُمْ { إنْ يَتَّبِعُونَ إلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ } .(1/99)
وَيُحَرِّمُونَ بِمَا يَقُولُونَ جَزْمًا لَا يَقْبَلُ النَّقِيضَ مَعَ عَدَمِ الْعِلْمِ بِجَزْمِهِ ، فَيَعْتَقِدُونَ مَا لَمْ يُؤْمَرُوا بِاعْتِقَادِهِ لَا بَاطِنًا وَلَا ظَاهِرًا ، وَيَقْصِدُونَ مَا لَمْ يُؤْمَرُوا بِاقْتِصَادِهِ ، وَيَجْتَهِدُونَ اجْتِهَادًا لَمْ يُؤْمَرُوا بِهِ ، فَلَمْ يُصْدَرْ عَنْهُمْ مِنْ الِاجْتِهَادِ وَالِاقْتِصَادِ مَا يَقْتَضِي مَغْفِرَةَ مَا لَمْ يَعْلَمُوهُ ، فَكَانُوا ظَالِمِينَ تَشْبِيهًا بِالْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ ، وَجَاهِلِينَ شَبِيهًا بِالظَّالِمِينَ .
وَالْمُجْتَهِدُ الْمَحْضُ الِاجْتِهَادَ الْعِلْمِيَّ لَيْسَ لَهُ غَرَضٌ سِوَى الْحَقِّ وَقَدْ سَلَكَ سَبِيلَهُ ، وَأَمَّا مُتَّبِعُ الْهَوَى الْمَحْضِ فَهُوَ مَنْ يَعْلَمُ الْحَقَّ وَيُعَانِدُ عَنْهُ ، وَثَمَّ قِسْمٌ آخَرُ وَهْمٌ غَالِبٌ ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ لَهُ هَوًى فِيهِ شُبْهَةٌ فَيَجْمَعَ الشَّهْوَةَ وَالشُّبْهَةَ ، وَلِهَذَا جَاءَ فِي حَدِيثٍ مُرْسَلٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْبَصَرَ النَّاقِدَ عِنْدَ وُرُودِ الشُّبُهَاتِ وَيُحِبُّ الْعَقْلَ الْكَامِلَ عِنْدَ حُلُولِ الشَّهَوَاتِ } .
فَالْمُجْتَهِدُ الْمَحْضُ مَغْفُورٌ لَهُ وَمَأْجُورٌ ، وَصَاحِبُ الْهَوَى الْمَحْضِ مُسْتَوْجِبٌ لِلْعَذَابِ ، وَالْمُرَكَّبُ مِنْ شُبْهَةٍ وَهُوَ مُسِيءٌ ، وَهُمْ فِي ذَلِكَ عَلَى دَرَجَاتٍ بِحَسَبِ مَا يَغْلِبُ وَبِحَسَبِ الْحَسَنَاتِ الْمَاحِيَةِ ، وَأَكْثَرُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى فِقْهٍ أَوْ تَصَوُّفٍ مُبْتَلُونَ بِذَلِكَ .(1/100)
وَهَذَا الْقَوْلُ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ أُصُولُ مَالِكٍ وَأُصُولُ أَحْمَدَ وَبَعْضُ أُصُولِ غَيْرِهِمَا أَصَحُّ الْأَقْوَالِ ، وَعَلَيْهِ يَدُلُّ غَالِبُ مُعَامَلَاتِ السَّلَفِ ، وَلَا يَسْتَقِيمُ أَمْرُ النَّاسِ فِي مَعَايِشِهِمْ إلَّا بِهِ ، وَكُلُّ مَنْ شَرَعَ فِي تَحْرِيمِ مَا يَعْتَقِدُهُ غَرَرًا فَإِنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَضْطَرَّ إلَى إجَازَةِ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ ، فَإِمَّا أَنْ يَخْرُجَ عَنْ مَذْهَبِهِ الَّذِي يُقَلِّدُهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَإِمَّا أَنْ يَحْتَالَ ، وَقَدْ رَأَيْنَا النَّاسَ وَبَلَغَتْنَا أَخْبَارُهُمْ فَمَا عَلِمْنَا أَحَدًا الْتَزَمَ مَذْهَبَهُ فِي تَحْرِيمِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ وَلَا يُمْكِنُهُ ذَلِكَ ، وَنَحْنُ نَعْلَمُ قَطْعًا أَنَّ مَفْسَدَةَ التَّحْرِيمِ لَا تَزُولُ بِالْحِيلَةِ الَّتِي يَذْكُرُونَهَا ، فَمِنْ الْمُحَالِ أَنْ يُحَرِّمَ الشَّارِعُ عَلَيْنَا أَمْرًا نَحْنُ مُحْتَاجُونَ إلَيْهِ ، ثُمَّ لَا يُبِيحُهُ إلَّا بِحِيلَةٍ لَا فَائِدَةَ فِيهَا ، وَإِنَّمَا هِيَ مِنْ جِنْسِ اللَّعِبِ ، وَلَقَدْ تَأَمَّلْتُ أَغْلَبَ مَا وَقَعَ النَّاسُ فِي الْحِيَلِ فَوَجَدْتُهُ أَحَدَ شَيْئَيْنِ .
إمَّا ذُنُوبٌ جَوَّزُوا عَلَيْهَا تَضْيِيقًا فِي أُمُورِهِمْ ، وَلَمْ يَسْتَطِيعُوا دَفْعَهُ إلَّا بِالْحِيَلِ ، فَلَمْ يَزِدْهُمْ الْحِيَلُ إلَّا بَلَاءً كَمَا جَرَى لِأَصْحَابِ السَّبْتِ مِنْ الْيَهُودِ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : { فَبِظُلْمٍ مِنْ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ } .
وَهَذَا ذَنْبٌ عَمَلِيٌّ .(1/101)
وَإِمَّا مُبَالَغَةٌ فِي التَّشْدِيدِ لِمَا اعْتَبَرُوهُ مِنْ تَحْرِيمِ الشَّارِعِ فَاضْطَرَّهُمْ هَذَا الِاعْتِقَادُ إلَى الِاسْتِحْلَالِ بِالْحِيَلِ ؛ وَهَذَا مِنْ خَطَأِ الِاجْتِهَادِ ، وَإِلَّا فَمَنْ اتَّقَى اللَّهَ وَأَخَذَ مَا أَحَلَّ لَهُ وَأَدَّى مَا وَجَبَ عَلَيْهِ ، فَإِنَّهُ لَا يُحْوِجُهُ إلَى الْحِيَلِ الْمُبْتَدَعَةِ أَبَدًا ، فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمْ يَجْعَلْ عَلَيْنَا فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ .
وَإِنَّمَا بُعِثَ نَبِيُّنَا بِالْحَنَفِيَّةِ السَّمْحَةِ ، فَالسَّبَبُ الْأَوَّلُ هُوَ الظُّلْمُ ، وَالثَّانِي عَدَمُ الْعِلْمِ ، وَالظُّلْمُ وَالْجَهْلُ هُوَ وَصْفُ الْإِنْسَانِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْله تَعَالَى : { وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا } .
وَأَصْلُ هَذَا أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ، إنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْنَا الْمُحَرَّمَاتِ مِنْ الْأَعْيَانِ كَالدَّمِ وَالْمَيْتَةِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ ، أَوْ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ كَالْمَيْسِرِ وَالرِّبَا الَّذِي يَدْخُلُ فِيهِ بُيُوعُ الْغَرَرِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْمَفَاسِدِ الَّتِي نَبَّهَ اللَّهُ عَلَيْهَا وَرَسُولُهُ ، بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : { إنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلَاةِ } فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّ الْمَيْسِرَ يُوقِعُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ ، سَوَاءٌ كَانَ مَيْسِرًا بِالْمَالِ أَوْ بِاللَّعِبِ ، فَإِنَّ الْمُطَالَبَةَ بِلَا فَائِدَةٍ وَأَخْذَ الْمَالِ بِلَا حَقٍّ يُوقِعُ فِي النُّفُوسِ ذَلِكَ .(1/102)
وَكَذَلِكَ رَوَى فَقِيهِ الْمَدِينَةِ مِنْ الصَّحَابَةِ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، قَالَ كَانَ النَّاسُ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَبَايَعُونَ الثِّمَارَ فَإِذَا جَدَّ النَّاسُ وَحَضَرَ تَقَاضِيهِمْ قَالَ الْمُبْتَاعُ إنَّهُ أَصَابَ الثَّمَرَ دَمَانٌ ، أَصَابَهُ مَرَضٌ ، أَصَابَهُ قُشَامٌ ، عَاهَاتٌ يَحْتَجُّونَ بِهَا ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ، لَمَّا كَثُرَتْ عِنْدَهُ الْخُصُومَةُ فِي ذَلِكَ : { وَاَيْمُ اللَّهِ فَلَا تَتَبَايَعُوا حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُ الثَّمَرِ } .
كَالْمَشُورَةِ يُشِيرُ بِهَا لِكَثْرَةِ خُصُومَتِهِمْ .
وَذَكَرَ خَارِجَةُ بْنُ زَيْدٍ أَنَّ زَيْدًا لَمْ يَكُنْ يَبِيعُ ثِمَارَ أَرْضِهِ حَتَّى تَطْلُعَ الثُّرَيَّا فَيَتَبَيَّنَ الْأَحْمَرَ مِنْ الْأَصْفَرِ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ تَعْلِيقًا ، وَأَبُو دَاوُد إلَى قَوْلِهِ خُصُومَتِهِمْ ، وَرَوَى أَحْمَدُ فِي الْمُسْنَدِ عَنْهُ { قَالَ : قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ ، وَنَحْنُ نَتَبَايَعُ الثِّمَارَ قَبْلَ أَنْ يَبْدُوَ صَلَاحُهَا ، فَسَمِعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خُصُومَةً فَقَالَ : مَا هَذَا ؟ فَقِيلَ لَهُ : إنَّ هَؤُلَاءِ ابْتَاعُوا الثِّمَارَ يَقُولُونَ أَصَابَهَا الدَّمَانُ وَالْقُشَامُ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : فَلَا تَبَايَعُوهَا حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهَا } .(1/103)
فَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّ سَبَبَ نَهْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ مَا قَضَتْ إلَيْهِ مِنْ الْخِصَامُ ، وَهَكَذَا بُيُوعُ الْغَرَرِ وَقَدْ ثَبَتَ نَهْيُهُ عَنْ بَيْعِ الثِّمَارِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهَا فِي الصَّحِيحَيْنِ ، مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَجَابِرٍ وَأَنَسٍ ، وَفِي مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ ، وَفِي حَدِيثِ أَنَسٍ تَعْلِيلُهُ ، فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { نَهَى عَنْ بَيْعِ الثِّمَارِ حَتَّى تَزْهُوَ ، قِيلَ : وَمَا تَزْهُو ؟ ، قَالَ : حَتَّى تَحْمَرَّ أَوْ تَصْفَرَّ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَرَأَيْت إذَا مَنَعَ اللَّهُ الثَّمَرَةَ بِمَ يَأْخُذُ أَحَدُكُمْ مَالَ أَخِيهِ } .
وَفِي رِوَايَةٍ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ بَيْعِ الثَّمَرَةِ حَتَّى تَزْهُوَ فَقُلْنَا لِأَنَسٍ : مَا زَهْوُهَا ، قَالَ : تَحْمَرُّ أَوْ تَصْفَرُّ } .(1/104)
أَرَأَيْت أَنْ مَنَعَ اللَّهُ الثَّمَرَةَ بِمَ تَسْتَحِلُّ مَالَ أَخِيك ، قَالَ أَبُو مَسْعُودٍ الدِّمَشْقِيُّ : جَعَلَ مَالِكٌ والداروردي قَوْلَ أَنَسٍ أَرَأَيْت أَنْ مَنَعَ اللَّهَ الثَّمَرَةَ مِنْ حَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَدْرَجَهُ فِيهِ ، وَيَرَوْنَ أَنَّهُ غَلَطٌ فَهَذَا التَّعْلِيلُ ، سَوَاءٌ كَانَ مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ مِنْ كَلَامِ أَنَسٍ فِي بَيَانِ أَنَّ فِي ذَلِكَ أَكْلًا لِلْمَالِ بِالْبَاطِلِ ، حَيْثُ أَخَذَهُ فِي عَقْدِ مُعَاوَضَةٍ بِلَا عِوَضٍ ، وَإِذَا كَانَتْ مَفْسَدَةُ بَيْعِ الْغَرَرِ هِيَ كَوْنُهُ مَطِيَّةُ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ وَأَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ فَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذِهِ الْمَفْسَدَةَ إذَا عَارَضَهَا الْمَصْلَحَةُ الرَّاجِحَةُ قُدِّمَتْ عَلَيْهَا ، كَمَا أَنَّ السِّبَاقَ بِالْخَيْلِ وَالسِّهَامِ وَالْإِبِلِ كَانَ فِيهِ مَصْلَحَةٌ شَرْعِيَّةٌ جَازَ بِالْعِوَضِ ، وَإِنْ لَمْ يَجُزْ غَيْرُهُ بِعِوَضٍ ، وَكَمَا أَنَّ اللَّهْوَ الَّذِي يَلْهُو بِهِ الرَّجُلُ إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَنْفَعَةٌ فَهُوَ بَاطِلٌ ، وَإِنْ كَانَ مَنْفَعَةٌ وَهُوَ مَا ذَكَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ : { كُلُّ لَهْوٍ يَلْهُو بِهِ رَجُلٌ فَهُوَ بَاطِلٌ إلَّا رَمْيَهُ بِقَوْسِهِ وَتَأْدِيبَهُ فَرَسَهُ وَمُلَاعَبَتَهُ امْرَأَتَهُ فَإِنَّهُنَّ مِنْ الْحَقِّ } .(1/105)
صَارَ هَذَا اللَّهْوُ حَقًّا وَمَعْلُومٌ أَنَّ الضَّرَرَ عَلَى النَّاسِ بِتَحْرِيمِ هَذِهِ الْمُعَامَلَاتِ أَشَدُّ عَلَيْهِمْ مِمَّا قَدْ يَتَخَوَّفُ مِنْهَا مَنْ تَبَاغَضَ وَأَكَلَ مَالًا بِالْبَاطِلِ ؛ لِأَنَّ الْغُرُورَ فِيهَا يَسِيرٌ ، وَالْحَاجَةُ إلَيْهَا مَاسَّةٌ ، وَهِيَ تَنْدَفِعُ بِيَسِيرِ الْغَرَرِ ، وَالشَّرِيعَةُ جَمِيعُهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى أَنَّ الْمَفْسَدَةَ الْمُقْتَضِيَةَ لِلتَّحْرِيمِ إذَا عَارَضَتْهَا حَاجَةٌ رَاجِحَةٌ أُبِيحَ الْمُحَرَّمُ ، فَكَيْفَ إذَا كَانَتْ الْمَفْسَدَةُ مَنْفِيَّةً ، وَلِهَذَا لَمَّا كَانَتْ الْحَاجَةُ دَاعِيَةً إلَى بَقَائِهَا بَعْدَ الْبَيْعِ عَلَى الشَّجَرِ إلَى كَمَالِ الصَّلَاحِ أَبَاحَ الشَّرْعُ ذَلِكَ ، وَقَالَهُ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ كَمَا سَنُقَرِّبُ قَاعِدَتَهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
وَلِهَذَا كَانَ مَذْهَبُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَفُقَهَاءِ الْحَدِيثِ أَنَّهَا إذَا تَلِفَتْ بَعْدَ الْبَيْعِ بِجَائِحَةٍ كَانَتْ مِنْ ضَمَانِ الْبَائِعِ ، كَمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَوْ بِعْتَ مِنْ أَخِيك ثَمَرًا فَأَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ فَلَا يَحِلُّ لَك أَنْ تَأْخُذَ مِنْهُ شَيْئًا ، ثُمَّ تَأْخُذَ مَالَ أَخِيك بِغَيْرِ حَقٍّ } وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ عَنْهُ : { أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِوَضْعِ الْجَوَائِحِ } .(1/106)
وَالشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا لَمْ يَبْلُغْهُ هَذَا الْحَدِيثُ وَإِنَّمَا بَلَغَهُ حَدِيثٌ لِسُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ فِيهِ اضْطِرَابٌ ، أَخَذَ فِي ذَلِكَ بِقَوْلِ الْكُوفِيِّينَ إنَّهَا تَكُونُ مِنْ ضَمَانِ الْمُشْتَرِي لَا الْبَائِعِ ؛ لِأَنَّهَا قَدْ تَلِفَتْ بَعْدَ الْقَبْضِ ؛ لِأَنَّ التَّخْلِيَةَ بَيْنَ الْمُشْتَرِي وَبَيْنَهُ قَبْضٌ ، وَهَذَا عَلَى أَصْلِ الْكُوفِيِّينَ أَمْشَى ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَا يَمْلِكُ إبْقَاءَهُ عَلَى الشَّجَرِ ، وَإِنَّمَا مُوجِبُ الْعَقْدِ عِنْدَهُمْ الْقَبْضُ النَّاجِزُ بِكُلِّ حَالٍ وَهُوَ طَرْدٌ لِقِيَاسٍ سَنَذْكُرُ أَصْلَهُ وَضَعْفَهُ مِنْ أَنَّ مَصْلَحَةَ بَنِي آدَمَ لَا تَقُومُ عَلَى ذَلِكَ مَعَ ذَلِكَ .(1/107)
مَعَ أَنِّي لَا أَعْلَمُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُنَّةً صَرِيحَةً بِأَنَّ الْمَبِيعَ التَّالِفَ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْ الْقَبْضِ يَكُونُ مِنْ مَالِ الْبَائِعِ ، وَيَنْفَسِخُ الْعَقْدُ بِتَلَفِهِ إلَّا حَدِيثَ الْجَوَائِحِ هَذَا ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ سُنَّةٌ لَكَانَ الِاعْتِبَارُ الصَّحِيحُ يُوَافِقُهُ ، وَهُوَ مَا نَبَّهَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { بِمَ يَأْخُذُ أَحَدُكُمْ مَالَ أَخِيهِ بِغَيْرِ حَقٍّ } ، فَإِنَّ الْمُشْتَرِيَ لِلثَّمَرَةِ إنَّمَا يَتَمَكَّنُ مِنْ جَدَادِهَا عِنْدَ كَمَالِهَا لَا عَقِبَ الْعَقْدِ ، كَمَا أَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ إنَّمَا يَتَمَكَّنُ مِنْ اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ شَيْئًا فَشَيْئًا فَتَلَفُ الثَّمَرَةِ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْ الْجَدَادِ كَتَلَفِ الْعَيْنِ الْمُؤَجَّرَةِ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْ اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ ، وَفِي الْإِجَارَةِ يَنْفَكُّ ضَمَانُ الْمُؤَجَّرِ بِالِاتِّفَاقِ ، فَكَذَلِكَ فِي الْبَيْعِ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ لَمْ يَمْلِكْ الْمَنْفَعَةَ ، وَأَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَمْ يَمْلِكْ الْإِبْقَاءَ ، وَهَذَا الْفَرْقُ لَا يَقُولُ بِهِ الشَّافِعِيُّ ، وَسَنَذْكُرُ أَصْلَهُ .(1/108)
فَلَمَّا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ نَهَى عَنْ بَيْعِهَا حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهَا ، وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا تَبَايَعُوا الثَّمَرَ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهُ وَتَذْهَبَ عَنْهُ الْآفَةُ } وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ عَنْهُ : { نَهَى عَنْ بَيْعِ النَّخْلِ حَتَّى تَزْهُوَ ، وَعَنْ السُّنْبُلِ حَتَّى يَبْيَضَّ وَيَأْمَنَ الْعَاهَةَ } ، نَهَى الْبَائِعَ وَالْمُشْتَرِيَ ، وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ : { نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ النَّخْلِ حَتَّى يُحْرَزَ مِنْ كُلِّ عَارِضٍ } ، فَمَعْلُومٌ أَنَّ الْعِلَّةَ لَيْسَتْ كَوْنَهُ كَانَ مَعْدُومًا فَإِنَّهُ بَعْدَ بُدُوِّ صَلَاحِهِ وَأَمْنِهِ الْعَاهَةَ يُرِيدُ أَجْزَاءَ لَمْ تَكُنْ مَوْجُودَةً وَقْتَ الْعَقْدِ ، وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ الْأَمْنَ مِنْ الْعَاهَاتِ النَّادِرَةِ ، فَإِنَّ هَذَا لَا سَبِيلَ إلَيْهِ إذْ قَدْ يُصِيبُهَا مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ عَنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ الَّذِينَ : { أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ ، وَلَا يَسْتَثْنُونَ } وَمَا ذَكَرَهُ فِي سُورَةِ يُونُسَ فِي قَوْلِهِ : { حَتَّى إذَا أَخَذَتْ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ } وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ ذَهَابُ الْعَاهَةِ الَّتِي يَتَكَرَّرُ وِرْدُهَا ؛ وَهَذِهِ إنَّمَا تُصِيبُهُ بَلْ اشْتِدَادُ الْحَبِّ وَقَبْلَ ظُهُورِ النُّضْجِ فِي الثَّمَرِ ، إذْ الْعَاهَةُ بَعْدَ ذَلِكَ نَادِرَةٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا قَبْلَهُ ، وَلِأَنَّهُ لَوْ مَنَعَ(1/109)
بَيْعَهُ بَعْدَ هَذِهِ الْغَايَةِ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَقْتٌ يَجُوزُ بَيْعُهُ إلَى حِينِ كَمَالِ الصَّلَاحِ وَبَيْعُ الثَّمَرِ عَلَى الشَّجَرِ بَعْدَ كَمَالِ صَلَاحِهِ مُتَعَذِّرٌ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَكْمُلُ جُمْلَةً وَاحِدَةً ، وَإِيجَابُ قَطْعِهِ عَلَى مَالِكِهِ فِيهِ ضَرَرٌ وَمُرَتَّبٌ عَلَى ضَرَرِ الْغَرَرِ .
فَتَبَيَّنَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدَّمَ مَصْلَحَةَ جَوَازِ الْبَيْعِ الَّذِي يُحْتَاجُ إلَيْهِ عَلَى مَفْسَدَةِ الْغَرَرِ الْيَسِيرِ كَمَا تَقْتَضِيهِ أُصُولُ الْحِكْمَةِ الَّتِي بُعِثَ بِهَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَّمَهَا أُمَّتَهُ ، وَمَنْ طَرَدَ الْقِيَاسَ الَّذِي انْعَقَدَ فِي نَفْسِهِ غَيْرَ نَاظِرٍ إلَى مَا يُعَارَضُ عَلَيْهِ مِنْ الْمَانِعِ الرَّاجِحِ أَفْسَدَ كَثِيرًا مِنْ أَمْرِ الدِّينِ وَضَاقَ عَلَيْهِ عَقْلُهُ وَدِينُهُ ، وَأَيْضًا فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي رَافِعٍ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَلَفَ مِنْ رَجُلٍ بَكْرًا فَقَدِمَتْ عَلَيْهِ إبِلٌ مِنْ إبِلِ الصَّدَقَةِ ، فَأَمَرَ أَبَا رَافِعٍ أَنْ يَقْضِيَ الرَّجُلَ بَكْرَهُ ، فَرَجَعَ إلَيْهِ أَبُو رَافِعٍ فَقَالَ : لَمْ أَجِدْ فِيهَا إلَّا خِيَارًا رَبَاعِيًا ، فَقَالَ : أَعْطِهِ إيَّاهُ فَإِنَّ خَيْرَ النَّاسِ أَحْسَنُهُمْ قَضَاءً } .(1/110)
فَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ اقْتِرَاضِ مَا سِوَى الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ مِنْ الْحَيَوَانِ وَنَحْوِهِ ، كَمَا عَلَيْهِ فُقَهَاءُ الْحِجَازِ ، وَالْحَدِيثُ خِلَافًا لِمَنْ قَالَ مِنْ الْكُوفِيِّينَ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْقَرْضَ مُوجِبَةٌ رَدَّ الْمِثْلِ ، وَالْحَيَوَانُ لَيْسَ بِمِثْلِيٍّ وَبِنَاءً عَلَى أَنَّ مَا سِوَى الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ لَا يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ عِوَضًا عَنْ مَالٍ ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَثْبُتُ مِثْلُ الْحَيَوَانِ تَقْرِيبًا فِي الذِّمَّةِ كَمَا هُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذَاهِبِهِمْ ، وَوَجْهٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ أَنَّهُ تَثْبُتُ الْقِيمَةُ ، وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي مَعْرِفَةِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ التَّقْرِيبُ ، وَإِلَّا فَيَعِزُّ وُجُودُ حَيَوَانٍ مِثْلِ ذَلِكَ الْحَيَوَانِ لَا سِيَّمَا عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ الْحَيَوَانَ لَيْسَ بِمِثْلِيٍّ وَأَنَّهُ مَضْمُونٌ فِي الْغَصْبِ وَالْإِتْلَافِ بِالْقِيمَةِ ، وَأَيْضًا فَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَأْجِيلِ الدُّيُونِ إلَى الْحَصَادِ وَالْجَدَادِ ، وَفِيهِ رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ ، إحْدَاهُمَا : يَجُوزُ كَقَوْلِ مَالِكٍ وَحَدِيثُ جَابِرٍ فِي الصَّحِيحِ يَدُلُّ عَلَيْهِ ، وَأَيْضًا فَقَدْ دَلَّ الْكِتَابُ فِي قَوْله تَعَالَى : { لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إنْ طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً } ، وَالسُّنَّةُ فِي حَدِيثِ بِرْوَعَ بِنْتِ وَاشِقٍ ، وَإِجْمَاعُ الْعُلَمَاءِ عَلَى جَوَازِ عَقْدِ النِّكَاحِ بِدُونِ فَرْضِ الصَّدَاقِ ، وَتَسْتَحِقُّ مَهْرَ الْمِثْلِ إذَا دَخَلَ بِهَا بِإِجْمَاعِهِمْ ، وَإِذَا مَاتَ عِنْدَ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ وَأَهْلِ الْكُوفَةِ الْمُتَّبِعِينَ لِحَدِيثِ بِرْوَعَ ،(1/111)
وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ : وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَهْرَ الْمِثْلِ مُتَقَارِبٌ لَا مَحْدُودٌ ، فَلَوْ كَانَ التَّحْدِيدُ مُعْتَبَرًا فِي الْمَهْرِ مَا جَازَ النِّكَاحُ بِدُونِهِ ، وَكَمَا رَوَاهُ أَحْمَدُ فِي الْمُسْنَدِ ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { نَهَى عَنْ اسْتِئْجَارِ الْأَجِيرِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُ أَجْرُهُ ، وَعَنْ اللَّمْسِ وَالنَّجْشِ وَإِلْقَاءِ الْحَجَرِ } ، فَمَضَتْ الشَّرِيعَةُ بِجَوَازِ النِّكَاحِ قَبْلَ فَرْضِ الْمَهْرِ ، وَأَنَّ الْإِجَارَةَ لَا تَجُوزُ إلَّا مَعَ تَبَيُّنِ الْأَجْرِ ، فَدَلَّ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا وَسَبَبُهُ أَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ فِي النِّكَاحِ وَهُوَ مَنَافِعُ الْبُضْعِ غَيْرُ مَحْدُودٍ ، بَلْ الْمَرْجِعُ فِيهَا إلَى الْعُرْفِ فَكَذَلِكَ عِوَضُهُ الْأَجْرُ .
وَلِأَنَّ الْمَهْرَ فِيهِ لَيْسَ هُوَ الْمَقْصُودُ .(1/112)
وَإِنَّمَا هُوَ نَخْلَةٌ تَابِعَةٌ فَأَشْبَهَ الثَّمَرَ التَّابِعَ لِلشَّجَرِ فِي الْبَيْعِ قَبْلَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ ، وَكَذَلِكَ { لَمَّا قَدِمَ وَفْدُ هَوَازِنَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَخَيَّرَهُمْ بَيْنَ السَّبْيِ وَبَيْنَ الْمَالِ ، فَاخْتَارُوا السَّبْيَ ، وَقَالَ لَهُمْ : إنِّي قَائِمٌ فَخَاطِبُ النَّاسِ فَقُولُوا إنَّا نَسْتَشْفِعُ بِرَسُولِ اللَّهِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ ، وَنَسْتَشْفِعُ بِالْمُسْلِمِينَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ، وَقَامَ فَخَطَبَ النَّاسَ : فَقَالَ : إنِّي قَدْ رَدَدْتُ عَلَى هَؤُلَاءِ سَبْيَهُمْ فَمَنْ شَاءَ طَيَّبَ ذَلِكَ وَمَنْ شَاءَ فَإِنَّا نُعْطِيهِ عَنْ كُلِّ رَأْسٍ عَشْرَ قَلَائِصَ مِنْ أَوَّلِ مَا يَفِي اللَّهُ عَلَيْنَا } فَهَذَا مُعَاوَضَةٌ عَنْ الْإِعْتَاقِ ، كَعِوَضِ الْكِتَابَةِ بِإِبِلٍ مُطْلَقَةٍ فِي الذِّمَّةِ إلَى أَجَلٍ مُتَفَاوِتٍ غَيْرِ مَحْدُودٍ ، وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ ؛ فِي حَدِيثِ حُنَيْنٍ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَاتَلَهُمْ حَتَّى أَلْجَأَهُمْ إلَى قَصْرِهِمْ ، وَعَامَلَهُمْ عَلَى الْأَرْضِ وَالزَّرْعِ وَالنَّخْلِ فَصَالَحُوهُ عَلَى أَنْ يَخْلُوا مِنْهَا ، وَلَهُمْ مَا حَمَلَتْ رِكَابُهُمْ ، وَلِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّفْرَاءُ وَالْبَيْضَاءُ وَالْحَلْقَةُ هِيَ السِّلَاحُ ، وَيَخْرُجُونَ مِنْهَا ، وَاشْتَرَطَ عَلَيْهِمْ أَنْ لَا يَكْتُمُوا وَلَا يُغَيِّبُوا شَيْئًا ، فَإِنْ فَعَلُوا فَلَا ذِمَّةَ لَهُمْ وَلَا عَهْدَ } فَهَذَا مُصَالَحَةٌ عَلَى مَالٍ مُتَمَيِّزٍ غَيْرِ مَعْلُومٍ .
{(1/113)
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : صَالَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهْلَ نَجْرَانَ عَلَى أَلْفَيْ حُلَّةٍ ، النِّصْفُ فِي صَفَرٍ وَالْبَقِيَّةُ فِي رَجَبٍ ، يُؤَدُّونَهَا إلَى الْمُسْلِمِينَ ، وَعَارِيَّةً ثَلَاثِينَ دِرْعًا وَثَلَاثِينَ فَرَسًا وَثَلَاثِينَ بَعِيرًا وَثَلَاثِينَ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ مِنْ السِّلَاحِ يَغْزُونَ بِهَا ، وَالْمُسْلِمُونَ صَامِتُونَ لَهَا حَتَّى يَرُدُّوهَا عَلَيْهِمْ } ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
فَهَذَا مُصَالَحَةٌ عَلَى ثِيَابٍ مُطْلَقَةٍ مَعْلُومَةِ الْجِنْسِ غَيْرِ مَوْصُوفَةٍ بِصِفَاتِ السَّلَمِ ، وَكَذَلِكَ كُلُّ عَارِيَّةٍ خَيْلٍ وَإِبِلٍ وَأَنْوَاعٍ مِنْ السِّلَاحِ مُطْلَقَةٍ غَيْرِ مَوْصُوفَةٍ عِنْدَ شَرْطٍ ، قَدْ يَكُونُ وَقَدْ لَا يَكُونُ ، فَظَهَرَ بِهَذِهِ النُّصُوصِ أَنَّ الْعِوَضَ عَمَّا لَيْسَ بِمَالٍ كَالصَّدَاقِ وَالْكِتَابَةِ وَالْفِدْيَةِ فِي الْخُلْعِ وَالصُّلْحِ عَنْ الْقِصَاصِ ، وَالْجِزْيَةِ وَالصُّلْحِ مَعَ أَهْلِ الْحَرْبِ ، لَيْسَ يَجِبُ أَنْ يُعْلَمَ كَمَا يُعْلَمُ الثَّمَنُ وَالْأُجْرَةُ .
وَلَا يُقَاسُ عَلَى بَيْعِ الْغَرَرِ كُلُّ عَقْدٍ عَلَى غَرَرٍ ؛ لِأَنَّ الْأَمْوَالَ إمَّا أَنْ لَا تَجِبَ فِي هَذِهِ الْعُقُودِ ، أَوْ لَيْسَتْ هِيَ الْمَقْصُودَ الْأَعْظَمَ فِيهَا ، وَمَا لَيْسَ هُوَ الْمَقْصُودَ إذَا وَقَعَ فِيهِ غَرَرٌ لَمْ يُفْضِ إلَى الْمَفْسَدَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْبَيْعِ بَلْ يَكُونُ إيجَابُ التَّحْدِيدِ فِي ذَلِكَ فِيهِ مِنْ الْعُسْرِ وَالْحَرَجِ الْمَنْفِيِّ شَرْعًا مَا يَزِيدُ عَلَى ضَرَرِ تَرْكِ تَحْدِيدِهِ .
الفتاوى الكبرى - (ج 9 / ص 150)(1/114)
وَالْقِسْمُ الْخَامِسُ : الِاحْتِيَالُ عَلَى أَخْذِ بَدَلِ حَقِّهِ ، أَوْ عَيْنِ حَقِّهِ بِخِيَانَةٍ مِثْلُ أَنَّ مَالًا قَدْ اُؤْتُمِنَ عَلَيْهِ زَاعِمًا أَنَّهُ بَدَلُ حَقِّهِ أَوْ أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ هَذَا الْقَدْرَ مَعَ عَدَمِ ظُهُورِ سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ ، أَوْ إظْهَارِهِ فَهَذَا أَيْضًا يَلْحَقُ بِمَا قَبْلَهُ وَهُوَ مَا لَا يَلْحَقُ بِالْقِسْمِ الْأَوَّلِ كَمَنْ يُسْتَعْمَلُ عَلَى عَمَلٍ بِجُعْلٍ يُفْرَضُ لَهُ وَيَكُونُ جُعْلُ مِثْلِهِ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ الْجُعْلِ فَيَغُلُّ بَعْضَ مَالِ مُسْتَعْمِلِهِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ يَأْخُذُ تَمَامَ حَقِّهِ فَإِنَّ هَذَا حَرَامٌ سَوَاءٌ كَانَ الْمُسْتَعْمِلُ السُّلْطَانَ الْمُسْتَعْمَلَ عَلَى مَالِ الْفَيْءِ وَالْخَرَاجِ وَالصَّدَقَاتِ وَسَائِرِ أَمْوَالِ بَيْتِ الْمَالِ ، أَوْ الْحَاكِمَ الْمُسْتَعْمَلَ عَلَى مَالِ الصَّدَقَاتِ وَأَمْوَالِ الْيَتَامَى وَالْأَوْقَافِ أَوْ غَيْرَهُمَا كَالْمُوَكَّلَيْنِ وَالْمُوصَيْنَ فَإِنَّهُ كَاذِبٌ فِي كَوْنِهِ يَسْتَحِقُّ زِيَادَةً عَلَى مَا شَرَطَ عَلَيْهِ كَمَا لَوْ ظَنَّ الْبَائِعُ ، أَوْ الْمُكْرِي أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ زِيَادَةً عَلَى الْمُسَمَّى فِي الْعَقْدِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ الْعِوَضُ الْمُسْتَحَقُّ وَهُوَ جَائِزٌ أَيْضًا لَوْ كَانَ الِاسْتِحْقَاقُ ثَابِتًا .(1/115)
وَأَمَّا مَا يَلْحَقُ بِالْقِسْمِ الثَّالِثِ بِأَنْ يَكُونَ الِاسْتِحْقَاقُ ثَابِتًا كَرَجُلٍ لَهُ عِنْدَ رَجُلٍ مَالٌ فَجَحَدَهُ إيَّاهُ وَعَجَزَ عَنْ خَلَاصِ حَقِّهِ ، أَوْ ظَلَمَهُ السُّلْطَانُ مَالًا وَنَحْوَ ذَلِكَ فَهَذَا مُحْتَالٌ عَلَى أَخْذِ حَقِّهِ لَكِنْ إذَا احْتَالَ بِأَنْ يَغُلَّ بَعْضَ مَا اُؤْتُمِنَ عَلَيْهِ لَمْ يَجُزْ ، لِأَنَّ الْغُلُولَ وَالْخِيَانَةَ حَرَامٌ مُطْلَقًا ، وَإِنْ قَصَدَ بِهِ التَّوَصُّلَ إلَى حَقِّهِ كَمَا أَنَّ شَهَادَةَ الزُّورِ وَالْكَذِبَ حَرَامٌ ، وَإِنْ قَصَدَ بِهِ التَّوَصُّلَ إلَى حَقِّهِ ، وَلِهَذَا { قَالَ بَشِيرُ بْنُ الْخَصَاصِيَةِ قُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ لَنَا جِيرَانًا لَا يَدَعُونَ لَنَا شَاذَّةً وَلَا فَاذَّةً إلَّا أَخَذُوهَا فَإِذَا قَدَرْنَا لَهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَنَأْخُذُهُ ، فَقَالَ : أَدِّ الْأَمَانَةَ إلَى مَنْ ائْتَمَنَكَ وَلَا تَخُنْ مَنْ خَانَكَ } بِخِلَافِ مَا لَيْسَ خِيَانَةً لِظُهُورِ الِاسْتِحْقَاقِ فِيهِ وَالتَّبَذُّلِ وَالتَّبَسُّطِ فِي مَالِ مَنْ هُوَ عَلَيْهِ كَأَخْذِ الزَّوْجَةِ نَفَقَتَهَا مِنْ مَالِ زَوْجِهَا إذَا مَنَعَهَا فَإِنَّهَا مُتَمَكِّنَةٌ مِنْ إعْلَانِ هَذَا الْأَخْذِ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ ، وَمِثْلُ هَذَا لَا يَكُونُ غُلُولًا وَلَا خِيَانَةً وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِيهَا خِلَافٌ مَشْهُورٌ بِخِلَافِ الَّتِي قَبْلَهَا فَإِنَّهَا مَحَلُّ وِفَاقٍ وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ اسْتِيفَاءِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ وَلَا هِيَ أَيْضًا مِنْ الْحِيَلِ الْمَحْضَةِ ، بَلْ هِيَ بِمَسَائِلِ الذَّرَائِعِ أَشْبَهُ ، لَكِنْ لِأَجْلِ مَا فِيهَا مِنْ التَّحَيُّلِ ذَكَرْنَاهَا لِتَمَامِ أَقْسَامِ الْحِيَلِ ، وَالْمَقْصُودُ الْأَكْبَرُ أَنْ يُمَيِّزَ الْفَقِيهُ بَيْنَ هَذِهِ الْأَقْسَامِ لِيَعْرِفَ كُلَّ مَسْأَلَةٍ(1/116)
مِنْ أَيِّ قِسْمٍ هِيَ فَيُلْحِقَهَا بِنَظِيرِهَا فَإِنَّ الْكَلَامَ فِي أُمَّهَاتِ الْمَسَائِلِ مِنْ هَذِهِ الْحِيَلِ مُسْتَوْفًى فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَلَمْ يُسْتَوْفَ الْكَلَامُ إلَّا فِي مَسْأَلَةِ التَّحْلِيلِ .
وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ هَذِهِ الْأَقْسَامَ الْخَمْسَةَ مُحْدَثَةٌ فِي الْإِسْلَامِ مُبْتَدَعَةٌ وَنَبَّهْنَا هُنَا عَلَى سَبَبِ التَّحْرِيمِ فِيهَا وَالْمَقْصُودُ التَّمْيِيزُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَا قَدْ شُبِّهَتْ بِهِ حَتَّى جُعِلَتْ ، وَإِيَّاهُ جِنْسًا وَاحِدًا ، وَقِيَاسُ مَنْ قَاسَ بَعْضَ هَذِهِ الْأَقْسَامِ وَهُوَ الثَّالِثُ وَرُبَّمَا قِيسَ الثَّانِي أَيْضًا عَلَيْهِ كَمَا قِيسَ عَلَيْهِ الثَّانِي مِنْ الْخَامِسِ فَإِنَّ الْقِيَاسَ الَّذِي يُوجَدُ فِيهِ الْوَصْفُ الْمُشْتَرَكُ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إلَى مَا بَيْنَ الْمَوْضِعَيْنِ مِنْ الْفَرْقِ الْمُؤَثِّرِ هُوَ مِثْلُ قِيَاسِ الَّذِينَ قَالُوا { إنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا } نَظَرًا إلَى أَنَّ الْبَائِعَ يَتَنَاوَلُ بِمَالِهِ لِيَرْبَحَ ، وَكَذَلِكَ الْمُرْبِي ، وَلَقَدْ سَرَى هَذَا الْمَعْنَى فِي نُفُوسِ طَوَائِفَ حَتَّى بَلَغَنِي عَنْ بَعْضِ الْمَرْمُوقِينَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ : لَا أَدْرِي لِمَ حُرِّمَ الرِّبَا وَيَرَى أَنَّ الْقِيَاسَ تَحْلِيلُهُ ، وَإِنَّمَا يَعْتَقِدُ التَّحْرِيمَ اتِّبَاعًا فَقَطْ وَهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي قَامَ فِي نَفْسِ هَذَا هُوَ الَّذِي قَامَ فِي نُفُوسِ الَّذِينَ قَالُوا { إنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا } فَلْيُعَزِّ مِثْلُ هَذَا نَفْسَهُ عَنْ حَقِيقَةِ الْإِيمَانِ وَالنَّظَرِ فِي الدِّينِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَنْ هَذِهِ عَزَاءُ الْمُصِيبَةِ ، وَلْيَتَأَمَّلْ فِي قَوْله تَعَالَى : { الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إلَّا كَمَا يَقُومُ(1/117)
الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا } .
فَلْيَنْظُرْ هَلْ أَصَابَهُمْ هَذَا التَّخَبُّطُ الَّذِي هُوَ كَمَسِّ الشَّيْطَانِ بِمُجَرَّدِ أَكْلِهِمْ السُّحْتَ أَمْ بِقَبُولِهِمْ الْإِثْمَ مَعَ ذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُهُمْ إنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا فَمَنْ كَانَ هَذَا الْقِيَاسُ عِنْدَهُ مُتَوَجَّهًا ، وَإِنَّمَا تَرَكَهُ سَمْعًا وَطَوْعًا أَلَمْ يَكُنْ هَذَا دَلِيلًا عَلَى فَسَادِ رَأْيِهِ وَنَقْصِ عَقْلِهِ وَبُعْدِهِ عَنْ فِقْهِ الدِّينِ .
نَعَمْ مَنْ قَالَ هَذَا قَالَ : الْقِيَاسُ أَنْ لَا تَصْلُحَ الْإِجَارَةُ ، لِأَنَّهَا بَيْعُ مَعْدُومٍ وَلَمْ يَهْتَدِ لِلْفَرْقِ بَيْنَ بَيْعِ الْأَعْيَانِ الَّتِي تُوجَدُ وَبَيْعِ الْمَنَافِعِ الَّتِي لَا يَتَأَتَّى وُجُودُهَا مُجْتَمِعَةً وَلَا يُمْكِنُ الْعَقْدُ عَلَيْهَا إلَّا مَعْدُومَةً وَلَوْ عَارَضَهُ مَنْ قَالَ : الْقِيَاسُ صِحَّةُ بَيْعِ الْمَعْدُومِ قِيَاسًا عَلَى الْإِجَارَةِ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ كَلَامَيْهِمَا فَرْقٌ .(1/118)
وَكَذَلِكَ يَرَى أَنَّ الْقِيَاسَ أَنْ لَا تَصْلُحَ الْحَوَالَةُ لِأَنَّهَا بَيْعُ دَيْنٍ بِدَيْنٍ وَأَنْ لَا يَصِحَّ الْقَرْضُ فِي الرِّبَوِيَّاتِ ، لِأَنَّهَا مُبَادَلَةُ عَيْنٍ رِبَوِيَّةٍ بِدَيْنٍ مِنْ جِنْسِهَا ، ثُمَّ إنْ كَانَ مِثْلُ هَذَا الْقِيَاسِ إذَا عَارَضَهُ نَصٌّ ظَاهِرٌ أَمْكَنَ تَرْكُهُ عِنْدَ مُعْتَقِدِ صِحَّتِهِ لَكِنْ إذَا لَمْ يَرَ نَصًّا يُعَارِضُهُ فَإِنَّهُ يَجُرُّ إلَى أَقْوَالٍ عَجِيبَةٍ تُخَالِفُ سُنَّةً لَمْ تَبْلُغْهُ ، أَوْ لَمْ يَتَفَطَّنْ لِمُخَالَفَتِهَا ، مَثَلُ قِيَاسِ مَنْ قَاسَ الْمُعَامَلَةَ بِجُزْءٍ مِنْ النَّمَاءِ عَلَى الْإِجَارَةِ مَعَ الْفُرُوقِ الْمُؤَثِّرَةِ وَمُخَالَفَةِ السُّنَّةِ ، وَقِيَاسِ مَنْ قَاسَ الْقِسْمَةَ عَلَى الْبَيْعِ وَجَعَلَهَا نَوْعًا مِنْهُ حَتَّى أَثْبَتَ لَهَا خَصَائِصَ الْبَيْعِ لِمَا فِيهَا مِنْ ثُبُوتِ الْمُعَاوَضَةِ وَالْتَزَمَ أَنْ لَا يَقْسِمَ الثِّمَارَ خَرْصًا كَمَا لَا تُبَاعُ خَرْصًا فَخَالَفَ سُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مُقَاسَمَةِ أَهْلِ خَيْبَرَ الثِّمَارَ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ عَلَى النَّخْلِ خَرْصًا ، وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ وَمَا نَحْنُ فِيهِ مِنْهُ ، لَكِنَّهُ أَقْبَحُ وَأَبْيَنُ مِنْ أَنْ يَخْفَى عَلَى فَقِيهٍ ، كَمَا خَفِيَ الْأَوَّلُ عَلَى بَعْضِ الْفُقَهَاءِ .(1/119)
وَاَلَّذِي قِيسَتْ عَلَيْهِ الْحِيَلُ الْمُحَرَّمَةُ وَلَيْسَ مِثْلَهُ نَوْعَانِ : أَحَدُهُمَا : الْمَعَارِيضُ وَهِيَ أَنْ يَتَكَلَّمَ الرَّجُلُ بِكَلَامٍ جَائِزٍ يَقْصِدُ بِهِ مَعْنًى صَحِيحًا وَيَتَوَهَّمُ غَيْرُهُ أَنَّهُ قَصَدَ بِهِ مَعْنًى آخَرَ ، وَيَكُونُ سَبَبُ ذَلِكَ التَّوَهُّمِ كَوْنَ اللَّفْظِ مُشْتَرَكًا بَيْنَ حَقِيقَتَيْنِ لُغَوِيَّتَيْنِ أَوْ عُرْفِيَّتَيْنِ ، أَوْ شَرْعِيَّتَيْنِ ، أَوْ لُغَوِيَّةٍ مَعَ أَحَدِهِمَا ، أَوْ عُرْفِيَّةٍ مَعَ شَرْعِيَّةٍ فَيَعْنِي أَحَدَ مَعْنَيَيْهِ وَيَتَوَهَّمُ السَّامِعُ أَنَّهُ إنَّمَا عَنَى الْآخَرَ لِكَوْنِ دَلَالَةِ الْحَالِ تَقْتَضِيهِ ، أَوْ لِكَوْنِهِ لَمْ يَعْرِفْ إلَّا ذَلِكَ الْمَعْنَى ، أَوْ يَكُونُ سَبَبُ التَّوَهُّمِ كَوْنَ اللَّفْظِ ظَاهِرًا فِيهِ مَعْنًى فَيَعْنِي بِهِ مَعْنًى يَحْتَمِلُهُ بَاطِنًا فِيهِ بِأَنْ يَنْوِيَ مَجَازَ اللَّفْظِ دُونَ حَقِيقَتِهِ ، أَوْ يَنْوِيَ بِالْعَامِّ الْخَاصَّ أَوْ بِالْمُطْلَقِ الْمُقَيَّدَ ، أَوْ يَكُونَ سَبَبُ التَّوَهُّمِ كَوْنَ الْمُخَاطَبِ إنَّمَا يَفْهَمُ مِنْ اللَّفْظِ غَيْرَ حَقِيقَتِهِ بِعُرْفٍ خَاصٍّ لَهُ ، أَوْ غَفْلَةٍ مِنْهُ ، أَوْ جَهْلٍ مِنْهُ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَسْبَابِ مَعَ كَوْنِ الْمُتَكَلِّمِ إنَّمَا قَصَدَ حَقِيقَتَهُ ، فَهَذَا - إذَا كَانَ الْمَقْصُودُ بِهِ دَفْعَ ضَرَرٍ غَيْرِ مُسْتَحَقٍّ - جَائِزٌ كَقَوْلِ الْخَلِيلِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " هَذِهِ أُخْتِي " ، وَقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { نَحْنُ مِنْ مَاءٍ } وَقَوْلِ الصِّدِّيقِ : رَجُلٌ يَهْدِينِي السَّبِيلَ ، وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إذَا أَرَادَ غَزْوَةً وَرَّى غَيْرَهَا ، وَكَانَ يَقُولُ : { الْحَرْبُ خَدْعَةٌ }(1/120)
وَكَإِنْشَادِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ : شَهِدْت بِأَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ النَّارَ مَثْوَى الْكَافِرِينَا وَأَنَّ الْعَرْشَ فَوْقَ الْمَاءِ طَافٍ وَفَوْقَ الْعَرْشِ رَبُّ الْعَالَمِينَا لَمَّا اسْتَقْرَأَتْهُ امْرَأَتُهُ الْقُرْآنَ حَيْثُ اتَّهَمَتْهُ بِإِصَابَةِ جَارِيَتِهِ - وَقَدْ يَكُونُ وَاجِبًا إذَا كَانَ دَفْعُ ذَلِكَ الضَّرَرِ وَاجِبًا وَلَا يَنْدَفِعُ إلَّا بِذَلِكَ مِثْلُ التَّعْرِيضِ عَنْ دَمٍ مَعْصُومٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ ، وَتَعْرِيضُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَدْ يَكُونُ مِنْ هَذَا السَّبِيلِ وَهَذَا الضَّرْبُ نَوْعٌ مِنْ الْحِيَلِ فِي الْخِطَابِ ، لَكِنَّهُ يُفَارِقُ الْحِيَلَ الْمُحَرَّمَةَ مِنْ الْوَجْهِ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ وَالْوَجْهِ الْمُحْتَالِ بِهِ : أَمَّا الْمُحْتَالُ عَلَيْهِ هُنَا فَهُوَ دَفْعُ ضَرَرٍ غَيْرِ ضَرَرٍ مُسْتَحَقٍّ ، فَإِنَّ الْجَبَّارَ كَانَ يُرِيدُ أَخْذَ امْرَأَةِ إبْرَاهِيمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْ عَلِمَ أَنَّهَا امْرَأَتُهُ ، وَهَذَا مَعْصِيَةٌ عَظِيمَةٌ وَهُوَ مِنْ أَعْظَمِ الضَّرَرِ ، وَكَذَلِكَ بَقَاءُ الْكُفَّارِ غَالِبِينَ عَلَى الْأَرْضِ ، أَوْ غَلَبَتُهُمْ لِلْمُسْلِمِينَ مِنْ أَعْظَمِ الْفَسَادِ فَلَوْ عَلِمَ أُولَئِكَ الْمُسْتَجِيرُونَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَتَرَتَّبَ عَلَى عِلْمِهِمْ شَرٌّ طَوِيلٌ ، وَكَذَلِكَ عَامَّةُ الْمَعَارِيضِ الَّتِي يَجُوزُ الِاحْتِجَاجُ بِهَا فَإِنَّ عَامَّتَهَا إنَّمَا جَاءَتْ حَذَرًا مِنْ تَوَلُّدِ شَرٍّ عَظِيمٍ عَلَى الْأَخْبَارِ - فَأَمَّا إنْ قَصَدَ بِهَا كِتْمَانَ مَا يَجِبُ مِنْ شَهَادَةٍ ، أَوْ إقْرَارٍ ، أَوْ عِلْمٍ ، أَوْ صِفَةِ مَبِيعٍ أَوْ مَنْكُوحَةٍ ، أَوْ مُسْتَأْجَرٍ ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ فَإِنَّهَا(1/121)
حَرَامٌ بِنُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ كَمَا سَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ التَّنْبِيهُ عَلَى بَعْضِهِ إذَا ذُكِرَتْ الْأَحَادِيثُ الْمُوجِبَةُ لِلنَّصِيحَةِ وَالْبَيَانِ فِي الْبَيْعِ ، وَالْمُحَرِّمَةُ لِلْغِشِّ وَالْخِلَابَةِ وَالْكِتْمَانِ ، وَإِلَى هَذَا أَشَارَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِيمَا رَوَاهُ عَنْهُ مُثَنَّى الْأَنْبَارِيُّ قَالَ : قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدَ كَيْفَ الْحَدِيثُ الَّذِي جَاءَ فِي الْمَعَارِيضِ فَقَالَ : الْمَعَارِيضُ لَا تَكُونُ فِي الشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ .
