الخلاصة في أحكام المال الحرام
http://www.al-eman.com/Ask/ask2.asp
حكم الزكاة من هذا الصندوق
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء اسم المفتى
14292 رقم الفتوى
03/06/2004 تاريخ الفتوى على الموقع
نص السؤال
فتوى رقم (4515)
هناك أسر تنوي تكوين صندوق خيري لصالح الفقراء من داخل الأسرة وخارجها، ويوجد في الأسرة من يتاجر ببضاعة الدخان (التبغ)، فهل يجوز أن يتكون الصندوق وفيه هذا المال الحرام، أم يجب على الأسرة استبعاد مثل هذا المال؟ وهل يجوز جمع زكاة المال وصرفها لمستحقيها من قبل هذا الصندوق المقترح؟
نص الفتوى
الحمد لله
أولاً: إنشاء صندوق خيري لصالح الفقراء يعتبر من عمل المعروف والإحسان لما فيه من البر بالفقراء ومواساتهم ودفع الحاجة عنهم، وهو داخل في عموم قوله تعالى: {وتعاونوا على البر والتقوى}، وفي عموم سائر النصوص من الكتاب والسنة التي حثت على صلة الأرحام وغيرهم من الفقراء والمساكين.
ثانياً: إن كان من يتجر في الدخان له دخل أو كسب آخر سوى كسبه من التجارة في الدخان جاز أن تقبلوا منه ماتبرع به للصندوق وإن كان لادخل له إلا كسبه من التجارة في الدخان فلا تقبلوا منه مايتبرع به؛ لخبث ماله، والله لايقبل إلا طيبا وعلى كلا الأمرين يجب عليكم أن تنصحوا له بترك الاتجار في الدخان وغيره من المحرمات، وأن تبينوا له أن مفاتح الرزق ووجوه الكسب كثيرة ومن عف عن الحرام عوضه الله خيرا منه، ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لايحتسب، ومن يتوكل على الله فهو حسبه.
ثالثاً: إذا كان ما يجتمع في هذا الصندوق يصرف للفقراء والمساكين أو نحوهم من بقية مصارف الزكاة جاز لكم أن تجعلوا في هذا الصندوق من أموال الزكاة على أن تعطى لمستحقيها من مصارف الزكاة الثمانية أو لبعضهم، وإلا فلا يجوز جعل شيء منها في هذا الصندوق.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم .
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء(1/1)
عضو: عبدالله بن قعود
نائب رئيس اللجنة: عبدالرزاق عفيفي
الرئيس: عبدالعزيز بن عبدالله بن باز
***********
شهادات الاستثمار والعائد منها والزكاة فيه
دار الإفتاء المصرية اسم المفتى
15473 رقم الفتوى
27/05/2004 تاريخ الفتوى على الموقع
نص السؤال
سئل : بالطلب المقدم من السيد / عوض ح .
الذى يطلب فيه بيان الحكم الشرعى فى شهادات استثمار البنك الأهلى المجموعة (ب) ذات العائد الجارى، وهل هى حلال أم حرام كما يطلب الإفادة عن كيفية الزكاة فيها، وكفيفة التصرف فى العائد منها والمستحق له الآن، وما سبق أن أخذه من البنك من هذا العائد .
نص الفتوى
الحمد لله
جرى اصطلاح فقهاء الشريعة الإسلامية على أن الربا هو زيادة مال بلا مقابل فى معاوضة مال بمال، وقد حرم الله سبحانه وتعالى الربا بالآيات الكثيرة فى القرآن الكريم، وكان من آخرها نزولا على ما صح عن ابن عباس رضى الله عنهما قول الله سبحانه وتعالى { الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذى يتخبطه الشيطان من المس ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا وأحل الله البيع وحرم الربا فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون .
يمحق الله الربا ويربى الصدقات والله لا يحب كل كفار أثيم } البقرة 275 ، 276 ، ومحرم كذلك بما ورد فى الحديث الشريف الذى رواه البخارى ومسلم وغيرهما عن أبى سعيد الخدرى قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( الذهب بالذهب والفضة بالفضلة ،والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلا بمثل، يدا بيد، فمن زاد أو استزاد فقد أربى، الآخذ والمعطى فيه سواء ) .
ولما كان مقتضى هذه النصوص أن الربا بكل صورة محرم شرعا وأنه يدخل فيه كل زيادة فى المال المقترض بالشرط والتحديد بلا مقابل .(1/2)
وأجمع المسلمون على هذا التحريم . ولما كانت شهادات الاستثمار ( ا، ب ) ذات فائدة محددة مشروطة مقدما زمنا ومقدارا، كانت داخلة فى ربا الزيادة المحرم بهذه النصوص الشرعية باعتبارها قرضا بفائدة مشروطة .
أما شهادات الاستثمار (ج -) ذات الجوائز، فإنها تدخل فى باب الوعد بجائزة إذ ليست لها فائدة مشروطة ولا محددة زمنا ومقدارا، فتدخل فى باب المعاملات المباحة عند بعض فقهاء المسلمين الذى أجازوا الوعد بجائزة أما عن الأرباح التى حصل عليها السائل فائدة للشهادات ذات العائد المحدد مقدما فهى ربا محرم، وسبيل التخلص من المال الحرام هو التصدق به - أما عن الزكاة فى هذا المال فإذا كان رأس المال يبلغ النصاب الشرعى وجبت عليه الزكاة فيها، ولكن بشروط وهى أن تكون ذمة مالكها خالية من الدين، وأن تكون فائضة عن حاجته المعيشية وحاجة من يعوله .
وأن يمضى عليها سنة كاملة . والنصاب الشرعى الذى يجب فيه الزكاة بعد استيفاء باقى الشروط .
هو ما تقابل قيمته بالنقود الحالية 85 جراما من الذهب عيار 21 - ويجب عليه إخراج الزكاة بمقدار ربع العشر أى 2 .
5 % فى المائة وتصرف هذه الزكاة للأصناف التى حددها الله تعالى فى قوله { إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفى الرقاب والغارمين وفى سبيل الله وابن السبيل } التوبة 60 ، والله سبحانه وتعالى أعلم .
***********
المخدرات محرمة شرعا
دار الإفتاء المصرية اسم المفتى
16105 رقم الفتوى
15/06/2004 تاريخ الفتوى على الموقع
نص السؤال
بكتاب الإدارة العامة لمكافحة المخدرات بوزارة الداخلية بالقاهرة المحرر فى 5/2/1979 المطلوب به بيان الحكمم الشرعى فى المسائل الآتية : 1 - تعاطى المخدرات .
2 - إنتاج المخدرات وزراعتها وتهريبها والاتجار فيها والتعامل فيها على أى وجه كان .
3 - من يؤدى الصلاة وهو تحت تأثير المخدر .
4 - الربح الناتج عن التعامل فى المواد المخدرة .(1/3)
5 - التصدق بالأموال الناتجة عن التعامل فى المواد المخدرة .
6 - تعاطى المخدرات للعلاج .
7 - التواجد فى مكان معد لتعاطى المخدرات وكان يجرى فيها تعاطيها .
نص الفتوى
الحمد لله
إن الشريعة الإسلامية جائت رحمة للناس، اتجهت فى أحكامها إلى إقامة مجتمع فاضل تسوده المحبة والمودة والعدالة والمثل العليا فى الأخلاق والتعامل بين أفراد المجتمع، ومن أجل هذا كانت غايتها الأولى تهذ1يب الفرد وتربيته ليكون مصدر خير للجماعة، فشرعت العبادات سعيا إلى تحقيق هذه الغاية وإلى توثيق العلاقات الاجتماعية، كل ذلك لصالح الأمة وخير المجموع .
والمصلحة التى ابتغاها الإسلام وتضافرت عليها نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة تهدف إلى المحافظة على أمور خمسة يسميها فقهاء الشريعة الإسلامية الضرورات الخمس وهى الدين والنفس والمال والعقل والنسل .
إذ الدين خاصة من خواص الإنسان، ولابد أن يسلم الدين من كل اعتداء، ومن أجل هذا نهى الإسلام عن أن يفتن الناس فى دينهم، واعتبر الفتنة فى الدين أشد من القتل .
قال الله سبحانه { والفتنة أشد من القتل } البقرة 191 ، ومن أجل المحافظة على التدين وحماية الدين فى نفس الإنسان وتحصينها شرعت العبادات كلها، والمحافظة على النفس تقضى حمايتها من كل اعتداء بالقتل أو بتر الأطفال أو الجروح الجسمية، والحفاظ عليها من إهدار كرامتها بالامتهان كالقذف وغير هذا مما يمس كرامة الإنسان وصون ذاته عما يودى بها من المهلكات سواء من قبل ذات الفرد كتعريض نفسه للدمار بالمهلكات المادة والمعنوية أو من قبل الغير التعدى، والمحافظة كذلك على العقل من الضرورات التى حرص الإسلام على تأكيدها فى تشريعه، وحفظ العقل من أن تناله آفة تجعل فاقده مصدر شر وأذى للناس وعبئا على المجتمع، ومن أجل هذا حرم الإسلام وعاقب من يشرب الخمور وغيرها مما يتلف العقل ويخرج الإنسان على إنسانيته .(1/4)
وكما قال الإمام الغزالى ( المستصفى للغزالى ج - 1 ص 288 ) (إن جلب المنفعة ودفع المضرة مقاصد الحق وصلاح الخلق فى تحصيل مقاصدهم لكنا نعنى بالمصحلة المحافظة على مقصود الشرع، ومقصود الشرع من الخلق خمسة وهو أن يحفظ على مقصود الشرع، ومقصود الشرع من الخلق خمسة وهو أن يحفظ عليهم دينهم وأنفسهم وعقلهم ونسلهم ومالهم، فكل ما يتضمن حفظ هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة، وكل ما يفوت هذه الأصول الخمسة فهو مفسدة ودفعها مصلحة) .
ولقد حرص الإسلام على حماية نفس الإنسان وقدمها على أداء الصلاة المكتوبة فى وقتها، بل وعلى صوم يوم رمضان، ومن أمثلة هذا ما أورده العز بن عبد السلام تقرير التقديم واجب على واجب لتفاوت المصلحة فيهما قوله ( قواعد الأحكام على مصالح الآنام ج - 2 ص 63 ) ( تقديم إنقاذ الغرقى على أداء الصوات ثابت، لأن إنقاذ الغرقى المعصومين عند الله أفضل، والجمع بين المصلحتين ممكن، بأن ينقذ الغريق ثم يقضى، ومعلوم أن ما فاته من أداء الصلاة لا يقارب إنقاذ نفس مسلمة من الهلاك، وكذلك لو رأى فى رمضان غريقا لا يمكن تخليصه إلا بالفطر فإنه يفطر وينقذه، وهذا أيضا من باب الجمع بين المصالح، لأن فى النفوس حقا لله وحقا لصاحب النفس، فقدم ذلك على أداء الصوم دون أصله أى دون أصل الصيام لأنه يمكن القضاء .(1/5)
وإذا كان من الضروريات التى حرص الإسلام على المحافظة عليها حفظ النفس وحفظ العقل، فإنه فى سبيل هذا حرم الموبقات والمهلكات المذهبات للعقل والمفسدات له، فإن أحدا من النسا لا يشك فى أن سعادة الإنسان رهينة بحفظ عقله، لأن العقل كالروح من الجسد، به يعرف الخير من الشر والضار من النافع، وبه رفع الله الإنسان ففضله وكرمه على كثير من خلقه وجعله بن مسئولا عن عمله، ولما كان العقل بهذه المثابة فقد حرم الله كل ما يوبقه إو يذهبه حرمة قطعية، ومن أجل هذا حرم تعاطى ما يودى بالنفس وابعلقل من مطعوم أو مشروب، ومن هذا القبيل ما جاء فى شأن أم الموبقات والخبائث الخمر فقد ثبتت حرمتها بالكتاب والسنة والإجماع، ففى القرآن الكريم قوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون .
إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء فى الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون } المائدة 90 ، 91 ، أفادت هاتان الآيتان أن الخمر سنو للشرك بالله ، وأنها رجس والرجس لم يستعمل فى القرآن إلا عنوانا على ما اشتد قبحه وأنها من عمل الشيطان - وهذا كناية عن بلوغها غاية القبح ونهاية الشر .(1/6)
وأمرنا باجتنابها بمعنى البعد عنها، بحيث لا يقربها المسلم فضلا عن أن يلمسها أو يتصل بها بل فضلا عن أن يتناولها، وسجلت الآية الأخيرة آثار الخمر السيئة فى علاقة الناس بعضهم مع بعض، إذ يؤدى إلى قطع الصلات وإلى انتهاك الحرمات وسفك الدماء ، وبعد هذا الضرر الاجتماعى والضرر الروحى إذ تنقطع بها صلة الإنسان بربه، وتنزع من نفسه تذكر عظمة الله عن طريق مراقبته بالصلاة الخاشعة، مما يورث قسوة فى القلب ودنسا فى النفس، وجرت سنة الرسول صلى الله عليه وسلم كذلك مبينة هذا التحريم، ومن هذا قوله ( أخرجه مسلم - من شرح سبل السلام على متن بلوغ المرام 47 ج - 4 ) (كل مسكر خمر وكل خمر حرام) .
تعاطى المخدرات ومدلول لفظ الخمر فى اللغة العربية والشريعة الإسلامية كل ما خامر العمل وحجبه .
كما قال عمر بن الخطاب رضى الله عنه فى الحديث المتفق عليه ( المرجع السابق ) ، دون نظر إلى المادة التى تتخذ منها إذ الأحاديث الشريفة الصحيحة الواردة فى الخمر ناطقة بهذا المعنى ( ج - 8 ص 172 نيل الأوطار الشوكانى ) (كل مسكر حرام) وهكذا فهم أصحاب الرسول رضوان الله عليهم، وقال عمر هذه المقالة المبينة للمقصود بهذا اللفظ فى محضر كبار الصحابة دون نكير من أحد منهم، ومن ثم فإن الإسلام حين حرم الخمر وقرر عقوبة شاربها لم ينظر إلى أنها سائل يشرب من مادة معينة، وإنما نظر إلى الأثر الذى تحدثه فيمن شربها من زوال العقل الذى يؤدى إلى إفساد إنسانية الشارب وسلبه منحة التكريم التى كرمه الله بها، بل ويفسد ما بين الشارب ومجتمعه من صلات المحبة والصفاء، وقد كشف العلم الحديث عن أضرار جسمية أخرى يحدثها شرب هذه المفسدات، حيث يقضى على حيوية أعضاء هامة فى الجسم كالمعدة والكبد .
هذا عدا الأضرار الاقتصادية التى تذهب بالأموال سفها وتبذيرا فيما يضر ولا ينفع .(1/7)
هذا فوق امتهان من يشرب الخمر بذهاب الحشمة والوقار واحترام الأهل والأصدقاء، هذه الأضرار الجسمية والأدبية والاقتصادية التى ظهرت للخمر وعرفها الناس هى مناط تحريمها .
وإذا كانت الشريعة إنما أقامت تحريمها للخمر على دفع المضار وحفظ المصالح فإنها تحرم كل مادة من شأنها أن تحدث هذه الأضرار أو أشد، سواء كانت مشروبا سائلا أو جامدا مأكولا أو مسحوقا أو مشموما .
ومن هنا لزم ثبوت حكم تحريم الخمر لكل مادة ظهرت أو تظهر تعمل عملها، يدل لذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم ( من حديث ابن عمر الذى رواه الجماعة إلا البخارى وابن ماجة من كتاب نيل الأوطار للامام الشوكانى ص 172 ج - 8 ) (كل مسكر حرام) إذ لم يقصد الرسول بهذا إلا أن يقرر الحكم الشرعى وهو أن كل ما يفعل بالإنسان فعل الخمر يأخذ حكمها فى التحريم والتجريم .
وإذا كانت المخدرات كالحشيش والأفيون والكوكايين وغيرها من المواد الطبيعية المخدرة، وكذلك المواد المخلقة المخدرة تحدث آثار الخمر فى الجسم والعقل بل أشد، فإنها تكون محرمة بحرفية النصوص المحرمة للخمر وبروحها وبمعناها، والتى استمدت منها القاعدة الشريعة التى تعتبر من أهم القواعد التشريعية فى الإسلام، وهى دفع المضار وسد ذرائع الفساد .(1/8)
ومع هذا فقد أخرج الإمام أحمد فى مسنده وأبو داود فى سننه ( سنن أبى داود ص 130 ج - 2 ) عن أم سلمة رضى الله عنها قالت (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كل مسكر ومفتر) والمفتر كما قال العلماء كل ما يورث الفتور والخور فى أعضاء الجسم ن وقد نقل اعلماء إجماع فقهاء المذاهب على حرمة تعاطى الحشيش وأمثاله من المخدرات الطبيعية والمخلقة، لنها جميعا تودى بالعقل وتفسده وتضر بالجسم والمال، وتحط من قدر متعاطيها فى المجتمع قال ابن تيمية رحمه الله فى بيان حكم الخمر والمخدرات ( فتاوى ابن تيمية ج - 4 ص 257 وكتاب السياسة الشرعية له ص 131 ) ( والأحاديث فى هذا الباب كثيرة ومستفيضة جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بما أوتيه من جوامع الكلم كل ما غطى العقل وأسكر ولم يفرق بين نوع ونوع ولا تأثير لكونه مأكولا أو مشروبا على أن الخمر قد يصطبغ بها (أى يؤتدم) وهذه الحشيشة قد تداف (أى تذاب) فى الماء وتشرب وكل ذلك حرام، وةإنما لم يتكلم المتقمون فى خصوصها لأنه إنما حدث أكلها من قريب فى أواخر المائة السادسة أو قريبا من ذلك، كما أنه قد حدثت أشربة مسكرة بعد النبى صلى الله عليه وسلم وكلها داخلة فى الكلم الجوامع من الكتاب والسنة) وإذا كان ما أسكر كثيره فقليله حرام، كذلك فإنه يحرم مطلقا بإجماع فقهاء المذاهب الإسلامية ما يفتر ويخدر من الأشياء الضارة بالعقل أو غيره من أعضاء الجسد، وهذا التحريم شامل كل أنواع المخدرات مادام تأثيراها على هذا الوجه القليل منها والكثير .
وقد ذهب بعض الفقهاء إلى وجوب حد متعاطى المخدرات كشارب الخمر تماما، لأنها تفعل فعلها بل وأكثر منها، بل قال ابن تيمية ( فتاوى ابن تيمية ص 257 المجلد الرابع ) (إن فيها (المخدرات) من المفاسد ما ليس فى الخمر، فهى أولى بالتحريم، ومن استحلها وزعم أنها حلال فإنه يستتاب، فإن تاب وإلا قتل مرتدا، لا يصلى عليه ولا يدفن فى مقابر المسلمين) .(1/9)
وتخلص مما تقدم أن المخدرات بكافة أنواعها وأسمائها طبيعة أو مخلقة مسكرة، وأن كل مسكر من أى مادة حرام، وهذا الحكم مستفاد نصا من القرآن الكريم ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم حسبما تقدم بيانه وبذلك يحرم تعاطيها بأى وجه من ومجوه التعاطى من أكل أو شرب أو شم أو حقن لأنها مفسدة، ودرء المفاسد من المقاصد الضروروية للشريعة حماية للعقل والنفس، ولأن الشرع الإسلامى اعتنى بالمنهيات .
وفى هذا يقول الرسول صلوات الله وسلامه عليه ( الأشباه والنظار لابن نجيم المصرى الحنفى فى القاعدة الخامسة ) (إذا أمرتكم بشىء فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شىء فاجتنبوه) وفى حديث آخر يقول ( الأشباه والنظار لابن نجيم المصرى الحنفى فى القاعدة الخامسة ) ( لترك ذرة مما نهى الله عنه أفضل من عبادة الثقلين ) ومن هنا قال الفقهاء إن يجوز ترك الواجب دفعا للمشقة، ولا تسامع فى الإقدام على المنهيات خصوصا الكبائر إلا عند الاضطرار على ما يأتى بيانه .
إنتاج المخدرات وزراعتها وتهريبها والاتجار فيها والتعامل فيها على أى وجه كان ثبت مما تقدم أن المخدرات بكافة أنواعها وأسمائها محرمة قطعا بدخولهاد فى اسم الخمر والمسكر .(1/10)
فهل إنتاجها بكافة وسائله والاتجار فيها وتهريبها والتعامل فيها كذلك يكون محرما يتضح حكم هذا إذا علمنا أن الشريعة الإسلامية إذا حرمت شيئا على المسلم حرمت عليه فعل الوسائل المفضية إليه، وهذه القاعدة مستفادة من نصوص القرآن الكريم والسنة والنبوية الشريفة، ففى القرآن تحريم الميتة والدم والخمر والخنزير، وفى بيع هذه المحرمات يقول الرسول صلوات الله وسلامه عليه فيما رواه الجماعة عن جابر رضى الله عنه ( نيل الأوطار للشوكانى ج - 5 ص 141 وسبل السلام للصنعانى ج - 2 ص 316 ) (إن الله حرم بيع الخمر والميته والخنزير والأصنام) وحين حرم الله الزنا حرم دواعيه من النظر واللمس والخلوة بالمرأة الأجنبية فى مكان خاص لأن كل هذا وسيلة إلى الوقوع فى المحرم، وهو المخالطة غير المشروعة وفى آيات سورة النور الخاصة بالاستئذان قبل دخول بيوت الغير، والمر للرجال وللنساء بغض البصر عن النظر لغير المحارم، وإخفاء زينة النساء وستر أجسدهن، كل ذلك بعدا بالمسلمين عن الوقوع فيما لا يحل وحماية لحرمة المنازل والمساكن .
ومن هنا تكون تلك النصوص دليلا صحيحا مستقيما على أن تحريم الإسلام لأمر تحريم لجميع وسائله .
ومع هذا فقد أفصح الرسول عن هذا الحكم فى الحديث الذى رواه أبو داود فى سننه كما رواه غيره عن ابن عباس رضى الله عنه (إن من حبس العنب أيام القطاف حتى يبيعه ممن يتخذه خمرا فقد يقحم فى النار) وقوله صلى الله عليه وسلم المروى عن أربعة من أصحابه منهم ابن عمر ( رواه أبو داود فى سننه ج - 2 ص 128 فى كتاب الأشربة وابن ماجة فى سننه ) ( لعن الله الخمر وشاربها وساقيها وبائعها ومبتاعها وعاصرها ومعتصرها وآكل ثمنها وحاملها والمحمولة إليه ) صريح كذلك فى تحريم كل وسيلة مفضية إلى شرب الخمر .
ومن هنا تكون كل الوسائل المؤدية إلى ترويج المخدرات محرمة سواء كانت زراعة أو إنتاجا أو تهريبا أو اتجارا .(1/11)
فالتعامل فيها على أى وجه مندرج قطعا فى المحرمات باعتباره وسيلة إلى المحرم ، بل إن الحديثين الشريفين سالفى الذكر نصان قاطعان فى تحريم هذه الوسائل المؤدية إلى إشاعة هذا المنكر بين الناس، باعتبار أن اسم الخمر بالمعنى السالف (ما خامر العقل كما فسرها سيدنا عمر بن الخطاب) شامل للمخدرات بكافة أسمائها وأنواعها، ولأن فى هذه الوسائل إعانة على المعصية، والله سبحانه نهى عن التعاون فى المعاصى كقاعدة عامة فى قوله سبحانه { وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان } المائدة 2 ، وفى إنتاج المخدرات والاتجار فيها وتهريبها وزراعة أشجارها إعانة على تعاطيها، والرضا بالمعاصى معصية محرمة شرعا قطعا، سيما وأن هذه الوسائل مؤداها ومقصودها تهيئة هذه السموم المخدرة للتداول والانتشار بين الناس، فهى حرام حرمة ذات المخدرات، لأن الأمور بمقاصدها .
من يؤدى الصلاة وهو تحت تأثير المخدر وصف ابن تيمية المخدرات وأثرها فى متعاطيها فقال ( السياسة الشرعية لابن تيمية ص 128 فى حد الشرب ) (وهى أخبث من الخمر من جهة أنها تفسد العقل والمزاج حتى يصير فى الرجل تخنث ودياثة الديوث الذى لا يغار على أهله وغير ذلك من الفساد) ولامراء فى أن المخدرات تورث الفتور والخدر فى الأطراف .(1/12)
وقد قال ( ص 232 ج - 4 فى باب الأشربة والمخدرات ) ابن حجر المكى فى فتاويه فى شرح حديث أم سلمة السالف (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كل مسكر ومفتر) فيه دليل على تحريم الحشيشس بخصوصه، فإنها تسكر وتخدر وتفتر، ولذلك يكثر النوم لمتعاطيها، ومن أجل تأثير المخدرات وإصابتها عقل متعاطيها بالفتور والخدر فإنه لا يحسن المحافظة على وصوئه، فتنفلت بطنه دون أن يدرى أو يتذكر، ولهذا أجمع فقهاء المذاهب على أن من نواقض الوضوء أن يغيب عقل المتوضىء بجنون أو صرع إو إغماء، وبتعاطى ما يستتبع غيبة العقل من خمر أو حشيش أو أفيون أو غير هذا من المخدرات المغيبات، ومتى كان الشخص مخدرا بتعاطى أى نوع من المخدرات غاب عقله وانعدم تحكمه وسيطرته على أعضاء جسمه وفقد ذاركته، فلم يعد يدرى شيئا وانتقض وضوؤه وبطلت صلاته وهو بهذه الحال، ولا فرق فى هذا بين خدر وسكر بخمر سائل أو شموم أو مأكول ذإن كل ذلك خمر ومسكر، ولقد أمر الله سبحانه المسلمين بألا يقربوا الصلاة حال سكرهم فقال { يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون } النساء 43 ، وهذا غاية النهى عن قربان الصلاة فى حال السكر حتى يزول أثره وهو دليل قاطع على بطلان صلاة السركان بمسكر أو بمقتر، لأنه فى كل أحوال انتقض وضوؤه وانتقص عقله، أو زال بعد إذ فترت أطرافه وتراخت أعضاؤه، واختلط على السكران أو المتعاطى للمخدر ما يقول وما يقرأ من القرآن الكريم .
ولذا قال الله فى نهيه عن الصلاة حال السكر (حتى تعلموا ما تقولون) أى رزوال حال السكر والفتور والخدر .
الربح الناتج عن التعامل فى المواد المخدرة من الأصول الرعية فى تحريم بعض الأموال قول الله تعالى { يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل } النساء 29 ، أى لا يحل لأحدكم أخذ وتناول مال غيره بوجه باطل، كما لا يحل كسب المال من طريق باطل أى محرم .(1/13)
وأخذ المال أو كسبه بالباطل على وجهين الأول أخذه على وجه غير مشروع كالسرقة والغصب والخيانة، والآخر أخذه وكسبه بطرق حضرها الشرع كالقمار أو العقود المحرمة كما فى الربا، وبيع ما حرم الله الانتفاع به كالميتة والدم والخمر المتناولة للمخدرات بوصفها العنوانى على ما سلف بيانه فإن هذا كله حرام .
وترتيبا على هذا يكون الرحب والكسب من أى عمل محرم حرام .
وبهذا جاءت الأحاديث الكثيرة عن الرسول صلى الله عليه وسلم، منها قوله ( إن الله حرم الخمر وثمنها وحرم الميت وثمنها، وحرم الخنزير وثمنه) .
( رواه أبو داود فى سننه فى باب الأشربة ج - 2 ) وفى هذا أيضا قال العلامة ابن القيم ( زاد المعاد لابن القيم ج - 4 ص 474 ) ( قال جمهور الفقهاء إذا بيع العنب لمن يعصره خمرا حرم أكل ثمنه، بخلاف ما إذا بيع يأكله، وكذلك السلاح إذا بيع لمن يقاتل به مسلما حرم أكل ثمنه، وإذا بيع لمن يغزو فى سبيل الله فثمنه من الطيبات) وإذا كانت الأعيان التى يحل الانتفاع بها إذا بيعت لمن يستعملها فى معصية الله .
رأى جمهور الفقهاء - وهو الحق - تخريم ثمنها، بدلالة ما ذكرنا من الأدلة وغيرها، وعليه كان ثمن العين التى لا يحل الانتفاع بها كالمخدرات حراما من باب أولى .
وبهذه النصوص نقطع بأن الاتجار فى المخدرات محرم وبيعها محرم وثمنها حرام وربحها حرام، لا يحل للمسلم تناوله، يدل لذلك قطعا أن الرسول صلى الله عليه وسلم عندما نزلت آية تحريم الخمر { إنما الخمر والميسر } المائدة 90 ، أمر أصحابه بإراقة ما عندهم من خمور ومنعهم من بيعها حتى لغير المسلمين بل إن أحد أصحابه قال إن عندى خمرا لأيتام فقال له صلى الله عليه وسلم بيع أقرها فلو جاز بيعها أو حل الانتفاع بثمنها لأجاز لهذا الصحابى بيع الخمر التى يملكها الأيتام لإنفاق ثمنها عليهم .(1/14)
التصدق الأموال الناتجة عن التعامل فى المواد المخدرة فى القرآن الكريم قول الله تعالى { يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم } البقرة 267 ، وفى الحديث الشريف الذى رواه مسلم عن أبى هريرة رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (إن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيبا، إن الله تعالى أمر المؤمنين بما أمر به المرسلمين فقال { يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا } المؤمنون 51 ، وقال { يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون } البقرة 172 ، ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يده إلى المساء يارب يارب ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذاى بالحرام فأنى يستجبا له) وفى الحديث الذى رواه الإمام أحمد فى مسنده عن ابن مسعود رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (والذى نفسى بيده لا يكسب عبد مالا من حرام فينفق منه فيبارك له فيه، ولا يتصدق فيقبل منه، ولا يتركه خلف ظهره إلا كان زاده فى النار، إن الله لا يمحو السيىء بالسيىء، ولكن يمحو السيىء بالحسن إن الخبيث لا يمحو الخبيث) وفى الحديث المروى عن أبى هريرة رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (من كسب مالا حرامات فتصدق به لم يكن له أ جره، وكان أجره (يعنى إثمه وعقوبته) عليه وفى حديث آخر أنه قال (من أصاب مالا من مأثم فوصل بقه رحمه أو تصدق به أو أنفقه فى سبيل الله جمع ذلك جمعا ثم قذف به فى نار جهنم) والحديث الذى رواه الطبرانى فى الأوسط عن أبى هريرة رضى الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إذا خرج الحاج حاجة بنفقة طيبة ووضع رجله فى الغرز (ركاب فى الجلد) فنادى لبيك اللهم لبيك نادى مناد من السماء لبيك وسعديك زادك حلال وراحلتك حلال وحجك مبرور غير مأزور، وإذا خرج بالنفقة الخبيثة (أى المال الحرام) فوضع رجله فى الغرز، فنادى لبيك، ناداه مناد من السماء لا لبيك ولا(1/15)
سعديك، زادك حرام وحجك مأزور غير مبرور) .
فهذه الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة قاطعة فى أنه لقبول الأعمال الصالحة عند الله من صدقة وحج وعمره وبناء المساجد وغير بهذا من أنواع القربات لابد وأن يكون ما ينفق فيها حلالا خالصا لا شبهة فيه، وإذ كانت الأدلة المتقدمة قد أثبتت أن ثمن المحرمات وكسوبها حرام فلا يحل أكلها ولا التصدق بها ولا الحج منها ولا إنفاقها فى أى نوع من أنواع البر، لأنه الله طيب لا يقبل إلا الطيب، بمعنى أن منفق المال الحرام فى أى وجه من وجوه البر لا ثواب له فيما أنفق، لأن الثواب جزاء القبول عند الله، والقبول مشروط بأن يكون المال طيبا كما جاء فى تلك النصوص .
تعاطى المخدرات للعلاج الإسلام حرم مطعومات ومشروبات صونا لنفس الإنسان وعقله ورفع هذا التحريم فى حالة الضرورة فقال (1) { فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه } البقرة 173 ، وقال { فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن ربك غفور رحيم } الأنعام 145 ، وقال { وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه } الأنعام 119 ، ولقد استنبط الفقهاء من هذه الآيات ومن أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فى الضرورات تبيح المحظورات، ومن ثم أجازوا أكل الميتة عند المخمصة وإساغة اللقمة بالخمر والتلفظ بكلمة الكفر عند الإكراه عليها قال تعالى { إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان } النحل 106 ، وقالوا أيضا إن الضرورة تقدر بقدرها وما جاز لعذر بطل بزواله والضرر لا يزال بضرر .
وقد اختلف الفقهاء فى جواز التداوى بالمحرم، والصحيح من آرائهم هو ما يلتقى مع قول الله فى الآيات البينات السالفات، بملاحظة أن إباحة المحرم للضرورة مقصورة على القدر الذى يزول به الضرر وتعود به الصحة ويتم به العلاج، وللتثبت من توافر هذه الضوابط اشترط الفقهاء الذين اباحوا التداوى بالمرحم شرطين .(1/16)
أحدهما أن يتعين التداوى بالمحرم بمعرفة طبيب مسلم خبير بمهنة الطب معروف بالصدق والأمانة والتدين، والآخر ألا يوجد دواء من غير المحرم ليكون، وألا يتجاوز به قدر الضرورة .
وقد أفتى ابن حجر المكى الشفاعى ( نقل هذا ابن عابدين فى حاشيته رد المحتار ج - 5 ص 456 فى آخر كتاب الحظر والاباحة ) حين سئل عمن ابتلى يأكل الأفيون والحشيش ونحوهما وصار حاله بحيث إذا لم يتناوله هلك .
أفتى بأنه إذا علم أنه يهلك فطعا حل له بل وجب لاضطراره لإبقاء روحه كالميتة للمضطر، ويجب عليه التدرج فى تقليل الكمية التى يتناولها شيئا فشيئا حتى يزول اعتياده وهذا - كما تقدم - إذا ثبت بقول الأطباء الثقات دينا ومهنة أن معتاد تعاطى المخدرات يهلك بترك تعاطيها فجأة وكلية .
وترتيبا على هذا فإذا ثبت أن ضررا ماحقا محققا وقوعه بتعاطى المخدرات سواء كانت طبيعية أو مخلقة إذا انقطع فجأة عن تعاطيها جاز مداواته بإشراف طبيب ثقة متدين حتى يتخلص من اعتياده عليها كما أشار العلامة ابن حجر فى فتواه المشار إليها ، لأن ذلك ضرورة ولا إثم فى الضرورات متى روعيت شروطها المنوه بها، إعمالا لنصوص القرآن الكريم فى آيات الاضطرار سالفة الإشارة .
هذا وإنه مع التقدم العلمى فى كيمياء الدواء لم تعد حاجة ملحة للتداوى بالمواد المخدرة المحرمة شرعا لوجود البديل الكيمائى المباح .(1/17)
التواجد فى مكان عد لتعاطى المخدرات وكان يجرى فيه تعاطيها كرم الله الإنسان ونأى به عن مواطن الريب والمهانة، وامتدح عباده الذين تجنبوا مجالس اللهو واللغو فقال سبحانه { والذين هم عن اللغو معرضون } المؤمنون 3 ، وقال { والذين لا يشهدون الزور وإذا مروا باللغو مروا كراما } الفرقان 72 ، وقال { وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه } القصص 55 ، وفى الحديث عن الرسول الأكرم صلوات الله وسلامه عليه (استماع الملاهى معصية والجلوس عليها فسق( وروى أبو داود فى سننه عن ابن عمر رضى الله عنه قوله (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجلوس على مائدة يشرب عليها الخمر ) والمستفاد من هذه النصوص أنه يحرم مجالسة مقترفى المعاصى أيا كان نوعها، لأن فى مجالستهم إهدار لحرمات الله، ولأن من يجلس مع العصاة الذين يرتكبون المنكرات يتخلق بأخلاقهم السيئة، ويعتاد ما يفعلون من مآثم كشرب المسكرات والمخدرات كما يجرى على لسانه ما يتناقلونه من ساقط القول، ومن أجل البعد بالمسلم عن الدنايا وعن ارتكاب الخطايا كان إرشاد الرسول صلى الله عليه وسلم للمسلمين فى اختيار المجالس والجليس فى قوله ( من كتاب الترغيب والترهيب ص 49 و 50 ج - 4 ) (إنما مثل الجليس الصالح والجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك إما أن يحذيك ( يحذيك يعنى يعطيك ) وإما أن تبتاع منه وإما أن تجد منه ريحا طيبة، ونافخ الكيير إما أن يحرق ثيابك وإما أن تجد منه ريحا خبيثة) رواه البخارى ومسلم .
فالجليس الصالح يهديك ويرشدك ويدلك على الخير وترى منه المحامد والمحاسن وكله منافع وثمرات .
أما الجليس الشرير فقد شبهه الرسول صلوات الله وسلامه عليه بنافخ الكير يضر ويؤذى ويعدى بالأخلاق الرديئة ويجلب السيرة المذمومة ، وهو باعث الفساد والإضلال ومحرك كل فتنة وموقد نار العداوة والخصام .(1/18)
وفى هذا الحديث الشريف دعوة إلى مجالسة الصالحين وأهل الخير والمروءة ومكارم الأخلاق والورع والعلم، وفيه النهى عن مجالسة أهل الشر والبدع والفجر الذين يجاهرون بارتكاب المنكرات وشرب المسكرات والمخدرات، لأن القرين ينسب إلى قرينه وجليسه ويرتفع به وينحدر وتهبط كرامته بدناءة .
من يجالسهم، ولقد تحدث القرآن الكريم عن قرناء السوء وحذر منهم ومن مجالستهم وأخبر أنهم سوء وندامة فى الدنيا والآخرة قال تعالى { ومن يكن الشيطان له قرينا فساء قرينا } النساء 38 ، وإذا كان الجليس يقتدى ويهتدى بجليسه وبمجلسه فإن فى جلوس الإنسان النقى البعيد عن المآثم والشبهات فى مجالس الإفك والشرب وتعاطى المخدرات يؤذيه ويرديه فى الدنيا بالمهانة وانتزاع المهابة عند عارفيه من أقارب وأصدقاء، لأن المخدرات كما نقل العلامة ابن حجر المكى ( ج - 4 ص 234 ) فى فتاواه الكبرى فيها مضار دينية ودنيوية، فهى تورث الفكرة وتعرض البدن لحدوث الأمراض وتورث النسيان وتصدع الرأس وتورث موت الفجاءة واختلال العقل وفساده والسل والاستسقاء وفساد الفكر وإفشاء السر وذهاب الحياء وكثرة المراء وانعدام المروءة وكشف العورة وعدم الغيرة وإتلاف الكسب ومجالسة إبليس وترك الصلاة والوقوع فى المحرمات واحتراق الدم وصفرة الأسنان وثقب الكبد وغشاء العين والكسل والفشل وتعيد العزيز ذليلا والصحيح عليلا إن أكل لا يشبع وإن أعطى لا يقنع .(1/19)
ومن هنا كان على الإنسان أن ينأى عن مجالس الشرب المحرم خمرا سائلا أو مخدرات مطعومة أو مشروبة أو مشمومة، فإنها مجالس الفسق والفساد وإضاعة الصحة والمال، وعاقبتها الندم فى الدنيا والآخر قال تعالى { ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين } الزخرف 36 ، بل إن مصاحبة هؤلاء المارقين على الدين الذين يتعاطون هذه المهلكات إثم كبير لأن الله قد غضب عليهم وعلى مجالسهم وفى هذا يقول سبحانه { يا أيها الذين آمنوا لا تتولوا قوما غضب الله عليهم } الممتحنة 13 ، وفى مصاحبة هؤلاء ومجالستهم معاداة المولى سبحانه وتحد لأوامره، فقد نهى عن مودة العصاة { لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله } المجادلة 22 ، وهؤلاء قد استغرقوا فى مجالسهم المحرمة المليئة بالآثام، فالجلوس معهم مشاركة فيما يرتكبون، ومودة معهم مع أنهم غير جديرين بهذه المودة لعصيانهم أوامر الله ورسوله واستباحتهم ما حرم الله ورسوله، أولئك حزب الشيطان من جلس معهم فقد رضى بمنكرهم وأقر فعلهم، والمؤمن الحق مأمور بإزالة الباطل متى استطاع وبالوسيلة المشروعة، فإن لم يستطع فعليه بالابتعاد عن مجالس المنكرات ففى الحديث الشريف فى صحيح مسلم عن أبى سعيد الخدرى رضى الله عنه قال ( التغريب والترهيب للمنذرى ج - 3 ص 223 ) سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان) .(1/20)
ففى الحديث النبوى دعوة إلى مكافحة المنكرات ومنها هذه السموم (المخدرات) بعد أن بان ضررها وشاع سوء آثارها وكانت عاقبة أمرها خسرا للإنسان وللمال بل وفى المآل، فمن كان له سلطة إزالة هذه المخذرات والقضاء على أوكارها وتجارها كان لزاما عليه بتكليف من الله ورسوله أن يجد ويجتهد فى مطاردة هذه الآفة، ومن لم يكن من أصحاب السلطة فإن عليه واجب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، فيبين للناس آثارها المدمرة لنفس الإنسان وماله، ومن الأمر بالمعروف إبلاغ السلطات بأوكار تجارها ومتعاطيها، فالتستر فى الجريمة إثم وجريمة فى حق الأمة وإشاعة للفحشاء فيها، وجميع الأفراد مطالبون بالمر بالمعروف وبالإرشاد عن مرتكبى هذه المنكرات ومروجى المخدرات، إذا هى النصيحة التى أمر بها الرسول صلوات الله وسلامه عليه فى الحديث الذى رواه البخارى ومسلم عن تميم الدارى ( الترغيب والترهيب للمنذرى ج - 3 ص 228 ) ( الدين النصيحة قاله له ثلاثا قال قلنا لمن يا رسول الله .
قال الله ولروسوله ولأئمة المسملين وعامتهم ) وفى الحديث ( المرجع السابق ص 229 ) الذى رواه النسائى عن أبى بكر الصديق رضى الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (إن القوم إذا رأوا المنكر فلم يغيروه عمهم الله بعقاب) .
والنصيحة لأئمة المسلمين أى للحكام بالإرشاد ومعاونتهم على منع المنكرات والآثام، لأنهم القادورن على تغييرها بالقوة، فلا تأخذها رحمة فى دين الله، إذ التستر على هذه الآثار إعانة لمروجيها على الاستمرار فى هذه المهمة الخبيثة .
وبعد فقد أوضحنا فيما تقدم إجماع فقهاء المذاهب الإسلامية على تحريم إنتاج المخدرات وزراعتها وتجارتها وترويجها وتعاطيها طبيعية أومخلقة، وعلى تجريم أى إنسان يقدم على شىء من ذلك بنصوص صريحة فى القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة ، وأنه لا ثواب ولا مثوبة لما ينفق من ربحها فإن الله طيب لا يقبل إلا طيبا .(1/21)
أما الكسب الحرام فإنه مردود على صاحبه، ويعذب به الآخرة وساءت موصيرا .
وبينا حكم مداواة المدنين بإشراف الأطباء المتقينين لمهنتهم وبقدر الضرورة حتى يزول هذا الإدمان، وأنه لا يحل التداوى بالمحرمات إلا عند تعينها دزاء وعدم وجود دواء مباح سواها، كما أوضحنا أن المجالس التى تعد لتعاطى هذه المخدرات مجالس فسق إثم، الجلوس فيها محرم على كل ذى مروءة يحافظ على سمعته وكرامته بين الناس وعند الله، وأن على الكافة إرشاد الشرطة المختصة لمكافحة تجارة هذه السموم القاتلة، والقضاء على أوكارها وأن هذا الإرشاد هو ما سماه الرسول الأكرم بالنصيحة لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم .
وبعد فإن الله الذى حرم هذه الموبقات المخدرات المهلكات للأنفس والأموال حرم أم الخبائث (الخمر) وقد آن لنا أن نخشع لذكر الله تعالى وما أنزل فى قرآنه وعلى لسان نبيه صلى الله عليه وسلم قال سبحانه { إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون } المائدة 90 ، آن لنا أن تجعل هذا الحكم نافذا فى مجتمعنا حماية لأولادنا ونسائنا أولا وأخيرا طاعة لربنا، وفق الله الجميع للتمسك بدينه والعمل بشريعته وهو حسبنا ونعم الوكيل { يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم } الأنفال 24 ، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب .
***********
يحرم العربون عند عدم اتمام الصفقة
دار الإفتاء المصرية اسم المفتى
16122 رقم الفتوى
30/05/2004 تاريخ الفتوى على الموقع
نص السؤال
بالطلب المقيد وقد جاء به ما خلاصته تعاقد أحد الأشخاص مع مالك لأرض، على شراء قطعة أرض من ملكه للمبانى ت ودفع عربونا ت مبلغا من النقود أثناء التوقيع على عقد الوعد بالبيع .(1/22)
ونص فى العقد على دفع باقى الثمن على اقساط ثلاثة يحل أولها فى آخر شهر يناير شنة 1980 والثانى فى آخر فبراير سنة 1980 والثالث فى آخر مارس سنة 1980، واتفقا على أن يطبق على مبلغ العربون قواعد القانون، إذا لم يقم المشترى بستديد الأقساط فى مواعيدها .
ولما لم يف المشترى بالأقساط .
أنذره البائع بفسخ الوعد بالبيع فحضر وتسلم القسط الأول الذى كان قد سدده المشترى، ورأى الحاضرون أنه غير محق لى استرداد العربون لإخلاله بشروط العقد وقد انصرف المشترى معترفا بخطئه .
والسؤال ما هو حكم الإسلام فى العربون وهل هو من حق البائع شرعا وهل له أن يتبرع به فى وجه من وجوه البر مثلا إذا لم يكن من حقه .
نص الفتوى
الحمد لله
روى مالك فى الموطأ عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع العربون) .
ورواه أيضا أحمد والنسائى وأبو داود، ورواه الدار قطنى، ورواه البيهقى موصولا وقد فسر الإمام مالك العربون قال ذلك فيما نعلم أن يشترى الرجل العبد أو يكترى الدابة ثم يقول أعطيك دينارا، على أنى إن تركت السلعة أن الكراء فما أعطيتك لك .
وهذا الحديث قد ورد من طرق يقوى بعضها بعضا، وهو يدل على تحريم البيع مع العربون، لما فيه من الشرط الفاسد والغرر وأكل أموال الناس بالباطل، وقد نص على بطلان البيع مع العربون على تحريمه فقهاء مذاهب الأئمة أبى حنيفة ومالك والشافعى .
وروى عن الإمام أحمد إجازته .
قال الشوكانى فى بيان علة تحريم العربون، إن البيع مع العربون اشتمل على رشطين فاسدين .
أحدهما شرط كون ما دفعه إليه يكون مجانا بلا مقابل إن لم يتم العقد .(1/23)
والشرط الآخر الرد على البائع إذا لم يقع منه الرضا بالبيع، وأضاف الشوكانى أنه إذا دار الأمر بين الحظر والإباحة ترجح الحظر ( نيل الأوطار ج - 5 ص 153 والروضة الندية شرح الدرر البهية ج - 2 ص 98 والمجموع للنووى شرح المهذب للشيرازى ج - 9 ص 334 و 335 ) لما كان ذلك ففى واقعة السؤال يكون استيلاء البائع على العربون غير جائز شرعا لنهى النبى صلى الله عليه وسلم عن بيع العربون .
وإذ كان ذلك فما طريق التصرف فى مبلغ العربون الذى ظهر أنه من المحرمات ذهب جمهور الفقهاء إلى أن المسلم إذا أخذ مالا حراما، كان عليه أن يصرفه إلى مالكه إن كان معروفا لديه وعلى قيد الحياة، أو إلى وارثه إن كان قد مات، وإن كان غائبا كان عليه انتظار حضوره وغيصاله إليه مع زوائده ومنافعه، أما إذ كان هذا المال الحرام، لمالك غير معين، ووقع اليأس من التعرف على ذاته، ولا يدرى أمات عن وارث أم لا كان على جائز هذا المال الحرام فى هذه الحال التصدق به، كإنفاقه فى بناء المساجد والقناطر والمستشفيات، وذهب بعض الفقهاء إلى عدم جواز التصدق بالمال الحرام، لأن الله طيب لا يقبل إلا طيبا .
وقد استدل جمهرة الفقهاء على ما قوالوا من التصدق بالمال الحرام، إذا لم يوجد مالكه أو وارثه بخبر الشاة المصلية ( الدر المختار وحاشية رد المحتار لابن عابدين ج - 3 ص 498، 499 فى كتاب اللقطة - واحياء علوم الدين للغزالى فى كتاب الحلال والحرام .
خرج العرقى الحديث عن أحمد بسند جيد فى هامشه ) التى أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتصدق بها بعد أن قدمت إليه، فكلمته بأنها حرام، إذ قال صلى الله عليه وسلم (أطعموها الأسارى) .
ولما قامر أبو بكر ( المرجع السابق وتخريج العراقى بهامشه ) رضى الله عنه المشركين بعد نزول قول الله سبحانه { الم .
غلبت الروم } الروم 1 - 2 ، وكان هذا بإذن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحقق الله صدقه، وجاء أبو بكر بما قامر المشركين به .(1/24)
قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم (هذا سحت فتصدق به) وكان قد نزل تحريم القمار بعد إذن الرسول عليه والصلاة والسلام لأبى بكر فى المخاطرة مع الكفار .
وكذلك أثر عن ابن مسعود رضى الله عنه أنه اشترى جارية، فلم يظفر بمالكها ليعطيه ثمنها، فطلبه كثيرا فلم يظفر به، فتصدق بثمنها وقال اللهم هذا عنه إن رضى وإلا فالأجر لى .
واستدلوا أيضا بالقياس ( المرجع السابق وتخريج العراقى بهامشه ) فقالوا إن هذا المال مردد بين أن يضيع وبين أن يصرف إلى خير، إذ وقع اليأس من مالكه، وبالضرورة يعلم أن صرفه إلى خير أولى به من رميه، لأن رميه لا يأتى بفائدة، أما إعطاؤه للفقير أو لجهة خيرية ففيه الفائدة بالانتفاع به، وفيه انتفاع مالكه بالأجر، ولو كان بغير اختياره، كما يدل على هذا الخبر الصحيح (أن للزارع والغارس أجرا فى كل ما يصيبه الناس والطيور من ثماره وزرعه) ولا شك أن ما يأكل الطير من الزرع بغير اختيار الزارع وقد أثبت له الرسول صلى الله عليه وسلم الآجر .
وقد رد الإمام الغزالى على القائلين بعدم جواز التصدق بالمال الحرام بقوله أما قول القائل لا نتصدق إلا بالطيب، فذلك إذا طلبنا الأجر لأنفسنا، ونحن الآن نطلب الخلاص من المظلمة لا الأجر، وترددنا بين التضييع وبين التصدق، ورجحنا التصدق على التضييع .(1/25)
وقول القائل لا نرضى لغيرنا ما لا نرضاه لأنفسنا، فهو كذلك ولكنه علينا حرام لاستغنائنا عنه، وللفير حلال، إذ أحله دليل الشرع، وإذا اقتضت المصلحة التحليل وجب التحليل ( إحياء علوم الدين فى الموضع السابق فى النظر الثانى فى المصرف ص 882 إلى 890 ج - 5 طبعة لجنة نشر الثقافة الإسلامية بالقاهرة 1356 هجرية ) لما كان ذلك ففى واقعة السؤال يكون مبلغ العربون الذى دفعه المشترى إلى البائع ولم تتم الصفقة محرما على البائع، ويتعين عليه رده إلى المشترى إذا كان معروفا لديه وعلى قيد الحياة، وإلى ورثته إن كان قد توفى، فإن لم يعلم بذاته ولا بورثته، فعلى البائع التصدق بمبلغ العربون فى المصالح العامة للمسلمين كبناء المساجد أو المستشفيات، لأن عليه التخلص مما حازه من مال محرم، ولا يحل له الانتفاع به لنفسه، لأن كل مسلم مسئول عن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه .
كما جاء فى الحديث الشريف ( صحيح الترمذى ج - 9 ص 252 ) والله سبحانه وتعالى أعلم .
***********
التصدق بالفوائد المحرمة غير جائز
دار الإفتاء المصرية اسم المفتى
16135 رقم الفتوى
14/06/2004 تاريخ الفتوى على الموقع
نص السؤال
لى مبلغ من النقود أودعته فى بنك بدون فائدة لأنى أعتقد أن الفائدة حرام مهما كانت قليلة وأعلم أن اللّه تعالى يمحق الربا .
وقد من اللّه على بحب التصدق على الفقراء والمساكين . وقد أشار على بعض الناس بأنى آخذ الفائدة من البنك وأتصدق بها كلها على الفقراء ولا حرمة فى ذلك .
فأرجو التكرم بإفتائى عما إذا كان أخذ الفائدة من البنك لمحض التصدق بها فيه إثم وحرمة أم لا .
وهل وضعها فى جيبى أو فى ببتى إلى أن يتم توزيعها على الفقراء فيه إثم وحرمة أم لا .
أرجو الإفادة .
نص الفتوى
الحمد لله
اطلعنا على هذا السؤال .(1/26)
ونفيد أن أخذ فوائد على الأموال المودعة بالبنوك من قبيل أخذ الربا المحرم شرعا، ولا يبيح أخذه قصد التصدق به لإطلاق الآيات والأحاديث على تحريم الربا .
ولا نعلم خلافا بين علماء المسلمين فى أن الربا محرم شرعا على وجه كان، هذا ولا يقبل اللّه تعالى هذه الصدقة بل يأثم صاحبها كما تدل على ذلك أحاديث كثيرة عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم .
فقد جاء فى كتاب جامع العلوم والحكم لابن رجب مانصه (وأما الصدقة بالمال الحرام فغير مقبولة .
كما فى صحيح مسلم عن ابن عمر رضى اللّه عنهما عن النبى صلى اللّه عليه وسلم .
لا يقبل اللّه صلاة بغير طهور ولا صدقة من غلول وفى الصحيحين عن أبى هريرة رضى اللّه عنه عن النبى صلى اللّه عليه وسلم قال ما تصدق عبد بصدقة من مال طيب - ولا يقبل اللّه إلا الطيب - إلا أخذها الرحمن بيمينه إلى آخر الحديث .
وفى مسند الإمام احمد رحمه اللّه عن ابن مسعود رضى اللّه عنه عن النبى صلى اللّه عليه وسلم قال لا يكتسب عبد مالا من حرام فينفق منه فيبارك فيه ولا يتصدق به فيتقبل منه ولا يتركه خلف ظهره إلا كان زاده إلى النار .
إن اللّه لا يمحو السيىء بالسيىء ولكن يمحو السيىء بالحسن إن الخبيث لا يمحو الخبيث ويروى من حديث رواح عن ابن حجيرة عن أبى هريرة رضى اللّه عنه عن النبى صلى اللّه عليه وسلم قال ما كسب مالا حراما فتصدق به لم يكن له فيه وكان إصره (إثمه وعقوبته ) عليه .(1/27)
أخرجه ابن حيان فى صحيحه ورواه بعضهم موقوفا على أبى هريرة وفى مراسيل القاسم ابن مخيمرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم (من أصاب مالا من مأثم فوصل به رحمه وتصدق به (لعلها أو تصدق به) أو أنفقه فى سبيل اللّه جمع ذلك جميعا ثم قذف به فى نار جهنم ) وروى عن أبى الدرداء ويزيد بن ميسرة أنهما جعلا مثل من أصاب مالا من غير حله فتصدق به مثل من أخذ مال يتيم وكسا به أرملة وسئل ابن عباس رضى اللّه عنهما عمن كان على عمل فكان يظلم ويأخذ الحرام ثم تاب فهو يحج ويعتق، ويتصدق منه فقال إن ا لخبيث لا يكفر الخبيث وكذا قال ابن مسعود رضى اللّه عنه إن الخبيث لا يكفر الخبيث ولكن الطيب يكفر الخبيث .
وقال الحسن أيها المتصدق على المسكين ترحمه .
ارحم من قد ظلمت . وبما ذكرنا يعلم الجواب عن السؤال .
واللّه سبحانه وتعالى أعلم .
***********
تأجير الشىء لفعل الحرام
دار الإفتاء المصرية اسم المفتى
19602 رقم الفتوى
14/07/2004 تاريخ الفتوى على الموقع
نص السؤال
استأجر منى بعض الغرباء بيتا فشربوا فيه الخمر واستأجر تاجر منا دكانا فباع فيه الخمر ، فهل الأجرة حلال أم حرام ؟ .
نص الفتوى(1/28)
لا يخلو حال المؤجر من أمرين ، إما أن يكون عالما بارتكاب المستأجر للمحرم ، كأن شرط فى العقد أن الإجارة لهذا العمل ، أو لم يشترط ولكن يعرف أن المحرم سيرتكب فيه ، وإما ألا يكون عالما بذلك . وفى الحالة الثانية الإجارة صحيحة والأجرة مستحقة وحلال باتفاق الأئمة . وإن قال غير أبى حنيفة له الحق فى أن يمنع بنفسه المستأجر من مزاولة المنكر أو بطريق القانون . وفى الحالة الأولى قال الأئمة الثلاثة ووافقهم أبو يوسف ومحمد من أصحاب أبى حنيفة : بطلت الإجازة لأنها وقعت على معصية ، وقال أبو حنيفة بصحة الإجارة وطيب الأجرة التى وجبت بمجرد تسليم العين المؤجرة ولا معصية عليه . وإنما على المستأجر، لأنه مختار فى فعله ولا يتعين عليه اتخاذ المكان لهذه المعصية ، وكانت الأجرة طيبة له حتى لو أخذها من إيراد هذا المنكر. ورأى الجمهور أقوى وهو بطلان العقد وحرمة الأجر، وإن فسر بعضهم رأى أبى حنيفة بصحة العقد واستحقاق الأجر وإن حرم الانتفاع به ، وهو تفسير غير مستساغ ، فما فائدة استحقاق الأجر إذا حرم الانتفاع به اللهم إلا إذا كان سيدفعه فى مصلحة عامة للمسلمين للتبرؤ منه وليس للتبرع ، فإن اللّه طيب لا يقبل إلا طيبا، كما قال الفقهاء فى التصرف فى المال الحرام الذى لا يعرف صاحبه ، وتركه لصاحبه فى هذه المسألة مساعدة له على الحرام ، والشرع لا يوافق على ذلك ، هذا ما أراه تبريرًا لرأى أبى حنيفة واللَّه أعلم بالصواب .
***********
العمل فى مؤسسات تتعامل بالربا
دار الإفتاء المصرية اسم المفتى
19610 رقم الفتوى
14/07/2004 تاريخ الفتوى على الموقع
نص السؤال
أنا أعمل كاتبا فى بنك تسليف ، وجميع أعماله فيها فوائد وربا، فهل على حرمة فى هذا، علما بأنى محتاج إلى العمل فيه ؟ .
نص الفتوى(1/29)
معلوم أن الربا حرام حرمة كبيرة وذلك ثابت بالقرآن والسنة والإجماع ، وكل ما يوصل إلى الحرام ويساعد عليه فهو حرام كما هو مقرر، وقد صح عن النبى صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم عن جابر بن عبد الله أنه لعن أكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه ، فهم سواء .
وقد رفع مثل هذا السؤال إلى المرحوم الشيخ عبد المجيد سليم مفتى الديار المصرية سنة 1944 م فأجاب بأن مباشرة الأعمال التى تتعلق بالربا من كتابة وغيرها إعانة على ارتكاب المحرم ، وكل ما كان كذلك فهو محرم شرعا ، وساق الحديث المذكور، وقال : اللعن دليل على إثم من ذكر فى الحديث الشريف .
"الفتاوى الإسلامية المجلد الرابع ص 1293 " .
هذا ، وإذا كانت المؤسسة تزاول أنشطة مختلفة بعضها حلال وبعضها حرام ، فإن الإسهام فيها أو العسل بها حرام ، وقد جاء فى توصيات ندوة الأسواق المالية الثانية المنعقدة فى البحرين فى الفترة من 25 - 27 - 1991 م ما يأتى :
أ- الأصل فى المعاملات الحل .
ب - لا خلاف فى حرمة الإسهام فى شركات غرضها الأساسى محرم كالتعامل بالربا ، وإنتاج المحرمات أو المتاجرة فيها .
ج - الأصل حرمة الإسهام فى شركات تتعامل أحيانا بالمحرمات كالربا ونحوه ، بالرغم من أن أنشطتها الأساسية مشروعة .
د-أما من يسهم فى الشركات التى تتعامل أحيانا بالمحرمات مع إرادة تغيير جميع أنشطتها بحيث لا تخالف الشريعة الإسلامية ، فإن كان قادرا على التغيير بمجرد إسهامه فيها فذلك أمر مطلوب منه ، لما فيه من زيادة مجالات التزام المسلمين بأحكام الشريعة الإسلامية ، وإن كان غير قادر عند الإسهام ولكنه يسعى مستقبلا، بأن يحاول ذلك من خلال اجتماعات الجمعية العمومية ومجلس الإدارة وغيرهما من المجالات فالإسهام فى هذه الحالة مختلف فى جوازه بين المشاركين فى الندوة ، ولابد فى الحالتين من التخلص مما يؤول إلى المساهم فيها من كسب التصرفات المحرمة فى أنشطة الشركة بصرفه فى وجوه الخير. انتهى .(1/30)
بعد هذا نقول : إن البنوك العادية تمارس نشاطا بعضه يخالف الدين وبعضه لا يخالف الدين ، فأموالها خليط من الحلال والحرام ، والعمل فيها كذلك عمل فيه شبهة وإذا تعذر فصل المال الحلال عن المال الحرام كان الأمر فيه شبهة ، والشبهة وإن لم تكن من الحرام فهى حمى للحرام كما نص الحديث الذى رواه البخارى ومسلم "الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس ، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ، ومن وقع فى الشبهات وقع فى الحرام ، كالراعى يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه لا .
فإذا أرد المؤمن أن يكون مطمئنا تمام الاطمئنان أو قريبا منه فليبحث عن عمل لا تكون فيه الشبهة بهذه الكثرة أو الوضوح حتى لو كان الكسب أو الأجر قليلا يكَفى الضروريات دون اهتمام بالكماليات ، فالنفس لا تشبع منها والحرص عليها متعب غاية التعب والذى يساعد على ذلك هو النطر إلى من هو دوننا حتى نحمد الله على نعمته ولا نزدريها ، ولا ننسى الحديث الشريف "إن روح القدس نفث فى روعى أنه لن تموت نفس حتى تستوفى رزقها وأجلها، فاتقوا الله وأجملوا فى الطلب ، ولا يحملنكم استبطاء الرزق على أن تطلبوه بمعصية الله ، فإن ما عند الله لا ينال بمعصيته " وإن لم يوجد عمل حلال ،كان قبول العمل فى هذا المجال بصفة مؤقتة للضرورة، مع البحث الجاد عن عمل آخر بعيد عن الحرام وشبهة الحرام . وإذا صدقت النية يسر الله الأمر، كما قال سبحانه {ومن يتق الله يجعل له مخرجا * ويرزقه من حيث لا يحتسب } الطلاق : 2 ، 3 ، وقال تعالى{ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرا} الطلاق : 4 .
***********
التصرف فى المال الحرام
دار الإفتاء المصرية اسم المفتى
19632 رقم الفتوى
14/07/2004 تاريخ الفتوى على الموقع
نص السؤال
إنسان اكتسب مالا حراما وأراد أن يتوب إلى الله فماذا يفعل ؟.
نص الفتوى(1/31)
من اكتسب مالا حراما أو أخذه بغير وجه حق ، وأراد أن يتوب إلى الله ، وجب عليه بعد الندم والعزم على عدم العود إلى المعصية أن يرد الحقوق إلى أصحابها ، وذلك إذا كانوا معروفين يردها إليهم أو إلى ورثتهم ما أمكن ذلك ، أو يطلب منهم التنازل عنها ، فإن لم يستطع التعرف عليهم وجب عليه أن يضعها فى منفعة عامة ، أو يتصدق بها عنهم ، كما فعل عمر بن الخطاب مع المتسول الذى طلب منه طعاما فأحاله على صحابى فأطعمه ، ثم عاد يسأل فوجده محترفا ومعه زاد كثير، فأمر بطرحه أمام إبل الصدقة لأنها منفعة عامة للمسلمين . .
جاء فى تفسير القرطبى "ج 3 ص 366" ما نصه :
قال علماؤنا : إن سبيل التوبة مما بيده من الأموال الحرام : إن كانت من ربا فليردها على من أربى عليه ، ويطلبه إن كان حاضرا ، فإن آيس من وجوده فليتصدق بذلك عنه وإن أخذه بظلم فليفعل كذلك فى أي من ظلمه ، فإن التبس عليه الأمر ولم يدر كم الحرام من الحلال مما بيده فإنه يتحرى قدر ما بيده مما يجب عليه رده ، حتى لا يشك أن ما يبقى قد خلص له فيرده من ذلك الذى أزال عن يده إلى من عرف ممن ظلمه أو أربى عليه ، فإن أيس من وجوده تصدق به عنه ، فإن أحاطت المظالم بذمته وعلم أنه وجب عليه من ذلك ما لا يطيق أداءه أبدا لكثرته فتوبته أن يزيل ما بيده أجمع ، إما إلى المساكين وإما إلى ما فيه صلاح المسلمين حتى لا يبقى فى يده إلا أقل ما يجزئه فى الصلاة من اللباس ، وهو ما يستر العورة وهو من سرته إلى ركبتيه ، وقوت يومه .
لأنه الذى يجب له أن يأخذ من مال غيره إذا اضطر إليه ، وإن كره ذلك من يأخذه منه .(1/32)
وفارق هاهنا المفلس فى قول أكثر العلماء ، لأن المفلس لم يصر إليه أموال الناس باعتداء ، بل هم الذين صيروها إليه ، فيترك له ما يواريه وما هو هيئة لباسه ، وأبو عبيدة وغيره يرى ألا يترك للمفلس من اللباس إلا أقل ما يجزئه فى الصلاة، وهو ما يواريه من سرته إلى ركبته ، ثم كلما وقع بيد هذا شيء أخرجه عن يده ولم يمسك منه إلا ما ذكرنا، حتى يعلم هو ومن يعلم حاله أنه أدى ما عليه .
***********
التوبة من المال الحرام
دار الإفتاء المصرية اسم المفتى
19995 رقم الفتوى
26/07/2004 تاريخ الفتوى على الموقع
نص السؤال
لو كان عند الإنسان مال حرام وأراد أن يتوب إلى الله فكيف يتصرف فى هذا المال ؟ .
نص الفتوى
من المعلوم أن اللّه سبحانه نهانا عن أكل الحرام ، وقرر الرسول صلى الله عليه وسلم أن الله لا يقبل التصدق إلا بالمال الحلال ، لأن اللّه طيب لا يقبل إلا طيبا ، وأن القليل من الحرام فى بطن الإنسان أو على جسمه يمنع قبول الدعاء ، ويؤدى فى الآخرة إلى النار، والمال الحرام يجب التخلص منه عند التوبة ، وذلك برده إلى صاحبه أو إلى ورثته إن عرفوا ، وإلا وجب التصدق به تبرؤا منه لا تبرعا للثواب .
قال الإمام الغزالى فى كتابه "الإحياء"ج 2 ص 116 فى خروج التائب عن المظالم المادية : فإن قيل : ما دليل جواز التصدق بما هو حرام ، وكيف يتصدق بما لا يملك وقد ذهب جماعة إلى أن ذلك غير جائز لأنه حرام ، وحكى عن الفضيل أنه وقع فى يديه درهمان فلما علم أنهما من غير وجههما رماهما بين الحجارة وقال : لا أتصدق إلا بالطيب ، ولا أرضى لغيرى ما لا أرضاه لنفسى ؟ .
فنقول : نعم ذلك له وجه احتمال ، وإنما اخترنا خلافه للخبر والأثر والقياس .(1/33)
فأما الخبر فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتصدق بالشاة المصلية التى قدمت إليه فكلمته بأنها حرام ، إذ قال صلى الله عليه وسلم "أطعموها الأسارى" – والحديث قال فيه العراقى : رواه أحمد وإسناده جيد - ولما نزل قوله تعالى {الم . غلبت الروم } كذبه المشركون وقالوا للصحابة : ألا ترون ما يقول صاحبكم ؟ يزعم أن الروم ستغلب ، فخاطرهم – أى راهنهم – أبو بكر رضى اللّه عنه ، بإذن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ، فلما حقق اللّه صدقه وجاء أبو بكر بما قامرهم به قال صلى الله عليه وسلم "هذا سحت فتصدق به " وفرح المؤمنون بنصر الله ، وكان قد نزل تحريم القمار بعد إذن الرسول صلى الله عليه وسلم له فى المخاطرة مع الكفار .
وأما الأثر فإن ابن مسعود اشترى جارية فلم يظفر بمالكها لينقده الثمن ، فطلبه كثيرا فلم يجده ، فتصدق بالثمن وقال : اللهم هذا عنه إن رضى، وإلا فالأجر لى ، وروى أن رجلا سولت له نفسه فَغَلَّ مائة دينار من الغنيمة ثم أتى أميره ليردها عليه فأبى أن يقبضها وقال له : تفرق الجيش ، فأتى معاوية فأبى أن يقبض ، فأتى بعض النساك فقال ادفع خمسها إلى معاوية وتصدق بما بقى . فلما بلغ معاوية قوله تلهف إذ لم يخطر له ذلك . وذهب أحمد بن حنبل والحارث المحاسبى وجماعة من الورعين إلى ذلك .
وأما القياس فهو أن يقال : إن هذا المال مردد بين أن يضيع وبين أن يصرف إلى خير، إذ قد وقع اليأس من مالكه ، وبالضرورة يعلم أن صرفه إلى خير أولى من إلقائه فى البحر، فإذا رميناه فى البحر فقد فوتناه على أنفسنا وعلى المالك ولم تحصل منه فائدة، وإذا رميناه فى يد فقير يدعو لمالكه حصل للمالك بركة دعائه ، وحصل للفقير سَدُّ حاجته ، وحصول الأجر للمالك بغير اختياره فى التصدق لا ينبغى أن ينكر، فإن فى الخبر الصحيح أن للغارس والزارع أجرا فى كل ما يصيبه الناس والطيور من ثماره وزرعه ، وذلك بغير اختياره ، وأما قول القائل :(1/34)
لا نتصدق إلا بالطيب فذلك إذا طلبنا الأجر لأنفسنا ، ونحن الآن نطلب الخلاص من المظلمة لا الأجر، وترددنا بين التضييع وبين التصدق ، ورجحنا جانب التصدق على جانب التضييع . انتهى .
وقد أخذ برأى الغزالى هذا -إجابة دار الفتوى على مثل هذا السؤال "الفتاوى الإسلامية - المجلد العاشر ص 3571" .
ويستأنس للقول بجواز توجيه المال الحرام إلى منفعة المسلمين إذا لم يعرف صاحبه ، بما فعله عمر بن الخطاب رضى الله عنه مع المتسول الذى طلب منه طعاما فأحاله على صحابى فأطعمه ، ثم عاد يسأل فوجده محترفا دون حاجة ، ومعه زاد كثير، فأمر بطرحه أمام إبل الصدقة لأنها منفعة عامة للمسلمين .
وجاء فى تفسير القرطبى"ج 3 ص 366"ما نصه .
قال علماؤنا : إن سبيل التوبة مما بيده من الأموال الحرام إن كانت من ربا فليردها على من أربى عليه ، ويطلبه إن كان حاضرا ، فإن أيس من وجوده فليتصدق بذلك عنه ، وإن أخذه بظلم فليفعل كذلك فى أمر من ظلمه ، فإن التبس عليه الأمر ولم يَدْرِ كَمْ الحرام من الحلال مما بيده فإنه يتحرى قدر ما بيده مما يجب عليه رده ، حتى لا يشك أن ما يبقى قد خلص له فيرده من ذلك الذى أزال عن يده إلى من عرف ممن ظلمه أو أربى عليه ، فإن أيس من وجوده تصدق به عنه ، فإن أحاطت المظالم بذمته وعلم أنه وجب عليه من ذلك ما لا يطيق أداءه أبدا لكثرته فتوبته أن يزيل ما بيده أجمع ، إما إلى المساكين وإما إلى ما فيه صلاح المسلمين ، حتى لا يبقى فى يده إلا أقل ما يجزئه فى الصلاة من اللباس ، ما يستر العورة وهى من سرته إلى ركبته ، وقوت يومه ، لأنه الذى يجب له أن يأخذه من مال غيره إذا اضطر إليه وإن كره ذلك من يأخذه منه .(1/35)
وفارق ها هنا المفلس فى قول أكثر العلماء ، لأن المفلس لم يصر إليه أموال الناس باعتداء ، بل هم الذين صيروها إليه ، فيترك له ما يواريه وما هو هيئة لباسه ، وأبو عبيدة وغيره يرى ألا يترك للمفلس من اللباس إلا أقل ما يجزئه فى الصلاة وهو ما يواريه من سرته إلى ركبته ، ثم كلما وقع بيد هذا شىء أخرجه عن يده ولم يمسك منه إلا ما ذكرنا ، حتى يعلم هو ومن يعلم حاله أنه أدى ما عليه .
***********
الحج بمال فيه شبهة
دار الإفتاء المصرية اسم المفتى
12036 رقم الفتوى
01/06/2004 تاريخ الفتوى على الموقع
نص السؤال
من السيد المهندس / وكيل الجهاز المركزى للمحاسبات ورئيس جمعية تيسير الحج للعاملين به .
قال إن عدد أعضائها الآن خمسة وتسعون عضوا، وأن من أهم ما تهدف إليه تيسير الحج للعاملين المشتركين وأسرهم، حيث تقوم الجمعية بصرف مجموع مدخرات العضو الذى تصيبه القرعة لفترة خمس سنوات، ويقوم العضو بسداد ماتم صرفه مقدما على أقساط شهرية قدرها جنيهان، وأن حصيلة الأقساط الشهرية للأعضاء تضيق عن الوفاء بنفقات سفرهم، وأنه يوجد بالجهاز صندوق للخدمات الطبية والرعاية الاجتماعية وهو صندوق تأمينى تعاونى لا يرمى إلى الكسب، وموارد هذا الصندوق تتكون وفقا للمادة 13 من لائحة إنشائه من : أولا - ما يسدده العاملون بالجهاز من رسوم وتكاليف علاج وفقا للائحة الأساسية للصندوق .
ثانيا - الإعانة التى تخصص للصندوق سنويا من موازنة الجهاز .
ثالثا - ريع استثمار أمواله وهى مودعة حاليا ببنك ناصر الاجتماعى .
رابعا - ما يقرر مجلس الإدارة قبوله من الهبات والتبرعات .
خامسا - حصيلة الجزاءات المنصوص عليها للائحة العاملين بالجهاز .
سادسا - القروض التى يحصل عليها من البنوك .(1/36)
وأن مجلس إدارة جمعية تيسير الحج بالجهاز طلب إعانة من هذا الصندوق لإمكان تيسير الحج للعاملين بمنحهم إعانة مضافة إلى مدخراتهم ويسأل المجلس عن مدى شرعية هذه الإعانة، وهل تنقص من ثواب فريضة الحج خاصة أنه سيتم صرفها لكافة الأعضاء الراغبين فى أداء فريضة الحج ولن يقتصر الصرف على غير القادرين .
نص الفتوى
بعد الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم:
إن الله سبحانه قال فى فريضة الحج { ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا } آل عمران 97 ، والاستطاعة أن يكون المسلم مستطيعا ببدنه واجدا من ماله ما يبلغه الحج فاضلا عن نفقة من تلزمه نفقته لحين عودته .
وقد اتفق فقهاء الإسلام على أنه إذا لم يكن للمكلف مال لم يلزمه الحج وإن وهب له أجنبى مالا ليحج به لم يلزمه قبوله إجماعا .
ونص الفقهاء كذلك على أن من تكلف للحج وهو لا يلزمه وأمكنه ذلك من غير ضرر بنفسه ولا بغيره استحق له الحج، لما فى هذا من إظهار الطاعة لله سبحانه والمبادرة لأداء الفرائض .
وفى شأن مصدر نفقات الحج، وهل يجوز أن يؤدى بمال حرام أو مغصوب أو فيه شبهة الحرام قال فقهاء مذاهب الأئمة أبى حنيفة ومالك والشافعى إن الحج بمال حرام أو مغصوب أو فيه شبهة الحرام يقع صحيحا وتسقط به الفريضة، وإن كان على الحاج بالمال الحرام إثم إنفاقه فى طاعة الله، لأن الله سبحانه طيب يقبل الطيب كما تشير إلى ذلك الآية الكريمة { ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون } البقرة 267 ، ولكن فقهاء مذهب الإمام أحمد بن حنبل قالوا فى هذا الموضع إن الحج بالمال الحرام أو المغصوب لا يسقط الفريضة .(1/37)
لما كان ذلك وكانت جمعية تيسير الحج بالجهاز المركزى للمحاسبات قد طلبت إعانة من صندوق الخدمات الطبية بالجهاز، لإمكان تيسير الحج للعاملين بمنحهم الإعانة بالإضافة إلى مدخراتهم، تعيد النظر فى مصادر تمويل هذا الصندوق المبينة بالمادة 13 من لائحته والمشار إليها بالسؤال على الوجه السابق ومدى انطباق وصف المال الحلال شرعا عليها .
ولما كان البادى من هذه الموارد أن ما يخلص منها من كل شبه الحرام هو الإعانة التى تخصص للصندوق سنويا من موازنة الجهاز، وما يقبله مجلس الإدارة من الهبات والتبرعات .
أما باقى الموارد فتشوبه الحرمات .
وإذا كان ذلك تكون الإعانة التى قد تصرف لجمعية تيسير الحج من صندوق الخدمات الطبية بالجهاز مشروعة فى نطاق هذا المال الحلال الذى لا تبدو فيه شبهات محرمة إذا تقررت من ذات الإعانة المخصصة للصندوق من موازنة الجهاز ومن الهبات والتبرعات التى يقرر مجلس الإدارة قبولها بشرط ألا تضر هذه الإعانة أو تستتبع الإخلال بالأهداف الأصلية لصندوق الخدمات الطبية باعتبار أن خدماته للجميع أعم وأشمل .
أما إذا تقررت الإعانة من جملة موارد الصندوق وفى بعضها شبهة الحرام، فإنه وفاقا لنصوص الفقهاء المشار إليها لا يكون الحج خالص المثوبة وإن سقط الفرض، بل إن مذهب الإمام أحمد بن حنبل أنه لا يسقط الحج بالمال الحرام ولا ثواب له .
هذا وإذا كان الانتفاع بخدمات هذا الصندوق الاجتماعية تتم طبقا لما يقرره مجلس إدارته الذى يختص بتحديد أنواع الأنشطة الاجتماعية، فإذا تقررت من هذا المجلس الإعانة لجمعية تيسير الحج من هذين الموردين اللذين ابتعدت عنهما شبهة الحرام كان صرفها لكافة الأعضاء الراغبين فى أداء الحج جائزا شرعا بشرط اعتبار أن الجميع منتفعون أصلا بمال هذا الصندوق دون تمييز .
والله سبحانه وتعالى أعلم .
***********
كيفية التوبة من المال الحرام
رمضان جمعة أبو النور اسم المفتى
23043 رقم الفتوى(1/38)
22/05/2005 تاريخ الفتوى على الموقع
نص السؤال
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أما بعد أنا شابة تبت إلى الله عز وجل والحمد لله وحده ومشكلتي أنني في ما مضى كنت أملك مال حرام أنفقته في مصاريف الدراسة وشراء بعد اللوازم والآن وبعد التوبة بقى لي مبلغا من ذاك المال الحرام وأنا حائرة في مسألتين 1- ماذا عليا فعله لأكفر على الذنب الذي اقترفته؟
2- ماذا أفعل بالمبلغ الذي تبقى لي بعد التوبة مع العلم أنني بكل صراحة محتاجة جدا لذلك المال؟
نص الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فإنه يشترط للتوبة من المال الحرام التخلص منه، ويكون ذلك بإنفاقه في مصالح المسلمين.. إما على الفقراء والمساكين، أو في المصالح العامة كبناء مدرسة أو حفر بئر ونحو ذلك.
أما ما تبقى منه معك فيرد إلى أصل هذا المال بمعنى إن كان أصل هذا المال حال فلا حرج في جعل هذه الجزء المتبقي هو أصل ذلك المال وإن كان كل المال حرام فلا يجوز لك التصرف فيه بل عليك التخلص منه بالطرق السالف ذكرها.
والله أعلم
************
التخلص من المال الحرام
عبد الله الفقيه اسم المفتى
23129 رقم الفتوى
05/06/2005 تاريخ الفتوى على الموقع
نص السؤال
السلام عليكم
كيف يمكن لشخص أن يتنزه من المال الحرام؟
وهل يمكن مثلا أن يعطيه للمصالح العامة لشراء تجهيزات للاستعمال العام؟
جزاكم الله خيرا
السلام عليكم
نص الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
الأخ الكريم لم توضح مصدر هذا المال لكن الظاهر من سؤالك أنها فوائد بنوك وفي التخلص من فوائد البنوك يقول الدكتور عبد الله الفقيه مفتي الشبكة الإسلامية:(1/39)
فلا يخفى أن فوائد البنوك حرام شراعاً لأنها ربا، وحرمة هذه الفوائد تكاد تكون محل إجماع عند أهل العلم المعاصرين. وعليه فإنه لا يجوز لك أخذ هذه الأرباح للتملك لأنها مال خبيث لا يملك، ولكن تأخذينها منهم مع الإنكار عليهم وتصرفينها في مصالح المسلمين العامة، ومن هذه الجهة الفقراء والمساكين، والأقارب أولى من غيرهم بإيصال الإحسان إليهم إذا كانوا فقراء.
والله أعلم.
***************
حكم الزواج بالمال الحرام
فضيلة الشيخ صالح الفوزان اسم المفتى
17626 رقم الفتوى
30/05/2004 تاريخ الفتوى على الموقع
نص السؤال
أمتلك مبلغًا من المال قد اكتسبته من تجارة الممنوعات، وأنا أريد أن أتزوج به؛ فهل الزواج به حلال أم حرام؟ علمًأ أنه ليس لدي ما يعينني على الزواج؛ لأني وحيد في هذه الدنيا؟
نص الفتوى
الحمد لله
المال الحرام لا يجوز للمسلم أن يستعمله:
قال صلى الله عليه وسلم في الرجل يطيل السفر أشعث أغبر: "يمد يديه إلى السماء؛ يا رب! يا رب! ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام؛ فأنّى يستجاب لذلك؟!" [رواه مسلم في "صحيحه" (2/703).].
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [سورة البقرة: آية 172.].
فالواجب على المسلم الذي اكتسب مالاً من وجه حرام أن يتوب إلى الله، وإن كان أخذ المال من صاحبه بغير حق؛ فإنه يرده إليه، وإن لم يعرف صاحبه؛ فإنه يتصدق به، ولا يستعمله، ولا يتزوج منه، ولكن عليه أن يكتسب مالاً حلالاً، ويتزوج منه.
قال تعالى: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمْ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ} [سورة النور: آية 33.].
وقال تعالى: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا، وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [سورة الطلاق: آية2، 3.].
******************
حكم فوائد البنوك الربوية
يوسف القرضاوي اسم المفتى
21013 رقم الفتوى(1/40)
06/10/2004 تاريخ الفتوى على الموقع
نص السؤال
أفيدوني جزاكم الله خيرا أنا أضع نقودى فى أحد البنوك التى تعطى فوائد وأقوم بأخذ هذه الفوائد وأعيش منها فهل هو حرام علما بأننى سمعت من أحد المشايخ أنها حلال أفدنى في هذا.
نص الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله
إن الفوائد التي يأخذها المودع في البنك، هي ربًا محرم، فالربا: هي كل زيادة مشروطة على رأس المال . أي ما أخذ بغير تجارة ولا تعب، زيادة على رأس المال فهو ربًا. ولهذا يقول الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين . فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله، وإن تبتم فلكم رءوس أموالكم، لا تظلمون ولا تظلمون). (البقرة: 279).
فالتوبة معناها هنا أن يبقى للإنسان رأس ماله، وما زاد على ذلك فهو ربًا. والفوائد الزائدة على رأس المال، جاءت بغير مشاركة ولا مخاطرة ولا مضاربة ولا شيء من المتاجرة ..فهذا هو الربا المحرم .
وشيخنا الشيخ شلتوت لم يبح الفوائد الربوية فيما أعلم، وإنما قال: إذا وجدت ضرورة - سواء كانت ضرورة فردية أم ضرورة اجتماعية - يمكن عندها أن تباح الفوائد، وتوسع في معنى الضرورة أكثر مما ينبغي. وهذا التوسع لا نوافقه عليه رحمه الله.
وإنما الذي أفتى به الشيخ شلتوت هو صندوق التوفير، وهو شيء آخر غير فوائد البنوك . وهذا أيضًا لم نوافقه عليه.
فالإسلام، لا يبيح للإنسان أن يضع رأس ماله ويأخذ ربحًا محددًا عليه، فإنه إن كان شريكًا حقًا، فيجب أن ينال نصيبه في الربح وفي الخسارة معًا، أيًا كان الربح، وأيًا كانت الخسارة.
فإذا كان الربح قليلاً شارك في القليل، وإذا كان كثيرًا شارك في الكثير، وإذا لم يكن ربح حرم منه، وإذا كانت خسارة تحمل نصيبه منها، وهذا معنى المشاركة في تحمل المسئولية.(1/41)
أما ضمان الربح المحدد، سواء كان هناك ربح أو لم يكن، بل قد يكون الربح أحيانًا مبالغ طائلة تصل إلى 80% أو 90% وهو لا ينال إلا نسبة مئوية بسيطة لا تجاوز 5% أو 6%، أو قد تكون هناك خسارة فادحة، وهو لا يشارك في تلك الخسارة . . . وهذا غير طريق الإسلام . . وإن أفتى بذلك الشيخ شلتوت رحمه الله وغفر له.
فالأخ الذي يسأل عن فوائد البنوك: هل يأخذها أم لا ؟ أجيبه: بأن فوائد البنوك لا تحل له، ولا يجوز له أخذها . ولا يجزيه أن يزكي عن ماله الذي وضعه في البنك، فإن هذه الفائدة حرام، وليست ملكًا له، ولا للبنك نفسه، في هذه الحالة . . ماذا يصنع بها ؟ ..
أقول: إن الحرام لا يملك، ولهذا يجب التصدق به، كما قال المحققون من العلماء، بعض الورعين قالوا بعدم جواز أخذه ولو للتصدق . . عليه أن يتركه أو يرميه في البحر، ولا يجوز أن يتصدق بخبيث.
ولكن هذا يخالف القواعد الشرعية في النهي عن إضاعة المال وعدم انتفاع أحد به . لابد أن ينتفع به أحد . . إذن ما دام هو ليس مالكًا له، جاز له أخذه والتصدق به على الفقراء والمساكين، أو يتبرع به لمشروع خيري، أو غير ذلك مما يرى المودع أنه في صالح الإسلام والمسلمين ؛ ذلك أن المال الحرام كما قدمت ليس ملكًا لأحد .
فالفائدة ليست ملكًا للبنك ولا للمودع، وإنما تكون ملكًا للمصلحة العامة، وهذا هو الشأن في كل مال حرام، لا ينفعه أن تزكي عنه، فإن الزكاة لا تطهر المال الحرام، وإنما الذي يطهره هو الخروج منه، ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إن الله لا يقبل صدقة من غلول " (رواه مسلم) .والغلول هو المال الذي يغله الإنسان ويخونه من المال العام . لا يقبل الله الصدقة من هذا المال لأنه ليس ملكًا لمن هو في يده. وهل يترك تلك الفوائد للبنك، لأنها محرمة عليه ؟
لا يتركها، لأن هذا يقوي البنك الذي يتعامل بالربا، ولا يأخذها لنفسه، وإنما يأخذها ويتصدق بها في أي سبيل من سبل الخير.(1/42)
قد يقول البعض: إن المودع معرض للخسارة إذا خسر البنك وأعلن إفلاسه مثلاً، لظرف من الظروف، أو لسبب من الأسباب.
وأقول لمثل هذا بأن تلك الخسارة أو ذلك الإفلاس لا يبطل القاعدة ولو خسر المودع نتيجة ذلك الإفلاس، لأن هذا بمثابة الشذوذ الذي يثبت القاعدة، لأن لكل قاعدة شواذ، والحكم في الشرائع الإلهية - والقوانين الوضعية أيضًا - لا يعتمد على الأمور الشاذة والنادرة . . فإن الجميع متفق على أن النادر لا حكم له، وللأكثر حكم الكل . فواقعة معينة لا ينبغي أن تبطل القواعد الكلية.
القاعدة الكلية هي أن الذي يدفع ماله بالربا يستفيد ولا يخسر، فإذا خسر مرة من المرات فهذا شذوذ، والشذوذ لا يقام على أساسه حكم.
وقد يعترض سائل فيقول: ولكن البنك يتاجر بتلك الأموال المودعة فيه، فلماذا لا آخذ من أرباحه ؟
وأقول: نعم إن البنك يتاجر بتلك الأموال المودعة فيه.
ولكن هل دخل المودع معه في عملية تجارية ؟ طبعًا لا.
لو دخل معه شريكًا من أول الأمر، وكان العقد بينهما على هذا الأساس وخسر البنك فتحمل المودع معه الخسارة، عندئذ يكون الاعتراض في محله، ولكن الواقع أنه حينما أفلس البنك وخسر، أصبح المودعون يطالبون بأموالهم، والبنك لا ينكر عليهم ذلك، بل قد يدفع لهم أموالهم على أقساط إن كانت كثيرة، أو دفعه واحدة إن كانت قليلة . . على أي حال، فإن المودعين لا يعتبرون أنفسهم مسئولين ولا مشاركين في خسارة البنك، بل يطالبون بأموالهم كاملة غير منقوصة فالربا: هي كل زيادة مشروطة على رأس المال . أي ما أخذ بغير تجارة ولا تعب، زيادة على رأس المال فهو ربًا. ولهذا يقول الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين . فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله، وإن تبتم فلكم رءوس أموالكم، لا تظلمون ولا تظلمون). (البقرة: 279).(1/43)
فالتوبة معناها هنا أن يبقى للإنسان رأس ماله، وما زاد على ذلك فهو ربًا. والفوائد الزائدة على رأس المال، جاءت بغير مشاركة ولا مخاطرة ولا مضاربة ولا شيء من المتاجرة ..فهذا هو الربا المحرم
والله أعلم
****************
وفي شرح معاني الآثار :
بَابُ الْجُعْلِ عَلَى الْحِجَامَةِ هَلْ يَطِيبُ لِلْحَجَّامِ أَمْ لَا ؟ حَدَّثَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ مَرْزُوقٍ قَالَ : ثنا هَارُونُ بْنُ إسْمَاعِيلَ الْخَرَّازُ قَالَ : ثنا عَلِيُّ بْنُ الْمُبَارَكِ قَالَ : ثنا يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَارِظٍ أَنَّ السَّائِبَ بْنَ يَزِيدَ قَدْ حَدَّثَهُمْ أَنَّ رَافِعَ بْنَ خَدِيجٍ قَدْ حَدَّثَهُمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ قَالَ { إنَّ كَسْبَ الْحَجَّامِ خَبِيثٌ } . حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ شُعَيْبٍ قَالَ : ثنا بِشْرُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ : حَدَّثَنِي الْأَوْزَاعِيُّ قَالَ : حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ قَالَ : حَدَّثَنِي إبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَارِظٍ قَالَ : حَدَّثَنِي السَّائِبُ بْنُ يَزِيدَ قَالَ : سَمِعْت رَافِعَ بْنَ خَدِيجٍ يُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِثْلَهُ . وَحَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ سِنَانٍ وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ مَرْزُوقٍ جَمِيعًا قَالَا : ثنا أَبُو عَامِرٍ الْعَقَدِيُّ قَالَ : ثنا رَبَاحُ بْنُ أَبِي مَعْرُوفٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم { إنَّ مِنْ السُّحْتِ كَسْبَ الْحَجَّامِ } .(1/44)
حَدَّثَنَا فَهْدُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ : ثنا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ قَالَ : ثنا شِهَابٌ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ عَطَاءٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِثْلَهُ وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْجَارُودِ قَالَ : ثنا وَهْبُ بْنُ بَيَانٍ الْوَاسِطِيُّ قَالَ : ثنا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ قَالَ : حَدَّثَنِي عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ زِيَادٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ : { قَدْ حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَسْبَ الْحَجَّامِ } . حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ شَيْبَةَ قَالَ : ثنا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ قَالَ : أَنْبَأْنَا سَعِيدٌ قَالَ : ثنا عَوْنٌ بْنُ أَبِي جُحَيْفَةَ أَنَّهُ قَالَ : قَدْ اشْتَرَى أَبِي حَجَّامًا فَكَسَرَ مَحَاجِمَهُ . فَقُلْت لَهُ : يَا أَبَتِ لِمَ كَسَرْتهَا ؟ فَقَالَ : { إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ ثَمَنِ الدَّمِ } . قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ : وَلَيْسَ فِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى تَحْرِيمِ كَسْبِ الْحَجَّامِ وَلَكِنْ إنَّمَا أَتَيْنَا بِهِ لِئَلَّا يَتَوَهَّمَ مُتَوَهِّمٌ أَنَّا قَدْ أَغْفَلْنَاهُ وَإِنَّمَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ كَرَاهِيَةُ أَبِي جُحَيْفَةَ لِذَلِكَ فَقَطْ . فَأَمَّا مَا فِي ذَلِكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ نَهْيِهِ عَنْ ثَمَنِ الدَّمِ فَهُوَ مَا يُبَاعُ بِهِ الدَّمُ لَا غَيْرُ ذَلِكَ . فَذَهَبَ قَوْمٌ إلَى كَرَاهِيَةِ كَسْبِ الْحَجَّامِ وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِكَ بِهَذِهِ الْآثَارِ . وَخَالَفَهُمْ فِي ذَلِكَ آخَرُونَ فَقَالُوا : إنَّ كَسْبَ الْحَجَّامِ كَسْبٌ ذِي دَنَسٍ فَيُكْرَهُ لِلرَّجُلِ أَنْ يُدَنِّسَ نَفْسَهُ وَيُدِينَهَا بِذَلِكَ . فَأَمَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي نَفْسِهِ حَرَامًا فَلَا .(1/45)
وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِكَ بِمَا حَدَّثَنَا يُونُسُ وَالرَّبِيعُ الْمُؤَذِّنُ قَالَا : ثنا يَحْيَى بْنُ حَسَّانَ قَالَ : ثنا وُهَيْبٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْعَبَّاسِ أَنَّهُ قَالَ : { احْتَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَعْطَى الْحَجَّامَ أَجْرَهُ فِي ذَلِكَ } . وَقَدْ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ الْحَكَمِ الْجِيزِيُّ قَالَ : ثنا عَفَّانَ بْنُ مُسْلِمٍ ح . وَحَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ دَاوُد بْنِ مُوسَى قَالَ : ثنا سَهْلُ بْنُ بَكَّارٍ قَالَا : ثنا وُهَيْبٌ فَذَكَرَ بِإِسْنَادِهِ مِثْلَهُ , وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرَةَ قَالَ : ثنا أَبُو الْوَلِيدِ قَالَ : ثنا شُعْبَةُ عَنْ جَابِرٍ الْجُعْفِيِّ أَنَّهُ قَالَ : سَمِعْت الشَّعْبِيَّ يُحَدِّثُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَرْسَلَ إلَى غُلَامِ حَجَّامٍ فَجَاءَ فَحَجَمَهُ فَأَعْطَاهُ أَجْرًا مُدًّا أَوْ نِصْفَ مُدٍّ } وَلَوْ كَانَ حَرَامًا لَمْ يُعْطِهِ ذَلِكَ . حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ نَصْرٍ قَالَ : أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ الْفِرْيَابِيُّ قَالَ : ثنا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنْ جَابِرٍ الْجُعْفِيِّ عَنْ عَامِرٍ الشَّعْبِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ : { احْتَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَعْطَى الْحَجَّامَ أَجْرَهُ وَلَوْ كَانَ حَرَامًا لَمْ يُعْطِهِ ذَلِكَ } .(1/46)
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ خُزَيْمَةَ قَالَ : ثنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيُّ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَبِي طَالِبٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ { أَنَّ حَجَّامًا كَانَ يُقَالُ لَهُ أَبُو طَيْبَةَ الْحَجَّامُ حَجَمَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَأَعْطَاهُ أَجْرَهُ وَحَطَّهُ عَنْهُ طَائِفَةٌ مِنْ غَلَّتِهِ أَوْ وَضَعَ عَنْهُ أَهْلُهُ طَائِفَةً مِنْ غَلَّتِهِ } . فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : فَلَوْ كَانَ حَرَامًا لَمَا أَعْطَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم . وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْجَارُودِ قَالَ : ثنا سَعِيدُ بْنُ كَثِيرِ بْنِ عُفَيْرٍ قَالَ : حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ احْتَجَمَ فَأَمَرَ الْحَجَّامَ بِصَاعٍ مِنْ طَعَامٍ وَأَمَرَ مَوَالِيَهُ أَنْ يُخَفِّفُوا عَنْهُ مِنْ الْخَرَاجِ شَيْئًا } . وَحَدَّثَنَا فَهْدُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ : ثنا أَبُو غَسَّانَ قَالَ : ثنا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ أَبِي بِشْرٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ قَيْسٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم دَعَا أَبَا طَيْبَةَ الْحَجَّامَ فَحَجَمَهُ فَسَأَلَهُ كَمْ ضَرِيبَتُك فَقَالَ : ثَلَاثَةُ أَصْوُعٍ فَوَضَعَ عَنْهُ صَاعًا مِنْهَا } .(1/47)
وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرَةَ قَالَ : ثنا أَبُو دَاوُد قَالَ : ثنا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ أَبِي بِشْرٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ قَيْسٍ عَنْ جَابِرٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ ذَكَرَ هَذَا الْحَدِيثَ بِمِثْلِ ذَلِكَ أَيْضًا سَوَاءً , وَحَدَّثَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ أَبِي دَاوُد قَالَ : ثنا آدَم بْنُ أَبِي إيَاسٍ قَالَ : ثنا وَرْقَاءُ بْنُ عُمَرَ عَنْ عَبْدِ الْأَعْلَى عَنْ أَبِي جَمِيلَةَ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ { احْتَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَعْطَى الْحَجَّامَ أَجْرَهُ } . حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ النُّعْمَانِ قَالَ : ثنا الْحُمَيْدِيُّ قَالَ : ثنا سُفْيَانُ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ { أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَدْ قَالَ فِي كَسْبِ الْحَجَّامِ عَلِفَةُ النَّاضِحِ } أَوْ قَالَ { اعْلِفْ ذَلِكَ نَاضِحَك } حَدَّثَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ أَبِي دَاوُد قَالَ : ثنا عَمْرُو بْنُ عَوْنٍ ح . وَقَدْ حَدَّثَنَا أَبُو أُمَيَّةَ مُحَمَّدُ بْنُ إبْرَاهِيمَ قَالَ : ثنا الْمُعَلَّى بْنُ مَنْصُورٍ قَالَا : ثنا خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ يُونُسَ بْنِ عُبَيْدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : { احْتَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَعْطَى الْحَجَّامَ أَجْرَهُ } .(1/48)
وَحَدَّثَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ أَبِي دَاوُد قَالَ : ثنا يُوسُفُ بْنُ عَدِيٍّ قَالَ : ثنا الْقَاسِمُ بْنُ مَالِكٍ عَنْ عَاصِمٍ عَنْ أَنَسٍ { أَنَّ أَبَا طَيْبَةَ حَجَمَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ صَائِمٌ فَأَعْطَاهُ أَجْرَهُ } قَالَ : وَلَوْ كَانَ حَرَامًا لَمْ يُعْطِهِ حَدَّثَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ مَرْزُوقٍ قَالَ : ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بَكْرٍ السَّهْمِيُّ قَالَ : ثنا حُمَيْدٌ الطَّوِيلُ أَنَّهُ قَالَ : سُئِلَ أَنَسٌ عَنْ كَسْبِ الْحَجَّامِ . فَقَالَ : { احْتَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَجَمَهُ أَبُو طَيْبَةَ الْحَجَّامُ فَأَمَرَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِصَاعَيْنِ مِنْ طَعَامٍ وَكَلَّمَ مَوَالِيَهُ لِيُخَفِّفُوا عَنْهُ مِنْ غَلَّتِهِ شَيْئًا فَفَعَلُوا ذَلِكَ } . وَحَدَّثَنَا يُونُسُ قَالَ : أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ قَالَ : أَخْبَرَنِي سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ أَنَّ حُمَيْدًا قَدْ حَدَّثَهُمْ عَنْ أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِثْلَهُ . وَقَدْ حَدَّثَنَا يُونُسُ أَيْضًا قَالَ : ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ قَالَ : أَخْبَرَنِي مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ عَنْ حُمَيْدٍ الطَّوِيلِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ ذَكَرَ هَذَا الْحَدِيثَ أَيْضًا مِثْلَ ذَلِكَ سَوَاءً , وَقَدْ حَدَّثَنَا نَصْرُ بْنُ مَرْزُوقٍ قَالَ : ثنا عَلِيُّ بْنُ مَعْبَدٍ قَالَ : ثنا إسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ حُمَيْدٍ الطَّوِيلِ عَنْ أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِثْلَهُ . فَفِي هَذِهِ الْآثَارِ إبَاحَةُ كَسْبِ الْحَجَّامِ فَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ قَدْ تَأَخَّرَ عَنْ النَّهْيِ الَّذِي قَدْ ذَكَرْنَاهُ أَوْ تَقَدَّمَهُ .(1/49)
فَنَظَرْنَا فِي ذَلِكَ فَإِذَا يُونُسُ قَدْ حَدَّثَنَا قَالَ : ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ ح . وَحَدَّثَنَا رَبِيعٌ الْمُؤَذِّنُ قَالَ : أَخْبَرَنَا شُعَيْبُ بْنُ اللَّيْثِ قَالَا : ثنا اللَّيْثُ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ عَنْ أَبِي عُفَيْرٍ الْأَنْصَارِيِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ { عَنْ مُحَيِّصَةَ بْنِ مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ أَنَّهُ قَدْ كَانَ لَهُ غُلَامٌ حَجَّامٌ يُقَالُ لَهُ نَافِعٌ وَأَبُو طَيْبَةَ فَانْطَلَقَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَسَأَلَهُ عَنْ خَرَاجِهِ فَقَالَ لَا تَقْرَبُنَّهُ فَرَدَّ ذَلِكَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ اعْلِفْ بِهِ النَّاضِحَ اجْعَلُوهُ فِي كِرْشِهِ } .(1/50)
حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرَةَ قَالَ : ثنا عُمَرُ بْنُ يُونُسَ قَالَ : ثنا عِكْرِمَةُ بْنُ عَمَّارٍ قَالَ : ثنا طَارِقُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ رَافِعَةَ بْنَ رَافِعٍ أَوْ رَافِعَ بْنَ رَافِعَةَ الشَّكُّ مِنْهُمْ فِي ذَلِكَ قَدْ جَاءَ إلَى مَجْلِسِ الْأَنْصَارِ فَقَالَ : { نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ كَسْبِ الْحَجَّامِ وَأَمَرَنَا أَنْ نُطْعِمَهُ نَاضِحَنَا } , وَقَدْ حَدَّثَنَا فَهْدُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ : ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ الْكَاتِبُ قَالَ : حَدَّثَنِي اللَّيْثُ قَالَ : حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ خَالِدِ بْنِ مُسَافِرٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ حَرَامِ بْنِ سَعْدِ بْنِ مُحَيِّصَةَ عَنْ الْمُحَيِّصَةِ رَجُلٍ مِنْ بَنِي حَارِثَةَ أَنَّهُ قَدْ كَانَ لَهُ حَجَّامٌ وَاسْمُ الرَّجُلِ الْمُحَيِّصَةُ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَلِكَ فَنَهَاهُ أَنْ يَأْكُلَ كَسْبَهُ ثُمَّ عَادَ فَنَهَاهُ ثُمَّ عَادَ فَنَهَاهُ ثُمَّ عَادَ فَنَهَاهُ فَلَمْ يَزَلْ يُرَاجِعُهُ حَتَّى قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم { اعْلِفْ كَسْبَهُ نَاضِحَك وَأَطْعِمْهُ رَقِيقَك } . وَحَدَّثَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ يَحْيَى الْمُزَنِيّ قَالَ : ثنا مُحَمَّدُ بْنُ إدْرِيسَ قَالَ : ثنا سُفْيَانُ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ حَرَامِ بْنِ سَعْدِ بْنِ مُحَيِّصَةَ أَنَّ مُحَيِّصَةَ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ مِثْلَهُ .(1/51)
حَدَّثَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ يَحْيَى الْمُزَنِيّ قَالَ : ثنا مُحَمَّدُ بْنُ إدْرِيسَ قَالَ : ثنا مُحَمَّدُ بْنُ إسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي فُدَيْكٍ الْمَدَنِيُّ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ حَرَامِ بْنِ سَعْدِ بْنِ مُحَيِّصَةَ الْحَارِثِيِّ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ مِثْلَهُ . حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ شُعَيْبٍ قَالَ : ثنا أَسَدُ بْنُ مُوسَى قَالَ : ثنا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ فَذَكَرَ بِإِسْنَادِهِ مِثْلَهُ . حَدَّثَنَا يُونُسُ قَالَ : أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ أَنَّ مَالِكًا أَخْبَرَهُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ الزُّهْرِيِّ عَنْ حَرَامِ بْنِ مُحَيِّصَةَ أَحَدِ بَنِي حَارِثَةَ عَنْ أَبِيهِ فَذَكَرَ مِثْلَهُ . فَدَلَّ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ مَا كَانَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي ذَلِكَ مِنْ الْإِبَاحَةِ فِي هَذَا إنَّمَا كَانَ بَعْدَمَا نَهَاهُ عَنْهُ نَهْيًا عَامًّا مُطْلَقًا عَلَى مَا فِي الْآثَارِ الْأُوَلِ . وَفِي إبَاحَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُطْعِمَهُ الرَّقِيقَ أَوْ النَّاضِحَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِحَرَامٍ . أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَالَ الْحَرَامَ الَّذِي لَا يَحِلُّ أَكْلُهُ لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يُطْعِمَهُ رَقِيقَهُ وَلَا نَاضِحَهُ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ فِي الرَّقِيقِ { أَطْعِمُوهُمْ مِمَّا تَأْكُلُونَ } . فَلَمَّا ثَبَتَ إبَاحَةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِمُحَيَّصَةَ أَنْ يَعْلِفَ ذَلِكَ نَاضِحَهُ وَيُطْعِمَ رَقِيقَهُ مِنْ كَسْبِ حَجَّامِهِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى نَسْخِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ نَهْيِهِ عَنْ ذَلِكَ وَثَبَتَ حِلُّ ذَلِكَ لَهُ وَلِغَيْرِهِ .(1/52)
وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ . وَهَذَا هُوَ النَّظَرُ عِنْدَنَا أَيْضًا لِأَنَّا قَدْ رَأَيْنَا الرَّجُلَ يَسْتَأْجِرُ الرَّجُلَ يَفْصِدُ لَهُ عِرْقًا أَوْ يَبْزُغَ لَهُ حِمَارًا فَيَكُونُ ذَلِكَ جَائِزًا وَالِاسْتِئْجَارُ عَلَى ذَلِكَ جَائِزٌ فَالْحِجَامَةُ أَيْضًا كَذَلِكَ . وَقَدْ رُوِيَ فِي ذَلِكَ أَيْضًا عَمَّنْ بَعْدَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا حَدَّثَنَا يُونُسُ قَالَ : ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ قَالَ : أَخْبَرَنِي مُوسَى بْنُ عَلِيِّ بْنِ رَبَاحٍ اللَّخْمِيُّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ : كُنْت عِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْعَبَّاسِ رضي الله عنهما فَأَتَتْهُ امْرَأَةٌ فَقَالَتْ لَهُ : إنَّ لِي غُلَامًا حَجَّامًا وَإِنَّ أَهْلَ الْعِرَاقِ يَزْعُمُونَ أَنِّي آكُلُ ثَمَنَ الدَّمِ . فَقَالَ لَهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ : لَقَدْ كَذَبُوا إنَّمَا تَأْكُلِينَ خَرَاجَ غُلَامِك . حَدَّثَنَا يُونُسُ قَالَ : ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ قَالَ : وَحَدَّثَنِي رَبِيعَةُ بْنُ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ الرَّأْيَ أَنَّ الْحَجَّامِينَ قَدْ كَانَ لَهُمْ سُوقٌ عَلَى عَهْدِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه وَقَدْ حَدَّثَنَا يُونُسُ قَالَ : ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ أَنَّهُ قَالَ : - وَقَدْ أَخْبَرَنِي يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيُّ - أَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَزَالُوا مُقِرِّينَ بِأَجْرِ الْحِجَامَةِ وَلَا يُنْكِرُونَهَا .
