الخُلاصَةُ
في أحكام بِرِّ الوالدين
جمع وإعداد
الباحث في القرآن والسنة
علي بن نايف الشحود
الطبعة الأولى
2009 م-1430 هـ
ماليزيا
((بهانج- دار المعمور ))
(( حقوق الطبع لكل مسلم ))(/)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين،والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين،وعلى آله وصحبه أجمعين،ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .
أما بعد :
فإن الله تعالى قد أمر ببر الوالدين والإحسان إليهما،حيث قال:{وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} (24) سورة الإسراء
وأمر به النبي - صلى الله عليه وسلم - في أحاديث كثيرة،فعن أبي عَمْرٍو الشَّيْبَانِيِّ،قالَ: أَخْبَرَنِي صَاحِبُ هَذِهِ الدَّارِ، وَأَوْمَأَ إِلَى دَارِ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: سَأَلْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَيُّ الْعَمَلِ أَحَبُّ إِلَى اللهِ تَعَالَى ؟ قَالَ: " الصَّلَاةُ لِوَقْتِهَا "، قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ ؟ قَالَ: " بِرُّ الْوَالِدَيْنِ "، قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ ؟ قَالَ: " الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ " (1)
وهو أهم حق من حقوق العباد بعد حقوق الله تعالى.
ووجوه بر الوالدين كثيرة ومتنوعة وضحتها السنَّة النبوية المطهرة،ومن ثم فقد قمت بجمع ما يتعلق بهذا الموضوع الجلل من آيات وأحاديث،ورتبتها على الشكل التالي :
المبحث الأول=تعريفه وحكمه .
المبحث الثاني=الحث على بر الوالدين في القرآن الكريم،فقد ذكرت فيه الآيات التي تحث على بر الوالدين والإحسان إليهما مع تفسيرها بشكل مختصر ..
المبحث الثالث=أسس بر الوالدين في حياتهما، وهي كثيرة أهمها :
الأساس الأول - ثواب البر في الدنيا والآخرة
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (527) وصحيح مسلم- المكنز - (1864)(1/1)
الأساس الثاني - تقديم بر الوالدين على الفروض الكفائية
1- تقديم بر الوالدين على الجهاد في سبيل الله
2- تقديم بر الوالدين على الزوجة والأصدقاء
3- تقديم بر الوالدين على حج التطوع
4- تقديم بر الوالدين على زيارة الرسول - صلى الله عليه وسلم -
5- تقديم بر الوالدين على الأولاد
6- تقديم بر الأم على النوافل
7- تقديم بر الوالدين على الهجرة في سبيل الله
8- اسْتِئْذَانُهُمَا لِلسَّفَرِ لِلتِّجَارَةِ أَوْ لِطَلَبِ الْعِلْمِ
9- حُكْمُ طَاعَتِهِمَا فِي تَرْكِ النَّوَافِل أَوْ قَطْعِهَا
10- نموذج من بر الرسول - صلى الله عليه وسلم - بوالديه وبر ابنته فاطمة له
الأساس الثالث - لا طاعة للوالدين في معصية الخالق مع بقاء الإحسان إليهما
الأساس الرابع -أحق الناس بحسن صحبتك والداك
الأساس الخامس - تقديم بر الأم على الأب عند التعارض،بعد محاولة التوفيق بينهما
الأساس السادس - أنت ومالك لأبيك
الأساس السابع -عتق الوالدين من أي مال استحق بذمتهما
الأساس الثامن - الدعاء المتبادل بين الأبوين وأبنائهم
الأساس التاسع -ألا تستَسبَّ لوالديك
الأساس العاشر - أشهر الانتساب لأبيك،واعتزَّ به
الأساس الحادي عشر -الحج عمن عجز منهما صحيا عن أدائه
الأساس الثاني عشر- إنفاذ نذرهما(1/2)
الأساس الثالث عشر - الْبِرُّ بِالْوَالِدَيْنِ مَعَ اخْتِلاَفِ الدِّينِ
الأساس الرابع عشر -العقوق من الكبائر،وجزاؤه في الدنيا والآخرة : ...
المبحث الرابع= أسس البر بعد وفاة أحدهما أو كليهما ...
الأساس الأول -إنفاذ عهدهما، ووصيتهما
الأساس الثاني- الدعاء والاستغفاء لهما
الأساس الثالث -صلة رحمهما، وبر أصدقائهما
الأساس الرابع - الصدقة عنهما
الأساس الخامس - الحج عنهما
الأساس السادس- المسارعة للعمل الصالح لإدخال السرور على الوالد المتوفى
الأساس السابع- زيارة قبريهما
الأساس الثامن - برُّ قسمهما،وألا تستسبَّ لهما
الأساس التاسع - الصوم عنهما (1)
ثم خلاصة فيها فوائد بر الوالدين ..
وقد قمت بشبه استقصاء لأحاديث البر والعقوق،وقمت بتخريجها باختصار والحكم عليها،وشرح غريبها وبيان معانيها،حسب مقتضى الحال،وقد فصلت في بعض القضايا الهامة .
وذلك ليكون هذا الكتاب في كل بيت مسلم يسارعون لتطبيقه والعمل به لينالوا سعادة الدارين .
عَنْ عَائِشَةَ،قَالَتْ:قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - :بَيْنَا أَنَا أَدُورُ فِي الْجَنَّةِ،سَمِعْتُ صَوْتَ قَارِئٍ،فَقُلْتُ:مَنْ هَذَا ؟ فَقَالُوا:حَارِثَةُ بْنُ النُّعْمَانِ،كَذَلِكَ الْبِرُّ،قَالَ:وَكَانَ أَبَرَّ النَّاسِ بِأُمِّهِ." (2)
__________
(1) - استفدت في هذا التقسيم من كتاب منهج التربية النبوية للطفل لمحمد نور سويد ، ولكني لم أتقيد بمضمونه .
(2) - صحيح ابن حبان - (15 / 479) (7015) صحيح(1/3)
عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « رَغِمَ أَنْفُهُ،رَغِمَ أَنْفُهُ،رَغِمَ أَنْفُهُ،قَالُوا:يَا رَسُولَ اللهِ،مَنْ ؟ قَالَ:مَنْ أَدْرَكَ وَالِدَيْهِ عِنْدَ الْكِبْرِ،أَوْ أَحَدَهُمَا،فَدَخَلَ النَّارَ. » (1) .
أسأل الله تعالى أن ينفع به كاتبه وقارئه وناشره والدال عليه في الدارين، وأن يجعلنا من البارين بوالدينا .
كتبه
الباحث في القرآن والسنة
علي بن نايف الشحود
في 5 رمضان 1430 هـ الموافق ل 27/8/2009 م
- - - - - - - - - - - - -
__________
(1) - صحيح مسلم- المكنز - (6675 )(1/4)
تمهيد
حول بر الوالدين
إن بر الوالدين،تبرز أهميته لارتباطه مباشرة بكل إنسان ذكر أو أنثى؛وذلك لما ورد من الأحاديث الشريفة التي توضح أن لبر الوالدين كبير الأثر في برِّ الأبناء،وبالتالي إذا أردنا من أولادنا أن يبرونا،فهذا يتلطب منا - سواء كنا عزابا أم متزوجين - المسارعة إلى بر الوالدين،كما نصح بذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ،فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ،قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :عِفُّوا عَنْ نِسَاءِ النَّاسِ،تَعِفَّ نِسَاؤُكُمْ،وَبَرُّوا آبَاءَكُمْ،تَبَرَّكُمْ أَبْنَاؤُكُمْ ..." (1)
وعَنِ ابْنِ عُمَرَ،قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :بَرُّوا آباءَكُمْ تَبَرُّكُمْ أَبْنَاؤُكُمْ،وَعِفُّوا تَعِفُّ نِسَاؤُكُمْ " (2)
فإذا اتضح لنا سبب عقوق الأبناء،وهم في مرحلة الطفولة، التي تتميز بقوة سيطرة الوالدين،وعمق فطربيهما،فإن الطريق السليم لتفويم الطفل،وسلوكه سلوك الأبرار،وسيره بشكل سوي،هو أن نعدِّل من سلوكنا،وأن نغير من علاقتنا مع والدينا، نحو:البر والطاعة،والابتعاد عن العقوق بشتى ألوانه وصوره، لذلك حال الوالدين جرى إلى الأبناء بالشعور، وبلا شعور، وهي سنَّة إلهية كما أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - ،فعَنْ أَبِي قِلَابَةَ،قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :" الْبِرُّ لَا يَبْلَى،وَالْإِثْمُ لَا يُنْسَى،وَالدَّيَّانُ لَا يَمُوتُ،فَكُنْ كَمَا شِئْتَ كَمَا تَدِينُ تُدَانُ " (3)
وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مُرَّةَ، قَالَ: قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: " اعْبُدُوا اللهَ كَأَنَّكُمْ تَرَوْنَهُ، وَعَدُّوا أَنْفُسَكُمْ فِي الْمَوْتَى، وَاعْلَمُوا أَنَّ قَلِيلًا يَكْفِيَكُمْ خَيْرٌ مِنْ كَثِيرٍ يُلْهِيكُمْ، وَاعْلَمُوا أَنَّ الْبِرَّ لَا يَبْلَى، وَأَنَّ الْإِثْمَ لَا يُنْسَى " (4)
__________
(1) - المستدرك للحاكم (7258) عنه والمستدرك للحاكم( 7259) عَنْ جَابِرٍ والمعجم الكبير للطبراني - (11 / 173) (252)عَنِ ابْنِ عُمَرَ، حسن لغيره
(2) - المعجم الكبير للطبراني - (11 / 173) (252)عَنِ ابْنِ عُمَرَ، حسن لغيره وحسنه المنذري في الترغيب والترهيب - (3 / 218) ( 3759)
(3) - جَامِعُ مَعْمَرِ بْنِ رَاشِدٍ (874 ) صحيح مرسل
(4) - شعب الإيمان - (13 / 199) (10182 ) حسن(1/5)
وعَنْ أَبِي قِلَابَةَ قَالَ:قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ:الْبِرُّ لَا يُبْلَى وَالْإِثْمُ لَا يُنْسَى وَالدَّيَّانُ لَا يَنَامُ فَكُنْ كَمَا شِئْتَ كَمَا تَدِينُ تُدَانُ " (1)
وعَنِ أبي عَمْرٍو الشَّيْبَانِيِّ، قَالَ:مَكْتُوبٌ فِي التَّوْرَاةِ:كَمَا تَدِينُ تُدَانُ وَبِالْكَأْسِ الَّذِي تَسْقِي بِهِ تَشْرَبُ وَزِيَادَةً لِأَنَّ الْبَادِيَ لَا بُدَّ أَنْ يُزَادَ " (2)
ويؤيده قوله تعالى:{وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} (40) سورة الشورى.
وإذا تأمل الإنسان من حوله،وجد مصداق هذا القول،ورأى بأم عينيه أن الأب العاق لوالديه سينتج ولداً عاقًّا، في قاعدة مطردة منتظمة،لهذا قلنا:إنه لا بد من تعديل سلوك الآباء مع والديهم حتى يتم تعديل سلوك الأبناء معهم .
- - - - - - - - - - - - -
__________
(1) - الزهْدُ لِأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ (773) حسن
(2) - حِلْيَةُ الْأَوْلِيَاءِ (8217 )(1/6)
المبحث الأول
تعريفه وحكمه
تعريفه (1) :
مِنْ مَعَانِي الْبِرِّ فِي اللُّغَةِ:الْخَيْرُ وَالْفَضْل وَالصِّدْقُ وَالطَّاعَةُ وَالصَّلاَحُ (2)
وَفِي الاِصْطِلاَحِ:يُطْلَقُ فِي الأَْغْلَبِ عَلَى الإِْحْسَانِ بِالْقَوْل اللَّيِّنِ اللَّطِيفِ الدَّال عَلَى الرِّفْقِ وَالْمَحَبَّةِ،وَتَجَنُّبِ غَلِيظِ الْقَوْل الْمُوجِبِ لِلنُّفْرَةِ،وَاقْتِرَانِ ذَلِكَ بِالشَّفَقَةِ وَالْعَطْفِ وَالتَّوَدُّدِ وَالإِْحْسَانِ بِالْمَال وَغَيْرِهِ مِنَ الأَْفْعَال الصَّالِحَاتِ (3) .وَالأَْبَوَانِ:هُمَا الأَْبُ وَالأُْمُّ (4) .وَيَشْمَل لَفْظُ ( الأَْبَوَيْنِ ) الأَْجْدَادَ وَالْجَدَّاتِ (5) .
قَال ابْنُ الْمُنْذِرِ:وَالأَْجْدَادُ آبَاءٌ،وَالْجَدَّاتُ أُمَّهَاتٌ،فَلاَ يَغْزُو الْمَرْءُ إِلاَّ بِإِذْنِهِمْ،وَلاَ أَعْلَمُ دَلاَلَةً تُوجِبُ ذَلِكَ لِغَيْرِهِمْ مِنَ الإِْخْوَةِ وَسَائِرِ الْقَرَابَاتِ . (6)
حُكْمُهُ التَّكْلِيفِيُّ:
اهْتَمَّ الإِْسْلاَمُ بِالْوَالِدَيْنِ اهْتِمَامًا بَالِغًا.وَجَعَل طَاعَتَهُمَا وَالْبِرَّ بِهِمَا مِنْ أَفْضَل الْقُرُبَاتِ.وَنَهَى عَنْ عُقُوقِهِمَا وَشَدَّدَ فِي ذَلِكَ غَايَةَ التَّشْدِيدِ.كَمَا وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ الْمَجِيدِ فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى:{ وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا
__________
(1) - الموسوعة الفقهية الكويتية - (8 / 63)
(2) - لسان العرب ، والمصباح المنير ، الصحاح مادة " برر " ، والكليات لأبي البقاء 1 / 398 ط دمشق ، وزارة الثقافة 1974
(3) - الفواكه الدواني على رسالة القيرواني 2 / 382 ـ 383 ، والزواجر عن اقتراف الكبائر للهيثمي 2 / 66 ط دار المعرفة ببيروت
(4) - لسان العرب ، والصحاح 1 / 5
(5) - حاشية ابن عابدين 3 / 220 ( التعليق على قول الشارح له أبوان ) ، وتبيين الحقائق شرح كنز الدقائق 3 / 242 ، والمهذب في فقه الإمام الشافعي 2 / 230 ، وتحفة المحتاج بشرح المنهاج 9 / 232ـ 233 ومطالب أولي النهى 2 / 513
(6) - الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 10 / 241 .(1/7)
جَنَاحَ الذُّل مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَبِّي ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا } ( سورة الإسراء / 23،24 )،فَقَدْ أَمَرَ سُبْحَانَهُ بِعِبَادَتِهِ وَتَوْحِيدِهِ وَجَعَل بِرَّ الْوَالِدَيْنِ مَقْرُونًا بِذَلِكَ،وَالْقَضَاءُ هُنَا:بِمَعْنَى الأَْمْرِ وَالإِْلْزَامِ وَالْوُجُوبِ .
كَمَا قَرَنَ شُكْرَهُمَا بِشُكْرِهِ فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ:{ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ } ( سورة لقمان / 14).فَالشُّكْرُ لِلَّهِ عَلَى نِعْمَةِ الإِْيمَانِ،وَلِلْوَالِدَيْنِ عَلَى نِعْمَةِ التَّرْبِيَةِ.وَقَال سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ:مَنْ صَلَّى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ فَقَدْ شَكَرَ اللَّهَ تَعَالَى،وَمَنْ دَعَا لِوَالِدَيْهِ فِي أَدْبَارِ الصَّلَوَاتِ فَقَدْ شَكَرَهُمَا.
وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَال:سَأَلْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - :أَيُّ الأَْعْمَال أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَل ؟ قَال:الصَّلاَةُ عَلَى وَقْتِهَا قَال:ثُمَّ أَيٌّ ؟ قَال:بِرُّ الْوَالِدَيْنِ قَال:ثُمَّ أَيٌّ ؟ قَال:الْجِهَادُ فِي سَبِيل اللَّهِ " (1) ،فَأَخْبَرَ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّ بِرَّ الْوَالِدَيْنِ أَفْضَل الأَْعْمَال بَعْدَ الصَّلاَةِ الَّتِي هِيَ أَعْظَمُ دَعَائِمِ الإِْسْلاَمِ (2) .
وَقَدَّمَ فِي الْحَدِيثِ بِرَّ الْوَالِدَيْنِ عَلَى الْجِهَادِ؛لأَِنَّ بِرَّهُمَا فَرْضُ عَيْنٍ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ الْقِيَامُ بِهِ،وَلاَ يَنُوبُ عَنْهُ فِيهِ غَيْرُهُ.فَقَدْ قَال رَجُلٌ لاِبْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا:إِنِّي نَذَرْتُ أَنْ أَغْزُوَ الرُّومَ،وَإِنَّ أَبَوَيَّ مَنَعَانِي.فَقَال:أَطِعْ أَبَوَيْكَ،فَإِنَّ الرُّومَ سَتَجِدُ مَنْ يَغْزُوهَا غَيْرَكَ (3)
وَالْجِهَادُ فِي سَبِيل اللَّهِ فَرْضُ كِفَايَةٍ إِذَا قَامَ بِهِ الْبَعْضُ سَقَطَ عَنِ الْبَاقِينَ،وَبِرُّ الْوَالِدَيْنِ فَرْضُ عَيْنٍ،وَفَرْضُ الْعَيْنِ أَقْوَى مِنْ فَرْضِ الْكِفَايَةِ .
- - - - - - - - - - - - -
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (527 ) وصحيح مسلم- المكنز - (264)
(2) - الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 10 / 237ـ 238 .
(3) - المهذب في فقه الإمام الشافعي 2 / 230 .(1/8)
المبحث الثاني
الحث على بر الوالدين في القرآن الكريم
أولا- البر بالوالدين أو أحدهما من صفة الأنبياء:
قال تعالى:{ يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12) وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا (13) وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا (14)} [مريم:12 - 14]
لما ولد يحيى، وبلغ مبلغًا يفهم فيه الخطاب، أمره اللَّه أن يأخذ التوراة بجدٍّ واجتهاد بقوله: يا يحيى خذ التوراة بجد واجتهاد بحفظ ألفاظها، وفهم معانيها، والعمل بها، وأعطيناه الحكمة وحسن الفهم، وهو صغير السن.
وآتيناه رحمة ومحبة من عندنا وطهارة من الذنوب، وكان خائفًا مطيعًا لله تعالى، مؤديًا فرائضه، مجتنبًا محارمه.
وكان بارًّا بوالديه مطيعًا لهما، ولم يكن متكبرًا عن طاعة ربه، ولا عن طاعة والديه، ولا عاصيًا لربه، ولا لوالديه. (1)
وقال تعالى على لسان عيسى بن مريم عليه السلام :{ قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31) وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32) وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33) ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34) } [مريم:30 - 34]
قال عيسى وهو في مهده يرضع: إني عبد الله، قضى بإعطائي الكتاب، وهو الإنجيل، وجعلني نبيًا.
وجعلني عظيم الخير والنفع حيثما وُجِدْتُ، وأوصاني بالمحافظة على الصلاة وإيتاء الزكاة ما بقيت حيًا.
__________
(1) - التفسير الميسر - (5 / 223)(1/9)
وجعلني بارًّا بوالدتي، ولم يجعلني متكبرًا ولا شقيًا، عاصيًا لربي.
والسلامة والأمان عليَّ من الله يوم وُلِدْتُ، ويوم أموت، ويوم أُبعث حيًا يوم القيامة.
ذلك الذي قصصنا عليك - أيها الرسول - صفتَه وخبرَه هو عيسى ابن مريم، مِن غير شك ولا مرية، بل هو قولُ الحق الذي شك فيه اليهود والنصارى. (1)
ــــــــــــ
ثانيا- بر الوالدين والإحسان إليهما مما أمر به المولى- عز وجل-:
قال تعالى:{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنكُمْ وَأَنتُم مِّعْرِضُونَ} (83) سورة البقرة
يبين اللّه - سبحانه - مدى مخالفة اليهود للتوراة وأنهم كاذبون كذبا صريحا في ادعائهم أنهم مؤمنون بها،إذ قد أخذ اللّه عليهم فيها العهود المؤكدة أنهم لا يعبدون إلا اللّه - سبحانه - وأنهم يحسنون إلى الوالدين إحسانا كاملا،وأمروا بالعطف على الأقارب واليتامى والمساكين كل بما يناسبه ويقدر عليه من غير تعب ولا مشقة،وأمروا بالقول الحسن الذي لا إثم فيه ولا شر،وأن يؤدوا صلاتهم مقومة تامة وزكاتهم كاملة،ولكنهم أعرضوا عن هذا كله مع أن هذه الأوامر تكفل سعادة المجتمع وحياته حياة هادئة هنيئة،ولكنهم اليهود جبلوا على لؤم الطبع وحب المادة،فلن نرى منهم إحسانا ولا عطفا ولا خيرا،اللهم إلا نفر قليل منهم كعبد اللّه بن سلام وأضرابه،وإذا كان هذا شأنهم مع كتابهم فلا تأس عليهم يا محمد ولا تحزن.
ميثاق آخر لهم بشأن حقوق الغير خاصة الأقارب والمواطنين،ومن هذا حالهم فهل يكون لهم إلا الخزي والعار ؟ ولا أمل فيهم أصل!! (2)
__________
(1) - التفسير الميسر - (5 / 241)
(2) - التفسير الواضح ـ موافقا للمطبوع - (1 / 52)(1/10)
وقال تعالى:{وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا} (36) سورة النساء
يَأْمُرُ اللهُ تَعَالَى عِبَادَهُ بِعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ،وَبِعَدَمِ الإشْرَاكِ بِهِ،وَبِالعَمَلِ بِمَا أَمَرَ بِهِ،ثُمَّ أَوْصَاهُمْ بِالإِحْسَانِ إلَى الوَّالِدَينِ،فَقَدْ جَعَلَهُمَا اللهُ سَبباً لِخُرُوجِ الإِنْسَانِ مِن العَدَمِ.ثُمَّ أَمَرَ بِالإِحْسَانِ إلَى ذَوِي القُرْبَى،مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ،ثُمَّ أَمَرَ بِالإِحْسَانِ إلى اليَتَامَى الذِينَ فَقَدُوا آبَاءَهُمْ،وَمَنْ يُنْفِقُونَ عَلَيْهِمْ،ثُمَّ بِالإِحْسَانِ إلَى المَسَاكِينِ ( وَهُمُ المُحْتَاجُونَ الذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَنْ يَقُومُ بِكِفَايَتِهِمْ )،فَأَمَرَ اللهُ بِمُسَاعَدَتِهِمْ بِمَا تَتِمُّ بِهِ كِفَايَتُهُمْ.ثُمَّ أَمَرَ بِالإِحْسَانِ إلى الجَارِ الجَنْبِ،وَهُوَ الجَارِ الذِي لَيْسَ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ قَرَابَةٌ،كَمَا أَمَرَ تَعَالَى بِالإِحْسَانِ إلَى الصَّاحِبِ بِالجَنْبِ،وَهُوَ الرَّفِيقُ الصَّالِحُ فِي الحِلِّ وَالسَّفَر،وَابْنِ السَّبِيلِ وَهُوَ الضَّيْفُ عَابِرُ السَّبِيلِ مَارّاً بِكَ فِي سَفَرٍ فَقَدْ أَمَرَ اللهُ بِالإِحْسَانِ إِلَيْهِ.كَمَا أَمَرَ اللهُ النَّاسَ بِالإِحْسَانِ إلى الأَرِقَّاءِ الذِين تَحْتَ أَيْدِيهِمْ .
ثُمَّ أَضَافَ تَعَالَى إلى ذَلِكَ،أنَّهُ لاَ يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالاً فِي نَفْسِهِ،مُعْجَباً مُتَكَبِّراً فَخُوراً عَلَى النَّاسِ،يَرَى أَنَّهُ خَيْرٌ مِنْهُمْ،فَهُوَ فِي نَفْسِهِ كَبِيرٌ وَهُوَ عِنْدَ اللهِ حَقِيرٌ .
« وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً ».فإذا أخذ العبد نفسه بطاعة اللّه ووجه إليه وجهه خالصا،قانتا،خاشعا،غير ملتفت إلى سواه،ولا ناظر إلى غيره ـ وجد لخشية اللّه سطوة تملك عليه أهواءه،ولجلاله خشية يستحى معها أن يصرف وجهه عن اللّه،ويسلم يده لنزواته ونزعاته .. وبهذا يجد لوصايا اللّه مكانا متمكنا من نفسه،يعصمه من أن ينحرف،أو يزلّ.
والدعوة إلى عبادة اللّه دعوة عامة،تتوجه إلى عباده جميعا،. فهم جميعا مدعوّون إلى رحابه،لينالوا رضاه،وينعموا برحمته .. وليس لأحد أن يحجز أحدا عن اللّه،أو يصدّه عن سبيله،بحجّة أن دعوة اللّه قاصرة عليه،أو على قومه،وبنى جنسه .. فذلك عدوان على اللّه،وكفر به،فوق أنه عدوان على الناس ومصادرة لحق مشروع لهم ..
فالطريق إلى اللّه مفتوح لكل إنسان،يفتح قلبه للّه،ويوجه وجهه إليه ..(1/11)
وأنه إذا كان لأحد أن يحول بين إنسان وبين غاياته التي يتغيّاها فى الحياة،أو أن يسلبه شيئا ملكه واستحوذ عليه،فليس فى مستطاع أحد أن يحول بين الإنسان وربّه،أو أن يمدّ يده إلى الإيمان الذي سكن قلبه فينتزعه منه،فذلك لا سلطان لأحد عليه،وإنما أمر ذلك كله إلى الإنسان نفسه،وإلى ما فى قلبه من إيمان .. إن شاء أمسك هذا الإيمان،وإن شاء أرسله! فإذا آمن الإنسان باللّه،وتعبّد للّه .. كان عبدا ربّانيا،يجيب دعوته،ويمتثل أمره ..
وفى قوله تعالى:« وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً » أمر من أمر اللّه،ووصاة من وصاياه،بل هو الأمر الأول،والوصاة الأولى،بعد الأمر بالإيمان به،والوصاة بعبادته وطاعته .. فالإحسان إلى الوالدين حقّ من حقوقهما على المولودين،إذ كان لهما أثر فى وجود الأبناء،وفى البلوغ بهم مبلغ الحياة.
وقوله سبحانه:« وَبِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى وَالْجارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ».
يبين به اللّه سبحانه أصحاب الحقوق الواجبة على الإنسان نحوهم،إمّا لصلة قرابة تجمعهم إليه،وتجعلهم بعضا منه،أو تجعله بعضا منهم .. وإما لصلة إنسانية عامة،تلك الصلة التي تقوم على أساس أن الفرد عضو فى الجسد الاجتماعى كلّه،وأن كل عضو سليم فى هذا الجسد من واجبه أن يحمل بعض أعباء الأعضاء المريضة فيه،شأن الجسد حين تضعف فيه حاسة،أو تعجز عن العمل،فتتولى أقرب الحواس إليها،وأشكلها بها،أداء وظيفتها بوجه أو بآخر حتى يستقيم للجسد أمره ..
فذوو القربى .. هم من الإنسان وهو منهم .. ولهم على الإنسان أكثر من حق .. حق القرابة،وحق الإنسانية.
واليتامى والمساكين .. أعضاء ضعيفة فى الجسد الاجتماعى .. ولهم على الإنسان حق،هو حقّ بعض الجسد على بعض.
والجار ذو القربى،له حق القرابة،وحق الجوار،وحق الإنسان على الإنسان.
والجار الجنب له حقان:حق الجوار،وحق الإنسانية ..(1/12)
والصاحب بالجنب،هو الصديق المرافق،الذي يجده الإنسان إلى جنبه فى شدته ورخائه .. وهذا له حق الصداقة مع حق الإنسانية.
وابن السبيل .. هو المسافر الذي يقطع الطريق بغير مركب أو زاد ..
وسمّى ابن السبيل،وأضيف إليه،لأنه لا أهل له،ولا رفيق،غير الطريق الذي ركبه فى سفره .. فهو غريب،ضعيف .. له حق الضعيف على القوى،وحق الإنسان على الإنسان!.
وما ملكت أيمانكم .. وهم الأرقاء،الذين ملك غيرهم وجودهم كله،فهم أضعف الضعفاء .. وحقهم على أصحابهم أولا،ثم حقهم على المجتمع كله ثانيا ..
فهؤلاء جميعا هم أصحاب حقوق على الإنسانية كلها .. يتقاضونها أولا ممن هم أقرب إليهم،وأولى بهم،من أهل،وأقارب،وجيران،وأصحاب،وسادة.
فكل إنسان فى المجتمع الإنسانى مدعوّ ـ فى شريعة الإسلام ـ إلى أداء حقوق لمجتمعه،يبدأ فيها بأبويه،ثم بذوي قرابته،ثم باليتامى والمساكين،ثم بالجيران من ذوى قرابته،ثم بالجيران ممن لا قرابة لهم،ثم الأصدقاء،ثم أبناء السبيل،ثم الأرقاء .. فإن فضل عنده فضل من عطاء،فليضعه حيث يشاء،فيما ينفع الناس ويعينهم.
وفى قوله تعالى:« إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالًا فَخُوراً » تعقيب على هذه الدعوة إلى البر والإحسان،والتواصل بين الناس ..
وفى هذا التعقيب إشارة إلى أنه لا يتقبل هذه الدعوة الكريمة،ولا يفى بها إلّا من استشعر قلبه الأخوة،فوصل نفسه بالناس،واختلط بهم،وتحسس مواقع الآلام،ومواطن العلل فيهم .. وذلك لا يكون إلا من إنسان آمن بأنه ابن هذه الإنسانية،وأن الناس جميعا شركاء له فى هذا النسب ..
أما من عزل نفسه عن الناس،وغرّه بذاته الغرور،وملكه العجب،واستبدّ به الكبر،بما آتاه اللّه،من مال،أو صحة،أو علم،فرأى أنه من عالم غير عالم الناس،ومن طينة غير طينتهم ـ فإنه لا يأخذ منهم ولا يعطى،ولا يمدّ إلى أحد يدا،ولا يقبل أن يمد إليه أحد يدا .. إن المسافة بينهم وبينه بعيدة .. إنهم أرض وهو سماء .. وأين الأرض وأين السماء ؟(1/13)
ولهذا كان قوله تعالى:« إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالًا فَخُوراً » كاشفا عن هذا الصنف المتعالي المتغطرس من الناس،ذلك الصنف الذي لو وجد إنسانا تتعلق حياته على قطرة ماء لما التفت إليه،ولما مد يده نحوه بتلك القطرة،ولو كانت الأنهار تجرى من تحته! وفى هذا التعقيب إشارة إلى اليهود،إذ هم الذين عزلوا أنفسهم عن المجتمع الإنسانى،وعدّوا أنفسهم خلقا آخر غير خلق الناس ـ ونسبوا أنفسهم إلى اللّه نسبة لا يشاركهم فيها غيرهم،فقالوا:نحن أبناء اللّه وأحباؤه،وسمّوا شعبهم شعب اللّه المختار! (1)
إن التشريعات والتوجيهات - في منهج اللّه - إنما تنبثق كلها من أصل واحد،وترتكز على ركيزة واحدة.
إنها تنبثق من العقيدة في اللّه،وترتكز على التوحيد المطلق سمة هذه العقيدة .. ومن ثم يتصل بعضها ببعض ويتناسق بعضها مع بعض ويصعب فصل جزئية منها عن جزئية وتصبح دراسة أي منها ناقصة بدون الرجوع إلى أصلها الكبير الذي تلتقي عنده ويصبح العمل ببعضها دون البعض الآخر غير واف بتحقيق صفة الإسلام كما أنه غير واف بتحقيق ثمار المنهج الإسلامي في الحياة.
من العقيدة في اللّه تنبع كل التصورات الأساسية للعلاقات الكونية والحيوية والإنسانية. تلك التصورات التي تقوم عليها المناهج الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والأخلاقية والعالمية. والتي تؤثر في علاقات الناس بعضهم ببعض،في كل مجالي النشاط الإنساني في الأرض والتي تكليف ضمير الفرد وواقع المجتمع والتي تجعل المعاملات عبادات - بما فيها من اتباع لمنهج اللّه ومراقبة اللّه - والعبادات قاعدة للمعاملات - بما فيها من تطهير للضمير والسلوك - والتي تحيل الحياة في النهاية وحدة متماسكة تنبثق من المنهج الرباني،وتتلقى منه وحده دون سواه،وتجعل مردها في الدنيا والآخرة إلى اللّه.
هذه السمة الأساسية في العقيدة الإسلامية،وفي المنهج الإسلامي،وفي دين اللّه الصحيح كله،تبرز هنا في تصدير آية الإحسان إلى الوالدين والأقربين،وغيرهم من طوائف الناس.
__________
(1) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (3 / 786)(1/14)
بعبادة اللّه وتوحيده - كما أسلفنا - ثم في الجمع بين قرابة الوالدين،وقرابة هذه الطوائف من الناس،متصلة هذه وتلك بعبادة اللّه وتوحيده - كذلك - وذلك بعد أن جعل هذه العبادة وهذا التوحيد واسطة ما بين دستور الأسرة القريبة في نهاية الدرس الماضي،ودستور العلاقات الإنسانية الواسعة في هذا الدرس - على النحو الذي بينا من قبل - ليصلها جميعا بتلك الآصرة التي تضم الأواصر جميعا وليوحد المصدر الذي يشرع ويوجه في شأن هذه الأواصر جميعا ..
«وَاعْبُدُوا اللَّهَ .. وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً» ..
الأمر الأول بعبادة اللّه .. والنهي الثاني لتحريم عبادة أحد - معه - سواه. نهيا باتا،شاملا،لكل أنواع المعبودات التي عرفتها البشرية:«وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً» .. شيئا كائنا ما كان،من مادة أو حيوان أو إنسان أو ملك أو شيطان .. فكلها مما يدخل في مدلول كلمة شي ء،عند إطلاق التعبير على هذا المنوال ..
ثم ينطلق إلى الأمر بالإحسان إلى الوالدين - على التخصيص - ولذوي القربي - على التعميم - ومعظم الأوامر تتجه إلى توصية الذرية بالوالدين - وإن كانت لم تغفل توجيه الوالدين إلى الذرية فقد كان اللّه أرحم بالذراري من آبائهم وأمهاتهم في كل حال. والذرية بصفة خاصة أحوج إلى توجيهها للبر بالوالدين. بالجيل المدبر المولي.
إذ الأولاد - في الغالب - يتجهون بكينونتهم كلها،وبعواطفهم ومشاعرهم واهتماماتهم إلى الجيل الذي يخلفهم لا الجيل الذي خلفهم! وبينما هم مدفوعون في تيار الحياة إلى الأمام،غافلون عن التلفت إلى الوراء،تجيئهم هذه التوجيهات من الرحمن الرحيم،الذي لا يترك والدا ولا مولودا،والذي لا ينسى ذرية ولا والدين والذي يعلم عباده الرحمة بعضهم ببعض،ولو كانوا ذرية أو والدين! كذلك يلحظ في هذه الآية - وفي كثير غيرها - أن التوجيه إلى البر يبدأ بذوي القربي - قرابة خاصة أو عامة - ثم يمتد منها ويتسع نطاقه من محورها،إلى بقية المحتاجين إلى الرعاية من الأسرة الإنسانية الكبيرة.
وهذا المنهج يتفق - أولا - مع الفطرة ويسايرها. فعاطفة الرحمة،ووجدان المشاركة،يبدآن أولا في البيت.(1/15)
في الأسرة الصغيرة. وقلما ينبثقان في نفس لم تذق طعم هذه العاطفة ولم تجد مسّ هذا الوجدان في المحضن الأول. والنفس كذلك أميل إلى البدء بالأقربين - فطرة وطبعا - ولا بأس من ذلك ولا ضير ما دامت توجه دائما إلى التوسع في الدائرة من هذه النقطة ومن هذا المحور .. ثم يتفق المنهج - ثانيا - مع طريقة التنظيم الاجتماعي الإسلامية:من جعل الكافل يبدأ في محيط الأسرة ثم ينساح في محيط الجماعة. كي لا يركز عمليات التكافل في يد الأجهزة الحكومية الضخمة - إلا عند ما تعجز الأجهزة الصغيرة المباشرة - فالو حدات المحلية الصغيرة أقدر على تحقيق هذا التكافل:في وقته المناسب وفي سهولة ويسر. وفي تراحم وود يجعل جو الحياة لائقا ببني الإنسان! وهنا يبدأ بالإحسان إلى الوالدين. ويتوسع منهما إلى ذوي القربي. ومنهم إلى اليتامى والمساكين - ولو أنهم قد يكونون أبعد مكانا من الجار. ذلك أنهم أشد حاجة وأولى بالرعاية - ثم الجار ذو القرابة. فالجار الأجنبي - مقدمين على الصاحب المرافق - لأن الجار قربه دائم،أما الصاحب فلقاؤه على فترات - ثم الصاحب المرافق - وقد ورد في تفسيره أنه الجليس في الحضر،الرفيق في السفر - ثم ابن السبيل. العابر المنقطع عن أهله وماله.
ثم الرقيق الذين جعلتهم الملابسات «ملك اليمين» ولكنهم يتصلون بآصرة الإنسانية الكبرى بين بني آدم أجمعين. (1)
وقال تعالى:{قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (151) سورة الأنعام
قُلْ يَا مُحَمَّدُ،لِهَؤُلاَءِ المُشْرِكِينَ،الذِينَ عَبَدُوا غَيْرَ اللهِ،وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللهُ،وَقَتَلُوا أَوْلاَدَهُمْ،وَهُمْ إِنَّمَا فَعَلُوا ذَلِكَ بِأَهْوَائِهِمْ،وَبِوَحي مِنَ الشَّيْطَانِ،قُلْ لَهُمْ:تَعَالَوْا أَقْرَأْ عَلَيْكُمْ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ حَقّاً وَصِدْقاً،لاَ تَخَرُّصاً وَلاَ ظَنّاً وَتَخْمِيناً،لَقَدْ وَصَّاكُمْ بِألاَّ تُشْرِكُوا بِهِ
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (2 / 659)(1/16)
شَيْئاً،وَبِأَنْ تُحْسِنُوا إِلَى وَالِدَيْكُمْ،وَإِنْ كَانَا مُشْرِكَيْنِ،وَبِألاَّ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ الصِّغَارَ خَشْيَةَ الفَقْرِ فِي المُسْتَقْبَلِ،وَبِسَبَبِ فَقْرِكُم الحَاصِلِ،فَاللهُ تَعَالَى يَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ.وَأَوْصَاكُمْ رَبُّكُمْ بِألاَّ تَفْعَلُوا الفَوَاحِشَ،كَالزِّنَى وَقَذْفِ المُحْصَنَاتِ،سَوَاءٌ مَا كَانَ مِنْهَا فِي السِّرِّ أَوْ فِي العَلَنِ،وَألاَّ تَقْتُلوا النَّفْسَ التِي حَرَّمَ اللهُ قَتْلَهَا إلاَّ إِذَا كَانَ القَتْلُ بِحَقٍّ تَنْفِيذاً لِحُكْمِ القَضَاءِ،وَهَذَا مَا أَمَرَكُمُ اللهِ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ عَنِ اللهِ مَا أَمَرَ بِهِ وَمَا نَهَى عَنْهُ .
لما بيّن اللّه - سبحانه وتعالى - فساد رأى المشركين فيما أحلوا وحرموا،وبين المحرمات شرعا - بالإجمال - في الطعام،أخذ في هذه الآية يبين أصول الفضائل،وأنواع البر،وأصول المحرمات والكبائر،ليعلم الناس أسس هذا الدين ؟ وكيف دعا إلى الخير والبر،من أربعة عشر قرنا ؟ في وقت سادت فيه الجاهلية الجهلاء،والضلالة العمياء!! أليست هذه الآيات من دلائل الإعجاز وعلامات صدق النبي - صلى الله عليه وسلم - ؟
قل لهم:أقبلوا علىّ واحضروا،أقرأ عليكم الذي حرمه ربكم لتجتنبوه وتتمسكوا بضده،أقبلوا على أيها القوم. لتروا ما حرّم عليكم من ربكم،الذي له وحده حق التشريع والتحليل والتحريم،وأنا رسوله ومبلغ عنه فقط،تقدموا واقرءوا حقا يقينا لا شك فيه،كما أوحى إلىّ ربي،لا ظنّا ولا كذبا - كما زعمتم - وها هي ذي الوصايا العشر:خمس بصيغة النهى،وخمس بصيغة الأمر.
1 - الإيمان باللّه وعدم الإشراك به أساس الإسلام ولبه،ودعامته وروحه،ولذا بدأ به:ألا تشركوا باللّه شيئا من مخلوقاته،وإن عظم في الخلق والشكل كالشمس والقمر،أو في المكانة كالملائكة والنبيين،فالكل - مهما كان - مخلوق مسخر له تعالى:إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً " فيجب عليكم أن تخصوه وحده بالعبادة والتعظيم الحقيقي،والتقديس والدعاء والإجلال:وَإِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ [سورة الإسراء آية 44].
2 - وبالوالدين إحسانا:أى أحسنوا إلى الوالدين إحسانا كاملا،بإخلاص للّه سبحانه،فما بالكم بالإساءة مهما قلت ؟ ! وأما العقوق فكبيرة من الكبائر،والقرآن الكريم قرن الأمر بعبادة اللّه بالإحسان للوالدين،وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً".أَنِ اشْكُرْ(1/17)
لِي وَلِوالِدَيْكَ " ولقد روى البخاري ومسلم عن ابن مسعود قال:سألت رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - أى العمل أفضل ؟ قال:« الصلاة لوقتها » .قلت:ثم أى ؟ قال:« بر الوالدين » قلت:ثم أى ؟ قال:« الجهاد في سبيل اللّه » .
وهذا دليل على عظم العناية بحقوقهما وعلى أن مكانتهما تستحق ذلك،فهما قد خلقا الجسم في الظاهر،واللّه سبحانه هو الخالق حقيقة وفي الواقع ... والمراد بالإحسان إليهما معاملتهما معاملة كريمة،معاملة مبنية على العطف والمحبة،لا الخوف والرهبة،فبرهما سلف لك ودين،فقد ورد في الحديث « بَرُّوا آباءَكُمْ تَبَرُّكُمْ أَبْنَاؤُكُمْ، وَعِفُّوا تَعِفُّ نِسَاؤُكُمْ » (1)
وأنت في شبابك قد لا تحتاج إلى الغير. ولكن في كبرك محتاج إلى من يعينك،ويقوم بأمورك،ومحبة الوالد لولده غريزة من الغرائز،فلم يوص عليها الشرع،ومحبة الولد لوالديه جزاء ومكافأة لهما،ولذا نبه القرآن عليهما وشدد،على أن عقوق الوالدين يفسد الأبناء وتكوينهم وينشئهم على الغلظة وعدم الشفقة،وعلى الوالدين حسن الرعاية والعناية والعطف عليهم،وعدم التحكم في المسائل الشخصية الخاصة إلا بقدر محدود.
3 - ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم:أليس وأد البنات،وقتل الذكور سبة وعارا ؟ أليس دليلا على الجاهلية والقسوة بل ومنتهى الغلظة ؟ التي تخالف غرائز الإنسان وطبائعه ؟ ولم تقتلون ؟ ألفقر حاصل ؟ أم لفقر متوقع ؟ أم لعار سيلحق ؟ فاللّه يرزقكم وإياهم،فلا تخافوا الفقر الحاصل واللّه يرزقهم وإياكم،فلا تخشوا الفقر المتوقع،وأما العار خوف الفضيحة،فيرجع إلى البيئة وحسن التنشئة.
4 - ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن:نعم لا تأتوا الفواحش وما عظم جرمه وإثمه،بل ولا تأخذوا بأسبابه،ولا تقربوا من مقدماته،ومن هنا كان النظر إلى
الأجنبية والاختلاط بها حراما،لأنه مقدمة للزنا والباب إليه،ونحن منهيون عن القرب من الفواحش - كالزنا وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات - سواء ما ظهر منها،وما بطن،وكانوا في الجاهلية لا يرون بأسا في الزنا سرا،أما في العلانية فكانوا يعدونه
__________
(1) - المعجم الكبير للطبراني - (11 / 173) (252) حسن لغيره(1/18)
قبيحا،فحرم اللّه النوعين،وقد ورد عن رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - :« لا أحد أغير من اللّه،حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن » .
5 - ولا تقتلوا النفس التي حرم اللّه قتلها إلا بالحق،فالقتل جريمة كبرى،واعتداء شنيع على صنع الخالق الذي أتقن كل شيء خلقه،ومن هنا كان من أكبر الكبائر بعد الشرك باللّه - سبحانه وتعالى - وقد قال رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - :« أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا : لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، فَمَنْ قَالَ : لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، عَصَمَ مِنِّي مَالَهُ وَنَفْسَهُ إِلاَّ بِحَقِّهِ، وَحِسَابُهُ عَلَى اللهِ » (1)
، وفي الحديث:« لاَ يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ، إِلاَّ بِإِحْدَى ثَلاَثٍ : رَجُلٌ كَفَرَ بَعْدَ إِسْلاَمِهِ، أَوْ زَنَى بَعْدَ إِحْصَانِهِ، أَوْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ. » (2)
فكل نفس مسلمة قتلها حرام إلا إن ارتكبت إحدى ثلاث،الزنا مع الإحصان،والقتل عمدا،والردة عن الإسلام،وأما الكافر والمعاهد المقيم بيننا فله حرمة،فلا يقتل ما دام لم تكن منه إساءة للدين من قرب أو بعد،أو إساءة للوطن كذلك،ذلكم وصاكم به اللّه،وأرشدكم،لتعقلوا الخير والمنفعة في فعل ما أمر به،وترك ما نهى عنه،إذ هو مما تدركه العقول،وفي هذا تعريض بأن ما هم عليه لا يعقل له معنى،ولا تظهر له فائدة عند ذوى العقول الراجحة.
