الخلاصة
في أحكام الحج والعمرة
جمع وإعداد
الباحث في القرآن والسنة
علي بن نايف الشحود
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين ـ ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .
أما بعد :
فإن الحج الركن الخامس من أركان الإسلام التي فرضها الله تعالى على عباده المؤممين ، بقوله تعالى : {..وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ } (97) سورة آل عمران
وبقوله - صلى الله عليه وسلم - : " بُنِىَ الإِسْلاَمُ عَلَى خَمْسٍ شَهَادَةِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ ، وَإِقَامِ الصَّلاَةِ ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ ، وَالْحَجِّ ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ "(1).
وهو مفروض في العمر مرة ً واحدةً ، فعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ " أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ الْحَجَّ فَحُجُّوا ". فَقَالَ رَجُلٌ أَكُلَّ عَامٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَسَكَتَ حَتَّى قَالَهَا ثَلاَثًا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - " لَوْ قُلْتُ نَعَمْ لَوَجَبَتْ وَلَمَا اسْتَطَعْتُمْ - ثُمَّ قَالَ - ذَرُونِى مَا تَرَكْتُكُمْ فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ وَاخْتِلاَفِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ فَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَىْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَىْءٍ فَدَعُوهُ " أخرجه مسلم(2).
__________
(1) - أخرجه البخاري برقم (8 ) ومسلم برقم (120)
(2) - برقم (3321 )(1/1)
وله أهداف كثيرة ، كما قال تعالى : { وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ (28) ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29) [الحج/27-29] }
فالحج مدرسة إيمانية عظيمة، يتلقى فيه المؤمنون الدروس العظيمة والفوائد الجليلة والعبر المفيدة في شتى مجالات الحياة.
والحج يطهر النفس، ويعيدها إلى الصفا والإخلاص، مما يؤدي إلى تجديد الحياة، ورفع معنويات الإنسان، وتقوية الأمل وحسن الظن بالله تعالى.
والحج يُقوِّي الإيمان، ويعين على تجديد العهد مع الله، ويساعد على التوبة الخالصة الصدوق.
والحج إظهار العبودية وشكر النعمة، وتعميق الأخوة الإيمانية..
والحج تربية على الاستسلام والخضوع لله تعالى وحده فيتربى العبد في الحج على الاستسلام والانقياد والطاعة المطلقة لله رب العالمين، سواء في أعمال الحج نفسها من: التجرد من المخيط والخروج من الزينة، والطواف والسعي، والوقوف، والرمي، والمبيت والحلق، أو التقصير وغيرها..وهو تعويد على النظام الانضباط..
والحج فتح باب الأمل لأهل المعاصي وتربيتهم على تركها ونبذها في تلك المشاعر ؛ حيث يتركون كثيرا من عاداتهم السيئة خلال فترة الحج وفي المشاعر.
والحج شعار الوحدة فإن الحج جعل الناس سواسية في لباسهم وأعمالهم وشعائرهم وقبلتهم وأماكنهم، فلافضل لأحد على أحد إلا بالتقوى والعمل الصالح.(1/2)
وللحج منافع وفوائد عظيمة، فهو مؤتمر عام للمسلمين، يستفيدون منه فوائد دينية، وتربوية وأخلاقية بالممارسة الفعلية للعلاقات الاجتماعية، وهو فرصة يتداول فيه المسلمون أوضاع بلادهم ، وشؤون شعوبهم ، وهمومهم وآمالهم ...
وواجب على كل مسلم يريد أداء فريضة الحج – ويريد العمرة كذلك – أن يتعلم أحكامهما ،بشكل صحيح ، حتى يؤدي هذه الفريضة على الوجه الأكمل ، الذي يحبه الله ويرضاه ، وحتى ينطبق عليه قوله - صلى الله عليه وسلم - : " مَنْ حَجَّ لِلَّهِ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ "أخرجه البخاري(1)
وقد جمعت ما يتعلق بأحكام الحج والعمرة من الموسوعة الفقهية ، وهي أوسع مرجع فقهي معاصر جمعت الفقه الإسلامي برمته ، دون تعصب لمذهب ، مشفوعاً بأدلته التفصيلية من الكتاب والسنة والإجماع والقياس ونحوها ...
وفي الحجِّ نحن بأمسِّ الحاجة للمذاهب جميعاً ، حيث إنَّ أحدها لا يمكن أن يفي بحاجة الحجاج والعمار ، ومن ثمَّ فيطلع الحاجُّ والمعتمر على المذاهب الأخرى – غير مذهبه – فيقلدها فيهما ، ولا حرج عليه في ذلك ، فهذا هو الراجح عند علماء الفقه والأصول(2)
وبالرغم من ميزاتها النادرة ، وقيمتها الفذة ، فعليها بعض الملاحظات منها :
? عدم الدقة في تخريج الأحاديث النبوية والحكم عليها
? عدم الدقة في نصوص الأحاديث النبوية في كثير من الأحيان
? العزو لمذهب فقهي من كتاب غير مشهور وترك المشهور أحيانًا وغير ذلك ....
وأما طريقة عملي في هذا الكتاب فهي كما يلي :
1. نقل النص كاملا من الموسوعة من أحدث طبعة لها ، ومشكلا
2. تخريج الأحاديث من مصادرها ، والحكم عليها إذا لم تكن في الصحيحين ، بما يناسبها جرحا وتعديلا ، دون تشدد ولا تساهل .
3. نقل نص الحديث ووضعه في الأصل لوجود أخطاء بنصوص الأحاديث في داخل الموسوعة
__________
(1) - برقم (1521 )
(2) -انظر تحقيقنا لكتاب رفع الملام عن الأئمة الأعلام(1/3)
4. الزيادة في نقل مصادر الفقه الإسلامي
5. التعليق على بعض الموضوعات بما يناسبها من شرح غريب أو ترجيح قول ، أو توضيح قول
هذا وقد فسمتها لثلاثة أبواب :
الباب الأول- الحث على الحج في القرآن والسنة
الباب الثاني – بعض فوائد الحج والعمرة
الباب الثالث – أحكام الحج
الباب الرابع – أحكام العمرة
البابٌ الخامس-الخلاصة في أحكام الزيارة
الباب السادس ... -أحكام المدينة المنورة وفضلها
أسأل الله تعالى أن ينفع به جامعه وقارئه وناشره في الدارين .
قال تعالى : {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ } (32) سورة الحج
جمعه وأعده
الباحث في القرآن والسنة
علي بن نايف الشحود
حمص في 17 ذو القعدة لعام 1428 هـ الموافق ل 26 /11/2007 م
وروجع مع تعديل بتاريخ 14 رجب 1429 هـ الموافق 17/7/2008م
- - - - - - - - - - - - -
البابُ الأولُ
الحثُّ على الحجِّ والعُمْرة ِفي القرآنِ والسنةِ
أولا
الحثُّ على الحجِّ في القرآن الكريم
قال تعالى : { إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ (158) } [البقرة/158، 159]
كَانَ الأَنْصَارُ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمُوا يُهِلُّونَ لِمَنَاةَ الطَّاغِيَةِ عِنْدَ المُشَلِّلِ ، وَكَانُوا يَتَحَرَّجُونَ أَنْ يَطُوفُوا بالصَّفَا والمَرْوَةِ ، فَسَأَلُوا النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ ذلِكَ ، وَقَالُوا : إِنَّنا كُنَّا نَتحَرَّجُ أَنْ نَطُوفَ بِالصَّفَا وَالمَرْوَةِ ، فِي الجَاهِلِيَّة ، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى هذِهِ الآيَةَ .(1/4)
وَقَدْ سَنَّ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - السَّعيَ بَيْنَ الصَّفَا وَالمَرْوَةِ ، فَلَيسَ لأَحَدٍ أَنْ يَتْرُكَ الطُّوافَ بِهِمَا سَبْعَةَ أَشْوَاطٍ . وَقَالَ الشَّعْبِيُّ كَانَ الصَّنَمُ ( أَسَاف ) عَلَى الصَّفَا ، وَكَانَتْ نَائِلَةُ ( صَنَمٌ ) عَلَى المَرْوَةِ ، وَكَانُوا يَسْتَلِمُونَهُمَا ، فَتَحَرَّجُوا بَعْدَ الإِسْْلامِ مِنَ الطَّوافِ بَيْنَهُما ، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى هذِهِ الآيَةَ . وَمَنْ تَطَوَّعَ للهِ فَزَادَ فِي طَوَافِهِ شَوْطاً ثَامِناً أوْ تَاسِعاً ، أَوْ مَنْ تَطَوَّعَ فِي عِبَادَتِهِ فَزَادَ فِي سَائِرِ العِبَادَاتِ ، فَإِنَّ اللهَ سَيُثِيبُهُ عَلَى ذلِكَ ، وَلاَ يَبْخَسُ أَحَداً ثَوَابَ عَمَلٍ عَمِلَهُ .
-------------------
و قال تعالى : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (189) } [البقرة/189، 190]
سَأَلَ بَعْضُ المُسْلِمينَ الرَّسُولَ - صلى الله عليه وسلم - عَنِ اخْتِلافِ الهِلاَلِ : يَكُونُ صَغِيراً فَيَكْبُرُ ، ثُمَّ يَعُودُ فَيَصْغُرُ . فَنَزَلَتْ هذِهِ الآيَةُ . وَفِيهَا يُجِيبُهُمُ اللهُ تَعَالَى : يَسْأَلُونَكَ عَنِ الحِكْمَةِ فِي اخْتِلافِ الأَهِلَّةِ وَفَائِدَتِهِ ، فَأَجِبْهُمْ : بِأَنَّهَا مَعَالِمُ للنَّاسِ ، يُوَقِّتُونَ بِهَا أُمُورَ دُنْيَاهُمْ ، فَيَعْلَمُونَ أَوْقَاتَ زُرُوعِهِمْ ، وَأَجَلَ عقُودِهِمْ ، وَهِيَ مَعَالِمُ لِلْعِبَادَاتِ المُوَقَّتَةِ ، فَيَعْرِفُونَ بِهَا أَوْقَاتَها كَالصِّيَامِ ، وَالإِفْطَارِ وَالحَجِّ . . وَلَوْ كَانَ الهِلاَلُ مُلاَزِماً حَالاً وَاحِداً لَمَا تَيَسَّرَ التَّوْقِيتُ بِهِ .(1/5)
وَكَانَ العَرَبُ إِذَا أَحْرَمُوا فِي الجَاهِلِيَّةِ أَتَوا البَيْتَ مِنْ ظَهْرِهِ ، وَقِيلَ أَيْضاً إِنَ أَحَدَهُمْ إِذا أَرَادَ سَفَراً وَخَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ لِسَفَرِهِ ، ثُمَّ بَدَا لَهُ بَعْدَ خُرُوجِهِ أَنْ يُقيمَ وَيَدَعَ السَّفَرَ ، لَمْ يَدْخُلْ بَيْتِهِ مِنْ بَابِهِ ، وَإِنَّمَا كَانَ يَتَسَوَّرُهُ مِنْ ظَهْرِهِ . فَأَمَرَهُمُ اللهُ تَعَالَى بِدُخُولِ البُيُوتِ مِنْ أَبْوابَها . وَيَقُولُ تَعَالَى لِلْمُؤْمِنينَ إِنَّ البِرَّ هُوَ التَّقْوَى ، وَلَيسَ فِي إِتْيانِ البُيُوتِ مِنْ ظُهُورِها بِرٌّ ، وَلاَ تَقْوَى . فَاتَّقُوا الله ، وَافْعَلُوا مَا أَمَرَكُمْ بِهِ ، وَاتْرُكُوا مَا نَهَاكُمْ عَنْهُ ، لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِذا وَقَفْتُمْ فِي الآخِرَةِ بَيْنَ يَدَيهِ لِلْحِسَابِ .
--------------------
وقال تعالى : { وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (196) } [البقرة/196](1/6)
يَأْمُرُ اللهُ تَعَالَى المُؤْمِنِينَ بِإِكْمَالِ أَفْعَالِ الحَجِّ وَالعُمْرَةِ ، بَعْدَ الشُّرُوعِ فِيهِما ، وَذلِكَ بِأَدَاءِ المَنَاسِكِ عَلَى وَجْهِهَا التَّامِ الصَّحِيحِ ، وَبِالإِخْلاَصِ للهِ تَعَالَى دُونَ قَصْدِ الكَسْبِ وَالتِّجَارَةِ . فَإِنْ مُنِعْتُمْ مِنَ الوُصُولِ إِلى البَيْتِ ( أُحْصِرْتُمْ ) وَتَعَذَّرَ عَلَيْكُمْ إِتْمَامُهَا ، بِسَبَبِ عَدُوٍّ أَوْ مَرَضٍ أَوْ غَيرِ ذلِكَ ، فَقَدْ رَخَّصَ اللهُ لَكُمْ بِأَنْ تَتَحَلَّلُوا مِنْ إِحْرَامِكُمْ ، بِأَنْ تَذْبَحُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الهَدْيِ ، ثُمَّ تَحْلقُوا رُؤُوسَكُمْ . أَمَّا الذِينَ لاَ يَعْتَرِضُهُمْ مَانِعٌ فَعَلَيهِمْ أَنْ يُتمُّوا أَفْعَالِ الحَجِّ وَالعُمْرَةِ . وَأَمَرَهُمُ اللهُ بِأَنْ لا يَحْلقُوا رُؤُوسَهُمْ حَتَّى يَفْرَغُوا مِنْ أَفْعَالِ الحَجِّ وَالعُمْرَةِ ، وَيَنْحَرُوا هَدْيَهُمْ فِي المَكَانِ الذِي يَحِلُّ فِيهِ ذَبْحُهُ ، وَهُوَ مَكَانُ الإِحْصَارِ أَوِ الكَعْبَةِ . فَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ مِنْ قُمَّلٍ وَغَيْرِهِ ، فَقَدْ أَبَاحَ اللهُ لَهُ حَلْقَ شَعْرِهِ قَبْلَ أَنْ يُتِمَّ أَفْعَالَ الحَجِّ وَالعُمْرَةِ ، عَلَى أَنْ يَفْتَدِيَ مِنْ ذلِكَ بِصِياَمِ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ، أَوْ إِطْعَامِ سِتَّةِ مَسَاكِينَ ، أَوْ ذَبْحِ شَاةٍ ( نُسُكٍ ) وَتَوْزِيعِ لَحْمِهَا عَلَى الفُقَرَاءِ . وَالمَرِيضُ مُخَيَّرٌ بِأَنْ يَفْعَلَ أَيَّها شَاءَ .(1/7)
فَإِذَا تَمَكَّنَ المُسْلِمُونَ مِنْ أَدَاءِ مَنَاسِكَهِمْ ( آمِنْتُمْ ) فَمَنْ كَانَ مُتَمَتِّعاً بِالعُمْرَةِ إِلى الحَجِّ ( أَيْ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَسْتَمْتِعَ وَيَنْتَقِلَ بِالتَّقَرُّبِ إِلَى اللهِ بِالعُمْرَةِ إِلَى وَقْتِ الانتِفَاعِ بِأَعْمَالِ الحَجِّ ) - وَهذا يَشْمَلُ مَنْ أَحْرَمَ بِهِمَا ، أَوْ أَحْرَمَ بِالعُمْرَةِ أَولاً ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْهَا أَحْرَمَ بِالحَجِّ - فَلْيَذْبَحْ مَا قَدِرَ عَلَيهِ مِنَ الهَدْيِ وَأَقَلُّهُ شَاةٌ ، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ هَدْياً ، أَوْ مَنْ لَمْ يَجِدْ ثَمَنَهُ ، فَلْيَصُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ فِي الحَجِّ ( أَيْ فِي المَنَاسِكِ ) ، وَالأَوْلَى أَنْ يَصُومَهَا قَبْلَ يَوْمِ عَرَفَةَ . وَمِنَ الفُقَهَاءِ مَنْ يُجِيزَ صَوْمَها مِنْ أَوَّلِ شَوَّالٍ ، ثُمَّ يَصُومُ سَبْعَةَ أَيَّامٍ إِذا رَجَعَ إَلَى أَهْلِهِ .
وَالتَّمَتُّعُ بِالعُمْرَةِ إِلَى الحَجِّ خَاصٌ بِأَهْلِ الآفَاقِ ، أَما أَهْلُ مَكَّةَ فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِمْ إِذا تَمَتَّعُوا . وَأَمَرَ اللهُ المُؤْمِنينَ بِالتَّقْوَى فِيمَا أَمْرَهُمْ بِهِ وَنَهَاهُمْ عَنْهُ ، وَأَعْلَمَهُمْ بِأَنَّه شَدِيدُ العِقَابِ لِمَنْ خَالَفَ أَمْرَهُ ، وَارْتَكَبَ مَا نَهَي عَنْهُ .
---------------------
وقال تعالى : { الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ (197) } [البقرة/197](1/8)
لأَدَاءِ فَرِيضَةِ الحَجِّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ لَدَى النَّاسِ هِيَ شَوَّال وَذُو القِعْدَةِ وَذُو الحِجَّةِ . فَلاَ يَنْبَغِي لأَحَدٍ أَنْ يُحرِمَ بِالحَجِّ إَلا فِي هذِهِ الشُّهُورِ . فَمَنْ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ حَجّاً بِإِحْرَامِهِ - وَالفَرَضُ هُنا هُو الإِحْرَامُ - فَعَليهِ أَنْ يَتَجَنَّبَ الجِمَاعَ وَدَواعِيَهُ ( الرَّفَثَ ) ، وَالمَعَاصِيَ ( الفُسُوقَ ) ، وَعَلَيهِ أَنْ يَتَجَنَّبَ الجِدَالَ وَالمُخَاصَمَةَ وَالمُلاحَاةَ فِي الحَجِّ . وَيَحُثُّ اللهُ المُؤْمِنِينَ عَلَى فِعْلِ الجَمِيلِ ، وَتَرْكِ الرَّفَثِ والفُسُوقِ وَالجِدَالِ ، لِتَصْفُوَ نُفُوسُهُمْ ، وَتَتَخَلَّى عَنِ الرَّذَائِلِ ، وَتَتَحَلَّى بِالفَضَائِلِ . ثُمَّ أَخْبَرَهُمْ تَعَالَى بِأَنَّهُ عَالِمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ ، وَأَنَّهُ سَيَجْزِيهِمْ عَلَيهِ الجَزَاءَ الأَوْفَى يَوْمَ القِيَامَةِ .
وَأَمَرَ اللهُ تَعَالَى المُؤْمِنِينَ . الذِينَ يُرِيْدُونَ الحَجَّ بِالتَّزَوُّدِ لِلطَّرِيقِ لِكَي يَكُفُّوا وُجُوهَهُمْ عَنْ سُؤَالِ النَّاسِ ، لأَنَّ أُناساً مِنْ أَهْلِ اليَمَنِ وَغَيْرِهِمْ كَانُوا يَحُجُّونَ مِنْ غَيرِ زَادٍ . وَأَعْلَمَهُمُ اللهُ تَعَالَى أَنَّ خَيْرَ زَادِ المُؤْمِنِ لِلآخِرَةِ هُوَ التَّقْوَى ، وَفِعْلُ الجَمِيلِ . ثُمَّ حَذَّرَ اللهُ ذَوِي العُقُولِ وَالأَفْهَامِ مِنْ عِقَابِهِ وَنَكَالِهِ لِمَنْ خَالَفَ أَمْرَ رَبِّهِ .
------------------
وقال تعالى : { إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96) فِيهِ آَيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آَمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (97) [آل عمران/96، 97] }(1/9)
إن أول بيت بُني لعبادة الله في الأرض لهو بيت الله الحرام الذي في "مكة"، وهذا البيت مبارك تضاعف فيه الحسنات، وتتنزل فيه الرحمات، وفي استقباله في الصلاة، وقصده لأداء الحج والعمرة، صلاح وهداية للناس أجمعين.
في هذا البيت دلالات ظاهرات أنه من بناء إبراهيم، وأن الله عظَّمه وشرَّفه، منها: مقام إبراهيم عليه السلام، وهو الحَجَر الذي كان يقف عليه حين كان يرفع القواعد من البيت هو وابنه إسماعيل، ومن دخل هذا البيت أَمِنَ على نفسه فلا يناله أحد بسوء. وقد أوجب الله على المستطيع من الناس في أي مكان قَصْدَ هذا البيت لأداء مناسك الحج. ومن جحد فريضة الحج فقد كفر، والله غني عنه وعن حجِّه وعمله، وعن سائر خَلْقه.
-----------------
وقال تعالى : { بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (1) فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ (2) وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (3) } [التوبة/1-3]
كَانَتْ هَذِهِ السُورَةُ مِنْ أَوَاخِرِ مَا نَزَلَ مِنَ القُرْآنِ ، وَلَمْ يَكْتُبِ الصَحَابَةُ البَسْمَلَةَ فِي أَوَّلِها ، اقْتِدَاءً بِعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ ، رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ، لأنَّهُ لَمْ يَعْرِفْ إِنْ كَانَتْ تَابِعَةً لِسُورَةِ الأَنْفَالِ أَوْ أَنَّهَا سُورَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ .(1/10)
وَأَوَّلُ هَذِهِ السُورَةِ نَزَلَ عَلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لمَّا رَجَعَ مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ ، وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ أَرْسَلَ الرَّسُولُ - صلى الله عليه وسلم - أبَا بَكْرٍ أَمِيراً لِلحَجِّ ، وَأتْبَعَهُ بِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ لِيَقْرأ عَلَى النَّاسِ سُورَةَ التَّوْبَةِ ، وَأَنْ يَطْلُبَ مِنَ المُشْرِكِينَ أَنْ لاَ يَحُجُّوا بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا .
وَيُعلِمُ تَعَالَى المُسْلِمِينَ أَنَّهُ وَرَسُولَهُ بَرِيئَانِ وَمُتَحَرِّرانِ مِنَ العُهُودِ ، التِي التَزَمَ بِهَا المُسْلِمُونَ مَعَ المُشْرِكِينَ
وَالرَّأيُ الرَّاجِحُ أَنَّ هَذِهِ البَرَاءَةَ هِيَ مِنَ العُهُودِ المُطْلَقَةِ غَيْرِ المُوَقَّتَةِ بِمُدَّةٍ مُعَينَةٍ ، وَمِنْ عُهُودِ أَهْلِ العُهُودِ الذِينَ ظَاهَرُوا عَلَى الرَّسُولِ - صلى الله عليه وسلم - ، وَنَقَضُوا عَهْدَهُمْ قَبْلَ انْقِضَاءِ مُدَّتِهِ ، لأنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِيمَا بَعْدُ ، إِنَّ الذِينَ تَقُومُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ المُسْلِمِينَ عُهُودٌ مُوَقَّتَةٌ ، ذَاتِ أَجَلٍ مُعَيَّن ، يَجِبُ أَنْ يُتِمَّ المُسْلِمُونَ لَهُمْ عَهْدَهُمْ إلَى مُدَّتِهِمْ ، إِذَا لَمْ يَكُونُوا قَدْ نَقَضُوا العَهْدَ ، وَظَاهَرُوا عَلَى المُسْلِمِينَ ، وَمَنْ كَانَ عَهْدَهُ دُونَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَيُكْمَلُ إِلَى أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ .(1/11)
حَدَّدَ اللهُ تَعَالَى لِلَّذِينَ عَاهَدُوا الرَّسُولَ - صلى الله عليه وسلم - ، وَلَمْ تَكُنْ لِعُهُودِهِمْ مُدَّةٌ مُعَيَّنَةٌ ، مُدَّةَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ يَسِيحُونَ خِلاَلَهَا فِي الأَرْضِ ، وَيَتَنَقَلُونَ كَيْفَ شَاؤُوا آمِنِينَ . أمَّا الذِينَ لَيْسَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الرَّسُولِ عَهْدٌ ، فَجَعَلَ مُدَّتَهُمْ انْسِلاَخَ الأَشْهُرِ الحُرُمِ ، فَإِذَا انْسَلَخَتْ الأَشْهُرُ الحُرُمُ ، وَلَمْ يُؤْمِنُوا ، وَضَعَ الرَّسُولُ فِيهِمُ السَيْفَ ، حَتَّى يَدْخُلُوا فِي الإِسْلاَمِ .
وَيُعْلِمُ اللهُ تَعَالَى هَؤُلاَءِ المُشْرِكِينَ أَنَّهُمْ ، أَيْنَمَا كَانُوا ، فَهُمْ خَاضِعُونَ لِسُلْطَانِهِ ، وَأَنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَهُ طَلَباً ، وَأَنَّهُ تَعَالَى قَدْ فَرَضَ الخِزْيَ عَلَى الذِينَ يَكْفُرُونَ بِهِ .
وَبَلاَغٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ - صلى الله عليه وسلم - ، وَإِنْذَارٌ إِلَى النَّاسِ ( أذَانٌ ) يَوْمَ عِيدِ النَّحْرِ ( لأنَّهُ أَكْبَرُ المَنَاسِكِ ، وَمَجْمَعُ النَّاسِ فِي الحَجِّ لِيَصِلَ إِلَيْهِمُ البَلاغُ ) ، أنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ المُشْرِكِينَ ، وَرَسُولُهُ بَرِيءٌ مِنْهُمْ أَيْضاً ، فَإِنْ تَابَ المُشْرِكُونَ وَانْتَهُوا عَمَّا هُمْ فِيهِ مِنَ الشِّرْكِ وَالضَّلاَلِ ، فَذَلِكَ خَيْرٌ لَهُمْ ، وَإِنْ أَصَرُّوا وَاسْتَمَرُّوا عَلَى مَا هُمْ فِيهِ ، فَلْيَعْلَمُوا أَنَّهُمْ لَيْسُوا بِمُعْجِزِي اللهِ الذِي هُوَ قَادِرٌ عَلَيْهِمْ ، وَهُمْ فِي قَبْضَتِهِ ، وَتَحْتَ قَهْرِهِ وَمَشِيئَتِهِ ، وَأَنَّهُمْ لَنْ يَفُوتُوهُ أَبَداً ، وَلَنْ يَجِدُوا مِنْهُ مَهْرَباً . وَيُهَدِّدُ اللهُ تَعَالَى الكَافِرِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً إِذَا اسْتَمَرُّوا فِي كُفْرِهِمْ .
-------------------(1/12)
وقال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (25) وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26) وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ (28) ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29) ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30) } [الحج/25-30]
إن الذين كفروا بالله، وكذبوا بما جاءهم به محمد - صلى الله عليه وسلم - ، ويمنعون غيرهم من الدخول في دين الله، ويصدون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين في عام "الحديبية" عن المسجد الحرام، الذي جعلناه لجميع المؤمنين، سواء المقيم فيه والقادم إليه، لهم عذاب أليم موجع، ومن يرد في المسجد الحرام الميْلَ عن الحق ظلمًا فيَعْصِ الله فيه، نُذِقْه مِن عذاب أليم موجع.(1/13)
واذكر- أيها النبي- إذ بَيَّنا لإبراهيم - عليه السلام- مكان البيت، وهيَّأناه له وقد كان غير معروف، وأمرناه ببنائه على تقوى من الله وتوحيده وتطهيره من الكفر والبدع والنجاسات ؛ ليكون رحابًا للطائفين به، والقائمين المصلين عنده.
وأعلِمْ- يا إبراهيم- الناس بوجوب الحج عليهم يأتوك على مختلف أحوالهم مشاةً وركبانًا على كل ضامر من الإبل، وهو:(الخفيف اللحم من السَّيْر والأعمال لا من الهُزال)، يأتين من كل طريق بعيد; ليحضروا منافع لهم من: مغفرة ذنوبهم، وثواب أداء نسكهم وطاعتهم، وتكَسُّبِهم في تجاراتهم، وغير ذلك؛ وليذكروا اسم الله على ذَبْح ما يتقربون به من الإبل والبقر والغنم في أيام معيَّنة هي: عاشر ذي الحجة وثلاثة أيام بعده; شكرًا لله على نعمه، وهم مأمورون أن يأكلوا مِن هذه الذبائح استحبابًا، ويُطعموا منها الفقير الذي اشتد فقره.
ثم ليكمل الحجاج ما بقي عليهم من النُّسُك، بإحلالهم وخروجهم من إحرامهم، وذلك بإزالة ما تراكم مِن وسخ في أبدانهم، وقص أظفارهم، وحلق شعرهم، وليوفوا بما أوجبوه على أنفسهم من الحج والعمرة والهدايا، وليطوفوا بالبيت العتيق القديم، الذي أعتقه الله مِن تسلُّط الجبارين عليه، وهو الكعبة.
ذلك الذي أمر الله به مِن قضاء التفث والوفاء بالنذور والطواف بالبيت، هو ما أوجبه الله عليكم فعظِّموه، ومن يعظم حرمات الله، ومنها مناسكه بأدائها كاملة خالصة لله، فهو خير له في الدنيا والآخرة. وأحلَّ الله لكم أَكْلَ الأنعام إلا ما حرَّمه فيما يتلى عليكم في القرآن من الميتة وغيرها فاجتنبوه، وفي ذلك إبطال ما كانت العرب تحرِّمه من بعض الأنعام، وابتعِدوا عن القذارة التي هي الأوثان، وعن الكذب الذي هو الافتراء على الله.(1/14)
وما يزال وعد الله يتحقق منذ إبراهيم عليه السلام إلى اليوم والغد . وما تزال أفئدة من الناس تهوى إلى البيت الحرام؛ وترف إلى رؤيته والطواف به . . الغني القادر الذي يجد الظهر يركبه ووسيلة الركوب المختلفة تنقله؛ والفقير المعدم الذي لا يجد إلا قدميه . وعشرات الألوف من هؤلاء يتقاطرون من فجاج الأرض البعيدة تلبية لدعوة الله التي أذن بها إبراهيم عليه السلام منذ آلاف الأعوام .
فبيَّن سبحانه في هذه الآية الكريمة أنه شرع الحج لعبادة وفرضه عليهم لينالوا به فوائد عظيمة ومنافع جسيمة، منها ما يعرفونه ومنها ما يجهلونه، وجاءت المنافع في الآية منكرة دليلاً على فخامتها وكثرتها وتنوعها وتجددها في كل زمان، وأنها أكثر من أن يأتي عليها الإحصاء والاستقصاء.
وهذه المنافع والفوائد متنوعة مختلفة: فمنها: الدنيوية، ومنها الدينية، ومنها الخاص بالأفراد، ومنها العام للأمة جمعاء، قال الإمام ابن جرير رحمه الله تعالى في تفسيره (16-522) بعدما ذكر ثلاثة أقوال في معنى المنافع المذكورة في الآية الكريمة وهي:
- التجارة ومنافع الدنيا. - الأجر في الآخرة والتجارة في الدنيا. - العفو والمغفرة.
قال بعد ذلك: (وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: عنى بذلك ليشهدوا منافع لهم من العمل الذي يرضي الله، والتجارة، وذلك أن الله عم (منافع لهم) جميع ما شهد له الموسم، ويؤتى له مكة أيام الموسم، من منافع الدنيا والآخرة، ولم يخصص من ذلك شيئاً من منافعهم بخبر ولا عقل، فذلك على العموم في المنافع التي وصفت).
وقال القرطبي رحمه الله تعالى في تفسيره أيضاً (12-14): (منافع لهم) أي المناسك، كعرفات، والمشعر الحرام. وقيل: المغفرة. وقيل: التجارة وقيل: هو عموم، أي: ليحضروا منافع لهم، أي: ما يرضي الله تعالى من أمر الدنيا والآخرة، قاله مجاهد وعطاء واختاره ابن العربي، فإنه يجمع ذلك كله من نسك، وتجارة، ومغفرة، ومنفعة دنيا وأخرى.(1/15)
ونحن نشير في هذه الكلمات الوجيزات إلى شيء من هذه المنافع المستفادة من كلام العلماء ومن تأمل الواقع المشاهد فإنه خير شاهد.. فمن هذه المنافع:
- حصول التقوى: وهي غاية كل أمر وجماع كل خير، والحج فرصة كبرى للتزود منها والوصول إلى أعلى مقاماتها، ومن تأمل آيات الحج رأى تكراراً وتأكيداً للحض على التقوى في أثناء التقلب في أداء المناسك، قال الله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ} (197) سورة البقرة، وقال سبحانه: {لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ ) (37) سورة الحج، وقال: (ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ} (32) سورة الحج، وقال:{وَاذْكُرُواْاللّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} (203) سورة البقرة. وهذه التقوى تحصل بفعل المناسك والتقرب إلى الله بأنواع القربات، ويبقى أثرها مستمراً مع العبد متى ما كان صادقاً مخلصاً لله، بتوفيق الله وفضله، وهذه من أجل المنافع وأكبر الفوائد لمن وفقه الله ومن عليه بقبول حجه ومناسكه.
ومنها: مغفرة الذنوب والخطايا حتى يرجع الحاج إلى أهله نقياً طاهراً، فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من حج فلم يرفث ولا يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه). متفق على صحته، والرفث: هو الجماع حال الإحرام، والفسوق: يدخل فيه جميع المعاصي.(1/16)
ومنها: العتق من النار، فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبداً من النار من يوم عرفة) خرجه مسلم في صحيحه.
ومنها: الفوز بالجنة فإذا تفضل الرب جل وعلا وقبل حج عبده فإنه قد وعده على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم بأن ثوابه الجنة، فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة). متفق على صحته.
ومنهاالحج المبرور هو ما خلا من المآثم وكان خالصاً لله تعالى ومن نفقة حلال.
ومنها: الحصول على الأجور العظيمة والثواب الجزيل على فعل كثير من الطاعات التي لا يمكن فعلها في غير تلك البقاع المقدسة كتضعيف أجر الصلوات فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام، وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة ألف صلاة فيما سواه) رواه الإمام أحمد وابن ماجه وغيرهما.
والطواف بالكعبة فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من طاف بالبيت وصلى ركعتين كان كمن أعتق رقبة) رواه ابن ماجه.
واستلام الركنين، فقد جاء عن ابن عبيد بن عمير بن عمر كان يزاحم على الركنين زحاماً ما رأيت أحداً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يفعله. فقلت: يا أبا عبدالرحمن إنك تزاحم على الركنين زحاماً ما رأيت أحداً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يزاحم عليه. فقال: إن أفعل فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن مسحهما كفارة للخطايا) وسمعته يقول: (من طاف بهذا البيت أسبوعاً فأحصاه كان كعتق رقبة). وسمعته يقول: (لا يضع قدماً ولا يرفع أخرى إلا حط الله عنه خطيئته وكتب له بها حسنة) أخرجه أحمد والترمذي وحسنه وابن خزيمة وابن حبان وغيرهم.(1/17)
ومنها: إقامة ذكر الله وكثرة دعائه وتعويد النفس على ذلك وترويضها في أثناء الحج لتستمر بعد الحج عليه، فالحج من أوله إلى آخره ذكر ودعاء في حال السفر والإقامة وقبل العبادات وبعدها وعلى كل حال، ومن لازم الذكر في حياته وصل إلى أعلى الدرجات وأرفع المقامات كما جاء ذلك في آيات وأحاديث عديدة وفي خصوص الحج قال الله تعالى:{ فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُواْ اللّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا}(200) سورة البقرة، وقال سبحانه: {وَاذْكُرُواْ اللّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَات} (203) سورة البقرة، وقال جل وعلا:{ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَات}(27) سورة الحج، وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إنما جعل الطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة وذكر الله) رواه الإمام وأبو داود.
فكم من دعوة أجيبت، وكم من كربة نفست، وكم من عثرة أقيلت في تلك البقاع الشريفة والمناسك المنيفة.(1/18)
ومنها: ما يشهده الحاج من توجه القلوب إلى الله تعالى والإقبال عليه والإكثار من ذكره وإظهار توحيده بالتلبية وغيرها، وهذا يتضمن الإخلاص لله في العبادة وتعظيم حرماته والسعي في كل ما يقرب إليه والبعد عن كل ما يوصل إلى غضبه وسخطه وتحقيق معنى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله عقيدة وقولاً وعملاً، فالشهادة الأولى فيها تجريد العبادة لله وحده بجميع أنواعها من رغبة ورهبة وخوف ورجاء ودعاء واستعانة وغيرها، والشهادة الثانية فيها تجريد المتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم ومحبته وتصديق أخباره وطاعة أوامره وترك نواهيه وأن لا يعبد الله إلا بما شرع، وتحقيق الشهادتين في الحج واضح جلي لمن تمعن وتبصر في أحوال المناسك والعبادات التي يؤديها وهذا من أعظم الفوائد والعوائد التي يجنيها العبد من حجه، فهو يتعبد لله وحده لا شريك له في هذا العمل، ويتبع فيه هدى النبي صلى الله عليه وسلم الذي قال: (لتأخذوا عني مناسككم) خرجه مسلم في صحيحه، فواجب على العبد بعد حجه ألا ينقض عهده مع ربه فيقع في الشرك والبدعة والخرافة بعد أن أراه وأذاقه حلاوة التوحيد والإخلاص لله سبحانه والاتباع للنبي صلى الله عليه وسلم.
ومنها: أن الحج يذكر بالآخرة ووقوف العباد بين يدي الله يوم القيامة لأن المشاعر تجمع الناس في زي واحد مكشوفي الرؤوس متجردين من ثيابهم وملذاتهم الدنيوية وهم من سائر البقاع والأجناس قد اجتمعوا في صعيد واحد ملبين دعوة الله، وهذا المشهد يشبه وقوفهم بين يدي الله يوم القيامة في صعيد واحد خائفين وجلين مشفقين، قد لبوا دعوة الله وقاموا من قبورهم ليوم الحساب، وذلك مما يبعث في نفس الحاج خوف الله ومراقبته والإخلاص له في العمل والاستعداد ليوم المعاد واستصغار الحياة الدنيا وعدم الاستغراق فيها فيكون حاله بعد حجه أحسن منه قبله ويشمر عن ساعد الجد لعمل الآخرة بقية عمره.(1/19)
ومنها: ما يحصل من الانتفاع بلحوم الهدايا والضحايا والتمتع بذلك وإطعام الفقراء والمحتاجين. قال الله تعالى:{ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ}(27) سورة الحج.
ومنها: ما يحصل من المكاسب والأرباح من جراء التجارة المباحة في الحج وتبادل السلع والمنتوجات المجلوبة من جميع أقطار المسلمين وفي هذا من تحريك السوق الإسلامية وانتعاش الاقتصاد ما هو ظاهر، قال الله تعالى:{لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ} (198) سورة البقرة، قال القرطبي في تفسيره (12-41): (لا خلاف في أن المراد بقوله: ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم) التجارة.
ومنها: جاء التخلص من الفقر وحصول الغنى في أداء هذه العبادة العظيمة فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (تابعوا بين الحج والعمرة فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة) خرجه الإمام أحمد والترمزي والنسائي.
ومنها: ما يحصل في موسم الحج من إعانة المحتاجين ومساعدة المعوزين وتعليم الجاهلين وهداية الضالين والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبذل النصيحة، والدعوة والعلم لكل أحد وفي كل وقت وحين، فيحصل بذلك من انتفاع الحجاج وتبصرهم في دينهم وسد حاجاتهم الحسية والمعنوية ما هو من أكبر العوائد وأجل المنافع في هذه الرحلة المباركة لهذه البقاع الشريفة.
ومنها: أن الحج من أعظم وسائل التعارف بين الشعوب الإسلامية واتصالها ببعض على اختلاف أجناسها ولغاتها وهذا الاجتماع والتعارف موجب لتقوية أواصر التآخي بين المسلمين والإحساس بوحدة العقيدة والآمال والمصير، وهذا داع للتعاون والاشتراك في تحقيق مصالح الدنيا والدين ونصرة المستضعفين وإغاثة الملهوفين وحل مشكلات المسلمين.(1/20)
ومنها: تجديد الصلة بإمام الملة الحنيفية أبي الأنبياء وسيد الحنفاء إبراهيم عليه السلام، ومشاهدة الآيات البينات والمقامات الشريفات التي قامها لله مخلصاً له الدين (وفي تلقي عقيدة توحيد الله بطريق المشاهدة للهيكل الذي أقيم لذلك حتى يرسخ معنى التوحيد في النفوس، لأن للنفوس ميلا إلى المحسوسات ليتقوى الإدراك العقلي بمشاهدة المحسوس) قال ابن عاشور في تفسيره (17-243). وفي ذلك أيضاً من تقوية الإيمان والربط على القلوب والاعتزاز بالانتماء إلى إمام الموحدين والانتصار على أهواء النفوس ما لا تستطيع أن تعبر عنه الكلمات، فالحج عرضة سنوية للملة على مستوى الفرد وعلى مستوى جماعة المسلمين يمكن من خلال هذا العرض تصحيح الأخطاء والفساد والتحريف الواقع في الحياة ورد ذلك كله إلى النهج الصحيح والطريق القويم المتركز على توحيد الله جل وعلا وبناء الحياة كلها عليه وفق شريعة خاتم الأنبياء والمرسلين ومجدد ملة إبراهيم نبينا محمد عليهم جميعا أفضل الصلاة والتسليم، وبهذا تستطيع الأمة أن تحافظ على وحدتها الدينية والثقافية.
وينبغي للمسلم أن يستحضر عند التوجه لأداء هذه العبادة وفي أثنائها ما استطاع من تلك المنافع والمقاصد ليؤدي هذه العبادة على الوجه الأكمل لينال بذلك أكبر الفوائد وأجزل العوائد وليبقى أثرها على قلبه وجوارحه مدة حياته، فلا يكفي أداء هذه المناسك أداء صورياً لا يعقل المسلم منها قليلاً ولا كثيراً، فهذا ما لا يليق بالمسلم، وفهم مقاصد الحج وتحقيق منافعه من الفقه المطلوب ومن يرد الله به خيراً يفقهه في الدين.(1)
- - - - - - - - - - - - - -
ثانيا
الحثُّ على الحجِّ والعُمْرةِ في السنَّة النبويةِ
__________
(1) - http://www.ishraqa.com/newlook/art_det.asp?ArtID=1608&Cat_ID=31(1/21)
عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رضى الله عنهما - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :" بُنِىَ الإِسْلاَمُ عَلَى خَمْسٍ شَهَادَةِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ ، وَإِقَامِ الصَّلاَةِ ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ ، وَالْحَجِّ ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ " متفق عليه(1).
وعَنْ عَلِىِّ بْنِ أَبِى طَالِبٍ قَالَ لَمَّا نَزَلَتْ (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفِى كُلِّ عَامٍ فَسَكَتَ. فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفِى كُلِّ عَامٍ قَالَ " لاَ وَلَوْ قُلْتُ نَعَمْ لَوَجَبَتْ ". فَأَنْزَلَ اللَّهُ :(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ ).أخرجه الترمذي(2)
وعَنْ عَلِىٍّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - " مَنْ مَلَكَ زَادًا وَرَاحِلَةً تُبَلِّغُهُ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ وَلَمْ يَحُجَّ فَلاَ عَلَيْهِ أَنْ يَمُوتَ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ يَقُولُ فِى كِتَابِهِ (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) ".(3)
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: " لاَ صَرُورَةَ فِى الإِسْلاَمِ "(4).
و عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :" مَنْ أَرَادَ الْحَجَّ فَلْيَتَعَجَّلْ "(5).
__________
(1) -صحيح البخارى برقم (8 ) وصحيح مسلم برقم (121)
(2) - برقم (819 ) صحيح لغيره
(3) - سنن الترمذى برقم (817 )وفيه ضعف
(4) - مسند أحمد برقم (2899) وسنن أبى داود برقم (1731) وهو حديث حسن و لاحجة لمن ضعفه
صرورة : التبتل وترك النكاح
(5) - سنن أبى داود برقم (1734 ) وهو حديث حسن(1/22)
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - سُئِلَ أَىُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ فَقَالَ " إِيمَانٌ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ " . قِيلَ ثُمَّ مَاذَا قَالَ " الْجِهَادُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ " . قِيلَ ثُمَّ مَاذَا قَالَ " حَجٌّ مَبْرُورٌ "(1).
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - " مَنْ طَافَ بِالْبَيْتِ خَمْسِينَ مَرَّةً خَرَجَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ "(2).
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ " الْعُمْرَةُ إِلَى الْعُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا ، وَالْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلاَّ الْجَنَّةُ "(3)
__________
(1) - صحيح البخارى برقم (26 ) ومسلم برقم (262 )
(2) -سنن الترمذى برقم (876) صحيح
(3) - صحيح البخارى برقم (1773 )(1/23)
وعَنِ ابْنِ شَمَاسَةَ الْمَهْرِىِّ قَالَ حَضَرْنَا عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ وَهُوَ فِى سِيَاقَةِ الْمَوْتِ. فَبَكَى طَوِيلاً وَحَوَّلَ وَجْهَهُ إِلَى الْجِدَارِ فَجَعَلَ ابْنُهُ يَقُولُ يَا أَبَتَاهُ أَمَا بَشَّرَكَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِكَذَا أَمَا بَشَّرَكَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِكَذَا قَالَ فَأَقْبَلَ بِوَجْهِهِ. فَقَالَ إِنَّ أَفْضَلَ مَا نُعِدُّ شَهَادَةُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ إِنِّى قَدْ كُنْتُ عَلَى أَطْبَاقٍ ثَلاَثٍ لَقَدْ رَأَيْتُنِى وَمَا أَحَدٌ أَشَدَّ بُغْضًا لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنِّى وَلاَ أَحَبَّ إِلَىَّ أَنْ أَكُونَ قَدِ اسْتَمْكَنْتُ مِنْهُ فَقَتَلْتُهُ فَلَوْ مُتُّ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ لَكُنْتُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَلَمَّا جَعَلَ اللَّهُ الإِسْلاَمَ فِى قَلْبِى أَتَيْتُ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقُلْتُ ابْسُطْ يَمِينَكَ فَلأُبَايِعْكَ. فَبَسَطَ يَمِينَهُ - قَالَ - فَقَبَضْتُ يَدِى. قَالَ " مَا لَكَ يَا عَمْرُو ". قَالَ قُلْتُ أَرَدْتُ أَنْ أَشْتَرِطَ.(1/24)
قَالَ " تَشْتَرِطُ بِمَاذَا ". قُلْتُ أَنْ يُغْفَرَ لِى. قَالَ " أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الإِسْلاَمَ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ وَأَنَّ الْهِجْرَةَ تَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهَا وَأَنَّ الْحَجَّ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ ". وَمَا كَانَ أَحَدٌ أَحَبَّ إِلَىَّ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَلاَ أَجَلَّ فِى عَيْنِى مِنْهُ وَمَا كُنْتُ أُطِيقُ أَنْ أَمْلأَ عَيْنَىَّ مِنْهُ إِجْلاَلاً لَهُ وَلَوْ سُئِلْتُ أَنْ أَصِفَهُ مَا أَطَقْتُ لأَنِّى لَمْ أَكُنْ أَمْلأُ عَيْنَىَّ مِنْهُ وَلَوْ مُتُّ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ لَرَجَوْتُ أَنْ أَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ ثُمَّ وَلِينَا أَشْيَاءَ مَا أَدْرِى مَا حَالِى فِيهَا فَإِذَا أَنَا مُتُّ فَلاَ تَصْحَبْنِى نَائِحَةٌ وَلاَ نَارٌ فَإِذَا دَفَنْتُمُونِى فَشُنُّوا عَلَىَّ التُّرَابَ شَنًّا ثُمَّ أَقِيمُوا حَوْلَ قَبْرِى قَدْرَ مَا تُنْحَرُ جَزُورٌ وَيُقْسَمُ لَحْمُهَا حَتَّى أَسْتَأْنِسَ بِكُمْ وَأَنْظُرَ مَاذَا أُرَاجِعُ بِهِ رُسُلَ رَبِّى.(1)
وعَنِ الْحُسَيْنِ بن عَلِيًّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ ، قَالَ :جَاءَ رَجُلٌ إِلَى إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، فَقَالَ : إِنِّي جَبَانٌ ، وَإِنِّي ضَعِيفٌ ، قَالَ : " هَلُمَّ إِلَى جِهَادٍ لا شَوْكَةَ فِيهِ ، الْحَجُّ ".(2)
__________
(1) -صحيح مسلم برقم ( 336 )
السياقة : حال حضور الموت = الأطباق : أحوال واحدها طبق
(2) -المعجم الكبير للطبراني - (ج 3 / ص 221) برقم ( 2841) صحيح(1/25)
وعَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ - رضى الله عنها - قَالَتْ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلاَ نَغْزُوا وَنُجَاهِدُ مَعَكُمْ فَقَالَ " لَكُنَّ أَحْسَنُ الْجِهَادِ وَأَجْمَلُهُ الْحَجُّ ، حَجٌّ مَبْرُورٌ " . فَقَالَتْ عَائِشَةُ فَلاَ أَدَعُ الْحَجَّ بَعْدَ إِذْ سَمِعْتُ هَذَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - .(1)
وعَنْ عَائِشَةَ ابْنَةِ طَلْحَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ عَلَى النِّسَاءِ مِنْ جِهَادٍ قَالَ " نَعَمْ عَلَيْهِنَّ جِهَادٌ لاَ قِتَالَ فِيهِ الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ "(2).
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ إِنْ كَانَ قَالَهُ " جِهَادُ الْكَبِيرِ وَالضَّعِيفِ وَالْمَرْأَةِ الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ ".(3)
وعَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمَرَ قَالَ قُلْتُ لاِبْنِ عُمَرَ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ إِنَّ أَقْوَامًا يَزْعُمُونَ أَنْ لَيْسَ قَدَرٌ.
__________
(1) -صحيح البخارى برقم (1861 )
(2) - مسند أحمد برقم (26064) صحيح
(3) -مسند أحمد برقم ( 9691) والسنن الكبرى للإمام النسائي الرسالة - (ج 3 / ص 30)برقم)(3592) وهو صحيح لغيره(1/26)
قَالَ هَلْ عِنْدَنَا مِنْهُمْ أَحَدٌ قُلْنَا لاَ. قَالَ فَأَبْلِغْهُمْ عَنِّى إِذَا لَقِيتَهُمْ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ بَرِئَ إِلَى اللَّهِ مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مِنْهُ بَرَاءٌ سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ بَيْنَمَا نَحْنُ جُلُوسٌ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِى أُنَاسٍ إِذْ جَاءَ رَجُلٌ لَيْسَ عَلَيْهِ سَحْنَاءُ سَفَرٍ وَلَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْبَلَدِ يَتَخَطَّى حَتَّى وَرِكَ فَجَلَسَ بَيْنَ يَدَىْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَمَا يَجْلِسُ أَحَدُنَا فِى الصَّلاَةِ ثُمَّ وَضَعَ يَدَهُ عَلَى رُكْبَتَىْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ مَا الإِسْلاَمُ قَالَ " الإِسْلاَمُ أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَأَنْ تُقِيمَ الصَّلاَةَ وَتُؤْتِىَ الزَّكَاةَ وَتَحُجَّ وَتَعْتَمِرَ وَتَغْتَسِلَ مِنَ الْجَنَابَةِ وَتُتِمَّ الْوُضُوءَ وَتَصُومَ رَمَضَانَ " قَالَ فَإِنْ فَعَلْتُ هَذَا فَأَنَا مُسْلِمٌ قَالَ " نَعَمْ ". قَالَ صَدَقْتَ. وَذَكَرَ بَاقِى الْحَدِيثِ وَقَالَ فِى آخِرِهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - " عَلَىَّ بِالرَّجُلِ ". فَطَلَبْنَاهُ فَلَمْ نَقْدِرْ عَلَيْهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - " هَلْ تَدْرُونَ مَنْ هَذَا هَذَا جِبْرِيلُ أَتَاكُمْ يُعَلِّمُكُمْ دِينَكُمْ فَخُذُوا عَنْهُ فَوَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ مَا شُبِّهَ عَلَىَّ مُنْذُ أَتَانِى قَبْلَ مَرَّتِى هَذِهِ وَمَا عَرَفْتُهُ حَتَّى وَلَّى ".(1)
__________
(1) - سنن الدارقطنى2/283 برقم (2740 ) وقال :إِسْنَادٌ ثَابِتٌ صَحِيحٌ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ بِهَذَا الإِسْنَادِ .(1/27)
وعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - " الْحَجُّ جِهَادُ كُلِّ ضَعِيفٍ ".(1)
وعَنْ مَاعِزٍ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ سُئِلَ أَىُّ الأَعْمَالِ أَفْضَلُ قَالَ " الإِيمَانُ بِاللَّهِ وَحْدَهُ ثُمَّ الْجِهَادُ ثُمَّ حَجَّةٌ بَرَّةٌ تَفْضُلُ سَائِرَ الْعَمَلِ كَمَا بَيْنَ مَطْلَعِ الشَّمْسِ إِلَى مَغْرِبِهَا ".(2)
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - " الْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلاَّ الْجَنَّةُ وَالْعُمْرَتَانِ أَوِ الْعُمْرَةُ إِلَى الْعُمْرَةِ يُكَفَّرُ مَا بَيْنَهُمَا "(3).
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - " تَابِعُوا بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فَإِنَّهُمَا يَنْفِيَانِ الْفَقْرَ وَالذُّنُوبَ كَمَا يَنْفِى الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ وَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَلَيْسَ لِلْحَجَّةِ الْمَبْرُورَةِ ثَوَابٌ إِلاَّ الْجَنَّةُ "(4).
وعن ابن عمر ، قال : سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول :مَا تَرفَعُ إبلُ الحاجِّ رِجلاً و لا تَضعُ يَداً إلا كَتَبَ اللهُ تَعالى لَهُ بها حَسَنةً ، أو مَحَا عَنهُ سَيئةً أو رفعهُ بها درَجَةً"(5)
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ " الْحُجَّاجُ وَالْعُمَّارُ وَفْدُ اللَّهِ إِنْ دَعَوْهُ أَجَابَهُمْ وَإِنِ اسْتَغْفَرُوهُ غَفَرَ لَهُمْ "(6).
__________
(1) -سنن ابن ماجه برقم (3014 ) وصحيح الجامع (3171) حسن لغيره
(2) - مسند أحمد برقم (19526) صحيح
(3) - مسند أحمد برقم (7557) صحيح
(4) - سنن الترمذى برقم (815 ) صحيح لغيره
(5) -الشعب برقم (3961 ) و صحيح الجامع (5596) و المجمع 3/274 و الإحسان (1887) حسن
(6) - سنن ابن ماجه برقم (3004) حسن لغيره(1/28)
وعَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ " الْغَازِى فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَالْحَاجُّ وَالْمُعْتَمِرُ وَفْدُ اللَّهِ دَعَاهُمْ فَأَجَابُوهُ وَسَأَلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ "(1).
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "وفد الله ثلاثة: الحاج والمعتمر والغازي"(2)
وعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " اسْتَمْتِعُوا بِهَذَا الْبَيْتِ ، فَقَدْ هُدِمَ مَرَّتَيْنِ ، وَيُرْفَعُ فِي الثَّالِثَةِ " . رَوَاهُ الْبَزَّارُ(3)
__________
(1) - سنن ابن ماجه برقم ( 3005 )حسن
(2) - صحيح ابن حبان - (ج 9 / ص 5)برقم ( 3692 ) صحيح
(3) -مسند البزار 1-14 - (ج 7 / ص 109) برقم (6157 ) وهو صحيح(1/29)
وعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : كُنْتُ جَالِسًا مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فِي مَسْجِدِ مِنًى ، فَأَتَاهُ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ وَرَجُلٌ مِنْ ثَقِيفٍ فَسَلَّمَا ، ثُمَّ قَالَا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، جِئْنَا نَسْأَلُكَ . فَقَالَ : " إِنْ شِئْتُمَا أَخْبَرْتُكُمَا بِمَا جِئْتُمَا تَسْأَلَانِي عَنْهُ فَعَلْتُ ، وَإِنْ شِئْتُمَا أَنْ أُمْسِكَ فَعَلْتُ ؟ " . فَقَالَا : أَخْبِرْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ ، فَقَالَ الثَّقَفِيُّ لِلْأَنْصَارِيِّ : سَلْ . فَقَالَ : أَخْبِرْنِي يَا رَسُولَ اللَّهِ ! ! فَقَالَ : " جِئْتَنِي تَسْأَلُنِي عَنْ مَخْرَجِكَ مِنْ بَيْتِكَ تَؤُمُّ الْبَيْتَ الْحَرَامَ وَمَا لَكَ فِيهِ ؟ وَعَنْ رَكْعَتَيْكَ بَعْدَ الطَّوَافِ وَمَا لَكَ فِيهِمَا ؟ وَعَنْ طَوَافِكَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَمَا لَكَ فِيهِ ؟ وَعَنْ وُقُوفِكَ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ وَمَا لَكَ فِيهِ ؟ وَعَنْ رَمْيِكَ الْجِمَارَ وَمَا لَكَ فِيهِ ؟ وَعَنْ نَحْرِكَ وَمَا لَكَ فِيهِ ؟ وَعَنْ حَلْقِكَ رَأَسَكَ وَمَا لَكَ فِيهِ ؟ وَعَنْ طَوَافِكَ بِالْبَيْتِ بَعْدَ ذَلِكَ وَمَا لَكَ فِيهِ ؟ مَعَ الْإِفَاضَةِ ؟ " . فَقَالَ : وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَعَنْ هَذَا جِئْتُ أَسْأَلُكَ .(1/30)
قَالَ : " فَإِنَّكَ إِذَا خَرَجْتَ مِنْ بَيْتِكَ تَؤُمُّ الْبَيْتَ الْحَرَامَ لَا تَضَعُ نَاقَتُكَ خُفًّا وَلَا تَرْفَعُهُ إِلَّا كَتَبَ اللَّهُ لَكَ بِهِ حَسَنَةً ، وَمَحَا عَنْكَ خَطِيئَةً ، وَأَمَّا رَكْعَتَاكَ بَعْدَ الطَّوَافِ كَعِتْقِ رَقَبَةٍ مِنْ بَنِي إِسْمَاعِيلَ ، وَأَمَّا طَوَافُكَ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ بَعْدَ ذَلِكَ كَعِتْقِ سَبْعِينَ رَقَبَةً ، وَأَمَّا وُقُوفُكَ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ فَإِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَهْبِطُ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا فَيُبَاهِي بِكُمُ الْمَلَائِكَةَ يَقُولُ : عِبَادِي جَاءُونِي شُعْثًا مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ يَرْجُونَ جَنَّتِي ، فَلَوْ كَانَتْ ذُنُوبُكُمْ كَعَدَدِ الرَّمْلِ أَوْ كَقَطْرِ الْمَطَرِ أَوْ كَزَبَدِ الْبَحْرِ لَغَفَرَهَا - أَوْ لَغَفَرْتُهَا - أَفِيضُوا عِبَادِي مَغْفُورًا لَكُمْ وَلِمَنْ شَفَعْتُمْ لَهُ . وَأَمَّا رَمْيُكَ الْجِمَارَ فَلَكَ بِكُلِّ حَصَاةٍ رَمَيْتَهَا كَبِيرَةٌ مِنَ الْمُوبِقَاتِ . وَأَمَّا نَحْرُكَ فَمَذْخُورٌ لَكَ عِنْدَ رَبِّكَ . وَأَمَّا حِلَاقُكَ رَأْسَكَ فَلَكَ بِكُلِّ شَعْرَةٍ حَلَقْتَهَا حَسَنَةٌ وَتُمْحَى عَنْكَ بِهَا خَطِيئَةٌ . وَأَمَّا طَوَافُكَ بِالْبَيْتِ بَعْدَ ذَلِكَ فَإِنَّكَ تَطُوفُ وَلَا ذَنْبَ لَكَ يَأْتِي مَلَكٌ حَتَّى يَضَعَ يَدَيْهِ بَيْنَ كَتِفِكَ فَيَقُولُ : اعْمَلْ فِيمَا يَسْتَقْبِلُ فَقَدْ غُفِرَ لَكَ مَا مَضَى " . رَوَاهُ الْبَزَّارُ .(1)
__________
(1) - مسند البزار 1-14 - (ج 7 / ص 111) برقم (6177) وهو حسن لغيره(1/31)
وَعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ : صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَتَخَطَّى إِلَيْهِ رَجُلَانِ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ وَرَجُلٌ مِنْ ثَقِيفٍ ، فَسَبَقَ الْأَنْصَارِيُّ الثَّقَفِيَّ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لِلثَّقَفِيِّ : " إِنَّ الْأَنْصَارِيَّ قَدْ سَبَقَكَ بِالْمَسْأَلَةِ " . فَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ : لَعَلَّهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْ يَكُونَ أَعْجَلَ مِنِّي فَهُوَ فِي حِلٍّ . قَالَ : فَسَأَلَ الثَّقَفِيُّ عَنِ الصَّلَاةِ فَأَخْبَرَهُ ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لِلْأَنْصَارِيِّ : " إِنْ شِئْتَ خَبَّرْتُكَ بِمَا جِئْتَ تَسْأَلُ عَنْهُ وَإِنْ شِئْتَ تَسْأَلُنِي فَأُخْبِرُكَ " . فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، تُخْبِرُنِي ! قَالَ : " جِئْتَ تَسْأَلُنِي مَا لَكَ مِنَ الْأَجْرِ إِذَا أَمَّمْتَ الْبَيْتَ الْعَتِيقَ وَمَا لَكَ مِنَ الْأَجْرِ فِي وُقُوفِكَ فِي عَرَفَةَ ؟ وَمَا لَكَ مِنَ الْأَجْرِ فِي رَمْيِكَ الْجِمَارَ ؟ وَمَا لَكَ مِنَ الْأَجْرِ فِي حَلْقِ رَأْسِكَ ؟ وَمَا لَكَ مِنَ الْأَجْرِ إِذَا وَدَّعْتَ الْبَيْتَ ؟ " . فَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ : وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا جِئْتُ أَسْأَلُكَ عَنْ غَيْرِهِ . قَالَ : " فَإِنَّ لَكَ مِنَ الْأَجْرِ إِذَا أَمَّمْتَ الْبَيْتَ الْعَتِيقَ أَنْ لَا تَرْفَعَ قَدَمًا أَوْ تَضَعَهَا أَنْتَ وَدَابَّتُكَ إِلَّا كُتِبَتْ لَكَ حَسَنَةٌ وَرُفِعَتْ لَكَ دَرَجَةٌ . وَأَمَّا وُقُوفُكَ بِعَرَفَةَ فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ لِمَلَائِكَتِهِ : يَا مَلَائِكَتِي مَا جَاءَ بِعِبَادِي ؟قَالُوا : جَاءُوا يَلْتَمِسُونَ رِضْوَانَكَ وَالْجَنَّةَ .(1/32)
فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : فَإِنِّي أُشْهِدُ نَفْسِي وَخَلْقِي أَنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ عَدَدَ أَيَّامِ الدَّهْرِ ، وَعَدَدَ الْقَطْرِ ، وَعَدَدَ رَمْلِ عَالِجٍ . وَأَمَّا رَمْيُكَ الْجِمَارَ ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : ( فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) وَأَمَّا حَلْقُكَ رَأْسَكَ فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ شَعْرِكَ مِنْ شَعْرَةٍ تَقَعُ فِي الْأَرْضِ إِلَّا كَانَتْ لَكَ نُورًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ . وَأَمَّا الْبَيْتُ إِذَا وَدَّعْتَ فَإِنَّكَ تَخْرُجُ مِنْ ذُنُوبِكَ كَيَوْمِ وَلَدَتْكَ أُمُّكَ " رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ(1)
__________
(1) - المعجم الأوسط للطبراني برقم (2410 ) حسن لغيره(1/33)
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ، قَالَ : " كُنْتُ جَالِسًا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي مَسْجِدِ الْخِيفِ ، فَأَتَاهُ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ وَرَجُلٌ مِنْ ثَقِيفٍ ، فَسَلَّمَا عَلَيْهِ ، وَدَعَيَا لَهُ دُعَاءً حَسَنًا ، ثُمَّ قَالَا : جِئْنَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ نَسْأَلُكَ ، قَالَ : " إِنْ شِئْتُمَا أَخْبَرْتُكُمَا بِمَا جِئْتُمَا تَسْأَلَانِي عَنْهُ فَعَلْتُ ، وَإِنْ شِئْتُمَا أَنْ أَسْكُتَ وَتَسْأَلَانِي فَعَلْتُ " قَالَا : أَخْبِرْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ نَزْدَدْ إِيمَانًا ، أَوْ نَزْدَدْ يَقِينًا ، فَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ للثَّقَفِيِّ : سَلْ ، قَالَ : بَلْ أَنْتَ فَسَلْهُ ، فَإِنِّي لَأَعْرِفُ لَكَ حَقًّا فَسَلْهُ ، فَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ : أَخْبِرْنِي يَا رَسُولَ اللَّهِ ، قَالَ : " جِئْتَ تَسْأَلُنِي عَنْ مَخْرَجِكَ مِنْ بَيْتِكَ تَؤُمُّ الْبَيْتَ الْحَرَامَ وَمَا لَكَ فِيهِ ، وَعَنْ طَوَافِكَ بِالْبَيْتِ وَمَا لَكَ فِيهِ ، وَعَنْ رَكْعَتَيْكَ بَعْدَ الطَّوَافِ وَمَا لَكَ فِيهِمَا ، وَعَنْ طَوَافِكَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَمَا لَكَ فِيهِ ، وَعَنْ وُقُوفِكَ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ بِعَرَفَةَ وَمَا لَكَ فِيهِ ، وَعَنْ رَمْيِكَ الْجِمَارَ وَمَا لَكَ فِيهِ ، وَعَنْ حَلَاقِكَ رَأْسَكَ وَمَا لَكَ فِيهِ ، وَعَنْ طَوَافِكَ بَعْدَ ذَلِكَ وَمَا لَكَ فِيهِ ، وَعَنْ نَحْرِكَ وَمَا لَكَ فِيهِ ، وَعَنِ الْإِفَاضَةِ " قَالَ : إِي وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ ، عَنْ هَذَا جِئْتُ أَسْأَلُكَ ، قَالَ : " فَإِنَّكَ إِذَا خَرَجْتَ مِنْ بَيْتِكَ تَؤُمُّ الْبَيْتَ الْحَرَامَ لَمْ تَضَعْ نَاقَتُكَ خُفًّا وَلَا رَفَعَتْهُ إِلَّا كَتَبَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَكَ بِهَا حَسَنَةً ، وَمَحَا عَنْكَ خَطِيئَةً ، وَرَفَعَ لَكَ بِهَا دَرَجَةً ، وَأَمَّا طَوَافُكَ بِالْبَيْتِ(1/34)
فَإِنَّكَ لَا تَضَعُ رِجْلًا وَلَا تَرْفَعُهَا إِلَّا كَتَبَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَكَ بِهَا حَسَنَةً ، وَمَحَا عَنْكَ بِهَا خَطِيئَةً ، وَأَمَّا رَكْعَتَانِ بَعْدَ الطَّوَافِ فَإِنَّهُمَا لَكَ كَعِتْقِ رَقَبَةٍ مِنْ بَنِي إِسْمَاعِيلَ ، وَأَمَّا سَعْيُكَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ فَكَعِتْقِ سَبْعِينَ رَقَبَةً ، وَأَمَّا وُقُوفُكَ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ فَإِنَّ اللَّهَ يَهْبِطُ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا فَيُبَاهِي بِكُمُ الْمَلَائِكَةَ ، يَقُولُ : هَؤُلَاءِ عِبَادِي ، أَتَوْنِي شُعْثًا غُبْرًا مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ ، يَرْجُونَ رَحْمَتِي وَمَغْفِرَتِي ، فَلَوْ كَانَتْ ذُنُوبُكُمْ كَعَدَدِ رَمْلِ عَالِجٍ أَوْ كَزَبَدِ الْبَحْرِ لَغَفَرْتُهَا ، أَفِيضُوا عِبَادًا مَغْفُورًا لَكُمْ وَلِمَنْ شَفَعْتُمْ لَهُ ، وَأَمَّا رَمْيُكَ الْجِمَارَ فَلَكَ بِكُلِّ حَصَاةٍ مِنْهَا رَمَيْتَهَا كَبِيرَةٌ مِنَ الْكَبَائِرِ الْمُوبِقَاتِ الْمُوجِبَاتِ ، وَأَمَّا نَحْرُكَ فَمَدْخُورٌ لَكَ عِنْدَ رَبِّكَ ، وَأَمَّا حَلَاقُكَ رَأْسَكَ فَبِكُلِّ شَعْرَةٍ حَلَقْتَهَا حَسَنَةٌ ، وَيُمْحَى عَنْكَ بِهَا خَطِيئَةٌ . قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، فَإِنْ كَانَتِ الذُّنُوبُ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ ؟ قَالَ : " إِذًا يُدَّخَرُ لَكَ فِي حَسَنَاتِكَ ، وَأَمَّا طَوَافُكَ بِالْبَيْتِ بَعْدَ ذَلِكَ فَإِنَّكَ تَطُوفُ وَلَا ذَنْبَ لَكَ ، فَيَأْتِي مَلَكٌ حَتَّى يَضَعَ يَدَهُ بَيْنَ كَتِفَيْكَ ثُمَّ يَقُولُ : اعْمَلْ لِمَا تَسْتَقْبِلُ فَقَدْ غُفِرَ لَكَ مَا مَضَى " .(1/35)
فَقَالَ الثَّقَفِيُّ : أَخْبِرْنِي يَا رَسُولَ اللَّهِ ، قَالَ : " جِئْتَ تَسْأَلُنِي عَنِ الصَّلَاةِ ، فَإِنَّكَ إِذَا غَسَلْتَ وَجْهَكَ انْتَثَرَتِ الذُّنُوبُ مِنْ أَشْفَارِ عَيْنَيْكَ ، وَإِذَا غَسَلْتَ يَدَيْكَ فَمِثْلُ ذَلِكَ انْتَثَرَتِ الذُّنُوبُ مِنْ أَظْفَارِ يَدَيْكَ ، فَإِذَا مَسَحْتَ بِرَأْسِكَ فَمِثْلُ ذَلِكَ انْتَثَرَتِ الذُّنُوبُ عَنْ رَأْسِكَ ، فَإِذَا غَسَلْتَ رِجْلَيْكَ انْتَثَرَتِ الذُّنُوبُ مِنْ أَظْفَارِ قَدَمَيْكَ ، فَإِذَا قُمْتَ إِلَى الصَّلَاةِ فَاقْرَأْ مِنَ الْقُرْآنِ مَا تَيَسَّرَ ، ثُمَّ إِذَا رَكَعْتَ فَأَمْكِنْ يَدَيْكَ مِنْ رُكْبَتَيْكَ : " وَافْرُجْ بَيْنَ أَصَابِعِكَ حَتَّى تَطْمَئِنَّ رَاكِعًا ، إِذَا سَجَدْتَ فَأَمْكِنْ وَجْهَكَ مِنَ السُّجُودِ كُلِّهِ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا ، وَلَا تَنْقُرْ نَقْرًا ، وَصَلِّ مِنْ أَوَّلِ اللَّيْلِ وَآخِرِهِ . قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَرَأَيْتَ إِنْ صَلَّيْتُ كُلَّهُ ، قَالَ : " إِذًا فَأَنْتَ إِذًا أَنْتَ "(1)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :"مِنْ خَرَجَ حَاجًّا فَمَاتَ كُتِبَ لَهُ أَجْرُ الْحَاجِّ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ خَرَجَ مُعْتَمِرًا فَمَاتَ كُتِبَ لَهُ أَجْرُ الْمُعْتَمِرِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ خَرَجَ غَازِيًا فَمَاتَ كُتِبَ لَهُ أَجْرُ الْغَازِي إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ"(2)
__________
(1) - الْأَحَادِيثُ الطِّوَالُ (63 ) ضعيف ، ولكثره شواهد
(2) - المعجم الكبير للطبراني - (ج 19 / ص 31) برقم ( 80 ) وعبد الرزاق (8831) صحيح لغيره(1/36)
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَجُلاً وَقَعَ عَنْ رَاحِلَتِهِ فَأَقْعَصَتْهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - " اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ وَيُكَفَّنُ فِى ثَوْبَيْنِ خَارِجًا رَأْسُهُ وَوَجْهُهُ فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا "(1).
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضى الله عنهما - أَنَّ رَجُلاً كَانَ مَعَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فَوَقَصَتْهُ نَاقَتُهُ ، وَهُوَ مُحْرِمٌ ، فَمَاتَ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - " اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ ، وَكَفِّنُوهُ فِى ثَوْبَيْهِ ، وَلاَ تَمَسُّوهُ بِطِيبٍ ، وَلاَ تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ ، فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا "(2).
وعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ، أَنّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ لَهَا فِي عُمْرَتِهَا :" إِنَّ لَكِ مِنَ الأَجْرِ عَلَى قَدْرِ نَصَبِكِ وَنَفَقَتِكِ "(3)
__________
(1) -سنن النسائى برقم (2725 ) صحيح
السدر : شجر النبق واحدته سدرة = أقعصت : ضربته برجلها فمات فى مكانه
(2) - صحيح البخارى برقم (1851 )
(3) - المستدرك للحاكم مشكلا - (ج 2 / ص 91) برقم (1733) صحيح(1/37)
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، قَالَ : أَرَادَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الْحَجَّ فَقَالَتِ امْرَأَةٌ لِزَوْجِهَا : حُجَّ بِي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَقَالَ : مَا عِنْدِي مَا أُحِجُّكِ عَلَيْهِ ، قَالَتْ : فَحَجَّ بِي عَلَى نَاضِحِكَ ، فَقَالَ : ذَاكَ نَعْتَقِبُهُ أَنَا وَوَلَدُكِ ، قَالَتْ : فَحُجَّ بِي عَلَى جَمَلِكَ فُلانٍ ، قَالَ : ذَلِكَ حَبِيسٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، قَالَتْ : فَبِعْ تَمْرَ رِقِّكَ ، قَالَ : ذَاكَ قُوتِي وَقُوتُكِ ، قَالَ : فَلَمَّا رَجَعَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ مَكَّةَ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِ زَوْجَهَا ، فَقَالَتْ : أقْرِئْ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنِّي السَّلامَ ، وَسَلْهُ مَا يَعْدِلُ حَجَّةً مَعَكَ ؟ فَأَتَى زَوْجُهَا النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِنَّ امْرَأَتِي تُقْرِئُكَ السَّلامَ وَرَحْمَةَ اللَّهِ ، وَإِنَّهَا قَالَتْ أَنَّ أَحُجَّ بِهَا مَعَكَ ، فَقُلْتُ لَهَا : لَيْسَ عِنْدِي ، قَالَتْ : فَحَجَّ بِي عَلَى جَمَلِي فُلانٍ ، فَقُلْتُ لَهَا : ذَلِكَ حَبِيسٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : أَمَا إِنَّكِ لَوْ كُنْتِ حَجَجْتِ بِهَا كَانَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، فَقَالَ : فَضَحِكَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - تَعَجُّبًا مِنْ حِرْصِهَا عَلَى الْحَجِّ ، قَالَ : وَإِنَّهَا أَمَرْتَنِي أَنْ أَسْأَلَكَ مَا تَعْدِلُ حَجَّةً مَعَكَ ؟ قَالَ : أقْرِئهَا مِنِّي السَّلامَ وَرَحْمَةَ اللَّهِ ، وَأَخْبِرْهَا أَنَّهَا تَعْدِلُ حَجَّةً مَعِي عُمْرَةٌ فِي رَمَضَانَ "(1)
__________
(1) - المستدرك للحاكم مشكلا - (ج 2 / ص 101)برقم ( 1779) صحيح(1/38)
وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ، قُلْتُ يَا رَسُول اللَّهِ : ، نَرَى الْجِهَادَ أَفْضَلَ الْعَمَلِ ، أَفَلاَ نُجَاهِدُ قَالَ " لاَ ، لَكِنَّ أَفْضَلَ الْجِهَادِ حَجٌّ مَبْرُورٌ "(1).
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - سُئِلَ أَىُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ فَقَالَ: " إِيمَانٌ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ " . قِيلَ ثُمَّ مَاذَا قَالَ " الْجِهَادُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ " . قِيلَ ثُمَّ مَاذَا قَالَ " حَجٌّ مَبْرُورٌ "(2). .
وعن ابن عباس، قال: جاءت أم سليم إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: حج أبو طلحة وابنه، وتركاني فقال: "يا أم سليم عمرة في رمضان تعدل حجة"(3)
وعَنْ أُمِّ مَعْقِلٍ قَالَتْ لَمَّا حَجَّ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حَجَّةَ الْوَدَاعِ وَكَانَ لَنَا جَمَلٌ فَجَعَلَهُ أَبُو مَعْقِلٍ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَأَصَابَنَا مَرَضٌ وَهَلَكَ أَبُو مَعْقِلٍ وَخَرَجَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ حَجِّهِ جِئْتُهُ فَقَالَ " يَا أُمَّ مَعْقِلٍ مَا مَنَعَكِ أَنْ تَخْرُجِى مَعَنَا ". قَالَتْ لَقَدْ تَهَيَّأْنَا فَهَلَكَ أَبُو مَعْقِلٍ وَكَانَ لَنَا جَمَلٌ هُوَ الَّذِى نَحُجُّ عَلَيْهِ فَأَوْصَى بِهِ أَبُو مَعْقِلٍ فِى سَبِيلِ اللَّهِ. قَالَ " فَهَلاَّ خَرَجْتِ عَلَيْهِ فَإِنَّ الْحَجَّ فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَأَمَّا إِذْ فَاتَتْكِ هَذِهِ الْحَجَّةُ مَعَنَا فَاعْتَمِرِى فِى رَمَضَانَ فَإِنَّهَا كَحَجَّةٍ ". فَكَانَتْ تَقُولُ الْحَجُّ حَجَّةٌ وَالْعُمْرَةُ عُمْرَةٌ وَقَدْ قَالَ هَذَا لِى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَا أَدْرِى أَلِىَ خَاصَّةً.(4)
__________
(1) - صحيح البخارى برقم (1520)
(2) - صحيح البخارى برقم (26 )
(3) - صحيح ابن حبان - (ج 9 / ص 12)برقم ( 3699 )صحيح لغيره
(4) -سنن أبى داود برقم (1991 ) حسن(1/39)
وعَنْ أُمِّ مَعْقِلٍ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : " عُمْرَةٌ فِى رَمَضَانَ تَعْدِلُ حَجَّةً ".(1)
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ حَجَّ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى رَحْلٍ رَثٍّ وَقَطِيفَةٍ تُسَاوِى أَرْبَعَةَ دَرَاهِمَ أَوْ لاَ تُسَاوِى ثُمَّ قَالَ " اللَّهُمَّ حِجَّةٌ لاَ رِيَاءَ فِيهَا وَلاَ سُمْعَةَ ".(2)
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ فَمَرَرْنَا بِوَادٍ فَقَالَ " أَىُّ وَادٍ هَذَا ". قَالُوا وَادِى الأَزْرَقِ. قَالَ " كَأَنِّى أَنْظُرُ إِلَى مُوسَى - صلى الله عليه وسلم - - فَذَكَرَ مِنْ طُولِ شَعَرِهِ شَيْئًا لاَ يَحْفَظُهُ دَاوُدُ - وَاضِعًا إِصْبَعَيْهِ فِى أُذُنَيْهِ لَهُ جُؤَارٌ إِلَى اللَّهِ بِالتَّلْبِيَةِ مَارًّا بِهَذَا الْوَادِى ".
قَالَ ثُمَّ سِرْنَا حَتَّى أَتَيْنَا عَلَى ثَنِيَّةٍ فَقَالَ " أَىُّ ثَنِيَّةٍ هَذِهِ ". قَالُوا ثَنِيَّةُ هَرْشَى أَوْ لَفْتٍ. قَالَ :" كَأَنِّى أَنْظُرُ إِلَى يُونُسَ عَلَى نَاقَةٍ حَمْرَاءَ عَلَيْهِ جُبَّةُ صُوفٍ وَخِطَامُ نَاقَتِهِ خُلْبَةٌ مَارًّا بِهَذَا الْوَادِى مُلَبِّيًا ".(3)
__________
(1) - سنن الترمذى برقم (951 ) صحيح لغيره
(2) -سنن ابن ماجه برقم (3002 ) صحيح لغيره
(3) - سنن ابن ماجه برقم (3003 )صحيح
الجؤار : رفع الصوت والاستغاثة = الخلبة : الليف والحبل الصلب الرقيق(1/40)
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ : حَجَّ مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ فِى خَمْسِينَ أَلْفًا مِنْ بَنِى إِسْرَائِيلَ وَعَلَيْهِ عَبَاءَتَانِ قَطَوَانِيَّتَانِ وَهُوَ يُلَبِّى لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ تَعَبُّدًا وَرِقًّا لَبَّيْكَ أَنَا عَبْدُكَ أَنَا لَدَيْكَ لَدَيْكَ يَا كَشَّافَ الْكُرَبِ قَالَ فَجَاوَبَتْهُ الْجِبَالُ(1).
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :صَلَّى فِي مَسْجِدِ الْخَيْفِ سَبْعُونَ نَبِيًّا مِنْهُمْ مُوسَى كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ وَعَلَيْهِ عباءتانِ قَطْوانِيَّتانِ وَهُوَ مُحْرِمٌ عَلَى بَعِيرٍ مِنْ إِبِلِ شَنُوءةَ مَخْطُومٍ بِخِطَامِ لِيفٍ لَهُ ضَفْرَانِ.(2)
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رضيَ اللهُ عنهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :" إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُبَاهِى بِأَهْلِ عَرَفَاتٍ أَهْلَ السَّمَاءِ فَيَقُولُ لَهُمُ : انْظُرُوا إِلَى عِبَادِى جَاءُونِى شُعْثًا غُبْرًا ".وَفِى رِوَايَةِ أَبِى نُوحٍ فَيَقُولُ :" انْظُرُوا إِلَى عِبَادِى هَؤُلاَءِ "(3).
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ ق رضيَ اللهُ عنهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - " تَابِعُوا بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فَإِنَّهُمَا يَنْفِيَانِ الْفَقْرَ وَالذُّنُوبَ كَمَا يَنْفِى الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ وَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَلَيْسَ لِلْحَجَّةِ الْمَبْرُورَةِ ثَوَابٌ إِلاَّ الْجَنَّةُ "(4).
__________
(1) - السنن الكبرى للبيهقي وفي ذيله الجوهر النقي - (ج 5 / ص 177)برقم (10123)
حسن ومثله لا يقال بالرأي
(2) - المعجم الكبير للطبراني - (ج 10 / ص 144) برقم (12116 ) حسن
(3) - السنن الكبرى للبيهقي وفي ذيله الجوهر النقي - (ج 5 / ص 58)برقم (9376)صحيح
(4) - سنن الترمذى برقم (815) صحيح(1/41)
وعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِىِّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ " مَا مِنْ مُلَبٍّ يُلَبِّى إِلاَّ لَبَّى مَا عَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ مِنْ حَجَرٍ أَوْ شَجَرٍ أَوْ مَدَرٍ حَتَّى تَنْقَطِعَ الأَرْضُ مِنْ هَا هُنَا وَهَا هُنَا ".(1)
وعَنْ خَلاَّدِ بْنِ السَّائِبِ بْنِ خَلاَّدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " أَتَانِى جِبْرِيلُ فَأَمَرَنِى أَنْ آمُرَ أَصْحَابِى أَنْ يَرْفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ بِالإِهْلاَلِ وَالتَّلْبِيَةِ "(2).
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : " مَا أَهَلَّ مُهِلٌّ قَطُّ وَلَا كَبَّرَ مُكَبِّرٌ قَطُّ إِلَّا بُشِّرَ " . قِيلَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، بِالْجَنَّةِ ؟ قَالَ : " نَعَمْ " . رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ(3)
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ أَنَّ رَجُلاً قَالَ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ مَا أَرَاكَ تَسْتَلِمُ إِلاَّ هَذَيْنِ الرُّكْنَيْنِ قَالَ إِنِّى سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ " إِنَّ مَسْحَهُمَا يَحُطَّانِ الْخَطِيئَةَ ". وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ " مَنْ طَافَ سَبْعًا فَهُوَ كَعِدْلِ رَقَبَةٍ "(4).
__________
(1) - سنن ابن ماجه برقم (3033) صحيح
المدَر : الطين اليابس جمع مدرة
(2) - سنن الترمذى برقم (838 ) صحيح
(3) - الطبرانى فى الأوسط (7/379 ، رقم 7779) ومجمع الزوائد - (ج 6 / ص 40) برقم ( 5371 ) وهو حديث حسن لغيره
(4) - سنن النسائى برقم (2932 ) صحيح(1/42)
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَاهُ يَقُولُ لاِبْنِ عُمَرَ مَا لِى لاَ أَرَاكَ تَسْتَلِمُ إلاَّ هَذَيْنِ الرُّكْنَيْنِ الْحَجَرَ الأَسْوَدَ وَالْرُكْنَ الْيَمَانِىَ فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ إِنْ أَفْعَلْ فَقَدْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ " إِنَّ اسْتِلامَهُمَا يَحُطُّ الْخَطَايَا ". قَالَ وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ " مَنْ طَافَ أُسْبُوعاً يُحْصِيهِ وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ كَانَ لَهُ كَعِدْلِ رَقَبَةٍ ". قَالَ وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ " مَا رَفَعَ رَجُلٌ قَدَماً وَلاَ وَضَعَهَا إلا كُتِبَ لَهُ عَشْرُ حَسَنَاتٍ وَحُطَّ عَنْهُ عَشْرُ سَيِّئَاتٍ وَرُفِعَ لَهُ عَشْرُ دَرَجَاتٍ "(1).
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ " مَنْ طَافَ بِالْبَيْتِ وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ كَانَ كَعِتْقِ رَقَبَةٍ "(2).
وعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ ، عَنْ أَبِيهِ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : مَنْ طَافَ بِالْبَيْتِ أُسْبُوعًا لَمْ يَلْغُ فِيهِ كَانَ كَعَدْلِ رَقَبَةٍ يُعْتِقُهَا.(3)
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، قَالَ : مَنْ طَافَ بِالْبَيْتِ خَمْسِينَ أُسْبُوعًا خَرَجَ مِنْ الذُّنُوبِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ.(4)
__________
(1) - مسند أحمد برقم (4555)حسن
(2) - سنن ابن ماجه برقم (3069 )صحيح
(3) - مصنف ابن أبي شيبة مرقم ومشكل - (ج 5 / ص 51)برقم (12664)صحيح مرسل
(4) - نفسه برقم (12665)صحيح موقوف ومثله لا يقال بالرأي(1/43)
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِى الْحَجَرِ " وَاللَّهِ لَيَبْعَثَنَّهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَهُ عَيْنَانِ يُبْصِرُ بِهِمَا وَلِسَانٌ يَنْطِقُ بِهِ يَشْهَدُ عَلَى مَنِ اسْتَلَمَهُ بِحَقٍّ "(1).
قَوْلُهُ : ( قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي الْحَجَرِ ) أَيْ فِي شَأْنِ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ وَوَصْفِهِ ( لَيَبْعَثَنَّهُ اللَّهُ ) أَيْ لَيُظْهِرَنَّهُ ( لَهُ عَيْنَانِ يُبْصِرُ بِهِمَا ) فَيَعْرِفُ مَنْ اِسْتَلَمَهُ
( يَشْهَدُ عَلَى مَنْ اِسْتَلَمَهُ بِحَقٍّ ) قَالَ الْعِرَاقِيُّ : عَلَى هَذَا بِمَعْنَى اللَّامِ وَفِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ وَالدَّارِمِيِّ وَابْنِ حِبَّانَ يَشْهَدُ لِمَنْ اِسْتَلَمَهُ ، قَالَ وَالْبَاءُ فِي بِحَقٍّ يُحْتَمَلُ تَعَلُّقُهَا بِيَشْهَدُ أَوْ بِاسْتَلَمَهُ ، كَذَا فِي قُوتِ الْمُغْتَذِي . وَقَالَ الشَّيْخُ فِي اللُّمَعَاتِ : كَلِمَةُ عَلَى بِاعْتِبَارِ تَضْمِينِ مَعْنَى الرَّقِيبِ وَالْحَفِيظِ ، وَقَوْلُهُ بِحَقٍّ مُتَعَلِّقٌ بِاسْتَلَمَهُ ، أَيْ اِسْتَلَمَهُ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا ، وَيَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِيَشْهَدُ ، وَالْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى ظَاهِرِهِ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى إِيجَادِ الْبَصَرِ وَالنُّطْقِ فِي الْجَمَادَاتِ، فَإِنَّ الْأَجْسَامَ مُتَشَابِهَةٌ فِي الْحَقِيقَةِ يَقْبَلُ كُلٌّ مِنْهَا مَا يَقْبَلُ الْآخَرُ مِنَ الْأَعْرَاضِ ..(2)
--------------------
__________
(1) - سنن الترمذى برقم (976 ) صحيح =
(2) - تحفة الأحوذي - (ج 3 / ص 19)(1/44)
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِى قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - " يَأْتِى الرُّكْنُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْظَمَ مَنْ أَبِى قُبَيْسٍ لَهُ لِسَانٌ وَشَفَتَانِ "(1).
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - " نَزَلَ الْحَجَرُ الأَسْوَدُ مِنَ الْجَنَّةِ وَهُوَ أَشَدُّ بَيَاضًا مِنَ اللَّبَنِ فَسَوَّدَتْهُ خَطَايَا بَنِى آدَمَ "(2).
__________
(1) - مسند أحمد برقم (7166) حسن
(2) - سنن الترمذى برقم (886 )قَالَ أَبُو عِيسَى حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وهو كما قال .(1/45)
قَالَ فِي الْمِرْقَاةِ : أَيْ صَارَتْ ذُنُوبُ بَنِي آدَمَ الَّذِينَ يَمْسَحُونَ الْحَجَرَ سَبَبًا لِسَوَادِهِ ، وَالْأَظْهَرُ حَمْلُ الْحَدِيثِ عَلَى حَقِيقَتِهِ إِذْ لَا مَانِعَ نَقْلًا وَلَا عَقْلًا . وَقَالَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ مِنْ عُلَمَائِنَا يَعْنِي الْحَنَفِيَّةَ : هَذَا الْحَدِيثُ يَحْتَمِلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْمُبَالَغَةُ فِي تَعْظِيمِ شَأْنِ الْحَجَرِ وَتَفْظِيعُ أَمْرِ الْخَطَايَا وَالذُّنُوبِ ، وَالْمَعْنَى أَنَّ الْحَجَرَ لِمَا فِيهِ مِنَ الشَّرَفِ وَالْكَرَامَةِ وَالْيُمْنِ وَالْبَرَكَةِ شَارَكَ جَوَاهِرَ الْجَنَّةِ فَكَأَنَّهُ نَزَلَ مِنْهَا وَأَنَّ خَطَايَا بَنِي آدَمَ تَكَادُ تُؤَثِّرُ فِي الْجَمَادِ فَتَجْعَلُ الْمُبْيَضَّ مِنْهُ أَسْوَدَ فَكَيْفَ بِقُلُوبِهِمْ ،أَوْ لِأَنَّهُ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ مُكَفِّرٌ لِلْخَطَايَا مَحَّاءٌ لِلذُّنُوبِ كَأَنَّهُ مِنَ الْجَنَّةِ وَمِنْ كَثْرَةِ تَحَمُّلِهِ أَوْزَارَ بَنِي آدَمَ صَارَ كَأَنَّهُ ذُو بَيَاضٍ شَدِيدٍ فَسَوَّدَتْهُ الْخَطَايَا ،وَمِمَّا يُؤَيِّدُ هَذَا أَنَّهُ كَانَ فِيهِ نُقَطٌ بِيضٌ ثُمَّ لَا زَالَ السَّوَادُ فَتَرَاكَمَ عَلَيْهَا حَتَّى عَمَّهَا .(1/46)
وَفِي الْحَدِيثِ(1): إِذَا أَذْنَبَ الْعَبْدُ نَكَتَتْ فِي قَلْبِهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ فَإِذَا أَذْنَبَ نكتت فِيهِ نُكْتَةٌ أُخْرَى وَهَكَذَا حَتَّى يَسْوَدَّ قَلْبُهُ جَمِيعُهُ وَيَصِيرَ مِمَّنْ قَالَ فِيهِمْ {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (14) سورة المطففين ،وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْحَجَرَ بِمَنْزِلَةِ الْمِرْآةِ الْبَيْضَاءِ فِي غَايَةٍ مِنَ الصَّفَاءِ وَيَتَغَيَّرُ بِمُلَاقَاةِ مَا لَا يُنَاسِبُهُ مِنَ الْأَشْيَاءِ حَتَّى يَسْوَدَّ لَهَا جَمِيعُ الْأَجْزَاءِ وَفِي الْجُمْلَةِ الصُّحْبَةُ لَهَا تَأْثِيرٌ بِإِجْمَاعِ الْعُقَلَاءِ اِنْتَهَى كَلَامُ الْقَارِي .
قَالَ الْحَافِظُ اِبْنُ حَجَرٍ : وَاعْتَرَضَ بَعْضُ الْمُلْحِدِينَ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ فَقَالَ كَيْفَ سَوَّدَتْهُ خَطَايَا الْمُشْرِكِينَ وَلَمْ تُبَيِّضْهُ طَاعَاتُ أَهْلِ التَّوْحِيدِ ؟
وَأُجِيبَ بِمَا قَالَ اِبْنُ قُتَيْبَةَ : لَوْ شَاءَ اللَّهُ لَكَانَ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا أَجْرَى اللَّهُ الْعَادَةَ بِأَنَّ السَّوَادَ يَصْبُغُ وَلَا يَنْصَبِغُ عَلَى الْعَكْسِ مِنَ الْبَيَاضِ . وَقَالَ الْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ : فِي بَقَائِهِ أَسْوَدَ عِبْرَةٌ لِمَنْ لَهُ بَصِيرَةٌ . فَإِنَّ الْخَطَايَا إِذَا أَثَّرَتْ فِي الْحَجَرِ الصَّلْدِ فَتَأْثِيرُهَا فِي الْقَلْبِ أَشَدُّ ، قَالَ: وَرُوِيَ عَنْ اِبْنِ عَبَّاسٍ :إِنَّمَا غَيَّرَهُ بِالسَّوَادِ لِئَلَّا يَنْظُرَ أَهْلُ الدُّنْيَا إِلَى زِينَةِ الْجَنَّةِ فَإِنْ ثَبَتَ فَهَذَا هُوَ الْجَوَابُ(2). قَالَ الْحَافِظُ اِبْنُ حَجَرٍ : أَخْرَجَهُ الْحُمَيْدِيُّ فِي فَضَائِلِ مَكَّةَ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ اِنْتَهَى(3)
__________
(1) - المستدرك للحاكم(8446)
(2) - المعجم الكبير للطبراني - (ج 9 / ص 268)(10865) فيه جهالة
(3) - تحفة الأحوذي - (ج 2 / ص 422)(1/47)
------------------
وعن مُسَافِعَ بْنِ شَيْبَةَ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو يَقُولُ فَأَنْشُدُ بِاللَّهِ ثَلاَثاً وَوَضَعَ أُصْبَعَهُ فِى أُذُنَيْهِ لَسَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ يَقُولُ : " إِنَّ الرُّكْنَ وَالْمَقَامَ يَاقُوتَتَانِ مِنْ يَاقُوتِ الْجَنَّةِ طَمَسَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ نُورَهُمَا وَلَوْلاَ أَنَّ اللَّهَ طَمَسَ نُورَهُمَا لأَضَاءَتَا مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ "(1).
وعَنِ الزُّهْرِىِّ قَالَ حَدَّثَنِى مُسَافِعٌ الْحَجَبِىُّ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :" إِنَّ الرُّكْنَ وَالْمَقَامَ مِنْ يَاقُوتِ الْجَنَّةِ، وَلَوْلاَ مَا مَسَّهُمَا مِنْ خَطَايَا بَنِى آدَمَ لأَضَاءَا مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، وَمَا مَسَّهُمَا مِنْ ذِى عَاهَةٍ وَلاَ سَقِيمٍ إِلاَّ شُفِىَ "(2).
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو يَرْفَعُهُ قَالَ :" لَوْلاَ مَا مَسَّهُ مِنْ أَنْجَاسِ الْجَاهِلِيَّةِ مَا مَسَّهُ ذُو عَاهَةٍ إِلاَّ شُفِىَ وَمَا عَلَى الأَرْضِ شَىْءٌ مِنَ الْجَنَّةِ غَيْرُهُ "(3).
__________
(1) - مسند أحمد {2/214} برقم (7188) وهب (4031) والإحسان (3710) وت (878) وعب (8921) وصحيح الجامع ( 1633) صحيح لغيره
(2) - السنن الكبرى للبيهقي وفي ذيله الجوهر النقي - (ج 5 / ص 75)برقم (9496)صحيح
(3) - السنن الكبرى للبيهقي وفي ذيله الجوهر النقي - (ج 5 / ص 75)برقم (9497)صحيح(1/48)
وعَنْ أَنَسٍ قَالَ : وَقَفَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِعَرَفَةَ يَوْمَ عَرَفَةَ ، وَكَادَتِ الشَّمْسُ أَنْ تَغْرُبَ ، فَقَالَ : " يَا بِلَالُ ، أَنْصِتْ لِيَ النَّاسَ " فَقَامَ بِلَالٌ فَقَالَ : يَا مَعْشَرَ النَّاسِ ، أَنْصِتُوا ، فَقَالَ : " أَتَانِي جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ آنِفًا فَأَقْرَأَنِي مِنْ رَبِّي السَّلَامَ وَقَالَ : إِنَّ اللَّهَ قَدْ غَفَرَ لِأَهْلِ عَرَفَاتٍ مَا خَلَا التَّبِعَاتِ ، أَفِيضُوا بِسْمِ اللَّهِ "(1)
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :" إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُبَاهِى بِأَهْلِ عَرَفَاتٍ أَهْلَ السَّمَاءِ فَيَقُولُ لَهُمُ : انْظُرُوا إِلَى عِبَادِى جَاءُونِى شُعْثًا غُبْرًا "(2).
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - " إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُبَاهِى الْمَلاَئِكَةَ بِأَهْلِ عَرَفَاتٍ يَقُولُ انْظُرُوا إِلَى عِبَادِى شُعْثاً غُبْراً "(3).
__________
(1) - الضُّعَفَاءُ الْكَبِيرِ لِلْعُقَيْلِيِّ (802) وقال عقبه : قَدْ رُوِيَ فِي ، هَذَا الْمَعْنَى بِخِلَافِ هَذَا اللَّفْظِ حَدِيثُ الْعَبَّاسِ بْنِ مِرْدَاسٍ ، وَحَدِيثٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَغَيْرِهِ ، وَأَسَانِيدُهَا لَيِّنَةٌ ، وَفِيهِ عَنْ عَائِشَةَ وَجَابِرٍ إِسْنَادَانِ صَالِحَانِ ، ولسان الميزان - (ج 15 / ص 3)[478] ضعيف وصححه لغيره الشيخ ناصر في صحيح الترغيب والترهيب -( 1151)
(2) - السنن الكبرى للبيهقي وفي ذيله الجوهر النقي - (ج 5 / ص 58)برقم (9376) صحيح
(3) - مسند أحمد برقم (8268)صحيح لغيره(1/49)
وعَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ قَالَتْ عَائِشَةُ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ :" مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ يُعْتِقَ اللَّهُ فِيهِ عَبْدًا مِنَ النَّارِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ وَإِنَّهُ لَيَدْنُو ثُمَّ يُبَاهِى بِهِمُ الْمَلاَئِكَةَ فَيَقُولُ مَا أَرَادَ هَؤُلاَءِ "(1).
وَمَعْنَى يَدْنُو : يَتَجَلَّى عَلَيْهِمْ بِرَحْمَتِهِ وَإِكْرَامِهِ(2).
هَذَا الْحَدِيث ظَاهِر الدَّلَالَة فِي فَضْل يَوْم عَرَفَة ، وَهُوَ كَذَلِكَ ، وَلَوْ قَالَ رَجُل : اِمْرَأَتِي طَالِق فِي أَفْضَل الْأَيَّام ، فَلِأَصْحَابِنَا وَجْهَانِ : أَحَدهمَا : تَطْلُق يَوْم الْجُمُعَة ؛ لِقَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم - : " خَيْر يَوْم طَلَعَتْ فِيهِ الشَّمْس يَوْم الْجُمُعَة "(3)، كَمَا سَبَقَ فِي صَحِيح مُسْلِم ، وَأَصَحّهمَا : يَوْم عَرَفَة ؛ لِلْحَدِيثِ الْمَذْكُور فِي هَذَا الْبَاب ، وَيُتَأَوَّل حَدِيث يَوْم الْجُمُعَة عَلَى أَنَّهُ أَفْضَل أَيَّام الْأُسْبُوع .
__________
(1) - صحيح مسلم برقم (3354 )
(2) - انظر شرح النووي على مسلم - (ج 5 / ص 11)
(3) - سنن أبى داود(1048) صحيح(1/50)
قَالَ الْقَاضِي عِيَاض : قَالَ الْمَازِرِيّ : مَعْنَى ( يَدْنُو ) فِي هَذَا الْحَدِيث : أَيْ تَدْنُو رَحْمَته وَكَرَامَته ، لَا دُنُوّ مَسَافَة وَمُمَاسَّة . قَالَ الْقَاضِي : يُتَأَوَّل فِيهِ مَا سَبَقَ فِي حَدِيث النُّزُول إِلَى السَّمَاء الدُّنْيَا ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيث الْآخَر مِنْ غَيْظ الشَّيْطَان يَوْم عَرَفَة لِمَا يَرَى مِنْ تَنَزُّل الرَّحْمَة ، قَالَ الْقَاضِي : وَقَدْ يُرِيد دُنُوّ الْمَلَائِكَة إِلَى الْأَرْض أَوْ إِلَى السَّمَاء بِمَا يَنْزِل مَعَهُمْ مِنَ الرَّحْمَة وَمُبَاهَاة الْمَلَائِكَة بِهِمْ عَنْ أَمْره سُبْحَانه وَتَعَالَى ، قَالَ : وَقَدْ وَقَعَ الْحَدِيث فِي صَحِيح مُسْلِم مُخْتَصَرًا ، وَذَكَره عَبْد الرَّزَّاق فِي مُسْنَده مِنْ رِوَايَة اِبْن عُمَر قَالَ : " إِنَّ اللَّه يَنْزِل إِلَى السَّمَاء الدُّنْيَا فَيُبَاهِي بِهِمْ الْمَلَائِكَة يَقُول : هَؤُلَاءِ عِبَادِي جَاؤنِي شُعْثًا غُبْرًا يَرْجُونَ رَحْمَتِي وَيَخَافُونَ عَذَابِي وَلَمْ يَرَوْنِي ، فَكَيْف لَوْ رَأَوْنِي ؟ " وَذَكَرَ بَاقِي الْحَدِيث(1).
---------------
__________
(1) - شرح النووي على مسلم - (ج 5 / ص 11)(1/51)
وعَنِ ابْنِ عُمَرَ ، قَالَ : "جَاءَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ ، كَلِمَاتٌ أَسْأَلُ عَنْهُنَّ ، قَالَ : اجْلِسْ ، وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ ثَقِيفٍ ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ ، كَلِمَاتٌ أَسْأَلُ عَنْهُنَّ ، فَقَالَ - صلى الله عليه وسلم - : سَبَقَكَ الأَنْصَارِيُّ ، فَقَالَ الأَنْصَارِيُّ : إِنَّهُ رَجُلٌ غَرِيبٌ ، وَإِنَّ لِلْغَرِيبِ حَقًّا ، فَابْدَأْ بِهِ ، فَأَقْبَلَ عَلَى الثَّقَفِيِّ ، فَقَالَ : إِنْ شِئْتَ أَجَبْتُكَ عَمَّا كُنْتَ تَسْأَلُ ، وَإِنْ شِئْتَ سَأَلْتَنِي وَأُخْبِرْكَ ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ ، بَلْ أَجِبْنِي عَمَّا كُنْتُ أَسْأَلُكَ ، قَالَ : جِئْتَ تَسْأَلُنِي عَنِ الرُّكُوعِ ، وَالسُّجُودِ ، وَالصَّلاَةِ ، وَالصَّوْمِ ، فَقَالَ : لاَ وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا أَخْطَأْتَ مِمَّا كَانَ فِي نَفْسِي شَيْئًا ، قَالَ : فَإِذَا رَكَعْتَ ، فَضَعْ رَاحَتَيْكَ عَلَى رُكْبَتَيْكَ ، ثُمَّ فَرِّجْ بَيْنَ أَصَابِعِكَ ، ثُمَّ أَمْكُثْ حَتَّى يَأْخُذَ كُلُّ عُضْوٍ مَأْخَذَهُ ، وَإِذَا سَجَدْتَ ، فَمَكِّنْ جَبْهَتَكَ ، وَلاَ تَنْقُرُ نَقْرًا ، وَصَلِّ أَوَّلَ النَّهَارِ وَآخِرَهُ ، فَقَالَ : يَا نَبِيَّ اللهِ ، فَإِنْ أَنَا صَلَّيْتُ بَيْنَهُمَا ؟ قَالَ : فَأَنْتَ إِذًا مُصَلِّي ، وَصُمْ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ ، ثَلاَثَ عَشْرَةَ ، وَأَرْبَعَ عَشْرَةَ ، وَخَمْسَ عَشْرَةَ ، فَقَامَ الثَّقَفِيُّ ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى الأَنْصَارِيِّ ، فَقَالَ : إِنْ شِئْتَ أَخْبَرْتُكَ عَمَّا جِئْتَ تَسْأَلُ ، وَإِنْ شِئْتَ سَأَلْتَنِي فَأُخْبِرْكَ ، فَقَالَ : لاَ يَا نَبِيَّ اللهِ ، أَخْبَرَنِي عَمَّا جِئْتُ أَسْأَلُكَ ، قَالَ : جِئْتَ تَسْأَلُنِي عَنِ الْحَاجِّ مَا لَهُ حِينَ يَخْرُجُ مِنْ بَيْتِهِ ؟ وَمَا لَهُ(1/52)
حِينَ يَقُومُ بِعَرَفَاتٍ ؟ وَمَا لَهُ حِينَ يَرْمِي الْجِمَارَ ؟ وَمَا لَهُ حِينَ يَحْلِقُ رَأْسَهُ ؟ وَمَا لَهُ حِينَ يَقْضِي آخِرَ طَوَافٍ بِالْبَيْتِ ؟ فَقَالَ : يَا نَبِيَّ اللهِ ، وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا أَخْطَأْتَ مِمَّا كَانَ فِي نَفْسِي شَيْئًا ، قَالَ : فَإِنَّ لَهُ حِينَ يَخْرُجُ مِنْ بَيْتِهِ أَنَّ رَاحِلَتَهُ لاَ تَخْطُو خُطْوَةً إِلاَّ كُتِبَ لَهُ بِهَا حَسَنَةٌ ، أَوْ حُطَّتْ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةٌ ، فَإِذَا وَقَفَ بِعَرَفَةَ ، فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَنْزِلُ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا ، فَيَقُولُ : انْظُرُوا إِلَى عِبَادِي شُعْثًا غُبْرًا ، اشْهَدُوا أَنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ ذُنُوبَهُمْ ، وَإِنْ كَانَ عَدَدَ قَطْرِ السَّمَاءِ وَرَمْلِ عَالِجٍ ، وَإِذَا رَمَى الْجِمَارَ لاَ يَدْرِي أَحَدٌ مَا لَهُ حَتَّى يُوَفَّاهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، وَإِذَا حَلَقَ رَأْسَهُ فَلَهُ بِكُلِّ شَعْرَةٍ سَقَطَتْ مِنْ رَأْسِهِ نُورٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، وَإِذَا قَضَى آخِرَ طَوَافِهِ بِالْبَيْتِ خَرَجَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ "."(1)
__________
(1) - صحيح ابن حبان برقم (1919 )صحيح
= الراحة : الكف = النقر في الصلاة : الإسراع فيها = الراحلة : البَعيرُ القويّ على الأسفار والأحمال، ويَقَعُ على الذكر والأنثى = الشُعْث : جمع أسعث وهو من تغير شعره وتلبد من قلة تعهده بالدهن(1/53)
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَفَعَهُ قَالَ : لَمَّا أَتَى إِبْرَاهِيمُ خَلِيلُ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ الْمَنَاسِكَ عَرَضَ لَهُ الشَّيْطَانُ عِنْدَ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ فَرَمَاهُ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ حَتَّى سَاخَ فِى الأَرْضِ ثُمَّ عَرَضَ لَهُ عِنْدَ الْجَمْرَةِ الثَّانِيَةِ فَرَمَاهُ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ حَتَّى سَاخَ فِى الأَرْضِ ثُمَّ عَرْضَ لَهُ فِى الْجَمْرَةِ الثَّالِثَةِ فَرَمَاهُ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ حَتَّى سَاخَ فِى الأَرْضِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ : الشَّيْطَانَ تَرْجُمُونَ وَمَِّلةَ أَبِيكُمْ تَتَّبِعُونَ.(1)
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " إِذَا رَمَيْتَ الْجِمَارَ كَانَ لَكَ نُورًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ " . رَوَاهُ الْبَزَّارُ(2)
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - " اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُحَلِّقِينَ " . قَالُوا وَلِلْمُقَصِّرِينَ . قَالَ " اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُحَلِّقِينَ " . قَالُوا وَلِلْمُقَصِّرِينَ . قَالَهَا ثَلاَثًا . قَالَ " وَلِلْمُقَصِّرِينَ "(3).
وعَنْ يَحْيَى بْنِ الْحُصَيْنِ عَنْ جَدَّتِهِ أَنَّهَا سَمِعَتِ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - فِى حَجَّةِ الْوَدَاعِ دَعَا لِلْمُحَلِّقِينَ ثَلاَثًا وَلِلْمُقَصِّرِينَ مَرَّةً.(4)
__________
(1) - السنن الكبرى للبيهقي وفي ذيله الجوهر النقي - (ج 5 / ص 153)برقم (9975)صحيح
(2) - مجمع الزوائد - (ج 6 / ص 124)برقم ( 5588) وصحيح الترغيب برقم (1557) حسن
(3) - صحيح البخارى برقم (1728 ) ومسلم برقم (3208 )
(4) - صحيح مسلم برقم (3210 )(1/54)
وعَنْ مَالِكِ بْنِ رَبِيعَةَ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ يَقُولُ " اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُحَلِّقِينَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُحَلِّقِينَ ". قَالَ يَقُولُ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ وَالْمُقَصِّرِينَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِى الثَّالِثَةِ أَوْ فِى الرَّابِعَةِ " وَالْمُقَصِّرِينَ ". ثُمَّ قَالَ وَأَنَا يَوْمَئِذٍ مَحْلُوقُ الرَّأْسِ فَمَا يَسُرُّنِى بِحَلْقِ رَأْسِى حُمْرَ النَّعَمِ أَوْ خَطَراً عَظِيماً.(1)
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِي اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :خَيْرُ مَاءٍ عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ مَاءُ زَمْزَمَ فِيهِ طَعَامٌ مِنَ الطُّعْمِ وَشِفَاءٌ مِنَ السُّقْمِ،(2).
وعَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : زَمْزَمُ طَعَامُ طُعْمٍ وَشِفَاءُ سَقَمٍ.(3)
وَعَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : سَمِعْتُهُ يَقُولُ : كُنَّا نُسَمِّيهَا شُبَاعَةَ - يَعْنِي زَمْزَمَ - وَكُنَّا نَجِدُهَا نِعْمَ الْعَوْنِ عَلَى الْعِيَالِ . رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ(4)
__________
(1) - مسند أحمد برقم (18064)حسن
(2) - المعجم الكبير للطبراني - (ج 9 / ص 308)برقم (11004) حسن
(3) - مسند البزار 1-14 - (ج 5 / ص 321)برقم (3929)صحيح
(4) - المعجم الكبير للطبراني - (ج 9 / ص 138)برقم (10489) صحيح موقوف(1/55)
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : مَاءُ زَمْزَمَ لِمَا شُرِبَ لَهُ ، فَإِنْ شَرِبْتَهُ تَسْتَشْفِي بِهِ شَفَاكَ اللَّهُ ، وَإِنْ شَرِبْتَهُ مُسْتَعِيذًا عَاذَكَ اللَّهُ ، وَإِنْ شَرِبْتَهُ لِيَقْطَعَ ظَمَأَكَ قَطَعَهُ ، قَالَ : وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ إِذَا شَرِبَ مَاءَ زَمْزَمَ ، قَالَ : اللَّهُمَّ أَسْأَلُكَ عِلْمًا نَافِعًا ، وَرِزْقًا وَاسِعًا ، وَشِفَاءً مِنْ كُلِّ دَاءٍ(1)
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ " صَلاَةٌ فِى مَسْجِدِى هَذَا خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ صَلاَةٍ فِيمَا سِوَاهُ إِلاَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ "(2).
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ رضيَ اللهُ عنهُما قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - " صَلاَةٌ فِى مَسْجِدِى هَذَا أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ صَلاَةٍ فِيمَا سِوَاهُ مِنَ الْمَسَاجِدِ إِلاَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ وَصَلاَةٌ فِى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَفْضَلُ مِنْ مِائَةِ صَلاَةٍ فِى هَذَا ".(3)
وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " أَنَا خَاتَمُ الْأَنْبِيَاءِ وَمَسْجِدِي خَاتَمُ مَسَاجِدِ الْأَنْبِيَاءِ . أَحَقُّ الْمَسَاجِدِ أَنْ يُزَارَ وَتُشَدَّ إِلَيْهِ الرَّوَاحِلُ : الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ وَمَسْجِدِي ، صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ مِنَ الْمَسَاجِدِ إِلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ " . رَوَاهُ الْبَزَّارُ(4)
__________
(1) - المستدرك للحاكم مشكلا - (ج 2 / ص 92) برقم (1739) حسن لغيره
(2) - صحيح البخارى برقم (1190 ) ومسلم برقم (3440 )
(3) - مسند أحمد برقم (16546) صحيح
(4) - صحيح الترغيب برقم (1175 ) صحيح لغيره(1/56)
وعَنْ حُمَيْدٍ الْخَرَّاطِ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ مَرَّ بِى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ قَالَ قُلْتُ لَهُ كَيْفَ سَمِعْتَ أَبَاكَ يَذْكُرُ فِى الْمَسْجِدِ الَّذِى أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى قَالَ قَالَ أَبِى دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِى بَيْتِ بَعْضِ نِسَائِهِ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَىُّ الْمَسْجِدَيْنِ الَّذِى أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى قَالَ فَأَخَذَ كَفًّا مِنْ حَصْبَاءَ فَضَرَبَ بِهِ الأَرْضَ ثُمَّ قَالَ " هُوَ مَسْجِدُكُمْ هَذَا ". - لِمَسْجِدِ الْمَدِينَةِ - قَالَ فَقُلْتُ أَشْهَدُ أَنِّى سَمِعْتُ أَبَاكَ هَكَذَا يَذْكُرُهُ.(1)
وعَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ جَعْفَرٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو الأَبْرَدِ مَوْلَى بَنِى خَطْمَةَ أَنَّهُ سَمِعَ أُسَيْدَ بْنَ ظُهَيْرٍ الأَنْصَارِىَّ رضيَ اللهُ عنهُ، وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - يُحَدِّثُ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ " الصَّلاَةُ فِى مَسْجِدِ قُبَاءٍ كَعُمْرَةٍ "(2).
وعن سَهْلَ بْنِ حُنَيْفٍ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - " مَنْ تَطَهَّرَ فِى بَيْتِهِ ثُمَّ أَتَى مَسْجِدَ قُبَاءٍ فَصَلَّى فِيهِ صَلاَةً كَانَ لَهُ كَأَجْرِ عُمْرَةٍ " .(3)
__________
(1) - صحيح مسلم برقم (3453 )
(2) - سنن الترمذى برقم (325 ) صحيح لغيره
(3) - سنن ابن ماجه برقم (1477 ) صحيح(1/57)
وعن جَابِرَ يَعْنِى ابْنَ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - دَعَا فِى مَسْجِدِ الْفَتْحِ ثَلاَثاً يَوْمَ الاِثْنَيْنِ وَيَوْمَ الثُّلاَثَاءِ وَيَوْمَ الأَرْبِعَاءِ فَاسْتُجِيبَ لَهُ يَوْمَ الأَرْبِعَاءِ بَيْنَ الصَّلاَتَيْنِ فَعُرِفَ الْبِشْرُ فِى وَجْهِهِ. قَالَ جَابِرٌ َلَمْ يَنْزِلْ بِى أَمْرٌ مُهِمٌّ غَلِيظٌ إِلاَّ تَوَخَّيْتُ تِلْكَ السَّاعَةَ فَأَدْعُو فِيهَا فَأَعْرِفُ الإِجَابَةَ.(1)
وعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - " مَنِ اسْتَطَاعَ أَنْ يَمُوتَ بِالْمَدِينَةِ فَلْيَمُتْ بِهَا فَإِنِّى أَشْفَعُ لِمَنْ يَمُوتُ بِهَا ".(2)
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : " لاَ تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلاَّ إِلَى ثَلاَثَةِ مَسَاجِدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ، وَمَسْجِدِ الرَّسُولِ - صلى الله عليه وسلم - وَمَسْجِدِ الأَقْصَى "(3).
وعن عِكْرِمَةَ أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ - رضى الله عنهما - يَقُولُ إِنَّهُ سَمِعَ عُمَرَ - رضى الله عنه - يَقُولُ سَمِعْتُ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - بِوَادِى الْعَقِيقِ يَقُولُ: " أَتَانِى اللَّيْلَةَ آتٍ مِنْ رَبِّى فَقَالَ صَلِّ فِى هَذَا الْوَادِى الْمُبَارَكِ وَقُلْ عُمْرَةً فِى حَجَّةٍ "(4).
__________
(1) - مسند أحمد برقم (14937)حسن
(2) - سنن الترمذى برقم (4296 ) صحيح
(3) - صحيح البخارى برقم (1189 ) ومسلم برقم (3325 )
(4) - صحيح البخارى برقم (1534 )(1/58)
وعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " مَنْ زَارَ قَبْرِى وَجَبَتْ لَهُ شَفَاعَتِى "(1).
قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ : اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي شَدِّ الرَّحْلِ لِغَيْرِ الثَّلَاثَةِ كَالذَّهَابِ إلَى قُبُورِ الصَّالِحِينَ وَإِلَى الْمَوَاضِعِ الْفَاضِلَةِ ، فَذَهَبَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيُّ إلَى حُرْمَتِهِ ، وَأَشَارَ عِيَاضٌ إلَى اخْتِيَارِهِ ، وَالصَّحِيحُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ لَا يَحْرُمُ وَلَا يُكْرَهُ قَالُوا : وَالْمُرَادُ أَنَّ الْفَضِيلَةَ الثَّابِتَةَ إنَّمَا هِيَ شَدُّ الرَّحْلِ إلَى هَذِهِ الثَّلَاثَةِ خَاصَّةً انْتَهَى .
وَقَدْ أَجَابَ الْجُمْهُورُ عَنْ حَدِيثِ شَدِّ الرَّحْلِ بِأَنَّ الْقَصْرَ فِيهِ إضَافِيٌّ بِاعْتِبَارِ الْمَسَاجِدِ لَا حَقِيقِيٌّ قَالُوا : وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ فِي بَعْضِ أَلْفَاظِ الْحَدِيثِ " لَا يَنْبَغِي لِلْمَطِيِّ أَنْ تُشَدَّ رِحَالُهُ إِلَى مَسْجِدٍ يُبْتَغَى فِيهِ الصَّلَاةُ غَيْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى وَمَسْجِدِي هَذَا "(2).
__________
(1) - سنن الدارقطنى برقم (2727 ) والدولابي 2/64 ومجمع 4/2 وتلخيص 2/267 وعدي 6/2350 والإتحاف 4/416 و417 و10/363 وبنحوه ترغيب 2/224 وهق 5/245 وطب 12/406 ومطالب (1253) والشعب (4154 ) وجرجان 220 و434 والفيض (8715) والنيل 5/95-96 وهو حديث حسن لغيره
وحكم عليه الألباني بالوضع فى ضعيف الجامع (5607) فوهم !!
(2) - مسند أحمد (11924) صحيح لغيره(1/59)
فَالزِّيَارَةُ وَغَيْرُهَا خَارِجَةٌ عَنِ النَّهْيِ، وَأَجَابُوا ثَانِيًا بِالْإِجْمَاعِ عَلَى جَوَازِ شَدِّ الرِّحَالِ لِلتِّجَارَةِ وَسَائِرِ مَطَالِبِ الدُّنْيَا وَعَلَى وُجُوبِهِ إلَى عَرَفَةَ لِلْوُقُوفِ وَإِلَى مِنًى لِلْمَنَاسِكِ الَّتِي فِيهَا ، وَإِلَى مُزْدَلِفَةَ ، وَإِلَى الْجِهَادِ ، وَالْهِجْرَةِ مِنْ دَارِ الْكُفْرِ ، وَعَلَى اسْتِحْبَابِهِ لِطَلَبِ الْعِلْمِ ،وَأَجَابُوا عَنْ حَدِيثِ " لاَ تَجْعَلُوا قَبْرِى عِيدًا "(1)بِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى الْحَثِّ عَلَى كَثْرَةِ الزِّيَارَةِ لَا عَلَى مَنْعِهَا ، وَأَنَّهُ لَا يُهْمَلُ حَتَّى لَا يُزَارَ إلَّا فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ كَالْعِيدَيْنِ.
__________
(1) - سنن أبى داود(2044 ) صحيح(1/60)
وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ : " لاَ تَجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قُبُورًا "(1)أَيْ : لَا تَتْرُكُوا الصَّلَاةَ فِيهَا كَذَا قَالَ الْحَافِظُ الْمُنْذِرِيُّ ،وَقَالَ السُّبْكِيُّ : مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَا تَتَّخِذُوا لَهَا وَقْتًا مَخْصُوصًا لَا تَكُونُ الزِّيَارَةُ إلَّا فِيهِ ، أَوْ لَا تَتَّخِذُوهُ كَالْعِيدِ فِي الْعُكُوفِ عَلَيْهِ وَإِظْهَارِ الزِّينَةِ وَالِاجْتِمَاعِ لِلَّهْوِ وَغَيْرِهِ كَمَا يُفْعَلُ فِي الْأَعْيَادِ، بَلْ لَا يُؤْتَى إلَّا لِلزِّيَارَةِ وَالدُّعَاءِ وَالسَّلَامِ وَالصَّلَاةِ ثُمَّ يَنْصَرِفُ عَنْهُ، وَأُجِيبَ عَمَّا رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ مِنَ الْقَوْلِ بِكَرَاهَةِ زِيَارَةِ قَبْرِهِ - صلى الله عليه وسلم - بِأَنَّهُ إنَّمَا قَالَ بِكَرَاهَةِ زِيَارَةِ قَبْرِهِ - صلى الله عليه وسلم - قَطْعًا لِلذَّرِيعَةِ ، وَقِيلَ : إنَّمَا كَرِهَ إطْلَاقَ لَفْظِ الزِّيَارَةِ ؛ لِأَنَّ الزِّيَارةَ مَنْ شَاءَ فَعَلَهَا وَمَنْ شَاءَ تَرَكَهَا ، وَزِيَارَةُ قَبْرِهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنَ السُّنَنِ الْوَاجِبَةِ ، كَذَا قَالَ عَبْدُ الْحَقِّ ،وَاحْتَجَّ أَيْضًا مَنْ قَالَ بِالْمَشْرُوعِيَّةِ بِأَنَّهُ لَمْ يَزَلْ دَأْبُ الْمُسْلِمِينَ الْقَاصِدِينَ لِلْحَجِّ فِي جَمِيعِ الْأَزْمَانِ عَلَى تَبَايُنِ الدِّيَارِ وَاخْتِلَافِ الْمَذَاهِبِ الْوُصُولَ إلَى الْمَدِينَةِ الْمُشَرَّفَةِ لِقَصْدِ زِيَارَتِهِ ، وَيَعُدُّونَ ذَلِكَ مِنْ أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّ أَحَدًا أَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ فَكَانَ إجْمَاعًا(2).
- - - - - - - - - - - - -
البابُ الثاني
بعض فوائد الحج وحكمه
__________
(1) - المصدر السابق
(2) - نيل الأوطار - (ج 8 / ص 70) وشرح النووي على مسلم - (ج 5 / ص 59)، وانظر الفقه الإسلامي وأدلته - (ج 3 / ص 688) والموسوعة الفقهية الكويتية - (ج 24 / ص 80-84)(1/61)
الحج ذلك الموسم العظيم(1)
شُرِعَتِ الْعِبَادَاتُ لإِِظْهَارِ عُبُودِيَّةِ الْعَبْدِ لِرَبِّهِ وَمَدَى امْتِثَالِهِ لأَِمْرِهِ ، وَلَكِنْ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى أَنَّ أَكْثَرَ هَذِهِ الْعِبَادَاتِ لَهَا فَوَائِدُ تُدْرِكُهَا الْعُقُول الصَّحِيحَةُ، وَأَظْهَرُ مَا يَكُونُ ذَلِكَ فِي فَرِيضَةِ الْحَجِّ .
وَتَشْتَمِل هَذِهِ الْفَرِيضَةُ عَلَى حِكَمٍ جَلِيلَةٍ كَثِيرَةٍ تَمْتَدُّ فِي ثَنَايَا حَيَاةِ الْمُؤْمِنَ الرُّوحِيَّةِ ، وَمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ جَمِيعِهِمْ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا ، مِنْهَا :
أ - أَنَّ فِي الْحَجِّ إِظْهَارَ التَّذَلُّل لِلَّهِ تَعَالَى ، وَذَلِكَ لأَِنَّ الْحَاجَّ يَرْفُضُ أَسْبَابَ التَّرَفِ وَالتَّزَيُّنِ ، وَيَلْبَسُ ثِيَابَ الإِْحْرَامِ مُظْهِرًا فَقْرَهُ لِرَبِّهِ ، وَيَتَجَرَّدُ عَنِ الدُّنْيَا وَشَوَاغِلِهَا الَّتِي تَصْرِفُهُ عَنِ الْخُلُوصِ لِمَوْلاَهُ ، فَيَتَعَرَّضُ بِذَلِكَ لِمَغْفِرَتِهِ وَرُحْمَاهُ ، ثُمَّ يَقِفُ فِي عَرَفَةَ ضَارِعًا لِرَبِّهِ حَامِدًا شَاكِرًا نَعْمَاءَهُ وَفَضْلَهُ ، وَمُسْتَغْفِرًا لِذُنُوبِهِ وَعَثَرَاتِهِ ، وَفِي الطَّوَافِ حَوْل الْكَعْبَةِ الْبَيْتِ الْحَرَامِ يَلُوذُ بِجَنَابِ رَبِّهِ وَيَلْجَأُ إِلَيْهِ مِنْ ذُنُوبِهِ ، وَمِنْ هَوَى نَفْسِهِ ، وَوِسْوَاسِ الشَّيْطَانِ .
__________
(1) - مجلة البيان ـ الأعداد 1 - 100 - (ج 19 / ص 4)(1/62)
ب - أَنَّ أَدَاءَ فَرِيضَةِ الْحَجِّ يُؤَدِّي شُكْرَ نِعْمَةِ الْمَال ، وَسَلاَمَةِ الْبَدَنِ ، وَهُمَا أَعْظَمُ مَا يَتَمَتَّعُ بِهِ الإِْنْسَانُ مِنْ نِعَمِ الدُّنْيَا ، فَفِي الْحَجِّ شُكْرُ هَاتَيْنِ النِّعْمَتَيْنِ الْعَظِيمَتَيْنِ ، حَيْثُ يُجْهِدُ الإِْنْسَانُ نَفْسَهُ " وَيُنْفِقُ مَالَهُ فِي طَاعَةِ رَبِّهِ وَالتَّقَرُّبِ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ ، وَلاَ شَكَّ أَنَّ شُكْرَ النَّعْمَاءِ وَاجِبٌ تُقَرِّرُهُ بَدَاهَةُ الْعُقُول ، وَتَفْرِضُهُ شَرِيعَةُ الدِّينِ .
ج - يَجْتَمِعُ الْمُسْلِمُونَ مِنْ أَقْطَارِ الأَْرْضِ فِي مَرْكَزِ اتِّجَاهِ أَرْوَاحِهِمْ ، وَمَهْوَى أَفْئِدَتِهِمْ ، فَيَتَعَرَّفُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ ، وَيَأْلَفُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا ، هُنَاكَ حَيْثُ تَذُوبُ الْفَوَارِقُ بَيْنَ النَّاسِ ، فَوَارِقُ الْغِنَى وَالْفَقْرِ ، فَوَارِقُ الْجِنْسِ وَاللَّوْنِ ، فَوَارِقُ اللِّسَانِ وَاللُّغَةِ ، تَتَّحِدُ كَلِمَةُ الإِْنْسَانِ فِي أَعْظَمِ مُؤْتَمَرٍ بَشَرِيٍّ اجْتَمَعَتْ كَلِمَةُ أَصْحَابِهِ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَعَلَى التَّوَاصِي بِالْحَقِّ وَالتَّوَاصِي بِالصَّبْرِ ، هَدَفُهُ الْعَظِيمُ رَبْطُ أَسْبَابِ الْحَيَاةِ بِأَسْبَابِ السَّمَاءِ .(1)
د-إن فوائد الحج الفردية لا يمكن إنكارها أو المجادلة فيها ، فهو تزكية للنفوس ، وتجريد لها من عوامل الضعف، وتزكية لها بالتصميم على الانخلاع من الذنوب والآثام ولذة القرب من الله ومناجاته في المشاعر التي عظمها بنفسه: {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ } (32) سورة الحج.
__________
(1) - الموسوعة الفقهية الكويتية - (ج 17 / ص 26)(1/63)
لكننا في هذه المناسبة نحب الإشارة إلى الجانب الاجتماعي والمظهر العالمي للحج كمؤتمر للمسلمين يقفون فيه وقفة للمراجعة ، شاكرين نعمة لله عليهم سائلينه العون على تجاوز العقبات والصعاب.
وإذا ما أشرنا إلى بعض السلبيات في موسم الحج فلا يعني هذا الغفلة عن ما لهذه الشعيرة من أثر في إصلاح أحوال المسلمين أفراداً وجماعات، بل هو مزيد إلحاح على هذه السلبيات حتى تنمحي أو تقل ولا يكون ذلك إلا ببث الوعي عند المسلمين المتوجهين إلى تأدية هذه الفريضة.
هـ -إن كلَّ من أكرمه الله بأداء فريضة الحج رجع وقد رأى وشاهد أنواعاً من التصرفات والسلوك بين صفوف الحجاج أقلُّ ما يقال فيها أنها ليست من الإسلام في شيء ، بل إن روح الإسلام تخالفها أشد المخالفة، بل وتحاربها أشد الحرب، فهناك جهل كبير بأحكام الحج وآدابه يؤدي إلى أضرار كبيرة بالحجاج، وإعطاء صورة غير طيبة عن المسلمين وشعائرهم.
ولذلك وجب على العلماء وطلبة العلم كلٌّ بحسب قدرته تعليم المسلمين ونصحهم سواء قبل سفر هؤلاء الحجاج من بلادهم أو بعد وصولهم إلى المشاعر المقدسة ، وحتى يثمر التعليم والنصح والإرشاد ثمرته المباركة ينبغي أن يصدر عن مدارسة وتخطيط يقوم به العلماء الذين يعتبر موسم الحج مناسبة هامة لتجمعهم لتدارس مشاكل المسلمين الحجاج سواء في أثناء تأديتهم المناسك ، أو المشاكل العامة المتعلقة بأوضاع المسلمين عامة.(1/64)
و- إن أهم المقاصد من الحج أن يتعانق الهدفان الديني والدنيوي وينعكسان على المسلمين خيراً وبركةً. وتتحقق السعادتان: سعادة الدنيا بتصحيح الأخطاء والقضاء على السلبيات؛ وسعادة الآخرة بمغفرة الذنب ومرضاة الرب، أما التطلع لتحقيق واحد من الهدفين منفصلاً عن الآخر فهذا مخالف لروح الآية الكريمة: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} (27) سورة الحج(1)
- - - - - - - - - - - - - -
فوائد عامة
لقد أوضح سبحانه في هذه الآيات أنه دعا عباده للحج ليشهدوا منافع لهم، ثم ذكر سبحانه منها أربع منافع:
الأولى: ذكره عز وجل في الأيام المعلومات، وهي عشر ذي الحجة وأيام التشريق. الثانية والثالثة والرابعة: أخبر عنها سبحانه بقوله: {ثُمَّ لْيَقْضُواْ تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُواْ نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُواْ بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ}.
وأعظم هذه المنافع وأكبرها شأناً ما يشهده الحاج من توجه القلوب إلى الله سبحانه، والإقبال عليه والإكثار من ذكره بالتلبية وغيرها من أنواع الذكر، وهذا يتضمن الإخلاص لله في العبادة، وتعظيم حرماته والتفكر في كل ما يقرب لديه ويباعد من غضبه.
ومن منافع الحج وفوائده العظيمة: أنه يذكِّرُ الآخرة ووقوف العباد بين يدي الله يوم القيامة؛ لأن المشاعر تجمع الناس في زيٍّ واحد، مكشوفي الرؤوس من سائر الأجناس(2)، يذكرون الله سبحانه ويلبون دعواته، وهذا المشهد يشبه وقوفهم بين يدي الله يوم القيامة في صعيد واحد حفاةً عراةً غرلاً خائفين وجلين مشفقين، وذلك مما يبعث في نفس الحاج خوف الله ومراقبته، والإخلاص له في العمل...
__________
(1) - انظر كلاما حول هذا الحدث للشيخ محمد أمين المصري في كتابه سبيل الدعوة الإسلامية،ص 71.
(2) - المقصود الرجال دون النساء(1/65)
وفي الحج فوائد أخرى ومنافع متنوعة خاصة وعامة، ويطول الكلام بتعدادها"(1).
إعلاء شعار التوحيد والبراءة من الشرك:
فالحجُّ بأعماله وأقواله كله ذكر لله عز وجل، وكله دعوة إلى توحيد والاستقامة على دينه والثبات على ما بعث به رسوله محمداً - صلى الله عليه وسلم - ، فأعظم أهدافه توجيه الناس إلى توحيد الله والإخلاص له، والاتباع لرسوله - صلى الله عليه وسلم - فيما بعثه الله به من الحق والهدى في الحج وغيره، فالتلبية أول ما يأتي به الحاج والمعتمر يقول: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، يعلن توحيده وإخلاصه لله وأن الله سبحانه لا شريك له".
فيه دربة على الجهاد في سبيل الله:
فتحمل المشاق فيه، وبذل الغالي والنفيس في سبيل تحقيق الحج دليل واضح على تعويد الإنسان على تحمل المشاق في سبيل الله.
إنه ميدان خصب للدعوة إلى الله:
فقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يطوف على القبائل في منى يدعوهم إلى توحيد الله ونصرة دينه.
فالحجاج في أشد الحاجة إلى الدعوة والتوجيه إلى الخير والإعانة على الحق، فإذا التقى مع إخوانه من سائر أقطار الدنيا وتذكروا فيما يجب عليهم مما شرع الله لهم كان ذلك من أعظم الأسباب في توحيد كلمتهم واستقامتهم على دين الله، وتعارفهم وتعاونهم على البر والتقوى. فالحجُّ فيه منافع عظيمة فيه خيرات كثيرة، فيه دعوة إلى الله، وتعليم وإرشاد وتعارف وتعاون على البر والتقوى بالقول والفعل المعنوي والمادي(2).
__________
(1) - انظر: مجلة التوعية الإسلامية في الحج (ص 11/14). العدد (209) من ذي الحجة (1414هـ).
(2) - انظر: مجلة البحوث الإسلامية العدد (29)، (ص 13-14).(1/66)
ولا ريب أن الحجاج في أشد الحاجة إلى الدعوة والتوجيه والإرشاد، فالواجب أن تكون دعوتهم بالأساليب الحسنة التي يرجى منها قبول الحق وترك الباطل، قال الله جل وعلا: {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} (125) سورة النحل(1).
إنه مؤتمر عالمي للمسلمين:
إن الله عز وجل جعل موسم الحج مؤتمراً لعباده يجتمعون فيه من أنحاء الدنيا، ومن سائر أجناس البشر، يريدون القربة إلى الله وسؤاله والضراعة إليه، ويطلبون حطَّ ذنوبهم وغفران سيئاتهم، يرفعون إليه جميع حوائجهم ويسألونه سبحانه من فضله، ويتوبون إليه من تقصيرهم وذنوبهم، ويتعارفون فيه، ويتشاورون فيه، ويتناصحون ويأتمرون بالمعروف ويتناهون عن المنكر، وذلك من جملة المنافع التي أشار إليها سبحانه في قوله عز وجل: {وَأَذّن فِى النَّاسِ بِالْحَجّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلّ فَجّ عَميِقٍ * لّيَشْهَدُواْ مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُواْ اسْمَ اللَّهِ فِى أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مّن بَهِيمَةِ الأنْعَامِ} [الحج:27، 28]"(2).
وقال الشيخ عبد الله البسام: "فهو ـ أي: الحج ـ مجمع حافل كبير يضم جميع وفد المسلمين من أقطار الدنيا في زمن واحد، ومكان واحد، فيكون فيه التآلف والتعارف والتفاهم مما يجعل المسلمين أمة واحد وصفاً واحداً فيما يعود عليهم بالنفع في أمر دينهم ودنياهم"(3).
ويمكن تصنيف هذه الفوائد والمنافع إلى:
أ- فوائد الحج الدينية:
1- أنه يكفر الذنوب، ويطهّر النفس من شوائب المعاصي.
__________
(1) - انظر: مجموع فتاوى ومقالات متنوعة، جمع الشويعر (16/325).
(2) - انظر: مجموع فتاوى ابن باز، إعداد: الطيار وأحمد ابن باز (5/2/37).
(3) - توضيح الأحكام من بلوغ المرام (3/244).(1/67)
2- يقوي الإيمان، ويعين على تجديد العهد مع الله، ويساعد على التوبة الخالصة الصدوق، ويهذب النفس، ويرقق المشاعر ويهيّج العواطف.
3- بالحج يؤدي العبد لربه شكر النعمة: نعمة المال، ونعمة العافية، ذلك لأن العبادات بعضها بدنية، وبعضها مالية، والحج عبادة لا تقوم إلا بالبدن والمال، ولهذا لا يجب إلاّ عند وجود المال وصحة البدن، فكان فيه شكر النعمتين، وشكر النعمة ليس إلاّ استعمالها في طاعة المنعم، وشكر النعمة واجب عقلاً وشرعاً.
4- في الحج إظهار للعبودية، لأن الحاج في حال إحرامه، يظهر الشعث، ويرفض أسباب التزين والارتفاق، ويظهر بصورة عبدٍ سخط عليه مولاه، فيتعرض بسوء حاله لعطف مولاه(1).
ب- الفوائد الشخصية:
1- الحج يعوّد الإنسان الصبر، وتحمّل المتاعب، ويعلّم الانضباط، والتزام الأوامر، فيستعذب الألم في سبيل إرضاء الله تعالى، ويدفع إلى التضحية والإيثار.
2- يطهّر النفس ويعيدها إلى الصفاء والإخلاص، مما يؤدي إلى تجديد الحياة، ورفع معنويات الإنسان، وتقوية الأمل، وحسن الظن بالله.
3- يذكّر الحجّ المؤمن بماضي الإسلام التليد، وبجهاد النبي - صلى الله عليه وسلم - ، والسلف الصالح، الذين أناروا الدنيا بالعمل الصالح.
4- توطين القلب على فراق الأهل والولد، إذ لا بد من مفارقتهم، فلو فارقهم فجأة يلزمه أمرٌ عظيم عند صدمة الفراق.
5- نزع مادة الشحّ عن صدر الشحيح، فإن المبتلى بالشح إذا خرج إلى هذا السفر لا يمكنه أن يبخل على نفسه، لخوف التلف، فيعتاد الجود على نفسه، فيتعدى عادته منه إلى غيره، فينال محمدة الأسخياء، وهذا أمرٌ معتاد، أن من كان من أبخل الناس، متى خرج في هذا السفر يعتاد الجود.
6- أن يعتاد التوكل بأنه لا يمكنه أن يحمل مع نفسه جميع ما يحتاج إليه، فلا بدّ من التوكل على الله تعالى، فيما لم يحمله مع نفسه، فيتعدى توكله إلى ما يحتاج في الحضرة.
__________
(1) - انظر: الفقه الإسلامي وأدلته للدكتور وهبة الزحيلي (3/11-13).(1/68)
7- أن الحاج وإن اشتدت مشقته، وبعدت شقته فإذا وقع بصره على بيت الله زال الكلال، فلا كلال ولا ملال، وكذا في يوم القيامة، وإن طال اليوم وعاين الأهوال، واشتدت الأهوال، فإذا نظر إلى ربه المتعال زال ما به نزل، وكأنه في روح وراحة لم يزل، فسبحان الله يزول الكلال والعي والتعب ممن رأى البيت فكيف بمن رأى خالق البيت؟!(1).
ج- فوائد الحج الاجتماعية:
1- أنه يؤدي بلا شك إلى تعارف أبناء الأمة على اختلاف ألوانهم ولغاتهم وأوطانهم.
2- المذاكرة في شؤون المسلمين العامة.
3- التعاون صفاً واحداً أمام الأعداء.
4- يُشعر الحجّ بقوة الرابطة الأخوية مع المؤمنين في جميع أنحاء الأرض، {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10]، ويحسّ الناس أنهم حقاً متساوون، لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لأبيض على أسود إلاّ بالتقوى(2).
5- يساعد الحج على نشر الدعوة الإسلامية، ودعم نشاط الدعاة في أنحاء المعمورة، على النحو الذي بدأ به النبي - صلى الله عليه وسلم - نشر دعوته بلقاء وفود الحجيج كل عام.
6- إمكان تبادل المنافع الاقتصادية الحرة فيما بينهم(3).
أصحاب السلع والتجارة يجدون في موسم الحج سوقاً رائجة، حيث تجبى إلى البلد الحرام ثمرات كل شيء من أطراف الأرض، ويقدم الحجيج من كل فجٍ، ومن كل قطر، ومعهم من خيرات بلادهم ما تفرق في أرجاء الأرض في شتى المواسم، يتجمع كله في البلد الحرام، في موسم واحد، فهو موسم تجارة، ومعرض نتاج، وسوق عالمية في كل عام(4).
د- عبر ودروس ومواعظ في الحج:
1- عند السفر:
__________
(1) - انظر: محاسن الإسلام لأبي عبد الله محمد بن عبد الرحمن البخاري (ص 28-29).
(2) - المعجم الكبير للطبراني - (ج 12 / ص 360)(14444) صحيح لغيره
(3) - انظر: الفقه الإسلامي وأدلته للزحيلي (3/13-14).
(4) - في الظلال القرآن (4/2418-2419)، وانظر: التبصرة لابن الجوزي (2/152)، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي (2/413).(1/69)
ليتذكر المسافر باليوم الذي يعيّنه لسفره اليوم الذي فيه حلول أجله، وسفره إلى آخرته، وبما بين يديه من وعثاء السفر وخطره ومشقّاته ما بين يديه في سفر الآخرة من أهوال الموت، وظُلمة القبر وعذابه، وسؤال منكر ونكير، وأهوال يوم القيامة وخطرها، وليستودع ربه ما خلّفه من أهل ومال وولد، بإخلاص وصدق نيّة(1).
2- عند ركوب الدابة:
ليتذكر عند ركوب الدابة المركب الذي يركبه إلى دار الآخرة، وهي الجنازة التي يحمل عليها، وما يدريه لعلّ الموت قريب، ويكون ركوبه للجنازة قبل ركوبه للجمل(2)
3- إذا جنّ الليل في السفر:
تذكّر إذا جن الليل ـ وأنت بعيد عن أهلك ومن كان يؤنسك ـ مبيتك في ظلمة القبر مفرداً عن أهلك، ومن كان يؤنسك، غريباً بين جيرانك، واحرص على فراغ قلبك للاعتبار والذكر، وتعظيم الشعائر، وعلى قطع العلائق الشاغلة عن الله، وتوجّه بقلبك كله إلى ربك، كما تتوجّه بظاهرك إلى بيته، فإن المقصود ربّ البيت(3).
4- التأمل في مخلوقات الله:
المسافر يتأمل، ثم يتدبّر ثم يخشى، كل ذلك حينما يرى عجيب صنع الله وعظيم قدرته، وقد أنكر الله عزوجل على أناسٍ يسيحون في الأرض ولا يتأملون في خلقه فيعرفون حقه، قال تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِّن آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} (105) سورة يوسف.
قال الشاعر(4):
تأمّل في نبات الأرض وانظر إلى آثار ما صنع المليك
عيونٌ من لُجين شاخصاتٌ بأحداق هي الذهب السبيك
على قضب الزبرجد شاهدات بأن الله ليس له شريك(5)
5- الميقات:
__________
(1) - هداية السالك لابن جماعة الكناني (1/139). وانظر: إحياء علوم الدين للغزالي (1/355).
(2) - إحياء علوم الدين (1/354).
(3) - هداية السالك (1/150).
(4) - محاضرات الأدباء - (ج 2 / ص 78)
(5) - المنهاج للمعتمر والحاج للشريم (ص 11-12).(1/70)
ليتذكر الحاج بوصوله إلى الميقات أن الله تعالى قد أهَّله للقدوم عليه، والقرب من حضرته، فليلزم الأدب معه ليصلح لإقباله عليه بمزيد الإحسان إليه(1).
وليتذكر فيها ما بين الخروج من الدنيا بالموت إلى ميقات يوم القيامة، وما بينهما من الأهوال والمطالبات(2).
6- الإحرام ولبس الإزار والرداء:
فليتذكر عنده الكفن، ولفه فيه، فإنه سيرتدي ويتزر بثوبي الإحرام عند القرب من بيت الله عز وجل، وربما لا يتم سفره إليه، وأنه سيلقى الله عز وجل ملفوفاً في ثياب الكفن لا محالة، فكما لا يلقى بيت الله عز وجل إلاّ مخالفاً عادته في الزي والهيئة، فلا يلقى الله عز وجل بعد الموت إلاّ في زي مخالف لزيّ الدنيا، وهذا الثوب قريب من ذلك الثوب، إذ ليس فيه مخيط كما في الكفن(3).
7- التلبية:
" لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ لاَ شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ لاَ شَرِيكَ لَكَ "(4).
إن هذه الكلمات بمنزلة النشيد الذي ينشده الجند في ساحة الحرب، فتشيع فيهم روح الحماسة والإقدام، والغاية من ترديد هذه التلبية أنْ يلقي الإنسان مقادته لله، وأن يتحطم كبرياؤه، لكي يعيش كما أمره الله أن يعيش مخلوقاً وديعاً، واقفاً عند الحدود التي شرعها له(5).
قال العلامة ابن القيم في تهذيب السنن :
وَقَدْ اِشْتَمَلَتْ كَلِمَات التَّلْبِيَة عَلَى قَوَاعِد عَظِيمَة وَفَوَائِد جَلِيلَة :
إِحْدَاهَا : أَنَّ قَوْلك " لَبَّيْكَ " يَتَضَمَّن إِجَابَة دَاعٍ دَعَاك وَمُنَادٍ نَادَاك ، وَلَا يَصِحّ فِي لُغَة وَلَا عَقْل إِجَابَة مِنْ لَا يَتَكَلَّم وَلَا يَدْعُو مِنْ أَجَابَهُ.
__________
(1) - هداية السالك (1/152).
(2) - إحياء علوم الدين (1/355).
(3) - إحياء علوم الدين (1/354-355).
(4) - صحيح البخارى برقم (1549)
(5) - روح الدين الإسلامي لعفيف طبارة (ص 263).(1/71)
الثَّانِيَة : أَنَّهَا تَتَضَمَّن الْمَحَبَّة ، وَلَا يُقَال لَبَّيْكَ إِلَّا لِمِنْ تُحِبّهُ وَتُعَظِّمهُ ، وَلِهَذَا قِيلَ فِي مَعْنَاهَا : أَنَا مُوَاجِه لَك بِمَا تُحِبّ ، وَأَنَّهَا مِنْ قَوْلهمْ : اِمْرَأَة لَبَّة ، أَيّ مَحَبَّة لِوَلَدِهَا .
الثَّالِثَة : أَنَّهَا تَتَضَمَّن اِلْتِزَام دَوَام الْعُبُودِيَّة ، وَلِهَذَا قِيلَ : هِيَ مِنَ الْإِقَامَة ، أَيّ أَنَا مُقِيم عَلَى طَاعَتك .
الرَّابِعَة : أَنَّهَا تَتَضَمَّن الْخُضُوع وَالذُّلّ ، أَيّ خُضُوعًا بَعْد خُضُوع ، مِنْ قَوْلهمْ . أَنَا مُلَبٍّ بَيْن يَدَيْك ، أَيّ خَاضِع ذَلِيل .
الْخَامِسَة : أَنَّهَا تَتَضَمَّن الْإِخْلَاص ، وَلِهَذَا قِيلَ . إِنَّهَا مِنَ اللُّبّ ، وَهُوَ الْخَالِص .
السَّادِسَة : أَنَّهَا تَتَضَمَّن الْإِقْرَار بِسَمْعِ الرَّبّ تَعَالَى ، إِذْ يَسْتَحِيل أَنَّ يَقُول الرَّجُل لَبَّيْكَ لِمِنْ لَا يَسْمَع دُعَاءَهُ .
السَّابِعَة : أَنَّهَا تَتَضَمَّن التَّقَرُّب مِنَ اللَّه ، وَلِهَذَا قِيلَ . إِنَّهَا مِنَ الْإِلْبَاب ، وَهُوَ التَّقَرُّب .(1/72)
الثَّامِنَة : أَنَّهَا جَعَلَتْ فِي الْإِحْرَام شِعَارًا لِانْتِقَالِ مِنْ حَال إِلَى حَال ، وَمِنْ مَنْسَك إِلَى مَنْسَك ، كَمَا جَعَلَ التَّكْبِير فِي الصَّلَاة سَبْعًا ، لِلِانْتِقَالِ مِنْ رُكْن إِلَى رُكْن ، وَلِهَذَا كَانَتِ السُّنَّة أَنْ يُلَبِّي حَتَّى يَشْرَع فِي الطَّوَاف ، فَيَقْطَع التَّلْبِيَة ، ثُمَّ إِذَا سَارَ لَبَّى حَتَّى يَقِف بِعَرَفَة فَيَقْطَعهَا ثُمَّ يُلَبِّي حَتَّى يَقِف بِمُزْدِلَفَةَ فَيَقْطَعهَا ثُمَّ يُلَبِّي حَتَّى يَرْمِي جَمْرَة الْعَقَبَة فَيَقْطَعهُ، فَالتَّلْبِيَة شِعَار الْحَجّ وَالتَّنَقُّل فِي أَعْمَال الْمَنَاسِك ، فَالْحَاجّ كُلَّمَا اِنْتَقَلَ مِنْ رُكْن إِلَى رُكْن قَالَ : " لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ " كَمَا أَنَّ الْمُصَلِّي يَقُول فِي اِنْتِقَاله مِنْ رُكْن إِلَى رُكْن " اللَّه أَكْبَر " فَإِذَا حَلَّ مِنْ نُسُكه قَطَعَهَا ، كَمَا يَكُون سَلَام الْمُصَلِّي قَاطِعًا لِتَكْبِيرِهِ.
التَّاسِعَة : أَنَّهَا شِعَار لِتَوْحِيدِ مِلَّة إِبْرَاهِيم ، الَّذِي هُوَ رُوح الْحَجّ وَمَقْصِده ، بَلْ رُوح الْعِبَادَات كُلّهَا وَالْمَقْصُود مِنْهَا . وَلِهَذَا كَانَتِ التَّلْبِيَة مِفْتَاح هَذِهِ الْعِبَادَة الَّتِي يَدْخُل فِيهَا بِهَا .
الْعَاشِرَة : أَنَّهَا مُتَضَمِّنَة لِمِفْتَاحِ الْجَنَّة وَبَابُ الْإِسْلَام الَّذِي يَدْخُل مِنْهُ إِلَيْهِ ، وَهُوَ كَلِمَة الْإِخْلَاص وَالشَّهَادَة لِلَّهِ بِأَنَّهُ لَا شَرِيك لَهُ .
الْحَادِيَة عَشَرَة : أَنَّهَا مُشْتَمِلَةُ عَلَى الْحَمْد لِلَّهِ الَّذِي هُوَ مِنْ أَحَبّ مَا يَتَقَرَّب بِهِ الْعَبْد إِلَى اللَّه ، وَأَوَّل مَنْ يُدْعَى إِلَى الْجَنَّة أَهْله ، وَهُوَ فَاتِحَة الصَّلَاة وَخَاتِمَتهَا .(1/73)
الثَّانِيَة عَشْرَة : أَنَّهَا مُشْتَمِلَة عَلَى الِاعْتِرَاف لِلَّهِ بِالنِّعْمَةِ كُلّهَا ، وَلِهَذَا عَرَّفَهَا بِاللَّامِ الْمُفِيدَة لِلِاسْتِغْرَاقِ ، أَيْ النِّعَم كُلّهَا لَك ، وَأَنْتَ مُولِيهَا وَالْمُنْعِم بِهَا .
الثَّالِثَة عَشْرَة : أَنَّهَا مُشْتَمِلَة عَلَى الِاعْتِرَاف بِأَنَّ الْمِلْك كُلّه لِلَّهِ وَحْده ، فَلَا مِلْك عَلَى الْحَقِيقَة لِغَيْرِهِ .
الرَّابِعَة عَشْرَة : أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى مُؤَكَّد الثُّبُوت بِإِنَّ الْمُقْتَضِيَة تَحْقِيق الْخَبَر وَتَثْبِيته وَأَنَّهُ مِمَّا لَا يَدْخُلهُ رَيْب وَلَا شَكّ .(1/74)
الْخَامِسَة عَشْرَة : فِي " إِنَّ " وَجْهَانِ : فَتْحهَا وَكَسْرهَا ، فَمَنْ فَتَحَهَا تَضَمَّنَتْ مَعْنَى التَّعْلِيل ، أَيْ لَبَّيْكَ الْحَمْد وَالنِّعْمَة لَك ، وَمَنْ كَسَرَهَا كَانَتْ جُمْلَة مُسْتَقِلَّة مُسْتَأْنَفَة ، تَتَضَمَّن اِبْتِدَاء الثَّنَاء عَلَى اللَّه ، وَالثَّنَاء إِذَا كَثُرَتْ جُمَله وَتَعَدَّدَتْ كَانَ أَحْسَن مِنْ قِلَّتهَا ، وَأَمَّا إِذَا فُتِحَتْ فَإِنَّهَا بِلَامِ التَّعْلِيل الْمَحْذُوفَة مَعَهَا قِيَاسًا ، وَالْمَعْنَى لَبَّيْكَ لِأَنَّ الْحَمْد لَك وَالْفَرْقُ بَيْن أَنْ تَكُون جُمَل الثَّنَاء عِلَّة لِغَيْرِهَا وَبَيْن أَنْ تَكُون مُسْتَقِلَّة مُرَادَة لِنَفْسِهَا ، وَلِهَذَا قَالَ ثَعْلَب : مَنْ قَالَ " إِنَّ " بِالْكَسْرِ فَقَدْ عَمَّ ، وَمَنْ قَالَ : " أَنَّ " بِالْفَتْحِ فَقَدْ خَصَّ . وَنَظِير هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ وَالتَّعْلِيلَيْنِ وَالتَّرْجِيح سَوَاء قَوْله تَعَالَى حِكَايَة عَنِ الْمُؤْمِنِينَ {إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ} (28) سورة الطور ،كَسْر " إِنَّ " وَفَتْحهَا . فَمَنْ فَتَحَ كَانَ الْمَعْنَى : " نَدْعُوهُ لِأَنَّهُ هُوَ الْبَرّ الرَّحِيم " وَمَنْ كَسَرَ كَانَ الْكَلَام جُمْلَتَيْنِ ، إِحَدهمَا قَوْله " نَدْعُوهُ " ، ثُمَّ اِسْتَأْنَفَ فَقَالَ " إِنَّهُ هُوَ الْبَرّ الرَّحِيم ، قَالَ أَبُو عُبَيْد " : وَالْكَسْر أَحْسَن ، وَرَجَّحَهُ بِمَا ذَكَرْنَاهُ .(1/75)
السَّادِسَة عَشْرَة : أَنَّهَا مُتَضَمِّنَة لِلْإِخْبَارِ عَن اِجْتِمَاع الْمُلْك وَالنِّعْمَة وَالْحَمْد لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، وَهَذَا نَوْع آخَر مِنَ الثَّنَاء عَلَيْهِ ، غَيْر الثَّنَاء بِمُفْرَدَاتِ تِلْكَ الْأَوْصَاف الْعَلِيَّة ، فَلَهُ سُبْحَانه مِنْ أَوْصَافه الْعُلَى نَوْعَا ثَنَاء ، نَوْعٌ مُتَعَلِّق بِكُلِّ صِفَة عَلَى اِنْفِرَادهَا ، وَنَوْعٌ مُتَعَلِّق بِاجْتِمَاعِهَا وَهُوَ كَمَالٌ مَعَ كَمَال وَهُوَ عَامَّة الْكَمَال ، وَاَللَّه سُبْحَانه يُفَرَّق فِي صِفَاته بَيْن الْمُلْك وَالْحَمْد ، وَسَوَّغَ هَذَا الْمَعْنَى أَنَّ اِقْتِرَان أَحَدهمَا بِالْآخَرِ مِنْ أَعْظَم الْكَمَال ،وَالْمُلْكُ وَحْده كَمَال ، وَالْحَمْدُ كَمَال وَاقْتِرَان أَحَدهمَا بِالْآخَرِ كَمَال ، فَإِذَا اِجْتَمَعَ الْمُلْك الْمُتَضَمِّنُ لِلْقُدْرَةِ مَعَ النِّعْمَة الْمُتَضَمِّنَة لِغَايَةِ النَّفْع وَالْإِحْسَان وَالرَّحْمَة مَعَ الْحَمْد الْمُتَضَمِّن لِعَامَّةِ الْجَلَال وَالْإِكْرَام الدَّاعِي إِلَى مَحَبَّته ، كَانَ فِي ذَلِكَ مِنَ الْعَظَمَة وَالْكَمَال وَالْجَلَال مَا هُوَ أَوْلَى بِهِ وَهُوَ أَهْله ، وَكَانَ فِي ذِكْر الْحَمْد لَهُ وَمَعْرِفَته بِهِ مِنِ اِنْجِذَاب قَلْبه إِلَى اللَّه وَإِقْبَاله عَلَيْهِ ، وَالتَّوَجُّه بِدَوَاعِي الْمَحَبَّة كُلّهَا إِلَيْهِ مَا هُوَ مَقْصُود الْعُبُودِيَّة وَلُبّهَا ، وَذَلِكَ فَضْل اللَّه يُؤْتِيه مَنْ يَشَاء . وَنَظِير هَذَا اِقْتِرَان الْغِنَى بِالْكَرَمِ ، كَقَوْلِهِ : {.. قَالَ هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} (40) سورة النمل ،فَلَهُ كَمَال مِنْ غِنَاهُ وَكَرَمه ، وَمِنِ اِقْتِرَان أَحَدهمَا بِالْآخَرِ . .(1/76)
وَهَذَا يُطْلِع ذَا اللُّبّ عَلَى رِيَاض مِنَ الْعِلْم أَنِيقَات ، وَيَفْتَح لَهُ بَابُ مَحَبَّة اللَّه وَمَعْرِفَته ، وَاَللَّه الْمُسْتَعَان وَعَلَيْهِ التُّكْلَان .
السَّابِعَة عَشْرَة : أَنَّ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : " أَفْضَل مَا قُلْت أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي : " لَا إِلَه إِلَّا اللَّه وَحْده لَا شَرِيك لَهُ ، لَهُ الْمُلْك وَلَهُ الْحَمْد وَهُوَ عَلَى كُلّ شَيْء قَدِير "(1)وَقَدِ اِشْتَمَلَتْ بِالتَّلْبِيَةِ عَلَى هَذِهِ الْكَلِمَات بِعَيْنِهَا ، وَتَضَمَّنَتْ مَعَانِيهَا ، وَقَوْله : " وَهُوَ عَلَى كُلّ شَيْء قَدِير ، لَك أَنْ تُدْخِلهَا تَحْت قَوْلك فِي التَّلْبِيَة " لَا شَرِيك لَك " . وَلَك أَنْ تُدْخِلهَا تَحْت قَوْلك " إِنَّ الْحَمْد وَالنِّعْمَة لَك " ، وَلَك أَنْ تُدْخِلهَا تَحْت إِثْبَات الْمُلْك لَهُ تَعَالَى ، إِذْ لَوْ كَانَ بَعْضُ الْمَوْجُودَات خَارِجًا عَنْ قُدْرَته وَمُلْكه ، وَاقِعًا بِخَلْقِ غَيْره ، لَمْ يَكُنْ نَفْي الشَّرِيك عَامًّا ، وَلَمْ يَكُنْ إِثْبَاتُ الْمُلْك وَالْحَمْد لَهُ عَامًّا ، وَهَذَا مِنْ أَعْظَم الْمُحَال ، وَالْمُلْك كُلّه لَهُ ، وَالْحَمْد كُلّه لَهُ ، وَلَيْسَ لَهُ شَرِيك بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوه
الثَّامِنَة عَشْرَة : أَنَّ كَلِمَات التَّلْبِيَة مُتَضَمِّنَة لِلرَّدِّ عَلَى كُلّ مُبْطِل فِي صِفَات اللَّه وَتَوْحِيده ، فَإِنَّهَا مُبْطِلَة لِقَوْلِ الْمُشْرِكِينَ عَلَى اِخْتِلَاف طَوَائِفهمْ وَمَقَالَاتهمْ ..
__________
(1) - الدعاء للطبراني -العلمية - (ج 1 / ص 273)( 874 ) صحيح(1/77)
التَّاسِعَة عَشْرَة : فِي عَطْف الْمُلْك عَلَى الْحَمْد وَالنِّعْمَة بَعْد كَمَالِ الْخَبَر ، وَهُوَ قَوْله " إِنَّ الْحَمْد وَالنِّعْمَة لَك وَالْمُلْك " وَلَمْ يَقُلْ إِنَّ الْحَمْد وَالنِّعْمَة وَالْمُلْك - لَطِيفَة بَدِيعَة ، وَهِيَ أَنَّ الْكَلَام يَصِير بِذَلِكَ جُمْلَتَيْنِ مُسْتَقِلَّتَيْنِ ، فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ إِنَّ الْحَمْد وَالنِّعْمَة وَالْمُلْك لَك ، كَانَ عَطْف الْمُلْك عَلَى مَا قَبْله عَطْف مُفْرَد ، فَلَمَّا تَمَّتِ الْجُمْلَة الْأُولَى بِقَوْلِهِ " لَك " ثُمَّ عَطَفَ الْمُلْك ، كَانَ تَقْدِيره ، وَالْمُلْك لَك . فَيَكُون مُسَاوِيًا لِقَوْلِهِ " لَهُ الْمُلْك وَلَهُ الْحَمْد " ، وَلَمْ يَقُلْ لَهُ الْمُلْك وَالْحَمْد ، وَفَائِدَته تَكْرَار الْحَمْد فِي الثَّنَاء .
الْعِشْرُونَ : لَمَّا عَطَفَ النِّعْمَة عَلَى الْحَمْد وَلَمْ يَفْصِل بَيْنهمَا بِالْخَبَرِ ، كَانَ فِيهِ إِشْعَار بِاقْتِرَانِهِمَا وَتَلَازُمهمَا ، وَعَدَم مُفَارَقَة أَحَدهمَا لِلْآخَرِ ، فَالْإِنْعَام وَالْحَمْد قَرِينَانِ .
الْحَادِيَة وَالْعِشْرُونَ : فِي إِعَادَة الشَّهَادَة لَهُ بِأَنَّهُ لَا شَرِيك لَهُ لَطِيفَة وَهِيَ أَنَّهُ أَخْبَرَ لَا شَرِيك لَهُ عَقِب إِجَابَته بِقَوْلِهِ لَبَّيْكَ ، ثُمَّ أَعَادَهَا عَقِب قَوْله " إِنَّ الْحَمْد وَالنِّعْمَة لَك وَالْمُلْك لَا شَرِيك لَك " .(1/78)
وَذَلِكَ يَتَضَمَّن أَنَّهُ لَا شَرِيك لَهُ فِي الْحَمْد وَالنِّعْمَة وَالْمُلْك ، وَالْأَوَّل يَتَضَمَّن أَنَّهُ لَا شَرِيك لَك فِي إِجَابَة هَذِهِ الدَّعْوَة ، وَهَذَا نَظِير قَوْله تَعَالَى : {شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (18) سورة آل عمران ، فَأَخْبَرَ بِأَنَّهُ لَا إِلَه إِلَّا هُوَ فِي أَوَّل الْآيَة ، وَذَلِكَ دَاخِلٌ تَحْت شَهَادَته وَشَهَادَة مَلَائِكَته وَأُولِي الْعِلْم ، وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُودُ بِهِ ، ثُمَّ أَخْبَرَ عَنْ قِيَامه بِالْقِسْطِ وَهُوَ الْعَدْلُ ، فَأَعَادَ الشَّهَادَة بِأَنَّهُ لَا إِلَه إِلَّا هُوَ مَعَ قِيَامه بِالْقِسْطِ .(1)
8- دخول مكة:
إذا دخلت مكة فأحضر في نفسك تعظيمها وأمنها وشرفها(2).
فليتذكر عندها أنه قد انتهى إلى حرم الله تعالى آمناً، وليرج عنده أن يأمن بدخوله من عقاب الله عز وجل، وليخش أن لا يكون أهلاً للقرب، فيكون بدخوله الحرم خائباً، ومستحقاً للمقت، وليكن رجاؤه في جميع الأوقات غالباً، فالكرم عميم، والرب رحيم، وشرف البيت عظيم، وحقّ الزائر مرعيّ، وذمام المستجير اللائذ غير مضيع(3).
9- الطواف:
ينبغي للطائف أن يستشعر بقلبه عظمة من يطوف ببيته، فيلزم الأدب في ظاهره وباطنه، وليحذر من الإساءة في ذلك المحل الشريف.
وانْوِ إذا رملت في الطواف أنك هارب من ذنوبك، وإذا مشيت فترج من ربك الأمن من عذاب ما هربت منه بقبول توبتك(4).
10- السعي:
__________
(1) - انظر: تهذيب السنن (2/337-340). وعون المعبود - (ج 4 / ص 211)
(2) - هداية السالك (1/156).
(3) - إحياء علوم الدين (1/356).
(4) - هداية السالك (1/159-160).(1/79)
وأما السعي بين الصفا والمروة في فناء البيت فإنه يضاهي تردد العبد بفناء دار الملك جائياً وذاهباً مرة بعد أخرى، إظهاراً للخلوص في الخدمة، ورجاءً للملاحظة بعين الرحمة، كالذي دخل على الملك، وخرج وهو لا يدري ما الذي يقضي به الملك في حقه من قبول أو ردّ، فلا يزال يتردد على فناء الدار مرة بعد أخرى يرجو أن يُرحم في الثانية إن لم يُرحم في الأولى(1).
ومثِّل الصفا والمروة بكفتيّ الميزان، ناظراً إلى الرجحان والنقصان، متردداً بين خوف العذاب ورجاء الغفران(2).
11- يوم الوقوف بعرفة:
أمّا الوقوف بعرفة فاذكر بما ترى من ازدحام الخلق، وارتفاع الأصوات، واختلاف اللغات، وإتباع الفرق أئمتهم في الترددات على المشاعر، اقتفاء لهم، وسيراً بسيرهم، عرصات القيامة(3)، وإذا تذكرت ذلك فألزم قلبك الضراعة، والابتهال إلى الله عز وجل فتحشر في زمرة الفائزين المرحومين(4).
وتذكّر بانتظار غروب الشمس انتظار أهل المحشر فصل القضاء بشفاعة سيدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (5).
ومن حكم الوقوف بعرفة تجديد الشخصية، والانخلاع من الماضي المشوب بالإثم والباطل، وتجديد العهد مع الله على استئناف حياة نظيفة مستقيمة(6).
12- رمي الجمار:
وتذكر عند رمي الجمار كلما رميتها رمي الشيطان، والتحصن منه بكلمات الله التامات وطاعاته، فإنك في الظاهر ترمي الحصى إلى الجمرة، وفي الحقيقة ترمي به وجه الشيطان وتقصم به ظهره، إذ لا يحصل إرغام أنفه إلاّ بامتثال أمر الله تعالى تعظيماً لمجرد أمره من غير حظ للنفس فيه(7).
13- ذبح الهدي:
__________
(1) - إحياء علوم الدين (1/357).
(2) - هداية السالك (1/165).
(3) - العَرَصاتُ : جمعُ عَرْصَةٍ هي كلُّ موضِعٍ واسع لا بِناء فيه " النهاية في غريب الأثر - (ج 3 / ص 438)
(4) - إحياء علوم الدين (1/357) باختصار.
(5) - هداية السالك (1/165).
(6) - روح الدين الإسلامي (ص 264).
(7) - هداية السالك (1/168).(1/80)
ويربط بين الهدي الذي ينحره الحاج وتقوى القلوب؛ إذ أن التقوى هي الغاية من مناسك الحج وشعائره، وهذه المناسك والشعائر إن هي إلاّ رموز تعبيرية عن التوجّه إلى ربّ البيت وطاعته، وقد تحمل في طياتها ذكريات قديمة من عهد إبراهيم عليه السلام، وما تلاه. وهي ذكريات الطاعة والإنابة، والتوّجه إلى الله منذ نشأة هذه الأمة المسلمة(1).
14- الحلق والتقصير:
التحلل من الإحرام بالحلق، فالحلق في الإحرام بمنزلة السلام في الصلاة، فعند الحلق يزول عن ظاهره كل ما عليه من التفث، ومكروه الطبع بأمر الله تعالى، فكأنه يقول عبدي، أزلت عن ظاهرك ما تكرهه بأمري، فأولى أن أزيل عن باطنك ما أكرهه من المعاصي بعفوي(2).
وانْوِ عند حلق شعرك أنك قد أسقطت عنك التبعات، وأدناس الخطيئات، وفارقت أصحابك في غير التقوى والطاعات(3).
15- طواف الوداع:
إذا أراد الرجوع إلى وطنه يطوف بالبيت، كأنه يستأذن بالرجوع، فإن الضيف إذا نزل يرتحل بأمر المضيف، هذا باب الله العزيز الوهّاب، نزل العبدُ على بابه، وتعلق بحجابه بأمره، فلا يمكنه الرجوع إلاّ بإذنه، فمن رجع من ضيافة السلطان يرجع بخلعة، ومن رجع من بيت الرحمن فأدناه أن يرجع بالمغفرة(4).
16- الفدية والدم:
إن الحاج كلما جنى جناية على إحرامه لزمه دم، فإن نقائص الحج تجبر بالدم، يشير هذا إلى أن سبيل المحبة إراقة الدم، وبذل الروح، وترك الوطن، وفراق الأهل والولد، ومجانبة الشهوات، فمن قدر على إراقة الدم أراق الدم، ومن لم يقدر أطعم، ومن لم يقدر صام للرب الأكرم(5).
قال الإمام محمد بن إسماعيل الصنعاني في قصيدته في ذكرى الحج:
وما زال وفد الله يقصد مكة.....إلى أن يرى البيت العتيق وركناه
يطوف به الجاني فيغفر ذنبه..........ويسقط عنه جرمه وخطاياه
__________
(1) - في ظلال القرآن (4/2422).
(2) - محاسن الإسلام (ص 33).
(3) - هداية السالك (1/169).
(4) - محاسن الإسلام (ص 34).
(5) - محاسن الإسلام (ص 32).(1/81)
فمولى الموالي للزيارة قد دعا.......أنقعد عنها والمزور هو الله
نحج لبيت حجه الرسل قبلنا.........لنشهد نفعا في الكتاب وعدناه
فيا من أساء يا من عصى لو رأيتنا.....وأوزارنا ترمى ويرحمنا الله
وودعت الحجاج بيت إلهها...........وكلهم تجري من الحزن عيناه
ووالله لولا أن نؤمل عودة.........إليه لذقنا الموت حين فجعناه
- - - - - - - - - - - - -
دروس عظيمة من الحج
قال تعالى : وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ .
وأخبر - - صلى الله عليه وسلم - - أنه أحد أركان الإسلام ومبانيه العظام , وأن من حج البيت فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه , وأن الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة , وكل هذا في الصحيحين .
وأخبر أن الحج والعمرة ينفيان الذنوب والفقر كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة .
وورد في فرضه وفضله وثوابه أحاديث كثيرة وذلك لما فيه من المنافع العامة والخاصة , وقد بيَّن تعالى مجمل حكمه ومنافعه في قوله : لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ . أي منافع دينية واجتماعية ودنيوية .
وقال : جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ . الآية . فإن به تقوم أحوال المسلمين ويقوم دينهم ودنياهم , فلولا وجود بيته في الأرض وعمارته بالحج والعمرة والتعبدات الأخر لآذن هذا العالم بالخراب .
ولهذا من أمارات الساعة واقترابها هدمه بعد عمارته وتركه بعد زيارته , فإن الحج مبني على المحبة والتوحيد الذي هو أصل الأصول كلها , فإن حقيقته استزارة المحبوب لأحبابه وإيفادهم إليه ليحظوا بالوصول إلى بيته ويتمتعوا بالتذلل له والانكسار له في مواضع النسك ويسألوه جميع ما يحتاجونه من أمور دينهم ودنياهم , فيجزل لهم من قراه ما لا يصفه الواصفون .(1/82)
وبذلك تتحقق محبتهم لله ويظهر صدقهم بإنفاق نفائس أموالهم , وبذل مهجهم في الوصول إليه , فإن أفضل ما بذلت فيه الأموال وأتعبت فيه الأبدان , وأعظمه فائدة وعائدة ما كان في هذا السبيل . وما توسل به إلى هذا العمل الجليل , ومع ذلك فقد وعدهم بإخلاف النفقات والحصول على الثواب الجزيل والعواقب الحميدة .
ومن فوائد الحج أن فيه تذكرة لحال الأنبياء والمرسلين ومقامات الأصفياء المخلصين .
كما قال تعالى : وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّى والصحيح في تفسيرها أن هذا عام في جميع مقاماته في الحج من الطواف وركعتيه والسعي والوقوف بالمشاعر ورمي الجمار والهدي وتوابع ذلك .
ولهذا كان - صلى الله عليه وسلم - يقول في كل مشعر من مشاعر الحج : خذوا عني مناسككم فهو تذكرة بحال إبراهيم الخليل والمصطفين من أهل بيته , وتذكير بحال سيد المرسلين وإمامهم ومقاماته في الحج التي هي أجلّ المقامات .
وهذا التذكير أعلى أنواع التذكيرات , فإنه تذكير بأحوال عظماء الرسل إبراهيم ومحمد - صلى الله عليه وسلم - ومآثرهم الجليلة وتعبداتهم الجميلة , والمتذكر بذلك مؤمن بالرسل معظم لهم متأثر بمقاماتهم السامية مقتد بآثارهم الحميدة ذاكر لمناقبهم وفضائلهم فيزداد به العبد إيمانا ويقينا .
وشرع أيضا لما فيه من ذكر الله الذي تطمئن به القلوب ويصل به العبد إلى أكمل مطلوب كما قال - صلى الله عليه وسلم - : إنما جعل الطواف بالبيت وبالصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله.
ومن فوائد الحج أن المسلمين يجتمعون في وقت واحد وموضع واحد على عمل واحد(1/83)
ويتصل بعضهم ببعض ويتم التعاون والتعارف ويكون وسيلة للسعي في تعرف المصالح المشتركة بين المسلمين والسعي في تحصيلها بحسب القدرة والإمكان , وبذلك تتحقق الوحدة الدينية والأخوة الإيمانية; ويرتبط أقصى المسلمين بأدناهم فيتفاهمون ويتعارفون ويتشاورون في كل ما يعود بنفعهم , وبذلك يكتسب العبد من الأصدقاء والأحباء ما هو أعظم المكاسب ويستفيد بعضهم من بعض .
أما توابع ذلك من المصالح الدنيوية بالتجارات والمكاسب الحاصلة في مواسم الحج ومواضع النسك فإنها تفوق العد , وكل هذا داخل في قوله : لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ .
موسم عظيم لا يشبهه شيء من مواسم الأقطار , كم أنفقت فيه نفائس الأموال وكم أتعبت في السعي إليه الأبدان وكم حصل فيه شيء كثير من أصناف التعبدات , وكم أريقت في تلك المواضع العبرات وكم أُقيلت فيه العثرات وغفرت الذنوب والسيئات , وكم فرجت فيه الكربات , وقضيت الحاجات .
وكم ضج المسلمون فيه بالدعوات المستجابات . وكم تمتع فيه المحبون بالافتقار إلى رب السموات , وكم أسبغ الباري فيه عليهم من ألطاف ومواهب وكرامات , وكم عاد المسرفون على أنفسهم كيوم ولدتهم الأمهات , وكم حصل فيه من تعارف نافع واستفاد به العبد من صديق صادق , وكم تبودلت فيه الآراء والمنافع المتنوعة , وكم تم للعبد فيه من مآرب ومطالب متعددة , ولله الحمد على ذلك .
ومن فوائده العظيمة :
1- حصول التقوى :
والتقوى غاية الأمر، وجماع الخير، ووصية الله للأولين والآخرين، والحج فرصة عظمى للتزود من التقوى، قال تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ} "البقرة: 197".(1/84)
وقال عز وجل: {لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ} (37) سورة الحج
* فأولو الألباب الذين خصهم الله بالنداء لتقواه ، يأخذون من الحج عبرة للتزود من التقوى، فينظرون إلى أصل التشريع الإلهي، ومكانته المهمة في الدين، ويعلمون أن صدق المحبة والعبودية لله لا يكون إلا بتقديم مراد الله على كل مراد.
* فهذا إبراهيم الخليل – عليه السلام- ابتلاه الله عز وجل بذبح ابنه الوحيد إسماعيل، الذي ليس له سواه، والذي رزقه الله إياه عند كبر سنه؛ والذي هو أحب محبوب من محبوبات الدنيا.
* وهذا الأمر من أعظم البلاء، وبه يتحقق الإيمان وتظهر حقيقة الامتحان؛ فالخليل أعطى المسلمين درساً عظيماً للصدق مع الله، وذلك بتقديم مراد الله على مراد النفس مهما غلا وعظم؛ فإنه عليه السلام – بادر إلى التنفيذ- مع شدة عاطفته، وعظيم رحمته ورقته وشفقته- فأفلح، ونجح، وتجاوز هذا البلاء، فرحمه الله، وشل حركة السكين عن حلق ابنه، بعد أن أهوى بها الخليل؛ ففداه الله بذبح عظيم، وجعلها سنة مؤكدة باقية في المسلمين إلى يوم القيامة؛ ليعاملوا الله – عز وجل- معاملة المحب لحبيبه ومعبوده، فيضحوا بمرادات نفوسهم ومحبوباتها في سبيل مراد الله ومحبوبه.
* فإذا عرف الحجاج هذا المعنى، وأدركوا هذا السر العظيم الذي لأجله شرعت الهدي والأضاحي عادوا يحملون تلك المعاني العظيمة؟، التي تجعلهم لا يتوانون عن تنفيذ شيء من أوامر الله، فلا تمنعهم لذة النوم وشهوة الفراش عن المبادرة إلى القيام إلى صلاة الفجر.
* ولا يمنعهم حب المال، والحرص على جمعه من ترك الغش، والغبن، والربا، والتطفيف، وإنفاق السلع بالأيمان الكاذبة.(1/85)
* ولا يمنعهم حب الشهوات والميل إلى النساء، والطمع في نيل اللّذة المحرمة من غض البصر، ولزوم العفة، وحفظ الفروج؛ إيثاراً لما يحبه الله على ما تحبه نفوسهم، وتنزع إليه طبائعهم، ورغبة في نيل رضا الله وعوضه في الدنيا والآخرة.
* ولا يمنعهم حب الدنيا عن الإنفاق في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم.
وعلى هذه النبذة اليسيرة من أعمال الحج فقس:
* وهكذا يستفيد أولو الألباب من هذا الدرس العظيم في الحج ما يتزودون به على التقوى.
2- اعتياد الذكر:
قال تعالى : {فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُواْ اللّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ} (200) سورة البقرة.
فالذكر مقصود العبادات الأعظم، والذكر يتجلى غاية التجلي في الحج، فما شرع الطواف بالبيع، ولا السعي بين الصفا والمروة، ولا رمي الجمار إلا لإقامة ذكر الله كما قال - صلى الله عليه وسلم - .
* فإذا أكثر الحاج من الذكر في تلك المواضع أنس بالذكر، واطمأنت نفسه به، وزاد قرباً من ربه، وكان داعياً لاعتياد الذكر، والإكثار منه بعد الحج.
3- اعتياد الدعاء:
قال تعالى : {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ } (77) سورة الفرقان.
فرحلة الحج من أولها إلى آخرها فرصة للدعاء والابتهال إلى الله –عز وجل- إذ يجتمع للحاج من دواعي الإجابة ما لا يجتمع لغيره من شرف الزمان، والمكان ولحال الداعي وتلبسه بتلك الشعيرة العظيمة، ولكثرة المواضع التي يشرع فيه الدعاء، وترجى الإجابة؛ فالطواف، والسعي، والوقوف بعرفة، وعند المشعر الحرام، وبعد رمي الجمرة الصغرى، وبعد رمي الجمرة الوسطى، كل هذه المواضع مواضع دعاء، ومظان للإجابة.
وهذا يبعث المؤمن إلى كثرة الدعاء، وإلى اعتياده في سائر أيامه المستقبلة.
4- التعود على انتظار الفرج :(1/86)
فإذا رأى الحاج جموع الحجيج المزدحمة عند الطواف، والسعي، وفي رمي الجمرات –ظن أن تلك الجموع لن تتفرق، وأنه لن يصل إلى مبتغاه من إكمال الطواف، أو السعي أو رمي الجمار، وربما أدركه الضجر، وبلغت به السآمة مبلغها، وربما أضمر في نفسه أنه لن يحج بعد عامه هذا.
وما هي إلا مدة يسيرة، ثم تنتقل الجموع، ويتيسر أداء المناسك.
* وهذا درس عظيم، وسر بديع يتعلم منه الحاج عبودية انتظار الفرج، وهي من أجلّ العبوديات، وأفضل القربات؛ فلا ييأس بعد ذلك من روح الله، وقرب فرجه مهما احلولكت الظلمة، ومهما استبد الألم، ومهما عظم المصاب سواء في حاله أو في حال أمته، بل يكون محسناً ظنه بربه، منتظراً فرجه ولطفه، وقرب خيره- عز وجل- فيجد في حشو البلاء من روح الفرج ونسيمه، وراحته ما هو من خفي الألطاف، وما هو فرج معجل،ولا بعد في خير وفي الله مطمع ولا يأس من روح وفي القلب إيمان
5- اكتساب الأخلاق الجميلة:
فالحج ميدان فسيح لمن اراد ذلك؛ فالحاج يتدرب عملياً على الحلم، والصبر، والمداراة، وكظم الغيظ من جرّاء ما يلقى الزحام، والتعب، والنصب سواء في الطريق إلى الحج، أو في الطواف، أو في السعي، أو في رمي الجمار، أو في غيرها من المناسك، فيتحمل الحاج ما يلقاه من ذلك؛ لعلمه بأن الحج أيام معدودة، ولخوفه من فساد حجه إذا هو أطلق لنفسه نوازع الشر، ولإدراكه بأن الحجاج ضيوف الرحمن؛ فإكرامهم، والصبر على ما يصدر من بعضهم دليل على إجلال الله –عز وجل-.
فإذا تحمل الحاج تلك المشاق في أيام الحج صار ذلك دافعاً لأن يتخلق بالأخلاق الجميلة بقية عمره.(1/87)
* ثم إن الحاج يتعلم الكرم، والبذل، والإيثار، والبر، والرحمة، وذلك من خلال ما يراه من المواقف النبيلة الرائعة التي تجسّد هذه المعاني؛ فهذا سخيّ يجود بالإنفاق على المساكين، وذاك كريم بخلقه يعفو عمّن أساء إليه، وأخطأ في حقه، وذاك رحيم يعطف على المساكين ويتطلف بهم، وذاك حليم يصبر على ما يلقاه من أذى، وذاك بر بوالده يحمله على عاتقه، وذاك يحوط أمه العجوز بلطفه ورعايته.
* بل ويكتسب الأخلاق الجميلة إذا رأى من لا يدركون معنى الحج، ممن يغضبون لأدنى سبب، وتطيش أحلامهم عند أتفه الأمور.
فإذا رأى العاقل البصير سوء فعال هؤلاء انبعث إلى ترك الغضب، وتجافى عن مرذول الأخلاق.
6- تحقق الأخوة الإسلامية:
قال تعالى : {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} (92) سورة الأنبياء .
فالقبلة واحدة والرب واحد، والمشاعر واحدة، واللباس واحد، والمناسك واحدة، والزمان واحد، فكل هذه الأمور تجتمع في الحج، وهي مدعاة للإحساس بوحدة الشعور، وموجبة للتآخي، والتعارف والتعاون على مصالح الدين والدنيا.
7- قيام عبودية المراقبة:
فالحاج يطوف بالبيت العتيق سبعاً ويسعى بين الصفا والمروة سبعاً، ويرمي الجمار سبعاً، ويقف في عرفةفي وقت محدد، وينصرف منها في وقت محدد، ويبيت في المزدلفة في وقت محدد، وهكذا.
فلا تراه يزيد في الجمار أو ينقص، ولا تراه يفعل عملاً من أعمال الحج في غير وقته، ولا تراه يأتي محظوراً من محظورات الإحرام عالماً عامداًً،لماذا؟ لأنه يخشى من فساد حجه، ولأنه يعلم بأن الله مطّلع عليه.
* وهذا درس عظيم يبعث المسلم إلى مراقبة الله –عز وجل- في شتى شؤونه وأعماله؛ فالمطلع على أعمال الحج مطلع على غيرها من الأعمال.
8- التعود على اغتنام الأوقات:(1/88)
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ، لِرَجُلٍ وَهُوَ يَعِظُهُ : اغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ : شَبَابَكَ قَبْلَ هِرَمِكَ ، وَصِحَّتَكَ قَبْلَ سَقَمِكَ ، وَغِنَاءَكَ قَبْلَ فَقْرِكَ ، وَفَرَاغَكَ قَبْلَ شُغْلِكَ ، وَحَيَاتَكَ قَبْلَ مَوْتِكَ "(1)
فالوقت رأس مال الإنسان، والوقت أجل ما يصان عن الإضاعة والإهمال،وفي الحج يقوم الحاج بأعمال عظيمة، وفي أماكن مختلفة متباعدة مزدحمة، وفي أيام محدودة قد لا تتجاوز أربعة أيام.
* وفي هذا دليل على أن في الإنسان طاقة هائلة مخزونة، لو استثارها لآتت أكلها ضعفين أو أكثر.
وهذا درس عظيم يبعث المسلم إلى أن يعتاد اغتنام الأوقات، وأن يحرص على ألا يضيع منها شيئا في غير فائدة.
9- انبعاث عبودية الشكر:
فالحاج يرى المرضى، والمعاقين، والعميان، ومقطعي الأطراف، وهو يتقلب في أثواب الصحة والعافية؛ فينبعث بذلك إلى شكر الله –عز وجل- على نعمة العافية.
* ويرى ازدحام الحجيج، وافتراشهم الأرض، وربما لا يستطيع الحاج ان يجد مكاناً يجلس فيه، فيتذكر نعمة المساكن الفسيحة التي يسكن فيها، فينبعث إلى شكر الله على ذلك.
* ويرى الفقراء والمعوزين الذين لا يجدون ما يسدون به رمقهم، فينبعث إلى شكر الله على نعمة المال والغنى .
* ويرى نعمة ربه عليه أن يسَّر له الحج، الذي تتشوق إليه نفوس الكثيرين من المسلمين ولكنهم لا يستطيعون إليه سبيلاً؛ فيشكر الله –عز وجل- أن يسّر له الحج وأعانه على أداء مناسكه.
* بل ويرى نعمة ربه عليه أن جعله من المسلمين، فينبعث إلى شكر نعمة الإسلام، ويعض عليها بالنواجذ، و يثني بالخناصر؛ لأن نعمة الإسلام لا تعدلها نعمة ألبتة.
وهكذا تقوم عبودية الشكر في الحج، فيكون الحاج من الشاكرين، وإذا كان كذلك درت نعمة وقرت؛ فالشكر قيد النعم الموجودة، وصد النعم المفقودة.
__________
(1) - المستدرك للحاكم (7846) صحيح(1/89)
10- تذكر الآخرة:
فإذا رأى الحاج ازدحام الناس، ورأى بعضهم يموج في بعض، وهم في صعيد واحد، وبلباس واحد، وقد حسروا عن رؤوسهم، وتجردوا من ثيابهم، ولبسوا الأردية والأزر، وتجردوا من ملذات الدنيا، ومتعها- تذكر يوم حشره على ربه؛ فيبعثه ذلك الاستعداد للآخرة، ويقوده إلى استصغار متاع الحياة الدنيا، ويرفعه على الاستغراق فيها، ويكبر بهمته عن جعلها قبلة يولي وجهه شطرها حيثما كان.
11- اعتياد مراغمة الشيطان:
فالشيطان عدو للإنسان مبين، ولقد حذرنا الله – تبارك وتعالى- من الشيطان وأمرنا بأن نتخذه عدواً، وبألا نتبع خطواته، فمراغمة الشيطان مرضاة للرب –جل وعلا-.
* وهذا الأمر يتجلى في الحج، وأعظم ما يتجلى في رمي الجمار؛ فالحجاج لا يرمون الشيطان، وليس الشيطان بواقف لهم يرجمونه. وإنما يرجمون المواقف التي وقف فيها الشيطان لأبيهم إبراهيم، فرجمه الخليل –عليه السلام- فهم يرجمونه لا لمجرد التكرار، وإنما للانتفاع والاعتبار؛ فعليهم أن يتأملوا كيف عرف أبوهم إبراهيم الذي وقف له ليصده عن تنفيذ أمر ربه أنه شيطان؛ حيث تمثل له ثلاث مرات؛ ليثنيه عن ذبح ابنه، فرجمه إبراهيم ثلاث مرات كل مرة سبع حصيات، وقال له: ليس لك عندي إلا الرجم، فخنس وخسأ، وخاب ظنه، ونكص على عقبيه.(1)
- - - - - - - - - - - - - -
دُرُوسٌ تربويَّةٌ وأحكامٌ شرعيَّةٌ من فقهِ الحجِّ والعُمرة(2)
قال تعالى : (وأذِّنْ في الناسِ بالحَجِّ يأتُوكَ رِجالاً وعلى كلِّ ضامِرٍ يأتِينَ مِنْ كُلِّ فجٍّ عَمِيقٍ ليشهدوا منافعَ لهم) الحج 27-28.
قال عمرُ بن عبد العزيز لما خطبَ بعرفة: "ليس السابقُ مَنْ سبقَ بعيرُه وفرسُه, ولكنِ السابقُ مَن غُفر له"(3)..
__________
(1) - انظر من دروس الحج ..محمد بن إبراهيم الحمد
(2) - زادُ الرَّاحِلِين إلى الحَرَمَيْن الشريفَين د. محمد عمر دولة
(3) - فتح الباري 4/336(1/90)
إنّ زيارة البيت العتيق من أعظم المِنَن التي خوّلها الله عبادَه الصالحين، وأكبر النعم التي امتنّ بها عليهم كما جاء التعبير القرآني الجليل عن ذلك: (لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ).[ الحج 27.]
1. وقد امتنّ الله عز وجل بذلك على أعظم النبيين صلى الله وسلم عليهم من لدن إبراهيم عليه السلام (وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ)، كما أُوحِيَ ذلك إلى موسى عليه السلام مِنْ أُولي العزم من المرسلين كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : (كَأَنِّى أَنْظُرُ إِلَى مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - هَابِطًا مِنَ الثَّنِيَّةِ وَلَهُ جُؤَارٌ إِلَى اللَّهِ بِالتَّلْبِيَةِ)،[ رواه مسلم(1).] واهتمّ بذلك محمد - صلى الله عليه وسلم - خاتم النبيين.
2. الحج شعار الأنبياء والمرسلين وأهل الحنيفية, فإبراهيم عليه السلام إمامُ الموحِّدين، وقد روى الترمذي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (كُونُوا عَلَى مَشَاعِرِكُمْ فَإِنَّكُمْ عَلَى إِرْثٍ مِنْ إِرْثِ إِبْرَاهِيمَ)،(2)وموسى عليه السلام منقذ بني إسرائيل. وقد فسّر البخاري العتيق بالعتق من الجبابرة؛ وأمّا محمد - صلى الله عليه وسلم - فقد هدى اللهُ به الناسَ إلى الدين القويم والصراط المستقيم. ورَحِمَ اللهُ النوويَّ حيث قال: "إنّ الحج من أعظم الطاعات لربّ العالمين, وهو شعارُ أنبياءِ الله وسائرِ عبادِ الصّالحين صلواتُ اللهِ وسلامُهُ عليهم أجمعين"(3).
__________
(1) - صحيح مسلم(438 ) -الجؤار : رفع الصوت والاستغاثة
(2) - سنن الترمذى(892 ) حسن -المشاعر : جمع مشعر يريد بها مواضع النسك
(3) - كتاب متن الإيضاح للنووي ص 4.(1/91)
3. الحج من قواعد التوحيد(1): كما قال جلَّ جلاله (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128) رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129) وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآَخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130).[ سورة البقرة الآية 127 - 130.] وقد وَفّقَ الله جابراً رضي الله عنه إلى التعبيرِ عن ذلك أحسنَ تعبيرٍ في حديثِ المناسكِ الطويل الجليل فقال واصفاً فعْل النبي - صلى الله عليه وسلم - : (فَأَهَلَّ بِالتَّوْحِيدِ لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ لاَ شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ لاَ شَرِيكَ لَكَ)(2). "فللتوحيد أُقِيمَ هذا البيتُ منذُ أوّلِ لحظةٍ عَرَّف الله مكانَه لإبراهيم عليه السلام وملَّكه أمرَه؛ ليُقيمه على هذا الأساس (ألاَّ تشرك بي شيئا)؛ فهو بيتُ الله وحده دون سواه!"(3).
__________
(1) - انظر (معاني العقيدة من خلال الحج) للشيخ عبد العزيز آل عبد اللطيف. مجلة البيان عدد رقم 88.
(2) - صحيح مسلم برقم (3009 )
(3) - في ظلال القرآن 17/2418.(1/92)
وما أحسن ما استنبطه الشيخ ابن عاشور عند قول الله تعالى: (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96) فِيهِ آَيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آَمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (97) [آل عمران/96-98] "أنّ هذا البيت لمّا كان أول بيتٍ وُضِعَ للهُدى وإعلان توحيدِ الله ليكون عَلَماً مشهوداً بالحِسِّ على معنى الوحدانية ونفيِ الإشراك؛ فقد كان جامِعاً لدلائلِ الحنيفيّة. فإذا ثبت له شَرَفُ الأوّلية ودوامُ الحُرمة على ممرِّ العصورِ دون غيرِهِ مِن الهياكلِ الدِّينيّة التي نشأتْ بعده وهو ماثلٌ؛ كان ذلك دلالةً إلهيَّةً على أنّه محلُّ العِنايةِ مِن الله تعالى؛ فدَلَّ على أنّ الدِّينَ الذي قارنَ إقامَتَهُ هو الدِّينُ المرادُ لله. وهذا يؤولُ إلى معنَى قولِهِ تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللّهِ فَإِنَّ اللّهِ سَرِيعُ الْحِسَابِ} (19) سورة آل عمران ".(1)
__________
(1) - تفسير التحرير والتنوير 2/11 - 12.(1/93)
4. أنّ في ذلك براءةً من الرّجس وطهارةً من الشرك: كما قال عز وجل: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لَّا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} (26) سورة الحج. وتلك دعوةُ إبراهيم عليه السلام: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ} (35) سورة إبراهيم. وقد حمل شعارُ التلبيةِ هذه المعاني: (لبيّك اللّهم لبيّك. لبيّك لا شريك لك لبيّك)، وقال القرطبي: "تطهيرُ البيتِ عامٌّ في الكُفرِ والبِدَعِ وجميعِ الأنجاسِ والدماء"(1).
__________
(1) - الجامع لأحكام القرآن 12/37.(1/94)
5. أنّ في الحج والعمرة اعترافاً بالربوبية لله الخالق الرازق مالك الملك ذي الجلال والإكرام: وذلك ظاهرٌ فيما يلهَجُ به الحجيجُ ويتمثّلونه بلسان الحال والمقال: (إنّ الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك). ولا ريب أنّ استشعارَ هذه المعاني وترسيخَها يدفعُ المسلمين إلى مُعانقةِ رسالتِهم في حملِ أمانةِ التوحيد،: "لأنَّ الحجَّ مؤتمرٌ جامِعٌ للمسلمين قاطبة, مؤتمرٌ يَجِدُون فيه أصْلَهم العريقَ الضاربَ في أعماقِ الزمن منذ أبيهم إبراهيمَ الخليل {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} (78) سورة الحج ، ويجدون مِحْوَرَهم الذي يشدُّهم جميعاً إليه: هذه القبلة التي يتوجَّهُون إليها: راية العقيدة الواحدة التي تتوارى في ظلِّها فوارقُ الأجناسِ والألوانِ والأوطانِ, ويَجِدُون قُوَّتَهم التي قد ينسونها حِيناً, قوة التجمُّع والتوحُّد والترابُط الذي يضُمُّ الملايين، الملايين التي لا يَقِفُ لها أحدٌ لو فاءَتْ إلى رايتِها الواحِدة التي لا تتعدَّد, راية العقيدةِ والتوحيد".(1)
__________
(1) - في ظلال القرآن 17/2419 - 2420.(1/95)
6. اقتران الحج في الهدي النبوي بأعظم الأعمال: كالإيمان والجهاد، وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - سُئِلَ أَىُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ فَقَالَ " إِيمَانٌ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ " . قِيلَ ثُمَّ مَاذَا قَالَ " الْجِهَادُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ " . قِيلَ ثُمَّ مَاذَا قَالَ " حَجٌّ مَبْرُورٌ "(1).. فما ظنُّك بعملٍ يجيء في الفضل بعد الإيمان بالله ورسوله والجهاد في سبيل الله؟!
7. تَضَمُّنُ الحجِّ والعمرةِ تكليفاً يتعلَّق بعَقْدِ القلبِ والبدنِ والمالِ:كما قال أبو الشعثاء: "نظرتُ في أعمالِ البِرِّ: فإذا الصلاةُ تُجهِد البدنَ دون المال، والصِّيامُ كذلك, والحجّ يُجْهِدُهما؛ فرأيتُه أفضل". وقال ابن الجوزي: "فالصلاةُ والصيامُ يجمعان سببين من هذه الثلاثة: عقد القلب وفعل البدن. والزكاة تجمع سببين: عقد القلب وإخراج المال. والحج يجمع الأركان الثلاثة؛ فبان فضله. ثم إنهاكه للبدن أشدُّ, وإجهادُه للمال أكثر"(2).
__________
(1) - صحيح البخارى(26 )
(2) - مثير الغرام الساكن لأشرف الأماكن.ص 31(1/96)
8. إظهار العُبوديّة والشُّكر لله تعالى على نعمه التي لا نعرف لها حدّاً ولا نُحصِيها عدّاً، كما قال الكاساني رحمه الله: " وَفِي الْحَجِّ إظْهَارُ الْعُبُودِيَّةِ ، وَشُكْرُ النِّعْمَةِ ، أَمَّا إظْهَارُ الْعُبُودِيَّةِ ؛ فَلِأَنَّ إظْهَارَ الْعُبُودِيَّةِ هُوَ إظْهَارُ التَّذَلُّلِ لِلْمَعْبُودِ ، وَفِي الْحَجِّ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْحَاجَّ فِي حَالِ إحْرَامِهِ يُظْهِرُ الشَّعَثَ ، وَيَرْفُضُ أَسْبَابَ التَّزَيُّنِ ، وَالِارْتِفَاقِ ، وَيَتَصَوَّرُ بِصُورَةِ عَبْدٍ سَخِطَ عَلَيْهِ مَوْلَاهُ ، فَيَتَعَرَّضُ بِسُوءِ حَالِهِ لِعَطْفِ مَوْلَاهُ ، وَمَرْحَمَتِهِ إيَّاهُ ، وَفِي حَالِ وُقُوفِهِ بِعَرَفَةَ بِمَنْزِلَةِ عَبْدٍ عَصَى مَوْلَاهُ فَوَقَفَ بَيْنَ يَدَيْهِ مُتَضَرِّعًا حَامِدًا لَهُ مُثْنِيًا عَلَيْهِ مُسْتَغْفِرًا لِزَلَّاتِهِ مُسْتَقِيلًا لِعَثَرَاتِهِ ، وَبِالطَّوَافِ حَوْلَ الْبَيْتِ يُلَازِمُ الْمَكَانَ الْمَنْسُوبَ إلَى رَبِّهِ بِمَنْزِلَةِ عَبْدٍ مُعْتَكِفٍ عَلَى بَابِ مَوْلَاهُ لَائِذٍ بِجَنَابِهِ .
وَأَمَّا شُكْرُ النِّعْمَةِ ؛ فَلِأَنَّ الْعِبَادَاتِ بَعْضُهَا بَدَنِيَّةٌ ، وَبَعْضُهَا مَالِيَّةٌ ، وَالْحَجُّ عِبَادَةٌ لَا تَقُومُ إلَّا بِالْبَدَنِ وَالْمَالِ ؛ وَلِهَذَا لَا يَجِبُ إلَّا عِنْدَ وُجُودِ الْمَالِ وَصِحَّةِ الْبَدَنِ ، فَكَانَ فِيهِ شُكْرُ النِّعْمَتَيْنِ ، وَشُكْرُ النِّعْمَةِ لَيْسَ إلَّا اسْتِعْمَالُهَا فِي طَاعَةِ الْمُنْعِمِ ، وَشُكْرُ النِّعْمَةِ وَاجِبٌ عَقْلًا ، وَشَرْعًا ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . ً"(1).
__________
(1) - بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع - (ج 4 / ص 343)(1/97)
9. إظهارُ وحدةِ المسلمين بدينهم الذي يجمعهم على اختلافِ بلدانِهم وأنسابِهم؛ تأكيداً للدِّينِ المقدَّم على اللغة والجنس واللون والعُرف والنسب والقبيلة. وللمرءِ أن يتساءلَ عن فقهِنا لمعاني شعيرة الحجّ: "هل بدا واقعُ المسلمين بارزاً فيه صَدَى الحج؟ تلك العبادة التي تمزُج بين قلوبِ المسلمين وترسِّخ فيها وحدةَ الشعورِ ثمرةً لوِحدة الشعيرة. هل بدا كذلك؟ وهل تزوَّدَ المسلمون مِن زادِ الحجِّ وعاشُوا حُكْمَه وهم يُطبِّقُون أحكامَهُ على وجهٍ مشروعٍ مسنونٍ؟ هل تحرَّكَ ذلك الموكبُ مِن ذوي الرِّداءِ الأبيضِ الناصعِ بين المشاعرِ شامةً تُزِينُ الأرضَ يُباهِي بها الرحمن ملائكته حجيجاً مُترابِطي القلوبِ مُسلِمين على منهجِ الله؟ هل بدتْ حِكَمُ الحجِّ العظيمةُ وآثارُه الجليلةُ مُتحرِّكةً مع ذلك الموكبِ تنطِقُ بها جوارِحُ الحَجِيجِ وتبدُو شاخِصةً في مناسِكِهم؟"(1).
10. تحقيقُ المساواةِ بين فئاتِ المجتمعِ الإسلامي: وللحاجِّ أنْ يسألَ نفسَه وإخوانَه: "هل ذابتْ الفوارقُ النفسية بين الغني والفقير والقوي والضعيف؟ وذهبتْ مع ثيابِ الحِلِّ, وبدتْ النفوسُ صافيةً حانِيةً متآلفةً لا يقلُّ صفاؤها عن صفاءِ ثيابِ الإحرام؟"(2)
11. حُصول التعارُفِ بين المسلمين على اختلافِ شُعوبِهم وقبائلِهم؛ تحقيقاً للمقصدِ الشرعي، كما قال تعالى: (يا أيُّها الناسُ إنّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وأُنْثَى وجَعَلْناكم شُعُوبا وقبائلَ لِتَعارَفوا إنَّ أكرمَكم عند الله أتقاكم إنّ الله عليمٌ خَبِيرٌ).[ الحجرات 13.]
__________
(1) - افتتاحية مجلة البيان عدد 112 (الحج بين الواجب والواقع).
(2) - المرجع السابق.(1/98)
12. اجتماعُ أهلِ الدعوة على التفكُّرِ في أحوال المسلمين؛ تعاوُناً على البرّ والتقوى وامتثالاً لقول الله عزَّ وجل: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}.[ آل عمران 104.]
13. لقاءُ طلبةِ العلمِ بكبارِ العلماءِ الرّاسخين. فالحجّ أقرب الأمثلة على الرحلة في طلب العلم. ورحم الله سفيان بن عُيينة فقد روى ابن سعد عن الحسن بن عمران بن عيينة أنه سافر مع عمه سفيان آخرَ حجّةٍ حجَّها فقال: "قد وافيتُ هذا الموضعَ سبعين مرّةً أقولُ في كلِّ سنةٍ: اللَّهمَّ لا تجعلْهُ آخِرَ العهدِ مِن هذا المكان. وإني قد استحييتُ مِن الله من كثرةِ ما أسأله ذلك. فرجع؛ فتوفّي في السنة الداخلة!"(1)وما زال هَمُّ طُلابِ العلمِ أن يَلْقَوا في الموسمِ أئمةَ العلمِ فيتعلَّمُون مِن علمِهم وحالهم:كما قال مالك رحمه الله في شأن أيوب السختياني رضي الله عنه: "حجّ حجّتين؛ فكنتُ أرمقه ولا أسمع منه، غير أنّه إذا ذكر النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - بكى حتى أرحمه؛ فلما رأيتُ منه ما رأيتُ وإجلالَهُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كتبتُ عنه!"(2)
ولله درّ الشيخ ابن عاشور حيث قال في تفسير قوله تعالى: (ليشهدوا منافع لهم): "كُنِّيَ بِشُهود المنافعِ عن نَيْلِها. ولا يُعرف ما وَعَدَهم الله على ذلك بالتعيين، وأعظمُ ذلك اجتماعُ أهل التوحيدِ في صَعيدٍ واحدٍ لِيتلقَّى بعضُهم عن بعضٍ ما بهِ كمالُ إيمانِهم".(3)
__________
(1) - طبقات ابن سعد 5/497 - 498 وتهذيب الكمال للمزي 11/195.
(2) - سير أعلام النبلاء 6/17ودمعة على حبّ النبي - صلى الله عليه وسلم - .لعبد الله صالح الخضيري (ضمن كتاب حقوق النبي - صلى الله عليه وسلم - بين الإجلال والإخلال ص30)
(3) - التحرير والتنوير 17/246.(1/99)
14. في رحلةِ الحجِّ تذكيرٌ بالرحلة إلى الدار الآخرة: ولله درّ النّسفي فقد أحسنَ في بيانِ فوائدِ الحج " { منافع لَهُمْ } نكرها لأنه أراد منافع مختصة بهذه العبادة دينية ودنيوية لا توجد في غيرها من العبادة ، وهذا لأن العبادة شرعت للابتلاء بالنفس كالصلاة والصوم ، أو بالمال كالزكاة ، وقد اشتمل الحج عليهما مع ما فيه من تحمل الأثقال وركوب الأهوال وخلع الأسباب وقطيعة الأصحاب وهجر البلاد والأوطان وفرقة الأولاد والخلان ، والتنبيه على ما يستمر عليه إذا انتقل من دار الفناء إلى دار البقاء . فالحاج إذا دخل البادية لا يتكل فيها إلا على عتاده ، ولا يأكل إلا من زاده ، فكذا المرء إذا خرج من شاطىء الحياة وركب بحر الوفاء لا ينفع وحدته إلا ما سعى في معاشه لمعاده ، ولا يؤنس وحشته إلا ما كان يأنس به من أوراده ، وغسل من يحرم وتأهبه ولبسه غير المخيط وتطيبه مرآة لما سيأتي عليه من وضعه على سريره لغسله وتجهيزه . مطيباً بالحنوط ملففاً في كفن غير مخيط . ثم المحرم يكون أشعث حيران فكذا يوم الحشر يخرج من القبر لهفان ، ووقوف الحجيج بعرفات آملين رغباً ورهباً سائلين خوفاً وطمعاً وهم من بين مقبول ومخذول كموقف العرصات { لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ } [ هود : 105 ] .