وفي المحلى :(1/53)
852 مَسْأَلَةٌ : وَمَنْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ عَلَى بَعِيرٍ مَغْصُوبٍ , أَوْ جَلَّالٍ بَطَلَ حَجُّهُ إذَا كَانَ عَالِمًا بِذَلِكَ , وَأَمَّا مَنْ حَجَّ بِمَالٍ حَرَامٍ فَأَنْفَقَهُ فِي الْحَجِّ - وَلَمْ يَتَوَلَّ هُوَ حَمْلَهُ بِنَفْسِهِ - فَحَجُّهُ تَامٌّ . أَمَّا الْمَغْصُوبُ , فَلِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِمَا أَمَرَهُ اللَّهُ - تَعَالَى - بِهِ وَلَمْ يَحُجَّ كَمَا أُمِرَ - وَأَمَّا وُقُوفُهُ عَلَى بَعِيرٍ جَلَّالٍ فَلِمَا صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِمَّا حَدَّثَنَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَبِيعٍ نَا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ نَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ نَا أَبُو دَاوُد نَا أَحْمَدُ بْنُ أَبِي سُرَيْجٍ الرَّازِيُّ أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْجَهْمِ نَا عَمْرٌو هُوَ ابْنُ أَبِي قَيْسٍ - عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيُّ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : { نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ الْجَلَّالَةِ فِي الْإِبِلِ أَنْ يُرْكَبَ عَلَيْهَا } . وَبِهِ إلَى أَبِي دَاوُد نَا مُسَدَّدٌ نَا عَبْدُ الْوَارِثِ هُوَ التَّنُّورِيُّ - عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيُّ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : { نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ رُكُوبِ الْجَلَّالَةِ } .(1/54)
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ : وَالْجَلَّالَةُ هِيَ الَّتِي عَلَفُهَا الْجُلَّةُ وَهِيَ الْعَذِرَةُ ; فَمَنْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ عَلَى بَعِيرٍ جَلَّالٍ فَلَمْ يَقِفْ كَمَا أُمِرَ ; لِأَنَّهُ عَاصٍ فِي وُقُوفِهِ [ عَلَيْهِ ] وَالْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ طَاعَةٌ وَفَرْضٌ , وَمِنْ الْمُحَالِ أَنْ تَنُوبَ الْمَعْصِيَةُ عَنْ الطَّاعَةِ وَقَالَ عليه السلام : { إنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ } فَمَنْ وَقَفَ بِهَا حَامِلًا لِمَالٍ حَرَامٍ , فَلَمْ يَقِفْ كَمَا أُمِرَ بَلْ وَقَفَ عَاصِيًا , فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِذَلِكَ فَقَدْ قَالَ - تَعَالَى - : { وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ , وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ } وَمَنْ لَمْ يَتَعَمَّدْ لِلْحَرَامِ عَالِمًا بِهِ فَلَيْسَ عَاصِيًا , وَإِذَا لَمْ يَكُنْ عَاصِيًا فَهُوَ مُحْسِنٌ قَالَ - تَعَالَى - : { مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ } فَقَدْ وَقَفَ كَمَا أُمِرَ , وَعَفَا اللَّهُ - تَعَالَى - لَهُ عَمَّا لَمْ يَعْلَمْهُ . وَأَمَّا نَفَقَةُ الْمَالِ الْحَرَامِ فِي الْحَجِّ وَطَرِيقُهُ - : فَهُوَ إنْ كَانَ عَاصِيًا بِذَلِكَ فَلَمْ يُبَاشِرْ الْمَعْصِيَةَ فِي حَالِ إحْرَامِهِ وَلَا فِي شَيْءٍ مِنْ أَعْمَالِ حَجِّهِ فَلَمْ يَخْلِطْ فِي عَمَلِهِ الْوَاجِبِ عَمَلًا مُحَرَّمًا وَبِاَللَّهِ - تَعَالَى - التَّوْفِيقُ . وَكَذَلِكَ لَوْ رَكِبَ الْجَلَّالَ فِي شَيْءٍ مِنْ إحْرَامِهِ أَوْ عَمَلِ حَجِّهِ لِقَوْلِ اللَّهِ - تَعَالَى - : { فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ } وَالْمَعْصِيَةُ : فُسُوقٌ ; وَقَدْ وَافَقُونَا عَلَى بُطْلَانِ صَلَاةِ مَنْ صَلَّى الْفَرْضَ رَاكِبًا لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ ; لِأَنَّ كِلَيْهِمَا عَمَلٌ مُحَرَّمٌ .(1/55)
1260 - مَسْأَلَةٌ : فَمَنْ غَصَبَ شَيْئًا , أَوْ أَخَذَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ , لَكِنْ بِبَيْعٍ مُحَرَّمٍ , أَوْ هِبَةٍ مُحَرَّمَةٍ , أَوْ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ , أَوْ وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّهُ لَهُ : فَفَرْضٌ عَلَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُ إنْ كَانَ حَاضِرًا , أَوْ مَا بَقِيَ مِنْهُ إنْ تَلِفَ بَعْضُهُ - أَقَلُّهُ أَوْ أَكْثَرُهُ - وَمِثْلُ مَا تَلِفَ مِنْهُ , أَوْ يَرُدَّهُ وَمِثْلَ مَا نَقَصَ مِنْ صِفَاتِهِ , أَوْ مِثْلَهُ إنْ فَاتَتْ عَيْنُهُ - وَأَنْ يَرُدَّ كُلَّ مَا اُغْتُلَّ مِنْهُ , وَكُلَّ مَا تَوَلَّدَ مِنْهُ , كَمَا قُلْنَا سَوَاءٌ سَوَاءٌ : الْحَيَوَانُ , وَالدُّورُ , وَالشَّجَرُ , وَالْأَرْضُ , وَالرَّقِيقُ , وَغَيْرُ ذَلِكَ سَوَاءٌ فِي كُلِّ مَا قُلْنَا . فَيَرُدَّ كُلَّ مَا اُغْتُلَّ مِنْ الشَّجَرِ , وَمِنْ الْمَاشِيَةِ : مِنْ لَبَنٍ , أَوْ صُوفٍ , أَوْ نِتَاجٍ , وَمِنْ الْعَقَارِ : الْكِرَاءِ . وَإِنْ كَانَتْ أَمَةٌ فَأَوْلَدَهَا , فَإِنْ كَانَ عَالَمًا فَعَلَيْهِ الْحَدُّ حَدُّ الزِّنَى وَبِرَدِّهَا وَأَوْلَادِهَا وَمَا نَقَصَهَا وَطْؤُهُ , وَإِنْ كَانَ جَاهِلًا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ مِنْ حَدٍّ , وَلَا إثْمَ , لَكِنْ يَرُدُّهَا , وَيَرُدُّ أَوْلَادَهُ مِنْهَا رَقِيقًا لِسَيِّدِهَا , وَيَرُدُّ مَا نَقَصَهَا وَطْؤُهُ - وَلَا شَيْءَ لِكُلِّ مَنْ ذَكَرْنَا عَلَى الْمُسْتَحِقِّ فِيمَا أَنْفَقَ كَثُرَ أَمْ قَلَّ .(1/56)
بُرْهَانُ ذَلِكَ - : مَا ذَكَرْنَا آنِفًا مِنْ الْقُرْآنِ , وَكُلُّ مَا تَوَلَّدَ مِنْ مَالِ الْمَرْءِ فَهُوَ لَهُ بِاتِّفَاقٍ مِنْ خُصُومِنَا مَعَنَا , فَمَنْ خَالَفَ مَا قُلْنَا : فَقَدْ أَبَاحَ أَكْلَ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ , وَأَبَاحَ الْمَالَ الْحَرَامَ , وَخَالَفَ الْقُرْآنَ , وَالسُّنَنَ , بِلَا دَلِيلٍ أَصْلًا - : رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ , وَاللَّيْثِ , وَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ , وَأَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيُّ وَإِسْمَاعِيلَ بْنِ أُمَيَّةَ , وَمُوسَى بْنُ عُقْبَةَ , كُلُّهُمْ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : { أَلَا لَا يَحْلِبَنَّ أَحَدٌ مَاشِيَةَ أَحَدٍ إلَّا بِإِذْنِهِ , أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تُؤْتَى مَشْرُبَتُهُ فَتُكْسَرَ خِزَانَتُهُ فَيُنْتَقَلَ طَعَامُهُ , فَإِنَّمَا تَخْزُنُ لَهُمْ ضُرُوعُ مَوَاشِيهِمْ أَطْعِمَتَهُمْ } وَهَذَا نَصُّ قَوْلِنَا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ . وَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي هَذَا , فَقَالَ بَعْضُ التَّابِعِينَ وَبَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ : كُلُّ ذَلِكَ لِلْغَاصِبِ وَلِلْمُسْتَحَقِّ عَلَيْهِ بِضَمَانِهِ . وَقَالَ آخَرُونَ : مَا تَوَلَّدَ مِنْ لَبَنٍ , أَوْ صُوفٍ , أَوْ إجَارَةٍ فَهُوَ لِلْغَاصِبِ وَالْمُسْتَحَقِّ عَلَيْهِ , وَأَمَّا الْوَلَدُ فَلِلْمُسْتَحِقِّ - وَفَرَّقَ آخَرُونَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْمُسْتَحَقِّ عَلَيْهِ وَبَيْنَ الْغَاصِبِ : فَجَعَلُوا كُلَّ ذَلِكَ لِلْمُسْتَحَقِّ عَلَيْهِ , وَلَمْ يَجْعَلُوهُ لِلْغَاصِبِ - وَفَرَّقَ آخَرُونَ بَيْنَ مَا وُجِدَ مِنْ ذَلِكَ قَائِمًا وَبَيْنَ مَا هَلَكَ مِنْهُ فَلَمْ يُضَمِّنُوهُ مَا هَلَكَ .(1/57)
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ : وَهَذِهِ كُلُّهَا أَرَاءٌ فَاسِدَةٌ مُتَخَاذِلَةٌ , وَحُجَّةُ جَمِيعِهِمْ إنَّمَا هِيَ الْحَدِيثُ الَّذِي لَا يَصِحُّ , الَّذِي انْفَرَدَ بِهِ مَخْلَدُ بْنُ خَفَّافٍ , وَمُسْلِمُ بْنُ خَالِدٍ الزِّنْجِيُّ " أَنَّ الْخَرَاجَ بِالضَّمَانِ " . ثُمَّ لَوْ صَحَّ لَمَا كَانَ لَهُمْ فِيهِ حُجَّةٌ , لِأَنَّهُ إنَّمَا جَاءَ فِيمَنْ اشْتَرَى عَبْدًا فَاسْتَغَلَّهُ , ثُمَّ وَجَدَ بِهِ عَيْبًا فَرَدَّهُ , فَكَانَ خَرَاجُهُ لَهُ - وَهَكَذَا نَقُولُ نَحْنُ , لِأَنَّهُ قَدْ مَلَكَهُ مِلْكًا صَحِيحًا فَاسْتَغَلَّ مَالَهُ لَا مَالَ غَيْرِهِ , وَمِنْ الْبَاطِلِ أَنْ يُقَاسَ الْحَرَامُ عَلَى الْحَلَالِ , ثُمَّ لَوْ كَانَ الْقِيَاسُ حَقًّا فَكَيْفَ وَهُوَ بَاطِلٌ كُلُّهُ ؟ أَوْ أَنْ يَحْكُمَ لِلْبَاطِلِ بِحُكْمِ الْحَقِّ , وَلِلظَّالِمِ بِحُكْمِ مَنْ لَمْ يَظْلِمْ , فَهَذَا الْجَوْرُ وَالتَّعَدِّي لِحُدُودِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ . ثُمَّ لَوْ صَحَّ هَذَا الْخَبَرُ عَلَى عُمُومِهِ لَكَانَ تَقْسِيمُ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الْغَاصِبِ وَبَيْنَ الْمُسْتَحَقِّ عَلَيْهِ , وَبَيْنَ الْوَلَدِ وَبَيْنَ الْغَلَّةِ , وَبَيْنَ الْمَوْجُودِ وَالتَّأَلُّفِ بَاطِلًا مَقْطُوعًا بِهِ , لِأَنَّهُ لَا بِهَذَا الْخَبَرِ أَخَذَ , وَلَا بِالنُّصُوصِ الَّتِي قَدَّمْنَا أَخَذَ , بَلْ خَالَفَ كُلَّ ذَلِكَ , فَإِنَّمَا بَقِيَ الْكَلَامُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ مَنْ رَأَى الْغَلَّةَ وَالْوَلَدَ لِلْغَاصِبِ وَلِلْمُسْتَحَقِّ عَلَيْهِ بِالضَّمَانِ فَقَطْ , فَالنُّصُوصُ الَّتِي ذَكَرْنَا تُوجِبُ مَا قُلْنَا .(1/58)
وَأَيْضًا : فَإِنَّ الرِّوَايَةَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد قَالَ : نا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى نا عَبْدُ الْوَهَّابِ - هُوَ ابْنُ عَبْدِ الْمَجِيدِ الثَّقَفِيُّ - نا أَيُّوبُ - هُوَ السِّخْتِيَانِيُّ - عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيِّتَةً فَهِيَ لَهُ وَلَيْسَ لِعِرْقِ ظَالِمٍ حَقٌّ } . فَنَسْأَلُهُمْ عَمَّنْ صَارَ إلَيْهِ مَالُ أَحَدٍ بِغَيْرِ حَقٍّ ؟ أَعِرْقُ ظَالِمٍ هُوَ أَمْ لَا ؟ فَإِنْ قَالُوا : لَا , خَالَفُوا الْقُرْآنَ , وَالسُّنَنَ , وَتَرَكُوا قَوْلَهُمْ , وَقَوْلَ أَهْلِ الْإِسْلَامِ , وَلَزِمَهُمْ أَنْ لَا يَرُدُّوا عَلَى الْمُسْتَحِقِّ شَيْئًا , لِأَنَّهُ لَيْسَ بِيَدِ الْمُسْتَحَقِّ عَلَيْهِ , وَلَا بِيَدِ الْغَاصِبِ , وَالظَّالِمُ بِعِرْقِ ظَالِمٍ , وَإِذَا لَمْ يَكُنْ عِرْقُ ظَالِمٍ فَهُوَ عِرْقُ حَقٍّ , إذْ لَا وَاسِطَةَ بَيْنَهُمَا . قَالَ تَعَالَى : { فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إلَّا الضَّلَالُ } وَهُمْ لَا يَقُولُونَ بِهَذَا - وَإِنْ قَالُوا : بَلْ بِعِرْقِ ظَالِمٍ هُوَ بِيَدِهِ , لَزِمَهُمْ أَنْ لَا حَقَّ لَهُ فِي شَيْءٍ مِمَّا سَرَى فِيهِ ذَلِكَ الْعِرْقُ . وَهَذَا فِي غَايَةِ الْوُضُوحِ - وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ . وَأَمَّا مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الْوَلَدِ وَبَيْنَ سَائِرِ الْغَلَّةِ : فَكَلَامٌ فِي غَايَةِ السُّخْفِ وَالْفَسَادِ , وَلَوْ عُكِسَ عَلَيْهِمْ قَوْلُهُمْ مَا انْفَصَلُوا مِنْهُ .(1/59)
وَأَمَّا مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الْأَوْلَادِ الْأَحْيَاءِ فَرَأَى رَدَّهُمْ , وَبَيْنَ الْمَوْتَى فَلَمْ يَرَ رَدَّهُمْ فَيُقَالُ لَهُمْ هَلْ وَجَبَ عَلَيْهِ رَدُّ كُلِّ مَا نَتَجَتْ الْأُمَّهَاتُ حِينَ الْوِلَادَةِ إلَى سَيِّدِهِمْ وَسَيِّدِ أُمِّهِمْ أَمْ لَا ؟ فَإِنْ قَالُوا : لَا , لَزِمَهُمْ أَنْ لَا يَقْضُوا بِرَدِّهِمْ أَصْلًا أَحْيَاءً وُجِدُوا أَمْ أَمْوَاتًا . وَإِنْ قَالُوا : نَعَمْ , قُلْنَا : فَسُقُوطُ وُجُوبِ رَدِّهِمْ بِمَوْتِهِمْ كَلَامٌ بَاطِلٌ لَا خَفَاءَ بِهِ . وَلَهُمْ فِي أَوْلَادِ الْمُسْتَحِقَّةِ مِمَّنْ اُسْتُحِقَّتْ عَلَيْهِ أَقْوَالٌ ثَلَاثَةٌ - : فَمَرَّةً قَالُوا : يَأْخُذُهَا وَيَأْخُذُ قِيمَةَ وَلَدِهَا , وَمَرَّةٌ قَالُوا : يَأْخُذُهَا فَقَطْ , وَلَا شَيْءَ لَهُ فِي الْوَلَدِ - لَا قِيمَةَ وَلَا غَيْرِهَا - وَمَرَّةً قَالُوا : يَأْخُذُ قِيمَتَهَا وَقِيمَةَ وَلَدِهَا .(1/60)
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ : وَهَذِهِ أَقْوَالٌ فِي غَايَةِ الْفَسَادِ , وَنَسْأَلُهُمْ عَنْ هَؤُلَاءِ الْأَوْلَادِ هَلْ وَقَعَ عَلَيْهِمْ قَطُّ فِي أَوَّلِ خَلْقهمْ , أَوْ حِينَ وِلَادَتِهِمْ : مَلَكَ سَيِّدُ أُمِّهِمْ أَمْ لَمْ يَقَعْ لَهُ قَطُّ عَلَيْهِمْ مِلْكٌ ؟ وَلَا ثَالِثَ لِهَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ ؟ فَإِنْ قَالُوا : بَلْ قَدْ وَقَعَ عَلَيْهِمْ مِلْكُهُ ؟ قُلْنَا : فَفِي أَيِّ دِينِ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ وَجَدْتُمْ أَنْ تُجْبِرُوهُ عَلَى بَيْعِ عَبْدِهِ أَوْ أَمَتِهِ بِلَا ضَرَرٍ كَانَ مِنْهُ إلَيْهِمْ ؟ وَمَا الْفَرْقُ بَيْنَ هَؤُلَاءِ وَبَيْنَ مَنْ تَزَوَّجَ أَمَةً فَاسْتُرِقَّ وَلَدُهُ مِنْهَا ؟ فَهَلَّا أَجْبَرْتُمْ سَيِّدَهَا عَلَى قَبُولِ فَدَائِهِمْ فَإِنْ قَالُوا : عَلَى هَذَا دَخَلَ النَّاكِحُ لَمْ يَنْوِ الْمُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ عَلَى ذَلِكَ ؟ قُلْنَا : فَكَانَ مَاذَا , وَمَا حُرِّمَتْ أَمْوَالُ النَّاسِ عَلَيْهِمْ بِنِيَّاتِ غَيْرِهِمْ فِيهَا , أَوْ أَيْنَ وَجَدْتُمْ هَذَا الْحُكْمَ ؟ وَهَذَا مَا لَا سَبِيلَ إلَى وُجُودِهِ , وَإِذْ هُمْ فِي مِلْكِهِ فَهُمْ لَهُ بِلَا شَكٍّ . وَإِنْ قَالُوا : لَمْ يَقَعْ مِلْكُهُ قَطُّ عَلَيْهِمْ ؟ قُلْنَا : فَبِأَيِّ وَجْهٍ تَقْضُونَ لَهُ بِقِيمَتِهِمْ ؟ وَهَذَا ظُلْمٌ لِأَبِيهِمْ بَيِّنٌ , وَإِيكَالٌ لِمَا لَهُ بِالْبَاطِلِ , وَإِبَاحَةٌ لِثَمَنِ الْحُرِّ الَّذِي حَرَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَرَسُولُهُ عليه السلام .(1/61)
وَيُقَالُ لِمَنْ قَالَ : يَأْخُذُ قِيمَةَ الْأُمِّ فَقَطْ , أَوْ يَأْخُذُهَا فَقَطْ : لِأَيِّ شَيْءٍ يَأْخُذُهَا , أَوْ قِيمَتَهَا ؟ فَإِنْ قَالُوا : لِأَنَّهَا أَمَتُهُ ؟ قُلْنَا : فَأَوْلَادُ أَمَتِهِ عَبِيدُهُ بِلَا شَكٍّ , فَلِمَ أَعْطَيْتُمُوهُ بَعْضَ مَا مَلَكَتْ يَمِينُهُ وَتَمْنَعُونَهُ الْبَعْضَ ؟ أَوْ لِمَ تَجْبُرُونَهُ عَلَى بَيْعِهَا وَهُوَ لَا يُرِيدُ بَيْعَهَا - : رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ حُمَيْدٍ أَنَّ رَجُلًا بَاعَ جَارِيَةً لِأَبِيهِ فَتَسَرَّاهَا الْمُشْتَرِي فَوَلَدَتْ لَهُ أَوْلَادًا فَجَاءَ أَبُوهُ فَخَاصَمَهُ إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَرَدَّهَا وَوَلَدَهَا إلَيْهِ , فَقَالَ الْمُشْتَرِي : دَعْ لِي وَلَدِي , فَقَالَ لَهُ : دَعْ لَهُ وَلَدَهُ . قَالَ عَلِيٌّ : هَذِهِ شَفَاعَةٌ مِنْ عُمَرَ رضي الله عنه وَرَغْبَةٌ وَلَيْسَ فَسْخًا لِقَضَائِهِ بِهَا وَبِوَلَدِهَا لِسَيِّدِهَا - : وَمِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى نا عَبْدُ الْأَعْلَى نا سَعِيدٌ - هُوَ ابْنُ أَبِي عَرُوبَةَ - عَنْ قَتَادَةَ عَنْ خِلَاسٍ : أَنَّ أَمَةً أَتَتْ طَيِّئًا فَزَعَمَتْ أَنَّهَا حُرَّةٌ , فَتَزَوَّجَهَا رَجُلٌ مِنْهُمْ فَوَلَدَتْ لَهُ أَوْلَادًا ثُمَّ إنَّ سَيِّدَهَا ظَهَرَ عَلَيْهَا فَقَضَى بِهَا عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ : أَنَّهَا وَأَوْلَادَهَا لِسَيِّدِهَا , وَأَنَّ لِزَوْجِهَا مَا أَدْرَكَ مِنْ مَتَاعِهِ , وَجَعَلَ فِيهِمْ الْمِلَّةَ وَالسُّنَّةَ كُلُّ رَأْسٍ رَأْسَيْنِ .(1/62)
وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ أَنَّ امْرَأَةً وَابْنًا لَهَا بَاعَا جَارِيَةً لِزَوْجِهَا - وَهُوَ أَبُو الْوَلَدِ - فَوَلَدَتْ الْجَارِيَةُ لِلَّذِي ابْتَاعَهَا ثُمَّ جَاءَ زَوْجُهَا فَخَاصَمَ إلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ ؟ فَقَالَ : لَمْ أَبِعْ وَلَمْ أَهَبْ ؟ فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ : قَدْ بَاعَ ابْنُك وَبَاعَتْ امْرَأَتُك ؟ قَالَ : إنْ كُنْت تَرَى لِي حَقًّا فَأَعْطِنِي ؟ قَالَ : فَخُذْ جَارِيَتَك وَابْنَهَا , ثُمَّ سَجَنَ الْمَرْأَةَ وَابْنَهَا حَتَّى تَخَلَّصَا لَهُ , فَلَمَّا رَأَى الزَّوْجُ ذَلِكَ أَنْفَذَ الْبَيْعَ . فَهَذَا عَلِيٌّ قَدْ رَأَى الْحَقَّ أَنَّهَا وَوَلَدَهَا لِسَيِّدِهَا وَقَضَى بِذَلِكَ , وَسَجَنَ الْمَرْأَةَ وَوَلَدَهَا - وَهُمَا أَهْلٌ لِذَلِكَ - لِتَعَدِّيهِمَا , وَالْأَخْذُ بِالْخَلَاصِ قَدْ يَكُونُ الْمُرَادُ بِهِ رَدَّ الثَّمَنِ وَهَذَا حَقٌّ . وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ عَنْ مُطَرِّفٍ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ عَلِيٍّ فِي رَجُلٍ اشْتَرَى جَارِيَةً فَوَلَدَتْ لَهُ ثُمَّ اسْتَحَقَّهَا آخَرُ بِبَيِّنَةٍ ؟ قَالَ عَلِيٌّ : تَرُدُّ عَلَيْهِ , وَيَقُومُ وَلَدُهَا فَيَغْرَمُ الَّذِي بَاعَهُ بِمَا عَزَّ وَهَانَ . وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ نا هُشَيْمٌ أَنَا مُطَرِّفٌ - هُوَ ابْنُ طَرِيفٍ - وَالْمُغِيرَةُ , قَالَ مُطَرِّفٌ : عَنْ الشَّعْبِيِّ , وَقَالَ مُغِيرَةُ : عَنْ إبْرَاهِيمَ , ثُمَّ اتَّفَقَ الشَّعْبِيُّ , وَإِبْرَاهِيمُ فِي وَلَدِ الْغَارَّةِ أَنَّ عَلَى أَبِيهِمْ أَنْ يَفْدِيَهُمْ بِمَا عَزَّ وَهَانَ . وَعَنْ الْحَسَنِ : يُفْدَوْنَ بِعَبْدٍ عَبْدٍ .(1/63)
وَقَدْ رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ أَيُّوبَ بْنِ مُوسَى عَنْ ابْنِ قُسَيْطٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ قَالَ : قَضَى عُمَرُ فِي أَوْلَادِ الْغَارَّة بِالْقِيمَةِ . وَرُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ نا سُفْيَانُ عَنْ أَيُّوبَ بْنِ مُوسَى عَنْ ابْنِ قُسَيْطٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ قَالَ : غَرَّتْ أَمَةٌ قَوْمًا وَزَعَمَتْ أَنَّهَا حُرَّةٌ فَتَزَوَّجَتْ فِيهِمْ فَوَلَدَتْ أَوْلَادًا فَوَجَدُوهَا أَمَةٌ فَقَضَى عُمَرُ بِقِيمَةِ أَوْلَادِهَا فِي كُلِّ مَغْرُورٍ غُرَّةٌ . وَقَضَى الشَّعْبِيُّ , وَابْنُ الْمُسَيِّبِ فِي وَلَدِ الْمَغْرُورِ بِغُرَّةٍ . وَهُوَ أَيْضًا قَوْلُ أَبِي مَيْسَرَةَ , وَالْحَسَنِ : مَكَانَ كُلِّ وَاحِدٍ غُرَّةٌ . وَقَالَ إبْرَاهِيمُ : عَلَى أَبِيهِمْ قِيمَتُهُمْ وَيُهْضَمُ عَنْهُ مِنْ الْقِيمَةِ شَيْءٌ . وَهَذَا قَوْلُنَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي ثَوْرٍ , وَأَبِي سُلَيْمَانَ , وَأَصْحَابِنَا , وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ , إلَّا فِي وَلَدِ الْمُسْتَحَقِّ عَلَيْهِ مِنْهَا فَقَطْ , فَإِنَّهُ نَاقَضَ فِي ذَلِكَ .(1/64)
وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ نا إسْمَاعِيلُ ابْنُ عُلَيَّةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَوْنٍ أَنَّ رَجُلًا اشْتَرَى عَبْدًا فَاسْتَغَلَّهُ , ثُمَّ جَاءَ رَجُلٌ فَادَّعَاهُ فَخَاصَمَ إلَى إيَاسِ بْنِ مُعَاوِيَةَ فِيهِ فَاسْتَحَقَّهُ فَقَضَى لَهُ بِالْعَبْدِ وَبِغَلَّتِهِ , وَقَضَى لِلرَّجُلِ عَلَى صَاحِبِهِ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْهُ بِمِثْلِ الْعَبْدِ , وَبِمِثْلِ غَلَّتِهِ , قَالَ ابْنُ عَوْنٍ : فَذَكَرْت ذَلِكَ لِمُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ فَقَالَ : هُوَ فَهْمٌ - فَهَذَانِ إيَاسُ بْنُ مُعَاوِيَةَ , وَمُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ , يَقُولَانِ بِقَوْلِنَا فِي رَدِّ الْغَلَّةِ فِي الِاسْتِحْقَاقِ . وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ قَالَ : إذَا اشْتَرَيْت غَنَمًا فَنَمَتْ ثُمَّ جَاءَ أَمْرٌ بِرَدِّ الْبَيْعِ فِيهِ قَالَ : يَرُدُّهَا وَنَمَاءَهَا , وَالْجَارِيَةُ إذَا وَلَدَتْ كَذَلِكَ .(1/65)
فَإِنْ قَالُوا : فَلِمَ فَرَّقْتُمْ أَنْتُمْ بَيْنَ الْغَاصِبِ وَالْمُسْتَحِقِّ فَأَلْحَقْتُمْ الْوَلَدَ بِالْمُسْتَحَقِّ عَلَيْهِ وَلَمْ تُلْحِقُوهُ بِالْغَاصِبِ ؟ قُلْنَا : نَعَمْ , لِأَنَّهُ لَمْ يَخْتَلِفْ اثْنَانِ مِنْ مُؤْمِنٍ وَكَافِرٍ فِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بُعِثَ فَأَسْلَمَ النَّاسُ وَفِيهِمْ أَوْلَادُ الْمَنْكُوحَاتِ النِّكَاحَ الْفَاسِدَ وَالْمُتَمَلِّكَاتِ بِغَيْرِ حَقٍّ , وَالْمُتَمَلِّكُ , وَالنَّاكِحُ يَظُنَّانِ أَنَّ ذَلِكَ النِّكَاحَ وَالْمِلْكَ حَقٌّ , فَأَلْحَقَهُمْ بِآبَائِهِمْ , وَلَمْ يُلْحِقْ قَطُّ وَلَدَ غَاصِبٍ , أَوْ زَانٍ بِمَنْ وَضَعَهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ , بَلْ قَالَ عليه السلام : { وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ } وَالْغَاصِبُ وَالْعَالِمُ بِفَسَادِ عَقْدِهِ - مِلْكًا كَانَ أَوْ زَوَاجًا - عَاهِرَانِ فَلَا حَقَّ لَهُمَا فِي الْوَلَدِ - وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ .(1/66)
وَهَذَا مَكَانٌ خَالَفُوا فِيهِ عُمَرَ , وَعُثْمَانَ , وَعَلِيًّا , وَلَا يُعْرَفُ لَهُمْ مِنْ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم فِي ذَلِكَ مُخَالِفٌ إلَّا رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ عَنْ مُطَرِّفِ بْنِ طَرِيفٍ عَنْ الشَّعْبِيِّ أَنَّ رَجُلًا اشْتَرَى جَارِيَةً فَوَلَدَتْ لَهُ فَأَقَامَ رَجُلٌ الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا لَهُ , فَقَالَ عَلِيٌّ : تُرَدُّ إلَيْهِ وَيُقَوَّمُ عَلَيْهِ الْوَلَدُ فَيَغْرَمُ الَّذِي بَاعَ بِمَا عَزَّ وَهَانَ , فَادَّعَوْا أَنَّهُمْ تَعَلَّقُوا بِهَذِهِ , وَقَدْ كَذَبُوا لِأَنَّهُمْ لَا يُغَرِّمُونَ الْبَائِعَ مَا يَفْدِي بِهِ وَلَدَهُ , إلَّا الرِّوَايَةَ الْمُنْقَطِعَةَ الَّتِي ذَكَرْنَا قَبْلُ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَضَى فِي أَوْلَادِ الْغَارَّةِ بِقِيمَتِهِمْ وَالْقِيمَةُ قَدْ صَحَّتْ عَنْ عُمَرَ فِي ذَلِكَ أَنَّهَا عَبْدٌ مَكَانَ عَبْدٍ أَوْ عَبْدَانِ مَكَانَ عَبْدٍ ; فَقَدْ خَالَفُوا هَذَا أَيْضًا . وَخَالَفُوا كُلَّ مَنْ ذَكَرْنَا , وَالْحَسَنُ , وَقَتَادَةَ , وَالشَّعْبِيُّ , وَهُمْ جُمْهُورُ مَنْ رَوَى عَنْهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَوْلٌ فِي فِدَاءِ وَلَدِ الْغَارَّةِ الْمُسْتَحَقَّةِ بِعَبْدٍ . وَأَمَّا قَوْلُنَا : إنَّهُ يَضْمَنُ كُلَّ مَا مَاتَ مِنْ الْوَلَدِ وَالنِّتَاجِ , وَمَا تَلِفَ مِنْ الْغَلَّةِ وَيَضْمَنُ الزِّيَادَةَ فِي الْجِسْمِ وَالْقِيمَةَ , لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ مَالُ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ وَكَانَ فَرْضًا عَلَيْهِ أَنْ يَرُدَّ كُلَّ ذَلِكَ فَهُوَ مُعْتَدٍ بِإِمْسَاكِهِ مَالَ غَيْرِهِ , فَعَلَيْهِ أَنْ يَعْتَدِيَ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى .(1/67)
فَإِنْ قَالُوا : لَيْسَ مُعْتَدِيًا , لِأَنَّهُ لَمْ يُبَاشِرْ غَصْبَ الْوَلَدِ وَإِنَّمَا هُوَ بِمَنْزِلَةِ رِيحٍ أَلْقَتْ ثَوْبًا فِي مَنْزِلِ الْإِنْسَانِ ؟ قُلْنَا : هَذَا بَاطِلٌ , لِأَنَّ الَّذِي رَمَتْ الرِّيحُ الثَّوْبَ فِي مَنْزِلِهِ لَيْسَ مُتَمَلِّكًا لَهُ وَلَوْ تَمَلَّكَهُ لَلَزِمَهُ ضَمَانُهُ , وَهَذَا الْمُشْتَرِي أَوْ الْغَاصِبُ مُتَمَلِّكٌ لِكُلِّ مَا تَوَلَّدَ مِنْ غَلَّةٍ , أَوْ زِيَادَةٍ , أَوْ نَتَاجٍ , أَوْ ثَمَرَةٍ , حَائِلٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ صَاحِبِهِ الَّذِي افْتَرَضَ اللَّهُ تَعَالَى رَدَّهُ إلَيْهِ , وَحَرَّمَ عَلَيْهِ إمْسَاكَهُ عَنْهُ , فَهُوَ مُعْتَدٍ بِذَلِكَ يَقِينًا فَعَلَيْهِ أَنْ يَعْتَدِيَ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى . وَأَمَّا الزِّيَادَةُ فِي الثَّمَنِ , فَإِنَّهُ حِينَ زَادَ ثَمَنُهُ كَانَ فَرْضًا عَلَيْهِ رَدُّهُ إلَى صَاحِبِهِ بِجَمِيعِ صِفَاتِهِ , فَكَانَ لَازِمًا لَهُ أَنْ يَرُدَّهُ إلَيْهِ وَهُوَ يُسَاوِي تِلْكَ الْقِيمَةِ , فَإِذَا لَزِمَهُ ذَلِكَ ثُمَّ نَقَصَتْ قِيمَتُهُ فَإِنَّهُ لَا يَسْقُطُ رَدُّ مَا لَزِمَهُ رَدُّهُ . وَأَمَّا الْكِرَاءُ : فَإِنَّهُ إذْ حَالَ بَيْنَ صَاحِبِهِ وَبَيْنَ عَيْنِ مَالِهِ حَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَنَافِعِهِ فَضَمِنَهَا , وَلَزِمَهُ أَدَاءُ مَا مَنَعَهُ مِنْ حَقِّهِ بِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُعْطِيَ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ , وَكِرَاءُ مَتَاعِهِ مِنْ حَقِّهِ بِلَا شَكٍّ , فَفَرْضٌ عَلَى مَانِعِهِ إعْطَاؤُهُ حَقُّهُ .(1/68)
وَمِنْ عَجَائِبِ الدُّنْيَا - : قَوْلُ الْحَنَفِيِّينَ إنَّ الْكِرَاءَ لِلْغَاصِبِ وَالْغَلَّةَ , وَلَا يَضْمَنُ وَلَدَهَا الْمَوْتَى , ثُمَّ يَقُولُونَ فِيمَنْ صَادَ ظَبْيَةً فِي الْحَرَمِ فَأَمْسَكَهَا وَلَمْ يَقْتُلْهَا , حَتَّى إذَا وَلَدَتْ عِنْدَهُ أَوْلَادًا فَمَاتُوا وَلَمْ يَذْبَحْهُمْ : أَنَّهُ يَجْزِيهَا وَيَجْزِي أَوْلَادَهَا - فَلَوْ عَكَسُوا لَأَصَابُوا وَمَا أَلْزَمَ اللَّهُ تَعَالَى صَائِدَ الظَّبْيَةِ ضَمَانَهَا - عَاشَتْ أَوْ مَاتَتْ - إلَّا أَنْ يَقْتُلَهَا عَامِدًا , وَإِلَّا فَلَا , فَهُمْ أَبَدًا يُحَرِّفُونَ كَلَامَ اللَّهِ تَعَالَى عَنْ مَوَاضِعِهِ . وَأَعْجَبُ شَيْءٍ احْتِجَاجُ بَعْضِ مُتَصَدِّرِيهِمْ بِالْجَهْلِ بِأَنْ قَالَ : وَأَيُّ ذَنْبٍ لِلْوَلَدِ حَتَّى يُسْتَرَقَّ ؟ فَقُلْنَا : مَا عَلِمْنَا ذَنْبًا يُوجِبُ الِاسْتِرْقَاقَ , وَالرِّدَّةَ , وَقَتْلَ الْمُؤْمِنِ عَمْدًا , وَتْرُكَ الصَّلَاةِ , وَزِنَى الْمُحْصَنِ أَعْظَمُ الذُّنُوبِ , وَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ يُوجِبُ اسْتِرْقَاقَ فَاعِلِهِ وَأَوْلَادُ الْكُفَّارِ يُسْتَرَقُّونَ وَلَا ذَنْبَ لَهُمْ فَلَيْسَ يَعْتَرِضُ بِمِثْلِ هَذَا الْهَوَسِ إلَّا مَنْ لَا عَقْلَ لَهُ وَلَا دِينَ .(1/69)
وَأَمَّا إسْقَاطُنَا الْمَهْرَ فِي وَطْءِ الْغَاصِبِ , وَالْمُسْتَحِقِّ , فَلِأَنَّهُ لَمْ يُوجِبْهُ قُرْآنٌ وَلَا سُنَّةٌ , وَمَالُ الْغَاصِبِ وَالْمُسْتَحَقِّ عَلَيْهِ : حَرَامٌ , إلَّا مَا أَوْجَبَهُ النَّصُّ وَلَا مَهْرَ إلَّا فِي نِكَاحٍ صَحِيحٍ , أَوْ لِلَّتِي نُكِحَتْ بِغَيْرِ إذْنِ وَلِيِّهَا فَقَطْ - عَلَى مَا جَاءَ بِهِ النَّصُّ - وَإِنَّمَا عَلَيْهِ ضَمَانُ مَا نَقَصَهُ وَطْؤُهُ إيَّاهَا بِزِنَى الْغَاصِبِ أَوْ بِجَهْلِ الْمُسْتَحَقِّ عَلَيْهِ فَقَطْ , لِأَنَّهُ اسْتَهْلَكَ بِذَلِكَ بَعْضَ قِيمَةِ أَمَةِ غَيْرِهِ فَقَطْ . وَأَمَّا الْقَضَاءُ بِالْمِثْلِ : فَإِنَّ الْمُتَأَخِّرِينَ اخْتَلَفُوا , فَقَالَ بَعْضُهُمْ : لَا يُعْطَى إلَّا الْقِيمَةَ فِي كُلِّ شَيْءٍ - : رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ عَنْ أَبِي إسْحَاقَ الشَّيْبَانِيِّ فِيمَنْ اسْتَهْلَكَ حِنْطَةً أَنَّ لَهُ طَعَامًا مِثْلَ طَعَامِهِ , قَالَ سُفْيَانُ , وَقَالَ غَيْرُهُ مِنْ فُقَهَائِنَا : لَهُ الْقِيمَةُ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ , وَمَالِكٌ : أَمَّا مَا يُكَالُ أَوْ يُوزَنُ فَعَلَيْهِ مِثْلُهُ مِنْ نَوْعِهِ , وَأَمَّا مَا عَدَا ذَلِكَ مِنْ الْعُرُوضِ , وَالْحَيَوَانِ فَالْقِيمَةُ . وَقَالَ أَصْحَابُنَا : الْمِثْلُ فِي كُلِّ ذَلِكَ وَلَا بُدَّ , فَإِنْ عُدِمَ الْمِثْلُ فَالْمَضْمُونُ لَهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يُمْهِلَهُ حَتَّى يُوجَدَ الْمِثْلُ , وَبَيْنَ أَنْ يَأْخُذَ الْقِيمَةَ .(1/70)
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ : وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ الَّذِي لَا يَجُوزُ خِلَافُهُ , وَمَا نَعْلَمُ لِمَنْ قَضَى بِالْقِيمَةِ حُجَّةً أَصْلًا إلَّا أَنَّ بَعْضَهُمْ أَتَى بِطَامَّةٍ , فَقَالَ : { إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَضَى عَلَى مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي عَبْدٍ بِأَنْ يُقَوَّمَ عَلَيْهِ بَاقِيهِ لِشَرِيكِهِ , قَالُوا : فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى مَنْ اسْتَهْلَكَ حِصَّةَ غَيْرِهِ مِنْ الْعَبْدِ بِالْقِيمَةِ } . قَالَ عَلِيٌّ : وَهَذَا مِنْ عَجَائِبِهِمْ فَإِنَّهُمْ أَفْحَشُوا الْخَطَأَ فِي هَذَا الِاحْتِجَاجِ مِنْ وَجْهَيْنِ - : أَحَدُهُمَا - احْتِجَاجُهُمْ بِهِ فِيمَنْ اسْتَهْلَكَ , وَالْمُعْتِقُ نَصِيبَهُ مِنْ عَبْدٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ آخَرَ لَمْ يَسْتَهْلِكْ شَيْئًا , وَلَا غَصَبَ شَيْئًا , وَلَا تَعَدَّى أَصْلًا , بَلْ أَعْتَقَ حِصَّتَهُ الَّتِي أَبَاحَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ عِتْقَهَا , وَإِنَّمَا هُوَ حُكْمٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى أَنْفَذَهُ لَا لِتَعَدٍّ مِنْ الْمُعْتَقِ أَصْلًا .(1/71)
وَالثَّانِي - عَظِيمٌ تَنَاقُضُهُمْ , لِأَنَّهُ يَلْزَمُهُمْ إنْ كَانَ الْمُعْتِقُ الْمَذْكُورُ مُسْتَهْلِكًا حِصَّةَ شَرِيكِهِ , وَلِذَلِكَ يَضْمَنُ الْقِيمَةَ بِأَنْ يُوجِبُوا ذَلِكَ عَلَيْهِ مُعْسِرًا كَانَ أَوْ مُوسِرًا كَمَا يَفْعَلُونَ فِي كُلِّ مُسْتَهْلَكٍ وَهُمْ لَا يَفْعَلُونَ هَذَا فَكَيْفَ يَسْتَحِلُّ مَنْ يَدْرِي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَائِلُهُ عَنْ كَلَامِهِ فِي الدِّينِ , وَأَنَّ عِبَادَ اللَّهِ تَعَالَى يَتَعَقَّبُونَ كَلَامَهُ عَلَى هَذِهِ الْمُجَاهَرَةِ الْقَبِيحَةِ الْفَاسِدَةِ مِنْ إحَالَةِ السُّنَنِ عَنْ مَوَاضِعِهَا وَسَعْيِهِمْ فِي إدْحَاضِ الْحَقِّ بِذَلِكَ ؟ وَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَدَّعُوا هَاهُنَا إجْمَاعًا , لِأَنَّ ابْنَ أَبِي لَيْلَى , وَزُفَرَ بْنَ الْهُذَيْلِ يُضَمِّنُونَهُ مُعْسِرًا أَوْ مُوسِرًا , وَمَا نُبَالِي بِطَرْدِ هَذَيْنِ أَصْلُهُمَا فِي الْخَطَأِ , لِأَنَّهُمَا فِي ذَلِكَ مُخَالِفَانِ لِحُكْمِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي أَنَّهُ عليه السلام لَمْ يُضَمِّنْ الْمُعْسِرَ شَيْئًا , وَإِنَّمَا أَمَرَ فِي ذَلِكَ بِالِاسْتِسْعَاءِ لِلْمُعْتَقِ فَقَطْ - : رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ عَنْ حُمَيْدٍ الطَّوِيلِ قَالَ : سَمِعْت أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يُحَدِّثُ { أَنَّ زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ أَهْدَتْ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ فِي بَيْتِ عَائِشَةَ وَيَوْمِهَا : جَفْنَةً مِنْ حَيْسٍ , فَقَامَتْ عَائِشَةُ فَأَخَذَتْ الْقَصْعَةَ فَضَرَبَتْ بِهَا الْأَرْضَ فَكَسَرَتْهَا , فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَى قَصْعَةٍ لَهَا فَدَفَعَهَا إلَى رَسُولِ زَيْنَبَ , فَقَالَ : هَذِهِ مَكَانُ صَحْفَتِهَا - وَقَالَ لِعَائِشَةَ : لَكِ الَّتِي كَسَرْتِ } فَهَذَا قَضَاءٌ بِالْمِثْلِ(1/72)
لَا بِالدَّرَاهِمِ بِالْقِيمَةِ . وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ , وَابْنِ مَسْعُودٍ : أَنَّهُمَا قَضَيَا عَلَى مَنْ اسْتَهْلَكَ فُصْلَانًا بِفُصْلَانٍ مِثْلِهَا . وَعَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ , وَعَلِيٍّ : أَنَّهُمَا قَضَيَا بِالْمِثْلِ فِيمَنْ بَاعَ بَعِيرًا وَاسْتَثْنَى جِلْدَهُ , وَرَأْسَهُ , وَسَوَاقِطَهُ . وَعَنْ عُمَرَ , وَعُثْمَانَ , وَالْحَسَنِ , وَالشَّعْبِيِّ , وَقَتَادَةَ , فِي فِدَاءِ وَلَدِ الْغَارَّةِ بِعَبِيدٍ لَا بِالْقِيمَةِ . وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ عَنْ شُرَيْحٍ : أَنَّهُ قَضَى فِي قَصَّارٍ شَقَّ ثَوْبًا أَنَّ الثَّوْبَ لَهُ , وَعَلَيْهِ مِثْلُهُ ؟ فَقَالَ رَجُلٌ : أَوْ ثَمَنُهُ ؟ فَقَالَ شُرَيْحٌ : إنَّهُ كَانَ أَحَبَّ إلَيْهِ مِنْ ثَمَنِهِ , قَالَ : إنَّهُ لَا يَجِدُ , قَالَ : لَا وَجَدَ . وَعَنْ قَتَادَةَ : أَنَّهُ قَضَى فِي ثَوْبٍ اُسْتُهْلِكَ بِالْمِثْلِ . قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ : لَمْ نُورِدْ قَوْلَ أَحَدٍ مِمَّنْ أَوْرَدْنَا احْتِجَاجًا بِهِ , وَإِنَّمَا أَوْرَدْنَاهُ لِئَلَّا يَهْجُمُوا بِدَعْوَى الْإِجْمَاعِ جُرْأَةً عَلَى الْبَاطِلِ , فَإِنْ قَالُوا : فَإِنَّكُمْ لَا تَقْضُونَ بِالْمَكْسُورِ لِلْكَاسِرِ , فَقَدْ خَالَفْتُمْ الْحَدِيثَ ؟ قُلْنَا : حَاشَا لِلَّهِ مِنْ ذَلِكَ لَكِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : { إنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ } . فَعَلِمْنَا أَنَّهُ عليه السلام لَا يُعْطِي أَحَدًا غَيْرَ حَقِّهِ , وَلَا أَكْثَرَ مِنْ حَقِّهِ , وَلَمْ يَقُلْ عليه السلام : إنَّهَا لَك مِنْ أَجْلِ كَسْرِك إيَّاهَا فَقَدْ كَذَبَ عَلَيْهِ مَنْ نَسَبَ إلَيْهِ هَذَا الْحُكْمَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقُولَهُ عليه السلام .(1/73)
فَصَحَّ بِذَلِكَ يَقِينًا أَنَّ تِلْكَ الْكِسَارَةَ الَّتِي أَعْطَى لِعَائِشَةَ رضي الله عنها لَا تَخْلُو مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ لَا ثَالِثَ لَهُمَا - : إمَّا أَنَّهَا لَمْ تَصْلُحْ لِشَيْءٍ فَأَبْقَاهَا كَمَا يَحِلُّ لِكُلِّ إنْسَانٍ مِنَّا مَا فَسَدَ جُمْلَةً مِنْ مَتَاعِ غَيْرِهِ وَلَمْ يَنْتَفِعْ مِنْهُ شَيْءٌ . وَإِمَّا أَنَّ قَصْعَةَ عَائِشَةَ الَّتِي أَعْطَى كَانَتْ خَيْرًا مِنْ الَّتِي كَانَتْ لِزَيْنَبِ رضي الله عنها فَجَبْرَ عليه السلام تِلْكَ الزِّيَادَةَ بِتِلْكَ الْكِسَارَةِ , وَإِلَّا فَنَحْنُ عَلَى يَقِينٍ مِنْ أَنَّهُ عليه السلام لَا يُعْطِي أَحَدًا مَالَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ حَقٍّ , وَإِنَّمَا حَقُّ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ فِي عَيْنِ مَالِهِ لَا فِي غَيْرِهِ , فَمَا دَامَتْ الْعَيْنُ أَوْ شَيْءٌ مِنْهَا مَوْجُودَيْنِ فَلَا حَقَّ لَهُ فِي غَيْرِ ذَلِكَ , فَإِنْ عَدِمَ جُمْلَةً فَحِينَئِذٍ يَقْضِي لَهُ بِالْمِثْلِ . قَالَ عَلِيٌّ : فَإِذَا عَدِمَ الْمِثْلَ مِنْ نَوْعِهِ فَكُلُّ مَا قَاوَمَهُ وَسَاوَاهُ فَهُوَ أَيْضًا مِثْلٌ لَهُ مِنْ هَذَا الْبَابِ , إلَّا أَنَّهُ أَقَلُّ مِثْلَيْهِ مِمَّا هُوَ عَلَيْهِ مِنْ نَوْعِهِ , فَلِذَلِكَ قَضَيْنَا بِهِ عِنْدَ عَدَمِ الْمِثْلِ الْمُطْلَقِ - وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ .(1/74)
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ , وَأَبُو ثَوْرٍ , وَسَائِرُ أَصْحَابِهِ : تُرَدُّ الْيَمِينُ فِي كُلِّ شَيْءٍ , وَفِي الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ فَمَا دُونَهَا , وَفِي النِّكَاحِ , وَالطَّلَاقِ , وَالْعَتَاقِ - فَمَنْ ادَّعَتْ عَلَيْهِ امْرَأَتُهُ الطَّلَاقَ , وَعَبْدُهُ أَوْ أَمَتُهُ الْعَتَاقَ - وَمَنْ ادَّعَى عَلَى امْرَأَتِهِ النِّكَاحَ أَوْ ادَّعَتْهُ عَلَيْهِ وَلَا شَاهِدَ لَهُمَا وَلَا بَيِّنَةَ : لَزِمَتْهُ الْيَمِينُ : أَنَّهُ مَا طَلَّقَ , وَلَا أَعْتَقَ , وَلَزِمَتْهُ الْيَمِينُ : أَنَّهُ مَا أَنْكَحَهَا , أَوْ لَزِمَتْهَا الْيَمِينُ كَذَلِكَ , فَأَيُّهُمَا نَكَلَ حَلَفَ الْمُدَّعِي - وَصَحَّ الْعِتْقُ , وَالنِّكَاحُ , وَالطَّلَاقُ , وَكَذَلِكَ فِي الْقِصَاصِ . قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ : أَمَّا قَوْلُ مَالِكٍ - فَظَاهِرُ الْخَطَأِ لِتَنَاقُضِهِ , وَلَئِنْ كَانَ رَدُّ الْيَمِينِ حَقًّا فِي مَوْضِعٍ , فَإِنَّهُ لَحَقٌّ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ يَجِبُ فِيهِ الْيَمِينُ عَلَى الْمُنْكِرِ , وَلَئِنْ كَانَ بَاطِلًا فِي مَكَان , فَإِنَّهُ لَبَاطِلٌ فِي كُلِّ مَكَان , إلَّا أَنْ يَأْتِيَ بِإِيجَابِهِ فِي مَكَان دُونَ مَكَان : قُرْآنٌ أَوْ سُنَّةٌ , فَيَنْفُذُ ذَلِكَ , وَلَا سَبِيلَ إلَى وُجُودِ قُرْآنٍ وَلَا سُنَّةٍ بِذَلِكَ أَصْلًا - فَبَطَلَ قَوْلُ مَالِكٍ , إذْ لَا يُعَضِّدُهُ قُرْآنٌ وَلَا سُنَّةٌ , وَلَا رِوَايَةٌ سَقِيمَةٌ , وَلَا قَوْلُ صَاحِبٍ قَبْلَهُ وَلَا قِيَاسٌ . فَإِنْ قَالَ : إنَّمَا رُوِيَ عَنْ الصَّحَابَةِ فِي الْأَمْوَالِ .(1/75)
قُلْنَا : بَاطِلٌ ; لِأَنَّهُ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ جُمْلَةً , وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ , وَالْمِقْدَادِ فِي الدَّرَاهِمِ فِي الدَّيْنِ , فَمِنْ أَيْنَ لَكُمْ أَنْ تَقِيسُوا عَلَى ذَلِكَ سَائِرَ الْأَمْوَالِ , وَسَائِرَ الدَّعَاوَى مِنْ الْغُصُوبِ , وَغَيْرَ ذَلِكَ , وَلَمْ تَقِيسُوا عَلَيْهِ كُلَّ دَعْوَى , فَظَهَرَ فَسَادُ هَذَا الْقَوْلِ - . وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ . وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى فِي رَدِّهِ الْيَمِينَ عَلَى الْمُتَّهَمِ , فَبَاطِلٌ ; لِأَنَّهُ تَقْسِيمٌ لَمْ يَأْتِ بِهِ قُرْآنٌ , وَلَا سُنَّةٌ , وَمَا جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْحُكْمِ بِالْبَيِّنَةِ أَوْ الْيَمِينِ عَلَى الْكَافِرِ , وَالْكَاذِبِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى , وَعَلَى رَسُولِهِ عليه الصلاة والسلام مِنْ الْيَهُودِ , وَالنَّصَارَى , وَالْمَجُوس , وَعَلَى الْمَشْهُورِينَ بِالْكَذِبِ , وَالْفِسْقِ , إلَّا الَّذِي جَعَلَ مِنْ ذَلِكَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وَعُمَرَ , وَعُثْمَانَ , وَعَلِيٍّ , وَأُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ , وَأَبِي ذَرٍّ الْغِفَارِيِّ , وَخُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ وَسَائِرِ الْمُهَاجِرِينَ , وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ : { أُولَئِكَ هُمْ الصَّادِقُونَ } وَفِي هَذَا إبْطَالُ كُلِّ رَأْيٍ , وَكُلِّ قِيَاسٍ , وَكُلِّ احْتِيَاطٍ فِي الدِّينِ , مِمَّا لَمْ يَأْتِ بِهِ نَصٌّ لَوْ أَنْصَفُوا مِنْ أَنْفُسِهِمْ .(1/76)
وَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ - فَإِنَّهُمْ احْتَجُّوا بِآيَةِ الْوَصِيَّةِ فِي السَّفَرِ مِنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاَللَّهِ إنْ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إنَّا إذًا لَمِنْ الْآثِمِينَ فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنْ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمْ الْأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاَللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إنَّا إذًا لَمِنْ الظَّالِمِينَ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا } . وَذَكَرُوا خَبَرَ الْقَسَامَةِ إذْ { قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِبَنِي حَارِثَةَ فِي دَعْوَاهُمْ دَمَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَهْلٍ عَلَى يَهُودِ خَيْبَرَ يُقْسِمُ خَمْسُونَ مِنْكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ فَيُدْفَعُ بِرُمَّتِهِ , قَالُوا : أَمْرٌ لَمْ نَشْهَدْهُ كَيْفَ نَحْلِفُ ؟ قَالَ : فَتُبْرِئُكُمْ يَهُودُ بِأَيْمَانِ خَمْسِينَ مِنْهُمْ } .(1/77)
وَذَكَرُوا وُجُوبَ الْيَمِينِ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ , وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَكَمَ بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ فَرَدَّ الْيَمِينَ عَلَى الطَّالِبِ مِنْ أَجْلِ شَاهِدِهِ , فَكَانَ الشَّاهِدُ سَبَبًا لِرَدِّ الْيَمِينِ , فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ النُّكُولُ مِنْ الْمَطْلُوبِ أَيْضًا سَبَبًا لِرَدِّ الْيَمِينِ وَلَمْ يَقْضِ لَهُ بِشَهَادَةِ وَاحِدٍ حَتَّى يَضُمَّ إلَيْهِ يَمِينَهُ , فَيَقُومُ مَقَامَ شَاهِدٍ آخَرَ , كَذَلِكَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُقْضَى لَهُ بِالنُّكُولِ حَتَّى يَضُمَّ إلَى ذَلِكَ يَمِينَهُ فَيَكُونَ نُكُولُ الْمَطْلُوبِ مَقَامَ شَاهِدٍ , وَيَمِينُ الطَّالِبِ مَقَامَ شَاهِدٍ آخَرَ . قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ : أَمَّا آيَةُ الْوَصِيَّةِ فِي السَّفَرِ فَحُجَّةٌ عَلَيْهِمْ لَا لَهُمْ , وَإِنَّ احْتِجَاجَهُمْ بِهَا لَفَضِيحَةُ الدَّهْرِ عَلَيْهِمْ لِوُجُوهٍ ثَلَاثَةٍ كَافِيَةٍ - : أَحَدُهَا - أَنَّهُمْ لَا يَأْخُذُونَ بِهَا فِيمَا جَاءَتْ فِيهِ , فَكَيْفَ يَسْتَحِلُّونَ الِاحْتِجَاجَ بِآيَةٍ هُمْ مُخَالِفُونَ لَهَا ؟ وَالثَّانِي - أَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا مِنْ تَحْلِيفِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ , وَلَا رَدِّ الْيَمِينِ عَلَى الْمُدَّعِي كَلِمَةٌ , لَا بِنَصٍّ وَلَا بِدَلِيلٍ , إنَّمَا فِيهَا تَحْلِيفُ الشُّهُودِ أَوَّلًا , وَتَحْلِيفُ الشَّاهِدِ وَالشَّاهِدَيْنِ , بِخِلَافِ شَهَادَةِ الْأَوَّلِ , فَكَيْفَ سَهُلَ عَلَيْهِمْ إبْطَالُ نَصِّ الْآيَةِ , وَأَنْ يَحْكُمُوا مِنْهَا بِمَا لَيْسَ فِيهَا عَلَيْهِ , لَا دَلِيلٌ وَلَا نَصٌّ . إنَّ هَذِهِ لَمُصِيبَةٌ .(1/78)
وَلَوْ احْتَجَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ مَنْ يَرَى تَحْلِيفَ الْمَشْهُودِ لَهُ مَعَ بَيِّنَتِهِ لَكَانَ أَشْبَهَ فِي التَّمْوِيهِ عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ شُرَيْحٍ , وَالْأَوْزَاعِيُّ , وَغَيْرِهِمَا - وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ بَشِيرٍ الْقَاضِي بِقُرْطُبَةَ أَنَّهُ أَحْلَفَ شُهُودًا فِي تَزَكِّيهِ : بِاَللَّهِ إنَّ مَا شَهِدُوا بِهِ لَحَقٌّ . وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ وَضَّاحٍ أَنَّهُ قَالَ : أَرَى لِفَسَادِ النَّاسِ أَنْ يُحَلِّفَ الْحَاكِمُ الشُّهُودَ , ذَكَرَ ذَلِكَ خَالِدُ بْنُ سَعْدٍ فِي كِتَابِهِ فِي " أَخْبَارِ فُقَهَاءِ قُرْطُبَةَ " فَلَوْ احْتَجَّ أَهْلُ هَذَا الْمَذْهَبِ بِهَذِهِ الْآيَةِ لَكَانُوا أَوْلَى بِهَا مِمَّنْ احْتَجَّ فِي رَدِّ الْيَمِينِ عَلَى الطَّالِبِ , لَا سِيَّمَا مَعَ مَا فِي نَصِّهَا مِنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا } وَلَكِنْ يُبْطِلُ هَذَا أَنَّهُ قِيَاسٌ , وَالْقِيَاسُ كُلُّهُ بَاطِلٌ , إلَّا أَنَّهُ مِنْ أَقْوَى قِيَاسٍ فِي الْأَرْضِ . وَأَمَّا حَدِيثُ الْقَسَامَةِ فَاحْتِجَاجُهُمْ بِهِ أَيْضًا إحْدَى فَضَائِحِهِمْ ; لِأَنَّ الْمَالِكِيِّينَ , وَالشَّافِعِيِّينَ مُخَالِفُونَ لِمَا فِيهِ - : فَأَمَّا الْمَالِكِيُّونَ : فَخَالَفُوهُ جُمْلَةً . وَأَمَّا الشَّافِعِيُّونَ : فَخَالَفُوا مَا فِيهِ مِنْ إيجَابِ الْقَوَدِ , فَكَيْفَ يَسْتَحِلُّونَ الِاحْتِجَاجَ بِحَدِيثٍ قَدْ هَانَ عَلَيْهِمْ خِلَافُهُ فِيمَا فِيهِ وَأَرَادُوا مِنْ ذَلِكَ تَثْبِيتَ الْبَاطِلِ الَّذِي لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ مِنْهُ أَثَرٌ أَصْلًا .(1/79)
وَإِنَّمَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ تَحْلِيفُ الْمُدَّعِينَ أَوَّلًا خَمْسِينَ يَمِينًا - بِخِلَافِ جَمِيعِ الدَّعَاوَى - ثُمَّ رَدُّ الْيَمِينِ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ - بِخِلَافِ قَوْلِهِمْ - فَمِنْ أَيْنَ رَأَوْا أَنْ يَقِيسُوا عَلَيْهِ ضِدَّهُ مِنْ تَحْلِيفِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَوَّلًا . فَإِنْ نَكَلَ حَلَفَ الْمُدَّعِي وَلَمْ يَقِيسُوا عَلَيْهِ فِي تَبْدِيَةِ الْمُدَّعِي فِي سَائِرِ الدَّعَاوَى . وَأَنْ يَجْعَلُوا الْأَيْمَانَ فِي كُلِّ دَعْوَى خَمْسِينَ يَمِينًا , فَهَلْ فِي التَّخْلِيطِ , وَخِلَافِ السُّنَنِ , وَعَكْسِ الْقِيَاسِ وَضَعْفِ النَّظَرِ : أَكْثَرُ مِنْ هَذَا ؟ وَأَمَّا خَبَرُ الْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ : فَحَقٌّ , وَلَا حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ ; لِأَنَّ قَوْلَهُمْ : إنَّ النُّكُولَ يَقُومُ مَقَامَ الشَّاهِدِ : بَاطِلٌ , لَمْ يَأْتِ بِهِ قَطُّ قُرْآنٌ , وَلَا سُنَّةٌ , وَلَا مَعْقُولٌ , وَقَدْ يَنْكُلُ الْمَرْءُ عَنْ الْيَمِينِ تَصَاوُنًا وَخَوْفَ الشُّهْرَةِ , وَإِلَّا فَمَنْ اسْتَجَازَ أَكْلَ الْمَالِ الْحَرَامِ بِالْبَاطِلِ فَلَا يُنْكَرُ مِنْهُ أَنْ يَحْلِفَ كَاذِبًا .(1/80)
وَإِنَّمَا الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي , فَلَمْ يَجِبْ بَعْدُ عَلَى الْمُنْكِرِ يَمِينٌ , فَلَمَّا أَتَى الْمُدَّعِي بِشَاهِدٍ وَاحِدٍ : كَانَ بَعْدُ حُكْمِ طَلَبِهِ الْبَيِّنَةَ , وَلَمْ يَجِبْ بَعْدُ يَمِينٌ عَلَى الْمَطْلُوبِ , فَحَكَمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِلطَّالِبِ بِيَمِينِهِ ابْتِدَاءً لَا رَدًّا لِلْيَمِينِ عَلَيْهِ , فَإِنْ أَبَى فَقَدْ أَسْقَطَ حُكْمَ شَاهِدِهِ , وَإِذَا أَسْقَطَ حُكْمَ شَاهِدِهِ فَلَا بَيِّنَةَ لَهُ , وَإِذْ لَا بَيِّنَةَ لَهُ : فَالْآنَ وَجَبَتْ الْيَمِينُ عَلَى الْمَطْلُوبِ , لَا أَنَّ هَاهُنَا رَدَّ يَمِينٍ أَصْلًا - فَبَطَلَ تَعَلُّقُهُمْ بِالنُّصُوصِ الْمَذْكُورَةِ - وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ . وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ رِوَايَةً هَالِكَةً : رُوِّينَاهَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ حَبِيبٍ الْأَنْدَلُسِيِّ عَنْ أَصْبَغَ بْنِ الْفَرَجِ عَنْ ابْنِ وَهْبٍ عَنْ حَيْوَةِ بْنِ شُرَيْحِ : أَنَّ سَالِمَ بْنَ غَيْلَانَ التُّجِيبِيَّ أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : { مَنْ كَانَتْ لَهُ طَلِبَةٌ عِنْدَ أَخِيهِ فَعَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ } وَالْمَطْلُوبُ أَوْلَى بِالْيَمِينِ فَإِنْ نَكَلَ حَلَفَ الطَّالِبُ وَأَخَذَ .(1/81)
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ : هَذَا مُرْسَلٌ وَلَا حُجَّةَ فِي مُرْسَلٍ عِنْدَنَا وَلَا عِنْدَ الشَّافِعِيِّينَ - ثُمَّ لَوْ صَحَّ لَكَانَ حُجَّةً عَلَى الْمَالِكِيِّينَ ; لِأَنَّهُمْ مُخَالِفُونَ لِمَا فِيهِ مِنْ عُمُومِ رَدِّ الْيَمِينِ فِي كُلِّ طَلِبَةِ طَالِبٍ , وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ أَوَّلَهُ فِي كُلِّ دَعْوَى مِنْ دَم , أَوْ نِكَاحٍ , أَوْ طَلَاقٍ , أَوْ عَتَاقٍ , أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ , فَتَخْصِيصُهُمْ آخِرَهُ فِي الْأَمْوَالِ بَاطِلٌ وَتَنَاقُضٌ , وَخِلَافٌ لِلْخَبَرِ الَّذِي مَوَّهُوا بِهِ , وَهَذَا قَبِيحٌ جِدًّا . وَقَالَ مَالك فِي " مُوَطَّئِهِ فِي بَابِ الْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ فِي كِتَابِ الْأَقْضِيَةِ " أَرَأَيْت رَجُلًا ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ مَالًا أَلَيْسَ يَحْلِفُ الْمَطْلُوبُ : مَا ذَلِكَ الْحَقُّ عَلَيْهِ , فَإِنْ حَلَفَ بَطَلَ ذَلِكَ عَنْهُ وَإِنْ أَبَى أَنْ يَحْلِفَ وَنَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ حَلَفَ طَالِبُ الْحَقِّ أَنَّ حَقَّهُ لَحَقٌّ وَثَبَتَ حَقُّهُ عَلَى صَاحِبِهِ - فَهَذَا مَا لَا اخْتِلَافَ فِيهِ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ , وَلَا فِي بَلَدٍ مِنْ الْبُلْدَانِ , فَبِأَيِّ شَيْءٍ أَخَذَ هَذَا ؟ أَمْ فِي أَيِّ كِتَابِ اللَّهِ وَجَدَهُ ؟ فَإِذَا أَقَرَّ بِهَذَا فَلْيُقِرَّ بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ , وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى . قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ : وَهَذَا احْتِجَاجٌ نَاهِيكَ بِهِ عَجَبًا فِي الْغَفْلَةِ - : أَوَّلُ ذَلِكَ قَوْلُهُ : إنَّهُ لَا خِلَافَ فِي رَدِّ الْيَمِينِ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ , وَلَا فِي بَلَدٍ مِنْ الْبُلْدَانِ - فَلَئِنْ كَانَ خَفِيَ عَلَيْهِ قَضَاءُ أَهْلِ الْعِرَاقِ بِالنُّكُولِ فَإِنَّهُ لَعَجَبٌ .(1/82)
ثُمَّ قَوْلُهُ : إذَا أَقَرَّ بِرَدِّ الْيَمِينِ - وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى فَلْيُقِرَّ - بِالْيَمِينِ عَلَى الشَّاهِدِ - وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى - فَهَذَا أَيْضًا عَجَبٌ آخَرُ ; لِأَنَّ الْيَمِينَ مَعَ الشَّاهِدِ ثَابِتٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَهُوَ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا } . وَأَمَّا رَدُّ الْيَمِينِ عَلَى الطَّالِبِ إذَا نَكَلَ الْمَطْلُوبُ - فَمَا كَانَ قَطُّ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى , وَلَا فِي سُنَّةِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم فَبَيْنَ الْأَمْرَيْنِ فَرْقٌ , كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ . وَإِذَا وَجَبَ الْأَخْذُ بِمَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ , وَإِنْ لَمْ يُوجَبْ فِي لَفْظِ آيَاتِ الْقُرْآنِ فَمَا وَجَبَ قَطُّ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يُؤْخَذَ بِمَا لَا يُوجَدُ فِي الْقُرْآنِ , وَلَا فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم . وَأَمَّا أَبُو ثَوْرٍ فَإِنَّهُ قَالَ : إذَا نَكَلَ الْمَطْلُوبُ عَنْ الْيَمِينِ وَأَحْلَفَ الْحَاكِمُ الطَّالِبَ فَقَدْ اتَّفَقْنَا عَلَى وُجُوبِ الْقَضَاءِ لَهُ بِتِلْكَ الدَّعْوَى مَا لَمْ يَحْلِفْ الطَّالِبُ فَلَمْ نَتَّفِقْ عَلَى الْقَضَاءِ لَهُ بِتِلْكَ الدَّعْوَى فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِمَا أَجْمَعْنَا عَلَيْهِ , وَأَنْ لَا يُقْضَى عَلَى أَحَدٍ بِاخْتِلَافٍ لَا نَصَّ مَعَهُ . قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ : لَيْسَ قَوْلُ أَرْبَعَةٍ مِنْ التَّابِعِينَ , وَرِوَايَاتٌ سَاقِطَةٌ لَا تَصِحُّ أَسَانِيدُهَا , ثُمَّ بِظُنُونٍ غَيْرِ صَادِقَةٍ عَلَى سِتَّةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ مُخْتَلِفِينَ مِمَّا يَقُولُ : إنَّهُ إجْمَاعٌ إلَّا مَنْ لَا يَدْرِي مَا الْإِجْمَاعُ .(1/83)
وَلَيْسَ مَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ أَبُو حَنِيفَةَ , وَمَالِكٌ , وَالشَّافِعِيُّ : حُجَّةً عَلَى مَنْ لَا يُقَلِّدُهُمْ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ } فَلَمْ يَأْمُرْ عَزَّ وَجَلَّ بِرَدِّ مَا اُخْتُلِفَ فِيهِ إلَى أَحَدٍ مِمَّنْ ذَكَرْنَا , فَمَنْ رَدَّ إلَيْهِمْ فَقَدْ خَالَفَ أَمْرَ اللَّهِ تَعَالَى - فَسَقَطَ هَذَا الْقَوْلُ أَيْضًا - وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ . وَأَمَّا احْتِجَاجُهُمْ : بِعُمَرَ , وَالْمِقْدَادِ , وَعُثْمَانَ - رضي الله عنهم - فَلَا حُجَّةَ فِي قَوْلِ أَحَدٍ دُونَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَوْ صَحَّ ذَلِكَ عَنْهُمْ فَكَيْفَ وَهُوَ لَا يَصِحُّ لِأَنَّهُ مِنْ طَرِيقِ الشَّعْبِيِّ وَالشَّعْبِيُّ لَمْ يُدْرِكْ عُثْمَانَ وَلَا الْمِقْدَادَ فَكَيْفَ عُمَرُ . وَأَمَّا الرِّوَايَةُ عَنْ عَلِيٍّ فَسَاقِطَةٌ ; لِأَنَّهَا عَنْ الْحَسَنِ بْنِ ضُمَيْرَةَ عَنْ أَبِيهِ - وَهُوَ مَتْرُوكٌ ابْنُ مَتْرُوكٍ - لَا يَحِلُّ الِاحْتِجَاجُ بِرِوَايَتِهِ - فَلَمْ يَصِحَّ فِي هَذَا عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ كَلِمَةٌ .(1/84)
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ : وَأَمَّا قَوْلُنَا - : فَكَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ نا إسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ عَنْ الشَّعْبِيِّ قَالَ : كَانَ بَيْنَ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ , وَعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ مُنَازَعَةٌ وَخُصُومَةٌ فِي حَائِطٍ فَقَالَ : بَيْنِي وَبَيْنَك زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ فَأَتَيَاهُ فَضَرَبَا عَلَيْهِ الْبَابَ , فَخَرَجَ فَقَالَ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَلَا أَرْسَلْتَ إلَيَّ حَتَّى آتِيَك ؟ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ : فِي بَيْتِهِ يُؤْتَى الْحَكَمُ , فَأَخْرَجَ زَيْدٌ وِسَادَةً فَأَلْقَاهَا , فَقَالَ لَهُ عُمَرُ : هَذَا أَوَّلُ جَوْرِك وَأَبَى أَنْ يَجْلِسَ عَلَيْهَا , فَتَكَلَّمَا فَقَالَ زَيْدٌ لِأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ : بَيِّنَتُك ؟ وَإِنْ رَأَيْت أَنْ تُعْفِيَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ الْيَمِينِ فَأَعْفِهِ ؟ فَقَالَ عُمَرُ : تَقْضِي عَلَيَّ بِالْيَمِينِ وَلَا أَحْلِفُ ؟ فَحَلَفَ - . فَهَذَا زَيْدٌ لَمْ يَذْكُرْ رَدَّ يَمِينٍ وَلَا حُكْمًا بِنُكُولٍ , بَلْ أَوْجَبَ الْيَمِينَ عَلَى الْمُنْكِرِ قَطْعًا إلَّا أَنْ يُسْقِطَهَا الطَّالِبُ , وَهَذَا عُمَرُ يُنْكِرُ أَنْ يَحْكُمَ الْحَاكِمُ بِالْيَمِينِ وَلَا يُحَلِّفَ الْمُنْكِرَ - وَهُوَ قَوْلُنَا نَصًّا . وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي عُبَيْدٍ نا كَثِيرُ بْنُ هِشَامٍ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ بُرْقَانَ قَالَ : كَتَبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ إلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ فِي رِسَالَةٍ ذَكَرَهَا : الْبَيِّنَةُ عَلَى مَنْ ادَّعَى وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ - فَلَمْ يَذْكُرْ نُكُولًا وَلَا رَدَّ يَمِينٍ .(1/85)
حَدَّثَنَا حُمَامُ بْنُ أَحْمَدَ نا عَبَّاسُ بْنُ أَصْبَغَ نا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَيْمَنَ نا مُحَمَّدُ بْنُ إسْمَاعِيلَ الصَّائِغُ نا يَحْيَى بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْكَرْمَانِيُّ نا نَافِعُ بْنُ عُمَرَ الْجُمَحِيُّ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ : كَتَبْت إلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فِي امْرَأَتَيْنِ كَانَتَا تُحْرِزَانِ حَرِيزًا فِي بَيْتٍ , وَفِي الْحُجْرَةِ حِدَاثٌ , فَأَخْرَجَتْ إحْدَاهُمَا يَدَهَا تَشْخَبُ دَمًا فَقَالَتْ : أَصَابَتْنِي هَذِهِ , وَأَنْكَرَتْ الْأُخْرَى , قَالَ : فَكَتَبَ إلَيَّ ابْنِ عَبَّاسٍ { إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَضَى أَنَّ الْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ , وَقَالَ : لَوْ أَنَّ النَّاس أُعْطُوا بِدَعْوَاهُمْ لَادَّعَى نَاسٌ دِمَاءَ قَوْمٍ وَأَمْوَالَهُمْ } , اُدْعُهَا فَاقْرَأْ عَلَيْهَا : { إنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا } الْآيَةَ , قَالَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ فَقَرَأْت عَلَيْهَا , فَاعْتَرَفَتْ " . فَهَذَا فِي غَايَةِ الصِّحَّةِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَلَمْ يُفْتِ إلَّا بِإِيجَابِ الْيَمِينِ فَقَطْ , وَأَبْطَلَ أَنْ يُعْطَى الْمُدَّعِي بِدَعْوَاهُ وَلَمْ يَسْتَثْنِ فِي ذَلِكَ نُكُولَ الْمَطْلُوبِ وَلَا رَدَّ الْيَمِينِ أَصْلًا . وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي عُبَيْدٍ نا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ نا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنْ أَبِي إسْحَاقَ الشَّيْبَانِيِّ عَنْ الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ قَالَ : لَا أَرُدُّ الْيَمِينَ .(1/86)
وَمِنْ طَرِيقِ الْكَشْوَرِيِّ عَنْ الْحُذَافِيِّ عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ نا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ قَالَ : كَانَ ابْنِ أَبِي لَيْلَى , وَالْحَكَمُ بْنُ عُتَيْبَةَ لَا يَرَيَانِ الْيَمِينَ - يَعْنِي لَا يَرَيَانِ رَدَّهَا - عَلَى الطَّالِبِ إذَا نَكَلَ الْمَطْلُوبُ . وَقَدْ ذَكَرْنَا قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ : أَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِالدَّمِ يَأْبَى عَنْ الْيَمِينِ أَنَّهُ لَا يُرَدُّ الْيَمِينُ عَلَى الطَّالِبِ , وَلَا يُقْضَى عَلَيْهِ بِالنُّكُولِ , لَكِنْ يُسْجَنُ أَبَدًا حَتَّى يَحْلِفَ . وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ فِيمَنْ ادَّعَتْ عَلَيْهِ امْرَأَتُهُ طَلَاقًا وَأَمَتُهُ أَوْ عَبْدُهُ عَتَاقًا وَأَقَامُوا شَاهِدًا وَاحِدًا عَدْلًا بِذَلِكَ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الْيَمِينُ , وَأَنَّهُ لَا يُقْضَى عَلَيْهِ بِالنُّكُولِ , وَلَا بِرَدِّ الْيَمِينِ , لَكِنْ يُسْجَنُ أَبَدًا حَتَّى يَحْلِفَ - . وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سُلَيْمَانَ , وَأَصْحَابِنَا : فِي كُلِّ شَيْءٍ . قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ : فَإِنْ قِيلَ : فَإِنَّكُمْ رَدَدْتُمْ الرِّوَايَةَ فِي رَدِّ الْيَمِينِ بِأَنَّهَا عَنْ الشَّعْبِيِّ - وَلَمْ يُدْرِكْ عُثْمَانَ , وَلَا الْمِقْدَادَ , وَلَا عُمَرُ - ثُمَّ ذَكَرْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ رِوَايَةَ حُكُومَةٍ كَانَتْ بَيْنَ عُمَرَ , وَأُبَيُّ .(1/87)
قُلْنَا : لَمْ نُورِدْ شَيْئًا مِنْ هَذَا كُلِّهِ احْتِجَاجًا لِأَنْفُسِنَا فِي تَصْحِيحِ مَا قُلْنَاهُ , وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ أَنْ نَرَى فِي قَوْلِ أَحَدٍ دُونَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حُجَّةً فِي الدِّينِ , وَلَكِنْ تَكْذِيبًا لِمَنْ قَدْ سَهَّلَ الشَّيْطَانُ لَهُ الْكَذِبَ عَلَى جَمِيعِ الْأُمَّةِ فِي دَعْوَى الْإِجْمَاعِ مُجَاهَرَةً , حَيْثُ لَا يَجِدُ إلَّا رِوَايَاتٍ كُلَّهَا هَالِكَةً , بِظُنُونٍ كَاذِبَةٍ , عَلَى ثَلَاثَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ قَدْ رُوِيَ مِثْلُهَا بِخِلَافِهَا عَنْ ثَلَاثَةٍ آخَرِينَ مِنْهُمْ , فَأَرَيْنَاهُمْ لِأَنْفُسِنَا مِثْلَهَا , بَلْ أَحْسَنَ مِنْهَا عَنْ ثَلَاثَةٍ أَيْضًا مِنْهُمْ أَوْ أَرْبَعَةٍ , إلَّا أَنَّ الْمُوَافَقَةَ لِقَوْلِنَا أَصَحُّ ; لِأَنَّهَا عَنْ الشَّعْبِيِّ فِي ذِكْرِ قَضِيَّةٍ بَيْنَ عُمَرَ وَأُبَيٍّ قَضَى فِيهَا زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ بَيْنَهُمَا وَالشَّعْبِيُّ : قَدْ لَقِيَ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ وَصَحِبَهُ وَأَخَذَ عَنْهُ كَثِيرًا - فَهَذِهِ أَقْرَبُ بِلَا شَكٍّ إلَى أَنْ تَكُونَ مُسْنَدَةً مِنْ تِلْكَ الَّتِي لَمْ يَلْقَ الشَّعْبِيَّ أَحَدًا مِمَّنْ ذَكَرَ فِي تِلْكَ الْقِصَّةِ وَلَا أَدْرَكَهُ بِعَقْلِهِ . قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ : مِنْ الْعَجَبِ أَنْ يُجَوِّزَ أَهْلُ الْجَهْلِ وَالْغَبَاوَةِ لِأَبِي حَنِيفَةَ أَنْ لَا يَقْضِيَ بِالنُّكُولِ , وَلَا بِرَدِّ الْيَمِينِ , لَكِنْ بِالْأَخْذِ بِالْيَمِينِ وَلَا بُدَّ فِي بَعْضِ الدَّعَاوَى دُونَ بَعْضٍ بِرَأْيِهِ - وَيُجَوِّزَ مِثْلَ ذَلِكَ لِمَالِكٍ فِي دَعْوَى الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ , وَلَا يُجَوِّزَ لِمَنْ اتَّبَعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم ذَلِكَ فِي جَمِيعِ الدَّعَاوَى , إنَّ هَذَا لَعَجَبٌ .(1/88)
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ : فَإِذْ قَدْ بَطَلَ الْقَوْلُ بِالْقَضَاءِ بِالنُّكُولِ , وَالْقَوْلُ بِرَدِّ الْيَمِينِ عَلَى الطَّالِبِ إذَا نَكَلَ الْمَطْلُوبُ , لِتَعَرِّي هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ عَنْ دَلِيلٍ مِنْ الْقُرْآنِ , أَوْ مِنْ السُّنَّةِ - وَبَطَلَ أَنْ يَصِحَّ فِي أَحَدِهِمَا قَوْلٌ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم , فَالْوَاجِبُ أَنْ نَأْتِيَ بِالْبُرْهَانِ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِنَا - . وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ . قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ : قَدْ صَحَّ مَا قَدْ أَوْرَدْنَاهُ آنِفًا مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وآله وسلم بِالْقَضَاءِ بِالْيَمِينِ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ , وَأَنَّهُ { لَوْ أَعْطَى النَّاسَ بِدَعْوَاهُمْ لَادَّعَى نَاسٌ دِمَاءَ قَوْمٍ وَأَمْوَالَهُمْ } , وَمَا قَدْ أَتَيْنَا بِهِ قَبْلُ فِي الْمَسْأَلَةِ الَّتِي قَبْلَ هَذِهِ مِنْ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم { بَيِّنَتُكَ أَوْ يَمِينُهُ لَيْسَ لَك إلَّا ذَلِكَ } . فَصَحَّ يَقِينًا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُعْطَى الْمُدَّعِي بِدَعْوَاهُ دُونَ بَيِّنَةٍ , فَبَطَلَ بِهَذَا أَنْ يُعْطَى شَيْئًا بِنُكُولِ خَصْمِهِ أَوْ بِيَمِينِهِ إذَا نَكَلَ خَصْمُهُ ; لِأَنَّهُ أُعْطِيَ بِالدَّعْوَى .(1/89)
وَصَحَّ أَنَّ الْيَمِينَ بِحُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ عليه الصلاة والسلام عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ , فَوَجَبَ بِذَلِكَ أَنَّهُ لَا يُعْطَى الْمُدَّعِي يَمِينًا أَصْلًا إلَّا حَيْثُ جَاءَ النَّصُّ بِأَنْ يُعْطَاهَا , وَلَيْسَ ذَلِكَ إلَّا فِي الْقَسَامَةِ فِي الْمُسْلِمِ يُوجَدُ مَقْتُولًا , وَفِي الْمُدَّعِي يُقِيمُ شَاهِدًا عَدْلًا فَقَطْ , وَكَانَ مَنْ أَعْطَى الْمُدَّعِيَ بِنُكُولِ خَصْمِهِ فَقَطْ أَوْ بِيَمِينِهِ إذَا نَكَلَ خَصْمُهُ قَدْ أَخْطَأَ كَثِيرًا , وَذَلِكَ أَنَّهُ أَعْطَاهُ مَا أَخْبَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وآله وسلم أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ , وَأَعْطَاهُ بِدَعْوَاهُ الْمُجَرَّدَةِ عَنْ الْبَيِّنَةِ وَأَسْقَطَ الْيَمِينَ عَمَّنْ أَوْجَبَهَا اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ , وَلَمْ يُزِلْهَا عَنْهُ إلَّا أَنْ يُسْقِطَهَا الَّذِي هِيَ لَهُ - وَهُوَ الطَّالِبُ - الَّذِي جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ الْبَيِّنَةَ فَيَأْخُذُ أَوْ يَمِينَ مَطْلُوبِهِ , فَإِذْ هِيَ لَهُ فَلَهُ تَرْكُ حَقِّهِ - إنْ شَاءَ - فَظَهَرَ صِحَّةُ قَوْلِنَا يَقِينًا . وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ } . فَمَنْ أَطْلَقَ لِلْمَطْلُوبِ الِامْتِنَاعَ مِنْ الْيَمِينِ وَلَمْ يَأْخُذْهُ بِهَا - وَقَدْ أَوْجَبَهَا اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ - فَقَدْ أَعَانَهُ عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ , وَعَلَى تَرْكِ مَا افْتَرَضَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ إلْزَامَهُ إيَّاهُ وَأَخْذَهُ بِهِ .(1/90)
وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي كَلَامِنَا " فِي الْإِمَامَةِ " قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم { مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ إنْ اسْتَطَاعَ } فَوَجَدْنَا الْمُمْتَنِعَ مِمَّا أَوْجَبَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَخْذَهُ بِهِ مِنْ الْيَمِينِ قَدْ أَتَى مُنْكَرًا بِيَقِينٍ , فَوَجَبَ تَغْيِيرُهُ بِالْيَدِ بِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم وَالتَّغْيِيرُ بِالْيَدِ : هُوَ الضَّرْبُ فِيمَنْ لَمْ يَمْتَنِعْ , أَوْ بِالسِّلَاحِ فِي الْمُدَافِعِ بِيَدِهِ , الْمُمْتَنِعِ مِنْ أَخْذِهِ بِالْحَقِّ فَوَجَبَ ضَرْبُهُ أَبَدًا حَتَّى يُحْيِيَهُ الْحَقُّ مِنْ إقْرَارِهِ , أَوْ يَمِينِهِ , أَوْ يَقْتُلَهُ الْحَقُّ , مِنْ تَغْيِيرِ مَا أَعْلَنَ بِهِ مِنْ الْمُنْكَرِ : { وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ } وَمَنْ أَطَاعَ اللَّهَ تَعَالَى فَقَدْ أَحْسَنَ . وَأَمَّا السِّجْنُ : فَلَا يَخْتَلِفُ اثْنَانِ فِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم لَمْ يَكُنْ لَهُ قَطُّ سِجْنٌ - وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ . وَقَدْ لَاحَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ قَوْلَنَا ثَابِتٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ كَمَا أَوْرَدْنَا , وَلَا يَصِحُّ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم خِلَافُهُ - وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ .
وفي المبسوط :(1/91)
وَإِذَا كَانَ الْحَائِطُ بَيْنَ رَجُلَيْنِ نِصْفَيْنِ وَلِأَحَدِهِمَا عَلَيْهِ خَشَبٌ كَانَ لِلْآخَرِ أَنْ يَضَعَ عَلَيْهِ مِنْ الْخَشَبِ مِثْلَ مَا وَضَعَ صَاحِبُهُ ; لِأَنَّهُمَا لَمَّا اسْتَوَيَا فِي أَصْلِ الْمِلْكِ يَنْبَغِي أَنْ يَسْتَوِيَا فِي الِانْتِفَاعِ بِالْمَمْلُوكِ , فَالِانْتِفَاعُ بِالْحَائِطِ مِنْ حَيْثُ وَضَعُ الْخَشَبِ فَلِلشَّرِيكِ أَنْ يَضَعَ عَلَيْهِ مِنْ الْخَشَبِ مِثْلَ مَا وَضَعَ صَاحِبُهُ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْفَعَ شَيْئًا مِنْ خَشَبِ صَاحِبِهِ ; لِأَنَّ فِيهِ ضَرَرًا بِصَاحِبِهِ مِنْ حَيْثُ هَدْمُ الْبِنَاءِ عَلَيْهِ , وَإِنَّمَا لَهُ حَقُّ الِانْتِفَاعِ بِالْمِلْكِ الْمُشْتَرَى وَلَا يَكُونُ لَهُ حَقُّ الْإِضْرَارِ بِشَرِيكِهِ وَقِيلَ هَذَا إذَا كَانَ الْحَائِطُ بِحَيْثُ يَحْتَمِلُ مِثْلَ ذَلِكَ الْخَشَبِ أَنْ لَوْ وَضَعَهُ عَلَيْهِ .(1/92)
فَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ ذَلِكَ , وَهُمَا مُتَصَادِقَانِ فِي أَنَّ أَصْلَ الْحَائِطِ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ لَهُ أَنْ يَأْمُرَ صَاحِبَهُ بِرَفْعِ بَعْضِ الْخَشَبِ حَتَّى يَضَعَ عَلَيْهِ مِنْ الْخَشَبِ مِثْلَ مَا يَبْقَى لِصَاحِبِهِ مَا يَحْتَمِلُهُ الْحَائِطُ , وَهَذَا لِأَنَّهُ إنْ وَضَعَ الزِّيَادَةَ بِغَيْرِ إذْنِ الشَّرِيكِ فَهُوَ غَاصِبٌ , وَإِنْ وَضَعَهَا عَلَيْهِ بِإِذْنِهِ فَالشَّرِيكُ مُعِيرٌ نَصِيبَهُ مِنْ الْحَائِطِ مِنْهُ وَلِلْمُعِيرِ أَنْ يَسْتَرِدَّ الْعَارِيَّةَ وَإِنْ أَرَادَ أَحَدُهُمَا أَنْ يَزِيدَ عَلَيْهِ خَشَبَةً وَاحِدَةً عَلَى صَاحِبِهِ أَوْ بِفَتْحِ كُوَّةٍ أَوْ يَتَّخِذَ عَلَيْهِ سُتْرَةً أَوْ يَفْتَحَ فِيهِ بَابًا لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ إلَّا بِإِذْنِ صَاحِبِهِ ; لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي الْمِلْكِ الْمُشْتَرَكِ وَأَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ لَا يَنْفَرِدُ بِالتَّصَرُّفِ فِي الْمِلْكِ الْمُشْتَرَى , وَإِنَّمَا يَنْفَرِدُ بِالتَّصَرُّفِ فِي نَصِيبِهِ خَاصَّةً , وَهَذِهِ التَّصَرُّفَاتُ لَمْ تَكُنْ فِي نَصِيبِهِ خَاصَّةً , وَلِأَنَّ فِي هَذَا التَّصَرُّفِ ضَرَرًا مِنْ حَيْثُ تَوْهِينُ الْبِنَاءِ أَوْ زِيَادَةُ الْحَمْلِ عَلَيْهِ وَلَيْسَ لِأَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ وِلَايَةُ إلْحَاقِ الضَّرَرِ بِشَرِيكِهِ ; فَلِهَذَا كَانَ مَمْنُوعًا مِنْ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ إلَّا بِإِذْنِ شَرِيكِهِ .(1/93)
وَإِذَا انْهَدَمَ الْحَائِطُ فَقَالَ أَحَدُهُمَا نَبْنِيهِ كَمَا كَانَ وَنَضَعُ عَلَيْهِ جُذُوعَنَا كَمَا كَانَتْ وَأَبَى الْآخَرُ لَمْ يُجْبَرْ الْآخَرُ عَلَى الْبِنَاءِ مَعَهُ ; لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ فِي الْبِنَاءِ إلَى الْإِنْفَاقِ بِمَالِهِ وَالْإِنْسَانُ لَا يُجْبَرُ عَلَى إتْلَافِ مَالِهِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ فَإِنَّ صَاحِبَ الشَّرْعِ صلى الله عليه وسلم ذَمَّ الْإِنْفَاقَ فِي الْبِنَاءِ فَقَالَ { شَرُّ الْمَالِ مَا تُنْفِقُهُ فِي الْبُنْيَانِ } وَقَالَ عليه السلام { إنَّمَا يُتْلِفُ الْمَالَ الْحَرَامُ الرِّبَا وَالْبِنَاءُ } فَلِهَذَا لَا يُجْبَرُ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ عَلَى ذَلِكَ عِنْدَ طَلَبِ الْآخَرِ , وَهَذَا لِأَنَّهُ إنَّمَا يُجْبَرُ الْآخَرُ عِنْدَ طَلَبِ أَحَدِهِمَا عَلَى قِسْمَةِ الْمُشْتَرَكِ وَلَا شَرِكَةَ بَيْنَهُمَا فِيمَا يُنْفِقُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الْبِنَاءِ مِنْ مِلْكِ نَفْسِهِ , فَإِنْ قَالَ الطَّالِبُ : أَنَا أَبْنِيهِ بِنَفَقَتِي , وَأَضَعُ عَلَيْهِ جُذُوعِي كَمَا كَانَتْ فَلَهُ ذَلِكَ ; لِأَنَّهُ يُنْفِقُ مَالَهُ يَتَوَصَّلُ إلَى الِانْتِفَاعِ بِمِلْكِهِ , وَلَا ضَرَرَ عَلَى شَرِيكِهِ فِي ذَلِكَ فَلَا يُمْنَعُ مِنْهُ , وَإِذَا مَنَعَهُ شَرِيكُهُ مِنْ ذَلِكَ يَكُونُ مُتَعَنِّتًا قَاصِدًا إلَى الْإِضْرَارِ بِهِ فَلَا يُمَكَّنُ مِنْ ذَلِكَ , فَإِنْ فَعَلَهُ فَأَرَادَ الْآخَرُ أَنْ يَضَعَ عَلَيْهِ جُذُوعَهُ , كَمَا كَانَتْ فَلَهُ ذَلِكَ بَعْدَ مَا يَرُدُّ عَلَيْهِ نِصْفَ قِيمَةِ الْبِنَاءِ ; لِأَنَّ الْبِنَاءَ مِلْكُ الثَّانِي , فَيَكُونُ لَهُ أَنْ يَمْنَعَ صَاحِبَهُ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِهِ حَتَّى يَرُدَّ عَلَيْهِ نِصْفَ قِيمَتِهِ , فَإِذَا رَدَّ ذَلِكَ يَصِيرُ مُتَمَلِّكًا عَلَيْهِ نِصْفَ الْبِنَاءِ بِنِصْفِ قِيمَتِهِ , وَهُوَ نَظِيرُ(1/94)
الْعُلْوِ وَالسُّفْلِ إذَا انْهَدَمَا فَأَبَى صَاحِبُ السُّفْلِ أَنْ يَبْنِيَهُ كَانَ لِصَاحِبِ الْعُلْوِ أَنْ يَبْنِيَ السُّفْلَ وَيَبْنِيَ فَوْقَهُ بَيْتَهُ ثُمَّ يَمْنَعَ صَاحِبَ السُّفْلِ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِسُفْلِهِ حَتَّى يَرُدَّ عَلَيْهِ قِيمَةَ الْبِنَاءِ . وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي الدَّعْوَى إشَارَةً هُنَا إلَى أَنَّهُ اسْتِحْسَانٌ , وَلَيْسَ لَهُ فِي الْقِيَاسِ أَنْ يَبْنِيَ السُّفْلَ ; لِأَنَّهُ يَضَعُ الْبِنَاءَ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ وَلَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَى الْغَيْرِ فِي وَضْعِ الْبِنَاءِ فِي مِلْكِهِ وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ ذَلِكَ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْهُ فَإِنَّهُ لَا يَتَوَصَّلُ إلَى بِنَاءِ عُلْوِهِ وَالِانْتِفَاعِ بِهِ مَا لَمْ يَبْنِ السُّفْلَ , وَهَذَا الْقِيَاسُ وَالِاسْتِحْسَانُ فِي الْحَائِطِ الْمُشْتَرَكِ أَيْضًا .
وفي أنوار البروق
((1/95)
الْفَرْقُ السَّادِسُ وَالْعِشْرُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ خِطَابِ التَّكْلِيفِ وَقَاعِدَةِ خِطَابِ الْوَضْعِ ) وَهَذَا الْفَرْقُ أَيْضًا عَظِيمُ الْقَدْرِ جَلِيلُ الْخَطَرِ وَبِتَحْقِيقِهِ تَنْفَرِجُ أُمُورٌ عَظِيمَةٌ مِنْ الْإِشْكَالَاتِ وَتَرِدُ إشْكَالَاتٌ عَظِيمَةٌ أَيْضًا فِي بَعْضِ الْفُرُوعِ وَسَأُبَيِّنُ لَك ذَلِكَ فِي هَذَا الْفَرْقِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَتَحْرِيرُ الْقَاعِدَتَيْنِ أَنَّ خِطَابَ التَّكْلِيفِ فِي اصْطِلَاحِ الْعُلَمَاءِ هُوَ الْأَحْكَامُ الْخَمْسَةُ الْوُجُوبُ وَالتَّحْرِيمُ وَالنَّدْبُ وَالْكَرَاهَةُ وَالْإِبَاحَةُ مَعَ أَنَّ أَصْلَ هَذِهِ اللَّفْظَةِ أَنْ لَا تُطْلَقَ إلَّا عَلَى التَّحْرِيمِ وَالْوُجُوبِ لِأَنَّهَا مُشْتَقَّةٌ مِنْ الْكُلْفَةِ , وَالْكُلْفَةُ لَمْ تُوجَدْ إلَّا فِيهِمَا لِأَجْلِ الْحَمْلِ عَلَى الْفِعْلِ أَوْ التَّرْكِ خَوْفَ الْعِقَابِ وَأَمَّا مَا عَدَاهُمَا فَالْمُكَلَّفُ فِي سَعَةٍ لِعَدَمِ الْمُؤَاخَذَةِ فَلَا كُلْفَةَ حِينَئِذٍ غَيْرَ أَنَّ جَمَاعَةً يَتَوَسَّعُونَ فِي إطْلَاقِ اللَّفْظِ عَلَى الْجَمِيعِ تَغْلِيبًا لِلْبَعْضِ عَلَى الْبَعْضِ فَهَذَا خِطَابُ التَّكْلِيفِ وَأَمَّا خِطَابُ الْوَضْعِ فَهُوَ خِطَابٌ بِنَصْبِ الْأَسْبَابِ كَالزَّوَالِ وَرُؤْيَةِ الْهَلَاكِ وَنَصْبِ الشُّرُوطِ كَالْحَوْلِ فِي الزَّكَاةِ وَالطَّهَارَةِ فِي الصَّلَاةِ وَنَصْبِ الْمَوَانِعِ كَالْحَيْضِ مَانِعٌ مِنْ الصَّلَاةِ وَالْقَتْلِ مَانِعٌ مِنْ الْمِيرَاثِ وَنَصْبِ التَّقَادِيرِ الشَّرْعِيَّةِ وَهِيَ إعْطَاءُ الْمَوْجُودِ حُكْمَ الْمَعْدُومِ , أَوْ الْمَعْدُومِ حُكْمَ الْمَوْجُودِ كَمَا نُقَدِّرُ رَفْعَ الْإِبَاحَةِ بِالرَّدِّ بِالْعَيْبِ بَعْدَ ثُبُوتِهَا قَبْلَ الرَّدِّ .(1/96)
وَنَقُولُ : ارْتَفَعَ الْعَقْدُ مِنْ أَصْلِهِ لَا مِنْ حِينِهِ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ لِلْعُلَمَاءِ وَنُقَدِّرُ النَّجَاسَةَ فِي حُكْمِ الْعَدَمِ فِي صُوَرِ الضَّرُورَاتِ كَدَمِ الْبَرَاغِيثِ وَمَوْضِعِ الْحَدَثِ فِي الْمَخْرَجَيْنِ وَنُقَدِّرُ وُجُودَ الْمِلْكِ لِمَنْ قَالَ لِغَيْرِهِ أَعْتِقْ عَبْدَك عَنِّي لِتَثْبُتَ لَهُ الْكَفَّارَةُ وَالْوَلَاءُ مَعَ أَنَّهُ لَا مِلْكَ لَهُ وَنُقَدِّرُ الْمِلْكَ فِي دِيَةِ الْمَقْتُولِ خَطَأً قَبْلَ مَوْتِهِ حَتَّى يَصِحَّ فِيهِ الْإِرْثُ فَهَاتَانِ مِنْ بَابِ إعْطَاءِ الْمَعْدُومِ حُكْمَ الْمَوْجُودِ وَالْأُولَيَانِ مِنْ بَابِ إعْطَاءِ الْمَوْجُودِ حُكْمَ الْمَعْدُومِ وَهُوَ كَثِيرٌ فِي الشَّرِيعَةِ وَلَا يَكَادُ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الْفِقْهِ يَنْفَكُّ عَنْ التَّقْدِيرِ وَقَدْ بَسَطْت ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْأُمْنِيَةِ فِي إدْرَاكِ النِّيَّةِ حَيْثُ تَكَلَّمْت فِيهَا عَلَى رَفْضِ النِّيَّةِ وَرَفْعِهَا بَعْدَ وُقُوعِهَا مَعَ أَنَّ رَفْعَ الْوَاقِعِ مُحَالٌ عَقْلًا وَالشَّرْعُ لَا يُرَدُّ بِخِلَافِ الْعَقْلِ وَحَرَّرْت التَّقَادِيرَ فِي هَذِهِ الْمَبَاحِثِ هُنَالِكَ فَهَذَا هُوَ تَصْوِيرُ خِطَابِ التَّكْلِيفِ وَخِطَابِ الْوَضْعِ .(1/97)
وَاعْلَمْ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي خِطَابِ التَّكْلِيفِ عِلْمُ الْمُكَلَّفِ وَقُدْرَتُهُ عَلَى ذَلِكَ الْفِعْلِ وَكَوْنُهُ مِنْ كَسْبِهِ بِخِلَافِ خِطَابِ الْوَضْعِ لَا يُشْتَرَطُ ذَلِكَ فِيهِ فَلِذَلِكَ نُوَرِّثُ بِالْإِنْسَابِ مَنْ لَا يُعْلَمُ نَسَبُهُ وَيَدْخُلُ الْعَبْدُ الْمَوْرُوثُ فِي مِلْكِهِ وَيُعْتَقُ عَلَيْهِ إنْ كَانَ مِمَّنْ يُعْتَقُ عَلَيْهِ مَعَ غَفْلَتِهِ عَنْ ذَلِكَ وَعَجْزِهِ عَنْ دَفْعِهِ وَيُطْلَقُ بِالْإِضْرَارِ وَالْإِعْسَارِ اللَّذَيْنِ هُمَا مَعْجُوزٌ عَنْهُمَا وَيَضْمَنُ بِالْإِتْلَافِ الْمَغْفُولُ عَنْهُ مِنْ الصِّبْيَانِ وَالْمَجَانِينِ فَإِنَّ مَعْنَى خِطَابِ الْوَضْعِ قَوْلُ صَاحِبِ الشَّرْعِ اعْلَمُوا أَنَّهُ مَتَى وُجِدَ كَذَا فَقَدْ وَجَبَ كَذَا أَوْ حَرُمَ كَذَا أَوْ نُدِبَ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ هَذَا فِي السَّبَبِ أَوْ يَقُولُ عُدِمَ كَذَا فِي وُجُودِ الْمَانِعِ أَوْ عِنْدَ عَدَمِ الشَّرْطِ .(1/98)
وَاسْتَثْنَى صَاحِبُ الشَّرْعِ مِنْ عَدَمِ اشْتِرَاطِ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ فِي خِطَابِ الْوَضْعِ قَاعِدَتَيْنِ الْقَاعِدَةُ الْأُولَى الْأَسْبَابُ الَّتِي هِيَ أَسْبَابٌ لِلْعُقُوبَاتِ وَهِيَ جِنَايَاتٌ كَالْقَتْلِ الْمُوجِبِ لِلْقِصَاصِ يُشْتَرَطُ فِيهِ الْقُدْرَةُ وَالْعِلْمُ وَالْقَصْدُ فَلِذَلِكَ لَا قِصَاصَ فِي قَتْلِ الْخَطَأِ وَالزَّانِي أَيْضًا وَلِذَلِكَ لَا يَجِبُ الْحَدُّ عَلَى الْمُكْرَهِ وَلَا عَلَى مَنْ لَا يَعْلَمُ أَنَّ الْمَوْطُوءَةَ أَجْنَبِيَّةٌ بَلْ إذَا اعْتَقَدَ أَنَّهَا امْرَأَتُهُ سَقَطَ الْحَدُّ لِعَدَمِ الْعِلْمِ وَكَذَلِكَ مَنْ شَرِبَ خَمْرًا يَعْتَقِدُهَا خَلًّا لَا حَدَّ عَلَيْهِ لِعَدَمِ الْعِلْمِ وَكَذَلِكَ جَمِيعُ الْأَسْبَابِ الَّتِي هِيَ جِنَايَاتٌ وَأَسْبَابٌ لِلْعُقُوبَاتِ يُشْتَرَطُ فِيهَا الْعِلْمُ وَالْقَصْدُ وَالْقُدْرَةُ وَالسِّرُّ فِي اسْتِثْنَاءِ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ مِنْ خِطَابِ الْوَضْعِ أَنَّ رَحْمَةَ صَاحِبِ الشَّرْعِ تَأْبَى عُقُوبَةَ مَنْ لَمْ يَقْصِدْ الْفَسَادَ وَلَا يَسْعَى فِيهِ بِإِرَادَتِهِ وَقُدْرَتِهِ بَلْ قَلْبُهُ مُشْتَمِلٌ عَلَى الْعِفَّةِ وَالطَّاعَةِ وَالْإِنَابَةِ فَمِثْلُ هَذَا لَا يُعَاقِبُهُ صَاحِبُ الشَّرْعِ رَحْمَةً وَلُطْفًا .(1/99)
الْقَاعِدَةُ الثَّانِيَةُ الَّتِي اُسْتُثْنِيَتْ مِنْ خِطَابِ الْوَضْعِ فَاشْتُرِطَ فِيهَا الْعِلْمُ وَالْقُدْرَةُ قَاعِدَةُ أَسْبَابِ انْتِقَالِ الْأَمْلَاكِ كَالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَالْوَصِيَّةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْوَقْفِ وَالْإِجَارَةِ وَالْقِرَاضِ وَالْمُسَاقَاةِ وَالْمُغَارَسَةِ وَالْجَعَالَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ سَبَبُ انْتِقَالِ الْأَمْلَاكِ فَمَنْ بَاعَ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ أَوْ هَذَا التَّصَرُّفَ يُوجِبُ انْتِقَالَ الْمِلْكِ لِكَوْنِهِ عَجَمِيًّا أَوْ طَارِئًا عَلَى بِلَادِ الْإِسْلَامِ لَا يَلْزَمُهُ بَيْعٌ وَكَذَلِكَ جَمِيعُ مَا ذُكِرَ مَعَهُ وَكَذَلِكَ مَنْ أُكْرِهَ عَلَى الْبَيْعِ فَبَاعَ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ وَقُدْرَتِهِ النَّاشِئَةِ عَنْ دَاعِيَتِهِ الطَّبِيعِيَّةِ لَا يَلْزَمُهُ الْبَيْعُ وَكَذَلِكَ جَمِيعُ مَا ذُكِرَ مَعَهُ وَسِرُّ اسْتِثْنَاءِ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ مِنْ قَاعِدَةِ خِطَابِ الْوَضْعِ قَوْلُهُ عليه السلام { لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا عَنْ طِيبِ نَفْسِهِ } وَلَا يَحْصُلُ الرِّضَا إلَّا مَعَ الشُّعُورِ وَالْإِرَادَةِ وَالْمُكْنَةِ مِنْ التَّصَرُّفِ فَلِذَلِكَ اُشْتُرِطَ فِي هَذِهِ الْقَاعِدَةِ الْعِلْمُ وَالْإِرَادَةُ وَالْقُدْرَةُ .(1/100)
إذَا تَقَرَّرَ هَذَا تَقَرَّرَ شَرْطُ خِطَابِ التَّكْلِيفِ دُونَ خِطَابِ الْوَضْعِ وَظَهَرَ الْفَرْقُ فَأَزِيدُهُ بَيَانًا بِذِكْرِ ثَلَاثِ مَسَائِلَ ( الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى ) اعْلَمْ أَنَّ خِطَابَ الْوَضْعِ قَدْ يَجْتَمِعُ مَعَ خِطَابِ التَّكْلِيفِ وَقَدْ يَنْفَرِدُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِنَفْسِهِ أَمَّا اجْتِمَاعُهُمَا فَكَالزِّنَى فَإِنَّهُ حَرَامٌ وَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ هُوَ خِطَابُ تَكْلِيفٍ وَسَبَبٌ لِلْحَدِّ وَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ هُوَ خِطَابُ وَضْعٍ وَالسَّرِقَةُ مِنْ جِهَةِ أَنَّهَا مُحَرَّمَةٌ خِطَابُ تَكْلِيفٍ وَمِنْ جِهَةِ أَنَّهَا سَبَبُ الْقَطْعِ خِطَابُ وَضْعٍ وَكَذَلِكَ بَقِيَّةُ الْجِنَايَاتِ مُحَرَّمَةٌ وَهِيَ أَسْبَابُ الْعُقُوبَاتِ وَالْبَيْعُ مُبَاحٌ أَوْ مَنْدُوبٌ أَوْ وَاجِبٌ أَوْ حَرَامٌ عَلَى قَدْرِ مَا يَعْرِضُ لَهُ فِي صُوَرِهِ عَلَى مَا هُوَ مَبْسُوطٌ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ هُوَ خِطَابُ تَكْلِيفٍ وَمِنْ جِهَةِ أَنَّهُ سَبَبُ انْتِقَالِ الْمِلْكِ فِي الْبَيْعِ الْجَائِزِ أَوْ التَّقْدِيرِ فِي الْمَمْنُوعِ هُوَ خِطَابُ وَضْعٍ وَبَقِيَّةُ الْعُقُودِ تَتَخَرَّجُ عَلَى هَذَا الْمِنْوَالِ وَأَمَّا انْفِرَادُ خِطَابِ الْوَضْعِ فَكَالزَّوَالِ وَرُؤْيَةِ الْهِلَالِ وَدَوَرَانِ الْحَوْلِ وَنَحْوِهَا فَإِنَّهَا مِنْ خِطَابِ الْوَضْعِ وَلَيْسَ فِيهَا أَمْرٌ وَلَا نَهْيٌ وَلَا إذْنٌ مِنْ حَيْثُ هِيَ كَذَلِكَ بَلْ إنَّمَا وُجِدَ الْأَمْرُ فِي أَثْنَائِهَا وَتَرَتُّبِهَا فَقَطْ وَأَمَّا خِطَابُ التَّكْلِيفِ بِدُونِ خِطَابِ الْوَضْعِ فَكَأَدَاءِ الْوَاجِبَاتِ وَاجْتِنَابِ الْمُحَرَّمَاتِ كَإِيقَاعِ الصَّلَوَاتِ وَتَرْكِ الْمُنْكَرَاتِ فَهَذِهِ مِنْ خِطَابِ التَّكْلِيفِ وَلَمْ يَجْعَلْهَا صَاحِبُ الشَّرْعِ سَبَبًا لِفِعْلٍ آخَرَ(1/101)
نُؤْمَرُ بِهِ أَوْ نُنْهَى عَنْهُ بَلْ وُقِفَ الْحَالُ عِنْدَ أَدَائِهَا وَتَرَتُّبِهَا عَلَى أَسْبَابِهَا وَإِنْ كَانَ صَاحِبُ الشَّرْعِ قَدْ جَعَلَهَا سَبَبًا لِبَرَاءَةِ الذِّمَّةِ وَتَرْتِيبِ الثَّوَابِ وَدَرْءِ الْعِقَابِ غَيْرَ أَنَّ هَذِهِ لَيْسَتْ أَفْعَالًا لِلْمُكَلَّفِ وَنَحْنُ لَا نَعْنِي بِكَوْنِ الشَّيْءِ سَبَبًا إلَّا كَوْنَهُ وُضِعَ سَبَبًا لِفِعْلٍ مِنْ قِبَلِ الْمُكَلَّفِ فَهَذَا وَجْهُ اجْتِمَاعِهِمَا وَافْتِرَاقِهِمَا . ((1/102)
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ ) الصَّبِيُّ إذَا أَفْسَدَ مَالًا لِغَيْرِهِ وَجَبَ عَلَى وَلِيِّهِ إخْرَاجُ الْجَابِرِ مِنْ مَالِ الصَّبِيِّ فَالْإِتْلَافُ سَبَبٌ لِلضَّمَانِ وَهُوَ مِنْ خِطَابِ الْوَضْعِ فَإِذَا بَلَغَ الصَّبِيُّ وَلَمْ تَكُنْ الْقِيمَةُ أُخِذَتْ مِنْ مَالِهِ وَجَبَ عَلَيْهِ إخْرَاجُهَا مِنْ مَالِهِ بَعْدَ بُلُوغِهِ فَقَدْ تَقَدَّمَ السَّبَبُ فِي زَمَنِ الصِّغَرِ وَتَأَخَّرَ أَثَرُهُ إلَى بَعْدِ الْبُلُوغِ وَمُقْتَضَى هَذَا أَنْ يَنْعَقِدَ بَيْعُهُ وَنِكَاحُهُ وَطَلَاقُهُ فَإِنَّهَا أَسْبَابٌ مِنْ بَابِ خِطَابِ الْوَضْعِ الَّذِي لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ التَّكْلِيفُ وَلَا الْعِلْمُ وَلَا الْإِرَادَةُ فَيَنْعَقِدُ مِنْ الصِّبْيَانِ الْعَالِمِينَ الرَّاضِينَ بِانْتِقَالِ أَمْلَاكِهِمْ وَتَتَأَخَّرُ الْأَحْكَامُ إلَى بَعْدِ الْبُلُوغِ فَيُقْضَى حِينَئِذٍ بِالتَّحْرِيمِ فِي الزَّوْجَةِ فِي الطَّلَاقِ كَمَا تَأَخَّرَ الضَّمَانُ عَلَيْهِ وَوُجُوبُ دَفْعِ الْقِيمَةِ إلَى بَعْدِ الْبُلُوغِ وَكَذَلِكَ يَتَأَخَّرُ لُزُومُ تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ إلَى بَعْدَ الْبُلُوغِ وَبَقِيَّةُ الْآثَارِ كَذَلِكَ قِيَاسًا عَلَى الضَّمَانِ وَلَمْ أَرَ أَحَدٌ قَالَ بِهِ ( وَالْجَوَابُ ) بِذِكْرِ الْفَرْقِ بَيْنَ الضَّمَانِ وَبَيْنَ هَذِهِ الْأُمُورِ مِنْ وَجْهَيْنِ ( الْوَجْهُ الْأَوَّلُ ) أَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ يُشْتَرَطُ فِيهَا الرِّضَا لِأَنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ مِنْ بَابِ خِطَابِ الْوَضْعِ غَيْرَ أَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ اسْتِثْنَاءُ قَاعِدَةِ انْتِقَالِ الْأَمْلَاكِ مِنْ قَاعِدَةِ خِطَابِ الْوَضْعِ وَأَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِيهَا الرِّضَا وَالطَّلَاقُ فِيهِ إسْقَاطُ عِصْمَةٍ فَهُوَ مِنْ بَابِ تَرْكِ الْأَمْلَاكِ وَكَذَلِكَ الْعِتْقُ أَيْضًا هُوَ إسْقَاطُ مِلْكٍ فَاشْتُرِطَ فِيهِ الرِّضَا(1/103)
وَلَمَّا كَانَ الصَّبِيُّ غَيْرَ عَالِمٍ بِالْمَصَالِحِ لِنُقْصَانِ عَقْلِهِ وَعَدَمِ مَعْرِفَتِهِ بِهَا جَعَلَ الشَّرْعُ رِضَاهُ كَعَدَمِهِ وَالْمَعْدُومُ شَرْعًا كَالْمَعْدُومِ حِسًّا فَهُوَ غَيْرُ رَاضٍ وَغَيْرُ الرَّاضِي لَا يَلْزَمُهُ طَلَاقٌ وَلَا بَيْعٌ فَكَذَلِكَ الصَّبِيُّ بِخِلَافِ قَاعِدَةِ الْإِتْلَافَاتِ لَا أَثَرَ لِلرِّضَى فِيهَا أَلْبَتَّةَ فَاعْتُبِرَتْ مِنْهُ ( الْوَجْهُ الثَّانِي ) أَنَّ أَثَرَ الطَّلَاقِ التَّحْرِيمُ وَهُوَ لَيْسَ أَهْلًا لَهُ وَأَثَرَ الْبَيْعِ إلْزَامُ تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ وَالصَّبِيُّ لَيْسَ أَهْلًا لِلتَّكْلِيفِ بِالتَّحْرِيمِ وَالْإِلْزَامِ فَإِنْ قِيلَ فَلِمَ لَا تَتَأَخَّرُ هَذِهِ الْأَحْكَامُ إلَى بَعْدِ الْبُلُوغِ كَمَا تَأَخَّرَ إلْزَامُ دَفْعِ الْقِيمَةِ قُلْت الْفَرْقُ أَنَّ تَأَخُّرَ الْمُسَبَّبَاتِ عَنْ أَسْبَابِهَا عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ وَإِنَّمَا خَالَفْنَا هَذَا الْأَصْلَ فِي الْإِتْلَافِ لِضَرُورَةِ حَقِّ الْآدَمِيِّ فِي جَبْرِ مَالِهِ لِئَلَّا يَذْهَبَ مَجَّانًا فَتَضِيعَ الظُّلَامَةُ وَهَذِهِ ضَرُورَةٌ عَظِيمَةٌ وَلَا ضَرُورَةَ تَدْعُونَا لِتَقْدِيمِ الطَّلَاقِ وَتَأْخِيرِ التَّحْرِيمِ بَلْ إذَا أَسْقَطْنَا الطَّلَاقَ وَاسْتَصْحَبْنَا الْعِصْمَةَ لَمْ يَلْزَمْ فَسَادٌ وَلَا تَفُوتُ ضَرُورَةٌ وَكَذَلِكَ إذَا أَبْقَيْنَا الْمِلْكَ فِي الْمَبِيعِ لِلصَّبِيِّ كُنَّا مُوَافِقِينَ لِلْأَصْلِ وَلَا يَلْزَمُ مَحْذُورٌ أَلْبَتَّةَ أَمَّا لَوْ أَسْقَطْنَا إتْلَافَهُ وَلَمْ نَعْتَبِرْهُ لَضَاعَ مَالُ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ وَتَلِفَ وَتَعَيَّنَ ضَرَرُهُ وَهَذَا فَرْقٌ كَبِيرٌ فَتَأَمَّلْهُ . ((1/104)
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ ) الطَّهَارَةُ وَالسِّتَارَةُ وَاسْتِقْبَالُ الْكَعْبَةِ فِي الصَّلَاةِ فَتَاوَى عُلَمَائِنَا مُتَظَافِرَةٌ عَلَى أَنَّهَا مِنْ الْوَاجِبَاتِ مَعَ أَنَّ الْمُكَلَّفَ لَوْ تَوَضَّأَ قَبْلَ الْوَقْتِ وَاسْتَتَرَ وَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ ثُمَّ جَاءَ الْوَقْتُ وَهُوَ عَلَى تِلْكَ الصُّورَةِ وَصَلَّى مِنْ غَيْرِ أَنْ يُجَدِّدَ فِعْلًا أَلْبَتَّةَ فِي هَذِهِ الثَّلَاثَةِ أَجْزَأَتْهُ صَلَاتُهُ إجْمَاعًا وَفِعْلُهُ قَبْلَ الْوَقْتِ لَا يُوصَفُ بِالْوُجُوبِ فَإِنَّ الْوُجُوبَ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ إنَّمَا يَقَعُ تَبَعًا لِطَرَءَانِ السَّبَبِ الَّذِي هُوَ الزَّوَالُ وَنَحْوُهُ مِنْ أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ فَقَبْلَ سَبَبِ الْوُجُوبِ لَا وُجُوبَ وَإِذَا عُدِمَ الْوَاجِبُ فِي هَذِهِ الْأَفْعَالِ اتَّجَهَ الْإِشْكَالُ مِنْ قَاعِدَةٍ أُخْرَى وَهِيَ أَنَّ غَيْرَ الْوَاجِبِ لَا يُجْزِئُ عَنْ الْوَاجِبِ وَإِنْ عُلِمَ الْوَاجِبُ لَا يَخْرُجُ عَنْ عُهْدَتِهِ إلَّا بِفِعْلٍ يُفْعَلُ لَا بِغَيْرِ فِعْلٍ أَلْبَتَّةَ فَهَذَا مُخَالِفٌ لِقَوَاعِد الشَّرْعِ وَعِنْدَ تَوَجُّهِ هَذِهِ الْإِشْكَالَاتِ اضْطَرَبَتْ أَجْوِبَةُ الْفُقَهَاءِ وَاخْتَلَفَتْ أَفْكَارُهُمْ فَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ أَقُولُ الْوُضُوءُ وَاجِبٌ وُجُوبًا مُوَسَّعًا قَبْلَ الْوَقْتِ وَفِي الْوَقْتِ وَالْوَاجِبُ الْمُوَسَّعُ يَجُوزُ تَقْدِيمُهُ وَتَأْخِيرُهُ وَيَقَعُ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ وَاجِبًا فَمَا أَجْزَأَ عَنْ الْوَاجِبِ إلَّا وَاجِبٌ وَهَذَا أَحْسَنُ الْأَجْوِبَةِ الَّتِي رَأَيْتهَا وَهُوَ لَا يَصِحُّ بِسَبَبِ أَنَّ الْوَاجِبَ الْمُوَسَّعَ فِي الشَّرِيعَةِ إنَّمَا عُهِدَ بَعْدَ طَرَءَانِ سَبَبِ الْوُجُوبِ أَمَّا وُجُوبٌ قَبْلَ سَبَبِهِ فَلَا يُعْقَلُ فِي الشَّرِيعَةِ لَا(1/105)
مُضَيَّقًا وَلَا مُوَسَّعًا وَأَوْقَاتُ الصَّلَوَاتِ نَصَبَهَا صَاحِبُ الشَّرْعِ أَسْبَابًا لِوُجُوبِهَا فَلَا تَجِبُ قَبْلَهَا وَلَا تَجِبُ شَرَائِطُهَا وَوَسَائِلُهَا قَبْلَ وُجُوبِهَا فَإِنَّ الْقَاعِدَةَ الشَّرْعِيَّةَ أَنَّ وُجُوبَ الْوَسَائِلِ تَبَعٌ لِوُجُوبِ الْمَقَاصِدِ وَلِأَنَّ مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ بَعْدَ وُجُوبِ الْوَاجِبِ الْأَصْلِيِّ أَمَّا قَبْلَ وُجُوبِهِ فَهُوَ غَيْرُ مَعْقُولٍ هَذَا مَا عَلَى هَذَا الْجَوَابِ وَقَالَ غَيْرُهُ هَذِهِ الْأُمُورُ تَقَعُ غَيْرَ وَاجِبَةٍ وَتُجْزِئُ عَنْ الْوَاجِبِ بِالْإِجْمَاعِ فَهِيَ مُسْتَثْنَاةٌ بِالْإِجْمَاعِ فَانْدَفَعَ السُّؤَالُ وَهَذَا لَيْسَ بِجَيِّدٍ فَإِنَّ الِاسْتِثْنَاءَ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْإِجْمَاعَ مُنْعَقِدٌ عَلَى أَنَّهَا مُسْتَثْنَاةٌ بَلْ عَلَى أَنَّهَا مُجْزِئَةٌ .(1/106)
أَمَّا الِاسْتِثْنَاءُ فَلَا نُسَلِّمُهُ وَقَالَ ثَالِثٌ الْمَوْجُودُ مِنْ الْفِعْلِ بَعْدَ دُخُولِ الْوَقْتِ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ هُوَ الْوَاجِبُ وَهُوَ لَا بُدَّ أَنْ يَسْتَصْحِبَ ثَوْبَهُ وَاسْتِقْبَالَهُ وَطَهَارَتَهُ وَمُلَازَمَةُ الشَّيْءِ وَاسْتِصْحَابُهُ فِعْلٌ مِنْ الْمُكَلَّفِ فَهَذَا هُوَ الَّذِي أَجْزَأَ عَنْ الْوَاجِبِ وَهَذَا أَيْضًا غَيْرُ جَيِّدٍ بِسَبَبِ أَنَّا نُضَيِّقُ الْفَرْضَ فِي الثَّوْبِ وَالْقِبْلَةِ وَنَفْرِضُهُ قَبْلَ الْوَقْتِ عَلَى تِلْكَ الْهَيْئَةِ بِحَيْثُ لَا يُجَدِّدُ شَيْئًا بَعْدَ دُخُولِ الْوَقْتِ حَتَّى يَحْرُمَ وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ دَوَامَ الثَّوْبِ عَلَيْهِ فِعْلٌ لَهُ وَلَا دَوَامَ الطَّهَارَةِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ غَفَلَ عَنْ كَوْنِهِ مُتَطَهِّرًا وَمُسْتَقْبِلًا وَلَابِسًا وَصَلَّى صَحَّتْ صَلَاتُهُ وَمَعَ الْغَفْلَةِ يَمْتَنِعُ الْفِعْلُ لِأَنَّ مِنْ شَرْطِ الْفِعْلِ الشُّعُورَ وَلَا شُعُورَ فَلَا فِعْلَ وَهَذَا التَّضْيِيقُ يَحْسِمُ مَادَّةَ هَذَا الْجَوَابِ فَإِنْ قُلْت فَلِمَ حَنَّثْتَهُ بِدَوَامِ لُبْسِ الثَّوْبِ إذَا حَلَفَ لَا يَلْبَسُ ثَوْبًا وَهُوَ لَابِسُهُ أَوْ لَا يَدْخُلُ دَارًا وَهُوَ فِيهَا عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ مَعَهُ إلَّا الِاسْتِصْحَابُ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ فِعْلٌ وَإِذَا كَانَ فِعْلًا هُنَاكَ كَانَ فِعْلًا هُنَا قُلْت الْإِيمَانُ يَكْفِي فِيهَا شَهَادَةُ الْعُرْفِ كَانَ فِيهَا فِعْلٌ أَمْ لَا فَقَدْ نُحَنِّثُهُ بِغَيْرِ فِعْلِهِ بَلْ بِفِعْلِ غَيْرِهِ كَقَوْلِهِ إنْ قَدِمَ زَيْدٌ أَوْ طَارَ الْغُرَابُ أَوْ بِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَفْعَالِ أَوْ بِغَيْرِ فِعْلٍ أَلْبَتَّةَ كَقَوْلِهِ إنْ كَانَ الْمُسْتَحِيلُ مُسْتَحِيلًا فَامْرَأَتُهُ طَالِقٌ طَلُقَتْ عَلَيْهِ امْرَأَتُهُ(1/107)
مَعَ أَنَّ الْمُسْتَحِيلَ لَا فِعْلَ لَهُ فِيهِ أَلْبَتَّةَ بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ فَإِنَّهُ بَابُ تَكْلِيفٍ وَإِيجَابٍ وَالتَّكْلِيفُ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ الْفِعْلِ فَانْدَفَعَ السُّؤَالُ وَالْجَوَابُ الصَّحِيحُ عِنْدِي أَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ الثَّلَاثَةَ الطَّهَارَةَ وَالسِّتَارَةَ وَالِاسْتِقْبَالَ شُرُوطٌ فَهِيَ مِنْ بَابِ خِطَابِ الْوَضْعِ وَخِطَابُ الْوَضْعِ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ فِعْلُ الْمُكَلَّفِ وَلَا عِلْمُهُ وَلَا إرَادَتُهُ .(1/108)
فَإِنْ دَخَلَ الْوَقْتُ وَهُوَ غَيْرُ مُتَطَهِّرٍ وَلَا لَابِسٍ وَلَا مُسْتَقْبِلٍ تَوَجَّهَ التَّكْلِيفُ عَلَيْهِ بِهَذِهِ الْأُمُورِ وَتَحْصِيلِهَا فَاجْتَمَعَ فِيهَا حِينَئِذٍ خِطَابُ الْوَضْعِ وَخِطَابُ التَّكْلِيفِ وَإِنْ دَخَلَ الْوَقْتُ وَهُوَ مُتَطَهِّرٌ لَابِسٌ مُسْتَقْبِلٌ انْدَفَعَ خِطَابُ التَّكْلِيفِ وَبَقِيَ خِطَابُ الْوَضْعِ خَاصَّةً فَأَجْزَأَتْهُ الصَّلَاةُ لِوُجُودِ شُرُوطِهَا وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ خِطَابِ الْوَضْعِ أَنْ يَجْتَمِعَ مَعَهُ خِطَابُ التَّكْلِيفِ وَلَا يَحْتَاجُ إلَى شَيْءٍ مِنْ تِلْكَ التَّعَسُّفَاتِ بَلْ نُخْرِجُهُ عَلَى قَاعِدَةِ خِطَابِ الْوَضْعِ وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ مُخَالَفَةُ قَاعِدَةٍ أَلْبَتَّةَ غَايَتُهُ أَنْ يَلْزَمَ مِنْهُ أَنْ يَجِبَ الْوُضُوءُ فِي حَالَةٍ دُونَ حَالَةٍ وَهَذَا لَا مُنْكَرَ فِيهِ فَإِنَّ شَأْنَ الشَّرِيعَةِ تَخْصِيصُ الْوُجُوبِ بِبَعْضِ الْحَالَاتِ وَبَعْضِ الْأَزْمِنَةِ وَبَعْضِ الْأَشْخَاصِ وَهَذَا هُوَ الْأَصْلُ لَا إنَّهُ مُخَالِفٌ لِلْأَصْلِ وَإِنَّمَا صَعُبَ عَلَى طَالِبِ الْعِلْمِ هَذَا مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ يَسْمَعُ طُولَ عُمْرِهِ أَنَّ الطَّهَارَةَ وَاجِبَةٌ فِي الصَّلَاةِ مُطْلَقًا وَلَمْ يَسْمَعْ فِي ذَلِكَ تَفْصِيلًا فَصَعُبَ عَلَيْهِ التَّفْصِيلُ وَكَمْ مِنْ تَفْصِيلٍ قَدْ سَكَتَ عَنْهُ الدَّهْرُ الطَّوِيلُ وَأَجْرَاهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى قَلْبِ مَنْ شَاءَ مِنْ عِبَادِهِ فِي جَمِيعِ الْعُلُومِ الْعَقْلِيَّاتِ وَالنَّقْلِيَّاتِ وَمَنْ اشْتَغَلَ بِالْعُلُومِ وَكَثُرَ تَحْصِيلُهُ لَهَا اطَّلَعَ عَلَى شَيْءٍ كَثِيرٍ مِنْ ذَلِكَ فَهَذَا هُوَ تَحْرِيرُ هَذَا الْمَوْضِعِ عِنْدِي وَهُوَ مِنْ الْمُشْكِلَاتِ الَّتِي يُقْبَلُ تَحْرِيرُهَا وَالْجَوَابُ عَنْهَا مِنْ الْفُضَلَاءِ .(1/109)
وَالثَّالِثُ مَا يَدُلُّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى فِي الْجُمْلَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى { عَفَا اللَّهُ عَنْك لِمَ أَذِنْت لَهُمْ } الْآيَةَ فَإِنَّهُ مَوْضِعُ اجْتِهَادٍ فِي الْإِذْنِ عِنْدَ عَدَمِ النَّصِّ وَقَدْ ثَبَتَ فِي الشَّرِيعَةِ الْعَفْوُ عَنْ الْخَطَأِ فِي الِاجْتِهَادِ حَسْبَمَا بَسَطَهُ الْأُصُولِيُّونَ وَمِنْهُ قوله تعالى { لَوْلَا كِتَابٌ مِنْ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } { وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ عليه الصلاة والسلام يَكْرَهُ كَثْرَةَ السُّؤَالِ فِيمَا لَمْ يَنْزِلْ فِيهِ حُكْمٌ } بِنَاءً عَلَى حُكْمِ الْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ إذْ هِيَ رَاجِعَةٌ إلَى هَذَا الْمَعْنَى وَمَعْنَاهَا أَنَّ الْأَفْعَالَ مَعَهَا مَعْفُوٌّ عَنْهَا وَقَدْ قَالَ صلى الله تعالى عليه وسلم { إنَّ أَعْظَمَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْمُسْلِمِينَ جُرْمًا مَنْ سَأَلَ عَنْ شَيْءٍ لَمْ يَحْرُمْ عَلَيْهِمْ فَحَرُمَ عَلَيْهِمْ مِنْ أَجْلِ مَسْأَلَتِهِ } اُنْظُرْ الْمُوَافَقَاتِ لِلشَّاطِبِيِّ وَاَسْتَدَلَّ الْقَائِلُ بِعَدَمِهِ بِثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ أَيْضًا أَحَدُهَا أَنَّ أَفْعَالَ الْمُكَلَّفِينَ مِنْ حَيْثُ هُمْ مُكَلَّفُونَ إمَّا أَنْ تَكُونَ بِجُمْلَتِهَا دَاخِلَةً تَحْتَ خِطَابِ التَّكْلِيفِ فَهُوَ الِاقْتِضَاءُ أَوْ التَّخْيِيرُ أَوْ لَا تَكُونُ بِجُمْلَتِهَا دَاخِلَةً فَإِنْ كَانَ بِجُمْلَتِهَا دَاخِلَةً فَلَا زَائِدَ عَلَى الْأَحْكَامِ الْخَمْسَةِ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ دَاخِلَةً بِجُمْلَتِهَا لَزِمَ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ الْمُكَلَّفِينَ خَارِجًا عَنْ حُكْمِ خِطَابِ التَّكْلِيفِ وَلَوْ فِي وَقْتٍ أَوْ حَالَةٍ مَا لَكِنَّ ذَلِكَ بَاطِلٌ لِأَنَّا فَرَضْنَاهُ مُكَلَّفًا فَلَا يَصِحُّ خُرُوجُهُ فَلَا زَائِدَ عَلَى الْأَحْكَامِ الْخَمْسَةِ وَالثَّانِي(1/110)