السيل الجرار للشوكاني - (ج 2 / ص 237)
أقول هذا وإن كان تكريرا لقوله والمبيع موجود في الملك ولكنه أراد هنا أن يتوصل بذكره إلى ذكر ما لا يشترط فيه الوجود وأعلم أن الشارع قد نهى عن بيع المعدوم على العموم فقال لحكيم بن حزام لما قال له يا رسول الله يأتيني الرجل فيسألني عن البيع ليس عندي ما أبيعه منه ثم أبتاعه من السوق فقال له صلى الله عليه وسلم لا تبع ما ليس عندك أخرجه أحمد وأهل السنن وقال الترمذي حسن صحيح وأخرجه ابن حبان في صحيحه قال الترمذي وقد روي من غير وجه عن حكيم وقد وقع منه صلى الله عليه وسلم النهي عن صور من صور البيع والعلة فيها كونه معدوما وسيأتي بيان كل منها في موضعه اللائق به وأما قوله إلا السلم فسيأتي دليله الخاص به وهو وإن كان نوعا من أنواع البيع فإن ما ورد في صحته على الصفة المذكورة فيما سيأتي يكون مخصصا لعموم النهي عن بيع ما ليس بموجود
قوله أو في ذمة مشتريه
أقول هذا الذى في ذمة المشتري هو غير موجود عند البائع فهو داخل تحت النهي عن بيع المعدوم فإن كان إخراجه من عموم الدليل بدليل فما هو فإنه لا دليل ها هنا من كتاب ولا سنة ولا قياس وهذا على تقدير حضور الثمن أما إذا كان غير حاضر فهو مندرج أيضا تحت نهي آخر وهو ما أخرجه الدارقطني والحاكم وصححه على شرط مسلم
ص14(1/122)
من حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الكاليء بالكاليء وهو وإن كان في إسناده موسى بن عبيدة الربذي فقد شد من عضده ما يحكى من الإجماع على عدم جواز بيع الكاليء بالكاليء وقد أخرجه أيضا الطبراني من حديث رافع بن خديج
السيل الجرار للشوكاني - (ج 2 / ص 262)
أقول قد ثبت بالأحاديث الصحيحة النهي عن بيع الغرر وهذا من أعظم أنواعه وقد أثبت صلى الله عليه وسلم الغرر فيما هو دون هذا فأخرج أحمد من حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا تشتروا السمك في الماء فإنه غرر
ص42
وشراء العبد الآبق من جملة أنواع الغرر وقد ورد النهي عنه في حديث أبي سعيد عند أحمد وابن ماجه والبزار والدارقطني وفي إسناده مقال ولكن هو مندرج تحت الأحاديث الصحيحة المصرحة بالنهي عن بيع الغرر لأن ما كان يتعذر تسليمه حال البيع أو الاطلاع على كنهه فهو غرر كثير وقد نقل صاحب نهاية المجتهد انفاق الفقهاء على أن الغرر الكثير في المبيعات لا يجوز على أن القليل يجوز
قوله وفي حق(1/123)
أقول المنافع المتعلقة بالأعيان لا وجود لها مستقر بل هى معدومة فبيع مجرد المنفعة دون ما هى متعلقة به وهو الذي يقال له في عرف الفقهاء الحق وهو مندرج تحت بيع المعدوم الذى تقدم النهي عنه فلا يصح بيعه إلا بدليل يخصه وقد ورد تجويز الإجارة وهي في الحقيقة متعلقة بالحق ولكن هذا التخصيص للعموم يقصر على محله ويبقى النهي عما عداه كما هو شأن العام والخاص على تقدير دخول هذا الخاص تحت النهي عن بيع المعدوم وهو غير مسلم فإن الإجارة باب من أبواب المعاملات كالبيع فالعجب ممن جعل ما ورد في تجويز الإجازة مخصصا لبيع المعدوم ثم ألحق بيع سائر الحقوق بها وجعل ذلك أصلا يقاس عليه وهذا خبط وجوابه ما قدمناه وحاصله أنا نمنع دخول الإجارة تحت النهي عن بيع المعدوم حتى يقال أنها مخصصة بدليلها منه ثم نمنع ثانيا جواز إلحاق بيع الحقوق بهذا الفرد المخصوص على تسليم الدخول والتخصيص فإن هذا إهمال لدلالة العموم بمجرد الخيار المختل
ص43
السيل الجرار للشوكاني - (ج 2 / ص 263)(1/124)
أقول المنع من هذا قد دخل تحت أدلة النهي عن بيع الغرر وهذا منه لأنه لا يحاط بكنههما قبل خروجهما وقد دخلا أيضا تحت بيع المعدوم لأنهما معدومان وقد دخل أيضا المنع من بيع الحمل تحت الأحاديث المصرحة بالنهي عن بيع الملاقيح والمضامين ودخلا جميعا تحت حديث أبي سعيد عند أحمد وابن ماجة والبزار والدارقطني قال نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن شراء ما في بطون الأنعام حتى تضع وعن بيع ما في ضروعها إلا بكيل ودخل اللبن تحت حديث ابن عباس عند الطبراني والدارقطني والبيهقي نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يباع صوف على ظهر أو لبن في ضرع ولو لم يرد في المنع من بيع هذين وأمثالهما إلا الأحاديث الصحيحة في النهي عن بيع الغرر وفي النهي عن بيع المعدوم لكان في ذلك ما يغني عن غيره فليت شعري ما هو الحامل للجلال على التلاعب بالأدلة والتكلف لردها بما هو سراب بقيعة وهباء في الهواء فإن كان ذلك لمحبته للاعتراض على ما قد وقع تدوينه في هذا الكتاب فهذا أمر لا يعجز عنه أحد ولكن الرزية كل الرزية أنه صدر نفسه للتكلم على أدلة الكتاب والسنة المتعلقة بهذه المسائل ثم تجرأ على درها بما هو أوهن من بيت العنكبوت وخبط وخلط وركب الشطط وجاء بأقبح الغلط فكان ذلك جناية على الشرع والشارع اللهم غفرا
قوله أو ثمر قبل نفعه أو بعده قبل صلاحه
ص44
الفقه على المذاهب الأربعة - (ج 3 / ص 352)(1/125)
أما إذا قال: قبلت شرائها بخمسة وتسعين مثلاً فإن البيع لا ينعقد، النوع الثالث يتعلق بالمبيع وهو خمسة شروط الأول أن يكون المبيع موجوداً فلا ينعقد بيع المعدوم ولا بيع ما هو في حكم المعدوم كبيع الحمل. الشرط الثاني: أن يكون مما يتعلق به الملك. فلا ينعقد بيع العشب المباح ولو نبت في أرض مملوكة. الشرط الثالث: أن يكون مملوكاً للبائع إذا كان يريد أن يبيع لنفسه، أو مملوكاً لموكله ونحوه كما يأتي، فلا ينعقد بيع ما ليس بمملوك ولو ملكه بعد البيع إلا في السلم فإنه ينعقد فيه بيع ما سيملكه بعد العقد، وكذلك المغصوب إذا باته الغاصب ثم ضمنه المالك فإن بيعه ينعقد. الشرط الرابع: أن يكون المبيع مالاً متقوماً شرعاً، فلا ينعقد بيع الخمر ونحوه من كل ما لا يباح الانتفاع به شرعاً. وكذلك لا ينعقد بيع اليسير من المال كحبة من حنطة لأنها ليست مالاً متقوماً. الشرط الخامس أن يكون البائع قادراً على تسليمه في الحال أو قريباً من الحال. النوع الثالث: يتعلق بالبدلين الثمن والسلعة، فيشترط في كل واحد منهما أن يكون مالاً قائماً، فإذا عدم أحدهما لا ينعقد البيع. النوع الرابع: يتعلق بسماع الصيغة، فلا ينعقد البيع إلا إذا سمع كل واحد من العاقدين كلام صاحبه. فإذا كان البيع في المجلس وسمع الناس كلام أحدهما ثم أنكر وقال: إن في أذنه وقراً فإنه لا يصدق قضاء. النوع الخامس: يتعلق بالمكان فيشترط أن يكون الإيجاب والقبول في مجلس واحد، فإن اختلف المجلس فإن البيع لا ينعقد، والمراد بالمجلس ما حصل فيه العقد، ولو كانا واقفين أو سائرين، فهذه شروط انعقاد البيع وهي اثنا عشر شرطاً: ثلاثة في العاقد سواء أكان أم مشترياً، وواحد في العقد وخمسة في المبيع، وواحد في سماع الكلام. وواحد في المكان.
وأما شروط النفاذ فهي شيئان:
الأول: أن يكون المبيع مملوكاً للبائع، أو له عليه ولاية، فنفذ بيع غير المملوك كما لا ينعقد.(1/126)
الثاني: أن لا يكون في المبيع حق لغير البائع، فلا ينفذ بيع المرهون والمستأجر، لأنه وإن كان محبوساً في يده ولكن للغير حق فيه فلا ينفذ بيعه.
الفقه على المذاهب الأربعة - (ج 3 / ص 457)
ومنها: بيع المعدوم كبيع علو سقط بناؤه، كما إذا كان لرجلين بناء أحدهما له السفل والآخر له العلو فسقطا معاً، أو سقط العلو وحده فإن بيع العلو لا يجوز بعد ذلك، لأن المبيع في هذه الحالة يكون عبارة عن حق التعلي، وحق التعلي ليس بمال لأن المال عين يمكن إحرازها وإمساكها وليس هو حق متعلق بالمال أيضاً بل هو حق متعلق بالهواء وليس الهواء مالاً يباع والمبيع لا بد أن يكون أحدهما. أما إذا باع العلو قبل سقوطه فإنه يصح، وكذا يصح بيع العلو الساقط إذا كان لصاحب السفل على أن يكون سطح السفل لصاحب السفل، وللمشتري حق القرار فوقه. حتى لو انهدم العلو كان له أن يبني عليه علواً آخر مثل الأول. ومن بيع المعدوم بيع ما ينبت في باطن الأرض إذا لم ينبت أصلاً، أو كان قد نبت ولكن لم يعلم وجوده وقت البيع كالجزر والفجل والبصل. أما إذا كان قد نبت وعلم وجوده وقت البيع فإن بيعه يصح ولا يكون معدوماً على أن للمشتري خيار الرؤية بعد قلعه ثم كان المبيع في الأرض مما يكال أو يوزن بعد القلع كالثوم والجزر والبصل فقلع المشتري شيئاً بإذن البائع أو قلع البائع شيئاً فرآه المشتري فلا يخلو: إما أن يكون المقلوع له قيمة بحيث يدخل تحت الوزن أو الكيل، وإما أن يكون شيئاً يسيراً.
فالأول: إذا رآه المشتري ورضي به سقط خياره ولزمه البيع في الكل إذا وجد الباقي كذلك، لأن رؤية البعض تكون كرؤية الكل.(1/127)
والثاني: إذا رآه المشتري فإن رؤيته لا تكون كرؤية الكل لكونه يسيراً، أما إذا كان المقلوع مما يباع بعد القلع بالعدد كالفجل فإن رؤيته بعد القلع لا تسقط الخيار وإن كان لها قيمة، لأنه يتفاوت في الكبر والصغر فلا تساوي بين أفراده. فإذا قلع المشتري شيئاً بدون إذن البائع لزمه البيع وسقط خياره إلا أن يكون المقلوع يسيراً.
الفقه على المذاهب الأربعة - (ج 3 / ص 460)
ومنها: بيع الوقف لأن الوقف لا يقبل التمليك والتملك، فبيعه باطل لا فاسد على المعتمد. وإذا ضم إلى الوقف ملك كأن كان لديه بستان نصفه مملوك ونصفه موقوف صح بيع النصف المملوك وبطل بيع الموقوف إلا إذا كان مسجداً عامراً فإنه إذا بثي مضموماً إلى ملك آخر فإن بيع الجميع يكون باطلاً. أما المسجد الخرب فإنه إذا باع مضموما إلى ملك صح بيع الملك وبطل بيع المسجد. وإذا كان يملك ضيعة "عزبة" بها مسجد ومقبرة ثم باعها بدون أن يستثني المسجد العامر والمقبرة فقال بعضهم: إن البيع يكون باطلاً لأنه باع مسجداً عامراً مضموماً إلى ملك. وقال بعضهم: إن البيع صحيح، لأن المسجد أو المقبرة مستثنى عادة فلم يوجد ضم الملك إلى المسجد، بل البيع واقع على الملك وحده.
ومنها بيع صبي لا يعقل ومجنون. أما الصبي المميز والمعتوه الذي يدرك معنى البيع فإن بيعهما ينعقد ولكن لا ينفذ إلا بإجازة الولي بشرط أن لا يكون فيه غبن فاحش. وإلا لم يصح لا من الصبي ولا من الولي.
ومنها: شعر الإنسان لأنه لا يجوز الانتفاع به لحديث: "لعن اللّه الواصلة والمستوصلة"، وقد رخص في الشعر المأخوذ من الوبر ليزيد في ضفائر النساء وقرونهن.(1/128)
ومنها: بيع ما سيملكه قبل ملكه. كما إذا كان ينتظر ميراثاً بوفاة والد أو أحد من يرثهم ثم باعه قبل أن يؤول إليه ذلك، لأنه إنما يبيع شيئاً معدوماً لا يقدر على تسليمه وهو باطل. ومثله بيع ما كان على خطر العدم كبيع اللبن في الضرع فإنه على احتمال عدم الوجود. وإنما يصح بيع المعدوم إذا كان ديناً موصوفاً في الذمة وهو السلم الآتي بيانه. أما بيع ملك الغير بوكالة منه فإنه صحيح نافذ. وبيعه بدون وكالة فهو صحيح موقوف على إجازة المالك وهذا هو بيع الفضولي.
الفقه على المذاهب الأربعة - (ج 4 / ص 47)(1/129)
الصورة الثالثة: أن يبيع الموجود بدون ذكر لما لم يوجد وبدون اشتراط القبض ثمرة أو تركها وتشمل هذه الصورة أمرين: الأول أن يقبض المشتري المبيع ثم يثمر بعد القبض ثمرة جديدة، وفي هذه الحالة لا يفسد البيع، ويكون البائع شريكاً للمشتري فيما حدث من الثمرة لاختلاطه بالثمرة التي كانت بارزة وقت البيع، والقول للمشتري في مقدار ما حدث من يمينه، لأنه في يده ومثل الثمرة التي على الشجرة ثمار الخضر التي تحدد بعد قطعها كالباذنجان والبطيخ والعجور. الأمر الثاني: أن يحدث الثمر قبل قبض المبيع، وفي هذه الحالة يفسد البيع، لأنه لا يمكن تسليم المبيع لاختلاط الحادب بالموجود وقت العقد، فأشبه هلاك المبيع قبل التسليم. الصورة الرابعة: أن يبيع الموجود المعدوم وفي هذا خلاف: فقال لعضهم. إن البيع يكون فاسداً لأن بيع المعدوم منهي عنه، وإنما رخص النبيّ صلى اللّه عليه وسلم في بيع المعدوم في السلم للضرورة، وهذا القول هو ظاهر الرواية، وقال بعضهم: إن البيع صحيح لتعامل الناس به، وفي نزع الناس عن عاداتهم حرج، وحيث أجاز رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لضرورة الناس ورفع الحرج عنهم فكذلك الحال هنا. ومن هذا يتضح أن الناس الذين يبيعون الحدائق "الجناين" في زماننا يستطيعون أن يتبعوا قواعد دينهم بسهولة فليس فيها حرج عليهم، فإن في الصورة التي وضحناها لهم ما فيه كفايتهم. على أنها كلها ملاحظ فيها رفع النزاع بين البائع والمشتري وقطع جرثومه الخصام، واللّه الهادي إلى سواء السبيل.
الفقه على المذاهب الأربعة - (ج 4 / ص 69)(1/130)
الشافعية - قالوا: شرط السلم شروط البيع ما عدا رؤية المبيع، فإنها شرط في صحة البيع كما تقدم، بخلاف رؤية المسلم فيه فإنها ليست بشرط لأنها رخصة مستثناة من منع بيع المعدوم، ويزيد السلم على البيع شروطاً أخرى بعضها يتعلق برأس مال المسلم، وبعضها يتعلق بالمسلم فيه. وكلها شروط لصحة عقد السلم، فلا يصح إذا تخلف شرط منها. فأما التي تتعلق برأس المال فهي شرطان:
الشرط الأول: أن يكون رأس المال مال السلم حالاً غير مؤجل فلا يصح تأجيله.
الثاني: تسليمه بالمجلس وقد تقدم قريباً، لأنه لو تأخذر يكون بيع دين بدين، ولا فرق في ذلك بين أن يكون رأس المال عيناً أو منفعة كأن يقول: أسلمت إليك سكنى داري مدة كذا في كذا من الغنم، فلا بد من تسليمها كما تقدم. وأما التي تتعلق بالمسلم فيه فهي:
أولاً: بيان مكان تسليم المسلم فيه إن لم يكن المكان الذي حصل فيه العقد صالحاً للتسليم، سواء كان السلم حالاً أو مؤجلاً. أما إذا كان المكان صالحاً للتسليم، فإن كان نقله يحتاج إلى نفقات وجب البيان في السلم المؤجل دون الحال. وإذا كان نقله لا يحتاج إلى نفقات فلا يجب البيان، سواء كان السلم حالاً أو مؤجلاً. وقد تقدم أن السلم يصح حالاً أو مؤجلاً.
ثانياً: القدرة على تسليم "المسلم فيه" عند حلول الأجل إن كان مؤجلاً، أو بالعقد إن كان حالاً، فإذا أسلم في فاكهة وأجلت إلى أمد لا توجد فيه فلا يصح السلم.
الفقه الإسلامي وأصوله - (ج 3 / ص 443)
استدل الجمهور لمذهبهم في اشتراط الأجل في المسلم فيه بأدلة منها:
-1 أن السلم ورد على الخلاف القياس، لأنه بيع المعدوم ووجه الاستحسان فيه الرفق بحاجة المسلم إليه، فإذا انتفى الأجل انتفى الرفق بالمسلم إليه، فزالت علة الاستحسان، فعاد إلى أصل القياس، وهو المنع فيه.(1/131)
-2 أن السلم ورد على خلاف القياس لحديث النبي -صلى الله عليه وسلم-: "من أسلف فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم". وما ورد كذلك يوقف فيه على ما رد به النص، وهو قد ورد بالأجل، فلا يتعداه إلى غيره.
-3 ورد في الحديث السابق التسوية بين اشتراط الأجل واشتراط بيان القدر، وبيان القدر مشروط بالاتفاق فكذلك الأجل.
-4 اشتراط تعجيل المسلم فيه يؤدي إلى المنازعة غالباً، لأن السلم بيع المفاليس، وغالباً ما يكون المسلم إليه عاجزاً عن تسليم المسلم فيه حالاً. وإلا لم يبعه سلماً. وهذا العجز يؤدي إلى المنازعة، وكل ما أدى إلى ذلك ممنوع في العقد، فيكون ممنوعاً لذلك.
أدلة الشافعية:
-1 يصح قياساً على السلم المؤجل، لأن المؤجل ثبت بنص الحديث، والحال مثله، بل هو أبعد عن الضرر منه، فيصح من باب أولى.
-2 لا حجة في قول الجمهور أن الأجل ورد اشتراطه بالحديث.
ذلك أن الحديث لم يشترط الأجل ولكنه اشترط ببيان مدته ووقته أن وجد، فإذا لم يوجد لم يحتج إلى بيان مدته، ولا دلالة في الحديث على ما وراء ذلك.
-3 ولا حجة للجمهور أيضاً في انتفاء الفائدة من هذا البيع، تلك الفائدة التي هي علة الاستحسان، ذلك أن فيه فائدة كبرى وهي جواز بيع ما ليس موجوداً في مجلس العقد عن البيع، وهو غير جائز في البيع المطلق. وهذا البيع محتاج إليه لأن البيع قد لا يكون حضراً مرئياً فلا يصح بيعه، وأن أخره لاحضار ربما يفوت على المشتري الصفقة، فيكون ذلك علة مناسبة للاستحسان، فيجوز.
الفقه الإسلامي وأصوله - (ج 3 / ص 491)
وأما ما يشترط في المعقود عليه أي المبيع فهو أربعة شروط :(1/132)
-1 أن يكون المبيع موجوداً : فلا ينعقد بيع المعدوم قبل وجوده وماله خطر العدم. من أمثلة الأول : بيع نتاج النتاج أي ولد ولد هذه الناقة مثلاً، وبيع الثمر قبل انعقاد شيء منه على الشجرة. ومن أمثلة الثاني : بيع الحمل، وبيع اللبن في الضرع، فكل من الحمل واللبن متردد بين الوجود وعدم الوجود فهما على خطر العدم.
ودليله في الجملة : أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمار قبل بدو صلاحها. ويلحق به بيع ياقوتة فإذا هي زجاج، ففي هذا غلط في الجنس فلا ينعقد البيع، لأن المبيع معدوم.
ويستثنى بيع السلم والاستصناع وبيع الثمر على الشجر بعد ظهور بعضه في رأي بعض الحنفية.
الفقه الإسلامي وأصوله - (ج 4 / ص 21)
المطلب الأول- أنواع البيع الباطل :
نذكر من أنواع البيع الباطل ما يأتي :
-1 بيع المعدوم :
اتفق أئمة المذاهب على أنه لا ينعقد بيع المعدوم وماله خطر العدم، كبيع نتاج النتاج بأن قال: بعت ولد ولد هذه الناقة، وبيع الحمل الموجود لأنه على خطر الوجود، وبيع الثمر والزرع قبل ظهوره لأن النبي صلى الله عليه وسلم "نهى عن بيع حبل الحبلة" متفق عليه أي نتاج النتاج. ونهى أيضاً عن بيع المضامين والملاقيح (والمضامين : ما في أصلاب الذكور، والملاقيح : ما في بطون الإِناث) ونهى كذلك عن بيع الثمر قبل بدو صلاحه، كما سيأتي.(1/133)
ومن الملحق بالمعدوم : بيع لؤلؤ في صدف، وبيع اللبن في الضرع وبيع الصوف على ظهر الغنم، ومثله بيع الكتاب قبل طبعه، فإن بيع ذلك لا يجوز عند جمهور الفقهاء، لأن محل العقد غير موجود بالتأكيد، ولما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تباع ثمرة حتى تطعم، ولا يباع صوف على ظهر ولا لبن في ضرع" رواه الطبراني ولأن بيع اللبن في الضرع مجهول الصفة والمقدار. وجهالة مقداره، لأنه قد يرى امتلاء الضرع من السمن، فيظن أنه من اللبن. وجهالة الصفة : لأنه قد يكون اللبن صافياً، وقد يكون كدراً فأشبه الحمل، لأنه بيع عين لم تخلق، فلم يجز كبيع ما تحمل الناقة، والعادة في ذلك تختلف. وفيه علة أخرى وهي : أنه معجوز التسليم، لأن اللبن لا يجتمع في الضرع دفعة واحدة، بل شيئاً فشيئاً، فيختلط المبيع بغيره على وجه يتعذر التمييز بينهما.
وأما لبن الظئر (أي المرضع) فيجوز للحضانة، للحاجة.
وأما بطلان بيع الصوف على ظهر الغنم، فلأنه يقع الاختلاف في موضع القطع من الحيوان، فيقع الإِضرار به فكان مشتملاً على الغرر، وفيه علة أخرى وهي : أنه معجوز التسليم، لأن الصوف ينمو ساعة فساعة، فيختلط الموجود عند العقد بالحادث بعده على وجه لا يمكن التمييز بينهما.
وخالف الإِمام مالك في الحالتين، فقال : يجوز بيع اللبن في الضرع في الغنم السائمة التي لا يختلف لبنها، لا في الشاة الواحدة، أياماً معلومة، إذا عرف قدر حلابها، لسقي الصبي، كلبن الظئر، لتسامح غالب الناس به أياماً معلومة غالباً، بل رأينا من يسامح بلبن بقرته الشهر وأكثر بطريق الإِباحة أو الهبة. وقال أيضاً : يصح بيع الصوف على ظهر الغنم، لأنه مشاهد يمكن تسليمه.
وهناك رواية عند الحنابلة تقرر مثل هذا الحكم وهو أنه يجوز بيع الصوف على ظهر الغنم، بشرط جزّه في الحال، لأنه معلوم يمكن تسليمه.(1/134)
رأي بعض الحنابلة في بيع المعدوم : أجاز بعض الحنابلة بيع المعدوم عند العقد إذا كان محقق الوجود في المستقبل بحسب العادة، لأنه لم يثبت النهي عن بيع المعدوم لا في الكتاب ولا في السنة ولا في كلام الصحابة، وإنما ورد في السنة النهي عن بيع الغرر، وهو ما لا يقدر على تسليمه، سواء أكان موجوداً أم معدوماً كبيع الفرس النافر والجمل الشارد، فليست العلة في المنع لا العدم لا الوجود.
بل إن الشرع صحح بيع المعدوم في بعض المواضع، فإنه أجاز بيع الثمر بعد بدء صلاحه، والحب بعد اشتداده، ومعلوم أن العقد إنما ورد على الموجود والمعدوم الذي لم يخلق بعد. وعلى هذا فبيع المعدوم إذا كان مجهول الوجود في المستقبل باطل للغرر لا للعدم، فالأصل إذاً هو الغرر.
الفقه الإسلامي وأصوله - (ج 4 / ص 53)
أجمع العلماء على أن بيع الثمار قبل أن تخلق لا ينعقد، لأنه من باب النهي عن بيع مالم يخلق ومن باب بيع السنين والمعاومة.
وقد روي عنه عليه الصلاة والسلام أنه "نهى عن بيع السنين وعن بيع المعاومة" وهو بيع الشجر أعواماً، لأنه بيع المعدوم، وقد نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر، والغرر كما عرفنا : هو ما انطوى عنه أمره، وخفي عليه عاقبته، ونوع الغرر : هو أن المبيع مجهول الوجود قد يظهر وقد لا يظهر، ومجهول المقدار إن وجد.
وأما بيع الثمار بعد القطع أو الصرام، فلا خلاف في جوازه.
وأما بيع الثمار على الشجر أو بيع الزرع في الأرض بعد أن يخلق، فاختلف فيه العلماء : فقال الحنفية : إما أن يكون البيع قبل بدو الصلاح أو بعد بدو الصلاح بشرط القطع، أو مطلقاً أو بشرط الترك.
أولاً- فإن كان البيع قبل بدو صلاح الزرع أو الثمر، فهناك حالات :
-1 إن كان بشرط القطع جاز، ويجب القطع للحال، إلا بإذن البائع.(1/135)
-2 وإن كان البيع مطلقاً عن الشرط : جاز أيضاً عند الحنفية خلافاً للشافعي ومالك وأحمد، لأن الترك ليس بمشروط نصاً، إذ العقد مطلق عن الشرط أصلاً، فلا يجوز تقييده بشرط الترك من غير دليل، خصوصاً إذا كان في التقييد فساد العقد. وجواز بيعه على الصحيح عند الحنفية لأنه مال منتفع به ولو علفاً للدواب، وإن لم يكن منتفعاً به في الحال عند الإنسان.
الموسوعة الفقهية 1-42 - (ج 1 / ص 231)
» الفصل الثّاني أركان عقد الإجارة تمهيد «
10 - يختلف الفقهاء في تعداد أركان عقد الإجارة ، فالجمهور على أنّها : الصّيغة ' الإيجاب والقبول ' ، والعاقدان ، والمعقود عليه ' المنفعة والأجرة ' ، وذهب الحنفيّة إلى أنّها الصّيغة فقط ، وأمّا العاقدان والمعقود عليه فأطراف للعقد ومن مقوّماته ، فلا قيام للعقد إلاّ باجتماع ذلك كلّه.
فالخلاف لفظيّ لا ثمرة له.
الصّيغة :
11 - صيغة عقد الإجارة ما يتمّ بها إظهار إرادة المتعاقدين من لفظ أو ما يقوم مقامه ، وذلك بإيجاب يصدره المملّك ، وقبول يصدره المتملّك على ما يرى الجمهور ، في حين يرى الحنفيّة أنّ الإيجاب ما صدر أوّلاً من أحد المتعاقدين والقبول ما صدر بعد ذلك من الآخر.
وتفصيل الكلام في الصّيغ موطنه عند الكلام عن العقد.
12 - جمهور الفقهاء على أنّ الإجارة تنعقد بأيّ لفظ دالّ عليها ، كالاستئجار والاكتراء والإكراء.
وتنعقد بأعرتك هذه الدّار شهراً بكذا ، لأنّ العاريّة بعوض إجارة.
كما تنعقد بوهبتك منافعها شهراً بكذا ، وصالحتك على أن تسكن الدّار لمدّة شهر بكذا ، أو ملّكتك منافع هذه الدّار سنةً بكذا ، أو عوّضتك منفعة هذه الدّار سنةً بمنفعة دارك ، أو سلّمت إليك هذه الدّراهم في خياطة هذا ، أو في دابّة صفتها كذا ، أو في حملي إلى مكّة ، فيقول : قبلت ، مع أنّ هذه الألفاظ لم توضع في اللّغة لذلك ، لكنّها أفادت في هذا المقام تمليك المنفعة بعوض.(1/136)
13 - وتوسّع الحنابلة في ذلك حتّى قالوا : تنعقد الإجارة بلفظ أجّرت وما في معناه كالكراء ، سواء أضافه إلى العين ، نحو أجرتكها أو أكريتكها ، أو أضافه إلى النّفع ، نحو قوله : آجرتك نفع هذه الدّار ، أو : ملّكتك نفعها.
وتنعقد أيضاً بلفظ بيع مضافاً إلى النّفع ، نحو قوله : بعتك نفعها ، أو : بعتك سكنى الدّار ، ونحوه.
وقالوا : التّحقيق أنّ المتعاقدين إن عرفا المقصود انعقدت بأيّ لفظ كان من الألفاظ الّتي عرف بها المتعاقدان مقصودها ، فإنّ الشّارع لم يحدّ حدّاً لألفاظ العقد ، بل ذكرها مطلقةً.
وانعقادها بلفظ البيع مضافاً إلى المنافع قول عند الحنفيّة أيضاً ، وقول عند الشّافعيّة ، لأنّه صنف من البيع ، لأنّه تمليك يتقسّط العوض فيه على المعوّض ، كالبيع ، فانعقد بلفظه.
14 - وفي القول الأصحّ عند الشّافعيّة وقول عند الحنفيّة لا تنعقد الإجارة بلفظ : بعتك منفعتها ، لأنّ المنفعة مملوكة بالإجارة ، ولفظ البيع وضع لتمليك العين ، فذكره في المنفعة مفسد ، لأنّه ليس بكناية عن العقد ، ولأنّه يخالف البيع في الاسم والحكم ، ولأنّ بيع المعدوم باطل ، والمنافع المعقود عليها معدومة وقت العقد كما يقول الحنفيّة.
الإجارة بالمعاطاة.
15 - أجاز الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة التّعاقد بالأفعال في الأشياء الخسيسة والنّفيسة ما دام الرّضا قد تحقّق ، وفهم القصد ، وهو قول عند الشّافعيّة اختاره النّوويّ وجماعة.
الموسوعة الفقهية 1-42 - (ج 1 / ص 1034)
«صفة الاستصناع : حكمه التّكليفيّ»
7 - الاستصناع - باعتباره عقداً مستقلاًّ - مشروعٌ عند أكثر الحنفيّة على سبيل الاستحسان ، ومنعه زفر من الحنفيّة أخذاً بالقياس ؛ لأنّه بيع المعدوم.
ووجه الاستحسان : استصناع الرّسول صلى الله عليه وسلم الخاتم ، والإجماع من لدن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم دون نكيرٍ ، وتعامل النّاس بهذا العقد والحاجة الماسّة إليه.(1/137)
ونصّ الحنابلة على أنّه لا يصحّ استصناع سلعةٍ ، لأنّه بيع ما ليس عنده على وجه غير السّلم ، وقيل : يصحّ بيعه إلى المشتري إن صحّ جمعٌ بين بيعٍ وإجارةٍ منه بعقدٍ واحدٍ ؛ لأنّه بيعٌ وسلمٌ.
الموسوعة الفقهية 1-42 - (ج 1 / ص 2079)
- 3- في إعلام الموقّعين بعد أن قرّر ابن القيّم أنّ العلّة في بطلان بيع المعدوم هي الغرر قال : وكذلك سائر عقود المعاوضات بخلاف الوصيّة فإنّها تبرّع محض ، فلا غرر في تعلّقها بالموجود والمعدوم ، وما يقدر على تسليمه وما لا يقدر ، وطرده « مثاله » : الهبة ، إذ لا محذور في ذلك فيها ، وقد صحّ عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم هبة المشاع المجهول في قوله لصاحب كبّة الشّعر حين أخذها من المغنم ، وسأله أن يهبها له فقال : « أمّا ما كان لي ولبني عبد المطّلب فهو لك »
27 -/ 4- في القواعد لابن رجبٍ في إضافة الإنشاءات والإخبارات إلى المبهمات قال : أمّا الإنشاءات فمنها العقود ، وهي أنواع :
أحدها : عقود التّمليكات المحضة كالبيع والصّلح بمعناه « أي على بدلٍ » ، وعقود التّوثيقات كالرّهن والكفالة ، والتّبرّعات اللّازمة بالعقد أو بالقبض بعدةٍ كالهبة والصّدقة ، فلا يصحّ في مبهمٍ من أعيانٍ متفاوتةٍ ، كعبدٍ من عبيدٍ ، وشاةٍ من قطيعٍ ، وكفالة أحد هذين الرّجلين ، وضمان أحد هذين الدّينين.
وفي الكفالة احتمال ، لأنّه تبرّع ، فهو كالإعارة والإباحة ، ويصحّ في مبهمٍ من أعيانٍ متساويةٍ مختلطةٍ ، كقفيزٍ من صبرةٍ ، فإن كانت متميّزةً متفرّقةً ففيه احتمالان ذكرهما في التّلخيص ، وظاهر كلام القاضي الصّحّة.
والثّاني : عقود معاوضاتٍ غير متمحّضةٍ ، كالصّداق وعوض الخلع والصّلح عن دم العمد ، ففي صحّتها على مبهمٍ من أعيانٍ مختلفةٍ وجهان : أصحّهما الصّحّة.(1/138)
والثّالث : عقد تبرّعٍ معلّق بالموت فيصحّ في المبهم بغير خلافٍ لما دخله من التّوسّع ، ومثله عقود التّبرّعات ، كإعارة أحد هذين الثّوبين وإباحة أحد هذين الرّغيفين ، وكذلك عقود المشاركات والأمانات المحضة ، مثل أن يقول : ضارب بإحدى هاتين المائتين - وهما في كيسين - ودع الأخرى عندك وديعةً.
وأمّا الفسوخ فما وضع منها على التّغليب والسّراية صحّ في المبهم كالطّلاق والعتاق. إلخ.
الموسوعة الفقهية 1-42 - (ج 1 / ص 3113)
وفيما يلي بيان تلك الشّروط على طريقة الجمهور ، مع الإشارة إلى ما اعتبره الحنفيّة منها شرط انعقاد.
«شروط المبيع»
«للمبيع شروط هي أن يكون المبيع موجوداً حين العقد»
28 - فلا يصحّ بيع المعدوم ، وذلك باتّفاق الفقهاء.
وهذا شرط انعقاد عند الحنفيّة.
ومن أمثلة بيع المعدوم بيع الثّمرة قبل أن تخلق ، وبيع المضامين « وهي ما سيوجد من ماء الفحل » ، وبيع الملاقيح « وهي ما في البطون من الأجنّة » وذلك لحديث ابن عبّاس رضي الله عنهما : « نهى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عن بيع المضامين والملاقيح وحبل الحبلة » .
ولما في ذلك من الغرر والجهالة.
وللحديث : « نهى عن بيع الغرر » .
ولا خلاف في استثناء بيع السّلم ، فهو صحيح مع أنّه بيع المعدوم ، وذلك للنّصوص الواردة فيه ، ومنها : « نهى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عن بيع ما ليس عند الإنسان ، ورخّص في السّلم » .
«أن يكون مالاً»
29 - وعبّر المالكيّة والشّافعيّة عن هذا الشّرط بلفظ : النّفع أو الانتفاع ، ثمّ قالوا : ما لا نفع فيه ليس بمال فلا يقابل به ، أي لا تجوز المبادلة به.
وهو شرط انعقاد عند الحنفيّة.
والمال ما يميل إليه الطّبع ، ويجري فيه البذل والمنع ، فما ليس بمال ليس محلاً للمبادلة بعوض ، والعبرة بالماليّة في نظر الشّرع ، فالميتة والدّم المسفوح ليس بمال.
«أن يكون مملوكاً لمن يلي العقد»
30 - وذلك إذا كان يبيع بالأصالة.(1/139)
واعتبر الحنفيّة هذا الشّرط من شروط الانعقاد ، وقسموه إلى شقّين :
الأوّل : أن يكون المبيع مملوكاً في نفسه ، فلا ينعقد بيع الكلأ مثلاً ، لأنّه من المباحات غير المملوكة ، ولو كانت الأرض مملوكةً له.
والثّاني : أن يكون المبيع ملك البائع فيما يبيعه لنفسه ، فلا ينعقد بيع ما ليس مملوكاً ، وإن ملكه بعد ، إلاّ السّلم ، والمغصوب بعد ضمانه ، والمبيع بالوكالة ، أو النّيابة الشّرعيّة ، كالوليّ والوصيّ والقيّم.
الموسوعة الفقهية 1-42 - (ج 1 / ص 3146)
بيع الاستجرار
التّعريف
1 - البيع : مبادلة المال بالمال تمليكاً وتملّكاً.
والاستجرار لغةً : الجذب والسّحب ، وأجررته الدّين : أخّرته له.
وبيع الاستجرار : أخذ الحوائج من البيّاع شيئاً فشيئاً ، ودفع ثمنها بعد ذلك.
الألفاظ ذات الصّلة
«البيع بالتّعاطي»
2 - المعاطاة والتّعاطي : المناولة والمبادلة.
والبيع بالتّعاطي : أن يتقابض البائع والمشتري من غير صيغة ، أي إنّ البائع يعطي المبيع ولا يتلفّظ بشيء ، والمشتري يعطي الثّمن كذلك.
والفرق بين بيع الاستجرار والتّعاطي هو : أنّ بيع الاستجرار أعمّ ، لأنّه قد يكون بإيجاب وقبول ، وقد يكون بالتّعاطي ، كما أنّ الغالب في الاستجرار تأجيل الثّمن ، وعدم تحديده في بعض الصّور.
«الأحكام المتعلّقة ببيع الاستجرار»
تتعدّد صور بيع الاستجرار ، ولذلك تختلف أحكامه من صورة لأخرى ، وبيان ذلك فيما يلي
«مذهب الحنفيّة»
صور بيع الاستجرار الّتي وردت عند الحنفيّة هي
3 - الصّورة الأولى : أن يأخذ الإنسان من البيّاع ما يحتاج إليه شيئاً فشيئاً ممّا يستهلك عادةً ، كالخبز والملح والزّيت والعدس ونحوها ، مع جهالة الثّمن وقت الأخذ ، ثمّ يشتريها بعد استهلاكها.(1/140)
فالأصل عدم انعقاد هذا البيع ، لأنّ المبيع معدوم وقت الشّراء ، ومن شرائط المعقود عليه أن يكون موجوداً ، لكنّهم تسامحوا في هذا البيع وأخرجوه عن هذه القاعدة « اشتراط وجود المبيع » وأجازوا بيع المعدوم هنا استحساناً ، وذلك كما في البحر الرّائق والقنية.
وقال بعض الحنفيّة : ليس هذا بيع معدوم ، إنّما هو من باب ضمان المتلفات بإذن مالكها عرفاً ، تسهيلاً للأمر ودفعاً للحرج ، كما هو العادة.
ولم يرتض الحمويّ وغيره هذا المعنى.
وقال ابن عابدين : إنّ المسألة استحسان ، ويمكن تخريجها على قرض الأعيان ، ويكون ضمانها بالثّمن استحساناً ، كحلّ الانتفاع في الأشياء القيميّة ، لأنّ قرضها فاسد لا يحلّ الانتفاع به وإن ملّكت بالقبض.
الموسوعة الفقهية 1-42 - (ج 1 / ص 3265)
ويشترط فيه الفقهاء جملةً من الشّروط
aaالشّرط الأوّل ما يتعلّق بالمعقود عليهaa
5 - أن يكون المعقود عليه موجوداً حين العقد » أي غير معدوم « فلا يقع عندهم بيع المعدوم ، ويعتبر باطلاً.
ويتمثّل هذا في البيوع الآتية : بيع المضامين ، والملاقيح ، وحبل الحبلة ، وبيع الجنين في بطن أمّه.
والمضامين : جمع مضمون ، كمجنون.
وهي : ما في أصلاب الفحول ، عند الجمهور وبعض المالكيّة كابن جزيّ.
أمّا الملاقيح : فهي جمع ملقوحة وملقوح ، وهي : ما في أرحام الأنعام والخيل من الأجنّة.
وفسّر الإمام مالك المضامين بأنّها : بيع ما في بطون إناث الإبل ، وأنّ الملاقيح بيع ما في ظهور الفحول.
وأمّا بيع حبل الحبلة فهو بيع نتاج النّتاج ، بأن يبيع ولد ما تلده هذه النّاقة أو الدّابّة ، فولد ولدها هو نتاج النّتاج.
ولا يختلف الفقهاء في بطلان بيع هذه الجملة من البيوع.
قال ابن المنذر : وقد أجمعوا على أنّ بيع الملاقيح والمضامين غير جائز ، وذلك لحديث ابن عبّاس رضي الله عنهما " أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع المضامين والملاقيح وحبل الحبلة ".(1/141)
ولقول سعيد بن المسيّب : لا ربا في الحيوان ، وإنّما نهي من الحيوان عن ثلاثة : عن المضامين والملاقيح وحبل الحبلة.
ولأنّ في هذا البيع غرراً ، فعسى أن لا تلد النّاقة ، أو تموت قبل ذلك ، فهو بيع معدوم وماله خطر المعدوم.
وعلّله الشّافعيّة بأنّه : بيع ما ليس بمملوك ، ولا معلوم ولا مقدور على تسليمه.
وعلّله الحنابلة : بالجهالة ، فإنّه لا تعلم صفته ولا حياته ، وبأنّه غير مقدور التّسليم ، وإذا لم يجز بيع الحمل ، فأولى أن لا يجوز بيع حمله.
6 - ومن قبيل بيع المعدوم أيضاً : بيع عسب الفحل.
وقد روي في الحديث عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : " نهى النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن ثمن عسب الفحل " ويروى : " عن عسب الفحل ".
فقال الكاسانيّ فيها : ولا يمكن حمل النّهي على نفس العسب ، وهو الضّراب ، لأنّ ذلك جائز بالإعارة ، فيحمل على البيع والإجارة ، إلاّ أنّه حذف ذلك ، وأضمره فيه ، كما في قوله تعالى : {واسْأل القرية}.
الموسوعة الفقهية 1-42 - (ج 1 / ص 3321)
والنبي صلى الله عليه وسلم إنما رخص في السلم للضرورة ، مع أنه بيع المعدوم ، فحيث تحققت الضرورة هنا أيضاً ، أمكن إلحاقه بالسلم بطريق الدلالة ، فلم يكن مصادماً للنص ، فلذا جعلوه من الاستحسان ، لأن القياس عدم الجواز.
وظاهر كلام الفتح الميل
إلى الجواز ، ولذا أورد له الرواية عن محمد ، بل إن الحلواني رواه عن أصحابنا ، وما ضاق الأمر إلا اتسع ، ولا يخفى أن هذا مسوغ للعدول عن ظاهر الرواية.
87 - المالكية ، القائلون بالجواز ، قسموا هذه المتلاحقات ، وهي ذات البطون ،
إلى قسمين - ما تتميز بطونه.
- وما لا تتميز بطونه.
والذي لا تتميز بطونه قسمان : ماله آخر ، وما لا آخر له.
«وفيما يلي أحكامها»
أولاً :ما تتميز بطونه ، وهو المنفصل غير المتتابع.
وذلك في الشجر الذي يطعم في السنة بطنين متميزين.(1/142)
فهذا لا يجوز أن يباع البطن الثّاني بعد وجوده وقبل صلاحه ببدوّ صلاح البطن الأوّل ، وإن كان لا ينقطع الأوّل حتّى يبدو طيب الثّاني.
وهذا هو المشهور عندهم.
وحكى ابن رشد قولاً بالجواز ، بناءً على أنّ البطن الثّاني يتبع الأوّل في الصّلاح ، لكن ابن جزيّ جعل عدم الجواز في هذه الصّورة اتّفاقاً.
ثانياً : ما يخلف ويطعم بطناً بعد بطن ، ولا تتميّز بطونه ، وله آخر.
« أي نهاية ينتهي إليها » كالورد والتّين ، وكالمقاثئ من الخيار والقثّاء والبطّيخ والجمّيز والباذنجان وما أشبه ذلك ، فهذا يجوز بيع سائر البطون ببدوّ صلاح الأوّل.
قال ابن جزيّ : خلافاً لهم ، أي للأئمّة الثّلاثة.
فمن اشترى شيئاً من المذكورات ، يقضي له بالبطون كلّها ، ولو لم يشترطها في العقد.
ولا يجوز في هذا التّوقيت بشهر ونحوه ، لاختلاف حملها بالقلّة والكثرة.
الموسوعة الفقهية 1-42 - (ج 1 / ص 4098)
تسليف
التّعريف
1 - من معاني التّسليف في اللّغة : التّقديم ، وهو مصدر سلّف.
يقال : سلّفت إليه وتسلّف منه كذا واستسلف : اقترض أو أخذ السّلف ، والسّلف : القرض والسّلم.
وروي عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « من أسلف فليسلف في كيل معلوم ، ووزن معلوم ، إلى أجل معلوم » .
والسّلف في المعاملات : القرض الّذي لا منفعة فيه للمقرض غير الأجر والشّكر ، وعلى المقترض ردّه كما أخذه.
والسّلف : نوع من البيوع يعجّل فيه الثّمن وتضبط السّلعة بالوصف إلى أجل معلوم.
ولا يخرج المعنى الاصطلاحيّ عن المعنى اللّغويّ المتقدّم.
فقد ورد أنّ السّلف أو السّلم : بيع شيء موصوف في الذّمّة ، يتقدّم فيه رأس المال ، ويتأخّر المثمّن لأجل.
الحكم الإجماليّ
2 - السّلف جائز بالكتاب والسّنّة والإجماع.(1/143)
أمّا الكتاب ، فقوله تعالى «يا أَيُّها الّذينَ آمَنُوا إذا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوه» قال ابن عبّاس رضي الله عنهما : أشهد أنّ السّلف المضمون إلى أجل مسمًّى قد أحلّه اللّه تعالى في كتابه وأذن فيه ، ثمّ قرأ الآية.
وأمّا السّلف الّذي بمعنى السّلم فقد ثبت بالسّنّة والإجماع ، ففي حديث ابن عبّاس « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قدم المدينة ، وهم يسلفون في الثّمار ، السّنة والسّنتين والثّلاث ، فقال : من أسلف في شيء فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم » .
وأمّا الإجماع ، فقال ابن المنذر : أجمع كلّ من نحفظ عنه من أهل العلم على أنّ السّلم جائز ، ولأنّ المثمّن في البيع أحد عوضي العقد فجاز أن يثبت في الذّمّة كالثّمن ، ولأنّ بالنّاس حاجةً إليه - لأنّ أرباب الزّروع والثّمار والتّجارات يحتاجون إلى النّفقة على أنفسهم أو على الزّروع ونحوها حتّى تنضج - فجوّز لهم السّلم دفعاً للحاجة.
وقد استثني عقد السّلم من قاعدة عدم جواز بيع المعدوم لما فيه من مصلحة للنّاس ، رخصةً لهم وتيسيراً عليهم.
الموسوعة الفقهية 1-42 - (ج 1 / ص 5058)
ومنه الرّخص لانخفاض السّعر ، ضدّ الغلاء ، لما في الرّخص من السّهولة ، وفي الغلاء من الشّدّة.
والتّرخيص في الاصطلاح أن يجعل في الأمر سهولة.
والرّخصة تستعمل باصطلاحين :
الأوّل : الحكم النّازل باليسر بعد العسر لعذر من الأعذار.
والثّاني : وهو أخصّ من الأوّل : ما استبيح مع قيام المحرّم.
فالإذن في السّلم مع انعدام المبيع رخصة من بيع المعدوم على التّعريف الأوّل ، وليس رخصة على التّعريف الثّاني ، إلّا أن يكون مجازا.
وكذا ما نسخ عنّا من الآصار والأغلال الّتي كانت على من قبلنا رخصة على الأوّل ، لا على الثّاني ، لأنّ التّحريم لم يبق علينا.
«ج - التّوسعة»(1/144)
4 - التّوسعة مصدر وسّع ، أي صيّر الشّيء واسعا ، والسّعة ضدّ الضّيق ، والسّعة الغنى والرّفاهية.
ووسّع اللّه على فلان : أغناه ورفّهه ، ووسّع فلان على أهله : أنفق عليهم عن سعة ، أي بما يزيد عن قدر الحاجة.
فالتّوسعة من التّيسير ، بل هي أعلى التّيسير.
«د - رفع الحرج»
5 - الحرج لغة : الضّيق وما لا مخرج له ، وقال بعضهم : هو أضيق الضّيق.
سئل ابن عبّاس عن الحرج ، فدعا رجلاً من هذيل فقال له : ما الحرج فيكم ؟ فقال : الحرجة من الشّجر ما لا مخرج له.
فقال ابن عبّاس : هو ذلك.
الحرج ما لا مخرج له.
وفي الاصطلاح : الحرج ما فيه مشقّة فوق المعتاد.
ورفع الحرج : إزالة ما في التّكليف الشّاقّ من المشقّة برفع التّكليف من أصله ، أو بتخفيفه ، أو بالتّخيير فيه ، أو بأن يجعل له مخرج ، كرفع الحرج في اليمين بإباحة الحنث فيها مع التّكفير عنها أو بنحو ذلك من الوسائل ، فرفع الحرج لا يكون إلّا بعد الشّدّة ، خلافاً للتّيسير.
«هـ - التّوسّط»
6 - التّوسّط في الأمر أن لا يذهب فيه إلى أحد طرفيه.
والتّوسّط في الشّريعة من هذا الباب.
فلا غلوّ فيها ولا تقصير ، ولكن هي وسط بينهما.
الموسوعة الفقهية 1-42 - (ج 1 / ص 5149)
قال ابن جزيّ في حكم المساقاة : وهي جائزة مستثناة من أصلين ممنوعين : وهما الإجارة المجهولة ، وبيع ما لم يخلق « بيع المعدوم » .
وخالف أبو حنيفة في ذلك وذهب إلى عدم الجواز لما روي « أنّه عليه الصلاة والسلام نهى عن المخابرة » ، فقيل : ما المخابرة ، قال المزارعة بالثّلث والرّبع.
ولقوله صلى الله عليه وسلم : « من كانت له أرض فليزرعها أو فليزرعها أخاه ، ولا يكاريها بثلث ، ولا بربع ، ولا بطعام مسمّى » ولأنّ الأجر مجهول أو معدوم وكلّ ذلك مفسد للعقد.
غير أنّ الفتوى عند الحنفيّة على قول أبي يوسف ومحمّد بالجواز للحاجة ، وقياسا على المضاربة.
ومنع الشّافعيّة كذلك المزارعة بعقد منفرد.(1/145)
أمّا إذا أدخلت مع عقد المساقاة ، وذلك بأن يكون بين النّخل بياض ، فتصحّ المزارعة عندهم ، ولكن بشروط.
وهناك شروط لعقدي المزارعة والمساقاة وتفصيلات تنظر في مصطلح « مزارعة ، مساقاة ، معاملة ، مخابرة » .
«سادساً : سرقة الثّمار»
24 - ذهب جمهور الفقهاء « الحنفيّة والمالكيّة في أحد القولين والشّافعيّة والحنابلة » إلى أنّه لا قطع في سرقة الثّمر المعلّق على الشّجر لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « لا قطع في ثمر ولا كثر » .
ولقوله صلى الله عليه وسلم : فيما روي عن عبد اللّه بن عمرو أنّ « رجلاً من مزينة أتى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول اللّه ، كيف ترى في حريسة الجبل ؟ فقال : هي مثلها والنّكال ، وليس في شيء من الماشية قطع إلاّ فيما آواه المراح فبلغ ثمن المجنّ ، ففيه قطع اليد ، وما لم يبلغ ثمن المجنّ ففيه غرامة مثليه وجلدات نكال.
قال يا رسول اللّه ، كيف ترى في الثّمر المعلّق ؟ قال : هو ومثله معه والنّكال ، وليس في شيء من الثّمر المعلّق قطع ، إلاّ فيما آواه الجرين ، فما أخذ من الجرين فبلغ ثمن المجنّ ففيه القطع ، وما لم يبلغ ثمن المجنّ ففيه غرامة مثليه وجلدات نكال » .
ولأنّه لا إحراز فيما على الشّجر.
الموسوعة الفقهية 1-42 - (ج 1 / ص 5632)
19 - لا يجوز بيع اللّبن في الضّرع قبل انفصاله عند جمهور الفقهاء لورود النّهي عنه ، ولأنّه مجهول الصّفة والمقدار.
ومثله بيع السّمن في اللّبن ، وبيع النّوى في التّمر.
وقد سبق الكلام عليه في مصطلح : « بيع منهيّ عنه » .
«بيع السّمك في الماء»
20 - لا يجوز عند جمهور الفقهاء بيع السّمك في الماء « لنهي النّبيّ صلى الله عليه وسلم عنه » ، ولأنّه غير مملوك ، ولا يقدر على تسليمه ، ولأنّه مجهول فلا يصحّ بيعه.
وقد تقدّم الكلام عليه في مصطلح : « بيع منهيّ عنه » .
«بيع المعدوم»(1/146)
21 - اتّفق الفقهاء على أنّه لا يصحّ بيع المعدوم كبيع ما لم يخلق ، وبيع المضامين ، وبيع الملاقيح ، وحبل الحبلة للنّصّ ، ولأجل الجهالة.
وقد سبق الكلام عليه في مصطلح : « بيع منهيّ عنه » .
«بيع الجزاف»
22 - بيع الجزاف هو البيع بلا كيل ولا وزن ولا عدّ ، وقد اتّفق الفقهاء على جوازه من حيث الجملة مع ما فيه من الجهالة لحاجة النّاس واضطرارهم إليه.
« ر : بيع الجزاف » .
«ج - الجهالة في الثّمن»
23 - إذا اختلفت أنواع الأثمان المتعامل بها في البلد وليس أحدها غالباً فلا يصحّ البيع حينئذ للجهالة المفضية إلى المنازعة.
وتفصيله في مصطلحي « ثمن ، بيع » .
«الجهالة في السّلم»
24 - الجهالة في السّلم إمّا أن تكون في رأس المال « الثّمن » وإمّا أن تكون في المسلم فيه ، وإمّا أن تكون في الأجل ، فأمّا الثّمن فيشترط فيه بيان جنسه ، ونوعه ، وصفته ، وقدره.
وأمّا المسلم فيه فيشترط فيه أيضا أن يكون معلوم الجنس ، والنّوع ، والصّفة ، والقدر ، كيلاً أو وزناً أو عدّاً أو ذرعاً.
وعلّة اشتراط هذه الأمور إزالة الجهالة ، لأنّ الجهالة في كلّ منها تفضي إلى المنازعة ، ومن ثمّ تكون مفسدة للعقد.
قال صلى الله عليه وسلم : « من أسلف فليسلف في كيل معلوم ، ووزن معلوم ، إلى أجل معلوم » وتفصيله في مصطلح « سلم » .
الموسوعة الفقهية 1-42 - (ج 1 / ص 5711)
وبيان ذلك أنّ حفظ المهجة مهمّ كلّيّ ، وحفظ المروءات مستحسن ، فحرّمت النّجاسات حفظا للمروآت ، فإن دعت الضّرورة إلى إحياء المهجة بتناول النّجس كان تناوله أولى.
وكذلك أصل البيع ضروريّ ، ومنع الغرر والجهالة مكمّل ، فلو اشترط نفي الغرر جملة لانحسم باب البيع ، وكذلك الإجارة ضروريّة أو حاجيّة ، واشتراط وجود العوضين في المعاوضات من باب التّكميلات ، ولمّا كان ذلك ممكناً في بيع الأعيان من غير عسر منع من بيع المعدوم إلاّ في السّلم.(1/147)
وذلك في الإجارات ممتنع ، فاشتراط وجود المنافع فيها وحضورها يسدّ باب المعاملة بها ، والإجارة محتاج إليها فجازت وإن لم يحضر العوض أو لم يوجد ، ومثله جار في الاطّلاع على العورات للمداواة وغيرها.
وكذلك الجهاد مع ولاة الجور قال العلماء بجوازه ، قال مالك : لو ترك ذلك لكان ضررا على المسلمين ، فالجهاد ضروريّ ، والوالي فيه ضروريّ ، والعدالة فيه « أي في الوالي » مكمّلة للضّرورة ، والمكمّل إذا عاد على الأصل بالإبطال لم يعتبر ، ولذلك جاء الأمر بالجهاد مع ولاة الجور عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم حيث قال : « الجهاد واجب عليكم مع كلّ أمير ، برّاً كان أو فاجراً » .
وكذلك الصّلاة خلف ولاة السّوء.
قال الشّاطبيّ : وأشياء كثيرة من هذا القبيل في الشّريعة تفوق الحصر كلّها جاء على هذا الأسلوب.
2 - أن تكون الحاجة قائمة لا منتظرة
14 - للأخذ بمقتضى الحاجة من التّرخّص يشترط أن يكون سبب الحاجة موجوداً فعلاً وليس منتظرا ، واعتبار وجود الحاجة شرطاً للأخذ بمقتضاها إنّما هو فيما شرع من الرّخص لما يوجد من أعذار ، أمّا ما شرع أصلا للتّيسير والتّسهيل على العباد مراعاة لحاجاتهم كعقود الإجارة والقراض والقرض والمساقاة فلا ينطبق عليها هذا الشّرط.