6 - ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن،ولا تأكلوا من ماله إذا تعاملتم معه إلا على الصورة التي هي أحسن في حفظ ماله وتثميره،والإنفاق منه على تربيته وتعليمه،وما به يصلح معاشه،والنهى عن القرب عن الشيء أبلغ من النهى عن الشيء نفسه،لا تقربوه حتى يبلغ أشده. أى:حتى يبلغ مبلغ الرجال. ويصير ذا حنكة وتجربة تمكنه من إدارة ماله. على وجه حسن. ويكون ذلك عادة بين الخامسة عشرة والثامنة عشرة. فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ [سورة النساء آية 6].
__________
(1) - هذا حديث صحيح مشهور انظر تخريجه في المسند الجامع - (1 / 360)(222و1685و2142و7139و10442 و11865 و12634 و14564)
(2) - صحيح مشهور انظر المسند الجامع - (12 / 714)( 9708و9710 و16801و16802)(1/19)
7،8 - وأوفوا الكيل والميزان بالقسط،نعم أوفوا الكيل إذا كلتم،أى:إذا بعتم أو اشتريتم،وكذلك زنوا بالقسطاس المستقيم في البيع والشراء،فالتطفيف في الكيل والزيادة في الوزن والنقص فيهما كل ذلك من الكبائر،لما يترتب عليه من هضم للحقوق وضياع للأموال،واعتداء على الغير بوجه غير مشروع:وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ. وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ. أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ. لِيَوْمٍ عَظِيمٍ. يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ.
لا نكلف نفسا إلا وسعها وجهدها وطاقتها،فهذه الوصايا كلها في مقدور المؤمن العادي،وأما خصوص الكيل والميزان،فالمأمور به ما يدخل تحت وسعه وإمكانه،وما عداه فمعفو عنه.
9 - وإذا قلتم فاعدلوا،ولو كان ذا قربى،أى:فاعدلوا في القول ولا تتجاوزوا فيه الحد المقبول شرعا،ولو كان الذي تقولون فيه من ذوى القربى. إذ بالعدل تبنى أسس الدولة،وتصلح شئون الأمم والأفراد. فهو ركن العمران،وأساس النجاح:يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ [سورة المائدة آية 8].
10 - وبعهد اللّه أوفوا:أى وأوفوا بعهد اللّه إذا تعاهدتم،سواء أكان عهدا بين اللّه والناس على ألسنة الرسل في الكتب المنزلة،أو بين الناس وبعضهم:وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا. أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ ذلكم وصاكم اللّه بهذا لعلكم تذكرون وتتعظون،أى:رجاء أن يذكره بعضكم لبعض في التعليم والتواصي الذي أمر اللّه به. (1)
« قُلْ:تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ» ..قل:تعالوا أقص عليكم ما حرمه عليكم ربكم - لا ما تدعون أنتم أنه حرمه بزعمكم - ! لقد حرمه عليكم «ربكم» الذي له وحده حق الربوبية - وهي القوامة والتربية والتوجيه والحاكمية - وإذن فهو اختصاصه،وموضع
__________
(1) - التفسير الواضح ـ موافقا للمطبوع - (1 / 680)(1/20)
سلطانه. فالذي يحرم هو «الرب» واللّه هو وحده الذي يجب أن يكون ربا ..«أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً» ..
القاعدة التي يقوم عليها بناء العقيدة وترجع إليها التكاليف والفرائض،وتستمد منها الحقوق والواجبات ..
القاعدة التي يجب أن تقوم أولا قبل الدخول في الأوامر والنواهي وقبل الدخول في التكاليف والفرائض،وقبل الدخول في النظام والأوضاع وقبل الدخول في الشرائع والأحكام .. يجب ابتداء أن يعترف الناس بربوبية اللّه وحده لهم في حياتهم كما يعترفون بألوهيته وحده في عقيدتهم لا يشركون معه أحدا في ألوهيته،ولا يشركون معه أحدا في ربوبيته كذلك. يعترفون له وحده بأنه المتصرف في شؤون هذا الكون في عالم الأسباب والأقدار ويعترفون له وحده بأنه المتصرف في حسابهم وجزائهم يوم الدين ويعترفون له وحده بأنه هو المتصرف في شؤون العباد في عالم الحكم والشريعة كلها سواء
إنها تنقية الضمير من أوشاب الشرك،وتنقية العقل من أوشاب الخرافة،وتنقية المجتمع من تقاليد الجاهلية،وتنقية الحياة من عبودية العباد للعباد ..إن الشرك - في كل صوره - هو المحرم الأول لأنه يجر إلى كل محرم. وهو المنكر الأول الذي يجب حشد الإنكار كله له حتى يعترف الناس أن لا إله لهم إلا اللّه،ولا رب لهم إلا اللّه،ولا حاكم لهم إلا اللّه،ولا مشرع لهم إلا اللّه. كما أنهم لا يتوجهون بالشعائر لغير اللّه ..وإن التوحيد - على إطلاقه - لهو القاعدة الأولى التي لا يغني غناءها شيء آخر،من عبادة أو خلق أو عمل ..من أجل ذلك تبدأ الوصايا كلها بهذه القاعدة:«أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً» ..
وينبغي أن نلتفت إلى ما قبل هذه الوصايا،لنعلم ماذا يراد بالشرك الذي ينهى عنه في مقدمة الوصايا - لقد كان السياق كله بصدد قضية معينة - قضية التشريع ومزاولة حق الحاكمية في إصداره - وقبل آية واحدة كان موقف الإشهاد الذي يحسن أن نعيد نصه:«قُلْ:هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هذا. فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ. وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا،وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ،وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ» ..(1/21)
يجب أن نذكر هذه الآية،وما قلناه عنها في الصفحات السابقة لندرك ماذا يعني السياق القرآني هنا بالشرك الذي ينهى عنه ابتداء .. إنه الشرك في الاعتقاد،كما أنه الشرك في الحاكمية. فالسياق حاضر،والمناسبة فيه حاضرة ..
ونحن نحتاج إلى هذا التذكير المستمر،لأن جهود الشياطين في زحزحة هذا الدين عن مفهوماته الأساسية،قد آتت ثمارها - مع الأسف - فجعلت مسألة الحاكمية تتزحزح عن مكان العقيدة،وتنفصل في الحس عن أصلها الاعتقادي! ومن ثم نجد حتى الغيورين على الإسلام،يتحدثون لتصحيح شعيرة تعبدية أو لاستنكار انحلال أخلاقي أو لمخالفة من المخالفات القانونية. ولكنهم لا يتحدثون عن أصل الحاكمية،وموقعها من العقيدة الإسلامية! يستنكرون المنكرات الجانبية الفرعية،ولا يستنكرون المنكر الأكبر وهو قيام الحياة في غير التوحيد أي على غير إفراد اللّه - سبحانه - بالحاكمية ..
إن اللّه قبل أن يوصي الناس أي وصية،أوصاهم ألا يشركوا به شيئا. في موضع من السياق القرآني يحدد المعنيّ بالشرك الذي تبدأ بالنهي عنه جميع الوصايا! إنها القاعدة التي يرتبط على أساسها الفرد باللّه على بصيرة،وترتبط بها الجماعة بالمعيار الثابت الذي ترجع إليه في كافة الروابط وبالقيم الأساسية التي تحكم الحياة البشرية .. فلا تظل نهبا لريح الشهوات والنزوات،واصطلاحات البشر التي تتراوح مع الشهوات والنزوات ..
«وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً. وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ» ..
إنها رابطة الأسرة بأجيالها المتلاحقة - تقوم بعد الرابطة في اللّه ووحدة الاتجاه - ولقد علم اللّه - سبحانه - أنه أرحم بالناس من الآباء والأبناء. فأوصى الأبناء بالآباء،وأوصى الآباء بالأبناء وربط الوصية بمعرفة ألوهيته الواحدة،والارتباط بربوبيته المتفردة. وقال لهم:إنه هو الذي يكفل لهم الرزق،فلا يضيقوا بالتبعات تجاه الوالدين في كبرتهما ولا تجاه الأولاد في ضعفهم،ولا يخافوا الفقر والحاجة فاللّه يرزقهم جميعا ..
«وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ» ..(1/22)
ولما وصاهم اللّه بالأسرة،وصاهم بالقاعدة التي تقوم عليها - كما يقوم عليها المجتمع كله - وهي قاعدة النظافة والطهارة والعفة. فنهاهم عن الفواحش ظاهرها وخافيها .. فهو نهي مرتبط تماما بالوصية السابقة عليها .. وبالوصية الأولى التي تقوم عليها كافة الوصايا.
إنه لا يمكن قيام أسرة،ولا استقامة مجتمع،في وحل الفواحش ما ظهر منها وما بطن .. إنه لا بد من طهارة ونظافة وعفة لتقوم الأسرة وليقوم المجتمع. والذين يحبون أن تشيع الفاحشة هم الذين يحبون أن تتزعزع قوائم الأسرة وأن ينهار المجتمع.
والفواحش:كل ما أفحش - أي تجاوز الحد - وإن كانت أحيانا تخص بنوع منها هو فاحشة الزنا.
ويغلب على الظن أن يكون هذا هو المعنى المراد في هذا الموضع. لأن المجال مجال تعديد محرمات بذاتها،فتكون هذه واحدة منها بعينها. وإلا فقتل النفس فاحشة،وأكل مال اليتيم فاحشة،والشرك باللّه فاحشة الفواحش. فتخصيص «الفواحش» هنا بفواحش الزنا أولى بطبيعة السياق. وصيغة الجمع،لأن هذه الجريمة ذات مقدمات وملابسات كلها فاحشة مثلها. فالتبرج،والتهتك،والاختلاط المثير،والكلمات والإشارات والحركات والضحكات الفاجرة،والإغراء والتزيين والاستثارة ... كلها فواحش تحيط بالفاحشة الأخيرة. وكلها فواحش منها الظاهر ومنها الباطن. منها المستسر في الضمير ومنها البادي في الجوارح.
منها المخبوء المستور ومنها المعلن المكشوف! وكلها مما يحطم قوام الأسرة،وينخر في جسم الجماعة،فوق ما يلطخ ضمائر الأفراد،ويحقر من اهتماماتهم،ومن ثم جاءت بعد الحديث عن الوالدين والأولاد.
ولأن هذه الفواحش ذات إغراء وجاذبية،كان التعبير:«وَلا تَقْرَبُوا» .. للنهي عن مجرد الاقتراب،سدا للذرائع،واتقاء للجاذبية التي تضعف معها الإرادة .. لذلك حرمت النظرة الثانية - بعد الأولى غير المتعمدة - ولذلك كان الاختلاط ضرورة تتاح بقدر الضرورة. ولذلك كان التبرج - حتى بالتعطر في الطريق - حراما،وكانت الحركات المثيرة،والضحكات المثيرة،والإشارات المثيرة،ممنوعة في الحياة الإسلامية النظيفة .. فهذا الدين لا يريد أن يعرض الناس للفتنة ثم يكلف أعصابهم عنتا في المقاومة! فهو دين وقاية(1/23)
قبل أن يقيم الحدود،ويوقع العقوبات. وهو دين حماية للضمائر والمشاعر والحواس والجوارح. وربك أعلم بمن خلق،وهو اللطيف الخبير ..
وكذلك نعلم ما الذي يريده بهذا الدين،وبحياة المجتمع كله وبحياة الأسرة،من يزينون للناس الشهوات،ومن يطلقون الغرائز من عقالها بالكلمة والصورة والقصة والفيلم وبالمعسكر المختلط وبسائر أدوات التوجيه والإعلام! «وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ» ..
ويكثر في السياق القرآني مجيء النهي عن هذه المنكرات الثلاثة متتابعة:الشرك،والزنا،وقتل النفس ..
ذلك أنها كلها جرائم قتل في الحقيقة! الجريمة الأولى جريمة قتل للفطرة والثانية جريمة قتل للجماعة،والثالثة جريمة قتل للنفس المفردة .. إن الفطرة التي لا تعيش على التوحيد فطرة ميتة.والجماعة التي تشيع فيها الفاحشة جماعة ميتة،منتهية حتما إلى الدمار. والحضارة الإغريقية والحضارة الرومانية والحضارة الفارسية. شواهد من التاريخ. ومقدمات الدمار والانهيار في الحضارة الغربية تنبئ بالمصير المرتقب لأمم ينخر فيها كل هذا الفساد.والمجتمع الذي تشيع فيه المقاتل والثارات،مجتمع مهدد بالدمار .. ومن ثم يجعل الإسلام عقوبة هذه الجرائم هي أقسى العقوبات،لأنه يريد حماية مجتمعه من عوامل الدمار.
ولقد سبق النهي عن قتل الأولاد من إملاق. فالآن ينهى عن قتل «النفس» عامة. فيوحي بأن كل قتل فردي إنما يقع على جنس «النفس» في عمومه. تؤيد هذا الفهم آية:«... أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً،بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ،فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً،وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً» .. فالاعتداء إنما يقع على حق الحياة ذاتها،وعلى النفس البشرية في عمومها. وعلى هذه القاعدة كفل اللّه حرمة النفس ابتداء. وهناك طمأنينة الجماعة المسلمة في دار الإسلام وأمنها،وانطلاق كل فرد فيها ليعمل وينتج آمنا على حياته،لا يؤذى فيها إلا بالحق. والحق الذي تؤخذ به النفس بينه اللّه في شريعته،ولم يتركه للتقدير والتأويل. ولكنه لم يبينه ليصبح شريعة إلا بعد أن قامت الدولة المسلمة،وأصبح لها من السلطان ما يكفل لها تنفيذ الشريعة! وهذه اللفتة لها قيمتها في تعريفنا بطبيعة منهج هذا(1/24)
الدين في النشأة والحركة. فحتى هذه القواعد الأساسية في حياة المجتمع،لم يفصلها القرآن إلا في مناسبتها العملية.
وقبل أن يمضي السياق في بيان المحرمات والتكاليف،يفصل بين هذا القسم والذي يليه بإبراز وصية اللّه وأمره وتوجيهه:«ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ».
وهذا التعقيب يجيء وفق المنهج القرآني في ربط كل أمر وكل نهي باللّه. تقريرا لوحدة السلطة التي تأمر وتنهى في الناس،وربطا للأوامر والنواهي بهذه السلطة التي تجعل للأمر والنهي وزنه في ضمائر الناس! كذلك تجيء فيه الإشارة إلى التعقل. فالعقل يقتضي أن تكون هذه السلطة وحدها هي التي تعبد الناس لشرعها.
وقد سبق أنها سلطة الخالق الرازق المتصرف في حياة الناس! وهذا وذلك فوق ما في الطائفة الأولى من التجانس. وما بين الطائفة الثانية كذلك من التجانس. فجعل هذه في آية،وتلك في آية،وبينهما هذا الإيقاع. (1)
وقال تعالى:{وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا (25) }سورة الإسراء
يَأْمُرُ اللهُ تَعَالَى عِبَادَهُ بِعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ ( وَقَضَى رَبُّكَ - يَعْنِي أَمَرَ رَبُّكَ وَوَصَّى )،وَوَصَّى اللهُ المُؤْمِنِينَ بِالإِحْسَانِ إِلَى الوَالِدَيْنِ،فَإِذَا بَلَغَا الكِبَرَ،أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا،عِنْدَ أَبْنَائِهِمَا،فَعَلَى الأَبْنَاءِ أَلاَّ يُسْمِعُوهُمَا قَوْلاً سَيِّئاً حَتَّى وَلاَ تَأَفُّفاً ( وَأُفٍّ كَلِمَةٌ تَدُلُّ عَلَى الضَّجَرِ وَالضِّيقِ )،وَيَجِبُ أَنْ لاَ يَنْتَهِرُوهُمَا،وَأَنْ لاَ يَصْدُرَ مِنْهُمْ إِلَيْهِمَا فِعْلٌ قَبِيحٌ يَدُلُّ عَلَى سُوءِ الأَدَبِ.وَأَمَرَ اللهُ الأَبْنَاءَ بِالإِحْسَانِ فِي القَوْلِ إِلى الأَبَوَيْنِ وَتَوْقِيرِهِمَا،وَبِاسْتِعْمَالِ الكَلاَمِ الطَّيِّبِ الكَرِيمِ فِي مُخَاطَبَتِهِمَا ( فَلاَ نِعْمَةَ تَصِلُ إِلَى الإِنْسَانِ أَعْظَمُ مِنْ نِعْمَةِ الخَالِقِ ثُمَّ نِعْمَةِ الأَبَوَيْنِ ) .
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (3 / 1229)(1/25)
وَأَمَرَ اللهُ تَعَالَى الأَبْنَاءَ بِالتَّوَاضُعِ للأَبَوَيْنِ فِي تَصَرُّفِهِمْ مَعَهَمُا،حَتَّى يَبْدُو الأَبْنَاءَ وَكَأَنَّهُمْ أَذِلاَّءُ مِنْ شِدَّةِ الرَّحْمَةِ،لاَ يَرُدُّونَ لَهُمَا طَلَباً،وَلاَ يَرْفُضُونَ لَهُمَا أَمْراً.ثُمَّ أَمْرَ الأَبْنَاءَ بِالدُّعَاءِ لِلأَبَوَيْنِ،وَالتَّرَحُّمْ عَلَيْهِمَا،جَزَاءَ مَا احْتَمَلاَه فِي تَرْبِيَةِ الأَبْنَاءِ مِنْ عَنَاءٍ وَمَشَقَّةٍ وَعَنَتٍ .
رَبُّكُمْ أَيُّها النَّاسُ أَعْلَمُ مِنْكُمْ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ مِنْ تَعْظِيمِكُمْ أَمْرَ آبَائِكُمْ وَأُمَهَاتِكُمْ،وَالبِرِّ بِهِمْ،وَمِنَ الاسْتِخْفَافِ بِحُقُوقِهِمْ،وَالعُقُوقِ لَهُمْ،وَهُوَ مُجَازِيكُمْ عَلَى حَسَنِ ذلِكَ وَسَيِّئِهِ،فَاحْذَرُوا أَنْ تُضْمِروا لَهُمْ سُوءاً،أَوْ تَجْعَلُوا لَهُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عُقُوقاً،فَأَنْتُمْ إِنْ أَصْلَحْتُمْ نِيَّاتِكُمْ فِيهِمْ،وَأَطَعْتُمْ رَبَّكُمْ فِيمَا أَمَرَكُمْ بِهِ مِنَ البِرِّ بِهِمْ،بَعْدَ هَفْوَةٍ كَانَتْ مِنْكُمْ،أَوْ زَلَّةٍ فِي وَاجِبٍ لَهُمْ عَلَيْكُمْ،فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى يَغْفِرُ لَكُمْ مَا فَرَطَ مِنْكُمْ،فَهُوَ غَفَّارٌ لِمَنْ يَتُوبُ مِنْ ذَنْبِهِ،وَيَرْجِعُ عَنْ مَعْصِيَةِ اللهِ إِلَى طَاعَتِهِ .
«وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ» ..فهو أمر بتوحيد المعبود بعد النهي عن الشرك. أمر في صورة قضاء. فهو أمر حتمي حتمية القضاء. ولفظة «قَضى » تخلع على الأمر معنى التوكيد،إلى جانب القصر الذي يفيده النفي والاستثناء «أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ» فتبدو في جو التعبير كله ظلال التوكيد والتشديد.
فإذا وضعت القاعدة،وأقيم الأساس،جاءت التكاليف الفردية والاجتماعية،ولها في النفس ركيزة من العقيدة في اللّه الواحد،توحد البواعث والأهداف من التكاليف والأعمال.
والرابطة الأولى بعد رابطة العقيدة،هي رابطة الأسرة،ومن ثم يربط السياق بر الوالدين بعبادة اللّه،إعلانا لقيمة هذا البر عند اللّه :«وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما:أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلًا كَرِيماً،وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ،وَقُلْ:رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً».
بهذه العبارات الندية،والصور الموحية،يستجيش القرآن الكريم وجدان البر والرحمة في قلوب الأبناء.
ذلك أن الحياة وهي مندفعة في طريقها بالأحياء،توجه اهتمامهم القوي إلى الأمام. إلى الذرية. إلى الناشئة الجديدة. إلى الجيل المقبل. وقلما توجه اهتمامهم إلى الوراء. إلى الأبوة.(1/26)
إلى الحياة المولية. إلى الجيل الذاهب! ومن ثم تحتاج البنوة إلى استجاشة وجدانها بقوة لتنعطف إلى الخلف،وتتلفت إلى الآباء والأمهات.
إن الوالدين يندفعان بالفطرة إلى رعاية الأولاد. إلى التضحية بكل شيء حتى بالذات. وكما تمتص النابتة الخضراء كل غذاء في الحبة فإذا هي فتات،ويمتص الفرخ كل غذاء في البيضة فإذا هي قشر كذلك يمتص الأولاد كل رحيق وكل عافية وكل جهد وكل اهتمام من الوالدين فإذا هما شيخوخة فانية - إن أمهلهما الأجل - وهما مع ذلك سعيدان! فأما الأولاد فسرعان ما ينسون هذا كله،ويندفعون بدورهم إلى الأمام. إلى الزوجات والذرية .. وهكذا تندفع الحياة.
ومن ثم لا يحتاج الآباء إلى توصية بالأبناء. إنما يحتاج هؤلاء إلى استجاشة وجدانهم بقوة ليذكروا واجب الجيل الذي أنفق رحيقه كله حتى أدركه الجفاف! وهنا يجيء الأمر بالإحسان إلى الوالدين في صورة قضاء من اللّه يحمل معنى الأمر المؤكد،بعد الأمر المؤكد بعبادة اللّه.
ثم يأخذ السياق في تظليل الجو كله بأرق الظلال وفي استجاشة الوجدان بذكريات الطفولة ومشاعر الحب والعطف والحنان : «إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما» .. والكبر له جلاله،وضعف الكبر له إيحاؤه وكلمة «عِنْدَكَ» تصور معنى الالتجاء والاحتماء في حالة الكبر والضعف .. «فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما» وهي أول مرتبة من مراتب الرعاية والأدب ألا يند من الولد ما يدل على الضجر والضيق،وما يشي بالإهانة وسوء الأدب ..
« وَقُلْ لَهُما قَوْلًا كَرِيماً» وهي مرتبة أعلى إيجابية أن يكون كلامه لهما يشي بالإكرام والاحترام. «وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ» وهنا يشف التعبير ويلطف،ويبلغ شغاف القلب وحنايا الوجدان. فهي الرحمة ترق وتلطف حتى لكأنها الذل الذي لا يرفع عينا،ولا يرفض أمرا. وكأنما للذل جناح يخفضه إيذانا بالسلام والاستسلام. «وَقُلْ:رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً» فهي الذكرى الحانية. ذكرى الطفولة الضعيفة يرعاها الولدان،وهما اليوم في مثلها من الضعف والحاجة إلى الرعاية والحنان. وهو التوجه إلى اللّه(1/27)
أن يرحمهما فرحمة اللّه أوسع،ورعاية اللّه أشمل،وجناب اللّه أرحب. وهو أقدر على جزائهما بما بذلا من دمهما وقلبهما مما لا يقدر على جزائه الأبناء.
قال الحافظ أبو بكر البزار - بإسناده - عن بريدة عن أبيه:أن رجلا كان في الطواف حاملا أمه يطوف بها فسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - هل أديت حقها؟ قال:لا. ولا بزفرة واحدة.
ولأن الانفعالات والحركات موصولة بالعقيدة في السياق،فإنه يعقب على ذلك يرجع الأمر كله للّه الذي يعلم النوايا،ويعلم ما وراء الأقوال والأفعال:«رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ،إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً».
وجاء هذا النص قبل أن يمضي في بقية التكاليف والواجبات والآداب ليرجع إليه كل قول وكل فعل وليفتح باب التوبة والرحمة لمن يخطىء أو يقصر،ثم يرجع فيتوب من الخطأ والتقصير.
وما دام القلب صالحا،فإن باب المغفرة مفتوح. والأوابون هم الذين كلما أخطأوا عادوا إلى ربهم مستغفرين. (1)
وقال تعالى:{وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} (8) سورة العنكبوت
يَأَمُرُ اللهُ تَعالى عِبَادَهُ المُؤْمِنينَ بالإِحسانِ إِلى الوَالِدينِ،لأَنَّهُما سَبَبُ وُجُودِ الإِنْسَانِ،وَلَهُمَا عَلَيهِ الفَضْلُ الكَبيرُ.وَلكِنْ إِذا كَانَ الوَالِدَانِ مُشْرِكَينِ وأَمَرا وَلدَهُما المُؤْمِنَ بِمَا فِيهِ كُفْرٌ وَمَعْصِيَةٌ للهِ تَعَالى،أَوْ أَمَراهُ بأَنْ يُشْرِكَ باللهِ مَا لا عِلمَ لَهُ بألُوهِيَّتِهِ ( مَا لَيسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ )،فَعَلَيهِ أَنْ لاَ يُطِيعَهُما،لأَنّ حَقَّ اللهِ أَعظَمُ مِنْ حَقِّ الوَالِدينِ إِذْ " لاَ طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ في مَعصِيَةِ الخَالِقِ " كَمَا جاءَ في الحَدِيثِ الصَّحِيحِ .
ثُمَّ يُنَبِّهُ اللهُ تَعَالى عِبَاده المُؤمِنينَ إلى أَنَّهُمْ سَيرجِعُونَ إليهِ يومَ القِيَامةِ فَيجْزِيهِمْ بإِحْسَانِهِمْ إِلى وَالدَيهِمْ،وَبِصَبْرِهِمْ عَلَى دِينِهِمْ،وَيَحْشُرُهُمْ مَعَ الصَّالِحينَ .
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (4 / 2221)(1/28)
قوله تعالى:« وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ » قلنا إن المؤمنين قد ابتلوا أول الإسلام بلاء عظيما،حيث فرق الإسلام بين ذوى الأرحام،وقطّع ما بينهم من صلات المودة .. وقد أشرنا إلى ذلك فى آخر سورة القصص،وفي أول هذه السورة ..
وهذه الآية تعرض قضية من قضايا هذا الصراع النفسي الذي أوجده الخلاف في الدين بين الآباء والأبناء ..
فالآباء الذين دعوا إلى الإسلام،قد وقفوا موقف العناد،وأبوا أن يتحولوا عما ألقوه من عادات ومعتقدات،وقليل منهم من آمن اللّه ..
والأبناء،كانوا أقرب إلى الإسلام،إذ لم تكن فطرتهم قد انطمست معالمها بعد،بموروثات آبائهم وأجدادهم،فحين دعوا إلى الدين الجديد،استجابوا له .. وقليل منهم من حزن وأبى! والأمثلة هنا كثيرة .. فقد سبق أبو بكر إلى الإسلام،وتأخر أبوه إلى يوم الفتح .. وعلى بن أبى طالب،سبق إلى الإسلام ولم يسلم أبوه .. وهكذا.
فماذا يكون الموقف بين أبناء مؤمنين وآباء مشركين ؟ إن الإسلام يوصى ببر الوالدين،وطاعتهما،والإحسان إليهما .. فماذا يكون الموقف لو أن الوالدين المشركين أرادا ابنهما على أن يرتد عن دينه الذي دخل فيه،ويعود إلى دينهم مشركا ؟ أيطيعهما،ويرتد مشركا،أم لا يلتفت إليهما،ولا يسمع لقولهما ؟
وجواب الإسلام على هذا هو أنه لا ينكر حق الوالدين،والطاعة المفروضة على الأبناء لهما،ولكن هذا،حق إذا تعارض مع حق هو أولى منه،قدّم الحق الأولى عليه ..وهنا حق أول،لزم الابن،ووجب عليه،هو الإيمان باللّه .. وإن أي حق يتعرض هذا الحق لا يلتفت إليه ..
وإذن،فالذى يقتضيه الموقف الذي يقفه الابن المؤمن من والديه المشركين،هو أن يلزم جانب الإيمان باللّه،وألا يجعل من طاعته لهما عصيانه للّه،وكفره به،على أن يلتزم الابن ـ ما استطاع ـ حدود الأدب معها،وألا يعنف بهما،وألا يسوق شيئا من الأذى(1/29)
إليهما،وحسبه أن يظل ممسكا بدينه،حريصا عليه،لا تنال منه أية قوة،مهما كان بأسها،وسلطانها ..
وفي قوله تعالى:« وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما » دعوة إلى التمسك بالدين،على الرغم من مجاهدة الوالدين للابن،وقسوتهما عليه،وأخذه بكل ما لهما عليه،من سلطان مادى أو أدبى.
وقوله تعالى:« ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ » ـ إشارة إلى أن المعتقد الدسني السليم،يجب أن يقوم على أساس من العلم،الذي يقيم لصاحبه تصوّرا واضحا،وإدراكا سليما للإله الذي يعبده .. أما أن يدين الإنسان بما دان به آباؤه وأجداده،من غير أن يكون له نظر وفهم،ومن غير أن يجد بين يديه الحجة والبرهان على أحقية معبوده بالعبادة،فذلك معتقد لا ينتفع به صاحبه،وإن كان في ذاته معتقدا سليما،لأنه لم ينبع عن إرادته،ولم يتصل بمشاعره. فهو كائن غريب في كيانه،وهذا يعنى أن الأبوين ـ أحدهما أو كليهما ـ إذا كانت منهما دعوة إلى ابنهما أن يعبد إلها غير اللّه،وأن يدين بدين غير الإسلام،الذي آمن به عن نظر واقتناع ـ فليس ذلك بالذي يمنع الابن من أن ينظر في هذه الدعوة الجديدة التي يدعى إليها من أبويه،وأن يتعرف على هذا الإله الذي يراد منه أن يعبده ..
فليس الإسلام بالذي يحجر على العقل أن ينظر في كل دين،وأن يبحث في كل معتقد،وأن يتفرس وجوه الآلهة التي يعبدها العابدون .. فهذا النظر وذلك البحث والتفرس،سينتهى آخر الأمر إلى حقيقتين :
أولاهما:أنه سيسقط من الحساب كلّ ما يقع عليه النظر من آلهة غير اللّه سبحانه وتعالى .. وأنه كلما تفرس المرء في وجه من وجوه هذه الآلهة التي تعبد من دون اللّه،أنكره،وارتفع بإنسانيته عن أن يعفر وجهه فى معبد لحجر،أو صنم،أو حيوان .. أو إنسان .. وبهذا النظر يفيد الإنسان علما،وهو أن المعبود الحق،هو اللّه جل وعلا،وأن أي معبود آخر،لا يجد العقل من جهته علما يمسك منه بحجة أو برهان على ألوهيته ـ هو معبود باطل .. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى:« وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ».(1/30)
. وما يشير إليه قوله سبحانه في آية أخرى:« وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ » (117:المؤمنون) وثانيتهما:أن هذا النظر المتفحص،الذي يطلب علما،ويرتاد حقيقة،من شأنه أن يثبت إيمان المؤمن باللّه،ويكشف له من جلال اللّه وعظمته،وعلمه،وقدرته ـ ما يملأ قلبه يقينا بربه،وطمأنينة إلى الدين الذي يدين به،فيعبد اللّه مخلصا له الدين،غير متعرض لما يتعرض له غيره من اهتزاز في إيمانه،واضطراب فى عقيدته،كلما مرت به محنة،أو أصابته فتنة .. فيكون ممن قال اللّه فيهم:« وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ » (11:الحج) ولهذا كان من تدبير الإسلام دعوة المؤمنين إلى النظر في ملكوت السموات والأرض،وإعمال العقل في كل ما يعرض للمؤمن من أمر،ولقد جعل الإسلام النظر والتدبر،عبادة يتقرب بها المؤمن إلى ربه،ويبغى بها المثوبة والرضوان.
قوله تعالى:«وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ » هو دعوة للوالدين المشركين،أن يأخذا طريقهما إلى الإيمان والعمل الصالح،ليكونا في عباد اللّه الصالحين،وليفوزا بما أعد اللّه سبحانه وتعالى لهما من رضا ورضوان .. ثم هو دعوة للأبناء المؤمنين أن يستمسكوا بدينهم،وأن يحتملوا فى صبر ورضا ما يلقون من آلام مادية ونفسية،ليظلوا في عباد اللّه المؤمنين الصالحين .. ثم هو دعوة عامة للناس جميعا،إلى الإيمان باللّه،والعمل الصالح ..
فالمؤمنون مدعوون ليتمسكوا بإيمانهم،ثم ليؤدوا لهذا الإيمان مطلوبه من الأعمال الصالحة .. وغير المؤمنين مدعوون ليؤمنوا باللّه أولا،ثم ليعملوا صالحا .. فهذا هو طريق النجاة والفلاح .. (1)
إن الصلة في اللّه هي الصلة الأولى،والرابطة في اللّه هي العروة الوثقى. فإن كان الوالدان مشركين فلهما الإحسان والرعاية،لا الطاعة ولا الاتباع. وإن هي إلا الحياة الدنيا ثم يعود الجميع إلى اللّه.
__________
(1) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (10 / 407)(1/31)
«إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» ..
ويفصل ما بين المؤمنين والمشركين. فإذا المؤمنون أهل ورفاق،ولو لم يعقد بينهم نسب ولا صهر: «وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ» ..
وهكذا يعود الموصولون باللّه جماعة واحدة،كما هم في الحقيقة وتذهب روابط الدم والقرابة والنسب والصهر،وتنتهي بانتهاء الحياة الدنيا،فهي روابط عارضة لا أصيلة،لانقطاعها عن العروة الوثقى التي لا انفصام لها.
فعَنْ سِمَاكٍ قَالَ:سَمِعْتُ مُصْعَبَ بْنَ سَعْدٍ , عَنْ أَبِيهِ قَالَ:أُنْزِلَتْ فِيَّ أَرْبَعُ آيَاتٍ , وَرُبَّمَا قَالَ:سَمِعْتُ مُصْعَبَ بْنَ سَعْدٍ قَالَ:أُنْزِلَتْ فِيَّ أَرْبَعُ آيَاتٍ.قَالَ:أَصَبْتُ سَيْفًا يَوْمَ بَدْرٍ فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقُلْتُ:نَفِّلْنِيهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَاجْعَلْهُ كَمَنْ لاَ غَنَاءَ لَهُ , فَقَالَ:ضَعْهُ مِنْ حَيْثُ أَخَذْتَهُ , فَأُنْزِلَتْ فِيَّ هَذِهِ الآيَةُ فِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ} قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ قَالَ:وَصَنَعَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ طَعَامًا فَدَعَانَا فَشَرِبْنَا الْخَمْرَ حَتَّى انْتَشَيْنَا قَبْلَ أَنْ تُحَرَّمَ قَالَ:فَتَفَاخَرْنَا فَقَالَ الأَنْصَارِيُّ:نَحْنُ أَفْضَلُ مِنْكُمْ قَالَ:قُلْتُ:نَحْنُ أَفْضَلُ مِنْكُمْ قَالَ:فَعَمَدَ الأَنْصَارِيُّ إِلَى نَحْرِ جَزُورٍ فَضَرَبَ بِهِ أَنْفِي فَخَزَزَهُ ,وَكَانَ أَنْفُ سَعْدٍ مَفْزُوزًا , فَأُنْزِلتْ فِيَّ هَذِهِ الآيَةُ:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} قَالَ:وَقَالَتْ أُمِّي:أَلَيْسَ تَزْعُمُ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَمَرَ بِصِلَةِ الْوَالِدِ وَالْبِرِّ , وَاللَّهِ لاَ أَطْعَمُ طَعَامًا وَلاَ أَشْرَبُ شَرَابًا حَتَّى أَمُوتَ أَوْ تَكْفُرَ بِاللَّهِ , فَجَعَلَتْ لاَ تَطْعَمُ شَيْئًا , فَكَانُوا إِذَا أَرَادُوا أَنْ يُطْعِمُوهَا شَجَرُوا فَاهَا بِعُودٍ ثُمَّ أَوْجَرُوهَا , فَأُنْزِلَتْ فِيَّ هَذِهِ الآيَةُ:{وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا} , فَأَتَانِي رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي مَرَضِي قَالَ:فَقُلْتُ:أُوصِي بِمَالِي كُلِّهِ ؟ قَالَ:فَنَهَانِي قَالَ:قُلْتُ:فَالشَّطْرُ ؟ فَنَهَانِي قَالَ:قُلْتُ:الثُّلُثُ ؟ قَالَ:فَسَكَتَ , فَكَانَ الثُّلُثُ سُنَّةً. (1)
__________
(1) - مسند الشاشي 335 - (1 / 46) (78) صحيح(1/32)
وهكذا انتصر الإيمان على فتنة القرابة والرحم واستبقي الإحسان والبر. وإن المؤمن لعرضة لمثل هذه الفتنة في كل آن فليكن بيان اللّه وفعل سعد هما راية النجاة والأمان. (1)
وقال تعالى :{وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14) وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15)} سورة لقمان
وَبَعْدَ أًَنْ ذَكَرَ اللهُ تَعَالى مَا وَصَّى بِهِ لُقْمَانُ ابْنَهُ مِنْ عِبَادَةِ اللهِ تَعَالى وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ،لأنَّهُ المُنْعِمُ المُوجِدُ،أًَتْبَعَ ذَلِكَ بِمَا أَوْصَى بِهِ الوَلَدَ بِالوَالِدَينِ،لِكَونِهِما السَّبَلَ في وُجُودِهِ،فَقَالَ تَعَالى إِنَّهُ أَمَرَ ( وَصِّينَا ) الإِنسانَ بِبِرِّ وَالدَيهِ وطَاعَتِهِما،وَبِالقِيامِ بِمَا يَتَوجَّبُ عَليهِ نَحْوَهُما،وَذَكَّرَ اللهُ تَعَالى الإِنسانَ بصُورَةٍ خَاصَّةٍ بما تَحَمَّلَتْهُ أُمَّهُ مِنَ العَنَاءِ والجَهْدِ والمَشَقَّةِ في حَمْلِهِ وَوِلاَدَتِهِ،وإِرْضَاعِهِ وتَرِبِيتَهِ،فَقَدْ حَمَلَتْهُ في جَهْدٍ ( وَهْنٍ ) يَتَزَايدُ بِتَزَايُدِ ثِقَلِ الحَمْلِ،ثُمّ أَرْضَعَتْهُ في عَامَينِ كَامِلَينِ،وهيَ تُقَاسِي مِنْ ذَلِكَ ما تُقَاسِي مِنَ المَشَاقِّ .
ثُمَّ أَمرَ اللهُ تَعَالى الإِنسَانَ بِشُكْرِهِ تَعَالى عَلَى نِعَمِهِ عَلَيهِ،وبِشُكْرِ وَالِدَيهِ لأََنَّهُمَا كَانَا سَبَبَ وُجُودِهِ،ثُمَّ نَبَّهَ اللهُ الإِنسانَ إِلى أَنَّهُ سَيَرجِعُ إِِلى اللهِ فَيُجَازِيهِ عَلَى عَمَلِهِ إنْ خَيْراً فَخَيْراً،وَإِنْ شَرّاً فَشَرّاً .
وَإِذا أَلَحَّ عَلَيكَ وَالِدَاكَ لِيَحْمِلاَكَ عَلَى أَنْ تَكْفُرَ بِاللهِ رَبِّكَ،وَعَلى أَنْ تُشْرِكَ مَعَهُ بِالعِبَادَةِ غَيْرَهُ مِنْ أَصْنامٍ وَأَنْدَادٍ،وَأَنْتَ لا تَعْلَمُ لِهؤُلاءِ الأَصْنَامِ والأَندَادِ شَرِكَةً مَعَ اللهِ في الخَلْقِ والأُلُوهِيَّةِ،فَلا تُطِعْهُما فِيما أمَراك بهِ،ولكِنَّ ذَلِكَ يَجِبُ أَنْ لا يَمْنَعَكَ مِنَ الإِحسَانِ إِليهِما،وَمُصَاحَبَتِهِما بِالمَعْرُوفِ خِلاَلَ أيامِ هذهِ الدُّنيا القَلِيلةِ الفَانِيَة كَإِطْعَامِهِمَا وكِسوَتِهِمَ،والعِنَايَةِ بِهِما إِذا مَرَضا...واتَّبعْ في أُمُورِ الدِّينِ سَبيلَ الذينَ أَخْلَصُوا العِبَادَةَ للهِ مِنَ المُؤْمِنينَ،وأَنَابُوا إِليهِ بدونِ وَهَنٍ وَلاَ تَرَدُّدٍ،فَإِنَّكُمْ رَاجِعُونَ إِليهِ تَعَالى جَمِيعاً يَومَ القِيَامَةِ،فَيُخبِرُكُمْ بِمَ كُنتُم تَعمَلُونَ مِنْ خَيرٍ وَشَرٍّ ويُجازِيكُمْ بِهِ .
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (5 / 2722)(1/33)
جاءت هاتان الآيتان معترضتين وصية لقمان لابنه،وذلك لتكتمل بها الحكمة،التي كان من أولى ثمراتها وأطيبها،شكر الخالق المنعم،ثم تكون الثمرة الثانية،وهى شكر الوالدين،وذلك ببرهما،والإحسان إليهما إذ كان لهما على الولد فضل الولادة،والتربية،والرعاية،ومن حق كل ذى فضل أن يشكر ويحمد ممن أحسن إليه .. وفي المأثور:« لاَ يَشْكُرُ اللَّهَ مَنْ لاَ يَشْكُرُ النَّاسَ. » (1) ..
ووصاة اللّه للإنسان بوالديه،هى أمر،وعزيمة،وتكليف،إذ كثيرا ما ينكر الإنسان هذا الحق الذي لوالديه عليه،كما أن كثيرا من الناس يكفر باللّه،ويجحد إحسان اللّه إليه،وفضله عليه .. ـ وفي قوله تعالى:« حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ » إشارة إلى أخفى لون في الصورة التي نبت منها الولد،ونشأ في حجر والديه،وإلفات للولد إلى هذا الخيط الواهي من الحياة التي كانت له،والتي أمسكت به الأم،نطفة ثم علقة .. ثم ما زالت تمسك بهذا الخيط في حرص وحذر،وتفرز له من عصارة حياتها ما يزيده على الأيام قوة ونماء،حتى تفتق عنه رحمها وليدا،طفلا،ثم ما زالت به تحمله بين يديها،وتضمه إلى صدرها،وترضعه من لبنها،حتى يفطم،ويرفع فمه عن هذا الينبوع الذي يمتص منه رحيق الحياة،ليستقبل بعد هذا ما يمده به والداه من طعام،حتى يشب ويكبر،ويستطيع أن يسعى سعيه في الحياة!.
إنها رحلة استمرت نحو عامين،قطعها هذا الإنسان دائرا في فلك أمه،بين حمل ورضاعة.
والوهن:الضعف .. ووهنا على وهن:أي ضعفا على ضعف .. وهو حال من الفاعل والمفعول معا في قوله تعالى:« حَمَلَتْهُ أُمُّهُ ».. فالضعف الذي تبدأ به حياة الجنين،تتلقاه الأم،فيصيبها منه ضعف،هو ضعف معاناة الحمل ..فيجتمع ضعف الجنين،مع ضعف الأم الوارد عليها منه ..والفصال:الفطام،حيث يفصل الطفل عن جسد أمه،الذي يظل ملصقا به نحو عامين،فى بطنها،وعلى صدرها،وبين ذراعيها ..
ـ وفي قوله تعالى:« أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ » تفسير للفعل « وَوَصَّيْنَا »..
__________
(1) - صحيح ابن حبان - (8 / 198) (3407) صحيح(1/34)
إذ الوصاة تحمل دعوة إلى هدى وخير،ومضمون الوصاة هنا هو الشكر للّه وللوالدين .. وقدم شكر اللّه على شكر الوالدين،لأن اللّه سبحانه هو الخالق وحده،وإذا كان للوالدين شىء هنا فهو للّه أيضا،فما هما إلا من خلق اللّه،وما هما إلا أداة من الأدوات العاملة بقدرة اللّه وبأمره .. ومع هذا،فإن ذلك عمل من عملهما،يجزيهما اللّه عليه،وهو حق للّه جعله اللّه لهما على أبنائهما،فضلا منه ـ سبحانه ـ وإحسانا.
وقوله تعالى:« إِلَيَّ الْمَصِيرُ » ـ إشارة إلى أن اللّه سبحانه وتعالى،له كلّ شىء في هذا الإنسان الذي ولد لهذين الأبوين،وأن هذه المشاركة التي تبدو للوالدين في إيجاد الولد،ليست إلا مشاركة ظاهرية،إن أعطت الوالدين حقّ الإحسان إليهما،والبرّ بهما،فلن تعطيهما حقّ العبادة،على نحو ما كان عليه معتقد أولئك الضالين،الذين يعبدون أصولهم من آباء وأجداد! ومن جهة أخرى،فإن قوله تعالى:« إِلَيَّ الْمَصِيرُ » تنبيه إلى هذا الحق الذي للوالدين على الولد،وأنه إذا قصّر في أدائه لهما،فإنه سيحاسب عليه يوم الحساب،يوم يقوم الناس لرب العالمين،ويعرضون عليه .. لا تخفى منهم خافية.