والإفاضة إلى المزدلفة بالمساء هو السوق لفصل القضاء ، ومنى هو موقف المنى للمذنبين إلى شفاعة الشافعين ، وحلق الرأس والتنظيف كالخروج من السيئات بالرحمة والتخفيف ، والبيت الحرام الذي من دخله كان آمناً من الإيذاء والقتال أنموذج لدار السلام التي هي من نزلها بقي سالماً من الفناء والزوال غير أن الجنة حفت بمكاره النفس العادية كما أن الكعبة حفت بمتالف البادية ، فمرحباً بمن جاوز مهالك البوادي شوقاً إلى اللقاء يوم التنادي!"(1)
__________
(1) - تفسير النسفي - (ج 2 / ص 354) ومدارك التنزيل وحقائق التأويل للنسفي 3/99.(1/100)
15. استحضارُ ذكرياتِ الصالحين مِن قَبْلِنا واستخلاصُ الدروسِ النافعة من حال إبراهيم وهاجر وإسماعيل عليهم السلام ولُطْف الله بعباده ورحمته بأوليائه الذين يسارعون إلى فداء دينهم بأنفسهم وأبنائهم. فـ"هو موسمُ عبادةٍ تصفُو فيه الأرواح, وهي تستشعِرُ قُرْبَها مِن الله في البيتِ الحرام. وهي ترِفُّ حول هذا البيت وتستَرْوِحُ الذكرياتِ.. طيف إبراهيم الخليل عليه السلام وهو يُودِع البيت فِلْذَةَ كَبِدِه إسماعيلَ وأمَّه, ويتوجه بقلبه الخافقِ الواجفِ إلى ربه: {رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} (37) سورة إبراهيم..(1/101)
وطيف هاجر وهي تسترْوِحُ الماءَ لنفسها ولطفلِها الرضيع في تلك الحَرَّةِ الملتهبة حول البيت, وهي تروحُ بين الصفا والمروة وقد نَهَكَها العطشُ, وهدَّها الجَهْدُ وأضناها الإشفاقُ على الطفل.. ثم ترجعُ في الجولةِ السابعة وقد حَطَمَها اليأس لتجدَ النبعَ يتدفق بين يدَيِ الرضيع الوضيء. فإذا هي زمزم: ينبوع الرحمة في صحراء اليأس والجدب.. وطيف إبراهيم عليه السلام وهو يرى الرؤيا, فلا يتردد في التضحية بفِلْذةِ كبدِه, ويمضي في الطاعةِ المؤمنة إلى ذلك الأفقِ البعيد: { قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى } (102) سورة الصافات فتجيبُه الطاعة الراضيةُ في إسماعيل: (قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ).. وإذا رحمةُ الله تتجلَّى في الفداء: (وناديناه أن يا إبراهيمُ قد صدّقتَ الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين إنّ هذا لهو البلاء المبين وفديناه بذبح عظيم).. وطيف إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام يرفعان القواعدَ من البيتِ في إنابةٍ وخُشوعٍ: (ربَّنا تقبَّلْ منا إنك أنت السميعُ العليم ربَّنا واجعلْنا مُسلِمَيْن لك ومِن ذُرِّيَّتِنا أمةً مُسلمةً لك وأرِنا مَناسِكَنا وتُبْ علينا إنك أنت التوابُ الرَّحيم)..(1/102)
ثم تتواكبُ الأطيافُ والذكرياتُ من محمد - صلى الله عليه وسلم - وهو يدرج في طفولته وصِباه فوق هذا الثرى حول هذا البيت, وهو يرفع الحجرَ الأسودَ بيديه الكريمتين فيضعه موضعه؛ ليطفئ الفتنةَ التي كادت تنشبُ بين القبائل وهو يصلِّي وهو يطوفُ وهو يخطبُ وهو يعتكفُ وإنّ خطواته عليه الصلاة والسلام لَتَنْبِضُ حَيَّةً في الخاطر, وتتمثلُ شاخِصةً في الضمير, يكاد الحاجُّ هناك يلمَحُها وهو مُستغرِقٌ في تلك الذكرياتِ، وخطواتُ الحشدِ من صحابتِه الكرامِ وأطيافُهم ترِفُّ فوق هذا الثرى حول ذلك البيت, تكاد تسمعها الأذن وتكاد تراها الأبصار".(1)ورَحِمَ اللهُ الإمامَ القفَّال فقد نقل الرازي في التفسير قولَهُ عن الهَدْي: "كأنَّ المتقرِّبَ بها وبإراقةَ دمائها مُتَصَوَّرٌ بصورةِ مَنْ يَفدي نفسه بما يُعادِلها. فكأنه يبذُل تلك الشاةَ بَدَلَ مُهْجَتِهِ؛ طَلَباً لمرضاةِ الله تعالى واعْتِرافاً بأنَّ تقصيرَهُ يستحِقُّ مُهْجَتَهُ!"(2).
__________
(1) - في ظلال القرآن 17/2419.
(2) - التفسير الكبير للرازي 23/26.(1/103)
16. إظهار الزهدِ في الدنيا والاستعدادِ للآخرة: فإنّ هذا من أعظمِ المقاصدِ التي ينالها الحاج. وقد نبّه الرّاسخون في العلم على وجوبِ استحضارِ هذه المعاني كما قال ابن الجوزي: "ينبغي للمُحْرِم أن يتصوَّرَ عند إحرامِه إجابةَ الداعي, وعند تجرُّدِهِ من المخيطِ لبسَ الكفنِ, وعند التلبيةِ نِداءَ الحق. ومَنْ تلمَّحَ العبادات بعينِ التفهُّمِ عَلِم أنها ملازمةُ رسمٍ يدلُّ على باطنٍ مقصودُه تزكيةُ النفسِ وإصلاحُ القلب؛ لأنَّ حقيقةَ التعبُّدِ هو صَرْفُ القلبِ إلى الربِّ, فلما كان طبعُ الآدميِّ ينبو عن التعبُّدِ شُغلاً بالهوى وُظّفَتْ وظائفُ تُدَرِّجُهُ لِيترقَّى من الفرائض إلى الفضائل - واعتَبِرْ جميع العبادات منها الحج - فإنه إنما وُظِفَّتْ للتدرُّجِ إلى حملِ المشاق؛ فنبَّه المسافرَ عند تركِ الأهلِ على قطعِ العلائقِ ليتفرد بخدمة الحق؛ فتفكَّرْ في ذلك وانظر بأيِّ بدنٍ تقصِده؟ وبأيِّ باطنٍ تحضُر؟ فإنه لا ينظر إلى صُوَرِكُم. وإذا أمَرَكَ الحزمُ بإكثارِ الزادِ خوفَ العَوَزِ, فاعلمْ أنّ سفرَ القيامةِ أطولُ وعطشَ المحشرِ أقطعُ! وتذكَّرْ بقطعِ العِقاب الأهوالَ بعد الموت, وبالموقفِ موقفَ القيامة, وبالتعلُّقِ بأستارِ الكعبةِ تمسُّكَ المذنبِ بذيلِ المالك, وبالسعيِ بين الصفا والمروة الفرارَ منه إليه. وعلى هذا كان حجُّ الصالحين؛ فإنهم كانوا إذا تخايلوا هذه الأشياءَ تجدّدَ لهم القلقُ هَيْبَةً للمخدُومِ وخوفاً مِن الردِّ".(1)
17. إحياء رُوحِ العبوديّةِ والخُشوعِ والذلةِ والانكسارِ؛ ({ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ } (32) سورة الحج.
__________
(1) - مثير الغرام الساكن ص 94(1/104)
ورحم الله الشيخ أحمد بن عبد الرحمن المقدسي فقد لاحظ هذه اللطائف التي لا بدّ للحاج أن يملأ قلبه منها فإنه "إذا رأى البيتَ الحرامَ استحضرَ عظمتَه في قلبِه, وشكرَ اللهَ سبحانه وتعالى على تبليغِهِ رُتبةَ الوافِدِين إليه. وليستشعرْ عظمةَ الطوافِ به؛ فإنه صلاةٌ, ويعتقدْ عند استلامِ الحجرِ أنه مبايِعٌ للهِ على طاعتِهِ, ويضمُّ إلى ذلك عزيمتَهُ على الوفاءِ بالبيعة, وليتذكَّرْ بالتعلُّقِ بأستارِ الكعبة والالتصاقِ بالملتزم لَجْأَ المذنبِ إلى سيِّدِه وقُرْبَ المحب. وأنشد بعضُهم في ذلك:
سُتورُ بيتِكَ نَيْلُ الأمنِ منكَ وقدْ عُلِّقتُها مُستجيراً أيها البارِي
وما أظنُّكَ لما أن عَلِقْتُ بها خوفاً من النارِ تُدنيني من النارِ
وها أنا جارُ بيتٍ أنتَ قلتَ لنا حُجُّوا إليه وقد أَوْصَيْتَ بالجارِ!
ومن ذلك: إذا سعى بين الصفا والمروة ينبغي أن يمثِّلها بكِفَّتَي الميزان, وتردُّدِه بينهما في عَرَصات القيامة, أو تردُّد العبد إلى دار الملك؛ إظهاراً لإخلاصِ خِدمتِه, ورجاءَ الملاحظةِ بعينِ رحمتِه, وطمعاً في قضاءِ حاجتِه. وأما الوقوفُ بعرفة: فاذكرْ بما ترى فيهِ مِن ازدحامِ الخلقِ وارتفاعِ أصواتِهم واختلافِ لغاتِهم مَوقفَ القِيامةِ واجتماعَ الأُمَمِ في ذلك الموطنِ واسْتِشْفاعَهم. فإذا رميتَ الجمار؛ فاقصِدْ بذلك الانقيادَ للأمرِ وإظهارَ الرِّقِّ والعُبوديةِ ومُجرَّد الامتثالِ مِن غيرِ حَظِّ النفس".(1)
__________
(1) - مختصر منهاج القاصدين ص 50.(1/105)
18. التشبه بالصالحين المتتبِّعين آثار النبي - صلى الله عليه وسلم - : وقد أخرج البخاري(1)عن سالم بن عبد الله بن عمر رضي الله عنهم في كتاب الحج (باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : العقيقُ وادٍ مُبارَك): (وَقَدْ أَنَاخَ بِنَا سَالِمٌ ، يَتَوَخَّى بِالْمُنَاخِ الَّذِى كَانَ عَبْدُ اللَّهِ يُنِيخُ ، يَتَحَرَّى مُعَرَّسَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ أَسْفَلُ مِنَ الْمَسْجِدِ الَّذِى بِبَطْنِ الْوَادِى ، بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الطَّرِيقِ وَسَطٌ مِنْ ذَلِكَ .).
ذَكرَ العقيقَ فهاجَه تَذكارُهُ ** صَبٌّ عن الأحبابِ شَطَّ مزارُهُ
وهَفَت إلى سَلعٍ نوازعُ قلبِهِ ** فتَضَرَّمَت بين الجوانِحِ نارُهُ
لولا هواهُ لَما ثَنت أعطافَهُ ** بانُ الْحِجازِ ورَنْدُهُ وعَرارُهُ!
ورحم الله المحبَّ الطبري ما أحسنَ قولَه: "ينبغي لمن قصدَ آثارَ النُّبوَّةِ أن يَعُمَّ بصلاتِهِ الأماكنَ التي هي مَظِنَّةُ صلاتِهِ - صلى الله عليه وسلم - فيها؛ رجاءَ أن يَظْفَرَ بِمُصَلَّى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - مِن كلِّ مكانٍ:
خليليَّ هذا ربعُ عزةَ فاعْقِلا قَلُوصَيْكُما ثم انزِلا حيثُ حَلَّتِ
ومسّا تراباً طيِّباً مسَّ ذيلَها وبيْتاً وظِلاً حيثُ باتَتْ وظَلَّتِ
ولا تيْأسا أن يعفوَ الله عنْكما إذا أنتُما صلَّيْتُما حيثُ صَلَّتِ"(2)
فهذه الأرض قد وطئتها أقدامُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وفاحت في أرجائها أنفاسه الطاهرة, وسار في جنباتها أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير... رضي الله عنهم أجمعين
وأستشرف الأعلام حتى يدلّني على طِيبِها مَرُّ الرياحِ النَواسِمِ
وما أنسمُ الأرواحَ إلا لأنها تمرّ على تلك الرُّبَى والمعالِمِ!
__________
(1) - صحيح البخارى برقم (1535)
(2) - القرى لقاصد أم القرى ص 350.(1/106)
قال ابنُ قدامة(1): "وأما المدينة الشريفة، فإذا لاحتْ إليك فتذكَّرْ أنها البلدةُ التي اختارها الله لنبيِّهِ محمد - صلى الله عليه وسلم - وشرع إليها هجرته وجعل فيها تربته، ثم مثِّلْ في نفسِك مواضعَ أقدامِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - عند تردُّدِهِ فيها وتصوَّرْ خشوعَه وسكينتَه؛ فإذا قصدتَ زيارةَ القبرِ فأحْضِرْ قلبَك لتعظيمِهِ والهيبةِ له، ومثِّلْ صُورتَهُ الكريمة في خيالِك، واستحضِرْ عظيمَ مرتبتِهِ في قلبِك، ثم سَلِّمْ عليه، واعلمْ أنه عالِمٌ بحضورِك وتسليمِكَ كما ورد في الحديث"(2).
19. والحجُّ موسِمُ التوبةِ والإقلاعِ عن الذنوبِ والمعاصِي والعِتْقِ مِن النَّار, كما روى مسلم رحمه الله عَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ قَالَتْ عَائِشَةُ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ " مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ يُعْتِقَ اللَّهُ فِيهِ عَبْدًا مِنَ النَّارِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ وَإِنَّهُ لَيَدْنُو ثُمَّ يُبَاهِى بِهِمُ الْمَلاَئِكَةَ فَيَقُولُ مَا أَرَادَ هَؤُلاَءِ "(3).
وروى البخاري عن أبي هريرة رضى الله عنه - قَالَ سَمِعْتُ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ " مَنْ حَجَّ لِلَّهِ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ "(4).
__________
(1) - مختصر منهاج القاصدين ص50
(2) - كما في سنن أبي داود برقم (1745 ) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَا مِنْ أَحَدٍ يُسَلِّمُ عَلَيَّ إِلَّا رَدَّ اللَّهُ عَلَيَّ رُوحِي حَتَّى أَرُدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ " وهو صحيح
(3) - صحيح مسلم برقم (3354 )
(4) - صحيح البخارى برقم (1521 )(1/107)
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ " الْعُمْرَةُ إِلَى الْعُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا ، وَالْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلاَّ الْجَنَّةُ "كما في الصحيحين(1).
وقد أخرج ابن الجوزي في [مُثِير الغرام الساكن] (باب خوف الصادقين عند وُقوفِهم بعرفة) عن صالح المرّي قال: "وقف مطرّف وبكر بن عبد الله بعرفة, فقال مطرّف: اللهم لا تَرُدَّهم اليومَ مِن أجلي! وقال بَكْر: ما أشرفَهُ مِن مَوقفٍ وأرجاه لأهلِهِ لولا أنّي فيهم, ورُوي عن الفُضَيل بن عياض أنه وقفَ بعرفةَ والناسُ يَدْعُون, وهو يبكِي بُكاءَ الثَّكلى المحترِقة, فلما كادت الشمسُ تسقطُ قبَضَ على لحيتِه, ثم رفعَ رأسَهُ إلى السماءِ وقال: واسَوْأتاه منكَ وإن عَفَوْتَ!"(2)
20. إطفاءُ الشوقِ بمشاهدةِ هذه البقاع المباركة: "وجديرٌ لمواطنَ عُمِّرت بالوحي والتنزيل، وتردّد بها جبريل وميكائيل، وعرجت منها الملائكة والروح، وضجّتْ عرصاتها بالتقديس والتسبيح، واشتملتْ تُربتُها على جسدِ سيِّدِ البشر - صلى الله عليه وسلم - ، وانتشر عنها مِن دينِ الله وسنةِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - ، مدارس آيات ومساجد وصلوات، ومشاهد الفضائل والخيرات، ومعاهد البراهين والمعجزات، وموقف سيّد المرسلين - صلى الله عليه وسلم - ومُتبوَّأ خاتم النبيين - صلى الله عليه وسلم - "(3)أن يُعتَنَى بها وأن تحِلَّ في القلوبِ وتخالِط بشاشتها، وأن يكونَ في زيارتِها ما يحْدُو إلى اتباعِ السنةِ وتعظيمِ نبيِّ الأمّة - صلى الله عليه وسلم - (4)ورحم الله علي بن أفلح حيث قال:
هذه الخيف وهاتيك مِنَى فترفّق أيها الحادي بنا!
__________
(1) - صحيح البخارى برقم (1773 ) ومسلم برقم (3355 )
(2) - مثير الغرام الساكن ص 109.
(3) - الشفا بتعريف حقوق المصطفى للقاضي عياض 2/622
(4) - دمعة على حب النبي - صلى الله عليه وسلم - ص39(1/108)
واحبس الركبَ علينا ساعةً نندب الربع ونبكي الدِّمَنا
فَلِذا الموقفِ أعددنا البُكا ولذا اليوم دموعٌ تُقتَنَى
زمناً كان وكنا جيرةً يا أعادَ الله ذاك الزَّمَنا
بَيْنُنا يومَ أُثِيلات النَّقا كان من غير تراضٍ بينَنا!(1)
ولم يزل سائق الأظعان يحدو بالحجيج على مرّ الأزمان متمثلاً:
يا سائقاً غَنِّ النياق وزمزما أبشرْ فقد نلتَ المقام وزمزما
كم كنت تذكرنا منازل مكة وتقول إنّ بها المُنَى والمغنما
برِّدْ بماء سقاية العباس ما كابدته طولَ الطريق من الظَّما
وانهض وهَرْوِلْ بين زمزم والصفا وادخل إلى الحجر الكريم مسلِّما
ومقام إبراهيم زُرْهُ مُبادِراً وبحِجر إسماعيل صَلِّ معظِّما
وانظر عروسَ البيت جَلَّى حُسنُها للناظرين ولُذْ بها مُستعصِما(2)
ورحم الله الشيخ الشعراوي فقد قال: "والذي نفسي بيده لو لم يكن الحج ركنَ إسلام لتحتّمَ شوقُ القلبِ ولهفةُ الروح وهيامُ الوجدان على المؤمن أن يرحلَ إلى بيتِ الله ليشهدَ مهبطَ الوحيِ ومطلعَ سيدِ المرسلين وخاتم النبيين. وليشحنْ روحَه بطاقاتِ اليقينِ من ذكرياتِ هاجر وفدائياتِ إسماعيل وإبراهيم!
وإذا كانت المساجدُ في جميعِ بقاعِ الأرضِ بيوتَ الله وفيها نتقربُ إليه بالجماعةِ والاجتماعِ والذكرِ والاعتكافِ مع أنها بيوتُ الله ولكنْ باختيارِ عِباده؛ فكيف يكون التقربُ إلى الله في بيتِهِ الذي اختاره؟!"(3)
__________
(1) - ديوان ابن أفلح 4/23 ومثير الغرام 129.
(2) - رحلة الصِّدِّيق إلى البيت العتيق. للشيخ صديق حسن خان ص 31.
(3) - لبيك اللهم لبيك. للشيخ محمد متولي الشعراوي ص 45.(1/109)
21. مصاحبة أهل الخير: فرُبَّ رجلٍ تلقاه في حَجِّك ممن لا يشقى بهم الجليس تُذَكِّرُك بالله رؤيتُه, ولا تزدادُ مِن صُحبتِهِ إلا خيراً وفلاحاً. ولا شك أنّ مُصاحبةَ الأنفُسِ الصالحة ومخالطةَ الأنفاسِ الطاهرة تبعث في النفس تَوْقاً إلى الطاعات وانزجاراً عن المعاصي والسّيئات؛ ومِن هنا عَدَّ العلماءُ مِن آدابِ الحج "أن يلتمسَ رفيقاً صالحاً, مُحِبّاً للخير مُعِيناً عليه؛ إن نسي ذكَّرَه وإنْ ذكَرَ أعانه, وإن جَبُنَ شجَّعه وإنْ عَجَزَ قوّاه, وإن ضاق صدره صبّره فقد نهى - صلى الله عليه وسلم - أن يسافر الرجل وحده وجاء عنه - صلى الله عليه وسلم - أنّ (الْوَاحِدُ شَيْطَانٌ ، وَالاثْنَانِ شَيْطَانَانِ ، وَالثَّلاثَةُ رَكْبٌ)(1)فلا يخرج إلا في ركب ".(2)وقد روى ابن الجوزي عن مخوّل قال: "جاءني بهيم ـ يعني العجلي ـ فقال لي: أتعلم لي رجلاً من جيرانك أو إخوانك يريد الحج ترضاه يرافقني؟ قلت: نعم. فذهبت به إلى رجل من الحيّ له صلاح ودين فجمعت بينهما, وتوَاطَآ على المرافقة. ثم انطلق بهيم إلى أهله, فلما كان بعد أتاني الرجل فقال: يا هذا أحب أن تَزوِي عني صاحبك وتطلب رفيقاً غيري. فقلت: لِمَ؟ والله ما أعلم بالكوفة له نظيراً في حسن الخلق والاحتمال. فقال: ويحك! حُدّثت أنه طويل البكاء لا يكاد يفتر, فهذا ينغِّص علينا العيش. فقلت: ويحك إنما يكون البكاء أحياناً عند التذكرة, أو ما تبكي أنت؟ قال: بلى, ولكن قد بلغني عنه أمرٌ عظيمٌ من كثرة بكائه. قلت: اصحبه فلعلك أن تنتفع به. فقال: أستخير الله. فلما كان في اليوم الذي أراد أن يخرجا فيه جيء بالإبل ووُطِّئ لهما, فجلس بهيم في ظل حائط فوضع يده تحت لحيته فجعلتْ دموعه تسيل على خدّيه ثم على لحيته ثم على صدره حتى والله رأيت دموعه على الأرض. فقال لي: يا مخوّل قد ابتدأ صاحبك ليس هذا برفيق.
__________
(1) - المستدرك للحاكم(2496) صحيح
(2) - رحلة الصّدّيق ص 36.(1/110)
فقلت: ارفق؛ لعله ذكر عياله ومفارقته إياهم. وسمعهما بهيم فقال: يا أخي والله ما هو ذاك وما هو إلا أني ذكرتُ بها الرحلة إلى الدار الآخرة, وعلا صوتُه بالنحيب! فقال لي صاحبي: ما هو بأولِ عداوتِك لي, ما لي ولبهيم؟ إنما كان ينبغي أن ترافق بين بهيم وبين داود الطائي وسلام أبي الأحوص, حتى يبكي بعضُهم إلى بعضٍ فيشفون أو يموتون! فلم أزلْ أرفقُ به, وقلت له: ويحك لعلَّها خيرُ سفرةٍ سافرْتَها. وكلُّ ذلك لا يعلم به بهيم ولو علم ما صاحَبَهُ. فخرجا وحَجَّا ورجعا, فلما جئتُ أسلِّمُ على جاري قال لي: جزاك الله عني يا أخي خيراً ما ظننت أنّ في الخلق مثل أبي بكر؛ كان والله يتفضّل عليّ في النفقة وهو معدومٌ وأنا مُوسِرٌ, وفي الخدمة وأنا شابٌ وهو شيخٌ, ويطبخ لي وأنا مُفطِرٌ وهو صائم. فقلتُ: وكيف كان أمرُك معه في الذي كنت تكرهه من طولِ بكائه؟ قال: ألِفْتُ واللهِ ذلك البكاء, وسُرَّ قلبي حتى كنت أساعِدُه عليه, حتى تأذّى بنا الرُّفْقة، ثم ألِفوا ذلك, فجعلوا إذا سمعونا نبكي يبكون, وجعل بعضهم يقول لبعض: ما الذي جعلهم أولى بالبكاء منّا والمصيرُ واحدٌ؟ فيبكون ونبكي. ثم خرجت من عنده, فأتيتُ بهيماً وقلتُ: كيف رأيتَ صاحبَك؟ قال: كخيرِ صاحب, كثير الذكر لله طويل التلاوة سريع الدمعة جزاك الله عني خيرا".(1)
22. تعرّض الصالحين لدعوة الحجيج التائبين إلى ربهم المتضرِّعين في مواطنَ يجاب فيها الدعاء لاسيما في عرفات والملتزم. ورحم الله الشيخ صديق حسن خان حيث قال: "لما استسعدت بالتزام الملتزم, تمثلتُ بهذه الأبيات, وأرجو من الله قبولها:
أسِيرُ الخطايا عند بابِك واقِفُ على وَجَلٍ مما به أنتَ عارفُ
يخاف ذُنوباً لم يَغِبْ عنك غيبُها ويرجوك فيها فهو راجٍ وخائفُ
ومن ذا الذي يُرجى سواك ويُتّقى ومالك في فصل القضاء مُخالِفُ
فيا سيِّدي لا تُخْزِني في صحيفتي إذا نُشِرتْ يومَ الحساب الصحائفُ
__________
(1) - مثير الغرام 39 - 40.(1/111)
وكُن مؤنِسِي في ظلمةِ القبرِ عندما يَصُدُّ ذوو القُربى ويَجْفُو الموالِفُ
لئن ضاقَ عني عفوُك الواسعُ الذي أُرَجِّي لإسرافِي فإنِّيَ تالفُ(1)
وقد حكى ابن الجوزي رحمه الله عن محمد بن داود الدينوري قال: حدثني أبو الحسن اللؤلؤي وكان خيِّراً فاضلاً قال: كنت في البحر فانكسرت المركبُ وغرق كل ما فيه, وكان في وطائي لؤلؤ قيمته أربعة آلاف دينار. وقربت أيام الحج وخِفتُ الفَوات, فلما سلّم الله عز وجل بِرُوحي ونجّاني من الغرق مشيت, فقال لي جماعة كانوا في المركب: لو وقفت عسى أن يجيء من يخرج شيئاً فيخرج لك من رحلك شيئاً. فقلت: قد علم الله ما مرّ مني, وكان في وطائي شيء قيمته أربعة آلاف دينار, وما كنت بالذي أُوثِرُه على وقفةٍ بعرفة. فقالوا: وما الذي ورّثك هذا؟ فقلت: أنا رجلٌ مُولَعٌ بالحج, أطلب الربح والثواب, حججتُ في بعض السنين وعطشتُ عطشاً شديداً, فأجلستُ عَدِيلي في وسط المحمل, ونزلتُ أطلب الماء والناسُ عطشى. فلم أزل أسأل رجلاً رجلاً محملاً محملاً: معكم ماء, وإذا الناس شَرْعٌ واحدٌ, حتى صِرت في ساقةِ القافلة بميل أو ميلين. فمررتُ بمصنعٍ مُصَهْرج, فإذا رجلٌ فقيرٌ جالس في أرض المصنع وقد غرز عصاه في أرض المصنع, والماء ينبع من موضع العصا وهو يشرب, فنزلتُ إليه, فشربتُ حتى رويت, وجئتُ إلى القافلة والناسُ قد نزلوا, فأخرجتُ قِربةً ومضيتُ فملأتها, فرآني الناس, فتبادروا بالقِرَب, فرووا عن آخرهم, فلما روى الناس وسارت القافلة جئت لأنظر وإذا البركة ملأى يلتطم موجها؛ فموسمٌ يحضره مثل هؤلاء يقولون: اللهم اغفرْ لمن حضر الموقف ولجماعة المسلمين, أُوثر عليه أربعة آلاف دينار؟ لا والله ولا الدنيا بأسرها, وترك اللؤلؤ وجميع قماشه قال الشيخ: فبلغني أنّ قيمة ما كان غرق له خمسون ألف دينار"(2)
__________
(1) - رحلة الصديق ص 99.
(2) - مثير الغرام الساكن ص 32.(1/112)
23. التعوّد على مقارعةِ الشيطان والتحصُّن بالطاعات من همزاته؛ امتثالاً لقولِ الله تعالى: (وقلْ ربِّ أعوذ بك من همزات الشياطين وأعوذ بك ربي أن يحضرون).[ المؤمنون 97-98.] .
ولأبي حامد الغزالي كلامٌ نفيسٌ في هذا فقد قال: "أما رمي الجمار فاقصدْ به الانقيادَ للأمر؛ إظهاراً للرق والعبودية وانتهاضاً لمجرد الامتثال من غير حظٍّ للنفس والعقل فيه, ثم اقصدْ به التشبهَ بإبراهيم عليه السلام, حيث عرض له إبليس لعنه الله تعالى في ذلك الموضع؛ ليدخل على حَجِّهِ شبهةً, أو يفتنَه بمعصيةٍ, فأمره الله عز وجل أن يرميه بالحجارة؛ طرداً له وقطعاً لأمله. فإن خطر لك أنّ الشيطان عرض له وشاهده ولذلك رماه, وأما أنا فليس يعرض لي الشيطان؛ فاعلمْ أنّ هذا الخاطرَ من الشيطان, وأنه الذي ألقاه في قلبِك؛ ليُفَتِّر عزمَك في الرمي, ويخيلَ إليك أنه فعلٌ لا فائدة فيه, وأنه يضاهي اللعب فلِمَ تشتغل به؟ فاطردْه عن نفسك بالجد والتشمير في الرمي؛ فَبِهِ تُرْغِمُ أنفَ الشيطان, واعلمْ أنك في الظاهر ترمي الحصى إلى العقبة, وفي الحقيقة ترمي به وجهَ الشيطان وتقصم به ظهره؛ إذ لا يحصل إرغام أنفه إلا بامتثالِك أمرَ الله سبحانه وتعالى تعظيماً له بمجرد الأمرِ من غير حظٍّ للنفس والعقل فيه"(1).
__________
(1) - الإحياء 1/270 وأحكام الحج وآدابه لمناع القطان ص 64.(1/113)
24. تحرِّي المال الحلال, وتلك خصلة تذكِّر المتساهلين في طلب الرزق بتوخِّي الرزق الطيب فإنّ الجسم الذي غُذِّيَ بالحرام النار أوْلى به. وفي الحج يضع المرء بين عينيه قولَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : " أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لاَ يَقْبَلُ إِلاَّ طَيِّبًا وَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ فَقَالَ :{يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} (51) سورة المؤمنون ، وَقَالَ : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ لِلّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} (172) سورة البقرة. ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ يَا رَبِّ يَا رَبِّ وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ وَغُذِىَ بِالْحَرَامِ فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ "..(1)
وما أحسن قول الأدباء:
إذا حججتَ بمالٍ أصله سُحتٌ فما حججتَ ولكن حجَّت العِيرُ
ما يقبل الله إلا كل صالحة ما كلُّ من حجّ بيتَ الله مبرورُ(2)
25. تذكُّر أمجاد المسلمين وزيارة صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذين فتحوا البلاد وحرّروا العباد. فبذكرهم تنزل الرحمة(3):
إذا مرضنا تداوينا بذِكْرِكُمُ ونترك الذكر أحياناً فننتكسُ
26. استحضار أيام الفتوح, بزيارة بدرٍ وأُحُدٍ وغيرهما من المشاهد؛ إحياءً لروح العزة بالإسلام والإيمان.
__________
(1) - صحيح مسلم برقم (2393 )
(2) - أهم الأحكام في مناسك الحج والعمرة على هدي خير الأنام للصنعاني ص 8 ورحلة الصّدّيق ص 36.
(3) - موسوعة الخطب المنبرية - (ج 5 / ص 250) وقافلة الداعيات - (ج 146 / ص 18) والمنتخب من الشعر والبيان - (ج 1 / ص 40)(1/114)
فسَلِ المشاهدَ والثغورَ من الذي هزمَ الجيوشَ وشتَّتَ الأحزابا؟
ومَن الذي طمسَ الضلالَ بسيفِهِ وأعاد عامرَهُ المنيعَ خرابا؟!
27. معرفة آيات الله ووعدِه الصادق في استمرارِ الحنين إلى البيتِ العتيق وتواصل الاستجابة للنداء الخالد. "فما يزال وعدُ الله يتحقق منذ إبراهيم عليه السلام إلى اليوم والغد. وما تزال أفئدةُ من الناس تهوي إلى البيت الحرام؛ وترِف إلى رؤيته والطواف به.. الغني القادر الذي يجد الظهرَ يركبه ووسيلة الركوب المختلفة تنقله؛ والفقير المعدم الذي لا يجد إلا قدميه، وعشرات الألوف من هؤلاء يتقاطرون من فجاج الأرض البعيدة؛ تلبيةً لدعوة الله التي أذّن بها إبراهيم عليه السلام منذ آلاف الأعوام".(1)
28. إصلاح المسلمين ما بينهم وبين ربّهم وتجديد التوكل عليه واليقين في تفريجه الكروب, ورحم الله الحافظ ابن كثير فقد ذكر أثناء الكلام عن الصفا والمروة "أنّ أصل ذلك مأخوذٌ من طواف هاجر وتردُّدها بين الصفا والمروة في طلب الماء لولدها لما نفد ماؤهما وزادُهما وتَرَكَهما إبراهيم عليه السلام هناك, وليس عندهما أحد من الناس. فلما خافت على ولدها الضيعة هنالك, ونفد ما عندهما, قامت تطلب الغوث من الله عز وجل, فلم تزل تتردّد في هذه البقعة المشرّفة بين الصفا والمروة, متذلّلةً خائفةً وَجِلةً مُضطرةً فقيرةً إلى الله عز وجلّ؛ حتى كشف الله كربتها وآنس غربتَها وفرّج شدّتها, وأنبع لها زمزم التي ماؤها (طَعَامُ طُعْمٍ وَشِفَاءُ سَقَمٍ)(2).
__________
(1) - في ظلال القرآن 17/2419.
(2) - مسند البزار(3929) صحيح(1/115)
فالساعي بينهما ينبغي له أن يستحضر فقرهُ وذلَّه وحاجتَه إلى الله: في هدايةِ قلبِه وصلاحِ حالِه وغُفرانِ ذنبه, وأن يلتجئ إلى الله عز وجل؛ لتفريج ما هو به من النقائصِ والعيوبِ, وأن يهديَهُ إلى الصراط المستقيم, وأن يُثَبِّتَهُ عليه إلى مماته, وأن يحوِّلَه مِن حالِهِ الذي هو عليه من الذنوب والمعاصي إلى حال الكمال والغفران والسّداد والاستقامة كما فعل بهاجر عليها السلام".(1)
29. إعادة الثقة بالأمة المسلمة, وعدم الحكم على خير أمة أخرجت للناس من خلال مواقف بعض الحكام والعُصاة. ففي الحج يرى المرءُ المسلمين على حقيقتِهم فيقول ـ لشدّة تأثير الواقعِ المحزنِ ـ عجباً لهم حيث يُسارِعُون إلى نداء ربِّهم لا يستنفرهم سياسيّون ولا يُخيفهم مُخبِرُون ولا يستخِفُّهم إعلاميُّون ولا يخدعهم ماديُّون! فيتنفّس الصُّعَداء ويقول: هؤلاء المسلمون!
30. التعرُّض لنفحاتِ الخير في البلاد المقدسة في حرم الله وأمنه: فمن هناك تُكتَسب المكرمات وعلى تلك الرُّبى تُنال الأُمنيات. ورحم الله أبا الحسن الندوي فقد أنشد "من وحي المكان وفيض الإيمان واستجابةً لشعور الحُسن والإحسان:
ولما نزلنا منزلاً طلَّهُ النَّدى أنيقاً وبستاناً من النَّوْر حَانِيا
أجدَّ لنا طيبُ المكان وحسنُهُ مُنىً فتمنّينا فكنتَ الأمانيا"(2)
__________
(1) - تفسير القرآن العظيم 1/262.
(2) - النبوة والأنبياء في ضوء القرآن لأبي الحسن الندوي ص 9 - 10.(1/116)
وقد علّل الحافظ ابن حجر رحمه الله تفضيل صحيح البخاري على غيره من الكتب ببركة المكان الشريف فقال: "وكذلك الجهة العظمى المُوجِبَة لتقديمه، وهي ما ضمّنه أبوابه من التراجم التي حيَّرتْ الأفكار وأدهشت العقول والأبصار. وإنما بلغت هذه الدرجة وفازت بهذه الحظوة لسببٍ عظيمٍ أوجبَ عِظَمَها وهو ما رواه أبو أحمد بن عدي عن عبد القدوس بن همام قال: شهدتُ عدّةَ مشايخَ يقولون: حوّلَ البخاريُّ تراجمه ـ يعني بيَّضَها ـ بين قبرِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ومنبره. وكان يصلِّي لكلِّ ترجمة ركعتين"(1).
وقد أحسنَ الصنعاني في قوله: "نوّهَ الله تعالى في كتابه العزيز بذكرِ البيتِ، وكرّره تنويهاً له وتشريفاً, وأضافه إلى ذاته الشريفة فزاده تشريفاً وتعريفاً, لا تشبع من لقائه القلوب, ولا ترحل الأنفس عنه إلا وهي بذكره طروب و لا يرجع الطرف عنها حين ينظرها حتى يعود إليها وهو مشتاق"(2)
كيف وقد روى مسلم عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ يَبْلُغُ بِهِ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ :" صَلاَةٌ فِى مَسْجِدِى هَذَا أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ صَلاَةٍ فِيمَا سِوَاهُ إِلاَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ "(3).
وروى الطبراني عَنْ عَطَاءٍ، قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بن الزُّبَيْرِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : "صَلاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ صَلاةٍ فِيمَا سِوَاهُ، إِلا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ، وَصَلاةٌ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَفْضَلُ مِنْ صَلاةٍ فِي مَسْجِدِي بِأَلْفِ صَلاةٍ"..(4)
__________
(1) - هدي الساري مقدمة فتح الباري ص 14.
(2) - مقدمة الصنعاني في أهم الأحكام لمناسك الحج والعمرة ص 3 - 4.
(3) - صحيح مسلم برقم (3440 )
(4) - المعجم الكبير للطبراني - (ج 18 / ص 375)برقم (34) صحيح(1/117)
وقد أصرّ ابن عمر رضي الله عنهما في شيخوخته أن يحج في فتنة الحجاج وابن الزبير, وبكتْ عائشة رضي الله عنها حسرةً على فوات عُمرتِها حين حلَّ بها ما كُتب على النساء!
ويكفيك في فضل المدينة ما روي عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " إِنَّ الإِيمَانَ لَيَأْرِزُ إِلَى الْمَدِينَةِ كَمَا تَأْرِزُ الْحَيَّةُ إِلَى جُحْرِهَا "(1)حتى إنّ الأمير الراشد عمر بن عبد العزيز حِينَ خَرَجَ مِنَ الْمَدِينَةِ الْتَفَتَ إِلَيْهَا فَبَكَى، ثُمَّ قَالَ : يَا مُزَاحِمُ أَتَخْشَى أَنْ نَكُونَ مِمَّنْ نَفَتِ الْمَدِينَةُ.)(2)
هذا وإنّ الحاج إذا مات في نُسكِه (بُعِثَ ملبِّداً وملبِّياً) كما ثبت في الصحيح. ورحم الله عمر فقد ختم البخاري (كتاب فضائل المدينة) بدعائه الذي يدعو به الصالحون (اللَّهُمَّ ارْزُقْنِى شَهَادَةً فِى سَبِيلِكَ ، وَاجْعَلْ مَوْتِى فِى بَلَدِ رَسُولِكَ - صلى الله عليه وسلم - (3)- قال الحافظ ابن حجر: "فيه إشارةٌ إلى حُسنِ الختام؛ فنسأل الله أن يختم لنا بالحسنى"(4).
وليت شعري كيف يُشفَى المستهامُ ويصبر على فراقِ البلد الحرام؟ كما قال الشاعر:
أسَعُ البلادَ إذا أتيتُك زائراً وإذا هَجَرْتُك ضاقَ عَنِّي مقعدي!
وهل للمؤمن حَنِينٌ في الوجودِ إلى أعظمَ مِن البلدِ الأمين الذي أقسم به ربّ العالمين؟!
فرحم الله مَنْ حجَّ فحصَّلَ الحجَّ المبرور، وعاد بذنبٍ مغفور! ومَنْ بَكَى لعدمِ القدرة على ذلك؛ فأنشد:
يا ظاعِنين إلى البيتِ العتيقِ لقد سِرْتُمْ جُسُوماً وسِرْنا نحن أرواحا
إنا أقمْنا على عَجْزٍ ومَعْذِرَةٍ ومَنْ أقامَ على عَجْزٍ فقد راحا!
__________
(1) - صحيح البخارى برقم (1876 ) يأرز : ينضم ويجتمع
(2) - الموطأ ـ الجامع ـ ما جاء في سكنى المدينة والخروج منها (1609 ) بلاغاً.
(3) - صحيح البخارى برقم (1890 )
(4) - فتح الباري 4/591.(1/118)
31. عبرات على صعيد منى(1)
يا رعى اللهُ زماناً في مِنَى ... لا تُعجِّلْ أيها الحادي بنا
واحبسِ الركْْبَ علينا ساعةً ... علَّنا نَرْوي غليلاً علَّنا
رُبَّ محرومٍ ينادي لاهفاً ... يا إلهي أنْت أنْت ، مَنْ أنا ؟!
ما أنا إلا فقيرٌ يرتجي ... منك يا ربِّ البريَّاتِ الغنى
رُبَّ عينٍ من هجيرٍ أقفرتْ ... زارها الدمعُ وأضحى ديْدَنا
رُبِّ ذي ذنبٍ كبيرٍ مخجلٍ ... قام يبكي الذنبَ يرجو المِنَنَا
صاحَ تبتُ الآن فأقبْل نادماً ... جاء يبغي في حماكَ المَوْطِنَا
رُبَّ نفسٍ من شديدِ وحشةٍ ... أسرعتْ من وجْدِها تشكو الضَّنَا
فاطمأنَّتْ في حِمَى خالِقهَا ... فوقَ تربٍ فَاحَ زهراً وَجَنَا
قمْ أخيِّي الآنَ والزْم بابَهُ ... نادِ لنْ أبرحَ حتى تَأذَنا
علَّك المقبولُ من زوَّارِهِ ... علَّ فينا من يوافيه المنى
رَبِّ فاقبلنا بشيخٍ طاعنٍ ... أو بطفلٍ جاء يسعى بيننا
أيها الركبُ سريعاً أقبلتْ ... ساعةُ البيْنِ فهاجَتْ حُزْنَنَا
كم وددْنا لو أقمنا صحبةً ... بين هاتيك الروابي عُمرَنا
فهنا كمْ كبدٍ مكْلومةٍ ... تشتكي للهِ هذا البَدَنا
وهنا كمْ لحظةٍ أنوارُهَا ... جرَّدتنا من شقاءٍ وَعَنا
وهنا أنفاسُ أزكى مرسلٍ ... عطْرتْ أطيابُها كلَّ الدُّنَا
أيها الركبُ وداعاً واذكُرُوا ... خيرَ أيامٍ وأبكُوا الأعينا
في مآقينا دموعٌ أفْصَحتْ ... منطقُ الألفاظِ أَعْيَا الأَلْسُنا
إن تلاقيْنَا بدنيانا فلا ... تُنكرُوا عهدَ الإخاءِ بيننا
فاذكرونا إن صفَا الدهر بكُمْ ... واذكرونا إن نزلنا قبْرنا
نُشْهِدُ المولى على حبٍ لكمْ ... خالص ، ولْتَشهدوا أنتم لنا
يا عظيمَ العفوِ قد حان الرَّحيل ... اغفرِ الأوزارَ وارحَمْ ضعْفَنا
لا تدعْ فينا شقياً بائساً ... مَنْ سواك للعطاء ، ربَّنَا !
وأَنِلْنَا في الحساب جَنَّةً ... واجعلِ الفردوسَ فيها مسكَنا
__________
(1) - مجلة البيان - (ج 196 / ص 24) - د. أحمد حسبو - عضو رابطة الأدب الإسلامي العالمية .(1/119)
وأعدْ للمسلمين مجْدَهم ... قوةً في الدينِ وامْحُ الوهَنَا
يا إلهي لا يكنْ هذا اللِّقَا ... آخرَ العهدِ على تُرْبِ مِنى
- - - - - - - - - - - - -
رِحلة الحجّ عبر القرآن الكريم(1)
شرع الله العباداتِ لحِكَمٍ عظيمة ومصالحَ عديدة، أجلُّها تحقيقُ عبودية الله سبحانه والخضوع له فيما أمر ونهى، ومنها تزكيةُ النفس وترويضها على الفضائل.
الحجُّ في حياةِ المسلمين مدرسةٌ عظيمةُ العطاء واسعةُ الأثر بليغةُ العبرة، موسمٌ تسمو فيه الأرواح وتشرِق النفوس. الحجّ ملتقًى كبيرٌ يفِد إليه الحجّاجُ من أنحاء المعمورة إلى الأرض المقدّسة، ألوانٌ مختلفة وأجناسٌ متعدِّدة وألسُنٌ متباينة، يقول الله تعالى في الحديث القدسي: "انظروا إلى عبادي، أتَوني شُعثًا غُبرًا" أخرجه أحمد(2).
يحكي القرآنُ دعاءَ إبراهيم عليه السلام، قال تعالى: رَّبَّنَا إِنَّى أَسْكَنتُ مِن ذُرّيَّتِى بِوَادٍ غَيْرِ ذِى زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مّنَ النَّاسِ تَهْوِى إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مّنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ [إبراهيم:37]. ويستجيبُ الله دعاءَ خليله، وتمضي الأفئدةُ تهوي إلى هذا المكان لتعمِّره، مُلبِّين مكبّرين خاضعين متذلِّلين، جموعٌ لا تُعَدُّ ولا تُحصى، تطوف وتَسعى، ويستمرّ الطوافُ لا ينقطع مهما بلغ حرُّ النهار أو بردُ الليل، ويبقى البيت العتيقُ مفتوحًا ليلاً ونهارًا.
في الحجّ يشهَد الحاجّ مهبطَ الوحي، ويترسّم خطواتِ النبي ، يستروح الذكرياتِ والمعاني، ويرى التأريخ أمامه على أرضِ التاريخ، كلُّ حبَّةِ رملٍ في هذه البقاع تحمل تأريخًا مشرقًا وتنطق بحضارةٍ أضحى عطاؤها للبشرية متحقِّقا.
__________
(1) - موسوعة خطب المنبر - (ج 1 / ص 2946) -عبد الباري بن عوض الثبيتي -المدينة المنورة -24/11/1424
(2) - مسند أحمد (2/305) وهو صحيح(1/120)
على المسلم التوبةُ النصوح وتجديدها عند الدخول في هذه المناسك، يعاهِد ربَّه على عبادته، يطيعه ولا يعصيه، يؤدّي الصلوات، يترك السيّئات، يبتعِد عن المحرّمات، فالحجّ ملاذ كلِّ المسلمين، العابدون يزدادون قربًا من مولاهم، والعصاةُ يستروِحون عَبَق الرحمات، في هذه الأجواءِ الإيمانية الآمنة يقرّون بذنوبهم، يلتمسون عفوَه ومغفرته ورحمتَه ورضوانه، قال الله تعالى: لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَاؤُهَا وَلَاكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ [الحج:37].
وفي سياقِ آيات الحجِّ يقول تعالى: وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ [البقرة:196]، العملُ كلُّ العمل في هذه الدنيا يُراد به وجهُ الله، فمن شروط قَبول الأعمال تحقيقُ الإخلاص لله، أي: أن تقصد ـ أيّها الحاج ـ بعملك وجهَ الله، لا رياءَ ولا سمعة ولا مباهاة، أن تبتغيَ برحلتك المباركة وجهَ الله للفوز بنعيم الجنّة. إن كلَّ حركةٍ ومشهَدٍ ونفقةٍ تؤدِّيها في رحلة الحجّ تقرّبك إلى الله وتزيد في حسناتك، قال : "الحُجَّاج والعُمّار وفدُ الله، إن دعوه أجابهم، وإن استغفروه غفرَ لهم" أخرجه ابن ماجه(1).
ولذا كان رسول الله يسأل ربَّه الإخلاصَ قائلاً كما في حديث أنس رضي الله عنه مرفوعًا: "اللهم حجّة لا رياءَ فيها ولا سُمعة" أخرجه ابن ماجه(2).
كم للنية الخالصةِ في الحجّ من أثرٍ عظيم في زكاةِ النفس وفلاحها، تأمّل هذا الفضل العظيم في قوله : "الحجّ المبرور ليس له جزاء إلا الجنة"(3).
__________
(1) - سنن ابن ماجه: كتاب المناسك (2892) والصحيحة (1820 )حسن لغيره.
(2) - سنن ابن ماجه: كتاب المناسك (2890) و الصحيحة (2617)حسن لغيره.
(3) - أخرجه البخاري في الحج، باب: وجوب العمرة وفضلها (1773)، ومسلم في الحج، باب: في فضل الحج والعمرة ويوم عرفة ((1/121)
ومن صفاتِ هذا الحجّ أن يكونَ خالصًا لله، والإخلاصُ ليس بالأمر الهيّن، قال أحدُ السلف: "تخليص النيات على العُمّال أشدُّ عليهم من جميعِ الأعمال"، وقيل لأحدهم: أيّ شيء أشدّ على النفس؟ قال: "الإخلاص، إذ ليس لها فيه نصيب"، وقال بعضهم: "إخلاصُ ساعة نجاةُ الأبد".
فالإخلاصُ عزيز، ولا يتخلّص الإنسانُ من الشيطان إلا بالإخلاص، كما في قوله تعالى حكايةً عن إبليس: قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لاَغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [ص:82، 83].
وفي سياق آيات الحجّ يقول الله تعالى: وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى [البقرة:197]. خير ما يتزوّد به الحاجّ في الحجّ التقوى.
التقوى غايةُ الأمر وجِماع الخير، هي فعلُ الطاعات واجتناب المحرّمات، وليس السّفر من الدنيا بأهونَ من السفر في الدنيا، وهذا لا بدّ له من زادٍ فكذا، وإذا كان زادُ الدنيا يخلِّصُ من عذاب منقطعٍ موهوم فإنّ زادَ الآخرة يقي من عذابٍ أبديّ معلوم.
وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى تنبيهٌ للحاجّ لاستصحابِ التقوى في قلبه في كلّ خطوةٍ يخطوها، بل ويضاعِف تقواه في السرّ والعلَن، في الحِلّ والحرم، في نفسه ومع غيره، ومن التقوى كفُّ الأذى عن الناس بالقول أو الفعل، قال رسول الله : "الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ ، وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ" أخرجه البخاري(1).
__________
(1) - صحيح البخاري: كتاب الإيمان (10)(1/122)
قال تعالى: ذالِكَ وَمَن يُعَظّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ [الحج:32]. تعظيمُ أعمال الحجّ ومناسك الحجّ من تقوى القلوب، يكون ذلك بإجلالها بالقلبِ ومحبّتها وتكميل العبودية فيها، وفي الحديث أن رسول الله قال: "لاَ تَزَالُ هَذِهِ الأُمَّةُ بِخَيْرٍ مَا عَظَّمُوا هَذِهِ الْحُرْمَةَ حَقَّ تَعْظِيمِهَا ، فَإِذَا ضَيَّعُوا ذَلِكَ هَلَكُوا." أخرجه ابن ماجه(1).
وفي سياق آيات الحجّ يقول تعالى: وَأَذّن فِى النَّاسِ بِالْحَجّ يَأْتُوكَ رِجَالاً [الحج:27].
إنّ هذا النداءَ يُبرِز عالميّة الإسلام، فهو يدعو الأنام كلَّهم إلى الإسلام ليحرِّرهم من عبادة العباد إلى عبادة ربّ العباد، ومن جَور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضِيق الدنيا إلى سَعَة الآخرة، قال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لّلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107].
الإسلامُ دينٌ عالمي، فقد جمع بين أبي بكر العربيّ وصهيبٍ الروميّ وبلال الحبشيّ وسلمان الفارسيّ وغيرهم من شتّى القبائل والبلدان، وقال - صلى الله عليه وسلم - : (وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا) متفق عليه(2).
إن الناظرَ إلى شعائر الحجّ يجدها تدعو إلى محوِ فوارق اللون واللغةِ والجنس، تجلّى ذلك واضحًا في خطبة يوم عرفة بإعلان مبادئ وحقوقِ الإنسان. دينٌ عالميّ؛ لأنه من عند الله وفيه من الكمال والشمول ما لم يوجد في غيره.
__________
(1) - سنن ابن ماجه (3229 ) ومصنف ابن أبي شيبة (ج 3 / ص 695)(14289) وأحمد (4/347)، وابن الجعد في مسنده (2296) حسن
(2) - صحيح البخاري: كتاب الأدب (6064، 6065، 6066، 6076)، صحيح مسلم: كتاب البر والصلة ( 4646-4650)(1/123)
حجّاجَ بيت الله، تصطفّ هذه الجموع المباركةُ في هذه البقاع الطاهرة من آفاق الدنيا كلِّها قائلةً: "لا إله إلا الله، محمد رسول الله"، تجمعهم أخوّةٌ إيمانية صادقة ووحدة صافيةٌ ومساواة عادِلة، ذابت بينهم الفوارق العِرقية وتبدّدت كلُّ مظاهر الاعتزاز بالجنس أو اللون.
أما معيارُ المفاضلةِ والتكريم فقد قال سبحانه: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات:13]. فالتقوى هي النسَب، وهي التي ترفع صاحبَها وتُعلي قدرَه، لا فضلَ لعربي على عجميّ ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى، وقال سيّد البشر : "لَيْسَ مِنَّا مَنْ دَعَا إِلَى عَصَبِيَّةٍ وَلَيْسَ مِنَّا مَنْ قَاتَلَ عَلَى عَصَبِيَّةٍ وَلَيْسَ مِنَّا مَنْ مَاتَ عَلَى عَصَبِيَّةٍ" أخرجه أبو داود(1).
وفي سياق آيات الحجّ يقول تعالى: لّيَشْهَدُواْ مَنَافِعَ لَهُمْ [الحج:28]. في الحجّ منافعُ دينيّة ودنيوية، فهو أعظم فرصةٍ لحلّ مشكلات المسلمين وجمع كلمتهم ولَمِّ شملهم وإحياء مبدأ التراحم والتكافُل والقضاء على الفُرقة والتمزُّق. هذه الوحدَة هي سرّ قوّة الأمّة ورقيِّها وسعادتها، وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُم أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا [آل عمران:103].
حذّرنا سبحانه من الفُرقة فقال: وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ [الأنفال:46]. وتوعّد سبحانه دعاةَ الفرقة بالعذاب فقال سبحانه: وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [آل عمران:105].
لقد أدرك أعداءُ الإسلام أثَر وحدةِ المسلمين في القوّة والمنَعَة، فعملوا على إيقادِ نار العداوة والبغضاء بين المسلمين في كلّ عصرٍ وحين، وهذه مأساةُ المسلمين الكبرى في واقِعهم المعاصِر.
__________
(1) - سنن أبي داود: كتاب الأدب (5123) حسن لغيره(1/124)
وفي الحجّ يتعلّم المسلمُ الرفقَ بإخوانه المسلمين، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول في منصَرَفه من عرفةَ إلى مزدلفة: " أَيُّهَا النَّاسُ السَّكِينَةَ السَّكِينَةَ "(1).
التراحم يُثمِر محبّةً وألفة ومودّة، والقَسوة تولِّد أحقادًا وكراهية، ومن الرفق أن يُعين أخاه ويفسح له الطريق، يحترمَه ويحبّه، لا يظلمه ولا يؤذيه، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِى تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى " أخرجه مسلم(2)
وفي سياق آيات الحجّ يقول تعالى: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ [البقرة:158].
كانت هاجَر عليها السلام تسعى بين الصفا والمروة سبعَ مرّات بتصميم وثباتٍ وعدَم يأس، اتخذتِ الأسبابَ، وبذلت جُهدًا مضنيًا مع توكُّلٍ على الله، فالفرج بيده سبحانه وحدَه، مالكِ الملك مقدِّر الأقدار، الجوارحُ تعملُ بالأسباب والقلبُ يناجي ربَّ الأربابِ، هي بهذا ترسم الخُطى في كلِّ عصرٍ ولكلّ جيل لشحذِ الهمّة وبذل الجهد لطرق أبواب الخير مرّةً وثانية وثالثة، بتصميم لا يتردّد وعزمٍ لا يلين مع صدقٍ في التوكُّل على الله سبحانه.
__________
(1) - أخرجه مسلم في الحج (3009)
(2) - صحيح مسلم: كتاب البر والصلة (6751 )(1/125)
وفي سياق آيات الحجّ يقول سبحانه: فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ ءابَاءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا ءاتِنَا فِى الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِى الآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وِمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا ءاتِنَا فِى الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مّمَّا كَسَبُواْ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ [البقرة:200-202].
إن هناك فريقين: فريقًا همُّه الدنيا، يجمع حُطامَها بحرصٍ وتعلُق، يذكرها حتى حين يتوجّه إلى الله بالدعاء، فقد امتلأت نفسُه بحبِّها، وأحاطت به من كلّ جانب، هؤلاء قد ينالون نصيبَهم في الدنيا ولا نصيبَ لهم في الآخرة، وفريقًا أفسحُ مجالاً وأوسعُ أُفُقًا وأكبَر نَفسًا؛ لأن همَّه الآخرة ورضوانُ الله، يريد الحسنةَ في الدنيا، ولكنه لا ينسى نصيبَه في الآخرة، هؤلاء لهم نصيبٌ لا [يبطئ] عليهم، فالله سريعُ الحساب، قال تعالى: وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا [الإسراء:19].
وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَمَا فِيهَا مِنْ نَعِيمٍ وَسُرُورٍ ، وَرِضْوَانٍ مِنَ اللهِ ، وَطَلَبَ ذَلِكَ مِنْ طَرِيقِهِ ، وَهُوَ مُتَابَعَةِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم ، وَكَانَ قَلْبُهُ مُؤْمِناً مُصَدِّقاً بِالثَّوَابِ وَالجَزَاءِ وَاليَوْمَ الآخِرِ ، فَأُولئِكَ يَشْكُرُ اللهُ سَعْيَهُمْ وَيَجْزِيهِمْ بِمَا يَسْتَحِقُّونَ ، وَهُوَ دُخُولُ الجَنَّةِ .(1)
- - - - - - - - - - - - -
أوصاف الحج المبرور
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (ج 1 / ص 2049)(1/126)
قال الله تبارك وتعالى: { وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً } (97) [آل عمران: 79] ويقول{وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لَّا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26) وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ (27)ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} (29) [الحج: 62 - 92]·
وقال صلى الله عليه وسلم: "العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة"·
ولهذا كان الحج أحد أركان الإسلام ومبانيه العظام، وهو فريضة بإجماع المسلمين وفرضه معلوم من الإسلام بالضرورة، ومن نعمة الله على عباده أنه لم يفرضه على العباد إلا مرة واحدة في العمر، وذلك لمشقة تكراره كل عام، ولضيق المكان فيما لو اجتمع المسلمون كلهم فيه، وكان فرض الحج في السنة التاسعة أو العاشرة على الصحيح وذلك من رحمة الله وحكمته·
وللحج فضل كبير وفوائد عظيمة، تتمثَّل في المنافع التي يحصل عليها الحجاج ويشهدوها من خلال حجهم، وكذلك تعرّف بعضهم على بعض، فالذي يأتي من شرق آسيا يلتقي بآخرين أتوا من أقصى إفريقيا، وكذلك غيرهم ممن تباينت أوطانهم، والذين لا يمكن أن يتصل بعضهم ببعض إلا في هذا الموسم العظيم، وغالباً ما يحصل من هذا الالتقاء المحبة والتآلف والتعاون·(1/127)
ويضاف إلى ذلك المنافع المادية التي تأتي عن طريق التجارة من بيع وشراء وتصدير وتوريد وغير ذلك، والذي ينبغي أن تضبط بضوابط الشرع غير خارجة عن حدود النظم التي وضعها ولاة الأمر في هذه البلاد المباركة·
وهنالك منفعة خاصة بالفقراء، حيث ينالهم من خلال الحج عطف الأغنياء عليهم، والاستفادة من الصدقات والهدي الذي يبذل في المشاعر·
والحج إذا قام به المسلم على الوجه المطلوب فإن فيه حصول مطلوبه وهو الجنة، وهذا في الآخرة، أما في الدنيا فإن آثاره تظهر على سلوك المرء المسلم في علاقاته بإخوانه، واكتسابه للآداب والأخلاق العالية من صدق وأمانة، وتحمل للأذى والمشاق، وصبر، وبذل للندى، وتعاون على البر والتقوى، ومحبة وإيثار، وتجنب لمواطن الردى، وتطلع إلى معالي الأمور، وابتعاد عن الفسوق والمعاصي صغيرها وكبيرها، والجدال والمماراة، والشقاق والخلاف والاختلاف، ونبذ المخالفات والبدع هذا من جهة·
ومن جهة أخرى فالحج له أثر في زيادة إيمان المسلم وتقوية صلته بربه تعالى، فيخلص العبادة له سبحانه، ويكون أشد حرصاً على فعل الطاعات واجتناب المنهيات، واكتساب الحسنات، والتخلي من السيئات، وهذا لا يتأتى إلا بالمواظبة على الصلوات الخمس وفعلها في أوقاتها وحيث ينادى بها مع جماعة المسلمين، بتطهر وخشوع واطمئنان، وكذلك إخراج ما يجب في ماله من الزكاة طيبة بها نفسه، متعبداً لله في ذلك، وصيام شهر رمضان بشروطه وقيوده وحدوده، وحج البيت إن استطاع إليه سبيلا، ويكمل هذه الأركان بفعل الواجبات، والمسنونات حتى يدخل فيمن قال الله فيهم: {الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ} (82) [الأنعام: 28]
ولكي يكون الحج مبروراً ويؤتى ثماره وفوائده ويكون له الآثار المطلوبة على المسلم لا بد أن يجمع الأوصاف الآتية:(1/128)
أولاً: أن يكون خالصاً لله عزَّ وجلَّ، بألا يكون الحامل للإنسان على الحج طلب مال أو جاه أو فرجة أو لقب أو ما أشبه ذلك، بل تكون نيَّته التقرَّب إلى الله عزَّ وجلَّ، والوصول إلى دار كرامته·
ثانياً: أن يكون صواباً على سنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يأتي بأي عمل إلا بما ثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم أن قام به في حجته، وبذلك يسلم من الابتداع والزيادة والنقص الذي قد يلحق عمله، وهذان الشرطان لا بد منهما في كل عبادة·
ثالثاً: أن يكون حجه بمال حلال، فإن كان بمال حرام فإنه ليس بمبرور، حتى قال بعض العلماء: إذا حج بمال حرام فإنه لا حج له وأنشدوا على ذلك:
إذا حججت بمال أصله حرام فما حججت ولكن حجت العير
رابعاً: أن يقوم الإنسان فيه بفعل ما يجب، أما أن يتهاون ويقصِّر في فعل الواجبات فإن حجه لا يكون مبروراً كما يفعل بعض الناس اليوم يذهب ليحج فيوكِّل من يرمي عنه، ويبيت بمكة بدل المبيت بمنى، ويذبح فدية عن ذلك، ويخرج من مزدلفة من صلاة المغرب أو العشاء، أو من منتصف الليل يتتبع الرخص، ثم يقول: إنني حججت، والذي يظهر ـ والله أعلم ـ أن حال هؤلاء أن يقال: لعبوا ولم يحجوا·
خامساً: أن يجتنب في حجه فعل المحظورات لقوله تعالى: { فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ } (197) [البقرة: 791]}، وقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: "من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه"·(1)
- - - - - - - - - - - - - -
الحكمة من فرض العبادات ومنها الحج
فلقد شرع الله الشعائر والعبادات لحكم عظيمة، ومصالح عديدة، لا ليضيق بها على الناس، ولا ليجعل عليهم في الدين من حرج.
__________
(1) - انظر أوصاف الحج المبرور ، معالي الأستاذ الدكتور سليمان بن عبدالله أبا الخيل -مدير جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية(1/129)
ولكل عبادة في الإسلام حكم بالغة يظهر بعضها بالنص عليها، أو بأدنى تدبر، وقد يخفى بعضها إلا على المتأملين الموفقين في الاستجلاء والاستنباط.
* والحكمة الجامعة في العبادات هي تزكية النفوس، وترويضها على الفضائل، وتطهيرها من النقائص، وتصفيتها من الكدرات، وتحريرها من رق الشهوات، وإعدادها للكمال الإنساني، وتقريبها للملأ الأعلى، وتلطيف كثافتها الحيوانية؛ لتكون رقاً للإنسان، بدلاً من أن تسترقه.
وفي كل فريضة من فرائص الإسلام امتحان لإيمان المسلم، وعقله، وإرادته.
نعم لقد فرض الله سبحانه وتعالى العبادات على عباده المؤمنين امتحانا لطاعتهم وإظهاراً لعبوديتهم وشكرهم وتحقيقاً لمصالحهم ومنافعهم العاجلة والآجلة في الدنيا والآخرة ، وقد أشار الله عز وجل عند ذكر الحج في القرآن الكريم إلى وجود منافع للناس وفوائد لهم فيه ، قال الله تعالى :( ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير ). الحج (28).
قال ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير هذه الآية : إنها منافع الدنيا و الآخرة. وأما منافع الآخرة : فرضوان الله تعالى ، وأما منافع الدنيا : فيما يصيبون من منافع البدن والذبائح والتجارات.
وعندما نفصّل قول ابن عباس نجد أن الله عز وجل فرض الحج والعمرة على المسلمين لحكم وفوائد عظيمة تشتمل في نفعها الفرد والمجتمع ، و تجمع في خيرها سعادة الدنيا والآخرة.
فمن فوائد الحج أنه ينفي الذنوب والفقر كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة :
وورد في فرضه وفضله وثوابه أحاديث كثيرة وذلك لما فيه من المنافع العامة والخاصة , وقد بيَّن تعالى مجمل حكمه ومنافعه في قوله : لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ . أي منافع دينية واجتماعية ودنيوية .(1/130)
وقال : جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ . الآية . فإن به تقوم أحوال المسلمين ويقوم دينهم ودنياهم , فلولا وجود بيته في الأرض وعمارته بالحج والعمرة والتعبدات الأخر لآذن هذا العالم بالخراب .
ولهذا من أمارات الساعة واقترابها هدمه بعد عمارته وتركه بعد زيارته , فإن الحج مبني على المحبة والتوحيد الذي هو أصل الأصول كلها , فإن حقيقته استزارة المحبوب لأحبابه وإيفادهم إليه ليحظوا بالوصول إلى بيته ويتمتعوا بالتذلل له والانكسار له في مواضع النسك ويسألوه جميع ما يحتاجونه من أمور دينهم ودنياهم , فيجزل لهم من قراه ما لا يصفه الواصفون .
وبذلك تتحقق محبتهم لله ويظهر صدقهم بإنفاق نفائس أموالهم , وبذل مهجهم في الوصول إليه , فإن أفضل ما بذلت فيه الأموال وأتعبت فيه الأبدان , وأعظمه فائدة وعائدة ما كان في هذا السبيل , وما توسل به إلى هذا العمل الجليل , ومع ذلك فقد وعدهم بإخلاف النفقات والحصول على الثواب الجزيل والعواقب الحميدة .
ومن فوائد الحج أيضا أن فيه تذكرة لحال الأنبياء والمرسلين ومقامات الأصفياء المخلصين : كما قال تعالى : وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّى والصحيح في تفسيرها أن هذا عام في جميع مقاماته في الحج من الطواف وركعتيه والسعي والوقوف بالمشاعر ورمي الجمار والهدي وتوابع ذلك .
ولهذا كان - صلى الله عليه وسلم - يقول في كل مشعر من مشاعر الحج : خذوا عني مناسككم , فهو تذكرة بحال إبراهيم الخليل والمصطفين من أهل بيته , وتذكير بحال سيد المرسلين وإمامهم ومقاماته في الحج التي هي أجلّ المقامات .(1/131)
وهذا التذكير أعلى أنواع التذكيرات , فإنه تذكير بأحوال عظماء الرسل إبراهيم ومحمد - صلى الله عليه وسلم - ومآثرهم الجليلة وتعبداتهم الجميلة , والمتذكر بذلك مؤمن بالرسل معظم لهم متأثر بمقاماتهم السامية مقتد بآثارهم الحميدة ذاكر لمناقبهم وفضائلهم فيزداد به العبد إيمانا ويقينا .
وشرع أيضا لما فيه من ذكر الله الذي تطمئن به القلوب ويصل به العبد إلى أكمل مطلوب كما قال - صلى الله عليه وسلم - : إنما جعل الطواف بالبيت وبالصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله .
ومن فوائد الحج أن المسلمين يجتمعون في وقت واحد وموضع واحد على عمل واحد :
ويتصل بعضهم ببعض ويتم التعاون والتعارف ويكون وسيلة للسعي في تعرف المصالح المشتركة بين المسلمين والسعي في تحصيلها بحسب القدرة والإمكان , وبذلك تتحقق الوحدة الدينية والأخوة الإيمانية ; ويرتبط أقصى المسلمين بأدناهم فيتفاهمون ويتعارفون ويتشاورون في كل ما يعود بنفعهم , وبذلك يكتسب العبد من الأصدقاء والأحباء ما هو أعظم المكاسب ويستفيد بعضهم من بعض .
أما توابع ذلك من المصالح الدنيوية بالتجارات والمكاسب الحاصلة في مواسم الحج ومواضع النسك فإنها تفوق العد , وكل هذا داخل في قوله : لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ .
موسم عظيم لا يشبهه شيء من مواسم الأقطار , كم أنفقت فيه نفائس الأموال وكم أتعبت في السعي إليه الأبدان وكم حصل فيه شيء كثير من أصناف التعبدات , وكم أريقت في تلك المواضع العبرات وكم أُقيلت فيه العثرات وغفرت الذنوب والسيئات , وكم فرجت فيه الكربات , وقضيت الحاجات .(1/132)
وكم ضج المسلمون فيه بالدعوات المستجابات . وكم تمتع فيه المحبون بالافتقار إلى رب السموات , وكم أسبغ الباري فيه عليهم من ألطاف ومواهب وكرامات , وكم عاد المسرفون على أنفسهم كيوم ولدتهم الأمهات , وكم حصل فيه من تعارف نافع واستفاد به العبد من صديق صادق , وكم تبودلت فيه الآراء والمنافع المتنوعة , وكم تم للعبد فيه من مآرب ومطالب متعددة , ولله الحمد على ذلك .
أولاً: الفوائد التي تعود على الفرد المسلم:
1- تجديد ذكر الله تعالى ، وتقوية صلة المحبة التي ربط المسلم بربه وخالقه ، وما التلبية والدعاء إلا ترجمة لما في النفس من حنين ومناجاة للخالق العظيم ، وما التذلل والخشوع ، وترك محظورات الإحرام ، إلا تعبير صادق عن لذة القرب من الله ، والعبودية الحقة له ، وطرح ما عداه من مشاغل الحياة والأحياء.
وفي أداء مناسك الحج يذكر المسلم اليوم الآخر حيث يحشر الله الناس جميعاً للحساب والجزاء ، لأن الحج مشهد مصغّر عن ذلك اليوم العظيم ، وارتداء الثياب البيضاء كالأكفان ، وكثير من وجوه التشابه بين الموقفين تحدث هنا في الحياة الدنيا فتهزه من أعماقه ، وتذكره بالموت وما بعده وتوقظه من سباته وغفلته.
1- وفي هذه العبادة يتعرض المسلم لنيل رحمة الله والحصول على رضاه ومغفرته ، ويعود إلى موطنه الذي خرج منه نقيّاً من الذنوب كيوم ولدته أمه ، وهذه البراءة من الآثام تجدد في نفسه العزيمة والأمل في تحقيق الاستقامة ، وتبعد عنه اليأس والقنوط والاستمرار في الضياع والبعد عن الله عز وجل.
ففي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه )).(1/133)
ويتعلم المسلم في الحج دروس التضحية والبذل شكراً لله تعالى ، فتراه يجهد نفسه وينفق ماله في طاعة ربه ، و يترك أهله ووطنه ، ويتحمل مشاق السفر والغربة للتقرب منه ، والحصول على زيادة نعمه. ومن المعلوم أن كل أمة يبخل أفرادها بالبذل والعطاء ، ويحجمون على التضحية بالمال والنفس في سبيل الله ، لا يمكن أن تنتصر في معارك الجهاد ، ولا يكون لها مستقبل زاهر أو حاضر رغيد ، بل تصبح عرضة لنزول سخط الله عز وجل ، وما أروعها من دورة تربوية وثقافية تستمر مدة إتمام المناسك . ويتولى القيادة والتنظيم فيها قوة ربانية ، تدخل إلى القلوب والضمائر والنفوس ، فلا يبقى فيها إلا الإخلاص والخير والصفاء ، ولا يصدر عنها إلا السمع و الطاعة والسلام.
ثانياً : الفوائد التي تعود على المجتمع:
1- وصل حاضر الأمة بماضيها : وربط المسلمين بتاريخ هذا البيت العتيق ، الذين يجدون عندهم أصله العريق الضارب في أعماق الزمن منذ إبراهيم الخليل ـ عليه الصلاة والسلام ـ فكل موقف من مواقف الحج مرتبط يثير في مشاعر الحجاج الكثير من الذكريات ، وفي كل ذرة من تراب تلك الأرض الطيبة ، توقظ في النفوس الأحاسيس والصور والمشاهد التاريخية ، فترفّ في أجواء الأماكن المقدسة كالأطياف ، فهذا طيف إبراهيم - أبو الأنبياء - يودع عند البيت ابنه إسماعيل مع أمه هاجر ، ويتوجه إلى الله بالدعاء أن يكلأهم بحفظه ورعايته. وطيف هاجر وهي تطلب الماء لطفلها الرضيع إسماعيل ، وتسعى بين الصفا والمروة تنظر بلهفة وضراعة إلى الأفق البعيد.
وفي منى عند الجمرات يطلّ طيف إبراهيم وهو يعارض الشيطان ، ويخالف أوامره ، ويرجمه بالحصباء ، ويقبل على امتثال أمر ربه ، وينفذ ما أوحاه إليه في رؤياه من ذبحه ابنه. وعند الكعبة المشرفة يطلّ طيف إبراهيم من جديد وهو يرفع بناء البيت مع ابنه إسماعيل ، ثم يقف لينادي الناس في شتى أرجاء الأرض ، ويدعوهم للحج.(1/134)
وتتابع الأطياف والذكريات لتصل إلى تاريخ الإسلام القريب، حيث عاش رسول الله صلى الله عليه وسلم طفولته، وهو يدرج فوق التراب الطاهر يتيماً تحفظه عناية الله وترعاه، ثم خطواته المباركة على طريق الرسالة الإلهية، يدعو قومه ويبلغهم أمر ربهم ونواهيه، ويصبر على صلفهم وعنادهم، ويجاهد وينتصر ، ويحج ويعتمر.
ولا يغيب عن بصيرة الحاج ذلك الموقف الرائع ، الذي وقفه رسول الله صلى الله عليه وسلم في عرفات في حجة الوداع ، وهو راكب على ناقته ، يخطب الناس ويعظهم ، ويقرر لهم مبادئ الحياة العادلة ، والأخوة الصادقة ، ويحذرهم من العودة بأقوالهم وأفعالهم إلى مساوئ الجاهلية وظلامها.
إن سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وحياته بين أصحابه الكرام، تكاد أن تراها العين وتسمعها الأذن بسبب استغراق الحجاج في مراجعة تلك الذكريات.
2- تحقيق المساواة بين الناس جميعاً: رغم اختلاف أجناسهم وألوانهم، وتباين ألسنتهم ، وتباعد بلدانهم، فإن هذه الفوارق والاختلافات تذوب هناك وتسقط، فلا يبقى لها أثر، فالجميع ربهم وخالقهم واحد ، وكلهم من آدم، وآدم من تراب ، وهاهم لبسوا جميعاً الثياب البسيطة البيضاء، وخضعوا لحكم الله في نظام فريد.
3- توحيد كلمة المسلمين وجمع شملهم: فيلتقون في مكة المكرمة، تحت راية واحدة هي راية التوحيد، ويتجهون إلى قبلة واحدة في صلواتهم، ويتم التعارف والتناصح والتشاور، وتنسيق الخطط، وتوحيد القوى، وحل المشكلات، ويتجدد العزم في كل عام على العمل لرفعة مجد الإسلام وتحقيق عزته.(1/135)
4- تنشيط المبادلات الاقتصادية: وتنسيق تبادل المنافع والسلع والتجارب، فيظهر الحج كمعرض دولي، تجلب إليه الصناعات والمنتوجات من بقاع الأرض القريبة والبعيدة، ويضاف إلى ذلك ما يناله فقراء تلك البلاد - المحيطة بالحرم والمجاورة له - في ذلك الموسم المبارك من الرزق الذي يغني فقراءهم سنة كاملة، تحقيقاً لدعوة إبراهيم عليه الصلاة والسلام: ( ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون ). إبراهيم (37).(1)
ثالثا- تحقيق العبودية لله: فكمال المخلوق في تحقيق العبودية لربه، وكلما ازداد العبد تحقيقاً لها ازداد كماله، وعلت درجته.
وفي الحج يتجلى هذا المعنى غاية التجلي؛ ففي الحج تذلل لله، وخضوع وانكسار بين يديه؛ فالحاج يخرج من ملاذ الدنيا مهاجراً إلى ربه، تاركاً ماله وأهله ووطنه، متجرداً من ثيابه، لابساً إحرامه، حاسراً عن رأسه، متواضعاً لربه، تاركاً الطّيب والنساء، متنقلاً بين المشاعر بقلب خاضع، وعين دامعة، ولسان ذاكر يرجو رحمة ربه، ويخشى عذابه.
ثم إن شعار الحاج منذ إحرامه إلى حين رمي جمرة العقبة والحلق: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك.
ومعنى ذلك أنني خاضع لك، منقاد لأمرك، مستعد لما حملتني من الأمانات؛ طاعة لك، واستسلاماً، دونما إكراه أو تردد.
وهذه التلبية ترهف شعور الحاج، وتوحي إليه بأنه –منذ فارق أهله- مقبل على ربه، متجرد عن عاداته ونعيمه، منسلخ من مفاخره ومزاياه.
ولهذا التواضع والتذلل أعظم المنزلة عند الله – عز وجل- إذ هو كمال العبد وجماله، وهو مقصود العبودية الأعظم، وبسببه تمّحى عن العبد آثار الذنوب وظلمتها؛ فيدخل في حياة جديدة ملؤها الخير، وحشوها السعادة.
__________
(1) - انظر :http://islameiat.com/muslema//muslema/article.php?sid=1120&mode=&order=0(1/136)
وإذا غلبت هذه الحال على الحجاج، فملأت عبودية الله قلوبهم، وكانت هي المحرك لهم فيما يأتون وما يذرون – صنعوا للإنسانية الأعاجيب، وحرروها من الظلم، والشقاء، والبهيمية .
رابعاً-إقامة ذكر الله – عز وجل- فالذكر هو المقصود الأعظم للعبادات؛ فما شرعت العبادات إلا لأجله، وما تقرب المتقربون بمثله.
ويتجلى هذا المعنى في الحج غاية التجلي، فما شرع الطواف بالبيت العتيق، ولا السعي بين الصفا والمروة، ولا رمي الجمار إلا لإقامة ذكر الله.
قال تعالى: (ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات) "الحج: 28".
وقال: (ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام واذكروه كما هداكم وإن كنتم من قبله لمن الضالين ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله إن الله غفور رحيم، فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكراً). "البقرة: 198-200".
خامسا-ارتباط المسلمين بقبلتهم: التي يولّون وجوههم شطرها في صلواتهم المفروضة خمس مرات في اليوم.
وفي هذا الارتباط سر بديع؛ إذ يصرف وجوههم عن التوجه إلى غرب كافر، أو شرق ملحد؛ فتبقى لهم عزتهم وكرامتهم.
سادسا-إن الحج فرصة عظيمة للإقبال على الله بشتى القربات:
إذ يجتمع في الحج من العبادات مالا يجتمع في غيره؛ فيشارك الحج غيره من الأوقات بالصلوات وغيرها من العبادات التي تفعل في الحج وغير الحج.
وينفرد بالوقوف بعرفة، والمبيت بمزدلفة، ورمي الجمار، وإراقة الدماء، وغير ذلك من أعمال الحج.
سابعاً-الحج وسيلة عظمى لحط السيئات، ورفعة الدرجات: فالحج يهدم ما كان قبله.
قال النبي صلى الله عليه وسلم لعمرو بن العاص – رضي الله عنه-: (أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله، وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها، وأن الحج يهدم ما كان قبله) "رواه مسلم".(1/137)
* والحج أفضل الأعمال بعد الإيمان والجهاد؛ فعن أبي هريرة –رضي الله عنه – قال: (سئل النبي صلى الله عليه وسلم : أي الأعمال أفضل؟ قال: إيمان بالله ورسوله. قيل : ثم ماذا؟ قال: جهاد في سبيل الله. قيل: ثم ماذا؟ قال: حج مبرور) "رواه البخاري".
* والحج أفضل الجهاد؛ فعن عائشة رضي الله عنها قالت: (قلت يا رسول الله، نرى الجهاد أفضل الأعمال؛ أفلا نجاهد؟ قال: لا، ولكن أفضل الجهاد حج مبرور) "رواه البخاري".
* والحج المبرور جزاؤه الجنة، قال عليه الصلاة والسلام: (العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة) "رواه مسلم".
والحاج يعود من ذنوبه كيوم ولدته أمه إذا كان حجه مبروراً، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه) "رواه البخاري ومسلم".
ثامنا- هياج الذكريات الجميلة: ففي الحج تهيج الذكريات الجميلة العزيزة على قلب كل مسلم، وما أكثر تلك الذكريات! وما أجمل ترددها على الذهن!
* فالحاج – على سبيل المثال – يتذكر أبانا إبراهيم الخليل – عليه السلام- فيتذكر توحيده لربه،وهجرته في سبيله ، وكمال عبوديته، وتقديمه محبة ربه على محبة نفسه.
* ويتذكر ما جرى له من الابتلاءات العظيمة، وما حصل له من الكرامات والمقامات العالية.
* ويتذكر أذانه في الحج، ودعاءه لمكة المكرمة، وبركات تلك الدعوات التي ترى أثارها إلى يومنا الحاضر.
* ويتذكر الحاج ما كان من أمر أمنا هاجر – عليها السلام- فيتذكر سعيها بين الصفا والمروة بحثاً عن ماء تشربه، لتدر باللبن على وليدها إسماعيل، ذلك السعي الذي أصبح سنة ماضية، وركنًا من أركان الحج.(1/138)
ويتذكر أبانا إسماعيل – عليه السلام- فيمر بخاطره مشاركة إسماعيل لأبيه في بناء الكعبة، ويتذكر ما كان من بر إسماعيل بأبيه؛ إذ أطاعه لما أخبره بأن الله يأمره بذبحه؛ فما كان من إسماعيل إلا أن قال: (افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين) "الصافات: 102".
* ويتذكر الحاج أن مكة هي موطن النبي صلى الله عليه وسلم ففيها ولد وشب عن الطوق، وفيها تنزل عليه الوحي، ومنها شع نور الإسلام الذي بدد دياجير الظلمات.
* ويتذكر من سار على تلك البطاح المباركة من أنبياء الله ورسله وعباده الصالحين، فيشعر بأنه امتداد لتلك السلسلة المباركة، وذلك الركب الميمون.
* وتذكر الصحابة رضي الله عنهم- وما لاقوه من البلاء في سبيل نشر هذا الدين.
* ويتذكر أن هذا البيت أول بيت وضع للناس، وأنه مبارك وهدى للعالمين
بلدة عظمى وفي آثارها *** أنفع الذكرى لقوم يعقلون
شب في بطحائها خير الورى *** وشبا في أفقها أسمح دين
فهذه الذكريات الجميلة تربط المؤمن بأكرم رباط، و تبعث في نفسه حب أسلافه الكرام، والحرص على اتباع آثارهم، والسير على منوالهم.
ثم إن الحاج إذا عاد من رحلة حجه حمل معه أغلى الذكريات، وأعزها على نفسه، فتظل نفسه متلهفة للعودة إلى تلك البقاع المباركة.
ورحم الله الإمام الصنعاني إذ يقول في قصيدته الطويلة في ذكرى الحج ومنافعه:
أيا عذبات البان من أيمن الحمى *** رعى الله عيشاً في رباك قطعناه
سرقناه من شرخ الشباب وروقه *** فلما سرقناه الصفا منه سرقناه
وعادت جيوش البين يقدمها القطا *** فبدد شملاً في الحجاز نظمناه
ونحن لجيران المحصب جيرة *** نوفي لهم عهد الوداد ونرعاه
فهاتيك أيام الحياة وغيرها *** ممات فيا ليت النوى ما شهدناه
فيا ليت عنا أغمض البين طرفه *** ويا ليت وقتاً للفراق فقدناه
وترجع أيام المحصب من منى *** ويبدو ثراه للعيون وحصباه
وتسرح فيه العيس بين ثمامه *** وتستنشق الأرواح نشر خزاماه(1/139)
نحن إلى تلك الربوع تشوقًا *** ففيها لنا عهد وعقد عقدناه
ورب برانا ما نسينا عهودكم *** وما كان من ربع سواكم سلوناه
ففي ربعهم لله بيت مبارك *** إليه قلوب الخلق تهوي وتهواه
يطوف به الجاني فيغفر ذنبه *** ويسقط عنه جرمه وخطاياه
فكم لذة كم فرحة لطوافه *** فلله ما أحلى الطواف وأهناه
نطوف كأنا في الجنان وطيبه *** ولا هم لا غم فذاك نفيناه
فيا شوقنا نحو الطواف وطيبه *** فذلك شوق لا يحاط بمعناه
فمن لم يذقه لم يذق قط لذة *** فذقه تذق يا صاح ما قد أُذِقْناه
- - - - - - - - - - - - - - -
البابُ الثالثُ
أحكامُ الحَجِّ
الحجُّ لغةً :
الْحَجُّ : بِفَتْحِ الْحَاءِ وَيَجُوزُ كَسْرُهَا ، هُوَ لُغَةً الْقَصْدُ ، حَجَّ إِلَيْنَا فُلاَنٌ : أَيْ قَدِمَ ، وَحَجَّهُ يَحُجُّهُ حَجًّا : قَصَدَهُ . وَرَجُلٌ مَحْجُوجٌ ، أَيْ مَقْصُودٌ . هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ .
وَقَال جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْل اللُّغَةِ : الْحَجُّ : الْقَصْدُ لِمُعَظَّمٍ(1).
وَالْحِجُّ بِالْكَسْرِ : الاِسْمُ . وَالْحِجَّةُ : الْمَرَّةُ الْوَاحِدَةُ ، وَهُوَ مِنَ الشَّوَاذِّ ، لأَِنَّ الْقِيَاسَ بِالْفَتْحِ(2).
تَعْرِيفُ الْحَجِّ اصْطِلاَحًا :
__________
(1) - تاج العروس - (ج 1 / ص 1350) ولسان العرب - (ج 2 / ص 226)
(2) - الفقهاء يحذفون الصلة تخفيفا لكثرة الاستعمال ، ويقولون : محجور ، وهو سائغ . المصباح .(1/140)
الْحَجُّ فِي اصْطِلاَحِ الشَّرْعِ : هُوَ قَصْدُ مَوْضِعٍ مَخْصُوصٍ ( وَهُوَ الْبَيْتُ الْحَرَامُ وَعَرَفَةُ ) فِي وَقْتٍ مَخْصُوصٍ ( وَهُوَ أَشْهُرُ الْحَجِّ ) لِلْقِيَامِ بِأَعْمَالٍ مَخْصُوصَةٍ وَهِيَ الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ ، وَالطَّوَافُ ، وَالسَّعْيُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ ، بِشَرَائِطَ مَخْصُوصَةٍ يَأْتِي بَيَانُهَا(1).
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ لِلْحَجِّ :
الْحَجُّ فَرْضُ عَيْنٍ عَلَى كُل مُكَلَّفٍ مُسْتَطِيعٍ فِي الْعُمُرِ مَرَّةً ، وَهُوَ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الإِْسْلاَمِ ، ثَبَتَتْ فَرْضِيَّتُهُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالإِْجْمَاعِ .
أ - أَمَّا الْكِتَابُ : فَقَدْ قَال اللَّهُ تَعَالَى : { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ } (سورة آل عمران / 97) .
فَهَذِهِ الآْيَةُ نَصٌّ فِي إِثْبَاتِ الْفَرْضِيَّةِ ، حَيْثُ عَبَّرَ الْقُرْآنُ بِصِيغَةِ { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ } وَهِيَ صِيغَةُ إِلْزَامٍ وَإِيجَابٍ ، وَذَلِكَ دَلِيل الْفَرْضِيَّةِ ، بَل إِنَّنَا نَجِدُ الْقُرْآنَ يُؤَكِّدُ تِلْكَ الْفَرْضِيَّةَ تَأْكِيدًا قَوِيًّا فِي قَوْله تَعَالَى : { وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ } فَإِنَّهُ جَعَل مُقَابِل الْفَرْضِ الْكُفْرَ ، فَأَشْعَرَ بِهَذَا السِّيَاقِ أَنَّ تَرْكَ الْحَجِّ لَيْسَ مِنْ شَأْنِ الْمُسْلِمِ ، وَإِنَّمَا هُوَ شَأْنُ غَيْرِ الْمُسْلِمِ .
__________
(1) - بتصرف يسير عن فتح القدير للكمال بن الهمام وزيادة السعي 2 / 120 ، الاختيار 1 / 139 ، والشرح الكبير للدردير على مختصر خليل 2 / 2 ، ومغني المحتاج 1 / 459 ، وشرح منتهى الإرادات 1 / 472 ، والتعريفات ص 82 .(1/141)
ب - وَأَمَّا السُّنَّةُ فَمِنْهَا حَدِيثُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رضى الله عنهما - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " بُنِىَ الإِسْلاَمُ عَلَى خَمْسٍ شَهَادَةِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ ، وَإِقَامِ الصَّلاَةِ ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ ، وَالْحَجِّ ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ " .(1).
وَقَدْ عَبَّرَ بِقَوْلِهِ : بُنِيَ الإِْسْلاَمُ . . . فَدَل عَلَى أَنَّ الْحَجَّ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الإِْسْلاَمِ .
وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ ٍ(2)عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ :" أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ الْحَجَّ فَحُجُّوا ". فَقَالَ رَجُلٌ أَكُلَّ عَامٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَسَكَتَ حَتَّى قَالَهَا ثَلاَثًا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - " لَوْ قُلْتُ نَعَمْ لَوَجَبَتْ وَلَمَا اسْتَطَعْتُمْ - ثُمَّ قَالَ - ذَرُونِى مَا تَرَكْتُكُمْ فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ وَاخْتِلاَفِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ فَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَىْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَىْءٍ فَدَعُوهُ "..
وَقَدْ وَرَدَتِ الأَْحَادِيثُ فِي ذَلِكَ كَثِيرَةً جِدًّا حَتَّى بَلَغَتْ مَبْلِغَ التَّوَاتُرِ الَّذِي يُفِيدُ الْيَقِينَ وَالْعِلْمَ الْقَطْعِيَّ الْيَقِينِيَّ الْجَازِمَ بِثُبُوتِ هَذِهِ الْفَرِيضَةِ(3).
__________
(1) - صحيح البخارى برقم (8 ) ومسلم برقم (120)
(2) - برقم (3321 )
(3) - انظر الترغيب والترهيب للمنذري 2 / 211 - 212 ، والمسلك المتقسط ص 20 .(1/142)
ج - وَأَمَّا الإِْجْمَاعُ : فَقَدْ أَجْمَعَتْ الأُْمَّةُ عَلَى وُجُوبِ الْحَجِّ فِي الْعُمُرِ مَرَّةً عَلَى الْمُسْتَطِيعِ ، وَهُوَ مِنَ الأُْمُورِ الْمَعْلُومَةِ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ يَكْفُرُ جَاحِدُهُ(1)
- - - - - - - - - - - - -
وُجُوبُ الْحَجِّ عَلَى الْفَوْرِ أَوِ التَّرَاخِي :
اخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِ الْحَجِّ عِنْدَ تَحَقُّقِ الشُّرُوطِ هَل هُوَ عَلَى الْفَوْرِ أَوْ عَلَى التَّرَاخِي ؟ .
فذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ وَأَبُو يُوسُفَ وَمَالِكٌ فِي الرَّاجِحِ عَنْهُ وَأَحْمَدُ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْفَوْرِ(2)، فَمَنْ تَحَقَّقَ فَرْضُ الْحَجِّ عَلَيْهِ فِي عَامٍ فَأَخَّرَهُ يَكُونُ آثِمًا ، وَإِذَا أَدَّاهُ بَعْدَ ذَلِكَ كَانَ أَدَاءً لاَ قَضَاءً ، وَارْتَفَعَ الإِْثْمُ .
__________
(1) - المغني 3 / 217 ، ونهاية المحتاج 2 / 369 ، ولباب المناسك ص 16 - 17 ، مع شرحه المسلك المتقسط في المنسك المتوسط لعلي القاري ، شرح رسالة ابن أبي زيد القيرواني ص 455 .
(2) - المسلك المتقسط ص 44 وانظر الهداية وفتح القدير 2 / 123 ، وشرح الرسالة لابن أبي الحسن 1 / 454 ، ومواهب الجليل وفيه تفصيل الخلاف في المذاهب 2 / 471 - 472 ، والشرح الكبير 2 / 2 - 3 وحاشية الدسوقي ، ورجح الفورية بقوة حتى قال " ينبغي للمصنف الاقتصار عليه " . والمغني 3 / 241 ، والفروع 3 / 242 .(1/143)
وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَالإِْمَامُ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى التَّرَاخِي ، فَلاَ يَأْثَمُ الْمُسْتَطِيعُ بِتَأْخِيرِهِ . وَالتَّأْخِيرُ إِنَّمَا يَجُوزُ بِشَرْطِ الْعَزْمِ عَلَى الْفِعْل فِي الْمُسْتَقْبَل ، فَلَوْ خَشِيَ الْعَجْزَ أَوْ خَشِيَ هَلاَكَ مَالِهِ حَرُمَ التَّأْخِيرُ ، أَمَّا التَّعْجِيل بِالْحَجِّ لِمَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ فَهُوَ سُنَّةٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ مَا لَمْ يَمُتْ ، فَإِذَا مَاتَ تَبَيَّنَ أَنَّهُ كَانَ عَاصِيًا مِنْ آخِرِ سَنَوَاتِ الاِسْتِطَاعَةِ(1).
اسْتَدَل الْجُمْهُورُ عَلَى الْوُجُوبِ الْفَوْرِيِّ بِالآْتِي :
أ - الْحَدِيثُ : عَلِىٍّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " مَنْ مَلَكَ زَادًا وَرَاحِلَةً تُبَلِّغُهُ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ وَلَمْ يَحُجَّ فَلاَ عَلَيْهِ أَنْ يَمُوتَ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ يَقُولُ فِى كِتَابِهِ { وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ } (97) سورة آل عمران " أخرجه الترمذيُّ(2)..
__________
(1) - الأم 2 / 117 - 118 ، وروض الطالب 1 / 456 ، ومغني المحتاج 1 / 460 ، والمسلك المتقسط وفتح القدير الموضعين السابقين .
(2) - سنن الترمذى برقم (817 ) و قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ لاَ نَعْرِفُهُ إِلاَّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَفِى إِسْنَادِهِ مَقَالٌ. وَهِلاَلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ مَجْهُولٌ وَالْحَارِثُ يُضَعَّفُ فِى الْحَدِيثِ.
قلت : وهو من مروي من طرق ضعيفة ولا يصح من المرفوع شيء(1/144)
ب - الْمَعْقُول : وَذَلِكَ أَنَّ الاِحْتِيَاطَ فِي أَدَاءِ الْفَرَائِضِ وَاجِبٌ ، وَلَوْ أَخَّرَ الْحَجَّ عَنِ السَّنَةِ الأُْولَى فَقَدْ يَمْتَدُّ بِهِ الْعُمُرُ وَقَدْ يَمُوتُ فَيَفُوتُ الْفَرْضُ ، وَتَفْوِيتُ الْفَرْضِ حَرَامٌ ، فَيَجِبُ الْحَجُّ عَلَى الْفَوْرِ احْتِيَاطًا
وَاسْتَدَل الشَّافِعِيَّةُ وَمَنْ مَعَهُمْ بِمَا يَلِي :
أ - أَنَّ الأَْمْرَ بِالْحَجِّ فِي قَوْله تَعَالَى : { وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ } (97) سورة آل عمران، مُطْلَقٌ عَنْ تَعْيِينِ الْوَقْتِ ، فَيَصِحُّ أَدَاؤُهُ فِي أَيِّ وَقْتٍ ، فَلاَ يَثْبُتُ الإِْلْزَامُ بِالْفَوْرِ ، لأَِنَّ هَذَا تَقْيِيدٌ لِلنَّصِّ ، وَلاَ يَجُوزُ تَقْيِيدُهُ إِلاَّ بِدَلِيلٍ ، وَلاَ دَلِيل عَلَى ذَلِكَ . وَهَذَا بِنَاءٌ عَلَى الْخِلاَفِ أَنَّ الأَْمْرَ عَلَى الْفَوْرِ أَوْ لِلتَّرَاخِي ( انْظُرْ مُصْطَلَحَ : أَمْرٌ )(1).
ب - أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَتَحَ مَكَّةَ عَامَ ثَمَانٍ مِنَ الْهِجْرَةِ ، وَلَمْ يَحُجَّ إِلاَّ فِي السَّنَةِ الْعَاشِرَةِ وَلَوْ كَانَ وَاجِبًا عَلَى الْفَوْرِيَّةِ لَمْ يَتَخَلَّفْ رَسُول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ فَرْضٍ عَلَيْهِ(2).
قلت : والراجح عندي عدم الفورية لقوة أدلة هذا الفريق .
- - - - - - - - - - - -
شُرُوطُ فَرْضِيَّةِ الْحَجِّ(3)
__________
(1) - انظر : الأحكام للآمدي - (ج 1 / ص 191) والمستصفى - (ج 1 / ص 487) والتقرير والتحبير - (ج 2 / ص 348) وإرشاد الفحول الي تحقيق الحق من علم الاصول - (ج 1 / ص 212) وتيسير التحرير - (ج 1 / ص 443)
(2) - الأم 2 / 118 ، وانظر حاشية القليوبي على شرح المنهاج 2 / 84 ، وبدائع الصنائع للكاساني 2 / 119
(3) - الموسوعة الفقهية الكويتية - (ج 17 / ص 27)(1/145)
شُرُوطُ الْحَجِّ صِفَاتٌ يَجِبُ تَوَفُّرُهَا فِي الإِْنْسَانِ لِكَيْ يَكُونَ مُطَالَبًا بِأَدَاءِ الْحَجِّ ، مَفْرُوضًا عَلَيْهِ ، فَمَنْ فَقَدَ أَحَدَ هَذِهِ الشُّرُوطِ لاَ يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَجُّ وَلاَ يَكُونُ مُطَالَبًا بِهِ ، وَهَذِهِ الشُّرُوطُ خَمْسَةٌ هِيَ : الإِْسْلاَمُ ، وَالْعَقْل ، وَالْبُلُوغُ ، وَالْحُرِّيَّةُ ، وَالاِسْتِطَاعَةُ ، وَهِيَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا بَيْنَ الْعُلَمَاءِ ، قَال الإِْمَامُ ابْنُ قُدَامَةَ فِي الْمُغْنِي : لاَ نَعْلَمُ فِي هَذَا كُلِّهِ اخْتِلاَفًا "(1).
الشَّرْطُ الأَْوَّلُ : الإِْسْلاَمُ :
أ - لَوْ حَجَّ الْكَافِرُ ثُمَّ أَسْلَمَ بَعْدَ ذَلِكَ تَجِبُ عَلَيْهِ حَجَّةُ الإِْسْلاَمِ ، لأَِنَّ الْحَجَّ عِبَادَةٌ ، بَل هُوَ مِنْ أَعْظَمِ الْعِبَادَاتِ وَالْقُرُبَاتِ ، وَالْكَافِرُ لَيْسَ مِنْ أَهْل الْعِبَادَةِ .
ب - وَلَوْ أَسْلَمَ وَهُوَ مُعْسِرٌ بَعْدَ اسْتِطَاعَتِهِ فِي الْكُفْرِ ، فَإِنَّهُ لاَ أَثَرَ لَهَا(2).
ج - وَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الْكَافِرَ لاَ يُطَالَبُ بِالْحَجِّ بِالنِّسْبَةِ لأَِحْكَامِ الدُّنْيَا ، أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِلآْخِرَةِ فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي حُكْمِهِ ، هَل يُؤَاخَذُ بِتَرْكِهِ أَوْ لاَ يُؤَاخَذُ .
وَبَيَانُ ذَلِكَ فِي الْمُصْطَلَحِ الأُْصُولِيِّ .
الشَّرْطُ الثَّانِي : الْعَقْلُ :
__________
(1) - المغني 3 / 218 ، وكذا ذكر الإجماع الرملي في نهاية المحتاج 2 / 375 .
(2) - نهاية المحتاج الموضع السابق .(1/146)
يُشْتَرَطُ لِفَرْضِيَّةِ الْحَجِّ الْعَقْلُ ، لأَِنَّ الْعَقْلَ شَرْطٌ لِلتَّكْلِيفِ وَالْمَجْنُونُ لَيْسَ مُكَلَّفًا بِفُرُوضِ الدِّينِ ، بَل لاَ تَصِحُّ مِنْهُ إِجْمَاعًا ، لأَِنَّهُ لَيْسَ أَهْلاً لِلْعِبَادَةِ ، فَلَوْ حَجَّ الْمَجْنُونُ فَحَجُّهُ غَيْرُ صَحِيحٍ ، فَإِذَا شُفِيَ مِنْ مَرَضِهِ وَأَفَاقَ إِلَى رُشْدِهِ تَجِبُ عَلَيْهِ حَجَّةُ الإِْسْلاَمِ(1)
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ مُرَّ عَلَى عَلِىِّ بْنِ أَبِى طَالِبٍ رضى الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ :" رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلاَثَةٍ عَنِ الْمَجْنُونِ الْمَغْلُوبِ عَلَى عَقْلِهِ حَتَّى يُفِيقَ وَعَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ وَعَنِ الصَّبِىِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ ".(2).
الشَّرْطُ الثَّالِثُ : الْبُلُوغُ :
يُشْتَرَطُ الْبُلُوغُ ، لأَِنَّ الصَّبِيَّ لَيْسَ بِمُكَلَّفٍ ، وَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ رَفَعَتِ امْرَأَةٌ صَبِيًّا لَهَا فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلِهَذَا حَجٌّ قَالَ " نَعَمْ وَلَكِ أَجْرٌ "(3).
__________
(1) - المغني لابن قدامة 3 / 218 ، البدائع 2 / 120 . والفقه الإسلامي وأصوله - (ج 2 / ص 450)
(2) - سنن أبى داود برقم (4403 ) صحيح
(3) - صحيح مسلم برقم (3318 )(1/147)
فَلَوْ حَجَّ الصَّبِيُّ صَحَّ حَجُّهُ وَكَانَ تَطَوُّعًا ، فَإِذَا بَلَغَ الصَّبِيُّ وَجَبَ عَلَيْهِ حَجَّةُ الْفَرِيضَةِ ، بِإِجْمَاعِ الْعُلَمَاءِ ، لأَِنَّهُ أَدَّى مَا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ ، فَلاَ يَكْفِيهِ عَنِ الْحَجِّ الْوَاجِبِ بَعْدَ الْبُلُوغِ ، لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : إِذَا حَجَّ الصَّبِيُّ فَهِيَ لَهُ حَجَّةٌ حَتَّى يَعْقِلَ ، وَإِذَا عَقَلَ فَعَلَيْهِ حَجَّةٌ أُخْرَى ، وَإِذَا حَجَّ الأَعْرَابِيُّ فَهِيَ لَهُ حَجَّةٌ ، فَإِذَا هَاجَرَ فَعَلَيْهِ حَجَّةٌ أُخْرَى(1).
الشَّرْطُ الرَّابِعُ : الْحُرِّيَّةُ :
الْعَبْدُ الْمَمْلُوكُ لاَ يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَجُّ ، لأَِنَّهُ مُسْتَغْرَقٌ فِي خِدْمَةِ سَيِّدِهِ ، وَلأَِنَّ الاِسْتِطَاعَةَ شَرْطٌ وَلاَ تَتَحَقَّقُ إِلاَّ بِمِلْكِ الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ ، وَالْعَبْدُ لاَ يَتَمَلَّكُ شَيْئًا ، فَلَوْ حَجَّ الْمَمْلُوكُ وَلَوْ بِإِذْنِ سَيِّدِهِ صَحَّ حَجُّهُ وَكَانَ تَطَوُّعًا لاَ يَسْقُطُ بِهِ الْفَرْضُ ، وَيَأْثَمُ إِذَا لَمْ يَأْذَنْ لَهُ سَيِّدُهُ بِذَلِكَ . وَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُؤَدِّيَ حَجَّةَ الإِْسْلاَمِ عِنْدَمَا يُعْتَقُ ، لِلْحَدِيثِ السَّابِقِ .
الشَّرْطُ الْخَامِسُ : الاِسْتِطَاعَةُ :
لاَ يَجِبُ الْحَجُّ عَلَى مَنْ لَمْ تَتَوَفَّرْ فِيهِ خِصَال الاِسْتِطَاعَةِ لأَِنَّ الْقُرْآنَ خَصَّ الْخِطَابَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فِي قَوْله تَعَالَى : { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً } سورة آل عمران / 97 .
وَخِصَالُ الاِسْتِطَاعَةِ الَّتِي تُشْتَرَطُ لِوُجُوبِ الْحَجِّ قِسْمَانِ : شُرُوطٌ عَامَّةٌ لِلرِّجَال وَالنِّسَاءِ ، وَشُرُوطٌ تَخُصُّ النِّسَاءَ :
__________
(1) - المستدرك للحاكم برقم (1769) صحيح(1/148)
الْقِسْمُ الأَْوَّل : شُرُوطٌ عَامَّةٌ لِلرِّجَال وَالنِّسَاءِ :
شُرُوطُ الاِسْتِطَاعَةِ الْعَامَّةِ أَرْبَعُ خِصَالٍ :
الْقُدْرَةُ عَلَى الزَّادِ وَآلَةِ الرُّكُوبِ ، وَصِحَّةُ الْبَدَنِ ، وَأَمْنُ الطَّرِيقِ ، وَإِمْكَانُ السَّيْرِ .
الْخَصْلَةُ الأُْولَى : الْقُدْرَةُ عَلَى الزَّادِ وَآلَةِ الرُّكُوبِ
تُشْتَرَطُ لِوُجُوبِ الْحَجِّ الْقُدْرَةُ عَلَى الزَّادِ وَآلَةِ الرُّكُوبِ ، وَالنَّفَقَةِ ذَهَابًا وَإِيَابًا عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَمِنْهُمُ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ ، وَيَخْتَصُّ اشْتِرَاطُ الْقُدْرَةِ عَلَى آلَةِ الرُّكُوبِ بِمَنْ كَانَ بَعِيدًا عَنْ مَكَّةَ .
قَال فِي " الْهِدَايَةِ " : وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ الْوُجُوبِ عَلَى أَهْل مَكَّةَ وَمَنْ حَوْلَهَا الرَّاحِلَةُ؛ لأَِنَّهُ لاَ تَلْحَقُهُمْ مَشَقَّةٌ زَائِدَةٌ فِي الأَْدَاءِ ، فَأَشْبَهَ السَّعْيَ إِلَى الْجُمُعَةِ "(1).
وَالأَْظْهَرُ أَنَّ الَّذِي يَكُونُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ بَعِيدًا عَنْ مَكَّةَ هُوَ : مَنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَكَّةَ ثَلاَثَةُ أَيَّامٍ فَصَاعِدًا ، أَمَّا مَا دُونَهُ فَلاَ ، إِذَا كَانَ قَادِرًا عَلَى الْمَشْيِ "(2)يَعْنِي مَسَافَةَ الْقَصْرِ فِي السَّفَرِ . وَتُقَدَّرُ بِ ( 81 ) كِيلُو مِتْرٍ تَقْرِيبًا .
أَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فَهُوَ مَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَكَّةَ مَرْحَلَتَانِ ، وَهِيَ مَسَافَةُ الْقَصْرِ عِنْدَهُمْ . وَتُقَدَّرُ عِنْدَهُمْ بِنَحْوِ الْمَسَافَةِ السَّابِقَةِ(3).
__________
(1) - الهداية مع فتح القدير 2 / 127 .
(2) -حاشية ابن عابدين : رد المحتار على الدر المختار 2 / 195 . و الجوهرة النيرة - (ج 2 / ص 75) ورد المحتار - (ج 8 / ص 118)
(3) - نهاية المحتاج للرملي 2 / 377 ، وحاشية الباجوري 1 / 526 ، والمغني لابن قدامة 3 / 221 .(1/149)
وَقَدْ وَقَعَ الْخِلاَفُ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي شَرْطِيَّةِ الزَّادِ وَآلَةِ الرُّكُوبِ لِوُجُوبِ الْحَجِّ ، وَكَانُوا يَرْكَبُونَ الدَّوَابَّ . لِذَلِكَ عَبَّرُوا بِقَوْلِهِمُ : الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ " وَهِيَ الْجَمَلُ الْمُعَدُّ لِلرُّكُوبِ لأَِنَّهُ الْمَعْرُوفُ فِي زَمَانِهِمْ . وَهَذَا الْخِلاَفُ فِي أَمْرَيْنِ :
الأَْمْرُ الأَْوَّل : خَالَفَ الْمَالِكِيَّةُ الْجُمْهُورَ فِي اشْتِرَاطِ الْقُدْرَةِ عَلَى الرَّاحِلَةِ وَإِنْ كَانَتِ الْمَسَافَةُ بَعِيدَةً فَقَالُوا : يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَجُّ إِذَا كَانَ صَحِيحَ الْبِنْيَةِ يَقْدِرُ عَلَى الْمَشْيِ بِلاَ مَشَقَّةٍ عَظِيمَةٍ ، وَهُوَ يَمْلِكُ الزَّادَ .
وَاسْتَدَل الْمَالِكِيَّةُ بِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى : { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً } (سورة آل عمران / 97) .
وَجْهُ الاِسْتِدْلاَل أَنَّ " مَنْ كَانَ صَحِيحَ الْبَدَنِ قَادِرًا عَلَى الْمَشْيِ وَلَهُ زَادٌ فَقَدِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً فَيَلْزَمُهُ فَرْضُ الْحَجِّ "(1).
__________
(1) - مختصر خليل والشرح الكبير 2 / 6 ، ومواهب الجليل 2 / 491 ، وشرح رسالة ابن أبي زيد القيرواني لأبي الحسن المالكي 1 / 455 ، وانظر تفسير القرطبي 4 / 146 - 149 .(1/150)
وَاسْتَدَل الْجُمْهُورُ بِمَا وَرَدَ مِنَ الأَْحَادِيثِ الْكَثِيرَةِ عَنْ رَسُول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ فَسَّرَ السَّبِيل بِاسْتِطَاعَةِ الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ ، فعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فِي قَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى : وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا ، قَالَ : قِيلَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا السَّبِيلُ ؟ قَالَ : الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ(1).
فَقَدْ فَسَّرَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - الاِسْتِطَاعَةَ الْمَشْرُوطَةَ " بِالزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ جَمِيعًا " وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْقُدْرَةَ عَلَى الْمَشْيِ لاَ تَكْفِي لاِسْتِطَاعَةِ الْحَجِّ "(2).
الأَْمْرُ الثَّانِي : اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الزَّادِ وَوَسَائِل الْمُوَاصَلَةِ هَل يُشْتَرَطُ مَلَكِيَّةُ الْمُكَلَّفِ لِمَا يُحَصِّلُهَا بِهِ أَوْ لاَ يُشْتَرَطُ ؟
__________
(1) - المستدرك للحاكم برقم (1613و1614) والترمذي برقم (818 ) عن ابن عمر والمعجم الكبير للطبراني - (ج 9 / ص 433)برقم (11431 ) عن ابن عباس و تفسير ابن أبي حاتم - (ج 14 / ص 55)برقم (3908) والسنن الكبرى للبيهقي وفي ذيله الجوهر النقي - (ج 4 / ص 327)برقم (8885-8903) من طرق وهو صحيح لغيره وانظر فتاوى الأزهر - (ج 1 / ص 201)
(2) - بدائع الصنائع 2 / 122 .
قلت : وهذا المذهب هو الراجح لصحة الحديث(1/151)
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ مِلْكَ مَا يُحَصِّل بِهِ الزَّادَ وَوَسِيلَةَ النَّقْل ( مَعَ مُلاَحَظَةِ مَا ذَكَرْنَا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ ) شَرْطٌ لِتَحَقُّقِ وُجُوبِ الْحَجِّ ، وَفِي هَذَا يَقُول ابْنُ قُدَامَةَ : وَلاَ يَلْزَمُهُ الْحَجُّ بِبَذْل غَيْرِهِ لَهُ ، وَلاَ يَصِيرُ مُسْتَطِيعًا بِذَلِكَ ، سَوَاءٌ كَانَ الْبَاذِل قَرِيبًا أَوْ أَجْنَبِيًّا ، وَسَوَاءٌ بَذَل لَهُ الرُّكُوبَ وَالزَّادَ ، أَوْ بَذَل لَهُ مَالاً "(1).
وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ فِيمَا يُرْوَى عَنْهُ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ الْحَجُّ بِإِبَاحَةِ الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ إِذَا كَانَتِ الإِْبَاحَةُ مِمَّنْ لاَ مِنَّةَ لَهُ عَلَى الْمُبَاحِ لَهُ ، كَالْوَالِدِ إِذَا بَذَل الزَّادَ وَالرَّاحِلَةَ لاِبْنِهِ(2).
شُرُوطُ الزَّادِ وَآلَةِ الرُّكُوبِ :
ذَكَرَ الْعُلَمَاءُ شُرُوطًا فِي الزَّادِ وَآلَةِ الرُّكُوبِ الْمَطْلُوبَيْنِ لاِسْتِطَاعَةِ الْحَجِّ ، هِيَ تَفْسِيرٌ وَبَيَانٌ لِهَذَا الشَّرْطِ ، نَذْكُرُهَا فِيمَا يَلِي :
__________
(1) - فتح القدير 2 / 21 ، ومختصر خليل والشرح الكبير 2 / 7 - 8 ، والتاج والإكليل ومواهب الجليل 2 / 505 ، والمغني 3 / 220 .
قلت : يستحب له ذلك فقط
(2) - نهاية المحتاج 2 / 176 .و فقه العبادات - شافعي - (ج 1 / ص 686) وعشرة النساء للنسائي مشكل - (ج 1 / ص 142)بتحقيقي(1/152)
أ - أَنَّ الزَّادَ الَّذِي يُشْتَرَطُ مِلْكُهُ هُوَ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي ذَهَابِهِ وَإِيَابِهِ مِنْ مَأْكُولٍ وَمَشْرُوبٍ وَكِسْوَةٍ بِنَفَقَةٍ وَسَطٍ لاَ إِسْرَافَ فِيهَا وَلاَ تَقْتِيرَ ، فَلَوْ كَانَ يَسْتَطِيعُ زَادًا أَدْنَى مِنَ الْوَسَطِ الَّذِي اعْتَادَهُ لاَ يُعْتَبَرُ مُسْتَطِيعًا لِلْحَجِّ ، وَيَتَضَمَّنُ اشْتِرَاطُ الزَّادِ أَيْضًا مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْ آلاَتٍ لِلطَّعَامِ وَالزَّادِ مِمَّا لاَ يَسْتَغْنِي عَنْهُ(1).
وَاعْتَبَرَ الْمَالِكِيَّةُ الْقُدْرَةَ عَلَى الْوُصُول إِلَى مَكَّةَ ، وَلَوْ بِلاَ زَادٍ وَرَاحِلَةٍ لِذِي صَنْعَةٍ تَقُومُ بِهِ ، وَلاَ تُزْرِي بِمِثْلِهِ ، أَمَّا الإِْيَابُ فَلاَ يُشْتَرَطُ الْقُدْرَةُ عَلَى نَفَقَتِهِ عِنْدَهُمْ إِلاَّ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ إِنْ بَقِيَ هُنَاكَ ضَاعَ وَخَشِيَ عَلَى نَفْسِهِ وَلَوْ شَكًّا ، فَيُرَاعَى مَا يُبَلِّغُهُ وَيَرْجِعُ بِهِ إِلَى أَقْرَبِ الْمَوَاضِعِ لِمَكَّةَ ، مِمَّا يُمْكِنُهُ أَنْ يَعِيشَ بِهِ بِمَا لاَ يُزْرِي بِهِ مِنَ الْحِرَفِ(2).
ب - صَرَّحَ الْفُقَهَاءُ بِأَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الرَّاحِلَةِ أَنْ تَكُونَ مِمَّا يَصْلُحُ لِمِثْلِهِ إِمَّا بِشِرَاءٍ أَوْ بِكِرَاءٍ(3).
__________
(1) فتح القدير 2 / 126 ، ونهاية المحتاج 2 / 375 ، والمغني 3 / 221 - 222 .
(2) - الشرح الكبير وحاشيته 2 / 8 ومواهب الجليل 2 / 510 ، وشرح الرسالة مع حاشية العدوي 1 / 456
(3) - إن تقدم الحضارة ألغى استعمال الدواب في الأسفار وأحل مكانها السيارات والطائرات والبواخر ، وبناء على هذه القاعدة التي قرروها نقول : من ملك نفقة وسيلة للسفر لا تناسبه لا يكون أيضا مستطيعا للحج حتى يتوفر لديه أجر وسيلة سفر تناسب أمثاله ، بناء على مذهب الجمهور ( اللجنة )(1/153)
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ " لاَ يُعْتَبَرُ إِلاَّ مَا يُوَصِّلُهُ فَقَطْ " ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ مَشَقَّةٌ فَادِحَةٌ فَيُخَفَّفُ عَنْهُ بِمَا تَزُول بِهِ الْمَشَقَّةُ الْفَادِحَةُ(1). وَهَذَا الْمَعْنَى مَلْحُوظٌ عِنْدَ غَيْرِهِمْ فِيمَا يَصْلُحُ لِمِثْلِهِ إِذَا كَانَ يَشُقُّ عَلَيْهِ مَشَقَّةً شَدِيدَةً فَيُخَفَّفُ عَنْهُ بِمَا يُزِيلُهَا .
ج - إِنْ مَلَكَ الزَّادَ وَوَسِيلَةَ النَّقْل يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ فَاضِلاً عَمَّا تَمَسُّ إِلَيْهِ الْحَاجَةُ الأَْصْلِيَّةُ مُدَّةَ ذَهَابِهِ وَإِيَابِهِ ، عِنْدَ الْجُمْهُورِ(2).
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَاعْتَبَرُوا مَا يُوَصِّلُهُ فَقَطْ ، إِلاَّ أَنْ يَخْشَى الضَّيَاعَ ، وَهُوَ بِنَاءً عَلَى وُجُوبِ الْحَجِّ عَلَى الْفَوْرِ عِنْدَهُمْ(3).
وَفِي هَذَا تَفْصِيلٌ نُوَضِّحُهُ فِي الأُْمُورِ الَّتِي تَشْمَلُهَا الْحَاجَةُ الأَْصْلِيَّةُ .
خِصَال الْحَاجَةِ الأَْصْلِيَّةِ ثَلاَثٌ :
__________
(1) - شرح الرسالة 1 / 456 .
(2) - فتح القدير 2 / 126 ، والمسلك المتقسط ص 29 ، والمجموع 7 / 53 - 57 ، ونهاية المحتاج 2 / 378 ، ومغني المحتاج 1 / 464 - 465 ، والمغني 3 / 222 ، والفروع 3 / 230 .
(3) - شرح الرسالة وحاشية العدوي 1 / 456 ، والشرح الكبير 2 / 7 ، ومواهب الجليل 2 / 500 - 502
قلت : الراجح رأي الجمهور(1/154)
أ - نَفَقَةُ عِيَالِهِ وَمَنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُمْ مُدَّةَ ذَهَابِهِ وَإِيَابِهِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ ( خِلاَفًا لِلْمَالِكِيَّةِ كَمَا نُوَضِّحُ فِي الْخَصْلَةِ التَّالِيَةِ ) ، لأَِنَّ النَّفَقَةَ حَقٌّ لِلآْدَمِيِّينَ ، وَحَقُّ الْعَبْدِ مُقَدَّمٌ عَلَى حَقِّ الشَّرْعِ . لِمَا رُويَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يُضَيِّعَ مَنْ يَقُوتُ "(1).
ب - مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ هُوَ وَأَهْلُهُ مِنْ مَسْكَنٍ ، وَمِمَّا لاَ بُدَّ لِمِثْلِهِ كَالْخَادِمِ وَأَثَاثِ الْبَيْتِ وَثِيَابِهِ بِقَدْرِ الاِعْتِدَال الْمُنَاسِبِ لَهُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ ، عِنْدَ الْجُمْهُورِ خِلاَفًا لِلْمَالِكِيَّةِ أَيْضًا
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ فِي هَاتَيْنِ الْخَصْلَتَيْنِ :
يَبِيعُ فِي زَادِهِ دَارَهُ الَّتِي تُبَاعُ عَلَى الْمُفْلِسِ وَغَيْرَهَا مِمَّا يُبَاعُ عَلَى الْمُفْلِسِ مِنْ مَاشِيَةٍ وَثِيَابٍ وَلَوْ لِجُمُعَتِهِ إِنْ كَثُرَتْ قِيمَتُهَا ، وَخَادِمَهُ ، وَكُتُبَ الْعِلْمِ وَلَوْ مُحْتَاجًا إِلَيْهَا .
وَإِنْ كَانَ يَتْرُكُ وَلَدَهُ وَزَوْجَتَهُ لاَ مَال لَهُمْ ، فَلاَ يُرَاعِي مَا يَؤُول إِلَيْهِ أَمْرُهُ وَأَمْرُ أَهْلِهِ وَأَوْلاَدِهِ فِي الْمُسْتَقْبَل ، وَإِنْ كَانَ يَصِيرُ فَقِيرًا لاَ يَمْلِكُ شَيْئًا ، أَوْ يَتْرُكُ أَوْلاَدَهُ وَنَحْوَهُمْ لِلصَّدَقَةِ ، إِنْ لَمْ يَخْشَ هَلاَكًا فِيمَا ذُكِرَ أَوْ شَدِيدَ أَذًى "(2).
__________
(1) - سنن أبى داود برقم (1694 ) وأحمد برقم (6651 ) وصحيح الجامع (4481) صحيح لغيره
(2) - شرح الرسالة وحاشية العدوي 1 / 456 وحاشية العدوي على شرح كفاية الطالب الرباني - (ج 4 / ص 123) وانظر المراجع المالكية الأخرى شرح مختصر خليل للخرشي - (ج 7 / ص 224)
قلت : في هذا القول تشدد ظاهر تأباه نصوص الشريعة العامة، والراجح قول الجمهور(1/155)
وَهَذَا لأَِنَّ الْحَجَّ عِنْدَهُمْ وَاجِبٌ عَلَى الْفَوْرِ كَمَا قَدَّمْنَا .
ج - قَضَاءُ الدَّيْنِ الَّذِي عَلَيْهِ ، لأَِنَّ الدَّيْنَ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ ، وَهُوَ مِنْ حَوَائِجِهِ الأَْصْلِيَّةِ ، فَهُوَ آكَدُ ، وَسَوَاءٌ كَانَ الدَّيْنُ لآِدَمِيٍّ أَوْ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى كَزَكَاةٍ فِي ذِمَّتِهِ أَوْ كَفَّارَاتٍ وَنَحْوِهَا(1).
__________
(1) - انظر هذه المسائل في الهداية وشرحها فتح القدير 2 / 127 ، والبدائع 2 / 78 والشرح الكبير وحاشية الدسوقي 2 / 7 وفيه : "( قَوْلُهُ : لَا يَجِبُ الْحَجُّ بِاسْتِطَاعَةٍ بِدَيْنٍ ) أَشَارَ الشَّارِحُ بِهَذَا إلَى أَنَّ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ لَا بِدَيْنٍ عَطْفٌ عَلَى مَحْذُوفٍ وَالْأَصْلُ وَوَجَبَ بِاسْتِطَاعَةٍ بِغَيْرِ دَيْنٍ وَلَا يَجِبُ بِاسْتِطَاعَةٍ بِدَيْنٍ وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى الشَّخْصِ أَنْ يَسْتَدِينَ مَالًا فِي ذِمَّتِهِ لِيَحُجَّ بِهِ وَهُوَ مَكْرُوهٌ ، أَوْ حَرَامٌ كَمَا فِي ح قَالَ تت وَظَاهِرُهُ كَانَتْ لَهُ جِهَةٌ وَفَّى مِنْهَا ذَلِكَ الدَّيْنَ أَوْ لَا وَهُوَ كَذَلِكَ بِاتِّفَاقٍ فِي الثَّانِي وَعَلَى الْمَشْهُورِ فِي الْأَوَّلِ قَالَ طفى وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ التَّشْهِيرِ فِي عُهْدَتِهِ لَمْ أَرَهُ لِغَيْرِهِ ، وَقَدْ قِيلَ فِي الشَّامِلِ بِكَوْنِ الدَّيْنِ لَا يُرْجَى وَفَاؤُهُ وَذَلِكَ بِأَنْ لَا يَكُونَ عِنْدَهُ مَا يَقْضِيهِ بِهِ وَلَا جِهَةَ لَهُ يُوَفِّي مِنْهَا ، وَإِلَّا وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَجُّ بِهِ وَعَلَى هَذَا حُمِلَ كَلَامُ الْمُصَنِّفِ وَتَبِعَهُ عج وَشَارِحُنَا . " ، وحاشية الدسوقي ص 10 وفيها التصريح بتقدم الصدقة الواجبة على الحج ولو كان واجبا . انظر شرح المنهاج 2 / 87 ، وشرح الغزي 1 / 527 ، والفروع 3 / 230 ، والمغني 3 / 222 .(1/156)
فَإِذَا مَلَكَ الزَّادَ وَالْحَمُولَةَ زَائِدًا عَمَّا تَقَدَّمَ - عَلَى التَّفْصِيل الْمَذْكُورِ - فَقَدْ تَحَقَّقَ فِيهِ الشَّرْطُ ، وَإِلاَّ بِأَنِ اخْتَل شَيْءٌ مِمَّا ذُكِرَ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْحَجُّ(1).
وَيَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ فُرُوعٌ نَذْكُرُ مِنْهَا :
أ - مَنْ كَانَ لَهُ مَسْكَنٌ وَاسِعٌ يَفْضُل عَنْ حَاجَتِهِ ، بِحَيْثُ لَوْ بَاعَ الْجُزْءَ الْفَاضِل عَنْ حَاجَتِهِ مِنَ الدَّارِ الْوَاسِعَةِ لَوَفَّى ثَمَنُهُ لِلْحَجِّ يَجِبُ عَلَيْهِ الْبَيْعُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ . وَلاَ يَجِبُ عَلَيْهِ بَيْعُ الْجُزْءِ الْفَاضِل عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ(2).
ب - كَذَلِكَ لَوْ كَانَ مَسْكَنُهُ نَفِيسًا يَفُوقُ عَلَى مِثْلِهِ لَوْ أَبْدَل دَارًا أَدْنَى لَوَفَّى تَكَالِيفَ الْحَجِّ يَجِبُ عَلَيْهِ عِنْدَ الثَّلاَثَةِ ، وَلاَ يَجِبُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ(3).
ج - مَنْ مَلَكَ بِضَاعَةً لِتِجَارَتِهِ هَل يَلْزَمُهُ صَرْفُ مَال تِجَارَتِهِ لِلْحَجِّ ؟
ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ لِوُجُوبِ الْحَجِّ بَقَاءُ رَأْسِ مَالٍ لِحِرْفَتِهِ زَائِدًا عَلَى نَفَقَةِ الْحَجِّ ، وَرَأْسُ الْمَال يَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ النَّاسِ ، وَالْمُرَادُ مَا يُمْكِنُهُ الاِكْتِسَابُ بِهِ قَدْرَ كِفَايَتِهِ وَكِفَايَةِ عِيَالِهِ لاَ أَكْثَرُ ، لأَِنَّهُ لاَ نِهَايَةَ لَهُ(4).
__________
(1) - المراجع السابقة .
(2) - تنوير الأبصار 2 / 196 ، وشرح المنهاج للمحلى الصفحة السابقة ، والمغني 3 / 223 والمراجع المالكية السابقة .
(3) - فقه العبادات - شافعي - (ج 1 / ص 687) والشرح الكبير لابن قدامة - (ج 3 / ص 172) والمغني - (ج 6 / ص 270) والشرح الكبير - (ج 3 / ص 176)
(4) - حاشية رد المحتار - (ج 2 / ص 508) ورد المحتار - (ج 8 / ص 124) والمغني - (ج 6 / ص 270)(1/157)
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ قَوْلاَنِ : الأَْصَحُّ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ صَرْفُ مَال تِجَارَتِهِ لِنَفَقَةِ الْحَجِّ وَلَوْ لَمْ يَبْقَ لَهُ رَأْسُ مَالٍ لِتِجَارَتِهِ(1). وَهُوَ مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ كَمَا سَبَقَ نَقْل كَلاَمِهِمْ .
د - إِذَا مَلَكَ نُقُودًا لِشِرَاءِ دَارٍ يَحْتَاجُ إِلَيْهَا وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَجُّ إِنْ حَصَلَتْ لَهُ النُّقُودُ وَقْتَ خُرُوجِ النَّاسِ لِلْحَجِّ ، وَإِنْ جَعَلَهَا فِي غَيْرِهِ أَثِمَ . أَمَّا قَبْل خُرُوجِ النَّاسِ لِلْحَجِّ فَيَشْتَرِي بِالْمَال مَا شَاءَ ، لأَِنَّهُ مَلَكَهُ قَبْل الْوُجُوبِ عَلَى مَا اخْتَارَهُ ابْنُ عَابِدِينَ(2).
هـ - مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَجُّ وَأَرَادَ أَنْ يَتَزَوَّجَ وَلَيْسَ عِنْدَهُ مِنَ الْمَال إِلاَّ مَا يَكْفِي لأَِحَدِهِمَا ، فَفِيهَا التَّفْصِيل الآْتِي :
1 - أَنْ يَكُونَ فِي حَالَةِ اعْتِدَال الشَّهْوَةِ ، فَهَذَا يَجِبُ عَلَيْهِ تَقْدِيمُ الْحَجِّ عَلَى الزَّوَاجِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ ، إِذَا مَلَكَ النَّفَقَةَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ ، أَمَّا إِنْ مَلَكَهَا فِي غَيْرِهَا فَلَهُ صَرْفُهَا حَيْثُ شَاءَ .(3)
أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَالصَّحِيحُ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الْحَجُّ وَيَسْتَقِرُّ فِي ذِمَّتِهِ ، وَلَهُ صَرْفُ الْمَال إِلَى النِّكَاحِ وَهُوَ أَفْضَل .
__________
(1) - شرح المنهاج بحاشيتي قليوبي وعميرة 2 / 87 ، وحاشية الباجوري على شرح الغزي 1 / 527 .
(2) - حاشية رد المحتار على الدر المختار 2 / 197 .
(3) - فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء - (ج 23 / ص 453) وفتاوى اللجنة الدائمة - 1 - (ج 23 / ص 320)(1/158)
2 - أَنْ يَكُونَ فِي حَالَةِ تَوَقَانِ نَفْسِهِ وَالْخَوْفِ مِنَ الزِّنَى ، فَهَذَا يَكُونُ الزَّوَاجُ فِي حَقِّهِ مُقَدَّمًا عَلَى الْحَجِّ اتِّفَاقًا(1).
وَ- قَال ابْنُ عَابِدِينَ فِي حَاشِيَتِهِ : تَنْبِيهٌ : لَيْسَ مِنَ الْحَوَائِجِ الأَْصْلِيَّةِ مَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ الْمُحْدَثَةُ لِرَسْمِ الْهَدِيَّةِ لِلأَْقَارِبِ وَالأَْصْحَابِ ، فَلاَ يُعْذَرُ بِتَرْكِ الْحَجِّ لِعَجْزِهِ عَنْ ذَلِكَ . "(2)
وَهَذَا لاَ يُتَصَوَّرُ فِيهِ خِلاَفٌ بَعْدَ مَا ذَكَرْنَاهُ ، وَهُوَ يَدُل عَلَى إِثْمِ مَنْ أَخَّرَ الْحَجَّ بِسَبَبِ هَذِهِ التَّقَالِيدِ الْفَاسِدَةِ .
الْخَصْلَةُ الثَّانِيَةُ لِلاِسْتِطَاعَةِ : صِحَّةُ الْبَدَنِ :
إِنَّ سَلاَمَةَ الْبَدَنِ مِنَ الأَْمْرَاضِ وَالْعَاهَاتِ الَّتِي تَعُوقُ عَنْ الْحَجِّ شَرْطٌ لِوُجُوبِ الْحَجِّ .
فَلَوْ وُجِدَتْ سَائِرُ شُرُوطِ وُجُوبِ الْحَجِّ فِي شَخْصٍ وَهُوَ مَرِيضٌ زَمِنٌ أَوْ مُصَابٌ بِعَاهَةٍ دَائِمَةٍ ، أَوْ مُقْعَدٌ أَوْ شَيْخٌ كَبِيرٌ لاَ يَثْبُتُ عَلَى آلَةِ الرُّكُوبِ بِنَفْسِهِ فَلاَ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُؤَدِّيَ بِنَفْسِهِ فَرِيضَةً اتِّفَاقًا .
__________
(1) - رد المحتار 2 / 197 ، والمجموع 7 / 55 ، وحاشية الدسوقي 2 / 7 والفروع 3 / 231 ، وفي رد المحتار مزيد تفصيل فيما إذا تحقق الوقوع في الزنى أو خافه ، فإنه يقدم الزواج على الحج في الأول لا في الثاني . لكن ينتقد ذلك بما ذكروه أن وجوب الفور ظني لا قطعي .
(2) - ابن عابدين 2 / 194 .(1/159)
لَكِنِ اخْتَلَفُوا هَل صِحَّةُ الْبَدَنِ شَرْطٌ لأَِصْل الْوُجُوبِ ، أَوْ هِيَ شَرْطٌ لِلأَْدَاءِ بِالنَّفْسِ : ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالصَّاحِبَانِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّ صِحَّةَ الْبَدَنِ لَيْسَتْ شَرْطًا لِلْوُجُوبِ ، بَل هِيَ شَرْطٌ لِلِزُومِ الأَْدَاءِ بِالنَّفْسِ ، فَمَنْ كَانَ هَذَا حَالُهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَجُّ ، بِإِرْسَال مَنْ يَنُوبُ عَنْهُ(1).
وَقَال الإِْمَامَانِ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ : إِنَّهَا شَرْطٌ لِلْوُجُوبِ ، وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ لاَ يَجِبُ عَلَى فَاقِدِ صِحَّةِ الْبَدَنِ أَنْ يَحُجَّ بِنَفْسِهِ وَلاَ بِإِنَابَةِ غَيْرِهِ ، وَلاَ الإِْيصَاءُ بِالْحَجِّ عَنْهُ فِي الْمَرَضِ(2).
اسْتَدَل الأَْوَّلُونَ : بِأَنَّهُ - صلى الله عليه وسلم - فَسَّرَ الاِسْتِطَاعَةَ بِالزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ ، وَهَذَا لَهُ زَادٌ وَرَاحِلَةٌ فَيَجِبُ عَلَيْهِ الْحَجُّ .
وَاسْتَدَل أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً } وَهَذَا غَيْرُ مُسْتَطِيعٍ بِنَفْسِهِ فَلاَ يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَجُّ .
وَتَفَرَّعَ عَلَى ذَلِكَ مَسَائِل ، نَذْكُرُ مِنْهَا :
أ - مَنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى الْحَجِّ بِمُسَاعَدَةِ غَيْرِهِ كَالأَْعْمَى ، وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَجُّ بِنَفْسِهِ إِذَا تَيَسَّرَ لَهُ مَنْ يُعِينُهُ ، تَبَرُّعًا أَوْ بِأُجْرَةٍ ، إِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى أُجْرَتِهِ ، إِذَا كَانَتْ أُجْرَةُ الْمِثْل ، وَلاَ يَكْفِيهِ حَجُّ الْغَيْرِ عَنْهُ إِلاَّ بَعْدَ أَنْ يَمُوتَ .
__________
(1) - نهاية المحتاج 2 / 385 ، وانظر الكافي لابن قدامة 1 / 214 .
(2) - فتح القدير 2 / 125 ، وشرح الرسالة بحاشية العدوي 1 / 456 ، ومختصر خليل ومواهب الجليل 2 / 498 و 499 والشرح الكبير وحاشية الدسوقي عليه 2 / 6 .(1/160)
وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعِ الْحَجَّ بِنَفْسِهِ بِمُسَاعَدَةِ غَيْرِهِ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُرْسِل غَيْرَهُ ، لِيَحُجَّ عَنْهُ .
وَيَجِبُ عَلَى الْمَرِيضِ أَنْ يُوصِيَ بِالْحَجِّ عَنْهُ بَعْدَ مَوْتِهِ .
هَذَا عَلَى مَذْهَبِ الصَّاحِبَيْنِ وَالْجُمْهُورِ .
أَمَّا عَلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ فَلاَ يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ ، لأَِنَّ الْحَجَّ غَيْرُ وَاجِبٍ عَلَيْهِ .
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَدْ وَافَقُوا الْجُمْهُورَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ، لَكِنْ عَلَى أَسَاسِ مَذْهَبِهِمْ فِي مَسْأَلَةِ الرُّكُوبِ السَّابِقَةِ وَأَوْجَبُوا عَلَيْهِ الْمَشْيَ إِنْ كَانَ يَقْدِرُ عَلَى الْمَشْيِ
ب - إِذَا وُجِدَتْ شُرُوطُ الْحَجِّ مَعَ صِحَّةِ الْبَدَنِ فَتَأَخَّرَ حَتَّى أُصِيبَ بِعَاهَةٍ تَمْنَعُهُ مِنَ الْحَجِّ وَلاَ يُرْجَى زَوَالُهَا فَالْحَجُّ وَاجِبٌ عَلَيْهِ اتِّفَاقًا ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُرْسِل شَخْصًا يَحُجُّ عَنْهُ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ . أَمَّا إِذَا أُصِيبَ بِعَاهَةٍ يُرْجَى زَوَالُهَا فَلاَ تَجُوزُ الإِْنَابَةُ ، بَل يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَجُّ بِنَفْسِهِ عِنْدَ زَوَالِهَا عَنْهُ(1).
الْخَصْلَةُ الثَّالِثَةُ : أَمْنُ الطَّرِيقِ :
أَمْنُ الطَّرِيقِ يَشْمَلُ الأَْمْنَ عَلَى النَّفْسِ وَالْمَالِ ، وَذَلِكَ وَقْتَ خُرُوجِ النَّاسِ لِلْحَجِّ ، لأَِنَّ الاِسْتِطَاعَةَ لاَ تَثْبُتُ دُونَهُ .
وَوَقَعَ الْخِلاَفُ فِي أَمْنِ الطَّرِيقِ كَمَا فِي صِحَّةِ الْبَدَنِ :
فَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَرِوَايَةُ أَبِي شُجَاعٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ شَرْطُ الْوُجُوبِ . لأَِنَّ الاِسْتِطَاعَةَ لاَ تَتَحَقَّقُ بِدُونِ أَمْنِ الطَّرِيقِ .
__________
(1) - المراجع السابقة .و فتاوى الإسلام سؤال وجواب - (ج 1 / ص 6689)سؤال رقم 965- ذهاب المريض إلى الحج(1/161)
وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ ، وَهُوَ الأَْصَحُّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَرَجَّحَهُ الْمُتَأَخِّرُونَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ أَنَّ أَمْنَ الطَّرِيقِ شَرْطٌ لِلأَْدَاءِ بِالنَّفْسِ لاَ لأَِصْل الْوُجُوبِ .
وَاسْتَدَلُّوا بِنَحْوِ أَدِلَّتِهِمْ فِي إِيجَابِ الْحَجِّ عَلَى مَنْ فَقَدَ شَرْطَ صِحَّةِ الْبَدَنِ(1).
وَعَلَى هَذَا الْمَذْهَبِ الأَْخِيرِ مَنْ اسْتَوْفَى شُرُوطَ الْحَجِّ عِنْدَ خَوْفِ الطَّرِيقِ فَمَاتَ قَبْل أَمْنِهِ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُوصِيَ بِالْحَجِّ .
أَمَّا إِذَا مَاتَ بَعْدَ أَمْنِ الطَّرِيقِ فَتَجِبُ عَلَيْهِ الْوَصِيَّةُ بِالْحَجِّ عَنْهُ اتِّفَاقًا(2).
الْخَصْلَةُ الرَّابِعَةُ : إِمْكَانُ السَّيْرِ :
إِمْكَانُ السَّيْرِ أَنْ تَكْمُلَ شَرَائِطُ الْحَجِّ فِي الْمُكَلَّفِ، وَالْوَقْتُ مُتَّسِعٌ يُمْكِنُهُ الذَّهَابُ لِلْحَجِّ .
وَهَذَا شَرْطٌ لأَِصْل الْوُجُوبِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ ، وَشَرْطٌ لِلأَْدَاءِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ(3).
__________
(1) - انظر الهداية وشرحها 2 / 126 و 127 وبدائع الصنائع 2 / 123 وشرح المنهاج للمحلى 2 / 87 - 88 ، ومتن أبي شجاع بشرح الغزي وحاشية الباجوري 1 / 527 وانظر الشرح الكبير 2 / 6 ، ومواهب الجليل 2 / 491 ، وفيه تفاصيل كثيرة .
(2) - فتح القدير الموضع السابق ، ورد المحتار 2 / 197 ، والمغني 3 / 219 .
(3) - وفي مذهب الشافعية قولان ذكرهما المحلي في شرح المنهاج ، والراجح ما ذكرناه كما في المجموع 7 / 89 وحاشية الباجوري 1 / 528 ، وانظر فتح القدير 2 / 120 ورد المحتار 2 / 200 ، ومواهب الجليل 2 / 491 ، وذكر ثلاثة أقوال صحح منهما ما ذكرناه والمغني 3 / 218 - 219 .(1/162)
وَعَبَّرَ الْحَنَفِيَّةُ عَنْ هَذَا الشَّرْطِ بِالْوَقْتِ . وَجَعَلَهُ بَعْضُهُمْ شَرْطاً مُفْرَدًا مِنْ شَرَائِطِ وُجُوبِ الْحَجِّ . وَفَسَّرُوا هَذَا الشَّرْطَ بِأَنَّهُ أَشْهُرُ الْحَجِّ ، أَوْ وَقْتُ خُرُوجِ أَهْل بَلَدِهِ إِنْ كَانُوا يَخْرُجُونَ قَبْلَهَا ، فَلاَ يَجِبُ الْحَجُّ إِلاَّ عَلَى الْقَادِرِ فِيهَا ، أَوْ فِي وَقْتِ خُرُوجِهِمْ. وَفَسَّرَ غَيْرُهُمْ إِمْكَانَ السَّيْرِ بِوَقْتِ الْخُرُوجِ لِلْحَجِّ(1).
وَاسْتَدَل الْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ إِمْكَانَ السَّيْرِ شَرْطٌ لِوُجُوبِ الْحَجِّ بِالآْتِي :
أ - أَنَّ إِمْكَانَ السَّيْرِ مِنْ لَوَاحِقِ الاِسْتِطَاعَةِ وَهِيَ شَرْطٌ لِوُجُوبِ الْحَجِّ(2).
__________
(1) - رحمة الله السندي في لباب المناسك ص 33 مع شرحه المسلك المتقسط . و الفتاوى الهندية - (ج 5 / ص 464) و الفقه الإسلامي وأدلته - (ج 3 / ص 416) وحاشية رد المحتار - (ج 2 / ص 503) وبدائع الصنائع في ترتيب الشرائع - (ج 4 / ص 369) وتبيين الحقائق شرح كنز الدقائق - (ج 4 / ص 233) وفتح القدير - (ج 5 / ص 9) والجوهرة النيرة - (ج 2 / ص 76) والبحر الرائق شرح كنز الدقائق - (ج 6 / ص 335) ورد المحتار - (ج 8 / ص 113) وحاشيتا قليوبي - وعميرة - (ج 5 / ص 481) وحاشية البجيرمي على المنهج - (ج 6 / ص 23)
(2) - مواهب الجليل 2 / 491 .(1/163)
ب - أَنَّ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ دُخُول وَقْتِ الْوُجُوبِ ، كَدُخُول وَقْتِ الصَّلاَةِ ، فَإِنَّهَا لاَ تَجِبُ قَبْل وَقْتِهَا ، إِلاَّ أَنَّ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ الْبُلْدَانِ ، فَيُعْتَبَرُ وَقْتُ الْوُجُوبِ فِي حَقِّ كُل شَخْصٍ عِنْدَ خُرُوجِ أَهْل بَلَدِهِ ، فَالتَّقْيِيدُ بِأَشْهُرِ الْحَجِّ فِي الآْيَةِ إِنَّمَا هُوَ بِالنِّسْبَةِ إِِلَى أَهْل أُمِّ الْقُرَى ، وَمَنْ حَوْلَهَا ، وَلِلإِْشْعَارِ بِأَنَّ الأَْفْضَل أَنْ لاَ يَقَعَ الإِْحْرَامُ فِيمَا قَبْلَهَا عَلَى مُقْتَضَى قَوَاعِدِ الْحَنَفِيَّةِ مِنْ أَنَّ الإِْحْرَامَ شَرْطٌ ، خِلاَفًا لِلشَّافِعِيَّةِ مِنْ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ الإِْحْرَامُ قَبْل الأَْشْهُرِ لِكَوْنِهِ رُكْنًا(1)" .
وَاسْتَدَل الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ إِمْكَانَ السَّيْرِ شَرْطٌ لِلُزُومِ أَدَاءِ الْحَجِّ بِنَفْسِهِ بِأَنَّهُ يَتَعَذَّرُ الأَْدَاءُ دُونَ الْقَضَاءِ ، كَالْمَرَضِ الْمَرْجُوِّ بُرْؤُهُ ، وَعَدَمُ الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ يَتَعَذَّرُ مَعَهُ الْجَمِيعُ(2)
الْقِسْمُ الثَّانِي : الشُّرُوطُ الْخَاصَّةُ بِالنِّسَاءِ :
مَا يَخُصُّ النِّسَاءَ مِنْ شُرُوطِ الاِسْتِطَاعَةِ شَرْطَانِ لاَ بُدَّ مِنْهُمَا لِكَيْ يَجِبَ الْحَجُّ عَلَى الْمَرْأَةِ يُضَافَانِ إِلَى خِصَال شَرْطِ الاِسْتِطَاعَةِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا .
هَذَانِ الشَّرْطَانِ هُمَا : الزَّوْجُ أَوِ الْمَحْرَمُ ، وَعَدَمُ الْعِدَّةِ .
أَوَّلاً - الزَّوْجُ أَوِ الْمَحْرَمُ الأَْمِينُ :
__________
(1) - المسلك المتقسط ص 34 .و بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع - (ج 5 / ص 12)
(2) - الفروع 3 / 233 . و الفروع لابن مفلح - (ج 5 / ص 249) وكشاف القناع عن متن الإقناع - (ج 6 / ص 336) ومطالب أولي النهى في شرح غاية المنتهى - (ج 6 / ص 49) والمبدع شرح المقنع - (ج 4 / ص 99)(1/164)
يُشْتَرَطُ أَنْ يَصْحَبَ الْمَرْأَةَ فِي سَفَرِ الْحَجِّ زَوْجُهَا أَوْ مَحْرَمٌ مِنْهَا ، إِذَا كَانَتِ الْمَسَافَةُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَكَّةَ ثَلاَثَةُ أَيَّامٍ ، وَهِيَ مَسِيرَةُ الْقَصْرِ فِي السَّفَرِ ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ(1).
وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ - رضى الله عنهما - عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : " لاَ تُسَافِرِ الْمَرْأَةُ ثَلاَثًا إِلاَّ مَعَ ذِى مَحْرَمٍ "(2).
وَتَوَسَّعَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ فَسَوَّغُوا الاِسْتِبْدَال بِالْمَحْرَمِ :
ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهَا إِنْ وَجَدَتْ نِسْوَةً ثِقَاتٍ : اثْنَتَيْنِ فَأَكْثَرَ تَأْمَنُ مَعَهُنَّ عَلَى نَفْسِهَا كَفَى ذَلِكَ بَدَلاً عَنِ الْمَحْرَمِ أَوِ الزَّوْجِ بِالنِّسْبَةِ لِوُجُوبِ حَجَّةِ الإِْسْلاَمِ عَلَى الْمَرْأَةِ . وَعِنْدَهُمُ " الأَْصَحُّ أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ وُجُودُ مَحْرَمٍ لإِِحْدَاهُنَّ ، لأَِنَّ الأَْطْمَاعَ تَنْقَطِعُ بِجَمَاعَتِهِنَّ . فَإِنْ وَجَدَتِ امْرَأَةً وَاحِدَةً ثِقَةً فَلاَ يَجِبُ عَلَيْهَا الْحَجُّ ، لَكِنْ يَجُوزُ لَهَا أَنْ تَحُجَّ مَعَهَا حَجَّةَ الْفَرِيضَةِ أَوِ النَّذْرِ ، بَل يَجُوزُ لَهَا أَنْ تَخْرُجَ وَحْدَهَا لأَِدَاءِ الْفَرْضِ أَوِ النَّذْرِ إِذَا أَمِنَتْ .
__________
(1) - الهداية وفتح القدير 2 / 128 ، والكافي 1 / 519 ، والمغني 3 / 236 - 237 . و بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع - (ج 4 / ص 365) وتبيين الحقائق شرح كنز الدقائق - (ج 4 / ص 244) والعناية شرح الهداية - (ج 3 / ص 399) والجوهرة النيرة - (ج 2 / ص 75) ومجمع الأنهر في شرح ملتقى الأبحر - (ج 3 / ص 7) ورد المحتار - (ج 8 / ص 118)
(2) - صحيح البخارى برقم (1087 ) ومسلم برقم (3322 )(1/165)
وَزَادَ الْمَالِكِيَّةُ تَوَسُّعًا فَقَالُوا : الْمَرْأَةُ إِذَا لَمْ تَجِدِ الْمَحْرَمَ أَوِ الزَّوْجَ وَلَوْ بِأُجْرَةٍ تُسَافِرُ لِحَجِّ الْفَرْضِ أَوِ النَّذْرِ مَعَ الرُّفْقَةِ الْمَأْمُونَةِ ، بِشَرْطِ أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ بِنَفْسِهَا هِيَ مَأْمُونَةً أَيْضًا .
وَالرُّفْقَةُ الْمَأْمُونَةُ جَمَاعَةٌ مَأْمُونَةٌ مِنَ النِّسَاءِ ، أَوِ الرِّجَال الصَّالِحِينَ . قَال الدُّسُوقِيُّ : وَأَكْثَرُ مَا نَقَلَهُ أَصْحَابُنَا اشْتِرَاطُ النِّسَاءِ " .
أَمَّا حَجُّ النَّفْل فَلاَ يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ السَّفَرُ لَهُ إِلاَّ مَعَ الزَّوْجِ أَوِ الْمَحْرَمِ فَقَطِ اتِّفَاقًا ، وَلاَ يَجُوزُ لَهَا السَّفَرُ بِغَيْرِهِمَا ، بَل تَأْثَمُ بِهِ(1).
نَوْعُ الاِشْتِرَاطِ لِلْمَحْرَمِ :
اخْتَلَفُوا فِي الزَّوْجِ أَوِ الْمَحْرَمِ هَل هُوَ شَرْطُ وُجُوبٍ أَوْ شَرْطٌ لِلُزُومِ الأَْدَاءِ بِالنَّفْسِ : ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الرَّاجِحِ عِنْدَهُمْ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّ الْمَحْرَمَ شَرْطٌ لِوُجُوبِ الْحَجِّ ، وَيَحُل مَحَلَّهُ عِنْدَ فَقْدِهِ الرُّفْقَةُ الْمَأْمُونَةُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ .
وَالرَّاجِحُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الزَّوْجَ أَوِ الْمَحْرَمَ شَرْطٌ لِلُزُومِ الأَْدَاءِ بِالنَّفْسِ(2).
__________
(1) - حاشية الدسوقي 2 / 9 - 10 والعدوي 1 / 455 ، والمنهاج للنووي وشرحه 2 / 89 ، ومغني المحتاج 1 / 467 ، وحاشية القليوبي على شرح المنهاج الصفحة السابقة .
(2) - الشرح الكبير وحاشيته 2 / 9 ، وشرح الرسالة وحاشية العدوي وسائر المراجع السابقة والهداية وشرحها 2 / 130 ، ولباب المناسك وشرحه ص 37 والفروع 3 / 234 - 236 .(1/166)
وَأَدِلَّةُ الْفَرِيقَيْنِ هِيَ مَا سَبَقَ الاِسْتِدْلاَل بِهِ فِي صِحَّةِ الْبَدَنِ وَأَمْنِ الطَّرِيقِ .
الْمَحْرَمُ الْمَشْرُوطُ لِلسَّفَرِ :
الْمَحْرَمُ الأَْمِينُ الْمَشْرُوطُ فِي اسْتِطَاعَةِ الْمَرْأَةِ لِلْحَجِّ هُوَ كُل رَجُلٍ مَأْمُونٍ عَاقِلٍ بَالِغٍ يَحْرُمُ عَلَيْهِ بِالتَّأْبِيدِ التَّزَوُّجُ مِنْهَا سَوَاءٌ كَانَ التَّحْرِيمُ بِالْقَرَابَةِ أَوِ الرَّضَاعَةِ أَوِ الصِّهْرِيَّةِ . وَنَحْوِ ذَلِكَ يُشْتَرَطُ فِي الزَّوْجِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ بِزِيَادَةِ شَرْطِ الإِْسْلاَمِ فِي الْمَحْرَمِ(1).
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ بِذَلِكَ فِي حَقِيقَةِ الْمَحْرَمِ لَكِنْ لاَ يُشْتَرَطُ فِي الْمَحْرَمِ الْبُلُوغُ بَل التَّمْيِيزُ وَالْكِفَايَةُ(2).
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ : يَكْفِي الْمَحْرَمُ الذَّكَرُ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ثِقَةً فِيمَا يَظْهَرُ ، لأَِنَّ الْوَازِعَ الطَّبِيعِيَّ أَقْوَى مِنَ الشَّرْعِيِّ ، إِذَا كَانَ لَهُ غَيْرَةٌ تَمْنَعُهُ أَنْ يَرْضَى بِالزِّنَى "(3).
فُرُوعٌ تَتَعَلَّقُ بِالْمَسْأَلَةِ :
أ - يُشْتَرَطُ لِوُجُوبِ الْحَجِّ عَلَى الْمَرْأَةِ أَنْ تَكُونَ قَادِرَةً عَلَى نَفَقَةِ نَفْسِهَا وَنَفَقَةِ الْمَحْرَمِ إِنْ طَلَبَ مِنْهَا النَّفَقَةَ ، لأَِنَّهُ يَسْتَحِقُّهَا عَلَيْهَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ .
__________
(1) - المسلك المتقسط ص 37 ، والمغني 3 / 239 ، والفروع 3 / 239 - 240 . و البحر الرائق شرح كنز الدقائق - (ج 6 / ص 368)
(2) - مواهب الجليل 2 / 522 - 523 و 524 وفيها التصريح بما ذكرنا ، والدسوقي 2 / 9 .
(3) - نهاية المحتاج 2 / 382 وشرح المنهاج 2 / 89 ، ومغني المحتاج 1 / 467 .(1/167)
وَكَذَلِكَ عَبَّرَ بِالنَّفَقَةِ ابْنُ قُدَامَةَ مِنَ الْحَنَابِلَةِ . وَعَبَّرَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَابْنُ مُفْلِحٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ بِالأُْجْرَةِ . وَالْمُرَادُ أُجْرَةُ الْمِثْل(1).
وَلَوْ امْتَنَعَ الْمَحْرَمُ عَنِ الْخُرُوجِ إِلاَّ بِأُجْرَةٍ لَزِمَتْهَا إِنْ قَدَرَتْ عَلَيْهَا ، وَحَرُمَ عَلَيْهَا الْخُرُوجُ مَعَ الرُّفْقَةِ الْمَأْمُونَةِ وَهَذَا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ .
وَأَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فَهِيَ مُخَيَّرَةٌ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ فِي صُحْبَةِ زَوْجٍ أَوْ مَحْرَمٍ أَوْ رُفْقَةٍ مَأْمُونَةٍ(2)
ب - الزَّوْجُ إِذَا حَجَّ مَعَ امْرَأَتِهِ فَلَهَا عَلَيْهِ النَّفَقَةُ ، نَفَقَةُ الْحَضَرِ لاَ السَّفَرِ ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا أَجْرًا مُقَابِل الْخُرُوجِ مَعَهَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلاَمِ الْحَنَابِلَةِ ، لأَِنَّهُمْ خَصُّوا الْمَحْرَمَ بِأَخْذِ الأُْجْرَةِ .
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ لَهُ أَخْذُ الأُْجْرَةِ إِذَا كَانَتْ أُجْرَةَ الْمِثْل(3).
__________
(1) - المسلك المتقسط ص 38 والدر المختار مع حاشيته رد المحتار 2 / 199 ، والمغني 3 / 240 ، وشرح الرسالة وحاشية العدوي 1 / 455 ، والشرح الكبير وحاشيته 2 / 9 ، ومواهب الجليل 2 / 522 والفروع 3 / 240 .
(2) - حاشية الدسوقي 2 / 9 ، ومغني المحتاج 1 / 467 .
(3) - المسلك المتقسط ص 39 وشرح الرسالة والشرح الكبير وحاشيته ومواهب الجليل المواضع السابقة ، ونهاية المحتاج 2 / 383 ، ومغني المحتاج 1 / 468 ، والفروع والمغني الموضعين السابقين .(1/168)
ج - إِذَا وَجَدَتْ مَحْرَمًا لَمْ يَكُنْ لِلزَّوْجِ مَنْعُهَا مِنَ الذَّهَابِ مَعَهُ لِحَجِّ الْفَرْضِ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَمْنَعَهَا مِنَ النَّفْل عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ(1).
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ : لَيْسَ لِلْمَرْأَةِ الْحَجُّ إِلاَّ بِإِذْنِ الزَّوْجِ فَرْضًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ " لأَِنَّ فِي ذَهَابِهَا تَفْوِيتَ حَقِّ الزَّوْجِ ، وَحَقُّ الْعَبْدِ مُقَدَّمٌ ، لأَِنَّهُ فَرْضٌ بِغَيْرِ وَقْتٍ إِلاَّ فِي الْعُمُرِ كُلِّهِ ، " فَإِنْ خَافَتِ الْعَجْزَ الْبَدَنِيَّ بِقَوْل طَبِيبَيْنِ عَدْلَيْنِ لَمْ يُشْتَرَطْ إِذْنُ الزَّوْجِ(2)" .
وَاسْتَدَل الْجُمْهُورُ بِأَنَّ حَقَّ الزَّوْجِ لاَ يُقَدَّمُ عَلَى فَرَائِضِ الْعَيْنِ كَصَوْمِ رَمَضَانَ ، فَلَيْسَ لِلزَّوْجِ مَنْعُ زَوْجَتِهِ مِنْهُ ، لأَِنَّهُ فَرْضُ عَيْنٍ عَلَيْهَا .
ثَانِيًا - عَدَمُ الْعِدَّةِ :
يُشْتَرَطُ أَلاَ تَكُونَ الْمَرْأَةُ مُعْتَدَّةً عَنْ طَلاَقٍ أَوْ وَفَاةٍ مُدَّةَ إِمْكَانِ السَّيْرِ لِلْحَجِّ ، وَهُوَ شَرْطٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ عَلَى تَفَاصِيل فِيهِ(3).
__________
(1) - الهداية وفتح القدير 2 / 130 ، والتاج والإكليل 2 / 221 ، والمغني 3 / 240 .
(2) - الأم للإمام الشافعي 2 / 117 ونهاية المحتاج 2 / 383 ، ومغني المحتاج 1 / 536 وفي الأم تفضيل جيد .
(3) - وإن لم يذكره بعضهم في شروط الحج ، لكن ذكروا ما يدل عليه في أبواب العدة ، كما نبه الحطاب 2 / 526 أو في الإحصار ، كما في مغني المحتاج 1 / 536 وغيره(1/169)
وَالدَّلِيل عَلَى ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَهَى الْمُعْتَدَّاتِ عَنِ الْخُرُوجِ مِنْ بُيُوتِهِنَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا(1)} سورة الطلاق ، وَالْحَجُّ يُمْكِنُ أَدَاؤُهُ فِي وَقْتٍ آخَرَ ، فَلاَ تُلْزَمُ بِأَدَائِهِ وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ .
وَقَدْ عَمَّمَ الْحَنَفِيَّةُ هَذَا الشَّرْطَ لِكُل مُعْتَدَّةٍ سَوَاءٌ كَانَتْ عِدَّتُهَا مِنْ طَلاَقٍ بَائِنٍ أَوْ رَجْعِيٍّ ، أَوْ وَفَاةٍ ، أَوْ فَسْخِ نِكَاحٍ . وَنَحْوِ ذَلِكَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ(1).
وَفَصَّل الْحَنَابِلَةُ فَقَالُوا : لاَ تَخْرُجُ الْمَرْأَةُ إِلَى الْحَجِّ فِي عِدَّةِ الْوَفَاةِ ، وَلَهَا أَنْ تَخْرُجَ إِلَيْهِ فِي عِدَّةِ الطَّلاَقِ الْمَبْتُوتِ ، وَذَلِكَ لأَِنَّ لُزُومَ الْبَيْتِ فِيهِ وَاجِبٌ فِي عِدَّةِ الْوَفَاةِ ، وَقُدِّمَ عَلَى الْحَجِّ لأَِنَّهُ يَفُوتُ ، وَالطَّلاَقُ الْمَبْتُوتُ لاَ يَجِبُ فِيهِ ذَلِكَ . وَأَمَّا عِدَّةُ الرَّجْعِيَّةِ فَالْمَرْأَةُ فِيهِ بِمَنْزِلَتِهَا فِي طَلَبِ النِّكَاحِ ، لأَِنَّهَا زَوْجَةٌ(2).
__________
(1) - المسلك المتقسط ص 39 ، وانظر مواهب الجليل 2 / 526 ، وفيه تعميم المعتدات بالنسبة للطلاق والوفاء
(2) - المغني 3 / 240 - 241(1/170)
وَنَحْوُ ذَلِكَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ ، فَقَدْ صَرَّحُوا بِأَنَّ لِلزَّوْجِ أَنْ يَمْنَعَ الْمُطَلَّقَةَ الرَّجْعِيَّةَ لِلْعِدَّةِ ، وَذَلِكَ لأَِنَّهُ يَحِقُّ لِلزَّوْجِ عِنْدَهُمْ مَنْعُهَا عَنْ حَجَّةِ الْفَرْضِ فِي مَذْهَبِهِمْ(1).
ثُمَّ اخْتَلَفَ الْحَنَفِيَّةُ فِي عَدَمِ الْعِدَّةِ : هَل هُوَ شَرْطُ وُجُوبٍ أَوْ شَرْطُ أَدَاءٍ ، وَالأَْظْهَرُ أَنَّهُ شَرْطٌ لِلُزُومِ الأَْدَاءِ بِالنَّفْسِ(2).
أَمَّا عِنْدَ الْجُمْهُورِ فَهُوَ شَرْطٌ لِلْوُجُوبِ .
فُرُوعٌ :
ا- لَوْ خَالَفَتِ الْمَرْأَةُ وَخَرَجَتْ لِلْحَجِّ فِي الْعِدَّةِ صَحَّ حَجُّهَا ، وَكَانَتْ آثِمَةً .
__________
(1) - المغني 3 / 240 - 241
(2) - على ما ذهب إليه ابن أمير حاج ، كما في المسلك المتقسط ، وأقره ابن عابدين في رد المحتار 2 / 200 .(1/171)
ب - إِنْ خَرَجَتْ مِنْ بَلَدِهَا لِلْحَجِّ وَطَرَأَتْ عَلَيْهَا الْعِدَّةُ فَفِيهَا تَفْصِيلٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ : إِنْ طَلَّقَهَا زَوْجُهَا طَلاَقًا رَجْعِيًّا تَبِعَتْ زَوْجَهَا ، رَجَعَ أَوْ مَضَى ، لَمْ تُفَارِقْهُ ، وَالأَْفْضَل أَنْ يُرَاجِعَهَا . وَإِنْ كَانَ بَائِنًا أَوْ مَاتَ عَنْهَا فَإِنْ كَانَ إِلَى مَنْزِلِهَا أَقَل مِنْ مُدَّةِ السَّفَرِ وَإِلَى مَكَّةَ مُدَّةُ سَفَرٍ فَإِنَّهُ يَجِبُ أَنْ تَعُودَ إِلَى مَنْزِلِهَا ، وَإِنْ كَانَتْ إِلَى مَكَّةَ أَقَل مَضَتْ إِلَى مَكَّةَ ، وَإِنْ كَانَتْ إِلَى الْجَانِبَيْنِ أَقَل مِنْ مُدَّةِ السَّفَرِ فَهِيَ بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَتْ مَضَتْ ، وَإِنْ شَاءَتْ رَجَعَتْ إِلَى مَنْزِلِهَا سَوَاءٌ كَانَتْ فِي الْمِصْرِ أَوْ غَيْرِهِ ، وَسَوَاءٌ كَانَ مَعَهَا مَحْرَمٌ أَوْ لاَ ، إِلاَّ أَنَّ الرُّجُوعَ أَوْلَى . وَإِنْ كَانَ مِنَ الْجَانِبَيْنِ مُدَّةُ سَفَرٍ فَإِنْ كَانَتْ فِي الْمِصْرِ فَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَخْرُجَ بِغَيْرِ مَحْرَمٍ بِلاَ خِلاَفٍ ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي مَفَازَةٍ أَوْ قَرْيَةٍ لاَ تَأْمَنُ عَلَى نَفْسِهَا وَمَالِهَا فَلَهَا أَنْ تَمْضِيَ إِلَى مَوْضِعِ الأَْمْنِ ثُمَّ لاَ تَخْرُجَ مِنْهُ حَتَّى تَمْضِيَ عِدَّتُهَا(1).
وَنَحْوُهُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ : قَال فِي الْمُغْنِي : وَإِذَا خَرَجَتْ لِلْحَجِّ فَتُوُفِّيَ زَوْجُهَا وَهِيَ قَرِيبَةٌ رَجَعَتْ لِتَعْتَدَّ فِي مَنْزِلِهَا ، وَإِنْ تَبَاعَدَتْ مَضَتْ فِي سَفَرِهَا "(2).
__________
(1) - إرشاد الساري إلى مناسك الملا علي القاري ص 39 - 40 .
(2) - المغني 3 / 241 .(1/172)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ : إِذَا خَرَجَتْ مَعَ زَوْجِهَا لِحَجِّ الْفَرِيضَةِ فَمَاتَ أَوْ طَلَّقَهَا فِي ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ أَوْ نَحْوِهَا أَنَّهَا تَرْجِعُ إِذَا وَجَدَتْ ثِقَةً ذَا مَحْرَمٍ ، أَوْ نَاسًا لاَ بَأْسَ بِهِمْ . وَإِنْ بَعُدَتْ أَوْ كَانَتْ أَحْرَمَتْ أَوْ أَحْرَمَتْ بَعْدَ الطَّلاَقِ أَوِ الْمَوْتِ ، وَسَوَاءٌ أَحْرَمَتْ بِفَرْضٍ أَوْ نَفْلٍ أَوْ لَمْ تَجِدْ رُفْقَةً تَرْجِعُ مَعَهُمْ فَإِنَّهَا تَمْضِي "(1).
وَفِي حَجِّ التَّطَوُّعِ : تَرْجِعُ لِتُتِمَّ عِدَّتَهَا فِي بَيْتِهَا إِنْ عَلِمَتْ أَنَّهَا تَصِل قَبْل انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا ، إِنْ وَجَدَتْ ذَا مَحْرَمٍ أَوْ رُفْقَةً مَأْمُونَةً . وَإِلاَّ تَمَادَتْ مَعَ رُفْقَتِهَا . . . "
أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَعِنْدَهُمْ تَفْصِيلٌ فِي الْمَسْأَلَةِ كَقَوْلِهِمْ فِي مَسْأَلَةِ إِذْنِ الزَّوْجِ فِي خُرُوجِ الزَّوْجَةِ لِلْحَجِّ حَتَّى لَوْ طَرَأَتِ الْعِدَّةُ بَعْدَ الإِْحْرَامِ : إِذَا خَرَجَتْ بِغَيْرِ إِذْنِهِ فَلَهُ مَنْعُهَا وَتَحْلِيلُهَا ، وَإِنْ خَرَجَتْ بِإِذْنِهِ فَلَيْسَ لَهُ مَنْعُهَا وَلاَ تَحْلِيلُهَا(2).
الْعِدَّةُ الطَّارِئَةُ(3)
__________
(1) - مواهب الجليل 2 / 526 .
(2) - نهاية المحتاج 2 / 478 . وفي حال طروء العدة بعد الإحرام تفصيل ينظر في مصطلح : ( إحصار فقرة 19 ) .
(3) - الموسوعة الفقهية الكويتية - (ج 2 / ص 204)(1/173)
وَالْمُرَادُ طُرُوءُ عِدَّةِ الطَّلاَقِ بَعْدَ الإِْحْرَامِ : فَإِذَا أَهَلَّتِ الْمَرْأَةُ بِحَجَّةِ الإِْسْلاَمِ أَوْ حَجَّةِ نَذْرٍ أَوْ نَفْلٍ ، فَطَلَّقَهَا زَوْجُهَا ، فَوَجَبَتْ عَلَيْهَا الْعِدَّةُ ، صَارَتْ مُحْصَرَةً ، وَإِنْ كَانَ لَهَا مَحْرَمٌ ، عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ دُونَ أَنْ تَتَقَيَّدَ بِمَسَافَةِ السَّفَرِ(1)
وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَأَجْرَوْا عَلَى عِدَّةِ الطَّلاَقِ حُكْمَ وَفَاةِ الزَّوْجِ .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ : لَوْ أَحْرَمَتْ بِحَجٍّ أَوْ قِرَانٍ بِإِذْنِهِ أَوْ بِغَيْرِهِ ، ثُمَّ طَلَّقَهَا أَوْ مَاتَ ، وَخَافَتْ فَوْتَهُ لِضِيقِ الْوَقْتِ ، خَرَجَتْ وُجُوبًا وَهِيَ مُعْتَدَّةٌ ؛ لِتَقَدُّمِ الإِْحْرَامِ .
وَإِنْ أَمِنَتِ الْفَوَاتَ لِسَعَةِ الْوَقْتِ جَازَ لَهَا الْخُرُوجُ لِذَلِكَ ، لِمَا فِي تَعَيُّنِ التَّأْخِيرِ مِنْ مَشَقَّةِ مُصَابَرَةِ الإِْحْرَامِ . وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَفَرَّقُوا بَيْنَ عِلَّةِ الطَّلاَقِ الْمَبْتُوتِ وَالرَّجْعِيِّ ، فَلَهَا أَنْ تَخْرُجَ إِلَيْهِ - يَعْنِي الْحَجَّ - فِي عِدَّةِ الطَّلاَقِ الْمَبْتُوتِ ، وَأَمَّا عِدَّةُ الرَّجْعِيَّةِ فَالْمَرْأَةُ فِي الإِْحْصَارِ كَالزَّوْجَةِ .(2)
- - - - - - - - - - - -
__________
(1) - المسلك المتقسط ص 275 ، ورد المحتار 2 / 320 ، والمبسوط 4 / 111 ، وفيه : " لو كانت معتدة لم يكن لها أن تخرج ) .
(2) - ( المغني 3 / 240 - 241 ، ونهاية المحتاج 6 / 220 - 221) .(1/174)
شُرُوطُ صِحَّةِ الْحَجِّ(1):
شُرُوطُ صِحَّةِ الْحَجِّ أُمُورٌ تَتَوَقَّفُ عَلَيْهَا صِحَّةُ الْحَجِّ وَلَيْسَتْ دَاخِلَةً فِيهِ . فَلَوِ اخْتَلَّ شَيْءٌ مِنْهَا كَانَ الْحَجُّ بَاطِلاً ، وَهِيَ :
الشَّرْطُ الأَْوَّلُ: الإِْسْلاَمُ :
يُشْتَرَطُ الإِْسْلاَمُ ،لأَِنَّ الْكَافِرَ لَيْسَ أَهْلاً لِلْعِبَادَةِ وَلاَ تَصِحُّ مِنْهُ ، فَلاَ يَصِحُّ حَجُّ الْكَافِرِ أَصَالَةً وَلاَ نِيَابَةً ، فَإِنْ حَجَّ أَوْ حُجَّ عَنْهُ ثُمَّ أَسْلَمَ ، وَجَبَتْ عَلَيْهِ حَجَّةُ الإِْسْلاَمِ(2).
الشَّرْطُ الثَّانِي : الْعَقْلُ :
يُشْتَرَطُ الْعَقْل، لأَِنَّ الْمَجْنُونَ لَيْسَ أَهْلاً لِلْعِبَادَةِ أَيْضًا وَلاَ تَصِحُّ مِنْهُ . فَلَوْ حَجَّ الْمَجْنُونُ فَحَجُّهُ غَيْرُ صَحِيحٍ ، وَإِذَا أَفَاقَ وَجَبَتْ عَلَيْهِ حَجَّةُ الإِْسْلاَمِ . لَكِنْ يَصِحُّ أَنْ يَحُجَّ عَنِ الْمَجْنُونِ وَلِيُّهُ وَيَقَعُ نَفْلاً .
الشَّرْطُ الثَّالِثُ : الْمِيقَاتُ الزَّمَانِيُّ(3):
ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى لِلْحَجِّ زَمَانًا لاَ يُؤَدَّى فِي غَيْرِهِ ، فِي قَوْله تَعَالَى : { الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ } (سورة البقرة / 197) .
__________
(1) - الموسوعة الفقهية الكويتية - (ج 17 / ص 39) وفتاوى الأزهر - (ج 1 / ص 201) والمنتقى من فتاوى الفوزان - (ج 67 / ص 5) والفقه على المذاهب الأربعة - (ج 1 / ص 1004) والبحر الرائق شرح كنز الدقائق - (ج 6 / ص 382) والخلاصة الفقهية على مذهب السادة المالكية ـ للقروى - (ج 1 / ص 207) وفقه العبادات - مالكي - (ج 1 / ص 336) وفقه العبادات - حنبلي - (ج 1 / ص 21)
(2) - الفقيه المالكي خليل في مختصره ، أوائل الحج .
(3) -الفقه الإسلامي وأدلته - (ج 3 / ص 502) والفقه على المذاهب الأربعة - (ج 4 / ص 126) وشرح أخصر المختصرات لابن جبرين حفظه الله - (ج 60 / ص 4)(1/175)
قَال عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَجَمَاهِيرُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ : {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} قَالَ : شَوَّالُ ، وَذُو الْقِعْدَةِ ، وَعَشْرٌ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ. "(1).
وَوَقَعَ الْخِلاَفُ فِي نَهَارِ يَوْمِ النَّحْرِ ، فَقَال الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ : هُوَ مِنْ أَشْهُرِ الْحَجِّ . وَقَال الشَّافِعِيَّةُ : آخِرُ أَشْهُرِ الْحَجِّ لَيْلَةُ النَّحْرِ ، وَلَيْسَ نَهَارُ يَوْمِ النَّحْرِ مِنْهَا .
وَوَسَّعَ الْمَالِكِيَّةُ فَقَالُوا : آخِرُ أَشْهُرِ الْحَجِّ نِهَايَةُ شَهْرِ ذِي الْحِجَّةِ .
وَامْتِدَادُ الْوَقْتِ بَعْدَ لَيْلَةِ النَّحْرِ إِلَى آخِرِ ذِي الْحِجَّةِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ إِنَّمَا هُوَ بِالنَّظَرِ إِلَى جَوَازِ التَّحَلُّل مِنَ الإِْحْرَامِ وَكَرَاهَةِ الْعُمْرَةِ فَقَطْ(2).
فَلَوْ فَعَل شَيْئًا مِنْ أَعْمَال الْحَجِّ خَارِجَ وَقْتِ الْحَجِّ لاَ يُجْزِيهِ ، فَلَوْ صَامَ الْمُتَمَتِّعُ أَوِ الْقَارِنُ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ قَبْل أَشْهُرِ الْحَجِّ لاَ يَجُوزُ ، وَكَذَا السَّعْيُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ عَقِبَ طَوَافِ الْقُدُومِ لاَ يَقَعُ عَنْ سَعْيِ الْحَجِّ إِلاَّ فِيهَا .
نَعَمْ أَجَازَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ الإِْحْرَامَ بِالْحَجِّ قَبْلَهَا مَعَ الْكَرَاهَةِ عِنْدَهُمْ . ( انْظُرْ مُصْطَلَحَيْ إِحْرَامٌ فِقْرَةُ ، وَأَشْهُرُ الْحَجِّ(3) .
__________
(1) - مصنف ابن أبي شيبة(ج 3 / ص 625)(13804) والأم للشافعي مشكل - (ج 6 / ص 42) ومعرفة السنن والآثار للبيهقي (2808 ) والمستدرك للحاكم (ج 3 / ص 92) برقم (3092) وهو صحيح
(2) - المسلك المتقسط ص 41 ، وشرح الغزي بحاشية الباجوري 1 / 537 ، والمغني 3 / 295 وشرح الزرقاني على مختصر خليل 2 / 249 ، وانظر ما يأتي في طواف الإفاضة .
(3) - قد مرت قبل قليل(1/176)
وَلاَ يَصِحُّ الإِْحْرَامُ بِالْحَجِّ قَبْل وَقْتِهِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ ، فَلَوْ أَحْرَمَ بِهِ فِي غَيْرِ وَقْتِهِ انْعَقَدَ عُمْرَةً عَلَى الصَّحِيحِ عِنْدَهُمْ(1).
أَحْكَامُ الْمِيقَاتِ الزَّمَانِيِّ لِلْحَجِّ(2):
أ - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ(3)وَالْمَالِكِيَّةُ(4)وَالْحَنَابِلَةُ(5)إِلَى أَنَّهُ يَصِحُّ الإِْحْرَامُ بِالْحَجِّ قَبْل أَشْهُرِ الْحَجِّ ، وَيَنْعَقِدُ حَجًّا ، لَكِنْ مَعَ الْكَرَاهَةِ . وَهُوَ قَوْل إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ ، وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ ، وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْهِ ، وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ(6). وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَنْعَقِدُ الإِْحْرَامُ بِالْحَجِّ قَبْل أَشْهُرِهِ ، فَلَوْ أَحْرَمَ بِهِ قَبْل هِلاَل شَوَّالٍ لَمْ يَنْعَقِدْ حَجًّا ، وَانْعَقَدَ عُمْرَةً عَلَى الصَّحِيحِ عِنْدَهُمْ . وَبِهِ قَال عَطَاءٌ وَطَاوُسٌ وَمُجَاهِدٌ وَأَبُو ثَوْرٍ(7).
__________
(1) - انظر رد المحتار 2 / 206 و 207 وشرح المحلي 2 / 91 ، وحاشية العدوي 1 / 457
(2) - الموسوعة الفقهية الكويتية - (ج 2 / ص 143)
(3) - الهداية 2 / 221 ، ورد المحتار 2 / 206 ، 207 والمسلك المتقسط ص 54
(4) - شرح الزرقاني 2 / 249 ، والشرح الكبير بحاشيته 2 / 22 ، وحاشية العدوي 1 / 457
(5) - المغني 3 / 271 ، ومطالب أولي النهى 2 / 301
(6) - المغني المرضع السابق وتفسير ابن كثير 1 / 235 ط عيسى الحلبي ، وفيه ذكر الليث بن سعد .
(7) - المجموع 7 / 130(1/177)
وَالأَْصْل فِي الْمَسْأَلَةِ قَوْله تَعَالَى { الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ } وَقَدْ تَنَازَعَ الْفَرِيقَانِ الاِسْتِدْلاَل بِهَا ، وَأَيَّدَ كُل فَرِيقٍ وُجْهَتَهُ بِدَلاَئِل أُخْرَى . وَهُوَ خِلاَفٌ وَقَعَ بَيْنَ أَهْل الْعَرَبِيَّةِ أَيْضًا(1). اسْتَدَل الثَّلاَثَةُ بِأَنَّ مَعْنَى الآْيَةِ : الْحَجُّ ( حَجٌّ ) أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ ، فَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَكُونُ الإِْحْرَامُ بِالْحَجِّ فِيهَا أَكْمَل مِنَ الإِْحْرَامِ بِهِ فِيمَا عَدَاهَا ، وَإِنْ كَانَ ذَاكَ صَحِيحًا(2)؛ وَلأَِنَّهُ أَحَدُ نُسُكَيِ الْقِرَانِ فَجَازَ الإِْحْرَامُ بِهِ فِي جَمِيعِ السَّنَةِ كَالْعُمْرَةِ ، أَوْ : أَحَدِ الْمِيقَاتَيْنِ ، فَصَحَّ الإِْحْرَامُ قَبْلَهُ ، كَمِيقَاتِ الْمَكَانِ(3).
وَوَجَّهَ الْحَنَفِيَّةُ الْمَسْأَلَةَ بِنَاءً عَلَى مَذْهَبِهِمْ بِأَنَّهُ شَرْطٌ عِنْدَهُمْ ، فَأَشْبَهَ الطَّهَارَةَ فِي جَوَازِ التَّقْدِيمِ عَلَى الْوَقْتِ ، وَثَبَتَتِ الْكَرَاهَةُ لِشَبَهِهِ بِالرُّكْنِ(4). وَاسْتَدَل الشَّافِعِيَّةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ } (سورة البقرة 197)
__________
(1) - كما ذكر ابن كثير في تفسيره 1 / 235 ط عيسى الحلبي ومنه نسوق توجيه الآية لكل فريق .
(2) - الشرح الكبير بحاشيته الموضع السابق .
(3) - المغني 3 / 271
(4) - فتح القدير 2 / 221(1/178)
وَوَجْهُ الاِسْتِدْلاَل أَنَّ ظَاهِرَهُ التَّقْدِيرُ الآْخَرُ الَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ النُّحَاةُ ، وَهُوَ ( وَقْتُ الْحَجِّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ ) فَخَصَّصَهُ بِهَا مِنْ بَيْنِ سَائِرِ شُهُورِ السَّنَةِ ، فَدَل عَلَى أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ قَبْلَهَا ، كَمِيقَاتِ الصَّلاَةِ . وَاسْتَدَلُّوا مِنَ الْمَعْقُول : بِأَنَّ الإِْحْرَامَ نُسُكٌ مِنْ مَنَاسِكِ الْحَجِّ ، فَكَانَ مُؤَقَّتًا ، كَالْوُقُوفِ وَالطَّوَافِ(1).
اتَّفَقُوا بَعْدَ هَذَا عَلَى أَنَّهُ لَوْ فَعَل أَيَّ شَيْءٍ مِنْ أَفْعَال الْحَجِّ قَبْل أَشْهُرِ الْحَجِّ لَمْ يُجْزِهِ ، حَتَّى لَوْ صَامَ الْمُتَمَتِّعُ أَوِ الْقَارِنُ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ قَبْل أَشْهُرِ الْحَجِّ لاَ يَجُوزُ ، وَكَذَا السَّعْيُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ عَقِبَ طَوَافِ الْقُدُومِ لاَ يَقَعُ عَنْ سَعْيِ الْحَجِّ إِلاَّ فِيهَا .
تَحْدِيدُ الْفُقَهَاءِ لأَِشْهُرِ الْحَجِّ(2):
__________
(1) - المهذب 7 / 124 ، 125
(2) - الموسوعة الفقهية الكويتية - (ج 5 / ص 49)(1/179)
جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ أَشْهُرَ الْحَجِّ هِيَ : شَوَّالٌ ، وَذُو الْقَعْدَةِ ، وَعَشْرٌ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ ، لأَِنَّ قَوْله تَعَالَى : { الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ } ( سورة البقرة / 197 ) مَقْصُودٌ بِهِ وَقْتُ الإِْحْرَامِ بِالْحَجِّ ، لأَِنَّ الْحَجَّ لاَ يَحْتَاجُ إِلَى أَشْهُرٍ ، فَدَل عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ وَقْتَ الإِْحْرَامِ . وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ الْعَبَادِلَةِ الأَْرْبَعَةِ : ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَابْنِ عُمَرَ ، وَابْنِ عَمْرٍو ، وَابْنِ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ . وَلأَِنَّ الْحَجَّ يَفُوتُ بِمُضِيِّ عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ ، وَمَعَ بَقَاءِ الْوَقْتِ لاَ يَتَحَقَّقُ الْفَوَاتُ ، وَهَذَا يَدُل عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الآْيَةِ شَهْرَانِ وَبَعْضُ الثَّالِثِ لاَ كُلُّهُ ، لأَِنَّ بَعْضَ الشَّهْرِ يَتَنَزَّل مَنْزِلَةَ كُلِّهِ(1).
وَهَذَا التَّحْدِيدُ يَدْخُل فِيهِ يَوْمُ النَّحْرِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَالْحَنَفِيَّةِ غَيْرِ أَبِي يُوسُفَ . وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَأَبِي يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ لَيْسَ مِنْهَا يَوْمُ النَّحْرِ ، بَل عَلَى وَجْهٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لاَ تَدْخُل لَيْلَةُ النَّحْرِ كَذَلِكَ ، لأَِنَّ اللَّيَالِيَ تَبَعٌ لِلأَْيَّامِ ، وَيَوْمُ النَّحْرِ لاَ يَصِحُّ فِيهِ الإِْحْرَامُ ، فَكَذَا لَيْلَتُهُ .
__________
(1) - تفسير القرطبي 2 / 405 .(1/180)
وَالْمَالِكِيَّةُ - وَإِنْ كَانُوا يَقُولُونَ إِنَّ أَشْهُرَ الْحَجِّ هِيَ شَوَّالٌ وَذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ - إِلاَّ أَنَّ مُرَادَهُمْ بِذَلِكَ أَنَّ وَقْتَ الإِْحْرَامِ يَبْدَأُ مِنْ شَوَّالٍ إِلَى فَجْرِ يَوْمِ النَّحْرِ ، أَمَّا الإِْحْلاَل مِنَ الْحَجِّ فَيَمْتَدُّ إِلَى آخِرِ ذِي الْحِجَّةِ .(1)
الشَّرْطُ الرَّابِعُ : الْمِيقَاتُ الْمَكَانِيُّ :
هُنَاكَ أَمَاكِنُ وَقَّتَهَا الشَّارِعُ أَيْ حَدَّدَهَا(2)لأَِدَاءِ أَرْكَانِ الْحَجِّ ، لاَ تَصِحُّ فِي غَيْرِهَا . فَالْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ ، مَكَانُهُ أَرْضُ عَرَفَةَ . وَالطَّوَافُ بِالْكَعْبَةِ ، مَكَانُهُ حَوْل الْكَعْبَةِ ،وَالسَّعْيُ ، مَكَانُهُ الْمَسَافَةُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ.
الْمِيقَاتُ الْمَكَانِيُّ لِلإِْحْرَامِ بِالْحَجِّ :
يَخْتَلِفُ الْمِيقَاتُ الْمَكَانِيُّ لِلإِْحْرَامِ بِالْحَجِّ بِاخْتِلاَفِ مَوَاقِعِ النَّاسِ ، فَإِنَّهُمْ فِي حَقِّ الْمَوَاقِيتِ الْمَكَانِيَّةِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَصْنَافٍ ، وَهِيَ : الصِّنْفُ الأَْوَّل : الآْفَاقِيُّ .
__________
(1) - ابن عابدين 2 / 154 ط بولاق ثالثة ، والهداية 1 / 159 ط المكتبة الإسلامية ، وشرح منتهى الإرادات 2 / 11 ط دار الفكر ، ومغني المحتاج 1 / 471 ط مصطفى الحلبي ، والمهذب 1 / 207 ط دار المعرفة بيروت ، وجواهر الإكليل 1 / 168 ط دار المعرفة بيروت وانظر تفسير الطبري 4 / 120 - 121 وابن كثير 1 / 236 .
(2) - التوقيت لغة : " أن يجعل للشيء وقت يختص به ، ثم اتسع فيه فأطلق على المكان . . . . " النهاية 4 / 238 ، والقاموس وشرحه تاج العروس مادة : ( وقت ) .(1/181)
الصِّنْفُ الثَّانِي : الْمِيقَاتِيُّ . الصِّنْفُ الثَّالِثُ : الْحَرَمِيُّ . الصِّنْفُ الرَّابِعُ : الْمَكِّيُّ ، وَيَشْتَرِكُ مَعَ الْحَرَمِيِّ فِي أَكْثَرِ مِنْ وَجْهٍ ، فَيَكُونَانِ مَسْأَلَةً وَاحِدَةً . ثُمَّ صِنْفٌ خَامِسٌ : هُوَ مَنْ تَغَيَّرَ مَكَانُهُ ، مَا مِيقَاتُهُ ؟ .
مِيقَاتُ الآْفَاقِيِّ : وَهُوَ مَنْ مَنْزِلُهُ خَارِجَ مِنْطَقَةِ الْمَوَاقِيتِ .
اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى تَقْرِيرِ الأَْمَاكِنِ الآْتِيَةِ مَوَاقِيتَ لأَِهْل الآْفَاقِ الْمُقَابِلَةِ لَهَا ، وَهَذِهِ الأَْمَاكِنُ هِيَ :
أ - ذُو الْحُلَيْفَةِ : مِيقَاتُ أَهْل الْمَدِينَةِ ، وَمَنْ مَرَّ بِهَا مِنْ غَيْرِ أَهْلِهَا . وَتُسَمَّى الآْنَ " آبَارُ عَلِيٍّ " فِيمَا اشْتُهِرَ لَدَى الْعَامَّةِ(1).
ب - الْجُحْفَةُ : مِيقَاتُ أَهْل الشَّامِ ، وَمَنْ جَاءَ مِنْ قِبَلِهَا مِنْ مِصْرَ ، وَالْمَغْرِبِ . وَيُحْرِمُ الْحُجَّاجُ مِنْ " رَابِغٍ " ، وَتَقَعُ قَبْل الْجُحْفَةِ ، إِلَى جِهَةِ الْبَحْرِ ، فَالْمُحْرِمُ مِنْ " رَابِغٍ " مُحْرِمٌ قَبْل الْمِيقَاتِ . وَقَدْ قِيل إِنَّ الإِْحْرَامَ مِنْهَا أَحْوَطُ لِعَدَمِ التَّيَقُّنِ بِمَكَانِ الْجُحْفَةِ .(2)
__________
(1) - ( في قصة خرافية باطلة نسبت لسيدنا علي رضي الله عنه أنه قاتل في بئر فيها الجن . وهو كذب . كما يحذر من أي تقليد يفعل سوى شعائر الإحرام . انظر مواهب الجليل 3 / 30) .
(2) - مجموع الفتاوى - (ج 21 / ص 194) وفتاوى الأزهر - (ج 9 / ص 324) وفتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء - (ج 13 / ص 130) وفتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء - (ج 13 / ص 131) وفتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء - (ج 13 / ص 144) ولقاءات الباب المفتوح - (ج 89 / ص 3) وفتاوى إسلامية - (ج 2 / ص 429) والفقه الإسلامي وأدلته - (ج 3 / ص 454)(1/182)
ج - قَرْنُ الْمَنَازِل : وَيُقَال لَهُ " قَرْنٌ " أَيْضًا ، مِيقَاتُ أَهْل نَجْدٍ ، وَ " قَرْنٌ " جَبَلٌ مُطِلٌّ عَلَى عَرَفَاتِ . وَهُوَ أَقْرَبُ الْمَوَاقِيتِ إِلَى مَكَّةَ ، وَتُسَمَّى الآْنَ " السَّيْلُ الكبيرُ " .
د - يَلَمْلَمُ : مِيقَاتُ بَاقِي أَهْل الْيَمَنِ وَتِهَامَةَ ، وَالْهِنْدِ . وَهُوَ جَبَلٌ مِنْ جِبَال تِهَامَةَ ، جَنُوبِ مَكَّةَ .
هـ - ذَاتُ عِرْقٍ : مِيقَاتُ أَهْل الْعِرَاقِ ، وَسَائِرِ أَهْل الْمَشْرِقِ .
أَدِلَّةُ تَحْدِيدِ مَوَاقِيتِ الآْفَاقِ :
وَالدَّلِيل عَلَى تَحْدِيدِهَا مَوَاقِيتَ لِلإِْحْرَامِ السُّنَّةُ وَالإِْجْمَاعُ :
أ - أَمَّا السُّنَّةُ فَأَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ نَذْكُرُ مِنْهَا هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ : حَدِيثَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ إِنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - وَقَّتَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ ذَا الْحُلَيْفَةِ ، وَلأَهْلِ الشَّأْمِ الْجُحْفَةَ ، وَلأَهْلِ نَجْدٍ قَرْنَ الْمَنَازِلِ ، وَلأَهْلِ الْيَمَنِ يَلَمْلَمَ ، هُنَّ لَهُنَّ وَلِمَنْ أَتَى عَلَيْهِنَّ مِنْ غَيْرِهِنَّ ، مِمَّنْ أَرَادَ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ ، وَمَنْ كَانَ دُونَ ذَلِكَ فَمِنْ حَيْثُ أَنْشَأَ ، حَتَّى أَهْلُ مَكَّةَ مِنْ مَكَّةَ .. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ(1).
__________
(1) - صحيح البخارى برقم (1524 ) ومسلم برقم (2861 )(1/183)
وَحَدِيثَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ . أَنَّ رَجُلاً قَامَ فِى الْمَسْجِدِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، مِنْ أَيْنَ تَأْمُرُنَا أَنْ نُهِلَّ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - " يُهِلُّ أَهْلُ الْمَدِينَةِ مِنْ ذِى الْحُلَيْفَةِ ، وَيُهِلُّ أَهْلُ الشَّأْمِ مِنَ الْجُحْفَةِ ، وَيُهِلُّ أَهْلُ نَجْدٍ مِنْ قَرْنٍ " . وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ وَيَزْعُمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ " وَيُهِلُّ أَهْلُ الْيَمَنِ مِنْ يَلَمْلَمَ " . وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ لَمْ أَفْقَهْ هَذِهِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ(1)
فَهَذِهِ نُصُوصٌ فِي الْمَوَاقِيتِ عَدَا ذَاتِ عِرْقٍ .
وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي دَلِيل تَوْقِيتِ ذَاتِ عِرْقٍ هَل وُقِّتَ بِالنَّصِّ أَمْ بِالاِجْتِهَادِ وَالإِْجْمَاعِ . فَقَال جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ وَمِنْهُمُ الشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ ثَبَتَ بِاجْتِهَادِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَقَرَّهُ الصَّحَابَةُ ، فَكَانَ إِجْمَاعًا . وَصَحَّحَ الْحَنَفِيَّةُ(2)وَالْحَنَابِلَةُ(3)وَجُمْهُورُ الشَّافِعِيَّةِ(4)أَنَّ تَوْقِيتَ ذَاتِ عِرْقٍ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ مِنَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَأَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمْ يَبْلُغْهُ تَحْدِيدُ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَحَدَّدَهُ بِاجْتِهَادِهِ فَوَافَقَ النَّصَّ .
__________
(1) - صحيح البخارى برقم (133 ) ومسلم برقم (2862 )
(2) - فإنهم أثبتوا ذات عرق استنادا للحديث . انظر المبسوط 4 / 166 ، والهداية 2 / 131 ، ورد المحتار 2 / 207 وفيه تحسين الحديث نقلا عن النهر .
(3) - حتى صرح في غاية المنتهى وشرحه 2 / 296 : " وهذه المواقيت ثبتت كلها بالنص لا باجتهاد عمر " .
(4) - كما ذكر النووي في المجموع 7 / 194 وأنه قول للشافعي ص 195(1/184)
ب - وَأَمَّا دَلاَلَةُ الإِْجْمَاعِ عَلَى هَذِهِ الْمَوَاقِيتِ فَقَال النَّوَوِيُّ فِي الْمَجْمُوعِ(1): " قَال ابْنُ الْمُنْذِرِ وَغَيْرُهُ : أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى هَذِهِ الْمَوَاقِيتِ " . وَقَال أَبُو عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْبَرِّ : " أَجْمَعَ أَهْل الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ إِحْرَامَ الْعِرَاقِيِّ مِنْ ذَاتِ عِرْقٍ إِحْرَامٌ مِنَ الْمِيقَاتِ(2)" .
أَحْكَامٌ تَتَعَلَّقُ بِالْمَوَاقِيتِ
مِنْهَا :
أ - وُجُوبُ الإِْحْرَامِ مِنْهَا لِمَنْ مَرَّ بِالْمِيقَاتِ قَاصِدًا أَحَدَ النُّسُكَيْنِ ، الْحَجَّ أَوِ الْعُمْرَةَ ، وَتَحْرِيمُ تَأْخِيرِ الإِْحْرَامِ عَنْهَا بِالإِْجْمَاعِ(3). وَالإِْحْرَامُ مِنْ أَوَّل الْمِيقَاتِ ، أَيِ الطَّرَفِ الأَْبْعَدِ مِنْ مَكَّةَ أَفْضَل ، حَتَّى لاَ يَمُرَّ بِشَيْءٍ مِمَّا يُسَمَّى مِيقَاتًا غَيْرَ مُحْرِمٍ . وَلَوْ أَحْرَمَ مِنْ آخِرِهِ أَيِ الطَّرَفِ الأَْقْرَبِ إِلَى مَكَّةَ جَازَ اتِّفَاقًا ، لِحُصُول الاِسْمِ .
ب - مَنْ مَرَّ بِالْمَوَاقِيتِ يُرِيدُ دُخُول الْحَرَمِ لِحَاجَةٍ غَيْرِ النُّسُكِ اخْتُلِفَ فِيهِ : ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الإِْحْرَامُ لِدُخُول مَكَّةَ أَوِ الْحَرَمِ الْمُعَظَّمِ الْمُحِيطِ بِهَا ، وَعَلَيْهِ الْعُمْرَةُ إِنْ لَمْ يَكُنْ مُحْرِمًا بِالْحَجِّ .
__________
(1) - المجموع شرح المهذب - (ج 7 / ص 196)
(2) - المغني 3 / 257 والشرح الكبير لابن قدامة - (ج 3 / ص 207) ومنار السبيل شرح الدليل - (ج 1 / ص 162) والعدة شرح العمدة - (ج 1 / ص 161)
(3) - نص على الإجماع في المجموع 7 / 206 ، والمسلك المتقسط ص 55 ، واتفاق العلماء على هذا الحكم ظاهر في عبارات المراجع(1/185)
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا قَصَدَ مَكَّةَ أَوْ مِنْطَقَةَ الْحَرَمِ لِحَاجَةٍ لاَ لِلنُّسُكِ جَازَ لَهُ أَلاَّ يُحْرِمَ . ( انْظُرِ الأَْدِلَّةَ وَفُرُوعَ الْمَسْأَلَةِ فِي مُصْطَلَحِ " حَرَمٌ ")(1).
- - - - - - - - - - - - -
دُخُول الْحَرَمِ الْمَكِّيِّ
أ - الدُّخُول بِقَصْدِ الْحَجِّ أَوِ الْعُمْرَةِ :
اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مَنْ أَرَادَ دُخُول الْحَرَمِ بِقَصْدِ الْحَجِّ أَوِ الْعُمْرَةِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُحْرِمَ مِنَ الْمَوَاقِيتِ الْمُحَدَّدَةِ أَوْ قَبْلَهَا . وَمَنْ جَاوَزَ الْمِيقَاتَ بِغَيْرِ إِحْرَامٍ فَعَلَيْهِ أَنْ يَعُودَ إِلَيْهِ وَيُحْرِمَ مِنْهُ . فَإِِنْ لَمْ يَرْجِعْ فَعَلَيْهِ دَمٌ سَوَاءٌ أَتَرَكَ الْعَوْدَ بِعُذْرٍ أَمْ بِغَيْرِ عُذْرٍ ، عَامِدًا كَانَ أَمْ نَاسِيًا . إِلاَّ أَنَّهُ إِذَا خَافَ فَوَاتَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ لِضِيقِ الْوَقْتِ أَوِ الْمَرَضِ الشَّاقِّ فَيُحْرِمُ مِنْ مَكَانِهِ وَعَلَيْهِ الدَّمُ(2)
ب - الدُّخُول لأَِغْرَاضٍ أُخْرَى :
يَجُوزُ لِمَنْ كَانَ دَاخِل الْمَوَاقِيتِ ( بَيْنَ الْمِيقَاتِ وَالْحَرَمِ ) أَنْ يَدْخُل الْحَرَمَ بِغَيْرِ إِحْرَامٍ لِحَاجَتِهِ ، لأَِنَّهُ يَتَكَرَّرُ دُخُولُهُ لِحَوَائِجِهِ فَيُحْرَجُ فِي ذَلِكَ ، وَالْحَرَجُ مَرْفُوعٌ ، فَصَارَ كَالْمَكِّيِّ إِذَا خَرَجَ ثُمَّ دَخَل ، بِخِلاَفِ مَا إِذَا دَخَل لِلْحَجِّ لأَِنَّهُ لاَ يَتَكَرَّرُ ، فَإِِنَّهُ لاَ يَكُونُ فِي السَّنَةِ إِلاَّ مَرَّةً . وَكَذَا لأَِدَاءِ الْعُمْرَةِ لأَِنَّهُ الْتَزَمَهَا لِنَفْسِهِ .
__________
(1) - الموسوعة الفقهية الكويتية - (ج 17 / ص 186)
(2) - (1) ابن عابدين 2 / 139 ، وجواهر الإكليل 1 / 170 ، ومغني المحتاج 1 / 474 ، والمغني 3 / 268(1/186)
كَمَا يَجُوزُ لِمَنْ يَخْرُجُ مِنَ الْحَرَمِ إِِلَى الْحِل ( دَاخِل الْمَوَاقِيتِ ) أَنْ يَدْخُل الْحَرَمَ بِغَيْرِ إِحْرَامٍ ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْل الْحَرَمِ ، كَالآْفَاقِيِّ الْمُفْرِدِ بِالْعُمْرَةِ ، وَالْمُتَمَتِّعِ ، وَهَذَا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ .
كَذَلِكَ يَجُوزُ دُخُول الْحَرَمِ لِقِتَالٍ مُبَاحٍ أَوْ خَوْفٍ مِنْ ظَالِمٍ أَوْ لِحَاجَةٍ مُتَكَرِّرَةٍ كَالْحَطَّابِينَ وَالصَّيَّادِينَ وَنَحْوِهِمَا بِغَيْرِ إِحْرَامٍ ، لأَِنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - دَخَل مَكَّةَ يَوْمَ الْفَتْحِ بِغَيْرِ إِحْرَامٍ(1)، وَفِي وُجُوبِ الإِِْحْرَامِ عَلَى مَنْ تَتَكَرَّرُ حَاجَتُهُ مَشَقَّةٌ .(2)
__________
(1) - لحديث جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الأَنْصَارِىِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- دَخَلَ مَكَّةَ - وَقَالَ قُتَيْبَةُ دَخَلَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ - وَعَلَيْهِ عِمَامَةٌ سَوْدَاءُ بِغَيْرِ إِحْرَامٍ. صحيح مسلم (3375 )
(2) - الاختيار 1 / 141 ، 142 ، ابن عابدين 2 / 155 ، والمجموع 7 / 10 وما بعدها والشرح الصغير 2 / 23 - 25 ، وكشاف القناع 2 / 402 ، 403 و الفقه الإسلامي وأدلته - (ج 3 / ص 456)(1/187)
أَمَّا الآْفَاقِيُّ(1)وَمَنْ فِي حُكْمِهِ - غَيْرُ مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ - مِمَّنْ يَمُرُّونَ عَلَى الْمَوَاقِيتِ إِذَا أَرَادُوا دُخُول الْحَرَمِ لِحَاجَةٍ أُخْرَى غَيْرِ النُّسُكِ فَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ ( الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ ) يَرَوْنَ وُجُوبَ الإِِْحْرَامِ عَلَيْهِمْ بِأَحَدِ النُّسُكَيْنِ ، وَلاَ يَجُوزُ لَهُمْ مُجَاوَزَةُ الْمِيقَاتِ بِغَيْرِ إِحْرَامٍ
وَفِي قَوْلٍ آخَرَ لِلشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَهُمْ : أَنَّهُ يَجُوزُ دُخُول الْحَرَمِ لِلآْفَاقِيِّ أَيْضًا بِغَيْرِ إِحْرَامٍ لَكِنَّهُ يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يُحْرِمَ(2).
وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ ، وَتَفْصِيلُهُ كَالتَّالِي :
قَال الْحَنَفِيَّةُ : الآْفَاقِيُّ إِذَا أَرَادَ دُخُول الْحَرَمِ بِغَيْرِ النُّسُكِ كَمُجَرَّدِ الرُّؤْيَةِ أَوِ النُّزْهَةِ أَوِ التِّجَارَةِ لاَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَجَاوَزَ الْمِيقَاتَ إِلاَّ مُحْرِمًا ، لأَِنَّ فَائِدَةَ التَّأْقِيتِ هَذَا ، لأَِنَّهُ يَجُوزُ تَقْدِيمُ الإِِْحْرَامِ عَلَى الْمَوَاقِيتِ لِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:لا تَجَوَّزُوا الْوَقْتَ إِلا بإِحرامٍ.(3)
__________
(1) - القياس أن ينسب إلى المفرد فـ " أفقي " ونسب إلى المفرد أيضا بفتحتين على غير قياس فقيل أفقي ، وكثر في كلام الفقهاء النسبة إلى الجمع فقالوا " آفاقي " ( انظر المصباح المنير والمراجع المذكورة أدناه ) .
(2) - الاختيار 1 / 141 ، وابن عابدين 2 / 154 ، والشرح الصغير 2 / 24 ، ومغني المحتاج 1 / 474 ، وكشاف القناع 2 / 402 .
(3) - المعجم الكبير للطبراني - (ج 10 / ص 128)(12070 ) وهو حسن(1/188)
فَإِِنْ جَاوَزَهَا الآْفَاقِيُّ بِغَيْرِ إِحْرَامٍ فَعَلَيْهِ شَاةٌ . فَإِِنْ عَادَ فَأَحْرَمَ مِنْهُ سَقَطَ الدَّمُ .
أَمَّا لَوْ قَصَدَ مَوْضِعًا مِنَ الْحِل ، كَخَلِيصٍ وَجُدَّةَ حَل لَهُ مُجَاوَزَتُهُ بِلاَ إِحْرَامٍ . فَإِِذَا حَل بِهِ الْتَحَقَ بِأَهْلِهِ فَلَهُ دُخُول الْحَرَمِ بِلاَ إِحْرَامٍ . قَالُوا : وَهُوَ الْحِيلَةُ لِمُرِيدِ ذَلِكَ بِقَصْدٍ أَوْلَى ، كَمَا إِذَا كَانَ قَصْدُهُ لِجَدَّةٍ مَثَلاً لِبَيْعٍ أَوْ شِرَاءٍ ، وَإِِذَا فَرَغَ مِنْهُ يَدْخُل مَكَّةَ ثَانِيًا ، إِذْ لَوْ كَانَ قَصْدُهُ الأَْوَّلِيُّ دُخُول مَكَّةَ وَمِنْ ضَرُورَتِهِ أَنْ يَمُرَّ بِالْحِل فَلاَ يَحِل لَهُ تَجَاوُزُ الْمِيقَاتِ بِدُونِ إِحْرَامٍ(1).
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ : إِنَّ كُل مُكَلَّفٍ حُرٍّ أَرَادَ دُخُول مَكَّةَ فَلاَ يَدْخُلُهَا إِلاَّ بِإِِحْرَامٍ بِأَحَدِ النُّسُكَيْنِ وُجُوبًا ، وَلاَ يَجُوزُ لَهُ تَعَدِّي الْمِيقَاتِ بِلاَ إِحْرَامٍ ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُتَرَدِّدِينَ أَوْ يَعُودُ إِِلَى مَكَّةَ بَعْدَ خُرُوجِهِ مِنْهَا مِنْ مَكَان قَرِيبٍ ( أَيْ دُونَ مَسَافَةِ الْقَصْرِ ) لَمْ يَمْكُثْ فِيهِ كَثِيرًا فَلاَ يَجِبُ عَلَيْهِ ، وَكَذَلِكَ لاَ يَجِبُ عَلَى غَيْرِ الْمُكَلَّفِ كَصَبِيٍّ وَمَجْنُونٍ(2).
__________
(1) - الاختيار 1 / 141 ، وابن عابدين 2 / 154 و فقه العبادات - حنفي - (ج 1 / ص 176) .
(2) - الشرح الصغير 2 / 24 . و حاشية الصاوي على الشرح الصغير - (ج 3 / ص 369) والخلاصة الفقهية على مذهب السادة المالكية ـ للقروى - (ج 1 / ص 210) وموسوعة الفقه الإسلامي - (ج 1 / ص 66)(1/189)
وَقَال الْحَنَابِلَةُ : لاَ يَجُوزُ لِمَنْ أَرَادَ دُخُول مَكَّةَ أَوِ الْحَرَمَ أَوْ أَرَادَ نُسُكًا تَجَاوُزُ الْمِيقَاتِ . . إِلاَّ لِقِتَالٍ مُبَاحٍ لِدُخُولِهِ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ وَعَلَى رَأْسِهِ الْمِغْفَرُ(1). أَوْ لِخَوْفٍ ، أَوْ حَاجَةٍ مُتَكَرِّرَةٍ كَحَطَّابٍ ، وَنَاقِل الْمِيرَةِ ، وَلِصَيْدٍ ، وَاحْتِشَاشٍ ، وَنَحْوِ ذَلِكَ ، وَمَكِّيٍّ يَتَرَدَّدُ إِِلَى قَرْيَتِهِ بِالْحِل(2).
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ - كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ النَّوَوِيُّ - : إِنَّ مَنْ أَرَادَ دُخُول مَكَّةَ لِحَاجَةٍ لاَ تَتَكَرَّرُ كَزِيَارَةٍ ، أَوْ تِجَارَةٍ ، أَوْ رِسَالَةٍ ، أَوْ كَانَ مَكِّيًّا عَائِدًا مِنْ سَفَرِهِ يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يُحْرِمَ . وَفِي قَوْلٍ : يَجِبُ عَلَيْهِ الإِِْحْرَامُ . وَعَلَى كُلٍّ فَقَدْ نَصُّوا أَنَّهُ لَوْ جَاوَزَ الْمِيقَاتَ بِغَيْرِ إِحْرَامٍ ثُمَّ أَرَادَ النُّسُكَ فَمِيقَاتُهُ مَوْضِعُهُ وَلاَ يُكَلَّفُ الْعَوْدَ إِِلَى الْمِيقَاتِ(3).