وتظهر هذه القاعدة بوضوح في الفروع الفقهيّة المبنيّة على الرّخص ومن أمثلة ذلك:
أ - السّفر من الأعذار الّتي تبيح قصر الصّلاة والفطر للصّائم.
الموسوعة الفقهية 1-42 - (ج 1 / ص 8858)
8 - بعدما ثبتت مشروعيّة عقد السّلم بالكتاب والسّنّة والإجماع اختلف الفقهاء في كون هذه المشروعيّة على وفق القياس ومقتضى القواعد العامّة في الشّريعة ، أم أنّها جاءت استثناءً على خلاف القياس لحاجة النّاس إلى هذا العقد ، وذلك على قولين
أحدهما : لجمهور الفقهاء من « الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة » ، وهو أنّ السّلم عقد جائز على خلاف القياس.(1/148)
قال ابن نجيم : « هو على خلاف القياس ، إذ هو بيع المعدوم ، ووجب المصير إليه بالنّصّ والإجماع للحاجة » .
وقال زكريّا الأنصاريّ : « السّلم عقد غرر جوّز للحاجة.
وفي منح الجليل : » صرّح في المدوّنة بأنّ السّلم رخصة مستثناة من بيع ما ليس عند بائعه «.
والثّاني : لتقيّ الدّين بن تيميّة وابن القيّم ، وهو أنّ السّلم عقد مشروع على وفق القياس ، وليس فيه مخالفة للقواعد الشّرعيّة.
قال ابن تيميّة : وأمّا قولهم » السّلم على خلاف القياس « فقولهم هذا من جنس ما رووا عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال : " لا تبع ما ليس عندك " وأرخصّ في السّلم.
وهذا لم يرو في الحديث ، وإنّما هو من كلام بعض الفقهاء ، وذلك أنّهم قالوا : السّلم بيع الإنسان ما ليس عنده ، فيكون مخالفاً للقياس.
ونهي النّبيّ صلى الله عليه وسلم حكيم بن حزام عن بيع ما ليس عنده : إمّا أن يراد به بيع عين معيّنة ، فيكون قد باع مال الغير قبل أن يشتريه.
وفيه نظر.
وإمّا أن يراد به بيع ما لا يقدر على تسليمه ، وإن كان في الذّمّة.
وهذا أشبه.
فيكون قد ضمن له شيئاً لا يدري هل يحصل أو لا يحصل.
وهذا في السّلم الحالّ إذا لم يكن عنده ما يوفّيه.
والمناسبة فيه ظاهرة.
فأمّا السّلم المؤجّل ، فإنّه دين من الدّيون ، وهو كالابتياع بثمن مؤجّل.
الموسوعة الفقهية 1-42 - (ج 1 / ص 10948)
ولهذا فقد اشترط الفقهاء في محلّ العقد شروطاً تكلّموا عنها في كلّ عقد وذكروا بعض الشّروط العامّة الّتي يجب توافرها في العقود عامّةً أو في مجموعة من العقود ، منها :
«أ - وجود المحلّ»(1/149)
34 - يختلف اشتراط هذا الشّرط باختلاف العقود : ففي عقد البيع مثلاً اتّفق الفقهاء في الجملة على وجود المحلّ ، فلا يجوز بيع ما لم يوجد لقوله صلى الله عليه وسلم : « لا تبع ما ليس عندك » ولأنّ في بيع ما لم يوجد غرراً وجهالةً فيمنع ، لحديث : « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الغرر » وعلى ذلك صرّحوا ببطلان بيع المضامين والملاقيح وحبل الحبلة .
ومنعوا من بيع الزّروع والثّمار قبل ظهورها ، لقوله صلى الله عليه وسلم : « أرأيت إذا منع اللّه الثّمرة بم يأخذ أحدكم مال أخيه ؟ » .
واستثنى الفقهاء من بيع المعدوم عقد السّلم ، وذلك لحاجة النّاس إليه .
كما استثنى الحنفيّة من ذلك عقد الاستصناع للدّليل نفسه .
ر : « استصناع ف 7 » .
أمّا بيع الزّرع أو الثّمر قبل ظهورهما فلا يجوز ؛ لأنّه معدوم ولا يجوز العقد على المعدوم ، أمّا بعد الظّهور وقبل بدوّ الصّلاح فإن كان الثّمر أو الزّرع بحال ينتفع بهما فيجوز البيع بشرط القطع في الحال اتّفاقاً لعدم الغرر في ذلك ، ولا يجوز بغير شرط القطع عند جمهور الفقهاء .
واختلفوا في بيع الثّمار المتلاحقة الظّهور .
وتفصيل ذلك في مصطلح : « ثمار ف 11 - 13 » .
وفي عقد الإجارة اعتبر جمهور الفقهاء المنافع أموالاً ، واعتبرها كذلك الشّافعيّة والحنابلة موجودةً حين العقد تقديراً ، فيصحّ التّعاقد عليها بناءً على وجود المنافع حين العقد عندهم ، ولهذا يقولون بنقل ملكيّة المنافع للمستأجر والأجرة للمؤجّر بنفس العقد في الإجارة المطلقة .
الموسوعة الفقهية 1-42 - (ج 1 / ص 11247)(1/150)
قال الكاسانيّ عن خيار الشّرط : إنّ شرط الخيار يمنع انعقاد العقد في حقّ الحكم للحال فكان شرطاً مغيّراً مقتضى العقد وأنّه مفسد للعقد في الأصل ، وهو القياس ، وإنّما جاز بالنّصّ وهو ما ورد أنّ حبّان بن منقذ رضي الله عنه كان يغبن في التّجارات ، فشكا أهله إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقال له : « إذا بايعت فقل : لا خلابة » وزاد في رواية : « ثمّ أنت في كلّ سلعة تبتاعها بالخيار ثلاث ليال » وللحاجة إلى دفع الغبن بالتّأمّل والنّظر .
وقال الكمال عن عقد السّلم : ولا يخفى أنّ جوازه على خلاف القياس ، إذ هو بيع المعدوم ، وجب المصير إليه بالنّصّ والإجماع للحاجة من كلّ من البائع والمشتري ، فإنّ المشتري يحتاج إلى الاسترباح لنفقة عياله ، وهو بالسّلم أسهل ، إذ لا بدّ من كون البيع نازلاً عن القيمة فيربحه المشتري ، والبائع قد يكون له حاجة في الحال إلى السّلم ، وقدرة في المال على البيع بسهولة ، فتندفع به حاجته الحاليّة إلى قدرته المآليّة ، فلهذه المصالح شرع . وقال الباجيّ : إنّما جوّز الجعل في العمل المجهول والغرر للضّرورة .
وقال النّوويّ : الأصل أنّ بيع الغرر باطل ، لما روى أبو هريرة رضي الله تعالى عنه « أنّ
النّبيّ صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الغرر » ، والمراد ما كان فيه غرر ظاهر يمكن الاحتراز عنه ، فأمّا ما تدعو إليه الحاجة ، ولا يمكن الاحتراز عنه كأساس الدّار ، وشراء الحامل مع احتمال أنّ الحمل واحد أو أكثر ، وذكر أو أنثى ، وكامل الأعضاء أو ناقصها ، وكشراء الشّاة في ضرعها لبن ، ونحو ذلك ، فهذا يصحّ بيعه بالإجماع .
وبعد أن قرّر ابن قدامة عدم جواز بيع اللّبن في الضّرع قال : وأمّا لبن الظّئر فإنّما جاز للحضانة ، لأنّه موضع الحاجة .
«د - أن يكون الغرر في عقد من عقود المعاوضات الماليّة»
الموسوعة الفقهية 1-42 - (ج 1 / ص 11251)(1/151)
وقال الكمال : جهالة الأجل تفضي إلى المنازعة في التّسلّم والتّسليم ، فهذا يطالبه في قريب المدّة وذاك في بعيدها ، ولأنّه عليه الصلاة والسلام في موضع شرط الأجل - وهو السّلم - أوجب فيه التّعيين ، حيث قال : « من أسلف في تمر فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم » .
وعلى كلّ ذلك انعقد الإجماع
«ب - الغرر في عقد الإجارة»
15 - الغرر في عقد الإجارة قد يرد على صيغة العقد ، وقد يرد على محلّ العقد .
فمن الغرر في صيغة عقد الإجارة : التّعليق ، فلا يصحّ أن يقول : إن قدم زيد فقد آجرتك ، بسبب أنّ انتقال الأملاك يعتمد الرّضا ، والرّضا إنّما يكون مع الجزم ، ولا جزم مع التّعليق ، فإنّ شأن المعلّق عليه أن يعترضه عدم الحصول ، وفي ذلك غرر .
وأمّا الغرر في محلّ العقد فلا يختلف عمّا ذكر في البيع ، لذا يشترط الفقهاء في محلّ الإجارة ما يشترطونه في محلّ البيع ، ومن ذلك أن تكون الأجرة والمنفعة معلومتين ، لأنّ جهالتهما تفضي إلى المنازعة ، ففي حديث أبي سعيد رضي الله تعالى عنه « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم نهى عن استئجار الأجير حتّى يبيّن له أجره » .
ومن ذلك أيضاً : أن يكون محلّ الإجارة مقدوراً على تسليمه ، فلا تجوز إجارة متعذّر التّسليم حسّاً ، كإجارة البعير الشّارد ، أو شرعاً كإجارة الحائض لكنس المسجد ، والطّبيب لقلع سنّ صحيح ، والسّاحر على تعليم السّحر .
«ج - الغرر في عقد السّلم»
16 - القياس عدم جواز بيع السّلم ، إذ هو بيع المعدوم ، وإنّما جوّزه الشّارع للحاجة .
قال الكمال : ولا يخفى أنّ جوازه على خلاف القياس ، إذ هو بيع المعدوم ، وجب المصير إليه بالنّصّ والإجماع للحاجة من كلّ من البائع والمشتري .
ويشترط في السّلم ما يشترط في البيع .
وزاد الفقهاء شروطاً أخرى لتخفيف الغرر فيه منها : تسليم رأس المال في مجلس العقد ، قال الغزاليّ : من شرائطه تسليم رأس المال في المجلس جبراً للغرر في الجانب .(1/152)
الموسوعة الفقهية 1-42 - (ج 1 / ص 14198)
مَعْدُوم
التّعريف
1 - تعريف المعدوم لغةً : المفقود , يقال : عدمته عدماً من باب تعب : فقدته والاسم : العُدْم .
وفي الاصطلاح , قال البركتيّ : العدم ما يقابل الوجود .
«الأحكام المتعلّقة بالمعدوم»
يتعلّق بالمعدوم أحكام منها :
«أ - بيع المعدوم»
2 - ذهب الفقهاء إلى عدم صحّة بيع المعدوم , وأنّه لا ينعقد بيع المعدوم وماله خطر العدم , واشترط الفقهاء أن يكون المعقود عليه موجوداً حين العقد - أي غير معدومٍ - . واستثنوا من ذلك حالاتٍ ، وتفصيل ذلك في : « بيع منهي عنه ف 5 وما بعدها » .
«ب - الوصيّة بالمعدوم»
3 - ذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى أنّه تصح الوصيّة بالمعدوم مطلقاً , لأنّه يقبل التّمليك في حال حياة الموصي فتصح الوصيّة به .
وذهب الحنفيّة إلى أنّه تجوز الوصيّة بالمعدوم إذا كان قابلاً للتّمليك بعقد من العقود , قال ابن عابدين : قال في النّهاية : ولهذا قلنا بأنّ الوصيّة بما تثمر نخيله العام تجوز وإن كان الموصى به معدوماً , لأنّه يقبل التّمليك حال حياة الموصي بعقد المعاملة .
والوصيّة بما تلد أغنامه لا تجوز استحساناً , لأنّه لا يقبل التّمليك حال حياة الموصي بعقد من العقود .
وتفصيل ذلك في : « وصيّة » .
«ج - الوصيّة للمعدوم»
4 - ذهب الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى أنّ الوصيّة للمعدوم باطلة ولا تصح , لأنّ من شرط الموصى له أن يكون موجوداً وقت الوصيّة ويتصوّر الملك له , فتصح الوصيّة لحمل في بطن أمّه .
وذهب المالكيّة إلى أنّ الوصيّة للمعدوم جائزة , وهو أن يوصي لميّت علم الموصي بموته حين الوصيّة , وتصرف في وفاء ديونه ثمّ لوارثه , فإن لم يكن وارث بطلت ولا يعطى لبيت المال .
وتفصيل ذلك في : « وصيّة » .
«د - هبة المعدوم»(1/153)
5 - ذهب الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى أنّه لا تصح هبة المعدوم لأنّ من شرط الموهوب أن يكون موجوداً وقت الهبة , مثل أن يهب ما يثمر نخله هذا العام أو ما تلد أغنامه هذه السّنة , لأنّه تمليك لمعدوم فيكون العقد باطلاً .
وذهب المالكيّة إلى جواز هبة المجهول والمعدوم المتوقّع الوجود , كالعبد الآبق والبعير الشّارد والثّمرة قبل بدوّ الصّلاح .
قال ابن رشدٍ : ولا خلاف في المذهب في جواز هبة المجهول والمعدوم المتوقّع الوجود , وبالجملة كل ما لا يصح بيعه من جهة الغرر - أي لا تأثير للغرر على صحّة الهبة - . وتفصيل ذلك في مصطلح : « هبة » .
«هـ - الخلع بالمعدوم»
6 - ذهب الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة إلى صحّة الخلع بالمجهول وبالمعدوم إذا كان عوض الخلع مشتملاً على غررٍ , أو معدومٍ ينتظر وجوده , كجنين في بطن حيوانٍ تملكه الزّوجة , أو كان مجهولاً كأحد فرسين , أو غير موصوفٍ من عوضٍ أو حيوانٍ وثمرةٍ لم يبد صلاحها على تفصيلٍ في مصطلح : « خلع ف 26 » .
«و - الإجارة على معدومٍ»
7 - اتّفق أهل العلم على جواز الإجارة على معدومٍ لأنّ الحاجة إلى المنافع كالحاجة إلى الأعيان , فلمّا جاز العقد على الأعيان وجب أن تجوز الإجارة على المنافع , ولا يخفى ما بالنّاس من الحاجة إلى ذلك .
وانظر تفصيل ذلك في مصطلح : « إجارة ف 26 وما بعدها » .
يسألونك فتاوى - (ج 3 / ص 204)
( لا تبع ما ليس عندك )
يقول السائل : ماذا يعني قول النبي صلى الله عليه وسلم :( لا تبع ما ليس عندك ) ؟(1/154)
الجواب : هذا الحديث ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم من رواية حكيم بن حزام قال :( سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت : يأتيني الرجل فيسألني من البيع ما ليس عندي أبتاع له من السوق ثم أبيعه ؟ قال : لا تبع ما ليس عندك ) رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح . ورواه أبو داود والنسائي وابن ماجة وقال الألباني : صحيح . انظر إرواء الغليل 5/132 . وفي رواية أخرى عند الترمذي عن حكيم بن حزام قال :( نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أبيع ما ليس عندي ) .
وقال الترمذي :[ والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم كرهوا أن يبيع الرجل ما ليس عنده ] سنن الترمذي مع شرحه تحفة الأحوذي 4/363 .
وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( لا يحل سلف وبيع ولا شرطان في بيع ولا ربح ما لم يضمن ولا بيع ما ليس عندك ) رواه الترمذي وقال هذا حديث حسن صحيح . سنن الترمذي مع شرحه تحفة الأحوذي 4/361 .
وهذا الحديث يدل على أنه لا يجوز أن يبيع المسلم ما ليس عنده أي ما ليس في ملكه عند العقد قال المباركفوري :[ وفي قوله صلى الله عليه وسلم :( لا تبع ما ليس عندك ) دليل على تحريم بيع ما ليس في ملك الإنسان ولا داخلاً تحت قدرته ] تحفة الأحوذي 4/360
وقد جعل الفقهاء من شروط صحة عقد البيع أن يكون المبيع موجوداً حين العقد وأن يكون في ملك البائع ولم يجيزوا بيع المعدوم كبيع ما تنتجه الحيوانات وبيع ما في ملك جاره أو صديقه لأنه غير مملوك للبائع وقد استثني من هذا الأصل بيع السلم وألحق به عقد الاستصناع .
قال الإمام البغوي في شرح حديث ( لا تبع ما ليس عندك ) :[ هذا في بيوع الأعيان دون بيوع الصفات فلو قبل السلم في شيء موصوف عام الوجود عند المحل المشروط يجوز وإن لم يكن في ملكه حال العقد ] شرح السنة 8/141 .(1/155)
وقال الشوكاني :[ وظاهر النهي تحريم ما لم يكن في ملك الإنسان ولا داخلاً تحت مقدرته وقد استثني من ذلك السلم فتكون أدلة جوازه مخصصة لهذا العموم ] نيل الأوطار 5/175 .
ونقل الحافظ ابن حجر عن ابن المنذر قوله :[ وبيع ما ليس عندك يحتمل معنيين أحدهما : أن يقول : أبيعك عبداً أو داراً معينة وهي غائبة فيشبه بيع الغرر لاحتمال أن تتلف أو لا يرضاها . وثانيهما : أن يقول : هذه الدار بكذا على أن أشتريها لك من صاحبها أو على أن يسلمها لك صاحبها وقصة حكيم موافقة للاحتمال الثاني ] فتح الباري 4/441 .
وبيع السلم الذي استثناه العلماء من بيع ما ليس عند الإنسان هو بيع آجل بعاجل أو هو بيع موصو ف في الذمة ببدل يعطى عاجلاً .
ومثال ذلك أن يبيع المزارع ألف كيلوغرام من الزيتون بسعر خمسة آلاف شيكل يقبضها عند العقد على أن يسلم كمية الزيتون بعد أربعة أشهر مثلاً وعقد السلم مشروع باتفاق العلماء وقد دل على مشروعيته الكتاب والسنة وإجماع أهل العلم . قال الله تعالى :( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ ) سورة البقرة الآية 282 . وقال ابن عباس : هذه الآية نزلت في السلَّم خاصة . تفسير القرطبي 3/377 . وصح في الحديث عن ابن عباس رضي الله عنهما قال :( قدم النبي صلى الله عليه وسلم وهم يسلفون في الثمار السنة والسنتين فقال : من أسلف في تمر فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم . رواه البخاري ومسلم .(1/156)
وعقد السلم من العقود التي تعطي مرونة كبيرة للاقتصاد الإسلامي وتفتح مجالاً رحباً في الزراعة والصناعة فالمزارع يبيع إنتاجه الزراعي مقدماً وكذا صاحب المصنع يبيع إنتاجه ويحصل على ثمنه مقدماً على أن يسلمه في مدة لاحقة متفق عليها وقد جاء في قرار مجمع الفقه الإسلامي المتعلق بالسلم وتطبيقاته المعاصرة ما يلي :[ يعد السلم في عصرنا الحاضر أداة تمويل ذات كفاءة عالية في الاقتصاد الإسلامي وفي نشاطات المصارف الإسلامية من حيث مرونتها واستجابتها لحاجات التمويل المختلفة سواء أكان تمويلاً قصير الأجل أم متوسطه أم طويله واستجابتها لحاجات شرائح مختلفة ومتعددة من العملاء سواء أكانوا من المنتجين الزراعيين أم الصناعيين أم المقاولين أم من التجار واستجابتها لتمويل نفقات التشغيل والنفقات الرأسمالية الأخرى . ولهذا تعددت مجالات تطبيق عقد السلم ومنها ما يلي :
أ. يصلح عقد السلم لتمويل عمليات زراعية مختلفة حيث يتعامل المصرف الإسلامي مع المزارعين الذين يتوقع أن توجد لديهم السلعة في الموسم من محاصيلهم أو محاصيل غيرهم التي يمكن أن يشتروها ويسلموها إذا أخفقوا في التسليم من محاصيلهم فيقدم لهم بهذا التمويل نفعاً بالغاً ويدفع عنهم مشقة العجز المالي عن تحقيق إنتاجهم .
ب . يمكن استخدام عقد السلم في تمويل النشاط الزراعي والصناعي ولا سيما تمويل المراحل السابقة لإنتاج وتصدير السلع والمنتجات الرائجة وذلك بشرائها سلماً وإعادة تسويقها بأسعار مجزية .
ج . يمكن تطبيق عقد السلم في تمويل الحرفيين وصغار المنتجين الزراعيين والصناعيين عن طريق إمدادهم بمستلزمات الإنتاج في صورة معدات وآلات أو مواد أولية كرأس مال سلم مقابل الحصول على بعض منتجاتهم وإعادة تسويقها ] الفقه الإسلامي وأدلته 9/645-646 .(1/157)
وأما عقد الاستصناع الذي استثناه العلماء أيضاً من بيع ما ليس عند الإنسان فهو فرع من عقد السلم عند جمهور أهل العلم وهو عقد مع صانع على عمل شيء معين في الذمة كمن يطلب من نجار أن يصنع له خزانة بأوصاف معينة بثمن معين .
وعقد الاستصناع عقد مشروع فقد صح :( أن النبي صلى الله عليه وسلم استصنع خاتماً ) رواه البخاري . وعقد الاستصناع أيضاً يفتح آفاقاً واسعة في الاقتصاد الإسلامي يقول الشيخ العلامة مصطفى الزرقا :[ إن عقد الاستصناع لا يجري في المنتوجات الطبيعة التي لا تدخلها الصنعة كالبقول والفواكه واللحوم الطازجة واللبن والقمح وسائر الحبوب ... إلخ فهذه السلع الطبيعية طريق بيع غير الموجود منها وقت العقد إنما هو السلم فلا يجري الاستصناع إلا فيما تدخله الصنعة كالأمثلة السابقة البيان . واليوم قد وجدت صناعة التعليب لهذه المنتوجات الطبيعية وصناعة تجميدها أيضاً لتحفظ معلبة أو مجمدة مثلجة في علب أو أكياس البلاستيك فهل تنتقل بذلك من زمرة المنتوجات الطبيعية إلى زمرة المصنعات فيصح فيها عقد الاستصناع ويجوز التعاقد مع معمل التعليب على أن يقوم بتعليب الكميات المطلوبة من كل نوع بمواصفات معينة .
لا شك في كون الجواب إيجابياً لأنها انتقلت بهذا العمل الصناعي إلى زمرة المصنعات ويدخل في ذلك الأسماك واللحوم والخضروات وسواها . بطريق الاستصناع يمكن إقامة المباني على أرض مملوكة للمستصنع بعقد مقاولة فإذا كان عقد المقاولة يقوم على أساس أن المقاول هو الذي يأتي بمواد البناء ويتحمل جميع تكاليفه ويسلمه جاهزاً على المفتاح فهذا يمكن أن يعتبر استصناعاً ] عقد الاستصناع ومدى أهميته ص24 نقلاً عن البيوع الشائعة ص177 .(1/158)
وبعد هذا الكلام ترى أن العلماء قد منعوا بيع ما ليس عند الإنسان واستثنوا من ذلك بيع السلم وعقد الاستصناع مع أن كلاً منهما عقد على غير مملوك للإنسان عند العقد وأود أن أنبه إلى أن بعض الناس قد أدخل تحت النهي عن بيع ما ليس عند الإنسان صوراً من التعامل الصحيحة الجائزة وزعموا أنها محرمة فمن ذلك :
بيع المرابحة للآمر بالشراء الذي تتعامل به المصارف الإسلامية وإدخال بيع المرابحة المذكور تحت بيع ما ليس عندك غير صحيح وتجنٍ على المصارف الإسلامية لأن المعروف أن المصارف الإسلامية عندما تتعامل ببيع المرابحة للآمر بالشراء فإنها لا تبيع السلعة للآمر بالشراء إلا بعد أن يتملك المصرف الإسلامي السلعة تملكاً تاماً وقد جاء في قرارات مؤتمر المصرف الإسلامي ما يلي :[ يقرر المؤتمر أن المواعدة على بيع المرابحة للآمر بالشراء بعد تملك السلعة المشتراة وحيازتها ثم بيعها لمن أمر بشرائها بالربح المذكور في الموعد السابق هو أمر جائز شرعاً طالما كانت تقع على المصرف الإسلامي مسؤولية الهلاك قبل التسليم وتبعة الرد فيما يستوجب الرد بعيب خفي ] بيع المرابحة للآمر بالشراء ص60 .
فإذا اتفق شخص مع آخر على أن يشتري له سلعة وصفها له واتفقا على ثمنها وأن ثمنها سيكون على أقساط مؤجلة وتم الوعد بينهما على ذلك ولكن العقد لم يجر بينهما إلا بعد تملك الأول للسلعة فالعقد صحيح وهذه المعاملة غير داخلة في بيع ما ليس عند الإنسان .
ومن الصور التي زعم بعض الناس دخولها تحت بيع ما ليس عندك ما تعارف عليه الناس قديماً وحديثاً مما يسميه الناس ( التفصيل ) يقولون فلان فصَّل غرفة نوم وفلان فصَّل بدلة ، وهذا في الحقيقة هو عقد استصناع وهو عقد صحيح إذا تم وفق ما قرره الفقهاء .(1/159)
ومن الصور التي زعم بعض الناس أنها تدخل في بيع ما ليس عندك شراء سيارة جديدة من وكالة السيارات والسيارة ليست موجودة لدى الوكالة وإنما ما زالت في بلد الإنتاج : وهذا الزعم باطل لأنه عندما يتم بيع سيارة بالطريقة السابقة فإن جميع التفاصيل تكون مبينة وواضحة فيما يسمى بكتالوج السيارة بل إن أدق التفاصيل تكون مذكورة فيه فهذا العقد صحيح ولا يدخل تحت بيع ما ليس عند الإنسان بل هو من صور السلم .
ومن الصور الجائزة في البيع أيضاً وغير داخلة في بيع ما ليس عند الإنسان بيع عمارة أو شقة على الخارطة إذا كانت الأوصاف مبينة وواضحة فهذه الصورة لا بأس بها أيضاً وقد جاء في قرار مجمع الفقه الإسلامي المتعلق بالتمويل العقاري لبناء المساكن ما يلي :[ أن تُملك المساكن عن طريق عقد الاستصناع - على أساس اعتباره لازماً - وبذلك يتم شراء المسكن قبل بنائه بحسب الوصف الدقيق المزيل للجهالة المؤدية للنزاع دون وجوب تعجيل جميع الثمن بل يجوز تأجيله بأقساط يتفق عليها مع مراعاة الشروط والأحوال المقررة لعقد الاستصناع لدى الفقهاء الذين ميزوه عن عقد السلم ] مجلة مجمع الفقه الإسلامي عدد 6 ج 1 /188 .
قواعد الأحكام في مصالح الأنام - (ج 2 / ص 252)(1/160)
قَاعِدَةٌ فِي اخْتِلَافِ أَحْكَامِ التَّصَرُّفَاتِ لِاخْتِلَافِ مَصَالِحِهَا اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى شَرَعَ فِي كُلِّ تَصَرُّفٍ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ مَا يُحَصِّلُ مَقَاصِدَهُ وَيُوَفِّرُ مَصَالِحَهُ ؛ فَشَرَعَ فِي بَابِ مَا يُحَصِّلُ مَصَالِحَهُ الْعَامَّةَ وَالْخَاصَّةَ ، فَإِنْ عَمَّتْ الْمَصْلَحَةُ جَمِيعَ التَّصَرُّفَاتِ شُرِعَتْ تِلْكَ الْمَصْلَحَةُ فِي كُلِّ تَصَرُّفٍ ، وَإِنْ اخْتَصَّتْ بِبَعْضِ التَّصَرُّفَاتِ شُرِعَتْ فِيمَا اخْتَصَّتْ بِهِ دُونَ مَا لَمْ تَخْتَصَّ بِهِ ، بَلْ قَدْ يُشْتَرَطُ فِي بَعْضِ الْأَبْوَابِ مَا يَكُونُ مُبْطَلًا فِي غَيْرِهِ نَظَرًا إلَى مَصْلَحَةِ الْبَابَيْنِ ، كَمَا يُشْتَرَطُ اسْتِقْصَاءُ أَوْصَافِ الْمَحْكُومِ لَهُ وَالْمَحْكُومِ عَلَيْهِ أَنْ يَنْتَهِيَ إلَى عِزَّةِ وُجُودِهِ الْمُشَارِكِ فِي تِلْكَ الْأَوْصَافِ ، كَيْ لَا يَقَعَ الْحُكْمُ عَلَى مُبْهَمٍ .
وَلَوْ وَقَعَ مِثْلُ ذَلِكَ فِي السَّلَمِ لَأَفْسَدَهُ لِأَنَّهُ مُؤَدٍّ إلَى تَعَذُّرِ تَحْصِيلِ مَقْصُودِهِ ، وَلِذَلِكَ شُرِطَ التَّوْقِيتُ فِي الْإِجَارَةِ وَالْمُسَاقَاةِ وَالْمُزَارَعَةِ ، وَلَوْ وَقَعَ التَّوْقِيتُ فِي النِّكَاحِ لَأَفْسَدَهُ لِمُنَافَاتِهِ لِمَقْصُودِهِ ، وَكَذَلِكَ شُرِطَ فِي الْعُقُودِ اللَّازِمَةِ عَلَى الْمَنَافِعِ أَنْ يَكُونَ أَجَلُهَا مَعْلُومًا وَجُعِلَ أَجَلُ النِّكَاحِ مُقَدَّرًا لِعُمُرِ أَقْصَرِ الزَّوْجَيْنِ عُمُرًا .(1/161)
فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ الشَّرْعَ مَنَعَ مِنْ بَيْعِ الْمَعْدُومِ وَإِجَارَتِهِ وَهِبَتِهِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْغَرَرِ وَعَدَمِ الْحَاجَةِ ، وَجَوَّزَ عُقُودَ الْمَنَافِعِ مَعَ عَدَمِهَا إذْ لَا يُتَصَوَّرُ وُجُودُهَا حَالَ الْعَقْدِ ، وَلَا تَحْصُلُ مَنَافِعُهَا إلَّا كَذَلِكَ وَقَدْ جَوَّزَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ إجَارَةَ الْمَنَافِعِ بِالْمَنَافِعِ ، وَإِنْ كَانَتَا مَعْدُومَتَيْنِ ، كَمَا جَوَّزَتْ الشَّرِيعَةُ عَقْدَ النِّكَاحِ بِتَعْلِيمِ الْقُرْآنِ ، وَهُوَ مُقَابَلَةُ مَنْفَعَةِ التَّعْلِيمِ بِمَنْفَعَةِ الْبُضْعِ ، وَالتَّقْدِيرُ زَوَّجْتُكهَا بِتَعْلِيمِ مَا مَعَك مِنْ الْقُرْآنِ أَوْ بِتَلْقِينِ مَا مَعَك مِنْ الْقُرْآنِ ، وَكَمَا أَنْكَحَ شُعَيْبٌ ابْنَتَهُ مِنْ مُوسَى بِرَعْيِ عَشْرِ حِجَجٍ مُقَابِلَ مَنَافِعِ الْبُضْعِ بِالرَّعْيِ ، كَمَا قَابَلَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنَافِعَ الْبُضْعِ بِتَعْلِيمِ الْقُرْآنِ .
أنوار البروق في أنواع الفروق - (ج 6 / ص 417)
( الشَّرْطُ التَّاسِعُ ) أَنْ يَكُونَ مُؤَجَّلًا فَيَمْتَنِعُ السَّلَمُ الْحَالُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ بِلَا خِلَافٍ عَنْهُ فِي ذَلِكَ ، وَكَذَا عِنْدَ ابْنِ حَنْبَلٍ وَعَلَى ظَاهِرِ مَذْهَبِ مَالِكٍ وَالْمَشْهُورُ عَنْهُ ، وَقَدْ قِيلَ إنَّهُ يَتَخَرَّجُ مِنْ بَعْضِ الرِّوَايَاتِ عَنْهُ جَوَازُ السَّلَمِ الْحَالِّ وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ مُحْتَجًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَوَّلًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ } وَثَانِيًا بِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { اشْتَرَى جَمَلًا مِنْ أَعْرَابِيٍّ بِوَسْقٍ مِنْ تَمْرِ الذَّخِرَةُ .(1/162)
فَلَمَّا دَخَلَ الْبَيْتَ لَمْ يَجِدْ التَّمْرَ فَقَالَ لِلْأَعْرَابِيِّ إنِّي لَمْ أَجِدْ التَّمْرَ فَقَالَ الْأَعْرَابِيُّ وَاغَدْرَاه فَاسْتَقْرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسْقًا وَأَعْطَاهُ } فَجَعَلَ الْجَمَلَ قُبَالَةَ وَسْقٍ فِي الذِّمَّةِ وَهُوَ السَّلَمُ الْحَالُّ وَثَالِثًا بِالْقِيَاسِ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ الْبُيُوعِ وَرَابِعًا بِالْقِيَاسِ عَلَى الثَّمَنِ فِي الْبُيُوعِ لَا يُشْتَرَطُ فِيهَا الْأَجَلُ وَخَامِسًا بِأَنَّ السَّلَمَ إذَا جَازَ مُؤَجَّلًا فَلْيَجُزْ مُنَجَّزًا بِطَرِيقِ الْأَوْلَى لِأَنَّهُ أَنْفَى لِلْغَرَرِ وَجَوَابُ الْأَوَّلِ أَنَّ قَوْلَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ أَسْلَمَ فَلْيُسْلِمْ إلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ } أَخَصَّ مِنْ الْآيَةِ فَيُقَدَّمُ عَلَيْهَا وَهُوَ أَمْرٌ وَالْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ وَجَوَابُ الثَّانِي إنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ سَلَمٌ كَيْفَ ، وَقَدْ وَقَعَ الْعَقْدُ عَلَى تَمْرٍ مُعَيَّنٍ مَوْصُوفٍ إذْ لَا يُقَالُ فِي الَّذِي فِي الذِّمَّةِ لَمْ أَجِدْ شَيْئًا لِتَيَسُّرِهِ بِالشِّرَاءِ لَكِنْ لَمَّا رَأَى رَغْبَةَ الْبَدْوِيِّ فِي التَّمْرِ اقْتَرَضَ لَهُ تَمْرًا آخَرَ عَلَى أَنَّهُ أَدْخَلَ الْبَاءَ عَلَى التَّمْرِ ، فَيَكُونُ ثَمَنًا لَا مَثْمُونًا ؛ لِأَنَّ الْبَاءَ مِنْ خَصَائِصِ الثَّمَنِ وَجَوَابُ الثَّالِثِ وَالرَّابِعِ وَالْخَامِسِ أَنَّ الثَّابِتَ فِيهَا التَّبَايُنُ لَا الشَّرِكَةُ وَلَا يَصِحُّ قِيَاسٌ بِدُونِهَا أَمَّا فِي الثَّالِثِ وَالرَّابِعِ فَبِوَجْهَيْنِ الْوَجْهُ الْأَوَّلُ مَوْضُوعُ الْبَيْعِ الْمُكَايَسَةُ وَالتَّعْجِيلُ يُنَاسِبُهَا وَمَوْضُوعُ السَّلَمِ الرِّفْقُ وَالتَّأْجِيلُ يُنَاسِبُهُ وَالْوَجْهُ الثَّانِي أَنَّ التَّعْجِيلَ يُنَافِي مَوْضُوعَ السَّلَمِ وَبِهِ(1/163)
يَبْطُلُ مَدْلُولُ الِاسْمِ وَالتَّأْجِيلُ لَا يُنَافِي مَوْضُوعَ الْبَيْعِ وَلَا يَبْطُلُ بِهِ مَدْلُولُ الِاسْمِ فَلِذَلِكَ صَحَّتْ مُخَالَفَةُ قَاعِدَةِ الْبَيْعِ فِي الْمُكَايَسَةِ بِالتَّأْجِيلِ وَلَمْ تَصِحَّ مُخَالَفَةُ قَاعِدَةِ السَّلَمِ فِي الرِّفْقِ بِالتَّعْجِيلِ .
وَأَمَّا فِي الْخَامِسِ فَلِأَنَّ الْأَوْلَوِيَّةَ فَرْعُ الشَّرِكَةِ وَالرِّفْقُ الَّذِي يَحْصُلُ بِالتَّأْجِيلِ لَا يَحْصُلُ بِالْحُلُولِ فَكَيْفَ يَقُولُ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى عَلَى أَنَّا وَإِنْ سَلَّمْنَا حُصُولَ الرِّفْقِ بِالْحُلُولِ أَيْضًا لَا نُسَلِّمُ عَدَمَ الْغَرَرِ مَعَ الْحُلُولِ ، بَلْ الْحُلُولُ فِي السَّلَمِ غَرَرٌ ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ فَهُوَ قَادِرٌ عَلَى بَيْعِهِ مُعَيَّنًا حَالًا فَعُدُولُهُ إلَى السَّلَمِ قَصْدٌ لِلْغَرَرِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ فَالْأَجَلُ بِعَيْنِهِ عَلَى تَحْصِيلِهِ وَالْحُلُولُ يَمْنَعُ ذَلِكَ وَيُعَيَّنُ الْغَرَرُ ، وَهَذَا هُوَ الْغَالِبُ ؛ لِأَنَّ ثَمَنَ الْمُعَيَّنِ أَكْثَرُ فَلَوْ كَانَ عِنْدَهُ لَعَيَّنَهُ لِتَحْصِيلِ فَضْلِ الثَّمَنِ فَيَنْدَرِجُ الثَّمَنُ الْحَالُّ فِي الْغَرَرِ فَيَمْتَنِعُ قَوْلُهُ أَنَّ جَوَازَهُ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى ، وَهَذَا الْكَلَامُ فِي هَذَا الْقِيَاسِ عَزِيزٌ فَإِنَّ الشَّافِعِيَّةَ يَظُنُّونَ بِهَذَا الْقِيَاسِ أَنَّهُ قَطْعِيٌّ أَنَّهُ يَقْتَضِي الْجَوَازَ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَيَحْكُونَ هَذِهِ الْعِبَارَةَ عَنْ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَقَدْ ظَهَرَ بِهَذَا الْبَحْثِ انْعِكَاسُهُ عَلَيْهِمْ وَظَهَرَ أَنَّهُ غَرَرٌ لَا أَنَّهُ أَنْفَى لِلْغَرَرِ ، بَلْ أَوْجَدُ لِلْغَرَرِ ، ثُمَّ نَقُولُ هُوَ أَحَدُ الْعِوَضَيْنِ فِي السَّلَمِ فَلَا يَقَعُ إلَّا عَلَى وَجْهٍ وَاحِدٍ كَالثَّمَنِ عَلَى أَنَّهُ إذَا لَمْ(1/164)
يُشْتَرَطْ فِيهِ الْأَجَلُ كَانَ مِنْ بَابِ بَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَ الْبَائِعِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ نَعَمْ وَذَهَبَ اللَّخْمِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا إلَى التَّفْصِيلِ فِي ذَلِكَ فَقَالَ إنَّ السَّلَمَ فِي الْمَذْهَبِ يَكُونُ عَلَى ضَرْبَيْنِ سَلَمٌ حَالٌّ وَهُوَ الَّذِي يَكُونُ مِمَّنْ شَأْنُهُ بَيْعُ تِلْكَ السِّلْعَةِ وَسَلَمٌ مُؤَجَّلٌ وَهُوَ الَّذِي يَكُونُ مِمَّنْ لَيْسَ مِنْ شَأْنِهِ بَيْعُ تِلْكَ السِّلْعَةِ وَاخْتَلَفُوا فِي الْأَجَلِ فِي مَوْضِعَيْنِ ( أَحَدُهُمَا ) هَلْ يُقَدَّرُ بِغَيْرِ الْأَيَّامِ وَالشُّهُورِ مِثْلُ الْجُذَاذِ وَالْقِطَافِ وَالْحَصَادِ وَالْمَوْسِمِ ( وَالثَّانِي ) فِي مِقْدَارِ زَمَنِ الْأَيَّامِ وَتَحْصِيلِ مَذْهَبِ مَالِكٍ فِي مِقْدَارِهِ مِنْ الْأَيَّامِ أَنَّ الْمُسْلَمَ فِيهِ عَلَى ضَرْبَيْنِ ضَرْبٌ يَقْتَضِي بَلَدَ الْمُسْلَمِ فِيهِ وَضَرْبٌ يَقْتَضِي بِغَيْرِ الْبَلَدِ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ السَّلَمُ فَإِنْ اقْتَضَاهُ فِي الْبَلَدِ الْمُسْلَمِ فِيهِ فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ إنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي ذَلِكَ أَجَلٌ تَخْتَلِفُ فِيهِ الْأَسْوَاقُ وَذَلِكَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا أَوْ نَحْوَهَا وَرَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْيَوْمَيْنِ وَالثَّلَاثَةِ ، وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ لَا بَأْسَ بِهِ إلَى الْيَوْمِ الْوَاحِدِ .(1/165)
وَأَمَّا مَا يُقْتَضَى بِبَلَدٍ آخَرَ فَإِنَّ الْأَجَلَ عِنْدَهُمْ فِيهِ هُوَ قَطْعُ الْمَسَافَةِ الَّتِي بَيْنَ الْبَلَدَيْنِ قَلَّتْ أَوْ كَثُرَتْ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَا يَكُونُ أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَمَنْ جَعَلَ الْأَجَلَ شَرْطًا غَيْرَ مُعَلَّلٍ اشْتَرَطَ مِنْهُ أَقَلَّ مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ الِاسْمُ ، وَمَنْ جَعَلَهُ شَرْطًا مُعَلَّلًا بِاخْتِلَافِ الْأَسْوَاقِ اشْتَرَطَ مِنْ الْأَيَّامِ مَا تَخْتَلِفُ فِيهِ الْأَسْوَاقُ غَالِبًا .(1/166)
وَأَمَّا الْأَجَلُ إلَى الْجُذَاذِ وَالْحَصَادِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ فَأَجَازَهُ مَالِكٌ وَمَنَعَهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ فَمَنْ رَأَى أَنَّ الِاخْتِلَافَ الَّذِي يَكُونُ فِي أَمْثَالِ هَذِهِ الْآجَالِ يَسِيرٌ جَازَ ذَلِكَ إذْ الْغَرَرُ الْيَسِيرُ مَعْفُوٌّ عَنْهُ فِي الشَّرْعِ وَشَبَّهَهُ بِالِاخْتِلَافِ الَّذِي يَكُونُ فِي الشُّهُورِ مِنْ قِبَلِ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ ، وَمَنْ رَأَى أَنَّهُ كَثِيرٌ وَإِنَّمَا كَثُرَ مِنْ الِاخْتِلَافِ الَّذِي يَكُونُ مِنْ قِبَلِ نُقْصَانِ الشُّهُورِ لَمْ يُجِزْهُ هَذَا مَا فِي الْأَصْلِ وَالْبِدَايَةِ وَقَيَّدَ ابْنُ حَنْبَلٍ الْأَجَلَ بِقَيْدَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا وَثَانِيهِمَا أَنْ يَكُونَ لَهُ وَقْعٌ فِي الثَّمَنِ عَادَةً كَالشَّهْرِ كَمَا فِي الْإِقْنَاعِ قَالَ وَفِي الْكَافِي أَوْ نِصْفُهُ أَوْ نَحْوُهُ هـ وَفِي شَرْحِهِ وَفِي الْمُغْنِي وَالشَّرْحِ وَمَا قَارَبَ الشَّهْرَ قَالَ الزَّرْكَشِيُّ وَكَثِيرٌ مِنْ الْأَصْحَابِ يُمَثِّلُ بِالشَّهْرِ وَالشَّهْرَيْنِ فَمِنْ ثَمَّ قَالَ بَعْضُهُمْ أَقَلُّهُ شَهْرٌ ( الشَّرْطُ الْعَاشِرُ ) أَنْ يَكُونَ الْأَجَلُ مَعْلُومًا نَفْيًا لِلْغَرَرِ قَالَ الْخَرَشِيُّ وَاشْتُرِطَ فِي الْأَجَلِ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا لِيُعْلَمَ مِنْهُ الْوَقْتُ الَّذِي يَقَعُ فِيهِ قَضَاءُ الْمُسْلَمِ فِيهِ فَالْأَجَلُ الْمَجْهُولُ غَيْرُهُ مُقَيَّدٌ ، بَلْ مُفْسِدٌ لِلْعَقْدِ ا هـ .
وَفِي الْإِقْنَاعِ مَعَ شَرْحِهِ وَأَنَّ شَرْطَهُ إلَى الْعِيدِ أَوْ إلَى رَبِيعٍ أَوْ إلَى جُمَادَى أَوْ إلَى النَّفْرِ مِنْ مِنًى وَنَحْوِهِمَا مِمَّا يَشْتَرِكُ فِيهِ شَيْئَانِ لَمْ يَصِحَّ السَّلَمُ حَتَّى يُعَيَّنَ أَحَدُهُمَا لِلْجَهَالَةِ ا هـ .(1/167)
وَقَدْ عَلِمْت الْخِلَافَ فِي تَقْدِيرِهِ بِغَيْرِ الْأَيَّامِ مِثْلُ الْجُذَاذِ وَالْحَصَادِ وَنَحْوِهِمَا فَأَجَازَهُ مَالِكٌ وَمَنَعَهُ أَبُو حَنِيفَةَ الشَّافِعِيُّ ، وَكَذَا أَحْمَدُ كَمَا هُوَ مُقْتَضَى كَلَامِ الْإِقْنَاعِ الْمُتَقَدِّمِ ( الشَّرْطُ الْحَادِي عَشَرَ ) أَنْ يَكُونَ الْأَجَلُ زَمَنَ وُجُودِ الْمُسْلَمِ فِيهِ فَلَا يُسْلَمُ فِي فَاكِهَةِ الصَّيْفِ لِيَأْخُذَهَا فِي الشِّتَاءِ قَالَ الْخَرَشِيُّ الشَّرْطُ وُجُودُهُ أَيْ الْمُسْلَمُ فِيهِ عِنْدَ حُلُولِ أَجَلِهِ ، وَلَوْ انْقَطَعَ فِي أَثْنَاءِ الْأَجَلِ ، بَلْ ، وَلَوْ انْقَطَعَ فِي الْأَجَلِ مَا عَدَا وَقْتَ الْقَبْضِ ، بَلْ ، وَلَوْ انْقَطَعَ عِنْدَ حُلُولِ الْأَجَلِ نَادِرًا خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ ا هـ بِزِيَادَةٍ مِنْ الْعَدَوِيِّ عَلَيْهِ .
وَقَالَ الْحَفِيدُ فِي الْبِدَايَةِ لَمْ يَشْتَرِطْ مَالِكٌ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ أَنْ يَكُونَ جِنْسُ الْمُسْلَمِ فِيهِ مَوْجُودًا حِينَ عَقَدَ السَّلَمَ ، وَقَالُوا يَجُوزُ السَّلَمُ فِي غَيْرِ وَقْتِ إبَّانِهِ .(1/168)
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ وَالثَّوْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ لَا يَجُوزُ السَّلَمُ إلَّا فِي إبَّانِ الشَّيْءِ الْمُسْلَمِ فِيهِ وَحُجَّةُ مَنْ لَمْ يَشْتَرِطْ الْإِبَّانَ مَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ { أَنَّ النَّاسَ كَانُوا يُسْلِمُونَ فِي الثَّمَرِ السَّنَتَيْنِ وَالثَّلَاثَ فَأَقَرَّ ذَلِكَ وَلَمْ يُنْهُوا عَنْهُ } وَعُمْدَةُ الْحَنَفِيَّةِ مَا رُوِيَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { لَا تُسْلِمُوا فِي النَّخْلِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهَا } وَكَأَنَّهُمْ رَأَوْا أَنَّ الْغَرَرَ يَكُونُ فِيهِ أَكْثَرَ إذَا لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا فِي حَالِ الْعَقْدِ وَكَأَنَّهُ يُشْبِهُ بَيْعَ مَا لَمْ يُخْلَقْ أَكْثَرَ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مُعَيَّنًا ، وَهَذَا فِي الذِّمَّةِ وَبِهَذَا فَارَقَ السَّلَمُ بَيْعَ مَا لَمْ يُخْلَقْ ا هـ .(1/169)
وَقَالَ الْأَصْلُ السَّلَمُ فِيمَا يَنْقَطِعُ فِي بَعْضِ الْأَجَلِ وَأَجَازَهُ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَابْنُ حَنْبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَمَنَعَهُ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَاشْتَرَطَ اسْتِمْرَارَ وُجُودِ الْمُسْلَمِ فِيهِ مِنْ حِينِ الْعَقْدِ إلَى حِينِ الْقَبْضِ مُحْتَجًّا بِوُجُوهٍ ( الْأَوَّلُ ) احْتِمَالُ مَوْتِ الْبَائِعِ فَيَحِلُّ السَّلَمُ بِمَوْتِهِ فَلَا يُوجِبُ الْمُسْلِمَ وَفِيهِ جَوَابُهُ أَنَّهُ لَوْ اُعْتُبِرَ لَكَانَ الْأَجَلُ فِي السَّلَمِ مَجْهُولًا لِاحْتِمَالِ الْمَوْتِ فَيَلْزَمُ بُطْلَانُ كُلِّ سَلَمٍ ، وَكَذَلِكَ الْبَيْعُ بِثَمَنٍ إلَى أَجَلٍ ، بَلْ الْأَصْلُ عَدَمُ تَغْيِيرِ مَا كَانَ عِنْدَ الْعَقْدِ وَبَقَاءُ الْإِنْسَانِ إلَى حِينِ التَّسْلِيمِ فَإِنْ وَقَعَ الْمَوْتُ وَقَفَتْ التَّرِكَةُ إلَى الْإِبَّانِ فَإِنَّ الْمَوْتَ لَا يُفْسِدُ الْبَيْعَ ( الْوَجْهُ الثَّانِي ) أَنَّهُ إذَا كَانَ مَعْدُومًا قَبْلَ الْأَجَلِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَعْدُومًا عِنْدَهُ عَمَلًا بِالِاسْتِصْحَابِ ، فَيَكُونُ غَرَرًا فَيَمْتَنِعُ إجْمَاعًا وَجَوَابُهُ أَنَّ الِاسْتِصْحَابَ مُعَارَضٌ بِالْغَالِبِ فَإِنَّ الْغَالِبَ وُجُودُ الْأَعْيَانِ فِي إبَّانِهَا ( الْوَجْهُ الثَّالِثُ ) أَنَّهُ مَعْدُومٌ عِنْدَ الْعَقْدِ فَيَمْتَنِعُ كَبَيْعِ الْغَائِبِ عَلَى الصِّفَةِ إذَا كَانَ مَعْدُومًا وَجَوَابُهُ أَنَّ الْحَاجَةَ تَدْعُو إلَى الْعَدَمِ فِي السَّلَمِ إذْ لَا يَحْصُلُ مَقْصُودُ الشَّارِعِ مِنْ الرِّفْقِ فِي السَّلَمِ إلَّا مَعَ الْعَدَمِ وَإِلَّا فَالْمَوْجُودُ يُبَاعُ بِأَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِ السَّلَمِ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ارْتِكَابِ الْغَرَرِ لِلْحَاجَةِ ارْتِكَابُهُ لِغَيْرِ حَاجَةٍ كَمَا فِي بَيْعِ الْغَائِبِ إذْ لَا ضَرُورَةَ تَدْعُو إلَى ادِّعَاءِ(1/170)
وُجُودِهِ ، بَلْ نَجْعَلُهُ سَلَمًا فَقِيَاسُ بَيْعِ السَّلَمِ عَلَى بَيْعِ الْغَائِبِ قِيَاسٌ مَعَ الْفَارِقِ فَلَا يَصِحُّ ( الْوَجْهُ الرَّابِعُ ) أَنَّ الْمَعْدُومَ أَبْلَغُ فِي الْجَهَالَةِ مِنْ الْمَجْهُولِ الْمَوْجُودِ ؛ لِأَنَّ الْمَجْهُولَ الْمَوْجُودَ لَهُ ثُبُوتٌ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ بِخِلَافِ الْمَعْدُومِ فَإِنَّهُ نَفْيٌ مَحْضٌ وَبَيْعُ الْمَجْهُولِ الْمَوْجُودِ بَاطِلٌ قَطْعًا فَيَبْطُلُ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى بَيْعُ الْمَعْدُومِ وَجَوَابُهُ أَنَّ الْمَالِيَّةَ مُنْضَبِطَةٌ مَعَ الْعَدَمِ بِالصِّفَاتِ وَهِيَ مَقْصُودُ عُقُودِ التُّهْمَةِ بِخِلَافِ الْجَهَالَةِ عَلَى أَنَّ الْإِجَارَةَ تَمْنَعُهَا الْجَهَالَةُ دُونَ الْعَدَمِ فَيُنْتَقَضُ بِذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ ( الْوَجْهُ الْخَامِسُ ) أَنَّ ابْتِدَاءَ الْعُقُودِ آكَدُ مِنْ انْتِهَائِهَا بِدَلِيلِ اشْتِرَاطِ الْوَلِيِّ وَغَيْرِهِ فِي ابْتِدَاءِ النِّكَاحِ وَمُنَافَاةِ اشْتِرَاطِ أَجَلٍ مَعْلُومٍ فِيهِ وَهُوَ الْمُتْعَةُ فَيُنَافِي التَّحْدِيدُ أَوَّلَهُ دُونَ آخِرِهِ ، وَكَذَلِكَ الْبَيْعُ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الْمَبِيعُ مَعْلُومًا مَعَ شُرُوطٍ كَثِيرَةٍ وَلَا يُشْتَرَطُ ذَلِكَ بَعْدَ فَكُلَّمَا يُنَافِي أَوَّلَهُ يُنَافِي آخِرَهُ مِنْ غَيْرِ عَكْسٍ لُغَوِيٍّ وَالْعَدَمُ يُنَافِي آخِرَ الْأَجَلِ فَيُنَافِي أَوَّلَ الْعَقْدِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَجَوَابُهُ إنَّا نُسَلِّمُ أَنَّ ابْتِدَاءَ الْعُقُودِ آكَدُ مِنْ اسْتِمْرَارِ آثَارِهَا وَنَظِيرُهُ هَاهُنَا بَعْدَ الْقَبْضِ أَلَا تَرَى أَنَّ كُلَّ مَا يُشْتَرَطُ مِنْ أَسْبَابِ الْمَالِيَّةِ عِنْدَ الْعَقْدِ يُشْتَرَطُ فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ عِنْدَ التَّسْلِيمِ وَعَدَمُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ عِنْدَ الْعَقْدِ مَعَ وُجُودِهِ عِنْدَ التَّسْلِيمِ لَا مَدْخَلَ لَهُ(1/171)
فِي الْمَالِيَّةِ أَلْبَتَّةَ ، بَلْ الْمَالِيَّةُ مَصُونَةٌ بِوُجُودِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ عِنْدَ التَّسْلِيمِ فَهَذَا الْعَمَلُ حِينَئِذٍ طَرْدِيٌّ فَلَا يُعْتَبَرُ فِي الِابْتِدَاءِ وَلَا فِي الِانْتِهَاءِ مُطْلَقًا .