ـ وفي قوله تعالى:« وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً » ـ إشارة إلى موقف آخر،مختلف عن الموقف الأول،الذي يكون فيه الابن مؤديا حق والديه،قائما ببرّهما والإحسان إليهما .. وفي هذا الموقف يكون الأبوان على غير الطريق المستقيم،على حين يكون ابنهما على طريق الهدى والإيمان .. إنهما مشركان باللّه،وهو مؤمن .. وقد رأيا في إيمان ابنهما باللّه خروجا على طاعتهما،واستخفافا بدينهما لذى يدينان به،وخروجا على تقاليدهما الموروثة عن الآباء والأجداد ..
وهنا يقع الصدام،ويكثر الشد والجذب .. فالأيوان يؤرّقهما هذا الذي استحدثه ابنهما من دين،والابن على يقين من أمره،وعلى بصيرة من دينه،وإنه لا سبيل إلى أن يجمعه وإياهما طريق،إلا أن يؤمنا باللّه،وهيهات ..!
والابن المؤمن هنا،بين حقين يتنازعانه .. حق اللّه،وهو الإيمان به،وحق الوالدين،وهو طاعتهما،والامتثال لما يدعوانه إليه من شرك وضلال.(1/35)
وإنه لا خيار .. فإن حق اللّه أولى وألزم .. إنه يجبّ كل حق،ويعلو على كل واجب .. ولكن مع هذا،فإنه يبقى ـ مع الاحتفاظ بحق اللّه،والوفاء به ـ اللطف،والرفق،والمحاسن .. فإن ذلك لا يجور على حق اللّه ولا يؤثر في الإيمان الذي عمر به القلب:« وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما .. وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً ».
. فهذا هو أعدل موقف يأخذه الإنسان هنا،فيحتفظ فيه بحق اللّه،ولا يجحد بعض ما لأبويه من حقوق.
ـ وقوله تعالى:« وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ » توكيد لما جاء في قوله تعالى:« فَلا تُطِعْهُما » ومعطوف عليه.وسبيل من أناب إلى اللّه،هو سبيل المؤمنين،كما يقول سبحانه:« وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً » (115:النساء).
وقوله تعالى:« ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ » قطع لهذا الجدل،وذلك الخلاف حول الإيمان والشرك،فيمايدور بين الابن وأبويه،وإحالة لهذا الخلاف إلى اللّه سبحانه وتعالى،ليحكم فيه،ويجزى كلّا بما عمل. (1)
وتوصية الولد بالوالدين تتكرر في القرآن الكريم،وفي وصايا رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - ولم ترد توصية الوالدين بالولد إلا قليلا. ومعظمها في حالة الوأد - وهي حالة خاصة في ظروف خاصة - ذلك أن الفطرة تتكفل وحدها برعاية الوليد من والديه. فالفطرة مدفوعة إلى رعاية الجيل الناشئ لضمان امتداد الحياة،كما يريدها اللّه وإن الوالدين ليبذلان لوليدهما من أجسامهما وأعصابهما وأعمارهما ومن كل ما يملكان من عزيز وغال،في غير تأفف ولا شكوى بل في غير انتباه ولا شعور بما يبذلان! بل في نشاط وفرح وسرور كأنهما هما اللذان يأخذان! فالفطرة وحدها كفيلة بتوصية الوالدين دون وصاة! فأما الوليد فهو في حاجة إلى الوصية المكررة ليلتفت إلى الجيل المضحي المدبر المولّى الذاهب في أدبار
__________
(1) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (11 / 566)(1/36)
الحياة،بعد ما سكب عصارة عمره وروحه وأعصابه للجيل المتجه إلى مستقبل الحياة! وما يملك الوليد وما يبلغ أن يعوّض الوالدين بعض ما بذلاه،ولو وقف عمره عليهما. وهذه الصورة الموحية:«حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ» ترسم ظلال هذا البذل النبيل. والأم بطبيعة الحال تحتمل النصيب الأوفر وتجود به في انعطاف أشد وأعمق وأحنى وأرفق .. روى الحافظ أبوبكر البزار في مسنده - بإسناده - عن بريد عن أبيه أن رجلا كان في الطواف حاملا أمه يطوف بها،فسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - هل أديت حقها؟
قال:«لا. ولا بزفرة واحدة». هكذا .. ولا بزفرة .. في حمل أو في وضع،وهي تحمله وهنا على وهن.
وفي ظلال تلك الصورة الحانية يوجه إلى شكر اللّه المنعم الأول،وشكر الوالدين المنعمين التاليين ويرتب الواجبات،فيجيء شكر اللّه أولا ويتلوه شكر الوالدين .. «أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ» .. ويربط بهذه الحقيقة حقيقة الآخرة:«إِلَيَّ الْمَصِيرُ» حيث ينفع رصيد الشكر المذخور.
ولكن رابطة الوالدين بالوليد - على كل هذا الانعطاف وكل هذه الكرامة - إنما تأتي في ترتيبها بعد وشيجة العقيدة. فبقية الوصية للإنسان في علاقته بوالديه:«وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما» .. فإلى هنا ويسقط واجب الطاعة،وتعلو وشيجة العقيدة على كل وشيجة. فمهما بذل الوالدان من جهد ومن جهاد ومن مغالبة ومن اقناع ليغرياه بأن يشرك باللّه ما يجهل ألوهيته - وكل ما عدا اللّه لا ألوهية له فتعلم! - فهو مأمور بعدم الطاعة من اللّه صاحب الحق الأول في الطاعة.
ولكن الاختلاف في العقيدة،والأمر بعدم الطاعة في خلافها،لا يسقط حق الوالدين في المعاملة الطيبة والصحبة الكريمة:«وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً» فهي رحلة قصيرة على الأرض لا تؤثر في الحقيقة الأصيلة:«وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ» من المؤمنين «ثُمَّ إِلَيَّ(1/37)
مَرْجِعُكُمْ» بعد رحلة الأرض المحدودة «فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» ولكل جزاء ما عمل من كفران أو شكران،ومن شرك أو توحيد. (1)
وقال تعالى:{وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (15) سورة الأحقاف
بَعْدَ أَنْ أَمَرَ اللهَ تَعَالى عِبَادَهَ بالإِيمانِ بِهِ وَبِتَصْدِيقِ رَسُولِهِ،وبما جاءَ بِهِ مِنْ كِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللهِ،والاستِقَامَةِ عَلَى الإِيمانِ،حَثَّ النَّاسَ عَلَى الإِحسَانِ إِلى الوَالِدَينِ فأَخبَرَ تَعَالَى:أَنَّهُ أَمَرَ الإِنسَانَ بالإِحسَانِ إِلى وَالديْهِ،وَبِالحُنُوِّ عَلَيهِما،وَجَعَلَ برَّهُما مِنْ أَفْضَلِ القُرُبَاتِ إِلى اللهِ،وَجَعَلَ عُقُوقَهُما مِنَ كَبَائِرِ الذُّنوبِ،ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالى سَبَبَ تَوصِيَتِهِ الإِنسَانَ بِبِرِّ وَالدَيهِ،فَقَالَ:إِنَّ أُمَّهُ قَاسَتْ في حَمْلِهِ مَشَقَّةً وَتَعَباً،وَقَاسَتْ في وَضعِهِ مَشَقَّةً وأَلماً،وَكُلُّ ذَلِكَ يَسْتَدعي مِنَ الإِنسانِ الشكرَ،واستِحقَاقَ التَّكريمِ،وَجَميلَ الصُّحْبَةِ.وَمُدَّةُ حَمْلِ الطّفْلِ،وفِطَامِهِ،ثَلاثُونَ شَهْراً تَتَحَمَّلُ فِيها الأٌمُ أَعْظَمَ المَشَاقِّ.حَتَّى إِذَا بَلَغَ الطّفْلُ كَمَالَ قُوَّتِهِ وَعَقْلِهِ،وَبَلَغَ أَربَعِينَ سَنَةً مِنْ عُمْرِهِ قَالَ:رَبِّ أَلْهِمْنِي وَوَفِّقْنِي إِلى شُكْرِ نِعْمَتِكَ التِي أَنْعَمْتَ بِها عَلَيَّ،وَعَلَى وَالِدَيَّّ،مِنْ صِحَّةِ جِسْمٍ،وَسَعَةِ عَيْشٍ،واجْعْلَنْي أَعْمَل عَمَلاً صَالِحا يُرضِيكَ عَنِّي لأَنَالَ مَثُوبَتَهُ عِنْدَكَ،وَاجَعْلِ اللهُمَّ الصَّلاَحَ سَارِياً في ذُرِّيَّتِي،إِني تُبتُ إِليكَ مِنْ ذُنُوبِي التِي صَدَرتَ عَنِّي فِيما سَلَفَ مِنْ أَيَّامِي،وَإِنِّي مِنَ المُستَسلِمِينَ لأَمرِكَ وَقَضَائِكَ . (2)
فهي وصية لجنس الإنسان كله،قائمة على أساس إنسانيته،بدون حاجة إلى أية صفة أخرى وراء كونه إنسانا. وهي وصية بالإحسان مطلقة من كل شرط ومن كل قيد. فصفة الوالدية تقتضي هذا الإحسان بذاتها،بدون حاجة إلى أية صفة أخرى كذلك. وهي وصية صادرة من خالق الإنسان،وربما كانت خاصة بهذا الجنس أيضا. فما يعرف في عالم الطير أو الحيوان أو الحشرات وما إليها أن صغارها مكلفة برعاية كبارها.
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (5 / 2788)
(2) - ايسر التفاسير لحومد(1/38)
والمشاهد الملحوظ هو فقط تكليف فطرة هذه الخلائق أن ترعى كبارها صغارها في بعض الأجناس. فهي وصية ربما كانت خاصة بجنس الإنسان.
وتتكرر في القرآن الكريم وفي حديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - الوصية بالإحسان إلى الوالدين.
ولا ترد وصية الوالدين بالأولاد إلا نادرة،ولمناسبة حالات معينة. ذلك أن الفطرة وحدها تتكفل برعاية الوالدين للأولاد،رعاية تلقائية مندفعة بذاتها لا تحتاج إلى مثير. وبالتضحية النبيلة الكاملة العجيبة التي كثيرا ما تصل إلى حد الموت - فضلا على الألم - بدون تردد،ودون انتظار عوض،ودون منّ ولا رغبة حتى في الشكران! أما الجيل الناشئ فقلما يتلفت إلى الخلف. قلما يتلفت إلى الجيل المضحي الواهب الفاني. لأنه بدوره مندفع إلى الأمام،يطلب جيلا ناشئا منه يضحي له بدوره ويرعاه! وهكذا تمضي الحياة! والإسلام يجعل الأسرة هي اللبنة الأولى في بنائه والمحضن الذي تدرج فيه الفراخ الخضر وتكبر وتتلقى رصيدها من الحب والتعاون والتكافل والبناء. والطفل الذي يحرم من محضن الأسرة ينشأ شاذا غير طبيعي في كثير من جوانب حياته - مهما توافرت له وسائل الراحة والتربية في غير محيط الأسرة - وأول ما يفقده في أي محضن آخر غير محضن الأسرة،هو شعور الحب. فقد ثبت أن الطفل بفطرته يحب أن يستأثر وحده بأمه فترة العامين الأولين من حياته. ولا يطيق أن يشاركه فيها أحد. وفي المحاضن الصناعية لا يمكن أن يتوفر هذا. إذ تقوم الحاضنة بحضانة عدة أطفال،يتحاقدون فيما بينهم،على الأم الصناعية المشتركة،وتبذر في قلوبهم بذرة الحقد فلا تنمو بذرة الحب أبدا. كذلك يحتاج الطفل إلى سلطة واحدة ثابتة تشرف عليه فترة من حياته كي يتحقق له ثبات الشخصية. وهذا ما لا يتيسر إلا في محضن الأسرة الطبيعي. فأما في المحاضن الصناعية فلا تتوفر السلطة الشخصية الثابتة لتغير الحاضنات بالمناوبة على الأطفال. فتنشأ شخصياتهم مخلخلة،ويحرمون ثبات الشخصية .. والتجارب في المحاضن تكشف في كل يوم عن حكمة أصيلة في جعل الأسرة هي اللبنة الأولى في بناء المجتمع السليم،الذي يستهدف الإسلام إنشاءه على أساس الفطرة السليم.(1/39)
ويصور القرآن هنا تلك التضحية النبيلة الكريمة الواهبة التي تتقدم بها الأمومة،والتي لا يجزيها أبدا إحسان من الأولاد مهما أحسنوا القيام بوصية اللّه في الوالدين:«حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً،وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً،وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً» ..
وتركيب الألفاظ وجرسها يكاد يجسم العناء والجهد والضنى والكلال:«حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً. وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً» ..
لكأنها آهة مجهد مكروب ينوء بعبء ويتنفس بجهد،ويلهث بالأنفاس! إنها صورة الحمل وبخاصة في أواخر أيامه،وصورة الوضع وطلقه وآلامه! ويتقدم علم الأجنة فإذا به يكشف لنا في عملية الحمل عن جسامة التضحية ونبلها في صورة حسية مؤثرة ..
إن البويضة بمجرد تلقيحها بالخلية المنوية تسعى للالتصاق بجدار الرحم. وهي مزودة بخاصية أكالة. تمزق جدار الرحم الذي تلتصق به وتأكله فيتوارد دم الأم إلى موضعها،حيث تسبح هذه البويضة الملقحة دائما في بركة من دم الأم الغني بكل ما في جسمها من خلاصات وتمتصه لتحيا به وتنمو. وهي دائمة الأكلان لجدار الرحم. دائمة الامتصاص لمادة الحياة. والأم المسكينة تأكل وتشرب وتهضم وتمتص،لتصب هذا كله دما نقيا غنيا لهذه البويضة الشرهة النهمة الأكول! وفي فترة تكوين عظام الجنين يشتد امتصاصه للجير من دم الأم فتفتقر إلى الجير. ذلك أنها تعطي محلول عظامها في الدم ليقوم به هيكل هذا الصغير! وهذا كله قليل من كثير! ثم الوضع،وهو عملية شاقة،ممزقة،ولكن آلامها الهائلة كلها لا تقف في وجه الفطرة ولا تنسي الأم حلاوة الثمرة. ثمرة التلبية للفطرة،ومنح الحياة نبتة جديدة تعيش،وتمتد .. بينما هي تذوي وتموت! ثم الرضاع والرعاية. حيث تعطي الأم عصارة لحمها وعظمها في اللبن،وعصارة قلبها وأعصابها في الرعاية.(1/40)
وهي مع هذا وذلك فرحة سعيدة رحيمة ودود. لا تمل أبدا ولا تكره تعب هذا الوليد. وأكبر ما تتطلع إليه من جزاء أن تراه يسلم وينمو. فهذا هو جزاؤها الحبيب الوحيد! فأنى يبلغ الإنسان في جزاء هذه التضحية،مهما يفعل. وهو لا يفعل إلا القليل الزهيد؟ (1)
- - - - - - - - - - - - -
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (6 / 3261)(1/41)
المبحث الثالث
أسس بر الوالدين في حياتهما
الأساس الأول - ثواب البر في الدنيا والآخرة :
إن لبر الوالدين كبيرَ الأثر في حياة الإنسان الدنيوية والأخروية؛لهذا نجد الرسول - صلى الله عليه وسلم - يحدد معالم هذا البر،وأثره في حياة الفرد المسلم الذي إذا صلح أدى ذلك إلى صلاح المجتمع .
ويبين أن هذا البر حقٌّ واجب على الإنسان، وليس نفلاً يتبرع به،فعن بَهْزَ بْنِ حَكِيمِ بْنِ مُعَاوِيَةَ،عَنْ أَبِيهِ،عَنْ جَدِّهِ،قَالَ:قُلْتُ:يَا رَسُولَ اللهِ مَنْ أَبَرُّ ؟ قَالَ:أُمَّكَ.قُلْتُ:ثُمَّ مَنْ ؟ قَالَ:ثُمَّ أُمَّكَ،قَالَ:قُلْتُ:يَا رَسُولَ اللهِ،ثُمَّ مَنْ ؟ قَالَ:أُمَّكَ،قَالَ:قُلْتُ:ثُمَّ مَنْ ؟ قَالَ:ثُمَّ أَبَاكَ،ثُمَّ الأَقْرَبَ فَالأَقْرَبَ." (1)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: إِنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا نَبِيَّ اللهِ، مَنْ أَبَرُّ ؟ قَالَ: " أُمُّكَ "، قَالَ: ثُمَّ مَنْ ؟ قَالَ: " أُمُّكَ "، قَالَ: ثُمَّ مَنْ ؟ قَالَ: " أُمُّكَ "، قَالَ: ثُمَّ مَنْ ؟ قَالَ: " أَبُوكَ " (2)
وعَنْ كُلَيْبِ بْنِ مَنْفَعَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَنْ أَبِرُّ ؟ قَالَ: " أُمَّكَ وَأَبَاكَ , وَأُخْتَكَ وَأَخَاكَ , وَمَوْلَاكَ الَّذِي يَلِي ذَاكَ، حَقًّا وَاجِبًا , وَرَحِمًا مَوْصُولَةً " (3)
وعَنِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ الْكِنْدِيِّ،عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - :إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُوصِيكُمْ بِأُمَّهَاتِكُمْ،إِنَّ اللَّهَ يُوصِيكُمْ بِأُمَّهَاتِكُمْ،إِنَّ اللَّهَ يُوصِيكُمْ بِآبَائِكُمْ،إِنَّ اللَّهَ يُوصِيكُمْ بِالأَقْرَبِ فَالأَقْرَبِ. (4)
وعَنِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِيكَرِبَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:إِنَّ اللَّهَ يُوصِيكُمْ بِأُمَّهَاتِكُمْ , إِنَّ اللَّهَ يُوصِيكُمْ بِأُمَّهَاتِكُمْ , إِنَّ اللَّهَ يُوصِيكُمْ بِأُمَّهَاتِكُمْ , إِنَّ اللَّهَ يُوصِيكُمْ بِالأَقْرَبِ فَالأَقْرَبِ. (5)
__________
(1) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (6 / 728)(20028) 20281- صحيح
(2) - شعب الإيمان - (10 / 253) (7454 ) صحيح
(3) - معرفة الصحابة لأبي نعيم - (5 / 2398) (5870و7012 ) حسن
(4) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (5 / 854)(17187) 17319- صحيح
(5) - مسند الشاميين 360 - (1 / 116)(177) حسن(1/42)
وعَنِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِيكَرِبَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُوصِيكُمْ بِأُمَّهَاتِكُمْ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ , إِنَّ اللَّهَ يُوصِيكُمْ بِآبَائِكُمْ مَرَّتَيْنِ , إِنَّ اللَّهَ يُوصِيكُمْ بِالأَقْرَبِ فَالأَقْرَبِ. (1)
وعَنْ أَبِي أُمَامَةَ،أَنَّ رَجُلاً قَالَ:يَا رَسُولَ اللهِ،مَا حَقُّ الْوَالِدَيْنِ عَلَى وَلَدِهِمَا ؟ قَالَ:هُمَا جَنَّتُكَ وَنَارُكَ. (2)
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:" رِضَا الرَّبِّ فِي رِضَا الْوَالِدِ، وَسَخَطُ الرَّبِّ فِي سَخَطِ الْوَالِدِ " (3)
وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - :" رِضَا اللهِ فِي رِضَا الْوَالِدَيْنِ، وَسَخَطُ اللهِ فِي سَخَطِ الْوَالِدَيْنِ " (4)
وعَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ جَاهِمَةَ السُّلَمِيِّ قَالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنِّي أُرِيدُ الْجِهَادَ مَعَكَ فِي سَبِيلِ اللهِ أَبْتَغِي بِذَلِكَ وَجهَ اللهِ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ قَالَ: " أَحَيَّةٌ أُمُّكَ ؟ " قَالَ: قُلْتُ: نَعَمْ قَالَ: " الْزَمْهَا " قُلْتُ: مَا أَرَى رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَهِمَ عَنِّي قَالَ: ثُمَّ جِئْتُهُ مِنْ نَاحِيَةٍ أُخْرَى فَقُلْتُ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ ؟ فَقَالَ: " أَحَيَّةٌ أُمُّكَ ؟ " قَالَ: قُلْتُ: نَعَمْ قَالَ: " الْزَمْهَا " قَالَ: قُلْتُ: مَا أَرَى رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَهِمَ عَنِّي قَالَ: ثُمَّ جِئْتُهُ مِنْ نَاحِيَةٍ أُخْرَى، فَقُلْتُ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ فَقَالَ: " أَحَيَّةٌ أُمُّكَ ؟ " فَقُلْتُ: نَعَمْ قَالَ: " فَالْزَمْ رِجْلَهَا فَثَمَّ الْجَنَّةُ " (5)
وعَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ:أَنَّ رَجُلاً أَتَى أَبَا الدَّرْدَاءِ،فقَالَ:إِنَّ أَبِي لَمْ يَزَلْ بِي حَتَّى تَزَوَّجْتُ،وَإِنَّهُ الآنَ يَأْمُرُنِي بِطَلاَقِهَا،قَالَ:مَا أَنَا بِالَّذِي آمُرُكَ أَنْ تَعُقَّ وَالِدَكَ،وَلاَ أَنَا بِالَّذِي آمُرُكَ أَنْ تُطَلِّقَ امْرَأَتَكَ،غَيْرَ أَنَّكَ إِنْ شِئْتَ،حَدَّثْتُكَ مَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،سَمِعْتُهُ،يَقُولُ:الْوَالِدُ أَوْسَطُ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ،فَحَافِظْ عَلَى ذَلِكَ إِنْ شِئْتَ،أَوْ دَعْ،قَالَ:فَأَحْسِبُ عَطَاءً،قَالَ:فَطَلَّقَهَا. (6)
__________
(1) - مسند الشاميين 360 - (1 / 243)(431) صحيح
(2) - سنن ابن ماجة- ط- الرسالة - (4 / 631)(3662) ضعيف
(3) - سنن الترمذى- المكنز - (2020 ) صحيح
(4) - شعب الإيمان - (10 / 246) (7446 ) صحيح
(5) - سنن ابن ماجه- المكنز - (2886 ) ومعرفة الصحابة لأبي نعيم - (3 / 1553)(3933 ) حسن
(6) - صحيح ابن حبان - (2 / 168) (425) صحيح(1/43)
أثرُ برِّ الوالدين في الدنيا :
زيادة العمر والرزق،فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ،قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - :مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُمَدَّ لَهُ فِي عُمْرِهِ،وَيُزَادَ فِي رِزْقِهِ،فَلْيَبَرَّ وَالِدَيْهِ،وَلْيَصِلْ رَحِمَهُ. (1)
وعَنْ سَهْلِ بن مُعَاذِ بن أَنَسٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :"مَنْ بَرَّ وَالِدَيْهِ طُوبَى لَهُ، زَادَ اللَّهُ فِي عُمُرِهِ" (2)
وعَنْ ثَوْبَانَ،قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - :إِنَّ الرَّجُلَ لَيُحْرَمُ الرِّزْقَ بِالذَّنْبِ يُصِيبُهُ،وَلاَ يُرَدُّ الْقَدْرُ إِلاَّ بِالدُّعَاءِ،وَلاَ يَزِيدُ فِي الْعُمُرِ إِلاَّ الْبِرُّ. (3)
وعَنْ سَلْمَانَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - :" لَا يَرُدُّ الْقَضَاءَ إِلَّا الدُّعَاءُ، وَلَا يَزِيدُ فِي الْعُمُرِ إِلَّا الْبِرُّ " (4)
أثرُ برِّ الوالدين في الآخرة :
1- التكقير لذنوب الدنيا،عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَجُلاً أَتَى النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّى أَصَبْتُ ذَنْبًا عَظِيمًا فَهَلْ لِى مِنْ تَوْبَةٍ قَالَ « هَلْ لَكَ مِنْ أُمٍّ ». قَالَ لاَ. قَالَ « هَلْ لَكَ مِنْ خَالَةٍ ». قَالَ نَعَمْ. قَالَ « فَبِرَّهَا » (5) .
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ،أَنَّهُ أَتَاهُ رَجُلٌ فَقَالَ:إِنِّي خَطَبْتُ امْرَأَةً،فَأَبَتْ أَنْ تَنْكِحَنِي،وَخَطَبَهَا غَيْرِي،فَأَحَبَّتْ أَنْ تَنْكِحَهُ،فَغِرْتُ عَلَيْهَا فَقَتَلْتُهَا،فَهَلْ لِي مِنْ تَوْبَةٍ ؟ قَالَ:أُمُّكَ حَيَّةٌ ؟
__________
(1) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (4 / 679) (13811) 13847- صحيح
(2) - مسند أبي يعلى الموصلي(1494) والمعجم الكبير للطبراني - (15 / 128) (16845 ) حسن
(3) - صحيح ابن حبان - (3 / 152) (872) حسن
قَالَ أَبُو حَاتِمٍ : قَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم - فِي هَذَا الْخَبَرِ لَمْ يُرِدْ بِهِ عُمُومَهُ ، وَذَاكَ أَنَّ الذَّنْبَ لاَ يَحْرِمُ الرِّزْقَ الَّذِي رُزِقَ الْعَبْدُ ، بَلْ يُكَدِّرِ عَلَيْهِ صَفَاءَهُ إِذَا فَكَرَّ فِي تَعْقِيبِ الْحَالَةِ فِيهِ. وَدَوَامُ الْمَرْءِ عَلَى الدُّعَاءِ يُطَيِّبُ لَهُ وُرُودَ الْقَضَاءِ ، فَكَأَنَّهُ رَدَّهُ لِقِلَّةِ حِسِّهِ بِأَلَمِهِ ، وَالْبِرُّ يُطَيِّبُ الْعَيْشَ حَتَّى كَأَنَّهُ يُزَادُ فِي عُمْرِهِ بِطِيبِ عَيْشِهِ ، وَقِلَّةِ تَعَذُّرِ ذَلِكَ فِي الأَحْوَالِ.
(4) - شرح مشكل الآثار - (8 / 78) (3068 ) صحيح لغيره
(5) - سنن الترمذى- المكنز - (2027 ) صحيح(1/44)
قَالَ:لَا،قَالَ:تُبْ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ،وَتَقَرَّبْ إِلَيْهِ مَا اسْتَطَعْتَ.فَذَهَبْتُ فَسَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ:لِمَ سَأَلْتَهُ عَنْ حَيَاةِ أُمِّهِ ؟ فَقَالَ:إِنِّي لَا أَعْلَمُ عَمَلًا أَقْرَبَ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ بِرِّ الْوَالِدَةِ " (1)
2- دخول الجنة،عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا،أَنّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:دَخَلْتُ الْجَنَّةَ فَسَمِعْتُ فِيهَا قِرَاءَةً فَقُلْتُ:مَنْ هَذَا ؟ قَالُوا:حَارِثَةُ بْنُ النُّعْمَانِ،فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :كَذَلِكُمُ الْبِرُّ،كَذَلِكُمُ الْبِرُّ " " (2)
وعَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - :" نِمْتُ فَرَأَيْتُنِي فِي الْجَنَّةِ، فَسَمِعَتُ صَوْتَ قَارِئٍ يَقْرَأُ، فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا ؟ قَالُوا: حَارِثَةُ بْنُ النُّعْمَانِ "، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - :" كَذَاكَ الْبِرُّ،كَذَاكَ الْبِرُّ، كَذَاكَ الْبِرُّ، وَكَانَ أَبَرَّ النَّاسِ بِأُمِّهِ " (3)
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « رَغِمَ أَنْفُهُ ثُمَّ رَغِمَ أَنْفُهُ ثُمَّ رَغِمَ أَنْفُهُ ». قِيلَ مَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ « مَنْ أَدْرَكَ وَالِدَيْهِ عِنْدَ الْكِبَرِ أَحَدَهُمَا أَوْ كِلَيْهِمَا ثُمَّ لَمْ يَدْخُلِ الْجَنَّةَ ». (4)
وعَنْ أُبَيِّ بْنِ مَالِكٍ،عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ:مَنْ أَدْرَكَ وَالِدَيْهِ،أَوْ أَحَدَهُمَا،ثُمَّ دَخَلَ النَّارَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ،فَأَبْعَدَهُ اللَّهُ وَأَسْحَقَهُ (5) .
وعَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمُقْرِئِ،قَالَ:قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ:الْوَالِدُ أَوْسَطُ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ،فَاحْفَظْ ذَلِكَ الْبَابَ،أَوْ دَعْهُ. (6)
وعَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ،قَالَ:كَانَ فِينَا رَجُلٌ لَمْ تَزَلْ بِهِ أُمُّهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ حَتَّى تَزَوَّجَ،ثُمَّ أَمَرَتْهُ أَنْ يُفَارِقَهَا،فَرَحَلَ إِلَى أَبِي الدَّرْدَاءِ بِالشَّامِ،فَقَالَ:إِنَّ أُمِّي لَمْ تَزَلْ بِي حَتَّى تَزَوَّجْتُ،ثُمَّ أَمَرَتْنِي أَنْ أُفَارِقَ قَالَ:مَا أَنَا بِالَّذِي آمُرُكَ أَنْ تُفَارِقَ،وَمَا أَنَا بِالَّذِي آمُرُكَ أَنْ
__________
(1) - الْأَدَبُ الْمُفْرَدِ لِلْبُخَارِيِّ (4 ) صحيح
(2) - الآحاد والمثاني - (3 / 458) (1959) والمستدرك للحاكم (4929) صحيح
(3) - شعب الإيمان - (10 / 262) (7467 ) صحيح
(4) - صحيح مسلم- المكنز - (6675 )
(رغم أنفه) بالكسر أي لصق بالرغام أي التراب هذا أصله ثم استعمل في الذل والعجز عن الانتصاف من الظالم وقال القاضي: يستعمل رغم مجازاً بمعنى كره من باب إطلاق اسم السبب على المسبب
(5) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (6 / 463)(19027) 19236- صحيح
(6) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (8 / 899)(27552) 28103- صحيح(1/45)
تُمْسِكَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ:الْوَالِدُ أَوْسَطُ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ فَأَضِعْ ذَلِكَ الْبَابَ،أَوِ احْفَظْهُ قَالَ:فَرَجَعَ وَقَدْ فَارَقَهَا." (1)
وعَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ الْجُهَنِيِّ،قَالَ:جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ:يَا رَسُولَ اللهِ،شَهِدْتُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ،وَأَنَّكَ رَسُولُ اللهِ،وَصَلَّيْتُ الْخَمْسَ،وَأَدَّيْتُ زَكَاةَ مَالِي،وَصُمْتُ شَهْرَ رَمَضَانَ.فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - :مَنْ مَاتَ عَلَى هَذَا،كَانَ مَعَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ،هَكَذَا،وَنَصَبَ إِصْبَعَيْهِ،مَا لَمْ يُعَقَّ وَالِدَيْهِ. (2)
ــــــــــــــ
الأساس الثاني - تقديم بر الوالدين على الفروض الكفائية:
إن بر الوالدين فرض على كل فرد مسلم،فرضه الله تعالى على عباده، فلا يوازي هذا الفرض إلا فرض مثله،وبقوته،أي:إن الفروض العينية على كل فرد، توازي فرض بر الوالدين،مثل صلاة الفرض،وصيام الفرض، والزكاة، وما علم من الدين بالضرورة،والجهاد في سبيل الله في حالة فرضه العيني( وهو النفير العام )،ففي مثل هذه الحالات يحاول الابن قدر الإمكان التوفيق بينهما،فإذا عجز عن ذلك - مع بذل قصارى جهده- يقدم فرض الله العيني على فرضية بر الوالدين،ولهذا قال الإمام الغزالي رحمه الله،بعد أن ساق أحاديث بر الوالدين:" أكثرُ العلماء على أن طاعة الأبوين واجبةٌ في الشبهات" (3)
وسَبَقَ حَدِيثُ صَحِيحِ مُسْلِمٍ فِيمَنْ أَرَادَ الْبَيْعَةَ وَأَحَدُ وَالِدَيْهِ حَيٌّ،وَفِيهِ دَلاَلَةٌ عَلَى تَقْدِيمِ صُحْبَتِهِمَا عَلَى صُحْبَةِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - .وَتَقْدِيمِ خِدْمَتِهِمَا - الَّتِي هِيَ وَاجِبَةٌ عَلَيْهِ وُجُوبًا عَيْنِيًّا - عَلَى فُرُوضِ الْكِفَايَةِ؛وَذَلِكَ لأَِنَّ طَاعَتَهُمَا وَبِرَّهُمَا فَرْضُ عَيْنٍ،وَالْجِهَادُ فَرْضُ كِفَايَةٍ،وَفَرْضُ الْعَيْنِ أَقْوَى (4) .
__________
(1) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (8 / 888)(27511) 28061- صحيح
(2) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (7 / 885)(24009/81) 24299- حسن
(3) - الإحياء (2/218)
(4) - الفروق للقرافي 1 / 144ـ 145 ، 150 ، والزواجر 2 / 67 ، 73 .(1/46)
أما في الفروض الكفائية؛ التي إذا أقامها البعض قيامً يكتفي منه المجتمع المسلم،سقط عن الباقين،فإن فرض بر الوالدين يتقدم عليها جميعاً،فما بالك إذا تعارض فرض بر الوالدين مع المباحات والمندوبات، لهذا قال بعض الأكابر: "من شغله الفرائض عن النفل فهو معذور، ومن شغله النفل عن الفرض فهو مغرور ." (1)
فلتكن هذه الكلمة القيمة قاعدة أصيلة في حياة الإنسان ن يوازن بها المور،ويجريها عند التعارض،وسنأتي على ذلك بأمثلة :
1- تقديم بر الوالدين على الجهاد في سبيل الله:
عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ جَاهِمَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أسْتَشِيرُهُ فِي الْجِهَادِ، قَالَ: " أَلَكَ وَالِدَةٌ ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: " اذْهَبْ فَأَكْرِمْهَا، فَإِنَّ الْجَنَّةَ عِنْدَ رِجْلَيْهَا " وَفِي رِوَايَةِ إِنَّ جَاهِمَةَ أَتَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: إِنِّي أَرَدْتُ أَنْ أَغْزُوَ فَجِئْتُكَ أَسْتَشِيرُكَ، فَقَالَ: " أَلَكَ وَالِدَةٌ ؟ " قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: " اذْهَبْ فَالْزَمْهَا، فَإِنَّ الْجَنَّةَ عِنْدَ رِجْلَيْهَا " (2)
وعن عَبْدِ اللهِ، قَالَ: سَأَلْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَيُّ الْعَمَلِ أَحَبُّ إِلَى اللهِ تَعَالَى ؟ قَالَ: " الصَّلَاةُ لِوَقْتِهَا "، قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ ؟ قَالَ: " بِرُّ الْوَالِدَيْنِ "، قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ ؟ قَالَ: " الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ " (3)
وعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ،قَالَ:قُلْتُ:يَا رَسُولَ اللهِ،أَيُّ الأَعْمَالِ أَحَبُّ إِلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ ؟ قَالَ:صَلِّ الصَّلاَةَ لِمَوَاقِيتِهَا،قُلْتُ:ثُمَّ أَيُّ ؟ قَالَ:بِرُّ الْوَالِدَيْنِ،قُلْتُ:ثُمَّ أَيُّ ؟ قَالَ:ثُمَّ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ،وَلَوِ اسْتَزَدْتُهُ لَزَادَنِي. (4)
قال ابن التين: تقديم البر على الجهاد يحتمل وجهين: أحدهما: التعدية إلى نفع الغير، والثاني: أن الذي يفعله يرى أنه مكافأة على فعلهما، فكأنه يرى أن غيره أفضل منه، فنبهه
__________
(1) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (6 / 2592) -رقم الفتوى 43604 تتنفل ما شاءت على ألا تضيع حق زوجها وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (9 / 6924) -رقم الفتوى 68197 من وجد عملاً في غير تخصصه
(2) - شعب الإيمان - (10 / 248) (7448 -7450) صحيح
(3) - صحيح مسلم- المكنز - (262 )
(4) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (2 / 114)(3998) صحيح(1/47)
على إثبات الفضيلة فيه. قلت: والأول ليس بواضح، ويحتمل أنه قدم لتوقف الجهاد عليه، إذ من بر الوالدين استئذانهما في الجهاد لثبوت النهي عن الجهاد بغير إذنهما " (1)
وفي الموسوعة الفقهية:" اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ الْجِهَادُ لِلْوَلَدِ فِي حَال كَوْنِهِ فَرْضَ كِفَايَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ وَالِدَيْهِ إِذَا كَانَا مُسْلِمَيْنِ " (2) .
2- تقديم بر الوالدين على الزوجة والأصدقاء :
عَنْ حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ،عَنْ أَبِيهِ،قَالَ:كَانَتْ تَحْتِي امْرَأَةٌ وَكُنْتُ أُحِبُّهَا،وَكَانَ أَبِي يَكْرَهُهَا،فَأَمَرَنِي بِطَلاَقِهَا،فَأَبَيْتُ،فَذَكَرَ ذَلِكَ عُمَرُ لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ،فقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - :يَا عَبْدَ اللهِ طَلِّقْهَا. (3)
وعَنْ حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ،عَنْ أَبِيهِ،قَالَ:كَانَتْ تَحْتِي امْرَأَةٌ تُعْجِبُنِي،وَكَانَ عُمَرُ يَكْرَهُهَا،فَقَالَ لِي:طَلِّقْهَا،فَأَبَيْتُ،فَأَتَى عُمَرُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ،فَقَالَ:يَا رَسُولَ اللَّهِ،إِنَّ عِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ امْرَأَةً قَدْ كَرِهْتُهَا،فَأَمَرْتُهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا،فَأَبَى،فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ،طَلِّقِ امْرَأَتَكَ،وَأَطِعْ أَبَاكَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ:فَطَلَّقْتُهَا " (4)
قلت:لا بد أنها كانت مقصرة في حق الله تعالى حتى أمره بطلاقها.
وعَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ،أَنَّ رَجُلا أَمَرَهُ أَبَوَاهُ أَو أَحَدُهُمَا أَنْ يُطَلِّقَ امْرَأَتَهُ،فَجَعَلَ أَلْفَ مُحَرَّرٍ،أَوْ مِائَةَ مُحَرَّرٍ،وَمَا لَهُ هَدْيًا إِنْ فَعَلَ،فَأَتَى أَبَا الدَّرْدَاءَ،فَذَكَرَ أَنَّهُ صَلَّى الضُّحَى،ثُمَّ سَأَلَهُ،فَقَالَ:أَوْفِ بِنَذْرِكَ،وَبَرَّ وَالِدَيْكَ،فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ،يَقُولُ:الْوَالِدُ أَوْسَطُ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ،فَإِنْ شِئْتَ فَحَافِظْ عَلَى الْبَابِ،أَوِ اتْرُكْ " (5)
__________
(1) - فتح الباري شرح صحيح البخاري- ط دار الفكر - (10 / 401)
(2) - الموسوعة الفقهية الكويتية - (6 / 261) ودر المنتقى في شرح الملتقى بهامش مجمع الأنهر 1 / 640 ، والشرح الصغير على ، أقرب المسالك 2 / 274 ، ومغني المحتاج 4 / 217 - 218 وكشف المخدرات ص 201 وحديث : " أحي والدك . . . . " أخرجه البخاري ومسلم من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنه ( فتح الباري 6 / 140 ط السلفية ، وصحيح مسلم 4 / 1975 ط عيسى الحلبي )
(3) - صحيح ابن حبان - (2 / 170) (427) صحيح
(4) - المستدرك للحاكم (7253) صحيح
(5) - المستدرك للحاكم (7252) صحيح(1/48)
وعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ:سَأَلْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَيُّ النَّاسِ أَعْظَمُ حَقًّا عَلَى الْمَرْأَةِ ؟ قَالَ:" زَوْجُهَا " قُلْتُ:فَأَيُّ النَّاسِ أَعْظَمُ حَقًّا عَلَى الرَّجُلِ ؟ قَالَ:" أُمُّهُ " (1)
وَسَأَل رَجُلٌ الإِْمَامَ أَحْمَدَ فَقَال:إِنَّ أَبِي يَأْمُرُنِي أَنْ أُطَلِّقَ امْرَأَتِي.قَال:لاَ تُطَلِّقْهَا.قَال:أَلَيْسَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَمَرَ ابْنَهُ عَبْدَ اللَّهِ أَنْ يُطَلِّقَ امْرَأَتَهُ ؟ قَال:حَتَّى يَكُونَ أَبُوكَ مِثْل عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.يَعْنِي لاَ تُطَلِّقْهَا بِأَمْرِهِ حَتَّى يَصِيرَ مِثْل عُمَرَ فِي تَحَرِّيهِ الْحَقَّ وَالْعَدْل،وَعَدَمِ اتِّبَاعِ هَوَاهُ فِي مِثْل هَذَا الأَْمْرِ .
وَاخْتَارَ أَبُو بَكْرٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ يَجِبُ؛لأَِمْرِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - لاِبْنِ عُمَرَ.وَقَال الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ بْنُ تَيْمِيَةَ فِيمَنْ تَأْمُرُهُ أُمُّهُ بِطَلاَقِ امْرَأَتِهِ.قَال:لاَ يَحِل لَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا.بَل عَلَيْهِ أَنْ يَبَرَّهَا.وَلَيْسَ تَطْلِيقُ امْرَأَتِهِ مِنْ بِرِّهَا . (2)
3- تقديم بر الوالدين على حج التطوع:
عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ: سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ، يَقُولُ: قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - :" " لِلْعَبْدِ الْمَمْلُوكِ الْمُصْلِحِ أَجْرَانِ " "، وَالَّذِي نَفْسُ أَبِي هُرَيْرَةَ بِيَدِهِ، لَوْلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالْحَجُّ وَبِرُّ أُمِّي لَأَحْبَبْتُ أَنْ أَمُوتَ وَأَنَا مَمْلُوكٌ، قَالَ: وَبَلَغَنَا أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ لَمْ يَحُجَّ حَتَّى مَاتَتْ أُمُّهُ لِصُحْبَتِهَا . (3)
وإِنَّما استَثنَى أَبُو هُرَيرَة هَذِهِ الأَشياء لأَنَّ الجِهاد والحَجّ يُشتَرَطُ فِيهِما إِذنُ السَّيِّدِ،وكَذَلِكَ بِرّ الأُمّ فَقَد يَحتاجُ فِيهِ إِلَى إِذن السَّيِّد فِي بَعض وُجُوهه،بِخِلافِ بَقِيَّة العِبادات البَدَنِيَّة.
__________
(1) - عشرة النساء للإمام للنسائي - الطبعة الثالثة - (1 / 170)251- 7906- وأخرجه الحاكم برقم (7244) وقال الحافظ فى " الفتح " 10 / 402 : صححه الحاكم واتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة - ( 3205) وقال : هذا إسناد حسن.
وقد نص الحافظ في التقريب على أن أبي عتبة مجهول ، وذكر تصحيح الحاكم في الفتح والظاهر أنه كما قال البوصيري
(2) - الآداب الشرعية والمنح المرعية لابن مفلح المقدسي الحنبلي 1 / 503 ، والزواجر 2 / 72 .