دُخُول الْكَافِرِ لِلْحَرَمِ :
__________
(1) - لحديث البخارى (1846 ) عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رضى الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - دَخَلَ عَامَ الْفَتْحِ ، وَعَلَى رَأْسِهِ الْمِغْفَرُ ، فَلَمَّا نَزَعَهُ جَاءَ رَجُلٌ ، فَقَالَ إِنَّ ابْنَ خَطَلٍ مُتَعَلِّقٌ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ . فَقَالَ « اقْتُلُوهُ » . = المغفر : ما يلبسه المقاتل على رأسه
(2) - كشاف القناع 2 / 402 ، 403 و كشاف القناع عن متن الإقناع - (ج 6 / ص 365) والإقناع - (ج 1 / ص 347).
(3) - المجموع 7 / 10 - 12 ، ومغني المحتاج 1 / 474 .(1/190)
اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لِغَيْرِ الْمُسْلِمِ السُّكْنَى وَالإِِْقَامَةُ فِي الْحَرَمِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ إِن شَاء إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (28) سورة التوبة
وَالْمُرَادُ بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الْحَرَمُ بِدَلِيل قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بَعْدَهُ : { وَإِِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ } أَيْ إِنْ خِفْتُمْ فَقْرًا وَضَرَرًا بِمَنْعِهِمْ مِنَ الْحَرَمِ وَانْقِطَاعِ مَا كَانَ يَحْصُل لَكُمْ بِمَا يَجْلِبُونَهُ إِلَيْكُمْ مِنَ الْمَكَاسِبِ فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْجَلَبَ إِنَّمَا يُجْلَبُ إِِلَى الْبَلَدِ وَالْحَرَمِ ، لاَ إِِلَى الْمَسْجِدِ نَفْسِهِ .
وَالْمَعْنَى فِي ذَلِكَ أَنَّهُمْ أَخْرَجُوا النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - مِنْهُ ، فَعُوقِبُوا بِالْمَنْعِ مِنْ دُخُولِهِ بِكُل حَالٍ(1).
__________
(1) - تفسير الأحكام للجصاص 3 / 88 ، وتفسير القرطبي 8 / 104 ، والزرقاني 3 / 142 ، والحطاب 3 / 381 ، والجمل 5 / 215 ، والمغني 8 / 529 - 531 .(1/191)
وَاخْتَلَفُوا فِي اجْتِيَازِ الْكَافِرِ الْحَرَمَ بِصِفَةٍ مُؤَقَّتَةٍ ، فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ : إِِلَى مَنْعِ دُخُول الْكُفَّارِ إِِلَى الْحَرَمِ مُطْلَقًا ، لِعُمُومِ الآْيَةِ . فَإِِنْ أَرَادَ كَافِرٌ الدُّخُول إِِلَى الْحَرَمِ مُنِعَ مِنْهُ . فَإِِنْ كَانَتْ مَعَهُ مِيرَةٌ أَوْ تِجَارَةٌ خَرَجَ إِلَيْهِ مَنْ يَشْتَرِي مِنْهُ وَلَمْ يُتْرَكْ هُوَ يَدْخُل . وَإِِنْ كَانَ رَسُولاً إِِلَى إِمَامٍ بِالْحَرَمِ خَرَجَ إِلَيْهِ مَنْ يَسْمَعُ رِسَالَتَهُ وَيُبَلِّغُهَا إِيَّاهُ . فَإِِنْ قَال : لاَ بُدَّ لِي مِنْ لِقَاءِ الإِِْمَامِ وَكَانَتِ الْمَصْلَحَةُ فِي ذَلِكَ خَرَجَ إِلَيْهِ الإِِْمَامُ ، وَلَمْ يَأْذَنْ لَهُ بِالدُّخُول .
وَإِِذَا أَرَادَ مُشْرِكٌ دُخُول الْحَرَمِ لِيُسْلِمَ فِيهِ مُنِعَ مِنْهُ حَتَّى يُسْلِمَ قَبْلَهُ(1).
قَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ : وَإِِذَا دَخَل الْمُشْرِكُ الْحَرَمَ بِغَيْرِ إِذْنٍ عُزِّرَ وَلَمْ يُسْتَبَحْ بِهِ قَتْلُهُ ، وَإِِنْ دَخَلَهُ بِإِِذْنٍ لَمْ يُعَزَّرْ وَيُنْكَرُ عَلَى مَنْ أَذِنَ لَهُ(2).
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ : لاَ يُمْنَعُ الذِّمِّيُّ مِنْ دُخُول الْحَرَمِ ، وَلاَ يَتَوَقَّفُ جَوَازُ دُخُولِهِ عَلَى إِذْنِ مُسْلِمٍ وَلَوْ كَانَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ(3).
__________
(1) - المراجع السابقة ، والأحكام السلطانية للماوردي ص 167 ، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 195 .
(2) - الأحكام السلطانية للماوردي ص 167 ، ولأبي يعلى ص 195 .
(3) - الأشباه والنظائر لابن نجيم ص 369 ، وتفسير الجصاص 3 / 88 .(1/192)
يَقُول الْجَصَّاصُ فِي تَفْسِيرِ قَوْله تَعَالَى : { إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ ( سورة التوبة / 28 .) } : يَجُوزُ لِلذِّمِّيِّ دُخُول سَائِرِ الْمَسَاجِدِ ، وَإِِنَّمَا مَعْنَى الآْيَةِ عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ النَّهْيُ خَاصًّا فِي الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ كَانُوا مَمْنُوعِينَ مِنْ دُخُول مَكَّةَ وَسَائِرِ الْمَسَاجِدِ ، لأَِنَّهُمْ لَمْ تَكُنْ لَهُمْ ذِمَّةٌ ، وَكَانَ لاَ يُقْبَل مِنْهُمُ إِلاَّ الإِِْسْلاَمُ أَوِ السَّيْفُ وَهُمْ مُشْرِكُو الْعَرَبِ . أَوْ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مَنْعُهُمْ مِنْ دُخُول مَكَّةَ لِلْحَجِّ ، وَيَدُل عَلَى ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى : { وَإِِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً ( سورة التوبة / 28 .) } الآْيَةَ ، وَإِِنَّمَا كَانَتْ خَشْيَةُ الْعَيْلَةِ لاِنْقِطَاعِ تِلْكَ الْمَوَاسِمِ بِمَنْعِهِمْ مِنَ الْحَجِّ ، لأَِنَّهُمْ كَانُوا يَنْتَفِعُونَ بِالتِّجَارَاتِ الَّتِي كَانَتْ فِي مَوَاسِمِ الْحَجِّ(1).
مَرَضُ الْكَافِرِ فِي الْحَرَمِ وَمَوْتُهُ :
تَقَدَّمَ أَنَّ الْكَافِرَ لاَ يَجُوزُ لَهُ الدُّخُول إِِلَى الْحَرَمِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ . فَلَوْ دَخَل مَسْتُورًا وَمَرِضَ أُخْرِجَ إِِلَى الْحِل . وَإِِذَا مَاتَ فِي الْحَرَمِ حَرُمَ دَفْنُهُ فِيهِ ، فَإِِنْ دُفِنَ نُبِشَ قَبْرُهُ وَنُقِل إِِلَى الْحِل ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ قَدْ بَلِيَ فَيُتْرَكُ كَمَا تُرِكَ أَمْوَاتُ الْجَاهِلِيَّةِ(2).
__________
(1) - تفسير الأحكام للجصاص 3 / 88 .
(2) - تفسير القرطبي 7 / 104 ، والأحكام السلطانية للماوردي ص 167 ، ولأبي يعلى ص 195 ، والمغني 8 / 531 .(1/193)
ج - الاِعْتِبَارُ فِي هَذِهِ الْمَوَاقِيتِ بِتِلْكَ الْمَوَاضِعِ ، لاَ بِاسْمِ الْقَرْيَةِ وَالْبِنَاءِ . فَلَوْ خَرِبَ الْبِنَاءُ فِي الْمِيقَاتِ وَنُقِلَتْ عِمَارَتُهُ إِلَى مَوْضِعٍ آخَرَ قَرِيبٍ مِنْهُ وَسُمِّيَ بِاسْمِ الأَْوَّل لَمْ يَتَغَيَّرِ الْحُكْمُ ، بَل الاِعْتِبَارُ بِمَوْضِعِ الأَْوَّل(1).
- د - لاَ يُشْتَرَطُ أَنْ يُحْرِمَ مِنْ هَذِهِ الْمَوَاقِيتِ بِأَعْيَانِهَا ، بَل يَكْفِي أَنْ يُحْرِمَ مِنْهَا بِذَاتِهَا ، أَوْ مِنْ
حَذْوِهَا ، أَيْ مُحَاذَاتِهَا وَمُقَابَلَتِهَا ، وَذَلِكَ لِمَا سَبَقَ فِي تَوْقِيتِ ذَاتِ عِرْقٍ ، أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَخَذَ فِي تَوْقِيتِهَا بِالْمُحَاذَاةِ ، وَأُقِرَّ عَلَى ذَلِكَ . فَدَل عَلَى اتِّفَاقِ الصَّحَابَةِ عَلَى الأَْخْذِ بِقَاعِدَةِ الْمُحَاذَاةِ
فُرُوعٌ حول المواقيت:
تَفَرَّعَ عَلَى ذَلِكَ :
ا- مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا لَيْسَ فِيهِ مِيقَاتٌ مُعَيَّنٌ ، بَرًّا أَوْ بَحْرًا أَوْ جَوًّا ، اجْتَهَدَ وَأَحْرَمَ إِذَا حَاذَى مِيقَاتًا مِنْ هَذِهِ الْمَوَاقِيتِ الْمَذْكُورَةِ . وَيَنْبَغِي أَنْ يَأْخُذَ بِالاِحْتِيَاطِ لِئَلاَّ يُجَاوِزَ الْمِيقَاتَ غَيْرَ مُحْرِمٍ ، وَخُصُوصًا رَاكِبُ الطَّائِرَةِ .
__________
(1) - المجموع 7 / 195(1/194)
ب-إِنْ لَمْ يَعْلَمِ الْمُحَاذَاةَ(1)فَإِنَّهُ يُحْرِمُ عَلَى مَرْحَلَتَيْنِ مِنْ مَكَّةَ . اعْتِبَارًا بِمَسَافَةِ أَقْرَبِ الْمَوَاقِيتِ ، فَإِنَّهُ عَلَى بُعْدِ مَرْحَلَتَيْنِ مِنْ مَكَّةَ . وَعَلَى ذَلِكَ قَرَّرُوا أَنَّ جَدَّةَ تَدْخُل فِي الْمَوَاقِيتِ ؛ لأَِنَّهَا أَقْرَبُ إِلَى مَكَّةَ مِنْ قَرْنِ الْمَنَازِل(2).(3)
وَتَفَرَّعَ عَلَى ذَلِكَ مَسْأَلَةُ مَنْ يَمُرُّ بِمِيقَاتَيْنِ ، كَالشَّامِيِّ إِذَا قَدِمَ مِنَ الْمَدِينَةِ ، وَالْمَدَنِيِّ ، فَإِنَّهُ إِذَا مَرَّ بِالْجُحْفَةِ يَمُرُّ بِمِيقَاتَيْنِ فَمِنْ أَيِّ الْمِيقَاتَيْنِ يُحْرِمُ ؟ ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ
ج- يُحْرِمَ مِنَ الْمِيقَاتِ الأَْبْعَدِ ، كَأَهْل الشَّامِ وَمِصْرَ وَالْمَغْرِبِ ، مِيقَاتُهُمُ الْجُحْفَةُ ، فَإِذَا مَرُّوا بِالْمَدِينَةِ وَجَبَ عَلَيْهِمُ الإِْحْرَامُ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ مِيقَاتِ أَهْل الْمَدِينَةِ ، وَإِذَا جَاوَزُوهُ غَيْرَ مُحْرِمِينَ حَتَّى الْجُحْفَةِ كَانَ حُكْمُهُمْ حُكْمَ مَنْ جَاوَزَ الْمِيقَاتَ مِنْ غَيْرِ إِحْرَامٍ .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ مَنْ يَمُرُّ بِمِيقَاتَيْنِ الثَّانِي مِنْهُمَا مِيقَاتُهُ نُدِبَ لَهُ الإِْحْرَامُ مِنَ الأَْوَّل ، وَلاَ يَجِبُ عَلَيْهِ الإِْحْرَامُ مِنْهُ ؛ لأَِنَّ مِيقَاتَهُ أَمَامَهُ .
__________
(1) - دار نقاش حول إمكان وجود مكان لا يحاذي ميقاتا ، فعبرنا بهذا ، ولم نشأ الخوض في هذا لأننا لم نجد له فائدة عملية فيما ذكروه .
(2) - ويكون الميقات واصلا إلى البحر ، وكذا إذا نظرنا إلى جدة من حيث المحاذاة فإن محاذاة الجحفة تجعلها داخلة في ضمن المواقيت ، وتكون المواقيت ممتدة إلى عرض البحر .
(3) - فتح الباري 3 / 251 ط المطبعة الخيرية للخشاب 1319 هـ(1/195)
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ مَنْ يَمُرُّ بِمِيقَاتَيْنِ فَالأَْفْضَل لَهُ الإِْحْرَامُ مِنَ الأَْوَّل ، وَيُكْرَهُ لَهُ تَأْخِيرُهُ إِلَى الثَّانِي الأَْقْرَبِ إِلَى مَكَّةَ . وَلَمْ يُقَيِّدُوهُ - فِي الأَْصَحِّ عِنْدَهُمْ - بِأَنْ يَكُونَ الْمِيقَاتُ الثَّانِي مِيقَاتًا لَهُ . اسْتَدَل الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِحَدِيثِ الْمَوَاقِيتِ ؛ لِقَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم - : هُنَّ لَهُنَّ ؛ وَلِمَنْ أَتَى عَلَيْهِنَّ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِنَّ ، فَإِنَّ هَذَا بِعُمُومِهِ يَدُل عَلَى أَنَّ الشَّامِيَّ مَثَلاً إِذَا أَتَى ذَا الْحُلَيْفَةِ فَهُوَ مِيقَاتُهُ ، يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُحْرِمَ مِنْهُ . وَلاَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُجَاوِزَهُ غَيْرَ مُحْرِمٍ .
وَاسْتَدَل الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَفِيَّةُ بِعُمُومِ التَّوْقِيتِ لأَِهْل الْمَنَاطِقِ الْمَذْكُورَةِ ، إِلَى جَانِبِ الْعُمُومِ الَّذِي اسْتَدَل بِهِ الشَّافِعِيَّةُ ، فَيَحْصُل مِنْ ذَلِكَ لَهُ جَوَازُ الأَْمْرَيْنِ .
فَأَخَذَ الْحَنَفِيَّةُ بِالْعُمُومِ عَلَى ظَاهِرِهِ فِي الْعِبَارَتَيْنِ ، وَجَوَّزُوا الإِْحْرَامَ مِنْ أَيِّ الْمِيقَاتَيْنِ ، مَعَ كَرَاهَةِ التَّأْخِيرِ ، وَيَدُل لَهُمْ مَا ثَبَتَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ أَهَل مِنَ الْفَرْعِ(1)وَهُوَ مَوْضِعٌ بَيْنَ ذِي الْحُلَيْفَةِ وَمَكَّةَ . وَخَصَّ الْمَالِكِيَّةُ ذَلِكَ بِغَيْرِ الْمَدَنِيِّ . وَيَشْهَدُ لَهُمْ
فِعْل النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَالصَّحَابَةِ ، فَإِنَّهُمْ أَحْرَمُوا مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ . وَهُوَ مَحْمُولٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى فِعْل الأَْفْضَل .
__________
(1) - موطأ مالك برقم (733 ) وهو صحيح وانظر الجواب عن هذا في المجموع 7 / 203(1/196)
وَيَدُل لِلْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ مِنْ جِهَةِ النَّظَرِ : أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْمِيقَاتِ تَعْظِيمُ الْحَرَمِ الْمُحْتَرَمِ ، وَهُوَ يَحْصُل بِأَيِّ مِيقَاتٍ اعْتَبَرَهُ الشَّرْعُ الْمُكَرَّمُ ، يَسْتَوِي الْقَرِيبُ وَالْبَعِيدُ فِي هَذَا الْمَعْنَى .
د-التَّقَدُّمُ بِالإِْحْرَامِ عَلَى الْمَوَاقِيتِ الْمَكَانِيَّةِ جَائِزٌ بِالإِْجْمَاعِ ، وَإِنَّمَا حُدِّدَتْ لِمَنْعِ مُجَاوَزَتِهَا بِغَيْرِ إِحْرَامٍ .
لَكِنِ اخْتُلِفَ هَل الأَْفْضَل التَّقَدُّمُ عَلَيْهَا ، أَوِ الإِْحْرَامُ مِنْهَا : فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يُكْرَهُ لَهُ الإِْحْرَامُ قَبْل الْمِيقَاتِ .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ تَقْدِيمَ الإِْحْرَامِ عَلَى الْمِيقَاتِ الْمَكَانِيِّ أَفْضَل ، إِذَا أَمِنَ عَلَى نَفْسِهِ مُخَالَفَةَ أَحْكَامِ الإِْحْرَامِ . اسْتَدَل الأَْوَّلُونَ بِأَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - وَأَصْحَابَهُ أَحْرَمُوا مِنَ الْمِيقَاتِ ، وَلاَ يَفْعَلُونَ إِلاَّ الأَْفْضَل . وَبِأَنَّهُ يُشْبِهُ الإِْحْرَامَ بِالْحَجِّ قَبْل أَشْهُرِهِ ، فَيَكُونُ مِثْلَهُ فِي الْكَرَاهَةِ . وَاسْتَدَل الْحَنَفِيَّةُ بِمَا أَخْرَجَه أحمد عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ زَوْجِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَتْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ " مَنْ أَهَلَّ مِنَ الْمَسْجِدِ الأَقْصَى بِعُمْرَةٍ أَوْ بِحَجَّةٍ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ ". قَالَ فَرَكِبَتْ أُمُّ حَكِيمٍ عِنْدَ ذَلِكَ الْحَدِيثِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ حَتَّى أَهَلَّتْ مِنْهُ بِعُمْرَةٍ..(1)
__________
(1) - مسند أحمد برقم (27317) وهو حديث حسن(1/197)
وَسُئِل عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ قَوْله تَعَالَى :{ وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ } فَقَال : أَنْ تُحْرِمَ مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِكَ(1).
وَاسْتَدَلُّوا مِنْ حَيْثُ النَّظَرُ بِأَنَّ " الْمَشَقَّةَ فِيهِ أَكْثَرُ ، وَالتَّعْظِيمَ أَوْفَرُ " فَيَكُونُ أَفْضَل .
هـ-مَنْ جَاوَزَ الْمِيقَاتَ قَاصِدًا الْحَجَّ أَوِ الْعُمْرَةَ أَوِ الْقِرَانَ ، وَهُوَ غَيْرُ مُحْرِمٍ ، أَثِمَ ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ الْعَوْدُ إِلَيْهِ وَالإِْحْرَامُ مِنْهُ . فَإِنْ لَمْ يَرْجِعْ وَجَبَ عَلَيْهِ الدَّمُ سَوَاءٌ تَرَكَ الْعَوْدَ بِعُذْرٍ أَوْ بِغَيْرِ عُذْرٍ ، وَسَوَاءٌ كَانَ عَالِمًا عَامِدًا أَوْ جَاهِلاً أَوْ نَاسِيًا . لَكِنْ مَنْ تَرَكَ الْعَوْدَ لِعُذْرٍ لاَ يَأْثَمُ بِتَرْكِ الرُّجُوعِ . وَمِنَ الْعُذْرِ خَوْفُ فَوَاتِ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ لِضِيقِ الْوَقْتِ ، أَوِ الْمَرَضِ الشَّاقِّ ، أَوْ خَوْفِ فَوَاتِ الرُّفْقَةِ . وَذَلِكَ مَوْضِعُ وِفَاقٍ بَيْنَ الْمَذَاهِبِ .
مِيقَاتُ الْمِيقَاتِيِّ ( الْبُسْتَانِيِّ ) :
__________
(1) - مصنف ابن أبي شيبة مرقم ومشكل - (ج 5 / ص 55)برقم (12689) والمستدرك للحاكم مشكلا - (ج 3 / ص 92)برقم (3090) وصححه ووافقه الذهبي(1/198)
الْمِيقَاتِيُّ هُوَ الَّذِي يَسْكُنُ فِي مَنَاطِقِ الْمَوَاقِيتِ ، أَوْ مَا يُحَاذِيهَا ، أَوْ فِي مَكَانٍ دُونَهَا إِلَى الْحَرَمِ الْمُحِيطِ بِمَكَّةَ كَقَدِيدٍ ، وَعُسْفَانَ ، وَمَرِّ الظَّهْرَانِ . مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ(1)وَالشَّافِعِيَّةِ(2)وَالْحَنَابِلَةِ(3)أَنَّ مِيقَاتَ إِحْرَامِ الْمَكَانِيِّ لِلْحَجِّ هُوَ مَوْضِعُهُ ، إِلاَّ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ قَالُوا : " يُحْرِمُ مِنْ دَارِهِ ، أَوْ مِنْ مَسْجِدِهِ ، وَلاَ يُؤَخِّرُ ذَلِكَ " . وَالأَْحْسَنُ أَنْ يُحْرِمَ مِنْ أَبْعَدِهِمَا مِنْ مَكَّةَ . وَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ مِيقَاتُهُ الْقَرْيَةُ الَّتِي يَسْكُنُهَا ، إِنْ كَانَ قَرَوِيًّا ، أَوِ الْمَحَلَّةُ الَّتِي يَنْزِلُهَا إِنْ كَانَ بَدَوِيًّا ، فَإِنْ جَاوَزَ الْقَرْيَةَ وَفَارَقَ الْعُمْرَانَ إِلَى مَكَّةَ ثُمَّ أَحْرَمَ كَانَ آثِمًا ، وَعَلَيْهِ الدَّمُ لِلإِْسَاءَةِ ، فَإِنْ عَادَ إِلَيْهَا سَقَطَ الدَّمُ ، عَلَى التَّفْصِيل الَّذِي سَبَقَ ، وَبَيَانُ الْمَذَاهِبِ فِيهِ . وَكَذَا إِذَا جَاوَزَ الْخِيَامَ إِلَى جِهَةِ مَكَّةَ غَيْرَ مُحْرِمٍ ، وَإِنْ كَانَ فِي بَرِّيَّةٍ مُنْفَرِدًا أَحْرَمَ مِنْ مَنْزِلِهِ .
__________
(1) - مواهب الجليل 3 / 34 ، وشرح الزرقاني 2 / 252 ، والشرح . الكبير بحاشيته 2 / 23 ، وشرح الرسالة مع حاشية العدوي 1 / 459
(2) - شرح المنهاج 2 / 94 ، ونهاية المحتاج 2 / 392 ، والمجموع 7 / 194 ، 201 ،202
(3) - المغني 3 / 262 ، ومطالب أولي النهى 2 / 297 ، وعبر بعض الحنابلة بقولهم " ميقاته منزله " كذا في الكافي 1 / 524 ، وغاية المنتهى الموضع السابق ، لكن في المغني كما أثبتناه ، وكذا اتجهه صاحب غاية المنتهى ، ووافقه في شرحه مطالب أولي النهى .(1/199)
وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُحْرِمَ مِنْ طَرَفِ الْقَرْيَةِ أَوِ الْمَحَلَّةِ الأَْبْعَدِ عَنْ مَكَّةَ ، وَإِنْ أَحْرَمَ مِنَ الطَّرَفِ الأَْقْرَبِ جَازَ .
وَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ مِيقَاتَهُ مِنْطَقَةُ الْحِل(1)أَيْ جَمِيعُ الْمَسَافَةِ مِنَ الْمِيقَاتِ إِلَى انْتِهَاءِ الْحِل ، وَلاَ يَلْزَمُهُ كَفَّارَةٌ ، مَا لَمْ يَدْخُل أَرْضَ الْحَرَمِ بِلاَ إِحْرَامٍ . وَإِحْرَامُهُ مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِهِ أَفْضَل .
اسْتَدَل الْجَمِيعُ بِقَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي حَدِيثِ الْمَوَاقِيتِ : وَمَنْ كَانَ دُونَ ذَلِكَ فَمِنْ حَيْثُ أَنْشَأَ ، فَحَمَلَهُ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى مَنْزِلِهِ ، وَقَالُوا : إِنَّ الْمَسْجِدَ وَاسِعٌ لِلإِْحْرَامِ " ؛ لأَِنَّهُ مَوْضِعُ الصَّلاَةِ ؛ وَلأَِنَّ أَهْل مَكَّةَ يَأْتُونَ الْمَسْجِدَ فَيُحْرِمُونَ مِنْهُ ، وَكَذَلِكَ أَهْل ذِي الْحُلَيْفَةِ يَأْتُونَ مَسْجِدَهُمْ(2)" .
وَفَسَّرَهُ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِالْقَرْيَةِ وَالْمَحَلَّةِ الَّتِي يَسْكُنُهَا ؛ لأَِنَّهُ أَنْشَأَ مِنْهَا .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ : " إِنَّ خَارِجَ الْحَرَمِ كُلَّهُ كَمَكَانٍ وَاحِدٍ فِي حَقِّ الْمِيقَاتِيِّ ، وَالْحَرَمُ فِي حَقِّهِ كَالْمِيقَاتِ فِي حَقِّ الآْفَاقِيِّ ، فَلاَ يَدْخُل الْحَرَمَ إِذَا أَرَادَ الْحَجَّ أَوِ الْعُمْرَةَ إِلاَّ مُحْرِمًا(3)" .
مِيقَاتُ الْحَرَمِيِّ وَالْمَكِّيِّ :
__________
(1) - هداية 2 / 134 ، والبدائع 2 / 166 ، وتبيين الحقائق شرح كنز الدقائق 2 / 8 ، والمسلك المتقسط ص 57 ، ورد المحتار 2 / 212
(2) - مواهب الجليل الموضع السابق .
(3) - تبيين الحقائق 2 / 8 ، وقارن بالهداية 2 / 134(1/200)
أ - اتَّفَقَتِ الْمَذَاهِبُ عَلَى أَنَّ مَنْ كَانَ مِنْ هَذَيْنِ الصِّنْفَيْنِ ، بِأَنْ كَانَ مَنْزِلُهُ فِي الْحَرَمِ ، أَوْ فِي مَكَّةَ ، سَوَاءٌ أَكَانَ مُسْتَوْطِنًا ، أَمْ نَازِلاً ، فَإِنَّهُ يُحْرِمُ بِالْحَجِّ مِنْ حَيْثُ أَنْشَأَ ، لِمَا سَبَقَ فِي الْحَدِيثِ : " فَمَنْ كَانَ دُونَ ذَلِكَ فَمِنْ حَيْثُ أَنْشَأَ حَتَّى أَهْل مَكَّةَ مِنْ مَكَّةَ(1)" .
ب - ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي تَفَاصِيل ذَلِكَ ،فَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ مَنْ كَانَ مَكِّيًّا ، أَوْ مَنْزِلُهُ فِي الْحَرَمِ ، كَسُكَّانِ مِنًى ، فَوَقْتُهُ الْحَرَمُ لِلْحَجِّ وَلِلْقِرَانِ . وَمِنَ الْمَسْجِدِ أَفْضَل ، أَوْ مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِهِ ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ بِالنِّسْبَةِ لِلْمَكِّيِّ فَقَطْ .
وَهَذَا عَلَى سَبِيل الْوُجُوبِ عِنْدَهُمْ ، فَلَوْ أَنَّهُ أَهَل مِنْ خَارِجِ مِنْطَقَةِ الْحَرَمِ ، لَزِمَهُ الْعَوْدُ إِلَى الْحَرَمِ ، وَإِلاَّ وَجَبَ عَلَيْهِ الدَّمُ(2).
__________
(1) - صحيح البخارى برقم (1524 )
(2) - الهداية 2 / 134 ، والبدائع 2 / 167 ، وتبيين الحقائق 2 / 8 ، والمسلك المتقسط ص 58 ، 59 ، والدر المختار 2 / 213(1/201)
وَدَلِيلُهُ حَدِيثُ جَابِرٍ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ : فَأَهْلَلْنَا مِنَ الأَْبْطَحِ(1)عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ - رضى الله عنهما - قَالَ أَهْلَلْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِالْحَجِّ فَلَمَّا قَدِمْنَا مَكَّةَ أَمَرَنَا أَنْ نَحِلَّ وَنَجْعَلَهَا عُمْرَةً فَكَبُرَ ذَلِكَ عَلَيْنَا وَضَاقَتْ بِهِ صُدُورُنَا فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - فَمَا نَدْرِى أَشَىْءٌ بَلَغَهُ مِنَ السَّمَاءِ أَمْ شَىْءٌ مِنْ قِبَلِ النَّاسِ فَقَالَ " أَيُّهَا النَّاسُ أَحِلُّوا فَلَوْلاَ الْهَدْىُ الَّذِى مَعِى فَعَلْتُ كَمَا فَعَلْتُمْ ". قَالَ فَأَحْلَلْنَا حَتَّى وَطِئْنَا النِّسَاءَ وَفَعَلْنَا مَا يَفْعَلُ الْحَلاَلُ حَتَّى إِذَا كَانَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ وَجَعَلْنَا مَكَّةَ بِظَهْرٍ أَهْلَلْنَا بِالْحَجِّ.(2).
وَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ التَّفْرِقَةُ بَيْنَ مَنْ أَهَل بِالْحَجِّ وَمَنْ أَهَل بِالْقِرَانِ ، فَجَعَلُوا مِيقَاتَ الْقِرَانِ مِيقَاتَ الْعُمْرَةِ الآْتِي تَفْصِيلُهُ ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ . وَأَمَّا مَنْ أَهَل بِالْحَجِّ وَهُوَ مِنْ سُكَّانِ مَكَّةَ أَوِ الْحَرَمِ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُسْتَوْطِنًا ، أَوْ آفَاقِيًّا نَازِلاً : أَمَّا الْمُسْتَوْطِنُ فَإِنَّهُ يُنْدَبُ لَهُ أَنْ يُحْرِمَ مِنْ مَكَّةَ ، وَمِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَفْضَل ، وَإِنْ تَرَكَهَا وَأَحْرَمَ مِنَ الْحَرَمِ أَوِ الْحِل فَخِلاَفُ الأَْوْلَى ، وَلاَ إِثْمَ ، فَلاَ يَجِبُ الإِْحْرَامُ مِنْ مَكَّةَ .
__________
(1) - صحيح مسلم برقم (3000)
(2) - صحيح مسلم برقم (3003 )(1/202)
وَأَمَّا الآْفَاقِيُّ فَإِنْ كَانَ لَهُ سَعَةٌ مِنَ الْوَقْتِ - وَعَبَّرُوا عَنْهُ بِ " ذِي النَّفْسِ " - فَيُنْدَبُ لَهُ الْخُرُوجُ إِلَى مِيقَاتِهِ وَالإِْحْرَامُ مِنْهُ . وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ سَعَةٌ مِنَ الْوَقْتِ فَهُوَ كَالْمُسْتَوْطِنِ(1).
وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ أَنَّ الْحَرَمِيَّ ( الَّذِي لَيْسَ بِمَكَّةَ ) حُكْمُهُ حُكْمُ الْمِيقَاتِيِّ(2).
وَأَمَّا الْمَكِّيُّ : أَيِ الْمُقِيمُ بِمَكَّةَ وَلَوْ كَانَ غَيْرَ مَكِّيٍّ ، فَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَجْهَانِ فِي مِيقَاتِ الْحَجِّ لَهُ ، مُفْرِدًا كَانَ أَوْ قَارِنًا : الأَْصَحُّ : أَنَّ مِيقَاتَهُ نَفْسُ مَكَّةَ ، لِمَا سَبَقَ فِي الْحَدِيثِ حَتَّى أَهْل مَكَّةَ مِنْ مَكَّةَ
وَالثَّانِي : مِيقَاتُهُ كُل الْحَرَمِ ، لاِسْتِوَاءِ مَكَّةَ ، وَمَا وَرَاءَهَا مِنَ الْحَرَمِ فِي الْحُرْمَةِ(3).
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ يُحْرِمُ بِالْحَجِّ مِنْ مَكَّةَ مِنَ الْمَسْجِدِ مِنْ تَحْتِ الْمِيزَابِ ، وَهُوَ أَفْضَل عِنْدَهُمْ . وَجَازَ وَصَحَّ أَنْ يُحْرِمَ مَنْ بِمَكَّةَ مِنْ سَائِرِ الْحَرَمِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ كَمَا هُوَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ(4).
- - - - - - - - - - - - - -
شُرُوطُ إِجْزَاءِ الْحَجِّ عَنِ الْفَرْضِ(5)
__________
(1) - مواهب الجليل 3 / 26 - 28 ، وشرح الزرقاني 2 / 251 ، والشرح الكبير 2 / 22 ، وشرح الرسالة مع حاشية العدوي 1 / 457
(2) - المجموع 7 / 193 ، ونهاية المحتاج 2 / 389 ، 390 ، وشرح المحلي بحاشيتي قليوبي وعميرة 2 / 92
(3) - شرح المحلي بحاشيتي القليوبي وعميرة 2 / 92
(4) - المغني 3 / 259 ،261 ، وغاية المنتهى مع شرحه مطالب أولي النهى 2 / 297 ، 298
(5) - الموسوعة الفقهية الكويتية - (ج 17 / ص 41)(1/203)
شُرُوطُ إِجْزَاءِ الْحَجِّ عَنِ الْفَرْضِ ثَمَانِيَةٌ(1)وَهِيَ :
أ - الإِْسْلاَمُ : وَهُوَ شَرْطٌ لِوُقُوعِهِ عَنِ الْفَرْضِ وَالنَّفَل ، بَل لِصِحَّتِهِ مِنْ أَسَاسِهِ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ .
ب - بَقَاؤُهُ عَلَى الإِْسْلاَمِ إِلَى الْمَوْتِ مِنْ غَيْرِ ارْتِدَادٍ عِيَاذًا بِاَللَّهِ تَعَالَى ، فَإِنْ ارْتَدَّ عَنْ الإِْسْلاَمِ بَعْدَ الْحَجِّ ثُمَّ تَابَ عَنْ رِدَّتِهِ وَأَسْلَمَ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَجُّ مِنْ جَدِيدٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ ، وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ .(2)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ : لاَ تَجِبُ عَلَيْهِ حَجَّةُ الإِْسْلاَمِ مُجَدَّدًا بَعْدَ التَّوْبَةِ عَنِ الرِّدَّةِ(3).
اسْتَدَل الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَمَنْ مَعَهُمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ } (سورة الزمر / 65) فَقَدْ جَعَلَتِ الآْيَةُ الرِّدَّةَ نَفْسَهَا مُحْبِطَةً لِلْعَمَل .
وَاسْتَدَل الشَّافِعِيُّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآْخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } (سورة البقرة / 217)(4).
__________
(1) - انظر حصرها وسياقها عند رحمة الله السندي في لباب المناسك ص 42 - 43 ، لكنه جعلها تسعة شروط ، وزاد على ما ذكرناه عدم الإفساد ، ولم نجد مسوغا لذكره .
(2) -انظر بحث الردة في الموسوعة الفقهية الكويتية - (ج 22 / ص 180)
(3) - اللباب وشرحه ص 42 والفروع 3 / 206 ، وأحكام القرآن لابن العربي 1 / 147 ، وأحكام القرآن للرازي ( الجصاص ) 1 / 322 .
(4) - الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - (ج 1 / ص 1548) والجامع لأحكام القرآن للقرطبي - (ج 1 / ص 4855) والقرآن لابن العربي - (ج 1 / ص 292)(1/204)
فَقَدْ دَلَّتِ الآْيَةُ عَلَى أَنَّ إِحْبَاطَ الرِّدَّةِ لِلْعَمَل مَشْرُوطٌ بِالْمَوْتِ كَافِرًا .
ج - الْعَقْل : فَإِنَّ الْمَجْنُونَ وَإِنْ صَحَّ إِحْرَامُ وَلِيِّهِ عَنْهُ وَمُبَاشَرَتُهُ أَعْمَال الْحَجِّ عَنْهُ ، فَإِنَّهُ يَقَعُ نَفْلاً لاَ فَرْضًا .
نَعَمْ ، لَوْ كَانَ حَال الإِْحْرَامِ مُفِيقًا يَعْقِل النِّيَّةَ وَالتَّلْبِيَةَ وَأَتَى بِهِمَا ، ثُمَّ أَوْقَفَهُ وَلِيُّهُ ، وَبَاشَرَ عَنْهُ سَائِرَ أُمُورِهِ صَحَّ حَجُّهُ فَرْضًا ، إِلاَّ أَنَّهُ يَبْقَى عَلَيْهِ طَوَافُ الزِّيَارَةِ حَتَّى يُفِيقَ فَيُؤَدِّيَهُ بِنَفْسِهِ(1).
د - الْحُرِّيَّةُ : فَإِذَا حَجَّ الْعَبْدُ ثُمَّ عَتَقَ لاَ تَسْقُطُ عَنْهُ حَجَّةُ الإِْسْلاَمِ . وَقَدْ سَبَقَ الْكَلاَمُ فِيهَا.
هـ - الْبُلُوغُ : فَإِذَا حَجَّ الصَّبِيُّ ثُمَّ بَلَغَ فَعَلَيْهِ حَجَّةُ الإِْسْلاَمِ . وَقَدْ سَبَقَ الْكَلاَمُ فِيهِ.
وَ - الأَْدَاءُ بِنَفْسِهِ إِنْ قَدَرَ عَلَيْهِ : بِأَنْ يَكُونَ صَحِيحًا مُسْتَكْمِلاً شُرُوطَ وُجُوبِ أَدَاءِ الْحَجِّ بِنَفْسِهِ ، فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ إِذَا أَحَجَّ عَنْهُ غَيْرَهُ صَحَّ الْحَجُّ وَوَقَعَ نَفْلاً ، وَبَقِيَ الْفَرْضُ فِي ذِمَّتِهِ .
أَمَّا إِذَا اخْتَل شَرْطٌ مِنْ شُرُوطِ وُجُوبِ الأَْدَاءِ بِنَفْسِهِ فَأَحَجَّ عَنْهُ غَيْرَهُ صَحَّ وَسَقَطَ الْفَرْضُ عَنْهُ ، بِشَرْطِ اسْتِمْرَارِ الْعُذْرِ إِلَى الْمَوْتِ .
ز - عَدَمُ نِيَّةِ النَّفْل : فَيَقَعُ الْحَجُّ عَنِ الْفَرْضِ بِنِيَّةِ الْفَرْضِ فِي الإِْحْرَامِ ، وَبِمُطْلَقِ نِيَّةِ الْحَجِّ ،أَمَّا إِذَا نَوَى الْحَجَّ نَفْلاً وَعَلَيْهِ حَجَّةُ الْفَرْضِ أَوْ نَذْرٌ ، فَإِنَّهُ يَقَعُ نَفْلاً عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ .
__________
(1) - لباب المناسك بشرحه الصفحة السابقة .(1/205)
وَيَقَعُ عَنِ الْفَرْضِ أَوِ النَّذْرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ(1)
يَدُل لِلأَْوَّلَيْنِ حَدِيثُ وَإِنَّمَا لِكُل امْرِئٍ مَا نَوَى(2).
وَهَذَا نَوَى النَّفَل فَلاَ يَقَعُ عَنِ الْفَرْضِ ، لأَِنَّهُ لَيْسَ لَهُ إِلاَّ مَا نَوَاهُ .
وَاسْتَدَل لِلآْخَرَيْنِ بِأَنَّهُ قَوْل ابْنِ عُمَرَ وَأَنَسٍ . وَأَنَّ الْمُرَادَ بِالْحَدِيثِ غَيْرُ الْحَجِّ(3).
ح - عَدَمُ النِّيَّةِ عَنِ الْغَيْرِ : وَهَذَا مَحَل اتِّفَاقٍ إِذَا كَانَ الْمُحْرِمُ بِالْحَجِّ قَدْ حَجَّ عَنْ نَفْسِهِ قَبْل ذَلِكَ ، فَإِنْ نَوَى عَنْ غَيْرِهِ وَقَعَ عَنْ غَيْرِهِ اتِّفَاقًا .
__________
(1) - اللباب وشرحه ص 42 ورد المحتار 2 / 193 ومختصر خليل بشرحه 1 / 5 ، ومواهب الجليل 2 / 487 ، ومغني المحتاج 1 / 462 ، والمغني 3 / 246 ، والفروع 3 / 268 .
(2) - صحيح البخارى برقم (1 ) حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِىُّ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الأَنْصَارِىُّ قَالَ أَخْبَرَنِى مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِىُّ أَنَّهُ سَمِعَ عَلْقَمَةَ بْنَ وَقَّاصٍ اللَّيْثِىَّ يَقُولُ سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رضى الله عنه - عَلَى الْمِنْبَرِ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ « إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى ، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوْ إِلَى امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ » .
(3) - الفروع 3 / 269 وهو تأويل مخالف لظاهر الحديث .(1/206)
أَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ حَجَّ عَنْ نَفْسِهِ حَجَّةَ الإِْسْلاَمِ وَنَوَى عَنْ غَيْرِهِ ، فَإِنَّهُ يَقَعُ عَنِ الْغَيْرِ مَعَ الْكَرَاهَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ ، وَيَقَعُ عَنْ نَفْسِهِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ(1).
- - - - - - - - - - - -
كَيْفِيَّاتُ الْحَجِّ :
يُؤَدَّى الْحَجُّ عَلَى ثَلاَثِ كَيْفِيَّاتٍ ، وَهِيَ :
أ - الإِْفْرَادُ : وَهُوَ أَنْ يُهِلَّ الْحَاجُّ أَيْ يَنْوِيَ الْحَجَّ فَقَطْ عِنْدَ إِحْرَامِهِ ثُمَّ يَأْتِي بِأَعْمَال الْحَجِّ وَحْدَهُ .
ب - الْقِرَانُ : وَهُوَ أَنْ يُهِلَّ بِالْعُمْرَةِ وَالْحَجِّ جَمِيعًا ، فَيَأْتِيَ بِهِمَا فِي نُسُكٍ وَاحِدٍ .
وَقَال الْجُمْهُورُ : إِنَّهُمَا يَتَدَاخَلاَنِ ، فَيَطُوفُ طَوَافًا وَاحِدًا وَيَسْعَى سَعْيًا وَاحِدًا وَيُجْزِئُهُ ذَلِكَ عَنِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ . وَقَال الْحَنَفِيَّةُ : يَطُوفُ الْقَارِنُ طَوَافَيْنِ وَيَسْعَى سَعْيَيْنِ ، طَوَافٌ وَسَعْيٌ لِلْعُمْرَةِ ، ثُمَّ طَوَافُ الزِّيَارَةِ وَالسَّعْيُ لِلْحَجِّ . وَيَجِبُ عَلَى الْقَارِنِ أَنْ يَنْحَرَ هَدْيًا بِالإِْجْمَاعِ .
القِرَانُ(2)
تعريفُه :
__________
(1) - المسلك المتقسط ص 42 - 43 ومختصر خليل والشرح الكبير 2 / 18 ، وشرح المنهاج 2 / 90 والمهذب والمجموع 7 / 98 - 100 ، والمغني 3 / 245 والفروع 3 / 265 .
(2) - الموسوعة الفقهية الكويتية - (ج 33 / ص 80) فما بعد(1/207)
الْقِرَانُ لُغَةً : جَمْعُ شَيْءٍ إِلَى شَيْءٍ يُقَال قَرَنَ الشَّخْصُ لِلسَّائِل : إِذَا جَمَعَ لَهُ بَعِيرَيْنِ فِي قِرَانٍ وَاحِدٍ ، وَالْقِرَانُ : الْحَبْل يُقْرَنُ بِهِ ، قَال الثَّعَالِبِيُّ : " لاَ يُقَال لِلْحَبْل قِرَانٌ حَتَّى يُقْرَنَ فِيهِ بَعِيرَانِ " ، وَالْقَرَنُ : الْحَبْل أَيْضًا(1).
وَاصْطِلاَحًا : هُوَ أَنْ يُحْرِمَ بِالْعُمْرَةِ وَالْحَجِّ جَمِيعًا ، أَوْ يُحْرِمَ بِعُمْرَةٍ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ ثُمَّ يُدْخِل الْحَجَّ عَلَيْهَا قَبْل الطَّوَافِ(2).
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ :
أ - الإِْفْرَادُ : هُوَ أَنْ يُحْرِمَ بِالْحَجِّ وَحْدَهُ ، أَيْ أَنْ يَنْوِيَهُ مُنْفَرِدًا(3).
وَالصِّلَةُ بَيْنَهُمَا أَنَّهُمَا نَوْعَانِ مِنْ أَنْوَاعِ الْحَجِّ ، غَيْرَ أَنَّ الْقِرَانَ يَتَضَمَّنُ نُسُكَيْنِ ، وَالإِْفْرَادُ نُسُكًا وَاحِدًا
ب - التَّمَتُّعُ : هُوَ أَنْ يُحْرِمَ بِالْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ مِنَ الْمِيقَاتِ ، ثُمَّ يَفْرُغَ مِنْهَا وَيَتَحَلَّل ، ثُمَّ يُنْشِئَ حَجًّا فِي عَامِهِ مِنْ مَكَّةَ(4).
وَالصِّلَةُ بَيْنَهُمَا أَنَّ فِي الْقِرَانِ إِتْمَامَ نُسُكَيْنِ بِإِحْرَامٍ وَاحِدٍ دُونَ أَنْ يَتَحَلَّل مِنْ أَحَدِهِمَا إِلاَّ بَعْدَ تَمَامِهِمَا مَعًا ، أَمَّا فِي التَّمَتُّعِ فَإِنَّهُ يُتِمُّ الْعُمْرَةَ ، ثُمَّ يَتَحَلَّل مِنْهَا ، وَيُنْشِئُ حَجًّا بِإِحْرَامٍ جَدِيدٍ .
مَشْرُوعِيَّةُ الْقِرَانِ :
__________
(1) -معجم مقاييس اللغة لابن فارس 5 / 56 ، والقاموس المحيط للفيروز آبادي ، والمصباح المنير للفيومي مادة ( قرن ) .
(2) - مغني المحتاج 1 / 513 .
(3) - الاختيار 1 / 158 ، وحاشية الدسوقي 2 / 28 ، والقليوبي 2 / 127 ، وكشاف القناع 2 / 411 .
(4) - تبيين الحقائق 2 / 45 ، وحاشية الدسوقي 2 / 29 ، ومغني المحتاج 1 / 514 ، وكشاف القناع 2 / 411 .(1/208)
ثَبَتَتْ مَشْرُوعِيَّةُ الْقِرَانِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالإِْجْمَاعِ :
أَمَّا الْكِتَابُ ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ } (سورة البقرة / 196)
قَال الْمَرْغِينَانِيُّ : الْمُرَادُ مِنْهُ أَنْ يُحْرِمَ بِهِمَا مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِهِ(1).
وَأَمَّا السُّنَّةُ : فَمِنْهَا حَدِيثُ عَنْ عَائِشَةَ - رضى الله عنها - أَنَّهَا قَالَتْ خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ ، فَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ ، وَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِحَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ ، وَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِالْحَجِّ وَأَهَلَّ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِالْحَجِّ ، فَأَمَّا مَنْ أَهَلَّ بِالْحَجِّ أَوْ جَمَعَ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لَمْ يَحِلُّوا حَتَّى كَانَ يَوْمُ النَّحْرِ ..(2)
فَقَدْ أَقَرَّ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - الصَّحَابَةَ عَلَى الْقِرَانِ ، فَيَكُونُ مَشْرُوعًا .
وَأَمَّا الإِْجْمَاعُ : فَقَدْ تَوَاتَرَ عَمَل الصَّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ عَلَى التَّخْيِيرِ بَيْنَ أَوْجُهِ الْحَجِّ الَّتِي عَرَفْنَاهَا ، دُونَ نَكِيرٍ ، فَكَانَ إِجْمَاعًا .
قَال النَّوَوِيُّ :" وَقَدِ انْعَقَدَ الإِْجْمَاعُ بَعْدَ هَذَا عَلَى جَوَازِ الإِْفْرَادِ وَالتَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ"(3).
الْمُفَاضَلَةُ بَيْنَ الْقِرَانِ وَالتَّمَتُّعِ وَالإِْفْرَادِ :
__________
(1) - الهداية مع فتح القدير 2 / 203 .
(2) - صحيح البخارى برقم (1562 )
(3) - شرح مسلم للنووي 8 / 169 .(1/209)
بَعْدَ أَنِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ هَذِهِ الأَْوْجُهِ فِي أَدَاءِ الْحَجِّ دُونَ كَرَاهَةٍ ، اخْتَلَفُوا فِي أَيُّهَا الأَْفْضَل ، وَقَدْ قِيل بِأَفْضَلِيَّةِ كُلٍّ مِنْهَا(1).
- - - - - - - - - - - - -
إِفْرَادُ الحجِّ
تعريفه :
الإِْفْرَادُ لُغَةً : مَصْدَرُ أَفْرَدَ ، وَالْفَرْدُ مَا كَانَ وَحْدَهُ ، وَأَفْرَدْتُهُ : جَعَلْتُهُ وَاحِدًا ، وَعَدَّدْتُ الدَّرَاهِمَ أَفْرَادًا أَيْ : وَاحِدًا وَاحِدًا ، وَأَفْرَدْتُ الْحَجَّ عَنِ الْعُمْرَةِ ، فَعَلْتُ كُل وَاحِدٍ عَلَى حِدَةٍ(2).
إِفْرَادُ الْحَجِّ :
هُوَ أَنْ يُهِل بِالْحَجِّ مُفْرِدًا . وَسَيَكُونُ الْبَحْثُ هُنَا خَاصًّا بِإِفْرَادِ الْحَجِّ . أَمَّا الْمَوَاضِعُ الأُْخْرَى فَتُنْظَرُ فِي مَوَاطِنِهَا .
أَمَّا الْقِرَانُ : فَهُوَ أَنْ يُحْرِمَ بِالْعُمْرَةِ وَالْحَجِّ مَعًا فَيَجْمَعَ بَيْنَهُمَا فِي إِحْرَامِهِ ، أَوْ يُحْرِمَ بِالْعُمْرَةِ ثُمَّ يُدْخِل عَلَيْهَا الْحَجَّ قَبْل الطَّوَافِ لَهَا .
وَأَمَّا التَّمَتُّعُ : فَهُوَ أَنْ يُهِل بِعُمْرَةٍ مُفْرَدَةٍ مِنَ الْمِيقَاتِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ ، فَإِذَا فَرَغَ مِنْهَا أَحْرَمَ بِالْحَجِّ مِنْ عَامِهِ(3).
وَسَيَأْتِي مَا يَفْتَرِقُ بِهِ الإِْفْرَادُ عَنْ كُلٍّ مِنَ التَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ .
الْمُفَاضَلَةُ بَيْنَ كُلٍّ مِنَ الإِْفْرَادِ وَالْقِرَانِ وَالتَّمَتُّعِ :
__________
(1) - انظر الموسوعة الفقهية الكويتية - (ج 5 / ص 281)فما بعد
(2) - المصباح المنير ولسان العرب مادة ( فرد ) .
(3) - المغني 3 / 276 ط مكتبة الرياض ، والدسوقي 2 / 28 ، 29 ، والهداية 1 / 154 ، 156 ط المكتبة الإسلامية ، ونهاية المحتاج 3 / 313 ط المكتبة الإسلامية .(1/210)
اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الإِْفْرَادِ ، وَالْقِرَانِ ، وَالتَّمَتُّعِ أَيُّهَا أَفْضَل ، وَالاِتِّجَاهَاتُ فِي ذَلِكَ كَالآْتِي :
أ - الإِْفْرَادُ أَفْضَل عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ ، لَكِنَّ أَفْضَلِيَّتَهُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ ، وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ إِنِ اعْتَمَرَ فِي نَفْسِ الْعَامِ بَعْدَ أَدَاءِ الْحَجِّ ، وَلِذَلِكَ يَقُول الشَّافِعِيَّةُ إِنْ لَمْ يَعْتَمِرْ فِي نَفْسِ الْعَامِ كَانَ الإِْفْرَادُ مَكْرُوهًا .
وَاسْتَدَل الْقَائِلُونَ بِأَفْضَلِيَّةِ الإِْفْرَادِ بِمَا صَحَّ عَنْ جَابِرٍ وَعَائِشَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَفْرَدَ الْحَجَّ ،فعَنْ جَابِرٍ - رضى الله عنه - أَنَّهُ قَالَ أَقْبَلْنَا مُهِلِّينَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بِحَجٍّ مُفْرَدٍ(1)
وعَنْ عَائِشَةَ رضى الله عنها أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَفْرَدَ الْحَجَّ.(2)
وعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : أَهْلَلْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بِالْحَجِّ مُفْرَدًا وَفِى رِوَايَةِ ابْنِ عَوْنٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَهَلَّ بِالْحَجِّ مُفْرَدًا.(3)
ثُمَّ بِالإِْجْمَاعِ عَلَى أَنَّهُ لاَ كَرَاهَةَ فِيهِ ، وَأَنَّ الْمُفْرِدَ لَمْ يَرْبَحْ إِحْرَامًا مِنَ الْمِيقَاتِ ( بِالاِسْتِغْنَاءِ عَنِ الرُّجُوعِ ثَانِيَةً لِلإِْحْرَامِ ) وَلاَ رَبِحَ اسْتِبَاحَةَ الْمَحْظُورَاتِ(4).
__________
(1) - مسلم (2996 )
(2) - مسلم (2979 )
(3) =- مسلم (3053 )
(4) - نهاية المحتاج 3 / 314 ، والدسوقي 2 / 28 .(1/211)
ب - الْقَوْل الثَّانِي : أَنَّ الْقِرَانَ أَفْضَل : وَذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ ، وَفِي قَوْلٍ لِلإِْمَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ إِنْ سَاقَ الْهَدْيَ فَالْقِرَانُ أَفْضَل ، وَإِنْ لَمْ يَسُقِ الْهَدْيَ فَالتَّمَتُّعُ أَفْضَل .
وَاسْتَدَل الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَفْضَلِيَّةِ الْقِرَانِ بما رويَ عَنْ أَبِى عِمْرَانَ أَسْلَمَ أَنَّهُ قَالَ حَجَجْتُ مَعَ مَوَالِىَّ فَدَخَلْتُ عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ زَوْجِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقُلْتُ أَعْتَمِرُ قَبْلَ أَنْ أَحُجَّ قَالَتْ إِنْ شِئْتَ اعْتَمِرْ قَبْلَ أَنْ تَحُجَّ وَإِنْ شِئْتَ بَعْدَ أَنْ تَحُجَّ. قَالَ فَقُلْتُ إِنَّهُمْ يَقُولُونَ مَنْ كَانَ صَرُورَةً فَلاَ يَصْلُحُ أَنْ يَعْتَمِرَ قَبْلَ أَنْ يَحُجَّ. قَالَ فَسَأَلْتُ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ فَقُلْنَ مِثْلَ مَا قَالَتْ فَرَجَعْتُ إِلَيْهَا فَأَخْبَرْتُهَا بِقَوْلِهِنَّ قَالَ فَقَالَتْ: نَعَمْ وَأَشْفِيكَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ : " أَهِلُّوا يَا آلَ مُحَمَّدٍ بِعُمْرَةٍ فِى حَجٍّ "(1).
وَيَلِي الْقِرَانَ فِي الأَْفْضَلِيَّةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ التَّمَتُّعُ ثُمَّ الإِْفْرَادُ ، وَهَذَا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ، لأَِنَّ فِي التَّمَتُّعِ جَمْعًا بَيْنَ الْعِبَادَتَيْنِ فَأَشْبَهَ الْقِرَانَ ، ثُمَّ فِيهِ زِيَادَةُ نُسُكٍ وَهِيَ إِرَاقَةُ الدَّمِ .
__________
(1) - مسند أحمد برقم (27307) {6/298} وهو صحيح - الصرورة : الذى لم يحج قط وَلأَِنَّ فِي الْقِرَانِ جَمْعًا بَيْنَ الْعِبَادَتَيْنِ .(1/212)
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ يَلِي الْقِرَانَ الإِْفْرَادُ ثُمَّ التَّمَتُّعُ ، لأَِنَّ الْمُتَمَتِّعَ سَفَرُهُ وَاقِعٌ لِعُمْرَتِهِ وَالْمُفْرِدُ سَفَرُهُ وَاقِعٌ لِحَجَّتِهِ(1). وَوَافَقَهُ فِي ذَلِكَ أَشْهَبُ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ .
ج - التَّمَتُّعُ أَفْضَل : وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ ، وَيَلِي التَّمَتُّعَ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ الإِْفْرَادُ ثُمَّ الْقِرَانُ .
وَاسْتَدَل الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَفْضَلِيَّةِ التَّمَتُّعِ بِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ وَجَابِرٌ وَأَبُو مُوسَى وَعَائِشَةُ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَمَرَ أَصْحَابَهُ لَمَّا طَافُوا بِالْبَيْتِ أَنْ يُحِلُّوا وَيَجْعَلُوهَا عُمْرَةً، فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضى الله عنهما - قَالَ كَانُوا يَرَوْنَ أَنَّ الْعُمْرَةَ فِى أَشْهُرِ الْحَجِّ مِنْ أَفْجَرِ الْفُجُورِ فِى الأَرْضِ ، وَيَجْعَلُونَ الْمُحَرَّمَ صَفَرًا وَيَقُولُونَ إِذَا بَرَأَ الدَّبَرْ ، وَعَفَا الأَثَرْ ، وَانْسَلَخَ صَفَرْ ، حَلَّتِ الْعُمْرَةُ لِمَنِ اعْتَمَرْ . قَدِمَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - وَأَصْحَابُهُ صَبِيحَةَ رَابِعَةٍ مُهِلِّينَ بِالْحَجِّ ، فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَجْعَلُوهَا عُمْرَةً فَتَعَاظَمَ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَىُّ الْحِلِّ قَالَ « حِلٌّ كُلُّهُ » .(2)
__________
(1) - الهداية 1 / 153 .
(2) - البخارى (1564)(1/213)
وقال أَبُو شِهَابٍ قَالَ قَدِمْتُ مُتَمَتِّعًا مَكَّةَ بِعُمْرَةٍ فَدَخَلْنَا قَبْلَ التَّرْوِيَةِ بِثَلاَثَةِ أَيَّامٍ ، فَقَالَ لِى أُنَاسٌ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ تَصِيرُ الآنَ حَجَّتُكَ مَكِّيَّةً . فَدَخَلْتُ عَلَى عَطَاءٍ أَسْتَفْتِيهِ فَقَالَ حَدَّثَنِى جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ - رضى الله عنهما - أَنَّهُ حَجَّ مَعَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمَ سَاقَ الْبُدْنَ مَعَهُ ، وَقَدْ أَهَلُّوا بِالْحَجِّ مُفْرَدًا ، فَقَالَ لَهُمْ « أَحِلُّوا مِنْ إِحْرَامِكُمْ بِطَوَافِ الْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ ، وَقَصِّرُوا ثُمَّ أَقِيمُوا حَلاَلاً ، حَتَّى إِذَا كَانَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ فَأَهِلُّوا بِالْحَجِّ ، وَاجْعَلُوا الَّتِى قَدِمْتُمْ بِهَا مُتْعَةً » . فَقَالُوا كَيْفَ نَجْعَلُهَا مُتْعَةً وَقَدْ سَمَّيْنَا الْحَجَّ فَقَالَ « افْعَلُوا مَا أَمَرْتُكُمْ ، فَلَوْلاَ أَنِّى سُقْتُ الْهَدْىَ لَفَعَلْتُ مِثْلَ الَّذِى أَمَرْتُكُمْ ، وَلَكِنْ لاَ يَحِلُّ مِنِّى حَرَامٌ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْىُ مَحِلَّهُ » . فَفَعَلُوا(1)
__________
(1) - البخارى (1568 )(1/214)
وعَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ - رضى الله عنهما - قَالَ تَمَتَّعَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِى حَجَّةِ الْوَدَاعِ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ ، وَأَهْدَى فَسَاقَ مَعَهُ الْهَدْىَ مِنْ ذِى الْحُلَيْفَةِ ، وَبَدَأَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَأَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ ، ثُمَّ أَهَلَّ بِالْحَجِّ ، فَتَمَتَّعَ النَّاسُ مَعَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ ، فَكَانَ مِنَ النَّاسِ مَنْ أَهْدَى فَسَاقَ الْهَدْىَ ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُهْدِ ، فَلَمَّا قَدِمَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - مَكَّةَ ، قَالَ لِلنَّاسِ « مَنْ كَانَ مِنْكُمْ أَهْدَى فَإِنَّهُ لاَ يَحِلُّ لِشَىْءٍ حَرُمَ مِنْهُ حَتَّى يَقْضِىَ حَجَّهُ ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَهْدَى فَلْيَطُفْ بِالْبَيْتِ ، وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ ، وَلْيُقَصِّرْ ، وَلْيَحْلِلْ ، ثُمَّ لِيُهِلَّ بِالْحَجِّ ، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ هَدْيًا فَلْيَصُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ فِى الْحَجِّ وَسَبْعَةً إِذَا رَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ » . فَطَافَ حِينَ قَدِمَ مَكَّةَ ، وَاسْتَلَمَ الرُّكْنَ أَوَّلَ شَىْءٍ ، ثُمَّ خَبَّ ثَلاَثَةَ أَطْوَافٍ ، وَمَشَى أَرْبَعًا ، فَرَكَعَ حِينَ قَضَى طَوَافَهُ بِالْبَيْتِ عِنْدَ الْمَقَامِ رَكْعَتَيْنِ ، ثُمَّ سَلَّمَ ، فَانْصَرَفَ فَأَتَى الصَّفَا فَطَافَ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ سَبْعَةَ أَطْوَافٍ ، ثُمَّ لَمْ يَحْلِلْ مِنْ شَىْءٍ حَرُمَ مِنْهُ حَتَّى قَضَى حَجَّهُ وَنَحَرَ هَدْيَهُ يَوْمَ النَّحْرِ ، وَأَفَاضَ فَطَافَ بِالْبَيْتِ ، ثُمَّ حَلَّ مِنْ كُلِّ شَىْءٍ حَرُمَ مِنْهُ ، وَفَعَلَ مِثْلَ مَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَنْ أَهْدَى وَسَاقَ الْهَدْىَ مِنَ النَّاسِ .(1)
__________
(1) - البخارى (1691 )(1/215)
وعَنْ عَائِشَةَ - رضى الله عنها - خَرَجْنَا مَعَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - وَلاَ نُرَى إِلاَّ أَنَّهُ الْحَجُّ ، فَلَمَّا قَدِمْنَا تَطَوَّفْنَا بِالْبَيْتِ ، فَأَمَرَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - مَنْ لَمْ يَكُنْ سَاقَ الْهَدْىَ أَنْ يَحِلَّ ، فَحَلَّ مَنْ لَمْ يَكُنْ سَاقَ الْهَدْىَ ، وَنِسَاؤُهُ لَمْ يَسُقْنَ فَأَحْلَلْنَ ....(1)
فَنَقَلَهُمْ مِنَ الإِْفْرَادِ وَالْقِرَانِ إِلَى الْمُتْعَةِ ، وَلاَ يَنْقُلُهُمْ إِلاَّ إِلَى الأَْفْضَل ، وَلأَِنَّ الْمُتَمَتِّعَ يَجْتَمِعُ لَهُ الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ مَعَ كَمَالِهَا وَكَمَال أَفْعَالِهَا عَلَى وَجْهِ الْيُسْرِ وَالسُّهُولَةِ مَعَ زِيَادَةِ نُسُكٍ فَكَانَ ذَلِكَ أَوْلَى(2).
وَقَدْ ذَكَرَ الرَّمْلِيُّ فِي نِهَايَةِ الْمُحْتَاجِ أَنَّ مَنْشَأَ الْخِلاَفِ اخْتِلاَفُ الرُّوَاةِ فِي إِحْرَامِهِ - صلى الله عليه وسلم - لأَِنَّهُ صَحَّ عَنْ جَابِرٍ وَعَائِشَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُ - صلى الله عليه وسلم - أَفْرَدَ الْحَجَّ(3)، ، وَعَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ قَرَنَ(4)، وَ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ - رضى الله عنهما - قَالَ تَمَتَّعَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِى حَجَّةِ الْوَدَاعِ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ ، وَأَهْدَى فَسَاقَ مَعَهُ الْهَدْىَ مِنْ ذِى الْحُلَيْفَةِ "(5)، ثُمَّ قَال : إِنَّ الصَّوَابَ الَّذِي نَعْتَقِدُهُ أَنَّهُ - صلى الله عليه وسلم - أَحْرَمَ بِالْحَجِّ ثُمَّ أَدْخَل عَلَيْهِ الْعُمْرَةَ ، وَخُصَّ بِجَوَازِهِ فِي تِلْكَ السَّنَةِ لِلْحَاجَةِ .
__________
(1) - البخارى(1561 )
(2) - المغني 3 / 276 .
(3) - حديث جابر وعائشة وابن عمر رضي الله عنهم سبق تخريجه .
(4) - حديث أنس رضي الله عنه سبق تخريجه .
(5) - البخارى (1691 )(1/216)
وَبِهَذَا يَسْهُل الْجَمْعُ بَيْنَ الرِّوَايَاتِ ، فَعُمْدَةُ رُوَاةِ الإِْفْرَادِ أَوَّل الإِْحْرَامِ ، وَرُوَاةُ الْقِرَانِ آخِرُهُ ، وَمَنْ رَوَى التَّمَتُّعَ أَرَادَ التَّمَتُّعَ اللُّغَوِيَّ وَهُوَ الاِنْتِفَاعُ ، وَقَدِ انْتَفَعَ بِالاِكْتِفَاءِ بِفِعْلٍ وَاحِدٍ ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ أَنَّهُ - صلى الله عليه وسلم - لَمْ يَعْتَمِرْ فِي تِلْكَ السَّنَةِ عُمْرَةً مُفْرَدَةً ، وَلَوْ جُعِلَتْ حَجَّتُهُ مُفْرَدَةً لَكَانَ غَيْرَ مُعْتَمِرٍ فِي تِلْكَ السَّنَةِ ، وَلَمْ يَقُل أَحَدٌ إِنَّ الْحَجَّ وَحْدَهُ أَفْضَل مِنَ الْقِرَانِ فَانْتَظَمَتِ الرِّوَايَاتُ فِي حَجَّتِهِ(1).
حَالَةُ وُجُوبِ الإِْفْرَادِ ( وُجُوبُهُ فِي حَقِّ الْمَكِّيِّ ) :
اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ بِالنِّسْبَةِ لِلْمَكِّيِّ وَمَنْ فِي حُكْمِهِ هَل لَهُ تَمَتُّعٌ وَقِرَانٌ ، أَمْ لَيْسَ لَهُ إِلاَّ الإِْفْرَادُ خَاصَّةً ؟
فَيَرَى الْجُمْهُورُ أَنَّ لأَِهْل مَكَّةَ الْمُتْعَةَ وَالْقِرَانَ مِثْل الآْفَاقِيِّ ، وَلأَِنَّ التَّمَتُّعَ الَّذِي وَرَدَ فِي الآْيَةِ أَحَدُ الأَْنْسَاكِ الثَّلاَثَةِ ، فَصَحَّ مِنَ الْمَكِّيِّ كَالنُّسُكَيْنِ الآْخَرَيْنِ ، وَلأَِنَّ حَقِيقَةَ التَّمَتُّعِ هُوَ أَنْ يَعْتَمِرَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ ثُمَّ يَحُجَّ مِنْ عَامِهِ ، وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي الْمَكِّيِّ(2)
__________
(1) - نهاية المحتاج 3 / 314 .
(2) - المغني 3 / 474 ، والدسوقي 2 / 29 ، ونهاية المحتاج 3 / 315 ، والنيسابوري 2 / 252 بهامش الطبري ط بولاق الأولى .(1/217)
وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ أَهْل مَكَّةَ لَيْسَ لَهُمْ تَمَتُّعٌ وَلاَ قِرَانٌ ، وَإِنَّمَا لَهُمُ الإِْفْرَادُ خَاصَّةً ، لأَِنَّ شَرْعَهُمَا لِلتَّرَفُّهِ بِإِسْقَاطِ إِحْدَى السَّفْرَتَيْنِ وَهَذَا فِي حَقِّ الآْفَاقِيِّ(1).
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ أَيْضًا فِي حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ .
فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُمْ أَهْل الْحَرَمِ وَمَنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَكَّةَ دُونَ مَسَافَةِ الْقَصْرِ
فَإِنْ كَانُوا عَلَى مَسَافَةِ الْقَصْرِ فَلَيْسُوا مِنَ الْحَاضِرِينَ .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُمْ أَهْل الْمَوَاقِيتِ فَمَنْ دُونَهَا إِلَى مَكَّةَ .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُمْ أَهْل مَكَّةَ وَأَهْل ذِي طُوًى(2).
نِيَّةُ الإِْفْرَادِ :
وَيَخْتَلِفُ الْفُقَهَاءُ فِيمَا يَنْعَقِدُ بِهِ إِحْرَامُ الْمُفْرِدِ : فَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَهُوَ الرَّاجِحُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ الإِْحْرَامَ يَنْعَقِدُ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ مَعَ اسْتِحْبَابِ التَّلَفُّظِ بِمَا أَحْرَمَ بِهِ فَيَقُول : اللَّهُمَّ إِنِّي أُرِيدَ الْحَجَّ فَيَسِّرْهُ لِي وَتَقَبَّلْهُ مِنِّي .
__________
(1) - الهداية للمرغياني - (ج 1 / ص 224) والعناية شرح الهداية - (ج 4 / ص 51) وفتح القدير - (ج 5 / ص 344) ودرر الحكام شرح غرر الأحكام - (ج 3 / ص 119)
(2) - المراجع السابقة . و الفقه الإسلامي وأدلته - (ج 3 / ص 657) والمجموع شرح المهذب - (ج 7 / ص 174) والشرح الكبير لابن قدامة - (ج 3 / ص 242) والمغني - (ج 7 / ص 254) والكافي في فقه ابن حنبل - (ج 2 / ص 168)(1/218)
وَفِي قَوْلٍ لِلشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الإِْطْلاَقَ أَوْلَى ، لأَِنَّهُ رُبَّمَا حَصَل عَارِضٌ مِنْ مَرَضٍ أَوْ غَيْرِهِ فَلاَ يَتَمَكَّنُ مِنْ صَرْفِهِ إِلَى مَا لاَ يَخَافُ فَوْتَهُ ، فَإِنْ أَحْرَمَ إِحْرَامًا مُطْلَقًا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ صَرَفَهُ بِالنِّيَّةِ - لاَ بِاللَّفْظِ - إِلَى مَا شَاءَ مِنَ النُّسُكَيْنِ أَوْ إِلَيْهِمَا مَعًا إِنْ كَانَ الْوَقْتُ صَالِحًا لَهُمَا .
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لاَ يَنْعَقِدُ الإِْحْرَامُ إِلاَّ بِأَمْرَيْنِ : النِّيَّةِ وَالتَّلْبِيَةِ ، وَلاَ يَصِيرُ شَارِعًا فِي الإِْحْرَامِ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ مَا لَمْ يَأْتِ بِالتَّلْبِيَةِ ، لأَِنَّ التَّلْبِيَةَ فِي الْحَجِّ كَتَكْبِيرَةِ الإِْحْرَامِ فِي الصَّلاَةِ .
وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ : يَنْعَقِدُ بِالنِّيَّةِ مَعَ قَوْلٍ كَالتَّلْبِيَةِ وَالإِْهْلاَل ، أَوْ فِعْلٍ كَالتَّوَجُّهِ فِي الطَّرِيقِ وَالتَّجَرُّدِ مِنَ الْمَخِيطِ .
عَلَى أَنَّ الَّذِي ذُكِرَ لاَ يَخْتَصُّ بِالإِْفْرَادِ وَحْدَهُ ، وَإِنَّمَا يَنْطَبِقُ عَلَى الْقِرَانِ وَالتَّمَتُّعِ ، إِذْ لاَ بُدَّ فِي أَيِّ نُسُكٍ مِنْ هَذِهِ الأَْنْسَاكِ الثَّلاَثَةِ عِنْدَ الإِْحْرَامِ بِأَيٍّ مِنْهَا مِنَ النِّيَّةِ عَلَى رَأْيِ الْجُمْهُورِ ، أَوِ النِّيَّةِ وَالتَّلْبِيَةِ عَلَى رَأْيِ أَبِي حَنِيفَةَ . ( ر : إِحْرَامٌ - قِرَانٌ - تَمَتُّعٌ ) .
التَّلْبِيَةُ فِي الإِْفْرَادِ :
التَّلْبِيَةُ فِي الْحَجِّ عَلَى اخْتِلاَفِ حُكْمِهَا مِنْ أَنَّهَا سُنَّةٌ أَوْ وَاجِبَةٌ تَسْتَوِي كَيْفِيَّتُهَا وَالْبَدْءُ بِهَا بِالنِّسْبَةِ لِلْمُحْرِمِ بِأَيِّ نُسُكٍ مِنَ الأَْنْسَاكِ الثَّلاَثَةِ .
أَمَّا قَطْعُ التَّلْبِيَةِ فَيَكُونُ الْمُتَمَتِّعُ وَالْمُفْرِدُ وَالْقَارِنُ بِالنِّسْبَةِ لِقَطْعِهَا سَوَاءً .(1/219)
فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ يَقْطَعُ التَّلْبِيَةَ عِنْدَ ابْتِدَاءِ الرَّمْيِ .
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يَقْطَعُهَا إِذَا وَصَل لِمُصَلَّى عَرَفَةَ بَعْدَ الزَّوَال ، وَإِنْ كَانَ قَدْ وَصَل قَبْل الزَّوَال لَبَّى إِلَى الزَّوَال ، وَإِنْ زَالَتِ الشَّمْسُ قَبْل الْوُصُول لَبَّى إِلَى الْوُصُول(1).
وَهُنَاكَ تَفْرِيعَاتٌ كَثِيرَةٌ بِالنِّسْبَةِ لِلتَّلْبِيَةِ . ( ر : تَلْبِيَةٌ ) .
مَا يَفْتَرِقُ بِهِ الْمُفْرِدُ عَنِ الْمُتَمَتِّعِ وَالْقَارِنِ :
أ - الطَّوَافُ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُفْرِدِ :
الطَّوَافُ فِي الْحَجِّ ثَلاَثَةُ أَنْوَاعٍ :
طَوَافُ الْقُدُومِ إِلَى مَكَّةَ ، وَطَوَافُ الإِْفَاضَةِ بَعْدَ رَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ يَوْمَ النَّحْرِ ، وَطَوَافُ الْوَدَاعِ .
وَالْفَرْضُ مِنْ ذَلِكَ هُوَ طَوَافُ الإِْفَاضَةِ ، وَيُسَمَّى طَوَافَ الزِّيَارَةِ أَوِ الْفَرْضِ أَوِ الرُّكْنِ ، وَمَا عَدَا ذَلِكَ فَهُوَ سُنَّةٌ أَوْ وَاجِبٌ يَنْجَبِرُ بِالدَّمِ عَلَى خِلاَفٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي ذَلِكَ ( ر : طَوَافٌ ) .
وَالْفَرْضُ عَلَى الْمُفْرِدِ مِنْ هَذِهِ الأَْنْوَاعِ هُوَ طَوَافُ الإِْفَاضَةِ فَقَطْ ، لأَِنَّهُ الرُّكْنُ ، فَلاَ يَجِبُ عَلَيْهِ طَوَافُ الْقُدُومِ ، بَل يُطَالَبُ بِهِ عَلَى سَبِيل السُّنِّيَّةِ(2).
ب - عَدَمُ وُجُوبِ الدَّمِ عَلَى الْمُفْرِدِ :
__________
(1) - الهداية 1 / 147 ، ونهاية المحتاج 3 / 294 ، والمغني 3 / 430 ، والدسوقي 2 / 40 .
(2) - الهداية 1 / 154 ، والدسوقي 2 / 28 ، ونهاية المحتاج 3 / 313 ، والمغني 3 / 465 .(1/220)
لاَ يَجِبُ عَلَى الْمُفْرِدِ هَدْيٌ لإِِحْرَامِهِ بِالْحَجِّ مُفْرِدًا بِخِلاَفِ الْقَارِنِ وَالْمُتَمَتِّعِ فَإِنَّ عَلَيْهِمَا الْهَدْيَ ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى : {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} ( سورة البقرة / 196 .) وَالْقَارِنُ كَالْمُتَمَتِّعِ ، لإِِحْرَامِهِ بِالنُّسُكَيْنِ .
إِلاَّ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلْمُفْرِدِ أَنْ يُهْدِيَ وَيَكُونُ تَطَوُّعًا .
ثُمَّ إِنَّ جَزَاءَ الصَّيْدِ وَفِدْيَةَ الأَْذَى بِالنِّسْبَةِ لِلْمُفْرِدِ وَالْقَارِنِ وَالْمُتَمَتِّعِ سَوَاءٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ(1).
- - - - - - - - - - - -
أَرْكَانُ الْقِرَانِ :
الْقِرَانُ جَمْعٌ بَيْنَ نُسُكَيِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فِي عَمَلٍ وَاحِدٍ ، فَأَرْكَانُهُ هِيَ أَرْكَانُ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ .
لَكِنْ هَل يَلْزَمُ أَدَاءُ الطَّوَافِ وَالسَّعْيِ لِكُلٍّ مِنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ ، أَوْ يَتَدَاخَلاَنِ فَلاَ يَجِبُ تَكْرَارُهُمَا ؟
ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى التَّدَاخُل ، وَأَنَّهُ يُجْزِئُ الطَّوَافُ وَالسَّعْيُ عَنِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ ، وَلاَ يَجِبُ تَكْرَارُهُمَا ، وَبِهِ قَال ابْنُ عُمَرَ وَجَابِرٌ وَعَطَاءٌ وَطَاوُسٌ وَمُجَاهِدٌ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ وَأَبُو ثَوْرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ(2)
وَاسْتَدَلُّوا بِالنَّقْل وَالْقِيَاسِ :
__________
(1) - الدسوقي 2 / 29 ، ونهاية المحتاج 3 / 315 ، والمغني 3 / 465 ، 467 ، وابن عابدين 2 / 205 ، والمجموع 7 / 437 .
(2) - الشرح الكبير 2 / 28 ، والمنهاج وشرحه للمحلي 2 / 127 ، ونهاية المحتاج للرملي 2 / 442 ( مطبعة بولاق ) ، والمغني 3 / 465 ، ومطالب أولي النهى 2 / 308 .(1/221)
أَمَّا النَّقْل : فعَنْ عَائِشَةَ - رضى الله عنها - خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِى حَجَّةِ الْوَدَاعِ ، فَأَهْلَلْنَا بِعُمْرَةٍ ، ثُمَّ قَالَ " مَنْ كَانَ مَعَهُ هَدْىٌ فَلْيُهِلَّ بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ ثُمَّ لاَ يَحِلُّ حَتَّى يَحِلَّ مِنْهُمَا " . فَقَدِمْتُ مَكَّةَ ، وَأَنَا حَائِضٌ ، فَلَمَّا قَضَيْنَا حَجَّنَا أَرْسَلَنِى مَعَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ إِلَى التَّنْعِيمِ ، فَاعْتَمَرْتُ ، فَقَالَ - صلى الله عليه وسلم - " هَذِهِ مَكَانَ عُمْرَتِكِ " . فَطَافَ الَّذِينَ أَهَلُّوا بِالْعُمْرَةِ ، ثُمَّ حَلُّوا ، ثُمَّ طَافُوا طَوَافًا آخَرَ ، بَعْدَ أَنْ رَجَعُوا مِنْ مِنًى ، وَأَمَّا الَّذِينَ جَمَعُوا بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ طَافُوا طَوَافًا وَاحِدًا . "(1)
وعَنْ عَائِشَةَ - رضى الله عنها - أَنَّهَا حَاضَتْ بِسَرِفَ فَتَطَهَّرَتْ بِعَرَفَةَ فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - " يُجْزِئُ عَنْكِ طَوَافُكِ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ عَنْ حَجِّكِ وَعُمْرَتِكِ "(2).
وَعَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَسُول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَرَنَ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ ، فَطَافَ لَهُمَا طَوَافًا وَاحِدًا .(3)
وَأَمَّا الْقِيَاسُ : فَلأَِنَّهُ نَاسِكٌ يَكْفِيهِ حَلْقٌ وَاحِدٌ وَرَمْيٌ وَاحِدٌ ، فَكَفَاهُ طَوَافٌ وَاحِدٌ وَسَعْيٌ وَاحِدٌ ، كَالْمُفْرِدِ ؛ وَلأَِنَّهُمَا عِبَادَتَانِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ ، فَإِذَا اجْتَمَعَتَا دَخَلَتْ أَفْعَال الصُّغْرَى فِي الْكُبْرَى ، كَالطَّهَارَتَيْنِ : الْوُضُوءِ وَالْغُسْل(4).
__________
(1) - صحيح البخارى برقم (1638 )
(2) - صحيح مسلم برقم (2993 )
(3) - سنن الترمذى برقم (962 ) وهو صحيح واصله في الصحيحين
(4) - المغني 3 / 466 .(1/222)
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ - وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ - وَيُرْوَى عَنِ الشَّعْبِيِّ ، وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الأَْسْوَدِ ، وَبِهِ قَال الثَّوْرِيُّ وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ ، قَالُوا : الْقَارِنُ يَطُوفُ طَوَافَيْنِ ، وَيَسْعَى سَعْيَيْنِ : طَوَافٌ وَسَعْيٌ لِعُمْرَتِهِ ، وَطَوَافٌ وَسَعْيٌ لِحَجَّتِهِ(1).
وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ } (سورة البقرة / 196.) ، وَتَمَامُهُمَا أَنْ يَأْتِيَ بِأَفْعَالِهِمَا عَلَى الْكَمَال ، وَلَمْ يُفَرَّقْ بَيْنَ الْقَارِنِ وَغَيْرِهِ(2)" .
وَبِمَا وَرَدَ عَنْ صُبَىِّ بْنِ مَعْبَدٍ أَنَّهُ كَانَ نَصْرَانِيًّا تَغْلِبِيًّا فَأَسْلَمَ فَسَأَلَ أَىُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ فَقِيلَ لَهُ الْجِهَادُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَأَرَادَ أَنْ يُجَاهِدَ فَقِيلَ لَهُ أَحَجَجْتَ قَالَ لاَ. فَقِيلَ لَهُ حُجَّ وَاعْتَمِرْ ثُمَّ جَاهِدْ. فَأَهَلَّ بِهِمَا جَمِيعاً فَوَافَقَ زَيْدَ بْنَ صُوحَانَ وَسَلْمَانَ بْنَ رَبِيعَةَ فَقَالاَ هُوَ أَضَلُّ مِنْ نَاقَتِهِ أَوْ مَا هُوَ بِأَهْدَى مِنْ جَمَلِهِ. فَانْطَلَقَ إِلَى عُمَرَ فَأَخْبَرَهُ بِقَوْلِهِمَا فَقَالَ هُدِيتَ لِسُنَّةِ نَبِيِّكَ -صلى الله عليه وسلم- أَوْ لِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم "(3)" .
__________
(1) - الهداية 2 / 204 ، والبدائع 2 / 267 ، والمغني 3 / 465 - 466
(2) - المغني 3 / 466 .
(3) - عقود الجواهر المنيفة في أدلة الإمام أبي حنيفة للزبيدي 1 / 141 ، وفتح القدير 2 / 205 . وأثر عمر أخرجه أبو حنيفة في مسنده كما في " عقود الجواهر المنيفة " للزبيدي ( 1 / 133 ) ، ومسند أحمد برقم (386) وهو صحيح(1/223)
وَعَنِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال لِمَنْ أَهَل بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ : تُهِل بِهِمَا جَمِيعًا ثُمَّ تَطُوفُ لَهُمَا طَوَافَيْنِ وَتَسْعَى لَهُمَا سَعْيَيْنِ(1).
__________
(1) - وفي السنن الكبرى للبيهقي (ج 5 / ص 108)برقم (9696) قَالَ الشَّيْخُ أَصَحُّ مَا رُوِىَ فِى الطَّوَافَيْنِ عَنْ عَلِىٍّ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ مَا أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ الْحَارِثِ الْفَقِيهُ أَخْبَرَنَا عَلِىُّ بْنُ عُمَرَ الْحَافِظُ حَدَّثَنَا أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ صَاعِدٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ زُنْبُورٍ حَدَّثَنَا فُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ مَالِكِ بْنِ الْحَارِثِ أَوْ مَنْصُورٍ عَنْ مَالِكِ بْنِ الْحَارِثِ عَنْ أَبِى نَصْرٍ قَالَ : لَقِيتُ عَلِيًّا رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ وَقَدْ أَهْلَلْتُ بِالْحَجِّ وَأَهَلَّ هُوَ بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فَقُلْتُ : هَلْ أَسْتَطِيعُ أَنْ أَفْعَلَ كَمَا فَعَلْتَ؟ قَالَ : ذَلِكَ لَوْ كُنْتَ بَدَأْتَ بِالْعُمْرَةِ. قُلْتُ : كَيْفَ أَفْعَلُ إِذَا أَرَدْتُ ذَلِكَ؟ قَالَ : تَأْخُذُ إِدَاوَةً مِنْ مَاءٍ فَتُفِيضُهَا عَلَيْكَ ثُمَّ تُهِلُّ بِهِمَا جَمِيعًا ثُمَّ تَطُوفُ لَهُمَا طَوَافَيْنِ وَتَسْعَى لَهُمَا سَعْيَيْنِ وَلاَ يَحِلُّ لَكَ حَرَامٌ دُونَ يَوْمِ النَّحْرِ. قَالَ مَنْصُورٌ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِمُجَاهِدٍ قَالَ : مَا كُنَّا نُفْتِى إِلاَّ بِطَوَافٍ وَاحِدٍ فَأَمَّا الآنَ فَلاَ نَفْعَلُ.
كَذَا رُوِىَ عَنْ فُضَيْلٍ عَنْ مَنْصُورٍ. {ت} وَرَوَاهُ الثَّوْرِىُّ عَنْ مَنْصُورٍ فَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ السَّعْىَ وَكَذَلِكَ شُعْبَةُ وَابْنُ عُيَيْنَةَ وَأَبُو نَصْرٍ هَذَا مَجْهُولٌ فَإِنْ صَحَّ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ طَوَافَ الْقُدُومِ وَطَوَافَ الزِّيَارَةِ وَأَرَادَ سَعْيًا وَاحِدًا عَلَى مَا رَوَاهُ الثَّوْرِىُّ وَصَاحِبَاهُ فَلاَ يَكُونُ لِرِوَايَةِ جَعْفَرٍ مُخَالِفًا وَقَدْ رُوِىَ بِأَسَانِيدَ ضِعَافٍ عَنْ عَلِىٍّ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ مَوْقُوفًا وَمَرْفُوعًا قَدْ ذَكَرْتُهُ فِى الْخِلاَفِيَّاتِ وَمَدَارُ ذَلِكَ عَلَى الْحَسَنِ بْنِ عُمَارَةَ وَحَفْصِ بْنِ أَبِى دَاوُدَ. {ج} وَعِيسَى بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَحَمَّادُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَكُلُّهُمْ ضَعِيفٌ لاَ يُحْتَجُّ بِشَىْءٍ مِمَّا رَوَوْهُ مِنْ ذَلِكَ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.(1/224)
وَبِأَنَّ الْقِرَانَ ضَمُّ عِبَادَةٍ إِلَى عِبَادَةٍ وَذَلِكَ إِنَّمَا يَتَحَقَّقُ بِأَدِلَّةِ عَمَل كُل وَاحِدٍ عَلَى الْكَمَال(1).
شُرُوطُ الْقِرَانِ :
الشَّرْطُ الأَْوَّل : أَنْ يُحْرِمَ بِالْحَجِّ قَبْل طَوَافِ الْعُمْرَةِ :
وَذَلِكَ فِيمَا إِذَا أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ ثُمَّ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ فَأَدْخَلَهُ عَلَى الْعُمْرَةِ ، فَإِنَّ إِحْرَامَهُ هَذَا صَحِيحٌ ، وَيُصْبِحُ قَارِنًا بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ إِحْرَامُهُ بِالْحَجِّ قَبْل طَوَافِ الْعُمْرَةِ .
أَمَّا إِذَا أَحْرَمَ بِالْحَجِّ ثُمَّ أَدْخَل الْعُمْرَةَ عَلَى الْحَجِّ ، فَإِنَّهُ لاَ يَصِحُّ إِحْرَامُهُ بِالْعُمْرَةِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ(2).
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ بِصِحَّةِ هَذَا الإِْحْرَامِ وَيَصِيرُ قَارِنًا - مَعَ كَوْنِهِ مَكْرُوهًا -
الشَّرْطُ الثَّانِي : أَنْ يُحْرِمَ بِالْحَجِّ قَبْل فَسَادِ الْعُمْرَةِ :
إِذَا أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يُدْخِل الْحَجَّ عَلَيْهَا وَمُحْرِمٌ بِهِ فَوْقَهَا ، فَقَدِ اشْتَرَطَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ لِصِحَّةِ الإِْرْدَافِ أَنْ تَكُونَ الْعُمْرَةُ صَحِيحَةً ، وَزَادَ الشَّافِعِيَّةُ اشْتِرَاطَ أَنْ يَكُونَ إِدْخَال الْحَجِّ عَلَى الْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ .
__________
(1) - الهداية 2 / 206 .
(2) - مواهب الجليل 3 / 48 ، والزرقاني 2 / 257 ، والشرح الكبير وحاشية الدسوقي 2 / 27 ، والمدونة 2 / 130 ، وشرح المنهاج للمحلي 2 / 127 ، ونهاية المحتاج 2 / 442 ، والإيضاح للنووي نسخة حاشية ابن حجر ص 157 ، والمهذب والمجموع 7 / 163 و166 ، ومغني المحتاج 1 / 514 ، والمغني 3 / 484 ، والكافي 1 / 532 - 533 ، ومطالب أولي النهى 2 / 308 .(1/225)
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ : عَدَمُ فَسَادِ الْعُمْرَةِ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الْقِرَانِ(1)
الشَّرْطُ الثَّالِثُ : أَنْ يَطُوفَ لِلْعُمْرَةِ الطَّوَافَ كُلَّهُ أَوْ أَكْثَرَهُ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ
وهذا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ(2)، وَزَادَ الشَّافِعِيَّةُ فَاشْتَرَطُوا أَنْ يَكُونَ إِدْخَال الْحَجِّ عَلَى الْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ قَبْل الشُّرُوعِ فِي طَوَافِ الْعُمْرَةِ .
الشَّرْطُ الرَّابِعُ : أَنْ يَطُوفَ لِلْعُمْرَةِ كُل الأَْشْوَاطِ
أَوْ أَكْثَرَهَا قَبْل الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ .وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ ، لِقَوْلِهِمْ : إِنَّ الْقَارِنَ يَطُوفُ طَوَافَيْنِ وَيَسْعَى سَعْيَيْنِ(3).
الشَّرْطُ الْخَامِسُ : أَنْ يَصُونَهُمَا عَنِ الْفَسَادِ :
فَلَوْ أَفْسَدَهُمَا بِأَنْ جَامَعَ قَبْل الْوُقُوفِ وَقَبْل أَكْثَرِ طَوَافِ الْعُمْرَةِ بَطَل قِرَانُهُ ، وَسَقَطَ عَنْهُ دَمُ الْقِرَانِ ، وَيَلْزَمُهُ مُوجِبُ الْفَسَادِ .
أَمَّا إِذَا جَامَعَ بَعْدَمَا طَافَ لِعُمْرَتِهِ أَرْبَعَةَ أَشْوَاطٍ فَقَطْ فَسَدَ حَجُّهُ دُونَ عُمْرَتِهِ وَسَقَطَ عَنْهُ دَمُ الْقِرَانِ ، وَلَزِمَهُ مُوجِبُ فَسَادِ الْحَجِّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ ، تَبَعًا لِمَذْهَبِهِمْ فِي أَرْكَانِ الْقِرَانِ.
الشَّرْطُ السَّادِسُ : أَنْ لاَ يَكُونَ مِنْ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ :
__________
(1) - المسلك المتقسط ص 171 ، وحاشية الدسوقي 2 / 28 ، ومواهب الجليل 3 / 51 ، ونهاية المحتاج 2 / 442 ، والمجموع 7 / 163 - 166 .
(2) - لباب المناسك ص 172 ، ورد المحتار 2 / 262 - 263 .
(3) - المسلك المتقسط ص 171 - 172 .و تحفة الفقهاء - (ج 1 / ص 413) والمبسوط - (ج 4 / ص 479) وتبيين الحقائق شرح كنز الدقائق - (ج 4 / ص 419) والبحر الرائق شرح كنز الدقائق - (ج 7 / ص 71)(1/226)
ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى صِحَّةِ الْقِرَانِ مِنَ الْمَكِّيِّ وَمَنْ فِي حُكْمِهِ وَهُوَ حَاضِرُ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ، إِلاَّ أَنَّهُ لاَ يَلْزَمُهُ دَمُ الْقِرَانِ ، فَجَعَلُوا هَذَا شَرْطًا لِلُزُومِ دَمِ الْقِرَانِ ، لاَ لِلْمَشْرُوعِيَّةِ(1).
وَقَالُوا : إِنَّ اسْمَ الإِْشَارَةِ فِي قَوْله تَعَالَى : { ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } (سورة البقرة / 196) ، يَرْجِعُ إِلَى قَوْلِهِ : { فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ } ، وَالْمَعْنَى : ذَلِكَ الْحُكْمُ وَهُوَ وُجُوبُ الْهَدْيِ عَلَى مَنْ تَمَتَّعَ - وَهُوَ يَشْمَل الْقِرَانَ - إِذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ، فَإِنْ كَانَ مِنْ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ، فَلاَ هَدْيَ عَلَيْهِ ، وَقِرَانُهُ وَتَمَتُّعُهُ صَحِيحَانِ(2).
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ لِلْقِرَانِ أَنْ لاَ يَكُونَ الْقَارِنُ مِنْ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ عَلَى الرَّاجِحِ(3).
__________
(1) - الشرح الكبير 2 / 27 ، وشرح الرسالة وحاشية العدوي 1 / 490 - 491 ، وشرح المنهاج للمحلي 2 / 130 ، ونهاية المحتاج 2 / 444 و 447 ، والمغني 3 / 468 .
(2) - انظر تفسير الآية بهذا في روح المعاني للألوسي طبع بولاق 1 / 389 ، والقرطبي ( الجامع لأحكام القرآن ) 2 / 381 ، وابن العربي في أحكام القرآن 1 / 54 طبع عيسى الحلبي ، والمجموع 7 / 162 .
(3) - الدر المختار وحاشيته 2 / 270 - 272 ، والمسلك المتقسط ص 172(1/227)
وَقَالُوا : الْمُرَادُ بِ ( ذَلِكَ ) الْوَارِدَةِ فِي الآْيَةِ السَّابِقَةِ : التَّمَتُّعُ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ ، وَهُوَ يَشْمَل الْقِرَانَ وَالتَّمَتُّعَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ، فَدَلَّتْ عَلَى أَنَّهُ لاَ قِرَانَ وَلاَ تَمَتُّعَ لَهُ ، وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ الْهَدْيَ لَقَال : ذَلِكَ عَلَى مَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ(1).
__________
(1) - أحكام القرآن للجصاص 1 / 339 ، وانظر ابن العربي والألوسي في الموضعين السابقين .(1/228)
وَيَدُل لِلْحَنَفِيَّةِ مَا وَرَدَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضى الله عنهما - أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ مُتْعَةِ الْحَجِّ فَقَالَ أَهَلَّ الْمُهَاجِرُونَ وَالأَنْصَارُ وَأَزْوَاجُ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فِى حَجَّةِ الْوَدَاعِ وَأَهْلَلْنَا ، فَلَمَّا قَدِمْنَا مَكَّةَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - " اجْعَلُوا إِهْلاَلَكُمْ بِالْحَجِّ عُمْرَةً إِلاَّ مَنْ قَلَّدَ الْهَدْىَ " . فَطُفْنَا بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَأَتَيْنَا النِّسَاءَ ، وَلَبِسْنَا الثِّيَابَ وَقَالَ " مَنْ قَلَّدَ الْهَدْىَ فَإِنَّهُ لاَ يَحِلُّ لَهُ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْىُ مَحِلَّهُ " . ثُمَّ أَمَرَنَا عَشِيَّةَ التَّرْوِيَةِ أَنْ نُهِلَّ بِالْحَجِّ ، فَإِذَا فَرَغْنَا مِنَ الْمَنَاسِكِ جِئْنَا فَطُفْنَا بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ فَقَدْ تَمَّ حَجُّنَا ، وَعَلَيْنَا الْهَدْىُ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ( فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْىِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ فِى الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ ) إِلَى أَمْصَارِكُمْ . الشَّاةُ تَجْزِى ، فَجَمَعُوا نُسُكَيْنِ فِى عَامٍ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْزَلَهُ فِى كِتَابِهِ وَسَنَّهُ نَبِيُّهُ - صلى الله عليه وسلم - وَأَبَاحَهُ لِلنَّاسِ غَيْرَ أَهْلِ مَكَّةَ ، قَالَ اللَّهُ ( ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ) وَأَشْهُرُ الْحَجِّ الَّتِى ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى شَوَّالٌ وَذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحَجَّةِ ، فَمَنْ تَمَتَّعَ فِى هَذِهِ الأَشْهُرِ فَعَلَيْهِ دَمٌ أَوْ صَوْمٌ ، وَالرَّفَثُ الْجِمَاعُ ، وَالْفُسُوقُ الْمَعَاصِى ، وَالْجِدَالُ الْمِرَاءُ .(1).
__________
(1) - صحيح البخارى برقم (1572 )(1/229)
الشَّرْطُ السَّابِعُ : عَدَمُ فَوَاتِ الْحَجِّ :
فَلَوْ فَاتَهُ الْحَجُّ بَعْدَ أَنْ أَحْرَمَ بِالْقِرَانِ لَمْ يَكُنْ قَارِنًا ، وَسَقَطَ عَنْهُ دَمُ الْقِرَانِ(1).
كَيْفِيَّةُ الْقِرَانِ :
هِيَ أَنْ يُحْرِمَ بِالْعُمْرَةِ وَالْحَجِّ مَعًا مِنَ الْمِيقَاتِ أَوْ قَبْلَهُ ، لاَ بَعْدَهُ(2).
وَمِيقَاتُ إِحْرَامِ الْقَارِنِ هُوَ مِيقَاتُ إِحْرَامِ الْمُفْرِدِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ ، وَقَال الْمَالِكِيَّةُ : مِيقَاتُ الْقَارِنِ هُوَ مِيقَاتُ الْعُمْرَةِ ، وَعَلَى ذَلِكَ فَمَنْ كَانَ آفَاقِيًّا فَإِنَّهُ يُحْرِمُ مِنَ الْمِيقَاتِ الْخَاصِّ بِهِ ، وَمَنْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلاَ قِرَانَ لَهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ ، وَلَهُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ الْقِرَانُ ، وَلاَ دَمَ عَلَيْهِ فَيُحْرِمُ مِنْ مَوْضِعِهِ إِلاَّ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ ، فَيَجِبُ أَنْ يَخْرُجَ إِلَى الْحِل فَيُحْرِمَ بِالْقِرَانِ.
وَكَيْفِيَّةُ إِحْرَامِ الْقَارِنِ ، أَنَّهُ بَعْدَمَا يَسْتَعِدُّ لِلإِْحْرَامِ يَقُول نَاوِيًا بِقَلْبِهِ : اللَّهُمَّ إِنِّي أُرِيدُ الْعُمْرَةَ وَالْحَجَّ فَيَسِّرْهُمَا لِي وَتَقَبَّلْهُمَا مِنِّي ، أَوْ نَوَيْتُ الْعُمْرَةَ وَالْحَجَّ وَأَحْرَمْتُ بِهِمَا لِلَّهِ تَعَالَى ، لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ ، لَبَّيْكَ لاَ شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ . إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ ، لاَ شَرِيكَ لَكَ ، ثُمَّ يَقُول : لَبَّيْكَ بِعُمْرَةٍ وَحَجَّةٍ .
وَيَجُوزُ أَنْ يُحْرِمَ بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ مُتَعَاقِبًا ، بِأَنْ يَكُونَ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ ، ثُمَّ يُحْرِمَ بِالْحَجِّ إِضَافَةً إِلَى الْعُمْرَةِ.
__________
(1) - لباب المناسك للسندي الحنفي ص 172 ، وابن عابدين 2 / 262 .
(2) - شرح المنهاج للمحلي 2 / 127 .(1/230)
فَإِذَا انْعَقَدَ الإِْحْرَامُ قَارِنًا ، فَإِنَّهُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ يَفْعَل مَا يَفْعَل الْحَاجُّ الْمُفْرِدُ ، وَيَطُوفُ طَوَافَ الْقُدُومِ ، وَيَسْعَى بَعْدَهُ إِنْ أَرَادَ تَقْدِيمَ السَّعْيِ ، ثُمَّ يَقِفُ بِعَرَفَةَ وَهَكَذَا إِلَى آخِرِ أَعْمَال الْحَجِّ ، وَيَذْبَحُ هَدْيًا يَوْمَ النَّحْرِ .
وَأَمَّا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ : فَإِنَّ الْقَارِنَ يَطُوفُ طَوَافَيْنِ وَيَسْعَى سَعْيَيْنِ : طَوَافٌ وَسَعْيٌ لِعُمْرَتِهِ ، وَطَوَافٌ وَسَعْيٌ لِحَجَّتِهِ ، وَكَيْفِيَّةُ أَدَائِهِ لِلْقِرَانِ : إِذَا انْعَقَدَ إِحْرَامُهُ قَارِنًا دَخَل مَكَّةَ ، وَابْتَدَأَ فَطَافَ بِالْبَيْتِ سَبْعَةَ أَشْوَاطٍ ، يَرْمُل فِي الثَّلاَثَةِ الأُْولَى مِنْهَا ، وَيَضْطَبِعُ فِيهَا كُلِّهَا ، ثُمَّ يَسْعَى بَعْدَهَا بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ ، وَهَذِهِ أَفْعَال الْعُمْرَةِ ، ثُمَّ يَبْدَأُ بِأَفْعَال الْحَجِّ ، فَيَطُوفُ طَوَافَ الْقُدُومِ سَبْعَةَ أَشْوَاطٍ ، وَيَسْعَى بَعْدَهُ سَعْيَ الْحَجِّ إِنْ أَرَادَ تَقْدِيمَ سَعْيِ الْحَجِّ عَنْ يَوْمِ النَّحْرِ ( ر : سَعْي ) وَعِنْدَئِذٍ يَرْمُل فِي الطَّوَافِ الثَّانِي وَيَضْطَبِعُ ؛ لأَِنَّ الرَّمَل وَالاِضْطِبَاعَ سُنَّةٌ فِي كُل طَوَافٍ بَعْدَهُ سَعْيٌ(1)، ثُمَّ يُتَابِعُ أَعْمَال الْحَجِّ كَمَا فِي الإِْفْرَادِ ، وَيَذْبَحُ هَدْيًا إِلَى آخِرِهِ . . . لَكِنْ لاَ يَتَحَلَّل بِمَا أَدَّاهُ مِنْ أَفْعَال الْعُمْرَةِ وَلاَ يَحْلِقُ ، لأَِنَّهُ مُحْرِمٌ بِالْحَجِّ وَوَقْتُ تَحَلُّلِهِ يَوْمُ النَّحْرِ(2).
تَحَلُّل الْقَارِنِ :
لِلْقَارِنِ تَحَلُّلاَنِ :
__________
(1) - رد المحتار 2 / 263 .
(2) - شرح اللباب ص 174 .(1/231)
التَّحَلُّل الأَْوَّل : وَيُسَمَّى أَيْضًا الأَْصْغَرَ ،وَيَحْصُل بِالْحَلْقِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ ، وَبِرَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ وَحْدَهُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ ، وَبِفِعْل اثْنَيْنِ مِنْ ثَلاَثَةٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ ، وَهِيَ الرَّمْيُ ، وَالْحَلْقُ ، وَالطَّوَافُ ، أَيْ طَوَافُ الزِّيَارَةِ الْمَسْبُوقُ بِالسَّعْيِ ، وَإِلاَّ فَلاَ يَحِل حَتَّى يَسْعَى بَعْدَ طَوَافِ الزِّيَارَةِ .
وَالْمُفْرِدُ وَالْقَارِنُ وَالْمُتَمَتِّعُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ عِنْدَهُمْ جَمِيعًا ، حَتَّى الشَّافِعِيَّةِ لأَِنَّ الذَّبْحَ لاَ مَدْخَل لَهُ فِي التَّحَلُّل عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ .
وَيَحِل بِالتَّحَلُّل الأَْوَّل جَمِيعُ مَحْظُورَاتِ الإِْحْرَامِ إِلاَّ الْجِمَاعَ .
وَأَمَّا التَّحَلُّل الثَّانِي : وَيُسَمَّى التَّحَلُّل الأَْكْبَرَ : فَتَحِل بِهِ جَمِيعُ مَحْظُورَاتِ الإِْحْرَامِ حَتَّى النِّسَاءَ إِجْمَاعًا
وَيَحْصُل التَّحَلُّل الأَْكْبَرُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ بِطَوَافِ الإِْفَاضَةِ بِشَرْطِ الْحَلْقِ هُنَا بِاتِّفَاقِ الطَّرَفَيْنِ ، وَزَادَ الْمَالِكِيَّةُ أَنْ يَكُونَ الطَّوَافُ مَسْبُوقًا بِالسَّعْيِ ، وَقَال الْحَنَفِيَّةُ : لاَ مَدْخَل لِلسَّعْيِ فِي التَّحَلُّل لأَِنَّهُ وَاجِبٌ مُسْتَقِلٌّ .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ : يَحْصُل بِاسْتِكْمَال أَفْعَال التَّحَلُّل الثِّقَةُ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا(1).
هَدْيُ الْقِرَانِ :
__________
(1) - فتح القدير 2 / 183 ، والمسلك المتقسط ص 155 ، وشرح رسالة ابن أبي زيد 1 / 479 ، والشرح الكبير للدردير 2 / 46 ، ونهاية المحتاج 2 / 431 ، والكافي 1 / 608 ، والمغني 3 / 442 ، ومطالب أولي النهى 2 / 427 .(1/232)
يَجِبُ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ عَلَى الْقَارِنِ هَدْيٌ يَذْبَحُهُ أَيَّامَ النَّحْرِ(1)، لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ } (سورة البقرة / 196) .
لأَِنَّ الْقَارِنَ فِي حُكْمِ الْمُتَمَتِّعِ ،قَال الْقُرْطُبِيُّ : " وَإِنَّمَا جُعِل الْقِرَانُ مِنْ بَابِ التَّمَتُّعِ ؛ لأَِنَّ الْقَارِنَ يَتَمَتَّعُ بِتَرْكِ النَّصَبِ فِي السَّفَرِ إِلَى الْعُمْرَةِ مَرَّةً وَإِلَى الْحَجِّ أُخْرَى ، وَيَتَمَتَّعُ بِجَمْعِهِمَا وَلَمْ يُحْرِمْ لِكُل وَاحِدَةٍ مِنْ مِيقَاتِهِ ، وَضَمَّ الْحَجَّ إِلَى الْعُمْرَةِ ، فَدَخَل تَحْتَ قَوْل اللَّهِ عَزَّ وَجَل : { فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ } ، وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ؛ وَلأَِنَّهُ إِذَا وَجَبَ عَلَى الْمُتَمَتِّعِ لأَِنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ نُسُكَيْنِ فِي وَقْتِ أَحَدِهِمَا فَلأََنْ يَجِبَ عَلَى الْقَارِنِ وَقَدْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي الإِْحْرَامِ أَوْلَى(2).
وَأَدْنَى مَا يُجْزِئُ فِيهِ شَاةٌ ، وَالْبَقَرَةُ أَفْضَل ، وَالْبَدَنَةُ أَفْضَل مِنْهُمَا .
__________
(1) - المغني 3 / 468 و 469 .
(2) - المهذب بشرح المجموع 7 / 190 .(1/233)
وَاخْتَلَفُوا فِي مُوجِبِ هَذَا الْهَدْيِ ، فَقَال الْجُمْهُورُ وَمِنْهُمُ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ : هُوَ دَمُ شُكْرٍ ، وَجَبَ شُكْرًا لِلَّهِ لِمَا وَفَّقَهُ إِلَيْهِ مِنْ أَدَاءِ النُّسُكَيْنِ فِي سَفَرٍ وَاحِدٍ ، فَيَأْكُل مِنْهُ وَيُطْعِمُ مَنْ شَاءَ وَلَوْ غَنِيًّا ، وَيَتَصَدَّقُ(1). وَقَال الشَّافِعِيَّةُ : هُوَ دَمُ جَبْرٍ عَلَى الصَّحِيحِ فِي مَذْهَبِهِمْ ، فَلاَ يَجُوزُ لَهُ الأَْكْل
مِنْهُ ، بَل يَجِبُ التَّصَدُّقُ بِجَمِيعِهِ(2).
__________
(1) - فتح القدير 2 / 322 ، والمسلك المتقسط ص 174 ، وتبيين الحقائق 2 / 89 ، ورسالة ابن أبي زيد وشرحها 1 / 508 - 509 ، وشرح العشماوية للصفتي ص 203 ، وبداية المجتهد 1 / 267 ، والمغني 3 / 541 ، والكافي 1 / 535 - 539 و634 - 635 ، ومطالب أولي النهى 2 / 475 .
(2) - المجموع 8 / 332 ، ومغني المحتاج 1 / 517 .(1/234)
وَمَنْ عَجَزَ عَنِ الْهَدْيِ فَعَلَيْهِ بِالإِْجْمَاعِ صِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى : {وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (196) سورة البقرة .(1)
صَيْرُورَةُ التَّمَتُّعِ قِرَانًا :
إِذَا سَاقَ الْمُتَمَتِّعُ الْهَدْيَ كَمَا هُوَ السُّنَّةُ .
فَقَال الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ : لاَ يَحِل الْمُتَمَتِّعُ الَّذِي سَاقَ الْهَدْيَ بِأَفْعَال الْعُمْرَةِ ، وَلاَ يَحْلِقُ ، وَلَوْ حَلَقَ لَمْ يَتَحَلَّل مِنْ إِحْرَامِهِ بِالْعُمْرَةِ ، وَيَكُونُ حَلْقُهُ جِنَايَةً عَلَى إِحْرَامِ الْعُمْرَةِ ، وَيَلْزَمُهُ دَمٌ لِجِنَايَتِهِ هَذِهِ ، بَل يَظَل حَرَامًا ، ثُمَّ يُهِل يَوْمَ التَّرْوِيَةِ بِالْحَجِّ ، وَيَفْعَل مَا يَفْعَلُهُ الْحَاجُّ - لَكِنْ يَسْقُطُ عَنْهُ طَوَافُ الْقُدُومِ - حَتَّى يَحِل يَوْمَ النَّحْرِ مِنْهُمَا .
__________
(1) - انظر الموسوعة الفقهية الكويتية - (ج 42 / ص 231) فما بعدها(1/235)
قَال الْحَنَفِيَّةُ : إِنَّهُ يَصِيرُ قَارِنًا ، وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ(1).
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ(2)، وَالشَّافِعِيَّةُ(3)، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ الْمُتَمَتِّعَ الَّذِي سَاقَ الْهَدْيَ كَالَّذِي لَمْ يَسُقْهُ ، يَتَحَلَّل بِأَدَاءِ الْعُمْرَةِ ، وَيَمْكُثُ بِمَكَّةَ حَلاَلاً حَتَّى يُحْرِمَ بِالْحَجِّ.
جِنَايَاتُ الْقَارِنِ عَلَى إِحْرَامِهِ :
بِنَاءً عَلَى الْخِلاَفِ فِي الْقَارِنِ ، هَل يُجْزِئُهُ طَوَافٌ وَاحِدٌ وَسَعْيٌ وَاحِدٌ لِحَجَّتِهِ وَعُمْرَتِهِ . كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ ، أَوْ لاَ بُدَّ لَهُ مِنْ طَوَافَيْنِ وَسَعْيَيْنِ لَهُمَا كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ ، اخْتَلَفُوا فِي كَفَّارَاتِ مَحْظُورَاتِ الإِْحْرَامِ لِلْقَارِنِ .
فَالْجُمْهُورُ سَوَّوْا بَيْنَ الْقَارِنِ وَغَيْرِهِ فِي كَفَّارَاتِ مَحْظُورَاتِ الإِْحْرَامِ .
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَقَالُوا : " كُل شَيْءٍ فَعَلَهُ الْقَارِنُ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ - مِمَّا ذَكَرْنَا - أَنَّهُ يَجِبُ فِيهِ عَلَى الْمُفْرِدِ بِجِنَايَتِهِ دَمٌ فَعَلَى الْقَارِنِ فِيهِ دَمَانِ ، لِجِنَايَتِهِ عَلَى الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ ، فَيَجِبُ عَلَيْهِ دَمٌ لِحَجَّتِهِ وَدَمٌ لِعُمْرَتِهِ ، وَكَذَا الصَّدَقَةُ " .
وَهَذَا إِنَّمَا يَعْنِي بِهِ الْجِنَايَاتِ الَّتِي لاَ اخْتِصَاصَ لَهَا بِأَحَدِ النُّسُكَيْنِ كَلُبْسِ الْمَخِيطِ وَالتَّطَيُّبِ وَالْحَلْقِ وَالتَّعَرُّضِ لِلصَّيْدِ وَأَشْبَاهِهَا يَلْزَمُ الْقَارِنَ فِيهَا جَزَاءَانِ .
__________
(1) - الهداية 2 / 214 - 215 ، والمسلك المتقسط ص 192 ، ومطالب أولي النهى 2 / 315 - 316 ، 307 .
(2) - متن العشماوية وحاشية الصفتي ص 202 - 203 .
(3) - المجموع 7 / 175 .(1/236)
أَمَّا مَا يَخْتَصُّ بِأَحَدِ النُّسُكَيْنِ ، فَلاَ يَجِبُ إِلاَّ جَزَاءٌ وَاحِدٌ ، كَتَرْكِ الرَّمْيِ ، وَتَرْكِ طَوَافِ الْوَدَاعِ(1)
وَمِثْل الْقَارِنِ فِي ذَلِكَ كُل مَنْ جَمَعَ بَيْنَ الإِْحْرَامَيْنِ ، كَالْمُتَمَتِّعِ الَّذِي سَاقَ الْهَدْيَ ، أَوِ الَّذِي لَمْ يَسُقْهُ لَكِنْ لَمْ يَحِل مِنَ الْعُمْرَةِ حَتَّى أَحْرَمَ بِالْحَجِّ ، وَكَذَا كُل مَنْ جَمَعَ بَيْنَ الْحَجَّتَيْنِ أَوِ الْعُمْرَتَيْنِ(2)، كَمَنْ أَحْرَمَ بِهِمَا مَعًا ، فَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى انْعِقَادِ الإِْحْرَامِ بِهِمَا وَعَلَيْهِ قَضَاءُ أَحَدِهِمَا وَلاَ يَنْعَقِدُ إِحْرَامُهُ بِهِمَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ.
أَمَّا جِمَاعُ الْقَارِنِ ، فَفِيهِ تَفْصِيلٌ سَبَقَ فِي مُصْطَلَحِ ( إِحْرَام) .
ج - التَّمَتُّعُ : وَهُوَ أَنْ يُهِل بِالْعُمْرَةِ فَقَطْ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ ، وَيَأْتِيَ مَكَّةَ فَيُؤَدِّيَ مَنَاسِكَ الْعُمْرَةِ ، وَيَتَحَلَّل . وَيَمْكُثَ بِمَكَّةَ حَلاَلاً ، ثُمَّ يُحْرِمَ بِالْحَجِّ وَيَأْتِيَ بِأَعْمَالِهِ . وَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَنْحَرَ هَدْيًا بِالإِْجْمَاعِ .
- - - - - - - - - - - - - - -
التَمَتُّعُ(3)
تعريفُه:
التَّمَتُّعُ فِي اللُّغَةِ : الاِنْتِفَاعُ ، وَالْمَتَاعُ هُوَ كُل شَيْءٍ يُنْتَفَعُ بِهِ ، وَمَا يُتَبَلَّغُ بِهِ مِنَ الزَّادِ .
وَالْمُتْعَةُ اسْمٌ مِنَ التَّمَتُّعِ ، وَمِنْهُ مُتْعَةُ الْحَجِّ وَمُتْعَةُ الطَّلاَقِ ، وَنِكَاحُ الْمُتْعَةِ(4).
وَفِي الاِصْطِلاَحِ يُطْلَقُ التَّمَتُّعُ عَلَى مَعْنَيَيْنِ :
__________
(1) - انظر شرح اللباب ص 269 - 271 .
(2) - شرح اللباب ص 271
(3) -الموسوعة الفقهية الكويتية - (ج 14 / ص 6) فما بعد
(4) - لسان العرب ، والمصباح المنير مادة : " متع " ، وابن عابدين 2 / 194 ، والزيلعي 2 / 44 ، والبناية 3 / 6 .(1/237)
أَوَّلاً : بِمَعْنَى مُتْعَةِ النِّكَاحِ وَهُوَ الْعَقْدُ عَلَى امْرَأَةٍ إِلَى مُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ أَوْ مَجْهُولَةٍ ، وَهُوَ بَاطِلٌ بِلاَ خِلاَفٍ بَيْنَ الأَْئِمَّةِ ؛ لأَِنَّهُ لاَ يُرَادُ بِهِ مَقَاصِدُ النِّكَاحِ ، وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ : ( مُتْعَةٌ ) .
وَثَانِيًا : بِمَعْنَى الْمُتْعَةِ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ ، وَهُوَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنْ يَفْعَل أَفْعَال الْعُمْرَةِ أَوْ أَكْثَرَهَا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ ، وَأَنْ يَحُجَّ مِنْ عَامِهِ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُلِمَّ بِأَهْلِهِ إِلْمَامًا صَحِيحًا - وَالإِْلْمَامُ الصَّحِيحُ النُّزُول فِي وَطَنِهِ مِنْ غَيْرِ بَقَاءِ صِفَةِ الإِْحْرَامِ - وَيُحْرِمُ لِلْحَجِّ مِنَ الْحَرَمِ(1).
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ هُوَ أَنْ يُحْرِمَ بِعُمْرَةٍ وَيُتَمِّمَهَا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ ، ثُمَّ يَحُجَّ بَعْدَهَا فِي عَامِهِ(2)
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ هُوَ أَنْ يُحْرِمَ بِالْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ مِنْ مِيقَاتِ بَلَدِهِ أَوْ غَيْرِهِ ، وَيَفْرُغَ مِنْهَا ، ثُمَّ يُنْشِئَ حَجًّا مِنْ عَامِهِ دُونَ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الْمِيقَاتِ لِلإِْحْرَامِ بِالْحَجِّ(3).
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ هُوَ أَنْ يُحْرِمَ بِالْعُمْرَةِ مِنْ مِيقَاتِ بَلَدِهِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ ثُمَّ يُحْرِمَ بِالْحَجِّ مِنْ عَامِهِ مِنْ مَكَّةَ أَوْ قَرِيبٍ مِنْهَا(4).
__________
(1) - الزيلعي 2 / 45 ، والبناية 3 / 130 ، ومراقي الفلاح مع حاشية الطحطاوي ص402 ، ومغني المحتاج 1 / 513 ، وكشاف القناع 2 / 411
(2) - جواهر الإكليل 1 / 172 ، والفواكه الدواني 1 / 434
(3) - مغني المحتاج 1 / 514
(4) - كشاف القناع 2 / 411(1/238)
وَسُمِّيَ مُتَمَتِّعًا لِتَمَتُّعِهِ بَعْدَ تَمَامِ عُمْرَتِهِ بِالنِّسَاءِ وَالطِّيبِ وَغَيْرِهِمَا مِمَّا لاَ يَجُوزُ لِلْمُحْرِمِ ؛ وَلِتَرَفُّقِهِ وَتَرَفُّهِهِ بِسُقُوطِ أَحَدِ السَّفَرَيْنِ(1).
هَذَا هُوَ مَعْنَى التَّمَتُّعِ الَّذِي يُقَابِل الْقِرَانَ وَالإِْفْرَادَ .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ :
أ - الإِْفْرَادُ : الإِْفْرَادُ فِي الاِصْطِلاَحِ هُوَ أَنْ يُهِل بِالْحَجِّ وَحْدَهُ ، وَيُحْرِمَ بِهِ مُنْفَرِدًا(2).
ب - الْقِرَانُ : الْقِرَانُ فِي اللُّغَةِ : اسْمُ مَصْدَرٍ مِنْ قَرَنَ بِمَعْنَى جَمَعَ ، وَفِي الاِصْطِلاَحِ هُوَ أَنْ يُهِل بِالْحَجِّ ، وَالْعُمْرَةِ مِنَ الْمِيقَاتِ ، أَوْ يُحْرِمَ بِالْعُمْرَةِ ثُمَّ يُدْخِل عَلَيْهَا الْحَجَّ عَلَى خِلاَفٍ(3)
الْمُفَاضَلَةُ بَيْنَ التَّمَتُّعِ وَالإِْفْرَادِ وَالْقِرَانِ :
قَال الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ : الإِْفْرَادُ أَفْضَل ، لِحَدِيثِ جَابِرٍ وَعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَفْرَدَ الْحَجَّ(4).
__________
(1) - جواهر الإكليل 1 / 172 ، والفواكه الدواني 1 / 434 ، والقليوبي 2 / 128 ، والمغني 3 / 468 .
(2) -الاختيار 1 / 158 ، وحاشية الدسوقي 2 / 28 ، والقليوبي 2 / 127 ، وكشاف القناع 2 / 411 .
(3) - الاختيار 1 / 160 ، والقليوبي 2 / 127 ، وكشاف القناع 2 / 411 ، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 2 / 28 .
(4) - الدسوقي 2 / 28 ، ونهاية المحتاج 3 / 324 ، والمغني 3 / 276 ، 277 .(1/239)
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْقِرَانَ أَفْضَل - وَهَذَا رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ إِذَا سَاقَ الْهَدْيَ - لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ } (سورة البقرة / 196) وإِتْمَامُهُمَا أَنْ يُحْرِمَ مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِهِ ؛ وَلأَِنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - حَجَّ قَارِنًا(1). فَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَدِمَ قَارِنًا فَطَافَ بِالْبَيْتِ سَبْعًا وَسَعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ ثُمَّ قَالَ هَكَذَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - (2)
وَلِحَدِيثِ بَكْرٍ عَنْ أَنَسٍ - رضى الله عنه - قَالَ سَمِعْتُ النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- يُلَبِّى بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ جَمِيعًا. قَالَ بَكْرٌ فَحَدَّثْتُ بِذَلِكَ ابْنَ عُمَرَ فَقَالَ لَبَّى بِالْحَجِّ وَحْدَهُ. فَلَقِيتُ أَنَسًا فَحَدَّثْتُهُ بِقَوْلِ ابْنِ عُمَرَ فَقَالَ أَنَسٌ مَا تَعُدُّونَنَا إِلاَّ صِبْيَانًا سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ « لَبَّيْكَ عُمْرَةً وَحَجًّا ».(3)" ، وَلأَِنَّ الْقَارِنَ يَجْمَعُ بَيْنَ الْعِبَادَتَيْنِ بِامْتِدَادِ إِحْرَامِهِمَا ، وَالْمَشَقَّةُ فِيهِ أَكْثَرُ ، فَيَكُونُ الثَّوَابُ فِي الْقِرَانِ أَتَمَّ وَأَكْمَل(4).
__________
(1) - سنن ابن ماجه برقم (3088 ) عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَدِمَ قَارِنًا فَطَافَ بِالْبَيْتِ سَبْعًا وَسَعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ ثُمَّ قَالَ هَكَذَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وهو صحيح
(2) - سنن ابن ماجه برقم (3088 ) وهو صحيح
(3) -صحيح مسلم برقم (3054 )
(4) - الزيلعي 2 / 40 ، 41 ، 42(1/240)
وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ - وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ - بِأَنَّ التَّمَتُّعَ أَفْضَل مِنَ الإِْفْرَادِ وَالْقِرَانِ إِذَا لَمْ يَسُقْ هَدْيًا ، وَمِمَّنْ رُوِيَ عَنْهُ اخْتِيَارُ التَّمَتُّعِ ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ الزُّبَيْرِ وَعَائِشَةُ وَكَثِيرٌ مِنَ التَّابِعِينَ لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَمَرَ أَصْحَابَهُ لَمَّا طَافُوا بِالْبَيْتِ أَنْ يُحِلُّوا وَيَجْعَلُوهَا عُمْرَةً ، فعَنِ ابْنِ شِهَابٍ حَدَّثَنِى عُرْوَةُ أَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « لَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِى مَا اسْتَدْبَرْتُ مَا سُقْتُ الْهَدْىَ ، وَلَحَلَلْتُ مَعَ النَّاسِ حِينَ حَلُّوا »(1)
__________
(1) - صحيح البخارى برقم (7229 )(1/241)
وعَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِى عَطَاءٌ قَالَ سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ - رضى الله عنهما - فِى نَاسٍ مَعِى قَالَ أَهْلَلْنَا أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ -صلى الله عليه وسلم- بِالْحَجِّ خَالِصًا وَحْدَهُ - قَالَ عَطَاءٌ قَالَ جَابِرٌ - فَقَدِمَ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- صُبْحَ رَابِعَةٍ مَضَتْ مِنْ ذِى الْحِجَّةِ فَأَمَرَنَا أَنْ نَحِلَّ. قَالَ عَطَاءٌ قَالَ « حِلُّوا وَأَصِيبُوا النِّسَاءَ ». قَالَ عَطَاءٌ وَلَمْ يَعْزِمْ عَلَيْهِمْ وَلَكِنْ أَحَلَّهُنَّ لَهُمْ. فَقُلْنَا لَمَّا لَمْ يَكُنْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ عَرَفَةَ إِلاَّ خَمْسٌ أَمَرَنَا أَنْ نُفْضِىَ إِلَى نِسَائِنَا فَنَأْتِىَ عَرَفَةَ تَقْطُرُ مَذَاكِيرُنَا الْمَنِىَّ. قَالَ يَقُولُ جَابِرٌ بِيَدِهِ - كَأَنِّى أَنْظُرُ إِلَى قَوْلِهِ بِيَدِهِ يُحَرِّكُهَا - قَالَ فَقَامَ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- فِينَا فَقَالَ « قَدْ عَلِمْتُمْ أَنِّى أَتْقَاكُمْ لِلَّهِ وَأَصْدَقُكُمْ وَأَبَرُّكُمْ وَلَوْلاَ هَدْيِى لَحَلَلْتُ كَمَا تَحِلُّونَ وَلَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِى مَا اسْتَدْبَرْتُ لَمْ أَسُقِ الْهَدْىَ فَحِلُّوا ». فَحَلَلْنَا وَسَمِعْنَا وَأَطَعْنَا.(1).
فَنَقْل النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - إِيَّاهُمْ مِنَ الإِْفْرَادِ وَالْقِرَانِ إِلَى التَّمَتُّعِ يَدُل عَلَى أَفْضَلِيَّةِ التَّمَتُّعِ(2).
أَرْكَانُ التَّمَتُّعِ :
__________
(1) - صحيح مسلم برقم (3002 )
(2) - المغني 3 / 276 ، وكشاف القناع 2 / 410 ، والدسوقي 2 / 27 ، ونهاية المحتاج 3 / 314 ، 315(1/242)
التَّمَتُّعُ جَمْعٌ بَيْنَ نُسُكَيِ الْعُمْرَةِ وَالْحَجِّ بِإِحْرَامَيْنِ : إِحْرَامٍ مِنَ الْمِيقَاتِ لِلْعُمْرَةِ ، وَإِحْرَامٍ مِنْ مَكَّةَ لِلْحَجِّ ؛ وَلِذَلِكَ فَأَرْكَانُ التَّمَتُّعِ هِيَ أَرْكَانُ الْعُمْرَةِ وَالْحَجِّ مَعًا فَيَجِبُ عَلَيْهِ بَعْدَ الإِْحْرَامِ الطَّوَافُ وَالسَّعْيُ لِلْعُمْرَةِ ، ثُمَّ بَعْدَ الإِْحْرَامِ لِلْحَجِّ يَجِبُ عَلَيْهِ الإِْتْيَانُ بِأَرْكَانِ وَأَعْمَال الْحَجِّ كَالْمُفْرِدِ ، كَمَا هُوَ مُبَيَّنٌ فِي مُصْطَلَحِ : ( حَجٌّ ) .
وَهُنَاكَ شُرُوطٌ خَاصَّةٌ لِلتَّمَتُّعِ ذَكَرَهَا الْفُقَهَاءُ كَمَا يَأْتِي :
شُرُوطُ التَّمَتُّعِ :
أ - تَقْدِيمُ الْعُمْرَةِ عَلَى الْحَجِّ :
اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْمُتَمَتِّعَ يُشْتَرَطُ عَلَيْهِ أَنْ يُحْرِمَ بِالْعُمْرَةِ قَبْل الإِْحْرَامِ بِالْحَجِّ ، وَيَأْتِيَ بِأَعْمَالِهَا قَبْل أَنْ يُحْرِمَ بِالْحَجِّ ، فَلَوْ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ وَالْحَجِّ مَعًا مِنَ الْمِيقَاتِ أَوْ أَدْخَل الْحَجَّ عَلَى الْعُمْرَةِ قَبْل الشُّرُوعِ فِي أَعْمَالِهِمَا يُصْبِحُ قَارِنًا . إِلاَّ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ قَالُوا : إِذَا طَافَ لِلْعُمْرَةِ أَرْبَعَةَ أَشْوَاطٍ قَبْل الإِْحْرَامِ بِالْحَجِّ صَحَّ تَمَتُّعُهُ(1).
ب - أَنْ تَكُونَ الْعُمْرَةُ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ :
يُشْتَرَطُ لِلْمُتَمَتِّعِ أَنْ تَكُونَ عُمْرَتُهُ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ ، فَإِنِ اعْتَمَرَ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ وَحَل مِنْهَا قَبْل أَشْهُرِ الْحَجِّ ثُمَّ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ لاَ يَكُونُ مُتَمَتِّعًا .
__________
(1) - ابن عابدين 23 / 194 ، والفواكه الدواني 1 / 433 ، والقليوبي 2 / 228 ، ومغني المحتاج 1 / 514 ، وكشاف القناع 2 / 411 ، والمغني لابن قدامة 3 / 469(1/243)
وَهَذَا الْقَدْرُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ(1). إِلاَّ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ أَعْطَوُا الأَْكْثَرَ حُكْمَ الْكُل فَقَالُوا : لَوْ طَافَ لِلْعُمْرَةِ أَرْبَعَةَ أَشْوَاطٍ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ يُعْتَبَرُ مُتَمَتِّعًا وَإِنْ وَقَعَ الإِْحْرَامُ وَالأَْشْوَاطُ الثَّلاَثَةُ قَبْل أَشْهُرِ الْحَجِّ(2).
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ : يُشْتَرَطُ فِعْل بَعْضِ رُكْنِ الْعُمْرَةِ وَلَوْ شَوْطًا مِنَ السَّعْيِ فِي وَقْتِ الْحَجِّ . فَمَنْ أَدَّى شَوْطًا مِنَ السَّعْيِ وَحَل مِنْ عُمْرَتِهِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ ثُمَّ حَجَّ مِنْ عَامِهِ فَهُوَ مُتَمَتِّعٌ وَإِنْ حَل مِنْ عُمْرَتِهِ قَبْل أَشْهُرِ الْحَجِّ فَلَيْسَ بِمُتَمَتِّعٍ(3).
أَمَّا الْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ - فَاشْتَرَطُوا أَنْ يَكُونَ الإِْحْرَامُ بِالْعُمْرَةِ وَأَعْمَالِهَا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ ، فَلَوْ أَحْرَمَ بِهَا فِي غَيْرِ أَشْهُرِهِ لَمْ يَكُنْ مُتَمَتِّعًا ، وَإِنْ وَقَعَتْ أَفْعَالُهَا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ ؛ لأَِنَّهُ أَتَى بِالإِْحْرَامِ - وَهُوَ نُسُكٌ لاَ تَتِمُّ الْعُمْرَةُ إِلاَّ بِهِ - فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ فَلَمْ يَكُنْ مُتَمَتِّعًا كَمَا لَوْ طَافَ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ .
__________
(1) - الاختيار 2 / 158 ، وجواهر الإكليل 1 / 172 ، مغني المحتاج 1 / 514 ، والمغني 3 / 470 .
(2) - ابن عابدين 2 / 194 ، والبناية 3 / 650
(3) - الفوكه الدواني 1 / 345 ، وجواهر الإكليل 1 / 172 .(1/244)
وَالْقَوْل الآْخَرُ لِلشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ لَوْ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ وَأَتَى بِأَفْعَالِهَا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ يَجِبُ عَلَيْهِ دَمُ التَّمَتُّعِ ؛ لأَِنَّ عُمْرَتَهُ فِي الشَّهْرِ الَّذِي يَطُوفُ فِيهِ ، وَاسْتِدَامَةُ الإِْحْرَامِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ بِمَنْزِلَةِ ابْتِدَائِهِ فِيهَا(1).
ج - كَوْنُ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فِي عَامٍ وَاحِدٍ :
يُشْتَرَطُ فِي التَّمَتُّعِ أَنْ تُؤَدَّى الْعُمْرَةُ وَالْحَجُّ فِي سَنَةٍ وَاحِدَةٍ ، فَإِنِ اعْتَمَرَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ وَلَمْ يَحُجَّ ذَلِكَ الْعَامَ بَل حَجَّ الْعَامَ الْقَابِل فَلَيْسَ بِمُتَمَتِّعٍ وَإِنْ بَقِيَ حَرَامًا إِلَى السَّنَةِ الثَّانِيَةِ وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى :{ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ } (سورة البقرة / 196) وَهَذَا يَقْتَضِي الْمُوَالاَةَ بَيْنَهُمَا ؛ وَلِمَا رَوَى سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ قَال : كَانَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - يَعْتَمِرُونَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ فَإِذَا لَمْ يَحُجُّوا مِنْ عَامِهِمْ ذَلِكَ لَمْ يُهْدُوا .وَهَذَا الشَّرْطُ مَحَل اتِّفَاقٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ(2).
د - عَدَمُ السَّفَرِ بَيْنَ الْعُمْرَةِ وَالْحَجِّ :
اخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُ الْفُقَهَاءِ فِي بَيَانِ هَذَا الشَّرْطِ :
__________
(1) - المهذب 1 / 208 ، ومغني المحتاج 1 / 514 ، والمغني لابن قدامة 3 / 470 ، وكشاف القناع 2 / 413
(2) - ابن عابدين 1 / 195 ، والزيلعي 2 / 45 ، وجواهر الإكليل 1 / 173 ، والفواكه الدواني 1 / 434 ، ومغني المحتاج 1 / 524 ، والمغني 3 / 471 ، وكشاف القناع 2 / 413 .(1/245)
فَقَال الْحَنَفِيَّةُ : يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ طَوَافُ الْعُمْرَةِ كُلُّهُ أَوْ أَكْثَرُهُ وَالْحَجُّ فِي سَفَرٍ وَاحِدٍ ، فَإِنْ عَادَ الْمُتَمَتِّعُ إِلَى بَلَدِهِ بَعْدَ الْعُمْرَةِ وَلَمْ يَكُنْ سَاقَ الْهَدْيَ بَطَل تَمَتُّعُهُ ؛ لأَِنَّهُ أَلَمَّ بِأَهْلِهِ إِلْمَامًا صَحِيحًا فَانْقَطَعَ حُكْمُ السَّفَرِ الأَْوَّل .
وَلَوْ رَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ قَبْل إِتْمَامِ الطَّوَافِ ثُمَّ عَادَ وَحَجَّ ، فَإِنْ كَانَ أَكْثَرُ الطَّوَافِ فِي السَّفَرِ الأَْوَّل لَمْ يَكُنْ مُتَمَتِّعًا ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرُهُ فِي الثَّانِي كَانَ مُتَمَتِّعًا(1).
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ : يُشْتَرَطُ عَدَمُ رُجُوعِهِ بَعْدَ عُمْرَتِهِ إِلَى بَلَدِهِ أَوْ إِلَى مِثْل بَلَدِهِ فِي الْبُعْدِ عَنْ مَكَّةَ ، فَإِذَا رَجَعَ لَمْ يَكُنْ مُتَمَتِّعًا وَلَوْ كَانَ بَلَدُهُ فِي أَرْضِ الْحِجَازِ . وَأَمَّا إِذَا رَجَعَ إِلَى أَقَل مِنْ بَلَدِهِ ثُمَّ حَجَّ فَإِنَّهُ يَكُونُ مُتَمَتِّعًا إِلاَّ أَنْ يَكُونَ بَلَدُهُ بَعِيدًا كَتُونِسَ ، فَإِنَّ هَذَا إِذَا رَجَعَ إِلَى مِصْرَ بَعْدَ فِعْل عُمْرَتِهِ وَقَبْل حَجِّهِ وَعَادَ وَأَحْرَمَ بِالْحَجِّ لاَ يَكُونُ مُتَمَتِّعًا(2).
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ : يُشْتَرَطُ أَنْ لاَ يَعُودَ لإِِحْرَامِ الْحَجِّ إِلَى الْمِيقَاتِ ، فَإِنْ رَجَعَ إِلَى الْمِيقَاتِ فَأَحْرَمَ لِلْحَجِّ لاَ يَكُونُ مُتَمَتِّعًا وَلَمْ يَلْزَمْهُ الدَّمُ(3).
وَقَال الْحَنَابِلَةُ : يُشْتَرَطُ أَنْ لاَ يُسَافِرَ بَيْنَ الْعُمْرَةِ وَالْحَجِّ سَفَرًا بَعِيدًا تُقْصَرُ فِي مِثْلِهِ الصَّلاَةُ .
__________
(1) - الاختيار 2 / 159 ، وابن عابدين 1 / 195 .
(2) -الفواكه الدواني 1 / 434 .
(3) - المهذب 1 / 208 .(1/246)
وَالأَْصْل فِي ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَال : إِذَا اعْتَمَرَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ ثُمَّ أَقَامَ فَهُوَ مُتَمَتِّعٌ ، فَإِنْ خَرَجَ وَرَجَعَ فَلَيْسَ بِمُتَمَتِّعٍ(1).
هـ - التَّحَلُّل مِنَ الْعُمْرَةِ قَبْل الإِْحْرَامِ بِالْحَجِّ :
يُشْتَرَطُ لِلْمُتَمَتِّعِ أَنْ يَحِل مِنَ الْعُمْرَةِ قَبْل إِحْرَامِهِ بِالْحَجِّ ، فَإِنْ أَدْخَل الْحَجَّ عَلَى الْعُمْرَةِ قَبْل حِلِّهِ مِنْهَا فَيَكُونُ قَارِنًا وَلَيْسَ مُتَمَتِّعًا ، وَهَذَا
الشَّرْطُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ ، إِلاَّ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ قَالُوا : إِنَّ هَذَا الشَّرْطَ لِمَنْ لَمْ يَسُقِ الْهَدْيَ ، أَمَّا مَنْ سَاقَ الْهَدْيَ فَلاَ يَحِل مِنْ إِحْرَامِ الْعُمْرَةِ إِلَى أَنْ يُحْرِمَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ أَوْ قَبْلَهُ لِلْحَجِّ كَمَا يُحْرِمُ أَهْل مَكَّةَ ، فَإِذَا حَلَقَ يَوْمَ النَّحْرِ حَل مِنَ الإِْحْرَامَيْنِ(2).
و - أَنْ لاَ يَكُونَ مِنْ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ :
لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ أَنَّ دَمَ التَّمَتُّعِ لاَ يَجِبُ عَلَى حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَلاَ تَمَتُّعَ لَهُمْ ، إِذْ قَدْ نَصَّ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ : { ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } (سورة البقرة / 196) .
__________
(1) - المغني لابن قدامة 3 / 471 ، وكشاف القناع 2 / 413 .
(2) - الاختيار 1 / 158 ، 159 ، وابن عابدين 2 / 194 ، 195 ، وجواهر الإكليل 1 / 173 ، والفواكه الدواني 1 / 434 ، ومغني المحتاج 1 / 514 ، والمغني 3 / 472 ، وكشاف القناع 2 / 413 .(1/247)
وَلأَِنَّ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ مِيقَاتُهُمْ مَكَّةُ فَلاَ يَحْصُل لَهُمُ التَّرَفُّهُ بِتَرْكِ أَحَدِ السَّفَرَيْنِ ؛ وَلأَِنَّ الْمُتَمَتِّعَ مَنْ تَكُونُ عُمْرَتُهُ مِيقَاتِيَّةً وَحَجَّتُهُ مَكِّيَّةً وَلاَ كَذَلِكَ حَاضِرُو الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ(1).
الْمُرَادُ بِحَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ :
صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِأَنَّ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَهْل الْحَرَمِ وَمَنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَكَّةَ ، ( وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ مَنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَرَمِ ) دُونَ مَسَافَةِ قَصْرٍ .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ : الْمُرَادُ بِحَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَهْل مَكَّةَ وَمَنْ فِي حُكْمِهِمْ مِنْ أَهْل دَاخِل الْمَوَاقِيتِ
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ : هُمْ مُقِيمُو مَكَّةَ وَمُقِيمُو ذِي طُوًى(2).
__________
(1) - الاختيار 1 / 159 ، والبناية 30 / 657 ، والفواكه الدواني 1 / 435 ، والمغني لابن قدامة 3 / 472 ، 473 ، ومغني المحتاج 1 / 515
(2) - ابن عابدين 2 / 197 ، وجواهر الإكليل 1 / 172 ، والفواكه الدواني والمهذب 1 / 208 ، والقليوبي 2 / 128 ، والمغني لابن قدامة 3 / 473 .(1/248)
وَالْعِبْرَةُ بِالتَّوَطُّنِ ، فَلَوِ اسْتَوْطَنَ الْمَكِّيُّ الْمَدِينَةَ مَثَلاً فَهُوَ آفَاقِيٌّ ، وَبِالْعَكْسِ مَكِّيٌّ . فَإِنْ كَانَ لِلْمُتَمَتِّعِ مَسْكَنَانِ أَحَدُهُمَا بَعِيدٌ ، وَالآْخَرُ قَرِيبٌ اُعْتُبِرَ فِي كَوْنِهِ مِنَ الْحَاضِرِينَ أَوْ غَيْرِهِمْ كَثْرَةُ إِقَامَتِهِ بِأَحَدِهِمَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ ، وَهُوَ قَوْل الْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ(1). فَإِنِ اسْتَوَتْ إِقَامَتُهُ بِهِمَا فَلَيْسَ بِمُتَمَتِّعٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ ، وَاعْتُبِرَ الأَْهْل وَالْمَال عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ بِاعْتِبَارِ الأَْكْثَرِيَّةِ(2).
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ : لَوْ كَانَ لِلْمُتَمَتِّعِ أَهْلاَنِ أَهْلٌ بِمَكَّةَ وَأَهْلٌ بِغَيْرِهَا ، فَالْمَذْهَبُ اسْتِحْبَابُ الْهَدْيِ وَلَوْ غَلَبَتْ إِقَامَتُهُ فِي أَحَدِهِمَا(3).
هَذَا وَإِذَا دَخَل الآْفَاقِيُّ مَكَّةَ مُتَمَتِّعًا نَاوِيًا الإِْقَامَةَ بِهَا بَعْدَ تَمَتُّعِهِ فَعَلَيْهِ دَمٌ اتِّفَاقًا بَيْنَ الْفُقَهَاءِ(4).
ز - عَدَمُ إِفْسَادِ الْعُمْرَةِ أَوِ الْحَجِّ :
ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ - أَنَّ مِنْ شُرُوطِ التَّمَتُّعِ عَدَمَ إِفْسَادِ الْعُمْرَةِ أَوِ الْحَجِّ ، فَإِذَا أَفْسَدَهَا لاَ يُعْتَبَرُ مُتَمَتِّعًا ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ دَمُ التَّمَتُّعِ ؛ لأَِنَّهُ لَمْ يَحْصُل لَهُ التَّرَفُّهُ بِسُقُوطِ أَحَدِ السَّفَرَيْنِ .
__________
(1) - ابن عابدين 2 / 195 ، ومغني المحتاج 1 / 516 ، والمغني لابن قدامة 3 / 473 .
(2) - كشاف القناع 2 / 413 ، ومغني المحتاج 1 / 516 ، والمغني لابن قدامة 3 / 473 .
(3) - الفواكه الدواني 1 / 435 ، وجواهر الإكليل 1 / 172 .
(4) - المراجع السابقة ، وانظر ابن عابدين 2 / 195 ، 197 ، والمهذب 1 / 208 ، والمغني 3 / 473 .(1/249)
وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ إِذَا أَفْسَدَ الْقَارِنُ وَالْمُتَمَتِّعُ نُسُكَيْهِمَا لَمْ يَسْقُطِ الدَّمُ عَنْهُمَا ، قَال ابْنُ قُدَامَةَ : وَبِهِ قَال مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ ؛ لأَِنَّهُ مَا وَجَبَ فِي النُّسُكِ الصَّحِيحِ وَجَبَ فِي الْفَاسِدِ .
هَذَا وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ لِوُجُوبِ الدَّمِ أَنْ يَنْوِيَ التَّمَتُّعَ فِي ابْتِدَاءِ الْعُمْرَةِ أَوْ أَثْنَائِهَا ، وَلَمْ يَعْتَبِرْهُ الآْخَرُونَ(1)
وَلاَ يُعْتَبَرُ وُقُوعُ النُّسُكَيْنِ عَنْ شَخْصٍ وَاحِدٍ ، فَلَوْ اعْتَمَرَ لِنَفْسِهِ وَحَجَّ عَنْ غَيْرِهِ أَوْ عَكْسَهُ أَوْ فَعَل ذَلِكَ عَنِ اثْنَيْنِ كَانَ عَلَيْهِ دَمُ التَّمَتُّعِ لِظَاهِرِ الآْيَةِ ، وَهَذَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ . وَقَال الْمَالِكِيَّةُ : فِي شَرْطِ كَوْنِهِمَا عَنْ شَخْصٍ وَاحِدٍ تَرَدُّدٌ ، أَنْكَرَهُ ابْنُ عَرَفَةَ وَخَلِيلٌ فِي مَنَاسِكِهِ ، وَقَال ابْنُ الْحَاجِبِ : الأَْشْهَرُ اشْتِرَاطُهُ(2).
هَذَا وَقَدْ ذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّ هَذِهِ الشُّرُوطَ مُعْتَبَرَةٌ لِوُجُوبِ الدَّمِ لاَ لِكَوْنِهِ مُتَمَتِّعًا ، وَلِهَذَا يَصِحُّ التَّمَتُّعُ وَالْقِرَانُ مِنَ الْمَكِّيِّ فِي الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ . وَفِي وَجْهٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ ، وَرِوَايَةٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهَا تُشْتَرَطُ لِكَوْنِهِ مُتَمَتِّعًا ، فَلَوْ فَاتَ شَرْطٌ لاَ يَكُونُ مُتَمَتِّعًا(3).
__________
(1) - ابن عابدين 2 / 194 ، والمهذب 1 / 208 ، ومغني المحتاج 1 / 516 ، وكشاف القناع 3 / 413 ، والمغني 3 / 474 ، 486
(2) - ابن عابدين 2 / 194 ، 195 ، ومغني المحتاج 1 / 516 ، وجواهر الإكليل 1 / 173 ، وكشاف القناع 2 / 413 ، 14 .
(3) -مغني المحتاج 1 / 516 ، والمغني لابن قدامة 474 .(1/250)
سَوْقُ الْهَدْيِ هَل يَمْنَعُ التَّحَلُّل ؟
قَال مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ : الْمُتَمَتِّعُ إِذَا فَرَغَ مِنْ أَعْمَال الْعُمْرَةِ يَتَحَلَّل ، سَاقَ الْهَدْيَ أَمْ لَمْ يَسُقْ(1).
__________
(1) - الدسوقي 8 / 87 ، والقرطبي 2 / 476 ، ومغني المحتاج 1 / 516 .(1/251)
وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّ لِلْمُتَمَتِّعِ إِنْ شَاءَ أَنْ يَسُوقَ الْهَدْيَ - وَهُوَ أَفْضَل - وَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ إِذَا دَخَل مَكَّةَ طَافَ وَسَعَى لِلْعُمْرَةِ وَلاَ يَتَحَلَّل ، ثُمَّ يُحْرِمُ بِالْحَجِّ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ أَوْ قَبْلَهُ كَمَا يُحْرِمُ أَهْل مَكَّةَ . لِقَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم - : " لَوْ أَنِّى اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِى مَا اسْتَدْبَرْتُ لَمْ أَسُقِ الْهَدْىَ وَجَعَلْتُهَا عُمْرَةً فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ لَيْسَ مَعَهُ هَدْىٌ فَلْيَحِلَّ وَلْيَجْعَلْهَا عُمْرَةً ".(1)وَهَذَا يَنْفِي التَّحَلُّل عِنْدَ سَوْقِ الْهَدْيِ فَإِذَا حَلَقَ يَوْمَ النَّحْرِ حَل مِنَ الإِْحْرَامَيْنِ وَذَبَحَ دَمَ التَّمَتُّعِ . وَعَدَمُ التَّحَلُّل لِمَنْ يَسُوقُ الْهَدْيَ هُوَ مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ أَيْضًا فِي الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ(2).
__________
(1) - صحيح البخارى برقم (1651) وسنن أبى داود برقم (1786) وصحيح مسلم برقم (3009)
(2) - البناية على الهداية 3 / 645 ، والاختيار 1 / 159 ، والمغني لابن قدامة 3 / 390 ، 391 .(1/252)
لِمَا رُوِيَ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ - رضى الله عنهما - قَالَ تَمَتَّعَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِى حَجَّةِ الْوَدَاعِ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ ، وَأَهْدَى فَسَاقَ مَعَهُ الْهَدْىَ مِنْ ذِى الْحُلَيْفَةِ ، وَبَدَأَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَأَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ ، ثُمَّ أَهَلَّ بِالْحَجِّ ، فَتَمَتَّعَ النَّاسُ مَعَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ ، فَكَانَ مِنَ النَّاسِ مَنْ أَهْدَى فَسَاقَ الْهَدْىَ ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُهْدِ ، فَلَمَّا قَدِمَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - مَكَّةَ ، قَالَ لِلنَّاسِ " مَنْ كَانَ مِنْكُمْ أَهْدَى فَإِنَّهُ لاَ يَحِلُّ لِشَىْءٍ حَرُمَ مِنْهُ حَتَّى يَقْضِىَ حَجَّهُ ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَهْدَى فَلْيَطُفْ بِالْبَيْتِ ، وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ ، وَلْيُقَصِّرْ ، وَلْيَحْلِلْ ، ثُمَّ لِيُهِلَّ بِالْحَجِّ ، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ هَدْيًا فَلْيَصُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ فِى الْحَجِّ وَسَبْعَةً إِذَا رَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ " .(1/253)
فَطَافَ حِينَ قَدِمَ مَكَّةَ ، وَاسْتَلَمَ الرُّكْنَ أَوَّلَ شَىْءٍ ، ثُمَّ خَبَّ ثَلاَثَةَ أَطْوَافٍ ، وَمَشَى أَرْبَعًا ، فَرَكَعَ حِينَ قَضَى طَوَافَهُ بِالْبَيْتِ عِنْدَ الْمَقَامِ رَكْعَتَيْنِ ، ثُمَّ سَلَّمَ ، فَانْصَرَفَ فَأَتَى الصَّفَا فَطَافَ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ سَبْعَةَ أَطْوَافٍ ، ثُمَّ لَمْ يَحْلِلْ مِنْ شَىْءٍ حَرُمَ مِنْهُ حَتَّى قَضَى حَجَّهُ وَنَحَرَ هَدْيَهُ يَوْمَ النَّحْرِ ، وَأَفَاضَ فَطَافَ بِالْبَيْتِ ، ثُمَّ حَلَّ مِنْ كُلِّ شَىْءٍ حَرُمَ مِنْهُ ، وَفَعَلَ مِثْلَ مَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَنْ أَهْدَى وَسَاقَ الْهَدْىَ مِنَ النَّاسِ"(1).
وُجُوبُ الْهَدْيِ فِي التَّمَتُّعِ :
اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ الْهَدْيُ عَلَى الْمُتَمَتِّعِ وَذَلِكَ بِنَصِّ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ ، قَال تَعَالَى : { فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ } (سورة البقرة / 196)
وَالْهَدْيُ الْوَاجِبُ شَاةٌ أَوْ بَقَرَةٌ أَوْ بَعِيرٌ أَوْ سُبُعُ الْبَقَرَةِ أَوِ الْبَعِيرِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ . وَقَال مَالِكٌ هُوَ بَدَنَةٌ وَلاَ يَصِحُّ سُبُعُ بَعِيرٍ أَوْ بَقَرَةٍ .
__________
(1) - صحيح البخارى برقم (1691 ) ومسلم برقم (3041 )(1/254)
وَوَقْتُ وُجُوبِهِ إِحْرَامُهُ بِالْحَجِّ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ . وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَهُمْ وَقْتُ وُجُوبِهِ الْوَقْتُ الَّذِي يَتَعَيَّنُ فِيهِ نَحْرُهُ(1). وَوَقْتُ ذَبْحِهِ وَإِخْرَاجِهِ يَوْمُ النَّحْرِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ ، وَيَجُوزُ ذَبْحُهُ بَعْدَ أَعْمَال الْعُمْرَةِ وَلَوْ قَبْل الإِْحْرَامِ بِالْحَجِّ فِي الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ ، وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ .
وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ إِنْ قَدَّمَ الْمُتَمَتِّعُ الْهَدْيَ قَبْل الْعَشْرِ طَافَ وَسَعَى وَنَحَرَ هَدْيَهُ ، وَإِنْ قَدَّمَ فِي الْعَشْرِ لَمْ يَنْحَرْ إِلاَّ يَوْمَ النَّحْرِ(2).
بَدَل الْهَدْيِ :
اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْمُتَمَتِّعَ إِذَا لَمْ يَجِدْ الْهَدْيَ بِأَنْ فَقَدَهُ أَوْ ثَمَنَهُ أَوْ وَجَدَهُ بِأَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِ مِثْلِهِ ، يَنْتَقِل إِلَى صِيَامِ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ ، وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعَ ؛ وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ } (سورة البقرة / 196 )
وَتُعْتَبَرُ الْقُدْرَةُ فِي مَوْضِعِهِ ، فَمَتَى عَدِمَهُ فِي مَوْضِعِهِ جَازَ لَهُ الاِنْتِقَال إِلَى الصِّيَامِ وَإِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى الْهَدْيِ فِي بَلَدِهِ(3).
__________
(1) - فتح القدير 2 / 417 ، وجواهر الإكليل 1 / 173 ، والحطاب 2 / 60 ، 63 ، ومغني المحتاج 1 / 515 - 516 ، والمغني لابن قدامة 3 / 469 ، 475 .
(2) - المراجع السابقة .
(3) - البناية على الهداية 3 / 635 ، 636 ، والفواكه الدواني 1 / 433 ، ومغني المحتاج 1 / 516 ، والمغني 3 / 476 .(1/255)
هَذَا وَلاَ يَلْزَمُ التَّتَابُعُ فِي الصِّيَامِ بَدَل الْهَدْيِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ . قَال ابْنُ قُدَامَةَ : لاَ نَعْلَمُ فِيهِ مُخَالِفًا . وَيُنْدَبُ تَتَابُعُ الثَّلاَثَةِ ، وَكَذَا السَّبْعَةُ عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ مِنْهُمُ الشَّافِعِيَّةُ(1). وَقْتُ الصِّيَامِ وَمَكَانُهُ :
أَوَّلاً - صِيَامُ الأَْيَّامِ الثَّلاَثَةِ :
جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ عَلَى أَنَّ الْوَقْتَ الْمُخْتَارَ لِصِيَامِ الثَّلاَثَةِ هُوَ أَنْ يَصُومَهَا مَا بَيْنَ إِحْرَامِهِ بِالْحَجِّ وَيَوْمِ عَرَفَةَ ، وَيَكُونُ آخِرُ أَيَّامِهَا يَوْمَ عَرَفَةَ ، وَعَلَى ذَلِكَ يُسْتَحَبُّ لَهُ تَقْدِيمُ الإِْحْرَامِ بِالْحَجِّ قَبْل يَوْمِ التَّرْوِيَةِ لِيُكْمِل الثَّلاَثَةَ يَوْمَ عَرَفَةَ ؛ لأَِنَّ الصَّوْمَ بَدَل الْهَدْيِ فَيُسْتَحَبُّ تَأْخِيرُهُ إِلَى آخِرِ وَقْتِهِ رَجَاءَ أَنْ يَقْدِرَ عَلَى الأَْصْل .
وَيُسْتَحَبُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنْ يَكُونَ الثَّلاَثَةُ قَبْل يَوْمِ عَرَفَةَ ؛ لأَِنَّ صَوْمَ يَوْمِ عَرَفَةَ بِعَرَفَةَ غَيْرُ مُسْتَحَبٍّ(2)
__________
(1) -المراجع السابقة ، وانظر مغني المحتاج 1 / 517 ، والمغني 3 / 478 ، وجواهر الإكليل 1 / 200 - 201
(2) - البناية على الهداية 3 / 623 ، والفواكه الدواني 1 / 433 ، ومغني المحتاج 1 / 516 ، 517 والمغني لابن قدامة 3 / 476 ، 477 .(1/256)
وَلاَ يَجُوزُ تَقْدِيمُ الثَّلاَثَةِ أَوْ يَوْمٍ مِنْهَا عَلَى الإِْحْرَامِ بِالْحَجِّ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ ، وَهُوَ قَوْل زُفَرَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ } (سورة البقرة / 196 ) وَلأَِنَّ الصَّوْمَ عِبَادَةٌ بَدَنِيَّةٌ فَلاَ يَجُوزُ تَقْدِيمُهَا عَلَى وَقْتِ وُجُوبِهَا كَسَائِرِ الصِّيَامِ الْوَاجِبِ ؛ وَلأَِنَّ مَا قَبْلَهُ لاَ يَجُوزُ فِيهِ الدَّمُ فَلَمْ يَجُزْ بَدَلُهُ(1).
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى جَوَازِ تَقْدِيمِ الثَّلاَثَةِ عَلَى الإِْحْرَامِ بِالْحَجِّ بَعْدَ الإِْحْرَامِ بِالْعُمْرَةِ ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ إِذَا حَل مِنَ الْعُمْرَةِ . وَالدَّلِيل عَلَى ذَلِكَ أَنَّ إِحْرَامَ الْعُمْرَةِ أَحَدُ إِحْرَامَيِ التَّمَتُّعِ فَجَازَ الصَّوْمُ بَعْدَهُ كَإِحْرَامِ الْحَجِّ . وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى : { فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ } (سورة البقرة / 196) فَالْمُرَادُ بِهِ وَقْتُهُ أَوْ أَشْهُرُ الْحَجِّ ؛ لأَِنَّ نَفْسَ الْحَجِّ - وَهِيَ أَفْعَالٌ مَعْلُومَةٌ - لاَ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ ظَرْفًا لِفِعْلٍ آخَرَ وَهُوَ الصَّوْمُ وَأَمَّا تَقْدِيمُ الصَّوْمِ عَلَى إِحْرَامِ الْعُمْرَةِ فَلاَ يَجُوزُ اتِّفَاقًا لِعَدَمِ وُجُودِ السَّبَبِ(2)
__________
(1) - المراجع السابقة .
(2) - البناية على الهداية 3 / 621 ، 622 ، والفواكه الدواني 1 / 433 ، والمغني لابن قدامة 3 / 477 ، وانظر المراجع السابقة .(1/257)
وَإِنْ فَاتَهُ الصَّوْمُ حَتَّى أَتَى يَوْمُ النَّحْرِ صَامَ أَيَّامَ مِنًى عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ - وَهُوَ الظَّاهِرُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ – وَقَال الشَّافِعِيَّةُ : وَهُوَ رِوَايَةٌ أُخْرَى عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ يَصُومُهَا بَعْدَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ ؛ لأَِنَّهُ صَوْمٌ مُؤَقَّتٌ فَيُقْضَى ، وَالأَْظْهَرُ عِنْدَهُمْ أَنْ يُفَرِّقَ فِي قَضَائِهَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ السَّبْعَةِ بِقَدْرِ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ ( يَوْمُ النَّحْرِ وَأَيَّامُ التَّشْرِيقِ ) وَمُدَّةُ إِمْكَانِ السَّيْرِ إِلَى أَهْلِهِ عَلَى الْعَادَةِ الْغَالِبَةِ(1).
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ : لاَ يُجْزِئُهُ إِلاَّ الدَّمُ ، لِنَهْيِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - عَنِ الصَّوْمِ فِي هَذِهِ الأَْيَّامِ ؛ وَلأَِنَّ الصَّوْمَ بَدَلٌ عَنِ الْهَدْيِ وَلاَ نَظِيرَ لَهُ فِي الشَّرْعِ ؛ وَلأَِنَّ الإِْبْدَال ثَبَتَ شَرْعًا عَلَى خِلاَفِ الْقِيَاسِ ؛ لأَِنَّهُ لاَ مُمَاثَلَةَ بَيْنَ الدَّمِ وَالصَّوْمِ فَلاَ يَثْبُتُ إِلاَّ بِإِثْبَاتِ الشَّارِعِ ، وَالنَّصُّ خَصَّهُ بِوَقْتِ الْحَجِّ ، فَإِذَا فَاتَ وَقْتُهُ فَاتَ هُوَ أَيْضًا فَيَظْهَرُ حُكْمُ الأَْصْلِ وَهُوَ الدَّمُ عَلَى مَا كَانَ(2).
ثَانِيًا - صِيَامُ الأَْيَّامِ السَّبْعَةِ :
__________
(1) - الفواكه الدواني 1 / 433 ، ومغني المحتاج 1 / 517 ، والمغني 3 / 478 ، 479 .
(2) - البناية شرح الهداية 3 / 623 ، 624 .(1/258)
يَصُومُ الْمُتَمَتِّعُ سَبْعَةَ أَيَّامٍ إِذَا رَجَعَ مِنَ الْحَجِّ لِيُكْمِل الْعَشَرَةَ ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ } (سورة البقرة / 196) ، وَالأَْفْضَل أَنْ يَصُومَ السَّبْعَةَ بَعْدَ رُجُوعِهِ إِلَى أَهْلِهِ ؛ لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَال : " مَنْ كَانَ مِنْكُمْ أَهْدَى فَإِنَّهُ لاَ يَحِلُّ لِشَىْءٍ حَرُمَ مِنْهُ حَتَّى يَقْضِىَ حَجَّهُ ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَهْدَى فَلْيَطُفْ بِالْبَيْتِ ، وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ ، وَلْيُقَصِّرْ ، وَلْيَحْلِلْ ، ثُمَّ لِيُهِلَّ بِالْحَجِّ ، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ هَدْيًا فَلْيَصُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ فِى الْحَجِّ وَسَبْعَةً إِذَا رَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ "(1).
وَيَجُوزُ صِيَامُهَا بِمَكَّةَ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنَ الْحَجِّ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ ( الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ ) وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ ، إِذِ الْمُرَادُ مِنَ الرُّجُوعِ الْفَرَاغُ مِنَ الْحَجِّ ؛ لأَِنَّهُ سَبَبُ الرُّجُوعِ إِلَى أَهْلِهِ ، فَكَانَ الأَْدَاءُ بَعْدَ السَّبَبِ(2).
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْظْهَرِ : لاَ يَجُوزُ صِيَامُهَا إِلاَّ بَعْدَ الرُّجُوعِ إِلَى وَطَنِهِ وَأَهْلِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ } (سورة البقرة / 196) ، فَلاَ يَجُوزُ صَوْمُهَا فِي الطَّرِيقِ أَوْ فِي مَكَّةَ إِلاَّ إِذَا أَرَادَ الإِْقَامَةَ بِهَا(3).
ثَالِثًا - الْقُدْرَةُ عَلَى الْهَدْيِ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِي الصِّيَامِ :
__________
(1) - صحيح البخارى برقم (1691 ) ومسلم برقم (3041 )
(2) - البناية على الهداية 3 / 622 ، 623 ، والفواكه الدواني 1 / 433 ، والمغني لابن قدامة 3 / 477 .
(3) - مغني المحتاج 1 / 517 .(1/259)
مَنْ دَخَل فِي الصِّيَامِ ثُمَّ قَدَرَ عَلَى الْهَدْيِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ الْخُرُوجُ مِنَ الصَّوْمِ إِلَى الْهَدْيِ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ ، وَهَذَا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ(1).
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ : إِنْ وَجَدَ الْهَدْيَ بَعْدَ صَوْمِ يَوْمَيْنِ بَطَل صَوْمُهُ ، وَيَجِبُ الْهَدْيُ ، وَبَعْدَ التَّحَلُّل لاَ يَجِبُ كَالْمُتَيَمِّمِ إِذَا وَجَدَ الْمَاءَ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنَ الصَّلاَةِ(2).
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَدْ فَصَّلُوا فِي الْمَوْضُوعِ وَقَالُوا : إِنْ أَيْسَر بَعْدَ الشُّرُوعِ فِي الصَّوْمِ وَقَبْل إِكْمَال الْيَوْمِ يَجِبُ عَلَيْهِ الرُّجُوعُ لِلْهَدْيِ ، وَإِنْ أَيْسَر بَعْدَ إِتْمَامِ الْيَوْمِ وَقَبْل إِكْمَال الثَّالِثِ يُسْتَحَبُّ لَهُ الرُّجُوعُ ، وَإِنْ أَيْسَر بَعْدَ الثَّالِثِ يَجُوزُ لَهُ التَّمَادِي عَلَى الصَّوْمِ وَالرُّجُوعُ(3).
مَشْرُوعِيَّةُ كَيْفِيَّاتِ الْحَجِّ :
اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ كُل كَيْفِيَّاتِ الْحَجِّ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا(4).
وَيُسْتَدَل لِذَلِكَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالإِْجْمَاعِ :
__________
(1) - مغني المحتاج 1 / 518 ، والمغني لابن قدامة 3 / 480 ، 481 .
(2) - البناية على الهداية 3 / 625 .
(3) - الفواكه الدواني 1 / 433 .
(4) - مختصر المزني ج 8 من طبعة كتاب الأم ص 64 ، وانظر المجموع 7 / 140 ، وفيه بعض تصحيفات .(1/260)
أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً } (سورة آل عمران / 97 .) ، وقَوْله تَعَالَى : {وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (196) سورة البقرة ،وَقَوْلُهُ : { فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ } (سورة البقرة / 196 ) .
وَأَمَّا السُّنَّةُ : فَمِنْهَا عَنْ عَائِشَةَ - رضى الله عنها - أَنَّهَا قَالَتْ خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ ، فَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ ، وَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِحَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ ، وَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِالْحَجِّ وَأَهَلَّ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِالْحَجِّ(1)، فَأَمَّا مَنْ أَهَلَّ بِالْحَجِّ أَوْ جَمَعَ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لَمْ يَحِلُّوا حَتَّى كَانَ يَوْمُ النَّحْرِ "(2)
__________
(1) - أي في أول إحرامه ، ثم قرن بعد ذلك ، لما أمره الله به .
(2) - صحيح البخارى برقم (1562 ) ومسلم برقم (2975 )(1/261)
وَأَمَّا الإِْجْمَاعُ : فَقَدْ تَوَاتَرَ عَمَل الصَّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ عَلَى التَّخْيِيرِ بَيْنَ هَذِهِ الأَْوْجُهِ كَمَا نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الأَْئِمَّةُ ، وَمِنْ ذَلِكَ :
1 - تَصْرِيحُ الإِْمَامِ الشَّافِعِيِّ الَّذِي نَقَلْنَاهُ سَابِقًا ، وَقَوْلُهُ " ثُمَّ مَا لاَ أَعْلَمُ فِيهِ خِلاَفًا "
2 - وقَال الْقَاضِي حُسَيْنٌ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ : وَكُلُّهَا جَائِزَةٌ بِالإِْجْمَاعِ "
3 - وقَال الإِْمَامُ النَّوَوِيُّ : وَقَدِ انْعَقَدَ الإِْجْمَاعُ بَعْدَ هَذَا - أَيْ بَعْدَ الْخِلاَفِ الَّذِي نُقِل عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ - عَلَى جَوَازِ الإِْفْرَادِ وَالتَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ "
4 - وقَال الْخَطَّابِيُّ : لَمْ تَخْتَلِفِ الأُْمَّةُ فِي أَنَّ الإِْفْرَادَ وَالْقِرَانَ ، وَالتَّمَتُّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ كُلُّهَا جَائِزَةٌ(1)" .
هَدْيُ التَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ :
يَجِبُ بِإِجْمَاعِ الْعُلَمَاءِ عَلَى الْقَارِنِ وَالْمُتَمَتِّعِ أَنْ يَذْبَحَ هَدْيًا(2)، لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ } سورة البقرة / 196
وَتَفْصِيلُهُ فِي ( هَدْيٌ ، وَتَمَتُّعٌ ، وَقِرَانٌ )(3).
- - - - - - - - - - - - -
هَدْيٌ
تعريفُهُ:
الْهَدْيُ لُغَةً : بِإِسْكَانِ الدَّال وَ
__________
(1) - المجموع 7 / 141 ، وشرح صحيح مسلم 8 / 169 ، ومعالم السنن شرح مختصر سنن أبي داود 2 / 301 ، وانظر الإجماع في المغني 3 / 276 .
(2) - الهداية وفتح القدير 2 / 322 ، والرسالة وشرحها 1 / 508 - 509 ، والمغني 3 / 468 ، 469 و 541 ، والمجموع 8 / 332 .
(3) - الموسوعة الفقهية الكويتية - (ج 42 / ص 231-252)(1/262)
تَخْفِيفِ الْيَاءِ ، أَوْ بِكَسْرِ الدَّال مَعَ تَشْدِيدِ الْيَاءِ لُغَتَانِ مَشْهُورَتَانِ ، وَالْوَاحِدُ : هَدْيَةٌ وَهَدِيَّةٌ . تَقُول فِيهِ : " أَهْدَيْتُ الْهَدْيَ " .
وَمِنْ مَعَانِي الْهَدْيِ فِي اللُّغَةِ : مَا يُهْدَى إِلَى الْحَرَمِ مِنَ النَّعَمِ(1).
وَالْهَدْيُ اصْطِلاَحًا : مَا يُهْدَى إِلَى الْحَرَمِ مِنَ الإِْبِل وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ(2).
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ :
أ - الأُْضْحِيَةُ : الأُْضْحِيَةُ فِي اللُّغَةِ : شَاةٌ وَنَحْوُهَا يُضَحَّى بِهَا فِي عِيدِ الأَْضْحَى(3).
وَفِي الاِصْطِلاَحِ : مَا يُذَكَّى تَقَرُّبًا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي أَيَّامِ النَّحْرِ بِشَرَائِطَ مَخْصُوصَةٍ(4).
وَالصِّلَةُ بَيْنَهُمَا أَنَّ كُلًّا مِنَ الْهَدْيِ وَالأُْضْحِيَةِ قُرْبَةٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى .
ب - الْعَقِيقَةُ : مِنْ مَعَانِي الْعَقِيقَةِ فِي اللُّغَةِ : الذَّبِيحَةُ الَّتِي تُذْبَحُ عَنِ الْمَوْلُودِ(5).
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ .
وَالصِّلَةُ بَيْنَهُمَا أَنَّ كُلًّا مِنَ الْعَقِيقَةِ وَالْهَدْيِ قُرْبَةٌ ، غَيْرَ أَنَّ الْعَقِيقَةَ مُرْتَبِطَةٌ بِوَقْتِ وِلاَدَةِ الْمَوْلُودِ وَفِي أَيِّ مَكَانٍ ، أَمَّا الْهَدْيُ فَفِي أَيَّامِ النَّحْرِ وَفِي الْحَرَمِ .
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ :
__________
(1) - الْمِصْبَاح المنير والقاموس المحيط والمعجم الْوَسِيط .
(2) - الدَّرّ الْمُخْتَار وَحَاشِيَة ابْن عَابِدِينَ عَلَيْهِ 2 / 249 ، والمجموع 8 / 268 - 269 .
(3) - الْمُعْجَم الْوَسِيط .
(4) - شَرْح الْمَنْهَجِ بِحَاشِيَة البجيرمي 4 / 294 ، والدر الْمُخْتَار بِحَاشِيَة ابْن عَابِدِينَ 5 / 198 طَبْعَة بُولاَق .
(5) - الْمُعْجَم الْوَسِيط ، والقليوبي 4 / 255 .(1/263)
يَخْتَلِفُ الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ لِلْهَدْيِ بِحَسَبِ نَوْعِهِ ، وَنُبَيِّنُ حُكْمَ كُل نَوْعٍ فِيمَا يَلِي :
النَّوْعُ الأَْوَّل : هَدْيُ التَّطَوُّعِ :
أ - لِمُرِيدِ النُّسُكِ :
هَدْيُ التَّطَوُّعِ هُوَ الَّذِي يُتَقَرَّبُ بِهِ إِلَى اللَّهِ دُونَ سَبَبٍ مُلْزِمٍ اقْتِدَاءً بِالنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، فَقَدْ أَهْدَى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ مِائَةَ بَدَنَةٍ(1).
فعن ابْنِ أَبِى لَيْلَى أَنَّ عَلِيًّا - رضي الله عنه - حَدَّثَهُ قَالَ: أَهْدَى النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - مِائَةَ بَدَنَةٍ ، فَأَمَرَنِى بِلُحُومِهَا فَقَسَمْتُهَا ، ثُمَّ أَمَرَنِى بِجِلاَلِهَا فَقَسَمْتُهَا ، ثُمَّ بِجُلُودِهَا فَقَسَمْتُهَا .(2)
__________
(1) - ففي صحيح البخارى (1718 ) حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا سَيْفُ بْنُ أَبِى سُلَيْمَانَ قَالَ سَمِعْتُ مُجَاهِدًا يَقُولُ حَدَّثَنِى ابْنُ أَبِى لَيْلَى أَنَّ عَلِيًّا - رضى الله عنه - حَدَّثَهُ قَالَ أَهْدَى النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - مِائَةَ بَدَنَةٍ ، فَأَمَرَنِى بِلُحُومِهَا فَقَسَمْتُهَا ، ثُمَّ أَمَرَنِى بِجِلاَلِهَا فَقَسَمْتُهَا ، ثُمَّ بِجُلُودِهَا فَقَسَمْتُهَا . = الجلال : جمع أجلة جمع جل وهو الكساء الذى يطرح على ظهر البعير
(2) - صحيح البخارى (1718 )= الجلال : جمع أجلة جمع جل وهو الكساء الذى يطرح على ظهر البعير(1/264)
قَال النَّوَوِيُّ : اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِمَنْ قَصَدَ مَكَّةَ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ أَنْ يَهْدِيَ هَدْيًا مِنَ الأَْنْعَامِ وَيَنْحَرَهُ هُنَاكَ ، وَيُفَرِّقَهُ عَلَى الْمَسَاكِينِ الْمَوْجُودِينَ فِي الْحَرَمِ(1).
ب - لِمَنْ لَمْ يُرِدِ الْحَجَّ :
ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ يُسَنُّ لِمَنْ يُرِدِ الذَّهَابَ إِلَى الْحَجِّ أَنْ يُرْسِل هَدْيًا وَأَنْ يُشْعِرَهُ وَيُقَلِّدَهُ وَلاَ يَحْرُمُ عَلَيْهِ بِإِرْسَالِهِ شَيْءٌ مِمَّا يَحْرُمُ عَلَى الْمُحْرِمِ(2).
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا وَرَدَ عَنْ عَائِشَةَ - رضى الله عنها – قَالَتْ: فَتَلْتُ قَلاَئِدَ بُدْنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - بِيَدَىَّ ، ثُمَّ قَلَّدَهَا وَأَشْعَرَهَا وَأَهْدَاهَا ، فَمَا حَرُمَ عَلَيْهِ شَىْءٌ كَانَ أُحِلَّ لَهُ(3).
النَّوْعُ الثَّانِي : الْهَدْيُ الْوَاجِبُ :
وَهُوَ ثَلاَثَةُ أَصْنَافٍ :
الصِّنْفُ الأَْوَّل : هَدْيٌ وَاجِبٌ لِلشُّكْرِ
الْهَدْيُ الْوَاجِبُ لِلشُّكْرِ : هُوَ الْهَدْيُ الْوَاجِبُ عَلَى الْمُتَمَتِّعِ وَالْقَارِنِ ، فَهُوَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ دَمٌ وَاجِبٌ شُكْرًا لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى أَنْ وَفَّقَهُ لأَِدَاءِ النُّسُكَيْنِ فِي سَفَرٍ وَاحِدٍ .
الصِّنْفُ الثَّانِي : هَدْيٌ وَاجِبٌ لِلْجُبْرَانِ :
__________
(1) - الْمَجْمُوع 8 / 356 ، 414 ، والإيضاح مَعَ حَاشِيَتِهِ ص 364 ، وانظر الْهِدَايَة وَشَرْحهَا 2 / 322 ، و 8 / 76 - 77 ، والمسلك الْمُتَقَسِّط 271 ، ومواهب الْجَلِيل 3 / 105 .
(2) - الْمَبْسُوط 4 / 140 ، والمدونة 1 / 412 ، وَالْمَجْمُوع 8 / 361 ، والمغني 3 / 82 ، ومطالب أُولِي النُّهَى 2 / 461 - 462
(3) - البخاري (1696 ) ومسلم (3261 )(1/265)
وَهُوَ الْهَدْيُ الْوَاجِبُ لِجَبْرِ الْخَلَل الْوَاقِعِ فِي الْحَجِّ أَوِ الْعُمْرَةِ ، مِنْ جَزَاءِ جِنَايَةٍ مِنَ الْجِنَايَاتِ أَوْ دَمِ إِحْصَارٍ .
الصِّنْفُ الثَّالِثُ : هَدْيُ النَّذْرِ :
هَدْيُ النَّذْرِ هُوَ مَا يَنْذِرُهُ الْحَاجُّ لِلْبَيْتِ الْحَرَامِ وَهُوَ وَاجِبٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ } سُورَة الْحَجّ / 29 .
حُكْمُ وَلَدِ الْهَدْيِ :
ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ وَلَدَ الْهَدْيِ يَتْبَعُ أُمَّهُ ، وَخَصَّ الشَّافِعِيَّةُ ذَلِكَ بِالْهَدْيِ الْمَنْذُورِ وَلِلْفُقَهَاءِ تَفْصِيلٌ بَعْدَ ذَلِكَ .
قَال الْحَنَفِيَّةُ : إِذَا وَلَدَتِ الْبَدَنَةُ بَعْدَمَا اشْتَرَاهَا لِهَدْيِهِ ذَبَحَ وَلَدَهَا مَعَهَا ، لأَِنْ جَعَلَهَا خَالِصَةً لِلَّهِ تَعَالَى وَالْوَلَدُ جُزْءٌ مِنْهَا ، ثُمَّ انْفَصَل بَعْدَمَا سَرَى إِلَيْهِ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَذْبَحَهُ مَعَهَا ، وَلَوْ بَاعَ الْوَلَدَ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ ، فَإِنِ اشْتَرَى بِهِ هَدْيًا فَحَسَنٌ ، وَإِنْ تَصَدَّقَ بِهَا فَحَسَنٌ اعْتِبَارًا لِلْقِيمَةِ بِالْوَلَدِ(1).
__________
(1) - فَتْح الْقَدِير 3 / 165 ، وتبيين الْحَقَائِق 2 / 91 .(1/266)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ : حَقُّ الْهَدْيِ يَسْرِي إِلَى الْوَلَدِ كَحَقِّ الْعِتْقِ فِي الاِسْتِيلاَدِ وَالتَّدْبِيرِ وَالْكِتَابَةِ ؛ فَإِذَا وَلَدَتْ سَاقَهُ مَعَ أُمِّهِ إِنْ أَمْكَنَ إِلَى مَحِل الْهَدْيِ ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ سَوْقُهُ حَمَلَهُ ، فَإِنْ كَانَ لَهُ مَحِلٌّ غَيْرَ أُمِّهِ حَمَلَهُ عَلَيْهِ كَمَا يَحْمِل عَلَيْهَا زَادَهُ عِنْدَ الْحَاجَةِ وَالضَّرُورَةِ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا مَا يَحْمِلُهُ قَال ابْنُ الْقَاسِمِ : يَتَكَلَّفُ حَمْلَهُ ، يُرِيدُ لأَِنَّ عَلَيْهِ بُلُوغَهُ بِكُل حِيلَةٍ يَقْدِرُ عَلَيْهَا ، قَال أَشْهَبُ : وَعَلَيْهِ أَنْ يُنْفِقَ عَلَيْهِ حَتَّى يَجِدَ لَهُ مَحِلًّا وَلاَ مَحِل لَهُ دُونَ الْبَيْتِ ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ إِلَى ذَلِكَ سَبِيلاً كَانَ حُكْمُ هَذَا الْوَلَدِ حُكْمَ الْهَدْيِ إِذَا وَقَفَ مِنْهُ ، فَإِنْ كَانَ فِي مَسْغَبَةٍ فَإِنَّهُ يَنْحَرُهُ فِي مَوْضِعِهِ وَيُخَلِّي بَيْنَ النَّاسِ وَبَيْنَهُ وَلاَ يَأْكُل مِنْهُ كَانَتْ أُمُّهُ تَطَوُّعًا أَوْ عَنْ وَاجِبٍ ، فَإِنْ أَكَل شَيْئًا مِنَ الْوَلَدِ قَال ابْنُ الْمَاجِشُونِ عَنِ ابْنِ حَبِيبٍ : عَلَيْهِ بَدَلُهُ ، ثُمَّ قَال أَشْهَبُ : وَإِنْ نَحَرَهُ فِي الطَّرِيقِ أَبْدَلَهُ بِهَدْيٍ كَبِيرٍ ، وَلاَ يُجْزِئُهُ بَقَرَةٌ يُرِيدُ فِي نِتَاجِ الْبَدَنَةِ .
قَال الْحَطَّابُ : وَهَذَا مِمَّا وُلِدَ بَعْدَ التَّقْلِيدِ ، وَأَمَّا مَا وُلِدَ قَبْلَهُ فَلاَ يَجِبُ ذَلِكَ فِيهِ . قَال مَالِكٌ فِي الْمَوَّازِيَّةِ : وَأَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ يَنْحَرَهُ مَعَهَا إِنْ نَوَى ذَلِكَ ، قَال مُحَمَّدٌ : يَعْنِي نَوَى بِأُمِّهِ الْهَدْيَ .(1/267)
وَلَوْ وَجَدَ الأُْمَّ مَعِيبَةً لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي وَلَدِهَا وَكَانَ تَبَعًا لَهَا فِي حُكْمِ الْهَدْيِ(1)
وَقَال الْحَنَابِلَةُ : إِنْ وَلَدَتِ الَّتِي عُيِّنَتْ هَدْيًا ابْتِدَاءً أَوْ عَنْ وَاجِبٍ فِي الذِّمَّةِ ذُبِحَ وَلَدُهَا مَعَهَا إِنْ أَمْكَنَ حَمْل الْوَلَدِ عَلَى ظَهْرِهَا أَوْ ظَهْرِ غَيْرِهَا ، أَوْ أَمْكَنَ سَوْقُهُ إِلَى مَحَل ذَبْحِ الْهَدْيِ سَوَاءٌ عَيَّنَهَا حَامِلاً أَوْ حَدَثَ الْحَمْل بَعْدَ التَّعْيِينِ ، لأَِنَّ اسْتِحْقَاقَ الْمَسَاكِينِ الْوَلَدَ حُكْمٌ يَثْبُتُ بِطَرِيقِ السَّرَايَةِ مِنَ الأُْمِّ ، فَيَثْبُتُ لِلْوَلَدِ مَا يَثْبُتُ لأُِمِّهِ .
وَقَال الْمُغِيرَةُ بْنُ حَذْفٍ " أَتَى رَجُلٌ عَلِيًّا بِبَقَرَةٍ قَدْ أَوْلَدَهَا فَقَال لَهُ : لاَ تَشْرَبْ مِنْ لَبَنِهَا إِلاَّ مَا فَضَل عَنْ وَلَدِهَا فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الأَْضْحَى ضَحَّيْتَ بِهَا وَوَلَدِهَا عَنْ سَبْعَةٍ " .
وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ حَمْل الْوَلَدِ وَلاَ سَوْقُهُ إِلَى مَحِلِّهِ فَكَهَدْيٍ عَطِبَ فَيَذْبَحُهُ فِي مَوْضِعِهِ .
وَقَال الْقَاضِي فِي الْمُعَيَّنِ بَدَلاً عَنِ الْوَاجِبِ : يُحْتَمَل أَنْ لاَ يَتْبَعَهَا وَلَدُهَا لأَِنَّ مَا فِي الذِّمَّةِ وَاحِدٌ(2)
مَا يُجْزِئُ فِي الْهَدْيِ :
__________
(1) - مَوَاهِب الْجَلِيل 3 / 194 و حاشية الدسوقي على الشرح الكبير - (ج 6 / ص 218) ومنح الجليل شرح مختصر خليل - (ج 5 / ص 37)
(2) - كَشَّاف الْقِنَاع 3 / 12 ، والمغني لاِبْنِ قُدَامَةَ 3 / 539 ، ومطالب أُولِي النُّهَى 2 / 482 .(1/268)
لاَ يَصِحُّ الْهَدْيُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مِنَ الإِْبِل وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ ، وَتَخْتَلِفُ هَذِهِ الأَْصْنَافُ فِيمَا يُجْزِئُ وَيَصِحُّ أَنْ تُذْبَحَ عَنْهُ مِنَ الأَْشْخَاصِ . كَمَا هُوَ حَال إِجْزَائِهَا فِي الأُْضْحِيَةِ(1).
صِفَةُ الْهَدْيِ الْمُسْتَحَبَّةُ :
ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الْبَدَنَةَ أَفْضَل مِنَ الْبَقَرَةِ لأَِنَّهَا أَعْظَمُ ، وَالْبَقَرَةَ أَفْضَل مِنَ الشَّاةِ لأَِنَّهَا بِسَبْعٍ مِنَ الْغَنَمِ ، وَالشَّاةَ أَفْضَل مِنْ مُشَارَكَةِ سَبْعَةٍ فِي بَدَنَةٍ أَوْ بَقَرَةٍ ؛ لأَِنَّهُ يَنْفَرِدُ بِإِرَاقَةِ الدَّمِ ، وَالضَّأْنَ أَفْضَل مِنَ الْمَاعِزِ لأَِنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يُضَحِّي بِالضَّأْنِ ، وَالسَّمِينَةَ أَفْضَل مِنْ غَيْرِ السَّمِينَةِ .
قَال بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ : الشَّاةُ السَّمِينَةُ الَّتِي تُسَاوِي الْبَقَرَةَ قِيمَةً وَلَحْمًا أَفْضَل مِنَ الْبَقَرَةِ . وَقَال بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ : التَّضْحِيَةُ بِشَاةٍ سَمِينَةٍ أَفْضَل مِنْ شَاتَيْنِ دُونَهَا . لِمَا قَال ابْنُ عَبَّاسٍ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى : { وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ } سُورَة الْحَجّ / 32 . اسْتِعْظَامُهَا و اسْتِحْسَانُهَا وَاسْتِسْمَانُهَا(2).
__________
(1) - الموسوعة الفقهية الكويتية - (ج 5 / ص 81-91)
(2) - مصنف ابن أبي شيبة (14153) عن مجاهد وسند صحيح وتفسير الطبري - (ج 18 / ص 621)( 17 / 361 - ط الْحَلَبِيّ )عن ابن عباس وفيه لين ،و مجموع فتاوى ابن تيمية - (ج 8 / ص 48)(1/269)
وَقَال عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : إِذَا اشْتَرَيْتَ أُضْحِيَةً ، فَاسْتَسْمِنْ ، فَإِنْ أَكَلْتَ أَكَلْتَ طَيِّبًا ، وَإِنْ أَطْعَمْتَ أَطْعَمْتَ طَيِّبًا وَاشْتَرِ ثَنْيًا فَصَاعِدًا(1).
قَال الدُّسُوقِيُّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ : وَالْحَقُّ أَنَّ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ الْبِلاَدِ ، فَفِي بَعْضِهَا تَكُونُ الإِْبِل أَطْيَبَ لَحْمًا فَتَكُونُ أَفْضَل ، وَفِي بَعْضِهَا يَكُونُ الْبَقْرُ أَطْيَبَ لَحْمًا فَيَكُونُ أَفْضَل .
وَلاَ خِلاَفَ فِي جَوَازِ الْهَدْيِ مِنَ الذَّكَرِ وَالأُْنْثَى ، لَكِنَّ الذَّكَرَ أَفْضَل(2)، وَأَفْضَلُهَا مَا ضَحَّى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - ، لِمَا وَرَدَ عَنْ أَنَسٍ قَالَ : ضَحَّى النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ ، فَرَأَيْتُهُ وَاضِعًا قَدَمَهُ عَلَى صِفَاحِهِمَا يُسَمِّى وَيُكَبِّرُ ، فَذَبَحَهُمَا بِيَدِهِ .(3).
سَوْقُ الْهَدْيِ :
سَوْقُ الْهَدْيِ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ وَمَعَالِمِ النُّسُكِ ، وَمِنْ أَحْكَامِهِ مَا يَلِي :
قَال الْحَنَفِيَّةُ : لاَ يَجِبُ الذَّهَابُ بِالْهَدْيِ إِلَى عَرَفَةَ وَلاَ التَّشْهِيرُ بِالتَّقْلِيدِ لأَِنَّ الْهَدْيَ يُنْبِئُ عَنِ النَّقْل إِلَى مَكَانٍ لِيَتَقَرَّبَ بِإِرَاقَةِ دَمِهِ فِيهِ ، لاَ عَنِ الذَّهَابِ بِهِ إِلَى عَرَفَةَ ، فَلاَ يَجِبُ .
__________
(1) - المحلى بالآثار - (ج 1 / ص 2736) (975) والْمُحَلَّى ( 7 / 361 - ط المنيرية )صحيح
(2) - الدَّرّ الْمُخْتَار وَرَدّ الْمُحْتَارِ 5 / 281 ، ومطالب أُولِي النُّهَى 2 / 462 ، والدسوقي 2 / 121 ، والمجموع 8 / 310 - 314 و 356 - 357 - 361 - 395 - 396 .
(3) - صحيح البخارى (5558 ) ومسلم (5199 )-الصفاح : جمع صفحة وهى الجانب(1/270)
فَإِنْ ذَهَبَ إِلَى عَرَفَاتٍ بِهَدْيِ الْمُتْعَةِ وَالْقِرَانِ فَحَسَنٌ ؛ لأَِنَّهُ يَتَوَقَّتُ بِيَوْمِ النَّحْرِ ، فَعَسَى أَلاَّ يَجِدَ مَنْ يُمْسِكُهُ فَيَحْتَاجُ إِلَى أَنْ يُعَرِّفَ بِهِ ، وَلأَِنَّهُ دَمُ نُسُكٍ فَيَكُونُ مَبْنَاهُ عَلَى التَّشْهِيرِ تَحْقِيقًا لِمَعْنَى الشَّعَائِرِ ، بِخِلاَفِ دِمَاءِ الْكَفَّارَاتِ لأَِنَّهُ يَجُوزُ ذَبْحُهَا قَبْل يَوْمِ النَّحْرِ ، وَسَبَبُهَا الْجِنَايَةُ فَيَلِيقُ بِهَا السَّتْرُ ، وَيَجُوزُ ذَبْحُهَا قَبْل يَوْمِ النَّحْرِ فَلاَ حَاجَةَ إِلَى التَّعْرِيفِ بِهَا(1).
وَيَشْتَرِطُ الْمَالِكِيَّةُ لِصِحَّةِ الْهَدْيِ أَنْ يَجْمَعَ فِيهِ بَيْنَ حِلٍّ وَحَرَمٍ ، فَلاَ يُجْزِئُ مَا اشْتَرَاهُ بِمِنًى أَيَّامَ النَّحْرِ وَذَبَحَهُ بِهَا ، بِخِلاَفِ مَا اشْتَرَاهُ مِنْ عَرَفَةَ لأَِنَّهَا مِنَ الْحِل ، فَإِنِ اشْتَرَاهُ فِي الْحَرَمِ فَلاَ بُدَّ أَنْ يَخْرُجَ بِهِ لِلْحِل ؛ عَرَفَةَ أَوْ غَيْرِهَا ، سَوَاءٌ خَرَجَ بِهِ هُوَ أَوْ نَائِبُهُ مُحْرِمًا أَمْ لاَ ، كَانَ الْهَدْيُ وَاجِبًا أَوْ تَطَوُّعًا(2)
وَقَال ابْنُ عُمَرَ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ : لاَ هَدْيَ إِلاَّ مَا أُحْضِرَ عَرَفَاتٍ(3).
__________
(1) - فَتْح الْقَدِير 3 / 81 ، وتبيين الْحَقَائِق 2 / 90 ، والفتاوى الْهِنْدِيَّة 1 / 262 .
(2) - الشَّرْح الصَّغِير 2 / 448 و حاشية الصاوي على الشرح الصغير - (ج 4 / ص 37)
(3) - الْمَجْمُوع 8 / 357 .(1/271)
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ : إِلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلْحَاجِّ أَنْ يَسُوقَ هَدْيَهُ مِنْ بَلَدِهِ ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَل فَشِرَاؤُهُ مِنَ الطَّرِيقِ أَفْضَل مِنْ شِرَائِهِ مِنْ مَكَّةَ ، ثُمَّ مِنْ مَكَّةَ ثُمَّ مِنْ عَرَفَاتٍ ، فَإِنْ لَمْ يَسُقْهُ أَصْلاً بَل اشْتَرَاهُ مِنْ مِنًى جَازَ وَحَصَل أَصْل الْهَدْيِ . وَبِهِ قَال ابْنُ عَبَّاسٍ(1).
وَيَرَى الْحَنَابِلَةُ أَنَّ سَوْقَ الْهَدْيِ مِنَ الْحِل مَسْنُونٌ لأَِنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَعَلَهُ ، فَسَاقَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ مِائَةَ بَدَنَةٍ(2)، وَكَانَ يَبْعَثُ بِهَدْيِهِ إِلَى الْحَرَمِ وَهُوَ بِالْمَدِينَةِ(3)
وَلاَ يَجِبُ سَوْقُ الْهَدْيِ إِلاَّ بِالنَّذْرِ لأَِنَّهُ - صلى الله عليه وسلم - لَمْ يَأْمُرْ بِهِ وَالأَْصْل عَدَمُ الْوُجُوبِ .
وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَقِفَ الْهَدْيُ بِعَرَفَةَ ، وَيُسَنُّ أَنْ يَجْمَعَ فِي الْهَدْيِ بَيْنَ الْحِل وَالْحَرَمِ ، فَلَوِ اشْتَرَاهُ فِي الْحَرَمِ وَلَمْ يُخْرِجْهُ إِلَى عَرَفَةَ وَذَبَحَهُ كَفَاهُ(4).
تَقْلِيدُ الْهَدْيِ :
__________
(1) - الْمَجْمُوع 8 / 357 طَبْعَة دَار الْفِكْرِ .
(2) - سَبَقَ تَخْرِيجَهُ ف 4 .
(3) - أخرجه البخارى (1711 ) عَنْ نَافِعٍ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ - رضى الله عنهما - كَانَ يَبْعَثُ بِهَدْيِهِ مِنْ جَمْعٍ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ ، حَتَّى يُدْخَلَ بِهِ مَنْحَرُ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - مَعَ حُجَّاجٍ فِيهِمُ الْحُرُّ وَالْمَمْلُوكُ .
(4) - الإِْنْصَاف 4 / 100 ، وكشاف الْقِنَاع 3 / 17 - 18 ، ومطالب أُولِي النُّهَى 2 / 486 .(1/272)
ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ يُسَنُّ وَضْعُ الْقِلاَدَةِ لِلإِْبِل وَالْبَقَرِ ، لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - صَلَّى الظُّهْرَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ ، ثُمَّ دَعَا بِنَاقَتِهِ فَأَشْعَرَهَا فِي صَفْحَةِ سَنَامِهَا الأَْيْمَنِ ، وَسَلَتَ الدَّمَ ، وَقَلَّدَهَا نَعْلَيْنِ(1).
وَاخْتَلَفُوا فِي تَقْلِيدِ الْغَنَمِ ، وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ ( تَقْلِيد ف 3 - 8 )(2).
- - - - - - - - - - - -
أَحْكَامُ التَّقْلِيدِ :
تَقْلِيدُ الْهَدْيِ :
__________
(1) - مسلم (3075 )
(2) - الموسوعة الفقهية الكويتية - (ج 13 / ص 155-159)(1/273)
الْهَدْيُ مَا يُهْدَى إِلَى الْكَعْبَةِ مِنْ بَهِيمَةِ الأَْنْعَامِ فِي الْحَجِّ لِيُذْبَحَ بِمَكَّةَ تَقَرُّبًا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى . وَتَقْلِيدُ الْبَهِيمَةِ أَنْ يُجْعَل فِي عُنُقِهَا مَا يَدُل عَلَى أَنَّهَا هَدِيَّةٌ إِلَى الْبَيْتِ ، فَيُتْرَكُ التَّعَرُّضُ لَهَا مِنْ كُل أَحَدٍ تَعْظِيمًا لِلْبَيْتِ وَمَا أُهْدِيَ إِلَيْهِ . وَأَصْل ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ ، قَال اللَّهُ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلاَ الْهَدْيَ وَلاَ الْقَلاَئِدَ } سورة المائدة / 2 ، قَال الْقُرْطُبِيُّ : فَالشَّعَائِرُ : جَمْعُ شَعِيرَةٍ وَهِيَ الْبَدَنَةُ تُهْدَى إِلَى الْبَيْتِ ، وَإِشْعَارُهَا أَنْ يُحَزَّ سَنَامُهَا لِيَسِيل مِنْهَا الدَّمُ فَيُعْلَمُ أَنَّهَا هَدْيٌ . وَالْقَلاَئِدُ قِيل فِي تَفْسِيرِهَا : مَا كَانَ النَّاسُ يَتَقَلَّدُونَهُ أَمَنَةً لَهُمْ . قَال ابْنُ عَبَّاسٍ : ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ . وَقِيل الْمُرَادُ بِالْقَلاَئِدِ : مَا يُعَلَّقُ عَلَى أَسْنِمَةِ الْهَدَايَا وَأَعْنَاقِهَا عَلاَمَةً عَلَى أَنَّهُ لِلَّهِ تَعَالَى ، مِنْ نَعْلٍ أَوْ غَيْرِهِ(1). وَقَال اللَّهُ تَعَالَى : { جَعَل اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلاَئِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَْرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُل شَيْءٍ عَلِيمٌ } سورة المائدة / 97 . أَيْ جَعَل الْمَذْكُورَاتِ صَلاَحًا وَمَعَاشًا يَأْمَنُ النَّاسُ فِيهَا وَبِهَا .
__________
(1) - تفسير القرطبي 6 / 40 ط دار الكتب المصرية .(1/274)
وَقَال الْقُرْطُبِيُّ : عَظَّمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي قُلُوبِهِمُ الْبَيْتَ الْحَرَامَ ، وَأَوْقَعَ فِي نُفُوسِهِمْ هَيْبَتَهُ ، وَعَظَّمَ بَيْنَهُمْ حُرْمَتَهُ ، فَكَانَ مَنْ لَجَأَ إِلَيْهِ مَعْصُومًا بِهِ ، وَكَانَ مَنِ اضْطُهِدَ مَحْمِيًّا بِالْكَوْنِ فِيهِ . وَكَذَلِكَ الأَْشْهُرُ الْحُرُمُ . ثُمَّ قَال : وَشَرَعَ عَلَى أَلْسِنَةِ الرُّسُل الْكِرَامِ الْهَدْيَ وَالْقَلاَئِدَ ، فَكَانُوا إِذَا أَخَذُوا بَعِيرًا أَشْعَرُوهُ دَمًا أَوْ عَلَّقُوا عَلَيْهِ نَعْلاً ، أَوْ فَعَل الرَّجُل ذَلِكَ بِنَفْسِهِ مِنَ التَّقْلِيدِ ، لَمْ يُرَوِّعْهُ أَحَدٌ حَيْثُ لَقِيَهُ ، وَكَانَ الْفَيْصَل بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَنْ طَلَبَهُ وَظَلَمَهُ ، حَتَّى جَاءَ اللَّهُ بِالإِْسْلاَمِ(1). وَيُذْكَرُ مِنْ حِكْمَةِ تَقْلِيدِ الْهَدْيِ أَيْضًا أَنْ يَعْلَمَ الْمَسَاكِينُ بِالْهَدْيِ ، فَيَجْتَمِعُوا لَهُ ، وَإِذَا عَطِبَتِ الْهَدِيَّةُ الَّتِي سِيقَتْ إِلَى الْبَيْتِ تُنْحَرُ ، ثُمَّ تُلْقَى قِلاَدَتُهَا فِي دَمِهَا كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ ؛ لِيَكُونَ ذَلِكَ دَالًّا عَلَى كَوْنِهَا هَدْيًا يُبَاحُ أَكْلُهُ لِمَنْ شَاءَ(2).
حُكْمُ تَقْلِيدِ الْهَدْيِ :
__________
(1) - تفسير القرطبي 6 / 40 .
(2) - الشرح الكبير للدسوقي 2 / 89 ، 90القاهرة ، مطبعة عيسى الحلبي .(1/275)
تَقْلِيدُ الْهَدْيِ كَانَ مُتَّبَعًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ . قَال الْقُرْطُبِيُّ : وَهِيَ سُنَّةٌ إِبْرَاهِيمِيَّةٌ بَقِيَتْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَأَقَرَّهَا الإِْسْلاَمُ . و عَنْ حَفْصَةَ - رضى الله عنهم - زَوْجِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهَا قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، مَا شَأْنُ النَّاسِ حَلُّوا بِعُمْرَةٍ وَلَمْ تَحْلِلْ أَنْتَ مِنْ عُمْرَتِكَ قَالَ " إِنِّى لَبَّدْتُ رَأْسِى ، وَقَلَّدْتُ هَدْيِى فَلاَ أَحِلُّ حَتَّى أَنْحَرَ " .(1)
فَتَقْلِيدُ الْهَدْيِ سُنَّةٌ فِي الْجُمْلَةِ . وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ . وَقَدْ قَال الشَّافِعِيُّ : مَنْ تَرَكَ الإِْشْعَارَ وَالتَّقْلِيدَ فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ .
قَال الْمَالِكِيَّةُ : وَالأَْوْلَى تَقْدِيمُ التَّقْلِيدِ عَلَى الإِْشْعَارِ لأَِنَّهُ السُّنَّةُ ، وَالْحِكْمَةُ فِيهِ أَنَّهُ يُفْعَل كَذَلِكَ خَوْفًا مِنْ نِفَارِهَا لَوْ أُشْعِرَتْ أَوْ لاَ . وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِي ذَلِكَ وَجْهَانِ ، وَمَنْصُوصُ الشَّافِعِيِّ فِي الأُْمِّ تَقْدِيمُ الإِْشْعَارِ(2).
مَا يُقَلَّدُ مِنَ الْهَدْيِ وَمَا لاَ يُقَلَّدُ :
__________
(1) - البخارى (1566 ) ومسلم (3043 ) = لبد : جعل فى رأسه صمغا أو عسلا ليتلبد فلا يظهر فيه القمل
(2) - تفسير القرطبي 6 / 40 ، والأم للشافعي 2 / 216 القاهرة ، مكتبة الكليات الأزهرية ، والشرح الكبير وحاشية الدسوقي 2 / 88 ، والجمل على شرح المنهج 2 / 465 ، القاهرة ، والمطبعة الميمنية ، 1305هـ ، والحطاب : مواهب الجليل مختصر خليل 3 / 189 القاهرة . مطبعة السعادة 1329هـ .(1/276)
لاَ خِلاَفَ فِي أَنَّ مِنَ السُّنَّةِ تَقْلِيدَ الْهَدْيِ إِنْ كَانَ مِنَ الإِْبِل أَوِ الْبَقَرِ . أَمَّا الْغَنَمُ فَقَدِ اخْتُلِفَ فِي تَقْلِيدِهَا ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهَا لاَ تُقَلَّدُ ، وَلَيْسَ تَقْلِيدُهَا سُنَّةً ، قَال الْحَنَفِيَّةُ : لأَِنَّهُ غَيْرُ مُعْتَادٍ ، وَلأَِنَّهُ لاَ فَائِدَةَ فِي تَقْلِيدِهَا ، إِذْ فَائِدَةُ التَّقْلِيدِ عَدَمُ ضَيَاعِ الْهَدْيِ ، وَالْغَنَمُ لاَ تُتْرَكُ بَل يَكُونُ مَعَهَا صَاحِبُهَا . قَال الْقُرْطُبِيُّ وَكَأَنَّهُمْ لَمْ يَبْلُغْهُمْ حَدِيثُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فِي تَقْلِيدِ الْغَنَمِ ، وَنَصُّهُ ، فعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ أَهْدَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَرَّةً إِلَى الْبَيْتِ غَنَمًا فَقَلَّدَهَا(1). أَوْ بَلَغَهُمْ وَلَكِنَّهُمْ رَدُّوهُ لاِنْفِرَادِ الأَْسْوَدِ بِهِ عَنْ عَائِشَةَ .
__________
(1) - صحيح مسلم (3266 )
وفي شرح النووي على مسلم - (ج 4 / ص 467) فِيهِ دَلَالَة لِمَذْهَبِنَا وَمَذْهَب الْكَثِيرِينَ أَنَّهُ يُسْتَحَبّ تَقْلِيد الْغَنَم ، وَقَالَ مَالِك وَأَبُو حَنِيفَة لَا يُسْتَحَبّ ، بَلْ خَصَّا التَّقْلِيدَ بِالْإِبِلِ وَالْبَقَر وَهَذَا الْحَدِيث صَرِيح فِي الدَّلَالَة عَلَيْهِمَا .(1/277)
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يُسَنُّ تَقْلِيدُهَا أَيْضًا ، لِلْحَدِيثِ السَّابِقِ ، وَلأَِنَّهَا هَدْيٌ فَتُقَلَّدُ ، كَالإِْبِل(1). وَيَنُصُّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَتْ كُل أَنْوَاعِ الْهَدْيِ تُقَلَّدُ ، بَل يُقَلَّدُ هَدْيُ التَّطَوُّعِ وَهَدْيُ التَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ ، لأَِنَّهُ دَمُ نُسُكٍ ، وَفِي التَّقْلِيدِ إِظْهَارُهُ وَتَشْهِيرُهُ فَيَلِيقُ بِهِ(2). وَلَمْ نَجِدْ هَذَا التَّفْصِيل لِغَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ . وَلاَ يُقَلَّدُ دَمُ الْجِنَايَةِ ؛ لأَِنَّ سَتْرَهَا أَلْيَقُ ، وَيُلْحَقُ بِهَا دَمُ الإِْحْصَارِ ، لأَِنَّهَا دَمٌ يُجْبَرُ بِهِ النَّقْصُ .
مَا يُقَلَّدُ بِهِ ، وَكَيْفِيَّةُ التَّقْلِيدِ :
__________
(1) - تفسير القرطبي 6 / 40 ، والشرح الكبير للدردير بهامش حاشية الدسوقي 2 / 89 ، والمواق ، بهامش الحطاب 3 / 190 ، وفتح القدير لابن الهمام شرح الهداية للمرغيناني 2 / 407 و 3 / 84 . القاهرة ، المطبعة الميمنية ، 1319هـ ، والجمل على شرح المنهج 2 / 466 ، والمغني 3 / 549 .
(2) - فتح القدير 3 / 84 و طرح التثريب - (ج 5 / ص 481) و الهداية للمرغياني - (ج 2 / ص 33) والعناية شرح الهداية - (ج 4 / ص 302) وفتح القدير - (ج 6 / ص 202) والبحر الرائق شرح كنز الدقائق - (ج 7 / ص 441)(1/278)
يَكُونُ التَّقْلِيدُ بِأَنْ يُجْعَل فِي أَعْنَاقِ الْهَدَايَا النِّعَال ، أَوْ آذَانُ الْقِرَبِ وَعُرَاهَا ، أَوْ عِلاَقَةُ إِدَاوَةٍ ، أَوْ لِحَاءُ شَجَرَةٍ ، أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ . وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ - رضى الله عنها - قَالَتْ فَتَلْتُ قَلاَئِدَهَا مِنْ عِهْنٍ كَانَ عِنْدِى(1). وَالْعِهْنُ : الصُّوفُ الْمَصْبُوغُ ،فَقَدْ رويَ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - أَنَّ نَبِىَّ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - رَأَى رَجُلاً يَسُوقُ بَدَنَةً ، قَالَ :" ارْكَبْهَا " . قَالَ :إِنَّهَا بَدَنَةٌ . قَالَ :" ارْكَبْهَا " . قَالَ فَلَقَدْ رَأَيْتُهُ رَاكِبَهَا يُسَايِرُ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - وَالنَّعْلُ فِى عُنُقِهَا(2). و عَنْ عَائِشَةَ - رضى الله عنها - قَالَتْ فَتَلْتُ قَلاَئِدَ بُدْنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - بِيَدَىَّ ، ثُمَّ قَلَّدَهَا وَأَشْعَرَهَا وَأَهْدَاهَا ، فَمَا حَرُمَ عَلَيْهِ شَىْءٌ كَانَ أُحِلَّ لَهُ(3).