بَلْ يَتَأَكَّدُ مَذْهَبُنَا بِالْحَدِيثِ الصَّحِيحِ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ فَوَجَدَهُمْ يُسْلِمُونَ فِي الثِّمَارِ السَّنَةَ وَالسَّنَتَيْنِ وَالثَّلَاثَ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَنْ أَسْلَفَ فَلْيُسْلِفْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ إلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ } ، وَهَذَا يَدُلُّ لَنَا مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا أَنَّ ثَمَرَ السِّنِينَ مَعْدُومٌ وَثَانِيهَا أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَطْلَقَ وَلَمْ يُفَرِّقْ وَثَالِثُهَا أَنَّ الْوُجُودَ لَوْ كَانَ شَرْطًا لَبَيَّنَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ ؛ لِأَنَّ تَأْخِيرَ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ مُمْتَنِعٌ أَوْ نَقُولُ إنَّهُ لَمْ يَجْعَلْهُ وَقَّتَ الْمُتَعَاقِدَانِ مَحَلًّا لِلْمُسْلَمِ فِيهِ فَلَا يُعْتَبَرُ وُجُودُهُ كَمَا بَعْدَ الْأَجَلِ ؛ لِأَنَّ الْقُدْرَةَ عَلَى عَلَى التَّسْلِيمِ إنَّمَا تُطْلَبُ فِي وَقْتٍ اقْتِضَائِهِ أَمَّا مَا لَا يَقْتَضِيهِ فَيَسْتَوِي فِيهِ قَبْلَ الْأَجَلِ لِتَوَقُّعِ الْمَوْتِ وَبَعْدَهُ لِتَعَذُّرِ الْوُجُودِ فَيَتَأَخَّرُ الْقَبْضُ فَكَمَا أَنَّ أَحَدَهُمَا مُلْغًى إجْمَاعًا فَكَذَلِكَ الْآخَرُ وَقِيَاسًا عَلَى بُيُوعِ الْآجَالِ قَبْلَ مَحَلِّهَا ا هـ .
بِتَصَرُّفٍ وَسَلَّمَهُ ابْنُ الشَّاطِّ .
إعلام الموقعين عن رب العالمين - (ج 1 / ص 424)(1/172)
وَمَا يَقْدِرُ مِنْ عُرُوضِ الْخَطَرِ لَهُ فَهُوَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَنَافِعِ ، وَقَدْ جَوَّزُوا بَيْعَ الثَّمَرَةِ إذَا بَدَا الصَّلَاحُ فِي وَاحِدَةٍ مِنْهَا ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ بَقِيَّةَ الْأَجْزَاءِ مَعْدُومَةٌ فَجَازَ بَيْعُهَا تَبَعًا لِلْمَوْجُودِ ، فَإِنْ فَرَّقُوا بِأَنَّ هَذِهِ أَجْزَاءٌ مُتَّصِلَةٌ وَتِلْكَ أَعْيَانٌ مُنْفَصِلَةٌ ، فَهُوَ فَرْقٌ فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدِهِمَا : أَنَّ هَذَا لَا تَأْثِيرَ لَهُ أَلْبَتَّةَ .(1/173)
الثَّانِي : أَنَّ مِنْ الثَّمَرَةِ الَّتِي بَدَا صَلَاحُهَا مَا يُخْرِجُ أَثْمَارًا مُتَعَدِّدَةً كَالتُّوتِ وَالتِّينِ فَهُوَ كَالْبِطِّيخِ وَالْبَاذِنْجَانِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ، فَالتَّفْرِيقُ خُرُوجٌ عَنْ الْقِيَاسِ وَالْمَصْلَحَةِ وَإِلْزَامٌ بِمَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إلَّا بِأَعْظَمِ كُلْفَةٍ وَمَشَقَّةٍ ، وَفِيهِ مَفْسَدَةٌ عَظِيمَةٌ يَرُدُّهَا الْقِيَاسُ فَإِنَّ اللَّقْطَةَ لَا ضَابِطَ لَهَا ، فَإِنَّهُ يَكُونُ فِي الْمَقْثَأَةِ الْكِبَارُ وَالصِّغَارُ وَبَيْنَ ذَلِكَ ، فَالْمُشْتَرِي يُرِيدُ اسْتِقْصَاءَهَا ، وَالْبَائِعُ يَمْنَعُهُ مِنْ أَخْذِ الصِّغَارِ ، فَيَقَعُ بَيْنَهُمَا مِنْ التَّنَازُعِ وَالِاخْتِلَافِ وَالتَّشَاحُنِ مَا لَا تَأْتِي بِهِ شَرِيعَةٌ ، فَأَيْنَ هَذِهِ الْمَفْسَدَةُ الْعَظِيمَةُ الَّتِي هِيَ مَنْشَأُ النِّزَاعِ الَّتِي مِنْ تَأَمُّلِ مَقَاصِدِ الشَّرِيعَةِ عُلِمَ قَصْدُ الشَّارِعِ لِإِبْطَالِهَا وَإِعْدَامِهَا إلَى الْمَفْسَدَةِ الْيَسِيرَةِ الَّتِي فِي جَعْلِ مَا لَمْ يُوجَدْ تَبَعًا لِمَا وُجِدَ لِمَا فِيهِ مِنْ الْمَصْلَحَةِ ؟ وَقَدْ اعْتَبَرَهَا الشَّارِعُ ، وَلَمْ يَأْتِ عَنْهُ حَرْفٌ وَاحِدٌ أَنَّهُ نَهَى عَنْ بَيْعِ الْمَعْدُومِ ، وَإِنَّمَا نَهَى عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ ، وَالْغَرَرُ شَيْءٌ وَهَذَا شَيْءٌ ، وَلَا يُسَمَّى هَذَا الْبَيْعُ غَرَرًا لَا لُغَةً وَلَا عُرْفًا وَلَا شَرْعًا .
إعلام الموقعين عن رب العالمين - (ج 2 / ص 50)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فَصْلٌ : [ بَيَانُ أَنَّ الْإِجَارَةَ عَلَى وَفْقِ الْقِيَاسِ ] .(1/174)
وَأَمَّا الْإِجَارَةُ فَاَلَّذِينَ قَالُوا : " هِيَ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ " قَالُوا : هِيَ بَيْعٌ مَعْدُومٌ ؛ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ مَعْدُومَةٌ حِينَ الْعَقْدِ ، ثُمَّ لَمَّا رَأَوْا الْكِتَابَ قَدْ دَلَّ عَلَى جَوَازِ إجَارَةِ الظِّئْرِ لِلرَّضَاعِ بِقَوْلِهِ : { فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } قَالُوا : إنَّهَا عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : كَوْنُهَا إجَارَةً .
وَالثَّانِي : أَنَّ الْإِجَارَةَ عَقْدٌ عَلَى الْمَنَافِعِ ، وَهَذِهِ عَقْدٌ عَلَى الْأَعْيَانِ ، وَمِنْ الْعَجَبِ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ ذِكْرُ إجَارَةٍ جَائِزَةٍ إلَّا هَذِهِ ، وَقَالُوا : هِيَ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ ، وَالْحُكْمُ إنَّمَا يَكُونُ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ إذَا كَانَ النَّصُّ قَدْ جَاءَ فِي مَوْضِعٍ يُشَابِهُهُ بِنَقِيضِ ذَلِكَ الْحُكْمِ ، فَيُقَالُ : هَذَا خِلَافُ قِيَاسِ ذَلِكَ النَّصِّ ، وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ وَلَا فِي السُّنَّةِ ذِكْرُ فَسَادِ إجَارَةٍ شَبَهِ هَذِهِ الْإِجَارَةِ ، وَمَنْشَأُ وَهْمِهِمْ ظَنُّهُمْ أَنَّ مَوْرِدَ عَقْدِ الْإِجَارَةِ لَا يَكُونُ إلَّا مَنَافِعَ هِيَ أَعْرَاضٌ قَائِمَةٌ بِغَيْرِهَا ، لَا أَعْيَانٌ قَائِمَةٌ بِنَفْسِهَا ، ثُمَّ افْتَرَقَ هَؤُلَاءِ فِرْقَتَيْنِ : فَقَالَتْ فِرْقَةٌ : إنَّمَا احْتَمَلْنَاهَا عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ لِوُرُودِ النَّصِّ ؛ فَلَا نَتَعَدَّى مَحَلَّهُ .(1/175)
وَقَالَتْ فِرْقَةٌ : بَلْ نُخْرِجُهَا عَلَى مَا يُوَافِقُ الْقِيَاسَ ، وَهُوَ كَوْنُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ أَمْرًا غَيْرَ اللَّبَنِ ، بَلْ هُوَ إلْقَامُ الصَّبِيِّ الثَّدْيَ وَوَضْعُهُ فِي حِجْرِ الْمُرْضِعَةِ ، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ الْمَنَافِعِ الَّتِي هِيَ مُقَدِّمَاتُ الرَّضَاعِ ، وَاللَّبَنُ يَدْخُلُ تَبَعًا غَيْرَ مَقْصُودٍ بِالْعَقْدِ ، ثُمَّ طَرَدُوا ذَلِكَ فِي مِثْلِ مَاءِ الْبِئْرِ وَالْعُيُونِ الَّتِي فِي الْأَرْضِ الْمُسْتَأْجَرَةِ ، وَقَالُوا : يَدْخُلُ ضِمْنًا وَتَبَعًا ، فَإِذَا وَقَعَتْ الْإِجَارَةُ عَلَى نَفْسِ الْعَيْنِ وَالْبِئْرِ لِسَقْيِ الزَّرْعِ وَالْبُسْتَانِ قَالُوا : إنَّمَا وَرَدَتْ الْإِجَارَةُ عَلَى مُجَرَّدِ إدْلَاءِ الدَّلْوِ فِي الْبِئْرِ وَإِخْرَاجِهِ ، وَعَلَى مُجَرَّدِ إجْرَاءِ الْعَيْنِ فِي أَرْضِهِ ، مِمَّا هُوَ قَلْبُ الْحَقَائِقِ ، وَجَعْلُ الْمَقْصُودِ وَسِيلَةً وَالْوَسِيلَةِ مَقْصُودَةً ؛ إذْ مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ هَذِهِ الْأَعْمَالَ إنَّمَا هِيَ وَسِيلَةٌ إلَى الْمَقْصُودِ بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ ، وَإِلَّا فَهِيَ بِمُجَرَّدِهَا لَيْسَتْ مَقْصُودَةً ، وَلَا مَعْقُودًا عَلَيْهَا ، وَلَا قِيمَةَ لَهَا أَصْلًا ، وَإِنَّمَا هِيَ كَفَتْحِ الْبَابِ وَكَقَوَدِ الدَّابَّةِ لِمَنْ اكْتَرَى دَارًا أَوْ دَابَّةً .(1/176)
وَنَحْنُ نَتَكَلَّمُ عَلَى هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ الْبَاطِلَيْنِ : عَلَى أَصْلِ مَنْ جَعَلَ الْإِجَارَةَ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ ، وَعَلَى أَصْلِ مَنْ جَعَلَ إجَارَةَ الظِّئْرِ وَنَحْوِهَا عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ ، فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ : [ لَيْسَ لِلْعُقُودِ أَلْفَاظٌ مَحْدُودَةٌ ] أَمَّا الْأَصْلُ الْأَوَّلُ فَقَوْلُهُمْ : " إنَّ الْإِجَارَةَ بَيْعُ مَعْدُومٍ ، وَبَيْعُ الْمَعْدُومِ بَاطِلٌ " دَلِيلٌ مَبْنِيٌّ عَلَى مُقَدِّمَتَيْنِ مُجْمَلَتَيْنِ غَيْرُ مُفَصَّلَتَيْنِ ، قَدْ اخْتَلَطَ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا الْخَطَأُ بِالصَّوَابِ ؛ فَأَمَّا الْمُقَدِّمَةُ الْأُولَى - وَهِيَ كَوْنُ الْإِجَارَةِ بَيْعًا - إنْ أَرَدْتُمْ بِهِ الْبَيْعَ الْخَاصَّ الَّذِي يَكُونُ الْعَقْدُ فِيهِ عَلَى الْأَعْيَانِ لَا عَلَى الْمَنَافِعِ فَهُوَ بَاطِلٌ ، وَإِنْ أَرَدْتُمْ بِهِ الْبَيْعَ الْعَامَّ الَّذِي هُوَ مُعَاوَضَةٌ إمَّا عَلَى عَيْنٍ وَإِمَّا عَلَى مَنْفَعَةٍ فَالْمُقَدِّمَةُ الثَّانِيَةُ بَاطِلَةٌ ؛ فَإِنَّ بَيْعَ الْمَعْدُومِ يَنْقَسِمُ إلَى بَيْعِ الْأَعْيَانِ وَبَيْعِ الْمَنَافِعِ ، وَمَنْ سَلَّمَ بُطْلَانَ بَيْعِ الْمَعْدُومِ فَإِنَّمَا يُسَلِّمُهُ فِي الْأَعْيَانِ ، وَلَمَّا كَانَ لَفْظُ الْبَيْعِ يَحْتَمِلُ هَذَا وَهَذَا تَنَازَعَ الْفُقَهَاءُ فِي الْإِجَارَةِ : هَلْ تَنْعَقِدُ بِلَفْظِ الْبَيْعِ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ ، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الْمُتَعَاقِدَيْنِ إنْ عَرَفَا الْمَقْصُودَ انْعَقَدَتْ بِأَيِّ لَفْظٍ مِنْ الْأَلْفَاظِ عَرَفَ بِهِ الْمُتَعَاقِدَانِ مَقْصُودَهُمَا ، وَهَذَا حُكْمٌ شَامِلٌ لِجَمِيعِ الْعُقُودِ ، فَإِنَّ الشَّارِعَ لَمْ يَحُدَّ لِأَلْفَاظِ الْعُقُودِ حَدًّا ، بَلْ ذَكَرَهَا مُطْلَقَةً ، فَكَمَا تَنْعَقِدُ الْعُقُودُ بِمَا يَدُلُّ عَلَيْهَا مِنْ(1/177)
الْأَلْفَاظِ الْفَارِسِيَّةِ وَالرُّومِيَّةِ وَالتُّرْكِيَّةِ فَانْعِقَادُهَا بِمَا يَدُلُّ عَلَيْهَا مِنْ الْأَلْفَاظِ الْعَرَبِيَّةِ أَوْلَى وَأَحْرَى ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ النِّكَاحِ وَغَيْرِهِ ، وَهَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ كَمَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ ، وَهُوَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ .
قَالَ شَيْخُنَا : بَلْ نُصُوصُ أَحْمَدَ لَا تَدُلُّ إلَّا عَلَى هَذَا الْقَوْلِ ، وَأَمَّا كَوْنُهُ لَا يَنْعَقِدُ إلَّا بِلَفْظِ الْإِنْكَاحِ وَالتَّزْوِيجِ فَإِنَّمَا هُوَ قَوْلُ ابْنِ حَامِدٍ وَالْقَاضِي وَأَتْبَاعِهِ ؛ وَأَمَّا قُدَمَاءُ أَصْحَابِ أَحْمَدَ فَلَمْ يَشْتَرِطْ أَحَدٌ مِنْهُمْ ذَلِكَ ، وَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ عَلَى أَنَّهُ إذَا قَالَ : " أَعْتَقْتُ أَمَتِي وَجَعَلْتُ عِتْقَهَا صَدَاقَهَا " أَنَّهُ يَعْقِدُ النِّكَاحَ ، قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ : وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَخْتَصُّ النِّكَاحُ بِلَفْظٍ ؛ وَأَمَّا ابْنُ حَامِدٍ فَطَرَدَ أَصْلَهُ وَقَالَ : لَا يَنْعَقِدُ حَتَّى يَقُولَ مَعَ ذَلِكَ : " تَزَوَّجْتُهَا " وَأَمَّا الْقَاضِي فَجَعَلَ هَذَا مَوْضِعَ اسْتِحْسَانٍ خَارِجًا عَنْ الْقِيَاسِ ؛ فَجَوَّزَ النِّكَاحَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ خَاصَّةً بِدُونِ لَفْظِ الْإِنْكَاحِ وَالتَّزْوِيجِ ، وَأُصُولُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَنُصُوصُهُ تُخَالِفُ هَذَا ؛ فَإِنَّ مِنْ أُصُولِهِ أَنَّ الْعُقُودَ تَنْعَقِدُ بِمَا يَدُلُّ عَلَى مَقْصُودِهَا مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ ، وَلَا يَرَى اخْتِصَاصَهَا بِالصِّيَغِ .(1/178)
وَمِنْ أُصُولِهِ أَنَّ الْكِنَايَةَ مَعَ دَلَالَةِ الْحَالَةِ كَالصَّرِيحِ كَمَا قَالَهُ فِي الطَّلَاقِ وَالْقَذْفِ وَغَيْرِهِمَا ، وَاَلَّذِينَ اشْتَرَطُوا لَفْظَ الْإِنْكَاحِ وَالتَّزْوِيجِ قَالُوا : مَا عَدَاهُمَا كِنَايَةً فَلَا يَثْبُتُ حُكْمُهَا إلَّا بِالنِّيَّةِ وَهِيَ أَمْرٌ بَاطِنٌ لَا اطِّلَاعَ لِلشَّاهِدِ عَلَيْهِ ؛ إذْ الشَّهَادَةُ إنَّمَا تَقَعُ عَلَى الْمَسْمُوعِ ، لَا عَلَى الْمَقَاصِدِ وَالنِّيَّاتِ ، وَهَذَا إنَّمَا يَسْتَقِيمُ إذَا كَانَتْ أَلْفَاظُ الصَّرِيحِ وَالْكِنَايَةِ ثَابِتَةً بِعُرْفِ الشَّرْعِ وَفِي عُرْفِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ ، وَالْمُقَدِّمَتَانِ غَيْرُ مَعْلُومَتَيْنِ ؛ أَمَّا الْأُولَى فَإِنَّ الشَّارِعَ اسْتَعْمَلَ لَفْظَ التَّمْلِيكِ فِي النِّكَاحِ فَقَالَ : { مَلَّكْتُكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنْ الْقُرْآنِ } { وَأَعْتَقَ صَفِيَّةَ وَجَعَلَ عِتْقَهَا صَدَاقَهَا } ، وَلَمْ يَأْتِ مَعَهُ بِلَفْظِ إنْكَاحٍ وَلَا تَزْوِيجٍ ، وَأَبَاحَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ النِّكَاحَ وَرَدَّ فِيهِ الْأَمَةَ إلَى مَا تَتَعَارَفُهُ نِكَاحًا بِأَيِّ لَفْظٍ كَانَ ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ تَقْسِيمَ الْأَلْفَاظِ إلَى صَرِيحٍ وَكِنَايَةٍ تَقْسِيمٌ شَرْعِيٌّ ، فَإِنْ لَمْ يَقُمْ عَلَيْهِ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ كَانَ بَاطِلًا ، فَمَا هُوَ الضَّابِطُ لِذَلِكَ ؟ وَأَمَّا الْمُقَدِّمَةُ الثَّانِيَةُ فَكَوْنُ اللَّفْظِ صَرِيحًا أَوْ كِنَايَةً أَمْرٌ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ عُرْفِ الْمُتَكَلِّمِ وَالْمُخَاطَبِ وَالزَّمَانِ وَالْمَكَانِ ، فَكَمْ مِنْ لَفْظٍ صَرِيحٍ عِنْدَ قَوْمٍ وَلَيْسَ بِصَرِيحٍ عِنْدَ آخَرِينَ ، وَفِي مَكَان دُونَ مَكَان وَزَمَانٍ دُونَ زَمَانٍ ، فَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهِ صَرِيحًا فِي خِطَابِ الشَّارِعِ أَنْ يَكُونَ صَرِيحًا عِنْدَ كُلِّ مُتَكَلِّمٍ ، وَهَذَا ظَاهِرٌ .
[(1/179)
جَوَّزَ الشَّارِعُ الْمُعَاوَضَةَ عَلَى الْمَعْدُومِ ] وَالْمَقْصُودُ أَنَّ قَوْلَهُ : " إنَّ الْإِجَارَةَ نَوْعٌ مِنْ الْبَيْعِ " إنْ أَرَادَ بِهِ الْبَيْعَ الْخَاصَّ فَبَاطِلٌ ، وَإِنْ أَرَادَ بِهِ الْبَيْعَ الْعَامَّ فَصَحِيحٌ ، وَلَكِنَّ قَوْلَهُ : " إنَّ هَذَا الْبَيْعَ لَا يُرَدُّ عَلَى مَعْدُومٍ " دَعْوَى بَاطِلَةٌ ؛ فَإِنَّ الشَّارِعَ جَوَّزَ الْمُعَاوَضَةَ عَلَى الْمَعْدُومِ ، فَإِنْ قِسْتُمْ بَيْعَ الْمَنَافِعِ عَلَى بَيْعِ الْأَعْيَانِ فَهَذَا قِيَاسٌ فِي غَايَةِ الْفَسَادِ ؛ فَإِنَّ الْمَنَافِعَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُعْقَدَ عَلَيْهَا فِي حَالِ وُجُودِهَا أَلْبَتَّةَ ، بِخِلَافِ الْأَعْيَانِ ، وَقَدْ فَرَّقَ بَيْنَهَا الْحِسُّ وَالشَّرْعُ ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ أَنْ يُؤَخَّرَ الْعَقْدُ عَلَى الْأَعْيَانِ الَّتِي لَمْ تُخْلَقْ إلَى أَنْ تُخْلَقَ كَمَا نَهَى عَنْ بَيْعِ السِّنِينَ وَحَبَلَ الْحَبَلَةِ وَالثَّمَرِ قَبْلَ أَنْ يَبْدُوَ صَلَاحُهُ وَالْحَبِّ حَتَّى يَشْتَدَّ ، وَنَهَى عَنْ الْمَلَاقِيحِ وَالْمَضَامِينِ وَنَحْوِ ذَلِكَ ، وَهَذَا يَمْتَنِعُ مِثْلُهُ فِي الْمَنَافِعِ ؛ فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ تُبَاعَ إلَّا فِي حَالِ عَدَمِهَا ، فَهَاهُنَا أَمْرَانِ : أَحَدُهُمَا : يُمْكِنُ إيرَادُ الْعَقْدِ عَلَيْهِ فِي حَالِ وُجُودِهِ وَحَالِ عَدَمِهِ ، فَنَهَى الشَّارِعُ عَنْ بَيْعِهِ حَتَّى يُوجَدَ وَجَوَّزَ مِنْهُ بَيْعُ مَا لَمْ يُوجَدْ تَبَعًا لِمَا وُجِدَ إذَا دَعَتْ الْحَاجَةُ إلَيْهِ ، وَبِدُونِ الْحَاجَةِ لَمْ يُجَوِّزْهُ .
وَالثَّانِي : مَا لَا يُمْكِنُ إيرَادُ الْعَقْدِ عَلَيْهِ إلَّا فِي حَالِ عَدَمِهِ كَالْمَنَافِعِ ؛ فَهَذَا جُوِّزَ الْعَقْدُ عَلَيْهِ وَلَمْ يُمْنَعْ مِنْهُ .(1/180)
فَإِنْ قُلْتَ : أَنَا أَقِيسُ أَحَدَ النَّوْعَيْنِ عَلَى الْآخَرِ ، وَأَجْعَلُ الْعِلَّةَ مُجَرَّدَ كَوْنِهِ مَعْدُومًا .
قِيلَ : هَذَا قِيَاسٌ فَاسِدٌ ؛ لِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ التَّسْوِيَةَ بَيْنَ الْمُخْتَلِفَيْنِ ، وَقَوْلُكَ : " إنَّ الْعِلَّةَ مُجَرَّدَ كَوْنِهِ مَعْدُومًا " دَعْوَى بِغَيْرِ دَلِيلٍ .(1/181)
بَلْ دَعْوَى بَاطِلَةٌ ، فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ فِي الْأَصْلِ كَوْنَهُ مَعْدُومًا يُمْكِنُ تَأْخِيرَ بَيْعِهِ إلَى زَمَنِ وُجُودِهِ ؟ وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَالْعِلَّةُ مُقَيَّدَةٌ بِعَدَمٍ خَاصٍّ ، وَأَنْتَ لَمْ تُبَيِّنْ أَنَّ الْعِلَّةَ فِي الْأَصْلِ مُجَرَّدُ كَوْنِهِ مَعْدُومًا ؛ فَقِيَاسُكَ فَاسِدٌ ، وَهَذَا كَافٍ فِي بَيَانِ فَسَادِهِ بِالْمُطَالَبَةِ ، وَنَحْنُ نُبَيِّنُ بُطْلَانَهُ فِي نَفْسِهِ ، فَنَقُولُ : مَا ذَكَرْنَاهُ عِلَّةٌ مُطَّرِدَةٌ ، وَمَا ذَكَرْتَهُ عِلَّةٌ مُنْتَقَضَةٌ ، فَإِنَّكَ إذَا عَلَّلْتَ بِمُجَرَّدِ الْعَدَمِ وَرَدَ عَلَيْكَ النَّقْضُ بِالْمَنَافِعِ كُلِّهَا وَبِكَثِيرٍ مِنْ الْأَعْيَانِ وَمَا عَلَّلْنَا بِهِ لَا يُنْتَقَضُ ، وَأَيْضًا فَالْقِيَاسُ الْمَحْضُ وَقَوَاعِدُ الشَّرِيعَةِ وَأُصُولُهَا وَمُنَاسَبَاتُهَا تَشْهَدُ لِهَذِهِ الْعِلَّةِ ؛ فَإِنَّهُ إذَا كَانَ لَهُ حَالُ وُجُودٍ وَعَدَمٍ كَانَ فِي بَيْعِهِ حَالَ الْعَدَمِ مُخَاطَرَةٌ وَقِمَارٌ ، وَبِذَلِكَ عَلَّلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَنْعَ حَيْثُ قَالَ : { أَرَأَيْتَ إنْ مَنَعَ اللَّهُ الثَّمَرَةَ فَبِمَ يَأْخُذُ أَحَدُكُمْ مَالَ أَخِيهِ بِغَيْرِ حَقٍّ ؟ } وَأَمَّا مَا لَيْسَ لَهُ إلَّا حَالٌ وَاحِدٌ وَالْغَالِبُ فِيهِ السَّلَامَةُ فَلَيْسَ الْعَقْدُ عَلَيْهِ مُخَاطَرَةً وَلَا قِمَارًا ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ مُخَاطَرَةٌ يَسِيرَةٌ فَالْحَاجَةُ دَاعِيَةٌ إلَيْهِ ، وَمِنْ أُصُولِ الشَّرِيعَةِ أَنَّهُ إذَا تَعَارَضَتْ الْمَصْلَحَةُ وَالْمَفْسَدَةُ قُدِّمَ أَرْجَحُهُمَا ، وَالْغَرَرُ إنَّمَا نُهِيَ عَنْهُ لِمَا فِيهِ مِنْ الضَّرَرِ بِهِمَا أَوْ بِأَحَدِهِمَا ، وَفِي الْمَنْعِ مِمَّا يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ مِنْ الْبَيْعِ ضَرَرٌ أَعْظَمُ مِنْ(1/182)
ضَرَرِ الْمُخَاطَرَةِ ؛ فَلَا يُزِيلُ أَدْنَى الضَّرَرَيْنِ بِأَعْلَاهُمَا .
بَلْ قَاعِدَةُ الشَّرِيعَةِ ضِدُّ ذَلِكَ ، وَهُوَ دَفْعُ أَعْلَى الضَّرَرَيْنِ بِاحْتِمَالِ أَدْنَاهُمَا ؛ وَلِهَذَا لَمَّا نَهَاهُمْ عَنْ الْمُزَابَنَةِ لِمَا فِيهَا مِنْ رِبًا أَوْ مُخَاطَرَةٍ أَبَاحَهَا لَهُمْ فِي الْعَرَايَا لِلْحَاجَةِ ؛ لِأَنَّ ضَرَرَ الْمَنْعِ مِنْ ذَلِكَ أَشَدُّ مِنْ ضَرَرِ الْمُزَابَنَةِ ، وَلَمَّا حَرَّمَ عَلَيْهِمْ الْمَيْتَةَ لِمَا فِيهَا مِنْ خُبْثِ التَّغْذِيَةِ أَبَاحَهَا لَهُمْ لِلضَّرُورَةِ ، وَلَمَّا حَرَّمَ عَلَيْهِمْ النَّظَرَ إلَى الْأَجْنَبِيَّةِ أَبَاحَ مِنْهُ مَا تَدْعُو إلَيْهِ الْحَاجَةُ لِلْخَاطِبِ وَالْمُعَامِلِ وَالشَّاهِدِ وَالطَّبِيبِ ، فَإِنْ قُلْتَ : فَهَذَا كُلُّهُ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ .
[ الْقِيَاسُ الْفَاسِدُ أَصْلُ كُلِّ شَرٍّ ] قِيلَ : إنْ أَرَدْتَ أَنَّ الْفَرْعَ اخْتَصَّ بِوَصْفٍ يُوجِبُ الْفَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَصْلِ فَكُلُّ حُكْمٍ اسْتَنَدَ إلَى هَذَا الْفَرْقِ الصَّحِيحِ فَهُوَ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ الْفَاسِدِ ، وَإِنْ أَرَدْتَ أَنَّ الْأَصْلَ وَالْفَرْعَ اسْتَوَيَا فِي الْمُقْتَضِي وَالْمَانِعِ وَاخْتَلَفَ حُكْمُهُمَا فَهَذَا بَاطِلٌ قَطْعًا ، لَيْسَ فِي الشَّرِيعَةِ مِنْهُ مَسْأَلَةٌ وَاحِدَةٌ ، وَالشَّيْءُ إذَا شَابَهَ غَيْرَهُ فِي وَصْفٍ وَفَارَقَهُ فِي وَصْفٍ كَانَ اخْتِلَافُهُمَا فِي الْحُكْمِ بِاعْتِبَارِ الْفَارِقِ مُخَالِفًا لِاسْتِوَائِهِمَا بِاعْتِبَارِ الْجَامِعِ ، وَهَذَا هُوَ الْقِيَاسُ الصَّحِيحُ طَرْدًا وَعَكْسًا ، وَهُوَ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمُخْتَلِفَيْنِ .(1/183)
وَأَمَّا التَّسْوِيَةُ بَيْنَهُمَا فِي الْحُكْمِ مَعَ افْتِرَاقِهِمَا فِيمَا يَقْتَضِي الْحُكْمَ أَوْ يَمْنَعُهُ فَهَذَا هُوَ الْقِيَاسُ الْفَاسِدُ الَّذِي جَاءَ الشَّرْعُ دَائِمًا بِإِبْطَالِهِ ، كَمَا أَبْطَلَ قِيَاسَ الرِّبَا عَلَى الْبَيْعِ ، وَقِيَاسَ الْمَيْتَةِ عَلَى الْمُذَكَّى ، وَقِيَاسَ الْمَسِيحِ عِيسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْأَصْنَامِ ، وَبَيَّنَ الْفَارِقَ بِأَنَّهُ عَبْدٌ أَنْعَمَ عَلَيْهِ بِعُبُودِيَّتِهِ وَرِسَالَتِهِ ، فَكَيْفَ يُعَذِّبُهُ بِعِبَادَةِ غَيْرِهِ لَهُ مَعَ نَهْيِهِ عَنْ ذَلِكَ وَعَدَمِ رِضَاهُ بِهِ ؟ بِخِلَافِ الْأَصْنَامِ ؛ فَمَنْ قَالَ : " إنَّ الشَّرِيعَةَ تَأْتِي بِخِلَافِ الْقِيَاسِ الَّذِي هُوَ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ " فَقَدْ أَصَابَ ، وَهُوَ مِنْ كَمَالِهَا وَاشْتِمَالِهَا عَلَى الْعَدْلِ وَالْمَصْلَحَةِ وَالْحِكْمَةِ ، وَمَنْ سَوَّى بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي أَمْرٍ مِنْ الْأُمُورِ يَلْزَمُهُ أَنْ يُسَوِّيَ بَيْنَ كُلِّ مَوْجُودَيْنِ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي مُسَمَّى الْوُجُودِ ، وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْغَلَطِ ، وَالْقِيَاسُ الْفَاسِدُ الَّذِي ذَمَّهُ السَّلَفُ ، وَقَالُوا : أَوَّلُ مَنْ قَاسَ إبْلِيسُ ، وَمَا عُبِدَتْ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ إلَّا بِالْمَقَايِيسِ ، وَهُوَ الْقِيَاسُ الَّذِي اعْتَرَفَ أَهْلُ النَّارِ فِي النَّارِ بِبُطْلَانِهِ حَيْثُ قَالُوا : { تَاللَّهِ إنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ إذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ } وَذَمَّ اللَّهُ أَهْلَهُ بِقَوْلِهِ : { ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ } أَيْ يَقِيسُونَهُ عَلَى غَيْرِهِ وَيُسَوُّونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ فِي الْإِلَهِيَّةِ وَالْعُبُودِيَّةِ ، وَكُلُّ بِدْعَةٍ وَمَقَالَةٍ فَاسِدَةٍ فِي أَدْيَانِ(1/184)
الرُّسُلِ فَأَصْلُهَا مِنْ الْقِيَاسِ الْفَاسِدِ ، فَمَا أَنْكَرَتْ الْجَهْمِيَّةُ صِفَاتِ الرَّبِّ وَأَفْعَالَهُ وَعُلُوَّهُ عَلَى خَلْقِهِ وَاسْتِوَاءَهُ عَلَى عَرْشِهِ وَكَلَامَهُ وَتَكْلِيمَهُ لِعِبَادِهِ وَرُؤْيَتَهُ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ إلَّا مِنْ الْقِيَاسِ الْفَاسِدِ ، وَمَا أَنْكَرَتْ الْقَدَرِيَّةُ عُمُومَ قُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَجَعَلَتْ فِي مُلْكِهِ مَا لَا يَشَاءُ وَأَنَّهُ يَشَاءُ مَا لَا يَكُونُ إلَّا بِالْقِيَاسِ الْفَاسِدِ ، وَمَا ضَلَّتْ الرَّافِضَةُ وَعَادُوا خِيَارَ الْخَلْقِ وَكَفَّرُوا أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَبُّوهُمْ إلَّا بِالْقِيَاسِ الْفَاسِدِ ، وَمَا أَنْكَرَتْ الزَّنَادِقَةُ وَالدَّهْرِيَّةُ مُعَادَ الْأَجْسَامِ وَانْشِقَاقَ السَّمَاوَاتِ وَطِّي الدُّنْيَا وَقَالَتْ بِقِدَمِ الْعَالَمِ إلَّا بِالْقِيَاسِ الْفَاسِدِ ، وَمَا فَسَدَ مَا فَسَدَ مِنْ أَمْرِ الْعَالَمِ وَخَرَبَ مَا خَرَبَ مِنْهُ إلَّا بِالْقِيَاسِ الْفَاسِدِ ، وَأَوَّلُ ذَنْبٍ عُصِيَ اللَّهُ بِهِ الْقِيَاسُ الْفَاسِدُ ، وَهُوَ الَّذِي جَرَّ عَلَى آدَمَ وَذُرِّيَّتِهِ مِنْ صَاحِبِ هَذَا الْقِيَاسِ مَا جَرَّ ، فَأَصْلُ شَرِّ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ جَمِيعُهُ مِنْ هَذَا الْقِيَاسِ الْفَاسِدِ ، وَهَذِهِ الْحِكْمَةُ لَا يَدْرِيهَا إلَّا مَنْ لَهُ اطِّلَاعٌ عَلَى الْوَاجِبِ وَالْوَاقِعِ وَلَهُ فِقْهٌ فِي الشَّرْعِ وَالْقَدْرِ .
إعلام الموقعين عن رب العالمين - (ج 2 / ص 58)
فَصْلٌ .
[ مَنْعُ أَنَّ بَيْعَ الْمَعْدُومِ لَا يَجُوزُ مِنْ وَجْهَيْنِ ] : وَأَمَّا الْمُقَدِّمَةُ الثَّانِيَةُ - وَهِيَ أَنَّ بَيْعَ الْمَعْدُومِ لَا يَجُوزُ - فَالْكَلَامُ عَلَيْهَا .(1/185)
أَحَدُهُمَا : مَنْعُ صِحَّةِ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةِ ؛ إذْ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَلَا فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا فِي كَلَامِ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ أَنَّ بَيْعَ الْمَعْدُومِ لَا يَجُوزُ ، لَا بِلَفْظٍ عَامٍّ وَلَا بِمَعْنَى عَامٍّ ، وَإِنَّمَا فِي السُّنَّةِ النَّهْيُ عَنْ بَيْعِ بَعْضِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي هِيَ مَعْدُومَةٌ كَمَا فِيهَا النَّهْيُ عَنْ بَيْعِ بَعْضِ الْأَشْيَاءِ الْمَوْجُودَةِ ؛ فَلَيْسَتْ الْعِلَّةُ فِي الْمَنْعِ لَا الْعَدَمِ وَلَا الْوُجُودِ ، بَلْ الَّذِي وَرَدَتْ بِهِ السُّنَّةُ النَّهْيُ عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ ، وَهُوَ مَا لَا يُقْدَرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ ، سَوَاءٌ كَانَ مَوْجُودًا أَوْ مَعْدُومًا كَبَيْعِ الْعَبْدِ الْآبِقِ وَالْبَعِيرِ الشَّارِدِ إنْ كَانَ مَوْجُودًا ؛ إذْ مُوجَبُ الْبَيْعِ تَسْلِيمُ الْمَبِيعِ ، فَإِذَا كَانَ الْبَائِعُ عَاجِزًا عَنْ تَسْلِمِيهِ فَهُوَ غَرَرٌ وَمُخَاطَرَةٌ وَقِمَارٌ فَإِنَّهُ لَا يُبَاعُ إلَّا بِوَكْسٍ ، فَإِنْ أَمْكَنَ الْمُشْتَرِيَ تَسَلُّمُهُ كَانَ قَدْ قَمَرَ الْبَائِعَ ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ ذَلِكَ قَمَرَهُ الْبَائِعُ ، وَهَكَذَا الْمَعْدُومُ الَّذِي هُوَ غَرَرٌ نُهِيَ عَنْهُ لِلْغَرَرِ لَا لِلْعَدَمِ ، كَمَا إذَا بَاعَهُ مَا تَحْمِلُ هَذِهِ الْأَمَةُ أَوْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ ؛ فَالْبَيْعُ لَا يُعْرَفُ وُجُودُهُ وَلَا قَدْرُهُ وَلَا صِفَتُهُ ؛ وَهَذَا مِنْ الْمَيْسِرِ الَّذِي حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ، وَنَظِيرُ هَذَا فِي الْإِجَارَةِ أَنْ يُكْرِيَهُ دَابَّةً لَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهَا ، سَوَاءٌ كَانَتْ مَوْجُودَةً أَوْ مَعْدُومَةً ، وَكَذَلِكَ فِي النِّكَاحِ إذَا زَوَّجَهُ أَمَةً لَا يَمْلِكُهَا أَوْ ابْنَةً لَمْ تُولَدْ لَهُ ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ عُقُودِ(1/186)
الْمُعَاوَضَاتِ ، بِخِلَافِ الْوَصِيَّةِ فَإِنَّهَا تَبَرُّعٌ مَحْضٌ فَلَا غَرَرَ فِي تَعَلُّقِهَا بِالْمَوْجُودِ وَالْمَعْدُومِ وَمَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ إلَيْهِ وَمَا لَا يَقْدِرُ ، وَطَرْدُهُ الْهِبَةَ ؛ إذْ لَا مَحْذُورَ فِي ذَلِكَ فِيهَا ؛ وَقَدْ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هِبَةُ الْمُشَاعِ الْمَجْهُولِ فِي قَوْلِهِ لِصَاحِبِ كُبَّةِ الشَّعْرِ حِينَ أَخَذَهَا مِنْ الْمَغْنَمِ وَسَأَلَهُ أَنْ يَهَبَهَا لَهُ فَقَالَ : { أَمَّا مَا كَانَ لِي وَلِبَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَهُوَ لَكَ } .(1/187)
الْوَجْهُ الثَّانِي : أَنْ نَقُولَ : بَلْ الشَّرْعُ صَحَّحَ بَيْعَ الْمَعْدُومِ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ ؛ فَإِنَّهُ أَجَازَ بَيْعَ الثَّمَرِ بَعْدَ بُدُوِّ صَلَاحِهِ وَالْحَبِّ بَعْدَ اشْتِدَادِهِ ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْعَقْدَ إنَّمَا وَرَدَ عَلَى الْمَوْجُودِ وَالْمَعْدُومِ الَّذِي لَمْ يُخْلَقْ بَعْدُ ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ بَيْعِهِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهِ ، وَأَبَاحَهُ بَعْدَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ إذَا اشْتَرَاهُ قَبْلَ الصَّلَاحِ بِشَرْطِ الْقَطْعِ كَالْحِصْرِمِ جَازَ ، فَإِنَّمَا نَهَى عَنْ بَيْعِهِ إذَا كَانَ قَصْدُهُ التَّبْقِيَةَ إلَى الصَّلَاحِ ، وَمَنْ جَوَّزَ بَيْعَهُ قَبْلَ الصَّلَاحِ وَبَعْدَهُ بِشَرْطِ الْقَطْعِ أَوْ مُطْلَقًا وَجَعَلَ مُوجَبَ الْعَقْدِ الْقَطْعَ ، وَحَرَّمَ بَيْعَهُ بِشَرْطِ التَّبْقِيَةِ أَوْ مُطْلَقًا ؛ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ لِظُهُورِ الصَّلَاحِ فَائِدَةٌ ، وَلَمْ يَكُنْ فَرَّقَ بَيْنَ مَا نَهَى عَنْهُ مِنْ ذَلِكَ وَمَا أَذِنَ فِيهِ ؛ فَإِنَّهُ يَقُولُ : مُوجَبُ الْعَقْدِ التَّسْلِيمُ فِي الْحَالِ ، فَلَا يَجُوزُ شَرْطُ تَأْخِيرِهِ سَوَاءٌ بَدَا صَلَاحُهُ أَوْ لَمْ يَبْدُ ، وَالصَّوَابُ قَوْلُ الْجُمْهُورِ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْقِيَاسُ الصَّحِيحُ ، وَقَوْلُهُ : " إنَّ مُوجَبَ الْعَقْدِ التَّسْلِيمُ فِي الْحَالِ " جَوَابُهُ أَنَّ مُوجَبَ الْعَقْدِ إمَّا أَنْ يَكُونَ مَا أَوْجَبَهُ الشَّارِعُ بِالْعَقْدِ أَوْ مَا أَوْجَبَهُ الْمُتَعَاقِدَانِ مِمَّا يَسُوغُ لَهُمَا أَنْ يُوجِبَاهُ ، وَكِلَاهُمَا مُنْتَفٍ فِي هَذِهِ الدَّعْوَى ؛ فَلَا الشَّارِعُ أَوْجَبَ أَنْ يَكُونَ كُلُّ مَبِيعٍ مُسْتَحِقٍّ التَّسْلِيمَ عَقِيبَ الْعَقْدِ ،(1/188)
وَلَا الْعَاقِدَانِ الْتَزَمَا ذَلِكَ ، بَلْ تَارَةً يَعْقِدَانِ الْعَقْدَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ ، وَتَارَةً يَشْتَرِطَانِ التَّأْخِيرَ إمَّا فِي الثَّمَنِ وَإِمَّا فِي الْمُثَمَّنِ ، وَقَدْ يَكُونُ لِلْبَائِعِ غَرَضٌ صَحِيحٌ وَمَصْلَحَةٌ فِي تَأْخِيرِ التَّسْلِيمِ لِلْمَبِيعِ ، كَمَا كَانَ لِجَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ غَرَضٌ صَحِيحٌ فِي تَأْخِيرِ تَسْلِيمِ بَعِيرِهِ إلَى الْمَدِينَةِ ، فَكَيْفَ يَمْنَعُهُ الشَّارِعُ مَا فِيهِ مَصْلَحَةٌ لَهُ وَلَا ضَرَرَ عَلَى الْآخِرَةِ فِيهَا ؟ إذْ قَدْ رَضِيَ بِهَا كَمَا { رَضِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى جَابِرٍ بِتَأْخِيرِ تَسْلِيمِ الْبَعِيرِ } ، وَلَوْ لَمْ تَرِدْ السُّنَّةُ بِهَذَا لَكَانَ مَحْضُ الْقِيَاسِ يَقْتَضِي جَوَازَهُ ، وَيَجُوزُ لِكُلِّ بَائِعٍ أَنْ يَسْتَثْنِيَ مِنْ مَنْفَعَةِ الْمَبِيعِ مَالَهُ فِي غَرَضٍ صَحِيحٍ ، كَمَا إذَا بَاعَ عَقَارًا وَاسْتَثْنَى سُكْنَاهُ مُدَّةً أَوْ دَابَّةً وَاسْتَثْنَى ظَهْرَهَا ، وَلَا يَخْتَصُّ ذَلِكَ بِالْبَيْعِ ، بَلْ لَوْ وَهَبَهُ وَاسْتَثْنَى نَفْعَهُ مُدَّةً ، أَوْ أَعْتَقَ عَبْدَهُ وَاسْتَثْنَى خِدْمَتَهُ مُدَّةً ، أَوْ وَقَفَ عَيْنًا وَاسْتَثْنَى غَلَّتَهَا لِنَفْسِهِ مُدَّةَ حَيَاتِهِ ، أَوْ كَاتَبَ أَمَةً وَاسْتَثْنَى وَطْئَهَا مُدَّةَ الْكِتَابَةِ ، وَنَحْوَهُ ، وَهَذَا كُلُّهُ مَنْصُوصُ أَحْمَدَ ، وَبَعْضُ أَصْحَابِهِ يَقُولُ : إذَا اسْتَثْنَى مَنْفَعَةَ الْمَبِيعِ فَلَا بُدَّ أَنْ يُسَلِّمَ الْعَيْنَ إلَى الْمُشْتَرِي ثُمَّ يَأْخُذُهَا لِيَسْتَوْفِيَ الْمَنْفَعَةَ ، بِنَاءً عَلَى هَذَا الْأَصْلِ الَّذِي قَدْ تَبَيَّنَ فَسَادُهُ ، وَهُوَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ اسْتِحْقَاقِ الْقَبْضِ عَقِيبَ الْعَقْدِ ، وَعَنْ هَذَا الْأَصْلِ قَالُوا : لَا تَصِحُّ(1/189)
الْإِجَارَةُ إلَّا عَلَى مُدَّةٍ تَلِي الْعَقْدَ ، وَعَلَى هَذَا بَنَوْا مَا إذَا بَاعَ الْعَيْنَ الْمُؤَجَّرَةَ ؛ فَمِنْهُمْ مَنْ أَبْطَلَ الْبَيْعَ لِكَوْنِ الْمَنْفَعَةِ لَا تَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ فَلَا يَحْصُلُ التَّسْلِيمُ ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : هَذَا مُسْتَثْنَى بِالشَّرْعِ ، بِخِلَافِ الْمُسْتَثْنَى بِالشَّرْطِ ، وَقَدْ اتَّفَقَ الْأَئِمَّةُ عَلَى صِحَّةِ بَيْعِ الْأَمَةِ الْمُزَوَّجَةِ وَإِنْ كَانَتْ مَنْفَعَةُ الْبُضْعِ لِلزَّوْجِ وَلَمْ تَدْخُلْ فِي الْبَيْعِ ، وَاتَّفَقُوا عَلَى جَوَازِ تَأْخِيرِ التَّسْلِيمِ إذَا كَانَ الْعُرْفُ يَقْتَضِيهِ كَمَا إذَا بَاعَ مَخْزَنًا لَهُ فِيهِ مَتَاعٌ كَثِيرٌ لَا يُنْقَلُ فِي يَوْمٍ وَلَا أَيَّامٍ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ جَمْعُ دَوَابِّ الْبَلَدِ وَنَقْلُهُ فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ ، بَلْ قَالُوا : هَذَا مُسْتَثْنَى بِالْعُرْفِ ، فَيُقَالُ : وَهَذَا مِنْ أَقْوَى الْحُجَجِ عَلَيْكُمْ ، فَإِنَّ الْمُسْتَثْنَى بِالشَّرْطِ أَقْوَى مِنْ الْمُسْتَثْنَى بِالْعُرْفِ ، كَمَا أَنَّهُ أَوْسَعُ مِنْ الْمُسْتَثْنَى بِالشَّرْعِ ؛ فَإِنَّهُ يَثْبُتُ بِالشَّرْطِ مَا لَا يَثْبُتُ بِالشَّرْعِ ، كَمَا أَنَّ الْوَاجِبَ بِالنَّذْرِ أَوْسَعُ مِنْ الْوَاجِبِ بِالشَّرْعِ .
إعلام الموقعين عن رب العالمين - (ج 2 / ص 65)
فَصْلٌ : [ ضَمَانُ الْحَدَائِقِ وَالْبَسَاتِينِ ] .(1/190)
وَبَنَوْا عَلَى هَذَا الْأَصْلِ الَّذِي لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهِ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ ، بَلْ دَلَّ عَلَى خِلَافِهِ ، وَهُوَ بَيْعُ الْمَعْدُومِ - بُطْلَانَ ضَمَانِ الْحَدَائِقِ وَالْبَسَاتِينِ ، وَقَالُوا : هُوَ بَيْعٌ لِلثَّمَرِ قَبْلَ ظُهُورِهِ أَوْ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهِ ؛ ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ حَكَى الْإِجْمَاعَ عَلَى بُطْلَانِهِ ، وَلَيْسَ مَعَ الْمَانِعِينَ [ حُجَّةٌ عَلَى مَا ] ظَنُّوهُ ، فَلَا النَّصُّ يَتَنَاوَلُهُ وَلَا مَعْنَاهُ ، وَلَمْ تُجْمِعْ الْأُمَّةُ عَلَى بُطْلَانِهِ ، فَلَا نَصَّ مَعَ الْمَانِعِينَ وَلَا قِيَاسَ وَلَا إجْمَاعَ ؛ وَنَحْنُ نُبَيِّنُ انْتِفَاءَ هَذِهِ الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ : أَمَّا الْإِجْمَاعُ فَقَدْ صَحَّ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ ضَمِنَ حَدِيقَةَ أُسَيْدَ بْنِ حُضَيْرٍ ثَلَاثَ سِنِينَ وَتَسَلَّفَ الضَّمَانَ فَقَضَى بِهِ دَيْنًا كَانَ عَلَى أُسَيْدَ ، وَهَذَا بِمَشْهَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ ، وَلَمْ يُنْكِرْهُ مِنْهُمْ رَجُلٌ وَاحِدٌ ، وَمَنْ جَعَلَ مِثْلَ هَذَا إجْمَاعًا فَقَدْ أَجْمَعَ الصَّحَابَةُ عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ ، وَأَقَلُّ دَرَجَاتِهِ أَنْ يَكُونَ قَوْلَ صَحَابِيٍّ ، بَلْ قَوْلَ الْخَلِيفَةِ الرَّاشِدِ ، وَلَمْ يُنْكِرْهُ مِنْهُمْ مُنْكِرٌ ، وَهَذَا حُجَّةٌ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ ، وَقَدْ جَوَّزَ بَعْضُ أَصْحَابِ أَحْمَدَ ضَمَانَ الْبَسَاتِينِ مَعَ الْأَرْضِ الْمُؤَجَّرَةِ ؛ إذْ لَا يُمْكِنُ إفْرَادُ إحْدَاهُمَا عَنْ الْأُخْرَى ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ عَقِيلٍ ، وَجَوَّزَ بَعْضُهُمْ ضَمَانَ الْأَشْجَارِ مُطْلَقًا مَعَ الْأَرْضِ وَبِدُونِهَا ، وَاخْتَارَهُ شَيْخُنَا وَأَفْرَدَ فِيهِ مُصَنَّفًا ؛ فَفِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ ، وَجَوَّزَ مَالِكٌ ذَلِكَ تَبَعًا لِلْأَرْضِ فِي قَدْرِ الثُّلُثِ .(1/191)
قَالَ شَيْخُنَا : وَالصَّوَابُ مَا فَعَلَهُ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ؛ فَإِنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ الْبَيْعِ وَالضَّمَانِ هُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ بَيْعِ الْحَبِّ حَتَّى يَشْتَدَّ وَلَمْ يَنْهَ عَنْ إجَارَةِ الْأَرْضِ لِلزِّرَاعَةِ مَعَ أَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ مَقْصُودُهُ الْحَبُّ بِعَمَلِهِ فَيَخْدُمُ الْأَرْضَ وَيَحْرُثُهَا وَيَسْقِيهَا وَيَقُومُ عَلَيْهَا ، وَهُوَ نَظِيرُ مُسْتَأْجِرِ الْبُسْتَانِ لِيَخْدُمَ شَجَرَهُ وَيَسْقِيَهُ وَيَقُومَ عَلَيْهِ ، وَالْحَبُّ نَظِيرُ الثَّمَرِ ، وَالشَّجَرُ نَظِيرُ الْأَرْضِ ، وَالْعَمَلُ نَظِيرُ الْعَمَلِ ؛ فَمَا الَّذِي حَرَّمَ هَذَا وَأَحَلَّ هَذَا ؟ وَهَذَا بِخِلَافِ الْمُشْتَرِي ؛ فَإِنَّهُ يَشْتَرِي ثَمَرًا وَعَلَى الْبَائِعِ مُؤْنَةِ الْخِدْمَةِ وَالسَّقْيِ وَالْقِيَامِ عَلَى الشَّجَرِ ؛ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الَّذِي يَشْتَرِي الْحَبَّ وَعَلَى الْبَائِعِ مُؤْنَةُ الزَّرْعِ وَالْقِيَامُ عَلَيْهِ ؛ فَقَدْ ظَهَرَ انْتِفَاءُ الْقِيَاسِ وَالنَّصِّ ، كَمَا ظَهَرَ انْتِفَاءُ الْإِجْمَاعِ ، بَلْ الْقِيَاسُ الصَّحِيحُ مَعَ الْمُجَوِّزِينَ ، كَمَا مَعَهُمْ الْإِجْمَاعُ الْقَدِيمُ .
فَإِنْ قِيلَ : فَالثَّمَرُ أَعْيَانٌ ، وَعَقْدُ الْإِجَارَةِ إنَّمَا يَكُونُ عَلَى الْمَنَافِعِ ، قِيلَ : الْأَعْيَانُ هُنَا حَصَلَتْ بِعَمَلِهِ فِي الْأَصْلِ الْمُسْتَأْجَرِ ، كَمَا حَصَلَ الْحَبُّ بِعَمَلِهِ فِي الْأَرْضِ الْمُسْتَأْجَرَةِ .