أَنَّ هَذَا زَائِدٌ إمَّا أَنْ يَكُونَ حُكْمًا شَرْعِيًّا أَوْ لَا فَإِنْ لَمْ يَكُنْ حُكْمًا شَرْعِيًّا فَلَا اعْتِبَارَ بِهِ وَإِنْ كَانَ حُكْمًا شَرْعِيًّا فَإِمَّا مِنْ خِطَابِ التَّكْلِيفِ وَأَنْوَاعُهُ مَحْصُورَةٌ فِي الْخَمْسَةِ وَإِمَّا مِنْ خِطَابِ الْوَضْعِ وَأَنْوَاعُهُ أَيْضًا مَحْصُورَةٌ فِي الْخَمْسَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا الْأُصُولِيُّونَ وَهَذَا لَيْسَ مِنْ هَذِهِ وَلَا مِنْ هَذِهِ فَكَانَ لَغْوًا وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ حُكْمًا شَرْعِيًّا أَوْ لَا أَنَّهُ مُسَمًّى بِالْعَفْوِ وَالْعَفْوُ إنَّمَا يَتَوَجَّهُ حَيْثُ يُتَوَقَّعُ لِلْمُكَلَّفِ حُكْمُ الْمُخَالَفَةِ لِأَمْرٍ أَوْ نَهْيٍ وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ كَوْنَ الْمُكَلَّفِ بِهِ قَدْ سَبَقَ حُكْمُهُ فَلَا يَصِحُّ أَنْ يَتَوَارَدَ عَلَيْهِ حُكْمٌ آخَرُ لِتَضَادِّ الْأَحْكَامِ وَثَانِيًا أَنَّ الْعَفْوَ إنَّمَا هُوَ حُكْمٌ أُخْرَوِيٌّ لَا دُنْيَوِيٌّ وَكَلَامُنَا فِي الْأَحْكَامِ الْمُتَوَجِّهَةِ فِي الدُّنْيَا وَالثَّالِثُ أَنَّ هَذَا الزَّائِدَ أَيْ مَرْتَبَةَ الْعَفْوِ إنْ كَانَتْ رَاجِعَةً إلَى الْمَسْأَلَةِ الْأُصُولِيَّةِ وَهِيَ أَنْ يُقَالَ هَلْ يَصِحُّ أَنْ يَخْلُوَ بَعْضُ الْوَقَائِعِ عَنْ حُكْمِ اللَّهِ أَمْ لَا فَالْمَسْأَلَةُ مُخْتَلَفٌ فِيهَا فَلَيْسَ إثْبَاتُهَا أَوْلَى مِنْ نَفْيِهَا إلَّا بِدَلِيلٍ وَالْأَدِلَّةُ فِيهَا مُتَعَارِضَةٌ فَلَا يَصِحُّ إثْبَاتُهَا إلَّا بِالدَّلِيلِ السَّالِمِ عَنْ الْمُعَارِضِ وَدَعْوَاهُ وَأَيْضًا إنْ كَانَتْ اجْتِهَادِيَّةً فَالظَّاهِرُ نَفْيُهَا بِالْأَدِلَّةِ الْمَذْكُورَةِ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ رَاجِعَةً إلَى تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ فَلَيْسَتْ بِمَفْهُومَةٍ وَمَا تَقَدَّمَ مِنْ الْأَدِلَّةِ عَلَى إثْبَاتِ تِلْكَ الْمَرْتَبَةِ لَا دَلِيلَ(1/111)
فِيهِ فَالْأَدِلَّةُ النَّقْلِيَّةُ غَيْرُ مُقْتَضِيَةٍ لِلْخُرُوجِ عَنْ الْأَحْكَامِ الْخَمْسَةِ لِإِمْكَانِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا وَلِأَنَّ الْعَفْوَ أُخْرَوِيٌّ وَأَيْضًا فَإِنْ سَلِمَ لِلْعَفْوِ ثُبُوتٌ فَفِي زَمَانِهِ عليه الصلاة والسلام لَا فِي غَيْرِهِ وَلِإِمْكَانِ تَأْوِيلِ تِلْكَ الظَّوَاهِرِ وَمَا سَيُذْكَرُ مِنْ أَنْوَاعِ الْعَفْوِ فَدَاخِلَةٌ أَيْضًا تَحْتَ الْخَمْسَةِ فَإِنَّ الْعَفْوَ فِيهَا رَاجِعٌ إلَى رَفْعِ حُكْمِ الْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ وَالْإِكْرَاهِ وَالْحَرَجِ وَذَلِكَ يَقْتَضِي إمَّا الْجَوَازُ بِمَعْنَى الْإِبَاحَةِ وَإِمَّا رَفْعُ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الْمُخَالَفَةِ مِنْ الذَّمِّ وَتَسْبِيبِ الْعِقَابِ وَذَلِكَ يَقْتَضِي إثْبَاتَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ مَعَ رَفْعِ آثَارِهِمَا لِمُعَارِضٍ فَارْتَفَعَ الْحُكْمُ بِمَرْتَبَةِ الْحُكْمِ وَأَنْ يَكُونَ أَمْرًا زَائِدًا عَلَى الْخَمْسَةِ وَفِي هَذَا الْمَجَالِ أَبْحَاثٌ أُخَرُ وَعَلَى الْقَوْلِ بِثُبُوتِ الْعَفْوِ فَهَلْ هُوَ حُكْمٌ أَمْ لَا احْتِمَالَاتٌ وَعَلَى الِاحْتِمَالِ الْأَوَّلِ فَهَلْ يَرْجِعُ إلَى خِطَابِ التَّكْلِيفِ أَمْ إلَى خِطَابِ الْوَضْعِ احْتِمَالَاتٌ جَزَمَ الْأَصْلُ بِالثَّانِي وَقَالَ الشَّاطِبِيُّ وَالنَّظَرُ فِي هَذِهِ الِاحْتِمَالَاتِ لَمَّا لَمْ يَكُنْ مِمَّا يَنْبَنِي عَلَيْهِ حُكْمٌ عَمَلِيٌّ لَمْ يَتَأَكَّدْ الْبَيَانُ فِيهِ فَكَانَ الْأَوْلَى تَرْكَهُ أَفَادَ جَمِيعَ ذَلِكَ فِي الْمُوَافَقَاتِ وَلِمَوَاقِعِ الْعَفْوِ عَلَى ثُبُوتِهِ إعْمَالًا لِأَدِلَّتِهِ ضَابِطَانِ الضَّابِطُ الْأَوَّلُ لِلْأَصْلِ أَنَّهُ التَّقَادِيرُ الشَّرْعِيَّةُ الَّتِي هِيَ إعْطَاءُ الْمَوْجُودِ حُكْمَ الْمَعْدُومِ كَتَقْدِيرِ النَّجَاسَةِ فِي حُكْمِ الْعَدَمِ فِي صُوَرِ الضَّرُورَاتِ كَدَمِ(1/112)
الْبَرَاغِيثِ وَمَوْضِعِ الْحَدَثِ فِي الْمَخْرَجَيْنِ أَوْ الْمَعْدُومِ حُكْمَ الْمَوْجُودِ كَتَقْدِيرِ الْكُفْرِ الْمَعْدُومِ عِنْدَ قَتْلِ الْمُسْلِمِ لِظَنِّهِ كَافِرًا فِي حُكْمِ الْمَوْجُودِ فَيَسْقُطُ الْقِصَاصُ وَالضَّابِطُ الثَّانِي لِلشَّاطِبِيِّ فِي الْمُوَافَقَاتِ أَنَّهُ يَنْحَصِرُ فِي ثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ أَحَدُهَا الْوُقُوفُ مَعَ مُقْتَضَى الدَّلِيلِ الْمُعَارِضِ قَصْدَ نَحْوِهِ وَقَدْ قَوِيَ مُعَارِضُهُ كَالْعَمَلِ بِالْعَزِيمَةِ الرَّاجِعَةِ إلَى أَصْلِ التَّكْلِيفِ وَإِنْ تَوَجَّهَ حُكْمُ الرُّخْصَةِ الْمُسْتَمَدَّةِ مِنْ قَاعِدَةِ رَفْعِ الْحَرَجِ وَبِالْعَكْسِ فَالرُّجُوعُ إلَى حُكْمِ الرُّخْصَةِ وُقُوفٌ مَعَ مَا مِثْلُهُ مُعْتَمَدٌ لَكِنْ لَمَّا كَانَ أَصْلُ رَفْعِ الْحَرَجِ وَارِدًا عَلَى أَصْلِ التَّكْلِيفِ وَوَرَدَ الْمُكَمِّلُ تَرَجَّحَ جَانِبُ أَصْلِ الْعَزِيمَةِ بِوَجْهٍ مَا غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَخْرِمُ أَصْلَ الرُّجُوعِ لِأَنَّ بِذَلِكَ الْمُكَمِّلِ قِيَامَ أَصْلِ التَّكْلِيفِ وَقَدْ اُعْتُبِرَ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ هَذَا فَفِيهِ أَنَّ مَنْ سَافَرَ فِي رَمَضَانَ أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعَةِ بُرْدٍ فَظَنَّ أَنَّ الْفِطْرَ مُبَاحٌ بِهِ فَأَفْطَرَ فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ وَمَنْ أَفْطَرَ فِيهِ بِتَأْوِيلٍ وَإِنْ كَانَ أَصْلُهُ غَيْرَ عِلْمِيٍّ بَلْ هَذَا جَارٍ فِي كُلِّ مُتَأَوَّلٍ كَشَارِبِ الْمُسْكِرِ يَظُنُّهُ غَيْرَ مُسْكِرٍ وَقَاتِلِ الْمُسْلِمِ يَظُنُّهُ كَافِرًا وَآكِلِ الْمَالِ الْحَرَامِ عَلَيْهِ يَظُنُّهُ حَلَالًا لَهُ وَالْمُتَطَهِّرِ بِمَاءٍ نَجِسٍ يَظُنُّهُ طَاهِرًا وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ وَمِثْلُهُ الْمُجْتَهِدُ الْمُخْطِئُ فِي اجْتِهَادِهِ أَخْرَجَ أَبُو دَاوُد عَنْ { ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله تعالى عنه أَنَّهُ جَاءَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ(1/113)
وَالنَّبِيُّ صلى الله تعالى عليه وسلم يَخْطُبُ فَسَمِعَهُ يَقُولُ اجْلِسُوا فَجَلَسَ بِبَابِ الْمَسْجِدِ فَرَآهُ النَّبِيُّ صلى الله تعالى عليه وسلم فَقَالَ لَهُ تَعَالَ يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ وَسَمِعَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ وَهُوَ بِطَرِيقِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله تعالى عليه وسلم وَهُوَ يَقُولُ اجْلِسُوا فَجَلَسَ فِي الطَّرِيقِ فَمَرَّ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله تعالى عليه وسلم فَقَالَ مَا شَأْنُك فَقَالَ سَمِعْتُك تَقُولُ اجْلِسُوا فَجَلَسْت فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله تعالى عليه وسلم زَادَك اللَّهُ طَاعَةً } وَقَدْ قَالَ عليه الصلاة والسلام { لَا يُصَلِّي أَحَدٌ الْعَصْرَ إلَّا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ فَأَدْرَكَهُمْ وَقْتُ الْعَصْرِ فِي الطَّرِيقِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لَا نُصَلِّي حَتَّى نَأْتِيَهَا وَقَالَ بَعْضُهُمْ بَلْ نُصَلِّي وَلَمْ يُرِدْ مِنَّا ذَلِكَ فَذُكِرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صلى الله تعالى عليه وسلم فَلَمْ يُعَنِّفْ وَاحِدَةً مِنْ الطَّائِفَتَيْنِ } وَيَدْخُلُ هَهُنَا كُلُّ قَضَاءٍ قَضَى بِهِ الْقَاضِي مِنْ مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ ثُمَّ يَتَبَيَّنُ لَهُ خَطَؤُهُ مَا لَمْ يَكُنْ قَدْ أَخْطَأَ نَصًّا أَوْ إجْمَاعًا أَوْ بَعْضُ الْقَوَاطِعِ وَكَذَلِكَ التَّرْجِيحُ بَيْنَ الدَّلِيلَيْنِ فَإِنَّهُ وُقُوفٌ مَعَ أَحَدِهِمَا وَإِهْمَالٌ لِلْآخَرِ فَإِذَا فُرِضَ مُهْمِلًا لِلرَّاجِحِ فَذَلِكَ لِأَجْلِ وُقُوفِهِ مَعَ الْمَرْجُوحِ وَهُوَ فِي الظَّاهِرِ دَلِيلٌ يُعْتَمَدُ مِثْلُهُ وَكَذَلِكَ الْعَمَلُ بِدَلِيلٍ مَنْسُوخٍ أَوْ غَيْرِ صَحِيحٍ فَإِنَّهُ وُقُوفٌ مَعَ ظَاهِرِ دَلِيلٍ يُعْتَمَدُ مِثْلُهُ فِي الْجُمْلَةِ فَلَا يَدْخُلُ تَحْتَ هَذَا النَّوْعِ مِنْ الْعَفْوِ وُقُوفُهُ مَعَ مُقْتَضَى دَلِيلٍ غَيْرِ مُعَارِضٍ لِأَنَّهُ أَمْرٌ أَوْ نَهْيٌ أَوْ(1/114)
تَخْيِيرٌ عُمِلَ عَلَى وَفْقِهِ فَلَا عَتَبَ يُتَوَهَّمُ فِيهِ وَمُؤَاخَذَةٌ تَلْزَمُهُ بِحُكْمِ الظَّاهِرِ فَلَا مَوْقِعَ لِلْعَفْوِ فِيهِ وَلَا وُقُوفِهِ مَعَ مَا لَمْ يَقْوَ مُعَارِضُهُ لِأَنَّهُ مِنْ النَّوْعِ الثَّانِي النَّوْعُ الثَّانِي خُرُوجُهُ عَنْ مُقْتَضَى الدَّلِيلِ عَنْ غَيْرِ قَصْدٍ أَوْ عَنْ قَصْدٍ لَكِنْ بِالتَّأْوِيلِ فَمِثَالُ مُخَالَفَتِهِ عَنْ غَيْرِ قَصْدٍ أَنْ يَعْمَلَ الرَّجُلُ عَمَلًا عَلَى اعْتِقَادِ إبَاحَتِهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْهُ دَلِيلُ تَحْرِيمِهِ أَوْ كَرَاهِيَتِهِ أَوْ يَتْرُكَهُ مُعْتَقِدًا إبَاحَتَهُ إذَا لَمْ يَبْلُغْهُ دَلِيلُ وُجُوبِهِ أَوْ نَدْبِهِ كَقَرِيبِ الْعَهْدِ بِالْإِسْلَامِ لَا يَعْلَمُ أَنَّ الْخَمْرَ مُحَرَّمَةٌ فَيَشْرَبُهَا أَوْ لَا يَعْلَمُ أَنَّ غُسْلَ الْجَنَابَةِ وَاجِبٌ فَيَتْرُكُهُ وَكَمَا اُتُّفِقَ فِي الزَّمَانِ الْأَوَّلِ حِينَ لَمْ تَعْلَمْ الْأَنْصَارِ طَلَبَ الْغُسْلِ مِنْ الْتِقَاءِ الْخِتَانَيْنِ وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ يَتَبَيَّنُ لِلْمُجْتَهِدِينَ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ كَانَ لَا يَرَى تَخْلِيلَ أَصَابِعِ الرِّجْلَيْنِ فِي الْوُضُوءِ وَيَرَاهُ مِنْ التَّعَمُّقِ حَتَّى بَلَغَهُ أَنَّ { النَّبِيَّ صلى الله تعالى عليه وسلم كَانَ يُخَلِّلُ } فَرَجَعَ إلَى الْقَوْلِ بِهِ وَكَمَا اُتُّفِقَ لِأَبِي يُوسُفَ مَعَ مَالِكٍ فِي الْمُدِّ وَالصَّاعِ حَتَّى رَجَعَ إلَى الْقَوْلِ بِذَلِكَ وَمِنْ ذَلِكَ الْعَمَلُ عَلَى الْمُخَالَفَةِ خَطَأً أَوْ نِسْيَانًا أَوْ إكْرَاهًا فَفِي الْحَدِيثِ { رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ } فَإِنَّهُ وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ إلَّا أَنَّ مَعْنَاهُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَمِنْ ذَلِكَ الْعَفْوُ عَنْ عَثَرَاتِ ذَوِي الْهَيْئَاتِ فَإِنَّهُ(1/115)
ثَبَتَ فِي الشَّرْعِ إقَالَتُهُمْ فِي الزَّلَّاتِ وَأَنْ لَا يُعَامَلُوا بِسَبَبِهَا مُعَامَلَةَ غَيْرِهِمْ فَفِي الْحَدِيثِ { أَقِيلُوا ذَوِي الْهَيْئَاتِ عَثَرَاتِهِمْ } وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ { تَجَافَوْا عَنْ عُقُوبَةِ ذَوِي الْمُرُوءَةِ وَالصَّلَاحِ } وَرُوِيَ الْعَمَلُ بِذَلِكَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَمْرُو بْنِ حَزْمٍ فَإِنَّهُ قَضَى بِهِ فِي رَجُلٍ مِنْ آلِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ شَبَحَ رَجُلًا وَضَرَبَهُ فَأَرْسَلَهُ وَقَالَ أَنْتَ مِنْ ذَوِي الْهَيْئَاتِ وَفِي خَبَرٍ آخَرَ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ قَالَ اسْتَأْذَى عَلَيَّ مَوْلًى لِي جَرَحْته يُقَالُ لَهُ سَلَامٌ الْبَرْبَرِيُّ إلَى ابْنِ حَزْمٍ فَأَتَانِي فَقَالَ جَرَحْته قُلْت نَعَمْ قَالَ سَمِعْت خَالَتِي عَمْرَةَ تَقُولُ قَالَتْ عَائِشَةُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله تعالى عليه وسلم { أَقِيلُوا ذَوِي الْهَيْئَاتِ عَثَرَاتِهِمْ } فَخَلَّى سَبِيلَهُ وَلَمْ يُعَاقِبْهُ وَهَذَا أَيْضًا مِنْ شُئُونِ رَبِّ الْعِزَّةِ سُبْحَانَهُ فَإِنَّهُ قَالَ { وَيَجْزِي الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى } { الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إلَّا اللَّمَمَ } الْآيَةَ لَكِنَّهَا أَحْكَامٌ أُخْرَوِيَّةٌ وَكَلَامُنَا فِي الْأَحْكَامِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَيَقْرَبُ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى دَرْءُ الْحُدُودِ بِالشُّبُهَاتِ فَإِنَّ الدَّلِيلَ يَقُومُ هُنَالِكَ مُفِيدًا لِلظَّنِّ فِي إقَامَةِ الْحَدِّ وَمَعَ ذَلِكَ فَإِذَا عَارَضَهُ شُبْهَةٌ وَإِنْ ضَعُفَتْ غَلَبَ حُكْمُهَا وَدَخَلَ صَاحِبُهَا فِي حُكْمِ الْعَفْوِ وَقَدْ يُعَدُّ هَذَا الْمَجَالُ مِمَّا خُولِفَ فِيهِ الدَّلِيلُ بِالتَّأْوِيلِ وَهُوَ مِنْ هَذَا النَّوْعِ أَيْضًا وَمِثَالُ(1/116)
مُخَالَفَتِهِ بِالتَّأْوِيلِ مَعَ الْمَعْرِفَةِ بِالدَّلِيلِ مَا وَقَعَ فِي الْحَدِيثِ فِي تَفْسِيرِ قوله تعالى { لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا } الْآيَةَ عَنْ قُدَامَةَ بْنِ مَظْعُونٍ حِينَ قَالَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ إنْ كُنْتُ شَرِبْتهَا فَلَيْسَ لَك أَنْ تَجْلِدَنِي قَالَ عُمَرُ وَلِمَ قَالَ لِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ { لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا } الْآيَةَ .(1/117)
فَقَالَ عُمَرُ إنَّك أَخْطَأْت التَّأْوِيلَ يَا قُدَامَةُ إذَا اتَّقَيْت اجْتَنَبْت مَا حَرَّمَ اللَّهُ قَالَ الْقَاضِي إسْمَاعِيلُ وَكَأَنَّهُ أَرَادَ أَنَّ هَذِهِ الْحَالَةَ تُكَفِّرُ مَا كَانَ مِنْ شُرْبِهِ لِأَنَّهُ كَانَ مِمَّنْ اتَّقَى وَآمَنَ وَعَمِلَ الصَّالِحَاتِ وَأَخْطَأَ فِي التَّأْوِيلِ بِخِلَافِ مَنْ اسْتَحَلَّهَا كَمَا فِي حَدِيثِ عَلِيٍّ رضي الله عنه وَلَمْ يَأْتِ فِي حَدِيثِ قُدَامَةَ أَنَّهُ حُدَّ وَمِمَّا وَقَعَ فِي الْمَذْهَبِ فِي الْمُسْتَحَاضَةِ تَتْرُكُ الصَّلَاةَ زَمَانًا جَاهِلَةً بِالْعَمَلِ أَنَّهُ لَا قَضَاءَ عَلَيْهَا فِيمَا تَرَكَتْ قَالَ فِي مُخْتَصَرِ مَا لَيْسَ فِي الْمُخْتَصَرِ لَوْ طَالَ بِالْمُسْتَحَاضَةِ وَالنُّفَسَاءِ الدَّمُ فَلَمْ تُصَلِّ النُّفَسَاءُ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ وَلَا الْمُسْتَحَاضَةُ شَهْرًا لَمْ تَقْضِيَا مَا مَضَى إذَا تَأَوَّلَتَا فِي تَرْكِ الصَّلَاةِ دَوَامَ مَا بِهِمَا مِنْ الدَّمِ وَقِيلَ فِي الْمُسْتَحَاضَةِ إذَا تَرَكَتْ بَعْدَ أَيَّامِ أَقْرَائِهَا يَسِيرًا أَعَادَتْهُ وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا فَلَيْسَ عَلَيْهَا قَضَاؤُهُ بِالْوَاجِبِ وَفِي سَمَاعِ أَبِي زَيْدٍ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهَا إذَا تَرَكَتْ الصَّلَاةَ بَعْدَ الِاسْتِظْهَارِ جَاهِلَةً لَا تَقْضِي صَلَاةَ تِلْكَ الْأَيَّامِ وَاسْتَحَبَّ ابْنُ الْقَاسِمِ لَهَا الْقَضَاءَ وَمِنْ ذَلِكَ أَيْضًا الْمُسَافِرُ يَقْدُمُ قَبْلَ الْفَجْرِ فَيَظُنُّ أَنَّ مَنْ لَمْ يَدْخُلْ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ فَلَا صَوْمَ لَهُ أَوْ تَطْهُرُ الْحَائِضُ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ فَيَظُنُّ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ صَوْمُهَا حَتَّى تَطْهُرَ قَبْلَ الْغُرُوبِ فَلَا كَفَّارَةَ هُنَا وَإِنْ خَالَفَ الدَّلِيلَ لِأَنَّهُ مُتَأَوَّلٌ وَإِسْقَاطُ الْكَفَّارَةِ هُوَ مَعْنَى الْعَفْوِ النَّوْعُ(1/118)
الثَّالِثُ الْعَمَلُ بِمَا هُوَ مَسْكُوتٌ عَنْ حُكْمِهِ إمَّا عَلَى الْقَوْلِ بِصِحَّةِ الْخُلُوِّ كَمَا هُوَ مُقْتَضَى حَدِيثِ { وَمَا سُكِتَ عَنْهُ فَهُوَ عَفْوٌ } وَأَشْبَاهِهِ مِمَّا تَقَدَّمَ فَظَاهِرٌ وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ بِعَدَمِ صِحَّةِ الْخُلُوِّ فَيُمْكِنُ أَنْ يُصْرَفَ السُّكُوتُ عَلَيْهِ إلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ الْوَجْهُ الْأَوَّلُ تَرْكُ الِاسْتِفْصَالِ مَعَ وُجُودِ فِطْنَتِهِ كَمَا فِي قوله تعالى { وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ } فَإِنَّ هَذَا الْعُمُومَ يَتَنَاوَلُ بِظَاهِرِهِ مَا ذَبَحُوا لِأَعْيَادِهِمْ وَكَنَائِسِهِمْ وَإِذَا نُظِرَ إلَى الْمَعْنَى أَشْكَلَ لِأَنَّ فِي ذَبَائِحِ الْأَعْيَادِ زِيَادَةً تُنَافِي أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ فَكَانَ لِلنَّظَرِ هُنَا مَجَالٌ وَلَكِنَّ مَكْحُولًا سُئِلَ عَنْ الْمَسْأَلَةِ فَقَالَ كُلُّهُ قَدْ عَلِمَ اللَّهُ مَا يَقُولُونَ وَأَحَلَّ ذَبَائِحَهُمْ يُرِيدُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّ الْآيَةَ لَمْ يُخَصَّ عُمُومُهَا وَإِنْ وُجِدَ هَذَا الْخَاصُّ الْمُنَافِي وَعَلِمَ اللَّهُ مُقْتَضَاهُ وَدُخُولَهُ تَحْتَ عُمُومِ اللَّفْظِ وَمَعَ ذَلِكَ فَأَحَلَّ مَا لَيْسَ فِيهِ عَارِضٌ وَمَا هُوَ فِيهِ لَكِنْ بِحُكْمِ الْعَفْوِ عَنْ وَجْهِ الْمُنَافَاةِ وَإِلَى نَحْوِ هَذَا يُشِيرُ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام { وَعَفَا عَنْ أَشْيَاءَ رَحْمَةً بِكُمْ لَا عَنْ نِسْيَانٍ فَلَا تَبْحَثُوا عَنْهَا } وَحَدِيثُ الْحَجِّ أَيْضًا مِثْلُ هَذَا حِينَ قَالَ { أَحَجُّنَا هَذَا لِعَامِنَا أَوْ لِلْأَبَدِ } لِأَنَّ اعْتِبَارَ اللَّفْظِ يُعْطِي أَنَّهُ لِلْأَبَدِ فَكَرِهَ عليه الصلاة والسلام سُؤَالَهُ وَبَيَّنَ لَهُ عِلَّةَ تَرْكِ السُّؤَالِ عَنْ مِثْلِهِ وَكَذَلِكَ حَدِيثُ { إنَّ أَعْظَمَ الْمُسْلِمِينَ فِي(1/119)
الْمُسْلِمِينَ جُرْمًا } إلَخْ يُشِيرُ إلَى هَذَا الْمَعْنَى فَإِنَّ السُّؤَالَ عَمَّا لَمْ يَحْرُمْ ثُمَّ يَحْرُمْ لِأَجْلِ الْمَسْأَلَةِ إنَّمَا يَأْتِي فِي الْغَالِبِ مِنْ جِهَةِ إبْدَاءِ وَجْهٍ فِيهِ يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ مَعَ أَنَّ لَهُ أَصْلًا يَرْجِعُ إلَيْهِ فِي الْحِلِّيَّةِ وَإِنْ اخْتَلَفَتْ فُرُوعُهُ فِي أَنْفُسِهَا أَوْ دَخَلَهَا مَعْنًى يُخَيَّلُ الْخُرُوجُ عَنْ حُكْمِ ذَلِكَ الْأَصْلِ وَنَحْوُهُ حَدِيثُ { ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ } وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ الْوَجْهُ الثَّانِي السُّكُوتُ عَنْ مَجَارِي الْعَادَاتِ مَعَ اسْتِصْحَابِهَا فِي الْوَقَائِعِ كَمَا فِي الْأَشْيَاءِ الَّتِي كَانَتْ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ عَلَى حُكْمِ الْإِقْرَارِ ثُمَّ حَرُمَتْ بَعْدَ ذَلِكَ بِتَدْرِيجٍ كَالْخَمْرِ فَإِنَّهَا كَانَتْ مُعْتَادَةَ الِاسْتِعْمَالِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ ثُمَّ جَاءَ الْإِسْلَامُ فَتُرِكَتْ عَلَى حَالِهَا قَبْلَ الْهِجْرَةِ وَزَمَانًا بَعْدَ ذَلِكَ وَلَمْ يُتَعَرَّضْ فِي الشَّرْعِ لِلنَّصِّ عَلَى حُكْمِهَا حَتَّى نَزَلَ { يَسْأَلُونَك عَنْ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ } فَبَيَّنَ مَا فِيهَا مِنْ الْمَنَافِعِ وَالْمَضَارِّ وَأَنَّ الْأَضْرَارَ فِيهَا أَكْبَرُ مِنْ الْمَنَافِعِ وَتُرِكَ الْحُكْمُ الَّذِي اقْتَضَتْهُ الْمَصْلَحَةُ وَهُوَ التَّحْرِيمُ لِأَنَّ الْقَاعِدَةَ الشَّرْعِيَّةَ أَنَّ الْمَفْسَدَةَ إذَا أَرْبَتْ عَلَى الْمَصْلَحَةِ فَالْحُكْمُ لِلْمَفْسَدَةِ وَالْمَفَاسِدُ مَمْنُوعَةٌ فَبَانَ وَجْهُ الْمَنْعِ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ غَيْرَ أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يُنَصَّ عَلَى الْمَنْعِ وَإِنْ ظَهَرَ وَجْهُهُ تَمَسَّكُوا بِالْبَقَاءِ مَعَ الْأَصْلِ الثَّابِتِ لَهُمْ بِمَجَارِي الْعَادَاتِ وَدَخَلَ لَهُمْ تَحْتَ الْعَفْوِ إلَى أَنْ نَزَلَ مَا فِي سُورَةِ(1/120)
الْمَائِدَةِ مِنْ قوله تعالى { فَاجْتَنِبُوهُ } فَحِينَئِذٍ اسْتَقَرَّ حُكْمُ التَّحْرِيمِ وَارْتَفَعَ الْعَفْوُ وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ قوله تعالى { لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا } الْآيَةَ فَإِنَّهُ لَمَّا حَرُمَتْ قَالُوا كَيْفَ بِمَنْ مَاتَ وَهُوَ يَشْرَبُهَا فَنَزَلَتْ الْآيَةُ فَرُفِعَ الْجُنَاحُ وَهُوَ مَعْنَى الْعَفْوِ وَمِثْلُ ذَلِكَ الرِّبَا الْمَعْمُولُ بِهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَفِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ وَكَذَلِكَ بُيُوعُ الْغَرَرِ الْجَارِيَةُ بَيْنهمْ كَبَيْعِ الْمَضَامِينِ وَالْمَلَاقِيحِ وَالثَّمَرِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهِ وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ كُلِّهَا كَانَتْ مَسْكُوتًا عَنْهَا وَمَا سُكِتَ عَنْهَا فَهُوَ فِي مَعْنَى الْعَفْوِ وَالنَّسْخُ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يَرْفَعُ هَذَا الْمَعْنَى لِوُجُودِ جُمْلَةٍ مِنْهُ بَاقِيَةٍ إلَى الْآنَ عَلَى حُكْمِ إقْرَارِ الْإِسْلَامِ كَالْقِرَاضِ وَالْحُكْمِ فِي الْخُنْثَى بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمِيرَاثِ وَغَيْرِهِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِمَّا نَبَّهَ الْعُلَمَاءُ عَلَيْهِ الْوَجْهُ الثَّالِثُ السُّكُوتُ عَنْ أَعْمَالٍ أُخِذَتْ قَبْلُ مِنْ شَرِيعَةِ إبْرَاهِيمَ عليه السلام كَمَا فِي النِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ وَالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَسَائِرِ أَفْعَالِهِمَا إلَّا مَا غَيَّرُوا فَقَدْ كَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ قَبْلَ الْإِسْلَامِ فَيُفَرِّقُونَ بَيْنَ النِّكَاحِ وَالسِّفَاحِ وَيُطَلِّقُونَ وَيَطُوفُونَ بِالْبَيْتِ أُسْبُوعًا وَيَمْسَحُونَ الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ وَيَسْعَوْنَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَيُلَبُّونَ وَيَقِفُونَ بِعَرَفَاتٍ وَيَأْتُونَ مُزْدَلِفَةَ وَيَرْمُونَ الْجِمَارَ وَيُعَظِّمُونَ الْأَشْهُرَ الْحُرُمَ وَيُحَرِّمُونَهَا وَيَغْتَسِلُونَ مِنْ الْجَنَابَةِ(1/121)
وَيَغْسِلُونَ مَوْتَاهُمْ وَيُكَفِّنُونَهُمْ وَيُصَلُّونَ عَلَيْهِمْ وَيَقْطَعُونَ السَّارِقَ وَيُصَلِّبُونَ قَاطِعَ الطَّرِيقِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا كَانَ فِيهِمْ مِنْ بَقَايَا مِلَّةِ أَبِيهِمْ إبْرَاهِيمَ فَكَانُوا عَلَى ذَلِكَ إلَى أَنْ جَاءَ الْإِسْلَامُ فَبَقُوا عَلَى حُكْمِهِ حَتَّى أَحْكَمَ الْإِسْلَامُ مِنْهُ مَا أَحْكَمَ وَانْتَسَخَ مَا خَالَفَهُ فَدَخَلَ مَا كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ فِي حُكْمِ الْعَفْوِ مِمَّا لَمْ يَتَجَدَّدْ فِيهِ خِطَابٌ زِيَادَةً عَلَى التَّلَقِّي مِنْ الْأَعْمَالِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَقَدْ نَسَخَ مِنْهَا مَا نَسَخَ وَأَبْقَى مِنْهَا مَا أَبْقَى عَلَى الْمَعْهُودِ الْأَوَّلِ انْتَهَى كَلَامُ الشَّاطِبِيِّ فِي الْمُوَافَقَاتِ بِتَصَرُّفٍ ( وَصْلٌ ) فِي بَيَانِ هَذَا الْفَرْقِ بِثَلَاثِ مَسَائِلَ ( الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى ) يَجْتَمِعُ خِطَابُ الْوَضْعِ مَعَ خِطَابِ التَّكْلِيفِ فِي أُمُورٍ مِنْهَا الزِّنَا فَإِنَّهُ خِطَابُ تَكْلِيفٍ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ حَرَامٌ وَوَضْعٍ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ سَبَبٌ لِلْحَدِّ وَمِنْهَا السَّرِقَةُ فَهِيَ خِطَابُ تَكْلِيفٍ مِنْ جِهَةِ التَّحْرِيمِ وَوَضْعٍ مِنْ جِهَةِ أَنَّهَا سَبَبُ الْقَطْعِ وَمِنْهَا بَقِيَّةُ الْجِنَايَاتِ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ وَهِيَ أَسْبَابُ الْعُقُوبَاتِ وَمِنْهَا الْبَيْعُ فَإِنَّهُ خِطَابُ تَكْلِيفٍ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ مُبَاحٌ أَوْ مَنْدُوبٌ أَوْ وَاجِبٌ أَوْ حَرَامٌ عَلَى قَدْرِ مَا يَعْرِضُ لَهُ فِي صُوَرِهِ عَلَى مَا هُوَ مَبْسُوطٌ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ وَوَضْعٍ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ سَبَبُ انْتِقَالِ الْمِلْكِ فِي الْبَيْعِ الْجَائِزِ أَوْ التَّقْدِيرِ فِي الْمَمْنُوعِ وَمِنْهَا بَقِيَّةُ الْعُقُودِ فَإِنَّهَا تَتَخَرَّجُ عَلَى هَذَا الْمِنْوَالِ وَيَنْفَرِدُ خِطَابُ الْوَضْعِ عَنْ(1/122)
خِطَابِ التَّكْلِيفِ فِي أُمُورٍ مِنْهَا الزَّوَالُ وَرُؤْيَةُ الْهِلَالِ وَدَوَرَانُ الْحَوْلِ وَنَحْوُهَا فَإِنَّهَا مِنْ خِطَابِ الْوَضْعِ وَلَيْسَ فِيهَا أَمْرٌ وَلَا نَهْيٌ وَلَا إذْنٌ مِنْ حَيْثُ هِيَ كَذَلِكَ بَلْ إنَّمَا وُجِدَ الْأَمْرُ فِي أَثْنَائِهَا وَتَرَتُّبِهَا فَقَطْ وَيَنْفَرِدُ خِطَابُ التَّكْلِيفِ عَنْ خِطَابِ الْوَضْعِ فِي أُمُورٍ مِنْهَا أَدَاءُ الْوَاجِبَاتِ وَاجْتِنَابُ الْمُحَرَّمَاتِ كَإِيقَاعِ الصَّلَوَاتِ وَتَرْكِ الْمُنْكَرَاتِ فَإِنَّ هَذِهِ وَإِنْ كَانَتْ مِنْ خِطَابِ التَّكْلِيفِ لَمْ يَجْعَلْهَا صَاحِبُ الشَّرْعِ سَبَبًا لِفِعْلٍ آخَرَ نُؤْمَرُ بِهِ أَوْ نُنْهَى عَنْهُ بَلْ وُقِفَ الْحَالُ عِنْدَ أَدَائِهَا وَتَرَتُّبِهَا عَلَى أَسْبَابِهَا وَإِنْ كَانَ صَاحِبُ الشَّرْعِ قَدْ جَعَلَهَا سَبَبًا لِبَرَاءَةِ الذِّمَّةِ وَتَرْتِيبِ الثَّوَابِ وَدَرْءِ الْعِقَابِ غَيْرَ أَنَّ هَذِهِ لَيْسَتْ أَفْعَالًا لِلْمُكَلَّفِ وَنَحْنُ لَا نَعْنِي بِكَوْنِ الشَّيْءِ سَبَبًا إلَّا كَوْنَهُ سَبَبًا لِفِعْلٍ مِنْ قِبَلِ الْمُكَلَّفِ فَبَيْنَهُمَا الْعُمُومُ وَالْخُصُوصُ الْوَجْهِيُّ ( الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ ) يَجِبُ عَلَى وَلِيِّ الصَّبِيِّ إذَا أَفْسَدَ الصَّبِيُّ مَالًا لِغَيْرِهِ إخْرَاجُ الْجَابِرِ مِنْ مَالِ الصَّبِيِّ فَالْإِتْلَافُ سَبَبٌ لِلضَّمَانِ عَلَى الصَّبِيِّ بَعْدَ بُلُوغِهِ إخْرَاجَ الْجَابِرِ مِنْ مَالِهِ إذَا لَمْ يُخْرِجْهُ الْوَلِيُّ مِنْ قَبْلُ فَقَدْ تَقَدَّمَ السَّبَبُ فِي زَمَنِ الصِّغَرِ وَتَأَخَّرَ أَثَرُهُ بَعْدَ الْبُلُوغِ وَأَمَّا بَيْعُهُ وَنِكَاحُهُ وَطَلَاقُهُ وَعِتْقُهُ فَلَا تَكُونُ أَسْبَابًا لِآثَارِهَا لَا قَبْلُ وَلَا بَعْدُ وَالْفَرْقُ بَيْنَ اعْتِبَارِ سَبَبِيَّةِ الْإِتْلَافِ لِلضَّمَانِ قَبْلُ وَبَيْنَ عَدَمِ(1/123)
اعْتِبَارِ سَبَبِيَّةِ الْبَيْعِ وَمَا بَعْدَهُ لِآثَارِهَا قُبِلَ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ يُشْتَرَطُ فِيهَا اعْتِبَارُ الْمَصَالِحِ وَالصَّبِيُّ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِذَلِكَ وَالثَّانِي أَنَّ أَثَرَ الطَّلَاقِ التَّحْرِيمُ وَأَثَرَ الْبَيْعِ إلْزَامُ تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ وَالصَّبِيُّ لَيْسَ أَهْلًا لِلتَّكْلِيفِ بِالتَّحْرِيمِ وَالْإِلْزَامِ وَالْفَرْقُ بَيْنَ اعْتِبَارِ سَبَبِيَّةِ الْإِتْلَافِ لِلضَّمَانِ بَعْدُ وَعَدَمِ اعْتِبَارِ سَبَبِيَّةِ الْبَيْعِ وَمَا بَعْدَهُ لِآثَارِهَا بَعْدُ هُوَ أَنَّ تَأَخُّرَ الْمُسَبَّبَاتِ عَنْ أَسْبَابِهَا عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ وَإِنَّمَا خَالَفْنَا هَذَا الْأَصْلَ فِي الْإِتْلَافِ لِضَرُورَةِ حَقِّ الْآدَمِيِّ فِي جَبْرِ مَالِهِ لِئَلَّا يَذْهَبَ مَجَّانًا فَتَضِيعَ الظُّلَامَةُ وَهَذِهِ ضَرُورَةٌ عَظِيمَةٌ تَحَقَّقَتْ فِي الْإِتْلَافِ فَاقْتَضَتْ مُخَالَفَةَ الْأَصْلِ الْمَذْكُورِ فِيهِ وَلَمْ تَتَحَقَّقْ فِي الطَّلَاقِ وَالْبَيْعِ وَمَا مَعَهُمَا بَلْ إذَا أَسْقَطْنَا الطَّلَاقَ وَاسْتَصْحَبْنَا الْعِصْمَةَ لَمْ يَلْزَمْ فَسَادٌ وَلَا تَفُوتُ ضَرُورَةٌ وَكَذَلِكَ أَيْضًا إذَا أَبْقَيْنَا الْمِلْكَ فِي الْمَبِيعِ لِلصَّبِيِّ كُنَّا مُوَافِقِينَ لِلْأَصْلِ وَلَا يَلْزَمُ مَحْظُورٌ أَلْبَتَّةَ ( الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ ) فَتَاوَى عُلَمَائِنَا مُتَظَافِرَةٌ عَلَى أَنَّ الطَّهَارَةَ وَسَتْرَ الْعَوْرَةِ وَاسْتِقْبَالَ الْكَعْبَةِ فِي الصَّلَاةِ مِنْ الْوَاجِبَاتِ وَالصَّحِيحُ مَا قَالَهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ مِنْ أَنَّ وُجُوبَهَا مُوَسَّعٌ قَبْلَ الْوَقْتِ وَفِي الْوَقْتِ وَأَنَّ الْوُجُوبَ فِيهَا لَيْسَ تَبَعًا لِطَرَآنِ السَّبَبِ الَّذِي هُوَ الزَّوَالُ وَنَحْوُهُ مِنْ أَوْقَاتِ(1/124)
الصَّلَوَاتِ بَلْ يَقَعُ الْوُجُوبُ فِيهَا تَبَعًا لِطَرَآنِ الْعَزْمِ عَلَى التَّهَيُّؤِ وَالِاسْتِعْدَادِ لِإِيقَاعِ الصَّلَاةِ وَوَقْتُ طَرَآنِ هَذَا الْعَزْمِ مَا بَيْنَ أَقْرَبِ حَدَثٍ يُحْدِثُهُ الْمَرْءُ وَإِيقَاعِ الصَّلَاةِ وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ أُمُورٌ الْأَوَّلُ انْعِقَادُ الْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ الْمُكَلَّفَ لَوْ تَوَضَّأَ قَبْلَ الْوَقْتِ وَاسْتَتَرَ وَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ ثُمَّ جَاءَ الْوَقْتُ وَهُوَ عَلَى تِلْكَ الصُّورَةِ وَصَلَّى مِنْ غَيْرِ أَنْ يُجَدِّدَ فِعْلًا أَلْبَتَّةَ فِي هَذِهِ الثَّلَاثَةِ أَجْزَأَتْهُ صَلَاتُهُ الثَّانِي تَعَذُّرُ الْقَوْلِ بِإِجْزَاءِ مَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ عَنْ الْوَاجِبِ الثَّالِثُ لُزُومُ نِيَّةِ الْوُجُوبِ الرَّابِعُ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ أَنْ لَا يَجِبَ الشَّرْطُ إلَّا عِنْدَ وُجُوبِ الْمَشْرُوطِ إذْ لَا اسْتِحَالَةَ فِي مُغَايَرَةِ سَبَبِ الْمَشْرُوطِ لِسَبَبِ الشَّرْطِ كَمَا هُنَا فَإِنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ وَضْعِيَّةٌ تَقَعُ بِحَسَبِ قَصْدِ وَاضِعِهَا وَنَظِيرُ مَا هُنَا مِنْ الْعَادِيَاتِ مَنْ يُعْلَمُ مِنْ عَادَتِهِ اضْطِرَارُهُ إلَى الْغِذَاءِ فِي وَقْتِ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَمِنْ شَرْطِ الْغِذَاءِ الَّذِي يُتَغَذَّى بِهِ طَبْخُهُ فَلَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيمِ الطَّبْخِ الَّذِي هُوَ الشَّرْطُ عَلَى وَقْتِ الِاغْتِذَاءِ ثُمَّ لَا يَتَعَيَّنُ لِذَلِكَ الطَّبْخِ الزَّمَنُ الْمُجَاوِرُ لِزَمَنِ الِاغْتِذَاءِ بَلْ لَهُ تَقْدِيمُ الطَّبْخِ وَالِاسْتِعْدَادِ بِهِ مِنْ حِينِ طُرُوءِ عَزْمِهِ عَلَى الِاسْتِعْدَادِ وَإِنَّمَا صَحَّ ذَلِكَ لِاسْتِوَاءِ حُصُولِ الْمَصْلَحَةِ بِالِاغْتِذَاءِ بِالْقَرِيبِ الطَّبْخُ وَهَذَا عَلَى تَقْدِيرِ اسْتِوَاءِ ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إلَى حَالِ هَذَا الشَّخْصِ وَهَذَا الْغِذَاءِ(1/125)
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .
وفي فتاوى السبكي :
( سُؤَالٌ ) وَرَدَ مِنْ ثَغْرِ الْإِسْكَنْدَرِيَّة مِنْ جِهَةِ الْفَقِيهِ أَبِي الْقَاسِمِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ بَنُوبٍ الْقُرَشِيِّ الْمَغْرِبِيِّ عَنْ مَسْأَلَتَيْنِ وَجَدَهُمَا الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ إحْدَاهُمَا مَنْ أُخِذَ لَهُ مَالٌ حَلَالٌ فَوَجَدَ عِنْدَ أَخْذِهِ لَهُ مَالًا حَرَامًا فَهَلْ إذَا أَخَذَهُ مِنْ الظَّالِمِ لَهُ يَتَنَزَّلُ فِي الْحِلْيَةِ عِنْدَ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ مَنْزِلَةَ الْأَوَّلِ أَمْ لَا ؟ قَالَ : يَعْنِي ابْنَ عَبْدِ السَّلَامِ فِيهِ إشْكَالٌ قَالَ السَّائِلُ : وَلَمْ يَظْهَرْ مُوجِبُ تَوَقُّفِهِ فَإِنَّهُ إذَا وَقَعَ الْتِبَاسٌ عَلَى أَنَّ التَّحْرِيمَ وَالتَّحْلِيلَ لَيْسَ رَاجِعًا إلَى الْأَعْيَانِ وَإِنَّمَا هُوَ رَاجِعٌ إلَى صِفَةِ الْمُكْتَسَبِ لَهَا بِغَيْرِ الْوَجْهِ الشَّرْعِيِّ فَكَيْفَ لَا يُقَالُ إنَّ الثَّانِيَ يَحِلُّ مَحَلَّ الْأَوَّلِ . وَطَلَبُ هَذَا السَّائِلِ مُتَعَلِّقُ اسْتِشْكَالِ الْإِمَامِ عِزِّ الدِّينِ مِنْ حَيْثُ الدَّلِيلِ , قَالَ : وَإِلَّا فَالْخِلَافُ فِي مَذْهَبِنَا مَعْلُومٌ وَظَاهِرُ الْمُدَوَّنَةِ فِيمَنْ غَصَبَ دَرَاهِمَ لِرَجُلٍ فَأَرَادَ الْغَاصِبُ إعْطَاءَ مِثْلِهَا لِرَبِّهَا أَنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى أَخْذِهَا .(1/126)
الثَّانِيَةُ فِي تَقْدِيمِ الْفَاضِلِ عَلَى الْمَفْضُولِ فَذَكَرَ يَعْنِي ابْنَ عَبْدِ السَّلَامِ مَسَائِلَ مِنْهَا أَنَّهُ إذَا كَانَ لَهُ عَبْدَانِ أَحَدُهُمَا أَجْنَبِيٌّ فِي غَايَةِ الصَّلَاحِ وَالثَّانِي قَرِيبٌ مِنْهُ وَأَرَادَ عِتْقَهُمَا هَلْ يُقَدَّمُ عِتْقُ الْأَجْنَبِيِّ الصَّالِحِ عَلَى عِتْقِ قَرِيبِهِ الْفَاسِقِ أَمْ لَا ؟ قَالَ هُوَ يَعْنِي ابْنَ عَبْدِ السَّلَامِ فِيهِ نَظَرٌ , قَالَ السَّائِلُ : فَأَقُولُ يُقَدِّمُ عِتْقَ الْأَجْنَبِيِّ ; لِأَنَّ الْعِتْقَ الْإِحْسَانُ وَقَالَ تَعَالَى { إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ } وَالْأَكْرَمُ عَلَى اللَّهِ يَجِبُ تَقْدِيمُهُ , وَالشَّرِيعَةُ طَافِحَةٌ بِعَدَمِ اعْتِبَارِ النَّسَبِ مَعَ قِيَامِ الْمَعْصِيَةِ بِهِ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى { مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ } وَقَالَ فِي إبْرَاهِيمَ عليه السلام { فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ } وَغَيْرُ هَذَا فَمَا مُوجِبُ تَوَقُّفِهِ رضي الله عنه وَظَاهِرُ كَلَامِ مَوْلَانَا عِزِّ الدِّينِ فِي الْعَبْدِ الْقَرِيبِ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ فَاسِقًا أَوْ كَانَ صَالِحًا وَالْعَبْدُ الْأَجْنَبِيُّ أَصْلَحُ أَنَّهُ يُقَدِّمُ عِتْقَ الْقَرِيبِ إذَا لَمْ يَكُنْ فَاسِقًا أَوْ كَانَ صَالِحًا , وَعِنْدِي أَنَا أَنَّ تَقْدِيمَ الْأَصْلَحِ الْأَجْنَبِيُّ عَلَى الْقَرِيبِ الَّذِي لَيْسَ بِفَاسِقٍ أَوْ الْقَرِيبُ الصَّالِحُ أَوْلَى , وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّهُ إذَا كَانَ الْقَرِيبُ صَالِحًا قَدَّمْت الْأَجْنَبِيَّ الْأَصْلَحَ عَلَيْهِ ; لِأَنَّ وَصْفَ الْأَصْلَحِيَّةِ زَادَ بِهِ الْأَجْنَبِيُّ عَلَى الْقَرِيبِ فَإِنْ قِيلَ : وَصْفُ الْأَصْلَحِيَّةِ تَقَابَلَ بِهِ وَصْفُ الْقَرَابَةِ مِنْ جِهَةِ الْقُرْبِ فَاعْتَدَلَا فَوَجَبَ الْوَقْفُ .(1/127)
فَالْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ مِنْ وَجْهَيْنِ اثْنَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنَّ تَقَدُّمَةَ الْأَصْلَحِيَّةِ تَقْدِيمٌ دِينِيٌّ وَتَقْدِيمُ الْقَرَابَةِ دُنْيَوِيٌّ وَالدِّينِيُّ يُقَدَّمُ وَبَسْطُهُ يَطُولُ , الثَّانِي : أَنَّا إذَا قَدَّمْنَا الْأَجْنَبِيَّ عَلَى الْقَرِيبِ وَقَعَتْ السَّلَامَةُ مِنْ الشَّوَائِبِ الْقَادِحَةِ فِي الْقَرَابَةِ فَإِنَّهُ إذَا أَعْطَى الْقَرِيبَ رُبَّمَا خَطَرَ لَهُ وَصْفُ الْقَرَابَةِ فِي السَّبَبِيَّةِ وَهَذَا تَقْتَضِيه الْحِيلَةُ فَيَكُونُ بَاعِثًا عَلَى الْإِعْطَاءِ أَوْ مُشَارِكًا فِي النَّسَبِ مَعَ وَصْفِ الصَّلَاحِ فَإِذَا كَانَ هَذَا مَعَ اتِّصَافِ الْقَرِيبِ بِوَصْفِ الصَّلَاحِ فَمِنْ بَابٍ آخَرَ إذَا لَمْ يَكُنْ صَالِحًا وَلَا فَاسِقًا .(1/128)
انْتَهَى كَلَامُ السَّائِلِ وَكُتِبَ بِذَلِكَ فِي الْخَامِسِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ الْمُعَظَّمِ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ فِي كِتَابِ رِسَالَةٍ إلَى بَعْضِ أَصْحَابِهِ فِي الْقَاهِرَةِ فَالْتَمَسَ الْجَوَابَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ نَجْمُ الدِّينِ سَعِيدٌ وَالْتَمَسَ مِنْهُ أَنْ يَسْأَلَ عَنْ ذَلِكَ مِنْ الْفَقِيرِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ الْكَافِي السُّبْكِيّ فَقَالَ مُعْتَصِمًا بِاَللَّهِ تَعَالَى : الْحَمْدُ لِلَّهِ أَمَّا الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى فَالْحَقُّ فِيهَا أَنَّ ذَلِكَ لَا يَتَنَزَّلُ فِي الْحِلْيَةِ عِنْدَ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ مَنْزِلَةَ الْأَوَّلِ وَلَا يَحِلُّ لَهُ أَخْذُهُ مَتَى كَانَ مَعْلُومَ التَّحْرِيمِ بِاكْتِسَابِهِ مِنْ جِهَةٍ مُحَرَّمَةٍ بِاعْتِقَادِهِمَا وَاحْتَرَزْنَا بِالْقَيْدِ الْأَوَّلِ عَمَّا إذَا قَالَ الْغَاصِبُ : إنَّ هَذَا الْمَالَ الَّذِي فِي يَدِهِ حَرَامٌ وَلَمْ يُصَدِّقْهُ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ فَلَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ أَخْذُهُ لِعِلْمِهِ بِعَدَمِ تَحْرِيمِهِ أَوْ قَالَ الْغَاصِبُ : إنَّهُ حَلَالٌ وَقَالَ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ : هُوَ حَرَامٌ , وَكَانَ الْمَغْصُوبُ تَالِفًا فَإِنَّ الْمَغْصُوبَ مِنْهُ يُجْبَرُ عَلَى الْقَبْضِ أَوْ الْإِبْرَاءِ ; لِأَنَّ فِي هَاتَيْنِ الصُّورَتَيْنِ لَمْ يَتَحَقَّقْ الْعِلْمُ بِالتَّحْرِيمِ .(1/129)
وَاحْتَرَزْنَا بِقَوْلِنَا فِي اعْتِقَادِهِمَا عَمَّا إذَا رَأَى الْمُسْلِمُ الذِّمِّيَّ يَبِيعُ الْخَمْرَ وَقَبَضَ ثَمَنَهَا وَأَرَادَ إعْطَاءَهُ فِيمَا عَلَيْهِ فَلِلْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ خِلَافٌ وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لِبُطْلَانِ اعْتِقَادِهِمْ وَإِنْ كَانُوا يُقِرُّونَ عَلَيْهِ وَالْقَوْلُ بِالْحِلِّ ضَعِيفٌ , وَعَمَّا إذَا رَأَى مُسْلِمًا يَتَصَرَّفُ تَصَرُّفًا فَاسِدًا فِي اعْتِقَادِهِ جَائِزًا فِي اعْتِقَادِ الْمُتَصَرِّفِ كَمَا فِي الْمَذَاهِبِ الْمُخْتَلِفَةِ فَهَلْ يَجُوزُ لَهُ إذَا كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ أَنْ يَقْبِضَهُ مِنْ ذَلِكَ الثَّمَنِ الَّذِي تَحَقَّقَ أَنَّهُ مِنْ تِلْكَ الْجِهَةِ ؟ فِيهِ خِلَافٌ وَالْقَوْلُ بِالْحِلِّ هُنَا أَقْوَى مِنْهُ فِي الصُّورَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَمَعَ ذَلِكَ فَالْأَصَحُّ هُنَا أَنَّهُ إنْ كَانَ مِمَّا يُنْقَضُ قَضَاءُ الْقَاضِي فِيهِ فَلَا يَحِلُّ , وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يُنْقَضُ قَضَاءُ الْقَاضِي فِيهِ فَإِنْ قُلْنَا : كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٍ حَلَّ , وَإِنْ قُلْنَا : الْمُصِيبُ وَاحِدٌ وَهُوَ الصَّحِيحُ فَإِنْ اتَّصَلَ بِحُكْمِ حَاكِمٍ صَحَّ حِلٌّ عَلَى خِلَافٍ فِيهِ مَنْشَؤُهُ أَنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ فِي مِثْلِ هَذَا الْقِسْمِ هَلْ يُؤَثِّرُ فِي الْحِلِّ وَيُقِرُّ الْأَمْرُ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ أَمْ لَا كَمَا إذَا حَكَمَ الْحَنَفِيُّ بِشُفْعَةِ الْجِوَارِ وَالْأَصَحُّ الْحِلُّ عِنْدَ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ الْبَغَوِيّ وَالرَّافِعِيُّ وَعَدَمُ الْحِلِّ عِنْدَ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ الْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ وَالْأَوَّلُونَ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الْمَسْأَلَةِ الْمَشْهُورَةِ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْحَنَفِيَّةِ فِي أَنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ بِغَيْرِ مَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ أَمْ لَا فَإِنَّ تِلْكَ الْمَسْأَلَةَ(1/130)
لَيْسَتْ مِنْ الْمَسَائِلِ الِاجْتِهَادِيَّةِ وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ لَا أَثَرَ لَهُ فِيهَا فِي التَّعْبِيرِ أَصْلًا وَهُوَ الْحَقُّ فَهَاتَانِ الْمَسْأَلَتَانِ إذَا كَانَ أَحَدُهُمَا يَعْتَقِدُ التَّحْرِيمَ دُونَ الْآخَرِ وَقَدْ لَا يَعْتَقِدُهُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا وَلَكِنَّهُ يَكُونُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ غَيْرُ مَمْلُوكٍ لِلْغَاصِبِ فَيُعْطِيهِ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ وَيَأْخُذُهُ مِنْهُ وَهُمَا يَظُنَّانِ أَنَّهُ مِلْكُهُ فَهَذَا لَا يُوصَفُ بِالتَّحْرِيمِ أَلْبَتَّةَ مَا دَامَ حَالُهُ مَجْهُولًا بِنَاءً عَلَى أَنَّ التَّحْرِيمَ وَالتَّحْلِيلَ صِفَتَانِ لِلْأَعْيَانِ فَقَدْ يُطْلَقُ عَلَيْهِ التَّحْرِيمُ وَهُوَ إطْلَاقٌ مَجَازِيٌّ ; لِأَنَّهُمْ لَا يُرِيدُونَ حُصُولَ الْإِثْمِ بِهِ هَذَا لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ فَقِيهٌ وَلَا أُصُولِيٌّ وَهَذَا الْإِطْلَاقُ الْمَجَازِيُّ ارْتَكَبَهُ كَثِيرُونَ مِنْ جَمِيعِ الْمَذَاهِبِ حَتَّى قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ مِنْ أَصْحَابِنَا أَنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ قَتْلَ الْخَطَأِ حَرَامٌ قُلْت : وَيَجِبُ تَأْوِيلُهُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فَجَمِيعُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ الْمَأْخُوذُ فِيهَا مَوْصُوفٌ بِالْحِلِّ حَالٌّ مَحَلَّ الْأَوَّلِ ظَاهِرًا حَتَّى يَعْلَمَ الْآخِذُ مِمَّا يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ فَحِينَئِذٍ يَجِبُ عَلَيْهِ إزَالَةُ يَدِهِ عَنْهُ إنْ كَانَ بَاقِيًا وَغُرْمُهُ إنْ كَانَ تَالِفًا .(1/131)
إذَا عُرِفَ ذَلِكَ جِئْنَا إلَى مَسْأَلَتِنَا , فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ أَنَّ ذَلِكَ الْمَالُ كَانَ حَرَامًا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَالْقَابِضُ يَظُنُّهُ حَلَالًا فَالْحَقُّ أَنَّهُ يُنَزَّلُ فِي الْحِلْيَةِ مَنْزِلَةَ الْأَوَّلِ إلَى أَنْ يَتَبَيَّنَ حَالُهُ كَمَا ذَكَرْنَاهُ وَلَا يَتَّجِهُ الِاسْتِشْكَالُ فِيهِ وَلَا الْقَوْلُ بِحِلِّهِ بَاطِنًا وَمِلْكِ الْقَابِضِ لَهُ سَوَاءٌ قُلْنَا : التَّحْرِيمُ وَالتَّحْلِيلُ رَاجِعَانِ لِلْأَفْعَالِ أَوْ لِلْأَعْيَانِ .(1/132)
وَقَوْلُ السَّائِلِ : إنَّ فِي ذَلِكَ خِلَافًا وَذِكْرُهُ الْمَسْأَلَةَ الْمَذْكُورَةَ عَنْ مَالِكٍ لَيْسَ مُنْطَبِقًا عَلَى مَا نَحْنُ فِيهِ وَهِيَ مَا إذَا عَلِمَ الْقَابِضُ تَحْرِيمَ الْمَقْبُوضِ مِنْ غَيْرِ الْقِسْمَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ كَمَا إذَا رَأَى مُسْلِمٌ مُسْلِمًا يَبِيعُ الْخَمْرَ أَوْ الْمَيْتَةَ أَوْ الْخِنْزِيرَ وَقَبَضَ ثَمَنَ ذَلِكَ أَوْ نَهَبَ أَمْوَالَ النَّاسِ أَوْ سَرَقَ أَوْ قَبَضَ مَالًا مِنْ أَيِّ جِهَةٍ كَانَتْ مِمَّا لَا شُبْهَةَ فِي تَحْرِيمِهِ وَأَحْضَرَ ذَلِكَ الْمَالَ بِعَيْنِهِ إلَى مَنْ لَهُ عَلَيْهِ دَيْنٌ أَوْ وَجَدَهُ صَاحِبُ الدَّيْنِ فِي يَدِهِ فَلَا يَحِلُّ لِصَاحِبِ الدَّيْنِ أَخْذُهُ وَلَا قَبْضُهُ وَلَا وَضْعُ يَدِهِ عَلَيْهِ وَمَتَى فَعَلَ ذَلِكَ كَانَ غَاصِبًا ظَالِمًا وَكَانَ الْمَالُ مُسْتَمِرَّ التَّحْرِيمِ فِي يَدِهِ وَيَجِبُ عَلَيْهِ رَدُّهُ إلَى صَاحِبِهِ الَّذِي يَعْلَمُ أَنَّهُ لَهُ وَلَا يَحِلُّ لَهُ رَدُّهُ إلَى الَّذِي قَبَضَهُ مِنْهُ مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ وَلَا يُبْقِيه فِي يَدِهِ وَهَذَا فِي جَمِيعِ الْأَمْوَالِ غَيْرِ النُّقُودِ وَلَا أَعْتَقِدُ أَنَّ فِيهِ خِلَافًا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ , وَأَمَّا النُّقُودُ فَإِنْ قُلْنَا : إنَّهَا تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ فَكَذَلِكَ وَالْقَائِلُونَ بِأَنَّهَا لَا تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ فِي الْعُقُودِ وَالْفُسُوخِ يَقُولُونَ بِتَعْيِينِهَا فِي الْغَصْبِ .(1/133)
وَاَلَّذِي ذَكَرَهُ السَّائِلُ مِنْ النَّصِّ عِنْدَ مَالِكٍ فِي الْمُدَوَّنَةِ وَأَنَّ ظَاهِرَهَا أَنَّ لِلْمَغْصُوبِ أَنْ يُجْبِرَ الْمَغْصُوبَ مِنْهُ عَلَى أَخْذِ مِثْلِ دَرَاهِمِهِ مَعَ بَقَائِهَا فَهُوَ مُسْتَبْعَدٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَمَعَ ذَلِكَ فَيَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ مَأْخَذُهُ أَنَّ الدَّرَاهِمَ لَا تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ وَمَعَ ذَلِكَ فَلَيْسَ مُنْطَبِقًا عَلَى مَا نَحْنُ فِيهِ .(1/134)
فَإِنَّا إذَا قُلْنَا : إنَّ الدَّرَاهِمَ لَا تَتَعَيَّنُ انْقَطَعَ حَقُّ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ عَنْ عَيْنِ تِلْكَ الدَّرَاهِمِ الْمَغْصُوبَةِ وَالدَّرَاهِمُ الَّتِي أَخَذَهَا بَدَلَهَا حَلَالٌ وَتَصِيرُ هِيَ فِي يَدِ الْغَاصِبِ حَلَالًا لَهُ وَلِمَنْ أَخَذَهُمَا مِنْهُ بِطَرِيقِهِ , هَذَا مُقْتَضَى التَّفْرِيعِ عَلَى عَدَمِ التَّعْيِينِ وَهُوَ بَعِيدٌ جِدًّا وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ جَمِيعِ الْعُلَمَاءِ مِنْ جَمِيعِ الْمَذَاهِبِ فِي الْغَصْبِ وَخِلَافِهِ , وَقَدْ أَطْلَقَ الَّذِينَ صَنَّفُوا فِي الْإِجْمَاعِ حِكَايَةَ الِاتِّفَاقِ عَلَى أَنَّ مَنْ غَصَبَ شَيْئًا - أَيَّ شَيْءٍ كَانَ - وَكَانَ بَاقِيًا بِعَيْنِهِ لَمْ يَتَغَيَّرْ أَنَّهُ يَرُدُّ , وَهَذَا أَمْرٌ لَا يَقْبَلُ الْخِلَافُ أَمَّا فِي غَيْرِ النُّقُودِ فَلَا شُبْهَةَ فِيهِ وَأَمَّا النُّقُودُ فَفِيهَا الشُّبْهَةُ الْمُتَقَدِّمَةُ وَهِيَ ضَعِيفَةٌ فَالْحَقُّ التَّعْيِينُ وَبَقَاءُ ذَلِكَ فِي يَدِ الْغَاصِبِ وَمَنْ قَبَضَهُ مِنْهُ بِغَيْرِ مُسْتَنَدٍ عَلَى التَّحْرِيمِ حَتَّى يَرُدَّ إلَى صَاحِبِهِ قَالَ تَعَالَى { وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ } وَالْمَالُ الْمَغْصُوبُ كَائِنًا مَا كَانَ مَالُ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ فَمَنْ أَكَلَهُ بِغَيْرِ سَبَبٍ شَرْعِيٍّ فَقَدْ أَكَلَ مَالَ غَيْرِهِ بِالْبَاطِلِ . وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى { إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إلَى أَهْلِهَا } فَإِذَا كَانَتْ الْأَمَانَاتُ تَجِبُ تَأْدِيَتُهَا إلَى أَهْلِهَا فَالْمَضْمُونَاتُ الْمَأْخُوذَةُ عُدْوَانًا بِطَرِيقٍ أَوْلَى فَكَانَ النَّصُّ دَالًا عَلَى رَدِّ الْعَيْنِ إلَى صَاحِبِهَا مَا دَامَتْ بَاقِيَةً .(1/135)
وَقَالَ تَعَالَى { وَمِنْهُمْ مَنْ إنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إلَيْكَ إلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا } قَدَّمَ تَعَالَى عَلَى عَدَمِ أَدَاءِ الدِّينَارِ الْمُؤْتَمَنِ عَلَيْهِ مُطْلَقًا وَذَلِكَ لِيَشْمَلَ مَا إذَا أَرَادَ أَوْ مَثِيلَهُ أَوْ لَا وَلَا نِزَاعَ فِي أَنَّ النُّقُودَ وَغَيْرَهَا دَاخِلَةٌ تَحْتَ اسْمِ الْأَمْوَالِ وَيَتَعَلَّقُ الْمِلْكُ بِأَعْيَانِهَا وَذَلِكَ مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ وَمِنْ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ قوله تعالى { وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ } الْآيَاتِ , فَحَكَمَ بِمِلْكِهِمْ لِمَا يَخُصُّهُمْ مِنْ مَتْرُوكِ الْمَيِّتِ وَذَلِكَ يَشْمَلُ النَّقْدَ وَغَيْرَهُ وقوله تعالى { زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنْ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ } فَلَوْ لَمْ يَكُنْ الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ مَمْلُوكَةً لَمَا كَانَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وقوله تعالى { وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا } . وَقَوْلُهُ { وَآتَيْتُمْ إحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا } , وَقَوْلُهُ { لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ } الْآيَةَ وَقَوْلُهُ { لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا } كُلُّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى الْحُكْمِ بِالْمِلْكِ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ وَهُوَ يَشْمَلُ النَّقْدَ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ { وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } دَلِيلٌ عَلَى تَعَيُّنِ ذَلِكَ وَأَنَّهُ لَا يَخْرُجُ عَنْ التَّحْرِيمِ إلَّا بِرَدِّهِ بِعَيْنِهِ .(1/136)
وَقَالَ تَعَالَى { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً } وَلَا شَكَّ أَنَّ النُّقُودَ دَاخِلَةٌ فِيهَا وَكَذَلِكَ وَقَوْلُهُ { إنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ } الْآيَةَ , وَلَا مَعْنَى لِلتَّطْوِيلِ لِلِاسْتِدْلَالِ لِذَلِكَ فَإِنَّ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَشُكُّ فِيهِ وَأَنَّهَا مِنْ الْأَمْوَالِ الْمَمْلُوكَةِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَأَعْيَانُهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَى غَيْرِ مَالِكِهَا لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ الْآيَاتِ . وَلِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم { أَنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ حَرَامٌ } الْحَدِيثَ . وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم { لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا بِطِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ } وَالْمَغْصُوبُ مِنْهُ لَيْسَ طَيِّبَ النَّفْسِ بِأَنْ يَأْخُذَ مَالَهُ غَيْرُهُ , وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم { أَدِّ الْأَمَانَةَ إلَى مَنْ ائْتَمَنَك } وَالِاسْتِدْلَالُ مِنْهُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْآيَةِ وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم { لَيْسَ لِعَرَقِ ظَالِمٍ حَقٌّ } وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم { أَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ } وَهَذَا صَرِيحٌ فِي الْأَمْرِ بِرَدِّ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ مِنْ أَيِّ مَنْ وَصَلَ إلَى يَدِهِ . وَقَالَ صلى الله عليه وسلم { كُلُّ عَمَلٍ لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ } وَهَذَا الْعَمَلُ الَّذِي عَمِلَهُ الْغَاصِبُ لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ مَرْدُودٌ وَلَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ حُكْمٌ يُبِيحُ الْعَيْنَ وَلَا لِغَيْرِهِ , وَعَنْهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ { عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تُؤَدِّيَهُ } وَقَالَ صلى الله عليه وسلم حِكَايَةً عَنْ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى : { ثَلَاثَةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَذَكَرَ مِنْ جُمْلَتِهِمْ وَرَجُلٌ بَاعَ حُرًّا فَأَكَلَ ثَمَنَهُ } .(1/137)
وَجْهُ الدَّلَالَةِ أَنَّهُ جَعَلَ أَكْلَ ثَمَنِ الْحُرِّ دَاخِلًا فِي اسْتِحْقَاقِ الْوَعِيدِ وَالْغَالِبُ أَنَّ الثَّمَنَ يَكُونُ نَقْدًا فَلَوْ كَانَتْ النُّقُودُ إذَا أَخَذَهَا أَحَدٌ بِغَيْرِ حَقٍّ يَجُوزُ لَهُ إمْسَاكُهَا وَإِجْبَارُ صَاحِبِهَا عَلَى أَخْذِ مِثْلِهَا لَمْ يَكُنْ أَكْلُهَا حَرَامًا بَلْ كَانَ الْمُحَرَّمُ عَدَمُ إيفَاءِ مِثْلِهَا وَذَلِكَ خِلَافُ مَا نَصَّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ مِنْ وَصْفِ الْأَكْلِ . وَلَا يَتِمُّ ذَلِكَ التَّتَبُّعُ فِي الْوَعْدِ إلَّا بِأَنْ يَكُونَ الْأَكْلُ بِعَيْنِهِ أَعْنِي التَّصَرُّفَ فِي غَيْرِ ذَلِكَ الثَّمَنِ حَرَامًا وَهُوَ دَلِيلٌ لِتَعَيُّنِهِ بِالْغَصْبِ فَإِنَّ قَبْضَ ثَمَنِ الْحُرِّ قَبْضٌ فَاسِدٌ حُكْمُهُ حُكْمُ الْغَصْبِ وَقَدْ أَطَلْنَا فِي الِاسْتِدْلَالِ لِهَذَا أَكْثَرَ مِنْ الْحَاجَةِ رَدًّا لِلْخِلَافِ الَّذِي نَقَلَهُ السَّائِلُ . وَيَنْبَغِي تَأْوِيلُ هَذَا النَّقْلِ عَنْ مَالِكٍ وَالِاعْتِذَارُ عَنْهُ .(1/138)
أَمَّا غَيْرُ النُّقُودِ فَلَا مَسَاغَ لِذَلِكَ فِيهَا فَنَعُودُ إلَى مَا كُنَّا بِسَبِيلِهِ وَنَقُولُ : إنَّهُ مَتَى أَخَذَ الْمَالَ الْحَرَامَ مَعَ عِلْمِهِ بِحَالِهِ لَمْ يَحِلَّ الْأَوَّلُ وَلَمْ يَجُزْ لَهُ إمْسَاكُهُ أَصْلًا , وَمَا أَفْهَمَهُ كَلَامُ السَّائِلِ مِنْ مَيْلِهِ إلَى الْقَوْلِ بِالْحِلِّ إذَا قُلْنَا : التَّحْرِيمُ رَاجِعٌ إلَى الْأَفْعَالِ قَدْ ظَهَرَ جَوَابُهُ وَأَنَّهُ لَا مُتَعَلِّقَ لَهُ فِي ذَلِكَ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِحَالِهِ جَازَ لَهُ ظَاهِرًا وَكِلَا الْحُكْمَيْنِ لَا إشْكَالَ فِيهِ , أَمَّا اسْتِشْكَالُ عِزِّ الدِّينِ فِي ذَلِكَ فَأَنِّي بَنَيْت أَوَّلًا الْأَمْرَ عَلَى نَقْلِ السَّائِلِ وَفَكَّرْت فِيهِ فَلَمْ أَجِدْ لَهُ وَجْهًا إلَّا خَيَالَاتٍ لَا أَرْضَى أَنْ تَمُرَّ بِخَاطِرِي وَأَجْلَلْت الشَّيْخَ عَنْهَا فَأَخَذْت الْقَوَاعِدَ ; لِأَنْظُرَ كَلَامَهُ فِيهَا فَلَمْ أَجِدْهُ كَمَا نَقَلَهُ السَّائِلُ وَإِنَّمَا وَجَدْته قَالَ فِي ضِمْنِ قَاعِدَةٍ فِي الْجَوَائِزِ وَالزَّوَاجِرِ وَتَكَلَّمَ فِي أَنَّ الْمِثْلِيَّ إذَا تَعَذَّرَ رَدُّهُ يَضْمَنُ بِالْمِثْلِ إلَّا فِي صُورَتَيْنِ ثُمَّ قَالَ : فَإِنْ قِيلَ : لَوْ جُبِرَ الْمَالُ الْمَقْطُوعُ بِحِلِّهِ بِمِثْلِهِ مِنْ مَالٍ أَكْثَرُهُ حَرَامٌ فَقَدْ فَاتَ وَصْفُ مَقْصُودِ الشَّرْعِ وَعِنْدَ أُولِي الْأَلْبَابِ فَهَلْ يُجْبَرُ الْمُسْتَحِقُّ عَلَى أَخْذِهِ مَعَ التَّفَاوُتِ الظَّاهِرِ بَيْنَ الْحَلَالِ الْمَحْضِ وَبَيْنَ مَا تَمَكَّنَتْ فِيهِ شُبْهَةُ الْحَرَامِ ؟ قَالَ : قُلْت : فِي هَذَا نَظَرٌ وَاحْتِمَالٌ وَظَاهِرُ كَلَامِهِ أَنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى أَخْذِهِ كَمَا يُجْبَرُ رَبُّ الدَّيْنِ عَلَى أَخْذِ مَالٍ اعْتَرَفَ بِأَنَّهُ حَرَامٌ وَفِي هَذَا بُعْدٌ(1/139)
وَإِشْكَالٌ . هَذَا ظَاهِرُ كَلَامِ الشَّيْخِ عِزِّ الدِّينِ فِي الْقَوَاعِدِ وَهُوَ ظَاهِرٌ وَوَجْهُ إشْكَالِهِ بَيِّنٌ . وَأَمَّا الَّذِي نَقَلَهُ السَّائِلُ عَنْهُ فَإِنْ كَانَ هُوَ مِنْ هَذَا الْمَوْضِعِ وَقَدْ نُقِلَ بِالْمَعْنَى فَقَدْ أَوْهَمَ وَإِنْ كَانَ مِنْ مَوْضِعٍ آخَرَ فَيَحْتَاجُ أَنْ يُعَيِّنَهُ لَنَا حَتَّى نَنْظُرَ فِيهِ وَنَتَأَمَّلَهُ ثُمَّ نُجِيبُ عَنْهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَلَعَلَّهُ سَقَطَ مِنْ النُّسْخَةِ الَّتِي وَقَعَتْ لِلسَّائِلِ لَفْظٌ أَكْثَرُهُ مِنْ قَوْلِهِ مَالٌ أَكْثَرُهُ حَرَامٌ فَنَقَلَ أَنَّهُ مِنْ مَالٍ حَرَامٍ .(1/140)
وَعَلَى الْجُمْلَةِ فَلَيْسَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مِمَّا يُتَرَدَّدُ فِيهِ وَنَحْنُ قَاطِعُونَ بِأَنَّ الْحَرَامَ لَا يَتَنَزَّلُ مَنْزِلَةَ الْحَلَالِ وَلَا يُزَالُ مَأْمُورًا بِرَدِّهِ عَلَى صَاحِبِهِ , لَمْ نَجِدْ شَيْئًا فِي الشَّرِيعَةِ يُخَالِفُ ذَلِكَ إلَّا حَدِيثًا فِيهِ كَلَامٌ رَوَاهُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ وَغَيْرِهِ مِنْ حَدِيثِ عِكْرِمَةَ بْنِ خَالِدٍ أَنَّ أُسَيْدَ بْنَ حُضَيْرٍ حَدَّثَهُ قَالَ كَتَبَ مُعَاوِيَةُ إلَى مَرْوَانَ إذَا سُرِقَ لِلرَّجُلِ فَوُجِدَتْ سَرِقَتُهُ فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا حَيْثُ وَجَدَهَا قَالَ : فَكَتَبَ إلَيَّ بِذَلِكَ مَرْوَانُ وَأَنَا عَلَى الْيَمَامَةِ فَكَتَبْت إلَى مَرْوَانَ أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَضَى إذَا كَانَ عِنْدَ الرَّجُلِ غَيْرِ الْمُتَّهَمِ فَإِنْ شَاءَ سَيِّدُهَا أَخَذَهَا بِالْيَمِينِ وَإِنْ شَاءَ اتَّبَعَ سَارِقَهُ , ثُمَّ قَضَى بِذَلِكَ بَعْدَهُ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ قَالَ : فَكَتَبَ مَرْوَانُ إلَى مُعَاوِيَةَ بِكِتَابِهِ وَكَتَبَ مُعَاوِيَةُ إلَى مَرْوَانَ إنَّكَ لَسْت أَنْتَ وَلَا أُسَيْدٌ تَقْضِيَانِ عَلَيَّ فِيمَا وُلِّيت وَلَكِنِّي أَقْضِي عَلَيْكُمَا فَانْقَدْ لِمَا أَمَرْتُك بِهِ . وَبَعَثَ مَرْوَانُ بِكِتَابِ مُعَاوِيَةَ إلَيْهِ فَقَالَ : وَاَللَّهِ لَا أَقْضِي أَبَدًا . قَالَ الْحَاكِمُ هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ قُلْت : وَقَدْ ضَعَّفَهُ غَيْرُهُ بِأَنَّ عِكْرِمَةَ بْنَ خَالِدٍ ضَعِيفُ الْحَدِيثِ . وَقَالَ الْبُخَارِيُّ : مُنْكَرُ الْحَدِيثِ وَقَالَ النَّسَائِيُّ : ضَعِيفٌ .(1/141)
قُلْت : وَهُوَ عِكْرِمَةُ بْنُ خَالِدِ بْنِ سَلَمَةَ الْمَخْزُومِيُّ الْمَدَنِيُّ , فَإِنْ اسْتَمَرَّ تَعْلِيلُ الْحَدِيثِ فَذَاكَ وَإِلَّا فَهُوَ حَدِيثٌ مُشْكِلٌ إنْ صَحَّ عَلَى مَا قَالَهُ الْحَاكِمُ وَيُعَارِضُهُ مَا رَوَاهُ الْحَاكِمُ أَيْضًا عَنْ شُرَحْبِيلَ مَوْلَى الْأَنْصَارِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ { مَنْ اشْتَرَى سَرِقَةً وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهَا سَرِقَةٌ فَقَدْ شَرِكَ فِي عَارِهَا وَإِثْمِهَا } وَقَالَ الْحَاكِمُ فِيهِ أَيْضًا أَنَّهُ صَحِيحٌ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ . قُلْت : وَفِي إسْنَادِهِ أَيْضًا مَقَالٌ .
وفي الفروع :(1/142)
فَصْلٌ وَالْوَاجِبُ فِي الْمَالِ الْحَرَامِ التَّوْبَةُ وَإِخْرَاجُهُ عَلَى الْفَوْرِ , يَدْفَعُهُ إلَى صَاحِبِهِ أَوْ وَارِثِهِ , فَإِنْ لَمْ يَعْرِفْهُ أَوْ عَجَزَ دَفَعَهُ إلَى الْحَاكِمِ , وَهَلْ لَهُ الصَّدَقَةُ بِهِ ؟ تَأْتِي الْمَسْأَلَةُ فِي الْغَصْبِ , وَمَتَى تَمَادَى بِبَقَائِهِ بِيَدِهِ تَصَرَّفَ فِيهِ أَوَّلًا عَظُمَ إثْمُهُ . وَإِذَا لَمْ تَكُنْ لَهُ صَدَقَةٌ بِهِ لَمْ تُقْبَلْ صَدَقَتُهُ وَيَأْثَمُ , وَإِنْ وَهَبَهُ لِإِنْسَانٍ فَيُتَوَجَّهُ أَنْ يَلْزَمَهُ قَبُولُهُ , لِمَا فِيهِ مِنْ الْمُعَاوَنَةِ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى , وَفِي رَدِّهِ إعَانَةُ الظَّالِمِ عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ , فَيَدْفَعُهُ إلَى صَاحِبِهِ أَوْ وَارِثِهِ , وَإِلَّا دَفَعَهُ إلَى الْحَاكِمِ أَوْ تَصَدَّقَ بِهِ , عَلَى الْخِلَافِ , وَهَذَا نَحْوُ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَزْمٍ , وَزَادَ : إنْ رَدَّهُ فَسَقَ , فَإِنْ عَرَفَ صَاحِبَهُ فَقَدْ زَادَ فِسْقُهُ وَأَتَى كَبِيرَةً , كَذَا قَالَ , وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . وَقَدْ نَقَلَ عَبْدُ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَرَأَ بَعْدَ آيَةِ غَضِّ الْبَصَرِ { إنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنْ الْمُتَّقِينَ } يَتَّقِي الْأَشْيَاءَ , لَا يَقَعُ فِيمَا لَا يَحِلُّ لَهُ , وَحَكَاهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ , وَالْمُرَادُ أَنَّهُ يَتَّقِي الْكُفْرَ وَالرِّيَاءَ وَالْمَعَاصِيَ , فَتَحْبَطُ الطَّاعَةُ بِالْمَعْصِيَةِ مِثْلِهَا , فَيَكُونُ كَمَا لَمْ تُقْبَلْ , وَذَكَرَهُ الْقُرْطُبِيُّ عَنْ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ : الْمُرَادُ الْمُوَحِّدِينَ , قَالَ شَيْخُنَا وَغَيْرُهُ : إلَّا مِمَّنْ اتَّقَى اللَّهَ فِي عَمَلِهِ فَفَعَلَهُ كَمَا أُمِرَ خَالِصًا , وَإِنَّهُ قَوْلُ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ .(1/143)
وَعَنْ الْخَوَارِجِ وَالْمُعْتَزِلَةِ : إلَّا مِمَّنْ اتَّقَى الْكَبَائِرَ . وَعِنْدَ الْمُرْجِئَةِ : إلَّا مِمَّنْ اتَّقَى الشِّرْكَ [ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ ] .
وفي الآداب الشرعية :
فَصْلٌ ( فِي الصَّبْرِ وَالصَّابِرِينَ وَفَوَائِدِ الْمَصَائِبِ وَالشَّدَائِدِ ) . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَبَشِّرْ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمْ الْمُهْتَدُونَ } وَقَالَ تَعَالَى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } . إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْآيَاتِ . وَصَحَّ عَنْهُ الْأَمْرُ بِالصَّبْرِ فِي أَحَادِيثَ . وَرَوَى أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا مِنْ حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ : { مَا مِنْ عَبْدٍ تُصِيبُهُ مُصِيبَةٌ فَيَقُولُ : { إنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ } اللَّهُمَّ اُؤْجُرْنِي فِي مُصِيبَتِي وَأَخْلِفْ لِي خَيْرًا مِنْهَا , إلَّا آجَرَهُ اللَّهُ فِي مُصِيبَتِهِ وَأَخْلَفَ لَهُ خَيْرًا مِنْهَا } . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ { وَمَنْ يَصْبِرْ يُصَبِّرْهُ اللَّهُ , وَمَا أُعْطِيَ أَحَدٌ عَطَاءً خَيْرٌ وَأَوْسَعُ مِنْ الصَّبْرِ } وَخَيْرٌ مَرْفُوعٌ خَبَرُ مُبْتَدَإٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ هُوَ خَيْرٌ . وَرُوِيَ " خَيْرًا " قَالَ : { وَاعْلَمْ أَنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ وَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا } .(1/144)
فَإِذَا عَلِمَ الْعَبْدُ أَنَّهُ وَمَا يَمْلِكُهُ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ حَقِيقَةً ; لِأَنَّهُ أَوْجَدَهُ مِنْ عَدَمٍ وَيُعْدِمُهُ أَيْضًا وَيَحْفَظُهُ فِي حَالِ وُجُودِهِ , وَلَا يَتَصَرَّفُ فِيهِ الْعَبْدُ إلَّا بِمَا يُتَاحُ لَهُ وَأَنَّ مَرْجِعَهُ إلَى اللَّه , وَلَا بُدَّ فَرْدًا كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَيَأْتِينَا فَرْدًا } . وَقَوْلُهُ { وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمْ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ } . وَأَنَّ مَا أَصَابَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَهُ , وَمَا أَخْطَأَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَهُ . كَمَا قَالَهُ وَكَمَا قَالَ تَعَالَى : { مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأهَا إنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاَللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ } . وَإِنَّ اللَّهَ لَوْ شَاءَ جَعَلَ مُصِيبَتَهُ أَعْظَمَ مِمَّا هِيَ , وَإِنَّهُ إنْ صَبَرَ أَخْلَفَ اللَّهُ عَلَيْهِ أَعْظَمَ مِنْ فَوَاتِ مُصِيبَتِهِ , وَإِنَّ الْمُصِيبَةَ لَا تَخْتَصُّ بِهِ فَيَتَأَسَّى بِأَهْلِ الْمَصَائِبِ , وَمُصِيبَةُ بَعْضِهَا أَعْظَمُ , وَإِنَّ سُرُورَ الدُّنْيَا مَعَ قِلَّتِهِ وَانْقِطَاعِهِ مُنَغِّصٌ . وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ : لِكُلِّ فَرْحَةٍ تَرْحَةٌ , وَمَا مُلِئَ بَيْتٌ فَرَحًا إلَّا مُلِئَ تَرَحًا وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ رحمه الله : مَا كَانَ ضَحِكٌ قَطُّ إلَّا كَانَ بَعْدَهُ بُكَاءٌ .(1/145)
وَقَدْ شَاهَدَ النَّاسُ مِنْ تَغَيُّرِ الدُّنْيَا بِأَهْلِهَا فِي أَسْرَعِ مَا يَكُونُ الْعَجَائِبَ . وَقَالَتْ هِنْدُ بِنْتُ النُّعْمَانِ بْنِ الْمُنْذِرِ : لَقَدْ رَأَيْتنَا وَنَحْنُ مِنْ أَعَزِّ النَّاسِ وَأَشَدِّهِمْ مُلْكًا , ثُمَّ لَمْ تَغِبْ الشَّمْسُ حَتَّى رَأَيْتنَا وَنَحْنُ مِنْ أَقَلِّ النَّاسِ , وَإِنَّهُ حَقٌّ عَلَى اللَّهِ أَنْ لَا يَمْلَأَ دَارًا حِيَرَةً إلَّا مِلْأَهَا عِبْرَةً , وَبَكَتْ أُخْتُهَا حُرْقَةُ بِنْتُ النُّعْمَانِ يَوْمًا وَهِيَ فِي عِزِّهَا فَقِيلَ : مَا يُبْكِيك لَعَلَّ أَحَدًا آذَاك ؟ قَالَتْ : لَا , وَلَكِنْ رَأَيْت غَضَارَةً فِي أَهْلِي وَقَلَّمَا امْتَلَأَتْ دَارٌ سُرُورًا إلَّا امْتَلَأَتْ حُزْنًا . وَالْغَضَارَةُ طَيِّبُ الْعَيْشِ يَقُولُ : بَنُو فُلَانٍ مَغْضُورُونَ وَقَدْ غَضَرَهُمْ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَفِي غَضَارَةٍ مِنْ الْعَيْشِ , وَفِي غَضْرَاءَ مِنْ الْعَيْشِ أَيْ : فِي خِصْبٍ وَخَيْرٍ قَالَ الْأَصْمَعِيُّ : لَا يُقَالُ : أَبَادَ اللَّهُ غَضْرَاءَهُمْ , وَلَكِنْ أَبَادَ اللَّهُ غَضِرَاهُمْ , أَيْ هَلَكَ خَيْرُهُمْ وَغَضَارَتُهُمْ . وَقَالَتْ حُرْقَةُ أَيْضًا : مَا نَحْنُ فِيهِ الْيَوْمَ خَيْرٌ مِمَّا كُنَّا فِيهِ بِالْأَمْسِ . إنَّا نَجِدُ فِي الْكُتُبِ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْل بَيْتٍ يَعِيشُونَ فِي حِيرَةٍ , إلَّا سَيُعَقَّبُونَ بَعْدهَا غُبْرَةٌ .(1/146)
وَإِنَّ الدَّهْرَ لَمْ يَظْهَرْ لِقَوْمٍ بِيَوْمٍ يُحِبُّونَهُ إلَّا بَطَنَ لَهُمْ بِيَوْمٍ يَكْرَهُونَهُ , ثُمَّ قَالَتْ : فَبَيْنَا نَسُوسُ النَّاسَ وَالْأَمْرُ أَمْرُنَا إذَا نَحْنُ فِيهِمْ سُوقَةٌ نَتَنَصَّفُ فَأُفٍّ لِدُنْيَا لَا يَدُومُ نَعِيمُهَا تَقَلَّبُ تَارَاتٍ بِنَا وَتَصَرَّفُ تَنَصَّفَ أَيْ خَدَمَ وَعَلِمَ الْعَبْدُ أَنَّ الْجَزَعَ لَا يَرُدُّ الْمُصِيبَةَ بَلْ هُوَ مَرَضٌ يَزِيدُهَا , وَإِنَّهُ يَسُرُّ عَدُوَّهُ وَيُسِيءُ مُحِبَّهُ , وَإِنَّ فَوَاتَ ثَوَابِهَا بِالْجَزَعِ أَعْظَمُ مِنْهَا , وَمِنْهُ بَيْتُ الْحَمْدِ الَّذِي يُبْنَى لَهُ فِي الْجَنَّةِ عَلَى حَمْدِهِ وَاسْتِرْجَاعِهِ . وَفِي الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا { يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى : مَا لِعَبْدِي الْمُؤْمِنِ عِنْدِي جَزَاءٌ إذَا قَبَضْت صَفِيَّهُ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا ثُمَّ احْتَسَبَهُ إلَّا الْجَنَّةَ } وَفِي التِّرْمِذِيِّ وَقَالَ غَرِيبٌ عَنْ جَابِرَ مَرْفُوعًا : { يَوَدُّ نَاسٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنَّ جُلُودَهُمْ كَانَتْ تُقْرَضُ بِالْمَقَارِيضِ فِي الدُّنْيَا , لِمَا يَرَوْنَ مِنْ ثَوَابِ أَهْلِ الْبَلَاءِ } . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا { مَا يُصِيبُ الْمُسْلِمَ مِنْ وَصَبٍ وَلَا نَصَبٍ , وَلَا هَمٍّ , وَلَا حُزْنٍ , وَلَا أَذًى , وَلَا غَمٍّ حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا إلَّا كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ } .(1/147)
وَعَنْ ابْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رضي الله عنه قَالَ { قُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلَاءً قَالَ : الْأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الصَّالِحُونَ , ثُمَّ الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلِ مِنْ النَّاسِ , يُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسْبِ دِينِهِ , فَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ صَلَابَةٌ زِيدَ فِي بَلَائِهِ , وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ خُفِّفَ عَنْهُ , وَمَا يَزَالُ الْبَلَاءُ بِالْعَبْدِ حَتَّى يَمْشِي عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ وَلَيْسَ عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ } وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةُ { بِالْمُؤْمِنِ أَوْ الْمُؤْمِنَةِ فِي جَسَدِهِ وَفِي مَالِهِ وَفِي وَلَدِهِ , حَتَّى يَلْقَى اللَّهَ وَمَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ } صَحَّحَهُمَا التِّرْمِذِيُّ وَرَوَى الثَّانِيَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ . وَرَوَيَا أَيْضًا وَالْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا : { مَنْ أَرَادَ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُصِيبُ مِنْهُ } . وَعَنْ صُهَيْبٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : { عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ إنَّ أَمَرَهُ كُلَّهُ لَهُ خَيْرٌ إنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ , وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ , وَلَيْسَ ذَلِكَ لِأَحَدٍ إلَّا لِلْمُؤْمِنِ } وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ وَلِأَحْمَدَ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا { عَجِبْتُ لِلْمُؤْمِنِ , إنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَمْ يَقْضِ لَهُ قَضَاءً إلَّا كَانَ خَيْرًا لَهُ } . وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ مَرْفُوعًا { أَشَدُّ النَّاسِ بَلَاءً الْأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الصَّالِحُونَ , إنْ كَانَ أَحَدُهُمْ لَيَفْرَحُ بِالْبَلَاءِ , كَمَا يَفْرَحُ أَحَدُكُمْ بِالرَّخَاءِ } مُخْتَصَرٌ مِنْ ابْنِ مَاجَهْ .(1/148)
وَعَنْ شَدَّادٍ مَرْفُوعًا { يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : إذَا ابْتَلَيْتُ عَبْدًا مِنْ عِبَادِي مُؤْمِنًا فَحَمِدَنِي عَلَى مَا ابْتَلَيْتُهُ , فَإِنَّهُ يَقُومُ مِنْ مَضْجَعِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ مِنْ الْخَطَايَا } رَوَاهُ أَحْمَدُ . وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إسْحَاقَ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ يُقَالُ لَهُ : مَنْظُورٌ عَنْ عَمِّهِ عَامِرٍ مَرْفُوعًا { إنَّ الْمُؤْمِنَ إذَا أَصَابَهُ سَقَمٌ ثُمَّ أَعْفَاهُ اللَّهُ مِنْهُ , كَانَ كَفَّارَةً لِمَا مَضَى مِنْ ذُنُوبِهِ وَمَوْعِظَةً لَهُ فِيمَا يَسْتَقْبِلُ , وَإِنَّ الْمُنَافِقَ إذَا مَرِضَ ثُمَّ أُعْفِيَ كَانَ كَالْبَعِيرِ عَقَلَهُ أَهْلُهُ ثُمَّ أَرْسَلُوهُ , فَلَمْ يَدْرِ لِمَ عَقَلُوهُ وَلِمَ أَرْسَلُوهُ } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد , وَلِمُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ { مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُشَاكُ شَوْكَةً فَمَا فَوْقَهَا , إلَّا رَفَعَهُ اللَّهُ بِهَا دَرَجَةً , وَحَطَّ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةً } وَمَا كَفَى إنْ فَاتَ حَتَّى عَصَى بِذَلِكَ لِأَنَّهُ أَسْخَطَ رَبَّهُ , وَفَوَاتُ لَذَّةِ عَاقِبَةِ الصَّبْرِ وَاحْتِسَابُهُ أَعْظَمُ مِمَّا أُصِيبَ بِهِ , لَوْ بَقِيَ وَعَلِمَ أَنَّ فِي اللَّه خَلَفًا وَدَرْكًا فَرَجَا الْخَلَفَ مِنْهُ .(1/149)
وَقَدْ رَوَى الشَّافِعِيُّ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا تُوُفِّيَ سَمِعُوا قَائِلًا يَقُولُ : إنَّ فِي اللَّهِ عَزَاءً مِنْ كُلِّ مُصِيبَةٍ , وَخَلَفًا مِنْ كُلِّ هَالِكٍ , وَدَرْكًا مِنْ كُلِّ مَا فَاتَ , فَبِاَللَّهِ فَثِقُوا , وَإِيَّاهُ فَارْجُوَا , فَإِنَّ الْمُصَابَ مَنْ حُرِمَ الثَّوَابَ , وَعَلِمَ الْعَبْدُ أَنَّ حَظَّهُ مِنْ الْمُصِيبَةِ مَا يُحْدِثُهُ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ , وَعَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيَدٍ مَرْفُوعًا { إنَّ اللَّهَ إذَا أَحَبَّ قَوْمًا ابْتَلَاهُمْ , فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا , وَمِنْ سَخِطَ فَلَهُ السَّخَطُ } إسْنَادُهُ جَيِّدٌ , وَهُوَ إسْنَادُ حَدِيثِ { إذَا أَحَبَّ اللَّهُ عَبْدًا حَمَاهُ الدُّنْيَا } وَلِذَاكَ إسْنَادٌ آخَرُ . قَالَ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ فِي مَحْمُودٍ لَهُ صُحْبَةٌ وَقَالَ أَبُو حَاتِم وَغَيْرُهُ : لَا صُحْبَةَ لَهُ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَحْمَدُ وَزَادَ { وَمَنْ جَزِعَ فَلَهُ الْجَزَعُ } . وَعَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا { إنَّ أَعْظَمَ الْجَزَاءِ مَعَ عِظَمِ الْبَلَاءِ , وَإِنَّ اللَّهَ إذَا أَحَبَّ قَوْمًا ابْتَلَاهُمْ , فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا , وَمِنْ سَخِطَ فَلَهُ السَّخَطُ } وَعَنْهُ أَيْضًا { إذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدٍ خَيْرًا عَجَّلَ لَهُ الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا , وَإِذَا أَرَادَ بِعَبْدِهِ الشَّرَّ أَمْسَكَ عَنْهُ حَتَّى يُوَافِيَ رَبَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } رَوَاهُمَا التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ : حَسَنٌ غَرِيبٌ .(1/150)
وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ الْأَوَّلَ وَرَوَى أَحْمَدُ الثَّانِيَ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ , وَعَلِمَ أَنَّ آخِرَ أَمْرِهِ الصَّبْرَ , وَهُوَ مُثَابٌ , وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ { إنَّمَا الصَّبْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الْأُولَى } وَقَالَ الْأَشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ : إنَّكَ إنْ صَبَرْتَ إيمَانًا وَاحْتِسَابًا وَإِلَّا سَلَوْتَ الْبَهَائِمَ , وَعَلِمَ أَنَّ الَّذِي ابْتَلَاهُ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ وَأَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ لِيَمْتَحِنَ صَبْرَهُ وَيَسْمَعَ تَضَرُّعَهُ , وَيُخَوِّفَهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ } وَقَالَ تَعَالَى { وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } .(1/151)
قَالَ الشَّيْخُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْقَادِرِ : يَا بُنَيَّ الْمُصِيبَةُ مَا جَاءَتْ لِتُهْلِكَ , وَإِنَّمَا جَاءَتْ لِتَمْتَحِنَ صَبْرَك وَإِيمَانَك , يَا بُنَيَّ الْقَدَرُ سَبُعٌ , وَالسَّبُعُ لَا يَأْكُلُ الْمَيْتَةَ , فَالْمُصِيبَةُ كِيرُ الْعَبْدِ , فَإِمَّا أَنْ يَخْرُجَ ذَهَبًا أَوْ خَبَثًا كَمَا قِيلَ : سَبَكْنَاهُ وَنَحْسَبُهُ لُجَيْنًا فَأَبْدَى الْكِيرُ عَنْ خَبَثِ الْحَدِيدِ اللُّجَيْنُ الْفِضَّةُ جَاءَ مُصَغَّرًا مِثْلَ الثُّرَيَّا وَكُمَيْتٌ , وَعَلِمَ أَنَّهُ لَوْلَا الْمَصَائِبُ لَبَطَرَ الْعَبْدُ وَبَغَى وَطَغَى فَيَحْمِيهِ بِهَا مِنْ ذَلِكَ وَيُطَهِّرُهُ مِمَّا فِيهِ , فَسُبْحَانَ مِنْ يَرْحَمُ بِبَلَائِهِ , وَيَبْتَلِي بِنَعْمَائِهِ كَمَا قِيلَ : قَدْ يُنْعِمُ اللَّهُ بِالْبَلْوَى وَإِنْ عَظُمَتْ وَيَبْتَلِي اللَّهُ بَعْضَ الْقَوْمِ بِالنِّعَمِ وَاعْلَمْ أَنَّ مَرَارَةَ الدُّنْيَا حَلَاوَةُ الْآخِرَةِ وَالْعَكْسُ بِالْعَكْسِ , وَلِهَذَا قَالَ : عليه السلام { الدُّنْيَا سِجْنُ الْمُؤْمِنِ وَجَنَّةُ الْكَافِرِ } وَقَالَ : { حُفَّتْ الْجَنَّةُ بِالْمَكَارِهِ وَحُفَّتْ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ } وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْعَاقِلَ مَنْ احْتَمَلَ مَرَارَةَ سَاعَةٍ لِحَلَاوَةِ الْأَبَدِ .(1/152)
وَذُلَّ سَاعَةٍ لِعِزِّ الْأَبَدِ , هَذَا مِنْ لُطْفِ اللَّهِ بِهِ حَتَّى نَظَرَ فِي الْعَوَاقِبِ وَالْغَايَاتِ , وَالنَّاسُ إلَّا مَنْ عَصَمَ اللَّهُ آثَرُوا الْعَاجِلَ لِمُشَاهَدَتِهِ وَضَعْفِ الْإِيمَانِ , وَعَلِمَ أَنَّهُ يُحِبُّ رَبَّهُ وَأَنَّ الْمُحِبَّ وَأَنَّهُ إنْ أَسْخَطَهُ فَهُوَ كَاذِبٌ فِي مَحَبَّتِهِ , وَلِهَذَا كَانَ عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ رضي الله عنه يَقُولُ فِي مَرَضِهِ : أَحَبُّهُ إلَيَّ أَحَبُّهُ إلَيْهِ , وَكَذَا أَبُو الْعَالِيَة وَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ : رضي الله عنه إنَّ اللَّهَ إذَا قَضَى قَضَاءً أَحَبَّ أَنْ يُرْضَى بِهِ , وَعَلِمَ أَنَّ مَرَاتِبَ الْكَمَالِ مَنُوطَةٌ بِالصَّبْرِ وَالْعَكْسُ بِالْعَكْسِ , وَأَقَلُّ الْأَحْوَالِ أَنْ لَا يَتَّهِمَ رَبَّهُ فِي قَضَائِهِ لَهُ . كَمَا رَوَى أَحْمَدُ حَدَّثَنَا حَسَنُ ثَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ عَنْ الْحَارِثِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ رَبَاحٍ أَنَّهُ سَمِعَ جُنَادَةَ بْنَ أَبِي أُمَيَّةَ يَقُولُ : سَمِعْت عُبَادَة بْنَ الصَّامِتِ يَقُولُ : إنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ : { يَا نَبِيَّ اللَّهِ أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ ؟ قَالَ : الْإِيمَانُ بِاَللَّهِ وَتَصْدِيقٌ بِهِ وَجِهَادٌ فِي سَبِيلِهِ , قَالَ : أُرِيدُ أَهْوَنَ مِنْ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ : السَّمَاحَةُ وَالصَّبْرُ قَالَ : أُرِيدُ أَهْوَنَ مِنْ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ : لَا تَتَّهِمْ اللَّهَ فِي شَيْءٍ قُضِيَ لَك } ابْنُ لَهِيعَةَ فِيهِ كَلَامٌ مَشْهُورٌ .(1/153)
وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدِ السُّلَمِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ مَرْفُوعًا { أَنَّ الْعَبْدَ إذَا سَبَقَتْ لَهُ مِنْ اللَّهِ مَنْزِلَةٌ لَمْ يَبْلُغْهَا , ابْتَلَاهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي جَسَدِهِ أَوْ فِي مَالِهِ أَوْ فِي وَلَدِهِ , ثُمَّ صَبَّرَهُ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى يُبْلِغَهُ الْمَنْزِلَةَ الَّتِي سَبَقَتْ لَهُ مِنْ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ } رَوَاهُ أَحْمَدُ أَبُو دَاوُد , وَعَنْ شَيْخٍ مِنْ بَنِي مُرَّةَ عَنْ بِلَالِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي مُوسَى مَرْفُوعًا { لَا يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ نَكْبَةٌ فَمَا فَوْقَهَا أَوْ دُونَهَا إلَّا بِذَنْبٍ , وَمَا يَعْفُو اللَّهُ عَنْهُ أَكْثَرُ } رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ : غَرِيبٌ . فَإِذَا عَلِمَ الْعَبْدُ هَذِهِ الْأُمُورَ نَظَرَ فِيهَا وَتَأَمَّلَهَا صَبَرَ وَاحْتَسَبَ وَحَصَلَ لَهُ مِنْ خَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مَا لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ سُبْحَانَهُ , وَالنَّاسُ فِي هَذَا مُتَفَاوِتُونَ كَغَيْرِهِ مِنْ الْأُمُورِ وَسَيَأْتِي آخِرَ فُصُولِ التَّدَاوِي . ((1/154)
فَصْلٌ فِي دَاءِ الْعِشْقِ ) لَهُ مُنَاسَبَةٌ وَتَعَلُّقٌ بِهَذَا , وَاَللَّهُ أَعْلَمُ , وَلَيْسَ بِجَيِّدٍ مَا أَنْشَدَهُ مُحَمَّدُ بْنُ دَاوُد الظَّاهِرِيُّ لِنَفْسِهِ : يَقُولُونَ لِي فِي الصَّبْرِ رَوْحٌ وَرَاحَةٌ وَلَا عَهْدَ لِي بِالصَّبْرِ مُذْ خُلِقَ الْحُبُّ وَلَا شَكَّ أَنَّ الصَّبْرَ كَالصَّبِرِ طَعْمُهُ وَإِنَّ سَبِيلَ الصَّبْرِ مُمْتَنِعٌ صَعْبُ وَقَدْ قَالَ أَبُو الْفَرَجِ بْنِ الْجَوْزِيِّ فِي كِتَابِهِ : السِّرُّ الْمَصُونُ اعْلَمْ أَنَّ مِنْ طَلَبَ أَفْعَالَهُ مِنْ حَيْثُ الْعَقْلِ الْمُجَرَّدِ , فَلَمْ يَجِدْ يَعْتَرِضُ , وَهَذِهِ حَالَةٌ قَدْ شَمِلَتْ خَلْقًا كَثِيرًا مِنْ الْعُلَمَاءِ وَالْجُهَّالِ أَوَّلَهُمْ إبْلِيسُ , فَإِنَّهُ نَظَرَ بِمُجَرَّدِ عَقْلِهِ فَقَالَ : كَيْفَ يُفَضَّلُ الطِّينُ عَلَى جَوْهَرِ النَّارِ ؟ وَفِي ضِمْنِ اعْتِرَاضِهِ أَنَّ حِكْمَتَك قَاصِرَةٌ وَأَنَّ رَأْيِي أَجْوَدُ , فَلَوْ لَقِيت أَنَا إبْلِيسَ كُنْت أَقُولُ لَهُ : حَدِّثْنِي عَنْ فَهْمِك هَذَا الَّذِي رَفَعْت بِهِ أَمْرَ النَّارِ عَلَى الطِّينِ , أَهُوَ وَهَبَهُ لَك أَمْ حَصَلَ لَك مِنْ غَيْرِ مَوْهِبَتِهِ فَإِنَّهُ سَيَقُولُ : وُهِبَ لِي , فَأَقُولُ : أَفِيهِ لَك كَمَالُ الْفَهْمِ الَّذِي لَا تُدْرِكُهُ حِكْمَتُهُ فَتَرَى أَنْتَ الصَّوَابَ , وَيَرَى هُوَ الْخَطَأَ ؟ وَتَبِعَ إبْلِيسَ فِي تَغْفِيلِهِ وَاعْتِرَاضِهِ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِثْلَ ابْنِ الرَّاوَنْدِيِّ وَالْمَعَرِّيّ وَمِنْ قَوْلِهِ : إذَا كَانَ لَا يَحْظَى بِرِزْقِك عَاقِلٌ وَتَرْزُقُ مَجْنُونًا وَتَرْزُقُ أَحْمَقَا فَلَا ذَنْبَ يَا رَبَّ السَّمَاءِ عَلَى امْرِئٍ رَأَى مِنْكَ مَا لَا يُشْتَهَى فَتَزَنْدَقَا وَكَانَ أَبُو عَلِيِّ بْنِ مُقْلَةَ يَقُول : أَيَا رَبُّ تَخْلُقُ أَقْمَارَ لَيْلٍ وَأَغْصَانَ بَانٍ(1/155)
وَكُثْبَانَ رَمْلِ وَتُبْدِعُ فِي كُلِّ طَرْفٍ بِسِحْرٍ وَفِي كُلِّ قَدٍّ وَسَبْقٍ بِشَكْلِ وَتَنْهَى عِبَادَك أَنْ يَعْشَقُوا أَيَا حَاكِمَ الْعَدْلِ ذَا حُكْمُ عَدْلِ وَكَانَ أَبُو طَالِبٍ الْمَكِّيُّ يَقُولُ : لَيْسَ عَلَى الْمَخْلُوقِ أَضَرُّ مِنْ الْخَالِقِ قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ : دَخَلْت عَلَى صَدَقَةَ بْنِ الْحُسَيْنِ الْحَدَّادِ وَكَانَ فَقِيهًا غَيْرَ أَنَّهُ كَانَ كَثِيرَ الِاعْتِرَاضِ , وَكَانَ عَلَيْهِ جَرَبٌ فَقَالَ : هَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عَلَى جَمَلٍ لَا عَلَيَّ , وَكَانَ يَتَفَقَّدُهُ بَعْضُ الْأَكَابِرِ بِمَأْكُولٍ فَيَقُولُ : بُعِثَ لِي هَذَا عَلَى الْكِبَرِ وَقْتَ لَا أَقْدِرُ آكُلُهُ , وَكَانَ رَجُلٌ يَصْحَبُنِي قَدْ قَارَبَ ثَمَانِينَ سَنَةً كَثِيرَ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ فَمَرِضَ وَاشْتَدَّ بِهِ الْمَرَضُ فَقَالَ لِي : إنْ كَانَ يُرِيدُ أَنْ أَمُوتَ , فَيُمِيتَنِي , فَأَمَّا هَذَا التَّعْذِيبُ فَمَا لَهُ مَعْنًى . وَاَللَّهُ لَوْ أَعْطَانِي الْفِرْدَوْسَ كَانَ مَكْفُورًا . وَرَأَيْت آخَرَ يَتَزَيَّا بِالْعِلْمِ إذَا ضَاقَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ يَقُولُ أَيْشٍ هَذَا التَّدْبِيرُ ؟ وَعَلَى هَذَا كَثِيرٌ مِنْ الْعَوَّام إذَا ضَاقَتْ أَرْزَاقُهُمْ اعْتَرَضُوا , وَرُبَّمَا قَالُوا : مَا تُرِيدُ نُصَلِّي . وَإِذَا رَأَوْا رَجُلًا صَالِحًا يُؤْذَى قَالُوا : مَا يَسْتَحِقُّ , قَدْ حَافَ الْقَدَرُ , وَكَانَ قَدْ جَرَى فِي زَمَانِنَا تَسَلُّطٌ مِنْ الظَّلَمَةِ فَقَالَ بَعْضُ مَنْ يَتَزَيَّا بِالدِّينِ : هَذَا حُكْمٌ بَارِدٌ , وَمَا فَهِمَ ذَاكَ الْأَحْمَقُ أَنَّ اللَّهَ يُمْلِي لِلظَّالِمِ .(1/156)
وَفِي الْحَمْقَى مَنْ يَقُولُ : أَيُّ فَائِدَةٍ فِي خَلْقِ الْحَيَّاتِ وَالْعَقَارِبِ , وَمَا عَلِمَ أَنَّ ذَلِكَ أُنْمُوذَجٌ لِعُقُوبَةِ الْمُخَالِفِ وَبَلَغَنِي عَنْ بَعْضِ مَنْ يَتَزَيَّا بِالْعِلْمِ أَنَّهُ قَالَ : اشْتَهَيْت أَنْ يَجْعَلَنِي وَزِيرًا فَأَدْبَرَ . وَهَذَا أَمْرٌ قَدْ شَاعَ فَلِهَذَا مَدَدْت النَّفْسَ فِيهِ . وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُعْتَرِضَ قَدْ ارْتَفَعَ أَنْ يَكُونَ شَرِيكًا وَعَلَا عَلَى الْخَالِقِ بِالتَّحَكُّمِ عَلَيْهِ , وَهَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ كَفَرَةٌ ; لِأَنَّهُمْ رَأَوْا حِكْمَةَ الْخَالِقِ قَاصِرَةٌ . وَإِذَا كَانَ تَوَقُّفُ الْقَلْبِ عَنْ الرِّضَا بِحُكْمِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم يُخْرِجُ عَنْ الْإِيمَانِ . قَالَ تَعَالَى : { فَلَا وَرَبِّك لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوك فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } . فَكَيْف يَصِحُّ الْإِيمَانُ مَعَ الِاعْتِرَاضِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى ؟ وَكَانَ فِي زَمَنِ ابْن عَقِيلٍ رَجُلٌ رَأَى بَهِيمَةً عَلَى غَايَةٍ مِنْ السَّقَمِ فَقَالَ : وَا رَحْمَتِي لَك , وَا قِلَّةَ حِيلَتِي فِي إقَامَةِ التَّأْوِيلِ لِمُعَذِّبِكِ . فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَقِيلٍ : إنْ لَمْ تَقْدِرْ عَلَى حَمْلِ هَذَا الْأَمْرِ لِأَجْلِ رِقَّتِكَ الْحَيَوَانِيَّةِ , وَمُنَاسَبَتِك الْجِنْسِيَّةِ , فَعِنْدَك عَقْلٌ تَعْرِفُ بِهِ تَحَكُّمَ الصَّانِعِ , وَحِكْمَتُهُ تُوجِبُ عَلَيْك التَّأْوِيلَ , فَإِنْ لَمْ تَجِدْ اسْتَطْرَحْت لِفَاطِرِ الْعَقْلِ , حَيْثُ خَانَكَ الْعَقْلُ عَنْ مَعْرِفَةِ الْحِكْمَةِ فِي ذَلِكَ . وَاعْلَمْ أَنَّ رِضَا الْعَقْلِ بِأَفْعَالِ الْخَالِقِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَوْ فِي الْعِبَادَاتِ أَشَدِّهَا وَأَصْعَبِهَا .(1/157)
ثُمَّ ذَكَرَ كَلَامَ ابْنِ عَقِيلٍ وَفِيهِ : وَقَدْ نَبَّهْنَا عَلَى الْعَجْزِ عَنْ مُلَاحَظَةِ الْعَوَاقِبِ فَقَالَ تَعَالَى : وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ . فَفِي عُقُولِنَا قُوَّةُ التَّسْلِيمِ وَلَيْسَ فِيهَا قُدْرَةُ الِاعْتِرَاضِ عَلَيْهِ . وَقَدْ يَدْعُو الْإِنْسَانُ فَلَا يُجَابُ فَيَنْدَمُ , وَهُوَ يُدْعَى إلَى الطَّاعَةِ فَيَتَوَقَّف , فَالْعَجَبُ مِنْ عَبِيدٍ يَقْتَضُونَ الْمَوَالِيَ اقْتِضَاءَ الْغَرِيمِ , وَلَا يَقْتَضُونَ الْغَرِيمَ وَلَا يَقْتَضُونَ أَنْفُسَهُمْ بِحُقُوقِ الْمَوَالِي . قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ : وَمَنْ تَأَمَّلَ دَقَائِقَ حِكْمَتِهِ وَمَحَاسِنَ صِفَاتِهِ أَخْرَجَهُ حُبُّهُ إلَى الْهَيَمَانِ فِيهِ , فَإِنَّ الْمَعَانِيَ الْمُسْتَحْسَنَةَ تُحَبُّ أَكْثَرَ مِنْ الصُّوَرِ , وَلِهَذَا تُحِبُّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيًّا رضي الله عنهم لِمَعَانِيهِمْ لَا لِصُوَرِهِمْ , فَكَيْفَ لَا تَقَعُ الْمَحَبَّةُ الْمُخْتَصَّةُ بِالْكَمَالِ الْمُنَزَّهِ عَنْ نَقْصٍ ؟ فَوَا أَسَفَا لِلْغَافِلِينَ عَنْهُ , وَوَا حَسْرَتَا لِلْجَاهِلِينَ بِهِ . وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ قَبْلَ ذَلِكَ : مَنْ نَظَرَ إلَى أَفْعَالِهِ بِمُجَرَّدِ الْعَقْلِ أَنْكَرَ , فَأَمَّا مَنْ عَلِمَ أَنَّهُ مَالِكٌ وَحَكِيمٌ , وَأَنَّ حِكْمَتَهُ قَدْ تَخْفَى سَلَّمَ لِمَا لَمْ يَعْلَمْ عِلَّتَهُ بِأَفْعَالِهِ مُسْلِمًا إلَى حِكْمَتِهِ . وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : مَنْ لَمْ يَحْتَرِزْ بِعَقْلِهِ مِنْ عَقْلِهِ هَلَكَ بِعَقْلِهِ .(1/158)
وَهَذَا كَلَامٌ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ , فَإِنَّا إذَا قُلْنَا لِلْعَقْلِ هُوَ حَكِيمٌ قَالَ : لَا شَكَّ فِي ذَلِكَ ; لِأَنِّي قَدْ رَأَيْت عَجَائِبَ أَفْعَالِهِ الْمُحْكَمَةِ فَعَلِمْت أَنَّهُ حَكِيمٌ , فَإِذَا رَأَيْت مَا يُصْدَرُ مَا ظَاهِرُهُ يُنَافِي الْحِكْمَةَ , نَسَبْت الْعَجْزَ إلَيَّ , وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ إلَّا أَنَّ الْمُرَادَ تَسْلِيمُ الْعُقُولِ لِمَا يُنَافِيهَا , وَذَلِكَ عِبَادَةُ الْعُقُولِ قَالَ : وَصَارَ هَذَا كَمَا خَفِيَ عَنْ مُوسَى حِكْمَةُ فِعْلِ الْخَضِرِ , وَقَدْ يَخْفَى عَلَى الْعَامِّيِّ مَا يَفْعَلُهُ الْمَلِكُ فَقَدْ قَالَ الْمُتَنَبِّي : يَدِقُّ عَنْ الْأَفْكَارِ مَا أَنْتَ فَاعِلُ وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي الْفُنُونِ : الْوَاحِدُ مِنْ الْعَوَّام إذَا رَأَى مَرَاكِبَ مُقَلَّدَةً بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ , وَدُورًا مَشِيدَةً مَمْلُوءَةً بِالْخَدَمِ وَالزِّينَةِ قَالَ : اُنْظُرْ إلَى مَا أَعْطَاهُمْ مَعَ سُوءِ أَفْعَالِهِمْ , وَلَا يَزَالُ يَلْعَنُهُمْ وَيَذُمُّ مُعْطِيَهُمْ وَيَسْقَفُ حَتَّى يَقُولَ : فُلَانٌ يُصَلِّي الْجَمَاعَاتِ وَالْجُمَعِ , وَلَا يَذُوقُ قَطْرَةَ خَمْرٍ , وَلَا يُؤْذِي الذَّرَّ , وَلَا يَأْخُذُ مَا لَيْسَ لَهُ , وَيُؤَدِّي الزَّكَاةَ إذَا كَانَ لَهُ مَالٌ , وَيَحُجُّ وَيُجَاهِدُ , وَلَا يَنَالُ خُلَّةً بِقُلَّةٍ , وَيُظْهِرُ الْإِعْجَابَ كَأَنَّهُ يَنْطِقُ عَنْ تَخَايُلِهِ أَنَّهُ لَوْ كَانَتْ الشَّرَائِعُ حَقًّا لَكَانَ الْأَمْرُ بِخِلَافِ مَا نَرَى , وَكَانَ الصَّالِحُ غَنِيًّا وَالْفَاسِقُ فَقِيرًا . مَا ذَاكَ إلَّا لِأَنَّهُ لَحَظَ أَنَّ اللَّهَ أَعْطَى هَذَا أَمْوَالَ الْأَيْتَامِ وَالْوُقُوفِ , بِأَنْ يَأْكُلَ الرِّبَا وَيُفَاسِدَ الْعُقُودَ , وَهَذَا افْتِئَاتٌ وَتَجَوُّزٌ وَسَخَطٌ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ .(1/159)
فَإِنَّ لِلَّهِ كِتَابًا قَدْ مَلَأَهُ بِالنَّهْيِ وَحِرْمَانِ أَخْذِ الْمَالِ الْحَرَامِ وَأَكْلِهِ بِغَيْرِ حَقٍّ , فَلَوْ كَانَ مُنْصِفًا لَقَالَ لَهُ تَدَبَّرْ هَذَا كِتَابُ اللَّهِ مَمْلُوءٌ بِالنَّهْيِ وَالْوَعِيدِ , فَصَارَ الْفَرِيقَانِ مَلْعُونَيْنِ , هَذَا بِكُفْرِهِ وَهَذَا بِارْتِكَابِ النَّهْيِ . وَمِنْ الْفَسَادِ فِي هَذَا الِاعْتِقَادِ أَنَّهُ لَا يُبْقِي فِي الْعَقْلِ ثِقَةً إلَى دَلَالَةٍ قَامَتْ عَلَى شَرِيعَةٍ أَوْ حُكْمٍ . فَإِنَّ يَنْبُوعَ الثِّقَةِ وَمَصْدَرَهَا إنَّمَا هُوَ مِنْ قَبِيلِ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَا يُؤَيِّدُ غَيْرَ الصَّادِقِ , وَلَا يُلْبِسُ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ .(1/160)
فَإِذَا لَمْ تَسْتَقِرَّ هَذِهِ الْقَاعِدَةُ فَلَا ثِقَةَ وَقَالَ أَيْضًا : إذَا تَأَمَّلَ الْمُتَدَيِّنُ أَفْعَالَ الْخَلْقِ فِي مُقَابَلَةِ إنْعَامِ الْحَقِّ اسْتَكْثَرَ لَهُمْ شَمَّ الْهَوَاءِ , وَاسْتَقَلَّ لَهُمْ مِنْ اللَّهِ سُبْحَانَهُ أَكْثَرَ الْبَلَاءِ , إذَا رَأَى هَذِهِ الدَّارَ الْمُزَخْرَفَةَ بِأَنْوَاعِ الزَّخَارِيفِ , الْمُعَدَّةَ لِجَمِيعِ التَّصَارِيفِ وَاصْطِبَاغًا وَأَشْرِبَةً وَأَدْوِيَةً , وَأَقْوَاتًا وَإِدَامًا وَفَاكِهَةً , إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْعَقَاقِيرِ , ثُمَّ إرْخَاءَ السَّحَابِ بِالْغُيُوثِ فِي زَمَنِ الْحَاجَاتِ ثُمَّ تَطْيِيبَ الْأَمْزِجَةِ وَإِحْيَاءَ النَّبَاتِ , وَخَلْقَ هَذِهِ الْأَبْنِيَةِ عَلَى أَحْسَنِ إتْقَانٍ , وَتَسْخِيرَ الرِّيَاحِ وَالنَّسِيمِ الْمُعَدِّ لِلْأَنْفَاسِ , إلَى غَيْر ذَلِكَ مِنْ النِّعَمِ , ثُمَّ نِعْمَةَ الْعَقْلِ وَالذِّهْنِ ثُمَّ سَائِرَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى الصَّانِعِ , ثُمَّ إنْزَالَ الْكُتُبِ الَّتِي تَحُثُّ عَلَى الطَّاعَاتِ وَتَرْدَعُ عَنْ الْمُخَالَفَةِ , ثُمَّ اللُّطْفَ بِالْمُكَلَّفِ , وَإِبَاحَةَ الشِّرْكِ مَعَ الْإِكْرَاهِ , وَأَمَرَ بِالْجُمُعَةِ فَضَايَقُوهُ فِي سَاعَةِ السَّعْي بِنَفْسِ مَا نَهَى عَنْهُ مِنْ الْبَيْعِ فِي أَنْوَاعِ الْعِبَادَاتِ , وَعَظَّمُوا كُلَّ مَا هَوَّنَهُ وَارْتَكَبُوا كُلَّ مَا هَوَّنَهُ حَتَّى اسْتَخَفُّوا بِحُرْمَةِ كِتَابِهِ , فَأَنَا أَسْتَقِلُّ لَهُمْ كُلَّ مِحْنَةً .(1/161)
وَقَالَ أَيْضًا : لَا تَتِمُّ الرُّجْلَةُ فِي الْعَبْدِ حَتَّى يَكُونَ فِي مَقَامِ اخْتِلَالِ أَحْوَالِهِ , وَإِشْبَاطِ أَخْلَاطِهِ وَأَفْرَاحِهِ , وَتَسَلُّطِ أَعْدَائِهِ ثَابِتًا بِثُبُوتِ الْمُتَلَقِّي وَالْمُتَوَقِّي , فَيَتَلَقَّى النِّعَمَ بِالشُّكْرِ لَا بِالْبَطَرِ , مُتَمَاسِكًا عَنْ تَحَرُّكِ الرَّعَنِ , وَعِنْدَ الْمَصَائِبِ مُسْتَسْلِمًا نَاظِرًا إلَى الْمُبْتَلَى بِعَيْنِ الْكَمَالِ , وَعِنْدَ اشْتِطَاطِ الْغَضَبِ مُتَلَقِّيًا بِالْحُكْمِ , وَعِنْدَ الشَّهَوَاتِ مُسْتَحْضِرًا لِلْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ , فَسُبْحَانَ مَنْ كَمَنَ جَوَاهِرَ الرِّجَالِ فِي هَذِهِ الْأَجْسَادِ , ثُمَّ أَظْهَرَهَا بِابْتِلَائِهِ لِيُعْطِيَ عَلَيْهَا جَزِيلَ ثَوَابِهِ , وَيَجْعَلَهَا حُجَّةً عَلَى بَقِيَّةِ عِبَادِهِ . وَقَالَ : زِنُوا أَنْفُسَكُمْ : مِنْ الْمَبَادِئِ مَاءٌ وَطِينٌ , وَفِي الثَّوَانِي مَاءٌ مَهِينٌ , وَفِي الْوَسَطِ عَبِيدٌ مَحَاوِيج لَوْ حُبِسَ عَنْكُمْ نَسِيمُ الْهَوَاءِ لَأَصْبَحْتُمْ جِيَفًا , وَلَوْ مُكِّنَتْ مِنْكُمْ الْبُقُوقُ عَنْ السِّبَاعِ لَأَكَلَتْكُمْ , كُونُوا مُتَعَرِّفِينَ لَا عَارِفِينَ . وَقَالَ لَنَا : عِنْدَك ذَخَائِرُ وَوَدَائِعُ بِاَللَّهِ لَا تَضَعْهَا فِي التُّرَّهَاتِ , وَدُمُوعٌ وَدِمَاءٌ وَنُفُوسٌ , بِاَللَّهِ لَا تَجْرِي الدُّمُوعَ إلَّا عَلَى مَا فَاتَ وَيَفُوتُ , وَلَا تُرِقْ الدِّمَاءَ , إلَّا فِي مُكَافَحَةِ الْأَعْدَاءِ , وَإِعْلَاءِ كَلِمَتِنَا , وَأَنْفَاسٌ مِنْ نَفَائِسِ الذَّخَائِرِ , فَبِحَقِّنَا لَا تَتَنَفَّسْ الصُّعَدَاءَ إلَّا فِي الشَّوْقِ إلَيْنَا , وَالتَّأَسُّفِ عَلَيْنَا .(1/162)
كَمْ نَخْلَعُ عَلَيْك خِلْعَةً نَفِيسَةً تَبْذُلُهَا فِي الْأَقْذَارِ , وَتَخْلُقُهَا فِي خِدْمَةِ الْأَغْيَارِ , اشْتَغَلْتَ بِالصُّوَرِ , شَغْلَ الْأَطْفَالِ بِاللَّعِبِ , فَاتَتْكَ أَوْقَاتٌ لَا تَتَلَافَى إلَى أَنْ قَالَ : فَإِنْ كَسَرْنَا عَلَيْك لُعْبَةً مِثْلَ أَنْ نَسْلُبَك وَلَدًا مَنَحْنَاهُ , أَخَذْت تُضَيِّعُ الدُّمُوعَ وَتَخْرُقُ الْجُيُوبَ , وَا أَسَفَا عَلَى أَوْقَاتٍ فَاتَتْ , أَمَا رَأَيْت الْمُتَدَارِكِينَ هَذَا يَقُولُ : هَلَكْت وَأَهْلَكْت , وَهَذَا يَقُولُ : زَنَيْت فَطَهِّرْنِي , زَاهِدًا فِي مُصَاحَبَةِ نَفْسٍ خَائِنَةٍ فِيمَا عَاهَدَتْ , وَصَاحِبُ الشَّرْعِ يُقِيمُ لَهَا التَّأْوِيلَ وَيَقُولُ : " لَعَلَّكَ قَبِلْت " وَذَاكَ مُصِرٌّ عَلَى التَّشَفِّي مِنْ النَّفْسِ الْمُخَالِفَةِ لِلْحَقِّ , أَتُرَاهُ سَلَّطَ هَذِهِ الْبَلَاوِيَ إلَّا لِيُظْهِرَ هَذِهِ الْجَوَاهِرَ فِي الصَّبْرِ عَلَيْهِ وَالْغَيْرَةِ ؟ تُرَى لَوْ دَامَ الْخَلِيلُ وَالذَّبِيحُ فِي كَتْمِ الْعَزْمِ , كَانَ وُجِدَ لِأَخْذِ قَدَمٍ , إلَى أَنْ قَالَ : فَصَارَ الْوَلَدُ كَالشَّاةِ الْمُعَدَّةِ لِلذَّبْحِ . أَخْجَلَ وَاَللَّهِ هَذَا الْجَوْهَرُ الَّذِي أَظْهَرَهُ الِامْتِحَانُ مَلَائِكَةَ الرَّحْمَنِ . { قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ } . أَيْنَ التَّسْبِيحُ مِنْ عَزْمِ الذَّبْحِ وَبَذْلِ الذَّبِيحِ ؟ لَقَدْ تَرَكَتْ هَذِهِ الْمَكَارِمُ رُءُوسَ الْكُلِّ مُنَكَّسَةً خَجَلًا بِبُخْلِهِمْ شَاةً مِنْ أَرْبَعِينَ , وَنِصْفَ دِينَارٍ مِنْ عِشْرِينَ .(1/163)
وَتَعْجَبُ مِنْ قَوْلِ الدَّبُوسِيِّ الْحَنَفِيِّ : إنَّ الدُّنْيَا دَارُ جَزَاءٍ لِحَقِّ الْآدَمِيِّ , فَأَمَّا لِحَقِّهِ فَيَتَأَخَّرُ إلَى الْآخِرَةِ , وَإِنَّ هَذَا خِلَافُ الْعَقْلِ وَالشَّرْعِ انْتَهَى كَلَامُهُ . قَالَ تَعَالَى : { وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ } . وَقِيلَ لِأَبِي سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيِّ مَا بَالُ الْعُقَلَاءِ أَزَالُوا اللَّوْمَ عَمَّنْ أَسَاءَهُمْ , قَالَ : إنَّهُمْ عَلِمُوا أَنَّ اللَّهَ إنَّمَا ابْتَلَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ . وَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ . وَلِابْنِ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ { كُلُّ بَنِي آدَمَ خَطَّاءٌ وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ } وَلِأَحْمَدَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا { مَا مِنْ أَحَدٍ إلَّا وَقَدْ أَخْطَأَ أَوْ هَمَّ بِخَطِيئَةٍ لَيْسَ يَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّا } وَلِلتِّرْمِذِيِّ وَقَالَ : حَسَنٌ صَحِيح عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ { الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إلَّا اللَّمَمَ } إنْ تَغْفِرْ اللَّهُمَّ تَغْفِرْ جَمَّا وَأَيُّ عَبْدٍ لَك إلَّا أَلَمَّا .