__________
(1) - صحيح البخارى (1705 ) ومسلم (3263 )
(2) - صحيح البخارى (1706 )
(3) - صحيح البخارى (1696 )(1/279)
وَفِي التَّاجِ وَالإِْكْلِيل مِنْ كُتُبِ الْمَالِكِيَّةِ ( يُقَلِّدُ بِمَا شَاءَ . وَمَنَعَ ابْنُ الْقَاسِمِ تَقْلِيدَ الأَْوْتَارِ ) أَيْ لِلْحَدِيثِ الْوَارِدِ فِي النَّهْيِ عَنْهُ ، وَنَصُّهُ عَنْ أَبِى وَهْبٍ الْجُشَمِىِّ - وَكَانَتْ لَهُ صُحْبَةٌ - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - " ارْتَبِطُوا الْخَيْلَ وَامْسَحُوا بِنَوَاصِيهَا وَأَعْجَازِهَا ". أَوْ قَالَ " أَكْفَالِهَا ". " وَقَلِّدُوهَا وَلاَ تُقَلِّدُوهَا الأَوْتَارَ "(1).
قَال ابْنُ عَابِدِينَ : كَيْفِيَّةُ التَّقْلِيدِ أَنْ يَفْتِل خَيْطًا مِنْ صُوفٍ أَوْ شَعْرٍ وَيَرْبِطَ بِهِ نَعْلاً أَوْ عُرْوَةَ مَزَادَةٍ ، وَهِيَ السُّفْرَةُ مِنْ جِلْدٍ ، أَوْ لِحَاءِ شَجَرَةٍ أَيْ قِشْرَهَا ، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا يَكُونُ عَلاَمَةً عَلَى أَنَّهُ هَدْيٌ .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ : يَكُونُ تَقْلِيدُهَا وَهِيَ مُسْتَقْبِلَةَ الْقِبْلَةِ ، وَيُقَلِّدُ الْبَدَنَةَ وَهِيَ بَارِكَةٌ . وَفِي كُتُبِ الشَّافِعِيَّةِ : أَنَّهُ يَنْبَغِي إِذَا قَلَّدَ نَعْلَيْنِ أَنْ يَكُونَ لَهُمَا قِيمَةٌ لِيَتَصَدَّقَ بِهِمَا(2).
تَقْلِيدُ الْهَدْيِ هَل يَكُونُ بِهِ الإِْنْسَانُ مُحْرِمًا ؟ :
__________
(1) - سنن أبى داود (2555) وفيه جهالة وأخرجه ابن أبي شيبة (33491)عَنْ مَكْحُولٍ مرسلا وعن أبي أمامة موصولا (33492) وأحمد (15171) عن جابر وأبي وهب (19548 ) فالحديث صحيح لغيره = الأكفال : جمع الكفل وهو ما بين الوركين
(2) - شرح فتح القدير 2 / 406 ، والحطاب وبهامشه التاج والإكليل للمواق 3 / 189 ، ابن عابدين 2 / 160 ، والأم للشافعي 2 / 216 ، والجمل على شرح المنهج 4 / 464 ، والمغني لابن قدامة 3 / 549 .(1/280)
لاَ يَنْعَقِدُ الإِْحْرَامُ إِلاَّ بِنِيَّةِ الدُّخُول فِي النُّسُكِ . وَلاَ يُشْتَرَطُ مَعَ ذَلِكَ تَلْبِيَةٌ أَوْ ذِكْرٌ مُعَيَّنٌ أَوْ خُصُوصِيَّةٌ مِنْ خُصُوصِيَّاتِ الإِْحْرَامِ كَتَقْلِيدِ الْهَدْيِ . وَهَذَا مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ عَلَى الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ . وَيُنْظَرُ التَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ ( إِحْرَامٌ ) .
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَلاَ بُدَّ لِيَكُونَ الرَّجُل مُحْرِمًا عِنْدَهُمْ ، مَعَ نِيَّةِ الدُّخُول فِي النُّسُكِ مِنْ ذِكْرٍ أَوْ خُصُوصِيَّةٍ مِنْ خُصُوصِيَّاتِ الإِْحْرَامِ(1). وَالْخُصُوصِيَّاتُ مِنْهَا : أَنْ يُشْعِرَ بُدْنَهُ ، أَوْ يُقَلِّدَهَا ، تَطَوُّعًا ، أَوْ نَذْرًا ، أَوْ جَزَاءَ صَيْدٍ ، أَوْ شَيْئًا مِنَ الأَْشْيَاءِ ، وَيَتَوَجَّهُ مَعَهَا يُرِيدُ الْحَجَّ أَوِ الْعُمْرَةَ . فَمَنْ فَعَل ذَلِكَ فَقَدْ أَحْرَمَ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مِنْهُ تَلْبِيَةٌ .قَالُوا : لِقَوْل النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - مَنْ قَلَّدَ بُدْنَهُ فَقَدْ أَحْرَمَ(2).
__________
(1) - فتح القدير 2 / 337 .
(2) - لا يصح رفعه نصب الراية في تخريج أحاديث الهداية - (ج 5 / ص 241) والدراية في تخريج أحأديث الهداية - (ج 2 / ص 31)(484) وفي مصنف ابن أبي شيبة (2711) عَنِ ابْنِ عُمَرَ ، قَالَ : مَنْ قَلَّدَ فَقَدْ أَحْرَمَ. وهو صحيح(1/281)
وَلأَِنَّ سَوْقَ الْهَدْيِ فِي مَعْنَى التَّلْبِيَةِ فِي إِظْهَارِ الإِْجَابَةِ ؛ لأَِنَّهُ لاَ يَفْعَلُهُ إِلاَّ مُرِيدُ الْحَجِّ أَوِ الْعُمْرَةِ ، وَإِظْهَارُ الإِْجَابَةِ قَدْ يَكُونُ بِالْفِعْل كَمَا يَكُونُ بِالْقَوْل ، فَيَصِيرُ بِهِ مُحْرِمًا لاِتِّصَال النِّيَّةِ بِفِعْلٍ هُوَ مِنْ خَصَائِصِ الإِْحْرَامِ . وَلَوْ قَلَّدَ هَدْيًا دُونَ أَنْ يَنْوِيَ ، أَوْ دُونَ أَنْ يَسُوقَهُ مُتَوَجِّهًا إِلَى الْبَيْتِ ، فَلاَ يَكُونُ مُحْرِمًا . وَلَوْ قَلَّدَهُ وَأَرْسَل بِهِ وَلَمْ يَسُقْهُ لَمْ يَصِرْ مُحْرِمًا ، لِحَدِيثِ عَائِشَةَ قَالَتْ : لَقَدْ رَأَيْتُنِى أَفْتِلُ الْقَلاَئِدَ لِهَدْىِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنَ الْغَنَمِ فَيَبْعَثُ بِهِ ثُمَّ يُقِيمُ فِينَا حَلاَلاً(1). قَالُوا : ثُمَّ إِنْ تَوَجَّهَ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يَصِرْ مُحْرِمًا حَتَّى يَلْحَقَ الْهَدْيَ ، لأَِنَّهُ عِنْدَ التَّوَجُّهِ إِذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَ يَدَيْهِ هَدْيٌ يَسُوقُهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ إِلاَّ مُجَرَّدُ النِّيَّةِ ، فَلاَ يَصِيرُ بِهَا مُحْرِمًا ، إِلاَّ هَدْيُ التَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ فَإِنَّهُ يَكُونُ مُحْرِمًا بِتَقْلِيدِهِ وَبِالتَّوَجُّهِ وَلَوْ قَبْل أَنْ يُدْرِكَ الْهَدْيَ الَّذِي بَعَثَهُ أَمَامَهُ . هَذَا ، وَإِنْ كَانَ الْهَدْيُ الَّذِي قَلَّدَهُ وَسَاقَهُ مِنَ الْغَنَمِ ، فَإِنَّهُ لاَ يَصِيرُ بِذَلِكَ مُحْرِمًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ ؛ لأَِنَّ الْغَنَمَ لاَ يُسَنُّ تَقْلِيدُهَا عِنْدَهُمْ كَمَا تَقَدَّمَ(2).
تَعَيُّنُ الْهَدْيِ وَلُزُومُهُ بِالتَّقْلِيدِ :
__________
(1) - صحيح مسلم (3264 )
(2) - الهداية وفتح القدير 2 / 405ـ 407 ، وحاشية ابن عابدين 2 / 160 ، 161(1/282)
يَنُصُّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّ الرَّجُل إِذَا قَلَّدَ الْهَدْيَ بِالنِّيَّةِ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ إِهْدَاؤُهُ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتْرُكَ ذَلِكَ . قَال الدَّرْدِيرُ : يَجِبُ إِنْفَاذُ مَا قَلَّدَ مَعِيبًا لِوُجُوبِهِ بِالتَّقْلِيدِ وَإِنْ لَمْ يُجْزِهِ . أَيْ وَإِنْ لَمْ يُجْزِئْهُ عَنْ هَدْيٍ وَاجِبٍ بِتَمَتُّعٍ أَوْ قِرَانٍ أَوْ نَذْرٍ غَيْرَ أَنَّهُمْ قَالُوا : إِنَّ مَا قُلِّدَ مِنَ الْهَدْيِ يُبَاعُ فِي الدُّيُونِ السَّابِقَةِ مَا لَمْ يُذْبَحْ ، وَلاَ يُبَاعُ فِي الدُّيُونِ اللاَّحِقَةِ(1). قَالُوا : وَلَوْ وُجِدَ الْهَدْيُ الْمَسْرُوقُ أَوِ الضَّال بَعْدَ نَحْرِ بَدَلِهِ نَحَرَ الْمَوْجُودَ أَيْضًا إِنْ قُلِّدَ ، لِتَعَيُّنِهِ بِالتَّقْلِيدِ . وَإِنْ وُجِدَ الضَّال قَبْل نَحْرِ الْبَدَل نَحَرَهُمَا مَعًا إِنْ قَلِّدَا لِتَعَيُّنِهِمَا بِالتَّقْلِيدِ . وَإِنْ لَمْ يَكُونَا مُقَلَّدَيْنِ أَوْ كَانَ الْمُقَلَّدُ أَحَدَهُمَا دُونَ الآْخَرِ ، يَتَعَيَّنُ الْمُقَلَّدُ . وَجَازَ بَيْعُ الآْخَرِ وَالتَّصَرُّفُ فِيهِ(2).
وَيَنُصُّ الْحَنَابِلَةُ أَيْضًا عَلَى أَنَّ التَّقْلِيدَ يَجِبُ بِهِ ذَلِكَ الْهَدْيُ ، إِذَا نَوَى أَنَّهُ هَدْيٌ ، وَلَوْ لَمْ يَقُل بِلِسَانِهِ إِنَّهُ هَدْيٌ ، فَيَتَعَيَّنُ بِذَلِكَ وَيَصِيرُ وَاجِبًا مُعَيَّنًا يَتَعَلَّقُ الْوُجُوبُ بِعَيْنِهِ دُونَ ذِمَّةِ صَاحِبِهِ . وَحُكْمُهُ حِينَئِذٍ أَنْ يَكُونَ فِي يَدِ صَاحِبِهِ كَالْوَدِيعَةِ يَلْزَمُهُ حِفْظُهُ وَإِيصَالُهُ إِلَى مَحَلِّهِ ، فَإِنْ تَلِفَ أَوْ سُرِقَ أَوْ ضَل بِغَيْرِ تَفْرِيطٍ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ(3).
__________
(1) - الشرح الكبير وحاشية الدسوقي 2 / 88 ، ومواهب الجليل ، للحطاب 3 / 186 ، 187 .
(2) - الشرح الكبير وحاشية الدسوقي 2 / 92 .
(3) - المغني لابن قدامة 3 / 535 ، 536 .(1/283)
أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَيُصَرِّحُونَ بِأَنَّ تَقْلِيدَ الرَّجُل نَعَمَهُ وَإِشْعَارَهَا لاَ يَكُونُ بِهِ النَّعَمُ هَدْيًا ، وَلَوْ نَوَاهُ مَا لَمْ يَنْطِقْ بِذَلِكَ ، عَلَى الْمَذْهَبِ الصَّحِيحِ الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ ، كَمَا لَوْ كَتَبَ الْوَقْفَ عَلَى بَابِ دَارِهِ(1).
إِشْعَارُ الْهَدْيِ :
الإِْشْعَارُ فِي اللُّغَةِ : الإِْعْلاَمُ وَصِفَةُ الإِْشْعَارِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ هِيَ : أَنْ يُضْرَبَ بِالْمِبْضَعِ فِي أَحَدِ جَانِبَيْ سَنَامِ الْبَدَنَةِ حَتَّى يَخْرُجَ الدَّمُ مِنْهُ ، ثُمَّ يُلَطِّخَ بِذَلِكَ الدَّمِ سَنَامَهُ . وَسُمِّيَ ذَلِكَ إِشْعَارًا بِمَعْنَى أَنَّهُ جَعَل ذَلِكَ عَلاَمَةً لَهُ(2). وَذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى عَدَمِ سُنِّيَّةِ إِشْعَارِ الْغَنَمِ .
أَمَّا إِشْعَارُ الإِْبِل وَالْبَقَرِ فَقَالُوا بِسُنِّيَّتِهِ ، فَقَدْ صَحَّ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَشْعَرَ الْبُدْنَ بِيَدِهِ ، فعَنْ عَائِشَةَ - رضى الله عنها - قَالَتْ فَتَلْتُ قَلاَئِدَ بُدْنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - بِيَدَىَّ ، ثُمَّ قَلَّدَهَا وَأَشْعَرَهَا وَأَهْدَاهَا ، فَمَا حَرُمَ عَلَيْهِ شَىْءٌ كَانَ أُحِلَّ لَهُ(3). ، وَفَعَلَهُ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، وَقَالُوا : الإِْشْعَارُ وَإِنْ كَانَ فِيهِ إِيلاَمٌ فَهُوَ إِيلاَمٌ لِغَرَضٍ صَحِيحٍ ، فَجَاءَ كَالْكَيِّ وَالْوَسْمِ وَالْفَصْدِ وَالْحِجَامَةِ ، وَالْغَرَضُ أَنْ لاَ تُخْلَطَ بِغَيْرِهَا .
__________
(1) - الجمل على شرح المنهج 2 / 465 .
(2) - الْمَبْسُوط لِلسَّرْخَسِيَ 4 / 138 ، والمغني 3 / 549 ، ومطالب أُولِي النُّهَى 3 / 486 ، والشرح الصَّغِير 3 / 549 ، وروضة الطَّالِبِينَ 3 / 189 .
(3) - البخاري (1696 ) ومسلم (3261 )(1/284)
وَقَال الطَّحَاوِيُّ وَأَبُو مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيُّ عَمَّا نُقِل مِنْ أَبِي حَنِيفَةَ مِنْ كَرَاهَةِ الإِْشْعَارِ : أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ لَمْ يَكْرَهْ أَصْلاً الإِْشْعَارَ ، وَكَيْفَ يَكْرَهُهُ مَعَ مَا اشْتُهِرَ فِيهِ مِنَ الأَْخْبَارِ ، وَإِنَّمَا كَرِهَ إِشْعَارَ أَهْل زَمَانِهِ الَّذِي يَخَافُ مِنْهُ الْهَلاَكَ ، خُصُوصًا فِي حَرِّ الْحِجَازِ ، فَرَأَى الصَّوَابَ حِينَئِذٍ سَدَّ هَذَا الْبَابِ عَلَى الْعَامَّةِ ، فَأَمَّا مَنْ وَقَفَ عَلَى الْحَدِّ بِأَنْ قَطَعَ الْجِلْدَ دُونَ اللَّحْمِ فَلاَ بَأْسَ بِذَلِكَ ، قَال الْكِرْمَانِيُّ : هَذَا هُوَ الأَْصَحُّ وَهُوَ اخْتِيَارُ قِوَامِ الدِّينِ الْكَاكِيِّ وَابْنِ الْهُمَامِ فَهُوَ مُسْتَحَبٌّ لِمَنْ أَحْسَنَهُ(1).
مَوْضِعُ الإِْشْعَارِ :
اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مَوْضُوعِ الإِْشْعَارِ مِنَ السَّنَامِ مِنَ الإِْبِل وَالْبَقَرِ فَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ أَنَّ الإِْشْعَارَ يَكُونُ فِي أَحَدِ جَانِبَيْ سَنَامِ الْبَدَنَةِ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْهُ الدَّمُ .
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ ، وَأَبُو يُوسُفَ ، وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى أَنَّهُ يَكُونُ فِي الْجَانِبِ الأَْيْسَرِ مِنَ السَّنَامِ .
وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي قَوْلٍ آخَرَ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى فِي قَوْلٍ لَهُ أَنَّهُ يَكُونُ فِي الْجَانِبِ الأَْيْمَنِ مِنَ السَّنَامِ .
وَأَضَافَ الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ الْبَقَرَ لاَ تُشْعَرُ إِلاَّ إِذَا كَانَتْ لَهَا أَسْنِمَةٌ فَحِينَئِذٍ تُشْعَرُ كَالإِْبِل .
__________
(1) - الْمَبْسُوط 4 / 138 ، وابن عَابِدِينَ 2 / 197 ، وحاشية الدُّسُوقِيّ 2 / 88 - 89 ، وروضة الطَّالِبِينَ 3 / 189 ، والمغني 3 / 549 ، ومطالب أُولِي النُّهَى 3 / 486 .(1/285)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِنَّ مَا لاَ سَنَامَ لَهُ مِنَ الإِْبِل وَالْبَقَرِ يَشُقُّ مَحَل السَّنَامِ(1).
تَجْلِيلُ الْهَدْيِ :
التَّجْلِيل هُوَ أَنْ يَجْعَل عَلَى الْهَدْيِ شَيْئًا مِنَ الثِّيَابِ بِقَدْرِ وُسْعِهِ ، وَقَدْ ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ تَجْلِيل الْهَدْيِ ، وَالتَّصَدُّقُ بِالْجُل ، قَال الْحَنَفِيَّةُ إِنَّ التَّجْلِيل حَسَنٌ ؛ لأَِنَّ هَدَايَا رَسُول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَتْ مُقَلَّدَةً مُجَلَّلَةً فعَنْ عَلِىٍّ - رضى الله عنه - قَالَ أَمَرَنِى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ أَتَصَدَّقَ بِجِلاَلِ الْبُدْنِ الَّتِى نَحَرْتُ وَبِجُلُودِهَا(2). ، وَإِنْ تَرَكَ التَّجْلِيل لَمْ يَضُرَّ وَخَصَّ الْمَالِكِيَّةُ التَّجْلِيل بِالْبُدْنِ دُونَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ(3).
- - - - - - - - - - -
التَّصَرُّفُ فِي الْهَدْيِ قَبْل نَحْرِهِ
أَوَّلاً : الْهَدْيُ الْوَاجِبُ :
إِجَارَةُ الْهَدْيِ الْوَاجِبِ :
__________
(1) - الْمَبْسُوط 4 / 138 ، وابن عَابِدِينَ 2 / 197 ، وروضة الطَّالِبِينَ 3 / 189 ، ومطالب أُولِي النُّهَى 3 / 486 ، والمغني 3 / 549 ، والمجموع 8 / 360 .
(2) - .صحيح البخارى (1707 ) -الجلال : جمع أجلة جمع جل وهو الكساء الذى يطرح على ظهر البعير
(3) - الْمَبْسُوط 4 / 138 ، ومواهب الْجَلِيل لِلْحَطَّابِ 3 / 190 ، والمجموع 8 / 274 ، والفروع 3 / 547(1/286)
اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُؤَاجِرَ الْهَدَايَا ، وَلاَ يَتَعَوَّضَ بِمَنَافِعِهَا بَدَلاً ؛ فَلَمَّا كَانَ لَيْسَ لَهُ تَمْلِيكُ مَنَافِعِهَا بِبَدَلٍ ، كَانَ كَذَلِكَ لَيْسَ لَهُ الاِنْتِفَاعُ بِهَا ؛ وَلاَ يَكُونُ لَهُ الاِنْتِفَاعُ بِشَيْءٍ إِلاَّ شَيْءٌ لَهُ التَّعَوُّضُ بِمَنَافِعِهِ إِبْدَالاً مِنْهَا ، وَقَدْ نَقَل الْقَاضِي عِيَاضٌ إِجْمَاعَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى هَذَا .
وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ خَالَفَ وَأَجَّرَهَا ، فَرَكِبَهَا الْمُسْتَأْجِرُ فَتَلِفَتْ ضَمِنَ الْمُؤَجِّرُ قِيمَتَهَا ، وَالْمُسْتَأْجِرُ الأُْجْرَةَ ، وَفِي قَدْرِهَا وَجْهَانِ : أَصَحُّهُمَا أُجْرَةُ الْمِثْل ، وَالثَّانِي الأَْكْثَرُ مِنْ أُجْرَةِ الْمِثْل وَالْمُسَمَّى ، ثُمَّ فِي مَصْرِفِهَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : الْفُقَرَاءُ فَقَطْ ، وَأَصَحُّهُمَا تُصْرَفُ مَصْرَفَ الضَّحَايَا(1).
أَمَّا إِعَارَتُهُ فَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ إِعَارَةُ الْهَدْيِ ؛ لأَِنَّهَا إِرْفَاقٌ ، كَمَا يَجُوزُ الاِرْتِفَاقُ بِهِ(2)
إِبْدَال الْهَدْيِ الْوَاجِبِ :
اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ إِبْدَال الْهَدْيِ الْوَاجِبِ إِلَى ثَلاَثَةِ آرَاءٍ :
الرَّأْيُ الأَْوَّل : ذَهَبَ الْجُمْهُورُ ( الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَأَبُو الْخَطَّابِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ ) إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ إِبْدَالُهُ مُطْلَقًا وَلَوْ كَانَ بِمِثْلِهِ أَوْ بِخَيْرٍ مِنْهُ ، لأَِنَّ مِلْكَهُ قَدْ زَال عَنْهُ بِالنَّذْرِ وَالتَّعْيِينِ وَعَلَيْهِ ذَبْحُهُ بِعَيْنِهِ .
__________
(1) - شَرْح مَعَانِي الآْثَارِ للطحاوي 2 / 328 ، والمجموع 8 / 328 ، ومطالب أُولِي النُّهَى 2 / 481 - 482 ، والمنتقى شَرْح الْمُوَطَّأ 2 / 309 .
(2) - الْمَجْمُوع 8 / 328 .(1/287)
لِمَا رويَ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ أَهْدَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ نَجِيبًا فَأُعْطِىَ بِهَا ثَلاَثَمِائَةِ دِينَارٍ فَأَتَى النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّى أَهْدَيْتُ نَجِيبًا فَأُعْطِيتُ بِهَا ثَلاَثَمِائَةِ دِينَارٍ أَفَأَبِيعُهَا وَأَشْتَرِى بِثَمَنِهَا بُدْنًا قَالَ " لاَ انْحَرْهَا إِيَّاهَا "(1). فَلَوْ كَانَ إِبْدَالُهَا أَوْ بَيْعُهَا جَائِزًا بَعْدَ النَّذْرِ أَوِ التَّعْيِينِ عَمَّا فِي الذِّمَّةِ مِنْ دَمٍ وَاجِبٍ لأَِذِنَ فِيهِ لأَِنَّ الْبُدْنَ أَكْثَرُ لَحْمًا مِنَ النَّجِيبَةِ ، وَهُوَ أَنْفَعُ لِلْمَسَاكِينِ(2).
الرَّأْيُ الثَّانِي : ذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ إِبْدَالُهُ بِخَيْرٍ مِنْهُ وَبَيْعُهُ لِيَشْتَرِيَ بِثَمَنِهِ خَيْرًا مِنْهُ ، وَلاَ يَجُوزُ إِبْدَالُهُ بِمِثْلِهِ أَوْ بِدُونِهِ لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ فِي ذَلِكَ . وَقَال ابْنُ قُدَامَةَ : نَصَّ عَلَى هَذَا أَحْمَدُ ، وَهُوَ اخْتِيَارُ أَكْثَرِ الأَْصْحَابِ ، وَقَالُوا : لأَِنَّ النُّذُورَ مَحْمُولَةٌ عَلَى أُصُولِهَا فِي الْفَرْضِ وَهُوَ الزَّكَاةُ يَجُوزُ فِيهَا الإِْبْدَال ، كَذَلِكَ هَذَا ؛ وَلأَِنَّهُ لَوْ زَال مِلْكُهُ لَمَا عَادَ إِلَيْهِ بِالْهَلاَكِ كَسَائِرِ الأَْمْلاَكِ إِذَا زَالَتْ(3).
__________
(1) - سنن أبى داود (1758) وفيه جهالة - النجيب : القوى الخفيف السريع
(2) - الْحَاوِي الْكَبِير 5 / 485 - 476 ، والمجموع 8 / 362 وَمَا بَعْدَهَا ، والمغني 3 / 539 ، والمدونة 1 / 385 .
(3) - الْمُغْنِي 3 / 539 .(1/288)
الرَّأْيُ الثَّالِثُ : لِلْحَنَفِيَّةِ رِوَايَتَانِ فِي جَوَازِ إِبْدَال الْهَدْيِ الْمُعَيَّنِ : رِوَايَةُ أَبِي سُلَيْمَانَ وَرِوَايَةُ أَبِي حَفْصٍ ، فَفِي رِوَايَةِ أَبِي سُلَيْمَانَ يَجُوزُ إِبْدَال الْهَدْيِ بِقِيمَتِهِ أَوْ بِخَيْرٍ مِنْهُ أَوْ بِمِثْلِهِ مِنْ بَابِ أَوْلَى .
وَفِي رِوَايَةِ أَبِي حَفْصٍ لاَ يَجُوزُ إِبْدَالُهُ بِقِيمَتِهِ ، وَيَجُوزُ إِبْدَالُهُ بِمِثْلِهِ أَوْ بِخَيْرٍ مِنْهُ بِالأَْوْلَى .
وَجْهُ الرِّوَايَةِ الأُْولَى : اعْتِبَارُ الْبَدَنَةِ بِالأَْمْرِ ، ثُمَّ فِيمَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي إِخْرَاجِ الزَّكَاةِ مِنَ النَّعَمِ : يَجُوزُ الْقِيمَةُ فِيهِ وَكَذَا فِي النُّذُورِ . وَوَجْهُ الثَّانِيَةِ : إِنَّ الْقُرْبَةَ تَعَلَّقَتْ بِشَيْئَيْنِ : إِرَاقَةُ الدَّمِ ، وَالتَّصَدُّقُ بِاللَّحْمِ لَمْ يُوجَدْ أَحَدُهُمَا فِي الْقِيمَةِ ، وَهُوَ إِرَاقَةُ الدَّمِ فَلَمْ يُجْزِئْ(1)
الاِنْتِفَاعُ بِالْهَدْيِ وَمَا يَتَوَلَّدُ مِنْهُ :
يَجُوزُ رُكُوبُ الْهَدْيِ ، إِذَا احْتَاجَ إِلَيْهِ بِلاَ ضَرَرٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ .
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يُكْرَهُ رُكُوبُهَا فِي غَيْرِ ضَرُورَةٍ لِحَدِيثِ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال :سَمِعْتُ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ :" ارْكَبْهَا بِالْمَعْرُوفِ إِذَا أُلْجِئْتَ إِلَيْهَا حَتَّى تَجِدَ ظَهْرًا "(2). فَإِنْ لَمْ تَكُنْ هُنَاكَ حَاجَةٌ لِرُكُوبِهَا فَإِنَّهُ يَحْرُمُ الرُّكُوبُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فِي الْمَذْهَبِ .
__________
(1) - بَدَائِع الصَّنَائِع 2 / 224 - 225 ، والمبسوط 4 / 146 - 147 ، وحاشية الطحطاوي عَلَى الدَّرِّ الْمُخْتَارِ 2 / 555 .
(2) - صحيح مسلم (3278 )(1/289)
وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ : يَجُوزُ الرُّكُوبُ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ لِمَا رويَ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - رَأَى رَجُلاً يَسُوقُ بَدَنَةً فَقَالَ " ارْكَبْهَا " . فَقَالَ إِنَّهَا بَدَنَةٌ . فَقَالَ " ارْكَبْهَا " . قَالَ إِنَّهَا بَدَنَةٌ . قَالَ " ارْكَبْهَا ، وَيْلَكَ " . فِى الثَّالِثَةِ أَوْ فِى الثَّانِيَةِ(1).
فَإِنْ رَكِبَهَا بِسَبَبِ مَا ذُكِرَ فَانْتَقَصَتْ بِهِ ، ضَمِنَ قِيمَةَ النُّقْصَانِ ، وَيَتَصَدَّقُ بِهَا كَمَا صَرَّحَ بِذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ لأَِنَّهُ صَرَفَ جُزْءًا مِنْهَا إِلَى حَاجَتِهِ(2).
حُكْمُ شُرْبِ لَبَنِ الْهَدْيِ :
قَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ : إِنَّ الْمُهْدِيَ لاَ يَشْرَبُ مِنْ لَبَنِ الْهَدْيِ إِلاَّ مَا فَضَل عَنْ وَلَدِهَا وَلَمْ يَضُرَّهَا وَلاَ يُنْقِصْ لَحْمَهَا ، لأَِنَّهُ انْتِفَاعٌ لاَ يَضُرُّهَا وَلاَ وَلَدَهَا .
أَمَّا إِنْ أَضَرَّ بِهَا أَوْ بِوَلَدِهَا فَيَحْرُمُ وَعَلَيْهِ الصَّدَقَةُ بِهِ ، فَإِنْ شَرِبَهُ ضَمِنَهُ لِتَعَدِّيهِ بِأَخْذِهِ(3).
__________
(1) - البخارى (1689 ) وفي البخارى (1690 ) عَنْ أَنَسٍ - رضى الله عنه - أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - رَأَى رَجُلاً يَسُوقُ بَدَنَةً ، فَقَالَ « ارْكَبْهَا » . قَالَ إِنَّهَا بَدَنَةٌ . قَالَ « ارْكَبْهَا » . قَالَ إِنَّهَا بَدَنَةٌ . قَالَ « ارْكَبْهَا » . ثَلاَثًا .
(2) - الْمَبْسُوط 4 / 144 - 145 ، والدسوقي 2 / 92 ، والمجموع 8 / 278 ، والمغني 3 / 450 .
(3) - مَطَالِب أُولِي النُّهَى 2 / 482 ، والمجموع 8 / 366 - 367 .(1/290)
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ : إِنْ كَانَ وَقْتُ الذَّبْحِ قَرِيبًا لَمْ يَحْلِبْهَا ، وَيَنْضَحُ ضَرْعَهَا بِالْمَاءِ الْبَارِدِ حَتَّى يَنْقَطِعَ اللَّبَنُ ، وَإِنْ كَانَ وَقْتُ الذَّبْحِ بَعِيدًا يَحْلِبُهَا وَيَتَصَدَّقُ بِهِ كَيْ لاَ يَضُرَّ ذَلِكَ بِهَا ، وَإِنْ صَرَفَ اللَّبَنَ إِلَى حَاجَةِ نَفْسِهِ أَوْ إِلَى غَنِيٍّ تَصَدَّقَ بِمِثْلِهِ أَوْ بِقِيمَتِهِ(1).
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ : لاَ يَشْرَبُ الْمُهْدِي مِنْ لَبَنِهَا بَعْدَ التَّقْلِيدِ أَوِ الإِْشْعَارِ وَإِنْ فَضَل عَنْ رَيِّ فَصِيلِهَا بَل يُكْرَهُ وَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ ، وَيَحْرُمُ الشُّرْبُ إِنْ لَمْ يَفْضُل أَوْ أَضَرَّ بِالأُْمِّ أَوِ الْوَلَدِ فَإِنْ شَرِبَ فَيَغْرَمُ مُوجَبَ فِعْلِهِ الأَْرْشَ أَوِ الْبَدَل(2).
جَزُّ وَبَرِ الْهَدْيِ :
لاَ يَجُوزُ جَزُّ وَبَرِ الْهَدْيِ ، فَإِنْ جَزَّهُ تَصَدَّقَ بِهِ أَوْ بِقِيمَتِهِ إِنِ اسْتَهْلَكَهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالدَّارِمِيِّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ ، وَكَذَا الْحَنَابِلَةُ إِنْ كَانَ فِي بَقَائِهِ ضَرَرٌ .
وَأَجَازَ ذَلِكَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْمَذْهَبِ إِنْ كَانَ فِي جَزِّهِ مَصْلَحَةٌ بِأَنْ يَكُونَ قَدْ بَقَى إِلَى وَقْتِ النَّحْرِ مُدَّةً طَوِيلَةً ، وَأَجَازُوا لَهُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهِ ، وَالأَْفْضَل أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ ، وَإِنْ كَانَ فِي بَقَاءِ الصُّوفِ مَصْلَحَةٌ لِدَفْعِ ضَرَرِ حَرٍّ أَوْ بَرْدٍ أَوْ نَحْوِهِمَا أَوْ كَانَ وَقْتُ ذَبْحِهِ قَرِيبًا وَلَمْ يَضُرَّ بَقَاؤُهُ لَمْ يَجُزْ جَزُّهُ(3).
ثَانِيًا : هَدْيُ التَّطَوُّعِ :
__________
(1) - تَبْيِين الْحَقَائِقِ 2 / 91 ، وفتح الْقَدِير 3 / 167 .
(2) - حَاشِيَة الدُّسُوقِيّ 2 / 92 .
(3) - الْمَجْمُوع 8 / 279 - 280 ، والمغني 3 / 540 ، والمبسوط 4 / 144 .(1/291)
نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ عَلَى جَوَازِ بَيْعِ هَدْيِ التَّطَوُّعِ ، كَمَا يَجُوزُ الاِنْتِفَاعُ بِهِ ، وَتَمْلِيكُ مَنَافِعِهِ بِبَدَلٍ ، وَهُوَ الإِْجَارَةُ ، وَبِدُونِ بَدَلٍ ، وَهُوَ الإِْعَارَةُ .
وَذَلِكَ لأَِنَّهُ بَاقٍ عَلَى مِلْكِهِ وَتَصَرُّفِهِ إِلَى أَنْ يَنْحَرَ لأَِنَّ مَا وُجِدَ مِنْهُ مُجَرَّدُ نِيَّةِ ذَبْحِ الْهَدْيِ وَهَذَا لاَ يُزِيل الْمِلْكَ(1).
التَّصَرُّفُ فِي الْهَدْيِ بَعْدَ نَحْرِهِ :
بَيْعُ شَيْءٍ مِنَ الْهَدْيِ :
ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ بَيْعُ شَيْءٍ مِنْ لَحْمِ الْهَدْيِ وَجِلْدِهِ وَشَحْمِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَجْزَائِهِ ، سَوَاءٌ كَانَ الْهَدْيُ وَاجِبًا أَوْ تَطَوُّعًا(2).
قِسْمَةُ الْهَدْيِ وَتَفْرِقَتُهُ :
اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَفْرِقَةِ لَحْمِ مَا وَجَبَ نَحْرُهُ بِالْحَرَمِ خَارِجَ الْحَرَمِ عَلَى قَوْلَيْنِ :
__________
(1) - شَرْح مَعَانِي الآْثَارِ 2 / 162 ، والمجموع 8 / 364 - 365 .
(2) - شَرْح اللُّبَاب 312 و 313 ، والحطاب 3 / 193 ، والمجموع 8 / 332 ، والكافي 1 / 474 .(1/292)
فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ تَجِبُ تَفْرِقَةُ لَحْمِ مَا وَجَبَ نَحْرُهُ بِالْحَرَمِ فِي الْحَرَمِ لأَِنَّهُ أَحَدُ مَقْصُودَيِ النُّسُكِ فَلَمْ يَجُزْ فِي الْحِل ، وَلأَِنَّ الْمَعْنَى فِي ذَبْحِ الْهَدْيِ بِالْحَرَمِ التَّوْسِعَةُ عَلَى مَسَاكِينِهِ وَهَذَا لاَ يَحْصُل بِإِعْطَاءِ غَيْرِهِمْ ؛ وَلأَِنَّهُ نُسُكٌ يَخْتَصُّ بِالْحَرَمِ فَكَانَ جَمِيعُهُ مُخْتَصًّا بِهِ كَالطَّوَافِ وَسَائِرِ الْمَنَاسِكِ(1). وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّ مَسَاكِينَ الْحَرَمِ يَشْمَل الْغُرَبَاءَ الطَّارِئِينَ وَالْمُسْتَوْطِنِينَ ، وَقَالُوا : الصَّرْفُ إِلَى الْمُسْتَوْطِنِينَ أَفْضَل(2).
وَنَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ ذَبْحُ الْهَدَايَا إِلاَّ فِي الْحَرَمِ ، وَيَجُوزُ لِلْمُهْدِي أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهَا عَلَى مَسَاكِينِ الْحَرَمِ وَغَيْرِهِمْ ، إِلاَّ أَنَّ مَسَاكِينَ الْحَرَمِ أَفْضَل إِلاَّ أَنْ يَكُونَ غَيْرُهُمْ أَحْوَجَ مِنْهُمْ(3).
الأَْكْل مِنَ الْهَدَايَا :
الْهَدْيُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ بَالِغًا الْكَعْبَةَ وَإِمَّا أَنْ لاَ يَكُونَ كَذَلِكَ .
وَنُوَضِّحُ حُكْمَ كُلٍّ فِيمَا يَلِي :
أَوَّلاً : الْهَدْيُ الْبَالِغُ مَحِلَّهُ :
وَيَخْتَلِفُ حُكْمُ الأَْكْل مِنْهُ بِاخْتِلاَفِ نَوْعِ الْهَدْيِ :
أ - دِمَاءُ الْكَفَّارَاتِ وَهَدْيُ الإِْحْصَارِ :
اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الأَْكْل مِنْ هَدَايَا الْكَفَّارَاتِ وَالإِْحْصَارِ :
__________
(1) - الْمُغْنِي لاِبْن قُدَامَةَ 3 / 546 ، وروضة الطَّالِبِينَ 3 / 187 .
(2) - رَوْضَة الطَّالِبِينَ 3 / 187 و المجموع شرح المهذب - (ج 7 / ص 499).
(3) - الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّة 1 / 262 - 263 .(1/293)
فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ ( الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ ) إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لِلْمُهْدِي أَنْ يَأْكُل مِنْ هَدَايَا الْكَفَّارَاتِ وَالإِْحْصَارِ وَيَجِبُ عَلَيْهِ التَّصَدُّقُ بِلَحْمِهَا بَعْدَ الذَّبْحِ ، لأَِنَّهُ إِذَا لَمْ يَجُزْ أَكْلُهُ لِلْمُهْدِي وَلاَ يَتَصَدَّقُ بِهِ فَإِنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى إِضَاعَةِ الْمَال وَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ شَرْعًا(1).
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْمُهْدِي الأَْكْل مِنْ هَذِهِ الْهَدَايَا(2).
وَعَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ يَجُوزُ الأَْكْل مِنْ هَدْيِ الإِْحْصَارِ وَهَدَايَا الْكَفَّارَاتِ عَدَا جَزَاءِ الصَّيْدِ . وَهُوَ قَوْل ابْنِ عُمَرَ وَعَطَاءٍ وَالْحَسَنِ وَإِسْحَاقَ وَاسْتَدَلُّوا عَلَى اسْتِثْنَاءِ جَزَاءِ الصَّيْدِ مِنْ جَوَازِ الأَْكْل مِنْهُ بِأَنَّهُ بَدَلٌ .
وَقَال ابْنُ أَبِي مُوسَى بِجَوَازِ الأَْكْل مِنْ هَدْيِ الإِْحْصَارِ(3).
ب - الْهَدْيُ الْمَنْذُورُ :
اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ الأَْكْل مِنَ الْهَدْيِ الْمَنْذُورِ .
__________
(1) - الْبَحْر الرَّائِق 3 / 76 ، وكشاف الْقِنَاع 3 / 20 ، ومغني الْمُحْتَاج 1 / 530 - 531 .
(2) - الشَّرْح الْكَبِير مَعَ حَاشِيَةِ الدُّسُوقِيّ 2 / 89 .
(3) - الْمُغْنِي 3 / 542 .(1/294)
فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ ( الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ ) إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لِلْمُهْدِي الأَْكْل مِنَ الْهَدْيِ الْمَنْذُورِ وَهُوَ رَأْيُ الْمَالِكِيَّةِ إِذَا كَانَ الْهَدْيُ الْمَنْذُورُ مُعَيَّنًا ، أَمَّا غَيْرُ الْمُعَيَّنِ فَيَجُوزُ لِلْمُهْدِي الأَْكْل مِنْهُ(1).
ج - هَدْيُ التَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ :
اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ أَكْل الْمُهْدِي مِنْ هَدْيِ التَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ .
فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ ( الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ ) إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْمُهْدِي أَنْ يَأْكُل مِنْ هَدْيِ التَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ بَل صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلْمُهْدِي أَنْ يَأْكُل مِنْهُ وَيَجُوزُ أَنْ يُطْعِمَ الْغَنِيَّ(2).
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لِلْمُهْدِي أَكْل شَيْءٍ مِنْهُ(3).
د - هَدْيُ التَّطَوُّعِ :
ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ ( الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ ) إِلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلْمُهْدِي الأَْكْل مِنْ هَدْيِ التَّطَوُّعِ وَاسْتَدَلُّوا عَلَى مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَكُلُوا مِنْهَا } سُورَةُ الْحَجِّ / 28 . .
__________
(1) - الْبَحْر الرَّائِق 2 / 76 ، ومغني الْمُحْتَاج 1 / 531 ، وكشاف الْقِنَاع 3 / 20 ، والمغني لاِبْنِ قُدَامَةَ 3 / 541 ، والشرح الْكَبِير مَعَ حَاشِيَةِ الدُّسُوقِيّ 2 / 89 .
(2) - الْبَحْر الرَّائِق 3 / 76 ، والفتاوى الْهِنْدِيَّة 1 / 262 ، وفتح الْقَدِير 3 / 167 ، وكشاف الْقِنَاع 3 / 0 2 ، والمغني 3 / 541 ، والشرح الْكَبِير مَعَ حَاشِيَةِ الدُّسُوقِيّ 2 / 89 .
(3) - مُغْنِي الْمُحْتَاج 1 / 531 .(1/295)
وَأَقَل أَحْوَال الأَْمْرِ الاِسْتِحْبَابُ ، وَبِأَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَكَل مِنْ بَدَنَةٍ ، فَقَدْ وَرَدَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ نَحَرَ ثَلاَثًا وَسِتِّينَ بِيَدِهِ ثُمَّ أَعْطَى عَلِيًّا فَنَحَرَ مَا غَبَرَ وَأَشْرَكَهُ فِى هَدْيِهِ ثُمَّ أَمَرَ مِنْ كُلِّ بَدَنَةٍ بِبَضْعَةٍ فَجُعِلَتْ فِى قِدْرٍ فَطُبِخَتْ فَأَكَلاَ مِنْ لَحْمِهَا وَشَرِبَا مِنْ مَرَقِهَا(1).
وَاسْتَدَلُّوا أَيْضًا بِأَنَّهُ دَمُ النُّسُكِ ، فَيَجُوزُ مِنْهُ الأَْكْل كَالأُْضْحِيَةِ .
وَبِهَذَا يَقُول الْمَالِكِيَّةُ إِذَا لَمْ يَكُنْ هَدْيُ التَّطَوُّعِ مُعَيَّنًا ، أَمَّا إِذَا نَوَى الْمُهْدِي الْهَدْيَ لِلْمَسَاكِينِ أَوْ سَمَّاهُ لَهُمْ - عَيَّنَ أَمْ لاَ - فَإِنَّهُ يَحْرُمُ الأَْكْل مِنْهُ(2).
ثَانِيًا : الْهَدْيُ الَّذِي لَمْ يَبْلُغْ مَحِلَّهُ :
أ - هَدْيُ التَّطَوُّعِ :
__________
(1) - أَخْرَجَهُ مُسْلِم ( 3009) مِنْ حَدِيثِ جَابِر بْن عَبْد اللَّه .
(2) - الْبَحْر الرَّائِق 3 / 76 ، والحاوي 5 / 252 ، وكشاف الْقِنَاع 3 / 19 ، والشرح الْكَبِير مَعَ حَاشِيَةِ الدُّسُوقِيّ 2 / 89 .(1/296)
صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ إِذَا عَطِبَ الْهَدْيُ فِي الطَّرِيقِ وَلَمْ يَبْلُغِ الْحَرَمَ نَحَرَهُ فِي مَوْضِعِهِ وَصَبَغَ نَعْلَهُ بِدَمِهِ لِيَعْلَمَ أَنَّهُ هَدْيٌ فَيَأْكُلُهُ الْفَقِيرُ ، وَلاَ يَأْكُل الْمُهْدِي مِنْهُ ، وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لِلأَْغْنِيَاءِ الأَْكْل مِنْهُ كَذَلِكَ ، وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ بِأَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لِرُفْقَةِ الْمُهْدِي الأَْكْل مِنَ الْهَدْيِ إِذَا عَطِبَ . وَاخْتَارَ فِي التَّبْصِرَةِ إِبَاحَةَ الأَْكْل مِنْهُ لِرَفِيقِ الْمُهْدِي الْفَقِيرِ(1).
وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ إِذَا عَطِبَ هَدْيُ التَّطَوُّعِ فِي الطَّرِيقِ فَعَل بِهِ الْمُهْدِي مَا شَاءَ مِنْ بَيْعٍ أَوْ أَكْلٍ وَغَيْرِهِمَا(2).
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ هَدْيَ التَّطَوُّعِ إِذَا نَوَاهُ الْمُهْدِي لِلْمَسَاكِينِ أَوْ سَمَّاهُ لَهُمْ سَوَاءٌ أَعَيَّنَ أَمْ لاَ ، فَإِنَّهُ يَحْرُمُ لِلْمُهْدِي الأَْكْل بَلَغَ مَحِلَّهُ أَمْ لاَ وَفِي غَيْرِ ذَلِكَ يَجُوزُ الأَْكْل مِنْهُ(3).
ب - الْهَدْيُ الْوَاجِبُ :
لاَ يَنْبَغِي لِلْمُهْدِي أَنْ يَصْرِفَ شَيْئًا مِنْ عَيْنِ الْهَدْيِ أَوْ مِنْ مَنَافِعِهِ إِلَى نَفْسِهِ إِلَى أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ(4).
أَمَّا إِذَا عَطِبَ الْهَدْيُ الْوَاجِبُ فِي الطَّرِيقِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ أَكْل الْمُهْدِي مِنْهُ .
__________
(1) - الْبَحْر الرَّائِق 3 / 76 ، والإنصاف 4 / 97 - 98 ، وكشاف الْقِنَاع 3 / 15 .
(2) - رَوْضَة الطَّالِبِينَ 3 / 190 و المجموع شرح المهذب - (ج 8 / ص 371) .
(3) - الشَّرْح الْكَبِير مَعَ حَاشِيَةِ الدُّسُوقِيّ 2 / 89 .
(4) - فَتْح الْقَدِير 3 / 165 .(1/297)
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ عَطِبَ الْهَدْيُ الْوَاجِبُ أَقَامَ الْمُهْدِي غَيْرَهُ مَقَامَهُ وَصَنَعَ بِهِ مَا شَاءَ لأَِنَّهُ لَمْ يَبْقَ صَالِحًا لِمَا عَيَّنَهُ ، وَهُوَ مِلْكُهُ كَسَائِرِ أَمْلاَكِهِ(1).
وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِجَوَازِ الأَْكْل مِنْ هَدْيٍ وَاجِبٍ لِنَقْصٍ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ مِنْ تَرْكٍ وَاجِبٍ أَوْ فَسَادٍ أَوْ فَوَاتٍ أَوْ تَعَدِّي مِيقَاتٍ أَوْ مُتْعَةٍ أَوْ قِرَانٍ أَوْ نَذْرٍ لَمْ يُعَيَّنْ بَلَغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ أَوْ لاَ(2).
وَقَال الْحَنَابِلَةُ : إِنْ عَطِبَ الْهَدْيُ الْوَاجِبُ فِي الطَّرِيقِ قَبْل مَحِلِّهِ أَوْ عَجَزَ عَنِ الْمَشْيِ إِلَى مَحِلِّهِ لَزِمَ الْمُهْدِيَ نَحْرُهُ مَوْضِعَهُ مُجَزِّئًا ، وَصَبَغَ نَعْل الْهَدْيِ الَّتِي فِي عُنُقِهِ فِي دَمِهِ وَضَرَبَ بِهِ صَفْحَتَهُ لِيَعْرِفَهُ الْفُقَرَاءُ فَيَأْخُذُوهُ ، وَيَحْرُمُ عَلَى الْمُهْدِي وَعَلَى خَاصَّةِ رُفْقَتِهِ الأَْكْل مِنَ الْهَدْيِ الْعَاطِبِ - وَلَوْ كَانُوا فُقَرَاءَ - مَا لَمْ يَبْلُغْ مَحِلَّهُ لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ ذُؤَيْبًا أَبَا قَبِيصَةَ حَدَّثَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَبْعَثُ مَعَهُ بِالْبُدْنِ ثُمَّ يَقُولُ: " إِنْ عَطِبَ مِنْهَا شَىْءٌ فَخَشِيتَ عَلَيْهِ مَوْتًا فَانْحَرْهَا ثُمَّ اغْمِسْ نَعْلَهَا فِى دَمِهَا ثُمَّ اضْرِبْ بِهِ صَفْحَتَهَا وَلاَ تَطْعَمْهَا أَنْتَ وَلاَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ رُفْقَتِكَ "(3).
__________
(1) - الْبَحْر الرَّائِق 3 / 167 .
(2) - الشَّرْح الْكَبِير مَعَ حَاشِيَةِ الدُّسُوقِيّ 3 / 89 .
(3) - صحيح مسلم (3282 ) - عطب : قارب الهلاك(1/298)
وَاسْتَثْنَى الْحَنَابِلَةُ مِنْ هَذَا الْحُكْمِ دَمَ الْمُتْعَةِ وَالْقِرَانِ حَيْثُ أَجَازُوا الأَْكْل مِنْهُمَا ، جَاءَ فِي الإِْنْصَافِ : وَلاَ يَأْكُل مِنْ وَاجِبٍ إِلاَّ مِنْ دَمِ الْمُتْعَةِ وَالْقِرَانِ ، هَذَا الْمَذْهَبُ ، وَعَلَيْهِ جَمَاهِيرُ الأَْصْحَابِ وَنَصَّ عَلَيْهِ وَجَزَمَ بِهِ فِي الْوَجِيزِ وَغَيْرِهِ ، وَظَاهِرُ كَلاَمِ الْخِرَقِيِّ : أَنَّهُ لاَ يَأْكُل إِلاَّ مِنْ دَمِ الْمُتْعَةِ فَقَطْ .
وَقَال الآْجُرِّيُّ : لاَ يَأْكُل مِنْ هَدْيِ الْمُتْعَةِ وَالْقِرَانِ أَيْضًا .
وَعَنْ أَحْمَدَ : يَأْكُل مِنَ الْكُل إِلاَّ مِنَ النَّذْرِ - وَجَزَاءُ الصَّيْدِ . وَأَلْحَقَ ابْنُ أَبِي مُوسَى بِهِمَا الْكَفَّارَةَ ، وَجَوَّزَ الأَْكْل مِمَّا عَدَا ذَلِكَ(1).
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ : إِذَا عَطِبَ الْهَدْيُ فِي الطَّرِيقِ وَكَانَ وَاجِبًا لَزِمَهُ ذَبْحُهُ . فَلَوْ تَرَكَهُ حَتَّى هَلَكَ ضَمِنَهُ ، وَإِذَا ذَبَحَهُ غَمَسَ النَّعْل الَّتِي قَلَّدَهُ فِي دَمِهِ ، وَضَرَبَ بِهَا سِنَامَهُ ، وَتَرَكَهُ لِيَعْلَمَ مَنْ مَرَّ بِهِ أَنَّهُ هَدْيٌ فَيَأْكُل مِنْهُ ، وَصَارَ لِلْمَسَاكِينِ ، وَلاَ يَجُوزُ لِلْمُهْدِي وَلاَ لأَِغْنِيَاءِ الرُّفْقَةِ الأَْكْل مِنْهُ قَطْعًا ، وَلاَ لِفُقَرَاءِ الرُّفْقَةِ عَلَى الصَّحِيحِ(2).
الاِدِّخَارُ مِنْ لَحْمِ الْهَدْيِ :
__________
(1) - كَشَّاف الْقِنَاع 3 / 15 ، ومطالب أُولِي النُّهَى 2 / 483 - 484 ، والإنصاف 4 / 104 .
(2) - رَوْضَة الطَّالِبِينَ 3 / 190 - 191 و المبسوط - (ج 5 / ص 319) وبدائع الصنائع في ترتيب الشرائع - (ج 5 / ص 296) وشرح الوجيز - (ج 8 / ص 99) والمجموع شرح المهذب - (ج 8 / ص 370) وتحفة المحتاج في شرح المنهاج - (ج 16 / ص 143) والشرح الكبير لابن قدامة - (ج 3 / ص 571) والإنصاف - (ج 6 / ص 475) والمبدع شرح المقنع - (ج 4 / ص 280)(1/299)
لاَ خِلاَفَ بَيْنِ الْفُقَهَاءِ فِي جَوَازِ الاِدِّخَارِ مِنْ لَحْمِ مَا يَجُوزُ الأَْكْل مِنْهُ مِنَ الْهَدَايَا(1). لِحَدِيثِ جَابِرٍ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ نَهَى عَنْ أَكْلِ لُحُومِ الضَّحَايَا بَعْدَ ثَلاَثٍ ثُمَّ قَالَ بَعْدُ " كُلُوا وَتَزَوَّدُوا وَادَّخِرُوا "(2).
الْقَدْرُ الْمُدَّخَرُ :
ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْقَدِيمِ إِلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَفْعَل بِهِ كَمَا يَفْعَل بِالأُْضْحِيَةِ . فَيَأْكُل وَيَدَّخِرُ بِالثُّلُثِ ، وَيَتَصَدَّقُ بِالثُّلُثِ وَيُطْعِمُ الأَْغْنِيَاءَ بِالثُّلُثِ .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ : مَا أُبِيحَ لِلْمُهْدِي الأَْكْل مِنْهُ فَلَهُ أَكْلُهُ جَمِيعُهُ وَالتَّصَدُّقُ بِجَمِيعِهِ . قَال فِي الطِّرَازِ : وَهُوَ أَحْسَنُ ، إِلاَّ أَنَّهُ لاَ يَدَعُ الأَْكْل وَالصَّدَقَةَ ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (36) سورة الحج .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ فِي الْجَدِيدِ : الْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَأْكُل وَيَدَّخِرَ النِّصْفَ ، وَيَتَصَدَّقَ بِالنِّصْفِ عَلَى الْمَسَاكِينِ ، وَقَالُوا : وَالأَْفْضَل وَالأَْحْسَنُ . أَنْ يَتَصَدَّقَ بِالْجَمِيعِ إِلاَّ لُقَيْمَاتٍ يَأْكُلُهَا تَبَرُّكًا .
__________
(1) - الْبَحْر الرَّائِق 3 / 76 ، والحاوي الْكَبِير 5 / 499 - 500 ، وكشاف الْقِنَاع 3 / 19 .
(2) - مسلم (5216 )(1/300)
وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلْمُهْدِي الأَْكْل مِنَ الْهَدْيِ كَالأُْضْحِيَةِ وَلَهُ التَّزَوُّدُ وَالأَْكْل كَثِيرًا(1).
عَطَبُ الْهَدْيِ :
قَال الْحَنَفِيَّةُ : إِذَا عَطِبَ الْهَدْيُ فِي الطَّرِيقِ نَحَرَهُ صَاحِبُهُ ، فَإِنْ كَانَ وَاجِبًا فَهُوَ لِصَاحِبِهِ يَصْنَعُ بِهِ مَا يَشَاءُ ؛ لأَِنَّهُ قَصَدَ بِهَذَا إِسْقَاطَ الْوَاجِبِ عَنْ ذِمَّتِهِ ؛ فَإِذَا خَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ صَالِحًا لإِِسْقَاطِ الْوَاجِبِ بِهِ بَقِيَ الْوَاجِبُ فِي ذِمَّتِهِ كَمَا كَانَ ، وَهَذَا مِلْكُهُ فَيَصْنَعُ بِهِ مَا شَاءَ . وَإِنْ كَانَ تَطَوُّعًا نَحَرَهُ وَصَبَغَ نَعْلَهُ بِدَمِهِ ثُمَّ ضَرَبَ بِهِ صَفْحَتَهُ وَلَمْ يَأْكُل مِنْهُ شَيْئًا ، بَل يَتَصَدَّقُ بِهِ ، وَذَلِكَ أَفْضَل مِنْ أَنْ يَتْرُكَهُ لِلسِّبَاعِ . هَكَذَا نُقِل عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا . وَالأَْصْل فِيهِ مَا وَرَدَ عَنْ نَاجِيَةَ الْخُزَاعِىِّ صَاحِبِ بُدْنِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ أَصْنَعُ بِمَا عَطِبَ مِنَ الْبُدْنِ قَالَ " انْحَرْهَا ثُمَّ اغْمِسْ نَعْلَهَا فِى دَمِهَا ثُمَّ خَلِّ بَيْنَ النَّاسِ وَبَيْنَهَا فَيَأْكُلُوهَا "(2).
__________
(1) - الْبَحْر الرَّائِق 4 / 76 ، والحاوي الْكَبِير 5 / 499 - 500 ، وكشاف الْقِنَاع 3 / 19 ، ومواهب الْجَلِيل 3 / 190 .
(2) - سنن الترمذى (920)صحيح(1/301)
وَمَقْصُودُهُ مِمَّا ذُكِرَ أَنْ يَجْعَل عَلَيْهَا عَلاَمَةً ، يُعْلَمُ بِتِلْكَ الْعَلاَمَةِ أَنَّهَا هَدْيٌ ، فَيَتَنَاوَل مِنْهَا الْفُقَرَاءُ دُونَ الأَْغْنِيَاءِ وَإِنَّمَا نَهَاهُ أَنْ يَتَنَاوَل مِنْهَا لأَِنَّهُ كَانَ غَنِيًّا مَعَ رُفْقَتِهِ ، ثُمَّ الْمُتَطَوِّعُ بِالْهَدَايَا إِنَّمَا يَتَنَاوَل بِإِذْنِ مَنْ لَهُ الْحَقُّ ، وَالإِْذْنُ مُعَلَّقٌ بِشَرْطِ بُلُوغِهِ مَحِلَّهُ قَال اللَّهُ تَعَالَى : { فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا} سُورَةُ الْحَجِّ / 36 ، فَإِذَا لَمْ تَبْلُغْ مَحِلَّهَا لاَ يُبَاحُ لَهُ التَّنَاوُل مِنْهَا وَلاَ أَنْ يُطْعِمَ غَنِيًّا ، بَل يَتَصَدَّقُ بِهَا عَلَى الْفُقَرَاءِ ؛ لأَِنَّهُ قَصَدَ بِهَا التَّقَرُّبَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى ؛ فَإِذَا فَاتَ مَعْنَى التَّقَرُّبِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِإِرَاقَةِ الدَّمِ تَعَيَّنَ التَّقَرُّبُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِالتَّصَدُّقِ ، وَذَلِكَ بِالصَّرْفِ إِلَى الْفُقَرَاءِ دُونَ الأَْغْنِيَاءِ ، فَإِنْ أَعْطَى مِنْ ذَلِكَ غَنِيًّا ضَمِنَ قِيمَتَهُ . وَيَتَصَدَّقُ بِجِلاَلِهَا وَخَطْمِهَا أَيْضًا كَمَا يَفْعَل ذَلِكَ إِذَا بَلَغَتْ مَحِلَّهَا(1).
__________
(1) - الْمَبْسُوط 4 / 145 .(1/302)
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ قَال ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : الْهَدْيُ هَدْيَانِ : وَاجِبٌ وَتَطَوُّعٌ ، وَيَأْكُل مِنَ الْهَدْيِ كُلِّهِ وَاجِبِهِ وَتَطَوُّعِهِ إِلاَّ أَرْبَعَةَ أَشْيَاءَ : جَزَاءَ الصَّيْدِ ، وَفِدْيَةَ الأَْذَى ، وَنَذْرَ الْمَسَاكِينِ ، وَهَدْيَ التَّطَوُّعِ إِذَا عَطِبَ قَبْل مَحِلِّهِ . وَأَمَّا الْهَدْيُ الْوَاجِبُ إِذَا عَطِبَ قَبْل مَحِلِّهِ فَإِنَّهُ يَأْكُل مِنْهُ صَاحِبُهُ إِنْ شَاءَ لأَِنَّ عَلَيْهِ بَدَلَهُ ، وَلاَ بَدَل عَلَيْهِ فِي الْوَاجِبِ إِنْ عَطِبَ قَبْل مَحِلِّهِ إِلاَّ أَنْ يَأْكُل مِنْهُ ، وَمَنْ أَكَل مِنْ هَدْيٍ لاَ يَجُوزُ الأَْكْل مِنْهُ فَفِيهِ قَوْلاَنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يُبَدَّل الْهَدْيُ كُلُّهُ ، وَالآْخَرُ : أَنَّهُ لاَ يُبَدَّل إِلاَّ مِقْدَارُ مَا أَكَل مِنْهُ وَالأَْوَّل أَشْهَرُ عَنْ مَالِكٍ ، وَالآْخَرُ اخْتِيَارُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ : أَنَّهُ إِنْ أَكَل مِنْ نَذْرِ الْمَسَاكِينِ شَيْئًا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ إِلاَّ مِقْدَارُ مَا أَكَل ، وَإِنْ أَكَل مِنْ جَزَاءِ الصَّيْدِ أَوْ مِنْ فِدْيَةِ الأَْذَى جَزَاهُ كُلُّهُ وَأَتَى بِفِدْيَتِهِ كَامِلَةً .(1/303)
وَالسُّنَّةُ أَنْ يَنْحَرَ الْهَدْيَ التَّطَوُّعَ إِذَا عَطِبَ قَبْل مَحِلِّهِ ، ثُمَّ يَضَعُ قِلاَدَتَهُ فِي دَمِهِ وَيُخَلِّي بَيْنَ النَّاسِ وَبَيْنَهُ يَأْكُلُونَهُ ، وَلاَ يَأْكُل مِنْهُ صَاحِبُهُ وَلاَ يُطْعِمُ وَلاَ يَتَصَدَّقُ ، فَإِنْ أَكَل أَوْ أَطْعَمَ أَوْ تَصَدَّقَ فَالأَْشْهَرُ عَنْ مَالِكٍ : أَنَّهُ إِنْ أَكَل مِنْهُ شَيْئًا ضَمِنَهُ كُلَّهُ(1). وَقَال الشَّافِعِيَّةُ : إِنْ كَانَ الْهَدْيُ تَطَوُّعًا فَهُوَ بَاقٍ عَلَى مِلْكِهِ وَتَصَرُّفِهِ إِلَى أَنْ يُنْحَرَ ، وَإِنْ كَانَ نَذْرًا زَال مِلْكُهُ عَنْهُ وَصَارَ لِلْمَسَاكِينِ ، فَلاَ يَجُوزُ لَهُ بَيْعُهُ وَلاَ إِبْدَالُهُ بِغَيْرِهِ ؛ لِمَا رويَ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ أَهْدَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ نَجِيبًا فَأُعْطِىَ بِهَا ثَلاَثَمِائَةِ دِينَارٍ فَأَتَى النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّى أَهْدَيْتُ نَجِيبًا فَأُعْطِيتُ بِهَا ثَلاَثَمِائَةِ دِينَارٍ أَفَأَبِيعُهَا وَأَشْتَرِى بِثَمَنِهَا بُدْنًا قَالَ : " لاَ انْحَرْهَا إِيَّاهَا "(2)
__________
(1) - الْكَافِي لاِبْن عَبْد الْبَرّ 1 / 349 - 350 .
(2) - سنن أبى داود (1758) فيه جهالة - قَالَ أَبُو دَاوُدَ هَذَا لأَنَّهُ كَانَ أَشْعَرَهَا.النجيب : القوى الخفيف السريع(1/304)
وَإِنْ عَطِبَ وَخَافَ أَنْ يَهْلِكَ نَحَرَهُ وَغَمَسَ نَعْلَهُ فِي دَمِهِ وَضَرَبَ بِهِ صَفْحَتَهُ ؛ لِمَارويَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ ذُؤَيْبًا أَبَا قَبِيصَةَ حَدَّثَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَبْعَثُ مَعَهُ بِالْبُدْنِ ثُمَّ يَقُولُ " إِنْ عَطِبَ مِنْهَا شَىْءٌ فَخَشِيتَ عَلَيْهِ مَوْتًا فَانْحَرْهَا ثُمَّ اغْمِسْ نَعْلَهَا فِى دَمِهَا ثُمَّ اضْرِبْ بِهِ صَفْحَتَهَا وَلاَ تَطْعَمْهَا أَنْتَ وَلاَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ رُفْقَتِكَ "(1). وَلأَِنَّهُ هَدْيٌ مَعْكُوفٌ عَنِ الْحَرَمِ فَوَجَبَ نَحْرُهُ مَكَانَهُ كَهَدْيِ الْمُحْصَرِ .
وَهَل يَجُوزُ أَنْ يُفَرِّقَهُ عَلَى فُقَرَاءِ الرُّفْقَةِ ؟ فِيهِ وَجْهَانِ ، أَحَدُهُمَا : لاَ يَجُوزُ ؛ لِحَدِيثِ أَبِي قَبِيصَةَ ، وَلأَِنَّ فُقَرَاءَ الرُّفْقَةِ يُتَّهَمُونَ فِي سَبَبِ عَطَبِهَا فَلَمْ يَطْعَمُوا مِنْهَا . وَالثَّانِي : يَجُوزُ ؛ لأَِنَّهُمْ مِنْ أَهْل الصَّدَقَةِ فَجَازَ أَنْ يَطْعَمُوا كَسَائِرِ الْفُقَرَاءِ .
__________
(1) - صحيح مسلم (3282 ) عطب : قارب الهلاك(1/305)
فَإِنْ أَخَّرَ ذَبْحَهُ حَتَّى مَاتَ ضَمِنَهُ ؛ لأَِنَّهُ مُفَرِّطٌ فِي تَرْكِهِ فَضَمِنَهُ كَالْمُودَعِ إِذَا رَأَى مَنْ يَسْرِقُ الْوَدِيعَةَ فَسَكَتَ عَنْهُ حَتَّى سَرَقَهَا ؛ وَإِنْ أَتْلَفَهَا لَزِمَهُ الضَّمَانُ لأَِنَّهُ أَتْلَفَ مَال الْمَسَاكِينِ فَلَزِمَهُ ضَمَانُهُ ، وَيَضْمَنُهُ بِأَكْثَرِ الأَْمْرَيْنِ مِنْ قِيمَتِهِ ، أَوْ هَدْيٍ مِثْلِهِ لأَِنَّهُ لَزِمَهُ الإِْرَاقَةُ وَالتَّفْرِقَةُ وَقَدْ فَوَّتَ الْجَمِيعَ فَلَزِمَهُ ضَمَانُهُمَا ، كَمَا لَوْ أَتْلَفَ شَيْئَيْنِ ، فَإِنْ كَانَتِ الْقِيمَةُ مِثْل ثَمَنِ مِثْلِهِ اشْتَرَى مِثْلَهُ وَأَهْدَاهُ ، وَإِنْ كَانَتْ أَقَل لَزِمَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ مِثْلَهُ وَيَهْدِيَهُ ، وَإِنْ كَانَتْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ نَظَرْتَ : فَإِنْ كَانَ يُمْكِنُهُ أَنْ يَشْتَرِيَ بِهِ هَدْيَيْنِ اشْتَرَاهُمَا وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ اشْتَرَى هَدْيًا .
وَإِنْ كَانَ فِي ذِمَّتِهِ هَدْيٌ فَعَيَّنَهُ بِالنَّذْرِ فِي هَدْيٍ تَعَيَّنَ ؛ لأَِنَّ مَا وَجَبَ مُعَيَّنًا جَازَ أَنْ يَتَعَيَّنَ بِهِ مَا فِي الذِّمَّةِ كَالْبَيْعِ ؛ وَيَزُول مِلْكُهُ عَنْهُ فَلاَ يَمْلِكُ بَيْعَهُ وَلاَ إِبْدَالَهُ ، فَإِنْ هَلَكَ بِتَفْرِيطٍ أَوْ بِغَيْرِ تَفْرِيطٍ رَجَعَ الْوَاجِبُ إِلَى مَا فِي الذِّمَّةِ ، وَإِنْ عَطِبَ فَنَحَرَهُ عَادَ الْوَاجِبُ إِلَى مَا فِي الذِّمَّةِ .(1/306)
وَهَل يَعُودُ مَا نَحَرَهُ إِلَى مِلْكِهِ ؟ فِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَعُودُ إِلَى مِلْكِهِ ؛ لأَِنَّهُ إِنَّمَا نَحَرَهُ لِيَكُونَ عَمَّا فِي ذِمَّتِهِ ، فَإِذَا لَمْ يَقَعْ عَمَّا فِي ذِمَّتِهِ عَادَ إِلَى مِلْكِهِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لاَ يَعُودُ ؛ لأَِنَّهُ صَارَ لِلْمَسَاكِينِ فَلاَ يَعُودُ إِلَيْهِ . فَإِنْ قُلْنَا : إِنَّهُ يَعُودُ إِلَى مِلْكِهِ جَازَ لَهُ أَنْ يَأْكُلَهُ وَيُطْعِمَ مَنْ شَاءَ .
ثُمَّ يَنْظُرُ فِيهِ : فَإِنْ كَانَ الَّذِي فِي ذِمَّتِهِ مِثْل الَّذِي عَادَ إِلَى مِلْكِهِ نَحَرَ مِثْلَهُ فِي الْحَرَمِ ، وَإِنْ كَانَ أَعْلَى مِمَّا فِي ذِمَّتِهِ فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يُهْدِي مِثْل مَا نَحَرَ ؛ لأَِنَّهُ قَدْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ فَصَارَ مَا فِي ذِمَّتِهِ زَائِدًا فَلَزِمَهُ نَحْرُ مِثْلِهِ ، وَالثَّانِي : أَنَّهُ يُهْدِي مِثْل الَّذِي كَانَ فِي ذِمَّتِهِ ؛ لأَِنَّ الزِّيَادَةَ فِيمَا عَيَّنَهُ وَقَدْ هَلَكَ مِنْ غَيْرِ تَفْرِيطٍ فَسَقَطَ(1).
وَيَرَى الْحَنَابِلَةُ : أَنَّ مَنْ سَاقَ هَدْيًا يَنْوِي بِهِ الْوَاجِبَ الَّذِي عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُعَيِّنَهُ بِالْقَوْل فَهَذَا لاَ يَزُول مِلْكُهُ عَنْهُ إِلاَّ بِذَبْحِهِ وَدَفْعِهِ إِلَى أَهْلِهِ ، وَلَهُ التَّصَرُّفُ بِمَا شَاءَ مِنْ بَيْعٍ وَهِبَةٍ وَأَكْلٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ ؛ لأَِنَّهُ لاَ يَتَعَلَّقُ حَقُّ غَيْرِهِ بِهِ وَلَهُ نَمَاؤُهُ .
وَإِنْ عَطِبَ تَلِفَ مِنْ مَالِهِ ، وَإِنْ تَعَيَّبَ لَمْ يُجْزِئْهُ ذَبْحُهُ وَعَلَيْهِ الْهَدْيُ الَّذِي كَانَ وَاجِبًا ، فَإِنَّ وُجُوبَهُ فِي الذِّمَّةِ فَلاَ يَبْرَأُ مِنْهُ إِلاَّ بِإِيصَالِهِ إِلَى مُسْتَحِقِّهِ .
__________
(1) - الْمُهَذَّب 1 / 243 – 244 و المجموع شرح المهذب - (ج 8 / ص 377)(1/307)
أَمَّا إِذَا عُيِّنَ الْهَدْيُ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ بِالْقَوْل ،كَأَنْ يَقُول : هَذَا الْوَاجِبُ عَلَيَّ ، فَإِنَّهُ يَتَعَيَّنُ الْوُجُوبُ فِيهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَبْرَأَ الذِّمَّةُ مِنْهُ ؛ لأَِنَّهُ لَوْ أَوْجَبَ هَدْيًا وَلاَ هَدْيَ عَلَيْهِ لَتَعَيَّنَ ، فَإِذَا كَانَ وَاجِبًا فَعَيَّنَهُ فَكَذَلِكَ إِلاَّ أَنَّهُ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ ، فَإِنْ عَطِبَ أَوْ سُرِقَ أَوْ ضَل أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ لَمْ يُجْزِهِ وَعَادَ الْوُجُوبُ إِلَى ذِمَّتِهِ ، وَإِنْ ذَبَحَهُ فَسُرِقَ أَوْ عَطِبَ فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ ، قَال أَحْمَدُ : إِذَا نَحَرَ فَلَمْ يَطْعَمْهُ حَتَّى سُرِقَ لاَ شَيْءَ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ إِذَا نَحَرَ فَقَدْ فَرَغَ ، وَهَذَا قَوْل الثَّوْرِيِّ(1).
أَمَّا مَنْ تَطَوَّعَ بِهَدْيٍ غَيْرِ وَاجِبٍ فَإِنَّهُ لَمْ يَخْل مِنْ حَالَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : أَنْ يَنْوِيَهُ هَدْيًا ، وَلاَ يُوجِبُ بِلِسَانِهِ وَلاَ بِإِشْعَارِهِ وَتَقْلِيدِهِ ، فَهَذَا لاَ يَلْزَمُهُ إِمْضَاؤُهُ ، وَلَهُ أَوْلاَدُهُ وَنَمَاؤُهُ وَالرُّجُوعُ فِيهِ مَتَى شَاءَ مَا لَمْ يَذْبَحْهُ ؛ لأَِنَّهُ نَوَى الصَّدَقَةَ بِشَيْءٍ مِنْ مَالِهِ فَأَشْبَهَ مَا لَوْ نَوَى الصَّدَقَةَ بِدِرْهَمٍ .
الثَّانِي : أَنْ يُوجِبَ بِلِسَانِهِ فَيَقُول : هَذَا هَدْيٌ ، أَوْ يُقَلِّدَهُ أَوْ يُشْعِرَهُ ، يَنْوِي بِذَلِكَ إِهْدَاءَهُ ، فَيَصِيرُ وَاجِبًا مُعَيَّنًا يَتَعَلَّقُ الْوُجُوبُ بِعَيْنِهِ دُونَ ذِمَّةِ صَاحِبِهِ ، وَيَصِيرُ فِي يَدَيْ صَاحِبِهِ كَالْوَدِيعَةِ يَلْزَمُهُ حِفْظُهُ وَإِيصَالُهُ إِلَى مَحَلِّهِ .
__________
(1) - الْمُغْنِي 3 / 534 ط الرِّيَاض ، و 5 / 434 ط هُجِرَ .(1/308)
فَإِنْ تَلِفَ بِغَيْرِ تَفْرِيطٍ مِنْهُ ، أَوْ سُرِقَ ، أَوْ ضَل لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ ؛ لأَِنَّهُ لَمْ يَجِبْ فِي الذِّمَّةِ إِنَّمَا تَعَلَّقَ الْحَقُّ بِالْعَيْنِ فَسَقَطَ بِتَلَفِهَا كَالْوَدِيعَةِ .
وَقَدْ وَرَدَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ مَنْ أَهْدَى بَدَنَةً ثُمَّ ضَلَّتْ أَوْ مَاتَتْ فَإِنَّهَا إِنْ كَانَتْ نَذْرًا أَبْدَلَهَا وَإِنْ كَانَتْ تَطَوُّعًا فَإِنْ شَاءَ أَبْدَلَهَا وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهَا. "(1).
وَأَمَّا إِنْ أَتْلَفَهُ أَوْ تَلِفَ بِتَفْرِيطِهِ فَعَلَيْهِ ضَمَانُهُ لأَِنَّهُ أَتْلَفَ وَاجِبًا لِغَيْرِهِ فَضَمِنَهُ كَالْوَدِيعَةِ .
وَإِنْ خَافَ عَطَبَهُ أَوْ عَجَزَ عَنِ الْمَشْيِ وَصُحْبَةِ الرِّفَاقِ نَحَرَهُ فِي مَوْضِعِهِ ، وَخَلَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَسَاكِينِ ، وَلَمْ يُبَحْ لَهُ أَكْل شَيْءٍ مِنْهُ وَلاَ لأَِحَدٍ مِنْ صَحَابَتِهِ وَإِنْ كَانُوا فُقَرَاءَ(2).
وَقْتُ ذَبْحِ الْهَدْيِ :
الْهَدْيُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ هَدْيَ تَطَوُّعٍ ، أَوْ يَكُونَ هَدْيَ تَمَتُّعٍ أَوْ قِرَانٍ ، أَوْ هَدْيًا لِجَبْرِ نُقْصَانٍ ، أَوْ هَدْيَ نَذْرٍ ، وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي :
أَمَّا هَدْيُ التَّطَوُّعِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وَقْتِ ذَبْحِهِ ، فَالْحَنَفِيَّةُ قَالُوا : يَجُوزُ ذَبْحُ دَمِ التَّطَوُّعِ قَبْل يَوْمِ النَّحْرِ ، لأَِنَّ الْقُرْبَةَ فِي التَّطَوُّعَاتِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهَا هَدَايَا ، وَذَلِكَ يَتَحَقَّقُ بِتَبْلِيغِهَا إِلَى الْحَرَمِ ، وَذَبْحُهُ أَيَّامَ النَّحْرِ أَفْضَل لأَِنَّ مَعْنَى الْقُرْبَةِ فِيهِ أَظْهَرُ ، وَهُوَ وَجْهٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ .
__________
(1) - موطأ مالك (861 ) صحيح
(2) - الْمُغْنِي 3 / 537 .(1/309)
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ وَقْتَ ذَبْحِ هَدْيِ التَّطَوُّعِ هُوَ أَيَّامُ النَّحْرِ الثَّلاَثَةُ ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ عَلَى الصَّحِيحِ يَوْمُ النَّحْرِ وَأَيَّامُ التَّشْرِيقِ .
وَلاَ تُجْزِئُ لَيْلاً عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَتُجْزِئُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ مَعَ الْكَرَاهَةِ .
وَاخْتَلَفُوا أَيْضًا فِي وَقْتِ ذَبْحِ هَدْيِ الْمُتْعَةِ وَالْقِرَانِ ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يَخْتَصُّ بِأَيَّامِ النَّحْرِ الثَّلاَثَةِ ، وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى : {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ } سُورَةُ الْحَجِّ / 29 - 30 ..
وَجْهُ الاِسْتِدْلاَل بِالآْيَةِ : أَنَّ قَضَاءَ التَّفَثِ ( أَيْ إِزَالَةَ الْوَسِخِ ) ، وَالطَّوَافُ يَخْتَصُّ بِأَيَّامِ النَّحْرِ ، فَكَذَا الذَّبْحُ ، لِيَكُونَ مَسْرُودًا عَلَى نَسَقٍ وَاحِدٍ ؛ لأَِنَّهُ دَمُ نُسُكٍ فَيَخْتَصُّ بِيَوْمِ النَّحْرِ كَالأُْضْحِيَةِ ؛ وَلَوْ ذَبَحَ بَعْدَهُ فَإِنَّهُ يَكُونُ تَارِكًا لِلْوَاجِبِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَيَلْزَمُهُ دَمٌ
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهَا لاَ تَخْتَصُّ بِزَمَانٍ ، بَل يَجُوزُ أَنْ يَذْبَحَهَا بَعْدَ الإِْحْرَامِ بِالْقِرَانِ ، وَبَعْدَ الإِْحْرَامِ بِالْحَجِّ فِي التَّمَتُّعِ ، وَيَجُوزُ قَبْل الإِْحْرَامِ بِالْحَجِّ بَعْدَ التَّحَلُّل مِنَ الْعُمْرَةِ فِي الأَْظْهَرِ .(1/310)
وَأَمَّا دَمُ الْجِنَايَاتِ فَقَدِ اتَّفَقَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَتَقَيَّدُ بِوَقْتٍ ؛ لأَِنَّهَا دِمَاءُ كَفَّارَاتٍ ، فَلاَ تَخْتَصُّ بِزَمَانِ النَّحْرِ ، بَل يَجُوزُ تَأْخِيرُهَا إِلَى أَيِّ وَقْتٍ آخَرَ ، إِلاَّ أَنَّهَا لَمَّا وَجَبَتْ لِجَبْرِ النُّقْصَانِ كَانَ التَّعَجُّل بِهَا أَوْلَى ، لاِرْتِفَاعِ النُّقْصَانِ مِنْ غَيْرِ تَأْخِيرٍ .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَخْتَصُّ بِأَيَّامِ النَّحْرِ الثَّلاَثَةِ .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ : إِنَّ وَقْتَ ذَبْحِ دِمَاءِ الْجِنَايَاتِ يَكُونُ مِنْ وَقْتِ فِعْل الْمَحْذُورِ .
وَاخْتَلَفُوا فِي وَقْتِ ذَبْحِ الْهَدْيِ الْمَنْذُورِ .
فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ وَقْتَ ذَبْحِ الْهَدْيِ الْمَنْذُورِ هُوَ أَيَّامُ النَّحْرِ الثَّلاَثَةُ .
وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ وَجْهٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ لاَ يَخْتَصُّ بِزَمَانٍ فَيَجُوزُ ذَبْحُهُ فِي أَيِّ وَقْتٍ شَاءَ .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الصَّحِيحِ إِلَى أَنَّهُ يَخْتَصُّ بِيَوْمِ النَّحْرِ وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ الثَّلاَثَةِ قِيَاسًا عَلَى الأُْضْحِيَةِ(1)
__________
(1) - تَبْيِين الْحَقَائِقِ 2 / 90 ، والهداية وَفَتْح الْقَدِير 2 / 323 ، والمدونة 1 / 487 ، والدسوقي 2 / 86 - 88 ، ومغني الْمُحْتَاج 1 / 516 - 530 ، وكشاف الْقِنَاع 3 / 9 - 10 ، والفروع 3 / 545 - 546 .(1/311)
وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ إِنْ فَاتَ الْوَقْتُ قَبْل ذَبْحِ الْهَدْيِ ذَبَحَ الْهَدْيَ الْوَاجِبَ قَضَاءً ؛ لأَِنَّ الذَّبْحَ أَحَدُ مَقْصُودَيِ الْهَدْيِ فَلاَ يَسْقُطُ بِفَوَاتِ وَقْتِهِ كَمَا لَوْ ذَبَحَهَا فِي الْوَقْتِ وَلَمْ يُفَرِّقْهَا حَتَّى خَرَجَ الْوَقْتُ(1).
مَكَانُ ذَبْحِ الْهَدْيِ :
اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ دِمَاءَ الْهَدْيِ - عَدَا الإِْحْصَارِ - يَخْتَصُّ جَوَازُ إِرَاقَتِهَا بِالْحَرَمِ ، وَلاَ يَجُوزُ ذَبْحُ شَيْءٍ مِنْهَا خَارِجَهُ ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ : {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} سُورَةُ الْمَائِدَةِ / 95 . وَقَوْلِهِ تَعَالَى : { ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ } سُورَةُ الْحَجِّ / 33 . ، وَلِقَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم - : نَحَرْتُ هَاهُنَا وَمِنًى كُلُّهَا مَنْحَرٌ فَانْحَرُوا فِي رِحَالِكُمْ وَوَقَفْتُ هَاهُنَا وَعَرَفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ وَوَقَفْتُ هَاهُنَا وَجَمْعٌ كُلُّهَا مَوْقِفٌ(2):
وَقَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم - : كُل فِجَاجِ مَكَّةَ طَرِيقٌ وَمَنْحَرٌ(3).
وَنَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّ مَكَانَ ذَبْحِ الْهَدَايَا بِمَا فِيهَا دَمُ الْمُحْصَرِ الْحَرَمُ ، فَلاَ يَجُوزُ ذَبْحُ الْهَدَايَا إِلاَّ فِي الْحَرَمِ وَاحْتَجُّوا بِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى : { وَلاَ تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ } سُورَةُ الْبَقَرَةِ / 196 . ، وَلَوْ كَانَ كُل مَوْضِعٍ مَحِلًّا لِلذَّبْحِ لَمْ يَكُنْ لِذِكْرِ الْمَحِل فَائِدَةٌ .
__________
(1) - هِدَايَة السَّالِكِ لاِبْنِ جَمَاعَة 1 / 328 ، وكشاف الْقِنَاع 3 / 10 .
(2) - صحيح مسلم (2138 ) عَنْ جَابِرٍ
(3) - المستدرك للحاكم (1691) صحيح(1/312)
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى وُجُوبِ إِرَاقَةِ دَمِ الْمُحْصَرِ فِي الْحَرَمِ أَيْضًا بِمَا رُوِيَ عَنْ عَلْقَمَةَ قَالَ : لُدِغَ صَاحِبٌ لَنَا بِذَاتِ التَّنَانِينِ ، وَهُوَ مُحْرِمٌ بِعُمْرَةٍ ، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْنَا ، فَلَقِينَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَذَكَرْنَا لَهُ أَمْرَهُ .فَقَالَ : يَبْعَثُ بِهَدْيٍ ، وَيُوَاعِدُ أَصْحَابَهُ مَوْعِدًا ، فَإِذَا نَحَرَ عَنْهُ حَلَّ "(1).
وَلأَِنَّهُ دَمُ تَحَلُّلٍ فَوَجَبَ أَنْ يَتَوَقَّتَ بِالْحَرَمِ قِيَاسًا عَلَى دَمِ الْمُتْعَةِ ؛ وَدَمِ الْمُجَامِعِ قَبْل الْوُقُوفِ ، وَهَذَا لأَِنَّ الدَّمَ لاَ يَخْلُو عَنِ الإِْرَاقَةِ عَلَى سَبِيل الْقُرْبَةِ ، وَالْقُرْبَةُ فِي الإِْرَاقَةِ لاَ تُعْقَل قِيَاسًا ، وَإِنَّمَا عُقِلَتْ شَرْعًا مُؤَقَّتَةً بِزَمَانٍ بِعَيْنِهِ أَوْ بِمَكَانٍ بِعَيْنِهِ وَالزَّمَانُ غَيْرُ مُرَاعًى فِيمَا نَحْنُ فِيهِ ، فَثَبَتَ أَنَّهُ مُتَوَقِّتٌ بِالْمَكَانِ ، وَمَا هُوَ إِلاَّ الْحَرَمُ ؛ لأَِنَّ سَائِرَ دِمَاءِ الْحَجِّ كُلِّهَا قُرْبَةً كَانَتْ أَوْ كَفَّارَةً لاَ تَصِحُّ إِلاَّ فِي الْحَرَمِ فَكَذَلِكَ هَذَا(2).
__________
(1) - شرح معاني الآثار - (ج 3 / ص 320) والمحلى (ج 4 / ص 777)صحيح
(2) - بَدَائِع الصَّنَائِع 2 / 179 ، والمناسك لأَِبِي زَيْد الدَّبُّوسِيّ ص 511 - 515 ، والفتاوى الْهِنْدِيَّة 1 / 261(1/313)
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ مَا وَقَفَهُ بِعَرَفَةَ مِنَ الْهَدْيِ فِي جُزْءٍ مِنَ اللَّيْل لاَ يَنْحَرُهُ إِلاَّ فِي مِنًى أَيَّامَ النَّحْرِ عَلَى الْمُعْتَمَدِ ، فَإِنْ فَاتَتْ تَعَيَّنَتْ مَكَّةُ أَوْ مَا يَلِيهَا مِنَ الْبُيُوتِ ، فَإِنْ ذَبَحَهُ بِمَكَّةَ أَيَّامَ مِنًى جَاهِلاً أَوْ مُتَعَمِّدًا فَرَوَى سَحْنُونٌ عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ فِي الْمُدَوَّنَةِ أَنَّهُ يُجْزِئُهُ ، وَعِنْدَهُمْ أَنَّ مَا لَمْ يُوقَفْ بِعَرَفَةَ أَوْ وُقِفَ فِي غَيْرِ اللَّيْل فَمَحِلُّهُ مَكَّةُ ، وَلَوْ عَطِبَ قَبْل أَنْ يَبْلُغَ مَكَّةَ لَمْ يُجْزِئْهُ لأَِنَّهُ لَمْ يَبْلُغْ مَحِلَّهُ ، وَلَيْسَتْ مِنًى مَحِلَّهُ(1)
وَأَفْضَل بِقَاعِ الْحَرَمِ لِلنَّحْرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فِي حَقِّ الْحَاجِّ مِنًى ، وَفِي حَقِّ الْمُعْتَمِرِ مَكَّةُ .
وَفِي الْمَبْسُوطِ مِنْ كُتُبِ الْحَنَفِيَّةِ : أَنَّ السُّنَّةَ فِي الْهَدَايَا فِي أَيَّامِ النَّحْرِ مِنًى ، وَفِي غَيْرِ أَيَّامِ النَّحْرِ الأَْوْلَى بِمَكَّةَ .
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ : أَنَّ الأَْفْضَل فِي حَقِّ الْحَاجِّ مِنًى عِنْدَ الْجَمْرَةِ الأُْولَى ، وَأَنَّ الأَْفْضَل فِي حَقِّ الْمُعْتَمِرِ عِنْدَ الْمَرْوَةِ(2).
السُّنَّةُ فِي ذَبْحِ الْهَدْيِ :
__________
(1) - الْمُدَوَّنَة 1 / 386 .
(2) - الْمَجْمُوع 8 / 152 ، ومغني الْمُحْتَاج 1 / 531 ، والمغني 3 / 434 ، والمبسوط 4 / 136 ، ومواهب الْجَلِيل 3 / 186 .(1/314)
يُسْتَحَبُّ فِي ذَبْحِ الْهَدْيِ مَا يُسْتَحَبُّ فِي ذَبْحِ الأُْضْحِيَةِ وَهُوَ أَنْ يَذْبَحَ بِنَفْسِهِ ، وَأَنْ يُرَاعِيَ فِي الإِْبِل النَّحْرَ ، وَفِي غَيْرِهَا الذَّبْحَ ، وَالدُّعَاءَ بِالْقَبُول ، وَأَنْ يَتَصَدَّقَ بِجِلاَلِهَا وَخِطَامِهَا ، وَلاَ يُبَاعُ شَيْءٌ مِنْ لَحْمِهَا وَلاَ يُعْطِي الْجَزَّارَ مِنْهَا أُجْرَةً .وَلِلتَّفْصِيل يُنْظَرُ ( مُصْطَلَح أُضْحِيَة ف 51 وَمَا بَعْدَهَا )(1).
- - - - - - - - - - - - -
الْمُفَاضَلَةُ بَيْنَ كَيْفِيَّاتِ أَدَاءِ الْحَجِّ :
فَضَّلَ كُلُّ كَيْفِيَّةٍ مِنْ كَيْفِيَّاتِ الْحَجِّ طَائِفَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ ، وَذَلِكَ بِسَبَبِ اخْتِلاَفِ الرِّوَايَاتِ فِي حَجِّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَلاِسْتِنْبَاطَاتِ قُوَّةِ ذَلِكَ التَّفْضِيل عِنْدَ كُل جَمَاعَةٍ :
أ - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الإِْفْرَادَ بِالْحَجِّ أَفْضَل ، وَبِهِ قَال عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ ، وَعُثْمَانُ ، وَعَلِيٌّ ، وَابْنُ مَسْعُودٍ ، وَابْنُ عُمَرَ ، وَجَابِرٌ ، وَالأَْوْزَاعِيُّ ، وَأَبُو ثَوْرٍ(2).
وَمِنْ أَدِلَّتِهِمْ :
1 - حَدِيثُ عَائِشَةَ السَّابِقُ ، وَفِيهِ قَوْلُهَا : وَأَهَل رَسُول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِالْحَجِّ . وَغَيْرُهُ مِنْ أَحَادِيثَ تُفِيدُ أَنَّهُ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ مُفْرِدًا بِالْحَجِّ .
2 - أَنَّهُ أَشَقُّ عَمَلاً مِنَ الْقِرَانِ ، وَلَيْسَ فِيهِ اسْتِبَاحَةُ مَحْظُورٍ، كَمَا فِي التَّمَتُّعِ ، فَيَكُونُ أَكْثَرَ ثَوَابًا(3)
__________
(1) - الموسوعة الفقهية الكويتية - (ج 5 / ص 98)
(2) - شرح الرسالة وحاشية العدوي 1 / 490 ، وشرح المنهاج 2 / 128 ، والمجموع 7 / 140 .
(3) - شرح الرسالة وشرح المنهاج الصفحتين السابقتين .(1/315)
إِلاَّ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ فَضَّلُوا الإِْفْرَادَ ، ثُمَّ الْقِرَانَ ، ثُمَّ التَّمَتُّعَ ، وَقَدَّمَ الشَّافِعِيَّةُ التَّمَتُّعَ عَلَى الْقِرَانِ .
وَشَرْطُ تَفْضِيل الإِْفْرَادِ عَلَى غَيْرِهِ - عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ الشَّافِعِيَّةُ - " أَنْ يَحُجَّ ثُمَّ يَعْتَمِرَ فِي سَنَتِهِ ، فَإِنْ أَخَّرَ الْعُمْرَةَ عَنْ سَنَةِ الْحَجِّ فَكُل وَاحِدٍ مِنَ التَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ أَفْضَل مِنْهُ ، بِلاَ خِلاَفٍ ، لأَِنَّ تَأْخِيرَ الْعُمْرَةِ عَنْ سَنَةِ الْحَجِّ مَكْرُوهٌ(1)" .
ب - وذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ أَفْضَلَهَا الْقِرَانُ ، ثُمَّ التَّمَتُّعُ ، ثُمَّ الإِْفْرَادُ ، وَهُوَ قَوْل سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَالْمُزَنِيِّ صَاحِبِ الشَّافِعِيِّ . وَابْنِ الْمُنْذِرِ ، وَأَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ(2).
وَمِنْ أَدِلَّتِهِمْ :
1 - حَدِيثُ عُمَرَ - رضى الله عنه – قالَ : سَمِعْتُ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - بِوَادِى الْعَقِيقِ يَقُولُ :" أَتَانِى اللَّيْلَةَ آتٍ مِنْ رَبِّى فَقَالَ :صَلِّ فِى هَذَا الْوَادِى الْمُبَارَكِ وَقُلْ عُمْرَةً فِى حَجَّةٍ "(3).
فَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ بِإِدْخَال الْعُمْرَةِ عَلَى الْحَجِّ بَعْدَ أَنْ كَانَ مُفْرِدًا ، وَلاَ يَأْمُرُهُ إِلاَّ بِالأَْفْضَل . وَهَذَا يَجْمَعُ بَيْنَ الرِّوَايَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ فِي حَجِّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَالْمَصِيرُ إِلَيْهِ مُتَعَيَّنٌ(4).
__________
(1) - المجموع 7 / 139 .
(2) - الهداية وفتح القدير 2 / 199 و 210 ، ورد المحتار 2 / 262 ، والمجموع 7 / 140 .
(3) - صحيح البخارى برقم (1534 )
(4) - انظر رجحان القران في زاد المعاد لابن القيم وقد أطال فيها 1 / 187 ، ونيل الأوطار للشوكاني 4 / 308 - 317 .(1/316)
2 - أَنَّهُ أَشَقُّ لِكَوْنِهِ أَدْوَمُ إِحْرَامًا ، وَأَسْرَعُ إِلَى الْعِبَادَةِ ، وَلأَِنَّ فِيهِ جَمْعًا بَيْنَ الْعِبَادَتَيْنِ فَيَكُونُ أَفْضَل .
ج - ذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ التَّمَتُّعَ أَفْضَل ، فَالإِْفْرَادُ ، فَالْقِرَانُ ." وَمِمَّنْ رُوِيَ عَنْهُ اخْتِيَارُ التَّمَتُّعِ : ابْنُ عُمَرَ ، وَابْنُ عَبَّاسٍ ، وَابْنُ الزُّبَيْرِ ، وَعَائِشَةُ ، وَالْحَسَنُ ، وَعَطَاءٌ ، وَطَاووُسٌ ، وَمُجَاهِدٌ ، وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ ، وَالْقَاسِمُ ، وَسَالِمٌ ، وَعِكْرِمَةُ ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ(1)" .
وَمِنْ أَدِلَّتِهِمْ :
1 - قَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم - فِي حَدِيثِ جَابِرٍ رضي الله عنه - : " لَوْ أَنِّى اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِى مَا اسْتَدْبَرْتُ لَمْ أَسُقِ الْهَدْىَ وَجَعَلْتُهَا عُمْرَةً ، فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ لَيْسَ مَعَهُ هَدْىٌ فَلْيَحِلَّ وَلْيَجْعَلْهَا عُمْرَةً ".(2).
فَقَدْ أَمَرَ أَصْحَابَهُ بِالتَّمَتُّعِ ، وَتَمَنَّاهُ لِنَفْسِهِ ، وَلاَ يَأْمُرُ وَلاَ يَتَمَنَّى إِلاَّ الأَْفْضَل .
2 - أَنَّ الْمُتَمَتِّعَ ، يَجْتَمِعُ لَهُ الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ ، مَعَ كَمَالِهِمَا ، وَكَمَال أَفْعَالِهِمَا ، عَلَى وَجْهِ الْيُسْرِ وَالسُّهُولَةِ ، مَعَ زِيَادَةِ نُسُكٍ ، لَكَانَ ذَلِكَ أَوْلَى .
- - - - - - - - - - - -
صِفَةُ أَدَاءِ الْحَجِّ بِكَيْفِيَّاتِهِ كُلِّهَا :
وَنَقْسِمُ أَعْمَال الْحَجِّ لِتَسْهِيل فَهْمِ أَدَائِهَا إِلَى قِسْمَيْنِ :
أ - أَعْمَالُ الْحَجِّ حَتَّى قُدُومِ مَكَّةَ .
ب - أَعْمَالُ الْحَجِّ بَعْدَ قُدُومِ مَكَّةَ .
أَعْمَالُ الْحَجِّ حَتَّى قُدُومِ مَكَّةَ :
__________
(1) - المغني 3 / 276 .
(2) - صحيح مسلم برقم (3009 ) مطولا(1/317)
مَنْ أَرَادَ الْحَجَّ فَإِنَّهُ يَشْرَعُ بِالاِسْتِعْدَادِ لِلإِْحْرَامِ ( انْظُرْ مُصْطَلَحَ إِحْرَامٌ ، وَخُصُوصًا ف 117 )(1)، وَيَنْوِي فِي إِحْرَامِهِ الْكَيْفِيَّةَ الَّتِي يُرِيدُ أَدَاءَ الْحَجِّ عَلَيْهَا ، فَإِنْ أَرَادَ الإِْفْرَادَ نَوَى الْحَجَّ ، وَإِنْ أَرَادَ الْقِرَانَ نَوَى الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ ، وَإِنْ أَرَادَ التَّمَتُّعَ نَوَى الْعُمْرَةَ فَقَطْ.
كَيْفِيَّةُ الإِْحْرَامِ الْمُسْتَحَبَّةُ :
__________
(1) - في الموسوعة الفقهية الكويتية - (ج 2 / ص 174)(1/318)
مَنْ أَرَادَ أَنْ يُحْرِمَ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ أَوْ بِهِمَا مَعًا يُسْتَحَبُّ لَهُ إِزَالَةُ التَّفَثِ عَنْ جِسْمِهِ ، وَأَنْ يَتَزَيَّنَ عَلَى الصُّورَةِ الْمَأْلُوفَةِ الَّتِي لاَ تَتَنَافَى مَعَ الشَّرِيعَةِ وَآدَابِهَا ، وَأَنْ يَغْتَسِل بِنِيَّةِ الإِْحْرَامِ ، وَإِذَا كَانَ جُنُبًا فَيَكْفِيهِ غُسْلٌ وَاحِدٌ بِنِيَّةِ إِزَالَةِ الْجَنَابَةِ وَالإِْحْرَامِ ، وَأَنْ يَتَطَيَّبَ . وَالأَْوْلَى أَنْ يَتَطَيَّبَ بِطِيبٍ لاَ يَبْقَى جِرْمُهُ ، عَلَى التَّفْصِيل وَالْخِلاَفِ السَّابِقِ ، ثُمَّ يَلْبَسَ ثَوْبَيْنِ نَظِيفَيْنِ جَدِيدَيْنِ أَوْ غَسِيلَيْنِ ، عَلَى أَلاَّ يَكُونَا مَصْبُوغَيْنِ بِصَبْغٍ لَهُ رَائِحَةٌ . وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَتَلْبَسُ مَا يَسْتُرُ عَوْرَتَهَا إِلاَّ وَجْهَهَا وَكَفَّيْهَا . ثُمَّ يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ بِنِيَّةِ الإِْحْرَامِ . فَإِذَا أَتَمَّهُمَا نَوَى بِقَلْبِهِ وَقَال بِلِسَانِهِ : اللَّهُمَّ إِنِّي أُرِيدُ الْحَجَّ فَيَسِّرْهُ لِي ، وَتَقَبَّلْهُ مِنِّي . ثُمَّ يُلَبِّي . وَإِذَا كَانَ يُرِيدُ الْعُمْرَةَ فَيَقُول : اللَّهُمَّ إِنِّي أُرِيدُ الْعُمْرَةَ ، فَيَسِّرْهَا لِي ، وَتَقَبَّلْهَا مِنِّي . ثُمَّ يُلَبِّي .وَإِذَا كَانَ قَارِنًا فَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُقَدِّمَ ذِكْرَ الْعُمْرَةِ عَلَى ذِكْرِ الْحَجِّ حَتَّى لاَ يُشْتَبَهَ أَنَّهُ أَدْخَل الْعُمْرَةَ عَلَى الْحَجِّ . وَيَقُول : اللَّهُمَّ إِنِّي أُرِيدُ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ . . . إِلَخْ ، وَيُلَبِّي . فَيَصِيرُ بِذَلِكَ مُحْرِمًا ، وَتَجْرِي عَلَيْهِ . أَحْكَامُ الإِْحْرَامِ الَّتِي تَقَدَّمَ بَيَانُهَا .(1/319)
وَإِذَا كَانَ يُؤَدِّي الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ عَنْ غَيْرِهِ فَلاَ بُدَّ أَنْ يُعَيِّنَ ذَلِكَ بِقَلْبِهِ وَلِسَانِهِ . وَيُسَنُّ لَهُ الإِْكْثَارُ مِنَ التَّلْبِيَةِ . وَأَفْضَل صِيَغِهَا الصِّيغَةُ الْمَأْثُورَةُ : " لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ ، لَبَّيْكَ لاَ شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ ، إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكُ ، لاَ شَرِيكَ لَكَ " . وَيُسْتَحَبُّ أَلاَّ يَنْقُصَ مِنْهَا(1).
قَال الطَّحَاوِيُّ وَالْقُرْطُبِيُّ : " أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى هَذِهِ التَّلْبِيَةِ "(2). وَأَمَّا الزِّيَادَةُ عَلَى التَّلْبِيَةِ ، فَإِنْ كَانَتْ مِنَ الْمَأْثُورِ فَمُسْتَحَبٌّ . وَمَا لَيْسَ مَرْوِيًّا فَجَائِزٌ أَوْ حَسَنٌ
- - - - - - - - - - - -
التَلْبِيَةُ
تعريفها :
التَّلْبِيَةُ لُغَةً : إِجَابَةُ الْمُنَادِي ، وَهِيَ إِمَّا فِي الْحَجِّ وَإِمَّا فِي غَيْرِهِ كَالْوَلِيمَةِ وَالتَّلْبِيَةِ فِي غَيْرِ الْحَجِّ .
__________
(1) - مطالب أولي النهى 2 / 322
(2) - الفروع لابن مفلح - (ج 5 / ص 378) وكشاف القناع عن متن الإقناع - (ج 6 / ص 431) ومطالب أولي النهى في شرح غاية المنتهى - (ج 6 / ص 120)(1/320)
وَقَدْ سَبَقَ الْكَلاَمُ عَنْهَا فِي مُصْطَلَحِ ( إِجَابَةٌ ) ج 1 ص 251 وَأَمَّا فِي الْحَجِّ فَالْمُرَادُ بِهَا قَوْل الْمُحْرِمِ : لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ . أَيْ : إِجَابَتِي لَكَ يَا رَبِّ . يُقَال : لَبَّى الرَّجُل تَلْبِيَةً : إِذَا قَال لَبَّيْكَ . وَلَبَّى بِالْحَجِّ كَذَلِكَ . قَال الْفَرَّاءُ : مَعْنَى لَبَّيْكَ إِجَابَةً لَكَ بَعْدَ إِجَابَةٍ . وَفِي حَدِيثِ الإِْهْلاَل بِالْحَجِّ : لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ : هُوَ مِنَ التَّلْبِيَةِ ، وَهِيَ إِجَابَةُ الْمُنَادِي أَيْ : إِجَابَتِي لَكَ يَا رَبِّ . وَعَنِ الْخَلِيل أَنَّ تَثْنِيَةَ كَلِمَةِ ( لَبَّيْكَ ) عَلَى جِهَةِ التَّوْكِيدِ(1).
وَالإِْجَابَةُ وَإِنْ كَانَتْ لاَ تَخْرُجُ فِي مَعْنَاهَا الاِصْطِلاَحِيِّ عَنْ هَذَا إِلاَّ أَنَّهُ قَدْ وَرَدَ فِي الْخَرَشِيِّ عَلَى مُخْتَصَرِ خَلِيلٍ : أَنَّ مَعْنَى التَّلْبِيَةِ الإِْجَابَةُ : أَيْ : إِجَابَةً بَعْدَ إِجَابَةٍ وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَال : { أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى } سورة الأعراف / 172 . فَهَذِهِ إِجَابَةٌ وَاحِدَةٌ ، وَالثَّانِيَةُ : إِجَابَةٌ قَوْله تَعَالَى : { وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ } سورة الحج / 27 . يُقَال : إِنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا أَذَّنَ بِالْحَجِّ أَجَابَهُ النَّاسُ فِي أَصْلاَبِ آبَائِهِمْ فَمَنْ أَجَابَهُ مَرَّةً حَجَّ مَرَّةً ، وَمَنْ زَادَ زَادَ . فَالْمَعْنَى أَجَبْتُكَ فِي هَذَا كَمَا أَجَبْتُكَ فِي ذَلِكَ . وَأَوَّل مَنْ لَبَّى الْمَلاَئِكَةُ ، وَهُمْ أَيْضًا أَوَّل مَنْ كَانَ بِالْبَيْتِ(2).
__________
(1) - لسان العرب ، وتاج العروس ، ومحيط المحيط ، والمصباح المنير مادة : " لبى " .
(2) - الخرشي على مختصر خليل 2 / 324 دار صادر بيروت .(1/321)
وَمَعْنَى لَبَّيْكَ كَمَا فِي حَاشِيَةِ الطَّحْطَاوِيِّ عَلَى مَرَاقِي الْفَلاَحِ : أَقَمْتُ بِبَابِكَ إِقَامَةً بَعْدَ أُخْرَى وَأَجَبْتُ نِدَاءَكَ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى(1).
وَفِي الْفَوَاكِهِ الدَّوَانِي : أَجَبْتُكَ يَا أَلَّلَهُ إِجَابَةً بَعْدَ إِجَابَةٍ . أَوْ لاَزَمْتُ الإِْقَامَةَ عَلَى طَاعَتِكَ مِنْ أَلَبَّ بِالْمَكَانِ إِذَا لَزِمَهُ وَأَقَامَ بِهِ . وَهِيَ مُثَنَّاةٌ لَفْظًا وَمَعْنَاهَا التَّكْثِيرُ لاَ خُصُوصُ الاِثْنَيْنِ(2).
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ :
تَلْبِيَةُ الْمُحْرِمِ مُسْتَحَبَّةٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ(3)لِمَا رويَ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - " مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُلَبِّى إِلاَّ لَبَّى مَنْ عَنْ يَمِينِهِ أَوْ عَنْ شِمَالِهِ مِنْ حَجَرٍ أَوْ شَجَرٍ أَوْ مَدَرٍ حَتَّى تَنْقَطِعَ الأَرْضُ مِنْ هَا هُنَا وَهَا هُنَا "(4).
وَهِيَ وَاجِبَةٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ(5).
صِيغَتُهَا الْمُتَّفَقُ عَلَيْهَا بَيْنَ الْفُقَهَاءِ :
__________
(1) - حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح ص 399 .
(2) - الفواكه الدواني 1 / 411 دار المعرفة .
(3) - الاختيار شرح المختار 1 / 143 ط دار المعرفة ، وابن عابدين 2 / 158 ، والمهذب في فقه الإمام الشافعي 1 / 211 - 212 ، والمغني لابن قدامة 3 / 288م . الرياض الحديثة .
(4) - سنن الترمذى (836) صحيح -المدَر : الطين اليابس جمع مدرة
(5) - جواهر الإكليل 1 / 177 ، والشرح الكبير 2 / 39 .(1/322)
وَهِيَ تَلْبِيَةُ رَسُول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - (1)، كَمَا جَاءَ فِي خَبَرِ الصَّحِيحَيْنِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ تَلْبِيَةَ رَسُول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ ، لَبَّيْكَ لاَ شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ ، إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ ، لاَ شَرِيكَ لَكَ(2).
وَهَل لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَزِيدَ عَلَيْهَا أَوْ يُنْقِصَ مِنْهَا ؟
قَال الشَّافِعِيُّ وَهُوَ قَوْلٌ لِمَالِكِ : إِنْ زَادَ عَلَى هَذَا فَلاَ بَأْسَ(3). لِمَا رُوِيَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا كَانَ يَزِيدُ فِيهَا : لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ وَالْخَيْرُ كُلُّهُ بِيَدَيْكَ وَالرَّغْبَةُ إِلَيْكَ وَالْعَمَل . وَإِذَا رَأَى شَيْئًا يُعْجِبُهُ قَال : لَبَّيْكَ إِنَّ الْعَيْشَ عَيْشُ الآْخِرَةِ . عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ قَالَ : كَانَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - يُظْهِرُ مِنَ التَّلْبِيَةِ لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ. فَذَكَرَ التَّلْبِيَةَ قَالَ حَتَّى إِذَا كَانَ ذَاتَ يَوْمٍ وَالنَّاسُ يَصْرِفُونَ عَنْهُ كَأَنَّهُ أَعْجَبَهُ مَا هُوَ فِيهِ فَزَادَ فِيهَا لَبَّيْكَ إِنَّ الْعَيْشَ عَيْشَ الآخِرَةِ(4).
__________
(1) - ابن عابدين 2 / 159 ، والمغني لابن قدامة 3 / 289 م الرياض الحديثة ، المهذب في فقه الإمام الشافعي 1 / 214 ، الخرشي على مختصر خليل 2 / 328 دار صادر .
(2) - البخارى (1549 ) ومسلم (2868 )
(3) - المهذب في فقه الإمام الشافعي 1 / 214 ، والخرشي 2 / 328 .
(4) - السنن الكبرى للبيهقي وفي ذيله الجوهر النقي - (ج 5 / ص 45)(9302)صحيح مرسل و المهذب للشيرازي - (ج 1 / ص 455) والمجموع شرح المهذب - (ج 7 / ص 241)(1/323)
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ وَهُوَ قَوْلٌ آخَرُ لِمَالِكٍ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُسْتَحَبُّ الزِّيَادَةُ عَلَى تَلْبِيَةِ رَسُول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَلاَ تُكْرَهُ ، وَذَلِكَ لِقَوْل جَابِرٍ : فَأَهَلَّ بِالتَّوْحِيدِ " لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ لاَ شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ لاَ شَرِيكَ لَكَ ".
وَأَهَلَّ النَّاسُ بِهَذَا الَّذِى يُهِلُّونَ بِهِ فَلَمْ يَرُدَّ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَيْهِمْ شَيْئًا مِنْهُ وَلَزِمَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - تَلْبِيَتَهُ(1).
وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يُلَبِّي بِتَلْبِيَةِ رَسُول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَيَزِيدُ مَعَ هَذَا " لَبَّيْكَ . لَبَّيْكَ . وَسَعْدَيْكَ وَالْخَيْرُ بِيَدَيْكَ وَالرَّغْبَاءُ(2)إِلَيْكَ وَالْعَمَل(3).
وَ عَنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ ، قَالَ : كَانَتْ تَلْبِيَةُ عُمَرَ : لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ , لَبَّيْكَ لاَ شَرِيكَ لَك لَبَّيْكَ , إنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَك وَالْمُلْكَ , لاَ شَرِيكَ لَك لَبَّيْكَ مَرْغُوبًا أَوْ مَرْهُوبًا , لَبَّيْكَ ذَا النَّعْمَاءِ وَالْفَضْلِ الْحَسَنِ(4).
ويروَى أَنَّ أَنَسًا كَانَ يَزِيدُ لَبَّيْكَ حَقًّا حَقًّا تَعَبُّدًا وَرِقًّا(5).
__________
(1) - أخرجه مسلم (3009 ) .
(2) - الرغباء : الضراعة والمسألة .
(3) - مسلم (2868)
(4) - مصنف ابن أبي شيبة (13472) صحيح
(5) - مسند البزار (6803و 6804)صحيح موقوف(1/324)
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ : حَجَّ مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ فِى خَمْسِينَ أَلْفًا مِنْ بَنِى إِسْرَائِيلَ وَعَلَيْهِ عَبَاءَتَانِ قَطَوَانِيَّتَانِ وَهُوَ يُلَبِّى لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ تَعَبُّدًا وَرِقًّا لَبَّيْكَ أَنَا عَبْدُكَ أَنَا لَدَيْكَ لَدَيْكَ يَا كَشَّافَ الْكُرَبِ قَالَ فَجَاوَبَتْهُ الْجِبَالُ.(1)
وَهَذَا يَدُل عَلَى أَنَّهُ لاَ بَأْسَ بِالزِّيَادَةِ وَلاَ تُسْتَحَبُّ لأَِنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - لَزِمَ تَلْبِيَتَهُ فَكَرَّرَهَا وَلَمْ يَزِدْ عَلَيْهَا.
وَالْقَوْل الثَّالِثُ لِمَالِكٍ : كَرَاهَةُ الزِّيَادَةِ عَلَى التَّلْبِيَةِ الْمَأْثُورَةِ عَنِ الرَّسُول - صلى الله عليه وسلم - .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُنْدَبُ لَهُ أَنْ يَزِيدَ(2)عَلَيْهَا وَيُكْرَهُ لَهُ إِنْقَاصُهَا ، وَتَكُونُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهَا مِمَّا هُوَ مَأْثُورٌ فَيَقُول : لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ وَالْخَيْرُ كُلُّهُ بِيَدَيْكَ وَالرَّغْبَاءُ إِلَيْكَ إِلَهَ الْخَلْقِ لَبَّيْكَ بِحَجَّةٍ حَقًّا تَعَبُّدًا وَرِقًّا . لَبَّيْكَ إِنَّ الْعَيْشَ عَيْشُ الآْخِرَةِ . وَمَا لَيْسَ مَرْوِيًّا فَجَائِزٌ وَحَسَنٌ(3).
بِمَ تَصِحُّ التَّلْبِيَةُ ؟
__________
(1) - السنن الكبرى للبيهقي (ج 5 / ص 177)(10123) (صحيح موقوف ومثله لا يقال بالرأي ){ش} قَالَ الشَّافِعِىُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَلَمْ يُحْكَ لَنَا عَنْ أَحَدٍ مِنَ النَّبِيِّينَ وَلاَ الأُمَمِ الْخَالِينَ : أَنَّهُ جَاءَ الْبَيْتَ أَحَدٌ قَطُّ إِلاَّ حَرَامًا وَلَمْ يَدْخُلْ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مَكَّةَ عَلِمْنَاهُ إِلاَّ حَرَامًا إِلاَّ فِى حَرْبِ الْفَتْحِ.
(2) - المغني لابن قدامة 3 / 290 م . الرياض الحديثة .
(3) - ابن عابدين 2 / 159 .(1/325)
تَصِحُّ التَّلْبِيَةُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ وَإِنْ أَحْسَنَ الْعَرَبِيَّةَ إِلاَّ أَنَّ الْعَرَبِيَّةَ أَفْضَل(1).
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ غَيْرَ الْعَرَبِيِّ يُلَبِّي بِلِسَانِهِ إِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهَا بِالْعَرَبِيَّةِ كَأَنْ لَمْ يَجِدْ مَنْ يُعَلِّمُهُ الْعَرَبِيَّةَ ، وَمُفَادُ هَذَا أَنَّ الْعَرَبِيَّ الْقَادِرَ عَلَيْهَا بِالْعَرَبِيَّةِ لاَ يُلَبِّي بِغَيْرِهَا لأَِنَّهُ ذِكْرٌ مَشْرُوعٌ فَلَمْ تُشْرَعْ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهَا كَالأَْذَانِ وَالأَْذْكَارِ الْمَشْرُوعَةِ فِي الصَّلاَةِ فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْعَرَبِيَّةِ لَبَّى بِلُغَتِهِ كَالتَّكْبِيرِ فِي الصَّلاَةِ(2).
رَفْعُ الصَّوْتِ بِالتَّلْبِيَةِ :
__________
(1) - ابن عابدين 2 / 158 - 159 ، وحاشية قليوبي على منهاج الطالبين 2 / 99 .
(2) - حاشية العدوي على شرح الرسالة 1 / 459 ط دار المعرفة ، وكشاف القناع 2 / 420 م . النصر الحديثة ، والمغني لابن قدامة 3 / 292م الرياض الحديثة .(1/326)
اسْتَحَبَّ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَرْفَعَ صَوْتَهُ بِالتَّلْبِيَةِ لِمَا رَوَى زَيْدُ بْنُ خَالِدٍ الْجُهَنِيُّ أَنَّ رَسُول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَال : جَاءَنِي جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَال : يَا مُحَمَّدُ مُرْ أَصْحَابَكَ أَنْ يَرْفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ بِالتَّلْبِيَةِ فَإِنَّهَا مِنْ شَعَائِرِ الْحَجِّ(1)، وَقَال أَبُو حَازِمٍ : كَانَ أَصْحَابُ رَسُول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لاَ يَبْلُغُونَ الرَّوْحَاءَ حَتَّى تُبَحَّ حُلُوقُهُمْ مِنَ التَّلْبِيَةِ(2). وَقَال سَالِمٌ : كَانَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما يَرْفَعُ صَوْتَهُ بِالتَّلْبِيَةِ فَلاَ يَأْتِي الرَّوْحَاءَ(3)حَتَّى يَصْحَل صَوْتُهُ(4).
__________
(1) - موطأ مالك(742 ) عَنْ خَلاَّدِ بْنِ السَّائِبِ الأَنْصَارِىِّ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « أَتَانِى جِبْرِيلُ فَأَمَرَنِى أَنْ آمُرَ أَصْحَابِى أَوْ مَنْ مَعِى أَنْ يَرْفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ بِالتَّلْبِيَةِ أَوْ بِالإِهْلاَلِ ». يُرِيدُ أَحَدَهُمَا.صحيح -الشرف : المرتفع من الأرض
(2) - معرفة السنن والآثار للبيهقي (2917)صحيح مرسل - وتبيين الحقائق شرح كنز الدقائق - (ج 4 / ص 284)وفتح القدير - (ج 5 / ص 102) والحاوي في فقه الشافعي - الماوردي - (ج 4 / ص 89) والشرح الكبير لابن قدامة - (ج 3 / ص 257) والمغني - (ج 6 / ص 402)
(3) - الروحاء : موضع بين الحرمين .
(4) - يصحل صوته : يبح صوته . الشرح الكبير لابن قدامة - (ج 3 / ص 257) والمغني - (ج 6 / ص 402)(1/327)
وَلاَ يُجْهِدَ نَفْسَهُ فِي رَفْعِ الصَّوْتِ بِهَا زِيَادَةً عَلَى الطَّاقَةِ لِئَلاَّ يَنْقَطِعَ صَوْتُهُ وَتَلْبِيَتُهُ(1).
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ التَّوَسُّطَ فِيهِ مَنْدُوبٌ فَلاَ يُسِرُّهُ الْمُلَبِّي حَتَّى لاَ يَسْمَعَهُ مَنْ يَلِيهِ ، وَلاَ يُبَالِغُ فِي رَفْعِهِ حَتَّى يَعْقِرَهُ فَيَكُونُ بَيْنَ الرَّفْعِ وَالْخَفْضِ وَلاَ يُبَالِغُ فِي أَيِّهِمَا ، وَفِي الْفَوَاكِهِ الدَّوَانِي : هَذَا فِي غَيْرِ الْمَسْجِدِ لأَِنَّهُ لاَ يَجُوزُ رَفْعُ الصَّوْتِ فِيهِ إِلاَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ وَمَسْجِدَ مِنَى لأَِنَّهُمَا بُنِيَا لِلْحَجِّ ، وَقِيل : لِلأَْمْنِ فِيهِمَا مِنَ الرِّيَاءِ(2).
__________
(1) - ابن عابدين 2 / 159 ، 191 ، الفتاوى الهندية 1 / 223 ، والاختيار شرح المختار 1 / 142م . مصطفى الحلبي 1936 ، والمهذب في فقه الإمام الشافعي 1 / 213 ، والمغني لابن قدامة 3 / 289م الرياض الحديثة .
(2) - جواهر الإكليل 1 / 177، والشرح الكبير 2 / 40، والخرشي على مختصر خليل 1 / 324 دار صادر، الفواكه الدواني 1 / 413 ط دار المعرفة .(1/328)
هَذَا فِي حَقِّ الرِّجَال . أَمَّا النِّسَاءُ فَإِنَّهُ لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي كَرَاهَةِ رَفْعِ أَصْوَاتِهِنَّ بِالتَّلْبِيَةِ إِلاَّ بِمِقْدَارِ مَا تُسْمِعُ الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا أَوْ رَفِيقَتَهَا ، فَقَدْ رُوِيَ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ قَال : السُّنَّةُ عِنْدَهُمْ أَنَّ الْمَرْأَةَ لاَ تَرْفَعُ صَوْتَهَا بِالإِْهْلاَل وَإِنَّمَا كُرِهَ لَهَا رَفْعُ الصَّوْتِ مَخَافَةَ الْفِتْنَةِ بِهَا وَمِثْلُهَا الْخُنْثَى الْمُشْكِل فِي ذَلِكَ احْتِيَاطًا(1).
الإِْكْثَارُ مِنَ التَّلْبِيَةِ :
__________
(1) - ابن عابدين 2 / 189 - 190، والمهذب في فقه الإمام الشافعي 1 / 213 ، ومنهاج الطالبين 2 / 100، ونهاية المحتاج للرملي 3 / 264 ، والخرشي على مختصر خليل 2 / 324 دار صادر، والفواكه الدواني 1 / 413 ط دار المعرفة، والمغني لابن قدامة 3 / 330 - 331 م الرياض الحديثة، وكشاف القناع 2 / 421 م . النصر الحديثة .(1/329)
اسْتَحَبَّ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يُكْثِرَ مِنَ التَّلْبِيَةِ لأَِنَّهَا شِعَارُ النُّسُكِ فَيُلَبِّي عِنْدَ اجْتِمَاعِ الرِّفَاقِ ، أَوْ مَتَى عَلاَ شَرَفًا أَوْ هَبَطَ وَادِيًا ، وَفِي أَدْبَارِ الصَّلَوَاتِ ، وَإِقْبَال اللَّيْل وَالنَّهَارِ . لِمَا رَوَى جَابِرٌ قَال : كَانَ رَسُول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُلَبِّي إِذَا رَأَى رَكْبًا ، أَوْ صَعِدَ أَكَمَةً ، أَوْ هَبَطَ وَادِيًا ، وَفِي أَدْبَارِ الْمَكْتُوبَةِ وَآخِرِ اللَّيْل(1)وَلأَِنَّ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ تُرْفَعُ الأَْصْوَاتُ وَيَكْثُرُ الضَّجِيجُ(2). عَنْ أَبِى بَكْرٍ الصِّدِّيقِ أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - سُئِلَ أَىُّ الْحَجِّ أَفْضَلُ قَالَ :" الْعَجُّ وَالثَّجُّ "(3).
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ التَّوَسُّطَ فِي ذَلِكَ مَنْدُوبٌ ، فَلاَ يُكْثِرُ الْمُحْرِمُ مِنَ التَّلْبِيَةِ حَتَّى يَمَلَّهَا وَيَلْحَقَهُ الضَّرَرُ ، وَلاَ يُقَلِّلُهَا حَتَّى يَفُوتَ الْمَقْصُودُ مِنْهَا وَهُوَ الشَّعِيرَةُ(4).
مَتَى تَبْدَأُ التَّلْبِيَةُ :
__________
(1) - قال الحافظ ابن حجر : " وقد رواه ابن عساكر في تخريجه لأحاديث المهذب، ثم قال : وفي إسناده من لا يعرف . التخليص الحبير ( 2 / 239 ط . شركة الطباعة الفنية ) .
(2) - ابن عابدين 2 / 164 - 165، مراقي الفلاح 399، والاختيار شرح المختار 1 / 144 مصطفى الحلبي 1936، والمهذب في فقه الإمام الشافعي 1 / 213 ، ونهاية المحتاج للرملي 3 / 264، والمغني لابن قدامة 3 / 291م الرياض الحديثة .
(3) - سنن الترمذى (835 ) صحيح لغيره -الثج : سيلان دم الهدى والأضاحى = العج : رفع الصوت بالتلبية
(4) - جواهر الإكليل 1 / 177، والفواكه الدواني 1 / 413 ط دار المعرفة .(1/330)
مِنَ الأُْمُورِ الْمُسْتَحَبَّةِ لِمُرِيدِ الإِْحْرَامِ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ أَوْ بِهِمَا مَعًا مَتَى بَلَغَ مِيقَاتَهُ أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ بِنِيَّةِ الإِْحْرَامِ فِي غَيْرِ وَقْتِ كَرَاهَةٍ ، وَتُجْزِئُ الْمَكْتُوبَةُ ، فَإِنْ كَانَ مُفْرِدًا بِالْحَجِّ قَال بِلِسَانِهِ الْمُطَابِقِ لِجِنَانِهِ : اللَّهُمَّ إِنِّي أُرِيدُ الْحَجَّ فَيَسِّرْهُ لِي وَتَقَبَّلْهُ مِنِّي ، كَمَا يَفْعَل ذَلِكَ أَيْضًا الْمُعْتَمِرُ وَالْقَارِنُ ، وَيُشِيرُ إِلَى نَوْعِ نُسُكِهِ ثُمَّ يُلَبِّي دُبُرَ صَلاَتِهِ . . وَبِهَذِهِ التَّلْبِيَةِ يَكُونُ مُحْرِمًا وَتَسْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُ الإِْحْرَامِ .هَذَا مَا عَلَيْهِ فُقَهَاءُ الْمَذَاهِبِ الأَْرْبَعَةِ(1).
وَلَهُ الإِْحْرَامُ بِهَا إِذَا اسْتَوَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ ، وَإِذَا بَدَأَ السَّيْرُ سَوَاءٌ لأَِنَّ الْجَمِيعَ قَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ طُرُقٍ صَحِيحَةٍ . قَال الأَْثْرَمُ : سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ : أَيُّهُمَا أَحَبُّ إِلَيْكَ . الإِْحْرَامُ فِي دُبُرِ الصَّلاَةِ ، أَوْ إِذَا اسْتَوَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ ؟ فَقَال : كُل ذَلِكَ قَدْ جَاءَ فِي دُبُرِ الصَّلاَةِ وَإِذَا عَلاَ الْبَيْدَاءَ .
مَتَى تَنْتَهِي التَّلْبِيَةُ :
__________
(1) - ابن عابدين 2 / 159 - 160، الفتاوى الهندية 1 / 223 ، والمغني لابن قدامة 3 / 275م الرياض الحديثة، والمهذب في فقه الإمام الشافعي 1 / 211 - 212 ، وجواهر الإكليل 1 / 177، 168 ، والشرح الكبير 2 / 22 .(1/331)
تَنْتَهِي التَّلْبِيَةُ بِالنِّسْبَةِ لِلْحَاجِّ ابْتِدَاءً مِنْ رَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ يَوْمَ النَّحْرِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فَيَقْطَعُهَا مَعَ أَوَّل حَصَاةٍ لأَِخْذِهِ فِي أَسْبَابِ التَّحَلُّل ، وَيُكَبِّرُ بَدَل التَّلْبِيَةِ مَعَ كُل حَصَاةٍ . فَقَدْ رَوَى جَابِرٌ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - لَمَّا أَتَى إِلَى مِنَى لَمْ يُعَرِّجْ إِلَى شَيْءٍ حَتَّى رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ وَقَطَعَ التَّلْبِيَةَ عِنْدَ أَوَّل حَصَاةٍ رَمَاهَا ، ثُمَّ كَبَّرَ مَعَ كُل حَصَاةٍ ، ثُمَّ نَحَرَ ، ثُمَّ حَلَقَ رَأْسَهُ ، ثُمَّ أَتَى مَكَّةَ فَطَافَ بِالْبَيْتِ(1).
وَرَوَى الْفَضْل بْنُ الْعَبَّاسِ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - لَمْ يَزَل يُلَبِّي حَتَّى رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ(2)
وَكَانَ الْفَضْل رَدِيفَهُ يَوْمَئِذٍ وَهُوَ أَعْلَمُ بِحَالِهِ مِنْ غَيْرِهِ . وَلأَِنَّ التَّلْبِيَةَ لِلإِْحْرَامِ فَإِذَا رَمَى فَقَدْ شَرَعَ فِي التَّحَلُّل فَلاَ مَعْنَى لِلتَّلْبِيَةِ(3).
__________
(1) - قال الحافظ ابن حجر : " وهو مستفاد من الأحاديث المتقدم ذكرها . منها حديث جابر الطويل، ولم أره هكذا صريحا ( الدراية 2 / 24 ط الفجالة الحديثة ) .
(2) - البخارى (1670 ) ومسلم (3148 )
(3) - ابن عابدين 2 / 180، والفتاوى الهندية 1 / 231 المكتبة الإسلامية، الاختيار شرح المختار 1 / 151 م مصطفى الحلبي 1936، ونهاية المحتاج للرملي 3 / 294 - 295 ، ومنهاج الطالبين 2 / 118، والمهذب في فقه الإمام الشافعي 1 / 235، والمغني لابن قدامة 3 / 430 - 431 م الرياض الحديثة، وكشاف القناع 2 / 498م . النصر الحديثة .(1/332)
وَلِلْمَالِكِيَّةِ قَوْلاَنِ : أَحَدُهُمَا : يَسْتَمِرُّ فِي التَّلْبِيَةِ حَتَّى يَبْلُغَ مَكَّةَ فَيَقْطَعَ التَّلْبِيَةَ حَتَّى يَطُوفَ وَيَسْعَى ثُمَّ يُعَاوِدَهَا حَتَّى تَزُول الشَّمْسُ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ وَيَرُوحَ إِلَى مُصَلاَّهَا .
وَالثَّانِي : يَسْتَمِرُّ فِي التَّلْبِيَةِ حَتَّى الشُّرُوعِ فِي الطَّوَافِ ، وَالأَْوَّل فِي رِسَالَةِ ابْنِ أَبِي زَيْدٍ . وَشَهَرَهُ ابْنُ بَشِيرٍ ، وَالثَّانِي فِي الْمُدَوَّنَةِ فِي قَوْلٍ يَقْطَعُ التَّلْبِيَةَ حِينَ يَبْتَدِئُ الطَّوَافَ(1).
أَمَّا الْمُعْتَمِرُ فَيَقْطَعُ التَّلْبِيَةَ مَتَى شَرَعَ فِي الطَّوَافِ وَاسْتَلَمَ الْحَجَرَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ(2). لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَال : يُلَبِّي الْمُعْتَمِرُ حَتَّى يَسْتَلِمَ الْحَجَرَ(3)
__________
(1) - جواهر الإكليل 1 / 177، والفواكه الدواني 1 / 413 ط دار المعرفة .
(2) - نهاية المحتاج للرملي 3 / 294 - 295 ، والمغني لابن قدامة 3 / 430 - 431 م الرياض الحديثة، كشاف القناع 2 / 498 م . النصر الحديثة، ابن عابدين 2 / 180، والفتاوى الهندية 1 / 231 المكتبة الإسلامية .
(3) - سنن أبى داود (1819 ) مرفوعا وموقوفا والموقف أقوى(1/333)
وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَالْمُعْتَبَرُ عِنْدَهُمْ أَنَّ مُعْتَمِرَ الْمِيقَاتِ مِنْ أَهْل الآْفَاقِ وَفَائِتِ الْحَجِّ أَيْ : الْمُعْتَمِرُ لِفَوَاتِ الْحَجِّ يُلَبِّي كُلٌّ مِنْهُمَا لِلْحَرَمِ لاَ إِلَى رُؤْيَةِ الْبُيُوتِ ، وَمُعْتَمِرُ الْجِعْرَانَةِ وَالتَّنْعِيمِ يُلَبِّي لِلْبُيُوتِ أَيْ : إِلَى دُخُول بُيُوتِ مَكَّةَ لِقُرْبِ الْمَسَافَةِ اسْتِدْلاَلاً بِمَا رَوَاهُ نَافِعٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مِنْ فِعْلِهِ فِي الْمَنَاسِكِ قَال : وَكَانَ يَتْرُكُ التَّلْبِيَةَ فِي الْعُمْرَةِ إِذَا دَخَل الْحَرَمَ(1).
-----------------
فَإِذَا دَخَل مَكَّةَ بَادَرَ إِلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ، وَتَوَجَّهَ إِلَى الْكَعْبَةِ الْمُعَظَّمَةِ بِغَايَةِ الْخُشُوعِ وَالإِْجْلاَل ، وَيَبْدَأُ بِالطَّوَافِ مِنَ الْحَجَرِ الأَْسْوَدِ ، فَيَطُوفُ سَبْعَةَ أَشْوَاطٍ ، وَهَذَا الطَّوَافُ هُوَ طَوَافُ الْقُدُومِ لِلْمُفْرِدِ بِالْحَجِّ ، وَهُوَ طَوَافُ الْعُمْرَةِ لِمَنْ أَحْرَمَ مُتَمَتِّعًا ( انْظُرْ تَمَتُّعٌ ) . أَمَّا إِنْ كَانَ قَارِنًا فَيَقَعُ عَنِ الْقُدُومِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ ، وَعَنِ الْعُمْرَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَطُوفَ طَوَافًا آخَرَ لِلْقُدُومِ عِنْدَهُمْ ( انْظُرْ مُصْطَلَحَ قِرَانٌ ) .
وَيَقْطَعُ الْمُتَمَتِّعُ التَّلْبِيَةَ بِشُرُوعِهِ بِالطَّوَافِ ، وَلاَ يَقْطَعُهَا الْمُفْرِدُ وَالْقَارِنُ حَتَّى يَشْرَعَ فِي الرَّمْيِ يَوْمَ النَّحْرِ ( انْظُرْ تَلْبِيَةٌ ) .
__________
(1) - الشرح الكبير 2 / 40، وجواهر الإكليل 1 / 178 .(1/334)
وَيَسْتَلِمُ الْحَجَرَ فِي ابْتِدَاءِ الطَّوَافِ وَيُقَبِّلُهُ ،وَكُلَّمَا مَرَّ بِهِ ، إِنْ تَيَسَّرَ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ إِيذَاءٍ لأَِحَدٍ ، وَإِلاَّ لَمَسَهُ بِيَدِهِ أَوْ بِشَيْءٍ يُمْسِكُهُ بِهَا وَقَبَّلَهُ ، وَإِلاَّ أَشَارَ بِيَدَيْهِ ، وَإِنْ كَانَ يُرِيدُ السَّعْيَ بَعْدَهُ فَيُسَنُّ لَهُ أَنْ يَضْطَبِعَ فِي أَشْوَاطِ طَوَافِهِ هَذَا كُلِّهَا ، وَيَرْمُل فِي الثَّلاَثَةِ الأُْولَى . وَلْيُكْثِرْ مِنَ الدُّعَاءِ وَالذِّكْرِ فِي طَوَافِهِ كُلِّهِ ، وَلاَ سِيَّمَا الْمَأْثُورُ(1).
وَإِذَا فَرَغَ مِنْ طَوَافِهِ يُصَلِّي رَكْعَتَيِ الطَّوَافِ عِنْدَ مَقَامِ إِبْرَاهِيمِ إِنْ أَمْكَنَ ، ثُمَّ إِنْ أَرَادَ السَّعْيَ يَذْهَبُ إِلَى الصَّفَا وَيَسْعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ سَبْعَةَ أَشْوَاطٍ ، مُرَاعِيًا أَحْكَامَ السَّعْيِ وَآدَابِهِ(2).
وَهَذَا السَّعْيُ يَقَعُ عَنِ الْحَجِّ لِلْمُفْرِدِ ، وَعَنِ الْعُمْرَةِ لِلْمُتَمَتِّعِ ، وَعَنِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ لِلْقَارِنِ ، عَلَى مَا هُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ فِي الْقِرَانِ ، أَمَّا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فَعَنِ الْعُمْرَةِ فَقَطْ لِلْقَارِنِ ، وَعَلَيْهِ سَعْيٌ آخَرُ لِلْحَجِّ عِنْدَهُمْ.
وَهُنَا يَحْلِقُ الْمُتَمَتِّعُ رَأْسَهُ بَعْدَ السَّعْيِ أَوْ يُقَصِّرُهُ(3)، وَقَدْ حَل مِنْ إِحْرَامِهِ(4)
أَمَّا الْمُفْرِدُ وَالْقَارِنُ فَهُمَا عَلَى إِحْرَامِهِمَا إِلَى أَنْ يَتَحَلَّلاَ بِأَعْمَال يَوْمِ النَّحْرِ .
--------------
التَّحَلُّل مِنْ إِحْرَامِ الْعُمْرَةِ :
__________
(1) - الموسوعة الفقهية الكويتية - (ج 29 / ص 120-143)
(2) -الموسوعة الفقهية الكويتية - (ج 25 / ص 11) فما بعدها
(3) - الموسوعة الفقهية الكويتية - (ج 18 / ص 94)فما بعدها
(4) - الموسوعة الفقهية الكويتية - (ج 2 / ص 176)(1/335)
اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ لِلْعُمْرَةِ تَحَلُّلاً وَاحِدًا يَحِل بِهِ لِلْمُحْرِمِ جَمِيعُ مَحْظُورَاتِ الإِْحْرَامِ . وَيَحْصُل هَذَا التَّحَلُّل بِالْحَلْقِ أَوِ التَّقْصِيرِ بِاتِّفَاقِ الْمَذَاهِبِ(1)عَلَى اخْتِلاَفِهِمْ فِي حُكْمِهِ فِي مَنَاسِكِ الْعُمْرَةِ
---------------
أَعْمَال الْحَجِّ بَعْدَ قُدُومِ مَكَّةَ :
يَمْكُثُ الْحَاجُّ فِي مَكَّةَ بَعْدَ الْقُدُومِ وَمَا ذَكَرْنَا فِيهِ - إِلَى يَوْمِ التَّرْوِيَةِ لِيُؤَدِّيَ سَائِرَ الْمَنَاسِكِ وَيُؤَدِّي أَعْمَال الْحَجِّ هَذِهِ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ كَمَا يَلِي :
يَوْمُ التَّرْوِيَةِ :
وَهُوَ يَوْمُ الثَّامِنِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ ، وَيَنْطَلِقُ فِيهِ الْحُجَّاجُ إِلَى مِنًى ، وَيُحْرِمُ الْمُتَمَتِّعُ بِالْحَجِّ ، أَمَّا الْمُفْرِدُ وَالْقَارِنُ فَهُمَا عَلَى إِحْرَامِهِمَا ، وَيَبِيتُونَ بِمِنًى اتِّبَاعًا لِلسُّنَّةِ ، وَيُصَلُّونَ فِيهَا خَمْسَ صَلَوَاتٍ : الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ وَالْفَجْرَ . وَهَذَا فَجْرُ يَوْمِ عَرَفَةَ .
يَوْمُ عَرَفَةَ :
وَهُوَ يَوْمٌ عَظِيمٌ يُؤَدِّي فِيهِ الْحُجَّاجُ الْوُقُوفَ بِعَرَفَةَ رُكْنَ الْحَجِّ الَّذِي يَتَوَقَّفُ عَلَى فَوَاتِهِ بُطْلاَنُ الْحَجِّ ، ثُمَّ الْمَبِيتُ بِالْمُزْدَلِفَةِ .
__________
(1) - المسلك المتقسط ص 307 ، ورد المحتار 2 / 257 ، وحاشية العدوي على شرح الرسالة 1 / 483 وفيه التصريح بكون الحلق من شروط الكمال ، ومطالب أولي النهى 2 / 444(1/336)
أ - الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ : وَفِيهِ يُسَنُّ أَنْ يَخْرُجَ الْحَاجُّ مِنْ مِنًى إِلَى عَرَفَةَ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ ، وَعَرَفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ إِلاَّ بَطْنَ عُرَنَةَ ، وَيُسَنُّ أَلاَ يَدْخُل عَرَفَةَ إِلاَّ بَعْدَ الزَّوَال ، وَبَعْدَ أَنْ يَجْمَعَ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ تَقْدِيمًا ، فَيَقِفَ بِعَرَفَةَ مُرَاعِيًا أَحْكَامَهُ وَسُنَنَهُ وَآدَابَهُ ، وَيَسْتَمِرَّ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ ، وَلاَ يُجَاوِزَ عَرَفَةَ قَبْلَهُ ، وَيَتَوَجَّهَ إِلَى اللَّهِ فِي وُقُوفِهِ خَاشِعًا ضَارِعًا بِالدُّعَاءِ وَالذِّكْرِ وَالْقُرْآنِ وَالتَّلْبِيَةِ. . حَتَّى يَدْفَعَ مِنْ عَرَفَةَ
ب - الْمَبِيتُ بِالْمُزْدَلِفَةِ : إِذَا غَرَبَتْ شَمْسُ يَوْمِ عَرَفَةَ يَسِيرُ الْحَاجُّ مِنْ عَرَفَةَ إِلَى الْمُزْدَلِفَةِ ، وَيَجْمَعُ بِهَا الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ تَأْخِيرًا ، وَيَبِيتُ فِيهَا ، وَهُوَ وَاجِبٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ سُنَّةٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ ، ثُمَّ يُصَلِّي الْفَجْرَ وَيَقِفُ لِلدُّعَاءِ ، وَالْوُقُوفُ بَعْدَ الْفَجْرِ وَاجِبٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ سُنَّةٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ إِلاَّ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ يَرَوْنَ أَنَّهُ إِذَا نَفَرَ لِعُذْرٍ كَزَحْمَةٍ قَبْل الْفَجْرِ فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ ،وَيَسْتَمِرُّ وَاقِفًا يَدْعُو وَيُهَلِّل وَيُلَبِّي حَتَّى يُسْفِرَ جِدًّا ، لِيَنْطَلِقَ إِلَى مِنًى .
وَيُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَلْقُطَ الْجِمَارَ ( الْحَصَيَاتِ الصِّغَارَ ) مِنَ الْمُزْدَلِفَةِ ، لِيَرْمِيَ بِهَا ، وَعَدَدُهَا سَبْعُونَ ، لِلرَّمْيِ كُلِّهِ ، وَإِلاَّ فَسَبْعَةٌ يَرْمِي بِهَا يَوْمَ النَّحْرِ .
يَوْمُ النَّحْرِ :(1/337)
يُسَنُّ أَنْ يَدْفَعَ الْحَاجُّ مِنْ مُزْدَلِفَةَ إِلَى مِنًى يَوْمَ النَّحْرِ قَبْل طُلُوعِ الشَّمْسِ ، لِيُؤَدِّيَ أَعْمَال النَّحْرِ ، وَهُوَ أَكْثَرُ أَيَّامِ الْحَجِّ عَمَلاً ، وَيُكْثِرُ فِي تَحَرُّكِهِ مِنَ الذِّكْرِ وَالتَّلْبِيَةِ وَالتَّكْبِيرِ .
وَأَعْمَال هَذَا الْيَوْمِ هِيَ :
أ - رَمْيُ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ : فَيَجِبُ عَلَى الْحَاجِّ فِي هَذَا الْيَوْمِ رَمْيُ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ وَحْدَهَا ، وَتُسَمَّى الْجَمْرَةَ الْكُبْرَى . يَرْمِيهَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ ، وَيُكَبِّرُ مَعَ كُل حَصَاةٍ ، وَيَقْطَعُ التَّلْبِيَةَ مَعَ ابْتِدَاءِ الرَّمْيِ .
ب - نَحْرُ الْهَدْيِ ، وَهُوَ وَاجِبٌ عَلَى الْمُتَمَتِّعِ وَالْقَارِنِ ، سُنَّةٌ لِغَيْرِهِمَا .
ج - الْحَلْقُ أَوِ التَّقْصِيرُ : وَالْحَلْقُ أَفْضَل لِلرِّجَال ، مَكْرُوهٌ كَرَاهَةً شَدِيدَةً لِلنِّسَاءِ .
د - طَوَافُ الزِّيَارَةِ : وَيَأْتِي تَرْتِيبُهُ بَعْدَ الأَْعْمَال السَّابِقَةِ ، فَيُفِيضُ الْحَاجُّ أَيْ يَرْحَل إِلَى مَكَّةَ لِيَطُوفَ الزِّيَارَةَ ، وَهُوَ طَوَافُ الرُّكْنِ فِي الْحَجِّ .
وَإِنْ كَانَ قَدَّمَ السَّعْيَ فَلاَ يَضْطَبِعُ وَلاَ يَرْمُل فِي هَذَا الطَّوَافِ ، لأَِنَّهُ لَمْ يَبْقَ سَعْيٌ بَعْدَهُ ، وَإِنْ لَمْ يُقَدِّمِ السَّعْيَ فَلْيَسْعَ بَعْدَ الطَّوَافِ ، وَيَضْطَبِعْ وَيَرْمُل فِي طَوَافِهِ ، كَمَا هِيَ السُّنَّةُ فِي كُل طَوَافٍ بَعْدَهُ سَعْيٌ .
هـ - السَّعْيُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ : لِمَنْ لَمْ يُقَدِّمِ السَّعْيَ مِنْ قَبْل .
و - التَّحَلُّل : وَيَحْصُل بِأَدَاءِ الأَْعْمَال الَّتِي ذَكَرْنَاهَا ، وَهُوَ قِسْمَانِ :
التَّحَلُّل الأَْوَّل : أَوِ الأَْصْغَرُ : تَحِل بِهِ مَحْظُورَاتُ الإِْحْرَامِ عَدَا النِّسَاءَ .(1/338)
وَيَحْصُل بِالْحَلْقِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ ، وَبِالرَّمْيِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ ، وَبِفِعْل ثَلاَثَةٍ مِنْ أَعْمَال يَوْمِ النَّحْرِ ( اسْتُثْنِيَ مِنْهَا الذَّبْحُ حَيْثُ لاَ دَخْل لَهُ فِي التَّحَلُّل ) عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ .
التَّحَلُّل الثَّانِي : أَوِ الأَْكْبَرُ : تَحِل بِهِ كُل مَحْظُورَاتِ الإِْحْرَامِ حَتَّى النِّسَاءُ .
وَيَحْصُل بِطَوَافِ الإِْفَاضَةِ فَقَطْ بِشَرْطِ الْحَلْقِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ ، وَبِالإِْفَاضَةِ مَعَ السَّعْيِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ ، وَبِاسْتِكْمَال الأَْعْمَال الأَْرْبَعَةِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ .
أَوَّل وَثَانِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ :
هُمَا ثَانِي وَثَالِثُ أَيَّامِ النَّحْرِ ، وَفِيهِمَا مَا يَلِي :
أ - الْمَبِيتُ بِمِنًى لَيْلَتَيْ هَذَيْنِ الْيَوْمَيْنِ : وَهُوَ وَاجِبٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ سُنَّةٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ .
ب - رَمْيُ الْجِمَارِ الثَّلاَثِ: يَرْمِيهَا عَلَى التَّرْتِيبِ : الْجَمْرَةُ الأُْولَى أَوِ الصُّغْرَى وَهِيَ أَقْرَبُ الْجَمَرَاتِ إِلَى مَسْجِدِ الْخَيْفِ بِمِنًى ، ثُمَّ الْجَمْرَةُ الثَّانِيَةُ أَوِ الْوُسْطَى ، ثُمَّ الثَّالِثَةُ الْكُبْرَى جَمْرَةُ الْعَقَبَةِ . يَرْمِي كُل وَاحِدَةٍ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ ، وَيَدْعُو بَيْنَ كُل جَمْرَتَيْنِ .
ج - النَّفْرُ الأَْوَّل : يَحِل لِلْحَاجِّ إِذَا رَمَى جِمَارَ الْيَوْمِ الثَّانِي مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ أَنْ يَرْحَل إِلَى مَكَّةَ ، وَيَسْقُطُ عَنْهُ رَمْيُ الْيَوْمِ الثَّالِثِ ، إِذَا جَاوَزَ حُدُودَ مِنًى قَبْل غُرُوبِ الشَّمْسِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ ، وَقَبْل فَجْرِ ثَالِثِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ .(1/339)
د - التَّحْصِيبُ : وَهُوَ مُسْتَحَبٌّ عِنْدَ الْجُمْهُورِ ، فَيَنْزِل الْحَاجُّ بِالْمُحَصَّبِ(1)عِنْدَ وُصُولِهِ مَكَّةَ إِنْ تَيَسَّرَ لَهُ لِيَذْكُرَ اللَّهَ تَعَالَى فِيهِ وَيُصَلِّيَ .
ثَالِثُ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ :
هُوَ رَابِعُ أَيَّامِ النَّحْرِ ، وَفِيهِ :
أ - الرَّمْيُ : يَجِبُ رَمْيُ الْجِمَارِ الثَّلاَثِ فِي هَذَا الْيَوْمِ عَلَى مَنْ تَأَخَّرَ ، فَلَمْ يَنْفِرِ النَّفْرَ الأَْوَّل ، وَيَنْتَهِي وَقْتُهُ وَوَقْتُ الرَّمْيِ كُلِّهِ أَيْضًا قَضَاءً وَأَدَاءً بِغُرُوبِ شَمْسِ هَذَا الْيَوْمِ اتِّفَاقًا . وَتَنْتَهِي بِغُرُوبِهِ مَنَاسِكُ مِنًى
ب - النَّفْرُ الثَّانِي : يَنْفِرُ أَيْ يَرْحَل سَائِرُ الْحُجَّاجِ فِي هَذَا الْيَوْمِ إِلَى مَكَّةَ بَعْدَ رَمْيِ الْجِمَارِ ، وَلاَ يُشْرَعُ الْمُكْثُ بِمِنًى بَعْدَ ذَلِكَ .
ج - التَّحْصِيبُ : عِنْدَ وُصُول مَكَّةَ ، كَمَا مَرَّ ذِكْرُهُ ، فِي النَّفْرِ الأَْوَّل .
د - الْمُكْثُ بِمَكَّةَ : تَنْتَهِي الْمَنَاسِكُ بِنِهَايَةِ أَعْمَال مِنًى - عَدَا طَوَافَ الْوَدَاعِ - وَيَمْكُثُ الْحَاجُّ بِمَكَّةَ إِلَى وَقْتِ سَفَرِهِ فِي عِبَادَةٍ ، وَذِكْرٍ ، وَطَوَافٍ ، وَعَمَل خَيْرٍ . وَيَأْتِي الْمُفْرِدُ بِالْعُمْرَةِ ، فَإِنَّ وَقْتَهَا كُل أَيَّامِ السَّنَةِ عَدَا يَوْمَ عَرَفَةَ وَأَرْبَعَةَ أَيَّامٍ بَعْدَهُ فَتُكْرَهُ فِيهَا كَرَاهَةَ تَحْرِيمٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ . ( انْظُرْ مُصْطَلَحَ : إِحْرَامٌ : ف 38 )(2)( وَعُمْرَةٌ )(3).
طَوَافُ الْوَدَاعِ :
__________
(1) - يقع عند مدخل مكة بين الجبلين ومقبرة الحجون . ويقع الآن بين قصر الملك وبين جبانة المعلى وقد شغل ببعض المباني .
(2) -الموسوعة الفقهية الكويتية - (ج 2 / ص 144)
(3) -الموسوعة الفقهية الكويتية - (ج 30 / ص 314)فما بعدها(1/340)
إِذَا أَرَادَ الْحَاجُّ السَّفَرَ مِنْ مَكَّةَ يَجِبُ عَلَيْهِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ طَوَافَ الْوَدَاعِ ، وَالْمَعْنَى الْمُلاَحَظُ فِي هَذَا الطَّوَافِ أَنْ يَكُونَ آخِرَ الْعَهْدِ بِالْبَيْتِ ، وَلاَ رَمْل فِي هَذَا الطَّوَافِ وَلاَ اضْطِبَاعَ ، وَبَعْدَ أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَتَيِ الطَّوَافِ ، يَأْتِي زَمْزَمَ وَيَشْرَبُ مِنْ مَائِهَا مُسْتَقْبِل الْبَيْتِ ، وَيَتَشَبَّثُ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ ، وَيَسْتَلِمَ الْحَجَرَ الأَْسْوَدَ إِنْ تَيَسَّرَ لَهُ مِنْ غَيْرِ إِيذَاءِ أَحَدٍ ، ثُمَّ يَسِيرُ إِلَى بَابِ الْحَرَمِ وَوَجْهُهُ تِلْقَاءَ الْبَابِ ، دَاعِيًا بِالْقَبُول ، وَالْغُفْرَانِ ، وَبِالْعَوْدِ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ ، وَأَلاَّ يَكُونَ ذَلِكَ آخِرَ الْعَهْدِ مِنْ هَذَا الْبَيْتِ الْعَتِيقِ .
- - - - - - - - - - - -
الرَمْيُ(1)
تعريفُهُ :
الرَّمْيُ لُغَةً : يُطْلَقُ بِمَعْنَى الْقَذْفِ ، وَبِمَعْنَى الإِْلْقَاءِ ، يُقَال : رَمَيْتُ الشَّيْءَ وَبِالشَّيْءِ ، إِذَا قَذَفْتَهُ ، وَرَمَيْتُ الشَّيْءَ مِنْ يَدَيَّ أَيْ : أَلْقَيْتُهُ فَارْتَمَى ، وَرَمَى بِالشَّيْءِ أَيْضًا أَلْقَاهُ ، كَأَرْمَى ، يُقَال : أَرْمَى الْفَرَسُ بِرَاكِبِهِ إِذَا أَلْقَاهُ .
وَرَمَى السَّهْمَ عَنِ الْقَوْسِ وَعَلَيْهَا ، لاَ بِهَا ، رَمْيًا وَرِمَايَةً . وَلاَ يُقَال : رَمَيْتُ بِالْقَوْسِ إِلاَّ إِذَا أَلْقَيْتَهَا مِنْ يَدِكَ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَجْعَلُهُ بِمَعْنَى رَمَيْتُ عَنْهَا . وَرَمَى فُلاَنٌ فُلاَنًا ، أَيْ قَذَفَهُ بِالْفَاحِشَةِ(2)
__________
(1) -الموسوعة الفقهية الكويتية - (ج 23 / ص 150-170)
(2) - تهذيب اللغة للأزهري ، والصحاح للجوهري ، والقاموس المحيط للفيروزآبادي ، ولسان العرب لابن منظور .(1/341)
كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى : { وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ } (سورة النور / 4) .
الرَّمْيُ اصْطِلاَحًا :
اسْتَعْمَل الْفُقَهَاءُ الرَّمْيَ فِي الْمَعَانِي اللُّغَوِيَّةِ السَّابِقَةِ وَمِنْهَا رَمْيُ الْجِمَارِ الَّذِي هُوَ مَنْسَكٌ وَاجِبٌ
مِنْ مَنَاسِكِ الْحَجِّ . وَالرَّمْيُ بِالسِّهَامِ وَنَحْوِهَا ، وَالرَّمْيُ بِمَعْنَى الْقَذْفِ .
( أَوَّلاً ) رَمْيُ الْجِمَارِ:
رَمْيُ الْجِمَارِ ، هُوَ رَمْيُ الْحَصَيَاتِ الْمُعَيَّنَةِ الْعَدَدِ فِي الأَْمَاكِنِ الْخَاصَّةِ بِالرَّمْيِ فِي مِنًى ( الْجَمَرَاتِ ) .
وَلَيْسَتِ الْجَمْرَةُ هِيَ الشَّاخِصُ ( الْعَمُودُ ) الَّذِي يُوجَدُ فِي مُنْتَصَفِ الْمَرْمَى ، بَل الْجَمْرَةُ هِيَ الْمَرْمَى الْمُحِيطُ بِذَلِكَ الشَّاخِصِ ، فَلْيُتَنَبَّهْ لِذَلِكَ .
وَالْجَمَرَاتُ الَّتِي تُرْمَى ثَلاَثَةٌ ، هِيَ :
أ - الْجَمْرَةُ الأُْولَى : وَتُسَمَّى الصُّغْرَى ، أَوِ الدُّنْيَا ، وَهِيَ أَوَّل جَمْرَةٍ بَعْدَ مَسْجِدِ الْخَيْفِ بِمِنًى ، سُمِّيَتْ " دُنْيَا " مِنَ الدُّنُوِّ ؛ لأَِنَّهَا أَقْرَبُ الْجَمَرَاتِ إِلَى مَسْجِدِ الْخَيْفِ
ب - الْجَمْرَةُ الثَّانِيَةُ : وَتُسَمَّى الْوُسْطَى ، بَعْدَ الْجَمْرَةِ الأُْولَى ، وَقَبْل جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ .
ج - جَمْرَةُ الْعَقَبَةِ : وَهِيَ الثَّالِثَةُ ، وَتُسَمَّى أَيْضًا " الْجَمْرَةُ الْكُبْرَى " وَتَقَعُ فِي آخِرِ مِنًى تُجَاهَ مَكَّةَ ، وَلَيْسَتْ مِنْ مِنًى . ( ر : مِنًى ) .
وَتُرْمَى هَذِهِ الْجَمَرَاتُ كُلُّهَا مِنْ جَمِيعِ الْجِهَاتِ .
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ لِرَمْيِ الْجِمَارِ :
اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ رَمْيَ الْجِمَارِ وَاجِبٌ مِنْ وَاجِبَاتِ الْحَجِّ .
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِالسُّنَّةِ وَالإِْجْمَاعِ .
أَمَّا السُّنَّةُ فَالأَْحَادِيثُ كَثِيرَةٌ مِنْهَا :(1/342)
حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَقَفَ فِى حَجَّةِ الْوَدَاعِ بِمِنًى لِلنَّاسِ يَسْأَلُونَهُ ، فَجَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ لَمْ أَشْعُرْ فَحَلَقْتُ قَبْلَ أَنْ أَذْبَحَ . فَقَالَ " اذْبَحْ وَلاَ حَرَجَ " . فَجَاءَ آخَرُ فَقَالَ لَمْ أَشْعُرْ ، فَنَحَرْتُ قَبْلَ أَنْ أَرْمِىَ . قَالَ " ارْمِ وَلاَ حَرَجَ "(1). ، فَقَدْ أَمَرَ بِالرَّمْيِ ، وَالأَْمْرُ لِلْوُجُوبِ .
وَكَذَلِكَ فِعْلُهُ - صلى الله عليه وسلم - وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ فِي الأَْحَادِيثِ الْكَثِيرَةِ الصَّحِيحَةِ(2)، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِى أَبُو الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرًا يَقُولُ رَأَيْتُ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - يَرْمِى عَلَى رَاحِلَتِهِ يَوْمَ النَّحْرِ وَيَقُولُ " لِتَأْخُذُوا مَنَاسِكَكُمْ فَإِنِّى لاَ أَدْرِى لَعَلِّى لاَ أَحُجُّ بَعْدَ حَجَّتِى هَذِهِ ".(3).
وَأَمَّا الإِْجْمَاعُ : فَقَوْل الْكَاسَانِيِّ : إِنَّ الأُْمَّةَ أَجْمَعَتْ عَلَى وُجُوبِهِ ، فَيَكُونُ وَاجِبًا(4)
وَمَا رُوِيَ عَنِ الزُّهْرِيِّ مِنْ أَنَّهُ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الْحَجِّ فَهُوَ قَوْلٌ شَاذٌّ مُخَالِفٌ لإِِجْمَاعِ مَنْ قَبْلَهُ ، وَقَدْ بَيَّنَ الْعُلَمَاءُ بُطْلاَنَهُ .
شُرُوطُ صِحَّةِ رَمْيِ الْجِمَارِ :
يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ رَمْيِ الْجِمَارِ شُرُوطٌ هِيَ :
أ - سَبْقُ الإِْحْرَامِ بِالْحَجِّ :لأَِنَّهُ شَرْطٌ لِصِحَّةِ كُل أَعْمَال الْحَجِّ .
__________
(1) - صحيح البخارى برقم (83 )
(2) - أخرجه مسلم في الحج ( باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم ) برقم ( 3009)
(3) -صحيح مسلم برقم (3197 )
(4) - بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع لعلاء الدين الكاساني 2 / 136 طبع شركة المطبوعات العلمية سنة 1327 هـ .(1/343)
ب - سَبْقُ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ :لأَِنَّهُ رُكْنٌ إِذَا فَاتَ فَاتَ الْحَجُّ ، وَالرَّمْيُ مُرَتَّبٌ عَلَيْهِ .
ج - أَنْ يَكُون الْمَرْمِيُّ حَجَرًا :
فَلاَ يَصِحُّ الرَّمْيُ بِالطِّينِ ، وَالْمَعَادِنِ ، وَالتُّرَابِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ ( الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ ) وَيَصِحُّ بِالْمَرْمَرِ ، وَحَجَرِ النُّورَةِ أَيِ الْجِصِّ قَبْل طَبْخِهِ ، وَيُجْزِئُ حَجَرُ الْحَدِيدِ عَلَى الصَّحِيحِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لأَِنَّهُ حَجَرٌ فِي هَذِهِ الْحَال ، إِلاَّ أَنَّ فِيهِ حَدِيدًا كَامِنًا يُسْتَخْرَجُ بِالْعِلاَجِ ، وَفِيمَا يُتَّخَذُ مِنْهُ الْفُصُوصُ كَالْفَيْرُوزَجِ ، وَالْيَاقُوتِ ، وَالْعَقِيقِ ، وَالزُّمُرُّدِ ، وَالْبِلَّوْرِ ، وَالزَّبَرْجَدِ وَجْهَانِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَصَحُّهُمَا الإِْجْزَاءُ لأَِنَّهَا أَحْجَارٌ(1).
__________
(1) - الإيضاح في مناسك الحج للنووي بحاشية الهيثمي ص 360 طبع دار بنه للطباعة بمصر ، والمجموع شرح المهذب للنووي 8 / 143 طبع مطبعة العاصمة وصرح ص 145 بكراهة الرمي بالحجر المأخوذ من الحلي ، ونهاية المحتاج 2 / 433 - 434 ، والشرح الكبير وحاشيته 2 / 50 ، وشرح الرسالة لأبي الحسن وحاشية العدوي 1 / 478 طبع دار إحياء الكتب العربية ، ومواهب الجليل لشرح مختصر خليل للحطاب والتاج والإكليل للمواق بهامشه 3 / 133 - 134 ، والمغني لابن قدامة 3 / 425 طبع دار المنار ، والفروع لابن مفلح 3 / 510 - 511 تصوير عالم الكتب بيروت .(1/344)
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الشَّرْطَ فِي الْمَرْمِيِّ أَنْ يَكُونَ مِنْ جِنْسِ الأَْرْضِ ، فَيَصِحُّ عِنْدَهُمُ الرَّمْيُ بِالتُّرَابِ ، وَالطِّينِ ، وَالْجِصِّ ، وَالْكُحْل ، وَالْكِبْرِيتِ ، وَالزَّبَرْجَدِ ، وَالزُّمُرُّدِ ، وَالْبِلَّوْرِ ، وَالْعَقِيقِ ، وَلاَ يَصِحُّ بِالْمَعَادِنِ ، وَالذَّهَبِ ، وَالْفِضَّةِ ، وَاخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ الرَّمْيِ بِالْفَيْرُوزَجِ وَالْيَاقُوتِ : مَنَعَهُ الشَّارِحُونَ وَغَيْرُهُمْ ، بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ كَوْنُ الرَّمْيِ بِالرَّمْيِ بِهِ اسْتِهَانَةً .
وَأَجَازَهُ غَيْرُهُمْ بِنَاءً عَلَى نَفْيِ ذَلِكَ الاِشْتِرَاطِ(1).
اسْتَدَل الْجُمْهُورُ بِمَا ثَبَتَ مِنْ فِعْل النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - كَمَا فِي حَدِيثِ جَابِرٍ يَصِفُ رَمْيَ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ : فَرَمَاهَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ - يُكَبِّرُ مَعَ كُل حَصَاةٍ مِنْهَا - مِثْل حَصَى الْخَذْفِ(2)
__________
(1) -الهداية وفتح القدير للكمال بن الهمام والعناية للبابرتي2 / 177 طبع مصطفى محمد ، والبدائع 2 / 157 - 158 ، وشرح اللباب ص 166 ، والدر المختار وشروحه 2 / 246 - 247 طبع إستانبول دار الطباعة العامرة . أما ما ذكره بعض الحنفية من جواز الرمي بالبعرة إهانة للشيطان فهو خلاف المذهب كما نبهوا عليه . انظر شرح اللباب والدر بشرحه والحاشية ص 247 ، فهذا القول مخالف للإجماع ، كذلك ما تفعله العامة من قذف النعال والأحذية وما شابه ذلك باطل مخالف للإجماع .
(2) - أخرجه مسلم برقم ( 3009 )(1/345)
وَبِقَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي أَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ : ارْمُوا الْجِمَارَ بِمِثْل حَصَى الْخَذْفِ وَفِي عَدَدٍ مِنْهَا أَنَّهُ قَال ذَلِكَ وَهُوَ وَاضِعٌ أُصْبُعَيْهِ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُْخْرَى(1).
قَال النَّوَوِيُّ : فَأَمَرَ - صلى الله عليه وسلم - بِالْحَصَى ، فَلاَ يَجُوزُ الْعُدُول عَنْهُ ، وَالأَْحَادِيثُ الْمُطْلَقَةُ مَحْمُولَةٌ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى(2)" .
وَاسْتَدَل الْحَنَفِيَّةُ بِالأَْحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي الأَْمْرِ بِالرَّمْيِ مُطْلَقَةً عَنْ صِفَةٍ مُقَيِّدَةٍ ، كَقَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم - : ارْمِ وَلاَ حَرَجَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ(3).
قَال الْكَاسَانِيُّ : وَالرَّمْيُ بِالْحَصَى مِنَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَأَصْحَابِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ مَحْمُولٌ عَلَى الأَْفْضَلِيَّةِ ، تَوْفِيقًا بَيْنَ الدَّلاَئِل ، لِمَا صَحَّ مِنْ مَذْهَبِ أَصْحَابِنَا أَنَّ الْمُطْلَقَ لاَ يُحْمَل عَلَى الْمُقَيَّدِ ، بَل يَجْرِي الْمُطْلَقُ عَلَى إِطْلاَقِهِ ، وَالْمُقَيَّدُ عَلَى تَقْيِيدِهِ مَا أَمْكَنَ ، وَهَاهُنَا أَمْكَنَ بِأَنْ يُحْمَل الْمُطْلَقُ عَلَى الْجَوَازِ ، وَالْمُقَيَّدُ عَلَى الأَْفْضَلِيَّةِ(4).
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ أَيْضًا : إِنَّ الْمَقْصُودَ فِعْل الرَّمْيِ ، وَذَلِكَ يَحْصُل بِالطِّينِ ، كَمَا يَحْصُل بِالْحَجَرِ ، بِخِلاَفِ مَا إِذَا رَمَى بِالذَّهَبِ أَوِ الْفِضَّةِ ؛ لأَِنَّهُ يُسَمَّى نَثْرًا لاَ رَمْيًا(5).
__________
(1) -مصنف ابن أبي شيبة مرقم ومشكل - (ج 5 / ص 231)برقم (13908) و المعجم الكبير للطبراني - (ج 3 / ص 486) برقم (3396) صحيح
(2) - المجموع 8 / 151 .
(3) - حديث : " ارم ولا حرج " . سبق تخريجه ف / 5 .
(4) - بدائع الصنائع 2 / 158 .
(5) - الهداية 2 / 177 .(1/346)
وَلاَ يَخْفَى أَنَّ الأَْحْوَطَ فِي ذَلِكَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ ، قَال الْكَمَال بْنُ الْهُمَامِ : إِنَّ أَكْثَرَ الْمُحَقِّقِينَ عَلَى أَنَّهَا أُمُورٌ تَعَبُّدِيَّةٌ ، لاَ يُشْتَغَل بِالْمَعْنَى فِيهَا - أَيْ بِالْعِلَّةِ - وَالْحَاصِل أَنَّهُ إِمَّا أَنْ يُلاَحَظَ مُجَرَّدُ الرَّمْيِ ، أَوْ مَعَ الاِسْتِهَانَةِ ، أَوْ خُصُوصُ مَا وَقَعَ مِنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ، وَالأَْوَّل يَسْتَلْزِمُ الْجَوَازَ بِالْجَوَاهِرِ ، وَالثَّانِي بِالْبَعْرَةِ وَالْخَشَبَةِ الَّتِي لاَ قِيمَةَ لَهَا ، وَالثَّالِثُ بِالْحَجَرِ خُصُوصًا ، فَلْيَكُنْ هَذَا أَوْلَى ، لِكَوْنِهِ أَسْلَمَ ، وَلِكَوْنِهِ الأَْصْل فِي أَعْمَال هَذِهِ الْمَوَاطِنِ ، إِلاَّ مَا قَامَ دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ تَعْيِينِهِ(1).
أَمَّا صِفَةُ الْمَرْمِيِّ بِهِ ، فَقَدْ وَرَدَ فِي الأَْحَادِيثِ أَنَّهُ مِثْل حَصَى الْخَذْفِ وَحَصَى الْخَذْفِ هِيَ الَّتِي يُخْذَفُ بِهَا ، أَيْ تُرْمَى بِهَا الطُّيُورُ وَالْعَصَافِيرُ ، بِوَضْعِ الْحَصَاةِ بَيْنَ أُصْبُعَيِ السَّبَّابَةِ وَالإِْبْهَامِ وَقَذْفِهَا .
وَقَدِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ السُّنَّةَ فِي الرَّمْيِ أَنْ يَكُونَ بِمِثْل حَصَى الْخَذْفِ ، فَوْقَ الْحِمَّصَةِ ، وَدُونَ الْبُنْدُقَةِ ، وَكَرِهُوا الرَّمْيَ بِالْحَجَرِ الْكَبِيرِ ، وَأَجَازَ الشَّافِعِيَّةُ - وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ - الرَّمْيَ بِالْحَجَرِ الصَّغِيرِ الَّذِي كَالْحِمَّصَةِ ، مَعَ مُخَالَفَتِهِ السُّنَّةَ ؛ لأَِنَّهُ رَمْيٌ بِالْحَجَرِ فَيُجْزِئُهُ . وَلَمْ يُجِزْ ذَلِكَ الْمَالِكِيَّةُ ، بَل لاَ بُدَّ عِنْدَهُمْ أَنْ يَكُونَ أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ
__________
(1) - فتح القدير - (ج 5 / ص 215) ورد المحتار - (ج 8 / ص 296) ، وفيه توسع في مدلول الرمي والنثر .(1/347)
وَقِيل : لاَ يُجْزِئُ الرَّمْيُ إِلاَّ بِحَصًى كَحَصَى الْخَذْفِ ، لاَ أَصْغَرَ وَلاَ أَكْبَرَ . وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ أَحْمَدَ ، وَوَجْهُهُ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَمَرَ بِهَذَا الْقَدْرِ ، وَنَهَى عَنْ تَجَاوُزِهِ ، وَالأَْمْرُ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ ، وَالنَّهْيُ يَقْتَضِي الْفَسَادَ(1).
د - أَنْ يَرْمِيَ الْجَمْرَةَ بِالْحَصَيَاتِ السَّبْعِ مُتَفَرِّقَاتٍ :
وَاحِدَةً فَوَاحِدَةً ، فَلَوْ رَمَى حَصَاتَيْنِ مَعًا أَوِ السَّبْعَ جُمْلَةً ، فَهِيَ حَصَاةٌ وَاحِدَةٌ ، وَيَلْزَمُهُ أَنْ يَرْمِيَ بِسِتٍّ سِوَاهَا وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ فِي الْمَذَاهِبِ .
وَالدَّلِيل عَلَيْهِ : أَنَّ الْمَنْصُوصَ عَلَيْهِ تَفْرِيقُ الأَْفْعَال فَيَتَقَيَّدُ بِالتَّفْرِيقِ الْوَارِدِ فِي السُّنَّةِ(2)
هـ - وُقُوعُ الْحَصَى فِي الْجَمْرَةِ الَّتِي يَجْتَمِعُ فِيهَا الْحَصَى :
وَذَلِكَ عِنْدَ الْجُمْهُورِ ( الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ ) قَال الشَّافِعِيُّ : الْجَمْرَةُ مُجْتَمَعُ الْحَصَى ، لاَ مَا سَال مِنَ الْحَصَى ، فَمَنْ أَصَابَ مُجْتَمَعَهُ أَجْزَأَهُ ، وَمَنْ أَصَابَ سَائِلَهُ لَمْ يُجْزِهِ(3).
__________
(1) - المغني 3 / 425 .
(2) - شروح الهداية 2 / 176 ، ولباب المناسك وشرحه ص 164 ، ورد المحتار 2 / 246 ، وحاشية الدسوقي 2 / 50 ، وشرح الرسالة 1 / 478 ، والمغني 3 / 430 ، والفروع 3 / 512 .
(3) - المجموع 8 / 147 ، ونهاية المحتاج 2 / 434 ، ومغني المحتاج 1 / 507 ، والشرح الكبير 2 / 50 ، ومواهب الجليل 3 / 133 - 134 ، والمغني 3 / 429 ، والفروع 3 / 512 .(1/348)
وَتَوَسَّعَ الْحَنَفِيَّةُ فَقَالُوا : لَوْ رَمَاهَا فَوَقَعَتْ قَرِيبًا مِنَ الْجَمْرَةِ يَكْفِيهِ ؛ لأَِنَّ هَذَا الْقَدْرَ مِمَّا لاَ يُمْكِنُ الاِحْتِرَازُ عَنْهُ ، وَلَوْ وَقَعَتْ بَعِيدًا مِنْهَا لاَ يُجْزِيهِ ؛ لأَِنَّهُ لَمْ يُعْرَفْ قُرْبُهُ إِلاَّ فِي مَكَانٍ مَخْصُوصٍ . قَال الْكَاسَانِيُّ : لأَِنَّ مَا يَقْرُبُ مِنْ ذَلِكَ الْمَكَانِ كَانَ فِي حُكْمِهِ ، لِكَوْنِهِ تَبَعًا لَهُ(1).
وَأَمَّا مِقْدَارُ الْمَسَافَةِ الْقَرِيبَةِ ، فَقِيل : ثَلاَثَةُ أَذْرُعٍ فَمَا دُونَ ، وَقِيل : ذِرَاعٌ فَأَقَل ، وَهُوَ الَّذِي فَسَّرَهُ بِهِ الْمُحَقِّقُ كَمَال الدِّينِ بْنُ الْهُمَامِ ، وَهُوَ أَحْوَطُ(2).
و - أَنْ يَقْصِدَ الْمَرْمَى وَيَقَعَ الْحَصَى فِيهِ بِفِعْلِهِ اتِّفَاقًا فِي ذَلِكَ :
فَلَوْ ضَرَبَ شَخْصٌ يَدَهُ فَطَارَتْ الْحَصَاةُ إِلَى الْمَرْمَى وَأَصَابَتْهُ لَمْ يَصِحَّ . كَذَلِكَ لَوْ رَمَى فِي الْهَوَاءِ فَوَقَعَ الْحَجَرُ فِي الْمَرْمَى لَمْ يَصِحَّ .
__________
(1) - الهداية 2 / 176 ، وشرح اللباب ص 164 ، والبدائع 2 / 138 .
(2) - فتح القدير 2 / 176 ، وانظر شرح اللباب الصفحة السابقة .(1/349)
وَنَصُّوا عَلَى أَنَّهُ لَوْ رَمَى الْحَصَاةَ فَانْصَدَمَتْ بِالأَْرْضِ خَارِجَ الْجَمْرَةِ ، أَوْ بِمَحْمَلٍ فِي الطَّرِيقِ أَوْ ثَوْبِ إِنْسَانٍ مَثَلاً ثُمَّ ارْتَدَّتْ فَوَقَعَتْ فِي الْمَرْمَى اعْتَدَّ بِهَا لِوُقُوعِهَا فِي الْمَرْمَى بِفِعْلِهِ مِنْ غَيْرِ مُعَاوَنَةٍ . وَلَوْ حَرَّكَ صَاحِبُ الْمَحْمِل أَوِ الثَّوْبِ ْ يَعْتَدَّ بِهَا(1).
وَمَا قَالَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ(2): لَيْسَ لَهَا إِلاَّ وَجْهٌ وَاحِدٌ ، وَرَمْيُ كَثِيرِينَ مِنْ أَعْلاَهَا بَاطِلٌ ، هُوَ خِلاَفُ كَلاَمِ الشَّافِعِيِّ نَفْسِهِ ، وَنَصُّهُ فِي الأُْمِّ : وَيَرْمِي جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ مِنْ بَطْنِ الْوَادِي ، وَمِنْ حَيْثُ رَمَاهَا أَجْزَأَهُ(3).
__________
(1) -على ذلك فلا معنى لتحرج البعض من الرمي من الطابق العلوي، فإنه أولى بالجواز من هذه الصور التي ذكروها . كذلك الشأن في جمرة العقبة ، فقد كانت ترمى من بطن الوادي المواجه لها اتباعًا للوارد ، وكان كثير من الناس يرميها من فوق العقبة أي المرتفع الصخري الذي تستند إليه انظر الشرح الكبير وحاشيته 2 / 50 ، والإيضاح ص 357 - 358 ، والمجموع 8 / 146 ، والمغني 3 / 430 ، والفروع 3 / 511 و512 ، والهداية 1 / 174 ، وشرح الرسالة 1 / 478 .
(2) - كما نقل عنهم في نهاية المحتاج 2 / 434 ، ومغني المحتاج 1 / 508 .
(3) - الأم 2 / 213 .(1/350)
وَالدَّلِيل عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ ثَبَتَ رَمْيُ خَلْقٍ كَثِيرٍ فِي زَمَنِ الصَّحَابَةِ مِنْ أَعْلاَهَا ، وَلَمْ يَأْمُرُوهُمْ بِالإِْعَادَةِ ، وَلاَ أَعْلَنُوا بِالنِّدَاءِ بِذَلِكَ فِي النَّاسِ ، وَكَأَنَّ وَجْهَ اخْتِيَارِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِلرَّمْيِ مِنَ الْوَادِي أَنَّهُ يَتَوَقَّعُ الأَْذَى لِمَنْ فِي أَسْفَلِهَا إِذَا رَمَوْا مِنْ أَعْلاَهَا ، فَإِنَّهُ لاَ يَخْلُو مِنَ النَّاسِ ، فَيُصِيبُهُمُ الْحَصَى(1).
ز - تَرْتِيبُ الْجَمَرَاتِ فِي رَمْيِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ :
وَهُوَ أَنْ يَبْدَأَ بِالْجَمْرَةِ الصُّغْرَى الَّتِي تَلِي مَسْجِدَ الْخَيْفِ ، ثُمَّ الْوُسْطَى ، ثُمَّ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ .
وَهُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ ( الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ ) فَهَذَا التَّرْتِيبُ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الرَّمْيِ .
فَلَوْ عَكَسَ التَّرْتِيبَ فَبَدَأَ مِنَ الْعَقَبَةِ ثُمَّ الْوُسْطَى ثُمَّ الصُّغْرَى وَجَبَ عَلَيْهِ إِعَادَةُ رَمْيِ الْوُسْطَى وَالْعَقَبَةِ عِنْدَهُمْ لِيَتَحَقَّقَ التَّرْتِيبُ(2).
وَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ هَذَا التَّرْتِيبَ سُنَّةٌ ، إِذَا أَخَل بِهِ يُسَنُّ لَهُ الإِْعَادَةُ . وَهُوَ قَوْل الْحَسَنِ وَعَطَاءٍ(3).
__________
(1) - فتح القدير 2 / 175 .
(2) -الشرح الكبير وحاشيته 2 / 51 ، ومواهب الجليل 3 / 134 ، والإيضاح ص 405 ، ونهاية المحتاج 2 / 433 ، والمغني 3 / 452 - 453 ، والفروع 3 / 518 .
(3) - على ما اختاره أكثرهم ومحققوهم ، بدائع الصنائع 2 / 139 ، وفتح القدير 2 / 183 ، وشرح اللباب ص 167 ، وانظر رواية القول بالوجوب في المبسوط 4 / 65 - 66 ، والمغني 3 / 452 .(1/351)
اسْتَدَلُّوا بِأَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - رَتَّبَهَا كَذَلِكَ ، كَمَا ثَبَتَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رضى الله عنهما - أَنَّهُ كَانَ يَرْمِى الْجَمْرَةَ الدُّنْيَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ ، يُكَبِّرُ عَلَى إِثْرِ كُلِّ حَصَاةٍ ، ثُمَّ يَتَقَدَّمُ حَتَّى يُسْهِلَ فَيَقُومَ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ فَيَقُومُ طَوِيلاً ، وَيَدْعُو وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ ، ثُمَّ يَرْمِى الْوُسْطَى ، ثُمَّ يَأْخُذُ ذَاتَ الشِّمَالِ فَيَسْتَهِلُ وَيَقُومُ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ فَيَقُومُ طَوِيلاً وَيَدْعُو وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ ، وَيَقُومُ طَوِيلاً ، ثُمَّ يَرْمِى جَمْرَةَ ذَاتِ الْعَقَبَةِ مِنْ بَطْنِ الْوَادِى ، وَلاَ يَقِفُ عِنْدَهَا ثُمَّ يَنْصَرِفُ فَيَقُولُ هَكَذَا رَأَيْتُ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - يَفْعَلُهُ "(1)
فَاسْتَدَل بِهِ الْجُمْهُورُ عَلَى وُجُوبِ تَرْتِيبِ الْجَمَرَاتِ ، كَمَا فَعَلَهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - وَفَسَّرَهُ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ عَلَى سَبِيل السُّنِّيَّةِ ، لاَ الْوُجُوبِ ، وَاسْتَدَل لَهُمْ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَال : " مَنْ قَدَّمَ مِنْ نُسُكِهِ شَيْئًا أَوْ أَخَّرَهُ فَلاَ شَىْءَ عَلَيْهِ ".(2).
ح - وَقْتُ الرَّمْيِ وَعَدَدُهُ :
__________
(1) - صحيح البخارى برقم (1751 )
(2) - السنن الكبرى للبيهقي وفي ذيله الجوهر النقي - (ج 5 / ص 143)برقم (9913) وفيه جهالة
وقبله برقم (9912) عَنْ مُقَاتِلٍ : أَنَّهُمْ سَأَلُوا أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ عَنْ قَوْمٍ حَلَقُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يَذْبَحُوا قَالَ : أَخْطَأْتُمُ السَّنَةَ وَلاَ شَىْءَ عَلَيْكُمْ. وهو صحيح موقوف(1/352)
وَقْتُ رَمْيِ الْجِمَارِ أَرْبَعَةُ أَيَّامٍ لِمَنْ لَمْ يَتَعَجَّل هِيَ : يَوْمُ النَّحْرِ " وَثَلاَثَةُ أَيَّامٍ بَعْدَهُ ، وَتُسَمَّى " أَيَّامَ التَّشْرِيقِ " . سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لأَِنَّ لُحُومَ الْهَدَايَا تُشَرَّقُ فِيهَا ، أَيْ تُعَرَّضُ لِلشَّمْسِ لِتَجْفِيفِهَا .
أ - الرَّمْيُ يَوْمَ النَّحْرِ :
يَجِبُ فِي يَوْمِ النَّحْرِ رَمْيُ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ وَحْدَهَا فَقَطْ ، يَرْمِيهَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ .
وَأَوَّل وَقْتِ الرَّمْيِ لِيَوْمِ النَّحْرِ يَبْدَأُ مِنْ طُلُوعِ فَجْرِ يَوْمِ النَّحْرِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ(1).
وَهَذَا الْوَقْتُ عِنْدَهُمْ أَقْسَامٌ : مَا بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ إِلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقْتَ الْجَوَازِ مَعَ الإِْسَاءَةِ ، وَمَا بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ إِلَى الزَّوَال وَقْتٌ مَسْنُونٌ ، وَمَا بَعْدَ الزَّوَال إِلَى الْغُرُوبِ وَقْتُ الْجَوَازِ بِلاَ إِسَاءَةٍ ، وَاللَّيْل وَقْتُ الْجَوَازِ مَعَ الإِْسَاءَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فَقَطْ وَلاَ جَزَاءَ فِيهِ .
أَمَّا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فَيَنْتَهِي الْوَقْتُ بِغُرُوبِ الشَّمْسِ ، وَمَا بَعْدَهُ قَضَاءٌ يَلْزَمُ فِيهِ الدَّمُ .
وَتَحْدِيدُ الْوَقْتِ الْمَسْنُونِ مَأْخُوذٌ مِنْ فِعْل النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَإِنَّهُ رَمَى فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ أَوَّل وَقْتِ جَوَازِ الرَّمْيِ يَوْمُ النَّحْرِ إِذَا انْتَصَفَتْ لَيْلَةُ يَوْمِ النَّحْرِ لِمَنْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ قَبْلَهُ .
__________
(1) - الهداية 2 / 185 ، والبدائع 2 / 137 ، وشرح اللباب ص 157 - 158 ، والشرح الكبير 2 / 48 ، وشرح الرسالة بحاشية العدوي 1 / 477 و480 ، والمغني 3 / 429 والفروع 3 / 513 .(1/353)
وَهَذَا الْوَقْتُ ثَلاَثَةُ أَقْسَامٍ : وَقْتُ فَضِيلَةٍ إِلَى الزَّوَال ، وَوَقْتُ اخْتِيَارٍ إِلَى الْغُرُوبِ ، وَوَقْتُ جَوَازٍ إِلَى آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ(1).
اسْتَدَل الْحَنَفِيَّةُ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - بَعَثَهُ فِي الثَّقَل وَقَال : لاَ تَرْمُوا الْجِمَارَ حَتَّى تُصْبِحُوا(2).
فَأَثْبَتُوا جَوَازَ الرَّمْيِ ابْتِدَاءً مِنَ الْفَجْرِ بِهَذَا الْحَدِيثِ .
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَأْتِينَا أُغَيْلِمَةَ بَنِى عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَحَمَلَنَا عَلَى حُمُرَاتِنَا وَلَطَحَ أَفْخَاذَنَا ثُمَّ قَالَ :« لاَ تَرْمُوا الْجَمْرَةَ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ وَلاَ أَظُنُّ أَحَدًا يَرْمِيهَا حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ ».(3).
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، قَالَ : قَدِمْنَا عَلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنَ الْمُزْدَلِفَةِ أُغَيْلِمَةَ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ عَلَى حُمُرَاتٍ ، فَجَعَلَ يَلْطَحُ بِأَفْخَاذِنَا ، وَيَقُولُ : أُبَيْنِيَّ لاَ تَرْمُوا الْجَمْرَةَ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ.
فَأَثْبَتُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ الْوَقْتَ الْمَسْنُونَ(4).
__________
(1) -الإيضاح ص 354 ، والنهاية 2 / 429 ، والمغني والفروع ونهاية المحتاج عن الرافعي 2 / 430 ، وقوله " إلى الزوال " أي من بعد طلوع الشمس .
(2) - شرح معاني الآثار - (ج 3 / ص 260) صحيح لغيره
(3) - السنن الكبرى للبيهقي وفي ذيله الجوهر النقي - (ج 5 / ص 132)برقم (9840وبنحوه برقم (9841 ) وشرح معاني الآثار - (ج 3 / ص 260) وهو صحيح
(4) - صحيح ابن حبان - (ج 9 / ص 181)(3869) صحيح(1/354)
وَاسْتَدَل الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِحَدِيثِ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ أَرْسَلَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - بِأُمِّ سَلَمَةَ لَيْلَةَ النَّحْرِ فَرَمَتِ الْجَمْرَةَ قَبْلَ الْفَجْرِ ثُمَّ مَضَتْ فَأَفَاضَتْ وَكَانَ ذَلِكَ الْيَوْمُ الْيَوْمَ الَّذِى يَكُونُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - - تَعْنِى - عِنْدَهَا(1). .
وَجْهُ الاِسْتِدْلاَل أَنَّهُ عَلَّقَ الرَّمْيَ بِمَا قَبْل الْفَجْرِ ، وَهُوَ تَعْبِيرٌ صَالِحٌ لِجَمِيعِ اللَّيْل ، فَجَعَل النِّصْفَ ضَابِطًا لَهُ ؛ لأَِنَّهُ أَقْرَبُ إِلَى الْحَقِيقَةِ مِمَّا قَبْل النِّصْفِ .
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ : قَالَ الْبَيْهَقِيُّ : وَهَذَا إِسْنَاد صَحِيح لَا غُبَار عَلَيْهِ ، وَذَكَرَ ذَلِكَ عَقِيب حَدِيث أَبِي دَاوُدَ . قَالَ الشَّافِعِيّ : فَدَلَّ عَلَى أَنَّ خُرُوجهَا بَعْد نِصْف اللَّيْل وَقَبْل الْفَجْر لِأَنَّ رَمْيهَا كَانَ قَبْل الْفَجْر لِأَنَّهَا لَا تُصَلِّي الصُّبْح بِمَكَّة إِلَّا وَقَدْ رَمَتْ قَبْل الْفَجْر بِسَاعَةٍ ، وَوَافَقَ الشَّافِعِيَّ عَطَاءٌ وَطَاوُسٌ فَقَالَا: تَرْمِي قَبْل طُلُوع الْفَجْر ، وَقَالَ مَالِك وَغَيْره تَرْمِي بَعْد طُلُوع الْفَجْر وَلَا يَجُوز قَبْل ذَلِكَ . اِنْتَهَى كَلَام الْمُنْذِرِيِّ .
__________
(1) - سنن أبى داودبرقم (1944 ) وفي بلوغ المرام للحافظ ابن حجر برقم (757 ) وقال عقبه إسناده على شرط مسلم(1/355)
وقَالَ الْحَافِظ شَمْس الدِّين اِبْن الْقَيِّم رَحِمَهُ اللَّه : قَالَ اِبْن عَبْد الْبَرّ : كَانَ الْإِمَام أَحْمَد يَدْفَع حَدِيث أُمّ سَلَمَة هَذَا وَيُضَعِّفهُ ، قَالَ اِبْن عَبْد الْبَرّ : وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - إِنَّمَا رَمَاهَا ضُحَى ذَلِكَ الْيَوْم ، وَقَالَ جَابِر : " رَمَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الْجَمْرَةَ يَوْمَ النَّحْرِ ضُحًى ،وَأَمَّا بَعْدُ فَإِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ. أَخْرَجَهُ مُسْلِم(1)، وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ : اِخْتَلَفُوا فِي رَمْيهَا قَبْل طُلُوع الشَّمْس ، فَمَنْ رَمَاهَا قَبْل طُلُوع الشَّمْس . يُجْزِهِ ، وَعَلَيْهِ الْإِعَادَة .
__________
(1) - صحيح مسلم(3201 )(1/356)
قَالَ اِبْن عَبْد الْبَرّ(1): وَحُجَّته أَنَّ رَسُول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - رَمَاهَا بَعْد طُلُوع الشَّمْس ، فَمَنْ رَمَاهَا قَبْل طُلُوع الشَّمْس كَانَ مُخَالِفًا لِلسُّنَّةِ ، وَلَزِمَهُ إِعَادَتهَا . قَالَ : زَعَمَ اِبْن الْمُنْذِر : أَنَّهُ لَا يَعْلَم خِلَافًا فِيمَنْ رَمَاهَا قَبْل طُلُوع الشَّمْس وَبَعْد الْفَجْر أَنَّهُ يُجْزِئهُ . قَالَ : وَلَوْ عَلِمْت أَنَّ فِي ذَلِكَ خِلَافًا لَأَوْجَبْت عَلَى فَاعِل ذَلِكَ الْإِعَادَة . قَالَ : وَلَمْ يُعْلَم قَوْل الثَّوْرِيِّ ، يَعْنِي أَنَّهُ لَا يَجُوز رَمْيهَا إِلَّا بَعْد طُلُوع الشَّمْس ، وَهُوَ قَوْل مُجَاهِد وَإِبْرَاهِيم النَّخَعِيِّ . فَمُقْتَضَى مَذْهَب اِبْن الْمُنْذِر : أَنَّهُ يَجِب الْإِعَادَة عَلَى مَنْ رَمَاهَا قَبْل طُلُوع الشَّمْس ، وَحَدِيث اِبْن عَبَّاس صَرِيح فِي تَوْقِيتهَا بِطُلُوعِ الشَّمْس ، وَفَعَلَهُ - صلى الله عليه وسلم - مُتَّفَق عَلَيْهِ بَيْن الْأُمَّة ، فَهَذَا فَعَلَهُ وَهَذَا قَوْله ، وَحَدِيث أُمّ سَلَمَة قَدْ أَنْكَرَهُ الْإِمَام أَحْمَد وَضَعَّفَهُ .
وَقَالَ مَالِك : لَمْ يَبْلُغنَا أَنَّ رَسُول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - أَرْخَصَ لِأَحَدِ فِي الرَّمْي قَبْل طُلُوع الْفَجْر(2).
أَمَّا آخِرُ وَقْتِ الرَّمْيِ يَوْمَ النَّحْرِ فَهُوَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى فَجْرِ الْيَوْمِ التَّالِي ، فَإِذَا أَخَّرَهُ عَنْهُ بِلاَ عُذْرٍ لَزِمَهُ الْقَضَاءُ فِي الْيَوْمِ التَّالِي ، وَعَلَيْهِ دَمٌ لِلتَّأْخِيرِ ، وَيَمْتَدُّ وَقْتُ الْقَضَاءِ إِلَى آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ(3).
__________
(1) - التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد - (ج 7 / ص 270)
(2) - عون المعبود - (ج 4 / ص 329)
(3) -بدائع الصنائع 2 / 137 ، وشرح اللباب ص 161 .(1/357)
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ : آخِرُ وَقْتِ الرَّمْيِ إِلَى الْمَغْرِبِ ، وَمَا بَعْدَهُ قَضَاءٌ ، وَيَجِبُ الدَّمُ إِنْ أَخَّرَهُ إِلَى الْمَغْرِبِ عَلَى الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ(1).
وَآخِرُ وَقْتِ الرَّمْيِ أَدَاءً عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ يَمْتَدُّ إِلَى آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ ؛ لأَِنَّهَا كُلُّهَا أَيَّامُ رَمْيٍ(2)
وَاسْتَدَل أَبُو حَنِيفَةَ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضى الله عنهما - قَالَ سُئِلَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ رَمَيْتُ بَعْدَ مَا أَمْسَيْتُ . فَقَالَ " لاَ حَرَجَ " . قَالَ حَلَقْتُ قَبْلَ أَنْ أَنْحَرَ . قَالَ " لاَ حَرَجَ "(3).
وَحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - رَخَّصَ لِرُعَاةِ الْإِبِلِ أَنْ يَرْمُوا بِاللَّيْلِ(4).
وَهُوَ يَدُل عَلَى أَنَّ وَقْتَ الرَّمْيِ فِي اللَّيْل جَائِزٌ ، وَفَائِدَةُ الرُّخْصَةِ زَوَال الإِْسَاءَةِ عَنْهُمْ تَيْسِيرًا عَلَيْهِمْ ، وَلَوْ كَانَ الرَّمْيُ وَاجِبًا قَبْل الْمَغْرِبِ لأََلْزَمَهُمْ بِهِ ؛ لأَِنَّهُمْ يَسْتَطِيعُونَ إِنَابَةَ بَعْضِهِمْ عَلَى الرَّعْيِ .
ب - الرَّمْيُ فِي الْيَوْمِ الأَْوَّل وَالثَّانِي مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ :
__________
(1) - الشرح الكبير 2 / 50 ، وشرح الرسالة 1 / 477 .
(2) - المراجع الشافعية والحنابلة السابقة
(3) - صحيح البخارى برقم (1723 )
(4) - السنن الكبرى للبيهقي وفي ذيله الجوهر النقي - (ج 5 / ص 151)برقم (9961) والبزار برقم (5748 ) وسنن الدارقطنى برقم (2716 ) بنحوه وهو حديث حسن(1/358)
وَهُمَا الْيَوْمَانِ الثَّانِي وَالثَّالِثُ مِنْ أَيَّامِ النَّحْرِ : يَجِبُ فِي هَذَيْنِ الْيَوْمَيْنِ رَمْيُ الْجِمَارِ الثَّلاَثِ عَلَى التَّرْتِيبِ : يَرْمِي أَوَّلاً الْجَمْرَةَ الصُّغْرَى الَّتِي تَلِي مَسْجِدَ الْخَيْفِ ، ثُمَّ الْوُسْطَى ، ثُمَّ يَرْمِي جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ ، يَرْمِي كُل جَمْرَةٍ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ .
1 - يَبْدَأُ وَقْتُ الرَّمْيِ فِي الْيَوْمِ الأَْوَّل وَالثَّانِي مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ بَعْدَ الزَّوَال ، وَلاَ يَجُوزُ الرَّمْيُ فِيهِمَا قَبْل الزَّوَال عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ ، وَمِنْهُمُ الأَْئِمَّةُ الأَْرْبَعَةُ عَلَى الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ الظَّاهِرَةِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ(1).
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الأَْفْضَل أَنْ يَرْمِيَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ - أَيْ مِنْ أَيَّامِ النَّحْرِ - بَعْدَ الزَّوَال فَإِنْ رَمَى قَبْلَهُ جَازَ ، وَهُوَ قَوْل بَعْضِ الْحَنَابِلَةِ(2).
__________
(1) - بدائع الصنائع 2 / 137 - 138 والهداية وشرحها 2 / 183 ولم يذكرا غير هذه الرواية في اليوم الأول من أيام التشريق ، وقارن بشرح اللباب ص 158 - 159 ورد المحتار 2 / 253 - 254 ، وانظر الشرح الكبير 2 / 48 و50 ، وشرح الرسالة 1 / 480 ، والإيضاح ص 405 ، ونهاية المحتاج 2 / 433 ، ومغني المحتاج 1 / 507 ، والمغني 3 / 452 ، والفروع 3 / 518 .
(2) - الهداية وشرحها 2 / 184 ، والبدائع 2 / 137 - 138 ، وشرح اللباب ص 158 - 161 وفيه وفي التعليق عليه تحقيق مطول حول هذه الرواية ، وانظر النقل عن بعض الحنابلة في الفروع 3 / 518 .(1/359)
وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ : إِنْ كَانَ مِنْ قَصْدِهِ أَنْ يَتَعَجَّل فِي النَّفْرِ الأَْوَّل فَلاَ بَأْسَ بِأَنْ يَرْمِيَ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ قَبْل الزَّوَال ، وَإِنْ رَمَى بَعْدَهُ فَهُوَ أَفْضَل ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِنْ قَصْدِهِ لاَ يَجُوزُ أَنْ يَرْمِيَ إِلاَّ بَعْدَ الزَّوَال ، وَذَلِكَ لِدَفْعِ الْحَرَجِ ؛ لأَِنَّهُ إِذَا نَفَرَ بَعْدَ الزَّوَال لاَ يَصِل إِلَى مَكَّةَ إِلاَّ بِاللَّيْل فَيَحْرَجُ فِي تَحْصِيل مَوْضِعِ النُّزُول(1).
وَهَذَا رِوَايَةٌ أَيْضًا عَنْ أَحْمَدَ ، لَكِنَّهُ قَال : يَنْفِرُ بَعْدَ الزَّوَال(2).
اسْتَدَل الْجُمْهُورُ بِفِعْل النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - كَمَا ثَبَتَ عَنْهُ .
فَعَنِ وَبَرَةَ قَالَ سَأَلْتُ ابْنَ عُمَرَ - رضى الله عنهما - مَتَى أَرْمِى الْجِمَارَ ؟ قَالَ : إِذَا رَمَى إِمَامُكَ فَارْمِهْ . فَأَعَدْتُ عَلَيْهِ الْمَسْأَلَةَ ، قَالَ: كُنَّا نَتَحَيَّنُ ، فَإِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ رَمَيْنَا(3).
وَعَنْ وَبَرَةَ قَالَ سَأَلْتُ ابْنَ عُمَرَ - رضى الله عنهما - مَتَى أَرْمِى الْجِمَارَ ؟ قَالَ : إِذَا رَمَى إِمَامُكَ فَارْمِهْ . فَأَعَدْتُ عَلَيْهِ الْمَسْأَلَةَ ، قَالَ كُنَّا نَتَحَيَّنُ ، فَإِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ رَمَيْنَا .(4).
وَهَذَا بَابٌ لاَ يُعْرَفُ بِالْقِيَاسِ ، بَل بِالتَّوْقِيتِ مِنَ الشَّارِعِ ، فَلاَ يَجُوزُ الْعُدُول عَنْهُ .
وَاسْتُدِل لِلرِّوَايَةِ بِجَوَازِ الرَّمْيِ قَبْل الزَّوَال بِقِيَاسِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ عَلَى يَوْمِ النَّحْرِ ؛ لأَِنَّ الْكُل أَيَّامُ نَحْرٍ ، وَيَكُونُ فِعْلُهُ - صلى الله عليه وسلم - مَحْمُولاً عَلَى السُّنِّيَّةِ .
__________
(1) - المراجع السابقة في الفقه الحنفي .
(2) - الفروع 3 / 518 - 520 .
(3) - صحيح البخارى برقم (1746 )
(4) -صحيح البخارى برقم (1746 )(1/360)
وَاسْتُدِل لِجَوَازِ الرَّمْيِ ثَانِيَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ قَبْل الزَّوَال لِمَنْ كَانَ مِنْ قَصْدِهِ النَّفْرُ إِلَى مَكَّةَ بِمَا ذَكَرُوا أَنَّهُ لِرَفْعِ الْحَرَجِ عَنْهُ ؛ لأَِنَّهُ لاَ يَصِل إِلاَّ بِاللَّيْل ، وَقَدْ قَوَّى بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ هَذِهِ الرِّوَايَةَ تَوْفِيقًا بَيْنَ الرِّوَايَاتِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَالأَْخْذُ بِهَذَا مُنَاسِبٌ لِمَنْ خَشِيَ الزِّحَامَ وَدَعَتْهُ إِلَيْهِ الْحَاجَةُ ، لاَ سِيَّمَا فِي زَمَنِنَا .
قال في البحر العميق : " فهو قول مختار يعمل به بلا ريب ، وعليه عمل الناس ، وبه جزم بعض الشافعية حتى زعم الأسنوي أنه المذهب " .(1)
وهناك رأي لعطاء بن أبى رباح وطاووس بن كيسان بجواز الرمي قبل الزوال في الأيام كلها ، ويمكن الأخذ بهذا الرأي عند الحاجة ، كشدة الزحام "(2)
وفي فتاوى الشيخ ابن جبرين : وقد روي عن الإمام أحمد جواز الرمي قبل الزوال يوم النفر، كما ذكره في المغني و الإنصاف و غيرهما، و لعل ذلك يجوز في هذه الأزمنة لأجل الزحام الشديد الذي قد أودى بحياة بشر كثير."(3)
وفي كتاب حلية العلماء في معرفة مذاهب الفقهاء :"وقال أبو حنيفة إذا رمى منكسا أعاد فإن لم يفعل فلا شيء عليه وقال يجوز الرمي في اليوم الثالث قبل الزوال استحسانا وروى الحاكم أنه يجوز الرمي قبل الزوال في اليوم الأول والثاني أيضا والأول أشهر "(4)
__________
(1) - كذا في إرشاد الساري إلى مناسك الملا علي قاري ص 161 .
(2) - فتاوى الأزهر - (ج 9 / ص 303)
(3) - فتاوى الشيخ ابن جبرين - (ج 60 / ص 58)
(4) - حلية العلماء في معرفة مذاهب الفقهاء - (ج 3 / ص 117)(1/361)
وفي فتاوى الشبكة الإسلامية : " إن كان رمي الجمرات قبل الزوال خشية زحام شديد متيقن أو غالب الظن فلا مانع من ذلك للضرورة ،وإن لم يكن الزحام شديداً بل كان زحاماً يمكن تحمله، فلا يجزئ عنه ذلك الرمي، وعليه أن يرمي بعد الزوال(1).
"وهناك مخرج على من يرى جواز الرمي قبل الزوال في يوم النفر الأول، وهو رواية عن أبي حنيفة وأحمد، فترمي في اليوم الثاني عشر صباحاً وتنفر، وعلى هذا الرأي ليس عليك دم.والله أعلم."(2)
وفي بدائع الصنائع : .. وَلِأَنَّ لَهُ أَنْ يَنْفِرَ قَبْلَ الرَّمْيِ ، وَيَتْرُكَ الرَّمْيَ فِي هَذَا الْيَوْمِ رَأْسًا فَإِذَا جَازَ لَهُ تَرْكُ الرَّمْيِ أَصْلًا فَلَأَنْ يَجُوزَ لَهُ الرَّمْيُ قَبْلَ الزَّوَالِ أَوْلَى ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ."(3)
2 - وَأَمَّا نِهَايَةُ وَقْتِ الرَّمْيِ فِي الْيَوْمِ الأَْوَّل وَالثَّانِي مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ :
فَقَدْ ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ آخِرَ الْوَقْتِ بِغُرُوبِ شَمْسِ الْيَوْمِ الرَّابِعِ مِنْ أَيَّامِ النَّحْرِ ، وَهُوَ آخِرُ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ الثَّلاَثِ ، فَمَنْ تَرَكَ رَمْيَ يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ تَدَارَكَهُ فِيمَا يَلِيهِ مِنَ الزَّمَنِ ، وَالْمُتَدَارَكُ أَدَاءٌ عَلَى الْقَوْل الأَْصَحِّ الَّذِي اخْتَارَهُ النَّوَوِيُّ وَاقْتَضَاهُ نَصُّ الشَّافِعِيَّةِ
__________
(1) - فتاوى الشبكة الإسلامية - (ج 6 / ص 384) : مذاهب العلماء في رمي الجمرات قبل الزوال رقم الفتوى:15820تاريخ الفتوى:11 صفر 1423 وانظر فتاوى الشبكة الإسلامية - (ج 23 / ص 27) رقم الفتوى:34536
(2) - فتاوى الشبكة الإسلامية - (ج 39 / ص 382)
(3) - بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع - (ج 4 / ص 427) وفي المحيط البرهاني للإمام برهان الدين ابن مازة - (ج 2 / ص 707) وتحفة المحتاج في شرح المنهاج - (ج 15 / ص 356) والإنصاف - (ج 6 / ص 412)(1/362)
وَهَكَذَا لَوْ تَرَكَ رَمْيَ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ يَوْمَ الْعِيدِ فَالأَْصَحُّ أَنَّهُ يَتَدَارَكُهُ فِي اللَّيْل وَفِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ .
وَيُشْتَرَطُ فِيهِ التَّرْتِيبُ فَيُقَدِّمُهُ عَلَى رَمْيِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ . كَذَلِكَ أَوْجَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ التَّرْتِيبَ فِي الْقَضَاءِ . وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِوُجُوبِ تَرْتِيبِهِ فِي الْقَضَاءِ بِالنِّيَّةِ،وَإِنْ لَمْ يَتَدَارَكِ الرَّمْيَ حَتَّى غَرَبَتْ شَمْسُ الْيَوْمِ الرَّابِعِ فَقَدْ فَاتَهُ الرَّمْيُ وَعَلَيْهِ الْفِدَاءُ(1)
وَدَلِيلُهُمْ : أَنَّ أَيَّامَ التَّشْرِيقِ وَقْتٌ لِلرَّمْيِ ، فَإِذَا أَخَّرَهُ مِنْ أَوَّل وَقْتِهِ إِلَى آخِرِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ .
وَأَمَّا الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ فَقَيَّدُوا رَمْيَ كُل يَوْمٍ بِيَوْمِهِ ، ثُمَّ فَصَّلُوا : فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَنْتَهِي رَمْيُ الْيَوْمِ الثَّانِي مِنْ أَيَّامِ النَّحْرِ بِطُلُوعِ فَجْرِ الْيَوْمِ الثَّالِثِ ، وَرَمْيُ الْيَوْمِ الثَّالِثِ بِطُلُوعِ الْفَجْرِ مِنَ الْيَوْمِ الرَّابِعِ . فَمَنْ أَخَّرَ الرَّمْيَ إِلَى مَا بَعْدَ وَقْتِهِ فَعَلَيْهِ قَضَاؤُهُ ، وَعَلَيْهِ دَمٌ عِنْدَهُمْ(2).