(3) - صحيح البخارى- المكنز - (2548) وصحيح مسلم- المكنز - (4410)(1/49)
ولَم يَتَعَرَّض لِلعِباداتِ المالِيَّة إِمّا لِكَونِهِ كانَ إِذ ذاكَ لَم يَكُن لَهُ مال يَزِيد عَلَى قَدر حاجَته فَيُمكِنُهُ صَرفُهُ فِي القُرُبات بِدُونِ إِذن السَّيِّد،وإِمّا لأَنَّهُ كانَ يَرَى أَنَّ لِلعَبدِ أَن يَتَصَرَّفَ فِي ماله بِغَيرِ إِذنِ السَّيِّد. (1)
قَوْله:( وَبَلَغَنَا أَنَّ أَبَا هُرَيْرَة لَمْ يَكُنْ يَحُجّ حَتَّى مَاتَتْ أُمّه لِصُحْبَتِهَا )
الْمُرَاد بِهِ حَجُّ التَّطَوُّع،لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ حَجَّ حَجَّة الْإِسْلَام فِي زَمَن النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - ،فَقَدَّمَ بِرّ الْأُمّ عَلَى حَجّ التَّطَوُّع؛لِأَنَّ بِرّهَا فَرْض فَقُدِّمَ عَلَى التَّطَوُّع،وَمَذْهَبنَا وَمَذْهَب مَالِك أَنَّ لِلْأَبِ وَالْأُمّ مَنْع الْوَلَد مِنْ حَجَّة التَّطَوُّع دُون حَجَّة الْفَرْض . (2)
4- تقديم بر الوالدين على زيارة الرسول - صلى الله عليه وسلم - :
هذا نموذج في غاية الروعة والجمال،اكتسب صاحبه شرف السبق في كل ميدان بفضل شغله ببر أمه، حتى إنه ما كان يستطيع زيارة النبي - صلى الله عليه وسلم - ومشاهدته ولو مرة،لينال شرف الصحبة،لاحتياج أمه إليه،إنه أويس القرني رحمه الله ورزقنا مثل بره،عَنْ أُسَيْرِ بْنِ جَابِرٍ،قَالَ:كَانَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِذَا أَتَتْ عَلَيْهِ - وَفِي رِوَايَةِ الْمُقْرِئِ:إِذَا قَدِمَ عَلَيْهِ - أَمْدَادُ أَهْلِ الْيَمَنِ سَأَلَهُمْ:أَفِيكُمْ أُوَيْسُ بْنُ عَامِرٍ ؟ حَتَّى أَتَى عَلَى أُوَيْسٍ فَقَالَ:أَنْتَ أُوَيْسُ بْنُ عَامِرٍ ؟ قَالَ:نَعَمْ , قَالَ:مِنْ مُرَادٍ ثُمَّ مِنْ قَرَنٍ ؟ قَالَ:نَعَمْ , قَالَ:كَانَ بِكَ بَرَصٌ فَبَرِئْتَ مِنْهُ إِلَّا مَوْضِعَ دِرْهَمٍ ؟ قَالَ:نَعَمْ , قَالَ:أَلَكَ وَالِدَةٌ ؟ قَالَ:نَعَمْ , فَقَالَ عُمَرُ:سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ:" يَأْتِي عَلَيْكُمْ أُوَيْسُ بْنُ عَامِرٍ مَعَ أَمْدَادِ أَهْلِ الْيَمَنِ مِنْ مُرَادٍ ثُمَّ مِنْ قَرَنٍ , كَانَ بِهِ بَرَصٌ فَبَرَأَ مِنْهُ إِلَّا مَوْضِعَ دِرْهَمٍ،لَهُ وَالِدَةٌ هُوَ بِهَا بَرٌّ , لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ،فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَكَ فَافْعَلْ " , فَاسْتَغْفِرْ لِي،فَاسْتَغْفَرَ لَهُ , ثُمَّ قَالَ لَهُ عُمَرُ:أَيْنَ تُرِيدُ ؟ قَالَ:الْكُوفَةَ.قَالَ:أَلَا أَكْتُبُ لَكَ إِلَى عَامِلِهَا.وَفِي رِوَايَةِ الْمُقْرِئِ:أَلَا أَكْتُبُ إِلَى عَامِلِهَا فَيَسْتَوْصُوا بِكَ خَيْرًا ؟ فَقَالَ:لَأَنْ أَكُونَ فِي غَمْرِ النَّاسِ،وَفِي رِوَايَةِ الْمُقْرِئِ:فِي غِمَارِ النَّاسِ أَحَبُّ إِلَيَّ،فَلَمَّا كَانَ فِي الْعَامِ الْمُقْبِلِ حَجَّ رَجُلٌ مِنْ أَشْرَافِهِمْ فَسَأَلَ عُمَرَ عَنْ أُوَيْسٍ , كَيْفَ تَرَكْتَهُ قَالَ:تَرَكْتُهُ رَثَّ الْبَيْتِ - وَفِي رِوَايَةِ الْمُقْرِئِ:رَثَّ
__________
(1) - فتح الباري شرح صحيح البخاري- ط دار المعرفة - (5 / 176)
(2) - شرح النووي على مسلم - (6 / 66)(1/50)
الثِّيَابِ - قَلِيلَ الْمَتَاعِ.قَالَ:سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ:" يَأْتِي عَلَيْكُمْ أُوَيْسُ بْنُ عَامِرٍ مَعَ أَمْدَادِ أَهْلِ الْيَمَنِ،مِنْ مُرَادٍ , ثُمَّ مِنْ قَرَنٍ،كَانَ بِهِ بَرَصٌ فَبَرَأَ مِنْهُ إِلَّا مَوْضِعَ دِرْهَمٍ , لَهُ وَالِدَةٌ هُوَ بِهَا بَرٌّ , لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ , فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَكَ فَافْعَلْ ".فَلَمَّا قَدِمَ الرَّجُلُ أَتَى أُوَيْسًا فَقَالَ:اسْتَغْفِرْ لِي.قَالَ:أَنْتَ أَحْدَثُ عَهْدًا بِسَفَرٍ صَالِحٍ.فَاسْتَغْفَرَ لِي وَقَالَ:لَقِيتَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ ؟ فَقَالَ:نَعَمْ , قَالَ:فَاسْتَغْفَرَ لَهُ , قَالَ:فَفَطِنَ لَهُ النَّاسُ فَانْطَلَقَ عَلَى وَجْهِهِ،قَالَ أُسَيْرٌ:فَكَسَوْتُهُ بُرْدًا فَكَانَ إِذَا رَآهُ إِنْسَانٌ قَالَ:مِنْ أَيْنَ لِأُوَيْسٍ هَذَا ؟ . (1)
البرص:بياض يصيب الجِلْد
بَرَأَ أو بَرِئ:شفي من المرض
البر:اسم جامع لكل معاني الخير والإحسان والصدق والطاعة وحسن الصلة والمعاملة
أبر الله قَسَمَه:صدقه وأجابه وأمضاه
الرث:القديم الهالك البالي،والمراد سيئ الهيئة
المتاع:كل ما يُنْتَفَعُ به وَيُسْتَمْتَعُ،أو يُتَبَلَّغُ بِهِ ويتُزَوَدَّ من سلعة أو مال أو زوج أو أثاث أو ثياب أو مأكل وغير ذلك
البْرُدُ والبُرْدة:الشَّمْلَةُ المخطَّطة، وقيل كِساء أسود مُرَبَّع فيه صورٌ
5- تقديم بر الوالدين على الأولاد :
معنا الآن حادثة عجيبة في أمرها،عظيمة في بابها،رائعة في إخلاصها،قمة في معانيها،وفي بر صاحبها،تبين كيف أن الإخلاص في بر الوالدين ينجي صاحبه في الظلمات الحالكة،وفي الأزمات الصعبة عندما يبلغ آخر أنفاسه،فيأتيه الفرج الرباني لقاء بر الوالدين،جعلنا الله وإياكم من البررة،عَنِ الزُّهْرِيِّ، حَدَّثَنِي سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،يَقُولُ: " انْطَلَقَ ثَلَاثَةُ رَهْطٍ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ حَتَّى آوَاهُمُ الْمَبِيتُ إِلَى غَارٍ فَدَخَلُوهُ، فَانْحَدَرَتْ صَخْرَةٌ مِنَ الْجَبَلِ، فَسَدَّتْ عَلَيْهِمُ الْغَارَ، فَقَالُوا: إِنَّهُ وَاللهِ لَا يُنْجِيكُمْ مِنْ هَذِهِ الصَّخْرَةِ إِلَّا أَنْ تَدْعُوا اللهَ بِصَالِحِ أَعْمَالِكُمْ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْهُمُ: اللهُمَّ كَانَ
__________
(1) - صحيح مسلم- المكنز - (6656) ودَلَائِلُ النُّبُوَّةِ لِلْبَيْهَقِيِّ (2661 )(1/51)
لِي أَبَوَانِ شَيْخَانِ كَبِيرَانِ، فَكُنْتُ لَا أَغْبِقُ قَبْلَهُمَا أَهْلًا وَلَا مَالًا، فَنَاءَ بِيَ طَلَبُ السَّحَرِ يَوْمًا، فَلَمْ أَرُحْ عَلَيْهِمَا حَتَّى نَامَا، فَحَلَبْتُ لَهُمَا غَبُوقَهُمَا فَجِئْتُهُمَا بِهِ، فَوَجَدْتُهُمَا نَائِمَيْنِ، فَتَحَرَّجْتُ أَنْ أُوقِظَهُمَا، وَكَرِهْتُ أَنْ أَغْبِقَ قَبْلَهُمَا أَهْلًا أَوْ مَالًا، فَقُمْتُ وَالْقَدَحُ عَلَى يَدَيَّ أَنْتَظِرُ اسْتِيقَاظَهُمَا حَتَّى بَرَقَ الْفَجْرُ، فَاسْتَيْقَظَا فَشَرِبَا غَبُوقَهُمَا، اللهُمَّ إِنْ كُنْتُ فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ فَافْرُجْ عَنَّا مَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ هَذِهِ الصَّخْرَةِ، فَانْفَرَجَتِ انْفِرَاجًا لَا يَسْتَطِيعُونَ الْخُرُوجَ مِنْهَا "، قَالَ: وَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - :" وَقَالَ الْآخَرُ: اللهُمَّ كَانَتْ لِي بِنْتُ عَمٍّ، وَكَانَتْ أَحَبَّ النَّاسِ إِلَيَّ، فَأَرَدْتُهَا عَنْ نَفْسِهَا فَامْتَنَعَتْ مِنِّي، حَتَّى أَلَمَّتْ بِهَا سَنَةٌ مِنَ السِّنِينَ، فَجَاءَتْنِي فَأَعْطَيْتُهَا عِشْرِينَ وَمِائَةَ دِينَارٍ عَلَى أَنْ تُخَلِّيَ بَيْنِي وَبَيْنَ نَفْسِهَا، فَفَعَلَتْ حَتَّى إِذَا قَدَرْتُ عَلَيْهَا، قَالَتْ: لَا أُحِلُّ لَكَ أَنْ تَفُضَّ الْخَاتَمَ إِلَّا بِحَقِّهِ، فَتَحَرَّجْتُ مِنَ الْوقُوعِ عَلَيْهَا، فَانْصَرَفْتُ عَنْهَا وَهِيَ أَحَبُّ النِّسَاءِ إِلَيَّ، وَتَرَكْتُ الَّذِي أَعْطَيْتُهَا، اللهُمَّ إِنْ كُنْتُ فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ فَافْرُجْ عَنَّا مَا نَحْنُ فِيهِ، فَانْفَرَجَتِ الصَّخْرَةُ غَيْرَ أَنَّهُمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ الْخُرُوجَ مِنْهَا "، قَالَ: وَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - :" ثُمَّ قَالَ الثَّالِثُ: اللهُمَّ اسْتَأْجَرْتُ أُجَرَاءَ فَأَعْطَيْتُهُمْ أُجُورَهُمْ غَيْرَ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْهُمْ تَرَكَ الَّذِي لَهُ وَذَهَبَ، فَثَمَّرْتُ أَجْرَهُ حَتَّى كَثُرَتْ مِنْهُ الْأَمْوَالُ وَارْتَعَجَتْ، فَجَاءَنِي بَعْدَ حِينٍ، فَقَالَ لِي: يَا عَبْدَ اللهِ، أَدِّ لِي أَجْرِي، فَقُلْتُ لَهُ: كُلُّ مَا تَرَى مِنْ أَجْرِكَ مِنَ الْإِبِلِ،وَالْبَقَرِ، وَالْغَنَمِ، وَالرَّقِيقِ، فَقَالَ: يَا عَبْدَ اللهِ، لَا تَسْتَهْزِئْ بِي، فَقُلْتُ: إِنِّي لَا أَسْتَهْزِئُ بِكَ، فَأَخَذَ ذَلِكَ كُلَّهُ فَاسْتَاقَهُ،فَلَمْ يَتْرُكْ مِنْهُ شَيْئًا، اللهُمَّ فَإِنْ كُنْتُ فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ فَافْرُجْ عَنَّا مَا نَحْنُ فِيهِ، فَانْفَرَجَتِ الصَّخْرَةُ فَخَرَجُوا مِنَ الْغَارِ يَمْشُونَ " (1)
الغبوق:شراب آخر النهار،والمراد:إنني ما كنت أقدم عليهما في شراب حظهما من اللبن أحدا.
يتضاغون:أي يضجون ويصيحون من الجوع.
السنة:الجدب والقحط.
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (2272) وشعب الإيمان - (9 / 315) (6704 ) ... ...(1/52)
ألمت،بها:إذا قرب منها ودنا الجدب.
فأردتها:أي راودتها وطلبت منها أن تمكنني من نفسها.
تفض،الخاتم:كناية عن الجماع والوطء.
التحرج:الهرب من الحرج،وهو الإثم والضيق.
فرق،الفرق:مكيال يسع ستة عشر رطلا.
فانساحت:بالحاء المهملة،أي:انفسحت وتنحت.
6- تقديم بر الأم على النوافل :
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: " كَانَ جُرَيْجٌ يَتَعَبَّدُ فِي صَوْمَعَتِهِ،فَجَاءَتْهُ أُمُّهُ، فَقَالَتْ: يَا جُرَيْجُ، أَنَا أُمُّكَ، كَلِّمْنِي " قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: " جَعَلَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَصِفُ لَنَا صِفَتَهَا حِينَ قَالَتْ هَكَذَا، وَوَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى جَبِينِهِ هَكَذَا "، وَقَالَ مُوسَى فِي حَدِيثِهِ: وَوَضَعَ سُلَيْمَانُ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى حَاجِبِهِ الْأَيْمَنِ، وَأَمَّا شَيْبَانُ فَقَالَ فِي حَدِيثِهِ: وَوَصَفَ لَنَا أَبُو رَافِعٍ صِفَةَ أَبِي هُرَيْرَةَ يَصِفُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ " حَيْثُ دَعَتْهُ كَيْفَ جَعَلَتْ كَفَّهَا فَوْقَ حَاجِبِهَا، ثُمَّ رَفَعَتْ رَأْسَهَا تَدْعُوهُ، فَقَالَتْ: يَا جُرَيْجُ، أَنَا أُمُّكَ فَكَلِّمْنِي، فَصَادَفَتْهُ يُصَلِّي، قَالَ: اللهُمَّ أُمِّي وَصَلَاتِي، فَاخْتَارَ صَلَاتَهُ، فَرَجَعَتْ، ثُمَّ أَتَتْهُ الثَّانِيَةَ فَقَالَتْ: يَا جُرَيْجُ، أَنَا أُمُّكَ فَكَلِّمْنِي، قَالَ: فَصَادَفَتْهُ يُصَلِّي، قَالَ: اللهُمَّ أُمِّي وَصَلَاتِي، فَاخْتَارَ صَلَاتَهُ، ثُمَّ أَتَتْهُ الثَّالِثَةَ، فَقَالَتْ: يَا جُرَيْجُ، أَنَا أُمُّكَ، كَلِّمْنِي، فَصَادَفَتْهُ يُصَلِّي، قَالَ: اللهُمَّ أُمِّي وَصَلَاتِي، فَاخْتَارَ صَلَاتَهُ، فَقَالَتِ: اللهُمَّ إِنَّ هَذَا جُرَيْجٌ، وَإِنَّهُ ابْنِي، وَإِنِّي قَدْ كَلَّمْتُهُ فَأَبَى أَنْ يُكَلِّمَنِي، اللهُمَّ فَلَا تُمِتْهُ حَتَّى تُرِيَهُ الْمُومِسَاتِ،قَالَ: وَلَوْ دَعَتْ عَلَيْهِ أَنْ يُفْتَنَ لَفُتِنَ، قَالَ: وَكَانَ رَاعِي ضَأْنٍ يَأْوِي إِلَى دَيْرِهِ، فَخَرَجَتِ امْرَأَةٌ مِنَ الْقَرْيَةِ فَوَقَعَ عَلَيْهَا فَحَمَلَتْ فَوَلَدَتْ غُلَامًا، فَقِيلَ لَهَا: مِمَّنْ هَذَا ؟ قَالَتْ: مِنْ صَاحِبِ هَذِهِ الصَّوْمَعَةِ - وَقَالَ مُوسَى: مِنْ صَاحِبِ هَذَا الدَّيْرِ - فَأَقْبَلُوا عَلَيْهِ، قَالَ: فَجَاءُوا بِفُؤُوسِهِمْ، وَمَسَاحِيهِمْ فَنَادَوْهُ وَصَادَفُوهُ يُصَلِّي، فَلَمْ يُكَلِّمْهُمْ، فَأَخَذُوا يَهْدِمُونَ دَيْرَهُ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ نَزَلَ إِلَيْهِمْ، فَقَالُوا لَهُ: سَلْ هَذِهِ، فَمَسَحَ رَأْسَ الصَّبِيِّ، وَفِي حَدِيثٍ: فَتَبَسَّمَ، ثُمَّ مَسَحَ رَأْسَ الصَّبِيِّ وَقَالَ: مَنْ أَبُوكَ ؟ قَالَ: أَبِي رَاعِي الضَّأْنِ، فَلَمَّا سَمِعُوا ذَلِكَ(1/53)
مِنْهُ وَرَأَوْا مَا رَأَوْا قَالُوا: نَحْنُ نَبْنِي مَا هَدَمْنَا مِنْ دَيْرِكَ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، قَالَ: لَا، وَلَكِنْ أَعِيدُوهُ تُرَابًا كَمَا كَانَ " (1) .
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - :لَمْ يَتَكَلَّمْ فِي الْمَهْدِ إِلاَّ ثَلاَثَةٌ:عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ،قَالَ:وَكَانَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ رَجُلٌ عَابِدٌ يُقَالُ لَهُ:جُرَيْجٌ،فَابْتَنَى صَوْمَعَةً وَتَعَبَّدَ فِيهَا،قَالَ:فَذَكَرَ بَنُو إِسْرَائِيلَ يَوْمًا عِبَادَةَ جُرَيْجٍ،فَقَالَتْ:بَغِيٌّ مِنْهُمْ:لَئِنْ شِئْتُمْ لأُفْتِنَنَّهُ فَقَالُوا:قَدْ شِئْنَا،قَالَ:فَأَتَتْهُ فَتَعَرَّضَتْ لَهُ،فَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَيْهَا،فَأَمْكَنَتْ نَفْسَهَا مِنْ رَاعٍ كَانَ يَأْوِي غَنَمَهُ إِلَى أَصْلِ صَوْمَعَةِ جُرَيْجٍ،فَحَمَلَتْ،فَوَلَدَتْ غُلاَمًا،فَقَالُوا:مِمَّنْ ؟ قَالَتْ:مِنْ جُرَيْجٍ،فَأَتَوْهُ فَاسْتَنْزَلُوهُ،فَشَتَمُوهُ وَضَرَبُوهُ وَهَدَمُوا صَوْمَعَتَهُ،فَقَالَ:مَا شَأْنُكُمْ ؟ قَالُوا:إِنَّكَ زَنَيْتَ بِهَذِهِ الْبَغِيِّ،فَوَلَدَتْ غُلاَمًا.قَالَ:وَأَيْنَ هُوَ ؟ قَالُوا:هَا هُوَ ذَا.قَالَ:فَقَامَ فَصَلَّى وَدَعَا،ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى الْغُلاَمِ فَطَعَنَهُ بِإِصْبَعِهِ،وَقَالَ:بِاللَّهِ يَا غُلاَمُ،مَنْ أَبُوكَ ؟ قَالَ:أَنَا ابْنُ الرَّاعِي.فَوَثَبُوا إِلَى جُرَيْجٍ فَجَعَلُوا يُقَبِّلُونَهُ،وَقَالُوا:نَبْنِي صَوْمَعَتَكَ مِنْ ذَهَبٍ.قَالَ:لاَ حَاجَةَ لِي فِي ذَلِكَ،ابْنُوهَا مِنْ طِينٍ كَمَا كَانَتْ.قَالَ:وَبَيْنَمَا امْرَأَةٌ فِي حِجْرِهَا ابْنٌ لَهَا تُرْضِعُهُ،إِذْ مَرَّ بِهَا رَاكِبٌ ذُو شَارَةٍ،فَقَالَتْ:اللَّهُمَّ اجْعَلِ ابْنِي مِثْلَ هَذَا.قَالَ:فَتَرَكَ ثَدْيَهَا،وَأَقْبَلَ عَلَى الرَّاكِبِ فَقَالَ:اللَّهُمَّ لاَ تَجْعَلْنِي مِثْلَهُ،قَالَ:ثُمَّ عَادَ إِلَى ثَدْيِهَا يَمُصُّهُ.قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ:فَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَحْكِي عَلَيَّ صَنِيعَ الصَّبِيِّ وَوَضْعَهُ إِصْبَعَهُ فِي فَمِهِ،فَجَعَلَ يَمُصُّهَا.ثُمَّ مُرَّ بِأَمَةٍ تُضْرَبُ،فَقَالَتْ:اللَّهُمَّ لاَ تَجْعَلِ ابْنِي مِثْلَهَا.قَالَ:فَتَرَكَ ثَدْيَهَا،وَأَقْبَلَ عَلَى الأَمَةِ فَقَالَ:اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِثْلَهَا.قَالَ:فَذَلِكَ حِينَ تَرَاجَعَا الْحَدِيثَ،فَقَالَتْ:حَلْقَى مَرَّ الرَّاكِبُ ذُو الشَّارَةِ فَقُلْتُ:اللَّهُمَّ اجْعَلِ ابْنِي مِثْلَهُ،فَقُلْتَ:اللَّهُمَّ لاَ تَجْعَلْنِي مِثْلَهُ،وَمُرَّ بِهَذِهِ الأَمَةِ فَقُلْتُ:اللَّهُمَّ لاَ تَجْعَلِ ابْنِي مِثْلَهَا،فَقُلْتَ:اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِثْلَهَا فَقَالَ:يَا أُمَّتَاهْ إِنَّ الرَّاكِبَ ذُو الشَّارَةِ جَبَّارٌ مِنَ الْجَبَابِرَةِ،وَإِنَّ هَذِهِ الأَمَةَ يَقُولُونَ:زَنَتْ،وَلَمْ تَزْنِ،وَسَرَقَتْ،وَلَمْ تَسْرِقْ،وَهِيَ تَقُولُ:حَسْبِيَ اللَّهُ. " (2)
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (1206) وصحيح مسلم- المكنز - (6672) وشعب الإيمان - (10 / 279) (7494 )
(2) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (3 / 206) (8071) 8057- صحيح(1/54)
المومسات:الزواني،جمع مومسة،وهي الفاجرة،والمياميس كذلك.
البغي:الزانية أيضا.
يتمثل بحسنها:أي يعجب به،ويقال لكل من يستحسن:هذا مثل فلانة في الحسن.
والشارة الحسنة:جمال الظاهر في الهيئة والملبس والمركب ونحو ذلك.
الجبار:العاتي المتكبر القاهر للناس.
يابابوس:كلمة تقال للصغير،كذا قاله الحميدي،وقال الهروي:قال ابن الأعرابي:البابوس:الصبي الرضيع،قال:وقد جاء هذا الحرف في شعر ابن الأحمر،ولم يعرف في شعر غيره،والحرف غير مهموز.
ومساحيهم:المساحي جمع مسحاة،، وهي المجرفة التي رأسها من حديد.
قالَ ابن بَطّال:سَبَبُ دُعاء أُمّ جُرَيج عَلَى ولَدِها أَنَّ الكَلام فِي الصَّلاةِ كانَ فِي شَرعِهِم مُباحًا،فَلَمّا آثَرَ استِمراره فِي صَلاتِهِ ومُناجاتِهِ عَلَى إِجابَتِها دَعَت عَلَيهِ لِتَأخِيرِهِ حَقّها انتَهَى.
والَّذِي يَظهَرُ مِن تَردِيدِهِ فِي قَوله:"أُمِّي،وصَلاتِي " أَنَّ الكَلام عِندَهُ يَقطَعُ الصَّلاةَ فَلِذَلِكَ لَم يُجِبها.
وفِي رِوايَة أَبِي رافِع " فَصادَفَتهُ يُصَلِّي،فَوضَعَت يَدها عَلَى حاجِبها فَقالَت:يا جُرَيج،فَقالَ:يا رَبّ أُمِّي وصَلاتِي،فاختارَ صَلاته،فَرَجَعَت.ثُمَّ أَتَتهُ فَصادَفَتهُ يُصَلِّي فَقالَت:يا جُرَيج أَنا أُمّك فَكَلِّمنِي،فَقالَ مِثله " فَذَكَرَهُ.وفِي حَدِيث عِمران بن حُصَينٍ أَنَّها جاءَتهُ ثَلاث مَرّات تُنادِيه فِي كُلّ مَرَّة ثَلاث مَرّات.
وفِي رِوايَة الأَعرَج عِند الإِسماعِيلِيّ " فَقالَ أُمِّي وصَلاتِي لِرَبِّي،أُوثِر صَلاتِي عَلَى أُمِّي،ذَكَرَهُ ثَلاثًا " وكُلّ ذَلِكَ مَحمُول عَلَى أَنَّهُ قالَهُ فِي نَفسه لا أَنَّهُ نَطَقَ بِهِ،ويُحتَمَل أَن يَكُون نَطَقَ بِهِ عَلَى ظاهِره لأَنَّ الكَلام كانَ مُباحًا عِندهم،وكَذَلِكَ كانَ فِي صَدر الإِسلام " (1)
7- تقديم بر الوالدين على الهجرة في سبيل الله :
__________
(1) - فتح الباري شرح صحيح البخاري- ط دار المعرفة - (3 / 78)(1/55)
عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: إِنِّي جِئْتُ أُبَايِعُكَ عَلَى الْهِجْرَةِ وَتَرَكْتُ أَبَوَيَّ يَبْكِيَانِ , فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - :" لَا أُبَايِعُكَ حَتَّى تَرْجِعَ إِلَيْهِمَا فَتُضْحِكَهُمَا كَمَا أَبْكَيْتَهُمَا " (1) .
وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو،قَالَ:جَاءَ رَجُلٌ،فقَالَ:يَا رَسُولَ اللهِ،إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُبَايِعَكَ عَلَى الْهِجْرَةِ،وَتَرَكْتُ أَبَوَيَّ يَبْكِيَانِ،فقَالَ:ارْجِعْ إِلَيْهِمَا،فَأَضْحِكْهُمَا كَمَا أَبْكَيْتَهُمَا. (2)
وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو،قَالَ:جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،فقَالَ:يَا رَسُولَ اللهِ أُجَاهِدُ ؟ فقَالَ:لَكَ أَبَوَانِ ؟ قَالَ:نَعَمْ،قَالَ:فَفِيهِمَا فَجَاهِدْ. (3)
قلت:الجهاد إذا كان الخارج فيه متطوعا فإن ذلك لا يجوز إلاّ بإذن الوالدين فأما إذا تعين عليه فرض الجهاد فلا حاجة به إلى إذنهما، وإن منعاه من الخروج عصاهما وخرج في الجهاد.وهذا إذا كانا مسلمين فإن كانا كافرين فلا سبيل لهما إلى منعه من الجهاد فرضاً كان أو نفلا وطاعتهما حينئذ معصية الله ومعونة للكفار وإنما عليه أن يبرهما ويطيعهما فيما ليس بمعصية. (4)
8- اسْتِئْذَانُهُمَا لِلسَّفَرِ لِلتِّجَارَةِ أَوْ لِطَلَبِ الْعِلْمِ:
وَضَعَ فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ لِذَلِكَ قَاعِدَةً حَاصِلُهَا:أَنَّ كُل سَفَرٍ لاَ يُؤْمَنُ فِيهِ الْهَلاَكُ،وَيَشْتَدُّ فِيهِ الْخَطَرُ،فَلَيْسَ لِلْوَلَدِ أَنْ يَخْرُجَ إِلَيْهِ بِغَيْرِ إِذْنِ وَالِدَيْهِ؛لأَِنَّهُمَا يُشْفِقَانِ عَلَى وَلَدِهِمَا،فَيَتَضَرَّرَانِ بِذَلِكَ.وَكُل سَفَرٍ لاَ يَشْتَدُّ فِيهِ الْخَطَرُ يَحِل لَهُ أَنْ يَخْرُجَ إِلَيْهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِمَا،إِذَا لَمْ يُضَيِّعْهُمَا؛لاِنْعِدَامِ الضَّرَرِ .
وَبِذَا لاَ يَلْزَمُهُ إِذْنُهُمَا لِلسَّفَرِ لِلتَّعَلُّمِ،إِذَا لَمْ يَتَيَسَّرْ لَهُ ذَلِكَ فِي بَلَدِهِ،وَكَانَ الطَّرِيقُ آمِنًا،وَلَمْ يَخَفْ عَلَيْهِمَا الضَّيَاعَ؛لأَِنَّهُمَا لاَ يَتَضَرَّرَانِ بِذَلِكَ،بَل يَنْتَفِعَانِ بِهِ،فَلاَ تَلْحَقُهُ سِمَةُ الْعُقُوقِ.أَمَّا إِذَا كَانَ السَّفَرُ لِلتِّجَارَةِ،وَكَانَا مُسْتَغْنِيَيْنِ عَنْ خِدْمَةِ ابْنِهِمَا،وَيُؤْمَنُ عَلَيْهِمَا الضَّيَاعُ،فَإِنَّهُ
__________
(1) - سنن أبي داود - المكنز - (2530) وشرح مشكل الآثار - (5 / 367) (2124 ) صحيح
(2) - صحيح ابن حبان - (2 / 163) (419) صحيح
(3) - صحيح ابن حبان - (2 / 164) (420) صحيح
(4) - معالم السنن للخطابي 288 - (2 / 245)(1/56)
يَخْرُجُ إِلَيْهَا بِغَيْرِ إِذْنِهِمَا.أَمَّا إِذَا كَانَا مُحْتَاجَيْنِ إِلَيْهِ وَإِلَى خِدْمَتِهِ،فَإِنَّهُ لاَ يُسَافِرُ بِغَيْرِ إِذْنِهِمَا . (1)
وَفَصَّل الْمَالِكِيَّةُ فِي السَّفَرِ لِطَلَبِ الْعِلْمِ،بِأَنَّهُ إِذَا كَانَ لِتَحْصِيل دَرَجَةٍ مِنَ الْعِلْمِ لاَ تَتَوَفَّرُ فِي بَلَدِهِ،كَالتَّفَقُّهِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَمَعْرِفَةِ الإِْجْمَاعِ وَمَوَاضِعِ الْخِلاَفِ وَمَرَاتِبِ الْقِيَاسِ،كَانَ لَهُ ذَلِكَ بِغَيْرِ إِذْنِهِمَا إِنْ كَانَ فِيهِ أَهْلِيَّةُ النَّظَرِ،وَلاَ طَاعَةَ لَهُمَا فِي مَنْعِهِ؛لأَِنَّ تَحْصِيل دَرَجَةِ الْمُجْتَهِدِينَ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ.قَال تَعَالَى:{ وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ } (سورة آل عمران / 104 )،أَمَّا إِنْ كَانَ لِلتَّفَقُّهِ عَلَى طَرِيقِ التَّقْلِيدِ،وَفِي بَلَدِهِ ذَلِكَ،لَمْ يَجُزْ لَهُ السَّفَرُ إِلاَّ بِإِذْنِهِمَا.وَإِذَا أَرَادَ سَفَرًا لِلتِّجَارَةِ يَرْجُو بِهِ مَا يَحْصُل لَهُ فِي الإِْقَامَةِ فَلاَ يَخْرُجُ إِلاَّ بِإِذْنِهِمَا (2) .
9- حُكْمُ طَاعَتِهِمَا فِي تَرْكِ النَّوَافِل أَوْ قَطْعِهَا:
قَال الشَّيْخُ أَبُو بَكْرٍ الطُّرْطُوشِيُّ فِي كِتَابِ بِرِّ الْوَالِدَيْنِ:لاَ طَاعَةَ لَهُمَا فِي تَرْكِ سُنَّةٍ رَاتِبَةٍ،كَحُضُورِ الْجَمَاعَاتِ،وَتَرْكِ رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ وَالْوِتْرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ،إِذَا سَأَلاَهُ تَرْكَ ذَلِكَ عَلَى الدَّوَامِ،بِخِلاَفِ مَا لَوْ دَعَوَاهُ لأَِوَّل وَقْتِ الصَّلاَةِ وَجَبَتْ طَاعَتُهُمَا،وَإِنْ فَاتَتْهُ فَضِيلَةُ أَوَّل الْوَقْتِ (3) .
10- نموذج من بر الرسول - صلى الله عليه وسلم - بوالديه وبر ابنته فاطمة له :
عن عُمَرَ بْنِ السَّائِبِ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ جَالِسًا يَوْمًا فَأَقْبَلَ أَبُوهُ مِنَ الرَّضَاعَةِ فَوَضَعَ لَهُ بَعْضَ ثَوْبِهِ فَقَعَدَ عَلَيْهِ ثُمَّ أَقْبَلَتْ أُمُّهُ فَوَضَعَ لَهَا شِقَّ ثَوْبِهِ مِنْ جَانِبِهِ الآخَرِ فَجَلَسَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ أَقْبَلَ أَخُوهُ مِنَ الرَّضَاعَةِ فَقَامَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَأَجْلَسَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ. (4)
__________
(1) - بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع 7 / 98 ، وتبيين الحقائق شرح كنز الدقائق 3 / 242 ، وابن عابدين 3 / 220 .
(2) - الفروق للقرافي 1 / 145 ، 146 ، والدسوقي 2 / 172ـ 176 ، وجواهر الإكليل 1 / 252 .
(3) - مطالب أولي النهى 2 / 513 ، والمغني لابن قدامة 8 / 359 ، وكشاف القناع عن متن الإقناع 3 / 45 ، والفروق للقرافي 1 / 143 ، 144 ، والشرح الصغير 4 / 739 ، والفواكه الدواني 2 / 383 ، والزواجر 2 / 67 ، 73 .
(4) - سنن أبي داود - المكنز - (5147 ) فيه إعضال ، فلا يصح(1/57)
وعَن عُمَارَةَ بنِ ثَوبَانَ،قَالَ:حدثني أبو الطفَيلِ،قَالَ:رَأَيْتُ النبِيَّ، - صلى الله عليه وسلم - ،يَقْسِمُ لَحمًا بِالجِعرَانَةِ،وَأَنَا يَوْمَئذٍ غُلاَم،أَحْمِلُ عُضوَ البَعِيرِ،فَأَتَتْهُ امْرَأَة،فَبَسَطَ لَهَا رِدَاءَهُ،قُلتُ:مَن هَذِهِ ؟ قِيلَ:هَذِهِ أُمهُ التِي أَرْضَعَتهُ (1) .البعير:ما صلح للركوب والحمل من الإبل،وذلك إذا استكمل أربع سنوات،ويقال للجمل والناقة
الرداء:ما يوضع على أعالي البدن من الثياب
وعن أبي مُرَّةَ مَوْلَى أُمِّ هَانِئٍ بِنْتِ أَبِى طَالِبٍ أَنَّهُ سَمِعَ أُمَّ هَانِئٍ بِنْتَ أَبِى طَالِبٍ تَقُولُ ذَهَبْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَامَ الْفَتْحِ،فَوَجَدْتُهُ يَغْتَسِلُ،وَفَاطِمَةُ ابْنَتُهُ تَسْتُرُهُ قَالَتْ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَقَالَ « مَنْ هَذِهِ ».فَقُلْتُ أَنَا أُمُّ هَانِئٍ بِنْتُ أَبِى طَالِبٍ.فَقَالَ « مَرْحَبًا بِأُمِّ هَانِئٍ ».فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ غُسْلِهِ،قَامَ فَصَلَّى ثَمَانِىَ رَكَعَاتٍ،مُلْتَحِفًا فِى ثَوْبٍ وَاحِدٍ،فَلَمَّا انْصَرَفَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ،زَعَمَ ابْنُ أُمِّى أَنَّهُ قَاتِلٌ رَجُلاً قَدْ أَجَرْتُهُ فُلاَنَ بْنَ هُبَيْرَةَ.فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « قَدْ أَجَرْنَا مَنْ أَجَرْتِ يَا أُمَّ هَانِئٍ ».قَالَتْ أُمُّ هَانِئٍ وَذَاكَ ضُحًى . (2)
وعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ،أَنَّ رَجُلاً سَأَلَهُ عَنْ جُرْحِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،فَقَالَ:جُرِحَ وَجْهُ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،وَكُسِرَتْ رَبَاعِيَتُهُ،وَهُشِمَتِ الْبَيْضَةُ عَلَى رَأْسِهِ - صلى الله عليه وسلم - ،فَكَانَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - تَغْسِلُ الدَّمَ،وَعَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَسْكُبُ الْمَاءَ عَلَيْهَا بِالْمِجَنِّ،فَلَمَّا رَأَتْ فَاطِمَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ الْمَاءَ لاَ يَزِيدُ الدَّمَ إِلاَّ كَثْرَةً أَخَذَتْ قِطْعَةً مِنْ حَصِيرٍ،فَأَحْرَقَتْهُ حَتَّى إِذَا صَارَ رَمَادًا أَلْصَقَتْهُ بِالْجُرْحِ فَاسْتَمْسَكَ الدَّمُ. (3)
ــــــــــــــ
الأساس الثالث - لا طاعة للوالدين في معصية الخالق مع بقاء الإحسان إليهما
__________
(1) - سنن أبي داود - المكنز - (5146) فيه جهالة
(2) - صحيح البخارى- المكنز - (357 )
(3) - صحيح البخارى- المكنز - (2911 ) وصحيح مسلم- المكنز - (4743 ) وصحيح ابن حبان - (14 / 541) (6579)
هشمت البيضة البيضة : الخوذة ،والهشم : الكسر. -المجن : الترس.(1/58)
إن الذي فرض طاعة الوالدين هو الله تعالى،فإذا أراد بعض الأبوين استغلال هذا الفرض في غير ما أمر سبحانه،فإن الله تعالى أذن للمسلم،وطالبه بعدم الطاعة،وفي ذلك إحسان لهما،وتنبيه للرجوع إلى أمر الله تعالى،فإن أصرَّا على المعصية، أو الكفر،فيبقى الابن محسناً لهما في غير المعصية .. وهذا خلق إسلامي رفيع في الإحسان إليهما،ومصاحبتهما بمعروف رغم انحرافهما عن الشريعة، ولكن دون أن يمسا العقيدة بأي طعنٍ،أو لمزٍ،أو غمزٍ،وكل ما يؤول إلى الكفر لا طاعة للوالدين فيه،وكل أمر فيه معصية ( كالحرام،والمكروه تحريماً ) لا طاعة للوالدين فيه،مع إبلاغهما شرع الله تعالى برفق،ولين وحكمة،وليس بفظاظة،وغلظة،وغضب،واستكبار .
قال تعالى:{ وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} (15) سورة لقمان
وعَنْ عَلِيٍّ،عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ،قَالَ:لاَ طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ." (1)
وعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ،أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:كَيْفَ بِكَ يَا عَبْدَ اللهِ،إِذَا كَانَ عَلَيْكُمْ أُمَرَاءُ يُضَيِّعُونَ السُّنَّةَ،وَيُؤَخِّرُونَ الصَّلاَةَ عَنْ مِيقَاتِهَا ؟ قَالَ:كَيْفَ تَأْمُرُنِي يَا رَسُولَ اللهِ ؟ قَالَ:تَسْأَلُنِي ابْنَ أُمِّ عَبْدٍ،كَيْفَ تَفْعَلُ ؟ لاَ طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ. (2)
وعَنْ مُحَمَّدٍ،قَالَ:جَاءَ رَجُلٌ إِلَى عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ وَنَحْنُ عِنْدَهُ،فَقَالَ:اسْتُعْمِلَ الْحَكَمُ بْنُ عَمْرٍو الْغِفَارِيُّ عَلَى خُرَاسَانَ،فَتَمَنَّاهُ عِمْرَانُ حَتَّى قَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ:أَلاَ نَدْعُوهُ لَكَ ؟ فَقَالَ لَهُ:لاَ،ثُمَّ قَامَ عِمْرَانُ فَلَقِيَهُ بَيْنَ النَّاسِ،فَقَالَ عِمْرَانُ:إِنَّكَ قَدْ وُلِّيتَ أَمْرًا مِنْ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ عَظِيمًا،ثُمَّ أَمَرَهُ وَنَهَاهُ،وَوَعَظَهُ،ثُمَّ قَالَ:هَلْ تَذْكُرُ يَوْمَ قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - :لاَ طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ اللهِ قَالَ الْحَكَمُ:نَعَمْ،قَالَ عِمْرَانُ:اللَّهُ أَكْبَرُ. (3)
__________
(1) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (1 / 372)(1095) صحيح
(2) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (2 / 89) (3889) صحيح لغيره
(3) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (6 / 889)(20656) 20932- صحيح(1/59)
قال ابن بطال: واجب على المرأة ألا تطيع زوجها فى معصية، وكذلك كل من لزمته طاعة غيره من العباد، فلا تجوز طاعته له فى معصية الله تعالى (1)
وقد ورد عن الصحابة أمثلة حية من ذلك،فعن مُصْعَبَ بْنِ سَعْدٍ،عَنْ أَبِيهِ،أَنَّهُ نَزَلَتْ فِيهِ آيَاتٌ مِنَ الْقُرْآنِ قَالَ:حَلَفَتْ أُمُّ سَعْدٍ أَنْ لَا تُكَلِّمَهُ أَبَدًا حَتَّى يَكْفُرَ بِدِينِهِ،وَلَا تَأْكُلَ وَلَا تَشْرَبَ،قَالَتْ:زَعَمْتَ أَنَّ اللَّهَ وَصَّاكَ بِوَالِدَيْكَ،وَأَنَا أُمُّكَ،وَأَنَا آمُرُكَ بِهَذَا.قَالَ:مَكَثَتْ ثَلَاثًا حَتَّى غُشِيَ عَلَيْهَا مِنَ الْجَهْدِ،فَقَامَ ابْنٌ لَهَا يُقَالُ لَهُ عُمَارَةُ،فَسَقَاهَا،فَجَعَلَتْ تَدْعُو عَلَى سَعْدٍ،فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي الْقُرْآنِ هَذِهِ الْآيَةَ:{وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} (8) سورة العنكبوت، قَالَ:وَأَصَابَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - غَنِيمَةً عَظِيمَةً،فَإِذَا فِيهَا سَيْفٌ فَأَخَذْتُهُ،فَأَتَيْتُ بِهِ الرَّسُولَ - صلى الله عليه وسلم - ،فَقُلْتُ:نَفِّلْنِي هَذَا السَّيْفَ،فَأَنَا مَنْ قَدْ عَلِمْتَ حَالَهُ،فَقَالَ:" رُدُّهُ مِنْ حَيْثُ أَخَذْتَهُ " فَانْطَلَقْتُ،حَتَّى إِذَا أَرَدْتُ أَنْ أُلْقِيَهُ فِي الْقَبَضِ لَامَتْنِي نَفْسِي،فَرَجَعْتُ إِلَيْهِ،فَقُلْتُ:أَعْطِنِيهِ،قَالَ فَشَدَّ لِي صَوْتَهُ " رُدُّهُ مِنْ حَيْثُ أَخَذْتَهُ " قَالَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ :{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ قُلِ الأَنفَالُ لِلّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} (1) سورة الأنفال،قَالَ:وَمَرِضْتُ فَأَرْسَلْتُ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَأَتَانِي،فَقُلْتُ:دَعْنِي أَقْسِمْ مَالِي حَيْثُ شِئْتُ،قَالَ فَأَبَى،قُلْتُ:فَالنِّصْفَ،قَالَ فَأَبَى،قُلْتُ:فَالثُّلُثَ،قَالَ فَسَكَتَ،فَكَانَ،بَعْدُ الثُّلُثُ جَائِزًا.قَالَ:وَأَتَيْتُ عَلَى نَفَرٍ مِنَ الْأَنْصَارِ وَالْمُهَاجِرِينَ،فَقَالُوا:تَعَالَ نُطْعِمْكَ وَنَسْقِكَ خَمْرًا،وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ تُحَرَّمَ الْخَمْرُ،قَالَ فَأَتَيْتُهُمْ فِي حَشٍّ - وَالْحَشُّ الْبُسْتَانُ - فَإِذَا رَأْسُ جَزُورٍ مَشْوِيٌّ عِنْدَهُمْ،وَزِقٌّ مِنْ خَمْرٍ.قَالَ فَأَكَلْتُ وَشَرِبْتُ مَعَهُمْ،قَالَ فَذَكَرْتُ الْأَنْصَارَ وَالْمُهَاجِرِينَ عِنْدَهُمْ.فَقُلْتُ:الْمُهَاجِرُونَ خَيْرٌ مِنَ الْأَنْصَارِ.قَالَ فَأَخَذَ رَجُلٌ أَحَدَ لَحْيَيِ الرَّأْسِ فَضَرَبَنِي،بِهِ فَجَرَحَ بِأَنْفِي فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ،فَأَخْبَرْتُهُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِيَّ - يَعْنِي نَفْسَهُ - شَأْنَ الْخَمْرِ:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا
__________
(1) - شرح ابن بطال - (13 / 324)(1/60)
الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (90) سورة المائدة . (1)
وقَالَ ابْنُ زَيْدٍ،فِي قَوْلِ اللَّهِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ قَالَ:كَانَ الْمُنَافِقُونَ يُسَمُّونَ الْمُهَاجِرِينَ:الْجَلَابِيبَ؛وَقَالَ:قَالَ ابْنُ أُبَيٍّ:قَدْ أَمَرْتُكُمْ فِي هَؤُلَاءِ الْجَلَابِيبِ أَمْرِي،قَالَ:هَذَا بَيْنَ أَمَجٍ وَعُسْفَانَ عَلَى الْكَدِيدِ تَنَازَعُوا عَلَى الْمَاءِ،وَكَانَ الْمُهَاجِرُونَ قَدْ غَلَبُوا عَلَى الْمَاءِ؛قَالَ:وَقَالَ ابْنُ أُبَيٍّ أَيْضًا:أَمَا وَاللَّهِ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ لَقَدْ قُلْتُ لَكُمْ:لَا تُنْفِقُوا عَلَيْهِمْ،لَوْ تَرَكْتُمُوهُمْ مَا وَجَدُوا مَا يَأْكُلُونَ،وَيَخْرُجُوا وَيَهْرُبُوا؛فَأَتَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ:يَا رَسُولَ اللَّهِ،أَلَا تَسْمَعُ مَا يَقُولُ ابْنُ أُبَيٍّ ؟ قَالَ:" وَمَا ذَاكَ ؟ " فَأَخْبَرَهُ وَقَالَ:دَعْنِي أَضْرِبْ عُنُقَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ.قَالَ:" إِذًا تَرْعَدُ لَهُ آنَفٌ كَثِيرَةٌ بِيَثْرِبَ ".قَالَ عُمَرُ:فَإِنْ كَرِهْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْ يَقْتُلَهُ رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ،فَمُرْ بِهِ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ،وَمُحَمَّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ فَيَقْتُلَانِهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :" إِنِّي أَكْرَهُ أَنْ يَتَحَدَّثَ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ،ادْعُوا لِي عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ ".فَدَعَاهُ،فَقَالَ:" أَلَا تَرَى مَا يَقُولُ أَبُوكَ ؟ " قَالَ:وَمَا يَقُولُ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي ؟ قَالَ:" يَقُولُ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ "؛فَقَالَ:فَقَدْ صَدَقَ وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ،أَنْتَ وَاللَّهِ الْأَعَزُّ وَهُوَ الْأَذَلُّ،أَمَا وَاللَّهِ لَقَدْ قَدِمْتَ الْمَدِينَةَ يَا رَسُولَ اللَّهِ،وَإِنَّ أَهْلَ يَثْرِبَ لَيَعْلَمُونَ مَا بِهَا أَحَدٌ أَبَرَّ مِنِّي،وَلَئِنْ كَانَ يُرْضِي اللَّهَ وَرَسُولَهُ أَنْ آتِيَهُمَا بِرَأْسِهِ لَآتِيَنَّهُمَا بِهِ،فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :" لَا ".فَلَمَّا قَدِمُوا الْمَدِينَةَ،قَامَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ عَلَى بَابِهَا بِالسَّيْفِ لِأَبِيهِ؛ثُمَّ قَالَ:أَنْتَ الْقَائِلُ:لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ،أَمَا وَاللَّهِ لَتَعْرِفَنَّ الْعِزَّةُ لَكَ أَوْ لِرَسُولِ اللَّهِ،وَاللَّهِ لَا يَأْوِيكَ ظِلُّهُ،وَلَا تَأْوِيهِ أَبَدًا إِلَّا بِإِذْنٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ؛فَقَالَ:يَا لِلْخَزْرَجِ ابْنِي يَمْنَعُنِي بَيْتِي يَا لِلْخَزْرَجِ ابْنِي يَمْنَعُنِي بَيْتِي فَقَالَ:وَاللَّهِ لَا تَأْوِيهِ أَبَدًا إِلَّا بِإِذْنٍ مِنْهُ؛فَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ رِجَالٌ فَكَلَّمُوهُ،فَقَالَ:وَاللَّهِ لَا يَدْخُلُهُ إِلَّا بِإِذْنٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ،فَأَتَوُا النَّبِيَّ
__________
(1) - صحيح مسلم- المكنز - (6391 )(1/61)
- صلى الله عليه وسلم - فَأَخْبَرُوهُ،فَقَالَ:" اذْهَبُوا إِلَيْهِ،فَقُولُوا لَهُ خِلِّهِ وَمَسْكَنَهُ "؛فَأَتَوْهُ،فَقَالَ:أَمَا إِذَا جَاءَ أَمْرُ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَنَعَمْ " (1)
وقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَىِّ ابْنِ سَلُولَ لأَبِيهِ:وَاللَّهِ لاَ تَدْخُلُ الْمَدِينَةَ أَبَدًا حَتَّى تَقُولَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الأَعَزُّ وَأَنَا الأَذَلُّ. قَالَ وَجَاءَ إِلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ:يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهُ بَلَغَنِى أَنَّكَ تُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَ أَبِى،فَوَالَّذِى بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا تَأَمَّلْتُ وَجْهَهُ قَطُّ هَيْبَةً لَهُ،وَلَئِنْ شِئْتَ أَنْ آتِيَكَ بِرَأْسِهِ لأَتَيْتُكَ،فَإِنِّى أَكْرَهُ أَنْ أَرَى قَاتِلَ أَبِى. (2)
ويبقى الإحسان إليهما في أمور الدنيا مستمرًّا، وصلة رحمهما دائمة..فعَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِى بَكْرٍ - رضى الله عنهما - قَالَتْ قَدِمَتْ عَلَىَّ أُمِّى وَهْىَ مُشْرِكَةٌ،فِى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ،فَاسْتَفْتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قُلْتُ { إِنَّ أُمِّى قَدِمَتْ } وَهْىَ رَاغِبَةٌ،أَفَأَصِلُ أُمِّى قَالَ « نَعَمْ صِلِى أُمَّكِ ». (3)
وعَنْ أَسْمَاءَ ابْنَةِ أَبِى بَكْرٍ - رضى الله عنهما - قَالَتْ قَدِمَتْ عَلَىَّ أُمِّى وَهْىَ مُشْرِكَةٌ فِى عَهْدِ قُرَيْشٍ،إِذْ عَاهَدُوا رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَمُدَّتِهِمْ،مَعَ أَبِيهَا،فَاسْتَفْتَتْ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ،إِنَّ أُمِّى قَدِمَتْ عَلَىَّ،وَهْىَ رَاغِبَةٌ،أَفَأَصِلُهَا قَالَ « نَعَمْ،صِلِيهَا » (4)
راغبة: الرغبة:الطلب،والمراد: أنها جاءت طامعة،تسألني شيئًا.
