بسم الله الرحمن الرحيم تقديم الديوان للأستاذ الدكتور مصطفى الشكعة الحمد لله حمدا كثيرا يليق بجلال ذاته، ويرتقى إلى كمال صفاته ويشيد بعظيم مننه ولطفه ونعمائه وآياته، وصلاة الله وسلامه وبركاته على خير خلقه وخاتم رسله، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن سار على هديه صلاة دائمة سابغة البركات معطرة النفحات، وبعد. فإن أخانا وشيخنا محمد الغزالى واحد من كبار علماء أمة الإسلام المعاصرين، له من الفضل ما لم يتوفر إلا للقليلين من أترابه، فهو العالم الفقيه الأصولى المحدث الأديب الخطيب، وقد وهبه الله من نعمة الدعوة إليه ـ جل وعلا ـ على بصيرة، القدرة التى لم تتوافر إلا للقليلين من دعاة زمانه، وقد طار صيته إلى كل ركن من أركان المعمورة ضمت ولو قلة من المسلمين وآحادا من المؤمنين، بل ربما لم يشاركه فى هذه الشهرة إلا واحد أو اثنان مثل مولانا الشيخ محمد متولى الشعراوى والشيخ على الطنطاوى. لقد عرف الناس عن الشيخ الغزالى تلك المواهب المعرفية الإسلامية التى أسلفنا ذكرها، وأما الذى لا تعرفه جمهرتهم، بل مجموعهم هو أنه كان شاعرا، ذا موهبة خصبة، وقريحة معطاءة، وقلم مطواع، وبيان سائغ. إن الشيخ الغزالى الشاعر كان متمثلا فى حياته حكمة الإمام الشافعى فى بيته المشهور: ولولا الشعر بالعلماء يزرى لكنتُ اليوم أشعر من لبيد
ص _006(1/1)
شعر الأئمة: والإمام الشافعى كان شديد التواضع فى قوله هذا البيت، ربما لما تكن شهرة الإمام الشافعى ـ على زمانه ـ فى عالم الشعر كشهرة لبيد، ولكنه بموازين زماننا، وحين وصلت إلى أيدينا نماذج كثيرة من شعره، وجدناه فاق لبيدا شهرة ـ على الرغم من فضل لبيد وقدراته الشعرية ـ ذلك أن لبيدا طرق فنون الشعر الجاهلية ثم أقلع عن ذلك حينما من الله عليه بنعمة الإسلام وشرف صحابته لنبى الهدى ورسول الرحمة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فلم يقل بعد إسلامه غير بيت واحد هو: الحمد لله إذ لم يأتنى أجلى حتى كسانى من الإسلام سربالا وفى رواية أخرى أن البيت الوحيد الذى قاله لبيد فى حياته بعد إسلامه هو: ما عاتب المرء الكريم كنفسه والمرءُ يُصْلِحُهُ الجليسُ الصالحُ وأيا ما كان الأمر فإن الإمام الشافعى ـ على تواضعه فى بيته سالف الذكر ـ ليس أقل شهرة فى ميدان الشعر من لبيد، هذا فضلا عن إمامته فى الفقه والعلوم الإسلامية، وعبقريته فى الأنساب، ونبوغه فى علوم اللغة. فإذا كان الأمر متعلقا بالشيخ الغزالى، فإن بيت الإمام الشافعى ينطبق عليه، فقد قال الغزالى الشعر فى فجر صباه، وعلى وجه التحديد فى الثامنة عشرة من عمره: ثمانى عشرة مرَّت سُهادا أرِدْتُ على المنام.. ولن أرادا فكانت يقظةُ المضنى بنائى كَرَى النُّوَّام أن يغفو اتئادا وكانت فى سبيل المجد تسعى تغالبه ولا تألو اطرادا هكذا قال الغزالى الشعر مبكرا، ولم يلبث أن أقلع عن قوله مبكرا أيضا، والرجل فى حاليه ـ قول الشعر والإقلاع عنه ـ يمثل مفاجأة لكثير من أصدقائه ومحبيه، ذلك أن هذه الكثرة من مريديه لم يعرفوا خبر شاعرية الشيخ وشعره إلا حين جرى الإعلان عن تحقيق هذا الديوان وطبعه ونشره. غير أن الأمر عندنا يختلف عنه عند الآخرين، فلماذا لا يكون الغزالى الإمام الداعية إلى الله الفقيه المحدث شاعرا، لقد سبقه فقهاء أعلام كثيرون فى قول الشعر ص _007(1/2)
الجاد، بل سبقه عدد من أئمة المسلمين فى قول الشعر، منهم من التزم جادة الشعر الإسلامى فى موضوعاته الفاضلة فى محيط العلم والفضل ومكارم الأخلاق، ومنهم من تجاوز هذه الأغراض إلى المدح والرثاء والهجاء، بل منهم من عمد إلى الغزل الرقيق العميق الذى جرى ويجرى بعضه على ألسنة الاسلاف وبعض المعاصرين وهم لا يدرون أن هذا الضرب من القول صادر عن أئمة أبرار وعلماء أخيار. إن إمام دار الهجرة مالك بن أنس رضى الله عنه قد أسهم فى الشعر قولا وإنشاء وترديدا، ولكنه حين يشدو بشعره يقف به عند فضيلة القناعة والزهد وأدب السلوك ومكارم الأخلاق، فمن شعره ـ رضى الله عنه ـ فى القناعة والزهد قوله: هى القناعة لا أرضى بها بدلا فيها النعيمُ وفيها راحةُ البدنِ وانظر لمن ملك الدنيا بأجمعها هل فاز منها بغير اللحدِ والكفنِ ويقول الإمام مالك فى أدب السلوك وحسن المعاشرة أبياتا جميلة تسرى الحكمة فى حناياها مما جعل بعضها يجرى مجرى المثل السائر: إذا رفع الزمان عليك شخصا وكنتَ أحقَّ منه ولو تصاعدْ أنِلْه حقَّ رتبته تجدْه يُنيلك إنْ دنوتَ وإن تَباعدْ ولا تقل الذى تدريه فيه تكن رجلاً عن السوأى تقاعدْ فكم فى العُرْس أبهى من عروس ولكنْ للعروسِ الدهرُ ساعدْ وأخبار الإمام مالك فى سماع الشعر والغناء غير قليلة، منها ما رواه القاضى عياض من أن الإمام مالكا مر بمغنية تغنى وتقول: أنتِ أختى أنتِ حرمةُ جارى وحقيقٌ علىَّ حفظُ الجوارِ أنا للجار ما تغيَّبَ عنى حافظ للمغيب فى الإسرارِ ما أبالى أكان للباب سترٌ مُسْبِلٌ أم بقى بغير ستار فأعجب الإمام بالشعر والغناء معا وقال: لو غنى بها حول الكعبة لجاز وقال: يأهل الدار، علموا قينتكم مثل هذا. ص _008(1/3)
ومن الأئمة الشعراء عبد الله بن المبارك، وهو تلميذ كبار أئمة زمانه، إنه تلميذ أبى حنيفة والمدافع عنه، وتلميذ مالك، وتلميذ الأوزاعى وتلميذ سفيان الثورى. إن شعر الإمام ابن المبارك من الطراز النفيس الملتزم ، الداعى إلى التزام عرى الدين والاستمساك بالفضائل، ويحمل فى طياته منهج ناقد وحذق داعية وذلك فى قوله: رأيتُ الذنوب تميتُ القلوبَ ويورثك الذلَّ إدمانُها وتركُ الذنوبِ حياةُ القلوبِ وخيرٌ لنفسكَ عصيانُها وهل أفسد الدين إلا الملوك وأحبار سوء ورُهبانُها وباعوا النفوس فلم يربحوا ولم تغل فى البيع أثمانُها لقد رتع القومُ في جيفةٍ يَبين لذى اللبَ إنتانُها وكان الإمام ابن المبارك ذا مال يكفيه، ويسار يغنيه، ولكنه كان يحب أن يصل العلماء والزهاد بما يعينهم على تكاليف الحياة، ومن ثم احترف التجارة حتى وهو مرابط فى الثغور، وكان يقول فى أسباب احترافه التجارة: لولا خمسة ما اتجرت: السفيانان ـ يعنى الثورى وابن عيينة ـ وفضيل بن عياض وابن السماك وابن علية، يقصد بقوله أنه أقدم على التجارة ليكون لديه من المال الوفير ما يمكنه من صلتهما. فلما ولى الخليفة هارون الرشيد، إسماعيل ابن علية القضاء غضب عليه ابن المبارك ولم يعره التفاتا إذا لقيه ثم أنشأ هذه الأبيات معرضا بالعالم الجليل إسماعيل بن علية: يا جاعلَ العلمِ له بازيا يصْطاد أموال المساكينِ احتلتَ للدنيا وزينتها بحيلة تذهبُ بالدينِ فصرت مجنونا بها بعد ما كنت دواءً للمجانينِ أين روايتك فى سردِها بتركِ أبوابِ السلاطينِ أين روايتك فيما مضى عن ابن عوف وابن سيرينِ إن قلت: أُكرِهْتُ، فذا باطل زل حمارُ الشيخ فى الطينِ ص _009(1/4)
وما أن اطلع ابن علية على الأبيات حتى انطلق إلى باب هارون الرشيد طالبا إليه أن يعفيه من منصب القضاء. وما زال يلح فى ذلك عليه حتى استجاب له الخليفة وأعفاه. ومن الأئمة الشعراء ذوى الشهرة الواسعة فى هذا المجال، الإمام محمد بن إدريس الشافعى الذى أسلفنا ترديد بيته الشهير: ولولا الشعر بالعلماء يزرى لكنت اليوم أشعر من لبيد إن الإمام الشافعى متنوع فنون الشعر، متعدد موضوعاته ومقاصده، ولكن فى نطاق الالتزام بالقيم الرفيعة، والشمائل النبيلة، من علم وفضل وخلق وزهد وترفع. يصف الشافعى حاله حين تواجهه المشكلات، وأكثرها مشكلات العلم بطبيعة الحال. ويبين للقارئ كيف يعالجها، ولا ينسى فى ذلك الإشادة بفضل الله عليه فيقول: إذا المشكلاتُ تصدَّيْن لى كشفتُ حقائقَها بالنظرْ لسانٌ كشقشقةِ الأرحبى أو كالحسام اليمانى الذكرْ ولستُ بإمعةٍ فى الرجالِ أسائلُ هذا وذا ما الخبرْ ولكننى مدرهُ الأصغرين جلابُ خيرٍ وفَراجُ شرْ ويعلن الشافعى حبه لآل بيت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فى العديد من قصائده، ضاربا عرض الحائط بمن يتهمه بالرافضية، فمن خير ما قال فى هذا الشأن بيتاه الجليلين: يا آل بيتِ رسولِ اللهِ حبكمُ فرضٌ من اللهِ فى القرآنِ أنْزَلَهُ يكفيكمُ من عظيم الفخر أنكمُ من لم يُصل عليكم لا صلاة له والشافعى رضى الله عنه فى الذروة العليا بين مقام الأئمة العلماء، ومن ثم فإن من الأمور الطبيعية أن يصوغ بليغ القول وأطايب الشعر فى العلم وفضله، والعلماء ومقاماتهم، ومن نماذجه الجميلة فى هذا الشأن قوله: ص _010(1/5)
رأيت العلم صاحبه كريم ولو ولدته آباء لئام وليس يزال يرفعه إلى أن يعظم أمره القوم الكرام ويتبعونه فى كل حال كراعى الضأن تتبعه السوام فلولا العلم ما سعدت رجال ولا عُرف الحلال ولا الحرام ويبصر الشافعى ـ كمعلم فقيه إمام ـ طالب العلم بالوسائل التى يتوسلها فى طلب العلم فيقول: آخى لن تنال العلم إلا بستة سآتيك عنها مخبرا ببيان ذكاءٍ وحرصٍ واصطبارٍ وبلغةٍ وصحبةِ أستاذٍ وطولِ زمانِ ويقول فى العلم أيضا عامدا إلى اصطناع البديع هذين البيتين: لن يبلغ العلم جميعا أحدٌ لا ولو حاوله ألف سنه إنما العلم عميق بحرهُ فخذوا من كل شىء أحسنه والشافعى كمعلم وإمام وصاحب تجربة فى الحياة يتخذ لنفسه منهجا فى حياته ألزم نفسه به، وطلب إلى مريديه التزامه، يتمثل هذا المنهج عمق الإيمان، وقبول أحكام القضاء والقدر، والصبر على المكاره، والجلد عند الشدائد، وسماحة النفس، وسخاء اليد، فهكذا تكون الحكمة فى التعامل مع أحداث الزمان: دع الأيام تفعل ما تشاءُ وطب نفسا بما حكم القضاءُ ولا تجزعْ بحادثة الليالى فما لحوادث الدنيا بقاءُ وكن رجلا على الأهوال جلدا وشيمتك السماحة والسخاءُ فلا حزن يدوم ولا سرورٌ ولا بؤس عليك ولا لي رضاءُ ص _011(1/6)