وَالدَّلِيل عَلَى جَوَازِ الرَّمْيِ بَعْدَ مَغْرِبِ نَهَارِ الرَّمْيِ حَدِيثُ الإِْذْنِ لِلرِّعَاءِ بِالرَّمْيِ لَيْلاً .
__________
(1) - الأم 2 / 214 ، والإيضاح ص 407 ، ونهاية المحتاج 2 / 435 ، 436 ومغني المحتاج 1 / 508 - 509 ، والمغني 3 / 455 - 456 ، والفروع 3 / 518 - 519 .
(2) - شرح اللباب ص 161 ، وانظر المبسوط 4 / 68 ولفظه : " الليالي هنا تابعة للأيام الماضية " .(1/363)
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَنْتَهِي الأَْدَاءُ إِلَى غُرُوبِ كُل يَوْمٍ ، وَمَا بَعْدَهُ قَضَاءٌ لَهُ ، وَيَفُوتُ الرَّمْيُ بِغُرُوبِ الرَّابِعِ ، وَيَلْزَمُهُ دَمٌ فِي تَرْكِ حَصَاةٍ أَوْ فِي تَرْكِ الْجَمِيعِ ، وَكَذَا يَلْزَمُهُ دَمٌ إِذَا أَخَّرَ شَيْئًا مِنْهَا إِلَى اللَّيْل(1).
ج - الرَّمْيُ ثَالِثَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ :
يَجِبُ هَذَا الرَّمْيُ عَلَى مَنْ تَأَخَّرَ وَلَمْ يَنْفِرْ مِنْ مِنًى بَعْدَ رَمْيِ ثَانِيَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ عَلَى مَا نُفَصِّلُهُ وَهَذَا الرَّمْيُ آخِرُ مَنَاسِكِ مِنًى .
وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الرَّمْيَ فِي هَذَا الْيَوْمِ بَعْدَ الزَّوَال رَمْيٌ فِي الْوَقْتِ ، كَمَا رَمَى فِي الْيَوْمَيْنِ قَبْلَهُ ، اقْتِدَاءً بِفِعْلِهِ - صلى الله عليه وسلم - .
وَاخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ تَقْدِيمِهِ :
فَذَهَبَ الأَْئِمَّةُ الثَّلاَثَةُ وَالصَّاحِبَانِ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ الرَّمْيُ قَبْل الزَّوَال ، اسْتِدْلاَلاً بِفِعْل النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَقِيَاسًا لِرَمْيِ هَذَا الْيَوْمِ عَلَى الْيَوْمَيْنِ السَّابِقَيْنِ ، فَكَمَا لاَ يَصِحُّ الرَّمْيُ فِيهِمَا قَبْل الزَّوَال ، كَذَلِكَ لاَ يَصِحُّ قَبْل زَوَال الْيَوْمِ الأَْخِيرِ(2).
وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ : الْوَقْتُ الْمُسْتَحَبُّ لِلرَّمْيِ فِي هَذَا الْيَوْمِ بَعْدَ الزَّوَال ، وَيَجُوزُ أَنْ يُقَدَّمَ الرَّمْيُ فِي هَذَا الْيَوْمِ قَبْل الزَّوَال ، بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ .
__________
(1) - الشرح الكبير 2 / 51 ، وانظر شرح الرسالة بحاشيته 1 / 477 و480 - 481 .
(2) -المراجع السابقة في رمي أيام التشريق .(1/364)
قَال فِي الْهِدَايَةِ : وَمَذْهَبُهُ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ؛ وَلأَِنَّهُ لَمَّا ظَهَرَ أَثَرُ التَّخْفِيفِ فِي هَذَا الْيَوْمِ فِي حَقِّ التَّرْكِ ، فَلأََنْ يَظْهَرَ فِي جَوَازِهِ - أَيِ الرَّمْيِ - فِي الأَْوْقَاتِ كُلِّهَا أَوْلَى(1).
وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ آخِرَ وَقْتِ الرَّمْيِ فِي هَذَا الْيَوْمِ غُرُوبُ الشَّمْسِ ، كَمَا اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ وَقْتَ الرَّمْيِ لِهَذَا الْيَوْمِ وَلِلأَْيَّامِ الْمَاضِيَةِ لَوْ أَخَّرَهُ أَوْ شَيْئًا مِنْهُ يَخْرُجُ بِغُرُوبِ شَمْسِ الْيَوْمِ الرَّابِعِ ، فَلاَ قَضَاءَ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ ، وَيَجِبُ فِي تَرْكِهِ الْفِدَاءُ . وَذَلِكَ " لِخُرُوجِ وَقْتِ الْمَنَاسِكِ بِغُرُوبِ شَمْسِهِ(2).
شُرُوطُ الرَّمْيِ :
يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ رَمْيِ الْجِمَارِ مَا يَلِي :
أ - أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ قَذْفٌ لِلْحَصَاةِ وَلَوْ خَفِيفًا .
فَكَيْفَمَا حَصَل أَجْزَأَهُ ، حَتَّى قَال النَّوَوِيُّ : وَلاَ يُشْتَرَطُ وُقُوفُ الرَّامِي خَارِجَ الْمَرْمَى ، فَلَوْ وَقَفَ فِي طَرَفِ الْمَرْمَى وَرَمَى إِلَى طَرَفِهِ الآْخَرِ أَجْزَأَهُ " .
__________
(1) - الهداية 2 / 185 ، وانظر الاستدلال بأوسع من هذا في البدائع 2 / 138 ، والفتوى في المذهب الحنفي على قول الإمام ، وقد اقتصر عليه صاحب البدائع في بيانه صفة الرمي ص 159 .
(2) - كما قال الرملي في نهاية المحتاج 2 / 433 ، ووقع في شرح الكنز للهروي ص ( 74 ) التعبير بقوله : " قبل الزوال بعد طلوع الشمس " وهو موهم خلاف المعروف في المذهب الحنفي : أنه يبدأ الرمي آخر يوم بعد الفجر .(1/365)
وَلَوْ طَرَحَ الْحَصَيَاتِ طَرْحًا أَجْزَأَهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ ؛ لأَِنَّ الرَّمْيَ قَدْ وُجِدَ بِهَذَا الطَّرْحِ ، إِلاَّ أَنَّهُ رَمْيٌ خَفِيفٌ ، فَيُجْزِئُ مَعَ الإِْسَاءَةِ . وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُجْزِئُهُ الطَّرْحُ بَتَاتًا .
أَمَّا لَوْ وَضَعَهَا وَضْعًا فَلاَ يَصِحُّ اتِّفَاقًا ؛ لأَِنَّهُ لَيْسَ بِرَمْيٍ .
ب - الْعَدَدُ الْمَخْصُوصُ :
وَهُوَ سَبْعُ حَصَيَاتٍ لِكُل جَمْرَةٍ ، حَتَّى لَوْ تَرَكَ رَمْيَ حَصَاةٍ وَاحِدَةٍ كَانَ كَمَنْ تَرَكَ السَّبْعَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ ، وَعِنْدَ الْجُمْهُورِ تَيْسِيرٌ بِقَبُول صَدَقَةٍ فِي تَرْكِ الْقَلِيل مِنَ الْحَصَيَاتِ ، اخْتَلَفَتْ فِيهِ اجْتِهَادَاتُهُمْ
وَاجِبُ الرَّمْيِ :
يَجِبُ تَرْتِيبُ رَمْيِ يَوْمِ النَّحْرِ بِحَسَبِ تَرْتِيبِ أَعْمَال يَوْمِ النَّحْرِ ، وَهِيَ هَكَذَا : رَمْيُ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ ، فَالذَّبْحُ ، فَالْحَلْقُ ، فَطَوَافُ الإِْفَاضَةِ ، وَذَلِكَ عِنْدَ الْجُمْهُورِ ، خِلاَفًا لِلشَّافِعِيَّةِ فَإِنَّ تَرْتِيبَهَا سُنَّةٌ عِنْدَهُمْ ، وَعِنْدَ الْجُمْهُورِ تَفْصِيلٌ وَاخْتِلاَفٌ فِي كَيْفِيَّةِ هَذَا التَّرْتِيبِ
سُنَنُ الرَّمْيِ :
يُسَنُّ فِي الرَّمْيِ مَا يَلِي :
أ - أَنْ يَكُونَ بَيْنَ الرَّامِي وَبَيْنَ الْجَمْرَةِ خَمْسَةُ أَذْرُعٍ فَأَكْثَرُ ، كَمَا نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ ؛ لأَِنَّ مَا دُونَ ذَلِكَ يَكُونُ طَرْحًا ، وَلَوْ طَرَحَهَا طَرْحًا أَجْزَأَهُ إِلاَّ أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلسُّنَّةِ .
ب - الْمُوَالاَةُ بَيْنَ الرَّمَيَاتِ السَّبْعِ ، بِحَيْثُ لاَ يَزِيدُ الْفَصْل بَيْنَهَا عَنِ الذِّكْرِ الْوَارِدِ .
ج - لَقْطُ الْحَصَيَاتِ دُونَ كَسْرِهَا ، وَلَهُ أَخْذُهَا مِنْ مَنْزِلِهِ بِمِنًى .(1/366)
د - طَهَارَةُ الْحَصَيَاتِ ، فَيُكْرَهُ الرَّمْيُ بِحَصًى نَجِسٍ ، وَيُنْدَبُ إِعَادَتُهُ بِطَاهِرٍ ، وَفِي وَجْهٍ اخْتَارَهُ بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ : لاَ يُجْزِئُ الرَّمْيُ بِنَجِسٍ ، وَيَجِبُ إِعَادَتُهُ بِطَاهِرٍ ، لَكِنَّ الصَّحِيحَ فِي مَذْهَبِهِمْ الإِْجْزَاءُ مَعَ الْكَرَاهَةِ(1).
هـ - أَلاَّ يَكُونَ الْحَصَى مِمَّا رُمِيَ بِهِ ، فَلَوْ خَالَفَ وَرَمَى بِهَا كُرِهَ ، سَوَاءٌ كَانَ مِمَّا رَمَى بِهِ هُوَ أَوْ غَيْرُهُ ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ .
وَقَال بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ(2): لاَ يُجْزِئُ ، وَمَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ : إِنْ رَمَى بِحَجَرٍ أَخَذَهُ مِنَ الْمَرْمَى لَمْ يَجْزِهِ(3).
اسْتَدَل الْجُمْهُورُ بِعُمُومِ لَفْظِ الْحَصَى الْوَارِدِ فِي الأَْحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي تَعْلِيمِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - الرَّمْيَ ، وَذَلِكَ يُفِيدُ صِحَّةَ الرَّمْيِ بِمَا رُمِيَ بِهِ وَلَوْ أُخِذَ مِنَ الْمَرْمَى .
وَاسْتَدَل الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَخَذَ مِنْ غَيْرِ الْمَرْمَى ، وَقَال : خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ وَلأَِنَّهُ لَوْ جَازَ الرَّمْيُ بِمَا رُمِيَ بِهِ ، لَمَا احْتَاجَ أَحَدٌ إِلَى أَخْذِ الْحَصَى مِنْ غَيْرِ مَكَانِهِ وَلاَ تَكْسِيرِهِ ، وَالإِْجْمَاعُ عَلَى خِلاَفِهِ .
__________
(1) - الفروع وحاشية تصحيح الفروع 3 / 511 .
(2) - وهو اللخمي كما نقل عنه الحطاب 3 / 139 ، وجعله الكاساني في البدائع 2 / 156 قول مالك : وهو خلاف المنصوص في المصادر أنه يكره ، وانظر الشرح الكبير 2 / 54 .
(3) - انظر المغني 3 / 426 ، والفروع 3 / 511 .(1/367)
و - التَّكْبِيرُ مَعَ كُل حَصَاةٍ ، وَيَقْطَعُ التَّلْبِيَةَ مَعَ أَوَّل حَصَاةٍ يَرْمِي بِهَا جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ يَوْمَ النَّحْرِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ(1).وَيُنْظَرُ الْخِلاَفُ وَالتَّفْصِيل فِي بَحْثِ : ( تَلْبِيَة )(2).
ز - الْوُقُوفُ لِلدُّعَاءِ : وَذَلِكَ إِثْرَ كُل رَمْيٍ بَعْدَهُ رَمْيٌ آخَرُ ، فَيَقِفُ بَيْنَ الرَّمْيَيْنِ مُدَّةً وَيُطِيل الْوُقُوفَ يَدْعُو ، وَقُدِّرَ ذَلِكَ بِمُدَّةِ ثَلاَثَةِ أَرْبَاعِ الْجُزْءِ مِنَ الْقُرْآنِ ، وَأَدْنَاهُ قَدْرُ عِشْرِينَ آيَةً . فَيُسَنُّ أَنْ يَقِفَ بَعْدَ رَمْيِ الْجَمْرَةِ الصُّغْرَى وَبَعْدَ الْوُسْطَى ، لأَِنَّهُ فِي وَسَطِ الْعِبَادَةِ ، فَيَأْتِي بِالدُّعَاءِ فِيهِ ، وَكُل رَمْيٍ لَيْسَ بَعْدَهُ رَمْيٌ لاَ يَقِفُ فِيهِ لِلدُّعَاءِ ؛ لأَِنَّ الْعِبَادَةَ قَدِ انْتَهَتْ ، فَلاَ يَقِفُ بَعْدَ رَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ يَوْمَ النَّحْرِ ، وَلاَ بَعْدَ رَمْيِهَا أَيَّامَ التَّشْرِيقِ أَيْضًا .
وَدَلِيل هَذِهِ السُّنَّةِ فِعْل النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - كَمَا ثَبَتَ عَنْهُ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ السَّابِقِ(3).
مَكْرُوهَاتُ الرَّمْيِ :
يُكْرَهُ فِي الرَّمْيِ مَا يَلِي :
__________
(1) - الهداية 2 / 175 ، والبدائع 2 / 156 ، والأم 2 / 205 ، ومغني المحتاج 1 / 501 ، والفروع 3 / 347 ، والمغني 3 / 30 .
(2) - وفي الموسوعة الفقهية الكويتية - (ج 13 / ص 260).
(3) - الهداية وشروحها 2 / 174 - 176 ، 183 - 185 ، وشرح اللباب 158 - 159 ، 162 - 163 ، ونهاية المحتاج 2 / 426 - 434 ، ومغني المحتاج 1 / 500 ، و501 و506 ، و508 ، وشرح الرسالة بحاشية العدوي 1 / 478 ، وعبر عنها بشروط الكمال ، وأدرج بعض المندوبات فيها وانظر ص 480 ، والمغني 3 / 426 ، 450 .(1/368)
أ - الرَّمْيُ بَعْدَ الْمَغْرِبِ فِي يَوْمِ النَّحْرِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ ، وَبَعْدَ زَوَالِهِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ ، قَال السَّرَخْسِيُّ : فَفِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ وَقْتُهُ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ ، وَلَكِنَّهُ لَوْ رَمَى بِاللَّيْل لاَ يَلْزَمُهُ شَيْءٌ(1)" .
ب - الرَّمْيُ بِالْحَجَرِ الْكَبِيرِ ، سَوَاءٌ رَمَى بِهِ كَبِيرًا ، أَوْ رَمَى بِهِ مَكْسُورًا .
ج - الرَّمْيُ بِحَصَى الْمَسْجِدِ ، فَلاَ يَأْخُذُهُ مِنْ مَسْجِدِ الْخَيْفِ ؛ لأَِنَّ الْحَصَى تَابِعٌ لِلْمَسْجِدِ ، فَلاَ يَخْرُجُ مِنْهُ .
د - الرَّمْيُ بِالْحَصَى النَّجِسِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ ، وَقِيل : لاَ يُجْزِئُ الرَّمْيُ بِالْحَصَى النَّجِسِ
هـ - الزِّيَادَةُ عَلَى الْعَدَدِ ، أَيِ السَّبْعِ ، فِي رَمْيِ كُل جَمْرَةٍ مِنَ الْجَمَرَاتِ(2).
صِفَةُ الرَّمْيِ الْمُسْتَحَبَّةُ :
__________
(1) -المبسوط 4 / 64 ، شرح اللباب ص 167 ، ومواهب الجليل 3 / 136 ، وقال الشلبي في حاشيته على الزيلعي : 2 / 31 : " ولو أخر الرمي إلى الليل رماها ولا شيء عليه " .
(2) - انظر عن مكروهات الرمي في شرح اللباب ص 167 ، وانظر الأم 2 / 213 - 214 .(1/369)
يَسْتَعِدُّ الْحَاجُّ لِرَمْيِ الْجَمَرَاتِ فَيَرْفَعُ الْحَصَى قَبْل الْوُصُول إِلَى الْجَمْرَةِ ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَرْفَعَ مِنَ الْمُزْدَلِفَةِ سَبْعَ حَصَيَاتٍ مِثْل حَصَى الْخَذْفِ ، فَوْقَ الْحِمَّصَةِ وَدُونَ الْبُنْدُقَةِ لِيَرْمِيَ بِهَا جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ فِي الْيَوْمِ الأَْوَّل مِنْ أَيَّامِ الرَّمْيِ ، وَهُوَ يَوْمُ عِيدِ النَّحْرِ ، وَإِنْ رَفَعَ سَبْعِينَ حَصَاةً مِنَ الْمُزْدَلِفَةِ أَوْ مِنْ طَرِيقِ مُزْدَلِفَةَ فَهُوَ جَائِزٌ ، وَقِيل : مُسْتَحَبٌّ ، وَهَذَا هُوَ عَدَدُ الْحَصَى الَّذِي يُرْمَى فِي كُل أَيَّامِ الرَّمْيِ ، وَيَجُوزُ أَخْذُ الْحَصَيَاتِ مِنْ كُل مَوْضِعٍ بِلاَ كَرَاهَةٍ ، إِلاَّ مِنْ عِنْدِ الْجَمْرَةِ ، فَإِنَّهُ مَكْرُوهٌ ، وَيُكْرَهُ أَخْذُهَا مِنْ مَسْجِدِ الْخَيْفِ ، لأَِنَّ حَصَى الْمَسْجِدِ تَابِعٌ لَهُ فَيَصِيرُ مُحْتَرَمًا ، وَيُنْدَبُ غَسْل الْحَصَى مُطْلَقًا ، وَلَوْ لَمْ تَكُنْ نَجِسَةً عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ ، وَرِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ .(1/370)
ثُمَّ يَأْتِي الْحَاجُّ مِنًى يَوْمَ الْعَاشِرِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ وَهُوَ يَوْمُ النَّحْرِ ، وَعَلَيْهِ فِي هَذَا الْيَوْمِ أَرْبَعَةُ أَعْمَالٍ عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ : رَمْيُ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ ، ثُمَّ ذَبْحُ الْهَدْيِ وَهُوَ وَاجِبٌ عَلَى الْمُتَمَتِّعِ وَالْقَارِنِ ، ثُمَّ يَحْلِقُ أَوْ يُقَصِّرُ ، ثُمَّ يَطُوفُ طَوَافَ الإِْفَاضَةِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَدَّمَ السَّعْيَ عِنْدَ طَوَافِ الْقُدُومِ فَإِنَّهُ يَسْعَى بَعْدَ طَوَافِ الإِْفَاضَةِ ، وَيَتَوَجَّهُ الْحَاجُّ فَوْرَ وُصُولِهِ مِنًى إِلَى جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ ، وَتَقَعُ آخِرَ مِنًى تُجَاهَ مَكَّةَ ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَشْتَغِل بِشَيْءٍ آخَرَ قَبْل رَمْيِهَا ، فَيَرْمِيهَا بَعْدَ دُخُول وَقْتِهَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ مِنْ أَيِّ جِهَةٍ يَرْمِيهَا وَاحِدَةً فَوَاحِدَةً يُكَبِّرُ مَعَ كُل حَصَاةٍ وَيَدْعُو ، وَكَيْفَمَا أَمْسَكَ الْحَصَاةَ وَرَمَاهَا صَحَّ ، دُونَ تَقْيِيدٍ بِهَيْئَةٍ ، لَكِنْ لاَ يَجُوزُ وَضْعُ الْحَصَاةِ فِي الْمَرْمَى وَضْعًا ، وَيُسَنُّ أَنْ يَرْمِيَ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ ، وَيَمْتَدُّ وَقْتُ السُّنَّةِ إِلَى الزَّوَال ، وَيُبَاحُ بَعْدَهُ إِلَى الْمَغْرِبِ .(1/371)
أَمَّا كَيْفِيَّةُ الرَّمْيِ فَهِيَ أَنْ يَبْعُدَ عَنِ الْجَمْرَةِ الَّتِي يَجْتَمِعُ فِيهَا الْحَصَى قَدْرَ خَمْسَةِ أَذْرُعٍ فَأَكْثَرَ عَلَى مَا اخْتَارَهُ الْحَنَفِيَّةُ ، وَيُمْسِكَ بِالْحَصَاةِ بِطَرَفَيْ إِبْهَامِ وَمُسَبِّحَةِ يَدِهِ الْيُمْنَى ، وَيَرْفَعَ يَدَهُ حَتَّى يُرَى بَيَاضُ إِبِطَيْهِ ، وَيَقْذِفَهَا وَيُكَبِّرَ . وَقِيل : يَضَعُ الْحَصَاةَ عَلَى ظَهْرِ إِبْهَامِهِ الْيُمْنَى وَيَسْتَعِينُ بِالْمُسَبِّحَةِ ، وَقِيل : يُسْتَحَبُّ أَنْ يَضَعَ الْحَصَاةَ بَيْنَ سَبَّابَتَيْ يَدَيْهِ الْيُمْنَى وَالْيُسْرَى وَيَرْمِيَ بِهَا(1).
أَمَّا صِيغَةُ التَّكْبِيرِ فَقَدْ جَاءَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ رَمَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ مِنْ بَطْنِ الْوَادِى بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ. قَالَ فَقِيلَ لَهُ إِنَّ أُنَاسًا يَرْمُونَهَا مِنْ فَوْقِهَا. فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ هَذَا وَالَّذِى لاَ إِلَهَ غَيْرُهُ مَقَامُ الَّذِى أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ..(2)
فَيَجُوزُ بِأَيِّ صِيغَةٍ مِنْ صِيَغِ التَّكْبِيرِ .
__________
(1) - ولتفصيل من أين يلتقط الحصى ، تنظر الموسوعة 5 / 218 .
(2) - صحيح مسلم برقم ( 3191 ) وانظر فتح القدير 2 / 174 .(1/372)
وَاخْتَارَ الْعُلَمَاءُ نَحْوَ هَذِهِ الصِّيغَةِ : بِسْمِ اللَّهِ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ ، رَغْمًا لِلشَّيْطَانِ وَرِضًا لِلرَّحْمَنِ ، اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ حَجًّا مَبْرُورًا وَسَعْيًا مَشْكُورًا ، وَذَنْبًا مَغْفُورًا وَالْمُسْتَنَدُ فِي ذَلِكَ مَا وَرَدَ مِنَ الآْثَارِ الْكَثِيرَةِ عَنِ الصَّحَابَةِ(1).
وَلَوْ رَمَى وَتَرَكَ الذِّكْرَ فَلَمْ يُكَبِّرْ وَلَمْ يَأْتِ بِأَيِّ ذِكْرٍ جَازَ ، وَقَدْ أَسَاءَ لِتَرْكِهِ السُّنَّةَ .
وَيَقْطَعُ التَّلْبِيَةَ مَعَ أَوَّل حَصَاةٍ يَرْمِيهَا وَيَشْتَغِل بِالتَّكْبِيرِ .
وَيَنْصَرِفُ مِنَ الرَّمْيِ وَهُوَ يَقُول : اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ حَجًّا مَبْرُورًا ، وَسَعْيًا مَشْكُورًا وَذَنْبًا مَغْفُورًا .
وَوَقْتُ الرَّمْيِ فِي هَذِهِ الأَْيَّامِ بَعْدَ الزَّوَال ، وَيُنْدَبُ تَقْدِيمُ الرَّمْيِ قَبْل صَلاَةِ الظُّهْرِ فِي الْمَذَاهِبِ الثَّلاَثَةِ ، وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يُقَدِّمُ صَلاَةَ الظُّهْرِ عَلَى الرَّمْيِ(2).
وَقَدْ بَحَثُوا فِي أَفْضَلِيَّةِ الرُّكُوبِ أَوِ الْمَشْيِ فِي رَمْيِ الْجِمَارِ ، وَاخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ وَكَانُوا يَرْكَبُونَ الدَّوَابَّ فَكَانَ الرَّمْيُ لِلرَّاكِبِ مُمْكِنًا .
__________
(1) - انظر طائفة منها في المغني 3 / 427 - 428 ، وقال الحنفية : " لو سبح مكان التكبير أو ذكر الله أو حمده أو وحده أجزأه ، لأن المقصود من تكبيره صلى الله عليه وسلم الذكر " . الهداية 2 / 75 ، وانظر تحقيق الكمال بن الهمام وتعليقه على هذا في شرحه عليها .
(3) الشرح الكبير 2 / 52 ، والمجموع 8 / 179 ( وقارن بمغني المحتاج 1 / 507 ) ، والفروع 8 / 518 ، ولباب المناسك بشرحه ص 162 .
(2) - الشرح الكبير 2 / 52 ، والمجموع 8 / 179 ( وقارن بمغني المحتاج 1 / 507 ) ، والفروع 8 / 518 ، ولباب المناسك بشرحه ص 162 .(1/373)
فَذَهَبَ أَبُو يُوسُفَ وَهُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ يَرْمِي جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ رَاكِبًا وَغَيْرَهَا مَاشِيًا فِي جَمِيعِ أَيَّامِ الرَّمْيِ ، وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ : الرَّمْيُ كُلُّهُ رَاكِبًا أَفْضَل .
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يَرْمِي جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ يَوْمَ النَّحْرِ كَيْفَمَا كَانَ وَغَيْرَهَا مَاشِيًا .
وَقَال الشَّافِعِيُّ : يَرْمِي جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ يَوْمَ النَّحْرِ رَاكِبًا ، وَكَذَلِكَ يَرْمِيهَا يَوْمَ النَّفْرِ رَاكِبًا ، وَيَمْشِي فِي الْيَوْمَيْنِ الآْخَرَيْنِ أَحَبُّ إِلَيَّ " ، وَاخْتَارَ صَاحِبُ الْفَتَاوَى الظَّهِيرِيَّةَ الْحَنَفِيُّ اسْتِحْبَابَ الْمَشْيِ إِلَى الْجِمَارِ مُطْلَقًا ، وَهُوَ الأَْكْثَرُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ(1).
عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ كَانَ يَأْتِي الْجِمَارَ فِي الأَْيَّامِ الثَّلاَثَةِ بَعْدَ يَوْمِ النَّحْرِ مَاشِيًا ذَاهِبًا وَرَاجِعًا ، وَيُخْبِرُ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَفْعَل ذَلِكَ .
ثُمَّ إِذَا فَرَغَ مِنَ الرَّمْيِ ثَانِيَ أَيَّامِ الْعِيدِ وَهُوَ أَوَّل أَيَّامِ التَّشْرِيقِ رَجَعَ إِلَى مَنْزِلِهِ فِي مِنًى ، وَيَبِيتُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ فِيهَا ، فَإِذَا كَانَ مِنَ الْغَدِ وَهُوَ ثَانِيَ عَشَرَ ذِي الْحِجَّةِ ، وَثَالِثُ أَيَّامِ النَّحْرِ ، وَثَانِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ رَمَى الْجِمَارَ الثَّلاَثَةَ بَعْدَ الزَّوَال عَلَى كَيْفِيَّةِ رَمْيِ الْيَوْمِ السَّابِقِ .
__________
(1) - شرح اللباب ص163 ، الأم 2 / 213 ، وانظر المجموع 8 / 183 ، الفروع 3 / 512 ، وقارن بالمغني 3 / 428 .(1/374)
ثُمَّ إِذَا رَمَى فِي هَذَا الْيَوْمِ فَلَهُ أَنْ يَنْفِرَ أَيْ يَرْحَل ، بِلاَ كَرَاهَةٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَمَنْ تَعَجَّل فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ } (سورة البقرة / 203 ) .
وَيَسْقُطُ عَنْهُ رَمْيُ الْيَوْمِ الرَّابِعِ ، لِذَلِكَ يُسَمَّى هَذَا الْيَوْمُ يَوْمَ النَّفْرِ الأَْوَّل .
وَإِنْ لَمْ يَنْفِرْ لَزِمَهُ رَمْيُ الْيَوْمِ الرَّابِعِ ، وَهُوَ الثَّالِثَ عَشَرَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ ، ثَالِثُ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ ، يَرْمِي فِيهِ الْجَمَرَاتِ الثَّلاَثَ عَلَى الْكَيْفِيَّةِ السَّابِقَةِ فِي ثَانِي يَوْمٍ أَيْضًا ، لَكِنْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يَصِحُّ الرَّمْيُ فِي هَذَا الْيَوْمِ مِنَ الْفَجْرِ مَعَ الْكَرَاهَةِ لِمُخَالَفَتِهِ السُّنَّةَ ، وَيَنْتَهِي وَقْتُ الرَّمْيِ فِي هَذَا الْيَوْمِ بِغُرُوبِ الشَّمْسِ أَدَاءً وَقَضَاءً ، فَإِنْ لَمْ يَرْمِ حَتَّى غَرَبَتْ شَمْسُ الْيَوْمِ فَاتَ الرَّمْيُ وَتَعَيَّنَ الدَّمُ فِدَاءً عَنِ الْوَاجِبِ الَّذِي تَرَكَهُ ، وَيَرْحَل بَعْدَ الرَّمْيِ ، وَلاَ يُسَنُّ الْمُكْثُ فِي مِنًى بَعْدَهُ ، وَيُسَمَّى هَذَا النَّفْرَ الثَّانِيَ ، وَهَذَا الْيَوْمُ يَوْمَ النَّفْرِ الثَّانِي .
وَالأَْفْضَل أَنْ يَتَأَخَّرَ بِمِنًى وَيَرْمِيَ الْيَوْمَ الرَّابِعَ ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى } (سورة البقرة / 203 ) وَاتِّبَاعًا لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - تَكْمِيلاً لِلْعِبَادَةِ .(1/375)
أَمَّا مَا وَرَدَ مِنْ رُكُوبِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فِي الرَّمْيِ فَأُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّهُ " مَحْمُولٌ عَلَى رَمْيٍ لاَ رَمْيَ بَعْدَهُ ، أَوْ عَلَى التَّعْلِيمِ لِيَرَاهُ النَّاسُ فَيَتَعَلَّمُوا مِنْهُ مَنَاسِكَ الْحَجِّ " وَالْجَوَابُ الثَّانِي أَوْلَى وَأَقْوَى ، يَدُل عَلَيْهِ قَوْلُهُ فِي الْيَوْمِ الأَْوَّل وَهُوَ رَاكِبٌ : لِتَأْخُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ "
آثَارُ الرَّمْيِ :
يَتَرَتَّبُ عَلَى رَمْيِ الْجِمَارِ أَحْكَامٌ هَامَّةٌ فِي الْحَجِّ ، سِوَى بَرَاءَةِ الذِّمَّةِ مِنْ وُجُوبِهِ ، وَهَذِهِ الآْثَارُ هِيَ :
أ - أَثَرُ رَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ : يَتَرَتَّبُ عَلَى رَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ يَوْمَ النَّحْرِ التَّحَلُّل الأَْوَّل مِنْ إِحْرَامِ الْحَجِّ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ ، خِلاَفًا لِلْحَنَفِيَّةِ الَّذِينَ قَالُوا : إِنَّ التَّحَلُّل الأَْوَّل يَكُونُ بِالْحَلْقِ ، وَعَلَى تَفْصِيلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ
ب - أَثَرُ رَمْيِ الْجِمَارِ يَوْمَيِ التَّشْرِيقِ : النَّفْرُ الأَْوَّل : إِذَا رَمَى الْحَاجُّ الْجِمَارَ أَوَّل وَثَانِيَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَنْفِرَ ، أَيْ يَرْحَل إِنْ أَحَبَّ التَّعَجُّل فِي الاِنْصِرَافِ مِنْ مِنًى ، هَذَا هُوَ النَّفْرُ الأَْوَّل ، وَبِهَذَا النَّفْرِ يَسْقُطُ رَمْيُ الْيَوْمِ الأَْخِيرِ ،
وَهُوَ قَوْل عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَمَنْ تَعَجَّل فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى } (سورة البقرة / 203 ) .(1/376)
و عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِى يَعْمَرَ الدِّيلِىِّ قَالَ أَتَيْتُ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ بِعَرَفَةَ فَجَاءَ نَاسٌ - أَوْ نَفَرٌ - مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ فَأَمَرُوا رَجُلاً فَنَادَى رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَيْفَ الْحَجُّ فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - رَجُلاً فَنَادَى " الْحَجُّ الْحَجُّ يَوْمُ عَرَفَةَ مَنْ جَاءَ قَبْلَ صَلاَةِ الصُّبْحِ مِنْ لَيْلَةِ جَمْعٍ فَتَمَّ حَجُّهُ أَيَّامُ مِنًى ثَلاَثَةٌ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِى يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ ". قَالَ ثُمَّ أَرْدَفَ رَجُلاً خَلْفَهُ فَجَعَلَ يُنَادِى بِذَلِكَ.(1).
ج - أَثَرُ الرَّمْيِ ثَالِثَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ : النَّفْرُ الثَّانِي : إِذَا رَمَى الْحَاجُّ الْجِمَارَ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ انْصَرَفَ مِنْ مِنًى إِلَى مَكَّةَ ، وَلاَ يُقِيمُ بِمِنًى بَعْدَ رَمْيِهِ هَذَا الْيَوْمَ ، وَيُسَمَّى هَذَا النَّفْرُ النَّفْرَ الثَّانِيَ ، وَالْيَوْمُ يَوْمَ النَّفْرِ الثَّانِي ، وَهُوَ آخِرُ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ ، وَبِهِ يَنْتَهِي وَقْتُ رَمْيِ الْجِمَارِ ، وَيَفُوتُ عَلَى مَنْ لاَ يَتَدَارَكُهُ قَبْل غُرُوبِ شَمْسِ هَذَا الْيَوْمِ ، وَبِهِ تَنْتَهِي مَنَاسِكُ مِنًى .
حُكْمُ تَرْكِ الرَّمْيِ :
يَلْزَمُ مَنْ تَرَكَ الرَّمْيَ بِغَيْرِ عُذْرٍ الإِْثْمُ وَوُجُوبُ الدَّمِ ، وَإِنْ تَرَكَهُ بِعُذْرٍ لاَ يَأْثَمُ ، لَكِنْ لاَ يَسْقُطُ الدَّمُ عَنْهُ ، وَلَوْ تَرَكَ حَصَاةً وَاحِدَةً عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ ، وَيُجْزِئُهُ شَاةٌ عَنْ تَرْكِ الرَّمْيِ كُلِّهِ ، أَوْ عَنْ تَرْكِ رَمْيِ يَوْمٍ .
__________
(1) - سنن أبى داود برقم (1951 )صحيح(1/377)
وَتَسَامَحَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي حَصَاةٍ وَحَصَاتَيْنِ فَجَعَلُوا فِي ذَلِكَ صَدَقَةً ، وَأَنْزَل الْحَنَفِيَّةُ الأَْكْثَرَ مَنْزِلَةَ الْكُل مَعَ وُجُوبِ جَزَاءٍ عَنِ النَّاقِصِ .
النِّيَابَةُ فِي الرَّمْيِ :
وَهِيَ رُخْصَةٌ خَاصَّةٌ بِالْمَعْذُورِ ، تَفْصِيل حُكْمِهَا فِيمَا يَلِي :
أ - الْمَعْذُورُ الَّذِي لاَ يَسْتَطِيعُ الرَّمْيَ بِنَفْسِهِ ، كَالْمَرِيضِ ، يَجِبُ أَنْ يَسْتَنِيبَ مَنْ يَرْمِيَ عَنْهُ ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ النَّائِبُ قَدْ رَمَى عَنْ نَفْسِهِ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ رَمَى عَنْ نَفْسِهِ فَلْيَرْمِ عَنْ نَفْسِهِ أَوَّلاً الرَّمْيَ كُلَّهُ ، ثُمَّ يَرْمِي عَمَّنِ اسْتَنَابَهُ ، وَيُجْزِئُ هَذَا الرَّمْيُ عَنِ الأَْصِيل عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ ، إِلاَّ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ وَالْمَالِكِيَّةَ قَالُوا : لَوْ رَمَى حَصَاةً عَنْ نَفْسِهِ وَأُخْرَى عَنِ الآْخَرِ جَازَ وَيُكْرَهُ .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ : إِنَّ الإِْنَابَةَ خَاصَّةٌ بِمَنْ بِهِ عِلَّةٌ لاَ يُرْجَى زَوَالُهَا قَبْل انْتِهَاءِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ كَمَرِيضٍ أَوْ مَحْبُوسٍ .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ قَوْلٌ : أَنَّهُ يَرْمِي حَصَيَاتِ كُل جَمْرَةٍ عَنْ نَفْسِهِ أَوَّلاً ، ثُمَّ يَرْمِيهَا عَنِ الْمَرِيضِ الَّذِي أَنَابَهُ إِلَى أَنْ يَنْتَهِيَ مِنَ الرَّمْيِ ، وَهُوَ مَخْلَصٌ حَسَنٌ لِمَنْ خَشِيَ خَطَرَ الزِّحَامِ .
ب - مَنْ عَجَزَ عَنْ الاِسْتِنَابَةِ كَالصَّبِيِّ الصَّغِيرِ ، وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ ، فَيَرْمِي عَنِ الصَّبِيِّ وَلِيُّهُ اتِّفَاقًا ، وَعَنْ الْمُغْمَى عَلَيْهِ رِفَاقُهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ ، وَلاَ فِدْيَةَ عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَرْمِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ .(1/378)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ : فَائِدَةُ الاِسْتِنَابَةِ أَنْ يَسْقُطَ الإِْثْمُ عَنْهُ إِنِ اسْتَنَابَ وَقْتَ الأَْدَاءِ وَإِلاَّ فَالدَّمُ عَلَيْهِ ، اسْتَنَابَ ، أَمْ لاَ ، إِلاَّ الصَّغِيرَ وَمَنْ أُلْحِقَ بِهِ ، وَإِنَّمَا وَجَبَ عَلَيْهِ الدَّمُ دُونَ الصَّغِيرِ وَمَنْ أُلْحِقَ بِهِ كَالْمُغْمَى عَلَيْهِ ؛ لأَِنَّهُ الْمُخَاطَبُ بِسَائِرِ الأَْرْكَانِ(1).
- - - - - - - - - - - -
أَرْكَانُ الْحَجِّ :
أَرْكَانُ الْحَجِّ فِيمَا اتَّجَهَ إِلَيْهِ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أَرْبَعَةٌ :
الإِْحْرَامُ . وَالْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ . وَالطَّوَافُ وَهُوَ طَوَافُ الزِّيَارَةِ . وَالسَّعْيُ . وَأَرْكَانُ الْحَجِّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ رُكْنَانِ : الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ ، وَطَوَافُ الزِّيَارَةِ .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ سِتٌّ : الأَْرْبَعُ الْمَذْكُورَةُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَالْحَلْقُ أَوِ التَّقْصِيرُ ، وَالتَّرْتِيبُ بَيْنَ مُعْظَمِ الأَْرْكَانِ .
الرُّكْنُ الأَْوَّل
الإِْحْرَامُ :
الإِْحْرَامُ فِي اللُّغَةِ : الدُّخُول فِي الْحُرْمَةِ .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ : الإِْحْرَامُ بِالْحَجِّ : نِيَّةُ الْحَجِّ عِنْدَ الْجُمْهُورِ . وَالنِّيَّةُ مَعَ التَّلْبِيَةِ وَهِيَ قَوْل : لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ - عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ .
__________
(1) - انظر مذهب الحنفية في المبسوط 4 / 69 ، وبدائع الصنائع 2 / 132 ، وحاشية شلبي على شرح الكنز 4 / 34 ، والمسلك المتقسط شرح اللباب ص 166 ، والفتاوى الهندية 1 / 221 ، ومذهب الشافعية في الأم 2 / 214 ، والمجموع 8 / 184 - 186 ، وشرح المنهاج مع حاشية القليوبي 2 / 122 - 123 ، ونهاية المحتاج 2 / 435 ، ومغني المحتاج 1 / 508 ، وانظر المغني في فقه الحنابلة 3 / 491 ، وانظر شرح الزرقاني على مختصر خليل وحاشية البناني 3 / 282 ، والشرح الكبير بحاشيته 2 / 47 - 48 و .(1/379)
وَالإِْحْرَامُ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الْحَجِّ عِنْدَ الْجُمْهُورِ ، وَشَرْطٌ مِنْ شُرُوطِ صِحَّتِهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ . وَهُوَ عِنْدَهُمْ شَرْطٌ مِنْ وَجْهٍ رُكْنٌ مِنْ وَجْهٍ ،وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ : ( إِحْرَامٌ ) .
الرُّكْنُ الثَّانِي
الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ
التَّعْرِيفُ :
عَرَفَاتُ وَعَرَفَةُ : الْمَكَانُ الَّذِي يُؤَدِّي فِيهِ الْحُجَّاجُ رُكْنَ الْحَجِّ وَهُوَ الْوُقُوفُ بِهَا(1)
حُدُودُ عَرَفَةَ :
قَال الشَّافِعِيُّ : هِيَ مَا جَاوَزَ وَادِي عُرَنَةَ - بِعَيْنٍ مَضْمُومَةٍ ثُمَّ رَاءٍ مَفْتُوحَةٍ ثُمَّ نُونٍ إِلَى الْجِبَال الْقَابِلَةِ مِمَّا يَلِي بَسَاتِينَ ابْنِ عَامِرٍ ، وَقَدْ وُضِعَتِ الآْنَ عَلاَمَاتٌ حَوْل أَرْضِ عَرَفَةَ تُبَيِّنُ حُدُودَهَا وَيَجِبُ عَلَى الْحَاجِّ أَنْ يَتَنَبَّهَ لَهَا ؛ لِئَلاَّ يَقَعَ وُقُوفُهُ خَارِجَ عَرَفَةَ ، فَيَفُوتُهُ الْحَجُّ ، أَمَّا جَبَل الرَّحْمَةِ فَفِي وَسَطِ عَرَفَاتٍ ، وَلَيْسَ نِهَايَةَ عَرَفَاتٍ ، وَيَجِبُ التَّنَبُّهُ إِلَى مَوَاضِعَ لَيْسَتْ مِنْ عَرَفَاتٍ يَقَعُ فِيهَا الاِلْتِبَاسُ لِلْحُجَّاجِ وَهِيَ :
أ - وَادِي عُرَنَةَ .
ب - وَادِي نَمِرَةَ .
__________
(1) - المصباح المنير .(1/380)
ج - الْمَسْجِدُ الَّذِي سَمَّاهُ الأَْقْدَمُونَ مَسْجِدَ إِبْرَاهِيمَ ، وَيُسَمَّى مَسْجِدَ نَمِرَةَ وَمَسْجِدَ عَرَفَةَ ، قَال الشَّافِعِيُّ : إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ عَرَفَاتٍ ، وَإِنَّ مَنْ وَقَفَ بِهِ لَمْ يَصِحَّ وُقُوفُهُ ، وَقَدْ تَكَرَّرَ تَوْسِيعُ الْمَسْجِدِ كَثِيرًا فِي عَصْرِنَا ، وَفِي دَاخِل الْمَسْجِدِ عَلاَمَاتٌ تُبَيِّنُ لِلْحُجَّاجِ مَا هُوَ مِنْ عَرَفَاتٍ ، وَمَا لَيْسَ مِنْهَا يَنْبَغِي النَّظَرُ إِلَيْهَا(1).
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ :
الْوُقُوفُ بِعَرَفَاتٍ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الْحَجِّ ، بَل هُوَ الرُّكْنُ الَّذِي إِذَا فَاتَ فَاتَ الْحَجُّ بِفَوَاتِهِ ، فعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَعْمَرَ أَنَّ نَاسًا مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ أَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ بِعَرَفَةَ فَسَأَلُوهُ فَأَمَرَ مُنَادِيًا فَنَادَى " الْحَجُّ عَرَفَةُ، مَنْ جَاءَ لَيْلَةَ جَمْعٍ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ فَقَدْ أَدْرَكَ الْحَجَّ أَيَّامُ مِنًى ثَلاَثَةٌ، فَمَنْ تَعَجَّلَ فِى يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ، وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ "(2).
- - - - - - - - - - - - - -
يَوْمُ عَرَفَةَ
تعريفُهُ :
يَوْمُ عَرَفَةَ مُرَكَّبٌ مِنْ لَفْظَيْنِ : يَوْمٌ، وَعَرَفَةُ .
أَمَّا الْيَوْمُ فَقَدْ سَبَقَ تَعْرِيفُهُ فِي مُصْطَلَحِ : يَوْم ( انْظُرْ ف1 ) .
وَأَمَّا عَرَفَةُ : فَهُوَ اسْمٌ لِلْمَوْقِفِ الْمَعْرُوفِ، وَيَتِمُّ الْحَجُّ بِالْوُقُوفِ بِهِ، وَحَدُّهُ مِنَ الْجَبَل الْمُشْرِفِ عَلَى بَطْنِ عُرَنَةَ إِلَى الْجِبَال الْمُقَابِلَةِ إِلَى مَا يَلِي حَوَائِطَ بَنِي عَامِرٍ .
__________
(1) - المجموع 8 / 110 - 111 ، والمسلك المتقسط : 140 - 141 ، حاشية إرشاد الساري ، وتاريخ مكة 2 / 194 - 195 ، ومعجم البلدان 12 / 4 .
(2) - سنن الترمذى (898 )صحيح(1/381)
وَيَوْمُ عَرَفَةَ هُوَ التَّاسِعُ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ(1).
فَضْل يَوْمِ عَرَفَةَ :
لَقَدْ وَرَدَتْ فِي فَضْل يَوْمِ عَرَفَةَ أَحَادِيثُ وَآثَارٌ ، مِنْهَا :
عَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ قَالَتْ عَائِشَةُ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ " مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ يُعْتِقَ اللَّهُ فِيهِ عَبْدًا مِنَ النَّارِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ وَإِنَّهُ لَيَدْنُو ثُمَّ يُبَاهِى بِهِمُ الْمَلاَئِكَةَ فَيَقُولُ مَا أَرَادَ هَؤُلاَءِ "(2).
وعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ " خَيْرُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ وَخَيْرُ مَا قُلْتُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِى لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ "(3).
__________
(1) - المصباح المنير، ومراصد الاطلاع على أسماء الأمكنة والبقاع، وقواعد الفقه للبركتي .
(2) - صحيح مسلم (3354 )
(3) - سنن الترمذي (3934 ) وصحيح الجامع (3274) صحيح لغيره(1/382)
و عَنْ جَابِرٍ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : {مَا مِنْ أَيَّامٍ أَفْضَلُ عِنْدَ اللهِ مِنْ أَيَّامِ عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ ، قَالَ : فَقَالَ رَجُلٌ : يَا رَسُولَ اللهِ ، هُنَّ أَفْضَلُ أَمْ عِدَّتُهُنَّ جِهَادًا فِي سَبِيلِ اللهِ ، قَالَ : هُنَّ أَفْضَلُ مِنْ عِدَّتِهِنَّ جِهَادًا فِي سَبِيلِ اللهِ ، وَمَا مِنْ يوْمٍ أَفْضَلُ عِنْدَ اللهِ مِنْ يوْمِ عَرَفَةَ يَنْزِلُ اللَّهُ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا فَيُبَاهِي بِأَهْلِ الأَرْضِ أَهْلَ السَّمَاءِ ، فَيَقُولُ : انْظُرُوا إِلَى عِبَادِي شُعْثًا غُبْرًا ضَاحِينَ جَاؤُوا مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ يَرْجُونَ رَحْمَتِي ، وَلَمْ يَرَوْا عَذَابِي ، فَلَمْ يُرَ يَوْمٌ أَكْثَرُ عِتْقًا مِنَ النَّارِ مِنْ يوْمِ عَرَفَةَ.(1)
و عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ كَرِيزٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : " مَا رُئِىَ الشَّيْطَانُ يَوْمًا هُوَ فِيهِ أَصْغَرُ وَلاَ أَدْحَرُ وَلاَ أَحْقَرُ وَلاَ أَغْيَظُ مِنْهُ فِى يَوْمِ عَرَفَةَ، وَمَا ذَاكَ إِلاَّ لِمَا رَأَى مِنْ تَنَزُّلِ الرَّحْمَةِ، وَتَجَاوُزِ اللَّهِ عَنِ الذُّنُوبِ الْعِظَامِ إِلاَّ مَا أُرِىَ يَوْمَ بَدْرٍ ". قِيلَ وَمَا رَأَى يَوْمَ بَدْرٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ : " أَمَا إِنَّهُ قَدْ رَأَى جِبْرِيلَ يَزَعُ الْمَلاَئِكَةَ ".(2).
__________
(1) - أبو يعلى (2036 ) وابن حبان (3853) صحيح
(2) - موطأ مالك (950 ) صحيح مرسل(1/383)
وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّ رَجُلاً مِنَ الْيَهُودِ قَالَ لَهُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ، آيَةٌ فِى كِتَابِكُمْ تَقْرَءُونَهَا لَوْ عَلَيْنَا مَعْشَرَ الْيَهُودِ نَزَلَتْ لاَتَّخَذْنَا ذَلِكَ الْيَوْمَ عِيدًا . قَالَ أَىُّ آيَةٍ قَالَ { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا ..} (3) سورة المائدة . قَالَ عُمَرُ قَدْ عَرَفْنَا ذَلِكَ الْيَوْمَ وَالْمَكَانَ الَّذِى نَزَلَتْ فِيهِ عَلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ قَائِمٌ بِعَرَفَةَ يَوْمَ جُمُعَةٍ(1). .
وَذَهَبَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ إِذَا وَقَعَ الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ كَانَ لِتِلْكَ الْحَجَّةِ فَضْلٌ عَلَى غَيْرِهَا(2).
وَفِيهِ حَجَّ رَسُول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حَجَّةَ الْوَدَاعِ وَكَانَ وَاقِفًا إِذْ نَزَل قَوْلُهُ تَعَالَى : { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِْسْلاَمَ دِينًا } سورة المائدة / 3 . .
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِيَوْمِ عَرَفَةَ :
تَتَعَلَّقُ بِيَوْمِ عَرَفَةَ أَحْكَامٌ ، مِنْهَا :
أَوَّلاً : الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ :
الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الْحَجِّ، ثَبَتَتْ رُكْنِيَّتُهُ بِالسُّنَّةِ وَالإِْجْمَاعِ :
__________
(1) - صحيح البخاري (45 )
(2) - حاشية ابن عابدين 2 / 254، وتبيين الحقائق 2 / 26، والشرح الصغير 1 / 493، ومغني المحتاج 1 / 497، وكشاف القناع 2 / 495 .(1/384)
أَمَّا السُّنَّةُ فَع عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَعْمَرَ أَنَّ نَاسًا مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ أَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ بِعَرَفَةَ فَسَأَلُوهُ فَأَمَرَ مُنَادِيًا فَنَادَى " الْحَجُّ عَرَفَةُ مَنْ جَاءَ لَيْلَةَ جَمْعٍ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ فَقَدْ أَدْرَكَ الْحَجَّ أَيَّامُ مِنًى ثَلاَثَةٌ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِى يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ "(1). .
وَ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ مُضَرِّسِ بْنِ أَوْسِ بْنِ حَارِثَةَ بْنِ لاَمٍ الطَّائِىِّ قَالَ أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِالْمُزْدَلِفَةِ حِينَ خَرَجَ إِلَى الصَّلاَةِ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّى جِئْتُ مِنْ جَبَلَىْ طَيِّئٍ أَكْلَلْتُ رَاحِلَتِى وَأَتْعَبْتُ نَفْسِى وَاللَّهِ مَا تَرَكْتُ مِنْ حَبْلٍ إِلاَّ وَقَفْتُ عَلَيْهِ فَهَلْ لِى مِنْ حَجٍّ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - " مَنْ شَهِدَ صَلاَتَنَا هَذِهِ وَوَقَفَ مَعَنَا حَتَّى نَدْفَعَ وَقَدْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ قَبْلَ ذَلِكَ لَيْلاً أَوْ نَهَارًا فَقَدْ أَتَمَّ حَجَّهُ وَقَضَى تَفَثَهُ "(2).
__________
(1) - سنن الترمذي (898 ) صحيح
(2) - سنن الترمذي (900 ) و قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ وهو كما قال. قَالَ قَوْلُهُ « تَفَثَهُ ».يَعْنِى نُسُكَهُ. قَوْلُهُ « مَا تَرَكْتُ مِنْ حَبْلٍ إِلاَّ وَقَفْتُ عَلَيْهِ ». إِذَا كَانَ مِنْ رَمْلٍ يُقَالُ لَهُ حَبْلٌ وَإِذَا كَانَ مِنْ حِجَارَةٍ يُقَالُ لَهُ جَبَلٌ.
التفث : ما يفعله المحرم بالحج إذا حل وقيل هو إذهاب الشعث والدرن .. مطلقا - حبل : المستطيل من الرمل - أكللت : أتعبت(1/385)
وَأَمَّا الإِْجْمَاعُ فَقَدْ أَجْمَعَتِ الأُْمَّةُ عَلَى أَنَّ الْوُقُوفَ بِعَرَفَةَ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الْحَجِّ .(1)فَمَنْ تَرَكَهُ أَوْ أَخَّرَهُ عَنْ وَقْتِهِ فَقَدْ فَاتَهُ الْحَجُّ إِجْمَاعًا، وَيَتَحَلَّل بِأَدَاءِ أَفْعَال الْعُمْرَةِ، وَعَلَيْهِ الْحَجُّ مِنْ قَابِلٍ، عَلَى تَفْصِيلٍ فِي الْمَذَاهِبِ يُنْظَرُ فِي ( فَوَات ف8 - 9 )(2).
فَوَاتُ الْحَجِّ :
اُخْتُصَّ الْحَجُّ بِأَنَّ لِفَوَاتِهِ حَالَيْنِ :
الأُْولَى : وَفَاةُ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَجُّ قَبْل أَدَائِهِ ، وَذَلِكَ سَوَاءٌ عَلَى الْقَوْل بِوُجُوبِهِ عَلَى التَّرَاخِي ، أَوْ عَلَى الْفَوْرِ(3)
الثَّانِيَةُ : أَنْ يُحْرِمَ بِالْحَجِّ ثُمَّ يَفُوتَهُ الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ بِحَيْثُ لاَ يُدْرِكُ شَيْئًا مِنْهُ فِي وَقْتِهِ الْمُحَدَّدِ وَمَكَانِهِ الْمُحَدَّدِ ، وَلَوْ سَاعَةً لَطِيفَةً ، أَيْ أَدْنَى فَتْرَةٍ مِنَ الزَّمَنِ ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ إطْلاَقِهِمْ " فَوَاتُ " أَوْ " فَاتَهُ الْحَجُّ ".
وَالأَْصْل فِي الْحُكْمِ بِفَوَاتِ الْحَجِّ بِفَوَاتِ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ هُوَ قَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم - : الْحَجُّ عَرَفَةَ مَنْ جَاءَ لَيْلَةَ جَمْعٍ قَبْل طُلُوعِ الْفَجْرِ فَقَدْ أَدْرَكَ الْحَجَّ .(4)
قَال الْكَاسَانِيُّ : وَالاِسْتِدْلاَل بِهِ مِنْ وَجْهَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ جَعَل الْحَجَّ الْوُقُوفَ بِعَرَفَةَ ،فَإِذَا وُجِدَ فَقَدْ وُجِدَ الْحَجُّ ، وَالشَّيْءُ الْوَاحِدُ فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ لاَ يَكُونُ مَوْجُودًا وَفَائِتًا .
__________
(1) - بدائع الصنائع 2 / 125، وبداية المجتهد 1 / 335، والمجموع 8 / 108، والمغني 3 / 410 .
(2) - الموسوعة الفقهية الكويتية - (ج 32 / ص 213)
(3) - بدائع الصنائع 2 / 221 .
(4) - حديث صحيح مر تخريجه(1/386)
وَالثَّانِي : أَنَّهُ جَعَل تَمَامَ الْحَجِّ الْوُقُوفَ بِعَرَفَةَ ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ التَّمَامُ الَّذِي هُوَ ضِدُّ النُّقْصَانِ ، لأَِنَّ ذَلِكَ لاَ يَثْبُتُ بِالْوُقُوفِ وَحْدَهُ ، فَيَدُل عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الْخُرُوجُ عَنِ احْتِمَال الْفَوَاتِ .(1)
وَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ " مَنْ وَقَفَ بِعَرَفَاتٍ بِلَيْلٍ فَقَدْ أَدْرَكَ الْحَجَّ وَمَنْ فَاتَهُ عَرَفَاتٌ بِلَيْلٍ فَقَدْ فَاتَهُ الْحَجُّ فَلْيُحِلَّ بِعُمْرَةٍ وَعَلَيْهِ الْحَجُّ مِنْ قَابِلٍ "(2). وَبِذَلِكَ ثَبَتَتِ الآْثَارُ عَنِ الصَّحَابَةِ ، فَعَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ : مَنْ أَدْرَكَ لَيْلَةَ النَّحْرِ مِنَ الْحَاجِّ فَوَقَفَ بِجِبَالِ عَرَفَةَ قَبْلَ أَنْ يَطْلُعَ الْفَجْرُ فَقَدْ أَدْرَكَ الْحَجَّ وَمَنْ لَمْ يُدْرِكْ عَرَفَةَ قَبْلَ أَنْ يَطْلُعَ الْفَجْرُ فَقَدْ فَاتَهُ الْحَجُّ فَلْيَأْتِ الْبَيْتَ فَلْيَطُفْ بِهِ سَبْعًا وَيَطُوفُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ سَبْعًا ثُمَّ لْيَحْلِقْ أَوْ يُقَصِّرْ إِنْ شَاءَ وَإِنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيُهُ فَلْيَنْحَرْهُ قَبْلَ أَنْ يَحْلِقَ فَإِذَا فَرَغَ مِنْ طَوَافِهِ وَسَعْيِهِ فَلْيَحْلِقْ أَوْ يُقَصِّرْ ثُمَّ لْيَرْجِعْ إِلَى أَهْلِهِ فَإِنْ أَدْرَكَهُ الْحَجُّ قَابِلً فَلْيَحُجَّ إِنِ اسْتَطَاعَ وَلْيُهْدِ فِى حَجَّهِ فَإِن لَمْ يَجِدْ هَدْيًا فَلْيَصُمْ عَنْهُ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ فِى الْحَجِّ وَسَبْعَةً إِذَا رَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ.(3).
__________
(1) - بدائع الصنائع 2 / 220 .
(2) - سنن الدارقطنى (2549 ) وهو ضعيف
(3) - السنن الكبرى للبيهقي(ج 5 / ص 174)(10104) صحيح موقوف(1/387)
و عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ أَنَّهُ قَالَ أَخْبَرَنِى سُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ : أَنَّ أَبَا أَيُّوبَ الأَنْصَارِىَّ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ خَرَج حَاجًّا حَتَّى إِذَا كَانَ بِالنَّازِيَةِ مِنْ طَرِيقِ مَكَّةَ أَضَلَّ رَوَاحِلَهُ ثُمَّ أَنَّهُ قَدِمَ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ يَوْمَ النَّحْرِ فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ لَهُ عُمَرَ : اصْنَعْ كَمَا يَصْنَعُ الْمُعْتَمِرُ ثُمَّ قَدْ حَلَلْتَ فَإِذَا أَدْرَكَكَ الْحَجُّ قَابِلً فَاحْجُجْ وَأَهْدِ مَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْىِ.(1).
كَمَا رُوِيَ غَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الآْثَارِ عَنِ الصَّحَابَةِ .
قَال ابْنُ رُشْدٍ : أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْوُقُوفَ بِعَرَفَةَ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الْحَجِّ ، وَأَنَّهُ مَنْ فَاتَهُ فَعَلَيْهِ حَجٌّ مِنْ قَابِلٍ(2). وَأَمَّا الْعُمْرَةُ فَإِنَّهَا لاَ تَفُوتُ بَعْدَ الإِْحْرَامِ بِهَا بِالإِْجْمَاعِ ، لأَِنَّهَا غَيْرُ مُؤَقَّتَةٍ ، إنَّمَا تَفُوتُ بِفَوَاتِ الْعُمُرِ(3).
تَحَلُّل مَنْ فَاتَهُ الْحَجُّ :
__________
(1) - السنن الكبرى للبيهقي(ج 5 / ص 174)(10105) وفيه انقطاع
(2) - بداية المجتهد 1 / 335 .
(3) - المسلك المتقسط ص285 .(1/388)
لَمَّا كَانَ لِلْحَجِّ وَقْتٌ مُحَدَّدٌ مِنَ الْعَامِ لاَ يُؤَدَّى فِي غَيْرِهِ ، وَلاَ يَكُونُ الْحَجُّ فِي الْعَامِ إلاَّ مَرَّةً وَاحِدَةً ، وَلَمَّا كَانَ الإِْحْرَامُ بِالْحَجِّ لَهُ وَقْتٌ مُعَيَّنٌ ، وَلَهُ مَحْظُورَاتٌ يَجِبُ اجْتِنَابُهَا ، وَيَشُقُّ تَحَمُّلُهَا زَمَنًا طَوِيلاً ، فَقَدْ شُرِعَ لِمَنْ فَاتَهُ الْحَجُّ بِفَوَاتِ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ أَنْ يَتَحَلَّل بِأَعْمَال الْعُمْرَةِ مِنْ إحْرَامِهِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ عَلَى ذَلِكَ ، سَوَاءٌ كَانَ الْحَجُّ فَرْضًا أَوْ نَفْلاً ، صَحِيحًا أَوْ فَاسِدًا ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْفَوَاتُ بِعُذْرٍ أَوْ بِغَيْرِ عُذْرٍ .
وَهَذَا التَّحَلُّل وَاجِبٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ ، حَتَّى إنَّهُ لَوْ بَقِيَ مُحْرِمًا إلَى الْعَامِ الْقَادِمِ وَصَابَرَ الإِْحْرَامَ ، فَحَجَّ بِذَلِكَ الإِْحْرَامِ لَمْ يَصِحَّ حَجُّهُ .
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى هَذَا بِمَا سَبَقَ مِنَ الأَْدِلَّةِ وَالآْثَارِ حَتَّى قِيل : هُوَ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ(1).
وَلأَِنَّ مُوجَبَ إحْرَامِ حَجِّهِ تَغَيَّرَ شَرْعًا بِالْفَوَاتِ ، فَلاَ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ غَيْرُ مُوجَبِهِ(2)وَعَلَّل الشَّافِعِيَّةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُ لِئَلاَّ يَصِيرَ مُحْرِمًا بِالْحَجِّ فِي غَيْرِ أَشْهُرِهِ(3).
__________
(1) - المجموع 8 / 234 .
(2) - المسلك المتقسط ص284 .
(3) - المجموع 8 / 234، ونهاية المحتاج للرملي 2 / 489، 480، ط بولاق وهذا بناء على مذهب الشافعية أنه لا يصح الإحرام بالحج في غير أشهر الحج، كما سبق في الإحرام ( ف 34 ) .(1/389)
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إلَى أَنَّ مَنْ فَاتَهُ الْحَجُّ مُخَيَّرٌ ، إنْ شَاءَ بَقِيَ عَلَى إحْرَامِهِ لِلْعَامِ الْقَابِل ، وَإِنْ شَاءَ تَحَلَّل ، وَالتَّحَلُّل أَفْضَل مُطْلَقًا حَسَبَ ظَاهِرِ الْحَنَابِلَةِ . وَقَال الْمَالِكِيَّةُ : إنْ دَخَل مَكَّةَ أَوْ قَارَبَهَا فَالأَْفْضَل لَهُ التَّحَلُّل ، وَكُرِهَ إبْقَاءُ إحْرَامِهِ ، فَإِنْ هَذَا مَحَلُّهُ ، وَإِنْ كَانَ بَعِيدًا عَنْهَا فَيُخَيَّرُ بَيْنَ الْبَقَاءِ عَلَى الإِْحْرَامِ وَالإِْحْلاَل عَلَى حَدٍّ سَوَاءٍ(1).
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى هَذَا التَّخْيِيرِ بِمَا قَالَهُ ابْنُ قُدَامَةَ : إنَّ تَطَاوُل الْمُدَّةِ بَيْنَ الإِْحْرَامِ وَفِعْل النُّسُكِ لاَ يَمْنَعُ إتْمَامَهُ كَالْعُمْرَةِ ، وَالْمُحْرِمِ بِالْحَجِّ فِي غَيْرِ أَشْهُرِهِ(2).
كَيْفِيَّةُ تَحَلُّل مَنْ فَاتَهُ الْحَجُّ :
يَظَل الْحَاجُّ الَّذِي فَاتَهُ الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ عَلَى إحْرَامِهِ ، وَاجْتِنَابِ مَحْظُورَاتِهِ وَمُرَاعَاةِ أَحْكَامِهِ وَتَلْبِيَتِهِ ، حَتَّى يَتَحَلَّل مِنْ إحْرَامِهِ .
وَيَحْصُل التَّحَلُّل لِمَنْ فَاتَهُ الْحَجُّ بِالطَّوَافِ وَالسَّعْيِ وَحَلْقِ الرَّأْسِ أَوْ تَقْصِيرِهِ ، بِاتِّفَاقِ الْجَمِيعِ ، وَهَذِهِ هِيَ أَفْعَال الْعُمْرَةِ .
لَكِنْ هَل هَذِهِ الأَْفْعَال هِيَ عَمْرَةٌ حَقِيقِيَّةٌ أَمْ لاَ ؟
__________
(1) - الشرح الكبير وحاشية الدسوقي 2 / 95، والمغني 3 / 529 .
(2) - المغني 3 / 529 .(1/390)
ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إلَى أَنَّهَا أَفْعَال عُمْرَةٍ ، وَلَيْسَتْ عُمْرَةً حَقِيقِيَّةً ، لِذَلِكَ عَبَّرُوا بِقَوْلِهِمْ " أَفْعَال عُمْرَةٍ " كَمَا ذَكَرْنَا " وَبِعَمَل عُمْرَةٍ " وَلاَ يَنْقَلِبُ إحْرَامُهُ عُمْرَةً ، بَل إنَّ إحْرَامَهُ بِالْحَجِّ بَاقٍ إلَى أَنْ يَتَحَلَّل بِأَفْعَال الْعُمْرَةِ كَمَا ذَكَرْنَا .
وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنْ أَحْمَدَ ، وَبِهِ قَال ابْنُ حَامِدٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ(1).
وَمَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ يَجْعَل إحْرَامَهُ بِعُمْرَةٍ ، وَهَذَا ظَاهِرُ كَلاَمِ الْخِرَقِيِّ ، وَنَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ وَاخْتَارَهُ أَبُو بَكْرٍ(2)، وَهُوَ قَوْل أَبِي يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ يَنْقَلِبُ إحْرَامُهُ بِعُمْرَةٍ(3).
وَاسْتَدَل الْجُمْهُورُ بِالآْثَارِ الْوَارِدَةِ عَنِ الصَّحَابَةِ ، وَفِيهَا قَوْلُهُمْ : اصْنَعْ كَمَا يَصْنَعُ الْمُعْتَمِرُ ، وَيَذْكُرُونَ الأَْعْمَال : الطَّوَافَ وَالسَّعْيَ وَالْحِلاَقِ ، وَلَمْ يُسَمُّوهَا عُمْرَةً .
وَبِأَنَّهُ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ لاَ بِالْعُمْرَةِ حَقِيقَةً ، وَاعْتِبَارُ الْحَقِيقَةِ أَصْلٌ فِي الشَّرْعِ ، فَالْقَوْل بِانْقِلاَبِ إحْرَامِ الْحَجِّ إحْرَامَ عُمْرَةٍ تَغْيِيرٌ لِلْحَقِيقَةِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ ، أَوْ كَمَا قَال الرَّمْلِيُّ(4): لأَِنَّ إحْرَامَهُ انْعَقَدَ بِنُسُكٍ فَلاَ يَنْصَرِفُ لآِخَرَ ، كَعَكْسِهِ أَيْ كَمَا لاَ يَنْصَرِفُ إحْرَامُ الْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ .
__________
(1) - حاشية الدسوقي 2 / 95، وبدائع الصنائع 2 / 220، ومغني المحتاج 1 / 537، والمغني 3 / 529 .
(2) - المغني 3 / 529 .
(3) - البدائع 2 / 220، والمسلك المتقسط ص284، ورد المحتار 2 / 259 .
(4) - نهاية المحتاج 2 / 480 .(1/391)
كَمَا اسْتَدَلُّوا بِأَنَّ فَائِتَ الْحَجِّ لَوْ كَانَ مِنْ أَهْل مَكَّةَ يَتَحَلَّل بِالطَّوَافِ وَالسَّعْيِ وَالْحِلاَقِ كَمَا يَتَحَلَّل أَهْل الآْفَاقِ ، وَلاَ يَلْزَمُهُ الْخُرُوجُ إلَى الْحِل ، وَلَوِ انْقَلَبَ إحْرَامُهُ إحْرَامَ عُمْرَةٍ وَصَارَ مُعْتَمِرًا لَلَزِمَهُ الْخُرُوجُ إلَى الْحِل ، وَهُوَ التَّنْعِيمُ أَوْ غَيْرُهُ ، وَالْحَال أَنَّ ذَلِكَ لاَ يَجِبُ عَلَيْهِ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِانْقِلاَبِ إحْرَامِ فَائِتِ الْحَجِّ إلَى عُمْرَةٍ .
وَكَذَلِكَ فَائِتُ الْحَجِّ إذَا جَامَعَ قَبْل أَفْعَال الْعُمْرَةِ لِلتَّحَلُّل لَيْسَ عَلَيْهِ قَضَاءُ الْعُمْرَةِ ، وَلَوْ كَانَ عُمْرَةً لَوَجَبَ عَلَيْهِ قَضَاؤُهَا كَالْعُمْرَةِ الْمُبْتَدَأَةِ(1).
وَبِأَنَّ هَذِهِ الأَْفْعَال فِي الْحَقِيقَةِ تَحَلُّلٌ لاَ عُمْرَةٌ بِدَلِيل عَدَمِ تَجْدِيدِ إحْرَامٍ لَهَا(2).
وَاسْتَدَل الْحَنَابِلَةُ وَمَنْ مَعَهُمْ عَلَى أَنَّ إحْرَامَ فَائِتِ الْحَجِّ يَنْقَلِبُ عُمْرَةً بِحَدِيثِ الدَّارَقُطْنِيِّ السَّابِقِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، وَفِيهِ " فَلْيُحِل بِعُمْرَةٍ " .(3)
وَبِأَنَّهُ يَجُوزُ فَسْخُ إحْرَامِ الْحَجِّ إلَى الْعُمْرَةِ مِنْ غَيْرِ فَوَاتٍ ، فَمَعَ الْفَوَاتِ أَوْلَى(4).
أَحْكَامُ التَّحَلُّل لِمَنْ فَاتَهُ الْحَجُّ :
__________
(1) - بدائع الصنائع 2 / 220 .
(2) - حاشية الدسوقي 2 / 96 .
(3) - بدائع الصنائع 2 / 220، وحديث : " فليحل بعمرة . . . " سبق تخريجه ف9 .
(4) - المغني 3 / 527 .(1/392)
لاَ تَحْتَاجُ أَعْمَال التَّحَلُّل لِفَائِتِ الْحَجِّ إلَى إحْرَامٍ جَدِيدٍ بِالْعُمْرَةِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ لأَِنَّ إحْرَامَهُ بِالْحَجِّ بَاقٍ ، لَكِنْ صَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى نِيَّةِ التَّحَلُّل ، فَيَطُوفُ وَيَسْعَى وَيَحْلِقُ أَوْ يُقَصِّرُ بِنِيَّةِ التَّحَلُّل ،(1)وَلَمْ يُصَرِّحْ بِذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ .
أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَقِيَاسُ مَذْهَبِهِمْ أَنَّ فَسْخَ الْحَجِّ إلَى الْعُمْرَةِ يُوجِبُ عَلَى فَائِتِ الْحَجِّ أَنْ يَنْوِيَ فَسْخَ حَجِّهِ إلَى عُمْرَةٍ .
وَتَخْتَلِفُ كَيْفِيَّةُ تَحَلُّل مَنْ فَاتَهُ الْحَجُّ بِاخْتِلاَفِ إحْرَامِهِ : إفْرَادًا كَانَ أَوْ تَمَتُّعًا أَوْ قِرَانًا .
فَمَنْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ مُفْرِدًا وَفَاتَهُ الْحَجُّ يَتَحَلَّل بِأَفْعَال الْعُمْرَةِ عَلَى مَا سَبَقَ بَيَانُهُ .
وَالْمُتَمَتِّعُ إنْ فَاتَهُ الْحَجُّ يَتَحَلَّل مِنْ إحْرَامِهِ كَتَحَلُّل الْمُفْرِدِ أَيْضًا ، وَيَبْطُل تَمَتُّعُهُ ، لأَِنَّ شَرْطَ التَّمَتُّعِ وُجُودُ الْحَجِّ فِي سَنَةِ عُمْرَتِهِ وَسَقَطَ عَنْهُ دَمُ التَّمَتُّعِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ حَتَّى إنْ كَانَ سَاقَ مَعَهُ الْهَدْيَ لِتَمَتُّعِهِ يَفْعَل بِهِ مَا يَشَاءُ .
__________
(1) - الدسوقي 2 / 95، ونهاية المحتاج 2 / 480 .(1/393)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ لاَ يَسْقُطُ عَنْهُ دَمُ التَّمَتُّعِ(1)، وَإِنْ كَانَ مَنْ فَاتَهُ الْحَجُّ قَارِنًا فَقَدْ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إلَى أَنَّهُ يَتَحَلَّل كَمَا يَتَحَلَّل الْمُفْرِدُ ، لاِنْدِمَاجِ أَفْعَال الْعُمْرَةِ فِي الْحَجِّ ، وَتَفُوتُ الْعُمْرَةُ بِفَوَاتِ الْحَجِّ ، وَهَذِهِ الصُّورَةُ مُسْتَثْنَاةٌ مِنَ الْحُكْمِ بِأَنَّ الْعُمْرَةَ لاَ تَفُوتُ ، وَلاَ يَسْقُطُ عَنْهُ دَمُ الْقِرَانِ بَل يَلْزَمُهُ إضَافَةً إلَى هَدْيِ التَّحَلُّل عِنْدَهُمْ ، خِلاَفًا لِلْمَالِكِيَّةِ .
وَزَادَ الْمَالِكِيَّةُ فِي التَّحَلُّل فَقَالُوا : كُل مَنْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ مِنْ مَكَّةَ وَفَاتَهُ الْحَجُّ يُؤْمَرُ لأَِجْل التَّحَلُّل أَنْ يَخْرُجَ مِنْ مَكَّةَ إلَى الْحِل ثُمَّ يَقُومُ بِأَفْعَال الْعُمْرَةِ وَيَتَحَلَّل ، وَذَلِكَ لِيَجْمَعَ فِي إحْرَامِهِ لِتَحَلُّلِهِ بَيْنَ الْحِل وَالْحَرَمِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ دَخَل مَكَّةَ مُعْتَمِرًا ثُمَّ أَرْدَفَ الإِْحْرَامَ بِالْحَجِّ عَلَى الْعُمْرَةِ فِي مَكَّةَ وَفَاته الْحَجُّ يَخْرُجُ إلَى الْحِل وَيَعْمَل أَفْعَال الْعُمْرَةِ وَيَتَحَلَّل .(2)
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إلَى أَنَّهُ إنْ كَانَ قَدْ طَافَ لِعُمْرَتِهِ وَيَسْعَى لَهَا ، ثُمَّ يَطُوفُ طَوَافًا آخَرَ لِفَوَاتِ الْحَجِّ وَيَسْعَى لَهُ ثُمَّ يَحْلِقُ أَوْ يُقَصِّرُ ، وَسَقَطَ عَنْهُ دَمُ الْقِرَانِ ، وَعَلَيْهِ قَضَاءُ حَجَّةٍ لاَ غَيْرُ ، لِفَرَاغِ ذِمَّتِهِ مِنْ إحْرَامِ عُمْرَتِهِ .
__________
(1) - حاشية ابن عابدين 1 / 195، 196، والفواكه الدواني 1 / 434 والمجموع 8 / 222، والمغني 3 / 401
(2) - الدسوقي 2 / 94، ونهاية المحتاج 2 / 480، والمغني 3 / 398، 400 .(1/394)
وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ الْقَارِنَ مُحْرِمٌ بِعُمْرَةٍ وَحَجَّةٍ ، وَعَلَيْهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ طَوَافٌ وَسَعْيٌ لِعُمْرَتِهِ ، وَطَوَافٌ وَسَعْيٌ لِحَجِّهِ ، وَالْعُمْرَةُ لاَ تَفُوتُ ، لأَِنَّ جَمِيعَ الأَْوْقَاتِ وَقْتُهَا ، فَيَأْتِي بِهَا ، وَأَمَّا الطَّوَافُ وَالسَّعْيُ لِلْحَجِّ فَلأَِنَّ الْحَجَّةَ قَدْ فَاتَتْهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِيهَا وَفَائِتُ الْحَجِّ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِيهِ لاَ يَتَحَلَّل إلاَّ بِأَفْعَال الْعُمْرَةِ ، فَيَطُوفُ وَيَسْعَى وَيَحْلِقُ أَوْ يُقَصِّرُ .
وَأَمَّا سُقُوطُ دَمِ الْقِرَانِ فَإِنَّ الْقِرَانَ يَجِبُ لِلْجَمْعِ بَيْنَ الْعُمْرَةِ وَالْحَجِّ ، وَلَمْ يُوجَدْ هَذَا الْجَمْعُ فَلاَ يَجِبُ الدَّمُ .(1)
----------------
شُرُوطُ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ :
لِلْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ بِاعْتِبَارِهِ رُكْنًا مِنْ أَرْكَانِ الْحَجِّ شَرْطَانِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا :
أَحَدُهُمَا : كَوْنُ الْوُقُوفِ فِي أَرْضِ عَرَفَاتٍ ..
الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ الْوُقُوفُ فِي زَمَانِ الْوُقُوفِ وَهُوَ الْيَوْمُ التَّاسِعُ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ وَهُوَ يَوْمُ عَرَفَةَ ، وَلَيْلَةُ الْعَاشِرِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ إِلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ، فَمَنْ طَلَعَ الْفَجْرُ وَلَمْ يَقِفْ فِي شَيْءٍ مِنْ عَرَفَةَ فَقَدْ فَاتَهُ الْحَجُّ .(2)
__________
(1) - البدائع 2 / 221 .
(2) - البحر الرائق 2 / 365، وشرح العمدة 2 / 576 ـ 577، والمجموع 8 / 110، ونهاية المحتاج 3 / 290 .(1/395)
وَزَادَ الشَّافِعِيَّةُ فِي شُرُوطِ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ أَنْ يَكُونَ مُحْرِمًا أَهْلاً لِلْعِبَادَةِ ، فَلاَ يَكْفِي حُضُورُ غَيْرِ الأَْهْل لَهَا كَالْمَجْنُونِ وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ وَالسَّكْرَانِ إِذَا اسْتَغْرَقَ حَالُهُمْ جَمِيعَ وَقْتِ الْوُقُوفِ . وَقَالُوا : لَكِنْ يَقَعُ حَجُّ الْمَجْنُونِ نَفْلاً كَالصَّبِيِّ الَّذِي لاَ يُمَيِّزُ فَيَبْنِي وَلِيُّهُ بَقِيَّةَ الأَْعْمَال .(1)
وَقْتُ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ :
الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الْحَجِّ، وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ آخِرَ وَقْتٍ لِلْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ هُوَ طُلُوعُ فَجْرِ يَوْمِ النَّحْرِ ( الْعَاشِرِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ ) .
وَاخْتَلَفُوا فِي ابْتِدَاءِ وَقْتِ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ .
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ أَوَّلَهُ زَوَال شَمْسِ يَوْمِ عَرَفَةَ .
وَذَهَبَ مَالِكٌ إِلَى أَنَّ وَقْتَ الْوُقُوفِ هُوَ اللَّيْل .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ مِنْ طُلُوعِ فَجْرِ يَوْمِ عَرَفَةَ إِلَى طُلُوعِ فَجْرِ يَوْمِ النَّحْرِ .
الزَّمَنُ الْمُجْزِئُ لِلْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ :
بَيَّنَ الْفُقَهَاءُ مِقْدَارَ الزَّمَنِ الْمُجْزِئِ لِلْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ، كَمَا بَيَّنُوا الْحُكْمَ عِنْدَ فَوَاتِهِ .
وَاجِبُ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ :
هُوَ الْجَمْعُ بَيْنَ اللَّيْل وَالنَّهَارِ لِمَنْ وَقَفَ بِهَا نَهَارًا، بِأَنْ يَسْتَمِرَّ إِلَى أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ وَمُقَابِل الصَّحِيحِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ .
وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ فِي الصَّحِيحِ وَالإِْمَامُ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ أَنَّهُ سُنَّةٌ .
__________
(1) - المجموع 8 / 110، وإعانة الطالبين 2 / 287 .(1/396)
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّهُ يَجِبُ الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ نَهَارًا، أَمَّا الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ لَيْلاً وَلَوْ لَحْظَةٍ فَهُوَ رُكْنٌ(1).
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ : مَنْ لَمْ يُوَافِ عَرَفَةَ إِلاَّ لَيْلاً فَيُجْزِئُهُ الْوُقُوفُ وَلَوْ لَحْظَةً فِي بَعْضِ جَوَانِبِهَا، لِقَوْل النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - : مَنْ جَاءَ لَيْلَةَ جَمْعٍ قَبْل طُلُوعِ الْفَجْرِ فَقَدْ أَدْرَكَ الْحَجَّ(2). وَلاَ دَمَ عَلَيْهِ، لأَِنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - ذَكَرَ أَنَّهُ يُدْرِكُ الْحَجَّ وَأَنَّهُ قَدْ تَمَّ حَجُّهُ وَقَضَى تَفَثَهُ، وَلَمْ يَذْكُرْ أَنَّ عَلَيْهِ دَمًا، وَتَأْخِيرُ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ لاَ يَجُوزُ(3).
وَهُنَا مَسَائِل أَبْرَزَهَا الْفُقَهَاءُ وَبَيَّنُوا حُكْمَهَا :
الْمَسْأَلَةُ الأُْولَى : إِذَا جَاوَزَ عَرَفَةَ قَبْل غُرُوبِ الشَّمْسِ وَلَمْ يَعُدْ إِلَيْهَا، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِهِ وَلَهُمْ ثَلاَثَةُ آرَاءٍ :
الرَّأْيُ الأَْوَّل : يَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ دَمٌ لِتَرْكِهِ الْوَاجِبَ، كَمَا لَوْ تَرَكَ غَيْرَهُ مِنَ الْوَاجِبَاتِ، إِذْ أَنَّهُ تَرَكَ نُسُكًا فَعَلَهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ الْجَمْعُ بَيْنَ اللَّيْل وَالنَّهَارِ، وَالأَْصْل فِي تَرْكِ النُّسُكِ إِيجَابُ الدَّمِ إِلاَّ مَا خَرَجَ بِدَلِيلٍ .
__________
(1) - الدسوقي 2 / 35، 36، ومغني المحتاج 1 / 496، 498، ونهاية المحتاج 2 / 422، والإنصاف 4 / 59، والمغني لابن قدامة 3 / 371 .
(2) - حديث : " من جاء ليلة جمع قبل طلوع الفجر . . تقدم.
(3) - المجموع 8 / 102، وشرح العمدة في بيان مناسك الحج والعمرة 2 / 578 .(1/397)
الرَّأْيُ الثَّانِي : يَرَى الشَّافِعِيَّةُ فِي الْمَذْهَبِ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يُرِيقَ دَمًا اسْتِحْبَابًا خُرُوجًا مِنْ خِلاَفِ مَنْ أَوْجَبَهُ .
الرَّأْيُ الثَّالِثُ : يَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّهُ قَدْ فَاتَهُ الْحَجُّ، لأَِنَّ الْوُقُوفَ بِعَرَفَةَ سَاعَةً بَعْدَ الْغُرُوبِ رُكْنٌ لاَ يَنْجَبِرُ بِالدَّمِ .(1)
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : إِذَا جَاوَزَ عَرَفَةَ، ثُمَّ عَادَ إِلَيْهَا قَبْل غُرُوبِ الشَّمْسِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِهِ :
فَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّهُ إِذَا عَادَ إِلَى عَرَفَةَ قَبْل الْغُرُوبِ فَلاَ دَمَ عَلَيْهِ، لأَِنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ اللَّيْل وَالنَّهَارِ، غَيْرَ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ قَالُوا : إِنَّهُ إِذَا عَادَ إِلَيْهَا قَبْل الْغُرُوبِ قَبْل أَنْ يَدْفَعَ الإِْمَامُ سَقَطَ عَنْهُ الدَّمُ، لأَِنَّهُ اسْتَدْرَكَ الْمَتْرُوكَ، إِذْ جَمَعَ بَيْنَ اللَّيْل وَالنَّهَارِ، وَعِنْدَ زُفَرَ لاَ يَسْقُطُ .
أَمَّا إِنْ عَادَ إِلَى عَرَفَةَ قَبْل غُرُوبِ الشَّمْسِ بَعْدَمَا خَرَجَ الإِْمَامُ مِنْ عَرَفَةَ فَقَدْ ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّهُ يَسْقُطُ عَنْهُ الدَّمُ أَيْضًا، وَكَذَا رَوَى ابْنُ شُجَاعٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الدَّمَ يَسْقُطُ عَنْهُ أَيْضًا، وَذَكَرَ فِي الأَْصْل أَنَّهُ لاَ يَسْقُطُ عَنْهُ الدَّمُ .(2)
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : إِذَا جَاوَزَ عَرَفَةَ ثُمَّ عَادَ إِلَيْهَا بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ :
__________
(1) - بدائع الصنائع 2 / 127، وحاشية ابن عابدين 2 / 176، وحاشية الدسوقي 2 / 36، وعقد الجواهر الثمينة 1 / 406، والمدونة 1 / 413، ومغني المحتاج 1 / 498، 499، ونهاية المحتاج 2 / 422، والمغني 3 / 371، والفروع 3 / 510، وكشاف القناع 2 / 495 .
(2) - المراجع السابقة .(1/398)
فَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي مُقَابِل الأَْصَحِّ أَنَّهُ لاَ يَسْقُطُ عَنْهُ الدَّمُ، لأَِنَّهُ لَمَّا غَرَبَتِ الشَّمْسُ عَلَيْهِ قَبْل الْعَوْدِ، فَقَدْ تَقَرَّرَ عَلَيْهِ الدَّمُ الْوَاجِبُ، فَلاَ يُحْتَمَل السُّقُوطُ بِالْعُودِ ؛ لأَِنَّ النُّسُكَ الْوَارِدَ هُوَ الْجَمْعُ بَيْنَ آخِرِ النَّهَارِ وَأَوَّل اللَّيْل وَقَدْ فَاتَهُ .
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ أَنَّهُ لاَ دَمَ عَلَيْهِ ؛ لأَِنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ اللَّيْل وَالنَّهَارِ، وَصَحَّحَ فِي الْمَجْمُوعِ الْقَطْعَ بِهِ .(1)
الْخَطَأُ فِي الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ :
الْخَطَأُ فِي الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ لاَ يَخْلُو : إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي الْمَكَانِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي الزَّمَانِ
فَإِنْ كَانَ الْخَطَأُ فِي الْمَكَانِ بِحَيْثُ وَقَفَ الْحَجِيجُ بِغَيْرِ أَرْضِ عَرَفَةَ فَإِنَّ وُقُوفَهُمْ لاَ يُجْزِئُ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، فَيَلْزَمُهُمْ الْقَضَاءُ سَوَاءٌ كَانُوا جَمْعًا كَثِيرًا أَوْ قَلِيلاً .(2)
وَأَمَّا إِنْ كَانَ الْخَطَأُ فِي الزَّمَانِ فَإِنَّهُ لاَ يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي التَّقْدِيمِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي التَّأْخِيرِ . فَإِنْ كَانَ الْخَطَأُ فِي التَّأْخِيرِ بِأَنْ أَخْطَأَ النَّاسُ جَمِيعًا فَوَقَفُوا فِي الْعَاشِرِ " يَوْمَ النَّحْرِ ، فَفِيهِ رَأْيَانِ :
__________
(1) - المراجع السابقة .
(2) - البحر الرائق 2 / 365، والمنثور في القواعد للزركشي 2 / 122، ومغني المحتاج 1 / 499، وشرح العمدة 2 / 576، وعقد الجواهر الثمينة 1 / 404 ـ 406، ومنح الجليل 2 / 256 .(1/399)
الأَْوَّل : ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةُ فِي الاِسْتِحْسَانِ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ وُقُوفَهُمْ صَحِيحٌ لحديث أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ " الصَّوْمُ يَوْمَ تَصُومُونَ وَالْفِطْرُ يَوْمَ تُفْطِرُونَ وَالأَضْحَى يَوْمَ تُضَحُّونَ "(1).. و عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ قُلْتُ لِعَطَاءٍ : رَجُلٌ حَجَّ أَوَّلَ مَا حَجَّ فَأَخْطَأَ النَّاسُ بِيَوْمِ النَّحْرِ أَيَجْزِئُ عَنْهُ قَالَ : نَعَمْ إِى لَعَمْرِى إِنَّهَا لَتَجْزِئُ عَنْهُ قَالَ وَأَحْسِبُهُ قَالَ قَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - :" فِطْرُكُمْ يَوْمَ تُفْطِرُونَ وَأَضْحَاكُمْ يَوْمَ تُضَحُّونَ ". وَأُرَاهُ قَالَ :" وَعَرَفَةُ يَوْمَ تَعَرِّفُونَ ".(2). وَقَوْلُهُ وَحَجُّكُمْ يَوْمَ تَحُجُّونَ(3).
فَقَدْ جَعَل النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - وَقْتَ الْوُقُوفِ أَوِ الْحَجِّ هُوَ وَقْتَ تَقِفُ أَوْ تَحُجُّ فِيهِ النَّاسُ .
__________
(1) - سنن الترمذى (701 ) قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ وهو كما قال . وَفَسَّرَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ هَذَا الْحَدِيثَ فَقَالَ إِنَّمَا مَعْنَى هَذَا أَنَّ الصَّوْمَ وَالْفِطْرَ مَعَ الْجَمَاعَةِ وَعُظْمِ النَّاسِ.
(2) - السنن الكبرى للبيهقي(ج 5 / ص 176)(10113) صحيح مرسل
(3) - قال الحافظ ابن حجر في التلخيص ( 2 / 553 ـ ط علمية ) : لم أجده هكذا وبمعناه الحديث الذي قبله
وانظر فتاوى السبكي - (ج 1 / ص 424)وحفة الفقهاء - (ج 1 / ص 406) والمبسوط - (ج 5 / ص 63) وبدائع الصنائع في ترتيب الشرائع - (ج 4 / ص 374) والجوهرة النيرة - (ج 2 / ص 102) والذخيرة في الفقه المالكي للقرافي - (ج 3 / ص 117) وشرح الوجيز - (ج 7 / ص 365)(1/400)
الرَّأْيُ الثَّانِي : وَهُوَ مُقْتَضَى الْقِيَاسِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ عَدَمُ إِجْزَاءِ الْوُقُوفِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لأَِنَّ النَّاسَ وَقَفُوا فِي غَيْرِ وَقْتِ الْوُقُوفِ فَلاَ يَجُوزُ، كَمَا لَوْ تَبَيَّنَ أَنَّهُمْ وَقَفُوا يَوْمَ التَّرْوِيَةِ ، وَأَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ .(1)
أَمَّا إِذَا كَانَ الْخَطَأُ فِي التَّقْدِيمِ بِأَنْ أَخْطَأَ النَّاسُ جَمِيعًا فَوَقَفُوا يَوْمَ الثَّامِنِ (يَوْمَ التَّرْوِيَةِ ) فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي إِجْزَاءِ وُقُوفِهِمْ :
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَذْهَبِ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ إِلَى عَدَمِ إِجْزَاءِ الْوُقُوفِ فِي هَذَا الْيَوْمِ، لأَِنَّهُ خَطَأٌ غَيْرُ مَبْنِيٍّ عَلَى دَلِيلٍ رَأْسًا فَلَمْ يُعْذَرُوا فِيهِ . وَلأَِنَّ الْغَلَطَ بِالتَّقْدِيمِ يُمْكِنُ الاِحْتِرَازُ عَنْهُ(2).
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي مُقَابِل الأَْصَحِّ - قَال فِي الْبَيَانِ : وَعَلَيْهِ الأَْكْثَرُونَ - وَبَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى إِجْزَاءِ وُقُوفِهِمْ لِحَدِيثِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَالِدِ بْنِ أُسَيْدٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :" يَوْمُ عَرَفَةَ الْيَوْمُ الَّذِى يُعَرِّفُ النَّاسُ فِيهِ "(3)،وَلِحَدِيثِ الْفِطْرُ يَوْمَ تُفْطِرُونَ، وَالأَْضْحَى يَوْمَ تُضَحُّونَ(4).
__________
(1) - بدائع الصنائع 2 / 126، والإنصاف 4 / 66، وكشاف القناع 2 / 525، وعقد الجواهر الثمينة 1 / 406، ومغني المحتاج 1 / 498 .
(2) - بدائع الصنائع 2 / 126، ومغني المحتاج 1 / 499، وعقد الجواهر الثمينة 1 / 406 .
(3) - السنن الكبرى للبيهقي (ج 5 / ص 176)(10112) وقال هَذَا مُرْسَلٌ جَيِّدٌ
(4) - حديث : " الفطر يوم تفطرون . . . " سبق تخريجه ف 12 .(1/401)
وَاسْتَدَلُّوا كَذَلِكَ بِقِيَاسِ التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ .(1)
وُقُوفُ طَائِفَةٍ قَلِيلَةٍ رَأَتِ الْهِلاَل :
اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُقُوفِ طَائِفَةٍ قَلِيلَةٍ رَأَتْ هِلاَل ذِي الْحِجَّةِ مُنْفَرِدِينَ خِلاَفًا لِلْجَمَاعَةِ فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ إِلَى أَنَّهُمْ لاَ يُجْزِئُهُمُ الْوُقُوفُ، بَل يَقِفُونَ مَعَ الْجُمْهُورِ . وَقَيَّدَ الْحَنَفِيَّةُ هَذَا الْحُكْمَ بِمَا إِذَا اشْتَبَهَ عَلَى النَّاسِ فَوَقَفَ الإِْمَامُ وَالنَّاسُ يَوْمَ النَّحْرِ، حَيْثُ صَرَّحُوا بِأَنَّ مَنْ رَأَى الْهِلاَل فَوَقَفَ يَوْمَ عَرَفَةَ مُخَالِفًا لِلْجَمَاعَةِ لَمْ يُجْزِهِ وُقُوفُهُ، وَكَانَ عَلَيْهِ أَنْ يُعِيدَ الْوُقُوفَ مَعَ الإِْمَامِ، لأَِنَّ يَوْمَ النَّحْرِ صَارَ يَوْمَ الْحَجِّ فِي حَقِّ الْجَمَاعَةِ، وَوَقْتُ الْوُقُوفِ لاَ يَجُوزُ أَنْ يَخْتَلِفَ، فَلاَ يُعْتَدُّ بِمَا فَعَلَهُ بِانْفِرَادِهِ(2).
أَمَّا لَوْ وَقَفَ الإِْمَامُ وَالْجَمَاعَةُ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ، وَوَقَفَ الشُّهُودُ الَّذِينَ رَأَوُا الْهِلاَل حَسَبَ رُؤْيَتِهِمْ يَوْمَ عَرَفَةَ فَقَدْ وَرَدَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يَجُوزُ وُقُوفُهُمْ وَحَجُّهُمْ أَيْضًا(3).
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ فِي رِوَايَةٍ اخْتَارَهَا ابْنُ مُفْلِحٍ فِي الْفُرُوعِ إِلَى أَنَّهُ يَقِفُ مَرَّتَيْنِ إِنْ وَقَفَ بَعْضُهُمْ لاَ سِيَّمَا مَنْ رَآهُ .(4)
__________
(1) - كشاف القناع 2 / 525، والإنصاف 4 / 66، ومغني المحتاج 1 / 499، وعقد الجواهر الثمينة 1 / 406 .
(2) - المبدع 3 / 270، وبدائع الصنائع 2 / 126 .
(3) - بدائع الصنائع 2 / 126 .
(4) - المبدع 3 / 270 .(1/402)
وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ لَوِ انْفَرَدَ بَعْضُ الْحَجِيجِ بِالرُّؤْيَةِ لَزِمَهُ الْعَمَل بِرُؤْيَتِهِ، وَلَمْ يَجُزْ لَهُ مُوَافَقَةُ الْغَالِطِينَ وَإِنْ كَثُرُوا .(1)
وُقُوفُ مَنْ رُدَّتْ شَهَادَتُهُ :
قَال الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ : إِنَّ مَنْ رَأَى الْهِلاَل وَرُدَّتْ شَهَادَتُهُ، فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ الْوُقُوفُ فِي وَقْتِهِ، فَهُوَ كَمَنْ شَهِدَ بِرُؤْيَةِ شَهْرِ رَمَضَانَ فَرُدَّتْ شَهَادَتُهُ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ الصَّوْمُ .(2)
قَال الشَّافِعِيَّةُ : وَلَمْ يَجُزْ لَهُ مُوَافَقَةُ الْغَالِطِينَ فِي وُقُوفِهِمْ بَعْدَهُ وَإِنْ كَثُرُوا .(3)
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ : إِذَا شَهِدَ عِنْدَ الإِْمَامِ شَاهِدَانِ عَشِيَّةَ يَوْمِ عَرَفَةَ بِرُؤْيَةِ الْهِلاَل : فَإِنْ كَانَ الإِْمَامُ لَمْ يُمْكِنْهُ الْوُقُوفُ فِي بَقِيَّةِ اللَّيْل مَعَ النَّاسِ أَوْ أَكْثَرِهِمْ ، لَمْ يَعْمَل بِتِلْكَ الشَّهَادَةِ، وَوَقَفَ مِنَ الْغَدِ بَعْدَ الزَّوَالِ، لأَِنَّهُمْ وَإِنْ شَهِدُوا عَشِيَّةَ عَرَفَةَ لَكِنْ لَمَّا تَعَذَّرَ عَلَى الْجَمَاعَةِ الْوُقُوفُ فِي الْوَقْتِ وَهُوَ مَا بَقِيَ مِنَ اللَّيْل صَارُوا كَأَنَّهُمْ شَهِدُوا بَعْدَ الْوَقْتِ . فَإِنْ كَانَ الإِْمَامُ يُمْكِنُهُ الْوُقُوفُ قَبْل طُلُوعِ الْفَجْرِ مَعَ النَّاسِ أَوْ أَكْثَرِهِمْ بِأَنْ كَانَ يُدْرِكُ الْوُقُوفَ عَامَّةُ النَّاسِ، إِلاَّ أَنَّهُ لاَ يُدْرِكُهُ ضَعَفَةُ النَّاسِ ، جَازَ وُقُوفُهُ، فَإِنْ لَمْ يَقِفْ فَاتَ حَجُّهُ لأَِنَّهُ تَرَكَ الْوُقُوفَ فِي وَقْتِهِ مَعَ عِلْمِهِ بِهِ وَالْقُدْرَةِ عَلَيْهِ .
__________
(1) - تحفة المحتاج 4 / 112 .
(2) - حاشية الدسوقي 2 / 38، ومغني المحتاج 1 / 498 .
(3) - تحفة المحتاج مع حاشيتيه 4 / 112 .(1/403)
وَقَالُوا : وَكَذَا إِذَا أَخَّرَ الإِْمَامُ الْوُقُوفَ لِمَعْنًى يَسُوغُ فِيهِ الاِجْتِهَادُ لَمْ يُجْزِ وُقُوفُ مَنْ وَقَفَ قَبْلَهُ، فَإِنْ شَهِدَ شَاهِدَانِ عِنْدَ الإِْمَامِ بِهِلاَل ذِي الْحِجَّةِ فَرَدَّ شَهَادَتَهُمَا، لأَِنَّهُ لاَ عِلَّةَ بِالسَّمَاءِ، فَوَقَفَ بِشَهَادَتِهِمَا قَوْمٌ قَبْل الإِْمَامِ لَمْ يُجْزِ وُقُوفُهُمْ، لأَِنَّ الإِْمَامَ أَخَّرَ الْوُقُوفَ بِسَبَبٍ يَجُوزُ الْعَمَل عَلَيْهِ فِي الشَّرْعِ، فَصَارَ كَمَا لَوْ أَخَّرَ بِالاِشْتِبَاهِ .(1)
غَلَطُ الْحَجِيجِ فِي الْوُقُوفِ إِذَا قَل عَدَدُهُمْ عَنِ الْمُعْتَادِ :
نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ وَقَفَ الْحَجِيجُ الْيَوْمَ الْعَاشِرَ غَلَطًا أَجْزَأَهُمْ، إِلاَّ أَنْ يَقِلُّوا عَلَى خِلاَفِ الْعَادَةِ، فَيَقْضُونَ فِي الأَْصَحِّ لِعَدَمِ الْمَشَقَّةِ الْعَامَّةِ .
وَمُقَابِل الأَْصَحِّ : لاَ قَضَاءَ عَلَيْهِمْ لأَِنَّهُمْ لاَ يَأْمَنُونَ مِثْلَهُ فِي الْقَضَاءِ .(2)
نِيَّةُ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ :
اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اشْتِرَاطِ النِّيَّةِ لِلْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ :
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ فِي الْجُمْلَةِ إِلَى أَنَّهُ لاَ تُشْتَرَطُ النِّيَّةُ لِصِحَّةِ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ .
وَصَرَّحَ الْكَاسَانِيُّ بِصِحَّةِ الْوُقُوفِ، سَوَاءٌ نَوَى الْوُقُوفَ عِنْدَ الْوُقُوفِ أَوْ لَمْ يَنْوِ ، بِخِلاَفِ الطَّوَافِ(3).
وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِاسْتِحْبَابِ النِّيَّةِ لِلْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ .(4)
__________
(1) - بدائع الصنائع 2 / 126 ـ 127 .
(2) - مغني المحتاج 1 / 499، وتحفة المحتاج 4 / 112 .
(3) - بدائع الصنائع 2 / 127، وابن عابدين 2 / 175 .
(4) - حاشية ابن عابدين 2 / 175 .(1/404)
وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ كَيْفَمَا حَصَل الْوَاقِفُ بِعَرَفَةَ وَهُوَ عَاقِلٌ أَجَزَأَهُ ، قَائِمًا أَوْ جَالِسًا أَوْ رَاكِبًا أَوْ نَائِمًا، وَإِنْ مَرَّ بِهَا مُجْتَازًا فَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّهَا عَرَفَةَ أَجْزَأَهُ أَيْضًا .(1)
وَقَالُوا : لاَ يَصِحُّ الْوُقُوفُ مِنَ الْمَجْنُونِ .
وَلاَ يَصِحُّ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ وُقُوفُ السَّكْرَانِ وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ، وَقِيل : يَصِحُّ ، وَيَصِحُّ الْوُقُوفُ مَعَ نَوْمٍ وَجَهْلٍ فِي الأَْصَحِّ، وَقِيل : لاَ يَصِحُّ مِنْهُمَا .(2)
وَنَقَل النَّوَوِيُّ عَنِ الإِْمَامِ الشَّافِعِيِّ وَالأَْصْحَابِ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ الْحُضُورُ فِي جُزْءٍ مِنْ عَرَفَاتٍ وَلَوْ فِي لَحْظَةٍ لَطِيفَةٍ بِشَرْطِ كَوْنِهِ أَهْلاً لِلْعِبَادَةِ، سَوَاءٌ حَضَرَهَا عَمْدًا أَوْ وَقَفَ مَعَ الْغَفْلَةِ وَالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَالتَّحَدُّثِ وَاللَّهْوِ وَفِي حَالَةِ النَّوْمِ ، أَوِ اجْتَازَ فِيهَا فِي وَقْتِ الْوُقُوفِ وَهُوَ لاَ يَعْلَمُ أَنَّهَا عَرَفَاتٌ ، فَيَصِحُّ وُقُوفُهُ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الصُّوَرِ وَنَحْوِهَا .(3)
وَاسْتَثْنَى الْمَالِكِيَّةُ مِنْ أَصْل عَدَمِ اشْتِرَاطِ النِّيَّةِ لِصِحَّةِ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ الْمَارَّ بِهَا بَعْدَ دَفْعِ الإِْمَامِ، حَيْثُ يَشْتَرِطُونَ لِصِحَّةِ وُقُوفِهِ أَنْ يَنْوِيَ الْوُقُوفَ وَيَعْلَمَ بِأَنَّهُ مَارٌّ عَلَى عَرَفَةَ .(4)
وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ فِي وَجْهٍ وُجُوبَ إِفْرَادِ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ بِالنِّيَّةِ .(5)
__________
(1) - المغني لابن قدامة 3 / 416، ومغني المحتاج 1 / 498 .
(2) - الإنصاف 4 / 29 ـ 30 .
(3) - المجموع 8 / 103 .
(4) - حاشية الدسوقي 2 / 37 .
(5) - روضة الطالبين 3 / 95 ، والمجموع 8 / 103 .(1/405)
وَقَال أَبُو ثَوْرٍ : لاَ يُجْزِئُهُ إِلاَّ إِذَا كَانَ وَاقِفًا بِإِرَادَةٍ .(1)
سُنَنُ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ
أ - الْغُسْل لِلْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ :
ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي قَوْلٍ إِلَى أَنَّهُ يُسَنُّ الاِغْتِسَال لِلْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَلَيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَغْتَسِلُونَ إِذَا رَاحُوا لِعَرَفَةَ .
فَعَنْ زَاذَانَ قَالَ : سَأَلَ رَجُلٌ عَلِيًّا رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ الْغُسْلِ قَالَ : اغْتَسِلْ كُلَّ يَوْمٍ إِنْ شِئْتَ. فَقَالَ : لاَ الْغُسْلُ الَّذِى هُوَ الْغُسْلُ قَالَ : يَوْمَ الْجُمُعَةِ ، وَيَوْمَ عَرَفَةَ ، وَيَوْمَ النَّحْرِ ، وَيَوْمَ الْفِطْرِ.(2).
وَلِمَا رويَ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ يَغْتَسِلُ لإِحْرَامِهِ قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ وَلِدُخُولِهِ مَكَّةَ وَلِوُقُوفِهِ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ.(3).
وَلأَِنَّهُ قُرْبَةٌ يَجْتَمِعُ لَهَا الْخَلْقُ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ فَشُرِعَ لَهَا الْغُسْل كَصَلاَةِ الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّ الاِغْتِسَال لِيَوْمِ عَرَفَةَ مُسْتَحَبٌّ فَإِنْ عَجَزَ عَنِ الْغُسْل فَقَدْ قَال الشَّافِعِيَّةُ : إِنَّهُ يَتَيَمَّمُ .(4)
__________
(1) - المغني 3 / 416 .
(2) - السنن الكبرى للبيهقي (ج 3 / ص 278)(6343) صحيح
(3) - موطأ مالك (710 ) 323/1 صحيح
(4) - حاشية الطحاوي على مراقى الفلاح ص 400، والمغني لابن قدامة 3 / 367، 372، والفواكه الدواني 1 / 420، والمجموع للنووي 8 / 90، 97، ومسند الإمام الشافعي مع الأم 8 / 470، وحاشية الباجوري على ابن قاسم 1 / 117 ـ 121، وكشاف القناع 2 / 492، وعقد الجواهر الثمينة 1 / 402 .(1/406)
ب - خُطْبَةُ عَرَفَةَ وَكَوْنُهَا بَعْدَ الزَّوَال :
وَهِيَ خُطْبَتَانِ بَعْدَ الزَّوَال قَبْل الصَّلاَةِ، يَفْصِل بَيْنَهُمَا بِجِلْسَةٍ خَفِيفَةٍ كَمَا فِي الْجُمُعَةِ لِلاِتِّبَاعِ، وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ : اسْتُحِبَّ لِلإِْمَامِ أَوْ نَائِبِهِ أَنْ يَخْطُبَ خُطْبَةً وَاحِدَةً يَقْصُرُهَا .(1)
وَاسْتَدَل الْبُهُوتِيُّ عَلَى تَقْصِيرِ الْخُطْبَةِ لِقَوْل سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ كَتَبَ إِلَى الْحَجَّاجِ أَنْ يَأْتَمَّ بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ فِى الْحَجِّ ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ عَرَفَةَ جَاءَ ابْنُ عُمَرَ - رضى الله عنهما - وَأَنَا مَعَهُ حِينَ زَاغَتِ الشَّمْسُ أَوْ زَالَتْ ، فَصَاحَ عِنْدَ فُسْطَاطِهِ أَيْنَ هَذَا فَخَرَحَ إِلَيْهِ فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ الرَّوَاحَ . فَقَالَ الآنَ قَالَ نَعَمْ . قَالَ أَنْظِرْنِى أُفِيضُ عَلَىَّ مَاءً . فَنَزَلَ ابْنُ عُمَرَ - رضى الله عنهما - حَتَّى خَرَجَ ، فَسَارَ بَيْنِى وَبَيْنَ أَبِى . فَقُلْتُ إِنْ كُنْتَ تُرِيدُ أَنْ تُصِيبَ السُّنَّةَ الْيَوْمَ فَاقْصُرِ الْخُطْبَةَ وَعَجِّلِ الْوُقُوفَ . فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ صَدَقَ(2)..
ج - الْجَمْعُ بَيْنَ الصَّلاَتَيْنِ يَوْمَ عَرَفَةَ :
__________
(1) - الإقناع للحجاوي 1 / 387، وكشاف القناع 2 / 491، والإنصاف 4 / 28، وشرح منتهى الإرادات 1 / 569 .
(2) - صحيح البخاري (1663 )(1/407)
يُسَنُّ أَنْ يَجْمَعَ الْحَاجُّ بَيْنَ صَلاَتَيِ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ تَقْدِيمًا ، فِي وَقْتِ الظُّهْرِ، بِأَذَانٍ وَإِقَامَتَيْنِ، اتِّبَاعًا لِلسُّنَّةِ الَّتِي فَعَلَهَا النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - . وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ الْجَمْعَ بِأَذَانَيْنِ : أَذَانٌ لِلظُّهْرِ وَأَذَانٌ لِلْعَصْرِ .(1)
وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ : الْحَنَفِيَّةُ فِي الْمَذْهَبِ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي وَجْهٍ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ أَنَّ هَذَا الْجَمْعَ مِنْ مَنَاسِكِ الْحَجِّ الْمَسْنُونَةِ .
وَفِي الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ هَذَا الْجَمْعَ لَيْسَ مِنْ مَنَاسِكِ الْحَجِّ الْمَسْنُونَةِ، بَل هُوَ مِنْ قَبِيل رُخْصَةِ الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلاَتَيْنِ فِي السَّفَرِ، لِذَلِكَ اشْتَرَطُوا فِيهِ شُرُوطَ السَّفَرِ . وَبِهَذَا يَقُول بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ ، مِنْهُمُ الْقَاضِي وَأَبُو الْخَطَّابِ وَابْنُ عَقِيلٍ .(2)
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي وَجْهٍ ثَالِثٍ إِلَى أَنَّ سَبَبَ الْجَمْعِ هُوَ أَصْل السِّفْرِ، فَيَجُوزُ لِلْمَكِّيِّ وَلاَ يَجُوزُ لأَِهْل عَرَفَةَ .(3)
وَاشْتَرَطَ الْحَنَفِيَّةُ لِلْجَمْعِ بَيْنَ صَلاَتَيِ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ بِعَرَفَةَ - أَيْ تَقْدِيمِ الْعَصْرِ عَلَى وَقْتِهَا وَأَدَائِهَا فِي وَقْتِ الظُّهْرِ - شَرَائِطَ :
__________
(1) - عقد الجواهر الثمينة 1 / 403، والمغني 3 / 366، وكشاف القناع 2 / 491، وتبيين الحقائق 2 / 230، ومغني المحتاج 1 / 496 .
(2) - ابن عابدين 2 / 173، والفتاوى الهندية 1 / 228، والزرقاني 2 / 40، ومغني المحتاج 1 / 496، وكتاب الإيضاح في مناسك الحج والعمرة ص 273 .
(3) - هداية السالك لابن جماعة 3 / 992 .(1/408)
مِنْهَا : أَنْ تَكُونَ مُرَتَّبَةً عَلَى ظُهْرٍ جَائِزٍ اسْتِحْسَانًا، فَلَوْ صَلَّى الظُّهْرَ قَبْل الزَّوَال عَلَى ظَنِّ أَنَّ الشَّمْسَ نَزَلَتْ ، وَالْعَصْرَ بَعْدَهُ ، أَعَادَ الْخُطْبَةَ وَالصَّلاَتَيْنِ اسْتِحْسَانًا .
وَمِنْهَا : الْوَقْتُ ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ يَوْمَ عَرَفَةَ، وَالْمَكَانُ ، وَهُوَ عَرَفَاتٌ .
وَمِنْهَا : إِحْرَامُ الْحَجِّ . قَالُوا : يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مُحْرِمًا بِالْحَجِّ عِنْدَ أَدَاءِ الصَّلاَتَيْنِ، حَتَّى لَوْ كَانَ مُحْرِمًا بِالْعُمْرَةِ عِنْدَ أَدَاءِ الظُّهْرِ وَمُحْرِمًا بِالْحَجِّ عِنْدَ أَدَاءِ الْعَصْرِ لاَ يَجُوزُ لَهُ الْجَمْعُ ، كَذَا فِي فَتَاوَى قَاضِي خَانَ . ثُمَّ لاَ بُدَّ مِنَ الإِْحْرَامِ بِالْحَجِّ قَبْل الزَّوَال فِي رِوَايَةٍ ، تَقْدِيمًا لِلإِْحْرَامِ عَلَى وَقْتِ الْجَمْعِ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى يُكْتَفَى بِالتَّقْدِيمِ عَلَى الصَّلاَةِ، لأَِنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الصَّلاَةُ . وَهُوَ الصَّحِيحُ .
وَمِنْهَا : الْجَمَاعَةُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، وَعِنْدَ الصَّاحِبَيْنِ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ، فَمَنْ صَلَّى الظُّهْرَ وَحْدَهُ فِي رَحْلِهِ صَلَّى الْعَصْرَ فِي وَقْتِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ . وَقَالاَ : يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا الْمُنْفَرِدُ . وَفِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ : وَالصَّحِيحُ قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ . وَلَوْ فَاتَتَاهُ مَعَ الإِْمَامِ أَوْ فَاتَتْهُ وَاحِدَةٌ مِنْهُمَا صَلَّى الْعَصْرَ لِوَقْتِهِ، وَلاَ يَجُوزُ لَهُ تَقْدِيمُ الْعَصْرِ عَلَى قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ .(1/409)
وَمِنْهَا : أَنْ يَكُونَ الإِْمَامُ هُوَ الإِْمَامَ الأَْعْظَمَ أَوْ نَائِبَهُ، وَهُوَ شَرْطٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ . فَلَوْ صَلَّى الظُّهْرَ بِجَمَاعَةٍ لاَ مَعَ الإِْمَامِ، وَالْعَصْرَ مَعَ الإِْمَامِ ، لَمْ يُجْزِ الْعَصْرُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحِمَهُ اللهُ.(1)
وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ : الْحَنَفِيَّةُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَهُوَ الْمُذَهَّبُ عِنْدَهُمْ، وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يُكْرَهُ التَّطَوُّعُ بَيْنَ صَلاَتَيِ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ بِعَرَفَةَ، لِحَدِيثِ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : ثُمَّ أَذَّنَ ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى الظُّهْرَ ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى الْعَصْرَ وَلَمْ يُصَلِّ بَيْنَهُمَا شَيْئًا(2).
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ فِي غَيْرِ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُتَطَوَّعُ بَيْنَ الصَّلاَتَيْنِ غَيْرُ سُنَّةِ الظُّهْرِ .(3)
د - التَّعْجِيل فِي الْوُقُوفِ :
__________
(1) - الفتاوى الهندية 1 / 228 ـ 229، وانظر ابن عابدين 2 / 174، واللباب 1 / 189 .
(2) - مسلم (3009 )
(3) - حاشية ابن عابدين 2 / 173، والفتاوى الهندية 1 / 228، ومطالب أولي النهى 2 / 411، والدسوقي 1 / 371، والإيضاح في مناسك الحج والعمرة للإمام النووي ص 275، ومغني المحتاج 1 / 273 .(1/410)
اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا فَرَغَ النَّاسُ مِنْ صَلاَتَيِ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ، فَإِنَّ السُّنَّةَ أَنْ يَسِيرُوا فِي الْحَال إِلَى الْمَوْقِفِ وَيُعَجِّلُوا الْمَسِيرَ . قَال النَّوَوِيُّ : هَذَا التَّعْجِيل مُسْتَحَبٌّ بِالإِْجْمَاعِ(1). لِحَدِيثِ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قَال : " كَتَبَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ إِلَى الْحَجَّاجِ : أَنْ لاَ يُخَالِفَ ابْنَ عُمَرَ فِي الْحَجِّ . فَجَاءَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَأَنَا مَعَهُ يَوْمَ عَرَفَةَ حِينَ زَالَتِ الشَّمْسُ، فَصَاحَ عِنْدَ سُرَادِقِ الْحَجَّاجِ، فَخَرَجَ وَعَلَيْهِ مِلْحَفَةٌ مُعَصْفَرَةٌ، فَقَال : مَا لَكَ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ ؟ فَقَال : الرَّوَاحَ إِنْ كُنْتَ تُرِيدُ السُّنَّةَ . قَال : هَذِهِ السَّاعَةَ ؟ قَال : نَعَمْ، قَال : فَأَنْظِرْنِي حَتَّى أُفِيضَ عَلَى رَأْسِي ثُمَّ أَخْرُجَ . فَنَزَل حَتَّى خَرَجَ الْحَجَّاجُ، فَسَارَ بَيْنِي وَبَيْنَ أَبِي، فَقُلْتُ : إِنْ كُنْتَ تُرِيدُ السُّنَّةَ فَاقْصُرِ الْخُطْبَةَ وَعَجِّل الْوُقُوفَ . فَجَعَل يَنْظُرُ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ عَبْدُ اللَّهِ قَال : صَدَقَ "(2).
هـ - الإِْفَاضَةُ بَعْدَ الْغُرُوبِ يَوْمَ عَرَفَةَ :
__________
(1) - المجموع 8 / 101، 110، وهداية السالك لابن جماعة 3 / 1005، والمغني لابن قدامة 3 / 408 ط الرياض، والمبدع 3 / 331 .
(2) - مر تخريجه قبل قليل(1/411)
إِذَا غَرَبَتِ الشَّمْسُ يَوْمَ عَرَفَةَ أَفَاضَ الإِْمَامُ وَالنَّاسُ وَعَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ وَالْوَقَارُ ، فَمَنْ وَجَدَ فُرْجَةً أَسْرَعَ فِيهَا، لِحَدِيثِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَالَ سُئِلَ أُسَامَةُ وَأَنَا جَالِسٌ كَيْفَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَسِيرُ فِى حَجَّةِ الْوَدَاعِ حِينَ دَفَعَ قَالَ كَانَ يَسِيرُ الْعَنَقَ ، فَإِذَا وَجَدَ فَجْوَةً نَصَّ(1). أَيْ أَسْرَعَ، وَالْعَنَقُ : انْبِسَاطُ السَّيْرِ، وَالنَّصُّ فَوْقَ الْعَنَقِ .
فَإِنْ مَكَثَ الْحَاجُّ بَعْدَمَا أَفَاضَ الإِْمَامُ مُكُوثًا طَوِيلاً بِلاَ عُذْرٍ حَتَّى ظَهَرَ اللَّيْل أَسَاءَ، وَلَوْ أَبْطَأَ الإِْمَامُ وَلَمْ يُفِضْ أَفَاضُوا لأَِنَّ الإِْمَامَ أَخْطَأَ السُّنَّةَ .(2)
و - الطَّهَارَةُ :
يَكُونُ الْحَاجُّ طَاهِرًا مُدَّةَ الْوُقُوفِ، وَهُوَ سُنَّةٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ فِي قَوْلٍ، وَمُسْتَحَبٌّ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَالْمَالِكِيَّةِ فِي الْمُعْتَمَدِ . .(3)
ز - مَكَانُ الْوُقُوفِ :
__________
(1) - صحيح البخارى (1666 )
(2) - حاشية ابن عابدين 2 / 276، ومطالب أولي النهى 2 / 416، وكشاف القناع 2 / 495 - 496، ومغني المحتاج 1 / 497، والإيضاح للنووي ص295، والفواكه الدواني 1 / 421، والقوانين الفقهية ص 138 .
(3) - المغني لابن قدامة 3 / 416 - 417، والفتاوى الهندية 1 / 229، والفواكه الدواني 1 / 421، والمجموع 8 / 110، ومغني المحتاج 1 / 479 .(1/412)
يُسَنُّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَيُسْتَحَبُّ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ أَنْ يَقِفَ قُرْبَ جَبَل الرَّحْمَةِ عِنْدَ الصَّخَرَاتِ الْكِبَارِ السُّودِ الْمَفْرُوشَةِ عِنْدَ أَسْفَل الْجَبَلِ، فَذَلِكَ وَصْفُ مَكَانِ وُقُوفِهِ - صلى الله عليه وسلم - ، وَإِنْ تَعَذَّرَ أَنْ يَقْرُبَ مِنْهُ فَبِحَسْبِ الإِْمْكَانِ .(1)
وَلاَ يُشْرَعُ صُعُودُ الْجَبَل إِجْمَاعًا ، قَالَهُ تَقِيُّ الدِّينِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ(2).
وقَال النَّوَوِيُّ : وَأَمَّا مَا اشْتُهِرَ عِنْدَ الْعَوَامِّ مِنَ الاِعْتِنَاءِ بِالْوُقُوفِ عَلَى جَبَل الرَّحْمَةِ الَّذِي بِوَسَطِ عَرَفَاتٍ، وَتَرْجِيحِهِمْ لَهُ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ أَرْضِ عَرَفَاتٍ، حَتَّى رُبَّمَا تَوَهَّمَ كَثِيرٌ مِنْ جَهَلَتِهِمْ أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ الْوُقُوفُ إِلاَّ بِهِ - فَخَطَأٌ مُخَالِفٌ لِلسُّنَّةِ، وَلَمْ يَذْكُرْ أَحَدٌ مِمَّنْ يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ فِي صُعُودِ الْجَبَل فَضِيلَةً ، إِلاَّ أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ ، فَإِنَّهُ قَال : يُسْتَحَبُّ الْوُقُوفُ عَلَيْهِ ، وَكَذَا قَال أَبُو الْحَسَنِ الْمَاوَرْدِيُّ الْبَصْرِيُّ صَاحِبُ الْحَاوِي مِنْ أَصْحَابِنَا : يُسْتَحَبُّ أَنْ يَقْصِدَ هَذَا الْجَبَل الَّذِي يُقَال لَهُ جَبَل الدُّعَاءِ .(3)
ح - الإِْكْثَارُ مِنْ عَمَل الْخَيْرِ يَوْمَ عَرَفَةَ :
__________
(1) - المجموع 8 / 93 ،105 ، 111، والمبدع 3 / 331، والفتاوى الهندية 1 / 229، وحاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح ص400، والفواكه الدواني 1 / 421، وصحيح مسلم بشرح النووي 7 / 151 .
(2) - المبدع 3 / 332، ومعونة أولي النهى 3 / 425 .
(3) - الإيضاح في مناسك الحج والعمرة 281 - 282 المكتبة الإمدادية .(1/413)
يُسْتَحَبُّ فِي يَوْمِ عَرَفَةَ الإِْكْثَارُ مِنْ أَعْمَال الْخَيْرَاتِ بِأَنْوَاعِهَا مِنَ الْعِبَادَاتِ وَالأَْذْكَارِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ : " مَا الْعَمَلُ فِى أَيَّامِ الْعَشْرِ أَفْضَلَ مِنَ الْعَمَلِ فِى هَذِهِ " . قَالُوا وَلاَ الْجِهَادُ ؟ قَالَ: " وَلاَ الْجِهَادُ ، إِلاَّ رَجُلٌ خَرَجَ يُخَاطِرُ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ ، فَلَمْ يَرْجِعْ بِشَىْءٍ "(1)..
ط - الإِْكْثَارُ مِنَ الدُّعَاءِ وَالذِّكْرِ يَوْمَ عَرَفَةَ :
السُّنَّةُ أَنْ يُكْثِرَ مِنَ الدُّعَاءِ بِالْمَأْثُورِ وَغَيْرِهِ وَالتَّهْلِيل وَالتَّلْبِيَةِ وَالاِسْتِغْفَارِ وَالتَّوْبَةِ وَالتَّضَرُّعِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَالصَّلاَةِ عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، فَهَذِهِ وَظِيفَةُ هَذَا الْيَوْمِ ، وَلاَ يُقَصِّرُ فِي ذَلِكَ ، وَهُوَ مُعْظَمُ الْحَجِّ وَمَطْلُوبُهُ، وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَال : الْحَجُّ عَرَفَةُ(2). فَيَنْبَغِي أَنْ لاَ يُقَصِّرَ فِي الاِهْتِمَامِ بِذَلِكَ وَاسْتِفْرَاغِ الْوُسْعِ فِيهِ، وَيُكْثِرُ مِنْ هَذَا الذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ قَائِمًا وَقَاعِدًا وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ فِي الدُّعَاءِ .
__________
(1) - صحيح البخارى (969 )
(2) - حديث : " الحج عرفة . . " تقدم تخريجه(1/414)
وَيَنْبَغِي أَنْ يَأْتِيَ بِهَذِهِ الأَْذْكَارِ كُلِّهَا، فَتَارَةً يُهَلِّلُ، وَتَارَةً يُكَبِّرُ، وَتَارَةً يُسَبِّحُ، وَتَارَةً يَقْرَأُ الْقُرْآنَ، وَتَارَةً يُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، وَتَارَةً يَدْعُو، وَتَارَةً يَسْتَغْفِرُ . وَيَدْعُو مُفْرَدًا وَفِي جَمَاعَةٍ . وَلْيَدْعُ لِنَفْسِهِ وَلِوَالِدَيْهِ وَمَشَايِخِهِ وَأَقَارِبِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَصْدِقَائِهِ وَأَحِبَّائِهِ وَسَائِرِ مَنْ أَحْسَنَ إِلَيْهِ وَسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُكَرِّرَ الاِسْتِغْفَارَ وَالتَّلَفُّظَ بِالتَّوْبَةِ مِنْ جَمِيعِ الْمُخَالَفَاتِ، مَعَ النَّدَمِ بِالْقَلْبِ، وَأَنْ يُكْثِرَ الْبُكَاءَ مَعَ الذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ، فَهُنَاكَ تُسْكَبُ الْعَبَرَاتُ وَتُسْتَقَال الْعَثَرَاتُ وَتُرْتَجَى الطَّلَبَاتُ، وَإِنَّهُ لَمَجْمَعٌ عَظِيمٌ وَمَوْقِفٌ جَسِيمٌ، يَجْتَمِعُ فِيهِ خِيَارُ عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ وَأَوْلِيَائِهِ الْمُخْلِصِينَ وَالْخَوَاصِّ الْمُقَرَّبِينَ، وَهُوَ أَعْظَمُ مَجَامِعِ الدُّنْيَا .(1)
فَعَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ أَنَّ عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ حَدَّثَهُمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ " مَا عَلَى الأَرْضِ مُسْلِمٌ يَدْعُو اللَّهَ بِدَعْوَةٍ إِلاَّ آتَاهُ اللَّهُ إِيَّاهَا أَوْ صَرَفَ عَنْهُ مِنَ السُّوءِ مِثْلَهَا مَا لَمْ يَدْعُ بِمَأْثَمٍ أَوْ قَطِيعَةِ رَحِمٍ ". فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ إِذًا نُكْثِرَ. قَالَ " اللَّهُ أَكْثَرُ "(2)..
ي - َالْجَمْعُ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ بِمُزْدَلِفَةَ بَعْدَ الْخُرُوجِ مِنْ عَرَفَةَ :
__________
(1) - المجموع 8 / 113 - 114 .
(2) - سنن الترمذى (3922 ) صحيح(1/415)
السُّنَّةُ أَنْ يَجْمَعَ الْحَاجُّ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ بِمُزْدَلِفَةَ ، وَهَذَا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي حُكْمِ صَلاَةِ مَنْ صَلَّى الْمَغْرِبَ قَبْل أَنْ يَأْتِيَ مُزْدَلِفَةَ .
فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ ( الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَذْهَبِ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَأَبُو يُوسُفَ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ ) إِلَى أَنَّ مَنْ صَلَّى الْمَغْرِبَ بِالطَّرِيقِ تَرَكَ السُّنَّةَ وَأَجْزَأَهُ، لأَِنَّ كُل صَلاَتَيْنِ جَازَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا جَازَ التَّفْرِيقُ بَيْنَهُمَا كَالظُّهْرِ وَالْعَصْرِ بِعَرَفَةَ .
وَبِهِ قَال عَطَاءٌ وَعُرْوَةُ وَالْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ .(1)
وَقَيَّدَ الْمَالِكِيَّةُ سُنِّيَّةَ أَوْ مَنْدُوبِيَّةَ الْجَمْعِ بَيْنَ صَلاَتَيِ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ بِمُزْدَلِفَةَ بِأَنْ يَكُونَ الْحَاجُّ قَدْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ مَعَ الإِْمَامِ، وَسَارَ مَعَ النَّاسِ أَوْ تَخَلَّفَ عَنْهُمُ اخْتِيَارًا، فَمَنْ لَمْ يَقِفْ مَعَ الإِْمَامِ يُصَلِّي كُلًّا مِنَ الصَّلاَتَيْنِ فِي وَقْتِهَا .
وَقَالُوا : إِنْ وَقَفَ مَعَ الإِْمَامِ ثُمَّ عَجَزَ عَنْ لِحَاقِ النَّاسِ فِي سَيْرِهِمْ لِمُزْدَلِفَةَ فَبَعْدَ الشَّفَقِ يَجْمَعُ فِي أَيِّ مَحَلٍّ كَانَ .
__________
(1) - المغني 3 / 418، 420، ومطالب أولي النهى 2 / 416 - 417، وكشاف القناع 2 / 496، والدسوقي 2 / 44، ومغني المحتاج 1 / 498، والمجموع 8 / 133، والفتاوى الهندية 1 / 230، وابن عابدين 2 / 177 .(1/416)
وَإِذَا قُدِّمَتَا عَلَى النُّزُول بِمُزْدَلِفَةَ وَالْحَال أَنَّهُ مُطَالَبٌ بِالْجَمْعِ لِكَوْنِهِ وَقْفَ مَعَ الإِْمَامِ وَسَارَ مَعَ النَّاسِ . فَقَال ابْنُ الْقَاسِمِ : يُعِيدُ، لأَِنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - ضَرَبَ لَهَا مِيقَاتًا .
وَقَال أَشْهَبُ : يُعِيدُ الْعِشَاءَ وَحْدَهَا إِنْ صَلاَّهَا قَبْل مَغِيبِ الشَّفَقِ، وَالتَّأْخِيرُ عِنْدَهُ رُخْصَةٌ لاَ عَزِيمَةٌ . وَالإِْعَادَةُ عَلَى هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ عَلَى وَجْهِ النَّدْبِ .(1)
وَقَيَّدَ الشَّافِعِيَّةُ مُخَالَفَةَ السُّنَّةِ بِعَدَمِ خَشْيَةِ فَوَاتِ وَقْتِ الاِخْتِيَارِ لِصَلاَةِ الْعِشَاءِ وَهُوَ ثُلُثُ اللَّيْل فِي أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ، وَنِصْفُ اللَّيْل فِي الْوَجْهِ الآْخَرِ، فَمَنْ خَافَ فَوَاتَ هَذَا الْوَقْتِ فَإِنَّهُ لاَ يُؤَخِّرُ الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ بُغْيَةَ أَدَائِهَا فِي مُزْدَلِفَةَ، بَل يَجْمَعُ فِي الطَّرِيقِ .
وَيَشْتَرِطُ الشَّافِعِيَّةُ لِلْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلاَتَيْنِ فِي عَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ تَوَافُرَ شُرُوطِ السَّفَرِ .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ - عَدَا أَبِي يُوسُفَ - وَالثَّوْرِيُّ وَابْنُ حَبِيبٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّ تَأْخِيرَ صَلاَةِ الْمَغْرِبِ لأَِجْل أَدَائِهَا فِي مُزْدَلِفَةَ وَاجِبٌ، فَمَنْ صَلَّى الْمَغْرِبَ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ قَبْل أَنْ يَأْتِيَ مُزْدَلِفَةَ فَعَلَيْهِ أَنْ يُعِيدَهَا إِذَا أَتَى مُزْدَلِفَةَ مَا لَمْ يَطْلُعِ الْفَجْرَ .
__________
(1) - عقد الجواهر الثمينة 1 / 404، والدسوقي 2 / 44، والذخيرة 3 / 62، والقوانين الفقهية ص 138 .(1/417)
وَكَذَا الْحُكْمُ لَوْ صَلَّى الْعِشَاءَ فِي الطَّرِيقِ بَعْدَ دُخُول وَقْتِهَا .(1)
وَلَوْ صَلَّى الْفَجْرَ قَبْل أَنْ يُعِيدَ صَلاَتَيِ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ بِمُزْدَلِفَةَ عَادَتَا إِلَى الْجَوَازِ بِاتِّفَاقِ الْحَنَفِيَّةِ(2).
وَشَرَائِطُ هَذَا الْجَمْعِ بِمُزْدَلِفَةَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ :
الإِْحْرَامُ بِالْحَجِّ تَقْدِيمُ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ عَلَيْهِ .
وَالزَّمَانُ، وَهُوَ لَيْلَةُ النَّحْرِ .
وَالْمَكَانُ، وَهُوَ مُزْدَلِفَةُ .
وَالْوَقْتُ، وَهُوَ وَقْتُ الْعِشَاءِ مَا لَمْ يَطْلُعِ الْفَجْرَ .(3)
وَنَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّ مَنْ ذَهَبَ إِلَى مَكَّةَ مِنْ غَيْرِ طَرِيقِ الْمُزْدَلِفَةِ جَازَ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ الْمَغْرِبَ فِي الطَّرِيقِ بِلاَ تَوَقُّفٍ فِي ذَلِكَ، وَأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَمُرَّ عَلَى الْمُزْدَلِفَةِ لَزِمَهُ صَلاَةُ الْمَغْرِبِ فِي الطَّرِيقِ فِي وَقْتِهَا لِعَدَمِ الشَّرْطِ ( وَهُوَ الْمَكَانُ ) وَكَذَا لَوْ بَاتَ فِي عَرَفَاتٍ(4)
مَكْرُوهَاتُ يَوْمِ عَرَفَةَ :
أ - تَرْكُ الإِْقَامَةِ بَيْنَ الصَّلاَتَيْنِ الْمَجْمُوعَتَيْنِ بِعَرَفَةَ :
__________
(1) - مغني المحتاج 1 / 498، والمجموع 8 / 133، والإيضاح للنووي ص295، وعقد الجواهر الثمينة 1 / 404، والدسوقي 2 / 44، والذخيرة 3 / 62، والقوانين الفقهية ص 138، والفتاوى الهندية 1 / 230، وابن عابدين 2 / 177 .
(2) - الفتاوى الهندية 1 / 230، وحاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح ص 73، وابن عابدين 2 / 177، وفتح القدير 1 / 480 .
(3) - المراجع السابقة .
(4) - حاشية ابن عابدين 2 / 177 .(1/418)
اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى اسْتِحْبَابِ الإِْقَامَةِ لِكُل صَلاَةٍ مِنَ الصَّلاَتَيْنِ الْمَجْمُوعَتَيْنِ بِعَرَفَةَ، وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِكَرَاهَةِ تَرْكِ الإِْقَامَةِ بَيْنَ الصَّلاَتَيْنِ .(1)
ب - الإِْحْرَامُ بِالْعُمْرَةِ يَوْمَ عَرَفَةَ :
اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ الإِْحْرَامِ بِالْعُمْرَةِ يَوْمَ عَرَفَةَ، فَيَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَدَمَ كَرَاهَةِ الإِْحْرَامِ بِالْعُمْرَةِ يَوْمَ عَرَفَةَ، وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ أَنَّ الإِْحْرَامَ بِالْعُمْرَةِ يَوْمَ عَرَفَةَ مَكْرُوهٌ
ج - الإِْسْرَاعُ فِي السَّيْرِ رَاكِبًا أَوْ مَاشِيًا إِسْرَاعًا يُؤَدِّي إِلَى الإِْيذَاءِ :
يُكْرَهُ الإِْسْرَاعُ فِي السَّيْرِ إِسْرَاعًا يُؤَدِي إِلَى الإِْيذَاءِ لحديث ابْنُ عَبَّاسٍ - رضى الله عنهما - أَنَّهُ دَفَعَ مَعَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمَ عَرَفَةَ فَسَمِعَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - وَرَاءَهُ زَجْرًا شَدِيدًا وَضَرْبًا وَصَوْتًا لِلإِبِلِ فَأَشَارَ بِسَوْطِهِ إِلَيْهِمْ وَقَالَ " أَيُّهَا النَّاسُ عَلَيْكُمْ بِالسَّكِينَةِ ، فَإِنَّ الْبِرَّ لَيْسَ بِالإِيضَاعِ " . أَوْضَعُوا أَسْرَعُوا . خِلاَلَكُمْ مِنَ التَّخَلُّلِ بَيْنَكُمْ ، وَفَجَّرْنَا خِلاَلَهُمَا . بَيْنَهُمَا(2). وَقَال الزَّيْلَعِيُّ : تَرْكُ الإِْيذَاءِ وَاجِبٌ .
د - التَّظَلُّل يَوْمَ عَرَفَةَ :
__________
(1) - ابن عابدين 1 / 262، والمغني 3 / 407، وحاشية الدسوقي 2 / 44، والمجموع 8 / 86، 93، والإيضاح للنووي ص 75 .
(2) - صحيح البخاري (1671 ) الإيضاع : السير السريع(1/419)
صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّ الأَْفْضَل لِلْوَاقِفِ بِعَرَفَةَ أَنْ لاَ يَسْتَظِلَّ، بَل يَبْرُزَ لِلشَّمْسِ إِلاَّ لِلْعُذْرِ ، بِأَنْ يَتَضَرَّرَ أَوْ يَنْقُصَ دُعَاؤُهُ أَوِ اجْتِهَادُهُ فِي الأَْذْكَارِ(1). ، وَلَمْ يُنْقَل أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - اسْتَظَل بِعَرَفَاتٍ، مَعَ ثُبُوتِ حَدِيثٍ أُمِّ الْحُصَيْنِ قَالَتْ حَجَجْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حَجَّةَ الْوَدَاعِ فَرَأَيْتُ أُسَامَةَ وَبِلاَلاً وَأَحَدُهُمَا آخِذٌ بِخِطَامِ نَاقَةِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - وَالآخَرُ رَافِعٌ ثَوْبَهُ يَسْتُرُهُ مِنَ الْحَرِّ حَتَّى رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ(2). .
وَاسْتَحَبَّ الْمَالِكِيَّةُ تَرْكَ الاِسْتِظْلاَل زَمَنَ الْوُقُوفِ يَوْمَ عَرَفَةَ .
قَال الْقُرْطُبِيُّ : اسْتِظْلاَل الْمُحْرِمِ فِي الْقِبَابِ وَالأَْخْبِيَةِ لاَ خِلاَفَ فِيهِ، وَاخْتُلِفَ فِي اسْتِظْلاَلِهِ حَال الْوُقُوفِ ، فَكَرِهَهُ مَالِكٌ وَأَهْل الْمَدِينَةِ .(3)
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فَقَدْ ذَكَرُوا حُكْمَ اسْتِظْلاَل الْمُحْرِمِ بِالْبَيْتِ وَالْمَحْمَل وَنَحْوِهِمَا مِنْ غَيْرِ التَّخْصِيصِ بِزَمَنِ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ .
فَقَدْ قَال الْحَنَفِيَّةُ : لاَ بَأْسَ بِأَنْ يَسْتَظِل الْمُحْرِمُ بِالْبَيْتِ وَالْمَحْمَل(4)وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : فَأَجَازَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى أَتَى عَرَفَةَ فَوَجَدَ الْقُبَّةَ قَدْ ضُرِبَتْ لَهُ بِنَمِرَةَ(5)فَنَزَلَ بِهَا(6).
__________
(1) - المجموع 8 / 117، والإيضاح 289 .
(2) - صحيح مسلم (3199 )
(3) - مواهب الجليل 3 / 144 - 145 .
(4) - فتح القدير 2 / 444 - 445، وانظر حاشية ابن عابدين 2 / 164 .
(5) - نمرة : بفتح النون وكسر الميم موضع بعرفة .
(6) - مسلم (3009 )(1/420)
وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ بِأَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَى الْمُحْرِمِ أَنْ يَسْتَظِل بِالْمَحْمَل .
وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ : يُكْرَهُ اسْتِظْلاَل الْمُحْرِمِ بِالْمَحْمَل .(1)
هـ - صَوْمُ يَوْمَ عَرَفَةَ :
اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى اسْتِحْبَابِ صَوْمِ يَوْمِ عَرَفَةَ لِغَيْرِ الْحَاجِّ - وَهُوَ : الْيَوْمُ التَّاسِعُ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ - وَصَوْمُهُ يُكَفِّرُ سَنَتَيْنِ : سَنَةً مَاضِيَةً ، وَسَنَةً مُسْتَقْبَلَةً ، فعَنْ أَبِى قَتَادَةَ رَجُلٌ أَتَى النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ كَيْفَ تَصُومُ فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَلَمَّا رَأَى عُمَرُ - رضى الله عنه - غَضَبَهُ قَالَ رَضِينَا بِاللَّهِ رَبًّا وَبِالإِسْلاَمِ دِينًا وَبِمُحَمَّدٍ نَبِيًّا نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ غَضَبِ اللَّهِ وَغَضَبِ رَسُولِهِ. فَجَعَلَ عُمَرُ - رضى الله عنه - يُرَدِّدُ هَذَا الْكَلاَمَ حَتَّى سَكَنَ غَضَبُهُ فَقَالَ عُمَرُ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ بِمَنْ يَصُومُ الدَّهْرَ كُلَّهُ قَالَ " لاَ صَامَ وَلاَ أَفْطَرَ - أَوْ قَالَ - لَمْ يَصُمْ وَلَمْ يُفْطِرْ ". قَالَ كَيْفَ مَنْ يَصُومُ يَوْمَيْنِ وَيُفْطِرُ يَوْمًا قَالَ " وَيُطِيقُ ذَلِكَ أَحَدٌ ". قَالَ كَيْفَ مَنْ يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا قَالَ " ذَاكَ صَوْمُ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ ".(2).
__________
(1) - الإنصاف 3 / 461، وانظر مطالب أولي النهى 2 / 327، وشرح منتهى الإرادات 1 / 538 - 539 .
(2) - صحيح مسلم(2803)(1/421)
قَال الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ : وَهُوَ أَفْضَل الأَْيَّامِ لِحَدِيثِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ قَالَتْ عَائِشَةُ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ " مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ يُعْتِقَ اللَّهُ فِيهِ عَبْدًا مِنَ النَّارِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ وَإِنَّهُ لَيَدْنُو ثُمَّ يُبَاهِى بِهِمُ الْمَلاَئِكَةَ فَيَقُولُ مَا أَرَادَ هَؤُلاَءِ "(1).
وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ - الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ - إِلَى عَدَمِ اسْتِحْبَابِهِ لِلْحَاجِّ ، وَلَوْ كَانَ قَوِيًّا ، وَصَوْمُهُ مَكْرُوهٌ لَهُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ ، وَخِلاَفُ الأَْوْلَى عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ ، لِمَا روي عَنْ أُمِّ الْفَضْلِ بِنْتِ الْحَارِثِ أَنَّ نَاسًا تَمَارَوْا عِنْدَهَا يَوْمَ عَرَفَةَ فِى صِيَامِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ بَعْضُهُمْ هُوَ صَائِمٌ وَقَالَ بَعْضُهُمْ لَيْسَ بِصَائِمٍ. فَأَرْسَلْتُ إِلَيْهِ بِقَدَحِ لَبَنٍ وَهُوَ وَاقِفٌ عَلَى بَعِيرِهِ بِعَرَفَةَ فَشَرِبَهُ..(2)
وَ عَنْ ابْنُ عُمَرَ أنَّهُ سُئِلَ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ عَرَفَةَ فَقَالَ حَجَجْتُ مَعَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فَلَمْ يَصُمْهُ وَحَجَجْتُ مَعَ أَبِى بَكْرٍ فَلَمْ يَصُمْهُ وَحَجَجْتُ مَعَ عُمَرَ فَلَمْ يَصُمْهُ وَحَجَجْتُ مَعَ عُثْمَانَ فَلَمْ يَصُمْهُ وَأَنَا لاَ أَصُومُهُ وَلاَ آمُرُ بِهِ وَلاَ أَنْهَى عَنْهُ.(3)، لأَِنَّهُ يُضْعِفُهُ عَنِ الْوُقُوفِ وَالدُّعَاءِ ، فَكَانَ تَرْكُهُ أَفْضَل ، وَقِيل : لأَِنَّهُمْ أَضْيَافُ اللَّهِ وَزُوَّارُهُ
__________
(1) - صحيح مسلم (3354 )
(2) - صحيح مسلم( 2688 )
(3) - مسند أحمد(5197) صحيح لغيره وكشاف القناع عن متن الإقناع - (ج 6 / ص 138) والمبدع شرح المقنع - (ج 4 / ص 51)(1/422)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ : وَيُسَنُّ فِطْرُهُ لِلْمُسَافِرِ وَالْمَرِيضِ مُطْلَقًا ، وَقَالُوا : يُسَنُّ صَوْمُهُ لِحَاجٍّ لَمْ يَصِل عَرَفَةَ إِلاَّ لَيْلاً ؛ لِفَقْدِ الْعِلَّةِ .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى اسْتِحْبَابِهِ لِلْحَاجِّ - أَيْضًا - إِذَا لَمْ يُضْعِفْهُ عَنِ الْوُقُوفِ بِعَرَفَاتٍ وَلاَ يُخِل بِالدَّعَوَاتِ ، فَلَوْ أَضْعَفَهُ كُرِهَ لَهُ الصَّوْمُ(1).
و - تَرْكُ خُطْبَةِ عَرَفَةَ، أَوْ إِيقَاعُهَا قَبْل الزَّوَال :
نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّ تَرْكَ خُطْبَةِ عَرَفَةَ أَوْ إِيقَاعَهَا قَبْل الزَّوَال مَكْرُوهٌ، فَقَدْ جَاءَ فِي الْجَوْهَرَةِ النَّيِّرَةِ : إِنْ تَرَكَ الْخُطْبَةَ أَوْ خَطَبَ قَبْل الزَّوَال أَجْزَأَهُ وَقَدْ أَسَاءَ .
وَنَقَل ابْنُ عَابِدِينَ قَوْل الزَّيْلَعِيِّ : " جَازَ " مُعَلِّقًا عَلَيْهِ : أَيْ صَحَّ مَعَ الْكَرَاهَةِ .(2)
وَيَرَى ابْنُ حَبِيبٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ جَوَازَ الإِْتْيَانِ بِخُطْبَةِ عَرَفَةَ قَبْل الزَّوَالِ، وَيَمْنَعُ أَشْهَبُ مِنْ ذَلِكَ، وَيَرَى إِعَادَتَهَا لِمَنْ فَعَل ذَلِكَ إِلاَّ أَنْ يَفُوتَ بِفِعْل الصَّلاَةِ، وَالصَّلاَةُ لاَ تَكُونُ إِلاَّ بَعْدَ الزَّوَال عَلَى كُل حَالٍ .
__________
(1) - ابن عابدين 2 / 83 ، حاشية الدسوقي 1 / 515 ، مواهب الجليل 2 / 403 ، القليوبي وعميرة 2 / 73 ، مغني المحتاج 1 / 446 كشاف القناع 2 / 339 .
(2) - الجوهرة النيرة 1 / 201، وابن عابدين 2 / 173 .(1/423)
وَاحْتَجَّ الْبَاجِيُّ لِمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ ابْنُ حَبِيبٍ مِنْ جَوَازِ إِيقَاعِ الْخُطْبَةِ قَبْل الزَّوَال بِأَنَّ الْخُطْبَةَ لَيْسَتْ لِلصَّلاَةِ، وَإِنَّمَا هِيَ تَعْلِيمٌ لِلْحَاجِّ، وَلِذَلِكَ لَمْ يُغَيَّرْ حُكْمُ الصَّلاَةِ فِي الْجَهْرِ، وَلَمْ يَتَقَدَّمِ الأَْذَانُ عَلَيْهَا، فَلَمْ يَكُنْ مِنْ شَرْطِهَا أَنْ يَكُونَ وَقْتُهَا وَقْتَ الصَّلاَةِ، وَإِنَّمَا مِنْ حُكْمِهَا ذَلِكَ لِمَا شُرِعَ مِنَ اتِّصَالِهَا بِالصَّلاَةِ .(1)وَقَال الدُّسُوقِيُّ : لَوْ خَطَبَ قَبْل الزَّوَال وَصَلَّى بَعْدَهُ، أَوْ صَلَّى بِغَيْرِ خُطْبَةٍ أَجْزَأَهُ إِجْمَاعًا .(2)
ز - دُخُول عَرَفَاتٍ قَبْل وَقْتِ الْوُقُوفِ :
قَال الإِْمَامُ مَالِكٌ : أَكْرَهُ لِلْحُجَّاجِ أَنْ يَتَقَدَّمُوا إِلَى عَرَفَةَ قَبْل عَرَفَةَ هُمْ أَنْفُسُهُمْ أَوْ يُقَدِّمُوا أَبْنِيَتَهُمْ .
وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّ دُخُول الْحُجَّاجِ أَرْضَ عَرَفَاتٍ قَبْل وَقْتِ الْوُقُوفِ خَطَأٌ وَبِدْعَةٌ وَمُنَابَذَةٌ لِلسُّنَّةِ، وَتَفُوتُهُمْ بِسَبَبِهِ سُنَنٌ كَثِيرَةٌ .(3)
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ : يَدْفَعُ الْحَاجُّ إِلَى عَرَفَاتٍ بَعْدَ صَلاَةِ الْفَجْرِ يَوْمَ عَرَفَةَ ، وَقَالُوا : هَذَا بَيَانُ الأَْوْلَوِيَّةِ حَتَّى لَوْ ذَهَبَ قَبْل طُلُوعِ الْفَجْرِ إِلَيْهَا جَازَ .(4)
__________
(1) - المنتقى 3 / 35 - 36 .
(2) - حاشية الدسوقي 2 / 43 .
(3) - المدونة 1 / 399 ط دار صادر، والمجموع 8 / 86، والإيضاح للنووي ص272 .
(4) - البحر الرائق 2 / 361، وتبيين الحقائق 2 / 23 .(1/424)
وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلْحَاجِّ أَنْ يَخْرُجَ إِلَى مِنًى يَوْمَ التَّرْوِيَةِ وَيَبِيتَ بِهَا، فَإِذَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ سَارَ إِلَى عَرَفَةَ، فَأَقَامَ بِنَمِرَةَ نَدْبًا حَتَّى تَزُول الشَّمْسُ، فَمَنْ خَرَجَ مِنْ مِنًى إِلَى عَرَفَةَ قَبْل طُلُوعِ الشَّمْسِ لَمْ يَأْتِ بِالْمُسْتَحَبِّ .(1)
التَّوَجُّهُ إِلَى عَرَفَةَ وَكَيْفِيَّةُ الْوُقُوفِ بِهَا :
إِذَا كَانَ صَبَاحُ يَوْمِ التَّاسِعِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ يُصَلِّي الْحَاجُّ صَلاَةَ الْفَجْرَ فِي مِنًى، ثُمَّ يَمْكُثُ إِلَى أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ وَتُشْرِقَ عَلَى جَبَل ثَبِيرٍ، فَإِذَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ تَوَجَّهَ إِلَى عَرَفَاتٍ مَعَ السَّكِينَةِ وَالْوَقَارِ، مُلَبِّيًا مُهَلِّلاً مُكَبِّرًا، وَهَكَذَا مِنْ سَائِرِ الأَْذْكَارِ، وَيُسَنُّ أَنْ يَغْتَسِل لِلْوُقُوفِ، وَإِلاَّ فَلْيَتَوَضَّأْ .
وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَقُول فِي التَّوَجُّهِ إِلَى عَرَفَاتٍ : اللَّهُمَّ إِلَيْكَ تَوَجَّهْتُ، وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ، وَوَجْهَكَ الْكَرِيمَ أَرَدْتُ، فَاجْعَل ذَنْبِي مَغْفُورًا، وَحَجِّي مَبْرُورًا، وَارْحَمْنِي وَلاَ تُخَيِّبْنِي، وَبَارِكْ فِي سَفَرِي، وَاقْضِ بِعَرَفَاتٍ حَاجَتِي إِنَّكَ عَلَى كُل شَيْءٍ قَدِيرٌ .(2)
__________
(1) - الممتع شرح المقنع 2 / 442 - 446، وكشاف القناع 2 / 491 .
(2) - تبيين الحقائق 2 / 23، ومغني المحتاج 1 / 496، والأذكار للنووي ص325 ط دار ابن كثير .(1/425)
وَإِذَا قَرُبَ مِنْ عَرَفَةَ وَوَقَعَ بَصَرُهُ عَلَى جَبَل الرَّحْمَةِ وَعَايَنَهُ يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَقُول : اللَّهُمَّ إِلَيْكَ تَوَجَّهْتُ، وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ، وَوَجْهَكَ أَرَدْتُ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي وَتُبْ عَلَيَّ، وَأَعْطِنِي سُؤَالِي، وَوَجِّهْ إِلَيَّ الْخَيْرَ أَيْنَمَا تَوَجَّهْتُ، سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ . ثُمَّ يُلَبِّي إِلَى أَنْ يَدْخُل عَرَفَةَ وَيَنْزِل مَعَ النَّاسِ حَيْثُ شَاءَ ، إِلاَّ الطَّرِيقَ ، وَقُرْبُ الْجَبَل أَفْضَلُ، هَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ(1).
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ يَنْزِل بِنَمِرَةَ وَيَمْكُثُ إِلَى الظُّهْرِ لِيَشْهَدَ مَعَ الإِْمَامِ الْخُطْبَةَ وَجَمْعَ صَلاَتَيِ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ .(2)
__________
(1) - تبيين الحقائق 2 / 23، وابن عابدين 2 / 173 .
(2) - الذخيرة 3 / 255، والمجموع 8 / 85، ومغني المحتاج 1 / 496، والمبدع 3 / 230 .(1/426)
وَلاَ يَشْتَغِل بَيْنَ الصَّلاَتَيْنِ بِالسُّنَنِ أَوِ التَّطَوُّعِ أَوْ بِشَيْءٍ غَيْرِهِمَا مِنْ أَكْلٍ أَوْ شُرْبٍ، وَيَقِفُ بِعَرَفَةَ إِلَى الْغُرُوبِ، وَالأَْفْضَل أَنْ يَنْزِل قُرْبَ جَبَل الرَّحْمَةِ، وَيُحَاوِل أَنْ يَكُونَ فِي مَوْقِفِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - . وَهَذَا إِنْ تَيَسَّرَ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ، وَإِذَا نَزَل فِي عَرَفَاتٍ يَمْكُثُ فِيهَا وَيَقِفُ لِلدُّعَاءِ مُسْتَقْبِلاً الْقِبْلَةَ رَافِعًا يَدَيْهِ بَاسِطَهُمَا، كَالْمُسْتَطْعَمِ الْمِسْكِينِ ، كَمَا وَرَدَ فِي صِفَةِ دُعَاءِ رَسُول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِعَرَفَةَ(1).
وَيَجْهَرُ فِي التَّلْبِيَةِ مِنْ غَيْرِ مُبَالَغَةٍ، وَيَأْتِي بِصِيغَتِهَا الْمَعْرُوفَةِ : " لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لاَ شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ ، لاَ شَرِيكَ لَكَ " وَمِمَّا وَرَدَ فِي التَّلْبِيَةِ بِعَرَفَةَ خَاصَّةً أَنَّهُ - صلى الله عليه وسلم - لَمَّا وَقَفَ بِعَرَفَاتٍ قَال : " لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ "(2)ثُمَّ قَال : " إِنَّمَا الْخَيْرُ خَيْرُ الآْخِرَةِ "(3). وَفِي رِوَايَةٍ : " لَبَّيْكَ إِنَّ الْعَيْشَ عَيْشُ الآْخِرَةِ(4).
__________
(1) - عَنِ الْفَضْلِ ، قَالَ : رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَاقِفًا بِعَرَفَةَ ، مَادًّا يَدَيْهِ كَالْمُسْتَطْعِمِ أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا. مسند البزار (2161) وهو ضعيف وانظر المبسوط - (ج 4 / ص 461) وبدائع الصنائع في ترتيب الشرائع - (ج 3 / ص 125) وفتح القدير - (ج 5 / ص 172)
(2) - أخرجه مسلم (3154)
(3) - المستدرك للحاكم ( 1706) صحيح
(4) - مصنف ابن أبي شيبة (15803) والسنن الكبرى للبيهقي (ج 5 / ص 45)(9302) من طرق صحيح لغيره(1/427)
وَأَمَّا الأَْدْعِيَةُ وَالأَْذْكَارُ فَإِخْفَاؤُهَا أَوْلَى إِلاَّ إِنِ احْتَاجَ أَنْ يُسْمِعَ مَنْ يَقْتَدِي بِهِ فِيهَا .
وَيُكَرِّرُ كُل دُعَاءٍ يَدْعُو بِهِ ثَلاَثًا، وَيَسْتَفْتِحُ الدُّعَاءَ بِالتَّحْمِيدِ وَالتَّمْجِيدِ وَالتَّسْبِيحِ وَالصَّلاَةِ عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، وَيَخْتِمُهُ بِذَلِكَ، وَبِآمِينَ، وَيَسْتَمِرُّ هَكَذَا إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ، وَيُلَبِّي فِي أَثْنَاءِ ذَلِكَ سَاعَةً فَسَاعَةً، وَلْيُحَافِظْ عَلَى طَهَارَةِ ظَاهِرِهِ وَبَاطِنِهِ، وَلْيَتَبَاعَدْ عَنِ الْحَرَامِ فِي أَكْلِهِ وَشُرْبِهِ وَلُبْسِهِ وَرُكُوبِهِ وَنَظَرِهِ وَكَلاَمِهِ، وَكُل أَمْرِهِ، وَلْيَحْذَرْ مِنْ ذَلِكَ كُل الْحَذَرِ، فعن ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ كَانَ فُلاَنٌ رَدِيفَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمَ عَرَفَةَ - قَالَ - فَجَعَلَ الْفَتَى يُلاَحِظُ النِّسَاءَ وَيَنْظُرُ إِلَيْهِنَّ - قَالَ - وَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَصْرِفُ وَجْهَهُ بِيَدِهِ مِنْ خَلْفِهِ مِرَاراً - قَالَ - وَجَعَلَ الْفَتَى يُلاَحِظُ إِلَيْهِنَّ قَالَ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - " ابْنَ أَخِى إِنَّ هَذَا يَوْمٌ مَنْ مَلَكَ فِيهِ سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ وَلِسَانَهُ غُفِرَ لَهُ "(1). .
__________
(1) - مسند أحمد (3097) صحيح(1/428)
وَإِذَا غَرَبَتِ الشَّمْسُ أَفَاضَ الإِْمَامُ - أَيْ سَارَ - مِنْ عَرَفَةَ وَسَارَ النَّاسُ مَعَهُ مِنْ غَيْرِ تَأَخُّرٍ، وَعَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ فِي بَاطِنِ نُفُوسِهِمْ، وَالْوَقَارُ ؛ أَيِ الرَّزَانَةُ فِي الظَّاهِرِ، فَإِنْ وَجَدَ سَعَةً فِي الطَّرِيقِ أَسْرَعَ بِلاَ إِيذَاءٍ، مَاشِيًا أَوْ رَاكِبًا، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ فِي سَيْرِهِ مُلَبِّيًا مُكَبِّرًا مُهَلِّلاً مُسْتَغْفِرًا دَاعِيًا مُصَلِّيًا عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، ذَاكِرًا كَثِيرًا، بَاكِيًا أَوْ مُتَبَاكِيًا، وَيَدْعُو اللَّهَ أَلاَّ يَجْعَلَهُ آخِرَ الْعَهْدِ بِعَرَفَةَ . وَيَظَل عَلَى الذِّكْرِ وَالْخُشُوعِ حَتَّى يَصِل إِلَى الْمُزْدَلِفَةِ، وَلاَ يَلْتَفِتُ إِلَى شَيْءٍ، وَلاَ يُصَلِّي الْمَغْرِبَ وَلاَ الْعِشَاءَ حَتَّى يَدْخُل الْمُزْدَلِفَةَ، فَيَكُونُ بِذَلِكَ أَدَّى رَكْنَ الْوُقُوفِ تَامًّا بِفَضْل اللَّهِ تَعَالَى .(1)
__________
(1) - هداية السالك 3 / 1021 - 1028، والإيضاح ص285، والفتاوى الهندية 1 / 229 .(1/429)
وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَمْضِيَ عَلَى طَرِيقِ الْمَأْزِمَيْنِ، لأَِنَّهُ روي عَنْ أَنَسِ بْنِ سِيرِينَ قَالَ كُنْتُ مَعَ ابْنِ عُمَرَ بِعَرَفَاتٍ فَلَمَّا كَانَ حِينَ رَاحَ رُحْتُ مَعَهُ حَتَّى أَتَى الإِمَامَ فَصَلَّى مَعَهُ الأُولَى وَالْعَصْرَ ثُمَّ وَقَفَ مَعَهُ وَأَنَا وَأَصْحَابٌ لِى حَتَّى أَفَاضَ الإِمَامُ فَأَفَضْنَا مَعَهُ حَتَّى انْتَهَى إِلَى الْمَضِيقِ دُونَ الْمَأْزِمَيْنِ فَأَنَاخَ وَأَنْخَنَا وَنَحْنُ نَحْسِبُ أَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُصَلِّىَ فَقَالَ غُلاَمُهُ الَّذِى يُمْسِكُ رَاحِلَتَهُ إِنَّهُ لَيْسَ يُرِيدُ الصَّلاَةَ وَلَكِنَّهُ ذَكَرَ أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - لَمَّا انْتَهَى إِلَى هَذَا الْمَكَانِ قَضَى حَاجَتَهُ فَهُوَ يُحِبُّ أَنَّ يَقْضِىَ حَاجَتَهُ .(1)، وَإِنْ سَلَكَ الطَّرِيقَ الأُْخْرَى جَازَ .(2)
الأَْدْعِيَةُ الْمُسْتَحَبَّةُ فِي الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ :
يُسْتَحَبُّ الإِْكْثَارُ مِنَ الدُّعَاءِ(3)وَمِنْ صِيَغِهِ مَا وَرَدَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ - صلى الله عليه وسلم - قَال : خَيْرُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَخَيْرُ مَا قُلْتُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي : لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُل شَيْءٍ قَدِيرٌ(4).
__________
(1) - مسند أحمد (6295) صحيح
(2) - المغني لابن قدامة 3 / 418، والإيضاح ص271، وابن عابدين 2 / 176 .
(3) - هداية السالك 3 / 1021 - 1028، والإيضاح ص285، والفتاوى الهندية 1 / 229 .
(4) - حديث : " خير الدعاء دعاء يوم عرفة . . تقدم فقرة ( 2 ) .(1/430)
و عَنْ عَلِىِّ بْنِ أَبِى طَالِبٍ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :" أَكْثَرُ دُعَائِى وَدُعَاءِ الأَنْبِيَاءِ قَبْلِى بِعَرَفَةَ لاَ إِلَه إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ اللَّهُمَّ اجْعَلْ فِى قَلْبِى نُورًا وَفِى سَمْعِى نُورًا وَفِى بَصَرِى نُورًا اللَّهُمَّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى وَيَسِّرْ لِى أَمْرِى وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ وَسْوَاسِ الصَّدْرِ وَشَتَاتِ الأَمْرِ وَفِتْنَةِ الْقَبْرِ اللَّهُمَّ إِنِّى أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا يَلِجُ فِى اللَّيْلِ وَشَرِّ مَا يَلِجُ فِى النَّهَارِ وَشَرِّ مَا تَهُبُّ بِهِ الرِّيَاحُ وَمِنْ شَرِّ بَوَائِقِ الدَّهْرِ ".(1).
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : كَانَ فِيمَا دَعَا بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ : " اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَسْمَعُ كَلَامِي وَتَرَى مَكَانِي وَتَعْلَمُ سِرِّي وَعَلَانِيَتِي ، لَا يَخْفَى عَلَيْكَ شَيْءٌ مِنْ أَمْرِي أَنَا الْبَائِسُ الْفَقِيرُ الْمُسْتَغِيثُ الْمُسْتَجِيرُ الْمُشْفِقُ الْمُقِرُّ الْمُعْتَرِفُ بِذَنْبِهِ أَسْأَلُكَ مَسْأَلَةَ الْمِسْكِينِ ، وَأَبْتَهِلُ إِلَيْكَ ابْتِهَالَ الْمُذْنِبِ الذَّلِيلِ ، وَأَدْعُوكَ دُعَاءَ الْخَائِفِ الضَّرِيرِ ، مَنْ خَضَعَتْ لَكَ رَقَبَتُهُ ، وَفَاضَتْ لَكَ عَيْنَاهُ ، وَذَلَّ جَسَدُهُ ، وَرَغِمَ لَكَ أَنْفُهُ ، اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْنِي بِدُعَائِكَ شَقِيًّا ، وَكُنْ بِي رَءُوفًا رَحِيمًا ، يَا خَيْرَ الْمَسْئُولِينَ وَيَا خَيْرَ الْمُعْطِينَ "(2)
__________
(1) - السنن الكبرى للبيهقي (ج 5 / ص 117)(9745) وفيه ضعف
(2) - المعجم الكبير للطبراني - (ج 9 / ص 377)(11242 ) وفيه ضعف(1/431)
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ كَانَ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ يَرْفَعُ صَوْتَهُ : " لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُل شَيْءٍ قَدِيرٌ، اللَّهُمَّ اهْدِنَا بِالْهُدَى، وَزَيِّنَّا بِالتَّقْوَى وَاغْفِرْ لَنَا فِي الآْخِرَةِ وَالأُْولَى " ثُمَّ يَخْفِضُ صَوْتَهُ ثُمَّ يَقُول : " اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ وَعَطَائِكَ رِزْقًا طَيِّبًا مُبَارَكًا، اللَّهُمَّ إِنَّكَ أَمَرْتَ بِالدُّعَاءِ وَقَضَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ بِالاِسْتِجَابَةِ، وَأَنْتَ لاَ تُخْلِفُ وَعْدَكَ وَلاَ تُكَذِّبُ عَهْدَكَ، اللَّهُمَّ مَا أَحْبَبْتَ مِنْ خَيْرٍ فَحَبِّبْهُ إِلَيْنَا وَيَسِّرْهُ لَنَا، وَمَا كَرِهْتَ مِنْ شَيْءٍ فَكَرِّهْهُ إِلَيْنَا وَجَنِّبْنَاهُ، وَلاَ تَنْزِعْ عَنَّا الإِْسْلاَمَ بَعْدَ إِذْ أَعْطَيْتَنَا "(1).
التَّعْرِيفُ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ بِالأَْمْصَارِ :
التَّعْرِيفُ هُوَ اجْتِمَاعُ النَّاسِ فِي الْبُلْدَانِ وَالأَْمْصَارِ بَعْدَ عَصْرِ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَالأَْخْذُ فِي الدُّعَاءِ وَالذِّكْرِ وَالضَّرَاعَةِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ ، كَمَا يَفْعَل أَهْل عَرَفَةَ .(2)
وَقَال الطَّحْطَاوِيُّ : التَّعْرِيفُ هُوَ تَشْبِيهُ النَّاسِ أَنْفُسِهِمْ بِالْوَاقِفِينَ بِعَرَفَاتٍ .(3)
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ التَّعْرِيفِ :
__________
(1) - الدعاء للطبراني (804 )عن ابن عمر موقوفا وسنده حسن
(2) - مغني المحتاج 1 / 497 .
(3) - حاشية الطحطاوي على مراقى الفلاح ص294، والفتاوى الهندية 1 / 152، والمجموع 8 / 117، والحوادث والبدع للطرطوشي 1 / 9 .(1/432)
الرَّأْيُ الأَْوَّل : ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ ( الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَنَافِعٌ مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ وَالْحَكَمُ وَحَمَّادٌ ) إِلَى أَنَّ التَّعْرِيفَ مَكْرُوهٌ .
قَال الطَّحْطَاوِيُّ : وَظَاهِرُ كَلاَمِ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهَا كَرَاهَةٌ تَحْرِيمِيَّةٌ، لأَِنَّ الْوُقُوفَ عُهِدَ قُرْبَةً بِمَكَانٍ مَخْصُوصٍ . فَلَمْ يَجُزْ فِعْلُهُ فِي غَيْرِهِ كَالطَّوَافِ وَنَحْوِهِ، أَلاَ تَرَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ الطَّوَافُ حَوْل مَسْجِدٍ أَوْ بَيْتٍ سِوَى الْكَعْبَةِ تَشَبُّهًا .(1)
وَقَال الإِْمَامُ مَالِكٌ : إِنَّ التَّعْرِيفَ لَيْسَ مِنْ أَمْرِ النَّاسِ، إِنَّمَا مَفَاتِيحُ هَذِهِ الأَْشْيَاءِ مِنَ الْبِدْعَةِ .
وَعَنْ شُعْبَةَ قَال : سَأَلْتُ الْحَكَمَ وَحَمَّادًا عَنِ اجْتِمَاعِ النَّاسِ يَوْمَ عَرَفَةَ فِي الْمَسَاجِدِ فَقَالاَ : هُوَ مُحْدَثٌ . وَعَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ : هُوَ مُحْدَثٌ .(2)
وَقَال ابْنُ مُفْلِحٍ وَتَبِعَهُ الْمِرْدَاوِيُّ : لَمْ يَرَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ التَّعْرِيفَ بِغَيْرِ عَرَفَةَ، وَأَنَّهُ لاَ نِزَاعَ فِيهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ، وَأَنَّهُ مُنْكَرٌ، وَفَاعِلُهُ ضَالٌّ .(3)
الرَّأْيُ الثَّانِي : رَخَّصَ فِي التَّعْرِيفِ الإِْمَامُ أَحْمَدُ، وَهُوَ مَا يُؤْخَذُ مِنْ عِبَارَاتِ الشَّافِعِيَّةِ . قَال أَحْمَدُ : لاَ بَأْسَ بِالتَّعْرِيفِ بِالأَْمْصَارِ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ .(4)
__________
(1) - حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح ص294 .
(2) - الحوادث والبدع للطرطوشي 98، والمجموع 8 / 117 .
(3) - الفروع 2 / 150، والإنصاف 2 / 441 .
(4) - الإنصاف 2 / 441، والفروع 2 / 150، والمغني 2 / 399، وتحفة المحتاج مع حواشيه 4 / 108 .(1/433)
وَقَال الأَْثْرَمُ : سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنِ التَّعْرِيفِ فِي الأَْمْصَارِ يَجْتَمِعُونَ فِي الْمَسَاجِدِ يَوْمَ عَرَفَةَ ، قَال : أَرْجُو أَنْ لاَ يَكُونَ بِهِ بَأْسٌ ، قَدْ فَعَلَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ ،وَقَال : الْحَسَنُ وَبَكْرٌ وَثَابِتٌ وَمُحَمَّدُ بْنُ وَاسِعٍ كَانُوا يَشْهَدُونَ الْمَسْجِدَ يَوْمَ عَرَفَةَ .(1)
قَال شيخ الإسلام ابْنُ تَيْمِيَّةَ : فَعَلَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعَمْرُو بْنُ حُرَيْثٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَطَائِفَةٌ مِنَ الْبَصْرِيِّينَ وَالْمَدَنِيِّينَ .(2)
قَال الْوَنَائِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ : وَلاَ كَرَاهِيَةَ فِي التَّعْرِيفِ بِغَيْرِ عَرَفَةَ، بَل هُوَ بِدْعَةٌ حَسَنَةٌ، وَهُوَ جَمْعُ النَّاسِ بَعْدَ الْعَصْرِ يَوْمَ عَرَفَةَ لِلدُّعَاءِ وَالذِّكْرِ وَالضَّرَاعَةِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ كَمَا يَفْعَل أَهْل عَرَفَةَ .
قَال الشَّرْوَانِيُّ : وَكَذَا اعْتَمَدَ الْعَشْمَاوِيُّ عَدَمَ الْكَرَاهَةِ(3)َ .
الرَّأْيُ الثَّالِثُ : قَال أَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ ذَكرَهَا الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ ، وَهِيَ مِنَ الْمُفْرَدَاتِ : يُسْتَحَبُّ التَّعْرِيفُ .(4)
----------------
الْمُرَادُ مِنْ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ :
وُجُودُ الْحَاجِّ فِي أَرْضِ ( عَرَفَةَ )(5)، بِالشُّرُوطِ وَالأَْحْكَامِ الْمُقَرَّرَةِ .
وَالْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ رُكْنٌ أَسَاسِيٌّ مِنْ أَرْكَانِ الْحَجِّ ، يَخْتَصُّ بِأَنَّهُ مَنْ فَاتَهُ فَقَدَ فَاتَهُ الْحَجُّ .
__________
(1) - المغني 2 / 399 .
(2) - اقتضاء الصراط المستقيم 2 / 638، وانظر الإيضاح للنووي ص294 .
(3) - حاشية الشرواني 4 / 108 .
(4) - الإنصاف 2 / 441، والفروع 2 / 150 .
(5) - الموسوعة الفقهية الكويتية - (ج 30 / ص 60)(1/434)
وَقَدْ ثَبَتَتْ رُكْنِيَّةُ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ بِالأَْدِلَّةِ الْقَاطِعَةِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالإِْجْمَاعِ : أَمَّا الْقُرْآنُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى : { ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ } (سورة البقرة / 198 .) وعَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ قَالَ عُرْوَةُ كَانَ النَّاسُ يَطُوفُونَ فِى الْجَاهِلِيَّةِ عُرَاةً إِلاَّ الْحُمْسَ ، وَالْحُمْسُ قُرَيْشٌ وَمَا وَلَدَتْ ، وَكَانَتِ الْحُمْسُ يَحْتَسِبُونَ عَلَى النَّاسِ يُعْطِى الرَّجُلُ الرَّجُلَ الثِّيَابَ يَطُوفُ فِيهَا ، وَتُعْطِى الْمَرْأَةُ الْمَرْأَةَ الثِّيَابَ تَطُوفُ فِيهَا ، فَمَنْ لَمْ يُعْطِهِ الْحُمْسُ طَافَ بِالْبَيْتِ عُرْيَانًا ، وَكَانَ يُفِيضُ جَمَاعَةُ النَّاسِ مِنْ عَرَفَاتٍ ، وَيُفِيضُ الْحُمْسُ مِنْ جَمْعٍ . قَالَ وَأَخْبَرَنِى أَبِى عَنْ عَائِشَةَ - رضى الله عنها - أَنَّ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ فِى الْحُمْسِ ( ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ ) قَالَ كَانُوا يُفِيضُونَ مِنْ جَمْعٍ فَدُفِعُوا إِلَى عَرَفَاتٍ"(1).
وَأَمَّا السُّنَّةُ : فَعِدَّةُ أَحَادِيثَ ، أَشْهُرُهَا حَدِيثُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَعْمَرَ أَنَّ نَاسًا مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ أَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ بِعَرَفَةَ فَسَأَلُوهُ فَأَمَرَ مُنَادِيًا فَنَادَى: « الْحَجُّ عَرَفَةُ مَنْ جَاءَ لَيْلَةَ جَمْعٍ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ فَقَدْ أَدْرَكَ الْحَجَّ أَيَّامُ مِنًى ثَلاَثَةٌ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِى يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ ».(2).
__________
(1) - صحيح البخارى برقم (1665 ) ومسلم برقم (3013 و3014) ونقل المفسرون الإجماع على تفسير الآية بذلك انظر جامع البيان للطبري 4 / 190 ، وتفسير ابن كثير 1 / 242 .
(2) - سنن الترمذى برقم (898 ) وهو صحيح(1/435)
وَأَمَّا الإِْجْمَاعُ : فَقَدْ صَرَّحَ بِهِ عَدَدٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ ، وَقَال ابْنُ رُشْدٍ : أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الْحَجِّ ، وَأَنَّهُ مَنْ فَاتَهُ فَعَلَيْهِ حَجٌّ قَابِلٌ(1)" .
وَقْتُ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ :
يَبْدَأُ وَقْتُ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ مِنْ زَوَال الشَّمْسِ يَوْمَ عَرَفَةَ - وَهُوَ تَاسِعُ ذِي الْحِجَّةِ - وَيَمْتَدُّ إِلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ الصَّادِقِ يَوْمَ عِيدِ النَّحْرِ حَتَّى لَوْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ فِي غَيْرِ هَذَا الْوَقْتِ كَانَ وُقُوفُهُ بَاطِلاً اتِّفَاقًا فِي الْجُمْلَةِ .
وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ آخِرَ وَقْتِ وُقُوفِ عَرَفَةَ هُوَ طُلُوعُ الْفَجْرِ يَوْمَ النَّحْرِ .
أَمَّا ابْتِدَاءُ وَقْتِ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ فَقَدْ وَقَعَ فِيهِ اخْتِلاَفٌ :
ذَهَبَ الْجُمْهُورُ ( الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ ) عَلَى أَنَّ أَوَّلَهُ زَوَال شَمْسِ يَوْمِ عَرَفَةَ .
وَذَهَبَ مَالِكٌ : إِلَى أَنَّ وَقْتَ الْوُقُوفِ هُوَ اللَّيْل ، فَمَنْ لَمْ يَقِفْ جَزْءًا مِنَ اللَّيْل لَمْ يُجْزِئْ وُقُوفُهُ وَعَلَيْهِ الْحَجُّ مِنْ قَابِلٍ ، وَأَمَّا الْوُقُوفُ نَهَارًا فَوَاجِبٌ يَنْجَبِرُ بِالدَّمِ بِتَرْكِهِ عَمْدًا بِغَيْرِ عُذْرٍ .
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ : وَقْتُ الْوُقُوفِ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ يَوْمَ عَرَفَةَ إِلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ "
الزَّمَنُ الَّذِي يَسْتَغْرِقُهُ الْوُقُوفُ :
أَمَّا الزَّمَنُ الَّذِي يَسْتَغْرِقُهُ الْوُقُوفُ فَفِيهِ تَفْصِيلٌ :
قَسَمَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ زَمَانَ الْوُقُوفِ إِلَى قِسْمَيْنِ :
__________
(1) - بداية المجتهد 1 / 335 .(1/436)
أ - زَمَانُ الرُّكْنِ : الَّذِي تَتَأَدَّى بِهِ فَرِيضَةُ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ : وَهُوَ أَنْ يُوجَدَ فِي عَرَفَةَ خِلاَل الْمُدَّةِ الَّتِي عَرَّفْنَاهَا عِنْدَ كُلٍّ ، وَلَوْ زَمَانًا قَلِيلاً جِدًّا .
ب - زَمَانُ الْوَاجِبِ : وَهُوَ أَنْ يَسْتَمِرَّ مَنْ وَقَفَ بَعْدَ الزَّوَال إِلَى أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ ، فَلاَ يُجَاوِزُ حَدَّ عَرَفَةَ إِلاَّ بَعْدَ الْغُرُوبِ ، وَلَوْ بِلَحْظَةٍ . وَهُوَ الْمَقْصُودُ بِقَوْلِهِمْ : أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ اللَّيْل وَالنَّهَارِ بِعَرَفَةَ . فَلَوْ فَارَقَ عَرَفَةَ قَبْل الْغُرُوبِ وَجَبَ عَلَيْهِ دَمٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ ، أَمَّا إِذَا لَمْ يَقِفْ بِعَرَفَةَ إِلاَّ بَعْدَ الْمَغْرِبِ فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ .
وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَزَمَانُ الرُّكْنِ عِنْدَهُمْ هُوَ الْوُقُوفُ لَيْلاً ، أَمَّا نَهَارًا فَوَاجِبٌ .
وَأَمَّا الشَّافِعِيَّةُ : فَالْمُعْتَمَدُ عِنْدَهُمْ أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ اللَّيْل وَالنَّهَارِ بِعَرَفَةَ سُنَّةٌ لَيْسَ وَاجِبًا ، لَكِنْ يُسْتَحَبُّ لَهُ بِتَرْكِهِ الْفِدَاءُ اسْتِحْبَابًا ، وَفِي أَيِّ وَقْتٍ وَقَفَ بِعَرَفَةَ مِنْ بَعْدِ الزَّوَال إِلَى فَجْرِ يَوْمِ النَّحْرِ أَجْزَأَهُ(1).
الثَّالِثُ : طَوَافُ الزِّيَارَةِ :
__________
(1) - انظر بحث الوقوف بعرفة في بدائع الصنائع 2 / 125 - 127 والهداية وفتح القدير 2 / 167 والمسلك المتقسط ص 51 - 52 و 129 - 139 والشرح الكبير مع حاشية الدسوقي ص 36 - 37 وشرح الزرقاني 2 / 269 وشرح الرسالة وحاشية العدوي 1 / 475 وشرح المنهاج 2 / 114 - 115 ونهاية المحتاج 2 / 422 - 423 ، ومغني المحتاج 1 / 496 - 498 ، والمغني 3 / 414 - 416 ، والفروع 3 / 508 - 509 .(1/437)
طَوَافُ الزِّيَارَةِ يُؤَدِّيهِ الْحَاجُّ بَعْدَ أَنْ يُفِيضَ مِنْ عَرَفَةَ وَيَبِيتَ بِالْمُزْدَلِفَةِ ، وَيَأْتِي مِنًى يَوْمَ الْعِيدِ فَيَرْمِي وَيَنْحَرُ وَيَحْلِقُ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يُفِيضُ إِلَى مَكَّةَ فَيَطُوفُ بِالْبَيْتِ سُمِّيَ طَوَافَ الزِّيَارَةِ لأَِنَّ الْحَاجَّ يَأْتِي مِنْ مِنًى فَيَزُورُ الْبَيْتَ وَلاَ يُقِيمُ بِمَكَّةَ ، بَل يَرْجِعُ لِيَبِيتَ بِمِنًى . وَيُسَمَّى أَيْضًا طَوَافَ الإِْفَاضَةِ ، لأَِنَّ الْحَاجَّ يَفْعَلُهُ عِنْدَ إِفَاضَتِهِ مِنْ مِنًى إِلَى مَكَّةَ .
وَعَدَدُ أَشْوَاطِ الطَّوَافِ سَبْعَةٌ ، وَكُلُّهَا رُكْنٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ . وَقَال الْحَنَفِيَّةُ : الرُّكْنُ هُوَ أَكْثَرُ السَّبْعَةِ ، وَالْبَاقِي وَاجِبٌ يَنْجَبِرُ بِالدَّمِ .
وَيَجِبُ الْمَشْيُ فِي الطَّوَافِ عَلَى الْقَادِرِ عَلَيْهِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ ، وَهُوَ سُنَّةٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ .
وَيُسَنُّ الرَّمَل وَالاِضْطِبَاعُ فِي الطَّوَافِ إِذَا كَانَ سَيَسْعَى بَعْدَهُ وَإِلاَّ فَلاَ يُسَنُّ . وَيُصَلِّي بَعْدَ الطَّوَافِ رَكْعَتَيْنِ وُجُوبًا عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَسُنَّةً عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ .
- - - - - - - - - - - - - -
الطَوَافُ
تعريفه :
الطَّوَافُ لُغَةً : الدَّوَرَانُ حَوْل الشَّيْءِ ، يُقَال : طَافَ حَوْل الْكَعْبَةِ وَبِهَا يَطُوفُ طَوْفًا وَطَوَفَانًا بِفَتْحَتَيْنِ ، وَالْمَطَافُ : مَوْضِعُ الطَّوَافِ .(1/438)
وَتَطَوَّفَ وَطَوَّفَ : بِمَعْنَى طَافَ ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى : { إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا } سورة البقرة/ 158 . أَصْلُهُ يَتَطَوَّفُ ، قُلِبَتِ التَّاءُ طَاءً ثُمَّ أُدْغِمَتْ(1).
وَفِي الاِصْطِلاَحِ : الطَّوَافُ : هُوَ الدَّوَرَانُ حَوْل الْبَيْتِ الْحَرَامِ .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ :
السَّعْيُ :
السَّعْيُ فِي اللُّغَةِ : الْمَشْيُ ، وَأَيْضًا الْقَصْدُ إِلَى الشَّيْءِ ، وَالْعَدْوُ ، وَالتَّصَرُّفُ فِي الأَْعْمَال(2).
وَاصْطِلاَحًا : الْمَشْيُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ .
وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى السَّعْيِ الطَّوَافُ ، وَالتَّطَوُّفُ ،كَمَا سَبَقَ فِي الآْيَةِ : { فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا}
أَنْوَاعُ الطَّوَافِ :
يَتَنَوَّعُ الطَّوَافُ بِحَسَبِ سَبَبِ مَشْرُوعِيَّتِهِ إِلَى سَبْعَةِ أَنْوَاعٍ ، وَهِيَ :
طَوَافُ الْقُدُومِ ، طَوَافُ الزِّيَارَةِ ، طَوَافُ الْوَدَاعِ ، طَوَافُ الْعُمْرَةِ ، طَوَافُ النَّذْرِ ، طَوَافُ تَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ، طَوَافُ التَّطَوُّعِ . كَذَا عَدَّهَا الْحَنَفِيَّةُ(3)وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ .
__________
(1) - مادة ( طوف ) في القاموس المحيط وشرحه تاج العروس ، ومختار الصحاح ، ولسان العرب ، والمعجم الوسيط ، وقواعد الفقه للبركتي ، والمفردات في غريب القرآن .
(2) - مادة ( س . ع . ى ) في المصادر السابقة .
(3) - لباب المناسك للسندي وشرحه للقاري " المسلك المتقسط شرح المنسك المتوسط " مطبعة مصطفى محمد ص 96 - 97 .(1/439)
وَعَدَّهَا الشَّافِعِيَّةُ سِتَّةً : طَوَافُ الْقُدُومِ ، طَوَافُ الرُّكْنِ ، طَوَافُ الْوَدَاعِ ، طَوَافُ مَا يَتَحَلَّل بِهِ فِي الْفَوَاتِ ، طَوَافُ النَّذْرِ ، طَوَافُ التَّطَوُّعِ(1).
وَقَوْلُهُمْ " طَوَافُ الرُّكْنِ " : يَشْمَل طَوَافَ رُكْنِ الْحَجِّ وَرُكْنِ الْعُمْرَةِ ، وَقَوْلُهُمْ : " طَوَافُ التَّطَوُّعِ " يَشْمَل تَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ ، أَيِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ، لاِعْتِبَارِ أَنَّ تَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ بِالصَّلاَةِ تَنُوبُ عَنِ الطَّوَافِ .
وَاخْتَصَّ مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ بِطَوَافِ مَا يَتَحَلَّل بِهِ فِي الْفَوَاتِ ، فَإِنَّهُ يَدْخُل فِي الْعُمْرَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ ؛ لأَِنَّ مَنْ فَاتَهُ الْحَجُّ يَتَحَلَّل بِعُمْرَةٍ عِنْدَهُمْ(2)، وَيَتَحَلَّل بِطَوَافٍ وَسَعْيٍ وَحَلْقٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ ، حَتَّى لَوْ سَعَى بَعْدَ طَوَافِ الْقُدُومِ سَقَطَ عَنْهُ السَّعْيُ ، وَلاَ يَنْقَلِبُ عَمَلُهُ هَذَا إِلَى عُمْرَةٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ(3).
وَلِكُل نَوْعٍ مِنْ هَذِهِ الأَْنْوَاعِ أَحْكَامُهُ عَلَى التَّفْصِيل التَّالِي :
أَوَّلاً : طَوَافُ الْقُدُومِ :
__________
(1) - نهاية المحتاج للزملي طبع بولاق 2 / 405 ، ومغني المحتاج للشربيني تصوير بيروت 1 / 485 .
(2) - الهداية بشرحها فتح القدير ( طبع بولاق ) 2 / 303 ، ومواهب الجليل شرح مختصر خليل للحطاب 2 / 200 - 201 ، وحاشية الدسوقي 2 / 30 وما بعدها ، والمغني ( مطبعة النار - الثالثة ) 3 / 527 - 528 .
(3) - نهاية المحتاج 2 / 480 ، ومغني المحتاج 1 / 537 .(1/440)
وَيُسَمَّى طَوَافَ الْقَادِمِ ، وَطَوَافَ الْوُرُودِ ، وَطَوَافَ التَّحِيَّةِ ؛ لأَِنَّهُ شُرِعَ لِلْقَادِمِ وَالْوَارِدِ مِنْ غَيْرِ مَكَّةَ لِتَحِيَّةِ الْبَيْتِ ، وَيُسَمَّى أَيْضًا طَوَافَ اللِّقَاءِ ، وَأَوَّل عَهْدٍ بِالْبَيْتِ ، وَطَوَافُ الْقُدُومِ سُنَّةٌ لِلآْفَاقِيِّ الْقَادِمِ إِلَى مَكَّةَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ تَحِيَّةٌ لِلْبَيْتِ الْعَتِيقِ ، لِذَلِكَ يُسْتَحَبُّ الْبَدْءُ بِهِ دُونَ تَأْخِيرٍ .
وَسَوَّى الشَّافِعِيَّةُ بَيْنَ دَاخِلِي مَكَّةَ ، الْمُحْرِمِ مِنْهُمْ وَغَيْرِ الْمُحْرِمِ فِي سُنِّيَّةِ طَوَافِ الْقُدُومِ ، بِنَاءً عَلَى مَذْهَبِهِمْ فِي جَوَازِ دُخُول الْحَرَمِ بِغَيْرِ إِحْرَامٍ لِمَنْ قَصَدَهُ لِحَاجَةٍ غَيْرِ النُّسُكِ . وَلَمْ يُجِزْ غَيْرُهُمْ دُخُول الْحَرَمِ إِلاَّ بِنُسُكٍ : يُحْرِمُ حَجًّا أَوْ عُمْرَةً ، لِذَلِكَ كَانَ طَوَافُ الْقُدُومِ عِنْدَهُمْ مِنْ مَنَاسِكِ الْحَجِّ خَاصَّةً ؛ لأَِنَّ الْمُعْتَمِرَ يَبْدَأُ بِطَوَافِ الْعُمْرَةِ . وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ طَوَافَ الْقُدُومِ وَاجِبٌ ، مَنْ تَرَكَهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الدَّمُ
ثَانِيًا : طَوَافُ الإِْفَاضَةِ :(1/441)
طَوَافُ الإِْفَاضَةِ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الْحَجِّ الْمُجْمَعِ عَلَيْهَا ، لاَ يَتَحَلَّل الْحَاجُّ بِدُونِهِ التَّحَلُّل الأَْكْبَرَ ، وَلاَ يَنُوبُ عَنْهُ شَيْءٌ أَلْبَتَّةَ ، وَيُؤَدِّيهِ الْحَاجُّ بَعْدَ أَنْ يُفِيضَ مِنْ عَرَفَةَ ، وَيَبِيتَ بِالْمُزْدَلِفَةِ ، فَيَأْتِي مِنًى يَوْمَ الْعِيدِ ، فَيَرْمِي وَيَنْحَرُ وَيَحْلِقُ ، وَيَأْتِي مَكَّةَ ، فَيَطُوفُ بِالْبَيْتِ طَوَافَ الإِْفَاضَةِ ، وَيُسَمَّى أَيْضًا طَوَافَ الزِّيَارَةِ ، وَيُسَمَّى طَوَافَ الْفَرْضِ ، وَالرُّكْنِ ؛ لأَِنَّهُ فَرْضٌ وَرُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الْحَجِّ .
ثَالِثًا : طَوَافُ الْوَدَاعِ :
وَيُسَمَّى طَوَافَ الصَّدَرِ ، وَطَوَافَ آخِرِ الْعَهْدِ .
وَهُوَ وَاجِبٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ ( الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَهُوَ الأَْظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ ) وَمُسْتَحَبٌّ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ
وَاسْتَدَل الْجُمْهُورُ عَلَى وُجُوبِهِ بِمَا رويَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضى الله عنهما - قَالَ أُمِرَ النَّاسُ أَنْ يَكُونَ آخِرُ عَهْدِهِمْ بِالْبَيْتِ ، إِلاَّ أَنَّهُ خُفِّفَ عَنِ الْحَائِضِ . ، إِلاَّ أَنَّهُ خَفَّفَ عَنِ الْمَرْأَةِ الْحَائِضِ(1).
وَاسْتَدَل الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ مُسْتَحَبٌّ ، بِأَنَّهُ جَازَ لِلْحَائِضِ تَرْكُهُ دُونَ فِدَاءٍ ، وَلَوْ وَجَبَ لَمْ يَجُزْ لِلْحَائِضِ تَرْكُهُ .
رَابِعًا : طَوَافُ الْعُمْرَةِ :
وَهُوَ رُكْنٌ فِيهَا ، وَأَوَّل وَقْتِهِ بَعْدَ الإِْحْرَامِ بِالْعُمْرَةِ ، وَلاَ آخِرَ لَهُ . .
خَامِسًا : طَوَافُ النَّذْرِ :
__________
(1) - البخارى (1755 ) ومسلم (3284 )(1/442)
وَهُوَ وَاجِبٌ ، وَلاَ يَخْتَصُّ بِوَقْتٍ إِذَا لَمْ يُعَيِّنِ النَّاذِرُ فِي نَذْرِهِ لِلطَّوَافِ وَقْتًا .وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ : ( نَذْر )(1).
سَادِسًا : طَوَافُ تَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ :
وَهُوَ مُسْتَحَبٌّ لِكُل مَنْ دَخَل الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ ، إِلاَّ إِذَا كَانَ عَلَيْهِ طَوَافٌ آخَرُ ، فَيَقُومُ مَقَامَهُ ، كَالْمُعْتَمِرِ ، فَإِنَّهُ يَطُوفُ طَوَافَ فَرْضِ الْعُمْرَةِ ، وَيَنْدَرِجُ فِيهِ طَوَافُ تَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ ، كَمَا ارْتَفَعَ بِهِ طَوَافُ الْقُدُومِ ، وَهُوَ أَقْوَى مِنْ طَوَافِ تَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ ، وَذَلِكَ لأَِنَّ تَحِيَّةَ هَذَا الْمَسْجِدِ الشَّرِيفِ هِيَ الطَّوَافُ إِلاَّ إِذَا كَانَ مَانِعٌ فَحِينَئِذٍ يُصَلِّي تَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ(2).
سَابِعًا : طَوَافُ التَّطَوُّعِ :
وَمِنْهُ طَوَافُ تَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ، وَزَمَنُهُ - كَمَا سَبَقَ - عِنْدَ الدُّخُول ، أَمَّا طَوَافُ التَّطَوُّعِ غَيْرُ طَوَافِ التَّحِيَّةِ ، فَلاَ يَخْتَصُّ بِزَمَانٍ دُونَ زَمَانٍ ، وَيَجُوزُ فِي أَوْقَاتِ كَرَاهَةِ الصَّلاَةِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ . وَلاَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَطَوَّعَ وَيَكُونَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ مِنْ سَائِرِ الْفُرُوضِ .
وَيَصِحُّ مِنْ كُل مُسْلِمٍ عَاقِلٍ مُمَيِّزٍ - وَلَوْ مِنَ الصِّغَارِ - إِذَا كَانَ طَاهِرًا .وَيَلْزَمُ بِالشُّرُوعِ فِيهِ وَكَذَا فِي طَوَافِ الْقُدُومِ وَالتَّحِيَّةِ ، أَيْ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ(3)، عَلَى الْخِلاَفِ فِي مَسْأَلَةِ لُزُومِ إِتْمَامِ النَّافِلَةِ بِالشُّرُوعِ فِيهَا .
أَحْكَامُ الطَّوَافِ الْعَامَّةِ :
__________
(1) - الموسوعة الفقهية الكويتية - (ج 40 / ص 136) وما بعدها
(2) - شرح اللباب ص 97 .
(3) - المرجع السابق 98 .(1/443)
ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ أُمُورًا لاَ بُدَّ مِنْهَا فِي الطَّوَافِ بِصِفَةٍ عَامَّةٍ ، لَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي عَدِّهَا رُكْنًا أَوْ وَاجِبًا أَوْ شَرْطًا عَلَى النَّحْوِ التَّالِي :
أَوَّلاً : حُصُول الطَّائِفِ حَوْل الْكَعْبَةِ الْعَدَدَ الْمَطْلُوبَ مِنَ الأَْشْوَاطِ :
ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ عَلَى كُل طَائِفٍ أَنْ يَطُوفَ حَوْل الْكَعْبَةِ الْعَدَدَ الْمَطْلُوبَ مِنَ الأَْشْوَاطِ سَوَاءٌ كَانَ حُصُولُهُ هَذَا بِفِعْل نَفْسِهِ ، أَوْ بِفِعْل غَيْرِهِ ، بِأَنْ حَمَلَهُ الْغَيْرُ وَطَافَ بِهِ ، وَسَوَاءٌ كَانَ قَادِرًا عَلَى الطَّوَافِ بِنَفْسِهِ فَأَمَرَ شَخْصًا أَنْ يَحْمِلَهُ فِي الطَّوَافِ أَوْ حَمَلَهُ الآْخَرُ بِغَيْرِ أَمْرِهِ ، فَإِنَّ هَذَا كَافٍ فِي أَدَاءِ فَرْضِ الطَّوَافِ ، وَسُقُوطِهِ عَنِ الذِّمَّةِ ؛ لأَِنَّ الْفَرْضَ هُوَ حُصُول الطَّوَافِ حَوْل الْبَيْتِ ، وَقَدْ حَصَل .
ثَانِيًا : عَدَدُ أَشْوَاطِ الطَّوَافِ :
لاَ خِلاَفَ أَنَّ عَدَدَ أَشْوَاطِ الطَّوَافِ الْمَطْلُوبَةِ سَبْعَةٌ ، لَكِنَّ الْفُقَهَاءَ اخْتَلَفُوا بَعْدَ ذَلِكَ فِي رُكْنِيَّةِ السَّبْعَةِ:
فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الرُّكْنَ سَبْعَةُ أَشْوَاطٍ لاَ يُجْزِئُ عَنِ الْفَرْضِ أَقَل مِنْهَا .
وَقَسَّمَ الْحَنَفِيَّةُ السَّبْعَةَ إِلَى رُكْنٍ وَوَاجِبٍ .
أَمَّا الْعَدَدُ الرُّكْنُ فَأَكْثَرُ هَذِهِ السَّبْعَةِ ، وَأَمَّا الْوَاجِبُ فَهُوَ الأَْقَل الْبَاقِي بَعْدَ أَكْثَرِ الطَّوَافِ(1/444)
وَاسْتَدَل الْجُمْهُورُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ } سورة الحج 29 . فَإِنَّ الآْيَةَ تُفِيدُ التَّكْثِيرَ ، لأَِنَّهُ عَبَّرَ بِصِيغَةِ التَّفْعِيل ، وَقَدْ جَاءَ فِعْلُهُ - صلى الله عليه وسلم - مُبَيِّنًا الْقَدْرَ الَّذِي يَحْصُل بِهِ امْتِثَال قَوْلِهِ : { وَلْيَطَّوَّفُوا } وَهُوَ سَبْعَةُ أَشْوَاطٍ ، فَتَكُونُ هِيَ الْفَرْضَ .
كَمَا اسْتَدَلُّوا بِأَنَّ مَقَادِيرَ الْعِبَادَاتِ لاَ تُعْرَفُ بِالرَّأْيِ وَالاِجْتِهَادِ ، وَإِنَّمَا تُعْرَفُ بِالتَّوْقِيفِ ، أَيِ التَّعْلِيمِ مِنَ الشَّارِعِ ، وَالرَّسُول - صلى الله عليه وسلم - طَافَ سَبْعًا ، وَفِعْلُهُ هَذَا بَيَانٌ لِمَنَاسِكِ الْحَجِّ ، فعَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِى أَبُو الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِراً يَقُولُ رَأَيْتُ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - يَرْمِى عَلَى رَاحِلَتِهِ يَوْمَ النَّحْرِ يَقُولُ لَنَا " خُذُوا عَنِّى مَنَاسِكَكُمْ فَإِنِّى لاَ أَدْرِى لَعَلِّى أَنْ لاَ أَحُجَّ بَعْدَ حَجَّتِى هَذِهِ "(1). .
فَالْفَرْضُ طَوَافُ سَبْعَةِ أَشْوَاطٍ وَلاَ يُعْتَدُّ بِمَا دُونَهَا(2).
وَاسْتَدَل الْحَنَفِيَّةُ بِأَدِلَّةٍ ، مِنْهَا :
( 1 ) قَوْله تَعَالَى : { وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ } وَهَذَا أَمْرٌ مُطْلَقٌ عَنْ أَيِّ قَيْدٍ ، وَالأَْمْرُ الْمُطْلَقُ يُوجِبُ مَرَّةً وَاحِدَةً ، وَلاَ يَقْتَضِي التَّكْرَارَ ، فَالزِّيَادَةُ عَلَى شَوْطٍ مِنَ الطَّوَافِ تَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ آخَرَ ، وَالدَّلِيل قَائِمٌ عَلَى فَرْضِيَّةِ أَكْثَرِ السَّبْعِ ، وَهُوَ الإِْجْمَاعُ ، فَتَكُونُ فَرْضًا ، وَلاَ إِجْمَاعَ عَلَى فَرْضِيَّةِ الْبَاقِي ، فَلاَ يَكُونُ فَرْضًا بَل وَاجِبًا .
(
__________
(1) - مسند أحمد (14793) صحيح
(2) - نهاية المحتاج 2 / 409 .(1/445)
2 ) أَنَّ الطَّائِفَ قَدْ أَتَى بِأَكْثَرِ السَّبْعِ ، وَالأَْكْثَرُ يَقُومُ مَقَامَ الْكُل ، فَكَأَنَّهُ أَدَّى الْكُل(1).
وَقَال كَمَال الدِّينِ بْنُ الْهُمَامِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ : الَّذِي نَدِينُ بِهِ أَنَّهُ لاَ يُجْزِئُ أَقَل مِنْ سَبْعٍ ، وَلاَ يَجْبُرُ بَعْضَهُ بِشَيْءٍ(2).
الشَّكُّ فِي عَدَدِ الأَْشْوَاطِ :
لَوْ شَكَّ فِي عَدَدِ أَشْوَاطِ طَوَافِهِ وَهُوَ فِي الطَّوَافِ بَنَى عَلَى الْيَقِينِ ، وَهُوَ الأَْقَل عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ ( الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ ) .
قَال ابْنُ الْمُنْذِرِ : أَجْمَعَ كُل مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْل الْعِلْمِ عَلَى ذَلِكَ(3)وَلأَِنَّهَا عِبَادَةٌ ، فَمَتَى شَكَّ فِيهَا وَهُوَ فِيهَا بَنَى عَلَى الْيَقِينِ كَالصَّلاَةِ(4).
وَأَجْرَى الْمَالِكِيَّةُ(5)ذَلِكَ فِي غَيْرِ الْمُسْتَنْكِحِ ، فَقَالُوا : يَبْنِي الشَّاكُّ غَيْرُ " الْمُسْتَنْكِحِ(6)عَلَى الأَْقَل ، وَالْمُرَادُ بِالشَّكِّ مُطْلَقُ التَّرَدُّدِ الشَّامِل لِلْوَهْمِ ، أَمَّا الشَّاكُّ الْمُسْتَنْكِحُ فَيَبْنِي عَلَى الأَْكْثَرِ .
__________
(1) - بدائع الصنائع 2 / 132 ، والدر المختار وحاشيته 2 / 250 .
(2) - فتح القدير 2 / 247 .
(3) - المغني 3 / 378 ، وانظر المجموع 8 / 25 .
(4) - انظر المرجعين السابقين ، ونهاية المحتاج 2 / 409 ، ومغني المحتاج 1 / 486 - 487 .
(5) - الشرح الكبير للدردير وحاشيته للدسوقي 2 / 33 .
(6) - المراد بالمستنكح في مصطلح المالكية هو من يأتيه الشك في كل يوم ولو مرة .(1/446)
وَفَصَّل الْحَنَفِيَّةُ فِي الشَّكِّ فِي عَدَدِ الأَْشْوَاطِ بَيْنَ طَوَافِ الْفَرْضِ وَالْوَاجِبِ وَغَيْرِهِ : أَمَّا طَوَافُ الْفَرْضِ كَالْعُمْرَةِ وَالزِّيَارَةِ وَالْوَاجِبِ كَالْوَدَاعِ فَقَالُوا : لَوْ شَكَّ فِي عَدَدِ الأَْشْوَاطِ فِيهِ أَعَادَهُ ، وَلاَ يَبْنِي عَلَى غَالِبِ ظَنِّهِ ، بِخِلاَفِ الصَّلاَةِ ، وَلَعَل الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا كَثْرَةُ الصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَةِ وَنُدْرَةِ الطَّوَافِ .
أَمَّا غَيْرُ طَوَافِ الْفَرْضِ وَالْوَاجِبِ وَهُوَ النَّفَل فَإِنَّهُ إِذَا شَكَّ فِيهِ يَتَحَرَّى ، وَيَبْنِي عَلَى غَالِبِ ظَنِّهِ ، وَيَبْنِي عَلَى الأَْقَل الْمُتَيَقَّنِ فِي أَصْلِهِ(1).
أَمَّا إِذَا شَكَّ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الطَّوَافِ فَلاَ يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ ، وَسَوَّى الْمَالِكِيَّةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا إِذَا كَانَ فِي الطَّوَافِ ، وَأَطْلَقَ الْحَنَفِيَّةُ عِبَارَاتِهِمْ فِي الشَّكِّ .
وَإِنْ أَخْبَرَهُ ثِقَةٌ بِعَدَدِ طَوَافِهِ أُخِذَ بِهِ إِنْ كَانَ عَدْلاً عِنْدَ الأَْكْثَرِ ، وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِشَرْطِ كَوْنِهِ مَعَهُ فِي الطَّوَافِ ، وَلَمْ يَشْرِطْ ذَلِكَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ(2).
__________
(1) - المسلك المتقسط ص 113 ، ورد المحتار 2 / 230 .
(2) - المغني 3 / 378 ، ومغني المحتاج 1 / 486 - 487 .(1/447)
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ : لَوْ أَخْبَرَهُ عَدْلٌ بِعَدَدٍ مَخْصُوصٍ مُخَالِفٍ لِمَا فِي ظَنِّهِ أَوْ عِلْمِهِ ، يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ بِقَوْلِهِ احْتِيَاطًا فِيمَا فِيهِ الاِحْتِيَاطُ فَيُكَذِّبُ نَفْسَهُ ، لاِحْتِمَال نِسْيَانِهِ وَيُصَدِّقُهُ ؛ لأَِنَّهُ عَدْلٌ لاَ غَرَضَ لَهُ فِي خَبَرِهِ ، وَلَوْ أَخْبَرَهُ عَدْلاَنِ وَجَبَ الْعَمَل بِقَوْلِهِمَا ، وَإِنْ لَمْ يَشُكَّ ؛ لأَِنَّ عِلْمَيْنِ خَيْرٌ مِنْ عِلْمٍ وَاحِدٍ ، وَلأَِنَّ إِخْبَارَهُمَا بِمَنْزِلَةِ شَاهِدَيْنِ عَلَى إِنْكَارِهِ فِي فِعْلِهِ أَوْ إِقْرَارِهِ . وَاسْتَحَبَّ الشَّافِعِيَّةُ لَهُ الأَْخْذَ بِقَوْل الْعَدْل الْمُخَالِفِ لِعِلْمِهِ ، خِلاَفًا لِلصَّلاَةِ .
ثَالِثًا : النِّيَّةُ :
مُجَرَّدُ إِرَادَةِ الدَّوَرَانِ حَوْل الْكَعْبَةِ لاَ لِقَصْدِ شَيْءٍ آخَرَ يَكْفِي فِي هَذَا الشَّرْطِ ، دُونَ تَعْيِينِهِ لِلْفَرْضِ أَوِ الْوُجُوبِ أَوِ السُّنَّةِ ، وَلاَ تَعْيِينُ كَوْنِهِ لِلإِْفَاضَةِ أَوْ لِلصَّدَرِ أَوْ لِلْقُدُومِ وَنَحْوِ ذَلِكَ ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْحَنَفِيَّةُ(1)فِي الرَّاجِحِ .
وَمَنْ قَامَ بِعَمَل الطَّوَافِ لِطَلَبِ غَرِيمٍ أَوْ فِرَارًا مِنْ ظَالِمٍ لاَ يُعْتَدُّ بِهِ مَا لَمْ يَنْوِ مَعَ عَمَلِهِ هَذَا الطَّوَافَ(2)وَفِي شَرْحِ مُخْتَصَرِ الطَّحَاوِيِّ : نِيَّةُ الْحَجِّ عِنْدَ الإِْحْرَامِ كَافِيَةٌ عَنْ نِيَّةِ الطَّوَافِ .