وفي مواهب الجليل :(1/164)
ص ( وَصَحَّ بِالْحَرَامِ وَعَصَى ) ش : يَعْنِي أَنَّ الْحَجَّ يَصِحُّ بِالْمَالِ الْحَرَامِ وَلَكِنَّهُ عَاصٍ فِي تَصَرُّفِهِ فِي الْمَالِ الْحَرَامِ , قَالَ سَنَدٌ : إذَا غَصَبَ مَالًا وَحَجَّ بِهِ ضَمِنَهُ وَأَجْزَأَهُ حَجُّهُ وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ انْتَهَى , وَنَقَلَهُ الْقَرَافِيُّ وَغَيْرُهُ , نَعَمْ مَنْ حَجَّ بِمَالٍ حَرَامٍ فَحَجُّهُ غَيْرُ مَقْبُولٍ كَمَا صَرَّحَ بِهِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ كَمَا سَتَقِفُ عَلَيْهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ , وَذَلِكَ لِفِقْدَانِ شَرْطِ الْقَبُولِ لقوله تعالى { : إنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنْ الْمُتَّقِينَ } , وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْحُكْمِ بِالصِّحَّةِ وَعَدَمِ الْقَبُولِ ; لِأَنَّ أَثَرَ الْقَبُولِ فِي تَرَتُّبِ الثَّوَابِ , وَأَثَرَ الصِّحَّةِ فِي سُقُوطِ الطَّلَبِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .(1/165)
وَقَوْلُهُ : الْحَرَامُ يَشْمَلُ جَمِيعَ أَنْوَاعِهِ الْغَصْبُ وَالتَّعَدِّي وَالسَّرِقَةُ وَالنَّهْبُ وَغَيْرُ ذَلِكَ , وَإِنَّمَا قَالَ : صَحَّ وَلَمْ يَقُلْ : سَقَطَ لِيَشْمَلَ كَلَامُهُ النَّفَلَ وَالْفَرْضَ , فَإِنَّ الْحُكْمَ بِالصِّحَّةِ يَشْمَلُهُمَا وَالسُّقُوطُ خَاصٌّ بِالْفَرْضِ وَجَازَ اجْتِمَاعُ الصِّحَّةِ وَالْعِصْيَانِ لِانْفِكَاكِ الْجِهَةِ ; لِأَنَّ الْحَجَّ أَفْعَالٌ بَدَنِيَّةٌ وَإِنَّمَا يُطْلَبُ الْمَالُ لِيُتَوَصَّلَ بِهِ إلَيْهِ فَإِذَا فَعَلَهُ لَمْ يَقْدَحْ فِيهِ مَا تَقَدَّمَهُ مِنْ التَّوَصُّلِ إلَيْهِ كَمَنْ خَرَجَ مُغَرِّرًا بِنَفْسِهِ رَاكِبًا لِلْمَخَاوِفِ وَحَجَّ فَإِنَّهُ يُجْزِئُهُ وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ وَهُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ , وَقَالَ ابْنُ حَنْبَلٍ : لَا يُجْزِئُهُ لِأَنَّهُ سَبَبٌ غَيْرُ مَشْرُوعٍ وَهُوَ جَارٍ عَلَى أَصْلِهِ فِي الصَّلَاةِ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ , وَذَكَرَ ابْنُ فَرْحُونٍ فِي مَنْسَكِهِ رِوَايَةً عَنْ مَالِكٍ بِعَدَمِ الْإِجْزَاءِ كَقَوْلِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَسَيَأْتِي كَلَامُهُ , وَنَقَلَ سَيِّدِي الشَّيْخُ أَحْمَدُ زَرُّوق فِي شَرْحِ هَذَا الْمَحِلِّ مِنْ الْمُخْتَصَرِ عَنْ ابْنِ الْعَرَبِيِّ رِوَايَةً بِبُطْلَانِ الصَّلَاةِ فِي ذَلِكَ كَمَذْهَبِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ , وَظَاهِرُ كَلَامِهِ أَنَّ الرِّوَايَةَ الْمَذْكُورَةَ فِي الْمَذْهَبِ , وَقَالَ التَّادَلِيُّ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ كَلَامَ سَنَدٍ الْمُتَقَدِّمَ عَنْ الْقَرَافِيِّ فِي شَرْحِ الرِّسَالَةِ لِعَبْدِ الصَّادِقِ وَنَقَلَهُ مِنْ كِتَابِ جُمَلٍ مِنْ أُصُولِ الْعِلْمِ لِابْنِ رُشْدٍ قَالَ : وَسَأَلْتُهُ عَمَّنْ حَجَّ بِمَالٍ حَرَامٍ أَتَرَى أَنَّ ذَلِكَ مُجْزِئٌ وَيَغْرَمُ الْمَالَ لِأَصْحَابِهِ ؟ قَالَ : أَمَّا فِي مَذْهَبِنَا فَلَا يُجْزِئُهُ(1/166)
ذَلِكَ وَأَمَّا فِي قَوْلِ الشَّافِعِيِّ فَذَلِكَ جَائِزٌ وَيَرُدُّ الْمَالَ وَيَطِيبُ لَهُ حَجُّهُ , وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ هَذَا أَقْرَبُ إلَى مَذْهَبِ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ انْتَهَى . وَنَقَلَهُ ابْنُ فَرْحُونٍ فِي مَنَاسِكِهِ وَقَالَ : قُلْت : وَرَأَيْت فِي بَعْضِ الْكُتُبِ لَمْ يَحْضُرْنِي الْآنَ عَنْ مَالِكٍ عَدَمَ الْإِجْزَاءِ وَأَنَّهُ وَقَفَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَنَادَى أَيُّهَا النَّاسُ مَنْ عَرَفَنِي فَقَدْ عَرَفَنِي وَمَنْ لَا يَعْرِفْنِي فَأَنَا مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ مَنْ حَجَّ بِمَالٍ حَرَامٍ فَلَيْسَ لَهُ حَجٌّ أَوْ كَلَامٌ هَذَا مَعْنَاهُ انْتَهَى , فَظَاهِرُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ عَدَمُ الْإِجْزَاءِ كَقَوْلِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ , وَحَمْلُهَا عَلَى عَدَمِ الْقَبُولِ بَعِيدٌ وَفِي مَنَاسِكِ ابْنِ مُعَلَّى قَالَ الْعُلَمَاءُ : يَجِبُ عَلَى مُرِيدِ الْحَجِّ أَنْ يَحْرِصَ أَنْ تَكُونَ نَفَقَتُهُ حَلَالًا لَا شُبْهَةَ فِيهَا لقوله تعالى { وَتَزَوَّدُوا } الْآيَةُ , وَقَوْلُهُ { إنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنْ الْمُتَّقِينَ } { وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ } وَلِقَوْلِهِ عليه السلام { إنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إلَّا الطَّيِّبَ } الْحَدِيثُ الْمَشْهُورُ فِي مُسْلِمٍ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي شَرْحِ هَذَا الْحَدِيثِ : قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ يُفِيدُ أَنَّهُ سَفَرُ الْحَجِّ ; لِأَنَّ الصِّفَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ غَالِبًا لَا يَكُونَانِ إلَّا فِيهِ قَالُوا : فَلَوْ حَجَّ بِمَالٍ حَرَامٍ فَحَجُّهُ صَحِيحٌ عِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ , وَقَالَ ابْنُ حَنْبَلٍ : لَا يُجْزِئُهُ وَحَجُّهُ بَاطِلٌ . ((1/167)
تَنْبِيهٌ ) قَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ : الْمُنْفِقُ مِنْ غَيْرِ حِلٍّ فِي حَجِّهِ جَدِيرٌ بِعَدَمِ الْقَبُولِ وَإِنْ سَقَطَ الْفَرْضُ كَمَا قَالَهُ الْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ , قَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ الْعُلَمَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ : أَمَّا عَدَمُ الْقَبُولِ فَلِاقْتِرَانِ الْعَمَلِ بِالْمَعْصِيَةِ وَفِقْدَانِ الشَّرْطِ وَهُوَ التَّقْوَى , قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى - { إنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنْ الْمُتَّقِينَ } . وَأَمَّا صِحَّةُ عِبَادَةٍ فِي نَفْسِهَا فَلِوُجُودِ شُرُوطِهَا وَأَرْكَانِهَا , قَالَ : وَلَا تَنَاقُضَ فِي ذَلِكَ لِأَنَّ أَثَرَ عَدَمِ الْقَبُولِ يَظْهَرُ فِي سُقُوطِ الثَّوَابِ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ , وَأَثَرُ الصِّحَّةِ يَظْهَرُ فِي سُقُوطِ الْفَرْضِ عَنْهُ وَإِبْرَاءِ الذِّمَّةِ مِنْهُ . ( ( قُلْتُ ) ) : وَقَدْ أَشَارَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ إلَى عَدَمِ الْقَبُولِ مِنْهُمْ الْقُشَيْرِيُّ وَالْغَزَالِيُّ وَالْقَرَافِيُّ وَالْقُرْطُبِيُّ وَالنَّوَوِيُّ وَنَقَلَهُ الْغَزَالِيُّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَكَفَى بِهِ حَجَّةً , وَقَالَ فِي آخِرِ كَلَامِهِ : آكِلُ الْحَرَامِ مَطْرُودٌ مَحْرُومٌ لَا يُوَفَّقُ لِعِبَادَةٍ وَإِنْ اتَّفَقَ لَهُ فِعْلُ خَيْرٍ فَهُوَ مَرْدُودٌ عَلَيْهِ غَيْرُ مَقْبُولٍ مِنْهُ , وَذَكَرَ الْقُرْطُبِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ أَنَّ الصِّدِّيقَ رضي الله عنه شَرِبَ جَرْعَةً مِنْ لَبَنٍ فِيهِ شُبْهَةٌ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ ثُمَّ لَمَّا عَلِمَ اسْتِقَاءَهَا فَأَجْهَدَهُ ذَلِكَ فَقِيلَ لَهُ : أَكُلُّ ذَلِكَ فِي شَرْبَةِ لَبَنٍ فَقَالَ : وَاَللَّهِ لَوْ لَمْ تَخْرُجْ إلَّا بِنَفْسِي لَأَخْرَجْتُهَا , سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ { : كُلُّ لَحْمٍ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ فَالنَّارُ أَوْلَى بِهِ } . ( ((1/168)
قُلْتُ ) ) : وَإِذَا كَانَتْ الْحَالُ هَذِهِ فَسَبِيلُ الْمَرْءِ أَنْ يَتَّقِيَ اللَّهَ فِي سِرِّهِ وَعَلَانِيَتِهِ وَيُحَافَظَ عَلَى شُرُوطِ قَبُولِ عِبَادَتِهِ , وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : إنَّ إعْمَالَ الْجَوَارِحِ فِي الطَّاعَاتِ مَعَ إهْمَالِ شُرُوطِهَا ضَحْكَةٌ لِلشَّيْطَانِ لِكَثْرَةِ التَّعَبِ وَعَدَمِ النَّفْعِ , وَقَدْ رُوِيَ { مَنْ حَجَّ مِنْ غَيْرِ حِلٍّ فَقَالَ : لَبَّيْكَ , قَالَ اللَّهُ لَهُ : لَا لَبَّيْكَ وَلَا سَعْدَيْكَ } انْتَهَى , وَهَذَا الْحَدِيثُ ذَكَرَهُ ابْنُ جَمَاعَةَ فِي مَنْسَكِهِ الْكَبِيرِ بِرِوَايَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ , قَالَ : رُوِيَ عَنْ سَيِّدِي رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ { : إذَا حَجَّ الرَّجُلُ بِالْمَالِ الْحَرَامِ فَقَالَ : لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ , قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى - : لَا لَبَّيْكَ وَلَا سَعْدَيْكَ حَتَّى تَرُدَّ مَا فِي يَدَيْك وَفِي رِوَايَةٍ : لَا لَبَّيْكَ وَلَا سَعْدَيْكَ وَحَجُّكَ مَرْدُودٌ عَلَيْك وَفِي رِوَايَةٍ مَنْ خَرَجَ يَؤُمُّ هَذَا الْبَيْتَ بِكَسْبٍ حَرَامٍ شَخَصَ فِي غَيْرِ طَاعَةِ اللَّهِ فَإِذَا بَعَثَ رَاحِلَتَهُ فَقَالَ : لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ , نَادَاهُ مُنَادٍ مِنْ السَّمَاءِ : لَا لَبَّيْكَ وَلَا سَعْدَيْكَ كَسْبُك حَرَامٌ وَرَاحِلَتُك حَرَامٌ وَثِيَابُك حَرَامٌ وَزَادُك حَرَامٌ ارْجِعْ مَأْزُورًا غَيْرَ مَأْجُورٍ وَأَبْشِرْ بِمَا يَسُوءُك , وَإِذَا خَرَجَ الرَّجُلُ حَاجًّا بِمَالٍ حَلَالٍ وَبَعَثَ رَاحِلَتَهُ , وَقَالَ : لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ , نَادَاهُ مُنَادٍ مِنْ السَّمَاءِ : لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ أَجَبْت بِمَا تُحِبُّ رَاحِلَتُك حَلَالٌ وَثِيَابُك حَلَالٌ وَزَادُك حَلَالٌ ارْجِعْ مَبْرُورًا غَيْرَ مَأْزُورٍ وَاسْتَأْنِفْ الْعَمَلَ } , أَخْرَجَ(1/169)
هَذِهِ الرِّوَايَةَ الْأَخِيرَةَ أَبُو ذَرٍّ وَعَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ { رَدُّ دَانِقٍ مِنْ حَرَامٍ يَعْدِلُ عِنْدَ اللَّهِ سَبْعِينَ حَجَّةً } وَأَنْشَدُوا إذَا حَجَجْت بِمَالٍ أَصْلُهُ سُحْتُ فَمَا حَجَجْت وَلَكِنْ حَجَّتْ الْعِيرُ لَا يَقْبَلُ اللَّهُ إلَّا كُلَّ طَيِّبَةٍ مَا كُلُّ مَنْ حَجَّ بَيْتَ اللَّهِ مَبْرُورُ , وَقِيلَ : إنَّ هَذَيْنِ الْبَيْتَيْنِ لِأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ , وَقِيلَ : إنَّهُمَا لِغَيْرِهِ وَيُرْوَى أَنَّهُ لَمَّا مَرِضَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرِ بْنِ كُرَيْزٍ مَرَضَهُ الَّذِي مَاتَ فِيهِ أَرْسَلَ إلَى نَاسٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَفِيهِمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ رضي الله عنهم فَقَالَ : إنَّهُ قَدْ نَزَلَ بِي مَا تَرَوْنَ فَقَالُوا : كُنْتَ تُعْطِي السَّائِلَ وَتَصِلُ الرَّحِمَ وَحَفَرْت الْآبَارَ فِي الْفَلَوَاتِ لِابْنِ السَّبِيلِ وَبَنَيْت الْحَوْضَ بِعَرَفَاتٍ فَمَا نَشُكُّ فِي نَجَاتِك وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ سَاكِتٌ فَلَمَّا أَبْطَأَ عَلَيْهِ قَالَ : يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَلَا تَتَكَلَّمُ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ : إذَا طَابَتْ الْمُكْسِبَةُ زَكَتْ النَّفَقَةُ وَسَتَرِدُ فَتَعْلَمُ انْتَهَى مِنْ الْبَابِ الثَّانِي , وَقَالَ فِيهِ : وَمَا أَغْبَنَ مَنْ بَذَلَ نَفْسَهُ وَمَالَهُ عَلَى صُورَةِ قَصْدِ اللَّهِ - تَعَالَى - وَقَصْدُهُ فِيهِ غَيْرُهُ فَيَبُوءُ بِالْحِرْمَانِ وَغَضَبِ الرَّحْمَنِ انْتَهَى .(1/170)
وَالرِّوَايَتَانِ الْأُولَيَانِ أَخْرَجَهُمَا الْحَافِظُ أَبُو الْفَرَجِ فِي مُثِيرِ الْغَرَامِ إلَى زِيَارَةِ الْبَيْتِ الْحَرَامِ قَالَ وَلَكِنْ بِلَفْظِ بِمَالٍ مِنْ غَيْرِ حِلِّهِ فِي الرِّوَايَةِ الْأُولَى وَبِلَفْظِ هَذَا مَرْدُودٌ عَلَيْك فِي الثَّانِيَةِ وَقَوْلُهُ : يَؤُمُّ أَيْ يَقْصِدُ , وَقَوْلُهُ : شَخَصَ شُخُوصُ الْمُسَافِرِ خُرُوجُهُ مِنْ مَنْزِلِهِ , وَالسُّحْتُ بِضَمِّ الْحَاءِ وَإِسْكَانِهَا قَالَ فِي الْقَامُوسِ : الْحَرَامُ وَمَا خَبُثَ مِنْ الْمَكَاسِبِ وَقَدْ نَظَمَ الشَّيْخُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ رُشَيْدٍ الْبَغْدَادِيُّ فِي قَصِيدَتِهِ الَّتِي فِي الْمَنَاسِكِ الْمُسَمَّاةِ بِالذَّهَبِيَّةِ مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ فَقَالَ : وَحُجَّ بِمَالٍ مِنْ حَلَالٍ عَرَفْتَهُ وَإِيَّاكَ وَالْمَالَ الْحَرَامَ وَإِيَّاهُ فَمَنْ كَانَ بِالْمَالِ الْمُحَرَّمِ حَجُّهُ فَعَنْ حَجِّهِ وَاَللَّهِ مَا كَانَ أَغْنَاهُ إذَا هُوَ لَبَّى اللَّهَ كَانَ جَوَابُهُ مِنْ اللَّهِ لَا لَبَّيْكَ حَجٌّ رَدَدْنَاهُ كَذَاكَ رَوَيْنَا فِي الْحَدِيثِ مُسَطَّرًا وَمَا جَاءَ فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ سَطَرْنَاهُ قَالَ ابْنُ عَطَاءِ اللَّهِ فِي مَنَاسِكِهِ : وَإِنَّمَا أُتِيَ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ فِي عَدَمِ قَبُولِ عِبَادَاتِهِمْ وَعَدَمِ اسْتِجَابَةِ دَعَوَاتِهِمْ لِعَدَمِ تَصْفِيَةِ أَقْوَاتِهِمْ عَنْ الْحَرَامِ وَالشُّبُهَاتِ انْتَهَى .(1/171)
وَقَالَ النَّوَوِيُّ : فَإِنْ حَجَّ بِمَالٍ حَرَامٍ أَوْ بِشُبْهَةٍ فَحَجُّهُ صَحِيحٌ وَلَكِنَّهُ لَيْسَ بِمَبْرُورٍ انْتَهَى , وَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّ الْمَبْرُورَ هُوَ الَّذِي لَا يُخَالِطُهُ مَأْثَمٌ وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ لَمْ يَتَحَقَّقْ وُقُوعُهُ فِي الْإِثْمِ وَقَدْ حَمَلَ الْعُلَمَاءُ قَوْلَهُ صلى الله عليه وسلم : وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ عَلَى وَجْهَيْنِ قَالَ الْفَاكِهَانِيُّ فِي شَرْحِ عُمْدَةِ الْأَحْكَامِ أَحَدُهُمَا أَنَّ مَنْ تَعَاطَى الشُّبُهَاتِ وَدَاوَمَ أَفْضَتْ بِهِ إلَى الْوُقُوعِ فِي الْحَرَامِ , وَالثَّانِي أَنَّ مَنْ تَعَاطَى الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَإِنْ كَانَ لَا يَشْعُرُ بِهَا فَمُنِعَ مِنْ تَعَاطَى الشُّبُهَاتِ لِذَلِكَ انْتَهَى .(1/172)
وَنَحْوُهُ فِي شَرْحِ الْأَرْبَعِينَ فَمَنْ تَعَاطَى مَا فِيهِ شُبْهَةٌ لَا يُحْرَمُ فَإِنَّهُ آثِمٌ إلَّا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الشُّبُهَاتِ حَرَامٌ وَقِيلَ : إنَّهَا حَلَالٌ وَصَوَّبَ الْقُرْطُبِيُّ فِي الْمُفْهِمِ الْقَوْلَ بِالْكَرَاهَةِ انْتَهَى مِنْ شَرْحِ الْأَرْبَعِينَ لِلْفَاكِهَانِيِّ وَلِأَنَّهُمْ عَدُّوا مِنْ الشُّبُهَاتِ مَا اخْتَلَفَ فِيهِ الْعُلَمَاءُ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْفَاكِهَانِيُّ وَالزَّنَاتِيُّ وَغَيْرُهُمْ وَابْنُ نَاجِي وَمَنْ ارْتَكَبَ مَا اخْتَلَفَ فِيهِ الْعُلَمَاءُ لَا نَقُولُ فِيهِ إثْمٌ فَكَانَ الْأَوْلَى أَنْ يَقُولَ فَإِنْ حَجَّ بِشُبْهَةٍ خِيفَ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَكُونَ حَجُّهُ مَبْرُورًا وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْحَلَالِ هَلْ هُوَ مَا عُلِمَ أَصْلُهُ أَوْ مَا جُهِلَ أَصْلُهُ : وَرَجَّحَ جَمَاعَةٌ كَثِيرُونَ الثَّانِي مِنْهُمْ الشَّيْخُ الْفَاكِهَانِيُّ وَأَبُو عَلِيٍّ الْجُبَّائِيُّ ذَكَرَهُ فِي شَرْحِ الْأَرْبَعِينَ وَلَا سِيَّمَا فِي هَذَا الزَّمَانِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .(1/173)
وَقَالَ الْمُصَنِّفُ فِي مَنْسَكِهِ ثُمَّ يُنْظَرُ فِي أَمْرِ الزَّادِ وَمَا يُنْفِقُهُ فَيَكُونُ مِنْ أَطْيَبِ جِهَةٍ لِأَنَّ الْحَلَالَ يُعِينُ عَلَى الطَّاعَةِ وَيُكَسِّلُ عَنْ الْمَعْصِيَةِ وَكَانَ السَّلَفُ رضي الله عنهم يَتْرُكُونَ سَبْعِينَ بَابًا مِنْ الْحَلَالِ مَخَافَةَ الْوُقُوعِ فِي الْحَرَامِ هَذَا وَهُمْ مُتَلَبِّسُونَ بِغَيْرِ الْحَجِّ فَمَا بَالُكَ بِالْحَجِّ انْتَهَى , وَقَدْ قَالَ صلى الله عليه وسلم { مَنْ أَكَلَ الْحَلَالَ أَطَاعَ اللَّهَ شَاءَ أَوْ أَبَى وَمَنْ أَكَلَ الْحَرَامَ عَصَى اللَّهَ شَاءَ أَوْ أَبَى } ذَكَرَهُ فِي الْمَدْخَلِ وَقَالَ عليه السلام { : طَلَبُ الْحَلَالِ فَرِيضَةٌ } وَقَالَ عليه السلام { مَنْ أَمْسَى وَانِيًا مِنْ طَلَبِ الْحَلَالِ بَاتَ مَغْفُورًا لَهُ } وَقَوْلُهُ وَانِيًا مِنْ قَوْلِهِمْ وَنَى إذَا تَعِبَ وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها { أَنَّهَا قَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ الْمُؤْمِنُ قَالَ الَّذِي إذَا أَصْبَحَ سَأَلَ مِنْ أَيْنَ قُرْصُهُ وَإِذَا أَمْسَى سَأَلَ مِنْ أَيْنَ قُرْصُهُ , قَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ عَلِمَ النَّاسُ لَتَكَلَّفُوهُ قَالَ : قَدْ عَلِمُوا ذَلِكَ وَلَكِنَّهُمْ غَشَمُوا الْمَعِيشَةَ غَشْمًا } أَيْ تَعَسَّفُوا تَعَسُّفًا , وَقَالَ ابْنُ عَبْدُوسٍ عِمَادُ الدِّينِ وَقَوَامُهُ طِيبُ الْمَطْعَمِ فَمَنْ طَابَ كَسْبُهُ زَكَا عَمَلُهُ وَمَنْ لَمْ يُصَحِّحْ فِي طِيبِ مَكْسَبِهِ خِيفَ عَلَيْهِ أَنْ لَا تُقْبَلَ صَلَاتُهُ وَصِيَامُهُ وَحَجُّهُ وَجِهَادُهُ وَجَمِيعُ عَمَلِهِ لِأَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - يَقُولُ { إنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنْ الْمُتَّقِينَ } انْتَهَى
((1/174)
فَرْعٌ ) قَالَ فِي رَسْمِ الطَّلَاقِ مِنْ سَمَاعِ أَشْهَبَ مِنْ كِتَابِ النِّكَاحِ : وَسُئِلَ عَمَّنْ يَكْتَسِبُ مَالًا حَرَامًا فَيَتَزَوَّجُ بِهِ أَيُخَافُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مُضَارِعًا لِلزِّنَا فَقَالَ : إنِّي وَاَللَّهِ لَا أَخَافَهُ وَلَكِنْ لَا أَقُولُهُ ابْنُ رُشْدٍ , وَجْهُ اتِّقَاءِ مَالِكٍ أَنْ يَكُونَ فِعْلُهُ مُضَارِعًا لِلزِّنَا هُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إنَّمَا أَبَاحَ الْفَرْجَ بِنِكَاحٍ أَوْ بِمِلْكِ يَمِينٍ وَقَالَ صلى الله عليه وسلم { لَا نِكَاحَ إلَّا بِوَلِيٍّ وَصَدَاقٍ } فَنَفَى أَنْ يَكُونَ نِكَاحًا جَائِزًا إلَّا عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ وَالْمُتَزَوِّجُ عَلَى حَرَامٍ لَمْ يَتَزَوَّجْ بِصَدَاقٍ إذْ لَيْسَ الْمَالُ الْحَرَامُ بِمَالٍ لَهُ فَإِذَا وَطِئَ بِهِ فَقَدْ وَطِئَ فَرْجًا بِغَيْرِ مِلْكِ يَمِينٍ وَلَا نِكَاحٍ أَبَاحَهُ الشَّرْعُ انْتَهَى . ص ( أَوْ بِإِسْقَاطِهِ ) ش : حُكْمُهَا كَالَّتِي قَبْلَهَا قَالَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ عِنْدَ ذِكْرِ نِكَاحِ التَّفْوِيضِ وَقَالَهُ غَيْرُهُ وَمِثْلُهُ النِّكَاحُ بِلَفْظِ الْهِبَةِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ الصَّدَاقِ وَهُمَا مِنْ الْفَاسِدِ لِصَدَاقِهِ قَالَهُ فِي التَّوْضِيحِ . ص ( أَوْ كَقِصَاصٍ ) ش : وَمِثْلُهُ أَنْ يَنْكِحَهَا بِقُرْآنٍ يَقْرَؤُهُ ابْنُ عَرَفَةَ وَشَرْطُهُ كَوْنُهُ مُنْتَفَعًا بِهِ لِلزَّوْجَةِ مُتَمَوَّلًا الْبَاجِيُّ عَنْ ابْنِ مُزَيْنٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ يَحْيَى مَنْ نَكَحَ بِقُرْآنٍ يَقْرَؤُهُ فُسِخَ قَبْلَ الْبِنَاءِ وَيَثْبُتُ بَعْدَهُ أَبُو عُمَرَ رَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ مِثْلَهُ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ وَكَذَا مَنْ تَزَوَّجَ بِقِصَاصٍ وَجَبَ لَهُ عَلَى امْرَأَةٍ وَقَالَ سَحْنُونٌ النِّكَاحُ جَائِزٌ وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ , . ((1/175)
قُلْت ) هُوَ جَارٍ عَلَى قَوْلِ أَشْهَبَ بِجَبْرِ الْقَاتِلِ عَلَى الدِّيَةِ ا هـ . وَظَاهِرُ كَلَامِ ابْنِ عَرَفَةَ أَنَّ الْقِصَاصَ عَلَى الْمَرْأَةِ نَفْسِهَا وَأَحْرَى لَوْ كَانَ عَلَى غَيْرِهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . ص ( أَوْ آبِقٍ ) ش : لَوْ قَالَ كَآبِقٍ لَكَانَ أَحْسَنَ وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْكَافُ مُقَدَّرَةً فِيهِ وَفِيمَا بَعْدَهُ ; لِأَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى لَفْظِ كَقِصَاصٍ كَمَا قَالَهُ ابْنُ غَازِيٍّ وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ كُلُّ مَا كَانَ فِيهِ غَرَرٌ كَالْبَعِيرِ الشَّارِدِ وَالْجَنِينِ وَالثَّمَرَةِ الَّتِي لَمْ يَبْدُ صَلَاحُهَا عَلَى التَّبْقِيَةِ لَا عَلَى الْقَطْعِ قَالَهُ فِي التَّوْضِيحِ وَكَأَنَّهُ نَاقِلٌ لَهُ عَنْ غَيْرِهِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ بَعْدَهُ مُحَمَّدٌ وَإِنْ غَفَلَ عَنْهَا حَتَّى بَدَا صَلَاحُهَا لَمْ يُفْسَخْ ; لِأَنَّهُ كَانَ جَائِزًا وَلَا يُتَّهَمَانِ عَلَى ذَلِكَ وَيَكُونُ لَهَا قِيمَةُ ذَلِكَ يَوْمَ عَقْدِ النِّكَاحِ وَتَرُدُّ الثَّمَرَةَ الَّتِي طَابَتْ لِلزَّوْجِ وَظَاهِرُ كَلَامِ ابْنِ عَرَفَةَ أَنَّ هَذَا الْقَيْدَ مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ ; لِأَنَّهُ قَالَ قُلْت ثُمَّ ذَكَرَهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . وَهَذَا أَيْضًا الْمَشْهُورُ فِيهِ أَنَّهُ يُفْسَخُ قَبْلَ الْبِنَاءِ وَيَثْبُتُ بَعْدَهُ بِصَدَاقِ الْمِثْلِ وَالْفَسْخُ بِطَلَاقٍ لِلِاخْتِلَافِ فِيهِ وَتَرُدُّ مَا قَبَضَتْهُ مِنْ ذَلِكَ وَيَدْخُلُ فِي ضَمَانِهَا بِالْقَبْضِ لَا بِالْعَقْدِ كَالْبَيْعِ الْفَاسِدِ عَلَى الْمَشْهُورِ فَإِنْ قَبَضَتْهُ وَفَاتَ بِيَدِهَا لِإِحْدَاهُمَا بِحَوَالَةِ سُوقٍ وَنَحْوِهِ فَهُوَ لَهَا وَتَغْرَمُ الْقِيمَةَ قَالَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ وَغَيْرُهُ .(1/176)
ص ( أَوْ دَارِ فُلَانٍ أَوْ سَمْسَرَتِهَا ) ش : ابْنُ عَرَفَةَ عَنْهَا وَيَفْسَخُ قَبْلَهُ وَيَثْبُتُ بَعْدَهُ بِمَهْرِ الْمِثْلِ وَلَا شَكَّ أَنَّ الْفَسْخَ لَيْسَ بِطَلَاقٍ لِلْخِلَافِ الَّذِي فِيهِ وَالْكَافُ مُقَدَّرَةٌ فِيهِ كَاَلَّذِي قَبْلَهُ كَمَا تَقَدَّمَ أَيْ : وَكَذَا عَبْدُ فُلَانٍ وَدَابَّةُ فُلَانٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . ص ( أَوْ بَعْضِهِ لِأَجَلٍ مَجْهُولٍ ) ش : يَأْتِي حُكْمُهَا فِي كَلَامِ الْمُؤَلِّفِ .
وفي الزواجر :(1/177)
وقوله تعالى : { لَا يَقُومُونَ } إلَخْ : أَيْ لَا يَقُومُونَ مِنْ قُبُورِهِمْ { إلَّا كَمَا يَقُومُ } أَيْ مِثْلُ قِيَامِ { الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ } أَيْ يَصْرَعُهُ الشَّيْطَانُ , مِنْ خَبْطِ الْبَعِيرِ بِأَخْفَافِهِ إذَا ضَرَبَ الْأَرْضَ بِهَا { مِنْ الْمَسِّ } أَيْ مِنْ أَجْلِ مَسِّهِ لَهُ أَوْ مِنْ جِهَةِ الْجُنُونِ , فَإِذَا بَعَثَ اللَّهُ النَّاسَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ خَرَجُوا مُسْرِعِينَ مِنْ قُبُورِهِمْ إلَّا أَكَلَةَ الرِّبَا فَإِنَّهُمْ كُلَّمَا قَامُوا سَقَطُوا عَلَى وُجُوهِهِمْ وَجَنُوبِهِمْ وَظُهُورِهِمْ , كَمَا أَنَّ الْمَصْرُوعَ يَحْصُلُ لَهُ ذَلِكَ , وَسِرُّ ذَلِكَ أَنَّهُمْ لَمَّا أَكَلُوا هَذَا الْحَرَامَ السُّحْتَ بِوَجْهِ الْمَكْرِ وَالْخِدَاعِ وَمُحَارَبَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ رَبَا فِي بُطُونِهِمْ وَزَادَ حَتَّى أَثْقَلَهَا , فَلِذَلِكَ عَجَزُوا عَنْ النُّهُوضِ مَعَ النَّاسِ وَصَارُوا كُلَّمَا أَرَادُوا الْإِسْرَاعَ مَعَ النَّاسِ وَنَهَضُوا سَقَطُوا عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ الْقَبِيحِ وَتَخَلَّفُوا عَنْهُمْ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ النَّارَ الَّتِي تَحْشُرُهُمْ إلَى الْمَوْقِفِ كُلَّمَا سَقَطُوا وَتَخَلَّعُوا أَكَلَتْهُمْ وَزَادَ عَذَابُهُمْ بِهَا , فَجَمَعَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فِي الذَّهَابِ إلَى الْمَوْقِفِ عَذَابَيْنِ عَظِيمَيْنِ ذَلِكَ التَّخَبُّطُ وَالسُّقُوطُ فِي ذَهَابِهِمْ , وَلَفْحُ النَّارِ وَأَكْلُهَا لَهُمْ وَسَوْقُهَا إيَّاهُمْ بِعُنْفٍ حَتَّى يَصِيرُوا إلَى الْمَوْقِفِ فَيَكُونُونَ فِيهِ عَلَى ذَلِكَ التَّخَبُّطِ لِيَمْتَازُوا وَيَشْتَهِرُوا بَيْنَ أَهْلِ الْمَوْقِفِ كَمَا قَالَ قَتَادَةُ : إنَّ آكِلَ الرِّبَا يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَجْنُونًا وَذَلِكَ عَلَمٌ لِأَكَلَةِ الرِّبَا يَعْرِفُهُمْ بِهِ أَهْلُ الْمَوْقِفِ .(1/178)
وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : { لَمَّا أُسْرِيَ بِي مَرَرْت بِقَوْمٍ بُطُونُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ بَطْنُهُ مِثْلُ الْبَيْتِ الضَّخْمِ قَدْ مَالَتْ بِهِمْ بُطُونُهُمْ مُنَضَّدِينَ عَلَى سَابِلَةٍ : أَيْ طَرِيقِ - آلِ فِرْعَوْنَ - وَآلُ فِرْعَوْنَ يُعْرَضُونَ عَلَى النَّارِ غُدُوًّا وَعَشِيًّا . قَالَ : فَيُقْبِلُونَ مِثْلَ الْإِبِلِ الْمُنْهَزِمَةِ لَا يَسْمَعُونَ وَلَا يَعْقِلُونَ , فَإِذَا حَسَّ بِهِمْ أَصْحَابُ تِلْكَ الْبُطُونِ قَامُوا فَتَمِيلُ بِهِمْ بُطُونُهُمْ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَبْرَحُوا حَتَّى يَغْشَاهُمْ آلُ فِرْعَوْنَ فَيُؤْذُونَهُمْ مُقْبِلِينَ وَمُدْبِرِينَ فَذَلِكَ عَذَابُهُمْ فِي الْبَرْزَخِ بَيْنَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ . قَالَ صلى الله عليه وسلم : فَقُلْت مَنْ هَؤُلَاءِ يَا جِبْرِيلُ ؟ قَالَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ الْمَسِّ } . وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ صلى الله عليه وسلم : { لَمَّا عُرِجَ بِي سَمِعْتُ فِي السَّمَاءِ السَّابِعَةِ فَوْقَ رَأْسِي رَعْدًا وَصَوَاعِقَ , وَرَأَيْتُ رِجَالًا بُطُونُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ كَالْبُيُوتِ فِيهَا حَيَّاتٌ وَعَقَارِبُ تُرَى مِنْ ظَاهِرِ بُطُونِهِمْ فَقُلْت مَنْ هَؤُلَاءِ يَا جِبْرِيلُ ؟ فَقَالَ : هَؤُلَاءِ أَكَلَةُ الرِّبَا } . وَسَيَأْتِي هَذَانِ فِي الْأَحَادِيثِ مَعَ حَدِيثِ : { إيَّاكَ وَالذُّنُوبَ الَّتِي لَا تُغْفَرُ : الْغُلُولُ , فَمَنْ غَلَّ شَيْئًا أَتَى بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ , وَأَكْلُ الرِّبَا , فَمَنْ أَكَلَ الرِّبَا بُعِثَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَجْنُونًا , ثُمَّ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ } .(1/179)
وَخَبَرُ : { يَأْتِي آكِلُ الرِّبَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُخَبَّلًا يَجُرُّ شِقَّيْهِ ثُمَّ قَرَأَهَا أَيْضًا } . وَصَحَّ فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ بِطُولِهِ أَوَّلَ كِتَابِ الصَّلَاةِ أَنَّ آكِلَ الرِّبَا يُعَذَّبُ مِنْ حِينَ يَمُوتُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ بِالسِّبَاحَةِ فِي نَهَرٍ أَحْمَرَ مِثْلِ الدَّمِ وَأَنَّهُ يُلْقَمُ الْحِجَارَةَ كُلَّمَا أَلْقَمَهُ حَجَرًا سَبَّحَ بِهِ ثُمَّ عَادَ فَاغِرًا فَاهُ فَيُلْقَمُ حَجَرًا آخَرَ وَهَكَذَا إلَى الْبَعْثِ , وَتِلْكَ الْحِجَارَةُ هِيَ نَظِيرُ الْمَالِ الْحَرَامِ الَّذِي جَمَعَهُ فِي الدُّنْيَا فَيُلْقَمُ تِلْكَ الْحِجَارَةَ النَّارِيَّةَ وَيُعَذَّبُ بِهَا كَمَا حَازَ ذَلِكَ الْمَالَ الْحَرَامَ وَابْتَلَعَهُ , وَسَيَأْتِي فِي الْأَحَادِيثِ أَنْوَاعُ الْعَذَابِ الْأَلِيمِ الَّتِي أُعِدَّتْ لَهُ . وقوله تعالى : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ } إلَخْ أَيْ أَذَاقَهُمْ اللَّهُ ذَلِكَ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِسَبَبِ قَوْلِهِمْ الْفَاسِدِ الَّذِي حَكَّمُوا فِيهِ قِيَاسَ عُقُولِهِمْ الْقَاصِرَةِ حَتَّى قَدَّمُوهُ عَلَى النَّصِّ { إنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا } جَاعِلِينَ الرِّبَا هُوَ الْأَصْلَ الْمَقِيسَ عَلَيْهِ الْبَيْعُ مُبَالَغَةً فِي حِلِّهِ وَمَحَبَّتِهِ وَالِاعْتِنَاءِ بِشَأْنِهِ .(1/180)
وَوَجْهُ ذَلِكَ الْقِيَاسِ الْفَاسِدِ الَّذِي تَخَيَّلُوهُ أَنَّهُ كَمَا يَجُوزُ شِرَاءُ شَيْءٍ بِعَشْرَةٍ ثُمَّ بَيْعُهُ بِأَحَدَ عَشَرَ حَالًّا أَوْ مُؤَجَّلًا يَجُوزُ بَيْعُ عَشْرَةٍ بِأَحَدَ عَشَرَ حَالًّا أَوْ مُؤَجَّلًا , إذْ لَا فَرْقَ عَقْلًا بَيْنَ هَذِهِ الصُّوَرِ مَعَ حُصُولِ التَّرَاضِي مِنْ الْجَانِبَيْنِ , وَغَفَلُوا عَنْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَدَّ لَنَا حُدُودًا , وَنَهَانَا عَنْ مُجَاوَزَتِهَا , فَوَجَبَ عَلَيْنَا امْتِثَالُ ذَلِكَ لِأَنَّ حُدُودَ اللَّهِ تَعَالَى لَا تُقَابَلُ بِقَضِيَّةِ رَأْيٍ وَلَا عَقْلٍ , بَلْ يَجِبُ قَبُولُهَا سَوَاءٌ أَفَهِمْنَا لَهَا مَعْنًى مُنَاسِبًا أَمْ لَا . إذْ هَذَا هُوَ شَأْنُ التَّكْلِيفِ وَالتَّعَبُّدِ . وَالْعَبْدُ الضَّعِيفُ الْعَاجِزُ الْقَاصِرُ الْفَهْمِ وَالْعَقْلِ وَالرَّأْيِ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ الِاسْتِسْلَامُ لِأَوَامِرِ سَيِّدِهِ الْقَوِيِّ الْقَادِرِ الْعَلِيمِ الْحَكِيمِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْمُنْتَقِمِ الْجَبَّارِ الْعَزِيزِ الْقَهَّارِ , وَمَتَى حَكَّمَ عَقْلُهُ , وَعَارَضَ بِهِ أَمْرَ سَيِّدِهِ انْتَقَمَ مِنْهُ وَأَهْلَكَهُ بِعَذَابِهِ الشَّدِيدِ { إنَّ بَطْشَ رَبِّك لَشَدِيدٌ } { إنَّ رَبَّك لَبِالْمِرْصَادِ } .(1/181)
وقوله تعالى : { فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ } أَيْ وَاصِلَةٌ إلَيْهِ مِنْهُ أَوْ مِنْ مَوَاعِظِ رَبِّهِ { فَانْتَهَى } أَيْ رَجَعَ عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ أَخْذِ الرِّبَا فَوْرًا عَقِبَ الْمَوْعِظَةِ { فَلَهُ مَا سَلَفَ } أَيْ سَبَقَ مِمَّا أَخَذَهُ بِالرِّبَا قَبْلَ نُزُولِ آيَةِ تَحْرِيمِهِ , لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ لَمْ يَكُنْ مُكَلَّفًا بِهِ بِخِلَافِهِ بَعْدَ نُزُولِ آيَةِ تَحْرِيمِهِ , فَإِنَّ مَنْ تَابَ مِنْهُ يَلْزَمُهُ رَدُّ جَمِيعِ مَا أَخَذَهُ بِالرِّبَا , وَإِنْ فُرِضَ أَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ التَّحْرِيمَ لَبُعْدِهِ عَنْ الْعُلَمَاءِ لِأَنَّهُ تَعَاطَاهُ وَقْتَ التَّكْلِيفِ بِهِ وَالْجَهْلِ الَّذِي يُعْذَرُ بِهِ صَاحِبُهُ إنَّمَا يُؤْثِرُ فِي رَفْعِ الْإِثْمِ دُونَ الْغَرَامَاتِ وَنَحْوِهَا مِنْ الْأَمْوَالِ { وَأَمْرُهُ إلَى اللَّهِ } أَيْ أَمْرُ مَا سَلَفَ , أَوْ الْمُنْتَهِي عَنْ الرِّبَا أَوْ الرِّبَا إلَى اللَّهِ فِي الْعَفْوِ وَعَدَمِهِ , أَوْ فِي اسْتِمْرَارِ تَحْرِيمِ الرِّبَا ; ثُمَّ فِي مَعْنَى ذَلِكَ وُجُوهٌ لِلْمُفَسِّرِينَ . قَالَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ : وَاَلَّذِي أَخْتَارُهُ أَنَّهَا مُخْتَصَّةٌ بِمَنْ تَرَكَ اسْتِحْلَالَ الرِّبَا مِنْ غَيْرِ بَيَانِ أَنَّهُ تَرَكَ أَكْلَهُ أَمْ لَا : أَيْ إلَّا بِاعْتِبَارِ مَا يَأْتِي آخِرِ الْآيَةِ فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا مُخْتَصَّةٌ بِمَنْ تَرَكَ اسْتِحْلَالَهُ مَعَ تَعَاطِيهِ لَهُ , وَيَدُلُّ عَلَى الِاخْتِصَاصِ الْأَوَّلِ قوله تعالى { فَانْتَهَى } أَيْ عَمَّا دَلَّ عَلَيْهِ سَابِقُهُ وَهُوَ قَوْلُهُ : { إنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا } مِنْ تَحْلِيلِهِ .(1/182)
وَقَوْلُهُ : { وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } أَيْ عَادَ إلَى الْكَلَامِ الْمُتَقَدِّمِ وَهُوَ : { إنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا } ثُمَّ إذَا انْتَهَى عَنْ اسْتِحْلَالِهِ , فَإِمَّا أَنَّهُ انْتَهَى عَنْ أَكْلِهِ أَيْضًا وَلَيْسَ مُرَادًا لِأَنَّهُ لَا يَلِيقُ بِهِ وَأَمْرُهُ إلَى اللَّهِ وَإِنَّمَا يَلِيقُ بِهِ الْمَدْحُ , أَوْ لَمْ يَنْتَهِ عَنْ أَكْلِهِ مَعَ اعْتِقَادِهِ لِحُرْمَتِهِ , فَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَمْرُهُ إلَى اللَّهِ إنْ شَاءَ عَاقَبَهُ وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ فَهُوَ كَقَوْلِهِ : { وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } , { يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا } أَيْ مُعَامَلَةً لِفَاعِلِيهِ بِنَقِيضِ قَصْدِهِمْ فَإِنَّهُمْ آثَرُوهُ تَحْصِيلًا لِلزِّيَادَةِ غَيْرَ مُلْتَفِتِينَ إلَى أَنَّ ذَلِكَ يُغْضِبُ اللَّهَ تَعَالَى , فَمَحَقَ تِلْكَ الزِّيَادَةَ بَلْ وَالْمَالَ مِنْ أَصْلِهِ حَتَّى صَيَّرَ عَاقِبَتَهُمْ إلَى الْفَقْرِ الْمُدْقِعِ كَمَا هُوَ مُشَاهَدٌ مِنْ أَكْثَرِ مَنْ يَتَعَاطَاهُ , وَبِفَرْضِ أَنَّهُ مَاتَ عَلَى غُرَّةٍ يَمْحَقُهُ اللَّهُ مِنْ أَيْدِي وَرَثَتِهِ فَلَا يَمُرُّ عَلَيْهِمْ أَدْنَى زَمَانٍ إلَّا وَقَدْ صَارُوا بِغَايَةِ الْفَقْرِ وَالذُّلِّ وَالْهَوَانِ . قَالَ صلى الله عليه وسلم : { الرِّبَا وَإِنْ كَثُرَ فَإِلَى قُلٍّ } . وَمِنْ الْمُحِقِّ أَيْضًا مَا تَرَتَّبَ عَلَيْهِ مِنْ الذَّمِّ وَالْبُغْضِ , وَسُقُوطِ الْعَدَالَةِ , وَزَوَالِ الْأَمَانَةِ , وَحُصُولِ اسْمِ الْفِسْقِ وَالْقَسْوَةِ وَالْغِلْظَةِ .(1/183)
وَأَيْضًا فَدُعَاءُ مَنْ ظُلِمَ بِأَخْذِ مَالِهِ عَلَيْهِ بِاللَّعْنَةِ وَذَلِكَ سَبَبٌ لِزَوَالِ الْخَيْرِ وَالْبَرَكَةِ عَنْ نَفْسِهِ وَمَالِهِ , إذْ دَعْوَةُ الْمَظْلُومِ لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ : أَيْ كِنَايَةٌ عَنْ قَبُولِهَا . وَلِهَذَا وَرَدَ : { إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ لِلْمَظْلُومِ إذَا دَعَا عَلَى ظَالِمِهِ لَأَنْصُرَنَّكَ وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ } . وَأَيْضًا فَمَنْ اشْتَهَرَ أَنَّهُ جَمَعَ مَالًا مِنْ رِبًا تَتَوَجَّهُ إلَيْهِ الْمِحَنُ الْكَثِيرَةُ مِنْ الظَّلَمَةِ وَاللُّصُوصِ وَغَيْرِهِمْ , زَاعِمِينَ أَنَّ الْمَالَ لَيْسَ لَهُ فِي الْحَقِيقَةِ , هَذَا كُلُّهُ مَحْقُ الدُّنْيَا . وَأَمَّا مَحْقُ الْآخِرَةِ . فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما : " لَا يُقْبَلُ مِنْهُ صَدَقَةٌ وَلَا جِهَادٌ وَلَا حَجٌّ وَلَا صِلَةٌ " . وَأَيْضًا فَإِنَّهُ يَمُوتُ وَيَتْرُكُ مَالَهُ كُلَّهُ وَعَلَيْهِ عُقُوبَتُهُ وَتَبَعَتُهُ وَالْعَذَابُ الْأَلِيمُ بِسَبَبِهِ . وَمِنْ ثَمَّ وَرَدَ : { مُصِيبَتَانِ لَنْ يُصَابَ أَحَدٌ بِمِثْلِهِمَا أَنْ تَتْرُكَ مَالَك كُلَّهُ وَتُعَاقَبَ عَلَيْهِ كُلَّهُ } .(1/184)
وَأَيْضًا صَحَّ أَنَّ الْأَغْنِيَاءَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بَعْدَ الْفُقَرَاءِ بِخَمْسِمِائَةِ عَامٍ , فَإِذَا كَانَ هَذَا فِي الْأَغْنِيَاءِ بِالْمَالِ الْحَلَالِ الْمَحْضِ , فَمَا ظَنُّك بِذِي الْمَالِ الْحَرَامِ السُّحْتِ , فَذَلِكَ كُلُّهُ هُوَ الْمَحْقُ وَالنُّقْصَانُ وَالْخُسْرَانُ الْمُبِينُ وَالذُّلُّ وَالْهَوَانُ : { وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ } أَيْ يَزِيدُهَا فِي الدُّنْيَا بِسُؤَالِ الْمَلَكِ لَهُ أَنَّ اللَّه يُعْطِيهِ خَلَفًا كَمَا جَاءَ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ : { إنَّهُ مَا مِنْ يَوْمٍ إلَّا وَفِيهِ مَلَكٌ يُنَادِي : اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا } وَبِأَنَّهُ يَزْدَادُ كُلَّ يَوْمٍ جَاهُهُ وَذِكْرُهُ الْجَمِيلُ , وَمَيْلُ الْقُلُوبُ إلَيْهِ , وَالدُّعَاءُ الْخَالِصُ لَهُ مِنْ قُلُوبِ الْفُقَرَاءِ وَانْقِطَاعُ الْأَطْمَاعِ عَنْهُ فَإِنَّهُ مَتَى اشْتَهَرَ بِإِصْلَاحِ مُهِمَّاتِ الْفُقَرَاءِ أَوْ الضُّعَفَاءِ فَكُلُّ أَحَدٍ يَحْتَرِزُ عَنْ أَذِيَّتِهِ وَالتَّعَرُّضِ لَهُ , وَكُلُّ طَمَّاعٍ وَظَالِمٍ يَتَخَوَّفُ مِنْ التَّعَرُّضِ إلَيْهِ , وَفِي الْآخِرَةِ بِتَرْبِيَتِهَا إلَى أَنْ تَصِيرَ اللُّقْمَةُ كَالْجَبَلِ , كَمَا صَحَّ فِي الْأَحَادِيثِ السَّابِقَةِ أَوَاخِرَ الزَّكَاةِ { وَاَللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كُفَّارٍ أَثِيمٍ } كِلَاهُمَا صِيغَةُ مُبَالَغَةٍ مِنْ الْكُفْرِ وَالْإِثْمِ لِاسْتِمْرَارِ مُسْتَحِلِّ الرِّبَا وَآكِلِهِ عَلَيْهِمَا وَتَمَادِيهِ فِي ذَلِكَ , ثُمَّ يَصِحُّ رُجُوعُهُمَا مَعًا لِلْمُسْتَحِلِّ وَلَا إشْكَالَ فِيهِ أَوْ الْأَوَّلُ لَهُ وَالثَّانِي لِغَيْرِهِ وَلَا إشْكَالَ أَيْضًا .(1/185)
وَيَصِحُّ أَيْضًا رُجُوعُهُمَا مَعًا إلَى غَيْرِ الْمُسْتَحِلِّ وَيَكُونُ عَلَى حَدِّ : { مَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ فَقَدْ كَفَرَ أَوْ الْحَجَّ فَقَدْ كَفَرَ , وَمَنْ أَتَى امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ فَقَدْ كَفَرَ , وَمَنْ أَتَاهَا فِي دُبُرِهَا فَقَدْ كَفَرَ } : أَيْ قَارَبَ الْكُفْرَ كَمَا مَرَّ فِي الْحَجِّ , بِمَعْنَى أَنَّ تِلْكَ الْأَعْمَالَ الْخَبِيثَةَ إذَا دَاوَمَ عَلَيْهَا فَاعِلُهَا أَدَّتْ بِهِ إلَى الْكُفْرِ وَسُوءِ الْخَاتِمَةِ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ , وَفِي هَذَا تَحْذِيرٌ عَظِيمٌ بَالِغٌ مِنْ الرِّبَا , وَأَنَّهُ يُؤَدِّي بِمُتَعَاطِيهِ إلَى أَنْ يُوقِعَهُ فِي أَقْبَحِ أَنْوَاعِ الْكُفْرِ وَأَفْظَعِهَا . قَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا } إلَخْ أَرْدَفَهُ تَعَالَى بِمَا مَرَّ جَرْيًا عَلَى عَادَةِ الْقُرْآنِ مِنْ شَفْعِ الرَّهْبَةِ بِالرَّغْبَةِ وَعَكْسِهِ تَذْكِيرًا بِالْعَوَاقِبِ وَتَمْيِيزًا لِمَقَامِ الْمُطِيعِ مِنْ الْعَاصِي , وَمُبَالَغَةً فِي الثَّنَاءِ عَلَى ذَلِكَ وَفِي الذَّمِّ لِهَذَا { اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا } أَيْ فِي ذِمَّةِ الْمَدِينِ , وَبَيَّنَ تَعَالَى بِهَذَا مَعَ قَوْلِهِ : { فَلَهُ مَا سَلَفَ } أَنَّ نُزُولَ تَحْرِيمِ الرِّبَا لَا يُحَرِّمُ مَا سَلَفَ أَخْذُهُ قَبْلَ التَّحْرِيمِ , بِخِلَافِ مَا بَقِيَ بَعْدَ التَّحْرِيمِ فَإِنَّهُ يُحَرِّمُهُ فَلَيْسَ لَهُ إلَّا رَأْسُ مَالِهِ فَقَطْ , لِأَنَّهُ لَمَّا كُلِّفَ بِهِ قَبْلَ أَخْذِهِ صَارَ أَخْذُهُ مُحَرَّمًا عَلَيْهِ .(1/186)
وَسَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ أَوْ بَعْضَهُمْ أَوْ بَعْضَ أَهْلِ الطَّائِفِ كَانُوا يُرَابُونَ , فَلَمَّا أَسْلَمُوا عِنْدَ فَتْحِهَا تَخَاصَمُوا فِي الرِّبَا الَّذِي لَمْ يُقْبَضْ , فَنَزَلَتْ آمِرَةً لَهُمْ بِأَخْذِ رُءُوسِ أَمْوَالِهِمْ فَقَطْ . وَقَالَ صلى الله عليه وسلم فِي خُطْبَتِهِ بِعَرَفَةَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ : { أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ تَحْتَ قَدَمِي مَوْضُوعٌ , ثُمَّ قَالَ : وَرِبَا الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ , وَأَوَّلُ رِبًا أَضَعُ مِنْ رِبَانَا رِبَا الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَإِنَّهُ مَوْضُوعٌ كُلُّهُ } . وقوله تعالى : { إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا } أَيْ بِأَنْ لَمْ تَنْتَهُوا عَنْ الرِّبَا { فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ } أَيْ وَمَنْ حَارَبَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ لَا يُفْلِحُ أَبَدًا . ثُمَّ الْمُرَادُ بِذَلِكَ الْحَرْبُ إمَّا فِي الدُّنْيَا , إذْ يَجِبُ عَلَى حُكَّامِ الشَّرِيعَةِ أَنَّهُمْ إذَا عَلِمُوا مِنْ شَخْصٍ تَعَاطِيَ الرِّبَا عَزَّرُوهُ عَلَيْهِ بِالْحَبْسِ وَغَيْرِهِ إلَى أَنْ يَتُوبَ , فَإِنْ كَانَتْ لَهُ شَوْكَةٌ وَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ إلَّا بِنَصَبِ حَرْبٍ وَقِتَالٍ نَصَبُوا لَهُ الْحَرْبَ وَالْقِتَالَ , كَمَا قَاتَلَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه مَانِعِي الزَّكَاةِ .(1/187)
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : مَنْ عَامَلَ بِالرِّبَا اُسْتُتِيبَ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا ضُرِبَتْ عُنُقُهُ , فَيُحْتَمَلُ حَمْلُهُ عَلَى الْمُسْتَحِلِّ وَيُحْتَمَلُ الْإِطْلَاقُ وَهُمَا قَوْلَانِ فِي الْآيَةِ , فَقِيلَ الْإِيذَانُ بِالْحَرْبِ إنَّمَا هُوَ لِلْمُسْتَحِلِّ , وَقِيلَ بَلْ لَهُ وَلِغَيْرِهِ وَالْأَوَّلُ أَنْسَبُ بِنَظْمِ الْآيَةِ إذْ قَوْلُهُ : { إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } أَيْ بِتَحْرِيمِ الرِّبَا { فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا } أَيْ فَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا بِتَحْرِيمِهِ { فَأْذَنُوا } إلَخْ , وَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ بِأَنْ يَخْتِمَ اللَّهُ لَهُ بِسُوءٍ , وَمِنْ ثَمَّ كَانَ اعْتِيَادُ الرِّبَا وَالتَّوَرُّطُ فِيهِ عَلَامَةً عَلَى سُوءِ الْخَاتِمَةِ , إذْ مَنْ حَارَبَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ كَيْفَ يُخْتَمُ لَهُ مَعَ ذَلِكَ بِخَيْرٍ ؟ وَهَلْ مُحَارَبَةُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ لَهُ إلَّا كِنَايَةٌ عَنْ إبْعَادِهِ عَنْ مَوَاطِنِ رَحْمَتِهِ وَإِحْلَالِهِ فِي دَرَكَاتِ شَقَاوَتِهِ { وَإِنْ تُبْتُمْ } أَيْ عَنْ اسْتِحْلَالِهِ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَوْ عَنْ مُعَامَلَتِهِ عَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي { فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ } أَيْ الْغَرِيمَ بِأَخْذِ زِيَادَةٍ مِنْهُ عَلَى رَأْسِ الْمَالِ { وَلَا تُظْلَمُونَ } أَيْ بِنَقْصِكُمْ عَنْ رُءُوسِ أَمْوَالِكُمْ .(1/188)
وَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ قَالَ الْمُرَابُونَ بَلْ نَتُوبُ إلَى اللَّهِ فَإِنَّهُ لَا طَاقَةَ لَنَا بِحَرْبِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ , فَرَضُوا بِرَأْسِ الْمَالِ فَشَكَا الْمَدِينُونَ الْإِعْسَارَ فَأَبَوْا الصَّبْرَ عَلَيْهِمْ فَنَزَلَ : { وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلَى مَيْسَرَةٍ } أَيْ فَيَلْزَمُكُمْ أَنْ تُمْهِلُوهُ إلَى يَسَارِهِ , وَكَذَا يَجِبُ إنْظَارُ الْمُعْسِرِ فِي كُلِّ دَيْنٍ أَخْذًا بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ وَأَخَذَ جَمْعٌ بِهِ , هَذَا مَا يَتَعَلَّقُ بِبَعْضِ هَذِهِ الْآيَاتِ . وَأَمَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِالْآيَةِ الْآخِرَةِ وَهِيَ قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا } إلَخْ ; فَسَبَبُ نُزُولِهَا أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ إذَا كَانَ لَهُ عَلَى غَيْرِهِ مِائَةُ دِرْهَمٍ مَثَلًا إلَى أَجَلٍ وَأَعْسَرَ الْمَدِينُ قَالَ لَهُ زِدْنِي فِي الْمَالِ حَتَّى أَزِيدَ فِي الْأَجَلِ فَرُبَّمَا جَعَلَهُ مِائَتَيْنِ , فَإِذَا حَلَّ الْأَجَلُ الثَّانِي فَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ , وَهَكَذَا إلَى آجَالَ كَثِيرَةٍ فَيَأْخُذُ فِي تِلْكَ الْمِائَةِ أَضْعَافًا , فَلِذَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ } أَيْ بِتَرْكِ الرِّبَا { لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } أَيْ تَظْفَرُونَ بِبُغْيَتِكُمْ , وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ مَنْ لَمْ يَتْرُكْ الرِّبَا لَا يَحْصُلُ لَهُ شَيْءٌ مِنْ الْفَلَاحِ , وَسَبَبُهُ مَا مَرَّ فِي تِلْكَ الْآيَةِ مِنْ أَنَّ اللَّهَ حَارَبَهُ هُوَ وَرَسُولُهُ صلى الله عليه وسلم , وَمَنْ حَارَبَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ كَيْفَ يُتَصَوَّرُ لَهُ فَلَاحٌ ؟ فَفِي هَذِهِ الْآيَةِ أَيْضًا إيمَاءٌ إلَى سُوءِ خَاتِمَتِهِ وَدَوَامِ عُقُوبَتِهِ .(1/189)
وَمِنْ ثَمَّ قَالَ تَعَالَى عَقِبَهَا : { وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ } أَيْ هُيِّئَتْ لَهُمْ بِطَرِيقِ الذَّاتِ وَلِغَيْرِهِمْ بِطَرِيقِ التَّبَعِ , أَوْ الْمُرَادُ أَنَّ أَكْثَرَ دَرَكَاتِهَا أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ فَلَا يُنَافِي أَنَّ بَعْضَ عُصَاةِ الْمُؤْمِنِينَ يَدْخُلُونَهَا , فَفِيهَا إشَارَةٌ إلَى أَنَّ مَنْ بَقِيَ عَلَى الرِّبَا يَكُونُ مَعَ الْكُفَّارِ فِي تِلْكَ النَّارِ الَّتِي أُعِدَّتْ لَهُمْ , لِمَا تَقَرَّرَ مِنْ تِلْكَ الْمُحَارَبَةِ الَّتِي حَصَلَتْ لَهُ وَأَدَّتْ بِهِ إلَى سُوءِ الْخَاتِمَةِ . { فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } . وَتَأَمَّلْ وَصْفَ اللَّهِ تَعَالَى تِلْكَ النَّارَ بِكَوْنِهَا أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ , فَإِنَّ فِيهِ غَايَةَ الْوَعِيدِ وَالزَّجْرِ لِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ الْمُخَاطَبِينَ بِاتِّقَاءِ الْمَعَاصِي إذَا عَلِمُوا بِأَنَّهُمْ مَتَى فَارَقُوا التَّقْوَى دَخَلُوا النَّارَ الْمُعَدَّةَ لِلْكَافِرِينَ , وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي عُقُولِهِمْ عَظَمَةُ عُقُوبَةِ الْكَافِرِينَ انْزَجَرُوا عَنْ الْمَعَاصِي أَتَمَّ الِانْزِجَارِ . فَتَأَمَّلْ عَفَا اللَّهُ عَنَّا وَعَنْك مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَاتِ مِنْ وَعِيدِ آكِلِ الرِّبَا يَظْهَرُ لَك إنْ كَانَ لَك أَدْنَى بَصِيرَةٍ قُبْحُ هَذِهِ الْمَعْصِيَةِ وَمَزِيدُ فُحْشِهَا , وَعَظِيمُ مَا يَتَرَتَّبُ مِنْ الْعُقُوبَاتِ عَلَيْهَا , سِيَّمَا مُحَارَبَةُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ اللَّذَيْنِ لَمْ يَتَرَتَّبَا عَلَى شَيْءٍ مِنْ الْمَعَاصِي إلَّا مُعَادَاةَ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ تَعَالَى الْمُقَارِبَةِ لِفُحْشِ هَذِهِ الْجِنَايَةِ وَقُبْحِهَا .(1/190)
وَإِذَا ظَهَرَ لَك ذَلِكَ رَجَعْت وَتُبْت إلَى اللَّهِ تَعَالَى عَنْ هَذِهِ الْفَاحِشَةِ الْمُهْلِكَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ , وَقَدْ شَرَحَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا طَوَى التَّصْرِيحُ بِهِ فِي تِلْكَ الْآيَاتِ مِنْ تِلْكَ الْعُقُوبَاتِ وَالْقَبَائِحِ الْحَاصِلَةِ لِأَهْلِ الرِّبَا فِي أَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ صَحِيحَةٍ وَغَيْرِهَا أَحْبَبْت هُنَا ذِكْرَ كَثِيرٍ مِنْهَا لِيَتِمَّ لِمَنْ سَمِعَهَا مَعَ مَا مَرَّ الِانْزِجَارُ عَنْهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى . فَمِنْهَا : أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ : { اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ : أَيْ الْمُهْلِكَاتِ , قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا هُنَّ ؟ قَالَ : الشِّرْكُ بِاَللَّهِ , وَالسِّحْرُ , وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلَّا بِالْحَقِّ , وَأَكْلُ الرِّبَا , وَأَكْلُ مَالُ الْيَتِيمِ , وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ , وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ } . وَالنَّسَائِيُّ مُخْتَصَرًا وَمَرَّ فِي بَابِ الصَّلَاةِ مُطَوَّلًا : { رَأَيْت اللَّيْلَةَ رَجُلَيْنِ أَتَيَانِي فَأَخْرَجَانِي إلَى أَرْضٍ مُقَدَّسَةٍ فَانْطَلَقْنَا حَتَّى أَتَيْنَا عَلَى نَهَرٍ مِنْ دَمٍ فِيهِ رَجُلٌ قَائِمٌ وَعَلَى شَطِّ النَّهَرِ رَجُلٌ بَيْنَ يَدَيْهِ حِجَارَةٌ , فَأَقْبَلَ الرَّجُلُ الَّذِي فِي النَّهَرِ فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ رَمَى الرَّجُلَ بِحَجَرٍ فِي فِيهِ فَرَدَّهُ حَيْثُ كَانَ , فَجَعَلَ كُلَّمَا جَاءَ لِيَخْرُجَ رَمَى فِي فِيهِ بِحَجَرٍ فَيَرْجِعُ كَمَا كَانَ . فَقُلْت مَا هَذَا الَّذِي رَأَيْته فِي النَّهَرِ ؟ قَالَ آكِلُ الرِّبَا } .(1/191)
وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ : { لَعَنَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم آكِلَ الرِّبَا وَمُوكِلَهُ } . وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ وَابْنَا خُزَيْمَةَ وَحِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ كُلُّهُمْ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ أَبِيهِ وَلَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ , وَزَادُوا فِيهِ : { وَشَاهِدَيْهِ وَكَاتِبَهُ } . وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ : { لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم آكِلَ الرِّبَا وَمُوكِلَهُ وَكَاتِبَهُ وَشَاهِدَيْهِ وَقَالَ هُمْ سَوَاءٌ } . وَالْبَزَّارُ مِنْ رِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ أَبِي شَيْبَةَ , وَلَا بَأْسَ بِهِ فِي الْمُتَابَعَاتِ : { الْكَبَائِرُ سَبْعٌ أَوَّلُهُنَّ الْإِشْرَاكُ بِاَللَّهِ وَقَتْلُ النَّفْسِ بِغَيْرِ حَقِّهَا وَأَكْلُ الرِّبَا وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ وَفِرَارٌ يَوْمِ الزَّحْفِ وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ وَالِانْتِقَالُ إلَى الْأَعْرَابِ بَعْدَ هِجْرَتِهِ } . وَالْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُد : { لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْوَاشِمَةَ وَالْمُسْتَوْشِمَةَ وَآكِلَ الرِّبَا وَمُوكِلَهُ , وَنَهَى عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ وَكَسْبِ الْبَغِيِّ وَلَعَنَ الْمُصَوِّرِينَ } . وَأَحْمَدُ وَأَبُو يَعْلَى وَابْنَا خُزَيْمَةَ وَحِبَّانَ فِي صَحِيحَيْهِمَا مِنْ رِوَايَةِ الْحَارِثِ وَهُوَ الْأَعْوَرُ , وَاخْتُلِفَ فِيهِ كَمَا مَرَّ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ : { آكِلُ الرِّبَا وَمُوكِلُهُ وَشَاهِدَاهُ وَكَاتِبُهُ إذَا عَلِمُوا بِهِ , وَالْوَاشِمَةُ وَالْمُسْتَوْشِمَةُ لِلْحُسْنِ , وَلَاوِي الصَّدَقَةِ , وَالْمُرْتَدُّ أَعْرَابِيًّا بَعْدَ الْهِجْرَةِ مَلْعُونُونَ عَلَى لِسَانِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم } . وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ .(1/192)
وَاعْتَرَضَ بِأَنَّ فِيهِ وَاهِيًا : { أَرْبَعٌ حَقٌّ عَلَى اللَّهِ أَنْ لَا يُدْخِلَهُمْ الْجَنَّةَ وَلَا يُذِيقَهُمْ نَعِيمَهَا : مُدْمِنُ الْخَمْرِ وَآكِلُ الرِّبَا , وَآكِلُ مَالِ الْيَتِيمِ بِغَيْرِ حَقٍّ , وَالْعَاقُّ لِوَالِدَيْهِ } . وَالْحَاكِمُ وَقَالَ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِهِ وَقَالَ هَذَا إسْنَادٌ صَحِيحٌ وَالْمَتْنُ بِهَذَا مُنْكَرُ الْإِسْنَادِ وَلَا أَعْلَمُهُ إلَّا وَهْمًا وَكَأَنَّهُ دَخَلَ لِبَعْضِ رُوَاتِهِ إسْنَادٌ إلَى إسْنَادٍ : { الرِّبَا ثَلَاثٌ وَسَبْعُونَ بَابًا أَيْسَرُهَا مِثْلُ أَنْ يَنْكِحَ الرَّجُلُ أُمَّهُ } . وَالْبَزَّارُ بِسَنَدٍ رُوَاتُهُ رُوَاةُ الصَّحِيحِ : { الرِّبَا بِضْعٌ وَسَبْعُونَ بَابًا وَالشِّرْكُ مِثْلُ ذَلِكَ } . وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ شَطْرَهُ الْأَوَّلَ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ وَالْبَيْهَقِيُّ : { الرِّبَا سَبْعُونَ بَابًا أَدْنَاهَا الَّذِي يَقَعُ عَلَى أُمِّهِ } , رَوَاهُ بِإِسْنَادٍ لَا بَأْسَ بِهِ ثُمَّ قَالَ غَرِيبٌ بِهَذَا الْإِسْنَادِ , وَإِنَّمَا يُعْرَفُ بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ عَنْ عِكْرِمَةَ يَعْنِي ابْنَ عَمَّارٍ قَالَ : وَعَبْدُ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ هَذَا مُنْكَرُ الْحَدِيثِ . وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : { الدِّرْهَمُ يُصِيبُهُ الرَّجُلُ مِنْ الرِّبَا أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ زَنْيَةً يَزْنِيهَا فِي الْإِسْلَامِ } , وَفِي سَنَدِهِ انْقِطَاعٌ .(1/193)
وَرَوَى ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا وَالْبَغَوِيُّ وَغَيْرُهُمَا مَوْقُوفًا عَلَى عَبْدِ اللَّهِ وَهُوَ الصَّحِيحُ , وَهَذَا الْمَوْقُوفُ فِي حُكْمِ الْمَرْفُوعِ , لِأَنَّ كَوْنَ الدِّرْهَمِ أَعْظَمَ وِزْرًا مِنْ هَذَا الْعَدَدِ الْمَخْصُوصِ مِنْ الزِّنَا لَا يُدْرَكُ إلَّا بِوَحْيٍ فَكَأَنَّهُ سَمِعَهُ مِنْهُ صلى الله عليه وسلم , وَلَفْظُ الْمَوْقُوفِ فِي أَحَدِ طُرُقِهِ . قَالَ عَبْدُ اللَّهِ : { الرِّبَا اثْنَانِ وَسَبْعُونَ حُوبًا أَيْ بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَبِفَتْحِهَا إثْمًا أَصْغَرُهَا حُوبًا كَمَنْ أَتَى أُمَّهُ فِي الْإِسْلَامِ , وَدِرْهَمٌ مِنْ الرِّبَا أَشَدُّ مِنْ بِضْعٍ وَثَلَاثِينَ زَنْيَةً . قَالَ : وَيَأْذَنُ اللَّهُ لِلْبَرِّ وَالْفَاجِرِ بِالْقِيَامِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إلَّا آكِلَ الرِّبَا فَإِنَّهُ لَا يَقُومُ إلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ الْمَسِّ } . وَأَحْمَدُ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ عَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ قَالَ : " لَأَنْ أَزْنِيَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ زَنْيَةً أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ آكُلَ دِرْهَمَ رِبًا يَعْلَمُ اللَّهُ أَنِّي أَكَلْته حِينَ أَكَلْته رِبًا " . وَأَحْمَدُ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ وَالطَّبَرَانِيُّ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ : { دِرْهَمُ رِبًا يَأْكُلُهُ الرَّجُلُ وَهُوَ يَعْلَمُ أَشَدُّ مِنْ سِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ زَنْيَةً } . وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا وَالْبَيْهَقِيُّ : { خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ أَمْرَ الرِّبَا وَعِظَمِ شَأْنِهِ وَقَالَ : إنَّ الدِّرْهَمَ يُصِيبُهُ الرَّجُلُ مِنْ الرِّبَا أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ فِي الْخَطِيئَةِ مِنْ سِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ زَنْيَةً يَزْنِيَهَا الرَّجُلُ وَإِنَّ أَرْبَى الرِّبَا عِرْضُ الرَّجُلِ الْمُسْلِمِ } .(1/194)
وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الصَّغِيرِ وَالْأَوْسَطِ : { مَنْ أَعَانَ ظَالِمًا بِبَاطِلٍ لِيَدْحَضَ بِهِ حَقًّا فَقَدْ بَرِئَ مِنْ ذِمَّةِ اللَّهِ وَذِمَّةِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم . وَمَنْ أَكَلَ دِرْهَمًا مِنْ رِبًا فَهُوَ مِثْلُ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ زَنْيَةً وَمَنْ نَبَتَ لَحْمُهُ مِنْ سُحْتٍ فَالنَّارُ أَوْلَى بِهِ } . وَالْبَيْهَقِيُّ : { إنَّ الرِّبَا نَيِّفٌ وَسَبْعُونَ بَابًا أَهْوَنُهُنَّ بَابًا مِثْلُ مَنْ أَتَى أُمَّهُ فِي الْإِسْلَامِ , وَدِرْهَمٌ مِنْ رِبَا أَشَدُّ مِنْ خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ زَنْيَةً } الْحَدِيثَ . وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ مِنْ رِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ رَاشِدٍ وَقَدْ وُثِّقَ : { الرِّبَا اثْنَانِ وَسَبْعُونَ بَابًا أَدْنَاهَا مِثْلُ إتْيَانِ الرَّجُلِ أُمَّهُ , وَإِنَّ أَرْبَى الرِّبَا اسْتِطَالَةُ الرَّجُلِ فِي عِرْضِ أَخِيهِ } . وَابْنُ مَاجَهْ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَبِي مَعْشَرٍ وَقَدْ وُثِّقَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : { الرِّبَا سَبْعُونَ حُوبًا أَيْسَرُهَا أَنْ يَنْكِحَ الرَّجُلُ أُمَّهُ } . وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ : { نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ تُشْتَرَى الثَّمَرَةُ حَتَّى تَعْظُمَ } . وَقَالَ : { إذَا ظَهَرَ الزِّنَا وَالرِّبَا فِي قَرْيَةٍ فَقَدْ أَحَلُّوا بِأَنْفُسِهِمْ عَذَابَ اللَّهِ } . وَأَبُو يَعْلَى بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه أَنَّهُ ذَكَرَ حَدِيثًا عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ فِيهِ : { مَا ظَهَرَ فِي قَوْمٍ الزِّنَا وَالرِّبَا إلَّا أَحَلُّوا بِأَنْفُسِهِمْ عَذَابَ اللَّهِ } .(1/195)
وَأَحْمَدُ بِإِسْنَادٍ فِيهِ نَظَرٌ : { مَا مِنْ قَوْمٍ يَظْهَرُ فِيهِمْ الرِّبَا إلَّا أُخِذُوا بِالسَّنَةِ , وَمَا مِنْ قَوْمٍ يَظْهَرُ فِيهِمْ الرُّشَا إلَّا أُخِذُوا بِالرُّعْبِ } وَالسَّنَةُ الْعَامُ الْمِقْحَطُ نَزَلَ فِيهِ غَيْثٌ أَمْ لَا . وَأَحْمَدُ فِي حَدِيثٍ , طَوِيلٍ وَابْنُ مَاجَهْ مُخْتَصَرًا وَالْأَصْبَهَانِيّ : { رَأَيْت لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي لَمَّا انْتَهَيْنَا إلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ , فَنَظَرْت فَوْقِي فَإِذَا أَنَا بِرَعْدٍ وَبُرُوقٍ وَقَوَاصِفَ , قَالَ : فَأَتَيْت عَلَى قَوْمٍ بُطُونُهُمْ كَالْبُيُوتِ فِيهَا الْحَيَّاتُ تُرَى مِنْ خَارِجِ بُطُونِهِمْ . قُلْت يَا جِبْرِيلُ مَنْ هَؤُلَاءِ ؟ قَالَ هَؤُلَاءِ أَكَلَةُ الرِّبَا } . وَالْأَصْبَهَانِيّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : { لَمَّا عُرِجَ بِي إلَى السَّمَاءِ نَظَرْت فِي سَمَاءِ الدُّنْيَا فَإِذَا رِجَالٌ بُطُونُهُمْ كَأَمْثَالِ الْبُيُوتِ الْعِظَامِ قَدْ مَالَتْ بُطُونُهُمْ وَهُمْ مُنَضَّدُونَ عَلَى سَابِلَةِ آلِ فِرْعَوْنَ مَوْقُوفُونَ عَلَى النَّارِ كُلَّ غَدَاةٍ وَعَشِيٍّ يَقُولُونَ رَبَّنَا لَا تُقِمْ السَّاعَةَ أَبَدًا , قُلْت يَا جِبْرِيلُ مَنْ هَؤُلَاءِ ؟ قَالَ هَؤُلَاءِ , أَكَلَةُ الرِّبَا مِنْ أُمَّتِك لَا يَقُومُونَ إلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ الْمَسِّ } . قَالَ الْأَصْبَهَانِيُّ : قَوْلُهُ مُنَضَّدُونَ : أَيْ مَطْرُوحُونَ : أَيْ طُرِحَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ , وَالسَّابِلَةُ الْمَارَّةُ : أَيْ يَطَؤُهُمْ آلُ فِرْعَوْنَ الَّذِينَ يُعْرَضُونَ عَلَى النَّارِ كُلَّ غَدَاةٍ وَعَشِيٍّ . وَالطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ : { بَيْنَ يَدَيْ السَّاعَةِ يَظْهَرُ الزِّنَا وَالرِّبَا وَالْخَمْرُ } .(1/196)
وَالطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ لَا بَأْسَ بِهِ عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْوَرَّاقِ قَالَ : { رَأَيْت عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي أَوْفَى رضي الله عنه فِي سُوقِ الصَّيَارِفَةِ فَقَالَ يَا مَعْشَرَ الصَّيَارِفَةِ أَبْشِرُوا , قَالُوا بَشَّرَك اللَّهُ بِالْجَنَّةِ , بِمَ تُبَشِّرُنَا يَا أَبَا مُحَمَّدٍ ؟ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِلصَّيَارِفَةِ أَبْشِرُوا بِالنَّارِ } . وَالطَّبَرَانِيُّ : { إيَّاكَ وَالذُّنُوبَ الَّتِي لَا تُغْفَرُ الْغُلُولُ فَمَنْ غَلَّ شَيْئًا أَتَى بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ , وَأَكْلُ الرِّبَا فَمَنْ أَكَلَ الرِّبَا بُعِثَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَجْنُونًا يَتَخَبَّطُ , ثُمَّ قَرَأَ صلى الله عليه وسلم : { الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ الْمَسِّ } } . وَالْأَصْبَهَانِيّ : { يَأْتِي آكِلُ الرِّبَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُخَبَّلًا : أَيْ مَجْنُونًا يَجُرُّ شِقَّيْهِ , ثُمَّ قَرَأَ : { لَا يَقُومُونَ إلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ الْمَسِّ } } . وَابْنُ مَاجَهْ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ : { مَا أَحَدٌ أَكْثَرُ مِنْ الرِّبَا إلَّا كَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهِ إلَى قِلَّةٍ } , وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ أَيْضًا : { الرِّبَا وَإِنْ كَثُرَ فَإِنَّ عَاقِبَتَهُ إلَى قُلٍّ } . وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ كِلَاهُمَا عَنْ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ , وَاخْتُلِفَ فِي سَمَاعِهِ مِنْهُ وَالْجُمْهُورُ عَلَى عَدَمِهِ : { لَيَأْتِيَنَّ عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ لَا يَبْقَى مِنْهُمْ أَحَدٌ إلَّا أَكَلَ الرِّبَا فَمَنْ لَمْ يَأْكُلْهُ أَصَابَهُ مِنْ غُبَارِهِ } .(1/197)
وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ فِي زَوَائِدِ الْمُسْنَدِ : { وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَيَبِيتَنَّ أُنَاسٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى أَشَرٍ وَبَطَرٍ وَلَهْوٍ وَلَعِبٍ فَيُصْبِحُوا قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ بِاسْتِحْلَالِهِمْ الْمَحَارِمَ وَاِتِّخَاذِهِمْ الْقَيْنَاتِ وَشُرْبِهِمْ الْخَمْرَ وَبِأَكْلِهِمْ الرِّبَا وَلُبْسِهِمْ الْحَرِيرَ } . وَأَحْمَدُ مُخْتَصَرًا وَالْبَيْهَقِيُّ وَاللَّفْظُ لَهُ : { يَبِيتُ قَوْمٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى طُعْمٍ وَشُرْبٍ وَلَهْوٍ وَلَعِبٍ فَيُصْبِحُونَ قَدْ مُسِخُوا قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ , وَلَيُصِيبَنَّهُمْ خَسْفٌ وَقَذْفٌ حَتَّى يُصْبِحَ النَّاسُ فَيَقُولُونَ خُسِفَ اللَّيْلَةَ بِبَيْتِ فُلَانٍ وَخُسِفَ اللَّيْلَةَ بِدَارِ فُلَانٍ , وَلَتُرْسَلَنَّ عَلَيْهِمْ حِجَارَةٌ مِنْ السَّمَاءِ كَمَا أُرْسِلَتْ عَلَى قَوْمِ لُوطٍ عَلَى قَبَائِلَ مِنْهَا وَعَلَى دُورٍ بِشُرْبِهِمْ الْخَمْرَ وَلُبْسِهِمْ الْحَرِيرَ وَاِتِّخَاذِهِمْ الْقَيْنَاتِ وَأَكْلِهِمْ الرِّبَا وَقَطِيعَتِهِمْ الرَّحِمَ } وَخَصْلَةٌ نَسِيَهَا رَاوِيهِ . الْقَيْنَاتُ جَمْعُ قَيْنَةٍ : وَهِيَ الْمُغَنِّيَةُ . تَنْبِيهٌ : عَدُّ الرِّبَا كَبِيرَةً هُوَ مَا أَطْبَقُوا عَلَيْهِ اتِّبَاعًا لِمَا جَاءَ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ مِنْ تَسْمِيَتِهِ كَبِيرَةً بَلْ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ وَأَعْظَمِهَا .(1/198)
وَرَوَى الشَّيْخَانِ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ : { اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ , قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا هُنَّ ؟ قَالَ : الشِّرْكُ بِاَللَّهِ , وَالسِّحْرُ , وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلَّا بِالْحَقِّ , وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ , وَالرِّبَا , وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ , وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ } . وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبَيْهَقِيِّ : { الْكَبَائِرُ تِسْعٌ أَعْظَمُهُنَّ إشْرَاكٌ بِاَللَّهِ وَقَتْلُ نَفْسِ مُؤْمِنٍ وَأَكْلُ الرِّبَا } الْحَدِيثَ . وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبَزَّارِ : وَفِي سَنَدِهَا مَنْ ضَعَّفَهُ شُعْبَةُ وَغَيْرُهُ وَوَثَّقَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَغَيْرُهُ : { الْكَبَائِرُ أَوَّلُهُنَّ الْإِشْرَاكُ بِاَللَّهِ وَقَتْلُ النَّفْسِ بِغَيْرِ حَقِّهَا وَأَكْلُ الرِّبَا وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ } الْحَدِيثَ . وَفِي أُخْرَى لِلطَّبَرَانِيِّ فِي سَنَدِهَا ابْنُ لَهِيعَةَ : { اجْتَنِبُوا الْكَبَائِرَ السَّبْعَ : الشِّرْكَ بِاَللَّهِ , وَقَتْلَ النَّفْسِ , وَالْفِرَارَ مِنْ الزَّحْفِ , وَأَكْلَ مَالِ الْيَتِيمِ , وَأَكْلَ الرِّبَا } الْحَدِيثَ .(1/199)
وَفِي أُخْرَى لِابْنِ مَرْدُوَيْهِ فِي تَفْسِيرِهِ فِي سَنَدِهَا ضَعِيفٌ : { كَتَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَى أَهْلِ الْيَمَنِ كِتَابًا فِيهِ الْفَرَائِضُ وَالسُّنَنُ وَالدِّيَاتُ , وَبَعَثَ بِهِ عَمْرَو بْنَ حَزْمٍ رضي الله عنه , وَكَانَ فِي الْكِتَابِ : إنَّ أَكْبَرَ الْكَبَائِرِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إشْرَاكٌ بِاَللَّهِ , وَقَتْلُ النَّفْسِ الْمُؤْمِنَةِ بِغَيْرِ حَقٍّ , وَالْفِرَارُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَوْمَ الزَّحْفِ , وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ , وَرَمْيُ الْمُحْصَنَةِ وَتَعَلُّمُ السِّحْرِ وَأَكْلُ الرِّبَا , وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ } وَيُسْتَفَادُ مِنْ الْأَحَادِيثِ السَّابِقَةِ أَيْضًا : أَنَّ آكِلَ الرِّبَا وَمُوكِلَهُ وَكَاتِبَهُ وَشَاهِدَهُ وَالسَّاعِيَ فِيهِ وَالْمُعِينَ عَلَيْهِ كُلَّهُمْ فَسَقَةٌ , وَأَنَّ كُلَّ مَالِهِ دَخَلَ فِيهِ كَبِيرَةٌ . وَقَدْ صَرَّحَ بِبَعْضِ ذَلِكَ بَعْضُ أَئِمَّتِنَا وَهُوَ ظَاهِرٌ جَلِيٌّ فَلِذَلِكَ عُدَّتْ تِلْكَ كُلُّهَا كَبَائِرَ .
وفي الفتاوى الهندية :(1/200)
قَالَ رضي الله عنه لَمَّا سَأَلْته أَنَّ مَا يُشْتَرَى مِنْ السُّوقِ وَيُعْلَمُ قَطْعًا أَنَّهُمْ يُبَايِعُونَ الْأَتْرَاكَ وَمِنْ غَالِبِ مَالِهِمْ الْحَرَامِ وَيَجْرِي بَيْنَهُمْ الرِّبَا وَالْعُقُودُ الْفَاسِدَةُ كَيْفَ يَكُونُ فَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ فَكُلُّ عَيْنٍ قَائِمَةٍ يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُمْ أَخَذُوهَا مِنْ الْغَيْرِ بِالظُّلْمِ وَبَاعُوهَا فِي السُّوقِ فَإِنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَشْتَرِيَ ذَلِكَ وَإِنْ تَدَاوَلَتْهَا الْأَيْدِي وَالثَّانِي إنْ عَلِمَ أَنَّ الْمَالَ الْحَرَامَ بِعَيْنِهِ قَائِمٌ إلَّا أَنَّهُ اخْتَلَطَ بِالْغَيْرِ بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُ التَّمْيِيزُ عَنْهُ فَإِنَّ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله تعالى بِالْخَلْطِ يَدْخُلُ فِي مِلْكِهِ إلَّا أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْهُ حَتَّى يَرْضَى الْخَصْمُ بِدَفْعِ الْعِوَضِ فَإِنْ اشْتَرَاهُ يَدْخُلُ فِي مِلْكِهِ مَعَ الْكَرَاهَةِ وَالثَّالِثُ إذَا عَلِمَ أَنَّهُ لَمْ تَبْقَ الْعَيْنُ الْمَغْصُوبَةُ أَوْ الْمَأْخُوذُ بِالرِّبَا وَغَيْرِهِ وَإِنَّمَا بَاعَهَا لِغَيْرِهِ فَإِنَّ الَّذِي يَعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ تَبْقَ تِلْكَ الْعَيْنُ جَازَ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْهُمْ هَذَا كُلُّهُ مِنْ حَيْثُ الْفَتْوَى أَمَّا إذَا كَانَ أَمْكَنَهُ أَنْ لَا يَشْتَرِيَ مِنْهُمْ شَيْئًا كَانَ أَوْلَى أَنْ لَا يَشْتَرِيَ وَلَعَلَّ أَنَّهُ يَتَعَذَّرُ ذَلِكَ فِي بِلَادِ الْعَجَمِ وَسَمِعْت أَنَّ فِي بِلَادِ الْعَرَبِ سُوقًا خَاصًّا يُبَاعُ فِيهِ الْحَلَالُ وَالسُّوقُ الْأَعْظَمُ يُبَاعُ فِيهِ كُلُّ شَيْءٍ فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْ الْحَلَالِ شَيْئًا فَإِنَّهُمْ لَا يَبِيعُونَهُ إلَّا إذَا كَانَ مِمَّنْ يَكُونُ مَالُهُ حَلَالًا فَإِنْ أَرَادَ وَاحِدٌ مِنْ الْعَوَّام أَنْ(1/201)
يُعَامِلَ مَعَهُمْ وَيَشْتَرِيَ وَيَبِيعَ مِنْهُمْ فَإِنَّهُمْ يَأْمُرُونَهُ بِأَنْ يَتَصَدَّقَ بِجَمِيعِ مَالِهِ ثُمَّ يُعْطُوهُ مِنْ الزَّكَاةِ شَيْئًا فَيَأْمُرُونَهُ بِأَنْ يَتَّجِرَ مَعَهُمْ بِذَلِكَ الْمَالِ وَيَكْتُبُونَ اسْمَهُ فِي الْكُتُبِ بِأَنَّ أَصْلَ مَالِهِ مِنْ الزَّكَاةِ أَخَذَهَا مِنْ فُلَانٍ وَفُلَانٍ ثُمَّ يُعَامِلُونَ مَعَهُ وَفِي الْجُمْلَةِ أَنَّ طَلَبَ الْحَلَالِ مِنْ هَذِهِ الْبِلَادِ صَعْبٌ وَقَدْ قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا عَلَيْك بِتَرْكِ الْحَرَامِ الْمَحْضِ فِي هَذَا الزَّمَانِ فَإِنَّك لَا تَجِدُ شَيْئًا لَا شُبْهَةَ فِيهِ كَذَا فِي جَوَاهِرِ الْفَتَاوَى .
وفي مجمع الأنهر :
وَلَوْ تَصَدَّقَ عَلَى فَقِيرٍ شَيْئًا مِنْ الْمَالِ الْحَرَامِ يَرْجُو الثَّوَابَ يَكْفُرُ وَلَوْ عَلِمَ الْفَقِيرُ بِذَلِكَ فَدَعَا لَهُ وَأَمَّنَ الْمُعْطِي كَفَرَا .
وفي بريقة محمودية :
((1/202)
وَفِيهِ ) أَيْ فِي بَيَانِ حُبِّ الدُّنْيَا ( مَقَالَتَانِ الْمَقَالَةُ الْأُولَى فِي ذَمِّهِ وَغَوَائِلِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ } - الْآيَةَ ) { وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ } يَعْنِي أَنَّهَا أُمُورٌ خَيَالِيَّةٌ قَلِيلَةُ النَّفْعِ سَرِيعَةُ الزَّوَالِ أَتْعَابٌ كَتَعْذِيبِ الْحَيَوَانِ وَمَلْعَبَةِ الصِّبْيَانِ فِي عَدَمِ الْفَائِدَةِ , وَلَهْوٌ يَلْهُونَ بِهِ أَنْفُسَهُمْ عَمَّا يُهِمُّهُمْ وَزِينَةٌ كَالْمَلَابِسِ الْحَسَنَةِ الْبَهِيَّةِ وَالْمَنَازِلِ الرَّفِيعَةِ وَتَفَاخُرٌ بِالْأَنْسَابِ وَتَكَاثُرٌ بِالْعَدَدِ فَإِنْ قِيلَ الدُّنْيَا رُبَّمَا تَكُونُ خَيْرًا كَكَوْنِ الْأَمْوَالِ مَصْرُوفَةً إلَى رِضَاهُ وَطَاعَاتِهِ وَكَوْنِ الْأَوْلَادِ مِنْ الْعِبَادَاتِ الْمُتَعَدِّيَةِ وَالْأَعْمَالِ الْغَيْرِ الْمُنْقَطِعَةِ قُلْنَا مُثِّلَ هَذَا بِالْعَوَارِضِ الْخَارِجِيَّةِ وَالْكَلَامِ إذَا خَلَا عَنْ الْعَوَارِضِ وَطَبْعُهُ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ ( ت عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله تعالى عنه أَنَّهُ قَالَ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله تعالى عليه وسلم يَقُولُ { الدُّنْيَا مَلْعُونَةٌ } ) مَطْرُودَةٌ وَمَبْغُوضَةٌ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى , وَقِيلَ مَتْرُوكَةٌ مُبْعَدَةٌ ; لِأَنَّهَا غَرَّتْ النُّفُوسَ بِزَهْرَتِهَا , وَلَذَّتِهَا وَإِمَالَتِهَا عَنْ الْعُبُودِيَّةِ إلَى الْهَوَى حَتَّى سَلَكَتْ غَيْرَ طَرِيقِ الْهُدَى ( { مَلْعُونٌ مَا فِيهَا } ) مِنْ الشَّهَوَاتِ كَحُبِّ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ ( { إلَّا ذِكْرَ اللَّهِ } ) أَيْ كُلَّ شَيْءٍ مُذَكِّرٍ لِلَّهِ تَعَالَى ( { وَمَا وَالَاهُ } ) أَيْ يُحِبُّهُ اللَّهُ(1/203)
فِي الدُّنْيَا وَالْمُوَالَاةُ الْمَحَبَّةُ بَيْنَ الِاثْنَيْنِ , وَقَدْ تَكُونُ مِنْ وَاحِدٍ , وَهُوَ الْمُرَادُ يَعْنِي مَلْعُونٌ مَا فِي الدُّنْيَا إلَّا ذِكْرَ اللَّهِ وَمَا أَحَبَّهُ اللَّهُ مِمَّا يَجْرِي فِي الدُّنْيَا وَمَا سِوَاهُ مَلْعُونٌ ( { , وَعَالِمًا أَوْ مُتَعَلِّمًا } ) فَإِنَّ هَذِهِ مُسْتَثْنَيَاتٌ مِنْ أَعْمَالِ الْآخِرَةِ , وَفِي عَطْفِ عَالِمًا أَوْ مُتَعَلِّمًا بَعْدَ دُخُولِهِمَا فِي مَا وَالَاهُ عَلَى طَرِيقِ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ تَنْبِيهٌ عَلَى شَرَفِ الْعِلْمِ وَالتَّعْلِيمِ وَتَفْخِيمِ شَأْنِهِمَا , وَإِيذَانٌ بِأَنَّ جَمِيعَ النَّاسِ سِوَاهُمَا هَمَجٌ , وَفِيهِ تَنْبِيهٌ أَيْضًا عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى هُنَا جَامِعُوا الْعِلْمَ وَالْعَمَلَ , وَفِيهِ أَيْضًا أَنَّ ذِكْرَ اللَّهِ أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ وَرَأْسُ كُلِّ الْعِبَادَةِ وَالْحَدِيثُ مِنْ كُنُوزِ الْحِكَمِ وَجَوَامِعِ الْكَلِمِ لِدَلَالَتِهِ بِالْمَنْطُوقِ عَلَى جَمِيعِ الْخِصَالِ الْحَمِيدَةِ وَبِالْمَفْهُومِ عَلَى رَذَائِلِهَا الْقَبِيحَةِ .(1/204)
وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ الدُّنْيَا كُلُّهَا مَتَاعٌ , وَهُوَ مَا لَيْسَ لَهُ بَقَاءٌ ; لِأَنَّ مَا خُلِقَ فِيهَا يُسْتَمْتَعُ بِهِ مَعَ حَقَارَتِهِ أَمَدًا قَلِيلًا ثُمَّ يَنْقَضِي وَخَيْرُ مَتَاعِهَا الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ فِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الِاسْتِمْتَاعَاتِ الدُّنْيَوِيَّةَ حَقِيرَةٌ , وَأَنَّهَا أَطْيَبُ حَلَالٍ فِي الدُّنْيَا لِحِفْظِهَا زَوْجَهَا مِنْ الْحَرَامِ , وَإِعَانَتِهَا عَلَى الْقِيَامِ بِالْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ ; وَلِكَوْنِهَا سَبَبًا لِلذَّرَارِيِّ الَّتِي هِيَ فِي حُكْمِ الْحَيَاةِ الْأَبَدِيَّةِ , وَفِيهِ تَنْبِيهٌ أَنَّهَا لَوْ لَمْ تَكُنْ صَالِحَةً كَانَتْ شَرَّ مَتَاعٍ , وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ { حُبِّبَ إلَيَّ مِنْ دُنْيَاكُمْ النِّسَاءُ وَالطِّيبُ } , وَأَيْضًا { الدُّنْيَا مَلْعُونَةٌ مَلْعُونٌ مَا فِيهَا إلَّا مَا كَانَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ } , وَأَيْضًا فِيهِ { الدُّنْيَا مَلْعُونَةٌ مَلْعُونٌ مَا فِيهَا إلَّا أَمْرًا بِمَعْرُوفٍ أَوْ نَهْيًا عَنْ مُنْكَرٍ أَوْ ذِكْرَ اللَّهِ } , وَأَيْضًا { الدُّنْيَا مَلْعُونَةٌ مَلْعُونٌ مَا فِيهَا إلَّا مَا اُبْتُغِيَ بِهِ وَجْهُ اللَّهِ تَعَالَى } قَدْ أَعْلَمَ بِهَذَا الْحَدِيثِ وَالْأَرْبَعَةِ قَبْلَهُ أَنَّ الدُّنْيَا مَبْغُوضَةٌ إلَيْهِ تَعَالَى إلَّا مَا فِيهِ دَرْءُ مَفْسَدَةٍ أَوْ جَلْبُ مَنْفَعَةٍ فَالْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ يَنْدَفِعُ بِهَا مَفْسَدَةُ الزِّنَا , وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ جِمَاعُ الْمَنَافِعِ , وَالذِّكْرُ جِمَاعُ الْعِبَادَةِ وَمَنْشُورُ الْوِلَايَةِ وَالْكُلُّ يُبْتَغَى بِهِ وَجْهُ اللَّهِ تَعَالَى , وَفِيهَا حُجَّةٌ لِمَنْ فَضَّلَ الْفَقْرَ عَلَى الْغِنَى قَالُوا ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَعَنَهَا , وَأَبْغَضَهَا إلَّا مَا كَانَ لَهُ فِيهَا وَمَنْ(1/205)
أَحَبَّ مَا لَعَنَهُ اللَّهُ تَعَالَى , وَأَبْغَضَهُ فَقَدْ تَعَرَّضَ لِلَعْنَتِهِ وَغَضَبِهِ كَذَا فِي الْفَيْضِ لَا يَخْفَى أَنَّ مَنْ فَضَّلَ الْغَنِيَّ عَلَى الْفَقِيرِ بِاعْتِبَارِ كَوْنِ الْغَنِيِّ شَاكِرًا وَمِنْ جُمْلَةِ شُكْرِهِ جَعْلُ الدُّنْيَا وَسِيلَةً لِلْآخِرَةِ بِنَحْوِ الصَّدَقَةِ وَالصَّرْفِ إلَى وُجُوهِ الْخَيْرِ فَحِينَئِذٍ يَدْخُلُ فِي الْمُسْتَثْنَى فَلَا يَصْلُحُ حُجَّةً لَهُمْ قَالَ فِي شَرْحِ الْحِكَمِ , وَقِيلَ { أَوْحَى اللَّهُ إلَى الدُّنْيَا أَنْ تَضَيَّقِي وَتَشَدَّدِي عَلَى أَوْلِيَائِي وَتَرَفَّهِي وَتَوَسَّعِي عَلَى أَعْدَائِي حَتَّى يَشْتَغِلُوا بِك عَنِّي فَلَا يَتَفَرَّغُوا لِذِكْرِي } , وَقَدْ سَمِعْت حَدِيثَ { يَا دُنْيَا اُخْدُمِي مَنْ خَدَمَنِي , وَأَتْعِبِي مَنْ خَدَمَك } . وَأَنْشَدَ أَبُو الثَّعَالِي شِعْرًا تَنَحَّ عَنْ الدُّنْيَا فَلَا تَخْطُبَنَّهَا وَلَا يَخْطُبَنَّ قِتَالَهُ مَنْ يُنَاكِحُ فَلَيْسَ يَفِي مَرْجُوُّهَا بِمَخُوفِهَا وَمَكْرُوهُهَا إمَّا تَأَمَّلْتَ رَاجِحُ ( وَقَالَ أَبُو الْعَتَاهِيَةِ ) هِيَ الدَّارُ دَارُ الْأَذَى وَالْقَذَى وَدَارُ الْفَنَاءِ وَدَارُ الْعِبَرْ , وَلَوْ نُلْتَهَا بِحَذَافِيرِهَا لَمِتَّ وَلَمْ تَكُ تَقْضِي الْوَطَرْ أَيَا مَنْ يُؤَمِّلُ طُولَ الْبَقَاءِ وَطُولُ الْخُلُودِ عَلَيْهِ ضَرَرْ إذَا مَا كَبِرْتَ وَبَانَ الشَّبَابُ فَلَا خَيْرَ فِي الْعَيْشِ بَعْدَ الْكِبَرْ .(1/206)
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ دَارُ الدُّنْيَا كَأَحْلَامِ الْمَنَامِ وَسُرُورُهَا كَظِلِّ الْغَمَامِ وَأَحْدَاثُهَا كَصَوَائِبِ السِّهَامِ وَشَهَوَاتُهَا كَمَشُوبِ خَلْطِ السِّمَامِ وَفِتْنَتُهَا كَأَمْوَاجِ الْطَوَامِّ ( ت عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ رضي الله تعالى عنه أَنَّهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله تعالى عليه وسلم { لَوْ كَانَتْ الدُّنْيَا تَعْدِلُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ } ) مَثَلٌ لِزِيَادَةِ الْقِلَّةِ وَغَايَةِ الْحَقَارَةِ ( { مَا سَقَى كَافِرًا مِنْهَا شَرْبَةَ مَاءٍ } ) أَيْ لَا يُمَتِّعُهُ أَدْنَى تَمَتُّعٍ هَذَا أَعْدَلُ شَاهِدٍ عَلَى حَقَارَةِ الدُّنْيَا قَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ : أَدْنَى عَلَامَاتِ الْفَقِيرِ لَوْ كَانَتْ الدُّنْيَا بِأَسْرِهَا لِوَاحِدٍ فَأَنْفَقَهَا فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ ثُمَّ خَطَرَ لَهُ أَنْ يُمْسِكَ مِنْهَا مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ لَمْ يَصْدُقْ عَلَيْهِ مَاهِيَّةُ الْفَقِيرِ , وَقَالَ عَلِيٌّ رضي الله تعالى عنه وَاَللَّهِ لَدُنْيَاكُمْ عِنْدِي أَهْوَنُ مِنْ عِرْقِ خِنْزِيرٍ فِي يَدِ مَجْذُومٍ , وَقَدْ قِيلَ وَمَنْ سَرَّهُ أَنْ لَا يَرَى مَا يَسُوءُهُ فَلَا يَتَّخِذْ شَيْئًا يَخَافُ لَهُ فَقْدًا . ((1/207)
دُنْيَا ) ابْنِ أَبِي الدُّنْيَا ( عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّهُ قَالَ صلى الله تعالى عليه وسلم { لَا يُصِيبُ عَبْدٌ مِنْ الدُّنْيَا شَيْئًا } ) , وَلَوْ أَقَلَّ قَلِيلٍ فَإِنَّ التَّنْوِينَ لِلتَّقْلِيلِ وَالتَّحْقِيرِ بِقَرِينَةِ الْمَقَامِ ( { إلَّا نُقِصَ } ) بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ ( { مِنْ دَرَجَاتِهِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى } ) لَفْظَةُ مِنْ لِلتَّبْعِيضِ ( { , وَإِنْ كَانَ } ) ذَلِكَ الْعَبْدُ قَبْلَ الْإِصَابَةِ ( { عَلَيْهِ } ) أَيْ عَلَى اللَّهِ ( { كَرِيمًا } ) مُكْرَمًا مَحْبُوبًا لَعَلَّ ذَلِكَ عِنْدَ عَدَمِ صَرْفِ مَا أَصَابَهُ إلَى رِضَاهُ تَعَالَى بَلْ يَتَلَذَّذُ بِمُبَاحَاتِهِ , وَقِيلَ هِيَ الدُّنْيَا أَقَلُّ مِنْ الْقَلِيلِ , وَعَاشِقُهَا أَذَلُّ مِنْ الذَّلِيلِ تَصُمُّ بِسِحْرِهَا قَوْمًا وَتُعْمِي فَهُمْ مُتَحَيِّرُونَ بِلَا دَلِيلِ ( حَدّ ) أَحْمَدُ ( ز ) الْبَزَّارُ ( حب ) ابْنُ حِبَّانَ ( حك ) الْحَاكِمُ ( هق ) الْبَيْهَقِيُّ ( عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله تعالى عليه وسلم قَالَ { مَنْ أَحَبَّ دُنْيَاهُ أَضَرَّ بِآخِرَتِهِ } ) ; لِأَنَّ قَاعِدَةَ الْمَحَبَّةِ تَقْتَضِي اسْتِحْصَالَ شَهَوَاتِهَا وَالتَّوَجُّهَ إلَى مُيُولَاتِهَا فَلَا يَتَفَرَّغُ لِعَمَلِ الْآخِرَةِ وَمَنْ نَظَرَ إلَى فَنَاءِ الدُّنْيَا وَحِسَابِ حَلَالِهَا , وَعَذَابِ حَرَامِهَا وَشَاهَدَ بِنُورِ إيمَانِهِ جَمَالَ الْآخِرَةِ أَضَرَّ بِنَفْسِهِ فِي دُنْيَاهُ بِتَحَمُّلِ مَشَاقِّ الْعِبَادَاتِ وَتَجَنُّبِ الشَّهَوَاتِ فَصَبَرَ قَلِيلًا وَتَنَعَّمَ طَوِيلًا ; وَلِأَنَّ مَنْ أَحَبَّ دُنْيَاهُ شَغَلَتْهُ عَنْ تَفْرِيغِ قَلْبِهِ لِحُبِّ رَبِّهِ ; وَلِسَانِهِ لِذِكْرِهِ فَتَضُرُّ بِآخِرَتِهِ , وَلَا بُدَّ كَمَا أَنَّ مَحَبَّةَ(1/208)
الْآخِرَةِ تَضُرُّ بِالدُّنْيَا . وَلَا بُدَّ كَمَا قَالَ ( وَمَنْ أَحَبَّ آخِرَتَهُ ) بِتَحَمُّلِ مَا يَنْفَعُهُ فِيهَا ( أَضَرَّ بِدُنْيَاهُ ) أَيْ هُمَا كَكِفَّتَيْ الْمِيزَانِ فَإِذَا رَجَحَتْ إحْدَاهُمَا خَفَّتْ الْأُخْرَى وَكَالْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمُحَالٌ أَنْ يَظْفَرَ سَالِكُ طَرِيقِ الشَّرْقِ بِمَا يُوجَدُ فِي الْغَرْبِ وَكَالضَّرَّتَيْنِ إذَا رَضِيَتْ إحْدَاهُمَا سَخِطَتْ الْأُخْرَى فَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا لَا يَكَادُ يَكُونُ إلَّا لِمَنْ سَخَّرَهُ اللَّهُ لِتَدْبِيرِ خَلْقِهِ فِي مَعَاشِهِمْ وَمَعَادِهِمْ , وَهُمْ الْأَنْبِيَاءُ عليهم الصلاة والسلام . ( { فَآثِرْ } ) أَنْتَ ( { مَا يَبْقَى عَلَى مَا يَفْنَى } ) وَمَنْ أَحَبَّهَا صَيَّرَهَا غَايَتَهُ وَتَوَسَّلَ إلَيْهَا بِالْأَعْمَالِ الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ وَسَائِلَ إلَيْهِ , وَإِلَى الْآخِرَةِ فَعَكَسَ الْأَمْرَ , وَقَلَّتْ الْحِكْمَةُ فَانْتَكَسَ قَلْبُهُ , وَعَكَسَ قَضِيَّتَهُ إلَى وَرَائِهِ , وَهَذَا سِرٌّ مَنْكُوسٍ , وَقَلْبٌ مَعْكُوسٍ , وَقَالَ عَلِيٌّ رضي الله عنه الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ كَالْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ إذَا قَرَبْت مِنْ إحْدَاهُمَا بَعُدْت مِنْ الْأُخْرَى , وَفِي الْحَدِيثِ { فَكُونُوا أَبْنَاءَ الْآخِرَةِ , وَلَا تَكُونُوا أَبْنَاءَ الدُّنْيَا } , وَعَنْ فُضَيْلٍ رحمه الله لَوْ كَانَتْ الدُّنْيَا مِنْ ذَهَبٍ يَفْنَى وَالْآخِرَةُ مِنْ خَزَفٍ يَبْقَى لَكَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَخْتَارَ خَزَفًا يَبْقَى فَكَيْفَ نَخْتَارُ خَزَفًا يَفْنَى عَلَى ذَهَبٍ يَبْقَى . وَقَالَ صلى الله تعالى عليه وسلم { مَثَلُ صَاحِبِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ الْمَاشِي عَلَى الْمَاءِ هَلْ يَسْتَطِيعُ أَنْ لَا يَبْتَلَّ قَدَمَاهُ فَكُلُّ مَا أَلْهَاك عَنْ مَوْلَاك فَهُوَ دُنْيَاك } .(1/209)
وَقَالَ عليه الصلاة والسلام { إذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدٍ خَيْرًا زَهَّدَهُ فِي الدُّنْيَا وَرَغَّبَهُ فِي الْآخِرَةِ وَبَصَّرَهُ بِعُيُوبِ نَفْسِهِ } , وَقَالَ عليه الصلاة والسلام { ازْهَدْ فِي الدُّنْيَا يُحِبُّك اللَّهُ وَازْهَدْ فِيمَا فِي أَيْدِي النَّاسِ يُحِبُّك النَّاسُ } . ( هق ) الْبَيْهَقِيُّ ( عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه أَنَّهُ صلى الله تعالى عليه وسلم قَالَ { هَلْ مِنْ أَحَدٍ يَمْشِي عَلَى الْمَاءِ إلَّا ابْتَلَّتْ قَدَمَاهُ قَالُوا لَا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ كَذَلِكَ صَاحِبُ الدُّنْيَا لَا يَسْلَمُ مِنْ الذُّنُوبِ } ) لِإِفْضَائِهَا إلَيْهَا وَرُوِيَ عَنْهُ عليه الصلاة والسلام { لَا يَسْتَقِيمُ حُبُّ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فِي قَلْبِ مُؤْمِنٍ كَمَا لَا يَسْتَقِيمُ الْمَاءُ وَالنَّارُ فِي إنَاءٍ وَاحِدٍ } , وَعَنْ الْإِحْيَاءِ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ رضي الله تعالى عنه { لَمَّا بُعِثَ مُحَمَّدٌ عليه الصلاة والسلام أَتَتْ إبْلِيسَ جُنُودُهُ فَقَالُوا قَدْ بُعِثَ نَبِيٌّ وَأُخْرِجَتْ أُمَّةٌ قَالَ أَيُحِبُّونَ الدُّنْيَا قَالُوا نَعَمْ قَالَ لَئِنْ كَانُوا يُحِبُّونَهَا مَا أُبَالِي أَنْ لَا يَعْبُدُوا الْأَوْثَانَ , وَأَنَا أَغْدُو عَلَيْهِمْ , وَأَرُوحُ بِثَلَاثٍ أَخْذِ الْمَالِ مِنْ غَيْرِ حَقِّهِ , وَإِنْفَاقِهِ فِي غَيْرِ حَقِّهِ , وَإِمْسَاكِهِ , وَالشَّرُّ كُلُّهُ تَبَعٌ لِذَلِكَ } . ((1/210)
حَدّ ) أَحْمَدُ ( عَنْ عَائِشَةَ رضي الله تعالى عنها ) , وَعَنْ أَبَوَيْهَا ( أَنَّهُ قَالَ صلى الله تعالى عليه وسلم { الدُّنْيَا دَارُ مَنْ لَا دَارَ لَهُ } ) لَمَّا كَانَ الْقَصْدُ الْأَوَّلُ مِنْ الدَّارِ الْإِقَامَةَ مَعَ عَيْشٍ أَبَدِيٍّ وَالدُّنْيَا بِخِلَافِهِ لَمْ تَسْتَحِقَّ أَنْ تُسَمَّى دَارًا فَمَنْ دَارُهُ الدُّنْيَا فَلَا دَارَ لَهُ قَالَ عِيسَى مَنْ ذَا الَّذِي يَبْنِي عَلَى الْمَوْجِ دَارًا تِلْكُمْ الدَّارُ فَلَا تَتَّخِذُوهَا قَرَارًا , وَفِي رِوَايَةِ الْجَامِعِ زِيدَ هُنَا قَوْلُهُ { وَمَالُ مَنْ لَا مَالَ لَهُ } ; لِأَنَّ الْقَصْدَ مِنْ الْمَالِ الْإِنْفَاقُ فِي وُجُوهِ الْقُرَبِ فَمَنْ أَتْلَفَهُ فِي شَهَوَاتِهِ فَحَقِيقٌ بِأَنْ يُقَالَ لَا مَالَ لَهُ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ , وَلِذَلِكَ قُدِّمَ الظَّرْفُ عَلَى عَامِلِهِ فِي قَوْلِهِ ( { , وَلَهَا يَجْمَعُ مَنْ لَا عَقْلَ لَهُ } ) لِغَفْلَتِهِ عَمَّا يُهِمُّهُ فِي الْآخِرَةِ وَيُرَادُ مِنْهُ فِي الدُّنْيَا وَالْعَاقِلُ إنَّمَا يَجْمَعُ لِلْآخِرَةِ وَيَتَزَوَّدُ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى قَالَ فِي الْحِكَمِ لَا بُدَّ لِبِنَاءِ هَذَا الْوُجُودِ أَنْ تَنْهَدِمَ دَعَائِمُهُ , وَأَنْ تُسْلَبَ كَرَائِمُهُ فَالْعَاقِلُ مَنْ كَانَ بِمَا هُوَ يَبْقَى أَفْرَحَ مِنْهُ بِمَا هُوَ يَفْنَى , وَأَنْشَدَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا أَيَا فُرْقَةَ الْأَحْبَابِ لَا بُدَّ لِي مِنْك وَيَا دَارَ دُنْيَا إنَّنِي رَاحِلٌ عَنْك وَيَا قِصَرَ الْأَيَّامِ مَا لِي وَلِلْمُنَى وَيَا سَكَرَاتِ الْمَوْتِ مَا لِي وَلِلضَّحِكِ وَمَا لِي لَا أَبْكِي لِنَفْسِي بِعَبْرَةٍ إذَا كُنْت لَا أَبْكِي لِنَفْسِي فَمَنْ أَبْكِي أَلَا أَيُّ حَيٍّ لَيْسَ بِالْمَوْتِ مُوقِنًا , وَأَيُّ يَقِينٍ مِنْهُ أَشْبَهُ(1/211)
بِالشَّكِّ . وَعَنْ عِيسَى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام يَا طَالِبَ الدُّنْيَا لِتَبَرَّ بِهَا تَرْكُهَا أَبَرُّ , وَقَالَ عليه الصلاة والسلام { إذَا طَلَبْتُمْ مِنْ الدُّنْيَا شَيْئًا تَعَسَّرَ عَلَيْكُمْ , وَإِذَا طَلَبْتُمْ مِنْ الْآخِرَةِ تَيَسَّرَ لَكُمْ } بَيْتٌ فَارِسِيٌّ بد نيادل نه بندد هركه مرداست كه دُنْيَا سرتسر اندوه ودردست بكورستان نظركن تأبيني كه دُنْيَا همنشينان راجه كردست . ( هق ) الْبَيْهَقِيُّ ( دُنْيَا ) ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا ( عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ ) مُرْسَلًا ( أَنَّهُ قَالَ صلى الله تعالى عليه وسلم { حُبُّ الدُّنْيَا رَأْسُ كُلِّ خَطِيئَةٍ } ) بِشَهَادَةِ التَّجْرِبَةِ فَإِنَّ حُبَّهَا يَدْعُو إلَى كُلِّ خَطِيئَةٍ سِيَّمَا مَا يَتَوَقَّفُ تَحْصِيلُهُ عَلَيْهَا فَيُسْكِرُ عَاشِقَهَا حُبُّهَا عَنْ عِلْمِهِ بِتِلْكَ الْخَطِيئَةِ وَقُبْحِهَا , وَعَنْ كَرَاهَتِهَا وَاجْتِنَابِهَا وَحُبُّهَا يُوقِعُ فِي الشُّبُهَاتِ ثُمَّ فِي الْمَكْرُوهِ ثُمَّ فِي الْحَرَامِ بَلْ كَفَّرَ جَمِيعُ الْأُمَمِ الْمُكَذِّبِينَ رُسُلَهُمْ لِحُبِّ الدُّنْيَا فَأَصْلُ كُلِّ خَطِيئَةٍ فِي الْعَالَمِ هُوَ حُبُّ الدُّنْيَا فَشَرُّ إبْلِيسَ لِحُبِّ الرِّيَاسَةِ الَّتِي هِيَ شَرٌّ مِنْ حُبِّ الدُّنْيَا وَمِنْ ثَمَّةَ قِيلَ الدُّنْيَا خَمْرُ الشَّيْطَانِ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهَا لَمْ يُفِقْ مِنْ سَكْرَتِهَا إلَّا فِي عَسْكَرِ الْمَوْتَى خَاسِرًا نَادِمًا , وَفِي الْإِحْيَاءِ { مَرَّ مُوسَى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام بِرَجُلٍ , وَهُوَ يَبْكِي وَرَجَعَ , وَهُوَ يَبْكِي , وَقَالَ يَا رَبِّ عَبْدُك يَبْكِي مِنْ مَخَافَتِك فَقَالَ تَعَالَى يَا ابْنَ عِمْرَانَ لَوْ نَزَلَ دِمَاغُهُ عَلَى دُمُوعِهِ وَرَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى يَسْقُطَ لَمْ أَغْفِرْ لَهُ , وَهُوَ يُحِبُّ الدُّنْيَا } . ((1/212)
تَنْبِيهٌ ) أَخَذَ بَعْضٌ مِنْ الْحَدِيثِ أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُؤْخَذَ الْعِلْمُ إلَّا عَنْ أَقَلِّ النَّاسِ رَغْبَةً فِي الدُّنْيَا فَإِنَّهُ أَنْوَرُ قَلْبًا فَكَيْفَ يُؤْخَذُ عِلْمٌ عَمَّنْ جَمَعَ رَأْسَ خَطِيئَاتِ الْوُجُودِ وَكَيْفَ , وَهُوَ الْمَانِعُ مِنْ دُخُولِ حَضْرَةِ اللَّهِ وَحَضْرَةِ الرَّسُولِ فَإِنَّ مَنْ لَمْ يَتَخَلَّقْ بِأَخْلَاقِ صَاحِبِ الْكَلَامِ لَا يُمْكِنُهُ دُخُولُ حَضْرَتِهِ , وَعَنْ نَصْرَانِيٍّ يَقُولُ لِفَقِيهٍ كَيْفَ يَزْعُمُ عُلَمَاؤُكُمْ وِرَاثَةَ نَبِيِّهِمْ , وَهُمْ يَرْغَبُونَ فِيمَا زَهِدَ رُهْبَانُنَا قَالَ كَيْفَ ; لِأَنَّهُمْ يَأْخُذُونَ فِي إقَامَةِ شِعَارِ دِينِهِمْ مِنْ تَدْرِيسٍ وَخَطَابَةٍ , وَإِمَامَةٍ عَرَضَ الدُّنْيَا وَرُهْبَانُنَا جَمِيعًا يَقُومُونَ بِأَمْرِ دِينِنَا مَجَّانًا فَانْظُرْ قُوَّةَ يَقِينِ أَصْحَابِنَا وَضَعْفَ يَقِينِ أَصْحَابِكُمْ فَلَوْ صَدَّقُوا رَبَّهُمْ أَنَّ مَا عِنْدَهُ خَيْرٌ , وَأَبْقَى لَزَهِدُوا فِي الدُّنْيَا كَنَبِيِّهِمْ كَذَا فِي الْفَيْضِ , وَقَالَ فِي شَرْحِ الْحِكَمِ عَنْ وَهْبٍ صَحِبَ رَجُلٌ بَعْضَ الرُّهْبَانِ سَبْعَةَ أَيَّامٍ لِلِاسْتِفَادَةِ فَوَجَدَهُ مَشْغُولًا عَنْهُ بِذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى ثُمَّ الْتَفَتَ فِي السَّابِعِ فَقَالَ يَا هَذَا عَلِمْت مَا تُرِيدُ حُبُّ الدُّنْيَا رَأْسُ كُلِّ خَطِيئَةٍ , وَالزُّهْدُ فِي الدُّنْيَا رَأْسُ كُلِّ خَيْرٍ , وَالتَّوْفِيقُ نَجَاحُ كُلِّ بَرٍّ قَالَ وَكَيْفَ أَعْرِفُ ذَلِكَ ؟ .(1/213)
قَالَ جَدِّي مِنْ الْحُكَمَاءِ شَبَّهَ الدُّنْيَا بِسَبْعَةٍ شَبَّهَهَا بِالْمَاءِ الْمَالِحِ يَغُرُّ , وَلَا يَرْوِي وَيَضُرُّ , وَلَا يَنْفَعُ وَبِظِلِّ الْغَمَامِ يَغُرُّ وَيَخْذُلُ وَبِالْبَرْقِ الْخُلَّبِ يَضُرُّ , وَلَا يَنْفَعُ وَبِسَحَابِ الصَّيْفِ يَغُرُّ وَلَا يَنْفَعُ , وَبِزَهْرِ الرَّبِيعِ يَغُرُّ بِنَضْرَتِهِ ثُمَّ يَصْفَرُّ فَتَرَاهُ هَشِيمًا وَبِأَحْلَامِ النَّائِمِ يَرَى السُّرُورَ فِي مَنَامِهِ فَإِذَا اسْتَيْقَظَ لَمْ يَجِدْ إلَّا الْحَسْرَةَ وَبِالْعَسَلِ الْمَشُوبِ بِالسُّمِّ الزُّعَافِ يَضُرُّ وَيَقْتُلُ فَتَدَبَّرْت السَّبْعَةَ سَبْعِينَ مَرَّةً ثُمَّ زِدْت حَرْفًا وَاحِدًا فَشَبَّهْتهَا بِالْغُولِ الَّتِي تُهْلِكُ مَنْ أَجَابَهَا وَتَتْرُكُ مَنْ أَعْرَضَ عَنْهَا ثُمَّ عَنْ الْبَيْهَقِيّ هَذَا الْحَدِيثُ لَيْسَ لَهُ أَصْلٌ إلَّا مِنْ مَرَاسِيلِ الْحَسَنِ , وَعَنْ الْعِرَاقِيِّ مَرَاسِيلُ الْحَسَنِ شِبْهُ الرِّيحِ , وَقَالُوا مَرَاسِيلُهُ لَيْسَتْ بِشَيْءٍ عِنْدَهُمْ .(1/214)
وَفِي شَرْحِ الْأَلْفِيَّةِ أَنَّهُ مَوْضُوعٌ بَلْ مِنْ كَلَامِ مَالِكِ بْنِ دِينَارٍ كَمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ أَبِي الدُّنْيَا أَوْ مِنْ كَلَامِ عِيسَى عليه الصلاة والسلام كَمَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ أَوْ مِنْ كَلَامِ جُنْدَبٍ الْبَجَلِيِّ كَمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ تَيْمِيَّةَ , وَعَدَّهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ مِنْ الْمَوْضُوعَاتِ كَابْنِ تَيْمِيَّةَ وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ حَجَرٍ بِأَنَّ مَرَاسِيلَ الْحَسَنِ حَسَنٌ , وَأَوْرَدَهُ الدَّيْلَمِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ قَالَ عَلِيٌّ الْقَارِيّ أَقُولُ الْقَائِلُ بِوَضْعِهِ لَمْ يُصَرِّحْ بِإِسْنَادِهِ وَالْأَسَانِيدُ مُخْتَلِفَةٌ وَالْمُرْسَلُ حُجَّةٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ إذَا صَحَّ إسْنَادُهُ ; وَلِذَا عَنْ ابْنِ الْمَدَائِنِيِّ مَرَاسِيلُ الْحَسَنِ إذَا رَوَاهَا الثِّقَاتُ صِحَاحٌ , وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي مَرَاسِيلِهِ ضَعِيفٌ فَالِاعْتِمَادُ عَلَى عِمَادِ الْإِسْنَادِ . ((1/215)
هق دُنْيَا مُوسَى بْنُ يَسَارٍ رضي الله عنه ) , وَهُوَ تَابِعِيٌّ فَمُرْسَلٌ , وَأَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ لَكِنْ فِي سَنَدِهِ دَاوُد بْنُ الْخَيْرِ ضَعِيفٌ كَذَا نُقِلَ عَنْ الْمَوَاهِبِ , وَفِي الْفَيْضِ عَنْ الذَّهَبِيِّ أَنَّهُ ضَعِيفٌ أَوْ مَتْرُوكٌ أَوْ مَوْضُوعٌ ( أَنَّهُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله تعالى عليه وسلم { إنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَخْلُقْ خَلْقًا } ) هُوَ ( { أَبْغَضُ إلَيْهِ مِنْ الدُّنْيَا } ) , وَإِنَّمَا أَسْكَنَ فِيهَا عِبَادَهُ - { لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا } - وَمَا نَظَرَ إلَيْهَا أَيْ نَظَرَ رِضًا ( { , وَأَنَّهُ مُنْذُ خَلَقَهَا } ) كَمَا فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ ( { لَمْ يَنْظُرْ إلَيْهَا } ) بُغْضًا لَهَا ; لِأَنَّ أَبْغَضَ الْخَلْقِ إلَى اللَّهِ مَنْ آذَى أَوْلِيَاءَهُ وَشَغَلَ أَحْبَابَهُ وَصَرَفَ وُجُوهَ عِبَادِهِ عَنْهُ وَحَالَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ السَّيْرِ إلَيْهِ وَالْإِقْبَالِ عَلَيْهِ وَالدُّنْيَا مَبْغُوضَةٌ لِأَوْلِيَائِهِ شَاغِلَةٌ لَهُمْ عَنْهُ فَصَارَتْ بَغِيضَةً لَهُ لِخِدَاعِهَا وَغُرُورِهَا فَهِيَ فِتْنَةٌ وَمِحْنَةٌ حَتَّى لِكِبَارِ الْأَوْلِيَاءِ وَخَوَاصِّ الْأَصْفِيَاءِ لَكِنَّ اللَّهَ يَنْصُرُهُمْ وَيُظْفِرُهُمْ , وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي طَلَبُ الدُّنْيَا إلَّا لِضَرُورَةٍ , وَلَا يَتَنَاوَلُهَا إلَّا تَنَاوُلَ الْمُضْطَرِّ مِنْ الْمَيْتَةِ إذْ هِيَ سُمٌّ قَاتِلٌ فَالْعَاقِلُ يَطْلُبُ مِنْهَا قَدْرَ مَا يُصَانُ الْوَجْهُ بِهِ عَلَى كَرَاهَةٍ مِنْهَا لِكَوْنِهَا بَغِيضَةَ اللَّهِ , وَعَلَى تَوَقٍّ مِنْ سُمِّهَا وَحَذَرٍ مِنْ غَدْرِهَا وَغُرُورِهَا , وَفِي الْإِحْيَاءِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله تعالى عنهما أَنَّهُ قَالَ يُؤْتَى بِالدُّنْيَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ(1/216)
عَلَى صُورَةِ عَجُوزٍ شَمْطَاءَ أَيْ مُصْفَرَّةِ اللَّوْنِ زَرْقَاءَ أَنْيَابُهَا بَادِيَةٌ لَا يَرَاهَا أَحَدٌ إلَّا كَرِهَهَا فَتَظْهَرُ عَلَى الْخَلَائِقِ فَيُقَالُ لَهُمْ أَتَعْرِفُونَ هَذِهِ فَيَقُولُونَ نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ مَعْرِفَتِهَا فَيُقَالُ هَذِهِ الدُّنْيَا الَّتِي تَفَاخَرْتُمْ بِهَا وَتَقَاتَلْتُمْ عَلَيْهَا وَتَقَاطَعْتُمْ الْأَرْحَامَ لَهَا وَتَحَاسَدْتُمْ وَتَبَاغَضْتُمْ وَاغْتَرَرْتُمْ ثُمَّ تُقْذَفُ فِي جَهَنَّمَ فَتُنَادِي أَيْ رَبِّ أَيْنَ أَتْبَاعِي , وَأَشْيَاعِي فَيَقُولُ اللَّهُ أَلْحِقُوا بِهَا أَتْبَاعَهَا , وَأَشْيَاعَهَا اللَّهُمَّ احْفَظْنَا . انْتَهَى . وَالْحَاصِلُ أَنَّ الدُّنْيَا عَدُوَّةٌ لِلَّهِ وَلِأَوْلِيَائِهِ وَلِأَعْدَائِهِ أَمَّا عَدَاوَتُهَا لَهُ تَعَالَى فَلِأَنَّهَا مِنْ قُطَّاعِ طَرِيقِ عِبَادِهِ تَعَالَى إذْ لَا سَعَادَةَ إلَّا لِمَنْ قَدِمَ إلَيْهِ تَعَالَى , وَلَا قُدُومَ إلَّا بِالْإِعْرَاضِ عَنْ الدُّنْيَا , وَأَمَّا لِأَوْلِيَائِهِ فَلِأَنَّهَا تَتَزَيَّنُ إلَيْهِمْ فَتَخْطَفُ قُلُوبَهُمْ وَتَسْلُبُ نُفُوسَهُمْ فَلَا يَتَخَلَّصُ مِنْهَا بِرِيَاضَاتٍ , وَأَتْعَابٍ شَدِيدَةٍ إلَّا وَاحِدٌ مِنْ أَلْفٍ قَالَ بَعْضٌ : تُرِكَتْ الدُّنْيَا لِقِلَّةِ غَنَائِهَا وَكَثْرَةِ عَنَائِهَا وَسُرْعَةِ فَنَائِهَا وَخِسَّةِ شُرَكَائِهَا , وَأَمَّا لِأَعْدَاءِ اللَّهِ فَلِأَنَّهَا تَتَزَيَّنُ فِي قُلُوبِهِمْ بِالْمَكْرِ وَالْحِيَلِ حَتَّى إذَا عَلِمَتْ أَنَّهُمْ أَحَبُّوهَا تَتْرُكُهُمْ وَتَنْضَمُّ إلَى غَيْرِهِمْ كَالْقَحْبَةِ تَتَحَوَّلُ مِنْ رَجُلٍ إلَى رَجُلٍ لِيُعَذَّبُوا فِي الدُّنْيَا بِنَارِ الْحَسْرَةِ , وَفِي الْآخِرَةِ بِنَارِ النَّدَامَةِ بَلْ بِنَارِ الْقِيَامَةِ . ((1/217)
هق دُنْيَا عَنْ عَلِيٍّ رضي الله تعالى عنه ) مَوْقُوفًا عَلَيْهِ ( أَنَّهُ قَالَ الدُّنْيَا حَلَالُهَا ) كَالْإِرْثِ وَكَسْبِ الْحَلَالِ ( حِسَابٌ ) مُفْضٍ إلَى حِسَابٍ مِنْ أَيْنَ حَصَلَ , وَفِيمَ أُنْفِقَ , وَهَلْ أَدَّى حُقُوقَهُ ( وَحَرَامُهَا النَّارُ ) سَبَبٌ إلَى النَّارِ لَكِنَّهَا مُغَطَّاةٌ بِحِجَابِ الدُّنْيَا كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { إنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا } فَإِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ زَالَ حِجَابُ الدُّنْيَا فَظَهَرَتْ النَّارُ كَمَا قَالَ - { وَبُرِّزَتْ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى } فِي الْإِحْيَاءِ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ إنَّ الدُّنْيَا بَحْرٌ عَمِيقٌ , وَقَدْ غَرِقَ فِيهَا نَاسٌ كَثِيرٌ فَلْتَكُنْ سَفِينَتُك تَقْوَى اللَّهِ وَحَشْوُهَا الْإِيمَانَ وَشِرَاعُهَا التَّوَكُّلَ لَعَلَّك تَنْجُو وَمَا أَرَاك نَاجِيًا , وَقَالَ يَحْيَى بْنُ مُعَاذٍ الدُّنْيَا حَانُوتُ الشَّيْطَانِ فَلَا تَسْرِقْ مِنْ حَانُوتِهِ فَيَجِيءُ فِي طَلَبِك فَيَأْخُذُك . ( طب عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله تعالى عنه أَنَّهُ قَالَ صلى الله تعالى عليه وسلم { مَنْ بَنَى فَوْقَ مَا يَكْفِيهِ } ) لِنَفْسِهِ , وَعِيَالِهِ وَأَضْيَافِهِ عَلَى الْوَجْهِ اللَّائِقِ بِهِ الْمُتَعَارَفِ لِأَمْثَالِهِ ( { كُلِّفَ أَنْ يَحْمِلَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } ) , وَهُوَ لَيْسَ بِحَامِلٍ , وَهُوَ تَكْلِيفُ تَعْجِيزٍ وَتَعْذِيبٍ قِيلَ عَنْ الشِّرْعَةِ وَالسُّنَّةِ فِي مِقْدَارِ الْبِنَاءِ هُوَ فِي جِهَةِ الْعُلُوِّ سِتَّةُ أَذْرُعٍ فَمَا دُونَهَا كُلُّ ذِرَاعٍ سِتُّ قَبَضَاتٍ مَعَ أُصْبُعٍ قَائِمٍ ; لِأَنَّ الْمَقَامَ مَقَامُ الِاحْتِيَاطِ .(1/218)
وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ أَوْضَاعِ الْجَوَانِبِ فَيَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ حَالِ السَّاكِنِ , وَالضَّابِطُ أَنْ يَكُونَ مِقْدَارَ الْحَاجَةِ فَمَنْ زَادَ عَلَى ذَلِكَ جَاءَ يَحْمِلُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِحَدِيثِ { مَنْ بَنَى } إلَخْ , وَفِي الْأَثَرِ مَنْ رَفَعَ بِنَاءَهُ فَوْقَ سِتَّةِ أَذْرُعٍ نَادَى مُنَادٍ إلَى أَيْنَ يَا أَفْسَقِ الْفَاسِقِينَ . انْتَهَى .(1/219)
وَفِي الْفَيْضِ عَنْ الْغَزَالِيِّ مِنْ أَبْوَابِ الشَّيْطَانِ وَوَسَاوِسِهِ حُبُّ التَّزَيُّنِ فِي الْبِنَاءِ وَالثِّيَابِ وَالْآثَارِ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ إذَا رَأَى ذَلِكَ غَالِبًا عَلَى قَلْبِ إنْسَانٍ فَلَا زَالَ يَدْعُوهُ إلَى عِمَارَةِ الدَّارِ وَتَزْيِينِ سُقُوفِهَا وَحِيطَانِهَا وَتَوْسِعَةِ أَبْنِيَتِهَا وَيَدْعُوهُ إلَى التَّزْيِينِ بِالْأَثْوَابِ الْفَاخِرَةِ وَالدَّوَابِّ فَلَا يَزَالُ يُدْرِجُهُ مِنْ شَيْءٍ إلَى شَيْءٍ إلَى أَجَلِهِ فَيَمُوتُ , وَهُوَ فِي سَبِيلِ الشَّيْطَانِ وَاتِّبَاعِ الْهَوَى , ثُمَّ عَنْ الذَّهَبِيِّ بِأَنَّ الْحَدِيثَ مُنْكَرٌ , وَعَنْ الْعِرَاقِيِّ فِيهِ لِينٌ وَانْقِطَاعٌ ( طط عَنْ ابْن بَشِيرٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله تعالى عليه وسلم قَالَ : { إذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدٍ هَوَانًا } ) أَيْ ذُلًّا وَحَقَارَةً , وَفِي رِوَايَةٍ سُوءًا بَدَلَ هَوَانًا ( { أَنْفَقَ مَالَهُ } ) أَنْفَدَهُ ( { فِي الْبُنْيَانِ } ) نَحْوُ أَجْرِ الصُّنَّاعِ , وَفِي رِوَايَةٍ زَادَ وَالْمَاءِ وَالطِّينِ إذَا كَانَ لِغَيْرِ غَرَضٍ شَرْعِيٍّ أَوْ أَدَّى لِتَرْكِ وَاجِبٍ أَوْ فِعْلٍ مَنْهِيٍّ عَنْهُ أَوْ زَادَ عَلَى الْحَاجَةِ ; لِأَنَّ الدُّنْيَا لَيْسَتْ بِدَارِ قَرَارٍ فَلَا يَعْمُرُهَا إلَّا الْأَشْرَارُ قِيلَ مِثْلُ هَذَا كُلِّهِ إنْ بِالْحَلَالِ , وَإِنْ بِالْحَرَامِ فَأَشَدُّ وِزْرًا كَمَا فِي حَدِيثِ { اتَّقُوا الْحَجَرَ الْحَرَامَ فِي الْبُنْيَانِ فَإِنَّهُ أَسَاسُ الْخَرَابِ } قَالَ الْمُنَاوِيُّ أَيْ خَرَابِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا بِقِلَّةِ الْبَرَكَةِ وَشُؤْمِ الْبَيْتِ أَوْ أَسَاسُ خَرَابِ الْبِنَاءِ نَفْسِهِ بِأَنْ يُسْرِعَ إلَيْهِ الْخَرَابُ فِي أَمَدٍ قَرِيبٍ , وَقِيلَ يَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ أَمْثَالُهُ عَلَى كَوْنِ(1/220)
الْبِنَاءِ مِنْ الْحَرَامِ أَوْ لِأَجْلِ الْكِبَرِ دُونَ الْأَجْرِ أَوْ عَلَى التَّغْلِيظِ وَالتَّشْدِيدِ لِئَلَّا يَتَوَسَّلَ النَّاسُ إلَيْهِ لِمَا رُوِيَ أَنَّهُ قَالَ عليه الصلاة والسلام { مَنْ بَنَى بُنْيَانًا فِي غَيْرِ ظُلْمٍ كَانَ أَجْرُهُ جَارِيًا مَا انْتَفَعَ بِهِ أَحَدٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى } رَوَاهُ الدَّيْلَمِيُّ أَقُولُ ظَوَاهِرُ الْأَحَادِيثِ الْإِطْلَاقُ الشَّامِلُ لِلْحَلَالِ , وَأَنَّ الْعِلَّةَ مُطْلَقُ الْبِنَاءِ لَا الْمَالُ الْحَرَامُ وَيُؤَيِّدُهُ تَقْيِيدُ الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ بِقَوْلِهِ فَوْقَ مَا يَكْفِيهِ وَالثَّانِي بِقَوْلِهِ مَالَهُ إذْ الْأَصْلُ كَوْنُهُ مِنْ الْحَلَالِ بَلْ الْحَرَامُ لَيْسَ مَالًا لَهُ لَكِنَّ ارْتِفَاعَ الْبِنَاءِ لِدَفْعِ ثِقَلِ الْهَوَاءِ لَا يَبْعُدُ أَنْ يَلْحَقَ بِالْحَاجَةِ . وَأَمَّا لِلتَّفَاخُرِ وَالتَّكْبِيرِ فَلَا شَكَّ فِي حُرْمَتِهِ , وَفِي الْإِحْيَاءِ الدُّنْيَا دَارُ خَرَابٍ , وَأَخْرَبُ مِنْهَا قَلْبُ مَنْ يَعْمُرُهَا وَالْجَنَّةُ دَارُ عُمْرَانٍ , وَأَعْمَرُ مِنْهَا قَلْبُ مَنْ يَطْلُبُهَا , وَقِيلَ أَيْنَ قَيَاصِرَةُ الْقُصُورِ , وَهَرَامِسَةُ الدُّهُورِ , وَأَيْنَ شَدَّادٌ , وَعَادٌ , وَأَيْنَ إرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ - فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَلْبَابِ - وَتَفَكَّرُوا يَوْمَ التَّنَادِّ لُدُّوا لِلْمَوْتِ وَابْنُوا لِلْخَرَابِ . ((1/221)
فَآفَاتُهَا ) أَيْ آفَاتُ الدُّنْيَا , وَفِي نُسْخَةٍ فَأَفَادَ أَيْ النَّبِيُّ عليه الصلاة والسلام ( كَوْنَهَا عَدُوَّةَ اللَّهِ تَعَالَى ) ; لِأَنَّهَا أَبْغَضُ الْخَلْقِ إلَيْهِ ( وَ ) كَوْنَهَا ( جِيفَةً وَمَلْعُونَةً ) أَيْ مَطْرُودَةً عَنْ مَوَاقِعِ الرِّضَا ( وَصَادَّةً ) أَيْ مَانِعَةً مُلْهِيَةً ( عَنْ عِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَمُفْضِيَةً إلَى الْمَعَاصِي وَالْمَنَاهِي وَحَطِّ الدَّرَجَاتِ وَشِدَّةِ الْحِسَابِ ) ; لِأَنَّهُ بِقَدْرِ الْمُحَاسَبَةِ عَلَيْهِ قِلَّةً وَكَثْرَةً ( بَلْ ) مُفْضِيَةٌ إلَى ( الْعَذَابِ فِي الْآخِرَةِ وَ ) آفَاتُهَا ( قِلَّةُ غَنَائِهَا ) بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ أَيْ نَفْعِهَا ( وَكَثْرَةِ عَنَائِهَا ) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ التَّعَبُ وَالْمَشَقَّةُ ( وَسُرْعَةُ فَنَائِهَا وَخِسَّةُ شُرَكَائِهَا ) إذْ الْمُشْرِكُ وَالْفَاسِقُ شُرَكَاءُ فِيهَا , وَقِيلَ كَالْبَهَائِمِ وَالْحَشَرَاتِ نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ الْآفَاتِ .