ولقد أكثر الحكماء والشعراء القول فى فوائد الأسفار وحكمة التنقل، والسفر عند العلماء مذهب وعقيدة، ولم يكن العالم يصيب مكانة بين قومه ما لم يذرع الأقطار طولا ويجوب الأمصار عرضا فى طلب العلم ، غير أن حكمة السفر والتنقل لا تقف بصاحبها عند الاستزادة من العلم، وإنما تكسبه فضيلة الصبر والجلد واكتساب الرزق ومعرفة الإخوان، وللإمام الشافعى فى ذلك أبيات نفيسة مشهورة يقول فيها: سافر تجد عوضا عمن تفارفه وانصب فإن لذيذ العيش فى النصب إنى رأيت وقوف الماء يفسده إن سال طاب، وإن لم يجر لم يطب والأسد لولا فراق الغاب ما افترست والسهم لولا فراق القوس لم تصب والتبر كالترب ملقى فى أماكنه والعود فى أرضه نوع من الحطب وللإمام الشافعى بيتان متفردان فى جمالهما يصور فيهما غرامه بالسفر، وولوعه بالتجوال، وذلك حين يقول: سأضرب فى طول البلاد وعرضها أنال مرادى أو أموت غريبا فإن تلفت نفسى فلله درها وإن سلمت كان الرجوع قريبا تلك أبيات متمنطقة بالعقل، ملتفعة بالحكمة، مؤيدة بالتجربة، قالها إمام عالم فقيه شاعر، ومن ثم لم يكن غريبا أن نتابع عزفه على أوتار الحكمة فى بيتيه ذائعى الصيت، برغم أن كثيرين ممن يحفظونهما لا يعرفان أنهما من فيض قريحة الإمام العظيم، وهما قوله: نعيبُ زماننا والعيب فينا وما لزماننا عيب سوانا ونهجو ذا الزمان بغير جرم ولو نطق الزمان إذن هجانا ص _012(1/7)
ولقد جمع الإمام الشافعى بين الزهد والتصوف فى حضير من شعره فمن هذا الطراز من الجمع بين الزهد والتصوف قوله: إن لله عبادا فطنا طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا نظروا فيها فلما علموا أنها ليست لحى وطنا جعلوها لجة واتخذوا صالح الأعمال فيها سفنا حقا ما أجمل هذا الطراز من القول الصادق من إمام شاعر صادق ومن هذا الضرب من السير فى نفس الدروب قوله رضى الله عنه: أمت مطامعى فأرحتُ نفسى فإن النفس ما طمعت تهون وأحييتُ القنوع وكان ميتا ففى إحيائه عرضى مصون إذا طمع يحل بقلب عبد علته مهانة وعلاه هون إن حديث الشعر فى حضرة الإمام الشافعى طيع وطويل، وليس الشافعى الشاعر موضوع هذا الحديث، ولكن باحثا يلج هذا الباب ـ باب شعر العلماء الفقهاء ـ لا يستطيع أن يتجاهل شعر الإمام الكبير، ومن ثم فسنكتفى بذكر نموذجين آخرين مستمدين من روحانية الآية الكريمة : (إنما يخشى الله من عباده العلماء)، وكان الشافعى فى مقدمة العلماء الذين امتلأت قلوبهم بخشية الله والطمع فى مغفرته، وفى ذلك يقول: تعاظمنى ذنبى فلما قرنته بعفوك ربى كان عفوك أعظما ولما قسا قلبى وضاقت مذاهبى جعلت رجائى نحو عفوك سلما وما زلت ذا عفو عن الذنب لم تزل تجود وتغفر منة وتكرما ص _013(1/8)
وفى ذلك يقول أيضا: صبرا جميلا ما أقرب الفرجا من راقب الله فى الأمور نجا من صدق الله لم ينله أذى ومن رجاه يكون حيث رجا وإذا ما ذكر الشافعى كشاعر بين أئمة الإسلام فإن الخاطر ينصرف على الفور إلى شاعر آخر من شيوخ الإسلام هو الحافظ أبو الفضل شهاب الدين أحمد بن حجر العسقلانى، مع أن الفارق الزمنى بين العالمين الجليلين يناهز سبعة قرون، فلقد توفى الشافعى سنة 254 هـ وتوفى ابن حجر سنة 852 كان ابن حجر يلقب بالحافظ لتفرده بالإقبال على أحاديث رسول الله (صلى الله عليه وسلم) تحصيلا وحفظا ورواية وشرحا، هذا فضلا عن عنايته بالقرآن الكريم حفظا وتفسيرا واستنباطا للأحكام، يضاف إلى ذلك مؤلفاته الكثيرة النفيسة فى مختلف العلوم والفنون " فانتشرت مصنفاته فى حياته وتهادتها الملوك وكتبها الأكابر". إن هذا العالم الجليل الفقيه الحافظ الموسوعى كان صاحب موهبة فى الشعر وعطاء فى القريض، بحيث زاحم معارضيه من الشعراء، وتفوق على كثير منهم، وهو أحد الشهب السبعة من شعراء زمانه المصريين الذين يجئ ذكره فى مقدمتهم، وقد كان كل واحد منهم يلقب بشهاب الدين، نذكر منهم: الشهاب المنصورى والشهاب الحجازى والشهاب الأبيزى المصرى - أصله من أبذة بالأندلس. على أن شعر ابن حجر تتصل أسبابه بالتقوى، وتلتحم حباله بالتوبة. فمن شعره فى هذا السياق قوله منشدا إياه لتلميذه السخاوى: خليلى ولى العمر منا ولم نتب وننوى فعال الصالحات ولكنا فحتى متى نبنى بيوتا مشيدة وأعمارنا منا تهد وما تبنا وكان شهاب الدين شيخ الإسلام ابن حجر يكثر من القول فى هذا الضرب الحبيب إلى قلبه، المتعلقة به نفسه مثل قوله: ص _014(1/9)
لقد آن أن نتقى خالقا إليه المآب ومنه النشورْ فنحن لصرف !لردى مالنا جميعا من الموتِ واقٍ نصيرْ ولابن حجر العسقلانى شعر كثير فى رحلاته، وخاصة إذا ما كان منها واحدة إلى المساجد الثلاثة التى إليها تشد الرحال، فقد وصف رحلته من نابلس إلى بيت المقدس، وكان هذا الطريق على زمانه وعرا صعب المسالك كثير العقبات: إلى البيت المقدس حيث أرجو جنان الخلل! نزلا من كريم قطعنا فى مسافته عقابا وما بعد العقاب سوى النعيم وكان لشيخ الإسلام ابن حجر مطارحات شعرية لطيفة مع إخوانه من علماء زمانه فمن ذلك قوله هذين البيتين: أشتاقكم شوق العليل إلى الشفا ودياركم فى كل يوم تبعدُ وأود طيف خيالكم لو زارني لكن عينى بالكرى لا تسعدُ ولما سمعهما قاضى الحنابلة المحب بن نصر الله أنشد لنفسه: شوقي إليكم لا يُحدُّ وأنتم فى القلب لكن للعيان لطائف فالجسم عنكم كل يوم فى نوى والقلب حول رُبا حماكم طائف ولشيخ الإسلام ابن حجر باع طويل فى شعر الاغتراب، وقد كان الشيخ الجليل كثير الأسفار، دائم الترحال فى طلب العلم، وكان من رقة الطبع ورهف الحس بحيث لا يكاد يقطع مرحلة فى سفر حتى يلح عليه الحنين إلى الوطن، وكان لسفرته إلى حلب نصيب غير قليل من هذا الشعر الرقيق، وفى ذلك يقول: كل يوم يمضى أقول تقضى ألبين فأزداد بالرحيل البعادا فمتى تنقضى بنا مدة الترحال حتى ألقى بسعدى سعادا ص _015(1/10)
وقوله: كلما أسفر النهار وجن الليل أزدادُ لوعة واشتياقا كيف لا والديار تبعد عنى كلما سِرتُ أو بعدتُ فراقا يا ديار الأحباب هل من رجوع لمشوق إليك يشكو الفراقا وعلى الرغم من الوقار الذى كان يتحلى به شيخ الإسلام ابن حجر وحسن معاشرته لإخوانه بخاصة ولمعاصريه بعامة، فقد كانت جفوة قائمة بينه وبين الشيخ العلامة بدر العينى، فقد اتفق أن منارة المدرسة المؤيدية قد مالت على برج باب زويلة، فأنشد ابن حجر هذين البيتين معرضا بالشيخ العينى: لجامع مولانا المؤيد رونق منارته بالحسن تزهو وبالزين تقول وقد مالت على البرج أمهلوا فليس على جسمى أضر من العين وبلغ ذلك العينى فقال وأجاد: منارة كعروسي الحسن إذ جُليت وهدمها بقضاء الله والقدر قالوا أصيبت بعين قلت ذا غلط ما أوجب الهدم إلا خسة الحجر ولا يخفى ما فى قولهما معا من جمال التورية وحسن التعريض. وإذا كنا ذكرنا الشهب الشعراء السبعة فى صدر حديثنا عن شيخ الإسلام الشهاب ابن حجر، فإنه مما يجمل ذكره هنا الشهاب الحجازى، وهو قاهرى المولد والإقامة والثقافة والوفاة، واسمه أحمد بن محمد بن على الشافعى، وكان مقرئا مجودا للقرآن الكريم، وله مشاركة فى علوم الفقه والأصول والحديث الشريف، وله مؤلفات كثيرة نفيسة منها كتاب النيل وآخر فيما وقع فى القرآن على أوزان البحور، وله كتاب فى الألغاز وكتاب فى الحماقة. ومن شعره هذان البيتان المشهوران: ص _016(1/11)
يا من غدا من الذنوب فى خجل وخائفا من الخطايا والزلل ارحم جميع الخلق وارج رحمة فإنما الجزاء من جنس العمل ولم ينجب الشهاب الحجازى أبناء ذكورا يحملون اسمه بعد وفاته الأمر الذى جعله ينشئ هذين البيتين: قالوا إذا لم يخلف ميت ذكرا يُنْسى، فقلت لهم فى بعض أشعارى بعد الممات أصيحابى ستذكرنى بما أخلف من أولاد أفكارى * * * شعر جمهرة الفقهاء: هذا ما كان من شأن الفقهاء الأئمة ومن فى حكمهم فى دنيا الشعر ومسالكه، والموضوعات التى عرضوا لها فأحسنوا وجودوا، فإذا ما كان القول متصل الأسباب بجمهرة الفقهاء الشعراء، فإن خاصة الموضوعات التى طرقوها وقدموها فى ثياب من رقيق الشعر وأنيق النظم تدور جميعها أو أكثرها فى طاعة الخلاق ومكارم الأخلاق، من ثناء على الله عز وجل، وتمجيد الحمد وكريم الفعال، وطاعة الله سبحانه وتقواه، وذم الكذب وتقبيح الحسد، وتعميق الإيمان بالمشيئة الربانية، والصبر على نكبات الدهر، والحرص على الخل الوفى. وكان طبيعيا أيضا أن يمدح الشاعر الفقيه العلم الذى يزينه، وهو علم الفقه. إن الفقيه المصرى الكفيف منصور بن إسماعيل الذى كان يعرف بالفقيه، المتوفى سنة 356 هـ يقول فى مدح علم الفقه: عاب التفقه قوم لا عقول لهم وما عليه إذا عابوه من ضرر ما ضر شمس الضحى فى الأفق طالعة ألا يرى ضوءها من ليس ذا بصر قال ابن خلكان: ومن هنا أخذ أبو العلاء المعرى قوته فى قصيدته المشهورة: والنجم تستصغر الأبصار رؤيته والذنب للعين لا للنجم فى الصغر ص _017(1/12)
ولمنصور الفقيه شعر أخلاقى رفيع القدر، بعيد المرمى، فهو يعرض للنميمة وللكذب، ويقرر أنه قد يجد علاجا للنمام، ولكن الأمر ليس كذلك فى الكذاب؛ ومن ثم يقول فى ذم الكذب: لى حيلة فيمن ينم وليس فى الكذاب حيله من كان يخلق ما يقول فحيلتى فيه قليله ومن الشعراء الفقهاء الذين صفت نفوسهم وصدقوا فى الثناء على الله عز وجل، محمود الوراق الذى توفى مبكرا فى خلافة المعتصم العباسى فى العقد الثالث من القرن الثانى، وقد حُسب محمود الوراق على شعراء الزهد، ولكن عددا من رواة الأخبار عدوه من رواة الحديث، وذكروا أن عالم زمانه ابن أبى الدنيا كان يروى عنه، ومن ثم فلا ضير من ضمه إلى فريق الشعراء الفقهاء. ومما يستجاد من شعره فى شكر الله والثناء عليه جل وعلا قوله: إذا كان شكرى نعمة الله نعمة علىَّ له فى مثلها يجب الشكر فكيف بلوغ الشكر إلا بفضله وإن طالت الأيام واتصل العمر إذا مس بالسراء عم سرورها وإن مس بالضراء أعقبها الأجر فما منهما إلا له فيه نعمة تضيق به الأوهام والسر والجهر ويكثر محمود الوراق من القول فى سياق حمد الخالق على نعمائه، فيقول فى مناجاة شفافة: إلهى لك الحمدُ الذى أنت أهله على نعم ما كنت قط لها أهلا متى زدت تقصيرا تزدنى تفضلا كأنى بالتقصير أستوجب الفضلا ومن الشعر الرصين النفيس الذى قاله محمود الوراق فى تقريع من يعصون ربهم وتقبيح فعالهم قوله: ص _018(1/13)