فَإِنْ قِيلَ : الْفَرْقُ أَنَّ الْحَبَّ حَصَلَ مِنْ بَذْرِهِ ، وَالثَّمَرُ حَصَلَ مِنْ شَجَرِ الْمُؤَجَّرِ .(1/192)
قِيلَ : لَا أَثَرَ لِهَذَا الْفَرْقِ فِي الشَّرْعِ ، بَلْ قَدْ أَلْغَاهُ الشَّارِعُ فِي الْمُسَاقَاةِ وَالْمُزَارَعَةِ فَسَوَّى بَيْنَهُمَا ؛ وَالْمُسَاقِي يَسْتَحِقُّ جُزْءًا مِنْ الثَّمَرَةِ النَّاشِئَةِ مِنْ أَصْلِ الْمِلْكِ ؛ وَالْمُزَارِعُ يَسْتَحِقُّ جُزْءًا مِنْ الزَّرْعِ النَّابِتِ فِي أَرْضِ الْمَالِكِ ، وَإِنْ كَانَ الْبَذْرُ مِنْهُ ، كَمَا ثَبَتَ بِالسُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ الصَّرِيحَةِ وَإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ ، فَإِذَا لَمْ يُؤَثِّرْ هَذَا الْفَرْقُ فِي الْمُسَاقَاةِ وَالْمُزَارَعَةِ الَّتِي يَكُونُ النَّمَاءُ فِيهَا مُشْتَرَكًا لَمْ يُؤَثِّرْ فِي الْإِجَارَةِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى ؛ لِأَنَّ إجَارَةَ الْأَرْضِ لَمْ يُخْتَلَفْ فِيهَا كَالِاخْتِلَافِ فِي الْمُزَارَعَةِ ، فَإِذَا كَانَتْ إجَارَتُهَا عِنْدَكُمْ أَجَوْزَ مِنْ الْمُزَارَعَةِ فَإِجَارَةُ الشَّجَرِ أَوْلَى بِالْجَوَازِ مِنْ الْمُسَاقَاةِ عَلَيْهَا ، فَهَذَا مَحْضُ الْقِيَاسِ وَعَمَلُ الصَّحَابَةِ وَمَصْلَحَةُ الْأُمَّةِ ، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ .(1/193)
وَاَلَّذِينَ مَنَعُوا ذَلِكَ وَحَرَّمُوهُ تَوَصَّلُوا إلَى جَوَازِهِ بِالْحِيلَةِ الْبَاطِلَةِ شَرْعًا وَعَقْلًا ، فَإِنَّهُمْ يُؤَجِّرُونَهُ الْأَرْضَ وَلَيْسَتْ مَقْصُودَةً لَهُ أَلْبَتَّةَ ، وَيُسَاقُونَهُ عَلَى الشَّجَرِ مِنْ أَلْفِ جُزْءٍ عَلَى جُزْءٍ مُسَاقَاةً غَيْرَ مَقْصُودَةٍ وَإِجَارَةً غَيْرَ مَقْصُودَةٍ ، فَجَعَلُوا مَا لَمْ يُقْصَدْ مَقْصُودًا ، وَمَا قُصِدَ غَيْرَ مَقْصُودٍ ، وَحَابُوا فِي الْمُسَاقَاةِ أَعْظَمَ مُحَابَاةٍ ، وَذَلِكَ حَرَامٌ بَاطِلٌ فِي الْوَقْفِ وَبُسْتَانِ الْمُوَلَّى عَلَيْهِ مِنْ يَتِيمٍ أَوْ سَفِيهٍ أَوْ مَجْنُونٍ ، وَمُحَابَاتُهُمْ إيَّاهُ فِي إجَارَةِ الْأَرْضِ لَا تُسَوِّغُ لَهُمْ مُحَابَاةَ الْمُسْتَأْجِرِ فِي الْمُسَاقَاةِ ، وَلَا يَسُوغُ اشْتِرَاطُ أَحَدِ الْعَقْدَيْنِ فِي الْآخَرِ ، بَلْ كُلُّ عَقْدٍ مُسْتَقِلٌّ بِحُكْمِهِ ، فَأَيْنَ هَذَا مِنْ فِعْلِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ وَفِقْهِهِ ؟ وَأَيْنَ الْقِيَاسُ مِنْ الْقِيَاسِ وَالْفِقْهُ مِنْ الْفِقْهِ ؟ فَبَيْنَهُمَا فِي الصِّحَّةِ بُعْدُ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقَيْنِ ؟
إعلام الموقعين عن رب العالمين - (ج 3 / ص 426)
[(1/194)
ادِّعَاءٌ أَنَّ فِي مَذَاهِبِ الْأَئِمَّةِ فُرُوعًا يَنْبَنِي عَلَيْهَا تَجْوِيزُ الْحِيَلِ ] : قُلْنَا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ رُهُونٌ كَثِيرَةٌ فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ ، وَقَدْ سَلَّمُوا لَنَا أَنَّ الشَّرْطَ الْمُتَقَدِّمَ عَلَى الْعَقْدِ مُلْغًى ، وَسَلَّمُوا لَنَا أَنَّ الْقُصُودَ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ فِي الْعُقُودِ ، وَسَلَّمُوا لَنَا جَوَازَ التَّحَيُّلِ عَلَى إسْقَاطِ الشُّفْعَةِ ، وَقَالُوا : يَجُوزُ التَّحَيُّلُ عَلَى بَيْعِ الْمَعْدُومِ مِنْ الثِّمَارِ فَضْلًا عَمَّا لَمْ يَبْدُ صَلَاحُهُ بِأَنْ يُؤَجِّرَهُ الْأَرْضَ وَيُسَاقِيَهُ عَلَى الثَّمَرِ مِنْ كُلِّ أَلْفٍ جُزْءٌ عَلَى جُزْءٍ ، وَهَذَا نَفْسُ الْحِيلَةِ عَلَى بَيْعِ الثِّمَارِ قَبْلَ وُجُودِهَا ، فَكَيْفَ تُنْكِرُونَ عَلَيْنَا التَّحَيُّلَ عَلَى بَيْعِهَا قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا ؟ وَهَلْ مَسْأَلَةُ الْعَيِّنَةِ إلَّا مِلْكَ بَابِ الْحِيَلِ ؟ وَهُمْ يُبْطِلُونَ الشَّرِكَةَ بِالْعُرُوضِ ثُمَّ يَقُولُونَ : الْحِيلَةُ فِي جَوَازِهَا أَنْ يَبِيعَ كُلٌّ مِنْهُمَا نِصْفَ عَرْضِهِ لِصَاحِبِهِ ، فَيَصِيرَانِ شَرِيكَيْنِ حِينَئِذٍ بِالْفِعْلِ وَيَقُولُونَ : لَا يَصِحُّ تَعْلِيقُ الْوَكَالَةِ بِالشَّرْطِ ، وَالْحِيلَةُ عَلَى جَوَازِهَا أَنْ يُوَكِّلَهُ الْآنَ وَيُعَلِّقَ تَصَرُّفَهُ بِالشَّرْطِ .
وَقَوْلُهُمْ فِي الْحِيَلِ عَلَى عَدَمِ الْحِنْثِ بِالْمَسْأَلَةِ السريجية مَعْرُوفٌ ، وَكُلُّ حِيلَةٍ سِوَاهُ مُحَلَّلٌ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ ؛ فَإِنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ حِيلَةٌ عَلَى أَنْ يَحْلِفَ دَائِمًا بِالطَّلَاقِ وَيَحْنَثَ وَلَا يَقَعُ عَلَيْهِ الطَّلَاقُ أَبَدًا .(1/195)
وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَهُمْ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ إنْكَارًا عَلَيْنَا لِلْحِيَلِ ، وَأُصُولُهُمْ تُخَالِفُ أُصُولَنَا فِي ذَلِكَ ؛ إذْ عِنْدَهُمْ أَنَّ الشَّرْطَ الْمُتَقَدِّمَ كَالْمُقَارَنِ ، وَالشَّرْطَ الْعُرْفِيَّ كَاللَّفْظِيِّ ، وَالْقُصُودُ فِي الْعُقُودِ مُعْتَبَرَةٌ ، وَالذَّرَائِعُ يَجِبُ سَدُّهَا ، وَالتَّغْرِيرُ الْفِعْلِيُّ كَالتَّغْرِيرِ الْقَوْلِيِّ ، وَهَذِهِ الْأُصُولُ تَسُدُّ بَابَ الْحِيَلِ سَدًّا مُحْكَمًا .
وَلَكِنْ قَدْ عَلَّقْنَا لَهُمْ بِرُهُونٍ نُطَالِبُهُمْ بِفَكَاكِهَا أَوْ بِمُوَافَقَتِهِمْ لَنَا عَلَى مَا أَنْكَرُوهُ عَلَيْنَا ، فَجَوَّزُوا التَّحَيُّلَ عَلَى إسْقَاطِ الشُّفْعَةِ ، وَقَالُوا : لَوْ تَزَوَّجَهَا وَمِنْ نِيَّتِهِ أَنْ يُقِيمَ مَعَهَا سَنَةً صَحَّ النِّكَاحُ ، وَلَمْ تَعْمَلْ هَذِهِ النِّيَّةُ فِي فَسَادِهِ .
وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَبَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ مُعْتَرَكُ النِّزَالِ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ ؛ فَإِنَّهُمْ هُمْ الَّذِينَ شَنُّوا عَلَيْنَا الْغَارَاتِ ، وَرَمَوْنَا بِكُلِّ سِلَاحٍ مِنْ الْأَثَرِ وَالنَّظَرِ ، وَلَمْ يُرَاعُوا لَنَا حُرْمَةً ، وَلَمْ يَرْقُبُوا فِينَا إلًّا وَلَا ذِمَّةً .
وَقَالُوا : لَوْ نَصَبَ شِبَاكًا لِلصَّيْدِ قَبْلَ الْإِحْرَامِ ثُمَّ أَخَذَ مَا وَقَعَ فِيهَا حَالَ الْإِحْرَامِ بَعْدَ الْحِلِّ جَازَ .
وَيَا لِلَّهِ الْعَجَبُ ، أَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ هَذِهِ الْحِيلَةِ وَحِيلَةِ أَصْحَابِ السَّبْتِ عَلَى الْحِيتَانِ ؟ وَقَالُوا : لَوْ نَوَى الزَّوْجُ الثَّانِي أَنْ يُحِلَّهَا لِلْأَوَّلِ وَلَمْ يَشْتَرِطْ ذَلِكَ جَازَ وَحَلَّتْ لَهُ ، لِأَنَّهُ لَمْ يَشْتَرِطْ ذَلِكَ فِي الْعَقْدِ ، وَهَذَا تَصْرِيحٌ بِأَنَّ النِّيَّةَ لَا تُؤَثِّرْ فِي الْعَقْدِ .(1/196)
وَقَالُوا : لَوْ تَزَوَّجَهَا وَمِنْ نِيَّتِهِ أَنْ يُقِيم مَعَهَا شَهْرًا ثُمَّ يُطَلِّقُهَا صَحَّ الْعَقْدُ ، وَلَمْ تَكُنْ نِيَّةُ التَّوْقِيتِ مُؤَثِّرَةً فِيهِ ، وَكَلَامُهُمْ فِي بَابِ الْمَخَارِجِ مِنْ الْأَيْمَانِ بِأَنْوَاعٍ الْحِيَلِ مَعْرُوفٌ ، وَعَنَّا تَلَقَّوْهُ ، وَمِنَّا أَخَذُوهُ .
وَقَالُوا : لَوْ حَلَفَ أَنْ لَا يَشْتَرِيَ مِنْهُ ثَوْبًا فَاتَّهَبَهُ مِنْهُ وَشَرَطَ لَهُ الْعِوَضَ لَا يَحْنَثُ .
وَقَالُوا بِجَوَازِ مَسْأَلَةِ التَّوَرُّقِ .
وَهِيَ شَقِيقَةُ مَسْأَلَةِ الْعَيِّنَةِ ؛ فَأَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ مَصِيرِ السِّلْعَةِ إلَى الْبَائِعِ وَبَيْنَ مَصِيرِهَا إلَى غَيْرِهِ ؟ بَلْ قَدْ يَكُونُ عَوْدُهَا إلَى الْبَائِعِ أَرْفَقُ بِالْمُشْتَرِي وَأَقَلُّ كَلِفَةً عَلَيْهِ وَأَرْفَعُ لِخَسَارَتِهِ وَتَعَنِّيهِ .
فَكَيْفَ تُحَرِّمُونَ الضَّرَرَ الْيَسِيرَ وَتُبِيحُونَ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُ وَالْحَقِيقَةُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَاحِدَةٌ وَهِيَ عَشَرَةٌ بِخَمْسَةَ عَشَرَ وَبَيْنَهُمَا حَرِيرَةٌ رَجَعَتْ فِي إحْدَى الصُّورَتَيْنِ إلَى مَالِكِهَا وَفِي الثَّانِيَةِ إلَى غَيْرِهِ ؟ وَقَالُوا : لَوْ حَلَفَ بِالطَّلَاقِ لَا يُزَوِّجُ عَبْدَهُ بِأَمَتِهِ أَبَدًا ثُمَّ أَرَادَ تَزْوِيجَهُ بِهَا وَلَا يَحْنَثُ فَإِنَّهُ يَبِيعُ الْعَبْدَ وَالْجَارِيَةَ مِنْ رَجُلٍ ثُمَّ يُزَوِّجُهُمَا الْمُشْتَرِي ثُمَّ يَسْتَرِدُّهُمَا مِنْهُ .(1/197)
قَالَ الْقَاضِي : وَهَذَا غَيْرُ مُمْتَنِعٍ عَلَى أَصْلِنَا ؛ لِأَنَّ عَقْدَ النِّكَاحِ قَدْ وُجِدَ فِي حَالِ زَوَالِ مِلْكِهِ عَنْهُمَا ، وَلَا يَتَعَلَّقُ الْحِنْثُ بِاسْتِدَامَةِ الْعَقْدِ بَعْد أَنْ مَلَكَهُمَا ؛ لِأَنَّ التَّزْوِيجَ عِبَارَةٌ عَنْ الْعَقْدِ وَقَدْ انْقَضَى وَإِنَّمَا بَقِيَ حُكْمُهُ فَلَمْ يَحْنَثْ بِاسْتِدَامَةِ حُكْمِهِ .
وَقَالُوا : لَوْ كَانَ لَهُ عَلَيْهِ مَالٌ وَهُوَ مُحْتَاجٌ فَأَحَبَّ أَنْ يَدَعَهُ لَهُ مِنْ زَكَاتِهِ فَالْحِيلَةُ أَنْ يَتَصَدَّقَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ الْقَدْرِ ثُمَّ يَقْبِضَهُ مِنْهُ ، ثُمَّ قَالُوا : فَإِنْ كَانَ لَهُ شَرِيكٌ فِيهِ فَخَافَ أَنْ يُخَاصِمَهُ فِيهِ فَالْحِيلَةُ أَنْ يَهَبَ الْمَطْلُوبُ لِلطَّالِبِ مَالًا بِقَدْرِ حِصَّةِ الطَّالِبِ مِمَّا لَهُ عَلَيْهِ وَيَقْبِضَهُ مِنْهُ لِلطَّالِبِ ثُمَّ يَتَصَدَّقُ الطَّالِبُ عَلَى الْمَطْلُوبِ بِمَا وَهَبَهُ لَهُ وَيَحْتَسِبُ بِذَلِكَ مِنْ زَكَاتِهِ ثُمَّ يَهَبُ الْمَطْلُوبُ مَالَهُ عَلَيْهِ مِنْ الدَّيْنِ وَلَا يَضْمَنُ الطَّالِبُ لِشَرِيكِهِ شَيْئًا ؛ لِأَنَّ هِبَةَ الدَّيْنِ لِمَنْ فِي ذِمَّتِهِ بَرَاءَةٌ .
وَإِذَا أَبْرَأَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ الْغَرِيمَ مِنْ نَصِيبِهِ لَمْ يَضْمَنْ لِشَرِيكِهِ شَيْئًا ، وَإِنَّمَا يَضْمَنُ إذَا حَصَلَ الدَّيْنُ فِي ضَمَانِهِ .
وَقَالُوا : لَوْ أَجَّرَهُ الْأَرْضَ بِأُجْرَةٍ مَعْلُومَةٍ وَشَرَطَ عَلَيْهِ أَنْ يُؤَدِّيَ خَرَاجَهَا لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّ الْخَرَاجَ عَلَى الْمَالِكِ لَا عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ ، وَالْحِيلَةُ فِي جَوَازِهِ أَنْ يُؤَجِّرَهُ إيَّاهَا بِمَبْلَغٍ يَكُونُ زِيَادَتُهُ بِقَدْرِ الْخَرَاجِ ثُمَّ يَأْذَنُ لَهُ أَنْ يَدْفَعَ فِي خَرَاجِهَا ذَلِكَ الْقَدْرَ الزَّائِدَ عَلَى أُجْرَتِهَا .(1/198)
قَالُوا : لِأَنَّهُ مَتَى زَادَ مِقْدَارُ الْخَرَاجِ عَلَى الْأُجْرَةِ حَصَلَ ذَلِكَ دَيْنًا عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ ، وَقَدْ أَمَرَهُ أَنْ يَدْفَعَهُ إلَى مُسْتَحِقِّ الْخَرَاجِ وَهُوَ جَائِزٌ .
وَقَالُوا : وَنَظِيرُ هَذَا أَنْ يُؤَجِّرَهُ دَابَّةً وَيَشْتَرِطَ عَلَفَهَا عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ لَمْ يَجُزْ وَالْحِيلَةُ فِي جَوَازِهِ هَكَذَا سَوَاءٌ ، يَزِيدُ فِي الْأُجْرَةِ وَيُوَكِّلَهُ أَنْ يَعْلِفَ الدَّابَّةَ بِذَلِكَ الْقَدْرِ الزَّائِدِ .
وَقَالُوا : لَا يَصِحُّ اسْتِئْجَارُ الشَّجَرَةِ لِلثَّمَرَةِ ، وَالْحِيلَةُ فِي ذَلِكَ أَنْ يُؤَجِّرَهُ الْأَرْضَ وَيُسَاقِيَهُ عَلَى الثَّمَرَةِ مِنْ كُلِّ أَلْفِ جُزْءٍ جُزْءٌ مَثَلًا .
وَقَالُوا : لَوْ وَكَّلَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ جَارِيَةً مُعَيَّنَةً بِثَمَنٍ مُعَيَّنٍ دَفَعَهُ إلَيْهِ ، فَلَمَّا رَآهَا أَرَادَ شِرَاءَهَا لِنَفْسِهِ ، وَخَافَ أَنْ يُحَلِّفَهُ أَنَّهُ إنَّمَا اشْتَرَاهَا بِمَالِ الْمُوَكِّلِ لَهُ ، وَهُوَ وَكِيلُهُ ، فَالْوَجْهُ أَنْ يَعْزِلَ نَفْسَهُ عَنْ الْوَكَالَةِ ، ثُمَّ يَشْتَرِيَهَا بِثَمَنٍ فِي ذِمَّتِهِ ، ثُمَّ يَنْقُدُ مَا مَعَهُ مِنْ الثَّمَنِ ، وَيَصِيرُ لِمُوَكِّلِهِ فِي ذِمَّتِهِ نَظِيرُهُ .
قَالُوا : وَأَمَّا نَحْنُ فَلَا تَأْتِي هَذِهِ الْحِيلَةُ عَلَى أُصُولِنَا ؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ لَا يَمْلِكُ عَزْلَ نَفْسِهِ إلَّا بِحَضْرَةِ مُوَكِّلِهِ .
قَالُوا : وَقَدْ قَالَتْ الْحَنَابِلَةُ أَيْضًا : لَوْ أَرَادَ إجَارَةً أَرْضٍ لَهُ فِيهَا زَرْعٌ لَمْ يَجُزْ ، وَالْحِيلَةُ فِي جَوَازِهِ أَنْ يَبِيعَهُ الزَّرْعَ ثُمَّ يُؤَجِّرَهُ الْأَرْضَ ، فَإِنْ أَرَادَ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْهُ الزَّرْعَ جَازَ .(1/199)
وَقَالُوا : لَوْ شَرَطَ رَبُّ الْمَالِ عَلَى الْمُضَارِبِ ضَمَانَ مَالِ الْمُضَارَبَةِ لَمْ يَصِحَّ ، وَالْحِيلَةُ فِي صِحَّتِهِ أَنْ يُقْرِضَهُ الْمَالَ فِي ذِمَّتِهِ ثُمَّ يَقْبِضَهُ الْمُضَارِبُ مِنْهُ ، فَإِذَا قَبَضَهُ دَفَعَهُ إلَى مَالِكِهِ الْأَوَّلِ مُضَارَبَةً ثُمَّ يَدْفَعُهُ رَبُّ الْمَالِ إلَى الْمُضَارِبِ بِضَاعَةً فَإِنْ تَوَى .
فَهُوَ مِنْ ضَمَانِ الْمُضَارِبِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ مَضْمُونًا عَلَيْهِ بِالْقَرْضِ فَتَسْلِيمُهُ إلَى رَبِّ الْمَالِ مُضَارَبَةً كَتَسْلِيمِ مَالٍ لَهُ آخَرَ .
وَحِيلَةٌ أُخْرَى ، وَهِيَ أَنْ يُقْرِضَ رَبُّ الْمَالِ الْمُضَارِبَ مَا يُرِيدُ دَفْعُهُ إلَيْهِ ، ثُمَّ يُخْرِجُ مِنْ عِنْدِهِ دِرْهَمًا وَاحِدًا ، فَيُشَارِكُهُ عَلَى أَنْ يَعْمَلَا بِالْمَالَيْنِ جَمِيعًا عَلَى أَنَّ مَا رَزَقَهُ اللَّهُ فَهُوَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ ، فَإِنْ عَمِلَ أَحَدُهُمَا بِالْمَالِ بِإِذْنِ صَاحِبِهِ فَرَبِحَ كَانَ الرِّبْحُ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا شَرَطَاهُ ، وَإِنْ خَسِرَ كَانَ الْخُسْرَانُ عَلَى قَدْرِ الْمَالَيْنِ ، عَلَى رَبِّ الْمَالِ بِقَدْرِ الدِّرْهَمِ وَعَلَى الْمُضَارِبِ بِقَدْرِ رَأْسِ الْمَالِ ، وَإِنَّمَا جَازَ ذَلِكَ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ ، وَالْمُلْزَمَ نَفْسَهُ الضَّمَانَ بِدُخُولِهِ فِي الْقَرْضِ .
وَقَالُوا : لَا تَجُوزُ الْمُضَارَبَةُ عَلَى الْعَرْضِ ، فَإِنْ كَانَ عِنْدَهُ عَرْضٌ فَأَرَادَ أَنْ يُضَارِبَ عَلَيْهِ فَالْحِيلَةُ فِي جَوَازِهِ أَنْ يَبِيعَهُ الْعَرْضَ وَيَقْبِضَ ثَمَنَهُ فَيَدْفَعَهُ إلَيْهِ مُضَارَبَةً ثُمَّ يَشْتَرِي الْمُضَارِبُ ذَلِكَ الْمَتَاعَ بِالْمَالِ .(1/200)
وَقَالُوا : لَوْ حَلَّفَتْهُ امْرَأَتُهُ أَنَّ كُلَّ جَارِيَةٍ يَشْتَرِيهَا فَهِيَ حُرَّةٌ ، فَالْحِيلَةُ فِي جَوَازِ الشِّرَاءِ وَلَا تَعْتِقُ أَنْ يَعْنِي بِالْجَارِيَةِ السَّفِينَةَ وَلَا تَعْتِقُ ، وَإِنْ لَمْ تَحْضُرْهُ هَذِهِ النِّيَّةُ وَقْتَ الْيَمِينِ فَالْحِيلَةُ أَنْ يَشْتَرِيَهَا صَاحِبَهُ وَيَهَبُهُ إيَّاهَا ثُمَّ يَهَبُهُ نَظِيرَ الثَّمَنِ .
وَقَالُوا : لَوْ حَلَّفَتْهُ أَنَّ كُلَّ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا عَلَيْهَا فَهِيَ طَالِقٌ ، وَخَافَ مِنْ هَذِهِ الْيَمِينِ عِنْدَ مَنْ يُصَحِّحُ هَذَا التَّعْلِيقَ فَالْحِيلَةُ أَنْ يَنْوِيَ كُلَّ امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا عَلَى طَلَاقِكِ : أَيْ يَكُونُ طَلَاقُكِ صَدَاقُهَا ، أَوْ كُلَّ امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا عَلَى رَقَبَتِكِ : أَيْ تَكُونُ رَقَبَتُكِ صَدَاقُهَا ، فَهِيَ طَالِقٌ ، فَلَا يَحْنَثُ بِالتَّزْوِيجِ عَلَى غَيْرِ هَذِهِ الصِّفَةِ .
وَقَالُوا : لَوْ أَرَادَ أَنْ يَصْرِفَ دَنَانِيرَ بِدَرَاهِمَ وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَ الصَّيْرَفِيِّ مَبْلَغُ الدَّرَاهِمِ وَأَرَادَ أَنْ يَصْبِرَ عَلَيْهِ بِالْبَاقِي لَمْ يَجُزْ ، وَالْحِيلَةُ فِيهِ أَنْ يَأْخُذَ مَا عِنْدَهُ مِنْ الدَّرَاهِمِ بِقَدْرِ صَرْفِهِ ثُمَّ يُقْرِضَهُ إيَّاهَا فَيَصْرِفُ بِهَا الْبَاقِي ، فَإِنْ لَمْ يُوفِ فَعَلَ ذَلِكَ مِرَارًا حَتَّى يَسْتَوْفِيَ صَرْفَهُ ، وَيَصِيرَ مَا أَقْرَضَهُ دَيْنًا عَلَيْهِ ، لَا أَنَّهُ عِوَضُ الصَّرْفِ .
وَقَالُوا : لَوْ أَرَادَ أَنْ يَبِيعَهُ دَرَاهِمَ بِدَنَانِيرَ إلَى أَجَلٍ لَمْ يَجُزْ ، وَالْحِيلَةُ فِي ذَلِكَ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْهُ مَتَاعًا وَيَنْقُدَهُ ثَمَنَهُ وَيَقْبِضَ الْمَتَاعَ ، ثُمَّ يَشْتَرِيَ الْبَائِعُ مِنْهُ ذَلِكَ الْمَتَاعَ بِدَنَانِيرَ إلَى أَجَلٍ ، وَالتَّأْجِيلُ جَائِزٌ فِي ثَمَنِ الْمَتَاعِ .(1/201)
وَقَالُوا : لَوْ مَاتَ رَبُّ الْمَالِ بَعْدَ أَنْ قَبَضَ الْمُضَارِبُ الْمَالَ انْتَقَلَ إلَى وَرَثَتِهِ ، فَلَوْ اشْتَرَى الْمُضَارِبُ بِهِ بَعْدَ ذَلِكَ مَتَاعًا ضَمِنَ ؛ لِأَنَّهُ تَصَرَّفَ بَعْدَ بُطْلَانِ الشَّرِكَةِ .
وَالْحِيلَةُ فِي تَخَلُّصِ الْمُضَارِبِ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَشْهَدَ رَبُّ الْمَالِ أَنَّ حِصَّتَهُ مِنْ الْمَالِ الَّذِي دَفَعَهُ إلَيْهِ مُضَارَبَةً لِوَلَدِهِ ، وَأَنَّهُ مُقَارِضٌ إلَى هَذَا الشَّرِيكِ بِجَمِيعِ مَا تَرَكَهُ ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ لِوَلَدِهِ مَا أَحَبَّ فِي حَيَاتِهِ ، وَبَعْدَ وَفَاتِهِ .
فَيَجُوزُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْهُ كَوْنُهُ مُتَصَرِّفًا فِي مِلْكِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ وَكَالَةٍ وَلَا وِلَايَةٍ ، فَإِذَا أَذِنَ لَهُ فِي التَّصَرُّفِ بَرِئَ مِنْ الضَّمَانِ ، وَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ الْحِيلَةُ إنَّمَا تَتِمُّ إذَا كَانَ الْوَرَثَةُ أَوْلَادًا صِغَارًا .
وَقَالُوا : لَوْ صَالَحَ عَنْ الْمُؤَجَّلِ بِبَعْضِهِ حَالًّا لَمْ يَصِحَّ ، وَالْحِيلَةُ فِي تَصْحِيحِهِ أَنْ يَفْسَخَا الْعَقْدَ الَّذِي وَقَعَ عَلَى الْمُؤَجَّلِ وَيَجْعَلَاهُ بِذَلِكَ الْقَدْرِ الْحَالِّ .
وَقَالُوا : لَوْ لَبِسَ الْمُتَوَضِّئُ أَحَدَ الْخُفَّيْنِ قَبْلَ غَسْلِ الرِّجْلِ الْأُخْرَى ثُمَّ غَسَلَ الْأُخْرَى وَلَبِسَ عَلَيْهَا لَمْ يَجُزْ الْمَسْحُ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَلْبَسْ عَلَى كَمَالِ الطَّهَارَةِ ، وَالْحِيلَةُ فِي جَوَازِ الْمَسْحِ أَنْ يَخْلَعَ هَذِهِ الْفَرْدَةَ الثَّانِيَةَ ثُمَّ يَلْبَسَهَا .(1/202)
قَالُوا : وَلَوْ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِخِدْمَةِ عَبْدِهِ أَوْ بِمَا فِي بَطْنِ أَمَتِهِ جَازَ ، فَلَوْ أَرَادَ الْوَرَثَةُ شِرَاءَ خِدْمَةِ الْعَبْدِ أَوْ مَا فِي بَطْنِ الْأَمَةِ مِنْ الْمُوصَى لَهُ لَمْ يَجُزْ ، وَالْحِيلَةُ فِي جَوَازِهِ أَنْ يُصَالِحُوهُ عَنْ الْمُوصَى بِهِ عَلَى مَا يَبْذُلُونَهُ لَهُ فَيَجُوزُ ، وَإِنْ لَمْ يَجُزْ الْبَيْعُ فَإِنَّ الصُّلْحَ يَجُوزُ فِيهِ مَا لَا يَجُوزُ فِي الْبَيْعِ .
قَالُوا : وَلَا تَجُوزُ الشَّرِكَةُ بِالْعُرُوضِ ، فَإِنْ كَانَ لِأَحَدِهِمَا عَرْضٌ يُسَاوِي خَمْسَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ ، وَلِلْآخَرِ عَرْضٌ يُسَاوِي أَلْفًا فَأَحَبَّا أَنْ يَشْتَرِكَا فِي الْعَرْضَيْنِ ، فَالْحِيلَةُ أَنْ يَشْتَرِيَ صَاحِبُ الْعَرْضِ الَّذِي قِيمَتُهُ خَمْسَةَ آلَافٍ مِنْ الْآخَرِ خَمْسَةَ أَسْدَاسِ عَرْضِهِ بِسُدُسِ عَرْضِهِ هُوَ ؛ فَيَصِيرُ لِلَّذِي يُسَاوِي عَرْضُهُ أَلْفًا سُدُسَ جَمِيعِ الْمَالِ ، وَلِلْآخَرِ خَمْسَةَ أَسْدَاسِهِ ؛ لِأَنَّ جَمِيعَ مَالَيْهِمَا سِتَّةُ آلَافٍ ، وَقَدْ حَصَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْعَرْضَيْنِ بِهَذِهِ الشَّرِكَةِ بَيْنَهُمَا أَسْدَاسًا ، خَمْسَةَ أَسْدَاسِهِ لِأَحَدِهِمَا وَسُدُسَهُ لِلْآخَرِ ، فَإِذَا هَلَكَ أَحَدُهُمَا هَلَكَ عَلَى الشَّرِكَةِ .
قَالُوا : وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْمُوَكَّلِ لِمُوَكِّلِهِ فِيمَا هُوَ وَكِيلُهُ فِيهِ ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ شَاهِدٌ غَيْرُهُ وَخَافَ ضَيَاعَ حَقِّهِ فَالْحِيلَةُ أَنْ يَعْزِلَهُ حَتَّى يَشْهَدَ لَهُ ثُمَّ يُوَكِّلَهُ بَعْدَ ذَلِكَ إنْ أَرَادَ .(1/203)
قَالُوا : وَلَوْ أَعْتَقَ عَبْدَهُ فِي مَرَضِهِ ، وَثُلُثَهُ يَحْتَمِلُهُ ، وَخَافَ عَلَيْهِ مِنْ الْوَرَثَةِ أَنْ يَجْحَدُوا الْمَالَ وَيَرِثُوا ثُلُثَيْهِ ؛ فَالْحِيلَةُ أَنْ يَدْفَعَ إلَيْهِ مَالًا يَشْتَرِي نَفْسَهُ مِنْهُ بِحَضْرَةِ شُهُودٍ ، وَيَشْهَدُونَ أَنَّهُ قَدْ أَقَبَضَهُ الْمَالَ ، وَصَارَ الْعَبْدُ حُرًّا .
قَالُوا : وَكَذَلِكَ الْحِيلَةُ لَوْ كَانَ لِأَحَدِ الْوَرَثَةِ دَيْنٌ عَلَى الْمَوْرُوثِ ، وَلَيْسَتْ لَهُ بِهِ بَيِّنَةٌ ، فَأَرَادَ بَيْعَهُ الْعَبْدَ بِدَيْنِهِ الَّذِي لَهُ عَلَيْهِ فَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ سَوَاءٌ .
قَالُوا : وَلَوْ قَالَ : " أَوْصَيْت إلَى فُلَانٍ ، وَإِنْ لَمْ يَقْبَلْ فَإِلَى فُلَانٍ " وَخَافَ أَنْ تَبْطُلَ الْوَصِيَّةُ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ لَا يَرَى جَوَازَ تَعْلِيقِ الْوِلَايَةِ بِالشَّرْطِ ، فَالْحِيلَةُ أَنْ يَقُولَ : " فُلَانٌ وَفُلَانٌ وَصِيَّانِ ، فَإِنْ لَمْ يَقْبَلْ أَحَدُهُمَا وَقَبِلَ الْآخَرُ فَاَلَّذِي قَبِلَ هُوَ الْوَصِيُّ " فَيَجُوزُ عَلَى قَوْلِ الْجَمِيعِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُعَلِّقْ الْوِلَايَةَ بِالشَّرْطِ .
قَالُوا : وَلَوْ أَرَادَ ذِمِّيٌّ أَنْ يُسْلِمَ وَعِنْدَهُ خَمْرٌ كَثِيرٌ ، فَخَافَ أَنْ يَذْهَبَ عَلَيْهِ بِالْإِسْلَامِ ؛ فَالْحِيلَةُ أَنْ يُبَادِرَ بِبَيْعِهَا مِنْ ذِمِّيٍّ آخَرَ ثُمَّ يُسْلِمُ ، فَإِنَّهُ يَمْلِكُ تَقَاضِيهِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ ، فَإِنْ بَادَرَ الْآخَرُ وَأَسْلَمَ لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ ذَلِكَ .
وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مَجُوسِيٍّ بَاعَ مَجُوسِيًّا خَمْرًا ثُمَّ أَسْلَمَا يَأْخُذُ الثَّمَنَ ، قَدْ وَجَبَ لَهُ يَوْمَ بَاعَهُ .(1/204)
قَالَ أَرْبَابُ الْحِيَلِ : فَهَذَا رَهْنٌ ، الْفَرْقُ عِنْدَنَا بِأَنَّهُمْ قَالُوا بِالْحِيَلِ وَأَفْتَوْا بِهَا ، فَمَاذَا تُنْكِرُونَ عَلَيْنَا بَعْدَ ذَلِكَ وَتُشَنِّعُونَ ؟ وَمِثَالُنَا وَمِثَالُهُمْ فِي ذَلِكَ كَقَوْمٍ وَجَدُوا كَنْزًا فَأَصَابَ كُلٌّ مِنْهُمْ طَائِفَةً مِنْهُ فِي يَدَيْهِ ، فَمُسْتَقِلٌّ وَمُسْتَكْثِرٌ ، ثُمَّ أَقْبَلَ بَعْضُ الْآخِذِينَ يَنْقِمُ عَلَى بَقِيَّتِهِمْ ، وَمَا أَخَذَهُ مِنْ الْكَنْزِ فِي يَدَيْهِ ، فَلْيَرْمِ مِمَّا أَخَذَ مِنْهُ ثُمَّ لِيُنْكِرْ عَلَى الْبَاقِينَ .
[(1/205)
جَوَابُ الَّذِينَ أَبْطَلُوا الْحِيَلَ ] قَالَ الْمُبْطِلُونَ لِلْحِيَلِ : سُبْحَانَ اللَّهِ ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ ، وَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ، وَاَللَّهُ أَكْبَرُ ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ ، فَسُبْحَانَ اللَّهِ الَّذِي فَرَضَ الْفَرَائِضَ وَحَرَّمَ الْمَحَارِمَ وَأَوْجَبَ الْحُقُوقَ رِعَايَةً لِمَصَالِحِ الْعِبَادِ فِي الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ ، وَجَعَلَ شَرِيعَتَهُ الْكَامِلَةَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَغِذَاءً لِحِفْظِ حَيَاتِهِمْ ، وَدَوَاءً لِدَفْعِ أَدْوَائِهِمْ ، وَظِلَّهُ الظَّلِيلَ الَّذِي مَنْ اسْتَظَلَّ بِهِ أَمِنَ مِنْ الْحَرُورِ ، وَحِصْنَهُ الْحَصِينَ الَّذِي مَنْ دَخَلَهُ نَجَا مِنْ الشُّرُورِ ، فَتَعَالَى شَارِعُ هَذِهِ الشَّرِيعَةِ الْفَائِقَةِ لِكُلِّ شَرِيعَةٍ أَنْ يَشْرَعَ فِيهَا الْحِيَلَ الَّتِي تُسْقِطُ فَرَائِضَهُ ، وَتُحِلُّ مَحَارِمَهُ ، وَتُبْطِلُ حُقُوقَ عِبَادِهِ ، وَيَفْتَحُ لِلنَّاسِ أَبْوَابَ الِاحْتِيَالِ ، وَأَنْوَاعَ الْمَكْرِ وَالْخِدَاعِ ، وَأَنْ يُبِيحَ التَّوَصُّلَ بِالْأَسْبَابِ الْمَشْرُوعَةِ ، إلَى الْأُمُورِ الْمُحَرَّمَةِ الْمَمْنُوعَةِ ، وَأَنْ يَجْعَلَهَا مُضْغَةً لِأَفْوَاهِ الْمُحْتَالِينَ ، عُرْضَةً لِأَغْرَاضِ الْمُخَادِعِينَ الَّذِينَ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ ، وَيُظْهِرُونَ خِلَافَ مَا يُبْطِنُونَ ، وَيَرْتَكِبُونَ الْعَبَثَ الَّذِي لَا فَائِدَةَ فِيهِ سِوَى ضِحْكَةِ الضَّاحِكِينَ وَسُخْرِيَةِ السَّاخِرِينَ .(1/206)
فَيُخَادِعُونَ اللَّهَ كَمَا يُخَادِعُونَ الصِّبْيَانَ ، وَيَتَلَاعَبُونَ بِحُدُودِهِ كَتَلَاعُبِ الْمُجَّانِ ، فَيُحَرِّمُونَ الشَّيْءَ ثُمَّ يَسْتَحِلُّونَهُ إيَّاهُ بِعَيْنِهِ بِأَدْنَى الْحِيَلِ ، وَيَسْلُكُونَ إلَيْهِ نَفْسَهُ طَرِيقًا تُوهِمُ أَنَّ الْمُرَادَ غَيْرُهُ ، وَقَدْ عَلِمُوا أَنَّهُ هُوَ الْمُرَادُ لَا غَيْرُهُ ، وَيُسْقِطُونَ الْحُقُوقَ الَّتِي وَصَّى اللَّهُ بِحِفْظِهَا وَأَدَائِهَا بِأَدْنَى شَيْءٍ ، وَيُفَرِّقُونَ بَيْنَ مُتَمَاثِلَيْنِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ لِاخْتِلَافِهِمَا فِي الصُّورَةِ أَوْ الِاسْمِ أَوْ الطَّرِيقِ الْمُوَصِّلِ إلَيْهِمَا ، وَيَسْتَحِلُّونَ بِالْحِيَلِ مَا هُوَ أَعْظَمُ فَسَادًا مِمَّا يُحَرِّمُونَهُ وَيُسْقِطُونَ بِهَا مَا هُوَ أَعْظَمُ وُجُوبًا مِمَّا يُوجِبُونَهُ .(1/207)
وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَزَّهَ شَرِيعَتَهُ عَنْ هَذَا التَّنَاقُضِ وَالْفَسَادِ ، وَجَعَلَهَا كَفِيلَةٍ وَافِيَةً بِمَصَالِحِ خَلْقِهِ فِي الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ ، وَجَعَلَهَا مِنْ أَعْظَمِ آيَاتِهِ الدَّالَّةِ عَلَيْهِ ، وَنَصَبَهَا طَرِيقًا مُرْشِدًا لِمَنْ سَلَكَهُ إلَيْهِ ؛ فَهُوَ نُورُهُ الْمُبِينُ ، وَحِصْنُهُ الْحَصِينُ ، وَظِلُّهُ الظَّلِيلُ ، وَمِيزَانُهُ الَّذِي لَا يَعُولُ ، لَقَدْ تَعَرَّفَ بِهَا إلَى أَلِبَّاءِ عِبَادِهِ غَايَةَ التَّعَرُّفِ ، وَتَحَبَّبَ بِهَا إلَيْهِمْ غَايَةَ التَّحَبُّبِ ، فَأَنِسُوا بِهَا مِنْ حِكْمَتِهِ الْبَالِغَةِ ، وَتَمَّتْ بِهَا عَلَيْهِمْ مِنْهُ نِعَمُهُ السَّابِغَةُ ، وَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ الَّذِي فِي شَرْعِهِ أَعْظَمُ آيَةٍ تَدُلُّ عَلَى تَفَرُّدِهِ بِالْإِلَهِيَّةِ وَتَوَحُّدِهِ بِالرُّبُوبِيَّةِ ، وَأَنَّهُ الْمَوْصُوفُ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ ، الْمُسْتَحِقُّ لِنُعُوتِ الْجَلَالِ ، الَّذِي لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَالصِّفَاتُ الْعُلَى وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى ، فَلَا يَدْخُلُ السُّوءُ فِي أَسْمَائِهِ وَلَا النَّقْصُ وَالْعَيْبُ فِي صِفَاتِهِ ، وَلَا الْعَبَثُ وَلَا الْجَوْرُ فِي أَفْعَالِهِ ، بَلْ هُوَ مُنَزَّهٌ فِي ذَاتِهِ وَأَوْصَافِهِ وَأَفْعَالِهِ وَأَسْمَائِهِ عَمَّا يُضَادُّ كَمَالِهِ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ .(1/208)
تَبَارَكَ اسْمُهُ ، وَتَعَالَى جَدُّهُ ، وَبَهَرَتْ حِكْمَتُهُ ، وَتَمَّتْ نِعْمَتُهُ ، وَقَامَتْ عَلَى عِبَادِهِ حُجَّتُهُ ، وَاَللَّهُ أَكْبَرُ كَبِيرًا أَنْ يَكُونَ فِي شَرْعِهِ تَنَاقُضٌ وَاخْتِلَافٌ ، فَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا بَلْ هِيَ شَرِيعَةٌ مُؤْتَلِفَةُ النِّظَامِ ، مُتَعَادِلَةُ الْأَقْسَامِ ، مُبَرَّأَةٌ مِنْ كُلِّ نَقْصٍ ، مُطَهَّرَةٌ مِنْ كُلِّ دَنَسٍ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا ، مُؤَسَّسَةٌ عَلَى الْعَدْلِ وَالْحِكْمَةِ ، وَالْمَصْلَحَةِ وَالرَّحْمَةِ ، قَوَاعِدُهَا وَمَبَانِيهَا ، إذَا حَرَّمَتْ فَسَادًا حَرَّمَتْ مَا هُوَ أَوْلَى مِنْهُ أَوْ نَظِيرَهُ ، وَإِذَا رَعَتْ صَلَاحًا رَعَتْ مَا هُوَ فَوْقَهُ أَوْ شِبْهَهُ ؛ فَهِيَ صِرَاطُهُ الْمُسْتَقِيمُ الَّذِي لَا أَمْتَ فِيهِ وَلَا عِوَجَ ، وَمِلَّتُهُ الْحَنِيفِيَّةُ السَّمْحَةُ الَّتِي لَا ضِيقَ فِيهَا وَلَا حَرَجَ ، بَلْ هِيَ حَنِيفِيَّةُ التَّوْحِيدِ سَمْحَةُ الْعَمَلِ ، لَمْ تَأْمُرْ بِشَيْءٍ فَيَقُولُ الْعَقْلُ لَوْ نَهَتْ عَنْهُ لَكَانَ أَوْفَقَ ، وَلَمْ تَنْهَ عَنْ شَيْءٍ فَيَقُولُ الْحِجَا لَوْ أَبَاحَتْهُ لَكَانَ أَرْفَقِ ، بَلْ أَمَرَتْ بِكُلِّ صَلَاحٍ ، وَنَهَتْ عَنْ كُلِّ فَسَادٍ ، وَأَبَاحَتْ كُلِّ طَيِّبٍ ، وَحَرَّمَتْ كُلِّ خَبِيثٍ ، فَأَوَامِرُهَا غِذَاءٌ وَدَوَاءٌ ، وَنَوَاهِيهَا حِمْيَةٌ وَصِيَانَةٌ ، وَظَاهِرُهَا زِينَةٌ لِبَاطِنِهَا ، وَبَاطِنُهَا أَجْمَلُ مِنْ ظَاهِرِهَا ، شِعَارُهَا الصِّدْقُ ، وَقَوَامُهَا الْحَقُّ ، وَمِيزَانُهَا الْعَدْلُ ، وَحُكْمُهَا الْفَصْلُ ، لَا حَاجَةَ بِهَا أَلْبَتَّةَ إلَى أَنْ تُكَمَّلَ بِسِيَاسَةِ مَلِكٍ أَوْ رَأْيِ ذِي رَأْيٍ أَوْ قِيَاسِ فَقِيهٍ أَوْ ذَوْقِ ذِي رِيَاضَةٍ أَوْ مَنَامِ ذِي دِينٍ(1/209)
وَصَلَاحٍ ، بَلْ لِهَؤُلَاءِ كُلِّهِمْ أَعْظَمُ الْحَاجَةِ إلَيْهَا ، وَمَنْ وُفِّقَ لِلصَّوَابِ فَلِاعْتِمَادِهِ وَتَعْوِيلِهِ عَلَيْهَا .
لَقَدْ أَكْمَلَهَا الَّذِي أَتَمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْنَا بِشَرْعِهَا قَبْلَ سِيَاسَاتِ الْمُلُوكِ ، وَحِيلَ الْمُتَحَيِّلِينَ ، وَأَقْيِسَةِ الْقِيَاسِيِّينَ ، وَطَرَائِقِ الْخِلَافِيِّينَ ، وَأَيْنَ كَانَتْ هَذِهِ الْحِيَلُ وَالْأَقْيِسَةُ وَالْقَوَاعِدُ الْمُتَنَاقِضَةُ وَالطَّرَائِقُ الْقِدَدُ وَقْتَ نُزُولِ قَوْلِهِ { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ، وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي ، وَرَضِيتُ لَكُمْ الْإِسْلَامَ دِينًا } ؟ وَأَيْنَ كَانَتْ يَوْمَ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَقَدْ تَرَكْتُكُمْ عَلَى الْمَحَجَّةِ الْبَيْضَاءِ لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا ، لَا يَزِيغُ عَنْهَا بَعْدِي إلَّا هَالِكٌ } .
وَيَوْمَ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَا تَرَكْتُ مِنْ شَيْءٍ يُقَرِّبُكُمْ مِنْ الْجَنَّةِ وَيُبَاعِدُكُمْ عَنْ النَّارِ إلَّا أَعْلَمْتُكُمُوهُ } ؟ وَأَيْنَ كَانَتْ عِنْدَ قَوْلِ أَبِي ذَرٍّ : لَقَدْ تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا طَائِرٌ يُقَلِّبُ جَنَاحَيْهِ فِي السَّمَاءِ إلَّا ذَكَرَ لَنَا مِنْهُ عِلْمًا .(1/210)
وَعِنْدَ قَوْلِ الْقَائِلِ لِسَلْمَانَ : لَقَدْ عَلَّمَكُمْ نَبِيُّكُمْ كُلَّ شَيْءٍ حَتَّى الْخِرَاءَةَ ، فَقَالَ : أَجَلْ ؟ فَأَيْنَ عَلَّمَهُمْ الْحِيَلَ وَالْمُخَادَعَةَ وَالْمَكْرَ وَأَرْشَدَهُمْ إلَيْهِ وَدَلَّهُمْ عَلَيْهِ ؟ كَلًّا وَاَللَّهِ ، بَلْ حَذَّرَهُمْ أَشَدَّ التَّحْذِيرِ ، وَأَوْعَدَهُمْ عَلَيْهِ أَشَدَّ الْوَعِيدِ ، وَجَعَلَهُ مُنَافِيًا لِلْإِيمَانِ ، وَأَخْبَرَ عَنْ لَعْنَةِ الْيَهُودِ لِمَا ارْتَكَبُوهُ ، وَقَالَ لِأُمَّتِهِ : { لَا تَرْتَكِبُوا مَا ارْتَكَبَتْ الْيَهُودُ فَتَسْتَحِلُّوا مَحَارِمَ اللَّهِ تَعَالَى بِأَدْنَى الْحِيَلِ } ، وَأَغْلَقَ أَبْوَابَ الْمَكْرِ وَالِاحْتِيَالِ ، وَسَدَّ الذَّرَائِعَ ، وَفَصَّلَ الْحَلَالَ مِنْ الْحَرَامِ ، وَبَيَّنَ الْحُدُودَ ، وَقَسَّمَ شَرِيعَتَهُ إلَى حَلَالٍ بَيِّنٍ وَحَرَامٍ بَيِّنٍ ، وَبَرْزَخَ بَيْنَهُمَا ؛ فَأَبَاحَ الْأَوَّلَ ، وَحَرَّمَ الثَّانِي ، وَحَضَّ الْأُمَّةَ عَلَى اتِّقَاءِ الثَّالِثِ خَشْيَةَ الْوُقُوعِ فِي الْحَرَامِ ، وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ عُقُوبَةِ الْمُحْتَالِينَ عَلَى حِلِّ مَا حَرَّمَهُ عَلَيْهِمْ وَإِسْقَاطِ مَا فَرَضَهُ عَلَيْهِمْ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ كِتَابِهِ .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْآجُرِّيُّ : وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضَ الْحِيَلِ الرِّبَوِيَّةِ الَّتِي يَفْعَلُهَا النَّاسُ : لَقَدْ مُسِخَ الْيَهُودَ قِرَدَةً بِدُونِ هَذَا ، وَصَدَقَ وَاَللَّهِ لَآكِلُ حُوتٍ صِيدَ يَوْمَ السَّبْتِ أَهْوَنُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقَلُّ جُرْمًا مِنْ آكِلِ الرِّبَا الَّذِي حَرَّمَهُ اللَّهُ بِالْحِيَلِ وَالْمُخَادَعَةِ ، وَلَكِنْ كَمَا قَالَ الْحَسَنُ : عُجِّلَ لِأُولَئِكَ عُقُوبَةُ تِلْكَ الْأَكْلَةِ الْوَخِيمَةِ وَأُرْجِئَتْ عُقُوبَةُ هَؤُلَاءِ .(1/211)
وَقَالَ الْإِمَامُ أَبُو يَعْقُوبَ الْجُوزَجَانِيُّ : وَهَلْ أَصَابَ الطَّائِفَةَ مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ الْمَسْخُ إلَّا بِاحْتِيَالِهِمْ عَلَى أَمْرِ اللَّهِ بِأَنْ حَفَرُوا الْحَفَائِرَ عَلَى الْحِيتَانِ فِي يَوْمِ سَبْتِهِمْ فَمَنَعُوهَا الِانْتِشَارَ يَوْمَهَا إلَى الْأَحَدِ فَأَخَذُوهَا .
وَكَذَلِكَ السِّلْسِلَةُ الَّتِي كَانَتْ تَأْخُذُ بِعُنُقِ الظَّالِمِ فَاحْتَالَ لَهَا صَاحِبُ الدُّرَّةِ إذْ صَيَّرَهَا فِي قَصَبَةٍ ثُمَّ دَفَعَ الْقَصَبَةَ إلَى خَصْمِهِ وَتَقَدَّمَ إلَى السِّلْسِلَةِ لِيَأْخُذَهَا فَرُفِعَتْ .(1/212)
وَقَالَ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ : فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ مَزْجَرَةٌ عَظِيمَةٌ لِلْمُتَعَاطِينَ الْحِيَلَ عَلَى الْمَنَاهِي الشَّرْعِيَّةِ مِمَّنْ تَلَبَّسَ بِعِلْمِ الْفِقْهِ وَلَيْسَ بِفَقِيهٍ ؛ إذْ الْفَقِيهُ مَنْ يَخْشَى اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فِي الرِّبَوِيَّاتِ ، وَاسْتِعَارَةُ التَّيْسِ الْمَلْعُونِ لِتَحْلِيلِ الْمُطَلَّقَاتِ ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْعَظَائِمِ وَالْمَصَائِبِ الْفَاضِحَاتِ ، الَّتِي لَوْ اعْتَمَدَهَا مَخْلُوقٌ مَعَ مَخْلُوقٍ لَكَانَ فِي نِهَايَةِ الْقُبْحِ ، فَكَيْفَ بِمَنْ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى الَّذِي يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ ؟ وَقَالَ : وَإِذَا وَازَنَ اللَّبِيبُ بَيْنَ حِيلَةِ أَصْحَابِ السَّبْتِ ، وَالْحِيَلِ الَّتِي يَتَعَاطَاهَا أَرْبَابُ الْحِيَلِ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَبْوَابِ ظَهَرَ لَهُ التَّفَاوُتُ وَمَرَاتِبُ الْمَفْسَدَةِ الَّتِي بَيْنَهَا وَبَيْنَ هَذِهِ الْحِيَلِ ، فَإِذَا عَرَفَ قَدْرَ الشَّرْعِ ، وَعَظَمَةَ الشَّارِعِ وَحِكْمَتَهُ وَمَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ شَرْعُهُ مِنْ رِعَايَةِ مَصَالِحِ الْعِبَادِ تَبَيَّنَ لَهُ حَقِيقَةُ الْحَالِ ، وَقَطَعَ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَتَنَزَّهُ وَيَتَعَالَى أَنْ يُشَرِّعَ لِعِبَادِهِ نَقْضَ شَرْعِهِ وَحِكْمَتِهِ بِأَنْوَاعِ الْخِدَاعِ وَالِاحْتِيَالِ .
الأشباه والنظائر - (ج 2 / ص 337)(1/213)
كِتَابُ الْبَيْعُ الْبَيْعُ أَقْسَامٌ صَحِيحٌ قَوْلًا وَاحِدًا وَفَاسِدٌ قَوْلًا وَاحِدًا وَصَحِيحٌ عَلَى الْأَصَحِّ وَفَاسِدٌ عَلَى الْأَصَحِّ وَحَرَامٌ يَصِحُّ وَمَكْرُوهٌ فَالْأَوَّلُ : عَشَرَةٌ كُلٌّ بِشَرْطِهِ بَيْعُ الْأَعْيَانِ وَالْمَطْعُومِ بِمِثْلِهِ وَالصَّرْفُ وَالْعَرَايَا وَالتَّوْلِيَةُ وَالْإِشْرَاكُ وَالْمُرَابَحَةُ وَشِرَاءُ مَا بَاعَ وَبَيْعُ الْخِيَارِ وَالْعَبْدِ الْمَأْذُونِ وَالسَّلَمُ وَالثَّانِي بَيْعُ الْمَعْدُومِ وَمِنْهُ حَبَلُ الْحَبَلَةِ وَالْمَضَامِينُ وَالْمَلَاقِيحِ وَمَا لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ وَمَا لَا يُقْدَرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ وَكُلُّ نَجِسٍ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى وَالْآدَمِيِّ كَالْوَقْفِ وَالْأُضْحِيَّةِ وَالرَّهْنِ وَالرِّبَا وَبَيْعٌ وَشَرْطٌ مُفْسِدٌ وَالْمُنَابَذَةُ وَالْمُلَامَسَةُ وَالْحَصَاةُ وَعَسْبُ الْفَحْلِ ، وَالْمَجْهُولُ ، وَمَا لَا يُقْبَضُ مِنْ غَيْرِ الْبَائِعِ وَالْمُحَاقَلَةُ وَالْمُزَابَنَةُ وَالثِّمَارُ قَبْلَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ مِنْ غَيْرِ شَرْطِ الْقَطْعِ وَالْغَرَرُ وَالسِّلَاحُ لِلْحَرْبِيِّ وَالطَّعَامُ حَتَّى يَجْرِيَ فِيهِ الصَّاعَانِ وَالْكَالِئُ بِالْكَالِئِ .