__________
(1) - المسلك المتقسط ص 99 .
(2) - المرجع السابق ، وبدائع الصنائع للكاساني ( طبع شركة المطبوعات العلمية ) 2 / 128 وحاشية الهيثمي على الإيضاح ص 252 ، والفروع لابن مفلح الحنبلي ( طبع عالم الكتب ) 3 / 501 ، ومغني المحتاج ( دار إحياء التراث - بيروت ) 1 / 487 ، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير ( طبع عيسى الحلبي ) 2 / 37 .(1/448)
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ : لَوْ طَافَ طَوَافًا فِي وَقْتِهِ الَّذِي عَيَّنَ الشَّارِعُ وُقُوعَهُ فِيهِ وَقَعَ عَنْهُ ، نَوَاهُ بِعَيْنِهِ أَوْ لاَ ، أَوْ نَوَى طَوَافًا آخَرَ ، فَلَوْ قَدِمَ مُعْتَمِرًا وَطَافَ بِأَيِّ نِيَّةٍ كَانَتْ مِنْ نِيَّاتِ الطَّوَافِ كَأَنْ نَوَاهُ تَطَوُّعًا يَقَعُ طَوَافُهُ عَنِ الْعُمْرَةِ ، أَوْ قَدِمَ حَاجًّا وَطَافَ قَبْل يَوْمِ النَّحْرِ وَقَعَ عَنْ طَوَافِ الْقُدُومِ .
وَقَال الدُّسُوقِيُّ : إِنَّ نِيَّةَ الإِْحْرَامِ بِالْحَجِّ يَنْدَرِجُ فِيهَا الْوُقُوفُ كَالطَّوَافِ وَالسَّعْيِ وَتُطْلَبُ النِّيَّةُ مِنَ الْمَارِّ دُونَ غَيْرِهِ .
وَقَرَّرَ الشَّافِعِيَّةُ : أَنَّ نِيَّةَ الطَّوَافِ شَرْطٌ إِنِ اسْتَقَل بِأَنْ لَمْ يَشْمَلْهُ نُسُكٌ ، كَالطَّوَافِ الْمَنْذُورِ وَالْمُتَطَوَّعِ بِهِ ، قَال ابْنُ الرِّفْعَةِ : وَطَوَافُ الْوَدَاعِ لاَ بُدَّ لَهُ مِنْ نِيَّةٍ ؛ لأَِنَّهُ يَقَعُ بَعْدَ التَّحَلُّل ، لأَِنَّهُ لَيْسَ مِنَ الْمَنَاسِكِ عِنْدَ الشَّيْخَيْنِ ، بِخِلاَفِ الطَّوَافِ الَّذِي يَشْمَلُهُ نُسُكٌ وَهُوَ طَوَافُ الرُّكْنِ لِلْحَجِّ أَوِ الْعُمْرَةِ وَطَوَافِ الْقُدُومِ فَلاَ يَحْتَاجُ ذَلِكَ إِلَى نِيَّةٍ فِي الأَْصَحِّ ، لِشُمُول نِيَّةِ النُّسُكِ لَهُ ، وَقَالُوا : مَا لَمْ يَصْرِفِ الطَّوَافَ إِلَى غَرَضٍ آخَرَ مِنْ طَلَبِ غَرِيمٍ أَوْ نَحْوِهِ(1).
__________
(1) - البدائع 2 / 128 - 129 ، وشرح اللباب ص 98 و99 ، والدسوقي 2 / 37 ، والمهذب مع المجموع 8 / 16 و 18 و 21 ، والإيضاح ص 251 - 253 ، ونهاية المحتاج 2 / 409 و 414 و 416 ، ومغني المحتاج 1 / 487 و 292 ، والمغني 3 / 441 و 443 ( مطبعة المنار - الثالثة ) ، والفروع 3 / 499 - 501 .(1/449)
وَقَال الْحَنَابِلَةُ : لاَ بُدَّ لِصِحَّةِ الطَّوَافِ مِنَ النِّيَّةِ لِحَدِيثِ إِنَّمَا الأَْعْمَال بِالنِّيَّاتِ(1)وَلأَِنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - سَمَّاهُ صَلاَةً وَالصَّلاَةُ لاَ تَصِحُّ إِلاَّ بِالنِّيَّةِ اتِّفَاقًا ، وَفِي طَوَافِ الإِْفَاضَةِ يُعَيِّنُ فِي نِيَّتِهِ هَذَا الطَّوَافَ(2).
طَوَافُ الْمُغْمَى عَلَيْهِ :
لَوْ طَافَ بِالْمُغْمَى عَلَيْهِ رِفَاقُهُ مَحْمُولاً ، أَجْزَأَ ذَلِكَ الطَّوَافُ الْوَاحِدُ عَنِ الْحَامِل وَالْمَحْمُول إِنْ نَوَاهُ الْحَامِل عَنْ نَفْسِهِ وَعَنِ الْمَحْمُول ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ أَمْرِ الْمُغْمَى عَلَيْهِ ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ عَقْدَ الرُّفْقَةِ مُتَضَمِّنٌ لِفِعْل هَذِهِ الْمَنْفَعَةِ ، وَسَوَاءٌ اتَّفَقَ طَوَافُهُمَا بِأَنْ كَانَ لِعُمْرَتِهِمَا ، أَوْ لِزِيَارَتِهِمَا ، وَنَحْوِهِمَا ، أَوِ اخْتَلَفَ طَوَافُهُمَا ، فَيَكُونُ طَوَافُ الْحَامِل عَمَّا أَوْجَبَهُ إِحْرَامُهُ ، وَطَوَافُ الْمَحْمُول كَذَلِكَ(3).
طَوَافُ النَّائِمِ وَالْمَرِيضِ :
__________
(1) - البخاري (1)
(2) - المغني 3 / 441 ، وكشاف القناع 2 / 485 ، 505 .
(3) - المسلك المتقسط ص 100 .(1/450)
لَوْ طَافَ أَحَدٌ بِمَرِيضٍ وَهُوَ نَائِمٌ مِنْ غَيْرِ إِغْمَاءٍ فَفِيهِ تَفْصِيلٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ : إِنْ كَانَ الطَّوَافُ بِأَمْرِهِ وَحَمَلُوهُ عَلَى فَوْرِهِ أَيْ سَاعَتِهِ عُرْفًا وَعَادَةً يَجُوزُ ، وَإِلاَّ بِأَنْ طَافُوا بِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَأْمُرَهُمْ بِالطَّوَافِ بِهِ أَوْ فَعَلُوا لَكِنْ لاَ عَلَى فَوْرِهِ فَلاَ يُجْزِيهِ الطَّوَافُ . فَفَرَّقُوا فِي الْحُكْمِ بَيْنَ الْوُقُوفِ وَالطَّوَافِ لِعَدَمِ اشْتِرَاطِ النِّيَّةِ فِي الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ ، وَفَرَّقُوا بَيْنَ الْمُغْمَى عَلَيْهِ وَالنَّائِمِ فَاكْتَفُوا فِي الْمُغْمَى عَلَيْهِ بِعَقْدِ الرُّفْقَةِ ، وَفِي الْمَرِيضِ النَّائِمِ اعْتَبَرُوا الأَْمْرَ الصَّرِيحَ لِقِيَامِ نِيَّتِهِمْ مَقَامَ نِيَّتِهِ ؛ لأَِنَّ حَالَهُ أَقْرَبُ إِلَى الشُّعُورِ مِنْ حَال الْمُغْمَى عَلَيْهِ .
وَعِنْدَ غَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ يُنْتَظَرُ حَتَّى يُفِيقَ الْمُغْمَى عَلَيْهِ وَالنَّائِمُ وَيَسْتَوْفِي شُرُوطَ الطَّوَافِ الَّتِي مِنْهَا الطَّهَارَتَانِ(1).
رَابِعًا : وُقُوعُ الطَّوَافِ فِي الْمَكَانِ الْخَاصِّ :
مَكَانُ الطَّوَافِ هُوَ حَوْل الْكَعْبَةِ الْمُشَرَّفَةِ دَاخِل الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ، قَرِيبًا مِنَ الْبَيْتِ أَوْ بَعِيدًا عَنْهُ ، وَهَذَا شَرْطٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى : {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} سورة الحج الآية : 29.
__________
(1) - المسلك المتقسط ص 100 - 101 .(1/451)
فَلَوْ طَافَ مِنْ وَرَاءِ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، أَوْ مِنْ وَرَاءِ حَائِلٍ كَمِنْبَرٍ أَوْ غَيْرِهِ كَالأَْعْمِدَةِ ، أَوْ عَلَى سَطْحِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَجْزَأَهُ ذَلِكَ ، لأَِنَّهُ قَدْ حَصَل حَوْل الْبَيْتِ ، مَا دَامَ ضِمْنَ الْمَسْجِدِ ، وَإِنْ وَسِعَ الْمَسْجِدُ ، وَمَهْمَا تَوَسَّعَ مَا لَمْ يَبْلُغِ الْحِل عِنْدَ الْجُمْهُورِ(1)
__________
(1) - المسلك المتقسط ص 101 ، والدر المختار وحاشيته 2 / 230 ، ومغني المحتاج 1 / 487 ، ونهاية المحتاج 2 / 409 ، والمغني 3 / 375 ، والفروع 3 / 500 .(1/452)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ : يَجُوزُ الطَّوَافُ بِسَقَائِفِ الْمَسْجِدِ ، وَهِيَ مَحَلٌّ كَانَ بِهِ قِبَابٌ مَعْقُودَةٌ ، وَمِنْ وَرَاءِ زَمْزَمَ وَقُبَّةِ الشَّرَابِ حِذَاءُ زَمْزَمَ ، وَلاَ يَضُرُّ حَيْلُولَةُ الأُْسْطُوَانَاتِ وَزَمْزَمُ وَالْقُبَّةُ بَيْنَ الطَّائِفِ وَالْبَيْتِ بِسَبَبِ زَحْمَةٍ انْتَهَتْ إِلَيْهَا ؛ لأَِنَّ الزِّحَامَ يُصَيِّرُ الْجَمِيعَ مُتَّصِلاً بِالْبَيْتِ ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ زَحْمَةٌ بَل طَافَ تَحْتَ السَّقَائِفِ اعْتِبَاطًا ، أَوْ لِحَرٍّ ، أَوْ لِبَرْدٍ ، أَوْ مَطَرٍ أَعَادَ وُجُوبًا مَا دَامَ بِمَكَّةَ ، وَلَمْ يَرْجِعْ لَهُ مِنْ بَلَدِهِ أَوْ مِمَّا يَتَعَذَّرُ مِنْهُ الرُّجُوعُ ، وَعَلَيْهِ الدَّمُ ، لَكِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْحَرَّ وَالْبَرْدَ الشَّدِيدَيْنِ كَالزَّحْمَةِ ، كَمَا قَرَّرَ الدُّسُوقِيُّ ، وَعَلَى هَذَا لَوْ طَافَ فِي السَّقَائِفِ لِزَحْمَةٍ ثُمَّ قَبْل كَمَالِهِ زَالَتْ الزَّحْمَةُ وَجَبَ إِكْمَالُهُ فِي الْمَحَل الْمُعْتَادِ ، سَوَاءٌ كَانَ الْبَاقِي قَلِيلاً أَوْ كَثِيرًا ، فَلَوْ كَمُل الْبَاقِي فِي السَّقَائِفِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يُعِيدُ ذَلِكَ الَّذِي كَمَّلَهُ فِي السَّقَائِفِ(1).
خَامِسًا : أَنْ يَكُونَ الطَّوَافُ حَوْل الْبَيْتِ كُلِّهِ :
وَذَلِكَ يَشْمَل الشَّاذَرْوَانَ ، وَهُوَ الْجُزْءُ السُّفْلِيُّ الْخَارِجُ عَنْ جِدَارِ الْبَيْتِ مُرْتَفِعًا عَلَى وَجْهِ الأَْرْضِ عَلَى الْقَوْل بِأَنَّهُ مِنَ الْكَعْبَةِ .
__________
(1) - الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي 2 / 33 .(1/453)
وَقَدِ اخْتُلِفَ فِيهِ هَل هُوَ مِنَ الْكَعْبَةِ أَوْ لَيْسَ مِنَ الْكَعْبَةِ ؟ فَقَال جَمَاعَةٌ : هُوَ مِنَ الْكَعْبَةِ تَرَكَتْهُ قُرَيْشٌ لِضِيقِ النَّفَقَةِ ، وَقَال الْحَنَفِيَّةُ : لَيْسَ مِنَ الْكَعْبَةِ وَعَلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ(1).
سَادِسًا : أَنْ يَكُونَ الْحِجْرُ دَاخِلاً فِي طَوَافِهِ :
الْحِجْرُ - بِكَسْرِ الْحَاءِ وَسُكُونِ الْجِيمِ - هُوَ الْمَوْضِعُ الْمُحَاطُ بِجِدَارٍ مُقَوَّسٍ تَحْتَ مِيزَابِ الْكَعْبَةِ ، فِي الْجِهَةِ الشَّمَالِيَّةِ مِنَ الْكَعْبَةِ ، وَيُسَمَّى الْحَطِيمَ أَيْضًا .
وَالْحِجْرُ هُوَ جُزْءٌ مِنَ الْبَيْتِ ، تَرَكَتْهُ قُرَيْشٌ لِضِيقِ النَّفَقَةِ ، وَأَحَاطَتْهُ بِالْجِدَارِ ، وَقِيل : الَّذِي مِنْهَا سِتَّةُ أَذْرُعٍ أَوْ سَبْعَةُ أَذْرُعٍ ، فَالنَّظَرُ فِي الْقَدْرِ الزَّائِدِ إِلَى طَوَافِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - . مِنْ وَرَائِهِ ، وَهُوَ مَا قَطَعَ بِهِ أَكْثَرُ الشَّافِعِيَّةِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ النَّوَوِيُّ فِي الْمَجْمُوعِ(2).
__________
(1) - الحطاب 3 / 70 - 71 .
(2) - المجموع 8 / 28 ، 29 .(1/454)
وَ عَنْ عَائِشَةَ - رضى الله عنهم - زَوْجِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ لَهَا " أَلَمْ تَرَىْ أَنَّ قَوْمَكِ لَمَّا بَنَوُا الْكَعْبَةَ اقْتَصَرُوا عَنْ قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ " . فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلاَ تَرُدُّهَا عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ . قَالَ " لَوْلاَ حِدْثَانُ قَوْمِكِ بِالْكُفْرِ لَفَعَلْتُ " . فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ - رضى الله عنه - لَئِنْ كَانَتْ عَائِشَةُ - رضى الله عنها - سَمِعَتْ هَذَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَا أُرَى رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - تَرَكَ اسْتِلاَمَ الرُّكْنَيْنِ اللَّذَيْنِ يَلِيَانِ الْحِجْرَ ، إِلاَّ أَنَّ الْبَيْتَ لَمْ يُتَمَّمْ عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ .(1)
وعَنْ عَائِشَةَ - رضى الله عنها - قَالَتْ سَأَلْتُ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - عَنِ الْجَدْرِ(2)أَمِنَ الْبَيْتِ هُوَ قَالَ: « نَعَمْ » . قُلْتُ فَمَا لَهُمْ لَمْ يُدْخِلُوهُ فِى الْبَيْتِ قَالَ: « إِنَّ قَوْمَكِ قَصَّرَتْ بِهِمُ النَّفَقَةُ » . قُلْتُ فَمَا شَأْنُ بَابِهِ مُرْتَفِعًا قَالَ: « فَعَلَ ذَلِكِ قَوْمُكِ لِيُدْخِلُوا مَنْ شَاءُوا وَيَمْنَعُوا مَنْ شَاءُوا ، وَلَوْلاَ أَنَّ قَوْمَكِ حَدِيثٌ عَهْدُهُمْ بِالْجَاهِلِيَّةِ فَأَخَافُ أَنْ تُنْكِرَ قُلُوبُهُمْ أَنْ أُدْخِلَ الْجَدْرَ فِى الْبَيْتِ وَأَنْ أُلْصِقَ بَابَهُ بِالأَرْضِ »(3)
__________
(1) - صحيح البخارى (1583 )
(2) - الجدر : هو الحجر .
(3) - صحيح البخارى (1584 ) .(1/455)
وَقَدْ ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَعَطَاءٌ وَأَبُو ثَوْرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ : إِلَى أَنَّ الطَّوَافَ مِنْ وَرَاءِ الْحَطِيمِ فَرْضٌ ، مَنْ تَرَكَهُ لَمْ يُعْتَدَّ بِطَوَافِهِ ، حَتَّى لَوْ مَشَى عَلَى جِدَارِهِ لَمْ يُجْزِئْهُ ، لأَِنَّهُ جُزْءٌ مِنَ الْكَعْبَةِ ، كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ بِالسُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ ، وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ دَاخِلاً فِي الطَّوَافِ .
وَاسْتَدَلُّوا أَيْضًا بِمُوَاظَبَةِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى الطَّوَافِ مِنْ وَرَاءِ الْحِجْرِ ، وَفِعْلُهُ بَيَانٌ لِلْقُرْآنِ ، فَيُلْتَحَقُ بِهِ ، فَيَكُونُ فَرْضًا .
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَقَالُوا : دُخُول الْحِجْرِ فِي الطَّوَافِ وَاجِبٌ لأَِنَّ كَوْنَهُ جُزْءًا مِنَ الْبَيْتِ ثَبَتَ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ ، وَخَبَرُ الْوَاحِدِ يَثْبُتُ بِهِ الْوُجُوبُ عِنْدَهُمْ لاَ الْفَرْضُ(1).
وَعَلَى ذَلِكَ فَمَنْ تَرَكَ الطَّوَافَ خَلْفَ الْحِجْرِ لَمْ يَصِحَّ طَوَافُهُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ ، وَلَمْ يُعْتَدَّ بِهِ ؛ لأَِنَّهُ لَمْ يَطُفْ بِجَمِيعِ الْبَيْتِ .
أَمَّا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ إِعَادَةُ الطَّوَافِ مَا دَامَ بِمَكَّةَ ، فَإِنْ رَجَعَ إِلَى بَلَدِهِ بِغَيْرِ إِعَادَةٍ فَعَلَيْهِ هَدْيٌ يُرْسِلُهُ إِلَى مَكَّةَ ، وَالأَْفْضَل عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ إِعَادَةُ كُل الطَّوَافِ لِيُؤَدِّيَهُ عَلَى الْوَجْهِ الْحَسَنِ ، وَلِلْخُرُوجِ مِنَ الْخِلاَفِ .
__________
(1) - بدائع الصنائع 2 / 131 و133 و 134 ، والمسلك المتقسط ص 104 ، ورد المحتار 2 / 219 ، وشرح المنهاج 2 / 105 ، ومغني المحتاج 1 / 486 ، ومواهب الجليل 3 / 71 - 75 وحاشية العدوي 1 / 466 ، والشرح الكبير 2 / 31 ، المغني 3 / 382 والفروع 3 / 499 .(1/456)
أَمَّا الْوَاجِبُ فِي الإِْعَادَةِ : فَيُجْزِيهِ أَنْ يَأْخُذَ عَنْ يَمِينِهِ خَارِجَ الْحِجْرِ مُبْتَدِئًا مِنْ أَوَّل أَجْزَاءِ الْفُرْجَةِ أَوْ قَبْلَهُ بِقَلِيلٍ احْتِيَاطًا ، وَيَطُوفَ حَتَّى يَنْتَهِيَ إِلَى آخِرِهِ ، ثُمَّ يَدْخُل الْحِجْرَ مِنَ الْفُرْجَةِ الَّتِي وَصَل إِلَيْهَا وَيَخْرُجَ مِنَ الْجَانِبِ الآْخَرِ ، أَوْ لاَ يَدْخُل الْحِجْرَ ، بَل يَرْجِعُ وَيَبْتَدِئُ مِنْ أَوَّل الْحِجْرِ(1).
سَابِعًا : ابْتِدَاءُ الطَّوَافِ مِنَ الْحَجَرِ الأَْسْوَدِ :
ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّ ابْتِدَاءَ الطَّوَافِ مِنَ الْحَجَرِ الأَْسْوَدِ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الطَّوَافِ ، وَهُوَ رِوَايَةٌ فِي مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ ، فَلاَ يُعْتَدُّ بِالشَّوْطِ الَّذِي بَدَأَهُ بَعْدَ الْحَجَرِ الأَْسْوَدِ .
وَاسْتَدَلُّوا بِمُوَاظَبَةِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَجَعَلُوهَا دَلِيل الْفَرْضِيَّةِ ؛ لأَِنَّهَا بَيَانٌ لإِِجْمَال الْقُرْآنِ .
وَلاَ بُدَّ عِنْدَهُمْ مِنْ مُحَاذَاةِ الْحَجَرِ الأَْسْوَدِ بِجَمِيعِ الْبَدَنِ ؛ لأَِنَّ مَا وَجَبَ فِيهِ مُحَاذَاةُ الْبَيْتِ وَجَبَتْ مُحَاذَاتُهُ بِجَمِيعِ الْبَدَنِ ، كَالاِسْتِقْبَال فِي الصَّلاَةِ(2).
__________
(1) - المسلك المتقسط ص 104 وقارن بفتح القدير 2 / 151 .
(2) - المهذب 8 / 33 ، ونهاية المحتاج 2 / 407 وحاشية العدوي 1 / 466 ، وشرح الفاسي على الرسالة 1 / 352 ، والمغني 3 / 371 - 372 ، والفروع 3 / 497 .(1/457)
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ عَلَى الرَّاجِحِ فِي الْمَذْهَبَيْنِ إِلَى أَنَّ ابْتِدَاءَ الطَّوَافِ مِنَ الْحَجَرِ الأَْسْوَدِ وَاجِبٌ ، لأَِنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - وَاظَبَ عَلَى ذَلِكَ ، وَالْمُوَاظَبَةُ دَلِيل الْوُجُوبِ ، لاَ سِيَّمَا وَقَدْ روي عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِى أَبُو الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرًا يَقُولُ رَأَيْتُ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - يَرْمِى عَلَى رَاحِلَتِهِ يَوْمَ النَّحْرِ وَيَقُولُ " لِتَأْخُذُوا مَنَاسِكَكُمْ فَإِنِّى لاَ أَدْرِى لَعَلِّى لاَ أَحُجُّ بَعْدَ حَجَّتِى هَذِهِ "(1). فَيَلْزَمُ الدَّمُ بِتَرْكِ الْبِدَايَةِ مِنْهُ فِي طَوَافِ الرُّكْنِ(2).
قَال الْمُحَقِّقُ الشَّيْخُ عَلِيٌّ الْقَارِئُ(3): وَلَوْ قِيل : إِنَّهُ وَاجِبٌ لاَ يَبْعُدُ ، لأَِنَّ الْمُوَاظَبَةَ مِنْ غَيْرِ تَرْكِ مَرَّةٍ دَلِيلُهُ ، فَيَأْثَمُ بِهِ وَيُجْزِيهِ ، وَلَوْ كَانَ فِي الآْيَةِ إِجْمَالٌ لَكَانَ شَرْطًا كَمَا قَال مُحَمَّدٌ ، لَكِنَّهُ مُنْتَفٍ فِي حَقِّ الاِبْتِدَاءِ ، فَيَكُونُ مُطْلَقُ التَّطَوُّفِ فَرْضًا ، وَافْتِتَاحُهُ - أَيْ مِنَ الْحَجَرِ الأَْسْوَدِ - وَاجِبًا لِلْمُوَاظَبَةِ . . . وَهُوَ الأَْشْبَهُ وَالأَْعْدَل ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُعَوَّل .
ثَامِنًا : التَّيَامُنُ :
التَّيَامُنُ : سَيْرُ الطَّائِفِ عَنْ يَمِينِ الْكَعْبَةِ ، وَجَعْل يَسَارِهِ لِجَانِبِ الْكَعْبَةِ ، وَهَذَا شَرْطٌ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ وَقَرَّرُوا أَنَّ الطَّوَافَ عَلَى عَكْسِ ذَلِكَ بَاطِلٌ .
__________
(1) - صحيح مسلم (3197 )
(2) - تنوير الأبصار والشرح والحاشية 2 / 203 ، وشرح الزرقاني 2 / 262 ، والشرح الكبير وحاشيته 2 / 30 - 31 ، ومواهب الجليل 3 / 64 - 65 .
(3) - المسلك المتقسط ص 98 .(1/458)
وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - جَعَل الْبَيْتَ فِي الطَّوَافِ عَلَى يَسَارِهِ(1)، وَلأَِنَّهَا عِبَادَةٌ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْبَيْتِ فَيَجِبُ فِيهَا التَّرْتِيبُ كَالصَّلاَةِ .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ : التَّيَامُنُ وَاجِبٌ فِي الطَّوَافِ ، وَالطَّوَافُ عَلَى عَكْسِهِ صَحِيحٌ مَعَ الْكَرَاهَةِ التَّحْرِيمِيَّةِ ، وَتَجِبُ إِعَادَتُهُ مَا دَامَ بِمَكَّةَ ، وَإِنْ رَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ مِنْ غَيْرِ إِعَادَةٍ يَجِبُ عَلَيْهِ الدَّمُ .
وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّهُ هَيْئَةٌ مُتَعَلِّقَةٌ بِالطَّوَافِ ، فَلاَ تَمْنَعُ صِحَّتَهُ ، وَجَعَلُوا الآْيَةَ : { وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ } دَلِيلاً عَلَى إِجْزَاءِ الطَّوَافِ وَصِحَّتِهِ عَلَى أَيِّ هَيْئَةٍ ؛ لأَِنَّ الأَْمْرَ مُطْلَقٌ ، فَيَتَأَدَّى الرُّكْنُ بِدُونِ تِلْكَ الْهَيْئَةِ ، وَحَمَلُوا فِعْل النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى الْوُجُوبِ(2).
تَاسِعًا : الطَّهَارَةُ مِنَ الْحَدَثِ وَالْخَبَثِ :
__________
(1) - أخرج مسلم (3012 )عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ - رضى الله عنهما - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- لَمَّا قَدِمَ مَكَّةَ أَتَى الْحَجَرَ فَاسْتَلَمَهُ ثُمَّ مَشَى عَلَى يَمِينِهِ فَرَمَلَ ثَلاَثًا وَمَشَى أَرْبَعًا.رمل : الرمل إسراع المشى مع تقارب الخطا
ولم أجده بهذا اللفظ وهو في المغني - (ج 7 / ص 97) والشرح الكبير لابن قدامة - (ج 3 / ص 396)
(2) - البدائع 2 / 130 - 131 والمسلك المتقسط ص 104 وحاشية العدوي 1 / 466 ، والشرح الكبير 2 / 31 ونهاية المحتاج 2 / 407 ، ومغني المحتاج 1 / 485 .(1/459)
ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى : أَنَّ الطَّهَارَةَ مِنَ الأَْحْدَاثِ وَمِنَ الأَْنْجَاسِ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الطَّوَافِ ، فَإِذَا طَافَ فَاقِدًا أَحَدَهَا فَطَوَافُهُ بَاطِلٌ لاَ يُعْتَدُّ بِهِ . وَقَال الْحَنَفِيَّةُ : الطَّهَارَةُ مِنَ الْحَدَثِ وَمِنَ الْخَبَثِ وَاجِبٌ لِلطَّوَافِ ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ . وَإِنْ كَانَ أَكْثَرُ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى أَنَّ الطَّهَارَةَ مِنَ النَّجَاسَةِ الْحَقِيقِيَّةِ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ .
اسْتَدَل الْجُمْهُورُ بحديث ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : " الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ صَلاَةٌ إِلاَّ أَنَّهُ قَدْ أُذِنَ فِيهِ بِالْمَنْطِقِ فَمَنِ اسْتَطَاعَ أَنْ لاَ يَنْطِقَ إِلاَّ بِخَيْرٍ فَلْيَفْعَلْ "(1). .
وَإِذَا كَانَ صَلاَةً وَالصَّلاَةُ لاَ تَجُوزُ بِدُونِ الطَّهَارَةِ مِنَ الأَْحْدَاثِ ، فَكَذَلِكَ الطَّوَافُ لاَ بُدَّ فِيهِ مِنَ الطَّهَارَةِ ،وَاسْتَدَل الْحَنَفِيَّةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ } .
وَوَجْهُ الاِسْتِدْلاَل بِهَا أَنَّ الأَْمْرَ بِالطَّوَافِ مُطْلَقٌ لَمْ يُقَيِّدْهُ الشَّارِعُ بِشَرْطِ الطَّهَارَةِ ، وَهَذَا نَصٌّ قَطْعِيٌّ ، وَالْحَدِيثُ خَبَرُ آحَادٍ وَيُفِيدُ غَلَبَةَ الظَّنِّ فَلاَ يُقَيِّدُ نَصَّ الْقُرْآنِ ، لأَِنَّهُ دُونَ رُتْبَتِهِ ، فَحَمَلْنَا الْحَدِيثَ عَلَى الْوُجُوبِ وَعَمِلْنَا بِهِ(2).
__________
(1) - السنن الكبرى للبيهقي (ج 5 / ص 85)9559 مرفوعا وموقوفا وهو صحيح
(2) - البدائع 2 / 129 ، والمسلك المتقسط ص 103 ، و108 وحاشية العدوي 1 / 456 - 466 والشرح الكبير 2 / 31 ونهاية المحتاج 2 / 405 ، 406 ، ومغني المحتاج 1 / 485 ، وحاشية اليجوري 1 / 532 ، والمغني 3 / 377 ، د والفروع 3 / 502 .(1/460)
وَعَلَى ذَلِكَ : فَمَنْ طَافَ مُحْدِثًا فَطَوَافُهُ بَاطِلٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ ، وَعَلَيْهِ الْعَوْدُ لأَِدَائِهِ إِنْ كَانَ طَوَافًا وَاجِبًا ، وَلاَ تَحِل لَهُ النِّسَاءُ إِنْ كَانَ طَوَافَ إِفَاضَةٍ حَتَّى يُؤَدِّيَهُ . أَمَّا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فَهُوَ صَحِيحٌ لَكِنْ تَجِبُ إِعَادَتُهُ مَا دَامَ بِمَكَّةَ ، وَإِلاَّ وَجَبَ عَلَيْهِ الْفِدَاءُ .
وَمَنْ أَحْدَثَ فِي أَثْنَاءِ الطَّوَافِ يَذْهَبُ فَيَتَوَضَّأُ وَيُتَمِّمُ الأَْشْوَاطَ وَلاَ يُعِيدُهَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ مَالِكٍ ،وَالْمَشْهُورُ عَنْ مَالِكٍ : أَنَّهُ يُعِيدُ الطَّوَافَ مِنْ أَوَّلِهِ ، وَلاَ يَبْنِي عَلَى الأَْشْوَاطِ السَّابِقَةِ(1)، وَذَلِكَ لأَِنَّ الْمُوَالاَةَ فِي أَشْوَاطِ الطَّوَافِ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الطَّوَافِ .
__________
(1) - شرح الرسالة مع حاشية العدوي 1 / 466 ، لكن جزم خليل وأقره في الشرح الكبير 2 / 32 أنه يبنى إن رعف بعد غسل الدم بشرط ألا يتعد موضعا قريبا ، كالصلاة وألا يبعد المكان جدا ، وأن لا يطأ نجاسة ، ونهاية المحتاج 3 / 271 .(1/461)
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ أَحْدَثَ عَمْدًا فَإِنَّهُ يَبْتَدِئُ الطَّوَافَ ، لأَِنَّ الطَّهَارَةَ شَرْطٌ لَهُ ، وَإِنْ سَبَقَهُ الْحَدَثُ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ : إِحْدَاهُمَا : يَبْتَدِئُ أَيْضًا ، وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ : يَتَوَضَّأُ وَيَبْنِي ، قَال حَنْبَلٌ عَنْ أَحْمَدَ فِيمَنْ طَافَ ثَلاَثَةَ أَشْوَاطٍ أَوْ أَكْثَرَ ، يَتَوَضَّأُ فَإِنْ شَاءَ بَنَى ، وَإِنْ شَاءَ اسْتَأْنَفَ ، قَال أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : يَبْنِي إِذَا لَمْ يُحْدِثْ حَدَثًا إِلاَّ الْوُضُوءَ ، فَإِنْ عَمِل عَمَلاً غَيْرَ ذَلِكَ اسْتَقْبَل الطَّوَافَ ، وَذَلِكَ لأَِنَّ الْمُوَالاَةَ تَسْقُطُ عِنْدَ الْعُذْرِ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ ، وَهَذَا مَعْذُورٌ ، فَجَازَ الْبِنَاءُ ، وَإِنِ اشْتَغَل بِغَيْرِ الْوُضُوءِ فَقَدْ تَرَكَ الْمُوَالاَةَ لِغَيْرِ عُذْرٍ فَلَزِمَهُ الاِبْتِدَاءُ إِذَا كَانَ الطَّوَافُ فَرْضًا ، فَأَمَّا الْمَسْنُونُ فَلاَ تَجِبُ إِعَادَتُهُ كَالصَّلاَةِ الْمَسْنُونَةِ إِذَا بَطَلَتْ(1).
حكم طواف الحائض :
قلت : وقد أفتى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله للحائض أنها تطوف وليس عليها شيء إذا لم تستطع المكث في مكة المكرمة، وساق أدلة نقلية وعقلية قوية ومطولة لتأييد رأيه تصلح أن تكون رسالة مستقلة(2)
وفي فتاوى الأزهر : "وأجاز بعض فقهاء الحنابلة والشافعية للحائض دخول المسجد للطواف بعد إحكام الشد والعصب وبعد الغسل حتى لا يسقط منها ما يؤذي الناس ويلوِّث المسجد ولا فدية عليها في هذه الحال باعتبار حيضها - مع ضيق الوقت والاضطرار للسفر - من الأعذار الشرعية .
__________
(1) - المغني 3 / 396 .
(2) - انظر ((مجموع الفتاوى - (ج 26 / ص 176) فما بعدها(1/462)
وقد أفتى كل من الإمام ابن تيمية والإمام ابن القيم بصحة طواف الحائض طواف الإفاضة إذا اضطرت للسفر مع صحبتها ثم إن النفساء حكمها كالحائض فى هذا الموضع .(1)
وفيها أيضاً : " يرى جمهور الفقهاء أنه يشترط لصحة الطواف مطلقا الطهارة من الحدثين الأصغر والأكبر والنقاء من الحيض والنفاس .
ويرى فقهاء الأحناف أن الطهارة واجبة فى الطواف فيصح طواف الحائض والنفساء ويلزمها دم .
يجوز للمرأة اذا فاجأها الحيض قبل الطواف أصلا أو فى أثنائه ولم يمكنها البقاء فى مكة إلى حين انقطاعه فلها أن تنيب غيرها على أن يطوف عنها بعد طوافه عن نفسه كما يجوز لها أن تستعمل دواء لوقفه وتغتسل وتطوف .
اذا كان الدم ينزل فى بعض الأيام وينقطع فى البعض الآخر جاز لها أن تطوف فى أيام الانقطاع .
أجاز بعض الفقهاء للحائض أن تطوف طواف الافاضة إذا اضطرت للسفر مع رفقتها بشرط أن تعصب موضوع خروج الحيض ولا فدية عليها"(2).
وفي فتاوى الشبكة الإسلامية(3): ما حكم طواف الإفاضة إذا كانت المرأة في الدورة الشهرية ولا تستطيع أن تأتي به قبل السفر؟
طواف الإفاضة ركن من أركان الحج الأربعة التي هي:
__________
(1) - فتاوى الأزهر - (ج 1 / ص 205) مفاجأة الحيض للمرأة أثناء الحج و(ج 1 / ص 219) نزول الدم على المرأة أثناء طواف الافاضة ولقاءات الباب المفتوح - (ج 152 / ص 10) ومجلة مجمع الفقه الإسلامي - (ج 2 / ص 21362) وطرح التثريب - (ج 5 / ص 426) ونيل الأوطار - (ج 7 / ص 456) وفتاوى الشبكة الإسلامية - (ج 27 / ص 104)35653/ 7072 /11284 وفي(ج 2 / ص 3206) رقم الفتوى 7072 أقوال الفقهاء في شأن الحائض وطواف الإفاضة و (ج 3 / ص 625) رقم الفتوى 11284 ما يلزم من طافت من غير طهارة
(2) - فتاوى الأزهر - (ج 1 / ص 219)
(3) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 5 / ص 5424) رقم الفتوى 35653 عمرة المرأة الحائض تاريخ الفتوى : 02 ذو الحجة 1424(1/463)
1- الإحرام. 2- الوقوف بعرفة. 3- طواف الإفاضة. 4- السعي بين الصفا والمروة.فهذه الأركان لابد للحاج من الإتيان بها.
وكل هذه الأركان يصح من الحائض والنفساء فعلها، غير الطواف، فإنه يشترط لصحته من المرأة الطهارة من الحيض والنفاس عند جماهير العلماء خلفاً وسلفاً، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لعائشة رضي الله عنها لما حاضت: " هَذَا شَىْءٌ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَى بَنَاتِ آدَمَ افْعَلِى مَا يَفْعَلُ الْحَاجُّ غَيْرَ أَنْ لاَ تَطُوفِى بِالْبَيْتِ حَتَّى تَطْهُرِى ". والحديث أخرجه مسلم(1).
وقال الحنفية في الراجح عندهم ـ وهو رواية عن الإمام أحمد ـ إن الطهارة من الحيض والنفاس واجبة، وليست شرطاً لصحة الطواف. بل إن من طافت ـ وهي حائض أو نفساء ـ فقد عصت، إذا لم يكن لها عذر، وعليها بدنة. وفي إيجاب البدنة نظر، بل غاية ما يجبُ عليها شاة لترك الواجب، قياساً على غيره من واجبات الحج، أو لا شيء عليها لأنها تاركة لشرط، والشرط لا يجبر تركه دم، بل يسقط بالعجز عنه، كما سنقرره إن شاء الله تعالى لا حقاً.
__________
(1) - صحيح مسلم (2977 )(1/464)
وعلى هذا فالذي نرى أنه يبرئ ذمة هذه الأخت السائلة هو أن تفعل ما يفعل الحاج، غير أن لا تطوف بالبيت، كما أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذلك أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها. وعلى رفقتها أن ينتظروها ويحتبسوا عليها حتى تتم حجها كاملاً، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما علم أن صفية بنت حيي رضي الله عنها حاضت قال: " « أَحَابِسَتُنَا هِىَ » . قَالُوا إِنَّهَا قَدْ أَفَاضَتْ . قَالَ « فَلاَ إِذًا »(1).. وفي رواية عَنِ الزُّهْرِىِّ حَدَّثَنِى عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ وَأَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - أَخْبَرَتْهُمَا أَنَّ صَفِيَّةَ بِنْتَ حُيَىٍّ زَوْجَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - حَاضَتْ فِى حَجَّةِ الْوَدَاعِ فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « أَحَابِسَتُنَا هِىَ » . فَقُلْتُ إِنَّهَا قَدْ أَفَاضَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَطَافَتْ بِالْبَيْتِ . فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « فَلْتَنْفِرْ » والحديث في الصحيحين(2).
ووجه الدلالة منه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما أُخبر أن صفية حاضت، وظنَّ أنها لم تطف طواف الإفاضة قال: "أحابستنا هي؟" فدلًّ ذلك على أن المرأة إذا حاضت قبل أن تطوف للإفاضة عليها أن تبقى، وأن على من تحتاجه من محارمها أن ينتظروا، وأن يحتبسوا عليها حتى تطهر وتطوف.
__________
(1) - صحيح البخارى(1757 ) وصحيح مسلم (3286 )
(2) - صحيح البخارى(4401 ) وصحيح مسلم (3290 و3291)(1/465)
ثم إن لم يمكن الانتظار لظروف قاهرة لا يمكن دفعها ولا الاحتيال عليها، وكان بقاء هذه المرأة عن رفقتها غير ممكن، أو سيجعلها في مضيعة، ففي هذه الحالة يَسَعُها أن تذهب، وتبقى على إحرامها، فإذا طهرت رجعت وطافت. فإن كان الرجوع متعذراً أو فيه مشقة كبيرة فإن عليها أن تستثفر (تلبس حفاظة)، وتطوف بالبيت، وتهدي شاة تذبح في الحرم لجبر ما فات من واجب.
وهذا قول طائفة من أهل العلم مستندين إلى أدلة وقواعد شرعية منها:
قول الله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } [التغابن: 16 ].
وقوله تعالى: {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا } [البقرة: 286 ].
ولا شك أن الانتظار لغاية الطهر قد يكون فيه من المشقة والتكليف بغير المستطاع، الأمر الذي يتنافى مع هذه النصوص وأشباهها.
ومن القواعد الشرعية التي يمكن أن يفرع عنها هذا القول: أن جميع الشروط والواجبات في العبادة معلقة بالقدرة، فمن عجز عن شيء منها صار إلى البدل، إن كان له بدل، كالتيمم عند فقد الماء، أو العجز عن استعماله، وإن لم يكن له بدل سقط عنه. وبيان ذلك أن غاية ما يقال في الطهارة من الحيض أنها: شرط صحة بالنسبة للطواف، فتسقط بالعجز عنها. ونظير ذلك في الصلاة: فمن عجز عن الطهارة لها، وعن البدل سقطت عنه، كالمأسور.
وقال ابن القيم بعد تقريره لهذا القول: .. وَلَيْسَ فِي هَذَا مَا يُخَالِفُ قَوَاعِدَ الشَّرِيعَةِ ، بَلْ يُوَافِقُ كَمَا تَقَدَّمَ ؛ إذْ غَايَتُهُ سُقُوطُ الْوَاجِبِ أَوْ الشَّرْطِ بِالْعَجْزِ عَنْهُ ، وَلَا وَاجِبَ فِي الشَّرِيعَةِ مَعَ عَجْزٍ ، وَلَا حَرَامَ مَعَ ضَرُورَةٍ .(1)..
ويرى شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم هذا القول، وأنه لا يجب هدي على المرأة في هذه الحالة. وهو قول حسن صواب، وممن أفتى بهذا من المعاصرين الشيخ ابن باز رحمة الله على الجميع. والله أعلم" .
__________
(1) - إعلام الموقعين عن رب العالمين - (ج 3 / ص 20)(1/466)
قلت : وللمرأة إذا فاجأها الحيض قبل طواف الإفاضة ولم يمكنها التخلف حتى انقطاعه أن تستعمل دواء لوقفه وتغتسل وتطوف، أو إذا كان الدم لا يستمر نزوله طوال أيام الحيض بل ينقطع فى بعض أيام مدته عندئذ يكون لها أن تطوف فى أيام الانقطاع عملا بأحد قولي الإمام الشافعي القائل إن النقاء فى أيام انقطاع الحيض طهر، وهذا القول أيضا يوافق مذهب الإمامين مالك وأحمد(1).
عَاشِرًا : سَتْرُ الْعَوْرَةِ :
ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ سَتْرَ الْعَوْرَةِ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الطَّوَافِ ، وَقَال الْحَنَفِيَّةُ : هُوَ وَاجِبٌ فِي الطَّوَافِ لَيْسَ شَرْطًا لِصِحَّتِهِ ، وَذَلِكَ لأَِنَّ الطَّوَافَ عِنْدَ الْجُمْهُورِ كَالصَّلاَةِ يَجِبُ فِيهِ سَتْرُ الْعَوْرَةِ لِقَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم - : الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ صَلاَةٌ(2)، وَلِحَدِيثِ لاَ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ(3).
فَمَنْ أَخَل بِسَتْرِ الْعَوْرَةِ الإِْخْلاَل الْمُفْسِدَ لِلصَّلاَةِ بِحَسَبِ الْمَذَاهِبِ ، فَسَدَ طَوَافُهُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ ، وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ عَلَيْهِ الدَّمُ(4).
حَادِيَ عَشَرَ : مُوَالاَةُ أَشْوَاطِ الطَّوَافِ :
__________
(1) - انظر فتاوى الأزهر - (ج 1 / ص 205) مفاجأة الحيض للمرأة أثناء الحج
(2) - حديث : " الطواف بالبيت صلاة " تقدم تخريجه فـ / 22 .
(3) -البخاري (369)
(4) - المراجع الفقهية السابقة .(1/467)
اشْتِرَاطُ الْمُوَالاَةِ بَيْنَ أَشْوَاطِ الطَّوَافِ مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ ، وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ سُنَّةٌ لِلاِتِّبَاعِ ، لأَِنَّهُ - صلى الله عليه وسلم - وَالَى فِي طَوَافِهِ ، وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الْمُوَالاَةَ وَاجِبَةٌ . وَدَلِيل شَرْطِ الْمُوَالاَةِ وَوُجُوبِهَا حَدِيثُ : الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ صَلاَةٌ(1)فَيُشْتَرَطُ لَهُ الْمُوَالاَةُ كَسَائِرِ الصَّلَوَاتِ ، وَدَلِيل السُّنِّيَّةِ فِعْل النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - (2).
ثَانِيَ عَشَرَ : الْمَشْيُ لِلْقَادِرِ عَلَيْهِ :
ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ إِلَى أَنَّ الْمَشْيَ لِلْقَادِرِ عَلَيْهِ وَاجِبٌ مُطْلَقًا فِي أَيِّ طَوَافٍ ، وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَاجِبٌ فِي الطَّوَافِ الْوَاجِبِ ، وَأَمَّا الطَّوَافُ غَيْرُ الْوَاجِبِ فَالْمَشْيُ فِيهِ سُنَّةٌ عِنْدَهُمْ .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ إِلَى أَنَّ الْمَشْيَ فِي الطَّوَافِ سُنَّةٌ(3).
__________
(1) - حديث : الطواف بالبيت تقدم تخريجه فـ / 22 .
(2) - الشرح الكبير 2 / 320 وشرح الرسالة مع حاشية العدوي 1 / 466 - 467 ، والمغني 3 / 395 ، والفروع 3 / 502 ، والمسلك المتقسط ص 108 ، ومغني المحتاج 1 / 492 ، وابن عابدين 2 / 168 - 169
(3) - البدائع 2 / 128 ، وحاشية العدوي 1 / 468 ، والشرح الكبير 2 / 40 ، وشرح المحلي على المنهاج 2 / 105 ، والمغني 3 / 397 ، والإنصاف 4 / 19 ، نهاية المحتاج 3 / 275 .(1/468)
فَلَوْ طَافَ رَاكِبًا مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى الْمَشْيِ لَزِمَهُ دَمٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَذْهَبِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ لِتَرْكِهِ وَاجِبَ الْمَشْيِ ، إِلاَّ إِذَا أَعَادَهُ مَاشِيًا ، أَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالرِّوَايَةُ الأُْخْرَى عَنْ أَحْمَدَ فَيَجُوزُ طَوَافُهُ بِلاَ كَرَاهِيَةٍ .أَمَّا إِذَا كَانَ عَاجِزًا عَنِ الْمَشْيِ وَطَافَ مَحْمُولاً فَلاَ فِدَاءَ عَلَيْهِ اتِّفَاقًا وَلاَ إِثْمَ .
ثَالِثَ عَشَرَ : فِعْل طَوَافِ الإِْفَاضَةِ فِي أَيَّامِ النَّحْرِ :
ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّ أَدَاءَ طَوَافِ الإِْفَاضَةِ فِي أَيَّامِ النَّحْرِ وَاجِبٌ فَلَوْ أَخَّرَهُ حَتَّى أَدَّاهُ بَعْدَهَا صَحَّ وَوَجَبَ عَلَيْهِ دَمٌ ؛ جَزَاءَ تَأْخِيرِهِ عَنْهَا وَهُوَ الْمُفْتَى بِهِ فِي الْمَذْهَبِ .
وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ : أَنَّهُ لاَ يَلْزَمُهُ بِالتَّأْخِيرِ شَيْءٌ إِلاَّ بِخُرُوجِ ذِي الْحِجَّةِ فَإِذَا خَرَجَ لَزِمَهُ دَمٌ ، وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالصَّاحِبَانِ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَلْزَمُهُ شَيْءٌ بِالتَّأْخِيرِ.
رَابِعَ عَشَرَ - رَكْعَتَا الطَّوَافِ بَعْدَ كُل سَبْعَةِ أَشْوَاطٍ :
ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ بَعْدَ كُل طَوَافٍ فَرْضًا أَوْ نَفْلاً صَلاَةُ رَكْعَتَيْنِ ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ وَقَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ ، وَوَافَقَهُمُ الْمَالِكِيَّةُ فِي الطَّوَافِ الرُّكْنِ ، أَوِ الْوَاجِبِ فِي الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ(1).
__________
(1) - الهداية وشرحها فتح القدير 2 / 154 ، وحاشية العدوي 1 / 467 ، والشرح الكبير وحاشيته 2 / 41 - 42 ، وشرح المنهاج 2 / 109 ، ومغني المحتاج 1 / 492 ، والمغني 3 / 384 ، والفروع 3 / 503 .(1/469)
وَاسْتَدَلُّوا بِمُوَاظَبَةِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَبِمَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ - رضى الله عنه – قال : لَسْنَا نَنْوِى إِلاَّ الْحَجَّ لَسْنَا نَعْرِفُ الْعُمْرَةَ حَتَّى إِذَا أَتَيْنَا الْبَيْتَ مَعَهُ اسْتَلَمَ الرُّكْنَ فَرَمَلَ ثَلاَثًا وَمَشَى أَرْبَعًا ثُمَّ نَفَذَ إِلَى مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - فَقَرَأَ (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى) فَجَعَلَ الْمَقَامَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَيْتِ فَكَانَ أَبِى يَقُولُ وَلاَ أَعْلَمُهُ ذَكَرَهُ إِلاَّ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَقْرَأُ فِى الرَّكْعَتَيْنِ (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) وَ (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ"(1).
وَهَذَا إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ صَلاَتَهُ بَعْدَ الطَّوَافِ امْتِثَالٌ لِهَذَا الأَْمْرِ ، وَالأَْمْرُ لِلْوُجُوبِ ، إِلاَّ أَنَّ اسْتِنْبَاطَ ذَلِكَ مِنَ الْحَدِيثِ ظَنِّيٌّ ، وَذَلِكَ يُثْبِتُ الْوُجُوبَ الَّذِي هُوَ دُونَ الْفَرْضِ وَفَوْقَ السُّنَّةِ(2).
وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ أَنَّ رَكْعَتَيِ الطَّوَافِ سُنَّةٌ .
__________
(1) - مسلم (3009)
(2) - مغني المحتاج جـ1 / 492 القليوبي وعميرة جـ 2 / 109 ، المهذب مع المجموع جـ 8 / 56 ، المغني جـ 3 / 384 .(1/470)
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا وَرَدَ مِنَ الأَْحَادِيثِ بِتَحْدِيدِ الصَّلاَةِ الْمُفْتَرَضَةِ بِالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ ، وَصَلاَةُ الطَّوَافِ - كَمَا قَال الشِّيرَازِيُّ - صَلاَةٌ زَائِدَةٌ عَلَى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ ، فَلَمْ تَجِبْ بِالشَّرْعِ عَلَى الأَْعْيَانِ كَسَائِرِ النَّوَافِل . وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِذَا صَلَّى الْمَكْتُوبَةَ بَعْدَ طَوَافِهِ أَجْزَأَتْهُ عَنْ رَكْعَتَيِ الطَّوَافِ . وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فِي غَيْرِ طَوَافِ الْفَرْضِ وَالْوَاجِبِ تَرَدُّدٌ بَيْنَ الْوُجُوبِ وَالسُّنِّيَّةِ ، وَاسْتَظْهَرَ الْحَطَّابُ أَنَّ الرَّكْعَتَيْنِ سُنَّةٌ كَمَا قَال الدُّسُوقِيُّ .
سُنَنُ الطَّوَافِ :
أ - الاِضْطِبَاعُ :
هُوَ أَنْ يَجْعَل وَسَطَ الرِّدَاءِ تَحْتَ إِبِطِهِ الْيُمْنَى عِنْدَ الشُّرُوعِ فِي الطَّوَافِ وَيَرُدُّ طَرَفَيْهِ عَلَى كَتِفِهِ الْيُسْرَى وَتَبْقَى كَتِفُهُ الْيُمْنَى مَكْشُوفَةً ، وَاللَّفْظُ مَأْخُوذٌ مِنَ الضَّبُعِ وَهُوَ عَضُدُ الإِْنْسَانِ .
وَهُوَ سُنَّةٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ لِلرِّجَال دُونَ النِّسَاءِ ، لِمَا رُوِيَ عَنْ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ : أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - طَافَ بِالْبَيْتِ مُضْطَبِعًا وَعَلَيْهِ بُرْدٌ.(1)، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَأَصْحَابَهُ اعْتَمَرُوا مِنَ الْجِعْرَانَةِ فَرَمَلُوا بِالْبَيْتِ وَجَعَلُوا أَرْدِيَتَهُمْ تَحْتَ آبَاطِهِمْ قَدْ قَذَفُوهَا عَلَى عَوَاتِقِهِمُ الْيُسْرَى.(2).
__________
(1) - سنن الترمذى (869) صحيح = المضطبع : الاضطباع هو تعرية المنكب الأيمن وجمع الرداء على الأيسر
(2) - سنن أبى داود (1886 ) صحيح(1/471)
وَيُسَنُّ الاِضْطِبَاعُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي كُل طَوَافٍ بَعْدَهُ سَعْيٌ كَطَوَافِ الْقُدُومِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَسْعَى بَعْدَهُ ، وَطَوَافِ الْعُمْرَةِ ، وَطَوَافِ الزِّيَارَةِ إِنْ أَخَّرَ السَّعْيَ إِلَيْهِ ، وَزَادَ الْحَنَفِيَّةُ طَوَافَ النَّفْل إِذَا أَرَادَ أَنْ يَسْعَى بَعْدَهُ مَنْ لَمْ يُعَجِّل السَّعْيَ بَعْدَ طَوَافِ الْقُدُومِ . وَقَال الْحَنَابِلَةُ : لاَ يُضْطَبَعُ فِي غَيْرِ طَوَافِ الْقُدُومِ
وَالاِضْطِبَاعُ سُنَّةٌ فِي جَمِيعِ أَشْوَاطِ الطَّوَافِ ، فَإِذَا فَرَغَ مِنَ الطَّوَافِ تَرَكَ الاِضْطِبَاعَ ، حَتَّى أَنَّهُ تُكْرَهُ صَلاَةُ الطَّوَافِ مُضْطَبِعًا كَمَا صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ(1)
ب - الرَّمَل :
الرَّمَل هُوَ : إِسْرَاعُ الْمَشْيِ مَعَ تَقَارُبِ الْخُطَى وَهَزِّ الْكَتِفَيْنِ مِنْ غَيْرِ وَثْبٍ .
__________
(1) - الفتاوى الهندية 1 / 222 - 225 والقليوبي 2 / 108 ، وكشاف القناع 2 / 477 - 478 ، والمغني 3 / 372 ، والمنتقي للباجي 2 / 28 .(1/472)
وَالرَّمَل سُنَّةٌ فِي كُل طَوَافٍ بَعْدَهُ سَعْيٌ ، فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَأَصْحَابُهُ مَكَّةَ وَقَدْ وَهَنَتْهُمْ حُمَّى يَثْرِبَ. قَالَ الْمُشْرِكُونَ إِنَّهُ يَقْدَمُ عَلَيْكُمْ غَدًا قَوْمٌ قَدْ وَهَنَتْهُمُ الْحُمَّى وَلَقُوا مِنْهَا شِدَّةً. فَجَلَسُوا مِمَّا يَلِى الْحِجْرَ وَأَمَرَهُمُ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يَرْمُلُوا ثَلاَثَةَ أَشْوَاطٍ وَيَمْشُوا مَا بَيْنَ الرُّكْنَيْنِ لِيَرَى الْمُشْرِكُونَ جَلَدَهُمْ فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ هَؤُلاَءِ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّ الْحُمَّى قَدْ وَهَنَتْهُمْ هَؤُلاَءِ أَجْلَدُ مِنْ كَذَا وَكَذَا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَلَمْ يَمْنَعْهُ أَنْ يَأْمُرَهُمْ أَنْ يَرْمُلُوا الأَشْوَاطَ كُلَّهَا إِلاَّ الإِبْقَاءُ عَلَيْهِمْ.(1).
لَكِنَّ الرَّمَل ظَل سُنَّةً فِي الأَْشْوَاطِ الثَّلاَثَةِ الأُْولَى بِتَمَامِهَا ، فَقَدْ فَعَلَهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فِي حَجَّتِهِ ، وَكَانَتْ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ وَدُخُول النَّاسِ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا ، كَمَا سَبَقَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - طَافَ سَبْعًا رَمَلَ ثَلاَثًا وَمَشَى أَرْبَعًا ثُمَّ قَرَأَ (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى) فَصَلَّى سَجْدَتَيْنِ وَجَعَلَ الْمَقَامَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكَعْبَةِ ثُمَّ اسْتَلَمَ الرُّكْنَ ثُمَّ خَرَجَ فَقَالَ " إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَابْدَءُوا بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ "(2). .
__________
(1) - صحيح مسلم (3118 ) جلدهم : قوتهم وصبرهم = يرمل : الرمل إسراع المشى مع تقارب الخطا
(2) - سنن النسائى (2975 ) صحيح(1/473)
وَسَارَ عَلَى ذَلِكَ الصَّحَابَةُ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَالْخُلَفَاءُ مِنْ بَعْدِهِ - صلى الله عليه وسلم - .
ثُمَّ الرَّمَل كَالاِضْطِبَاعِ سُنَّةٌ فِي حَقِّ الرِّجَال ، أَمَّا النِّسَاءُ فَلاَ يُسَنُّ لَهُنَّ رَمَلٌ وَلاَ اضْطِبَاعٌ .
وَاسْتَثْنَى الْحَنَابِلَةُ مِنْ سُنِّيَّةِ الرَّمَل أَهْل مَكَّةِ وَمَنْ أَحْرَمَ مِنْهَا أَيْضًا ، فَلاَ يُسَنُّ لَهُمُ الرَّمَل عِنْدَهُمْ .
ج - ابْتِدَاءُ الطَّوَافِ مِنْ جِهَةِ الرُّكْنِ الْيَمَانِيِّ :
يُسَنُّ أَنْ يُبْدَأَ الطَّوَافُ قَرِيبًا مِنَ الْحَجَرِ الأَْسْوَدِ مِنْ جِهَةِ الرُّكْنِ الْيَمَانِيِّ ، ثُمَّ يَسْتَقْبِل الْحَجَرَ مُهَلِّلاً رَافِعًا يَدَيْهِ ، وَذَلِكَ لِيَتَحَقَّقَ ابْتِدَاءُ الطَّوَافِ مِنَ الْحَجَرِ الأَْسْوَدِ ، وَهُوَ وَاجِبٌ .
لَكِنَّ الْمُرُورَ بِجَمِيعِ الْبَدَنِ عَلَى الْحَجَرِ الأَْسْوَدِ لَيْسَ وَاجِبًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ ، وَهُوَ وَاجِبٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ ، لِذَلِكَ صَرَّحَ الْمُحَقِّقُونَ فِي الْمَذْهَبِ الْحَنَفِيِّ بِاسْتِحْبَابِ هَذِهِ الْكَيْفِيَّةِ خُرُوجًا مِنَ الْخِلاَفِ ، فَلَوْ اسْتَقْبَل الْحَجَرَ مُطْلَقًا وَنَوَى الطَّوَافَ كَفَى فِي حُصُول الْمَقْصُودِ الَّذِي هُوَ الاِبْتِدَاءُ مِنَ الْحَجَرِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ .
قَال الْحَطَّابُ : يَسْتَقْبِل الْحَجَرَ بِجَمِيعِ بَدَنِهِ وَتَكُونُ يَدُهُ الْيُسْرَى مُحَاذِيَةً لِيَمِينِ الْحَجَرِ ثُمَّ يُقَبِّلُهُ وَيَمْشِي عَلَى جِهَةِ يَدِهِ الْيُمْنَى .
د - اسْتِقْبَال الْحَجَرِ عِنْدَ ابْتِدَاءِ الطَّوَافِ :
اسْتِقْبَال الْحَجَرِ عِنْدَ ابْتِدَاءِ الطَّوَافِ ، وَرَفْعُ الْيَدَيْنِ عِنْدَ التَّكْبِيرِ مُقَابَلَةَ الْحَجَرِ ، نَصَّ عَلَى هَذِهِ السُّنَّةِ الْحَنَفِيَّةُ .(1/474)
هـ - اسْتِلاَمُ الْحَجَرِ وَتَقْبِيلُهُ :
اسْتِلاَمُ الْحَجَرِ وَتَقْبِيلُهُ فِي ابْتِدَاءِ الطَّوَافِ وَفِي كُل شَوْطٍ ، وَبَعْدَ رَكْعَتَيِ الطَّوَافِ ، ذَهَبَ إِلَى ذَلِكَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ ، لَكِنَّ الْمَالِكِيَّةَ قَيَّدُوا السُّنِّيَّةَ بِأَوَّل الطَّوَافِ وَجَعَلُوا ذَلِكَ مُسْتَحَبًّا فِي بَاقِيهِ ، وَاسْتَحَبَّ الْحَنَفِيَّةُ تَقْبِيل الْحَجَرِ .
وَصِفَةُ الاِسْتِلاَمِ : أَنْ يَضَعَ كَفَّيْهِ عَلَى الْحَجَرِ ، وَيَضَعُ فَمَهُ بَيْنَ كَفَّيْهِ وَيُقَبِّلُهُ .
عَنْ سَالِمٍ أَنَّ أَبَاهُ حَدَّثَهُ قَالَ قَبَّلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ الْحَجَرَ ثُمَّ قَالَ أَمَ وَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّكَ حَجَرٌ وَلَوْلاَ أَنِّى رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُقَبِّلُكَ مَا قَبَّلْتُكَ.(1).
وعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لاَ يَدَعُ أَنْ يَسْتَلِمَ الرُّكْنَ الْيَمَانِىَ وَالْحَجَرَ فِى كُلِّ طَوْفَةٍ قَالَ وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ يَفْعَلُهُ.(2).
و - اسْتِلاَمُ الرُّكْنِ الْيَمَانِيِّ :
اسْتِلاَمُهُ يَكُونُ بِوَضْعِ الْيَدَيْنِ عَلَيْهِ ، وَهُوَ الرُّكْنُ الْوَاقِعُ قِبَل رُكْنِ الْحَجَرِ الأَْسْوَدِ .
عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ مَا تَرَكْتُ اسْتِلاَمَ هَذَيْنِ الرُّكْنَيْنِ - الْيَمَانِىَ وَالْحَجَرَ مُذْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَسْتَلِمُهُمَا فِى شِدَّةٍ وَلاَ رَخَاءٍ.(3).
__________
(1) - صحيح مسلم (3126 )
(2) - سنن أبى داود (1878 ) حسن
(3) - صحيح مسلم (3123 )(1/475)
وَالسُّنِّيَّةُ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ ، وَقَوْل مُحَمَّدٍ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ ، لَكِنَّهُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ سُنَّةٌ فِي الشَّوْطِ الأَْوَّل مَنْدُوبٌ فِي غَيْرِهِ ، وَقَال الشَّيْخَانِ : أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ : هُوَ مَنْدُوبٌ .
وَذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُقَبِّلُهُ وَلاَ يَسْجُدُ عَلَيْهِ .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُقَبِّل مَا اسْتَلَمَ بِهِ الرُّكْنَ الْيَمَانِيَّ وَلاَ يُشِيرُ إِلَيْهِ .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ يُقَبِّل مَا اسْتَلَمَ بِهِ الرُّكْنَ الْيَمَانِيَّ وَيُشِيرُ إِلَيْهِ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنِ الْوُصُول إِلَيْهِ ، وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يَضَعُ يَدَهُ عَلَى فَمِهِ مِنْ غَيْرِ تَقْبِيلٍ .
أَمَّا غَيْرُ هَذَيْنِ الرُّكْنَيْنِ فَلاَ يُسَنُّ اسْتِلاَمُهُ ، لأَِنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَسْتَلِمُ هَذَيْنِ الرُّكْنَيْنِ وَلاَ يَسْتَلِمُ غَيْرَهُمَا ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ لَمْ أَرَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَمْسَحُ مِنَ الْبَيْتِ إِلاَّ الرُّكْنَيْنِ الْيَمَانِيَيْنِ.(1).
قلتُ : وقد اختلف العلماء في استلام الركنين الآخرين ، فعَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ أَنَّ أَبَاهُ كَانَ إِذَا طَافَ بِالْبَيْتِ يَسْتَلِمُ الأَرْكَانَ كُلَّهَا وَكَانَ لاَ يَدَعُ الْيَمَانِىَ إِلاَّ أَنْ يُغْلَبَ عَلَيْهِ(2).
__________
(1) - صحيح مسلم (3120 )
(2) - موطأ مالك 367/1(818 ) صحيح مقطوع(1/476)
وعَنْ أَبِي الشَّعْثَاءِ أَنَّهُ قَالَ : " وَمَنْ يَتَّقِي شَيْئًا مِنَ البَيْتِ ؟ " وَكَانَ مُعَاوِيَةُ يَسْتَلِمُ الأَرْكَانَ ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا : إِنَّهُ لاَ يُسْتَلَمُ هَذَانِ الرُّكْنَانِ ، فَقَالَ : " لَيْسَ شَيْءٌ مِنَ البَيْتِ مَهْجُورًا " وَكَانَ ابْنُ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا " يَسْتَلِمُهُنَّ كُلَّهُنَّ"(1)
وعَنْ عَاصِمِ بْنِ سُلَيْمَانَ : أَنَّهُ رَأَى أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ " يَسْتَلِمُ الْأَرْكَانَ كُلَّهَا "(2)
وعَنْ يَحْيَى بْنِ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ اللهِ ، عَنْ أَبِيهِ ؛ أَنَّهُ رَأَى مُعَاوِيَةَ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ فَاسْتَلَمَ الأَرْكَانَ كُلَّهَا ، وَقَالَ : إِنَّهُ لَيْسَ مِنْهُ شَيْءٌ مَهْجُورٌ.(3)
وعَنْ يَحْيَى بْنِ عَبَّادٍ ، عَنْ أَبِيهِ ؛ أَنَّهُ رَأَى ابْنَ الزُّبَيْرِ فَعَلَهُ ، وَقَالَ : إِنَّهُ لَيْسَ مِنْهُ شَيْء مَهْجُورٌ.(4)
وعَنْ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ ، قَالَ : لاَ يُتَّقَى مِنَ الْبَيْتِ شَيْءٌ.(5)
وعَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ ، عَنْ أَبِيهِ ؛ أَنَّهُ كَانَ يَسْتَلِمُ الأَرْكَانَ كُلَّهَا ، يَخْتِمُ بِهَا ، وَيُلْزَقُ بَطْنَهُ وَظَهْرَهُ وَجَنْبَيْهِ بِالْبَيْتِ.(6)
__________
(1) - البخاري معلقاً بصيغة الجزم ( 1608 ) وهو صحيح
(2) - مصنف عبد الرزاق (8953) صحيح موقوف
(3) - مصنف ابن أبي شيبة (15224) صحيح
(4) - نفسه برقم(15225) صحيح
(5) - نفسه برفم(15226) صحيح
(6) - نفسه برقم(15227) صحيح(1/477)
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، أَنَّهُ طَافَ مَعَ مُعَاوِيَةَ بِالْبَيْتِ ، فَجَعَلَ مُعَاوِيَةُ يَسْتَلِمُ الْأَرْكَانَ كُلَّهَا ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ : " لِمَ تَسْتَلِمُ هَذَيْنِ الرُّكْنَيْنِ ؟ وَلَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَلِمُهُمَا " ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ : لَيْسَ شَيْءٌ مِنَ الْبَيْتِ مَهْجُورًا ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ : صَدَقْتَ "(1)..
وقال الطحاوي شرح معاني الآثار:" لَا يَنْبَغِي أَنْ يَسْتَلِمَ مِنْ أَرْكَانِ الْبَيْتِ إِلَّا الرُّكْنَيْنِ الْيَمَانِيَّيْنِ . وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ , وَأَبِي يُوسُفَ , وَمُحَمَّدٍ , رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى"(2).
وقال ابن قدامة : " وَأَمَّا الرُّكْنَانِ اللَّذَانِ يَلِيَانِ الْحَجَرَ ، فَلَا يُسَنُّ اسْتِلَامُهُمَا فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ .
وَرُوِيَ عَنْ مُعَاوِيَةَ ، وَجَابِرٍ ، وَابْنِ الزُّبَيْر ، وَالْحَسَنِ ، وَالْحُسَيْنِ ، وَأَنَسٍ ، وَعُرْوَةَ ، اسْتِلَامُهُمَا ،وَقَالَ مُعَاوِيَةُ : لَيْسَ شَيْءٌ مِنَ الْبَيْتِ مَهْجُورًا .
__________
(1) - مسند أحمد(1905) حديث حسن
(2) - شرح معاني الآثار - (ج 3 / ص 205)(2469)(1/478)
وَلَنَا ، ما روي عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِى بَكْرٍ أَخْبَرَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ عَنْ عَائِشَةَ - رضى الله عنهم - زَوْجِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ لَهَا :« أَلَمْ تَرَىْ أَنَّ قَوْمَكِ لَمَّا بَنَوُا الْكَعْبَةَ اقْتَصَرُوا عَنْ قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ » . فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلاَ تَرُدُّهَا عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ . قَالَ « لَوْلاَ حِدْثَانُ قَوْمِكِ بِالْكُفْرِ لَفَعَلْتُ » . فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ - رضى الله عنه - لَئِنْ كَانَتْ عَائِشَةُ - رضى الله عنها - سَمِعَتْ هَذَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَا أُرَى رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - تَرَكَ اسْتِلاَمَ الرُّكْنَيْنِ اللَّذَيْنِ يَلِيَانِ الْحِجْرَ ، إِلاَّ أَنَّ الْبَيْتَ لَمْ يُتَمَّمْ عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ .(1).
__________
(1) - صحيح البخارى(1583) وانظر المغني - (ج 7 / ص 92) والشرح الكبير لابن قدامة - (ج 3 / ص 386) وكشاف القناع عن متن الإقناع - (ج 7 / ص 168) ومطالب أولي النهى في شرح غاية المنتهى - (ج 6 / ص 268)(1/479)
وقال الحافظ ابن حجر في الفتح : " اِسْتَنْبَطَ بَعْضهمْ مِنْ مَشْرُوعِيَّة تَقْبِيل الْأَرْكَان جَوَاز تَقْبِيل كُلّ مَنْ يَسْتَحِقّ التَّعْظِيم مِنْ آدَمِيّ وَغَيْره،فَأَمَّا تَقْبِيل يَد الْآدَمِيّ فَيَأْتِي فِي كِتَاب الْأَدَب،وَأَمَّا غَيْره فَنُقِلَ عَنِ الْإِمَام أَحْمَد أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ تَقْبِيل مِنْبَر النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - وَتَقْبِيل قَبْره فَلَمْ يَرَ بِهِ بَأْسًا،وَاسْتَبْعَدَ بَعْض اِتِّبَاعه صِحَّة ذَلِكَ،وَنُقِلَ عَنْ اِبْن أَبِي الصَّيْف الْيَمَانِيّ أَحَد عُلَمَاء مَكَّة مِنَ الشَّافِعِيَّة جَوَاز تَقْبِيل الْمُصْحَف وَأَجْزَاء الْحَدِيث وَقُبُور الصَّالِحِينَ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيق "(1).
وَقَدْ أَبْدَى الْعُلَمَاءُ لِذَلِكَ التَّفَاوُتِ بَيْنَ أَرْكَانِ الْبَيْتِ سَبَبًا وَضَّحَهُ الرَّمْلِيُّ فَقَال : وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلاَفِ الأَْرْكَانِ فِي هَذِهِ الأَْحْكَامِ : أَنَّ الرُّكْنَ الَّذِي فِيهِ الْحَجَرُ الأَْسْوَدُ فِيهِ فَضِيلَتَانِ : كَوْنُ الْحَجَرِ فِيهِ ، وَكَوْنُهُ عَلَى قَوَاعِدِ سَيِّدِنَا إِبْرَاهِيمَ ، وَالْيَمَانِيُّ فِيهِ فَضِيلَةٌ وَاحِدَةٌ : وَهِيَ كَوْنُهُ عَلَى قَوَاعِدِ أَبِينَا إِبْرَاهِيمَ ، وَأَمَّا الشَّامِيَّانِ فَلَيْسَ لَهُمَا شَيْءٌ مِنَ الْفَضِيلَتَيْنِ(2).
ز - الدُّعَاءُ :
__________
(1) - فتح الباري لابن حجر - (ج 5 / ص 273)
(2) - انظر سنن الطواف في الهداية وشرحها 2 / 148 و 150 - 153 ، والمسلك المتقسط ص 108 ورد المحتار 2 / 227 و 229 - 232 ، وشرح الرسالة وحاشية العدوي 1 / 466 - 468 ، والشرح الكبير 2 / 40 - 41 وشرح المنهاج 2 / 104 ، 106 - 108 ، ونهاية المحتاج 2 / 407 - 415 ، ومغني المحتاج 1 / 487 - 493 والمغني 3 / 370 - 384 ، والفروع 3 / 495 - 504 .(1/480)
وَهُوَ مُخَيَّرٌ فِيهِ غَيْرَ مَحْدُودٍ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ ، وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ يُسَنُّ فِي أَوَّل الطَّوَافِ ، وَفِي كُل طَوْفَةٍ الدُّعَاءُ بِالْمَأْثُورِ وَهُوَ : بِسْمِ اللَّهِ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ ، اللَّهُمَّ إِيمَانًا بِكَ ، وَتَصْدِيقًا بِكِتَابِكَ ، وَوَفَاءً بِعَهْدِكَ ، وَاتِّبَاعًا لِسُنَّةِ نَبِيِّكَ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - (1)وَالدُّعَاءُ الْمَأْثُورُ فِي بَقِيَّةِ جَوَانِبِ الْبَيْتِ وَهُوَ مَنْدُوبٌ ، وَمِنْهُ :
الدُّعَاءُ عِنْدَ رُؤْيَةِ الْكَعْبَةِ :
اللَّهُمَّ زِدْ هَذَا الْبَيْتَ تَشْرِيفًا وَتَكْرِيمًا وَتَعْظِيمًا وَمَهَابَةً ، وَزِدْ مَنْ شَرَّفَهُ وَكَرَّمَهُ مِمَّنْ حَجَّهُ وَاعْتَمَرَهُ تَشْرِيفًا وَتَعْظِيمًا وَبِرًّا(2). " اللَّهُمَّ أَنْتَ السَّلاَمُ ، وَمِنْكَ السَّلاَمُ ، فَحَيِّنَا رَبَّنَا بِالسَّلاَمِ "(3).
__________
(1) - مصنف عبد الرزاق مشكل - (ج 4 / ص 238) وأخبار مكة للأزرقي - (ج 2 / ص 49)(459) والمعجم الكبير للطبراني - (ج 11 / ص 302)( 653) وبرقم( 826) والسنن الكبرى للبيهقي (ج 5 / ص 79)(9519) من طرق ضعيفة بنحوه
(2) - مصنف ابن أبي شيبة (29617) وأخبار مكة للأزرقي (325) والسنن الكبرى للبيهقي (ج 5 / ص 73)(9480 و9481) وفيه ضعف وإرسال
(3) - مصنف ابن أبي شيبة (16000) عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سَعِيدٍ , عَنْ أَبِيهِ ، أَنَّ عُمَرَ لَمَّا دَخَلَ الْبَيْتَ ، قَالَ : اللَّهُمَّ أَنْتَ السَّلاَمُ ، وَمِنْك السَّلاَمُ ، فَحَيِّنَا رَبَّنَا بِالسَّلاَمِ. (حسن)
وبرقم (16001) عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ ، أَنَّهُ كَانَ إذَا دَخَلَ مَسْجِدَ الْكَعْبَةِ وَنَظَرَ إلَى الْبَيْتِ ، قَالَ : اللَّهُمَّ أَنْتَ السَّلاَمُ وَمِنْك السَّلاَمُ فَحَيِّنَا رَبَّنَا بِالسَّلاَمِ. (حسن)(1/481)
دُعَاءُ افْتِتَاحِ الطَّوَافِ وَاسْتِلاَمِ الْحَجَرِ الأَْسْوَدِ أَوِ الْمُرُورِ بِهِ :
بِسْمِ اللَّهِ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ ، اللَّهُمَّ إِيمَانًا بِكَ ، وَتَصْدِيقًا بِكِتَابِكَ ، وَوَفَاءً بِعَهْدِكَ وَاتِّبَاعًا لِسُنَّةِ نَبِيِّكَ - صلى الله عليه وسلم - وَحُكْمُهُ كَمَا سَبَقَ(1).
وَالْمَعْنَى : أَطُوفُ بِاسْمِ اللَّهِ ، وَأَطُوفُ اللَّهُمَّ إِيمَانًا بِكَ .
الدُّعَاءُ فِي الأَْشْوَاطِ الثَّلاَثَةِ الأُْولَى :
اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ حَجًّا مَبْرُورًا ، وَسَعْيًا مَشْكُورًا ، وَذَنْبًا مَغْفُورًا ، اللَّهُمَّ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ وَأَنْتَ تُحْيِي بَعْدَمَا أَمَتَّ(2).
وقَالَ الشَّافِعِىُّ : أُحَبُّ كُلَّمَا حَاذَى بِهِ يَعْنِى بِالْحَجَرِ الأَسْوَدِ أَنْ يُكَبِّرَ وَأَنْ يَقُولَ فِى رَمَلِهِ : اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ حَجًّا مَبْرُورًا وَذَنْبًا مَغْفُورًا وَسَعْيًا مَشْكُورًا وَيَقُولُ فِى الأَطْوَافِ الأَرْبَعَةِ : اللَّهُمَّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَاعْفُ عَمَّا تَعْلَمُ وَأَنْتَ الأَعَزُّ الأَكْرَمُ اللَّهُمَّ آتِنَا فِى الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِى الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.(3)
وَإِذَا كَانَ يُؤَدِّي عُمْرَةً دَعَا فَقَال : اجْعَلْهَا عُمْرَةً مَبْرُورَةً ، وَإِنْ كَانَ طَوَافًا نَفْلاً دَعَا : اجْعَلْهُ طَوَافًا مَبْرُورًا أَيْ مَقْبُولاً وَسَعْيًا مَشْكُورًا ( وَسَعْيُ الرَّجُل عَمَلُهُ ) كَمَا قَال تَعَالَى : { وَأَنْ لَيْسَ لِلإِْنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى } سورة النجم آية : 39 . .
الدُّعَاءُ فِي الأَْشْوَاطِ الأَْرْبَعَةِ الْبَاقِيَةِ :
__________
(1) - حديث : بسم الله الله أكبر . . . سبق تخريجه.
(2) - مصنف ابن أبي شيبة (14213 و14214) صحيح موقوف ولكنه في رمي الجمار دون الجملة الأخيرة
(3) - السنن الكبرى للبيهقي (ج 5 / ص 84)(9555)(1/482)
اللَّهُمَّ اغْفِرْ وَارْحَمْ ، وَاعْفُ عَمَّا تَعْلَمُ ، وَأَنْتَ الأَْعَزُّ الأَْكْرَمُ(1).
وعَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ جِئْتُ مُسَلَّمًا عَلَى عَائِشَةَ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهَا وَصَحِبْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ حَتَّى دَخَلَ فِى الطَّوَافِ فَطَافَ ثَلاَثَةً رَمَلاً وَأَرْبَعَةً مَشْيًا ثُمَّ إِنَّهُ صَلَّى خَلْفَ الْمَقَامِ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ إِنَّهُ عَادَ إِلَى الْحَجَرِ فَاسْتَلَمَهُ ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الصَّفَا فَقَامَ عَلَى الشِّقِّ الَّذِى عَلَى الصَّفَا فَلَبَّى فَقُلْتُ : إِنِّى نُهِيتُ عَنِ التَّلْبِيَةِ فَقَالَ وَلَكِنِّى آمُرُكَ بِهَا كَانَتِ التَّلْبِيَةُ اسْتِجَابَةً اسْتَجَابَهَا إِبْرَاهِيمُ فَلَمَّا هَبَطَ إِلَى الْوَادِى سَعَى فَقَالَ : اللَّهُمَّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ الأَعَزُّ الأَكْرَمُ.(2)
الدُّعَاءُ عِنْدَ الرُّكْنِ الْيَمَانِيِّ :
" بِسْمِ اللَّهِ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ ، وَالسَّلاَمُ عَلَى رَسُول اللَّهِ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْكُفْرِ وَالْفَقْرِ وَالذُّل ، وَمَوَاقِفِ الْخِزْيِ فِي الدُّنْيَا وَالآْخِرَةِ ، رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآْخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ "(3).
الدُّعَاءُ بَيْنَ الرُّكْنِ الْيَمَانِيِّ وَالْحَجَرِ الأَْسْوَدِ :
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآْخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ(4).
__________
(1) - المعجم الأوسط للطبراني(2864) وفيه ضعف
(2) - السنن الكبرى للبيهقي (ج 5 / ص 95) (9620) هَذَا أَصَحُّ الرِّوَايَاتِ فِى ذَلِكَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ.صحيح
(3) - أخبار مكة للأزرقي(461 )عن علي من قوله وفيه انقطاع
(4) - سنن أبى داود(1894 ) والحاكم ( 1 / 455 ) وصححه الحاكم ووافقه الذهبي وهو حديث حسن.(1/483)
رَبِّ قَنِّعْنِي بِمَا رَزَقْتَنِي ، وَبَارِكْ لِي فِيهِ ، وَاخْلُفْ عَلَى كُل غَائِبَةٍ لِي بِخَيْرٍ(1).
الدُّعَاءُ بَعْدَ رَكْعَتَيِ الطَّوَافِ :
اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ سَرِيرَتِي وَعَلاَنِيَتِي فَاقْبَل مَعْذِرَتِي ، وَتَعْلَمُ حَاجَتِي فَأَعْطِنِي سُؤْلِي ، وَتَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي ذَنْبِي ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ إِيمَانًا يُبَاشِرُ قَلْبِي ، وَيَقِينًا صَادِقًا حَتَّى أَعْلَمَ أَنَّهُ لاَ يُصِيبُنِي إِلاَّ مَا كَتَبْتَ لِي ، وَرِضًا بِمَا قَسَمْتَ(2).
دُعَاءٌ لِعَامَّةِ الطَّوَافِ :
اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ذُنُوبِي وَخَطَايَايَ ، وَعَمْدِي ، وَإِسْرَافِي فِي أَمْرِي ، إِنَّكَ إِنْ لاَ تَغْفِرْ لِي تُهْلِكْنِي(3).
اللَّهُمَّ الْبَيْتُ بَيْتُكَ ، وَنَحْنُ عَبِيدُكَ ، وَنَوَاصِينَا بِيَدِكَ ، وَتَقَلُّبُنَا فِي قَبْضَتِكَ ، فَإِنْ تُعَذِّبْنَا فَبِذُنُوبِنَا ، وَإِنْ تَغْفِرْ لَنَا فَبِرَحْمَتِكَ ، فَرَضْتَ حَجَّكَ لِمَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً ، فَلَكَ الْحَمْدُ عَلَى مَا جَعَلْتَ لَنَا مِنَ السَّبِيل ، اللَّهُمَّ ارْزُقْنَا ثَوَابَ الشَّاكِرِينَ(4).
__________
(1) - مصنف ابن أبي شيبة (15813) والحاكم (1674 ) وصحيح ابن خزيمة (2522 ) عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ، قَالَ : كَانَ مِنْ دُعَاءِ ابْنِ عَبَّاسٍ الَّذِي لاَ يَدَعُ بَيْنَ الرُّكْنِ وَالْمَقَامِ أَنْ يَقُولَ : رَبِّ قَنِّعَنِّي بِمَا رَزَقْتنِي وَبَارِكْ فِيهِ وَاخْلُفْ عَلَيَّ كُلَّ غَائِبَةٍ لِي بِخَيْرٍ.حسن
(2) - أخبار مكة للأزرقي (26 و494 ) والمعجم الأوسط للطبراني (6136) وفيه ضعف وانظر الحاوي في فقه الشافعي - الماوردي - (ج 4 / ص 155)
(3) - شعب الإيمان للبيهقي (3884 ) وهو حسن مرسل
(4) - أورده في جامع الأحاديث - (ج 37 / ص 112)(40155) وعزاه للديلمى وفيه عبد السلام بن أبى الجنوب متروك
وانظر البحر الزخار الجامع لمذاهب علماء الأمصار - زيدية - (ج 5 / ص 498) وروضة الطالبين وعمدة المفتين - (ج 1 / ص 326) وشرح الوجيز - (ج 7 / ص 417) وأسنى المطالب - (ج 6 / ص 171) وشرح البهجة الوردية - (ج 8 / ص 16) وتحفة المحتاج في شرح المنهاج - (ج 15 / ص 114) ومغني المحتاج إلى معرفة ألفاظ المنهاج - (ج 6 / ص 86) ونهاية المحتاج إلى شرح المنهاج - (ج 10 / ص 337) وفقه العبادات - شافعي - (ج 1 / ص 748)(1/484)
وقَالَ الشَّافِعِىُّ : أُحِبُّ لَهُ إِذَا وَدَّعَ الْبَيْتَ أَنْ يَقِفَ فِى الْمُلْتَزَمِ وَهُوَ بَيْنَ الرُّكْنِ وَالْبَابِ فَيَقُولُ : اللَّهُمَّ الْبَيْتُ بَيْتُكَ وَالْعَبْدُ عَبْدُكَ وَابْنُ عَبْدِكَ وَابْنُ أَمَّتِكَ حَمَلْتَنِى عَلَى مَا سَخَّرْتَ لِى مِنْ خَلْقِكَ حَتَّى سَيَّرْتَنِى فِى بِلاَدِكَ وَبَلَّغْتَنِى بِنِعْمَتِكَ حَتَّى أَعَنْتَنِى عَلَى قَضَاءِ مَنَاسِكِكَ فَإِنْ كُنْتَ رَضِيتَ عَنِّى فَازْدَدْ عَنِّى رِضًا وَإِلاَّ فَمِنَ الآنَ قَبْلَ أَنْ تَنْأَى عَنْ بَيْتِكَ دَارِى فَهَذَا أَوَانُ انْصِرَافِى إِنْ أَذِنْتَ لِى غَيْرَ مُسْتَبْدِلٍ بِكَ وَلاَ بِبَيْتِكَ وَلاَ رَاغِبٍ عَنْكَ وَلاَ عَنْ بَيْتِكَ اللَّهُمَّ فَاصْحَبْنِى بِالْعَافِيةِ فِى بَدَنِى وَالْعِصْمَةِ فِى دِينِى وَأَحْسِنْ مُنْقَلَبِى وَارْزُقْنِى طَاعَتَكَ مَا أَبْقَيْتَنِى.(1)
دُعَاءُ الشُّرْبِ مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ :
__________
(1) - السنن الكبرى للبيهقي (ج 5 / ص 164)(10049) بسند صحيح إليه، وقال البيهقي : وَهَذَا مِنْ قَوْلِ الشَّافِعِىِّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَهُوَ حَسَنٌ.
وانظر البحر الزخار الجامع لمذاهب علماء الأمصار - زيدية - (ج 5 / ص 498) وروضة الطالبين وعمدة المفتين - (ج 1 / ص 326) وشرح الوجيز - (ج 7 / ص 417) وأسنى المطالب - (ج 6 / ص 171) وشرح البهجة الوردية - (ج 8 / ص 16) وتحفة المحتاج في شرح المنهاج - (ج 15 / ص 114) ومغني المحتاج إلى معرفة ألفاظ المنهاج - (ج 6 / ص 86) ونهاية المحتاج إلى شرح المنهاج - (ج 10 / ص 337) وفقه العبادات - شافعي - (ج 1 / ص 748)(1/485)
اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ عِلْمًا نَافِعًا ، وَرِزْقًا وَاسِعًا ، وَعَمَلاً مُتَقَبَّلاً ، وَشِفَاءً مِنْ كُل دَاءٍ(1)
__________
(1) - أخبار مكة للفاكهي (676) وأخبار مكة للفاكهي (1053 ) عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : إنه رأى رجلا يشرب من ماء زمزم فقال : « هل تدري كيف تشرب من ماء زمزم ؟ قال : وكيف أشرب من ماء زمزم يا أبا عباس ؟ فقال : إذا أردت أن تشرب من ماء زمزم فانزع دلوا منها ، ثم استقبل القبلة وقل : بسم الله ، وتنفس ثلاثا حتى تضلع ، وقل : اللهم إني أسألك علما نافعا ، ورزقا واسعا ، وشفاء من كل داء » وهذا إسناد صحيح
ومصنف عبد الرزاق (ج 4 / ص 288)(9113) والمستدرك للحاكم(ج 2 / ص 92)(1739)وسنن الدارقطنى 2/289(2771 ) وانظر فتاوى الأزهر - (ج 9 / ص 363) ونيل الأوطار - (ج 8 / ص 50و51) والفقه على المذاهب الأربعة - (ج 1 / ص 1049) وتبيين الحقائق شرح كنز الدقائق - (ج 4 / ص 308) والعناية شرح الهداية - (ج 4 / ص 3) وفتح القدير - (ج 5 / ص 136) ودرر الحكام شرح غرر الأحكام - (ج 3 / ص 98) ومجمع الأنهر في شرح ملتقى الأبحر - (ج 2 / ص 421) والمحيط البرهاني للإمام برهان الدين ابن مازة - (ج 2 / ص 713) والتاج والإكليل لمختصر خليل - (ج 3 / ص 465) وشرح مختصر خليل للخرشي - (ج 7 / ص 469) والذخيرة في الفقه المالكي للقرافي - (ج 3 / ص 104) وأسنى المطالب - (ج 6 / ص 282) وتحفة المحتاج في شرح المنهاج - (ج 15 / ص 382) ومغني المحتاج إلى معرفة ألفاظ المنهاج - (ج 6 / ص 91) ونهاية المحتاج إلى شرح المنهاج - (ج 10 / ص 461) والشرح الكبير لابن قدامة - (ج 3 / ص 473) وشرح منتهى الإرادات - (ج 4 / ص 56) وكشاف القناع عن متن الإقناع - (ج 7 / ص 290) والمغني - (ج 7 / ص 205) والكافي في فقه ابن حنبل - (ج 2 / ص 210) والمبدع شرح المقنع - (ج 4 / ص 242) وشرح زاد المستقنع - (ج 125 / ص 10) وفقه العبادات - حنبلي - (ج 1 / ص 470) ومنار السبيل شرح الدليل - (ج 1 / ص 183)(1/486)
ح - الْقُرْبُ مِنَ الْبَيْتِ الْحَرَامِ :
الْقُرْبُ فِي الطَّوَافِ مِنَ الْبَيْتِ لِلرِّجَال وَالْبُعْدُ لِلنِّسَاءِ ، وَعَدَّهُ الشَّافِعِيَّةُ سُنَّةً .
فَلَوْ فَاتَ الرَّمَل بِمُرَاعَاةِ الْقُرْبِ مِنَ الْبَيْتِ فَالرَّمَل مَعَ الْبُعْدِ أَوْلَى ، إِلاَّ إِذَا كَانَ الزِّحَامُ شَدِيدًا أَوْ خَافَ صَدْمَ النِّسَاءِ لَوْ بَعُدَ عَنِ الْبَيْتِ ، فَالْقُرْبُ حِينَئِذٍ مَعَ تَرْكِ الرَّمَل أَوْلَى(1).
ط - حِفْظُ الْبَصَرِ عَنْ كُل مَا يَشْغَلُهُ :
عَلَى الطَّائِفِ أَنْ يَحْفَظَ بَصَرَهُ ، عَنْ كُل مَا يَشْغَلُهُ عَنِ الطَّوَافِ : لأَِنَّ الطَّوَافَ عِبَادَةٌ ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الصَّلاَةِ ؛ فَيَنْبَغِي أَنْ يَتِمَّ فِيهِ التَّفَرُّغُ لأَِدَائِهِ .
ى - الإِْسْرَارُ بِالذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ :
الإِْسْرَارُ بِالأَْذْكَارِ وَالأَْدْعِيَةِ(2)مَطْلُوبٌ فِي الطَّوَافِ ؛ لأَِنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمِيعٌ ، حَتَّى لاَ يُؤْذِيَ غَيْرَهُ إِنْ جَهَرَ .
ك - الْتِزَامُ الْمُلْتَزَمَ :
__________
(1) - مغني المحتاج 1 / 490 - 491 .
(2) - لباب المناسك ص 110 ، وانظر رد المحتار 2 / 227 ، والشرح الكبير 2 / 41 ، والمغني 3 / 354 .(1/487)
يُسْتَحَبُّ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ بَعْدَ طَوَافِ الْوَدَاعِ أَنْ يَلْتَزِمَ الطَّائِفُ الْمُلْتَزَمَ وَهُوَ الْجِدَارُ الَّذِي بَيْنَ الْحَجَرِ الأَْسْوَدِ وَبَابِ الْكَعْبَةِ الْمُشَرَّفَةِ ، اقْتِدَاءً بِالرَّسُول - صلى الله عليه وسلم - وَالْتِزَامُهُ أَنْ يُلْصِقَ صَدْرَهُ وَخَدَّهُ الأَْيْمَنَ ، وَيَدَاهُ وَكَفَّاهُ مَبْسُوطَتَانِ قَائِمَتَانِ ، وَهُوَ مُتَذَلِّلٌ مُسْتَجِيرٌ بِرَبِّ الْبَيْتِ ، وَالْمُلْتَزَمُ مِنَ الْمَوَاضِعِ الَّتِي يُسْتَجَابُ فِيهَا الدُّعَاءُ ، وَيَدْعُو بِالْمَأْثُورِ مِنَ الدُّعَاءِ إِنْ حَفِظَهُ وَإِلاَّ فَبِمَا تَيَسَّرَ(1).
ل - قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ :
قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ مِنْ غَيْرِ رَفْعِ صَوْتٍ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ .وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ تَجُوزُ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ ، وَالذِّكْرُ أَفْضَل عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ(2).
أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَقَالُوا : مَأْثُورُ الدُّعَاءِ أَفْضَل مِنَ الْقِرَاءَةِ ، وَهِيَ أَفْضَل مِنْ غَيْرِ مَأْثُورِهِ(3)
اسْتَدَل الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّ هَدْيَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - هُوَ الأَْفْضَل ، وَلَمْ يَثْبُتْ عَنْهُ فِي الطَّوَافِ قِرَاءَةُ قُرْآنٍ ، بَل الذِّكْرُ ، وَهُوَ الْمُتَوَارَثُ مِنَ السَّلَفِ وَالْمُجْمَعُ عَلَيْهِ فَكَانَ أَوْلَى(4).
__________
(1) - شرح ابن عابدين 1 / 170 - 187 ، وروضة الطالبين 3 / 118 ، كشاف القناع 2 / 513 .
(2) - شرح اللباب ص 111 - 112 ، ورد المحتار 2 / 231 ، والمغني 3 / 378 ، والخرشي 2 / 326 .
(3) - مغني المحتاج 1 / 489 .
(4) - رد المحتار الموضع السابق .(1/488)
وَاسْتَدَل الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَفْضَلِيَّةِ الدُّعَاءِ بِالْمَأْثُورِ فِي الطَّوَافِ عَلَى الْقِرَاءَةِ بِاتِّبَاعِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَأَفْضَلِيَّةِ الْقُرْآنِ عَلَى غَيْرِ الْمَأْثُورِ فِي الطَّوَافِ ، بِأَنَّ الْمَوْضِعَ مَوْضِعُ ذِكْرٍ ، وَالْقُرْآنُ أَفْضَل الذِّكْرِ(1).
وَاسْتَدَلُّوا بِالْحَدِيثِ الْقُدُسِيِّ : عَنْ أَبِى سَعِيدٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " يَقُولُ الرَّبُّ عَزَّ وَجَلَّ : مَنْ شَغَلَهُ الْقُرْآنُ وَذِكْرِى عَنْ مَسْأَلَتِى أَعْطَيْتُهُ أَفْضَلَ مَا أُعْطِى السَّائِلِينَ وَفَضْلُ كَلاَمِ اللَّهِ عَلَى سَائِرِ الْكَلاَمِ كَفَضْلِ اللَّهِ عَلَى خَلْقِهِ "(2)..
مُبَاحَاتُ الطَّوَافِ :
أ - الْكَلاَمُ الْمُبَاحُ الَّذِي يُحْتَاجُ إِلَيْهِ . صَرَّحَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ بِكَرَاهَةِ الْكَلاَمِ ، لَكِنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى مَا لاَ حَاجَةَ إِلَيْهِ . وَلِذَلِكَ صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ أَنَّ الأَْفْضَل أَلاَّ يَتَكَلَّمَ(3)لِقَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم - : الطَّوَافُ صَلاَةٌ فَأَقِلُّوا فِيهِ الْكَلاَمَ وَفِي رِوَايَةٍ : إِلاَّ أَنَّكُمْ تَتَكَلَّمُونَ فِيهِ فَمَنْ تَكَلَّمَ فَلاَ يَتَكَلَّمْ إِلاَّ بِخَيْرٍ(4).
__________
(1) - مغني المحتاج الموضع السابق .
(2) - سنن الترمذي (3176 ) وفتح 9/66 و 11/134 وش 10/237 وتمهيد 6/46 والاتحاف 4/375 وتخ 2/110 وصفة (238) ومي 2/441 والشعب (572 و 583 و 574)حسن لغيره
وانظر كشاف القناع عن متن الإقناع - (ج 3 / ص 275) ومطالب أولي النهى في شرح غاية المنتهى - (ج 3 / ص 263) ومجموع الفتاوى - (ج 21 / ص 294)
(3) - بدائع الصنائع 2 / 131 وشرح اللباب ص 110 ونحوه في المغني لابن قدامة 3 / 378 ، انظر المجموع 8 / 52 .
(4) - حديث : الطواف صلاة . سبق فـ 22 .(1/489)
ب - السَّلاَمُ عَلَى مَنْ لاَ يَكُونُ مَشْغُولاً بِالذِّكْرِ(1).
ج - الإِْفْتَاءُ وَالاِسْتِفْتَاءُ ، وَنَحْوُهُ مِنْ تَعْلِيمِ جَاهِلٍ أَوْ أَمْرٍ بِمَعْرُوفٍ أَوْ نَهْيٍ عَنْ مُنْكَرٍ(2).
د - الْخُرُوجُ مِنَ الطَّوَافِ لِحَاجَةٍ ضَرُورِيَّةٍ .
هـ - الشُّرْبُ ، لِعَدَمِ إِخْلاَلِهِ بِالْمُوَالاَةِ لِقِلَّةِ زَمَانِهِ ، بِخِلاَفِ الأَْكْل(3).
و - لُبْسُ نَعْلٍ أَوْ خُفٍّ إِذَا كَانَا طَاهِرَيْنِ .
مُحَرَّمَاتُ الطَّوَافِ :
أ - تَرْكُ رُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِ الطَّوَافِ ، وَحُكْمُهُ : أَنَّهُ لاَ يَتَحَلَّل التَّحَلُّل الأَْكْبَرَ إِلاَّ بِالْعَوْدِ وَأَدَائِهِ إِنْ كَانَ الطَّوَافُ فَرْضًا ، أَوْ وَاجِبًا .
ب - تَرْكُ شَرْطٍ مِنْ شُرُوطِ الطَّوَافِ ، وَحُكْمُهُ : أَنَّ الطَّوَافَ غَيْرُ صَحِيحٍ ، وَيَجِبُ أَنْ يُعِيدَهُ إِنْ كَانَ فَرْضًا ، أَوْ وَاجِبًا .
فَإِنْ كَانَ بِمَكَّةَ أَعَادَهُ وَلاَ إِشْكَال ، وَإِنْ سَافَرَ مِنْ مَكَّةَ ، فَلاَ بُدَّ لَهُ مِنَ الرُّجُوعِ إِلَى مَكَّةَ وَإِعَادَتِهِ ، كَمَا فِي تَرْكِ رُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِ الطَّوَافِ .
ج - تَرْكُ وَاجِبٍ مِنْ وَاجِبَاتِ الطَّوَافِ ، وَهُوَ غَيْرُ مُجْزِئٍ عِنْدَ الْجُمْهُورِ ، مَكْرُوهٌ كَرَاهَةً تَحْرِيمِيَّةً عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ حَسَبَ اصْطِلاَحِهِمْ ، وَيَلْزَمُهُ الإِْثْمُ ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ الدَّمُ(4).
مَكْرُوهَاتُ الطَّوَافِ :
نَصَّ الْفُقَهَاءُ عَلَى أُمُورٍ تُكْرَهُ فِي الطَّوَافِ ، مِنْهَا :
أ - رَفْعُ الصَّوْتِ بِالذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ وَالْقُرْآنِ بِمَا يُشَوِّشُ عَلَى الطَّائِفِينَ .
__________
(1) - شرح اللباب ص 111 .
(2) - المرجع السابق والمجموع 8 / 53 .
(3) - شرح الدر 2 / 231 .
(4) - المسلك المتقسط في المنسك المتوسط شرح لباب المناسك ص 112 ، مغني المحتاج 1 / 458 ، الخرشي 2 / 314 .(1/490)
ب - الْكَلاَمُ غَيْرُ الْمُحْتَاجِ إِلَيْهِ ، لِقَوْل ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا : أَقِلُّوا الْكَلاَمَ فَإِنَّمَا أَنْتُمْ فِي صَلاَةٍ
ج - إِنْشَادُ شِعْرٍ لَيْسَ مِنْ قَبِيل الذِّكْرِ وَالثَّنَاءِ عَلَى اللَّهِ .
د - تَرْكُ سُنَّةٍ مِنْ سُنَنِ الطَّوَافِ ، حَسْبَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي كُل مَذْهَبٍ ، كَتَرْكِ الرَّمَل فِي طَوَافٍ بَعْدَهُ سَعْيٌ ، وَكَتَرْكِ اسْتِلاَمِ الْحَجَرِ الأَْسْوَدِ وَالإِْشَارَةِ إِلَيْهِ .
هـ - الْجَمْعُ بَيْنَ أَكْثَرَ مِنْ طَوَافٍ كَامِلٍ مِنْ غَيْرِ صَلاَةٍ بَعْدَ كُل طَوَافٍ ، إِلاَّ إِذَا وَقَعَتِ الصَّلاَةُ فِي وَقْتِ كَرَاهَةٍ فَيُؤَخِّرُهَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ .
و - الطَّوَافُ وَهُوَ يُدَافِعُ الْبَوْل أَوِ الْغَائِطَ ، أَوْ وَهُوَ شَدِيدُ التَّوَقَانِ إِلَى الأَْكْل ، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا يَشْغَلُهُ عَنِ الْحُضُورِ فِي الْعِبَادَةِ ، كَمَا يُكْرَهُ فِي الصَّلاَةِ .
ز - الأَْكْل فِي الطَّوَافِ اتِّفَاقًا بَيْنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَكَذَا الشُّرْبُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ ، وَكَرَاهَةُ الشُّرْبِ أَخَفُّ عِنْدَهُمْ ، قَال الشَّافِعِيُّ : لاَ بَأْسَ بِشُرْبِ الْمَاءِ فِي الطَّوَافِ وَلاَ أَكْرَهُهُ ، بِمَعْنَى الْمَأْثَمِ ، لَكِنِّي أُحِبُّ تَرْكَهُ ؛ لأَِنَّ تَرْكَهُ أَحْسَنُ فِي الأَْدَبِ وَقَال الشَّافِعِيُّ فِي الإِْمْلاَءِ : رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا " أَنَّهُ شَرِبَ وَهُوَ يَطُوفُ(1).
ح - وَضْعُ الطَّائِفِ يَدَهُ عَلَى فِيهِ ، إِلاَّ أَنْ يَحْتَاجَ إِلَيْهِ مِثْل دَفْعِ التَّثَاؤُبِ .
ط - تَشْبِيكُ الأَْصَابِعِ أَوْ فَرْقَعَتُهَا ، كَمَا يُكْرَهُ ذَلِكَ فِي الصَّلاَةِ(2).
كَيْفِيَّةُ الطَّوَافِ :
__________
(1) - المجموع 8 / 53 .
(2) - شرح اللباب ص 112 ، المجموع 8 / 53 .(1/491)
إِذَا أَرَادَ شَخْصٌ الطَّوَافَ فَيَسْتَعِدُّ لِذَلِكَ بِتَطْهِيرِ بَدَنِهِ وَثِيَابِهِ مِنَ النَّجَاسَةِ ، وَيَغْتَسِل إِنْ كَانَ جُنُبًا ، وَيَتَوَضَّأُ وَيَضْبِطُ ثِيَابَ إِحْرَامِهِ حَتَّى يَأْمَنَ أَنْ تَنْكَشِفَ عَوْرَتُهُ فِي أَثْنَاءِ الطَّوَافِ وَزِحَامِهِ ، وَإِذَا أَرَادَ أَدَاءَ طَوَافٍ بَعْدَهُ سَعْيٌ مِثْل طَوَافِ الْقُدُومِ فِي حَال تَقْدِيمِ السَّعْيِ إِلَيْهِ ، وَطَوَافِ الزِّيَارَةِ إِذَا لَمْ يُقَدِّمِ السَّعْيَ عَلَيْهِ ، وَطَوَافِ الْعُمْرَةِ ، فَيُسَنُّ لَهُ فِي هَذِهِ الأَْطْوِفَةِ الاِضْطِبَاعُ فِي الأَْشْوَاطِ كُلِّهَا .
كَيْفِيَّةُ الاِضْطِبَاعِ :(1/492)
وَكَيْفِيَّةُ الاِضْطِبَاعِ : أَنْ يَجْعَل الطَّائِفُ وَسَطَ الرِّدَاءِ تَحْتَ إِبِطِهِ الْيُمْنَى ، وَيَرُدُّ طَرَفَيْهِ عَلَى كَتِفِهِ الْيُسْرَى ، وَيَتْرُكُ كَتِفَهُ الْيُمْنَى مَكْشُوفَةً . ثُمَّ يَتَّجِهُ إِلَى الْحَجَرِ الأَْسْوَدِ حَتَّى يَتَجَاوَزَهُ قَلِيلاً إِلَى جِهَةِ الرُّكْنِ الْيَمَانِيِّ ، وَيَقْطَعُ التَّلْبِيَةَ إِنْ كَانَ مُحْرِمًا ، يَنْوِي الطَّوَافَ الَّذِي يُرِيدُهُ ، وَيَجْعَل يَسَارَهُ إِلَى الْبَيْتِ ، ثُمَّ يَسْتَقْبِل الْحَجَرَ الأَْسْوَدَ وَيَسْتَلِمُهُ ، بِأَنْ يَضَعَ عَلَيْهِ يَدَيْهِ وَيَضَعَ وَجْهَهُ بَيْنَ كَفَّيْهِ ، وَيُقَبِّلَهُ ثَلاَثًا ،لَكِنْ إِذَا وَجَدَ الطَّائِفُ زِحَامًا فَيَجْتَنِبُ الإِْيذَاءَ ، وَيَكْتَفِي بِالإِْشَارَةِ إِلَى الْحَجَرِ بِيَدَيْهِ ؛ لأَِنَّ اسْتِلاَمَ الْحَجَرِ سُنَّةٌ ، وَإِيذَاءُ النَّاسِ حَرَامٌ يَجِبُ تَرْكُهُ ، وَلاَ يَجُوزُ ارْتِكَابُ الْحَرَامِ لأَِجْل السُّنَّةِ ، وَقَدْ رويَ عَنْ أَبِى يَعْفُورٍ الْعَبْدِىِّ قَالَ سَمِعْتُ شَيْخاً بِمَكَّةَ فِى إِمَارَةِ الْحَجَّاجِ يُحَدِّثُ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ لَهُ : " يَا عُمَرُ إِنَّكَ رَجُلٌ قَوِىٌّ لاَ تُزَاحِمْ عَلَى الْحَجَرِ فَتُؤْذِىَ الضَّعِيفَ إِنْ وَجَدْتَ خَلْوَةً فَاسْتَلِمْهُ وَإِلاَّ فَاسْتَقْبِلْهُ فَهَلِّلْ وَكَبِّرْ "(1).
__________
(1) - مسند أحمد 1/28(195) وأخبار مكة (70و431) وتهذيب الآثار (1814)وحسنه شيخنا الشيخ شعيب في التعليق على المسند ، وفيه رجل مبهم وقد بينه سفيان أنه عبد الرحمن بن نافع بن عبد الحارث الخزاعى الحجازى وهو من كبار التابعين
وفي أخبار أصبهان (40439 )والسنن الكبرى للبيهقي (ج 5 / ص 80)(9528) عن سعيد بن المسيب عن عمر وهو حديث حسن
وانظر الدراية في تخريج أحأديث الهداية - (ج 2 / ص 12) وفتاوى الأزهر - (ج 9 / ص 302) وسبل السلام - (ج 3 / ص 493) ونيل الأوطار - (ج 7 / ص 444)(1959) والروضة الندية - (ج 1 / ص 354) وبدائع الصنائع في ترتيب الشرائع - (ج 4 / ص 462) وتبيين الحقائق شرح كنز الدقائق - (ج 4 / ص 288) وفتح القدير - (ج 5 / ص 110) وتحفة المحتاج في شرح المنهاج - (ج 15 / ص 95) ومغني المحتاج إلى معرفة ألفاظ المنهاج - (ج 5 / ص 499) وحاشية البجيرمي على الخطيب - (ج 7 / ص 134) والفروع لابن مفلح - (ج 6 / ص 107) والمبدع شرح المقنع - (ج 4 / ص 208) والشرح الممتع على زاد المستقنع - (ج 7 / ص 156)(1/493)
وَكَيْفِيَّةُ الإِْشَارَةِ : أَنْ يَرْفَعَ الطَّائِفُ يَدَيْهِ حِذَاءَ مَنْكِبَيْهِ ، وَيَجْعَل بَاطِنَهُمَا نَحْوَ الْحَجَرِ الأَْسْوَدِ يُشِيرُ بِهِمَا إِلَيْهِ .
وَيَرْمُل الطَّائِفُ فِي الأَْشْوَاطِ الثَّلاَثَةِ الأُْولَى إِنْ كَانَ سَيَسْعَى بَعْدَ الطَّوَافِ .
وَكَيْفِيَّةُ الرَّمَل : إِسْرَاعُ الْمَشْيِ مَعَ مُقَارَبَةِ الْخُطَى وَهَزِّ الْكَتِفَيْنِ مِنْ غَيْرِ وَثْبٍ ، وَيَمْشِي بَقِيَّةَ الأَْشْوَاطِ ، وَيَكُونُ فِي طَوَافِهِ عَلَى غَايَةِ الأَْدَبِ وَالْحُضُورِ وَالتَّعْظِيمِ ، مَعَ غَضِّ الْبَصَرِ وَخَفْضِ الصَّوْتِ بِالذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ ، فَإِذَا وَصَل إِلَى الْحَطِيمِ وَهُوَ الْمَكَانُ الْمُحَاطُ بِجِدَارٍ دَائِرِيٍّ ، جِهَةَ شِمَال الْكَعْبَةِ حَيْثُ الْمِيزَابُ فَيَجْعَل الْحَطِيمَ فِي ضِمْنِ طَوَافِهِ ، وَلاَ يَدْخُل فِي دَاخِلِهِ ، فَإِذَا وَصَل إِلَى الرُّكْنِ الْيَمَانِيِّ فَيَسْتَلِمُهُ ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَضَعَ يَدَيْهِ عَلَيْهِ فَقَطْ ، دُونَ سُجُودٍ وَلاَ تَقْبِيلٍ لَهُ وَلاَ لِيَدَيْهِ ، حَتَّى يَصِل إِلَى الْحَجَرِ الأَْسْوَدِ ، فَيَكُونُ بِذَلِكَ قَدْ أَدَّى شَوْطًا ، فَيَسْتَلِمُ الْحَجَرَ وَيُقَبِّلُهُ ، أَوْ يُشِيرُ إِلَيْهِ إِذَا كَانَ زِحَامٌ .(1/494)
وَيُتَابِعُ الطَّوَافَ حَتَّى تَكْمُل سَبْعَةَ أَشْوَاطٍ عِنْدَ الْحَجَرِ الأَْسْوَدِ فَيَسْتَلِمَهُ وَيُقَبِّلَهُ خِتَامًا لأَِشْوَاطِ الطَّوَافِ ، أَوْ يُشِيرُ إِلَيْهِ إِذَا كَانَ هُنَاكَ زِحَامٌ ، ثُمَّ يَتَّجِهُ نَحْوَ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيل عَلَيْهِ السَّلَامُ فَيَجْعَلُهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكَعْبَةِ ، وَيُصَلِّي رَكْعَتَيِ الطَّوَافِ ، وَلَكِنْ لَيْسَ هَذَا الْوَضْعُ شَرْطًا لِصِحَّتِهِمَا كَمَا يَتَوَهَّمُ الْعَامَّةُ ، فَلاَ يُزَاحِمُ وَيُصَلِّي رَكْعَتَيِ الطَّوَافِ أَيْنَمَا تَيَسَّرَ ، فَحَيْثُمَا أَدَّاهُمَا جَائِزٌ ، لَكِنَّ الْحَرَمَ أَفْضَل ، وَيَقْرَأُ فِي الرَّكْعَةِ الأُْولَى سُورَةَ { قُل يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ } وَفِي الثَّانِيَةِ { قُل هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } اتِّبَاعًا لِفِعْلِهِ - صلى الله عليه وسلم - ، ثُمَّ يَدْعُو بَعْدَهُمَا بِمَا يُحِبُّ لَهُ وَلِمَنْ يُحِبُّ .
--------------
رُكْنِيَّةُ طَوَافِ الزِّيَارَةِ :
ثَبَتَ فَرْضِيَّةُ طَوَافِ الزِّيَارَةِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالإِْجْمَاعِ :
أَمَّا الْكِتَابُ : فَقَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ } (سورة الحج / 30)
فَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الآْيَةَ فِي طَوَافِ الإِْفَاضَةِ ، فَيَكُونُ فَرْضًا بِنَصِّ الْقُرْآنِ .
وَأَمَّا السُّنَّةُ : فَعَنْ عَائِشَةَ - رضى الله عنها - أَنَّ صَفِيَّةَ بِنْتَ حُيَىٍّ زَوْجَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - رضي الله عنها حَاضَتْ ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ " أَحَابِسَتُنَا هِىَ " . قَالُوا إِنَّهَا قَدْ أَفَاضَتْ . قَالَ " فَلاَ إِذًا "(1)..
__________
(1) - صحيح البخاري برقم ( 1757 ) ومسلم برقم (3286 )(1/495)
فَدَل الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ طَوَافَ الإِْفَاضَةِ فَرْضٌ لاَ بُدَّ مِنْهُ ، وَلَوْلاَ فَرْضِيَّتُهُ لَمْ يُمْنَعْ مَنْ لَمْ يَأْتِ بِهِ عَنِ السَّفَرِ وَعَلَيْهِ الإِْجْمَاعُ(1).
شُرُوطُ طَوَافِ الزِّيَارَةِ :
يُشْتَرَطُ فِي طَوَافِ الزِّيَارَةِ شُرُوطٌ خَاصَّةٌ بِهِ سِوَى الشُّرُوطِ الْعَامَّةِ لِلطَّوَافِ وَهَذِهِ الشُّرُوطُ الْخَاصَّةُ هِيَ:
أ - أَنْ يَكُونَ مَسْبُوقًا بِالإِْحْرَامِ ، لِتَوَقُّفِ احْتِسَابِ أَيِّ عَمَلٍ مِنْ أَعْمَال الْحَجِّ عَلَى الإِْحْرَامِ .
ب - أَنْ يَكُونَ مَسْبُوقًا بِوُقُوفِ عَرَفَةَ ، فَلَوْ طَافَ لِلإِْفَاضَةِ قَبْل الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ لاَ يَسْقُطُ بِهِ فَرْضُ الطَّوَافِ ، إِجْمَاعًا .
ج - النِّيَّةُ : بِأَنْ يَقْصِدَ أَصْل الطَّوَافِ . أَمَّا نِيَّةُ التَّعْيِينِ فَلَيْسَتْ شَرْطًا فِي طَوَافِ الإِْفَاضَةِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ ( الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ ) لِدُخُولِهِ فِي نِيَّةِ الْحَجِّ .
لِذَلِكَ صَرَّحُوا بِشَرْطِيَّةِ عَدَمِ صَرْفِهِ لِغَيْرِهِ ، كَطَلَبِ غَرِيمٍ ، أَوْ هَرَبٍ مِنْ ظَالِمٍ .
أَمَّا الْحَنَابِلَةُ : فَقَدِ اشْتَرَطُوا تَعْيِينَ الطَّوَافِ فِي النِّيَّةِ(2).
د - الْوَقْتُ : فَلاَ يَصِحُّ طَوَافُ الإِْفَاضَةِ قَبْل الْوَقْتِ الْمُحَدَّدِ لَهُ شَرْعًا . وَهُوَ وَقْتٌ مُوَسَّعٌ يَبْتَدِئُ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ الثَّانِي يَوْمَ النَّحْرِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ .
__________
(1) - المغني 3 / 440 ، والبدائع 1 / 128 .
(2) - وانظر مسألة نية الطواف في بدائع الصنائع 2 / 128 والمسلك المتقسط ص 98 و 99 والمهذب للشيرازي 8 / 16 والمجموع ص 18 - 21 والإيضاح ص 251 - 252 ونهاية المحتاج 2 / 409 و 414 و 416 ومغني المحتاج 1 / 487 و 492 والمغني 3 / 441 - 443 والفروع وفيه أقوال تخريجات عليها 3 / 449 - 501 .(1/496)
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ أَوَّل وَقْتِ طَوَافِ الإِْفَاضَةِ بَعْدَ مُنْتَصَفِ لَيْلَةِ النَّحْرِ لِمَنْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ قَبْلَهُ .
اسْتَدَل الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّ : مَا قَبْل الْفَجْرِ مِنَ اللَّيْل وَقْتُ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ ، وَالطَّوَافُ مُرَتَّبٌ عَلَيْهِ " ، فَلاَ يَصِحُّ أَنْ يَتَقَدَّمَ وَيَشْغَل شَيْئًا مِنْ وَقْتِ الْوُقُوفِ .
وَاسْتَدَل الشَّافِعِيَّةُ بِقِيَاسِ الطَّوَافِ عَلَى الرَّمْيِ ، لأَِنَّهُمَا مِنْ أَسْبَابِ التَّحَلُّل ، فَإِنَّهُ بِالرَّمْيِ لِلْجِمَارِ وَالذَّبْحِ وَالْحَلْقِ يَحْصُل التَّحَلُّل الأَْوَّل ، وَبِالطَّوَافِ يَحْصُل التَّحَلُّل الأَْكْبَرُ ( بِشَرْطِ السَّعْيِ ) ،
فَكَمَا أَنَّ وَقْتَ الرَّمْيِ يَبْدَأُ عِنْدَهُمْ بَعْدَ نِصْفِ اللَّيْل فَكَذَا وَقْتُ طَوَافِ الإِْفَاضَةِ .
وَالأَْفْضَل عِنْدَ الْعُلَمَاءِ أَدَاؤُهُ يَوْمَ النَّحْرِ بَعْدَ الرَّمْيِ وَالْحَلْقِ .
وَأَمَّا آخِرُ وَقْتِ طَوَافِ الْفَرْضِ فَلَيْسَ لآِخِرِهِ حَدٌّ مُعَيَّنٌ لأَِدَائِهِ فَرْضًا ، بَل جَمِيعُ الأَْيَّامِ وَاللَّيَالِي وَقْتُهُ إِجْمَاعًا .
لَكِنَّ الإِْمَامَ أَبَا حَنِيفَةَ أَوْجَبَ أَدَاءَهُ فِي أَيَّامِ النَّحْرِ ، فَلَوْ أَخَّرَهُ حَتَّى أَدَّاهُ بَعْدَهَا صَحَّ ، وَوَجَبَ عَلَيْهِ دَمٌ جَزَاءَ تَأْخِيرِهِ عَنْهَا . وَهُوَ الْمُفْتَى بِهِ فِي الْمَذْهَبِ .
وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُ لاَ يَلْزَمُهُ بِالتَّأْخِيرِ شَيْءٌ إِلاَّ بِخُرُوجِ ذِي الْحِجَّةِ ، فَإِذَا خَرَجَ لَزِمَهُ دَمٌ .
وَذَهَبَ الصَّاحِبَانِ ، وَالشَّافِعِيَّةُ ، وَالْحَنَابِلَةُ ، إِلَى أَنَّهُ لاَ يَلْزَمُهُ شَيْءٌ بِالتَّأْخِيرِ أَبَدًا .(1/497)
اسْتَدَل أَبُو حَنِيفَةَ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَطَفَ الطَّوَافَ عَلَى الذَّبْحِ فِي الْحَجِّ ، فَقَال : { فَكُلُوا مِنْهَا } (سورة الحج / 29 .) ، ثُمَّ قَال : { وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ } (سورة الحج / 30 .) ، فَكَانَ وَقْتُهُمَا وَاحِدًا ، فَيُكْرَهُ تَأْخِيرُ الطَّوَافِ عَنْ أَيَّامِ النَّحْرِ ، وَيَنْجَبِرُ بِالدَّمِ .
إِلاَّ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ نَظَرُوا إِلَى شَهْرِ ذِي الْحِجَّةِ أَنَّهُ تُقَامُ فِيهِ أَعْمَال الْحَجِّ ، فَسَوَّوْا بَيْنَ كُل أَيَّامِهِ ، وَجَعَلُوا التَّأْخِيرَ عَنْهُ مُوجِبًا لِلْفِدَاءِ .
وَاسْتَدَل الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ ، بِأَنَّ الأَْصْل عَدَمُ التَّأْقِيتِ ، وَلَيْسَ هُنَاكَ مَا يُوجِبُ فِعْلَهُ فِي أَيَّامِ النَّحْرِ ، فَلاَ يَلْزَمُ الْحَاجَّ فِدْيَةٌ إِذَا أَخَّرَ طَوَافَ الإِْفَاضَةِ إِلَى مَا بَعْدَ أَيَّامِ النَّحْرِ .
فَإِذَا تَأَخَّرَ طَوَافُ الإِْفَاضَةِ عَنْ أَيَّامِ النَّحْرِ أَوْ شَهْرِ ذِي الْحِجَّةِ ، فَإِنَّهُ لاَ يَسْقُطُ أَبَدًا ، وَهُوَ مُحْرِمٌ عَنِ النِّسَاءِ أَبَدًا إِلَى أَنْ يَعُودَ فَيَطُوفَ .
وَلاَ يَكْفِي الْفِدَاءُ عَنْ أَدَاءِ طَوَافِ الإِْفَاضَةِ إِجْمَاعًا ، لأَِنَّهُ رُكْنٌ ، وَأَرْكَانُ الْحَجِّ لاَ يُجْزِئُ عَنْهَا الْبَدَل ، وَلاَ يَقُومُ غَيْرُهَا مَقَامَهَا ، بَل يَجِبُ الإِْتْيَانُ بِهَا بِعَيْنِهَا(1).
الرَّابِعُ : السَّعْيُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ :
__________
(1) - انظر وقت طواف الإفاضة في الهداية 2 / 180 ، والمسلك المتقسط ص 155 ، وحاشية ابن عابدين 2 / 250 و 251 ، وشرح الزرقاني على مختصر خليل 2 / 281 ، وحاشية العدوي 1 / 479 ، والشرح الكبير 2 / 47 ، والمهذب 1 / 230 ، ونهاية المحتاج 2 / 429 ، ومغني المحتاج 1 / 503 - 504 ، والمغني 3 / 441 و 443 وانظر الفروع 3 / 516 و 520 .(1/498)
الْمُرَادُ بِالسَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ قَطْعُ الْمَسَافَةِ بَيْنَهُمَا سَبْعَ مَرَّاتٍ ، بَعْدَ أَنْ يَكُونَ طَافَ بِالْبَيْتِ .
حُكْمُ السَّعْيِ :
ذَهَبَ الأَْئِمَّةُ الثَّلاَثَةُ إِلَى أَنَّ السَّعْيَ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الْحَجِّ لاَ يَصِحُّ بِدُونِهِ ، حَتَّى لَوْ تَرَكَ الْحَاجُّ خُطْوَةً مِنْهُ يُؤْمَرُ بِأَنْ يَعُودَ إِلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ فَيَضَعَ قَدَمَهُ عَلَيْهِ ، وَيَخْطُوَ تِلْكَ الْخُطْوَةَ . وَهُوَ قَوْل عَائِشَةَ وَعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ السَّعْيَ وَاجِبٌ فِي الْحَجِّ وَلَيْسَ بِرُكْنٍ ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ . وَرُكْنُ السَّعْيِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ سَبْعَةُ أَشْوَاطٍ ، حَتَّى لَوْ تَرَكَ شَيْئًا مِنْهَا لَمْ يَتَحَلَّل مِنْ إِحْرَامِهِ ، أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَإِنَّ رُكْنَ السَّعْيِ أَكْثَرُ أَشْوَاطِ السَّعْيِ ، وَالثَّلاَثَةُ الْبَاقِيَةُ لَيْسَتْ رُكْنًا ، وَتَنْجَبِرُ بِالْفِدَاءِ .
وَالْمَشْيُ لِلْقَادِرِ وَاجِبٌ فِي السَّعْيِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ ، سُنَّةٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ(1).
- - - - - - - - - - - - - - -
وَاجِبَاتُ الْحَجِّ :
__________
(1) - انظر في السعي : فتح القدير 2 / 156 - 158 ، والمسلك المتقسط ص 115 - 121 ، وشرح الرسالة وحاشية العدوي 1 / 470 - 472 ، وشرح المنهاج 2 / ط 126 - 127 ، والمهذب والمجموع 8 / 71 ، والمغني 3 / 385 - 390 والفروع 3 / 504 - 506 .(1/499)
الْوَاجِبُ فِي الْحَجِّ : هُوَ مَا يُطْلَبُ فِعْلُهُ وَيَحْرُمُ تَرْكُهُ ، لَكِنْ لاَ تَتَوَقَّفُ صِحَّةُ الْحَجِّ عَلَيْهِ ، وَيَأْثَمُ تَارِكُهُ ، إِلاَّ إِذَا تَرَكَهُ بِعُذْرٍ مُعْتَبَرٍ شَرْعًا(1)، وَيَجِبُ عَلَيْهِ الْفِدَاءُ بِجَبْرِ النَّقْصِ .
وَوَاجِبَاتُ الْحَجِّ قِسْمَانِ :
الْقِسْمُ الأَْوَّل : الْوَاجِبَاتُ الأَْصْلِيَّةُ ، الَّتِي لَيْسَتْ تَابِعَةً لِغَيْرِهَا .
الْقِسْمُ الثَّانِي : الْوَاجِبَاتُ التَّابِعَةُ لِغَيْرِهَا .
وَهِيَ أُمُورٌ يَجِبُ مُرَاعَاتُهَا فِي أَدَاءِ رُكْنٍ أَوْ وَاجِبٍ مِنْ أَعْمَال الْحَجِّ .
أَوَّلاً
وَاجِبَاتُ الْحَجِّ الأَْصْلِيَّةُ
1-الْمَبِيتُ بِمُزْدَلِفَةَ :
الْمُزْدَلِفَةُ تُسَمَّى " جَمْعًا " أَيْضًا ، لاِجْتِمَاعِ النَّاسِ بِهَا لَيْلَةَ النَّحْرِ . وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْمَبِيتَ بِالْمُزْدَلِفَةِ وَاجِبٌ لَيْسَ بِرُكْنٍ . ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي مِقْدَارِهِ وَوَقْتِهِ .
فَذَهَبَ الأَْئِمَّةُ الثَّلاَثَةُ إِلَى أَنَّ زَمَنَ الْوُقُوفِ الْوَاجِبِ هُوَ الْمُكْثُ بِالْمُزْدَلِفَةِ مِنَ اللَّيْل ، ثُمَّ اخْتَلَفَ أَصْحَابُ هَذَا الرَّأْيِ .
فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ النُّزُول بِالْمُزْدَلِفَةِ قَدْرَ حَطِّ الرِّحَال فِي لَيْلَةِ النَّحْرِ وَاجِبٌ ، وَالْمَبِيتُ بِهَا سُنَّةٌ .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ الْوُجُودُ بِمُزْدَلِفَةَ بَعْدَ نِصْفِ اللَّيْل ، وَلَوْ سَاعَةً لَطِيفَةً : أَيْ فَتْرَةً مَا مِنَ الزَّمَنِ وَلَوْ قَصِيرَةً .
__________
(1) -المسلك المتقسط ص 51 ، والدر المختار بحاشيته 2 / 244 ، ويأتي مزيد تفصيل لذلك في فصل الإخلال بأحكام الحج .(1/500)
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ مَا بَيْنَ طُلُوعِ الْفَجْرِ يَوْمَ النَّحْرِ وَطُلُوعِ الشَّمْسِ ، فَمَنْ حَصَّل بِمُزْدَلِفَةَ فِي هَذَا الْوَقْتِ فَتْرَةً مِنَ الزَّمَنِ فَقَدْ أَدْرَكَ الْوُقُوفَ ، سَوَاءٌ بَاتَ بِهَا أَوْ لاَ ، وَمَنْ لَمْ يُحَصِّل بِهَا فِيهِ فَقَدْ فَاتَهُ الْوُقُوفُ الْوَاجِبُ بِالْمُزْدَلِفَةِ . وَعَلَيْهِ دَمٌ إِلاَّ إِنْ تَرَكَهُ لِعُذْرٍ كَزَحْمَةٍ فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ .
وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْحَاجَّ يَجْمَعُ فِي الْمُزْدَلِفَةِ بَيْنَ صَلاَتَيْ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ جَمْعَ تَأْخِيرٍ ، وَهَذَا الْجَمْعُ سُنَّةٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ ، وَاجِبٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ(1).
2- رَمْيُ الْجِمَارِ :
الرَّمْيُ لُغَةً : الْقَذْفُ .
وَالْجِمَارُ : الأَْحْجَارُ الصَّغِيرَةُ ، جَمْعُ جَمْرَةٍ ، وَهِيَ الْحَصَاةُ .
وَرَمْيُ الْجِمَارِ وَاجِبٌ فِي الْحَجِّ ، أَجْمَعَتِ الأُْمَّةُ عَلَى وُجُوبِهِ .
وَالرَّمْيُ الْوَاجِبُ لِكُل جَمْرَةٍ ( أَيْ مَوْضِعُ الرَّمْيِ ) هُوَ سَبْعُ حَصَيَاتٍ بِالإِْجْمَاعِ أَيْضًا(2).
تَوْقِيتُ الرَّمْيِ وَعَدَدُهُ :
أَيَّامُ الرَّمْيِ أَرْبَعَةٌ : يَوْمُ النَّحْرِ الْعَاشِرُ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ ، وَثَلاَثَةُ أَيَّامٍ بَعْدَهُ وَتُسَمَّى " أَيَّامَ التَّشْرِيقِ "
الرَّمْيُ يَوْمَ النَّحْرِ :
__________
(1) - انظر أحكام الوقوف بالمزدلفة في : الهداية وفتح القدير 2 / 168 - 173 والمسلك المتقسط ص 143 - 148 ، ورد المحتار 2 / 241 - 245 ، وشرح الرسالة مع حاشية العدوي 1 / 475 - 477 ، والشرح الكبير بحاشيته 2 / 44 - 45 ، وشرح المنهاج 2 / 116 ، ونهاية المحتاج 2 / 424 - 426 ، ومغني المحتاج 1 / 498 و 499 - 500 ، والمغني 3 / 417 - 424 ، والفروع 3 / 510 .
(2) -بدائع الصنائع 2 / 139 .(2/1)
وَاجِبُ الرَّمْيِ فِي هَذَا الْيَوْمِ هُوَ رَمْيُ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ وَحْدَهَا فَقَطْ ، يَرْمِيهَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ .
وَوَقْتُ الرَّمْيِ هَذَا يَبْدَأُ مِنْ طُلُوعِ فَجْرِ يَوْمِ النَّحْرِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ . وَمِنْ مُنْتَصَفِ لَيْلَةِ يَوْمِ النَّحْرِ لِمَنْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ قَبْلَهُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ . وَآخِرُ وَقْتِ الرَّمْيِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى فَجْرِ الْيَوْمِ التَّالِي ، وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى الْمَغْرِبِ . حَتَّى يَجِبُ الدَّمُ فِي الْمَذْهَبَيْنِ بِتَأْخِيرِ رَمْيِ يَوْمٍ عَنِ الْوَقْتِ الْمَذْكُورِ .
وَآخِرُ وَقْتِ الرَّمْيِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ . يَمْتَدُّ إِلَى آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ .
الرَّمْيُ فِي الْيَوْمِ الأَْوَّل وَالثَّانِي مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ :
يَجِبُ فِي هَذَيْنِ الْيَوْمَيْنِ رَمْيُ الْجِمَارِ الثَّلاَثِ عَلَى التَّرْتِيبِ : أَوَّلاً الْجَمْرَةُ الصُّغْرَى ، الَّتِي تَلِي مَسْجِدَ الْخَيْفِ بِمِنًى ، ثُمَّ الْوُسْطَى ، بَعْدَهَا ، ثُمَّ جَمْرَةُ الْعَقَبَةِ ، يَرْمِي كُل جَمْرَةٍ مِنْهَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ
وَيَبْدَأُ وَقْتُ الرَّمْيِ فِي هَذَيْنِ الْيَوْمَيْنِ بَعْدَ الزَّوَال ، وَلاَ يَجُوزُ قَبْلَهُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ ، وَهِيَ الرِّوَايَةُ الظَّاهِرَةُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ : " إِنْ كَانَ مِنْ قَصْدِهِ أَنْ يَتَعَجَّل فِي النَّفْرِ الأَْوَّل فَلاَ بَأْسَ أَنْ يَرْمِيَ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ قَبْل الزَّوَال ، وَإِنْ رَمَى بَعْدَهُ فَهُوَ أَفْضَل ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِنْ قَصْدِهِ لاَ(2/2)
يَجُوزُ أَنْ يَرْمِيَ إِلاَّ بَعْدَ الزَّوَال ، وَذَلِكَ لِدَفْعِ الْحَرَجِ ، لأَِنَّهُ إِذَا نَفَرَ بَعْدَ الزَّوَال لاَ يَصِل إِلَى مَكَّةَ إِلاَّ بِاللَّيْل ، فَيُحْرِجُ فِي تَحْصِيل مَوْضِعِ النُّزُول .
أَمَّا الْوَقْتُ الْمَسْنُونُ فَيَمْتَدُّ مِنْ زَوَال الشَّمْسِ إِلَى غُرُوبِهَا .
وَأَمَّا نِهَايَةُ وَقْتِ الرَّمْيِ : فَقَيَّدَهُ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي كُل يَوْمٍ بِيَوْمِهِ ، كَمَا فِي يَوْمِ النَّحْرِ .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ آخِرَ الْوَقْتِ بِغُرُوبِ شَمْسِ الْيَوْمِ الرَّابِعِ مِنْ أَيَّامِ النَّحْرِ ، وَهُوَ آخِرُ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ .
النَّفْرُ الأَْوَّل :
إِذَا رَمَى الْحَاجُّ الْجِمَارَ ثَانِيَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَنْفِرَ - أَيْ يَرْحَل - إِلَى مَكَّةَ ، إِنْ أَحَبَّ التَّعَجُّل فِي الاِنْصِرَافِ مِنْ مِنًى ، وَيُسَمَّى هَذَا الْيَوْمُ يَوْمَ النَّفْرِ الأَْوَّل ، وَبِهِ يَسْقُطُ رَمْيُ الْيَوْمِ الثَّالِثِ مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ اتِّفَاقًا .
وَمَذْهَبُ الأَْئِمَّةِ الثَّلاَثَةِ : لَهُ أَنْ يَنْفِرَ قَبْل غُرُوبِ الشَّمْسِ ، وَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ : لَهُ أَنْ يَنْفِرَ مَا لَمْ يَطْلُعِ الْفَجْرُ مِنَ الْيَوْمِ الرَّابِعِ مِنْ أَيَّامِ النَّحْرِ .
الرَّمْيُ ثَالِثَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ :
يَجِبُ رَمْيُ الْجِمَارِ الثَّلاَثِ فِي هَذَا الْيَوْمِ عَلَى مَنْ تَأَخَّرَ وَلَمْ يَنْفِرْ مِنْ مِنًى " النَّفَرَ الأَْوَّل " وَوَقْتُهُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ بَعْدَ الزَّوَال ، وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ : يَجُوزُ أَنْ يُقَدِّمَ الرَّمْيَ فِي هَذَا الْيَوْمِ قَبْل الزَّوَال بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ .(2/3)
وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ آخِرَ وَقْتِ الرَّمْيِ فِي هَذَا الْيَوْمِ غُرُوبُ الشَّمْسِ ، وَأَنَّ وَقْتَ الرَّمْيِ لِهَذَا الْيَوْمِ وَلِقَضَاءِ مَا قَبْلَهُ يَنْتَهِي أَيْضًا بِغُرُوبِ شَمْسِ الْيَوْمِ الرَّابِعِ ، لِخُرُوجِ وَقْتِ الْمَنَاسِكِ بِغُرُوبِ شَمْسِهِ .
النَّفْرُ الثَّانِي :
إِذَا رَمَى الْحَاجُّ الْجِمَارَ الثَّلاَثَ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ وَهُوَ رَابِعُ أَيَّامِ النَّحْرِ انْصَرَفَ مِنْ مِنًى إِلَى مَكَّةَ ، وَلاَ يُسَنُّ لَهُ أَنْ يُقِيمَ بِمِنًى ، بَعْدَ الرَّمْيِ ، وَيُسَمَّى يَوْمَ النَّفْرِ الثَّانِي ، وَبِهِ تَنْتَهِي مَنَاسِكُ مِنًى(1).
النِّيَابَةُ فِي الرَّمْيِ : ( الرَّمْيُ عَنِ الْغَيْرِ ) :
الْمَعْذُورُ الَّذِي لاَ يَسْتَطِيعُ الرَّمْيَ بِنَفْسِهِ كَالْمَرِيضِ يَجِبُ أَنْ يَسْتَنِيبَ مَنْ يَرْمِي عَنْهُ ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ النَّائِبُ قَدْ رَمَى عَنْ نَفْسِهِ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ رَمَى عَنْ نَفْسِهِ فَلْيَرْمِ عَنْ نَفْسِهِ الرَّمْيَ كُلَّهُ لِيَوْمِهِ أَوَّلاً ، ثُمَّ لِيَرْمِ عَمَّنِ اسْتَنَابَهُ ، وَيُجْزِئُ هَذَا الرَّمْيُ عَنِ الأَْصِيل عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ . إِلاَّ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ قَالُوا : لَوْ رَمَى حَصَاةً لِنَفْسِهِ وَأُخْرَى لِلآْخَرِ جَازَ وَلَكُرِهَ .
__________
(1) - انظر بحث الرمي في الهداية وفتح القدير 2 / 176 و 184 - 185 ، والمسلك المتقسط ص 157 - 168 ، وشرح الرسالة وحاشية العدوي 1 / 477 و 481 و 482 ، والشرح الكبير وحاشيته 2 / 45 - 48 ، وشرح المنهاج 2 / 121 - 122 ، ونهاية المحتاج 2 / 430 و 434 - 436 ، والمغني 3 / 429 - 430 و 452 - 455 ، والفروع 3 / 210 - 212 و 518 - 520 ، وانظر ما يأتي في الإخلال بأحكام الحج من تفصيل جزاء ترك الرمي أو شيء منه .(2/4)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ : إِنَّ الإِْنَابَةَ خَاصَّةٌ بِمَرِيضٍ لاَ يُرْجَى شِفَاؤُهُ قَبْل انْتِهَاءِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ قَوْلٌ : إِنَّهُ يَرْمِي حَصَيَاتِ الْجَمْرَةِ عَنْ نَفْسِهِ أَوَّلاً ، ثُمَّ يَرْمِيهَا عَنْ نَائِبِهِ إِلَى أَنْ يَنْتَهِيَ مِنَ الرَّمْيِ . وَهُوَ مَخْلَصٌ حَسَنٌ لِمَنْ خَشِيَ خَطَرَ الزِّحَامِ .
وَمَنْ عَجَزَ عَنْ الاِسْتِنَابَةِ كَالصَّبِيِّ ، وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ ، فَيَرْمِي عَنِ الصَّبِيِّ وَلِيُّهُ ، وَعَنِ الْمُغْمَى عَلَيْهِ رِفَاقُهُ ، وَلاَ فِدْيَةَ عَلَيْهِ ، وَإِنْ لَمْ يَرْمِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ : فَائِدَةُ الاِسْتِنَابَةِ أَنْ يَسْقُطَ الإِْثْمُ عَنْهُ إِنِ اسْتَنَابَ وَقْتَ الأَْدَاءِ .
" وَإِلاَّ فَالدَّمُ عَلَيْهِ اسْتَنَابَ أَمْ لاَ ، وَإِنَّمَا وَجَبَ عَلَيْهِ الدَّمُ دُونَ الصَّغِيرِ وَمَنْ أُلْحِقَ بِهِ(1)لأَِنَّهُ الْمُخَاطَبُ بِسَائِرِ الأَْرْكَانِ "(2)
3- الْحَلْقُ وَالتَّقْصِيرُ :
اتَّفَقَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ حَلْقَ شَعْرِ الرَّأْسِ أَوْ تَقْصِيرِهِ وَاجِبٌ مِنْ وَاجِبَاتِ الْحَجِّ ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ .
__________
(1) - كالمغمى عليه .
(2) - المبسوط 4 / 69 ، والبدائع 2 / 132 ، وحاشية شلبي على شرح الكنز 2 / 34 ، والمسلك المتسقط / 232 - 133 ، والفتاوى الهندية 1 / 221 ، والزرقاني المالكي وحاشية البناني عليه 3 / 282 ، والمجموع 8 / 184 - 186 وشرح المنهاج مع حاشية القليوبي 2 / 122 - 123 ، ونهاية المحتاج 2 / 435 ، ومغني المحتاج 1 / 508 ، والمغني في فقه الحنابلة 3 / 491 .(2/5)
وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ وَهُوَ الرَّاجِحُ فِي الْمَذْهَبِ إِلَى أَنَّهُ رُكْنٌ فِي الْحَجِّ . وَاخْتَلَفُوا فِي الْقَدْرِ الْوَاجِبِ حَلْقُهُ أَوْ تَقْصِيرُهُ .
فَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ الْوَاجِبُ حَلْقُ جَمِيعِ الرَّأْسِ أَوْ تَقْصِيرُهُ ، وَقَال الْحَنَفِيَّةُ : يَكْفِي مِقْدَارُ رُبُعِ الرَّأْسِ ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ : يَكْفِي إِزَالَةُ ثَلاَثِ شَعَرَاتٍ أَوْ تَقْصِيرُهَا .
وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الْحَلْقَ أَوِ التَّقْصِيرَ لاَ يَخْتَصُّ بِزَمَانٍ وَلاَ مَكَانٍ ، لَكِنَّ السُّنَّةَ فِعْلُهُ فِي الْحَرَمِ أَيَّامَ النَّحْرِ .
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّ الْحَلْقَ يَخْتَصُّ بِأَيَّامِ النَّحْرِ ، وَبِمِنْطَقَةِ الْحَرَمِ ، فَلَوْ أَخَل بِأَيٍّ مِنْ هَذَيْنِ لَزِمَهُ الدَّمُ ، وَيَحْصُل لَهُ التَّحَلُّل بِهَذَا الْحَلْقِ(1).
4- الْمَبِيتُ بِمِنًى لَيَالِيَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ :
مِنًى : بِالْكَسْرِ وَالتَّنْوِينِ شُعَيْبٌ بَيْنَ جِبَالٍ ، طُولُهُ مِيلاَنِ وَعَرْضُهُ يَسِيرٌ(2).
__________
(1) - انظر بحث الحلق في الهداية وفتح القدير 2 / 178 - 179 و 252 - 253 والمسلك المتقسط ص 151 - 154 ، وشرح الرسالة بحاشية العدوي 1 / 478 - 479 ، والشرح الكبير وحاشيته 2 / 460 ، والمغني 3 / 435 - 442 ، والفروع 3 / 513 - 516 .
(2) - انظر تفصيل حدود منى وتحقيق الخلاف فيها في مصطلح : ( منى ) .(2/6)
وَالْمَبِيتُ بِهَا لَيَالِيَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ وَاجِبٌ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ ، يَلْزَمُ الدَّمُ لِمَنْ تَرَكَهُ بِغَيْرِ عُذْرٍ ،وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمَبِيتَ بِهَا سُنَّةٌ ، وَالْقَدْرُ الْوَاجِبُ لِلْمَبِيتِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ هُوَ مُكْثُ أَكْثَرِ اللَّيْل(1).
5- طَوَافُ الْوَدَاعِ :
طَوَافُ الْوَدَاعِ يُسَمَّى طَوَافَ الصَّدَرِ ، وَطَوَافَ آخِرِ الْعَهْدِ :
وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَهُوَ الأَْظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّ طَوَافَ الْوَدَاعِ وَاجِبٌ ، وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ سُنَّةٌ(2).
اسْتَدَل الْجُمْهُورُ عَلَى وُجُوبِهِ بِأَمْرِهِ - صلى الله عليه وسلم - كَمَا رويَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضى الله عنهما - قَالَ أُمِرَ النَّاسُ أَنْ يَكُونَ آخِرُ عَهْدِهِمْ بِالْبَيْتِ ، إِلاَّ أَنَّهُ خُفِّفَ عَنِ الْحَائِضِ(3).وَاسْتَدَل الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ سُنَّةٌ ، بِأَنَّهُ جَازَ لِلْحَائِضِ تَرْكُهُ دُونَ فِدَاءٍ ، وَلَوْ وَجَبَ لَمْ يَجُزْ لِلْحَائِضِ تَرْكُهُ(4).
شُرُوطُ وُجُوبِهِ :
__________
(1) - الهداية وشرحها 2 / 186 ، والمسلك المتقسط ص 22 ، 157 ، وشرح المنهاج 2 / 124 ، ومغني المحتاج 1 / 505 و 513 ، وشرح الرسالة بحاشية العدوي 1 / 480 ، والشرح الكبير بحاشيته 2 / 48 - 49 ، والمغني 3 / 449 ، والفروع 3 / 518 - 519 و 527 .
(2) - لكنه عند الشافعية والمالكية واجب لا يختص بالحج بل هو لكل من فارق مكة .
(3) -صحيح البخارى برقم (1755 ) ومسلم برقم (3284 )
(4) - قارن بفتح القدير 2 / 188 ، قال في شرح الرسالة 1 / 482 " مستحب " وفي آخر الكتاب قال : " سنة " ، وانظر المغني 3 / 458 ، وقارن البدائع 2 / 42 .(2/7)
أَنْ يَكُونَ الْحَاجُّ مِنْ أَهْل الآْفَاقِ ، عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ ، فَلاَ يَجِبُ عَلَى الْمَكِّيِّ ، لأَِنَّ الطَّوَافَ وَجَبَ تَوْدِيعًا لِلْبَيْتِ ، وَهَذَا الْمَعْنَى لاَ يُوجَدُ فِي أَهْل مَكَّةَ لأَِنَّهُمْ فِي وَطَنِهِمْ وَأَلْحَقَ الْحَنَفِيَّةُ مَنْ كَانَ مِنْ مِنْطَقَةِ الْمَوَاقِيتِ ، لأَِنَّ حُكْمَهُمْ حُكْمُ أَهْل مَكَّةَ .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ : لاَ يَسْقُطُ إِلاَّ عَمَّنْ كَانَ مَنْزِلُهُ فِي الْحَرَمِ فَقَطْ .
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ يُطْلَبُ طَوَافُ الْوَدَاعِ فِي حَقِّ كُل مَنْ قَصَدَ السَّفَرَ مِنْ مَكَّةَ ، وَلَوْ كَانَ مَكِّيًّا إِذَا قَصَدَ سَفَرًا تُقْصَرُ فِيهِ الصَّلاَةُ . وَوَصَفَهُ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهُ سَفَرٌ بَعِيدٌ كَالْجُحْفَةِ لاَ قَرِيبًا كَالتَّنْعِيمِ إِذَا خَرَجَ لِلسَّفَرِ لاَ لِيُقِيمَ بِمَوْضِعٍ آخَرَ أَوْ بِمَسْكَنِهِ ، فَإِنْ خَرَجَ لِيُقِيمَ بِمَوْضِعٍ آخَرَ أَوْ بِمَسْكَنِهِ طُلِبَ مِنْهُ ، وَلَوْ كَانَ الْمَوْضِعُ الَّذِي خَرَجَ إِلَيْهِ قَرِيبًا .
الطَّهَارَةُ مِنَ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ : فَلاَ يَجِبُ عَلَى الْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ ، وَلاَ يُسَنُّ أَيْضًا حَتَّى إِنَّهُمَا لاَ يَجِبُ عَلَيْهِمَا دَمٌ بِتَرْكِهِ ، لِمَا سَبَقَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ : إِلاَّ أَنَّهُ خُفِّفَ عَنِ الْحَائِضِ وَكَذَا حَدِيثُ عَائِشَةَ فِي قِصَّةِ صَفِيَّةَ لَمَّا حَاضَتْ فَقَدْ سَافَرَ بِهَا النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - دُونَ أَنْ تَطُوفَ لِلْوَدَاعِ .
فَأَمَّا الطَّهَارَةُ مِنَ الْجَنَابَةِ فَلَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِوُجُوبِ طَوَافِ الْوَدَاعِ ، فَيَكُونُ وَاجِبًا عَلَى الْمُحْدِثِ وَالْجُنُبِ ، لأَِنَّهُ يُمْكِنُهُمَا إِزَالَةُ الْحَدَثِ وَالْجَنَابَةِ فِي الْحَال بِالْغُسْل أَوِ التَّيَمُّمِ(2/8)
وَإِذَا طَهُرَتِ الْحَائِضُ قَبْل أَنْ تُفَارِقَ بُنْيَانَ مَكَّةَ يَلْزَمُهَا طَوَافُ الصَّدَرِ ، وَإِنْ جَاوَزَتْ جُدْرَانَ مَكَّةَ ثُمَّ طَهُرَتْ لَمْ يَلْزَمْهَا طَوَافُ الصَّدَرِ ، اتِّفَاقًا بَيْنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ . لأَِنَّهَا حِينَ خَرَجَتْ مِنَ الْعُمْرَانِ صَارَتْ مُسَافِرَةً ، بِدَلِيل جَوَازِ الْقَصْرِ ، فَلاَ يَلْزَمُهَا الْعَوْدُ وَلاَ الدَّمُ(1).
أَنْ يَكُونَ قَدْ أَدَّى مَنَاسِكَ الْحَجِّ مُفْرِدًا أَوْ مُتَمَتِّعًا أَوْ قَارِنًا . فَلاَ يَجِبُ عَلَى الْمُعْتَمِرِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَحْدَهُمْ ، وَلَوْ كَانَ آفَاقِيًّا ، وَكَأَنَّهُمْ نَظَرُوا إِلَى الْمَقْصُودِ ، وَهُوَ خَتْمُ أَعْمَال الْحَجِّ ، فَلاَ يُطْلَبُ مِنَ الْمُعْتَمِرِ .
شُرُوطُ صِحَّتِهِ :
يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ طَوَافِ الْوَدَاعِ مَا يَأْتِي :
أ - أَصْل نِيَّةِ الطَّوَافِ لاَ التَّعْيِينُ .
ب - أَنْ يَكُونَ مَسْبُوقًا بِطَوَافِ الزِّيَارَةِ .
ج - الْوَقْتُ :
وَوَقْتُ طَوَافِ الْوَدَاعِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يَمْتَدُّ عَقِبَ طَوَافِ الزِّيَارَةِ لَوْ تَأَخَّرَ سَفَرُهُ ، وَكُل طَوَافٍ يَفْعَلُهُ الْحَاجُّ بَعْدَ طَوَافِ الزِّيَارَةِ يَقَعُ عَنْ طَوَافِ الصَّدَرِ .
__________
(1) - العناية 2 / 224 ، وانظر المبسوط 4 / 179 .(2/9)
أَمَّا السَّفَرُ فَوْرَ الطَّوَافِ فَلَيْسَ مِنْ شَرَائِطِ جَوَازِهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ ، حَتَّى لَوْ كَانَ لِلصَّدَرِ ، ثُمَّ تَشَاغَل بِمَكَّةَ بَعْدَهُ حَتَّى وَلَوْ أَقَامَ أَيَّامًا كَثِيرَةً ، لاَ يَجِبُ عَلَيْهِ طَوَافٌ آخَرُ ، لأَِنَّ الْمُرَادَ أَنْ يَكُونَ آخِرُ عَهْدِهِ بِالْبَيْتِ نُسُكًا ، لاَ إِقَامَةً ، وَالطَّوَافُ آخِرُ مَنَاسِكِهِ بِالْبَيْتِ ، إِلاَّ أَنَّ الْمُسْتَحَبَّ أَنْ يُؤَخِّرَ طَوَافَ الصَّدَرِ إِلَى الْوَقْتِ الَّذِي يُرِيدُ أَنْ يُسَافِرَ . فِيهِ .
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَقْتُهُ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْ جَمِيعِ أُمُورِهِ ، وَعَزْمِهِ عَلَى السَّفَرِ ، وَيُغْتَفَرُ لَهُ أَنْ يَشْتَغِل بَعْدَهُ بِأَسْبَابِ السَّفَرِ ، كَشِرَاءِ الزَّادِ ، وَحَمْل الأَْمْتِعَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَلاَ يُعِيدُهُ ، لَكِنْ إِنْ مَكَثَ بَعْدَهُ مُشْتَغِلاً بِأَمْرٍ آخَرَ غَيْرِ أَسْبَابِ السَّفَرِ كَشِرَاءِ مَتَاعٍ ، أَوْ زِيَارَةِ صِدِّيقٍ ، أَوْ عِيَادَةِ مَرِيضٍ احْتَاجَ إِلَى إِعَادَةِ الطَّوَافِ .
- - - - - - - - - - - - - - -
وَاجِبَاتُ الْحَجِّ التَّابِعَةُ لِغَيْرِهَا :
وَاجِبَاتُ الْحَجِّ التَّابِعَةُ لِغَيْرِهَا هِيَ أُمُورٌ يَجِبُ أَدَاؤُهَا فِي ضِمْنِ رُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِ الْحَجِّ ، أَوْ ضِمْنِ وَاجِبٍ أَصْلِيٍّ مِنْ وَاجِبَاتِهِ .
وَتَجِدُ دِرَاسَتَهَا فِي الْمُصْطَلَحَاتِ الَّتِي تَخُصُّ أَرْكَانَ الْحَجِّ أَوْ وَاجِبَاتِهِ ، سِوَى تَرْتِيبِ أَعْمَال يَوْمِ النَّحْرِ ، فَنَدْرُسُهُ هُنَا ، وَنُشِيرُ إِلَى مَا سِوَاهُ إِشَارَةً سَرِيعَةً .
أَوَّلاً : وَاجِبَاتُ الإِْحْرَامِ :
أ - كَوْنُ الإِْحْرَامِ مِنَ الْمِيقَاتِ الْمَكَانِيِّ ، لاَ بَعْدَهُ(2/10)
ب - التَّلْبِيَةُ وَهِيَ وَاجِبَةٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَيُسَنُّ قَرْنُهَا بِالإِْحْرَامِ ، وَشَرْطٌ فِي الإِْحْرَامِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ ، وَسُنَّةٌ عِنْدَ الْجُمْهُور.
ج - اجْتِنَابُ مَحْظُورَاتِ الإِْحْرَامِ.
ثَانِيًا : وَاجِبَاتُ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ :
هِيَ امْتِدَادُ الْوُقُوفِ إِلَى مَا بَعْدَ الْمَغْرِبِ عَلَى تَفْصِيل الْمَذَاهِبِ ، سِوَى الشَّافِعِيَّةِ فَإِنَّهُ سُنَّةٌ عِنْدَهُمْ . وَقَال الْمَالِكِيَّةُ : الْوُقُوفُ بَعْدَ الْمَغْرِبِ هُوَ الرُّكْنُ ، وَقَبْلَهُ وَاجِبٌ .
ثَالِثًا : وَاجِبَاتُ الطَّوَافِ :
أ - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الأَْشْوَاطَ الثَّلاَثَ الأَْخِيرَةَ مِنَ الطَّوَافِ وَاجِبَةٌ .
وَهِيَ عِنْدَ الْجُمْهُورِ رُكْنٌ فِي الطَّوَافِ
ب - أَوْجَبَ الْحَنَفِيَّةُ الأُْمُورَ التَّالِيَةَ فِي الطَّوَافِ ،
وَقَال الْجُمْهُورُ هِيَ مِنْ شُرُوطِ صِحَّتِهِ . وَهَذِهِ الأُْمُورُ هِيَ :
1 - الطَّهَارَةُ مِنَ الأَْحْدَاثِ وَالأَْنْجَاسِ .
2 - سَتْرُ الْعَوْرَةِ .
3 - ابْتِدَاءُ الطَّوَافِ مِنَ الْحَجَرِ .
4 - التَّيَامُنُ ، أَيْ كَوْنُ الطَّائِفِ عَنْ يَمِينِ الْبَيْتِ .
5 - دُخُول الْحِجْرِ ( أَيِ الْحَطِيمِ ) فِي ضِمْنِ الطَّوَافِ .
ج - أَوْجَبَ الْحَنَفِيَّةُ الأُْمُورَ التَّالِيَةَ فِي الطَّوَافِ وَهِيَ سُنَّةٌ عِنْدَ غَيْرِهِمْ :
1 - الْمَشْيُ لِلْقَادِرِ عَلَيْهِ .
2 - رَكْعَتَا الطَّوَافِ .
3 - إِيقَاعُ طَوَافِ الرُّكْنِ فِي أَيَّامِ النَّحْرِ .
رَابِعًا : وَاجِبَاتُ السَّعْيِ :
أ - الْمَشْيُ لِلْقَادِرِ عَلَيْهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ . وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ سُنَّةٌ .
ب - إِكْمَال أَشْوَاطِ السَّعْيِ إِلَى سَبْعَةٍ بَعْدَ الأَْرْبَعَةِ الأُْولَى عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ ، وَكُلُّهَا رُكْنٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ .(2/11)
خَامِسًا : وَاجِبُ الْوُقُوفِ بِالْمُزْدَلِفَةِ :
أَوْجَبَ الْحَنَفِيَّةُ جَمْعَ صَلاَتَيِ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ تَأْخِيرًا فِي الْمُزْدَلِفَةِ ، وَهُوَ سُنَّةٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ .
سَادِسًا : وَاجِبَاتُ الرَّمْيِ :
يَجِبُ عَدَمُ تَأْخِيرِ رَمْيِ يَوْمٍ لِتَالِيهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ ، وَإِلَى الْمَغْرِبِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ .
سَابِعًا : وَاجِبَاتُ ذَبْحِ الْهَدْيِ :
أ - أَنْ يَكُونَ الذَّبْحُ فِي أَيَّامِ النَّحْرِ .
ب - أَنْ يَكُونَ فِي الْحَرَمِ .
ثَامِنًا : وَاجِبَاتُ الْحَلْقِ وَالتَّقْصِيرِ :
أ - كَوْنُ الْحَلْقِ فِي أَيَّامِ النَّحْرِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ .
ب - كَوْنُ الْحَلْقِ فِي الْحَرَمِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فَقَطْ .
تَاسِعًا : تَرْتِيبُ أَعْمَال يَوْمِ النَّحْرِ :
يَفْعَل الْحَاجُّ بِمِنًى يَوْمَ النَّحْرِ ثَلاَثَةَ أَعْمَالٍ عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ :
رَمْيَ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ ، ثُمَّ ذَبْحَ الْهَدْيِ إِنْ كَانَ قَارِنًا أَوْ مُتَمَتِّعًا ثُمَّ الْحَلْقَ أَوِ التَّقْصِيرَ
ثُمَّ يَذْهَبُ إِلَى مَكَّةَ فَيَطُوفُ طَوَافَ الزِّيَارَةِ .
وَالأَْصْل فِي هَذَا التَّرْتِيبِ هُوَ فِعْلُهُ - صلى الله عليه وسلم - : عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : أَنَّ رَسُول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ يَوْمَ النَّحْرِ ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى مَنْزِلِهِ بِمِنًى ، فَدَعَا بِذِبْحٍ فَذُبِحَ ، ثُمَّ دَعَا بِالْحَلاَّقِ فَأَخَذَ بِشِقِّ رَأْسِهِ الأَْيْمَنِ ، فَجَعَل يَقْسِمُ بَيْنَ مَنْ يَلِيهِ الشَّعْرَةَ وَالشَّعْرَتَيْنِ ، ثُمَّ أَخَذَ بِشِقِّ رَأْسِهِ الأَْيْسَرِ فَحَلَقَهُ.(1)
__________
(1) - السنن الكبرى للبيهقي (ج 2 / ص 427)(4403) وصحيح مسلم (3212و3213 )(2/12)
وعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ خَرَجْنَا مَعَ عَبْدِ اللَّهِ - رضى الله عنه - إِلَى مَكَّةَ ، ثُمَّ قَدِمْنَا جَمْعًا ، فَصَلَّى الصَّلاَتَيْنِ ، كُلَّ صَلاَةٍ وَحْدَهَا بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ ، وَالْعَشَاءُ بَيْنَهُمَا ، ثُمَّ صَلَّى الْفَجْرَ حِينَ طَلَعَ الْفَجْرُ ، قَائِلٌ يَقُولُ طَلَعَ الْفَجْرُ . وَقَائِلٌ يَقُولُ لَمْ يَطْلُعِ الْفَجْرُ . ثُمَّ قَالَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « إِنَّ هَاتَيْنِ الصَّلاَتَيْنِ حُوِّلَتَا عَنْ وَقْتِهِمَا فِى هَذَا الْمَكَانِ الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ ، فَلاَ يَقْدَمُ النَّاسُ جَمْعًا حَتَّى يُعْتِمُوا ، وَصَلاَةَ الْفَجْرِ هَذِهِ السَّاعَةَ » . ثُمَّ وَقَفَ حَتَّى أَسْفَرَ ، ثُمَّ قَالَ لَوْ أَنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَفَاضَ الآنَ أَصَابَ السُّنَّةَ . فَمَا أَدْرِى أَقَوْلُهُ كَانَ أَسْرَعَ أَمْ دَفْعُ عُثْمَانَ - رضى الله عنه - فَلَمْ يَزَلْ يُلَبِّى حَتَّى رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ يَوْمَ النَّحْرِ(1)..
وعَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ قَالَ رَدِفْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مِنْ عَرَفَاتٍ فَلَمَّا بَلَغَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- الشِّعْبَ الأَيْسَرَ الَّذِى دُونَ الْمُزْدَلِفَةِ أَنَاخَ فَبَالَ ثُمَّ جَاءَ فَصَبَبْتُ عَلَيْهِ الْوَضُوءَ فَتَوَضَّأَ وُضُوءًا خَفِيفًا ثُمَّ قُلْتُ الصَّلاَةَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَقَالَ « الصَّلاَةُ أَمَامَكَ ». فَرَكِبَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- حَتَّى أَتَى الْمُزْدَلِفَةَ فَصَلَّى ثُمَّ رَدِفَ الْفَضْلُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- غَدَاةَ جَمْعٍ.(2)
حُكْمُ هَذَا التَّرْتِيبِ :
__________
(1) - صحيح البخارى برقم (1683 )
(2) - صحيح مسلم برقم (3146 )(2/13)
مَعَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ هَذَا التَّرْتِيبِ فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِيهِ :
وَالسَّبَبُ فِي هَذَا الاِخْتِلاَفِ هُوَ وُرُودُ حَدِيثٍ آخَرَ يَدُل عَلَى أَنَّ التَّرْتِيبَ سُنَّةٌ ، لاَ فِدَاءَ عَلَى مَنْ تَرَكَهُ
ذَلِكَ هُوَ حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَقَفَ فِى حَجَّةِ الْوَدَاعِ بِمِنًى لِلنَّاسِ يَسْأَلُونَهُ ، فَجَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ لَمْ أَشْعُرْ فَحَلَقْتُ قَبْلَ أَنْ أَذْبَحَ . فَقَالَ " اذْبَحْ وَلاَ حَرَجَ " . فَجَاءَ آخَرُ فَقَالَ لَمْ أَشْعُرْ ، فَنَحَرْتُ قَبْلَ أَنْ أَرْمِىَ . قَالَ " ارْمِ وَلاَ حَرَجَ " . فَمَا سُئِلَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ شَىْءٍ قُدِّمَ وَلاَ أُخِّرَ إِلاَّ قَالَ افْعَلْ وَلاَ حَرَجَ ..(1)
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ إِلَى وُجُوبِ تَرْتِيبِ أَعْمَال يَوْمِ النَّحْرِ عَلَى تَفْصِيلٍ فِيهِ ، أَخَذَ كُلٌّ مِنْهُمْ بِهِ لِلتَّوْفِيقِ بَيْنَ الأَْدِلَّةِ .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَالصَّاحِبَانِ وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ إِلَى أَنَّ التَّرْتِيبَ سُنَّةٌ ، وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو الأَْخِيرِ ، فَإِنَّ قَوْلَهُ : فَمَا سُئِل يَوْمئِذٍ . . يَدُل بِعُمُومِهِ عَلَى سُنِّيَّةِ التَّرْتِيبِ .
أَمَّا الأَْوَّلُونَ فَاسْتَدَلُّوا بِفِعْل النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَإِنَّهُ يَدُل عَلَى الْوُجُوبِ ، ثُمَّ ذَهَبُوا مَذَاهِبَ فِي كَيْفِيَّةِ التَّرْتِيبِ :
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى وُجُوبِ التَّرْتِيبِ بَيْنَ أَعْمَال مِنًى حَسَبَ الْوَارِدِ ، أَمَّا التَّرْتِيبُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ طَوَافِ الإِْفَاضَةِ فَسُنَّةٌ .
وَاسْتَدَلُّوا بِأَدِلَّةٍ مِنْهَا :
__________
(1) - صحيح البخارى برقم (83 )(2/14)
مُرَاعَاةُ اتِّبَاعِ فِعْل النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ أَنَسٍ ، وقَوْله تَعَالَى : { لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَْنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ } (سورة الحج / 29 - 30) .
وَجْهُ الاِسْتِدْلاَل أَنَّهُ أَمَرَ بِقَضَاءِ التَّفَثِ وَهُوَ الْحَلْقُ مُرَتَّبًا عَلَى الذَّبْحِ ، فَدَل عَلَى وُجُوبِ التَّرْتِيبِ .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ : الْوَاجِبُ فِي التَّرْتِيبِ : تَقْدِيمُ الرَّمْيِ عَلَى الْحَلْقِ وَعَلَى طَوَافِ الإِْفَاضَةِ ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ التَّرْتِيبِ لاَ يَجِبُ ، بَل هُوَ سُنَّةٌ .
اسْتَدَلُّوا عَلَى وُجُوبِ تَقْدِيمِ الرَّمْيِ عَلَى الْحَلْقِ بِأَنَّهُ بِالإِْجْمَاعِ مَمْنُوعٌ مِنْ حَلْقِ شَعْرِهِ قَبْل التَّحَلُّل الأَْوَّل ، وَلاَ يَحْصُل التَّحَلُّل الأَْوَّل إِلاَّ بِرَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ .
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى عَدَمِ وُجُوبِ تَقْدِيمِ الذَّبْحِ عَلَى الْحَلْقِ بِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو السَّابِقِ ، أَخْذًا بِالتَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ فِي الْحَدِيثِ ، وَفَسَّرُوا فَمَا سُئِل عَنْ شَيْءٍ قُدِّمَ وَلاَ أُخِّرَ . . . بِأَنَّ الْمُرَادَ مِمَّا ذُكِرَ فِي صَدْرِ الْحَدِيثِ لِتَقْدِيمِهِ وَتَأْخِيرِهِ .(2/15)
وَأَخَذَ الإِْمَامُ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ الْوُجُوبِ عَنْهُ بِلَفْظِ " لَمْ أَشْعُرْ " فَقَال : يَجِبُ التَّرْتِيبُ عَلَى الْعَالِمِ بِهِ الذَّاكِرِ لَهُ ، أَمَّا الْجَاهِل وَالنَّاسِي فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ ، وَقَيَّدُوا شَطْرَ الْحَدِيثِ الأَْخِيرِ " فَمَا سُئِل . . . " لِهَذَا الْمَعْنَى ، أَيْ قَال : لاَ حَرَجَ فِيمَا قُدِّمَ وَأُخِّرَ ، مِنْ غَيْرِ شُعُورٍ .
وَالْحَاصِل كَمَا قَال ابْنُ قُدَامَةَ : لاَ نَعْلَمُ خِلاَفًا بَيْنَهُمْ فِي أَنَّ مُخَالَفَةَ التَّرْتِيبِ لاَ تُخْرِجُ هَذِهِ الأَْفْعَال عَنِ الإِْجْزَاءِ ، وَلاَ يَمْنَعُ وُقُوعَهَا مَوْقِعَهَا ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِ الدَّمِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا(1)" .
التَّحَلُّل مِنْ إِحْرَامِ الْحَجِّ :
يَحْصُل التَّحَلُّل بِأَدَاءِ أَرْكَانِ الْحَجِّ وَوَاجِبَاتُهُ رَمْيُ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ ، وَالْحَلْقُ ، وَالتَّحَلُّل مِنْ إِحْرَامِ الْحَجِّ . وَهَذَا التَّحَلُّل قِسْمَانِ : التَّحَلُّل الأَْوَّل أَوِ الأَْصْغَرُ ، وَالتَّحَلُّل الثَّانِي أَوِ الأَْكْبَرُ .
- - - - - - - - - - - - -
سُنَنُ الْحَجِّ وَمُسْتَحَبَّاتُهُ وَمَمْنُوعَاتُهُ وَمُبَاحَاتُهُ
الأَْوَّل
سُنَنُ الْحَجِّ
__________
(1) - المغني 3 / 448 ، وانظر مسألة ترتيب أعمال يوم النحر في الهداية ، وفتح القدير 2 / 177 ، وبدائع الصنائع 2 / 158 - 159 ، وشرح الرسالة بحاشية العدوي 1 / 479 ، والشرح الكبير 2 / 47 - 48 ، والمهذب مع المجموع 8 / 153 - 154 و 164 ، ونهاية المحتاج 2 / 429 ، والمغني 3 / 446 - 449 ، والفروع 3 / 515 .(2/16)
السُّنَنُ فِي الْحَجِّ يُطْلَبُ فِعْلُهَا ، وَيُثَابُ عَلَيْهَا ، لَكِنْ لاَ يَلْزَمُ بِتَرْكِهَا الْفِدَاءُ مِنْ دَمٍ أَوْ صَدَقَةٍ(1)
أَوَّلاً : طَوَافُ الْقُدُومِ :
وَيُسَمَّى طَوَافُ الْقَادِمِ ، طَوَافَ الْوُرُودِ ، وَطَوَافَ الْوَارِدِ ، وَطَوَافَ التَّحِيَّةِ لأَِنَّهُ شُرِعَ لِلْقَادِمِ وَالْوَارِدِ مِنْ غَيْرِ مَكَّةَ لِتَحِيَّةِ الْبَيْتِ . وَيُسَمَّى أَيْضًا طَوَافَ اللِّقَاءِ ، وَأَوَّل عَهْدِهِ بِالْبَيْتِ ، وَطَوَافُ الْقُدُومِ سُنَّةٌ لِلآْفَاقِيِّ الْقَادِمِ مِنْ خَارِجِ مَكَّةَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ ، تَحِيَّةً لِلْبَيْتِ الْعَتِيقِ ، لِذَلِكَ يُسْتَحَبُّ الْبَدْءُ بِهِ دُونَ تَأْخِيرٍ ، وَسَوَّى الشَّافِعِيَّةُ بَيْنَ دَاخِلِي مَكَّةَ الْمُحْرِمِ مِنْهُمْ وَغَيْرِ الْمُحْرِمِ فِي سُنِّيَّةِ طَوَافِ الْقُدُومِ(2).
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ وَاجِبٌ ، مَنْ تَرَكَهُ لَزِمَهُ الدَّمُ .
__________
(1) - انظر المسلك المتقسط في المنسك المتوسط ص 51 - 52 وقد اعتمدنا عليه في تتبع السنن الأصلية ، بعد التثبت من استقرائه لها
(2) - وذلك بناء على مذهبهم في جواز دخول الحرم بغير إحرام لمن قصده لحاجة غير النسك . انظر مصطلح ( إحرام )(2/17)
وَوُجُوبُ طَوَافِ الْقُدُومِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ عَلَى كُل مَنْ أَحْرَمَ مِنَ الْحِل ، سَوَاءٌ كَانَ مِنْ أَهْل مَكَّةَ أَوْ غَيْرِهَا ، وَسَوَاءٌ كَانَ إِحْرَامُهُ مِنَ الْحِل وَاجِبًا كَالآْفَاقِيِّ الْقَادِمِ مُحْرِمًا بِالْحَجِّ ، أَمْ نَدْبًا كَالْمُقِيمِ بِمَكَّةَ الَّذِي مَعَهُ نَفَسٌ ( مُتَّسَعٌ مِنَ الْوَقْتِ ) وَخَرَجَ مِنَ الْحَرَمِ فَأَحْرَمَ مِنَ الْحِل ، وَسَوَاءٌ كَانَ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ مُفْرِدًا أَمْ قَارِنًا ، وَكَذَا الْمُحْرِمُ مِنَ الْحَرَمِ إِنْ كَانَ يَجِبُ عَلَيْهِ الإِْحْرَامُ مِنَ الْحِل ، بِأَنْ جَاوَزَ الْمِيقَاتَ حَلاَلاً مُخَالِفًا لِلنَّهْيِ .
وَهُوَ وَاجِبٌ عَلَى هَؤُلاَءِ مَا لَمْ يَكُنْ أَحَدُهُمْ مُرَاهِقًا ، وَهُوَ مَنْ ضَاقَ وَقْتُهُ حَتَّى خَشِيَ فَوَاتَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَاتٍ(1).
وَالأَْصْل فِيهِ فِعْل النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - كَمَا ثَبَتَ فِي أَوَّل حَدِيثِ جَابِرٍ قَوْلُهُ : حَتَّى إِذَا أَتَيْنَا الْبَيْتَ مَعَهُ اسْتَلَمَ الرُّكْنَ فَرَمَل ثَلاَثًا وَمَشَى أَرْبَعًا(2).
__________
(1) - انظر هذا التفصيل بتمامه في شرح الرسالة وحاشية العدوي 1 / 465 .
(2) -أخرجه مسلم برقم (3009 )(2/18)
وعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ، ذَكَرْتُ لِعُرْوَةَ ، قَالَ فَأَخْبَرَتْنِى عَائِشَةُ - رضى الله عنها - أَنَّ أَوَّلَ شَىْءٍ بَدَأَ بِهِ حِينَ قَدِمَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ تَوَضَّأَ ، ثُمَّ طَافَ ، ثُمَّ لَمْ تَكُنْ عُمْرَةً ، ثُمَّ حَجَّ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ - رضى الله عنهما - مِثْلَهُ ، ثُمَّ حَجَجْتُ مَعَ أَبِى الزُّبَيْرِ - رضى الله عنه - فَأَوَّلُ شَىْءٍ بَدَأَ بِهِ الطَّوَافُ ، ثُمَّ رَأَيْتُ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارَ يَفْعَلُونَهُ ، وَقَدْ أَخْبَرَتْنِى أُمِّى أَنَّهَا أَهَلَّتْ هِىَ وَأُخْتُهَا وَالزُّبَيْرُ وَفُلاَنٌ وَفُلاَنٌ بِعُمْرَةٍ ، فَلَمَّا مَسَحُوا الرُّكْنَ حَلُّوا(1). .
فَاسْتَدَل الْمَالِكِيَّةُ بِذَلِكَ عَلَى الْوُجُوبِ بِقَوْلِهِ : لِتَأْخُذُوا مَنَاسِكَكُمْ فَإِنِّى لاَ أَدْرِى لَعَلِّى لاَ أَحُجُّ بَعْدَ حَجَّتِى هَذِهِ)(2).
وَقَال الْجُمْهُورُ : إِنَّ الْقَرِينَةَ قَامَتْ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ وَاجِبٍ لأَِنَّ الْمَقْصُودَ بِهِ التَّحِيَّةُ ، فَأَشْبَهَ تَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ ، فَيَكُونُ سُنَّةً .
مَتَى يَسْقُطُ طَوَافُ الْقُدُومِ :
يَسْقُطُ طَوَافُ الْقُدُومِ عَمَّنْ يَلِي :
__________
(1) - صحيح البخاري برقم (1614 و 1615 )
(2) - عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِى أَبُو الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرًا يَقُولُ رَأَيْتُ النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- يَرْمِى عَلَى رَاحِلَتِهِ يَوْمَ النَّحْرِ وَيَقُولُ « لِتَأْخُذُوا مَنَاسِكَكُمْ فَإِنِّى لاَ أَدْرِى لَعَلِّى لاَ أَحُجُّ بَعْدَ حَجَّتِى هَذِهِ ».صحيح مسلم برقم (3197 )(2/19)
أ - الْمَكِّيُّ . وَمَنْ فِي حُكْمِهِ ، وَهُوَ الآْفَاقِيُّ إِذَا أَحْرَمَ مِنْ مَكَّةَ ، وَشَرَطَ فِيهِ الْمَالِكِيَّةُ أَنْ لاَ يَكُونَ وَجَبَ عَلَيْهِ الإِْحْرَامُ مِنَ الْحِل ، كَمَا سَبَقَ ، وَوَسَّعَ الْحَنَفِيَّةُ فَقَالُوا : يَسْقُطُ عَمَّنْ كَانَ مَنْزِلُهُ فِي مِنْطَقَةِ الْمَوَاقِيتِ لأَِنَّ لَهَا حُكْمَ مَكَّةَ .
وَعِلَّةُ سُقُوطِ طَوَافِ الْقُدُومِ عَنْ هَؤُلاَءِ أَنَّهُ شُرِعَ لِلْقُدُومِ ، وَالْقُدُومُ فِي حَقِّهِمْ غَيْرُ مَوْجُودٍ .
ب - الْمُعْتَمِرُ وَالْمُتَمَتِّعُ وَلَوْ آفَاقِيًّا عِنْدَ الْجُمْهُورِ ، لِدُخُول طَوَافِ الْفَرْضِ عَلَيْهِ ، وَهُوَ طَوَافُ الْعُمْرَةِ ، فَطَوَافُ الْقُدُومِ عِنْدَهُمْ خَاصٌّ بِمَنْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ مُفْرِدًا ، أَوْ قَارِنًا بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ ، وَتَفَرَّدَ الْحَنَابِلَةُ فَقَالُوا : يَطُوفُ الْمُتَمَتِّعُ لِلْقُدُومِ قَبْل طَوَافِ الإِْفَاضَةِ ، ثُمَّ يَطُوفُ طَوَافَ الإِْفَاضَةِ .
ج - مَنْ قَصَدَ عَرَفَةَ رَأْسًا لِلْوُقُوفِ يَسْقُطُ عَنْهُ طَوَافُ الْقُدُومِ ، " لأَِنَّ مَحَلَّهُ الْمَسْنُونَ قَبْل وُقُوفِهِ " ، وَقَرَّرَ الْمَالِكِيَّةُ أَنَّهُ إِذَا أَحْرَمَ بِالْحَجِّ مِنَ الْحَرَمِ أَوْ أَحْرَمَ بِهِ مِنَ الْحِل وَلَكِنَّهُ مُرَاهِقٌ أَوْ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ مِنَ الْحِل ثُمَّ أَرْدَفَ بِالْحَجِّ عَلَيْهَا فِي الْحَرَمِ فَإِنَّهُ لاَ يُطَالَبُ بِطَوَافِ الْقُدُومِ وَإِذَا لَمْ يُطَالَبْ بِطَوَافِ الْقُدُومِ فَإِنَّهُ يُؤَخِّرُ السَّعْيَ إِلَى طَوَافِ الإِْفَاضَةِ ، لأَِنَّهُ سَيَأْتِي أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ السَّعْيُ عَقِبَ أَحَدِ طَوَافَيِ الْحَجِّ فَلَمَّا سَقَطَ طَوَافُ الْقُدُومِ تَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ عَقِبَ طَوَافِ الإِْفَاضَةِ .
فُرُوعٌ :(2/20)
الأَْوَّل : قَال فِي التَّوْضِيحِ : وَمَتَى يَكُونُ الْحَاجُّ مُرَاهِقًا إِنْ قَدِمَ يَوْمَ عَرَفَةَ أَحْبَبْتُ تَأْخِيرَ طَوَافِهِ ، وَإِنْ قَدِمَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ أَحْبَبْتُ تَعْجِيلَهُ وَلَهُ فِي التَّأْخِيرِ سَعَةٌ وَفِي الْمُخْتَصَرِ عَنْ مَالِكٍ ، إِنْ قَدِمَ يَوْمَ عَرَفَةَ فَلْيُؤَخِّرْهُ إِنْ شَاءَ وَإِنْ شَاءَ طَافَ وَسَعَى ، وَإِنْ قَدِمَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ وَمَعَهُ أَهْلٌ فَلْيُؤَخِّرْ إِنْ شَاءَ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ أَهْلٌ فَلْيَطُفْ وَلْيَسْعَ . وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ الاِشْتِغَال يَوْمَ عَرَفَةَ بِالتَّوَجُّهِ إِلَى عَرَفَةَ أَوْلَى ، وَأَمَّا يَوْمُ التَّرْوِيَةِ فَمَنْ كَانَ مَعَهُ أَهْلٌ كَانَ فِي شُغْلٍ مِمَّا لاَ بُدَّ لِلْمُسَافِرِ بِالأَْهْل مِنْهُ . انْتَهَى . وَقَال ابْنُ فَرْحُونَ : لأَِنَّهُ بِأَهْلِهِ فِي شُغُلٍ ، وَحَال الْمُنْفَرِدِ أَخَفُّ ، وَقَال قَبْلَهُ : وَالْمُرَاهِقُ هُوَ الَّذِي يَضِيقُ وَقْتُهُ عَنْ إِيقَاعِهِ طَوَافَ الْقُدُومِ وَالسَّعْيِ وَمَا لاَ بُدَّ لَهُ مِنْ أَحْوَالِهِ وَيَخْشَى فَوَاتَ الْحَجِّ إِنْ تَشَاغَل بِذَلِكَ فَلَهُ تَأْخِيرُ الطَّوَافِ ، ثُمَّ ذَكَرَ مَا قَالَهُ أَشْهَبُ وَنَقَلَهُ عَنْ مَالِكٍ فِي الْمُخْتَصَرِ انْتَهَى مِنْ مَنَاسِكِهِ .
الثَّانِي : حُكْمُ مَنْ أَحْرَمَ بِالْقِرَانِ مِنْ الْحِل حُكْمُ مَنْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ مِنَ الْحِل فِي وُجُوبِ طَوَافِ الْقُدُومِ عَلَيْهِ وَتَعْجِيل السَّعْيِ بَعْدَهُ ، فَإِنْ تَرَكَ ذَلِكَ وَهُوَ غَيْرُ مُرَاهِقٍ فَعَلَيْهِ الدَّمُ ، وَإِنْ كَانَ
مُرَاهِقًا فَلاَ دَمَ عَلَيْهِ قَالَهُ فِي الْمُدَوَّنَةِ .(2/21)
الثَّالِثُ : إِذَا أَرْدَفَ الْحَجَّ عَلَى الْعُمْرَةِ فِي الْحِل فَحُكْمُهُ حُكْمُ مَنْ أَحْرَمَ بِالْقِرَانِ مِنَ الْحِل فِي وُجُوبِ طَوَافِ الْقُدُومِ وَالسَّعْيِ بَعْدَهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ مُرَاهِقًا وَهُوَ ظَاهِرٌ .
الرَّابِعُ : إِذَا أَحْرَمَ بِالْقِرَانِ مِنْ مَكَّةَ أَوْ بِالْعُمْرَةِ مِنْ مَكَّةَ ثُمَّ أَرْدَفَ عَلَيْهَا حَجَّةً وَصَارَ قَارِنًا فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ الْخُرُوجُ لِلْحِل عَلَى الْمَشْهُورِ ، فَإِذَا دَخَل مِنَ الْحِل لاَ يَطُوفُ وَلاَ يَسْعَى لأَِنَّهُ أَحْرَمَ مِنْ مَكَّةَ . قَالَهُ ابْنُ رُشْدٍ عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ وَنَقَلَهُ ابْنُ عَرَفَةَ وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ وَلَهَا وَلِلْقِرَانِ الْحِل .
الْخَامِسُ : مَنْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ أَوْ بِالْقِرَانِ مِنْ الْحِل وَمَضَى إِلَى عَرَفَاتٍ وَلَمْ يَدْخُل مَكَّةَ وَلَيْسَ بِمُرَاهِقٍ فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ مَنْ تَرَكَ طَوَافَ الْقُدُومِ وَيَجِبُ عَلَيْهِ الدَّمُ . قَالَهُ فِي الْمُدَوَّنَةِ وَكَلاَمُ الْمُصَنِّفِ فِي مَنَاسِكِهِ يُوهِمُ سُقُوطَ الدَّمِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ(1).
وَقَال الْحَنَابِلَةُ : لاَ يَسْقُطُ طَوَافُ الْقُدُومِ عَمَّنْ تَأَخَّرَ عَنْهُ إِلَى الْوُقُوفِ ، فَإِذَا قَدِمَ مَكَّةَ يَبْدَأُ طَوَافَ الْقُدُومِ قَبْل طَوَافِ الزِّيَارَةِ .
د - قَرَّرَ الْمَالِكِيَّةُ أَنَّهُ يَسْقُطُ طَوَافُ الْقُدُومِ عَنْ الْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ وَالنَّاسِي ، إِلاَّ أَنْ يَزُول الْمَانِعُ وَيَتَّسِعَ الزَّمَنُ لِطَوَافِ الْقُدُومِ فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يَجِبُ .
وَقْتُ طَوَافِ الْقُدُومِ :
__________
(1) - الحطاب 3 / 83(2/22)
يَبْدَأُ وَقْتُ طَوَافِ الْقُدُومِ حِينَ دُخُول مَكَّةَ ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُبَادِرَ بِهِ قَبْل اسْتِئْجَارِ الْمَنْزِل وَنَحْوِ ذَلِكَ ، لأَِنَّهُ تَحِيَّةُ الْبَيْتِ الْعَتِيقِ ، وَآخِرُ وَقْتِهِ وُقُوفُهُ بِعَرَفَةَ عِنْدَ الْجُمْهُورِ ، لأَِنَّهُ بَعْدَ الْوُقُوفِ مُطَالَبٌ بِطَوَافِ الْفَرْضِ ، وَهُوَ طَوَافُ الزِّيَارَةِ(1).
كَيْفِيَّةُ طَوَافِ الْقُدُومِ :
كَيْفِيَّةُ طَوَافِ الْقُدُومِ كَطَوَافِ الزِّيَارَةِ ، إِلاَّ أَنَّهُ لاَ اضْطِبَاعَ فِيهِ وَلاَ رَمَل ، وَلاَ سَعْيَ لأَِجْلِهِ ، إِلاَّ إِذَا أَرَادَ تَقْدِيمَ سَعْيِ الْحَجِّ إِلَيْهِ ، فَإِنَّهُ يُسَنُّ لَهُ عِنْدَئِذٍ الاِضْطِبَاعُ وَالرَّمَل فِي الطَّوَافِ ، لأَِنَّ الرَّمَل وَالاِضْطِبَاعَ سُنَّةٌ فِي كُل طَوَافٍ بَعْدَهُ سَعْيٌ(2).
ثَانِيًا : خُطَبُ الإِْمَامِ :
وَهِيَ سُنَّةٌ فِي ثَلاَثَةِ مَوَاضِعَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ ، وَأَرْبَعَةٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ ،
وَتُؤَدَّى الْخُطَبُ كُل وَاحِدَةٍ خُطْبَةً وَاحِدَةً بَعْدَ صَلاَةِ الظُّهْرِ ، إِلاَّ خُطْبَةَ يَوْمِ عَرَفَةَ ، فَإِنَّهَا خُطْبَتَانِ بَعْدَ الزَّوَال قَبْل الصَّلاَةِ .
وَيَفْتَتِحُ الْخُطْبَةَ بِالتَّلْبِيَةِ إِنْ كَانَ مُحْرِمًا ، وَبِالتَّكْبِيرِ إِنْ لَمْ يَكُنْ مُحْرِمًا .
الْخُطْبَةُ الأُْولَى :
__________
(1) - انظر مناقشة هامة لهذا الاتجاه في المغني 3 / 443 .
(2) - انظر في طواف القدوم مع الإحالات السابقة : الهداية وشروحها 2 / 155 ، 191 ، والبدائع 2 / 146 - 147 ، وشرح الرسالة 1 / 465 ، وشرح الزرقاني 2 / 265 ، والشرح الكبير 2 / 33 - 34 ، والمهذب 8 / 12 ، ونهاية المحتاج 2 / 404 - 405 ، والمغني 3 / 442 - 443 ، والكافي 1 / 608 - 609 ، والمقنع وشرحه ص 455 ، ونيل الأوطار 5 / 38 .(2/23)
تُسَنُّ هَذِهِ الْخُطْبَةُ فِي مَكَّةَ يَوْمَ السَّابِعِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ قَبْل يَوْمِ التَّرْوِيَةِ بِيَوْمٍ ، عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ ، وَالْغَرَضُ مِنْهَا أَنْ يُعَلِّمَهُمُ الْمَنَاسِكَ(1). عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا كَانَ قَبْلَ التَّرْوِيَةِ خَطَبَ النَّاسَ فَأَخْبَرَهُمْ بِمَنَاسِكِهِمْ.(2).
الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ :
وَتُسَنُّ هَذِهِ الْخُطْبَةُ يَوْمَ عَرَفَةَ بِعَرَفَاتٍ ، قَبْل الصَّلاَةِ اتِّفَاقًا ، كَمَا ثَبَتَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ وَغَيْرِهِ
وَهَذِهِ الْخُطْبَةُ خُطْبَتَانِ يُفْصَل بَيْنَهُمَا بِجَلْسَةٍ كَمَا فِي خُطْبَةِ الْجُمُعَةِ ، يُبَيِّنُ لَهُمْ فِي أُولاَهُمَا مَا أَمَامَهُمْ مِنَ الْمَنَاسِكِ وَيُحَرِّضُهُمْ عَلَى إِكْثَارِ الدُّعَاءِ وَالاِبْتِهَال ، وَيُبَيِّنُ لَهُمْ مَا يُهِمُّهُمْ مِنَ الأُْمُورِ الضَّرُورِيَّةِ لِشُؤُونِ دِينِهِمْ ، وَاسْتِقَامَةِ أَحْوَالِهِمْ(3).
الْخُطْبَةُ الثَّالِثَةُ :
__________
(1) - هذه الخطبة مندوبة في قول عند المالكية ، لكن رجح في مواهب الجليل سنيتها 3 / 117 وأنها خطبتان بعد الزوال ، وقيل ضحى .
(2) - أخرجه البيهقي ( 5 / 111 - ط دائرة المعارف العثمانية )برقم (9706 ) وجود إسناده النووي ، المجموع ( 8 / 80 ، 88 - ط المنيرية ) وانظر شرح المنهاج 2 / 112 - 113 ، والهداية 2 / 161 ، والمسلك المتقسط ص 125 مع إرشاد الساري بذيله ، والشرح الكبير 2 / 43 ، ورجح أنها خطبتان .
(3) - الهداية وفتح القدير 2 / 163 ، والمسلك المتقسط الموضع السابق ، والمهذب 8 / 88 ، وشرح المنهاج 2 / 113 .(2/24)
الْخُطْبَةُ الثَّالِثَةُ تَكُونُ بِمِنًى فِي الْيَوْمِ الْحَادِيَ عَشَرَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ . وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهَا تَكُونُ بِمِنًى يَوْمَ النَّحْرِ .
اسْتَدَل الشَّافِعِيَّةُ بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ كانَ يَخْطُبُ النَّاسَ عَلَى نَاقَتِهِ الْعَضْبَاءِ يَوْمَ الأَضْحَى بِمِنًى..(1)
وَأَجَابَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْخُطْبَةِ التَّعْلِيمُ وَإِجَابَةٌ عَنْ أَسْئِلَةٍ وُجِّهَتْ إِلَيْهِ - صلى الله عليه وسلم - وَيَوْمُ النَّحْرِ يَوْمُ اشْتِغَالٍ بِأَعْمَالٍ كَثِيرَةٍ وَهِيَ الرَّمْيُ وَالذَّبْحُ وَالْحَلْقُ وَالطَّوَافُ(2).
الْخُطْبَةُ الرَّابِعَةُ :
زَادَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ خُطْبَةً رَابِعَةً : هِيَ بِمِنًى ثَانِيَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ ، يُعَلِّمُهُمْ فِيهَا جَوَازَ النَّفْرِ فِيهِ وَغَيْرَ ذَلِكَ ، وَيُوَدِّعُهُمْ(3).
ثَالِثًا : الْمَبِيتُ بِمِنًى لَيْلَةَ يَوْمِ عَرَفَةَ :
__________
(1) - سنن أبى داود برقم (1956 ) وهو حديث حسن وقال الشوكاني في نيل الأوطار ( 3 / 306 - ط المطبعة العثمانية ) " رجال إسناده ثقات " .
(2) - نيل الأوطار 3 / 307 ، وانظر الهداية بشرحها 2 / 161 ، ومواهب الجليل 3 / 117 ، وشرح المنهاج 2 / 121 ، والمغني 3 / 445 ، والفروع 3 / 516 .
(3) - شرح المنهاج الصفحة السابقة ونهاية المحتاج 2 / 433 ، والفروع 3 / 520 .(2/25)
يُسَنُّ لِلْحَاجِّ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ مَكَّةَ إِلَى مِنًى يَوْمَ التَّرْوِيَةِ ، بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ ، فَيُصَلِّيَ بِمِنًى خَمْسَ صَلَوَاتٍ هِيَ : الظُّهْرُ ، وَالْعَصْرُ ، وَالْمَغْرِبُ ، وَالْعِشَاءُ ، وَالْفَجْرُ ، وَذَلِكَ سُنَّةٌ بِاتِّفَاقِ الأَْئِمَّةِ(1).
وَقَدْ ثَبَتَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ : قَالَ : خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مُهِلِّينَ بِالْحَجِّ مَعَنَا النِّسَاءُ وَالْوِلْدَانُ فَلَمَّا قَدِمْنَا مَكَّةَ طُفْنَا بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ فَقَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « مَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْىٌ فَلْيَحْلِلْ ». قَالَ قُلْنَا أَىُّ الْحِلِّ قَالَ « الْحِلُّ كُلُّهُ ». قَالَ فَأَتَيْنَا النِّسَاءَ وَلَبِسْنَا الثِّيَابَ وَمَسِسْنَا الطِّيبَ فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ أَهْلَلْنَا بِالْحَجِّ وَكَفَانَا الطَّوَافُ الأَوَّلُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ فَأَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَنْ نَشْتَرِكَ فِى الإِبِلِ وَالْبَقَرِ كُلُّ سَبْعَةٍ مِنَّا فِى بَدَنَةٍ(2).
رَابِعًا : السَّيْرُ مِنْ مِنًى إِلَى عَرَفَةَ :
السَّيْرُ مِنْ مِنًى إِلَى عَرَفَةَ صَبَاحًا بَعْدَ طُلُوعِ شَمْسِ يَوْمِ عَرَفَةَ سُنَّةٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَهُوَ مَنْدُوبٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ(3).
__________
(1) - الهداية وفتح القدير 2 / 161 - 162 ، والمسلك المتقسط ص 51 ، 127 - 128 وشرح المنهاج الموضع السابق ، والمغني 3 / 406 ، وشرح الحطاب 3 / 157 فقد نبه على أنها من السنن ، وإن عبر خليل عنها بالندب . وانظر شرح الرسالة بحاشيته 1 / 472 - 473 .
(2) -.صحيح مسلم برقم (2999 )
(3) - المسلك المتقسط ص 51 ، ومغني المحتاج 1 / 496 ، والشرح الكبير 2 / 43 مع تنبيه الحطاب على سنيته 3 / 117 ، والمغني 3 / 407 .(2/26)
وَالأَْصْل فِيهِ فِعْلُهُ - صلى الله عليه وسلم - كَمَا فِي حَدِيثِ جَابِرٍ : ثُمَّ مَكَثَ قَلِيلاً حَتَّى طَلَعَتِ الشَّمْسُ(1)وَأَمَرَ بِقُبَّةٍ مِنْ شَعْرٍ تُضْرَبُ لَهُ بِنَمِرَةَ فَسَارَ رَسُول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - . . . فَأَجَازَ رَسُول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى أَتَى عَرَفَةَ فَوَجَدَ الْقُبَّةَ قَدْ ضُرِبَتْ لَهُ بِنَمِرَةَ . .(2)
خَامِسًا : الْمَبِيتُ بِالْمُزْدَلِفَةِ لَيْلَةَ النَّحْرِ :
يُسَنُّ لِلْحَاجِّ أَنْ يَبِيتَ بِالْمُزْدَلِفَةِ لَيْلَةَ عِيدِ النَّحْرِ ، وَيَمْكُثَ بِهَا حَتَّى يَطْلُعَ الْفَجْرُ ، ثُمَّ يَقِفَ لِلدُّعَاءِ وَيَمْكُثَ فِيهَا حَتَّى يُسْفِرَ جِدًّا ، ثُمَّ يَدْفَعَ إِلَى مِنًى فَهَذَا سُنَّةٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ ، مَنْدُوبٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ ، مُسْتَحَبٌّ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ(3).
إِنَّمَا الْوَاجِبُ الْوُقُوفُ الَّذِي سَبَقَ ذِكْرُهُ وَذَلِكَ لِفِعْلِهِ - صلى الله عليه وسلم - : قَال جَابِرٌ : حَتَّى أَتَى الْمُزْدَلِفَةَ ، فَصَلَّى بِهَا الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ بِأَذَانٍ وَاحِدٍ وَإِقَامَتَيْنِ ، وَلَمْ يُسَبِّحْ بَيْنَهُمَا شَيْئًا ، ثُمَّ اضْطَجَعَ رَسُول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ وَصَلَّى الْفَجْرَ حِينَ تَبَيَّنَ لَهُ الصُّبْحُ بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ ، ثُمَّ رَكِبَ الْقَصْوَاءَ حَتَّى أَتَى الْمَشْعَرَ الْحَرَامَ . . .(4)
- - - - - - - - - - - - -
__________
(1) - أي طلعت الشمس والنبي صلى الله عليه وسلم بمنى ، فسار إلى عرفة بعد طلوعها .
(2) - أخرجه مسلم برقم (3009 ) .
(3) - المسلك المتقسط ص 51 - 52 ، والمجموع 8 / 129 ، والشرح الكبير 2 / 44 ، والمغني 3 / 423 ، أما التعبير بوجوب المبيت فالمراد به ما يصدق على الوقف فتنبه
(4) -أخرجه مسلم برقم ( 3009 ) .(2/27)
مُسْتَحَبَّاتُ الْحَجِّ
مُسْتَحَبَّاتُ الْحَجِّ يَحْصُل بِهَا الأَْجْرُ لَكِنْ دُونَ أَجْرِ السُّنَّةِ ، وَلاَ يَلْزَمُ تَارِكَهَا الإِْسَاءَةُ بِخِلاَفِ السُّنَّةِ .
وَمُسْتَحَبَّاتُ الْحَجِّ كَثِيرَةٌ نَذْكُرُ طَائِفَةً هَامَةً مِنْهَا فِيمَا يَلِي(1):
أَوَّلاً : الْعَجُّ :
وَهُوَ رَفْعُ الصَّوْتِ بِالتَّلْبِيَةِ بِاعْتِدَالٍ ، وَهُوَ مُسْتَحَبٌّ لِلرِّجَال ، عَمَلاً بِحَدِيثِ السَّائِل : أَيُّ الْحَجِّ أَفْضَل ؟ قَال - صلى الله عليه وسلم - : الْعَجُّ ، وَالثَّجُّ(2).
ثَانِيًا : الثَّجُّ :
وَهُوَ ذَبْحُ الْهَدْيِ تَطَوُّعًا ، لِمَا مَرَّ فِي الْحَدِيثِ ، وَقَدْ أَكْثَرَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ هَدْيِ التَّطَوُّعِ جِدًّا ، حَتَّى بَلَغَ مَجْمُوعُ هَدْيِهِ فِي حَجَّتِهِ مِائَةً مِنَ الإِْبِل(3).
قَال الإِْمَامُ النَّوَوِيُّ : اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِمَنْ قَصَدَ مَكَّةَ بِحَجٍّ أَوْ عَمْرَةٍ أَنْ يُهْدِيَ هَدْيًا مِنَ الأَْنْعَامِ ، وَنَحْرُهُ هُنَاكَ ، وَيُفَرِّقُهُ عَلَى الْمَسَاكِينِ الْمَوْجُودِينَ فِي الْحَرَمِ(4)
__________
(1) - اعتمدنا في ذلك على سرد المسلك المتقسط ص 52 - 53 ، وننبه إلى أن الشافعية يسوون المستحب بالسنَّة .
(2) - سنن الترمذى برقم (835 ) ومجمع 3/224 ومطالب (1200) وت (827و2998 ) وهـ (2896و2924) ومى 2/31 وك 1/450 وهق 4/330 و5/42و43و58وش 4/90 (15052) وع(5086) والصحيحة(1500)وصحيح الجامع (1101) وهو صحيح مشهور
ومعناه أفضل الحج رفع الصوت بالتلبية وصب دماء الهدى
(3) - حديث : بلغ مجموع هديه في حجته مائة من الإبل . ورد ذلك في حديث جابر في صحيح مسلم (3009) .
(4) - المجموع 8 / 269 ، وانظر الهداية وشرحها 2 / 322 و 8 / 76 - 77 ، والمسلك المتقسط ص 52 ، وصرح الحنابلة بأنه سنة ، انظر مطالب أولي النهى شرح غاية المنتهى 2 / 461 .(2/28)
ثَالِثًا : الْغُسْل لِدُخُول مَكَّةَ لِلآْفَاقِيِّ :
وَذَلِكَ عِنْدَ ذِي طُوًى ، كَمَا وَرَدَ فِي السُّنَّةِ ، أَوْ غَيْرِهِ مِنْ مَدَاخِل مَكَّةَ ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ - صلى الله عليه وسلم - : كَانَ يَغْتَسِل لِدُخُول مَكَّةَ(1)" .
رَابِعًا : الْغُسْل لِلْوُقُوفِ بِالْمُزْدَلِفَةِ بَعْدَ نِصْفِ اللَّيْل :
صَرَّحَ بِهِ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ ، حَتَّى جَعَل الشَّافِعِيَّةُ التَّيَمُّمَ بَدِيلاً عَنْهُ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنِ الْمَاءِ
قَال النَّوَوِيُّ : يُسْتَحَبُّ أَنْ يَغْتَسِل بِالْمُزْدَلِفَةِ بَعْدَ نِصْفِ اللَّيْل ، لِلْوُقُوفِ بِالْمَشْعَرِ الْحَرَامِ ، وَلِلْعِيدِ ، وَلِمَا فِيهَا مِنَ الاِجْتِمَاعِ ، فَإِنْ عَجَزَ عَنِ الْمَاءِ تَيَمَّمَ كَمَا سَبَقَ(2)" .
خَامِسًا : التَّعْجِيل بِطَوَافِ الإِْفَاضَةِ :
وَذَلِكَ بِأَدَائِهِ يَوْمَ عِيدِ النَّحْرِ ، اتِّبَاعًا لِفِعْل النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - . كَمَا فِي حَدِيثِ جَابِرٍ(3)
__________
(1) -عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رضى الله عنهما - قَالَ بَاتَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - بِذِى طُوًى حَتَّى أَصْبَحَ ثُمَّ دَخَلَ مَكَّةَ . وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ - رضى الله عنهما - يَفْعَلُهُ " صحيح البخارى برقم (1574 ) وصحيح مسلم برقم (3104 )
وانظر المسلك المتقسط ص 52 ، والشرح الكبير 2 / 38 ، ومغني المحتاج 1 / 483 ، والمغني 3 / 368 .
(2) - المجموع 8 / 129 ، والمسلك المتقسط الموضع السابق ، زاد الشافعية الغسل للرمي في أيام التشريق ، وجعلوا أغسال الحج سبعة انظر مغني المحتاج 1 / 478 - 479 .
(3) -أخرجه مسلم برقم ( 3009 ) ، وانظر المسلك المتقسط ، الشرح الكبير 2 / 46 ، ومغني المحتاج 1 / 203 ، وعبر عنه بالأفضل ، والمغني 3 / 440 - 441 .(2/29)
سَادِسًا : الإِْكْثَارُ مِنَ الدُّعَاءِ وَالتَّلْبِيَةِ وَالأَْذْكَارِ الْمُتَكَرِّرَةِ فِي الأَْحْوَال :
كَالأَْدْعِيَةِ الْمَأْثُورَةِ فِي الْمَنَاسِكِ ، وَلاَ سِيَّمَا وُقُوفُ عَرَفَةَ ، وَغَيْرُ ذَلِكَ ، فَهَذَا بِهِ رَوْحُ شَعَائِرِ الْحَجِّ . كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ : إِنَّمَا جُعِل رَمْيُ الْجِمَارِ وَالسَّعْيُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ لإِِقَامَةِ ذِكْرِ اللَّهِ(1)
سَابِعًا : التَّحْصِيبُ :
وَهُوَ النُّزُول بِوَادِي الْمُحَصَّبِ ، أَوِ الأَْبْطُحِ(2)فِي النَّفْرِ مِنْ مِنًى إِلَى مَكَّةَ عِنْدَ انْتِهَاءِ الْمَنَاسِكِ ، وَيَقَعُ الْمُحَصَّبُ عِنْدَ مَدْخَل مَكَّةَ بَيْنَ الْجَبَلَيْنِ ، إِلَى الْمَقْبَرَةِ الْمُسَمَّاةِ بِالْحَجُونِ . وَقَدِ اتَّصَل بِنَاءُ مَكَّةَ بِهِ فِي زَمَنِنَا بَل تَجَاوَزَهُ لِمَا وَرَاءَهُ .
__________
(1) - أخرجه الترمذى برقم (912 ) و قَالَ :َهَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيح،قلت : وفيه عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِى زِيَادٍ وفيه ضعف
(2) - سمي محصبا لكثرة الحصباء فيه وهي الحصي الصغيرة ، كذا سمي الأبطح من البطحاء وهي الحصي الصغار ، وكان مسيلا لوادي مكة تجرف السيسول الرمال والحصي . ويقع الآن بين القصر الملكي وجبانة المعلى .(2/30)
وَالتَّحْصِيبُ مُسْتَحَبٌّ عِنْدَ الْجُمْهُورِ ، سُنَّةٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ ، بِأَنْ يَنْزِل الْحَاجُّ فِيهِ فِي نَفْرِهِ مِنْ مِنًى وَيُصَلِّي فِيهِ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ(1). اسْتَدَل الْجُمْهُورُ بِمَا أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ إِنَّمَا نَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الْمُحَصَّبَ لِيَكُونَ أَسْمَحَ لِخُرُوجِهِ وَلَيْسَ بِسُنَّةٍ فَمَنْ شَاءَ نَزَلَهُ وَمَنْ شَاءَ لَمْ يَنْزِلْهُ(2).
وَاسْتَدَل الْحَنَفِيَّةُ عَلَى السُّنِّيَّةِ بِحَدِيثِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيْنَ تَنْزِلُ غَدًا فِى حَجَّتِهِ قَالَ " هَلْ تَرَكَ لَنَا عَقِيلٌ مَنْزِلاً ". ثُمَّ قَالَ " نَحْنُ نَازِلُونَ بِخَيْفِ بَنِى كِنَانَةَ حَيْثُ قَاسَمَتْ قُرَيْشٌ عَلَى الْكُفْرِ ". يَعْنِى الْمُحَصَّبَ وَذَلِكَ أَنَّ بَنِى كِنَانَةَ حَالَفَتْ قُرَيْشًا عَلَى بَنِى هَاشِمٍ أَنْ لاَ يُنَاكِحُوهُمْ وَلاَ يُبَايِعُوهُمْ وَلاَ يُئْوُوهُمْ.(3)
وَحَيْثُ أَصْبَحَ الْمُحَصَّبُ الآْنَ ضِمْنَ الْبُنْيَانِ فَيَمْكُثُ الْحَاجُّ فِيهِ مَا تَيَسَّرَ تَحْصِيلاً لِلسُّنَةِ قَدْرَ الإِْمْكَانَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ الَّذِي يُثِيرُ تِلْكَ الذِّكْرَى مِنْ جِهَادِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - .
- - - - - - - - - - - - -
مَمْنُوعَاتُ الْحَجِّ
مَمْنُوعَاتُ الْحَجِّ أَقْسَامٌ : مَكْرُوهَاتٌ ، وَمُحَرَّمَاتٌ ، وَمُفْسِدَاتٌ .
__________
(1) - شرح الرسالة 1 / 481 ، والشرح الكبير 2 / 52 - 53 ، والمهذب بشرحه 8 / 195 - 196 ، والمغني 3 / 457 .