((1/222)
وَ ) تَرْكُ ( تَقْصِيرِ الثِّيَابِ ) إذْ السُّنَّةُ جَعْلُهَا لِأَنْصَافِ السَّاقِ , وَهُوَ مُبَاحٌ إلَى الْكَعْبِ وَمَا جَاوَزَهُ حَرَامٌ مَعَ الْخُيَلَاءِ مَكْرُوهٌ عِنْدَ فَقْدِهَا قَالَ فِي الشِّرْعَةِ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله تعالى عليه وسلم يَلْبَسُ قَمِيصًا تَارَةً إلَى الرُّسْغِ ذَيْلُهُ فَوْقَ الْكَعْبَيْنِ مُسْتَوِيَ الْكُمَّيْنِ بِأَطْرَافِ أَصَابِعِهِ فَعَلَى هَذَا تَقْصِيرُ الثِّيَابِ سُنَّةٌ , وَفِي شَرْحِهِ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله تعالى عنه أَنَّهُ قَطَعَ قَمِيصَهُ مِنْ رَأْسِ الْأَصَابِعِ فَعَابَهُ الْخَوَارِجُ فَقَالَ أَتَعِيبُونَنِي عَلَى لِبَاسٍ هُوَ أَبْعَدُ عَنْ الْكِبْرِ , وَأَجْدَرُ أَنْ يُقْتَدَى فِي الْمُسْلِمِ ثُمَّ قَالَ فِي الشِّرْعَةِ وَإِسْبَالُ الْإِزَارِ وَالْقَمِيصِ بِدْعَةٌ أَيْ تَطْوِيلُهُمَا , وَفِي شَرْحِهِ عَنْ شَرْحِ الْمَصَابِيحِ قَالَ عليه الصلاة والسلام { بَيْنَمَا رَجُلٌ يَجُرُّ إزَارَهُ مِنْ الْخُيَلَاءِ خُسِفَ بِهِ , وَهُوَ يَتَجَلْجَلُ فِي الْأَرْضِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } . ((1/223)
وَ ) تَرْكُ ( تَرْقِيعِهَا ) قَالَ فِي الشِّرْعَةِ , وَعَنْ سُنَّةِ الْإِسْلَامِ لُبْسُ الْمُرَقَّعِ وَالْخَشِينِ , وَأَيْضًا هُوَ مِنْ سُنَّةِ سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ عليهم الصلاة والسلام كَمَا رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ لِعِيسَى عَلَيْهِ , وَعَلَى نَبِيِّنَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ قَصْعَةٌ لِلشُّرْبِ وَمُشْطٌ لِلِحْيَتِهِ , وَإِبْرَةٌ لِخَيْطِ خِرْقَتِهِ فَلَمَّا رَأَى وَاحِدًا يَشْرَبُ بِكَفِّهِ رَمَى الْقَصْعَةَ وَرَأَى آخَرَ يُخَلِّلُ لِحْيَتِهِ بِأَصَابِعِهِ فَرَمَى الْمُشْطَ وَبَقَّى الْإِبْرَةَ فَلَمَّا عَرَجَ إلَى السَّمَاءِ الرَّابِعَةِ اجْتَمَعَتْ الْمَلَائِكَةُ حَوْلَهُ يَتَبَرَّكُونَ وَيَمْسَحُونَ بِمُرَقَّعَتِهِ فَعَدُّوا رِقَاعَ خِرْقَتِهِ قَرِيبًا إلَى ثَلَاثِمِائَةٍ فَبَكَوْا , وَقَالُوا إلَهَنَا أَمَا كَانَ عِيسَى عِنْدَك يُسَاوِي قَمِيصًا جَدِيدًا مِنْ دُنْيَاك فَنُودِيَ بِهِمْ أَنَّ جَمِيعَ الدُّنْيَا لَا يُسَاوَى بِعُضْوِ حَبِيبِي عِيسَى لَكِنْ فَتِّشُوا هَلْ تَجِدُونَ مَعَهُ شَيْئًا مِنْ الدُّنْيَا فَوَجَدُوا إبْرَةً فَقَالَ تَعَالَى , وَعِزَّتِي وَجَلَالِي لَوْ لَمْ تَكُنْ مَعَهُ هَذِهِ الْإِبْرَةُ لَرَفَعْته إلَى حَضْرَةِ الْقُدْسِ , وَعَنْ الْحَسَنِ أَنَّهُ كَانَ عِيسَى عليه الصلاة والسلام يَلْبَسُ الشَّعْرَ وَيَأْكُلُ مِنْ الشَّجَرِ وَيَبِيتُ حَيْثُ أَمْسَى .(1/224)
وَفِي الْبُسْتَانِ كَانَ عُمَرُ يَخْطُبُ , وَعَلَيْهِ قَمِيصٌ لَهُ سَبْعُ رِقَاعٍ نَعَمْ يَجُوزُ تَرْكُ الرِّقَاعِ فِيمَا يُخَافُ عَيْبَةُ النَّاسِ وَتَحْقِيرُهُمْ كَمَا فِي مُطْلَقِ الثِّيَابِ الْخَشِنَةِ قَالَ فِي الْبُسْتَانِ عَنْ الشَّعْبِيِّ الْبَسْ مِنْ الثِّيَابِ مَا لَا يُزْرِيك السُّفَهَاءُ , وَلَا يَعِيبُك الْفُقَهَاءُ ( وَ ) تَرْكُ ( الْمَشْيِ حَافِيًا ) بِلَا نَعْلَيْنِ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ ( وَرُكُوبُ الْحِمَارِ ) عَارِيًّا أَوْ عَلَى الْإِكَافِ ( وَالْإِكَافُ , وَلَعْقُ الْأَصَابِعِ ) بَعْدَ الطَّعَامِ لَا فِي أَثْنَائِهِ ; لِأَنَّهُ يُخِلُّ بِالْأَدَبِ ( وَ ) لَعْقُ ( الْقَصْعَةِ ) , وَفِي الْبُسْتَانِ وَمِنْ السُّنَّةِ لَعْقُ أَصَابِعِهِ قَبْلَ الْمَسْحِ بِالْمِنْدِيلِ وَتَرْكُهُ مِنْ أَمْرِ الْعَجَمِ , وَأَمْرِ الْجَبَابِرَةِ وَيُقَالُ الْقَصْعَةُ تَسْتَغْفِرُ لِمَنْ يَلْعَقُهَا , وَعَنْهُ عليه الصلاة والسلام { أَنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ , وَعَلَى الَّذِينَ يَلْعَقُونَ أَصَابِعَهُمْ } , وَكَانَ { يَأْمُرُ بِلَعْقِ الْقَصْعَةِ } , { وَكَانَ لَا يَمْسَحُ يَدَهُ قَبْلَ أَنْ يَمُصَّهَا فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي مِنْ أَيِّ طَعَامٍ يُبَارَكُ لَهُ } ( وَأَكْلُ مَا سَقَطَ عَلَى السُّفْرَةِ أَوْ عَلَى الْأَرْضِ مِنْ الطَّعَامِ ) فِي الْبُسْتَانِ عَنْهُ عليه الصلاة والسلام { مَنْ أَكَلَ مَا سَقَطَ مِنْ الْمَائِدَةِ لَمْ يَزَلْ فِي سَعَةٍ مِنْ الرِّزْقِ وَوُقِيَ الْحُمْقَ عَنْهُ , وَعَنْ وَلَدِهِ وَوَلَدِ وَلَدِهِ } , وَعَنْهُ أَيْضًا { إذَا سَقَطَتْ لُقْمَةُ أَحَدِكُمْ فَلْيَأْخُذْهَا , وَلْيُمِطْ عَنْهَا الْأَذَى , وَلَا يَتْرُكُهَا لِلشَّيْطَانِ } ( وَالْجَهْرُ بِالسَّلَامِ وَرَدُّهُ ) قَالَ فِي الْبُسْتَانِ لِقَوْلِهِ صلى الله تعالى(1/225)
عليه وسلم { إذَا أَتَيْتُمْ الْمَجْلِسَ فَسَلِّمُوا عَلَى الْقَوْمِ , وَإِذَا رَجَعْتُمْ فَسَلِّمُوا عَلَيْهِمْ فَإِنَّ التَّسْلِيمَ عِنْدَ الرُّجُوعِ أَفْضَلُ مِنْ التَّسْلِيمَةِ الْأُولَى } ; لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى الْمَوْتِ فَقِيلَ الرَّدُّ أَفْضَلُ ; لِأَنَّهُ فَرْضٌ لقوله تعالى - { وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا } - وَالْأَمْرُ لِلْفَرِيضَةِ , وَقِيلَ التَّسْلِيمُ أَفْضَلُ ; لِأَنَّهُ سَابِقٌ وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ إنْ لَمْ يَرُدُّوا السَّلَامَ رَدَّتْ عَلَيْهِ الْمَلَائِكَةُ , وَلَعَنَتْهُمْ , وَإِذَا سَلَّمَ عَلَى جَمَاعَةٍ يَكْفِي رَدُّ وَاحِدٍ , وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ يَجِبُ الرَّدُّ عَلَى الْكُلِّ ثُمَّ قَالَ الْإِسْمَاعُ فِي الرَّدِّ وَالسَّلَامِ لَازِمٌ , وَإِلَّا لَمْ يَسْقُطْ الْفَرْضُ , وَلَمْ تَحْصُلْ السُّنَّةُ , وَإِذَا سَلَّمَ عَلَى وَاحِدٍ يَقُولُ وَعَلَيْكُمْ بِخِطَابِ الْجَمْعِ ; لِأَنَّ مَعَهُ الْمَلَائِكَةَ . انْتَهَى إيجَازًا . ( وَالْأَذَانُ وَالْإِمَامَةُ ) عَنْ الْمُصَنِّفِ فِي الْحَاشِيَةِ جَمَعَ اثْنَانِ فِي وَقْتٍ فَتَرَكَا الْإِمَامَةَ فَصَلَّيَا فُرَادَى أَثِمَا بِإِثْمَيْنِ إثْمٌ بِتَرْكِ الْإِمَامَةِ , وَإِثْمٌ بِتَرْكِ الْجَمَاعَةِ , وَإِذَا أَمَّ أَحَدُهُمَا لَمْ يَأْثَمَا . انْتَهَى . ((1/226)
وَ ) تَرْكُ ( نَحْوِ ذَلِكَ ) مِنْ السُّنَنِ كَالِاعْتِكَافِ وَتَعْدِيلِ الْأَرْكَانِ ( فَمَذْمُومٌ جِدًّا ; لِأَنَّهُ ) أَيْ الِامْتِنَاعَ ( فِي الْحَقِيقَةِ جُبْنٌ ) أَيْ ضَعْفُ قَلْبٍ , وَقِلَّةُ شَجَاعَةٍ ( وَضَعْفٌ فِي الدِّينِ ) إذْ لَوْ كَانَ قَوِيًّا لَمَا يَخَافُ لَوْمَةَ لَائِمٍ ( أَوْ رِيَاءٌ أَوْ كِبْرٌ , وَلَوْ سُلِّمَ أَنَّهُ حَيَاءٌ فَحَيَاءٌ مِنْ النَّاسِ وَوَقَاحَةٌ ) أَيْ عَدَمُ حَيَاءٍ ( لِلَّهِ تَعَالَى ; وَلِرَسُولِهِ وَجُرْأَةٌ ) بِضَمٍّ فَسُكُونٍ أَوْ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ مَعَ الْمَدِّ ( عَلَيْهِمَا ) عَلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ( وَاَللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ بِالْحَيَاءِ مِنْ النَّاسِ ) أَمَّا اللَّهُ فَظَاهِرٌ , وَأَمَّا الرَّسُولُ فَإِنَّ الْأَعْمَالَ تُعْرَضُ عَلَيْهِ عليه الصلاة والسلام هَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ لِلتَّخْفِيفِ , وَإِلَّا فَكُفْرٌ قَالُوا مَنْ خَفَّفَ سُنَّةً مِنْ سُنَنِ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام فَحُكْمُهُ السَّيْفُ , وَإِنْ كَانَ جَاهِلًا بِكُفْرِهِ كَمَا فِي حَاشِيَةِ الْمُصَنِّفِ ( فَمَا حَالُ مَنْ لَا يَسْتَحْيِي مِنْ خَالِقِهِ ) الَّذِي هُوَ الْمُبْدِئُ وَالْمُعِيدُ , وَإِلَيْهِ يَرْجِعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ , وَهُوَ الَّذِي أَحَاطَ بِكُلِّ النِّعَمِ ( وَرَازِقِهِ ) بِأَنْوَاعِ الْأَرْزَاقِ ( وَهَادِيهِ ) إلَى أَنْوَاعِ الْخَيْرَاتِ وَالطَّاعَاتِ ( وَمُنْجِيهِ ) مِنْ الْمَصَائِبِ وَالْبَلِيَّاتِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ( بِتَرْكِ الْأَوَامِرِ ) فَرْضًا أَوْ وَاجِبًا ( الْإِلَهِيَّةِ ) فَإِنَّ أَكْثَرَهَا مِنْ الْقُرْآنِ ( وَالسُّنَنِ الْمُحَمَّدِيَّةِ ) يَشْمَلُ النَّدْبَ ( وَيَسْتَحْيِي مِنْ الْمَخْلُوقِ الْعَاجِزِ ) فَإِنَّ النَّافِعَ وَالضَّارَّ , وَكَذَا الْمُعْطِي وَالْمَانِعَ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى ( لِطَلَبِ(1/227)
ثَنَائِهِمْ ) الْأَوْلَى ثَنَائِهِ إذْ هُوَ رَاجِعٌ إلَى الْمَخْلُوقِ فَلَعَلَّهُ أَرْجَعَهُ بِاعْتِبَارِ الِاسْتِغْرَاقِ ( وَرِضَاهُمْ وَحُطَامِهِمْ ) قِيلَ بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ الْأُولَى وَتَخْفِيفِ الثَّانِيَةِ هُوَ الْمَالُ الْحَرَامُ ( وَيَفِرُّ ) مِنْ الْفِرَارِ ( مِنْ تَعْيِيرِهِمْ , وَلَا يَفِرُّ مِنْ الْعَذَابِ الْأَلِيمِ ) وَاَللَّهُ أَحَقُّ أَنْ يُخْشَى بِتَرْكِ أَوَامِرِهِ ( وَلَا مِنْ حِرْمَانِ الشَّفَاعَةِ ) بِتَرْكِ سُنَنِهِ عليه الصلاة والسلام فَإِنَّ تَرْكَ السُّنَنِ مُوجِبٌ لِاسْتِحْقَاقِ حِرْمَانِهَا , وَإِنْ جَازَ شَفَاعَتُهُ عليه الصلاة والسلام بِمُجَرَّدِ إحْسَانِهِ , وَكَرَمِهِ فَيَنْدَفِعُ مَا أُورِدَ عَلَى مِثْلِهِ بِنَحْوِ حَدِيثِ { شَفَاعَتِي لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنْ أُمَّتِي } فَإِنَّهُ إذَا شَفَعَ لَهُمْ فَكَيْفَ لِتَارِكِي سُنَّتِهِ , وَهُوَ لَيْسَ بِكَبِيرَةٍ اتِّفَاقًا بَلْ مَكْرُوهٌ تَحْرِيمًا أَوْ تَنْزِيهًا , وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ نَحْوُ حَدِيثِ { مَنْ تَرَكَ سُنَّتِي لَمْ يَنَلْ شَفَاعَتِي } ( فَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ ذَلِكَ ) قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي بَعْضِ رَسَائِلِهِ فَهَلْ تَرْضَى لِنَفْسِك أَيُّهَا الْأَخُ الْعَاقِلُ أَنْ تُحْرَمَ مِنْ شَفَاعَةِ سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ وَحَبِيبِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الَّتِي يَرْجُوهَا وَيَطْلُبُهَا كُلُّ الْخَلَائِقِ حَتَّى الْأَوْلِيَاءِ رحمهم الله وَالنَّبِيِّينَ عليهم الصلاة والسلام وَأَيُّ عَمَلٍ مَقْبُولٍ يُنْجِيك مِنْ عَذَابِ اللَّهِ وَسَخَطِهِ وَيُدْخِلُك الْجَنَّةَ إنْ لَمْ تَنَلْك شَفَاعَةُ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ , وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا إلَى آخِرِ مَا قَالَ .
((1/228)
وَالثَّانِي ) مِنْ شُرُوطِ جَوَازِ الْمَدْحِ ( الِاحْتِرَازُ عَنْ الْإِفْرَاطِ ) فِي الْمَدْحِ وَالْغُلُوِّ فِيهِ ( الْمُؤَدِّي إلَى الْكَذِبِ ) لِعَدَمِ خَارِجٍ لَهُ ( وَالرِّيَاءِ ) أَيْ إرَاءَةِ السَّامِعِينَ أَوْ الْمَمْدُوحِ أَنَّهُ مُحِبٌّ مُخْلِصٌ فِي دَعْوَاهُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ ( وَ ) الِاحْتِرَازُ عَنْ ( الْقَوْلِ بِمَا لَا يَتَحَقَّقُهُ ) أَيْ بِمَا لَا يُعْلَمُ حَقِيقَتُهُ لَا يَخْفَى أَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ هَذَا الْقَوْلِ هُوَ الْمَنْعُ عَنْ مُطْلَقِ الْمُبَالَغَةِ وَهُوَ فَنٌّ مِنْ فُنُونِ عِلْمِ الْبَدِيعِ وَهُوَ مِنْ مُحَسِّنَاتِ الْبَلَاغَةِ وَوَقَعَ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرًا .(1/229)
قَالَ السُّيُوطِيّ الْمُبَالَغَةُ أَنْ يَذْكُرَ الْمُتَكَلِّمُ وَصْفًا فَيَزِيدُ فِيهِ حَتَّى يَكُونَ أَبْلَغَ فِي الْمَعْنَى الَّذِي قَصَدَهُ وَهِيَ ضَرْبَانِ مُبَالَغَةٌ بِالْوَصْفِ بِأَنْ يَخْرُجَ إلَى حَدِّ الِاسْتِحَالَةِ وَمِنْهُ { يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ } وَ { لَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ } وَمُبَالَغَةٌ بِالصِّيغَةِ ثُمَّ عَدَّ أَوْزَانَ الْمُبَالَغَةِ ثُمَّ قَالَ الْمُبَالَغَةُ أَنْ يَثْبُتَ لِلشَّيْءِ أَكْثَرُ مِمَّا لَهُ لَعَلَّ ذَلِكَ دَائِرٌ عَلَى الْمَدْحِ وَأَنَّهُ مِنْ قَبِيلِ الْمَجَازِ وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْكَذِبِ وَالْمَجَازِ مَعْرُوفٌ بِقَصْدِ التَّأْوِيلِ وَعَدَمِهِ فَافْهَمْ وَيُمْكِنُ اسْتِخْرَاجُ الْجَوَابِ مِنْ قَوْلِهِ ( وَلَا سَبِيلَ لَهُ إلَى الِاطِّلَاعِ عَلَيْهِ كَالتَّقْوَى وَالْوَرَعِ وَالزُّهْدِ ) وَهَذِهِ مِمَّا لَا يُعْلَمُ حَقِيقَتُهُ لِكَوْنِهَا مِنْ أَحْوَالِ الْقُلُوبِ وَلَا يَعْلَمُ مَا فِيهَا إلَّا اللَّهُ تَعَالَى وَمِثْلُهُ فِي الْحَاشِيَةِ لَكِنَّ الْحُكْمَ الْكُلِّيَّ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْكُلِّ مِمَّا يَحْتَاجُ إلَى التَّأَمُّلِ لَا سِيَّمَا نَحْنُ مَأْمُورُونَ بِحُسْنِ الظَّنِّ بِالْمُسْلِمِ ( فَلَا يَجْزِمُ الْقَوْلَ بِمِثْلِهَا بَلْ يَقُولُ أَحْسَبُ ) أَظُنُّ ( وَنَحْوَهُ ) وَهَذِهِ الْآفَةُ تَتَطَرَّقُ إلَى الْمَدْحِ بِالْأَوْصَافِ الْمُطْلَقَةِ الَّتِي تُعْرَفُ بِالْأَدِلَّةِ كَمَا ذُكِرَ فِي الْمِثَالِ .(1/230)
وَأَمَّا إذَا قَالَ رَأَيْته يُصَلِّي بِاللَّيْلِ وَيَتَصَدَّقُ وَيَحُجُّ فَهَذِهِ أُمُورٌ مُتَيَقَّنَةٌ وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ أَنَّهُ عَدْلٌ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَجْزِمَ الْقَوْلَ بِهِ أَيْضًا إلَّا بَعْدَ خَبَرِهِ بِبَاطِنِهِ وَسَمِعَ عُمَرُ رضي الله تعالى عنه رَجُلًا يُثْنِي عَلَى رَجُلٍ قَالَ أَسَافَرْت مَعَهُ قَالَ لَا قَالَ أَخَالَطْته فِي الْمُبَايَعَةِ وَالْمُعَامَلَةِ قَالَ لَا قَالَ فَأَنْتَ جَارُهُ صَبَاحَهُ وَمَسَاءَهُ قَالَ لَا قَالَ وَاَلَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ مَا تَعْرِفُهُ ( وَالثَّالِثُ أَنْ لَا يَكُونَ الْمَمْدُوحُ فَاسِقًا ) لَعَلَّ أَنَّهُ إذَا مَدَحَهُ لِلْخَلَاصِ عَنْ ظُلْمِهِ أَوْ لِيَنَالَ حَقَّهُ مِنْ جِهَتِهِ أَوْ مِنْ جِهَةِ الْغَيْرِ بِإِعَانَتِهِ فَلَا يَضُرُّ إذْ الضَّرُورَةُ مُبِيحَةٌ لِلْمَحْظُورَةِ ( دُنْيَا هق عَنْ أَنَسٍ رضي الله تعالى عنه أَنَّهُ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ عليه الصلاة والسلام { إنَّ اللَّهَ يَغْضَبُ إذَا مُدِحَ الْفَاسِقُ } ) أَيْ الْخَارِجُ عَنْ الْعَدْلِ وَالْخَيْرِ وَحُسْنِ زِيَادَةِ الْخُلُقِ وَالْحَقِّ وَإِنَّمَا يَغْضَبُ اللَّهُ لِأَنَّهُ أَمَرَ بِمُجَانَبَتِهِ وَإِبْعَادِهِ فَمَنْ مَدَحَهُ فَقَدْ وَصَلَ مَا أَمَرَ اللَّهُ أَنْ يُقْطَعَ وَوَادَّ مَنْ حَادَّ اللَّهَ مَعَ مَا فِي مَدْحِهِ مِنْ تَعْزِيرِ مَنْ لَا يُعْرَفُ حَالُهُ بِالسُّوءِ وَالْفُحْشِ وَتَزْكِيَةِ مَنْ لَيْسَ لَهَا بِأَهْلٍ وَالْإِشْعَارِ بِاسْتِحْسَانِ فِسْقِهِ وَإِغْرَائِهِ عَلَى إدَامَتِهِ .(1/231)
وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ يَشْمَلُ مَا لَوْ مَدَحَهُ بِمَا فِيهِ كَسَخَاءٍ وَشَجَاعَةٍ وَلَعَلَّهُ غَيْرُ مُرَادٍ ( وَفِي رِوَايَةِ يَعْلَى عَدَّ { إذَا مُدِحَ الْفَاسِقُ غَضِبَ الرَّبُّ وَاهْتَزَّ الْعَرْشُ } ) وَاهْتِزَازُهُ عِبَارَةٌ عَنْ أَمْرٍ عَظِيمٍ وَدَاهِيَةٍ وَذَلِكَ لِأَنَّ فِيهِ رِضًا بِمَا سَخِطَ اللَّهُ وَغَضِبَ بَلْ يَكَادُ يَكُونُ كُفْرًا لِأَنَّهُ رُبَّمَا يُفْضِي إلَى اسْتِحْلَالِ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَهَذَا هُوَ الدَّاءُ الْعُضَالُ لِأَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ وَالشُّعَرَاءِ وَالْقُرَّاءِ فِي زَمَانِنَا وَإِذَا كَانَ هَذَا حُكْمَ مَنْ مَدَحَ الْفَاسِقَ فَكَيْفَ مَنْ مَدَحَ الظَّالِمَ وَرَكَنَ إلَيْهِ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَلَا تَرْكَنُوا إلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا } قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ النَّهْيُ مُتَنَاوِلٌ لِلِانْحِطَاطِ فِي هَوَاهُمْ وَالِانْقِطَاعِ إلَيْهِمْ وَمُصَاحَبَتِهِمْ وَالرِّضَا بِأَعْمَالِهِمْ وَالنِّسْبَةِ إلَيْهِمْ وَالتَّزَيِّي بِزِيِّهِمْ كَذَا فِي الْفَيْضِ . وَقِيلَ وَالْمَيْلُ بِأَدْنَى مَيْلٍ وَفِي الْفَيْضِ عَنْ الذَّهَبِيِّ قَالَ يَحْيَى كَذَّابٌ وَأَبُو حَاتِمٍ مُنْكَرُ الْأَحَادِيثِ . وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ سَنَدُهُ ضَعِيفٌ . ((1/232)
وَالرَّابِعُ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ ) أَيْ الْمَدْحَ ( لَا يُحْدِثُ فِي الْمَمْدُوحِ كِبْرًا أَوْ عُجْبًا أَوْ غُرُورًا ) يُعْلَمُ ذَلِكَ بِالْقَرَائِنِ وَالْأَمَارَاتِ وَسُوءُ الظَّنِّ إنَّمَا يُمْنَعُ عِنْدَ عَدَمِ دَلِيلِهِ وَقَرِينَتِهِ فَلَا يُنَافِي حُسْنَ الظَّنِّ الْمَأْمُورَ بِهِ وَقَدْ سَمِعْت مِرَارًا أَنَّ لِلْوَسَائِلِ حُكْمَ الْمَقَاصِدِ وَأَنَّ مَا يُفْضِي إلَى الْحَرَامِ حَرَامٌ وَأَمَّا إذَا أَحْدَثَ فِي الْمَمْدُوحِ كَمَالًا وَزِيَادَةَ مُجَاهَدَةٍ وَسَعْيَ طَاعَةٍ فَلَا مَنْعَ بَلْ لَهُ اسْتَجَابَ كَمَا فِي الْجَامِعِ عَلَى رِوَايَةِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ { إذَا مُدِحَ الْمُؤْمِنُ فِي وَجْهِهِ رَبَا الْإِسْلَامُ فِي قَلْبِهِ } أَيْ زَادَ إيمَانُهُ لِمَعْرِفَةِ نَفْسِهِ وَإِدْلَالِهِ بِهَا فَالْمُرَادُ الْمُؤْمِنُ الْكَامِلُ الَّذِي عَرَفَ نَفْسَهُ وَأَمِنَ عَلَيْهَا مِنْ نَحْوِ كِبْرٍ وَعُجْبٍ بَلْ يَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا لِزِيَادَتِهِ فِي الْعَمَلِ الصَّالِحِ الْمُؤَدِّي لِزِيَادَةِ إيمَانِهِ وَرُسُوخِ إيقَانِهِ وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَكُنْ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَمَدْحُهُ مِنْ أَعْظَمِ الْآفَاتِ كَمَا فِي خَبَرِ { إيَّاكُمْ وَالْمَدْحَ } ( تَتِمَّةٌ ) الْمُؤْمِنُ إذَا مُدِحَ اسْتَحْيَا مِنْ اللَّهِ أَنْ يُثْنَى عَلَيْهِ بِوَصْفٍ لَا يَشْهَدُهُ فِي نَفْسِهِ وَأَجْهَلُ النَّاسِ مَنْ تَرَكَ يَقِينَ مَا عِنْدَهُ لِظَنِّ مَا عِنْدَ النَّاسِ وَالزُّهَّادُ إذَا مُدِحُوا انْقَبَضُوا لِشُهُودِهِمْ الثَّنَاءَ مِنْ الْخَلْقِ وَالْعَارِفُونَ انْبَسَطُوا لِشُهُودِهِمْ ذَلِكَ مِنْ الْمَلِكِ الْحَقِّ كَذَا فِي الْفَيْضِ ( خ م عَنْ أَبِي بَكْرَةَ أَنَّهُ أَثْنَى رَجُلٌ عَلَى رَجُلٍ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله تعالى عليه وسلم فَقَالَ عليه الصلاة والسلام { وَيْلَك قَطَعْت عُنُقَ(1/233)
صَاحِبِك } ) بِنَحْوِ الْكِبْرِ وَالْفَخْرِ وَالْعَجَبِ بِمَدْحِك وَثَنَائِك ( { ثَلَاثًا } ) قَالَهُ ثَلَاثًا أَوْ كَرَّرَهُ ثَلَاثًا وَهُوَ مُنْتَهَى التَّأْكِيدِ ( ثُمَّ قَالَ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ . مَادِحًا أَخَاهُ لَا مَحَالَةَ ) أَلْبَتَّةَ ( فَلْيَقُلْ أَحْسَبُ ) أَيْ أَظُنُّ ( { فُلَانًا } ) أَوْ كَذَا فَلَا تَقُلْ فُلَانٌ صَالِحٌ أَلْبَتَّةَ عَلَى سَبِيلِ الْجَزْمِ بَلْ لِيَقُلْ أَحْسَبُ أَوْ أَظُنُّ فُلَانًا صَالِحًا ( { وَاَللَّهُ حَسِيبُهُ } ) عَالِمُهُ لِأَنَّهُ الْمُحِيطُ بِحَقِيقَةِ حَالِهِ أَوْ مُجَازِيهِ عَلَى أَعْمَالِهِ قِيلَ فِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الْمَدْحَ مَذْمُومٌ يَنْبَغِي أَنْ يُتْرَكَ مِنْ غَيْرِ دَاعِيَةٍ إلَيْهِ وَمِنْ هَذَا قِيلَ مَنْ مُدِحَ فَقَدْ ذُبِحَ ( { وَلَا أُزَكِّي عَلَى اللَّهِ أَحَدًا } ) أَيْ لَا أَقْطَعُ بِتَقْوَى وَلَا أَقُولُ بِزَكَائِهِ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنَّ ذَلِكَ غَيْبٌ عَنَّا عَدَّاهُ بِعَلَى لِتَضَمُّنِهِ مَعْنَى الْغَلَبَةِ لِأَنَّ مَنْ جَزَمَ عَلَى تَزْكِيَةِ أَحَدٍ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى فَكَأَنَّهُ غَلَبَ عَلَيْهِ فِي مَعْرِفَتِهِ ثُمَّ أَكَّدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ ( { أَحْسَبُ } ) فُلَانًا ( { كَذَا } ) عَالِمًا ( { وَكَذَا } ) أَيْ مُتَّقِيًا ( { إنْ كَانَ يَعْلَمُ } ) أَيْ يَظُنُّ ( { ذَلِكَ } ) أَيْ الْوَصْفَ ( { مِنْهُ } ) أَيْ الْمَمْدُوحِ فِيهِ إشَارَةٌ إلَى التَّضْيِيقِ فِي رُخْصَةِ الْمَدْحِ بِأَنَّ الْمَادِحَ وَإِنْ جَزَمَ بِوُجُودِ مَا مَدَحَهُ فِي الْمَمْدُوحِ لَا يَقُولُ فِي مَدْحِهِ عَلَى وَجْهِ الْيَقِينِ لِئَلَّا يَغْتَرَّ الْمَمْدُوحُ وَإِنْ لَمْ يَجْزِمْ لَا يَمْدَحُ . ((1/234)
م عَنْ ) ( الْمِقْدَادِ ) بْنِ الْأَسْوَدِ رضي الله تعالى عنه ( أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله تعالى عليه وسلم قَالَ { إذَا رَأَيْتُمْ الْمَدَّاحِينَ } ) الَّذِينَ صِنَاعَتُهُمْ الثَّنَاءُ عَلَى النَّاسِ وَالْمَدْحُ ( { فَاحْثُوا } ) فَارْمُوا ( { فِي وُجُوهِهِمْ التُّرَابَ } ) وَالْمُرَادُ زَجْرُ الْمَادِحِ وَالْحَثُّ عَلَى مَنْعِهِ مِنْ الْمَدْحِ لِإِيرَاثِهِ الْغُرُورَ وَالتَّكَبُّرَ أَوْ مَعْنَاهُ أَعْطُوهُمْ قَلِيلًا يُشْبِهُ التُّرَابَ لِقِلَّتِهِ وَخِسَّتِهِ أَوْ اقْطَعُوا أَلْسِنَتَهُمْ بِالْمَالِ فَإِنَّهُ شَيْءٌ حَقِيرٌ كَالتُّرَابِ وَهَذَا يُؤْذِنُ بِذَمِّ الِاحْتِرَافِ بِالشِّعْرِ فَلَا تُوَاخِ شَاعِرًا فَإِنَّهُ يَمْدَحُك بِثَمَنٍ وَيَهْجُوك مَجَّانًا قَالَ بَعْضُهُمْ الْكَلْبُ وَالشَّاعِرُ فِي مَنْزِلٍ فَلَيْتَ أَنِّي لَمْ أَكُنْ شَاعِرًا هَلْ هُوَ إلَّا بَاسِطٌ كَفَّهُ يَسْتَطْعِمُ الْوَارِدَ وَالصَّادِرَا ( برك ) ابْنُ الْمُبَارَكِ . ((1/235)
عَنْ يَحْيَى بْنِ جَابِرٍ رضي الله تعالى عنه أَنَّهُ قَالَ قَالَ صلى الله تعالى عليه وسلم { إذَا مَدَحْت أَخَاك فِي وَجْهِهِ فَكَأَنَّمَا أَمْرَرْت عَلَى حَلْقِهِ مُوسًى } ) هُوَ آلَةُ الْحَلْقِ ( { رَمِيضًا } ) حَادًّا يَعْنِي : سِكِّينًا حَادًّا لِأَنَّهُ يُحْدِثُ فِي الْمَمْدُوحِ كِبْرًا أَوْ عُجْبًا وَغُرُورًا غَالِبًا فَكَأَنَّهُ يُمِيتُهُ وَيُهْلِكُهُ وَعَلَى هَذَا الرَّابِعِ حُمِلَ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام { إذَا أَحْبَبْتُمْ أَنْ تَعْلَمُوا مَا لِلْعَبْدِ عِنْدَ رَبِّهِ فَانْظُرُوا مَا يَتْبَعُهُ مِنْ الثَّنَاءِ } لِأَنَّهُ قَالَ الْمُنَاوِيُّ فِي شَرْحِهِ فَإِذَا ذَكَرَهُ أَهْلُ الصَّلَاحِ فِي حَيَاتِهِ أَوْ بَعْدَ مَمَاتِهِ بِشَيْءٍ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ أَجْرَى عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ مَا لَهُ عِنْدَهُ فَإِنَّهُمْ يَنْطِقُونَ بِإِلْهَامِهِ تَعَالَى كَمَا يُفِيدُ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَتَتَكَلَّمَ عَلَى أَلْسِنَةِ بَنِي آدَمَ بِمَا فِي الْعَبْدِ مِنْ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ فَإِنْ خَيْرًا فَلْيَحْمَدْ اللَّهَ وَلَا يَعْجَبُ بَلْ يَكُونُ خَائِفًا مِنْ مَكْرِهِ الْخَفِيِّ وَإِنْ كَانَ شَرًّا فَلْيُبَادِرْ بِالتَّوْبَةِ وَيَقْرَبُ إلَيْهِ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام { إذَا أَحَبَّ اللَّهُ عَبْدًا قَذَفَ حُبَّهُ فِي قُلُوبِ الْمَلَائِكَةِ وَإِذَا أَبْغَضَ عَبْدًا قَذَفَ بُغْضَهُ فِي قُلُوبِ الْمَلَائِكَةِ ثُمَّ يَقْذِفُهُ أَيْ الْحُبَّ وَالْبُغْضَ فِي قُلُوبِ الْآدَمِيِّينَ } . ((1/236)
وَالْخَامِسُ أَنْ لَا يَكُونَ الْمَدْحُ لِغَرَضٍ حَرَامٍ أَوْ مُفْضِيًا إلَى فَسَادٍ مِثْلَ مَدْحِ حُسْنِ شَخْصٍ مُعَيَّنٍ مِنْ الْمُرْدِ وَالنِّسَاءِ بَيْنَ الْأَجَانِبِ لِتَحْرِيكِ الشَّهْوَةِ فِيهِمْ وَحَثِّهِمْ إلَى اللِّوَاطَةِ وَالزِّنَا ) وَالْأَوَّلُ لِلْأَوَّلِ وَالثَّانِي لِلثَّانِي أَوْ تَلَذُّذِ النَّفْسِ وَتَطْيِيبِ الْمَجْلِسِ بِهِ وَإِضْحَاكِهِمْ وَمِثْلُ مَدْحِ امْرَأَةٍ لِزَوْجِهَا أَجْنَبِيَّةً . وَقَدْ مَرَّ فِي ( حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ ) مَرْفُوعًا { لَا تُبَاشِرُ الْمَرْأَةُ الْمَرْأَةَ تَنْعَتُهَا لِزَوْجِهَا } ( وَمِثْلُ مَدْحِ الْأُمَرَاءِ وَالْقُضَاةِ لِيَتَوَسَّلَ بِهِ ) بِمَدْحِ الْمَمْدُوحِ ( إلَى الْمَالِ الْحَرَامِ ) الْمُجَازَى بِهِ مِنْهُمْ ( أَوْ التَّسَلُّطِ عَلَى النَّاسِ ) بِالْقُرْبِ مِنْ الظَّلَمَةِ ( وَظُلْمِهِمْ ) أَيْ النَّاسِ ( وَنَحْوِ ذَلِكَ ) مِنْ الْأَعْرَاضِ وَالْأَغْرَاضِ الْمَمْنُوعَةِ شَرْعًا وَأَمَّا الذَّمُّ الْمَذْمُومُ فَأَكْثَرُهُ دَاخِلٌ فِي الْكَذِبِ أَوْ لِغِيبَةٍ أَوْ التَّعْيِيرِ أَوْ اللَّمْزِ الطَّعْنِ فِي الْأَنْسَابِ ( وَمِمَّا لَمْ يَدْخُلْ ذَمُّ الطَّعَامِ تَرَفُّعًا ) إظْهَارًا لِلْكِبْرِ وَالرِّفْعَةِ .(1/237)
وَأَمَّا لِتَأْدِيبِ الْأَهْلِ وَإِصْلَاحِ الطَّعَامِ فَيَجُوزُ ( خ م عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله تعالى عنه أَنَّهُ قَالَ { مَا عَابَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله تعالى عليه وسلم طَعَامًا } ) مَا ذَكَرَ فِي طَعَامٍ مَا عَيْبًا لِأَنَّهُ إمَّا صُنْعُ الْخَالِقِ فَلَا يُعَابُ وَإِمَّا بِمُلَابَسَةِ عَمَلِ الْمَخْلُوقِ فَيَلْزَمُ كَسْرُ الْخَاطِرِ وَهُوَ جَابِرٌ لَا كَاسِرٌ ( { قَطُّ إنْ اشْتَهَاهُ أَكَلَهُ } ) مِنْ غَيْرِ شَرَهٍ وَلَا إكْثَارٍ ( { وَإِنْ كَرِهَهُ } ) لِعَدَمِ تَشَهِّيهِ ( { تَرَكَهُ } وَكَذَا ذَمُّ اللِّبَاسِ وَالدَّابَّةِ وَالْمَسْكَنِ وَنَحْوِهَا وَكُلُّ هَذَا دَاخِلٌ فِي التَّكَبُّرِ ) فَلَا حَاجَةَ إلَى عَدِّ الذَّمِّ مُسْتَقِلًّا
((1/238)
وَالْغَصْبُ ) هُوَ أَخْذُ مَالٍ مُتَقَوِّمٍ مُحْتَرَمٍ مِنْ يَدِ مَالِكِهِ بِلَا إذْنٍ لَا خُفْيَةً ( وَالْغُلُولُ ) أَيْ الْخِيَانَةُ فِي الْمَغْنَمِ ( وَالسَّرِقَةُ ) هِيَ أَخْذُ الْمَالِ خُفْيَةً ( وَأَخْذُ الزَّكَاةِ ) مِنْ مَالِهَا ( وَ ) أَخْذُ ( الْعُشْرِ وَالنَّذْرِ ) فَإِنَّ مَصْرِفَ الْعُشْرِ كَمَصْرِفِ الزَّكَاةِ ( وَ ) أَخْذُ ( صَدَقَةِ الْفِطْرَةِ وَ ) أَخْذُ ( الْكَفَّارَةِ ) كَفَّارَةِ يَمِينٍ أَوْ ظِهَارٍ أَوْ قَتْلٍ أَوْ جَزَاءِ صَيْدٍ ( وَ ) أَخْذُ ( اللُّقَطَةِ ) أَيْ الِانْتِفَاعُ بِهَا لَا أَخْذُهَا مُطْلَقًا فَإِنَّ رَفْعَهَا أَحَبُّ مِنْ تَرْكِهَا إنْ لَمْ يَخَفْ ضَيَاعَهَا وَأَمِنَ نَفْسَهُ عَلَيْهَا وَالْأَوْلَى عَدَمُ الْأَخْذِ إنْ وُجِدَ مَنْ يَأْخُذُ وَهِيَ إحْدَى الْمَسَائِلِ الثَّلَاثِ قَالَ الْإِمَامُ الْأَعْظَمُ خَدَعَتْنِي امْرَأَةٌ وَفَقَّهَتْنِي امْرَأَةٌ وَزَهَّدَتْنِي امْرَأَةٌ أَمَّا الْأُولَى قَالَ كُنْت مُجْتَازًا فَأَشَارَتْ إلَيَّ امْرَأَةٌ إلَى شَيْءٍ مَطْرُوحٍ فِي الطَّرِيقِ فَتَوَهَّمْت أَنَّهَا خَرْسَاءَ وَأَنَّ الشَّيْءَ لَهَا فَلَمَّا رَفَعْته إلَيْهَا قَالَتْ احْفَظْهُ حَتَّى تُسَلِّمْهُ لِصَاحِبِهِ الثَّانِيَةُ سَأَلَتْنِي امْرَأَةٌ عَنْ مَسْأَلَةٍ فِي الْحَيْضِ فَلَمْ أَعْرِفْهَا فَقَالَتْ قَوْلًا تَعَلَّمْت الْفِقْهَ مِنْ أَجْلِهِ الثَّالِثَةُ مَرَرْت بِبَعْضِ الطَّرَقَاتِ فَقَالَتْ امْرَأَةٌ هَذَا الَّذِي يُصَلِّي الْفَجْرَ بِوُضُوءِ الْعِشَاءِ فَتَعَمَّدْت ذَلِكَ حَتَّى صَارَ دَأْبِي كَمَا فِي آخِرِ الْأَشْبَاهِ وَوَاجِبٌ إنْ خَافَ الضَّيَاعَ وَقَالَ بَعْضٌ يَحِلُّ أَخْذُهَا وَتَرْكُهَا أَفْضَلُ وَبِهِ أَخَذَ أَحْمَدُ ( وَ ) أَخْذُ ( مَا وَجَبَ تَصَدُّقُهُ مِنْ الْمَالِ الْخَبِيثِ ) وَهُوَ فِي الْأَصْلِ مَا يُكْرَهُ(1/239)
لِرَدَاءَتِهِ وَخِسَّتِهِ وَيُسْتَعْمَلُ لِلْحَرَامِ مِنْ حَيْثُ كَرِهَهُ الشَّارِعُ وَلِلرَّدِيءِ مِنْ الْمَالِ وَكَوْنُ هَذِهِ الْأَخَذَاتِ آفَةً ( إنْ كَانَ ) الْآخِذُ ( غَنِيًّا غِنَى الْأُضْحِيَّةَ ) فَإِنْ قِيلَ الشَّرْطُ بَعْدَ الْمُتَعَاطِفَاتِ لِلْأَخِيرِ فَكَيْفَ هُنَا لِلْجَمِيعِ قُلْنَا هَذَا بَعْدَ الْجُمَلِ الْمُتَعَاطِفَةِ وَهُنَا لَيْسَ كَذَلِكَ وَلَوْ سَلِمَ فَالشَّرْطُ عِنْدَ الْإِمَامِ لِلْجَمِيعِ لَا لِلْأَخِيرِ كَالِاسْتِثْنَاءِ وَالْمَالُ الْخَبِيثُ كَالْأَخْذِ مِنْ الْبُيُوعَاتِ الْبَاطِلَةِ بَلْ الْفَاسِدَةِ وَالرِّبَا وَأَرْبَاحِ مَالِ الْوَدِيعَةِ وَالْغَصْبِ ( وَهُوَ يَمْلِكُ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ ) وَزْنَ سَبْعَةٍ ( أَوْ قِيمَتَهَا فَارِغَيْنِ ) أَيْ الدِّرْهَمَ وَالْقِيمَةَ ( عَنْ الدَّيْنِ ) وَالْمَهْرُ الْمُعَجَّلُ مَحْسُوبٌ لَا الْمُؤَجَّلُ ( وَ ) عَنْ ( الْحَوَائِجِ الْأَصْلِيَّةِ ) كَدُورِ السُّكْنَى وَثِيَابِ الْبَدَنِ وَأَثَاثِ الْمَنْزِلِ وَدَوَابِّ الرُّكُوبِ وَعَبِيدِ الْخِدْمَةِ وَسِلَاحِ الِاسْتِعْمَالِ وَكُتُبِ الْعِلْمِ لِأَهْلِهَا وَآلَاتِ الْمُحْتَرَفِينَ فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَخْذُ الشَّيْءِ مِمَّا ذُكِرَ لِمَنْ بَلَغَتْ قِيمَةُ حَوَائِجِهِ الْأَصْلِيَّةِ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَمَا فَوْقَهَا وَكَذَا لِمَنْ مَلَكَ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَمَا فَوْقَهَا فَارِغَةً عَنْ حَوَائِجِهِ الْأَصْلِيَّةِ لَكِنَّهُ مُطَالَبٌ مِنْ الْعِبَادِ بِمَا يَسْتَغْرِقُ ذَلِكَ أَوْ يَبْقَى مِنْهُ مَا لَا يَبْلُغُ هُوَ أَوْ قِيمَتُهُ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ وَلِذَلِكَ قَالَ فِي الْخُلَاصَةِ فَإِنْ كَانَ لَهُ طَعَامُ شَهْرٍ يُسَاوِي مِائَتَيْ دِرْهَمٍ يَجُوزُ صَرْفُ الزَّكَاةِ إلَيْهِ وَإِلَّا فَلَا وَقَالَ بَعْضُهُمْ يَجُوزُ وَإِنْ كَانَ عِنْدَهُ طَعَامُ سَنَةٍ أَقُولُ(1/240)
لَعَلَّ هَذَا عَلَى اخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ وَكَسُوبَاتِهَا كَطَلَبَةِ الْعِلْمِ فَمَنْ يُحَصِّلُ أَثَرَ كَسْبِهِ فِي سَنَةٍ كَالزِّرَاعَةِ فَيُعْتَبَرُ فِي حَقِّهِ سَنَةً وَمَنْ فِي شَهْرٍ سَنَةً فَكَذَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَفِيهِ أَيْضًا وَلَوْ كَانَ لَهُ كِسْوَةُ الشِّتَاءِ تُسَاوِي مِائَتَيْ دِرْهَمٍ وَهُوَ لَا يَحْتَاجُ إلَيْهَا فِي الصَّيْفِ يَجُوزُ أَخْذُ الزَّكَاةِ وَكَذَا لَوْ كَانَ لَهُ حَوَانِيتُ أَوْ دَارٌ غَلَّتِهِ تُسَاوِي ثَلَاثَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ وَغَلَّتُهَا لَا تَكْفِي لِقُوتِهِ وَقُوتِ عِيَالِهِ يَجُوزُ صَرْفُ الزَّكَاةِ إلَيْهِ عَنْ مُحَمَّدٍ رحمه الله وَلَوْ كَانَ لَهُ ضَيْعَةٌ تُسَاوِي ثَلَاثَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ وَلَا يَخْرُجُ مِنْهَا مَا يَكْفِي لَهُ وَلِعِيَالِهِ اخْتَلَفُوا فِيهِ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ يَجُوزُ لَهُ أَخْذُ الزَّكَاةِ وَلَوْ كَانَ لَهُ دَارٌ فِيهَا بُسْتَانٌ يُسَاوِي مِائَتَيْ دِرْهَمٍ إنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْبُسْتَانِ مَرَافِقُ الدَّارِ مِنْ الْمَطْبَخِ وَالْمُغْتَسَلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ صَرْفُ الزَّكَاةِ إلَيْهِ وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمَتَاعِ وَالْجَوَاهِرِ انْتَهَى
((1/241)
أَوْ ) كَانَ ( هَاشِمِيًّا ) وَلَوْ فَقِيرًا بَلْ إلَى مَوَالِيهِمْ أَيْضًا فَإِنَّهُ لَا تَجُوزُ الزَّكَاةُ وَالْكَفَّارَةُ وَجَزَاءُ الصَّيْدِ وَعُشْرُ الْأَرْضِ وَغَلَّةُ الْوَقْفِ إلَى بَنِي هَاشِمٍ لَكِنَّهُ لَوْ دَفَعَ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ ثُمَّ عَلِمَ جَازَ كَمَا فِي الْخُلَاصَةِ لَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَجُوزَ لِلْآخِذِ فَمِنْ قَبِيلِ مَا لَا يَجُوزُ أَخْذُهُ وَيَجُوزُ إعْطَاؤُهُ ثُمَّ الْهَاشِمِيُّ آلُ عَلِيٍّ وَآلُ عَقِيلٍ وَآلُ جَعْفَرٍ وَآلُ الْعَبَّاسِ لَا بَنُو أَبِي لَهَبٍ لِأَنَّ الشَّرْعَ أَبْطَلَ قَرَابَتَهُ فَمَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ فَكَغَيْرِهِ كَمَا فِي التتارخانية وَفِيهِ أَيْضًا عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله تعالى الْجَوَازُ بَعْدَهُ صلى الله تعالى عليه وسلم وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ جَوَازُ صَدَقَةِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ آخَرَ مِنْهُمْ لَكِنْ فِي النَّهْرِ صَوَابُهُ عَدَمُ الْجَوَازِ وَعَنْ مُحَمَّدٍ الْجَوَازُ مُطْلَقًا .(1/242)
وَفِي شَرْحِ الْمَجْمَعِ وَبِهِ نَأْخُذُ وَظَاهِرُ الِاخْتِيَارِ عَنْ الْمُنْتَقَى تَرْجِيحُهُ أَيْضًا فِي زَمَانِنَا لِعَدَمِ عَطِيَّتِهِمْ مِنْ الْخُمُسِ وَلِضَرُورَةِ الْحَاجَةِ كَمَا حَرَّرْنَا فِي حَوَاشِي الدُّرَرِ وَمِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يُنَبَّهَ عَلَيْهِ هُنَا مَنْ أُمُّهُ هَاشِمِيَّةٌ وَأَبُوهُ لَيْسَ كَذَلِكَ فَهَلْ يَجُوزُ وَضْعُ عَلَامَةٍ خَضْرَاءَ فِي رَأْسِهِ كَمَا لِلْأَشْرَافِ الْهَاشِمِيَّةِ أَمْ لَا وَهَلْ يَكُونُ شَرِيفًا أَمْ لَا أَجَابَ صَاحِبُ الْمِنَحِ النَّسَبُ لِلْآبَاءِ لَا لِلْأُمَّهَاتِ فَلَيْسَ مَنْ أُمُّهُ هَاشِمِيَّةٌ وَأَبُوهُ لَيْسَ كَذَلِكَ بِهَاشِمِيٍّ وَأَمَّا وَضْعُ الْعَلَامَةِ الْخَضْرَاءِ بِرَأْسِهِ فَلَا مَانِعَ مِنْ ذَلِكَ لِأَنَّ لَهُ نَسَبًا شَرِيفًا بِالنِّسْبَةِ إلَى غَيْرِهِ لَا سِيَّمَا وَقَدْ حَكَى فِي مَوْضِعٍ ثِقَةٌ عَنْ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ الْكُرْدِيِّ أَنَّ مَنْ لَهُ أُمٌّ سَيِّدَةٌ يَكُونُ سَيِّدًا حَكَاهُ عَنْهُ الشَّيْخُ حَمِيدُ الدِّينِ وَاسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ عِيسَى مِنْ أَوْلَادِ إسْحَاقَ وَإِنْ كَانَ الْمَشْهُورُ عَنْ مَشَايِخِنَا خِلَافَهُ وَبِهِ أَفْتَى شَيْخُنَا صَاحِبُ الْبَحْرِ الرَّائِقِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ كَذَا فِي الصُّرَّةِ .(1/243)
وَفِي رِسَالَةٍ مُسْتَقِلَّةٍ لِلسُّيُوطِيِّ عَنْ الْبَغَوِيّ أَوْلَادُ بَنَاتِ الْإِنْسَانِ لَا يُنْسَبُونَ إلَيْهِ وَإِنْ كَانُوا مَعْدُودِينَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ حَتَّى لَوْ أَوْصَى لِأَوْلَادِ فُلَانٍ لَا يَدْخُلُ وَلَدُ الْبِنْتِ فَلَا يُنْسَبُ أَوْلَادُ الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ إلَى النَّبِيِّ صلى الله تعالى عليه وسلم وَقَدْ فَرَّقَ الْفُقَهَاءُ بَيْنَ وَلَدِ الرَّجُلِ وَمَنْ يُنْسَبُ إلَيْهِ بِأَنَّ الْوَلَدَ دَخَلَ فِيهِ , الْبِنْتُ دُونَ النِّسْبَةِ وَأَمَّا نِسْبَةُ الْحَسَنَيْنِ فَبِنَصٍّ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ فَابْنُ الشَّرِيفَةِ لَا يَكُونُ شَرِيفًا إذَا لَمْ يَكُنْ أَبُوهُ شَرِيفًا فَلَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ الصَّدَقَةُ .(1/244)
وَأَمَّا وَضْعُ الْعَلَامَةِ الْخَضْرَاءِ فَلَيْسَ لَهَا وُقُوعٌ فِي الشَّرْعِ وَلَا فِي السُّنَّةِ وَلَا فِي الزَّمَنِ الْقَدِيمِ بَلْ حَدَثَتْ فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ بِأَمْرِ الْمَلِكِ شَعْبَانَ قَالَ شَارِحُ الْأَلْفِيَّةِ الْمَعْرُوفُ بِالْأَعْمَى وَالْبَصِيرِ جَعَلُوا لِأَبْنَاءِ الرَّسُولِ عَلَامَةً إنَّ الْعَلَامَةَ شَأْنُ مَنْ لَمْ يُشْهَرْ نُورُ النُّبُوَّةِ فِي وَسِيمِ وُجُوهِهِمْ يُغْنِي الشَّرِيفَ عَنْ الطِّرَازِ الْأَخْضَرِ وَخَطَّ الْفَقِيهُ أَنَّ هَذِهِ الْعَلَامَةَ بِدْعَةٌ مُبَاحَةٌ لَا يَمْنَعُ مَنْ أَتَى مِنْ غَيْرِ شَرِيفٍ وَلَا يُؤْمَرُ بِهَا مَنْ تَرَكَ مِنْ شَرِيفٍ وَلَمْ يَرِدْ بِلُبْسِهَا شَرْعٌ إبَاحَةً وَمَنْعًا هَذَا غَايَةُ عُصَارَةِ مَا فِي تِلْكَ الرِّسَالَةِ لَكِنْ لَا يَخْفَى أَنَّ عُرْفَ زَمَانِنَا يَقْتَضِي مَنْعَ تِلْكَ الْعَلَامَةِ عَنْ غَيْرِهِمْ لِأَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ لُزُومًا عَادِيًّا دَعْوَى السِّبْطِيَّةِ النَّبَوِيَّةِ وَقَدْ وَقَعَ فِي الصُّرَّةِ عَنْ مُعِينِ الْحُكَّامِ وَمَنْ انْتَسَبَ إلَى آلِ النَّبِيِّ صلى الله تعالى عليه وسلم يُضْرَبُ ضَرْبًا وَجِيعًا وَيُشْهَرُ وَيُحْبَسُ طَوِيلًا حَتَّى تَظْهَرَ تَوْبَتُهُ لِأَنَّهُ اسْتِخْفَافٌ بِحَقِّ الرَّسُولِ عليه الصلاة والسلام وَفِي حَدِيثِ مُسْلِمٍ عَنْ عَلِيٍّ مَرْفُوعًا { مَنْ ادَّعَى إلَى غَيْرِ أَبِيهِ أَوْ تَوَلَّى غَيْرَ مَوَالِيهِ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ } , وَمِثْلُهُ فِي الْجَامِعِ بِلَفْظٍ آخَرَ ( أَوْ كَانَ الْمُعْطِي ) لِمَا ذُكِرَ ( أَصْلَهُ أَوْ فَرْعَهُ ) وَإِنْ عَلَا وَإِنْ سَفَلَ قِيلَ هَذَا قَوْلُ بَعْضٍ فَعِنْدَ بَعْضٍ يَطِيبُ الْمَأْخُوذُ وَعِنْدَ بَعْضٍ لَا وَطَرِيقُ الْمُصَنِّفِ مَا هُوَ(1/245)
الْأَحْوَطُ ( فِيمَا عَدَا الْأَخِيرَيْنِ ) مِنْ الْمَالِ الْخَبِيثِ وَاللُّقَطَةِ فَيَجُوزُ عَلَى أَصْلِهِ وَفَرْعِهِ إنْ فَقِيرًا وَلَا يَكُونُ صَغِيرًا بَلْ عَلَى نَفْسِهِ وَعِرْسِهِ إنْ فَقِيرًا فِي اللُّقَطَةِ قِيلَ . وَكَذَا فِيمَا وَجَبَ تَصَدُّقُهُ مِنْ الْمَالِ الْخَبِيثِ لِأَنَّهُ لَا يُقَاوَمُ بِهِ قُرْبَةٌ ( وَأَخْذُ الصَّدَقَةِ وَالْهَدِيَّةِ مِمَّنْ يُعْلَمُ أَوْ يُظَنُّ ) فَلَا عِنْدَ الشَّكِّ ( أَنَّهُ إنَّمَا يُعْطِيهِ لِظَنِّهِ عَلَى صِفَةٍ مِنْ الْفَقْرِ أَوْ الْعِلْمِ أَوْ الصَّلَاحِ أَوْ التَّقْوَى أَوْ الْكَرَامَةِ أَوْ الْوِلَايَةِ أَوْ نَحْوِهَا ) مِنْ صِفَاتِ الْخَيْرِ وَالرِّفْعَةِ ( وَهُوَ ) أَيْ الْآخِذُ ( خَالٍ عَنْهَا ) عَنْ هَذِهِ الصِّفَةِ فَحِينَئِذٍ يَنْبَغِي أَنْ يَعْتَذِرَ . وَيَقُولَ لَعَلَّك ظَنَنْت أَنِّي فَقِيرٌ أَوْ عَالِمٌ أَوْ صَالِحٌ وَلَسْت أَنَا مِثْلَ مَا اعْتَقَدْت ثُمَّ أَقُولُ لَعَلَّ هَذَا إنَّمَا هُوَ طَرِيقُ التَّقْوَى وَأَمَّا فِي الْفَتْوَى فَيَجُوزُ إلَّا فِي الْغِنَى وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وفي فتح العلي المالك :
((1/246)
مَا قَوْلُ أَهْلِ الْعِلْمِ الذَّابِّينَ عَنْ الشَّرِيعَةِ الْمُطَهَّرَةِ كُلَّ زَائِغٍ وَآفِكٍ ) فِي رَجُلٍ ظَهَرَ مِنْ أَرْضِ الْحِجَازِ إلَى نَاحِيَةِ الْمَغْرِبِ وَمَعَهُ طَائِفَةٌ مِنْ النَّاسِ يَنْزِلُونَ بِأَطْرَافِ الْبِلَادِ وَيَحُثُّونَ النَّاسَ عَلَى تَعْظِيمِ شَيْخِهِمْ وَالدُّخُولِ فِي طَرِيقَتِهِ وَيُبَالِغُونَ فِي الْأَدَبِ مَعَهُ زِيَادَةً عَمَّا يَفْعَلُهُ الْأَعْوَانُ مَعَ الْمُلُوكِ حَتَّى إنَّهُمْ لَا يَدْخُلُونَ عَلَيْهِ إلَّا بَعْدَ تَكَرُّرِ الِاسْتِئْذَانِ فِي وَقْتٍ مَخْصُوصٍ وَيَزْعُمُونَ أَنَّ طَرِيقَ الْقَوْمِ كَذَلِكَ ثُمَّ إنَّ الْوَافِدِينَ إلَيْهِ لَا يَشْهَدُونَ مَعَهُ صَلَاةً فِي جَمَاعَةٍ وَكُلَّمَا أَقَامَ بِبَلَدٍ وَطَالَتْ إقَامَتُهُ بِهَا لَا يَحْضُرُ جُمُعَةً وَلَا جَمَاعَةً وَيَأْمُرُ النَّاسَ بِاتِّبَاعِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ قَوْلًا وَكُلَّمَا أَتَتْهُ طَائِفَةٌ يَقُولُ لَهُمْ تَوَجَّهُوا إلَى فُلَانٍ يُعْطِكُمْ الْوِرْدَ فَيَكْتُبُ لَهُمْ ذِكْرًا مَخْصُوصًا بِبِطَاقَةٍ وَيَدْفَعُهَا إلَيْهِ , وَيَقُولُ لَهُ الْزَمْ مَقَامَك الَّذِي أَنْتَ عَلَيْهِ وَلَوْ كَانَ جَابِيًا لِلْمُكُوسِ فَلَا يَنْهَاهُمْ عَنْ مُنْكَرٍ أَقَامُوا عَلَيْهِ وَيَدَّعُونَ أَنَّهُمْ شَاذِلِيَّةٌ وَيَجْهَرُونَ بِالْبَسْمَلَةِ فِي الْفَرْضِ وَيَسْكُتُ الْإِمَامُ بَعْدَ تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ سَكْتَةً وَبَعْدَ الْفَاتِحَةِ سَكْتَةً طَوِيلَةً وَيُوجِبُونَ قِرَاءَةَ الْمَأْمُومِ خَلْفَ الْإِمَامِ فِي الْجَهْرِيَّةِ وَيُطِيلُونَ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ طُولًا يَخْرُجُ عَنْ الْحَدِّ الْمَشْرُوعِ يُؤَدِّي إلَى افْتِتَانِ الْوَافِدِ عَلَيْهِمْ فِي صَلَاتِهِمْ وَيَقْنُتُونَ جَهْرًا مَعَ رَفْعِ أَيْدِيهِمْ وَيَقُولُونَ فِطْرُ رَمَضَانَ فِي السَّفَرِ أَفْضَلُ مِنْ(1/247)
صَوْمِهِ فِيهِ وَيَجْمَعُونَ الصَّلَاةَ وَيُقْصِرُونَهَا حَالَ إقَامَتِهِمْ فِي بَلَدٍ فِي أَثْنَاءِ السَّفَرِ وَلَوْ طَالَتْ وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ مَالِكِيَّةٌ وَالْتَبَسَ الْأَمْرُ عَلَى الْعَوَّام حَتَّى ظَنُّوا كُلَّ الظَّنِّ بِعُلَمَاءِ الْمَذْهَبِ الْكِتْمَانَ أَوْ الْجَهْلَ بِقَوَاعِد الْمَذْهَبِ وَيَزْعُمُونَ أَنَّ هَذِهِ هِيَ السُّنَّةُ الْوَارِدَةُ وَأَنَّ مَنْ خَالَفَهَا بِدْعِيٌّ وَبَعْضُهُمْ إذَا دَخَلَ الصَّلَاةَ يَصِيحُ وَلَا يُفِيقُ حَتَّى يُتِمَّ الْإِمَامُ صَلَاتَهُ وَيُصَلُّونَ بِالتَّيَمُّمِ الْوَاحِدِ فُرُوضًا وَيَقُولُونَ لَا يَنْقُضُ التَّيَمُّمَ إلَّا نَاقِضُ الْوُضُوءِ وَيُوجِبُونَ جَمِيعَ أَفْعَالِ الْوُضُوءِ وَغَالِبُ أَتْبَاعِهِ الْأُمَرَاءُ وَالْوُجَهَاءُ وَأَعْوَانُهُمْ وَلَا يَنْزِلُونَ إلَّا عَلَى مَشَايِخِ الْعُرْبَانِ وَمَنْ تَحَقَّقَ تَحْرِيمَ مَالِهِ وَاسْتِغْرَاقَ ذِمَّتِهِ وَيَأْكُلُونَ وَيَتَزَوَّدُونَ مِمَّا بِأَيْدِيهِمْ وَمَنْ تَعَفَّفَ عَنْ ذَلِكَ يَقُولُونَ لَهُ إنَّك لَمْ تَبْلُغْ مَا بَلَغَ الشَّيْخُ وَأَتْبَاعُهُ فَيَا عُلَمَاءَ الْإِسْلَامِ قَدْ أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْكُمْ بَيَانَ الْحَقِّ وَإِيضَاحَ الشَّرِيعَةِ وَالرَّدَّ عَلَى كُلِّ آفِكٍ مُغْتَرٍّ فَبَيِّنُوا لَنَا مَا عَلَيْهِ أَهْلُ الطَّرِيقَةِ وَالْإِمَامُ مَالِكٍ وَلَا تَسْتَدِلُّوا لَنَا إلَّا بِمَشْهُورِهِ وَخَاطِبُوا بِذَلِكَ الْأُمَرَاءَ وَالْعَامَّةَ وَأَوْجِزُوا فِي الْجَوَابِ , فَلَعَلَّ اللَّهَ بِأَنْفَاسِكُمْ يُلْهِمُ لِطَرِيقِ الصَّوَابِ بِجَاهِ النَّبِيِّ الْأَوَّابِ صلى الله عليه وسلم .(1/248)
فَأَجَابَ شَيْخُنَا الْعَلَّامَةُ مُصْطَفَى الْبُولَاقِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى رَحْمَةً وَاسِعَةً - بِقَوْلِهِ : الْحَمْدُ لِلَّهِ هَذَا التَّحَجُّبُ الْمَذْكُورُ عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ شَأْنُ جَبَابِرَةِ الظَّلَمَةِ وَدَعْوَى أَنَّ طَرِيقَةَ الصُّوفِيَّةِ هَكَذَا كَذِبٌ عَلَيْهِمْ وَافْتِرَاءٌ إنَّمَا طَرِيقُ الْقَوْمِ كَمَالُ الْمُتَابَعَةِ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَمُجَاهَدَةُ النُّفُوسِ فِي التَّخَلُّقِ بِأَخْلَاقِهِ الشَّرِيفَةِ وَقَدْ كَانَ سَيِّدُ الْمُتَوَاضِعِينَ صلوات الله وسلامه عليه يَصِلُ إلَيْهِ كُلُّ مَنْ أَرَادَ الْوُصُولَ مِنْ غَيْرِ مَشَقَّةٍ حَتَّى الْعَبْدُ وَالْمَرْأَةُ وَيَجْلِسُ مَعَ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ مِنْ أَهْلِ الصُّفَّةِ وَغَيْرِهِمْ وَإِنْكَارُ هَذَا الْأَمْرِ عِنَادٌ وَطَرِيقُ الْقَوْمِ لَا تَخْرُجُ عَنْ مُتَابَعَةِ الرَّسُولِ وَلَوْ خَرَجُوا لَمْ يَحِلَّ لِأَحَدٍ مُتَابَعَتُهُمْ وَمَا الْإِسْلَامُ إلَّا كِتَابُ اللَّهِ وَسُنَّةُ رَسُولِهِ وَكُلُّ مَا خَالَفَ ذَلِكَ بَاطِلٌ مَرْدُودٌ عَلَى صَاحِبِهِ كَائِنًا مَنْ كَانَ وَصَلَاةُ الْجَمَاعَةِ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ بَلْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بِوُجُوبِهَا فَعَدَمُ مُشَاهَدَةِ ذَلِكَ مِنْ هَذَا الرَّجُلِ أَعْظَمُ مَا يُقْدَحُ بِهِ فِي كَوْنِهِ صُوفِيًّا وَعَدَمُ حُضُورِ الْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَةِ وَهُوَ مُقِيمٌ فِي الْبَلَدِ الْإِقَامَةَ الطَّوِيلَةَ فُسُوقٌ وَمَاذَا عَلَيْهِ مِنْ الضَّرَرِ لَوْ حَضَرَ الْجُمُعَةَ وَالْجَمَاعَةَ مَعَ النَّاسِ مَا هَذَا إلَّا حِرْمَانٌ مِنْ الْخَيْرِ وَسُقُوطٌ مِنْ عَيْنِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إنَّهُمْ هُمْ الْكَاذِبُونَ وَأَمْرُ عَوَامِّ النَّاسِ بِاتِّبَاعِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ كَلِمَةُ حَقٍّ(1/249)
أُرِيدَ بِهَا بَاطِلٌ , إذْ مُرَادُهُ تَرْكُ الْمَذَاهِبِ الْمُتَّبِعَةِ وَأَخَذَ الْأَحْكَامِ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بِلَا وَاسِطَةٍ وَهَذَا ضَلَالٌ وَالْأَمْرُ بِهِ أَدَلُّ دَلِيلٍ عَلَى الْجَهْلِ إذْ مِنْ الْمَعْلُومِ لِكُلِّ أَحَدٍ أَنَّ النُّصُوصَ مِنْهَا الْمَنْسُوخُ وَمِنْهَا الْمَرْدُودُ لِطَعْنٍ فِي رُوَاتِهِ وَمِنْهَا مَا عَارَضَهُ أَقْوَى مِنْهُ فَتُرِكَ وَمِنْهَا الْمُطْلَقُ فِي مَحَلٍّ وَقَدْ قُيِّدَ فِي مَحَلٍّ آخَرَ , وَمِنْهَا الْمَصْرُوفُ عَنْ ظَاهِرِهِ لِأَمْرٍ اقْتَضَى ذَلِكَ وَمِنْهَا وَمِنْهَا وَلَا يُحَقِّقُ ذَلِكَ إلَّا الْأَئِمَّةُ الْمُجْتَهِدُونَ وَأَعْظَمُ مَا حُرِّرَ مِنْ مَذَاهِبِ الْمُجْتَهِدِينَ مَذَاهِبُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ الْمُتَّبِعِينَ لِكَثْرَةِ الْمُحَقِّقِينَ فِيهَا مَعَ سَعَةِ الِاطِّلَاعِ وَطُولِ الْبَاعِ فَالْخُرُوجُ عَنْ تَقْلِيدِهِمْ ضَلَالٌ وَالْأَمْرُ بِهِ جَهْلٌ وَعِصْيَانٌ وَوَاجِبٌ تَقْلِيدُ حَبْرٍ مِنْهُمْ وَالْأَمْرُ لِكُلِّ أَحَدٍ بِطَرِيقِ الْقَوْمِ خُرُوجٌ عَنْ مَنْهَجِ السَّادَةِ إذْ لَا بُدَّ مِنْ تَصْحِيحِ الْعَقَائِدِ أَوَّلًا ثُمَّ تَعَلُّمُ مَا يَجِبُ تَعَلُّمُهُ مِنْ ظَوَاهِرِ الشَّرْعِ ثُمَّ مَنْ طَلَبَ الطَّرِيقَ وَكَانَ فِيهِ أَهْلِيَّةٌ لِذَلِكَ أُخِذَ عَلَيْهِ الْعَهْدُ وَإِلَّا فَلَا وَبِهَذَا يَظْهَرُ أَنَّ الرَّجُلَ جَاهِلٌ بِظَوَاهِر الشَّرْعِ فَضْلًا عَنْ الطَّرِيقِ وَمَنْ هَذِهِ حَالَتُهُ يُحْرَمُ الْوَفَاءَ بِعَهْدِهِ لِأَنَّهُ كَأَخْذِ الدَّوَاءِ مِنْ غَيْرِ طَبِيبٍ فَرُبَّمَا سَعَى الْإِنْسَانُ فِي هَلَاكِ نَفْسِهِ وَهُوَ لَا يَشْعُرُ .(1/250)
وَقَوْلُ مُعْطِي الْوَرْدِ الْزَمْ مَقَامَك وَلَوْ كَانَ مَعْصِيَةً وَعَدَمُ اسْتِنَابَتِهِ وَعَدَمُ نَهْيِهِ عَنْ الْمُنْكَرِ حَرَامٌ وَفَاعِلُهُ مَلْعُونٌ فِي كُلِّ مِلَّةٍ { لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُد وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ } وَالْجَهْرُ بِالْبَسْمَلَةِ فِي صَلَاةِ الْفَرْضِ وَالسُّكُوتُ قَبْلَ الْفَاتِحَةِ وَبَعْدَهَا وَإِيجَابُ الْقِرَاءَةِ لِلْفَاتِحَةِ عَلَى الْمَأْمُومِ وَإِطَالَةُ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ وَالْجَهْرُ بِالْقُنُوتِ وَرَفْعُ الْيَدَيْنِ فِيهِ كُلُّ ذَلِكَ مُخَالِفٌ لِمَا فِي كُتُبِ الْمَالِكِيَّةِ الَّتِي بِأَيْدِينَا فَمَنْ نَسَبَهَا إلَيْهَا فَهُوَ مِنْ الْكَاذِبِينَ وَتَفْضِيلُ الْفِطْرِ فِي السَّفَرِ غَنِيٌّ عَنْ الرَّدِّ لِمُخَالَفَتِهِ لِنَصِّ الْقُرْآنِ الْعَزِيزِ وَكَأَنَّ شُبْهَتَهُمْ فِيهِ حَدِيثُ { لَيْسَ مِنْ الْبِرِّ الصِّيَامُ فِي السَّفَرِ } وَالْأَئِمَّةُ حَمَلُوهُ عَلَى مَنْ يَضُرُّهُ الصَّوْمُ جَمْعًا بَيْنَ الدَّلِيلَيْنِ وَهَؤُلَاءِ الْقَوْمُ لِجَهْلِهِمْ لَمْ يُحْسِنُوا التَّصَرُّفَ فِي الْأَدِلَّةِ فَخَالَفُوا مَا عَلَيْهِ النَّاسُ وَقَصْرُهُمْ الصَّلَاةَ فِي حَالِ الْإِقَامَةِ إنْ كَانَ مَعَ نِيَّةِ الْإِقَامَةِ أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ صِحَاحٍ أَوْ الْعِلْمُ بِهَا عَادَةً مُخَالِفٌ لِنُصُوصِ الْمَذْهَبِ وَصَلَاتُهُمْ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ بَاطِلَةٌ وَزَعْمُهُمْ أَنَّهُمْ مَالِكِيَّةٌ مَعَ هَذِهِ الْأَفْعَالِ الْمُخَالِفَةِ لِنُصُوصِ مَذْهَبِ مَالِكٍ أَمْرٌ يُكَذِّبُهُ الْعِيَانُ وَلَيْسَ بَعْدَ الْعِيَانِ بَيَانٌ وَعُلَمَاءُ الْمَذْهَبِ(1/251)
لَمْ يَكْتُمُوا شَيْئًا مِنْ النُّصُوصِ وَلَا جَهِلُوهُ وَمَنْ ظَنَّ بِهِمْ هَذَا الظَّنَّ وَجَبَتْ عَلَيْهِ التَّوْبَةُ لِأَنَّهُ ظَنُّ سُوءٍ بِعُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَدَعْوَاهُمْ هِيَ أَنَّ أَفْعَالَهُمْ هِيَ السُّنَّةُ وَأَنَّ خِلَافَهَا بِدْعَةٌ كَذِبٌ عَلَى الشَّرِيعَةِ بَاطِلٌ وَالْإِمَامُ مَالِكٌ رضي الله تعالى عنه أَعْلَمُ النَّاسِ بِالسُّنَّةِ وَأَهْلُ مَذْهَبِهِ أَشَدُّ النَّاسِ اتِّبَاعًا لِلسُّنَّةِ , وَأَفْعَالُ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ مُخَالِفَةٌ لِمَا عَلَيْهِ الْمَالِكِيَّةُ وَكُتُبُهُمْ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ كَثِيرَةٌ وَنُصُوصُهُمْ فِي رَدِّ هَذِهِ الْأَفْعَالِ صَرِيحَةٌ وَمَنْ أَحَبَّ فَلْيُرَاجِعْ وَصِيَاحُ بَعْضِهِمْ عِنْدَ الدُّخُولِ فِي الصَّلَاةِ تَلَاعُبٌ مِنْ الشَّيْطَانِ وَصَلَاةُ فَرْضَيْنِ بِتَيَمُّمٍ وَاحِدٍ لَا يَقُولُ بِهِ أَحَدٌ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ وَإِيجَابُ جَمِيعِ أَفْعَالِ الْوُضُوءِ لَا يَقُولُ بِهِ أَحَدٌ وَكَوْنُ غَالِبِ أَتْبَاعِ هَذَا الرَّجُلِ أَكَابِرَ النَّاسِ وَأَهْلَ الدُّنْيَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ كَلْبٌ مِنْ كِلَابِ الدُّنْيَا كَاذِبٌ فِي دَعْوَى التَّصَوُّفِ لِأَنَّ غَالِبَ أَتْبَاعِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ إنَّمَا هُمْ فُقَرَاءُ النَّاسِ وَضُعَفَاؤُهُمْ وَأَكْلُ الْمَالِ الْخَبِيثِ مَعْصِيَةٌ وَالِاحْتِجَاجُ عَلَى الْمُتَعَفِّفِ بِهَذَا الشَّيْخِ وَأَتْبَاعِهِ أَمْرٌ نَاشِئٌ عَنْ شِدَّةِ الْجَهْلِ وَالِاحْتِجَاجُ إنَّمَا يَكُونُ بِالنُّصُوصِ الشَّرْعِيَّةِ لَا بِفِعْلِ فُلَانٍ وَفُلَانٍ وَبِالْجُمْلَةِ فَهَؤُلَاءِ الْقَوْمُ وَإِنَّمَا هُمْ طُلَّابُ دُنْيَا وَفَعَلُوا هَذِهِ الْمُخَالَفَاتِ لِيَتَمَيَّزُوا بِهَا وَيَعْرِفُوا أَوَّلِيَّتَهُمْ إذْ ضَلُّوا تَرَكُوا النَّاسَ يَشْتَغِلُونَ بِمَذَاهِبِهِمْ وَلَمْ(1/252)
يُضِلُّوهُمْ بِكَذِبِهِمْ عَلَى الْمَذَاهِبِ بَلْ ضَلُّوا وَأَضَلُّوا فَالْوَاجِبُ عَلَى كُلِّ مَنْ أَرَادَ السَّلَامَةَ بِدِينِهِ وَالنَّجَاةَ مِنْ غَضَبِ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يَتَبَاعَدَ عَنْ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ أَشَدَّ التَّبَاعُدِ . وَمَعْلُومٌ لِكُلِّ أَحَدٍ أَنَّ رُتْبَةَ الِاجْتِهَادِ قَدْ انْقَطَعَتْ مُنْذُ أَزْمَانٍ وَأَنَّهُ لَيْسَ فِي هَذِهِ الْأَزْمَانِ أَحَدٌ مِنْ الَّذِينَ بَلَغُوا دَرَجَةَ الِاجْتِهَادِ وَمَنْ تَوَهَّمَ ذَلِكَ فَقَدْ ضَحِكَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ وَلَعِبَ بِهِ الشَّيْطَانُ وَعَلَى فَرْضِ الْوُجُودِ هَلْ يَعْتَقِدُ عَاقِلٌ أَنَّهُ أَعْظَمُ مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ حَتَّى يَتَّبِعَ وَيَتْرُكَ مَا عَلَيْهِ الْأَوَائِلُ وَالْوَاجِبُ عَلَى وُلَاةِ الْأُمُورِ وَكُلِّ مَنْ بَسَطَ اللَّهُ يَدَهُ أَنْ يَزْجُرَ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ وَيَمْنَعَهُمْ مِنْ إضْلَالِ النَّاسِ وَتَعْطِيلِ الْمَذَاهِبِ الْمُتَّبِعَةِ فَإِنْ لَمْ يَنْزَجِرُوا أُخْرِجُوا مِنْ الْبِلَادِ وَأُبْعِدُوا عَنْ الْعِبَادِ لِيَسْتَرِيحَ النَّاسُ مِنْ شَرِّهِمْ وَتَصْلُحَ أَحْوَالُهُمْ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وفي سبل السلام :(1/253)
بَابُ الْغَصْبِ ( عَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ { مَنْ اقْتَطَعَ شِبْرًا مِنْ الْأَرْضِ } ) أَيْ مَنْ أَخَذَهُ وَهُوَ أَحَدُ أَلْفَاظِ الصَّحِيحَيْنِ { ظُلْمًا طَوَّقَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إيَّاهُ مِنْ سَبْعِ أَرْضِينَ } مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ) اُخْتُلِفَ فِي مَعْنَى التَّطْوِيقِ فَقِيلَ مَعْنَاهُ يُعَاقَبُ بِالْخَسْفِ إلَى سَبْعِ أَرْضِينَ فَتَكُونُ كُلُّ أَرْضٍ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ طَوْقًا فِي عُنُقِهِ وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ خُسِفَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إلَى سَبْعِ أَرَضِينَ وَقِيلَ يُكَلَّفُ نَقْلَ مَا ظَلَمَهُ مِنْهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إلَى الْمَحْشَرِ وَيَكُونُ كَالطَّوْقِ فِي عُنُقِهِ لَا أَنَّهُ طَوْقٌ حَقِيقَةً وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ " { أَيُّمَا رَجُلٍ ظَلَمَ شِبْرًا مِنْ الْأَرْضِ كَلَّفَهُ اللَّهُ أَنْ يَحْفِرَهُ حَتَّى يَبْلُغَ آخِرَ سَبْعِ أَرْضِينَ ثُمَّ يُطَوِّقُهُ حَتَّى يَقْضِيَ بَيْنَ النَّاسِ } . أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ مِنْ حَدِيثِ يَعْلَى بْنِ مُرَّةَ مَرْفُوعًا .(1/254)
وَلِأَحْمَدَ وَالطَّبَرَانِيِّ { مَنْ أَخَذَ أَرْضًا بِغَيْرِ حَقِّهَا كُلِّفَ أَنْ يَحْمِلَ تُرَابَهَا إلَى الْمَحْشَرِ } وَفِيهِ قَوْلَانِ آخَرَانِ وَالْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى تَحْرِيمِ الظُّلْمِ وَالْغَصْبِ وَشِدَّةِ عُقُوبَتِهِ وَإِمْكَانِ غَصْبِ الْأَرْضِ وَأَنَّهُ مِنْ الْكَبَائِرِ وَأَنَّ مَنْ مَلَكَ أَرْضًا مَلَكَ أَسْفَلَهَا إلَى تُخُومِ الْأَرْضِ , وَلَهُ مَنْعُ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَحْفِرَ تَحْتَهَا سَرَبًا أَوْ بِئْرًا وَأَنَّهُ مَنْ مَلَكَ ظَاهِرَ الْأَرْضِ مَلَكَ بَاطِنَهَا بِمَا فِيهِ مِنْ حِجَارَةٍ أَوْ أَبْنِيَةٍ أَوْ مَعَادِنَ وَأَنَّ لَهُ أَنْ يَنْزِلَ بِالْحَفْرِ مَا شَاءَ مَا لَمْ يَضُرَّ مَنْ يُجَاوِرُهُ وَأَنَّ الْأَرْضِينَ السَّبْعَ مُتَرَاكِمَةٌ لَمْ يُفْتَقْ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ لِأَنَّهَا لَوْ فُتِقَتْ لَاكْتَفَى فِي حَقِّ هَذَا الْغَاصِبِ بِتَطْوِيقِ الَّتِي غَصَبَهَا لِانْفِصَالِهَا عَمَّا تَحْتَهَا وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْأَرْضَ تَصِيرُ مَغْصُوبَةً بِالِاسْتِيلَاءِ عَلَيْهَا وَهَلْ تُضْمَنُ إذَا تَلِفَتْ بَعْدَ الْغَصْبِ , فِيهِ خِلَافٌ فَقِيلَ لَا تُضْمَنُ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَضْمَنُ مَا أَخَذَ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم { عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تُؤَدِّيَهُ } قَالُوا وَلَا يُقَاسَ ثُبُوتُ الْيَدِ فِي غَيْرِ الْمَنْقُولِ عَلَى النَّقْلِ فِي الْمَنْقُولِ لِاخْتِلَافِهِمَا فِي التَّصَرُّفِ .(1/255)
وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إلَى أَنَّهَا تُضْمَنُ بِالْغَصْبِ قِيَاسًا عَلَى الْمَنْقُولِ الْمُتَّفَقِ عَلَى أَنَّهُ يُضْمَنُ بَعْدَ النَّقْلِ بِجَامِعِ الِاسْتِيلَاءِ الْحَاصِلِ فِي نَقْلِ الْمَنْقُولِ وَفِي ثُبُوتِ الْيَدِ عَلَى غَيْرِ الْمَنْقُولِ بَلْ الْحَقُّ أَنَّ ثُبُوتَ الْيَدِ اسْتِيلَاءٌ وَإِنْ لَمْ يُنْقَلْ يُقَالُ اسْتَوْلَى الْمَلِكُ عَلَى الْبَلَدِ , وَاسْتَوْلَى زَيْدٌ عَلَى أَرْضِ عَمْرٍو . وَقَوْلُهُ شِبْرًا كَذَا مَا فَوْقَهُ بِالْأَوْلَى وَمَا دُونَهُ دَاخِلٌ فِي التَّحْرِيمِ وَإِنَّمَا لَمْ يَذْكُرْ لِأَنَّهُ قَدْ لَا يَقَعُ إلَّا نَادِرًا . وَقَدْ وَقَعَ فِي بَعْضِ أَلْفَاظِهِ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ شَيْئًا عِوَضًا عَنْ شِبْرًا فَعَمَّ . إلَّا أَنَّ الْفُقَهَاءَ يَقُولُونَ : إنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْمَغْصُوبُ لَهُ قِيمَةٌ فَأَلْزَمُوا أَنَّهُ حِينَئِذٍ يَأْكُلُ الرَّجُلُ صَاعَ تَمْرٍ أَوْ زَبِيبٍ عَلَى وَاحِدَةٍ وَاحِدَةٍ فَلَا يَضْمَنُ فَيَأْكُلُ عُمُرَهُ مِنْ الْمَالِ الْحَرَامِ فَلَا يَضْمَنُ وَإِنْ أَثِمَ كَأَكْلِهِ مِنْ الْخُبْزِ وَاللَّحْمِ عَلَى لُقْمَةٍ لُقْمَةٍ مِنْ غَيْرِ اسْتِيلَاءٍ عَلَى الْجَمِيعِ .
وفي مطالب أولي النهى :
((1/256)
وَمَنْ بِيَدِهِ نَحْوُ غُصُوبٍ ) لَا يَعْرِفُ أَرْبَابَهَا , وَنَقَلَ الْأَثْرَمُ وَغَيْرُهُ أَوْ عَرَفَ رَبَّهَا , وَشَقَّ دَفْعُهُ إلَيْهِ وَهُوَ يَسِيرٌ كَحَبَّةٍ , أَوْ كَانَ بِيَدِهِ ( رُهُونٌ ) لَا يَعْرِفُ أَرْبَابَهَا , وَنَقَلَ أَبُو الْحَارِثِ : أَوْ عَلِمَ الْمُرْتَهِنُ رَبَّ الْمَالِ , لَكِنَّهُ أَيِسَ مِنْهُ ( أَوْ ) بِيَدِهِ ( أَمَانَاتٌ ) مِنْ وَدَائِعَ وَغَيْرِهَا ( لَا يَعْرِفُ أَرْبَابَهَا ) أَوْ لِحِرَفِهِمْ وَفُقِدُوا وَلَيْسَ لَهُمْ وَرَثَةٌ , ( فَسَلَّمَهَا ) - أَيْ : الْغُصُوبَ أَوْ الرُّهُونَ أَوْ الْأَمَانَاتِ الَّتِي لَا يَعْرِفُ أَرْبَابَهَا - ( إلَى حَاكِمٍ , وَيَلْزَمُهُ ) - أَيْ : الْحَاكِمَ - ( قَبُولُهَا ; بَرِئَ ) بِتَسْلِيمِهَا لِلْحَاكِمِ ( مِنْ عُهْدَتِهَا ) بِلَا نِزَاعٍ ; لِأَنَّ قَبْضَ الْحَاكِمِ لَهَا قَائِمٌ مَقَامَ قَبْضِ أَرْبَابِهَا لَهَا ; لِقِيَامِهِ مَقَامَهُمْ . ( وَلَهُ ) - أَيْ : مَنْ بِيَدِهِ الْغُصُوبُ وَنَحْوُهَا إنْ لَمْ يَدْفَعْهَا لِلْحَاكِمِ - ( الصَّدَقَةُ بِهَا مِنْهُمْ ) - أَيْ : عَنْ أَرْبَابِهَا بِلَا إذْنِ حَاكِمٍ - لِأَنَّ الْمَالَ يُرَادُ لِمَصْلَحَةِ الْمَعَاشِ أَوْ الْمَعَادِ , وَمَصْلَحَةُ الْمَعَادِ أَوْلَى الْمَصْلَحَتَيْنِ , وَقَدْ تَعَيَّنَتْ هَا هُنَا ; لِتَعَذُّرِ الْأُخْرَى . وَنَقَلَ الْمَرُّوذِيُّ : يُعْجِبُنِي الصَّدَقَةُ بِهَا .(1/257)
قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ : إذَا كَانَ بِيَدِ الْإِنْسَانِ غُصُوبٌ أَوْ عَوَارِي أَوْ وَدَائِعُ أَوْ رُهُونٌ قَدْ يَئِسَ مِنْ مَعْرِفَةِ أَصْحَابِهَا ; فَالصَّوَابُ أَنَّهُ يَتَصَدَّقُ بِهَا عَنْهُمْ , فَإِنَّ حَبْسَ الْمَالِ دَائِمًا لِمَنْ لَا يُرْجَى لَا فَائِدَةَ فِيهِ , بَلْ هُوَ تَعْرِيضٌ لِهَلَاكِ الْمَالِ وَاسْتِيلَاءِ الظُّلْمَةِ عَلَيْهِ , وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ قَدْ اشْتَرَى جَارِيَةً , فَدَخَلَ بَيْتَهُ لِيَأْتِيَ بِالثَّمَنِ فَخَرَجَ فَلَمْ يَجِدْ الْبَائِعَ فَجَعَلَ يَطُوفُ عَلَى الْمَسَاكِينِ وَيَتَصَدَّقُ عَلَيْهِمْ بِالثَّمَنِ , وَيَقُولُ : اللَّهُمَّ عَنْ رَبِّ الْجَارِيَةِ . وَكَذَلِكَ أَفْتَى بَعْضُ التَّابِعِينَ , مَنْ غَلَّ مِنْ الْغَنِيمَةِ , وَتَابَ بَعْدَ تَفَرُّقِهِمْ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِذَلِكَ عَنْهُمْ , وَرَضِيَ بِهَذِهِ الْفُتْيَا أَصْحَابُهُ وَالتَّابِعُونَ الَّذِينَ بَلَغَتْهُمْ كَمُعَاوِيَةَ وَغَيْرِهِ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ . وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمَجْهُولَ فِي الشَّرِيعَةِ كَالْمَعْدُومِ , فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَالَ : { لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا , } . وَقَالَ تَعَالَى : { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } . وَقَالَ صلى الله عليه وسلم : { إذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ } فَاَللَّهُ إذَا أَمَرَنَا بِأَمْرٍ كَانَ ذَلِكَ مَشْرُوطًا بِالْقُدْرَةِ عَلَيْهِ , وَالتَّمَكُّنِ مِنْ الْعَمَلِ بِهِ , فَمَا عَجَزْنَا عَنْ مَعْرِفَتِهِ وَالْعَمَلِ بِهِ سَقَطَ عَنَّا . انْتَهَى . وَقَالَ ( فِي " الْغُنْيَةِ " يَجِبُ عَلَيْهِ ذَلِكَ ) - أَيْ : التَّصَدُّقُ بِهَا . ((1/258)
وَيَتَّجِهُ حَمْلُهُ ) - أَيْ : لُزُومِ التَّصَدُّقِ - ( مَعَ عَدَمِ حَاكِمٍ أَهْلٍ ) لِلِائْتِمَانِ كَحُكَّامِنَا الْآنَ , فَإِنْ وُجِدَ حَاكِمٌ أَهْلٌ وَهُوَ أَنْدَرُ مِنْ الْكِبْرِيتِ الْأَحْمَرِ , فَلَا يَلْزَمُهُ التَّصَدُّقُ بِهَا , بَلْ يَكُونُ مُخَيَّرًا بَيْنَ دَفْعِهَا إلَيْهِ لِيَبْرَأَ مِنْ عُهْدَتِهَا وَبَيْنَ الصَّدَقَةِ بِهَا . وَهُوَ مُتَّجِهٌ . ( بِشَرْطِ ضَمَانِهَا ) لِأَرْبَابِهَا إذَا عَرَفَهُمْ ; لِأَنَّ الصَّدَقَةَ بِدُونِ الضَّمَانِ إضَاعَةٌ لِمَالِ الْمَالِكِ . لَا عَلَى وَجْهِ بَدَلٍ , وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ , وَلَهُ شِرَاءُ عَرَضٍ بِنَقْدٍ , وَيَتَصَدَّقُ بِهِ , وَلَا يَجُوزُ فِي ذَلِكَ مُحَابَاةُ قَرِيبٍ أَوْ غَيْرِهِ . نَصَّ عَلَيْهَا . وَكَذَا حُكْمُ مَسْرُوقٍ وَنَحْوِهِ ; ( كَلُقَطَةٍ ) حَرُمَ الْتِقَاطُهَا , وَلَمْ يُعَرِّفْهَا , فَيَتَصَدَّقُ بِهَا عَنْ رَبِّهَا بِشَرْطِ الضَّمَانِ , أَوْ يَدْفَعُهَا لِلْحَاكِمِ الْأَهْلِ كَمَا تَقَدَّمَ , وَإِذَا أُنْفِقَتْ كَانَتْ لِمَنْ يَأْخُذُ بِالْحَقِّ مُبَاحَةً ; كَمَا أَنَّهَا عَلَى مَنْ يَأْكُلُهَا بِالْبَاطِلِ مُحَرَّمَةٌ , وَبِكُلِّ حَالٍ تَرْكُ الْأَخْذِ أَجْوَدُ مِنْ الْقَبُولِ , وَإِذَا صَحَّ الْأَخْذُ كَانَ أَفْضَلَ , أَعْنِي الْأَخْذُ وَالصَّرْفُ إلَى الْمُحْتَاجِينَ مِنْ النَّاسِ إلَّا إذَا كَانَ مِنْ الْمَفَاسِدِ فَهُنَا التَّرْكُ أَوْلَى . ((1/259)
وَيَسْقُطُ عَنْهُ ) - أَيْ : الْغَاصِبِ وَالسَّارِقِ وَنَحْوِهِ - ( إثْمُ الْغَصْبِ ) أَوْ السَّرِقَةِ وَنَحْوِهَا ; لِأَنَّهُ مَعْذُورٌ بِعَجْزِهِ عَنْ الرَّدِّ ; لِجَهْلِهِ بِالْمَالِكِ وَثَوَابُهَا لِأَرْبَابِهَا , وَفِي الصَّدَقَةِ بِهَا عَنْهُمْ جَمْعٌ بَيْنَ مَصْلَحَةِ الْغَاصِبِ بِتَبْرِئَةِ ذِمَّتِهِ وَمَصْلَحَةِ الْمَالِكِ بِتَحْصِيلِ الثَّوَابِ لَهُ , وَنَقَلَ ابْنُ هَانِئٍ : يَتَصَدَّقُ أَوْ يَشْتَرِي بِهِ كُرَاعًا أَوْ سِلَاحًا [ يُوقَفُ هُوَ مَصْلَحَةً لِلْمُسْلِمِينَ . وَسَأَلَهُ جَعْفَرٌ عَمَّنْ بِيَدِهِ أَرْضٌ أَوْ كَرْمٌ لَيْسَ ] أَصْلُهُ طَيِّبًا وَلَا يَعْرِفُ رَبَّهُ . قَالَ : يُوقِفُهُ عَلَى الْمَسَاكِينِ , وَسَأَلَهُ الْمَرُّوذِيُّ عَمَّنْ مَاتَ , وَكَانَ يَدْخُلُ فِي أُمُورٍ تُكْرَهُ , فَيُرِيدُ بَعْضُ وَلَدِهِ التَّنَزُّهَ , فَقَالَ : إذَا وَقَفَهَا عَلَى الْمَسَاكِينِ , فَأَيُّ شَيْءٍ بَقِيَ عَلَيْهِ ؟ وَاسْتَحْسَنَ أَنْ يُوقِفَهَا عَلَى الْمَسَاكِينِ , وَيَتَوَجَّهُ عَلَى أَفْضَلِ الْبِرِّ . قَالَ ( ابْنُ رَجَبٍ وَعَلَيْهِ ) - أَيْ : عَلَى هَذَا الْأَصْلِ - وَهُوَ قَوْلُهُ : وَمَنْ بِيَدِهِ نَحْوُ غُصُوبٍ أَوْ أَمَانَاتٍ إلَى آخِرِهِ - ( يَتَخَرَّجُ جَوَازُ أَخْذُ الْفُقَرَاءِ الصَّدَقَةَ مِنْ يَدِ [ مَنْ ] مَالُهُ حَرَامٌ ; كَقُطَّاعِ الطَّرِيقِ ) . وَأَفْتَى الْقَاضِي بِجَوَازِهِ .(1/260)
وَيَتَّجِهُ جَوَازُ الْأَخْذِ مِنْ يَدِ [ مَنْ ] مَالُهُ حَرَامٌ - ( وَلَوْ بِغَيْرِ صَدَقَةٍ ) - كَالْأَخْذِ عَلَى وَجْهِ الشِّرَاءِ مِنْهُ ( وَالْهِبَةُ ) حَيْثُ جُهِلَ حَالُهُ ; لِأَنَّ الْأَصْلَ فِيمَا بِيَدِ الْمُسْلِمِ أَنَّهُ مِلْكُهُ , ثُمَّ إنْ كَانَتْ الدَّرَاهِمُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ قَدْ غَصْبَهَا هُوَ , وَلَمْ يَعْلَمْ الْقَابِضُ كَانَ جَاهِلًا بِذَلِكَ , وَالْمَجْهُولُ كَالْمَعْدُومِ . قَالَهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ . وَيَتَّجِهُ ( أَنَّ مِثْلَهُ ) - أَيْ : الْمَذْكُورِ - مِنْ الْمَالِ الْحَرَامِ ( كُلُّ مَالٍ جُهِلَ أَرْبَابُهُ , وَصَارَ مَرْجِعُهُ لِبَيْتِ الْمَالِ كَالْمُكُوسِ ) وَالْغُصُوبِ وَالْخِيَانَاتِ وَالسَّرِقَةِ الْمَجْهُولِ أَرْبَابُهَا ; فَيَجُوزُ لِلْفُقَرَاءِ أَخْذُهَا صَدَقَةً , وَيَجُوزُ أَخْذُهَا لَهُمْ وَلِغَيْرِهِمْ هِبَةً وَشِرَاءَ وَوَفَاءً عَنْ أُجْرَةٍ , سِيَّمَا إنْ أَعْطَاهَا الْغَاصِبُ لِمَنْ لَا يَعْلَمُ حَالَهُمْ , كَأَنْ قَبَضَهُ لَهَا بِحَقٍّ ; لِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يُكَلِّفْهُ مَا لَمْ يَعْلَمْ . قَالَهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ , وَهُوَ مُتَّجِهٌ .