تعصى الإله وأنت تُظهر حُبه هذا محال فى القياس بديعُ لو كان حبك صادقا لأطعته إن المحب لمن يحب مطيع ومن طراز الشعر الرقيق الصادق فى تصوير عجزه عن شكر الله حق شكره قوله: أيا رب قد أحسنت عودا وبدأة إلىَّ فلم ينهض بإحسانك الشكرُ فمن كان ذا عذر لديك وحُجة فعذري إقراري بأن ليس لى عذرُ ومن الفقهاء الشعراء الشيخ أبو حامد الإسفرائينى المتوفى 406 هـ ، و كان معظم شعره ـ على إقلاله ـ فى مكارم الأخلاق، فمن شواهده فى ذلك قوله: لا يغلون عليك الحمد فى ثمن فليس حمد وإن أثمنت بالغالي الحمد يبقى على الأيام ما بقيت والدهر يذهب بالأحوال والمال وقد سار على هذا النهج الأخلاقى من الفقهاء الشعراء قاضى بغداد المعافى بن زكريا المتوفى بالنهروان سنة 390 هـ، وهو صاحب كتاب " الجليس الأنيس "، وكان المعافى على مذهب أبى جعفر محمد بن جرير الطبرى، ولذلك كان يلقب بالجريرى نسبة إلى ابن جرير، إذ إن المشتغلين بعلوم الفقه يعرفون أن لابن جرير الطبرى مذهبا كان له تابعوه تماما مثل الأحناف والمالكية والشوافع والحنابلة وغيرهم، ولكن أتباع المذهب قد اندثروا مثلما اندثر أتباع غيره من الأئمة العظام مثل الليثى والأوزاعى والثورى وغيرهم. ومن نماذج شعر المعافى الأخلاقى ما أنشأه فى ذم الحسد حيث يقول: ألا قل لمن ظل لى حاسدا أتدرى على من أسأتَ الأدبْ؟ أسأت على الله فى حكمه لأنك لم ترض لى ما وهب فجازاك عنى بأن زادنى وسد عليك وجوه الطلب ص _019(1/14)
وفى الصبر على نكبات الدهر، والإيمان بأن بعد العسر يسرا، وذلك استجابة للآية الكريمة (إن مع العسر يسرا) يقول أبو على المروروذى القاضى الفقيه المحدث المتوفى سنة 462 هـ: إذا ما رماك الدهر يوما بنكبة فأوسع لها صدرا وأحسن لها صبرا فإن إله العالمين بفضله سيعقب بعد العسر من فضله يسرا والفقهاء جميعا يعلمون قياد شئونهم إلى الله، فإن من يعارض المشيئة فقد نأى بنفسه عن حظيرة الإيمان، هكذا يؤمن الناس الأسوياء وفى مقدمتهم الفقهاء، وفى ذلك يقول الفقيه الأديب الكاتب محمد بن على بن الحسن المشهور بأبى الحسن بن أبى الصقر الواسطى الشافعى المتوفى 498 هـ: من عارض الله فى مشيئته فما من الدين عنده خُبَرُ لا يقدرُ الناسُ باجتهادهم إلا على ما جرى به القدرُ وهذان البيتان يوحيان إلى هذا الأديب الفقيه ثلاثة أبيات فى الرزق، ثم يزج بإبليس فى موقف ارتضاه منه فى صياغة غريبة وذلك فى قوله: كل رزق ترجوه من مخلوق يعتريه ضرب من التعويق وأنا قائل وأستغفر الله مقال المجاز لا التحقيق لستُ أرضى من فعل إبليس شيئا غير ترك السجود للمخلوق وقد عُمر ابن أبى الصقر الواسطى طويلا فيما يبدو، ومعروف أن طول العمر فى نطاق شيخوخة غير سعيدة أمر يدعو إلى الشكوى، وهو تقليد جرى عليه الشعراء منذ زهير بن أبى سلمى، ومن هنا فإن فقيهنا الشاعر قال يشكو الشيخوخة: علةٌ سُميت ثمانين عاما منعتنى للأصدقاء القياما فإذا عُمِّرُوا تمهد عُذرى عندهم بالذى ذكرتُ وقاما ص _020(1/15)
ومن طريف شكوى شيخوخته أيضا قوله: كل امرئ إذا تفكرت فيه وتأملته رأيت ظريفا كنتُ أمشى على اثنتين قويا صرت أمشى على ثلاث ضعيفا ومن القضاة الفقهاء الشعراء الذين أولعوا بقول الشعر فى طاعة المولى جل وعلا، والتغنى بتقواه، أبو عمر النَّسوى محمد بن عبد الرحمن بن أحمد المتوفى سنة 487 هـ عن عمر يناهز المائة، وكان يعرف بأقضى القضاة شأنه فى ذلك شأن معاصره أبى الحسن الماوردى. إن أبا عمر النَّسَوى يجيىء بالمعنى البكر والصوغ الصقيل فى شعره فى موضوع التقوى وطاعة الإله، وذلك فى قوله : من رام عند الإله منزلةً فليُطع الله حق طاعته وحق طاعاته القيام بها مبالغا فيه وسع طاقته ومنه: اتخذ طاعة الإله سبيلا تجد الفوز بالجنان وتنجو واترك الإثم والفواحش طُرا يُؤتك الله ما تروم وترجو ومن نجوم الفقهاء العلماء الشعراء ذوى المكانة الرفيعة فى أزمانهم وبين أقرانهم ، الشيخ إبراهيم بن على بن يوسف الفيروزآبادى ـ نسبة إلى مسقط رأسه فيروزآباد ـ بكسر الفاء ـ الذى اشتهر بأبى إسحاق الشيرازى الفقيه الأصولى المحدث الأديب الشاعر المتوفى سنة 476 هـ. كان أبو إسحاق إمام وقته ببغداد، ولما بنى الوزير نظام الملك مدرسته الشهيرة التى عرفت بـ " النظامية " سأله أن يتولى أمرها، ولكنه اعتذر عن عدم قبوله عرض الوزير الجليل الشهير. ص _021(1/16)
وأبو إسحاق صاحب مصنفات نفيسة، منها : " المهذب فى المذهب " يعنى المذهب الشافعى، و " التنبيه " فى الفقه، و " اللمع " فى أصول الفقه، و " النكت" فى الخلاف، و " التلخيص " فى الجدل. وعلى الرغم من أنه كان فى غاية من الورع والتشدد فى الدين فإنه كان صاحب ملح وفكاهات، منها ما حكاه أبو نصر خطيب " الموصل" قال لما جئت بغداد، قاصدا الشيخ أبا إسحاق، رحب بى، وقال: من أى البلاد أنت؟ فقلت: من الموصل. فقال: مرحبا أنت بلدتى. فقلت: يا سيدنا أنا من الموصل، وأنت من فيروزآباد. فقال: مبتسما يا ولدى، أما جمعتنا سفينة نوح. وأما شعر أبى إسحاق فمثل قطع الجوهر نفاسة وبهاء، وحسن سبك وثراء معنى، يريد أن ينبه الناس إلى الخل الوفى الذى ندر وجوده فيقول: سألت الناس عن خل وفى فقالوا ما إلى هذا سبيل تمسك إن ظفرت بذيل حرٍّ فإن الحُرَّ فى الدنيا قليل ويقول فى رثاء غريق فى معنى جديد لا يحسن طرقه إلا شاعر مجيد: غريق كأن الموت رق لفقده فلان له فى سُورة الماء جانبه أبى الله أن أنساه دهرى لأنه توفاه فى الماءِ الذى أنا شاربه وأما شعر الفيروزآبادى الشيرازى فى شئون الإيمان، وتمجيد الخالق، والصبر على المشكلات، والانصراف عن طلب العون من المخلوق، فهذا هو ميدانه الحقيقى حيث يسبح فيه كما يسبح الجواد الأصيل فى مضمار المنافسة، ولعل من أجمل إبداعاته الشعرية فى ذلك قصيدته التائية التى عن لى أن أطلق عليها: قصيدة " أدب النفس مع الله " وفيها يقول: ص _022(1/17)
صبرتُ على بعض الأذى خوفَ كلِّه وألزمتُ نفسى صبرها فاستقرَّت وجرعتُها المكروه حتى تدربَّت ولو حملته جُملة لاشمأزت فيارب عزَّ جرَّ للنفسِ ذلة ويا رُب نفسٍ بالتذلُّلِ عزَّت وما العزُّ إلا خيفةُ الله وحده ومن خاف منه خافه ما أقلت فيا صدق نفسى إن فى الصدق حاجتى فأرضى بدنياى وإن هى قلت وأهجر أبواب الملوك فإننى أرى الحرص جلابا لكل مذلة إذا ما مددت الكف ألتمس الغنى إلى غير من قال اسألونى فشُلَّت إذا طرقتنى الحادثات بنكبةٍ تذكرتُ ما عوقبتُ منه فقلت وما نكبةٌ إلا ولله منة إذا قابلتها أدبرت واضمحلت تبارك رزاق البرية كلها على ما أراد لا على ما استحقت فكم عاقل لا يستبيت وجاهلٍ ترقت به أحواله وتعلت وكم من جليل لا يُرام حجابه بدار غرور أدبرت وتولت تشوب القذى بالصفو والصفو بالقذى ولو أحسنت فى كل حال لمُلَّت ومن أجمل ما أنشأ العلامة الشاعر أبو إسحاق الشيرازى فى المناجاة الربانية، والابتهالات الصوفية، وضروب الخضوع الصمدانية، قوله: لبستُ ثوبَ الرَّجا والناسُ قد رقدوا وقُمْتُ أشكو إلى مولاى ما أجدُ وقلتُ يا عُدتي فى كل نائبة ومن عليه لكشف الضُّر أعتمدُ أشكو إليك أمورا أنت تعلمها ما لى على حملها صبر ولا جلدُ وقد مددتُ يدى بالضُّر مبتهلا إليك يا خير من مُدت إليه يدُ فلا ترُدَّئها يا رب خائبة فبحر جودك يُروى كل من يرِدُ ص _023(1/18)
تلك نماذج قليلة لبعض ذوى المواهب من العلماء الفقهاء، ولو أننا أطلقنا للقلم العنان لامتد هذا التقديم طولا ليصير سفرا، وفاض عرضا ليصير كتابا، ولكنا أردنا أن نضع شيخنا الجليل محمدا الغزالى فى مكانه الرحب الخليق به بين جمهرة الأفذاذ ذوى المواهب من العلماء الشعراء. * * * فقهاء عشاق شعراء: أما وقد عرضنا لهذه الفنون الرصينة من شعر الفقهاء، وهى تجرى جميعها فى مضمار الدين وحسن السلوك ومكارم الأخلاق، فإن خاطرا ما قد يثور فى نفس قارئ، فحواه استفهام عما إذا لما يجر قلم شاعر فقيه كى يترجم عن خفقات قلبه ونوازع فؤاده، فالفقهاء بشر لهم قلوب تخفت ونفوس تعشق وجوانح يضنيها العشق ويسهرها الغرام. إن الإجابة على هذا التساؤل تقع فى نطاق الإيجاب، غير أن حياء الفقيه وتصونه يمنعانه من الإعلان، ووقار العلم ومكانته تقفان دون البوح والشكاية، ولكن وعلى الرغم من ذلك فقد وجد الفقهاء العشاق والعلماء المحبون الذين لم يستطيعوا الكتمان، فباحوا بمكنونات مشاعرهم، ولم يتحملوا عبء الصبابة، فترجموا عن وجدهم وصبابتهم شعرا جميلا أخاذا، وغزلا رقيقا عفيفا، حفظته الخواطر وروته الأجيال. هذا الفريق من الفقهاء العشاق ليسوا من الكثرة بمكان بحيث يشكلون ظاهرة فى مجتمع العلماء، ولكنهم وجدوا على أية حال، وذاع شعرهم وشاع غزلهم، ورددته ربات الخدور مثلما رجعته ألسنة الرجال. كان عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود واحدا من هؤلاء الشعراء الفقهاء العشاق، وهو فقيه إمام من صفوة التابعين، وهو أيضا أحد الفقهاء السبعة بالمدينة المنورة فى عصر التابعين ولكنه كان رقيق الحس، مشبوب العاطفة فى ثوب من العفة، وإطار من التصون قولا وسلوكا، ومن قصائده الغزلية التى سارت مسرى النجوم اللامعة فى كبد السماء الصافية وغناها كبار المغنين فى المدينة قوله: ص _024(1/19)