أفأصل أمي؟:الصلة: العطية والإنعام .
مُدَّتِهم:أراد بمدتهم: الزمان الذي كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ترك قتالهم فيها وَوَادَعَهُم . (5)
وعن عَامِرَ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ أَبِيهِ،قَالَ:قَدِمَتْ قُتَيْلَةُ ابْنَةُ عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ عَبْدِ أَسْعَدَ مِنْ بَنِي مَالِكِ بْنِ حَسَلٍ،عَلَى ابْنَتِهَا أَسْمَاءَ ابْنَةِ أَبِي بَكْرٍ بِهَدَايَا،ضِبَابٍ،وَقِرظٍ،وَسَمْنٍ وَهِيَ مُشْرِكَةٌ،فَأَبَتْ أَسْمَاءُ أَنْ تَقْبَلَ هَدِيَّتَهَا،وَتُدْخِلَهَا بَيْتَهَا،فَسَأَلَتْ عَائِشَةُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - ،فَأَنْزَلَ اللَّهُ
__________
(1) - جَامِعُ الْبَيَانِ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ لِلطَّبَرِيِّ (31647 ) صحيح مرسل
(2) - مسند الحميدي - المكنز - (1294) فيه إعضال، ويشهد له ما قبله
(3) - صحيح البخارى- المكنز - (2620 ) وصحيح مسلم- المكنز - (2372)
(4) - صحيح البخارى- المكنز - (3183 )
(5) - جامع الأصول في أحاديث الرسول - (1 / 406)(1/62)
عَزَّ وَجَلَّ:{ لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } (8) سورة الممتحنة، فَأَمَرَهَا أَنْ تَقْبَلَ هَدِيَّتَهَا وَأَنْ تُدْخِلَهَا بَيْتَهَا. (1)
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: عُنِي بذلك: لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين، من جميع أصناف الملل والأديان أن تبرُّوهم وتصلوهم، وتقسطوا إليهم، إن الله عزّ وجلّ عمّ بقوله:( الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ) جميع من كان ذلك صفته، فلم يخصصْ به بعضًا دون بعض، ولا معنى لقول من قال: ذلك منسوخ، لأن برّ المؤمن من أهل الحرب ممن بينه وبينه قرابة نسب، أو ممن لا قرابة بينه وبينه ولا نسب غير محرّم ولا منهيّ عنه إذا لم يكن في ذلك دلالة له، أو لأهل الحرب على عورة لأهل الإسلام، أو تقوية لهم بكُراع أو سلاح. قد بين صحة ما قلنا في ذلك، الخبر الذي ذكرناه عن ابن الزبيرفي قصة أسماء وأمها. (2)
إن المسلم يعيش في هذه الأرض لعقيدته،ويجعلها قضيته مع نفسه ومع الناس من حوله. فلا خصومه على مصلحة،ولا جهاد في عصبية - أي عصبية - من جنس أو أرض أو عشيرة أو نسب. إنما الجهاد لتكون كلمة اللّه هي العليا،ولتكون عقيدته هي المنهج في الحياة. (3)
ويبقى الابن المسلم حريصاً كل الحرص على إسلام والديه،ودعوتهم إلى الإيمان،وحثهم على التطبيق،بكل لهفة ن ورحمة،ولطف، وهدوء،وهذا مسلك الأنبياء والمرسلين،في دعوة آبائهم،فإبراهيم عليه السلام يقدِّمُ لنا نموذجاً في طريق الدعوة إلى الله،قال تعالى:{ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (41) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (42) يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (43) يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (44) يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا (45) قَالَ أَرَاغِبٌ
__________
(1) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (5 / 530)(16111) 16210- وفيه ضعف
(2) - تفسير الطبري - مؤسسة الرسالة - (23 / 323)
(3) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (6 / 3544)(1/63)
أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46) قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا (47) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا (48) فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا (49) وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (50)} [مريم:41 - 50]
واذكر - أيها الرسول - لقومك في هذا القرآن قصة إبراهيم - عليه السلام - إنه كان عظيم الصدق، ومِن أرفع أنبياء الله تعالى منزلة.
إذ قال لأبيه آزر: يا أبت لأي شيء تعبد من الأصنام ما لا يسمع ولا يبصر، ولا يدفع عنك شيئًا من دون الله؟
يا أبت، إن الله أعطاني من العلم ما لم يعطك، فاقبل مني، واتبعني إلى ما أدعوك إليه، أرشدك إلى الطريق السوي الذي لا تضلُّ فيه.
يا أبت، لا تطع الشيطان فتعبد هذه الأصنام; إن الشيطان كان للرحمن مخالفًا مستكبرًا عن طاعة الله.
يا أبت، إني أخاف أن تموت على كفرك، فيمَسَّك عذاب من الرحمن، فتكون للشيطان قرينًا في النار.
قال أبو إبراهيم لابنه: أمعرض أنت عن عبادة آلهتي يا إبراهيم؟ لئن لم تنته عن سَبِّها لأقتلنَّك رميًا بالحجارة، واذهب عني فلا تلقني، ولا تكلمني زمانًا طويلا من الدهر.
قال إبراهيم لأبيه: سلام عليك مني فلا ينالك مني ما تكره، وسوف أدعو الله لك بالهداية والمغفرة. إن ربي كان رحيمًا رؤوفًا بحالي يجيبني إذا دعوته.
وأفارقكم وآلهتكم التي تعبدونها من دون الله، وأدعو ربي مخلصًا، عسى أن لا أشقى بدعاء ربي، فلا يعطيني ما أسأله.
فلما فارقهم وآلهتهم التي يعبدونها من دون الله رزقناه من الولد: إسحاق، ويعقوب بن إسحاق، وجعلناهما نبيَّين.(1/64)
ووهبنا لهم جميعا من رحمتنا فضلا لا يحصى، وجعلنا لهم ذكرًا حسنًا، وثناءً جميلا باقيًا في الناس. (1)
بهذا اللطف في الخطاب يتوجه إبراهيم إلى أبيه،يحاول أن يهديه إلى الخير الذي هداه اللّه إليه،وعلمه إياه وهو يتحبب إليه فيخاطبه:«يا أَبَتِ»
ويسأله:«لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً؟»
والأصل في العبادة أن يتوجه بها الإنسان إلى من هو أعلى من الإنسان وأعلم وأقوى. وأن يرفعها إلى مقام أسمى من مقام الإنسان وأسنى. فكيف يتوجه بها إذن إلى ما هو دون الإنسان،بل إلى ما هو في مرتبة أدنى من مرتبة الحيوان،لا يسمع ولا يبصر ولا يملك ضرا ولا نفعا. إذ كان أبوه وقومه يعبدون الأصنام كما هو حال قريش الذين يواجههم الإسلام.
هذه هي اللمسة الأولى التي يبدأ بها إبراهيم دعوته لأبيه. ثم يتبعها بأنه لا يقول هذا من نفسه،إنما هو العلم الذي جاءه من اللّه فهداه. ولو أنه أصغر من أبيه سنا وأقل تجربة،ولكن المدد العلوي جعله يفقه ويعرف الحق فهو ينصح أباه الذي لم يتلق هذا العلم،ليتبعه في الطريق الذي هدي إليه :«يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا» ..
فليست هناك غضاضة في أن يتبع الوالد ولده،إذا كان الولد على اتصال بمصدر أعلى. فإنما يتبع ذلك المصدر،ويسير في الطريق إلى الهدى.
وبعد هذا الكشف عما في عبادة الأصنام من نكارة،وبيان المصدر الذي يستمد منه إبراهيم ويعتمد عليه في دعوة أبيه .. يبين له أن طريقه هو طريق الشيطان،وهو يريد أن يهديه إلى طريق الرحمن،فهو يخشى أن يغضب اللّه عليه فيقضي عليه أن يكون من أتباع الشيطان.
__________
(1) - التفسير الميسر(1/65)
«يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ. إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا. يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا».
والشيطان هو الذي يغري بعبادة الأصنام من دون اللّه،فالذي يعبدها كأنما يتعبد الشيطان والشيطان عاص للرحمن. وإبراهيم يحذر أباه أن يغضب اللّه عليه فيعاقبه فيجعله وليا للشيطان وتابعا. فهداية اللّه لعبده إلى الطاعة نعمة وقضاؤه عليه أن يكون من أولياء الشيطان نقمة .. نقمة تقوده إلى عذاب أشد وخسارة أفدح يوم يقوم الحساب.
ولكن هذه الدعوة اللطيفة بأحب الألفاظ وأرقها لا تصل إلى القلب المشرك الجاسي،فإذا أبو إبراهيم يقابله بالاستنكار والتهديد والوعيد:«قالَ:أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ؟ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ. وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا».
أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم،وكاره لعبادتها ومعرض عنها؟ أو بلغ بك الأمر إلى هذا الحد من الجراءة؟! فهذا إنذار لك بالموت الفظيع إن أنت أصررت على هذا الموقف الشنيع:«لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ»! فاغرب عن وجهي وابعد عني طويلا. استبقاء لحياتك إن كنت تريد النجاة:«وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا» ..
بهذه الجهالة تلقى الرجل الدعوة إلى الهدى. وبهذه القسوة قابل القول المؤدب المهذب. وذلك شأن الإيمان مع الكفر وشأن القلب الذي هذبه الإيمان والقلب الذي أفسده الكفر.
ولم يغضب إبراهيم الحليم. ولم يفقد بره وعطفه وأدبه مع أبيه:« قالَ:سَلامٌ عَلَيْكَ. سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا. وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ،وَأَدْعُوا رَبِّي عَسى أَلَّا أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا».
سلام عليك .. فلا جدال ولا أذى ولا رد للتهديد والوعيد. سأدعو اللّه أن يغفر لك فلا يعاقبك بالاستمرار في الضلال وتولي الشيطان،بل يرحمك فيرزقك الهدى. وقد عودني ربي أن يكرمني فيجيب دعائي.
وإذا كان وجودي إلى جوارك ودعوتي لك إلى الإيمان تؤذيك فسأعتز لك أنت وقومك،وأعتزل ما تدعون من دون اللّه من الآلهة. وأدعو ربي وحده،راجيا - بسبب دعائي للّه - ألا يجعلني شقيا.(1/66)
فالذي يرجوه إبراهيم هو مجرد تجنيبه الشقاوة .. وذلك من الأدب والتحرج الذي يستشعره. فهو لا يرى لنفسه فضلا،ولا يتطلع إلى أكثر من تجنيبه الشقاوة! وهكذا اعتزل إبراهيم أباه وقومه وعبادتهم وآلهتهم وهجر أهله ودياره،فلم يتركه اللّه وحيدا. بل وهب له ذرية وعوضه خيرا :«فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ. وَكُلًّا جَعَلْنا نَبِيًّا. وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا،وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا» ..
وإسحاق هو ابن إبراهيم،رزقه من سارة - وكانت قبله عقيما - ويعقوب هو ابن إسحاق:ولكنه يحسب ولدا لإبراهيم لأن إسحاق رزقه في حياة جده،فنشأ في بيته وحجره،وكان كأنه ولده المباشر وتعلم ديانته ولقنها بنيه. وكان نبيا كأبيه.
«وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا» إبراهيم وإسحاق ويعقوب ونسلهم .. والرحمة تذكر هنا لأنها السمة البارزة في جو السورة،ولأنها هبة اللّه التي تعوض إبراهيم عن أهله ودياره،وتؤنسه في وحدته واعتزاله.
« وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا» .. فكانوا صادقين في دعوتهم،مسموعي الكلمة في قومهم. يؤخذ قولهم بالطاعة وبالتبجيل. (1)
وهذا مثال آخر وقع مع الصحابي الجليل أبي هريرة رضي الله عنه،قَالَ أَبُو كَثِيرٍ السُّحَيْمِيُّ:سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ:مَا سَمِعَ بِي أَحَدٌ،يَهُودِيٌّ وَلَا نَصْرَانِيٌّ،إِلَّا أَحَبَّنِي،إِنَّ أُمِّي كُنْتُ أُرِيدُهَا عَلَى الْإِسْلَامِ فَتَأْبَى،فَقُلْتُ لَهَا،فَأَبَتْ،فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقُلْتُ:ادْعُ اللَّهَ لَهَا،فَدَعَا،فَأَتَيْتُهَا - وَقَدْ أَجَافَتْ عَلَيْهَا الْبَابَ - فَقَالَتْ:يَا أَبَا هُرَيْرَةَ،إِنِّي أَسْلَمْتُ،فَأَخْبَرْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقُلْتُ:ادْعُ اللَّهَ لِي وَلِأُمِّي،فَقَالَ:" اللَّهُمَّ،عَبْدُكَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَأُمُّهُ،أَحِبَّهُمَا إِلَى النَّاسِ " (2)
وعَنْ أَبِي كَثِيرٍ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ،حَدَّثَنِي أَبُو هُرَيْرَةَ،قَالَ:كُنْتُ أَدْعُو أُمِّي إِلَى الْإِسْلَامِ وَهِيَ مُشْرِكَةٌ،فَدَعَوْتُهَا يَوْمًا فَأَسْمَعَتْنِي فِي رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَا أَكْرَهُ،فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَأَنَا أَبْكِي،قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي كُنْتُ أَدْعُو أُمِّي إِلَى الْإِسْلَامِ فَتَأْبَى عَلَيَّ،فَدَعَوْتُهَا الْيَوْمَ فَأَسْمَعَتْنِي فِيكَ مَا أَكْرَهُ،فَادْعُ اللَّهَ أَنْ يَهْدِيَ أُمَّ أَبِي هُرَيْرَةَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :" اللَّهُمَّ
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (4 / 2311)
(2) - الْأَدَبُ الْمُفْرَدِ لِلْبُخَارِيِّ (35 ) صحيح(1/67)
اهْدِ أُمَّ أَبِي هُرَيْرَةَ " فَخَرَجْتُ مُسْتَبْشِرًا بِدَعْوَةِ نَبِيِّ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ،فَلَمَّا جِئْتُ فَصِرْتُ إِلَى الْبَابِ،فَإِذَا هُوَ مُجَافٌ،فَسَمِعَتْ أُمِّي خَشْفَ قَدَمَيَّ،فَقَالَتْ:مَكَانَكَ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ وَسَمِعْتُ خَضْخَضَةَ الْمَاءِ،قَالَ:فَاغْتَسَلَتْ وَلَبِسَتْ دِرْعَهَا وَعَجِلَتْ عَنْ خِمَارِهَا،فَفَتَحَتِ الْبَابَ،ثُمَّ قَالَتْ:يَا أَبَا هُرَيْرَةَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ،وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ،قَالَ فَرَجَعْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ،فَأَتَيْتُهُ وَأَنَا أَبْكِي مِنَ الْفَرَحِ،قَالَ:قُلْتُ:يَا رَسُولَ اللَّهِ أَبْشِرْ قَدِ اسْتَجَابَ اللَّهُ دَعْوَتَكَ وَهَدَى أُمَّ أَبِي هُرَيْرَةَ،فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَقَالَ خَيْرًا،قَالَ قُلْتُ:يَا رَسُولَ اللَّهِ ادْعُ اللَّهَ أَنْ يُحَبِّبَنِي أَنَا وَأُمِّي إِلَى عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ،وَيُحَبِّبَهُمْ إِلَيْنَا،قَالَ:فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :" اللَّهُمَّ حَبِّبْ عُبَيْدَكَ هَذَا - يَعْنِي أَبَا هُرَيْرَةَ - وَأُمَّهُ إِلَى عِبَادِكَ الْمُؤْمِنِينَ،وَحَبِّبْ إِلَيْهِمِ الْمُؤْمِنِينَ " فَمَا خُلِقَ مُؤْمِنٌ يَسْمَعُ بِي وَلَا يَرَانِي إِلَّا أَحَبَّنِي " (1)
أجفت الباب:إذا أغلقته، فهو مجاف. -خشف قدَمَيّ:الخشف والخشفة:الصوت والحركة.
وقال أَبُو كَثِيرٍ السُّحَيْمِيُّ:حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ،قَالَ:أَمَا وَاللَّهِ مَا خَلَقَ اللَّهُ مُؤْمِنًا يَسْمَعُ بِي،وَيَرَانِي إِلاَّ أَحَبَّنِي،قُلْتُ:وَمَا عِلْمُكَ بِذَلِكَ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ ؟ قَالَ:إِنَّ أُمِّي كَانَتِ امْرَأَةً مُشْرِكَةً وَكُنْتُ أَدْعُوهَا إِلَى الإِسْلاَمِ،فَتَأْبَى عَلَيَّ،فَدَعَوْتُهَا يَوْمًا،فَأَسْمَعَتْنِي فِي رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مَا أَكْرَهُ،فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَأَنَا أَبْكِي،فَقُلْتُ:يَا رَسُولَ اللهِ،إِنِّي كُنْتُ أَدْعُو أُمِّي إِلَى الإِسْلاَمِ،فَتَأْبَى عَلَيَّ وَأَدْعُوهَا،فَأَسْمَعَتْنِي فِيكَ مَا أَكْرَهُ فَادْعُ اللَّهَ أَنْ يَهْدِيَ أُمَّ أَبِي هُرَيْرَةَ،فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - :اللَّهُمَّ اهْدِهَا،فَلَمَّا أَتَيْتُ الْبَابَ إِذَا هُوَ مُجَافٌ،فَسَمِعْتُ خَضْخَضَةَ الْمَاءِ،وَسَمِعْتُ خَشْفَ رَجُلٍ أَوْ رِجُلٍ،فَقَالَتْ:يَا أَبَا هُرَيْرَةَ،كَمَا أَنْتَ وَفَتَحَتِ الْبَابَ وَلَبِسَتْ دِرْعَهَا وَعَجِلَتْ عَلَى خِمَارِهَا،فَقَالَتْ:إِنِّي أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ،وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ،فَرَجَعْتُ إِلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَبْكِي مِنَ الْفَرَحِ كَمَا بَكَيْتُ مِنَ الْحُزْنِ،فَقُلْتُ:يَا رَسُولَ اللهِ أَبْشِرْ،فَقَدِ اسْتَجَابَ اللَّهُ دَعَوْتَكَ،قَدْ هَدَى اللَّهُ أُمَّ أَبِي هُرَيْرَةَ،وَقَالَ:قُلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ،ادْعُ اللَّهَ أَنْ يُحَبِّبَنِي أَنَا وَأُمِّي إِلَى عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ وَيُحَبِّبَهُمْ إِلَيَّ،فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - :اللَّهُمَّ حَبِّبْ عُبَيْدَكَ وَأُمَّهُ إِلَى عِبَادِكَ الْمُؤْمِنِينَ وَحَبِّبْهُمْ إِلَيْهِمَا " (2)
__________
(1) - صحيح مسلم- المكنز - (6551 )
(2) - صحيح ابن حبان - (16 / 107) (7154) صحيح(1/68)
وهذا أبو بكر رضي الله عنه يسارع بعد فتح مكة ليأخذ والده إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - طمعاً في إسلامه وقد كان،فعَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا،قَالَتْ:لَمَّا كَانَ عَامُ الْفَتْحِ وَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ذَا طُوًى،قَالَ أَبُو قُحَافَةَ لابْنَةٍ لَهُ وَكَانَتْ أَصْغَرَ وَلَدِهِ:أَيْ بُنَيَّةُ،أَشْرِفِي بِي عَلَى أَبِي قُبَيْسٍ،وَقَدْ كُفَّ بَصَرُهُ،فَأَشْرَفْتُ بِهِ عَلَيْهِ،فَقَالَ:أَيْ بُنَيَّةُ،مَاذَا تَرَيْنَ ؟ قَالَتْ:أَرَى سَوَادًا مُجْتَمِعًا وَأَرَى رَجُلا يَسْرِي بَيْنَ يَدَيْ ذَلِكَ السَّوَادِ مُقْبِلا،فَقَالَ:تِلْكَ الْخَيْلُ يَا بُنَيَّةُ،ثُمَّ قَالَ:مَاذَا تَرَيْنَ ؟ قَالَتْ:أَرَى السَّوَادَ قَدِ انْتَشَرَ،فَقَالَ:إِذًا وَاللَّهِ دُفِعَتِ الْخَيْلُ،فَأَسْرِعِي بِي إِلَى بَيْتِي،فَخَرَجْتُ سَرِيعًا حَتَّى إِذَا هَبَطْتُ بِهِ إِلَى الأَبْطَحِ وَكَانَ فِي عُنُقِهَا طَوْقٌ لَهَا مِنْ وَرِقٍ،فَاقْتَطَعَهُ إِنْسَانٌ مِنْ عُنُقِهَا،فَلَمَّا دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الْمَسْجِدَ خَرَجَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَتَّى جَاءَ بِأَبِيهِ يَقُودُهُ،فَلَمَّا رَآهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ،قَالَ:هَلا تَرَكْتَ الشَّيْخَ فِي بَيْتِهِ حَتَّى أَجِيئَهُ،فَقَالَ:يَمْشِي هُوَ إِلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ،أَحَقُّ مِنْ أَنْ تَمْشِيَ إِلَيْهِ،فَأَجْلَسَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ،ثُمَّ مَسَحَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - صَدْرَهُ،وَقَالَ:أَسْلِمْ تَسْلَمْ،فَأَسْلَمَ ..." (1)
ــــــــــــــ
الأساس الرابع -أحق الناس بحسن صحبتك والداك :
كثيراً ما يخطئ الإنسان في اتخاذ الصاحب والخليل،فلا يستطيع أن يجدَ المخلص الوفيَّ،ويركض في طلبه،فتتعثر قدماه،ويبحث هنا وهناك بجدٍّ ونشاط،لعله يجد المخلص الوفي،فيلمح من بعيد صديقاً،فيصادفه،حتى إذا صادفه وجده غير ذلك .
ولم يترك النبي - صلى الله عليه وسلم - الإنسان وهذه حالته في التقلب،فدلَّه إلى طريق مختصر قصير جدًّا في الوصول إلى الصديق الوفي .. إنه الوالدان،فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،قَالَ:جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ،فقَالَ:يَا رَسُولَ اللهِ،مَنْ أَحَقُّ النَّاسِ بِحُسْنِ الصُّحْبَةِ ؟ قَالَ:أُمُّكَ،قَالَ:ثُمَّ مَنْ ؟ قَالَ:أُمُّكَ،قَالَ:ثُمَّ مَنْ ؟ قَالَ:أَبُوكَ،قَالَ:فَيَرَوْنَ أَنَّ لِلْأُمِّ ثُلُثَيِ الْبِرِّ. (2)
__________
(1) - المستدرك للحاكم (4363) حسن صحيح
(2) - صحيح ابن حبان - (2 / 176) (433) صحيح(1/69)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،قَالَ:جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،فقَالَ:مَنْ أَحَقُّ النَّاسِ بِحُسْنِ صُحْبَتِي ؟ قَالَ:أُمُّكَ،فقَالَ:ثُمَّ مَنْ ؟ قَالَ:أُمُّكَ،قَالَ:ثُمَّ مَنْ ؟ قَالَ:أُمُّكَ،قَالَ:ثُمَّ مَنْ ؟ قَالَ:أَبُوكَ. (1)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،قَالَ:جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ،فَقَالَ:يَا رَسُولَ اللَّهِ،أَنْبِئْنِي مَنْ أَحَقُّ النَّاسِ بِحُسْنِ الصُّحْبَةِ ؟ قَالَ:نَعَمْ وَأَبِيكَ لَتُنَبَّأَنَّ:أُمُّكَ،قَالَ:ثُمَّ مَنْ ؟ قَالَ:ثُمَّ أُمُّكَ،قَالَ:ثُمَّ مَنْ ؟ قَالَ:ثُمَّ أُمُّكَ،قَالَ:ثُمَّ مَنْ ؟ قَالَ:ثُمَّ أَبُوكَ،قَالَ:تُنَبِّئُنِي يَا رَسُولَ اللَّهِ،مَالٌ أَتَصَدَّقُ بِهِ ؟ قَالَ:نَعَمْ وَاللَّهِ لَتُنَبَّأَنَّ:تَصَدَّقْ وَأَنْتَ صَحِيحٌ،شَحِيحٌ،تَأْمُلُ الْعَيْشَ،وَتَخَافُ الْفَقْرَ،وَلا تُمْهِلْ حَتَّى إِذَا بَلَغَتْ نَفْسُكَ هَاهُنَا،وهاهنا،قُلْتُ:مَا لِي لِفُلانٍ،وَمَا لِي لِفُلانٍ،وَهُوَ لَهُمْ وَإِنْ كَرِهْتَ " (2)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،قَالَ:قَالَ رَجُلٌ:يَا رَسُولَ اللَّهِ،مَنْ أَحَقُّ النَّاسِ مِنِّي بِحُسْنِ الصُّحْبَةِ ؟ قَالَ:أُمُّكَ،ثُمَّ أَبَاكَ،ثُمَّ أَدْنَاكَ أَدْنَاكَ " (3)
وقد يقول قائل:أنا في غنى أن أتخذ صاحباً وصديقاً ؟ فالجواب:إذا أنت استغنيت فلا بأس،ولكن الوالدين لا يستغنيان عن صحبتك،ومحادثتك، ومشاورتك،وسماع رأيك في كثير من القضايا التي تستجد في حياتهما وحياة إخوتك .
وأنت لا يمكن أن تستغني عنهما وعن مشورتهما في أمور الحياة،فلهما تجربة سابقة،وهما حريصان على نصحك وإرشادك أكثر من حرصهما على أنفسهما،وقد أمر تعالى بصحبة الوالدين ولو كانا كافرين:{ وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} (15) سورة لقمان .
ــــــــــــــ
الأساس الخامس -تقديم بر الأم على الأب عند التعارض،بعد محاولة التوفيق بينهما :
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (5971) وصحيح مسلم- المكنز - (6664) وصحيح ابن حبان - (2 / 177) (434)
(2) - مسند أبي يعلى الموصلي (6092) صحيح
(3) - مسند أبي يعلى الموصلي (6094) صحيح(1/70)
لَمَّا كَانَ حَقُّ الْوَالِدَيْنِ عَلَى الأَْوْلاَدِ عَظِيمًا،فَقَدْ نَزَل بِهِ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ،وَوَرَدَتْ بِهِ السُّنَّةُ الْمُطَهَّرَةُ،وَيَقْضِي ذَلِكَ بِلُزُومِ بِرِّهِمَا وَطَاعَتِهِمَا وَرِعَايَةِ شُئُونِهِمَا وَالاِمْتِثَال لأَِمْرِهِمَا،فِيمَا لَيْسَ بِمَعْصِيَةٍ،عَلَى نَحْوِ مَا سَبَقَ بَيَانُهُ .
وَنَظَرًا لِقِيَامِ الأُْمِّ بِالْعِبْءِ الأَْكْبَرِ فِي تَرْبِيَةِ الْوَلَدِ اخْتَصَّهَا الشَّارِعُ بِمَزِيدٍ مِنَ الْبِرِّ،بَعْدَ أَنْ أَوْصَى بِبِرِّهِمَا،فَقَال تَعَالَى:{وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} (14) سورة لقمان
وحديث أبي هريرة الآنف الذكر،ولحديث الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ الْكِنْدِيِّ،عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - :إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُوصِيكُمْ بِأُمَّهَاتِكُمْ،إِنَّ اللَّهَ يُوصِيكُمْ بِأُمَّهَاتِكُمْ،إِنَّ اللَّهَ يُوصِيكُمْ بِآبَائِكُمْ،إِنَّ اللَّهَ يُوصِيكُمْ بِالأَقْرَبِ فَالأَقْرَبِ. (1)
فَفِيمَا ذُكِرَ - وَغَيْرُهُ كَثِيرٌ - مِمَّا سَبَقَ بَيَانُهُ دَلِيلٌ عَلَى مَنْزِلَةِ الأَْبَوَيْنِ،وَتَقْدِيمِ الأُْمِّ فِي الْبِرِّ عَلَى الأَْبِ فِي ذَلِكَ؛لِصُعُوبَةِ الْحَمْل،ثُمَّ الْوَضْعِ وَآلاَمِهِ،ثُمَّ الرَّضَاعِ وَمَتَاعِبِهِ،وَهَذِهِ أُمُورٌ تَنْفَرِدُ بِهَا الأُْمُّ وَتَشْقَى بِهَا،ثُمَّ تُشَارِكُ الأَْبَ فِي التَّرْبِيَةِ،فَضْلاً عَنْ أَنَّ الأُْمَّ أَحْوَجُ إِلَى الرِّعَايَةِ مِنَ الأَْبِ،وَلاَ سِيَّمَا حَال الْكِبَرِ . (2)
وَفِي تَقْدِيمِ هَذَا الْحَقِّ أَيْضًا:أَنَّهُ لَوْ وَجَبَتِ النَّفَقَةُ عَلَى الْوَلَدِ لأَِبَوَيْهِ،وَلَمْ يَقْدِرْ إِلاَّ عَلَى نَفَقَةِ أَحَدِهِمَا،فَتُقَدَّمُ الأُْمُّ عَلَى الأَْبِ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَاتِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ،وَهُوَ رَأْيٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، (3) وَذَلِكَ لِمَا لَهَا مِنْ مَشَقَّةِ الْحَمْل وَالرَّضَاعِ وَالتَّرْبِيَةِ وَزِيَادَةِ الشَّفَقَةِ،وَأَنَّهَا أَضْعَفُ وَأَعْجَزُ.هَذَا مَا لَمْ يَتَعَارَضَا فِي بِرِّهِمَا .
__________
(1) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (5 / 854)(17187) 17319- صحيح
(2) - فتح الباري بشرح صحيح البخاري 10 / 401 - 402 ، وشرح إحياء علوم الدين للغزالي 6 / 315 ، والزواجر عن اقتراف الكبائر للهيثمي 2 / 71 ط دائرة المعارف ، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي 14 / 63ـ 65 .
(3) - رد المحتار على الدر المختار 2 / 673 ، والفواكه الدواني 2 / 384 ، وروضة الطالبين 9 / 95 ، والمكتب الإسلامي والمغني لابن قدامة 7 / 594 ط الرياض الحديثة .(1/71)
فَإِنْ تَعَارَضَا فِيهِ،بِأَنْ كَانَ فِي طَاعَةِ أَحَدِهِمَا مَعْصِيَةُ الآْخَرِ،فَإِنَّهُ يُنْظَرُ:إِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا يَأْمُرُ بِطَاعَةٍ وَالآْخَرُ يَأْمُرُ بِمَعْصِيَةٍ،فَإِنَّ عَلَيْهِ أَنْ يُطِيعَ الآْمِرَ بِالطَّاعَةِ مِنْهُمَا دُونَ الآْمِرِ بِالْمَعْصِيَةِ،فِيمَا أَمَرَ بِهِ مِنْ مَعْصِيَةٍ .
وَعَلَيْهِ أَنْ يُصَاحِبَهُ بِالْمَعْرُوفِ لِلأَْمْرِ بِذَلِكَ فِي قَوْله تَعَالَى:{ وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا } (سورة لقمان / 15) وَهِيَ وَإِنْ كَانَتْ نَزَلَتْ فِي الأَْبَوَيْنِ الْكَافِرَيْنِ،إِلاَّ أَنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لاَ بِخُصُوصِ السَّبَبِ .
أَمَّا إِنْ تَعَارَضَ بِرُّهُمَا فِي غَيْرِ مَعْصِيَةٍ،وَحَيْثُ لاَ يُمْكِنُ إِيصَال الْبِرِّ إِلَيْهِمَا دَفْعَةً وَاحِدَةً،فَقَدْ قَال الْجُمْهُورُ:طَاعَةُ الأُْمِّ مُقَدَّمَةٌ؛لأَِنَّهَا تَفْضُل الأَْبَ فِي الْبِرِّ . (1)
وَقِيل:هُمَا فِي الْبِرِّ سَوَاءٌ،فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ رَجُلاً قَال لِمَالِكٍ:وَالِدِي فِي السُّودَانِ،كَتَبَ إِلَيَّ أَنْ أَقْدُمَ عَلَيْهِ،وَأُمِّي تَمْنَعُنِي مِنْ ذَلِكَ،فَقَال لَهُ مَالِكٌ:أَطِعْ أَبَاكَ وَلاَ تَعْصِ أُمَّكَ.يَعْنِي أَنَّهُ يُبَالِغُ فِي رِضَى أُمِّهِ بِسَفَرِهِ لِوَالِدِهِ،وَلَوْ بِأَخْذِهَا مَعَهُ،لِيَتَمَكَّنَ مِنْ طَاعَةِ أَبِيهِ وَعَدَمِ عِصْيَانِ أُمِّهِ .
وَرُوِيَ أَنَّ اللَّيْثَ حِينَ سُئِل عَنِ الْمَسْأَلَةِ بِعَيْنِهَا قَال:أَطِعْ أُمَّكَ،فَإِنَّ لَهَا ثُلُثَيِ الْبِرِّ.كَمَا حَكَى الْبَاجِيُّ أَنَّ امْرَأَةً كَانَ لَهَا حَقٌّ عَلَى زَوْجِهَا،فَأَفْتَى بَعْضُ الْفُقَهَاءِ ابْنَهَا:بِأَنْ يَتَوَكَّل لَهَا عَلَى أَبِيهِ،فَكَانَ يُحَاكِمُهُ،وَيُخَاصِمُهُ فِي الْمَجَالِسِ تَغْلِيبًا لِجَانِبِ الأُْمِّ.وَمَنَعَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ ذَلِكَ،قَال:لأَِنَّهُ عُقُوقٌ لِلأَْبِ،وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ إِنَّمَا دَل عَلَى أَنَّ بِرَّهُ أَقَل مِنْ بِرِّ الأُْمِّ،لاَ أَنَّ الأَْبَ يُعَقُّ.وَنَقَل الْمُحَاسِبِيُّ الإِْجْمَاعَ عَلَى أَنَّ الأُْمَّ مُقَدَّمَةٌ فِي الْبِرِّ عَلَى الأَْبِ . (2)
وقَال ابْنُ جَرِيرٍ:إِنَّ بِرَّ الْمُؤْمِنِ مِنْ أَهْل الْحَرْبِ،مِمَّنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ قَرَابَةُ نَسَبٍ،أَوْ مَنْ لاَ قَرَابَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ وَلاَ نَسَبَ،غَيْرُ مُحَرَّمٍ وَلاَ مَنْهِيٍّ عَنْهُ،إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ تَقْوِيَةٌ لِلْكُفَّارِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ،أَوْ دَلاَلَةٌ عَلَى عَوْرَةٍ لأَِهْل الإِْسْلاَمِ،أَوْ تَقْوِيَةٌ لَهُمْ بِكُرَاعٍ أَوْ سِلاَحٍ . (3)
__________
(1) - الفواكه الدواني 2 / 384 .
(2) - الموسوعة الفقهية الكويتية - (8 / 67) والفروق للقرافي 1 / 143 ، وتهذيب الفروق بهامشه ص 161 ، وفتح الباري بشرح صحيح البخاري 10 / 402 - 403 .
(3) - جامع البيان للطبري 28 / 66 ط مصطفى الحلبي .(1/72)
وَهُوَ مُوَافِقٌ لِمَا نُقِل عَنِ ابْنِ الْجَوْزِيِّ الْحَنْبَلِيِّ فِي الآْدَابِ الشَّرْعِيَّةِ،وَلاَ يَخْتَلِفُ عَمَّا ذُكِرَ،وَاسْتَدَل لَهُ بِإِهْدَاءِ عُمَرَ الْحُلَّةَ الْحَرِيرِيَّةَ إِلَى أَخِيهِ الْمُشْرِكِ.وَبِحَدِيثِ أَسْمَاءَ،وَفِيهِمَا صِلَةُ أَهْل الْحَرْبِ وَبِرُّهُمْ وَصِلَةُ الْقَرِيبِ الْمُشْرِكِ . (1)
وَمِنَ الْبِرِّ لِلْوَالِدَيْنِ الْكَافِرَيْنِ الْوَصِيَّةُ لَهُمَا؛لأَِنَّهُمَا لاَ يَرِثَانِ ابْنَهُمَا الْمُسْلِمَ . (2)
فَفِيمَا ذُكِرَ - وَغَيْرُهُ كَثِيرٌ - مِمَّا سَبَقَ بَيَانُهُ دَلِيلٌ عَلَى مَنْزِلَةِ الأَْبَوَيْنِ،وَتَقْدِيمِ الأُْمِّ فِي الْبِرِّ عَلَى الأَْبِ فِي ذَلِكَ؛لِصُعُوبَةِ الْحَمْل،ثُمَّ الْوَضْعِ وَآلاَمِهِ،ثُمَّ الرَّضَاعِ وَمَتَاعِبِهِ،وَهَذِهِ أُمُورٌ تَنْفَرِدُ بِهَا الأُْمُّ وَتَشْقَى بِهَا،ثُمَّ تُشَارِكُ الأَْبَ فِي التَّرْبِيَةِ،فَضْلاً عَنْ أَنَّ الأُْمَّ أَحْوَجُ إِلَى الرِّعَايَةِ مِنَ الأَْبِ،وَلاَ سِيَّمَا حَال الْكِبَرِ . (3)
وَفِي تَقْدِيمِ هَذَا الْحَقِّ أَيْضًا:أَنَّهُ لَوْ وَجَبَتِ النَّفَقَةُ عَلَى الْوَلَدِ لأَِبَوَيْهِ،وَلَمْ يَقْدِرْ إِلاَّ عَلَى نَفَقَةِ أَحَدِهِمَا،فَتُقَدَّمُ الأُْمُّ عَلَى الأَْبِ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَاتِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ،وَهُوَ رَأْيٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ،وَذَلِكَ لِمَا لَهَا مِنْ مَشَقَّةِ الْحَمْل وَالرَّضَاعِ وَالتَّرْبِيَةِ وَزِيَادَةِ الشَّفَقَةِ،وَأَنَّهَا أَضْعَفُ وَأَعْجَزُ.هَذَا مَا لَمْ يَتَعَارَضَا فِي بِرِّهِمَا (4) .
فَإِنْ تَعَارَضَا فِيهِ،بِأَنْ كَانَ فِي طَاعَةِ أَحَدِهِمَا مَعْصِيَةُ الآْخَرِ،فَإِنَّهُ يُنْظَرُ:إِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا يَأْمُرُ بِطَاعَةٍ وَالآْخَرُ يَأْمُرُ بِمَعْصِيَةٍ،فَإِنَّ عَلَيْهِ أَنْ يُطِيعَ الآْمِرَ بِالطَّاعَةِ مِنْهُمَا دُونَ الآْمِرِ بِالْمَعْصِيَةِ،فِيمَا أَمَرَ بِهِ مِنْ مَعْصِيَةٍ.لِقَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم - :لاَ طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ (5) ، وَعَلَيْهِ أَنْ يُصَاحِبَهُ بِالْمَعْرُوفِ لِلأَْمْرِ بِذَلِكَ فِي قَوْله تَعَالَى:{ وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا } (سورة لقمان / 15 ) وَهِيَ وَإِنْ كَانَتْ نَزَلَتْ فِي الأَْبَوَيْنِ الْكَافِرَيْنِ،إِلاَّ أَنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لاَ بِخُصُوصِ السَّبَبِ
__________
(1) - الآداب الشرعية 1 / 492 - 493 .
(2) - الموسوعة الفقهية الكويتية - (8 / 69)
(3) - فتح الباري بشرح صحيح البخاري 10 / 401 - 402 ، وشرح إحياء علوم الدين للغزالي 6 / 315 ، والزواجر عن اقتراف الكبائر للهيثمي 2 / 71 ط دائرة المعارف ، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي 14 / 63ـ 65 .
(4) - رد المحتار على الدر المختار 2 / 673 ، والفواكه الدواني 2 / 384 ، وروضة الطالبين 9 / 95 ، والمكتب الإسلامي والمغني لابن قدامة 7 / 594 ط الرياض الحديثة .
(5) - المعجم الكبير للطبراني - (13 / 60) (14795 ) صحيح(1/73)
أَمَّا إِنْ تَعَارَضَ بِرُّهُمَا فِي غَيْرِ مَعْصِيَةٍ،وَحَيْثُ لاَ يُمْكِنُ إِيصَال الْبِرِّ إِلَيْهِمَا دَفْعَةً وَاحِدَةً،فَقَدْ قَال الْجُمْهُورُ:طَاعَةُ الأُْمِّ مُقَدَّمَةٌ؛لأَِنَّهَا تَفْضُل الأَْبَ فِي الْبِرِّ (1) .