وَالثَّالِثُ : كَالْبَيْعِ بِالْكِنَايَةِ وَبَيْعُ الْمَاءِ وَلَوْ عَلَى الشَّطِّ وَالتُّرَابُ بِالصَّحْرَاءِ وَالْعَلَقُ لِامْتِصَاصِ الدَّمِ وَالْعَبْدُ الَّذِي عَلَيْهِ قَتْلٌ وَالنَّحْلُ خَارِجُ الْكُوَّارَةِ وَمَا ضُمَّ إلَيْهِ عَقْدٌ آخَرُ وَبَطَلَ بَعْضُ صَفْقَتِهِ وَبِشَرْطِ الْعِتْقِ وَبِشَرْطِ الْبَرَاءَةِ مِنْ الْعُيُوبِ .(1/214)
وَالرَّابِعُ : بَيْعُ الْمُعْطَاةِ وَالْمُتَنَجِّسِ مِنْ الْمَائِعَاتِ وَحَمَامُ الْبُرْجِ الْخَارِجِ وَالصُّبْرَةِ تَحْتَهَا دَكَّةٌ مَعَ الْعِلْمِ ، وَالْفُضُولِيُّ ، وَالْجَانِي الْمُتَعَلِّقُ بِرَقَبَتِهِ مَالٌ ، وَالْمُفْلِسُ مَالَهُ الْمُعَيَّنَ ، وَأُمُّ الْوَلَدِ ، وَالْمُكَاتَبُ ، وَمَا لَمْ يُرَ ، وَالْعَبْدُ الْمُسْلِمُ لِلْكَافِرِ ، إلَّا إنْ عَتَقَ عَلَيْهِ بِقَرَابَةٍ أَوْ اعْتِرَافٍ ، وَمَا اسْتَغْرَقَتْ الْوَصِيَّةُ مَنَافِعَهُ لِغَيْرِ الْمُوصَى لَهُ ، وَبَيْعُ الْحَامِلِ مَعَ اسْتِثْنَاءِ حَمْلِهَا لَفْظًا أَوْ شَرْعًا ، وَالْمُصْحَفُ ، وَالْحَدِيثُ وَنَحْوُهُ مِنْ
الْكَافِرِ ، وَالْعَرَايَا فِي غَيْرِ الرُّطَبِ وَالْعِنَبِ ، أَوْ فِي خَمْسَةِ أَوْسُقٍ فَأَكْثَرَ ، وَاللَّحْمُ بِالْحَيَوَانِ وَالْوَلَدُ غَيْرُ الْمُمَيِّزِ دُونَ أُمِّهِ وَبَيْعُ اثْنَيْنِ عَبْدَيْنِ لِكُلِّ وَاحِدٍ بِثَمَنٍ وَاحِدٍ ، وَلَمْ يَعْلَمْ مَا يَخُصُّ كُلًّا مِنْهُمَا وَمَا ضُمَّ إلَى الْكِنَايَةِ وَمَا لَمْ يُقْبَضْ مِنْ الْبَائِعِ وَبَيْعُ مَا لَا جَفَافَ لَهُ بِمِثْلٍ ، وَمَا اُشْتُرِطَ فِيهِ رَهْنٌ أَوْ كَفِيلٌ مَجْهُولٌ .
وَالْخَامِسُ : بَيْعُ الْحَاضِرِ لِلْبَادِي ، وَتَلَقِّي الرُّكْبَانِ ، وَالنَّجْشُ وَعَلَى بَيْعِ غَيْرِهِ وَالشِّرَاءُ عَلَيْهِ ، وَبَيْعُ الْعِنَبِ لِمَنْ عَلِمَ أَنَّهُ يَعْصِرُهُ خَمْرًا ، وَالْبَيْعُ وَقْتَ النِّدَاءِ لِيَوْمِ الْجُمُعَةِ وَالسَّادِسُ : بَيْعُ الْعِنَبِ لِمَنْ يَظُنُّهُ يَعْصِرُهُ خَمْرًا وَالصُّبْرَةِ جُزَافًا وَالْهِرَّةِ وَالْعِينَةِ وَمُوَاطَأَةُ رَجُلٍ فِي الشِّرَاءِ مِنْهُ بِزَائِدٍ لِيَغُرَّ بِهِ .(1/215)
ضَابِطٌ : قَالَ صَاحِبُ التَّلْخِيصِ : بَائِعُ مَالِ الْغَيْرِ إمَامٌ أَوْ حَاكِمٌ أَوْ وَلِيٌّ أَوْ وَصِيٌّ أَوْ وَكِيلٌ أَوْ مُسْتَحِقٌّ ظَفَرَ بِغَيْرِ جِنْسِ حَقِّهِ أَوْ الْمُهْدِي إذَا عَطِبَ الْهَدْيُ وَقُلْنَا يَجُوزُ بَيْعُهُ أَوْ مُلْتَقِطٌ يَخَافُ هَلَاكَ اللُّقَطَةِ .
غمز عيون البصائر في شرح الأشباه والنظائر - (ج 2 / ص 122)
السَّادِسَةُ الْحَاجَةُ تَنْزِلُ مَنْزِلَةَ الضَّرُورَةِ ، عَامَّةً كَانَتْ أَوْ خَاصَّةً ، وَلِهَذَا 52 - جُوِّزَتْ الْإِجَارَةُ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ لِلْحَاجَةِ وَكَذَا قُلْنَا لَا تَجُوزُ إجَارَةُ بَيْتٍ بِمَنَافِعِ بَيْتٍ لِاتِّحَادِ جِنْسِ الْمَنْفَعَةِ فَلَا حَاجَةَ بِخِلَافِ مَا إذَا اخْتَلَفَ ، وَمِنْهَا ضَمَانُ الدَّرَكِ 53 - : جُوِّزَ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ .
وَمِنْ ذَلِكَ جَوَازُ السَّلَمِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ ؛ لِكَوْنِهِ بَيْعَ الْمَعْدُومِ دَفْعًا لِحَاجَةِ الْمَفَالِيسِ ، وَمِنْهَا جَوَازُ الِاسْتِصْنَاعِ لِلْحَاجَةِ ، وَدُخُولُ الْحَمَّامِ مَعَ جَهَالَةِ مُكْثِهِ فِيهَا وَمَا يَسْتَعْمِلُهُ مِنْ مَائِهَا ، وَشَرْبَةُ السَّقَّاءِ ، وَمِنْهَا الْإِفْتَاءُ بِصِحَّةِ بَيْعِ الْوَفَاءِ حِينَ كَثُرَ الدَّيْنُ عَلَى أَهْلِ بُخَارَى وَهَكَذَا بِمِصْرَ وَقَدْ سَمَّوْهُ بَيْعَ الْأَمَانَةِ ، وَالشَّافِعِيَّةُ يُسَمُّونَهُ الرَّهْنَ الْمُعَادَ ، وَهَكَذَا سَمَّاهُ بِهِ فِي الْمُلْتَقَطِ وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي شَرْحِ الْكَنْزِ مِنْ بَابِ خِيَارِ الشَّرْطِ .
وَفِي الْقُنْيَةِ وَالْبُغْيَةِ 54 - يَجُوزُ لِلْمُحْتَاجِ الِاسْتِقْرَاضُ بِالرِّبْحِ ( انْتَهَى )
الشَّرْحُ
((1/216)
52 ) قَوْلُهُ : جُوِّزَتْ الْإِجَارَةُ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ فِيهَا وَهُوَ الْمَنَافِعُ مَعْدُومٌ فَالْقِيَاسُ الْبُطْلَانُ لِذَلِكَ ( 53 ) قَوْلُهُ : جُوِّزَ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ عَلَى الْبَائِعِ فَيَصِيرُ كَفِيلًا وَمَكْفُولًا عَنْهُ .
وَبِهِ يَظْهَرُ أَنَّهُ لَوْ ضَمِنَهُ غَيْرُ الْبَائِعِ لَمْ يَكُنْ مُخَالِفًا لِلْقِيَاسِ ؛ لِانْتِفَاءِ الْعِلَّةِ فِي حَقِّهِ ( 54 ) .
قَوْلُهُ : يَجُوزُ لِلْمُحْتَاجِ الِاسْتِقْرَاضُ بِالرِّبْحِ ، وَذَلِكَ نَحْوَ أَنْ يَقْتَرِضَ عَشَرَةَ دَنَانِيرَ مَثَلًا ، وَيَجْعَلَ لِرَبِّهَا شَيْئًا مَعْلُومًا فِي كُلِّ يَوْمٍ رِبْحًا
غمز عيون البصائر في شرح الأشباه والنظائر - (ج 2 / ص 166)
( 43 ) قَوْلُهُ : الْحُكْمُ الْعَامُّ لَا يَثْبُتُ بِالْعُرْفِ الْخَاصِّ .
يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ الْحُكْمَ الْخَاصَّ يَثْبُتُ بِالْعُرْفِ الْخَاصِّ .
وَفِيهَا مَا تَقَدَّمَ فِي الْكَلَامِ عَلَى الْمَدَارِسِ الْمَوْقُوفَةِ عَلَى دَرْسِ الْحَدِيثِ وَلَا يُعْلَمُ مُرَادُ الْوَاقِفِ مِنْهَا ، هَلْ يُدَرَّسُ فِيهَا عِلْمُ الْحَدِيثِ الَّذِي هُوَ مَعْرِفَةُ الْمُصْطَلَحِ أَوْ يُقْرَأُ مَتْنُ الْحَدِيثِ حَيْثُ قِيلَ بِاتِّبَاعِ اصْطِلَاحِ كُلِّ بَلَدٍ ؟ .
( 44 ) قَوْلُهُ : وَيَتَفَرَّعُ عَلَى ذَلِكَ لَوْ اسْتَقْرَضَ أَلْفًا وَاسْتَأْجَرَ الْمُقْرَضَ إلَخْ : يَعْنِي لِأَجْلِ حِلِّ الْمُرَابَحَةِ فِي الْقَرْضِ .
( 45 ) قَوْلُهُ : وَقِيمَتُهَا لَا تَزِيدُ عَلَى الْأَجْرِ .
يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّهُ لَوْ كَانَتْ قِيمَتُهَا مِقْدَارَ أَجْرِ الْحِفْظِ ، وَزِيَادَةً أَنَّهُ تَصِحُّ الْإِجَارَةُ إنْ لَمْ تَكُنْ مَشْرُوطَةً فِي الْقَرْضِ وَبِهِ صَرَّحَ فِي الْقُنْيَةِ .
((1/217)
46 ) قَوْلُهُ : وَالصِّحَّةُ مَعَ الْكَرَاهَةِ إلَخْ : يَعْنِي صِيَانَةً لِلنَّاسِ عَنْ الْوُقُوعِ فِي الرِّبَا الْمَحْضِ .
قَوْلُهُ : إنْ كَانَ يَثْبُتُ ، كَذَا فِي النُّسَخِ بِلَا وَاوٍ ، وَالْأَوْلَى الْوَاوُ كَمَا فِي نُسَخِ الْقُنْيَةِ .
( 48 ) قَوْلُهُ : وَهُوَ الصَّوَابُ ؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ بَيْعُ الْمَعْدُومِ ، وَجُوِّزَتْ عَلَى مُنَافَاةِ الدَّلِيلِ لِلْحَاجَةِ فَإِذَا وَرَدَتْ عَلَى مَا لَا يَحْتَاجُ الْمُسْتَأْجِرُ عَلَى اسْتِيفَاءِ مَنَافِعِهِ لَا تَجُوزُ الْإِجَارَةُ ، وَالْمُسْتَقْرِضُ إذَا اسْتَأْجَرَ الْمُقْرِضَ ؛ لِيَحْفَظَ مِرْآةً أَوْ مِلْعَقَةً غَيْرَ مُحْتَاجٍ إلَى هَذَا الْعَقْدِ لِحِفْظِ الْعَيْنِ ، وَإِنَّمَا اسْتَأْجَرَهُ ؛ لِيَتَوَسَّلَ بِهِ الْمُقْرِضُ إلَى الْمُرَابَحَةِ ، وَإِنْ كَانَ عَلَى مُنَافَاةِ الدَّلِيلِ وَانْعَدَمَتْ الْحَاجَةُ الْمُجَوِّزَةِ لَمْ يَجُزْ ، بِخِلَافِ جَوَازِ بَيْعِ الْمُقْرِضِ مِنْ الْمُسْتَقْرِضِ مِمَّا يُسَاوِي طَسُوجًا بِعَشَرَةِ دَنَانِيرَ ، فَإِنَّهُ عَلَى وِفَاقِ الدَّلِيلِ ؛ لِأَنَّهُ بَيْعُ مَوْجُودٍ مَمْلُوكٍ لَهُ بِالْقَاضِي .
قَوْلُهُ : وَالْفَتْوَى عَلَى جَوَابِ الْكِتَابِ ، وَهُوَ عَدَمُ الْجَوَازِ .
( 50 ) قَوْلُهُ : ؛ لِأَنَّهُ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ : أَيْ عَدَمِ الْجَوَازِ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ بِالنَّهْيِ عَنْ قَفِيزِ الطَّحَّانِ وَهُوَ فِي مَعْنَاهُ .
غمز عيون البصائر في شرح الأشباه والنظائر - (ج 4 / ص 112)
55 - وَلَوْ كَانَ عَلَى الْقَلْبِ تَحَالَفَا ، وَإِذَا سَمَّى شَيْئًا وَأَشَارَ إلَى خِلَافِ جِنْسِهِ ، كَمَا إذَا سَمَّى يَاقُوتًا وَأَشَارَ إلَى زُجَاجٍ فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ لِكَوْنِهِ بَيْعَ الْمَعْدُومِ .(1/218)
وَاخْتَلَفُوا فِيمَا إذَا سَمَّى هَرَوِيًّا وَأَشَارَ إلَى مَرْوِيٍّ ، قِيلَ بَاطِلٌ ، فَلَا يُمْلَكُ بِالْقَبْضِ ، وَقِيلَ فَاسِدٌ كَذَا فِي الْخَانِيَّةِ .
كُلُّ عَقْدٍ أُعِيدَ وَجُدِّدَ فَإِنَّ الثَّانِيَ بَاطِلٌ
الشَّرْحُ
( 55 ) قَوْلُهُ : وَلَوْ كَانَ عَلَى الْقَلْبِ تَحَالَفَا كَانَ وَجْهُ التَّحَالُفِ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ بِدَعْوَاهُ الْإِقَالَةَ يَدَّعِي أَنَّ الثَّمَنَ الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ بِالرَّدِّ مِائَةٌ مَثَلًا ، وَالْبَائِعُ بِدَعْوَاهُ الشِّرَاءَ بِأَقَلَّ مِمَّا بَاعَ يَدَّعِي أَنَّ الثَّمَنَ الَّذِي يَجِبُ تَسْلِيمُهُ إلَى الْمُشْتَرِي خَمْسُونَ مَثَلًا ، فَنَزَلَ اخْتِلَافُهُمَا فِيمَا يَجِبُ تَسْلِيمُهُ إلَى الْمُشْتَرِي مَنْزِلَةَ اخْتِلَافِهِمَا فِي قَدْرِ الثَّمَنِ الْمُوجِبِ لِلتَّحَالُفِ بِالنَّصِّ وَإِلَّا فَالْمِائَةُ الَّتِي هِيَ الثَّمَنُ الْأَوَّلُ إنَّمَا تُرَدُّ إلَى الْمُشْتَرِي بِحُكْمِ الْإِقَالَةِ فِي الْبَيْعِ الْأَوَّلِ وَهِيَ غَيْرُ الْخَمْسِينَ الَّتِي هِيَ الثَّمَنُ فِي الْبَيْعِ الثَّانِي كَمَا تَرَى .
غمز عيون البصائر في شرح الأشباه والنظائر - (ج 4 / ص 139)
92 - بَيْعُ الْمَعْدُومِ بَاطِلٌ إلَّا فِيمَا يَسْتَجِرُّهُ الْإِنْسَانُ مِنْ الْبَقَّالِ ، إذَا حَاسَبَهُ عَلَى أَثْمَانِهَا بَعْدَ اسْتِهْلَاكِهَا فَإِنَّهَا جَائِزَةٌ اسْتِحْسَانًا ، كَذَا فِي الْقُنْيَةِ
الشَّرْحُ
( 92 ) قَوْلُهُ : بَيْعُ الْمَعْدُومِ بَاطِلٌ إلَّا فِيمَا يَسْتَجِرُّهُ إلَخْ .(1/219)
قِيلَ عَلَيْهِ : هَذَا بَيْعُ مَعْدُومٍ صُورَةً وَفِي الْحَقِيقَةِ تَضْمِينُ مَا أَتْلَفَهُ بِغَيْرِ عَقْدٍ شَرْعِيٍّ ( انْتَهَى ) وَقَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ : لَيْسَ هَذَا بَيْعَ مَعْدُومٍ إنَّمَا هُوَ مِنْ بَابِ ضَمَانِ الْمُتْلَفَاتِ بِإِذْنِ مَالِكِهَا عُرْفًا تَسْهِيلًا لِلْأَمْرِ وَدَفْعًا لِلْحَرَجِ كَمَا هُوَ الْعَادَةُ ( انْتَهَى ) .
وَفِيهِ أَنَّ الضَّمَانَ بِالْإِذْنِ مِمَّا لَا يُعْرَفُ فِي كَلَامِ الْفُقَهَاءِ .
وَفِي النَّهْرِ جَعَلَهُ مِنْ قَبِيلِ الْبَيْعِ بِالتَّعَاطِي .
غمز عيون البصائر في شرح الأشباه والنظائر - (ج 6 / ص 478)
( قَاعِدَةٌ ) : فِيمَا إذَا اجْتَمَعَتْ الْإِشَارَةُ وَالْعِبَارَةُ ، وَأَصْحَابُنَا يَقُولُونَ : إذَا اجْتَمَعَتْ الْإِشَارَةُ وَالتَّسْمِيَةُ فَقَالَ فِي الْهِدَايَةِ مِنْ بَابُ الْمَهْرِ : الْأَصْلُ أَنَّ الْمُسَمَّى إذَا كَانَ مِنْ جِنْسِ الْمُشَارِ إلَيْهِ يَتَعَلَّقُ الْعَقْدُ بِالْمُشَارِ إلَيْهِ لِأَنَّ الْمُسَمَّى مَوْجُودٌ فِي الْمُشَارِ إلَيْهِ ذَاتًا وَالْوَصْفُ يَتْبَعُهُ ، 13 - وَإِنْ كَانَ مِنْ خِلَافِ جِنْسِهِ يَتَعَلَّقُ بِالْمُسَمَّى ، لِأَنَّ الْمُسَمَّى مِثْلُ الْمُشَارِ إلَيْهِ وَلَيْسَ بِتَابِعٍ لَهُ ، وَالتَّسْمِيَةُ أَبْلَغُ فِي التَّعْرِيفِ مِنْ حَيْثُ إنَّهَا تُعَرِّفُ الْمَاهِيَّةَ ، وَالْإِشَارَةُ تُعَرِّفُ الذَّاتَ ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ اشْتَرَى فَصًّا عَلَى أَنَّهُ يَاقُوتٌ فَإِذَا هُوَ زُجَاجٌ لَا يَنْعَقِدُ الْعَقْدُ لِاخْتِلَافِ الْجِنْسِ ، وَلَوْ اشْتَرَى عَلَى أَنَّهُ يَاقُوتٌ أَحْمَرُ فَإِذَا هُوَ أَخْضَرُ انْعَقَدَ الْعَقْدُ لِاتِّحَادِ الْجِنْسِ ( انْتَهَى ) .(1/220)
قَالَ الشَّارِحُونَ : إنَّ هَذَا الْأَصْلَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ فِي النِّكَاحِ وَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَسَائِرِ الْعُقُودِ ، وَلَكِنْ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ جَعَلَ الْخَمْرَ وَالْخَلَّ جِنْسًا ، وَالْحُرَّ وَالْعَبْدَ جِنْسًا وَاحِدًا فَتَعَلَّقَ بِالْمُشَارِ إلَيْهِ ؛ فَوَجَبَ مَهْرُ الْمِثْلِ فِيمَا لَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى هَذَا الدَّنِّ مِنْ الْخَلِّ وَأَشَارَ إلَى خَمْرٍ أَوْ عَلَى هَذَا الْعَبْدِ وَأَشَارَ إلَى حُرٍّ ، وَلَوْ سَمَّى حَرَامًا وَأَشَارَ إلَى حَلَالٍ فَلَهَا الْحَلَالُ فِي الْأَصَحِّ ، وَلَوْ سَمَّى الْبَيْعَ شَيْئًا وَأَشَارَ إلَى خِلَافِهِ ؛ فَإِنْ كَانَ مِنْ خِلَافِ جِنْسِهِ بَطَلَ الْبَيْعُ كَمَا إذَا سَمَّى يَاقُوتًا وَأَشَارَ إلَى زُجَاجٍ لِكَوْنِهِ بَيْعَ الْمَعْدُومِ ، وَلَوْ سَمَّى ثَوْبًا هَرَوِيًّا وَأَشَارَ إلَى مَرْوِيٍّ ؛ اخْتَلَفُوا فِي بُطْلَانِهِ أَوْ فَسَادِهِ ، هَكَذَا فِي الْخَانِيَّةِ فِي الْبَيْعِ الْبَاطِلِ ذُكِرَ الِاخْتِلَافُ فِي الثَّوْبِ دُونَ الْفَصِّ ، وَنَظِيرُ الْفَصِّ : الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى مِنْ بَنِي آدَمَ جِنْسَانِ ، بِخِلَافِهِمَا مِنْ الْحَيَوَانِ جِنْسٌ وَاحِدٌ فَلَهُ الْخِيَارُ إذَا كَانَ الْجِنْسُ مُتَّحِدًا وَالْفَائِتُ الْوَصْفَ
الشَّرْحُ
( 13 ) قَوْلُهُ : وَإِنْ كَانَ مِنْ خِلَافِ جِنْسِهِ إلَخْ .(1/221)
أَقُولُ يُشْكِلُ عَلَى هَذَا مَا فِي الْمُحِيطِ مِنْ بَابِ مَا يَرْجِعُ بِهِ الْوَكِيلُ عَلَى الْمُوَكِّلِ قَالَ : بِعْتُ مِنْكَ هَذَا الْحِمَارَ بِكَذَا وَأَشَارَ إلَى عَبْدٍ قَائِمٍ بَيْنَ يَدَيْهِ جَازَ الْعَقْدُ عَلَى الْعَبْدِ وَلَا عِبْرَةَ بِالتَّسْمِيَةِ لِأَنَّ الْعَقْدَ تَعَلَّقَ بِالْمُشَارِ إلَيْهِ وَفِي بَابِ الِاقْتِدَاءِ قَالُوا : لَوْ نَوَى الِاقْتِدَاءَ بِهَذَا الْإِمَامِ زَيْدٍ فَبَانَ عَمْرًا لَمْ يَصِحَّ الِاقْتِدَاءُ ، وَلَوْ نَوَى الِاقْتِدَاءَ بِالْإِمَامِ الْقَائِمِ فِي الْمِحْرَابِ عَلَى ظَنِّ أَنَّهُ زَيْدٌ فَبَانَ أَنَّهُ عَمْرٌو يَصِحُّ ، وَلَوْ نَوَى الِاقْتِدَاءَ بِهَذَا الشَّابِّ فَإِذَا هُوَ شَيْخٌ لَمْ يَصِحَّ الِاقْتِدَاءُ بِهِ ، وَلَوْ بِهَذَا الشَّيْخِ فَإِذَا هُوَ شَابٌّ يَصِحُّ لِأَنَّ الشَّابَّ يُدْعَى شَيْخًا لِعِلْمِهِ ، وَقِيَاسُ الْأَوَّلِ أَنَّهُ لَوْ صَلَّى عَلَى جِنَازَةٍ عَلَى أَنَّهُ رَجُلٌ فَبَانَ أَنَّهُ امْرَأَةٌ لَمْ تَصِحَّ .
الفصول في الأصول - (ج 3 / ص 67)
وَلَا يَصِحُّ الْإِلْزَامُ عَلَى عِلَّةٍ مَنْصُوصَةٍ لِحُكْمٍ حُكْمًا آخَرَ غَيْرَ مَا جُعِلَ ذَلِكَ الْمَعْنَى عِلَّةً لَهُ .
نَظِيرُ ذَلِكَ : أَنَّ مَنْ جَعَلَ عِلَّةَ تَحْرِيمِ التَّفَاضُلِ كَيْلًا فِي الْجِنْسِ ، لَا يَجُوزُ أَنْ يَلْزَمَ عَلَى هَذِهِ الْعِلَّةِ إيجَابُ الْعُشْرِ فِي كُلِّ مَكِيلِ جِنْسٍ .(1/222)
وَمَنْ جَعَلَ عِلَّةَ نَقْضِ الطَّهَارَةِ ( خُرُوجَ النَّجَاسَةِ ، فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَلْزَمَ عَلَيْهَا وُجُوبُ الْغُسْلِ ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ الْحُكْمَ الْمَنْصُوصَ عَلَى الْعِلَّةِ نَقْضَ الطَّهَارَةِ ) وَوُجُوبُ الطَّهَارَةِ حُكْمٌ ( آخَرُ ) ، ( غَيْرُ ) نَقْضِهَا ، بَلْ لَوْ جَعَلَ خُرُوجَ النَّجَاسَةِ عِلَّةً لِإِيجَابِ الطَّهَارَةِ ( عَلَى الْإِطْلَاقِ ) لَزِمَهُ إيجَابُ الْغُسْلِ بِخُرُوجِ النَّجَاسَةِ ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ هَذَا الْمَعْنَى عِلَّةً لِإِيجَابِ الطَّهَارَةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ ، وَالْغُسْلُ طَهَارَةٌ ، وَيَلْزَمُهُ إيجَابُهُ بِتِلْكَ الْعِلَّةِ .
وَإِذَا كَانَتْ الْوَاحِدَةُ الزِّيَادَةُ عَلَى الْعِشْرِينَ وَالْمِائَةِ مِنْ الْإِبِلِ عَفْوًا ، وَجَعَلْنَا كَوْنَهَا عَفْوًا عِلَّةً لِامْتِنَاعِ تَغَيُّرِ الْفَرْضِ بِهَا ، لَمْ يَصِحَّ أَنْ يَلْزَمَ عَلَيْهَا أَنَّ الْإِخْوَةَ مِنْ الْأُمِّ ، قَدْ يُحْجَبُونَ وَلَا يَرِثُونَ ، ؛ لِأَنَّا إنَّمَا جَعَلْنَا كَوْنَ الْوَاحِدَةِ عَفْوًا لَا شَيْءَ فِيهَا عِلَّةً لِتَغَيُّرِ فَرْضِ الزَّكَاةِ فِي الْجُمْلَةِ ، وَهَذِهِ الْعِلَّةُ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا غَيْرُ مَوْجُودَةٍ فِيمَا أُلْزِمَ ، وَلَا حُكْمُهَا .
فَهَذَا إلْزَامٌ سَاقِطٌ لَا يَلْجَأُ إلَيْهِ إلَّا جَاهِلٌ بِالنَّظَرِ .
وَكَثِيرٌ مِنْ إلْزَامَاتِ الْمُخَالِفِينَ تَجْرِي هَذَا الْمَجْرَى .
وَإِنَّمَا الَّذِي نَحْتَاجُ إلَيْهِ فِي إسْقَاطِهَا تَحْقِيقُ الْمَعْنَى ، فَإِنَّهَا مَتَى حَقَّقَتْ الْمَعْنَى فِيهَا اضْمَحَلَّتْ ، وَإِذَا اقْتَضَتْ عِلَّةً لِحُكْمٍ مُقَيَّدَةً بِوَصْفٍ ، أَوْ شَرْطٍ لَمْ يَلْزَمْ عَلَيْهَا إيجَابُ ذَلِكَ الْحُكْمِ مُطْلَقًا ، غَيْرَ مُقَيَّدٍ بِذَلِكَ الْوَصْفِ ، أَوْ الشَّرْطِ .(1/223)
نَظِيرُ ذَلِكَ : أَنَّا إذَا جَعَلْنَا بَيْعَهُ لِمَا لَيْسَ عِنْدَهُ عِلَّةً لِفَسَادِ بَيْعِ مَا فِي الذِّمَّةِ حَالًا ، لَمْ يَلْزَمْنَا عَلَيْهِ السَّلَمُ الْمُؤَجَّلُ ؛ لِأَنَّهُ تَغَيَّرَ الْوَصْفُ الَّذِي جَعَلَ الْعِلَّةَ لَهُ ، وَإِذَا جَعَلْنَا خُرُوجَ النَّجَاسَةِ عِلَّةً لِإِيجَابِ نَقْضِ الْوُضُوءِ ، لَمْ يَلْزَمْنَا عَلَيْهَا إيجَابُ الْغُسْلِ ، وَكَذَلِكَ هَذَا فِيمَا أَشْبَهَهُ .
وَكَانَ أَبُو الْحَسَنِ يَقُولُ : إذَا جَعَلْنَا وُقُوعَ الْأَكْلِ عَلَى وَجْهِ النِّسْيَانِ عِلَّةً فِي سُقُوطِ الْقَضَاءِ عَنْ الصَّائِمِ لَمْ يَلْزَمْنَا عَلَيْهِ قِيَاسُ الْمُتَكَلِّمِ نَاسِيًا فِي الصَّلَاةِ ، وَلَا الْأَكْلِ نَاسِيًا فِيهَا ، وَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ هَهُنَا سُقُوطُ قَضَاءِ الصَّوْمِ ، وَالْعِلَّةَ وُقُوعُ الْأَكْلِ عَلَى وَجْهِ النِّسْيَانِ .
قَالَ : وَكَذَلِكَ كُلُّ عِلَّةٍ نَصَبْنَاهَا لِحُكْمٍ ، فَإِنَّهُ ( لَا يَلْزَمُنَا عَلَيْهَا حُكْمٌ مِنْ أَصْلٍ آخَرَ مُخَالِفٍ لَهُ فِي مَوْضُوعِهِ .
أَلَا تَرَى : أَنَّهُ إذَا أَفْسَدْنَا بَيْعًا ؛ لِأَنَّ ثَمَنَهُ مَجْهُولٌ ) ( لَمْ يَلْزَمْنَا عَلَيْهِ ) إفْسَادُ النِّكَاحِ لِجَهَالَةِ الْمَهْرِ .
وَكَذَلِكَ إذَا أَبْطَلْنَا بَيْعَ الْمَعْدُومِ ؛ لِأَنَّهُ مَعْدُومٌ ، لَمْ يَلْزَمْنَا عَلَيْهِ إبْطَالُ الْإِجَارَةِ ، وَإِنْ كَانَتْ الْمَنَافِعُ مَعْدُومَةً ، وَإِذَا أَسْقَطْنَا عَنْ الْحَائِضِ قَضَاءَ الصَّلَاةِ لِأَجْلِ الْحَيْضِ ، لَمْ يَلْزَمْنَا عَلَيْهَا إسْقَاطُ قَضَاءِ الصَّوْمِ .
الموافقات في أصول الشريعة - (ج 1 / ص 312)(1/224)
13 ... البيع إذا قلنا إنه من الضروريات وأما الثانية فكاعتبار الكفء ومهر المثل في الصغيرة فإن ذلك كله لا تدعو إليه حاجة مثل الحاجة إلى أصل النكاح في الصغيرة وإن قلنا إن البيع من باب الحاجيات فالإشهاد والرهن والحميل من باب التكملة ومن ذلك الجمع بين الصلاتين في السفر الذي تقصر فيه الصلاة وجمع المريض الذي يخاف أن يغلب على عقله فهذا وأمثاله كالمكمل لهذه المرتبة إذ لو لم يشرع لم يخل بأصل التوسعة والتخفيف وأما الثالثة فكآداب الأحداث ومندوبات الطهارات وترك إبطال الأعمال المدخول فيها وإن كانت غير واجبة والإنفاق من طيبات المكاسب والإختيار في الضحايا والعقيقة والعتق وما أشبه ذلك ومن أمثلة هذه المسألة أن الحاجيات كالتتمة للضروريات وكذلك التحسينات كالتكملة للحاجيات فإن الضروريات هي أصل المصالح حسبما يأتي تفصيل ذلك بعد هذا إن شاء الله المسألة الثالثة كل تكملة فلها من حيث هي تكملة شرط وهو أن لا يعود اعتبارها على الأصل بالإبطال وذلك أن كل تكملة يفضي اعتبارها إلى رفض أصلها 14 ...(1/225)
فلا يصح اشتراطها عند ذلك لوجهين أحدهما أن في إبطال الأصل إبطال التكملة لأن التكملة مع ما كملته كالصفة مع الموصوف فإذا كان اعتبار الصفة يؤدي إلى ارتفاع الموصوف لزم من ذلك ارتفاع الصفة أيضا فاعتبار هذه التكملة على هذا الوجه مؤد إلى عدم اعتبارها وهذا محال لا يتصور وإذا لم يتصور لم تعتبر التكملة واعتبر الأصل من غيرمزيد والثاني أنا لو قدرنا تقديرا أن المصلحة التكميلية تحصل مع فوات المصلحة الأصلية لكان حصول الأصلية أولى لما بينهما من التفاوت وبيان ذلك أن حفظ المهجة مهم كلى وحفظ المروءات مستحسن فحرمت النجاسات حفظا للمروءات وإجراء لأهلها على محاسن العادات فإن دعت الضرورة إلى إحياء المهجة بتناول النجس كان تناوله أولى وكذلك أصل البيع ضروري ومنع الغرر والجهالة مكمل فلو اشترط نفي الغرر جملة لانحسم باب البيع وكذلك الإجارة ضرورية أو حاجية واشتراط حضور العوضين في المعاوضات من باب التكميلات ولما كان ذلك ممكنا في بيع الأعيان من غير عسر منع من بيع المعدوم إلا في السلم وذلك في الإجارات ممتنع فاشتراط وجود المنافع فيها وحضورها يسد باب المعاملة بها والإجارة محتاج 15 ...(1/226)
إليها فجازت وإن لم يحضر العوض أو لم يوجد ومثله جار في الإطلاع على العورات للمباضعة والمداواة وغيرهما وكذلك الجهاد مع ولاة الجور قال العلماء بجوازه قال مالك لو ترك ذلك لكان ضررا على المسلمين فالجهاد ضروري والوالي فيه ضروري والعدالة فيه مكملة للضرورة والمكمل إذا عاد للأصل بالإبطال لم يعتبر ولذلك جاء الأمر بالجهاد مع ولاة الجور عن النبي وكذلك ما جاء من الأمر بالصلاة خلف الولاة السوء فإن في ترك ذلك ترك سنة الجماعة والجماعة من شعائر الدين المطلوبة والعدالة مكملة لذلك المطلوب ولا يبطل الأصل بالتكملة ومنه إتمام الأركان في الصلاة مكمل لضروراتها فإذا أدى طلبه إلى أن لا تصلي كالمريض غير القادر سقط المكمل أو كان في اتمامها حرج ارتفع الحرج عمن لم يكمل وصلى على حسب ما أوسعته الرخصة وستر العورة من باب محاسن 16 ...(1/227)
الصلاة فلو طلب على الإطلاق لتعذر أداؤها على من لم يجد ساترا إلى أشياء من هذا القبيل في الشريعة تفوق الحصر كلها جار على هذا الأسلوب وانظر فيما قاله الغزالي في الكتاب المستظهري في الإمام الذي لم يستجمع شروط الإمامة واحمل عليه نظائره المسألة الرابعة المقاصد الضرورية في الشريعة أصل للحاجية والتحسينية فلو فرض إختلال الضروري بإطلاق لاختلا باختلاله بإطلاق ولا يلزم من إختلالهما إختلال الضروري بإطلاق نعم قد يلزم من إختلال التحسيني بإطلاق إختلال الحاجي بوجه ما وقد يلزم من إختلال الحاجي بإطلاق إختلال الضروري بوجه ما فلذلك إذا حوفظ على الضروري فينبغي المحافظة على الحاجي وإذا حوفظ على الحاجي فينبغي أن يحافظ على التحسيني إذا ثبت أن التحسيني يخدم الحاجي وأن الحاجي يخدم الضروري فإن الضروري هو المطلوب فهذه مطالب خمسة لا بد من بيانها أحدها أن الضروري أصل لما سواه من الحاجي والتكميلي والثاني أن إختلال الضروري يلزم منه إختلال الباقيين بإطلاق والثالث أنه لا يلزم من إختلال الباقيين إختلال الضروري والرابع أنه قد يلزم من إختلال التحسيني بإطلاق أو الحاجي بإطلاق إختلال الضروري بوجه ما الموافقات في أصول الشريعة - (ج 1 / ص 341)(1/228)
وأما على مذهب المعتزلة فكذلك أيضا لأنهم إنما يعتبرون المصالح والمفاسد بحسب ما أداهم إليه العقل فى زعمهم وهو الوجه الذي يتم به صلاح العالم على الجملة والتفصيل فى المصالح أو ينخرم به فى المفاسد وقد جعلوا الشرع كاشفا لمقتضى ما ادعاه العقل عندهم بلا زيادة ولا نقصان فلا فرق بينهم وبين الأشاعرة فى محصول المسألة وإنما اختلفوا فى المدرك واختلافهم فيه لا يضر فى كون المصالح معتبرة شرعا ومنضبطة فى أنفسها وقد نزع إلى هذا المعنى أيضا فى كلامه على العزيمة والرخصة حين فسرها 46 ... الإمام الرازي بأنها جواز الإقدام مع قيام المانع قال هو مشكل لأنه يلزم أن تكون الصلوات والحدود والتعازير والجهاد والحج رخصة إذ يجوز الإقدام على ذلك كله وفيه مانعان ظواهر النصوص المانعة إلزامه كقوله تعالى وما جعل عليكم فى الدين من حرج وفى الحديث لا ضرر ولا ضرار وذلك مانع من وجوب هذه الأمور والآخر أن صورة الإنسان مكرمة لقوله ولقد كرمنا بنىآدم لقد خلقنا الإنسان فى أحسن تقويم وذلك يناسب أن لا يهلك بالجهاد ولا يلزمه المشاق والمضار وأيضا الإجارة رخصة من بيع المعدوم والسلم كذلك والقراض والمساقاة رخصتان لجهالة الأجرة والصيد رخصة لأكل الحيوان بدمه ولم تعد منها واستقراء الشريعة يقتضي أن لا مصلحة إلا وفيها مفسدة وبالعكس وإن قلت على العد كالكفر والإيمان فما ظنك بغيرهما وعلى هذا ما فى الشريعة حكم إلا وهو مع المانع الشرعي لأنه لا يمكن أن(1/229)
47 ... يراد بالمانع ما سلم عن المعارض الراجح فإن أكل الميتة وغيره وجد فيه معارض راجح على مفسدة الميتة فحينئذ ما المراد إلا المانع المغمور بالراجح وحينئذ تندرج جميع الشريعة لأن كل حكم فيه مانع مغمور بمعارضه ثم ذكر أن الذي استقر عليه حاله في شرحي التنقيح والمحصول العجز عن ضبط الرخصة وما تقدم إن شاء الله تعالى يغني فى الموضع مع ما ذكر فى الرخصة فى كتاب الأحكام ومنها أن هذه المسألة إذا فهمت حصل بها فهم كثير من آيات القرآن وأحكامه كقوله تعالى هو الذى خلق لكم ما فى الأرض جميعا وقوله وسخر لكم ما فى السموات وما فى الأرض جميعا منه وقوله قل 48 ...(1/230)
من حرم زينة الله التى أخرج لعباده والطيبات من الرزق الآية وما كان نحو ذلك من أنها ليست على مقتضى ظاهرها بإطلاق بل بقيود تقيدت بها حسبما دلت عليه الشريعة فى وضع المصالح ودفع المفاسد والله أعلم ومنها أن بعض الناس قال إن مصالح الدار الآخرة ومفاسدها لا تعرف إلا بالشرع وأما الدنيوية فتعرف بالضرورات والتجارب والعادات والظنون المعتبرات قال ومن أراد أن يعرف المناسبات فى المصالح والمفاسد راجحها من مرجوحها فليعرض ذلك على عقله بتقدير أن الشارع لم يرد به ثم يبنى عليه الأحكام فلا يكاد حكم منها يخرج عن ذلك إلا التعبدات التي لم يوقف على مصالحها أو مفاسدها هذا قوله وفيه بحسب ما تقدم نظر أما أن ما يتعلق بالآخرة لا يعرف إلا بالشرع فكما قال وأما ما قال فى الدنيوية فليس كما قال من كل وجه بل ذلك من بعض الوجوه دون بعض ولذلك لما جاء الشرع بعد زمان فترة تبين به ما كان عليه أهل الفترة من انحراف الأحوال عن الإستقامة وخروجهم عن مقتضى العدل فى الأحكام ولو كان الأمر على ما قال بإطلاق لم يحتج فى الشرع إلا إلى بث مصالح الدار الآخرة خاصة وذلك لم يكن وإنما جاء بما يقيم أمر الدنيا وأمر الآخرة معا وإن كان قصده بإقامة الدنيا للآخرة فليس بخارج عن كونه قاصدا لإقامة مصالح الدنيا حتى يتأتى فيها سلوك طريق الآخرة وقد بث فى ذلك من التصرفات وحسم من أوجه الفساد التي كانت جارية ما لا مزيد عليه فالعادة تحيل استقلال العقول فى الدنيا بإدراك مصالحها ومفاسدها على التفصيل اللهم إلا أن يريد هذا القائل أن المعرفة بها تحصل بالتجارب وغيرها بعد وضع الشرع أصولها فذلك لا نزاع فيه
درر الحكام في شرح مجلة الأحكام - (ج 1 / ص 35)
الْحُكْمُ الَّذِي يَتَرَتَّبُ بِصُورَةٍ مُخَالِفَةٍ لِلْقِيَاسِ ، فَلَا يَجُوزُ قِيَاسُ غَيْرِهِ عَلَيْهِ .(1/231)
مِثَالُ ذَلِكَ : إنَّ بَيْعَ الِاسْتِصْنَاعِ جُوِّزَ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ ؛ لِأَنَّ بَيْعَ الْمَعْدُومِ بَاطِلٌ وَقِيَاسًا كَانَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ بَيْعُ الِاسْتِصْنَاعِ غَيْرَ جَائِزٍ ، وَلَكِنْ جُوِّزَ اسْتِثْنَاءً عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ ، فَلَا يَجُوزُ قِيَاسُ عَقْدٍ آخَرَ عَلَيْهِ ، كَمَا أَنَّ بَيْعَ السَّلَمِ أَيْضًا جُوِّزَ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ ، فَلَا يَجُوزُ اعْتِبَارُ أَنَّ بَيْعَ ثَمَرِ الشَّجَرِ الَّذِي لَمْ يَظْهَرْ ثَمَرُهُ جَائِزًا اسْتِنَادًا عَلَى جَوَازِ بَيْعِ الِاسْتِصْنَاعِ أَوْ بَيْعِ السَّلَمِ ؛ لِأَنَّ النَّصَّ بِجَوَازِ الِاسْتِصْنَاعِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ .(1/232)
مِثَالٌ آخَرُ : لَوْ بَاعَ شَخْصٌ مَالَ قَرِيبِهِ لِآخَرَ بِحُضُورِهِ وَسَكَتَ ، أَوْ بَاعَتْ زَوْجَةٌ مَا بِحُضُورِ زَوْجِهَا مَالًا عَلَى أَنَّهُ لَهَا ، وَسَكَتَ الزَّوْجُ فَالْبَيْعُ يَكُون نَافِذًا ، فَلَوْ ادَّعَى الْقَرِيبُ صَاحِبُ الْمَالِ أَوْ الزَّوْجُ أَنَّ الْمَالَ الْمَبِيعَ هُوَ مَالُهُ لَا تُسْمَعُ دَعْوَاهُ ، فَعَدَمُ سَمَاعِ الدَّعْوَى مِنْهُ كَانَ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ ؛ لِأَنَّ الْقَاعِدَةَ لَا يُنْسَبُ إلَى سَاكِتٍ قَوْلٌ ) فَهَذَا الْحُكْمُ لَا يُقَاسُ غَيْرُهُ عَلَيْهِ ، كَمَا لَوْ كَانَ الْعَقْدُ الَّذِي جَرَى غَيْرَ الْبَيْعِ وَكَانَ إجَارَةً أَوْ إعَارَةً ، فَلَوْ أَقَامَ الدَّعْوَى ذَلِكَ الشَّخْصُ الَّذِي حَضَرَ الْإِجَارَةَ أَوْ الْإِعَارَةَ ، وَادَّعَى بِأَنَّ الْمَالَ مَالُهُ فَالدَّعْوَى تُسْمَعُ مِنْهُ ، كَذَلِكَ لَوْ اخْتَلَفَ الْبَائِعُ وَالْمُشْتَرِي عَلَى ثَمَنِ الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَعَجَزَ الطَّرَفَانِ كِلَاهُمَا عَنْ إثْبَاتِ مُدَّعَاهُمَا ، فَبِمَا أَنَّ الْبَائِعَ وَالْمُشْتَرِيَ كِلَاهُمَا مُنْكِرٌ دَعْوَى الْآخَرِ يَجْرِي التَّحَالُفُ بَيْنَهُمَا ، وَهَذَا يَكُونُ مُوَافِقًا لِلْقِيَاسِ .
أَمَّا إذَا كَانَ الِاخْتِلَافُ وَقَعَ بَعْدَ الْقَبْضِ فَتَكُونُ دَعْوَى الْمُدَّعِي هِيَ طَلَبُهُ الزِّيَادَةَ فِي الثَّمَنِ ، وَالْوَاجِبُ كَانَ الِاكْتِفَاءَ بِتَحْلِيفِ الْمُشْتَرِي الْمُنْكِرِ زِيَادَةَ الثَّمَنِ مَعَ أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ تَجْرِي خِلَافًا لِلْقَاعِدَةِ .(1/233)
وَيَجْرِي التَّحَالُفُ بَيْنَ الْمُتَدَاعِيَيْنِ اسْتِنَادًا عَلَى الْحَدِيثِ الشَّرِيفِ الْقَائِلِ { إذَا اخْتَلَفَ الْمُتَبَايِعَانِ وَالسِّلْعَةُ قَائِمَةٌ بَيْنَهُمَا تَحَالَفَا وَتَرَادَّا } فَعَلَى ذَلِكَ يَجْرِي التَّحَالُفُ بَيْنَهُمَا ، وَلَوْ بَعْدَ الْقَبْضِ خِلَافًا لِلْقِيَاسِ ، وَهَذَا لِأَنَّ الْحُكْمَ الثَّابِتَ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ لَا يُقَاسُ عَلَيْهِ أَحْكَامٌ أُخْرَى مَثَلًا : لَوْ اخْتَلَفَ الْمُسْتَأْجِرُ وَالْمُؤَجِّرُ عَلَى بَدَلِ الْإِجَارَةِ لَا يَجْرِي التَّحَالُفُ بَيْنَهُمَا تَوْفِيقًا لِلْحُكْمِ بِالْبَيْعِ ، بَلْ الْقَوْلُ مَعَ الْيَمِينِ لِلْمُسْتَأْجِرِ .
درر الحكام في شرح مجلة الأحكام - (ج 1 / ص 40)
( الرُّخْصَةُ ) تَعْرِيفُهَا : الرُّخْصَةُ لُغَةً التَّوَسُّعُ ، وَالْيُسْرُ ، وَالسُّهُولَةُ ، وَفِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ : هِيَ الْأَحْكَامُ الَّتِي ثَبَتَتْ مَشْرُوعِيَّتُهَا بِنَاءً عَلَى الْأَعْذَارِ مَعَ قِيَامِ الدَّلِيلِ الْمُحَرِّمِ تَوَسُّعًا فِي الضِّيقِ .
مِثَالٌ : إنَّ بَيْعَ السَّلَمِ بَيْعُ مَعْدُومٍ ، وَبِمَا أَنَّ بَيْعَ الْمَعْدُومِ بَاطِلٌ ، كَمَا جَاءَ فِي الْمَادَّةِ ( 205 ) فَكَانَ مِنْ الْوَاجِبِ عَدَمُ تَجْوِيزِ هَذَا الْبَيْعِ .
إلَّا أَنَّ احْتِيَاجَ النَّاسِ قَبْلَ الْحُصُولِ عَلَى مَحْصُولَاتِهِمْ لِلنُّقُودِ قَدْ جَوَّزَ هَذَا الْعَقْدَ تَيْسِيرًا وَتَسْهِيلًا لَهُمْ كَذَلِكَ لِلتَّيْسِيرِ وَالتَّسْهِيلِ قَدْ مُنِحَ لِلْمُشْتَرِي خِيَارُ الْغَبْنِ وَالتَّغْرِيرِ وَجُوِّزَ سَمَاعُ شَهَادَةِ النِّسَاءِ فِي الْأَشْيَاءِ الَّتِي لَا يُمْكِنُ اطِّلَاعُ الرِّجَالِ عَلَيْهَا .(1/234)
وَجُعِلَ الْعَقْدُ الَّذِي يَحْصُلُ فِي الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَالْهِبَةِ وَالصُّلْحِ عَلَى الْمَالِ وَالْإِقْرَارِ وَالْإِبْرَاءِ وَتَأْجِيلِ الدَّيْنِ وَإِسْقَاطِ الشُّفْعَةِ النَّاشِئِ عَنْ إجْبَارٍ وَإِكْرَاهٍ غَيْرَ مُعْتَبَرٍ .
وَكَذَلِكَ اُكْتُفِيَ بِأَنْ يُشَاهِدَ الْمُشْتَرِي كَوْمَةَ الْقَمْحِ أَوْ الشَّعِيرِ بَدَلًا مِنْ أَنْ يُشَاهِدَ كُلَّ قَمْحَةٍ أَوْ شَعِيرَةٍ يَشْتَرِيهَا حَتَّى يَزُولَ حَقُّ خِيَارِ الرُّؤْيَةِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَزِمَ أَنْ يَرَى الْمُشْتَرِي كُلَّ حَبَّةٍ مِنْ الْكَوْمَةِ لَاسْتَوْجَبَ ذَلِكَ صُعُوبَةً فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ .
كَذَلِكَ اُكْتُفِيَ فِي الثِّيَابِ بِرُؤْيَةِ الثَّوْبِ مِنْ طَرَفِهِ دُونَ أَنْ يَرَاهُ الْمُشْتَرِي جَمِيعَهُ ، وَكَذَلِكَ جُوِّزَ بَيْعُ الْوَفَاءِ دَفْعًا لِمُمَاطَلَةِ الْمَدِينِ وَتَسْهِيلًا لِلدَّائِنِ لَأَنْ يَسْتَوْفِيَ دَيْنَهُ .
وَجُوِّزَ أَيْضًا خِيَارُ الشَّرْطِ فِي الْبَيْعِ لِمَنْ لَهُ الْخِيَارُ دَفْعًا لِلْغُرْمِ الَّذِي قَدْ يَحْصُلُ لِلْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي بَعْدَ حُصُولِ الْبَيْعِ ، وَجُوِّزَ زَوَاجُ الْمَرْأَةِ بِدُونِ النَّظَرِ إلَيْهَا ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ لَامْتَنَعَ الْكَثِيرُونَ عَنْ تَزْوِيجِ بَنَاتِهِمْ غَيْرَةً عَلَيْهِنَّ مِنْ رُؤْيَةِ الْخَاطِبِينَ ، وَجُوِّزَ وَشُرِعَ الطَّلَاقُ لِلتَّسْهِيلِ وَالتَّوْسِيعِ عَلَى النَّاسِ ؛ لِأَنَّ بَقَاءَ الزَّوْجِيَّةِ حَالَ وُجُودِ النُّفُورِ وَالْكَرَاهِيَةِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ مَشَقَّةٌ عُظْمَى وَبَلِيَّةٌ كُبْرَى عَلَيْهِمَا مَعًا .
وَجُوِّزَتْ الْوَصِيَّةُ لِيَتَمَكَّنَ الَّذِي لَمْ يُوَفَّقْ لِعَمَلِ الْخَيْرِ فِي حَيَاتِهِ مِنْ إجْرَائِهِ بَعْدَ وَفَاتِهِ .(1/235)
وَأَخِيرًا يَجِبُ أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ الْمَشَقَّةَ تَجْلِبُ التَّيْسِيرَ إذَا لَمْ يُوجَدْ نَصٌّ ، وَأَمَّا إذَا وُجِدَ النَّصُّ ، فَلَا يَجُوزُ الْعَمَلُ خِلَافَ ذَلِكَ النَّصِّ بِدَاعِي جَلْبِ التَّيْسِيرِ وَإِزَالَةِ الْمَشَقَّةِ .
درر الحكام في شرح مجلة الأحكام - (ج 1 / ص 366)
( الْمَادَّةُ 5 20 ) : بَيْعُ الْمَعْدُومِ بَاطِلٌ فَيَبْطُلُ بَيْعُ ثَمَرَةٍ لَمْ تَبْرُزْ أَصْلًا .
الْمَعْدُومُ إمَّا أَنْ يَكُونَ مَعْدُومًا حَقِيقَةً أَوْ مَعْدُومًا عُرْفًا وَالْمَعْدُومُ عُرْفًا هُوَ الْمُتَّصِلُ اتِّصَالًا خِلْقِيًّا بِغَيْرِهِ وَبَيْعُ الْمَعْدُومِ سَوَاءٌ أَكَانَ حَقِيقَةً أَمْ عُرْفًا بَاطِلٌ ( اُنْظُرْ شَرْحَ الْمَادَّةِ 97 1 ) .(1/236)
مِثَالُ ذَلِكَ إذَا بَاعَ رَجُلٌ مِنْ آخَرَ عِنَبَ كَرْمِهِ وَهُوَ زَهْرٌ ، أَوْ مُهْرَ فَرَسِهِ وَهُوَ جَنِينٌ ، أَوْ زَرْعَ أَرْضَهُ قَبْلَ أَنْ يَبْدُوَ صَلَاحُهُ أَيْ يَنْفَصِلَ الثَّمَرُ مِنْ الزَّهْرِ وَيَنْعَقِدَ وَلَوْ صَغِيرًا فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ ، وَكَذَلِكَ بَيْعُ حَقِّ التَّعَلِّي ؛ لِأَنَّهُ بَيْعٌ مَعْدُومٍ وَكَذَلِكَ بَيْعُ التِّبْنِ وَهُوَ فِي السُّنْبُلِ قَبْلَ التَّذْرِيَةِ بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّ التِّبْنَ لَا يَكُونُ مِنْ السُّنْبُلِ إلَّا بَعْدَ الدِّرَاسِ فَبَيْعُهُ قَبْلَ ذَلِكَ بَيْعٌ لِلْمَعْدُومِ وَكَذَلِكَ بَيْعُ الْبَصَلِ وَالثُّومِ وَاللِّفْتِ فِي بَطْنِ الْأَرْضِ وَهُوَ لَا يُعْلَمُ وُجُودُهُ بِطَرِيقٍ مِنْ الطُّرُقِ فَبَيْعُ ذَلِكَ كُلِّهِ غَيْرُ صَحِيحٍ فَإِذَا نَبَتَ وَعَلِمَ وُجُودَهُ فِي الْأَرْضِ فَبَيْعُهُ صَحِيحٌ ( الْخُلَاصَةُ ) وَكَذَلِكَ بَيْعُ بَذْرِ الْبِطِّيخَةِ قَبْلَ كَسْرِهَا بَاطِلٌ أَمَّا بَعْدَ الْكَسْرِ فَصَحِيحٌ وَبَيْعُ حَقِّ وَضْعِ الْأَخْشَابِ عَلَى الْحَائِطِ أَوْ وَضْعِ الْأَقْذَارِ فِي الْعَرْصَةِ غَيْرُ صَحِيحٌ وَكَذَلِكَ بَيْعُ الْإِنْسَانِ مَا لَيْسَ فِي مِلْكِهِ حِينَ الْبَيْعِ وَأَنَّ مِلْكَهُ بَعْدَهُ كَبَيْعِ حِنْطَةٍ وَحِذَاءٍ مَا لَمْ يَكُنْ بَيْعَ سَلَمٍ أَوْ اسْتِصْنَاعٍ ( الْخُلَاصَةُ ) وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ إذَا بَاعَ إنْسَانٌ مَا سَيَمْلِكُهُ فِيمَا بَعْدُ كَالْحِنْطَةِ أَوْ السَّفِينَةِ الَّتِي سَيَصْنَعُهَا أَوْ الْجُلُودِ فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ أَمَّا إذَا وَقَعَ الْبَيْعُ عَلَى سَبِيلِ السَّلَمِ أَوْ الِاسْتِصْنَاعِ وَرُوعِيَتْ شَرَائِطُهُمَا فَالْبَيْعُ صَحِيحٌ .(1/237)
قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْمَعْدُومَ عُرْفًا هُوَ الْمُتَّصِلُ اتِّصَالًا خِلْقِيًّا بِغَيْرِهِ فَبَيْعُ الْمُتَّصِلِ بِغَيْرِهِ وَحْدَهُ حَالَ اتِّصَالِهِ بَاطِلٌ بِخِلَافِ اتِّصَالِ الْجُذُوعِ وَالثَّوْبِ فَإِنَّهُ يَصْنَعُ الْعَبَا ابْنُ مَلَكٍ .