كتمتَ الهوى حتى أضرَّ بك الكتْمُ ولامكَ أقوامٌ ولومُهُمُ ظُلْمُ ونَمَّ عليك الكاشحون وقبل ذا عليكَ الهوى قد نَمَّ لو نفع النَّمُّ فيا من لِنفْسٍ لا تموتُ فينقضى عَنَاها ولا تحيى حياةً لها طعمُ تجنَّبْت إتيانَ الحبيبَ تأثُّمًا ألا إن هجرانَ الحبيبِ هو الإثمُ ويعتذر أصحاب القلوب الرقيقة من حفاظ شعر عبيد الله عما حملته الأبيات من وجد، وما حفلت به من شكوى، أنها جاءت على أسلوب التجريد لا بصيغة المتكلم، فصلحت لأن يجد فيها كل محب صب تعبيرا عن كوامن حبه، ومكنونات صبابته. ويجيء فى مقدمة الشعراء الفقهاء العشاق عروة بن أذينة الذى شغل الناس كل الناس بحرارة غزله ورقة نسيبه، فغزا قلوب العذارى فى خدورهن مثلما شغل النقاد والمتأدبين ببراعة صوغه وعبقرية بيانه. كان عروة محدثا ثبتا، يقول ابن قتيبة إنه كان يحمل عنه الحديث ـ أى يروى حديث رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ويُروى عن الأصمعى قوله فى عروة : إن الإمام مالك بن أنس كان يروى عنه أى يأخذ عنه حديث رسول الله، وقد توفى عروة سنة 130 هـ. كان عروة كريما على نفسه، معتزا بمكانته بين الناس، فوفد على الخليفة الأموى هشام بن عبد الملك، فلما دخل على هشام إذ به ـ أى هشام يقول: ألست القائل: لقد علمتُ ـ فما الإسراف فى طمعى أن الذى هو رزقى سوف يأتينى أسعى له فيعَنِّينى تطلُّبه ولو قعدتُ أتانى لا يُعَنِّينى قال عروة: نعم. قال هشام: فما أقدمك علينا؟، قال: سأنظر فى أمرى، وانصرف على الفور، فأخبر هشام بذلك، فأتبعه بجائزته. ص _025(1/20)
هذا سلوك العلماء مع الملوك والخلفاء، أما فى شعر الغزل فمن أشهر ما قال، ومن أرق ما أنشأ فى شعر الغزل تلك الأبيات التى سجلتها كتب الحماسة وطبقات الشعراء وحفظها العشاق والأدباء: إن التى زعَمَتْ فؤادكَ ملَّها خُلقتْ هواكَ كما خُلقتَ هوى لها بيضاءُ باكرَها النعيمُ فصاغَها بلباقةٍ فأدقَّها وأجلَّها حَجَبتْ تحيتها فقلتُ لصاحبى ما كان أكثرَهَا لنا وأقلَّها وإذا وجدتُ لا وساوسَ سلوةٍ شفعَ الضميرُ إلى الفؤاد فَسَلَّها ومن طريف ما أنشأ شاعرنا الفقيه فى مجال الغزل أيضا، ذلك الحوار الذى أجراه على لسان محبوبته ممثلا فى هذين البيتين: قالتْ، وأبثثتُها وجدى، فبُحتُ به: قد كنتَ عندى تحبُّ السَّتْرَ فاسْتَتِرِ ألستَ تبصرُ مَنْ حولى؟ فقلت لها: غطَّى هواكِ وما ألقى على بصرى هذا الضرب من الحوار يذكرنا بمثيله عند عمر بن أبى ربيعة، ولكن شتان الفرق بين عفة عروة وجرأة عمر. وكان الشعراء من أهل مكة والمدينة يحتفلون بالموسم ويصفون الخفرات الجميلات فى مناسك الحج، وقد رسم عروة بن أذينة على نفس المنوال، ولكن فى نطاق رقة اللفظ وعفة الكلمة، وبراعة الصوغ، وأناقة التعبير: لَبِثُوا ثلاثَ مِنًى بمنزلِ غبطةٍ وهُمُ على غرضٍ لعمرُك ما هُمُ متجاورين بغير دارِ إقامةٍ لو قد أجدَّ رحيلُهم لم يندموا ولهن بالبيتِ العتيقِ لُبانةٌ والبيتُ يعرفهنَّ لو يتكلمُ لو كان حيا قبلهن ظعائنًا حيا الحَطيمُ وجُوهَهُنَ وزمزمُ وكأنهن وقد حَسَرنَ لواغبا بيضٌ بأكنافِ الحطيمِ مُركَّمُ ص _026(1/21)
إن مجتمعا مثل مجتمع المدينة هو فى واقع أمره مجتمع أحرار وحرائر، ولذلك لم يكن مستغربا أن يواجه عروة ببعض من تعترض على شعره من حرائر أهل المدينة، فقد وقفت عليه واحدة من هؤلاء النساء الخفرات وقالت: أنت الذى يقال فيك الرجل الصالح وأنت تقول: إذا وَجَدتُ أوارالحبِّ فى كبدى عمدتُ نحو سِقاءِ الماءِ أبْتَرِدُ هبنى بردتُ بِبَرد الماء ظاهره فمَن لِنارٍ على الأحشاء تَتَّقدُ ثم أردفت قائلة: لا والله ما قال هذا رجل صالح. ومن الفقهاء الشعراء ذوى الأقدام الراسخة فى الشعر أحمد بن المعذَل ، فقد كان فقيه فقهاء المالكية فى العراق، وكان يلقب بالراهب لغزارة فقهه وطول نسكه. فمن شعره الذى يتأله فيه ويتقرب إلى الحضرة الإلهية ذاكرا القيامة والموقف ما رواه المبرد قائلا: رأيت أحمد بعرفات مضحيا للشمس لا يستظل. فقلت ما هذا يا أبا الفضل؟ فقال: ضَحَيتُ لكيما أستظلُّ بظلِّه إذا الظلُّ أضحَى فى القيامةِ قالصَا فيا أسفى إن كان سعيُك باطلا ويا حَزَنَا إن كان أجرُكَ ناقصا ومن الطريف أن فقيهنا الشاعر أحمد بن المعذل هو أخو الشاعر المشهور عبد الصمد بن المعذل الذى لم تكن حياته تخلو من مجون وانحراف، وكان أحمد يساكن عبد الصمد فى بيت واحد، وكان أحمد يبكر فى الذهاب إلى المسجد ليؤم الناس فى صلاة الفجر، ويمر بأخيه فيجده سكران، فيهزه ويسمعه قول الله زاجرا إياه: (أفأمن الذين مكروا السيئات أن يخسف الله بهم الأرض). فيرد عليه عبد الصمد بآية من الكتاب العزيز تاليا قوله تعالى: (وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم). ص _027(1/22)
ومن أرق ما أنشأ شاعرنا الفقيه أحمد بن المعذل فى الغزل هذه الأبيات المترفة المعانى، الجياشة بألفاظ العشق، المترعة بساحر النغم: أخو دنف رمتهُ فأقصدتهُ سهامٌ من لحاظك لا تطيشُ قواتلُ لا قداحَ سوى احورارٍ بهن ولا سوى اللحظاتِ ريشُ أصبنَ سوادَ مهجتهِ فأضحى سقيماً لا يموتُ ولا يعيشُ كئيبٌ إن تحمَّل عنه جيشٌ من البلوى، ألمَّ به جيوشُ ومن الفقهاء الحفاظ الذين جمعوا بين الإبداع فى وصف الطبيعة والإغراق فى قول الغزل، الراوية المحدث أبو بكر بن عبد الرحمن الزهرى فى قوله: ولما نزلنا منزلاً طلَّه النَّدى أنيقا وبُستانًا من النَّور حاليا أجدَّ لنا طيبُ المكانِ وحُسْنُه مُنى، فتمنينا فكنتِ الأمانيا لقد افتتن شاعر العربية الكبير أبو تمام الطائى بهذين البيتين فجلعهما إحدى حماسياته فى باب الغزل. ومن الشعر الغزلى الذى استتر تحت وصف ورقاء ذكرت إلفها وعشيرها المفارق فبكت، قول أبى بكر الشبلى الصوفى ال!صبير مقترفحا جحافل العمبابة والجوى من حال الورقاء أبياته تلك المشهورة التى نرجح أنه أنشأها قبل أن يست! فى بحار الصوفية الصافية والتى صار واحدا من كبار أعلامها. يقول الشبلى: ربَّ ورقاءَ هتوفٍ فى الضُّحَى ذات شجوٍ صدحتْ فى فننِ ذكرت إلفاً وعيشاً سالفاً فبكت حُزناً فهاجت حزنى فبكائى رُبَّما أرّقها وبُكاها ربما أرَّقنى ولقد تشكُو فما أفهمها ولقد أشكو فما تفهمنى غير أنى بالجوى أعرفُها وهى أيضا بالجوى تعرفنى أتُراها بالبُكا مولعة أم سقاها البين ما جرَّعنى ص _028(1/23)
إنه من الوضوح بمكان أن كلاً من الزهرى والشبلى يمتحان من ينبوع واحد هو سحر الطبيعة ويصبان كذلك فى بستان واحد هو بستان الغزل، الأمر الذى تطلب من كل منهما ألفاظا كأنها الديباج نعومة وحسنا، وخيالا مجنحا كرفرفات الفراشات فى أحواض الزهور. ومن الفقهاء الشعراء الذين بلغوا درجة الإمامة محمد بن داود الظاهرى وكان على مذهب الظاهرية، وهو مذهب أبيه داود الظاهرى، وكان محمد ـ و كنيته أبو بكر ـ متمكنا فى علمه، متفجرا فى حواره، رفيعا فى أدبه حتى إن صلاح الدين الصفدى لقبه بالإمام ابن الإمام، ووصفه بأنه من أذكياء العالم. ومؤلفات محمد كثيرة يجىء فى مقدمتها كتاب " الزهرة " و " الوصول إلى معرفة الأصول " و " اختلاف مسائل الصحابة " وتوفى سنة 297 إن كتاب " الزهرة " وهو فى الأدب يدلنا على مكانة رفيعة تبوأها محمد بن داود فى الأدب والتعلق به والإحاطة بفنونه وبخاصة الشعر، وكان لمحمد مجلس علم وأدب يؤمه العلماء والأدباء والشعراء، وقد وفد على مجلسه ذات يوم الشاعر المبدع ابن الرومى وقدم إليه رقعة من الورق، فأخذ يقلبها ظنا منه أنها مسألة يراد الإجابة عن محتواها، ثم لم يلبث أن كتب الإجابة على ظهرها. أما الرسالة فكانت بيتين من الشعر قال فيهما ابن الرومى: يا بن داودَ فقيه العراق أفْتنا فى قواتلِ الأحداق هل عليهن فى الجراح قِصاصٌ أم مباحٌ لها دمُ العشاقِ وأما جواب الرسالة فكان هذين البيتين على نفس البحر والقافية والروى : كيف يفتيكمُ قتيلٌ صريحٌ بسهامِ الفراق والاشتياقِ وقتيلُ التلاقى أحسن حالا عندَ داودَ من قتيل الفراقِ وأما نفثات فؤاده فى الغزل فهى مما ينظمه فى سلك شعراء الغزل المشهورين، فمن ذلك قوله: ص _029(1/24)
أنزّهُ فى روضِ المحاسنِ مقلتى وأمنعُ نفسى أن تنالَ المحرمَّا وأحملُ من ثقْلِ الهوى ما لو أنه يُصَبُّ على الصخرِ الأصمِّ تهدمَّا وينطلقُ طرفى عن مترجم خاطرى فلولا اختلاسى ردَّهُ لتكلمَّا رأيتُ الهوى دعوى من الناس كلهم فما إن أرى حبا صحيحا مُسلَّما وإن الذى يتناول محمد بن داود الظاهرى فى نطاق حديث الفقه والشعر معا لا يجد مناصا من أن يقفز إلى الحديث عن أبى محمد بن حزم المتوفى 456 هـ، ذلك العالم الفقيه الموسوعى الأديب المفسر المؤرخ عالم الأصول والأحكام الذى يعد واحدا من أكثر العلماء تأليفا للكتب، وقد أحصى من أرخوا له كتبه بأربعمائة مجلد فى نحو ثمانين ألف ورقة، وإن أشهر كتبه التى بين أيدينا "المحلَّى " ويقع فى عشرة مجلدات وهو كتاب فى الفقه الظاهرى بشكل خاص والفقه المقارن بشكل عام ومن كتبه الشهيرة أيضا " الفصل فى الملل والأهواء والنحل " ومنها " الإحكام لأصول الأحكام " و " جمهرة الأنساب " و" المفاضلة بين الصحابة " و " مداواة النفوس " و " إبطال القياس والرأى ". غير أن الذى يهمنا فى هذا المضمار هو شعره فى الغزل، وكان أكثر شعره يسير فى هذا الدرب، ومن ثم فنحن نشير هنا إلى ثانى كتب ابن حزم شهرة، وهو " طوق الحمامة فى الألفة والإلاف " فالكتاب موضوعه العشق والغزل، وهو مطرز بقصائد ومقطوعات لابن حزم تمثل مختلف مواقف العشق ومواطن الغرام، ويترجم لكل موقف بقصيدة من شعره تكون مفرطة الطول حينا وبالغة القصر حينا آخر. ولكن ذلك لا يعنى أن موضوعات شعر ابن حزم اقتصرت على العشق دون غيره من الموضوعات، لأن لهذا العالم شعرا ذاتيا أملته عليه مواقف الاضطهاد التى تعرض لها طوال حياته، بعضها كان يعبر فيه عن آلامه ويترجم فيه عن إحساسه بالإحباط لأن قومه لم يعطوه حقه من التقدير والتكريم، وهو ما عبر عنه بعمق وصدق فى بيته: ص _030(1/25)