وفي رد المحتار :
((1/261)
أَخْذُ الْبُغَاةِ ) وَالسَّلَاطِينِ الْجَائِرَةُ ( زَكَاةَ ) الْأَمْوَالَ الظَّاهِرَةَ كَا ( لسَّوَائِمِ وَالْعُشْرِ وَالْخَرَاجِ لَا إعَادَةَ عَلَى أَرْبَابِهَا إنْ صُرِفَ ) الْمَأْخُوذُ ( فِي مَحَلِّهِ ) الْآتِي ذِكْرُهُ ( وَإِلَّا ) يُصْرَفُ ( فِيهِ فَعَلَيْهِمْ ) فِيمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ اللَّهِ ( إعَادَةُ غَيْرِ الْخَرَاجِ ) لِأَنَّهُمْ مَصَارِفُهُ . وَاخْتُلِفَ فِي الْأَمْوَالِ الْبَاطِنَةِ ; فَفِي الْوَلْوَالِجيَّةِ وَشَرْحِ الْوَهْبَانِيَّةِ الْمُفْتَى بِهِ عَدَمُ الْإِجْزَاءِ . وَفِي الْمَبْسُوطِ الْأَصَحُّ الصِّحَّةُ إذَا نَوَى بِالدَّفْعِ لِظَلَمَةِ زَمَانِنَا الصَّدَقَةَ عَلَيْهِمْ لِأَنَّهُمْ بِمَا عَلَيْهِمْ مِنْ التَّبِعَاتِ فُقَرَاءُ , حَتَّى أُفْتِيَ أَمِيرُ بَلْخٍ بِالصِّيَامِ لِكَفَّارَةٍ عَنْ يَمِينِهِ ; وَلَوْ أَخَذَهَا السَّاعِي جَبْرًا لَمْ تَقَعْ زَكَاةً لِكَوْنِهَا بِلَا اخْتِيَارٍ وَلَكِنْ يُجْبَرُ بِالْحَبْسِ لِيُؤَدِّيَ بِنَفْسِهِ لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ لَا يُنَافِي الِاخْتِيَارَ . وَفِي التَّجْنِيسِ : الْمُفْتَى بِهِ سُقُوطُهَا فِي الْأَمْوَالِ الظَّاهِرَةِ لَا الْبَاطِنَةِ . ( وَلَوْ خَلَطَ السُّلْطَانُ الْمَالَ الْمَغْصُوبَ بِمَالِهِ مَلَكَهُ فَتَجِبُ الزَّكَاةُ فِيهِ وَيُورَثُ عَنْهُ ) ; لِأَنَّ الْخَلْطَ اسْتِهْلَاكٌ إذَا لَمْ يُمْكِنْ تَمْيِيزٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ , وَقَوْلُهُ أَرْفَقُ إذْ قَلَّمَا يَخْلُو مَالٌ عَنْ غَصْبٍ , وَهَذَا إذَا كَانَ لَهُ مَالٌ غَيْرُ مَا اسْتَهْلَكَهُ بِالْخَلْطِ مُنْفَصِلٌ عَنْهُ يُوَفِّي دَيْنَهُ وَإِلَّا فَلَا زَكَاةَ , كَمَا لَوْ كَانَ الْكُلُّ خَبِيثًا كَمَا فِي النَّهْرِ عَنْ الْحَوَاشِي السَّعْدِيَّةِ .(1/262)
وَفِي شَرْحِ الْوَهْبَانِيَّةِ عَنْ الْبَزَّازِيَّةِ : إنَّمَا يُكَفِّرُ إذَا تَصَدَّقَ بِالْحَرَامِ الْقَطْعِيِّ , أَمَّا إذَا أَخَذَ مِنْ إنْسَانٍ مِائَةً وَمِنْ آخَرَ مِائَةً وَخَلَطَهُمَا ثُمَّ تَصَدَّقَ لَا يُكَفِّرُ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِحَرَامٍ بِعَيْنِهِ بِالْقَطْعِ لِاسْتِهْلَاكِهِ بِالْخَلْطِ
((1/263)
قَوْلُهُ : أَخْذُ الْبُغَاةِ ) الْأَخْذُ لَيْسَ قَيْدًا احْتِرَازِيًّا حَتَّى لَوْ لَمْ يَأْخُذُوا مِنْهُ ذَلِكَ سِنِينَ وَهُوَ عِنْدَهُمْ لَمْ يُؤْخَذْ مِنْهُ شَيْءٌ أَيْضًا كَمَا فِي الْبَحْرِ والشُّرُنبُلالِيَّة عَنْ الزَّيْلَعِيِّ . وَالْبُغَاةُ قَوْمٌ مُسْلِمُونَ خَرَجُوا عَنْ طَاعَةِ الْإِمَامِ الْحَقِّ بِأَنْ ظَهَرُوا فَأَخَذُوا ذَلِكَ نَهْرٌ وَيَظْهَرُ لِي أَنَّ أَهْلَ الْحَرْبِ لَوْ غَلَبُوا عَلَى بَلْدَةٍ مِنْ بِلَادِنَا كَذَلِكَ لِتَعْلِيلِهِمْ أَصْلَ الْمَسْأَلَةِ بِأَنَّ الْإِمَامَ لَمْ يَحْمِهِمْ وَالْجِبَايَةُ بِالْحِمَايَةِ . وَفِي الْبَحْرِ وَغَيْرِهِ : لَوْ أَسْلَمَ الْحَرْبِيُّ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَأَقَامَ فِيهَا سِنِينَ ثُمَّ خَرَجَ إلَيْنَا لَمْ يَأْخُذْ مِنْهُ الْإِمَامُ الزَّكَاةَ لِعَدَمِ الْحِمَايَةِ وَنُفْتِيه بِأَدَائِهَا إنْ كَانَ عَالِمًا بِوُجُوبِهَا وَإِلَّا فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ ; لِأَنَّ الْخِطَابَ لَمْ يَبْلُغْهُ وَهُوَ شَرْطُ الْوُجُوبِ . ا هـ . وَسَيَأْتِي مَتْنًا فِي بَابِ الْعَاشِرِ أَنَّهُ لَوْ مَرَّ عَلَى عَاشِرِ الْخَوَارِجِ فَعَشَرُوهُ ثُمَّ مَرَّ عَلَى عَاشِرِ أَهْلِ الْعَدْلِ أُخِذَ مِنْهُ ثَانِيًا أَيْ لِتَقْصِيرِهِ بِمُرُورِهِ بِهِمْ ( قَوْلُهُ : وَالْخَرَاجِ ) أَيْ خَرَاجِ الْأَرْضِ كَمَا فِي غَايَةِ الْبَيَانِ . وَالظَّاهِرُ أَنَّ خَرَاجَ الرُّءُوسِ كَذَلِكَ نَهْرٌ . قُلْت : مَا اسْتَظْهَرَهُ صَرَّحَ بِهِ فِي الْمِعْرَاجِ ( قَوْلُهُ الْآتِي ذِكْرُهُ ) أَيْ فِي بَابِ الْمَصْرِفِ ( قَوْلُهُ فَعَلَيْهِمْ إلَخْ ) أَيْ دِيَانَةً كَمَا فِي بَعْضِ النُّسَخِ .(1/264)
قَالَ فِي الْهِدَايَةِ : وَأَفْتَوْا بِأَنْ يُعِيدُوهَا دُونَ الْخَرَاجِ ا هـ لَكِنْ هَذَا فِيمَا أَخَذَهُ الْبُغَاةُ لِتَعْلِيلِهِمْ بِأَنَّ الْبُغَاةَ لَا يَأْخُذُونَ بِطَرِيقِ الصَّدَقَةِ بَلْ بِطَرِيقِ الِاسْتِحْلَالِ فَلَا يَصْرِفُونَهَا إلَى مَصَارِفِهَا ا هـ أَمَّا السُّلْطَانُ الْجَائِرُ فَلَهُ وَلَايَةُ أَخْذِهَا وَبِهِ يُفْتَى كَمَا نَذْكُرُهُ قَرِيبًا عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ , نَعَمْ ذُكِرَ فِي الْمِعْرَاجِ عَنْ كَثِيرٍ مِنْ مَشَايِخِ بَلْخٍ أَنَّهُ كَالْبُغَاةِ ; لِأَنَّهُ لَا يَصْرِفُهُ إلَى مَصَارِفِهِ . وَفِي الْهِدَايَةِ أَنَّهُ الْأَحْوَطُ ( قَوْلُهُ : إعَادَةُ غَيْرِ الْخَرَاجِ ) مُوَافِقٌ لِمَا نَقَلْنَاهُ عَنْ الْهِدَايَةِ . قَالَ فِي الشُّرُنْبُلَالِيُّ : وَعَلَيْهِ اُقْتُصِرَ فِي الْكَافِي , وَذَكَرَ الزَّيْلَعِيُّ مَا يُفِيدُ ضَعْفَهُ حَيْثُ قَالَ وَقِيلَ لَا نُفْتِيهِمْ بِإِعَادَةِ الْخَرَاجِ ( قَوْلُهُ : لِأَنَّهُمْ مَصَارِفُهُ ) عِلَّةٌ لِمَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ أَمَّا الْخَرَاجُ فَلَا يُفْتُونَ بِإِعَادَتِهِ ; لِأَنَّهُمْ مَصَارِفُهُ , إذْ أَهْلُ الْبَغْيِ يَقْتُلُونَ أَهْلَ الْحَرْبِ وَالْخَرَاجُ حَقُّ الْمُقَاتِلَةِ شَرْحُ الْمُلْتَقَى ط ( قَوْلُهُ وَاخْتُلِفَ فِي الْأَمْوَالِ الْبَاطِنَةِ ) هِيَ النُّقُودُ وَعُرُوضُ التِّجَارَةِ إذَا لَمْ يَمُرَّ بِهَا عَلَى الْعَاشِرِ ; لِأَنَّهَا بِالْإِخْرَاجِ تَلْتَحِقُ بِالْأَمْوَالِ الظَّاهِرَةِ كَمَا يَأْتِي فِي بَابِهِ وَالْأَمْوَالُ الظَّاهِرَةُ هِيَ الَّتِي يَأْخُذُ زَكَاتَهَا الْإِمَامُ وَهِيَ السَّوَائِمُ وَمَا فِيهِ الْعُشْرُ وَالْخَرَاجُ وَمَا يَمُرُّ بِهِ عَلَى الْعَاشِرِ ; وَيُفْهَمُ مِنْ كَلَامِ الشَّارِحِ أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي الْأَمْوَالِ الظَّاهِرَةِ مَعَ أَنَّ فِيهَا خِلَافًا أَيْضًا .(1/265)
مَطْلَبٌ فِيمَا لَوْ صَادَرَ السُّلْطَانُ جَائِرًا فَنَوَى بِذَلِكَ أَدَاءَ الزَّكَاةِ إلَيْهِ قَالَ فِي التَّنْجِيسِ وَالْوَلْوَالِجِيَّة : السُّلْطَانُ الْجَائِرُ إذَا أَخَذَ الصَّدَقَاتِ قِيلَ إنْ نَوَى بِأَدَائِهَا إلَيْهِ الصَّدَقَةَ عَلَيْهِ لَا يُؤْمَرُ بِالْأَدَاءِ ثَانِيًا ; لِأَنَّهُ فَقِيرٌ حَقِيقَةَ . وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : الْأَحْوَطُ أَنْ يُفْتَى بِالْأَدَاءِ ثَانِيًا كَمَا لَوْ لَمْ يَنْوِ لِانْعِدَامِ الِاخْتِيَارِ الصَّحِيحِ , وَإِذَا لَمْ يَنْوِ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ يُؤْمَرُ بِالْأَدَاءِ ثَانِيًا . وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ : لَا لِكَوْنِ السُّلْطَانِ لَهُ وَلَايَةُ الْأَخْذِ فَيَسْقُطُ عَنْ أَرْبَابِ الصَّدَقَةِ , فَإِنْ لَمْ يَضَعْهَا مَوْضِعَهَا لَا يَبْطُلُ أَخْذُهُ وَبِهِ يُفْتَى , وَهَذَا فِي صَدَقَاتِ الْأَمْوَالِ الظَّاهِرَةِ . أَمَّا لَوْ أَخَذَ مِنْهُ السُّلْطَانُ أَمْوَالًا مُصَادَرَةً وَنَوَى أَدَاءَ الزَّكَاةِ إلَيْهِ , فَعَلَى قَوْلِ الْمَشَايِخِ الْمُتَأَخِّرِينَ يَجُوزُ . وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ وَبِهِ يُفْتَى ; لِأَنَّهُ لَيْسَ لِلظَّالِمِ وَلَايَةُ أَخْذِ الزَّكَاةِ مِنْ الْأَمْوَالِ الْبَاطِنَةِ . ا هـ . أَقُولُ : يَعْنِي وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَايَةُ أَخْذِهَا لَمْ يَصِحَّ الدَّفْعُ إلَيْهِ وَإِنْ نَوَى الدَّافِعُ بِهِ التَّصَدُّقَ عَلَيْهِ لِانْعِدَامِ الِاخْتِيَارِ الصَّحِيحِ , بِخِلَافِ الْأَمْوَالِ الظَّاهِرَةِ ; لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ لَهُ وَلَايَةُ أَخْذِ زَكَاتِهَا لَمْ يَضُرَّ انْعِدَامُ الِاخْتِيَارِ وَلِذَا تَجْزِيهِ سَوَاءً نَوَى التَّصْدِيقَ عَلَيْهِ أَوْ لَا .(1/266)
هَذَا , وَفِي مُخْتَارَاتِ النَّوَازِلِ : السُّلْطَانُ الْجَائِرُ إذَا أَخَذَ الْخَرَاجَ يَجُوزُ , وَلَوْ أَخَذَ الصَّدَقَاتِ أَوْ الْجِبَايَاتِ أَوْ أَخَذَ مَالًا مُصَادَرَةً إنْ نَوَى الصَّدَقَةَ عِنْدَ الدَّفْعِ قِيلَ يَجُوزُ أَيْضًا وَبِهِ يُفْتَى , وَكَذَا إذَا دَفَعَ إلَى كُلِّ جَائِرٍ نِيَّةَ الصَّدَقَةِ ; لِأَنَّهُمْ بِمَا عَلَيْهِمْ مِنْ التَّبِعَاتِ صَارُوا فُقَرَاءَ وَالْأَحْوَطُ الْإِعَادَةُ ا هـ وَهَذَا مُوَافِقٌ لِمَا صَحَّحَهُ فِي الْمَبْسُوطِ , وَتَبِعَهُ فِي الْفَتْحِ , فَقَدْ اخْتَلَفَ التَّصْحِيحُ وَالْإِفْتَاءُ فِي الْأَمْوَالِ الْبَاطِنَةِ إذَا نَوَى التَّصَدُّقَ بِهَا عَلَى الْجَائِرِ وَعَلِمْت مَا هُوَ الْأَحْوَطُ .(1/267)
قُلْت : وَشَمَلَ ذَلِكَ مَا يَأْخُذُهُ الْمُكَّاسُ ; لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ فِي الْأَصْلِ هُوَ الْعَاشِرَ الَّذِي يُنَصِّبُهُ الْإِمَامُ , لَكِنَّ الْيَوْمَ لَا يُنَصَّبُ لِأَخْذِ الصَّدَقَاتِ بَلْ لِسَلْبِ أَمْوَالِ النَّاسِ ظُلْمًا بِدُونِ حِمَايَةٍ فَلَا تَسْقُطُ الزَّكَاةُ بِأَخْذِهِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْبَزَّازِيَّةِ فَإِذَا نَوَى التَّصْدِيقَ عَلَيْهِ كَانَ عَلَى الْخِلَافِ الْمَذْكُورِ ( قَوْلُهُ : لِأَنَّهُمْ بِمَا عَلَيْهِمْ إلَخْ ) عِلَّةٌ لِقَوْلِهِ قَبْلَهُ الْأَصَحُّ الصِّحَّةُ , وَقَوْلُهُ بِمَا عَلَيْهِمْ تَعَلُّقٌ بِقَوْلِهِ فُقَرَاءَ ( قَوْلُهُ : حَتَّى أُفْتِيَ ) بِالْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ , وَالْمُفْتِي بِذَلِكَ مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ , وَأَمِيرُ بَلْخٍ هُوَ مُوسَى بْنُ عِيسَى بْنُ مَاهَانَ وَالِي خُرَاسَانَ سَأَلَهُ عَنْ كَفَّارَةِ يَمِينِهِ فَأَفْتَاهُ بِذَلِكَ , فَجَعَلَ يَبْكِي وَيَقُولُ لِحَشَمِهِ إنَّهُمْ يَقُولُونَ لِي مَا عَلَيْك مِنْ التَّبِعَاتِ فَوْقَ مَا لَك مِنْ الْمَالِ فَكَفَّارَتُك كَفَّارَةُ يَمِينِ مَنْ لَا يَمْلِكُ شَيْئًا . قَالَ فِي الْفَتْحِ : وَعَلَى هَذَا لَوْ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِلْفُقَرَاءِ فَدُفِعَ إلَى السُّلْطَانِ الْجَائِرِ سَقَطَ , ذَكَرَهُ قَاضِي خَانْ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ .(1/268)
وَعَلَى هَذَا فَإِنْكَارُهُمْ عَلَى يَحْيَى بْنِ يَحْيَى تِلْمِيذِ مَالِكٍ حَيْثُ أَفْتَى بَعْضُ مُلُوكِ الْمَغَارِبَةِ فِي كَفَّارَةٍ عَلَيْهِ بِالصَّوْمِ غَيْرُ لَازِمٍ , لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ لِلِاعْتِبَارِ الْمَذْكُورِ لَا لِكَوْنِ الصَّوْمِ أَشَقَّ عَلَيْهِ مِنْ الْإِعْتَاقِ , وَكَوْنُ مَا أَخَذَهُ خَلَطَهُ بِمَالِهِ بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُ تَمْيِيزُهُ فَيَمْلِكُهُ عِنْدَ الْإِمَامِ غَيْرُ مُضِرٍّ لِاشْتِغَالِ ذِمَّتِهِ بِمِثْلِهِ , وَالْمَدْيُونُ بِقَدْرِ مَا فِي يَدِهِ فَقِيرٌ ا هـ مُلَخَّصًا . قُلْت : وَإِفْتَاءُ ابْنِ سَلَمَةَ مَبْنِيٌّ عَلَى مَا صَحَّحَهُ فِي التَّقْرِيرِ مِنْ أَنَّ الدَّيْنَ لَا يَمْنَعُ التَّكْفِيرَ بِالْمَالِ , أَمَّا عَلَى مَا صَحَّحَهُ فِي الْكَشْفِ الْكَبِيرِ وَجَرَى عَلَيْهِ الشَّارِحُ فِيمَا مَرَّ تَبَعًا لِلْبَحْرِ وَالنَّهْرِ فَلَا ( قَوْلُهُ : لَمْ تَقَعْ زَكَاةً ) فِي بَعْضِ النُّسَخِ لَمْ تَصِحَّ زَكَاةً , وَعَزَا هَذَا فِي الْبَحْرِ إلَى الْمُحِيطِ . ثُمَّ قَالَ : وَفِي مُخْتَصَرِ الْكَرْخِيِّ إذَا أَخَذَهَا الْإِمَامُ كُرْهًا فَوَضَعَهَا مَوْضِعَهَا أَجْزَأَ ; لِأَنَّ لَهُ وَلَايَةَ أَخْذِ الصَّدَقَاتِ فَقَامَ أَخْذُهُ مَقَامَ دَفْعِ الْمَالِكِ . وَفِي الْقُنْيَةِ : فِيهِ إشْكَالٌ ; لِأَنَّ النِّيَّةَ فِيهِ شَرْطٌ وَلَمْ تُوجَدْ مِنْهُ . ا هـ . قُلْت : قَوْلُ الْكَرْخِيِّ فَقَامَ أَخْذُهُ إلَخْ يَصْلُحُ لِلْجَوَابِ تَأَمَّلْ . ثُمَّ قَالَ فِي الْبَحْرِ : وَالْمُفْتَى بِهِ التَّفْصِيلُ إنْ كَانَ فِي الْأَمْوَالِ الظَّاهِرَةِ يَسْقُطُ الْفَرْضُ ; لِأَنَّ لِلسُّلْطَانِ أَوْ نَائِبِهِ وَلَايَةَ أَخْذِهَا , وَإِنْ لَمْ يَضَعْهَا مَوْضِعَهَا لَا يَبْطُلُ أَخْذُهُ وَإِنْ كَانَ فِي الْبَاطِنَةِ فَلَا . ا هـ . ((1/269)
قَوْلُهُ : وَفِي التَّجْنِيسِ ) فِي بَعْضِ النُّسَخِ لَكِنْ بَدَلَ الْوَاوِ وَهُوَ اسْتِدْرَاكٌ عَلَى مَا فِي الْمَبْسُوطِ وَقَدْ أَسْمَعْنَاك آنِفًا مَا فِي التَّجْنِيسِ . وَقَدْ يَدَّعِي عَدَمَ الْمُخَالَفَةِ بَيْنَهُمَا بِحَمْلِ مَا فِي التَّنْجِيسِ عَلَى مَا إذَا دَفَعَ إلَى السُّلْطَانِ مَالَ الْمَكْسِ أَوْ الْمُصَادَرَةِ وَنَوَى بِهِ كَوْنَهُ زَكَاةً لِيَصْرِفَهُ السُّلْطَانُ فِي مَصَارِفِهِ وَلَمْ يَنْوِ بِذَلِكَ التَّصَدُّقَ بِهِ عَلَى السُّلْطَانِ , وَيُؤَيِّدُ هَذَا الْحَمْلَ قَوْلُهُ ; لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ وَلَايَةُ أَخْذِ الزَّكَاةِ مِنْ الْأَمْوَالِ الْبَاطِنَةِ فَلَا يُنَافِي ذَلِكَ قَوْلُ الْمَبْسُوطِ الْأَصَحُّ أَنَّ مَا يَأْخُذُهُ ظَلَمَةُ زَمَانِنَا مِنْ الْجِبَايَاتِ وَالْمُصَادَرَاتِ يَسْقُطُ عَنْ أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ إذَا نَوَوْا عِنْدَ الدَّفْعِ التَّصَدُّقَ عَلَيْهِمْ ; لِأَنَّهُمْ بِمَا عَلَيْهِمْ مِنْ التَّبِعَاتِ فُقَرَاءَ فَلْيُتَأَمَّلْ ( قَوْلُهُ : بِمَالِهِ ) مُتَعَلِّقٌ بِخَلَطَ , وَأَمَّا لَوْ خَلَطَهُ بِمَغْصُوبٍ آخَرَ فَلَا زَكَاةَ فِيهِ كَمَا يَذْكُرُهُ فِي قَوْلِهِ كَمَا لَوْ كَانَ الْكُلُّ خَبِيثًا ( قَوْلُهُ : لِأَنَّ الْخَلْطَ اسْتِهْلَاكٌ ) أَيْ بِمَنْزِلَتِهِ مَنْ حَيْثُ إنَّ حَقَّ الْغَيْرِ يَتَعَلَّقُ بِالذِّمَّةِ لَا بِالْأَعْيَانِ ط . ((1/270)
قَوْلُهُ : عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ) أَمَّا عَلَى قَوْلِهِمَا ضَمَانٌ , وَحِينَئِذٍ فَلَا يَثْبُتُ الْمِلْكُ ; لِأَنَّهُ فَرْعُ الضَّمَانِ , وَلَا يُورَثُ عَنْهُ ; لِأَنَّهُ مَالٌ مُشْتَرَكٌ وَإِنَّمَا يُورَثُ عَنْهُ حِصَّةُ الْمَيِّتِ مِنْهُ فَتْحٌ ( قَوْلُهُ : وَهَذَا إلَخْ ) الْإِشَارَةُ إلَى وُجُوبِ الزَّكَاةِ الَّذِي تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ فَتَجِبُ الزَّكَاةُ فِيهِ ( قَوْلُهُ : مُنْفَصِلٌ عَنْهُ ) الَّذِي فِي النَّهْرِ عَنْ الْحَوَاشِي : مَحَلُّ مَا ذَكَرُوهُ مَا إذَا كَانَ لَهُ مَالٌ غَيْرُ مَا اسْتَهْلَكَهُ بِالْخَلْطِ يُفْصَلُ عَنْهُ فَلَا يُحِيطُ الدَّيْنُ بِمَالِهِ . ا هـ . أَيْ يُفْصَلُ عَنْهُ بِمَا يَبْلُغُ نِصَابًا ( قَوْلُهُ : كَمَا لَوْ كَانَ الْكُلُّ خَبِيثًا ) فِي الْقُنْيَةِ لَوْ كَانَ الْخَبِيثُ نِصَابًا لَا يَلْزَمُهُ الزَّكَاةُ ; لِأَنَّ الْكُلَّ وَاجِبُ التَّصَدُّقِ عَلَيْهِ فَلَا يُفِيدُ إيجَابَ التَّصَدُّقِ بِبَعْضِهِ . ا هـ . وَمِثْلُهُ فِي الْبَزَّازِيَّةِ ( قَوْلُهُ : كَمَا فِي النَّهْرِ ) أَيْ أَوَّلِ كِتَابِ الزَّكَاةِ عِنْدَ قَوْلِ الْكَنْزِ وَمَلَكَ نِصَابَ حَوْلِيٍّ , وَمِثْلُهُ فِي الشُّرُنْبُلَالِيَّةِ , وَذَكَرَهُ فِي شَرْحِ الْوَهْبَانِيَّةِ بَحْثًا ; وَفِي الْفَصْلِ الْعَاشِرِ مِنْ التَّتَارْخَانِيَّة عَنْ فَتَاوَى الْحُجَّةِ : مَنْ مَلَكَ أَمْوَالًا غَيْرَ طَيِّبَةٍ أَوْ غَصَبَ أَمْوَالًا وَخَلَطَهَا مَلَكَهَا بِالْخَلْطِ وَيَصِيرُ ضَامِنًا , وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ سِوَاهَا نِصَابٌ فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ فِيهَا وَإِنْ بَلَغَتْ نِصَابًا ; لِأَنَّهُ مَدْيُونٌ وَمَالُ الْمَدْيُونِ لَا يَنْعَقِدُ سَبَبًا لِوُجُوبِ الزَّكَاةِ عِنْدَنَا . ا هـ .(1/271)
فَأَفَادَ بِقَوْلِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ سِوَاهَا نِصَابٌ إلَخْ أَنَّ وُجُوبَ الزَّكَاةِ مُقَيَّدٌ بِمَا إذَا كَانَ لَهُ نِصَابٌ سِوَاهَا , وَبِهِ يَنْدَفِعُ مَا اسْتَشْكَلَهُ فِي الْبَحْرِ مِنْ أَنَّهُ وَإِنْ مَلَكَهُ بِالْخَلْطِ فَهُوَ مَشْغُولٌ بِالدَّيْنِ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا تَجِبَ الزَّكَاةُ . ا هـ . لَكِنْ لَا يَخْفَى أَنَّ الزَّكَاةَ حِينَئِذٍ إنَّمَا تَجِبُ فِيمَا زَادَ عَلَيْهَا لَا فِيهَا . لَا يُقَالُ : يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ لَهُ مَالٌ سِوَاهَا مِمَّا لَا زَكَاةَ فِيهِ كَدُورِ السُّكْنَى وَثِيَابِ الْبِذْلَةِ مِمَّا يَبْلُغُ مِقْدَارَ مَا عَلَيْهِ أَوْ يَزِيدُ فَتَجِبُ الزَّكَاةُ فِيهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لَهُ نِصَابٌ آخَرُ سِوَاهَا ; لِأَنَّا نَقُولُ : إنَّهُ لَمَّا خَلَطَهَا مَلَكَهَا وَصَارَ مِثْلُهَا دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ لَا عَيْنَهَا , وَقَدَّمْنَا أَنَّ الدَّيْنَ يُصْرَفُ أَوَّلًا إلَى مَالِ الزَّكَاةِ دُونَ غَيْرِهِ , حَتَّى لَوْ تَزَوَّجَ عَلَى خَادِمٍ بِغَيْرِ عَيْنِهِ وَلَهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ وَخَادِمٌ صُرِفَ دَيْنُ الْمَهْرِ إلَى الْمِائَتَيْنِ دُونَ الْخَادِمِ : أَيْ فَلَوْ حَالَ الْحَوْلُ عَلَى الْمِائَتَيْنِ لَا زَكَاةَ عَلَيْهِ لِاشْتِغَالِهَا بِالدَّيْنِ مَعَ وُجُودِ مَا يَفِي بِهِ مِنْ جِنْسِهِ وَهُوَ الْخَادِمُ , وَهُنَا كَذَلِكَ مَا لَمْ يَمْلِكْ نِصَابًا زَائِدًا نَعَمْ تَظْهَرُ الثَّمَرَةُ فِيمَا إذَا أَبْرَأَهُ الْمَغْصُوبُ مِنْهُمْ كَمَا نَقَلَهُ فِي الْبَحْر عَنْ الْمُبْتَغَى بِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَقَالَ وَهُوَ قَيْدٌ حَسَنٌ يَجِبُ حِفْظُهُ . ا هـ . أَوْ إذَا صَالَحَ غُرَمَاءَهُ عَلَى عَقَارٍ مَثَلًا فَيَبْقَى مَا غَصَبَهُ سَالِمًا عَنْ الدَّيْنِ فَتَجِبُ زَكَاتُهُ .(1/272)
وَقَدْ يُجَابُ عَنْ الْإِشْكَالِ كَمَا أَفَادَهُ شَيْخُنَا بِأَنَّ الْمُرَادَ مَا إذَا لَمْ يَعْلَمْ أَصْحَابُ الْمَالِ الْمَغْصُوبِ ; لِأَنَّ الدَّيْنَ إنَّمَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الزَّكَاةِ إذَا كَانَ لَهُ مُطَالِبٌ مِنْ جِهَةِ الْعِبَادِ وَبِجَهْلِ أَصْحَابِهِ لَا يَبْقَى لَهُ مُطَالِبٌ فَلَا يَمْنَعُ وُجُوبَهَا قُلْت : لَكِنْ قَدَّمْنَا عَنْ الْقُنْيَةِ وَالْبَزَّازِيَّةِ أَنَّ مَا وَجَبَ التَّصَدُّقُ بِكُلِّهِ لَا يُفِيدُ التَّصَدُّقَ بِبَعْضِهِ ; لِأَنَّ الْمَغْصُوبَ إنْ عَلِمْت أَصْحَابَهُ أَوْ وَرَثَتَهُمْ وَجَبَ رَدُّهُ عَلَيْهِمْ وَإِلَّا وَجَبَ التَّصَدُّقُ بِهِ . وَأَيْضًا فَقَدْ مَرَّ أَنَّ الْأُمَرَاءَ بِمَا عَلَيْهِمْ مِنْ التَّبِعَاتِ , وَلَا شَكَّ أَنَّ غَالِبَ غُرَمَائِهِمْ مَجْهُولُونَ , وَتَقَدَّمَ أَيْضًا أَنَّ الْمُوصَى بِهِ لِلْفُقَرَاءِ لَوْ دَفَعَهُ إلَى السُّلْطَانِ الْجَائِرِ سَقَطَ , فَجَوَازُ أَخْذِهِ الزَّكَاةَ لِفَقْرِهِ يُنَافِي وُجُوبَهَا عَلَيْهِ وَإِنْ جَازَ أَخْذُهُ لَهَا مَعَ وُجُوبِهَا عَلَيْهِ لِعِلَّةٍ أُخْرَى كَعَدَمِ وُصُولِهِ إلَى مَا لَهُ كَابْنِ السَّبِيلِ وَمَنْ لَهُ دَيْنٌ مُؤَجَّلٌ تَأَمَّلْ . مَطْلَبٌ فِي التَّصَدُّقِ مِنْ الْمَالِ الْحَرَامِ ( قَوْلُهُ : وَفِي شَرْحِ الْوَهْبَانِيَّةِ إلَخْ ) فِيهِ دَفْعٌ لِمَا عَسَى يُورَدُ عَلَى قَوْلِ الْمَتْنِ فَتَجِبُ الزَّكَاةُ فِيهِ مِنْ أَنَّهُ مَالٌ خَبِيثٌ فَكَيْفَ يُزَكَّى مِنْهُ , لَكِنْ عَلِمْت أَنَّهُ لَا تَجِبُ زَكَاتُهُ إلَّا إذَا اسْتَبْرَأَ مِنْ صَاحِبِهِ أَوْ صَالَحَ عَنْهُ فَيَزُولُ خُبْثُهُ , نَعَمْ لَوْ أَخْرَجَ زَكَاةَ الْمَالِ الْحَلَالِ مِنْ مَالٍ حَرَامٍ ذَكَرَ فِي الْوَهْبَانِيَّةِ أَنَّهُ يُجْزِئُ عِنْدَ الْبَعْضِ , وَنَقَلَ الْقَوْلَيْنِ فِي الْقُنْيَةِ .(1/273)
وَقَالَ فِي الْبَزَّازِيَّةِ : وَلَوْ نَوَى فِي الْمَالِ الْخَبِيثِ الَّذِي وَجَبَتْ صَدَقَتُهُ أَنْ يَقَعَ عَنْ الزَّكَاةِ وَقَعَ عَنْهَا ا هـ أَيْ نَوَى فِي الَّذِي وَجَبَ التَّصَدُّقُ بِهِ لِجَهْلِ أَرْبَابِهِ , وَفِيهِ تَقْيِيدٌ لِقَوْلِ الظَّهِيرِيَّةِ : رَجُلٌ دَفَعَ إلَى فَقِيرٍ مِنْ الْمَالِ الْحَرَامِ شَيْئًا يَرْجُو بِهِ الثَّوَابَ يَكْفُرُ , وَلَوْ عَلِمَ الْفَقِيرُ بِذَلِكَ فَدَعَا لَهُ وَأَمَّنَ الْمُعْطِيَ كَفَرَا جَمِيعًا . وَنَظَمَهُ فِي الْوَهْبَانِيَّةِ وَفِي شَرْحِهَا : يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْمُؤَمِّنُ أَجْنَبِيًّا غَيْرَ الْمُعْطِي وَالْقَابِضِ , وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ عَنْهُ غَافِلُونَ وَمِنْ الْجُهَّالِ فِيهِ وَاقِعُونَ . ا هـ .(1/274)
قُلْت : الدَّفْعُ إلَى الْفَقِيرِ غَيْرُ قَيْدٍ بَلْ مِثْلُهُ فِيمَا يَظْهَرُ لَوْ بَنَى مِنْ الْحَرَامِ بِعَيْنِهِ مَسْجِدًا وَنَحْوَهُ مِمَّا يَرْجُو بِهِ التَّقَرُّبَ ; لِأَنَّ الْعِلَّةَ رَجَاءُ الثَّوَابِ فِيمَا فِيهِ الْعِقَابُ وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إلَّا بِاعْتِقَادِ حِلِّهِ ( قَوْلُهُ : إذَا تَصَدَّقَ بِالْحَرَامِ الْقَطْعِيِّ ) أَيْ مَعَ رَجَاءِ الثَّوَابِ النَّاشِئِ عَنْ اسْتِحْلَالِهِ كَمَا مَرَّ فَافْهَمْ ( قَوْلُهُ لَا يَكْفُرُ ) اقْتَصَرَ عَلَى نَفْيِ الْكُفْرِ ; لِأَنَّ التَّصَرُّفَ بِهِ قَبْلَ أَدَاءِ بَدَلِهِ لَا يَحِلُّ وَإِنْ مَلَكَهُ بِالْخَلْطِ كَمَا عَلِمْته وَفِي حَاشِيَةِ الْحَمَوِيِّ عَنْ الذَّخِيرَةِ : سُئِلَ الْفَقِيهُ أَبُو جَعْفَرٍ عَمَّنْ اكْتَسَبَ مَالَهُ مِنْ أُمَرَاءِ السُّلْطَانِ وَجَمَعَ الْمَالَ مِنْ أَخْذِ الْغَرَامَاتِ الْمُحَرَّمَاتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ هَلْ يَحِلُّ لِمَنْ عَرَفَ ذَلِكَ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ طَعَامِهِ ؟ قَالَ : أَحَبُّ إلَيَّ أَنْ لَا يَأْكُلَ مِنْهُ وَيَسَعَهُ حُكْمًا أَنْ يَأْكُلَهُ إنْ كَانَ ذَلِكَ الطَّعَامُ لَمْ يَكُنْ فِي يَدِ الْمُطْعِمِ غَصْبًا أَوْ رِشْوَةً ا هـ أَيْ إنْ لَمْ يَكُنْ عَيْنُ الْغَصْبِ أَوْ الرِّشْوَةِ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَمْلِكْهُ فَهُوَ نَفْسُ الْحَرَامِ فَلَا يَحِلُّ لَهُ وَلَا لِغَيْرِهِ . وَذَكَرَ فِي الْبَزَّازِيَّةِ هُنَا أَنَّ مَنْ لَا يَحِلُّ لَهُ أَخْذُ الصَّدَقَةِ فَالْأَفْضَلُ لَهُ أَنْ لَا يَأْخُذَ جَائِزَةَ السُّلْطَانِ .(1/275)
ثُمَّ قَالَ : وَكَانَ الْعَلَّامَةُ بِخُوَارِزْمَ لَا يَأْكُلُ مِنْ طَعَامِهِمْ وَيَأْخُذُ جَوَائِزَهُمْ , فَقِيلَ لَهُ فِيهِ , فَقَالَ : تَقْدِيمُ الطَّعَامِ يَكُونُ إبَاحَةً وَالْمُبَاحُ لَهُ يُتْلِفُهُ عَلَى مِلْكِ الْمُبِيحِ فَيَكُونُ آكِلًا طَعَامَ الظَّالِمِ وَالْجَائِزَةُ تَمْلِيكٌ فَيَتَصَرَّفُ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ . ا هـ . قُلْت : وَلَعَلَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْحَرَامَ لَا يَتَعَدَّى إلَى ذِمَّتَيْنِ , وَسَيَأْتِي تَحْقِيقُ خِلَافِهِ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ وَالْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ ( قَوْلُهُ : ; لِأَنَّهُ لَيْسَ بِحَرَامٍ بِعَيْنِهِ إلَخْ ) يُوهِمُ أَنَّهُ قَبْلَ الْخَلْطِ حَرَامٌ لِعَيْنِهِ مَعَ أَنَّ الْمُصَرَّحَ بِهِ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ أَنَّ مَالَ الْغَيْرِ حَرَامٌ لِغَيْرِهِ لَا لِعَيْنِهِ بِخِلَافِ لَحْمِ الْمَيْتَةِ وَإِنْ كَانَتْ حُرْمَتُهُ قَطْعِيَّةً , إلَّا أَنْ يُجَابَ بِأَنَّ الْمُرَادَ لَيْسَ هُوَ نَفْسَ الْحَرَامِ ; لِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِالْخَلْطِ , وَإِنَّمَا الْحَرَامُ التَّصَرُّفُ فِيهِ قَبْلَ أَدَاءِ بَدَلِهِ . فَفِي الْبَزَّازِيَّةِ قُبَيْلَ كِتَابِ الزَّكَاةِ : مَا يَأْخُذُهُ مِنْ الْمَالِ ظُلْمًا وَيَخْلِطُهُ بِمَالِهِ وَبِمَالِ مَظْلُومٍ آخَرَ يَصِيرُ مِلْكًا لَهُ وَيَنْقَطِعُ حَقُّ الْأَوَّلِ فَلَا يَكُونُ أَخْذُهُ عِنْدَنَا حَرَامًا مَحْضًا , نَعَمْ لَا يُبَاحُ الِانْتِفَاعُ بِهِ قَبْلَ أَدَاءِ الْبَدَلِ فِي الصَّحِيحِ مِنْ الْمَذْهَبِ . ا هـ .(1/276)
مَطْلَبٌ اسْتِحْلَالُ الْمَعْصِيَةِ الْقَطْعِيَّةِ كُفْرٌ لَكِنْ فِي شَرْحِ الْعَقَائِدِ النَّسَفِيَّةِ : اسْتِحْلَالُ الْمَعْصِيَةِ كُفْرٌ إذَا ثَبَتَ كَوْنُهَا مَعْصِيَةً بِدَلِيلٍ قَطْعِيٍّ , وَعَلَى هَذَا تَفَرَّعَ مَا ذَكَرَ فِي الْفَتَاوَى مِنْ أَنَّهُ إذَا اعْتَقَدَ الْحَرَامَ حَلَالًا , فَإِنْ كَانَ حُرْمَتُهُ لِعَيْنِهِ وَقَدْ ثَبَتَ بِدَلِيلٍ قَطْعِيٍّ يَكْفُرُ وَإِلَّا فَلَا بِأَنْ تَكُونَ حُرْمَتُهُ لِغَيْرِهِ أَوْ ثَبَتَ بِدَلِيلٍ ظَنِّيٍّ . وَبَعْضُهُمْ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الْحَرَامِ لِعَيْنِهِ وَلِغَيْرِهِ وَقَالَ مَنْ اسْتَحَلَّ حَرَامًا قَدْ عَلِمَ فِي دِينِ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام تَحْرِيمَهُ كَنِكَاحِ الْمَحَارِمِ فَكَافِرٌ . ا هـ . قَالَ شَارِحُهُ الْمُحَقِّقُ ابْنُ الْغَرْسِ وَهُوَ التَّحْقِيقُ . وَفَائِدَةُ الْخِلَافِ تَظْهَرُ فِي أَكْلِ مَالِ الْغَيْرِ ظُلْمًا فَإِنَّهُ يَكْفُرُ مُسْتَحِلُّهُ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ . ا هـ . وَحَاصِلُهُ أَنَّ شَرْطَ الْكُفْرِ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ شَيْئَانِ : قَطْعِيَّةُ الدَّلِيلِ , وَكَوْنُهُ حَرَامًا لِعَيْنِهِ . وَعَلَى الثَّانِي يُشْتَرَطُ الشَّرْطُ الْأَوَّلُ فَقَطْ وَعَلِمْت تَرْجِيحَهُ , وَمَا فِي الْبَزَّازِيَّةِ مَبْنِيٌّ عَلَيْهِ .
((1/277)
فُرِضَ ) سَنَةَ تِسْعٍ وَإِنَّمَا أَخَّرَهُ عليه الصلاة والسلام لِعَشْرٍ لِعُذْرٍ مَعَ عِلْمِهِ بِبَقَاءِ حَيَاتِهِ لِيُكْمِلَ التَّبْلِيغَ ( مَرَّةً ) لِأَنَّ سَبَبَهُ الْبَيْتُ وَهُوَ وَاحِدٌ وَالزِّيَارَةُ تَطَوُّعٌ وَقَدْ تَجِبُ كَمَا إذَا جَاوَزَ الْمِيقَاتَ بِلَا إحْرَامٍ فَإِنَّهُ كَمَا سَيَجِيءُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَحَدُ النُّسُكَيْنِ فَإِنْ اخْتَارَ الْحَجَّ اتَّصَفَ بِالْوُجُوبِ وَقَدْ يَتَّصِفُ بِالْحُرْمَةِ كَالْحَجِّ بِمَالٍ حَرَامٍ , وَبِالْكَرَاهَةِ كَالْحَجِّ بِلَا إذْنٍ مِمَّنْ يَجِبُ اسْتِئْذَانُهُ وَفِي النَّوَازِلِ : لَوْ كَانَ الِابْنُ صَبِيًّا فَلِلْأَبِ مَنْعُهُ حَتَّى يَلْتَحِيَ ( عَلَى الْفَوْرِ ) فِي الْعَامِ الْأَوَّلِ عِنْدَ الثَّانِي وَأَصَحُّ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ الْإِمَامِ وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ فَيُفَسَّقُ وَتُرَدُّ شَهَادَتُهُ بِتَأْخِيرِهِ أَيْ سِنِينًا لِأَنَّ تَأْخِيرَهُ صَغِيرَةٌ وَبِارْتِكَابِهِ مَرَّةً لَا يُفَسَّقُ إلَّا بِالْإِصْرَارِ بَحْرٌ وَوَجْهُهُ أَنَّ الْفَوْرِيَّةَ ظَنِّيَّةٌ لِأَنَّ دَلِيلَ الِاحْتِيَاطِ ظَنِّيٌّ , وَلِذَا أَجْمَعُوا أَنَّهُ لَوْ تَرَاخَى كَانَ أَدَاءً وَإِنْ أَثِمَ بِمَوْتِهِ قَبْلَهُ وَقَالُوا لَوْ لَمْ يَحُجَّ حَتَّى أَتْلَفَ مَالَهُ وَسِعَهُ أَنْ يَسْتَقْرِضَ وَيَحُجَّ وَلَوْ غَيْرَ قَادِرٍ عَلَى وَفَائِهِ وَيُرْجَى أَنْ لَا يُؤَاخِذَهُ اللَّهُ بِذَلِكَ , أَيْ لَوْ نَاوِيًا وَفَاءً إذَا قَدَرَ كَمَا قَيَّدَهُ فِي الظَّهِيرِيَّةِ .
((1/278)
قَوْلُهُ لِعُذْرٍ ) إمَّا لِأَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ بَعْدَ فَوَاتِ الْوَقْتِ , أَوْ لِخَوْفٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ عَلَى أَهْلِ الْمَدِينَةِ , أَوْ خَوْفِهِ عَلَى نَفْسِهِ صلى الله عليه وسلم أَوْ كُرْهِ مُخَالَطَةِ الْمُشْرِكِينَ فِي نُسُكِهِمْ إذْ كَانَ لَهُمْ عَهْدٌ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ زَيْلَعِيٌّ . وَقَدَّمَ الْأَوَّلَ لِمَا فِي حَاشِيَتِهِ لِلشَّلَبِيِّ عَنْ الْهَدْيِ لِابْنِ الْقَيِّمِ أَنَّ الصَّحِيحَ أَنَّ الْحَجَّ فُرِضَ فِي أَوَاخِرِ سَنَةِ تِسْعٍ , وَأَنَّ آيَةَ فَرْضِهِ هِيَ قوله تعالى - { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ } - وَهِيَ نَزَلَتْ عَامَ الْوُفُودِ أَوَاخِرَ سَنَةِ تِسْعٍ وَأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُؤَخِّرْ الْحَجَّ بَعْدَ فَرْضِهِ عَامًا وَاحِدًا , وَهَذَا هُوَ اللَّائِقُ بِهَدْيِهِ وَحَالِهِ صلى الله عليه وسلم وَلَيْسَ بِيَدِ مَنْ ادَّعَى تَقَدُّمَ فَرْضِ الْحَجِّ سَنَةَ سِتٍّ أَوْ سَبْعٍ أَوْ ثَمَانٍ أَوْ تِسْعٍ دَلِيلٌ وَاحِدٌ , وَغَايَةُ مَا احْتَجَّ بِهِ مَنْ قَالَ سَنَةَ سِتٍّ أَنَّ فِيهَا نَزَلَ قوله تعالى - { وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ } - وَهَذَا لَيْسَ فِيهِ ابْتِدَاءُ فَرْضِ الْحَجِّ وَإِنَّمَا فِيهِ الْأَمْرُ بِإِتْمَامِهِ إذَا شَرَعَ فِيهِ فَأَيْنَ هَذَا مِنْ وُجُوبِ ابْتِدَائِهِ . ا هـ . ( قَوْلُهُ مَعَ عِلْمِهِ إلَخْ ) جَوَابٌ آخَرُ غَيْرُ مُتَوَقِّفٍ عَلَى وُجُودِ الْعُذْرِ .(1/279)
وَحَاصِلُهُ أَنَّ وُجُوبَهُ عَلَى الْفَوْرِ لِلِاحْتِيَاطِ فَإِنَّ فِي تَأْخِيرِهِ تَعْرِيضًا لِلْفَوَاتِ , وَهُوَ مُنْتَفٍ فِي حَقِّهِ صلى الله عليه وسلم لِأَنَّهُ كَانَ يَعْلَمُ بَقَاءَ حَيَاتِهِ إلَى أَنْ يُعَلِّمَ النَّاسَ مَنَاسِكَهُمْ تَكْمِيلًا لِلتَّبْلِيغِ - لقوله تعالى { لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا } الْآيَةَ - فَهَذَا أَرْقَى فِي التَّعْلِيلِ وَلِذَا جُعِلَ الْأَوَّلُ تَابِعًا لَهُ فَهُوَ كَقَوْلِك : أَكْرِمْ زَيْدًا لِأَنَّهُ مُحْسِنٌ إلَيْك مَعَ أَنَّهُ أَبُوك ( قَوْلُهُ لِأَنَّ سَبَبَهُ الْبَيْتُ ) بِدَلِيلِ الْإِضَافَةِ فِي قوله تعالى - { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ } - فَإِنَّ الْأَصْلَ إضَافَةُ الْأَحْكَامِ إلَى أَسْبَابِهَا كَمَا تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ وَلَا يَتَكَرَّرُ الْوَاجِبُ إذَا لَمْ يَتَكَرَّرْ سَبَبُهُ وَلِحَدِيثِ مُسْلِمٍ " { يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ فُرِضَ عَلَيْكُمْ الْحَجُّ فَحُجُّوا فَقَالَ رَجُلٌ أَكُلَّ عَامٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَسَكَتَ حَتَّى قَالَهَا ثَلَاثًا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : لَوْ قُلْت نَعَمْ لَوَجَبَتْ وَلَمَا اسْتَطَعْتُمْ } " قَالَ فِي النَّهْرِ وَالْآيَةُ وَإِنْ كَانَتْ كَافِيَةً فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَى نَفْيِ التَّكْرَارِ لِأَنَّ الْأَمْرَ لَا يَحْتَمِلُهُ إلَّا أَنَّ إثْبَاتَ النَّفْيِ بِمُقْتَضَى النَّفْيِ أَوْلَى ( قَوْلُهُ وَقَدْ يَجِبُ ) أَيْ الْحَجُّ وَهَذَا عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ فُرِضَ ( قَوْلُهُ كَمَا إذَا جَاوَزَ الْمِيقَاتَ بِلَا إحْرَامٍ ) أَيْ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَعُودَ إلَى الْمِيقَاتِ وَيُلَبِّيَ مِنْهُ , وَكَذَا يَجِبُ عَلَيْهِ قَبْلَ الْمُجَاوَزَةِ قَالَ فِي الْهِدَايَةِ ثُمَّ الْآفَاقِيُّ إذَا انْتَهَى إلَى الْمَوَاقِيتِ عَلَى قَصْدِ دُخُولِ(1/280)
مَكَّةَ عَلَيْهِ أَنْ يُحْرِمَ قَصْدَ الْحَجِّ أَوْ الْعُمْرَةِ عِنْدَنَا أَوْ لَمْ يَقْصِدْ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم " { لَا يُجَاوِزُ أَحَدٌ الْمِيقَاتَ إلَّا مُحْرِمًا وَلَوْ لِتِجَارَةٍ } " وَلِأَنَّ وُجُوبَ الْإِحْرَامِ لِتَعْظِيمِ هَذِهِ الْبُقْعَةِ الشَّرِيفَةِ , فَيَسْتَوِي فِيهِ التَّاجِرُ وَالْمُعْتَمِرُ وَغَيْرُهُمَا ا هـ . قَالَ ح : فَتَحَصَّلَ مِنْ هَذَا أَنَّ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لَا يَكُونَانِ نَفْلًا مِنْ الْآفَاقِيِّ وَإِنَّمَا يَكُونَانِ نَفْلًا مِنْ الْبُسْتَانِيِّ وَالْحَرَمِيِّ . ا هـ .(1/281)
قُلْت : وَفِيهِ نَظَرٌ فَإِنَّ حُرْمَةَ مُجَاوَزَتِهِ بِدُونِ إحْرَامٍ لَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِحْرَامَ لَا يَكُونُ إلَّا وَاجِبًا مِنْ الْآفَاقِيِّ لِأَنَّ الْوَاجِبَ كَوْنُهُ مُتَلَبِّسًا بِالْإِحْرَامِ وَقْتَ الْمُجَاوَزَةِ , سَوَاءٌ كَانَ الْإِحْرَامُ بِحَجِّ نَفْلٍ أَوْ غَيْرِهِ لِأَنَّ الْإِحْرَامَ شَرْطٌ لِحِلِّ الْمُجَاوَزَةِ وَالشَّرْطُ لَا يَلْزَمُ تَحْصِيلُهُ مَقْصُودًا كَمَا مَرَّ فِي الِاعْتِكَافِ , وَنَظِيرُهُ أَيْضًا أَنَّ الْجُنُبَ لَا يَحِلُّ لَهُ دُخُولُ الْمَسْجِدِ , حَتَّى يَغْتَسِلَ فَإِذَا اغْتَسَلَ لِسُنَّةِ الْجُمُعَةِ مَثَلًا ثُمَّ دَخَلَ جَازَ , مَعَ أَنَّهُ إنَّمَا نَوَى الْغُسْلَ الْمَسْنُونَ , وَإِنَّمَا يَجِبُ إذَا أَرَادَ الدُّخُولَ , وَلَمْ يَغْتَسِلْ لِغَيْرِهِ وَهُنَا إذَا أَرَادَ مُجَاوَزَةَ الْمِيقَاتِ وَكَانَ قَاصِدًا لِلنُّسُكِ وَأَحْرَمَ بِنُسُكِ فَرْضٍ أَوْ مَنْذُورٍ أَوْ نَفْلٍ كَفَاهُ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ فِي تَعْظِيمِ الْبُقْعَةِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَاصِدًا لِذَلِكَ بِأَنْ قَصَدَ الدُّخُولَ لِتِجَارَةٍ مَثَلًا فَحِينَئِذٍ يَكُونُ إحْرَامُهُ وَاجِبًا وَنَظِيرُهُ تَحِيَّةُ الْمَسْجِدِ تَنْدَرِجُ فِي أَيِّ صَلَاةٍ صَلَّاهَا , فَإِنْ لَمْ يُصَلِّ فَلَا بُدَّ فِي تَحْصِيلِ السُّنَّةِ مِنْ صَلَاتِهَا عَلَى الْخُصُوصِ , هَذَا مَا ظَهَرَ لِي وَعَنْ هَذَا وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ فَرَضَ الشَّارِحُ تَبَعًا لِلْبَحْرِ وَالنَّهْرِ تَصْوِيرَ الْوُجُوبِ بِمَا إذَا جَاوَزَ الْمِيقَاتَ بِلَا إحْرَامٍ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْعَوْدُ إلَى الْمِيقَاتِ وَيُلَبِّي مِنْهُ , وَيَكُونُ إحْرَامُهُ حِينَئِذٍ وَاجِبًا إذَا كَانَ لِأَجْلِ الْمُجَاوَزَةِ أَمَّا لَوْ أَحْرَمَ قَبْلَهَا بِنُسُكِ فَرْضٍ , أَوْ نَذْرٍ أَوْ نَفْلٍ فَهُوَ عَلَى مَا(1/282)
نَوَى مِنْ فَرْضٍ أَوْ غَيْرِهِ وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ إحْرَامٌ خَاصٌّ لِأَجْلِ الْمُجَاوَزَةِ , وَحِينَئِذٍ فَلَا حَزَازَةَ فِي عِبَارَتِهِ فَافْهَمْ ( قَوْلُهُ كَمَا سَيَجِيءُ ) أَيْ قُبَيْلَ فَصْلِ الْإِحْرَامِ وَكَذَا قُبَيْلَ فَصْلِ الْإِحْصَارِ ( قَوْلُهُ فَإِنْ اخْتَارَ الْحَجَّ اتَّصَفَ بِالْوُجُوبِ ) فَيَكُونُ مِنْ قَبِيلِ الْوَاجِب الْمُخَيَّرِ أَيْ وَإِنْ اخْتَارَ الْعُمْرَةَ اتَّصَفَ بِالْوُجُوبِ , وَإِنَّمَا تَرَكَهُ لِعَدَمِ اقْتِضَاءِ الْمَقَامِ إيَّاهُ . ا هـ . ح .(1/283)
مَطْلَبٌ فِيمَنْ حَجّ بِمَالٍ حَرَامٍ ( قَوْلُهُ كَالْحَجِّ بِمَالٍ حَرَامٍ ) كَذَا فِي الْبَحْرِ وَالْأَوْلَى التَّمْثِيلُ بِالْحَجِّ رِيَاءً وَسُمْعَةً , فَقَدْ يُقَالُ إنَّ الْحَجَّ نَفْسَهُ الَّذِي هُوَ زِيَارَةُ مَكَان مَخْصُوصٍ إلَخْ لَيْسَ حَرَامًا بَلْ الْحَرَامُ هُوَ إنْفَاقُ الْمَالِ الْحَرَامِ , وَلَا تَلَازُمَ بَيْنَهُمَا , كَمَا أَنَّ الصَّلَاةَ فِي الْأَرْضِ الْمَغْصُوبَةِ تَقَعُ فَرْضًا , وَإِنَّمَا الْحَرَامُ شَغْلُ الْمَكَانِ الْمَغْصُوبِ لَا مِنْ حَيْثُ كَوْنُ الْفِعْلِ صَلَاةً لِأَنَّ الْفَرْضَ لَا يُمْكِنُ اتِّصَافُهُ بِالْحُرْمَةِ , وَهُنَا كَذَلِكَ فَإِنَّ الْحَجَّ فِي نَفْسِهِ مَأْمُورٌ بِهِ , وَإِنَّمَا يَحْرُمُ مِنْ حَيْثُ الْإِنْفَاقُ , وَكَأَنَّهُ أَطْلَقَ عَلَيْهِ الْحُرْمَةَ لِأَنَّ لِلْمَالِ دَخْلًا فِيهِ , فَإِنَّ الْحَجَّ عِبَادَةٌ مُرَكَّبَةٌ مِنْ عَمَل الْبَدَنِ وَالْمَالِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ , وَلِذَا قَالَ فِي الْبَحْرِ وَيَجْتَهِدُ فِي تَحْصِيلِ نَفَقَةٍ حَلَالٍ , فَإِنَّهُ لَا يُقْبَلُ بِالنَّفَقَةِ الْحَرَامِ كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ , مَعَ أَنَّهُ يَسْقُطُ الْفَرْضُ عَنْهُ مَعَهَا وَلَا تَنَافِي بَيْنَ سُقُوطِهِ , وَعَدَمِ قَبُولِهِ فَلَا يُثَابُ لِعَدَمِ الْقَبُولِ , وَلَا يُعَاقَبُ عِقَابَ تَارِكِ الْحَجِّ . ا هـ .(1/284)
أَيْ لِأَنَّ عَدَمَ التَّرْكِ يُبْتَنَى عَلَى الصِّحَّةِ : وَهِيَ الْإِتْيَانُ بِالشَّرَائِطِ , وَالْأَرْكَانُ وَالْقَبُولُ الْمُتَرَتِّبُ عَلَيْهِ الثَّوَابُ يُبْتَنَى عَلَى أَشْيَاءَ كَحِلِّ الْمَالِ وَالْإِخْلَاصِ كَمَا لَوْ صَلَّى مُرَائِيًا أَوْ صَامَ وَاغْتَابَ فَإِنَّ الْفِعْلَ صَحِيحٌ لَكِنَّهُ بِلَا ثَوَابٍ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ ( قَوْلُهُ مِمَّنْ يَجِبُ اسْتِئْذَانُهُ ) كَأَحَدِ أَبَوَيْهِ الْمُحْتَاجِ إلَى خِدْمَتِهِ وَالْأَجْدَادُ وَالْجَدَّاتُ كَالْأَبَوَيْنِ عِنْدَ فَقْدِهِمَا , وَكَذَا الْغَرِيمُ لِمَدْيُونٍ لَا مَالَ لَهُ يَقْضِي بِهِ , وَالْكَفِيلُ لَوْ بِالْإِذْنِ , فَيُكْرَهُ خُرُوجُهُ بِلَا إذْنِهِمْ كَمَا فِي الْفَتْحِ , وَظَاهِرُهُ أَنَّ الْكَرَاهَةَ تَحْرِيمِيَّةٌ وَلِذَا عَبَّرَ الشَّارِحُ بِالْوُجُوبِ , وَزَادَ فِي الْبَحْرِ عَنْ السَّيْرِ وَكَذَا إنْ كَرِهَتْ خُرُوجَهُ زَوْجَتُهُ وَمَنْ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُ . ا هـ . وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَا يَدْفَعُهُ لِلنَّفَقَةِ فِي غَيْبَتِهِ قَالَ فِي الْبَحْرِ : وَهَذَا كُلُّهُ فِي حَجِّ الْفَرْضِ .(1/285)
أَمَّا حَجُّ النَّفْلِ فَطَاعَةُ الْوَالِدَيْنِ أَوْلَى مُطْلَقًا كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْمُلْتَقَطِ ( قَوْلُهُ حَتَّى يَلْتَحِيَ ) وَإِنْ كَانَ الطَّرِيقُ مَخُوفًا لَا يَخْرُجُ وَإِنْ الْتَحَى بَحْرٌ عَنْ النَّوَازِلِ ( قَوْلُهُ عَلَى الْفَوْرِ ) هُوَ الْإِتْيَانُ بِهِ فِي أَوَّلِ أَوْقَاتِ الْإِمْكَانِ وَيُقَابِلُهُ قَوْلُ مُحَمَّدٍ إنَّهُ عَلَى التَّرَاخِي وَلَيْسَ مَعْنَاهُ تَعَيُّنَ التَّأْخِيرِ بَلْ بِمَعْنَى عَدَمِ لُزُومِ الْفَوْرِ ( قَوْلُهُ وَأَصَحُّ الرِّوَايَتَيْنِ ) لَا يَصْلُحُ عَطْفُهُ عَلَى الثَّانِي , فَهُوَ خَبَرُ مُبْتَدَإٍ مَحْذُوفٍ وَقَوْلُهُ عِنْدَ الثَّانِي : خَبَرُ مُبْتَدَإٍ مَحْذُوفٍ أَيْ هَذَا عِنْدَ الثَّانِي فَقَوْلُهُ وَأَصَحُّ عَطْفٌ عَلَيْهِ فَافْهَمْ ( قَوْلُهُ وَمَالِكُ وَأَحْمَدُ ) عَطْفٌ عَلَى الْإِمَامِ فَيُفِيدُ اخْتِلَافَ الرِّوَايَةِ عَنْهُمَا أَيْضًا , وَعِبَارَةُ شَرْحِ دُرَرِ الْبِحَارِ تُفِيدُهُ أَيْضًا حَيْثُ قَالَ : وَهُوَ أَصَحُّ الرِّوَايَاتِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ فَافْهَمْ . ((1/286)
قَوْلُهُ أَيْ سِنِينًا إلَخْ ) ذَكَرَهُ فِي الْبَحْرِ بَحْثًا وَأَتَى بِسِنِينَ مُنَوَّنًا لِأَنَّهُ قَدْ يَجْرِي مَجْرَى حِينٍ , وَهُوَ عِنْدَ قَوْمٍ مُطَّرِدٌ ( قَوْلُهُ إلَّا بِالْإِصْرَارِ ) أَيْ لَكِنْ بِالْإِصْرَارِ , فَهُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ لِعَدَمِ دُخُولِ الْإِصْرَارِ تَحْتَ الْمَرَّةِ ح ثُمَّ لَا يَخْفَى أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ الْفِسْقِ عَدَمُ الْإِثْمِ فَإِنَّهُ يَأْثَمُ وَلَوْ بِمَرَّةٍ وَفِي شَرْحِ الْمَنَارِ لِابْنِ نُجَيْمٍ عَنْ التَّقْرِيرِ لِلْأَكْمَلِ أَنَّ حَدَّ الْإِصْرَارِ أَنْ تَتَكَرَّرَ مِنْهُ تَكَرُّرًا يُشْعِرُ بِقِلَّةِ الْمُبَالَاةِ بِدِينِهِ إشْعَارَ ارْتِكَابِ الْكَبِيرَةِ بِذَلِكَ ا هـ وَمُقْتَضَاهُ أَنَّهُ غَيْرُ مُقَدَّرٍ بِعَدَدٍ بَلْ مُفَوَّضٌ إلَى الرَّأْيِ وَالْعُرْفِ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ بِمَرَّتَيْنِ لَا يَكُونُ إصْرَارًا وَلِذَا قَالَ : أَيْ سِنِينًا فَقَوْلُهُ فِي شَرْحِ الْمُلْتَقَى , فَيُفَسَّقُ وَتُرَدُّ شَهَادَتُهُ بِالتَّأْخِيرِ عَنْ الْعَامِ الْأَوَّلِ بِلَا عُذْرٍ غَيْرِ مُحَرَّرٍ لِأَنَّ مُقْتَضَاهُ حُصُولُهُ بِمَرَّةٍ وَاحِدَةٍ فَضْلًا عَنْ الْمَرَّتَيْنِ فَافْهَمْ ( قَوْلُهُ وَوَجْهُهُ إلَخْ ) أَيْ وَجْهُ كَوْنِ التَّأْخِيرِ صَغِيرَةً أَنَّ الْفَوْرِيَّةَ وَاجِبَةٌ لِأَنَّهَا ظَنِّيَّةٌ لِظَنِّيَّةِ دَلِيلِهَا وَهُوَ الِاحْتِيَاطُ لِأَنَّ فِي تَأْخِيرِهِ تَعْرِيضًا لَهُ لِلْفَوَاتِ , وَهُوَ غَيْرُ قَطْعِيٍّ فَيَكُونُ التَّأْخِيرُ مَكْرُوهًا تَحْرِيمًا لَا حَرَامًا لِأَنَّ الْحُرْمَةَ لَا تَثْبُتُ إلَّا بِقَطْعِيٍّ كَمُقَابِلِهَا , وَهُوَ الْفَرْضِيَّةُ وَمَا ذَكَرَهُ مَبْنِيٌّ عَلَى مَا قَالَهُ صَاحِبُ الْبَحْرِ فِي رِسَالَتِهِ الْمُؤَلَّفَةِ فِي بَيَانِ الْمَعَاصِي أَنَّ كُلَّ مَا كُرِهَ عِنْدَنَا(1/287)
تَحْرِيمًا فَهُوَ مِنْ الصَّغَائِرِ لَكِنَّهُ عَدَّ فِيهَا مِنْ الصَّغَائِرِ مَا هُوَ ثَابِتٌ بِقَطْعِيٍّ كَوَطْءِ الْمُظَاهِرِ مِنْهَا قَبْلَ التَّكْفِيرِ وَالْبَيْعِ عِنْدَ أَذَانِ الْجُمُعَةِ تَأَمَّلْ ( قَوْلُهُ كَانَ أَدَاءً ) أَيْ وَيَسْقُطُ عَنْهُ الْإِثْمُ اتِّفَاقًا كَمَا فِي الْبَحْرِ قِيلَ : الْمُرَادُ إثْمُ تَفْوِيتِ الْحَجِّ لَا إثْمُ التَّأْخِيرِ .(1/288)
قُلْت : لَا يَخْفَى مَا فِيهِ بَلْ الظَّاهِرُ أَنَّ الصَّوَابَ إثْمُ التَّأْخِيرِ إذْ بَعْدَ الْأَدَاءِ لَا تَفْوِيتَ وَفِي الْفَتْحِ : وَيَأْثَمُ بِالتَّأْخِيرِ عَنْ أَوَّلِ سِنِي الْإِمْكَانِ فَلَوْ حَجَّ بَعْدَهُ ارْتَفَعَ الْإِثْمُ ا هـ وَفِي الْقُهُسْتَانِيِّ : فَيَأْثَمُ عِنْدَ الشَّيْخَيْنِ بِالتَّأْخِيرِ إلَى غَيْرِهِ بِلَا عُذْرٍ إلَّا إذَا أَدَّى وَلَوْ فِي آخِرِ عُمُرِهِ فَإِنَّهُ رَافِعٌ لِلْإِثْمِ بِلَا خِلَافٍ ( قَوْلُهُ وَإِنْ أَثِمَ بِمَوْتِهِ قَبْلَهُ ) أَيْ بِالْإِجْمَاعِ كَمَا فِي الزَّيْلَعِيِّ , أَمَّا عَلَى قَوْلِهِمَا فَظَاهِرٌ , وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ فَإِنَّهُ وَإِنْ لَمْ يَأْثَمْ بِالتَّأْخِيرِ عِنْدَهُ لَكِنْ بِشَرْطِ الْأَدَاءِ قَبْلَ الْمَوْتِ فَإِذَا مَاتَ قَبْلَهُ ظَهَرَ أَنَّهُ آثِمٌ قِيلَ مِنْ السَّنَةِ الْأُولَى وَقِيلَ مِنْ الْأَخِيرَةِ مِنْ سَنَةِ رَأَى فِي نَفْسِهِ الضَّعْفَ , وَقِيلَ : يَأْثَمُ فِي الْجُمْلَةِ غَيْرُ مَحْكُومٍ بِمُعَيَّنٍ بَلْ عِلْمُهُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى كَمَا فِي الْفَتْحِ ( قَوْلُهُ وَسِعَهُ أَنْ يَسْتَقْرِضَ إلَخْ ) أَيْ جَازَ لَهُ ذَلِكَ وَقِيلَ يَلْزَمُهُ الِاسْتِقْرَاضُ كَمَا فِي لُبَابِ الْمَنَاسِكِ قَالَ مُنْلَا عَلَى الْقَارِيّ فِي شَرْحِهِ عَلَيْهِ , وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَضَعْفُهُ ظَاهِرٌ فَإِنَّ تَحَمُّلَ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى أَخَفُّ مِنْ ثِقَلِ حُقُوقِ الْعِبَادِ ا هـ .(1/289)
قُلْت : وَهَذَا يَرُدُّ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَيْضًا إنْ كَانَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ وَلَوْ غَيْرَ قَادِرٍ عَلَى وَفَائِهِ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ جِهَةُ وَفَاءٍ أَصْلًا أَمَّا لَوْ عَلِمَ أَنَّهُ غَيْرُ قَادِرٍ فِي الْحَالِ وَغَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ لَوْ اجْتَهَدَ قَدَرَ عَلَى الْوَفَاءِ فَلَا يُرَدُّ . وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا هُوَ الْمُرَادُ أُخِذَ مِمَّا ذَكَرَهُ فِي الظَّهِيرِيَّةِ أَيْضًا فِي الزَّكَاةِ حَيْثُ قَالَ إنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مَالٌ وَأَرَادَ أَنْ يَسْتَقْرِضَ لِأَدَاءِ الزَّكَاةِ فَإِنْ كَانَ فِي أَكْبَرِ رَأْيِهِ أَنَّهُ إذَا اجْتَهَدَ بِقَضَاءِ دَيْنِهِ قَدَرَ كَانَ الْأَفْضَلُ أَنْ يَسْتَقْرِضَ فَإِنْ اسْتَقْرَضَ وَأَدَّى وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى قَضَائِهِ حَتَّى مَاتَ يُرْجَى أَنْ يَقْضِيَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى دَيْنَهُ فِي الْآخِرَةِ وَإِنْ كَانَ أَكْبَرُ رَأْيِهِ أَنَّهُ لَوْ اسْتَقْرَضَ لَا يَقْدِرُ عَلَى قَضَائِهِ كَانَ الْأَفْضَلُ لَهُ عَدَمَهُ ا هـ وَإِذَا كَانَ هَذَا فِي الزَّكَاةِ الْمُتَعَلِّقِ بِهَا حَقُّ الْفُقَرَاءِ فَفِي الْحَجِّ أَوْلَى .
((1/290)
وَجَازَ أَخْذُ دَيْنٍ عَلَى كَافِرٍ مِنْ ثَمَنِ خَمْرٍ ) لِصِحَّةِ بَيْعِهِ ( بِخِلَافِ ) دَيْنٍ عَلَى ( الْمُسْلِمِ ) لِبُطْلَانِهِ إلَّا إذَا وَكَّلَ ذِمِّيًّا بِبَيْعِهِ فَيَجُوزُ عِنْدَهُ خِلَافًا لَهُمَا وَعَلَى هَذَا لَوْ مَاتَ مُسْلِمٌ وَتَرَكَ ثَمَنَ خَمْرٍ بَاعَهُ مُسْلِمٌ لَا يَحِلُّ لِوَرَثَتِهِ كَمَا بَسَطَهُ الزَّيْلَعِيُّ وَفِي الْأَشْبَاهِ الْحُرْمَةُ تَنْتَقِلُ مَعَ الْعِلْمِ إلَّا لِلْوَارِثِ إلَّا إذَا عَلِمَ رَبُّهُ . قُلْت : وَمَرَّ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ لَكِنْ فِي الْمُجْتَبَى مَاتَ وَكَسْبُهُ حَرَامٌ فَالْمِيرَاثُ حَلَالٌ ثُمَّ رَمَزَ وَقَالَ لَا نَأْخُذُ بِهَذِهِ الرِّوَايَةِ وَهُوَ حَرَامٌ مُطْلَقًا عَلَى الْوَرَثَةِ فَتَنَبَّهْ .
((1/291)
قَوْلُهُ مِنْ ثَمَنِ خَمْرٍ ) بِأَنْ بَاعَ الْكَافِرُ خَمْرًا وَأَخَذَ ثَمَنَهَا وَقَضَى بِهِ الدَّيْنَ ( قَوْلُهُ لِصِحَّةِ بَيْعِهِ ) أَيْ بَيْعِ الْكَافِرِ الْخَمْرَ , لِأَنَّهَا مَالٌ مُتَقَوِّمٌ فِي حَقِّهِ فَمَلَكَ الثَّمَنَ فَيَحِلُّ الْأَخْذُ مِنْهُ بِخِلَافِ الْمُسْلِمِ لِعَدَمِ تَقَوُّمِهَا فِي حَقِّهِ فَبَقِيَ الثَّمَنُ عَلَى مِلْكِ الْمُشْتَرِي ( قَوْلُهُ بَاعَهُ مُسْلِمٌ ) عَدَلَ عَنْ قَوْلِ الزَّيْلَعِيِّ بَاعَهُ هُوَ لِيَشْمَلَ مَا إذَا كَانَ الْبَائِعُ هُوَ الْمُسْلِمَ الْمَيِّتَ أَوْ مُسْلِمٌ غَيْرُهُ بِالْوَكَالَةِ عَنْهُ ( قَوْلُهُ كَمَا بَسَطَهُ الزَّيْلَعِيُّ ) حَيْثُ قَالَ لِأَنَّهُ كَالْمَغْصُوبِ وَقَالَ فِي النِّهَايَةِ : قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا : كَسْبُ الْمُغَنِّيَةِ كَالْمَغْصُوبِ لَمْ يَحِلَّ أَخْذُهُ , وَعَلَى هَذَا قَالُوا لَوْ مَاتَ الرَّجُلُ وَكَسْبُهُ مِنْ بَيْعِ الْبَاذَقِ أَوْ الظُّلْمِ أَوْ أَخْذِ الرِّشْوَةِ يَتَوَرَّعُ الْوَرَثَةُ , وَلَا يَأْخُذُونَ مِنْهُ شَيْئًا وَهُوَ أَوْلَى بِهِمْ وَيَرُدُّونَهَا عَلَى أَرْبَابِهَا إنْ عَرَفُوهُمْ , وَإِلَّا تَصَدَّقُوا بِهَا لِأَنَّ سَبِيلَ الْكَسْبِ الْخَبِيثِ التَّصَدُّقُ إذَا تَعَذَّرَ الرَّدُّ عَلَى صَاحِبِهِ ا هـ لَكِنْ فِي الْهِنْدِيَّةِ عَنْ الْمُنْتَقَى عَنْ مُحَمَّدٍ فِي كَسْبِ النَّائِحَةِ , وَصَاحِبُ طَبْلٍ أَوْ مِزْمَارٍ , لَوْ أَخَذَ بِلَا شَرْطٍ , وَدَفَعَهُ الْمَالِكُ بِرِضَاهُ فَهُوَ حَلَالٌ وَمِثْلُهُ فِي الْمَوَاهِبِ وَفِي التَّتَارْخَانِيَّة وَمَا جَمَعَ السَّائِلُ مِنْ الْمَالِ فَهُوَ خَبِيثٌ ( قَوْلُهُ وَفِي الْأَشْبَاهِ إلَخْ ) قَالَ الشَّيْخُ عَبْدُ الْوَهَّابِ الشَّعْرَانِيُّ فِي كِتَابِ الْمِنَنِ : وَمَا نُقِلَ عَنْ بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ مِنْ أَنَّ الْحَرَامَ لَا(1/292)
يَتَعَدَّى إلَى ذِمَّتَيْنِ سَأَلْت عَنْهُ الشِّهَابَ ابْنَ الشَّلَبِيِّ فَقَالَ : هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا لَمْ يَعْلَمْ بِذَلِكَ , أَمَّا مَنْ رَأَى الْمَكَّاسَ يَأْخُذُ مِنْ أَحَدٍ شَيْئًا مِنْ الْمَكْسِ , ثُمَّ يُعْطِيهِ آخَرَ ثُمَّ يَأْخُذُهُ مِنْ ذَلِكَ الْآخَرِ فَهُوَ حَرَامٌ ا هـ .(1/293)
وَفِي الذَّخِيرَةِ : سُئِلَ أَبُو جَعْفَرٍ عَمَّنْ اكْتَسَبَ مَالَهُ مِنْ أَمْرِ السُّلْطَانِ وَالْغَرَامَاتِ الْمُحَرَّمَةِ , وَغَيْرِ ذَلِكَ هَلْ يَحِلُّ لِمَنْ عَرَفَ ذَلِكَ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ طَعَامِهِ ؟ قَالَ : أَحَبُّ إلَيَّ فِي دِينِهِ أَنْ لَا يَأْكُلَ وَيَسَعُهُ حُكْمًا إنْ لَمْ يَكُنْ غَصْبًا أَوْ رِشْوَةً ا هـ وَفِي الْخَانِيَّةِ : امْرَأَةٌ زَوْجُهَا فِي أَرْضِ الْجَوْرِ إذَا أَكَلَتْ مِنْ طَعَامِهِ , وَلَمْ يَكُنْ عَيْنُهُ غَصْبًا أَوْ اشْتَرَى طَعَامًا أَوْ كِسْوَةً مِنْ مَالٍ أَصْلُهُ لَيْسَ بِطَيِّبٍ فَهِيَ فِي سَعَةٍ مِنْ ذَلِكَ وَالْإِثْمُ عَلَى الزَّوْجِ ا هـ حَمَوِيٌّ ( قَوْلُهُ مَعَ الْعِلْمِ ) أَمَّا بِدُونِهِ فَفِي التَّتَارْخَانِيَّة اشْتَرَى جَارِيَةً أَوْ ثَوْبًا , وَهُوَ لِغَيْرِ الْبَائِعِ فَوَطِئَ أَوْ لَبِسَ , ثُمَّ عَلِمَ رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْجِمَاعَ وَاللُّبْسَ حَرَامٌ إلَّا أَنَّهُ وَضَعَ عَنْهُ الْإِثْمَ , وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ , الْوَطْءُ حَلَالٌ مَأْجُورٌ عَلَيْهِ , وَعَلَى الْخِلَافِ لَوْ تَزَوَّجَ وَوَطِئَهَا فَبَانَ أَنَّهَا مَنْكُوحَةُ الْغَيْرِ ( قَوْلُهُ إلَّا إذَا عَلِمَ رَبُّهُ ) أَيْ رَبُّ الْمَالِ فَيَجِبُ عَلَى الْوَارِثِ رَدُّهُ عَلَى صَاحِبِهِ ( قَوْلُهُ وَهُوَ حَرَامٌ مُطْلَقًا عَلَى الْوَرَثَةِ ) أَيْ سَوَاءٌ عَلِمُوا أَرْبَابَهُ أَوْ لَا فَإِنْ عَلِمُوا أَرْبَابَهُ رَدُّوهُ عَلَيْهِمْ , وَإِلَّا تَصَدَّقُوا بِهِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ آنِفًا عَنْ الزَّيْلَعِيِّ .(1/294)
أَقُولُ : وَلَا يُشْكِلُ ذَلِكَ بِمَا قَدَّمْنَاهُ آنِفًا عَنْ الذَّخِيرَةِ وَالْخَانِيَّةِ لِأَنَّ الطَّعَامَ أَوْ الْكِسْوَةَ لَيْسَ عَيْنَ الْمَالِ الْحَرَامِ فَإِنَّهُ إذَا اشْتَرَى بِهِ شَيْئًا يَحِلُّ أَكْلُهُ عَلَى تَفْصِيلٍ تَقَدَّمَ فِي كِتَابِ الْغَصْبِ بِخِلَافِ مَا تَرَكَهُ مِيرَاثًا فَإِنَّهُ عَيْنُ الْمَالِ الْحَرَامِ وَإِنْ مَلَكَهُ بِالْقَبْضِ وَالْخَلْطِ عِنْدَ الْإِمَامِ فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهُ التَّصَرُّفُ فِيهِ أَدَاءُ ضَمَانِهِ , وَكَذَا لِوَارِثِهِ ثُمَّ الظَّاهِرُ أَنَّ حُرْمَتَهُ عَلَى الْوَرَثَةِ فِي الدِّيَانَةِ لَا الْحُكْمِ فَلَا يَجُوزُ لِوَصِيِّ الْقَاصِرِ التَّصَدُّقُ بِهِ وَيُضَمِّنَهُ الْقَاصِرُ إذَا بَلَغَ تَأَمَّلْ ( قَوْلُهُ فَتَنَبَّهْ ) أَشَارَ بِهِ إلَى ضَعْفِ مَا فِي الْأَشْبَاهِ ط .
وفي شرح النيل :
((1/295)
فَمَنْ أَكَلَ مُحَرَّمًا نَهَارًا ثُمَّ أَعَادَهُ لَيْلًا فَعَلَيْهِ قِيلَ : خَمْسَةٌ ) ثَلَاثَةٌ لِلنَّهَارِ وَاثْنَتَانِ لِلَّيْلِ , ( وَقِيلَ : ثَلَاثَةٌ ) لِلَّيْلِ وَاحِدَةٌ وَلِلنَّهَارِ اثْنَتَانِ , إحْدَاهُمَا لِلْإِفْطَارِ فِي رَمَضَانَ , وَالْإِفْطَارُ فِيهِ مَعْصِيَةٌ , وَالْأُخْرَى لِلْكَبِيرَةِ , وَقِيلَ : سَبْعٌ , وَقِيلَ : لَا كَفَّارَةَ عَلَى آكِلِ الْحَرَامِ بِلَيْلٍ فِي رَمَضَانَ , وَقِيلَ : عَلَى آكِلِهِ نَهَارًا فِيهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ ( وَإِنْ أَكَلَهُ لَيْلًا ثُمَّ نَهَارًا فَثَلَاثَةٌ , وَقِيلَ : اثْنَتَانِ ) , وَقِيلَ : وَاحِدَةٌ , وَقِيلَ : خَمْسٌ , وَقِيلَ : أَرْبَعٌ , ( وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ ) وَهِيَ الْمَسْأَلَةُ الَّتِي أَكَلَ الْحَرَامَ فِيهَا لَيْلًا ثُمَّ نَهَارًا ( وَالْأُولَى ) وَهِيَ الَّتِي بَدَأَ فِيهَا بِأَكْلِهِ نَهَارًا ثُمَّ أَكَلَ لَيْلًا ( أَنَّ لِكُلِّ لَيْلَةٍ وَيَوْمٍ ) بَعْدَهَا مُتَّصِلٍ بِهَا ( عِنْدَهُمْ حُكْمًا وَاحِدًا ) , لِأَنَّ الْيَوْمَ لِلَّيْلَةِ قَبْلَهُ . ((1/296)
وَأَنَّ لِكُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ ) بَعْدَهُ ( حُكْمَيْنِ ) لِأَنَّ اللَّيْلَةَ بَعْدَهُ لِلْيَوْمِ بَعْدَهَا لَا لَهُ , ( فَمَنْ فَعَلَ شَيْئًا نَهَارًا ثُمَّ أَعَادَهُ لَيْلًا كَانَ كَفَاعِلِهِ بِيَوْمَيْنِ , وَمَنْ فَعَلَهُ لَيْلًا ثُمَّ نَهَارًا كَانَ كَفَاعِلِهِ مَرَّتَيْنِ بِيَوْمٍ ) فَتَلْزَمُهُ ثَلَاثٌ : وَاحِدَةٌ لِنَقْضِ الصَّوْمِ , وَالْأُخْرَى لِحُرْمَةِ الشَّهْرِ وَالْأُخْرَى لِلْكَبِيرَةِ , ( وَاللَّيْلُ أَسْبَقُ ) وَالْيَوْمُ بَعْدَهُ لَهُ , وَأَمَّا { وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ } فَمَعْنَاهُ أَنَّهُ لَا يَتَقَدَّمُ اللَّيْلُ عَلَى النَّهَارِ الَّذِي قَبْلَهُ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا أَثْبَتُّهُ فِي تَفْسِيرِي , وَالزِّنَى نَهَارًا ثُمَّ لَيْلًا , أَوْ لَيْلًا ثُمَّ نَهَارًا , كَأَكْلِ الْحَرَامِ كَذَلِكَ , وَإِنْ زَنَى لَيْلًا فَقَطْ أَوْ أَكَلَ حَرَامًا فِيهِ فَمُغَلَّظَتَانِ , وَقِيلَ : وَاحِدَةٌ , وَقِيلَ : مُرْسَلَةٌ , وَقِيلَ : لَا شَيْءَ غَيْرَ التَّوْبَةِ قَالَ الشَّيْخُ يَحْيَى : وَإِنْ أَكَلَ الْمُحَرَّمَ بِالنَّهَارِ ثُمَّ لَيْلًا فِي غَيْرِ رَمَضَانَ فَثَلَاثُ مُغَلَّظَاتٍ , وَقِيلَ : اثْنَتَانِ , أَوْ بِاللَّيْلِ ثُمَّ بِالنَّهَارِ مِنْ الْغَدِ فَمُغَلَّظَتَانِ , وَقِيلَ : وَاحِدَةٌ , وَلَعَلَّهُ أَرَادَ أَنَّهُ أَكَلَ وَهُوَ صَائِمٌ غَيْرَ رَمَضَانَ , وَإِنْ أَكَلَ الْمُحَرَّمَ نَهَارًا مَرَّتَيْنِ , فَقِيلَ : لِكُلِّ مَرَّةٍ ثَلَاثٌ , وَقِيلَ : اثْنَتَانِ لِكُلِّ مَرَّةٍ , وَقِيلَ : وَاحِدَةٌ لِلْيَوْمِ , وَقِيلَ : لِلشَّهْرِ مَا لَمْ يُكَفِّرْ , وَقِيلَ : بِكُلِّ لُقْمَةٍ أَوْ جَرْعَةٍ مِنْهُ مُغَلَّظَةٌ , وَقِيلَ : بِكُلِّ مَقْعَدٍ , وَقِيلَ : ثَلَاثَةٌ لِكُلِّ جَرْعَةٍ أَوْ لُقْمَةٍ , وَقِيلَ : اثْنَتَانِ , وَقِيلَ : وَاحِدَةٌ(1/297)
لِكُلِّ مَقْعَدٍ , وَقِيلَ : اثْنَتَانِ , وَقِيلَ : ثَلَاثٌ , وَإِنْ تَعَدَّدَ لَيْلًا فَلِكُلِّ لَيْلَةٍ مُغَلَّظَةٌ , وَقِيلَ : ثَلَاثَةٌ , وَقِيلَ : اثْنَتَانِ , وَهَكَذَا فِي الْجَرْعَةِ وَالْمَقْعَدِ عَلَى الْقَوْلِ بِاعْتِبَارِهِمَا , وَقِيلَ : ثَلَاثٌ لِرَمَضَانَ مَا لَمْ يُكَفِّرْ , وَقِيلَ : اثْنَتَانِ , وَقِيلَ : وَاحِدَةٌ , وَقِيلَ : التَّوْبَةُ . وَفِي الدِّيوَانِ " : إنْ أَكَلَ الْمُقِيمُ نَهَارًا الْحَلَالَ ثُمَّ أَعَادَهُ فَمُغَلَّظَةٌ لِكُلِّ أَكْلٍ , وَقِيلَ : وَاحِدَةٌ لِلْكُلِّ إلَّا إنْ أَكَلَ الْحَرَامَ مَرَّةً أُخْرَى فَكَفَّارَةٌ أُخْرَى , وَإِنْ بَدَأَ بِالْحَرَامِ ثُمَّ أَكَلَ الْحَلَالَ فَوَاحِدَةٌ لِلْحَرَامِ وَلَيْسَ عَلَيْهِ غَيْرُهَا , وَكَذَلِكَ الْجِمَاعُ , وَقِيلَ : لِكُلِّ لُقْمَةٍ مُغَلَّظَةٌ وَإِنْ خَلَطَ أَجْنَاسًا فِي لُقْمَةٍ فَلِكُلِّ جِنْسٍ مُغَلَّظَةٌ , سَوَاءٌ كَانَتْ الْأَجْنَاسُ حَلَالًا أَوْ حَرَامًا أَوْ بَعْضٌ حَلَالًا وَبَعْضٌ حَرَامًا , وَقِيلَ : مُغَلَّظَةٌ وَاحِدَةٌ فِي هَذَا كُلِّهِ , وَإِنْ أَكَلَ أَيَّامًا أَوْ كُلَّهُ فَلِكُلِّ يَوْمٍ مُغَلَّظَةٌ , وَقِيلَ : وَاحِدَةٌ لِرَمَضَانَ كُلِّهِ , ا هـ .(1/298)
وَالْأَكْلُ فِي الْقَضَاءِ كَالْأَكْلِ فِي رَمَضَانَ عِنْدَ بَعْضٍ , وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ دُونَهُ وَأَنَّ عَلَيْهِ الِانْهِدَامَ , وَلَزِمَهُ مَا يَلْزَمُ آكِلَ الْحَرَامِ , وَأَنْوَاعُ الْمَالِ الْحَرَامِ كُلُّهَا جِنْسٌ وَاحِدٌ , كَمَالِ رِبًا وَمَالِ غَصْبٍ وَمَالِ كَهَانَةٍ , أَوْ الزَّانِي فِي غَيْرِ رَمَضَانَ إنْ أَكَلَ حَرَامًا أَوْ زَنَى , وَمَا ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ هُوَ فِي اتِّحَادِ الْجِنْسَيْنِ كَمَا قَالَ : ( وَهَذَا إنْ اتَّحَدَ الْجِنْسُ , وَإِنْ اخْتَلَفَ كَآكِلِ مَيْتَةٍ أَعَادَ ) سَمَّاهُ عَوْدًا بِاعْتِبَارِ أَنَّ شُرْبَ الْخَمْرِ , عَوْدٌ إلَى الْمَعْصِيَةِ أَوْ إلَى النَّاقِضِ أَوْ مَجَازٌ مُرْسَلٌ عِلَاقَتُهُ الْإِطْلَاقُ وَالتَّقْيِيدُ , ( شُرْبَ خَمْرٍ ) التَّعْبِيرُ بِالْإِعَادَةِ إمَّا بِالنَّظَرِ إلَى الْإِفْطَارِ فَإِنَّ أَكْلَ الْمَيْتَةِ إفْطَارٌ وَمَعْصِيَةٌ , وَشُرْبُ الْخَمْرِ إفْطَارٌ وَمَعْصِيَةٌ , وَإِمَّا لِإِطْلَاقِ الْخَاصِّ وَهُوَ الْإِعَادَةُ عَلَى الْعَامِّ وَهُوَ مُطْلَقُ الْأَكْلِ , ( ثُمَّ زَنَى لَزِمَهُ بِكُلٍّ ) مِنْ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالزِّنَى ( ثَلَاثَةٌ ) أَثْبَتَ التَّاءَ فِي عَدَدِ الْمُؤَنَّثِ لِحَذْفِ الْمَعْدُودِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ إثْبَاتُ التَّاءِ , وَبِنَاءً عَلَى لُغَةِ مَنْ يَثْبُتُهَا فِي عَدَدِ الْمُؤَنَّثِ , أَوْ بِكُلٍّ اثْنَتَانِ أَوْ بِكُلٍّ وَاحِدَةٌ ؟ وَقِيلَ : بِكُلِّ جَرْعَةٍ مِنْ نَحْوِ خَمْرٍ أَوْ لُقْمَةٍ مِنْ نَحْوِ خِنْزِيرٍ ثَلَاثٌ , وَقِيلَ : اثْنَتَانِ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ , وَقِيلَ : وَاحِدَةٌ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ , وَقِيلَ : ثَلَاثٌ لِكُلِّ مَقْعَدٍ , وَقِيلَ : لِكُلِّ يَوْمٍ , وَقِيلَ : اثْنَتَانِ لِكُلِّ مَقْعَدٍ , وَقِيلَ : لِكُلِّ يَوْمٍ , وَقِيلَ : وَاحِدَةٌ لِكُلِّ مَقْعَدٍ , وَقِيلَ :(1/299)
لِكُلِّ يَوْمٍ ( كَمَنْ زَنَى ثُمَّ سَرَقَ لَزِمَهُ بِكُلٍّ حَدٌّ ) قَطْعٌ وَجَلْدٌ أَيُّهُمَا قَدَّمَ فَذَاكَ , وَأَمَّا الرَّجْمُ فَيُؤَخَّرُ ( وَقِيلَ : بِالْأَوَّلِ ثَلَاثٌ , وَفِي سِوَاهُ اثْنَتَانِ لِأَنَّ كَفَّارَةَ حُرْمَةِ الصَّوْمِ لَا تَتَكَرَّرُ لِانْهِدَامِهِ ) , وَوَجْهُ الْأَوَّلِ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ بَقِيَّةُ الْيَوْمِ بَعْدَ مَا أَفْسَدَهُ وَلَا يُجْزِيهِ فَيَلْزَمُهُ مَا يَلْزَمُهُ عَلَى فِعْلِهِ الْأَوَّلِ ( وَكَذَا إنْ أَكَلَ حَلَالًا ثُمَّ حَرَامًا لَزِمَهُ لِكُلٍّ اثْنَتَانِ ) , وَقِيلَ : وَاحِدَةٌ , وَقِيلَ : وَاحِدَةٌ بَيْنَهُمَا , ( وَإِنْ قَدَّمَ الْحَرَامَ لَزِمَهُ بِهِ ثَلَاثٌ وَوَاحِدَةٌ لِلْحَلَالِ ) , اُنْظُرْ كَلَامَ الدِّيوَانِ " الْمَذْكُورَ آنِفًا .
((1/300)
وَيَجُوزُ ) النِّدَاءُ ( بِ ) سَوْمِ ( وَارِثٍ ) يَشْتَرِي لِنَفْسِهِ أَوْ لِغَيْرِهِ ( فِي ) شَيْءٍ ( مَجْعُولٍ لِوَصِيَّةٍ ) لِأَنَّهُ لَا رُجُوعَ إلَى الْوَارِثِ إنْ نَقَصَتْ قِيمَتُهُ , وَهَكَذَا الْغَلَّةُ ( إنْ كَانَ بِيَدِ خَلِيفَةٍ ) خَلِيفَةِ الْوَصِيَّةِ سَوَاءٌ جَعَلَهُ فِي يَدِهِ الْمُوصِي أَوْ الْوَارِثُ إذْ هُوَ كَأَنَّهُ يَبِيعُ مَالَ نَفْسِهِ لِأَنَّهُ يَبِيعُ وَيَصْرِفُ الثَّمَنَ فِي الْوَصِيَّةِ وَالصَّرْفُ فِيهَا حَقٌّ جَعَلَهُ الْمُوصِي لِلْخَلِيفَةِ وَالْوَارِثِ وَلَوْ صَحَّ لَهُ الصَّرْفُ لَكِنْ بِالنَّزْعِ عَنْ الْخَلِيفَةِ , وَكَذَا لَوْ جَعَلُوا لَهُ مَا يَنْفَدُ بِهِ هُمْ لَا هُوَ , وَذَلِكَ إنْ كَانَ كُلُّهُ لِلْوَصِيَّةِ أَوْ لَا يَبْقَى مِنْهُ شَيْءٌ , بَلْ تَسْتَغْرِقُهُ وَإِنْ كَانَ فِيهِ مَا يَزِيدُ عَلَى الْوَصِيَّةِ فَلَا يُسَاوِمُ الْوَارِثُ , وَلَا يُنَادَى بِسَوْمِهِ , لِأَنَّ ذَلِكَ زِيَادَةٌ لِنَفْسِهِ وَشِرَاءٌ لِمَالِ نَفْسِهِ ( قِيلَ : وَ ) يُنَادِي أَيْضًا ( بِسَوْمِ الرَّاهِنِ فِي رَهْنٍ يَبِيعُهُ الْمُرْتَهِنُ أَوْ الْمُسَلَّطُ ) الَّذِي جَعَلَ الرَّاهِنُ وَالْمُرْتَهِنُ الرَّهْنَ بِيَدِهِ وَسَلَّطَاهُ عَلَى بَيْعِهِ ( وَفِيهِ ) , أَيْ فِي هَذَا الْقَوْلِ ( نَظَرٌ لَا يَخْفَى ) هُوَ أَنَّ الرَّاهِنَ مُتَّهَمٌ أَنْ يَزِيدَ فِي شَيْئِهِ لِكَيْ يُبَاعَ عَلَى ذَلِكَ السَّوْمِ فَيَتَخَلَّصَ مِنْ دَيْنِهِ أَوْ تَبْقَى لَهُ بَقِيَّةٌ مِنْ ثَمَنِ الرَّهْنِ أَوْ يَتَوَصَّلَ بِسَوْمِهِ إلَى تَخَلُّصِ مِقْدَارٍ مِنْ الدَّيْنِ لَا يَتَوَصَّلُ إلَيْهِ إنْ لَمْ يَسُمْ , وَلِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمُوَكِّلِ , وَالْمُرْتَهِنُ أَوْ الْمُسَلَّطُ بِمَنْزِلَةِ الْوَكِيلِ وَكَيْفَ يَشْتَرِيهِ ؟ وَقَدْ ثَبَتَ عَلَيْهِ لِلْمُرْتَهِنِ , فَالْأَنْسَبُ(1/301)
أَنْ يَقْضِيَ مَا عَلَيْهِ وَيَتْرُكَ بَيْعَهُ , وَلَكِنْ هَذَا سَهْلٌ . ( وَ بِ ) سَوْمِ ( مَنْ كَانَ بِيَدِهِ حَرَامٌ أَوْ مُرَابٌ ) إذَا لَمْ يُحْضِرْ ذَلِكَ الْمَالَ الْحَرَامَ أَوْ الْمُرَابَ وَيَسُمْ بِهِ وَلَمْ يَقُلْ : إنِّي أَسُومُ أَوْ أَشْتَرِي بِمَالِي الَّذِي فِي كَذَا أَوْ عِنْدَ كَذَا أَوْ فِي ذِمَّةِ فُلَانٍ وَعَلِمَ الطَّوَّافُ أَنَّهُ حَرَامٌ أَوْ مُرَابٌ , وَأَمَّا إنْ حَضَرَ ذَلِكَ الْمَالُ الْحَرَامُ أَوْ الْمُرَابُ وَسَامَ بِهِ , أَوْ قَالَ : إنِّي أَسُومُ أَوْ أَشْتَرِي بِمَالِي الَّذِي فِي مَوْضِعِ كَذَا أَوْ عِنْدَ فُلَانٍ أَوْ فِي ذِمَّةِ فُلَانٍ وَعَلِمَ الطَّوَّافُ أَنَّهُ حَرَامٌ أَوْ مُرَابٌ فَلَا يُنَادِ بِهِ هَذَا تَحْرِيرُ الْمَقَامِ , وَحَاصِلُهُ أَنَّ الْمُرَادَ بِمَنْ بِيَدِهِ حَرَامٌ أَوْ مُرَابٌ مَنْ اتَّصَفَ بِمُعَامَلَةِ الْحَرَامِ وَالرِّيبَةِ , وَمَنْ بِيَدِهِ حَرَامٌ أَوْ رِيبَةٌ أَرَادَ بَيْعَهُ لِيُنْفِقَهُ , فَفِي بَعْضِ الْقَوْلِ لَهُ شِرَاؤُهُ بِالزِّيَادَةِ حَتَّى يَنْتَهِيَ عِنْدَهُ بِهَا , وَلَكِنْ التَّفْسِيرُ الْأَوَّلُ أَوْلَى , وَإِنْ نَادَى بِذَلِكَ عَمْدًا أَوْ غَلَطًا أَوْ لَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّهُ حَرَامٌ أَوْ مُرَابٌ ثُمَّ عَلِمَ فَلْيُخْبِرْ بِذَلِكَ مَنْ وَقَفَ الشَّيْءُ عِنْدَهُ يُخْبِرُهُ بِأَنَّهُ قَدْ نَادَى بِسَوْمِ مَنْ سَامَ بِحَرَامٍ أَوْ مُرَابٍ فَيَكُونُ مُخَيَّرًا , فَإِنْ رَدَّ ضَمِنَ لَهُ الطَّوَّافُ مَا أَعْطَى وَالْخَطَأُ لَا يُزِيلُ الضَّمَانَ إلَّا إنْ لَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّهُ مُرَابٌ إلَّا بَعْدَ أَنْ نَادَى بِسَوْمِهِ فَإِنَّ تِلْكَ رِيبَةٌ عَارِضَةٌ فِي حَقِّهِ فَلَا تَخْيِيرَ وَلَا ضَمَانَ , وَقِيلَ : يَجُوزُ النِّدَاءُ بِسَوْمٍ بِمَالِ مُرَابٍ مَا لَمْ يَتَحَقَّقْ أَنَّهُ حَرَامٌ , وَقِيلَ :(1/302)
يَجُوزُ لَهُ النِّدَاءُ بِسَوْمٍ بِمَالٍ حَرَامٍ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الشِّرَاءَ بِحَرَامٍ ثَابِتٌ وَأَنَّ عَلَى الْمُشْتَرِي الضَّمَانَ لِصَاحِبِ الْمَالِ أَوْ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الشِّرَاءَ ثَابِتٌ لِصَاحِبِ الْمَالِ إنْ أَرَادَهُ , لَكِنْ عَلَى هَذَا الْبِنَاءِ الْأَخِيرِ لَا بُدَّ أَنْ يُخْتَبَرَ هَلْ يَرْضَى بِالشِّرَاءِ لَوْ كَانَ لَهُ أَمْ لَا ؟ فَإِنْ قَالَ : لَوْ وَقَفَ بِسَوْمِ مَالِي لَقَبِلْتُهُ مَضَى الْبَيْعُ , وَإِنْ قَالَ : لَا فَلْيُخَيَّرْ الْمُشْتَرِي , وَإِنْ كَانَ ثَمَنَ حَرَامٍ كَأُجْرَةِ مِزْمَارٍ وَثَمَنِ خَمْرٍ , فَقِيلَ : بَطَلَ السَّوْمُ فَيُخَيِّرُ مَنْ وَقَفَ عِنْدَهُ الشَّيْءُ أَوْ اشْتَرَاهُ , وَقِيلَ : صَحَّ وَيُبَدَّلُ الثَّمَنُ الْحَلَالُ , وَعَلَى هَذَا فَالسَّوْمُ صَحِيحٌ يُنَادَى بِهِ وَالْمُرَابُ اسْمُ مَفْعُولِ أَرَابَ الرُّبَاعِيِّ بِالْهَمْزَةِ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى رَابَ الثُّلَاثِيِّ لَا أَرَابَ بِمَعْنَى أَوْقَعَ فِي رَيْبٍ . ((1/303)
وَ بِ ) سَوْمِ ( رَبِّ الشَّيْءِ إنْ أَرَادَ شِرَاءَهُ لِمَنْ وَلِيَ أَمْرَهُ ) كَيَتِيمٍ وَمَجْنُونٍ وَغَائِبٍ وَحَاضِرٍ عَاقِلٍ بَالِغٍ وَمَسْجِدٍ وَوَقْفٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ بِاسْتِخْلَافٍ أَوْ وَكَالَةٍ أَوْ أَمْرٍ وَلَوْ بِلَا إخْبَارٍ بِأَنَّ الزِّيَادَةَ مِنْ رَبِّ الشَّيْءِ لِجَوَازِ شِرَائِهِ ذَلِكَ الشَّيْءَ لِمَنْ وَلِيَ أَمْرَهُ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُتَّهَمٍ لِأَمَانَتِهِ , وَهَذَا مِمَّا يَتَوَلَّى فِيهِ الشَّخْصُ الطَّرَفَيْنِ إذَا صَارَ بَائِعًا بِالنَّظَرِ إلَى أَنَّ الشَّيْءَ لَهُ وَمُشْتَرِيًا بِالنَّظَرِ إلَى أَنَّهُ يَشْتَرِي لِمَنْ وَلِيَ أَمْرَهُ ; وَمَعْلُومٌ أَنَّ اخْتِلَافَ الْجِهَةِ بِمَنْزِلَةِ اخْتِلَافِ الذَّاتِ وَتَعَدُّدَ الصِّفَةِ بِمَنْزِلَةِ تَعَدُّدِ الْمَوْصُوفِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُقَالُ : جَاءَ زَيْدٌ الْعَاقِلُ وَالْعَالَمُ وَالْجَوَادُ وَالشُّجَاعُ وَالْمُرَادُ زَيْدٌ وَحْدَهُ كَأَنَّهُ قِيلَ : جَاءَ زَيْدٌ الْمُتَّصِفُ بِجِهَاتٍ أَوْ صِفَاتٍ وَهُنَّ الْعَقْلُ وَالْعِلْمُ وَالْجُودُ وَالشَّجَاعَةُ , وَيُقَالُ : هَذَا رُطَبًا أَحْسَنُ مِنْهُ بُسْرًا , كَذَا يُقَالُ بِزِيَادَةِ إيضَاحٍ مِنِّي , وَأَقُولُ : يُتَّجَهُ فِيهِ بِأَنَّ تُهْمَتَهُ هُنَا لَا تَزُولُ بِأَمَانَتِهِ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُؤْمَنُ فِيمَا لَمْ يَجُرَّ فِيهِ نَفْعًا لِنَفْسِهِ وَهُنَا يَجُرُّ النَّفْعَ لِنَفْسِهِ , وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْأَمِينَ أَمِينٌ مَا لَمْ يَدَّعِ لِنَفْسِهِ , فَإِذَا ادَّعَى احْتَاجَ إلَى الْأُمَنَاءِ وَلِأَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ خَلِيفَةٍ أَوْ وَكِيلٍ أَوْ مَأْمُورٍ أَمِينًا , وَكَلَامُ الْمُصَنِّفِ كَالشَّيْخِ عَامٌّ فِي كُلِّ مَنْ يَلِي أَمْرَ غَيْرِهِ فَلَا تُزَالُ عَنْهُ التُّهْمَةُ إذَا وَلِيَ أَمْرَ الْيَتِيمِ وَالْمَجْنُونِ أَوْ وَلَّتْهُ(1/304)
الْعَشِيرَةُ أَوْ الْإِمَامُ أَوْ نَحْوُهُ عَلَى غَائِبٍ وَلَوْ زَالَتْ عَنْهُ بِائْتِمَانِ الْعَاقِلِ الْبَالِغِ إيَّاهُ عَلَى نَفْسِهِ وَقَدْ يَكُونُ أَمِينًا , لَكِنْ الَّذِي يَتَزَايَدُ مَعَهُ فِي الْمَبِيعِ لَا يُؤَمِّنُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَلَوْ صَحَّتْ أَمَانَتُهُ فِي جَانِبِ مَنْ وَلِيَ أَمْرَهُ .(1/305)
وَأَمَّا تَنْزِيلُ تَعَدُّدِ الْجِهَةِ أَوْ الصِّفَةِ مَنْزِلَةَ تَعَدُّدِ الذَّاتِ فَإِنَّمَا هُوَ أَمْرٌ لُغَوِيٌّ غَيْرُ مُطَّرِدٍ فِي الشَّرْعِيَّاتِ , وَقَدْ مَرَّ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم : { لَا يَكُونُ الْبَيْعُ إلَّا مِنْ بَائِعَيْنِ } , وَالْمُتَبَادِرُ أَنَّهُ أَرَادَ بِالْبَائِعَيْنِ إنْسَانَيْنِ فَقَطْ لَا مَا يَشْمَلُهُمَا وَيَشْمَلُ الْوَاحِدَ الْمُتَّصِفَ بِجِهَتَيْنِ أَوْ صِفَتَيْنِ , وَلَا لِدَلِيلٍ لِحَمْلِهِ عَلَى تَنْزِيلِ اخْتِلَافِ الْجِهَةِ أَوْ الصِّفَةِ مَنْزِلَةَ اخْتِلَافِ الذَّاتِ , فَضْلًا عَنْ أَنْ يُحْمَلَ عَلَيْهِ وَتَفْسِيرُهُ بِمَا شَمِلَ ذَلِكَ اسْتِعْمَالٌ لِلْكَلِمَةِ فِي حَقِيقَتِهَا وَمَجَازِهَا , وَالْمَنْعُ أَشْهَرُ وَأَصَحُّ , فَفِي النِّدَاءِ بِسَوْمِ صَاحِبِ الشَّيْءِ عِنْدِي نَظَرٌ لِأَنَّهُ يُتَّهَمُ بِتَكْثِيرِ ثَمَنِ شَيْئِهِ , وَاتِّهَامُهُ بِهَذَا يَغْلِبُ عَلَى مُرَاعَاتِهِ صَلَاحَ مَنْ يَلِي عَلَيْهِ وَإِنْ قُلْتَ : جَوَازُ النِّدَاءِ بِسَوْمِ صَاحِبِ الشَّيْءِ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ التَّلَفُّظُ فِي التَّبَايُعِ بِصِيغَةٍ يَثْبُتُ بِهَا الْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ , بَلْ يَكْفِي دَفْعُ الثَّمَنِ وَقَبُولُهُ بِدَلَالَةِ الْحَالِ مَعَ سُكُوتٍ , قُلْتُ : هَذَا لَا يَدْفَعُ الْإِشْكَالَ الْوَارِدَ مِنْ حَيْثُ التُّهْمَةُ وَالْوَارِدَ مِنْ حَيْثُ عَدَمُ وُجُودِ إنْسَانَيْنِ بَائِعٍ وَمُشْتَرٍ , فَأَوْلَى مَا ظَهَرَ لِي فِي تَوْجِيهِ كَلَامِ الشَّيْخِ وَالْمُصَنِّفِ - رحمهما الله - أَنَّهُ إنَّمَا يَجُوزُ النِّدَاءُ بِسَوْمِ صَاحِبِ الشَّيْءِ الْمُشْتَرِي لَهُ لِغَيْرِهِ إذَا رَدَّ أَمْرَ قَطْعِ الْبَيْعِ إلَى الطَّوَافِ وَانْتِهَاءِ سَوْمِ الْمُتَزَايِدَيْنِ بِدُونِ أَنْ يُشَاوِرَهُ الطَّوَّافُ , فَفِي هَذَا يَحْصُلُ(1/306)
إنْسَانَانِ وَتَزُولُ التُّهْمَةُ لِأَنَّ مُزَايَدَةَ غَيْرِهِ كَالتَّسْعِيرِ فَكَأَنَّهُ أَخَذَهُ لِمَنْ وَلِيَ أَمْرَهُ بِتَسْعِيرٍ , بَلْ يَبْقَى بَعْضُ تُهْمَةٍ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ لَوْ كَانَ يَشْتَرِيهِ لِنَفْسِهِ لَمْ يَشْتَرِهِ بِذَلِكَ وَقَدْ أَمْكَنَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ مِنْ غَيْرِهِ , وَأَمَّا إذَا كَانَ الطَّوَّافُ يَقْطَعُ الْبَيْعَ بِمَشُورَةِ صَاحِبِ الشَّيْءِ فَلَا يُنَادِي بِسَوْمِهِ , وَقَدْ مَرَّ الْخِلَافُ فِي كَوْنِ الْإِنْسَانِ بَائِعًا مُشْتَرِيًا , وَهَذَا الْخِلَافُ لَا يَدْفَعُ إشْكَالَ الْمَقَامِ لِأَنَّ مَنْ يُرِيدُ فِي الْمَبِيعِ خَارِجٌ حُكْمُهُ عَنْ ذَلِكَ , لِأَنَّهُ لَيْسَ خِلَافًا فِي جَنْبِ الَّذِي يَزِيدُ غَيْرَ مَالِكِ الشَّيْءِ ( وَ بِ ) سَوْمِ ( الطَّوَّافِ نَفْسِهِ ) وَلَوْ اشْتَرَى لِنَفْسِهِ وَلَا سِيَّمَا إنْ اشْتَرَى لِغَيْرِهِ ( وَلْيُخْبِرْ ) مَنْ يَتَزَايَدُ مَعَهُ بِأَنَّهُ زَادَ مِنْ نَفْسِهِ ( وَإِنْ ) كَانَ يَزِيدُ بِحَضْرَةِ مَنْ يَزِيدُ مَعَهُ بِحَيْثُ يَعْلَمُ أَنَّ الزِّيَادَةَ مِنْ الطَّوَّافِ وَإِنْ كَانَ شِرَاؤُهُ ( لِمَنْ وَلِيَ أَمْرَهُ ) مِنْ يَتِيمٍ أَوْ مَجْنُونٍ أَوْ غَائِبٍ أَوْ غَيْرِهِمْ وَلَا سِيَّمَا إنْ اشْتَرَى لِنَفْسِهِ , وَإِنْ لَمْ يُخْبِرْهُ فَهُوَ بِالْخِيَارِ لِأَنَّ الْمُتَبَادِرَ مِنْ الْمُنَادَاةِ سَوْمُ غَيْرِ الطَّوَّافِ وَغَيْرِ صَاحِبِ الشَّيْءِ , فَإِذَا نَادَى بِسَوْمِهِ أَوْ سَوْمِ صَاحِبِ الشَّيْءِ بِلَا إخْبَارٍ كَانَ كِنَايَةَ كَذِبٍ , وَكِنَايَةُ الْكَذِبِ كَذِبٌ فَيُحْكَمُ عَلَيْهَا بِحُكْمِ الْكَذِبِ أَوْ شَبَهُ كَذِبٍ قَوْلَانِ .(1/307)
وَفِي ( الدِّيوَانِ ) : وَكُلُّ مَنْ كَانَ فِي يَدِهِ شَيْءٌ لِغَيْرِهِ فَوَكَّلَهُ صَاحِبُهُ عَلَى بَيْعِهِ أَوْ خَلِيفَةُ الْيَتِيمِ أَوْ الْمَجْنُونِ أَوْ مَنْ كَانَ فِي يَدِهِ رَهْنٌ فَأَرَادَ أَنْ يَبِيعَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ مَا فِي يَدِهِ فَلَا يُعْطِيهِ لِلطَّوَّافِ لِيَبِيعَهُ وَلَكِنْ يُمْسِكُهُ فِي يَدٍ وَيُنَادِي الطَّوَّافُ كَذَلِكَ , وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : يَجْعَلُهُ فِي يَدِ الطَّوَّافِ فَيُنَادِي بِهِ وَيُعْطِيهِ مِنْهُ أُجْرَتَهُ وَيُنَادِي الرَّجُلُ بِمَالِهِ لِنَفْسِهِ إنْ أَرَادَ , وَكَذَلِكَ مَنْ كَانَ فِي يَدِهِ مَالُ غَيْرِهِ فَإِنَّهُ يُنَادِي بِهِ حَيْثُ يَجُوزُ لَهُ بَيْعُهُ , ا هـ وَفِي ( الْأَثَرِ ) : وَبَيْعُ الْمُزَايِدِ مَكْرُوهٌ إلَّا فِي الْمِيرَاثِ وَالْغَنِيمَةِ وَالْقَبِيلَةِ وَمَا لَا يُعْرَفُ قَسْمُهُ بَيْعٌ فِيمَنْ يَزِيدُ ا هـ ( لَا بِ ) سَوْمٍ ( نَاجِشٍ ) وَهُوَ مِنْ يَزِيدُ فِي الشَّيْءِ وَلَا يُرِيدُ شِرَاءَهُ ( وَلَا بِ ) سَوْمٍ ( مُتَّهَمٍ بِعَدَمِ الشِّرَاءِ ) بِأَنْ يَزِيدَ , وَإِذَا قِيلَ لَهُ : خُذْهُ بِمَا زِدْتَ , قَالَ : لَا أَقْبَلُهُ , وَإِنْ وَقَعَ النِّدَاءُ بِسَوْمِ أَحَدِهِمَا فَالْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ , وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي حُكْمِ زِيَادَةِ النَّاجِشِ .
((1/308)
وَإِنْ أَسْلَمَا ) أَوْ تَابَا مِنْ تَدَيُّنِهِمَا ( وَهُوَ بِيَدِ مُرْتَهِنِهِ رَجَعَ عَلَى الرَّاهِنِ بِحَقِّهِ ) إذَا حَلَّ الْأَجَلُ , وَلَا يُدْرِكُ عَلَيْهِ أَنْ يَرْهَنَ لَهُ رَهْنًا آخَرَ ( وَأَرَاقَ الْخَمْرَ ) أَوْ أَلْقَى فِيهَا مِلْحًا فَيَكُونُ خَلًّا حَالًّا عِنْدَ بَعْضٍ , وَالْمَشْهُورُ الْمَنْعُ , وَفِي الْحَدِيثِ مِنْ طَرِيقِ أَنَسٍ : { سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ الْخَمْرِ تُتَّخَذُ خَلًّا , قَالَ : لَا } , وَعَنْهُ صلى الله عليه وسلم : { بُعِثْتُ بِقَتْلِ الْخِنْزِيرِ وَإِرَاقَةِ الْخَمْرِ } أَيْ إذَا أَظْهَرَهُمَا الْمُشْرِكُونَ وَمِنْ أَيْدِي الْمُسْلِمِينَ وَلَوْ أَخْفَوْهَا ( وَقَتَلَ الْخِنْزِيرَ ) أَوْ رَدَّهُمَا إلَى الرَّاهِنِ فَيَفْعَلُ ذَلِكَ بِهِمَا , وَيَرُدُّ الْمَالَ الْحَرَامَ إلَى أَهْلِهِ أَوْ يُعْطِيهِ الرَّاهِنَ إذْ رَآهُ تَائِبًا عَلَى حَدِّ مَا مَرَّ فَيَرُدُّهُ كَالرِّبَا وَغَيْرِهِ , كَذَا قِيلَ , وَهُوَ قَوْلُ مَنْ قَالَ : مَا أَسْلَمَ عَلَيْهِ الْإِنْسَانُ مِنْ حَرَامٍ رَدَّهُ لِأَهْلِهِ , وَالْمَشْهُورُ الصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا رَدَّ عَلَيْهِ إنْ كَانَ بِيَدِهِ بِتَدَيُّنٍ فَالْحَرَامُ بِالذَّاتِ يُفْسِدُهُ وَيَتْرُكُهُ وَالْحَرَامُ لِعَارِضٍ يَحِلُّ لَهُ .