وَقِيل:هُمَا فِي الْبِرِّ سَوَاءٌ،فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ رَجُلاً قَال لِمَالِكٍ:وَالِدِي فِي السُّودَانِ،كَتَبَ إِلَيَّ أَنْ أَقْدُمَ عَلَيْهِ،وَأُمِّي تَمْنَعُنِي مِنْ ذَلِكَ،فَقَال لَهُ مَالِكٌ:أَطِعْ أَبَاكَ وَلاَ تَعْصِ أُمَّكَ.يَعْنِي أَنَّهُ يُبَالِغُ فِي رِضَى أُمِّهِ بِسَفَرِهِ لِوَالِدِهِ،وَلَوْ بِأَخْذِهَا مَعَهُ،لِيَتَمَكَّنَ مِنْ طَاعَةِ أَبِيهِ وَعَدَمِ عِصْيَانِ أُمِّهِ .
وَرُوِيَ أَنَّ اللَّيْثَ حِينَ سُئِل عَنِ الْمَسْأَلَةِ بِعَيْنِهَا قَال:أَطِعْ أُمَّكَ،فَإِنَّ لَهَا ثُلُثَيِ الْبِرِّ.كَمَا حَكَى الْبَاجِيُّ أَنَّ امْرَأَةً كَانَ لَهَا حَقٌّ عَلَى زَوْجِهَا،فَأَفْتَى بَعْضُ الْفُقَهَاءِ ابْنَهَا:بِأَنْ يَتَوَكَّل لَهَا عَلَى أَبِيهِ،فَكَانَ يُحَاكِمُهُ،وَيُخَاصِمُهُ فِي الْمَجَالِسِ تَغْلِيبًا لِجَانِبِ الأُْمِّ.وَمَنَعَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ ذَلِكَ،قَال:لأَِنَّهُ عُقُوقٌ لِلأَْبِ،وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ إِنَّمَا دَل عَلَى أَنَّ بِرَّهُ أَقَل مِنْ بِرِّ الأُْمِّ،لاَ أَنَّ الأَْبَ يُعَقُّ.وَنَقَل الْمُحَاسِبِيُّ الإِْجْمَاعَ عَلَى أَنَّ الأُْمَّ مُقَدَّمَةٌ فِي الْبِرِّ عَلَى الأَْبِ . (2)
بِرُّ الْوَالِدَيْنِ وَالأَْقَارِبِ الْمُقِيمِينَ بِدَارِ الْحَرْبِ :
قَال ابْنُ جَرِيرٍ:إِنَّ بِرَّ الْمُؤْمِنِ مِنْ أَهْل الْحَرْبِ،مِمَّنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ قَرَابَةُ نَسَبٍ،أَوْ مَنْ لاَ قَرَابَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ وَلاَ نَسَبَ،غَيْرُ مُحَرَّمٍ وَلاَ مَنْهِيٍّ عَنْهُ،إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ تَقْوِيَةٌ لِلْكُفَّارِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ،أَوْ دَلاَلَةٌ عَلَى عَوْرَةٍ لأَِهْل الإِْسْلاَمِ،أَوْ تَقْوِيَةٌ لَهُمْ بِكُرَاعٍ أَوْ سِلاَحٍ . (3) ،وَهُوَ مُوَافِقٌ لِمَا نُقِل عَنِ ابْنِ الْجَوْزِيِّ الْحَنْبَلِيِّ فِي الآْدَابِ الشَّرْعِيَّةِ،وَلاَ يَخْتَلِفُ عَمَّا ذُكِرَ،وَاسْتَدَل لَهُ بِإِهْدَاءِ عُمَرَ الْحُلَّةَ الْحَرِيرِيَّةَ إِلَى أَخِيهِ الْمُشْرِكِ.وَبِحَدِيثِ أَسْمَاءَ وَفِيهِمَا صِلَةُ أَهْل الْحَرْبِ وَبِرُّهُمْ وَصِلَةُ الْقَرِيبِ الْمُشْرِكِ،وَمِنَ الْبِرِّ لِلْوَالِدَيْنِ الْكَافِرَيْنِ الْوَصِيَّةُ لَهُمَا؛لأَِنَّهُمَا لاَ يَرِثَانِ ابْنَهُمَا الْمُسْلِمَ (4) .
ــــــــــــــ
__________
(1) - الفواكه الدواني 2 / 384 .
(2) - الفروق للقرافي 1 / 143 ، وتهذيب الفروق بهامشه ص 161 ، وفتح الباري بشرح صحيح البخاري 10 / 402 - 403 .
(3) - جامع البيان للطبري 28 / 66 ط مصطفى الحلبي .
(4) - الآداب الشرعية 1 / 492 - 493 .(1/74)
الأساس السادس - أنت ومالك لأبيك :
عَنْ عَائِشَةَ،رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا:أَنَّ رَجُلاً أَتَى رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،يُخَاصِمُ أَبَاهُ فِي دَيْنٍ عَلَيْهِ،فقَالَ نَبِيُّ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - :أَنْتَ وَمَالُكَ لأَبِيكَ. (1)
قَالَ أَبُو حَاتِمٍ:مَعْنَاهُ أَنَّهُ - صلى الله عليه وسلم - ،زَجَرَ عَنْ مُعَامَلَتِهِ أَبَاهُ بِمَا يُعَامِلُ بِهِ الأَجْنَبِيِّينَ،وَأَمَرِ بِبِرِّهِ وَالرِّفْقِ بِهِ فِي الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ مَعًا،إِلَى أَنْ يَصِلَ إِلَيْهِ مَالُهُ،فقَالَ لَهُ:أَنْتَ وَمَالُكَ لأَبِيكَ،لاَ أَنَّ مَالَ الاِبْنِ يَمْلِكُهُ الأَبُ فِي حَيَاتِهِ عَنْ غَيْرِ طِيبِ نَفْسٍ مِنَ الاِبْنِ بِهِ.
وعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ:أَنَّ أَعْرَابِيًّا أَتَى النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ إِنَّ لِى مَالاً وَوَلَدًا وَإِنَّ وَالِدِى يُرِيدُ أَنْ يَجْتَاحَ مَالِى.فَقَالَ :« أَنْتَ وَمَالُكَ لأَبِيكَ إِنَّ أَوْلاَدَكُمْ مِنْ أَطْيَبِ كَسْبِكُمْ ». (2)
وعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ:أَنَّ رَجُلاً جَاءَ إِلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ:يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ لِى مَالاً وَعِيَالاً وَإِنَّ لأَبِى مَالاً وَعِيَالاً يُرِيدُ أَنْ يَأْخُذَ مَالِى فَيُطْعِمَهُ عِيَالَهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :« أَنْتَ وَمَالُكَ لأَبِيكَ ». (3)
وعَنْ رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ،أَنَّهُ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ:إِنَّ أَبِي غَصَبَنِي مَالًا،قَالَ:أَنْتَ وَمَالُكَ لِأَبِيكَ . (4)
وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ،أَنّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - ،قَالَ لِرَجُلٍ:أَنْتَ وَمَالُكَ لأَبِيكَ" (5)
وعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ،أَنَّ رَجُلاً قَالَ:يَا رَسُولَ اللهِ،إِنَّ لِي مَالاً وَوَلَدًا،وَإِنَّ أَبِي يُرِيدُ أَنْ يَجْتَاحَ مَالِي،فَقَالَ:أَنْتَ وَمَالُكَ لأَبِيكَ. (6)
قال الطحاوي:" سَأَلْتُ أَبَا جَعْفَرٍ مُحَمَّدَ بْنَ الْعَبَّاسِ عَنِ الْمُرَادِ بِهَذَا الْحَدِيثِ فَقَالَ: الْمُرَادُ بِهِ مَوْجُودٌ فِيهِ , وَذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: فِيهِ " أَنْتَ وَمَالُكَ لِأَبِيكَ " فَجَمَعَ فِيهِ الِابْنَ وَمَالَ
__________
(1) - صحيح ابن حبان - (2 / 142) (410) صحيح
(2) - السنن الكبرى للبيهقي- المكنز - (7 / 480)(16166) صحيح
(3) - السنن الكبرى للبيهقي- المكنز - (7 / 480) (16168) صحيح مرسل
(4) - المطالب العالية بزوائد المسانيد الثمانية - (11 / 326)(2538 ) حسن
(5) - المعجم الصغير للطبراني - (1 / 24)(2) والمعجم الكبير للطبراني - (8 / 409)(9877 ) صحيح
(6) - سنن ابن ماجة- ط- الرسالة - (3 / 391)(2291) صحيح(1/75)
الِابْنِ فَجَعَلَهُمَا لِأَبِيهِ، فَلَمْ يَكُنْ جَعْلُهُ إيَّاهُمَا لِأَبِيهِ عَلَى مِلْكِ أَبِيهِ إيَّاهُ، وَلَكِنْ عَلَى أَنْ لَا يَخْرُجَ عَنْ قَوْلِ أَبِيهِ فِيهِ، فَمِثْلُ ذَلِكَ قَوْلُهُ: مَالُكَ لِأَبِيكَ لَيْسَ عَلَى مَعْنَى تَمْلِيكِهِ إيَّاهُ مَالَهُ، وَلَكِنْ عَلَى مَعْنَى أَنْ لَا يَخْرُجَ عَنْ قَوْلِهِ فِيهِ وَسَأَلْتُ ابْنَ أَبِي عِمْرَانَ عَنْهُ فَقَالَ: قَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم - فِي هَذَا الْحَدِيثِ " أَنْتَ وَمَالُكَ لِأَبِيكَ " كَقَوْلِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - " إنَّمَا أَنَا وَمَالِي لَكَ يَا رَسُولَ اللهِ " لَمَّا قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - " مَا نَفَعَنِي مَالٌ مَا نَفَعَنِي مَالُ أَبِي بَكْرٍ " يَعْنِي بِذَلِكَ ما روي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ , قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - :" مَا نَفَعَنِي مَالٌ قَطُّ مَا نَفَعَنِي مَالُ أَبِي بَكْرٍ " قَالَ: فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: رَضِيَ اللهُ عَنْهُ إنَّمَا أَنَا وَمَالِي لَكَ يَا رَسُولَ اللهِ فَكَانَ مُرَادُ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ بِقَوْلِهِ هَذَا أَيْ أَنَّ أَقْوَالَكَ وَأَفْعَالَكَ نَافِذَةٌ فِي وَفِي مَالِي مَا تَنْفُذُ الْأَقْوَالُ وَالْأَفْعَالُ مِنْ مَالِكِي الْأَشْيَاءِ فِي الْأَشْيَاءِ فَمِثْلُ ذَلِكَ قَوْلُ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لِسَائِلِهِ الْمَذْكُورِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَهُوَ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى وَاللهُ أَعْلَمُ وَقَدْ جَاءَ كِتَابُ اللهِ بِمَا كَشَفَ لَنَا عَنِ الْمُشْكِلِ فِي هَذَا الْجَوَابِ مِنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مِمَّا يُوجِبُ انْتِفَاءَ مِلْكِ الْأَبِ عَمَّا يَمْلِكُ الِابْنُ قَالَ اللهُ: { وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ } [المؤمنون: 6] فَكَانَ مَا يَمْلِكُهُ الِابْنُ مِنَ الْإِمَاءِ حَلَالًا لَهُ وَطْؤُهُنَّ وَحَرَامًا عَلَى أَبِيهِ وَطْؤُهُنَّ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مِلْكَهُ فِيهِنَّ مِلْكٌ تَامٌّ صَحِيحٌ وَأَنَّ أَبَاهُ فِيهِنَّ بِخِلَافِ ذَلِكَ وَقَدْ قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي آيَةِ الْمَوَارِيثِ: { وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ } [النساء: 11] فَجَعَلَ لِأُمِّهِ نَصِيبًا فِي مَالِهِ بِمَوْتِهِ , وَمُحَالٌ أَنْ تَسْتَحِقَّ بِمَوْتِ ابْنِهَا جُزْءًا مِنْ مَالٍ لِأَبِيهِ دُونَهُ، ثُمَّ قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: { مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ } [النساء: 11] فَاسْتَحَالَ أَنْ يَجِبَ قَضَاءُ مَا عَلَيْهِ مِنْ دَيْنٍ مِنْ مَالٍ لِأَبِيهِ دُونَهُ أَوْ تَجُوزَ وَصِيَّةٌ مِنْهُ فِي مَالٍ لِأَبِيهِ دُونَهُ، قَالَ: وَفِيمَا ذَكَرْتُ مِنْ هَذَا مَا قَدْ دَلَّ عَلَى مَا وَصَفْتُهُ فِيهِ قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ وَكَانَ هَذَانِ الْجَوَابَانِ مِنْ هَذَيْنِ الشَّيْخَيْنِ سَدِيدَيْنِ , كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَادٌّ لِصَاحِبِهِ، وَاللهَ نَسْأَلُهُ التَّوْفِيقَ " (1)
__________
(1) - شرح مشكل الآثار - (4 / 279)(1/76)
وعَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: مَرَّ رَجُلٌ عَلَى أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ،رَجُلٌ لَهُ حَشَمٌ خَلْقًا، فَقَالُوا: لَوْ كَانَ هَذَا فِي سَبِيلِ اللهِ ؟ وَجَاءَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - ،فَقَالُوا: لَوْ كَانَ هَذَا فِي سَبِيلِ اللهِ ؟ فَقَالَ: " لَعَلَّهُ يَكُدُّ عَلَى أَبَوَيْنِ شَيْخَيْنِ كَبِيرَيْنِ، فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللهِ، لَعَلَّهُ يَكُدُّ عَلَى صِبْيَةٍ صِغَارٍ فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللهِ، لَعَلَّهُ يَكُدُّ عَلَى نَفْسِهِ لِيُغْنِيَهَا عَنِ النَّاسِ فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللهِ " (1)
وعَنْ كَعْبِ بن عُجْرَةَ، قَالَ: مَرَّ عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - رَجُلٌ، فَرَأَى أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ جِلْدِهِ وَنَشَاطِهِ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ: لَوْ كَانَ هَذَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :"إِنْ كَانَ خَرَجَ يَسْعَى عَلَى وَلَدِهِ صِغَارًا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَإِنْ كَانَ خَرَجَ يَسْعَى عَلَى أَبَوَيْنِ شَيْخَيْنِ كَبِيرَيْنِ فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَإِنْ كَانَ يَسْعَى عَلَى نَفْسِهِ يُعِفُّهَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَإِنْ كَانَ خَرَجَ رِيَاءً وَمُفَاخَرَةً فَهُوَ فِي سَبِيلِ الشَّيْطَانِ". (2)
وعَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " لَا يَحِلُّ لِرَجُلٍ أَنْ يَرْجِعَ فِي هِبَتِهِ، إِلَّا الْوَالِدَ لِوَلَدِهِ " (3)
وعَنَ ابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ قَالَا: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - :" لَا يَحِلُّ لِوَاهِبٍ أَنْ يَرْجِعَ فِي هِبَتِهِ، إِلَّا الْوَالِدَ لِوَلَدِهِ " (4)
وعَنْ طَاوُسٍ،سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ،وَابْنَ عُمَرَ،يَقُولاَنِ:قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - :لاَ يَحِلُّ لِرَجُلٍ أَنْ يُعْطِيَ عَطِيَّةً أَوْ هِبَةً،ثُمَّ يَرْجِعُ فِيهَا،إِلاَّ الْوَالِدَ فِيمَا يُعْطِي وَلَدَهُ،وَمَثَلُ الَّذِي يُعْطِي عَطِيَّةً،أَوْ هِبَةً،ثُمَّ يَرْجِعُ فِيهَا،كَمَثَلِ الْكَلْبِ أَكَلَ،حَتَّى شَبِعَ،ثُمَّ قَاءَ،ثُمَّ عَادَ إِلَى قَيْئِهِ. (5)
وذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْوَالِدَ لاَ يَأْخُذُ مِنْ مَال وَلَدِهِ شَيْئًا إِلاَّ إِذَا احْتَاجَ إِلَيْهِ (6) .
__________
(1) - شعب الإيمان - (10 / 264) (7469 ) صحيح
(2) - المعجم الكبير للطبراني - (13 / 491) (15619) صحيح
(3) - شرح مشكل الآثار - (13 / 62) (5062 ) صحيح
(4) - شرح مشكل الآثار - (13 / 63) (5064 ) صحيح
(5) - صحيح ابن حبان - (11 / 524) (5123) صحيح
(6) - حاشية ابن عابدين 4 513 ، والدسوقي 2 522 ، ومغني المحتاج 3 446 ، وأحكام القرآن لابن العربي 3 1391 .(1/77)
قَال الْحَنَفِيَّةُ:إِذَا احْتَاجَ الأَْبُ إِلَى مَال وَلَدِهِ،فَإِنْ كَانَا فِي الْمِصْرِ وَاحْتَاجَ الْوَالِدُ لِفَقْرِهِ أَكَل بِغَيْرِ شَيْءٍ،وَإِنْ كَانَا فِي الْمَفَازَةِ وَاحْتَاجَ إِلَيْهِ لاِنْعِدَامِ الطَّعَامِ مَعَهُ فَلَهُ الأَْكْل بِالْقِيمَةِ،نَصَّ عَلَى ذَلِكَ ابْنُ عَابِدِينَ . (1)
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ لِلأَْبِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ مَال وَلَدِهِ مَا شَاءَ وَيَتَمَلَّكُهُ مَعَ حَاجَةِ الأَْبِ إِلَى مَا يَأْخُذُهُ وَمَعَ عَدَمِهَا،صَغِيرًا كَانَ الْوَلَدُ أَوْ كَبِيرًا بِشَرْطَيْنِ .
أَحَدُهُمَا:أَنْ لاَ يُجْحِفَ بِالاِبْنِ وَلاَ يَضُرَّ بِهِ،وَلاَ يَأْخُذَ شَيْئًا تَعَلَّقَتْ بِهِ حَاجَتُهُ .
الثَّانِي:أَنْ لاَ يَأْخُذَ مِنْ مَال وَلَدِهِ فَيُعْطِيهِ وَلَدَهُ الآْخَرَ.نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ إِسْمَاعِيل بْنِ سَعِيدٍ،وَذَلِكَ لأَِنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنْ تَخْصِيصِ بَعْضِ وَلَدِهِ بِالْعَطِيَّةِ مِنْ مَال نَفْسِهِ فَلأََنْ يُمْنَعَ مِنْ تَخْصِيصِهِ بِمَا أَخَذَ مِنْ مَال وَلَدِهِ الآْخَرِ أَوْلَى .
وللأحاديث الآنفة الذكر،وَلأَِنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَل الْوَلَدَ مَوْهُوبًا لأَِبِيهِ فَقَال: { وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ } (سورة الأنعام 34 )،وَقَال:{ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى } ( سورة الأنبياء 90 )،وَقَال زَكَرِيَّا :{ فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا } ) ( سورة مريم 5)،وَقَال إِبْرَاهِيمُ:{ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيل وَإِسْحَاقَ } (سورة إبراهيم 39 )،وَمَا كَانَ مَوْهُوبًا لَهُ كَانَ لَهُ أَخْذُ مَالِهِ كَعَبْدِهِ . (2)
وَفِي مَسَائِل الإِْمَامِ أَحْمَدَ لاِبْنِ هَانِئٍ قَال:سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَقُول:كُل شَيْءٍ يَأْخُذُ مِنْ مَال وَلَدِهِ فَيَقْبِضُهُ،فَلَهُ أَنْ يَأْكُل وَيَعْتِقَ،وَسُئِل أَبُو عَبْدِ اللَّهِ:يَسْرِقُ الْوَالِدُ مِنْ مَال وَلَدِهِ عَلَيْهِ الْقَطْعُ ؟ قَال:لاَ يُقَال سَرَقَ،لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ وَلاَ يُقْطَعُ .
وَقَال أَيْضًا:يَأْخُذُ مِنْ مَال وَلَدِهِ مَا شَاءَ لِحَدِيثِ أَنْتَ وَمَالُكَ لأَِبِيكَ.
وَقَال أَيْضًا:لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ مَال وَلَدِهِ مَا شَاءَ،وَلَيْسَ لِوَلَدِهِ أَنْ يَمْنَعَهُ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَأْخُذَ.إِلاَّ أَنْ يَكُونَ بِسَرَفٍ فَلَهُ أَنْ يُعْطِيَهُ الْقُوتَ .
__________
(1) - حاشية ابن عابدين 4 /513 .
(2) - المغني 5 678 - 679، 236 .(1/78)
وَسُئِل عَنِ الْمَرْأَةِ تَتَصَدَّقُ مِنْ مَال ابْنِهَا ؟ قَال:لاَ تَتَصَدَّقُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ . (1)
ــــــــــــــ
الأساس السابع -عتق الوالدين من أي مال استحق بذمتهما :
وهذه صورة من صور البر العظيمة،ففي السابق أيام الرقيق،قد يصبح الابن حرًّا وله مال،والأب أو الأم رقيقين بلا مال يعتقان أنفسهما،أما صورتها في واقعنا المعاصر،فمثلاً حلت بأحد الوالدين ديونٌ كثيرة لأي سببٍ كان من الأسباب،فماذا كان موقف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذه الحالة ؟
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - :لاَ يَجْزِي وَلَدٌ وَالِدَهُ،إِلاَّ أَنْ يَجِدَهُ مَمْلُوكًا،فَيَشْتَرِيَهُ فَيَعْتِقَهُ. (2)
فيعتقه:قوله:فَيُعْتِقَهُ:ليس،معناه:استئناف العتق فيه بعد الملك؛ لأن الإجماع منعقد على أن الأب يعتق على الابن إذا ملكه في الحال،وإنما معناه: أنه إذا اشتراه فدخل في ملكه،عتق عليه. فلما كان الشراء سببًا لعتقه،أضيف العتق إلى عقد الشراء،وإنما كان هذا جزاء له؛ لأن العتق أفضل ما ينعم به أحدٌ على أحدٍ،إذ خلَّصَهُ بذلك من الرق،وجبر به النقص الذي فيه،وكمل له أحكام الأحرار في جميع التصرفات . (3)
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: فَقَالَ قَائِلٌ: فِي هَذَا الْحَدِيثِ مَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ شِرَائِهِ أَبَاهُ مَمْلُوكًا لَهُ حَتَّى يُعْتِقَهُ , وَأَهْلُ الْعِلْمِ الَّذِينَ تَدُورُ عَلَيْهِمُ الْفُتْيَا فِي الْأَمْصَارِ لَا يَقُولُونَ هَذَا مَعَ اسْتِقَامَةِ هَذَا الْحَدِيثِ فِيهِمْ فَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى تَوْهِينِهِمْ إِيَّاهُ وَرَغْبَتِهِمْ عَنْهُ.فَكَانَ جَوَابُنَا لَهُ فِي ذَلِكَ بِتَوْفِيقِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَعَوْنِهِ أَنَّ الَّذِي تَوَهَّمَهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ لَيْسَ كَمَا تَوَهَّمَهُ فِيهِ إِذْ كَانَ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم - :" فَيَشْتَرِيَهُ فَيُعْتِقَهُ " أَيْ: فَيَشْتَرِيَهُ فَيُعْتِقَهُ شِرَاؤُهُ إِيَّاهُ، فَقَالَ: فَهَلْ مِنْ دَلِيلٍ عَلَى ذَلِكَ ؟ فَكَانَ جَوَابُنَا لَهُ بِتَوْفِيقِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَعَوْنِهِ: دَلِيلُنَا
__________
(1) - مسائل الإمام أحمد لابن هانئ 2 11 ،12 .والموسوعة الفقهية الكويتية - (45 / 202) وفتاوى واستشارات الإسلام اليوم - (2 / 48) هل الولد وماله لأبيه مطلقاً ؟!
(2) - صحيح ابن حبان - (2 / 167) (424) وصحيح مسلم- المكنز - (3872)
(3) - جامع الأصول في أحاديث الرسول - (1 / 401)(1/79)
عَلَى ذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَدْ قَالَ: " كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُشَرِّكَانِهِ " فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عَلَى مَعْنَى تَهْوِيدِهِمَا إِيَّاهُ، وَلَا تَنْصِيرِهِمَا إِيَّاهُ تَهْوِيدًا وَتَنْصِيرًا يَسْتَأْنِفَانِهِ فِيهِ , وَلَكِنْ يَكُونُ كَذَلِكَ سَبَبٌ مِنْهُمَا يُوجِبُ ذَلِكَ فِيهِ فَمِثْلُ ذَلِكَ قَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم - :" فَيَشْتَرِيَهُ فَيُعْتِقَهُ " لَيْسَ عَلَى عَتَاقٍ يَسْتَأْنِفُهُ فِيهِ بَعْدَ شِرَائِهِ إِيَّاهُ , وَلَكِنَّ سَبَبَهُ مِنْهُ الَّذِي لَا يَجُوزُ مَعَهُ بَعْدَ مِلْكِهِ إِيَّاهُ بَقَاءُ مِلْكِهِ فِيهِ , وَاللهَ نَسْأَلُهُ التَّوْفِيقَ " (1)
وفي الموسوعة الفقهية:" مَنْ مَلَكَ قَرِيبًا لَهُ بِمِيرَاثٍ أَوْ بَيْعٍ أَوْ وَصِيَّةٍ عَتَقَ عَلَيْهِ،وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْقَرِيبِ الَّذِي يُعْتَقُ عَلَى مَنْ مَلَكَهُ .
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ:إِلَى أَنَّ مَنْ مَلَكَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ عَتَقَ عَلَيْهِ لِحَدِيثِ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ،أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:مَنْ مَلَكَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ،فَهُوَ حُرٌّ. (2)
وَهُمُ الْوَالِدَانِ وَإِنْ عَلَوْا مِنْ قِبَل الأَْبِ وَالأُْمِّ جَمِيعًا،وَالْوَلَدُ وَإِنْ سَفَل مِنْ وَلَدِ الْبَنِينَ وَالْبَنَاتِ،وَالأَْخَوَاتُ وَالإِْخْوَةُ وَأَوْلاَدُهُمْ وَإِنْ سَفَلُوا،وَالأَْعْمَامُ وَالْعَمَّاتُ وَالأَْخْوَال وَالْخَالاَتُ دُونَ أَوْلاَدِهِمْ،وَرُوِيَ هَذَا عَنْ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا،وَقَال بِهِ الْحَسَنُ وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ وَعَطَاءٌ وَالْحَكَمُ وَحَمَّادٌ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَالثَّوْرِيُّ وَاللَّيْثُ (3)
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ:إِلَى أَنَّ الَّذِي يُعْتَقُ بِالْقَرَابَةِ - الأَْبَوَانِ وَإِنْ عَلَوْا،وَالْمَوْلُودُونَ وَإِنْ سَفَلُوا،وَالأَْخُ وَالأُْخْتُ مُطْلَقًا شَقِيقَيْنِ أَوْ لأَِبٍ أَوْ لأُِمٍّ،وَعَلَى هَذَا فَاَلَّذِي يُعْتَقُ بِالْمِلْكِ عِنْدَهُمُ الأُْصُول وَالْفُرُوعُ وَالْحَاشِيَةُ الْقَرِيبَةُ فَقَطْ،فَلاَ عِتْقَ لِلأَْعْمَامِ وَالْعَمَّاتِ،وَلاَ لِلأَْخْوَال وَالْخَالاَتِ (4) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ:إِلَى أَنَّ الَّذِي يُعْتَقُ إِذَا مُلِكَ بِالْقَرَابَةِ - عَمُودُ النَّسَبِ أَيِ:الأُْصُول وَالْفُرُوعُ - وَيَخْرُجُ مَنْ عَدَاهُمْ مِنَ الأَْقَارِبِ كَالإِْخْوَةِ وَالأَْعْمَامِ،فَإِنَّهُمْ لاَ يُعْتَقُونَ بِالْمِلْكِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي الأُْصُول:{ وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّل مِنَ الرَّحْمَةِ } ( سورة الإسراء /
__________
(1) - شرح مشكل الآثار - (3 / 384)
(2) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (6 / 777) (20227) 20490- صحيح
(3) - بدائع الصنائع 4 / 49 ، والمغني 9 / 355 ، والمبسوط للسرخسي 7 / 69 .
(4) - حاشية الدسوقي 4 / 366 ، الشرح الصغير 4 / 521 .(1/80)
24 ) وَالأُْصُول وَالْفُرُوعُ يُعْتَقُونَ عَلَيْهِ سَوَاءٌ مُلِكُوا اخْتِيَارًا أَوْ لاَ،اتَّحَدَ دِينُهُمَا أَوْ لاَ،لأَِنَّهُ حُكْمٌ تَعَلَّقَ بِالْقَرَابَةِ،فَاسْتَوَى فِيهِ مَنْ ذَكَرْنَاهُ (1) .
وَوَجْهُ الاِسْتِدْلاَل مِنَ الآْيَةِ:أَنَّهُ لاَ يَتَأَتَّى خَفْضُ الْجَنَاحِ مَعَ الاِسْتِرْقَاقِ،وَلِمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ لاَ يَجْزِي وَلَدٌ وَالِدًا،إِلاَّ أَنْ يَجِدَهُ مَمْلُوكًا،فَيَشْتَرِيَهُ فَيُعْتِقَهُ.أَيْ فَيُعْتِقَهُ الشِّرَاءُ،لاَ أَنَّ الْوَلَدَ هُوَ الْمُعْتِقُ بِإِنْشَائِهِ الْعِتْقَ .... وَأَمَّا الْفُرُوعُ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى:{ وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا إِنْ كُل مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَْرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنَ عَبْدًا } ( سورة مريم / 92 - 93 ) وَقَال تَعَالَى:{ وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَل عِبَادٌ مُكْرَمُونَ } ( سورة الأنبياء / 26) تَدُل عَلَى نَفْيِ اجْتِمَاعِ الْوَلَدِيَّةِ وَالْعَبْدِيَّةِ. (2)
ومن صورها كذلك،أن يسجن أحد الوالدين لأي سبب كان، ولا يملكان مالاً لكفالتهما،فما على الولد إلا المسارعة لوضع ماله في خدمة والديه؛لأنه كما تقدم في الحديث ( أنت ومالك لأبيك ).
وعَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « إِذَا حَجَّ الرَّجُلُ عَنْ وَالِدَيْهِ تُقُبِّلَ مِنْهُ وَمِنْهُمَا وَاسْتَبْشَرَتْ أَرْوَاحُهُمَا فِى السَّمَاءِ وَكُتِبَ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى بَرًّا » (3) .
ــــــــــــــ
الأساس الثامن - الدعاء المتبادل بين الأبوين وأبنائهم :
الدعاء ركن أساسي في البر،وهو مظهرُ القلب الذي يعبر عن الحب والود، وهو دليل البر القلبي،فالقلب المفعم بالحب يلحُّ بالدعاء،ويجري على اللسان مجرى النفس،وكلما ازدادت المحبة القلبية المتبادلة بين الوالدين والأبناء ازداد الدعاء،فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،أَنَّهُ قَالَ:ثَلاَثُ دَعَوَاتٍ مُسْتَجَابَاتٌ لاَ شَكَّ فِيهِنَّ:دَعْوَةُ الْمَظْلُومِ،وَدَعْوَةُ الْمُسَافِرِ،وَدَعْوَةُ الْوَالِدِ عَلَى وَلَدِهِ. (4)
__________
(1) - مغني المحتاج 4 / 499 ، روضة الطالبين 12 / 132 .
(2) - الموسوعة الفقهية الكويتية - (29 / 268) ومغني المحتاج 4 / 499 .
(3) - سنن الدارقطنى- المكنز -2/260 (2638 ) فيه ضعف
(4) - صحيح ابن حبان - (6 / 416) (2699) صحيح(1/81)
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ،قَالَ:دَخَلَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى أُمِّ سُلَيْمٍ فَأَتَتْهُ بِتَمْرٍ وَسَمْنٍ،فَقَالَ:أَعِيدُوا سَمْنَكُمْ فِي سِقَائِهِ،وَتَمْرَكُمْ فِي وِعَائِهِ،فَإِنِّي صَائِمٌ. فَصَلَّى صَلاَةً غَيْرَ مَكْتُوبَةٍ،وَصَلَّيْنَا مَعَهُ،فَدَعَا لِأُمِّ سُلَيْمٍ وَأَهْلِ بَيْتِهَا،فَقَالَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ:يَا رَسُولَ اللهِ , إِنَّ لِي خُوَيْصَةً،قَالَ:مَا هِيَ يَا أُمَّ سُلَيْمٍ،قَالَتْ:خَادِمُكَ أَنَسٌ. فَدَعَا لِي بِخَيْرِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَقَالَ:اللَّهُمَّ ارْزُقْهُ مَالاً وَوَلَدًا،وَبَارِكْ لَهُ،قَالَ:فَإِنِّي مِنْ أَكْثَرِ النَّاسِ وَلَدًا.قَالَ:وَأَخْبَرَتْنِي ابْنَتِي أُمَيْنَةُ أَنَّهَا دَفَنَتْ مِنْ صُلْبِي إِلَى مَقْدِمِ الْحَجَّاجِ الْبَصْرَةَ بِضْعًا وَعِشْرِينَ وَمِائَةً. (1)
وعَنْ أَنَسٍ،قَالَ:دَخَلَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى أُمِّ سُلَيْمٍ،فَأَتَتْهُ بِتَمْرٍ وَسَمْنٍ،فَقَالَ:أَعِيدُوا سَمْنَكُمْ فِي سِقَائِهِ،وَتَمْرَكُمْ فِي وِعَائِهِ،فَإِنِّي صَائِمٌ،ثُمَّ قَامَ إِلَى نَاحِيَةِ الْبَيْتِ،فَصَلَّى صَلاَةً غَيْرَ مَكْتُوبَةٍ،وَدَعَا لِأُمِّ سُلَيْمٍ،وَأَهْلِ بَيْتِهَا،فَقَالَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ:يَا رَسُولَ اللهِ،إِنَّ لِي خُوَيْصَةً،قَالَ:مَا هِيَ ؟ قَالَتْ:خُوَيْدِمُكَ أَنَسٌ فَمَا تَرَكَ خَيْرَ آخِرَةٍ،وَلاَ دُنْيَا إِلاَّ دَعَا لِي بِهِ،ثُمَّ قَالَ:اللَّهُمَّ ارْزُقْهُ مَالاً وَوَلَدًا وَبَارِكْ لَهُ،قَالَ:فَإِنِّي لَمِنْ أَكْثَرِ الأَنْصَارِ مَالاً،قَالَ:وَحَدَّثَتْنِي ابْنَتِي أُمَيْنَةُ،قَالَتْ:قَدْ دُفِنَ لِصُلْبِي إِلَى مَقْدَمِ الْحَجَّاجِ الْبَصْرَةَ بِضْعٌ وَعِشْرُونَ وَمِائَةً. (2)
وعَنْ أَبِي مُرَّةَ مَوْلَى عَقِيلٍ،أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ كَانَ يَسْتَخْلِفُهُ مَرْوَانُ،وَكَانَ يَكُونُ بِذِي الْحُلَيْفَةِ،فَكَانَتْ أُمُّهُ فِي بَيْتٍ وَهُوَ فِي آخَرَ.قَالَ:فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ وَقَفَ عَلَى بَابِهَا فَقَالَ:السَّلَامُ عَلَيْكِ يَا أُمَّتَاهُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ،فَتَقُولُ:وَعَلَيْكَ السَّلَامُ يَا بُنَيَّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ،فَيَقُولُ:رَحِمَكِ اللَّهُ كَمَا رَبَّيْتِنِي صَغِيرًا،فَتَقُولُ:رَحِمَكَ اللَّهُ كَمَا بَرَرْتَنِي كَبِيرًا،ثُمَّ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَدْخُلَ صَنَعَ مِثْلَهُ " (3)
وعَنْ أَبِي حَازِمٍ،أَنَّ أَبَا مُرَّةَ،مَوْلَى أُمِّ هَانِئِ ابْنَةِ أَبِي طَالِبٍ أَخْبَرَهُ،أَنَّهُ رَكِبَ مَعَ أَبِي هُرَيْرَةَ إِلَى أَرْضِهِ بِالْعَقِيقِ فَإِذَا دَخَلَ أَرْضَهُ صَاحَ بِأَعْلَى صَوْتِهِ:عَلَيْكِ السَّلَامُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (1982) وصحيح ابن حبان - (3 / 270) (990)
(2) - صحيح ابن حبان - (16 / 154) (7186) صحيح
(3) - الْأَدَبُ الْمُفْرَدِ لِلْبُخَارِيِّ (13 ) حسن(1/82)
يَا أُمَّتَاهُ،تَقُولُ:وَعَلَيْكَ السَّلَامُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ،يَقُولُ:رَحِمَكِ اللَّهُ رَبَّيْتِنِي صَغِيرًا،فَتَقُولُ:يَا بُنَيَّ،وَأَنْتَ فَجَزَاكَ اللَّهُ خَيْرًا وَرَضِيَ عَنْكَ كَمَا بَرَرْتَنِي كَبِيرًا " (1)
وعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ،أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ لِفَاطِمَةَ:ائْتِينِي بِزَوْجِكِ وَابْنَيْكِ.فَجَاءَتْ بِهِمْ،فَأَلْقَى عَلَيْهِمْ كِسَاءً فَدَكِيًّا،قَالَ:ثُمَّ وَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِمْ،ثُمَّ قَالَ:اللَّهُمَّ إِنَّ هَؤُلاَءِ آلُ مُحَمَّدٍ،فَاجْعَلْ صَلَوَاتِكَ وَبَرَكَاتِكَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ،إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ.قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ:فَرَفَعْتُ الْكِسَاءَ لأَدْخُلَ مَعَهُمْ،فَجَذَبَهُ مِنْ يَدِي،وَقَالَ:إِنَّكِ عَلَى خَيْرٍ. (2)
ــــــــــــــ
الأساس التاسع -ألا تستَسبَّ لوالديك:
من دلالات البر أن تحافظ على اسم والديك من السب والشتم بشتى صوره،وأشكاله،سواء من أنفسهما،فتفعل أعمالاً تغضبهما فيسبان ذاتهما،فتكون أنت سبب هذا الشتم، أو أن تسيء إلى أحد،فيسبَّ أحد والديك،أو يُسيء أحد إليك،فتسب بوالديه،فيسب والديك ... وهكذا . إن سبَّ الوالدين بأي صورة من الصور،أي شكل من اشكاله، ومهما كان سبب ذلك،ليس من البر،والمحافظة على اسم الوالدين من السب أكبرُ دليل على البر .
عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ:أَتَى رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - رَجُلٌ وَمَعَهُ شَيْخٌ فَقَالَ لَهُ:" يَا فُلَانُ مَنْ هَذَا مَعَكَ ؟ ".قَالَ:أَبِي.قَالَ:فَلَا تَمْشِ أَمَامَهُ،وَلَا تَجْلِسْ قَبْلَهُ،وَلَا تَدْعُهُ بِاسْمِهِ،وَلَا تَسْتَسِبَّ لَهُ ".رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ (3)
وعَنْ رَجُلٍ، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رَأَى رَجُلًا يَمْشِي بَيْنَ يَدَيْ أَبِيهِ، قَالَ: مَا هَذَا مِنْكَ ؟ قَالَ: أَبِي، قَالَ: " فَلَا تَمْشِ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَلَا تَجْلِسْ حَتَّى يَجْلِسَ، وَلَا تَدْعُهُ بِاسْمِهِ، وَلَا تَستسبَّ لَهُ " (4)
__________
(1) - الْأَدَبُ الْمُفْرَدِ لِلْبُخَارِيِّ (15 ) حسن
(2) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (8 / 649)(26746) 27282- صحيح لغيره
(3) - المعجم الأوسط للطبراني - (4309) وعمل اليوم والليلة لابن السني - (394 ) حسن لغيره
(4) - شعب الإيمان - (10 / 292) (7511 ) والجامع لابن وهب - (102) حسن لغيره(1/83)
معنى لا تستسب له:أي لا تفعل فعلا يتعرض فيه لأن يسبك أبوك زجرا لك تأديبا على فعلك القبيح.
وعن أبي الْمُخَارِقِ،قَالَ:قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - :" مَرَرْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي بِرَجُلٍ مُغَيَّبٍ فِي نُورِ الْعَرْشِ،فَقُلْتُ:مَنْ هَذَا،مَلَكٌ ؟ قِيلَ:لَا،قُلْتُ:نَبِيٌّ ؟ قِيلَ:لَا،قُلْتُ:مَنْ هُوَ ؟ قَالَ:هَذَا رَجُلٌ كَانَ فِي الدُّنْيَا لِسَانُهُ رَطِبًا مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ،وَقَلْبُهُ مُعَلَّقًا بِالْمَسَاجِدِ،وَلَمْ يَسْتَسِبَّ لِوَالِدَيْهِ قَطُّ " (1)
وعَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ،قَالَ:سُئِلَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ:أَخَصَّكُمْ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بِشَيْءٍ ؟ قَالَ:مَا خَصَّنَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بِشَيْءٍ،لَمْ يُعَمِّمْ بِهِ النَّاسَ كَافَّةً،إِلاَّ مَا كَانَ فِي قِرَابِ سَيْفِي هَذَا،فَأَخْرَجَ صَحِيفَةً مَكْتُوبَةً:لَعَنَ اللَّهُ مَنْ ذَبَحَ لِغَيْرِ اللهِ،وَلَعَنَ اللَّهُ مَنْ سَرَقَ مَنَارَ الأَرْضِ،لَعَنَ اللَّهُ مَنْ لَعَنَ وَالِدَيْهِ،لَعَنَ اللهِ مَنْ آوَى مُحْدِثًا. (2)
وعَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ، قَالَ: قَالَ رَجُلٌ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِب، أَخْبِرْنَا بِشَيْءٍ أَسَرَّهُ إِلَيْكَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ،فَغَضِبَ عَلِيٌّ، وَقَالَ: مَا أَسَرَّ إِلَيَّ شَيْئًا كَتَمَهُ النَّاسَ، وَلَكِنْ لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَرْبَعًا، قَالَ:لَعَنَ اللَّهُ مَنْ لَعَنَ وَالِدَيْهِ، لَعَنَ اللَّهُ مَنْ ذَبَحَ لِغَيْرِ اللَّهِ، وَلَعَنَ اللَّهُ مَنْ آوَى مُحْدِثًا، وَلَعَنَ اللَّهُ مَنْ غَيَّرَ مَنَارَ الأَرْضِ"
وفي رواية قَالَ: قَالَ رَجُلٌ لِعَلِيٍّ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ! مَا كَانَ أَسَرَّ إِلَيْكَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ،فَغَضِبَ، وَقَالَ: مَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُسِرُّ إِلَيَّ شَيْئًا يَكْتُمْهُ النَّاسَ، إِلا أَنِّي سَمِعْتُهُ يَقُولُ يَوْمًا ذَكَرَ أَرْبَعَ كَلِمَاتٍ، وَأَنَا مَعَهُ فِي الْبَيْتِ لَيْسَ مَعَنَا أَحَدٌ، فَقَالَ:لَعَنَ اللَّهُ مَنْ لَعَنَ وَالِدَيْهِ، لَعَنَ اللَّهُ مَنْ آوَى مُحْدِثًا، لَعَنَ اللَّهُ مَنْ غَيَّرَ مَنَارَ الأَرْضِ، وَلَعَنَ اللَّهُ مَنْ ذَبَحَ لِغَيْرِ اللَّهِ.
__________
(1) - كِتَابُ الْأَوْلِياءِ لِابْنِ أَبِي الدُّنْيَا(95 ) والترغيب والترهيب - (2 / 253) ( 2292 ) بصيغة الجزم وأعله بالإرسال، حسن مرسل
رطبا : طريا مشتغلا قريب العهد منه وهو كناية عن المداومة على الذكر
(2) - صحيح ابن حبان - (14 / 570) (6604) صحيح(1/84)
وفي رواية قَالَ: سُئِلَ عَلِيٌّ: هَلْ خَصَّكُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِشَيْءٍ؟ فَقَالَ: مَا خَصَّنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِشَيْءٍ لَمْ يَعُمَّ بِهِ النَّاسَ كَافَّةً، إِلا مَا كَانَ فِي قِرَابِ سَيْفِي هَذَا، قَالَ: فَأَخْرَجَ صَحِيفَةً مَكْتُوب فِيهَا:لَعَنِ اللَّهُ مَنْ ذَبَحَ لِغَيْرِ اللَّهِ، لَعَنَ اللَّهُ مَنْ سَرَقَ مَنَارَ الأَرْضِ، لَعَنِ اللَّهُ مَنْ لَعَنَ وَالِدَيْهِ، لَعَنِ اللَّهُ مَنْ آوَى مُحْدِثًا." (1)
وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " مِنَ الْكَبَائِرِ شَتْمُ الرَّجُلِ وَالِدَيْهِ "، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ هَلْ يَشْتُمُ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ ؟ قَالَ: " نَعَمْ، يَسُبُّ أَبَا الرَّجُلِ فَيَسُبُّ أَبَاهُ وَيَسُبُّ أُمَّهُ فَيَسُبُّ أُمَّهَ " (2)
ــــــــــــــ
الأساس العاشر - أشهر الانتساب لأبيك،واعتزَّ به :
حرص الإسلام على إشهار نسب الابن من أول يوم يولد فيه،فأوصى بالعقيقة عنه،لإشهار نسب المولود، وكثيراً ما يحدث في المجتمعات البعيدة عن الإسلام العجب العجاب،ففي المجتمع الجاهلي القديم كان الابن يتنصل من نسبه لأبيه،وفي المجتمع الجاهلي الحديث يخجل الابنُ المثقف- وقد حصل على منصب اجتماعيٍّ مرموقٍ - يخجل هذا الأحمق أن يعترف بأبيه،وقد أتى لزيارته عابراً،أو غير ذلك من ألوان التهرب من إشهار اتصال الابن بأبيه التي يجيدها أبالسة هذا الزمان،والعياذ بالله .