أنا الشمسُ فى جوِّ العلوم منيرة ولكن عيبى أن مطلعى الغربُ وإن رجالا ضيغوني لضُيَّعٌ وإن زمانًا لم أنَلْ خصبَهُ جَذبُ فإذا ما كان الشعر متعلقا بالعشق والغرام والسهر والضنى، فإن له فى ذلك شعر جميل، ففى موضوع طيف الخيال يقول: زار الخيالُ فتى طالتْ صبابتُهُ على احتفاظٍ من الحراسِ والْحَفَظه فَبِتُّ فى ليلتى جذلانَ مُبتهجا ولذةُ الطيفِ تُنسى لذَّةَ الْيقظه ومن أرق ما قاله ابن حزم فى هذا الغرض تلك الأبيات اللطيفة المحتوى، العذبة الإيقاع : أنت فى مشرق النهارِ بخيلٌ وإذا الليلُ جنَ كنتَ كريما تجعلُ الشمس منكَ لى عوضا هيـ هات ما ذا الفعالُ منكَ قويما زارنى طيفُك البعيدُ فيأتى واصلا لى وعائدًا ونديما غير أنى منعتنى من تمام العيـ ش لكن أبحت لى التشميما فكأنى من أهل الأعراف لا الفر دوسُ دارى ولا أخافُ الجحيما وكان الفقيه الشاعر العالم ينمق شعره فى أحيان كثير بالغزل المباشر فى حسناء ذات تميز عن قريناتها كأن تكون شقراء مثلا، فلا يتردد فى إسباغ صفات الجمال المتفرد على شقرتها وكانت الشقرة تباعد بين المرأة والجمال فى ذوق العرب المشارقة: يعيبونها عندى بشُقرِة شعرها فقلتُ لهم هذا الذى زانها عندى يعيبون لون النَّور والتبر ضلة لرأى جهول فى الغواية ممتدِ وهل عاب لون النرجسِ الغض عائبٌ ولونَ النجومِ الزاهراتِ على البعدِ ص _031(1/26)
وإن المتابع لشعر ابن حزم سواء ما ورد فى ديوانه أو ما ساقه على صفحات "طوق الحمامة" سوف يلاحظ بوضوح المصصلحات الفقهية، وبعض القيم الأخلاقية تشيع بين سطور القصائد، وغالبا ما تكون فى خواتيمها، مثال ذلك قوله: يلومُ رجالٌ فيكِ لم يعرفوا الهوى وسيانِ عندى فيكِ لاحٍ وساكتُ يقولون جانبتَ التصاونَ جُملةً وأنتَ عليهم بالشريعةِ قانتُ فقلتُ لهم هذا الرياءُ بعينه صُراحًا وزِىٌّ للمرائين ماقتُ متى جاء تحريمُ الهوىعن محمدٍ وهل مَنْعُهُ فى محكمِ الذكرِ ثابتُ إذا لم أواقعْ مَحْرمًا أتقى به مجيئى يومَ البعثِ والوجهُ باهتُ فلستُ أبالى فى الهوى قول لائم سواءٌ لعمرى جاهرٌ أو مُخافتُ وهل يُلزمُ الإنسانَ إلا اختيارُه وهل بخبايا اللفظ يُؤخذُ صامتُ وإن ذكرنا لابن حزم ـ شاعرا ـ وهو العالم الفقيه الجليل ـ وبخاصة فى شعر العشق والصبابة يجعلنا نلتفت بعناية إلى معاصره وقريعه، المتصدى له فكرا وفقها، أبى الوليد الباجى الذى كان شاعرا متقنا ـ شأنه فى ذلك شأن باقى فقهاء الأندلس ـ فإنه قال غزلا خفرا مهذبا رقيقا عفا فى حاجّات بيت الله فى إحدى رحلاته لأداء الفريضة: قال الشيخ الفقيه الحجة، الشاعر المبدع أبو الوليد الباجى: أسَرَّوا على الليلِ البهيم سُراهمُ فَنمَّتْ عليهمْ فى الشمال شمائلُ متى نزلوا ثاوين بالحيف من مِنًى بدَتْ للهوى بالمأزمَيْن مخايلُ فلله ما ضَمَّت مِنًى وشعابُها وما ضمِنت تلك الرُّبا والمنازلُ ولما التقينا للجِمارِ وأُبرِزَتْ أكفٌّ لتقبيل الحصى وأناملُ أشارتْ إلينا بالغرامِ محاجرٌ وباحتْ به منَا جُسُومٌ نواحلُ ص _032(1/27)
ألم نقل إنه غزل خفر حيى عفيف، زخرفته كثير من فنون البديع التى لا يكاد يحسها إلا من يرقبها عن عمد، لأن رقة الشعر وعمقه وانسرابه إلى قلب القارئ حجب ألوان البديع الذى وشح الشاعر الفقيه بها أبياته. أما ونحن فى الأفق الأندلسى نذكر علماءه الفقهاء الشعراء متمثلين لاثنين من أعلامه هما ابن حزم وأبو الوليد الباجى، وكان من الميسور أن نذكر عشرات من العلماء الشعراء لولا ضيق المناسبة، فقد بات من اللائق أن نعبر المضيق جنوبا إلى المغرب حيث نطل على أوحد علمائه ونجم سمائه القاضى عياض اليحصبى، وإن كان من الجدير بالذكر أن نشير إلى أن عياضا لم يكن غريبا عن الأندلس، ففى قرطبة الغراء اغترف علمه وخالط رجاله وجلس إلى علمائه، فهو والأمر كذلك ثمرة غرس القطرين، وحصاد زرع الأفقين، أفق المغرب وأفق الأندلس، فهو العالم القاضى الفقيه المحدث الأصولى الراوية، صاحب كتاب " الشفا بتعريف حقوق المصطفى " وهو من أجل كتب السيرة، وكتاب "ترتيب المدارك " فى الترجمة لأعيان مذهب الإمام مالك، وكتاب " مشارق الأنوار " فى حديث رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، وكتاب " الإلماع إلى معرفة أصول الرؤية وتقييد السماع " فى مصطلح الحديث، وكتاب " الغُنية " فى ذكر شيوخه وغير ذلك كثير، والقاضى عياض بالإضافة إلى ذلك كله شاعر مبدع، وفارس مغوار، وسياسى حاذق، وبين صفاته وشمائله وعلمه وسلوكه وكفاحه ما يجعله وشيخنا محمدا الغزالى فارسين من فرسان الإسلام، للتقارب الغريب بينهما فيما ذكرناه للقاضى من صفات على الرغم من بعد الشقة الزمنية ونأى المسافة المكانية. إن للقاضى عياض شعرا كثيرا جميلا، أتينا بشىء منه فى كتابنا "المغرب والأندلس" ولكن قوله فى الغزل قليل ونادر، وهو على الرغم من قلته وندرته، يصدر عن قلب خافق وصدر محرور، ومن نماذج غزله هذان البيتان الرقيقان: رأت قمر السماء فأذكرتنى ليالى وصلها بالرَّقْمتيْنِ كلانا ناظرٌ قمرا ولكن رأيتُ(1/28)
بعَيْنِها ورأتْ بعينى ص _033
وإذا كان لنا أن نعود إلى المشرق بعد أن شغلنا بشعرهما أندلسيان عظيمان هما ابن حزم وأبو الوليد الباجى، فلتكن عودتنا قصيرة نذكر فيها مرة أخرى شيخ الإسلام شهاب الدين بن حجر العسقلانى، الذى أسهم فى مجال شعره بأقوال فى الغزل، ولكن غزله لم يكن فى غير ذات محرم، وإنما كان فى زوجته الحلبية "ليلى " التى آثرت البقاء فى بلدتها حين قر قرار الشيخ على العودة إلى القاهرة، ولم يتيسر لها أن ترحل معه. يقول شيخ الإسلام ابن حجر: رحَلْتُ وخلَّفتُ الحبيبَ بداره برغمى ولم أجنحُ إلى غيره ميلا أشاغلُ نفسى بالحديثِ تعلُّلا نهارى وفى ليلى أحنُّ إلى ليلى وفى المعنى نفسه يقول الشيخ الجليل ابن حجر العسقلانى: قف واستمع طربا فليلى فى الدُّجا باتتْ معانقتى ولكن فى الكرَى وجرى لدمعى رقصةٌ بخيالها أتُرى درى ذاك الرقيب بماجرى * * * * الغزل الصوفى: رأينا أن عددا غير قليل من العلماء الفقهاء الشعراء الذين بلغ بعضهم مرتبة شيخ الإسلام لم يترددوا فى أن ينشئوا قصائد غزلية ومقطوعات فى العشق والنسيب، مست لرقتها أوتار القلوب، وأثارت أشجانا فى نفوس المحبين وجوانح العشاق، على أن الغالبية العظمى منها لم تبح باسم معين أو تبين عن محبوبة بذاتها، اللهم إلا شيخ الإسلام ابن حجر العسقلانى الذى باح باسما محبوبته بوحا لا يشكل خطأ ولا يحمل إثما، لأن من باح باسمها هى زوجته الحلبية التى لم تهيئ لها المقادير مرافقة زوجها فى رحلة العودة إلى الوطن. نقول ذلك وعيننا مسلطة على الديوان الذى بين أيدينا ـ ديوان الشيخ الغزالى ـ الذى خلا من أية صورة غزلية ولو فى بيت وأحد، وبخاصة أن الشيخ الجليل أنشأ ص _034(1/29)
جميع شعره وهو فى مرحلة الشباب، ولكن الذين عرفوا الشيخ الغزالى فى مراحل حياته المتتابعة ـ وأنا واحد من هؤلاء ـ لم يعرفوا عنه إلا العفة فى القول والتصون فى الفعل والاستعلاء فى السلوك، مع أن الشيخ لو قال شيئا فى الغزل فإن أحدا لا يؤاخذه لأن كبار المتصوفة أمثال الجنيد والسقطى والشبلى وابن العريف وغيرهم قد جعلوا من صيغة الغزل معبرا إلى ترديد الحب الصوفى والعشق الإلهى. ولكن الشيخ الغزالى أبى أن يتغزل فى شعره حتى ولو فعل ذلك رجال أحبهم وتعلق قلبه بهم، وهم معتدلو المتصوفة، وإن كان رسم على منوالهم فى ذكر الخمر على ما سوف نبين فى الصفحات المقبلة إن شاء الله. يذكر الجنيد فيما يرون من أخبار السرى السقطى المتوفى سنة 251 هـ أنه ـ أى السقطى ـ كان كثيرا ما ينشد هذه الأبيات: ولما ادعيتُ الحبَّ قالتْ كذبتنى فما لى أرى الأعضاء منكَ كواسيا فما الحب حتى يلصق الجلد بالحشا وتذبُل حتى لا تجيب المناديا وتنحل حتى لا يُبقِّى لكَ الهوى سوى مقلةٍ تبكى بها أو تُناجيا إننا غير واثقين من أن يكون السقطى القطب الصوفى الكبير هو صاحب الأبيات، لأن الجنيد ذكر أنه كان يرددها ولم يقل إنه صاحبها، ولكن سواء أكانت الأبيات له أم لغيره فقد كان القطب الكبير معجبا بها، مرددا لها بصورتها الغزلية الواضحة المعالم التى يحسها كل قارئ لها. وتتفجر عاطفة الحب الإلهى فى أبيات أنشأها القطب الصوفى أبو الحسين النورى وبعث بها إلى صديقه أبى سعيد الخراز يقول فيها: لعمرى ما استودعتُ سرى وسرَّه سوانا حذارًا أن تشيع السرائرُ ولا لاحَظَتهُ مُقلتاى بنظرةٍ فتشهد نجوانا القلوبُ النواظرُ ولكن جعلت الوهم بينى وبينه رسولا فأدَّى ما تُكنُّ الضمائرُ ص _035
بل إن الجنيد نفسه ـ المتوفى سنة 297 ـ كان يردد فى مجالسه ما كانت تجيش به نفسه وتسعفه به ملكته من قصائد الغزل فى الحب الإلهى، وقد سأله رجل ذات مرة مسألة بعينها فأنشد قائلا:(1/30)
نم على سر وجده النفسُ والدمعُ من مُقلتيه ينبجسُ
مُدلهٌ هائم له حُرقٌ أنفاسُهُ بالحنينِ تُختلسُ
يا بأبى الأشعثُ الغريبُ فتى ليس له دون سُؤلْه أنسُ
يا بأبى جسمه الزكىِّ وإن كان عليه خُليقٌ دنسُ
والحقيقة أن للغزل الصوفى جانبا متميزا روحانيا يتذوقه من كان ذا مشاركة فى الحس الصوفى، وهو ما لا نكاد نحسه حتى فى شعر العذريين المتسم بالعفة المسربل بالطهر، أحسسنا بذلك فى النماذج السالفة الذكر فيما مضى من سطور، ونعود لكى نتذوق أريجه فى أبيات الصوفى أبى العباس أحمد بن سهل بن عطاء المتوفى سنة 359 هـ حيث يقول:
غرست لأهل الحب غُصنا من الهوى ولم يكُ يدرى ما الهوى أحد قبلى
فأؤرق أغصانا وأينع صبوة وأعقب لى مُرا من الثَمر المحلى
وكل جميع العاشقين هواهم إذا نسبوه كان من ذلك الأصلِ
ويتفنن الشاعر الصوفى ويبدع القول حين يجيشُ وجدانه ويعتصر وجده، فيصدر شعره عن شفافية لا تتأتى إلا لصاحب وجد، ولا تتوافر إلا لحليف شوق، مثال ذلك تلك الأبيات التى انثالت من وجدان ابن العريف الصنهاجى أبى العباس أحمد بن محمد بن موسى بن عطاء المتوفى سنة 537 هـ.