(2) - صحيح البخارى برقم (1765) ومسلم برقم (3229 ) وسنن أبى داود برقم (2010 ) واللفظ له
(3) - سنن أبى داود برقم (2012) وهو صحيح وأصله في الصحيحين(2/31)
أَمَّا الْمَكْرُوهَاتُ : فَهِيَ تَرْكُ سُنَّةٍ مِنْ سُنَنِ الْحَجِّ ، وَهُوَ مَكْرُوهٌ تَنْزِيهًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ . وَيَلْزَمُ فِيهِ الإِْسَاءَةُ ، وَلاَ يَجِبُ فِدَاءٌ .
وَأَمَّا الْمُحَرَّمَاتُ : فَيَدْخُل فِيهَا تَرْكُ الْوَاجِبَاتِ ، وَيُسَمِّيهِ الْحَنَفِيَّةُ : مَكْرُوهًا كَرَاهَةَ تَحْرِيمٍ . وَحُكْمُهُ إِثْمُ مَنِ ارْتَكَبَهُ بِغَيْرِ عُذْرٍ وَلُزُومُ الْفِدَاءِ فِيهِ اتِّفَاقًا عَلَى التَّفْصِيل الآْتِي :
أَمَّا الْمُفْسِدَاتُ وَسَائِرُ مُحَرَّمَاتِ الْحَجِّ فَإِنَّهَا مُتَعَلِّقَةٌ بِالإِْحْرَامِ لاَ تَخْتَصُّ بِالْحَجِّ(1).
مُبَاحَاتُ الْحَجِّ :
لَيْسَ لِلْحَجِّ مُبَاحَاتٌ خَاصَّةٌ بِهِ ، سِوَى الْمُبَاحَاتِ الَّتِي لاَ تُخِل بِمَحْظُورَاتِ الإِْحْرَامِ
- - - - - - - - - - - - -
أَحْكَامٌ خَاصَّةٌ بِالْحَجِّ :
تَتَنَاوَل هَذِهِ الأَْحْكَامُ الْمَوْضُوعَاتِ التَّالِيَةَ :
حَجُّ الْمَرْأَةِ الْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ .
حَجُّ الصَّبِيِّ .
حَجُّ الْمُغْمَى عَلَيْهِ .
الْحَجُّ عَنِ الْغَيْرِ .
الأَْوَّل - حَجُّ الْمَرْأَةِ وَالْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ :
تَخْتَصُّ الْمَرْأَةُ دُونَ الرَّجُل بِعِدَّةِ أَحْكَامٍ فِي الْحَجِّ ، بَعْضُهَا يَتَعَلَّقُ بِالإِْحْرَامِ ، فَيُنْظَرُ فِيهِ ، وَبَعْضُهَا يَتَعَلَّقُ بِمَنَاسِكِ الْحَجِّ ، وَسَبَقَتْ فِي مَوَاضِعِهَا .
وَنُبَيِّنُ هُنَا أَحْكَامًا أُخْرَى هَامَةً ، هِيَ أَحْكَامُ حَجِّ الْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ ، وَلَهُ صُوَرٌ مُتَعَدِّدَةٌ نُبَيِّنُ حُكْمَهَا فِيمَا يَلِي :
__________
(1) - كما أوضح ذلك رحمة الله السندي في لباب المناسك وعلي القاري في شرحه " المسلك المتقسط " ص 53(2/32)
أ - أَنْ تُحْرِمَ الْمَرْأَةُ بِالْحَجِّ مُفْرِدَةً أَوْ قَارِنَةً ، ثُمَّ يَمْنَعَهَا الْحَيْضُ أَوِ النِّفَاسُ مِنْ أَدَاءِ الطَّوَافِ ، فَإِنَّهَا تَمْكُثُ حَتَّى تَقِفَ بِعَرَفَةَ وَتَأْتِيَ بِكَافَّةِ أَعْمَال الْحَجِّ فِيمَا عَدَا الطَّوَافَ وَالسَّعْيَ ، فَإِذَا طَهُرَتْ تَطُوفُ طَوَافًا وَاحِدًا وَتَسْعَى سَعْيًا وَاحِدًا إِنْ كَانَتْ مُفْرِدَةً . وَتَطُوفُ طَوَافَيْنِ وَتَسْعَى سَعْيًا لِلْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ إِنْ
كَانَتْ قَارِنَةً ، حَسْبَمَا يَجِبُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ ، وَطَوَافًا وَسَعْيًا وَاحِدًا لِلْقِرَانِ عِنْدَ غَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ ، وَلاَ يَسْقُطُ عَنْهَا طَوَافُ الْوَدَاعِ فِي هَاتَيْنِ الصُّورَتَيْنِ اتِّفَاقًا(1).
وَيَسْقُطُ عَنْهَا طَوَافُ الْقُدُومِ ، أَمَّا عِنْدَ الْجُمْهُورِ فَلأَِنَّهُ سُنَّةٌ فَاتَ وَقْتُهَا ، وَأَمَّا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فَلِكَوْنِهِ عُذْرًا يَسْقُطُ بِهِ ، وَلَوْ كَانَ وَاجِبًا ، إِلاَّ أَنْ يَزُول الْمَانِعُ وَيَتَّسِعَ الزَّمَنُ لِطَوَافِ الْقُدُومِ ، فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يَجِبُ عَلَيْهَا(2).
ب - أَنْ تُحْرِمَ بِالْعُمْرَةِ ثُمَّ تَحِيضَ أَوْ تُنْفَسَ قَبْل الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ ، وَلاَ يَتَّسِعُ الْوَقْتُ كَيْ تَطْهُرَ وَتَعْتَمِرَ قَبْل الإِْحْرَامِ بِالْحَجِّ :
__________
(1) - المبسوط 4 / 179 ، وشرح الهداية 2 / 223 - 224 .
(2) - الشرح الكبير 2 / 34 .(2/33)
قَرَّرَ الْحَنَفِيَّةُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ : أَنَّ الْمَرْأَةَ تُحْرِمُ بِالْحَجِّ أَيْ تَنْوِيهِ وَتُلَبِّي ، وَتُؤَدِّي أَعْمَال الْحَجِّ كَمَا ذَكَرْنَا بِالنِّسْبَةِ لِلْمُفْرِدَةِ ، وَتُصْبِحُ بِهَذَا رَافِضَةً لِلْعُمْرَةِ ، أَيْ مُلْغِيَةً لَهَا ، وَتُحْتَسَبُ لَهَا حَجَّةً فَقَطْ ، فَإِذَا أَرَادَتِ الْعُمْرَةَ تُهِل بِهَا بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ أَعْمَال الْحَجِّ(1)وَلَيْسَ لَهَا إِرْدَافُ الْحَجِّ عَلَى الْعُمْرَةِ عِنْدَهُمْ(2).
أَمَّا غَيْرُ الْحَنَفِيَّةِ فَقَالُوا : لاَ تُلْغِي الْعُمْرَةَ ، بَل تُحْرِمُ بِالْحَجِّ ، وَتُصْبِحُ قَارِنَةً ، فَتُحْتَسَبُ لَهَا الْعُمْرَةُ ، وَقَدْ كَفَى عَنْهَا طَوَافُ الْحَجِّ وَسَعْيُهُ تَبَعًالِمَذْهَبِهِمْ فِي طَوَافِ الْقَارِنِ وَسَعْيِهِ أَنَّهُمَا يُجْزِئَانِ عَنِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ ( انْظُرْ مُصْطَلَحَ قِرَانٍ ) .
وَعَلَيْهَا هَدْيُ الْقِرَانِ عِنْدَهُمْ ، وَلاَ يَسْقُطُ عَنْهَا طَوَافُ الْوَدَاعِ اتِّفَاقًا .
ج - لَوْ حَاضَتْ فِي أَيَّامِ النَّحْرِ بَعْدَ أَنْ مَضَتْ عَلَيْهَا فَتْرَةٌ تَصْلُحُ لِلطَّوَافِ فَأَخَّرَتْ طَوَافَ الإِْفَاضَةِ عَنْ وَقْتِهِ بِسَبَبِ الْحَيْضِ وَجَبَ عَلَيْهَا دَمٌ بِهَذَا التَّأْخِيرِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ . أَمَّا إِذَا حَاضَتْ قَبْل يَوْمِ النَّحْرِ أَوْ بَعْدَهُ بِوَقْتٍ يَسِيرٍ لاَ يَكْفِي لِلإِْفَاضَةِ فَتَأَخَّرَ طَوَافُهَا عَنْ وَقْتِهِ بِسَبَبِ ذَلِكَ فَلاَ جَزَاءَ عَلَيْهَا وَلاَ إِثْمَ(3)
__________
(1) - المبسوط 4 / 35 و 36 ، وفتح القدير الموضع السابق .
(2) - انظر مصطلح إحرام ( ف 23 - 27 ) .
(3) - المغني 3 / 481 - 484 .(2/34)
وَلاَ يُتَصَوَّرُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ ذَلِكَ ، لأَِنَّ وَقْتَ طَوَافِ الإِْفَاضَةِ الْوَاجِبَ يَمْتَدُّ عِنْدَهُمْ لآِخِرِ ذِي الْحِجَّةِ ، وَلاَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ لأَِنَّهُ لاَ وَقْتَ يَلْزَمُ الْجَزَاءُ بِتَأْخِيرِهِ عَنْهُ عِنْدَهُمْ(1).
د - إِنْ حَاضَتْ بَعْدَ الْوُقُوفِ وَطَوَافِ الزِّيَارَةِ فَإِنَّهَا تُتِمُّ أَعْمَال الْحَجِّ ، ثُمَّ تَنْصَرِفُ ، وَيَسْقُطُ عَنْهَا طَوَافُ الْوَدَاعِ ، إِنْ فَارَقَتْ مَكَّةَ قَبْل أَنْ تَطْهُرَ اتِّفَاقًا بَيْنَ الْعُلَمَاءِ ، وَلاَ يَجِبُ عَلَيْهَا الْفِدَاءُ بِتَرْكِهِ(2)
حَجُّ الصَّبِيِّ :
لاَ يَجِبُ الْحَجُّ عَلَى الصَّبِيِّ قَبْل الْبُلُوغِ إِجْمَاعًا ، لَكِنْ إِذَا فَعَلَهُ صَحَّ مِنْهُ ، وَكَانَ نَفْلاً ، وَعَلَيْهِ حَجَّةٌ أُخْرَى إِذَا بَلَغَ إِجْمَاعًا .
وَتَتَفَاوَتُ كَيْفِيَّةُ إِحْرَامِ الصَّبِيِّ وَأَدَائِهِ الْمَنَاسِكَ بِتَفَاوُتِ سِنِّهِ هَل هُوَ مُمَيِّزٌ أَوْ لاَ .
__________
(1) - وإذا خافت فوات الرفقة أو مواعيد السفر بانتظار الطهر، فإنها تطوف طواف الزيارة وهي حائض بعد أن تتحفظ وتغتسل غسل نظافة وعليها بدنة عند أبي حنيفة ، وشاة عند أحمد ، ولا شيء عليها عند ابن تيمية . والأخذ بهذا الرأي فيه توسعة وإزالة حرج في الظروف الحالية
انظر : مجموع الفتاوى - (ج 23 / ص 171) ومجموع الفتاوى - (ج 26 / ص 176) ومجموع الفتاوى - (ج 26 / ص 198-210) وفتاوى الأزهر - (ج 1 / ص 198) وفتاوى الأزهر - (ج 1 / ص 205) ولقاءات الباب المفتوح - (ج 152 / ص 10) ومجلة مجمع الفقه الإسلامي - (ج 2 / ص 21362)
(2) - شروح الهداية 2 / 224 ، وانظر المبسوط 4 / 179 ، وانظر ما سبق طواف الوداع ( ف 174 ) .(2/35)
وَيُلْحَقُ بِالصَّبِيِّ غَيْرُ الْمُمَيِّزِ الْمَجْنُونُ جُنُونًا مُطْبِقًا بِاتِّفَاقِهِمْ(1).
حَجُّ الْمُغْمَى عَلَيْهِ وَالنَّائِمِ الْمَرِيضِ :
إِنْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ قَبْل الإِْحْرَامِ أَحْرَمَ عَنْهُ رُفْقَتُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَإِنْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ بَعْدَ الإِْحْرَامِ فَهَذَا حَمْلُهُ مُتَعَيَّنٌ عَلَى رُفَقَائِهِ عَلَى التَّفْصِيل التَّالِي :
1 - الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ : عَلَى التَّفْصِيل السَّابِقِ بِالنِّسْبَةِ لِرُكْنِ الْوُقُوفِ ، وَلاَ سِيَّمَا فِي مَذْهَبِ
الْمَالِكِيَّةِ ، وَمِثْلُهُ النَّائِمُ الْمَرِيضُ الَّذِي لَمْ يُفِقْ مُدَّةَ مُكْثِهِ حَتَّى دَفَعَ مَعَ النَّاسِ(2).
2 - يَحْمِل الْمُغْمَى عَلَيْهِ رِفَاقُهُ فِي الطَّوَافِ وَيَطُوفُونَ بِهِ ، وَيُجْزِئُ الطَّوَافُ الْوَاحِدُ عَنِ الْحَامِل وَالْمَحْمُول ، إِنْ نَوَاهُ الْحَامِل عَنْ نَفْسِهِ وَعَنِ الْمَحْمُول ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ أَمْرِ الْمُغْمَى عَلَيْهِ .
أَمَّا الْمَرِيضُ النَّائِمُ فَإِنْ كَانَ الطَّوَافُ بِأَمْرِهِ وَحَمَلُوهُ مِنْ فَوْرِهِ ، أَيْ مِنْ سَاعَتِهِ عُرْفًا وَعَادَةً يَجُوزُ ، إِلاَّ بِأَنْ طَافُوا بِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَأْمُرَ بِالطَّوَافِ بِهِ ، أَوْ فَعَلُوهُ لَكِنْ لاَ مِنْ فَوْرِهِ فَلاَ يُجْزِيهِ الطَّوَافُ .
هَذَا كُلُّهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ(3). أَمَّا عَلَى مَذْهَبِ غَيْرِهِمْ فَيُنْتَظَرُ بِهِ حَتَّى يُفِيقَ ، وَيَسْتَوْفِيَ شُرُوطَ الطَّوَافِ ، الَّتِي مِنْهَا الطَّهَارَتَانِ
__________
(1) - على تفاصيل في إفاقته وما يلزم فيها . انظر المسلك المتقسط ص 78 ، والإيضاح ص 556 ، والشرح الكبير 2 / 3 ، والمغني 3 / 249 .
(2) - انظر مواهب الجليل 3 / 95 .
(3) - المسلك المتقسط ص 100 - 101 .(2/36)
3 - وَيُمْكِنُ أَنْ يَسْعَى بِهِ بِاتِّفَاقِهِمْ ، لِعَدَمِ اشْتِرَاطِ النِّيَّةِ وَالطَّهَارَتَيْنِ فِي السَّعْيِ .
4 - وَيَحْلِقُ لَهُ رِفَاقُهُ ، لِعَدَمِ اشْتِرَاطِ النِّيَّةِ فِيهِ .
5 - وَيَرْمِي عَنْهُ رِفَاقُهُ
6 - وَيَسْقُطُ عَنْهُ طَوَافُ الْوَدَاعِ إِذَا سَافَرَ بِهِ رُفْقَتُهُ ، وَلَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْهُ .
الْحَجُّ عَنِ الْغَيْرِ :
مَشْرُوعِيَّةُ الْحَجِّ عَنِ الْغَيْرِ :
ذَهَبَ الْجُمْهُورُ ( الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ ) إِلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْحَجِّ عَنِ الْغَيْرِ(1)
وَقَابِلِيَّتِهِ لِلنِّيَابَةِ ، وَذَهَبَ مَالِكٌ عَلَى الْمُعْتَمَدِ فِي مَذْهَبِهِ إِلَى أَنَّ الْحَجَّ لاَ يَقْبَل النِّيَابَةَ لاَ عَنِ الْحَيِّ وَلاَ عَنِ الْمَيِّتِ ، مَعْذُورًا أَوْ غَيْرَ مَعْذُورٍ . وَقَالُوا : إِنَّ الأَْفْضَل أَنْ يَتَطَوَّعَ عَنْهُ وَلِيُّهُ بِغَيْرِ الْحَجِّ ، كَأَنْ يُهْدِيَ أَوْ يَتَصَدَّقَ عَنْهُ ، أَوْ يَدْعُوَ لَهُ ، أَوْ يُعْتِقَ(2).
اسْتَدَل الْجُمْهُورُ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ حَجِّ الإِْنْسَانِ عَنْ غَيْرِهِ بِالسُّنَّةِ الثَّابِتَةِ الْمَشْهُورَةِ ، وَبِالْعَقْل .
__________
(1) - أي أن ( أل ) هنا بديل عن الإضافة ، وأصل العبارة " عن غيره " فحذف المضاف وعوضت ( أل ) عنه . وانظر للاستزادة في مسالة إدخال ( أل ) على غير وتعريفها بالإضافة جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 1 / والكشاف للزمخشري 1 / 16 - 17 وغيرهما لمناسبة تفسير " غير المغضوب عليهم " .
(2) - انظر فتح القدير 2 / 308 ، ومغني المحتاج 1 / 468 - 469 ، والمغني 3 / 227 - 228 ، ومواهب الجليل 2 / 543 ، وحاشية الدسوقي 1 / 18 .(2/37)
أَمَّا السُّنَّةُ : فَمِنْهَا حَدِيثُ ٍ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ - رضى الله عنهما - قَالَ كَانَ الْفَضْلُ رَدِيفَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَجَاءَتِ امْرَأَةٌ مِنْ خَثْعَمَ ، فَجَعَلَ الْفَضْلُ يَنْظُرُ إِلَيْهَا وَتَنْظُرُ إِلَيْهِ ، وَجَعَلَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - يَصْرِفُ وَجْهَ الْفَضْلِ إِلَى الشِّقِّ الآخَرِ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ فَرِيضَةَ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ فِى الْحَجِّ أَدْرَكَتْ أَبِى شَيْخًا كَبِيرًا ، لاَ يَثْبُتُ عَلَى الرَّاحِلَةِ ، أَفَأَحُجُّ عَنْهُ قَالَ " نَعَمْ " . وَذَلِكَ فِى حَجَّةِ الْوَدَاعِ(1).
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضى الله عنهما - أَنَّ امْرَأَةً مِنْ جُهَيْنَةَ جَاءَتْ إِلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَتْ إِنَّ أُمِّى نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ ، فَلَمْ تَحُجَّ(2)حَتَّى مَاتَتْ أَفَأَحُجُّ عَنْهَا قَالَ " نَعَمْ . حُجِّى عَنْهَا ، أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكِ دَيْنٌ أَكُنْتِ قَاضِيَةً اقْضُوا اللَّهَ ، فَاللَّهُ أَحَقُّ بِالْوَفَاءِ " ..
__________
(1) - صحيح البخارى برقم (1513 )
(2) -صحيح البخارى برقم (1852)(2/38)
وَأَمَّا الْعَقْل ، فَقَال الْكَمَال بْنُ الْهُمَامِ : وَكَانَ مُقْتَضَى الْقِيَاسِ أَنْ لاَ تَجْرِيَ النِّيَابَةُ فِي الْحَجِّ ، لِتَضَمُّنِهِ الْمَشَقَّتَيْنِ الْبَدَنِيَّةَ وَالْمَالِيَّةَ ، وَالأُْولَى لَمْ تَقُمْ بِالآْمِرِ ، لَكِنَّهُ تَعَالَى رَخَّصَ فِي إِسْقَاطِهِ بِتَحَمُّل الْمَشَقَّةِ الأُْخْرَى ، أَعْنِي إِخْرَاجَ الْمَال عِنْدَ الْعَجْزِ الْمُسْتَمِرِّ إِلَى الْمَوْتِ ، رَحْمَةً وَفَضْلاً ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَدْفَعَ نَفَقَةَ الْحَجِّ إِلَى مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ ، بِخِلاَفِ حَال الْقُدْرَةِ فَإِنَّهُ لَمْ يَعْذُرْهُ لأَِنَّ تَرْكَهُ لَيْسَ إِلاَّ لِمُجَرَّدِ إِيثَارِ رَاحَةِ نَفْسِهِ عَلَى أَمْرِ رَبِّهِ ، وَهُوَ بِهَذَا يَسْتَحِقُّ الْعِقَابَ ، لاَ التَّخْفِيفَ فِي طَرِيقِ الإِْسْقَاطِ ، وَإِنَّمَا شَرَطَ دَوَامَهُ ( أَيِ الْعُذْرِ ) إِلَى الْمَوْتِ لأَِنَّ الْحَجَّ فَرْضُ الْعُمُرِ(1). . . "
وَقَال ابْنُ قُدَامَةَ : هَذِهِ عِبَادَةٌ تَجِبُ بِإِفْسَادِهَا الْكَفَّارَةُ ، فَجَازَ أَنْ يَقُومَ غَيْرُ فِعْلِهِ فِيهَا مَقَامَ فِعْلِهِ ، كَالصَّوْمِ إِذَا عَجَزَ عَنْهُ افْتَدَى بِخِلاَفِ الصَّلاَةِ(2)" .
وَأَخَذَ الْمَالِكِيَّةُ بِالأَْصْل ، وَهُوَ عَدَمُ جَرَيَانِ النِّيَابَةِ فِي الْعِبَادَةِ الْبَدَنِيَّةِ ، كَالصَّوْمِ(3)
شُرُوطُ الْحَجِّ الْفَرْضِ عَنِ الْغَيْرِ :
أَوَّلاً - شُرُوطُ وُجُوبِ الإِْحْجَاجِ :
يَتَضَمَّنُ ذَلِكَ شُرُوطَ الأَْصِيل الْمَحْجُوجِ عَنْهُ لِحَجَّةِ الْفَرْضِ .
__________
(1) - فتح القدير 2 / 310 .
(2) - المغني 3 / 228 .
(3) -مواهب الجليل في الموضع السابق ، وفيه توسع ، والتاج والإكليل لمختصر خليل 3 / 7 .(2/39)
يُشْتَرَطُ لِوُجُوبِ الإِْحْجَاجِ عَنِ الْمُكَلَّفِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ - خِلاَفًا لِلْمَالِكِيَّةِ - : الْعَجْزُ عَنْ أَدَاءِ الْحَجِّ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ .
وَيَشْمَل ذَلِكَ مَا يَلِي :
أ - كُل مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَجُّ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى الْحَجِّ بِنَفْسِهِ وَحَضَرَهُ الْمَوْتُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْوَصِيَّةُ بِالإِْحْجَاجِ عَنْهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ . سَوَاءٌ حَجَّةُ الإِْسْلاَمِ ، أَوِ النَّذْرِ ، أَوِ الْقَضَاءِ
وَلَمْ يُوقِفِ الشَّافِعِيَّةُ وُجُوبَ الإِْحْجَاجِ عَنْهُ عَلَى الْوَصِيَّةِ إِجْرَاءً لِلْحَجِّ مَجْرَى الدُّيُونِ .
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ : فَلاَ يُوجِبُونَ عَلَيْهِ الْوَصِيَّةَ ، وَلاَ يَسْقُطُ عَنْهُ الْفَرْضُ بِأَدَاءِ الْغَيْرِ عَنْهُ - كَمَا هُوَ أَصْل مَذْهَبِهِمُ الَّذِي عَرَفْنَاهُ - لَكِنْ إِذَا أَوْصَى نَفَذَتْ وَصِيَّتُهُ ، وَإِنْ لَمْ يُوصِ لَمْ يُرْسَل مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ .
ب - مَنْ تَوَفَّرَتْ فِيهِ سَائِرُ شُرُوطِ وُجُوبِ الْحَجِّ وَاخْتَل شَيْءٌ مِنْ شُرُوطِ الأَْدَاءِ بِالنَّفْسِ ، يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَحُجَّ عَنْ نَفْسِهِ ، أَوْ يُوصِيَ بِالإِْحْجَاجِ عَنْهُ إِذَا لَمْ يُرْسِل مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ .
ج - مَنْ تَوَفَّرَتْ فِيهِ شُرُوطُ وُجُوبِ الْحَجِّ بِنَفْسِهِ فَلَمْ يَحُجَّ حَتَّى عَجَزَ عَنْ الأَْدَاءِ بِنَفْسِهِ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَحُجَّ عَنْهُ فِي حَال حَيَاتِهِ ، أَوْ يُوصِيَ بِالإِْحْجَاجِ عَنْهُ بَعْدَ مَوْتِهِ .(2/40)
وَيَتَحَقَّقُ الْعَجْزُ بِالْمَوْتِ ، أَوْ بِالْحَبْسِ ، وَالْمَنْعِ ، وَالْمَرَضِ الَّذِي لاَ يُرْجَى زَوَالُهُ كَالزَّمَانَةِ وَالْفَالِجِ ، وَالْعَمَى وَالْعَرَجِ ، وَالْهَرَمِ الَّذِي لاَ يَقْدِرُ صَاحِبُهُ عَلَى الاِسْتِمْسَاكِ ، وَعَدَمِ أَمْنِ الطَّرِيقِ ، وَعَدَمِ الْمَحْرَمِ بِالنِّسْبَةِ لِلْمَرْأَةِ ، إِذَا اسْتَمَرَّتْ هَذِهِ الآْفَاتُ إِلَى الْمَوْتِ(1).
ثَانِيًا : شُرُوطُ النَّائِبِ عَنْ غَيْرِهِ فِي الْحَجِّ :
اشْتَرَطَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ لإِِجْزَاءِ الْحَجِّ الْفَرْضِ عَنِ الأَْصِيل أَنْ يَكُونَ النَّائِبُ قَدْ حَجَّ حَجَّةَ الإِْسْلاَمِ عَنْ نَفْسِهِ أَوَّلاً ، وَإِلاَّ كَانَتِ الْحَجَّةُ عَنْ نَفْسِهِ ، وَلَمْ تُجْزِئْ عَنِ الأَْصِيل ، وَهُوَ قَوْل الأَْوْزَاعِيِّ وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهُوَيْهِ(2).
__________
(1) - المسلك المتقسط ص 287 ، والإيضاح في مناسك الحج للنووي وحاشيته للهيثمي ص 108 - 109 ، ومغني المحتاج 1 / 468 - 469 ، والمغني 3 / 227 - 228 ، والفروع 3 / 245 ، ومواهب الجليل 2 / 543 .
(2) - المجموع والمهذب 7 / 98 ، والإيضاح ص 119 ، والمغني 3 / 245 ، والفروع 3 / 265 - 266 .(2/41)
وَاكْتَفَى الْحَنَفِيَّةُ بِأَهْلِيَّةِ الْمَأْمُورِ لِصِحَّةِ الْحَجِّ ، بِأَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا عَاقِلاً ، فَأَجَازُوا أَنْ يَكُونَ الْمَأْمُورُ لَمْ يَحُجَّ عَنْ نَفْسِهِ حَجَّةَ الإِْسْلاَمِ ( وَهُوَ الْمُسَمَّى صَرُورَةً )(1)، وَأَجَازُوا حَجَّ الْعَبْدِ ، وَالْمُرَاهِقِ عَنْ غَيْرِهِمْ ، وَتَصِحُّ هَذِهِ الْحَجَّةُ الْبَدَلِيَّةُ وَتَبْرَأُ ذِمَّةُ الأَْصِيل ، مَعَ الْكَرَاهَةِ التَّنْزِيهِيَّةِ بِالنِّسْبَةِ لِلآْمِرِ ، وَالْكَرَاهَةِ التَّحْرِيمِيَّةِ بِالنِّسْبَةِ لِلْمَأْمُورِ إِنْ كَانَ تَحَقَّقَ وُجُوبُ الْحَجِّ عَلَيْهِ . وَنَحْوُ ذَلِكَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فِي الْحَجِّ عَنْ الْمَيِّتِ يَصِحُّ عَلَى الْقَوْل بِوُجُوبِ الْحَجِّ عَلَى التَّرَاخِي عِنْدَهُمْ ، أَمَّا عَلَى وُجُوبِهِ عَلَى الْفَوْرِ فَيَحْرُمُ الْحَجُّ عَنْهُ(2).
اسْتَدَل الأَْوَّلُونَ : بِمَا أَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - سَمِعَ رَجُلاً يَقُولُ لَبَّيْكَ عَنْ شُبْرُمَةَ. قَالَ: " مَنْ شُبْرُمَةَ ". قَالَ أَخٌ لِى أَوْ قَرِيبٌ لِى. قَالَ : " حَجَجْتَ عَنْ نَفْسِكَ ". قَالَ لاَ. قَالَ : " حُجَّ عَنْ نَفْسِكَ ثُمَّ حُجَّ عَنْ شُبْرُمَةَ ".(3).
وَاسْتَدَل الْحَنَفِيَّةُ بِإِطْلاَقِ حَدِيثِ الْخَثْعَمِيَّةِ السَّابِقِ ، فَإِنَّهُ - صلى الله عليه وسلم - قَال لَهَا : حُجِّي عَنْ أَبِيكِ مِنْ غَيْرِ اسْتِخْبَارِهَا عَنْ حَجِّهَا لِنَفْسِهَا قَبْل ذَلِكَ ، وَتَرْكُ الاِسْتِفْصَال يَتَنَزَّل مَنْزِلَةَ عُمُومِ الْمَقَال .
__________
(1) - الصرورة : من لم يحج .
(2) - المسلك المتقسط ص 299 ، وفيه مناقشة حول المراهق ص 300 - 301 ، وتنوير الأبصار مع شرحه وحاشيته 2 / 331 ، ومواهب الجليل 3 / 5 ، والشرح الكبير 2 / 18 - 20 .
(3) - سنن أبى داود برقم (1813 ) صحيح(2/42)
ثَالِثًا : شُرُوطُ صِحَّةِ الْحَجِّ الْوَاجِبِ عَنِِ الْغَيْرِ :
أ - يُشْتَرَطُ أَنْ يَأْمُرَ الأَْصِيل بِالْحَجِّ عَنْهُ ، بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ بِالنِّسْبَةِ لِلْحَيِّ .
أَمَّا الْمَيِّتُ فَلاَ يَجُوزُ حَجُّ الْغَيْرِ عَنْهُ بِدُونِ وَصِيَّتِهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ(1).
وَاسْتَثْنَى الْحَنَفِيَّةُ ، إِذَا حَجَّ أَوْ أَحَجَّ عَنْ مُوَرِّثِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ فَإِنَّهُ يُجْزِيهِ ، وَتَبْرَأُ ذِمَّةُ الْمَيِّتِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ، مُسْتَدِلِّينَ بِحَدِيثِ الْخَثْعَمِيَّةِ ، فَإِنَّهُ لَمْ يُفَصِّل فِي حَقِّ السَّائِل هَل أَوْصَى أَوْ لَمْ يُوصِ ، وَهُوَ وَارِثٌ .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ : مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ حَجٌّ وَجَبَ الإِْحْجَاجُ عَنْهُ مِنْ جَمِيعِ تَرِكَتِهِ ، سَوَاءٌ أَوْصَى بِهِ أَمْ لاَ ، كَمَا تُقْضَى مِنْهَا دُيُونُهُ سَوَاءٌ أَوْصَى بِهَا أَمْ لاَ . فَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ تَرِكَةٌ اسْتُحِبَّ لِوَارِثِهِ أَنْ يَحُجَّ عَنْهُ ، فَإِنْ حَجَّ عَنْهُ بِنَفْسِهِ أَوْ أَرْسَل مَنْ حَجَّ عَنْهُ سَقَطَ الْحَجُّ عَنِ الْمَيِّتِ ، وَلَوْ حَجَّ عَنْهُ أَجْنَبِيٌّ جَازَ ، وَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ الْوَارِثُ ،كَمَا يُقْضَى دَيْنُهُ بِغَيْرِ إِذْنِ الْوَارِثِ(2)"
__________
(1) - المسلك المتقسط ص 288 ، والدر بشرحه وحاشيته 2 / 328 ، وشرح الكبير 2 / 18 - 19 ، وإجزاء تبرع الأجنبي بحجة الفرض عمن لم يوص ، رواية مرجوحة عند الحنفية . انظر رد المحتار 2 / 328 ، 34 ، 37 .
(2) - شرح المنهاج بحاشيتي قليوبي وعميرة 2 / 90 ، والسياق منها ، والإيضاح مع حاشيته ص 209 ، والمجموع 7 / 78 ، والمغني لابن 3 / 241 ، والفروع 3 / 249 .(2/43)
وَمَأْخَذُهُمْ تَشْبِيهُ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - الْحَجَّ بِالدَّيْنِ ، فَأَجْرَوْا عَلَى قَضَاءِ الْحَجِّ أَحْكَامَ الدُّيُونِ . فَإِذَا مَاتَ وَالْحَجُّ فِي ذِمَّتِهِ يَجِبُ الإِْحْجَاجُ عَنْهُ مِنْ رَأْسِ الْمَال وَلَوْ لَمْ يُوصِ ، وَهُوَ مُقَدَّمٌ عَلَى وَفَاءِ الدُّيُونِ ، عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ : مَنْ ضَاقَ مَالُهُ وَكَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ يُحَاصُّ نَفَقَةُ الْحَجِّ مِنَ الدَّيْنِ ، وَيُؤْخَذُ لِلْحَجِّ حِصَّتُهُ فَيَحُجُّ بِهَا مِنْ حَيْثُ تَبْلُغُ(1).
ب - أَنْ تَكُونَ نَفَقَةُ الْحَجِّ مِنْ مَال الآْمِرِ كُلُّهَا أَوْ أَكْثَرُهَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ ، سِوَى دَمِ الْقِرَانِ وَالتَّمَتُّعِ ، فَهُمَا عَلَى الْحَاجِّ عِنْدَهُمْ . لَكِنْ إِذَا تَبَرَّعَ الْوَارِثُ بِالْحَجِّ عَنْ مُورَثِهِ تَبْرَأُ ذِمَّةُ الْمَيِّتِ إِنْ لَمْ يَكُنْ أَوْصَى بِالإِْحْجَاجِ عَنْهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ(2).
أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فَقَدْ أَجَازُوا أَنْ يَتَبَرَّعَ بِالْحَجِّ عَنْ غَيْرِ الْمَيِّتِ مُطْلَقًا ، كَمَا يَجُوزُ أَنْ يَتَبَرَّعَ بِقَضَاءِ دَيْنِهِ(3).
وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَالأَْمْرُ عِنْدَهُمْ فِي هَاتَيْنِ الْمَسْأَلَتَيْنِ تَابِعٌ لِلْوَصِيَّةِ ، وَلِتَنْفِيذِهَا بِعَقْدِ الإِْجَارَةِ ، أَوْ لِتَبَرُّعِ النَّائِبِ ، لاَ لإِِسْقَاطِ الْفَرِيضَةِ عَنِ الْمَيِّتِ .
__________
(1) - المغني 3 / 244 ، والفروع 3 / 251 .
(2) - رد المحتار 2 / 328 ، والتنوير وشروحه 2 / 338 - 339 ، وانظر المسلك المتقسط ص 289 - 290
(3) - كما سبق إشارة لذلك في الشرط السابق ، وانظر الفروع 3 / 250 وفيه قوله : " تجوزا لنيابة بلا مال "(2/44)
وَأَمَّا الْحَيُّ الْمَعْضُوبُ : إِذَا بُذِل لَهُ الْمَال أَوِ الطَّاعَةُ فَلاَ يَلْزَمُهُ قَبُول ذَلِكَ لِلإِْحْجَاجِ عَنْ نَفْسِهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ(1).
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ : لَوْ بَذَل لَهُ وَلَدُهُ أَوْ أَجْنَبِيٌّ مَالاً لِلأُْجْرَةِ لَمْ يَجِبْ قَبُولُهُ فِي الأَْصَحِّ . وَلَوْ وَجَدَ مَالاً أَقَل مِنْ أُجْرَةِ الْمِثْل وَرَضِيَ بِهِ الأَْجِيرُ لَزِمَهُ الاِسْتِئْجَارُ ، لأَِنَّهُ مُسْتَطِيعٌ ، وَالْمِنَّةُ فِيهِ لَيْسَتْ كَالْمِنَّةِ فِي الْمَال .
وَلَوْ لَمْ يَجِدْ أُجْرَةً وَبَذَل لَهُ وَلَدُهُ الطَّاعَةَ بِأَنْ يَذْهَبَ هُوَ بِنَفْسِهِ لِلْحَجِّ عَنْهُ وَجَبَ عَلَيْهِ قَبُولُهُ ، وَهُوَ الإِْذْنُ لَهُ فِي ذَلِكَ ، لأَِنَّ الْمِنَّةَ فِي ذَلِكَ لَيْسَتْ كَالْمِنَّةِ فِي الْمَال . لِحُصُول الاِسْتِطَاعَةِ ، وَكَذَا الأَْجْنَبِيُّ فِي الأَْصَحِّ .
وَيُشْتَرَطُ لِلُزُومِ قَبُول طَاعَتِهِمْ أَرْبَعَةُ شُرُوطٍ : أَنْ يَثِقَ بِالْبَازِل ، وَأَنْ لاَ يَكُونَ عَلَيْهِ حَجٌّ وَلَوْ نَذْرًا ، وَأَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يَصِحُّ مِنْهُمْ حَجَّةُ الإِْسْلاَمِ ، وَأَنْ لاَ يَكُونَا مَعْضُوبَيْنِ(2).
ج - يُشْتَرَطُ أَنْ يُحَجَّ عَنْهُ مِنْ وَطَنِهِ إِنِ اتَّسَعَ ثُلُثُ التَّرِكَةِ ، وَإِنْ لَمْ يَتَّسِعْ يَحُجُّ عَنْهُ مِنْ حَيْثُ يَبْلُغُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ .
__________
(1) - لما هو مقرر عندهم في شرط الاستطاعة للزاد وآلة الركوب .
(2) - مغني المحتاج 1 / 469 - 470 .(2/45)
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ يُعْتَبَرُ اتِّسَاعُ جَمِيعِ مَال الْمَيِّتِ ، لأَِنَّهُ دَيْنٌ وَاجِبٌ ، فَكَانَ مِنْ رَأْسِ الْمَال كَدَيْنِ الآْدَمِيِّ . لَكِنْ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ يَجِبُ قَضَاؤُهُ عَنْهُ مِنَ الْمِيقَاتِ لأَِنَّ الْحَجَّ يَجِبُ مِنَ الْمِيقَاتِ ، وَقَال الْحَنَابِلَةُ : الْحَجُّ عَلَى الْمَيِّتِ مِنْ بَلَدِهِ فَوَجَبَ أَنْ يَنُوبَ عَنْهُ مِنْهُ(1)" .
د - النِّيَّةُ : أَيْ نِيَّةُ الْحَاجِّ الْمَأْمُورِ أَدَاءَ الْحَجِّ عَنِ الأَْصِيل .
بِأَنْ يَنْوِيَ بِقَلْبِهِ وَيَقُول بِلِسَانِهِ ( وَالتَّلَفُّظُ أَفْضَل ) : أَحْرَمْتُ بِالْحَجِّ عَنْ فُلاَنٍ ، وَلَبَّيْكَ بِحَجَّةٍ عَنْ فُلاَنٍ
وَإِنِ اكْتَفَى بِنِيَّةِ الْقَلْبِ كَفَى ذَلِكَ ، اتِّفَاقًا . وَلَوْ نَسِيَ اسْمَهُ وَنَوَى أَنْ يَكُونَ الْحَجُّ عَنِ الشَّخْصِ الْمَقْصُودِ أَنْ يَحُجَّ عَنْهُ يَصِحُّ ، وَيَقَعُ الْحَجُّ عَنِ الأَْصِيل(2).
__________
(1) - المسلك ص 291 ، والشرح الكبير 2 / 19 ، وشرح المنهاج 2 / 90 ، والمغني 3 / 241 ، والفروع 3 / 249 ، والمهذب 7 / 88 ، والمجموع 7 / 89 .
(2) - المسلك ص 292 ، ومواهب الجليل 3 / 7 وفيه التصريح بالاتفاق ، والمجموع 7 / 79 .(2/46)
هـ - أَنْ يَحُجَّ الْمَأْمُورُ بِنَفْسِهِ : نَصَّ عَلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ . فَلَوْ مَرِضَ الْمَأْمُورُ أَوْ حُبِسَ فَدَفَعَ الْمَال إِلَى غَيْرِهِ بِغَيْرِ إِذْنِ الْمَحْجُوجِ عَنْهُ لاَ يَقَعُ الْحَجُّ عَنِ الْمَيِّتِ ، وَالْحَاجُّ الأَْوَّل وَالثَّانِي ضَامِنَانِ لِنَفَقَةِ الْحَجِّ ، إِلاَّ إِذَا قَال الآْمِرُ بِالْحَجِّ : اصْنَعْ مَا شِئْتَ فَلَهُ ، حِينَئِذٍ أَنْ يَدْفَعَ الْمَال إِلَى غَيْرِهِ ، وَيَقَعُ الْحَجُّ عَنِ الآْمِرِ(1).
و - أَنْ يُحْرِمَ بِالْحَجِّ مِنْ مِيقَاتِ الشَّخْصِ الَّذِي يَحُجُّ عَنْهُ مِنْ غَيْرِ مُخَالَفَةٍ . وَلَوْ أَمَرَهُ بِالإِْفْرَادِ فَقَرَنَ عَنِ الآْمِرِ فَيَقَعُ ذَلِكَ عَنِ الآْمِرِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَالصَّاحِبَيْنِ اسْتِحْسَانًا ، وَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَهُوَ مُخَالِفٌ ضَامِنٌ مِنَ النَّفَقَاتِ وَلاَ يَقَعُ عَنِ الآْمِرِ . أَمَّا إِذَا أَمَرَهُ بِالإِْفْرَادِ فَتَمَتَّعَ عَنِ الآْمِرِ لَمْ يَقَعْ حَجُّهُ عَنْهُ وَلاَ يَجُوزُ ذَلِكَ عَنْ حَجَّةِ الإِْسْلاَمِ ، وَيَضْمَنُ اتِّفَاقًا عِنْدَ أَئِمَّةِ الْحَنَفِيَّةِ ، وَالشَّافِعِيَّةِ . وَسَوَّى الْمَالِكِيَّةُ بَيْنَ الْقِرَانِ وَالتَّمَتُّعِ إِذَا فُعِلاَ وَكَانَ الإِْفْرَادُ يُجْزِئُ إِنْ كَانَ الشَّرْطُ مِنَ الْوَصِيِّ لاَ الأَْصِيل . وَصَحَّحَ الْحَنَابِلَةُ الْحَجَّ عَنِ الأَْصِيل فِي كُل الْحَالاَتِ وَيَرْجِعُ عَلَى الأَْجِيرِ بِفَرْقِ أُجْرَةِ الْمَسَافَةِ ، أَوْ تَوْفِيرِ الْمِيقَاتِ(2).
__________
(1) - المسلك ص 293 ، والشرح الكبير 2 / 20 ، ومغني المحتاج 1 / 470 في إجازة العين ، وحاشية الإيضاح ص 121 - 122 ، والمجموع 7 / 203 .
(2) - المسلك المتقسط ص 292 ، والشرح الكبير 2 / 16 ، والمجموع 7 / 114 - 115 ، والمغني 3 / 234 - 235 .(2/47)
- - - - - - - - - - - -
حَجُّ النَّفْل عَنِ الْغَيْرِ :
مَشْرُوعِيَّتُهُ :
اتَّفَقَ الْجُمْهُورُ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ حَجِّ النَّفْل عَنِ الْغَيْرِ بِإِطْلاَقٍ ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَأَحْمَدَ . وَأَجَازَهُ الْمَالِكِيَّةُ أَيْضًا مَعَ الْكَرَاهَةِ فِيهِ وَفِي النِّيَابَةِ فِي الْحَجِّ الْمَنْذُورِ .
أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَفَصَّلُوا وَقَالُوا : لاَ تَجُوزُ الاِسْتِنَابَةُ فِي حَجِّ النَّفْل عَنْ حَيٍّ لَيْسَ بِمَعْضُوبٍ ، وَلاَ عَنْ مَيِّتٍ لَمْ يُوصِ بِهِ .
أَمَّا الْمَيِّتُ الَّذِي أَوْصَى بِهِ وَالْحَيُّ الْمَعْضُوبُ إِذَا اسْتَأْجَرَ مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ ، فَفِيهِ قَوْلاَنِ مَشْهُورَانِ لِلشَّافِعِيَّةِ :
أَصَحُّهُمَا الْجَوَازُ ، وَأَنَّهُ يَسْتَحِقُّ الأُْجْرَةَ .
وَالْقَوْل الآْخَرُ عَدَمُ الْجَوَازِ ، لأَِنَّهُ إِنَّمَا جَازَ الاِسْتِنَابَةُ فِي الْفَرْضِ لِلضَّرُورَةِ ، وَلاَ ضَرُورَةَ ، فَلَمْ تَجُزِ الاِسْتِنَابَةُ فِيهِ ، كَالصَّحِيحِ ، وَيَقَعُ عَنِ الأَْجِيرِ ، وَلاَ يَسْتَحِقُّ الأُْجْرَةَ
وَيَدُل لِلْجُمْهُورِ عَلَى صِحَّةِ حَجِّ النَّفْل عَنِ الْغَيْرِ الْمُسْتَطِيعِ بِنَفْسِهِ أَنَّهَا حَجَّةٌ لاَ تَلْزَمُهُ بِنَفْسِهِ ، فَجَازَ أَنْ يَسْتَنِيبَ فِيهَا كَالْمَعْضُوبِ .
وَلأَِنَّهُ يُتَوَسَّعُ فِي النَّفْل مَا لاَ يُتَوَسَّعُ فِي الْفَرْضِ ، فَإِذَا جَازَتِ النِّيَابَةُ فِي الْفَرْضِ فَلأََنْ تَجُوزَ فِي النَّفْل أَوْلَى .
شُرُوطُهُ :
يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ حَجِّ النَّفْل عَنِ الْغَيْرِ :
الإِْسْلاَمُ ، وَالْعَقْل ، وَالتَّمْيِيزُ ، وَقَيَّدَهُ الْحَنَفِيَّةُ بِالْمُرَاهِقِ ، وَأَنْ يَكُونَ النَّائِبُ قَدْ حَجَّ الْفَرْضَ عَنْ نَفْسِهِ ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ حَجٌّ آخَرُ وَاجِبٌ ، وَذَلِكَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ .(2/48)
كَمَا يُشْتَرَطُ نِيَّةُ الْحَاجِّ النَّائِبِ الْحَجَّةَ عَنِ الأَْصِيل(1).
الاِسْتِئْجَارُ عَلَى الْحَجِّ :
مَشْرُوعِيَّتُهُ :
ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ وَهُوَ الأَْشْهَرُ عَنْ أَحْمَدَ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ الاِسْتِئْجَارُ عَلَى الْحَجِّ(2).
وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إِلَى الْجَوَازِ ، وَبِهِ أَخَذَ الْمَالِكِيَّةُ ، مُرَاعَاةً لِخِلاَفِ الشَّافِعِيَّةِ فِي جَوَازِ النِّيَابَةِ فِي حَجِّ النَّفْل(3).
فَلَوْ عُقِدَتِ الإِْجَارَةُ لِلْحَجِّ عَنِ الْغَيْرِ فَهِيَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ بَاطِلَةٌ ، لَكِنَّ الْحَجَّةَ عَنِ الأَْصِيل صَحِيحَةٌ ، عَلَى التَّحْقِيقِ فِي الْمَذْهَبِ ، وَيُسَمُّونَ الأَْجِيرَ : مَأْمُورًا ، وَنَائِبًا ، وَقَالُوا لَهُ نَفَقَةُ الْمِثْل فِي مَال الأَْصِيل ، لأَِنَّهُ حَبَسَ نَفْسَهُ لِمَنْفَعَةِ الأَْصِيل فَوَجَبَتْ نَفَقَتُهُ فِي مَالِهِ(4).
- - - - - - - - - - - - - -
الإِْخْلاَل بِأَرْكَانِ الْحَجِّ :
لاَ يَتِمُّ الْحَجُّ إِنْ أُخِل بِرُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِهِ . ثُمَّ إِنْ تُرِكَ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الْحَجِّ إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِمَانِعٍ قَاهِرٍ أَوْ بِغَيْرِ ذَلِكَ .
تَرْكُ رُكْنٍ مِنَ الْحَجِّ بِمَانِعٍ قَاهِرٍ : ( الإِْحْصَارُ ) :
__________
(1) - انظر بحث الحج النفل عن الغير في المسلك المتقسط ص 299 ، والمغني 3 / 230 ، والشرح الكبير وحاشية الدسوقي عليه 2 / 18 ، والمهذب وشرحه المجموع 7 / 92 - 94 .
(2) - المسلك المتقسط ص 288 ، ورد المحتار 2 / 228 - 229 ، والمغني 3 / 231 ، والفروع 3 / 252 ، 254 .
(3) - المجموع 7 / 102 ، ومغني المحتاج 1 / 470 ، والشرح الكبير 2 / 19 .
(4) - انظر تفصيل التحقيق والمناقشات حوله في المسلك المتقسط وإرشاد الساري بذيله ص 288 - 289 ، ورد المحتار 2 / 329 - 330 ، وانظر فتح القدير 2 / 313 .(2/49)
تَرْكُ رُكْنٍ أَوْ أَكْثَر مِنْ أَرْكَانِ الْحَجِّ بِمَانِعٍ قَاهِرٍ، الْحَصْرَ بِالْعَدُوِّ - الْفِتْنَةَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ - الْحَبْسَ - مَنْعَ السُّلْطَانِ عَنِ الْمُتَابَعَةِ - السَّبُعَ - مَنْعَ الدَّائِنِ مَدِينَهُ عَنِ الْمُتَابَعَةِ - مَنْعَ الزَّوْجِ زَوْجَتَهُ عَنِ الْمُتَابَعَةِ - مَوْتَ الْمَحْرَمِ أَوِ الزَّوْجِ أَوْ فَقْدَهُمَا - الْعِدَّةَ الطَّارِئَةَ - مَنْعَ الْوَلِيِّ الصَّبِيَّ وَالسَّفِيهَ عَنِ الْمُتَابَعَةِ - مَنْعَ السَّيِّدِ عَبْدَهُ عَنِ الْمُتَابَعَةِ .
وَقَبْل الدُّخُول فِي تَفْصِيل الْبَحْثِ لاَ بُدَّ مِنْ إِجْمَالٍ مُهِمٍّ ، هُوَ : أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ قَصَرُوا الْحَصْرَ الَّذِي يُبِيحُ التَّحَلُّل لِلْمُحْصَرِ بِثَلاَثَةِ أَسْبَابٍ ، أَحْصَوْهَا بِالْعَدَدِ ، وَهِيَ : الْحَصْرُ بِالْعَدُوِّ ، وَالْحَصْرُ بِالْفِتْنَةِ ، وَالْحَبْسُ ظُلْمًا . وَبِالتَّالِي فَإِنَّ هَذِهِ الأَْسْبَابَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا بَيْنَ الْمَذَاهِبِ .
وَأَمَّا الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فَاتَّفَقُوا مَعَ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى جَمِيعِ الصُّوَرِ الَّتِي صَدَرَ بِهَا الْمَوْضُوعُ مَا عَدَا ثَلاَثَةَ أَسْبَابٍ هِيَ : مَنْعُ السُّلْطَانِ عَنِ الْمُتَابَعَةِ ، وَالْحَصْرُ بِالسَّبُعِ ، وَالْعِدَّةُ الطَّارِئَةُ .فَهَذِهِ الثَّلاَثَةُ تَفَرَّدَ بِهَا الْحَنَفِيَّةُ .(1)
تَرْكُ رُكْنٍ مِنَ الْحَجِّ لاَ بِمَانِعٍ قَاهِرٍ :
أَوَّلاً : تَرْكُ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ : ( الْفَوَاتُ ) :
أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ مَنْ فَاتَهُ الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ بِأَنْ " طَلَعَ عَلَيْهِ الْفَجْرُ يَوْمَ النَّحْرِ وَلَمْ يَقِفْ بِعَرَفَةَ فَقَدْ فَاتَهُ الْحَجُّ . وَيُسَمَّى ذَلِكَ ( الْفَوَاتَ ) " .
__________
(1) - الموسوعة الفقهية الكويتية - (ج 2 / ص 201)(2/50)
ثُمَّ إِنْ أَرَادَ التَّحَلُّل مِنَ الإِْحْرَامِ فَيَتَحَلَّل بِأَعْمَال الْعُمْرَةِ(1).
ثَانِيًا : تَرْكُ طَوَافِ الزِّيَارَةِ :
طَوَافُ الزِّيَارَةِ رُكْنٌ لاَ يَسْقُطُ بِتَرْكِهِ إِذَا فَاتَ وَقْتُهُ ، وَلاَ يَنْجَبِرُ بِشَيْءٍ ، وَيَظَل الْحَاجُّ مُحْرِمًا بِالنِّسْبَةِ لِلتَّحَلُّل الأَْكْبَرِ
فَإِنْ تَرَكَ طَوَافَ الزِّيَارَةِ أَوْ تَرَكَ شَيْئًا مِنْ شُرُوطِهِ ، أَوْ رُكْنًا ، وَلَوْ شَوْطًا أَوْ أَقَل مِنْ شَوْطٍ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى مَكَّةَ وَيُؤَدِّيَهُ .
وَإِذَا رَجَعَ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ بِإِحْرَامِهِ الأَْوَّل ، لاَ يَحْتَاجُ إِلَى إِحْرَامٍ جَدِيدٍ ، وَهُوَ مُحْرِمٌ عَنِ النِّسَاءِ إِلَى أَنْ يَعُودَ وَيَطُوفَ ، وَهَذَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ ، وَالْحَنَفِيَّةِ مَعَهُمْ عَلَى وَجْهِ الإِْجْمَال ،وَقَال الْحَنَابِلَةُ : يُجَدِّدُ إِحْرَامَهُ لِيَطُوفَ فِي إِحْرَامٍ صَحِيحٍ " أَيْ إِنَّهُ يَدْخُل مَكَّةَ بِعُمْرَةٍ(2).
أَمَّا تَفْصِيل مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ : فَفِيهِ فُرُوعٌ . اخْتُصُّوا بِهَا بِنَاءً عَلَى مَذْهَبِهِمْ فِي شُرُوطِ الطَّوَافِ وَرُكْنِهِ وَوَاجِبَاتِهِ
ثَالِثًا : تَرْكُ السَّعْيِ :
السَّعْيُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ رُكْنٌ لاَ يَحِل الْحَاجُّ مِنَ الإِْحْرَامِ بِدُونِهِ ، فَمَنْ تَرَكَهُ عَادَ لأَِدَائِهِ لِزَامًا عَلَى التَّفْصِيل السَّابِقِ فِي الرُّجُوعِ لِطَوَافِ الزِّيَارَةِ بِالنِّسْبَةِ لِلْجُمْهُورِ .
__________
(1) - الهداية وفتح القدير 2 / 303 ، وشرح المنهاج 2 / 151 ، وشرح الزرقاني 2 / 238 ، والمغني 3 / 528 .
(2) - كما وضحه في الفروع 3 / 525 ، والمغني 3 / 465 .(2/51)
أَمَّا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ فَإِنَّهُ يَحِل بِدُونِ سَعْيٍ ، لأَِنَّ السَّعْيَ وَاجِبٌ عِنْدَهُمْ ، يَنْجَبِرُ بِالدَّمِ ، فَإِنْ أَرَادَ أَدَاءَهُ فَإِنَّهُ يَدْخُل مَكَّةَ بِإِحْرَامٍ جَدِيدٍ مُعْتَمِرًا ، ثُمَّ يَأْتِي بِالسَّعْيِ ، وَإِنْ تَرَكَ ثَلاَثَةَ أَشْوَاطٍ فَأَقَل صَحَّ سَعْيُهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ ، وَعَلَيْهِ لِكُل شَوْطٍ صَدَقَةٌ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ أَوْ صَاعٌ مِنْ تَمْرٍ أَوْ شَعِيرٍ .
- - - - - - - - - - - -
الإِْخْلاَل بِوَاجِبَاتِ الْحَجِّ
يَجِبُ عَلَى مَنْ تَرَكَ وَاجِبًا مِنْ وَاجِبَاتِ الْحَجِّ الْفِدَاءُ ، وَهُوَ ذَبْحُ شَاةٍ ، بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ ، جَبْرًا لِلنَّقْصِ الْحَادِثِ بِتَرْكِ الْوَاجِبِ ، إِلاَّ إِذَا تَرَكَهُ لِعُذْرٍ مُعْتَبَرٍ شَرْعًا
وَمَا صَرَّحُوا بِالْعُذْرِ فِيهِ : تَرْكُ الْمَشْيِ فِي الطَّوَافِ أَوْ فِي السَّعْيِ ، لِمَرَضٍ أَوْ كِبَرِ سِنٍّ ، عَلَى الْقَوْل بِوُجُوبِ الْمَشْيِ فِيهِمَا ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ لِلْمَعْذُورِ أَنْ يَطُوفَ أَوْ يَسْعَى مَحْمُولاً ، وَلاَ فِدَاءَ عَلَيْهِ .
وَثَمَّةَ مَسَائِل تَحْتَاجُ لإِِيضَاحٍ خَاصٍّ لِحُكْمِ تَرْكِهَا ، وَهِيَ :
أَوَّلاً : تَرْكُ الْوُقُوفِ بِالْمُزْدَلِفَةِ :
اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ مَنْ تَرَكَ الْوُقُوفَ بِالْمُزْدَلِفَةِ لِعُذْرٍ أَنَّهُ لاَ فِدَاءَ عَلَيْهِ .
وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِثُبُوتِ الْعُذْرِ فِي تَرْكِ الْوُقُوفِ بِالْمُزْدَلِفَةِ ، كَالْمَرَضِ ، وَالضَّعْفِ الْجِسْمِيِّ كَمَا فِي الشَّيْخِ الْفَانِي ، وَكَذَا خَوْفُ الزِّحَامِ عَلَى الْمَرْأَةِ ، وَضَعَفَةِ الأَْهْل .(2/52)
وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِالْعُذْرِ لِمَنِ انْتَهَى إِلَى عَرَفَاتٍ لَيْلَةَ النَّحْرِ وَاشْتَغَل بِالْوُقُوفِ عَنِ الْمَبِيتِ بِالْمُزْدَلِفَةِ فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ بِاتِّفَاقِ الأَْصْحَابِ ، وَلَوْ أَفَاضَ مِنْ عَرَفَاتٍ إِلَى مَكَّةَ وَطَافَ الإِْفَاضَةَ بَعْدَ نِصْفِ لَيْلَةِ النَّحْرِ فَفَاتَهُ الْمَبِيتُ بِالْمُزْدَلِفَةِ بِسَبَبِ الطَّوَافِ فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ ، لأَِنَّهُ اشْتَغَل بِرُكْنٍ فَأَشْبَهَ الْمُشْتَغِل بِالْوُقُوفِ ، أَيْ : إِلاَّ أَنْ يُمْكِنَهُ الْعَوْدُ إِلَى الْمُزْدَلِفَةِ قَبْل الْفَجْرِ فَيَلْزَمُهُ الْعَوْدُ إِلَيْهَا . وَمِثْل هَذَا مَنْ بَادَرَتْ إِلَى الطَّوَافِ خَوْفَ طُرُوءِ نَحْوِ حَيْضٍ .
وَجَمِيعُ أَعْذَارِ مِنًى تَأْتِي هُنَا(1).
ثَانِيًا : تَرْكُ الْمَبِيتِ بِمِنًى لَيَالِيَ التَّشْرِيقِ :
وَالْجَزَاءُ فِيهِ وَاجِبٌ عِنْدَ الأَْئِمَّةِ الثَّلاَثَةِ ، لِوُجُوبِ هَذَا الْمَبِيتِ عِنْدَهُمْ قَال الْمَالِكِيَّةُ : إِنْ تَرَكَ الْمَبِيتَ بِهَا جُل لَيْلَةٍ فَدَمٌ ، وَكَذَا لَيْلَةً كَامِلَةً أَوْ أَكْثَرَ ، وَظَاهِرُهُ وَلَوْ كَانَ التَّرْكُ لِضَرُورَةٍ . . . " وَلَمْ يُسْقِطُوا الدَّمَ بِتَرْكِ الْمَبِيتِ إِلاَّ لِلرِّعَاءِ وَأَهْل السِّقَايَةِ(2).
__________
(1) - المسلك المتقسط ص 25 - 26 ، والدر المختار وحاشيته 2 / 244 ، والمجموع 8 / 128 - 129 ، ومغني المحتاج 1 / 500 وحاشية ابن حجر على الإيضاح ص 402 - 403 خلافا لما قال القفال ، فتنبه . وحاشية القليوبي على شرح المنهاج 2 / 116 ، وانظر نهاية المحتاج 2 / 424 .
(2) - شرح مختصر خليل 2 / 284 ، وانظر حاشية الصفتي 205 ، والعدوي 1 / 480 .(2/53)
وَأَوْجَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَكَذَا الْحَنَابِلَةُ فِي تَرْكِ الْمَبِيتِ كُلِّهِ دَمًا وَاحِدًا ، وَفِي تَرْكِ لَيْلَةٍ مُدًّا مِنَ الطَّعَامِ ، وَفِي تَرْكِ لَيْلَتَيْنِ مُدَّيْنِ ، إِذَا بَاتَ لَيْلَةً وَاحِدَةً ، إِلاَّ إِذَا تَرَكَ الْمَبِيتَ لِعُذْرٍ فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ ، كَأَهْل سِقَايَةِ الْعَبَّاسِ ، وَرِعَاءِ الإِْبِل فَلَهُمْ تَرْكُ الْمَبِيتِ لَيَالِيَ مِنًى مِنْ غَيْرِ دَمٍ ، وَمِثْلُهُمْ مَنْ يَخَافُ عَلَى نَفْسٍ أَوْ مَالٍ ، أَوْ ضَيَاعِ مَرِيضٍ بِلاَ مُتَعَهِّدٍ ، أَوْ مَوْتِ نَحْوِ قَرِيبٍ فِي غَيْبَتِهِ(1).
ثَالِثًا : تَرْكُ الرَّمْيِ :
مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ يَجِبُ الدَّمُ عَلَى مَنْ تَرَكَ الرَّمْيَ كُلَّهُ أَوْ تَرَكَ رَمْيَ يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ أَوْ تَرَكَ ثَلاَثَ حَصَيَاتٍ مِنْ رَمْيِ أَيِّ جَمْرَةٍ .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِي الْحَصَاةِ يَجِبُ مُدٌّ وَاحِدٌ ، وَفِي الْحَصَاتَيْنِ ضِعْفُ ذَلِكَ(2).
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ فِي الْحَصَاةِ أَوِ الْحَصَاتَيْنِ رِوَايَاتٌ . قَال فِي الْمُغْنِي : الظَّاهِرُ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ لاَ شَيْءَ عَلَيْهِ فِي حَصَاةٍ وَلاَ حَصَاتَيْنِ(3)"
__________
(1) - شرح المنهاج 2 / 124 ، وانظر نهاية المحتاج 2 / 432 - 433 .
(2) - شرح المنهاج وحاشية القليوبي 2 / 123 - 124 ، وانظر المجموع 8 / 178 - 186 ، ونهاية المحتاج 2 / 435 - 436 .
(3) - المغني 3 / 491 ، وفيه أكثر من رواية في المسالة كلها .(2/54)
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ الدَّمُ إِنْ تَرَكَ الْحَاجُّ رَمْيَ الْجِمَارِ كُلِّهَا فِي الأَْيَّامِ الأَْرْبَعَةِ ، أَوْ تَرَكَ رَمْيَ يَوْمٍ كَامِلٍ ، وَيُلْحَقُ بِهِ تَرْكُ رَمْيِ أَكْثَرِ حَصَيَاتِ يَوْمٍ أَيْضًا ، لأَِنَّ لِلأَْكْثَرِ حُكْمَ الْكُل ، فَيَلْزَمُ فِيهِ الدَّمُ ، أَمَّاِنْ تَرَكَ الأَْقَل مِنْ حَصَيَاتِ يَوْمٍ فَعَلَيْهِ صَدَقَةٌ ، لِكُل حَصَاةٍ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ ، أَوْ صَاعٌ مِنْ تَمْرٍ أَوْ شَعِيرٍ(1).
وَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ : يَلْزَمُهُ دَمٌ فِي تَرْكِ حَصَاةٍ أَوْ فِي تَرْكِ الْجَمِيعِ(2).
- - - - - - - - - - - - -
تَرْكُ سُنَنِ الْحَجِّ
تَرْكُ سُنَّةٍ مِنْ سُنَنِ الْحَجِّ لاَ يُوجِبُ إِثْمًا وَلاَ جَزَاءً . لَكِنْ يَكُونُ تَارِكُهَا مُسِيئًا عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ الْحَنَفِيَّةُ ، وَيَحْرِمُ نَفْسَهُ مِنَ الثَّوَابِ الَّذِي أَعَدَّهُ اللَّهُ تَعَالَى لِمَنْ عَمِل بِالسُّنَنِ أَوِ الْمُسْتَحَبَّاتِ وَالنَّوَافِل(3).
وَالسُّنَّةُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ لَهَا مَعَانٍ ، مِنْهَا أَنَّهَا اسْمٌ لِلطَّرِيقَةِ الْمَسْلُوكَةِ فِي الدِّينِ مِنْ غَيْرِ افْتِرَاضٍ وَلاَ وُجُوبٍ(4).
وَتُطْلَقُ أَيْضًا عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ : عَلَى الْفِعْل إِذَا وَاظَبَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - وَلَمْ يَدُل دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِهِ(5).
__________
(1) - المسلك المتقسط ص 240 .
(2) - شرح الزرقاني 2 / 282 ، وحاشية الصفتي ص 207 .
(3) -انظر الموسوعة الفقهية الكويتية - (ج 25 / ص 259)فما بعدها
(4) - كشف الأسرار للبزدوي 2 / 302، وحاشية الفنري على التلويح 2 / 242 وابن عابدين 1 / 70 والتعريفات للجرجاني .
(5) -ابن عابدين 1 / 70، 454، جواهر الإكليل 1 / 73، مسلم الثبوت 2 / 92، جمع الجوامع 1 / 89، 90 .(2/55)
وَعَرَّفَهَا بَعْضُهُمْ : بِأَنَّهَا مَا طُلِبَ فِعْلُهُ طَلَبًا مُؤَكَّدًا غَيْرَ(1).
فَالسُّنَّةُ بِهَذَا الْمَعْنَى حُكْمٌ تَكْلِيفِيٌّ ، وَيُقَابِلُهَا الْوَاجِبُ ، وَالْفَرْضُ ، وَالْحَرَامُ ، وَالْمَكْرُوهُ ، وَالْمُبَاحُ ، وَعَرَّفَهَا بَعْضُ الْفُقَهَاءِ ، بِأَنَّهَا مَا يُسْتَحَقُّ الثَّوَابُ بِفِعْلِهِ وَلاَ يُعَاقَبُ بِتَرْكِهِ(2). وَتُطْلَقُ السُّنَّةُ أَيْضًا عَلَى دَلِيلٍ مِنْ أَدِلَّةِ الشَّرْعِ وَعَرَّفَهَا الأُْصُولِيُّونَ بِهَذَا الْمَعْنَى : بِأَنَّهَا مَا صَدَرَ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ قَوْلٍ ، أَوْ فِعْلٍ ، أَوْ تَقْرِيرٍ(3).
السُّنَّةُ بِالاِصْطِلاَحِ الْفِقْهِيِّ :
تُطْلَقُ السُّنَّةُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ : عَلَى الْمَنْدُوبِ ، وَالْمُسْتَحَبِّ ، وَالتَّطَوُّعِ ، فَهِيَ أَلْفَاظٌ مُتَرَادِفَةٌ ، فَكُلٌّ مِنْهَا عِبَارَةٌ عَنِ الْفِعْل الْمَطْلُوبِ طَلَبًا غَيْرَ جَازِمٍ .
__________
(1) -جواهر الإكليل 1 / 11
(2) - الفتاوى الهندية 1 / 67، مطالب أولي النهى 1 / 92، وابن عابدين 1 / 70 .
(3) - التوضيح والتلويح 2 / 242، ومسلم الثبوت مع شرحه فواتح الرحموت 2 / 97، وجمع الجوامع 2 / 94 .(2/56)
قَال الْبُنَانِيُّ : وَمِثْلُهَا الْحَسَنُ أَوِ النَّفَل وَالْمُرَغَّبُ فِيهِ . وَنَفَى الْقَاضِي حُسَيْنٌ وَغَيْرُهُ تَرَادُفَهَا حَيْثُ قَالُوا: إِنْ وَاظَبَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى الْفِعْل فَهُوَ السُّنَّةُ ، وَإِنْ لَمْ يُوَاظِبْ عَلَيْهِ كَأَنْ فَعَلَهُ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ فَهُوَ الْمُسْتَحَبُّ ، أَوْ لَمْ يَفْعَلْهُ وَهُوَ مَا يُنْشِئُهُ الإِْنْسَانُ بِاخْتِيَارِهِ مِنَ الأَْوْرَادِ فَهُوَ التَّطَوُّعُ . وَلَمْ يَتَعَرَّضْ الْقَاضِي حُسَيْنٌ وَمَنْ مَعَهُ لِلْمَنْدُوبِ لِعُمُومِهِ لِلأَْقْسَامِ الثَّلاَثَةِ(1).
وَيُقَسِّمُ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ السُّنَنَ إِلَى سُنَنٍ مُؤَكَّدَةٍ وَغَيْرِ مُؤَكَّدَةٍ . إِلاَّ أَنَّ الْحَنَابِلَةَ يَقُولُونَ : إِنَّ تَرْكَ السُّنَنِ الْمُؤَكَّدَةِ مَكْرُوهٌ ، أَمَّا تَرْكُ غَيْرِ الْمُؤَكَّدَةِ فَلَيْسَ بِمَكْرُوهٍ .
وَقَال ابْنُ عَابِدِينَ : إِنَّ الْمَشْرُوعَاتِ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ : فَرْضٌ ، وَوَاجِبٌ ، وَسُنَّةٌ ، وَنَفْلٌ . فَمَا كَانَ فِعْلُهُ أَوْلَى مِنْ تَرْكِهِ مَعَ مَنْعِ التَّرْكِ إِنْ ثَبَتَ بِدَلِيلٍ قَطْعِيٍّ فَفَرْضٌ ، أَوْ بِظَنِّيٍّ فَوَاجِبٌ ، وَبِلاَ مَنْعِ التَّرْكِ إِنْ كَانَ مِمَّا وَاظَبَ عَلَيْهِ الرَّسُول - صلى الله عليه وسلم - أَوِ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ مِنْ بَعْدِهِ فَسُنَّةٌ ، وَإِلاَّ فَمَنْدُوبٌ وَنَفْلٌ(2).
__________
(1) - جمع الجوامع وشرحه 1 / 89، 90 .
(2) - ابن عابدين 1 / 70 .(2/57)
وَهَذَا مُطَابِقٌ لِقَوَاعِدِ الْحَنَفِيَّةِ مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَ الْفَرْضِ وَالْوَاجِبِ خِلاَفًا لِلشَّافِعِيَّةِ وَمَنْ مَعَهُمْ مِنْ قَوْلِهِمْ بِالتَّرَادُفِ بَيْنَهُمَا(1)إِلاَّ فِي مَوَاضِعَ تُذْكَرُ فِي مَوْضِعِهَا . فَالسُّنَّةُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ بِالْمَعْنَى الْفِقْهِيِّ نَوْعَانِ:
أ - سُنَّةُ الْهُدَى :
وَهِيَ مَا تَكُونُ إقَامَتُهَا تَكْمِيلاً لِلدِّينِ ، وَتَتَعَلَّقُ بِتَرْكِهَا كَرَاهَةٌ أَوْ إِسَاءَةٌ ، كَصَلاَةِ الْجَمَاعَةِ ، وَالأَْذَانِ ، وَالإِْقَامَةِ ، وَنَحْوِهَا ، وَذَلِكَ لأَِنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - وَاظَبَ عَلَيْهَا عَلَى سَبِيل الْعِبَادَةِ ، وَتُسَمَّى أَيْضًا السُّنَّةُ الْمُؤَكَّدَةُ .
ب - سُنَنُ الزَّوَائِدِ :
وَهِيَ الَّتِي لاَ يَتَعَلَّقُ بِتَرْكِهَا كَرَاهَةٌ وَلاَ إِسَاءَةٌ ، لأَِنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَعَلَهَا عَلَى سَبِيل الْعَادَةِ ، فَإِقَامَتُهَا حَسَنَةٌ ، كَسَيْرِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فِي لِبَاسِهِ وَقِيَامِهِ ، وَقُعُودِهِ وَأَكْلِهِ ، وَنَحْوِ ذَلِكَ(2).
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ : السُّنَّةُ مَا فَعَلَهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - وَوَاظَبَ عَلَيْهِ ، وَأَظْهَرَهُ فِي جَمَاعَةٍ ، وَلَمْ يَدُل دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِهِ . وَالرَّغِيبَةُ : مَا رَغَّبَ الشَّارِعُ فِيهِ وَحَدَّهُ وَلَمْ يُظْهِرْهُ فِي جَمَاعَةٍ . وَالنَّفَل مَا فَعَلَهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - وَلَمْ يُدَاوِمْ عَلَيْهِ ؛ أَيْ تَرَكَهُ فِي بَعْضِ الأَْوْقَاتِ(3).
__________
(1) - جمع الجوامع 1 / 88 .
(2) - التعريفات للجرجاني ص 161، 162، وابن عابدين 1 / 70 .
(3) - جواهر الإكليل 1 / 73 .(2/58)
قلت : ودليل عدم المؤخذة آحاديث عديدة منها حديث طَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ قالَ : جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ ، ثَائِرُ الرَّأْسِ ، يُسْمَعُ دَوِىُّ صَوْتِهِ ، وَلاَ يُفْقَهُ مَا يَقُولُ حَتَّى دَنَا ، فَإِذَا هُوَ يَسْأَلُ عَنِ الإِسْلاَمِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - - صلى الله عليه وسلم - « خَمْسُ صَلَوَاتٍ فِى الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ » . فَقَالَ هَلْ عَلَىَّ غَيْرُهَا قَالَ « لاَ ، إِلاَّ أَنْ تَطَوَّعَ » . قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « وَصِيَامُ رَمَضَانَ » . قَالَ هَلْ عَلَىَّ غَيْرُهُ قَالَ « لاَ ، إِلاَّ أَنْ تَطَوَّعَ » . قَالَ وَذَكَرَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الزَّكَاةَ . قَالَ هَلْ عَلَىَّ غَيْرُهَا قَالَ « لاَ ، إِلاَّ أَنْ تَطَوَّعَ » . قَالَ فَأَدْبَرَ الرَّجُلُ وَهُوَ يَقُولُ وَاللَّهِ لاَ أَزِيدُ عَلَى هَذَا وَلاَ أَنْقُصُ . قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « أَفْلَحَ إِنْ صَدَقَ »(1).
قلت : فإن تمت الفريضة فالسنَّةُ ترفع درجات العبد يوم القيامة عالياً ، كما قال تعالى واصفاً أحوال المسلمين ودرجاتهم : {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} (32) سورة فاطر
__________
(1) - صحيح البخارى(46 ) ومسلم (109)(2/59)
لقَدْ جَعَلَ اللهُ تَعَالى القَائِمِينَ بالقُرآنِ العَظيمِ ، هُمُ الذِينَ اصْطَفَاهُمْ مِنْ عِبَادِهِ ، مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ ، وَأَوْرَثَهُمُ الكِتَابَ . وَقَالَ تَعَالى في مَكَانٍ آخَرَ : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الذِينَ اصْطَفَاهُمُ اللهُ لِلقِيَامِ بِالقُرآنِ هُمْ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم ، وَجَعَلَهُمْ أقسَاماً ثَلاَثَةً :
- مِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُفَرِّطٌ فِي فِعْلِ بَعْضِ الوَاجِبَاتِ ، مُرْتَكِبٌ بَعْضَ المُحَرَّمَاتِ .
- وَمِنْهُمْ مُقَتَصِدٌ ، وَهُوَ القَائِمُ بِالوَاجِبَاتِ ، التَّارِكُ لِلْمُحَرَّمَاتِ ، وَقَدْ يُقَصِّرُ في فِعْلِ بَعْضِ المُسْتَحَبَّاتِ ، وَيَفْعَلُ بَعْضَ المَكْرُوهَاتِ .
- وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالخَيْرَاتِ - وَهُوَ الفَاعِلُ لِلْوَاجِبَاتِ ، وَالمُسْتَحَبَّاتِ ، التَّارِكُ لِلْمُحَرَّماتِ والمَكْرُوهَاتِ .
وَذَلِكَ المِيرَاثُ ، وَذَلِكَ الاصْطِفَاءُ ، فَضْلٌ عَظِيمٌ مِنَ اللهِ لاَ يُقَدَّرُ قَدْرُهُ .(2/60)
وكذلك فإنَّ القيام بالسنَّة يكمل الفريضة -إن نقصت- يوم القيامة ، كما في الصلاة تماماً ، فعَنْ أَنَسِ بْنِ حَكِيمٍ الضَّبِّىِّ : أَنَّهُ خَافَ مِنْ زِيَادٍ -أَوِ ابْنِ زِيَادٍ - فَأَتَى الْمَدِينَةَ فَلَقِىَ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ : فَنَسَبَنِى فَانْتَسَبْتُ لَهُ فَقَالَ : يَا فَتَى أَلاَ أُحَدِّثُكَ حَدِيثًا؟ قَالَ قُلْتُ : بَلَى يَرْحَمُكَ اللَّهُ. قَالَ يُونُسُ وَأَحْسِبُهُ ذَكَرَهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ :« إِنَّ أَوَّلَ مَا يُحَاسَبُ النَّاسُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ أَعْمَالِهِمُ الصَّلاَةُ ، قَالَ يَقُولُ رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ لِمَلاَئِكَتِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ : انْظُرُوا فِى صَلاَةِ عَبْدِى أَتَمَّهَا أَمْ نَقَصَهَا؟ فَإِنْ كَانَتْ تَامَّةً كُتِبَتْ لَهُ تَامَّةً ، وَإِنْ كَانَ انْتَقَصَ مِنْهَا شَيْئًا قَالَ : انْظُرُوا هَلْ لِعَبْدِى مِنْ تَطَوُّعٍ ، فَإِنْ كَانَ لَهُ تَطَوُّعٌ قَالَ : أَتِمُّوا لِعَبْدِى فَرِيضَتَهُ مِنْ تَطَوُّعِهِ. ثُمَّ تُؤْخَذُ الأَعْمَالُ عَلَى ذَلِكُمْ »(1).
كما أن الحج غالباً لا يتكرر ، لأنه مفروض في العمر مرة واحدة ، فليحرص المسلم على أدائه على أتمِّ وجهٍ ، وليأت من سُنَنه وآدابه ما استطاع إلى ذلك سبيلاً ، ليعود إلى أهله ، وقد غفرت ذنوبه ، وزالت أوزاره ، فيبدأ حياته من جديدٍ ، ويبقى على العهد حتى آخر لحظة من حياته ، كي يفوز بسعادة الدارين .
- - - - - - - - - - - -
آدَابُ الْحَاجِّ
آدَابُ الاِسْتِعْدَادِ لِلْحَجِّ
__________
(1) - السنن الكبرى للبيهقي (ج 2 / ص 386)(4169) صحيح(2/61)
أ - يُسْتَحَبُّ أَنْ يُشَاوِرَ مَنْ يَثِقُ بِدِينِهِ وَخِبْرَتِهِ فِي تَدْبِيرِ أُمُورِهِ ، وَيَتَعَلَّمَ أَحْكَامَ الْحَجِّ وَكَيْفِيَّتَهُ . قَال الإِْمَامُ النَّوَوِيُّ : وَهَذَا فَرْضُ عَيْنٍ ، إِذْ لاَ تَصِحُّ الْعِبَادَةُ مِمَّنْ لاَ يَعْرِفُهَا ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَسْتَصْحِبَ مَعَهُ كِتَابًا وَاضِحًا فِي الْمَنَاسِكِ جَامِعًا لِمَقَاصِدِهَا ، وَأَنْ يُدِيمَ مُطَالَعَتَهُ وَيُكَرِّرَهَا فِي جَمِيعِ طَرِيقِهِ لِتَصِيرَ مُحَقَّقَةً عِنْدَهُ . وَمَنْ أَخَل بِهَذَا خِفْنَا عَلَيْهِ أَنْ يَرْجِعَ بِغَيْرِ حَجٍّ ، لإِِخْلاَلِهِ بِشَرْطٍ مِنْ شُرُوطِهِ أَوْ رُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِهِ ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ ، وَرُبَّمَا قَلَّدَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ بَعْضَ عَوَامِّ مَكَّةَ وَتَوَهَّمَ أَنَّهُمْ يَعْرِفُونَ الْمَنَاسِكَ فَاغْتَرَّ بِهِمْ ، وَذَلِكَ خَطَأٌ فَاحِشٌ(1)" .
ب - إِذَا عَزَمَ عَلَى الْحَجِّ فَيُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَسْتَخِيرَ اللَّهَ تَعَالَى ، لَكِنْ لَيْسَ لِلْحَجِّ نَفْسِهِ ، فَإِنَّهُ لاَ اسْتِخَارَةَ فِي فِعْل الطَّاعَاتِ ، لَكِنْ لِلأَْدَاءِ هَذَا الْعَامَ إِنْ كَانَتِ الْحَجَّةُ نَافِلَةً ، أَوْ مَعَ هَذِهِ الْقَافِلَةِ ، وَتَرِدُ الاِسْتِخَارَةُ عَلَى الْحَجِّ الْفَرْضِ هَذَا الْعَامَ لَكِنْ عَلَى الْقَوْل بِتَرَاخِي وُجُوبِهِ(2).
__________
(1) - الإيضاح ص 37 .
(2) - المرجع السابق ص 19 بتصرف يسير .(2/62)
ج - إِذَا اسْتَقَرَّ عَزْمُهُ عَلَى الْحَجِّ بَدَأَ بِالتَّوْبَةِ مِنْ جَمِيعِ الْمَعَاصِي وَالْمَكْرُوهَاتِ ، وَيَخْرُجُ مِنْ مَظَالِمِ الْخَلْقِ ، وَيَقْضِي مَا أَمْكَنَهُ مِنْ دُيُونِهِ ، وَيَرُدُّ الْوَدَائِعَ ، وَيَسْتَحِل كُل مَنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ مُعَامَلَةٌ فِي شَيْءٍ أَوْ مُصَاحَبَةٌ ، وَيَكْتُبُ وَصِيَّتَهُ ، وَيُشْهِدُ عَلَيْهَا ، وَيُوَكِّل مَنْ يَقْضِي عَنْهُ مَا لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ قَضَائِهِ ، وَيَتْرُكُ لأَِهْلِهِ وَمَنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ نَفَقَتَهُمْ إِلَى حِينِ رُجُوعِهِ(1).
وَلاَ يَتَوَهَّمُ أَحَدٌ الإِْفْلاَتَ مِنْ حُقُوقِ النَّاسِ بِعِبَادَاتِهِ ، مَا لَمْ يُؤَدِّ الْحُقُوقَ إِلَى أَهْلِهَا، فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ " يُغْفَرُ لِلشَّهِيدِ كُلُّ ذَنْبٍ إِلاَّ الدَّيْنَ "(2).
د - أَنْ يَجْتَهِدَ فِي إِرْضَاءِ وَالِدِيهِ ، وَمَنْ يَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ بِرُّهُ وَطَاعَتُهُ ، وَإِنْ كَانَتْ زَوْجَةً اسْتَرْضَتْ زَوْجَهَا وَأَقَارِبَهَا ، وَيُسْتَحَبُّ لِلزَّوْجِ أَنْ يَحُجَّ بِهَا ، فَإِنْ مَنَعَهُ أَحَدُ وَالِدَيْهِ مِنْ حَجِّ الإِْسْلاَمِ لَمْ يَلْتَفِتْ إِلَى مَنْعِهِ ، وَإِنْ مَنَعَهُ مِنْ حَجِّ التَّطَوُّعِ لَمْ يَجُزْ لَهُ الإِْحْرَامُ ، فَإِنْ أَحْرَمَ فَلِلْوَالِدِ تَحْلِيلُهُ عَلَى الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ ، خِلاَفًا لِلْجُمْهُورِ(3).
__________
(1) - الإيضاح ص 23 - 24 .
(2) - صحيح مسلم برقم (4991 )
(3) - الإيضاح ص 25 - 26 ، ورد المحتار 2 / 191 ، وفيه التصريح بالكراهة التحريمية ، والفروع 3 / 224 ، والمسألة فرع عن تقديم بر الوالدين على فعل النوافل انظر مصطلح ( بر ) .(2/63)
هـ - لِيَحْرِصَ أَنْ تَكُونَ نَفَقَتُهُ كَثِيرَةً وَحَلاَلاً خَالِصَةً مِنَ الشُّبْهَةِ ، فَإِنْ خَالَفَ وَحَجَّ بِمَالٍ فِيهِ شُبْهَةٌ أَوْ بِمَالٍ مَغْصُوبٍ صَحَّ حَجُّهُ فِي ظَاهِرِ الْحُكْمِ ، لَكِنَّهُ عَاصٍ وَلَيْسَ حَجًّا مَبْرُورًا ، وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ ، وَأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمُ اللَّهُ وَجَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلْفِ .
وَقَال أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ : لاَ يُجْزِيهِ الْحَجُّ بِمَالٍ حَرَامٍ(1). وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى يَصِحُّ مَعَ الْحُرْمَةِ .
وَفِي صحيح مسلم عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - " أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لاَ يَقْبَلُ إِلاَّ طَيِّبًا وَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ فَقَالَ ( يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّى بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) وَقَالَ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ) ". ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ يَا رَبِّ يَا رَبِّ وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ وَغُذِىَ بِالْحَرَامِ فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ "(2). .
__________
(1) - كذا في المرجع السابق ص 30 ، وانظر رد المحتار 2 / 191 ، والشرح الكبير وحاشيته 2 / 10 ، والفروع 1 / 335 ، وفيه قوله : " وحجه بغصب كصلاة " وانظر الصلاة في المغني 1 / 588 .
(2) -صحيح مسلم برقم (2393 )(2/64)
و - الْحِرْصُ عَلَى صُحْبَةِ رَفِيقٍ مُوَافِقٍ صَالِحٍ يَعْرِفُ الْحَجَّ ، وَإِنْ أَمْكَنَ أَنْ يَصْحَبَ أَحَدَ الْعُلَمَاءِ الْعَامِلِينَ فَلْيَتَمَسَّكْ بِهِ ، فَإِنَّهُ يُعِينُهُ عَلَى مَبَارِّ الْحَجِّ وَمَكَارِمِ الأَْخْلاَقِ(1)
آدَابُ السَّفَرِ لِلْحَجِّ
نُشِيرُ إِلَى نُبَذٍ هَامَةٍ مِنْهَا فِيمَا يَلِي :
أ - يُسْتَحَبُّ أَنْ يُوَدِّعَ أَهْلَهُ وَجِيرَانَهُ وَأَصْدِقَاءَهُ ، وَيَقُول لِمَنْ يُوَدِّعُهُ مَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ : عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ وَدَّعَنِى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ " أَسْتَوْدِعُكَ اللَّهَ الَّذِى لاَ تَضِيعُ وَدَائِعُهُ "(2).
وَيُسَنُّ لِلْمُقِيمِ أَنْ يَقُول لِلْمُسَافِرِ : ما ورد عَنْ قَزَعَةَ قَالَ قَالَ لِى ابْنُ عُمَرَ هَلُمَّ أُوَدِّعْكَ كَمَا وَدَّعَنِى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - " أَسْتَوْدِعُ اللَّهَ دِينَكَ وَأَمَانَتَكَ وَخَوَاتِيمَ عَمَلِكَ "(3).
ب - أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ قَبْل الْخُرُوجِ مِنْ مَنْزِلِهِ ، يَقْرَأُ فِي الأُْولَى سُورَةَ { قُل يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ } وَفِي الثَّانِيَةِ { قُل هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ }(4)
وَصَحَّ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ مَا خَرَجَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ بَيْتِى قَطُّ إِلاَّ رَفَعَ طَرْفَهُ إِلَى السَّمَاءِ فَقَالَ " اللَّهُمَّ إِنِّى أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَضِلَّ أَوْ أُضَلَّ أَوْ أَزِلَّ أَوْ أُزَلَّ أَوْ أَظْلِمَ أَوْ أُظْلَمَ أَوْ أَجْهَلَ أَوْ يُجْهَلَ عَلَىَّ ".(5).
__________
(1) - الإيضاح ص 38 .
(2) - سنن ابن ماجه برقم (2932 ) ون عمل (508) وهو حسن لغيره
(3) - سنن أبى داود برقم (2602 ) صحيح
(4) - الإيضاح ص 44 .
(5) - سنن أبى داود برقم (5096 ) صحيح(2/65)
ج - يُسْتَحَبُّ الإِْكْثَارُ مِنَ الدُّعَاءِ فِي جَمِيعِ سَفَرِهِ ، وَعَلَى آدَابِ السَّفَرِ وَأَحْكَامِهِ وَالتَّقَيُّدُ بِرُخَصِهِ مِنْ غَيْرِ تَجَاوُزٍ لَهَا
آدَابُ أَدَاءِ مَنَاسِكِ الْحَجِّ
أ - التَّحَلِّي بِمَكَارِمِ الأَْخْلاَقِ ، وَالتَّذَرُّعُ بِالصَّبْرِ الْجَمِيل ، لِمَا يُعَانِيهِ الإِْنْسَانُ مِنْ مَشَقَّاتِ السَّفَرِ ، وَالزِّحَامِ ، وَالاِحْتِكَاكِ بِالنَّاسِ .
ب - اسْتِدَامَةُ حُضُورِ الْقَلْبِ وَالْخُشُوعِ ، وَالإِْكْثَارِ مِنَ الذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ وَتِلاَوَةِ الْقُرْآنِ ، وَغَيْرِ ذَلِكَ ، وَالْمُحَافَظَةُ عَلَى أَذْكَارِ مَنَاسِكِ الْحَجِّ .
ج - الْحِرْصُ عَلَى أَدَاءِ أَحْكَامِ الْحَجِّ كَامِلَةً وَعَدَمِ تَضْيِيعِ شَيْءٍ مِنَ السُّنَنِ ، فَضْلاً عَنِ التَّفْرِيطِ بِوَاجِبٍ ، إِلاَّ فِي مَوَاضِعِ الْعُذْرِ الشَّرْعِيَّةِ الَّتِي بُيِّنَتْ فِي مُنَاسِبَاتِهَا(1).
آدَابُ الْعَوْدِ مِنَ الْحَجِّ
مِنْ آدَابِ الْعَوْدِ مِنَ الْحَجِّ مَا يَلِي :
أ - أَنْ يُرَاعِيَ آدَابَ السَّفَرِ وَأَحْكَامَهُ الْعَامَّةَ لِلذَّهَابِ وَالإِْيَابِ ، وَالْخَاصَّةَ بِالإِْيَابِ ، مِثْل إِخْبَارِ أَهْلِهِ إِذَا دَنَا مِنْ بَلَدِهِ ، وَأَلاَّ يَطْرُقَهُمْ لَيْلاً ، وَأَنْ يَبْدَأَ بِصَلاَةِ رَكْعَتَيْنِ فِي الْمَسْجِدِ إِذَا وَصَل مَنْزِلَهُ ، وَأَنْ يَقُول إِذَا دَخَل بَيْتَهُ : تَوْبًا تَوْبًا ، لِرَبِّنَا أَوْبًا ، لاَ يُغَادِرُ حَوْبًا "(2)( انْظُرْ مُصْطَلَحَ : سَفَرٌ )(3).
__________
(1) - الإيضاح ص 211
(2) -مسند أحمد برقم (2352) وهو حديث حسن
الضبنة : المال والعيال ومن تلزم نفقته تعوذ من كثرتهم فى السفر
(3) -انظر الموسوعة الفقهية الكويتية - (ج 25 / ص 26)فما بعد(2/66)
ب - يُسْتَحَبُّ لِمَنْ يُسَلِّمُ عَلَى الْحَاجِّ أَنْ يَطْلُبَ مِنَ الْحَاجِّ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَهُ ، كَمَا يُسْتَحَبُّ أَنْ يَدْعُوَ لِلْحَاجِّ أَيْضًا وَيَقُول : قَبِل اللَّهُ حَجَّكَ وَغَفَرَ ذَنْبَكَ ، وَأَخْلَفَ نَفَقَتَكَ ، فعَنِ ابْنِ عُمَرَ ، قَالَ : جَاءَ غُلامٌ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، فَقَالَ : إِنِّي أُرِيدُ هَذِهِ النَّاحِيَةَ الْحَجَّ ، قَالَ : فَمَشَى مَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، وَقَالَ : يَا غُلامُ ، زَوَّدَكَ اللَّهُ التَّقْوَى ، وَوَجَّهَكَ الْخَيْرَ ، وَكَفَاكَ الْهَمَّ ، فَلَمَّا رَجَعَ الْغُلامُ سَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، فَرَفَعَ رَأْسَهُ إِلَيْهِ ، وَقَالَ : يَا غُلامُ ، قَبِلَ اللَّهُ حَجَّكَ ، وَكَفَّرَ ذَنْبَكَ ، وَأَخْلَفَ نَفَقَتَكَ "(1).
وَيَدْعُو الْحَاجُّ لِزُوَّارِهِ بِالْمَغْفِرَةِ ، فَإِنَّهُ مَرْجُوُّ الإِْجَابَةِ لِقَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم - : اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْحَاجِّ وَلِمَنْ . اسْتَغْفَرَ لَهُ الْحَاجُّ(2).
ج - قَال الإِْمَامُ النَّوَوِيُّ : يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ بَعْدَ رُجُوعِهِ خَيْرًا مِمَّا كَانَ ، فَهَذَا مِنْ عَلاَمَاتِ قَبُول الْحَجِّ ، وَأَنْ يَكُونَ خَيْرُهُ آخِذًا فِي ازْدِيَادٍ(3).
- - - - - - - - - - - - -
صفة حجَّة النبي - صلى الله عليه وسلم -
__________
(1) - المعجم الكبير للطبراني - (ج 11 / ص 289)برقم (618) وهو حسن لغيره
(2) - المستدرك للحاكم مشكلا - (ج 2 / ص 68)برقم (1612) وابن أبي شيبة برقم ( 12657و12658) وهو صحيح لغيره
(3) -الإيضاح ص 564 - 565 ، وانظر فيه فصل آداب العود من سفر الحج ، فقد توسع في تفصيلها .(2/67)
أَعْلَمَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - النَّاسَ أَنَّهُ حَاجٌّ ، ثُمَّ أَمَرَ بِالْخُرُوجِ لِلْحَجِّ فَأَصَابَ النَّاسَ بِالْمَدِينَةِ جُدَرِيٌّ أَوْ حَصْبَةٌ ، مَنَعَتْ مَنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ تَمْنَعَ مِنَ الْحَجِّ مَعَهُ ، فَأَعْلَمَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّ عُمْرَةً فِي رَمَضَانَ تَعْدِلُ حَجَّةً ، وَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَامِدًا إِلَى مَكَّةَ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ الَّتِي لَمْ يَحُجَّ مِنَ الْمَدِينَةِ مُنْذُ هَاجَرَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَيْهَا غَيْرَهَا ، فَأَخَذَ عَلَى طَرِيقِ الشَّجَرَةِ ، وَذَلِكَ يَوْمَ الْخَمِيسِ لِسِتٍّ بَقِينَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ سَنَةَ عَشْرٍ نَهَارًا بَعْدَ أَنْ تَرَجَّلَ وَادَّهَنَ ، وَبَعْدَ أَنْ صَلَّى الظُّهْرَ بِالْمَدِينَةِ وَصَلَّى الْعَصْرَ مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ بِذِي الْحُلَيْفَةِ ، وَبَاتَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ ، وَطَافَ تِلْكَ اللَّيْلَةَ عَلَى نِسَائِهِ ، ثُمَّ اغْتَسَلَ ، ثُمَّ صَلَّى الصُّبْحَ بِهَا ، ثُمَّ طَيَّبَتْهُ عَائِشَةُ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا بِيَدِهَا بِذَرِيرَةٍ وَطِيبٍ فِيهِ مِسْكٌ ، ثُمَّ أَحْرَمَ وَلَمْ يَغْسِلِ الطِّيبَ ، ثُمَّ لَبَّدَ رَأْسَهُ وَقَلَّدَ بَدَنَتَهُ بِنَعْلَيْنِ ، وَأَشْعَرَهَا فِي جَانِبِهَا الْأَيْمَنِ وَسَلَتَ الدَّمَ عَنْهَا ، وَكَانَتْ هَدْيَ تَطَوُّعٍ ، وَكَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، سَاقَ الْهَدْيَ مَعَ نَفْسِهِ ثُمَّ رَكِبَ رَاحِلَتَهُ ، وَأَهَلَّ حِينَ انْبَعَثَتْ بِهِ مِنْ عِنْدِ الْمَسْجِدِ ، مَسْجِدِ ذِي الْحُلَيْفَةِ بِالْقِرَانِ بِالْعُمْرَةِ وَالْحَجِّ مَعًا ، وَذَلِكَ قَبْلَ الظُّهْرِ بِيَسِيرٍ ، وَقَالَ لِلنَّاسِ بِذِي الْحُلَيْفَةِ : " مَنْ أَرَادَ مِنْكُمْ أَنْ يُهِلَّ(2/68)
بِحَجٍّ وَعُمْرَةٍ فَلْيَفْعَلْ ، وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُهِلَّ بِحَجٍّ فَلْيَفْعَلْ ، وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُهِلَّ بِعُمْرَةٍ فَلْيَفْعَلْ " .
وَكَانَ مَعَهُ - صلى الله عليه وسلم - مِنَ النَّاسِ جُمُوعٌ ، لَا يُحْصِيهَا إِلَّا خَالِقُهُمْ وَرَازِقُهُمْ عَزَّ وَجَلَّ ، ثُمَّ لَبَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَ : " لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ ، لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ ، إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ ، لَا شَرِيكَ لَكَ " ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ - صلى الله عليه وسلم - زَادَ عَلَى ذَلِكَ ، فَقَالَ : " لَبَّيْكَ إِلَهَ الْحَقِّ " ، وَأَتَاهُ جِبْرِيلُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَأَمَرَهُ أَنْ يَأْمُرَ أَصْحَابَهُ بِأَنْ يَرْفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ بِالتَّلْبِيَةِ ، وَوَلَدَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ الْخَثْعَمِيَّةُ زَوْجُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، مُحَمَّدَ بْنَ أَبِي بَكْرٍ ، فَأَمَرَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تَغْتَسِلَ وَتَسْتَثْفِرَ بِثَوْبٍ ، وَتُحْرِمَ وَتُهِلَّ ، ثُمَّ نَهَضَ - صلى الله عليه وسلم - وَصَلَّى الظُّهْرَ بِالْبَيْدَاءِ ، ثُمَّ تَمَادَى وَاسْتَهَلَّ هِلَالَ ذِي الْحِجَّةِ لَيْلَةِ الْخَمِيسٌ ، لَيْلَةَ الْيَوْمِ الثَّامِنِ مِنْ يَوْمِ خُرُوجِهِ مِنَ الْمَدِينَةِ ، فَلَمَّا كَانَ بِسَرِفَ حَاضَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ، وَكَانَتْ قَدْ أَهَلَّتْ بِعُمْرَةٍ ، فَأَمَرَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تَغْتَسِلَ وَتَنْقُضَ رَأْسَهَا وَتَمْتَشِطَ وَتَتْرُكَ الْعُمْرَةَ وَتَدَعَهَا وَتَرْفُضَهَا ، وَلَمْ تَحِلَّ مِنْهَا وَتَدْخُلَ عَلَى الْعُمْرَةِ حَجًّا ، وَتَعْمَلَ جَمِيعَ أَعْمَالِ الْحَجِّ إِلَّا(2/69)
الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ ، مَا لَمْ تَطْهُرْ .
وَقَالَ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ بِسَرِفَ لِلنَّاسِ : " مَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْكُمْ مَعَهُ هَدْيٌ ، فَأَحَبَّ أَنْ يَجْعَلَهَا عُمْرَةً فَلْيَفْعَلْ ، وَمَنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ فَلَا " ، فَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهَا عُمْرَةً كَمَا أُبِيحَ لَهُ ، وَمِنْهُمْ مَنْ تَمَادَى عَلَى نِيَّةِ الْحَجِّ وَلَمْ يَجْعَلْهَا عُمْرَةً ، وَهَذَا فِيمَنْ لَا هَدْيَ مَعَهُ ، وَأَمَّا مَنْ مَعَهِ الْهَدْيُ فَلَمْ يَجْعَلْهَا عُمْرَةً أَصْلًا وَأَمَرَ - صلى الله عليه وسلم - فِي بَعْضِ طَرِيقِهِ ذَلِكَ مَنْ مَعَهُ شَاءٌ أَنْ يُهِلَّ بِالْقِرَانِ : بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ مَعًا .
ثُمَّ نَهَضَ - صلى الله عليه وسلم - إِلَى أَنْ نَزَلَ بِذِي طُوًى ، فَبَاتَ بِهَا لَيْلَةَ الْأَحَدِ لِأَرْبَعٍ خَلَوْنَ لِذِي الْحِجَّةِ ، وَصَلَّى الصُّبْحَ بِهَا ، وَدَخَلَ مَكَّةَ نَهَارًا مِنْ أَعْلَاهَا مِنْ كُدَاءَ مِنَ الثَّنِيَّةِ الْعُلْيَا صَبِيحَةَ يَوْمِ الْأَحَدِ الْمَذْكُورِ الْمُؤَرَّخِ فَاسْتَلَمَ الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ ، وَطَافَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْكَعْبَةِ سَبْعًا ، رَمَلَ ثَلَاثًا مِنْهَا وَمَشَى أَرْبَعًا يَسْتَلِمُ الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ وَالرُّكْنَ الْيَمَانِيَّ فِي كُلِّ طَوْفَةٍ ، وَلَا يَمَسُّ الرُّكْنَيْنِ الْآخَرَيْنِ اللَّذَيْنِ فِي الْحِجْرِ ، وَقَالَ بَيْنَهُمَا ثُمَّ صَلَّى عِنْدَ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ رَكْعَتَيْنِ ، يَقْرَأُ فِيهِمَا مَعَ أُمِّ الْقُرْآنِ قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ وَقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ جَعَلَ الْمَقَامَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكَعْبَةِ ، وَقَرَأَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِذْ أَتَى الْمَقَامَ قَبْلَ أَنْ يَرْكَعَ ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ فَاسْتَلَمَهُ .(2/70)
ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ ، فَقَرَأَ " أَبْدَأُ بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ " ، فَطَافَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ أَيْضًا سَبْعًا رَاكِبًا عَلَى بَعِيرِهِ ، يَخُبُّ ثَلَاثًا وَيَمْشِي أَرْبَعًا ، إِذَا رَقِيَ عَلَى الصَّفَا اسْتَقْبَلَ الْكَعْبَةَ وَنَظَرَ إِلَى الْبَيْتِ وَوَحَّدَ اللَّهَ وَكَبَّرَهُ ، وَقَالَ : " لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ أَنْجَزَ وَعْدَهُ وَنَصَرَ عَبْدَهُ وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ " ، ثُمَّ يَدْعُو ، ثُمَّ يَفْعَلُ عَلَى الْمَرْوَةِ مِثْلَ ذَلِكَ .
فَلَمَّا أَكْمَلَ - صلى الله عليه وسلم - الطَّوَافَ وَالسَّعْيَ أَمَرَ كُلَّ مَنْ لَا هَدْيَ مَعَهُ بِالْإِحْلَالِ حَتْمًا وَلَا بُدَّ ؛ قَارِنًا كَانَ أَوْ مُفْرِدًا ، وَأَنْ يَحِلُّوا الْحِلَّ كُلَّهُ ، مِنْ وَطْءِ النِّسَاءِ وَالطِّيبِ وَالْمَخِيطِ ، وَأَنْ يَبْقَوْا كَذَلِكَ إِلَى يَوْمِ التَّرْوِيَةِ وَهُوَ يَوْمُ مِنًى ، فَيُهِلُّوا حِينَئِذٍ بِالْحَجِّ وَيُحْرِمُوا حِينَ ذَلِكَ عِنْدَ نُهُوضِهِمْ إِلَى مِنًى .
وَأَمَرَ مَنْ مَعَهُ الْهَدْيَ بِالْبَقَاءِ عَلَى إِحْرَامِهِمْ ، وَقَالَ لَهُمْ - صلى الله عليه وسلم - حِينَئِذٍ إِذْ تَرَدَّدَ بَعْضُهُمْ : " لَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ مَا سُقْتُ الْهَدْيَ حَتَّى اشْتَرَيْتُهُ ، وَلَجَعَلْتُهَا عُمْرَةً ، وَلَأَحْلَلْتُ كَمَا أَحْلَلْتُمْ ، وَلَكِنِّي سُقْتُ الْهَدْيَ ، فَلَا أَحِلُّ حَتَّى أَنْحَرَ الْهَدْيَ ".(2/71)
وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَطَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ وَعَلِيٌّ وَرِجَالٌ مِنْ أَهْلِ الْوَفْرِ سَاقُوا الْهَدْيَ ، فَلَمْ يَحِلُّوا وَبَقَوْا مُحْرِمِينَ ، كَمَا بَقِي عَلَيْهِ السَّلَامُ مُحْرِمًا ؛ لِأَنَّهُ كَانَ سَاقَ الْهَدْيَ مَعَ نَفْسِهِ ، وَكَانَ أُمَّهَاتُ الْمُؤْمِنِينَ لَمْ يَسُقْنَ هَدْيًا فَأَحْلَلْنَ ، وَكُنَّ قَارِنَاتِ حَجٍّ وَعُمْرَةٍ ، وَكَذَلِكَ فَاطِمَةُ بِنْتُ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَأَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ ، أَحَلَّتَا حَاشَا عَائِشَةَ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ، فَإِنَّهَا مِنْ أَجْلِ حَيْضِهَا لَمْ تَحِلَّ كَمَا ذَكَرْنَا ، وَشَكَا عَلِيٌّ فَاطِمَةَ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - إِذْ أَحَلَّتْ فَصَدَّقَهَا النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فِي أَنَّهُ هُوَ أَمَرَهَا بِذَلِكَ ، وَحِينَئِذٍ سَأَلَهُ سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ الْكِنَانِيُّ ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ مُتْعَتُنَا هَذِهِ ، أَلِعَامِنَا هَذَا أَمْ لِلْأَبَدِ ؟ فَشَبَّكَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بَيْنَ أَصَابِعِهِ ، وَقَالَ : " بَلْ لِأَبَدِ الْأَبَدِ دَخَلَتِ الْعُمْرَةُ فِي الْحَجِّ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ " .
وَأَمَرَ - صلى الله عليه وسلم - مَنْ جَاءَ إِلَى الْحَجِّ عَلَى غَيْرِ الطَّرِيقِ الَّتِي أَتَى - صلى الله عليه وسلم - عَلَيْهَا مِمَّنْ أَهَلَّ بِإِهْلَالٍ كَإِهْلَالِهِ أَنْ يَثْبُتُوا عَلَى أَحْوَالِهِمْ ، فَمَنْ سَاقَ مَعَهُ الْهَدْيَ لَمْ يَحِلَّ ، فَكَانَ عَلِيٌّ فِي أَهْلِ هَذِهِ الصِّفَةِ ، وَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ لَمْ يَسُقِ الْهَدْيَ أَنْ يَحِلَّ ، فَكَانَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ مِنْ أَهْلِ هَذِهِ الصِّفَةِ .(2/72)
وَأَقَامَ - صلى الله عليه وسلم - بِمَكَّةَ مُحْرِمًا مِنْ أَجْلِ هَدْيِهِ يَوْمَ الْأَحَدِ الْمَذْكُورِ وَالِاثْنَيْنِ وَالثُّلَاثَاءِ وَالْأَرْبِعَاءِ وَلَيْلَةَ الْخَمِيسِ ثُمَّ نَهَضَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَحْوَةَ يَوْمِ الْخَمِيسِ ، وَهُوَ يَوْمُ مِنًى ، وَهُوَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ مَعَ النَّاسِ إِلَى مِنًى ، وَفِي ذَلِكَ الْوَقْتِ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ مِنَ الْأَبْطَحِ كُلُّ مَنْ كَانَ أَحَلَّ مِنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، فَأَحْرَمُوا فِي نُهُوضِهِمْ إِلَى مِنًى فِي الْيَوْمِ الْمَذْكُورِ ، فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِمِنًى الظُّهْرَ مِنْ يَوْمِ الْخَمِيسِ الْمَذْكُورِ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ الْآخِرَةَ ، وَبَاتَ بِهَا لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ ، وَصَلَّى بِهَا الصُّبْحَ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ ثُمَّ نَهَضَ عَلَيْهِ السَّلَامُ .(2/73)
بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ الْمَذْكُورِ إِلَى عَرَفَةَ بَعْدَ أَنْ أَمَرَ - صلى الله عليه وسلم - بِأَنْ تُضْرَبَ لَهُ قُبَّةٌ مِنْ شَعْرِ بِنَمِرَةَ ، فَأَتَى - صلى الله عليه وسلم - عَرَفَةَ ، وَنَزَلَ فِي قُبَّتِهِ الَّتِي ذَكَرْنَا ، حَتَّى إِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ أَمَرَ بِنَاقَتِهِ الْقَصْوَاءِ ، فَرُحِّلَتْ لَهُ ، ثُمَّ أَتَى بَطْنَ الْوَادِي فَخَطَبَ النَّاسَ عَلَى رَاحِلَتِهِ خُطْبَةً ذَكَرَ فِيهَا - صلى الله عليه وسلم - تَحْرِيمَ الدِّمَاءِ وَالْأَمْوَالِ وَالْأَعْرَاضِ ، وَوَضَعَ فِيهَا أُمُورَ الْجَاهِلِيَّةِ وَدِمَاءَهَا ، وَأَوَّلُ مَا وَضَعَ دَمَ ابْنِ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ، كَانَ مُسْتَرْضَعًا فِي بَنِي سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ مِنْ هَوَازِنَ ، فَقَتَلَهُ هُذَيْلٌ ، وَذَكَرَ النَّسَّابُونَ أَنَّهُ كَانَ صَغِيرًا يَحْبُو أَمَامَ الْبُيُوتِ ، وَكَانَ اسْمُهُ آدَمَ ، فَأَصَابَهُ حَجَرٌ غَائِرٌ أَوْ سَهْمٌ غَرْبٌ ، مِنْ يَدِ رَجُلٍ مِنْ بَنِي هُذَيْلٍ فَمَاتَ ، ثُمَّ نَرْجِعُ إِلَى وَصْفِ عَمَلِهِ - صلى الله عليه وسلم - ، وَوَضَعَ أَيْضًا - صلى الله عليه وسلم - فِي خُطْبَتِهِ بِعَرَفَةَ رِبَا الْجَاهِلِيَّةِ ، وَأَوَّلُ رِبًا وَضَعَهُ رِبَا عَمِّهِ الْعَبَّاسِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَأَوْصَى بِالنِّسَاءِ خَيْرًا وَأَبَاحَهُمْ ضَرْبَهُنَّ غَيْرَ مُبَرِّحٍ ، إِنْ عَصَيْنَ بِمَا لَا يَحِلُّ وَقَضَى لَهُنَّ بِالرِّزْقِ وَالْكِسْوَةِ بِالْمَعْرُوفِ عَلَى أَزْوَاجِهِنَّ ، وَأَمَرَ بِالِاعْتِصَامِ بَعْدَهُ بِكِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَأَخْبَرَ أَنَّهُ لَنْ يَضِلَّ مَنِ اعْتَصَمَ بِهِ وَأَشْهَدَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى النَّاسِ أَنَّهُ قَدْ بَلَّغَهُمْ مَا يَلْزَمُهُمْ ، فَاعْتَرَفَ النَّاسُ بِذَلِكَ ، وَأَمَرَ(2/74)
- صلى الله عليه وسلم - أَنْ يُبَلِّغَ ذَلِكَ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ ، وَبَعَثَتْ إِلَيْهِ أُمُّ الْفَضْلِ بِنْتُ الْحَارِثِ الْهِلَالِيَّةُ ، وَهِيَ أُمُّ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْعَبَّاسِ لَبَنًا فِي قَدَحٍ فَشَرِبَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَمَامَ النَّاسِ ، وَهُوَ عَلَى بَعِيرِهِ فَعَلِمُوا أَنَّهُ - صلى الله عليه وسلم - لَمْ يَكُنْ صَائِمًا فِي يَوْمِهِ ذَلِكَ ، فَلَمَّا أَتَمَّ الْخُطْبَةَ الْمَذْكُورَةَ أَمَرَ بِلَالًا فَأَذَّنَ ، ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى الظُّهْرَ ، ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى الْعَصْرَ ، وَلَمْ يُصَلِّ بَيْنَهُمَا شَيْئًا ، لَكِنْ صَلَّاهُمَا - صلى الله عليه وسلم - بِالنَّاسِ مَجْمُوعَتَيْنِ فِي وَقْتِ الظُّهْرِ بِأَذَانٍ وَاحِدٍ لَهُمَا مَعًا وَبِإِقَامَتَيْنِ ، لِكُلِّ صَلَاةٍ مِنْهُمَا إِقَامَةٌ .
ثُمَّ رَكِبَ - صلى الله عليه وسلم - رَاحِلَتَهُ حَتَّى أَتَى الْمَوْقِفَ ، فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ وَجَعَلَ جَبَلَ الْمُشَاةِ بَيْنَ يَدَيْهِ ، فَلَمْ يَزَلْ وَاقِفًا لِلدُّعَاءِ ، وَهُنَالِكَ سَقَطَ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ عَنْ رَاحِلَتِهِ وَهُوَ مُحْرِمٌ فِي جُمْلَةِ الْحَجِيجِ فَمَاتَ ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِأَنْ يُكَفَّنَ فِي ثَوْبَيْهِ وَلَا يُمَسَّ بِطِيبٍ وَلَا يُحَنَّطَ وَلَا يُغَطَّى رَأْسُهُ وَلَا وَجْهُهُ ، وَأَخْبَرَ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا ، وَسَأَلَهُ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ هُنَالِكَ عَنِ الْحَجِّ ، فَأَعْلَمَهُمْ - صلى الله عليه وسلم - بِوُجُوبِ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ وَوَقْتِ الْوُقُوفِ بِهَا ، وَأَرْسَلَ إِلَى النَّاسِ أَنْ يَقِفُوا عَلَى مَشَاعِرِهِمْ .(2/75)
فَلَمْ يَزَلْ وَاقِفًا لِلدُّعَاءِ حَتَّى إِذَا غَرَبَتِ الشَّمْسُ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ الْمَذْكُورِ وَذَهَبَتِ الصُّفْرَةُ أَرْدَفَ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ خَلْفَهُ ، وَدَفَعَ - صلى الله عليه وسلم - وَقَدْ ضَمَّ زِمَامَ نَاقَتِهِ الْقَصْوَاءِ ، حَتَّى إِنَّ رَأْسَهَا لَيُصِيبُ طَرَفَ رِجْلِهِ ، ثُمَّ مَضَى يَسِيرُ الْعَنَقَ ، فَإِذَا وَجَدَ فَجْوَةً نَصَّ ، وَكِلَاهُمَا ضَرْبٌ مِنَ السَّيْرِ ، وَالنَّصُّ آكَدُهُمَا ، وَالْفَجْوَةُ الْفُسْحَةُ مِنَ النَّاسِ ، كُلَّمَا أَتَى رَبْوَةً مِنْ تِلْكَ الرَّوَابِي أَرْخَى لِلنَّاقَةِ زِمَامَهَا قَلِيلًا ، حَتَّى تَصْعَدَهَا ، وَهُوَ - صلى الله عليه وسلم - يَأْمُرُ النَّاسَ بِالسَّكِينَةِ فِي السَّيْرِ ، فَلَمَّا كَانَ فِي الطَّرِيقِ عِنْدَ الشِّعْبِ الْأَيْسَرِ ، نَزَلَ - صلى الله عليه وسلم - فَبَالَ وَتَوَضَّأَ وُضُوءًا خَفِيفًا ، وَقَالَ لِأُسَامَةَ : " الْمُصَلَّى أَمَامَكَ " أَوْ كَلَامًا هَذَا مَعْنَاهُ.
ثُمَّ رَكِبَ حَتَّى أَتَى الْمُزْدَلِفَةَ لَيْلَةَ السَّبْتِ الْعَاشِرَةِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ ، فَتَوَضَّأَ ثُمَّ صَلَّى بِهَا الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ الْآخِرَةَ مَجْمُوعَتَيْنِ فِي وَقْتِ الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ دُونَ خُطْبَةٍ ، وَلَكِنْ بِأَذَانٍ وَاحِدٍ لَهُمَا وَبِإِقَامَتَيْنِ ، لِكُلِّ صَلَاةٍ مِنْهُمَا إِقَامَةٌ ، وَلَمْ يُصَلِّ بَيْنَهُمَا شَيْئًا .(2/76)
ثُمَّ اضْطَجَعَ - صلى الله عليه وسلم - بِهَا ، حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ ، فَقَامَ - صلى الله عليه وسلم - وَصَلَّى الْفَجْرَ بِالنَّاسِ بِمُزْدَلِفَةَ يَوْمَ السَّبْتِ الْمَذْكُورِ ، وَهُوَ يَوْمُ النَّحْرِ ، وَهُوَ يَوْمُ الْأَضْحَى ، وَهُوَ يَوْمُ الْعِيدِ ، وَهُوَ يَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ مُغَلِّسًا أَوَّلَ انْصِدَاعِ الْفَجْرِ ، وَهُنَالِكَ سَأَلَهُ عُرْوَةُ بْنُ مُضَرِّسٍ الطَّائِيُّ ، وَقَدْ ذَكَرَ لَهُ عَمَلَهُ أَنَّهُ حَجَّ ، فَقَالَ لَهُ - صلى الله عليه وسلم - : " إِنَّ مَنْ أَدْرَكَ الصَّلَاةَ ، يَعْنِي صَلَاةَ الصُّبْحِ ، بِمُزْدَلِفَةَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ مَعَ النَّاسِ فَقَدْ أَدْرَكَ الْحَجَّ ، وَإِلَّا فَلَمْ يُدْرِكْ " .
وَاسْتَأْذَنَتْهُ سَوْدَةُ وَأُمُّ حَبِيبَةَ فِي أَنْ تَدْفَعَا مِنْ مُزْدَلِفَةَ لَيْلًا ، فَأَذِنَ لَهُمَا وَلِأُمِّ سَلَمَةَ فِي ذَلِكَ وَلِلنِّسَاءِ وَلِلضُّعَفَاءِ بَعْدَ وُقُوفِ جَمِيعِهِمْ بِمُزْدَلِفَةَ ، وَذِكْرِهُمُ اللَّهَ تَعَالَى بِهَا ، إِلَّا أَنَّهُ - صلى الله عليه وسلم - أَذِنَ لِلنِّسَاءِ فِي الرَّمْيِ بِلَيْلٍ وَلَمْ يَأْذَنْ لِلرِّجَالِ فِي ذَلِكَ ، لَا لِضُعَفَائِهِمْ وَلَا لِغَيْرِ ضُعَفَائِهِمْ ، وَكَانَ ذَلِكَ الْيَوْمُ يَوْمَ كَوْنِهِ - صلى الله عليه وسلم - عِنْدَ أُمِّ سَلَمَةَ ، فَلَمَّا - صلى الله عليه وسلم - الصُّبْحَ كَمَا ذَكَرْنَا بِمُزْدَلِفَةَ أَتَى الْمَشْعَرَ الْحَرَامَ بِهَا فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ وَدَعَا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ بِهَا ، وَكَبَّرَ وَهَلَّلَ وَوَحَّدَ ، وَلَمْ يَزَلْ وَاقِفًا بِهَا حَتَّى أَسْفَرَ جِدًّا .(2/77)
وَقَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ ، دَفَعَ - صلى الله عليه وسلم - حِينَئِذٍ مِنْ مُزْدَلِفَةَ ، وَقَدْ أَرْدَفَ الْفَضْلَ بْنَ الْعَبَّاسِ وَانْطَلَقَ أُسَامَةُ عَلَى رِجْلَيْهِ فِي سُبَّاقِ قُرَيْشٍ ، وَهُنَالِكَ سَأَلَتِ الْخَثْعَمِيَّةُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - الْحَجَّ عَنْ أَبِيهَا الَّذِي لَا يُطِيقُ الْحَجَّ ، فَأَمَرَهَا أَنْ تَحُجَّ عَنْهُ ، وَجَعَلَ - صلى الله عليه وسلم - يَصْرِفُ بِيَدِهِ وَجْهَ الْفَضْلِ بْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّظَرِ إِلَيْهَا وَإِلَى النِّسَاءِ ، وَكَانَ الْفَضْلُ أَبْيَضَ وَسِيمًا ، وَسَأَلَهُ أَيْضًا - صلى الله عليه وسلم - رَجُلٌ عَنْ مِثْلِ مَا سَأَلَتْ عَنْهُ الْخَثْعَمِيَّةُ ، فَأَمَرَهُ - صلى الله عليه وسلم - بِذَلِكَ.
وَنَهَضَ - صلى الله عليه وسلم - يُرِيدُ مِنًى ، فَلَمَّا أَتَى بَطْنَ مُحَسَّرٍ حَرَّكَ نَاقَتَهُ قَلِيلًا ، وَسَلَكَ - صلى الله عليه وسلم - الطَّرِيقَ الْوُسْطَى الَّتِي تَخْرُجُ عَلَى الْجَمْرَةِ الْكُبْرَى حَتَّى أَتَى مِنًى ، فَأَتَى الْجَمْرَةَ الَّتِي عِنْدَ الشَّجَرَةِ ، وَهِيَ جَمْرَةُ الْعَقَبَةِ ، فَرَمَاهَا - صلى الله عليه وسلم - مِنْ أَسْفَلِهَا بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ مِنَ الْيَوْمِ الْمُؤَرَّخِ بِحَصًى الْتَقَطَهَا لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ مِنْ مَوْقِفِهِ الَّذِي رَمَى فِيهِ مِثْلَ حَصَى الْخَذْفِ ، وَأَمَرَ بِمِثْلِهَا وَنَهَى عَنْ أَكْبَرَ مِنْهَا ، وَعَنِ الْغُلُوِّ فِي الدِّينِ ، فَرَمَاهَا - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ عَلَى رَاحِلَتِهِ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ كَمَا ذَكَرْنَا يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ مِنْهَا ، وَحِينَئِذٍ قَطَعَ عَلَيْهِ السَّلَامُ التَّلْبِيَةَ .(2/78)
وَلَمْ يَزَلْ بِمِنًى حَتَّى رَمَى الْجَمْرَةَ الَّتِي ذَكَرْنَا وَرَمَاهَا - صلى الله عليه وسلم - رَاكِبًا ، وَبِلَالٌ وَأُسَامَةُ أَحَدُهُمَا يُمْسِكُ خِطَامَ نَاقَتِهِ - صلى الله عليه وسلم - ، وَالْآخَرُ يُظِلُّهُ بِثَوْبِهِ مِنَ الْحَرِّ ، وَخَطَبَ النَّاسَ - صلى الله عليه وسلم - فِي الْيَوْمِ الْمَذْكُورِ وَهُوَ يَوْمُ النَّحْرِ بِمِنًى خُطْبَةً كَرَّرَ فِيهَا أَيْضًا - صلى الله عليه وسلم - تَحْرِيمَ الدِّمَاءِ وَالْأَمْوَالِ وَالْأَعْرَاضِ وَالْأَبْشَارِ ، وَأَعْلَمَهُمْ - صلى الله عليه وسلم - فِيهَا بِحُرْمَةِ يَوْمِ النَّحْرِ وَحُرْمَةِ مَكَّةَ عَلَى جَمِيعِ الْبِلَادِ ، وَأَمَرَ بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ لِمَنْ قَادَ بِكِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، وَأَمَرَ النَّاسَ بِأَخْذِ مَنَاسِكِهِمْ فَلَعَلَّهُ لَا يَحُجُّ بَعْدَ عَامِهِ ذَلِكَ ، وَعَلَّمَهُمْ مَنَاسِكَهُمْ وَأَنْزَلَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارَ وَالنَّاسَ مَنَازِلَهُمْ ، وَأَمَرَ أَنْ لَا يَرْجِعُوا بَعْدَهُ كُفَّارًا ، وَأَنْ لَا يَرْجِعُوا بَعْدَهُ ضُلَّالًا يَضْرِبُ بَعْضُهُمْ رِقَابَ بَعْضٍ . وَأَمَرَ بِالتَّبْلِيغِ عَنْهُ، وَأَخْبَرَ أَنَّ رُبَّ مُبَلَّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ .
ثُمَّ انْصَرَفَ - صلى الله عليه وسلم - إِلَى الْمَنْحَرِ بِمِنًى فَنَحَرَ ثَلَاثًا وَسِتِّينَ بَدَنَةً ، ثُمَّ أَمَرَ - صلى الله عليه وسلم - بِنَحْرِ مَا بَقِيَ مِنْهَا مِمَّا كَانَ عَلِيٌّ أَتَى بِهِ مِنَ الْيَمَنِ مَعَ مَا كَانَ - صلى الله عليه وسلم - أَتَى بِهِ مِنَ الْمَدِينَةِ وَكَانَتْ تَمَامَ الْمِائَةِ .(2/79)
ثُمَّ حَلَقَ - صلى الله عليه وسلم - رَأْسَهُ الْمُقَدَّسَ وَقَسَمَ شَعْرَهُ فَأَعْطَى نِصْفَهُ النَّاسَ الشَّعَرَةَ وَالشَّعَرَتَيْنِ ، وَأَعْطَى نِصْفَهُ الثَّانِي كُلَّهُ أَبَا طَلْحَةَ الْأَنْصَارِيَّ ، وَضَحَّى عَنْ نِسَائِهِ بِالْبَقَرِ ، وَأَهْدَى عَمَّنْ كَانَ اعْتَمَرَ مِنْهُنَّ بَقَرَةً ، وَضَحَّى - صلى الله عليه وسلم - فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ ، وَحَلَقَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ ، وَقَصَّرَ بَعْضُهُمْ ، فَدَعَا - صلى الله عليه وسلم - لِلْمُحَلِّقِينَ ثَلَاثًا وَلِلْمُقَصِّرِينَ مَرَّةً ، وَأَمَرَ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يُؤْخَذَ مِنَ الْبُدْنِ الَّتِي ذَكَرْنَا مِنْ كُلِّ بَدَنَةٍ بَضْعَةً ، فَجُعِلَتْ فِي قِدْرٍ وَطُبِخَتْ ، فَأَكَلَ هُوَ وَعَلِيٌّ مِنْ لَحْمِهَا وَشَرِبَا مِنْ مَرَقِهَا ، وَكَانَ - صلى الله عليه وسلم - قَدْ أَشْرَكَ عَلِيًّا فِيهَا ، ثُمَّ أَمَرَ عَلِيًّا بِقِسْمَةِ لُحُومِهَا كُلِّهَا وَجُلُودِهَا وَجِلَالِهَا ، وَأَنْ لَا يُعْطِيَ الْجَازِرَ مِنْهَا عَلَى جِزَارَتِهَا شَيْئًا ، وَأَعْطَاهُ - صلى الله عليه وسلم - الْأُجْرَةَ عَلَى ذَلِكَ مِنْ عِنْدَ نَفْسِهِ .
وَأَخْبَرَ النَّاسَ أَنَّ عَرَفَةَ كُلَّهَا مَوْقِفٌ حَاشَا بَطْنَ عُرَنَةَ ، وَأَنَّ مُزْدَلِفَةَ كُلَّهَا مَوْقِفٌ حَاشَا بَطْنَ مُحَسِّرٍ ، وَأَنَّ مِنًى كُلَّهَا مَنْحَرٌ ، وَأَنَّ رِحَالَهُمْ بِمِنًى كُلَّهَا مَنْحَرٌ ، وَأَنَّ فِجَاجَ مَكَّةَ كُلَّهَا مَنْحَرٌ .(2/80)
ثُمَّ تَطَيَّبَ - صلى الله عليه وسلم - قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ طَوَافَ الْإِفَاضَةِ ، وَلِإِحْلَالِهِ قَبْلَ أَنْ يَحِلَّ فِي يَوْمِ النَّحْرِ ، وَهُوَ السَّبْتُ الْمَذْكُورُ ، طَيَّبَتْهُ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا بِطِيبٍ فِيهِ مِسْكٌ بِيَدَيْهَا ، ثُمَّ نَهَضَ - صلى الله عليه وسلم - رَاكِبًا إِلَى مَكَّةَ فِي يَوْمِ السَّبْتِ الْمَذْكُورِ نَفْسِهِ فَطَافَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ طَوَافَ الْإِفَاضَةِ وَهُوَ طَوَافُ الصَّدْرِ قَبْلَ الظُّهْرِ ، وَشَرِبَ مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ بِالدَّلْوِ وَمِنْ نَبِيذِ السِّقَايَةِ .
ثُمَّ رَجَعَ مِنْ يَوْمِهِ ذَلِكَ إِلَى مِنًى فَصَلَّى بِهَا الظُّهْرَ . هَذَا قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ ، وَقَالَتْ عَائِشَةُ وَجَابِرٌ : بَلْ صَلَّى الظُّهْرَ ذَلِكَ الْيَوْمِ بِمَكَّةَ ، وَهَذَا الْفَصْلُ الَّذِي أُشْكِلَ عَلَيْنَا الْفَصْلُ فِيهِ بِصِحَّةِ الطُّرُقِ فِي كُلِّ ذَلِكَ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ أَحَدَ الْخَبَرَيْنِ وَهْمٌ ، وَالثَّانِي صَحِيحٌ ، وَلَا نَدْرِي أَيُّهُمَا هُوَ .
وَطَافَتْ أُمُّ سَلَمَةَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ عَلَى بَعِيرِهَا مِنْ وَرَاءِ النَّاسِ وَهِيَ شَاكِيَةٌ اسْتَأْذَنْتِ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فِي ذَلِكَ فَأَذِنَ لَهَا ، وَطَافَتْ أَيْضًا عَائِشَةُ ذَلِكَ الْيَوْمَ ، وَفِيهِ طَهُرَتْ وَكَانَتْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا حَائِضًا يَوْمَ عَرَفَةَ ، وَطَافَتْ أَيْضًا صَفِيَّةُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ ثُمَّ حَاضَتْ بَعْدَ ذَلِكَ لَيْلَةَ النَّفْرِ .(2/81)
ثُمَّ رَجَعَ - صلى الله عليه وسلم - إِلَى مِنًى ،وَسُئِلَ - صلى الله عليه وسلم - حِينَئِذٍ عَمَّا تَقَدَّمَ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ مِنَ الرَّمْيِ وَالْحَلْقِ وَالنَّحْرِ وَالْإِفَاضَةِ ؟ فَقَالَ فِي ذَلِكَ : " لَا حَرَجَ " ، وَكَذَلِكَ قَالَ أَيْضًا فِي تَقْدِيمِ السَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ قَبْلَ الطَّوَافِ بِالْكَعْبَةِ ، وَأَخْبَرَ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْزَلَ لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءً إِلَّا الْهَرَمَ ، وَعَظَّمَ إِثْمَ مَنِ اقْتَرَضَ عِرْضَ مُسْلِمٍ ظُلْمًا ، فَأَقَامَ بِمِنًى بَاقِيَ يَوْمِ السَّبْتِ ، وَلَيْلَةَ الْأَحَدِ ، وَيَوْمَ الْأَحَدِ ، وَلَيْلَةَ الِاثْنَيْنِ ، وَيَوْمَ الِاثْنَيْنِ ، وَلَيْلَةَ الثُّلَاثَاءِ ، وَيَوْمَ الثُّلَاثَاءِ ، وَهَذِهِ هِيَ أَيَّامُ مِنًى ، وَهِيَ أَيَّامُ التَّشْرِيقِ ، يَرْمِي الْجَمَرَاتِ الثَّلَاثَ كُلَّ يَوْمٍ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ الثَّلَاثَةِ بَعْدَ الزَّوَالِ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ لِكُلِّ جَمْرَةٍ يَبْدَأُ بِالدُّنْيَا وَهِيَ الَّتِي تَلِي مَسْجِدَ مِنًى ، وَيَقِفُ عِنْدَهَا لِلدُّعَاءِ طَوِيلًا ، ثُمَّ الَّتِي تَلِيهَا وَهِيَ الْوُسْطَى وَيَقِفُ عِنْدَهَا لِلدُّعَاءِ كَذَلِكَ ، ثُمَّ جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ وَلَا يَقِفُ عِنْدَهَا وَيُكَبِّرُ - صلى الله عليه وسلم - مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ " .
وَخَطَبَ النَّاسَ أَيْضًا يَوْمَ الْأَحَدِ ثَانِيَ يَوْمِ النَّحْرِ ، وَهُوَ يَوْمُ الرُّءُوسِ ، وَقَدْ رُوِيَ أَيْضًا أَنَّهُ - صلى الله عليه وسلم - خَطَبَهُمْ أَيْضًا يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَهُوَ يَوْمُ الْأَكَارِعِ ، وَأَوْصَى بِذَوِي الْأَرْحَامِ خَيْرًا ، وَأَخْبَرَ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ لَا تَجْنِي نَفْسٌ عَلَى أُخْرَى .(2/82)
وَاسْتَأْذَنَهُ الْعَبَّاسُ عَمُّهُ فِي الْمَبِيتِ بِمَكَّةَ لَيَالِيَ مِنًى الْمَذْكُورَةَ مِنْ أَجْلِ سِقَايَتِهِ فَأَذِنَ لَهُ - صلى الله عليه وسلم - ، وَأَذِنَ لِلرِّعَاءِ أَيْضًا فِي مِثْلِ ذَلِكَ الْيَوْمِ .
ثُمَّ نَهَضَ - صلى الله عليه وسلم - بَعْدَ زَوَالِ الشَّمْسِ مِنْ يَوْمِ الثُّلَاثَاءِ الْمُؤَرَّخِ ، وَهُوَ آخِرُ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ ، وَهُوَ الثَّالِثَ عَشَرَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ ، وَهُوَ يَوْمُ النَّفْرِ إِلَى الْمُحَصَّبِ ، وَهُوَ الْأَبْطَحُ ، فَضُرِبَتْ لَهُ قُبَّتُهُ ضَرَبَهَا أَبُو رَافِعٍ مَوْلَاهُ ، وَكَانَ عَلَى ثَقَلِهِ - صلى الله عليه وسلم - ، وَقَدْ كَانَ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ لِأُسَامَةَ أَنْ يَنْزِلَ غَدًا بِالْمُحَصَّبِ خَيْفِ بَنِي كِنَانَةَ ، وَهُوَ الْمَكَانُ الَّذِي ضَرَبَ فِيهِ أَبُو رَافِعٍ قُبَّتَهُ وِفَاقًا مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ دُونَ أَنْ يَأْمُرَهُ - صلى الله عليه وسلم - بِذَلِكَ .
وَحَاضَتْ صَفِيَّةُ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ لَيْلَةَ النَّفْرِ بَعْدَ أَنْ أَفَاضَتْ فَأُخْبِرَ بِذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَسَأَلَ : " أَفَاضَتْ يَوْمَ النَّحْرِ " ؟ فَقِيلَ : نَعَمْ ، فَأَمَرَهَا أَنْ تَنْفِرَ ، وَحَكَمَ فِيمَنْ كَانَتْ حَالُهَا كَحَالِهَا أَيْضًا بِذَلِكَ . وَصَلَّى - صلى الله عليه وسلم - بِالْمُحَصَّبِ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ الْآخِرَةَ مِنْ لَيْلَةِ الْأَرْبِعَاءِ الرَّابِعَ عَشَرَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ ، وَبَاتَ بِهَا - صلى الله عليه وسلم - لَيْلَةَ الْأَرْبِعَاءِ الْمَذْكُورَةَ ، وَرَقَدَ رَقْدَةً .(2/83)
وَلَمَّا كَانَ يَوْمُ النَّحْرِ وَهُوَ يَوْمُ النَّفْرِ رَغِبَتْ إِلَيْهِ عَائِشَةُ بَعْدَ أَنْ طَهُرَتْ أَنْ يُعْمِرَهَا عُمْرَةً مُنْفَرِدَةً ، فَأَخْبَرَهَا - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهَا قَدْ حَلَّتْ مِنْ عُمْرَتِهَا وَحِجَّتِهَا ، وَأَنَّ طَوَافَهَا يَكْفِيهَا وَيُجْزِئُهَا لِحِجِّهَا وَعُمْرَتِهَا فَأَبَتْ إِلَّا أَنْ تَعْتَمِرَ عُمْرَةً مُفْرَدَةً ، فَقَالَ لَهَا - صلى الله عليه وسلم - : " أَلَمْ تَكُونِي طُفْتِ لَيَالِيَ قَدِمْنَا " ؟ قَالَتْ : لَا ، فَأَمَرُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي بَكْرٍ أَخَاهَا بِأَنْ يُرْدِفَهَا وَيُعْمِرَهَا مِنَ التَّنْعِيمِ فَفَعَلَا ذَلِكَ ، وَانْتَظَرَهَا - صلى الله عليه وسلم - بِأَعْلَى مَكَّةَ ، ثُمَّ انْصَرَفَتْ مِنْ عُمْرَتِهَا تِلْكَ ، وَقَالَ لَهَا : " هَذَا مَكَانُ عُمْرَتِكِ " ، وَأَمَرَ النَّاسَ أَنْ لَا يَنْصَرِفُوا حَتَّى يَكُونَ آخِرَ عَهْدِهِمُ الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ .
وَرَخَّصَ فِي تَرْكِ ذَلِكَ لِلْحَائِضِ الَّتِي قَدْ طَافَتْ طَوَافَ الْإِفَاضَةِ قَبْلَ حَيْضِهَا .
ثُمَّ إِنَّهُ - صلى الله عليه وسلم - دَخَلَ مَكَّةَ فِي اللَّيْلِ مِنْ لَيْلَةِ الْأَرْبِعَاءِ الْمَذْكُورَةِ فَطَافَ بِالْبَيْتِ طَوَافَ الْوَدَاعِ لَمْ يَرْمُلْ فِي شَيْءٍ مِنْهُ سَحَرًا قَبْلَ صَلَاةِ الصُّبْحِ مِنْ يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ الْمَذْكُورِ .(2/84)
ثُمَّ خَرَجَ مِنْ كَدَاءَ أَسْفَلَ مَكَّةَ مِنَ الثَّنِيَّةِ السُّفْلَى ، وَالْتَقَى بِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَهُوَ نَاهِضٌ فِي الطَّوَافِ الْمَذْكُورِ وَهِيَ رَاجِعَةٌ مِنْ تِلْكَ الْعُمْرَةِ الَّتِي ذَكَرْنَا ثُمَّ رَجَعَ - صلى الله عليه وسلم - ، وَأَمَرَ بِالرَّحِيلِ وَمَضَى - صلى الله عليه وسلم - مِنْ فَوْرِهِ ذَلِكَ رَاجِعًا إِلَى الْمَدِينَةِ ، فَكَانَتْ مُدَّةُ إِقَامَتِهِ - صلى الله عليه وسلم - بِمَكَّةَ مُذْ دَخَلَهَا إِلَى أَنْ خَرَجَ إِلَى مِنًى إِلَى عَرَفَةَ إِلَى مُزْدَلِفَةَ إِلَى مِنًى إِلَى الْمُحَصَّبِ إِلَى أَنْ وَجَّهَ رَاجِعًا عَشْرَةَ أَيَّامٍ ، فَلَمَّا أَتَى ذَا الْحُلَيْفَةِ بَاتَ بِهَا ثُمَّ لَمَّا رَأَى الْمَدِينَةَ كَبَّرَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ، وَقَالَ : " لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ، آيِبُونَ تَائِبُونَ عَابِدُونَ سَاجِدُونَ لِرَبِّنَا حَامِدُونَ ، صَدَقَ اللَّهُ وَعْدَهُ ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ ، وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ " .
ثُمَّ دَخَلَ - صلى الله عليه وسلم - الْمَدِينَةَ نَهَارًا مِنْ طَرِيقِ الْمُعَرَّسِ ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ كَثِيرًا ، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ وَسَلَّمَ .(1)
- - - - - - - - - - - - - - - -
البابُ الرابعُ
أحكام ُالعُمْرَةِ
تعريفها :
__________
(1) حَجَّةُ الْوَدَاعِ لِابْنِ حَزْمٍ - الْفَصْلُ الْأَوَّلُ : خُلَاصَةٌ فِي أَعْمَالِ الْحَجِّ ...(2/85)
الْعُمْرَةُ : بِضَمِّ الْعَيْنِ وَسُكُونِ الْمِيمِ لُغَةً : الزِّيَارَةُ ، وَقَدِ اعْتَمَرَ إِذَا أَدَّى الْعُمْرَةَ ، وَأَعْمَرَهُ : أَعَانَهُ عَلَى أَدَائِهَا(1).
وَاصْطِلاَحًا عَرَّفَهَا جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ بِأَنَّهَا الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ وَالسَّعْيُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ بِإِحْرَامٍ(2).
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ :
الْحَجُّ :
الْحَجُّ فِي اللُّغَةِ : الْقَصْدُ ، أَوِ الْقَصْدُ إِلَى مُعَظَّمٍ(3)
وَفِي الاِصْطِلاَحِ : عَرَّفَهُ الدَّرْدِيرُ بِأَنَّهُ الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ وَالطَّوَافُ بِالْكَعْبَةِ وَالسَّعْيُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ مُحْرِمًا بِنِيَّةِ الْحَجِّ(4).
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْعُمْرَةِ وَالْحَجِّ وَثِيقَةٌ ، فَالْحَجُّ يَتَضَمَّنُ أَعْمَال الْعُمْرَةِ وَيَزِيدُ عَلَيْهَا بِأَشْيَاءَ كَالْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ ، وَالْمَبِيتِ بِمِنًى وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَعْمَال الْحَجِّ .
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ :
ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَأَكْثَرُ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْعُمْرَةَ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ فِي الْعُمُرِ مَرَّةً وَاحِدَةً وَذَهَبَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّهَا وَاجِبَةٌ فِي الْعُمُرِ مَرَّةً وَاحِدَةً عَلَى اصْطِلاَحِ الْحَنَفِيَّةِ فِي الْوَاجِبِ(5)
__________
(1) - لسان العرب ، والنهاية في غريب الحديث لابن الأثير ، والقاموس المحيط للفيروزآبادي .
(2) - الشرح الكبير للدردير بهامش حاشية الدسوقي 2 / 2 .
(3) - المصادر اللغوية السابقة .
(4) - الشرح الكبير على مختصر خليل للدردير 2 / 2 .
(5) - الهداية وفتح القدير 2 / 306 ، وبدائع الصنائع 2 / 226 ، والدسوقي 2 / 2 .(2/86)
وَالأَْظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ الْعُمْرَةَ فَرْضٌ فِي الْعُمُرِ مَرَّةً وَاحِدَةً ، وَنَصَّ أَحْمَدُ عَلَى أَنَّ الْعُمْرَةَ لاَ تَجِبُ عَلَى الْمَكِّيِّ(1)؛ لأَِنَّ أَرْكَانَ الْعُمْرَةِ مُعْظَمُهَا الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ وَهُمْ يَفْعَلُونَهُ فَأَجْزَأَ عَنْهُمُ .
اسْتَدَل الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ عَلَى سُنِّيَّةِ الْعُمْرَةِ بِأَدِلَّةٍ مِنْهَا : عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - سُئِلَ عَنِ الْعُمْرَةِ أَوَاجِبَةٌ هِىَ قَالَ " لاَ وَأَنْ تَعْتَمِرُوا هُوَ أَفْضَلُ "(2). ، وَبِحَدِيثِ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : الْحَجُّ جِهَادٌ وَالْعُمْرَةُ تَطَوُّعٌ(3).
__________
(1) - المنهاج للنووي وشرحه للمحلي بحاشيتي القليوبي وعميرة 2 / 92 ( ط . محمد علي صبيح وأولاده ) . والمغني لابن قدامة 3 / 223 ، 224 ) ط . دار المنار الثالثة ) والفروع لابن مفلح 3 / 203 ( تصوير عالم الكتب ) ، وكشاف القناع 2 / 376 .
(2) - سنن الترمذى برقم (943 ) والبيهقي ( 4 / 349 ) وفيه ضعف
(3) - مصنف ابن أبي شيبة مرقم ومشكل - (ج 5 / ص 196)برقم (13647) وسنن ابن ماجه - (ج 9 / ص 202)برقم (3103) وهو حسن مرسل
قَالَ الشَّافِعِىُّ فِى الْكِتَابِ فَقُلْتُ لَهُ يَعْنِى بَعْضَ الْمَشْرِقِيِّينَ أَتُثْبِتُ مِثْلَ هَذَا عَنِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ : هُوَ مُنْقَطِعٌ. {ت} قَالَ الشَّيْخُ : وَقَدْ رُوِىَ مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ إِسْحَاقَ عَنْ أَبِى صَالِحٍ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ مَوْصُولاً وَالطَّرِيقُ فِيهِ إِلَى شُعْبَةَ طَرِيقٌ ضَعِيفٌ . وَرَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ بْنِ عَطِيَّةَ عَنْ سَالِمٍ الأَفْطَسِ عَنِ ابْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا. {ج} وَمُحَمَّدٌ هَذَا مَتْرُوكٌ.(2/87)
وفي صحيح ابن خزيمة برقم ( 2831 ) عن جابر قَالَ : لَيْسَ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ أَحَدٌ إِلَّا وَعَلَيْهِ عُمْرَةٌ وَاجِبَةٌ.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ : هَذَا الْخَبَرُ يَدُلُّ عَلَى تَوْهِينِ خَبَرِ الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ عَنِ ابْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ جَابِرٍ سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْعُمْرَةِ أَوَاجِبَةٌ هِيَ ؟ قَالَ : " لَا إِنْ فَهُوَ أَفْضَلُ " ثَنَاهُ بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ ثنا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ ثنا الْحَجَّاجُ بْنُ أَرْطَاةَ ، فَلَوْ كَانَ جَابِرٌ سَمِعَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ فِي الْعُمْرَةِ إِنَّهَا لَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ لَمَا خَالَفَ قَوْلَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَفِي خَبَرِ مَنْصُورٍ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنِ الضَّبِّيِّ بْنِ مَعْبَدٍ فِي قِصَّةِ عُمَرَ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْعُمْرَةَ وَاجِبَةٌ عِنْدَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ثَنَاهُ يُوسُفُ بْنُ مُوسَى ثنا جَرِيرٌ ، عَنْ مَنْصُورٍ ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ قَالَ : قَالَ الضَّبِّيُّ بْنُ مَعْبَدٍ : كُنْتُ رَجُلًا أَعْرَابِيًّا نَصْرَانِيًّا ، فَأَسْلَمْتُ ، فَكُنْتُ حَرِيصًا عَلَى الْجِهَادِ ، وَإِنِّي وَجَدْتُ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ مَكْتُوبَتَيْنِ عَلَيَّ ، فَأَتَيْتُ رَجُلًا مِنْ عَشِيرَتِي يُقَالُ لَهُ : هُدَيْمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ فَقُلْتُ : يَا هَنَاهُ إِنِّي حَرِيصٌ عَلَى الْجِهَادِ ، وَإِنِّي وَجَدْتُ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ مَكْتُوبَتَيْنِ عَلَيَّ فَكَيْفَ لِي أَنْ أَجْمَعَهُمَا ؟ فَقَالَ : اجْمَعْهَا ، ثُمَّ اذْبَحْ مَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْى قَالَ : فَأَهْلَلْتُ بِهِمَا مَعًا ، فَلَمَّا أَتَيْتُ الْعُذَيْبَ لَقِيَنِي سُلَيْمَانُ بْنُ رَبِيعَةَ ، وَزِيدُ بْنُ صُوحَانَ ، وَأَنَا أُهِلُّ بِهِمَا مَعًا فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِلْآخَرِ : مَا هَذَا(2/88)
بِأَفْقَهَ مِنْ بَعِيرِهِ ، فَكَأَنَّمَا أُلْقِىَ عَلَيَّ جَبَلٌ حَتَّى أَتَيْتُ عُمَرَ ، فَقُلْتُ لَهُ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنِّي كُنْتُ رَجُلًا أَعْرَابِيًّا نَصْرَانِيًّا وَإِنِّي أَسْلَمْتُ ، وَأَنَا حَرِيصٌ عَلَى الْجِهَادِ ، وَإِنِّي وَجَدْتُ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ مَكْتُوبَتَيْنِ عَلَيَّ فَأَتَيْتُ رَجُلًا مِنْ عَشِيرَتِي يُقَالُ لَهُ : هُدَيْمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ ، فَقُلْتُ : يَا هَنْتَاهُ إِنِّي حَرِيصٌ عَلَى الْجِهَادِ ، وَإِنِّي وَجَدْتُ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ مَكْتُوبَتَيْنِ عَلَيَّ ، فَكَيْفَ لِي أَنْ أَجْمَعَهُمَا ، فَقَالَ : اجْمَعْهُمَا ، ثُمَّ اذْبَحْ مَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَإِنِّي أَهْلَلْتُ بِهِمَا جَمِيعًا ، فَلَمَّا أَتَيْتُ الْعُذَيْبَ لَقِيَنِي سُلَيْمَانُ بْنُ رَبِيعَةَ ، وَزِيدُ بْنُ صُوحَانَ ، وَأَنَا أُهِلُّ بِهِمَا مَعًا فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِلْآخَرِ : مَا هَذَا بِأَفْقَهَ مِنْ بَعِيرِهِ ، قَالَ : فَقَالَ لِي عُمَرُ : هُدِيتَ لِسُنَّةِ نَبِيِّكَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ : فِي تَرْكِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ النَّكِيرَ عَلَى الضَّبِّيِّ بْنِ مَعْبَدٍ قَوْلَهُ : وَإِنِّي وَجَدْتُ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ مَكْتُوبَتَيْنِ عَلَيَّ أَبْيَنُ الدِّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الْعُمْرَةَ عِنْدَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ كَانَتْ وَاجِبَةً كَالْحَجِّ إِذْ لَوْ كَانَتِ الْعُمْرَةُ عِنْدَهُ تَطَوُّعًا لَا وَاجِبَةً ، لَأَشْبَهَ أَنْ يُنْكِرَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ ، وَلَقَالَ لَهُ : لَمْ نَجِدْ ذَلِكَ مَكْتُوبَتَيْنُ عَلَيْكَ بَلْ إِنَّمَا وَجَدْتُ الْحَجَّ مَكْتُوبًا عَلَيْكَ دُونَ الْعُمْرَةِ ، وَفِي تَرْكِهِ الْإِنْكَارَ عَلَيْهِ مَا أَفْتَاهُ هُدَيْمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ ، دَلَالَةٌ بَيِّنَةٌ بِأَنَّ الْقِرَانَ عِنْدَهُ جَائِزٌ مِنْ غَيْرِ سَوْقِ بَدَنَةٍ ،(2/89)
وَلَا بَقَرَةٍ مِنَ الْمِيقَاتِ الَّذِي يُحْرِمُ مِنْهُ بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ ، وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ مَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ، جَائِزٌ عَنِ الْقَارِنِ كَهُوَ عَنِ الْمُتَمَتِّعِ لَا كَمَا قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : إِنَّ الْقِرَانَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِسَوْقِ بَدَنَةٍ أَوْ بَقَرَةٍ يَسُوقُهُ مِنْ حَيْثُ يُحْرِمُ.
وَاسْتَدَل الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى فَرْضِيَّةِ الْعُمْرَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ } (سورة البقرة / 196) ، أَيِ : افْعَلُوهُمَا تَامَّيْنِ ، فَيَكُونُ النَّصُّ أَمْرًا بِهِمَا فَيَدُل عَلَى فَرْضِيَّةِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ .
وَبِحَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ عَلَى النِّسَاءِ جِهَادٌ؟ قَالَ :" نَعَمْ جِهَادٌ لاَ قِتَالَ فِيهِ. الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ جِهَادُهُنَّ "(1).
فَضِيلَةُ الْعُمْرَةِ :
وَرَدَ فِي فَضْل الْعُمْرَةِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ مِنْهَا : مَا روي عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ " الْعُمْرَةُ إِلَى الْعُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا ، وَالْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلاَّ الْجَنَّةُ "(2).
وما رويَ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ " الْحُجَّاجُ وَالْعُمَّارُ وَفْدُ اللَّهِ إِنْ دَعَوْهُ أَجَابَهُمْ وَإِنِ اسْتَغْفَرُوهُ غَفَرَ لَهُمْ "(3).
وُجُوهُ أَدَاءِ الْعُمْرَةِ :
تَتَأَدَّى الْعُمْرَةُ عَلَى ثَلاَثَةِ أَوْجُهٍ ، وَهِيَ :
__________
(1) - السنن الكبرى للبيهقي وفي ذيله الجوهر النقي - (ج 4 / ص 350)برقم (9018) صحيح
(2) - صحيح البخارى برقم (1773 )
(3) - سنن ابن ماجه برقم (3004 ) وهو حسن لغيره(2/90)
أ ) إِفْرَادُ الْعُمْرَةِ : وَذَلِكَ بِأَنْ يُحْرِمَ بِالْعُمْرَةِ أَيْ : يَنْوِيَهَا وَيُلَبِّيَ - دُونَ أَنْ يُتْبِعَهَا بِحَجٍّ - فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ ، أَوْ يَحُجَّ ثُمَّ يَعْتَمِرَ بَعْدَ الْحَجِّ ، أَوْ يَأْتِيَ بِأَعْمَال الْعُمْرَةِ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ فَهَذِهِ كُلُّهَا إِفْرَادٌ لِلْعُمْرَةِ .
ب ) التَّمَتُّعُ : وَهُوَ أَنْ يُحْرِمَ بِالْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ وَيَأْتِيَ بِأَعْمَالِهَا وَيَتَحَلَّل ، ثُمَّ يَحُجَّ ، فَيَكُونَ مُتَمَتِّعًا وَيَجِبُ عَلَيْهِ هَدْيُ التَّمَتُّعِ بِالشُّرُوطِ الْمُقَرَّرَةِ لِلتَّمَتُّعِ ج ) الْقِرَانُ : وَهُوَ أَنْ يُحْرِمَ بِالْعُمْرَةِ وَالْحَجِّ مَعًا فِي إِحْرَامٍ وَاحِدٍ ، فَيَأْتِي بِأَفْعَالِهِمَا مُجْتَمِعَيْنِ ، وَتَدْخُل أَفْعَال الْعُمْرَةِ فِي الْحَجِّ عِنْدَ الْجُمْهُورِ ، وَيُجْزِئُهُ لَهُمَا طَوَافٌ وَاحِدٌ وَسَعْيٌ وَاحِدٌ عِنْدَهُمْ ، وَيَظَل مُحْرِمًا حَتَّى يَتَحَلَّل بِأَعْمَال يَوْمِ النَّحْرِ فِي الْحَجِّ .
وَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ : أَنَّ الْقَارِنَ يَطُوفُ طَوَافَيْنِ وَيَسْعَى سَعْيَيْنِ طَوَافٌ وَسَعْيٌ لِعُمْرَتِهِ ، ثُمَّ طَوَافٌ وَسَعْيٌ لِحَجِّهِ ، وَلاَ يَتَحَلَّل بَعْدَ أَفْعَال الْعُمْرَةِ ، بَل يَظَل مُحْرِمًا أَيْضًا حَتَّى يَتَحَلَّل تَحَلُّل الْحَجِّ .
وَكَيْفَمَا أَدَّى الْعُمْرَةَ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ تُجْزِئُ عَنْهُ ، وَيَتَأَدَّى فَرْضُهَا عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِفَرْضِيَّتِهَا كَمَا تَتَأَدَّى سُنِّيَّتُهَا عَلَى الْقَوْل بِسُنِّيَّتِهَا(1).
__________
(1) - المغني 3 / 225 ، والمجموع للنووي 7 / 137 - 138 ( ط . مطبعة العاصمة ) .(2/91)
قَال ابْنُ قُدَامَةَ فِي الْمُغْنِي : وَتُجْزِئُ عُمْرَةُ الْمُتَمَتِّعِ وَعُمْرَةُ الْقَارِنِ ، وَالْعُمْرَةُ مِنْ أَدْنَى الْحِل عَنِ الْعُمْرَةِ الْوَاجِبَةِ ، وَلاَ نَعْلَمُ فِي إِجْزَاءِ عُمْرَةِ التَّمَتُّعِ خِلاَفًا ، كَذَلِكَ قَال ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَعَطَاءٌ وَطَاوُسٌ وَمُجَاهِدٌ ، وَلاَ نَعْلَمُ عَنْ غَيْرِهِمْ خِلاَفَهُمْ .
وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّ عُمْرَةَ الْقَارِنِ لاَ تُجْزِئُ ، وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ ، وَعَنْ أَحْمَدَ : أَنَّ الْعُمْرَةَ مِنْ أَدْنَى الْحِل لاَ تُجْزِئُ عَنِ الْعُمْرَةِ الْوَاجِبَةِ ، وَقَال : إِنَّمَا هِيَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَمْيَالٍ ، وَاحْتَجَّ عَلَى أَنَّ عُمْرَةَ الْقَارِنِ لاَ تُجْزِئُ بِأَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا حِينَ حَاضَتْ أَعْمَرَهَا مِنَ التَّنْعِيمِ فَلَوْ كَانَتْ عُمْرَتُهَا فِي قِرَانِهَا أَجْزَأَتْهَا لِمَا أَعْمَرَهَا بَعْدَهَا .(2/92)
وَاسْتَدَل ابْنُ قُدَامَةَ بحديث أَبِى وَائِلٍ قَالَ: قَالَ الصُّبَىُّ بْنُ مَعْبَدٍ :كُنْتُ أَعْرَابِيًّا نَصْرَانِيًّا فَأَسْلَمْتُ فَكُنْتُ حَرِيصًا عَلَى الْجِهَادِ ،فَوَجَدْتُ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ مَكْتُوبَيْنِ عَلَىَّ فَأَتَيْتُ رَجُلاً مِنْ عَشِيرَتِى يُقَالُ لَهُ هُذَيْمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ فَسَأَلْتُهُ فَقَالَ: اجْمَعْهُمَا ثُمَّ اذْبَحْ مَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْىِ، فَأَهْلَلْتُ بِهِمَا فَلَمَّا أَتَيْتُ الْعُذَيْبَ لَقِيَنِى سَلْمَانُ بْنُ رَبِيعَةَ وَزَيْدُ بْنُ صُوحَانَ وَأَنَا أُهِلُّ بِهِمَا فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِلآخَرِ :مَا هَذَا بِأَفْقَهَ مِنْ بَعِيرِهِ. فَأَتَيْتُ عُمَرَ فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنِّى أَسْلَمْتُ وَأَنَا حَرِيصٌ عَلَى الْجِهَادِ، وَإِنِّى وَجَدْتُ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ مَكْتُوبَيْنِ عَلَىَّ ،فَأَتَيْتُ هُذَيْمَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ فَقُلْتُ: يَا هَنَّاهُ إِنِّى وَجَدْتُ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ مَكْتُوبَيْنِ عَلَىَّ. فَقَالَ :اجْمَعْهُمَا ثُمَّ اذْبَحْ مَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْىِ ،فَأَهْلَلْتُ بِهِمَا ،فَلَمَّا أَتَيْنَا الْعُذَيْبَ لَقِيَنِى سَلْمَانُ بْنُ رَبِيعَةَ وَزَيْدُ بْنُ صُوحَانَ فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِلآخَرِ: مَا هَذَا بِأَفْقَهَ مِنْ بَعِيرِهِ. فَقَالَ عُمَرُ: هُدِيتَ لِسُنَّةِ نَبِيِّكَ - صلى الله عليه وسلم - (1).
__________
(1) -سنن النسائى برقم (2731 ) وصحح إسناده النووي في المجموع ( 7 / 157 ) وهو كما قال(2/93)
وَهَذَا يَدُل عَلَى أَنَّهُ أَحْرَمَ بِهِمَا يَعْتَقِدُ أَدَاءَ مَا كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنْهُمَا وَالْخُرُوجَ عَنْ عُهْدَتِهِمَا ، فَصَوَّبَهُ عُمَرُ ، وَقَال : هُدِيتَ لِسُنَّةِ نَبِيِّكَ وَبِحَدِيثِ عَائِشَةَ - رضى الله عنها - أَنَّهَا حَاضَتْ بِسَرِفَ فَتَطَهَّرَتْ بِعَرَفَةَ فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " يُجْزِئُ عَنْكِ طَوَافُكِ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ عَنْ حَجِّكِ وَعُمْرَتِكِ "(1).
وَقَال ابْنُ قُدَامَةَ : وَإِنَّمَا أَعْمَرَهَا النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - مِنَ التَّنْعِيمِ قَصْدًا لِتَطْيِيبِ قَلْبِهَا وَإِجَابَةِ مَسْأَلَتِهَا ، لاَ ؛ لأَِنَّهَا كَانَتْ وَاجِبَةً عَلَيْهَا ، ثُمَّ إِنْ لَمْ تَكُنْ أَجْزَأَتْهَا عُمْرَةُ الْقِرَانِ فَقَدْ أَجْزَأَتْهَا الْعُمْرَةُ مِنْ أَدْنَى الْحِل ، وَهُوَ أَحَدُ مَا قَصَدْنَا الدَّلاَلَةَ عَلَيْهِ ، ؛ وَلأَِنَّ الْوَاجِبَ عُمْرَةٌ وَاحِدَةٌ وَقَدْ أَتَى بِهَا صَحِيحَةً فَتُجْزِئُهُ كَعُمْرَةِ الْمُتَمَتِّعِ ؛ وَلأَِنَّ عُمْرَةَ الْقَارِنِ أَحَدُ نُسُكَيِ الْقِرَانِ فَأَجْزَأَتْ كَالْحَجِّ ، وَالْحَجُّ مِنْ مَكَّةَ يُجْزِئُ فِي حَقِّ الْمُتَمَتِّعِ ، فَالْعُمْرَةُ مِنْ أَدْنَى الْحِل فِي حَقِّ الْمُفْرِدِ - لِلْعُمْرَةِ - أَوْلَى(2)
صِفَةُ أَدَاءِ الْعُمْرَةِ :
__________
(1) - صحيح مسلم برقم (2993 )
(2) - المغني لابن قدامة 3 / 225 .(2/94)
مَنْ أَرَادَ الْعُمْرَةَ فَإِنَّهُ يَسْتَعِدُّ لِلإِْحْرَامِ بِالْعُمْرَةِ مَتَى بَلَغَ الْمِيقَاتَ أَوِ اقْتَرَبَ مِنْهُ إِنْ كَانَ آفَاقِيًّا ، أَوْ يُحْرِمُ مِنْ حَيْثُ أَنْشَأَ أَيْ : مِنْ حَيْثُ يَشْرَعُ فِي التَّوَجُّهِ لِلْعُمْرَةِ إِنْ كَانَ مِيقَاتِيًّا ، أَيْ يَسْكُنُ أَوْ يَنْزِل فِي الْمَوَاقِيتِ أَوْ مَا يُحَاذِيهَا ، أَوْ فِي الْمِنْطَقَةِ الَّتِي بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْحَرَمِ .
أَمَّا إِنْ كَانَ مَكِّيًّا أَوْ حَرَمِيًّا أَوْ مُقِيمًا أَوْ نَازِلاً فِي مَكَّةَ أَوْ فِي مِنْطَقَةِ الْحَرَمِ حَوْل مَكَّةَ فَإِنَّهُ يَخْرُجُ مِنَ الْحَرَمِ إِلَى أَقْرَبِ مَنَاطِقِ الْحِل إِلَيْهِ ، فَيُحْرِمُ بِالْعُمْرَةِ مَتَى جَاوَزَ الْحَرَمَ إِلَى الْحِل وَلَوْ بِخُطْوَةٍ .
وَالاِسْتِعْدَادُ لِلإِْحْرَامِ أَنْ يَفْعَل مَا يُسَنُّ لَهُ ، وَهُوَ : الاِغْتِسَال وَالتَّنَظُّفُ وَتَطْيِيبُ الْبَدَنِ ، ثُمَّ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ سُنَّةَ الإِْحْرَامِ ، وَتُجْزِئُ عَنْهُمَا صَلاَةُ الْمَكْتُوبَةِ ، ثُمَّ يَنْوِي بَعْدَهُمَا الْعُمْرَةَ ، بِنَحْوِ : " اللَّهُمَّ إِنِّي أُرِيدُ الْعُمْرَةَ فَيَسِّرْهَا لِي وَتَقَبَّلْهَا مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ، ثُمَّ يُلَبِّي قَائِلاً : " لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ لاَ شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ لاَ شَرِيكَ لَكَ " وَبِهَذَا يُصْبِحُ مُحْرِمًا أَيْ : دَاخِلاً فِي الْعُمْرَةِ ، وَتَحْرُمُ عَلَيْهِ مَحْظُورَاتُ الإِْحْرَامِ ، وَيَسْتَمِرُّ يُلَبِّي حَتَّى يَدْخُل مَكَّةَ وَيَشْرَعَ فِي الطَّوَافِ.(2/95)
فَإِذَا دَخَل الْمُعْتَمِرُ مَكَّةَ بَادَرَ إِلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ، وَتَوَجَّهَ إِلَى الْكَعْبَةِ الْمُعَظَّمَةِ بِغَايَةِ الْخُشُوعِ وَالاِحْتِرَامِ ، وَيَبْدَأُ بِالطَّوَافِ مِنَ الْحَجَرِ الأَْسْوَدِ ، فَيَطُوفُ سَبْعَةَ أَشْوَاطٍ طَوَافَ رُكْنِ الْعُمْرَةِ ، فَيَنْوِيهِ وَيَسْتَلِمُ الْحَجَرَ فِي ابْتِدَاءِ الطَّوَافِ ، وَيُقَبِّلُهُ إِنْ لَمْ يَخْشَ الزِّحَامَ أَوْ إِيذَاءَ أَحَدٍ وَيُكَبِّرُ وَإِلاَّ أَشَارَ إِلَيْهِ وَكَبَّرَ ، وَيَقْطَعُ التَّلْبِيَةَ بِاسْتِلاَمِ الْحَجَرِ فِي ابْتِدَاءِ الطَّوَافِ أَوِ الإِْشَارَةِ إِلَيْهِ ، وَكُلَّمَا مَرَّ بِالْحَجَرِ اسْتَلَمَهُ وَقَبَّلَهُ أَوْ أَشَارَ إِلَيْهِ .
وَيُسَنُّ لَهُ أَنْ يَضْطَبِعَ فِي أَشْوَاطِ طَوَافِهِ هَذَا كُلِّهَا ، وَالاِضْطِبَاعُ أَنْ يَجْعَل وَسَطَ الرِّدَاءِ تَحْتَ إِبْطِهِ الْيُمْنَى ، وَيَرُدَّ طَرَفَيْهِ عَلَى كَتِفِهِ الْيُسْرَى وَيُبْقِي كَتِفَهُ الْيُمْنَى مَكْشُوفَةً ، كَمَا يُسَنُّ لِلرَّجُل الرَّمَل فِي الأَْشْوَاطِ الثَّلاَثَةِ الأُْولَى ، وَيَمْشِي فِي الْبَاقِي ، وَلْيُكْثِرِ الْمُعْتَمِرُ مِنَ الدُّعَاءِ وَالذِّكْرِ فِي طَوَافِهِ كُلِّهِ .
ثُمَّ إِذَا فَرَغَ مِنْ طَوَافِهِ يُصَلِّي رَكْعَتَيْ الطَّوَافِ ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى الْحَجَرِ الأَْسْوَدِ فَيَسْتَلِمَهُ وَيُقَبِّلُهُ إِنْ تَيَسَّرَ وَيُكَبِّرُ أَوْ يُشِيرُ إِلَيْهِ وَيُكَبِّرُ ، وَيَذْهَبُ إِلَى الصَّفَا ، وَيَقْرَأُ الآْيَةَ : { إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا } . (سورة البقرة / 158)(2/96)
وَيَبْدَأُ السَّعْيَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ مِنَ الصَّفَا ، فَيَرْقَى عَلَى الصَّفَا حَتَّى يَرَى الْكَعْبَةَ الْمُعَظَّمَةَ ، فَيَقِفُ مُتَوَجِّهًا إِلَيْهَا وَيُهَلِّل وَيُكَبِّرُ وَيَدْعُو ثُمَّ يَنْزِل مُتَوَجِّهًا إِلَى الْمَرْوَةِ وَيُسْرِعُ الرَّجُل بَيْنَ الْمِيلَيْنِ الأَْخْضَرَيْنِ ، ثُمَّ يَمْشِي الْمُعْتَمِرُ حَتَّى يَبْلُغَ الْمَرْوَةَ ، فَيَقِفَ عَلَيْهَا يَذْكُرُ وَيَدْعُو بِمِثْل مَا فَعَل عَلَى الصَّفَا ، ثُمَّ يَنْزِل فَيَفْعَل كَمَا فِي الشَّوْطِ الأَْوَّل حَتَّى يُتِمَّ سَبْعَةَ أَشْوَاطٍ تَنْتَهِي عَلَى الْمَرْوَةِ ، وَلْيُكْثِرْ مِنَ الدُّعَاءِ وَالذِّكْرِ فِي سَعْيِهِ ، ثُمَّ إِذَا فَرَغَ الْمُعْتَمِرُ مِنْ سَعْيِهِ حَلَقَ رَأْسَهُ أَوْ قَصَّرَهُ وَتَحَلَّل بِذَلِكَ مِنْ إِحْرَامِهِ تَحَلُّلاً كَامِلاً ، وَيَمْكُثُ بِمَكَّةَ حَلاَلاً مَا بَدَا لَهُ .
ثُمَّ عَلَيْهِ طَوَافُ الْوَدَاعِ إِذَا أَرَادَ السَّفَرَ مِنْ مَكَّةَ - وَلَوْ كَانَ مَكِّيًّا - وُجُوبًا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَسُنَّةً عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ طَوَافُ الْوَدَاعِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِلاَّ إِنْ كَانَ مَكِّيًّا أَوْ مَنْزِلُهُ فِي الْحَرَمِ ، فَلاَ يَجِبُ عَلَيْهِ الْوَدَاعُ ، أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَلاَ يَجِبُ عِنْدَهُمْ طَوَافُ الْوَدَاعِ عَلَى الْمُعْتَمِرِ لَكِنْ يُسْتَحَبُّ خُرُوجًا مِنَ الْخِلاَفِ ؛ لأَِنَّ طَوَافَ الْوَدَاعِ عِنْدَهُمْ مِنْ مَنَاسِكِ الْحَجِّ ، شُرِعَ لِيَكُونَ آخِرَ عَهْدِهِ بِالْبَيْتِ(1)
أَرْكَانُ الْعُمْرَةِ :
__________
(1) -بدائع الصنائع 2 / 134 - 135 ، والدسوقي 2 / 21 - 40 ، ومغني المحتاج 1 / 513 ، وكشاف القناع 2 / 519 .(2/97)
ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ أَرْكَانَ الْعُمْرَةِ ثَلاَثَةٌ هِيَ : الإِْحْرَامُ وَالطَّوَافُ وَالسَّعْيُ ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ(1)، وَقَال بِرُكْنِيَّتِهَا الشَّافِعِيَّةُ ، وَزَادُوا رُكْنًا رَابِعًا هُوَ : الْحَلْقُ(2).
وَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الإِْحْرَامَ شَرْطٌ لِلْعُمْرَةِ ، وَرُكْنُهَا وَاحِدٌ هُوَ : الطَّوَافُ(3).
الرُّكْنُ الأَْوَّل : الإِْحْرَامُ :
الإِْحْرَامُ بِالْعُمْرَةِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ هُوَ نِيَّةُ الْعُمْرَةِ(4).
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ : نِيَّةُ الْعُمْرَةِ مَعَ الذِّكْرِ أَوِ الْخُصُوصِيَّةِ .
وَمُرَادُهُمْ بِالذِّكْرِ : التَّلْبِيَةُ وَنَحْوُهَا مِمَّا فِيهِ تَعْظِيمُ اللَّهِ تَعَالَى ، وَالْمُرَادُ بِالْخُصُوصِيَّةِ : مَا يَقُومُ مَقَامَ التَّلْبِيَةِ مِنْ سَوْقِ الْهَدْيِ أَوْ تَقْلِيدِ الْبُدْنِ(5).
وَيُشْتَرَطُ فِي الإِْحْرَامِ مُقَارَنَتُهُ بِالتَّلْبِيَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ ، وَالتَّلْبِيَةُ شَرْطٌ عِنْدَ ابْنِ حَبِيبٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ ، فَلاَ يَصِحُّ الإِْحْرَامُ بِدُونِ التَّلْبِيَةِ أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهَا عِنْدَهُمْ .
__________
(1) - الشرح الكبير وحاشيته للدسوقي 2 / 21 وشرح الرسالة بحاشية العدوي 1 / 483 ، 497 ، وكشاف القناع 2 / 521 .
(2) - مغني المحتاج 1 / 513 .
(3) - المسلك المتقسط ص307 .
(4) - الشرح الكبير والدسوقي 2 / 21 - 26 وشرح المنهاج للمحلي بهامش القليوبي وعميرة 2 / 96 ، ونهاية المحتاج للرملي 2 / 394 ، والكافي لابن قدامة 1 / 530 . ط . المكتب الإسلامي .
(5) - رد المختار لابن عابدين 2 / 213 .(2/98)
وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ التَّلْبِيَةَ لَيْسَتْ شَرْطًا ، فَقَال الْمَالِكِيَّةُ : هِيَ وَاجِبَةٌ فِي الأَْصْل ، وَالسُّنَّةُ قَرْنُهَا بِالإِْحْرَامِ ، وَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ : إِنَّهَا سُنَّةٌ فِي الإِْحْرَامِ مُطْلَقًا(1)
وَصِيغَةُ التَّلْبِيَةِ هِيَ : لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ ، لَبَّيْكَ لاَ شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ ، إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ ، لاَ شَرِيكَ لَكَ .
وَاجِبَاتُ الإِْحْرَامِ لِلْعُمْرَةِ :
يَجِبُ فِي الْعُمْرَةِ الإِْحْرَامُ مِنَ الْمِيقَاتِ ، وَتَجَنُّبُ مَحْظُورَاتِ الإِْحْرَامِ
مِيقَاتُ الإِْحْرَامِ لِلْعُمْرَةِ :
الْمِيقَاتُ قِسْمَانِ : مِيقَاتٌ زَمَانِيٌّ ، وَمِيقَاتٌ مَكَانِيٌّ :
الْمِيقَاتُ الزَّمَانِيُّ لِلإِْحْرَامِ بِالْعُمْرَةِ :
ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ مِيقَاتَ الْعُمْرَةِ الزَّمَانِيَّ هُوَ جَمِيعُ الْعَامِ لِغَيْرِ الْمُشْتَغِل بِالْحَجِّ ، فَيَصِحُّ أَنْ يُحْرِمَ بِهَا الإِْنْسَانُ وَيَفْعَلَهَا فِي جَمِيعِ السَّنَةِ ، وَهِيَ أَفْضَل فِي شَهْرِ رَمَضَانَ مِنْهَا فِي غَيْرِهِ ، لِمَا سَيَأْتِي
__________
(1) - المسلك المتقسط ص62 ، ورد المحتار 2 / 213 - 214 ، ومواهب الجليل 3 / 9 ، وشرح الرسالة بحاشية العدوي 1 / 460 ، والمهذب والمجموع 3 / 388 ، والكافي 1 / 541 .(2/99)
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ إِلَى أَنَّ الْعُمْرَةَ تُكْرَهُ تَحْرِيمًا يَوْمَ عَرَفَةَ ، وَأَرْبَعَةَ أَيَّامٍ بَعْدَهُ(1)، وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْل عَائِشَةَ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهَا : حَلَّتِ الْعُمْرَةُ فِى السَّنَةِ كُلِّهَا إِلاَّ فِى أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ : يَوْمُ عَرَفَةَ ، وَيَوْمُ النَّحْرِ ، وَيَوْمَانِ بَعْدَ ذَلِكَ.(2)
الْمِيقَاتُ الْمَكَانِيُّ لِلْعُمْرَةِ(3):
__________
(1) - فتح القدير 2 / 304 ، والبدائع 2 / 227 ، ومواهب الجليل 3 / 22 - 26 ، وشرح الزرقاني 2 / 250 ، والمجموع 7 / 133 - 136 ، ونهاية المحتاج 2 / 389 والكافي 1 / 528 ، ومطالب أولي النهى 2 / 301 - 302 و445 .
(2) - السنن الكبرى للبيهقي (ج 4 / ص 346) برقم (9002) صحيح موقوف
وقال :وَهَذَا مَوْقُوفٌ وَهُوَ مَحْمُولٌ عِنْدَنَا عَلَى مَنْ كَانَ مُشْتَغِلاً بِالْحَجِّ فَلاَ يُدْخِلُ الْعُمْرَةَ عَلَيْهِ ، وَلاَ يَعْتَمِرُ حَتَّى يُكْمِلَ عَمَلَ الْحَجِّ كُلَّهِ. فَقَدْ أَمَرَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ أَبَا أَيُّوبَ الأَنْصَارِىَّ وَهَبَّارَ بْنَ الأَسْوَدِ حِينَ فَاتَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْحَجُّ بأَنْ يَتَحَلَّلَ بِعَمَلِ عُمْرَةٍ. {ش} قَالَ الشَّافِعِىُّ : وَأَعْظَمُ الأَيَّامِ حُرْمَةً أَوْلاَهَا أَنْ يُنْسَكَ فِيهَا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
(3) - الموسوعة الفقهية الكويتية - (ج 2 / ص 151)(2/100)
هُوَ الْمِيقَاتُ الْمَكَانِيُّ لِلْحَجِّ بِالنِّسْبَةِ لِلآْفَاقِيِّ وَالْمِيقَاتِيِّ . وَمِيقَاتُ مَنْ كَانَ بِمَكَّةَ مِنْ أَهْلِهَا أَوْ غَيْرِ أَهْلِهَا الْحِل مِنْ أَيِّ مَكَانٍ ، وَلَوْ كَانَ بَعْدَ الْحَرَمِ ، وَلَوْ بِخُطْوَةٍ . وَاخْتَلَفُوا فِي الأَْفْضَل مِنْهُمَا ، فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ مِنَ الْجِعْرَانَةِ أَفْضَل(1)، وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ مِنَ التَّنْعِيمِ أَفْضَل . وَقَال أَكْثَرُ الْمَالِكِيَّةِ هُمَا مُتَسَاوِيَانِ(2).
وَالأَْصْل فِي ذَلِكَ ما روي عَنْ عَطَاءٍ حَدَّثَنِى جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ - رضى الله عنهما - أَنَّ عَائِشَةَ حَاضَتْ فَنَسَكَتِ الْمَنَاسِكَ كُلَّهَا ، غَيْرَ أَنَّهَا لَمْ تَطُفْ بِالْبَيْتِ قَالَ فَلَمَّا طَهُرَتْ وَطَافَتْ ، قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتَنْطَلِقُونَ بِعُمْرَةٍ وَحَجَّةٍ ، وَأَنْطَلِقُ بِالْحَجِّ فَأَمَرَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِى بَكْرٍ أَنْ يَخْرُجَ مَعَهَا إِلَى التَّنْعِيمِ ، فَاعْتَمَرَتْ بَعْدَ الْحَجِّ فِى ذِى الْحَجَّةِ .. "(3). .
وَمِنْ جِهَةِ النَّظَرِ أَنَّ مِنْ شَأْنِ الإِْحْرَامِ أَنْ تَكُونَ هُنَا رِحْلَةٌ بَيْنَ الْحِل وَالْحَرَمِ ، وَلَمَّا كَانَتْ أَرْكَانُ الْعُمْرَةِ كُلُّهَا فِي الْحَرَمِ ، كَانَ لاَ بُدَّ أَنْ يَكُونَ الإِْحْرَامُ فِي الْحِل . وَلاَ يُعْلَمُ فِي ذَلِكَ خِلاَفٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ .
ا) مِيقَاتُ الآْفَاقِيِّ:
__________
(1) - المجموع شرح المهذب - (ج 7 / ص 206) وأسنى المطالب - (ج 6 / ص 73) وشرح البهجة الوردية - (ج 7 / ص 357)
(2) - شرح مختصر خليل للخرشي - (ج 7 / ص 310)
(3) - صحيح البخارى (1785 )(2/101)
وَالآْفَاقِيُّ : هُوَ مَنْ مَنْزِلُهُ خَارِجَ مِنْطَقَةِ الْمَوَاقِيتِ ، وَمَوَاقِيتُ الآْفَاقِيِّ هِيَ : ذُو الْحُلَيْفَةِ لأَِهْل الْمَدِينَةِ وَمَنْ مَرَّ بِهَا ، وَالْجُحْفَةُ لأَِهْل الشَّامِ وَمَنْ جَاءَ مِنْ قِبَلِهَا كَأَهْل مِصْرَ وَالْمَغْرِبِ ، وَيُحْرِمُونَ الآْنَ مِنْ رَابِغٍ قَبْل الْجُحْفَةِ بِقَلِيلٍ ، وَقَرْنُ الْمَنَازِل " وَيُسَمَّى الآْنَ السَّيْل " لأَِهْل نَجْدٍ ، وَيَلَمْلَمُ لأَِهْل الْيَمَنِ وَتِهَامَةَ وَالْهِنْدِ ، وَذَاتُ عِرْقٍ لأَِهْل الْعِرَاقِ وَسَائِرِ أَهْل الْمَشْرِقِ .
ب ) الْمِيقَاتِيُّ :
وَالْمِيقَاتِيُّ : هُوَ مَنْ كَانَ فِي مَنَاطِقِ الْمَوَاقِيتِ أَوْ مَا يُحَاذِيهَا أَوْ مَا دُونَهَا إِلَى مَكَّةَ .
وَهَؤُلاَءِ مِيقَاتُهُمْ مِنْ حَيْثُ أَنْشَئُوا الْعُمْرَةَ وَأَحْرَمُوا بِهَا ، إِلاَّ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ قَالُوا : مِيقَاتُهُمُ الْحِل كُلُّهُ ، وَالْمَالِكِيَّةُ قَالُوا : يُحْرِمُ مِنْ دَارِهِ أَوْ مَسْجِدِهِ لاَ غَيْرُ ، وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ قَالُوا : مِيقَاتُهُمُ الْقَرْيَةُ الَّتِي يَسْكُنُونَهَا لاَ يُجَاوِزُونَهَا بِغَيْرِ إِحْرَامٍ .
ج ) الْحَرَمِيُّ :
وَالْحَرَمِيُّ وَهُوَ الْمُقِيمُ بِمِنْطَقَةِ الْحَرَمِ وَالْمَكِّيُّ وَمَنْ كَانَ نَازِلاً بِمَكَّةَ أَوِ الْحَرَمِ ، هَؤُلاَءِ مِيقَاتُهُمْ لِلإِْحْرَامِ بِالْعُمْرَةِ الْحِل ، فَلاَ بُدَّ أَنْ يَخْرُجُوا لِلْعُمْرَةِ عَنِ الْحَرَمِ إِلَى الْحِل وَلَوْ بِخُطْوَةٍ وَاحِدَةٍ يَتَجَاوَزُونَ بِهَا الْحَرَمَ إِلَى الْحِل .(2/102)
وَالدَّلِيل عَلَى تَحْدِيدِ هَذِهِ الْمَوَاقِيتِ لِلإِْحْرَامِ بِالْعُمْرَةِ السُّنَّةُ وَالإِْجْمَاعُ ، فَمِنَ السُّنَّةِ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ إِنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - وَقَّتَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ ذَا الْحُلَيْفَةِ ، وَلأَهْلِ الشَّأْمِ الْجُحْفَةَ ، وَلأَهْلِ نَجْدٍ قَرْنَ الْمَنَازِلِ ، وَلأَهْلِ الْيَمَنِ يَلَمْلَمَ ، هُنَّ لَهُنَّ وَلِمَنْ أَتَى عَلَيْهِنَّ مِنْ غَيْرِهِنَّ ، مِمَّنْ أَرَادَ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ ، وَمَنْ كَانَ دُونَ ذَلِكَ فَمِنْ حَيْثُ أَنْشَأَ ، حَتَّى أَهْلُ مَكَّةَ مِنْ مَكَّةَ(1).
وَأَمَّا الإِْجْمَاعُ فَقَال النَّوَوِيُّ : إِذَا انْتَهَى الآْفَاقِيُّ إِلَى الْمِيقَاتِ وَهُوَ يُرِيدُ الْحَجَّ أَوِ الْعُمْرَةَ أَوِ الْقِرَانَ حَرُمَ عَلَيْهِ مُجَاوَزَتُهُ غَيْرَ مُحْرِمٍ بِالإِْجْمَاعِ(2).
__________
(1) -صحيح البخارى برقم (1524 )
(2) - المجموع 7 / 206 .(2/103)
وَأَمَّا مِيقَاتُ الْحَرَمِيِّ وَالْمَكِّيِّ لِلْعُمْرَةِ فَقَدْ خُصَّ مِنَ الْحَدِيثِ السَّابِقِ بِمَا وَرَدَ عَنْ عَطَاءٍ حَدَّثَنِى جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ - رضى الله عنهما - أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - أَهَلَّ وَأَصْحَابُهُ بِالْحَجِّ وَلَيْسَ مَعَ أَحَدٍ مِنْهُمْ هَدْىٌ ، غَيْرَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - وَطَلْحَةَ ، وَكَانَ عَلِىٌّ قَدِمَ مِنَ الْيَمَنِ ، وَمَعَهُ الْهَدْىُ فَقَالَ أَهْلَلْتُ بِمَا أَهَلَّ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - . وَإِنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - أَذِنَ لأَصْحَابِهِ أَنْ يَجْعَلُوهَا عُمْرَةً ، يَطُوفُوا بِالْبَيْتِ ، ثُمَّ يُقَصِّرُوا وَيَحِلُّوا ، إِلاَّ مَنْ مَعَهُ الْهَدْىُ ، فَقَالُوا نَنْطَلِقُ إِلَى مِنًى وَذَكَرُ أَحَدِنَا يَقْطُرُ فَبَلَغَ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ « لَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِى مَا اسْتَدْبَرْتُ مَا أَهْدَيْتُ ، وَلَوْلاَ أَنَّ مَعِى الْهَدْىَ لأَحْلَلْتُ » . وَأَنَّ عَائِشَةَ حَاضَتْ فَنَسَكَتِ الْمَنَاسِكَ كُلَّهَا ، غَيْرَ أَنَّهَا لَمْ تَطُفْ بِالْبَيْتِ قَالَ فَلَمَّا طَهُرَتْ وَطَافَتْ ، قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتَنْطَلِقُونَ بِعُمْرَةٍ وَحَجَّةٍ ، وَأَنْطَلِقُ بِالْحَجِّ فَأَمَرَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِى بَكْرٍ أَنْ يَخْرُجَ مَعَهَا إِلَى التَّنْعِيمِ ، فَاعْتَمَرَتْ بَعْدَ الْحَجِّ فِى ذِى الْحَجَّةِ ، وَأَنَّ سُرَاقَةَ بْنَ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ لَقِىَ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ بِالْعَقَبَةِ ، وَهُوَ يَرْمِيهَا ، فَقَالَ أَلَكُمْ هَذِهِ خَاصَّةً ، يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ « لاَ ، بَلْ لِلأَبَدِ »(1)
اجْتِنَابُ مَحْظُورَاتِ الإِْحْرَامِ :
__________
(1) - صحيح البخارى برقم (1785 )(2/104)
مَحْظُورَاتُ الإِْحْرَامِ لِلْعُمْرَةِ هِيَ مَحْظُورَاتُ الإِْحْرَامِ لِلْحَجِّ ، مِنْهَا :
أ ) يَحْرُمُ عَلَى الرَّجُل : لُبْسُ الْمَخِيطِ وَكُل مَا نُسِجَ مُحِيطًا بِالْجِسْمِ أَوْ بِبَعْضِ الأَْعْضَاءِ كَالْجَوَارِبِ ، وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ وَضْعُ غِطَاءٍ عَلَى الرَّأْسِ وَتَغْطِيَةُ وَجْهِهِ ، وَلُبْسُ حِذَاءٍ يَبْلُغُ الْكَعْبَيْنِ .
ب ) يَحْرُمُ عَلَى الْمَرْأَةِ الْمُحْرِمَةِ سَتْرُ الْوَجْهِ بِسِتْرٍ يُلاَمِسُ الْبَشَرَةَ ، وَلُبْسُ قُفَّازَيْنِ ، وَتَلْبَسُ سِوَى ذَلِكَ لِبَاسَهَا الْعَادِيَّ .
ج ) يَحْرُمُ عَلَى الرِّجَال وَالنِّسَاءِ الطِّيبُ وَأَيْ شَيْءٍ فِيهِ طِيبٌ ، وَإِزَالَةُ الشَّعْرِ مِنَ الرَّأْسِ وَمِنْ أَيِّ مَوْضِعٍ فِي الْجِسْمِ ، وَاسْتِعْمَال الدُّهْنِ الْمُلَيِّنِ لِلشَّعْرِ أَوِ الْجِسْمِ - وَلَوْ غَيْرَ مُطَيِّبٍ - وَتَقْلِيمُ الأَْظْفَارِ ، وَالصَّيْدُ وَالْجِمَاعُ وَدَوَاعِيهِ الْمُهَيِّئَةُ لَهُ ، وَالرَّفَثُ " أَيْ : الْمُحَادَثَةُ بِشَأْنِهِ " وَلْيَجْتَنِبِ الْمُحْرِمُونَ الْفُسُوقَ أَيْ : مُخَالَفَةَ أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ ، وَكَذَا الْجِدَال بِالْبَاطِل .
وَيَجِبُ فِي ارْتِكَابِ شَيْءٍ مِنْ مَحْظُورَاتِ الإِْحْرَامِ الْجَزَاءُ ، وَفِي الْجِمَاعِ خَاصَّةً فَسَادُ الْعُمْرَةِ وَالْكَفَّارَةُ وَالْقَضَاءُ ، عَدَا مَا حَرُمَ مِنَ الرَّفَثِ وَالْفُسُوقِ وَالْجِدَال فَفِيهَا الإِْثْمُ وَالْجَزَاءُ الأُْخْرَوِيُّ فَقَطْ .
مَكْرُوهَاتُ الإِْحْرَامِ :
يُكْرَهُ فِي إِحْرَامِ الْعُمْرَةِ مَا يُكْرَهُ فِي إِحْرَامِ الْحَجِّ ، مِثْل تَمْشِيطِ الرَّأْسِ أَوْ حَكِّهِ بِقُوَّةٍ ،
وَكَذَا حَكُّ الْجَسَدِ حَكًّا شَدِيدًا ، وَالتَّزَيُّنُ .
سُنَنُ الإِْحْرَامِ :
يُسَنُّ فِي الإِْحْرَامِ لِلْعُمْرَةِ أَرْبَعُ خِصَالٍ هِيَ :(2/105)
الاِغْتِسَال ، وَتَطْيِيبُ الْبَدَنِ لاَ الثَّوْبِ ، وَصَلاَةُ رَكْعَتَيْنِ ، يَفْعَل هَذِهِ الثَّلاَثَةَ قَبْل الإِْحْرَامِ . ثُمَّ التَّلْبِيَةُ عَقِبَ النِّيَّةِ ، وَالتَّلْبِيَةُ فَرْضٌ فِي الإِْحْرَامِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ خِلاَفًا لِلْجُمْهُورِ .
وَيُسَنُّ لِلْمُعْتَمِرِ أَنْ يُكْثِرَ مِنَ التَّلْبِيَةِ مُنْذُ نِيَّةِ الإِْحْرَامِ بِالْعُمْرَةِ إِلَى بَدْءِ الطَّوَافِ بِاسْتِلاَمِ الْحَجَرِ الأَْسْوَدِ ، عِنْدَ الْجُمْهُورِ ، وَقَال الْمَالِكِيَّةُ الْمُعْتَمِرُ الآْفَاقِيُّ يُلَبِّي حَتَّى يَبْلُغَ الْحَرَمَ ، لاَ إِلَى رُؤْيَةِ بُيُوتِ مَكَّةَ ، وَالْمُعْتَمِرُ مِنَ الْجِعْرَانَةِ أَوْ مِنَ التَّنْعِيمِ يُلَبِّي إِلَى دُخُول بُيُوتِ مَكَّةَ(1)
الرُّكْنُ الثَّانِي : الطَّوَافُ :
الطَّوَافُ بِالْكَعْبَةِ الْمُعَظَّمَةِ رُكْنٌ فِي الْعُمْرَةِ ، وَفَرْضُهُ سَبْعَةُ أَشْوَاطٍ عِنْدَ الْجُمْهُورِ ، وَقَال الْحَنَفِيَّةُ : الأَْرْبَعَةُ فَرْضٌ ، وَالثَّلاَثَةُ الْبَاقِيَةُ وَاجِبَةٌ .
وَيُشْتَرَطُ فِي هَذَا الطَّوَافِ : سَبْقُ الإِْحْرَامِ بِالْعُمْرَةِ ، ثُمَّ سَائِرُ شُرُوطِ الطَّوَافِ الْعَامَّةِ ، وَهِيَ : أَصْل نِيَّةِ الطَّوَافِ ، وَوُقُوعُ الطَّوَافِ حَوْل الْكَعْبَةِ ، وَأَنْ يَشْمَل الْحِجْرَ ( أَيِ الْحَطِيمَ ) وَالتَّيَامُنَ ، وَالطَّهَارَةَ مِنَ الأَْحْدَاثِ وَالأَْنْجَاسِ وَسَتْرِ الْعَوْرَةِ .
وَهَذِهِ كُلُّهَا شُرُوطٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ ، وَجَعَل الْحَنَفِيَّةُ شُمُول الطَّوَافِ لِلْحِجْرِ وَمَا ذُكِرَ بَعْدَهُ وَاجِبَاتٍ فِي الطَّوَافِ .
وَاشْتَرَطَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ مُوَالاَةَ أَشْوَاطِ الطَّوَافِ ، وَهِيَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ ، وَالشَّافِعِيَّةِ سُنَّةٌ .
__________
(1) - انظر نقد البدائع لهذا التمييز 2 / 227 .(2/106)
وَيَجِبُ فِي طَوَافِ الْعُمْرَةِ : الْمَشْيُ لِلْقَادِرِ عَلَيْهِ ، وَرَكْعَتَانِ بَعْدَ الطَّوَافِ ، وَقَال الشَّافِعِيَّةُ : كِلاَ هَذَيْنِ سُنَّةٌ .
وَيُسَنُّ فِي طَوَافِ الْعُمْرَةِ : الرَّمَل فِي الأَْشْوَاطِ الثَّلاَثَةِ الأُْولَى ، ثُمَّ يَمْشِي فِي الْبَاقِي ، وَالاِضْطِبَاعُ فِيهِ كُلِّهِ ، وَهَذَانِ لِلرِّجَال دُونَ النِّسَاءِ ؛ لأَِنَّهُمَا سُنَّتَانِ فِي كُل طَوَافٍ بَعْدَهُ سَعْيٌ ، وَهَذَا طَوَافٌ بَعْدَهُ سَعْيٌ ، وَيُسَنُّ ابْتِدَاءُ الطَّوَافِ قَبْل الْحَجَرِ الأَْسْوَدِ بِقَلِيلٍ ، وَاسْتِقْبَال الْحَجَرِ ، وَاسْتِلاَمُهُ وَتَقْبِيلُهُ إِنْ تَيَسَّرَ وَإِلاَّ اسْتَقْبَلَهُ وَأَشَارَ إِلَيْهِ بِيَدَيْهِ ، وَاسْتِلاَمُ الرُّكْنِ الْيَمَانِيِّ وَالدُّعَاءُ(1).
الرُّكْنُ الثَّالِثُ : السَّعْيُ :
السَّعْيُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ رُكْنٌ فِي الْعُمْرَةِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَرِوَايَةٌ عِنْدَ الإِْمَامِ أَحْمَدَ ، وَهُوَ وَاجِبٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَهُوَ الرَّاجِحُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَأَحْكَامُ السَّعْيِ فِي الْعُمْرَةِ هِيَ أَحْكَامُ السَّعْيِ فِي الْحَجِّ فَيُشْتَرَطُ فِيهِ سَبْقُ الإِْحْرَامِ بِالْعُمْرَةِ ، وَأَنْ يَسْبِقَهُ الطَّوَافُ ، وَأَنْ يَبْدَأَ السَّعْيَ بِالصَّفَا فَالْمَرْوَةِ ، فَلَوْ عَكَسَ لَغَا الشَّوْطُ وَاحْتُسِبَ مِنْ عِنْدِ الصَّفَا .
وَرُكْنُ السَّعْيِ سَبْعَةُ أَشْوَاطٍ عِنْدَ الْجُمْهُورِ ، وَأَرْبَعَةٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْبَاقِي وَاجِبٌ عِنْدَهُمْ .
__________
(1) - المسلك المتقسط ص98 و103 - 105 و108 - 112 والشرح الكبير وحاشيته 2 / 30 - 34 ومغني المحتاج 1 / 485 - 492 ، والمغني 2 / 370 - 385 .(2/107)
وَيَجِبُ الْمَشْيُ فِي السَّعْيِ عَلَى الْقَادِرِ عَلَيْهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ ، وَالْمَالِكِيَّةِ ، وَيُسَنُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ .
وَتُسَنُّ الْمُوَالاَةُ بَيْنَ السَّعْيِ وَالطَّوَافِ ، وَنِيَّةُ السَّعْيِ ، وَالسَّعْيُ الشَّدِيدُ بَيْنَ الْمِيلَيْنِ الأَْخْضَرَيْنِ ، كَمَا تُسَنُّ الْمُوَالاَةُ بَيْنَ أَشْوَاطِ السَّعْيِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ ، وَهِيَ شَرْطٌ لِصِحَّةِ السَّعْيِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ(1).
شُرُوطُ فَرْضِيَّةِ الْعُمْرَةِ :
شُرُوطُ فَرْضِيَّةِ الْعُمْرَةِ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِفَرْضِيَّتِهَا هِيَ شُرُوطُ فَرْضِيَّةِ الْحَجِّ ، وَكَذَا عَلَى الْقَوْل بِوُجُوبِهَا وَسُنِّيَّتِهَا .
فَيُشْتَرَطُ لِفَرْضِيَّةِ الْعُمْرَةِ : الْعَقْل وَالإِْسْلاَمُ ، وَالْبُلُوغُ وَالْحُرِّيَّةُ ، وَالاِسْتِطَاعَةُ ، وَالاِسْتِطَاعَةُ شَرْطٌ لِفَرْضِيَّةِ الْعُمْرَةِ فَقَطْ ، لَكِنْ لاَ يَتَوَقَّفُ عَلَيْهَا سُقُوطُ الْفَرْضِ عِنْدَ مَنْ يَقُول بِفَرْضِيَّةِ الْعُمْرَةِ أَوْ وُجُوبِهَا ، فَلَوِ اعْتَمَرَ مَنْ لَمْ تَتَوَفَّرْ فِيهِ شُرُوطُ الاِسْتِطَاعَةِ صَحَّتْ عُمْرَتُهُ وَسَقَطَ الْفَرْضُ عَنْهُ .
وَتَتَلَخَّصُ الاِسْتِطَاعَةُ فِي مِلْكِ الزَّادِ وَالْقُدْرَةِ عَلَى آلَةِ الرُّكُوبِ ، وَذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ لِلرِّجَال وَالنِّسَاءِ .
وَتَخْتَصُّ النِّسَاءُ بِشَرْطَيْنِ آخَرَيْنِ وَهُمَا : مُصَاحَبَةُ الزَّوْجِ أَوِ الْمَحْرَمِ ، وَعَدَمُ الْعِدَّةِ .
وَيُجْزِئُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ رُفْقَةُ نِسَاءٍ ثِقَاتٍ عِوَضًا عَنِ الْمَحْرَمِ أَوِ الزَّوْجِ فِي سَفَرِ الْفَرْضِ
__________
(1) - المسلك المتقسط ص118 - 122 والشرح الكبير 2 / 34 - 36 ومغني المحتاج 1 / 493 - 495 ، والمغني 2 / 385 - 390 .(2/108)
أَمَّا الْبُلُوغُ وَالْحُرِّيَّةُ فَهُمَا شَرْطَانِ لِوُجُوبِ الْعُمْرَةِ وَإِجْزَائِهَا عَنِ الْفَرْضِ ، فَلَوِ اعْتَمَرَ الصَّبِيُّ أَوِ الْعَبْدُ صَحَّتْ عُمْرَتُهُمَا ، وَلَمْ يَسْقُطْ فَرْضُهَا عَنْهُمَا عِنْدَ الْبُلُوغِ أَوِ الْعِتْقِ .
وَأَمَّا الْعَقْل وَالإِْسْلاَمُ : فَهُمَا شَرْطَانِ لِوُجُوبِ الْعُمْرَةِ وَصِحَّتِهَا ، فَلاَ تَجِبُ الْعُمْرَةُ عَلَى كَافِرٍ ، وَلاَ مَجْنُونٍ وَلاَ تَصِحُّ مِنْهُمَا ، لَكِنْ يَجُوزُ أَنْ يُحْرِمَ بِالْعُمْرَةِ عَنِ الْمَجْنُونِ وَلِيُّهُ وَيُؤَدِّيَ الْمَنَاسِكَ عَنْهُ ، وَيُجَنِّبَهُ مَحْظُورَاتِ الإِْحْرَامِ وَهَكَذَا ، لَكِنْ لاَ يُصَلِّي عَنْهُ رَكْعَتَيِ الإِْحْرَامِ أَوِ الطَّوَافِ ، بَل تَسْقُطَانِ عَنْهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ ، أَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فَيُصَلِّيهِمَا عَنْهُ ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلاَمِ الْحَنَابِلَةِ(1)
وَاجِبَاتُ الْعُمْرَةِ :
يَجِبُ فِي الْعُمْرَةِ أَمْرَانِ :
الأَْوَّل : السَّعْيُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ ، وَقَال غَيْرُهُمْ : هُوَ رُكْنٌ .
الثَّانِي : الْحَلْقُ أَوِ التَّقْصِيرُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ ، وَالْحَنَابِلَةِ ، وَقَال الشَّافِعِيَّةُ فِي الرَّاجِحِ عِنْدَهُمْ : إِنَّهُ رُكْنٌ .
وَالْقَدْرُ الْوَاجِبُ هُوَ حَلْقُ شَعْرِ جَمِيعِ الرَّأْسِ أَوْ تَقْصِيرُهُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ ، وَالْحَنَابِلَةِ ، وَرُبُعُ الرَّأْسِ عَلَى الأَْقَل عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ ، وَثَلاَثُ شَعَرَاتٍ عَلَى الأَْقَل عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ .
__________
(1) - المسلك المتقسط ص1008 ومغني المحتاج 1 / 461 - 469 ، والمجموع 7 / 17 ، والمغني 3 / 218(2/109)
وَالْحَلْقُ لِلرِّجَال أَفْضَل فِي الْعُمْرَةِ إِلاَّ لِلْمُتَمَتِّعِ ، فَالتَّقْصِيرُ لَهُ أَفْضَل ، لِكَيْ يُبْقِيَ شَعْرًا يَأْخُذُهُ فِي الْحَجِّ
وَالسُّنَّةُ لِلنِّسَاءِ التَّقْصِيرُ فَقَطْ ، وَيُكْرَهُ الْحَلْقُ فِي حَقِّهِنَّ ؛ لأَِنَّهُ مُثْلَةٌ(1)
سُنَنُ الْعُمْرَةِ :
يُسَنُّ فِي الْعُمْرَةِ مَا يُسَنُّ فِي الأَْفْعَال الْمُشْتَرَكَةِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْحَجِّ : فِي الإِْحْرَامِ وَالطَّوَافِ ، وَالسَّعْيِ ، وَالْحَلْقِ .
مَمْنُوعَاتُ الْعُمْرَةِ :
يُمْنَعُ فِي الْعُمْرَةِ مُخَالَفَةُ أَحْكَامِهَا بِحَسْبِ الْحُكْمِ الَّذِي تَقَعُ الْمُخَالَفَةُ لَهُ .
فَمُحَرَّمَاتُ الْعُمْرَةِ : هِيَ تَرْكُ شَيْءٍ مِنْ أَرْكَانِهَا ، فَيَحْرُمُ تَرْكُ شَيْءٍ مِنَ الطَّوَافِ ، أَوِ السَّعْيِ أَوِ الْحَلْقِ ، عَلَى الْقَوْل بِرُكْنِيَّتِهِمَا ، وَلاَ يَتَحَلَّل مِنْ إِحْرَامِ الْعُمْرَةِ حَتَّى يُتِمَّ مَا تَرَكَهُ .
وَمَكْرُوهَاتُ الْعُمْرَةِ : تَرْكُ وَاجِبٍ مِنْ وَاجِبَاتِهَا ، وَتَرْكُ الْوَاجِبِ مَكْرُوهٌ كَرَاهَةَ تَحْرِيمٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ ، وَعِنْدَ غَيْرِهِمْ حَرَامٌ ، وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ ؛ لأَِنَّهُ يَلْزَمُ الإِْثْمُ عِنْدَ الْجَمْعِ ، وَيَلْزَمُ الدَّمُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ .
وَيُكْرَهُ تَرْكُ سُنَّةٍ مِنَ السُّنَنِ ، وَلاَ تُسَمَّى كَرَاهَةَ تَحْرِيمٍ ، وَلاَ يَلْزَمُ جَزَاءٌ بِتَرْكِهَا .
الْمُبَاحُ فِي الْعُمْرَةِ :
__________
(1) - فتح القدير 2 / 178 - 179 و352 - 353 والمسلك المتقسط ص151 - 154 و307 و308 وشرح الرسالة بحاشية العدوي 1 / 478 - 479 ، والشرح الكبير وحاشيته 2 / 46 ، والإيضاح في مناسك الحج للنووي ص379 - 786 ، ومغني المحتاج 1 / 502 - 513 ، والمغني 3 / 435 - 442 ، والفروع 3 / 513 ، 516 ، 527 ، 528 .(2/110)
يُبَاحُ فِي الْعُمْرَةِ كُل مَا لاَ يُخِل بِأَحْكَامِهَا ، وَخُصُوصًا أَحْكَامُ الإِْحْرَامِ الَّتِي سَبَقَتِ .
الْعُمْرَةُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ :
تُنْدَبُ الْعُمْرَةُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ ، صَرَّحَ بِذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ(1)، لِمَا ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَال : قَال رَسُول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لاِمْرَأَةٍ مِنَ الأَْنْصَارِ : مَا مَنَعَكِ أَنْ تَحُجِّي مَعَنَا ؟ قَالَتْ : لَمْ يَكُنْ لَنَا إِلاَّ نَاضِحَانِ(2)، فَحَجَّ أَبُو وَلَدِهَا وَابْنُهَا عَلَى نَاضِحٍ ، وَتَرَكَ لَنَا نَاضِحًا نَنْضَحُ عَلَيْهِ ، قَال : فَإِذَا جَاءَ رَمَضَانُ فَاعْتَمِرِي ، فَإِنَّ عُمْرَةً فِيهِ تَعْدِل حَجَّةً وَفِي رِوَايَةٍ : تَقْضِي حَجَّةً ، أَوْ حَجَّةً مَعِي(3)
الْمَكَانُ الأَْفْضَل لإِِحْرَامِ الْمَكِّيِّ :
اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي أَيِّ الْحِل أَفْضَل لِلإِْحْرَامِ بِالْعُمْرَةِ لِمَنْ كَانَ بِمَكَّةَ أَوِ الْحَرَمِ
فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ الإِْحْرَامَ مِنَ التَّنْعِيمِ أَفْضَل ؛ لأَِنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَمَرَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي بَكْرٍ أَنْ يُعْمِرَ عَائِشَةَ مِنَ التَّنْعِيمِ(4)فَهُوَ أَفْضَل تَقْدِيمًا لِدَلاَلَةِ الْقَوْل عَلَى دَلاَلَةِ الْفِعْل .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ يَلِي الإِْحْرَامَ مِنَ التَّنْعِيمِ فِي الأَْفْضَلِيَّةِ الإِْحْرَامُ مِنَ الْجِعْرَانَةِ ثُمَّ الْحُدَيْبِيَةِ .
__________
(1) - الدر المختار 2 / 207 .
(2) - الناضح : البعير يستقي عليه .
(3) - صحيح مسلم برقم (3097 )
(4) - تقدم تخريجه ف18 .(2/111)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي وَجْهٍ : الإِْحْرَامُ مِنَ الْجِعْرَانَةِ أَفْضَل ، ثُمَّ مِنَ التَّنْعِيمِ ثُمَّ مِنَ الْحُدَيْبِيَةِ ؛ لأَِنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَحْرَمَ مِنَ الْجِعْرَانَةِ ،فعَنْ قَتَادَةَ أَنَّ أَنَسًا أَخْبَرَهُ قَالَ اعْتَمَرَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - مِنَ الْجِعْرَانَةِ ، حَيْثُ قَسَمَ غَنَائِمَ حُنَيْنٍ(1).