والأمر خطير جدُّ خطيرٍ،عندما نعلم أن إنكار النسب يعني الكفر بعينه،وهذا هو الدليل على ذلك :
فعَنْ سَعْدٍ - رضى الله عنه - قَالَ سَمِعْتُ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ « مَنِ ادَّعَى إِلَى غَيْرِ أَبِيهِ،وَهْوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ غَيْرُ أَبِيهِ،فَالْجَنَّةُ عَلَيْهِ حَرَامٌ » (3) .
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ،قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - :مَنِ ادَّعَى إِلَى غَيْرِ أَبِيهِ،أَوْ تَوَلَّى غَيْرَ مَوَالِيهِ،فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللهِ،وَالْمَلاَئِكَةِ،وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ. (4)
__________
(1) - مسند أبي عوانة (6320 -6322 ) صحيح
(2) - صحيح مسلم- المكنز - (273) وشعب الإيمان - (6 / 491) (4518 )
(3) - صحيح البخارى- المكنز - (6766 ) وصحيح مسلم- المكنز - (229 )
(4) - صحيح ابن حبان - (2 / 161) (417) صحيح(1/85)
وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ،أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:أَفْرَى الْفِرَى مَنِ ادَّعَى إِلَى غَيْرِ أَبِيهِ،وَأَفْرَى الْفِرَى مَنْ أَرَى عَيْنَيْهِ فِي النَّوْمِ مَا لَمْ تَرَ،وَمَنْ غَيَّرَ تُخُومَ الأَرْضِ. (1)
وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو،عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:مَنِ ادَّعَى إِلَى غَيْرِ أَبِيهِ فَلَنْ يَرَحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ،وَرِيحُهَا يُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ سَبْعِينَ عَامًا. (2)
وعن عِرَاكَ بْنِ مَالِكٍ،أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ،يَقُولُ:سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،يَقُولُ:لاَ تَرْغَبُوا عَنْ آبَائِكُمْ،فَإِنَّهُ مَنْ رَغِبَ عَنْ أَبِيهِ فَقَدْ كَفَرَ." (3)
وَالْكُفْرُ الْمَذْكُورُ فِي الْحَدِيثِ لَهُ تَأْوِيلاَنِ ذَكَرَهُمَا النَّوَوِيُّ :
أَحَدُهُمَا:أَنَّهُ فِي حَقِّ الْمُسْتَحِل،وَالثَّانِي:أَنَّهُ كُفْرُ النِّعْمَةِ وَالإِْحْسَانِ وَحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَحَقِّ أَبِيهِ،وَلَيْسَ الْمُرَادُ الْكُفْرُ الَّذِي يُخْرِجُ عَنْ مِلَّةِ الإِْسْلاَمِ (4)
وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ لِمَنْ يَنْفِي نَسَبَ ابْنِهِ وَهُوَ يَعْلَمُ كَذِبَهُ لِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ:حِينَ أُنْزِلَتْ آيَةُ الْمُلاَعَنَةِ:أَيُّمَا امْرَأَةٍ أَدْخَلَتْ عَلَى قَوْمٍ مَنْ لَيْسَ مِنْهُمْ فَلَيْسَتْ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ،وَلَنْ يُدْخِلَهَا اللَّهُ جَنَّتَهُ،وَأَيُّمَا رَجُلٍ جَحَدَ وَلَدَهُ،وَهُوَ يَنْظُرُ إِلَيْهِ احْتَجَبَ اللَّهُ مِنْهُ،وَفَضَحَهُ عَلَى رُؤُوسِ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ. (5) .
قالَ ابنُ بَطّالٍ:لَيسَ مَعنَى هَذَينِ الحَدِيثَينِ أَنَّ مَن اشتَهَرَ بِالنِّسبَةِ إِلَى غَيرِ أَبِيهِ أَن يَدخُلَ فِي الوعِيدِ كالمِقدادِ بن الأَسود،وإِنَّما المُراد بِهِ مَن تَحَوَّلَ عَن نِسبَتِهِ لأَبِيهِ إِلَى غَير أَبِيهِ عالِمًا عامِدًا مُختارًا،وكانُوا فِي الجاهِلِيَّة لا يَستَنكِرُونَ أَن يَتَبَنَّى الرَّجُلُ ولَدَ غَيرِهِ ويَصِير الولَد يُنسَب إِلَى الَّذِي تَبَنّاهُ حَتَّى نَزَلَ قَوله تَعالَى:{ادعُوهُم لآبائِهِم هُو أَقسَطُ عِند الله " وقَوله سُبحانه وتَعالَى:{وما جَعَلَ أَدعِياءَكُم أَبناءَكُم " فَنُسِبَ كُلُّ واحِدٍ إِلَى أَبِيهِ الحَقِيقِيِّ وتَرَكَ
__________
(1) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (2 / 498)(5998) صحيح
(2) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (2 / 664) (6834) صحيح
(3) - صحيح البخارى- المكنز - (6768 ) وصحيح مسلم- المكنز - (227 ) وصحيح ابن حبان - (4 / 328) (1466)
(4) - شرح صحيح مسلم 1 / 249 ، 251 .
(5) - صحيح ابن حبان - (9 / 419) (4108) حسن والموسوعة الفقهية الكويتية - (34 / 210)(1/86)
الانتِسابَ إِلَى مَن تَبَنّاهُ لَكِن بَقِيَ بَعضُهُم مَشهُورًا بِمَن تَبَنّاهُ فَيُذكَرُ بِهِ لِقَصدِ التَّعرِيفِ لا لِقَصدِ النَّسَبِ الحَقِيقِيِّ كالمِقدادِ بن الأَسود،ولَيسَ الأَسودُ أَباهُ،وإِنَّما كانَ تَبَنّاهُ واسم أَبِيهِ الحَقِيقِيّ عَمرو بن ثَعلَبَة بن مالِك بن رَبِيعَة البَهرانِيّ،وكانَ أَبُوهُ حَلِيف كِندَة فَقِيلَ لَهُ الكِندِيّ،ثُمَّ حالَفَ هُو الأَسود بن عَبد يَغُوث الزُّهرِيّ فَتَبَنَّى المِقدادَ فَقِيلَ لَهُ ابن الأَسود،انتَهَى مُلَخَّصًا مُوضَّحًا. (1)
وعَنْ أَبِي ذَرٍّ , أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ:(لَيْسَ مِنْ رَجُلٍ ادَّعَى إِلَى غَيْرِ أَبِيهِ وَهُوَ يَعْلَمُهُ إِلاَّ كَفَرَ , وَمَنِ ادَّعَى مَا لَيْسَ لَهُ فَلَيْسَ مِنَّا , وَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ , وَمَنْ دَعَى رَجُلاً بِالْكُفْرِ أَوْ قَالَ:عَدُوُّ اللَّهِ , وَلَيْسَ كَذَلِكَ , إِلاَّ حَارَ عَلَيْهِ) (2) .
إلا حار عليه:أي إلا رجع عليه،حار يحور:إذا رجع.
وهذا التشديد يتمشى مع عناية الإسلام بصيانة الأسرة وروابطها من كل شبهة ومن كل دخل وحياطتها بكل أسباب السلامة والاستقامة والقوة والثبوت. ليقيم عليها بناء المجتمع المتماسك السليم النظيف العفيف. (3)
ــــــــــــــ
الأساس الحادي عشر -الحج عمن عجز منهما صحيا عن أدائه:
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ:كَانَ الْفَضْلُ بْنُ عَبَّاسٍ رَدِيفَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،فَجَاءَتْهُ امْرَأَةٌ مِنْ خَثْعَمَ تَسْتَفْتِيهِ،فَجَعَلَ الْفَضْلُ يَنْظُرُ إِلَيْهَا وَتَنْظُرُ إِلَيْهِ،فَجَعَلَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَصْرِفُ وَجْهَ الْفَضْلِ إِلَى الشِّقِّ الآخَرِ،فَقَالَتْ:يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ فَرِيضَةَ اللهِ عَلَى عِبَادِهِ فِي الْحَجِّ أَدْرَكَتْ أَبِي شَيْخًا كَبِيرًا لاَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَثْبُتَ عَلَى الرَّاحِلَةِ أَفَأَحُجَّ عَنْهُ قَالَ:نَعَمْ،وَذَلِكَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ. (4)
__________
(1) - فتح الباري شرح صحيح البخاري- ط دار المعرفة - (12 / 55)
(2) - صحيح مسلم- المكنز - (226) والسنة لأحمد بن محمد الخلال - (5 / 21)(1505)
(3) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (5 / 2826)
(4) - صحيح البخارى- المكنز - (1855) وصحيح مسلم- المكنز - (3315 ) وصحيح ابن حبان - (9 / 301) (3989)(1/87)
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ امْرَأَةً مِنْ خَثْعَمَ قَالَتْ:يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ فَرِيضَةَ اللهِ فِي الْحَجِّ أَدْرَكَتْ أَبِي شَيْخًا كَبِيرًا،لاَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَسْتَوِيَ عَلَى رَاحِلَتِهِ،فَهَلْ أَقْضِي عَنْهُ،أَوْ أَحُجُّ عَنْهُ فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - :نَعَمْ. (1)
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ،فَقَالَ:يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ أَبِي شَيْخٌ كَبِيرٌ لاَ يَسْتَطِيعُ الْحَجَّ،أَفَأَحُجُّ عَنْهُ قَالَ:فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - :نَعَمْ فَحُجَّ عَنْ أَبِيكَ. (2)
وعَنْ أَبِي رَزِينٍ الْعُقَيْلِيِّ أَنَّهُ سَأَلَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ أَبِي شَيْخٌ كَبِيرٌ لاَ يَسْتَطِيعُ الْحَجَّ،وَالْعُمْرَةَ،وَالظَّعْنَ،فَقَالَ:حَجَّ عَنْ أَبِيكَ وَاعْتَمِرْ. (3)
ــــــــــــــ
الأساس الثاني عشر- إنفاذ نذرهما :
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَدْرَكَ شَيْخًا يَمْشِي بَيْنَ ابْنَيْهِ يَتَوَكَّأُ عَلَيْهِمَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :مَا شَأْنُ هَذَا الشَّيْخِ؟، قَالَ ابْنَاهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَانَ عَلَيْهِ نَذْرٌ، فَقَالَ: ارْكَبْ أَيُّهَا الشَّيْخُ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى غَنِيٌّ عَنْكَ وَعَنْ نَذْرِكَ " (4)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَدْرَكَ شَيْخًا يَمْشِي بَيْنَ ابْنَيْهِ يَتَوَكَّأُ عَلَيْهِمَا،فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - :مَا شَأْنُ هَذَا الشَّيْخِ ؟ قَالَ ابْنَاهُ:يَا رَسُولَ اللهِ،كَانَ عَلَيْهِ نَذْرٌ،فَقَالَ لَهُ:ارْكَبْ أَيُّهَا الشَّيْخُ،فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ غَنِيٌّ عَنْكَ وَعَنْ نَذْرِكَ. (5)
ــــــــــــــ
الأساس الثالث عشر - الْبِرُّ بِالْوَالِدَيْنِ مَعَ اخْتِلاَفِ الدِّينِ :
الْبِرُّ بِالْوَالِدَيْنِ فَرْضُ عَيْنٍ كَمَا سَبَقَ بَيَانُهُ،وَلاَ يَخْتَصُّ بِكَوْنِهِمَا مُسْلِمَيْنِ،بَل حَتَّى لَوْ كَانَا كَافِرَيْنِ يَجِبُ بِرُّهُمَا وَالإِْحْسَانُ إِلَيْهِمَا مَا لَمْ يَأْمُرَا ابْنَهُمَا بِشِرْكٍ أَوِ ارْتِكَابِ مَعْصِيَةٍ.قَال
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (1854) وصحيح ابن حبان - (9 / 308) (3995)
(2) - صحيح ابن حبان - (9 / 310) (3997) صحيح
(3) - صحيح ابن حبان - (9 / 304) (3991) صحيح
(4) - مسند أبي عوانة (4727 ) صحيح
(5) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (3 / 379)(8859) 8846- وصحيح مسلم- المكنز - (4337 )(1/88)
تَعَالَى:{ لاَ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ }(سورة الممتحنة / 8 )
فَعَلَيْهِ أَنْ يَقُول لَهُمَا قَوْلاً لَيِّنًا لَطِيفًا دَالًّا عَلَى الرِّفْقِ بِهِمَا وَالْمَحَبَّةِ لَهُمَا،وَيَجْتَنِبَ غَلِيظَ الْقَوْل الْمُوجِبَ لِنُفْرَتِهِمَا،وَيُنَادِيَهُمَا بِأَحَبِّ الأَْلْفَاظِ إِلَيْهِمَا،وَلْيَقُل لَهُمَا مَا يَنْفَعُهُمَا فِي أَمْرِ دِينِهِمَا وَدُنْيَاهُمَا،وَلاَ يَتَبَرَّمُ بِهِمَا بِالضَّجَرِ وَالْمَلَل وَالتَّأَفُّفِ،وَلاَ يَنْهَرُهُمَا،وَلْيَقُل لَهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا .
وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِى بَكْرٍ - رضى الله عنهما - قَالَتْ قَدِمَتْ عَلَىَّ أُمِّى وَهْىَ مُشْرِكَةٌ،فِى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ،فَاسْتَفْتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قُلْتُ { إِنَّ أُمِّى قَدِمَتْ } وَهْىَ رَاغِبَةٌ،أَفَأَصِلُ أُمِّى قَالَ « نَعَمْ صِلِى أُمَّكِ » (1)
وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْهَا قَالَتْ:أَتَتْنِي أُمِّي رَاغِبَةً فِي عَهْدِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَسَأَلْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَأَصِلُهَا ؟ قَال:نَعَمْ قَال ابْنُ عُيَيْنَةَ:فَأَنْزَل اللَّهُ عَزَّ وَجَل فِيهَا {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } (8) سورة الممتحنة (2)
وَفِي هَذَا الْمَقَامِ قَال اللَّهُ تَعَالَى:{ وَوَصَّيْنَا الإِْنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } ( سورة العنكبوت / 8 ).قِيل:نَزَلَتْ فِي سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ.فعَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ،قَالَ:قَالَ سَعْدُ بْنُ مَالِكٍ:" نَزَلَتْ فِيَّ:وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا قَالَ:لَمَّا أَسْلَمْتُ،حَلَفَتْ أُمِّي لَا تَأْكُلُ طَعَامًا وَلَا تَشْرَبُ شَرَابًا،قَالَ:فَنَاشَدْتُهَا أَوَّلَ يَوْمٍ،فَأَبَتْ وَصَبَرَتْ؛فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الثَّانِي نَاشَدْتُهَا،فَأَبَتْ؛فَلَمَّا
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (2620 ) وصحيح مسلم- المكنز - (2372 )
(2) - وانظر الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 10 / 239 ، 14 / 63 - 65 ، وفتح الباري شرح صحيح البخاري 9 / 40 ، والفروق للقرافي 1 / 145 ، الفواكه الدواني 2 / 382 ، والشرح الصغير 4 / 740 ، والزواجر عن اقتراف الكبائر للهيثمي 2 / 75 ط دار المعرفة(1/89)
كَانَ الْيَوْمُ الثَّالِثُ نَاشَدْتُهَا فَأَبَتْ،فَقُلْتُ:وَاللَّهِ لَوْ كَانَتْ لَكِ مِائَةُ نَفْسٍ لَخَرَجَتْ قَبْلَ أَنْ أَدَعَ دِينِي هَذَا؛فَلَمَّا رَأَتْ ذَلِكَ،وَعَرَفَتْ أَنِّي لَسْتُ فَاعِلًا أَكَلَتْ " (1)
هَذَا وَفِي الدُّعَاءِ بِالرَّحْمَةِ الدُّنْيَوِيَّةِ لِلْوَالِدَيْنِ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ حَال حَيَاتِهِمَا خِلاَفٌ ذَكَرَهُ الْقُرْطُبِيُّ .
أَمَّا الاِسْتِغْفَارُ لَهُمَا فَمَمْنُوعٌ،اسْتِنَادًا إِلَى قَوْله تَعَالَى:{ مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} (113) سورة التوبة فَإِنَّهَا نَزَلَتْ فِي اسْتِغْفَارِهِ - صلى الله عليه وسلم - لِعَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ وَاسْتِغْفَارِ بَعْضِ الصَّحَابَةِ لأَِبَوَيْهِ الْمُشْرِكَيْنِ.وَانْعَقَدَ الإِْجْمَاعُ عَلَى عَدَمِ الاِسْتِغْفَارِ لَهُمَا بَعْدَ وَفَاتِهِمَا وَحُرْمَتِهِ،وَعَلَى عَدَمِ التَّصَدُّقِ عَلَى رُوحِهِمَا (2) .
أَمَّا الاِسْتِغْفَارُ لِلأَْبَوَيْنِ الْكَافِرَيْنِ حَال الْحَيَاةِ فَمُخْتَلَفٌ فِيهِ؛إِذْ قَدْ يُسْلِمَانِ.
وَلَوْ مَنَعَهُ أَبَوَاهُ الْكَافِرَانِ عَنِ الْخُرُوجِ لِلْجِهَادِ الْكِفَائِيِّ،مَخَافَةً عَلَيْهِ،وَمَشَقَّةً لَهُمَا بِخُرُوجِهِ وَتَرْكِهِمَا،فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ:لَهُمَا ذَلِكَ،وَلاَ يَخْرُجُ إِلاَّ بِإِذْنِهِمَا بِرًّا بِهِمَا وَطَاعَةً لَهُمَا،إِلاَّ إِذَا كَانَ مَنْعُهُمَا لَهُ لِكَرَاهَةِ قِتَال أَهْل دِينِهِمَا،فَإِنَّهُ لاَ يُطِيعُهُمَا وَيَخْرُجُ لَهُ (3) .
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ:يَجُوزُ لَهُ الْخُرُوجُ لِلْجِهَادِ بِغَيْرِ إِذْنِهِمَا؛لأَِنَّهُمَا مُتَّهَمَانِ فِي الدِّينِ،إِلاَّ بِقَرِينَةٍ تُفِيدُ الشَّفَقَةَ وَنَحْوَهَا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ.وَقَال الثَّوْرِيُّ:لاَ يَغْزُو إِلاَّ بِإِذْنِهِمَا إِذَا كَانَ الْجِهَادُ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ.أَمَّا إِذَا تَعَيَّنَ الْجِهَادُ لِحُضُورِ الصَّفِّ،أَوْ حَصْرِ الْعَدُوِّ،أَوِ اسْتِنْفَارِ الإِْمَامِ لَهُ بِإِعْلاَنِ النَّفِيرِ الْعَامِّ فَإِنَّهُ يَسْقُطُ الإِْذْنُ،وَيَجِبُ عَلَيْهِ الْجِهَادُ بِغَيْرِ إِذْنِهِمَا؛إِذْ أَصْبَحَ وَاجِبًا عَلَيْهِ الْقِيَامُ بِهِ؛لِصَيْرُورَتِهِ فَرْضَ عَيْنٍ عَلَى الْجَمِيعِ (4) .
ــــــــــــــ
__________
(1) - جَامِعُ الْبَيَانِ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ لِلطَّبَرِيِّ (25765 ) والجامع لأحكام القرآن للقرطبي 13 / 328 صحيح
(2) - الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 10 / 245 ، والفواكه الدواني 2 / 384 ، والشرح الصغير وحاشية الصاوي عليه 4 / 741 ، وشرح إحياء علوم الدين 6 / 316 .
(3) - ابن عابدين 3 / 220 .
(4) - المهذب 2 / 230 ، وتحفة المحتاج بشرح المنهاج 9 / 232 ، ومطالب أولي النهى 2 / 513 ، والمغني 8 / 359 ط الرياض الحديثة ، والشرح الكبير وحاشية الدسوقي عليه 2 / 175 ، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي 10 / 240 .(1/90)
الأساس الرابع عشر -العقوق من الكبائر،وجزاؤه في الدنيا والآخرة :
عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِى بَكْرَةَ عَنْ أَبِيهِ - رضى الله عنه - قَالَ قَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « أَلاَ أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ ».ثَلاَثًا.قَالُوا بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ.قَالَ « الإِشْرَاكُ بِاللَّهِ،وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ ».وَجَلَسَ وَكَانَ مُتَّكِئًا فَقَالَ « أَلاَ وَقَوْلُ الزُّورِ ».قَالَ فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى قُلْنَا لَيْتَهُ سَكَتَ . (1)
وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ يَسَارٍ،سَمِعَ سَالِمَ بْنَ عَبْدِ اللهِ،يَقُولُ:قَالَ ابْنُ عُمَرَ:قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - :ثَلاَثَةٌ لاَ يَنْظُرُ اللَّهُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ:الْعَاقُّ لِوَالِدَيْهِ،وَمُدْمِنُ الْخَمْرِ،وَالْمَنَّانُ بِمَا أَعْطَى." (2)
وعَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « ثَلاَثَةٌ لاَ يَنْظُرُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْعَاقُّ لِوَالِدَيْهِ وَالْمَرْأَةُ الْمُتَرَجِّلَةُ وَالدَّيُّوثُ وَثَلاَثَةٌ لاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ الْعَاقُّ لِوَالِدَيْهِ وَالْمُدْمِنُ عَلَى الْخَمْرِ وَالْمَنَّانُ بِمَا أَعْطَى ». (3)
وعَنْ مُعَاذٍ قَالَ:أَوْصَانِي رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بِعَشْرِ كَلِمَاتٍ قَالَ:لاَ تُشْرِكْ بِاللَّهِ شَيْئًا وَإِنْ قُتِلْتَ وَحُرِّقْتَ،وَلاَ تَعُقَّنَّ وَالِدَيْكَ،وَإِنْ أَمَرَاكَ أَنْ تَخْرُجَ مِنْ أَهْلِكَ وَمَالِكَ،وَلاَ تَتْرُكَنَّ صَلاَةً مَكْتُوبَةً مُتَعَمِّدًا؛فَإِنَّ مَنْ تَرَكَ صَلاَةً مَكْتُوبَةً مُتَعَمِّدًا فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُ ذِمَّةُ اللهِ،وَلاَ تَشْرَبَنَّ خَمْرًا؛فَإِنَّهُ رَأْسُ كُلِّ فَاحِشَةٍ،وَإِيَّاكَ وَالْمَعْصِيَةَ؛فَإِنَّ بِالْمَعْصِيَةِ حَلَّ سَخَطُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ،وَإِيَّاكَ وَالْفِرَارَ مِنَ الزَّحْفِ وَإِنْ هَلَكَ النَّاسُ،وَإِذَا أَصَابَ النَّاسَ مُوتَانٌ وَأَنْتَ فِيهِمْ فَاثْبُتْ،وَأَنْفِقْ عَلَى عِيَالِكَ مِنْ طَوْلِكَ،وَلاَ تَرْفَعْ عَنْهُمْ عَصَاكَ أَدَبًا وَأَخِفْهُمْ فِي اللَّهِ. (4)
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « الْكَبَائِرُ الإِشْرَاكُ بِاللَّهِ،وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ،وَقَتْلُ النَّفْسِ،وَالْيَمِينُ الْغَمُوسُ » (5) .
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (2654 ) وصحيح مسلم- المكنز - (269 )
(2) - صحيح ابن حبان - (16 / 335) (7340) صحيح
(3) - سنن النسائي- المكنز - (2574 ) صحيح
(4) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (7 / 366)(22075) 22425- رجاله ثقات ، وفيه انقطاع
(5) - صحيح البخارى- المكنز - (6675)(1/91)
وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أُنَيْسٍ،قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - :مِنْ أَكْبَرُ الْكَبَائِرِ الإِشْرَاكُ بِاللَّهِ،وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ،وَالْيَمِينُ الْغَمُوسُ،وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لاَ يَحْلِفُ الرَّجُلُ عَلَى مِثْلِ جَنَاحِ بَعُوضَةٍ إِلاَّ كَانَتْ كَيَّةً فِي قَلْبِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. (1)
وعَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ،أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَيْكُمْ عُقُوقَ الْأُمَّهَاتِ،وَوَأْدَ الْبَنَاتِ،وَمَنَعَ وَهَاتِ،وَكَرِهَ لَكُمْ ثَلاَثًا:قِيلَ وَقَالَ،وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ،وَإِضَاعَةَ الْمَالِ. (2)
وعَنْ مَالِكِ بْنِ عَمْرٍو الْقُشَيْرِيِّ،قَالَ:سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ:مَنْ أَعْتَقَ رَقَبَةً مُسْلِمَةً،فَهِيَ فِدَاؤُهُ مِنَ النَّارِ قَالَ:عَفَّانُ:مَكَانَ كُلِّ عَظْمٍ مِنْ عِظَامِ مُحَرَّرِهِ بِعَظْمٍ مِنْ عِظَامِهِ،وَمَنْ أَدْرَكَ أَحَدَ وَالِدَيْهِ،ثُمَّ لَمْ يُغْفَرْ لَهُ،فَأَبْعَدَهُ اللَّهُ،وَمَنْ ضَمَّ يَتِيمًا مِنْ بَيْنِ أَبَوَيْنِ مُسْلِمَيْنِ،قَالَ:عَفَّانُ:إِلَى طَعَامِهِ وَشَرَابِهِ حَتَّى يُغْنِيَهُ اللَّهُ وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ. (3)
وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ:خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَنَحْنُ مُجْتَمِعُونَ فَقَالَ:" يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ اتَّقُوا اللَّهَ،وَصِلُوا أَرْحَامَكُمْ فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ ثَوَابٍ أَسْرَعَ مِنْ صِلَةِ الرَّحِمِ،وَإِيَّاكُمْ وَالْبَغْيَ فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ عُقُوبَةٍ أَسْرَعَ مِنْ عُقُوبَةِ بَغْيٍ،وَإِيَّاكُمْ وَعُقُوقَ الْوَالِدَيْنِ،فَإِنَّ رِيحَ الْجَنَّةِ يُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَلْفِ عَامٍ،وَاللَّهِ لَا يَجِدُهَا عَاقٌّ،وَلَا قَاطِعُ رَحِمٍ،وَلَا شَيْخٌ زَانٍ،وَلَا جَارٌّ إِزَارَهُ خُيَلَاءَ،إِنَّمَا الْكِبْرِيَاءُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ،وَالْكَذِبُ كُلُّهُ إِثْمٌ،إِلَّا مَا نَفَعْتَ بِهِ مُؤْمِنًا،وَدَفَعْتَ بِهِ عَنْ دِينٍ،وَإِنَّ فِي الْجَنَّةِ لَسُوقًا مَا يُبَاعُ فِيهَا وَلَا يُشْتَرَى،لَيْسَ فِيهَا إِلَّا الصُّوَرُ،فَمَنْ أَحَبَّ صُورَةً مِنْ رَجُلٍ أَوِ امْرَأَةٍ دَخَلَ فِيهَا ".رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ (4)
وعَنْ أَبِي مُوسَى،قال:قال رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - :لاَتَقُومُ السَّاعَةُ،حَتَّى يَقْتُلَ الرَّجُلُ جَارَه،وَأَخَاهُ،وَأَبَاهُ." (5)
__________
(1) - صحيح ابن حبان - (12 / 374) (5563) صحيح
(2) - صحيح البخارى- المكنز - (2408) وصحيح مسلم- المكنز - (4580 ) وصحيح ابن حبان - (12 / 366) (5555)
(3) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (6 / 464)(19030) 19239- صحيح لغيره
(4) - المعجم الأوسط للطبراني - (5825) ضعيف
(5) - الأدب المفرد للبخاري - ( 118 ) حسن(1/92)
أما العقوق في الدنيا :
عَنْ أَبِي بَكْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " كُلُّ الذُّنُوبِ تُؤَخَّرُ إِلَى مَا شَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِلَّا عُقُوقَ الْوَالِدَيْنِ، فَإِنَّهُ يُعَجِّلُهُ لِصَاحِبِهِ فِي الْحَيَاةِ قَبْلَ الْمَمَاتِ، وَمَنْ رَاءَ رَاءَ اللهُ بِهِ، وَمَنْ سَمَّعَ سَمَّعَ اللهُ بِهِ " (1)
قَالَ الشَّيْخ أَبُو عَمْرو بْن الصَّلَاح رَحِمَهُ اللَّه فِي فَتَاوِيه:الْعُقُوق الْمُحَرَّم كُلّ فِعْل يَتَأَذَّى بِهِ الْوَالِد أَوْ نَحْوه تَأَذِّيًا لَيْسَ بِالْهَيِّنِ مَعَ كَوْنِهِ لَيْسَ مِنَ الْأَفْعَال الْوَاجِبَة.قَالَ:وَرُبَّمَا قِيلَ طَاعَة الْوَالِدَيْنِ وَاجِبَة فِي كُلّ مَا لَيْسَ بِمَعْصِيَةٍ.وَمُخَالَفَة أَمْرهمَا فِي ذَلِكَ عُقُوق.وَقَدْ أَوْجَبَ كَثِير مِنَ الْعُلَمَاء طَاعَتهمَا فِي الشُّبُهَات.قَالَ:وَلَيْسَ قَوْل مَنْ قَالَ مِنْ عُلَمَائِنَا:يَجُوز لَهُ السَّفَر فِي طَلَب الْعِلْم،وَفِي التِّجَارَة بِغَيْرِ إِذْنهمَا مُخَالِفًا لِمَا ذَكَرْته،فَإِنَّ هَذَا كَلَامٌ مُطْلَق،وَفِيمَا ذَكَرْته بَيَانٌ لِتَقْيِيدِ ذَلِكَ الْمُطْلَق.وَاَللَّه أَعْلَم . (2)
وفي الزواجر:" لَوْ فَعَلَ مَعَهُ مَا يَتَأَذَّى بِهِ تَأَذِّيًا لَيْسَ بِالْهَيِّنِ عُرْفًا كَانَ كَبِيرَةً،وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُحَرَّمًا لَوْ فَعَلَ مَعَ الْغَيْرِ كَأَنْ يَلْقَاهُ فَيَقْطِبُ فِي وَجْهِهِ أَوْ يَقْدُمُ عَلَيْهِ فِي مَلَأٍ فَلَا يَقُومُ لَهُ وَلَا يَعْبَأُ بِهِ،وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا يَقْضِي أَهْلُ الْعَقْلِ وَالْمُرُوءَةِ مِنْ أَهْلِ الْعُرْفِ بِأَنَّهُ مُؤْذٍ تَأَذِّيًا عَظِيمًا .. " (3)
- - - - - - - - - - - - -
__________
(1) - شعب الإيمان - (10 / 289) (7505 ) حسن
فيه بكار بن عبد العزيز بن أبي بكرة صدوق يهم التقريب (735) وقال ابن عدي : وقد حدث عنه الثقات جماعة من البصريين كأبي عاصم وغيره وأرجو أنه لا بأس به وهو من جملة الضعفاء الذين يكتب حديثهم 2/43
(2) - شرح النووي على مسلم - (1 / 189)
(3) - الزواجر عن اقتراف الكبائر - (2 / 408) ودليل الفالحين لطرق رياض الصالحين - (2 / 489)(1/93)
المبحث الرابع
أسس البر بعد وفاة أحدهما أو كليهما
يشبُّ بعض الناس وقد فقد أحد والديه في الصغر،فيجب أن يقدِّم شيئاً لهما إكراماً وتعظيماً،أو قد يموت أحدهما في حياته،فيجب أن يتابع البر،فما هي أركان هذا البر بعد وفاة أحدهما أو كليهما ؟
نجده من خلال الأسس التالية :
الأساس الأول -إنفاذ عهدهما، ووصيتهما :
عَنِ الشَّرِيدِ بْنِ سُوَيْدٍ الثَّقَفِيِّ،قَالَ:قُلْتُ:يَا رَسُولَ اللهِ،إِنَّ أُمِّي أَوْصَتْ أَنْ نُعْتِقُ عَنْهَا رَقَبَةً،وَعِنْدِي جَارِيَةٌ سَوْدَاءُ،قَالَ:ادْعُ بِهَا،فَجَاءَتْ،فَقَالَ:مَنْ رَبُّكِ ؟ قَالَتِ:اللَّهُ،قَالَ:مَنْ أَنَا ؟ قَالَتْ:رَسُولُ اللهِ،قَالَ:أَعْتِقْهَا،فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ. (1)
وعَنِ الشَّرِيدِ:أَنَّ أُمَّهُ أَوْصَتْ أَنْ يُعْتِقَ عَنْهَا رَقَبَةً مُؤْمِنَةً،فَسَأَلَ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ ذَلِكَ،فَقَالَ:عِنْدِي جَارِيَةٌ سَوْدَاءُ،أَوْ نُوبِيَّةٌ،فَأَعْتِقُهَا ؟ فَقَالَ:ائْتِ بِهَا فَدَعَوْتُهَا،فَجَاءَتْ،فَقَالَ لَهَا:مَنْ رَبُّكِ ؟ قَالَتْ:اللَّهُ.قَالَ:مَنْ أَنَا ؟ فَقَالَتْ:أَنْتَ رَسُولُ اللهِ،قَالَ:أَعْتِقْهَا،فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ. (2)
وعَنْ أَبِي أُسَيْدٍ،صَاحِبِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَكَانَ بَدْرِيًّا،وَكَانَ مَوْلاَهُمْ،قَالَ:قَالَ أَبُو أُسَيْدٍ:بَيْنَمَا أَنَا جَالِسٌ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذْ جَاءَهُ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ،فَقَالَ:يَا رَسُولَ اللهِ،هَلْ بَقِيَ عَلَيَّ مِنْ بِرِّ أَبَوَيَّ شَيْءٌ بَعْدَ مَوْتِهِمَا أَبَرُّهُمَا بِهِ ؟ قَالَ:نَعَمْ خِصَالٌ أَرْبَعَةٌ:الصَّلاَةُ عَلَيْهِمَا،وَالاِسْتِغْفَارُ لَهُمَا،وَإِنْفَاذُ عَهْدِهِمَا،وَإِكْرَامُ صَدِيقِهِمَا،وَصِلَةُ الرَّحِمِ الَّتِي لاَ رَحِمَ لَكَ إِلاَّ مِنْ قِبَلِهِمَا،فَهُوَ الَّذِي بَقِيَ عَلَيْكَ مِنْ بِرِّهِمَا بَعْدَ مَوْتِهِمَا. (3)
__________
(1) - صحيح ابن حبان - (1 / 418) (189) صحيح
(2) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (6 / 157)(17945) 18109- صحيح
(3) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (5 / 512)(16059) 16156- حسن(1/94)
وقد يجد الابن صعوبة في تنفيذ تنفيذ الوصية،ولكن صدق البر،واليقين بالله تعالى،القائل :{مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} (96) سورة النحل، مما يساعده للمسارعة إلى التنفيذ،فعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ الزُّبَيْرِ،قَالَ:لَمَّا وَقَفَ الزُّبَيْرُ يَوْمَ الْجَمَلِ دَعَانِي فَقُمْت إِلَى جَنْبِهِ،فَقَالَ:إِنَّهُ لاَ يُقْتَلُ إِلاَّ ظَالِمٌ،أَوْ مَظْلُومٌ،وَإِنِّي لاَ أُرَانِي سَأُقْتَلُ الْيَوْمَ مَظْلُومًا،وَإِنَّ أَكْبَرَ هَمِّي لَدَيْنِي،أَفَتَرَى دَيْنَنَا يُبْقِي مِنْ مَالِنَا شَيْئًا،ثُمَّ قَالَ:يَا بُنَي،بِعْ مَالَنَا وَاقْضِ دَيْنَنَا،وَأُوصِيك بِالثُّلُثِ وَثُلُثَيْهِ لِبَنِيهِ فَإِنْ فَضَلَ شَيْءٌ مِنْ مَالِنَا بَعْدَ قَضَاءِ الدَّيْنِ فَثُلُثُهُ لِوَلَدِكَ،قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ الزُّبَيْرِ:فَجَعَلَ يُوصِينِي بِدَيْنِهِ وَيَقُولُ:يَا بُنَي،إِنْ عَجَزْت،عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ؛فَاسْتَعِنْ عَلَيْهِ مَوْلاَيَ،قَالَ:فَوَاللهِ مَا دَرَيْت مَا أَرَادَ حَتَّى قُلْتُ:يَا أَبَتِ،مَنْ مَوْلاَك،قَالَ:اللَّهُ،قَالَ:فوَاللهِ مَا وَقَعْت فِي كُرْبَةٍ مِنْ دَيْنِهِ إِلاَّ قُلْتُ:يَا مَوْلَى الزُّبَيْرِ،اقْضِ عَنْهُ دَيْنَهُ،فَيَقْضِيهِ،قَالَ:وَقُتِلَ الزُّبَيْرُ فَلَمْ يَدَعْ دِينَارًا وَلاَ دِرْهَمًا إِلاَّ أَرْضِينَ مِنْهَا الْغَابَةُ وَإِحْدَى عَشْرَةَ دَارًا بِالْمَدِينَةِ،وَدَارَيْنِ بِالْبَصْرَةِ،وَدَارًا بِالْكُوفَةِ،وَدَارًا بِمِصْرَ،قَالَ:وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ،أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ يَأْتِيهِ بِالْمَالِ فَيَسْتَوْدِعُهُ إيَّاهُ،فَيَقُولُ الزُّبَيْرُ:لاَ وَلَكِنَّهُ سَلَفٌ،إنِّي أَخْشَى عَلَيْهِ ضَيْعَةً،وَمَا وَلِيَ وِلاَيَةً قَطُّ وَلاَ جِبَايَةً وَلاَ خَرَاجًا وَلاَ شَيْئًا إِلاَّ أَنْ يَكُونَ فِي غَزْوٍ مَعَ النبي - صلى الله عليه وسلم - ،أَوْ مَعَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ." (1)
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ،قَالَ:لَمَّا وَقَفَ الزُّبَيْرُ يَوْمَ الجَمَلِ دَعَانِي،فَقُمْتُ إِلَى جَنْبِهِ فَقَالَ:" يَا بُنَيِّ،إِنَّهُ لاَ يُقْتَلُ اليَوْمَ إِلَّا ظَالِمٌ أَوْ مَظْلُومٌ،وَإِنِّي لاَ أُرَانِي إِلَّا سَأُقْتَلُ اليَوْمَ مَظْلُومًا،وَإِنَّ مِنْ أَكْبَرِ هَمِّي لَدَيْنِي،أَفَتُرَى يُبْقِي دَيْنُنَا مِنْ مَالِنَا شَيْئًا ؟ فَقَالَ:يَا بُنَيِّ بِعْ مَالَنَا،فَاقْضِ دَيْنِي،وَأَوْصَى بِالثُّلُثِ،وَثُلُثِهِ لِبَنِيهِ - يَعْنِي بَنِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ - يَقُولُ:ثُلُثُ الثُّلُثِ،فَإِنْ فَضَلَ مِنْ مَالِنَا فَضْلٌ بَعْدَ قَضَاءِ الدَّيْنِ شَيْءٌ،فَثُلُثُهُ لِوَلَدِكَ "،- قَالَ هِشَامٌ:وَكَانَ بَعْضُ وَلَدِ خَرَاجٍ،وَلاَ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِي غَزْوَةٍ مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ،أَوْ مَعَ بِالْغَابَةِ،فَأَتَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ،وَكَانَ لَهُ عَلَى الزُّبَيْرِ أَرْبَعُ مِائَةِ أَلْفٍ،فَقَالَ لِعَبْدِ اللَّهِ:إِنْ شِئْتُمْ تَرَكْتُهَا لَكُمْ،قَالَ وَنِصْفٌ،قَالَ:قَدْ أَخَذْتُهُ بِخَمْسِينَ وَمِائَةِ أَلْفٍ،قَالَ:وَبَاعَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ نَصِيبَهُ مِنْ مُعَاوِيَةَ
__________
(1) - مصنف ابن أبي شيبة - (15 / 278) (38969) صحيح(1/95)
بِسِتِّ مِائَةِ أَلْفٍ،فَلَمَّا فَرَغَ ابْنُ الزُّبَيْرِ مِنْ قَضَاءِ دَيْنِهِ،قَالَ بَنُو الزُّبَيْرِ:اقْسِمْ بَيْنَنَا مِيرَاثَنَا،قَالَ:لاَ،وَاللَّهِ لاَ أَقْسِمُ بَيْنَكُمْ حَتَّى أُنَادِيَ بِالْمَوْسِمِ أَرْبَعَ سِنِينَ:أَلاَ مَنْ كَانَ لَهُ عَلَى الزُّبَيْرِ دَيْنٌ فَلْيَأْتِنَا فَلْنَقْضِهِ،قَالَ:فَجَعَلَ كُلَّ سَنَةٍ يُنَادِي بِالْمَوْسِمِ،فَلَمَّا مَضَى أَرْبَعُ سِنِينَ قَسَمَ بَيْنَهُمْ،قَالَ:فَكَانَ لِلزُّبَيْرِ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ،وَرَفَعَ الثُّلُثَ،فَأَصَابَ كُلَّ امْرَأَةٍ أَلْفُ أَلْفٍ وَمِائَتَا أَلْفٍ،فَجَمِيعُ مَالِهِ خَمْسُونَ أَلْفَ أَلْفٍ،وَمِائَتَا أَلْفٍ " (1)
وهذا من عظيم البر الذي يقدمه الابن لوالديه،مع اليقين،والثقة بالله تعالى في تيسير أمر البر،وتنفيذ عهدهما،جعلنا الله وإياكم من البررة.