ما زلتُ مذ سكنوا قلبى أصونُ لهم لحظى وسمعى ونطقى إذ هم أُنسى
حلوا الفؤادَ فما أندى ولو وطئوا سخرا لجادَ بماءٍ منه مُنبجس
وفى الحشا نزلوا والوهمُ يخرجهم فكيف قرُّوا على أذكى من القبس
ص _036(1/31)
تلك أبيات قيلت فى مطلق الغزل بدون تعيين مسمى أو تحديد معشوق، وإنما هى أقوال صرفها قائلوها من الصوفية الكبار إلى العشق الإلهى والحب القدسى. على أن أحضر المتصوفة اتخذوا من " ليلى " رمزا لحبهما ودليلا على عشقهم، وقد جعلوا من ليلى العامرية صاحبة قيس بن الملوح إمام العذريين مفتاحا لرمزهم، واتخذوا من قيس وأشعاره وسيلة للتعبير عن مشاعر الوجد وبواعث الحب. صحيح أن بعض الشعراء المتصوفة لم يقتصروا على ذكر " ليلى " وحدها، وإنما ذكروا معها أسماء أخرى مثل سلمى ولبنى وسعدى، ولكن غالبية المتصوفة ابتداء من القرن الثانى والثالث ممثلين فى أبى بكر الشبلى مرورا بالقرون المتواكبة ووصولا إلى القرن الثانى عشر الهجرى وما بعده ممثلا فى عبد الغنى النابلسى المتوفى سنة 1143 من الهجرة قد التزموا بذكر " ليلى " وجعلوا منها رمزا لعشقهم، فهذا أبو بكر الشبلى يقول: لقد فُضِّلتْ "ليلى" على الناس كالتى على ألف شهر فُضِّلتْ ليلةُ القدر فيا حبها زدني جوى كل ليلة ويا سلوة الأيام موعدك الحشر ولعلنا نلاحظ بلاغة الرمز بليلى وعمق مدلول مقصوده، على الرغم من الإقواء فى روى البيت الثانى. وهذا أبو مدين التلمسانى من كبار متصوفة المغرب فى القرن السادس الهجرى والمتوفى سنة 594 ينشئ قصيدة نونية القافية غامرة بالحنين مترعة بالإيقاع الموسيقى يقول فى بعضها: تَقَوَّل ناسُ قد تملكه الهوى أجلْ لستُ فى ليلى بأولِ من جُنَّا خفيتُ بها عن كل ما علم الورى وأظهرُ لُبنى والمرادُ سوى لُبنى وإنى كما شاء الغرامُ موحِّدٌ وإن مِلتُ تمويهاً إلى الروضة الغنَّا يذكرنى مرُّ النسيم .. بعرفها ويطربنى الحادى إذا باسمها غنّى ولا عجبٌ منى الحنينُ وذو الهوى إذا شاقه شوقٌ إلى قصده حنا ص _037(1/32)
فللهِ ما أرضى فؤادى لما بهِ وذا الحال ما أحلى وذا العيش ما أهنا أوافق قومًا ضمَّهم مقعد الهوى وإن كان كل منهمُ قاصدًا فنا فهذا يُورِّى بالغزالةِ غَيرةً وهذا بعين السكر يستملحُ الغصنا وهذا بلين العِطْفِ يُبْدى صَبابةً وهذا يرى ميلًا إلى المقلة الوَسنى وذا فى سرورٍ بالدِّنوِّ وذا لَهُ غرامٌ وهذا بالنوى يظهرُ الحزنا ويمضى الشاعر القطب الصوفى أبو مدين التلمسانى يسوق جيوشا من المعانى وقوافل من عبارات المناجاة الحافلة بالصور الجميلة، ثم يختم قصيدته بهذا البيت اللطيف: وإنى على ما أكَّد العهد بيننا مدى الدهرِ لا خُنَّا العهود ولا حُلْنا وكان شاعر المتصوفة ومتصوف الشعراء عمر بن الفارض أوفى الشعراء إقبالا على ذكر " ليلى " التى تمثل المفتاح السحرى لمغاليق معانيه، وهى ظاهرة تلفت نظر ذوى الاهتمام بأشعاره. يقول ابن الفارض من قصيدة ميمية تقترب منها كثيرا بردة البوصيرى، بحيث إنه لولا سبق عمر فى الميلاد والوفاة بعدة عقود من السنين لظن كثير من الدارسين أن عمر قد نَسج فى قصيدته هذه على منوال البردة. يقول عمر ابن الفارض: هل نارُ " ليلى" بدَتْ ليلًا بذى سلمِ أم بارقٌ لاح فى الزَّوْراءِ فالعلم أرواحَ نَعْمان: هلَّا نسمةٌ سَحَرًا وماءَ وجْرةَ: هلَّا نهلةٌ بفمِ يا سائق الظعن يطوى البِيدَ معتسفًا على السجلِّ بذاتِ الشيحِ من إضمِ عُجْ بالحمى يا رعاكَ اللهُ معتمدا خميلةَ الضالِّ ذاتَ الرَّنْدِ والخزمِ وقف بسلْعٍ وسلْ بالجذع هل مطرتْ بالرقمتين أثيلاتٌ بمنسجمِ ص _038(1/33)
لقد سبق أن ذكرنا أن رمز " ليلى " مقتبس من ليلى بذاتها، هى ليلى العامرية صاحبة قيس بن الملوح، وهو ما يثبته هنا عمر بن الفارض فى إبانة وصراحة من خلال هذه الأبيات بعامة والبيت الثانى بخاصة قائلا: أوميضُ برْقٍ بالأبَيْرق لاحا أم فى رُبى نجْدٍ أرى مصباحا أم تلك ليلى العامرية أسفرت ليلا فصيَّرت المساءَ صباحا يا راكب الوجناءِ وُقّيتَ الرَّدى إن جُبْتَ حَزْنًا أو طَوَيْتَ بِطاحا وسلكْتَ نَعْمان الأراكِ فَعُجْ إلى وادٍ هناك عَهِدْتُه فيَّاحا وإذا وصلْتَ إلى ثَنيّات اللّوى فانشُدْ فُؤادًا بالأُبيْطحِ .. طاحا إن المتمعن فى تناول عمر بن الفارض لموضوعاته يلحظ أنه لا يكتفى بذكر ليلى وما يحيطها به من جو العشق وألوان الصبابة، ولكنه يلاحظ أيضًا طبقا لما تنبه إليه زميلنا وصديقنا الدكتور عاطف جودة نصر فى كتابه النفيس " الرمز الشعرى عند الصوفية " أن هذا الضرب من الشعر على الرغم من أنه يصف أحوالا وجدانية خاصة بالتجربة الصوفية، فهو أيضا يعكس أحاسيس بصرية مادية، مع ذكر الكثير من الأماكن التى تُلقى صورة طبوغرافية على الموقف والمناسبة، ولعل هذه الأبيات للشاعر نفسه تمثل تفسيرا دقيقا لهذا الانطباع الذى سلفت الإشارة إليه حيث تمتزج فيها رقة الغزل الصوفى بوصف مشاهد الطبيعة فى بلاد الحجاز: أبَرقٌ بدا من جانب الغَور لامعُ أم ارتفعَتْ عن وجه " ليلى" البراقعُ؟ أنارُ الفضا ضاءتْ وسلمى بذى الغضا أم ابتسمتْ عما حكتْهُ المدامعُ؟ وهل لَعْلَعَ الرعدُ الهَتونُ.. بلعلعٍ وهل جادها صوب من المزن هامعُ وهل أرِدَنْ ماء العُذيبِ وحاجرٍ جَهَارًا وسرُّ الليل بالصبح شائعُ وهل عَذَباتُ الرّنْد يُقطفُ نورها وهل سلَماتٌ بالحجاز أيانعُ وهل قاصراتُ الطَّرفِ عينٌ بعالجٍ على عهدىَ المعهودِ أم هو ضائعُ وهل فتياتٌ بالغُويْر يُرينَنِى مرابعَ نُعْمٍ نِعْمَ تلك المرابعُ ص _039(1/34)
وكان أبو العباس المرسى بدوره ـ وبين وفاته ووفاة ابن الفارض نحو نصف قرن من الزمان فقد توفى سنة 686 هـ ـ يسير فى نفس الدرب الغزلى الذى وحيه " ليلى " غير أنه أدنى إلى الصوفية الصريحة، وأقرب مأخذا من أبيات ابن الفارض سالفة الذكر، ذلك أن الرمز فيها قريب الفهم ميسر الأكناف. يقول المرسى: أعندكَ منْ ليلى حديثٌ مُحَرّرُ بإيراده يحيا الرميمُ ويُنْشَرُ فعهدى بها العَهْدُ القديمُ وإنَّنِى على كل حال فى هواها مقصِّرُ وقد كان عنها الطيفُ قِدْمًا يزورنى ولمَّا يزُرْ ما بالُه يتعذَّرُ فهل بخِلَتْ حتى بطيف خيالها أم اعتلّ حتى لا يصحُّ التصوُّرُ ومن وجْه ليلى طلعة الشمس تستضى وفى الشمْس أبصارُ الورى تتحيَّرُ وما احتجبت إلا برفْعِ حجابها ومن عَجَبٍ أن الظهور تستّرُ وهكذا ساقنا شعر الغزل عند العلماء الفقهاء إلى شعر الغزل عند المتصوفة، وهو شعر عذب عند الفريقين، غير أنه عند فريق الفقهاء سهل الفهم ميسر التناول واضح المعانى والقسمات، وهو عند الصوفية أقرب إلى الألغاز التى يحتاج فهمها إلى مفاتيح تكشف كنهها وتفضّ مغاليقها، ولها عند منشئيها ما يشبه الشفرة للكشف عن خباياها. ص _040(1/35)
موضوعات شعر الشيخ الغزالى إذا ما كان الأمر متصلا بالشيخ الغزالى الشاعر، فإننا نجد أنه تناول الموضوعات التى طرقها الشعراء الفقهاء ولكنه لم يعج على الغزل، ولم يحاول أن يسمح لموهبته أن تجود عليه ببيت واحد منه وكان له مندوحة فى ذلك، فقد عرضنا شعرا جميلا عذبا فى موضوع الغزل طرقه بعض الفقهاء فى سلاسة ورقة، بل فى طهارة وعفة، وكذلك فعل المتصوفة وربما غَلَوْا فى ذلك غُلوًّا كبيرا عندما جعلوا من الغزل رمزا للتعبير عن الحب الإلهى وبخاصة الغزل بالمذكر. لم يرد الشيخ الغزالى أن يفعل شيئا من ذلك وإن كان قد شارك المتصوفة بل فاق بعضهم عندما اتخذ من الخمر رمزا للحب الإلهى، فأنشأ قصائد أربعة تحمل كل واحدة منها عنوان " الخمرة الإلهية " سوف نعرض لها فيما يستقبل من صفحات حين نعرض نماذج من شعر الشيخ الجليل. لقد طرق الشيخ الغزالى فى ديوانه ـ هذا الذى بين أيدينا ـ موضوعات الشعر النظيف التى أسهم بالقول فيها الشعراء من ذوى المروءة، وتعفف عن طرق الموضوعات التى لا يجمل بأصحاب المروءات الكتابة فيها، فلم يتورط الشيخ فى قول الهجاء أو المديح المغلف بالنفاق أو الغزل، وإنما طرق أبواب الحكمة والإخوانيات، والتعبير عن ذاته وسلوكه، والأخلاق بعامة ومكارم الأخلاق بخاصة، كما تناول موضوعات المتصوفة حسبما أشرنا فى السطور السابقة، وعرج على الموضوعات الإنسانية التى تغزو القلوب وتهذب المشاعر، كما وصف الطبيعة فى ص _041(1/36)