وعَنْ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ ، قَالَ : كُنْتُ قَاطِنًا بِمَكَّةَ ، فَسَأَلْتُ مُجَاهِدًا : مِنْ أَيْنَ أُحْرِمُ ؟ قَالَ : مِنْ حَيْثُ شِئْتَ ، قُلْتُ : مِنْ ذَاتِ عِرْقٍ ، فَإِنَّهَا حَدُّنَا ؟ قَالَ : إذَا كُنْتَ بِمَكَّةَ فَأَحْرِمْ مِنْ حَيْثُ شِئْتَ ، وَإِذَا جِئْتَ مِنْ بَلَدٍ آخَرَ فَلاَ تُجَاوِزَ الْحَدَّ حَتَّى تُحْرِمَ ، فَإِنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَدْ أَحْرَمَ مِنَ الْجِعْرَانَةِ ، وَهُوَ مُقْبِلٌ مِنَ الطَّائِفِ(2).
وَأَمَرَ عَائِشَةَ بِالاِعْتِمَارِ مِنَ التَّنْعِيمِ وَبَعْدَ إِحْرَامِهِ بِهَا بِذِي الْحُلَيْفَةِ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ هَمَّ بِالدُّخُول إِلَيْهَا مِنَ الْحُدَيْبِيَةِ فَصَدَّهُ الْمُشْرِكُونَ عَنْهَا ، فَقَدَّمَ الشَّافِعِيُّ مَا فَعَلَهُ - صلى الله عليه وسلم - ثُمَّ مَا أَمَرَ بِهِ ثُمَّ مَا هَمَّ بِهِ .
وَقَال أَكْثَرُ الْمَالِكِيَّةِ : التَّنْعِيمُ وَالْجِعْرَانَةُ مُتَسَاوِيَانِ ، لاَ أَفْضَلِيَّةَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الآْخَرِ ، وَتَوْجِيهُهُ ظَاهِرٌ ، وَهُوَ وُرُودُ الأَْثَرِ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا(3).
__________
(1) - صحيح البخارى برقم (3066 )
(2) - مصنف ابن أبي شيبة (ج 3 / ص 517)(13106) صحيح مرسل
(3) - المسلك المتقسط ص308 ، وحاشية الدسوقي 2 / 22 ، والمنهاج للنووي وشروحه 2 / 95 ، والمغني 3 / 259 . وكشاف القناع 2 / 516 ، والإنصاف 4 / 54 ، والفروع 3 / 379 .(2/112)
الإِْكْثَارُ مِنَ الْعُمْرَةِ :
يُسْتَحَبُّ الإِْكْثَارُ مِنَ الْعُمْرَةِ ، وَلاَ يُكْرَهُ تَكْرَارُهَا فِي السَّنَةِ الْوَاحِدَةِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ ( الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَمُطَرِّفٍ وَابْنِ الْمَاجِشُونِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ ) وَهُوَ قَوْل عَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَأَنَسٍ وَعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ وَعَطَاءٍ وَطَاوُسٍ وَعِكْرِمَةَ رَحِمَهُمُ اللَّهُ(1)، وَتَدُل لَهُمُ الأَْحَادِيثُ الْوَارِدَةُ فِي فَضْل الْعُمْرَةِ ، وَالْحَثِّ عَلَيْهَا ، فَإِنَّهَا مُطْلَقَةٌ تَتَنَاوَل تَكْرَارَ الْعُمْرَةِ تَحُثُّ عَلَيْهِ .
وَفَصَّل ابْنُ قُدَامَةَ مَا يُسْتَحَبُّ فِيهِ الإِْكْثَارُ فَقَال : قَال عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي كُل شَهْرٍ مَرَّةً ، وَكَانَ أَنَسٌ إِذَا حَمَّمَ رَأْسَهُ خَرَجَ فَاعْتَمَرَ ، وَقَال عِكْرِمَةُ : يَعْتَمِرُ إِذَا أَمْكَنَ الْمُوسَى مِنْ شَعْرِهِ ، وَقَال عَطَاءٌ : إِنْ شَاءَ اعْتَمَرَ فِي كُل شَهْرٍ مَرَّتَيْنِ ، وَقَال أَحْمَدُ : إِذَا اعْتَمَرَ فَلاَ بُدَّ أَنْ يَحْلِقَ أَوْ يُقَصِّرَ وَفِي عَشَرَةِ أَيَّامٍ يُمْكِنُ حَلْقُ الرَّأْسِ(2).
وَقَال الشَّافِعِيُّ : إِنْ قَدَرَ أَنْ يَعْتَمِرَ فِي الشَّهْرِ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاَثًا أَحْبَبْتُ لَهُ ذَلِكَ(3).
وقال الشافعية: يسن الإكثار من العمرة، ولو في اليوم الواحد، إذ هي أفضل من الطواف على المعتمد(4)
__________
(1) - المسلك المتقسط ص308 ، وشرح الرسالة 1 / 428 والإيضاح ص421 ، والمغني 3 / 226 .
(2) - المغني 3 / 226 .
(3) -حاشية الهيثمي على الإيضاح ص421 ، والمجموع 7 / 136 .
(4) - الفقه الإسلامي وأدلته - (ج 3 / ص 451).(2/113)
وفي تحفة المحتاج: وَهِيَ أَفْضَلُ مِنَ الطَّوَافِ عَلَى الْمُعْتَمَدِ إذَا اسْتَوَيَا فِي الزَّمَنِ الْمَصْرُوفِ إلَيْهِمَا ؛ لِأَنَّهَا لَا تَقَعُ مِنَ الْمُكَلَّفِ الْحُرِّ إلَّا فَرْضًا ، وَهُوَ أَفْضَلُ مِنِ التَّطَوُّعِ .(1)
وفي المنهج القويم: ويسن الإكثار من العمرة ولو في اليوم الواحد إذ هي أفضل من الطواف على المعتمد والكلام فيما إذا استوى الزمن المصروف إليها وإليه .(2)
وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ : يُكْرَهُ تَكْرَارُ الْعُمْرَةِ فِي السَّنَةِ مَرَّتَيْنِ ، وَهُوَ قَوْل الْحَسَنِ وَابْنِ سِيرِينَ ، وَتُنْدَبُ الزِّيَادَةُ عَلَى الْمَرَّةِ لَكِنْ فِي عَامٍ آخَرَ .
وَالْمُرَادُ بِالتَّكْرَارِ فِي الْعَامِ السَّنَةُ الْهِجْرِيَّةُ ، فَلَوِ اعْتَمَرَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ ثُمَّ فِي الْمُحَرَّمِ لاَ يُكْرَهُ ؛ لأَِنَّهُ اعْتَمَرَ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ .
وَمَحَل كَرَاهَةِ التَّكْرَارِ فِي الْعَامِ الْوَاحِدِ مَا لَمْ يَتَكَرَّرْ دُخُول مَكَّةَ مِنْ مَوْضِعٍ عَلَيْهِ فِيهِ إِحْرَامٌ ، كَمَا لَوْ خَرَجَ مَعَ الْحَجِيجِ ثُمَّ رَجَعَ إِلَى مَكَّةَ قَبْل أَشْهُرِ الْحَجِّ ، فَإِنَّهُ يُحْرِمُ بِعُمْرَةٍ ؛ لأَِنَّ الإِْحْرَامَ بِالْحَجِّ قَبْل أَشْهُرِهِ مَكْرُوهٌ .
وَقَدِ اسْتَدَل الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمْ يُكَرِّرْهَا فِي عَامٍ وَاحِدٍ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى ذَلِكَ .
وَمُقَابِل الْمَشْهُورِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ قَوْل مُطَرِّفٍ وَابْنِ الْمَاجِشُونِ مِنْ جَوَازِ التَّكْرَارِ ، بَل قَال ابْنُ حَبِيبٍ : لاَ بَأْسَ بِهَا فِي كُل شَهْرٍ مَرَّةً .
__________
(1) - تحفة المحتاج في شرح المنهاج - (ج 14 / ص 378)
(2) - المنهج القويم شرح المقدمة الحضرمية للهيتمي - (ج 1 / ص 332)(2/114)
وَعَلَى الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ مِنْ أَنَّهُ يُكْرَهُ تَكْرَارُهَا فِي السَّنَةِ الْوَاحِدَةِ لَوْ أَحْرَمَ بِثَانِيَةٍ انْعَقَدَ إِحْرَامُهُ إِجْمَاعًا ، قَالَهُ سَنَدٌ وَغَيْرُهُ(1).
وَيَشْمَل اسْتِحْبَابُ الْعُمْرَةِ وَاسْتِحْبَابُ تَكْرَارِهَا أَشْهُرَ الْحَجِّ ؛ لأَِنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - اعْتَمَرَ فِيهَا ، وَفِي ذَلِكَ إِبْطَالٌ لِزَعْمِ الْجَاهِلِيَّةِ أَنَّ الْعُمْرَةَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ مِنْ أَفْجَرِ الْفُجُورِ ، بَل إِنَّ عُمُرَاتِهِ - صلى الله عليه وسلم - هِيَ أَرْبَعٌ - كَانَتْ كُلُّهَا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ كَمَا ثَبَتَ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّ أَنَسًا - رضى الله عنه - أَخْبَرَهُ قَالَ اعْتَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَرْبَعَ عُمَرٍ كُلُّهُنَّ فِى ذِى الْقَعْدَةِ ، إِلاَّ الَّتِى كَانَتْ مَعَ حَجَّتِهِ . عُمْرَةً مِنَ الْحُدَيْبِيَةِ فِى ذِى الْقَعْدَةِ ، وَعُمْرَةً مِنَ الْعَامِ الْمُقْبِلِ فِى ذِى الْقَعْدَةِ ، وَعُمْرَةً مِنَ الْجِعْرَانَةِ حَيْثُ قَسَمَ غَنَائِمَ حُنَيْنٍ فِى ذِى الْقَعْدَةِ ، وَعُمْرَةً مَعَ حَجَّتِهِ(2)
__________
(1) - شرح الرسالة وحاشية العدوي 1 / 428 .
(2) -صحيح البخارى 156/5 برقم (4148 )(2/115)
وَدَرْءًا لِمَا قَدْ يُفْهَمُ مِنْ تَعَارُضٍ بَيْنَ هَذَا وَمَا سَبَقَ مِنْ أَفْضَلِيَّةِ الْعُمْرَةِ فِي رَمَضَانَ قَال الْكَمَال بْنُ الْهُمَامِ : إِنَّ رَمَضَانَ أَفْضَل بِتَنْصِيصِهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى ذَلِكَ ، وَتَرْكُهُ لِذَلِكَ لاِقْتِرَانِهِ بِأَمْرٍ يَخُصُّهُ كَاشْتِغَالِهِ بِعِبَادَاتٍ أُخْرَى فِي رَمَضَانَ تَبَتُّلاً ، وَأَنْ لاَ يَشُقَّ عَلَى أُمَّتِهِ ، فَإِنَّهُ لَوِ اعْتَمَرَ فِيهِ لَخَرَجُوا مَعَهُ ، وَلَقَدْ كَانَ بِهِمْ رَحِيمًا ، وَقَدْ أَخْبَرَ فِي بَعْضِ الْعِبَادَاتِ أَنَّ تَرْكَهُ لَهَا ؛ لِئَلاَّ يَشُقَّ عَلَيْهِمْ مَعَ مَحَبَّتِهِ لَهَا كَالْقِيَامِ بِهِمْ فِي رَمَضَانَ ، وَمَحَبَّتِهِ لأََنْ يَسْقِيَ بِنَفْسِهِ مَعَ سُقَاةِ زَمْزَمَ ثُمَّ تَرَكَهُ كَيْ لاَ يَغْلِبَهُمُ النَّاسُ عَلَى سِقَايَتِهِمْ ، وَلَمْ يَعْتَمِرْ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي السَّنَةِ إِلاَّ مَرَّةً ،وَمَا قَالَهُ الْكَمَال يَتَّفِقُ وَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ عِنْدَ الأُْصُولِيِّينَ ، مِنْ أَنَّ دَلاَلَةَ الْقَوْل مُقَدَّمَةٌ عَلَى دَلاَلَةِ الْفِعْل(1)
لَكِنِ اسْتَثْنَى الْحَنَفِيَّةُ مِنْ ذَلِكَ الاِعْتِمَارَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ لِلْمَكِّيِّ ، وَالْمُقِيمِ بِهَا ، وَلأَِهْل الْمَوَاقِيتِ وَمَنْ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَكَّةَ ، فَيُكْرَهُ لِهَؤُلاَءِ الاِعْتِمَارُ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ ؛ لأَِنَّ الْغَالِبَ عَلَيْهِمْ أَنَّهُمْ يَحُجُّونَ ، فَيُصْبِحُونَ مُتَمَتِّعِينَ ، وَيَلْزَمُهُمْ دَمُ جَزَاءٍ إِنْ فَعَلُوهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ .
__________
(1) - فتح القدير 2 / 305 والقليوبي 2 / 92 .(2/116)
أَمَّا عِنْدَ الْجُمْهُورِ فَلاَ حَرَجَ عَلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ ؛ لأَِنَّهُمْ يُجِيزُونَ لَهُمُ التَّمَتُّعَ ، وَيُسْقِطُونَ عَنْهُمْ دَمَ التَّمَتُّعِ أَيْضًا(1).
وقال النووي رحمه الله :"( فَرْعٌ ) فِي مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ فِي وَقْتِ الْعُمْرَةِ . قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مَذْهَبَنَا جَوَازُهَا فِي جَمِيعِ السَّنَةِ , وَلَا تُكْرَهُ فِي شَيْءٍ مِنْهَا , وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَدَاوُد , وَنَقَلَهُ الْمَاوَرْدِيُّ عَنْ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ , وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ , تُكْرَهُ الْعُمْرَةُ , وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْكَرَاهَةِ حَتَّى يَثْبُتَ النَّهْيُ الشَّرْعِيُّ , وَلَمْ يَثْبُتْ هَذَا الْخَبَرُ ; وَلِأَنَّهُ يَجُوزُ الْقِرَانُ فِي يَوْمِ عَرَفَةَ بِلَا كَرَاهَةٍ , فَلَا يُكْرَهُ إفْرَادُ الْعُمْرَةِ فِيهِ كَمَا فِي جَمِيعِ السَّنَةِ ; وَلِأَنَّ كُلَّ وَقْتٍ لَا يُكْرَهُ فِيهِ اسْتِدَامَةُ الْعُمْرَةِ لَا يُكْرَهُ فِيهِ إنْشَاؤُهَا كَبَاقِي السَّنَةِ .
__________
(1) - المسلك المتقسط ص124 - 125 و182 وما بعدها .(2/117)
وقال : " فِي مَذَاهِبِهِمْ فِي تَكْرَارِ الْعُمْرَةِ فِي السَّنَةِ . مَذْهَبُنَا أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ ذَلِكَ بَلْ يُسْتَحَبُّ , وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلْفِ , وَمِمَّنْ حَكَاهُ عَنِ الْجُمْهُورِ الْمَاوَرْدِيُّ وَالسَّرَخْسِيُّ وَالْعَبْدَرِيُّ , وَحَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عَلِيٍّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَأَنَسٍ وَعَائِشَةَ وَعَطَاءٍ وَغَيْرِهِمْ رضي الله عنهما , وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَابْنُ سِيرِينَ وَمَالِكٌ : تُكْرَهُ الْعُمْرَةُ فِي السَّنَةِ أَكْثَرُ مِنْ مَرَّةٍ ; لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ تَشْتَمِلُ عَلَى الطَّوَافِ وَالسَّعْيِ فَلَا تُفْعَلُ فِي السَّنَةِ إلَّا مَرَّةً كَالْحَجِّ , وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَخَلَائِقُ بِمَا ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ عَائِشَةَ - رضى الله عنها - خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مُوَافِينَ لِهِلاَلِ ذِى الْحَجَّةِ فَقَالَ لَنَا « مَنْ أَحَبَّ مِنْكُمْ أَنْ يُهِلَّ بِالْحَجِّ فَلْيُهِلَّ وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُهِلَّ بِعُمْرَةٍ فَلْيُهِلَّ بِعُمْرَةٍ ، فَلَوْلاَ أَنِّى أَهْدَيْتُ لأَهْلَلْتُ بِعُمْرَةٍ » . قَالَتْ فَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ ، وَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِحَجٍّ ، وَكُنْتُ مِمَّنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ ، فَأَظَلَّنِى يَوْمُ عَرَفَةَ ، وَأَنَا حَائِضٌ ، فَشَكَوْتُ إِلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ :« ارْفُضِى عُمْرَتَكِ ، وَانْقُضِى رَأْسَكِ وَامْتَشِطِى ، وَأَهِلِّى بِالْحَجِّ » . فَلَمَّا كَانَ لَيْلَةُ الْحَصْبَةِ أَرْسَلَ مَعِى عَبْدَ الرَّحْمَنِ إِلَى التَّنْعِيمِ ، فَأَهْلَلْتُ بِعُمْرَةٍ مَكَانَ عُمْرَتِى .(2/118)
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ(1)
قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَكَانَتْ عُمْرَتُهَا فِي ذِي الْحِجَّةِ , ثُمَّ أَعْمَرَهَا الْعُمْرَةَ الْأُخْرَى فِي ذِي الْحِجَّةِ , فَكَانَ لَهَا عُمْرَتَانِ فِي ذِي الْحِجَّةِ .
وَعَنْ عَائِشَةَ أَيْضًا " أَنَّهَا اعْتَمَرَتْ فِي سَنَةٍ مَرَّتَيْنِ(2)أَيْ بَعْدَ وَفَاةِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - "
وَفِي رِوَايَةٍ ثَلَاثُ عُمَرَ(3).
وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ اعْتَمَرَ أَعْوَامًا فِي عَهْدِ ابْنِ الزُّبَيْرِ مَرَّتَيْنِ فِي كُلِّ عَامٍ(4).
قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْمُخْتَصَرِ : مَنْ قَالَ : لَا يَعْتَمِرُ فِي السَّنَةِ إلَّا مَرَّةً مُخَالِفٌ لِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَعْنِي حَدِيثَ عَائِشَةَ السَّابِقَ .
إذَا كَانَ بِمَكَّةَ مُسْتَوْطِنًا أَوْ عَابِرَ سَبِيلٍ وَأَرَادَ الْعُمْرَةَ فَمِيقَاتُهُ أَدْنَى الْحِلِّ , نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ الْأَصْحَابُ , قَالَ أَصْحَابُنَا : يَكْفِيهِ الْحُصُولُ فِي الْحِلِّ وَلَوْ بِخُطْوَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ أَيْ الْجِهَاتِ كَانَ جِهَاتُ الْحِلِّ , هَذَا هُوَ الْمِيقَاتُ الْوَاجِبُ .
(
__________
(1) - صحيح البخارى(1783 )
(2) - مسند الشافعي( 480و481) صحيح
(3) - معرفة السنن والآثار للبيهقي(2818)
(4) - مسند الشافعي (482) صحيح(2/119)
وَأَمَّا ) الْمُسْتَحَبُّ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْمُخْتَصَرِ : أُحِبُّ أَنْ يَعْتَمِرَ مِنَ الْجِعْرَانَةِ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - اعْتَمَرَ مِنْهَا ، فَإِنْ أَخْطَأَهُ مِنْهَا فَمِنَ التَّنْعِيمِ , لِأَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَعْمَرَ عَائِشَةَ مِنْهَا وَهِيَ أَقْرَبُ الْحِلِّ إلَى الْبَيْتِ , فَإِنْ أَخْطَأَهُ ذَلِكَ فَمِنَ الْحُدَيْبِيَةِ , لِأَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - صَلَّى بِهَا , وَأَفْضَلُهَا مِنَ الْجِعْرَانَةِ وَبَعْدَهَا فِي الْفَضِيلَةِ التَّنْعِيمُ ثُمَّ الْحُدَيْبِيَةُ كَمَا نُصَّ عَلَيْهِ , وَاتَّفَقَ الْأَصْحَابُ عَلَى التَّصْرِيحِ بِهَذَا فِي كُلِّ الطُّرُقِ وَلَا خِلَافَ فِي شَيْءٍ مِنْهُ ،لِأَنَّ الشَّيْخَ أَبَا حَامِدٍ قَالَ : الَّذِي يَقْتَضِيهِ الْمَذْهَبُ أَنَّ الِاعْتِمَارَ مِنَ الْحُدَيْبِيَةِ بَعْدَ الْجِعْرَانَةِ أَفْضَلُ مِنَ التَّنْعِيمِ , فَقَدَّمَ الْحُدَيْبِيَةَ عَلَى التَّنْعِيمِ .
( فَإِنْ قِيلَ ) : قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ : إنَّ الْإِحْرَامَ بِالْعُمْرَةِ مِنَ الْجِعْرَانَةِ أَفْضَلُ مِنَ التَّنْعِيمِ , فَكَيْفَ أَعْمَرَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَائِشَةَ مِنَ التَّنْعِيمِ ؟
( فَالْجَوَابُ ) أَنَّهُ - صلى الله عليه وسلم - إنَّمَا أَعْمَرَهَا مِنْهُ لِضِيقِ الْوَقْتِ عَنِ الْخُرُوجِ إلَى أَبْعَدَ مِنْهُ , وَقَدْ كَانَ خُرُوجُهَا إلَى التَّنْعِيمِ عِنْدَ رَحِيلِ الْحَاجِّ وَانْصِرَافِهِمْ , وَوَاعَدَهَا النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - إلَى مَوْضِعٍ فِي الطَّرِيقِ , هَكَذَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ , وَيُحْتَمَلُ أَيْضًا بَيَانُ الْجَوَازِ مِنْ أَدْنَى الْحِلِّ , وَاَللَّهُ أَعْلَمُ(1).
__________
(1) - المجموع شرح المهذب - (ج 7 / ص 205) فما بعد(2/120)
وفي سبل السلام : وَفِي قَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم - { الْعُمْرَةُ إلَى الْعُمْرَةِ } دَلِيلٌ عَلَى تَكْرَارِ الْعُمْرَةِ وَأَنَّهُ لَا كَرَاهَةَ فِي ذَلِكَ وَلَا تَحْدِيدَ بِوَقْتٍ .
( وَقَالَتِْ ) الْمَالِكِيَّةُ يُكْرَهُ فِي السَّنَةِ أَكْثَرُ مِنْ عُمْرَةٍ وَاحِدَةٍ، وَاسْتَدَلُّوا لَهُ بِأَنَّهُ - صلى الله عليه وسلم - لَمْ يَفْعَلْهَا إلَّا مِنْ سَنَةٍ إلَى سَنَةٍ، وَأَفْعَالُهُ - صلى الله عليه وسلم - تُحْمَلُ عِنْدَهُمْ عَلَى الْوُجُوبِ أَوْ النَّدْبِ.
( وَأُجِيبَ ) عَنْهُ بِأَنَّهُ عُلِمَ مِنْ أَحْوَالِهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ كَانَ يَتْرُكُ الشَّيْءَ وَهُوَ يَسْتَحِبُّ فِعْلَهُ لِيَرْفَعَ الْمَشَقَّةَ عَنِ الْأُمَّةِ، وَقَدْ نَدَبَ إلَى ذَلِكَ بِالْقَوْلِ .
وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ عُمُومُ الْأَوْقَاتِ فِي شَرْعِيَّتِهَا وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ.
وَقِيلَ : إلَّا لِلْمُتَلَبِّسِ بِالْحَجِّ ،وَقِيلَ إلَّا أَيَّامَ التَّشْرِيقِ، وَقِيلَ : وَيَوْمُ عَرَفَةَ ،وَقِيلَ : إلَّا أَشْهُرَ الْحَجِّ لِغَيْرِ الْمُتَمَتِّعِ وَالْقَارِنِ .
وَالْأَظْهَرُ أَنَّهَا مَشْرُوعَةٌ مُطْلَقًا وَفِعْلُهُ - صلى الله عليه وسلم - لَهَا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ يَرُدُّ قَوْلَ مَنْ قَالَ بِكَرَاهَتِهَا فِيهَا فَإِنَّهُ - صلى الله عليه وسلم - لَمْ يَعْتَمِرْ عُمْرَةَ الْأَرْبَعِ إلَّا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ وَإِنْ كَانَتِ الْعُمْرَةُ الرَّابِعَةُ فِي حَجِّهِ، فَإِنَّهُ - صلى الله عليه وسلم - حَجَّ قَارِنًا كَمَا تَظَاهَرَتْ عَلَيْهِ الْأَدِلَّةُ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْأَئِمَّةُ الْأَجِلَّةُ(1).
__________
(1) =- سبل السلام - (ج 3 / ص 397)(2/121)
وقال ابن حزم :" : وَمَنْ أَرَادَ الْعُمْرَةَ - وَهُوَ بِمَكَّةَ - إمَّا مِنْ أَهْلِهَا , أَوْ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهَا فَفَرْضٌ عَلَيْهِ أَنْ يَخْرُجَ لِلْإِحْرَامِ بِهَا إلَى الْحِلِّ وَلَا بُدَّ فَيَخْرُجَ إلَى أَيِّ الْحِلِّ شَاءَ , وَيُهِلُّ بِهَا ، لأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَمَرَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي بَكْرٍ بِالْخُرُوجِ مِنْ مَكَّةَ إلَى التَّنْعِيمِ لِيَعْتَمِرَ مِنْهُ ، وَاعْتَمَرَ - صلى الله عليه وسلم - مِنَ الْجِعْرَانَةِ ، فَوَجَبَ ذَلِكَ فِي الْعُمْرَةِ خَاصَّةً - وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ .(1)
وقال أيضاً : وَالْحَجُّ لا يَجُوزُ إلا مَرَّةً فِي السَّنَةِ؛ وَأَمَّا الْعُمْرَةُ فَنُحِبُّ الإِكْثَارَ مِنْهَا لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ فَضْلِهَا؛ فَأَمَّا الْحَجُّ فَلا خِلافَ فِيهِ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَأَبِي سُلَيْمَانَ، وَبِهِ نَأْخُذُ لأَنَّ " رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَدْ أَعْمَرَ عَائِشَةَ مَرَّتَيْنِ فِي الشَّهْرِ الْوَاحِدِ " وَلَمْ يَكْرَهْ عَلَيْهِ السَّلامُ ذَلِكَ بَلْ حَضَّ عَلَيْهَا وَأَخْبَرَ أَنَّهَا تُكَفِّرُ مَا بَيْنَهَا، وَبَيْنَ الْعُمْرَةِ الثَّانِيَةِ، فَالإِكْثَارُ مِنْهَا أَفْضَلُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ(2).
وفي فتاوى الأزهر : " يجوز تكرار العمرة أكثر من مرة فى العمر أو فى السَّنة أو فى الشهر أو فى اليوم ،حيث لا يوجد نصٌّ يمنع ذلك .... "(3)
قلتُ : والراجحُ عندي جواز تكرارها كلَّ يوم مرات ولا حرج في ذلك ، وهي فيما أرى أفضل من الطواف لمن قدر عليها ، لأن فيها زيادة أعمال ليست في الطواف ، والله تعالى أعلم .
__________
(1) - المحلى (ج 4 / ص 502)
(2) - المحلى(ج 4 / ص 430)(820 )
(3) - فتاوى الأزهر - (ج 9 / ص 316) تكرار العمرة - المفتي عطية صقر .مايو 1997(2/122)
- - - - - - - - - - - - - -
الإِْخْلاَلُ بِأَحْكَامِ الْعُمْرَةِ
أَوَّلاً : تَرْكُ رُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِ الْعُمْرَةِ بِمَانِعٍ قَاهِرٍ :
يُعْتَبَرُ الْمَنْعُ مِنْ رُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِ الْعُمْرَةِ بِمَانِعٍ قَاهِرٍ إِحْصَارًا يُبِيحُ التَّحَلُّل مِنْ إِحْرَامِ الْعُمْرَةِ ، وَيَتَفَاوَتُ اعْتِبَارُهُ إِحْصَارًا بِاخْتِلاَفِ الْمَذَاهِبِ فِي أَرْكَانِ الْعُمْرَةِ ، وَفِيمَا يُعْتَبَرُ سَبَبًا لِلإِْحْصَارِ ، وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ أَحْكَامٍ .
ثَانِيًا : تَرْكُ رُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِ الْعُمْرَةِ مِنْ غَيْرِ مَانِعٍ قَاهِرٍ :
مَنْ تَرَكَ شَيْئًا مِنْ أَرْكَانِ الْعُمْرَةِ كَالطَّوَافِ أَوِ السَّعْيِ - عِنْدَ الْقَائِل بِرُكْنِيَّتِهِ - فَإِنَّهُ يَكُونُ قَدْ فَعَل حَرَامًا ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ الإِْتْيَانُ بِمَا تَرَكَهُ ، وَيَظَل مُحْرِمًا يَجِبُ عَلَيْهِ اجْتِنَابُ مَحْظُورَاتِ الإِْحْرَامِ كُلِّهَا حَتَّى يَرْجِعَ وَيَأْتِيَ بِمَا تَرَكَهُ ، وَلاَ تَفُوتُ عَلَيْهِ الْعُمْرَةُ أَبَدًا ؛ لأَِنَّهُ لَيْسَ لأَِرْكَانِهَا وَقْتٌ مُعَيَّنٌ .
ثَالِثًا : فَسَادُ الْعُمْرَةِ :
لاَ تَفْسُدُ الْعُمْرَةُ بِتَرْكِ رُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِهَا ، وَلاَ بِتَرْكِ وَاجِبٍ فِيهَا ، إِلاَّ بِالْجِمَاعِ قَبْل التَّحَلُّل مِنْ إِحْرَامِهَا ، عَلَى التَّفْصِيل التَّالِي :
ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَوْ جَامَعَ قَبْل أَنْ يُؤَدِّيَ رُكْنَ الْعُمْرَةِ - وَهُوَ الطَّوَافُ أَرْبَعَةَ أَشْوَاطٍ عِنْدَهُمْ - فَإِنَّهُ تَفْسُدُ عُمْرَتُهُ ، أَمَّا لَوْ وَقَعَ الْمُفْسِدُ بَعْدَ ذَلِكَ فَلاَ تَفْسُدُ الْعُمْرَةُ ؛ لأَِنَّهُ بِأَدَاءِ الرُّكْنِ أَمِنَ الْفَسَادَ .(2/123)
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمُفْسِدَ إِنْ حَصَل قَبْل تَمَامِ سَعْيِهَا وَلَوْ بِشَوْطٍ فَسَدَتْ ، أَمَّا لَوْ وَقَعَ بَعْدَ تَمَامِ السَّعْيِ قَبْل الْحَلْقِ فَلاَ تَفْسُدُ ؛ لأَِنَّهُ بِالسَّعْيِ تَتِمُّ أَرْكَانُهَا ، وَالْحَلْقُ مِنْ شُرُوطِ الْكَمَال عِنْدَهُمْ .
وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ إِذَا حَصَل الْمُفْسِدُ قَبْل التَّحَلُّل مِنَ الْعُمْرَةِ فَسَدَتْ ، وَالتَّحَلُّل يَحْصُل بِالْحَلْقِ عِنْدَ الْفَرِيقَيْنِ ، وَهُوَ رُكْنٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَاجِبٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ
وَيَجِبُ فِي إِفْسَادِ الْعُمْرَةِ مَا يَجِبُ فِي إِفْسَادِ الْحَجِّ مِنَ الاِسْتِمْرَارِ فِيهَا ، وَالْقَضَاءِ ، وَالْفِدَاءِ .
وَاخْتَلَفُوا فِي فِدَاءِ إِفْسَادِ الْعُمْرَةِ : فَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ ، وَالْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ شَاةٌ ؛ لأَِنَّ الْعُمْرَةَ أَقَل رُتْبَةً مِنَ الْحَجِّ ، فَخَفَّتْ جِنَايَتُهَا ، فَوَجَبَتْ شَاةٌ .
وَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ تَلْزَمُهُ بَدَنَةٌ قِيَاسًا عَلَى الْحَجِّ .
أَمَّا فِدَاءُ الْجِمَاعِ الَّذِي لاَ يُفْسِدُ الْعُمْرَةَ فَشَاةٌ فَقَطْ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ ، وَبَدَنَةٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ(1).
رَابِعًا : تَرْكُ وَاجِبٍ فِي الْعُمْرَةِ :
مَنْ تَرَكَ وَاجِبًا فِي الْعُمْرَةِ ، كَالسَّعْيِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَفِي الْقَوْل الرَّاجِحِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ ، وَكَالْحَلْقِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ خِلاَفًا لِلشَّافِعِيَّةِ ، فَإِنَّهُ يَأْثَمُ بِهَذَا ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ الدَّمُ عِنْدَهُمْخَامِسًا : تَرْكُ سُنَّةٍ مِنْ سُنَنِ الْعُمْرَةِ :
__________
(1) - فتح القدير 2 / 241 ، وحاشية العدوي 1 / 486 ، والمجموع 7 / 381 - 382 وشرح المحلى 2 / 136 ، والمغني 3 / 486 وغيرها .(2/124)
تَارِكُ السُّنَّةِ يُحْرِمُ نَفْسَهُ الثَّوَابَ وَالْفَضْل الَّذِي أَعَدَّهُ اللَّهُ لِمَنْ أَتَى بِالسُّنَّةِ ، وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ فِي تَارِكِ السُّنَّةِ بِكَوْنِهِ مُسِيئًا ، وَلاَ يَلْزَمُهُ جَزَاءٌ وَلاَ فِدَاءٌ .
- - - - - - - - - - - - -
أَدَاءُ الْعُمْرَةِ عَنِ الْغَيْرِ
ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ فِي الْجُمْلَةِ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَدَاءُ الْعُمْرَةِ عَنِ الْغَيْرِ ؛ لأَِنَّ الْعُمْرَةَ كَالْحَجِّ تَجُوزُ النِّيَابَةُ فِيهَا ؛ لأَِنَّ كُلًّا مِنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ عِبَادَةٌ بَدَنِيَّةٌ مَالِيَّةٌ وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ:
ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَدَاءُ الْعُمْرَةِ عَنِ الْغَيْرِ بِأَمْرِهِ ؛ لأَِنَّ جَوَازَهَا بِطَرِيقِ النِّيَابَةِ ، وَالنِّيَابَةُ لاَ تَثْبُتُ إِلاَّ بِالأَْمْرِ ، فَلَوْ أَمَرَهُ أَنْ يَعْتَمِرَ فَأَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ وَاعْتَمَرَ جَازَ ؛ لأَِنَّهُ فَعَل مَا أُمِرَ بِهِ .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ تُكْرَهُ الاِسْتِنَابَةُ فِي الْعُمْرَةِ وَإِنْ وَقَعَتْ صَحَّتْ .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ : تَجُوزُ النِّيَابَةُ فِي أَدَاءِ الْعُمْرَةِ عَنِ الْغَيْرِ إِذَا كَانَ مَيِّتًا أَوْ عَاجِزًا عَنْ أَدَائِهَا بِنَفْسِهِ ، فَمَنْ مَاتَ وَفِي ذِمَّتِهِ عُمْرَةٌ وَاجِبَةٌ مُسْتَقِرَّةٌ بِأَنْ تَمَكَّنَ بَعْدَ اسْتِطَاعَتِهِ مِنْ فِعْلِهَا وَلَمْ يُؤَدِّهَا حَتَّى مَاتَ . وَجَبَ أَنْ تُؤَدَّى الْعُمْرَةُ عَنْهُ مِنْ تَرِكَتِهِ ، وَلَوْ أَدَّاهَا عَنْهُ أَجْنَبِيٌّ جَازَ وَلَوْ بِلاَ إِذْنٍ كَمَا أَنَّ لَهُ أَنْ يَقْضِيَ دَيْنَهُ بِلاَ إِذْنٍ .
وَتَجُوزُ النِّيَابَةُ فِي أَدَاءِ عُمْرَةِ التَّطَوُّعِ إِذَا كَانَ عَاجِزًا عَنْ أَدَائِهَا بِنَفْسِهِ ، كَمَا فِي النِّيَابَةِ عَنِ الْمَيِّتِ .(2/125)
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ تَجُوزُ الْعُمْرَةُ عَنِ الْحَيِّ إِلاَّ بِإِذْنِهِ ؛ لأَِنَّهَا عِبَادَةٌ تَدْخُلُهَا النِّيَابَةُ ، فَلَمْ تَجُزْ إِلاَّ بِإِذْنِهِ ، أَمَّا الْمَيِّتُ فَتَجُوزُ عَنْهُ بِغَيْرِ إِذْنِهِ(1).
- - - - - - - - - - - - - - -
البابٌ الخامس
الخلاصةُ في أحكام الزيارة(2)
الزِيَارَةُ
تعريفها :
الزِّيَارَةُ فِي اللُّغَةِ : الْقَصْدُ ، يُقَال : زَارَهُ يَزُورُهُ زَوْرًا وَزِيَارَةً : قَصَدَهُ وَعَادَهُ .
وَفِي الْعُرْفِ هِيَ قَصْدُ الْمَزُورِ إِكْرَامًا لَهُ وَاسْتِئْنَاسًا بِهِ(3).
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ :
الْعِيَادَةُ :
هِيَ مِنْ عَادَ الْمَرِيضَ يَعُودُهُ عِيَادَةً : إِذَا زَارَهُ فِي مَرَضِهِ(4).
فَالْعِيَادَةُ عَلَى هَذَا أَخَصُّ مِنَ الزِّيَارَةِ .
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ :
تَخْتَلِفُ أَحْكَامُ الزِّيَارَةِ بِاخْتِلاَفِ أَسْبَابِهَا ، وَالْمَزُورِ ، وَالزَّائِرِ .
زِيَارَةُ قَبْرِ الرَّسُول - صلى الله عليه وسلم - :
__________
(1) - بدائع الصنائع 2 / 213 ، 214 ، منح الجليل 1 / 449 ، مغني المحتاج 1 / 468 وما بعدها ، والمجموع 7 / 120 ، المغني لابن قدامة 3 / 234 .
(2) - الموسوعة الفقهية الكويتية - (ج 24 / ص 80-90)
(3) - المصباح المنير ولسان العرب .
(4) - المصباح المنير مادة : ( عود ) .(2/126)
زِيَارَةُ قَبْرِهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ أَهَمِّ الْقُرُبَاتِ وَأَفْضَل الْمَنْدُوبَاتِ ، وَقَدْ نَقَل صَاحِبُ فَتْحِ الْقَدِيرِ عَنْ مَنَاسِكِ الْفَارِسِيِّ وَشَرْحِ الْمُخْتَارِ : أَنَّ زِيَارَةَ قَبْرِهِ - صلى الله عليه وسلم - قَرِيبَةٌ مِنَ الْوُجُوبِ(1).
عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " مَنْ زَارَ قَبْرِى وَجَبَتْ لَهُ شَفَاعَتِى "(2). وعَنِ ابْنِ عُمَرَ , قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :مَنْ جَاءَنِي زَائِرًا لا يَعْلَمُهُ حَاجَةً إِلا زِيَارَتِي كَانَ حَقًّا عَلَيَّ أَنْ أَكُونَ لَهُ شَفِيعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ.(3)
__________
(1) - فتح القدير 2 / 336 وما بعدها ، الاختيار لتعليل المختار للموصلي 1 / 175 ، الشرح الصغير 2 / 71 وما بعدها ، ومغني المحتاج 1 / 512 ، المغني 3 / 556 و نيل الأوطار - (ج 8 / ص 71) ورد المحتار - (ج 9 / ص 170) وأسنى المطالب - (ج 7 / ص 332) وتحفة المحتاج في شرح المنهاج - (ج 9 / ص 137) ونهاية المحتاج إلى شرح المنهاج - (ج 17 / ص 345) وحاشية البجيرمي على المنهج - (ج 6 / ص 196) وكشاف القناع عن متن الإقناع - (ج 7 / ص 314) ومطالب أولي النهى في شرح غاية المنتهى - (ج 1 / ص 247)
(2) - سنن الدارقطنى (2727 ) وغيره من طرق وهو حسن لغيره وقد مر في الباب الأول
(3) - المعجم الكبير للطبراني - (ج 10 / ص 432)(12971 ) والإتحاف 4/416 وأصفهان 2/219حسن لغيره
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : " مَنْ حَجَّ فَزَارَ قَبْرِي فِي مَمَاتِي كَانَ كَمَنْ زَارَنِي فِي حَيَاتِي " . رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ (13214و13215) والسنن الكبرى للبيهقي(ج 5 / ص 246)(10573) وفضائل المدينة للجندي (60 )من طرق فيها ضعف ولكنها تقوي بعضها البعض ، وانظر فتح القدير - (ج 6 / ص 246) ومجمع الأنهر في شرح ملتقى الأبحر - (ج 3 / ص 24) وحاشية الصاوي على الشرح الصغير - (ج 3 / ص 445) وفقه العبادات - مالكي - (ج 1 / ص 373)(2/127)
زِيَارَةُ الْقُبُورِ :
تُسَنُّ زِيَارَةُ قُبُورِ الْمُسْلِمِينَ لِلرِّجَال بِدُونِ سَفَرٍ ، لِحديث ابْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - " نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ فَزُورُوهَا وَنَهَيْتُكُمْ عَنْ لُحُومِ الأَضَاحِىِّ فَوْقَ ثَلاَثٍ فَأَمْسِكُوا مَا بَدَا لَكُمْ وَنَهَيْتُكُمْ عَنِ النَّبِيذِ إِلاَّ فِى سِقَاءٍ فَاشْرَبُوا فِى الأَسْقِيَةِ كُلِّهَا وَلاَ تَشْرَبُوا مُسْكِرًا "(1). .
وَيُكْرَهُ لِلنِّسَاءِ لِحَدِيثِ أُمِّ عَطِيَّةَ - رضى الله عنها – قَالَتْ: نُهِينَا عَنِ اتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ ، وَلَمْ يُعْزَمْ عَلَيْنَا(2).
زِيَارَةُ الأَْمَاكِنِ :
__________
(1) - صحيح مسلم -(2305 )
(2) - صحيح البخارى (1278 )،شرح منتهى الإرادات - (ج 3 / ص 11) وكشاف القناع عن متن الإقناع - (ج 4 / ص 437) ومطالب أولي النهى في شرح غاية المنتهى - (ج 5 / ص 2) والمغني - (ج 5 / ص 82)(2/128)
وَرَدَتْ نُصُوصٌ وَآثَارٌ تَدْعُو إِلَى زِيَارَةِ أَمَاكِنَ بِعَيْنِهَا . وَمِنْهَا مَا وَرَدَ فِي مَسْجِدِ قُبَاءٍ وَهُوَ قَوْل اللَّهِ تَعَالَى : { لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} (108) سورة التوبة. " وعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رضى الله عنهما - قَالَ كَانَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - يَأْتِى مَسْجِدَ قُبَاءٍ كُلَّ سَبْتٍ مَاشِيًا وَرَاكِبًا . وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ - رضى الله عنهما - يَفْعَلُهُ(1). . وَالْمَسَاجِدُ الثَّلاَثَةُ الَّتِي وَرَدَ الْحَدِيثُ بِشَدِّ الرِّحَال إِلَيْهَا فعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ " لاَ تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلاَّ إِلَى ثَلاَثَةِ مَسَاجِدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ، وَمَسْجِدِ الرَّسُولِ - صلى الله عليه وسلم - وَمَسْجِدِ الأَقْصَى "(2)..
وفي طرح التثريب : " وفيه فوائد :
(
__________
(1) - صحيح البخارى (1193 )
(2) - البخارى (1189) ومسلم (3450 )(2/129)
الْأُولَى ) أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ مِنْ رِوَايَةِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ بِلَفْظِ { لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إلَّا إلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ } وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ رِوَايَةِ مَعْمَرٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ لَفْظُ مُسْلِمٍ { تُشَدُّ الرِّحَالُ } وَلَفْظُ ابْنِ مَاجَهْ { لَا تُشَدُّ } وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ سَلْمَانَ الْأَغَرِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ { إنَّمَا يُسَافَرُ إلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ مَسْجِدِ الْكَعْبَةِ ، وَمَسْجِدِي ، وَمَسْجِدِ إيلِيَاءَ } وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ مِنْ رِوَايَةِ مُسَدَّدٍ ، وَعَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ كِلَاهُمَا عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ بِلَفْظِ { لَا تُشَدُّ } ثُمَّ قَالَ : قَالَ ابْنُ الْمَدِينِيِّ : هَكَذَا حَدَّثَنَا بِهِ سُفْيَانُ هَذِهِ الْمَرَّةَ عَلَى هَذَا اللَّفْظِ وَأَكْثَرُ لَفْظِهِ { تُشَدُّ الرِّحَالُ } .
( الثَّانِيَةُ ) قَوْلُهُ : تُشَدُّ الرِّحَالُ بِالرَّفْعِ لَفْظُهُ خَبَرٌ ، وَمَعْنَاهُ الْأَمْرُ بِشَدِّهَا إلَى هَذِهِ الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ .(2/130)
وَقَوْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى { لَا تُشَدُّ } هُوَ خَبَرٌ أَيْضًا ، وَمَعْنَاهُ النَّهْيُ ، وَمَحْمَلُهُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ لَا فَضِيلَةَ فِي شَدِّ الرِّحَالِ إلَى مَسْجِدٍ غَيْرِهَا، لَا أَنَّ شَدَّ الرِّحَالِ إلَى غَيْرِهَا مُحَرَّمٌ وَلَا مَكْرُوهٌ ، وَيَدُلُّ لِذَلِكَ مَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ مَرْفُوعًا "لَا يَنْبَغِي لِلْمَطِيِّ أَنْ تُشَدَّ رِحَالُهُ إِلَى مَسْجِدٍ يُبْتَغَى فِيهِ الصَّلَاةُ غَيْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى وَمَسْجِدِي هَذَا "(1)وَفِيهِ شَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ وَثَّقَهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَعِينٍ وَتَكَلَّمَ فِيهِ غَيْرُهُمَا ،وَذَهَبَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ إلَى مَا اقْتَضَاهُ ظَاهِرُهُ أَنَّ شَدَّ الرِّحَالِ إلَى غَيْرِهَا مُحَرَّمٌ ، وَأَشَارَ الْقَاضِي عِيَاضٌ إلَى اخْتِيَارِهِ .
(
__________
(1) - مسند أحمد(11609) حسن(2/131)
الثَّالِثَةُ ) قَوْلُ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ :{ وَلَا تُشَدُّ إلَّا إلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ سَوَاءٌ } مَعْنَاهُ أَنَّ اللَّفْظَ الَّذِي رَوَاهُ ، وَهُوَ قَوْلُهُ تُشَدُّ الرِّحَالُ وَهَذَا اللَّفْظُ الْآخَرُ الَّذِي فِيهِ النَّفْيُ وَالْإِثْبَاتُ سَوَاءٌ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى فَإِنَّ الْأَحْكَامَ الشَّرْعِيَّةَ إنَّمَا تُتَلَقَّى مِنِ الشَّارِعِ، وَإِذَا أَخْبَرَ بِشَدِّ الرِّحَالِ إلَى هَذِهِ الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ وَلَمْ يَذْكُرْ شَدَّ الرِّحَالِ إلَى غَيْرِهَا لَمْ يَكُنْ لِشَدِّ الرِّحَالِ إلَى غَيْرِهَا فَضْلٌ ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ لَمْ يَجِئْ بِهِ وَهَذَا أَمْرٌ لَا يَدْخُلُهُ الْقِيَاسُ ؛ لِأَنَّ شَرَفَ الْبُقْعَةِ إنَّمَا يُعْرَفُ بِالنَّصِّ الصَّرِيحِ عَلَيْهِ ، وَقَدْ وَرَدَ النَّصُّ فِي هَذِهِ دُونَ غَيْرِهَا .
( الرَّابِعَةُ ) فِيهِ فَضِيلَةُ هَذِهِ الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ ، وَمَزِيَّتُهَا عَلَى غَيْرِهَا وَذَلِكَ لِكَوْنِهَا مَسَاجِدَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَلِفَضْلِ الصَّلَاةِ فِيهَا .
( الْخَامِسَةُ ) نَبَّهَ بِشَدِّ الرَّحْلِ الَّذِي لَا يُسْتَعْمَلُ غَالِبًا إلَّا فِي الْأَسْفَارِ عَلَى مَا هُوَ أَخَفُّ مِنْهُ وَقَصَدَهَا لِمَنْ هُوَ قَرِيبٌ مِنْهَا بِحَيْثُ لَا يَحْتَاجُ فِي إتْيَانِهَا إلَى شَدِّ رَحْلٍ وَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ إتْيَانَهَا قُرْبَةٌ مَعَ الْقُرْبِ وَالْبُعْدِ ، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ ، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أُرِيدَ بِشَدِّ الرَّحْلِ السَّفَرُ قَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ الْأَغَرِّ { إنَّمَا يُسَافِرُ .} .
((2/132)
السَّادِسَةُ ) اسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ مَنْ نَذَرَ إتْيَانَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ لِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ انْعَقَدَ نَذْرُهُ وَلَزِمَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ قُرْبَةٌ وَشَأْنُ الْقُرَبِ لُزُومُهَا بِالنَّذْرِ .
( السَّابِعَةُ ) وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ مَنْ نَذَرَ إتْيَانَهُ لِلصَّلَاةِ فِيهِ أَوْ الِاعْتِكَافِ بِهِ لَزِمَهُ ذَلِكَ وَهُوَ كَذَلِكَ عِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَأَبِي يُوسُفَ وَدَاوُد وَالْجُمْهُورِ .
وَحَكَى الطَّحَاوِيُّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ أَنَّ مَنْ نَذَرَ أَنْ يُصَلِّيَ فِي مَكَانٍ فَصَلَّى فِي غَيْرِهِ أَجْزَأَهُ .
وَاحْتَجَّ الطَّحَاوِيُّ لِذَلِكَ بِأَنَّ تَفْضِيلَ الصَّلَاةِ فِي الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ إنَّمَا هُوَ فِي الْفَرِيضَةِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم - { أَفْضَلُ صَلَاةِ الْمَرْءِ فِي بَيْتِهِ إلَّا الْمَكْتُوبَةَ } وَيُوَافِقُهُ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَزْمٍ الظَّاهِرِيُّ أَنَّهُ لَوْ نَذَرَ الصَّلَاةَ فِي أَحَدِ الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ لَمْ يَلْزَمْهُ الصَّلَاةُ فِيهَا إلَّا فِي الْفَرْضِ، فَإِنْ كَانَ نَذَرَ صَلَاةَ تَطَوُّعٍ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ .
( الثَّامِنَةُ ) وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ مَنْ نَذَرَ إتْيَانَهُ وَأَطْلَقَ لَزِمَهُ إتْيَانُهُ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا .
( التَّاسِعَةُ ) وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّهُ لَوْ نَذَرَ إتْيَانَهُ بِلَا حَجٍّ وَلَا عُمْرَةٍ انْعَقَدَ نَذْرُهُ وَلَزِمَهُ إتْيَانُهُ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ وَلَغَا قَوْلُهُ بِلَا حَجٍّ وَلَا عُمْرَةٍ ؛ لِأَنَّ هَذَا هُوَ الْمَفْهُومُ مِنْ إتْيَانِهِ فَلْيَلْغُ مَا يُخَالِفُهُ وَهُوَ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِنَا وَصَحَّحَهُ النَّوَوِيُّ .
((2/133)
الْعَاشِرَةُ ) اُسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّهُ لَوْ نَذَرَ الصَّلَاةَ بِمَسْجِدِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - لَزِمَهُ ذَلِكَ وَتَعَيَّنَ لِلصَّلَاةِ فِيهِ وَهُوَ أَصَحُّ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ لَكِنَّهُ يَخْرُجُ عَنْ نَذْرِهِ بِالصَّلَاةِ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ عَلَى أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا ، وَبِهِ قَالَ الْحَنَابِلَةُ .
((2/134)
الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ ) اُسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّهُ لَوْ نَذَرَ إتْيَانَ مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ لِزِيَارَةِ قَبْرِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - لَزِمَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ الْمَقَاصِدِ الَّتِي يُؤْتَى لَهَا ذَلِكَ الْمَحَلُّ بَلْ هُوَ أَعْظَمُهَا ، وَقَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ الْقَاضِي ابْنُ كَجٍّ مِنْ أَصْحَابِنَا فَقَالَ : عِنْدِي إذَا نَذَرَ زِيَارَةَ قَبْرِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - لَزِمَهُ الْوَفَاءُ وَجْهًا وَاحِدًا ، وَلَوْ نَذَرَ أَنْ يَزُورَ قَبْرَ غَيْرِهِ فَوَجْهَانِ، وَلِلشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ بْنِ تَيْمِيَّةَ هُنَا كَلَامٌ بَشِعٌ عَجِيبٌ يَتَضَمَّنُ مَنْعَ شَدِّ الرَّحْلِ لِلزِّيَارَةِ وَأَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الْقُرْبِ بَلْ بِضِدِّ ذَلِكَ ، وَرَدَّ عَلَيْهِ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ السُّبْكِيُّ فِي شِفَاءِ السَّقَامِ فَشَفَى صُدُورَ الْمُؤْمِنِينَ ، وَكَانَ وَالِدِي رَحِمَهُ اللَّهُ يَحْكِي أَنَّهُ كَانَ مُعَادِلًا لِلشَّيْخِ زَيْنُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحِيمِ بْنُ رَجَبٍ الْحَنْبَلِيِّ فِي التَّوَجُّهِ إلَى بَلَدِ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَلَمَّا دَنَا مِنَ الْبَلَدِ قَالَ: نَوَيْتُ الصَّلَاةَ فِي مَسْجِدِ الْخَلِيلِ لِيَحْتَرِزَ عَنْ شَدِّ الرَّحْلِ لِزِيَارَتِهِ عَلَى طَرِيقَةِ شَيْخِ الْحَنَابِلَةِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ ،قَالَ فَقُلْت نَوَيْت زِيَارَةَ قَبْرِ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، ثُمَّ قُلْت لَهُ: أَمَّا أَنْتَ فَقَدْ خَالَفْت النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - ؛ لِأَنَّهُ قَالَ { لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إلَّا إلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ } ، وَقَدْ شَدَدْتَ الرَّحْلَ إلَى مَسْجِدٍ رَابِعٍ، وَأَمَّا أَنَا فَاتَّبَعْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - ؛ لِأَنَّهُ قَالَ :{ زُورُوا الْقُبُورَ } أَفَقَالَ إلَّا قُبُورَ(2/135)
الْأَنْبِيَاءِ ؟ قَالَ: فَبُهِتَ.
( قُلْت ): وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ إلَّا اخْتِصَاصَ هَذِهِ الْمَسَاجِدِ بِفَضْلِ الصَّلَاةِ فِيهَا، وَأَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَرِدْ فِي سَائِرِ الْأَسْفَارِ قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْمُتَقَدِّمِ { لَا يَنْبَغِي لِلْمَطِيِّ أَنْ تُشَدَّ رِحَالُهُ إلَى مَسْجِدٍ تُبْتَغَى فِيهِ الصَّلَاةُ غَيْرَ كَذَا ،وَكَذَا } فَبَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ شَدُّ الرَّحْلِ إلَى مَسْجِدٍ تُبْتَغَى فِيهِ الصَّلَاةُ لَا كُلُّ سَفَرٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ ) اُسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّهُ لَوْ نَذَرَ إتْيَانَ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى لِلصَّلَاةِ فِيهِ لَزِمَهُ ذَلِكَ وَهَذَا أَصَحُّ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ كَمَا تَقَدَّمَ فِي مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ، وَبِهِ قَالَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ لَكِنَّهُ يَخْرُجُ عَنْهُ بِالصَّلَاةِ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَا تَقَدَّمَ وَصَحَّحَ النَّوَوِيُّ أَيْضًا أَنَّهُ يَخْرُجُ عَنْهُ بِالصَّلَاةِ فِي مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ قَالَ : وَنَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي الْبُوَيْطِيِّ ،وَبِهِ قَالَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَقِيلَ تَقُومُ الصَّلَاةُ فِي كُلِّ مِنَ الْمَسْجِدَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ مَقَامَ الْآخَرِ ، وَقِيلَ لَا يَقُومُ أَحَدُهُمَا مَقَامَ الْآخَرِ ،وَيَدُلُّ لِلْأَوَّلِ مَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ مَيْمُونَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا أَفْتَتْ امْرَأَةً نَذَرَتْ الصَّلَاةَ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ أَنْ تُصَلِّيَ فِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَاسْتَدَلَّتْ بِقَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم - { صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ مِنْ الْمَسَاجِد إلَّا مَسْجِدَ الْكَعْبَةِ } .
((2/136)
الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ ) اُسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّهُ لَوْ نَذَرَ إتْيَانَ مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ أَوْ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى لَزِمَهُ ذَلِكَ وَهُوَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ لِلشَّافِعِيِّ حَكَاهُ عَنْهُ الْبُوَيْطِيُّ .
وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ النَّذْرُ بَلْ يَلْغُو نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْأُمِّ وَهُوَ الْأَظْهَرُ عِنْدَ الْعِرَاقِيِّينَ وَالرُّويَانِيِّ وَغَيْرُهُمْ ،فَإِذَا قُلْنَا بِانْعِقَادِ النَّذْرِ فَهَلْ يَلْزَمُهُ مَعَ الْإِتْيَانِ شَيْءٌ آخَرُ فِيهِ خِلَافٌ لِأَصْحَابِنَا وَالْأَصَحُّ عِنْدَهُمْ نَعَمْ ؛ لِأَنَّ الْإِتْيَانَ الْمُجَرَّدُ لَيْسَ بِقُرْبَةٍ وَحِينَئِذٍ فَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يَتَخَيَّرُ بَيْنَ الِاعْتِكَافِ وَالصَّلَاةِ وَقِيلَ يَتَعَيَّنُ الِاعْتِكَافُ ، وَقِيلَ تَتَعَيَّنُ الصَّلَاةُ .
وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ يَكْفِي فِي مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ أَنْ يَزُورَ قَبْرَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَتَوَقَّفَ فِيهِ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الزِّيَارَةَ لَا تَتَعَلَّقُ بِالْمَسْجِدِ وَتَعْظِيمِهِ .
قَالَ : وَقِيَاسُهُ أَنَّهُ لَوْ تَصَدَّقَ فِي الْمَسْجِدِ أَوْ صَامَ يَوْمًا كَفَاهُ ،قَالَ الْإِمَامُ: وَالظَّاهِرُ الِاكْتِفَاءُ بِالزِّيَارَةِ .
( الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ ) اُسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّهُ لَوْ نَذَرَ إتْيَانَ غَيْرِهَا مِنَ الْمَسَاجِدِ لِصَلَاةٍ أَوْ غَيْرِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ ذَلِكَ لِتَصْرِيحِهِ - صلى الله عليه وسلم - بِاخْتِصَاصِ هَذِهِ الْمَسَاجِدِ بِشَدِّ الرَّحْلِ إلَيْهَا وَغَيْرُهَا لَا فَضْلَ لِبَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ فَتَكْفِي صَلَاتُهُ فِي أَيِّ مَسْجِدٍ كَانَ .(2/137)
قَالَ النَّوَوِيُّ : هَذَا مَذْهَبُنَا ، وَمَذْهَبُ الْعُلَمَاءِ كَافَّةً إلَّا مُحَمَّدَ بْنَ مَسْلَمَةً الْمَالِكِيِّ فَقَالَ إذَا نَذَرَ قَصْدَ مَسْجِدِ قَبَاءَ لَزِمَهُ قَصْدُهُ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَأْتِيهِ كُلَّ سَبْتٍ رَاكِبًا ، وَمَاشِيًا وَقَالَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ: يَلْزَمُهُ قَصْدُ ذَلِكَ الْمَسْجِدِ أَيِّ مَسْجِدٍ كَانَ ،وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ : يَلْزَمُهُ إذَا لَمْ يُصَلِّ فِيهِ وَلَا فِي أَحَدِ الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ ، وَإِنْ كَانَ لَا يَنْعَقِدُ نَذْرُهُ وَفِي وَجْهٍ آخَرَ لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ وَفِي الْجَوَاهِرِ لِابْنِ شَاسٍ لَوْ ذَكَرَ مَوْضِعًا غَيْرَ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ فَإِنْ تَعَلَّقَتْ بِهِ عِبَادَةٌ تَخْتَصُّ بِهِ كَرِبَاطٍ أَوْ جِهَادٍ نَاجِزٍ لَزِمَهُ إتْيَانُهُ .
((2/138)
الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ ) الْمُرَادُ بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ جَمِيعُ الْحَرَمِ وَلَا يَخْتَصُّ ذَلِكَ بِالْمَكَانِ الْمُعَدِّ لِلصَّلَاةِ فِيهِ قَالَ أَصْحَابُنَا لَوْ ذَكَرَ النَّاذِرُ بُقْعَةً أُخْرَى مِنْ بِقَاعِ الْحَرَمِ كَالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ ، وَمَسْجِدِ الْخَيْفِ ، وَمِنًى ، وَمُزْدَلِفَةَ ، وَمَقَامِ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَقُبَّةِ زَمْزَمَ وَغَيْرِهَا فَهُوَ كَمَا لَوْ قَالَ الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ حَتَّى لَوْ قَالَ آتِي دَارَ أَبِي جَهْلٍ أَوْ دَارَ الْخَيْزُرَانٍ كَانَ الْحُكْمُ كَذَلِكَ ؛ لِشُمُولِ حُرْمَةِ الْحَرَمِ فِي تَنْفِيرِ الصَّيْدِ وَغَيْرِهِ لِلْجَمِيعِ، وَفِي مُعْجَمِ الطَّبَرَانِيِّ الْأَوْسَطِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا " لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَّا إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ : مَسْجِدِ الْخَيْفِ وَمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَسْجِدِي "(1).
قَالَ وَالِدِي رَحِمَهُ اللَّهُ فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ : وَفِي إسْنَادِهِ خَيْثَمُ بْنُ مَرْوَانَ وَهُوَ ضَعِيفٌ وَالْحَدِيثُ شَاذٌّ لِمُخَالَفَتِهِ لِلْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ إلَّا أَنَّ الْحُكْمَ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَسْجِدِ الْخَيْفِ صَحِيحٌ لَا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْحَصْرِ قَالَ الْغَزَالِيُّ عِنْدَ ذِكْرِ نَذْرِ إتْيَانِ الْمَسَاجِدِ فَلَوْ قَالَ آتِي مَسْجِدَ الْخَيْفِ فَهُوَ كَمَسْجِدِ الْحَرَامِ ؛ لِأَنَّهُ مِنَ الْحَرَمِ .انْتَهَى .
(
__________
(1) - المعجم الكبير للطبراني - (ج 20 / ص 37)(1293 ) ضعيف(2/139)
السَّادِسَةَ عَشْرَةَ ) ذَكَرَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ أَنَّ تَضْعِيفَ الصَّلَاةِ فِي مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ يَخْتَصُّ بِمَسْجِدِهِ - صلى الله عليه وسلم - الَّذِي كَانَ فِي زَمَنِهِ دُونَ مَا أُوسِعَ بَعْدَهُ ، وَمُقْتَضَى ذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ نَذَرَ الصَّلَاةَ فِي بُقْعَةٍ مِنَ الْمَسْجِدِ مِمَّا هُوَ زَائِدٌ عَلَى مَا كَانَ فِي زَمَنِهِ - صلى الله عليه وسلم - لَمْ يَتَعَيَّنْ ، وَكَانَ كَغَيْرِهِ مِنَ الْمَسَاجِدِ. وَفِيهِ بُعْدٌ وَنَظَرٌ ظَاهِرٌ .
( السَّابِعَةَ عَشْرَةَ ) إنْ قُلْت لِمَ سُمِّيَ الْمَسْجِدَ الْأَقْصَى وَلَمْ يَكُنْ بَعْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ غَيْرُهُ فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِى ذَرٍّ - رضى الله عنه - قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ . أَىُّ مَسْجِدٍ وُضِعَ أَوَّلُ قَالَ :« الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ » . قُلْتُ ثُمَّ أَىٌّ قَالَ: « ثُمَّ الْمَسْجِدُ الأَقْصَى » . قُلْتُ كَمْ كَانَ بَيْنَهُمَا قَالَ :« أَرْبَعُونَ » . ثُمَّ قَالَ: « حَيْثُمَا أَدْرَكَتْكَ الصَّلاَةُ فَصَلِّ ، وَالأَرْضُ لَكَ مَسْجِدٌ »(1).
قُلْت عَلِمَ اللَّهُ - تَعَالَى - أَنَّ مَسْجِدَ الْمَدِينَةِ سَيُبْنَى فَيَكُونُ قَاصِيًا أَيْ بَعِيدًا مِنْ مَسْجِدِ مَكَّةَ وَيَكُونُ مَسْجِدُ بَيْتِ الْقُدْسِ أَقْصَى فَسُمِّيَ بِذَلِكَ بِاعْتِبَارِ مَا يَئُولَ حَالُهُ إلَيْهِ ، وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ .
( الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ ) قَالَ الْخَطَّابِيُّ قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ لَا يَصِحُّ الِاعْتِكَافُ إلَّا فِي وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ ، وَعَلَيْهِ تَأَوَّلَ الْخَبَرَ .(2)
__________
(1) - صحيح البخارى(3425 ) ومسند أبي عوانة (904)
(2) - طرح التثريب - (ج 6 / ص 197)(2/140)
وَمِنْهَا جَبَل أُحُدٍ فعَنْ قَتَادَةَ سَمِعْتُ أَنَسًا - رضى الله عنه - أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ " هَذَا جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ "(1). وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الأَْمَاكِنِ الَّتِي وَرَدَ فِيهَا نَصٌّ بِذَلِكَ فَتُسْتَحَبُّ زِيَارَتُهَا .
زِيَارَةُ الصَّالِحِينَ ، وَالإِْخْوَانِ :
تُسَنُّ زِيَارَةُ الصَّالِحِينَ وَالإِْخْوَانِ ، وَالأَْصْدِقَاءِ وَالْجِيرَانِ ، وَالأَْقَارِبِ وَصِلَتُهُمْ ، وَيَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ زِيَارَتُهُمْ عَلَى وَجْهٍ يَرْتَضُونَهُ ، وَفِي وَقْتٍ لاَ يَكْرَهُونَهُ . كَمَا يُسْتَحَبُّ أَنْ يَطْلُبَ مِنْ أَخِيهِ الصَّالِحِ أَنْ يَزُورَهُ وَيُكْثِرَ زِيَارَتَهُ إِذَا لَمْ يَشُقَّ ذَلِكَ(2).
وَقَدْ جَاءَ فِي الحديث عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - " أَنَّ رَجُلاً زَارَ أَخًا لَهُ فِى قَرْيَةٍ أُخْرَى فَأَرْصَدَ اللَّهُ لَهُ عَلَى مَدْرَجَتِهِ مَلَكًا فَلَمَّا أَتَى عَلَيْهِ قَالَ أَيْنَ تُرِيدُ قَالَ أُرِيدُ أَخًا لِى فِى هَذِهِ الْقَرْيَةِ. قَالَ هَلْ لَكَ عَلَيْهِ مِنْ نِعْمَةٍ تَرُبُّهَا قَالَ لاَ غَيْرَ أَنِّى أَحْبَبْتُهُ فِى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. قَالَ فَإِنِّى رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكَ بِأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَبَّكَ كَمَا أَحْبَبْتَهُ فِيهِ ".(3).
__________
(1) - صحيح البخارى (4083 ) ومسلم (3438 )
وفي شرح النووي على مسلم - (ج 5 / ص 56)
قِيلَ : مَعْنَاهُ يُحِبّنَا أَهْله ، وَهُمْ أَهْل الْمَدِينَة ، وَنُحِبّهُمْ ، وَالصَّحِيح أَنَّهُ عَلَى ظَاهِره ، وَأَنَّ مَعْنَاهُ يُحِبّنَا هُوَ بِنَفْسِهِ ، وَقَدْ جَعَلَ اللَّه فِيهِ تَمْيِيزًا ، وَقَدْ سَبَقَ بَيَان هَذَا الْحَدِيث قَرِيبًا . وَاَللَّه أَعْلَم .
(2) - روضة الطالبين 10 / 237 .
(3) - صحيح مسلم (6714 ) -المدرجة : الطريق = ترب : تحفظ وتراعى وتربى(2/141)
وَعَنْ أَبِى إِدْرِيسَ الْعَبْدِىِّ أَوِ الْخَوْلاَنِىِّ قَالَ جَلَسْتُ مَجْلِساً فِيهِ عِشْرُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - وَإِذَا فِيهِمْ شَابٌّ حَدِيثُ السِّنِّ حَسَنُ الْوَجْهِ أَدْعَجُ الْعَيْنَيْنِ أَغَرُّ الثَّنَايَا فَإِذَا اخْتَلَفُوا فِى شَىْءٍ فَقَالَ قَوْلاً انْتَهَوْا إِلَى قَوْلِهِ فَإِذَا هُوَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ جِئْتُ فَإِذَا هُوَ يُصَلِّى إِلَى سَارِيَةٍ - قَالَ - فَحَذَفَ مِنْ صَلاَتِهِ ثُمَّ احْتَبَى فَسَكَتَ - قَالَ - فَقُلْتُ وَاللَّهِ إِنِّى لأُحِبُّكَ مِنْ جَلاَلِ اللَّهِ. قَالَ آللَّهِ قَالَ قُلْتُ آللَّهِ. قَالَ فَإِنَّ مِنَ الْمُتَحَابِّينَ فِى اللَّهِ - فِيمَا أَحْسَبُ أَنَّهُ قَالَ - فِى ظِلِّ اللَّهِ يَوْمَ لاَ ظِلَّ إِلاَّ ظِلُّهُ - ثُمَّ لَيْسَ فِى بَقِيَّتِهِ شَكٌّ يَعْنِى فِى بَقِيَّةِ الْحَدِيثِ - يُوضَعُ لَهُمْ كَرَاسٍ مِنْ نُورٍ يَغْبِطُهُمْ بِمَجْلِسِهِمْ مِنَ الرَبِّ عَزَّ وَجَلَّ النَّبِيُّونَ وَالصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ.
قَالَ فَحَدَّثْتُهُ عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ فَقَالَ لاَ أُحَدِّثُكَ إِلاَّ مَا سَمِعْتُ عَنْ لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - " حَقَّتْ مَحَبَّتِى لِلْمُتَحَابِّينَ فِىَّ وَحَقَّتْ مَحَبَّتِى لِلْمُتَزَاوِرِينَ فِىَّ وَحَقَّتْ مَحَبَّتِى لِلْمُتَبَاذِلِينَ فِىَّ وَحَقَّتْ مَحَبَّتِى لِلْمُتَصَادِقِينَ فِىَّ وَالْمُتَوَاصِلِينَ ". شَكَّ شُعْبَةُ فِى الْمُتَوَاصِلِينَ أَوِ الْمُتَزَاوِرِينَ.(1).
__________
(1) - مسند أحمد (22650و22651) صحيح = حَذف : خفف = الأدعج : شديد سواد العينين = غبط : الغبطة أن يرى المغبوط فى حال حسنة فيتمناها دون زوالها عن المغبوط = أغر : أبيض(2/142)
وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : إِذَا جَاءَكُمُ الزَّائِرُ فَأَكْرِمُوهُ(1).
زِيَارَةُ الزَّوْجَةِ لأَِهْلِهَا وَوَالِدَيْهَا ، وَزِيَارَتُهُمْ لَهَا :
قَال الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَفِيَّةُ فِي الْقَوْل الْمُفْتَى بِهِ عِنْدَهُمْ : لِلْمَرْأَةِ الْخُرُوجُ لِزِيَارَةِ وَالِدَيْهَا كُل جُمُعَةٍ ، وَمَحَارِمِهَا كُل سَنَةٍ وَلَوْ بِغَيْرِ إِذْنِ الزَّوْجِ ؛ لأَِنَّ ذَلِكَ مِنَ الْمُصَاحَبَةِ بِالْمَعْرُوفِ الْمَأْمُورِ بِهَا ، وَمِنْ صِلَةِ الرَّحِمِ . وَقَيَّدَهُ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنْ يَكُونَ الْوَالِدَانِ فِي الْبَلَدِ(2).
وَالصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ وَهُوَ مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ الزَّوْجَ لاَ يَمْنَعُ أَبَوَيِ الزَّوْجَةِ مِنَ الدُّخُول عَلَيْهَا فِي كُل جُمُعَةٍ ، وَلاَ يَمْنَعُ غَيْرَهُمَا مِنَ الْمَحَارِمِ فِي كُل سَنَةٍ .
وَكَذَا بِالنِّسْبَةِ لأَِوْلاَدِهَا مِنْ غَيْرِهِ إِنْ كَانُوا صِغَارًا ، لاَ يَمْنَعُهُمُ الزَّوْجُ مِنَ الدُّخُول إِلَيْهَا كُل يَوْمٍ مَرَّةً ، وَإِنِ اتَّهَمَ وَالِدَيْهَا بِإِفْسَادِهَا ، فَيُقْضَى لَهُمَا بِالدُّخُول مَعَ امْرَأَةٍ أَمِينَةٍ مِنْ جِهَةِ الزَّوْجِ وَعَلَيْهِ أُجْرَتُهَا .
__________
(1) - أخرجه الخرائطى فى مكارم الأخلاق (ص 115 ، رقم 326) ، والديلمى (1/339 ، رقم 1351) . وأخرجه أيضًا : أبو الشيخ فى الأمثال (ص 88 ، رقم 148) ، والقضاعى (1/445 ، رقم 763) ، وابن أبى حاتم فى العلل (2/342 ، رقم 2550) وقال قال أبى : هذا حديث منكر . وقال المناوى (1/325) : وفيه بقية ويحيى بن مسلم ضعيفان . وعزاه الغمارى فى المداوى (1/339 ، رقم 546) للديلمى من طريق ابن لال .
(2) - ابن عابدين 2 / 664 ، حاشية الدسوقي 2 / 512 .(2/143)
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ ، وَهُوَ قَوْلٌ لِلْحَنَفِيَّةِ : إِلَى أَنَّ لَهُ الْمَنْعَ مِنَ الدُّخُول ، مُعَلِّلاً بِأَنَّ الْمَنْزِل مِلْكُهُ وَلَهُ حَقُّ الْمَنْعِ مِنْ دُخُول مِلْكِهِ ، وَهَذَا ظَاهِرُ الْكَنْزِ ،وَهُوَ اخْتِيَارُ الْقُدُورِيِّ ، وَجَزَمَ بِهِ فِي الذَّخِيرَةِ .
وَقِيل : لاَ مَنْعَ مِنَ الدُّخُول بَل مِنَ الْقَرَارِ ؛ لأَِنَّ الْفِتْنَةَ فِي الْمُكْثِ وَطُول الْكَلاَمِ .
وَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ ، أَنَّهُ يُقْضَى بِزِيَارَةِ وَالِدَيْهَا وَأَوْلاَدِهَا الْكِبَارِ مِنْ غَيْرِهِ لَهَا فِي بَيْتِ الزَّوْجِيَّةِ كُل جُمُعَةٍ مَرَّةً(1).
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ لِلْمَرْأَةِ الْخُرُوجَ مِنْ بَيْتِ الزَّوْجِيَّةِ لِزِيَارَةِ وَالِدَيْهَا وَمَحَارِمِهَا فِي غَيْبَةِ الزَّوْجِ إِنْ لَمْ يَنْهَهَا عَنِ الْخُرُوجِ . وَجَرَتِ الْعَادَةُ بِالتَّسَامُحِ بِذَلِكَ . أَمَّا إِذَا نَهَاهَا عَنِ الْخُرُوجِ فِي غَيْبَتِهِ فَلَيْسَ لَهَا الْخُرُوجُ لِزِيَارَةٍ وَلاَ لِغَيْرِهَا(2).
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلزَّوْجِ مَنْعُ أَبُوهَا مِنْ زِيَارَتِهَا ، لِمَا فِيهِ مِنْ قَطِيعَةِ الرَّحِمِ ، لَكِنْ إِنْ عَرَفَ بِقَرَائِنِ الْحَال حُدُوثَ ضَرَرٍ بِزِيَارَتِهِمَا ، أَوْ زِيَارَةِ أَحَدِهِمَا فَلَهُ الْمَنْعُ(3).
زِيَارَةُ الْمَحْضُونِ :
لِكُلٍّ مِنَ الأَْبَوَيْنِ زِيَارَةُ أَوْلاَدِهِ إِذَا كَانَتِ الْحَضَانَةُ لِغَيْرِهِ ، وَلَيْسَ لِمَنْ لَهُ حَقُّ الْحَضَانَةِ مَنْعُ الزِّيَارَةِ(4).
- - - - - - - - - - - - - - -
__________
(1) - رد المحتار 2 / 664 ، والدسوقي 2 / 512 ، وجواهر الإكليل 1 / 403 ، وحاشية القليوبي 4 / 74
(2) - حاشية الجمل 4 / 502 ، أسنى المطالب 3 / 434 ، والمغني 7 / 20 .
(3) - شرح منتهى الإرادات 3 / 99 .
(4) - القليوبي 4 / 91 .(2/144)
زِيَارَةُ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -
تعريفها :
الزِّيَارَةُ : اسْمٌ مِنْ زَارَهُ يَزُورُهُ زُورًا وَزِيَارَةً ، قَصَدَهُ مُكْرِمًا لَهُ(1).
وَزِيَارَةُ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - بَعْدَ وَفَاتِهِ تَتَحَقَّقُ بِزِيَارَةِ قَبْرِهِ - صلى الله عليه وسلم -
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ :
أَجْمَعَتِ الأُْمَّةُ الإِْسْلاَمِيَّةُ سَلَفًا وَخَلَفًا عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ زِيَارَةِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - .
وَقَدْ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ مِنْ أَهْل الْفَتْوَى فِي الْمَذَاهِبِ إِلَى أَنَّهَا سُنَّةٌ مُسْتَحَبَّةٌ ، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنَ الْمُحَقِّقِينَ : هِيَ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ ، تَقْرُبُ مِنْ دَرَجَةِ الْوَاجِبَاتِ ، وَهُوَ الْمُفْتَى بِهِ عِنْدَ طَائِفَةٍ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ(2).
وَذَهَبَ الْفَقِيهُ الْمَالِكِيُّ أَبُو عِمْرَانَ مُوسَى بْنُ عِيسَى الْفَاسِيُّ إِلَى أَنَّهَا وَاجِبَةٌ(3).
دَلِيل مَشْرُوعِيَّةِ الزِّيَارَةِ :
__________
(1) - معجم متن اللغة لأحمد رضا ، مادة : ( زور ) .
(2) - فتح القدير للكمال بن الهمام شرح الهداية مطبعة مصطفى محمد 2 / 336 ، ورد المحتار على الدر المختار لابن عابدين محمد أمين طبع إستانبول دار الطباعة العامرة 2 / 353 ، والشفا نسخة شرحه للقاري طبع إستانبول سنة 1316 ، 2 / 149 ، والمجموع للنووي شرح المهذب للشيرازي مطبعة العاصمة بالقاهرة 8 / 213 ، 214 - 215 ، والمغني لابن قدامة طبع دار المنار سنة 1367 ، 3 / 256 ، والاختيار لتعليل المختار لعبد الله بن محمود الموصلي ، طبع مصطفى البابي الحلبي 1 / 173 ، ولباب المناسك للسندي وشرحه لعلي القاري طبع المطبعة الأميرية ص 282 .
(3) - الشفا 2 / 150 ، والمواهب اللدنية للقسطلاني مطبعة مصطفى شاهين 2 / 504 ، ونيل الأوطار للشوكاني المطبعة العثمانية 5 / 9(2/145)
مِنْ أَدِلَّةِ مَشْرُوعِيَّةِ زِيَارَتِهِ - صلى الله عليه وسلم - : قَوْله تَعَالَى : { وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُول لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا } سورة النساء / 64 .
فَإِنَّهُ - صلى الله عليه وسلم - حَيٌّ فِي قَبْرِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ ، كَمَا أَنَّ الشُّهَدَاءَ أَحْيَاءٌ بِنَصِّ الْقُرْآنِ ، وَقَدْ صَحَّ قَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم - : الأَْنْبِيَاءُ أَحْيَاءٌ فِي قُبُورِهِمْ(1).
وَإِنَّمَا قَال : هُمْ أَحْيَاءٌ أَيْ لأَِنَّهُمْ كَالشُّهَدَاءِ بَل أَفْضَل ، وَالشُّهَدَاءُ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ ، وَفَائِدَةُ التَّقْيِيدِ بِالْعِنْدِيَّةِ الإِْشَارَةُ إِلَى أَنَّ حَيَاتَهُمْ لَيْسَتْ بِظَاهِرَةٍ عِنْدَنَا وَهِيَ كَحَيَاةِ الْمَلاَئِكَةِ .
وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ حَيٌّ فِي قَبْرِهِ كَانَ الْمَجِيءُ إلَيْهِ بَعْدَ الْمَوْتِ كَالْمَجِيءِ إلَيْهِ قَبْلَهُ.
__________
(1) - مسند البزار(6888) و أبو يعلى (6/147 ، رقم 3425) ، وتمام (1/33 ، رقم 58) ، وابن عساكر (13/326) . وأخرجه أيضًا : الديلمى (1/119 ، رقم 403) ، وابن عدى (2/327 ، ترجمة 460 الحسن بن قتيبة المدائنى) ، وقال : أرجو أنه لا بأس به . قال الحافظ فى الفتح (6/487) : أخرجه البيهقى فى كتاب حياة الأنبياء فى قبورهم وصححه . وقال المناوى (3/184) : رواه أبو يعلى عن أنس بن مالك ، وهو حديث صحيح ،وحياة الأنبياء في قبورهم للبيهقي (1-3) والصحيحة (621) و صحيح الجامع (2790) ونيل الأوطار - (ج 5 / ص 332) وهو حديث صحيح(2/146)
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ " أَتَيْتُ - وَفِى رِوَايَةِ هَدَّابٍ مَرَرْتُ - عَلَى مُوسَى لَيْلَةَ أُسْرِىَ بِى عِنْدَ الْكَثِيبِ الأَحْمَرِ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّى فِى قَبْرِهِ ".(1).
وَعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ زَارَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - قَبْرَ أُمِّهِ فَبَكَى وَأَبْكَى مَنْ حَوْلَهُ فَقَالَ " اسْتَأْذَنْتُ رَبِّى فِى أَنْ أَسْتَغْفِرَ لَهَا فَلَمْ يُؤْذَنْ لِى وَاسْتَأْذَنْتُهُ فِى أَنْ أَزُورَ قَبْرَهَا فَأُذِنَ لِى فَزُورُوا الْقُبُورَ فَإِنَّهَا تُذَكِّرُ الْمَوْتَ "(2).
وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ زِيَارَةِ الْقُبُورِ عَامَّةً ، وَزِيَارَتُهُ - صلى الله عليه وسلم - أَوْلَى مَا يُمْتَثَل بِهِ هَذَا الأَْمْرُ ، فَتَكُونُ زِيَارَتُهُ دَاخِلَةً فِي هَذَا الأَْمْرِ النَّبَوِيِّ الْكَرِيمِ .
وَ عَنْ حَاطِبٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " مَنْ زَارَنِى بَعْدَ مَوْتِى فَكَأَنَّمَا زَارَنِى فِى حَيَاتِى ، وَمَنْ مَاتَ بِأَحَدِ الْحَرَمَيْنِ بُعِثَ مِنَ الآمِنِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ".(3).
وَمِنْهَا عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " مَنْ زَارَ قَبْرِى وَجَبَتْ لَهُ شَفَاعَتِى ".(4).
فَاسْتَدَل بَعْضُ الْفُقَهَاءِ بِهَذِهِ الأَْدِلَّةِ عَلَى وُجُوبِ زِيَارَتِهِ - صلى الله عليه وسلم - لِمَا فِي الأَْحَادِيثِ الأُْخْرَى مِنَ الْحَضِّ أَيْضًا.
__________
(1) - مسلم (6306 )
(2) - صحيح مسلم (2304 )
(3) - شعب الإيمان للبيهقي (3993 ) وسنن الدارقطنى (2726 ) والتلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير (1077) وهو حسن لغيره
(4) - شعب الإيمان للبيهقي (4000) وسنن الدارقطنى (2727 ) وهو حسن لغيره وقد مر تخريجه مفصلا(2/147)
وَحَمَلَهَا الْجُمْهُورُ عَلَى الاِسْتِحْبَابِ ، وَلَعَل مَلْحَظَهُمْ فِي ذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ الأَْدِلَّةَ تُرَغِّبُ بِتَحْصِيل ثَوَابٍ أَوْ مَغْفِرَةٍ أَوْ فَضِيلَةٍ ، وَذَلِكَ يَحْصُل بِوَسَائِل أُخَرَ ، فَلاَ تُفِيدُ هَذِهِ الأَْدِلَّةُ الْوُجُوبَ .
قَال الْقَاضِي عِيَاضٌ فِي كِتَابِ الشِّفَاءِ : وَزِيَارَةُ قَبْرِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ سُنَّةٌ مِنْ سُنَنِ الْمُسْلِمِينَ مُجْمَعٌ عَلَيْهَا ، وَفَضِيلَةٌ مُرَغَّبٌ فِيهَا(1).
وفي فتاوى الأزهر :" بعد الأخبار المذكورة وبعد كلام السيوطى في تواتر الأخبار وكثرة الأدلة على حياة الأنبياء في قبورهم يمكننا أن نطمئن إلى ذلك ولا نكذب ، بالإضافة إلى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أفضل من الشهداء ، وقد قال اللَّه فيهم : {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} (169) سورة آل عمران ، ولا يقال : قد يكون فى المفضول ما ليس فى الفاضل ، لأن محلَّ ذلك ما لم يرد نص ، وقد ورد ،وحياتهم فى القبور مختلف في كيفيتها، وجمهور المسلمين على أنها حياة حقيقية لا مجازية ، وقد وضح الفخر الرازي ذلك فى تفسيره لهذه الاَية .
أما قوله تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ } الزمر: 30 ، فمعناه أن روحك ستفارق بدنك وتدخل فى عالم آخر كسائر الناس ، قال تعالى{ وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ (34) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (35) } [الأنبياء/34، 35]
__________
(1) - الشفا نسخة شرحه لعلي القاري 2 / 148 - 149 .(2/148)
وحديث رد روح النبى - صلى الله عليه وسلم - ليجيب من يسلِّم عليه إن كان ظاهره يفيد أن روحه الشريفة تفارق جسده الشريف فقد أجاب على ذلك العلماء بأجوبة أوصلها السيوطي إلى سبعة وعشرين وجها ، أحسنها أنه - صلى الله عليه وسلم - يكون مستغرقا بمشاهدة حضرة القدس فيفنى عن إحساسه الشريف ، فإذا سلَّم المسلم عليه تردُّ روحه من هذا الاستغراق إلى الاحساس لأجل الردِّ، كما ترى في الدنيا من يكون مشغول البال قد لا يحس بمن يتكلم بجواره (المنحة الوهبية ص 6 ) هذا ، وعدم أكل الأرض أجساد الأنبياء ثابت بالحديث السابق ، وهو حديث صحيح عند كثير من العلماء كابن خزيمة وابن حبان والحاكم وأقره الذهبي كما صححه النووي في كتابه " الأذكار" . والعقائد وأخبار الغيب تؤخذ من الأدلة القطعية في الثبوت والدلالة والخلاف موجود في كفاية حديث الآحاد في ذلك ، وما دام الأمر داخلا في قدرة اللَّه سبحانه ، مع اختلاف قوانين عالم الغيب والشهادة ، ومع عدم مصادمة ذلك لأمر مقطوع به فالقلب يطمئن إلى قبوله"(1)
وَاحْتَجَّ أَيْضًا مَنْ قَالَ بِالْمَشْرُوعِيَّةِ بِأَنَّهُ لَمْ يَزَلْ دَأْبُ الْمُسْلِمِينَ الْقَاصِدِينَ لِلْحَجِّ فِي جَمِيعِ الْأَزْمَانِ عَلَى تَبَايُنِ الدِّيَارِ وَاخْتِلَافِ الْمَذَاهِبِ الْوُصُولَ إلَى الْمَدِينَةِ الْمُشَرَّفَةِ لِقَصْدِ زِيَارَتِهِ ، وَيَعُدُّونَ ذَلِكَ مِنْ أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّ أَحَدًا أَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ فَكَانَ إجْمَاعًا .(2)
فَضْل زِيَارَةِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - :
__________
(1) - فتاوى الأزهر - (ج 8 / ص 103)
(2) - نيل الأوطار - (ج 8 / ص 66) وانظر منح الجليل شرح مختصر خليل - (ج 6 / ص 195) وتحفة المحتاج في شرح المنهاج - (ج 11 / ص 156) ونهاية المحتاج إلى شرح المنهاج - (ج 10 / ص 467)(2/149)
دَلَّتِ الدَّلاَئِل السَّابِقَةُ عَلَى عَظَمَةِ فَضْل زِيَارَةِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَجَزِيل مَثُوبَتِهَا فَإِنَّهَا مِنْ أَهَمِّ الْمَطَالِبِ الْعَالِيَةِ وَالْقُرُبَاتِ النَّافِعَةِ الْمَقْبُولَةِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى ، فَبِهَا يَرْجُو الْمُؤْمِنُ مَغْفِرَةَ اللَّهِ تَعَالَى وَرَحْمَتَهُ وَتَوْبَتَهُ عَلَيْهِ مِنْ ذُنُوبِهِ ، وَبِهَا يَحْصُل الزَّائِرُ عَلَى شَفَاعَةٍ خَاصَّةٍ مِنَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، وَمَا أَعْظَمَهُ مِنْ فَوْزٍ .
وَعَلَى ذَلِكَ انْعَقَدَ إِجْمَاعُ الْمُسْلِمِينَ فِي كَافَّةِ الْعُصُورِ ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ عِيَاضٌ وَالنَّوَوِيُّ وَالسِّنْدِيُّ وَابْنُ الْهُمَامِ .
قَال الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ : إِنَّهَا مِنْ أَفْضَل الأَْعْمَال وَأَجَل الْقُرُبَاتِ الْمُوَصِّلَةِ إِلَى ذِي الْجَلاَل ، وَإِنَّ مَشْرُوعِيَّتَهَا مَحَل إِجْمَاعٍ بِلاَ نِزَاعٍ(1).
وَكَذَلِكَ قَال الْقَسْطَلاَّنِيُّ : اعْلَمْ أَنَّ زِيَارَةَ قَبْرِهِ الشَّرِيفِ مِنْ أَعْظَمِ الْقُرُبَاتِ وَأَرْجَى الطَّاعَاتِ ، وَالسَّبِيل إِلَى أَعْلَى الدَّرَجَاتِ .(2)
آدَابُ زِيَارَةِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -
أ - أَنْ يَنْوِيَ زِيَارَةَ الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ أَيْضًا لِتَحْصِيل سُنَّةِ زِيَارَةِ الْمَسْجِدِ وَثَوَابِهَا لِمَا فِي الْحَدِيثِ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : " لاَ تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلاَّ إِلَى ثَلاَثَةِ مَسَاجِدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ، وَمَسْجِدِ الرَّسُولِ - صلى الله عليه وسلم - وَمَسْجِدِ الأَقْصَى "(3).
__________
(1) - فتح الباري لابن حجر - (ج 3 / ص 66)
(2) - المرجع السابق وفتح الباري 3 / 43 ، والمواهب اللدنية 2 / 504
(3) - صحيح البخارى(1189 ) ومسلم (3450 )(2/150)
ب - الاِغْتِسَال لِدُخُول الْمَدِينَةِ الْمُنَوَّرَةِ ، وَلُبْسِ أَنْظَفِ الثِّيَابِ ، وَاسْتِشْعَارُ شَرَفِ الْمَدِينَةِ لِتَشَرُّفِهَا بِهِ - صلى الله عليه وسلم - .
ج - الْمُوَاظَبَةُ عَلَى صَلاَةِ الْجَمَاعَةِ فِي الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ مُدَّةَ الإِْقَامَةِ فِي الْمَدِينَةِ ، عَمَلاً بِالْحَدِيثِ الثَّابِتِ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " صَلاَةٌ فِى مَسْجِدِى هَذَا خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ صَلاَةٍ فِيمَا سِوَاهُ إِلاَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ "(1).
د - أَنْ يُتْبِعَ زِيَارَتَهُ - صلى الله عليه وسلم - بِزِيَارَةِ صَاحِبَيْهِ شَيْخَيِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَعَنْهُمْ جَمِيعًا ، أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ ، وَقَبْرُهُ إِلَى الْيَمِينِ قَدْرَ ذِرَاعٍ ، وَعُمَرَ يَلِي قَبْرَ أَبِي بَكْرٍ إِلَى الْيَمِينِ أَيْضًا .
مَا يُكْرَهُ فِي زِيَارَةِ قَبْرِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - :
يَقَعُ لِكَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ أُمُورٌ مَكْرُوهَةٌ فِي زِيَارَتِهِمْ لِقَبْرِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، نُشِيرُ إِلَى أَهَمِّهَا
1 - التَّزَاحُمُ عِنْدَ الزِّيَارَةِ ، وَذَلِكَ أَمْرٌ لاَ مُوجِبَ لَهُ ، بَل هُوَ خِلاَفُ الأَْدَبِ ، لاَ سِيَّمَا إِذَا أَدَّى إِلَى زِحَامِ النِّسَاءِ فَإِنَّ الأَْمْرَ شَدِيدٌ .
2 - رَفْعُ الأَْصْوَاتِ بِالصَّلاَةِ وَالسَّلاَمِ عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَوْ بِالدُّعَاءِ عِنْدَ زِيَارَتِهِ - صلى الله عليه وسلم - .
3 - التَّمَسُّحُ بِقَبْرِهِ الشَّرِيفِ - صلى الله عليه وسلم - أَوْ بِشُبَّاكِ حُجْرَتِهِ . أَوْ إِلْصَاقُ الظَّهْرِ أَوِ الْبَطْنِ بِجِدَارِ الْقَبْرِ .
__________
(1) - موطأ مالك (466 ) والبخاري (1190 ) ومسلم (3440 )(2/151)
قَال ابْنُ قُدَامَةَ : وَلاَ يُسْتَحَبُّ التَّمَسُّحُ بِحَائِطِ قَبْرِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَلاَ تَقْبِيلُهُ ، قَال أَحْمَدُ : مَا أَعْرِفُ هَذَا . قَال الأَْثْرَمُ : رَأَيْتُ أَهْل الْعِلْمِ مِنْ أَهْل الْمَدِينَةِ لاَ يَمَسُّونَ قَبْرَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُومُونَ مِنْ نَاحِيَةٍ فَيُسَلِّمُونَ . قَال أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : وَهَكَذَا كَانَ ابْنُ عُمَرَ يَفْعَل .(1)
وَقَال النَّوَوِيُّ مُنَبِّهًا مُحَذِّرًا : وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُطَافَ بِقَبْرِهِ - صلى الله عليه وسلم - ، وَيُكْرَهُ إِلْصَاقُ الظَّهْرِ وَالْبَطْنِ بِجِدَارِ الْقَبْرِ . قَالُوا : وَيُكْرَهُ مَسْحُهُ بِالْيَدِ وَتَقْبِيلُهُ ، بَل الأَْدَبُ أَنْ يُبْعَدَ مِنْهُ ، كَمَا يُبْعَدُ مِنْهُ لَوْ حَضَرَهُ فِي حَيَاتِهِ - صلى الله عليه وسلم - هَذَا هُوَ الصَّوَابُ الَّذِي قَالَهُ الْعُلَمَاءُ وَأَطْبَقُوا عَلَيْهِ ، وَلاَ يُغْتَرُّ بِمُخَالَفَةِ كَثِيرِينَ مِنَ الْعَوَّامِ وَفِعْلِهِمْ ذَلِكَ ، فَإِنَّ الاِقْتِدَاءَ وَالْعَمَل إِنَّمَا يَكُونُ بِالأَْحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ وَأَقْوَال الْعُلَمَاءِ ، وَلاَ يُلْتَفَتُ إِلَى مُحْدَثَاتِ الْعَوَامِّ وَغَيْرِهِمْ وَجَهَالاَتِهِمْ .(2)
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " لاَ تَجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قُبُورًا وَلاَ تَجْعَلُوا قَبْرِى عِيدًا وَصَلُّوا عَلَىَّ فَإِنَّ صَلاَتَكُمْ تَبْلُغُنِى حَيْثُ كُنْتُمْ "(3).
__________
(1) - المغني 3 / 559 .
(2) - المجموع 8 / 217 .
(3) - سنن أبى داود (2044 )صحيح(2/152)
مَعْنَى الْحَدِيثِ لاَ تُعَطِّلُوا الْبُيُوتَ مِنَ الصَّلاَةِ فِيهَا وَالدُّعَاءِ وَالْقِرَاءَةِ فَتَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْقُبُورِ ، فَأَمَرَ بِتَحَرِّي الْعِبَادَةِ بِالْبُيُوتِ وَنَهَى عَنْ تَحَرِّيهَا عِنْدَ الْقُبُورِ ، عَكْسَ مَا يَفْعَلُهُ الْمُشْرِكُونَ مِنَ النَّصَارَى وَمَنْ تَشَبَّهَ بِهِمْ مِنْ هَذِهِ الأُْمَّةِ . وَالْعِيدُ اسْمُ مَا يَعُودُ مِنَ الاِجْتِمَاعِ الْعَامِّ عَلَى وَجْهٍ مُعْتَادٍ عَائِدًا مَا يَعُودُ السَّنَةَ أَوْ يَعُودُ الأُْسْبُوعَ أَوِ الشَّهْرَ وَنَحْوَ ذَلِكَ .
قَال فِي عَوْنِ الْمَعْبُودِ : قَال ابْنُ الْقَيِّمِ : الْعِيدُ مَا يُعْتَادُ مَجِيؤُهُ وَقَصْدُهُ مِنْ زَمَنٍ وَمَكَانٍ مَأْخُوذٍ مِنَ الْمُعَاوَدَةِ وَالاِعْتِيَادِ ، فَإِذَا كَانَ اسْمًا لِلْمَكَانِ فَهُوَ الْمَكَانُ الَّذِي يُقْصَدُ فِيهِ الاِجْتِمَاعُ وَالاِنْتِيَابُ بِالْعِبَادَةِ وَبِغَيْرِهَا كَمَا أَنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ وَمِنًى وَمُزْدَلِفَةَ وَعَرَفَةَ وَالْمَشَاعِرَ جَعَلَهَا اللَّهُ تَعَالَى عِيدًا لِلْحُنَفَاءِ وَمَثَابَةً لِلنَّاسِ ، كَمَا جَعَل أَيَّامَ الْعِيدِ مِنْهَا عِيدًا . وَكَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَعْيَادٌ زَمَانِيَّةٌ وَمَكَانِيَّةٌ فَلَمَّا جَاءَ اللَّهُ بِالإِْسْلاَمِ أَبْطَلَهَا وَعَوَّضَ الْحُنَفَاءَ مِنْهَا عِيدَ الْفِطْرِ وَعِيدَ النَّحْرِ ، كَمَا عَوَّضَهُمْ عَنْ أَعْيَادِ الْمُشْرِكِينَ الْمَكَانِيَّةِ بِكَعْبَةٍ وَمِنًى وَمُزْدَلِفَةَ وَسَائِرِ الْمَشَاعِرِ .(2/153)
قَال الْمُنَاوِيُّ فِي فَيْضِ الْقَدِيرِ(1): مَعْنَاهُ النَّهْيُ عَنِ الاِجْتِمَاعِ لِزِيَارَتِهِ اجْتِمَاعَهُمْ لِلْعِيدِ ، إِمَّا لِدَفْعِ الْمَشَقَّةِ أَوْ كَرَاهَةِ أَنْ يَتَجَاوَزُوا حَدَّ التَّعْظِيمِ . وَقِيل : الْعِيدُ مَا يُعَادُ إِلَيْهِ أَيْ لاَ تَجْعَلُوا قَبْرِي عِيدًا تَعُودُونَ إِلَيْهِ مَتَى أَرَدْتُمْ أَنْ تُصَلُّوا عَلَيَّ ، فَظَاهِرُهُ مَنْهِيٌّ عَنِ الْمُعَاوَدَةِ وَالْمُرَادُ الْمَنْعُ عَمَّا يُوجِبُهُ ، وَهُوَ ظَنُّهُمْ بِأَنَّ دُعَاءَ الْغَائِبِ لاَ يَصِل إِلَيْهِ ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ : وَصَلُّوا عَلَيَّ فَإِنَّ صَلاَتَكُمْ تَبْلُغُنِي حَيْثُ كُنْتُمْ(2)أَيْ لاَ تَتَكَلَّفُوا الْمُعَاوَدَةَ إِلَيَّ فَقَدِ اسْتَغْنَيْتُمْ بِالصَّلاَةِ عَلَيَّ .
قَال الْمُنَاوِيُّ : وَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ اجْتِمَاعَ الْعَامَّةِ فِي بَعْضِ أَضْرِحَةِ الأَْوْلِيَاءِ فِي يَوْمٍ أَوْ شَهْرٍ مَخْصُوصٍ مِنَ السَّنَةِ وَيَقُولُونَ : هَذَا يَوْمُ مَوْلِدِ الشَّيْخِ ، وَيَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ وَرُبَّمَا يَرْقُصُونَ فِيهِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ شَرْعًا ، وَعَلَى وَلِيِّ الشَّرْعِ رَدْعُهُمْ عَلَى ذَلِكَ ، وَإِنْكَارُهُ عَلَيْهِمْ وَإِبْطَالُهُ .
وَقَال ابْنُ تَيْمِيَّةَ : الْحَدِيثُ يُشِيرُ إِلَى أَنَّ مَا يَنَالُنِي مِنْكُمْ مِنَ الصَّلاَةِ وَالسَّلاَمِ يَحْصُل مَعَ قُرْبِكُمْ مِنْ قَبْرِي وَبُعْدِكُمْ عَنْهُ ، فَلاَ حَاجَةَ بِكُمْ إِلَى اتِّخَاذِهِ عِيدًا(3)
صِفَةُ زِيَارَتِهِ - صلى الله عليه وسلم - :
__________
(1) - فيض القدير - (ج 4 / ص 199)( 5016)
(2) - وصلوا عليَّ فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم " . 6 .
(3) - عون المعبود 6 / 32 - 33 .(2/154)
إِذَا أَرَادَ الزَّائِرُ زِيَارَتَهُ - صلى الله عليه وسلم - فَلْيَنْوِ زِيَارَةَ مَسْجِدِهِ الشَّرِيفِ أَيْضًا ، لِتَحْصُل سُنَّةُ زِيَارَةِ الْمَسْجِدِ وَثَوَابِهَا .
وَإِذَا عَايَنَ بَسَاتِينَ الْمَدِينَةِ صَلَّى عَلَيْهِ - صلى الله عليه وسلم - وَقَال : اللَّهُمَّ هَذَا حَرَمُ نَبِيِّكَ فَاجْعَلْهُ وِقَايَةً لِي مِنَ النَّارِ وَأَمَانًا مِنَ الْعَذَابِ وَسُوءِ الْحِسَابِ .(1)
وَإِذَا وَصَل بَابَ الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ دَخَل وَهُوَ يَقُول الذِّكْرَ الْمَعْرُوفَ عِنْدَ دُخُول الْمَسَاجِدِ : " اللَّهُمَّ صَل عَلَى مُحَمَّدٍ ، رَبِّ اغْفِرْ لِي ذُنُوبِي وَافْتَحْ لِي أَبْوَابَ رَحْمَتِكَ" .
وَعِنْدَ الْخُرُوجِ يَقُول ذَلِكَ ، لَكِنْ بِلَفْظِ " وَافْتَحْ لِي أَبْوَابَ فَضْلِكَ " .(2)
وَيُصَلِّي رَكْعَتَيْ تَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ، لحديث أَبِى قَتَادَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « إِذَا دَخَلَ أَحَدُكُمُ الْمَسْجِدَ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ يَجْلِسَ »(3)
__________
(1) - الاختيار لتعليل المختار 1 / 173 .
(2) - صحيح مسلم (1685 ) وأبو داود (465 ) والترمذي (315 ) وهو صحيح
(3) - صحيح مسلم (1687 ) .(2/155)
ثُمَّ يَقْصِدُ الْحُجْرَةَ الشَّرِيفَةَ الَّتِي فِيهَا قَبْرُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَيَسْتَدْبِرُ الْقِبْلَةَ وَيَسْتَقْبِل الْقَبْرَ وَيَقِفُ أَمَامَ النَّافِذَةِ الدَّائِرِيَّةِ الْيُسْرَى مُبْتَعِدًا عَنْهَا قَدْرَ أَرْبَعَةِ أَذْرُعٍ إِجْلاَلاً وَتَأَدُّبًا مَعَ الْمُصْطَفَى - صلى الله عليه وسلم - فَهُوَ أَمَامَ وَجْهِ رَسُول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَيُسَلِّمُ عَلَيْهِ دُونَ أَنْ يَرْفَعَ صَوْتَهُ ، بِأَيِّ صِيغَةٍ تَحْضُرُهُ مِنْ صِيَغِ التَّسْلِيمِ عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَيُرْدِفُ ذَلِكَ بِالصَّلاَةِ عَلَيْهِ - صلى الله عليه وسلم - بِمَا يَحْضُرُهُ أَيْضًا .
وَقَدْ أَوْرَدَ الْعُلَمَاءُ عِبَارَاتٍ كَثِيرَةً صَاغُوهَا لِتَعْلِيمِ النَّاسِ ، ضَمَّنُوهَا ثَنَاءً عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - .
فَيَدْعُو الإِْنْسَانُ بِدُعَاءِ زِيَارَةِ الْقُبُورِ وَيُصَلِّي وَيُسَلِّمُ عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَيَدْعُو بِمَا يَفْتَحُ اللَّهُ عَلَيْهِ .
وَإِنْ كَانَ أَحَدٌ قَدْ أَوْصَاهُ بِالسَّلاَمِ عَلَيْهِ - صلى الله عليه وسلم - فَلْيَقُل : السَّلاَمُ عَلَيْكَ يَا رَسُول اللَّهِ مِنْ فُلاَنِ بْنِ فُلاَنٍ ، أَوْ فُلاَنِ بْنِ فُلاَنٍ يُسَلِّمُ عَلَيْكَ يَا رَسُول اللَّهِ ، أَوْ مَا شَابَهُ ذَلِكَ .
ثُمَّ يَتَأَخَّرُ إِلَى صَوْبِ الْيَمِينِ قَدْرَ ذِرَاعِ الْيَدِ لِلسَّلاَمِ عَلَى الصِّدِّيقِ الأَْكْبَرِ سَيِّدِنَا أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، لأَِنَّ رَأْسَهُ عِنْدَ كَتِفِ رَسُول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَيُسَلِّمُ عَلَيْهِ بِمَا يَحْضُرُهُ مِنَ الأَْلْفَاظِ الَّتِي تَلِيقُ بِمَقَامِ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .(2/156)
ثُمَّ يَتَنَحَّى صَوْبَ الْيَمِينِ قَدْرَ ذِرَاعٍ لِلسَّلاَمِ عَلَى الْفَارُوقِ الَّذِي أَعَزَّ اللَّهُ بِهِ الإِْسْلاَمَ سَيِّدِنَا عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَيُسَلِّمُ عَلَيْهِ بِمَا يَحْضُرُهُ مِنَ الأَْلْفَاظِ الَّتِي تَلِيقُ بِمَقَامِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .
ثُمَّ يَرْجِعُ لِيَقِفَ قُبَالَةَ رَسُول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَالأَْوَّل ، وَيَدْعُو مُتَشَفِّعًا بِهِ بِمَا شَاءَ مِنَ الْخَيْرَاتِ لَهُ وَلِمَنْ يُحِبُّ وَلِلْمُسْلِمِينَ . وَيُرَاعِي فِي كُل ذَلِكَ أَحْوَال الزِّحَامِ بِحَيْثُ لاَ يُؤْذِي مُسْلِمًا(1).
- - - - - - - - - - - - - - -
زِيَارَةُ الْقُبُورِ
حُكْمُ زِيَارَةِ الْقُبُورِ :
__________
(1) - انظر الاختيار 1 / 174 و 175 ، والمجموع للنووي 8 / 216 - 217 ، وفتح القدير 2 / 337 ، والمغني لابن قدامة 3 / 558 وغيرها من مراجع الفقه ففيها كثير من الصيغ المختارة للزيارة .(2/157)
لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّهُ تُنْدَبُ لِلرِّجَال زِيَارَةُ الْقُبُورِ ، لِقَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم - : إِنِّي كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ فَزُورُوهَا ، فَإِنَّهَا تُذَكِّرُ بِالآْخِرَةِ ،(1)وَلأَِنَّهُ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَخْرُجُ إِلَى الْبَقِيعِ لِزِيَارَةِ الْمَوْتَى فعَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - - كُلَّمَا كَانَ لَيْلَتُهَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - - يَخْرُجُ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ إِلَى الْبَقِيعِ فَيَقُولُ " السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ وَأَتَاكُمْ مَا تُوعَدُونَ غَدًا مُؤَجَّلُونَ وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لاَحِقُونَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لأَهْلِ بَقِيعِ الْغَرْقَدِ "(2). وَزَادَ فِي رِوَايَةٍ : عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُعَلِّمُهُمْ إِذَا خَرَجُوا إِلَى الْمَقَابِرِ فَكَانَ قَائِلُهُمْ يَقُولُ - فِى رِوَايَةِ أَبِى بَكْرٍ - السَّلاَمُ عَلَى أَهْلِ الدِّيَارِ - وَفِى رِوَايَةِ زُهَيْرٍ - السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الدِّيَارِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَلاَحِقُونَ أَسْأَلُ اللَّهَ لَنَا وَلَكُمُ الْعَافِيَةَ.(3)
__________
(1) - صحيح مسلم (2305 )
(2) - صحيح مسلم (2299 )
(3) - صحيح مسلم (2302 )
وفي شرح النووي على مسلم - (ج 3 / ص 401)
فِيهِ : اِسْتِحْبَاب هَذَا الْقَوْل لِزَائِرِ الْقُبُور . وَفِيهِ : تَرْجِيح لِقَوْلِ مَنْ قَالَ : فِي قَوْله ( سَلَام عَلَيْكُمْ دَار قَوْم مُؤْمِنِينَ ) أَنَّ مَعْنَاهُ أَهْل دَار قَوْم مُؤْمِنِينَ . وَفِيهِ : أَنَّ الْمُسْلِم وَالْمُؤْمِن قَدْ يَكُونَانِ بِمَعْنًى وَاحِد ، وَعَطْفُ أَحَدهمَا عَلَى الْآخَر لِاخْتِلَافِ اللَّفْظ وَهُوَ بِمَعْنَى قَوْله تَعَالَى : { فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (36) } [الذاريات/35-37] وَلَا يَجُوز أَنْ يَكُون الْمُرَاد بِالْمُسْلِمِ فِي هَذَا الْحَدِيث غَيْر الْمُؤْمِن ؛ لِأَنَّ الْمُؤْمِن إِنْ كَانَ مُنَافِقًا لَا يَجُوز السَّلَام عَلَيْهِ وَالتَّرَحُّم . وَفِيهِ : دَلِيل لِمَنْ جَوَّزَ لِلنِّسَاءِ زِيَارَة الْقُبُور ، وَفِيهَا خِلَاف لِلْعُلَمَاءِ وَهِيَ ثَلَاثَة أَوْجُه لِأَصْحَابِنَا :
أَحَدهَا : تَحْرِيمهَا عَلَيْهِنَّ لِحَدِيثِ : " لَعَنَ اللَّه زَوَّارَات الْقُبُور "
وَالثَّانِي : يُكْرَه . وَالثَّالِث : يُبَاح ، وَيُسْتَدَلّ لَهُ بِهَذَا الْحَدِيث وَبِحَدِيثِ " كُنْت نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَة الْقُبُور فَزُورُوهَا " وَيُجَاب عَنْ هَذَا بِأَنْ نَهَيْتُكُمْ ضَمِير ذُكُور فَلَا يَدْخُل فِيهِ النِّسَاء عَلَى الْمَذْهَب الصَّحِيح الْمُخْتَار فِي الْأُصُول . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .(2/158)
أَمَّا النِّسَاءُ ، فَمَذْهَبُ الْجُمْهُورِ أَنَّهُ تُكْرَهُ زِيَارَتُهُنَّ لِلْقُبُورِ ، لحديثِ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لَعَنَ زَوَّارَاتِ الْقُبُورِ(1). .
وَلأَِنَّ النِّسَاءَ فِيهِنَّ رِقَّةُ قَلْبٍ ، وَكَثْرَةُ جَزَعٍ ، وَقِلَّةُ احْتِمَالٍ لِلْمَصَائِبِ ، وَهَذَا مَظِنَّةٌ لِطَلَبِ بُكَائِهِنَّ ، وَرَفْعِ أَصْوَاتِهِنَّ .
__________
(1) - سنن الترمذى (1076 ) وقَالَ أَبُو عِيسَى : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَقَدْ رَأَى بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ هَذَا كَانَ قَبْلَ أَنْ يُرَخِّصَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - فِى زِيَارَةِ الْقُبُورِ فَلَمَّا رَخَّصَ دَخَلَ فِى رُخْصَتِهِ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ إِنَّمَا كُرِهَ زِيَارَةُ الْقُبُورِ لِلنِّسَاءِ لِقِلَّةِ صَبْرِهِنَّ وَكَثْرَةِ جَزَعِهِنَّ.والآحاد والمثاني لابن أبي عاصم (1826) والمستدرك للحاكم (1385) وهو صحيح
وانظر مجموع الفتاوى - (ج 20 / ص 276) ومجموع الفتاوى - (ج 24 / ص 360) وفتاوى الأزهر - (ج 9 / ص 462) ونيل الأوطار - (ج 6 / ص 330) والروضة الندية - (ج 1 / ص 321) والسيل الجرار المتدفق على حدائق الأزهار - الرقمية - (ج 1 / ص 214) والتاج والإكليل لمختصر خليل - (ج 4 / ص 29) وشرح الوجيز - (ج 5 / ص 248) والمجموع شرح المهذب - (ج 5 / ص 309) وحاشيتا قليوبي - وعميرة - (ج 5 / ص 6) وتحفة المحتاج في شرح المنهاج - (ج 11 / ص 406) والشرح الكبير لابن قدامة - (ج 2 / ص 387) وشرح منتهى الإرادات - (ج 2 / ص 484) والمغني - (ج 4 / ص 470)(2/159)
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ - فِي الأَْصَحِّ - إِلَى أَنَّهُ يُنْدَبُ لِلنِّسَاءِ زِيَارَةُ الْقُبُورِ كَمَا يُنْدَبُ لِلرِّجَال ، لِقَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم - : إِنِّي كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ الْحَدِيثُ(1).
وَقَال الْخَيْرُ الرَّمْلِيُّ : إِنْ كَانَ ذَلِكَ لِتَجْدِيدِ الْحُزْنِ وَالْبُكَاءِ وَالنَّدْبِ وَمَا جَرَتْ بِهِ عَادَتُهُنَّ فَلاَ تَجُوزُ ، وَعَلَيْهِ حُمِل حَدِيثُ لَعَنَ اللَّهُ زَوَّارَاتِ الْقُبُورِ . وَإِنْ كَانَ لِلاِعْتِبَارِ وَالتَّرَحُّمِ مِنْ غَيْرِ بُكَاءٍ ، وَالتَّبَرُّكِ بِزِيَارَةِ قُبُورِ الصَّالِحِينَ فَلاَ بَأْسَ - إِذَا كُنَّ عَجَائِزَ - وَيُكْرَهُ إِذَا كُنَّ شَوَابَّ ، كَحُضُورِ الْجَمَاعَةِ فِي الْمَسَاجِدِ .
قَال ابْنُ عَابِدِينَ : وَهُوَ تَوْفِيقٌ حَسَنٌ .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ : تُكْرَهُ زِيَارَةُ الْقُبُورِ لِلنِّسَاءِ ، لِحَدِيثِ أُمِّ عَطِيَّةَ - رضى الله عنها – قَالَتْ: نُهِينَا عَنِ اتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ ، وَلَمْ يُعْزَمْ عَلَيْنَا(2).
__________
(1) - حديث : " إني كنت نهيتكم . . . ".
(2) - صحيح البخارى (1278 ) ومسلم (2209)
وفي شرح ابن بطال - (ج 5 / ص 292) :قال ابن المنذر: روينا عن ابن مسعود، وابن عمر، وأبى أمامة، وعائشة أنهم كرهوا للنساء اتباع الجنائز، وكره ذلك أبو أمامة، ومسروق، والنخعى، والحسن، ومحمد بن سيرين، وهو قول الأوزاعى، وأحمد، وإسحاق، وقال الثورى: اتباع النساء الجنازة بدعة.
وروى جواز اتباع النساء الجنازة عن ابن عباس، والقاسم، وسالم، وعن الزهرى، وربيعة، وأبى الزناد مثله، ورخص مالك فى ذلك، وقال: قد خرج النساء قديمًا فى الجنائز، وخرجت أسماء تقود فرس الزبير، وهى حامل، وقال: ما أرى بخروجهن بأسًا إلا فى الأمر المستنكر. قال ابن المنذر: وقد احتج من كره ذلك بحديث أم عطية.
قال المؤلف: واحتج به من أجاز ذلك أيضًا. وقال المهلب: هذا الحديث يدل على أن النهى من النبى، - صلى الله عليه وسلم - ، على درجات، فيه نهى تحريم، ونهى تنزيه، ونهى كراهية، وإنما قالت أم عطية: « ولم يعزم علينا » لأنها فهمت من النبى - صلى الله عليه وسلم - أن ذلك النهى إنما أراد به ترك ما كانت الجاهلية تقوله من الهجر وزور الكلام وقبيحه، ونسبة الأفعال إلى الدهر، فهى إذا تركت ذلك وبدلت منه الدعاء والترحم عليه كان خفيفًا، فهذا يدل أن الأوامر تحتاج إلى معرفة تلقى الصحابة لها، وينظر كيف تلقوها.(2/160)
فَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ يَقَعُ مِنْهُنَّ مُحَرَّمٌ ، حَرُمَتْ زِيَارَتُهُنَّ الْقُبُورَ ، وَعَلَيْهِ يُحْمَل قَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم - : لَعَنَ اللَّهُ زَوَّارَاتِ الْقُبُورِ .
قَالُوا : وَإِنِ اجْتَازَتِ امْرَأَةٌ بِقَبْرٍ فِي طَرِيقِهَا فَسَلَّمَتْ عَلَيْهِ وَدَعَتْ لَهُ فَحَسَنٌ ؛ لأَِنَّهَا لَمْ تَخْرُجْ لِذَلِكَ .
وَيُسْتَثْنَى مِنَ الْكَرَاهَةِ زِيَارَةُ قَبْرِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، فَإِنَّهُ يُنْدَبُ لَهُنَّ زِيَارَتُهُ ، وَكَذَا قُبُورُ الأَْنْبِيَاءِ غَيْرِهِ عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ، لِعُمُومِ الأَْدِلَّةِ فِي طَلَبِ زِيَارَتِهِ - صلى الله عليه وسلم - .(1)
زِيَارَةُ قَبْرِ الْكَافِرِ :
ذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّ زِيَارَة قَبْرِ الْكَافِرِ جَائِزَةٌ .وَقَال الْمَاوَرْدِيُّ : تَحْرُمُ زِيَارَةُ قَبْرِ الْكَافِرِ .
قَال الْحَنَابِلَةُ : وَلاَ يُسَلِّمُ مَنْ زَارَ قَبْرَ كَافِرٍ عَلَيْهِ ، وَلاَ يَدْعُو لَهُ بِالْمَغْفِرَةِ(2).
شَدُّ الرِّحَال لِزِيَارَةِ الْقُبُورِ :
ذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ شَدُّ الرَّحْل لِزِيَارَةِ الْقُبُورِ ، لِعُمُومِ الأَْدِلَّةِ ، وَخُصُوصًا قُبُورُ الأَْنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ .
__________
(1) - ابن عابدين 1 / 604 ، الشرح الصغير 1 / 227 ، شرح البهجة 2 / 120 ، كشاف القناع 2 / 150 ، غاية المنتهى 1 / 256 ، المغني 2 / 565 ، 570 .
(2) - أسنى المطالب 1 / 331 ، كشاف القناع 2 / 150 ، الجمل على المنهج 2 / 209 .(2/161)
وَمَنَعَ مِنْهُ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ ، وَابْنُ تَيْمِيَّةَ - مِنَ الْحَنَابِلَةِ - لِقَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم - : لاَ تُشَدُّ الرِّحَال إِلاَّ إِلَى ثَلاَثَةِ مَسَاجِدَ : مَسْجِدِي هَذَا ، وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ، وَالْمَسْجِدِ الأَْقْصَى ،(1)وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ فِي الْمُسْنَدِ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ أَنَّهُ قَالَ لَقِىَ أَبُو بَصْرَةَ الْغِفَارِىُّ أَبَا هُرَيْرَةَ وَهُوَ جَاءٍ مِنَ الطُّورِ فَقَالَ مِنْ أَيْنَ أَقْبَلْتَ قَالَ مِنَ الطُّورِ صَلَّيْتُ فِيهِ. قَالَ أَمَا لَوْ أَدْرَكْتُكَ قَبْلَ أَنْ تَرْحَلَ إِلَيْهِ مَا رَحَلْتَ إِنِّى سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ " لاَ تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلاَّ إِلَى ثَلاَثِ مَسَاجِدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَسْجِدِى هَذَا والْمَسْجِدِ الأَقْصَى ".(2).
وَنَقَل ابْنُ تَيْمِيَّةَ هَذَا الْمَذْهَبَ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ(3).
وَحَمَل الْقَائِلُونَ بِالْجَوَازِ الْحَدِيثَ عَلَى أَنَّهُ خَاصٌّ بِالْمَسَاجِدِ ، فَلاَ تُشَدُّ الرِّحَال إِلاَّ لِثَلاَثَةٍ مِنْهَا . بِدَلِيل جَوَازِ شَدِّ الرِّحَال لِطَلَبِ الْعِلْمِ وَلِلتِّجَارَةِ ، وَفِي رِوَايَةٍ " لا يَنْبَغِى لِلْمَطِىِّ أَنْ تُشَدَّ رِحَالُهُ إِلَى مَسْجِدٍ يَنْبَغِى فِيهِ الصَّلاَةُ غَيْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ والْمَسْجِدِ الأَقْصَى وَمَسْجِدِى هَذَا "(4).
__________
(1) - مر تخريجه وهو حديث صحيح
(2) - مسند أحمد (24579) صحيح
(3) - ابن عابدين 1 / 604 ، فتح الباري 3 / 65 ، سبل السلام 4 / 213 ، مطالب أولي النهى 2 / 931 ، شرح البهجة 2 / 120 .
(4) - مسند أحمد(11924) صحيح لغيره(2/162)
كما أن الحديث ينهى عن شدِّ الرحال لغير المساجد الثلاث ، وليس هناك نصٌّ صحيحٌ صريحٌ يقول : لا تشدُّ الرحالُ إلى القبور ، فحمله على القبور ، غير صحيح ، ولا يقول بهذا الحمل أحد لأنه إما مخصوص بالمساجد أو عام ، والعموم لا يقول به واحد من المسلمين أصلاً ، فبطل الاحتجاج بهذا الحديث على منع شدِّ الرحل لزيارة القبور .
زِيَارَةُ قَبْرِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - :
لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي اسْتِحْبَابِ زِيَارَةِ قَبْرِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَفِي زِيَارَةِ قُبُورِ الأَْنْبِيَاءِ وَالأَْوْلِيَاءِ .
وفي كتاب الفقه على المذاهب الأربعة للجزيري: " لا ريب في أن زيارة قبر المصطفى - صلى الله عليه وسلم - من أعظم القرب وأجلها شأنا فإن بقعة ضمت خير الرسل وأكرمهم عند الله لها شأن خاص ومزية يعجز القلم عن وصفها ،على أن الغرض الصحيح من زيارة القبور هو تذكر الآخرة كما ورد في الحديث الصحيح الذي نص على الإذن في زيارة القبور للموعظة الحسنة وتذكر الآخرة، فمتى كانت الزيارة لغرض صحيح يقرُّه صاحب الشريعة كانت ممدوحة من جميع الجهات، ومما لا خفاء فيه أن زيارة قبر المصطفى - صلى الله عليه وسلم - تفعل في نفوس أولي الألباب أكثر مما تفعله أي عبادة أخرى، فالذي يقف على قبر المصطفى ذاكرا ما لاقاه - صلى الله عليه وسلم - في سبيل الدعوة إلى الله وإخراج الناس من ظلمات الشرك إلى نور الهداية وما بثه من مكارم الأخلاق في العالم أجمع وما محاه من فساد عام شامل ،وما جاء به من شريعة مبنية على جلب المصالح للمجتمع الإنساني ودرء المفاسد عنه، لا بد أن يمتلئ قلبه حبًّا لذلك الرسول الذي جاهد في الله حق جهاده ،ولا بد أن يحبب إليه العمل بكلِّ ما جاء به ،ولا بد أن يستحي من معصية الله ورسوله وذلك هو الفوز العظيم .(2/163)
إن زيارة قبر المصطفى - صلى الله عليه وسلم - ومشاهدة مهبط الوحي وزيارة العاملين المخلصين في الذود عن الدين الله تعالى الذين ضحوا بأرواحهم وأموالهم في سبيل الله وحده، بدون أن تؤثر عليهم لذة ملك أو تستولي على أنفسهم شهوة من متاع الحياة الدنيا وزينتها، بل خرجوا من أموالهم الكثيرة ولذاتهم التي لا حد لها إلى الكفاح والنضال في سبيل الله ومن أجل الله فنصروا دين الله - ،لهي جديرةٌ بأن تكون من أجلِّ القرب لما تحدثه في أنفس الزائرين من عظات بليغة تحملهم على القدوة بهؤلاء في أعمالهم وأقوالهم ،ولو أن المسلمين استمسكوا حقا بما استمسك به سكان هؤلاء القبور الذين هزموا الفرس والرومان إبان قوتهم ،مع أن قوة المسلمين المادية يومئذ لا تكاد تذكر بجانب قوة أعدائهم لكان لهم شأن آخر، ولما تغلب عليهم أحد ، فزيارة قبر المصطفى - صلى الله عليه وسلم - وزيارة أصحابه العاملين من أجل القرب وأشدها تأثيرا على نفوس العاملين المخلصين الذين يعبدون الله وحده ويأتمرون بما أمرهم به رسوله وينتهون عما نهاهم عنه وأولئك هم الفائزون.
فإذا لم يكن في زيارة قبر المصطفى - صلى الله عليه وسلم - سوى هذه الموعظة الحسنة وهذا الأثر الجليل لكفى في كونها من أجلِّ الأعمال الصالحة التي يحثُّ عليها الدين الحنيف ،وكيف يسكن قلب المؤمن المسلم الذي يستطيع أن يحجَّ البيت ويستطيع أن يزور المصطفى - صلى الله عليه وسلم - ولا يبادر إلى هذا العمل ؟
كيف يرضى المؤمن القادر أن يكون بمكة قريبا من المدينة مهبط الوحي ولا تهتز نفسه شوقا إلى زيارتها : وزيارة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - ؟(2/164)
على أن على دعوة سيدنا إبراهيم صلوات الله عليه متحققة في أهل المدينة أيضا، فإن الله تعالى حكي عنه {رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} (37) سورة إبراهيم ،فأهل المدينة أيضا وهي البلدة التي نشأ منها عزُّ الإسلام . وعلى أهلها من الأنصار ومن هاجر إليها من المؤمنين المخلصين قيامُ الدين الحنيف، في حاجة إلى من يزورهم ويتبادلُ معهم المنافع، فعمرانها والإحسا إلى أهلها وتبادل المنافع فيها من أقدس الأمور وأعظمها شأنا، وما كان لقادر أن يصل إلى مكة ولا يزور المدينة ويستمتع بمشاهدة أماكن مهبط الوحي ومنبع الدين الحنيف .
أما ورد من الأحاديث في زيارتها فسواء كان سنده صحيحا أو لا فإنه في الواقع لا حاجة إليه بعد ما بينا من فوائد زيارتها ومحاسنها التي يقرُّها الدِّين وتحثُّ عليها قواعده العامة .
هذا وقد بين الفقهاء آداب زيارة قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - وزيارة المساجد الأخرى على الوجه الآتي :(2/165)
قالوا : إذا توجه لزيارة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - يكثر من الصلاة والسلام عليه مدة الطريق ويصلي في طريقه من مكة إلى المدينة في المساجد التي يمر بها وهي عشرون مسجدا متى أمكنه ذلك، وإذا عاين حيطان المدينة يصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم - ويقول : اللهم هذا حرم نبيك فاجعله وقاية لي من النار وأمانا من العذاب وسوء الحساب ،ويغتسل قبل الدخول وبعده إن أمكنه، ويتطيب ،ويلبس أحسن ثيابه، ويدخلها متواضعا عليه السكينة والوقار ،وإذا دخل المدينة يقول: اللَّهُمَّ رَبَّ السَّموَاتِ، وَمَا أَظْلَلْنَ وَرَبِّ الأَرَضِينَ وَمَا أَقْلَلْنَ، وَرَبِّ الشَّيَاطِينِ وَمَا أَضْلَلْنَ، وَرَبِّ الرِّيَاحِ وَمَا ذَرَيْنَ، أَسْأَلُكُ خَيْرَ هَذِهِ الْقَرْيَةِ وَخَيْرَ أَهْلِهَا، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّهَا وَشَرِّ أَهْلِهَا وَشَرِّ مَا فِيهَا(1)، اللهم هذا حرم رسولك فاجعل دخولي فيه وقاية لي من النار وأمانا من العذاب وسوء الحساب .
وإذا دخل المسجد فعل ما يفعله في سائر المساجد من تقديم رجله اليمنى ويقول : " اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي الْيَوْمَ أَوْجَهَ مَنْ تَوَجَّهَ إِلَيْكَ ، وَأَقْرَبَ مَنْ تَقَرَّبَ إِلَيْكَ ، وَأَنْجَحَ مَنْ طَلَبَ وَدَعَا " ويصلي عند منبره ركعتين ويقف بحيث يكون عمود المنبر بحذاء منكبه الأيمن وهو موقفه عليه السلام وهو بين القبر الشريف والمنبر ،ثم يسجد شكرا لله تعالى على ما وفقه ويدعوه بما يحب ثم ينهض فيتوجه إلى قبره - صلى الله عليه وسلم - فيقف عند رأسه الشريف مستقبل القبلة ثم يدنو منه ثلاثة أذرع أو أربعة ولا يدنو أكثر من ذلك ولا يضع يده على جدار التربة ويقف كما يقف في الصلاة ويمثل صورته الكريمة البهية كأنه نائم في لحده عالم به يسمع كلامه ثم يقول :
__________
(1) - المعجم الكبير للطبراني - (ج 16 / ص 217)(18337 ) صحيح لغيره(2/166)
السلام عليك يا نبي الله ورحمة الله وبركاته أشهد أنك رسول الله فقد بلغت الرسالة وأديت الأمانة ونصحت الأمة وجاهدت في أمر الله حتى قبض الله روحك حميدا محمودا فجزاك الله عن صغيرنا وكبيرنا خير الجزاء وصلى عليك أفضل الصلاة وأزكاها ،وأتم التحية وأنماها، اللهم اجعل نبينا يوم القيامة أقرب النبيين واسقنا من كأسه وارزقنا من شفاعته واجعلنا من رفقائه يوم القيامة، اللهم لا تجعل هذا آخر العهد بقبر نبينا عليه السلام وارزقنا العود إليه يا ذا الجلال والإكرام، ولا يرفع صوته ولا يخفضه كثيرا ويبلغه سلام من أوصاه فيقول : السلام عليك يا رسول الله من فلان ابن فلان يتشفع بك إلى ربك فاشفع له ولجميع المسلمين، ثم يقف عند وجهه مستدبرا القبلة ويصلي عليه ما شاء ويتحول قدر ذراع حتى يحاذي رأس الصديق رضي الله عنه ويقول : السلام عليك يا خليفة رسول الله السلام عليك يا صاحب رسول الله في الغار السلام عليك يا رفيقه في الأسفار السلام عليك يا أمينه في الأسرار ،جزاك الله عنا أفضل ما جزى إماما عن أمه نبيه، ولقد خلفته بأحسن خلف وسلكت طريقه ومنهاجه خير مسلك وقاتلت أهل الردة والبدع ومهدت الإسلام ووصلت الأرحام ،ولم تزل قائما للحق ناصرا لأهله حتى أتاك اليقين، السلام عليك ورحمة الله وبركاته، اللهم أمتنا على حبِّه ولا تخيِّب سعينا في زيارته برحمتك يا كريم، ثم يتحول حتى يحاذي قبر عمر رضي الله عنه . ويقول : السلام عليك يا أمير المؤمنين السلام عليك يا مظهر الإسلام السلام عليك يا مكسر الأصنام . جزاك الله عنا أفضل الأيتام . ووصلت الأرحام . وقوي بك الإسلام . وكنت للمسلمين إماما مرضيا . وهاديا مهديا . جمعت من شملهم . وأغنيت فقيرهم . وجبرت كسرهم . السلام عليك ورحمة الله وبركاته . ثم يرجع قدر نصف ذراع فيقول : السلام عليكما يا ضجيعي رسول الله . ورفيقيه . ووزيريه . ومشيريه والمعاونين له على القيام في الدين .(2/167)
القائمين بعده بمصالح المسلمين جزاكم الله أحسن الجزاء
ثم يدعو لنفسه ووالديه ولمن أوصاه بالدعاء ولجميع المسلمين . ثم يقف عند رأسه الشريف كالأول : ويقول اللهم إنك قلت وقولك الحق : {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا} (64) سورة النساء . وقد جئناك سامعين قولك . طائعين أمرك . متشفعين بنبيك " { رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} (10) سورة الحشر " ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار . سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين . والحمد لله رب العالمين ، ويدعو بما يحضره من الدعاء ثم يأتي أسطوانة أبي لبابة التي ربط نفسه فيها حتى تاب الله عله، وهي بين القبر والمنبر . فيصلي ركعتين . ويتوب إلى الله . ويدعو بما شاء . ثم يأتي الروضة . وهي كالحوض المربع . فيصلي فيها ما تيسر له ويدعو ويكثر من التسبيح والثناء على الله تعالى والاستغفار . ثم يأتي المنبر فيضع يده على الرمانة التي كان - صلى الله عليه وسلم - يضع يده عليها إذا خطب . لتناله بركة الرسول - صلى الله عليه وسلم - . فيصلي عليه . ويدعو بما شاء . ويتعوذ برحمته من سخطه وغضبه . ثم يأتي الأسطوانة الخنانة وهي التي فيها بقية الجذع الذي حنَّ إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - حين تركه وخطب على المنبر .(2/168)
ويستحب بعد زيارته عليه السلام أن يخرج إلى البقيع . ويأتي المشاهد والمزارات فيزور العباس ومعه الحسن بن علي . وزين العابدين . وابنه محمد الباقر . وابنه جعفر الصادق . ويزور أمير المؤمنين سيدنا عثمان وقبر إبراهيم ابن النبي - صلى الله عليه وسلم - . وجماعة من أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - وعمته صفية وكثيرا من الصحابة والتابعين . خصوصا سيدنا مالكا وسيدنا نافعا . ويستحب أن يزور شهداء أحد يوم الخميس خصوصا قبر سيد الشهداء سيدنا الحمزة ويقول : {سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ } (24) سورة الرعد ، السلام عليكم دار قوم مؤمنين وإنا إن شاء الله بكم لا حقون .
ويقرأ آية الكرسي وسورة الإخلاص ، ويستحبُّ أن يأتي مسجد قباء يوم السبت ويدعو بقوله : يا صريخ المستصرخين ويا غياث المستغيثين يا مفرج كرب المكروبين ويا مجيب دعوة المضطرين صل على محمد وآله واكشف كربي وحزني كما كشفت عن رسولك كربه وحزنه في هذا المقام، يا حنان يا منان يا كثير المعروف ،ويا دائم الإحسان يا أرحم الراحمين.
ويستحب له أن يصلي الصلاة كلها في مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - ما دام في المدينة وإذا أراد الرجوع إلى بلده استحب له أن يودع المسجد بركعتين ويدعو بما أحب ويأتي قبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويدعو بما شاء والله مجيب الدعاء(1).
وفي فتاوى الأزهر(2): " زيارة قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - ، أو على الأصح زيارته في قبره ، على رأس زيارة القبور استحبابا . وقد عقد القسطلانى فى المواهب اللدنية فصلا خاصا بها ، كما عقد الشيخ السمهودى فى كتابه " وفاء الوفا " فصلا خاصا بها أيضا ، أورد فيه أحاديث كثيرة قال الذهبي عنها : طرقها لينة يقوي بعضها بعضا ، وليس فى رواتها متهم بالكذب .
__________
(1) - الفقه على المذاهب الأربعة - (ج 1 / ص 1100)
(2) - فتاوى الأزهر - (ج 8 / ص 106)(2/169)
نقل القاضي عياض أن السفر بقصد الزيارة غايته مسجد المدينة لمجاورته القبر الشريف ، وقصد الزائر الحلول فيه لتعظيم من حلَّ بتلك البقعة ، كما لو كان حيًّا ، وليس القصد تعظيم بقعة القبر لعينها بل من حلَّ فيها .
إن زيارته - صلى الله عليه وسلم - زيارة لمسجده الذي ورد في فضله قوله : " صَلاَةٌ فِى مَسْجِدِى هَذَا خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ صَلاَةٍ فِيمَا سِوَاهُ إِلاَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ "(1)وزيارة قبور الأنبياء والصالحين بما فيها من التبرك إلى جانب ما ذكر ، مستحبة كما قال الإمام الغزالى في كتابه " الإحياء " والتبرك في حدِّ ذاته غير ممنوع ، ولكن قد تكون له مظاهر لا يوافق عليها الدين ، منها :
1 - الطواف حول القبر ، وهو مكروه لما فيه من التشبه بالطواف حول البيت الحرام.
__________
(1) - صحيح البخارى(1190 ) ومسلم (3440 )(2/170)
2 - التمسح بالقبر وتقبيله للتبرك ، فقد قال فيه الإمام الغزالي(1): وليس من السنَّة أن يمس الجدار ولا أن يقبله ، بل الوقوف من بعد أقرب إلى الاحترام . وعن أحمد بن حنبل فى ذلك روايتان . ففي " خلاصة الوفا " ما نصه : وفى كتاب العلل والسؤالات لعبد الله بن أحمد بن حنبل قال : سألت أبي عن الرجل يمس قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - يتبرك به ويقبله ويفعل بالمنبر مثل ذلك ، رجاء ثواب الله تعالى ، فقال : لا بأس به . قال أبو بكر الأثرم : قلت لأبي عبد الله -يعني أحمد بن حبل - : قبر النبى - صلى الله عليه وسلم - يمس ويتمسح به ؟ فقال : ما أعرف هذا . ولعل رواية الجواز خاصة بالتبرك بالمنبر لا بالقبر ، فقد جاء فى " الإحياء " للغزالى عن التبرك بالآثار النبوية : ويستحب أن يضع يده على الرمانة السفلى التى كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يضع يده عليها عند الخطبة . وجاء عن أحمد بن حنبل منقولا عن ابن عمر ، قال ابن تيمية فى كتابه "الصراط المستقيم "(2):
فقد رخص أحمد وغيره في التمسح بالمنبر والرمانة ، التي هي موضع مقعد النبي صلى الله عليه وسلم ويده ، ولم يرخصوا في التمسح بقبره . وقد حكى بعض أصحابنا رواية في مسح قبره ، لأن أحمد شيع بعض الموتى ، فوضع يده على قبره يدعو له . والفرق بين الموضعين ظاهر ..
__________
(1) - إحياء علوم الدين - (ج 1 / ص 270)
(2) - اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم - (ج 2 / ص 216)(2/171)
وعَنْ أَبِى بُرْدَةَ قَالَ قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ فَلَقِيَنِى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلاَمٍ فَقَالَ لِى انْطَلِقْ إِلَى الْمَنْزِلِ فَأَسْقِيَكَ فِى قَدَحٍ شَرِبَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، وَتُصَلِّى فِى مَسْجِدٍ صَلَّى فِيهِ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - . فَانْطَلَقْتُ مَعَهُ ، فَسَقَانِى سَوِيقًا ، وَأَطْعَمَنِى تَمْرًا ، وَصَلَّيْتُ فِى مَسْجِدِهِ .أخرجه البخاري(1).
3 - الدعاء عند القبر ، وهذا الدعاء يجبُ أن يكون الاتجاه فيه إلى الله تعالى ، لأنه هو وحده الذي يملك النفع والضر ، ولا يجوز الاتجاه به إلى صاحب القبر مهما كانت منزلته ، أمَّا التوسل والاستشفاع به عند الله فقد مر بيان حكمه(2).
ودعاء الله عند زيارة هذه الأضرحة قال جماعة : إنه أرجى للقبول ، لما يصاحبه من روحانية يحسُّ بها الداعي وهو بجوار رجل صالح يحبه ويحترمه ، وقال آخرون : ليس للدعاء عنده ميزة على الدعاء فى غير هذا المكان . ومن هولاء ابن تيمية حيث قال : إن قصد القبور للدعاء عندها ورجاء الإجابة بالدعاء هناك رجاء أكثر من رجائها فى غير هذا الموطن أمر لم يشرعه الله ولا رسوله ، ولا فعله أحد من الصحاب ولا التابعين ، ولا من أئمة المسلمين ، ولا ذكره أحد من العلماء الصالحين المتقدمين"(3)
لكن ليس هذا الكلام دليلا على منعه ، وقد تكون هناك وجهة للمنع وهي الاحتياط وسد الذريعة لدعاء صاحب القبر بدل دعاء الله أو معه .
هذا ، وفي الدعاء عند زيارة النبي - صلى الله عليه وسلم - في قبره أثيرت مسألة الجهة التى يتجه إليها الداعى ، هل هي قبلة الصلاة أو هي القبر الشريف ؟
__________
(1) - صحيح البخارى(7342)
(2) - يعني جوازه ، وانظر كتابي ( الخلاصة في أحكام اللاستغاثة والتوسل)
(3) - اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم - (ج 2 / ص 160)(2/172)
روى القاضى عياض فى كتابه "الشفا فى التعرف بحقوق المصطفى " ما جاء عن الإمام مالك بن أنس لما ناظره أبو جعفر المنصور فى المسجد النبوى ، فقال له مالك : يا أمير المؤمنين لا ترفع صوتك فى هذا المسجد ، فإن الله تعالى أدب قوما فقال {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ} الحجرات : 2 ، ومدح قوما فقال {إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} الحجرات : 3 ، . وذم قوما فقال {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاء الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} الحجرات : 4 . وإن حرمته ميتا كحرمته حيا . فاستكان لها أبو جعفر ، وقال : وَلِمَ تَصْرِفْ وَجْهَك عَنْهُ وَهُوَ وَسِيلَتُك وَوَسِيلَةُ أَبِيك آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَل يَوْمَ الْقِيَامَةِ ؟ بَل اسْتَقْبِلْهُ وَاسْتَشْفِعْ بِهِ فَيُشَفِّعُهُ اللَّهُ ،قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا" (64) سورة النساء .(2/173)
وابن تيمية يكذب هذه الرواية . ورد الزرقاني في شرحه للمواهب اللدنية للقسطلاني على ابن تيمية بأنها مروية عن ثقات ليس فيهم وضَّاع ولا كذاب ، ثم يرد عليه ما ادعاه من كراهية مالك لاستقبال قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - عند الدعاء بأن كتب المالكية طافحة باستحباب الدعاء عند القبر واستقباله ، مع مس القبر بيده . ويقول : وإلى هذا ذهب الشافعي والجمهور ، ونقل عن أبي حنيفة . قال ابن الهمام : وما نقل عنه أنه يستقبل القبلة مردود بما روى عن ابن عمر : من السنة أن يستقبل القبر المكرم ، ويجعل ظهره للقبلة ، وهو الصحيح من مذهب أبي حنيفة ، وقول الكرماني : مذهبه خلافه ليس بشىء ، لأنه حيٌّ، ومن بأتي الحيَّ إنما يتوجه إليه . وصرح النووى فى كتابه "الأذكار " بذلك .
هذا ، ومع استحباب زيارة قبور الأنبياء والصالحين يجب التنبه إلى ما جاء من النهي عن اتخاذها مساجد وعيدا ، فقد وردت فى ذلك نصوص كثيرة ، منها قوله - صلى الله عليه وسلم - " لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى ، اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسْجِدًا "(1).
وقوله - صلى الله عليه وسلم - " اللَّهُمَّ لاَ تَجْعَلْ قَبْرِى وَثَناً لَعَنَ اللَّهُ قَوْماً اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ "(2)،
وقوله - صلى الله عليه وسلم - " لاَ تَجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قُبُورًا وَلاَ تَجْعَلُوا قَبْرِى عِيدًا وَصَلُّوا عَلَىَّ فَإِنَّ صَلاَتَكُمْ تَبْلُغُنِى حَيْثُ كُنْتُمْ "(3).
واتخاذ القبور مساجد يعني التوجه بالعبادة اليها وإلى من فيها ، وذلك شيء لا يجوز ، فالعبادة لله وحده ، وهو معنى جعل القبر وثنا يعبد .
والمراد بالمسجد هنا موضع العبادة بالصلاة وغيرها ، واتخاذها عيدا يقصد به التقرب إلى الله عندها فى المواسم وفي مواعيد معينة شأن الأعياد في ذلك .
__________
(1) - صحيح البخارى(1330)
(2) - مسند أحمد (7561) صحيح
(3) - سنن أبى داود (2044) صحيح(2/174)
وقال جماعة : إن هذا الحديث ينهى عن التقصير في قبره وهجره وعدم زيارته إلا في مواسم كالأعياد ، فهو يحثُّ على مداومة زيارتها . هذه وجهات نظر مختلفة في فهم الحديث .
جاء فى " خلاصة الوفا للسمهودي " : أن هذا الحديث قيل عندما رأى رواية الحسن بن الحسن أو علي بن الحسين -رجلا يحرص كل يوم على زيارة قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - ويبالغ فى الدنو منه ، وقد كره مالك ذلك ممن لم يقدم من سفر ، وجاء فيه أيضا : قال الحافظ المنذرى فى حديث " لا تجعلوا قبري عيدا " يحتمل أن يكون حثا على كثرة الزيارة وألا يهمل حتى لا يزار إلا فى بعض الأوقات كالعيد ويؤيده قوله " لا تجعلوا بيوتكم قبورا " أي لا تتركوا الصلاة فيها . قال السبكي : ويحتمل أن يكون المراد : لا تتخذوا له وقتا مخصوصا لا تكون الزيارة إلا فيه ، أو لا يتخذ كالعيد في العكوف عليه وإظهار الزينة والاجتماع وغيره مما يعمل في الأعياد ، بل لا يؤتى إلا للزيارة والسلام ، ثم ينصرف عنه .
ومهما يكن من شىء فإن اتخاذ قبور الأنبياء ومثلهم الصالحون للتقرب هو لصلتها بمن فيها والتبرك بهم -كما قدمنا-وإن كانت العبادة لله وحده ، وكان بعض الصحابة كعبد الله ابن أم مكتوم يحرص أن يصلي النبى - صلى الله عليه وسلم - في بيته ليتخذه مسجدا ، وابن عمر كان يتتبع مواضعه - صلى الله عليه وسلم - وآثاره ، جاء فى صحيح البخارى عن مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ قَالَ :رَأَيْتُ سَالِمَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَتَحَرَّى أَمَاكِنَ مِنَ الطَّرِيقِ فَيُصَلِّى فِيهَا ، وَيُحَدِّثُ أَنَّ أَبَاهُ كَانَ يُصَلِّى فِيهَا ، وَأَنَّهُ رَأَى النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّى فِى تِلْكَ الأَمْكِنَةِ . وَحَدَّثَنِى نَافِعٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّى فِى تِلْكَ الأَمْكِنَةِ(1)..
__________
(1) - صحيح البخارى(483 )(2/175)
وقد رخص أحمد بن حنبل فى ذلك -كما قال ابن تيمية-ولكن كره أن يتخذ ذلك عيدا للناس يعتادونه ، استنادا إلى ما روي عَنِ الْمَعْرُورِ بْنِ سُوَيْد ، قَالَ : خَرَجْنَا مَعَ عُمَرَ فِي حَجَّةٍ حَجَّهَا فَقَرَأَ بِنَا فِي الْفَجْرِ : {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ} ، وَ{لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ} فَلَمَّا قَضَى حَجَّهُ وَرَجَعَ وَالنَّاسُ يَبْتَدِرُونَ ، فَقَالَ : مَا هَذَا ؟ فَقَالُوا : مَسْجِدٌ صَلَّى فِيهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، فَقَالَ : هَكَذَا هَلَكَ أَهْلُ الْكِتَابِ اتَّخَذُوا آثَارَ أَنْبِيَائِهِمْ بِيَعًا مَنْ عَرَضَتْ لَهُ مِنْكُمْ فِيهِ الصَّلاَة فَلْيُصَلِّ وَمَنْ لَمْ تَعْرِضْ لَهُ مِنْكُمْ فِيهِ الصَّلاَة فَلاَ يُصَلِّ..(1)
فقد نهى عن التزام ذلك واتخاذه موسما يعتادونه ، أما القليل العارض غير المقصود فلا بأس والتبرك في حدوده المعقولة-كما قلنا -لا مانع منه ، فقد كان الصحابة يتبركون بآثار النبى - صلى الله عليه وسلم - ، جاء فى صحيح مسلم عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ اتَّخَذَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- خَاتَمًا مِنْ وَرِقٍ فَكَانَ فِى يَدِهِ ثُمَّ كَانَ فِى يَدِ أَبِى بَكْرٍ ثُمَّ كَانَ فِى يَدِ عُمَرَ ثُمَّ كَانَ فِى يَدِ عُثْمَانَ حَتَّى وَقَعَ مِنْهُ فِى بِئْرِ أَرِيسٍ نَقْشُهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ "(2)
آدَابُ زِيَارَةِ الْقُبُورِ :
__________
(1) - مصنف ابن أبي شيبة (ج 2 / ص 376)(7632) صحيح
(2) - صحيح مسلم (5597 ) -الورق : الفضة(2/176)
قَال الْحَنَفِيَّةُ : السُّنَّةُ زِيَارَتُهَا قَائِمًا ، وَالدُّعَاءُ عِنْدَهَا قَائِمًا ، كَمَا كَانَ يَفْعَلُهُ - صلى الله عليه وسلم - فِي الْخُرُوجِ إِلَى الْبَقِيعِ ، فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِقُبُورِ الْمَدِينَةِ فَأَقْبَلَ عَلَيْهِمْ بِوَجْهِهِ فَقَالَ " السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ يَا أَهْلَ الْقُبُورِ يَغْفِرُ اللَّهُ لَنَا وَلَكُمْ أَنْتُمْ سَلَفُنَا وَنَحْنُ بِالأَثَرِ ".(1). - أَوْ يَقُول : السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ أَهْل الدِّيَارِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ ، وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَلاَحِقُونَ ، نَسْأَل اللَّهَ لَنَا وَلَكُمُ الْعَافِيَةَ(2)ثُمَّ يَدْعُو قَائِمًا ، طَوِيلاً .
وَفِي شَرْحِ الْمُنْيَةِ : يَدْعُو قَائِمًا مُسْتَقْبِل الْقِبْلَةِ ، وَقِيل : يَسْتَقْبِل وَجْهَ الْمَيِّتِ .(3)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ : يُنْدَبُ أَنْ يَقُول الزَّائِرُ : سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لاَحِقُونَ ، اللَّهُمَّ لاَ تَحْرِمْنَا أَجْرَهُمْ ، وَلاَ تَفْتِنَّا بَعْدَهُمْ ، وَأَنْ يَقْرَأَ مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ وَيَدْعُوَ لَهُمْ ، وَأَنْ يُسَلِّمَ عَلَى الْمَزُورِ مِنْ قِبَل وَجْهِهِ ، وَأَنْ يَتَوَجَّهَ فِي الدُّعَاءِ إِلَى الْقِبْلَةِ ، وَعَنِ الْخُرَاسَانِيِّينَ إِلَى وَجْهِهِ ، وَعَلَيْهِ الْعَمَل .(4)
__________
(1) - سنن الترمذي (1073 ) حديث حسن لغيره
(2) - حديث : " السلام عليكم أهل الديار من . . . " تقدم تخريجه ف / 1 .
(3) - شرح المنية ص 511 .
(4) - شرح البهجة 2 / 121 .(2/177)
وَقَال الْحَنَابِلَةُ : سُنَّ وُقُوفُ زَائِرٍ أَمَامَهُ قَرِيبًا مِنْهُ ، وَقَوْل : السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ ، أَوْ أَهْل الدِّيَارِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ، وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَلاَحِقُونَ ، وَيَرْحَمُ اللَّهُ الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَالْمُسْتَأْخِرِينَ ، نَسْأَل اللَّهَ لَنَا وَلَكُمُ الْعَافِيَةَ ، اللَّهُمَّ لاَ تَحْرِمْنَا أَجْرَهُمْ ، وَلاَ تَفْتِنَّا بَعْدَهُمْ ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلَهُمْ .(1)
وَفِي الْقُنْيَةِ مِنْ كُتُبِ الْحَنَفِيَّةِ : قَال أَبُو اللَّيْثِ : لاَ نَعْرِفُ وَضْعَ الْيَدِ عَلَى الْقَبْرِ سُنَّةً وَلاَ مُسْتَحَبًّا وَلاَ نَرَى بَأْسًا ، وَعَنْ جَارِ اللَّهِ الْعَلاَّمَةِ : إِنَّ مَشَايِخَ مَكَّةَ يُنْكِرُونَ ذَلِكَ ، وَيَقُولُونَ : إِنَّهُ عَادَةُ أَهْل الْكِتَابِ ، وَفِي إِحْيَاءِ عُلُومِ الدِّينِ : إِنَّهُ مِنْ عَادَةِ النَّصَارَى .
قَال شَارِحُ الْمُنْيَةِ : لاَ شَكَّ أَنَّهُ بِدْعَةٌ ، لاَ سُنَّةَ فِيهِ وَلاَ أَثَرَ عَنْ صَحَابِيٍّ وَلاَ عَنْ إِمَامٍ مِمَّنْ يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ فَيُكْرَهُ ، وَلَمْ يُعْهَدِ الاِسْتِلاَمُ فِي السُّنَّةِ إِلاَّ لِلْحَجَرِ الأَْسْوَدِ ، وَالرُّكْنِ الْيَمَانِيِّ خَاصَّةً .(2)
وَقَال الْحَنَابِلَةُ : لاَ بَأْسَ بِلَمْسِ قَبْرٍ بِيَدٍ لاَ سِيَّمَا مَنْ تُرْجَى بَرَكَتُهُ ، وَقَال ابْنُ تَيْمِيَّةَ : اتَّفَقَ السَّلَفُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يُسْتَلَمُ وَلاَ يُقَبَّل إِلاَّ الْحَجَرُ الأَْسْوَدُ ، وَالرُّكْنُ الْيَمَانِيُّ يُسْتَلَمُ وَلاَ يُقَبَّل .(3)
وَقَال النَّوَوِيُّ فِي بَيَانِ آدَابِ زِيَارَةِ قَبْرِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - :
__________
(1) - غاية المنتهى 1 / 258 .
(2) - شرح المنية ص 511 .
(3) - غاية المنتهى وحاشيته 1 / 259 .(2/178)
ثُمَّ يَرْجِعُ الزَّائِرُ إِلَى مَوْقِفٍ قُبَالَةَ وَجْهِ رَسُول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَيَتَوَسَّل بِهِ وَيَسْتَشْفِعُ بِهِ إِلَى رَبِّهِ،وَمِنْ أَحْسَنِ مَا يَقُول- الزَّائِرُ- مَا حَكَاهُ الْمَاوَرْدِيُّ وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَسَائِرُ أَصْحَابِنَا عَنِ الْعُتْبِيِّ مُسْتَحْسِنِينَ لَهُ قَال:كُنْت جَالِسًا عِنْدَ قَبْرِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَجَاءَهُ أَعْرَابِيٌّ فَقَال:السَّلاَمُ عَلَيْك يَا رَسُول اللَّهِ . سَمِعْتُ اللَّهَ تَعَالَى يَقُول:" وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا " (النساء:64) وَقَدْ جِئْتُك مُسْتَغْفِرًا مِنْ ذَنْبِي مُسْتَشْفِعًا بِك إِلَى رَبِّي . ثُمَّ أَنْشَأَ يَقُول:
يَا خَيْرَ مَنْ دُفِنَتْ بِالْقَاعِ أَعْظُمُهُ وَطَابَ مِنْ طِيبِهِنَّ الْقَاعُ وَالأَْكَمُ
نَفْسِي الْفِدَاءُ لِقَبْرٍ أَنْتَ سَاكِنُهُ فِيهِ الْعَفَافُ وَفِيهِ الْجُودُ وَالْكَرْمُ(2/179)
ثُمَّ انْصَرَفَ فَحَمَلَتْنِي عَيْنَايَ فَرَأَيْت النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فِي النَّوْمِ فَقَالَ:" يَا عُتْبِيُّ الْحَقْ الْأَعْرَابِيَّ فَبَشِّرْهُ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ غَفَرَ لَهُ " . ثُمَّ يَتَقَدَّمُ إلَى رَأْسِ الْقَبْرِ فَيَقِفُ بَيْنَ الْأُسْطُوَانَةِ وَيَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ وَيَحْمَدُ اللَّهَ تَعَالَى وَيُمَجِّدُهُ وَيَدْعُو لِنَفْسِهِ بِمَا شَاءَ وَلِوَالِدَيْهِ , وَمَنْ شَاءَ مِنْ أَقَارِبِهِ وَمَشَايِخِهِ وَإِخْوَانِهِ وَسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ , ثُمَّ يَرْجِعُ إلَى الرَّوْضَةِ فَيُكْثِرُ فِيهَا مِنْ الدُّعَاءِ وَالصَّلَاةِ وَيَقِفُ عِنْدَ الْمِنْبَرِ وَيَدْعُو.(1)
__________
(1) - المجموع - (ج 8 / ص 274) ومغني المحتاج إلى معرفة ألفاظ المنهاج - (ج 6 / ص 97) والأذكار للنووي - (ج 1 / ص 206) ورفع المنارة لتخريج أحاديث التوسل والزيارة - (ج 1 / ص 15) و(المغني:3/588_ 589) و(الشرح الكبير:3/494) وكشَّاف القناع ( 2/514 _ 515) وفي الإنصاف (4/53 ) كلهم وسكتوا عنها واحتجوا بها، وإن لم يصح سندها .(2/180)
وقَال ابْنُ قُدَامَةَ فِي الْمُغْنِي بَعْدَ أَنْ نَقَل قِصَّةَ الْعُتْبِيِّ مَعَ الأَْعْرَابِيِّ:" وَيُسْتَحَبُّ لِمَنْ دَخَل الْمَسْجِدَ أَنْ يُقَدِّمَ رِجْلَهُ الْيُمْنَى . . .إِلَى أَنْ قَال:ثُمَّ تَأْتِيَ الْقَبْرَ فَتَقُول ثُمَّ تَأْتِي الْقَبْرَ فَتُوَلِّي ظَهْرَكَ الْقِبْلَةَ , وَتَسْتَقْبِلُ وَسَطَهُ , وَتَقُولُ:السَّلَامُ عَلَيْك أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ , السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ , وَخِيرَتَهُ مِنْ خَلْقِهِ وَعِبَادِهِ , أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ , وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ , أَشْهَدُ أَنَّك قَدْ بَلَّغْت رِسَالَاتِ رَبِّك , وَنَصَحْت لِأُمَّتِك , وَدَعَوْت إلَى سَبِيلِ رَبِّك بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ , وَعَبَدْت اللَّهَ حَتَّى أَتَاك الْيَقِينُ , فَصَلَّى اللَّهُ عَلَيْك كَثِيرًا , كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى , اللَّهُمَّ اجْزِ عَنَّا نَبِيَّنَا أَفْضَلَ مَا جَزَيْت أَحَدًا مِنَ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ , وَابْعَثْهُ الْمَقَامَ الْمَحْمُودَ الَّذِي وَعَدْته , يَغْبِطُهُ بِهِ الْأَوَّلُونَ وَالْآخَرُونَ , اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ , كَمَا صَلَّيْت عَلَى إبْرَاهِيمَ وَآلِ إبْرَاهِيمَ , إنَّك حَمِيدٌ مَجِيدٌ , وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ , كَمَا بَارَكْت عَلَى إبْرَاهِيمَ وَآلِ إبْرَاهِيمَ , إنَّك حَمِيدٌ مَجِيدٌ , اللَّهُمَّ إنَّك قُلْت وَقَوْلُك الْحَقُّ:" .. وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا" (النساء:64).(2/181)
وَقَدْ أَتَيْتُك مُسْتَغْفِرًا مِنْ ذُنُوبِي , مُسْتَشْفِعًا بِك إلَى رَبِّي , فَأَسْأَلُك يَا رَبِّ أَنْ تُوجِبَ لِي الْمَغْفِرَةَ , كَمَا أَوْجَبْتهَا لِمَنْ أَتَاهُ فِي حَيَاتِهِ , اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ أَوَّلَ الشَّافِعِينَ , وَأَنْجَحَ السَّائِلِينَ , وَأَكْرَمَ الْآخَرِينَ وَالْأَوَّلِينَ , بِرَحْمَتِك يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ .."(1)وَمِثْلُهُ فِي الشَّرْحِ الْكَبِيرِ(2).
بِدَعُ زِيَارَةِ الْقُبُورِ :
يَقَعُ لِكَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ أُمُورٌ مَكْرُوهَةٌ فِي زِيَارَتِهِمْ لِلْقُبُورِ ، ذَكَرَهَا الْعُلَمَاءُ فِي مَظَانِّهَا ، وَفِي كُتُبِ الآْدَابِ . وَيُنْظَرُ مَا تَقَدَّمَ فِي زِيَارَةِ قَبْرِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - حَوْل مَنْعِ اجْتِمَاعِ الْعَامَّةِ فِي بَعْضِ الأَْضْرِحَةِ .
- - - - - - - - - - - - - - -
الباب السادس
أحكام المدينة المنورة وفضلها(3)
تعريفها:
الْمَدِينَةُ لُغَةً : الْمِصْرُ الْجَامِعُ ، عَلَى وَزْنِ فَعِيلَةَ ، مَأْخُوذَةٌ مِنْ مَدَنَ بِالْمَكَانِ أَيْ : أَقَامَ فِيهِ ، وَقِيل : مَفْعَلَةٌ لأَِنَّهَا مِنْ دَانَ ، وَالْجَمْعُ : مُدُنٌ ، وَمَدَائِنُ(4).
__________
(1) - المغني - ج 7 / ص 422) وكشاف القناع عن متن الإقناع - ج 7 / ص 317) ومطالب أولي النهى في شرح غاية المنتهى - ج 6 / ص 369)
(2) - كشاف القناع 2 / 68 ، والمبدع 2 / 204 ، والفروع 2 / 159 والمغني مع الشرح 3 / 588 وما بعدها ، والشرح الكبير مع المغني 3 / 494 - 495 ، والإنصاف 2 / 456 .
(3) - الموسوعة الفقهية الكويتية - (ج 36 / ص 308)
(4) - القاموس المحيط ومختار الصحاح .(2/182)
وَغَلَبَ إِطْلاَقُ " الْمَدِينَةِ " مُعَرَّفًا بِأَل لَدَى الْمُسْلِمِينَ عَلَى مَدِينَةِ الرَّسُول - صلى الله عليه وسلم - ، وَيَكْثُرُ أَنْ يُقَال : " الْمَدِينَةُ الْمُنَوَّرَةُ " إِشَارَةً إِلَى أَنَّهَا مُنَوَّرَةٌ بِأَنْوَارِ سَاكِنِهَا عَلَيْهِ أَفْضَل الصَّلاَةِ وَالسَّلاَمُ(1).
أَسْمَاءُ الْمَدِينَةِ الْمُنَوَّرَةِ
كَانَتِ الْمَدِينَةُ تُسَمَّى قَبْل الإِْسْلاَمِ يَثْرِبَ ، فَسَمَّاهَا النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - " الْمَدِينَةَ " عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ أَنَّهُ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا الْحُبَابِ سَعِيدَ بْنَ يَسَارٍ يَقُولُ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ " أُمِرْتُ بِقَرْيَةٍ تَأْكُلُ الْقُرَى يَقُولُونَ يَثْرِبُ.وَهِىَ الْمَدِينَةُ تَنْفِى النَّاسَ كَمَا يَنْفِى الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ ".(2).
وَنَهَى أَنْ تُسَمَّى يَثْرِبَ ، فَقَدْ رُوِيَ عَنِ الْبَرَاءِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - " مَنْ سَمَّى الْمَدِينَةَ يَثْرِبَ فَلْيَسْتَغْفِرِ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ هِىَ طَابَةُ هِىَ طَابَةُ "(3).
وَمِنْ أَسْمَاءِ الْمَدِينَةِ الْمَشْهُورَةِ " طَيْبَةُ " بِسُكُونِ الْيَاءِ ، وَيُقَال أَيْضًا : " طَيِّبَةٌ " مُشَدَّدَةُ الْيَاءِ وَدَارُ الْهِجْرَةِ ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ أَسْمَاءٍ ، قِيل : إِنَّهَا تَبْلُغُ الأَْرْبَعِينَ(4).
__________
(1) - جواهر الإكليل 1 / 267 .
(2) - موطأ مالك (1605 ) وصحيح البخارى (1871 ) ومسلم (3419 )
(3) - مسند أحمد (19022) وفيه لين -طابة : من الطِّيب أو من الطيِّب لخلوصها من الشرك وتطهيرها منه
(4) - هداية السالك إلى المذاهب الأربعة في المناسك 1 / 109 ، وفتح الباري 4 / 69 - 71 طبعة النهضة المصرية ، ومتن الإيضاح للنووي ص156 .(2/183)
وَتَقَعُ الْمَدِينَةُ بَيْنَ حَرَّتَيْنِ : إِحْدَاهُمَا : شَرْقِيَّ الْمَدِينَةِ وَهِيَ حَرَّةُ وَاقِمٍ ، وَالأُْخْرَى : غَرْبِيَّهَا وَهِيَ حَرَّةُ الْوَبَرَةِ . وَالْحَرَّةُ : أَرْضٌ مُكْتَسِيَةٌ بِحِجَارَةٍ سَوْدَاءَ بُرْكَانِيَّةٍ ، وَيُحِيطُ بِهَا مِنَ الشِّمَال جَبَل أُحُدٍ ، وَمِنَ الْجُنُوبِ جَبَل عَيْرٍ . وَتَبْعُدُ عَنْ مَكَّةَ عَشْرُ مَرَاحِل ، وَيُحْرِمُ أَهْلُهَا وَمَنْ مَرَّ بِهَا مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ(1).
فَضْلُ الْمَدِينَةِ
الْمَدِينَةُ مُهَاجَرُ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَفِيهَا مَثْوَاهُ - صلى الله عليه وسلم - وَمِنْهَا انْتَشَرَ الإِْسْلاَمُ فِي الْعَالَمِ ، وَلَهَا فَضَائِل كَثِيرَةٌ ، مِنْ أَهَمِّهَا بِإِيجَازٍ :
أ - مُضَاعَفَةُ الْبَرَكَةِ فِيهَا فَعَنْ أَنَسٍ - رضى الله عنه - عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - – قَالَ: " اللَّهُمَّ اجْعَلْ بِالْمَدِينَةِ ضِعْفَىْ مَا جَعَلْتَ بِمَكَّةَ مِنَ الْبَرَكَةِ "(2).
__________
(1) - معجم البلدان لياقوت الحموي / مدينة يثرب .
(2) - صحيح البخارى (1885 ) ومسلم (3392)(2/184)
ب - تَفْضِيل الإِْقَامَةِ فِيهَا عَلَى غَيْرِهَا فَعَنْ سُفْيَانَ بْنِ أَبِى زُهَيْرٍ - رضى الله عنه - أَنَّهُ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - – يَقُولُ: " تُفْتَحُ الْيَمَنُ فَيَأْتِى قَوْمٌ يُبِسُّونَ ، فَيَتَحَمَّلُونَ بِأَهْلِيهِمْ وَمَنْ أَطَاعَهُمْ ، وَالْمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ، وَتُفْتَحُ الشَّأْمُ ، فَيَأْتِى قَوْمٌ يُبِسُّونَ فَيَتَحَمَّلُونَ بِأَهْلِيهِمْ وَمَنْ أَطَاعَهُمْ ، وَالْمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ، وَتُفْتَحُ الْعِرَاقُ ، فَيَأْتِى قَوْمٌ يُبِسُّونَ فَيَتَحَمَّلُونَ بِأَهْلِيهِمْ وَمَنْ أَطَاعَهُمْ . وَالْمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ "(1). .
ج - تَغْلِيظُ ذَنْبِ مَنْ يَكِيدُ أَهْلَهَا : فَعَنْ عَنْ عُمَرَ بْنِ نُبَيْهٍ أَخْبَرَنِى دِينَارٌ الْقَرَّاظُ قَالَ سَمِعْتُ سَعْدَ بْنَ أَبِى وَقَّاصٍ يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " مَنْ أَرَادَ أَهْلَ الْمَدِينَةِ بِسُوءٍ أَذَابَهُ اللَّهُ كَمَا يَذُوبُ الْمِلْحُ فِى الْمَاءِ ".(2).
د - حِمَايَتُهَا مِنْ دُخُول الدَّجَّال وَالطَّاعُونِ :
فَعَنْ ِ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " عَلَى أَنْقَابِ الْمَدِينَةِ مَلاَئِكَةٌ ، لاَ يَدْخُلُهَا الطَّاعُونُ وَلاَ الدَّجَّالُ "(3). .
__________
(1) - صحيح البخارى (1875 )= يبس : يبس الناقة يسوقها ويزجرها ويقول لها بس بس
(2) - صحيح مسلم (3427 )
(3) - صحيح البخارى(1880 ) وصحيح مسلم(3416)(2/185)
هـ - إِنَّهَا مَجْمَعُ الإِْيمَانِ فَعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : " إِنَّ الإِيمَانَ لَيَأْرِزُ إِلَى الْمَدِينَةِ كَمَا تَأْرِزُ الْحَيَّةُ إِلَى جُحْرِهَا "(1)..
وَيَأْرِزُ أَيْ : يَنْضَمُّ وَيَجْتَمِعُ بَعْضُهُ إِلَى بَعْضٍ فِيهَا .
حَرَمُ الْمَدِينَةِ(2):
ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ ( الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ ) إِِلَى أَنَّ الْمَدِينَةَ الْمُنَوَّرَةَ حَرَمٌ ، لَهُ حُدُودٌ وَأَحْكَامٌ ، تَخْتَلِفُ عَنْ سَائِرِ الْبِقَاعِ ، كَمَا تَخْتَلِفُ عَنْ الْحَرَمِ الْمَكِّيِّ فِي بَعْضِ الأَْحْكَامِ ، وَذَلِكَ لِمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ - رضى الله عنه - عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - " أَنَّ إِبْرَاهِيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ ، وَدَعَا لَهَا ، وَحَرَّمْتُ الْمَدِينَةَ كَمَا حَرَّمَ إِبْرَاهِيمُ مَكَّةَ ، وَدَعَوْتُ لَهَا فِى مُدِّهَا وَصَاعِهَا ، مِثْلَ مَا دَعَا إِبْرَاهِيمُ - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - لِمَكَّةَ "(3).
وَعَلَى ذَلِكَ فَلاَ يَحِل صَيْدُهَا وَلاَ يُعْضَدُ شَجَرُهَا(4).
__________
(1) - صحيح البخارى(1876 ) ومسلم (391 )
(2) - الموسوعة الفقهية الكويتية - (ج 17 / ص 203)
(3) - صحيح البخارى(2129 ) ومسلم (3379 )
(4) - الشرح الصغير 2 / 1111 ، ومغني المحتاج 1 / 529 ، والمغني لابن قدامة 3 / 353 - 355 .(2/186)
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَقَالُوا : لَيْسَ لِلْمَدِينَةِ الْمُنَوَّرَةِ حَرَمٌ ، وَلاَ يُمْنَعُ أَحَدٌ مِنْ أَخْذِ صَيْدِهَا وَشَجَرِهَا . وَإِِنَّمَا أَرَادَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بِحَدِيثِهِ الْمُتَقَدِّمِ بَقَاءَ زِينَتِهَا ، كَمَا وَرَدَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ مِنْ قَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: { لَا تَهْدِمُوا الْآطَامَ ، فَإِنَّهَا زِينَةُ الْمَدِينَةِ }(1).
وَيَدُل عَلَى حِل صَيْدِهَا حَدِيثُ أَنَسٍ قَالَ :كَانَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - أَحْسَنَ النَّاسِ خُلُقًا ، وَكَانَ لِى أَخٌ يُقَالُ لَهُ أَبُو عُمَيْرٍ - قَالَ أَحْسِبُهُ فَطِيمٌ - وَكَانَ إِذَا جَاءَ قَالَ " يَا أَبَا عُمَيْرٍ مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ " . نُغَرٌ كَانَ يَلْعَبُ بِهِ ، فَرُبَّمَا حَضَرَ الصَّلاَةَ وَهُوَ فِى بَيْتِنَا ، فَيَأْمُرُ بِالْبِسَاطِ الَّذِى تَحْتَهُ فَيُكْنَسُ وَيُنْضَحُ ، ثُمَّ يَقُومُ وَنَقُومُ خَلْفَهُ فَيُصَلِّى بِنَا(2). .
__________
(1) - شرح معاني الآثار - (ج 5 / ص 253) ومعاني الآثار ( 4 / 194 - ط مطبعة الأنوار المحمدية بمصر ) وفيه ضعف
(2) - صحيح البخارى(6203 ) - النغير : تصغير نغر وهو طائر يشبه العصفور أحمر المنقار(2/187)
وَقَدْ فَرَّعَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى إِثْبَاتِ صِفَةِ الْحَرَمِ لِلْمَدِينَةِ أَنَّهُ يُكْرَهُ نَقْل تُرَابِ الْحَرَمِ وَأَحْجَارِهِ إِلَى سَائِرِ الْبِقَاعِ ، وَقَالُوا : إِنَّ الأَْوْلَى أَنْ لاَ يَدْخُل تُرَابُ الْحِل وَأَحْجَارُهُ الْحَرَمَ ، وَعِلَّةُ ذَلِكَ أَنَّ الْمَدِينَةَ لَمَّا جَعَلَهَا اللَّهُ حَرَمًا آمِنًا حَرُمَ بِذَلِكَ كُل شَيْءٍ ثَابِتٍ مُسْتَقِرٍّ فِيهَا ، وَأَمَّا أَنَّ الأَْوْلَى عَدَمُ إِدْخَال تُرَابِ الْحِل وَأَحْجَارِهِ فَلِئَلاَّ تَحْدُثَ لَهَا حُرْمَةٌ لَمْ تَكُنْ .
وَهَذَا إِذَا لَمْ تَمَسَّ الْحَاجَةُ إِلَى إِدْخَالِهَا إِلَى الْحَرَمِ ، لِمِثْل بِنَاءٍ أَوْ غَيْرِهِ(1).
الْمُفَاضَلَةُ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ:
ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى تَفْضِيل مَكَّةَ عَلَى الْمَدِينَةِ وَتَفْضِيل الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ عَلَى الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ(2).
وَذَهَبَ الإِْمَامُ مَالِكٌ إِلَى تَفْضِيل الْمَدِينَةِ الْمُنَوَّرَةِ عَلَى مَكَّةَ الْمُكَرَّمَةِ ، وَتَفْضِيل الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ عَلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَهُوَ قَوْل عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .
__________
(1) - المهذب والمجموع 7 / 436 - 439 ، والفروع : 3 / 481 - 482 ، وإعلام الساجد في أحكام المساجد ص245 .
(2) - ابن عابدين 2 / 256 ، ومغني المحتاج 1 / 482 ، والمغني 3 / 556 .(2/188)
وَقَدِ اسْتَدَل الْجُمْهُورُ عَلَى تَفْضِيل مَكَّةَ وَحَرَمِهَا بِأَدِلَّةٍ مِنْهَا : مَا وَرَدَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَدِىِّ بْنِ حَمْرَاءَ الزُّهْرِىِّ قَالَ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَاقِفًا عَلَى الْحَزْوَرَةِ فَقَالَ " وَاللَّهِ إِنَّكِ لَخَيْرُ أَرْضِ اللَّهِ وَأَحَبُّ أَرْضِ اللَّهِ إِلَى اللَّهِ وَلَوْلاَ أَنِّى أُخْرِجْتُ مِنْكِ مَا خَرَجْتُ ".(1).
وَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لِمَكَّةَ " مَا أَطْيَبَكِ مِنْ بَلَدٍ وَأَحَبَّكِ إِلَىَّ وَلَوْلاَ أَنَّ قَوْمِى أَخْرَجُونِى مِنْكِ مَا سَكَنْتُ غَيْرَكِ ".(2).
فَهَذَانِ الْحَدِيثَانِ يَدُلاَّنِ عَلَى تَفْضِيل مَكَّةَ عَلَى سَائِرِ الْبُلْدَانِ وَمِنْهَا الْمَدِينَةُ .
وَ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ " صَلاَةٌ فِى مَسْجِدِى هَذَا خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ صَلاَةٍ فِيمَا سِوَاهُ إِلاَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ "(3).
وَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ رضي الله عنهما قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - " صَلاَةٌ فِى مَسْجِدِى هَذَا أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ صَلاَةٍ فِيمَا سِوَاهُ مِنَ الْمَسَاجِدِ إِلاَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ وَصَلاَةٌ فِى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَفْضَلُ مِنْ مِائَةِ صَلاَةٍ فِى هَذَا "(4).
وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى تَفْضِيل الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ بِمَكَّةَ عَلَى الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ الشَّرِيفِ .
__________
(1) - سنن الترمذى (4304 ) صحيح
(2) - سنن الترمذى (4305 ) صحيح
(3) - صحيح البخارى (1190) ومسلم (3441 )
(4) - مسند أحمد (16546) صحيح(2/189)
وَاسْتَدَل مَالِكٌ بِأَدِلَّةٍ فِي فَضْل الْمَدِينَةِ(1)مِنْهَا مَا سَبَقَ إِنَّ الإِْيمَانَ لَيَأْرِزُ إِلَى الْمَدِينَةِ(2)وَأَنَّهَا الْقَرْيَةُ الَّتِي تَأْكُل الْقُرَى(3)، فَإِنَّهُ يَدُل عَلَى زِيَادَةِ فَضْل الْمَدِينَةِ عَلَى غَيْرِهَا ، وَمِنْهَا عَنْ عَائِشَةَ - رضى الله عنها - قَالَتْ لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الْمَدِينَةَ وُعِكَ أَبُو بَكْرٍ وَبِلاَلٌ ، فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ إِذَا أَخَذَتْهُ الْحُمَّى يَقُولُ :
كُلُّ امْرِئٍ مُصَبَّحٌ فِى أَهْلِهِ وَالْمَوْتُ أَدْنَى مِنْ شِرَاكِ نَعْلِهِ
وَكَانَ بِلاَلٌ إِذَا أُقْلِعَ عَنْهُ الْحُمَّى يَرْفَعُ عَقِيرَتَهُ يَقُولُ:
أَلاَ لَيْتَ شِعْرِى هَلْ أَبِيتَنَّ لَيْلَةً بِوَادٍ وَحَوْلِى إِذْخِرٌ وَجَلِيلُ
وَهَلْ أَرِدَنْ يَوْمًا مِيَاهَ مَجَنَّةٍ وَهَلْ يَبْدُوَنْ لِى شَامَةٌ وَطَفِيلُ
__________
(1) - انظر التفاصيل في فتح الباري لابن حجر - (ج 4 / ص 191):
(2) - صحيح البخارى (1876) ومسلم (391 )- يأرز : ينضم ويجتمع
قَالَ أَبُو حَاتِمٍ : قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الإِيمَانُ لَيَأْرِزُ إِلَى الْمَدِينَةِ يُرِيدُ بِهِ أَهْلَ الإِيمَانِ ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمَدِينَةَ خَشِنَةٌ قَفْرَةٌ ذَاتُ بَسَابِسَ وَدَكَادِكَ ، مَنَعَ اللَّهُ جَلَّ وَعَلاَ عَنْهَا طَيِّبَاتِ اللَّذَّاتِ فِي الأَعْيُنِ وَالأَنْفُسِ ، وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا لِمَنْ طَلَبَ اللَّهَ وَالدَّارَ الآخِرَةَ ، فَلاَ يَرْكَنُ إِلَيْهَا إِلاَّ كُلُّ مُشَمَّرٍ ، عَنْ هَذِهِ الْفَانِيَةِ الزَّائِلَةِ ، وَلاَ قَطَنَهَا إِلاَّ كُلُّ مُنْقَلِعٍ بِكُلِّيَّتِهِ إِلَى الآخِرَةِ الدَّائِمَةِ.صحيح ابن حبان - (ج 9 / ص 46)(3728)
(3) - البخاري (1871 ) ومسلم ( 3419 )(2/190)
قَالَ اللَّهُمَّ الْعَنْ شَيْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ ، وَعُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ ، وَأُمَيَّةَ بْنَ خَلَفٍ ، كَمَا أَخْرَجُونَا مِنْ أَرْضِنَا إِلَى أَرْضِ الْوَبَاءِ ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا الْمَدِينَةَ كَحُبِّنَا مَكَّةَ أَوْ أَشَدَّ ، اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِى صَاعِنَا ، وَفِى مُدِّنَا ، وَصَحِّحْهَا لَنَا وَانْقُلْ حُمَّاهَا إِلَى الْجُحْفَةِ " . قَالَتْ وَقَدِمْنَا الْمَدِينَةَ ، وَهْىَ أَوْبَأُ أَرْضِ اللَّهِ . قَالَتْ فَكَانَ بُطْحَانُ يَجْرِى نَجْلاً . تَعْنِى مَاءً آجِنًا(1). .
وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى اخْتَارَهَا لِنَبِيِّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَخُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ وَفُضَلاَءِ الصَّحَابَةِ ، وَلاَ يَخْتَارُ لَهُمْ إِلاَّ أَفْضَل الْبِقَاعِ(2).
وَقَدْ صَرَّحُوا بِأَنَّ الْخِلاَفَ لَيْسَ فِي الْكَعْبَةِ الْمُعَظَّمَةِ ، فَإِنَّهَا أَفْضَل مِنَ الْمَدِينَةِ كُلِّهَا ، إِلاَّ الْبُقْعَةَ الَّتِي ضَمَّتْ أَعْضَاءَ الْجَسَدِ الشَّرِيفِ لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - .
وَذَكَرَ الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ أَنَّ الْقَاضِيَ عِيَاضَ نَقَل الإِْجْمَاعَ عَلَى أَنَّ مَوْضِعَ قَبْرِهِ - صلى الله عليه وسلم - أَفْضَل الأَْرْضِ ، وَالْخِلاَفُ فِيمَا سِوَاهُ(3).
مَشَاهِدُ الْمَدِينَةِ :
__________
(1) - صحيح البخارى( 1889 )
الآجن : الماء المتغير اللون والطعم = الجليل : نبت يكون بمكة طيب الرائحة = العقيرة : الصوت = النجل : الماء المستنقع = وعك : أصابته الحمى
(2) - انظر الاستدلالات في المنتقى للباجي شرح الموطأ : 7 / 197 ، هداية السالك : 1 / 46 - 47 .
(3) - وفاء الوفا للسمهودي 1 / 28 ، وابن عابدين 2 / 257 ، ومغني المحتاج 1 / 482 .(2/191)
مَشَاهِدُ الْمَدِينَةِ مَوَاضِعُ ذَاتُ فَضْلٍ ، وَمَأْثُرَةٍ تَارِيخِيَّةٍ ، اسْتَحَبَّ الْعُلَمَاءُ زِيَارَتَهَا ، وَهِيَ نَحْوُ ثَلاَثِينَ مَوْضِعًا يَعْرِفُهَا أَهْل الْمَدِينَةِ وَمِنْ أَهَمِّهَا مَا يَلِي :
أ - الْمَسْجِدُ النَّبَوِيُّ:
وَهُوَ ثَانِي مَسْجِدٍ بُنِيَ فِي الإِْسْلاَمِ بَعْدَ مَسْجِدِ قُبَاءٍ ، وَالصَّلاَةُ فِيهِ أَفْضَل مِنَ الصَّلاَةِ فِي أَيِّ مَسْجِدٍ آخَرَ سِوَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ، وَفِي الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ مَعَالِمُ مِنْهَا : الرَّوْضَةُ الشَّرِيفَةُ وَالْمِنْبَرُ وَالْمِحْرَابُ ، وَالْحُجْرَةُ الشَّرِيفَةُ الَّتِي تَشَرَّفَتْ بِضَمِّ رُفَاتِهِ - صلى الله عليه وسلم - وَرُفَاتِ صَاحِبَيْهِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا .
ب - مَسْجِدُ قُبَاءٍ :
وَهُوَ أَوَّل مَسْجِدٍ وُضِعَ فِي الإِْسْلاَمِ ، وَأَوَّل مَنْ وَضَعَ أَسَاسَهُ رَسُول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - سُمِّيَ بِاسْمِ قُبَاءٍ ، قَرْيَةٍ تَبْعُدُ عَنِ الْمَدِينَةِ قَدْرَ ثَلاَثَةِ أَمْيَالٍ تَقْرِيبًا .
وَيُسْتَحَبُّ زِيَارَةُ مَسْجِدِ قُبَاءٍ وَالصَّلاَةُ فِيهِ كُل أُسْبُوعٍ ، وَأَفْضَلُهُ يَوْمُ السَّبْتِ(1)، لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ - رضى الله عنهما - قَالَ كَانَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - يَأْتِى مَسْجِدَ قُبَاءٍ كُلَّ سَبْتٍ مَاشِيًا وَرَاكِبًا . وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ - رضى الله عنهما - يَفْعَلُهُ .(2).
وَوَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - : " الصَّلاَةُ فِى مَسْجِدِ قُبَاءٍ كَعُمْرَةٍ ".(3).
__________
(1) - المجموع 8 / 276 .
(2) - صحيح البخارى(1193 )
(3) - سنن الترمذى (325 ) و صحيح الجامع (3872) صحيح لغيره(2/192)
وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَأْتِي قُبَاءَ يَوْمَ الاِثْنَيْنِ وَيَوْمَ الْخَمِيسِ ، وَقَال : وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ رَأَيْتُ رَسُول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَأَبَا بَكْرٍ فِي أَصْحَابِهِ يَنْقُلُونَ حِجَارَتَهُ عَلَى بُطُونِهِمْ وَيُؤَسِّسُهُ رَسُول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - . .(1)
__________
(1) - الدرة الثمينة في تاريخ المدينة : 2 / 380
وفي مسند البزار (303)حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى ، قَالَ : حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَبِي الْوَزِيرِ ، قَالَ : حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ الْمُسْتَوْرِدِ ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَارِثَةَ الأَنْصَارِيِّ ، أَنَّ عُمَرَ ، كَانَ يَأْتِي مَسْجِدَ قُبَاءَ يَوْمَ الاثْنَيْنِ وَيَوْمَ الْخَمِيسِ فَجَاءَ يَوْمًا فَلَمْ يَجِدْ فِيهِ أَحَدًا مِنَ النَّاسِ ، فَقَالَ : مَالِي لاَ أَرَى فِي هَذَا الْمَسْجِدِ أَحَدًا مِنَ النَّاسِ ؟ قَالَ : وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ، لَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، وَأَبَا بَكْرٍ وَأُنَاسًا مِنْ أَصْحَابِهِ ، وَنَحْنُ نَنْقُلُ حِجَارَتَهُ عَلَى بُطُونِنَا ، وَإِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَهُوَ أَسَّسَهُ بِيَدِهِ وَجِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ يَؤُمُّ لَهُ الْكَعْبَةَ. وفيه جهالة
وعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِى سَعِيدٍ الخُدْرِىِّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إِلَى قُبَاءَ يَوْمَ الاِثْنَيْنِ فَمَرَرْنَا فِى بَنِى سَالِمٍ فَوَقَفَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَلَى بَابِ بَنِى عِتْبَانَ فَصَرَخَ وَابْنُ عِتْبَانَ عَلَى بَطْنِ امْرَأَتِهِ فَخَرَجَ يَجُرُّ إِزَارَهُ فَلَمَّا رَآهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « أَعْجَلْنَا الرَّجُلَ ». قَالَ ابْنُ عِتْبَانَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ الرَّجُلَ إِذَا أَتَى امْرَأَتَهُ وَلَمْ يُمْنِ عَلَيْهَا مَاذَا عَلَيْهِ فَقَالَ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- « إِنَّمَا الْمَاءُ مِنَ الْمَاءِ » مسند أحمد (11745)حديث صحيح ..(2/193)
ج - الْبَقِيعُ :
وَيُقَال لَهُ : بَقِيعُ الْغَرْقَدِ ، لِوُجُودِ شَجَرِ الْغَرْقَدِ فِيهِ(1)، وَكَانَ مَقْبَرَةَ أَهْل الْمَدِينَةِ وَهُوَ يَقَعُ إِلَى الشَّرْقِ مِنَ الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ ، وَقَدْ وَرَدَ فِيهِ أَحَادِيثُ(2)، مِنْ أَصَحِّهَا حَدِيثُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ قَيْسِ بْنِ مَخْرَمَةَ بْنِ الْمُطَّلِبِ أَنَّهُ قَالَ يَوْمًا أَلاَ أُحَدِّثُكُمْ عَنِّى وَعَنْ أُمِّى قَالَ فَظَنَنَّا أَنَّهُ يُرِيدُ أُمَّهُ الَّتِى وَلَدَتْهُ. قَالَ قَالَتْ عَائِشَةُ أَلاَ أُحَدِّثُكُمْ عَنِّى وَعَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - . قُلْنَا بَلَى. قَالَ قَالَتْ لَمَّا كَانَتْ لَيْلَتِىَ الَّتِى كَانَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - فِيهَا عِنْدِى انْقَلَبَ فَوَضَعَ رِدَاءَهُ وَخَلَعَ نَعْلَيْهِ فَوَضَعَهُمَا عِنْدَ رِجْلَيْهِ وَبَسَطَ طَرَفَ إِزَارِهِ عَلَى فِرَاشِهِ فَاضْطَجَعَ فَلَمْ يَلْبَثْ إِلاَّ رَيْثَمَا ظَنَّ أَنْ قَدْ رَقَدْتُ فَأَخَذَ رِدَاءَهُ رُوَيْدًا وَانْتَعَلَ رُوَيْدًا وَفَتَحَ الْبَابَ فَخَرَجَ ثُمَّ أَجَافَهُ رُوَيْدًا فَجَعَلْتُ دِرْعِى فِى رَأْسِى وَاخْتَمَرْتُ وَتَقَنَّعْتُ إِزَارِى ثُمَّ انْطَلَقْتُ عَلَى إِثْرِهِ حَتَّى جَاءَ الْبَقِيعَ فَقَامَ فَأَطَالَ الْقِيَامَ ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ ثُمَّ انْحَرَفَ فَانْحَرَفْتُ فَأَسْرَعَ فَأَسْرَعْتُ فَهَرْوَلَ فَهَرْوَلْتُ فَأَحْضَرَ فَأَحْضَرْتُ فَسَبَقْتُهُ فَدَخَلْتُ فَلَيْسَ إِلاَّ أَنِ اضْطَجَعْتُ فَدَخَلَ فَقَالَ " مَا لَكِ يَا عَائِشُ حَشْيَا رَابِيَةً ". قَالَتْ قُلْتُ لاَ شَىْءَ.
__________
(1) - الغرقد : نبات من الفصيلة الصنوبرية يرتفع قدر متر ويتكاتف حتى يغطي ما تحته .
(2) - انظر طائفة منها في هداية السالك : 1 / 118 - 119 ، والإيضاح للنووي ص162 .(2/194)
قَالَ " لَتُخْبِرِينِى أَوْ لَيُخْبِرَنِّى اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ". قَالَتْ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ بِأَبِى أَنْتَ وَأُمِّى. فَأَخْبَرْتُهُ قَالَ " فَأَنْتِ السَّوَادُ الَّذِى رَأَيْتُ أَمَامِى ". قُلْتُ نَعَمْ. فَلَهَدَنِى فِى صَدْرِى لَهْدَةً أَوْجَعَتْنِى ثُمَّ قَالَ " أَظَنَنْتِ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْكِ وَرَسُولُهُ ". قَالَتْ مَهْمَا يَكْتُمِ النَّاسُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ نَعَمْ. قَالَ " فَإِنَّ جِبْرِيلَ أَتَانِى حِينَ رَأَيْتِ فَنَادَانِى فَأَخْفَاهُ مِنْكِ فَأَجَبْتُهُ فَأَخْفَيْتُهُ مِنْكِ وَلَمْ يَكُنْ يَدْخُلُ عَلَيْكِ وَقَدْ وَضَعْتِ ثِيَابَكِ وَظَنَنْتُ أَنْ قَدْ رَقَدْتِ فَكَرِهْتُ أَنْ أُوقِظَكِ وَخَشِيتُ أَنْ تَسْتَوْحِشِى فَقَالَ إِنَّ رَبَّكَ يَأْمُرُكَ أَنْ تَأْتِىَ أَهْلَ الْبَقِيعِ فَتَسْتَغْفِرَ لَهُمْ ". قَالَتْ قُلْتُ كَيْفَ أَقُولُ لَهُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ " قُولِى السَّلاَمُ عَلَى أَهْلِ الدِّيَارِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ وَيَرْحَمُ اللَّهُ الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنَّا وَالْمُسْتَأْخِرِينَ وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَلاَحِقُونَ ".(1).
__________
(1) - صحيح مسلم (2301 )
أجاف : أغلق - الحشيا : وقع عليك الحشا وهو الربو والنهيج - أحضر : عدا عدوا -الرابية : التى أخذها الربو وهو التهيج وتواتر النفس الذى يعرض للمسرع فى مشيه -تقنعت : لبست
اللهدة : الدفع الشديد فى الصدر - لهد : دفع بشدة فى الصدر(2/195)
وَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - - كُلَّمَا كَانَ لَيْلَتُهَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - - يَخْرُجُ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ إِلَى الْبَقِيعِ فَيَقُولُ " السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ وَأَتَاكُمْ مَا تُوعَدُونَ غَدًا مُؤَجَّلُونَ وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لاَحِقُونَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لأَهْلِ بَقِيعِ الْغَرْقَدِ ".(1)..
قَال النَّوَوِيُّ : يُسْتَحَبُّ أَنْ يَخْرُجَ زَائِرُ الْمَدِينَةِ كُل يَوْمٍ إِلَى الْبَقِيعِ خُصُوصًا يَوْمَ الْجُمُعَةِ ، وَيَكُونُ ذَلِكَ بَعْدَ السَّلاَمِ عَلَى رَسُول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - (2).
__________
(1) - وفي صحيح مسلم (2299)
المخصرة : شىء مثل العصا يتوكأ عليه الرجل - نكت : ضرب الأرض ضربا أثر فيها -ينكت : يضرب
(2) - المجموع 8 / 275 طبعة دار الفكر .(2/196)
وَفِي الْبَقِيعِ قُبُورُ أَجِلَّةِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ ، كَانَتْ قَدْ بُنِيَتْ عَلَيْهِمْ قِبَابٌ ، وَقَدْ أُزِيلَتْ، لَكِنَّ أَهْل الْخِبْرَةِ يَعْرِفُونَ مَوَاضِعَهُمْ ، مِنْهُمْ : عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ ، وَالْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا إِلَى الْغَرْبِ ، وَشَرْقِيُّهُ قَبْرُ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَزَيْنِ الْعَابِدِينَ وَبَعْضِ أَهْل الْبَيْتِ فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ ، كَقَبْرِ صَفِيَّةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَمَّةِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَإِبْرَاهِيمَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ابْنِهِ إِلَى جَنْبِ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ ، وَإِلَى جَنْبِهِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَثَمَّةَ مَوْضِعُ قُبُورِ مَنْ دُفِنَ بِالْبَقِيعِ مِنْ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ جَمِيعًا(1).
__________
(1) - هداية السالك : 1 / 94 ، 95 .(2/197)
قلت : كان ينبغي عليهم-على الأقل- أن تكون هناك علامة واضحة تدل على قبر كل واحد منهم ، ولو نصيبة عند رأسه يكتب عليها اسم الشخص ،فعَنِ الْمُطَّلِبِ قَالَ لَمَّا مَاتَ عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ أُخْرِجَ بِجَنَازَتِهِ فَدُفِنَ أَمَرَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - رَجُلاً أَنْ يَأْتِيَهُ بِحَجَرٍ فَلَمْ يَسْتَطِعْ حَمْلَهُ فَقَامَ إِلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَحَسَرَ عَنْ ذِرَاعَيْهِ - قَالَ كَثِيرٌ قَالَ الْمُطَّلِبُ قَالَ الَّذِى يُخْبِرُنِى ذَلِكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ - كَأَنِّى أَنْظُرُ إِلَى بَيَاضِ ذِرَاعَىْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حِينَ حَسَرَ عَنْهُمَا ثُمَّ حَمَلَهَا فَوَضَعَهَا عِنْدَ رَأْسِهِ وَقَالَ :« أَتَعَلَّمُ بِهَا قَبْرَ أَخِى وَأَدْفِنُ إِلَيْهِ مَنْ مَاتَ مِنْ أَهْلِى »(1).
تَعْلِيمُ الْقَبْرِ وَالْكِتَابَةُ عَلَيْهِ(2)
__________
(1) - سنن أبى داود (3208 ) وهو حديث حسن .
(2) - الموسوعة الفقهية الكويتية - (ج 32 / ص 251)(2/198)
اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَعْلِيمِ الْقَبْرِ ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إلَى جَوَازِ تَعْلِيمِ الْقَبْرِ بِحَجَرٍ أَوْ خَشَبَةٍ أَوْ نَحْوِهِمَا ، لِمَا رُوِيَ " أَنَّهُ لَمَّا مَاتَ عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ أُخْرِجَ بِجَنَازَتِهِ فَدُفِنَ أَمَرَ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- رَجُلاً أَنْ يَأْتِيَهُ بِحَجَرٍ فَلَمْ يَسْتَطِعْ حَمْلَهُ فَقَامَ إِلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَحَسَرَ عَنْ ذِرَاعَيْهِ - قَالَ كَثِيرٌ قَالَ الْمُطَّلِبُ قَالَ الَّذِى يُخْبِرُنِى ذَلِكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ - كَأَنِّى أَنْظُرُ إِلَى بَيَاضِ ذِرَاعَىْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حِينَ حَسَرَ عَنْهُمَا ثُمَّ حَمَلَهَا فَوَضَعَهَا عِنْدَ رَأْسِهِ وَقَالَ « أَتَعَلَّمُ بِهَا قَبْرَ أَخِى وَأَدْفِنُ إِلَيْهِ مَنْ مَاتَ مِنْ أَهْلِى »(1)
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إلَى أَنَّهُ يُنْدَبُ تَعْلِيمُ الْقَبْرِ بِأَنْ يُوضَعَ عِنْدَ رَأْسِهِ حَجَرٌ أَوْ خَشَبَةٌ وَنَحْوُهُمَا ، قَال الْمَاوَرْدِيُّ : وَكَذَا عِنْدَ رِجْلَيْهِ(2).
__________
(1) - سنن أبى داود(3208 ) حسن
(2) - حاشية ابن عابدين 1 / 601، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 1 / 425، وروضة الطالبين 2 / 136، وحاشية القليوبي على شرح المحلي 1 / 351، وكشاف القناع 2 / 138، 139 .(2/199)
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ أَيْضًا فِي الْكِتَابَةِ عَلَى الْقَبْرِ ، فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إلَى كَرَاهَةِ الْكِتَابَةِ عَلَى الْقَبْرِ مُطْلَقًا لِحَدِيثِ جَابِرٍ ، قَالَ : نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يُبْنَى عَلَى الْقَبْرِ ، أَوْ يُجَصَّصَ ، أَوْ يَقْعُدَ عَلَيْهِ ، وَنَهَى أَنْ يُكْتَبَ عَلَيْهِ(1).
قَال الْمَالِكِيَّةُ : وَإِنْ بُوهِيَ بِهَا حَرُمَ .
وَقَال الدَّرْدِيرُ : النَّقْشُ مَكْرُوهٌ وَلَوْ قُرْآنًا ، وَيَنْبَغِي الْحُرْمَةُ لأَِنَّهُ يُؤَدِّي إلَى امْتِهَانِهِ .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالسُّبْكِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ إلَى أَنَّهُ لاَ بَأْسَ بِالْكِتَابَةِ إنِ احْتِيجَ إلَيْهَا حَتَّى لاَ يَذْهَبَ الأَْثَرُ وَلاَ يُمْتَهَنَ .
قَال ابْنُ عَابِدِينَ : لأَِنَّ النَّهْيَ عَنْهَا وَإِنْ صَحَّ فَقَدْ وُجِدَ الإِْجْمَاعُ الْعَمَلِيُّ بِهَا ، فَقَدْ أَخْرَجَ الْحَاكِمُ النَّهْيَ عَنْهَا مِنْ طُرُقٍ ثُمَّ قَال هَذِهِ الأَْسَانِيدُ صَحِيحَةٌ وَلَيْسَ الْعَمَل عَلَيْهَا فَإِنَّ أَئِمَّةَ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْمَشْرِقِ إلَى الْمَغْرِبِ مَكْتُوبٌ عَلَى قُبُورِهِمْ وَهُوَ عَمَلٌ أَخَذَ بِهِ الْخَلَفُ عَنِ السَّلَفِ ، وَيُتَقَوَّى بِمَا وَرَدَ أَنَّ رَسُول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حَمَل حَجَرًا فَوَضَعَهَا عِنْدَ رَأْسِ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ وَقَال : أَتَعَلَّمُ بِهَا قَبْرَ أَخِي ، وَأَدْفِنُ إلَيْهِ مَنْ مَاتَ مِنْ أَهْلِي(2).
،
__________
(1) - المستدرك للحاكم(1369) صحيح شاذ، ولكنه في مسلم دونها (2289 )عَنْ جَابِرٍ قَالَ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَنْ يُجَصَّصَ الْقَبْرُ وَأَنْ يُقْعَدَ عَلَيْهِ وَأَنْ يُبْنَى عَلَيْهِ.
(2) - مر تخريجه(2/200)
فَإِنَّ الْكِتَابَةَ طَرِيقٌ إلَى تَعَرُّفِ الْقَبْرِ بِهَا ، نَعَمْ يَظْهَرُ أَنَّ مَحَل هَذَا الإِْجْمَاعِ الْعَمَلِيِّ عَلَى الرُّخْصَةِ فِيهَا مَا إذَاكَانَتِ الْحَاجَةُ دَاعِيَةً إلَيْهِ فِي الْجُمْلَةِ ، حَتَّى يُكْرَهَ كِتَابَةُ شَيْءٍ عَلَيْهِ مِنَ الْقُرْآنِ أَوِ الشِّعْرِ أَوْ إطْرَاءُ مَدْحٍ لَهُ وَنَحْوُ ذَلِكَ(1).
د - جَبَل أُحُدٍ وَقُبُورُ الشُّهَدَاءِ عِنْدَهُ :
أُحُدٌ جَبَلٌ عَظِيمٌ يُطِل عَلَى الْمَدِينَةِ سُمِّيَ بِذَلِكَ لِتَوَحُّدِهِ وَانْقِطَاعِهِ عَنْ جِبَالٍ أُخَرَ هُنَاكَ ، وَبِاسْمِهِ سُمِّيَتِ الْغَزْوَةُ الْكَبِيرَةُ الَّتِي جَاءَتْ بَعْدَ غَزْوَةِ بَدْرٍ الْكُبْرَى ، لأَِنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - جَعَل ظَهْرَ جَيْشِهِ إِلَى جَبَل أُحُدٍ .
وَوَرَدَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رضى الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - طَلَعَ لَهُ أُحُدٌ فَقَالَ: " هَذَا جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ ، اللَّهُمَّ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ ، وَإِنِّى أُحَرِّمُ مَا بَيْنَ لاَبَتَيْهَا "(2).
كَمَا جَاءَ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ - رضى الله عنه - حَدَّثَهُمْ أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - صَعِدَ أُحُدًا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ فَرَجَفَ بِهِمْ فَقَالَ : " اثْبُتْ أُحُدُ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ نَبِىٌّ وَصِدِّيقٌ وَشَهِيدَانِ "(3).
__________
(1) - حاشية ابن عابدين 1 / 601 - 602، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 1 / 425، وحاشية القليوبي وعميرة على المحلي 1 / 350، وروضة الطالبين 2 / 136، وكشاف القناع 2 / 140 .
(2) - صحيح البخارى (3367 )
(3) - صحيح البخارى (3675 ) - رجف : خفق واضطرب(2/201)
وَتُسْتَحَبُّ زِيَارَةُ شُهَدَاءِ أُحُدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَقَدْ أُحِيطَتْ ، قُبُورُهُمْ بِسِيَاجٍ ، وَأُعْلِمَ عَلَى قَبْرِ سَيِّدِ الشُّهَدَاءِ حَمْزَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِعَلاَمَةِ قَبْرٍ كَبِيرَةٍ ، وَمَعَهُ فِي الْقَبْرِ الْمُجَدَّعُ فِي اللَّهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَحْشٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قِيل لَهُ : الْمُجَدَّعُ لأَِنَّهُ دَعَا يَوْمَ أُحُدٍ أَنْ يُقَاتِل وَيُسْتَشْهَدَ وَيُقْطَعَ أَنْفُهُ وَأُذُنُهُ وَيُمَثَّل بِهِ فِي اللَّهِ تَعَالَى ، فَاسْتَجَابَ اللَّهُ دُعَاءَهُ .
وَإِلَى جَانِبِهِ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ دَاعِيَةُ الإِْسْلاَمِ فِي الْمَدِينَةِ وَثَمَّةَ بَاقِي الشُّهَدَاءِ ، وَلاَ يُعْرَفُ قَبْرُ أَحَدٍ مِنْهُمْ ، لَكِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُمْ حَوْل حَمْزَةَ فِي بُقْعَةِ الْمَوْقِعَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَعِدَّتُهُمْ سَبْعُونَ : أَرْبَعَةٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْبَاقِي مِنَ الأَْنْصَارِ ، مِنْهُمْ حَنْظَلَةُ بْنُ أَبِي عَامِرٍ غَسِيل الْمَلاَئِكَةِ ، وَأَنَسُ بْنُ النَّضْرِ ، عَمُّ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ خَادِمِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، وَسَعْدُ بْنُ الرَّبِيعِ ، وَمَالِكُ بْنُ سِنَانٍ وَالِدُ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَرَامٍ وَالِدُ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَغَيْرُهُمْ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ جَمِيعًا(1).
وَيُسَلَّمُ عَلَيْهِمْ بِالصِّيغَةِ الْوَارِدَةِ عَلَى أَهْل الْقُبُورِ ، نَحْوَ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي السَّلاَمِ عَلَى أَهْل الْبَقِيعِ .
- - - - - - - - - - - - - -
المصادرُ الهامَّةُ
1. تفسير الطبري(جَامِعُ الْبَيَانِ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ) الشاملة 2 + موقع التفاسير
__________
(1) - هداية السالك 2 / 1396 - 1397 ، والمجموع 8 / 276 طبعة دار الفكر .(2/202)
2. تفسير ابن كثير الشاملة 2 + موقع التفاسير
3. الجامع لأحكام القرآن للقرطبي الشاملة 2 + موقع التفاسير
4. تفسير الألوسي الشاملة 2 + موقع التفاسير
5. التحرير والتنوير لابن عاشور الشاملة 2 + موقع التفاسير
6. أيسر التفاسير لأسعد حومد الشاملة 2 + موقع التفاسير
7. التفسير الميسر الشاملة 2 + موقع التفاسير
8. تفسير السعدي الشاملة 2 + موقع التفاسير
9. في ظلال القرآن الشاملة 2 + موقع التفاسير
10. الوسيط لسيد طنطاوي الشاملة 2 + موقع التفاسير
11. أحكام القرآن للجصاص الشاملة 2
12. أحكام القرآن لابن العربي الشاملة 2
13. اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم ابن تيمية الشاملة 2 = دار عالم الكتب
14. المنتقى - شرح الموطأ للباجي الشاملة 2+ موقع الإسلام
15. موطأ مالك المكنز
16. صحيح البخارى المكنز
17. صحيح مسلم المكنز
18. سنن أبى داود المطنز
19. سنن الترمذى المكنز
20. سنن النسائى المكنز
21. سنن ابن ماجه الكننز
22. مصنف عبد الرزاق المكتب الإسلامي + الشاملة 2
23. مصنف ابن أبي شيبة عوامة + الشاملة 2
24. مسند أحمد الكنز
25. مسند أحمد بن حنبل ( بأحكام شعيب الأرنؤوط) دار صادر
26. أخبار مكة للأزرقي الشاملة 2 + جامع الحديث النبوي
27. أخبار مكة للفاكهي الشاملة 2 + جامع الحديث النبوي
28. الإبانة الكبرى لابن بطة الشاملة 2 + جامع الحديث النبوي
29. الآحاد والمثاني لابن أبي عاصم الشاملة 2 + جامع الحديث النبوي
30. الترغيب والترهيب للمنذري الشاملة 2
31. السنن الكبرى للإمام النسائي الرسالة +الشاملة 2 + جامع الحديث النبوي
32. المستدرك للحاكم دار المعرفة + الشاملة 2 + جامع الحديث النبوي
33. المعجم الكبير للطبراني الشاملة 2 + جامع الحديث النبوي
34. المعجم الأوسط للطبراني الشاملة 2 + جامع الحديث النبوي
35. المعجم الصغير للطبراني الشاملة 2 + جامع الحديث النبوي(2/203)