( رَدُّ الْمُحْتَارِ ) أَمْثِلَةُ الْمَعْدُومِ عُرْفًا بَيْعُ اللَّبَنِ وَهُوَ فِي الضَّرْعِ وَأَحْشَاءِ الشَّاةِ وَهِيَ حَيَّةٌ أَوْ لَحْمِهَا أَوْ كُلْيَتَيْهَا أَوْ رَأْسِهَا أَوْ جِلْدِهَا أَوْ صُوفِهَا وَبَيْعُ الزَّيْتِ فِي زَيْتُونِهِ وَعَصِيرِ الْعِنَبِ فِي حَبِّهِ قَبْلَ اسْتِخْرَاجِهِمَا كُلُّ ذَلِكَ بَاطِلٌ حَتَّى لَوْ ذَبَحَ الْبَائِعُ الشَّاةَ بَعْدَ الْبَيْعِ وَسَلَّمَ الْجِلْدَ إلَى الْمُشْتَرِي فَالْبَيْعُ لَا يَحُولُ عَنْ بُطْلَانِهِ ( اُنْظُرْ شَرْحَ الْمَادَّةِ 175 ) لِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ مَعْدُومَةٌ عُرْفًا فَأَمَّا اللَّبَنُ فِي ضَرْعِ الشَّاةِ فَهُوَ بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُعْلَمُ هَلْ انْتِفَاخُ ضَرْعِ الشَّاةِ لِوُجُودِ لَبَنٍ فِيهِ أَوْ رِيحٍ أَوْ دَمٍ ؟ فَلِذَلِكَ لَا يُعْتَبَرُ مَالًا وَلَا سِيَّمَا أَنَّ اللَّبَنَ يَحْصُلُ فِي الضَّرْعِ شَيْئًا فَشَيْئًا وَبِالتَّتَابُعِ فَلَوْ جَازَ الْبَيْعُ فِيهِ لَاخْتَلَطَ مِلْكُ الْبَائِعِ بِمِلْكِ الْمُشْتَرِي وَصُوفُ الشَّاةِ الْحَيَّةِ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ وَهُوَ مُتَّصِلٌ بِهَا ؛ لِأَنَّهُ قَائِمٌ بِذَلِكَ الْحَيَوَانِ كَسَائِرِ أَطْرَافِهِ بِمَنْزِلَةِ الْوَصْفِ وَلَا سِيَّمَا أَنَّ الصُّوفَ يَتَزَايَدُ أَيْضًا وَذَلِكَ يُوجِبُ اخْتِلَاطَ الْبَيْعِ بِغَيْرِهِ " رَدُّ الْمُحْتَارِ عَلِيٌّ أَفَنْدِي " هَذَا وَبَيْعُ الْمَعْدُومِ أَيْ جَعْلُهُ مَبِيعًا بَاطِلٌ كَمَا تَقَدَّمَ أَمَّا جَعْلُهُ ثَمَنًا فَصَحِيحٌ أَيْ يُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ الْبَيْعِ أَنْ(1/238)
يَكُونَ ثَمَنُ الْمَبِيعِ مَوْجُودًا فَإِذَا اشْتَرَى رَجُلٌ مِنْ آخَرَ حَيَوَانًا بِخَمْسِينَ رِيَالًا أَوْ عِشْرِينَ كَيْلَةً حِنْطَةً وَلَمْ يَكُنْ فِي مِلْكِهِ وَلَا فِي يَدِهِ الْخَمْسُونَ رِيَالًا أَوْ الْعِشْرُونَ كَيْلَةً فَالْبَيْعُ صَحِيحٌ .
وَيُسْتَثْنَى مِنْ قَاعِدَةِ بَيْعِ الْمَعْدُومِ مَسْأَلَتَانِ : الْأُولَى : الْبَيْعُ بِالِاسْتِجْرَارِ فَقَدْ جُوِّزَ اسْتِحْسَانًا مَعَ أَنَّهُ بَيْعُ مَعْدُومٍ وَالْبَيْعُ بِالِاسْتِجْرَارِ يَكُونُ بِغَيْرِ مُسَاوَمَةٍ بَيْنَ الْمُتَابِعَيْنِ وَبِغَيْرِ بَيَانِ الثَّمَنِ كَشِرَاءِ السَّمْنِ وَالْأُرْزِ وَالْحِمَّصِ وَالْمِلْحِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْبِدَالِ الْبَقَّالُ فَهَذَا الْبَيْعُ صَحِيحٌ وَعَلَى الْمُشْتَرِي أَنْ يَدْفَعَ قِيمَةَ الْمَالِ الَّذِي أَخَذَهُ سَوَاءٌ أَكَانَ قِيَمِيًّا أَوْ مِثْلِيًّا ( رَدُّ الْمُحْتَارِ ) وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ إلَيْهِ غَيْرَ صَحِيحٍ وَبَاطِلًا لَوَجَبَ بِاسْتِهْلَاكِ الْمَالِ مِثْلُ ضَمَانِ الْمَالِ إنْ كَانَ مِثْلِيًّا وَضَمَانِ قِيمَتِهِ إنْ كَانَ قِيَمِيًّا .
الثَّانِيَةُ : بَيْعُ الدَّيْنِ مِنْ الْمَدِينِ ، وَمِثَالُهُ إذَا كَانَ لِرَجُلٍ فِي ذِمَّةِ آخَرَ خَمْسُونَ كَيْلَةً حِنْطَةً فَأَخَذَ الدَّائِنُ مِنْ الْمَدِينِ خَمْسِينَ رِيَالًا بَدَلًا مِنْ الْخَمْسِينَ كَيْلَةً فَذَلِكَ صَحِيحٌ ( بَهْجَةٌ ) إلَّا أَنَّهُ يُشْتَرَطُ قَبْضُ الْبَدَلِ فِي الْمَحِلِّ عَيْنِهِ وَإِلَّا فَالْعَقْدُ بَاطِلٌ .
درر الحكام في شرح مجلة الأحكام - (ج 4 / ص 395)
الْحُكْمُ الثَّانِي : كُلُّ شَيْءٍ غَيْرُ صَالِحٍ لِلْبَيْعِ لَا يَجُوزُ رَهْنُهُ يَعْنِي يَكُونُ رَهْنُهُ فَاسِدًا أَوْ بَاطِلًا .(1/239)
فَإِذَا كَانَ الْمَرْهُونُ مَالًا وَكَانَ مُقَابِلُهُ مَضْمُونًا وَبَعْضُ شَرَائِطِ الْجَوَازِ مَفْقُودًا يَكُونُ الرَّهْنُ فَاسِدًا .
وَإِذَا لَمْ يَكُنْ الْمَرْهُونُ مَالًا وَمُقَابِلُهُ مَضْمُونًا يَكُونُ الرَّهْنُ بَاطِلًا ( الشُّرُنْبُلَالِيُّ ) .
وَتَتَفَرَّعُ الْمَسَائِلُ الْآتِيَةُ عَلَى هَذَا الْحُكْمِ : أَوَّلًا - إذَا لَمْ يَكُنْ الْمَرْهُونُ مَالًا كَالْمَيِّتِ وَبَنِي آدَمَ الَّذِي هُوَ حُرٌّ أَوْ كَانَ مَعْدُومًا وَقْتَ الْعَقْدِ فَالرَّهْنُ بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّهُ ذُكِرَ فِي الْمَوَادِّ ( 205 وَ 209 وَ 211 ) أَنَّ بَيْعَ الْمَعْدُومِ وَالْمَالَ غَيْرَ الْمُتَقَوِّمِ وَغَيْرَ الْمَقْدُورِ التَّسْلِيمِ بَاطِلٌ .
ثَانِيًا - رَهْنُ الدَّيْنِ غَيْرُ جَائِزٍ ابْتِدَاءً ( رَدُّ الْمُحْتَارِ فِي بَابِ التَّصَرُّفِ فِي الرَّهْنِ ) .
قِيلَ ابْتِدَاءً ؛ لِأَنَّ رَهْنَ الدَّيْنِ انْتِهَاءً جَائِزٌ كَمَا سَيُذْكَرُ فِي شَرْحِ الْمَادَّةِ ( 670 ) .
ثَالِثًا - كَمَا أَنَّ رَهْنَ الْعِنَبِ الَّذِي سَيُحَصَّلُ هَذِهِ السَّنَةَ مِنْ الْكَرْمِ أَوْ الْخِرْفَانِ الَّتِي سَتَلِدُهَا الْغَنَمُ بَاطِلٌ كَذَلِكَ رَهْنُ الْمُبَاحَاتِ قَبْلَ الْإِحْرَازِ كَالصَّيْدِ وَالْحَطَبِ غَيْرَ الْمُحْرَزِ بَاطِلٌ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ الصَّيْدَ وَالْحَطَبَ قَبْلَ الْإِحْرَازِ لَيْسَ بِمَالِ أَحَدٍ اُنْظُرْ مَادَّتَيْ ( 1247 و 1243 ) .
رَابِعًا - يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الْمَرْهُونُ مَعْلُومًا فَإِذَا كَانَ مَجْهُولًا لَا يَصِحُّ الرَّهْنُ .
كَمَا هِيَ الْحَالُ فِي الْبَيْعِ .
اُنْظُرْ الْمَادَّتَيْنِ ( 200 و 213 ) .(1/240)
بِنَاءً عَلَيْهِ إذَا أَعْطَى شَخْصٌ لِآخَرَ ( دِرْهَمَيْنِ ) قَائِلًا لَهُ : خُذْ مِنْهُمَا الَّذِي تَخْتَارُهُ وَاجْعَلْهُ رَهْنًا عِنْدَك مُقَابِلَ الْمِائَةِ قِرْشٍ الَّتِي لَك دَيْنٌ عَلَيَّ وَفَعَلَ ذَلِكَ يَعْنِي إذَا لَمْ يُعَيِّنْ أَيَّهُمَا هُوَ الْمَرْهُونُ وَدُونَ أَنْ يَخْتَارَ أَحَدُهُمَا وَهَلَكَ الدِّرْهَمَانِ بِيَدِ الْمُرْتَهِنِ فَعِنْدَ الْإِمَامِ أَبِي يُوسُفَ لَا يَلْزَمُ عَلَى الْمُرْتَهِنِ شَيْءٌ وَلَا يَسْقُطُ شَيْءٌ مِنْ الدَّيْنِ ( عَبْدُ الْحَلِيمِ ، الْخَانِيَّةُ رَدُّ الْمُحْتَارِ قُبَيْلَ بَابِ الرَّهْنِ ) وَجُعِلَ هَذَا بِمُنْزِلَةِ رَجُلٍ عَلَيْهِ عِشْرُونَ دِرْهَمًا فَدَفَعَ الْمَدِينُ إلَى الطَّالِبِ مِائَةَ دِرْهَمٍ وَقَالَ : خُذْ مِنْهَا عِشْرِينَ دِرْهَمًا فَقَبَضَهَا فَضَاعَتْ مِنْ يَدِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا عِشْرِينَ دِرْهَمًا فَتَكُونُ ضَاعَتْ مِنْ مَالِ الْمَدِينِ وَالدَّيْنُ عَلَى حَالِهِ .
خَامِسًا - إذَا أَعْطَى الرَّاهِنُ لِلْمُرْتَهِنِ دِينَارَيْنِ وَقَالَ لَهُ : خُذْ أَحَدِهِمَا رَهْنًا فَالْحُكْمُ عِنْدَ الْإِمَامِ أَبِي يُوسُفَ عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ ( رَدُّ الْمُحْتَارِ فِي الْمَحَلِّ الْمَزْبُورِ ) وَلَوْ دُفِعَ إلَيْهِ ثَوْبَيْنِ وَقَالَ : خُذْ أَحَدَهُمَا رَهْنًا بِدَيْنِك ، فَأَخْذُهُمَا وَقِيمَتَهَا عَلَى السَّوَاءِ .
قَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : يَذْهَبُ نِصْفُ قِيمَةِ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالدَّيْنِ إنْ كَانَ مِثْلَ الدَّيْنِ ( الْخَانِيَّةُ ) .(1/241)
وَإِذَا أَعْطَى شَخْصٌ لِلْآخَرِ مِائَةَ قِرْشٍ وَقَالَ : خُذْ مِنْهُمَا دَيْنَك الْبَالِغَ عِشْرِينَ قِرْشًا وَتَلِفَ الْمَبْلَغُ الْمَذْكُورُ بِيَدِ الْآخَرِ قَبْلَ أَنْ يُخْرِجَ مَطْلُوبَهُ مِنْهُ بِلَا تَعَدٍّ وَلَا تَقْصِيرٍ فَلَا يَسْقُطُ مَطْلُوبُهُ الْعِشْرُونَ قِرْشًا ( رَدُّ الْمُحْتَارِ فِي الْمَحَلِّ الْمَزْبُورِ ، الْخَانِيَّةُ ) .
وَإِذَا شَهِدَ الشُّهُودُ بِقَوْلِهِمْ : رَأَيْنَا أَنَّ الرَّاهِنَ رَهَنَ الشَّيْءَ الْمَجْهُولَ وَسَلَّمَهُ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ ( الْبَزَّازِيَّةُ فِي الْخَامِسِ مِنْ الشَّهَادَةِ ) وَلَكِنْ تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ الْوَارِدَةُ عَلَى إقْرَارِ الرَّهْنِ الْمَجْهُولِ كَمَا لَوْ ادَّعَى الرَّاهِنُ بِأَنَّهُ رَهَنَ كَذَا مَالًا وَسَلَّمَهُ وَشَهِدَ الشُّهُودُ بِأَنَّ الْمُرْتَهِنَ أَقَرَّ بِارْتِهَانِهِ مَالًا وَلَمْ يَصِفُوا أَوْ يُعَيِّنُوا الْمَرْهُونَ فَتُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ وَيُجْبَرُ الْمُرْتَهِنُ عَلَى بَيَانِ الْمَالِ اُنْظُرْ الْمَادَّةَ ( 1579 ) وَالْقَوْلُ فِي هَذَا قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ ( الْهِنْدِيَّةُ فِي الْبَابِ الثَّانِي عَشَرَ مِنْ الرَّهْنِ ) .
كَمَا لَوْ أَنَّ الْمُرْتَهِنَ بَعْدَ إقْرَارِهِ أَخْذَ مَالٍ رَهْنًا أَبْرَزَ دِرْهَمًا وَقَالَ : هَذَا هُوَ الرَّهْنُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ مَعَ الْيَمِينِ ( الْبَزَّازِيَّةُ فِي الْفَصْلِ الْخَامِسِ مِنْ الشَّهَادَةِ ) .
سَادِسًا - يُشْتَرَطُ أَنْ لَا يَكُونَ الْمَرْهُونُ مَجْهُولًا بِدَرَجَةٍ تَقْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ فِي صَدَدِ الضَّمَانِ .(1/242)
بِنَاءً عَلَيْهِ إذَا رَهَنَ شَخْصٌ رَأْسَيْ غَنَمٍ مُقَابِلَ ثَلَاثِينَ ذَهَبًا وَشَرَطَ أَنْ يَكُونَ الْوَاحِدُ مِنْهُمَا مَرْهُونًا مُقَابِلَ عَشْرِ ذَهَبَاتٍ وَالْآخَرُ مُقَابِلَ عِشْرِينَ ذَهَبًا وَلَمْ يُصَرَّحْ أَيُّهُمَا الْمَرْهُونُ مُقَابِلَ الْعَشْرِ وَأَيَّهمَا مُقَابِلَ الْعِشْرِينَ يَكُونُ الرَّهْنُ فَاسِدًا ؛ لِأَنَّهُ عِنْدَ هَلَاكِ أَحَدِ رَأْسِ الْغَنَمِ لَا يُعْلَمُ وَجْهُ الضَّمَانِ وَلَا يُعْلَمُ أَيْضًا أَيُّهُمَا يَجِبُ اسْتِرْدَادُهُ إذَا أَوْفَى الدَّيْنَ الْعِشْرِينَ ذَهَبًا مَثَلًا ( أَبُو السُّعُودِ حَاشِيَةُ الْكَنْزِ ) .
وَلَا يُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ الرَّهْنِ أَنْ يَكُونَ الْمَرْهُونُ مِلْكَ الرَّاهِنِ .
وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ يَجُوزُ لِلشَّخْصِ أَنْ يَرْهَنَ مَالَ الْآخَرِ بِإِذْنِهِ وَيُطْلَقُ عَلَى هَذَا الرَّهْنُ الْمُسْتَعَارُ كَمَا لَهُ أَنْ يَرْهَنَهُ بِدُونِ إذْنِهِ بِالْوِلَايَةِ أَوْ بِالْوِصَايَةِ اُنْظُرْ شَرْحَ الْمَادَّةِ ( 701 ) وَالْمَادَّةَ ( 708 ) ( الْهِنْدِيَّةُ فِي الْبَابِ الْأَوَّلِ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ مِنْ الرَّهْنِ ) .
زاد المعاد - (ج 5 / ص 715)
ذِكْرُ حُكْمِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي مَنْعِ الرّجُلِ مِنْ بَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَهُ
[(1/243)
ص 716 ] السّنَنِ " و " الْمُسْنَدِ " مِنْ حَدِيثِ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللّهِ يَأْتِينِي الرّجُلُ يَسْأَلُنِي مِنْ الْبَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدِي فَأَبِيعُهُ مِنْهُ ثُمّ أَبْتَاعُهُ مِنْ السّوقِ فَقَال لَا تَبِعْ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ قَالَ التّرْمِذِي ّ : حَدِيثٌ حَسَنٌ . وَفِي " السّنَنِ " نَحْوُهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ وَلَفْظُهُ لَا يَحِلّ سَلَفٌ وَبَيْعٌ وَلَا شَرْطَانِ فِي بَيْعٍ وَلَا رِبْحُ مَا لَمْ يُضْمَنْ وَلَا بَيْعُ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ قَالَ التّرْمِذِيّ : حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ . فَاتّفَقَ لَفْظُ الْحَدِيثَيْنِ عَلَى نَهْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَنْ بَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَهُ فَهَذَا هُوَ الْمَحْفُوظُ مِنْ لَفْظِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَهُوَ يَتَضَمّنُ نَوْعًا مِنْ الْغَرَرِ فَإِنّهُ إذَا بَاعَهُ شَيْئًا مُعَيّنًا وَلَيْسَ فِي مِلْكِهِ ثُمّ مَضَى لِيَشْتَرِيَهُ أَوْ يُسَلّمَهُ لَهُ كَانَ مُتَرَدّدًا بَيْنَ الْحُصُولِ وَعَدَمِهِ فَكَانَ غَرَرًا يُشْبِهُ الْقِمَارُ فَنُهِيَ عَنْهُ .(1/244)
وَقَدْ ظَنّ بَعْضُ النّاس أَنّهُ إنّمَا نَهَى عَنْهُ لِكَوْنِهِ مَعْدُومًا فَقَالَ لَا يَصِحّ بَيْعُ الْمَعْدُومِ وَرَوَى فِي ذَلِكَ حَدِيثًا أَنّهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّم نَهَى عَنْ بَيْعِ الْمَعْدُومِ وَهَذَا الْحَدِيثُ لَا يُعْرَفُ فِي شَيْءٍ مِنْ كُتُبِ الْحَدِيثِ وَلَا لَهُ أَصْلٌ وَالظّاهِرُ أَنّهُ مَرْوِيّ بِالْمَعْنَى مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ وَغَلِطَ مَنْ ظَنّ أَنّ مَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ وَأَنّ هَذَا الْمَنْهِيّ عَنْهُ فِي حَدِيثِ حَكِيمٍ وَابْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ لَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مَعْدُومًا وَإِنْ كَانَ فَهُوَ مَعْدُومٌ خَاصّ فَهُوَ كَبَيْعِ حَبَلِ الْحَبَلَةِ وَهُوَ مَعْدُومٌ يَتَضَمّنُ غَرَرًا وَتَرَدّدًا فِي حُصُولِهِ .
مجلة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة - (ج 31 / ص 391)
حكم عقود التأمين.
عقود التأمين تشتمل في جوهرها على أمور تجعلها عقوداً محرمة من هذه الأمور ما يلي:
أولا: الغرر :
والنهي عن الغرر أصل عظيم من أصول البيوع يدخل تحته مسائل كثيرة مثل بيع المعدوم وبيع المجهول وبيع ما لا يقدر البائع على تسليمه وبيع ما لم يتم ملك البائع له والأصل في هذا حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: "نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الحصاة وعن بيع الغرر"رواه مسلم [14] . الغرر: الخطر.
والغرر مناط البطلان عند جميع العلماء [15] . وهو متحقق في عقود التأمين بشكلٍ ظاهر لا يجادل فيه عاقل, فكل واحد من المتعاقدين لا يدرى كم يعطي ولا كم يأخذ فهو إذا عقد على مجهول فيه مخاطرة عظيمة.
وقد أورد التقنين المدني عقد التأمين ضمن العقود الاحتمالية أو عقود الغرر وبيان ذلك أن المُؤَمن والمُؤَمن له لا يعرفان وقت إبرام العقد مقدار ما يأخذ كل منهما ولا مقدار ما يعطي كل منهما إذ أن ذلك متوقف على وقوع الكارثة أو عدم وقوعها [16] .(1/245)
من هنا نعلم أن وجود الغرر والمخاطرة في عقود التأمين من الأمور الواضحة وضوح الشمس في رابعة النهار بل إن الغرر والمخاطرة فيها أبين وأظهر من مثل صورة بيع الحصاة [17] وبيع المنابذة [18] وبيع الملامسة [19] وغيرها مما ورد فيه النهى الصريح لما فيها من الغرر الظاهر.
ومن الغرر أيضاً في عقد التأمين الجهل بأجل العقد وذلك أن الخطر وهو محل عقد التأمين لا يعلم هل يقع أم لا؟ وإن وقع فلا يعلم متى يقع؟ وعدم العلم بوقوعه ووقت وقوعه من شروط العقد الواجبة في التأمين وهو أن يكون الخطر غير محقق الوقوع وهذا هو العنصر الجوهري في عقد التأمين [20] .. فأي غرر أكثر وأشد مما في هذا العقد..
ومن العجيب أن يغالط بعض المنتسبين إلى الفقه فينازع في أن التأمين من العقود الاحتمالية كما فعل مصطفى الزرقا [21] مع وضوحه كما تقدم.
شبه المخالفين في الغرر في عقد التأمين والرد عليها:
ا- قال بعضهم أنه ليس من عقود الغرر المحرمة بدعوى أن ما ألفه الناس وتعارفوا عليه دون ترتب نزاع يكون غير منهي عنه [22]
وهذه دعوى باطلة فإن التراضي بين المتعاقدين لا يصير العقود المحرمة حلالاً وقد كانت كثير من صور عقود الغرر مألوفة في عهد الجاهلية ومع ذلك نهى الشرع عنها لأنها من أكل أموال الناس بالباطل كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُم} [23] . والمعنى تجارة لا غرر فيها ولا مخاطرة ولا قمار وهذا أمر متفق عليه عند أهل العلم [24] ..
ومن المعلوم أن اتفاق المتعاقدين على المعاملات الربوية وتراضيهما عليها وكون ذلك لا يؤدى إلى نزاع بينهما لا يجعل هذه المعاملات مشروعة فكذا هنا.(1/246)
2- دعوى أن عقود التأمين من قبيل التعاون بين مجموعة من الناس وفي التعاون والتبرع يغتفر الغرر الكثير استنادا لقول مالك رحمه الله في تصرفات الإحسان الذي لا يقصد به تنمية المال كالصدقة والهبة والإبراء [25] .
وبناء على ذلك حاولوا أن يجعلوا عقد التأمين من هذا الباب كما فعل السنهوري حيث ذكر أن التأمين لا يفهم على الوجه الصحيح إلا إذا نظر إلى الجانب الآخر وهو جانب العلاقة بين المُؤَمن ومجموع المُؤَمن لهم حيث يكون المُؤَمن وسيطاً بينهم ينظم تعاونهم جميعاً على مواجهة الخسارة التي قد تصيب بعضهم [26] .
يقول السنهوري عن الجانب الآخر من عقد التأمين - على حد تعبيره- "إنه يبر ز التأمين في ثوبه الحقيقي ويبين أنه ليس إلا تعاوناً منظما تنظيماً دقيقاً بين عدد كبير من الناس معرضين جميعاً لخطر واحد حتى إذا تحقق الخطر بالنسبة إلى بعضهم تعاون الجميع على مواجهته بتضحية قليلة يبذلها كل منهم يتلافون بها أضرارًا جسيمة تحيق بمن نزل الخطر به منهم لولا هذا التعاون, وشركة التأمين ليست في الواقع من الأمر إلا الوسيط الذي ينظم هذا التعاون على أسس فنية صحيحة... فالتأمين إذاً هو تعاون محمود, تعاون على البر والتقوى يبر به المتعاونون بعضهم بعضاً ويتقون به جميعاً شر المخاطر التي تهددهم فكيف يجوز القول بأنه غير مشروع؟ " [27] .
وقد استند على قول السنهوري هذا كل المشاغبين على مسألة وجود الغرر في عقود التأمين.
فهذا مثلاً علي الخفيف يقرر نفس المعنى في بحثه عن التأمين [28] . وكذا محمد سلام مدكور حيث يقول: "إن شركات التأمين تقوم بدور الوسيط بين الأفراد المتعاونين" [29] . و الزرقا حيث يقول: "إن التأمين قائم على فكرة التعاون على جبر المصائب والأضرار الناشئة من مفاجآت الأخطار" [30] .(1/247)
ولو سلمنا القول بما ذهب إليه الإمام مالك رحمه الله فلا يصلح مستنداً لما ذهبوا إليه البتة لأنها لا تصح أبداً دعواهم أن عقد التأمين من قبيل التبرعات بل هو عقد معاوضة محضة ويتضح ذلك من التعريف القانوني لعقد التأمين [31] .فليس هناك شك أن عقد التأمين عقد معاوضة بين متعاقدين يلتزم بمقتضاه كل منهما بعوض مقابل ما يلتزم به الآخر وإذا كان كذلك فلا يجوز في مذهب من المذاهب الفقهية ما في عقد التأمين من غرر كثير وكبير ولا تعدو هذه الدعوى أن تكون مغالطة بعيدة عن الواقع الحقيقي لعقد التأمين.
ولا يجادل عاقل في أن مقصد شركات التأمين إنما هو تحقيق الربح الوفير لها من جراء اتجارها بدعوى توفير الأمن للمتعاقدين معها فلا يصح بحال دعوى أن هذه الشركات ليست إلا الوسيط الذي ينظم التعاون... إنها مغالطة للواقع.
3- حاول الزرقا دفع الغرر عن عقد التأمين بدعوى أن في عقد التأمين معاوضة محققة النتيجة فور عقده.. وأن الاحتمال فيه بالنسبة للمُؤَمن إنما هو بالنظر إلى كل عقد على حدة وأما بالنظر إلى مجموع العقود فإن التأمين يعتمد على أساس إحصائية تنفي عنه الاحتمال عادة.. وأما بالنسبة إلى المستأمن فإن الاحتمال معدوم؛ ذلك لأن المعاوضة الحقيقة في التأمين بأقساط إنما هي بين القسط الذي يدفعه المستأمن وبين الأمان الذي يحصل عليه وهو حاصل بمجرد العقد لأنه بهذا الأمان لم يبق بالنسبة إليه فرق بين وقوع الخطر وعدم وقوعه [32] .
وهذه المحاولة غير صحيحة أما بالنسبة للمُؤَمن فكل عقد يجريه فيه غرر كبير يوجب بطلانه والتحايل بلفت النظر إلى مجموع العقود لا يصح فإنه ليس له وجود في الخارج وإنما الذي له وجود هو العقد الغرر وهو يتضمن غرراً كبيراً من الجانبين.(1/248)
ومقتضى قوله بالصحة بالنظر إلى مجموع العقود يلزم منه أن العقد الباطل في ذاته إذا انضم إليه غيره مما يشبه في البطلان صار بهذا الانضمام صحيحاً وهو لازم باطل لا وجه له عند أحد من فقهاء المسلمين.
على أن دعوى زوال احتمال الغرر من مجموع العقود مغالطة ظاهرة فشركات التأمين لا يمكن أن تعرف مجموع ما سوف تأخذ وما تعطى وإنما تستعين بالإحصائيات لمعرفة صورة تقريبية وهذا لا ينفي عنها عنصر الاحتمالية... هذا وهناك أحداث وأخطار غير متوقعة تقلب كل توقعات المُؤَمنين فكيف يقال إنه يعتمد على أسس إحصائية تنفي عنه الاحتمال؟ وحاصل ما تقدم أن الغرر الكبير في عقود التأمين موجود رغم كل ما قالوه حتى بالنسبة لمجموع العقود وهذا يقتضي بطلانها على أية حال.
وأما بالنسبة للمُؤَمن له فالغرر متحقق لديه وقت العقد في أنه لا يدرى ماذا سيعطى وماذا سيأخذ وهذا كاف للحكم ببطلانه.. ودعوى أن القسط في مقابل الأمان دعوى غير صحيحة ذلك أن عقد التأمين مذكور فيه أن القسط في مقابل مبلغ والتأمين هكذا يقول شراح القانون [33] .
وأما الأمان فلا يقدر عليه إلا الله وشركات التأمين لا تستطيع أن تضمن عدم وقوع الخطر وإنما تعوض عن بعض آثاره بعد وقوعه.
وقول الزرقا: "لم يبق بالنسبة إليه- أي المُؤَمن له- فرق بين وقوع الخطر وعدمه ... الخ "مغالطة ظاهرة وهل يعقل ذلك فيمن يُؤَمن على حياته أو على أعضائه؟ أيستوي عنده أن يفقد حياته وأعضاءه أو أن يبقى حياً معافى؟ لا يستويان فكل هذا إنما هو تحايل ومغالطة لنفي الغرر من عقود التأمين وهو متحقق فيها على أية حال.
ومن خلال النظر إلى أركان هذا العقد وشروطه كما تقدم تصويره لا يراودنا أدنى شك في بطلانه.. ولا اعتبار بعد ذلك لأي دعاوى تتعلق في أمر خارج عن هذه الأركان والشروط لأن العبرة في الحكم على العقود إنما هو بالنظر إلى ما تضمنته من أركان وشروط.
ثانيا: الربا:(1/249)
عقد التأمين يتضمن الربا بنوعيه أما النسيئة فدائماً وأما الفضل فغالباً وذلك أنه عندما يضع الخطر المُؤَمن منه وتسلم شركة التأمين مبلغ التأمين المتعاقد عليه فإنه لا يخلو في الغالب من أن يكون أقل أو أكثر مما دفعه المُؤَمن له وفي هذه الحالة يتحقق ربا الفضل بسبب عدم تساوى البد لين وكذا ربا النسيئة لتأخر أحد البد لين وإن كان المبلغ مساوياً- وهذا نادر- تحقق ربا النسيئة لتأخر أحد البد لين لأن عقود التأمين لا تخرج عن الصرف إذ هي نقد بنقد وهذا واضح من تعريفه حيث أن المُؤَمن يلتزم بدفع مبلغ من المال في نظير قسط مالي وعقد الصرف يشترط فيه التقابض مطلقاً سواء اتحد الجنس أو اختلف ويشترط أيضاً التماثل عند اتحاد الجنس وهذا كله متحقق بين مبلغ التأمين وقسطه وبهذا يتبين أن عقود التأمين تشتمل على نوعي الربا.
والنصوص الواردة في طلب التماثل والتقابض في مبادلة المال الربوي بجنسه متواترة وقد أجمع المسلمون على مدلولها [34] .
شبه المخالفين في تضمن التأمين للربا والرد عليها:
ا- كما ادعوا في باب الغرر أن عقود التأمين من قبيل التعاون الذي يغتفر فيه الغرر ادعوا هنا أيضاً أن التأمين من أساسه قائم على فكرة التعاون على جبر المصائب فيغتفر ما فيه من ربا أو شبهة ربا [35] .
وهي دعوى مردودة كما تقدم فعقود التأمين ليست من قبيل التعاون وإنما هي عقود معاوضة وتجارة فلا يمكن حملها على تصرفات التبرع والإرفاق التي يغتفر فيها ما لا يغتفر في عقود المماكسة التي يقصد منها الربح.
2- حاول بعضهم أن يحصر شبهة الربا في بعض صور التأمين وهو ما يحصل في التأمين على الحياة حيث يشترط فائدة ربوية علاوة على مبلغ الأقساط التي يستفيدها إذا ظل حياً بعد مدة العقد ومن ثم يحكم على هذا الشرط وحده دون الحكم على نظام التأمين في ذاته ولذا يقترح الزرقا إلغاء شرط الفائدة في هذه الصورة من التأمين بحيث يرد مبلغ الأقساط بعينه دون فائدة [36] .(1/250)
والجواب عن هذا أن جوهر عقد التأمين لا يخلو من شبهة الربا حتى لو خلا من مثل هذا الشرط فإنه وإن انتفى التفاضل فإن النَسَاء متحقق على أية حال.
ثالثا: ا لقمار:
عقد التأمين يتضمن شبهة القمار وذلك أنه معلق على خطر قد يقع وقد لا يقع فهو يشبه في معناه معنى ميسر القمار وهو ما يتخاطر الناس عليه. قال ابن عباس: "كان الرجل في الجاهلية يخاطر الرجل على أهله وماله فأيهما قامر صاحبه ذهب بماله وأهله فنزلت الآية:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [37] .
وأي مخاطرة ومقامرة أشد من دفع مبلغ التأمين كاملاً مقابل قسط واحد فيما إذا وقع الخطر المُؤَمن عليه ففي مقابل ماذا دفع المُؤَمن هذا المبلغ الكبير؟ وكيف تكون المخاطرة والمقامرة إذا لم تكن هذه مخاطرة ومقامرة؟
والحقيقة أننا لو نظرنا إلى عناصر عقد المقامرة عند شراح القانون لوجدناها متوفرة في عقود التأمين ولذا قال السنهوري إنه إذا نظرنا إلى عقد تأمين بمفرده لم يعدُ أن يكون عقد مقامرة [38] .
شبه المخالفين في تضمن عقد التأمين للمقامرة والرد عليها:
وقد حاول الزرقا ومن على شاكلته إيجاد فروق بين عقد التأمين وبين القمار سوف أذكرها حسب ورودها في بحثه وأجيب عليها.
أ- يقول: "إن القمار لعب بالحظوظ ومقتلة للأخلاق... فأين القمار الذي هو من أعظم الآفات... من نظام يقوم على أساس ترميم الكوارث الواقعة على الإنسان في نفسه أو ماله... " [39] .(1/251)
والجواب عن هذا أن وجه الشبه بين عقد التأمين وبين القمار هو عنصر المخاطرة في كل منهما حيث أن عقد التأمين يكون على شيء غير محقق الوقوع وهو عنصر أساسي فيه وفي القمار أيضاً وهذا هو مناط التحريم وأما ما يقر بسبب القمار من العداوة والبغضاء والصد عن ذكر الله وعن الصلاة فهذا من حكمة التحريم فإن القمار حرام حتى ولو قدر خلوه من ذلك فكذا عقد التأمين حرام لتضمنه مناط التحريم وهو المخاطرة على أن نظام التأمين يقع فيه شيء من العداوة والبغضاء حين يأخذ أحد الطرفين في عقد التأمين مبلغاً كبيراً دون مقابل. وحتى لو سلمنا بأن القمار يؤدي إلى العداوة والبغضاء وعقود التأمين لا تؤدى إلى ذلك فإن معنى المخاطرة والمقامرة متحقق فيها على أية حال.
2- يقول: "إن عقد التأمين يعطى المستأمن طمأنينة وأماناً من نتائج الأخطار... فأين هذا الأمان والاطمئنان لأحد المقامرين في ألعاب القمار التي هي بذاتها الكارثة الحالقة؟" [40] ..
والجواب عن هذا أنه لو سلمنا جدلا أن في التأمين أماناً وطمأنينة لا توجد في المقامرة فإن هذا ليس له أثر في الحكم إذ أن العنصر الذي له أثر في الحكم هو عنصر المخاطرة في إجراء العقد على واقعة غير محققة في كل من التأمين والقمار وهذا لا صلة له بما يصحب العقد من خوف أو أمان فالمقامرة في عقد التأمين متحققة حتى لو سلمنا بهذا الفارق المزعوم.
3- يقول: "ومن جهة ثالثة عقد التأمين من قبيل المعاوضة وهذه المعاوضة مفيدة فائدة محققة للطرفين ففيها... ربح اكتسابي للمُؤَمن وفيها أمان للمستأمن... فأين هذه المعاوضة في القمار؟ وما هي الفائدة التي عادت على الخاسر فيه من ربح الفائز " [41] ..(1/252)
والجواب عن هذا أن كونه عقد معاوضة لا يمنع أن يكون فيه معنى القمار وأيضاً فإن مثل هذا الفارق لو سلم بوجوده لا أثر له في الحكم فعنصر المخاطرة الذي هو مناط التحريم متوفر على أية حال فلا يفيد بعد ذلك ما قاله الزرقا من أن التأمين معاوضة مفيدة للطرفين فسواء كانت مفيدة أو غير مفيدة فحكمها لا يتغير طالما اشتملت على عنصر يقتضي تحريمها.
وأخيراً فإن شراح القانون قد قرروا أنه بالنظر إلى عقد التأمين من جهة العلاقة بين المُؤَمن وأي من المستأمنين لا يعد أن يكون عقد مقامرة كما في قول السنهوري المتقدم وإذا تقرر ذلك فهو كاف في الحكم عليه بالتحريم ولا تأثير بعد ذلك للفروق التي ادعوها حتى ولو سلم بشيء منها.
مفاهيم خاطئة - (ج 95 / ص 4)
l مشروعية تضبيب الإناء بالفضة للحاجة.
l مشروعية الأكل من الغنيمة في دار الحرب للحاجة.
l مشروعية السلم مع أنه بيع معدوم دفعاً لحاجة المفاليس.
l مشروعية الاستصناع للحاجة مع أنه عقد على معدوم.
ومعنى الحاجة في هذه العقود والأفعال أن الأصل فيها الحرمة ثم أبيحت للحاجة، وهذا الفهم خطأ لما يلي:
إن قياس المنفعة المعدومة على العين المعدومة قياس خطأ لأنه قياس حكم على حكم وليس أحد الحكمين بأولى من الآخر في أن يكون أصلاً والآخر فرعاً، فالشارع حرم بيع المعدوم عندما نهى عن بيع حبل الحبلة وبيع ما ليس عندك في الوقت الذي أباح فيه الإجارة رغم أن المنفعة عند العقد تكون معدومة إلا أنها ممكنة الاستيفاء، فلماذا لا نقيس بيع المعدوم على إجارة المعدوم، فالذي جعل البيع أصلاً يقيس عليه لا يستطيع أن يمنع غيره من اعتبار الإجارة أصلاً فيبيح بيع المعدوم قياساً على الإجارة، وهذا كلام خطأ لأنه لا يقاس حكم على حكم، وإنما يلحق الفرع بالأصل في حكمه لوجود العلة الباعثة على التشريع. فلا يقال إن الأصل في الإجارة أنها حرام قياساً على البيع وأبيحت للحاجة، لا يقال ذلك لأنه قياس حكم على حكم.(1/253)
هذا من ناحية ومن ناحية أخرى فإن القياس على الإجارة كقياس الاقتراض بربا على الإجارة بجامع الحاجة، أي قياس الاقتراض للحاجة على الإجارة للحاجة، هذا القياس خطأ، لأن أدلة الإجارة لا يوجد فيها تعليل مطلقاً فوق أن تكون الحاجة هي العلة، قال تعالى: ?فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن? ، قال عليه الصلاة والسلام: «أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه»، وقال: «ومن استأجر أجيراً فليعلمه أجره»، وقال: «... ورجل استأجر أجيراً فاستوفى منه ولم يوفه أجره»، كما استأجر صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أريقط الليثي من الأزد دليلاً إلى المدينة. فأين التعليل بالحاجة في كل نصوص الإجارة، إلا أن توضع العلة من العقل مباشرة فيكون العقل مشرعاً ويؤدي بالتالي إلى التحلل من الأحكام، فإذا قرر العقل أننا بحاجة إلى تنظيم النسل أبحنا التعقيم وهكذا.(1/254)
وأما قياس إباحة العقود والتصرفات والأفعال المحرمة على الجعالة للحاجة فهو قياس خطأ أيضاً، إذ دليل إباحتها ما أخرجه البخاري من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: انطلق نفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في سفرة سافروها حتى نزلوا على حي من أحياء العرب، فاستضافوهم فأبوا أن يضيفوهم، فلدغ سيد ذلك الحي، فسعوا له بكل شيء لا ينفعه شيء، فقال بعضهم: لو أتيتم هؤلاء الرهط الذين نزلوا لعله أن يكون عند بعضهم شيء، فأتوهم فقالوا: يا أيها الرهط إن سيدنا لدغ، وسعينا له بكل شيء، لا ينفعه، فهل عند أحد منكم من شيء؟ فقال بعضهم نعم والله إني لأُرقي، ولكن والله لقد استضفناكم فلم تضيفونا، ما أنا براقٍ لكم حتى تجعلوا لنا جعلاً، فصالحوهم على قطيع من الغنم، فانطلق يتفل عليه ويقرأ: ?الحمد لله رب العالمين? فكأنما نشط من عقال فانطلق يمشي وما به قَلَبَه، قال فأوفوهم جعلهم الذي صالحوهم عليه، فقال بعضهم إقسموا، فقال الذي رقى: لا تفعلوا حتى نأتي النبي صلى الله عليه وسلم فنذكر له الذي كان، فننظر ما يأمرنا، فقدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكروا له فقال: وما يدريك أنها رقية؟ ثم قال: قد أصبتم إقسموا واضربوا لي معكم سهماً. فضحك النبي صلى الله عليه وسلم.
هذا هو دليل إباحة الجعالة، فمن أين فهم أنها إنما أبيحت للحاجة؟! والرهط لم يذبحوا ولم يأكلوا من القطيع شيئاً!! ثم إن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: واضربوا لي معكم سهماً، فإن كان الرهط محتاجين لم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم كذلك، ولا يقال إنهم ملكوا القطيع بالجعالة وملك منه الرسول صلى الله عليه وسلم بالهدية، لا يقال ذلك لأنه قال واضربوا لي معكم سهماً، فهو إنما ملك بنفس سبب ملكهم لا بسبب آخر.(1/255)
فإن قيل إن الجعالة عقد على مجهول، والجهالة آتية من كون المجعول له يمكن أن يبذل جهداً كبيراً أو قليلاً لإنجاز المنفعة، وهذا عقد على جهد مجهول الأصل فيه التحريم إلا أنه أبيح للحاجة، أجيب بأن العقد على مجهول ليس ممنوعاً بإطلاق، ألا ترى أن العقد على جهد الأجير الخاص مجهول، إذ أنه قد يعمل وقد لا يعمل، وقد يبذل جهداً كبيراً وقد يبذل جهداً قليلاً، ومع ذلك يستحق أجره كاملاً، والعقد صحيح. بينما عقد البيع على مجهول باطل، وضمان المجهول باطل، فأي هذه العقود هو الأصل؟ بيع المجهول أم ضمان المجهول أم الإجارة الخاصة على جهد مجهول أم الجعالة على جهد مجهول؟ فالأولان باطلان والثانيان جائزان، كل بدليله، وليس أحد هذه العقود أولى من غيره بأن يكون أصلاً، وهو من قبيل قياس حكم على آخر، وما قيل آنفاً في الإجارة على المعدوم يقال هنا.
وينبغي التنبيه إلى أن هناك فرقاً بين المجعول له والأجير الخاص، فالأول لا يستحق الجعل إلا بإنجاز المنفعة المعقود عليها فعلاً، أما الثاني فيكفيه الانقطاع للعمل ولو لم ينجز شيئاً ولم يبذل جهداً في حال لم يطلب منه.
أما القول بأن الحوالة في الأصل هي بيع دين بدين وهو حرام إلا أنها أبيحت للحاجة فقول خطأ، إذ أنها ليست بيعاً وإنما هي نقل حق من ذمة إلى ذمة، ودليل مشروعيتها قوله عليه الصلاة والسلام: «مطل الغني ظلم وإذا أتبع أحدكم على مليء فليتبع»، وهي فوق كونها ليست بيعاً، وليست استثناءً من عموم تحريم الدين بالدين، فإن دليلها ليس فيه ما يستفاد منه أنه علة، لا الحاجة ولا غيرها، فكيف يقال إنها أبيحت للحاجة؟!(1/256)
أما ضمان الدرك فهو من الضمان المباح أصلاً، إذ الضمان ضم ذمة الضامن إلى ذمة المضمون عنه في التزام الحق، ويشترط في الحق أن يكون واجباً أو يؤول إلى الوجوب، وضمان الدرك من النوع الثاني أي الذي يؤول إلى الوجوب، فالضامن يضمن الثمن الموجود في الصك عند استحقاق المبيع لسبب من الأسباب كأن يكون المبيع قد سبق بيعه أو ظهر فيه عيب أو ثبت نقص في وزنه أو مساحته، فإن الثمن في هذه الحالة يثبت في ذمة الضامن. وعليه فإن ضمان الدرك أو العهدة جائز بأدلة الضمان، إلا أنه ليس من النوع الواجب الثابت في الذمة وإنما هو من النوع الذي يؤول إلى الوجوب.
فإن قيل إنه ضمان لحق لم يثبت في ذمة البائع فصحيح إلا أنه آيل للوجوب كمن يقول لآخر تزوج فلانة وأنا أضمن المهر صح الضمان لأنه يجب بالزواج. أما إن كان الضمان لا في حق واجب ولا آيلاً للوجوب فإنه لا يصح وذلك كمن يقول لآخر: شارك فلاناً وأنا أضمن لك عدم فسخه للشركة، مع أن الشركة عقد جائز، يجوز للشريك أن يفسخه متى شاء فلا معنى للضمان.
والذي يهمنا ليس صحة نقل الإجماع ولا جواز ضمان الدرك أو بطلانه بل الذي يعنينا في هذا المقام هو الاستدلال بجوازه للحاجة مع أن الأصل بطلانه على رأي من يجيزه فيقاس عليه إباحة بعض المحرمات للحاجة. فهل أبيح ضمان الدرك للحاجة؟ أي هل الحاجة هي الباعث على تشريعه حتى يصح القياس عليه؟ والصحيح أن أدلة جوازه السنة والإجماع كقوله عليه الصلاة والسلام: «والزعيم غارم» فعموم الزعيم يشمل من ضمن حقاً واجباً ومن ضمن حقاً سيجب، وضمان الحق الذي سيجب هو ضمان الدرك وليس فيه التعليل بالحاجة لا منطوقاً ولا مفهوماً، وكذلك الإجماع المنقول، وكذلك حديث أبي قتادة. فمن أين جيء بالتعليل بالحاجة؟(1/257)
أما مسألة النظر للأجنبية في الصلح والمعاملات ونحوها فإن النظر إلى وجه المرأة وكفيها مباح لقوله تعالى: ?ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها? ، وقوله عليه الصلاة والسلام: «يا أسماء إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح أن يرى منها إلا هذا وهذا وأشار إلى وجهه وكفيه» فمن أين فهم أن النظر أبيح للحاجة؟ أي أن الحاجة كانت هي الباعث على الحكم، وبالتالي يجوز القياس؟ إلا أن الرجال والنساء مأمورون بالغض من البصر، وفي حديث جابر عند مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما وعظ النساء في يوم عيد قام متوكئاً على بلال فوعظهن يقول جابر: فقامت امرأة من وَسْط النساء سفعاء الخدين، فإذا كان جابر قد رأى سفع خديها يكون الرسول صلى الله عليه وسلم وبلال قد رأياه، ما يدل على إباحة النظر إلى وجه المرأة. فإن كان الرسول صلى الله عليه وسلم نظر لحاجة الوعظ والتعليم فما هي الحاجة في نظر جابر. فالنظر إلى وجه المرأة وكفيها جائز، ولا تعليل في الأدلة التي تبيح ذلك، وهو كافٍ في الصلح وإجراء المعاملات. إلا أننا مأمورون بالغض من البصر، أي أن لا نملأ أبصارنا عند النظر ولا نصوبه ونركزه.
وخلاصة القول أن القائل بهذه القاعدة أي أن الحاجة تنزل منزلة الضرورة يحتج بالنظر إلى المرأة ويقول إنما أبيح للحاجة مع أن الأصل تحريمه، وهذا ليس صحيحاً فإن الأصل في النظر إلى وجه المرأة وكفيها مباح بالأدلة المذكورة وغيرها، وليس الأصل التحريم واستثني في بعض الحالات فأبيح للحاجة.(1/258)
أما تضبيب الإناء بالفضة فجائز لما رواه البخاري من حديث أنس رضي الله عنه أن قدح النبي صلى الله عليه وسلم انكسر فاتخذ مكان الشعب سلسلة من فضة، وليس فيه تعليل بالحاجة ولا يفهم منه التعليل مطلقاً، على أننا منهيون عن الشرب في آنية الذهب والفضة، والقدح المضبب لا يسمى آنية ذهب ولا فضة، فإن كان من نحاس أو خشب وضبب بفضة فإنه لا يسمى إناء من فضة بل يبقى من خشب أو من نحاس ولا تنطبق عليه الأحاديث التي تنهى عن الشرب في آنية الذهب والفضة، والتعليل بالحاجة يعني أن الشرب في المضبب الأصل فيه أنه حرام كآنية الذهب والفضة وأبيح للحاجة، وليس الأمر كذلك، وحتى لو قيل إنه حلال أصلاً وإنه معلل بالحاجة فإن هذا التعليل غير موجود في الحديث.
وأما مسألة الأكل من الغنيمة في دار الحرب وأنه إنما جاز للحاجة فغير صحيح، ذلك أن الأدلة الواردة في جوازه لا يفهم منها التعليل بالحاجة، فمنها ما أخرجه البخاري عن ابن عمر قال: كنا نصيب في مغازينا العسل والعنب فنأكله ولا نرفعه. ومنها ما أخرجه مسلم وغيره عن عبد الله بن المغفل قال: أصبت جراباً من شحم يوم خيبر فالتزمته فقلت لا أعطي اليوم أحداً من هذا شيئاً فالتفت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم مبتسماً. فأين التعليل بالحاجة في هذين الدليلين، على أنه لو كانت الحاجة علة لما نهى صلى الله عليه وسلم أحد الصحابة عن أخذ الكبَّة من الخيط ولما أمر بأداء الخيط والمخيط أي الإبرة والخيط لأن الحاجة دائماً في الغزو قائمة لهما، فهذا تعليل مردود بالنصوص التي تأمر بأداء ما يحتاج إليه.(1/259)
واحتجوا أيضاً بجواز السلم على خلاف القياس لكونه بيع المعدوم دفعاً لحاجة المفاليس. وليس الأمر كذلك، فإن السلم جائز للمفلس وغير المفلس ودليله ليس الحاجة، فأدلته لم يرد فيها التعليل بالحاجة مطلقاً، ففي حديث ابن عباس عند مسلم: «قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وهم يسلفون في الثمار السنة والسنتين فقال: من أسلف في تمر فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم»، وحديث ابن أبي أوفى وعبد الرحمن بن أبزى: «كنا نصيب المغانم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان يأتينا أنباط من أنباط الشام فنسلفهم في الحنطة والشعير والزبيب إلى أجل مسمى. قال قلت ألهم زرع أو لم يكن لهم زرع؟ قالا ما كنا نسألهم عن
ذلك». فكل الأدلة الواردة في إباحة السلم ليس فيها ما يفيد أن العقد أبيح للحاجة، فقد يكون صاحب الثمر أو الزرع غنياً وقد يكون فقيراً.
واحتجوا بجواز الاستصناع للحاجة مع أنه عقد على معدوم، وهو خطأ. فأدلة جواز الاستصناع هي ما ورد في الصحيح من استصناعه صلى الله عليه وسلم للخاتم والمنبر، وليس فيها ما يفيد أن الاستصناع إنما أبيح للحاجة.
فكل هذه الأدلة لا يفهم منها التعليل بالحاجة لا صراحة ولا دلالة ولا استنباطاً ولا قياساً.
وعليه فإن القول بأن الحاجة تنزل منزلة الضرورة عامة كانت أو خاصة قول لا دليل عليه، يفسح المجال أمام الجريئين على دين الله أن يطلقوا العنان لعقولهم فيحلوا ما حرم الله اعتماداً على هذه القاعدة التي لا أساس لها.
=============
المضاربة بالأسهم: متاجرة، أم مقامرة؟
د. يوسف بن أحمد القاسم
</TD(1/260)
حدثني من أثق به: أن مساهماً في إحدى الشركات المتردية أو النطيحة، قد بلغه خبر مفاجئ لم يصدقه من أول وهلة، وهو أن الشركة التي ساهم فيها منذ سنين بطريق(الخطأ!!) قد أفاقت من سباتها، وسادت بين الشركات بعد ترديها في ظلمات ثلاث، فارتفع مؤشر قيمتها السوقية ـ بين عشية وضحاها ـ من (150) ريالاً إلى (2600) ريال، ودون سابق إنذار!! وكأن دعوة صالحة في آخر الليل قد وافقت ساعة استجابة، فانتشلتها من بين الركام، ومن الحضيض إلى القمة، فما كان من أخينا المساهم الذي لم يسدد باقي القيمة الاسمية لأسهمه ـ لعدم قناعته المسبقة بجدواها الربحي ـ لم يكن منه إلا أن امتطى سيارته، متجهاً إلى المقر العام لتلك الشركة، وحين وصل إلى المقر كانت المفاجأة الأخرى، وهي أن هذه الشركة المجدولة في قائمة الشركات المتداولة لا يديرها إلا موظف واحد، من جنسية عربية، ومن قارة أفريقية، وهذا وحده هو المدير، وهو المسؤول، وهو موظف الصادر والوارد...الخ.
وحين سأله أخونا عن باقي الموظفين، أفاده الموظف المسؤول بأن الباقي هم أعضاء مجلس الإدارة، الذين يجتمعون مرة ـ أو أكثر ـ في كل عام!
وأما واقع نشاطها، فحدث ولا حرج، وتسمع بالمعيدي خير من أن تراه!
سدَّد المساهم باقي القيمة الاسمية لأسهمه، ثم قفل راجعاً، وهو عاجز عن حل هذه المعادلة؛ إذ كيف تبلغ القيمة السوقية لأسهم هذه الشركة أكثر من ألفي ريال، وهي بهذه الحال من الضعف والخور، وقلة ذات اليد.!! فما كان جوابه لنفسه إلا أن قال: ربما كان بفعل خارج عن العادة وقانون الطبيعة، كعصا موسى الذي انقلب إلى حية، أو كالحجر الذي انبجست منه اثنتا عشرة عيناً.(1/261)
فأجابته نفسه اللوامة: بأن هناك فارقاً بين واقع هذا الحجر، وواقع تلك الشركة، والفارق بينهما هو الفارق بين الحقيقة والخيال (أو السراب)، فالحجر قد أصبح بقدرة الله تعالى اثنتا عشرة عيناً، قد علم كل أناس مشربهم، ولهذا قال الله تعالى عقب ذلك: " كلوا واشربوا من رزق الله".