حالاتها المختلفة فوصف الفجر والشروق والشمس والنجوم والليل والبدر، بل وصف الطبيعة الخضراء وخصَّها بالمناجاة العذبة والحنين الدافق، كما أفرد للوطنيات العديد من قصائده التى قليلا ما ترقُّ وكثيرا ما تلتهب، وهى ترصع كثيرا من صفحات الديوان، ثم من البديهيات قبل ذلك وبعده أن يكون للدين وشعائره نصيب وإن يكن غير وفير، وإن كان شعر مكارم الأخلاق هو الدين نفسه، وذلك مصداقا لقول رسول الله صلَّى الله عليه وسلم : " إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق ". ومن الحقائق الطريفة أن الشيخ الغزالى رحمه الله أطلق على ديوانه عنوان " الحياة الأولى " ولعله كان يقصد وصف حياته فى المرحلة العُمرية التى كتب فيها هذا الديوان وكان إذ ذاك فى الفرقة الرابعة الثانوية بمعهد الإسكندرية الدينى، وكانت طبعة الديوان سنة 1354 هـ / 1936 م وهو إذ ذاك فى نحو الثامنة عشرة من عمره المبارك. وهناك بعد ذلك أمران طريفان، الأمر الأول أنه قدم النسخة الأولى من هذا الديوان هدية إلى محمد أفندى كوته الذى صار فيما بعد والدًا لزوجته الفاضلة وجدًّا لأبنائه البررة، والأمر الطريف الثانى أن ثمن الديوان كان عشرين مليما طبقا لما هو معلن على غلافه. تلك حقائق تتسم بالطرافة التى تبعث على رسم بسمة طليَّة على شفاه القارئ الكريم. ص _042
الحياة الأولى
ــــــــ
وضع
محمد الغزالى
معهد الإسكندرية ـ السنة الرابعة الثانوية
ــــــــ
هدية إلى
محمد أفندى كوشه
1354 ـ 1936 م
المطبعة الإسلامية بالإسكندرية
ــــــــــــــــ
الثمن عشرون مليما
" محمد أحمد حموده "
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
صورة غلاف الديوان فى طبعته الأولى والوحيدة
قبل واحد وستين عاما ميلادية
ص _043(1/37)
الغزالى الشاب يقدم نفسه للقراء: نعود لكى نسأل أنفسنا عن أولى قصائد الديوان، ماذا أسماها الشيخ الشاعر؟ وماذا ضمنها من قيم ومناهج؟ لعل ذلك لا يكون من الأمور التى تحتاج إلى روية فى الاستنتاج، لأن الشيخ اختار لها عنوان " الحياة الأولى أو نحو المجد " هكذا طمأن الشيخ قارئ شعره من مجرد أن تقع عيناه على عنوان أولى قصائده، أنها سيرة ذاتية رفيعة المحتوى، بل هى منهج لسيرة ذاتية سوف يقوم الشيخ الشاب على التزامه في مسار نقى، ومضمار نظيف، سعيا إلى مستقبل مجيد، ومكانة رفيعة، كل ذلك القول الرصين أطلقه الشاعر وهو ابن ثمانية عشر ربيعا. يقول الشيخ محمد الغزالى وهو فى تلك السن المبكرة فى قصيدته " الحياة الأولى أو نحو المجد ": ثمانى عشرة مرَّت سُهادا!! أردتُ على المنامِ. ولن أُرادا فكانت يقظةُ المُضنى بنائى كَرَى النوَّامِ أنْ يغفو اتئادا وكانت فى سبيل المجدِ تسعى تُغَالِبهُ ولا تألُو اطرادا إلى أن أشرقَتْ هدْيًا جليلا شموس الصَّحْوِ فى أفقى تهادى ** * وأضْحَتْ لِلْوَرَى عندى ظلالٌ مقلَّصة الرسومِ. نأتْ مهادا!! عَنَاني ما قَلَوْهُ من عظيمٍ تجافَوه وأعْياني افتقادا تنكَّر لى! ركودٌ ليس يفْتَا يثير الصمْت كى يطغى فسادا وشرُّ النوم ما ران انبهامًا يُضيَّعُ فى مجاهله الفؤادا يقول الشيخ الشاب عن سنواته الثمانى عشرة الماضيات هذا القول الحكيم: فكانت يقظةُ المُضنى بنائى كَرَى النوَّامِ أنْ يغفو اتئادا وكانت فى سبيل المجدِ تسعى تُغَالِبهُ ولا تألُو اطرادا إلى أن أشرقَتْ هدْيًا جليلا شموس الصَّحْوِ فى أفقى تهادى ص _0 ص(1/38)
لله درُّ هذا الفتى الشاب المعمم، ابن الثمانى عشرة الطالب بالمرحلة الثانوية فى معهد الإسكندرية الدينى، إنها حكم ابن الثمانين، بل هى وبعض حكم عمر الخيام فى رباعياته تتسابقان منطلقا، وتتساوقان منطقا. إن الشيخ الغزالى يمضى فى كشف كنه السنين الثمانى عشرة وما حفلت به من جهاد وكفاح وحيرة وأمل، بل وصراع وبسالة وتقرير حاضر واستشراف مستقبل، فيقول هذه الأبيات التى تنبئ بنيتها عن حكمتها ويفصح بيانها عن مزيد من إيضاحها: ثمانى عشرةً مرت طلابا حثيث السَّيْر ما همدت نفادا كأنى إذ أُطلُّ على رحاب حواها الأمس يُوسعها ابتعادا تلوحُ لمقلتى أعلام نفسٍ محيرة لِنَشْدَتِهَا ارتيادا يشعُّ لها وميضٌ من حياةٍ تحسُّ بخيمِها العاني المرادا * * * * تحس بخيمها العانى شرودًا يُراودُها لِيْسْلِستتهَا القيادا فتهزمَه وتُرجعُهُ فلولا كبيحاتٌ تحذِّره المعادا كأن النصر خامرنى انتشاءً وقد نُكّبتُ أثقالا شدادا وزالت عن وَهيجى مظلماتٌ صنعْن له حجابا أو رمادا بعد هذا المنهج الذى رسمه الشيخ الشاب لحياته الأولى والسعى فى طلب المجد، ينظر حوله فى تروٍّ شديد، وينفذ إلى داخل نفسه فى عمق وأناة، فيكتشف أنه يعيش دنياه فريدا، وأنه يحيا وحيدا، وأن هذه الوحدة خلصته من أوشاب سوء الحياة، طورا كفاحا منه، وتارة تنائيا عنه، فيقول فى أبيات من قصيدته التى جعل عنوانها " دنياى ": ص _045(1/39)
هى دنياى عشت فيها فريدا وانتأيت المأوى القصىَّ عتيدا وبحسبى فى عزلتى من سمير أننى ما حييت أبقى وحيدا أخلصتنى من كل أوشاب سوء تبتغينى منذ اقتحمتُ الوجودا تبتغينى قسْرًا يكفكف نارى يتمشى فى جذْوَتيْهَا خمودا وإياسًا يُزجى السكون قتولًا لنشاط ما يستكين همودا قدْ تناءت عنِّى وليس انتصارا فى كفاح، بل كنت عنها صَدُودا وإذ يمضى الشيخ الشاعر الشاب يعرض بقوم هوت رغباتهم بهم إلى الحضيض فاستمرءوا الفرار بعيدًا، ورضوا بالهوان قريبا، يعود إلى القول: هى دنياى قد ضننتُ بها فى مسترادٍ من المطاعن سُودا وضجيج من المعانى هواءٌ مٌقفرُ الجدِّ مستريبٌ جُمُودا إن الشيخ الغزالى الشاب الشاعر المتحمس الساعى إلى المعالى، المستشرف أسباب المجد، يعيش دنيا ليست كدنيا الناس، بل هى دنياه المختلفة عن دنيا الآخرين، ذلك لأن الآخرين رضوا بالهوان وهو لم يرض، وقبلوا النقيصة ولكنه عافها، ولذلك كان يردد القول: هى دنياى عشت فيها فريدا وانتأيت المأوى القصى عتيدا كانت حياته إذن شديدة القيود كثيرة السدود، وهى قيود تمرد عليها، وسدود نحاها عن طريقه، حمل راية الكفاح العنيد منذ صباه الأول، ومهد سبيله فى ثورة باسلة فى قصيدته " عوائق " حيث يقول فى عزم وجد: ص _046(1/40)
يا قيودى تحطمى عند مثواك فارتمى قد تأبيتُ ذلة فى تباريح أدهم وتمردت كلما توثقينى بمحكم وترينين بغيةً للركود المهدَّم فإذا شئتُ رِفعَةً كنتِ أغلال مُرْغم * * * يا قيودى تحطمى عند مثواك فارتمى إن أمرا رغبْتُه قد غدا غير مُلْزم واحتباسا أردْتِهِ لم يُتحْ لم يُحَتَّم ولا يكتفى الشاعر الطالب بالمرحلة الثانوية بهذا التصدى، بل يحقق إنجازا قلما يصل إليه إلا أولو العزم والصلابة من الرجال، فيمضى فى أبياته مصورا تحقيق فوزه بهذا القول الجميل: فى انتصار وأدْتُه بعد أن كان هازمى فأنا الآن مطلَقٌ لستُ للذل أنتمى والأمر العجيب فى هذه الأبيات أنها تصور عوائق وقيودا، وثورة وتمردا وتحقيق نصر واقتناص فوز، ومثل هذه المعانى يصوغها الشعراء فى نطاق البحور العروضية الطويلة، حتى يأخذ الشاعر براحه وارتياحه، ولكن الشيخ الغزالى فى تحدٍّ ربما لم يقصد إليها قصدًا، يصوغها فى البحور القصيرة التى تصلح لغير هذا الغرض، فيصيب توفيقا ربما لم يكن ليتحقق له ولا لغيره إلا من خلال ملكة سخية معطاءة، وامتلاك لناصية القريض ونصاعة البيان. ص _047(1/41)
هذا ولا يظننَّ ظان أن الشيخ الصبى الذى لم يتجاوز التاسعة عشرة من عمره قد تخلى عن الآمال العذاب، وانصرف عن البسمات البهيجات، فقد كانت الآمال الواعدة ماثلة فى صدره، والحياة الباسمة مستقرة فى فؤاده، وقد عبر عن هذه المشاعر المتناغمة فى قصيدة جميلة جعل لها عنوانا من جنس نسيجها وأسماها " معانى الضاحك " يقول فى مستهلها: أستعرضُ الدنيا وإنى الآملُ أبدًا لمحْياها أنا المتفائلُ قلبى يحدثنى حديث مؤكدٍ السعد فى العيشِ المحبَّبِ ماثلُ الحزنُ فيها قد نفاهُ لُبُّها لبٌّ جميل الزهو إذ يتخايلُ!! صدفتْ عن الأكدار دنيا لا تنِى تُزجى الضياءَ إذا غزاها آفلُ خفِيتْ فما الداجى السحيقُ بِعَادُه الوعْرُ مَجْهَلُه الذى يتشاكلُ إن شاعرنا الشيخ الغزالى الشاب وهو يستعرض الحياة مفعما بالآمال العريضة مشيرا إلى السعد الماثل فى خاطره بل المستقر فى فؤاده بعيدا عن الأسى والآلام ـ ينثنى لكى يسجل أن للحياة بهجة ونورا، وضياء ناصعا، ورحابة باسمة فيقول: نورُ الحياة وما أجلَّ طيوفه! يزكو برونقها البريقُ الحائلُ وَحْىُ الضياء نصاعة ورحابة كالعرس زخرفُه سرورٌ كاملُ فى الأرض مرْبَعُها ومَشْتاها أرى نورَ المُنى إن كان يأسٌ ماحلُ والقبةُ الفيحاءُ غائمة وضا حيةُ الصحيفة فى مدًى يتطاولُ جددُ المعاني فى الحياة قصيَّةٌ عن لغوِ مصنوعٍ سناهُ زائلُ عينائى شوَّاقان حسنًا يجتلِى للنفسِ عيشًا فيه فهو الآهلُ نُهُرٌ وليلاتٌ يروعُ جلالُها فِتَنًا يُنمِّقُها السلامُ الشاملُ بسماتىَ الحسنى وكم أرسلْتُها عفوًا تداعبُ طيبَها وتبادلُ ص _048(1/42)