((1/309)
وَذَمِّ الْمَكْرِ وَالْخَدِيعَةِ وَلَا يُوصَفُ ) الْمُسْلِمُ وَكَذَا الْمَوْقُوفُ فِيهِ ( بِهِمَا أَيْضًا ) إلَّا بِقَيْدٍ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ مَكَرَ فِي الْحَرْبِ أَوْ خَدَعَ فِيهَا أَوْ مَكَرَ بِقَاطِعِ الطَّرِيقِ أَوْ خَدَعَهُ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا يَتَبَيَّنُ بِهِ أَنَّهُ لَا بَأْسَ عَلَيْهِ وَكَذَا فِي سَائِرِ الْأَلْفَاظِ الَّتِي لَا تُطْلَقُ عَلَى الْمُتَوَلَّى يَجُوزُ وَصْفُهُ بِهَا بِقَيْدٍ مُسَوِّغٍ ( وَمَعْنَاهُمَا ) وَاحِدٌ وَهُوَ ( إظْهَارُ حُسْنٍ ) سَوَاءٌ فَعَلَهُ أَوْ لَمْ يَفْعَلْهُ ( لِمُسِيءٍ عَلَى أَنْ يُسَاءَ إلَيْهِ بِلَا مُبِيحٍ ) لِذَلِكَ الْمَذْكُورِ مِنْ إظْهَارِ حُسْنٍ تَوَصُّلًا بِهِ إلَى الْإِسَاءَةِ إنْ فَعَلَهَا فَذَلِكَ مَكْرٌ وَخَدِيعَةٌ وَإِلَّا فَالْحِقْدُ مَعَ زِيَادَةِ إظْهَارِ حُسْنٍ عَلَى الْحِقْدِ لَكِنَّ إظْهَارَهُ عَمَلٌ بِمُقْتَضَى الْحِقْدِ وَاَلَّذِي عِنْدِي أَنَّهُ مَكْرٌ وَخَدِيعَةٌ وَلَوْ لَمْ يَفْعَلْ تِلْكَ الْإِسَاءَةِ .(1/310)
يُقَالُ : خَدَعَهُ فَلَمْ يَنْخَدِعْ وَمَكَرَ بِهِ وَلَمْ تَتِمَّ عَلَيْهِ حِيلَتُهُ وَلَا دَلِيلَ عَلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ لِكَوْنِ ذَلِكَ مَكْرًا وَخَدِيعَةً أَنْ يَفْعَلَ السُّوءَ نَعَمْ هُوَ كَثِيرٌ وَذَلِكَ مِثْلُ أَنْ يَدْعُوَهُ لِطَعَامٍ فَإِذَا جَاءَ قَتَلَهُ أَوْ ضَرَبَهُ أَوْ سَلَبَهُ وَمِثْلُ أَنْ يَدْعُوَ لَهُ بِخَيْرٍ وَيُعَظِّمَهُ لِبَيْعٍ لَهُ شَيْئًا فَلَا يُعْطِيهِ ثَمَنَهُ فَيَبِيعُ لَهُ فَلَا يُعْطِيهِ ثَمَنَهُ وَمِثْلُ أَنْ يَمْدَحَهُ أَوْ يُظْهِرَ لَهُ اللِّينَ لِئَلَّا يَقُومَ لِنَفْسِهِ فِي الْأُمُورِ الَّتِي يَتَنَازَعُ النَّاسُ عَلَيْهَا فِي مَرَاتِبِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَآرَائِهِمْ وَالْإِحْسَانُ فِي ذَلِكَ يَكُونُ بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ كَالْإِحْسَانِ بِالْإِعَانَةِ عَلَى الظُّلْمِ أَوْ بِمَعْصِيَةٍ مَا أَوْ بِإِعْطَاءِ الْمَالِ الْحَرَامِ وَخَرَجَ بِقَوْلِهِ : عَلَى أَنْ يُسَاءَ إلَيْهِ مَا إذَا أَحْسَنَ بِلَا قَصْدِ أَنْ يُسِيءَ بَعْدُ فَلَيْسَ ذَلِكَ مَكْرًا وَخَدِيعَةً وَلَوْ ظَهَرَ لَهُ بَعْدُ فَأَسَاءَ وَخَرَجَ بِقَوْلِهِ : بِلَا مُبِيحٍ مَا إذَا أَبَاحَ الشَّرْعُ لَهُ ذَلِكَ كَمَا مَرَّ أَنَّ الْحَرْبَ خُدْعَةٌ وَكَمَا أَنَّ لَهُ أَنْ يَلِينَ لِعَدُوِّهِ لِئَلَّا يَتَشَمَّرَ فِي كَيْدِهِ حَتَّى تُمَكِّنَهُ الْفُرْصَةُ وَيَكُونُ الْمَكْرُ وَالْخَدِيعَةُ مُجَازَاةً عَلَى شَرٍّ مُتَقَدِّمٍ أَوْ شَرٍّ مَقْصُودٍ لِمَا بَعْدُ فَهُمَا لِهَذَا الْقَصْدِ وَلِلْمَقْصُودِ وَعَطْفُ الْخَدِيعَةِ عَلَى الْمَكْرِ عَطْفُ تَفْسِيرٍ وَهُمَا أَنْ تُوهِمَ غَيْرَكَ خِلَافَ مَا تُخْفِيهِ مِنْ الْمَكْرُوهِ لِتُزْلِقَهُ عَمَّا عِنْدَهُ أَوْ مَا هُوَ بِصَدَدِهِ وَقَدْ بَحَثْتُ فِي هَذَا التَّعْرِيفِ فِي مَا شَرَحْتُ مِنْ دَعَائِمِ ابْنِ النَّظَرِ أَوْ(1/311)
الْمَكْرُ الْإِخْفَاءُ وَالْخَدِيعَةُ فِعْلٌ مُرَتَّبٌ عَلَى الْمَكْرِ أَوْ بِالْعَكْسِ . ( وَقَدْ يَكُونَانِ بِلَا مُجَازَاةٍ ) بِأَنْ يَفْعَلَهُمَا لِمَنْ فَعَلَ لَهُ خَيْرًا أَوْ لِمَنْ لَمْ يَفْعَلْ لَهُ خَيْرًا وَلَا شَرًّا وَلَمْ يَقْصِدْ لَهُ شَرًّا ( وَجَازَا فِي حَرْبٍ مُبَاحَةٍ ) بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْمُشْرِكِينَ أَوْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْمُنَافِقِينَ وَكَذَا لَا يُؤَاخَذُ بِهِمَا الْمُنَافِقُ أَوْ الْمُشْرِكُ فِي حَرْبٍ تَحِلُّ لَهُ بِأَنْ ظَلَمَهُ ظَالِمٌ ( كَ ) جَوَازِ ( كَذِبٍ بَيْنَ أَخَوَيْنِ ) فِي اللَّهِ أَوْ النَّسَبِ ( تَشَاجَرَا ) اخْتَلَفَا فِي شَيْءٍ فَتَقَاطَعَا عَلَيْهِ ( أَوْ زَوْجَيْنِ عَلَى صُلْحٍ بَيْنَهُمَا ) أَيْ بَيْنَ الْأَخِ أَوْ الزَّوْجِ وَالْأَخِ الْآخَرِ أَوْ الزَّوْجِ الْآخَرِ . ((1/312)
وَبَيْنَ أَهْلِ حَرْبٍ مُبَاحَةٍ ) بِأَنْ يَمْكُرَ بِمَا يَنْفَعُ مَنْ أُبِيحَ لَهُ الْقِتَالُ أَوْ تَوْرِيَةً وَبَيْنَ الْوَلَدِ وَالْوَالِدِ أَوْ الْوَالِدَةِ وَبَيْنَ الْقَرَابَةِ يَقُولُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ مَا لَمْ يَكُنْ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ لِلْكُفَّارِ إنَّ الْمُسْلِمِينَ قَدْ رَجَعُوا فَلَا يَأْخُذُ الْكُفَّارُ فِي أُهْبَةِ الْحَرْبِ أَوْ لَا طَاقَةَ لَكُمْ عَلَيْهِمْ لِكَثْرَتِهِمْ وَشِدَّتِهِمْ فَيَهْرُبُ الْكُفَّارُ وَمِثْلُ أَنْ يَقُولَ لِلزَّوْجَةِ إنَّ زَوْجَكَ يُحِبُّكَ وَيَقُولُ يَفْعَلُ لَكَ سِوَارًا مِنْ فِضَّةٍ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ وَمِثْلُ أَنْ يَقُولَ إنَّ أَخَاكَ فُلَانًا يُسَلِّمُ عَلَيْكَ وَيَقُولُ إنَّهُ قَدْ نَدِمَ عَلَى مَا صَارَ مِنْهُ إلَيْكَ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بِمَعْرَضَةٍ فَأَحْسَنُ بَلْ قِيلَ لَا يَجُوزُ بِلَا مَعْرَضَةٍ لِقُبْحِ الْكَذِبِ شَرْعًا فَلَا يَجُوزُ فِيهِ وَلِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم { إنَّ فِي الْمَعَارِيضِ لَمَنْدُوحَةً عَنْ الْكَذِبِ } .(1/313)
وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه إنَّ فِي الْمَعَارِيضِ لَمَنْدُوحَةً أَنْ يَعِفَّ الرَّجُلُ عَنْ الْكَذِبِ وَعَنْهُ صلى الله عليه وسلم { لَمْ يَكْذِبْ مَنْ قَالَ خَيْرًا أَوْ أَصْلَحَ بَيْنَ اثْنَيْنِ } وَأَمَّا تَسْمِيَتُهُ كَذِبًا فِي مِثْلِ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم { لَا يَصْلُحُ الْكَذِبُ إلَّا فِي ثَلَاثَةِ مَوَاطِنَ الْحَرْبُ فَإِنَّهَا خُدْعَةٌ وَالرَّجُلُ يُصْلِحُ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَالرَّجُلُ يُرْضِي امْرَأَتَهُ } جَازَ { وَقَدْ قَالَ لَهُ صلى الله عليه وسلم شَيْخٌ إذْ تَطَرَّفَ مِمَّنْ أَنْتَ ؟ فَقَالَ مِنْ مَاءٍ وَعَنَى مَا يُخْلَقُ مِنْهُ الْإِنْسَانُ وَظَنَّ الشَّيْخُ قَبِيلَةً تُسَمَّى مَاءً وَرُوِيَ أَنَّهُ يَقُولُ أَمِنَ مَاءِ كَذَا أَوْ مَاءٍ وَتَرَكَهُ صلى الله عليه وسلم } . وَكَذَا قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه فِي الْهِجْرَةِ لِمَنْ سَأَلَهُ مَنْ هَذَا مَعَكَ إنَّهُ هَادٍ يَهْدِينِي السَّبِيلَ يَعْنِي دِينَ اللَّهِ وَالسَّائِلُ يَظُنُّ طَرِيقَ الْأَرْضِ . وَرَوَى حُمَيْدٍ عَنْ أُمِّ كُلْثُومِ بِنْتِ عُقْبَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم { لَيْسَ الْكَاذِبُ مَنْ أَصْلَحَ بَيْنَ النَّاسِ فَقَالَ خَيْرًا أَوْ نَوَى خَيْرًا } وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم { الْمَكْرُ وَالْخَدِيعَةُ وَالْخِيَانَةُ فِي النَّارِ } .(1/314)
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رضي الله عنه : ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كُنَّ عَلَيْهِ الْبَغْيُ وَالنَّكْثُ وَالْمَكْرُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { إنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ } وَقَالَ تَعَالَى { فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ } وَقَالَ { وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إلَّا بِأَهْلِهِ } وَقَالَ { وَمَا يَمْكُرُونَ إلَّا بِأَنْفُسِهِمْ } { وَمَا يَخْدَعُونَ إلَّا أَنْفُسَهُمْ } وَقَالَ { وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاَللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ } { وَقَدْ أَسْلَمَ نُعَيْمُ بْنُ مَسْعُودِ بْنِ عَامِرٍ الْغَطَفَانِيُّ يَوْمَ الْأَحْزَابِ - قُرَيْشٌ وَغَطَفَانُ وَقَبَائِلُ الْعَرَبِ وَبَنُو النَّضِيرِ - فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَسْلَمْتُ وَلَمْ يَعْلَمْ قَوْمِي بِإِسْلَامِي فَأْمُرْنِي بِمَا شِئْتَ فَقَالَ صلى الله عليه وسلم خَذِّلْ عَنَّا إنْ اسْتَطَعْتَ فَإِنَّ الْحَرْبَ خَدْعَةٌ } غ .(1/315)
فَخَرَجَ نُعَيْمٌ فَقَالَ لِبَنِي قُرَيْظَةَ وَكَانَ صَدِيقًا لَهُمْ : عَلِمْتُمْ وُدِّي لَكُمْ ؟ قَالُوا : نَعَمْ لَا نَتَّهِمُكَ فَقَالَ : لَسْتُمْ كَقُرَيْشٍ وَمَنْ مَعَهُمْ إنْ وَجَدُوا فُرْصَةً اغْتَنَمُوهَا وَإِلَّا لَحِقُوا بِبِلَادِهِمْ وَخَلَّوْا بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ مُحَمَّدٍ وَلَا طَاقَةَ لَكُمْ وَلَا تَقْدِرُونَ أَنْ تَحُولُوا مِنْ بِلَادِكُمْ فَلَا تُقَاتِلُوا مُحَمَّدًا حَتَّى تَأْخُذُوا رَهَائِنَ مِنْ أَشْرَافِهِمْ يَكُونُونَ بِأَيْدِيكُمْ ثِقَةً قَالُوا أَشَرْتَ بِالرَّأْيِ ثُمَّ قَالَ لِأَبِي سُفْيَانَ وَمَنْ مَعَهُ عَلِمْتُمْ وُدِّي لَكُمْ وَإِنِّي أَنْصَحُكُمْ فَاكْتُمُوا إنَّ الْيَهُودَ نَدِمُوا فِيمَا صَنَعُوا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مُحَمَّدٍ وَقَالُوا لَهُ نَدِمْنَا عَلَى نَقْضِ الْعَهْدِ بَيْنَنَا هَلْ يُرْضِيكَ أَنْ نَأْخُذَ مِنْ قُرَيْشٍ وَغَطَفَانَ رِجَالًا مِنْ أَشْرَافِهِمْ فَنُسَلِّمُهُمْ إلَيْكَ تَقْتُلُهُمْ وَتَكُونُ عَلَى مَنْ بَقِيَ فَإِنْ بَعَثَتْ إلَيْكُمْ الْيَهُودُ يَلْتَمِسُونَ رَهَائِنَ مِنْ رِجَالِكُمْ فَلَا تُعْطُوهُمْ وَاحِدًا .(1/316)
وَقَالَ لِغَطَفَانَ مِثْلَ ذَلِكَ وَأَرْسَلَ أَبُو سُفْيَانَ لَيْلَةَ السَّبْتِ إلَى قُرَيْظَةَ لَسْنَا بِدَارِ مُقَامٍ هَلَكَ الْخُفُّ وَالْحَافِرُ فَاعْتَدُّوا نُنَاجِزُ مُحَمَّدًا وَأَصْحَابَهُ فَقَالُوا لَا نُقَاتِلُ فِي السَّبْتِ وَلَا نَعْمَلُ فِيهِ شَيْئًا وَلَسْنَا مَعَ ذَلِكَ بِاَلَّذِينَ نُقَاتِلُ مَعَكُمْ حَتَّى تُعْطُونَا مِنْكُمْ رَهَائِنَ نَخْشَى أَنْ تَكُونَ عَلَيْكُمْ الدَّائِرَةُ فَتَلْحَقُوا بِبِلَادِكُمْ وَتَتْرُكُونَا وَالرَّجُلَ فِي بِلَادِهِ وَلَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ فَقَالَتْ قُرَيْشٌ وَاَللَّهِ إنَّ الَّذِي حَدَّثَكُمْ بِهِ نُعَيْمُ بْنُ مَسْعُودٍ حَقٌّ فَأَرْسَلُوا إلَى قُرَيْظَةَ لَا نُعْطِيكُمْ رَجُلًا وَاحِدًا فَإِنْ أَرَدْتُمْ فَقَاتِلُوا فَقَالَتْ قُرَيْظَةُ الَّذِي قَالَ نُعَيْمٌ حَقٌّ فَأَرْسَلُوا إلَى قُرَيْشٍ وَمَنْ مَعَهُمْ لَا نُقَاتِلُ إلَّا أَنْ تُعْطُونَا مِنْكُمْ رَهَائِنَ وَلَمَّا فَتَحَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَيْبَرَ وَتَعَرَّسَ بِصَفِيَّةَ وَفَرِحَ الْمُسْلِمُونَ قَالَ الْحَجَّاجُ السُّلَمِيُّ إنَّ لِي بِمَكَّةَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَالًا عِنْدَ صَاحِبَتِي أُمِّ شَيْبَةَ وَمَالًا فِي تُجَّارِ مَكَّةَ إنْ عَلِمُوا بِإِسْلَامِي ذَهَبَ مَالِي فَأْذَنْ لِي أُخَلِّصُهُ فَأَذِنَ لَهُ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَحْتَاجُ أَنْ أَقُولَ قَالَ فَأَنْتَ فِي حِلٍّ وَلَمَّا انْتَهَيْتُ إلَى الثَّنِيَّةِ الْبَيْضَاءِ وَجَدْتُ رِجَالًا مِنْ قُرَيْشٍ يَسْتَمِعُونَ الْأَخْبَارَ وَلَمَّا أَبْصَرُونِي قَالُوا هَذَا لَعُمْرُ اللَّهِ عِنْدَهُ الْخَبَرُ أَخْبِرْنَا يَا حَجَّاجُ لَقَدْ بَلَغَنَا مِنْ الْقَاطِعِ أَنَّهُ سَارَ إلَى خَيْبَرَ يَعْنُونَ مُحَمَّدًا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ عِنْدِي مَا يَسُرُّكُمْ فَاحْتَفُّوا(1/317)
بِجَانِبَيْ نَاقَتِهِ يَقُولُونَ إيهٍ يَا حَجَّاجُ فَقُلْتُ هُزِمَ هَزِيمَةً لَمْ تَسْمَعُوا بِهَا قَطُّ . وَأُسِرَ مُحَمَّدٌ وَقَالُوا لَا نَقْتُلُهُ حَتَّى نَبْعَثَهُ إلَى مَكَّةَ يَقْتُلُونَهُ بِمَا أَصَابَ مِنْ رِجَالِهِمْ فَصَاحُوا بِمَكَّةَ قَدْ جَاءَكُمْ الْخَبَرُ وَهَذَا مُحَمَّدٌ إنَّمَا تَنْتَظِرُونَ أَنْ يُقْدَمَ بِهِ عَلَيْكُمْ فَيُقْتَلَ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ قَالَ فَقُلْتُ أَعِينُونِي عَلَى جَمْعِ مَالِي مِنْ غُرَمَائِي فَإِنِّي عَزَمْتُ أَنْ أَشْتَرِيَ مِنْ نَفْلِ مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ قَبْلَ أَنْ يَسْبِقَنِي التُّجَّارُ إلَيْهِ فَجَمَعُوا مَالِي كَأَحْسَنِ مَا يَكُونُ .(1/318)
فَلَمَّا سَمِعَ الْعَبَّاسُ رضي الله عنه الْخَبَرَ أَقْبَلَ إلَى جَانِبِي وَأَنَا فِي خَيْمَةٍ مِنْ خِيَمِ التُّجَّارِ فَقَالَ يَا حَجَّاجُ مَا هَذَا الْخَبَرُ قَالَ فَقُلْتُ هَلْ عِنْدَكَ كَتْمٌ لِمَا أُودِعُهُ عِنْدَكَ ؟ قَالَ إيْ وَاَللَّهِ قُلْتُ تَأَخَّرْ عَنِّي حَتَّى أَلْقَاكَ عَلَى خَلَاءٍ فَإِنِّي أَجْمَعُ مَالِي كَمَا تَرَى فَانْصَرَفَ فَلَمَّا جَمَعْتُ مَالِي وَعَزَمْتُ عَلَى الْخُرُوجِ لَقِيتُ الْعَبَّاسَ فَقُلْتُ احْفَظْ عَلَيَّ حَدِيثِي يَا أَبَا الْفَضْلِ فَإِنِّي أَخْشَى أَنْ يَقْتُلُونِي فَاكْتُمْ عَلَيَّ ثَلَاثًا ثُمَّ قُلْ قَالَ ذَلِكَ لَكَ قَالَ فَقُلْتُ : وَاَللَّهِ مَا تَرَكْتُ ابْنَ أَخِيكَ إلَّا عَرُوسًا عَلَى بِنْتِ مَلِكِهِمْ يَعْنِي صَفِيَّةَ وَقَدْ افْتَتَحَ خَيْبَرَ وَغَنِمَ مَا فِيهَا وَصَارَتْ لَهُ وَلِأَصْحَابِهِ قَالَ مَا تَقُولُ يَا حَجَّاجُ ؟ قُلْتُ وَاَللَّهِ مَا جِئْتُ إلَّا مُسْلِمًا لِآخُذَ مَالِي خَوْفًا مِنْ أَنْ أُغْلَبَ عَلَيْهِ فَإِذَا مَضَتْ ثَلَاثٌ فَأَظْهِرْ أَمْرَك فَهُوَ وَاَللَّهِ كَمَا تُحِبُّ فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الثَّالِثُ لَبِسَ الْعَبَّاسُ الْحِلَّةَ وَتَعَطَّرَ وَأَخَذَ عَصَاهُ وَأَتَى الْكَعْبَةَ فَطَافَ بِهَا وَلَمَّا رَأَوْهُ قَالُوا يَا أَبَا الْفَضْلِ هَذَا وَاَللَّهِ التَّجَلُّدُ لِلْمُصِيبَةِ .(1/319)
قَالَ وَاَلَّذِي حَلَفْتُمْ بِهِ قَدْ افْتَتَحَ مُحَمَّدٌ خَيْبَرَ وَتُرِكَ عَرُوسًا عَلَى بِنْتِ مَلِكِهِمْ وَأَحْرَزَ أَمْوَالَهُمْ وَمَا فِيهَا فَأَصْبَحَتْ لَهُ وَلِأَصْحَابِهِ قَالُوا وَمَنْ جَاءَ بِهَذَا ؟ قَالَ الَّذِي جَاءَكُمْ بِمَا جَاءَكُمْ بِهِ وَلَقَدْ دَخَلَ عَلَيْكُمْ مُسْلِمًا وَأَخَذَ مَالَهُ وَانْطَلَقَ يَلْحَقُ مُحَمَّدًا وَأَصْحَابَهُ لِيَكُونَ مَعَهُمْ قَالُوا أَفْلَتَ عَدُوُّ اللَّهِ أَمَا وَاَللَّهِ لَوْ عَلِمْنَا بِهِ لَكَانَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ شَأْنٌ فَلَمْ يَلْبَثُوا أَنْ جَاءَهُمْ الْخَبَرُ بِذَلِكَ .(1/320)
بَابٌ فِي الزُّهْدِ وَالرَّغْبَةِ فِي الْإِسْلَامِ ( حَمِدَ الزُّهْدَ فِي الدُّنْيَا ) أَيْ حَمِدَ اللَّهُ الزُّهْدَ فِيهَا أَيْ مَدَحَهُ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَأَوْجَبَ عَلَيْهِ الثَّوَابَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا } الْآيَةَ قَالَ أَبُو رَافِعٍ : { نَزَلَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ضَيْفٌ فَلَمْ يَلْقَ عِنْدَهُ مَا يُصْلِحُهُ فَأَرْسَلَنِي إلَى يَهُودِيٍّ مِنْ بَنِي خَيْبَرَ وَقَالَ لِي : قُلْ لَهُ يَقُولُ لَكَ مُحَمَّدٌ أَسْلِفْ لِي أَوْ بِعْ لِي دَقِيقًا إلَى رَجَبٍ , فَأَتَيْتُهُ فَقَالَ : لَا وَاَللَّهِ إلَّا بِرَهْنٍ قَالَ فَأَتَيْتُهُ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ : أَمَا وَاَللَّهِ إنِّي لَأَمِينٌ فِي أَهْلِ السَّمَاءِ وَأَمِينٌ فِي أَهْلِ الْأَرْضِ وَلَوْ بَاعَنِي أَوْ أَسْلَفَنِي لَأَدَّيْتُهُ , اذْهَبْ إلَيْهِ بِدِرْعِي هَذِهِ قَالَ وَلَمَّا خَرَجْتُ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ : { وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ } الْآيَةَ فَأَمَرَ مُنَادِيًا يُنَادِي مَنْ لَمْ يَتَأَدَّبْ بِأَدَبِ اللَّهِ تَقَطَّعَتْ نَفْسُهُ حَسَرَاتٌ , وَمَنْ لَمْ يَرَ لِلَّهِ نَعْمَةً إلَّا فِي مَطْعَمٍ أَوْ فِي مَشْرَبٍ أَوْ مَلْبَسٍ فَقَدْ قَصُرَ عَمَلُهُ وَحَضَرَ عَذَابُهُ , وَمَنْ نَظَرَ إلَى مَا فِي يَدِ غَيْرِهِ طَالَ حُزْنُهُ وَلَمْ يُشْفَ غَيْظُهُ } وَكُلُّ آيَةٍ أَوْ حَدِيثٍ أَوْ أَثَرٍ وَرَدَ فِي مَدْحِ وَتَرْكِ الْمَعْصِيَةِ فَهُوَ مِنْ بَابِ الزُّهْدِ , وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ } الْآيَةَ فَأَمَرَهُ بِفِرَاقِهِنَّ إنْ اخْتَرْنَ الدُّنْيَا .(1/321)
وَقَالَ صلى الله عليه وسلم { أُوحِيَ إلَيَّ كَلِمَاتٌ فَدَخَلْنَ فِي أُذُنَيَّ وَوَقَرْنَ فِي قَلْبِي , مَنْ أَعْطَى فَضْلَ مَالِهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَمَنْ أَمْسَكَ فَهُوَ شَرٌّ لَهُ , وَلَا يَلُومُ اللَّهُ عَلَى الْكَفَافِ } وَعَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ حَيْدَرَةَ { قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا يَكْفِي مِنْ الدُّنْيَا ؟ قَالَ : مَا سَدَّ جَوْعَتَكَ وَسَتَرَ عَوْرَتَكَ فَإِنْ كَانَ دَارٌ فَذَاكَ وَإِنْ كَانَ حِمَارٌ فَبَخٍ بَخٍ فِلْقٌ مِنْ خُبْزٍ وَجُرَعٌ مِنْ مَاءٍ وَأَنْتَ مَسْئُولٌ عَمَّا فَوْقَ الْإِزَارِ } وَعَنْ مُجَاهِدٍ فِي قوله تعالى { وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا } كُلُّ مَنْ مَلَكَ بَيْتًا وَزَوْجَةً وَخَادِمًا فَهُوَ مَلِكٌ , وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ فِي الْمَعْنَى صَحِيحٌ لِأَنَّهُ بِالزَّوْجَةِ وَالْخَادِمِ مُطَاعٌ وَبِالْبَيْتِ مَحْجُوبٌ إلَّا بِإِذْنِهِ , وَعَنْهُ صلى الله عليه وسلم { وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَيَدْخُلَنَّ فُقَرَاءُ الْمُسْلَمِينَ الْجَنَّةَ قَبْلَ أَغْنِيَائِهِمْ بِخَمْسِ مِائَةِ سَنَةٍ يَأْكُلُونَ فِيهَا وَيَشْرَبُونَ وَيَتَنَعَّمُونَ وَالْآخَرُونَ جَاثُونَ عَلَى رُكَبِهِمْ وَلَيَقُولَنَّ لَهُمْ الْجَبَّارُ جَلَّ جَلَالُهُ : أَنْتُمْ كُنْتُمْ مُلُوكَ النَّاسِ وَحُكَّامَهُمْ وَأَهْلَ الْغِنَى فَأَرَوْنِي مَاذَا صَنَعْتُمْ فِيمَا أَعْطَيْتُكُمْ } .(1/322)
وَعَنْهُ صلى الله عليه وسلم { الْتَقَى مُؤْمِنَانِ عَلَى بَابِ الْجَنَّةِ فَقِيرٌ وَغَنِيٌّ كَانَا فِي الدُّنْيَا فَأُدْخِلَ الْفَقِيرُ الْجَنَّةَ وَاحْتُبِسَ الْغَنِيُّ مَا شَاءَ اللَّهُ , ثُمَّ دَخَلَهَا فَلَقِيَهُ الْفَقِيرُ فَقَالَ لَهُ : يَا أَخِي احْتَبَسْتُ بَعْدَكَ مُحْتَبَسًا فَظِيعًا كَرِيهًا وَمَا وَصَلْتُ إلَيْكَ حَتَّى سَالَ مِنَى مِنْ الْعَرَقِ مَا لَوْ وَرَدَهُ أَلْفُ بَعِيرٍ كُلُّهَا أَكَلَتْ خَمْطًا لَصَدَرَتْ مِنْهُ رُوَاةً } وَقَالَ مُوسَى عليه السلام يَا رَبِّ أَيُّ عِبَادِكَ أَغْنَى فَأَوْحَى اللَّهُ إلَيْهِ : أَقْنَعُهُمْ بِمَا أَعْطَيْتُهُ وَقَالَ عَلِيٌّ : أَفَادَتْنِي الْقَنَاعَةُ كُلَّ عِزٍّ وَهَلْ عِزٌّ أَجَلُّ مِنْ الْقَنَاعَةِ فَصَيِّرْهَا لِنَفْسِكَ رَأْسَ مَالٍ وَصَيِّرْ بَعْدَهَا التَّقْوَى بِضَاعَهْ تَحَرَّزْ حِينَ تَغْنَى عَنْ لَئِيمٍ وَتَنَعَّمْ فِي الْجِنَانِ بِصَبْرِ سَاعَهْ وَعَنْهُ صلى الله عليه وسلم : { طُوبَى لِمَنْ هُدِيَ لِلْإِسْلَامِ وَكَانَ عَيْشُهُ كَفَافًا وَقَنَعَ بِهِ } وَقَالَ صلى الله عليه وسلم : { لَيْسَ الْغِنَى عَنْ كَثْرَةِ الْعَرَضِ إنَّمَا الْغِنَى غِنَى النَّفْسِ } وَقِيلَ لِحَكِيمٍ : مَا الْغِنَى ؟ قَالَ : قِلَّةُ تَمَنِّيكَ وَرِضَاكَ بِمَا يَكْفِيكَ , وَقِيلَ لِحَكِيمٍ : مَا مَالُكَ ؟ قَالَ : الْغِنَى فِي الظَّاهِرِ وَالْقَصْدُ فِي الْبَاطِنِ وَالْإِيَاسُ مِمَّا فِي أَيْدِي النَّاسِ , وَيُرْوَى أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ : { يَا ابْنَ آدَمَ لَوْ كَانَتْ الدُّنْيَا كُلُّهَا لَكَ لَمْ يَكُنْ لَكَ مِنْهَا إلَّا الْمَوْتُ فَإِذَا أَنَا أَعْطَيْتُكَ مِنْهَا الْقُوتَ وَجَعَلْتُ حِسَابَهَا عَلَى غَيْرِكَ فَأَنَا مُحْسِنٌ } .(1/323)
وَعَنْ وَهْبٍ أَنَّهُ أَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إلَى نَبِيٍّ مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ : إنْ أَرَدْتَ أَنْ تَسْكُنَ حَظِيرَةَ الْفِرْدَوْسِ فَكُنْ فِي الدُّنْيَا فَرِيدًا وَحِيدًا هَيُوبًا وَحِيشًا بِمَنْزِلَةِ الطَّائِرِ الْوَحْدَانِيِّ الَّذِي يَظَلُّ فِي الْفَلَوَاتِ وَيَأْكُلُ مِنْ رُءُوسِ الْأَشْجَارِ وَيَشْرَبُ مِنْ مَاءِ الْعُيُونِ فَإِذَا كَانَ اللَّيْلُ آوَى وَحْدَهُ وَلَمْ يَأْوِ مَعَ الطَّيْرِ اسْتِئْنَاسًا بِرَبِّهِ , قَالَ الشَّاعِرُ كَمْ لِلْحَوَادِثِ مِنْ صُرُوفٍ عَجَائِبُ وَنَوَائِبُ مَوْصُولَةٍ بِنَوَائِبِ وَلَقَدْ تَقَطَّعَ مِنْ شَبَابِكَ وَانْقَضَى مَا لَيْسَ أَعْلَمُهُ إلَيْكَ بِآيِبِ تَبْغِي مِنْ الدُّنْيَا الْكَثِيرَ وَإِنَّمَا يَكْفِيكَ مِنْهَا مِثْلُ زَادِ الرَّاكِبِ { وَدَخَلَ عُمَرُ رضي الله عنه عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ نَائِمٌ عَلَى سَرِيرٍ مَرْمُولٍ بِشَرِيطٍ فَجَلَسَ فَرَأَى أَثَرَهُ فِي جَنْبِهِ فَدَمَعَتْ عَيْنَاهُ فَقَالَ لَهُ صلى الله عليه وسلم مَا الَّذِي أَبْكَاكَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ ؟ قَالَ ذَكَرْتُ كِسْرَى وَقَيْصَرَ وَمَا هُمَا فِيهِ مِنْ الْمُلْكِ وَذَكَرَتْكَ وَأَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ وَحَبِيبُهُ وَصَفِيُّهُ نَائِمٌ عَلَى سَرِيرٍ مَرْمُولٍ بِشَرِيطٍ فَقَالَ لَهُ أَمَا تَرْضَى يَا عُمَرُ أَنْ تَكُونَ لَهُمْ الدُّنْيَا وَلَا تَكُونَ لَهُمْ الْآخِرَةُ ؟ فَقَالَ بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ , قَالَ : فَذَاكَ كَذَلِكَ ثُمَّ قَالَ صلى الله عليه وسلم إنَّمَا مَثَلِي وَمَثَلُ الدُّنْيَا كَمِثْلِ رَاكِبٍ سَافَرَ فِي يَوْمٍ صَائِفٍ فَرُفِعَتْ لَهُ شَجَرَةٌ فَاسْتَظَلَّ تَحْتَهَا ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا } .(1/324)
قَالَ الْعُكْبَرِيُّ : وَمِمَّنْ زَهِدَ فِي الدُّنْيَا وَأَبْصَرَ عُيُوبَهَا مِنْ أَبْنَاءِ الْمُلُوكِ أَبُو عَقَّالٍ عَلْوَانَ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ الْأَغْلَبِ مِنْ مُلُوكِ الْمَغْرِبِ , وَكَانَ ذَا نَعْمَةٍ وَمُلْكٍ وَفُتُوَّةٍ , فَتَابَ إلَى رَبِّهِ وَرَجَعَ عَنْ ذَلِكَ وَفَارَقَ نُظَرَاءَهُ وَرَفَضَ الْمَالَ وَالْأَهْلَ وَهَجَرَ النِّسَاءَ وَالْوَطَنَ , وَبَلَغَ فِي الْعِبَادَةِ مَبْلَغًا وَفَاقَ الْمُجْتَهِدِينَ وَعُرِفَ بِإِجَابَةِ الدُّعَاءِ , وَكَانَ عَالِمًا أَدِيبًا وَصَحِبَ رَجُلًا يُكَنَّى أَبَا هَارُونَ الْأَنْدَلُسِيَّ وَكَانَ مُنْقَطِعًا مُتَبَتِّلًا إلَى اللَّهِ تَعَالَى فَلَمْ يَرَ لَهُ كَبِيرَ اجْتِهَادٍ فِي الْعِلْمِ , فَبَيْنَمَا أَبُو عَقَّالٍ يَجْتَهِدُ فِي بَعْضِ اللَّيْلِ وَأَبُو هَارُونَ نَائِمٌ إذْ غَلَبَهُ النَّوْمُ فَقَالَ لِنَفْسِهِ : يَا نَفْسُ مَا هَذَا , عَابِدٌ جَلِيلُ الْقَدْرِ يَنَامُ اللَّيْلَ وَأَنَا أَسْهَرُهُ كُلَّهُ فَلَوْ أَرَحْتُ نَفْسِي , فَوَضَعَ جَنْبَهُ إلَى الْأَرْضِ فَرَأَى فِي مَنَامِهِ شَخْصًا فَتَلَا عَلَيْهِ قَوْلَهُ تَعَالَى { أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا } الْآيَةَ فَاسْتَيْقَظَ فَازِعًا وَعَلِمَ أَنَّهُ الْمُرَادُ فَأَيْقَظَ أَبَا هَارُونَ فَقَالَ لَهُ : سَأَلْتُكَ بِاَللَّهِ هَلْ أَتَيْتَ كَبِيرَةً قَطُّ ؟ .(1/325)
قَالَ : لَا يَا ابْنَ أَخِي وَلَا صَغِيرَةً عَنْ عَمْدٍ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ , فَقَالَ أَبُو عَقَّالٍ : لِهَذَا تَنَامُ أَنْتَ وَلَا يَصْلُحُ لِمِثْلِي إلَّا الْكَدُّ وَالِاجْتِهَادُ قَالَ أَبُو بَكْرٍ الطُّرْطُوشِيُّ مَرَّ بَعْضُ الْمُلُوكِ بِبُقْرَاطَ الْحَكِيمِ نَائِمًا فَرَكَضَهُ بِرِجْلِهِ قَالَ : قُمْ , فَقَامَ غَيْرَ مُرْتَاعٍ مِنْهُ وَلَا مُلْتَفِتٍ إلَيْهِ , فَقَالَ لَهُ : أَلَا تَعْرِفُنِي ؟ قَالَ : لَا وَلَكِنِّي أَرَى فِيكَ طَبْعَ الدَّوَابِّ لِأَنَّهَا تَرْكُضُ بِأَرْجُلِهَا فَغَضِبَ فَقَالَ : أَتَقُولُ لِي هَذَا وَأَنْتَ عَبْدِي , فَقَالَ لَهُ بُقْرَاطُ : بَلْ أَنْتَ عَبْدُ عَبْدِي قَالَ : وَكَيْفَ ذَلِكَ ؟ قَالَ لِأَنَّ شَهَوَاتِكَ قَدْ مَلَكَتْكَ وَأَنَا مَلَكْتُ الشَّهَوَاتِ , فَقَالَ أَنَا الْمَلِكُ ابْنُ سَادَاتِ الْأَمْلَاكِ أَمْلِكُ كَذَا وَكَذَا مِنْ الْبِلَادِ وَكَذَا وَكَذَا مِنْ الرِّجَالِ وَكَذَا وَكَذَا مِنْ الْأَمْوَالِ , قَالَ : أَرَاك تَفْتَخِرُ بِمَا لَيْسَ مِنْ جِنْسِكَ , وَإِنَّمَا سَبِيلُكَ أَنْ تَفْتَخِرَ عَلَيَّ بِنَفْسِكَ وَلَكِنْ تَعَالَ نَخْلَعُ ثِيَابَنَا وَنَتَرَامَى فِي هَذَا النَّهَرِ وَنَتَكَلَّمُ فَحِينَئِذٍ يَتَبَيَّنُ الْفَاضِلُ وَالْمَفْضُولُ .(1/326)
وَعَنْ الْجَاحِظِ أَنَّهُ وَجَدَ مَكْتُوبًا عَلَى حَجَرٍ : يَا ابْنَ آدَمَ لَوْ رَأَيْتَ يَسِيرَ مَا بَقِيَ مِنْ أَجَلِكَ لَزَهِدْتَ فِي طُولِ مَا تَرْجُو مِنْ أَمَلِكَ وَلَرَغِبْتَ فِي الزِّيَادَةِ مِنْ عَمَلِكَ وَلَقَصَرْتَ مِنْ حِرْصِكَ وَحِيَلِكَ , وَإِنَّمَا يَلْقَاكَ غَدًا نَدَمُكَ وَقَدْ زَلَّتْ بِكَ قَدَمُكَ وَصَرَمَكَ أَهْلُكَ وَحَشَمُكَ وَتَبَرَّأَ مِنْ صُحْبَتِكَ الْقَرِيبُ , وَانْصَرَفَ عَنْكَ الْحَبِيبُ فَلَا أَنْتَ فِي عَمَلِكَ زَائِدٌ وَلَا إلَى أَهْلِكَ عَائِدٌ وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ الزَّاهِدُ فِي الدُّنْيَا نَظَرَهُ عِبْرَةٌ وَكَلَامُهُ فِيهَا حِكْمَةٌ وَسُكُوتُهُ فِيهَا فِكْرَةٌ , يَصْبِرُ عِنْدَ الْبَلَاءِ , وَيَشْكُرُ عِنْدَ الرَّخَاءِ , وَيَرْضَى بِجَمِيعِ الْقَضَاءِ وَقَالَ يَحْيَى بْنُ مُعَاذٍ : الزَّاهِدُ الصَّادِقُ قُوتُهُ مَا وَجَدَ , وَلِبَاسُهُ مَا سَتَرَ وَمَسْكَنُهُ حَيْثُ أَدْرَكَ , الدُّنْيَا سِجْنُهُ , وَالْقَبْرُ مَضْجَعُهُ , وَالْخَلْوَةُ مَجْلِسُهُ , وَالِاعْتِبَارُ فِكْرُهُ , وَالْقُرْآنُ حَدِيثُهُ , وَالزُّهْدُ قَرِينُهُ , وَالْحُزْنُ شَأْنُهُ , وَالتَّقْوَى إرَادَتُهُ وَالصَّمْتُ غَنِيمَتُهُ , وَالصَّبْرُ مُعْتَمَدُهُ , وَالتَّوَكُّلُ حَسْبُهُ , وَالْعَقْلُ دَلِيلُهُ وَالْعِبَادَةُ حِرْفَتُهُ , وَالْجَنَّةُ مَبْلَغُهُ , وَقِيلَ لِبَعْضِ الزُّهَّادِ : مَا بَالُكَ تَمْشِي عَلَى عَصَا وَلَسْتَ بِكَبِيرٍ وَلَا مَرِيضٍ ؟ قَالَ : إنِّي مُسَافِرٌ وَإِنَّهَا دَارُ بُلْغَةٍ وَالْعَصَا مِنْ آلَاتِ السَّفَرِ , وَهَذَا كَمَا قِيلَ لِأَبِي مُقَرِّعٍ : لِمَ تُمْسِكُ الْعَصَا دَائِمًا ؟ .(1/327)
فَقَالَ وَمَا مَسَكَتْ يَدَيَّ الْعِصِيَّ عَنْ إهَانَةٍ وَلَا اضْطَرَّنِي ضَعْفٌ إلَيْهَا وَلَا ضَرَرْ وَلَكِنَّنِي فِي حَقِّ نَفْسِي حَبَسْتُهَا لِأُعْلِمَهَا أَنَّ الْمُقِيمَ عَلَى سَفَرٍ وَعَنْهُ صلى الله عليه وسلم { إذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدٍ خَيْرًا زَهَّدَهُ فِي الدُّنْيَا وَرَغَّبَهُ فِي الْآخِرَةِ وَبَصَّرَهُ عُيُوبَ نَفْسِهِ } وَقَالَ أَيْضًا : { ازْهَدْ فِي الدُّنْيَا يُحِبُّكَ اللَّهُ وَفِيمَا فِي أَيْدِي النَّاسِ يُحِبُّكَ النَّاسُ ؟ } وَقَالَ أَيْضًا صلى الله عليه وسلم : { مَنْ أَرَادَ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ عِلْمًا بِغَيْرِ تَعْلِيمٍ وَهُدًى بِغَيْرِ هِدَايَةٍ فَلْيَزْهَدْ فِي الدُّنْيَا } وَقَالَ صلى الله عليه وسلم : { مَنْ اشْتَاقَ إلَى الْجَنَّةِ سَارَعَ إلَى الْخَيْرَاتِ , وَمَنْ خَافَ مِنْ النَّارِ لَهَى عَنْ الشَّهَوَاتِ وَمَنْ تَرَقَّبَ الْمَوْتَ تَرَكَ اللَّذَّاتِ وَمَنْ زَهِدَ فِي الدُّنْيَا هَانَتْ عَلَيْهِ الْمَصَائِبُ } " وَقِيلَ : مَا زَهِدَ الرَّجُلُ فِي الدُّنْيَا إلَّا نَطَقَتْ الْحِكْمَةُ عَلَى لِسَانِهِ , وَعَنْ وَهْبٍ : إنَّ لِلْجَنَّةِ ثَمَانِيَةَ أَبْوَابٍ , فَإِذَا صَارَ أَهْلُ الْجَنَّةِ إلَيْهَا جَعَلَ الْبَوَّابُونَ يَقُولُونَ : وَعِزَّةِ رَبِّنَا لَا يَدْخُلُهَا أَحَدٌ قَبْلَ الزَّاهِدِينَ فِي الدُّنْيَا وَالْعَاشِقِينَ لِلْجَنَّةِ .(1/328)
وَعَنْ يَحْيَى بْنِ أَكْثَمَ : إذَا رَأَيْتَ الزَّاهِدَ يَسْتَرِيحُ إلَى طَلَبِ الرُّخْصِ فَاعْلَمْ أَنَّهُ قَدْ بَدَا لَهُ فِي الزُّهْدِ ( وَ ) اعْلَمْ أَنَّ الزُّهْدَ فِي اللُّغَةِ تَرْكُ الشَّيْءِ خَيْرًا أَوْ شَرًّا طَاعَةً أَوْ مَعْصِيَةً أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ , وَالزُّهْدُ بِضَمِّ الزَّايِ وَإِسْكَانِ الْهَاءِ وَالزَّهَادَةُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ , وَقَالَ الْخَلِيلُ : الزَّهَادَةُ فِي الدُّنْيَا وَالزُّهْدُ فِي الدِّينِ , وَالْمَعْنَى فِي ذَلِكَ ضِدُّ الرَّغْبَةِ فِي الشَّيْءِ إلَّا أَنَّهُ يُقَالُ : زَهِدَ فِيهِ بِمَعْنَى أَعْرَضَ عَنْهُ كَمَا يُقَالُ : زَهِدَ عَنْهُ , وَأَمَّا فِي الشَّرْعِ فَالزُّهْدُ كَالزَّهَادَةِ ( هُوَ تَرْكُ الْحَرَامِ ) مِنْ الْمَالِ وَالْأَفْعَالِ كَالزِّنَى وَسَائِرِ الْمَعَاصِي وَالْأَقْوَالِ الْمُحَرَّمَةِ وَالِاعْتِقَادَاتِ الْمُحَرَّمَةِ , فَمَنْ فَعَلَ كَبِيرَةً فَلَيْسَ زَاهِدًا , وَلَوْ تَرَكَ الْمَالَ رَأْسًا , وَيَلْتَحِقُ بِالْحَرَامِ الشُّبَهُ وَحُبُّ الْجَاهِ فَمَنْ أَحَبَّ الْجَاهَ أَوْ يَتْبَعُ الشُّبَهَ فَلَيْسَ زَاهِدًا وَقَالَ إبْرَاهِيمُ بْنُ أَدْهَمَ : الزُّهْدُ ثَلَاثَةٌ زُهْدٌ فَرْضٌ , وَهُوَ الزُّهْدُ فِي الْحَرَامِ , وَزُهْدٌ فَضْلٌ وَهُوَ الزُّهْدُ فِي الْحَلَالِ , وَزُهْدٌ سَلَامَةٌ وَهُوَ الزُّهْدُ فِي الشُّبُهَاتِ ( وَقِيلَ ) الزُّهْدُ شَرْعًا هُوَ تَرْكُ ( حُبُّهَا ) أَيْ حُبُّ الدُّنْيَا بِذَاتِهَا كَأَنْ يُحِبَّ الْحَيَاةَ لَا الطَّاعَةِ , بِالْجَرِّ بِمُضَافٍ مَحْذُوفٍ لِلْعِلْمِ بِهِ , وَتَقَدَّمَ ذِكْرُهُ أَوْ بِالرَّفْعِ نِيَابَةً عَنْهُ ( وَلَذَّاتُهَا ) بِجَرِّ لَذَّاتِ عَطْفًا عَلَى ( هَا ) بِلَا إعَادَةِ الْجَارِ أَوْ بِالنَّصْبِ عَطْفًا عَلَى مَحِلِّ ( هَا ) لِأَنَّهَا مَفْعُولٌ بِهِ مُضَافٌ إلَيْهِ , أَوْ(1/329)
بِالرَّفْعِ نِيَابَةً عَنْ الْمُضَافِ أَيْ وَحُبِّ لَذَّاتِهَا أَوْ بِعَطْفٍ عَلَى حُبِّ أَيْ وَتَرْكُ لَذَّاتِهَا وَإِنْ قَدَّرْنَا وَحُبِّ لَذَّاتِهَا فَالتَّقْدِيرُ أَيْضًا وَتَرْكُ حُبِّ لَذَّاتِهَا ( وَإِيثَارُهَا ) أَيْ اخْتِيَارُ أُمُورِهَا عَلَى أُمُورِ الْآخِرَةِ ( وَفَرَحٌ بِنِيلِهَا ) أَيْ بِنِيلِ أَمْرِهَا ( وَحُزْنٌ عَنْ فَائِتِهَا ) أَيْ عَنْ فَائِتٍ مِنْ أُمُورِهَا وَإِيثَارُ مَعْطُوفٌ عَلَى حُبِّ , وَكَذَا فَرَحٌ وَحُزْنٌ فَيُجَرُّنَّ إنْ جُرَّ وَيُرْفَعْنَ إنْ رُفِعَ وَكَذَا لَفْظُ كُلِّ بَعْدَ هَذَا فَكَأَنَّهُ قَالَ : تَرْكُ حُبِّهَا وَتَرْكُ حُبِّ لَذَّاتِهَا أَوْ تَرْكُ لَذَّاتِهَا وَتَرْكُ إيثَارِهَا وَتَرْكُ فَرَحٍ بِنِيلِهَا وَتَرْكُ حُزْنٍ عَنْ فَائِتِهَا ( وَ ) تَرْكُ ( كُلِّ ) أَمْرٍ ( شَاغِلٍ عَنْ ) أَمْرِ ( الْآخِرَةِ ) وَإِذَا لَمْ يَتْرُكْ بَعْضًا مِنْ ذَلِكَ فَلَيْسَ بِزَاهِدٍ , وَلَوْ تَرَكَ الْبَاقِيَ مِثْلُ أَنْ يَتْرُكَ اللَّذَّاتِ كُلَّهَا وَمَا ذُكِرَ كُلُّهُ إلَّا لَذَّةً وَاحِدَةً مِنْ الْحَلَالِ فَلَيْسَ بِزَاهِدٍ .(1/330)
وَلَقَدْ حُكِيَ عَنْ إبْرَاهِيمَ الْخَوَّاصِ قَالَ : كُنْتُ اعْتَقَدْتُ أَنْ لَا آكُلَ شَيْئًا مِنْ الشَّهَوَاتِ إلَّا الرُّمَّانَ فَاجْتَزْتُ بِرَجُلٍ بِهِ عِلَّةٌ شَدِيدَةٌ وَإِذَا الزَّنَابِيرُ تَقَعُ عَلَيْهِ وَتَأْخُذُ مِنْ لَحْمِهِ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَقَالَ : وَعَلَيْكَ السَّلَامُ يَا إبْرَاهِيمُ وَعَرَفَنِي مِنْ غَيْرِ تَقَدُّمِ مَعْرِفَةٍ فَقُلْتُ لَهُ : أَرَى لَكَ حَالًا مَعَ اللَّهِ فَلَوْ دَعَوْتَ اللَّهَ حَتَّى يُخَلِّصَكَ مِنْ هَذِهِ الزَّنَابِيرِ , فَقَالَ لِي : وَأَرَى لَكَ حَالًا مَعَ اللَّهِ يَا إبْرَاهِيمُ , فَلَوْ دَعَوْتَ اللَّهَ حَتَّى يُخَلِّصَكَ مِنْ شَهْوَةِ الرُّمَّانِ فَإِنَّ لَسْعَ الزَّنَابِيرِ عَلَى النُّفُوسِ أَيْسَرُ مِنْ لَدْغِ الشَّهَوَاتِ عَلَى الْقُلُوبِ وَعَنْ ابْنِ عُيَيْنَةَ : الزُّهْدُ ثَلَاثَةُ أَحْرُفٍ زَايٌ وَهَاءٌ وَدَالٌ , فَالزَّايُ تَرْكُ زِينَةِ الدُّنْيَا , وَالْهَاءُ تَرْكُ هَوَاهَا , وَالدَّالُ تَرْكُ الدُّنْيَا بِأَسْرِهَا حَلَالِهَا وَحَرَامِهَا إلَّا مَا لَا بُدَّ مِنْهُ مِنْ حَلَالِهَا , وَإِذَا كَانَ هَكَذَا سُمِّيَ زَاهِدًا وَقِيلَ لِبَعْضِ الْعُلَمَاءِ مَا الزُّهْدُ ؟ قَالَ : التَّقْوَى , وَعَنْ بَعْضِ الْحُكَمَاءِ : الزُّهْدُ زُهْدَانِ : زُهْدٌ فِي الدُّنْيَا وَزُهْدٌ فِي الرِّيَاسَةِ وَمَنْ زَهِدَ فِي الدُّنْيَا وَلَمْ يَزْهَدْ فِي الرِّيَاسَةِ لَمْ يَنْفَعْهُ زُهْدُهُ فِي الدُّنْيَا , وَعَلَى زُهْدٍ فِي الرِّيَاسَةِ فَهُوَ زَاهِدٌ فِي الدُّنْيَا وَفِيهِ نَظَرٌ لِبُعْدِ تَسْمِيَتِهِ زَاهِدًا إذَا تَرَكَ الرِّيَاسَةَ وَانْهَمَكَ فِي جَمْعِ الْمَالِ الْحَرَامِ وَاتِّبَاعِ الشَّهَوَاتِ أَوْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكَ قَلِيلًا .(1/331)
وَعَنْ عُمَرَ رضي الله عنه : الزُّهْدُ فِي الدُّنْيَا رَاحَةُ الْقَلْبِ وَالْبَدَنِ , وَهَذَا تَعْرِيفُ الزُّهْدِ أَوْ إخْبَارٌ بِحَالِ الزُّهْدِ , قَالَ الدَّارَانِيُّ : لَيْسَ الزَّاهِدُ مَنْ نَفَى هُمُومَ الدُّنْيَا وَاسْتَرَاحَ مِنْهَا إنَّمَا الزَّاهِدُ مَنْ زَهِدَ فِيهَا وَتَعِبَ فِيهَا لِلْآخِرَةِ , وَقِيلَ لِبَعْضِهِمْ مَا رَأْسُ الزَّهَادَةِ ؟ قَالَ : أَخْذُ الْأَشْيَاءِ مِنْ حِلِّهَا وَوَضْعُهَا فِي حَقِّهَا , وَعَنْ بَعْضِ الْحُكَمَاءِ : الزُّهْدُ فِي الرِّيَاسَةِ أَشَدُّ مِنْ الزُّهْدِ فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ لِأَنَّهُمَا قَدْ يَبْذُلُهُمَا الْمَرْءُ فِي طَلَبِ الرِّيَاسَةِ , وَقَالَ الدَّارَانِيُّ : مَا شَغَلَكَ عَنْ اللَّهِ مِنْ أَهْلٍ وَمَالٍ فَهُوَ عَلَيْكَ مَشْئُومٌ , فَالزُّهْدُ عِنْدَنَا يَعْنِي عِنْدَ الْعَارِفِينَ بِاَللَّهِ تَعَالَى : تَرْكُ كُلِّ شَيْءٍ يَشْغَلُكَ عَنْ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَقِيلَ لِيَحْيَى بْنِ أَكْثَمَ : مَتَى يَكُونُ الرَّجُلُ زَاهِدًا ؟ قَالَ إذَا بَلَغَ حِرْصُهُ فِي الدُّنْيَا كَحِرْصِ الْحَرِيصِ عَلَى طَلَبِهَا { وَسُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ الزُّهْدِ فَقَالَ : أَمَا أَنَّهُ لَيْسَ بِإِضَاعَةِ الْمَالِ وَلَا بِتَحْرِيمِ الْحَلَالِ , وَلَكِنْ أَنْ تَكُونَ بِمَا فِي يَدِ اللَّهِ أَوْثَقَ مِنْكَ بِمَا فِي يَدِكَ , وَأَنْ يَكُونَ ثَوَابُ الْمُصِيبَةِ أَرْجَحَ عِنْدَكَ } .(1/332)
وَقِيلَ : الزُّهْدُ لُغَةً , الْإِعْرَاضُ عَنْ الشَّيْءِ احْتِقَارًا لَهُ , وَشَرْعًا أَخْذُ قَدْرِ الضَّرُورَةِ مِنْ الْمَالِ الْمُتَيَقَّنِ الْحِلِّ فَهُوَ أَخَصُّ مِنْ الْوَرَعِ إذْ هُوَ تَرْكُ الْمُشْتَبَهِ وَقِيلَ : وَتَرْكُ الدُّنْيَا عَنْ قُدْرَةٍ , وَلَقَدْ قَالَ الطِّيبِيُّ : لَا يُتَصَوَّرُ الزُّهْدُ مِمَّنْ لَيْسَ لَهُ مَالٌ وَلَا جَاهٌ , وَقِيلَ لِابْنِ الْمُبَارَكِ , يَا زَاهِدُ , قَالَ الزَّاهِدُ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ إذْ جَاءَتْهُ الدُّنْيَا رَاغِمَةً فَتَرَكَهَا , أَمَّا أَنَا فَفِيمَ زَهِدْتُ ؟ وَقِيلَ : الزُّهْدُ تَفْرِيقُ الْمَجْمُوعِ وَتَرْكُ طَلَبِ الْمَفْقُودِ وَالْإِيثَارُ عِنْدَ الْقُوَّةِ , وَقَالَ أَبُو يَزِيدَ : مَا غَلَبَنِي أَحَدُ مَا غَلَبَنِي شَابٌّ مِنْ أَهْلِ بَلْخِي مَرَّ عَلَيْنَا حَاجًّا فَقَالَ : يَا أَبَا يَزِيدَ مَا حَدُّ الزُّهْدِ عِنْدَكُمْ ؟ فَقُلْتُ : إذَا وَجَدْنَا أَكَلْنَا وَإِذَا فَقَدْنَا صَبَرْنَا , فَقَالَ هَكَذَا كِلَابُ بَلْخَ عِنْدَنَا , قُلْتُ : فَمَا حَدُّ الزُّهْدِ عِنْدَكُمْ ؟ فَقَالَ : إذَا فَقَدْنَا شَكَرْنَا وَإِذَا وَجَدْنَا آثَرْنَا وَقِيلَ : الزُّهْدُ النَّظَرُ إلَى الدُّنْيَا بِعَيْنِ احْتِقَارٍ فَتَصْغُرُ فِي عَيْنَيْكَ وَيَسْهُلُ عَلَيْكَ الْإِعْرَاضُ عَنْهَا , وَقِيلَ : الزُّهْدُ قَصْرُ الْأَمَلِ وَالْإِيَاسُ مِمَّا فِي أَيْدِي النَّاسِ , وَمِنْ ثَمَّ قَالَ الضَّحَّاكُ : { قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ أَزْهَدُ النَّاسِ : قَالَ : مَنْ لَمْ يَنْسَ الْقَبْرَ وَالْبَلَاءَ وَتَرَكَ فُضُولَ زِينَةِ الدُّنْيَا , وَآثَرَ مَا يَبْقَى عَلَى مَا يَفْنَى , وَمَنْ لَمْ يَعُدَّ مِنْ أَيَّامِهِ غَدًا , وَعَدَّ نَفْسَهُ مِنْ الْمَوْتَى } وَقِيلَ : الزُّهْدُ أَنْ لَا تَحْزَنَ عَلَى مَا فَاتَ مِنْ الدُّنْيَا وَلَا(1/333)
تَفْرَحَ بِمَا أَتَاكَ مِنْهَا وَأَحْسَنُ حُدُودِهِ كَمَا قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ : إنَّهُ فَرَاغُ الْقَلْبِ مِنْ الدُّنْيَا لَا فَرَاغُ الْيَدِ وَهَذَا زُهْدُ الْعَارِفِينَ , وَعَلَامَةُ زُهْدِ الْمُقَرَّبِينَ , وَهُوَ الزُّهْدُ فِيمَا سِوَى اللَّهِ مِنْ دُنْيَا وَجَنَّةٍ وَغَيْرِهِمَا إذْ لَيْسَ لِصَاحِبِ هَذَا الزُّهْدِ إلَّا الْوُصُولُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى , وَالْقُرْبُ مِنْهُ , وَالْحَامِلُ عَلَى الزُّهْدِ أَشْيَاءُ مِنْهَا اسْتِحْضَارُ الْآخِرَةِ وَالْحِسَابِ , { لَقِيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَارِثَةَ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : كَيْفَ أَصْبَحْتَ يَا حَارِثَةُ ؟ قَالَ أَصْبَحْتُ وَاَللَّهِ مُؤْمِنًا حَقًّا , قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : اُنْظُرْ مَا تَقُولُ فَإِنَّ لِكُلِّ حَقٍّ حَقِيقَةً فَمَا حَقِيقَةُ إيمَانِكَ ؟ قَالَ عَرَضْتُ نَفْسِي عَلَى الدُّنْيَا فَاسْتَوَى عِنْدِي حَجَرُهَا وَذَهَبُهَا , وَسَهِرْتُ لَيْلِي وَظَمَّأْتُ نَهَارِي وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إلَى عَرْشِ رَبِّي بَارِزًا وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ فِي الْجَنَّةِ يَتَمَتَّعُونَ وَإِلَى أَهْلِ النَّارِ فِي النَّارِ يُعَذَّبُونَ قَالَ يَا حَارِثَةُ عَرَفْتَ فَالْزَمْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَنْظُرَ إلَى رَجُلٍ نَوَّرَ اللَّهُ قَلْبَهُ بِالْإِيمَانِ فَلْيَنْظُرْ إلَى هَذَا } وَمِنْهَا اسْتِحْضَارُ أَنَّ لَذَّاتِهَا شَاغِلَةٌ لِلْقُلُوبِ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى وَمُوجِبَةٌ لِطُولِ الْحَبْسِ وَالْوُقُوفِ لِلْحِسَابِ وَالسُّؤَالِ عَنْ شُكْرِ النِّعَمِ , وَمِنْهَا كَثْرَةُ الذُّلِّ وَالتَّعَبِ فِي تَحْصِيلِهَا وَسُرْعَةُ تَقَبُّلِهَا وَمُزَاحَمَةُ الْأَرْذَالِ عَلَيْهَا , وَمِنْهَا حَقَارَتُهَا عِنْدَ اللَّهِ ,(1/334)
وَعَنْ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ : مَنْ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِأَعْقَلِ النَّاسِ فَإِنَّهُ يَصْرِفُ فِي الزُّهَّادِ لِأَنَّهُمْ انْقَادُوا لِلْعَقْلِ وَلَمْ يَغْتَرُّوا بِالْأَمَلِ .
وفي درر الحكام :
إذَا حَكَمَ الْقَاضِي بِالرِّشْوَةِ سَوَاءٌ أَكَانَ حُكْمُهُ قَبْلَ أَخْذِهِ الرِّشْوَةَ أَوْ بَعْدَ أَخْذِ الرِّشْوَةِ فَفِي ذَلِكَ اخْتِلَافٌ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ . 1 - فَعَلَى قَوْلٍ إنَّ حُكْمَ الْقَاضِي صَحِيحٌ إذَا كَانَ مُوَافِقًا لِلْمَسْأَلَةِ الشَّرْعِيَّةِ سَوَاءٌ فِي الدَّعْوَى الَّتِي ارْتَشَى فِيهَا أَوْ الَّتِي لَمْ يَرْتَشِ فِيهَا وَبِأَخْذِ الرِّشْوَةِ لَا يَبْطُلُ الْحُكْمُ لِأَنَّ حَاصِلَ أَخْذِ الرِّشْوَةِ هُوَ فِسْقُ الْقَاضِي وَبِمَا أَنَّ فِسْقَ الْقَاضِي لَا يُوجِبُ انْعِزَالَهُ فَوِلَايَةُ الْقَاضِي بَاقِيَةٌ , وَإِذَا كَانَ قَضَاؤُهُ بِحَقٍّ يَلْزَمُ نَفَاذُ قَضَائِهِ 2 - وَعَلَى قَوْلٍ آخَرَ لَا يَنْفُذُ حُكْمُ الْقَاضِي فِي الدَّعْوَى الَّتِي ارْتَشَى فِيهَا حَتَّى لَقَدْ وَرَدَ فِي الْخَانِيَّةِ : بِأَنَّ الْقَاضِيَ لَوْ أَخَذَ رِشْوَةً وَحَكَمَ فَحُكْمُهُ غَيْرُ نَافِذٍ بِالْإِجْمَاعِ وَلَوْ كَانَ حُكْمُهُ بِحَقٍّ لِأَنَّ الْقَاضِيَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ يَكُونُ قَدْ اُسْتُؤْجِرَ لِلْحُكْمِ وَالِاسْتِئْجَارُ لِلْحُكْمِ بَاطِلٌ لِأَنَّ الْقَضَاءَ وَاجِبٌ عَلَى الْقَاضِي فِي " الْوَلْوَالِجِيَّةِ آدَابِ الْقَاضِي " . وَعَلَى قَوْلٍ ثَالِثٍ : إنَّهُ لَا يَنْفُذُ حُكْمُ الْقَاضِي الْمُرْتَشِي فِي جَمِيعِ الدَّعَاوَى الَّتِي حَكَمَ بِهَا وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ قَوْلُ بَعْضِ عُلَمَاءِ الْحَنَفِيَّةِ كَالْخَصَّافِ وَالطَّحْطَاوِيُّ الْمَذْكُورُ فِي الْمَادَّةِ " 1794 " .(1/335)
لَا يَمْلِكُ الْمُرْتَشِي الرِّشْوَةَ وَلَوْ قَامَ الْمُرْتَشِي بِالْأَمْرِ الَّذِي نَدَبَهُ إلَيْهِ الرَّاشِي تَمَامًا فَلِذَلِكَ إذَا كَانَ مَالُ الرِّشْوَةِ مَوْجُودًا فَيُرَدُّ عَيْنًا وَإِذَا كَانَ مُسْتَهْلَكًا فَيُرَدُّ بَدَلًا وَإِذَا كَانَ الرَّاشِي تُوُفِّيَ فَيُرَدُّ إلَى وَرَثَتِهِ وَبِالْحُكْمِ بِالرَّدِّ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ تَخْلِيصُ الْمُرْتَشِي مِنْ حُكْمِ الضَّمَانِ الدُّنْيَوِيِّ أَمَّا الْخَلَاصُ مِنْ الْحُكْمِ الْأُخْرَوِيِّ وَهُوَ الْأَهَمُّ وَاسْتِحْقَاقُ النَّارِ فَلَا يَحْصُلُ إلَّا بِالتَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ " الدُّرُّ الْمُنْتَقَى فِي الْغَصْبِ وَرَدُّ الْمُحْتَارِ " . كَذَلِكَ إذَا تُوُفِّيَ الْمُرْتَشِي فَلَا يَمْلِكُ وَارِثُهُ الرِّشْوَةَ وَيَلْزَمُهُ إعَادَتُهَا إلَى الرَّاشِي حَتَّى أَنَّهُ إذَا تُوُفِّيَ الرَّجُلُ الَّذِي كَسْبُهُ حَرَامٌ فَيَجِبُ عَلَى وَرَثَتِهِ ; أَنْ يَتَحَرَّوْا أَصْحَابَ ذَلِكَ الْمَالِ الْحَرَامِ فَيَرُدُّوهُ إلَيْهِمْ وَإِذَا لَمْ يَجِدُوهُمْ أَنْ يَتَصَدَّقُوا بِذَلِكَ الْمَالِ " الْهِنْدِيَّةُ فِي الْبَابِ الْعِشْرِينَ فِي الْبُيُوعَاتِ الْمَكْرُوهَةِ " .
وفي الموسوعة الفقهية :(1/336)
ثَانِيًا - الِاحْتِسَابُ عَلَى الْوَالِدَيْنِ : 37 - أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ لِلْوَلَدِ الِاحْتِسَابُ عَلَيْهِمَا , لِأَنَّ النُّصُوصَ الْوَارِدَةَ فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ مُطْلَقَةٌ تَشْمَلُ الْوَالِدَيْنِ وَغَيْرَهُمَا , وَلِأَنَّ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ لِمَنْفَعَةِ الْمَأْمُورِ وَالْمَنْهِيِّ , وَالْأَبُ وَالْأُمُّ أَحَقُّ أَنْ يُوصِلَ الْوَلَدُ إلَيْهِمَا الْمَنْفَعَةَ وَلَكِنْ لَا يَتَجَاوَزُ مَرْتَبَتَيْ التَّعَرُّفِ وَالتَّعْرِيفِ , وَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا يُجَاوِزُ ذَلِكَ بِحَيْثُ يُؤَدِّي إلَى سَخَطِهِمَا بِأَنْ يَكْسِرَ مَثَلًا عُودًا , أَوْ يُرِيقَ خَمْرًا , أَوْ يَحُلَّ الْخُيُوطَ عَنْ ثِيَابِهِ الْمَنْسُوجَةِ مِنْ الْحَرِيرِ , أَوْ يَرُدَّ مَا يَجِدُهُ فِي بَيْتِهِمَا مِنْ الْمَالِ الْحَرَامِ . وَذَهَبَ الْغَزَالِيُّ إلَى أَنَّ لِلْوَلَدِ فِعْلُ ذَلِكَ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَفْعَالَ لَا تَتَعَلَّقُ بِذَاتِ الْأَبِ . فَسَخَطُ الْأَبِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ مُنْشَؤُهُ حُبُّهُ لِلْبَاطِلِ وَلِلْحَرَامِ . وَذَهَبَ آخَرُونَ إلَى عَدَمِ جَوَازِ ذَلِكَ وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَنَقَلَهُ الْقَرَافِيُّ عَنْ مَالِكٍ وَهُوَ أَيْضًا مَذْهَبُ أَحْمَدَ . قَالَ صَاحِبُ نِصَابُ الِاحْتِسَابِ : السُّنَّةُ فِي أَمْرِ الْوَالِدَيْنِ بِالْمَعْرُوفِ أَنْ يَأْمُرَهُمَا بِهِ مَرَّةً فَإِنْ قَبِلَا فَبِهَا , وَإِنْ كَرِهَا سَكَتَ عَنْهُمَا , وَاشْتَغَلَ بِالدُّعَاءِ وَالِاسْتِغْفَارِ لَهُمَا , فَإِنَّهُ تَعَالَى يَكْفِيهِ مَا يُهِمُّهُ مِنْ أَمْرِهِمَا . وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ : يَجُوزُ لِلْوَلَدِ أَنْ يُخْبِرَ الْمُحْتَسِبَ بِمَعْصِيَةِ وَالِدَيْهِ إذَا عَلِمَ الْوَلَدُ أَنْ أَبَوَيْهِ لَا يَمْتَنِعَانِ بِمَوْعِظَتِهِ .(1/337)
وَنَقَلَ الْقَرَافِيُّ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ الْوَالِدَيْنِ يُؤْمَرَانِ بِالْمَعْرُوفِ وَيُنْهَيَانِ عَنْ الْمُنْكَرِ وَيَخْفِضُ لَهُمَا فِي ذَلِكَ جَنَاحَ الذُّلِّ مِنْ الرَّحْمَةِ . وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ مِثْلُ ذَلِكَ , وَفِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ إذَا رَأَى أَبَاهُ عَلَى أَمْرٍ يَكْرَهُهُ يُكَلِّمُهُ بِغَيْرِ عُنْفٍ وَلَا إسَاءَةٍ , وَلَا يُغَلِّظُ لَهُ فِي الْكَلَامِ , وَلَيْسَ الْأَبُ كَالْأَجْنَبِيِّ , وَفِي رِوَايَةِ يَعْقُوبَ بْنِ يُوسُفَ إذَا كَانَ أَبَوَاهُ يَبِيعَانِ الْخَمْرَ لَمْ يَأْكُلْ مِنْ طَعَامِهِمَا , وَخَرَجَ عَنْهُمَا . أَمَّا الِاحْتِسَابُ بِالتَّعْنِيفِ وَالضَّرْبِ وَالْإِرْهَاقِ إلَى تَرْكِ الْبَاطِلِ , فَإِنَّ الْغَزَالِيَّ يَتَّفِقُ مَعَ غَيْرِهِ فِي الْمَنْعِ مِنْهُ حَيْثُ قَالَ : إنَّ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَرَدَ عَامًّا , وَأَمَّا النَّهْيُ عَنْ إيذَاءِ الْأَبَوَيْنِ فَقَدْ وَرَدَ خَاصًّا فِي حَقِّهِمَا مِمَّا يُوجِبُ اسْتِثْنَاءَهُمَا مِنْ ذَلِكَ الْعُمُومِ , إذْ لَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْجَلَّادَ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْتُلَ أَبَاهُ فِي الزِّنَى حَدًّا , وَلَا لَهُ أَنْ يُبَاشِرَ إقَامَةَ الْحَدِّ عَلَيْهِ , بَلْ لَا يُبَاشِرُ قَتْلَ أَبِيهِ الْكَافِرِ , بَلْ لَوْ قَطَعَ يَدَهُ لَمْ يَلْزَمْ قِصَاصٌ , وَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُؤْذِيَهُ فِي مُقَابَلَتِهِ , فَإِذَا لَمْ يَجُزْ لَهُ إيذَاؤُهُ بِعُقُوبَةٍ هِيَ حَقٌّ عَلَى جِنَايَةٍ سَابِقَةٍ , فَلَا يَجُوزُ لَهُ إيذَاؤُهُ بِعُقُوبَةٍ هِيَ مَنْعٌ عَنْ جِنَايَةٍ مُسْتَقْبَلَةٍ مُتَوَقَّعَةٍ بَلْ أَوْلَى وَتَرَخَّصَ ابْنُ حَجَرٍ فِي حَالَةِ الِاضْطِرَارِ مُجَاوَزَةِ الرِّفْقِ إلَى الشِّدَّةِ .
زَكَاةُ الْمَالِ الْحَرَامِ :(1/338)
37 - الْمَالُ الْحَرَامُ كَالْمَأْخُوذِ غَضَبًا أَوْ سَرِقَةً أَوْ رِشْوَةً أَوْ رِبًا أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ لَيْسَ مَمْلُوكًا لِمَنْ هُوَ بِيَدِهِ , فَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ زَكَاتُهُ ; لِأَنَّ الزَّكَاةَ تَمْلِيكٌ , وَغَيْرُ الْمَالِكِ لَا يَكُونُ مِنْهُ تَمْلِيكٌ ; وَلِأَنَّ الزَّكَاةَ تُطَهِّرُ الْمُزَكِّيَ وَتُطَهِّرُ الْمَالَ الْمُزَكَّى لقوله تعالى : { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا } وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : { لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَدَقَةً مِنْ غُلُولٍ } . وَالْمَالُ الْحَرَامُ كُلُّهُ خَبَثٌ لَا يَطْهُرُ , وَالْوَاجِبُ فِي الْمَالِ الْحَرَامِ رَدُّهُ إلَى أَصْحَابِهِ إنْ أَمْكَنَ مَعْرِفَتُهُمْ وَإِلَّا وَجَبَ إخْرَاجِهِ كُلَّهُ عَنْ مِلْكِهِ عَلَى سَبِيلِ التَّخَلُّصِ مِنْهُ لَا عَلَى سَبِيلِ التَّصَدُّقِ بِهِ , وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ أَصْحَابِ الْمَذَاهِبِ . قَالَ الْحَنَفِيَّةُ : لَوْ كَانَ الْمَالُ الْخَبِيثُ نِصَابًا لَا يَلْزَمُ مَنْ هُوَ بِيَدِهِ الزَّكَاةُ ; لِأَنَّهُ يَجِبُ إخْرَاجُهُ كُلِّهِ فَلَا يُفِيدُ إيجَابَ التَّصَدُّقِ بِبَعْضِهِ . وَفِي الشَّرْحِ الصَّغِير لِلدَّرْدِيرِ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ : تَجِبُ الزَّكَاةُ عَلَى مَالِكِ النِّصَابِ فَلَا تَجِبُ عَلَى غَيْرِ مَالِكٍ كَغَاصِبٍ وَمُودَعٍ . وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ كَمَا نَقَلَهُ النَّوَوِيُّ عَنْ الْغَزَالِيِّ وَأَقَرَّهُ : إذَا لَمْ يَكُنْ فِي يَدِهِ إلَّا مَالٌ حَرَامٌ مَحْضٌ فَلَا حَجَّ عَلَيْهِ وَلَا زَكَاةَ , وَلَا تَلْزَمُهُ كَفَّارَةٌ مَالِيَّةٌ .(1/339)
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ : التَّصَرُّفَاتُ الْحُكْمِيَّةُ لِلْغَاصِبِ فِي الْمَالِ الْمَغْصُوبِ تَحْرُمُ وَلَا تَصِحُّ , وَذَلِكَ كَالْوُضُوءِ مِنْ مَاءٍ مَغْصُوبٍ وَالصَّلَاةِ بِثَوْبٍ مَغْصُوبٍ أَوْ فِي مَكَان مَغْصُوبٍ , وَكَإِخْرَاجِ زَكَاةِ الْمَالِ الْمَغْصُوبِ , وَالْحَجِّ مِنْهُ , وَالْعُقُودِ الْوَارِدَةِ عَلَيْهِ كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ . وَعَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْمَالَ الْمَغْصُوبَ يَدْخُلُ فِي مِلْكِ الْغَاصِبِ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ كَأَنْ اخْتَلَطَ بِمَالِهِ وَلَمْ يَتَمَيَّزْ فَإِنَّهُ يَكُونُ بِالنِّسْبَةِ لِلْغَاصِبِ مَالًا زَكَوِيًّا , إلَّا أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الدَّيْنُ يَمْنَعُ الزَّكَاةَ , وَالْغَاصِبُ مَدِينٌ بِمِثْلِهِ أَوْ قِيمَتِهِ , فَإِنَّ ذَلِكَ يَمْنَعُ الزَّكَاةَ فِيهِ . قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ : مَنْ مَلَكَ أَمْوَالًا غَيْرَ طَيِّبَةٍ أَوْ غَصَبَ أَمْوَالًا وَخَلَطَهَا , مَلَكَهَا بِالْخَلْطِ وَيَصِيرُ ضَامِنًا , وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ سِوَاهَا نِصَابٌ فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ فِيهَا وَإِنْ بَلَغَتْ نِصَابًا لِأَنَّهُ مَدْيُونٌ وَأَمْوَالُ الْمَدِينِ لَا تَنْعَقِدُ سَبَبًا لِوُجُوبِ الزَّكَاةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ , فَوُجُوبُ الزَّكَاةِ مُقَيَّدٌ بِمَا إذَا كَانَ لَهُ نِصَابٌ سِوَاهَا , وَلَا يَخْفَى أَنَّ الزَّكَاةَ حِينَئِذٍ إنَّمَا تَجِبُ فِيمَا زَادَ عَلَيْهَا لَا فِيهَا .(1/340)
ثُمَّ إنَّ الْمَالَ الْمَغْصُوبَ الَّذِي لَا يَقْدِرُ صَاحِبُهُ عَلَى أَخْذِهِ لَا زَكَاةَ عَلَيْهِ فِيهِ , وَمَتَى قَدَرَ صَاحِبُهُ عَلَيْهِ فَقِيلَ : لَيْسَ عَلَيْهِ زَكَاةٌ لِمَا مَضَى مِنْ السِّنِينَ لِأَنَّهُ كَانَ مَحْجُوزًا عَنْهُ وَلَمْ يَكُنْ قَادِرًا عَلَى اسْتِنْمَائِهِ ( تَنْمِيَتِهِ ) فَكَانَ مِلْكُهُ نَاقِصًا , وَقِيلَ : عَلَيْهِ زَكَاتُهُ لِمَا مَضَى , وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ فِي الْجَدِيدِ . وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ : يُخْرِجُ زَكَاتَهُ وَيَعُودُ بِهَا عَلَى الْغَاصِبِ , وَلَيْسَ ذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ مِنْ بَابِ تَزْكِيَةِ الْغَاصِبِ لِلْمَالِ الْحَرَامِ , وَإِنَّمَا ذَلِكَ لِأَنَّهُ نَقْصٌ حَصَلَ فِي الْمَالِ وَهُوَ بِيَدِ الْغَاصِبِ أَشْبَهَ مَا لَوْ تَلِفَ بَعْضُهُ .
التَّصَدُّقُ بِالْجَيِّدِ وَالرَّدِيءِ :(1/341)
22 - يُسْتَحَبُّ فِي الصَّدَقَةِ أَنْ يَكُونَ الْمُتَصَدَّقُ بِهِ أَيْ : الْمَالُ الْمُعْطَى مِنْ أَجْوَدِ مَالِ الْمُتَصَدِّقِ وَأَحَبِّهِ إلَيْهِ , قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ } قَالَ الْقُرْطُبِيُّ : وَالْمَعْنَى لَنْ تَكُونُوا أَبْرَارًا حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ , أَيْ : نَفَائِسِ الْأَمْوَالِ وَكَرَائِمِهَا , وَكَانَ السَّلَفُ - رضي الله عنهم - إذَا أَحَبُّوا شَيْئًا جَعَلُوهُ لِلَّهِ تَعَالَى . فَقَدْ وَرَدَ فِي حَدِيثٍ مُتَّفَقٍ عَلَيْهِ { أَنَّ أَبَا طَلْحَةَ كَانَ أَكْثَرَ الْأَنْصَارِ بِالْمَدِينَةِ مَالًا مِنْ نَخْلٍ , وَكَانَ أَحَبُّ أَمْوَالِهِ إلَيْهِ بَيْرُحَاءَ , وَكَانَتْ مُسْتَقْبِلَةَ الْمَسْجِدِ , وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَدْخُلُهَا وَيَشْرَبُ مِنْ مَاءٍ فِيهَا طَيِّبٍ , قَالَ أَنَسٌ رَاوِي الْحَدِيثِ فَلَمَّا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ : { لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ } قَامَ أَبُو طَلْحَةَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَقُولُ : { لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ } وَإِنَّ أَحَبَّ أَمْوَالِي إلَيَّ بَيْرُحَاءُ , وَإِنَّهَا صَدَقَةٌ لِلَّهِ , أَرْجُو بِرَّهَا وَذُخْرَهَا عِنْدَ اللَّهِ فَضَعْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ حَيْثُ أَرَاك اللَّهُ قَالَ : فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : بَخٍ ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ } .(1/342)
وَكَانَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ يَشْتَرِي أَعْدَالًا مِنْ سُكَّرٍ وَيَتَصَدَّقُ بِهَا , فَقِيلَ لَهُ : هَلَّا تَصَدَّقْت بِقِيمَتِهَا ؟ قَالَ : لِأَنَّ السُّكَّرَ أَحَبُّ إلَيَّ فَأَرَدْت أَنْ أُنْفِقَ مِمَّا أُحِبُّ . وَالْمُرَادُ بِالْآيَةِ حُصُولُ كَثْرَةِ الثَّوَابِ بِالتَّصَدُّقِ مِمَّا يُحِبُّهُ . وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الْمَالُ الْمُتَصَدَّقُ بِهِ كَثِيرًا , وَيُسْتَحَبُّ التَّصَدُّقُ وَلَوْ بِشَيْءٍ نَزْرٍ , قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ } وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ } . وَنَهَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْ التَّصَدُّقِ بِالرَّدِيءِ مِنْ الْمَالِ . قَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنْ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ } أَيْ : لَا تَتَصَدَّقُوا بِالصَّدَقَةِ مِنْ الْمَالِ الْخَبِيثِ , وَلَا تَفْعَلُوا مَعَ اللَّهِ مَا لَا تَرْضَوْنَهُ لِأَنْفُسِكُمْ .(1/343)
وَرَجَّحَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ : أَنَّ الْآيَةَ فِي صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ حَيْثُ قَالَ : لَوْ كَانَتْ فِي الْفَرِيضَةِ لَمَا قَالَ : { وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ } لِأَنَّ الرَّدِيءَ وَالْخَبِيثَ لَا يَجُوزُ أَخْذُهُ فِي الْفَرْضِ بِحَالٍ , لَا مَعَ تَقْدِيرِ الْإِغْمَاضِ وَلَا مَعَ عَدَمِهِ , وَإِنَّمَا يُؤْخَذُ مَعَ عَدَمِ الْإِغْمَاضِ فِي النَّفْلِ وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ : وَالظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِ بَرَاءٍ , وَالْحَسَنِ , وَقَتَادَةَ , أَنَّ الْآيَةَ فِي التَّطَوُّعِ , نُدِبُوا إلَيْهِ أَنْ لَا يَتَطَوَّعُوا إلَّا بِمُمْتَازٍ جَيِّدٍ وَقَدْ { قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي رَجُلٍ عَلَّقَ قِنْوَ حَشَفٍ فِي الْمَسْجِدِ : لَوْ شَاءَ رَبُّ هَذِهِ الصَّدَقَةِ تَصَدَّقَ بِأَطْيَبَ مِنْهَا } وَقَالَ : { إنَّ رَبَّ هَذِهِ الصَّدَقَةِ يَأْكُلُ الْحَشَفَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } .
الْكَسْبُ الْخَبِيثُ وَمَصِيرُهُ :(1/344)
17 - طَلَبُ الْحَلَالِ فَرْضٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ , وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِالْأَكْلِ مِنْ الطَّيِّبَاتِ , فَقَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : { يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ } , وَقَالَ فِي ذَمِّ الْحَرَامِ : { وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ } إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْآيَاتِ . وَفِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه : أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : { وَلَا يَكْسِبُ عَبْدٌ مَالًا مِنْ حَرَامٍ , فَيُنْفِقُ مِنْهُ فَيُبَارَكُ لَهُ فِيهِ , وَلَا يَتَصَدَّقُ بِهِ فَيُقْبَلُ مِنْهُ , وَلَا يَتْرُكُ خَلْفَ ظَهْرِهِ إلَّا كَانَ زَادَهُ إلَى النَّارِ } , وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : { لَا يَرْبُو لَحْمٌ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ إلَّا كَانَتْ النَّارُ أَوْلَى بِهِ } . وَالْحَرَامُ كُلُّهُ خَبِيثٌ , لَكِنَّ بَعْضَهُ أَخْبَثُ مِنْ بَعْضٍ , فَإِنَّ الْمَأْخُوذَ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ حَرَامٌ , وَلَكِنَّهُ لَيْسَ فِي دَرَجَةِ الْمَغْصُوبِ عَلَى سَبِيلِ الْقَهْرِ , بَلْ الْمَغْصُوبُ أَغْلَظُ ; إذْ فِيهِ إيذَاءُ الْغَيْرِ وَتَرْكُ طَرِيقِ الشَّرْعِ فِي الِاكْتِسَابِ , وَلَيْسَ فِي الْعُقُودِ الْفَاسِدَةِ إلَّا تَرْكُ طَرِيقِ التَّعَبُّدِ فَقَطْ , وَكَذَلِكَ الْمَأْخُوذُ ظُلْمًا مِنْ فَقِيرٍ أَوْ صَالِحٍ أَوْ يَتِيمٍ أَخْبَثُ وَأَغْلَظُ مِنْ الْمَأْخُوذِ مِنْ قَوِيٍّ أَوْ غَنِيٍّ أَوْ فَاسِقٍ .(1/345)
وَالْكَسْبُ الْخَبِيثُ هُوَ أَخْذُ مَالِ الْغَيْرِ لَا عَلَى وَجْهِ إذْنِ الشَّرْعِ , فَيَدْخُلُ فِيهِ الْقِمَارُ وَالْخِدَاعُ وَالْغُصُوبُ وَجَحْدُ الْحُقُوقِ وَمَا لَا تَطِيبُ نَفْسُ مَالِكِهِ , أَوْ حَرَّمَتْهُ الشَّرِيعَةُ وَإِنْ طَابَتْ بِهِ نَفْسُ مَالِكِهِ كَمَهْرِ الْبَغِيِّ وَحُلْوَانِ الْكَاهِنِ وَأَثْمَانِ الْخُمُورِ وَالْخَنَازِيرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ . وَالْوَاجِبُ فِي الْكَسْبِ الْخَبِيثِ تَفْرِيغُ الذِّمَّةِ وَالتَّخَلُّصُ مِنْهُ بِرَدِّهِ إلَى أَرْبَابِهِ إنْ عَلِمُوا , وَإِلَّا إلَى الْفُقَرَاءِ .(1/346)
قَالَ النَّوَوِيُّ نَقْلًا عَنْ الْغَزَالِيِّ : إذَا كَانَ مَعَهُ مَالٌ حَرَامٌ , وَأَرَادَ التَّوْبَةَ وَالْبَرَاءَةَ مِنْهُ , فَإِنْ كَانَ لَهُ مَالِكٌ مُعَيَّنٌ وَجَبَ صَرْفُهُ إلَيْهِ أَوْ إلَى وَكِيلِهِ , فَإِنْ كَانَ مَيِّتًا وَجَبَ دَفْعُهُ إلَى وَارِثِهِ , وَإِنْ كَانَ لِمَالِكٍ لَا يَعْرِفُهُ , وَيَئِسَ مِنْ مَعْرِفَتِهِ , فَيَنْبَغِي أَنْ يَصْرِفَهُ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ الْعَامَّةِ كَالْقَنَاطِرِ وَالرُّبُطِ وَالْمَسَاجِدِ وَمَصَالِحِ طَرِيقِ مَكَّةَ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَشْتَرِكُ الْمُسْلِمُونَ فِيهِ , وَإِلَّا فَيَتَصَدَّقُ بِهِ عَلَى فَقِيرٍ أَوْ فُقَرَاءَ , وَيَنْبَغِي أَنْ يَتَوَلَّى ذَلِكَ الْقَاضِي إنْ كَانَ عَفِيفًا , فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَفِيفًا لَمْ يَجُزْ التَّسْلِيمُ إلَيْهِ , فَإِنْ سَلَّمَهُ إلَيْهِ صَارَ الْمُسْلِمُ ضَامِنًا , بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يُحَكِّمَ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْبَلَدِ دَيِّنًا عَالِمًا , فَإِنَّ التَّحَكُّمَ أَوْلَى مِنْ الِانْفِرَادِ , فَإِنْ عَجَزَ عَنْ ذَلِكَ تَوَلَّاهُ بِنَفْسِهِ , فَإِنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الصَّرْفُ إلَى هَذِهِ الْجِهَةِ , وَإِذَا دَفَعَهُ إلَى الْفَقِيرِ لَا يَكُونُ حَرَامًا عَلَى الْفَقِيرِ , بَلْ يَكُونُ حَلَالًا طَيِّبًا , وَلَهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ عَلَى نَفْسِهِ وَعِيَالِهِ إذَا كَانَ فَقِيرًا , لِأَنَّ عِيَالَهُ إذَا كَانُوا فُقَرَاءَ فَالْوَصْفُ مَوْجُودٌ فِيهِمْ , بَلْ هُمْ أَوْلَى مَنْ يَتَصَدَّقُ عَلَيْهِ , وَلَهُ هُوَ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ قَدْرَ حَاجَتِهِ ; لِأَنَّهُ أَيْضًا فَقِيرٌ .(1/347)
قَالَ النَّوَوِيُّ بَعْدَ أَنْ نَقَلَ قَوْلَ الْغَزَالِيِّ الْمَذْكُورَ : وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الْغَزَالِيُّ فِي هَذَا الْفَرْعِ ذَكَرَهُ الْآخَرُونَ مِنْ الْأَصْحَابِ , وَهُوَ كَمَا قَالُوهُ , وَنَقَلَهُ الْغَزَالِيُّ أَيْضًا عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ رضي الله عنه وَغَيْرِهِ مِنْ السَّلَفِ , وَعَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَالْحَارِثِ الْمُحَاسِبِيِّ وَغَيْرِهِمَا مِنْ أَهْلِ الْوَرَعِ ; لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ إتْلَافُ هَذَا الْمَالِ وَرَمْيُهُ فِي الْبَحْرِ , فَلَمْ يَبْقَ إلَّا صَرْفُهُ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ . وَمَنْ وَرِثَ مَالًا وَلَمْ يَعْلَمْ مِنْ أَيْنَ كَسَبَهُ مُوَرِّثُهُ : أَمِنْ حَلَالٍ أَمْ حَرَامٍ ؟ وَلَمْ تَكُنْ عَلَامَةٌ فَهُوَ حَلَالٌ بِإِجْمَاعِ الْعُلَمَاءِ . وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ إذَا مَاتَ الرَّجُلُ وَكَسْبُهُ خَبِيثٌ , كَأَنْ كَانَ مِنْ بَيْعِ الْبَاذَقِ أَوْ الظُّلْمِ أَوْ أَخْذِ الرِّشْوَةِ , فَالْأَوْلَى لِوَرَثَتِهِ أَنْ يَرُدُّوا الْمَالَ إلَى أَرْبَابِهِ , فَإِنْ لَمْ يَعْرِفُوا أَرْبَابَهُ تَصَدَّقُوا بِهِ ; لِأَنَّ سَبِيلَ الْكَسْبِ الْخَبِيثِ التَّصَدُّقُ إذَا تَعَذَّرَ الرَّدُّ عَلَى صَاحِبِهِ . وَفِي الْبَزَّازِيَّةِ : إنْ عَلِمَ الْمَالَ الْحَرَامَ بِعَيْنِهِ لَا يَحِلُّ لَهُ ( لِلْوَارِثِ ) أَخْذُهُ , وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْهُ بِعَيْنِهِ أَخَذَهُ حُكْمًا , وَأَمَّا فِي الدِّيَانَةِ فَإِنَّهُ يَتَصَدَّقُ بِهِ بِنِيَّةِ الْخُصَمَاءِ . وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إلَى أَنَّ مَنْ وَرِثَ مَالًا , وَعَلِمَ أَنَّ فِيهِ حَرَامًا وَشَكَّ فِي قَدْرِهِ , أَخْرَجَ الْقَدْرَ الْحَرَامَ بِالِاجْتِهَادِ .(1/348)
وَيَمْنَعُ وَالِي الْحِسْبَةِ النَّاسَ مِنْ الْكَسْبِ الْخَبِيثِ , قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَيَمْنَعُ مِنْ التَّكَسُّبِ بِالْكَهَانَةِ وَاللَّهْوِ , وَيُؤَدِّبُ عَلَيْهِ الْآخِذَ وَالْمُعْطِيَ . وَلِلتَّفْصِيلِ ر : ( حِسْبَةٌ ف 34 ) .
التّخلص من المال الحرام :
13 - إذا كان المال الّذي في يد المسلم حراماً فإنّه لا يجوز له إمساكه ويجب عليه التّخلص منه , وهذا المال إمّا أن يكون حراماً محضاً وقد سبق بيان حكمه وطريقة التّخلص منه في مصطلح : ( كسب ف 17 ) .
وإمّا أن يكون مختلطاً بأن كان بعضه حلالاً وبعضه حراماً ولا يتميّز بعضه عن بعضٍ فجمهور الفقهاء على أنّه يجب على من بيده هذا المال أن يخرج قدر الحرام ويدفعه لمستحقّه ويكون الباقي في يده حلالاً .
قال أحمد في المال المشتبه حلاله بحرامه : إن كان المال كثيراً أخرج منه قدر الحرام وتصرّف في الباقي , وإن كان المال قليلاً اجتنبه كلّه , وهذا لأنّ القليل إذا تناول منه شيئاً فإنّه تبعد معه السّلامة من الحرام بخلاف الكثير .
وذهب بعض الغلاة من أرباب الورع كما قال ابن العربيّ إلى أنّ المال الحلال إذا خالطه حرام حتّى لم يتميّز ثمّ أخرج منه مقدار الحرام المختلط به لم يحلّ ولم يطب , لأنّه يمكن أن يكون الّذي أخرج هو الحلال والّذي بقي هو الحرام .
مدح النّاس :
5 - الأصل أنّ مدح الغير - كما قال الرّاغب الأصفهاني - ليس في نفسه بمحمود ولا مذمومٍ , وإنّما يحمد ويذم بحسب المقاصد , فمن قصده طلب ما يستحق به الثّناء على الوجه الّذي يستحب فذلك محمود , والمذموم منه : أن يميل إليه من غير تحرّيه لفعل ما يقتضيه , وقد توعّد اللّه تعالى من طلب المحمدة من غير فعل حسنةٍ تقتضيها فقال تعالى : { لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَواْ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِّنَ الْعَذَابِ } .(1/349)
وقال الغزالي : والمدح تدخله ست آفاتٍ : أربع في المادح , واثنتان في الممدوح .
فأمّا المادح فالأولى : أنّه قد يفرط فينتهي به إلى الكذب , قال خالد بن معدانٍ : من مدح إماماً أو أحداً بما ليس فيه على رءوس الأشهاد بعثه اللّه يوم القيامة يتعثّر بلسانه . والثّانية : أنّه قد يدخله الرّياء , فإنّه بالمدح مظهر للحبّ , وقد لا يكون مضمراً له ولا معتقداً لجميع ما يقوله , فيصير به مرائياً منافقاً .
والثّالثة : أنّه قد يقول ما لا يتحقّقه ولا سبيل له إلى الاطّلاع عليه .
روي أنّ رجلاً مدح رجلاً عند النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقال له عليه الصلاة والسلام : « ويحك قطعت عنق صاحبك ، ثمّ قال : إن كان أحدكم مادحاً لا محالة فليقل : أحسب كذا وكذا , إن كان يرى أنّه كذلك , واللّه حسيبه , ولا يزكّي على اللّه أحداً » .
وهذه الآفة تتطرّق إلى المدح بالأوصاف المطلقة الّتي تعرف بالأدلّة كقوله : إنّه متّقٍ وورع وزاهد وخيّر وما يجرى مجراه , فأمّا إذا قال : رأيته يصلّي باللّيل ويتصدّق , ويحج فهذه أمور مستيقنة , ومن ذلك قوله : إنّه عدل رضا , فإنّ ذلك خفي فلا ينبغي أن يجزم القول فيه إلا بعد خبرةٍ باطنةٍ , سمع عمر رضي الله عنه رجلاً يثني على رجلٍ فقال : أسافرت معه ؟ قال : لا , قال : أخالطته في المبايعة والمعاملة ؟ قال : لا , قال : فأنت جاره صباحه ومساءه ؟ قال : لا , قال : واللّه الّذي لا إله إلا هو لا أراك تعرفه .
الرّابعة : أنّه قد يفرح الممدوح وهو ظالم أو فاسق وذلك غير جائزٍ , قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « إنّ اللّه عزّ وجلّ يغضب إذا مدح الفاسق » .
وقال الحسن : من دعا لظالم بطول البقاء فقد أحبّ أن يعصى اللّه تعالى في أرضه .
والظّالم الفاسق ينبغي أن يذمّ ليغتمّ , ولا يمدح ليفرح .
وأمّا الممدوح فيضره من وجهين :(1/350)
إحداهما : أنّه يحدث فيه كبراً وإعجاباً وهما مهلكان , قال الحسن : كان عمر رضي الله عنه جالساً ومعه الدّرّة والنّاس حوله , إذ أقبل الجارود بن المنذر فقال رجل : هذا سيّد ربيعة , فسمعها عمر رضي الله عنه ومن حوله وسمعها الجارود , فلمّا دنا منه خفقه بالدّرّة فقال : مالي ولك يا أمير المؤمنين ؟ قال : مالي ولك أما لقد سمعتها ؟ قال : سمعتها فمه قال : خشيت أن يخالط قلبك منها شيء فأحببت أن أطاطىء منك .
الثّاني : هو أنّه إذا أثنى عليه بالخير فرح به وفتر ورضي عن نفسه , ومن أعجب بنفسه قلّ تشمره , وإنّما يتشمّر للعمل من يرى نفسه مقصّراً , فأمّا إذا انطلقت الألسن بالثّناء عليه ظنّ أنّه قد أدرك .
أمّا إذا سلم المدح من هذه الآفات في حقّ المادح والممدوح لم يكن به بأس , بل ربّما كان مندوباً إليه .
وقال الخادمي : من السّتّة المتعلّقة بآفات اللّسان - فيما الأصل فيه الإذن والإباحة من جانب الشّرع - المدح , وهو جائز تارةً ومنهي عنه تارةً على اختلاف الأحوال والأوقات , فإن كان للّه ورسوله وسائر الأنبياء والصّالحين ونحوهما ممّن يجب تعظيمه فهو من القرب وأعلى الرتب , وجاز المدح - أي لغيرهم كما صرّح ابن أحمد - لأنّه يورث زيادة المحبّة والألفة واجتماع القلوب .
ثمّ قال الخادمي : لكن جوازه بشروط خمسةٍ :
الأوّل : أن لا يكون المدح لنفسه لأنّ تزكية النّفس لا تجوز , قال اللّه تعالى : { فَََلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى } لكن إن كان يقصد التّحديث بالنّعمة فظاهر أنّه جائز بل قد يستحب , وفي حكم مدح النّفس مدح ما يتعلّق بها من الأولاد والآباء والتّلامذة والتّصانيف ونحوها بحيث يستلزم مدح المادح .(1/351)
والثّاني : الاحتراز عن الإفراط في المدح المؤدّي إلى الكذب والرّياء , وعن القول بما لا يتحقّقه , ولا سبيل له إلى الاطّلاع عليه كالتّقوى والورع والزّهد لكونها من أحوال القلوب , فلا يجزم القول بمثلها بل يقول : أحسب ونحوه .
والثّالث : أن لا يكون الممدوح فاسقاً , فعن أنسٍ رضي الله عنه أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « إنّ اللّه عزّ وجلّ يغضب إذا مدح الفاسق » وإنّما يغضب اللّه لأنّه تعالى أمر بمجانبته وإبعاده , فمن مدحه فقد وصل ما أمر اللّه به أن يقطع ووادّ من حادّ اللّه , مع ما في مدحه من استحسان فسقه وإغرائه على إدامته .
والرّابع : أن يعلم أنّ المدح لا يحدث في الممدوح كبراً أو عجباً أو غروراً , فإنّ للوسائل حكم المقاصد , وما يفضي إلى الحرام حرام .
وأمّا إذا أحدث في الممدوح كمالاً وزيادة مجاهدةٍ و سعى طاعةً فلا منع بل له استحباب . والخامس : أن لا يكون المدح لغرض حرامٍ , أو مفضياً إلى فسادٍ , مثل مدح الأمراء والقضاة ليتوصّل به إلى المال الحرام المجازى به منهم أو التّسلط على النّاس وظلمهم ونحو ذلك .
وقال العز بن عبد السّلام : لا يكثر من المدح المباح , ولا يتقاعد عن اليسير منه عند مسيس الحاجة , ترغيباً للممدوح في الإكثار ممّا مدح به , أو تذكيراً له بنعمة اللّه عليه ليشكرها وليذكرها بشرط الأمن على الممدوح من الفتنة .
وقد عقد النّووي باباً في كتابه رياض الصّالحين بعنوان : " كراهة المدح في الوجه لمن خيف عليه مفسدة من إعجابٍ ونحوه , وجوازه - أي بلا كراهةٍ - لمن أمن ذلك في حقّه " أورد فيه أحاديث في النّهي عن المدح , منها ما رواه أبو موسى رضي الله عنه قال : « سمع النّبي صلى الله عليه وسلم رجلاً يثني على رجلٍ ويطريه في المدحة فقال : أهلكتم أو قطعتم ظهر الرّجل » .(1/352)
وما رواه همّام بن الحارث عن المقداد رضي الله عنه أنّ رجلاً جعل يمدح عثمان رضي الله عنه فعمد المقداد فجثا على ركبتيه فجعل يحثو في وجهه الحصباء , فقال له عثمان : ما شأنك , فقال إنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : « إذا رأيتم المدّاحين فاحثوا في وجوههم التراب » .
وورد أنّه صلى الله عليه وسلم قال لعمر : « ما لقيك الشّيطان سالكاً فجاً قط إلا سلك فجاً غير فجّك » ثمّ قال النّووي : قال العلماء : وطريق الجمع بين الأحاديث - أي في النّهي والإباحة - أن يقال : إن كان الممدوح عنده كمال إيمانٍ ويقين ورياضة نفسٍ ومعرفة تامّة بحيث لا يفتتن ولا يغتر بذلك ولا تلعب به نفسه فليس بحرام ولا مكروهٍ , وإن خيف عليه شيء من هذه الأمور كره مدحه في وجهه كراهةً شديدةً , وعلى هذا التّفصيل تنزل الأحاديث المختلفة .
وقال القرطبي : تأوّل العلماء قوله صلى الله عليه وسلم " احثوا التراب في وجوه المدّاحين " أنّ المراد به المدّاحون في وجوههم بالباطل وبما ليس فيهم حتّى يجعلوا ذلك بضاعةً يستأكلون به الممدوح ويفتنونه .
أخذ الفقراء للمكوس :
8 - المكوس بمعنى المال المأخوذ من صاحبه ظلماً , نصّ الرّحيباني على حكمه بقوله : يتّجه أنّ المال الحرام الّذي جهل أربابه وصار مرجعه لبيت المال كالمكوس والغصوب والخيانات والسّرقات المجهول أربابها يجوز للفقراء أخذها صدقةً , ويجوز أخذها لهم ولغيرهم هبةً وشراءً ووفاءً عن أجرةٍ سيّما إن أعطاها الغاصب لمن لا يعلم حالها كأن قبضه لها بحقّ لأنّ اللّه لم يكلّفه ما لم يعلم , قاله الشّيخ تقي الدّين وهو متّجه , وعقّب الشّطّي على الرّحيبانيّ بتعقيب جاء فيه : وقال الشّيخ تقي الدّين إنّ المكوس إذا أقطعها الإمام الجند فهي حلال لهم إذا جهل مستحقها , وكذا إذا رتّبها للفقراء وأهل العلم .
الكسب النّاشئُ عن الميسر :(1/353)
13 - ما يكسبه المقامر هو كسب خبيثٌ , وهو من المال الحرام مثل كسب المخادع والمقامر , والواجب في الكسب الخبيث تفريغ الذّمّة منه بردّه إلى أربابه إن علموا وإلّا إلى الفقراء .
وتفصيل ذلك في مصطلح ( كسب ف / 17 , حسبة ف / 34 ) .
شراء وبيع أدوات الميسر :
14 - ذهب جمهور الفقهاء " المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة وأبو يوسف ومحمّد من الحنفيّة" إلى أنّ بيع آلات اللّهو باطل لا ينعقد وفي حكم آلات اللّهو النّرد والشّطرنج واستدلوا لذلك بأحاديث منها : ما رواه ابن عبّاسٍ رضي الله عنهما عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال :
« ثمن الخمر حرام , ومهر البغيّ حرام , وثمن الكلب حرام والكوبة حرام وإن أتاك صاحب الكلب يلتمس ثمنه فاملأ يديه تراباً , والخمر والميسر وكل مسكر حرام » ، قال الخطّابي : وفي هذا بيان بطلان كلّ حيلة يحتال بها توصلاً إلى محرّم .
وذهب أبو حنيفة إلى أنّ بيعها صحيح مكروه تحريماً .
وتفصيل ذلك في مصطلح ( بيع منهيّ عنه ف / 19 ) .
************
وقال ابن تيمية رحمه الله :(1/354)
الْأَصْلُ الرَّابِعُ " : الْمَالُ إذَا تَعَذَّرَ مَعْرِفَةُ مَالِكِهِ صُرِفَ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ كَمَالِكٍ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا فَإِذَا كَانَ بِيَدِ الْإِنْسَانِ غصوب أَوْ عَوَارٍ أَوْ وَدَائِعُ أَوْ رُهُونٌ قَدْ يَئِسَ مِنْ مَعْرِفَةِ أَصْحَابِهَا فَإِنَّهُ يَتَصَدَّقُ بِهَا عَنْهُمْ أَوْ يَصْرِفُهَا فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ أَوْ يُسَلِّمُهَا إلَى قَاسِمٍ عَادِلٍ يَصْرِفُهَا فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ الْمَصَالِحِ الشَّرْعِيَّةِ . وَمِنْ الْفُقَهَاءِ مَنْ يَقُولُ : تَوَقَّفَ أَبَدًا حَتَّى يَتَبَيَّنَ أَصْحَابَهَا ؟ وَالصَّوَابُ الْأَوَّلُ . فَإِنَّ حَبْسَ الْمَالِ دَائِمًا لِمَنْ لَا يُرْجَى لَا فَائِدَةَ فِيهِ ؛ بَلْ هُوَ تَعَرُّضٌ لِهَلَاكِ الْمَالِ وَاسْتِيلَاءِ الظَّلَمَةِ عَلَيْهِ . وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ قَدْ اشْتَرَى جَارِيَةً فَدَخَلَ بَيْتَهُ لِيَأْتِيَ بِالثَّمَنِ فَخَرَجَ فَلَمْ يَجِدْ الْبَائِعَ فَجَعَلَ يَطُوفُ عَلَى الْمَسَاكِينِ وَيَتَصَدَّقُ عَلَيْهِمْ بِالثَّمَنِ وَيَقُولُ : اللَّهُمَّ عَنْ رَبِّ الْجَارِيَةِ فَإِنْ قُبِلَ فَذَاكَ وَإِنْ لَمْ يُقْبَلْ فَهُوَ لِي وَعَلَيَّ لَهُ مِثْلُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ .(1/355)
وَكَذَلِكَ أَفْتَى بَعْضُ التَّابِعِينَ مَنْ غَلَّ مِنْ الْغَنِيمَةِ وَتَابَ بَعْدَ تَفَرُّقِهِمْ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِذَلِكَ عَنْهُمْ وَرَضِيَ بِهَذِهِ الْفُتْيَا الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ الَّذِينَ بَلَغَتْهُمْ كمعاوية وَغَيْرِهِ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ وَهَذَا يُبَيِّنُ : " الْأَصْلَ الْخَامِسَ " : وَهُوَ الَّذِي يَكْشِفُ سِرَّ الْمَسْأَلَةِ وَهُوَ أَنَّ الْمَجْهُولَ فِي الشَّرِيعَةِ كَالْمَعْدُومِ وَالْمَعْجُوزِ عَنْهُ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَالَ : { لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا } وَقَالَ تَعَالَى : { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ } فَاَللَّهُ إذَا أَمَرَنَا بِأَمْرٍ كَانَ ذَلِكَ مَشْرُوطًا بِالْقُدْرَةِ عَلَيْهِ وَالتَّمَكُّنِ مِنْ الْعَمَلِ بِهِ . فَمَا عَجَزْنَا عَنْ مَعْرِفَتِهِ أَوْ عَنْ الْعَمَلِ بِهِ سَقَطَ عَنَّا ؛ وَلِهَذَا { قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي اللُّقَطَةِ : فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا فَأَدَّاهَا إلَيْهِ وَإِلَّا فَهِيَ مَالُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ } فَهَذِهِ اللُّقَطَةُ كَانَتْ مِلْكًا لِمَالِكٍ وَوَقَعَتْ مِنْهُ فَلَمَّا تَعَذَّرَ مَعْرِفَةُ مَالِكِهَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { هِيَ مَالُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ } فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ اللَّهَ شَاءَ أَنْ يُزِيلَ عَنْهَا مِلْكَ ذَلِكَ الْمَالِكِ وَيُعْطِيَهَا لِهَذَا الْمُلْتَقِطِ الَّذِي عَرَّفَهَا سَنَةً . وَلَا نِزَاعَ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ أَنَّهُ بَعْدَ تَعْرِيفِ السَّنَةِ يَجُوزُ لِلْمُلْتَقِطِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهَا . وَكَذَلِكَ لَهُ أَنْ يَتَمَلَّكَهَا إنْ كَانَ فَقِيرًا .(1/356)
وَهَلْ لَهُ التَّمَلُّكُ مَعَ الْغِنَى ؟ . فِيهِ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ . وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد أَنَّهُ يَجُوزُ ذَلِكَ . وَأَبُو حَنِيفَةَ لَا يُجَوِّزُهُ . وَلَوْ مَاتَ رَجُلٌ وَلَمْ يُعْرَفْ لَهُ وَارِثٌ صُرِفَ مَالُهُ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ وَإِنْ كَانَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لَهُ وَارِثٌ غَيْرُ مَعْرُوفٍ حَتَّى لَوْ تَبَيَّنَ الْوَارِثُ يُسَلِّمُ إلَيْهِ مَالَهُ وَإِنْ كَانَ قَبْلَ تَبَيُّنِهِ يَكُونُ صَرْفُهُ إلَى مَنْ يَصْرِفُهُ جَائِزًا وَأَخْذُهُ لَهُ غَيْرَ حَرَامٍ مَعَ كَثْرَةِ مَنْ يَمُوتُ وَلَهُ عَصَبَةٌ بَعْدُ لَمْ تُعْرَفْ . وَإِذَا تَبَيَّنَ هَذَا فَيُقَالُ : مَا فِي الْوُجُودِ مِنْ الْأَمْوَالِ الْمَغْصُوبَةِ وَالْمَقْبُوضَةِ بِعُقُودٍ لَا تُبَاحُ بِالْقَبْضِ إنْ عَرَفَهُ الْمُسْلِمُ اجْتَنَبَهُ . فَمَنْ عَلِمْت أَنَّهُ سَرَقَ مَالًا أَوْ خَانَهُ فِي أَمَانَتِهِ أَوْ غَصَبَهُ فَأَخَذَهُ مِنْ الْمَغْصُوبِ قَهْرًا بِغَيْرِ حَقٍّ لَمْ يَجُزْ لِي أَنْ آخُذَهُ مِنْهُ ؛ لَا بِطَرِيقِ الْهِبَةِ وَلَا بِطَرِيقِ الْمُعَاوَضَةِ وَلَا وَفَاءً عَنْ أُجْرَةٍ وَلَا ثَمَنَ مَبِيعٍ وَلَا وَفَاءً عَنْ قَرْضٍ فَإِنَّ هَذَا عَيْنُ مَالِ ذَلِكَ الْمَظْلُومِ . وَأَمَّا إنْ كَانَ ذَلِكَ الْمَالُ قَبَضَهُ بِتَأْوِيلٍ سَائِغٍ فِي مَذْهَبِ بَعْضِ الْأَئِمَّةِ جَازَ لِي أَنْ أَسْتَوْفِيَهُ مِنْ ثَمَنِ الْمَبِيعِ وَالْأُجْرَةِ وَالْقَرْضِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الدُّيُونِ . وَإِنْ كَانَ مَجْهُولَ الْحَالِ فَالْمَجْهُولُ كَالْمَعْدُومِ وَالْأَصْلُ فِيمَا بِيَدِ الْمُسْلِمِ أَنْ يَكُونَ مِلْكًا لَهُ إنْ ادَّعَى أَنَّهُ مَلَكَهُ أَوْ يَكُونَ وَلِيًّا عَلَيْهِ ؛ كَنَاظِرِ الْوَقْفِ وَوَلِيِّ الْيَتِيمِ وَوَلِيِّ بَيْتِ الْمَالِ . أَوْ يَكُونَ وَكِيلًا فِيهِ .(1/357)
وَمَا تَصَرَّفَ فِيهِ الْمُسْلِمُ أَوْ الذِّمِّيُّ بِطَرِيقِ الْمِلْكِ أَوْ الْوِلَايَةِ جَازَ تَصَرُّفُهُ . فَإِذَا لَمْ أَعْلَمْ حَالَ ذَلِكَ الْمَالِ الَّذِي بِيَدِهِ بَنَيْت الْأَمْرَ عَلَى الْأَصْلِ ثُمَّ إنْ كَانَ ذَلِكَ الدِّرْهَمُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ قَدْ غَصَبَهُ هُوَ وَلَمْ أَعْلَمْ أَنَا كُنْت جَاهِلًا بِذَلِكَ وَالْمَجْهُولُ كَالْمَعْدُومِ فَلَيْسَ أَخْذِي لِثَمَنِ الْمَبِيعِ وَأُجْرَةِ الْعَمَلِ وَبَدَلِ الْقَرْضِ بِدُونِ أَخْذِي اللُّقَطَةَ ؛ فَإِنَّ اللُّقَطَةَ أَخَذْتهَا بِغَيْرِ عِوَضٍ ثُمَّ لَمْ أَعْلَمْ مَالِكِهَا وَهَذَا الْمَالُ لَا أَعْلَمُ لَهُ مَالِكًا غَيْرَ هَذَا وَقَدْ أَخَذْته عِوَضًا عَنْ حَقِّي فَكَيْفَ يَحْرُمُ هَذَا عَلَيَّ لَكِنْ إنْ كَانَ ذَلِكَ الرَّجُلُ مَعْرُوفًا - بِأَنَّ فِي مَالِهِ حَرَامًا - تُرِكَ مُعَامَلَتُهُ وَرَعًا . وَإِنْ كَانَ أَكْثَرُ مَالِهِ حَرَامًا فَفِيهِ نِزَاعٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ . وَأَمَّا الْمُسْلِمُ الْمَسْتُورُ فَلَا شُبْهَةَ فِي مُعَامَلَتِهِ أَصْلًا وَمَنْ تَرَكَ مُعَامَلَتَهُ وَرَعًا كَانَ قَدْ ابْتَدَعَ فِي الدِّينِ بِدْعَةً مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ . وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ الْحُكْمُ فِي سَائِرِ الْأَمْوَالِ ؛ فَإِنَّ هَذَا الغالط يَقُولُ : إنَّ هَذِهِ اللُّحُومَ وَالْأَلْبَانَ الَّتِي تُؤْكَلُ قَدْ تَكُونُ فِي الْأَصْلِ قَدْ نُهِبَتْ أَوْ غُصِبَتْ .(1/358)
فَيُقَالُ : الْمَجْهُولُ كَالْمَعْدُومِ فَإِذَا لَمْ نَعْلَمْ كَانَ ذَلِكَ فِي حَقِّنَا كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ وَهَذَا لِأَنَّ اللَّهَ إنَّمَا حَرَّمَ الْمُعَامَلَاتِ الْفَاسِدَةَ لِمَا فِيهَا مِنْ الظُّلْمِ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ : { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ } وَالْغَصْبُ وَأَنْوَاعُهُ وَالسَّرِقَةُ وَالْخِيَانَةُ دَاخِلٌ فِي الظُّلْمِ . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَهَذَا الْمَظْلُومُ الَّذِي أُخِذَ مَالُهُ بِغَيْرِ حَقٍّ بِبَيْعٍ أَوْ أُجْرَةٍ وَأُخِذَ مِنْهُ وَالْمُشْتَرِي لَا يَعْلَمُ بِذَلِكَ ثُمَّ يُنْقَلُ مِنْ الْمُشْتَرِي إلَى غَيْرِهِ ثُمَّ إلَى غَيْرِهِ وَيَعْلَمُ أَنَّ أُولَئِكَ لَمْ يَظْلِمُوهُ وَإِنَّمَا ظَالِمُهُ مَنْ اعْتَدَى عَلَيْهِ ؛ وَلَكِنْ لَوْ عَلِمَ بِهِمْ فَهَلْ لَهُ مُطَالَبَتُهُمْ بِمَا لَمْ يَلْتَزِمُوا ضَمَانَهُ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ لِلْعُلَمَاءِ . أَصَحُّهُمَا أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ . مِثَالُ ذَلِكَ : أَنَّ الظَّالِمَ إذَا أَوْدَعَ مَالَهُ عِنْدَ مَنْ لَا يَعْلَمُ أَنَّهُ غَاصِبٌ فَتَلِفَتْ الْوَدِيعَةُ فَهَلْ لِلْمَالِكِ أَنْ يُطَالِبَ الْمُودَعَ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَصَحُّهُمَا أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ وَلَوْ أَطْعَمَ الْمَالَ لِضَيْفٍ لَمْ يَعْلَمْ بِالظُّلْمِ ثُمَّ عَلِمَ الْمَالِكُ فَهَلْ لَهُ مُطَالَبَةُ الضَّيْفِ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : " أَحَدُهُمَا " لَيْسَ لَهُ مُطَالَبَتُهُ .(1/359)
وَمَنْ قَالَ : إنَّ لَهُ مُطَالَبَتُهُ لَا يَقُولُ إنَّ أَكْلَهُ حَرَامٌ ؛ بَلْ يَقُولُ : لَا إثْمَ عَلَيْهِ فِي أَكْلِهِ ؛ وَإِنَّمَا عَلَيْهِ أَدَاءُ ثَمَنِهِ بِمَنْزِلَةِ مَا اشْتَرَاهُ . وَصَاحِبُ الْقَوْلِ الصَّحِيحِ يَقُولُ : لَا إثْمَ عَلَيْهِ فِي أَكْلِهِ وَلَا غُرْمَ عَلَيْهِ لِصَاحِبِهِ بِحَالِ وَإِنَّمَا الْغُرْمُ عَلَى الْغَاصِبِ الظَّالِمِ الَّذِي أَخَذَهُ مِنْهُ بِغَيْرِ حَقٍّ . فَإِذَا نَظَرْنَا إلَى مَالٍ مُعَيَّنٍ بِيَدِ إنْسَانٍ لَا نَعْلَمُ أَنَّهُ مَغْصُوبٌ وَلَا مَقْبُوضٌ قَبْضًا لَا يُفِيدُ الْمَالِكَ وَاسْتَوْفَيْنَاهُ مِنْهُ أَوْ اتَّهَبْنَاهُ مِنْهُ أَوْ اسْتَوْفَيْنَاهُ عَنْ أُجْرَةٍ أَوْ بَدَلِ قَرْضٍ لَا إثْمَ عَلَيْنَا فِي ذَلِكَ بِالِاتِّفَاقِ . وَإِنْ كَانَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ قَدْ سَوَّقَهُ أَوْ غَصَبَهُ ثُمَّ إذَا عَلِمْنَا فِيمَا بَعْدُ أَنَّهُ مَسْرُوقٌ فَعَلَى أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ لَا يَجِبُ عَلَيْنَا إلَّا مَا الْتَزَمْنَاهُ بِالْعَقْدِ أَيْ لَا يَسْتَقِرُّ عَلَيْنَا إلَّا ضَمَانُ مَا الْتَزَمْنَاهُ بِالْعَقْدِ فَلَا يَسْتَقِرُّ عَلَيْنَا ضَمَانُ مَا أَهْدَى أَوْ وَهَبَ . وَلَا ضَمَانَ أَكْثَرَ مِنْ الثَّمَنِ كَذَلِكَ الْأُجْرَةُ وَبَدَلُ الْقَرْضِ إذَا كُنَّا قَدْ تَصَرَّفْنَا فِيهَا لَمْ يَسْتَقِرَّ عَلَيْنَا ضَمَانُ بَدَلِهِ . لَكِنْ تَنَازَعَ الْفُقَهَاءُ هُنَا فِي " مَسْأَلَةٍ " وَهِيَ أَنَّهُ : هَلْ لِلْمَالِكِ تَضْمِينُ هَذَا الْمَغْرُورِ الَّذِي تَلِفَ الْمَالُ تَحْتَ يَدِهِ ثُمَّ يَرْجِعُ إلَى الْغَارِّ بِمَا غَرِمَهُ بِغُرُورِ ؟ أَمْ لَيْسَ لَهُ مُطَالَبَةُ الْمَغْرُورِ إلَّا بِمَا يَسْتَقِرُّ عَلَيْهِ ضَمَانُهُ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد .(1/360)
وَمِثْلُ هَذَا لَوْ غَصَبَ رَجُل جَارِيَةً فَاشْتَرَاهَا مِنْهُ إنْسَانٌ وَاسْتَوْلَدَهَا أَوْ وَهَبَهُ إيَّاهَا فَقَدْ اتَّفَقَ الصَّحَابَةُ وَالْأَئِمَّةُ عَلَى أَنَّ أَوْلَادَهَا مِنْ الْمَغْرُورِ يَكُونُونَ أَحْرَارًا ؛ لِأَنَّ الْوَاطِئَ لَا يَعْلَمُ أَنَّهَا مَمْلُوكَةٌ لِغَيْرِهِ ؛ بَلْ اعْتَقَدَ أَنَّهَا مَمْلُوكَتُهُ مَعَ اتِّفَاقِهِمْ أَنَّ الْوَلَدَ يَتْبَعُ أُمَّهُ فِي الْحُرِّيَّةِ وَالرِّقِّ وَيَتْبَعُ أَبَاهُ فِي النَّسَبِ وَالْوَلَاءِ وَمَعَ هَذَا فَجَعَلُوا ابْنَهُ حُرًّا لِكَوْنِ الْوَالِدِ لَمْ يَعْلَمْ وَالْمَجْهُولُ كَالْمَعْدُومِ . وَأَوْجَبُوا لِسَيِّدِ الْجَارِيَةِ بَدَلَ الْوَلَدِ ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يَسْتَحِقُّهُ لَوْلَا الْغُرُورُ فَإِذَا خَرَجُوا عَنْ مِلْكِهِ بِغَيْرِ حَقٍّ كَانَ لَهُ بَدَلُهُمْ وَأَوْجَبُوا لَهُ مَهْرَ أَمَةٍ . وَقَالُوا فِي أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ : أَنَّ هَذَا يَلْزَمُ الْغَارَّ الظَّالِمَ الَّذِي غَصَبَ الْجَارِيَةَ وَبَاعَهَا ؛ لَا يَلْزَمُ الْمَغْرُورَ الْمُشْتَرِيَ إلَّا مَا الْتَزَمَهُ بِالْعَقْدِ وَهُوَ الثَّمَنُ فَقَطْ . ثُمَّ هَلْ لِصَاحِبِهَا أَنْ يُطَالِبَ الْمَغْرُورَ بِفِدَاءِ الْوَلَدِ وَالْمَهْرِ ثُمَّ يَرْجِعُ بِهِ الْمَغْرُورُ عَلَى الْغَارِّ الظَّالِمِ ؟ أَمْ لَيْسَ لَهُ إلَّا مُطَالَبَةُ الْغَارِّ الظَّالِمِ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد . وَلَا نِزَاعَ بَيْنَ الْأُمَّةِ أَنَّ وَطْأَهُ لَيْسَ بِحَرَامِ وَأَنَّ وَلَدَهُ وَلَدُ رِشْدَةٍ لَا وَلَدٌ عَنْهُ . فَهُوَ وَلَدُ حَلَالٍ لَا وَلَدُ زِنًا وَكَذَلِكَ فِي سَائِرِ هَذِهِ الصُّوَرِ لَمْ يَتَنَازَعُوا أَنَّهُ لَا إثْمَ عَلَى الْآكِلِ وَلَا عَلَى اللَّابِسِ وَلَا عَلَى الْوَاطِئِ الَّذِي لَمْ يَعْلَمْ .(1/361)
وَإِنَّمَا تَنَازَعُوا فِي الضَّمَانِ ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ مِنْ بَابِ الْعَدْلِ الْوَاجِبِ فِي حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ وَهُوَ يَجِبُ الْعَمْدُ وَالْخَطَأُ : { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إلَى أَهْلِهِ إلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا } فَقَاتِلُ النَّفْسِ خَطَأً لَا يَأْثَمُ وَلَا يَفْسُقُ بِذَلِكَ ؛ وَلَكِنْ عَلَيْهِ الدِّيَةُ كَذَلِكَ مَنْ أَتْلَفَ مَالًا مَغْصُوبًا خَطَأً فَعَلَيْهِ بَدَلُهُ وَلَا إثْمَ عَلَيْهِ فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ الْإِثْمَ مُنْتَفٍ مَعَ عَدَمِ الْعِلْمِ . وَحِينَئِذٍ فَجَمِيعُ الْأَمْوَالِ الَّتِي بِأَيْدِي الْمُسْلِمِينَ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى الَّتِي لَا يُعْلَمُ بِدَلَالَةٍ وَلَا أَمَارَةٍ أَنَّهَا مَغْصُوبَةٌ أَوْ مَقْبُوضَةٌ قَبْضًا لَا يَجُوزُ مَعَهُ مُعَامَلَةُ الْقَابِضِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ مُعَامَلَتُهُمْ فِيهَا بِلَا رَيْبٍ وَلَا تَنَازُعَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ أَعْلَمُهُ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ غَالِبَ أَمْوَالِ النَّاسِ كَذَلِكَ وَالْقَبْضُ الَّذِي لَا يُفِيدُ الْمِلْكَ هُوَ الظُّلْمُ الْمَحْضُ فَأَمَّا الْمَقْبُوضُ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ كَالرِّبَا وَالْمَيْسِرِ ؛ وَنَحْوِهِمَا فَهَلْ يُفِيدُ الْمِلْكَ ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ لِلْفُقَهَاءِ : " أَحَدُهَا " أَنَّهُ يُفِيدُ الْمِلْكَ ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ . " وَالثَّانِي " لَا يُفِيدُهُ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي الْمَعْرُوفِ مِنْ مَذْهَبِهِ . " وَالثَّالِثُ " أَنَّهُ إنْ فَاتَ أَفَادَ الْمِلْكَ وَإِنْ أَمْكَنَ رَدَّهُ إلَى مَالِكِهِ وَلَمْ يَتَغَيَّرْ فِي وَصْفٍ وَلَا سِعْرٍ لَمْ يُفِدْ الْمِلْكَ وَهُوَ الْمَحْكِيُّ عَنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ .(1/362)
وَهَذِهِ الْأُمُورُ وَالْقَوَاعِدُ قَدْ بَسَطْنَاهَا فِي غَيْرِ هَذَا الْجَوَابِ ؛ وَلَكِنْ نَبَّهْنَا عَلَى قَوَاعِدَ شَرِيفَةٍ تَفْتَحُ بَابَ الِاشْتِبَاهِ فِي هَذَا الْأَصْلِ ؛ الَّذِي هُوَ أَحَدُ أُصُولِ الْإِسْلَامِ كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَد وَغَيْرُهُ : إنَّ أُصُولَ الْإِسْلَامِ تَدُورُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَحَادِيثَ : قَوْلُهُ : { الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ } وَقَوْلُهُ : { إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ } وَقَوْلُهُ : { مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ } . فَإِنَّ الْأَعْمَالَ إمَّا مَأْمُورَاتٌ وَإِمَّا مَحْظُورَاتٌ وَالْأَوَّلُ فِيهِ ذِكْرُ الْمَحْظُورَاتِ وَالْمَأْمُورَاتِ أَمَّا قَصْدُ الْقَلْبِ وَهُوَ النِّيَّةُ وَأَمَّا الْعَمَلُ الظَّاهِرُ وَهُوَ الْمَشْرُوعُ الْمُوَافِقُ لِلسُّنَّةِ كَمَا قَالَ الفضيل بْنُ عِيَاضٍ فِي قَوْله تَعَالَى { لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا } قَالَ : أَخْلَصُهُ وَأَصْوَبُهُ قَالُوا : يَا أَبَا عَلِيٍّ مَا أَخْلَصَهُ وَأَصْوَبَهُ ؟ قَالَ : إنَّ الْعَمَلَ إذَا كَانَ خَالِصًا وَلَمْ يَكُنْ صَوَابًا لَمْ يُقْبَلْ . وَإِنْ كَانَ صَوَابًا وَلَمْ يَكُنْ خَالِصًا لَمْ يُقْبَلْ حَتَّى يَكُونَ خَالِصًا صَوَابًا . وَالْخَالِصُ أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ وَالصَّوَابُ أَنْ يَكُونَ عَلَى السُّنَّةِ .(1/363)
فَتَبَيَّنَ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ هَذَا الْقَائِلُ الَّذِي قَالَ : أَكْلُ الْحَلَالِ مُتَعَذَّرٌ وَلَا يُمْكِنُ وُجُودُهُ فِي هَذَا الزَّمَانِ : قَوْلُهُ خَطَأٌ مُخَالِفٌ لِلْإِجْمَاعِ ؛ بَلْ الْحَلَالُ هُوَ الْغَالِبُ عَلَى أَمْوَالِ النَّاسِ وَهُوَ أَكْثَرُ مِنْ الْحَرَامِ وَهَذَا الْقَوْلُ قَدْ يَقُولُهُ طَائِفَةٌ مِنْ الْمُتَفَقِّهَةِ الْمُتَصَوِّفَةِ وَأَعْرِفُ مَنْ قَالَهُ مِنْ كِبَارِ الْمَشَايِخِ بِالْعِرَاقِ وَلَعَلَّهُ مِنْ أُولَئِكَ انْتَقَلَ إلَى بَعْضِ شُيُوخِ مِصْرَ . ثُمَّ الَّذِي قَالَ ذَلِكَ لَمْ يُرِدْ أَنْ يَسُدَّ بَابَ الْأَكْلِ ؛ بَلْ قَالَ : الْوَرَعُ حِينَئِذٍ لَا سَبِيلَ إلَيْهِ . ثُمَّ ذَكَرَ مَا يَأْتِي فِيمَا يَفْعَلُ وَيَتْرُكُ . لَمْ يَحْضُرْنِي الْآنَ . فَلْيَتَدَبَّرْ الْعَاقِلُ وَلْيَعْلَمْ أَنَّهُ مَنْ خَرَجَ عَنْ الْقَانُونِ النَّبَوِيِّ الشَّرْعِيِّ الْمُحَمَّدِيِّ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَأَجْمَعَ عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا احْتَاجَ إلَى أَنْ يَضَعَ قَانُونًا آخَرَ مُتَنَاقِضًا يَرُدُّهُ الْعَقْلُ وَالدِّينُ ؛ لَكِنْ مَنْ كَانَ مُجْتَهِدًا اُمْتُحِنَ بِطَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّ اللَّهَ يُثِيبُهُ عَلَى اجْتِهَادِهِ وَيَغْفِرُ لَهُ خَطَأَهُ : { رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ } . وَمَا ذَكَرَهُ : مِنْ أَنَّ وَقْعَةَ الْمَنْصُورَةِ لَمَّا لَمْ تُقَسَّمْ فِيهَا الْمَغَانِمُ وَاخْتَلَطَتْ فِيهَا الْمَغَانِمُ دَخَلَتْ الشُّبْهَةُ .(1/364)
الْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ كَلَامَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنْ يُقَالَ : الَّذِي اخْتَلَطَ بِأَمْوَالِ النَّاسِ مِنْ الْحَرَامِ الْمَحْضِ كَالْغَصْبِ الَّذِي يَغْصِبُهُ الْقَادِرُونَ مِنْ الْوُلَاةِ وَالْقُطَّاعِ . أَوْ أَهْلِ الْفِتَنِ وَمَا يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ مِنْ الْخِيَانَةِ فِي الْمُعَامَلَاتِ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ بِكَثِيرِ ؛ لَا سِيَّمَا فِي هَذِهِ الْبِلَادِ الْمِصْرِيَّةِ ؛ فَإِنَّهَا أَكْثَرُ مِنْ الشَّامِ وَالْمَغْرِبِ ظُلْمًا كَظُلْمِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا فِي الْمُعَامَلَاتِ بِالْخِيَانَةِ وَالْغِشِّ وَجَحْدِ الْحَقِّ وَلِكَثْرَةِ مَا فِيهَا مِنْ ظُلْمِ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ وَالْفَلَّاحِينَ وَالْأَعْرَابِ وَلِكَثْرَةِ مَا فِيهَا مِنْ الظُّلْمِ الْمَوْضُوعِ مِنْ الْمُتَوَلِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ فَإِحَالَةُ التَّحْرِيمِ عَلَى هَذَا الْأَمْرِ أَوْلَى مِنْ إحَالَتِهِ عَلَى الْمَغَانِمِ . الثَّانِي أَنَّ تِلْكَ الْمَغَانِمِ قَدْ ذَكَرْنَا مَذْهَبَ الْفُقَهَاءِ فِيهَا وَبَيَّنَّا أَنَّ الصَّحِيحَ أَنَّ الْإِمَامَ إذَا أَذِنَ فِي الْأَخْذِ مِنْ غَيْرِ قَسْمٍ جَازَ . وَأَنَّهُ إذَا لَمْ يَجُزْ فَمَنْ أَخَذَ مِقْدَارَ حَقِّهِ جَازَ وَأَنَّ مَنْ أَخَذَ أَكْثَرَ مِنْ حَقِّهِ وَتَعَذَّرَ رَدُّهُ عَلَى أَصْحَابِهِ لِعَدَمِ الْعِلْمِ بِهِمْ فَإِنَّهُ يَتَصَدَّقُ بِهِ عَنْهُمْ . وَأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَتَصَدَّقْ بِهِ عَنْهُمْ وَتَصَرَّفَ فِيهِ فَمَتَى وَصَلَ إلَيْهِ مِنْهُ شَيْءٌ لَمْ يَعْلَمْ بِحَالِهِ لَمْ يَكُنْ مُحَرَّمًا عَلَيْهِ وَلَا عَلَيْهِ فِيهِ إثْمٌ . وَهَذَا الْحُكْمُ جَازَ فِي سَائِرِ الغصوب الْمَذْكُورَةِ . وَتَبَيَّنَ بِمَا ذَكَرْنَاهُ أَنَّ مَنْ آجَرَ نَفْسَهُ أَوْ دَوَابَّهُ أَوْ عَقَارَهُ أَوْ مَا يَتَعَلَّقُهُ وَأَخَذَ الثَّمَنَ وَالْأُجْرَةَ لَمْ يَحْرُمْ عَلَيْهِ .(1/365)
سَوَاءٌ عَلِمَ ذَلِكَ الثَّمَنَ وَالْأُجْرَةَ حَلَالًا لِلْمَالِكِ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ حَالَهُ بِأَنْ كَانَ مَسْتُورًا وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ غَصَبَ تِلْكَ الدَّرَاهِمَ أَوْ سَرَقَهَا أَوْ قَبَضَهَا بِوَجْهٍ لَا يُبِيحُ أَخْذَهَا بِهِ لَمْ يَجُزْ أَخْذُهَا عَنْ ثَمَنِهِ وَأُجْرَتِهِ مَعَ أَنَّ هَذَا فِيهِ نِزَاعٌ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ تَضِيقُ هَذِهِ الْوَرَقَةُ عَنْ بَسْطِهِ . وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ : الدِّرْهَمُ كَيْفَ قَبِلَ التَّغَيُّرَ وَصَارَ حَرَامًا بِالسَّبَبِ الْمَمْنُوعِ وَلَمْ يَقْبَلْ التَّغَيُّرَ فَيَصِيرُ حَلَالًا بِالسَّبَبِ الْمَشْرُوعِ . فَيُقَالُ لَهُ : بَلْ قَبِلَ التَّغَيُّرَ فِيمَا حُرِّمَ لِوَصْفِهِ ؛ لَا بِمَا حُرِّمَ لِكَسْبِهِ . فَالْأَوَّلُ مِثْلُ الْخَمْرِ فَإِنَّهَا لَمَّا كَانَتْ عَصِيرًا لَمْ تَصِرْ حَلَالًا طَاهِرًا فَلَمَّا تَخَمَّرَتْ كَانَتْ حَرَامًا نَجِسًا ؛ فَإِذَا تَخَلَّلَتْ بِفِعْلِ اللَّهِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ لِتَخْلِيلِهَا كَانَتْ خَلَّ خَمْرٍ حَلَالًا طَاهِرًا بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ ؛ وَإِنَّمَا تَنَازَعُوا فِيمَا إذَا قَصَدَ تَخْلِيلَهَا . وَتَنَازَعُوا فِي سَائِرِ النَّجَاسَاتِ كَالْخِنْزِيرِ إذَا صَارَ مِلْحًا وَالنَّجَاسَةِ إذَا صَارَتْ رَمَادًا . فَقِيلَ : لَا يَطْهُرُ كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَأَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ وَأَحْمَد . وَ " الثَّانِي " مِثْلُ الْمَالِ الْمَغْصُوبِ هُوَ حَرَامٌ ؛ لِأَنَّهُ قُبِضَ بِالظُّلْمِ فَإِذَا قُبِضَ بِحَقٍّ أُبِيحَ : مِثْلَ أَنْ يَأْذَنَ فِيهِ الْمَالِكُ لِلْغَاصِبِ أَوْ يَهَبَهُ إيَّاهُ أَوْ يَبِيعَهُ مِنْهُ أَوْ يَقْبِضَهُ الْمَالِكُ أَوْ وَلِيُّهُ أَوْ وَكِيلُهُ .(1/366)
ثُمَّ الْغَاصِبُ إذَا أَعْطَاهُ لِمَنْ لَا يَعْلَمُ أَنَّهُ مَغْصُوبٌ كَانَ قَبْضُهُ بِحَقِّ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يُكَلِّفْهُ مَا لَا يَعْلَمُ كَذَلِكَ بَيَّنَ قَبْضَهُ مِنْ الْقَابِضِ بِحَقِّ . وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي الضَّمَانِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
************
وَسُئِلَ رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ وَالٍ وَضَعَ يَدَهُ عَلَى عِشْرِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ لِإِنْسَانِ وَثَبَتَ عَلَيْهِ عِنْدَ حَاكِمٍ وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ جَمِيعَ مَوْجُودِهِ حَرَامٌ نَهَبَ أَمْوَالَ النَّاسِ . فَهَلْ يَجُوزُ لَهُمْ أَنْ يَأْخُذُوا مِنْ هَذَا الْمَالِ عِوَضَ مَا أَخَذَهُ لَهُمْ لِأَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ جَمِيعَ مَالِهِ حَرَامٌ ؟ .