ــــــــــــــ
الأساس الثاني- الدعاء والاستغفاء لهما :
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ:كُنَّا عِنْدَ أَبِي هُرَيْرَةَ لَيْلَةً،فَقَالَ:اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِأَبِي هُرَيْرَةَ،وَلِأُمِّي،وَلِمَنِ اسْتَغْفَرَ لَهُمَا قَالَ لِي مُحَمَّدٌ:فَنَحْنُ نَسْتَغْفِرُ لَهُمَا حَتَّى نَدْخُلَ فِي دَعْوَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ" (2)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " إذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إلَّا مِنْ ثَلَاثَةٍ: إلَّا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ , وَعِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ , وَوَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ " (3)
قال الطحاوي:" فَالْمُسْتَثْنَى فِيهِ وَهُوَ أَعْمَالٌ تَحْدُثُ بَعْدَهُ مِنْ صَدَقَةٍ بِهَا عَنْهُ بَعْدَ وَفَاتِهِ هُوَ سَبَبُهَا فِي حَيَاتِهِ , وَعِلْمٍ يُعْمَلُ بِهِ بَعْدَ وَفَاتِهِ هُوَ سَبَبُهُ فِي حَيَاتِهِ , وَوَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ بَعْدَ وَفَاتِهِ هُوَ سَبَبُهُ فِي حَيَاتِهِ , وَكُلُّ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ يَلْحَقُهُ بِهَا ثَوَابٌ طَارِئٌ خِلَافَ أَعْمَالِهِ الَّتِي مَاتَ عَلَيْهَا... (4)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - :إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَيَرْفَعُ الدَّرَجَةَ لِلْعَبْدِ الصَّالِحِ فِي الْجَنَّةِ،فَيَقُولُ:يَا رَبِّ،أَنَّى لِي هَذِهِ ؟ فَيَقُولُ:بِاسْتِغْفَارِ وَلَدِكَ لَكَ. (5)
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (3129 )
(2) - الأدب المفرد للبخاري - (37) صحيح
(3) - شرح مشكل الآثار - (1 / 228) (246 ) صحيح
(4) - شرح مشكل الآثار - (6 / 89)
(5) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (3 / 738)(10610) 10618- حسن
ــــــــــــــ(1/96)
الأساس الثالث -صلة رحمهما، وبر أصدقائهما:
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ،أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْأَعْرَابِ لَقِيَهُ بِطَرِيقِ مَكَّةَ،فَسَلَّمَ عَلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ،وَحَمَلَهُ عَلَى حِمَارٍ كَانَ يَرْكَبُهُ.وَأَعْطَاهُ عِمَامَةً،كَانَتْ عَلَى رَأْسِهِ فَقَالَ ابْنُ دِينَارٍ:فَقُلْنَا لَهُ:أَصْلَحَكَ اللَّهُ إِنَّهُمُ الْأَعْرَابُ وَإِنَّهُمْ يَرْضَوْنَ بِالْيَسِيرِ،فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ:إِنَّ أَبَا هَذَا كَانَ وُدًّا لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ،وَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ:" إِنَّ أَبَرَّ الْبِرِّ صِلَةُ الْوَلَدِ أَهْلَ وُدِّ أَبِيهِ "
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ،أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - ،قَالَ:" أَبَرُّ الْبِرِّ أَنْ يَصِلَ الرَّجُلُ وُدَّ أَبِيهِ "
وعَنِ ابْنِ عُمَرَ،أَنَّهُ كَانَ إِذَا خَرَجَ إِلَى مَكَّةَ،كَانَ لَهُ حِمَارٌ يَتَرَوَّحُ عَلَيْهِ،إِذَا مَلَّ رُكُوبَ الرَّاحِلَةِ وَعِمَامَةٌ يَشُدُّ بِهَا رَأْسَهُ،فَبَيْنَا هُوَ يَوْمًا عَلَى ذَلِكَ الْحِمَارِ،إِذْ مَرَّ بِهِ أَعْرَابِيٌّ،فَقَالَ:أَلَسْتَ ابْنَ فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ،قَالَ:بَلَى،فَأَعْطَاهُ الْحِمَارَ،وَقَالَ:ارْكَبْ هَذَا وَالْعِمَامَةَ،قَالَ:اشْدُدْ بِهَا رَأْسَكَ،فَقَالَ لَهُ:بَعْضُ أَصْحَابِهِ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ أَعْطَيْتَ هَذَا الْأَعْرَابِيَّ حِمَارًا كُنْتَ تَرَوَّحُ عَلَيْهِ،وَعِمَامَةً كُنْتَ تَشُدُّ بِهَا رَأْسَكَ،فَقَالَ:إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ:" إِنَّ مِنْ أَبَرِّ الْبِرِّ صِلَةَ الرَّجُلِ أَهْلَ وُدِّ أَبِيهِ بَعْدَ أَنْ يُوَلِّيَ وَإِنَّ أَبَاهُ كَانَ صَدِيقًا لِعُمَرَ " (1)
وعَنِ ابْنِ عُمَرَ،أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،قَالَ:إِنَّ أَبَرَّ الْبِرِّ أَنْ يَصِلَ الرَّجُلُ أَهْلَ وُدِّ أَبِيهِ بَعْدَ أَنْ يُوَلِّيَ. (2)
وعَنْ أَبِي بُرْدَةَ،قَالَ:قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ،فَأَتَانِي عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ،فقَالَ:أَتَدْرِي لِمَ أَتَيْتُكَ ؟ قَالَ:قُلْتُ:لاَ،قَالَ:سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،يَقُولُ:مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَصِلَ أَبَاهُ فِي قَبْرِهِ،فَلْيَصِلْ إِخْوَانَ أَبِيهِ بَعْدَهُ وَإِنَّهُ كَانَ بَيْنَ أَبِي عُمَرَ وَبَيْنَ أَبِيكَ إِخَاءٌ وَوُدٌّ،فَأَحْبَبْتُ أَنْ أَصِلَ ذَاكَ. (3)
وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ مَرَّ بِأَعْرَابِيٍّ فِي سَفَرٍ، وَكَانَ أَبُو الْأَعْرَابِيِّ صَدِيقًا لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَقَالَ لِلْأَعْرَابِيِّ: أَلَسْتَ فُلَانَ بْنَ فُلَانٍ ؟ قَالَ: بَلَى، قَالَ: فَأَمَرَ لَهُ ابْنُ عُمَرَ بِحِمَارٍ
__________
(1) - صحيح مسلم- المكنز - (6677-6679 )
(2) - صحيح ابن حبان - (2 / 174) (431) صحيح
(3) - صحيح ابن حبان - (2 / 175) (432) صحيح(1/97)
لَهُ كَانَ يَعْتَقِبُ، وَنَزَعَ عِمَامَةً كَانَتْ لَهُ عَلَى رَأْسِهِ، فَأَعْطَاهُ إِيَّاهَا، فَقَالَ: شُدَّ بِهَا رَأْسَكَ، فَقَالَ بَعْضُ مَنْ كَانَ مَعَهُ: إِنَّمَا كَانَ يَكْفِي هَذَا دِرْهَمًا، قَالَ ابْنُ عُمَرَ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،قَالَ: " احْفَظْ وُدَّ أَبِيكَ، وَلَا تَقْطَعْهُ، فَيُطْفِئُ اللهُ نُورَكَ " (1)
ــــــــــــــ
الأساس الرابع - الصدقة عنهما :
عَنْ عَائِشَةَ - رضى الله عنها -.أَنَّ رَجُلاً قَالَ لِلنَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - إِنَّ أُمِّى افْتُلِتَتْ نَفْسُهَا،وَأَظُنُّهَا لَوْ تَكَلَّمَتْ تَصَدَّقَتْ،فَهَلْ لَهَا أَجْرٌ إِنْ تَصَدَّقْتُ عَنْهَا قَالَ « نَعَمْ » . (2)
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضى الله عنهما أَنَّ رَجُلاً قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِنَّ أُمَّهُ تُوُفِّيَتْ أَيَنْفَعُهَا إِنْ تَصَدَّقْتُ عَنْهَا قَالَ « نَعَمْ ».قَالَ فَإِنَّ لِى مِخْرَافًا وَأُشْهِدُكَ أَنِّى قَدْ تَصَدَّقْتُ عَنْهَا (3) .
مخرفا المخرف:النخل،لأنها تخترف ثمارها،أي:تجتني.
وعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ،عَنْ أَبِيهِ،عَنْ جَدِّهِ،أَنَّهُ سَأَلَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - ،فَقَالَ:يَا رَسُولَ اللهِ إنَّ الْعَاصِ بْنَ وَائِلٍ كَانَ يَأْمُرُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَنْ تُنْحَرَ مِئَة بَدَنَةٍ , وَإِنَّ هِشَامَ بْنَ الْعَاصِ نَحَرَ حِصَّتَهُ مِنْ ذَلِكَ خَمْسِينَ بَدَنَةً , أَفَأَنْحَرُ عَنْهُ،فَقَالَ:إنَّ أَبَاك لَوْ كَانَ أَقَرَّ بِالتَّوْحِيدِ فَصُمْت عَنْهُ،أَوْ تَصَدَّقْت عَنْهُ،أَوْ أَعْتَقْتَ عَنْهُ بَلَغَهُ ذَلِكَ. (4)
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ سَعْدًا، قَالَ: إِنَّ أُمِّي تُوُفِّيَتْ وَلَمْ تُوصِي، فَهَلْ يَنْفَعُهَا إِنْ تَصَدَّقْتُ عَنْهَا ؟ قَالَ: " نَعَمْ " قَالَ: فَإِنِّي أُشْهِدُكُمْ أَنَّ حَائِطِي صَدَقَةٌ عَلَيْهَا" (5)
__________
(1) - شعب الإيمان - (10 / 296) (7518 ) حسن
وفيه عبد الله بن صالح كاتب الليث مختلف فيه ، والراجح فيه أنه مستقيم الحديث له بعض الأغلاط التي لم يتعمدها وقد بينها العلماء انظر الكامل 4/206 -208 والتهذيب 5/256 - 261
(2) - صحيح البخارى- المكنز - (1388) وصحيح مسلم- المكنز - (2373 )
افتلتت : ماتت فجأة وأخذت نفسها فلتة
(3) - صحيح البخارى- المكنز - (2770 )
(4) - مصنف ابن أبي شيبة - (3 / 386) (12204) حسن
(5) - معرفة الصحابة لأبي نعيم - (6 / 3511)(7952 ) صحيح(1/98)
وعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ،عَنْ أَبِيهِ،عَنْ جَدِّهِ،قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :" مَا عَلَى أَحَدِكُمْ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ تَطَوُّعًا أَنْ يَجْعَلَ ثَوَابَهُ لِوَالِدَيْهِ إِذَا كَانَا مُسْلِمَيْنِ فَيَكُونُ لَهُمَا أَجْرُهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَجْرِهِ شَيْئًا " (1)
وعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ،عَنْ أَبِيهِ،عَنْ جَدِّهِ،قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لِأَبِي:" إِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَتَصَدَّقَ صَدَقَةً فَاجْعَلْهَا عَنْ أَبَوَيْكَ،فَإِنَّهُ يَلْحَقُهُمَا،وَلَا يُنْتَقَصُ مِنْ أَجْرِكَ شَيْئًا " (2)
وعَنْ سَعِيدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ شُرَحْبِيلَ بْنِ سَعِيدِ بْنِ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ،عَنْ أَبِيهِ،عَنْ جَدِّهِ،قَالَ:خَرَجَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فِي بَعْضِ مَغَازِيهِ وَحَضَرَتْ أُمَّهُ الْوَفَاةُ بِالْمَدِينَةِ،فَقِيلَ لَهَا:أُوصِي،فَقَالَتْ:فَبِمَ أُوصِي،إِنَّمَا الْمَالُ مَالُ سَعْدٍ،فَتُوُفِّيَتْ قَبْلَ أَنْ يَقْدِمَ سَعْدٌ،فَلَمَّا قَدِمَ سَعْدٌ ذُكِرَ ذَلِكَ لَهُ،فَقَالَ سَعْدٌ:يَا رَسُولَ اللهِ هَلْ يَنْفَعُهَا أَنْ أَتَصَدَّقُ عَنْهَا،فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - :نَعَمْ،فَقَالَ سَعْدٌ:حَائِطُ كَذَا وَكَذَا صَدَقَةٌ عَلَيْهَا،لِحَائِطٍ سَمَّاهُ." (3)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،أَنَّ رَجُلاً سَأَلَ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ:إِنَّ أَبِي قَدْ مَاتَ وَتَرَكَ مَالاً وَلَمْ يُوصِ،فَهَلْ يُكَفِّرُ عَنْهُ أَنْ تَصَدَّقْتُ عَنْهُ ؟ قَالَ:نَعَمْ. (4)
وعَنِ الْحَسَنِ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، أَنَّ سَعْدَ بْنَ عِبَادَةَ سَأَلَ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - :إِنَّ أُمِّي مَاتَتْ أَفَأَتَصَدَّقُ عَنْهَا ؟ قَالَ: " نَعَمْ " قَالَ: فَأَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ ؟ قَالَ: " سَقْيُ الْمَاءِ "، أَوْ قَالَ: " اسْقِ الْمَاءَ " قال فَسِقَايَةُ أُمِّ سَعْدٍ بِالْمَدِينَةِ الْيَوْمَ، قَالَ شُعْبَةُ: فقُلْتُ لِقَتَادَةَ: مَنِ الَّذِي قَالَ: سِقَايَةُ أُمِّ سَعْدٍ ؟ قَالَ: الْحَسَنُ" (5)
وعَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ أَنَّهُ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أُمَّ سَعْدٍ مَاتَتْ فَأَىُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ قَالَ « الْمَاءُ ». قَالَ فَحَفَرَ بِئْرًا وَقَالَ هَذِهِ لأُمِّ سَعْدٍ. (6)
__________
(1) - طَبَقَاتُ الْمُحَدِّثِينَ بِأَصْبَهَانَ لِأَبِي الشَّيْخِ الْأَصْبَهَانِيِّ (1065 ) حسن
(2) - شُعَبُ الْإِيمَانِ لِلْبَيْهَقِيِّ (7672 ) حسن لغيره
(3) - صحيح ابن حبان - (8 / 141) (3354) حسن
(4) - سنن ابن ماجة- ط- الرسالة - (4 / 20) (2716) صحيح
(5) - شعب الإيمان - (5 / 68)(3107 ) فيه انقطاع
(6) - سنن أبي داود - المكنز - (1683 ) حسن لغيره(1/99)
وعَنْ عَاصِمِ بْنِ كُلَيْبٍ أَخْبَرَنِي، قَالَ: سَمِعْتُ عِيَاضَ بْنَ مَرْثَدِ أَوْ مَرْثَدَ بْنَ عِيَاضٍ يُحَدِّثُ، عَنْ رَجُلٍ مِنْهُمْ سَأَلَ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،عَنْ عَمَلٍ يُدْخِلهُ الْجَنَّةَ ؟ قَالَ: " هَلْ مِنْ وَالِدَيْكَ أَحَدٌ حَيٌّ ؟ " قَالَ: لَا، قَالَ: " اسْقِ الْمَاءَ " قَالَ: كَيْفَ أَسْقِيهِ ؟ قَالَ: " تَكْفِيهِمْ الْآلَةُ إِذَا حَفَرُوا وَتَحْمِلُ إِلَيْهِمْ إِذَا غَابُوا عَنْهُ " (1)
وعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ،عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ،قَالَ:مَنْ حَفَرَ مَاءً لَمْ يَشْرَبْ مِنْهُ كَبِدٌ حَرِيٌّ مِنْ جِنٍّ وَلا إِنْسٍ وَلا طَائِرٍ إِلا آجَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ،وَمَنْ بَنَى مَسْجِدًا كَمَفْحَصِ قَطَاةٍ أَوْ أَصْغَرَ بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ (2) .
الكبد:اللحمة السوْداءُ في البطن، المراد كل كائن حي له روح
حرَّى:تأنيثُ حَرَّانَ،وهُما لِلمبالغة،يُريد أنَّها لِشِدّة حَرِّها قد عطِشَتْ ويبِسَتْ من العطش،والمعنى أنَّ في سَقْيِ كلِّ ذي كَبِد حَرَّى أجْرًا
المفحص:الحفرة التي تحفرها القطاة في الأرض لتبيض وترقد فيها
القطاة:نوع من اليمام
ــــــــــــــ
الأساس الخامس - الحج عنهما :
عَنْ أَبِي رَزِينٍ الْعُقَيْلِيِّ أَنَّهُ سَأَلَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ أَبِي شَيْخٌ كَبِيرٌ لاَ يَسْتَطِيعُ الْحَجَّ،وَالْعُمْرَةَ،وَالظَّعْنَ،فَقَالَ:حَجَّ عَنْ أَبِيكَ وَاعْتَمِرْ. (3)
وعَنْ أنَسٍ،قَالَ:جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ:إِنَّ أَبِي مَاتَ وَلَمْ يَحُجَّ حَجَّةَ الإِسْلامِ،فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ عَلَى أَبِيكَ دَيْنٌ أَكُنْتَ تَقْضِينَهُ عَنْهُ ؟ فَقَالَ:نَعَمْ،قَالَ:فَإِنَّهُ دَيْنٌ عَلَيْهِ،فَاقْضِهِ. (4)
__________
(1) - شعب الإيمان - (5 / 66) (3103 ) صحيح
(2) - صحيح ابن خزيمة (2 / 255) صحيح
(3) - صحيح ابن حبان - (9 / 304) (3991) صحيح
(4) - كشف الأستار - (2 / 36) (1145) حسن(1/100)
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنْ رَجُلاً أَتَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ:إِنَّ أَبِي مَاتَ وَلَمْ يَحُجَّ،أَفَأَحُجَّ عَنْهُ قَالَ:أَرَأَيْتَ لَوَ كَانَ عَلَى أَبِيكَ دَيْنٌ أَكُنْتَ قَاضِيَهُ قَالَ:نَعَمْ قَالَ:حُجَّ عَنْ أَبِيكَ. (1)
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ امْرَأَةً سَأَلَتِ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ أَبِيهَا مَاتَ وَلَمْ يَحُجَّ قَالَ « حُجِّى عَنْ أَبِيكِ ». (2)
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ:إِنَّ أُخْتِي مَاتَتْ وَلَمْ تَحُجَّ،أَفَأَحُجُّ عَنْهَا فَقَالَ - صلى الله عليه وسلم - :أَرَأَيْتَ لَوَ كَانَ عَلَيْهَا دَيْنٌ فَقَضَيْتَهُ،فَاللَّهُ أَحَقُّ بِالْوَفَاءِ. (3)
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ،قَالَ:جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ،فَقَالَتْ:إِنْ أُمِّي مَاتَتْ وَعَلَيْهَا حَجَّةٌ،فَأَقْضِيهَا عَنْهَا ؟ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:هَلْ كَانَ عَلَى أُمِّكَ دَيْنٌ ؟ قَالَتْ:نَعَمْ:قَالَ:فَكَيْفَ صَنَعْتِ ؟ قَالَتْ:قَضَيْتُهُ عَنْهَا،قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:فَاَللَّهُ خَيْرُ غُرَمَائِكِ. (4)
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - رَجُلٌ فَقَالَ إِنَّ أَبِى مَاتَ وَعَلَيْهِ حَجَّةُ الإِسْلاَمِ فَأَحُجُّ عَنْهُ قَالَ « أَرَأَيْتَ لَوْ أَنَّ أَبَاكَ تَرَكَ دَيْنًا عَلَيْهِ أَقَضَيْتَهُ عَنْهُ » قَالَ نَعَمْ. قَالَ « فَاحْجُجْ عَنْ أَبِيكَ ». (5)
وعَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « إِذَا حَجَّ الرَّجُلُ عَنْ وَالِدَيْهِ تُقُبِّلَ مِنْهُ وَمِنْهُمَا وَاسْتَبْشَرَتْ أَرْوَاحُهُمَا فِى السَّمَاءِ وَكُتِبَ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى بَرًّا ». (6)
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :" مَنْ حَجَّ عَنْ مَيِّتٍ فَلِلَّذِي حَجَّ عَنْهُ مِثْلُ أَجْرِهِ،وَمَنْ فَطَّرَ صَائِمًا فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ،وَمَنْ دَعَا إِلَى خَيْرٍ فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِ فَاعِلِهِ ".رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ (7)
ــــــــــــــ
__________
(1) - صحيح ابن حبان - (9 / 305) (3992) صحيح
(2) - سنن النسائي- المكنز - (2646 ) صحيح
(3) - صحيح ابن حبان - (9 / 306) (3993) صحيح
(4) - مصنف ابن أبي شيبة - (3 / 843) (15236) صحيح
(5) - سنن الدارقطنى- المكنز - (2640 ) حسن
(6) - سنن الدارقطنى- المكنز - 2/260(2638) ضعيف
(7) - المعجم الأوسط للطبراني - (5980 ) فيه جالهة(1/101)
الأساس السادس- المسارعة للعمل الصالح لإدخال السرور على الوالد المتوفى :
وقد ورد: أن أعمال الأحياء تُعرَض على الأموات من الأقرباء والعشائر في البرزخ،فعن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قال:قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - :إِنَّ أَعْمَالَكُمْ تُعْرَضُ عَلَى أَقَارِبِكُمْ وَعَشَائِرِكُمْ مِنَ الأَمْوَاتِ،فَإِنْ كَانَ خَيْرًا اسْتَبْشَرُوا بِهِ،وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ،قَالُوا:اللَّهُمَّ لاَ تُمِتْهُمْ،حَتَّى تَهْدِيَهُمْ كَمَا هَدَيْتَنَا. (1)
وعَنْ أَبِي أَيُّوبَ الأَنْصَارِيِّ،أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:إِنَّ نَفْسَ الْمُؤْمِنِ إِذَا قُبِضَتْ تَلَقَّاهَا أَهْلُ الرَّحْمَةِ مِنْ عَبَّادِ اللَّهِ كَمَا تَلْقَوْنَ الْبَشِيرَ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا , فَيَقُولُونَ:أَنْظِرُوا صَاحِبَكُمْ يَسْتَرِيحُ , فَإِنَّهُ كَانَ فِي كَرْبٍ شَدِيدٍ , ثُمَّ يَسْأَلُونَهُ:مَا فَعَلَ فُلاَنٌ وَفُلاَنَةُ ؟ هَلْ تَزَوَّجَتْ ؟ فَإِذَا سَأَلُوهُ عَنِ الرَّجُلِ قَدْ مَاتَ قَبْلَهُ فَيَقُولُونَ هَيْهَاتَ قَدْ مَاتَ ذَاكَ قَبْلِي , فَيَقُولُونَ {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} ذُهِبَ بِهِ إِلَى أَهْلِ الْهَاوِيَةِ , فَبِئْسَتِ الْأُمُّ وَبِئْسَتِ الْمُرَبِّيَةُ , إِنَّ أَعْمَالَكُمْ تُعْرَضُ عَلَى أَقَارِبِكُمْ وَعَشَائِرِكُمْ مِنْ أَهْلِ الآخِرَةِ , فَإِنْ كَانَ خَيْرًا فَرِحُوا وَاسْتَبْشَرُوا , وَقَالُوا:اللَّهُمَّ هَذَا فَضْلُكَ وَرَحْمَتُكَ فَأَتْمِمْ نِعْمَتَكَ عَلَيْهِ وَأَمِتْهُ عَلَيْهَا , وَيُعْرِضُ عَلَيْهِمْ عَمَلُ الْمُسِيءِ فَيَقُولُونَ:اللَّهُمَّ أَلْهِمْهُ عَمَلًا تَرْضَى بِهِ عَنْهُ وَتُقَرِّبُهُ إِلَيْكَ " (2)
وقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ:أَلاَ إِنَّ أَعْمَالَكُمْ تُعْرَضُ عَلَى عَشَائِرِكُمْ،فَمُسَاؤُونَ وَمُسَرُّونَ،فَأَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَعْمَلَ عَمَلاً يَخْزَى بِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ.وَهُوَ أَخُوهُ مِنْ أُمِّهِ . (3)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - :" إِنَّ مِمَّا يَلْحَقُ الْمُؤْمِنَ مِنْ عَمَلِهِ وَحَسَنَاتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ عِلْمًا عَلَّمَهُ وَنَشَرَهُ، أَوْ وَلَدًا صَالِحًا تَرَكَهُ، أَوْ مَسْجِدًا بَنَاهُ، أَوْ بَيْتًا لِابْنِ السَّبِيلِ بَنَاهُ، أَوْ نَهَرًا كَرَاهُ، أَوْ صَدَقَةً أَخْرَجَهَا مِنْ مَالِهِ فِي صِحَّتِهِ وَحَيَاتِهِ تَلْحَقُهُ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهِ " (4)
ــــــــــــــ
الأساس السابع- زيارة قبريهما :
__________
(1) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (4 / 425)(12683) 12713- حسن لغيره
(2) - مسند الشاميين 360 - (2 / 383) (1544) ضعيف جدا
(3) - الزهد أبي داود 275 - (1 / 198)(220) فيه انقطاع
(4) - شعب الإيمان - (5 / 121) (3174 ) وصحيح ابن خزيمة (3 / 441) حسن(1/102)
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،قَالَ:زَارَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - قَبْرَ أُمِّهِ،فَبَكَى وَأَبْكَى مَنْ حَوْلَهُ،ثُمَّ قَالَ:اسْتَأْذَنْتُ رَبِّي أَنْ أَزُورَ قَبْرَهَا فَأَذِنَ لِي،فَاسْتَأْذَنَتْهُ أَنْ أَسْتَغْفِرَ لَهَا،فَلَمْ يَأْذَنْ لِي،فَزُورُوَا الْقُبُورَ فَإِنَّهَا تُذَكِّرُكُمُ الْمَوْتَ. (1)
وعَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ،عَنْ أَبِيهِ،قَالَ:انْتَهَى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - إِلَى رَسْمِ قَبْرٍ فَجَلَسَ،وَجَلَسَ النَّاسُ حَوْلَهُ كَثِيرٌ،فَجَعَلَ يُحَرِّكُ رَأْسَهُ كَالْمُخَاطِبِ.قَالَ:ثُمَّ بَكَى،فَاسْتَقْبَلَهُ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ،فَقَالَ:مَا يُبْكِيكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ:" هَذَا قَبْرُ آمِنَةَ بِنْتِ وَهْبٍ،اسْتَأْذَنْتُ رَبِّي فِي أَنْ أَزُورَ قَبْرَهَا فَأَذِنَ لِي،وَاسْتَأْذَنْتُهُ فِي الِاسْتِغْفَارِ لَهَا فَأَبَى عَلَيَّ،وَأَدْرَكَتْنِي رِقَّتُهَا فَبَكَيْتُ " قَالَ:فَمَا رَأَيْتُ سَاعَةً أَكْثَرَ بَاكِيًا مِنْ تِلْكَ السَّاعَةِ " (2)
وعَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: لَمَّا افْتَتَحَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مَكَّةَ أَتَى جِذْمَ قَبْرٍ فَجَلَسَ إِلَيْهِ وَجَلَسَ النَّاسُ حَوْلَهُ، فَجَعَلَ - صلى الله عليه وسلم - كَهَيْئَةِ الْمُخَاطِبُ ثُمَّ قَامَ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ يَبْكِي فَاسْتَقْبَلَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَكَانَ مِنْ أَجْرَأِ النَّاسِ عَلَيْهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ بِأَبِي وَأُمِّي مَا الَّذِي أَبْكَاكَ ؟ قَالَ - صلى الله عليه وسلم - :" هَذَا قَبْرُ أُمِّي اسْتَأْذَنْتُ رَبِّي أَنْ أَزُورَ قَبْرَهَا فَأَذِنَ لِيَ، وَاسْتَأْذَنْتُهُ أَنْ أَسْتَغْفِرَ لَهَا فَلَمْ يَأْذَنْ لِيَ، فَذَكَرْتُهَا فَوَقَفْتُ فَبَكَيْتُ ".قَالَ: فَلَمْ يُرَ بَاكِيًا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ " (3)
قَالَ النَّوَوِيُّ تَبَعًا لِلْعَبْدَرِيِّ وَالْحَازِمِيِّ وَغَيْرِهِمَا:اِتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ زِيَارَةَ الْقُبُورِ لِلرِّجَالِ جَائِزَةٌ.قَالَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ:فِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ اِبْنَ أَبِي شَيْبَةَ وَغَيْرَهُ رَوَى عَنْ اِبْنِ سِيرِينَ وَإِبْرَاهِيمَ وَالشَّعْبِيِّ الْكَرَاهَةَ مُطْلَقًا،فَلَعَلَّ مَنْ أَطْلَقَ أَرَادَ بِالِاتِّفَاقِ مَا اِسْتَقَرَّ عَلَيْهِ الْأَمْرُ بَعْدَ هَؤُلَاءِ وَكَأَنَّ هَؤُلَاءِ لَمْ يَبْلُغْهُمْ النَّاسِخُ،وَمُقَابِلُ هَذَا الْقَوْلِ اِبْنُ حُزَمٍ:أَنَّ زِيَارَةَ الْقُبُورِ وَاجِبَةٌ وَلَوْ مَرَّةً وَاحِدَةً فِي الْعُمْرِ لِوُرُودِ الْأَمْرِ بِهِ اِنْتَهَى . (4)
__________
(1) - صحيح مسلم- المكنز - (2304 ) وصحيح ابن حبان - (7 / 440) (3169)
(2) - دَلَائِلُ النُّبُوَّةِ لِلْبَيْهَقِيِّ (101 ) صحيح
(3) - أخبار مكة للفاكهي - (4 / 57) (2377 ) صحيح
(4) - تحفة الأحوذي - (3 / 116)(1/103)
قَالَ الْقَاضِي:بُكَاؤُهُ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى مَا فَاتَهَا مِنْ إِدْرَاك أَيَّامه،وَالْإِيمَان بِهِ (1) .
ــــــــــــــ
الأساس الثامن - برُّ قسمهما،وألا تستسبَّ لهما :
عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :" مَنْ بَرَّ قَسَمَهُمَا وَقَضَى دَيْنَهُمَا وَلَمْ يَسْتَسِبَّ لَهُمَا،كُتِبَ بَارًّا وَإِنْ كَانَ عَاقًّا فِي حَيَاتِهِ،وَمَنْ لَمْ يَبَرَّ قَسَمَهُمَا وَيَقْضِي دَيْنَهُمَا وَاسْتَسَبَّ لَهُمَا،كُتِبَ عَاقًّا وَإِنْ كَانَ بَارًّا فِي حَيَاتِهِ ".رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ (2)
وعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :" مَنْ أَبَّرَ قَسَمَهُمَا وَقَضَى دَيْنَهُمَا،وَلَمْ يَسْتَسِبَّ لَهُمَا،كُتِبَ بَارًّا،وَإِنْ كَانَ عَاقًّا فِي حَيَاتِهِ.وَمَنْ لَمْ يَبَرَّ قَسَمَهُمَا وَيَقْضِ دَيْنَهُمَا،وَاسْتَسَبَّ لَهُمَا كُتِبَ عَاقًّا،وَإِنْ كَانَ بَارًّا فِي حَيَاتِهِ " (3) .
ــــــــــــــ
الأساس التاسع - الصوم عنهما :
عَنِ ابْنِ بُرَيْدَةَ،عَنْ أَبِيهِ،قَالَ:كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - إِذْ جَاءَتْهُ امْرَأَةٌ،فَقَالَتْ:إِنَّهُ كَانَ عَلَى أُمِّي صَوْمُ شَهْرَيْنِ،أَفَأَصُومُ عَنْهَا ؟ قَالَ:صُومِي عَنْهَا،أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكَ دَيْنٌ قَضَيْتِيهِ،أَكَانَ يُجْزِئُ عَنْهَا ؟ قَالَتْ:بَلَى،قَالَ:فَصُومِي عَنْهَا. (4)
وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ بُرَيْدَةَ،عَنْ أَبِيهِ،قَالَ: بَيْنَا أَنَا جَالِسٌ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،إِذْ أَتَتْهُ امْرَأَةٌ،فَقَالَتْ:إِنِّي تَصَدَّقْتُ عَلَى أُمِّي بِجَارِيَةٍ،وَإِنَّهَا مَاتَتْ،قَالَ:فَقَالَ:وَجَبَ أَجْرُكِ،وَرَدَّهَا عَلَيْكِ الْمِيرَاثُ.قَالَتْ:يَا رَسُولَ اللهِ،إِنَّهُ كَانَ عَلَيْهَا صَوْمُ شَهْرٍ،أَفَأَصُومُ عَنْهَا ؟ قَالَ:صُومِي عَنْهَا.قَالَتْ:إِنَّهَا لَمْ تَحُجَّ قَطُّ،أَفَأَحُجُّ عَنْهَا ؟ قَالَ:حُجِّي عَنْهَا. (5)
__________
(1) - شرح النووي على مسلم - (3 / 403) انظر حكم أبوي الرسول صلى الله عليه وسلم يوم القيامة بكتابي (( الإيمان بيوم القيامة وأهواله )) ص (274) فما بعد
(2) - المعجم الأوسط للطبراني - (5981 ) فيه جالهة
(3) - الْمُعْجَمُ الْأَوْسَطُ لِلطَّبَرَانِيِّ(5048 ) فيه جهالة
(4) - مصنف ابن أبي شيبة - (14 / 169) (37274) صحيح
(5) - صحيح مسلم- المكنز - (2753 )(1/104)
وعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا،أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،قَالَ:مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامٌ صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ. (1)
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضى الله عنهما - قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أُمِّى مَاتَتْ،وَعَلَيْهَا صَوْمُ شَهْرٍ،أَفَأَقْضِيهِ عَنْهَا قَالَ « نَعَمْ - قَالَ - فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ يُقْضَى » . (2)
الصَّوْمُ الْوَاجِبُ شَرْعًا عَلَى صُنُوفٍ،فَمِنْهُ مَا يَجِبُ مُحَدَّدًا بِزَمَانٍ مُعَيَّنٍ،كَصَوْمِ شَهْرِ رَمَضَانَ مِنْ كُل عَامٍ،وَمِنْهُ مَا يَجِبُ بِنَاءً عَلَى اعْتِبَارَاتٍ أُخْرَى كَصَوْمِ الْكَفَّارَاتِ بِأَنْوَاعِهَا - كَكَفَّارَةِ الْيَمِينِ وَالظِّهَارِ - وَصَوْمِ جَزَاءِ الصَّيْدِ وَالْحَلْقِ وَالْمُتْعَةِ فِي الْحَجِّ،وَمِنْهُ مَا يَجِبُ عَلَى سَبِيل الْبَدَل،كَقَضَاءِ رَمَضَانَ،وَمِنْهُ مَا يَجِبُ بِغَيْرِ ذَلِكَ .
وَقَدْ ذَهَبَ أَكْثَرُ أَهْل الْعِلْمِ - كَمَا قَال ابْنُ قُدَامَةَ - إِلَى أَنَّ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الصَّوْمُ بِأَحَدِ الأَْسْبَابِ الْمُشَارِ إِلَيْهَا،فَلَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ أَدَائِهِ إِمَّا لِضِيقِ الْوَقْتِ،أَوْ لِعُذْرٍ مِنْ مَرَضٍ أَوْ سَفَرٍ أَوْ عَجْزٍ عَنِ الصَّوْمِ،وَدَامَ عُذْرُهُ إِلَى أَنْ مَاتَ،فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ شَرْعًا،وَلاَ يَجِبُ عَلَى وَرَثَتِهِ صِيَامٌ وَلاَ فِي تَرِكَتِهِ إِطْعَامٌ،وَلاَ غَيْرُ ذَلِكَ . (3)
أَمَّا إِذَا كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنَ الصِّيَامِ،لَكِنَّهُ لَمْ يُؤَدِّهِ حَتَّى مَاتَ،فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي سُقُوطِهِ عَنْهُ بِالْمَوْتِ عَلَى قَوْلَيْنِ .
الْقَوْل الأَْوَّل:لِلْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي الْجَدِيدِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ،وَهُوَ أَنَّ مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صَوْمُ رَمَضَانَ أَوْ كَفَّارَةٌ أَوْ نَحْوُهُمَا مِنَ الصَّوْمِ الْوَاجِبِ،سَقَطَ عَنْهُ الصَّوْمُ فِي الأَْحْكَامِ
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (1952) وصحيح مسلم- المكنز - (2748 ) وصحيح ابن حبان - (8 / 334) (3569)
(2) - صحيح البخارى- المكنز - (1953 ) وصحيح مسلم- المكنز - (2749 )
(3) - الموسوعة الفقهية الكويتية - (39 / 290) والمغني 4 / 398 ، والمجموع 6 / 368 ، 369 ، والمبسوط 3 / 89 ، 90 .(1/105)
الدُّنْيَوِيَّةِ،فَلاَ يَلْزَمُ وَلِيَّهُ أَنْ يَصُومَ عَنْهُ،لأَِنَّ فَرْضَ الصِّيَامِ جَارٍ مَجْرَى الصَّلاَةِ،فَلاَ يَنُوبُ أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ فِيهِ (1) .
وَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُ هَذَا الرَّأْيِ فِيمَا يَجِبُ عَلَى الْوَلِيِّ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ عَلَى مَذْهَبَيْنِ .
الْمَذْهَبُ الأَْوَّل:لِلْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ،وَهُوَ أَنَّهُ لاَ يَجِبُ عَلَى الْوَلِيِّ أَوِ الْوَرَثَةِ أَنْ يُطْعِمُوا عَنْهُ شَيْئًا إِلاَّ إِذَا أَوْصَى بِذَلِكَ،فَإِنْ أَوْصَى بِهِ، فَإِنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ ثُلُثِ التَّرِكَةِ كَسَائِرِ الْوَصَايَا .
الْمَذْهَبُ الثَّانِي:لِلْحَنَابِلَةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي الْمَشْهُورِ مِنَ الْمَذْهَبِ،وَهُوَ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْوَلِيِّ أَنْ يُطْعِمَ عَنْهُ لِكُل يَوْمٍ مِسْكِينًا،سَوَاءٌ أَوْصَى بِذَلِكَ أَوْ لَمْ يُوصِ،وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عَائِشَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَبِهِ قَال اللَّيْثُ وَالأَْوْزَاعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَابْنُ عَلِيَّةَ وَأَبُو عُبَيْدٍ وَغَيْرُهُمْ (2) .
وَالْقَوْل الثَّانِي:لِلشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ،وَهُوَ أَنَّ مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صَوْمٌ وَاجِبٌ،صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ عَلَى سَبِيل الْجَوَازِ دُونَ اللُّزُومِ،مَعَ تَخْيِيرِ الْوَلِيِّ بَيْنَ الصِّيَامِ عَنْهُ وَبَيْنَ الإِْطْعَامِ (3) .
- - - - - - - - - - - - -
__________
(1) - فتح القدير والعناية 2 / 351 ، 352 ، 358 ، 359 ، والمجموع 6 / 368 - 372 ، والمغني 4 / 398 ، ونهاية المحتاج 3 / 184 ، وبداية المجتهد 1 / 299 ، وإعلام الموقعين 4 / 390 ، والمنتقى 2 / 63 .
(2) - المغني 4 / 398 ، وبداية المجتهد 1 / 299 ، 300 ، والمجموع 6 / 368 ، 369 ، 371 ، والمنتقى 2 / 63 ، وفتح القدير مع العناية 2 / 352 ، 353 ، 357 ، 358 ، والموافقات 2 / 174 .
(3) - المجموع 6 / 368 ، 369 ، 372 ، والمغني 4 / 398 ، ونهاية المحتاج 3 / 184 .(1/106)
الخلاصة في فوائد بر الوالدين
(1) من كمال الإيمان وحسن الإسلام.
(2) من أفضل العبادات وأجلّ الطّاعات.
(3) طريق موصّل إلى الجنّة.
(4) الزّيادة في الأجل والنّماء في المال والنّسل.
(5) رفع الذّكر في الاخرة وحسن السّيرة في النّاس.
(6) من برّ آباءه برّه أبناؤه والجزاء من جنس العمل.
(7) برّ الوالدين يفرّج الكرب.
(8) من حفظ ودّ أبيه لا يطفأ اللّه نوره. (1)
- - - - - - - - - - - - -
__________
(1) - نضرة النعيم في مكارم أخلاق الرسول الكريم - (3 / 779)(1/107)
أهم المصادر
1. أيسر التفاسير لأسعد حومد
2. التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع
3. التفسير الميسر
4. التفسير الواضح ـ موافقا للمطبوع
5. تفسير ابن أبي حاتم
6. تفسير ابن كثير - دار طيبة
7. تفسير الطبري - مؤسسة الرسالة
8. تفسير القرطبي ـ موافق للمطبوع
9. فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع
10. اتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة
11. الآحاد والمثاني لابن أبي عاصم
12. الأدب المفرد للبخاري
13. الترغيب والترهيب للمنري
14. السنن الكبرى للإمام النسائي الرسالة
15. السنن الكبرى للبيهقي- المكنز
16. الفوائد لتمام 414
17. المجالسة وجواهر العلم (333)
18. المدخل إلى السنن الكبرى
19. المستدرك للحاكم مشكلا
20. المسند الجامع
21. المطالب العالية بزوائد المسانيد الثمانية (852)
22. المعجم الأوسط للطبراني
23. المعجم الصغير للطبراني
24. المعجم الكبير للطبراني
25. جامع الأحاديث
26.(1/108)
جامع الأصول في أحاديث الرسول
27. دلائل النبوة للبيهقي
28. سنن أبي داود - المكنز
29. سنن ابن ماجة- طبع مؤسسة الرسالة
30. سنن الترمذى- المكنز
31. سنن الدارقطنى- المكنز
32. سنن الدارمى- المكنز
33. سنن النسائي- المكنز
34. شرح مشكل الآثار (321)
35. شرح معاني الآثار (321)
36. شعب الإيمان (458)
37. صحيح ابن حبان
38. صحيح ابن خزيمة مشكل
39. صحيح البخارى- المكنز
40. صحيح مسلم- المكنز
41. كشف الأستار
42. مجمع الزوائد
43. مسند أبي عوانة مشكلا
44. مسند أبي يعلى الموصلي مشكل
45. مسند أحمد (عالم الكتب)
46. مسند احمد بن حنبل ( بأحكام شعيب الأرنؤوط)
47. مسند البزار ( المطبوع باسم البحر الزخار
48. مسند الشاشي
49. مسند الشاميين
50. مسند الطيالسي
51. مصنف ابن أبي شيبة
52. مصنف عبد الرزاق مشكل
53.(1/109)
معرفة الصحابة لأبي نعيم
54. موسوعة السنة النبوية
55. موطأ مالك- المكنز
56. منهج التربية النبوية للطفل لمحمد نور سويد
57. جَامِعُ مَعْمَرِ بْنِ رَاشِدٍ
58. الزهْدُ لِأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ
59. حِلْيَةُ الْأَوْلِيَاءِ
60. الموسوعة الفقهية الكويتية
61. الكليات لأبي البقاء ط دمشق،وزارة الثقافة 1974
62. الفواكه الدواني على رسالة القيرواني
63. الزواجر عن اقتراف الكبائر للهيثمي ط دار المعرفة ببيروت
64. لسان العرب
65. حاشية ابن عابدين
66. تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق
67. المهذب في فقه الإمام الشافعي
68. تحفة المحتاج بشرح المنهاج
69. مطالب أولي النهى
70. الْأَدَبُ الْمُفْرَدِ لِلْبُخَارِيِّ
71. إحياء علوم الدين للغزالي
72. الفروق للقرافي
73. فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة
74. فتح الباري شرح صحيح البخاري- ط دار الفكر -
75. در المنتقى في شرح الملتقى بهامش مجمع الأنهر
76. الشرح الصغير على،أقرب المسالك
77. مغني المحتاج
78. عشرة النساء للإمام للنسائي - الطبعة الثالثة
79. الآداب الشرعية والمنح المرعية لابن مفلح المقدسي الحنبلي
80.(1/110)
شرح النووي على مسلم
81. معالم السنن للخطابي
82. بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع
83. تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق
84. المغني لابن قدامة
85. كشاف القناع عن متن الإقناع
86. شرح ابن بطال
87. رد المحتار على الدر المختار
88. روضة الطالبين
89. أحكام القرآن لابن العربي
90. حاشية ابن عابدين 4 /513 .
91. مسائل الإمام أحمد لابن هانئ
92. فتاوى واستشارات الإسلام اليوم
93. كِتَابُ الْأَوْلِياءِ لِابْنِ أَبِي الدُّنْيَا
94. دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين
95. طَبَقَاتُ الْمُحَدِّثِينَ بِأَصْبَهَانَ لِأَبِي الشَّيْخِ الْأَصْبَهَانِيِّ
96. الزهد أبي داود 275
97. أخبار مكة للفاكهي
98. تحفة الأحوذي
99. الإيمان بيوم القيامة وأهواله للمؤلف
100. بداية المجتهد لابن رشد
101. إعلام الموقعين لابن القيم
102. نضرة النعيم في مكارم أخلاق الرسول الكريم
103. المكتبة الشاملة 3
104. برنامج قالون(1/111)
الفهرس العام
تمهيد ... 5
حول بر الوالدين ... 5
المبحث الأول ... 7
تعريفه وحكمه ... 7
تعريفه : ... 7
حُكْمُهُ التَّكْلِيفِيُّ: ... 7
المبحث الثاني ... 9
الحث على بر الوالدين في القرآن الكريم ... 9
أولا- البر بالوالدين أو أحدهما من صفة الأنبياء: ... 9
ثانيا- بر الوالدين والإحسان إليهما مما أمر به المولى- عز وجل-: ... 10
المبحث الثالث ... 42
أسس بر الوالدين في حياتهما ... 42
الأساس الأول - ثواب البر في الدنيا والآخرة : ... 42
أثرُ برِّ الوالدين في الدنيا : ... 44
أثرُ برِّ الوالدين في الآخرة : ... 44
الأساس الثاني - تقديم بر الوالدين على الفروض الكفائية: ... 46
1- تقديم بر الوالدين على الجهاد في سبيل الله: ... 47
2- تقديم بر الوالدين على الزوجة والأصدقاء : ... 48
3- تقديم بر الوالدين على حج التطوع: ... 49
4- تقديم بر الوالدين على زيارة الرسول - صلى الله عليه وسلم - : ... 50
5- تقديم بر الوالدين على الأولاد : ... 51
6- تقديم بر الأم على النوافل : ... 53
7- تقديم بر الوالدين على الهجرة في سبيل الله : ... 55(1/112)
8- اسْتِئْذَانُهُمَا لِلسَّفَرِ لِلتِّجَارَةِ أَوْ لِطَلَبِ الْعِلْمِ: ... 56
9- حُكْمُ طَاعَتِهِمَا فِي تَرْكِ النَّوَافِل أَوْ قَطْعِهَا: ... 57
10- نموذج من بر الرسول - صلى الله عليه وسلم - بوالديه وبر ابنته فاطمة له : ... 57
الأساس الثالث - لا طاعة للوالدين في معصية الخالق مع بقاء الإحسان إليهما ... 58
الأساس الرابع -أحق الناس بحسن صحبتك والداك : ... 69
الأساس الخامس -تقديم بر الأم على الأب عند التعارض،بعد محاولة التوفيق بينهما : ... 70
الأساس السادس - أنت ومالك لأبيك : ... 75
الأساس السابع -عتق الوالدين من أي مال استحق بذمتهما : ... 79
الأساس الثامن - الدعاء المتبادل بين الأبوين وأبنائهم : ... 81
الأساس التاسع -ألا تستَسبَّ لوالديك: ... 83
الأساس العاشر - أشهر الانتساب لأبيك،واعتزَّ به : ... 85
الأساس الحادي عشر -الحج عمن عجز منهما صحيا عن أدائه: ... 87
الأساس الثاني عشر- إنفاذ نذرهما : ... 88
الأساس الثالث عشر - الْبِرُّ بِالْوَالِدَيْنِ مَعَ اخْتِلاَفِ الدِّينِ : ... 88
الأساس الرابع عشر -العقوق من الكبائر،وجزاؤه في الدنيا والآخرة : ... 91
أما العقوق في الدنيا : ... 93
المبحث الرابع ... 94
أسس البر بعد وفاة أحدهما أو كليهما ... 94
الأساس الأول -إنفاذ عهدهما، ووصيتهما : ... 94
الأساس الثاني- الدعاء والاستغفاء لهما : ... 96
الأساس الثالث -صلة رحمهما، وبر أصدقائهما: ... 97
الأساس الرابع - الصدقة عنهما : ... 98
الأساس الخامس - الحج عنهما : ... 100
الأساس السادس- المسارعة للعمل الصالح لإدخال السرور على الوالد المتوفى : ... 102
الأساس السابع- زيارة قبريهما : ... 102(1/113)
الأساس الثامن - برُّ قسمهما،وألا تستسبَّ لهما : ... 104
الأساس التاسع - الصوم عنهما : ... 104
الخلاصة في فوائد بر الوالدين ... 107(1/114)