وأما الواقع الآخر، فهو أشبه بسراب (بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً) وأنى للظمآن أن يروى من السراب!! وبذلك انتهت فصول القصة، ولكن لم تقف آثارها عند هذا الحد.
فذلك السراب وإن وجده بعض المضاربين شيئاًَ، إلا أنه قد وجده كثيرون لا شيء، وجدوه كذلك وجرَّبوه. ولذا ترى هؤلاء العارفين بالسراب، يصفون أسهم هذه الشركة ـ وأمثالها ـ مما لا تتفق قيمتها السوقية، مع واقع ربحها وقوة استثمارها، بأن هذه الأسهم لها بطن من دون أرجل! حيث قد وصلت أسعارها إلى أرقام فلكية من دون سند اقتصادي حقيقي, حتى قرأت لغير واحد من خبراء المال والاقتصاد، من يصف المضاربة بهذه الأسهم بأنه ضرب من القمار! فهل هي قمار حقاً؟ أم هي مجرد مخاطرة؟ وهل كل مخاطرة قمار، أم لا؟ وإذا لم تكن قماراً، فهل يتجه القول بتحريمها لأنها نوع من أنواع الغرر، أو لما تشتمل عليه من المفاسد الراجحة؟
هذه التساؤلات أضعها بين يدي أهل العلم والبصيرة ليمعنوا النظر في هذه المسألة الشائكة، والتي أصبحت محل جدل وخلاف بين المعاصرين، وما هذا البحث المتواضع إلا مساهمة في إثراء هذا الموضوع, ولو بإثارة تساؤل ليس إلا، فأقول:
قبل الدخول في الموضوع، أنبه هنا بأن مقصودي من المضاربة: المتاجرة، كما هو المفهوم الشائع، لا المضاربة المصطلح عليها بين الفقهاء.
ثم إنه لا ريب أن الأصل في المعاملات الحل، ولهذا فإن الذي يطالب بالدليل، هو مدعي التحريم، لا العكس، وهذا أمر معلوم لدى أهل العلم، ومقرر في كتبهم.
وتعليقاً على التساؤل أقول:(1/262)
لا يخفى على كل مراقب للسوق ـ ولمؤشر الشركات المساهمة تحديداً ـ أن القيمة السوقية لأسهم العديد من الشركات يرتفع ويهوي في غمضه عين، وربما يستمر هذا الارتفاع أو الانخفاض الحاد لفترة أسبوع، أو أقل أو أكثر، وبعد هذه المدة قد يصبح المضارب ثرياً في لمحة بصر، وقد يكون الواقع عكسياً فينحدر إلى مستوى تحت خط الفقر، لا سيما إن كان حاصلا على مال المضاربة بطريق القرض، ونحو ذلك، ولهذا حذر كثير من الاقتصاديين من المجازفة في الدخول بكل ما يملكه المضارب، لئلا تقع الكارثة. وهنا أقول: هل هذه المخاطرة قمار، كما سماها بعض الكتَّاب المهتمين بالسوق السعودية؟
الواقع أن المخاطرة أعم من القمار، فكل قمار مخاطرة، وليس كل مخاطرة قماراً.
ولشيخ الإسلام ابن تيمية كلام نفيس حول المخاطرة والقمار، فإنه اعتبر المخاطرة من المظاهر الطبيعية في المعاملات، ومن ثَمَّ فهي جائزة شرعاً، واعتبرها في موضع آخر من القمار المحرم، والحقيقة أن هذا الاختلاف في كلامه إنما هو من اختلاف التنوع، وليس من اختلاف التضاد؛ لأنه يمكن الجمع بين كلامه في الموضعين، فأما الموضع الأول الذي صرح فيه بالجواز، فهو في مختصر الفتاوى المصرية (ص532) حيث قال: "أما المخاطرة، فليس في الأدلة الشرعية ما يوجب تحريم كل مخاطرة، بل قد عُلِم أن الله ورسوله لم يحرما كل مخاطرة" ثم قال في (ص533)" "وكذلك كل من المتبايعين لسلعة، فإن كلاً يرجو أن يربح فيها، ويخاف أن يخسر، فمثل هذه المخاطرة جائزة بالكتاب والسنة والإجماع، والتاجر مخاطر" أهـ.(1/263)
وأما الموضع الثاني الذي صرح فيه بالمنع، فهو في كتابه العقود (ص229) حيث قال:"فإذا قيل: فهل يصح بيع المعدوم، والمجهول، والذي لا يقدر على تسليمه؟ قيل: إن كان في شيء من هذه البيوع أكل مال بالباطل لم يصح، وإلا جازت، وإذا كان فيها معنى القمار، ففيها أكل مال بالباطل، وإذا كان فيها أخذ أحدهما المال بيقين، والآخر (على خطر) بالأخذ والفوات، فهو مقامر، فهذا هو الأصل الذي دل عليه الكتاب والسنة، وهو المعقول الذي تبين به أن الله أمر بالمعروف، ونهى عن المنكر، وشرع للعباد ما يصلحهم في المعاش والمعاد. فإذا باعه ثمر الشجر سنين، فهذا قمار؛ لأن البائع يأخذ الثمن، والمشتري (على الخطر)، وكذلك بيع الحمل، وحبل الحبلة، ونحو ذلك" أ هـ
وهذا الكلام النفيس، يمكن الجمع بينه وبين الذي قبله، بأن شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ أجاز مطلق المخاطرة، كما في الموضع الأول، ولم يجز المخاطرة المطلقة، كما في الموضع الثاني، ووجه ذلك: أن كل معاملة لا تخلو من مخاطرة، وهذا ما لا يمكن منعه؛ لأنه مما يشق التحرز منه، ولأن يؤدي إلى المنع من كثير من المعاملات الجائزة، ويمكن ضبط هذه المخاطرة الجائزة بما كان الغالب فيها السلامة، كما يفهم هذا من كلام شيخ الإسلام حيث قال بعد كلامه الآنف الذكر ما نصه: "وإذا أكراه عقاره سنين جاز ذلك، ولم يكن هذا مقامرة؛ لأن العادة جارية بسلامة المنافع، ولا يمكنه أن يؤجر إلا هكذا، ولا مخاطرة فيها، فإن سلمت العين استقرت عليه الأجرة، وإن تلفت المنافع سقط عنه من الأجرة بقدر ما تلف من المنفعة فليست الإجارة معقودة عقداً يأخذ به أحدهما مال الآخر مع بقاء الآخر على الخطر، بل لا يستحق أحدهما إلا ما يستحق الآخر بدله" أهـ . هذا بالنسبة لمطلق المخاطرة.(1/264)
أما المخاطرة المطلقة، فهي التي اعتبرها مقامرة، ويمكن ضبطها بما كان الغالب فيها الخسارة أو العطب، ولهذا حرَّم الله تعالى بيع المعدوم وبيع المجهول، وما لا يقدر على تسليمه، وبيع حبل الحبلة، وبيع الثمرة قبل بدو صلاحها، فالبائع يضمن الثمن، وأما المشتري فهو على خطر بالأخذ والفوات، وقد اصطلح كثير من الفقهاء على تسمية هذا النوع من البيوع غرراً، وسماه شيخ الإسلام غرراً وقماراً، كما في كتابه العقود (ص227), حيث قال: "إن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ نهى أن يكون الغرر مبيعاً، ونهى أن يباع ما هو غرر، كبيع السنين، وحبل الحبلة، وبيع الثمرة قبل بدو صلاحها، وعلل ذلك بما فيه من المخاطرة التي تتضمن أكل المال بالباطل، كما قال: (أرأيت إذا منع الله الثمرة بم يأكل أحدكم مال أخيه بغير حق) وهذا هو القمار، وهو المخاطرة التي تتضمن أكل المال بالباطل، فإنه متردد بين أن يحصل مقصوده بالبيع، وبين أن لا يحصل، مع أن ماله يؤخذ على التقديرين، فإذا لم يحصل كان قد أكل ماله بالباطل" أ هـ.
وبهذا تعلم أن شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ يرى بأن مفهوم القمار أوسع من المفهوم الذي عليه كثير من أهل العلم، وهو أن القمار: التردد بين الغنم والغرم. فهذا عنده من القمار، وكذلك المخاطرة التجارية التي يتردد فيها حظ أحد المتعاقدين بين الأخذ والفوات، فهي عنده من القمار، وهو ما يعبِّر عنه بعض الفقهاء بالغرر.
بقي أن يقال: وهل في المضاربة بالأسهم مخاطرة مطلقة, بحيث يتردد فيها حظ المشتري بين الأخذ والفوات؟
وأترك الجواب لما نشر في جريدة الرياض في عددها رقم: (13752) الصادر يوم الجمعة (18/1/1427هـ ) تحت عنوان (سوق الأسهم يفقد 80.2 مليار ريال في دقائق): "... أدى الانخفاض السريع إلى إحداث حالة ذعر وخوف لدى المتداولين من حدوث نزول تصحيحي شامل جعلهم يتدافعون على البيع... الأمر الذي جعل القيمة السوقية للسوق تنخفض( 80.2 ) مليار ريال في دقائق..."(1/265)
وكثيراً ما نقرأ مثل هذا الخبر في صحفنا المحلية، حتى إن كثيراً من المضاربين قد لا يدركه الوقت لبيع ما لديه من أسهم، بسبب الانهيار المفاجئ والسريع للأسهم، بل امتدت موجة هبوط أسعار الأسهم لتقضي على عدد من المواطنين الذين توفوا نتيجة تعرضهم لأزمات قلبية بعد انهيار رؤوس أموالهم بين عشية وضحاها، وأصبحنا نسمع عن تدافع بعض السعوديين نحو عيادات الأطباء، مصابين بارتفاع في ضغط الدم، وغير ذلك.
وهذا الواقع المؤسف يقودنا إلى نقطة أخرى في الموضوع وهي أنه على القول بأن المضاربة بالأسهم ليست من المخاطرة المحرمة، فما هو مدى حجم المفاسد الناتجة عن المضاربة بالأسهم على الفرد والمجتمع؟ هل هي مفاسد راجحة فيمنع منها لهذه العلة، أو هي مرجوجة مغمورة في مصالحها الراجحة فتباح؟
والجواب على هذا السؤال لابد أن يكون ملامساً للواقع، فلا يصح أن يكون الجواب نظرياً مجرداً عن حقيقة ما يجري في هذا السوق.
والمتأمل للواقع، ـ كما يحكيه رأي الجريدة الاقتصادية الصادرة يوم الأربعاء (1/2/1427هـ) ـ يجده أشبه بمشهد مسرحي، حيث دفع سعار تداول الأسهم القاصي والداني للانخراط في مذبحة السوق، إذ باع راعي الغنم أغنامه، وراعي الإبل إبله، وصاحب الورشة ورشته، وصاحب البقالة بقالته (بل وباع صاحب المنزل منزله واستأجر لأهله وأولاده منزلاً أو شقة، وباع مالك السيارة سيارته، واستأجر له سيارة بأجر شهري) بادروا بذلك مدفوعين ببريق سوق منتعشة، تغريه ليل نهار بربح وفير، وحلم يلوح على البعد بالثراء أو اليسر على أقل تقدير. وكثير من هؤلاء من هجر عمله أو حقله أو حانوته، واختطف ما لديه من نقود، واستل حتى ما في جيبه، ثم ألقاه في فوهة فم السوق التي لا تشبع، وتقول: هل من مزيد؟! والنتيجة لهذا الواقع، ما يلي:(1/266)
1- قيام المضاربين (البالغ عددهم مليونان تقريباً) بضخ السيولة في فوهة فم السوق، والنأي بها بعيداً عن القطاعات الإنتاجية والخدمية وغيرها، مما أدى إلى إحداث كساد في البلد لا يخفى على بصير.
2- أننا أصبحنا نقوم بعكس ما تفعله الأمم والشعوب، فعلى حين تستخدم هي أسواقها المالية من أجل توفير السيولة لتمويل المشاريع، قمنا نحن بضخ السيولة وجرفها بعيداً عن القطاعات الإنتاجية والخدمية وغيرها، كما صرح بذلك بعض خبراء الاقتصاد.
3-- أن هذه السيولة الكثيرة التي يضخها السوق، مع ما تعيشه الدولة من وفرة في الإيرادات النفطية ونحوها- بالإضافة إلى ذلك الكساد المشار إليه- ينذر بتضخم في النقد .
4- تعثر كثير من المضاربين الصغار، وهم الذين يمثلون الغالبية بين (الهوامير) مما أدى إلى انتكاسات خطيرة، كانت سبباً في تراكم الديون عليهم، وربما إلى وصولهم إلى مستوى تحت خط الفقر، وذلك في غمضة عين.
5- أن أسلوب المضاربة بالأسهم أفرز نقيض ما كان يحققه أسلوب الاستثمار بها، فالأسلوب الأول يقتصر على المضاربة على فروق الأسعار، أما الأسلوب الثاني ـ و هو الأصل ـ فهو الذي يعزِّز إنتاجية الشركة، ويعدو بها إلى مصاف الشركات المتقدمة، وحيث إن الأسلوب الأول يتحقق بدون عناء أو مشقة كان التركيز عليه، حتى أصبح تأثيره سلبياً على أسلوب الاستثمار، بل حتى أصبحت الشركات نفسها تراهن عليه، وتشغل ما لديها من سيولة فيه، بدلاً من استثمار هذه السيولة في مشاريع ترتقي بالشركة إلى الأمام.(1/267)
لهذا وغيره ـ مما تشهده الأسواق المالية عموماً من تلاعب، وعدم التزام بأحكام الشريعة في تعاملاتها، ـ صرَّح بعض العلماء بتحريم المضاربة بالأسهم، لما تؤدي إليه من أضرار بالغة بالفرد والمجتمع، ومن هؤلاء العلماء الدكتور الصديق محمد الأمين الضرير، كما صرح في بحثه عن الاختيارات المقدم إلى مجمع الفقه الإسلامي، في العدد السابع (1/270) حيث صرح فيه بأنه يميل إلى المنع. وهو رأي الشيخ الدكتور صالح الفوزان، وعلل تحريم المضاربة بها بأنها قمار محرم، كما شافه بذلك عدداً من طلابه.
وهذا الموضوع جدير بأن يعاد فيه النظر من قبل المجامع العلمية، وما يكتنف هذه المعاملات من مصالح ومفاسد، ومدى شبه هذه المضاربات بالقمار، حتى يصدر الناس عن رأي موثوق به، يدرس الموضوع من كل جوانبه، ويحدد مواقع الزلل، ويضع الحلول الشرعية المناسبة، والله تعالى أعلم، وأحكم.
================
عن بيع السلم وبيع المعدوم ... ...
المجيب ... أ.د. صالح بن عبد الله اللاحم
عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية ...
التصنيف ... المعاملات/السلم والاستصناع ...
التاريخ ... 03/05/1425هـ ...
السؤال ... ...
ما حدود بيع السلم؟ وهل هو في الثمار فقط، أم يدخل فيه الصناعة والتجارة؟ وإذا كان كذلك فما هو بيع المعدوم إذن؟
... ...
الجواب ... ...
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، وبعد:
السلم عند جمهور أهل العلم يكون في كل ما يمكن ضبطه بالصفة، فهو عقد على موصوف في الذمة، مؤجل بثمن مقبوض في مجلس العقد .
وقد ذهب جمع من أهل العلم إلى أنه رخصة من عدم جواز بيع المعدوم، للحاجة الماسة إليه.
وذهب أكثر أهل العلم إلى أنه على وفق القياس ، وأن البيع الذي نهى عنه أن يبيع ما لا يقدر على تسليمه ، لأن ما لا يقدر على تسليمه ليس عنده حقيقة، فيكون بيعه غرراً ومغامرة، أما بيع الموصوف المضمون في الذمة مع غلبة الظن بإمكان توقيته في وقته، فليس من هذا الباب في شيء ... ... ================(1/268)
أ.د. وهبة الزحيلي
العرف بين الشرع والقانون
العرف: هو ما اعتاده الناس وساروا عليه من كل فعل شاع بينهم، أو لفظ تعارفوا إطلاقه على معنى خاص لا تألفه اللغة، ولا يتبادر غيره عند سماعه.
وقد شمل هذا التعريف العرف العملي، والعرف القولي، وكل منهما إما عرف خاص أو عرف عام.
فالعرف العملي: هو ما اعتاده الناس في أفعالهم العادية أو معاملاتهم المدنية، مثل اعتيادهم أكل نوع معين من اللحوم أو الحبوب أو استعمال نوع خاص من الملابس والأدوات ونحوها، وتعارفهم قسمة المهر إلى معجل ومؤجل، وتعاملهم ببيع المعاطاة من غير وجود صيغة لفظية تدل على الإيجاب والقبول.
والعرف القولي أو اللفظي: هو استعمال الناس بعض الألفاظ أو التراكيب في معنى معين لا تألفه اللغة، مثل تعارفهم إطلاق الولد على الذكر دون الأنثى، وعدم إطلاق لفظ (اللحم) على السمك، وإطلاق لفظ (الدابة) على الفرس.
والعرف العام: هو ما يتعارفه غالبية أهل البلدان في وقت من الأوقات، مثل تعارفهم عقد الاستصناع، واستعمال لفظ (الحرام) بمعنى الطلاق لإزالة عقد الزواج، ودخول الحمام من غير تقدير الأجرة، أو مدة المكث، أو مقدار الماء المستهلك.
والعرف الخاص: هو ما يتعارفه أهل بلدة أو إقليم أو طائفة معينة من الناس، كإطلاق كلمة (الدابة) في عرف أهل العراق على (الفرس)، واعتبار دفاتر التجار حجة في إثبات الديون.
والعرف في اعتبار الشرع إما صحيح أو فاسد.
العرف الصحيح: هو ما تعارفه الناس دون أن يحرم حلالاً، أو يحل حراماً كتعارفهم تقديم عربون في عقد الاستصناع، وأن الزوجة لا تنتقل إلى بيت زوجها إلا بعد قبض جزء من المهر، وأن المهر قسمان: معجل ومؤجل، وأن ما يقمه الخاطب أثناء الخطبة يعتبر هدية، وليس جزءاً من المهر.(1/269)
وأما العرف الفاسد: فهو ما تعارفه الناس ولكنه يحلّ حراماً أو يحرم حلالاً، كتعارفهم أكل الربا، والتعامل مع المصارف بالفائدة، والمقامرة باليانصيب، واختلاط النساء بالرجال في الحفلات والأندية العامة، وتقديم الخمور والأنبذة، وإقامة محافل الرقص في الأفراح والحفلات، ترك الصلاة في الاحتفالات العامة.
وقد شرط الفقهاء شروطاً في العرف الذي يجوز في الشرع اعتباره والعمل بمقتضاه، من أهمها ألا يعارض نصاً شرعياً في القرآن أو في السنة، وأن يكون مطرداً أو غالباً أي مستمراً العمل به في جميع الحوادث، أو يجري العمل عليه في أغلب الوقائع. وبهذا يفترق عن الإجماع، فإن الإجماع مبناه اتفاق مجتهدي الأمة الإسلامية، أما العرف فلا يشترط فيه الاتفاق، وإنما يكفي فيه سلوك الأكثرية بما فيهم العوام والخواص، فهو لهذا أشبه بالسيرة.
وللعرف أهمية كبرى في مختلف التشريعات وعند كل الأمم، لذا يعتبر في القانون الوضعي أحد مصادر التشريع، بل إن كثيراً من نصوص القانون وأحكامه الآمرة أو المتعلقة بالنظام العام إنما هي مترجمة عن العرف الشائع في البلاد.
أما في الإسلام فهو عند التحقيق ليس دليلاً شرعياً مستقلاً، لأنه مبني في الغالب على مراعاة الضرورة أو الحاجة والمصلحة، أو دفع الحرج والمشقة، والتيسير في مطالب الشرع.
قال الشاطبي: العوائد الجارية ضرورية الاعتبار شرعاً، كانت شرعية في أصلها، أو غير شرعية، أي سواء اكانت مقررة بالدليل شرعاً أمراً أو نهياً أو إذناً، أم لا. أما المقررة بالدليل فأمرها ظاهر. وأما غيرها، فلا يستقيم إقامة التكليف إلا بذلك، لأن الشارع لما جاء باعتبار المصالح كما هو معلوم قطعاً، لزم القطع بأنه لابد من اعتباره العوائد، لأن أصل التشريع سببه المصالح، والتشريع دائم، فالمصالح كذلك، وهو معنى اعتباره للعادات في التشريع، ووجه آخر، وهو أن العوائد لو لم تعتبر لأدى إلى تكليف ما لا يطاق، وهو غير جائز أو غير واقع.(1/270)
ونطاق تأثير العرف عند الفقهاء يتحدد في أنه حجة في تفسير النصوص التشريعية، وقد يراعى في تشريع وتوليد وتعديل الأحكام، وبيان وتحديد أنواع الإلزامات والالتزامات في العقود والتصرفات والأفعال العادية حيث لا دليل سواه.
وعلى هذا فقد يترك النص الخاص ويؤخذ بالعرف عند الضرورة، وقد يخصص النص بالعرف أو تعامل الناس، وقد يقيد إطلاقه به، وقد يترك به القياس الاجتهادي أو الاستصلاح الذي لا يستند إلى نص، بل إلى مجرد المصلحة الزمنية، لأن العرف دليل الضرورة أو الحاجة، فهو أقوى من القياس ونحوه.
ومن الأدلة الشرعية على اعتبار العرف قول ابن مسعود (رض): ((ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن، وما رآه المسلمون سيئاً فهو عند الله سيئ))، وقد قال العلماء: ((الثابت بالعرف كالثابت بالنص))، ((العادة محكَّمة)) أي معمول بها شرعاً.(1/271)
وهناك كلام كثير عن العرف موضح في كتب القواعد والأصول. والذي يهمّنا هنا: هو أن الضرورة أو ما في حكمها كالحاجة، قد تكون باعثاً على تكوين العرف، فكثير من الأعراف ينبني على أساس من المشقة تستوجب التيسير في الحكم الشرعي، وعندئذ يكون العرف سبباً من أسباب إباحة الفعل أو تغيير الحكم، لأن في عدم اعتبار العرف حرجاً عظيماً على الناس، قال ابن عابدين: ((كثير من المسائل الفقهية ما يبنيه المجتهد على ما كان في عرف زمانه، بحيث لوك ان في زمان العرف الحادث لقال بخلاف ما قاله أولاً، ولهذا قالوا (أي العلماء) في شروط المجتهد: إنه لابد فيه من معرفة عادات الناس، فكثير من الأحكام تختلف باختلاف الزمان لتغير عرف أهله، أو لحدوث ضرورة، أو فساد أهل الزمان، بحيث لو بقي الحكم على ما كان عليه أولاً، لزم منه المشقة والضرر بالناس، ولخالف قواعد الشريعة المبنية على التخفيف والتيسير ودفع الضرر والفساد، لبقاء العالم على أتم نظام وأحسن أحكام. ولهذا ترى مشايخ المذهب (أي الحنفي) خالفوا ما نصَّ عليه المجتهد في مواضع كثيرة بناها على ما كان في زمنه لعلمهم بأنه لو كان في زمنهم لقال بما قالوا به أخذاً من قواعد مذهبه)).
ومن أمثلة العرف للضرورة أو للحاجة ما يأتي:
1 ـ أجاز المالكية، والحنفية على الراجح عندهم بيع الثمار المتلاحقة الظهور، وهي التي يظهر بعضها أولاً، ثم يظهر البعض الآخر تدريجاً كالبطيخ، والباذنجان، والعنب، والتين، والموز، والقثاء، ونحو ذلك، للتعامل به عرفاً للضرورة، مع أن بعض المبيع بيع لمعدوم، ومن المعلوم أن بيع المعدوم باطل، لما روى ابن عباس أنه قال: ((نهى رسول الله (ص) أن تباع ثمرة حتى تُطعِم، ولا يباع صوف على ظهر، ولا لبن في ضرع)).(1/272)
2 ـ أباح الشرع أو الفقه زمرة من العقود كعقود الاستصناع، والإجارة، والسلَم، والمعاطاة، ودخول الحمام من غير تقدير الأجر ومدة المكث ومقدار الماء المستعمل، والإجارة بالطعام والكسوة أو ببعض ما يعمل فيه العامل، وبيع الوفاء، لحاجة الناس أو لاضطرارهم إلى ذلك النوع من التعامل، مع أن الاستصناع والسلَم والإيجار عقود على أمر معدوم، فكان العرف فيها مخصصاً للنص العام المانع من جوازها، ومن المقرر عند الحنفية والمالكية: أن العرف العام يترك به القياس ويخصص به الدليل الشرعي.
وكذلك بيع المعاطاة: فيه مخالفة للنص المتطلب للإيجاب والقبول الدالين على الرضا صراحة، وهو قوله تعالى: (إلا أن تكون تجارةً عن تراض منكم) النساء 4/ 29، وقوله عليه الصلاة والسلام: ((إنما البيع عن تراض)). وكذلك عق الدخول إلى الحمام أو النزول في الفنادق أو الجلوس في المقاهي أو نحوها يشتمل على جهالة، ومع هذا أجيز للحاجة الماسة إليه.(1/273)
وأجاز الحنابلة والمالكية خلافاً للحنفية والشافعية استئجار الأجير بطعامه وكسوته بالرغم من جهالة الأجرة، لتعارف الناس ذلك وحاجتهم المستمرة إليه، كما في حالة استخدام الخدم والرعاة والمزارعين والظئر (المرضع) بالطعام والكسوة، وروي عن أبي بكر وعمر وأبي موسى رضي الله عنهم أنهم استأجروا الأجراء بطعامهم وكسوتهم، ودليل الجواز المتفق عليه بين المذاهب في الظئر قوله تعالى: (وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف) إلى أن قال سبحانه: (وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم فلا جناح عليكم إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف) البقرة 2/ 233، ففي مطلع الآية أوجب الله للمرضعات النفقة والكسوة على الرضاع بدون تحديد مقدار معين، وفي نهاية الآية نفى الله سبحانه الجناح في الاسترضاع مطلقاً، وجهالة الأجرة في تلك الحالة لا تفضي إلى المنازعة، لأن العادة جرت بالمسامحة مع المرضعات والتوسعة عليهن شفقةً على الأولاد، وللضرورة إلى حفظ الولد والحاجة إلى إبقائه.
واستدل الحنابلة والمالكية على تعميم المبدأ السابق بقوله (ص): ((إن موسى أجَر نفسه ثمان سنين أو عشر سنين على عفة فرجه وطعام بطنه)). وروى أبو هريرة أنه قال: ((كنت أجيراً لابنة غزوان بطعام بطني، وعقبة رجلي، أحطِب لهم إذا نزلوا، وأحدو بهم إذا ركبوا))، وبما أن مقادير الطعام والكسوة متعارف عليها، فقام العرف مقام تعيين الأجرة، وأما ((نهي الرسول (ص) عن قفيز الطحان))، وهو أن يعطَى الطحانُ أقفزة معلومة من الحب يطحنها بقفيز دقيق منها، فهو لم يثبت صحته عندهم، ولذا فإنهم أباحوا استئجار الأجير ببعض ما يعمل فيه فيما تعارفه الناس كإعطاء بعض الحب لدارسه أو حامله أو حاصده.
وبيع الوفاء كما ذكرت سابقاً: فيه تحايل على الربا، ومشتمل على شرط نافع للمشتري لا يقتضيه العقد، وهو فسخ البيع عند رد الثمن، إلا أن الحنفية أجازوه للضرورة أو للحاجة.(1/274)
ومثل ذلك تعارف الناس كثيراً من العادات التجارية والخطط السياسية والأنظمة الاقتصادية والإنمائية والاجتماعية التي تتطلبها حاجاتهم، وتستدعيها مصالحهم، فهي جائزة ما لم تصادم نصاً تشريعياً آمراً بنقيض المتعارف عليه أو ناهياً عنه أو ممنوعاً بنص خاص وارد فيه.
3 ـ يجوز شراء بعض الحاجيات الشخصية أو المنزلية كالساعة والمذياع والغسالة والثلاّجة مع ضمانة عدم العطب، أو التكفل بإصلاحها مدة معينة، لتعارف الناس واحتياجهم إلى ذلك. فهذا عرف خاص يعارضه نص حديث نبوي وهو أن النبي (ص) قد ((نهى عن بيع وشرط)). والحقيقة أن هذا العرف ليس بقاض على الحديث، بل على القياس، كما قال ابن عابدين، لأن الحديث معلل بوقوع النزاع المخرج للعقد عن المقصود به: وهو قطع المنازعة، والعرف مانع للنزاع، فكان موافقاً لمعنى الحديث، ولم يبق من الموانع إلا القياس أي القاعدة العامة، والعرف قاض عليه.
وهناك شروط أخرى هي في الأصل عند الحنفية شروط مفسدة لعقد البيع ونحوه من المعاوضات المالية، إلا أنها نظراً لتعارفها بين الناس وحاجتهم الماسة إليها، لم تعد من أسباب الفساد عامة، كأن اشترى انسان حنطة على أن يطحنها البائع دقيقاً، أو قماشاً على أن يخيطه البائع قميصاً، أو يشتري رجل حنطة على أن يتركها في دار البائع شهراً، أو يبيع شخص داراً على أن يسكنها البائع شهراً، ثم يسلّمها إليه، أو أرضاً على أن يزرعها سنة مثلاً، فهي كلها صحيحة بالرغم من وجود زيادة منفعة مشروطة لأحد المتعاقدين، مما يخل بمبدأ تعادل طرفي العقد، ويؤيده أن النبي (ص) ((اشترى من جابر بن عبدالله جملاً، واستثنى ـ جابر ـ حملانه عليه إلى أهله)).
4 ـ أجاز العلماء بالاتفاق الاستئجار على تعليم اللغة والأدب والحساب والخط والفقه والحديث ونحوها، وبناء المساجد والقناطر والثغور والرباطات، لتعارف الناس وللحاجة أو الضرورة الداعية لذلك، وإلا تعطلت المصالح العامة.(1/275)
وقال الإمامان مالك والشافعي: تجوز الإجارة على تعليم القرآن، لأنه استئجار لعمل معلوم بعوض معلوم، ولأن رسول الله (ص) ((زوّج رجلاً بما معه من القرآن))، فجاز جعل القرآن عوضاً، وقال رسول الله (ص): ((إن أحقَّ ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله))، وقد ثبت ((أن أبا سعيد الخدري رقى رجلاً بفاتحة الكتاب على جُعل، فبرئ، وأخذ أصحابه الجعل، فأتوا به رسول الله (ص)، فأخبروه، وسألوه، فقال: لعمري من أُكل برقيةِ باطل (أي كلام باطل)، فقد أكلتَ برقيةِ حقّ، كلوا واضربوا لي معكم بسهم)).
ثم أفتى المتأخرون من الفقهاء الآخرين كالحنفية وبعض الحنابلة بجواز أخذ الأجرة على تعليم القرآن وقراءته، والإمامة والأذان وسائر الطاعات من صلاة وصوم وحج، قياساً على الأفعال غير الواجبة، ولأن النبي (ص) أقر حج صحابي عن غيره، ونظراً لانقطاع عطايا المعلمين وأرباب الشعائر الدينية من بيت المال، فلو اشتغل هؤلاء بالاكتساب من زراعة أو تجارة أو صناعة، لزم ضياع القرآن وإهمال تلك الشعائر.
قال بعض الحنابلة: ما يؤخذ من بيت المال فليس عوضاً وأجرة، بل رزق للإعانة على الطاعة، فمن عمل منهم لله أُثيب.
هذا مع العلم بأن فتوى هؤلاء المتأخرين مخالفة لما هو مقرر في أصل المذهب الحنفي الذي يشترط لصحة الإجارة ألا يكون العمل المأجور له فرضاً ولا واجباً على الأجير قبل الإجارة، فهذه الطاعات عبادات له، والعبادة لا تؤخذ أجرة عليها، وقد روي أن عثمان بن أبي العاص قال: ((إن آخر ما عهد إليَّ النبي (ص) أن أتخذ مؤذناً لا يأخذ على أذانه أجراً)).
وأجاز الشافعية الإجارة لتجهيز ميت ودفنه، والتجهيز يشمل ا لغسل والتكفين، لأنه من فروض الكفايات، ولا يضر طروء تعين ذلك كالمضطر، فإنه يتعين إطعامه مع تغريمه البدل.(1/276)
5 ـ أجاز الإمام أحمد بن حنبل بيع العربون، لتعارفه بين الناس وحاجتهم إليه، ويؤيده ما روي عن نافع بن عبدالحارث: ((أنه اشترى لعمر (رض) دار السجن من صفوان بن أمية بأربعة آلاف درهم، فإن رضي عمر، كان البيع نافذاً، وإن لم يرض فلصفون أربع مئة درهم))، وضعف أحمد حيث ((نهى النبي (ص) عن بيع العربان))، هذا إلى أنه قد أصبحت طريقة البيع بالعربون في عصرنا الحاضر أساساً للارتباط في التعامل التجاري الذي يتضمن التعهد بتعويض ضرر الغير عن التعطل والانتظار.
6 ـ يجوز عند جماعة من العلماء البيع بثمن يترك تقديره إلى العادة والعرف: وهو البيع الشائع بين الناس في شراء السلع المعروفة السعر بثمن مؤجل. فقد يحدث كثيراً أن يعتاد الشخص التعامل مع تاجر خاص على الحساب الشهري، فيأخذ منه ما يحتاجه من بضائع تعلم للناس أثمانها عرفاً، ثم لا يدفع ثمنها إلا بعد مدة، وهذا حال كثير من الموظفين الذين يتعاملون مع باعة اللحوم والبقول والخرداوات ونحوها، على أن يدفع الحساب في آخر الشهر، فهو بيع لا ينص المتعاقدان فيه على مقدار الثمن، اتكالاً على تقديره والعلم به في العادة، ومع هذا فإنه لا بأس به، لأن المعلوم من طريق العادة كالمعلوم من طريق الشرط، والشارع لم يشترط في تحصيل العلم بالثمن طريقاً معينة، فكيفما حصل، كان كافياً في صحة التعاقد.
والمساهمة بالنصيب (بيع اليانصيب) المتعارفة الآن غير جائزة شرعاً، سواء أكانت لعمل خيري أم وطني أم إنساني أم لغير ذلك، لأنها من أنواع القمار التي حرمها الإسلام تحريماً قطعياً مهما كان الباعث عليها.(1/277)
7 ـ يجوز البيع بالتقسيط أو بثمن مؤجل عند الشافعية والحنفية وزيد بن علي والمؤيد بالله وجمهور العلماء، لتعارفه بين الناس واضطرارهم، أو حاجتهم إليه حسب ظروف الإنسان المادية، ولعموم الأدلة الدالة على جواز البيع مطلقاً. قال الشوكاني: وه الظاهر. وقد ألّف رسالة في ذلك سمّاها (شفاء العليل في كم زيادة الثمن لمجرد الأجل).
وخالف في هذا بعض العلماء وهم: زين العابدين علي بن الحسين والناصر والمنصور بالله والهادوية والإمام يحيى من الزيدية، فقالوا: يحرم بيع الشيء بأكثر من سعر يومه لأجل النساء، أي بسبب وجود الربا أو شبهة الربا فيه، واستدلوا بحديث لفظه ((مَن باع بيعتين في بيعة، فله أوكسهما أو الربا)).
ومعنى الحديث: أن يقول البائع لآخر: ((بعتك هذا المتاع بألف نقداً، أو بألفين إلى سنة، فخذ أيهما شئت أنت، وشئت أنا))، والمسألة هذه مفروضة في أن المشتري قبل قبولاً مبهماً، لم يعين فيه على أي نحو اتجه قبوله: هل إلى البيع نقداً أم إلى البيع مؤجلاً؟ أما لو قال: قبلت بألف نقداً، أو بألفين نسيئة، صح ذلك. والحقيقة أن في هذا الحديث طعناً في إسناده، والمشهور عن أبي هريرة هو اللفظ الذي رواه غيره، وهو ((النهي عن بيعتين، في بيعة))، ولا حجة فيه على المطلوب الذي تمسك به الفريق الثاني: أي حرمة بيع الشيء بأكثر من سعر يومه لأجل النساء.
8 ـ أجاز الإمام أحمد خلافاً للأئمة الثلاثة الآخرين البيع بما سيستقر أو ينقطع عليه السعر في المستقبل بتاريخ معين من غير تقدير الثمن أو تحديده وقت العقد، لتعارف الناس وتعاملهم به في كل زمان ومكان، وقد نصّ عليه الإمام أحمد، واختاره ابن تيمية الذي قال فيه: هو أطيب لقلب المشتري من المساومة، يقول: لي أسوة بالناس آخذ بما يأخذ به غيري، وغاية البيع بالسعر أن يكون بيعه بثمن المثل، فيجوز، كما يجوز المعاوضة بثمن المثل في هذه الصورة وغيرها، ولا تقوم مصالح الناس إلا بهز(1/278)
ولم يجز جمهور العلماء ذلك لما فيه من جهالة الثمن عند التعاقد.
وقد أقرّت المادة (64) من قانون أصول المحاكمات الحقوقية للدولة العثمانية هذا النوع من البيوع، كما أنها اعتبرت بيع المعدوم صيحاً بشرط ألا يكون وجوده مستحيلاً، وأيّد القانون المدني السوري والمصري مضمون هذه المادة، فأجاز أن تباع السلع بأثمان يحددها السوق في المستقبل، وأكثر ما يكون ذلك في تجارة الأقطان، إذ يتفق المتعاقدان على يوم معين يكون سعره قاضياً عليهما بما يظهر فيه من الثمن. وهذه الطريقة هي المسماة ببيع (الكنتراتو)، ويوم السعر الملزم فيه يسمى (يوم القطع).
والمراد بسعر السوق في القانون سعر المبيع وقت العقد، أو سعره في وقت مستقبل، وأما الذي أجازه فقهاء الحنابلة فالمراد به سعر السوق وقت البيع فقط، ولا يشمل البيع بسعر السوق في المستقبل، فإن هذه الحالة لا تجيزها قواعد الفقه الإسلامي.
9 ـ أجاز الحنابلة كل عقد أو شرط في عقد لم يخالف مقتضى العقد أو حكم الله ورسوله، مثل اشتراط المشتري صفة معينة في المبيع، أو اشتراط البائع استخدام السيارة التي باعها مثلاً مدة شهر أو أكثر، أو توصيل البائع الشيء المبيع لدار المشتري، أو تعليق التعاقد بأمر، مثل إن جاء والدي من السفر فقد بعتك المتاع الفلاني، وذلك للتعامل الجاري بين الناس على هذا النحو وحاجتهم إليه، ولقوله (ص): ((المسلمون على شروطهم)).
هذا، ومن الطبيعي أن يتبدل الحكم الشرعي بتبدل العرف، لأن القصد من الشريعة تحقيق المصالح، فإذا تبدل وجه المصلحة في عرف الناس، تبدل الحكم، لذا قال العلماء: ((لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان)).
===============
بيع ما لا يملك
* السؤال: ما حكم بيع ما لا يملكه الإنسان؟(1/279)
الجواب: البائع تارة يبيع شيئا موصوفا بالذمة، كأن يقول له: أبيعك سيارة جديدة، لونها كذا، وموديلها كذا، وهو في وقت البيع لم يملك السيارة، وتارة يبيعه سلعة معينة، وهو لا يملكها، كأن يبيعه هذه السيارة بعينها، وهو لا يملكها على أنه سيملكها فيما بعد، والثمن تارة يكون نقدا، وتارة يكون دينا، فهذه أربع صور: الأولى: المبيع موصوف، والثمن دين، الثانية: المبيع موصوف، والثمن حال، الثالثة: المبيع معين، والثمن دين، الرابعة: المبيع معين، والثمن حال، فالصورة الأولى: هي أن يكون المبيع غير المملوك موصوفا في الذمة غير معين، والثمن دين: أي مؤجل، كأن يكون الثمن أقساطا، مثل، أن يبيعه سيارة صفتها كذا وكذا بثمن مؤجل، فالبيع هنا: بيع دين بدين، فحتى يكون البيع حلالا عليه أن يقبض السيارة قبل التفرق، حتى لا يكون بيع دين بدين، وبيع الدين بالدين مجمع على تحريمه، انظر موسوعة "الإجماع 426/1"، وجاء في "بدائع الصنائع 148/5": "ولا ينعقد بيع الدين من غير من عليه الدين"، اهـ وجاء في "المدونة 192/3": " أرأيت لو أن لي على رجل دينا حالا أو إلى أجل قرضا أو من بيع، فاشتريت منه سلعة بعينها قبل محل الأجل، أو بعد محل أجل الدين فافترقنا قبل أن أقبض منه السلعة، والسلعة قائمة بعينها، أيفسد البيع بيننا في قول مالك أم لا؟ قال: قال مالك: من كان له على رجل دين فلا يبتعه بشيء من الأشياء إلا أن يقبضه مكانه ولا يؤخره"، اهـ وفي "المنتقى" للباجي "76/5": "وإذا بعت الدين من غير من هو عليه ففي كتاب ابن المواز أنه يجوز أن يؤخره بالثمن اليوم واليومين فقط، ولا يؤخر الغريم إذا بعته منه إلا مثل ذهابه إلى البيت، وأما أن تفارقه ثم تطلبه فلا يجوز، ووجه ذلك أن تأخير المبتاع إذا كان غيره من باب الكالئ بالكالئ، واليسير منه معفو عنه"، ومعنى: الكالئ بالكالئ: الدين بالدين، وانظر "المجموع 332/9"، و"كشاف القناع 265/3"، قال ابن مفلح في "الفروع 22/4":(1/280)
"وبيع موصوف غير معين يصح في أحد الوجهين اعتبارا بلفظه"، والثاني: لا، وحكاه شيخنا عن أحمد كالسلم الحال، والثالث: يصح إن كان ملكه، فعلى الأول حكمه كالسلم، ويعتبر قبضه أو ثمنه في المجلس في وجه، وفي آخر: لا، فظاهره لا يعتبر تعيين ثمنه، وظاهر "المستوعب" وغيره يعتبر وهو أولى، ليخرج عن بيع دين بدين، وجوز شيخنا يعني ابن تيمية بيع الصفة والسلم حالا إن كان في ملكه، قال: وهو المراد بقوله عليه السلام لحكيم بن حزام رضي الله عنه : "لا تبع ما ليس عندك" رواه الترمذي "1232"، والنسائي "4613"، وأبو داود "3503"، وابن ماجة "2187"، فلو لم يجز السلم حالا لقال: لا تبع هذا، سواء كان عنده أو لا، وأما إذا لم يكن عنده فإنما يفعله لقصد التجارة والربح، فيبيعه بسعر، ويشتريه بأرخص، ويلزمه تسليمه في الحال، وقد يقدر عليه وقد لا، وقد لا تحصل له تلك السلعة إلا بثمن أعلى مما تسلف فيندم، وإن حصلت بسعر أرخص من ذلك ندم المسلف، إذ كان يمكنه أن يشتريه هو بذلك الثمن، فصار هذا من نوع الميسر والقمار والمخاطرة، كبيع العبد الآبق، والبعير الشارد يباع بدون ثمنه، فإن حصل ندم البائع، وإن لم يحصل ندم المشتري، وأما مخاطرة التجارة فيشتري السلعة بقصد أن يبيعها بربح، ويتوكل على الله تعالى في ذلك، فهذا الذي أحله الله، اهـ وأما الصورة الثانية: وهي أن يكون المبيع غير المملوك موصوفا في الذمة والثمن حالا، فهذه الصورة تسمى عند الفقهاء بالسلم الحال، وفيها خلاف، فالجمهور: لا يجوز أن يكون السلم حالا، بل لا بد أن يكون مؤجلا، واختلفوا في قدر الأجل، ودليلهم: قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث: "من أسلف في شيء ففي كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم" رواه البخاري "2240"، ومسلم "1604"، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأجل، والأصل في الأمر الوجوب، ولأن السلم الأصل فيه النهي، لأنه بيع ما لا يملك، وإنما جوز رخصة للرفق والتيسير، ولا يحصل الرفق(1/281)
إلا بالأجل، وذهبت الشافعية إلى جواز السلم حالا، وهو اختيار ابن تيمية، ودليلهم: قياس الأولى، فإذا جاز السلم مؤجلا مع أن في الأجل ضربا من الغرر، جاز في السلم الحال، قال الشافعي في "الأم 95/3": "فإذا أجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم بيع الطعام بصفة إلى أجل، كان بيع الطعام بصفة حالا أجوز، لأنه ليس في البيع معنى إلا أن يكون بصفة مضمونا على صاحبه، فإذا ضمن مؤخرا ضمن معجلا، وكان معجلا أضمن منه مؤخرا"، اهـ وأجاز شيخ الإسلام السلم حالا بشرط أن يكون المبيع في ملكه، لأنه إذا كان حالا وليس عنده فقد يقدر على تسليمه، وقد لا يقدر، لأنه سيربح فيه، فيكون قد ربح فيما لم يضمن، وقد نهي عن ربح ما لم يضمن، انظر "الفروع 23/4"، واختلف القائلون باشتراط الأجل في أقل مدته على أقوال معروفة، من نصف يوم، إلى يوم، إلى ثلاثة أيام، إلى شهر..(1/282)
والظاهر أن اشتراط الأجل لا يصح، وحجة الشافعي رحمه الله في أن السلم الحال من باب الأولى قوية، وحديث النهي عن ربح ما لم يضمن رواه ابو داود "3504"، والترمذي "1234"، والنسائي "4630"، والدارمي "2602"، وأحمد "6628"، وغيرهم، وهو من رواية عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده، وفيه مقال مشهور، وجاء عند ابن حبان "4321" من طريق عطاء الخراساني عن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما ، وهو لم يسمع منه كما ذكر النسائي وغيره وهو في "المستدرك 2231، 2232" من طريق عطاء، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، فرجع إلى الإسناد الأول، وأما الصورة الثالثة والرابعة: وهى: أن يبيع سلعة معينة لا يملكها بثمن حال أو مؤجل، وهو بيع ما لا يملك، فقد روى أحمد في المسند "15312"، قال: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة عن أبي بشر عن يوسف بن ماهك يحدث عن حكيم بن حزام رضي الله عنه قال: "بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على ألا أخر إلا قائما قال: قلت يا رسول الله الرجل يسألني البيع وليس عندي أفأبيعه؟ قال: لا تبع ماليس عندك"، واختلف العلماء في معنى الحديث، وقال ابن القيم في "زاد المعاد 808/5": "وقد ظن بعض الناس أنه إنما نهي عنه لكونه معدوما، فقال: لا يصح بيع المعدوم، وروي في ذلك حديث أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع المعدوم، وهذا الحديث لا يعرف في شيء من كتب الحديث، ولا أصل له، والظاهر أنه مروي بالمعنى من هذا الحديث، وغلط من ظن أن معناهما واحد، وأن هذا المنهي عنه في حديث حكيم رضي الله عنه لا يلزم أن يكون معدوما، وإن كان، فهو معدوم خاص، فهو كبيع حبل الحبلة، وهو معدوم يتضمن غررا وترددا في حصوله، والمعدوم ثلاثة أقسام: الأول: معدوم موصوف في الذمة، فهذا يجوز بيعه اتفاقا، وإن كان أبو حنيفة شرط في هذا النوع أن يكون وقت العقد في الوجود من حيث الجملة، وهذا هو السلم، والثاني: معدوم تبع للموجود، وإن كان أكثر منه، وهو نوعان: نوع متفق(1/283)
عليه، ونوع مختلف فيه، فالمتفق عليه بيع الثمار بعد بدو صلاح ثمرة واحدة منها، فاتفق الناس على جواز بيع ذلك الصنف الذي بدا صلاح واحدة منه، وإن كانت بقية أجزاء الثمار معدومة وقت العقد، لكن جاز بيعها تبعا للموجود، وقد يكون المعدوم متصلا بالموجود، وقد يكون أعيانا اخر منفصلة عن الموجود لم تخلق بعد، والنوع المختلف فيه كبيع المقاثي والمباطخ إذا طابت، فهذا فيه قولان...(1/284)
ثم ذكر الخلاف، والثالث: معدوم لا يدرى يحصل أو لا يحصل، ولا ثقة لبائعه في حصوله، بل يكون المشتري منه على خطر، فهذا الذي منع الشارع بيعه لا لكونه معدوما، بل لكونه غررا، فمنه صورة النهي التي تضمنها حديث حكيم بن حزام رضي الله عنه "سبق تخريجه" وحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما الذي رواه البخاري "2136"، ومسلم "1526"، فإن البائع إذا باع ما ليس في ملكه ولا قدرة له على تسليمه ليذهب ويحصله ويسلمه إلى المشتري كان ذلك شبيها بالقمار، والمخاطرة، من غير حاجة بهما إلى هذا العقد، ولا تتوقف مصلحتهما عليه، وكذلك بيع حبل الحبلة، وهو بيع حمل ما تحمل ناقته، ولا يختص هذا النهي بحمل الحمل، بل لو باعه ما تحمل ناقته أو بقرته أو أمته، كان من بيوع الجاهلية التي يعتادونها، فقد ظن طائفة أن بيع السلم مخصوص من النهي عن بيع ما ليس عنده، وليس هو كما ظنوه، فإن السلم يرد على أمر مضمون في الذمة، ثابت فيها، مقدور على تسليمه عند محله، ولا غرر في ذلك، ولا خطر، بل هو جعل المال في ذمة المسلم إليه، يجب عليه أداؤه عند محله، فهو يشبه تأجيل الثمن في ذمة المشتري، فهو شغل لذمة المشتري بالثمن المضمون، وهذا شغل لذمة البائع في المبيع المضمون، فهذا لون، وبيع ما ليس عنده لون، ورأيت لشيخنا في هذا الحديث فصلا مفيدا، وهذا سياقه: قال للناس: في هذا الحديث أقوال: قيل: المراد بذلك أن يبيع السلعة المعينة التي هي مال للغير، فيبيعها ثم يتملكها ويسلمها إلى المشتري، والمعنى: لا تبع ما ليس عندك من الأعيان، ونقل هذا التفسير عن الشافعي، فإنه يجوز السلم الحال، وقد لا يكون عند المسلم إليه ما باعه، فحمله على بيع الأعيان، ليكون بيع ما في الذمة غير داخل تحته، سواء كان حالا أو مؤجلا، وقال آخرون: هذا ضعيف جدا، فإن حكيم بن حزام رضي الله عنه ما كان يبيع شيئا معينا هو ملك لغيره، ثم ينطلق فيشتريه منه، ولا كان الذين يأتونه، يقولون نطلب عبد فلان،(1/285)
ولا دار فلان، وإنما الذي يفعله الناس يأتيه الطالب، فيقول: أريد طعاما كذا وكذا، أو ثوبا كذا وكذا، أو غير ذلك، فيقول: نعم أعطيكه، فيبيعه منه، ثم يذهب فيحصله من عند غيره، إذا لم يكن عنده، فهذا هو الذي يفعله من يفعله من الناس، ولهذا قال: يأتيني الرجل يطلب مني المبيع ليس عندي، ولم يقل: يطلب مني ما هو مملوك لغيري، فالطالب: طلب الجنس، لم يطلب شيئا معينا كما جرت به عادة الطالب لما يؤكل ويلبس، إنما يطلب جنس ذلك الشيء، ليس له غرض في ملك شخص بعينه دون ما سواه مما هو مثله أو خير منه، ولهذا صار الإمام أحمد وطائفة إلى القول الثاني، فقالوا: الحديث على(1/286)
عمومه يقتضي النهي عن بيع ما في الذمة، إذا لم يكن عنده، وهو يتناول النهي عن السلم إذا لم يكن عنده، لكن جاءت الأحاديث بجواز السلم المؤجل، فبقي هذا في السلم الحال، والقول الثالث وهو أظهر الأقوال: أن الحديث لم يرد به النهي عن السلم المؤجل ولا الحال مطلقا، وإنما أريد به أن يبيع ما في الذمة مما ليس هو مملوكا له ولا يقدر على تسليمه، ويربح فيه قبل أن يملكه ويضمنه ويقدر على تسليمه، فهو نهي عن السلم الحال إذا لم يكن عند المستسلف ما باعه، فيلزم ذمته بشيء حال، ويربح فيه، وليس هو قادرا على إعطائه، وإذا ذهب يشتريه فقد يحصل وقد لا يحصل، فهو من نوع الغرر والمخاطرة، وإذا كان السلم حالا وجب عليه تسليمه في الحال، وليس بقادر على ذلك، ويربح فيه على أن يملكه ويضمنه، وربما أحال على الذي ابتاع منه، فلا يكون قد عمل شيئا، بل أكل المال بالباطل، وعلى هذا، فإذا كان السلم الحال والمسلم إليه قادرا على الإعطاء، فهو جائز، وهو كما قال الشافعي: إذا جاز المؤجل فالحال أولى بالجواز، ومما يبين أن هذا مراد النبي صلى الله عليه وسلم أن السائل إنما سأله عن بيع شيء مطلق في الذمة كما تقدم ، لكن إذا لم يجز بيع ذلك فبيع المعين الذي لم يملكه أولى بالمنع، وإذا كان إنما سأله عن بيع شيء في الذمة، فإنما سأله عن بيعه حالا، فإنه قال: أبيعه ثم أذهب فأبتاعه، فقاله له: "لا تبع ما ليس عندك"، فلو كان السلم الحال لا يجوز مطلقا لقال له ابتداء: لا تبع هذا، سواء كان عنده أو ليس عنده، فإن صاحب هذا القول يقول: بيع ما في الذمة حالا لا يجوز، ولو كان عنده ما يسلمه، بل إذا كان عنده فإنه لا يبيع إلا معينا، لا يبيع شيئا في الذمة، فلما لم ينهه النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك مطلقا، بل قال: لا تبع ما ليس عندك، علم أنه صلى الله عليه وسلم فرق بين ما هو عنده ويملكه، ويقدر على تسليمه، وما ليس كذلك، وإن كان كلاهما في الذمة، ومن تدبر هذا تبين له أن(1/287)
القول الثالث هو الصواب، اهـ كلام ابن القيم، وله بقية لم أنقلها، لأن المقصود قد تبين من كلامه، فإذا تبين هذا فيكون معنى الحديث: "لا تبع ما ليس عندك"، غير قوله: "لا تبع ما لا تملك"، لأن النهي عن بيع شيء ليس عنده أي لا يقدر على تسليمه، ولذلك أجاز الحنابلة صورا من بيع ما ليس عنده، منها: بيع المغصوب على رجل قادر على انتزاعه من غاصبه، وإن كان ليس عنده، قال ابن القيم في حاشيته على السنن: أنتم تجوزون للمغصوب منه أن يبيع المغصوب لمن يقدر على انتزاعه من غاصبيه، وهو بيع ما ليس عنده، ولكن لما كان البائع قادرا على تسليمه بالبيع، والمشتري قادرا على تسلمه من الغاصب، فكأنه قد باعه ما هو عنده، وصار كما لو باعه مالا وهو عند المشتري وتحت يده وليس عند البائع، والعندية هنا ليست عندية الحس والمشاهدة، فإنه يجوز أن يبيعه ما ليس تحت يده ومشاهدته، وإنما هي عندية الحكم والتمكين، وهذا واضح ولله الحمد ، اهـ كلام ابن القيم، ومنها أنهم أجازوا بيع غير المكيل والموزون والمذروع إذا باعه مالكه قبل قبضه، أو اشترى المكيل والموزون جزافا فباعه قبل قبضه جاز بيعه، مع أنه ليس عنده، ولم يقبضه، وفي بيع الشيء قبل قبضه خلاف بين أهل العلم: الأول: مذهب الشافعية وهو رواية عن أحمد، لا يصح بيع المبيع قبل قبضه مطلقا سواء أكان منقولا أم عقارا، وإن أذن البائع وقبض الثمن، لحديث حكيم بن حزام رضي الله عنه : "لا تبع ما ليس عندك" رواه الترمذي "1".
*** **************(1/288)