شرح: 1(1/367)
فَأَجَابَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ . إنْ كَانَ جَمِيعُ مَا بِيَدِهِ أَخَذَهُ مِنْ النَّاسِ بِغَيْرِ حَقٍّ : مِثْلَ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ اللُّصُوصِ وَقُطَّاعِ الطَّرِيقِ بَعْضَ مَا يَأْخُذُونَهُ مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ وَمِثْلَ أَنْ يَطْلُبَ ظُلْمَ أَقْوَامٍ فَيُعْطُوهُ مَا يَنْكَفُّ بِهِ عَنْ ظُلْمِهِمْ وَمِثْلَ أَنْ يَحْمِيَ بَعْضَ النَّاسِ عَنْ مُسَاوَاةِ نُظَرَائِهِمْ فِيمَا يَطْلُبُ مِنْهُمْ لِيُعْطُوهُ رِشْوَةً وَمِثْلَ أَنْ يَظْلِمَ فِي حُكْمِهِ أَوْ يَعْدِلَ بِرِشْوَةِ يَأْخُذُهَا وَمِثْلَ أَنْ يَغْصِبَ مَالَ قَوْمٍ بِافْتِرَاءِ يَفْتَرِيهِ عَلَيْهِمْ وَمِثْلَ أَنْ يُهْدِرَ دِمَاءَ الْمَقْتُولِينَ بِرِشْوَةِ مِنْ الْقَاتِلِينَ . فَهَذِهِ الْأَمْوَالُ وَنَحْوُهَا هِيَ مُسْتَحَقَّةٌ لِأَصْحَابِهَا . كَاللِّصِّ الَّذِي يَسْرِقُ أَمْوَالًا وَيَخْلِطُ بَعْضَهَا بِبَعْضِ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُحَرِّمُهَا عَلَى أَصْحَابِهَا ؛ بَلْ يَقْتَسِمُونَ الْأَمْوَالَ بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ حُقُوقِهِمْ وَإِنْ جَهِلَ عَيْنَ مَالِ الرَّجُلِ لِكَوْنِهِ بَاعَهُ وَنَحْوَ ذَلِكَ فَعِوَضُهُ يَقُومُ مَقَامَهُ . وَمَنْ اكْتَسَبَ بِهَذِهِ الْأَمْوَالِ بِتِجَارَةِ وَنَحْوِهَا فَقِيلَ : الرِّبْحُ لِأَرْبَابِ الْأَمْوَالِ . وَقِيلَ لَهُ : إذَا اشْتَرَى فِي ذِمَّتِهِ . وَقِيلَ : بَلْ يَتَصَدَّقَانِ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ رِبْحٌ خَبِيثٌ . وَقِيلَ : بَلْ يُقَسَّمُ الرِّبْحُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ كَالْمُضَارَبَةِ . كَمَا فَعَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فِي الْمَالِ الَّذِي أَقَرَضَهُ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ لِابْنَيْهِ دُونَ الْعَسْكَرِ . وَهَذَا أَعْدَلُ الْأَقْوَالِ .(1/368)
وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَأَهْلُ الْأَمْوَالِ يَقْتَسِمُونَ مَا وَجَدُوهُ عَلَى قَدْرِ حُقُوقِهِمْ ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ إمَّا عَيْنُ أَمْوَالِهِمْ وَإِمَّا وَفَاءُ دُيُونِهِمْ الثَّابِتَةِ فِي ذِمَّتِهِ ؛ بَلْ الْحَقُّ أَنَّ حُقُوقَهُمْ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا بِذِمَّتِهِ وَبِالْأَمْوَالِ . فَأَمَّا إذَا لَمْ يَعْرِفْ مِقْدَارَ مَا غَصَبَهُ وَلَا أَعْيَانَ الْغُرَمَاءِ كُلِّهِمْ : فَمَنْ أَخَذَ مِنْهُمْ مِنْ هَذِهِ الْأَمْوَالِ قَدْرَ حَقِّهِ لَمْ يُحْكَمْ بِأَنَّ ذَلِكَ حَرَامٌ ؛ لَا سِيَّمَا إذَا كَانَ قَدْ اتَّجَرَ فِي الْأَمْوَالِ الَّتِي بِيَدِهِ فَإِنَّهُ يَسْتَحِقُّ حِينَئِذٍ أَكْثَرَ مِنْ قَدْرِ حَقِّهِ ؛ لَكِنْ يَخَافُ أَنْ تَكُونَ الْأَمْوَالُ الَّتِي بِيَدِهِ تَضِيقُ عَنْ حُقُوقِ جَمِيعِ الْمُسْتَحِقِّينَ لَكِنَّ الْمَجْهُولَ مِنْهُمْ الَّذِي لَا يُعْلَمُ صَارَ كَالْمَعْدُومِ فَإِنْ كَانَ الَّذِي يَأْخُذُ قَدْرَ حَقِّهِ لَهُ . وَلَمْ يَظْلِمْ سَائِر الْغُرَمَاءِ الْمَعْرُوفِينَ لَمْ نَحْكُمْ بِتَحْرِيمِ مَا أَخَذَهُ ؛ لَكِنْ إنْ ظَهَرَ فِيمَا بَعْدُ غُرَمَاءُ وَلَهُمْ قِسْطٌ مِنْ مَالِهِ كَانَ لَهُمْ الْمُطَالَبَةُ بِقَدْرِ حُقُوقِهِمْ فَمَنْ اسْتَوْلَى عَلَى الْمَالِ يُؤْخَذُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ بِقَدْرِ مَا اسْتَوْلَى وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
**************
وَسُئِلَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى هَلْ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ الْمَطْعُومَاتُ الَّتِي يُؤْخَذُ عَلَيْهَا الْمَكْسُ وَهِيَ مُضَمَّنَةٌ أَوْ مُحْتَكَرَةٌ هَلْ يَحْرُمُ عَلَى مَنْ يَشْتَرِي مِنْهَا شَيْئًا وَيَأْكُلُ مِنْهَا ؟ وَإِنْ عَامَلَ رَجُلٌ لِإِنْسَانِ كُلُّ مَالِهِ حَرَامٌ مِثْلَ ضَامِنِ الْمَكْسِ أَوْ مَنْ لَيْسَ لَهُ مَالٌ سِوَى الْمَكْسِ فَهَلْ يَفْسُقُ بِذَلِكَ .
فَأَجَابَ :(1/369)
الْحَمْدُ لِلَّهِ . أَمَّا إذَا كَانَ الرَّجُلُ يَبِيعُ سِلْعَتَهُ مِنْ طَعَامٍ أَوْ غَيْرِهِ وَعَلَيْهِمَا وَظِيفَةٌ تُؤْخَذُ مِنْ الْبَائِعِ أَوْ الْمُشْتَرِي . فَهَذَا لَا يُحَرِّمُ السِّلْعَةَ وَلَا الشِّرَاءَ ؛ لَا عَلَى بَائِعِهَا وَلَا عَلَى مُشْتَرِيهَا وَلَا شُبْهَةَ فِي ذَلِكَ أَصْلًا . وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ الْمَأْخُوذُ بَعْضَ السِّلْعَةِ مِثْلُ أَنْ يَأْخُذُوا مِنْ الشَّاةِ الْمَذْبُوحَةِ سَوَاقِطَهَا أَوْ مِنْ الْحُبُوبِ وَالثِّمَارِ بَعْضَهَا وَمَنْ ظَنَّ فِي ذَلِكَ شُبْهَةً فَهُوَ مُخْطِئٌ فَإِنَّ هَذَا الْمَالَ الْمَأْخُوذَ ظُلْمًا سَوَاءٌ أُخِذَ مِنْ الْبَائِعِ أَوْ مِنْ الْمُشْتَرِي لَا يُوجِبُ وُقُوعَ الشُّبْهَةِ فِيمَا بَقِيَ مِنْ الْمَالِ وَكَمَا لَوْ ظَلَمَ الرَّجُلُ وَأَخَذَ بَعْضَ مَالِهِ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُوجِبُ وُقُوعَ الشُّبْهَةِ فِيمَا بَقِيَ مِنْ مَالِهِ . وَهَذِهِ الْوَظَائِفُ الْمَوْضُوعَةُ بِغَيْرِ أَصْلٍ شَرْعِيٍّ : مِنْهَا مَا يَكُونُ مَوْضُوعًا عَلَى الْبَائِعِ مِثْلُ سُوقِ الدَّوَابِّ وَنَحْوِهِ . فَإِذَا بَاعَ سِلْعَتَهُ بِمَالٍ فَأُخِذَ مِنْهُ بَعْضُ ذَلِكَ الثَّمَنِ كَانَ ذَلِكَ ظُلْمًا لَهُ وَبَاقِي مَالِهِ حَلَالٌ لَهُ وَالْمُشْتَرِي اشْتَرَى بِمَالِهِ وَرُبَّمَا يُزَادُ عَلَيْهِ فِي الثَّمَنِ لِأَجْلِ الْوَظِيفَةِ فَيَكُونُ مِنْهُ زِيَادَةٌ .(1/370)
فَبِأَيِّ وَجْهٍ يَكُونُ فِيمَا اشْتَرَاهُ شُبْهَةٌ ؟ وَإِنْ كَانَتْ الْوَظِيفَةُ تُؤْخَذُ مِنْ الْمُشْتَرِي فَيَكُونُ قَدْ أَدَّى الثَّمَنَ لِلْبَائِعِ وَالزِّيَادَةُ لِأَجْلِ تِلْكَ الْكُلْفَةِ السُّلْطَانِيَّةِ وَلَا شُبْهَةَ فِي ذَلِكَ ؛ لَا عَلَى الْبَائِعِ وَلَا عَلَى الْمُشْتَرِي ؛ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ لَمْ تُؤْخَذْ إلَّا بِمَا يَسْتَحِقُّهُ وَالْمُشْتَرِي قَدْ أَدَّى الْوَاجِبَ وَزِيَادَةً . وَإِذَا قِيلَ : هَذَا فِي الْحَقِيقَةِ ظُلْمٌ لِلْبَائِعِ ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُسْتَحِقُّ جَمِيعَ الثَّمَنِ . قِيلَ : هَبْ أَنَّ الْأَمْرَ كَذَلِكَ ؛ وَلَكِنَّ الْمُشْتَرِيَ لَمْ يَظْلِمْهُ وَإِنَّمَا ظَلَمَهُ مَنْ أَخَذَ مَالَهُ كَمَا لَوْ قَبَضَ الْبَائِعُ جَمِيعَ الثَّمَنِ ثُمَّ أُخِذَتْ مِنْهُ الْكُلْفَةُ السُّلْطَانِيَّةُ . وَفِي الْحَقِيقَةِ فَالْكُلْفَةُ تَقَعُ عَلَيْهِمَا ؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ إذَا عَلِمَ أَنَّ عَلَيْهِ كُلْفَةً زَادَ فِي الثَّمَنِ وَالْمُشْتَرِي إذَا عَلِمَ أَنَّ عَلَيْهِ كُلْفَةً نَقَصَ مِنْ الثَّمَنِ فَكِلَاهُمَا مَظْلُومٌ بِأَخْذِ الْكُلْفَةِ وَكُلٌّ مِنْهُمَا لَمْ يَظْلِمْ أَحَدًا فَلَا يَكُونُ فِي مَالِهِمَا شُبْهَةٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ فَمَا يَبِيعُهُ الْمُسْلِمُونَ إذَا كَانَ مِلْكًا لَهُمْ لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ شُبْهَةٌ بِمَا يُؤْخَذُ مِنْهُمْ فِي الْوَظَائِفِ . وَأَمَّا إذَا ضَمِنَ الرَّجُلُ نَوْعًا مِنْ السِّلَعِ عَلَى أَنْ لَا يَبِيعَهَا إلَّا هُوَ فَهَذَا ظَالِمٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ مَنَعَ غَيْرَهُ مِنْ بَيْعِهَا وَهَذَا لَا يَجُوزُ . وَمِنْ جِهَةِ أَنَّهُ يَبِيعُهَا لِلنَّاسِ بِمَا يَخْتَارُ مِنْ الثَّمَنِ فَيُغَلِّيهَا وَهَؤُلَاءِ نَوْعَانِ .(1/371)
مِنْهُمْ مَنْ يَسْتَأْجِرُ حَانُوتًا بِأَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهَا إمَّا لِمُقْطِعٍ وَإِمَّا لِغَيْرِهِ عَلَى أَنْ لَا يَبِيعَ فِي الْمَكَانِ إلَّا هُوَ أَوْ يَجْعَلُ عَلَيْهِ مَالًا يُعْطِيهِ لِمُقْطِعٍ أَوْ غَيْرِهِ بِلَا اسْتِئْجَارِ حَانُوتٍ وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ وَكِلَاهُمَا ظَالِمٌ فَإِنَّ الزِّيَادَةَ الَّتِي يَزِيدُهَا فِي الْحَانُوتِ لِأَجْلِ مَنْعِ الثَّانِي مِنْ الْبَيْعِ هُوَ بِمَنْزِلَةِ الضَّامِنِ الْمُنْفَرِدِ . وَالنَّوْعُ الثَّانِي : أَنْ لَا يَكُونَ عَلَيْهِمْ ضَمَانٌ ؛ لَكِنْ يَلْتَزِمُونَ بِالْبَيْعِ لِلنَّاسِ كَالطَّحَّانِينَ وَالْخَبَّازِينَ وَنَحْوِهِمْ مِمَّنْ لَيْسَ لَهُمْ وَظِيفَةٌ ؛ لَكِنْ عَلَيْهِ أَنْ يَبِيعَ كُلَّ يَوْمٍ شَيْئًا مُقَدَّرًا وَيَمْنَعُونَ مَنْ سِوَاهُمْ مِنْ الْبَيْعِ ؛ وَلِهَذَا جَازَ التَّسْعِيرُ عَلَى هَؤُلَاءِ وَإِنْ لَمْ يَجُزْ التَّسْعِيرُ فِي الْإِطْلَاقِ . فَإِنَّ هَؤُلَاءِ قَدْ أَوْجَبَتْ عَلَيْهِمْ الْمُبَايَعَةَ لِهَذَا الصِّنْفِ وَمُنِعَ مِنْ ذَلِكَ غَيْرُهُمْ فَلَوْ مُكِّنُوا أَنْ يَبِيعُوا بِمَا أَرَادُوا كَانَ ظُلْمًا لِلْمَسَاكِينِ ؛ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ النَّاسُ كُلُّهُمْ مُتَمَكِّنِينَ مِنْ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَكُونُ كَمَا فِي السُّنَنِ عَنْ أَنَسٍ قَالَ : { غَلَا السِّعْرُ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ سَعِّرْ لَنَا فَقَالَ : إنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُسَعِّرُ الْقَابِضُ الْبَاسِطُ الرَّازِقُ وَإِنِّي لَأَرْجُو أَنْ أَلْقَى اللَّهَ وَلَيْسَ أَحَدٌ يَطْلُبُنِي بِمَظْلِمَةٍ فِي مَالٍ } .(1/372)
وَأَمَّا فِي الصُّورَةِ : فَإِذَا كَانُوا قَدْ أُلْزِمُوا بِالْمُبَايَعَةِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُلْزَمُوا بِأَنْ يَبِيعُوا بِدُونِ ثَمَنِ الْمِثْلِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ ظُلْمٌ لَهُمْ وَإِذَا كَانَ غَيْرُهُمْ قَدْ مُنِعَ مِنْ الْمُبَايَعَةِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُمَكَّنُوا أَنْ يَبِيعُوا بِمَا اخْتَارُوا ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ ظُلْمٌ لِلنَّاسِ . يَبْقَى أَنْ يُقَالَ : فَهَلْ يَجُوزُ الْتِزَامُهُمْ بِمِثْلِ ذَلِكَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ عَلَى أَنْ يَكُونُوا هُمْ الْبَائِعِينَ لِهَذَا الصِّنْفِ دُونَ غَيْرِهِمْ وَأَنْ لَا يَبِيعُوهُ إلَّا بِقِيمَةِ الْمِثْلِ مِنْ غَيْرِ مَكْسٍ يُوضَعُ عَلَيْهِمْ ؟ فَهَلْ يَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ يَفْعَلَ بِهِمْ ذَلِكَ أَمْ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَتْرُكَ أَحَدًا يَفْعَلُ ذَلِكَ ؟ . قِيلَ : أَمَّا إذَا اخْتَارُوا أَنْ يَقُومُوا بِمَا يَحْتَاجُ النَّاسُ إلَيْهِ مِنْ تِلْكَ الْمَبِيعَاتِ وَأَنْ لَا يَبِيعُوهَا إلَّا بِقِيمَةِ الْمِثْلِ عَلَى أَنْ يُمْنَعَ غَيْرُهُمْ مِنْ الْبَيْعِ وَمَنْ اخْتَارَ أَنْ يَدْخُلَ مَعَهُمْ فِي ذَلِكَ مُكِّنَ فَهَذَا لَا يَتَبَيَّنُ تَحْرِيمُهُ بَلْ قَدْ يَكُونُ فِي هَذَا مَصْلَحَةٌ عَامَّةٌ لِلنَّاسِ وَهَذَا يُشْبِهُ مَا نُقِلَ عَنْ عُمَرَ فِي التَّسْعِيرِ وَأَنَّهُ قَالَ : إنْ كُنْت تَبِيعُ بِسِعْرِ أَهْلِ الْأَسْوَاقِ وَإِلَّا فَلَا تَبِعْ . فَإِنَّ مَصْلَحَةَ النَّاسِ الْعَامَّةَ فِي ذَلِكَ أَنْ يُبَاعُوا بِمَا يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ وَأَنْ لَا يُبَاعُوا إلَّا بِقِيمَةِ الْمِثْلِ وَهَذَانِ مَصْلَحَتَانِ جَلِيلَتَانِ .(1/373)
وَالْبَاعَةُ إذَا اخْتَارُوا ذَلِكَ لَمْ يَكُونُوا قَدْ أُكْرِهُوا عَلَيْهِ فَلَا ظُلْمَ عَلَيْهِمْ وَغَيْرُهُمْ مِنْ النَّاسِ لَمْ يُمْنَعْ مِنْ الْبَيْعِ إلَّا إذَا دَخَلَ فِي هَذِهِ الْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ بِأَنْ يُشَارِكَهُمْ فِيمَا يَقُومُونَ بِهِ بِقِيمَةِ الْمِثْلِ فَيَكُونُ الْغَيْرُ قَدْ مُنِعَ أَنْ يَبِيعَ سِلْعَةً بِأَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِ الْمِثْلِ وَأَنْ لَا يَبِيعَهَا إلَّا إذَا الْتَزَمَ أَنْ يَبِيعَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمْ . وَقَدْ يَكُونُ عَاجِزًا عَنْ ذَلِكَ . وَقَدْ يُقَالُ : هَذَانِ نَوْعَانِ مِنْ الظُّلْمِ : إلْزَامُ الشَّخْصِ أَنْ يَبِيعَ وَأَنْ يَكُونَ بَيْعُهُ بِثَمَنِ الْمِثْلِ وَفِي هَذَا فَسَادٌ . وَحِينَئِذٍ فَإِنْ كَانَ أَمْرُ النَّاسِ صَالِحًا بِدُونِ هَذَا لَمْ يَجُزْ احْتِمَالُ هَذَا الْفَسَادِ بِلَا مَصْلَحَةٍ رَاجِحَةٍ وَأَمَّا إنْ كَانَ بِدُونِ هَذَا لَا يَحْصُلُ لِلنَّاسِ مَا يَكْفِيهِمْ مِنْ الطَّعَامِ وَنَحْوِهِ أَوْ لَا يَلْقَوْنَ ذَلِكَ إلَّا بِأَثْمَانٍ مُرْتَفِعَةٍ وَبِذَلِكَ يَحْصُلُ مَا يَكْفِيهِمْ بِثَمَنِ الْمِثْلِ . فَهَذِهِ الْمَصْلَحَةُ الْعَامَّةُ يُغْتَفَرُ فِي جَانِبِهَا مَا ذُكِرَ مِنْ الْمَنْعِ . وَأَمَّا إذَا أُلْزِمَ النَّاسُ بِذَلِكَ فَهَذَا فِيهِ تَفْصِيلٌ ؛ فَإِنَّ النَّاسَ إذَا اُضْطُرُّوا إلَى مَا عِنْدَ الْإِنْسَانِ مِنْ السِّلْعَةِ وَالْمَنْفَعَةِ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُبْذَلَ لَهُمْ بِقِيمَةِ الْمِثْلِ وَمَنْعُهُ أَنْ لَا يَبِيعَ سِلْعَةً حَتَّى يَبِيعَ مِقْدَارًا مُعَيَّنًا . وَتَفْصِيلُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ .(1/374)
إذَا تَبَيَّنَ ذَلِكَ : فَاَلَّذِي يَضْمَنُ كُلْفَةً مِنْ الْمُكَلِّفِ عَلَى أَنْ لَا يَبِيعَ السِّلْعَةَ إلَّا هُوَ وَيَبِيعُهَا بِمَا يَخْتَارُ لَا رَيْبَ أَنَّهُ مِنْ جِنْسِ ظُلْمِ الْكُلَفِ السُّلْطَانِيَّةِ مِنْ الْوَجْهَيْنِ اللَّذَيْنِ تَقَدَّمَا ؛ وَلِهَذَا كَرِهَ مَنْ كَرِهَ مُعَامَلَةَ هَذَا لِأَجْلِ الشُّبْهَةِ الَّتِي فِي مَالِهِ . فَإِنَّهُ إذَا كَانَ لَا يَبِيعُ إلَّا هُوَ بِمَا يَخْتَارُ صَارَ كَأَنَّهُ يُكْرِهُ النَّاسَ عَلَى الشِّرَاءِ مِنْهُ بِمَا يَخْتَارُهُ فَيَأْخُذُ مِنْهُمْ أَكْثَرَ مِمَّا يَجِبُ عَلَيْهِمْ وَتِلْكَ الشُّبْهَةُ قَدْ اخْتَلَطَتْ بِمَالِهِ فَيَصِيرُ فِي مَالِهِ شُبْهَةٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ ؛ فَلِهَذَا كَرِهَ مَنْ كَرِهَ مُعَامَلَتِهِمْ .(1/375)
وَهَذَا سَبِيلُ أَهْلِ الْوَرَعِ الَّذِينَ لَا يَأْكُلُونَ مِنْ الشِّوَاءِ الْمُضَمَّنِ وَنَحْوِ ذَلِكَ : فَإِنَّهُمْ إنَّمَا تَوَرَّعُوا عَمَّا كَانَ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ بِحَيْثُ لَا يَشْوِي إلَّا هُوَ وَلَا يَبِيعُ الشِّوَاءَ إلَّا هُوَ بِمَا يَخْتَارُهُ وَلَا يَبِيعُ الْمِلْحَ إلَّا هُوَ بِمَا يَخْتَارُهُ وَالْمِلْحُ لَيْسَتْ كَغَيْرِهَا فَإِنَّ الْمِلْحَ فِي الْأَصْلِ هُوَ مِنْ الْمُبَاحَاتِ الَّتِي يَشْتَرِكُ فِيهَا الْمُسْلِمُونَ كَالسَّمَكِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْمُبَاحَاتِ إذَا لَمْ يُمَكَّنْ مِنْ أَخْذِهَا إلَّا وَاحِدٌ بِضَمَانٍ عَلَيْهِ وَاَلَّذِي يَشْتَرِيهَا مِنْهُ بِمَالِهِ لَا يَحْرُمُ ؛ لِأَنَّ هَذَا الْمُشْتَرِيَ لَمْ يَظْلِمْ فِيهِ أَحَدًا ؛ بَلْ لَوْ أَخَذَهَا مِنْ الْأَصْلِ كَانَ لَهُ ذَلِكَ وَلَوْ اسْتَأْجَرَ هَذَا أَوْ غَيْرَهُ لِيَأْخُذَهَا لَهُ مِنْ مَوْضِعِهَا الْمُشْتَرَكِ كَانَ ذَلِكَ جَائِزًا وَلَوْ كَانَتْ مُشْتَرَكَةً بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ لَكَانَتْ تَكُونُ أَرْخَصَ وَكَانَ الْمُشْتَرِي يَأْخُذُهَا بِدُونِ مَا أَعْطَاهُ الضَّامِنُ فَهَذَا الضَّامِنُ يَظْلِمُ الْمُشْتَرِيَ وَغَيْرَهُ . وَأَمَّا الْمُشْتَرُونَ مِنْهُ فَهُمْ لَا يَظْلِمُونَ أَحَدًا وَلَمْ يَشْتَرُوا مِنْهُ شَيْئًا مَلَكَهُ بِمَالِهِ فَإِنَّمَا حَرُمَ عَلَيْهِ مِنْ الظُّلْمِ مَنْ تَرَكَ مِلْكَهُ لَا يَفُوتُهُ وَلَمْ يَظْلِمْ فِيهِ أَحَدًا ؛ لِأَنَّهَا فِي الْأَصْلِ مُبَاحَةٌ وَالْمُسْلِمُونَ الَّذِينَ يَشْتَرُونَهَا هُمْ الْمَظْلُومُونَ فَإِنَّهُ لَوْلَا الظُّلْمُ لَتَمَكَّنُوا مِنْ أَخْذِهَا بِدُونِ الثَّمَنِ فَإِذَا ظَلَمُوا وَأُخِذَ مِنْهُمْ أَكْثَرُ مِمَّا عَلَيْهِمْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُحَرَّمًا عَلَيْهِمْ لِمَا كَانَ مُبَاحًا لَهُمْ .(1/376)
إذْ الظُّلْمُ إنَّمَا يُوجِبُ التَّحْرِيمَ عَلَى الظَّالِمِ لَا عَلَى الْمَظْلُومِ . أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُدَلِّسَ وَالْغَاشَّ وَنَحْوَهُمَا إذَا بَاعُوا غَيْرَهُمْ شَيْئًا مُدَلَّسًا لَمْ يَكُنْ مَا يَشْتَرِيهِ الْمُشْتَرِي حَرَامًا عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ أَخَذَ مِنْهُ أَكْثَرَ مِمَّا يَجِبُ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ الزِّيَادَةُ الَّتِي أَخَذَهَا الْغَاشُّ حَرَامًا عَلَيْهِ .(1/377)
وَأَمْثَالُ هَذَا كَثِيرٌ فِي الشَّرِيعَةِ ؛ فَإِنَّ التَّحْرِيمَ فِي حَقِّ الْآدَمِيِّينَ إذَا كَانَ مِنْ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ لَمْ يَثْبُتْ فِي الْجَانِبِ الْآخَرِ كَمَا لَوْ اشْتَرَى الرَّجُلُ مِلْكَهُ الْمَغْصُوبَ مِنْ الْغَاصِبِ فَإِنَّ الْبَائِعَ يَحْرُمُ عَلَيْهِ أَخْذُ الثَّمَنِ وَالْمُشْتَرِي لَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ أَخْذُ مِلْكِهِ وَلَا بَذْلُ مَا بَذَلَهُ مِنْ الثَّمَنِ ؛ وَلِهَذَا قَالَ الْعُلَمَاءُ : يَجُوزُ رِشْوَةُ الْعَامِلِ لِدَفْعِ الظُّلْمِ لَا لِمَنْعِ الْحَقِّ وَإِرْشَاؤُهُ حَرَامٌ فِيهِمَا وَكَذَلِكَ الْأَسِيرُ وَالْعَبْدُ الْمُعْتَقُ . إذَا أَنْكَرَ سَيِّدُهُ عِتْقَهُ لَهُ أَنْ يَفْتَدِيَ نَفْسَهُ بِمَالٍ يَبْذُلُهُ يَجُوزُ لَهُ بَذْلُهُ وَإِنْ لَمْ يَجُزْ لِلْمُسْتَوْلِي عَلَيْهِ بِغَيْرِ حَقٍّ أَخْذُهُ . وَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ الْمُطَلَّقَةُ ثَلَاثًا إذَا جَحَدَ الزَّوْجُ طَلَاقَهَا فَافْتَدَتْ مِنْهُ بِطَرِيقِ الْخُلْعِ فِي الظَّاهِرِ كَانَ حَرَامًا عَلَيْهِ مَا بَذَلَتْهُ وَيُخَلِّصُهَا مِنْ رِقِّ اسْتِيلَائِهِ ؛ وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنِّي لَأُعْطِي أَحَدَهُمْ الْعَطِيَّةَ فَيَخْرُجُ بِهَا يتلظاها نَارًا قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ فَلِمَ تُعْطِيهِمْ ؟ قَالَ : يَأْبَوْنَ إلَّا أَنْ يَسْأَلُونِي وَيَأْبَى اللَّهُ لِي الْبُخْلَ } . وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ : { مَا وَقَى بِهِ الْمَرْءُ عِرْضَهُ فَهُوَ صَدَقَةٌ } .(1/378)
فَلَوْ أَعْطَى الرَّجُلُ شَاعِرًا أَوْ غَيْرَ شَاعِرٍ ؛ لِئَلَّا يَكْذِبَ عَلَيْهِ بِهَجْوٍ أَوْ غَيْرِهِ أَوْ لِئَلَّا يَقُولَ فِي عِرْضِهِ مَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ كَانَ بَذْلُهُ لِذَلِكَ جَائِزًا وَكَانَ مَا أَخَذَهُ ذَلِكَ لِئَلَّا يَظْلِمَهُ حَرَامًا عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ تَرْكُ ظُلْمِهِ . وَالْكَذِبُ عَلَيْهِ بِالْهَجْوِ مِنْ جِنْسِ تَسْمِيَةِ الْعَامَّةِ : " قَطَعَ مَصَانِعَهُ " وَهُوَ الَّذِي يَتَعَرَّضُ لِلنَّاسِ وَإِنْ لَمْ يُعْطُوهُ اعْتَدَى عَلَيْهِمْ بِأَنْ يَكُونَ عَوْنًا عَلَيْهِمْ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ أَوْ بِأَنْ يَكْذِبَ عَلَيْهِمْ وَأَمْثَالُ ذَلِكَ . فَكُلُّ مَنْ أَخَذَ الْمَالَ لِئَلَّا يَكْذِبَ عَلَى النَّاسِ أَوْ لِئَلَّا يَظْلِمَهُمْ كَانَ ذَلِكَ خَبِيثًا سُحْتًا ؛ لِأَنَّ الظُّلْمَ وَالْكَذِبَ حَرَامٌ عَلَيْهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَتْرُكَهُ بِلَا عِوَضٍ يَأْخُذُهُ مِنْ الْمَظْلُومِ فَإِذَا لَمْ يَتْرُكْهُ إلَّا بِالْعِوَضِ كَانَ سُحْتًا .(1/379)
فَالْمُبَاحَاتُ الَّتِي يَشْتَرِكُ فِيهَا الْمُسْلِمُونَ فِي الْأَصْلِ : كَالصَّيُودِ الْبَرِّيَّةِ وَالْبَحْرِيَّةِ وَالْمُبَاحَاتِ النَّابِتَةِ فِي الْأَرْضِ وَالْمُبَاحَةِ مِنْ الْجِبَالِ وَالْبَرَارِيِّ وَنَحْوِ ذَلِكَ كَالْمَعَادِنِ وَكَالْمِلْحِ وكالأطرون وَغَيْرِهَا إذَا حَجَرَهَا السُّلْطَانُ وَأَمَرَ أَنْ لَا يَأْخُذَهَا إلَّا نُوَّابُهُ وَأَنْ تُبَاعَ لِلنَّاسِ لَمْ يَحْرُمْ عَلَيْهِمْ شِرَاؤُهَا ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَظْلِمُونَ فِيهَا أَحَدًا وَلِأَنَّهُمْ هُمْ الْمَظْلُومُونَ بِحَجْرِهَا عَلَيْهِمْ فَكَيْفَ يَحْرُمُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَشْتَرُوا مَا لَهُمْ أَنْ يَأْخُذُوهُ بِلَا عِوَضٍ ؛ فَإِنَّ نُوَّابَ السُّلْطَانِ لَا يَسْتَخْرِجُونَهَا إلَّا بِأَثْمَانِهَا الَّتِي أَخَذُوهَا ظُلْمًا أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ مِنْ الظُّلْمِ . قِيلَ : تِلْكَ الْأَمْوَالُ أُخِذَتْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ظُلْمًا وَالْمُسْلِمُونَ هُمْ الْمَظْلُومُونَ فَقَدْ مُنِعُوا حُقُوقَهُمْ مِنْ الْمُبَاحَاتِ إلَّا بِمَا يُؤْخَذُ مِنْهُمْ يُسْتَخْرَجُ بِبَعْضِهِ تِلْكَ الْمُبَاحَاتُ وَالْبَاقِي يُؤْخَذُ وَذَلِكَ لَا يَحْرُمُ عَلَيْهِمْ مَا كَانَ حَلَالًا لَهُمْ وَهَذَا ظَاهِرٌ فِيمَا كَانَ الظُّلْمُ فِيهِ مُنَاسِبًا مِثْلَ أَنْ يُبَاعَ كُلُّ مِقْدَارٍ بِثَمَنٍ مُعَيَّنٍ وَيُؤْخَذُ مِنْ تِلْكَ الْأَثْمَانِ مَا يُسْتَخْرَجُ بِهِ تِلْكَ الْمُبَاحَاتُ وَهُنَا لَا شُبْهَةَ عَلَى الْمُشْتَرِي أَصْلًا ؛ فَإِنَّ مَا اُسْتُخْرِجَتْ بِهِ الْمُبَاحَاتُ هُوَ حَقُّهُمْ أَيْضًا .(1/380)
فَهُوَ كَمَا لَوْ غَصَبَ رَجُلٌ بَيْتَ رَجُلٍ وَأَمَرَ غِلْمَانَ الْمَالِكِ أَنْ يَطْبُخُوا مِمَّا فِي بَيْتِهِ طَعَامًا فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَحْرُمُ عَلَى الْمَغْصُوبِ ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ الْأَعْيَانَ وَالْمَنَافِعَ وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ إلَّا أَنْ يَكُونَ التَّصَرُّفُ وَقَعَ بِغَيْرِ وِكَالَةٍ مِنْهُ وَلَا وِلَايَةٍ عَلَيْهِ وَهَذَا لَا يَحْرُمُ مَالُهُ ؛ بَلْ وَلَا بَذْلُ مَالِهِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ . وَإِنْ كَانَ مَا يُسْتَخْرَجُ بِهِ تِلْكَ الْمُبَاحَاتُ بِدُونِ الْمُعَامَلَةِ بِالْأَمْوَالِ السُّلْطَانِيَّةِ الْمُشْتَرَكَةِ .(1/381)
وَأَمَّا إذَا اسْتَخْرَجَ نُوَّابُ السُّلْطَانِ بِغَيْرِ حَقٍّ مَنْ يَسْتَخْرِجُ تِلْكَ الْمُبَاحَاتِ فَهَذَا بِمَنْزِلَةِ أَنْ يَغْصِبَ مَنْ يَطْبُخُ لَهُ طَعَامًا أَوْ يَنْسِجُ لَهُ ثَوْبًا وَبِمَنْزِلَةِ أَنْ يَطْبُخَ الطَّعَامَ بِحَطَبِ مَغْصُوبٍ وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِمَّا تَكُونُ الْعَيْنُ فِيهِ مُبَاحَةً ؛ لَكِنْ وَقَعَ الظُّلْمُ فِي تَحْوِيلِهَا مِنْ حَالٍ إلَى حَالٍ . فَهَذَا فِيهِ شُبْهَةٌ وَطَرِيقُ التَّخَلُّصِ مِنْهَا أَنْ يَنْظُرَ النَّفْعَ الْحَاصِلَ فِي تِلْكَ الْعَيْنِ بِعَمَلِ الْمَظْلُومِ فَيُعْطِي الْمَظْلُومَ أَجْرَهُ وَإِنْ تَعَذَّرَ مَعْرِفَةُ الْمَظْلُومِ تَصَدَّقَ بِهِ عَنْهُ ؛ فَإِنَّ هَذَا غَايَتُهُ أَنْ يَكُونَ قَدْ اخْتَلَطَ حَلَالٌ وَحَرَامٌ ؛ وَلَوْ اخْتَلَطَتْ الْأَعْيَانُ الَّتِي يَمْلِكُهَا بِالْأَثْمَانِ الَّتِي غَصَبَهَا وَأَخَذَهَا حَرَامًا مِثْلَ أَنْ تَخْتَلِطَ دَرَاهِمُهُ وَدَنَانِيرُهُ بِمَا غَصَبَهُ مِنْ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَاخْتَلَطَ حَبُّهُ أَوْ ثَمَرُهُ أَوْ دَقِيقُهُ أَوْ خَلُّهُ أَوْ ذَهَبُهُ بِمَا غَصَبَهُ مِنْ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ فَإِنَّ هَذَا الِاخْتِلَاطَ لَا يُوجِبُ تَحْرِيمَ مَالِهِ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْمُحَرَّمَاتِ نَوْعَانِ . مُحَرَّمٌ لِوَصْفِهِ وَعَيْنِهِ كَالدَّمِ وَالْمَيْتَةِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ . فَهَذَا إذَا اخْتَلَطَ بِالْمَائِعِ وَظَهَرَ فِيهِ طَعْمُ الْخُبْثِ أَوْ لَوْنُهُ أَوْ رِيحُهُ حَرُمَ . وَمُحَرَّمٌ لِكَسْبِهِ كَالنَّقْدَيْنِ وَالْحُبُوبِ وَالثِّمَارِ وَأَمْثَالِ ذَلِكَ .(1/382)
فَهَذِهِ لَا تَحْرُمُ أَعْيَانُهَا تَحْرِيمًا مُطْلَقًا بِحَالِ وَلَكِنْ تَحْرُمُ عَلَى مَنْ أَخَذَهَا ظُلْمًا أَوْ بِوَجْهٍ مُحَرَّمٍ فَإِذَا أَخَذَ الرَّجُلُ مِنْهَا شَيْئًا وَخَلَطَهُ بِمَالِهِ فَالْوَاجِبُ أَنْ يُخْرِجَ مِنْ ذَلِكَ الْقَدْرَ الْمُحَرَّمَ وَقَدْرُ مَالِهِ حَلَالٌ لَهُ . وَلَوْ أَخْرَجَ مِثْلَهُ مِنْ غَيْرِهِ ؟ فَفِيهِ وَجْهَانِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد . أَحَدُهُمَا : أَنَّ الِاخْتِلَاطَ كَالتَّلَفِ فَإِذَا أَخْرَجَ مِثْلَهُ أَجْزَأَ . وَالثَّانِي : أَنَّ حَقَّ الْمَظْلُومِ يَتَعَلَّقُ بِالْعَيْنِ مَعَ الْخَلْطِ فَلَا بُدَّ أَنْ يُخْرِجَ قَدْرَ حَقِّ الْمَظْلُومِ مِنْ ذَلِكَ الْمَالِ الْمُخْتَلَطِ . إذَا تَبَيَّنَ هَذَا فَإِذَا كَانَ أَثَرُ عَمَلِ الْمَظْلُومِ قَائِمًا بِالْعَيْنِ ؛ مِثْلَ طَبْخِهِ أَوْ نَسْجِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ ؛ فَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّ قِيمَةَ ذَلِكَ النَّفْعِ فَإِذَا أَعْطَى الْمَظْلُومَ قِيمَةَ ذَلِكَ النَّفْعِ أَخَذَ حَقَّهُ فَلَا يَبْقَى لِصَاحِبِ الْعَيْنِ شَرِيكٌ فَلَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ . وَأَمَّا إذَا لَمْ يَعْرِفْ الْمَظْلُومَ فَإِنَّهُ يَتَصَدَّقُ بِهِ عَنْهُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ كَمَا لَوْ حَصَلَ بِيَدِهِ أَثْمَانٌ مِنْ غصوب وَعَوَارٍ وَوَدَائِعَ لَا يَعْرِفُ أَصْحَابَهَا فَإِنَّهُ يَتَصَدَّقُ بِهَا عَنْهُمْ ؛ لِأَنَّ الْمَجْهُولَ كَالْمَعْدُومِ فِي الشَّرِيعَةِ وَالْمَعْجُوزُ عَنْهُ كَالْمَعْدُومِ ؛ وَلِهَذَا { قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي اللُّقَطَةِ : فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا فَأَدِّهَا إلَيْهِ وَإِلَّا فَهِيَ مَالُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ } .(1/383)
فَإِذَا كَانَ فِي اللُّقَطَةِ الَّتِي تَحْرُمُ بِأَنَّهَا سَقَطَتْ مِنْ مَالِكٍ لَمَّا تَعَذَّرَ مَعْرِفَةُ صَاحِبِهَا جَعَلَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمُلْتَقِطِ - وَلَا نِزَاعَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي جَوَازِ صَدَقَتِهِ بِهَا وَإِنَّمَا تَنَازَعُوا فِي جَوَازِ تَمَلُّكِهِ لَهَا مَعَ الْغِنَى وَالْجُمْهُورُ عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ - فَكَيْفَ مَا يَجْهَلُ فِيهِ ذَلِكَ . وَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ آثَارٌ مَعْرُوفَةٌ مِثْلُ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ لَمَّا اشْتَرَى جَارِيَةً ثُمَّ خَرَجَ لِيُوَفِّيَ الْبَائِعَ الثَّمَنَ فَلَمْ يَجِدْهُ فَجَعَلَ يَطُوفُ عَلَى الْمَسَاكِينِ وَيَقُولُ : اللَّهُمَّ هَذِهِ عَنْ صَاحِبِ الْجَارِيَةِ فَإِنْ رَضِيَ فَقَدْ بَرِئَتْ ذِمَّتِي وَإِنْ لَمْ يَرْضَ فَهُوَ عَنِّي وَلَهُ عَلَيَّ مِثْلُهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ . وَحَدِيثُ الرَّجُلِ الَّذِي غَلَّ مِنْ الْغَنِيمَةِ فِي غَزْوَةِ قُبْرُصَ وَجَاءَ إلَى مُعَاوِيَةَ يَرُدُّ إلَيْهِ الْمَغْلُولَ فَلَمْ يَأْخُذْهُ فَاسْتَفْتَى بَعْضَ التَّابِعِينَ فَأَفْتَاهُ بِأَنْ يَتَصَدَّقَ بِذَلِكَ عَنْ الْجَيْشِ وَرَجَعَ إلَى مُعَاوِيَةَ فَأَخْبَرَهُ فَاسْتَحْسَنَ ذَلِكَ ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَقُولُ : { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } .(1/384)
وَالْمَالُ الَّذِي لَا نَعْرِفُ مَالِكَهُ يَسْقُطُ عَنَّا وُجُوبُ رَدِّهِ إلَيْهِ فَيُصْرَفُ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ وَالصَّدَقَةُ مِنْ أَعْظَمِ مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ . وَهَذَا أَصْلٌ عَامٌّ فِي كُلِّ مَالٍ جُهِلَ مَالِكُهُ بِحَيْثُ يَتَعَذَّرُ رَدُّهُ إلَيْهِ . كَالْمَغْصُوبِ وَالْعَوَارِيّ وَالْوَدَائِعُ تُصْرَفُ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ وَأَحْمَد وَأَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِمْ . وَإِذَا صُرِفَتْ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ جَازَ لِلْفَقِيرِ أَخْذُهَا ؛ لِأَنَّ الْمُعْطِيَ هُنَا إنَّمَا يُعْطِيهَا نِيَابَةً عَنْ صَاحِبِهَا ؛ بِخِلَافِ مَنْ تَصَدَّقَ مِنْ غُلُولٍ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةً بِغَيْرِ طَهُورٍ وَلَا صَدَقَةً مِنْ غُلُولٍ } . فَهَذَا الَّذِي يَحُوزُ الْمَالَ وَيَتَصَدَّقُ بِهِ . مَعَ إمْكَانِ رَدِّهِ إلَى صَاحِبِهِ أَوْ يَتَصَدَّقُ صَدَقَةَ مُتَقَرِّبٍ كَمَا يَتَصَدَّقُ بِمَالِهِ فَاَللَّهُ لَا يَقْبَلُ ذَلِكَ مِنْهُ وَأَمَّا ذَاكَ فَإِنَّمَا يَتَصَدَّقُ بِهِ صَدَقَةَ مُتَحَرِّجٍ مُتَأَثِّمٍ فَكَانَتْ صَدَقَتُهُ بِمَنْزِلَةِ أَدَاءِ الدَّيْنِ الَّذِي عَلَيْهِ وَأَدَاءِ الْأَمَانَاتِ إلَى أَصْحَابِهَا وَبِمَنْزِلَةِ إعْطَاءِ الْمَالِ لِلْوَكِيلِ الْمُسْتَحِقِّ لَيْسَ هُوَ مِنْ الصَّدَقَةِ الدَّاخِلَةِ فِي قَوْلِهِ : { وَلَا صَدَقَةً مِنْ غُلُولٍ }
***************
((1/385)
فَصْلٌ ) " فَهَذَانِ الْقَوْلَانِ " : قَوْلُ الْخَوَارِجِ الَّذِينَ يُكَفِّرُونَ بِمُطْلَقِ الذُّنُوبِ وَيُخَلِّدُونَ فِي النَّارِ ؛ وَقَوْلُ مَنْ يُخَلِّدُهُمْ فِي النَّارِ وَيَجْزِمُ بِأَنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ لَهُمْ إلَّا بِالتَّوْبَةِ وَيَقُولُ لَيْسَ مَعَهُمْ مِنْ الْإِيمَانِ شَيْءٌ لَمْ يَذْهَبْ إلَيْهِمَا أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ الدِّينِ أَهْلِ الْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ بَلْ هُمَا مِنْ الْأَقْوَالِ الْمَشْهُورَةِ عَنْ أَهْلِ الْبِدَعِ . وَكَذَلِكَ قَوْلُ مَنْ وَقَفَ فِي أَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنْ غُلَاةِ الْمُرْجِئَةِ وَقَالَ لَا أَعْلَمُ أَنَّ أَحَدًا مِنْهُمْ يَدْخُلُ النَّارَ هُوَ أَيْضًا مِنْ الْأَقْوَالِ الْمُبْتَدَعَةِ ؛ بَلْ السَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ مُتَّفِقُونَ عَلَى مَا تَوَاتَرَتْ بِهِ النُّصُوصُ مِنْ أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَدْخُلَ النَّارَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ ثُمَّ يَخْرُجُونَ مِنْهَا . وَأَمَّا مَنْ جَزَمَ بِأَنَّهُ لَا يَدْخُلُ النَّارَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ فَهَذَا لَا نَعْرِفُهُ قَوْلًا لِأَحَدِ . وَبَعْدَهُ قَوْلُ مَنْ يَقُولُ : مَا ثَمَّ عَذَابٌ أَصْلًا وَإِنَّمَا هُوَ تَخْوِيفٌ لَا حَقِيقَةَ لَهُ وَهَذَا مِنْ أَقْوَالِ الْمَلَاحِدَةِ وَالْكُفَّارِ . وَرُبَّمَا احْتَجَّ بَعْضُهُمْ بِقَوْلِهِ : { ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ } فَيُقَالُ لِهَذَا : التَّخْوِيفُ إنَّمَا يَكُونُ تَخْوِيفًا إذَا كَانَ هُنَاكَ مَخُوفٌ يُمْكِنُ وُقُوعُهُ بِالْمَخُوفِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مَا يُمْكِنُ وُقُوعُهُ امْتَنَعَ التَّخْوِيفُ لَكِنْ يَكُونُ حَاصِلُهُ إيهَامُ الْخَائِفِينَ بِمَا لَا حَقِيقَةَ لَهُ كَمَا تَوَهَّمَ الصَّبِيُّ الصَّغِيرُ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ مِثْلَ هَذَا لَا يَحْصُلُ بِهِ تَخْوِيفٌ لِلْعُقَلَاءِ الْمُمَيِّزِينَ .(1/386)
لِأَنَّهُمْ إذَا عَلِمُوا أَنَّهُ لَيْسَ هُنَاكَ شَيْءٌ مَخُوفٌ زَالَ الْخَوْفُ وَهَذَا شَبِيهٌ بِمَا تَقُولُ " الْمَلَاحِدَةُ " الْمُتَفَلْسِفَةُ وَالْقَرَامِطَةُ وَنَحْوُهُمْ : مِنْ أَنَّ الرُّسُلَ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ : خَاطَبُوا النَّاسَ بِإِظْهَارِ أُمُورٍ مِنْ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ لَا حَقِيقَةَ لَهَا فِي الْبَاطِنِ وَإِنَّمَا هِيَ أَمْثَالٌ مَضْرُوبَةٌ لِتُفْهَمَ حَالُ النَّفْسِ بَعْدَ الْمُفَارَقَةِ وَمَا أَظْهَرُوهُ لَهُمْ مِنْ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَإِنْ كَانَ لَا حَقِيقَةَ لَهُ فَإِنَّمَا يُعَلَّقُ لِمَصْلَحَتِهِمْ فِي الدُّنْيَا إذْ كَانَ لَا يُمْكِنُ تَقْوِيمُهُمْ إلَّا بِهَذِهِ الطَّرِيقَةِ . وَ " هَذَا الْقَوْلُ " مَعَ أَنَّهُ مَعْلُومُ الْفَسَادِ بِالضَّرُورَةِ مِنْ دِينِ الرُّسُلِ ؛ فَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لَكَانَ خَوَاصُّ الرُّسُلِ الْأَذْكِيَاءِ يَعْلَمُونَ ذَلِكَ وَإِذَا عَلِمُوهُ زَالَتْ مُحَافَظَتُهُمْ عَلَى الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ كَمَا يُصِيبُ خَوَاصَّ مَلَاحِدَةِ الْمُتَفَلْسِفَةِ وَالْقَرَامِطَةِ : مِنْ الإسْماعيليَّةِ والنصيرية وَنَحْوِهِمْ فَإِنَّ الْبَارِعَ مِنْهُمْ فِي الْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ يَزُولُ عَنْهُ عِنْدَهُمْ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَتُبَاحُ لَهُ الْمَحْظُورَاتُ وَتَسْقُطُ عَنْهُ الْوَاجِبَاتُ فَتَظْهَرُ أَضْغَانُهُمْ وَتَنْكَشِفُ أَسْرَارُهُمْ وَيَعْرِفُ عُمُومُ النَّاسِ حَقِيقَةَ دِينِهِمْ الْبَاطِنِ حَتَّى سَمَّوْهُمْ بَاطِنِيَّةً ؛ لِإِبْطَانِهِمْ خِلَافَ مَا يُظْهِرُونَ . فَلَوْ كَانَ - وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ - دِينُ الرُّسُلِ كَذَلِكَ لَكَانَ خَوَاصُّهُ قَدْ عَرَفُوهُ وَأَظْهَرُوا بَاطِنَهُ .(1/387)
وَكَانَ عِنْدَ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ وَالتَّحْقِيقِ مِنْ جِنْسِ دِينِ الْبَاطِنِيَّةِ وَمِنْ الْمَعْلُومِ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّ الصَّحَابَةَ الَّذِينَ كَانُوا أَعْلَمَ النَّاسِ بِبَاطِنِ الرَّسُولِ وَظَاهِرِهِ وَأَخْبَرَ النَّاسِ بِمَقَاصِدِهِ وَمُرَادَاتِهِ كَانُوا أَعْظَمَ الْأُمَّةِ لُزُومًا لِطَاعَةِ أَمْرِهِ - سِرًّا وَعَلَانِيَةً - وَمُحَافَظَةً عَلَى ذَلِكَ إلَى الْمَوْتِ وَكُلُّ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ إلَيْهِ وَبِهِ أَخَصُّ وَبِبَاطِنِهِ أَعْلَمُ - كَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ - كَانُوا أَعْظَمَهُمْ لُزُومًا لِلطَّاعَةِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَمُحَافَظَةً عَلَى أَدَاءِ الْوَاجِبِ وَاجْتِنَابِ الْمُحَرَّمِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا وَقَدْ أَشْبَهَ هَؤُلَاءِ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ مَلَاحِدَةُ الْمُتَصَوِّفَةِ : الَّذِينَ يَجْعَلُونَ فِعْلَ الْمَأْمُورِ وَتَرْكَ الْمَحْظُورِ وَاجِبًا عَلَى السَّالِكِ حَتَّى يَصِيرَ عَارِفًا مُحَقِّقًا فِي زَعْمِهِمْ ؛ وَحِينَئِذٍ يَسْقُطُ عَنْهُ التَّكْلِيفُ وَيَتَأَوَّلُونَ عَلَى ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى { وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ } زَاعِمِينَ أَنَّ الْيَقِينَ هُوَ مَا يَدَّعُونَهُ مِنْ الْمَعْرِفَةِ وَالْيَقِينُ هُنَا الْمَوْتُ وَمَا بَعْدَهُ . كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْ أَهْلِ النَّارِ : { وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ } { وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ } { حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ } { فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ } . قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ إنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ أَجَلًا دُونَ الْمَوْتِ وَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ .(1/388)
وَمِنْهُ { قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا تُوُفِّيَ عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ : أَمَّا عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ فَقَدْ أَتَاهُ الْيَقِينُ مِنْ رَبِّهِ } وَهَؤُلَاءِ قَدْ يَشْهَدُونَ الْقَدَرَ أَوَّلًا وَهِيَ الْحَقِيقَةُ الْكَوْنِيَّةُ وَيَظُنُّونَ أَنَّ غَايَةَ الْعَارِفِ أَنْ يَشْهَدَ الْقَدَرَ وَيَفْنَى عَنْ هَذَا الشُّهُودِ وَذَلِكَ الْمَشْهَدُ لَا تَمْيِيزَ فِيهِ بَيْنَ الْمَأْمُورِ وَالْمَحْظُورِ وَمَحْبُوبَاتِ اللَّهِ وَمَكْرُوهَاتِهِ وَأَوْلِيَائِهِ وَأَعْدَائِهِ . وَقَدْ يَقُولُ أَحَدُهُمْ : الْعَارِفُ شَهِدَ أَوَّلًا الطَّاعَةَ وَالْمَعْصِيَةَ ثُمَّ شَهِدَ طَاعَةً بِلَا مَعْصِيَةٍ - يُرِيدُ بِذَلِكَ طَاعَةَ الْقَدَرِ - كَقَوْلِ بَعْضِ شُيُوخِهِمْ : أَنَا كَافِرٌ بِرَبِّ يُعْصَى وَقِيلَ لَهُ عَنْ بَعْضِ الظَّالِمِينَ : هَذَا مَالُهُ حَرَامٌ فَقَالَ : إنْ كَانَ عَصَى الْأَمْرَ فَقَدْ أَطَاعَ الْإِرَادَةَ . ثُمَّ يَنْتَقِلُونَ " إلَى الْمَشْهَدِ الثَّالِثِ " لَا طَاعَةَ وَلَا مَعْصِيَةَ وَهُوَ مَشْهَدُ أَهْلِ الْوَحْدَةِ الْقَائِلِينَ بِوَحْدَةِ الْوُجُودِ وَهَذَا غَايَةُ إلْحَادِ الْمُبْتَدَعَةِ جهمية الصُّوفِيَّةِ كَمَا أَنَّ الْقَرْمَطَةَ آخِرُ إلْحَادِ الشِّيعَةِ وَكِلَا الْإِلْحَادَيْنِ يَتَقَارَبَانِ . وَفِيهِمَا مِنْ الْكُفْرِ مَا لَيْسَ فِي دِينِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَمُشْرِكِي الْعَرَبِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
**************(1/389)
وَكَتَبَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَحْمَد ابْنُ تيمية - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - لَمَّا قَدِمَ الْعَدُوُّ مِنْ التَّتَارِ سَنَةَ تِسْعٍ وَتِسْعِينَ وَسِتِّمِائَةٍ إلَى حَلَبَ وَانْصَرَفَ عَسْكَرُ مِصْرَ وَبَقِيَ عَسْكَرُ الشَّامِ . بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إلَى مَنْ يَصِلُ إلَيْهِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ - أَحْسَنَ اللَّهُ إلَيْهِمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَسْبَغَ عَلَيْهِمْ نِعَمَهُ بَاطِنَةً وَظَاهِرَةً وَنَصَرَهُمْ نَصْرًا عَزِيزًا وَفَتَحَ عَلَيْهِمْ فَتْحًا كَبِيرًا وَجَعَلَ لَهُمْ مِنْ لَدُنْه سُلْطَانًا نَصِيرًا وَجَعَلَهُمْ مُعْتَصِمِينَ بِحَبْلِهِ الْمَتِينِ مُهْتَدِينَ إلَى صِرَاطِهِ الْمُسْتَقِيمِ - سَلَامٌ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ . فَإِنَّا نَحْمَدُ إلَيْكُمْ اللَّهَ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ وَهُوَ لِلْحَمْدِ أَهْلٌ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَنَسْأَلُهُ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى صَفْوَتِهِ مِنْ خَلِيقَتِهِ وَخَيْرَتِهِ مِنْ بَرِّيَّتِهِ مُحَمَّدٍ عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا .(1/390)
أَمَّا بَعْدُ : فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ بَعَثَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاَللَّهِ شَهِيدًا وَجَعَلَهُ خَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَسَيِّدَ وَلَدِ آدَمَ مِنْ النَّاسِ أَجْمَعِينَ وَجَعَلَ كِتَابَهُ الَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَيْهِ مُهَيْمِنًا عَلَى مَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ الْكُتُبِ وَمُصَدِّقًا لَهَا وَجَعَلَ أُمَّتَهُ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ : يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ ؛ فَهُمْ يُوفُونَ سَبْعِينَ فِرْقَةً هُمْ خَيْرُهَا وَأَكْرَمُهَا عَلَى اللَّهِ وَقَدْ أَكْمَلَ لَهُمْ دِينَهُمْ وَأَتَمَّ عَلَيْهِمْ نِعْمَتَهُ وَرَضِيَ لَهُمْ الْإِسْلَامَ دِينًا . فَلَيْسَ دِينٌ أَفْضَلَ مِنْ دِينِهِمْ الَّذِي جَاءَ بِهِ رَسُولُهُمْ وَلَا كِتَابٌ أَفْضَلَ مِنْ كِتَابِهِمْ وَلَا أُمَّةٌ خَيْرًا مِنْ أُمَّتِهِمْ . بَلْ كِتَابُنَا وَنَبِيُّنَا وَدِينُنَا وَأُمَّتُنَا أَفْضَلُ مِنْ كُلِّ كِتَابٍ وَدِينٍ وَنَبِيٍّ وَأُمَّةٍ . فَاشْكُرُوا اللَّهَ عَلَى مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْكُمْ . { وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ } وَاحْفَظُوا هَذِهِ الَّتِي بِهَا تَنَالُونَ نَعِيمَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاحْذَرُوا أَنْ تَكُونُوا مِمَّنْ بَدَّلَ نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا فَتُعْرِضُونَ عَنْ حِفْظِ هَذِهِ النِّعْمَةِ وَرِعَايَتِهَا فَيَحِيقُ بِكُمْ مَا حَاقَ بِمَنْ انْقَلَبَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَاشْتَغَلَ بِمَا لَا يَنْفَعُهُ مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا عَمَّا لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ مِنْ مَصْلَحَةِ دِينِهِ وَدُنْيَاهُ فَخَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ .(1/391)
فَقَدْ سَمِعْتُمْ مَا نَعَتَ اللَّهُ بِهِ الشَّاكِرِينَ وَالْمُنْقَلِبِينَ حَيْثُ يَقُولُ : { وَمَا مُحَمَّدٌ إلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ } . أَنْزَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ هَذِهِ الْآيَةَ وَمَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا فِي غَزْوَةِ أُحُدٍ لَمَّا انْكَسَرَ الْمُسْلِمُونَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَقُتِلَ جَمَاعَةٌ مِنْ خِيَارِ الْأُمَّةِ " وَثَبَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ طَائِفَةٍ يَسِيرَةٍ حَتَّى خَلَصَ إلَيْهِ الْعَدُوُّ فَكَسَرُوا رَبَاعِيَتَهُ وَشَجُّوا وَجْهَهُ وَهَشَّمُوا الْبَيْضَةَ عَلَى رَأْسِهِ وَقُتِلَ وَجُرِحَ دُونَهُ طَائِفَةٌ مِنْ خِيَارِ أَصْحَابِهِ لِذَبِّهِمْ عَنْهُ وَنَعَقَ الشَّيْطَانُ فِيهِمْ : أَنَّ مُحَمَّدًا قَدْ قُتِلَ . فَزَلْزَلَ ذَلِكَ قُلُوبَ بَعْضِهِمْ حَتَّى انْهَزَمَ طَائِفَةٌ وَثَبَّتَ اللَّهُ آخَرِينَ حَتَّى ثَبَتُوا .(1/392)
وَكَذَلِكَ لَمَّا قُبِضَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَزَلْزَلَتْ الْقُلُوبُ وَاضْطَرَبَ حَبَلُ الدِّينِ وَغَشِيَتْ الذِّلَّةُ مَنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ النَّاسِ حَتَّى خَرَجَ عَلَيْهِمْ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَقَالَ : مَنْ كَانَ يَعْبُدُ مُحَمَّدًا فَإِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ مَاتَ وَمَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ حَيٌّ لَا يَمُوتُ وَقَرَأَ قَوْلَهُ : { وَمَا مُحَمَّدٌ إلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ } فَكَأَنَّ النَّاسَ لَمْ يَسْمَعُوهَا حَتَّى تَلَاهَا الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَلَا يُوجَدُ مِنْ النَّاسِ إلَّا مَنْ يَتْلُوهَا . وَارْتَدَّ بِسَبَبِ مَوْتِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمَّا حَصَلَ لَهُمْ مِنْ الضَّعْفِ جَمَاعَاتٌ مِنْ النَّاسِ : قَوْمٌ ارْتَدُّوا عَنْ الدِّينِ بِالْكُلِّيَّةِ . وَقَوْمٌ ارْتَدُّوا عَنْ بَعْضِهِ فَقَالُوا : نُصَلِّي وَلَا نُزَكِّي . وَقَوْمٌ ارْتَدُّوا عَنْ إخْلَاصِ الدِّينِ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .(1/393)
فَآمَنُوا مَعَ مُحَمَّدٍ بِقَوْمٍ مِنْ النَّبِيِّينَ الْكَذَّابِينَ كمسيلمة الْكَذَّابِ وطليحة الأسدي وَغَيْرِهِمَا فَقَامَ إلَى جِهَادِهِمْ الشَّاكِرُونَ الَّذِينَ ثَبَتُوا عَلَى الدِّينِ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالطُّلَقَاءِ وَالْأَعْرَابِ وَمَنْ اتَّبَعَهُمْ بِإِحْسَانِ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِيهِمْ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } هُمْ أُولَئِكَ الَّذِينَ جَاهَدُوا الْمُنْقَلِبِينَ عَلَى أَعْقَابِهِمْ الَّذِينَ لَمْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا . وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ مِنْ آيَةٍ إلَّا وَقَدْ عَمِلَ بِهَا قَوْمٌ وَسَيَعْمَلُ بِهَا آخَرُونَ . فَمَنْ كَانَ مِنْ الشَّاكِرِينَ الثَّابِتِينَ عَلَى الدِّينِ الَّذِينَ يُحِبُّهُمْ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَرَسُولُهُ ؛ فَإِنَّهُ يُجَاهِدُ الْمُنْقَلِبِينَ عَلَى أَعْقَابِهِمْ الَّذِينَ يَخْرُجُونَ عَنْ الدِّينِ وَيَأْخُذُونَ بَعْضَهُ وَيَدَعُونَ بَعْضَهُ كَحَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ الْمُفْسِدِينَ الَّذِينَ خَرَجُوا عَلَى أَهْلِ الْإِسْلَامِ وَتَكَلَّمَ بَعْضُهُمْ بِالشَّهَادَتَيْنِ وَتَسَمَّى بِالْإِسْلَامِ مِنْ غَيْرِ الْتِزَامِ شَرِيعَتِهِ ؛ فَإِنَّ عَسْكَرَهُمْ مُشْتَمِلٌ عَلَى أَرْبَعِ طَوَائِفَ : كَافِرَةٌ بَاقِيَةٌ عَلَى كُفْرِهَا : مِنْ الكرج وَالْأَرْمَنِ وَالْمَغُولِ . وَطَائِفَةٍ كَانَتْ مُسْلِمَةً فَارْتَدَتْ عَنْ الْإِسْلَامِ وَانْقَلَبَتْ عَلَى عَقِبَيْهَا : مِنْ الْعَرَبِ وَالْفُرْسِ وَالرُّومِ وَغَيْرِهِمْ .(1/394)
وَهَؤُلَاءِ أَعْظَمُ جُرْمًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ وَالْمُؤْمِنِينَ مِنْ الْكَافِرِ الْأَصْلِيِّ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ . فَإِنَّ هَؤُلَاءِ يَجِبُ قَتْلُهُمْ حَتْمًا مَا لَمْ يَرْجِعُوا إلَى مَا خَرَجُوا عَنْهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُعْقَدَ لَهُمْ ذِمَّةٌ وَلَا هُدْنَةٌ وَلَا أَمَانٌ وَلَا يُطْلَقُ أَسِيرُهُمْ وَلَا يُفَادَى بِمَالِ وَلَا رِجَالٍ وَلَا تُؤْكَلُ ذَبَائِحُهُمْ وَلَا تُنْكَحُ نِسَاؤُهُمْ وَلَا يسترقون ؛ مَعَ بَقَائِهِمْ عَلَى الرِّدَّةِ بِالِاتِّفَاقِ . وَيُقْتَلُ مَنْ قَاتَلَ مِنْهُمْ وَمَنْ لَمْ يُقَاتِلْ ؛ كَالشَّيْخِ الْهَرِمِ وَالْأَعْمَى وَالزَّمِنِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ . وَكَذَا نِسَاؤُهُمْ عِنْدَ الْجُمْهُورِ . وَالْكَافِرُ الْأَصْلِيُّ يَجُوزُ أَنْ يُعْقَدُ لَهُ أَمَانٌ وَهُدْنَةٌ وَيَجُوزُ الْمَنُّ عَلَيْهِ وَالْمُفَادَاةُ بِهِ إذَا كَانَ أَسِيرًا عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَيَجُوزُ إذَا كَانَ كِتَابِيًّا أَنْ يُعْقَدُ لَهُ ذِمَّةٌ وَيُؤْكَلُ طَعَامُهُمْ وَتُنْكَحُ نِسَاؤُهُمْ وَلَا تُقْتَلُ نِسَاؤُهُمْ إلَّا أَنْ يُقَاتِلْنَ بِقَوْلِ أَوْ عَمَلٍ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ . وَكَذَلِكَ لَا يُقْتَلُ مِنْهُمْ إلَّا مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ السُّنَّةُ . فَالْكَافِرُ الْمُرْتَدُّ أَسْوَأُ حَالًا فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا مِنْ الْكَافِرِ الْمُسْتَمِرِّ عَلَى كُفْرِهِ . وَهَؤُلَاءِ الْقَوْمُ فِيهِمْ مِنْ الْمُرْتَدَّةِ مَا لَا يُحْصِي عَدَدَهُمْ إلَّا اللَّهُ . فَهَذَانِ صِنْفَانِ .(1/395)
وَفِيهِمْ أَيْضًا مَنْ كَانَ كَافِرًا فَانْتَسَبَ إلَى الْإِسْلَامِ وَلَمْ يَلْتَزِمْ شَرَائِعَهُ ؛ مِنْ إقَامَةِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ وَحَجِّ الْبَيْتِ وَالْكَفِّ عَنْ دِمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَأَمْوَالِهِمْ وَالْتِزَامِ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَضَرْب الْجِزْيَةِ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَغَيْر ذَلِكَ . وَهَؤُلَاءِ يَجِبُ قِتَالُهُمْ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ كَمَا قَاتَلَ الصِّدِّيقُ مَانِعِي الزَّكَاةِ ؛ بَلْ هَؤُلَاءِ شَرٌّ مِنْهُمْ مِنْ وُجُوهٍ وَكَمَا قَاتَلَ الصَّحَابَةُ أَيْضًا مَعَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ - عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الْخَوَارِجَ بِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي وَصْفِهِمْ : { تُحَقِّرُونَ صَلَاتَكُمْ مَعَ صَلَاتِهِمْ وَصِيَامَكُمْ مَعَ صِيَامِهِمْ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ يَمْرُقُونَ مِنْ الْإِسْلَامِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ أَيْنَمَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ فَإِنَّ فِي قَتْلِهِمْ أَجْرًا عِنْدَ اللَّهِ لِمَنْ قَتَلَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } وَقَالَ : { لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ مَاذَا لَهُمْ عَلَى لِسَانِ مُحَمَّدٍ لَنَكَلُوا عَنْ الْعَمَلِ } وَقَالَ : { هُمْ شَرُّ الْخَلْقِ وَالْخَلِيقَةِ شَرُّ قَتْلَى تَحْتَ أَدِيمِ السَّمَاءِ خَيْرُ قَتْلَى مَنْ قَتَلُوهُ } . فَهَؤُلَاءِ مَعَ كَثْرَةِ صِيَامِهِمْ وَصَلَاتِهِمْ وَقِرَاءَتِهِمْ .(1/396)
أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقِتَالِهِمْ وَقَاتَلَهُمْ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٌّ وَسَائِرُ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ مَعَهُ وَلَمْ يَخْتَلِفْ أَحَدٌ فِي قِتَالِهِمْ كَمَا اخْتَلَفُوا فِي قِتَالِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ وَالشَّامِ ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُقَاتِلُونَ الْمُسْلِمِينَ . فَإِنَّ هَؤُلَاءِ شَرٌّ مِنْ أُولَئِكَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا مِثْلَهُمْ فِي الِاعْتِقَادِ ؛ فَإِنَّ مَعَهُمْ مَنْ يُوَافِقُ رَأْيُهُ فِي الْمُسْلِمِينَ رَأْيَ الْخَوَارِجِ . فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ . وَفِيهِمْ صِنْفٌ رَابِعٌ شَرٌّ مِنْ هَؤُلَاءِ . وَهُمْ قَوْمٌ ارْتَدُّوا عَنْ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ وَبَقُوا مُسْتَمْسِكِينَ بِالِانْتِسَابِ إلَيْهِ . فَهَؤُلَاءِ الْكُفَّارُ الْمُرْتَدُّونَ وَالدَّاخِلُونَ فِيهِ مِنْ غَيْرِ الْتِزَامٍ لِشَرَائِعِهِ وَالْمُرْتَدُّونَ عَنْ شَرَائِعِهِ لَا عَنْ سَمْتِهِ : كُلُّهُمْ يَجِبُ قِتَالُهُمْ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى يَلْتَزِمُوا شَرَائِعَ الْإِسْلَامِ وَحَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ وَحَتَّى تَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ - الَّتِي هِيَ كِتَابُهُ وَمَا فِيهِ مِنْ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ وَخَبَرِهِ - هِيَ الْعُلْيَا .(1/397)
هَذَا إذَا كَانُوا قَاطِنِينَ فِي أَرْضِهِمْ فَكَيْفَ إذَا اسْتَوْلَوْا عَلَى أَرَاضِي الْإِسْلَامِ : مِنْ الْعِرَاقِ وَخُرَاسَانَ وَالْجَزِيرَةِ وَالرُّومِ فَكَيْفَ إذَا قَصَدُوكُمْ وَصَالُوا عَلَيْكُمْ بَغْيًا وَعُدْوَانًا { أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } { قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ } { وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } . وَاعْلَمُوا - أَصْلَحَكُمْ اللَّهُ - أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ ثَبَتَ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ أَنَّهُ قَالَ : { لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ وَلَا مَنْ خَالَفَهُمْ إلَى قِيَامِ السَّاعَةِ } وَثَبَتَ أَنَّهُمْ بِالشَّامِ . فَهَذِهِ الْفِتْنَةُ قَدْ تُفَرِّقُ النَّاسُ فِيهَا ثَلَاثَ فِرَقٍ : الطَّائِفَةُ الْمَنْصُورَةُ وَهُمْ الْمُجَاهِدُونَ لِهَؤُلَاءِ الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ . وَالطَّائِفَةُ الْمُخَالِفَةُ وَهُمْ هَؤُلَاءِ الْقَوْمُ وَمَنْ تَحَيَّزَ إلَيْهِمْ مِنْ خبالة الْمُنْتَسِبِينَ إلَى الْإِسْلَامِ . وَالطَّائِفَةُ الْمُخَذِّلَةُ وَهُمْ الْقَاعِدُونَ عَنْ جِهَادِهِمْ ؛ وَإِنْ كَانُوا صَحِيحِي الْإِسْلَامِ . فَلْيَنْظُرْ الرَّجُلُ أَيَكُونُ مِنْ الطَّائِفَةِ الْمَنْصُورَةِ أَمْ مِنْ الْخَاذِلَةِ أَمْ مِنْ الْمُخَالِفَةِ ؟ فَمَا بَقِيَ قِسْمٌ رَابِعٌ .(1/398)
وَاعْلَمُوا أَنَّ الْجِهَادَ فِيهِ خَيْرُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَفِي تَرْكِهِ خَسَارَةُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ : { قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إلَّا إحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ } يَعْنِي : إمَّا النَّصْرُ وَالظَّفَرُ وَإِمَّا الشَّهَادَةُ وَالْجَنَّةُ فَمَنْ عَاشَ مِنْ الْمُجَاهِدِينَ كَانَ كَرِيمًا لَهُ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَحُسْنُ ثَوَابِ الْآخِرَةِ . وَمَنْ مَاتَ مِنْهُمْ أَوْ قُتِلَ فَإِلَى الْجَنَّةِ . قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { يُعْطَى الشَّهِيدُ سِتُّ خِصَالٍ يُغْفَرُ لَهُ بِأَوَّلِ قَطْرَةٍ مِنْ دَمِهِ وَيُرَى مَقْعَدُهُ مِنْ الْجَنَّةِ وَيُكْسَى حُلَّةً مِنْ الْإِيمَانِ وَيُزَوَّجُ ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ مِنْ الْحُورِ الْعِينِ وَيُوقَى فِتْنَةَ الْقَبْرِ وَيُؤْمَنُ مِنْ الْفَزَعِ الْأَكْبَرِ } رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ . وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ فِي الْجَنَّةِ لَمِائَةَ دَرَجَةٍ . مَا بَيْنَ الدَّرَجَةِ إلَى الدَّرَجَةِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَعَدَّهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لِلْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِهِ } فَهَذَا ارْتِفَاعُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ فِي الْجَنَّةِ لِأَهْلِ الْجِهَادِ . وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَثَلُ الْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مَثَلُ الصَّائِمِ الْقَائِمِ الْقَانِتِ الَّذِي لَا يَفْتُرُ مِنْ صَلَاةٍ وَلَا صِيَامٍ } { وَقَالَ رَجُلٌ : أَخْبِرْنِي بِعَمَلِ يَعْدِلُ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ؟ قَالَ : لَا تَسْتَطِيعُهُ . قَالَ : أَخْبِرْنِي بِهِ ؟ قَالَ : هَلْ تَسْتَطِيعُ إذَا خَرَجَ الْمُجَاهِدُ أَنْ تَصُومَ لَا تُفْطِرُ وَتَقُومَ لَا تَفْتُرُ ؟ قَالَ : لَا .(1/399)
قَالَ : فَذَلِكَ الَّذِي يَعْدِلُ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } . وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا . وَكَذَلِكَ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ - فِيمَا أَعْلَمُ - عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِي التَّطَوُّعَاتِ أَفْضَلُ مِنْ الْجِهَادِ . فَهُوَ أَفْضَلُ مِنْ الْحَجِّ وَأَفْضَلُ مِنْ الصَّوْمِ التَّطَوُّعِ وَأَفْضَلُ مِنْ الصَّلَاةِ التَّطَوُّعِ . وَالْمُرَابَطَةُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَفْضَلُ مِنْ الْمُجَاوَرَةِ بِمَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ وَبَيْتِ الْمَقْدِسِ حَتَّى قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَأَنْ أُرَابِطُ لَيْلَةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أُوَافِقَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ عِنْدَ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ . فَقَدْ اخْتَارَ الرِّبَاطَ لَيْلَةً عَلَى الْعِبَادَةِ فِي أَفْضَلِ اللَّيَالِي عِنْدَ أَفْضَلِ الْبِقَاعِ ؛ وَلِهَذَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ يُقِيمُونَ بِالْمَدِينَةِ دُونَ مَكَّةَ ؛ لَمَعَانٍ مِنْهَا أَنَّهُمْ كَانُوا مُرَابِطِينَ بِالْمَدِينَةِ . فَإِنَّ الرِّبَاطَ هُوَ الْمَقَامُ بِمَكَانِ يُخِيفُهُ الْعَدُوُّ وَيُخِيفُ الْعَدُوَّ فَمَنْ أَقَامَ فِيهِ بِنِيَّةِ دَفْعِ الْعَدُوِّ فَهُوَ مُرَابِطٌ وَالْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ . قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { رِبَاطُ يَوْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ يَوْمٍ فِيمَا سِوَاهُ مِنْ الْمَنَازِلِ } رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ وَصَحَّحُوهُ .(1/400)
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ " عَنْ سَلْمَانَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { : رِبَاطُ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ صِيَامِ شَهْرٍ وَقِيَامِهِ وَمَنْ مَاتَ مُرَابِطًا أُجْرِيَ عَلَيْهِ عَمَلُهُ وَأُجْرِيَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ مِنْ الْجَنَّةِ وَأَمِنَ الْفَتَّانَ } يَعْنِي مُنْكَرًا وَنَكِيرًا . فَهَذَا فِي الرِّبَاطِ فَكَيْفَ الْجِهَادُ . وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا يَجْتَمِعُ غُبَارٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَدُخَانٌ جَهَنَّمَ فِي وَجْهِ عَبْدٍ أَبَدًا } وَقَالَ { مَنْ اغْبَرَّتْ قَدَمَاهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ حَرَّمَهُمَا اللَّهُ عَلَى النَّارِ } فَهَذَا فِي الْغُبَارِ الَّذِي يُصِيبُ الْوَجْهَ وَالرِّجْلَ فَكَيْفَ بِمَا هُوَ أَشَقُّ مِنْهُ ؛ كَالثَّلْجِ وَالْبَرْدِ وَالْوَحْلِ . وَلِهَذَا عَابَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ يَتَعَلَّلُونَ بِالْعَوَائِقِ كَالْحَرِّ وَالْبَرْدِ . فَقَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : { فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ } وَهَكَذَا الَّذِينَ يَقُولُونَ : لَا تَنْفِرُوا فِي الْبَرْدِ فَيُقَالُ : نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ بَرْدًا .(1/401)
كَمَا أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { اشْتَكَتْ النَّارُ إلَى رَبِّهَا فَقَالَتْ : رَبِّي أَكَلَ بَعْضِي بَعْضًا فَأْذَنْ لَهَا بِنَفَسَيْنِ نَفَسٍ فِي الشِّتَاءِ وَنَفَسٍ فِي الصَّيْفِ فَأَشُدُّ مَا تَجِدُونَ مِنْ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ فَهُوَ مِنْ زَمْهَرِيرِ جَهَنَّمَ } فَالْمُؤْمِنُ يَدْفَعُ بِصَبْرِهِ عَلَى الْحَرِّ وَالْبَرْدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ حَرَّ جَهَنَّمَ وَبَرْدَهَا وَالْمُنَافِقُ يَفِرُّ مِنْ حَرِّ الدُّنْيَا وَبَرْدِهَا حَتَّى يَقَعَ فِي حَرِّ جَهَنَّمَ وَزَمْهَرِيرِهَا . وَاعْلَمُوا - أَصْلَحَكُمْ اللَّهُ - أَنَّ النُّصْرَةَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَاَلَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ . وَهَؤُلَاءِ الْقَوْمُ مَقْهُورُونَ مَقْمُوعُونَ . وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى نَاصِرُنَا عَلَيْهِمْ وَمُنْتَقِمٌ لَنَا مِنْهُمْ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ . فَأَبْشِرُوا بِنَصْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَبِحُسْنِ عَاقِبَتِهِ { وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } وَهَذَا أَمْرٌ قَدْ تَيَقَّنَّاهُ وَتَحَقَّقْنَاهُ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ . {(1/402)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } { تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } { يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } { وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ } { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ } . وَاعْلَمُوا - أَصْلَحَكُمْ اللَّهُ - أَنَّ مِنْ أَعْظَمِ النِّعَمِ عَلَى مَنْ أَرَادَ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا أَنْ أَحْيَاهُ إلَى هَذَا الْوَقْتِ الَّذِي يُجَدِّدُ اللَّهُ فِيهِ الدِّينَ وَيُحْيِي فِيهِ شِعَارَ الْمُسْلِمِينَ وَأَحْوَالَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُجَاهِدِينَ حَتَّى يَكُونَ شَبِيهًا بِالسَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ . فَمَنْ قَامَ فِي هَذَا الْوَقْتِ بِذَلِكَ كَانَ مِنْ التَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ الَّذِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ .(1/403)
فَيَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَشْكُرُوا اللَّهَ تَعَالَى عَلَى هَذِهِ الْمِحْنَةِ الَّتِي حَقِيقَتُهَا مِنْحَةٌ كَرِيمَةٌ مِنْ اللَّهِ وَهَذِهِ الْفِتْنَةُ الَّتِي فِي بَاطِنِهَا نِعْمَةٌ جَسِيمَةٌ حَتَّى وَاَللَّهِ لَوْ كَانَ السَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ - كَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَغَيْرِهِمْ - حَاضِرِينَ فِي هَذَا الزَّمَانِ لَكَانَ مِنْ أَفْضَلِ أَعْمَالِهِمْ جِهَادُ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ . وَلَا يَفُوتُ مِثْلُ هَذِهِ الْغُزَاةِ إلَّا مَنْ خَسِرَتْ تِجَارَتُهُ وَسَفَّهَ نَفْسَهُ وَحُرِمَ حَظًّا عَظِيمًا مِنْ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ؛ إلَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ عَذَّرَ اللَّهُ تَعَالَى كَالْمَرِيضِ وَالْفَقِيرِ وَالْأَعْمَى وَغَيْرِهِمْ وَإِلَّا فَمَنْ كَانَ لَهُ مَالٌ وَهُوَ عَاجِزٌ بِبَدَنِهِ فَلْيَغْزُ بِمَالِهِ . فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ جَهَّزَ غَازِيًا فَقَدْ غَزَا وَمَنْ خَلَفَهُ فِي أَهْلِهِ بِخَيْرِ فَقَدْ غَزَا } وَمَنْ كَانَ قَادِرًا بِبَدَنِهِ وَهُوَ فَقِيرٌ فَلْيَأْخُذْ مِنْ أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ مَا يَتَجَهَّزُ بِهِ سَوَاءٌ كَانَ الْمَأْخُوذُ زَكَاةً أَوْ صِلَةً أَوْ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ ؛ حَتَّى لَوْ كَانَ الرَّجُلُ قَدْ حَصَلَ بِيَدِهِ مَالٌ حَرَامٌ وَقَدْ تَعَذَّرَ رَدُّهُ إلَى أَصْحَابِهِ لِجَهْلِهِ بِهِمْ وَنَحْوِ ذَلِكَ أَوْ كَانَ بِيَدِهِ وَدَائِعُ أَوْ رُهُونٌ أَوْ عَوَارٍ قَدْ تَعَذَّرَ مَعْرِفَةُ أَصْحَابِهَا فَلْيُنْفِقْهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنَّ ذَلِكَ مَصْرِفُهَا .(1/404)
وَمَنْ كَانَ كَثِيرَ الذُّنُوبِ فَأَعْظَمُ دَوَائِهِ الْجِهَادُ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَغْفِرُ ذُنُوبَهُ كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : { يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ } . وَمَنْ أَرَادَ التَّخَلُّصَ مِنْ الْحَرَامِ وَالتَّوْبَةَ وَلَا يُمْكِنُ رَدُّهُ إلَى أَصْحَابِهِ فَلْيُنْفِقْهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَنْ أَصْحَابِهِ فَإِنَّ ذَلِكَ طَرِيقٌ حَسَنَةٌ إلَى خَلَاصِهِ مَعَ مَا يَحْصُلُ لَهُ مِنْ أَجْرِ الْجِهَادِ . وَكَذَلِكَ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ فِي دَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ وَحَمِيَّتِهَا فَعَلَيْهِ بِالْجِهَادِ ؛ فَإِنَّ الَّذِينَ يَتَعَصَّبُونَ لِلْقَبَائِلِ وَغَيْرِ الْقَبَائِلِ - مِثْلَ قَيْسٍ وَيُمَنِّ وَهِلَالٍ وَأَسَدٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ - كُلُّ هَؤُلَاءِ إذَا قُتِلُوا فَإِنَّ الْقَاتِلَ وَالْمَقْتُولَ فِي النَّارِ كَذَلِكَ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ . قِيلَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا الْقَاتِلُ فَمَا بَالُ الْمَقْتُولِ ؟ قَالَ : إنَّهُ كَانَ حَرِيصًا عَلَى قَتْلِ أَخِيهِ } أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ . وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ قُتِلَ تَحْتَ رَايَةٍ عمية : يَغْضَبُ لِعَصَبِيَّةِ وَيَدْعُو لِعَصَبِيَّةٍ فَهُوَ فِي النَّارِ } رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ تَعَزَّى بِعَزَاءِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَعِضُّوهُ بهن أَبِيهِ وَلَا تَكْنُوا فَسَمِعَ أَبَيُّ بْنُ كَعْبٍ رَجُلًا يَقُولُ : يَا لِفُلَانِ فَقَالَ : اعْضَضْ أَيْرَ أَبِيك فَقَالَ : يَا أَبَا الْمُنْذِرِ ؛ مَا كُنْت فَاحِشًا .(1/405)
فَقَالَ بِهَذَا أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } . رَوَاهُ أَحْمَد فِي مُسْنَدِهِ . وَمَعْنَى قَوْلِهِ : { مَنْ تَعَزَّى بِعَزَاءِ الْجَاهِلِيَّةِ } يَعْنِي يَعْتَزِي بِعِزْوَاتِهِمْ وَهِيَ الِانْتِسَابُ إلَيْهِمْ فِي الدَّعْوَةِ مِثْلَ قَوْلِهِ : يَا لِقَيْسِ يَا ليمن وَيَا لِهِلَالِ وَيَا لِأَسَدِ فَمَنْ تَعَصَّبَ لِأَهْلِ بَلْدَتِهِ أَوْ مَذْهَبِهِ أَوْ طَرِيقَتِهِ أَوْ قَرَابَتِهِ أَوْ لِأَصْدِقَائِهِ دُونَ غَيْرِهِمْ كَانَتْ فِيهِ شُعْبَةٌ مِنْ الْجَاهِلِيَّةِ حَتَّى يَكُونَ الْمُؤْمِنُونَ كَمَا أَمَرَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى مُعْتَصِمِينَ بِحَبْلِهِ وَكِتَابِهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ . فَإِنَّ كِتَابَهُمْ وَاحِدٌ وَدِينُهُمْ وَاحِدٌ وَنَبِيُّهُمْ وَاحِدٌ وَرَبُّهُمْ إلَهٌ وَاحِدٌ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ .(1/406)
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } { وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } { وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } { وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } { يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا تَبْيَضُّ وُجُوهُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ وَتَسْوَدُّ وُجُوهُ أَهْلِ الْفُرْقَةِ وَالْبِدْعَةِ . فَاَللَّهَ ؛ اللَّهَ . عَلَيْكُمْ بِالْجَمَاعَةِ والائتلاف عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِهِ ؛ يَجْمَعْ اللَّهُ قُلُوبَكُمْ وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَحْصُلْ لَكُمْ خَيْرُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ . أَعَانَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكُمْ عَلَى طَاعَتِهِ وَعِبَادَتِهِ وَصَرَفَ عَنَّا وَعَنْكُمْ سَبِيلَ مَعْصِيَتِهِ وَآتَانَا وَإِيَّاكُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَوَقَانَا عَذَابَ النَّارِ وَجَعَلَنَا وَإِيَّاكُمْ مِمَّنْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُ جَنَّاتِ النَّعِيمِ إنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَهُوَ حَسَبُنَا وَنِعْمَ الْوَكِيلُ .(1/407)
وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا وَنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ .
***************
بَابٌ الْآنِيَةُ سُئِلَ عَنْ أَوَانِي النُّحَاسِ الْمُطَعَّمَةِ بِالْفِضَّةِ - كَالطَّاسَاتِ وَغَيْرِهَا - هَلْ حُكْمُهَا حُكْمُ آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ :(1/408)
الْحَمْدُ لِلَّهِ . أَمَّا الْمُضَبَّبُ بِالْفِضَّةِ مِنْ الْآنِيَةِ وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهَا مِنْ الْآلَاتِ - سَوَاءٌ سُمِّيَ الْوَاحِدُ مِنْ ذَلِكَ إنَاءً أَوْ لَمْ يُسَمَّ - وَمَا يَجْرِي مَجْرَى الْمُضَبَّبِ كَالْمَبَاخِرِ وَالْمَجَامِرِ وَالطُّشُوتِ والشمعدانات وَأَمْثَالِ ذَلِكَ : فَإِنْ كَانَتْ الضَّبَّةُ يَسِيرَةً لِحَاجَةِ مِثْلَ تَشْعِيبِ الْقَدَحِ وَشُعَيْرَةِ السِّكِّينِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُبَاشَرُ بِالِاسْتِعْمَالِ : فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ . وَمُرَادُ الْفُقَهَاءِ بِالْحَاجَةِ هنا : أَنْ يَحْتَاجَ إلَى تِلْكَ الصُّورَةِ كَمَا يَحْتَاجُ إلَى التَّشْعِيبِ وَالشُّعَيْرَةِ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ فِضَّةٍ أَوْ نُحَاسٍ أَوْ حَدِيدٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ وَلَيْسَ مُرَادُهُمْ أَنْ يَحْتَاجَ إلَى كَوْنِهَا مِنْ فِضَّةٍ بَلْ هَذَا يُسَمُّونَهُ فِي مِثْلِ هَذَا ضَرُورَةً وَالضَّرُورَةُ تُبِيحُ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ مُفْرَدًا وَتَبَعًا حَتَّى لَوْ احْتَاجَ إلَى شَدِّ أَسْنَانِهِ بِالذَّهَبِ ؛ أَوْ اتَّخَذَ أَنْفًا مِنْ ذَهَبٍ وَنَحْوَ ذَلِكَ : جَازَ - كَمَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ - مَعَ أَنَّهُ ذَهَبٌ وَمَعَ أَنَّهُ مُفْرَدٌ .(1/409)
وَكَذَلِكَ لَوْ لَمْ يَجِدْ مَا يَشْرَبُهُ إلَّا فِي إنَاءِ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ جَاز لَهُ شُرْبُهُ وَلَوْ لَمْ يَجِدْ ثَوْبًا يَقِيهِ الْبَرْدَ أَوْ يَقِيهِ السِّلَاحَ أَوْ يَسْتُرُ بِهِ عَوْرَتَهُ إلَّا ثَوْبًا مِنْ حَرِيرٍ مَنْسُوجٍ بِذَهَبِ أَوْ فِضَّةٍ جَاز لَهُ لُبْسُهُ ؛ فَإِنَّ الضَّرُورَةَ تُبِيحُ أَكْلَ الْمَيْتَةِ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ بِنَصِّ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ مَعَ أَنَّ تَحْرِيمَ الْمَطَاعِمِ أَشَدُّ مِنْ تَحْرِيمِ الْمَلَابِسِ ؛ لِأَنَّ تَأْثِيرَ الْخَبَائِثِ بِالْمُمَازَجَةِ وَالْمُخَالَطَةِ لِلْبَدَنِ أَعْظَمُ مِنْ تَأْثِيرِهَا بِالْمُلَابَسَةِ وَالْمُبَاشَرَةِ لِلظَّاهِرِ وَلِهَذَا كَانَتْ النَّجَاسَاتُ الَّتِي تَحْرُمُ مُلَابَسَتُهَا يَحْرُمُ أَكْلُهَا وَيَحْرُمُ مِنْ أَكْلِ السُّمُومِ وَنَحْوِهَا مِنْ الْمَضَرَّاتِ مَا لَيْسَ بِنَجِسِ وَلَا يَحْرُمُ مُبَاشَرَتُهَا . ثُمَّ مَا حُرِّمَ لِخُبْثِ جِنْسِهِ أَشَدُّ مِمَّا حُرِّمَ لِمَا فِيهِ مِنْ السَّرَفِ وَالْفَخْرِ وَالْخُيَلَاءِ ؛ فَإِنَّ هَذَا يُحَرِّمُ الْقَدْرَ الَّذِي يَقْتَضِي ذَلِكَ مِنْهُ وَيُبَاحُ لِلْحَاجَةِ ؛ كَمَا أُبِيحَ لِلنِّسَاءِ لُبْسُ الذَّهَبِ وَالْحَرِيرِ لِحَاجَتِهِنَّ إلَى التَّزَيُّنِ ؛ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الرَّجُلِ وَأُبِيحَ لِلرَّجُلِ مِنْ ذَلِكَ الْيَسِيرُ كَالْعِلْمِ ؛ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا ثَبَتَ فِي السُّنَّةِ ؛ وَلِهَذَا كَانَ الصَّحِيحُ مِنْ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ جَوَازُ التَّدَاوِي بِهَذَا الضَّرْبِ دُونَ الْأَوَّلِ كَمَا { رَخَّصَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلزُّبَيْرِ وَطَلْحَةَ فِي لُبْسِ الْحَرِيرِ مِنْ حَكَّةٍ كَانَتْ بِهِمَا } .(1/410)
وَنَهَى عَنْ التَّدَاوِي بِالْخَمْرِ وَقَالَ : { إنَّهَا دَاءٌ وَلَيْسَتْ بِدَوَاءِ } وَنَهَى عَنْ الدَّوَاءِ الْخَبِيثِ ؛ وَنَهَى عَنْ قَتْلِ الضُّفْدَعِ لِأَجْلِ التَّدَاوِي بِهَا وَقَالَ : { إنَّ نَقْنَقَتَهَا تَسْبِيحٌ } وَقَالَ : { إنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَ أُمَّتِي فِيمَا حُرِّمَ عَلَيْهَا } وَلِهَذَا اُسْتُدِلَّ بِإِذْنِهِ للعرنيين فِي التَّدَاوِي بِأَبْوَالِ الْإِبِلِ وَأَلْبَانِهَا عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ الْخَبَائِثِ الْمُحَرَّمَةِ النَّجِسَةِ ؛ لِنَهْيِهِ عَنْ التَّدَاوِي بِمِثْلِ ذَلِكَ ؛ وَلِكَوْنِهِ لَمْ يَأْمُرْ بِغَسْلِ مَا يُصِيبُ الْأَبْدَانَ وَالثِّيَابَ وَالْآنِيَةَ مِنْ ذَلِكَ . وَإِذَا كَانَ الْقَائِلُونَ بِطَهَارَةِ أَبْوَالِ الْإِبِلِ تَنَازَعُوا فِي جَوَازِ شُرْبِهَا لِغَيْرِ الضَّرُورَةِ ؛ وَفِيهِ عَنْ أَحْمَد رِوَايَتَانِ مَنْصُوصَتَانِ : فَذَاكَ لِمَا فِيهَا مِنْ الْقَذَارَةِ الْمُلْحَقِ لَهَا بِالْمُخَاطِ وَالْبُصَاقِ وَالْمَنِيِّ ؛ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْمُسْتَقْذَرَاتِ الَّتِي لَيْسَتْ بِنَجِسَةٍ الَّتِي يُشْرَعُ النَّظَافَةُ مِنْهَا كَمَا يُشْرَعُ نَتْفُ الْإِبِطِ وَحَلْقُ الْعَانَةِ ؛ وَتَقْلِيمُ الْأَظْفَارِ ؛ وَإِحْفَاءُ الشَّارِبِ . وَلِهَذَا أَيْضًا كَانَ هَذَا الضَّرْبُ مُحَرَّمًا فِي بَابِ الْآنِيَةِ وَالْمَنْقُولَاتِ عَلَى الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ فَآنِيَةُ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ حَرَامٌ عَلَى الصِّنْفَيْنِ بِخِلَافِ التَّحَلِّي بِالذَّهَبِ وَلِبَاسِ الْحَرِيرِ فَإِنَّهُ مُبَاحٌ لِلنِّسَاءِ .(1/411)
وَبَابُ الْخَبَائِثِ بِالْعَكْسِ ؛ فَإِنَّهُ يُرَخَّصُ فِي اسْتِعْمَالِ ذَلِكَ فِيمَا يَنْفَصِلُ عَنْ بَدَنِ الْإِنْسَانِ مَا لَا يُبَاحُ إذَا كَانَ مُتَّصِلًا بِهِ كَمَا يُبَاحُ إطْفَاءُ الْحَرِيقِ بِالْخَمْرِ وَإِطْعَامُ الْمَيْتَةِ لِلْبُزَاةِ وَالصُّقُورِ ؛ وَإِلْبَاسُ الدَّابَّةِ الثَّوْبَ النَّجِسَ ؛ وَكَذَلِكَ الِاسْتِصْبَاحُ بِالدُّهْنِ النَّجِسِ فِي أَشْهَرِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ أَشْهَرُ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد وَهَذَا لِأَنَّ اسْتِعْمَالَ الْخَبَائِثِ فِيهَا يَجْرِي مَجْرَى الْإِتْلَافِ لَيْسَ فِيهِ ضَرَرٌ وَكَذَلِكَ فِي الْأُمُورِ الْمُنْفَصِلَةِ بِخِلَافِ اسْتِعْمَالِ الْحَرِيرِ وَالذَّهَبِ فَإِنَّ هَذَا غَايَةُ السَّرَفِ وَالْفَخْرِ وَالْخُيَلَاءِ . وَبِهَذَا يَظْهَرُ غَلَطُ مَنْ رَخَّصَ مِنْ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد وَغَيْرِهِمْ فِي إلْبَاسِ دَابَّتِهِ الثَّوْبَ الْحَرِيرَ ؛ قِيَاسًا عَلَى إلْبَاسِ الثَّوْبِ النَّجِسِ فَإِنَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ مَنْ يُجَوِّزُ افْتِرَاشَ الْحَرِيرِ وَوَطْأَهُ قِيَاسًا عَلَى الْمُصَوَّرَاتِ ؛ أَوْ مَنْ يُبِيحُ تَحْلِيَةَ دَابَّتِهِ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ قِيَاسًا عَلَى مَنْ يُبِيحُ إلْبَاسَهَا الثَّوْبَ النَّجِسَ فَقَدْ ثَبَتَ بِالنَّصِّ تَحْرِيمُ افْتِرَاشِ الْحَرِيرِ كَمَا ثَبَتَ تَحْرِيمُ لِبَاسِهِ . وَبِهَذَا يَظْهَرُ أَنَّ قَوْلَ مَنْ حَرَّمَ افْتِرَاشَهُ عَلَى النِّسَاءِ - كَمَا هُوَ قَوْلُ المراوزة مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ - أَقْرَبُ إلَى الْقِيَاسِ مِنْ قَوْلِ مَنْ أَبَاحَهُ لِلرِّجَالِ ؛ كَمَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ .(1/412)
وَإِنْ كَانَ الْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الِافْتِرَاشَ كَاللِّبَاسِ يَحْرُمُ عَلَى الرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ ؛ لِأَنَّ الِافْتِرَاشَ لِبَاسٌ كَمَا قَالَ أَنَسٌ : فَقُمْت إلَى حَصِيرٍ لَنَا قَدْ اسْوَدَّ مِنْ طُولِ مَا لُبِسَ . إذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ إبَاحَةِ التَّزَيُّنِ عَلَى الْبَدَنِ إبَاحَةُ الْمُنْفَصِلِ ؛ كَمَا فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فَإِنَّهُمْ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ اسْتِعْمَالَ ذَلِكَ حَرَامٌ عَلَى الزَّوْجَيْنِ : الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى . وَإِذَا تَبَيَّنَ الْفَرْقُ بَيْنَ مَا يُسَمِّيهِ الْفُقَهَاءُ فِي هَذَا الْبَابِ حَاجَةً وَمَا يُسَمُّونَهُ ضَرُورَةً : فَيَسِيرُ الْفِضَّةِ التَّابِعُ يُبَاحُ عِنْدَهُمْ لِلْحَاجَةِ كَمَا فِي حَدِيثِ أَنَسٍ : { إنَّ قَدَحَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا انْكَسَرَ شُعِّبَ بِالْفِضَّةِ } سَوَاءٌ كَانَ الشَّاعِبُ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ كَانَ هُوَ أَنَسًا . وَأَمَّا إنْ كَانَ الْيَسِيرُ لِلزِّينَةِ فَفِيهِ أَقْوَالٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ : التَّحْرِيمُ وَالْإِبَاحَةُ وَالْكَرَاهَةُ . قِيلَ : وَالرَّابِعُ : أَنَّهُ يُبَاحُ مِنْ ذَلِكَ مَا لَا يُبَاشَرُ بِالِاسْتِعْمَالِ وَهَذَا هُوَ الْمَنْصُوصُ عَنْهُ فَيُنْهَى عَنْ الضَّبَّةِ فِي مَوْضِعِ الشُّرْبِ دُونَ غَيْرِهِ وَلِهَذَا كُرِهَ حَلْقَةُ الذَّهَبِ فِي الْإِنَاءِ اتِّبَاعًا لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ فِي ذَلِكَ فَإِنَّهُ كَرِهَ ذَلِكَ وَهُوَ أَوْلَى مَا اُتُّبِعَ فِي ذَلِكَ .(1/413)
وَأَمَّا مَا يُرْوَى عَنْهُ مَرْفُوعًا : { مِنْ شُرْبٍ فِي إنَاءِ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ أَوْ إنَاءٍ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ } فَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ وَلِهَذَا كَانَ الْمُبَاحُ مِنْ الضَّبَّةِ إنَّمَا يُبَاحُ لَنَا اسْتِعْمَالُهُ عِنْدَ الْحَاجَةِ فَأَمَّا بِدُونِ ذَلِكَ ؟ قِيلَ : يُكْرَهُ . وَقِيلَ : يَحْرُمُ ؛ وَلِذَلِكَ كَرِهَ أَحْمَد الْحَلْقَةَ فِي الْإِنَاءِ اتِّبَاعًا لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ . وَالْكَرَاهَةُ مِنْهُ : هَلْ تُحْمَلُ عَلَى التَّنْزِيهِ أَوْ التَّحْرِيمِ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ لِأَصْحَابِهِ . وَهَذَا الْمَنْعُ هُوَ مُقْتَضَى النَّصِّ وَالْقِيَاسِ فَإِنَّ تَحْرِيمَ الشَّيْءِ مُطْلَقًا يَقْتَضِي تَحْرِيمَ كُلِّ جُزْءٍ مِنْهُ كَمَا أَنَّ تَحْرِيمَ الْخِنْزِيرِ وَالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ اقْتَضَى ذَلِكَ وَكَذَلِكَ تَحْرِيمُ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ يَقْتَضِي الْمَنْعَ مِنْ أَبْعَاضِ ذَلِكَ وَكَذَلِكَ النَّهْيُ عَنْ لُبْسِ الْحَرِيرِ اقْتَضَى النَّهْيَ عَنْ أَبْعَاضِ ذَلِكَ لَوْلَا مَا وَرَدَ مِنْ اسْتِثْنَاءِ مَوْضِعِ إصْبَعَيْنِ أَوْ ثَلَاثٍ أَوْ أَرْبَعٍ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ وَلِهَذَا وَقَعَ الْفَرْقُ فِي كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَلَامِ سَائِرِ النَّاسِ بَيْنَ بَابِ النَّهْيِ وَالتَّحْرِيمِ وَبَابِ الْأَمْرِ وَالْإِيجَابِ فَإِذَا نَهَى عَنْ شَيْءٍ نَهَى عَنْ بَعْضِهِ وَإِذَا أَمَرَ بِشَيْءِ كَانَ أَمْرًا بِجَمِيعِهِ .(1/414)
وَلِهَذَا كَانَ النِّكَاحُ حَيْثُ أَمَرَ بِهِ كَانَ أَمْرًا بِمَجْمُوعِهِ وَهُوَ الْعَقْدُ وَالْوَطْءُ وَكَذَلِكَ إذَا أُبِيحَ كَمَا فِي قَوْلِهِ : { فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ } { حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ } { وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ } { يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ مَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ } . وَحَيْثُ حُرِّمَ النِّكَاحُ كَانَ تَحْرِيمًا لِأَبْعَاضِهِ حَتَّى يَحْرُمَ الْعَقْدُ مُفْرَدًا وَالْوَطْءُ مُفْرَدًا كَمَا فِي قَوْلِهِ : { وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إلَّا مَا قَدْ سَلَفَ } وَكَمَا فِي قَوْلِهِ : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ } الْآيَةَ إلَى آخِرِهَا وَكَمَا فِي قَوْلِهِ : { لَا يَنْكِحْ الْمُحْرِمُ وَلَا يُنْكَحُ } وَنَحْوُ ذَلِكَ . وَلِهَذَا فَرَّقَ مَالِكٌ وَأَحْمَد - فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ - بَيْنَ مَنْ حَلَفَ لَيَفْعَلَنَّ شَيْئًا فَفَعَلَ بَعْضَهُ : أَنَّهُ لَا يَبَرُّ وَمَنْ حَلَفَ لَا يَفْعَلُ شَيْئًا فَفَعَلَ بَعْضَهُ : أَنَّهُ يَحْنَثُ . وَإِذَا كَانَ تَحْرِيمُ الذَّهَبِ وَالْحَرِيرِ عَلَى الرِّجَالِ وَآنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ عَلَى الزَّوْجَيْنِ يَقْتَضِي شُمُولَ التَّحْرِيمِ لِأَبْعَاضِ ذَلِكَ : بَقِيَ اتِّخَاذُ الْيَسِيرِ لِحَاجَةِ أَوْ مُطْلَقًا فَالِاتِّخَاذُ الْيَسِيرُ فِيهِ تَفْصِيلٌ ؛ وَلِهَذَا تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي جَوَازِ اتِّخَاذِ الْآنِيَةِ بِدُونِ اسْتِعْمَالِهَا فَرَخَّصَ فِيهِ أَبُو حَنِيفَةَ ؛ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَد فِي قَوْلٍ ؛ وَإِنْ كَانَ الْمَشْهُورُ عَنْهُمَا تَحْرِيمَهُ ؛ إذْ الْأَصْلُ أَنَّ مَا حَرُمَ اسْتِعْمَالُهُ حَرُمَ اتِّخَاذُهُ كَآلَاتِ الْمَلَاهِي .(1/415)
وَأَمَّا إنْ كَانَتْ الْفِضَّةُ التَّابِعَةُ كَثِيرَةً فَفِيهَا أَيْضًا قَوْلَانِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَفِي تَحْدِيدِ الْفَرْقِ بَيْنَ الْكَثِيرِ وَالْيَسِيرِ ؛ وَالتَّرْخِيصِ فِي لُبْسِ خَاتَمِ الْفِضَّةِ أَوْ تَحْلِيَةِ السِّلَاحِ مِنْ الْفِضَّةِ ؛ وَهَذَا فِيهِ إبَاحَةُ يَسِيرِ الْفِضَّةِ مُفْرَدًا ؛ لَكِنْ فِي اللِّبَاسِ وَالتَّحَلِّي وَذَلِكَ يُبَاحُ فِيهِ مَا لَا يُبَاحُ فِي بَاب الْآنِيَةِ كَمَا تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَى ذَلِكَ ؛ وَلِهَذَا غَلِطَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد ؛ حَيْثُ حَكَى قَوْلًا بِإِبَاحَةِ يَسِيرِ الذَّهَبِ تَبَعًا فِي الْآنِيَةِ عَنْ أَبِي بَكْرٍ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَأَبُو بَكْرٍ إنَّمَا قَالَ ذَلِكَ فِي بَابِ اللِّبَاسِ وَالتَّحَلِّي ؛ كَعَلَمِ الذَّهَبِ وَنَحْوِهِ . وَفِي يَسِيرِ الذَّهَبِ فِي ( بَابِ اللِّبَاسِ عَنْ أَحْمَد أَقْوَالٌ : أَحَدُهَا : الرُّخْصَةُ مُطْلَقًا ؛ لِحَدِيثِ مُعَاوِيَةَ { نَهَى عَنْ الذَّهَبِ إلَّا مُقَطَّعًا } وَلَعَلَّ هَذَا الْقَوْلَ أَقْوَى مِنْ غَيْرِهِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ . وَالثَّانِي : الرُّخْصَةُ فِي السِّلَاحِ فَقَطْ . وَالثَّالِثُ : فِي السَّيْفِ خَاصَّةً وَفِيهِ وَجْهٌ بِتَحْرِيمِهِ مُطْلَقًا ؛ لِحَدِيثِ أَسْمَاءَ { لَا يُبَاحُ الذَّهَبُ وَلَا خَرِيصَةٌ } وَالْخَرِيصَةُ عَيْنُ الْجَرَادَةِ لَكِنَّ هَذَا قَدْ يُحْمَلُ عَلَى الذَّهَبِ الْمُفْرَدِ دُونَ التَّابِعِ ؛ وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا مُحَرَّمٌ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ نَهَى عَنْ خَاتَمِ الذَّهَبِ ؛ وَإِنْ كَانَ قَدْ لَبِسَهُ مِنْ الصَّحَابَةِ مَنْ لَمْ يَبْلُغْهُ النَّهْيُ .(1/416)
وَلِهَذَا فَرَّقَ أَحْمَد وَغَيْرُهُ بَيْنَ يَسِيرِ الْحَرِيرِ مُفْرَدًا كَالتِّكَّةِ فَنَهَى عَنْهُ ؛ وَبَيَّنَ يَسِيرَهُ تَبَعًا كَالْعَلَمِ ؛ إذْ الِاسْتِثْنَاءُ وَقَعَ فِي هَذَا النَّوْعِ فَقَطْ . فَكَمَا يُفَرَّقُ فِي الرُّخْصَةِ بَيْنَ الْيَسِيرِ وَالْكَثِيرِ : فَيُفَرَّقُ بَيْنَ التَّابِعِ وَالْمُفْرَدِ وَيُحْمَلُ حَدِيثُ مُعَاوِيَةَ " إلَّا مُقَطَّعًا " عَلَى التَّابِعِ لِغَيْرِهِ وَإِذَا كَانَتْ الْفِضَّةُ قَدْ رُخِّصَ مِنْهَا فِي بَابِ اللِّبَاسِ وَالتَّحَلِّي فِي الْيَسِيرِ وَإِنْ كَانَ مُفْرَدًا : فَاَلَّذِينَ رَخَّصُوا فِي الْيَسِيرِ أَوْ الْكَثِيرِ التَّابِعِ فِي الْآنِيَةِ أَلْحَقُوهَا بِالْحَرِيرِ الَّذِي أُبِيحَ يَسِيرُهُ تَبَعًا لِلرِّجَالِ فِي الْفِضَّةِ الَّتِي أُبِيحَ يَسِيرُهَا مُفْرَدًا أَوَّلًا ؛ وَلِهَذَا أُبِيحَ - فِي أَحَدِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد - حِلْيَةُ الْمِنْطَقَةِ مِنْ الْفِضَّةِ وَمَا يُشْبِهُ ذَلِكَ مِنْ لِبَاسِ الْحَرْبِ كَالْخُوذَةِ ؛ وَالْجَوْشَنِ ؛ وَالرَّانّ ؛ وَحَمَائِلِ السَّيْفِ . وَأَمَّا تَحْلِيَةُ السَّيْفِ بِالْفِضَّةِ فَلَيْسَ فِيهِ هَذَا الْخِلَافُ وَاَلَّذِينَ مَنَعُوا قَالُوا : الرُّخْصَةُ وَقَعَتْ فِي بَابِ اللِّبَاسِ دُونَ بَاب الْآنِيَةِ ؛ وَبَابُ اللِّبَاسِ أَوْسَعُ كَمَا تَقَدَّمَ . وَقَدْ يُقَالُ : إنَّ هَذَا أَقْوَى ؛ إذْ لَا أَثَرَ فِي هَذِهِ الرُّخْصَةِ وَالْقِيَاسُ كَمَا تَرَى . وَأَمَّا الْمُضَبَّبُ بِالذَّهَبِ فَهَذَا دَاخِلٌ فِي النَّهْيِ ؛ سَوَاءٌ كَانَ قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا وَالْخِلَافُ الْمَذْكُورُ فِي الْفِضَّةِ مُنْتَفٍ هَاهُنَا لَكِنْ فِي يَسِيرِ الذَّهَبِ فِي الْآنِيَةِ وَجْهٌ لِلرُّخْصَةِ فِيهِ .(1/417)
وَأَمَّا التَّوَضُّؤُ وَالِاغْتِسَالُ مِنْ آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ : فَهَذَا فِيهِ نِزَاعٌ مَعْرُوفٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد لَكِنَّهُ مُرَكَّبٌ عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ بَلْ أَشْهُرُهُمَا عَنْهُ فِي الصَّلَاةِ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ ؛ وَاللِّبَاسِ الْمُحَرَّمِ كَالْحَرِيرِ وَالْمَغْصُوبِ وَالْحَجِّ بِالْمَالِ الْحَرَامِ ؛ وَذَبْحِ الشَّاةِ بِالسِّكِّينِ الْمُحَرَّمَةِ ؛ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا فِيهِ أَدَاءُ وَاجِبٍ وَاسْتِحْلَالُ مَحْظُورٍ فَأَمَّا عَلَى الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى الَّتِي يُصَحِّحُ فِيهَا الصَّلَاةَ وَالْحَجَّ وَيُبِيحَ الذَّبْحَ : فَإِنَّهُ يُصَحِّحُ الطَّهَارَةَ مِنْ آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ . وَأَمَّا عَلَى الْمَنْعِ فَلِأَصْحَابِهِ قَوْلَانِ : ( أَحَدُهُمَا : الصِّحَّةُ . كَمَا هُوَ قَوْلُ الخرقي وَغَيْرِهِ . و ( الثَّانِي : الْبُطْلَانُ . كَمَا هُوَ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ ؛ طَرْدًا لِقِيَاسِ الْبَابِ . وَاَلَّذِينَ نَصَرُوا قَوْلَ الخرقي أَكْثَرُ أَصْحَابِ أَحْمَد : فَرَّقُوا بِفَرْقَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْمُحَرَّمَ هُنَا مُنْفَصِلٌ عَنْ الْعِبَادَةِ ؛ فَإِنَّ الْإِنَاءَ مُنْفَصِلٌ عَنْ الْمُتَطَهِّرِ بِخِلَافِ لَابِسِ الْمُحَرَّمِ وَآكِلِهِ وَالْجَالِسِ عَلَيْهِ ؛ فَإِنَّهُ مُبَاشِرٌ لَهُ قَالُوا : فَأَشْبَهَ مَا لَوْ ذَهَبَ إلَى الْجُمْعَةِ بِدَابَّةٍ مَغْصُوبَةٍ .(1/418)
وَضَعَّفَ آخَرُونَ هَذَا الْفَرْقَ بِأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَغْمِسَ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ الْمُحَرَّمِ وَبَيْنَ أَنْ يَغْتَرِفَ مِنْهُ وَبِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَ الشَّارِبَ مِنْ آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ إنَّمَا يُجَرْجِرُ فِي بَطْنِهِ نَارَ جَهَنَّمَ وَهُوَ حِينَ انْصِبَابِ الْمَاءِ فِي بَطْنِهِ يَكُونُ قَدْ انْفَصَلَ عَنْ الْإِنَاءِ . وَالْفَرْقُ الثَّانِي - وَهُوَ أَفْقَهُ - : قَالُوا : التَّحْرِيمُ إذَا كَانَ فِي رُكْنِ الْعِبَادَةِ وَشَرْطِهَا أَثَّرَ فِيهَا كَمَا إذَا كَانَ فِي الصَّلَاةِ فِي اللِّبَاسِ أَوْ الْبُقْعَةِ . وَأَمَّا إذَا كَانَ فِي أَجْنَبِيٍّ عَنْهَا لَمْ يُؤَثِّرْ وَالْإِنَاءُ فِي الطَّهَارَةِ أَجْنَبِيٌّ عَنْهَا فَلِهَذَا لَمْ يُؤَثِّرْ فِيهَا . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
******************
وَسُئِلَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ أَقْوَامٍ لَمْ يُصَلُّوا وَلَمْ يَصُومُوا ، وَاَلَّذِي يَصُومُ لَمْ يُصَلِّ ، وَمَالُهُمْ حَرَامٌ ، وَيَأْخُذُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ ، وَيُكْرِمُونَ الْجَارَ وَالضَّعِيفَ ، وَلَمْ يُعْرَفْ لَهُمْ مَذْهَبٌ ، وَهُمْ مُسْلِمُونَ ؟
فَأَجَابَ :(1/419)
الْحَمْدُ لِلَّهِ . هَؤُلَاءِ وَإِنْ كَانُوا تَحْتَ حُكْمِ وُلَاةِ الْأُمُورِ فَإِنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَأْمُرُوهُمْ بِإِقَامَةِ الصَّلَاةِ ، وَيُعَاقَبُوا عَلَى تَرْكِهَا ، وَكَذَلِكَ الصِّيَامُ . وَإِنْ أَقَرُّوا بِوُجُوبِ الصَّلَاةِ الْخَمْسِ وَصِيَامِ رَمَضَانَ وَالزَّكَاةِ الْمَفْرُوضَةِ ؛ وَإِلَّا فَمَنْ لَمْ يُقِرَّ بِذَلِكَ فَهُوَ كَافِرٌ ، وَإِنْ أَقَرُّوا بِوُجُوبِ الصَّلَاةِ وَامْتَنَعُوا عَنْ إقَامَتِهَا عُوقِبُوا حَتَّى يُقِيمُوهَا ، وَيَجِبُ قَتْلُ كُلِّ مَنْ لَمْ يُصَلِّ إذَا كَانَ بَالِغًا عَاقِلًا عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ ، كَمَالِكِ ، وَالشَّافِعِيِّ ، وَأَحْمَد . وَكَذَلِك تُقَامُ عَلَيْهِمْ الْحُدُودُ . وَإِنْ كَانُوا طَائِفَةً مُمْتَنِعَةً ذَاتَ شَوْكَةٍ ؛ فَإِنَّهُ يَجِبُ قِتَالُهُمْ حَتَّى يَلْتَزِمُوا أَدَاءَ الْوَاجِبَاتِ الظَّاهِرَةِ وَالْمُتَوَاتِرَةِ : كَالصَّلَاةِ ، وَالصِّيَامِ . وَالزَّكَاةِ ، وَتَرْكِ الْمُحَرَّمَاتِ . كَالزِّنَا ، وَالرِّبَا ، وَقَطْعِ الطَّرِيقِ ، وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَمَنْ لَمْ يُقِرَّ بِوُجُوبِ الصَّلَاة وَالزَّكَاةِ فَإِنَّهُ كَافِرٌ يُسْتَتَابُ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ . وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ فَهُوَ كَافِرٌ أَكْفَرُ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى . وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ مِنْ الْكَبَائِرِ الْمُوجِبَةِ لِلنَّارِ .(1/420)