غير أن الشاعر الغزالى الشاب لا ينسى الخير وهو يشدو، ولا يبتعد عن العفاف وهو يغنى، وإنما الخير قريب إليه، والسوء بعيد عنه، إذ يقول فى القصيدة نفسها: نفسى هواها الخيرُ، فهى غريبةٌ عن سوءِ ما يهوِى إليهِ سافلُ ناسٌ تهوِّمُ فى مباءةِ عاصفٍ نُكْرُ الحياةِ بها مبينٌ غائلُ إن حب كل ما هو حلال من نعم الحياة محبب إلى شيخنا الغزالى، محبب إليه فى صدر الصبا طبقا لما هو ماثل فى هذه الأبيات الهمزية التى نحن بسبيل تسجيلها، وظل الشيخ على نفس النسق من الشعور طوال حياته التى شاطرناه قدرا غير قليل منها، يحب أن يرى أنعم الله عليه فى مظهره ومسكنه، وفى حله وترحاله، وهو جانب لا يعرفه عن الشيخ إلا من هيأت له المقادير أن يكون قريبا منه، معايشا له أشطرا من الزمان، ومن ثم فإن الشيخ الغزالى يقرض الشعر ويدبج القصيد فى " بهجة الحياة " وهو العنوان الذى اختاره لمقطوعته التى تبهر القارئ موسيقاها العذبة، وتأسره تشبيهاتها الساحرة، وذلك حين يقول: يا بهجةً خلَبْتنى كم يُراودنى لِلَهْوكِ العذبِ تزيينٌ وإغراءُ من كلِّ ما زُخرِفَتْ للعين آيتُهُ وخامَرَ النفسَ فيضٌ منه وضَّاءُ مستعذَبُ الشوقِ كالبشرى يهلّ وفى جوانبِ الصدر ترحيبٌ وإصغاءُ وفى جمالِ محيَّاه ذكا قبَسٌ بين الجوانحِ تذكو منهُ سِيماءُ ويمضى شاعرنا الشيخ الصبى الطالب فى المرحلة الثانوية الأزهرية معلنا حبه للدنيا وحسنها، ولكن فى نطاق من الحسن الحلال قائلا: أحبُّ هذى الدُّنا باللُبِّ آخذةً حسْنًا تصرِّفُهُ فى القلبِ صهباءُ كسا الرضا كلَّ شىء بهجةً عجبًا واسْتَلْهَمَتْهُ طِلَابُ الشوقِ سرَّاءُ ص _049(1/43)
الشيخ الغزالى متصوفا: كان ذلك جانبا من جوانب الحياة فى فجرها مع الشيخ الغزالى، وهو كما رأينا له بالحياة صلة بل صلات: جهاد وكفاح، وكرامة وإباء، ومحبة وإقبال وتغن وشدو، وانبساط وابتسام، الأمر الذى يظن معه أن نمط الحياة كاملا هو ذلك الذى أوضحنا وضربنا له الأمثلة بنماذج من شعره. غير أن الأمر ليس كذلك تماما، أو بمعنى آخر لم يكن ذلك هو الجانب الغالب فى حياة الشيخ، سواء فى المرحلة الباكرة التى كتب فيها هذه القصائد أو بعدها فى بقية مسيرة عمره، وإنما كان الشيخ موصول الأسباب بالأحوال الصوفية، ونهج مناهج شعراء الصوفية فى اتخاذ الخمرة رمزا للحب الإلهى من خلال نشوتها. صحيح أن الصوفية عمدوا إلى اتخاذ رمزين من موضوعات الشعر عبروا من خلالهما عن أشواقهما ووجدهما، هما الغزل والخمر، وقد أثبتنا فى الصفحات الماضيات نماذج من الغزل الصوفى، وقلنا إن شيخنا الغزالى نزه نفسه عن كتابة الغزل، ونأى بقلمه عن اتخاذه ـ أى الغزل ـ نهجا صوفيا وطريق حب إلهى، ولكنه شارك المتصوفة فى خمرياتهم التى من خلال نشوتها حاولوا الزلفى والتعبير عن الحب الإلهى. كان سبيل المتصوفة فى اتخاذ الخمرة رمزا، أمرا يدعوا لتوقف غير المريدين، وتعجب غير " أبناء الطريق " فالقشيرى الصوفى الشهير صاحب كتاب " الرسالة " فى التصوف يذكر أن يحيى بن معاذ الرازى كتب إلى أبى يزيد البسطامى ـ وكلاهما من أقطاب المتصوفة فى القرن الثالث الهجرى ـ : " ههنا مَن شرب كأسًا من المحبة لم يظمأ بعدها " فيجيبه البسطامى فى كلمات قصيرة: " عجبت من ضعف حالك، ههنا مَن يحتسى بحار الكون وهو فاغر فاه يتزيَّد ". ص _050(1/44)
ومن الشعر المبكر الذى قاله بعض المتصوفة فى هذا المقام قول بعضهم: عجبتُ لمن يقول ذكرتُ ربى فهل أنسى فأذكرُ ما نسيتُ شربت الحبّ كأسًا بعد كأسٍ فما نفدَ الشراب ولا رويتُ ولعلنا حتى الآن لم نسمع لفظ الخمر، ولكن سمعنا مصطلح " كأس المحبة " عند يحيى بن معاذ وعند الشاعر الذى لم نعثر على اسمه، والاحتساء من بحار الكون عند البسطامى. ولكن بمرور الأزمنة وتتابع الحقب يظهر الكأس صارخا، وتظهر الخمر صرفا فى شعر المتصوفة، ظهورا قد يفوق نظيره عند شعراء الخمر المشهورين، فهذا أبو مدين التلمسانى المتصوف الذى عاش القرن السادس الهجرى (المتوفى 594) يقول متخذا من الخمر رمزا صوفيا: أدِرْها لنا صرفا ودعْ مَزجَها عنَّا فنحن أناس لا نرى المزجَ مُذ كنَّا وغنِّ لنا فالوقتُ قد طاب باسْمِها لأنَّا إليها قد رحلنا بها عنَّا عرفنا بها كلَّ الوجودِ ولم نزلْ إلى أن بها كلَّ المعارف أنكرنا هى الخمرُ لم تُعْرفْ بكرمٍ يخصُّها ولم يجلها راحٌ ولم تعرف الدَّنَّا مشعشعةٌ يكسُو الوجوهَ جمالُها وفى كل شىء من لطافتها مَعْنى حضرنا فغبنا عند دورِ كئوسها وعدنا كأنَّا لا حضرنا ولا غِبنا وأبدت لنا فى كل شئ إشارةً وما احْتجَبَتْ إلَّا بأنفسنا عنَّا ولم تُطق الأفهام تعبير كُنهها ولكنها لاذت بألطافها الحسنى ص _051(1/45)
ولقد أغرم سلطان العاشقين عمر بن الفارض بالخمرة رمزا، وبالكأس والدنان وسيلة وطريقا، فأكثر من القول فى ذلك، وأضفى عليها صنوفا من القداسة وفنونا من النزاهة، وألوانا من الأزلية، ولعل ميميته المشهورة شاهد عدل على هذا المذهب. يقول عمر: شربنا على ذكر الحبيب مدامة سكرنا بها من قبل أن يُخلق الكرم لها البدر كأس وهى شمس يديرها هلال وكم يبدو إذا مُزجت نجم ولولا شذاها ما اهتديت لحانها ولولا سناها ما تصوَّرها الوهم ولم يُبقِ منها الدهر غير حشاشةٍ كأن خفاها فى صدورِ النُّهى كتمُ ويغلو عمر بن الفارض فى خلع صفات التمجيد على خمرته التى تسكر أبناء الحى دون أن يقترفوا إثما، أو أن يرتكبوا جرما، أو يصيبهم عار فيقول: فإن ذُكرت فى الحى أصبح أهلُه نشاوَى ولا عار عليهم ولا إثم ومن بين أحشاءِ الدنان تصاعدتْ ولم يبق منها فى الحقيقة إلَّا اسمُ ويزداد ابن الفارض غلوًّا فى خلع أصناف من المحاسن على الخمر، بحيث تتشكل منها معجزات طبية وأخلاقية وروحانية لعله غير مسبوق فى ابتكار هذه الشمائل التى خلعها على خمرته، التى لا شك أنها ليست كخمر القصَّاف العابثين ولكنها خمر العشاق العابدين. يقول ابن الفارض: ولو عبقت فى الشرق أنفاس طِيبها وفى الغرب مزكومٌ لعاد له الشمُّ ولو خضِّبت من كأسها كفُّ لامسٍ لما ضلَّ فى ليلٍ وفى يده النجمُ ولو جُليتْ سرًّا على أكمهٍ غدا بصيرا ومن راووقها تسمعُ الصُّمُّ ولو أن ركْبًا يمَّموا تُربَ أرضها وفى الركب ملسُوعٌ لما ضرَّه السمُّ ولو رسم الراقي حروف اسمها على جبين مصابٍ جُنّ أبراهُ الرسمُ ص _052(1/46)
تُهذب أخلاقَ الندامى فيهتدِى بها لطريقِ العزم من لا له عزم ويَكرُم من لم يعرفِ الجودَ كفُّه ويحلُمُ عند الغيظ من لا له حِلْمُ ولو نال قدمُ القوم لثمَ قدامِها لأكسبه معنى شمائلها اللثمُ وبعد أربعة قرون من الزمان يجئ عبد الغنى النابلسى المتوفى 1143 هـ، وهو من الصوفية الذين غمروا أنفسهم بأفانين الرمز الخمرى، تأسيًّا بخمريات عمر بن الفارض ومن جاء بعده من الناسجين على منواله، بل المتجاوزين غلوَّه وإفراطه، بحيث إن ما أنشأه النابلسى فى الخمر لا يحسب- عند القارئ المعتدل من الصوفية فى شئ، لأنه ذكر ألفاظ السكر والعربدة والدير والشماس وما إلى ذلك مما يؤدى إلى مفهوم آثار الخمر المحرمة: أطلق الكأس بعد طول احتباس واسقنيها ما بين وَردٍ وآسِ شربَ الكونُ فهو سكران منها وتراه مُعربدًا بالناسِ يا نداماى ما على شاربيها إن أباحوا بسرها من باسِ ملأتْهم والآن تقطرُ منهم بقياس لهم وغير قياسِ لم تدعْ فضلة بهم لسواها طهَّرتهم من سائر الأنجاس فليهيمُوا بل فلْتَهِمْ هى عنهم واحرسوها يا جملة الحراسِ فتحوا بابَ ديرها فشممنا نفحةَ السُّكر من فمِ الشمَّاسِ ومن كبار المتصوفة الذين تغنوا بالخمر واتخاذ شفافيتها سبيلا إلى الحب الإلهى، القطب عمر اليافى 1173 ـ 1233 هـ. لقد طرقا القطب اليافى أبواب الرموز الصوفية غزلا وخمرا، ولكنه لم يسرف على نفسه غلوًّا كما أسرف غيره ممن ذكرنا نماذج لهم وممن لم نذكر، وإنما كانت شفافيته "وطريقته " الخلوتية تحول بينه وبين الغلو، وتكبح جماح الإسراف فى نفسه إذا ما رغبت نفسه فى ذلك: ص _053(1/47)
يقول القطب اليافى: أدر خمرة الأسرار فى الحان يا سعد وغنِّ لنا فالوقت طاب، لك السَّعدُ وكرر على سمعى أحاديث وصفها ففيها شفاء القلب يا سعد، يا سعدُ وهيِّم ودمْدمْ يا بن وُدِّى مزمزمًا بذكر إله العرش فهو لنا القصدُ وخلّ عذولَ الحب فى تيه غيِّه عليه يدور السوء والبعد والطرد فنحن نرى فرط التهتك مذهبا ونرشف ورد القرب يا حبذا الورد ونزهو إذا غنَّى المغنُّون باسمها ولا نرعوى عنها ، ولو ضمَّنا اللحدُ رعى الله أوقات الصبابة إنها شفت مهجتى، والقلب ما مسَّه ضدُّ ليالى أنسٍ فى معاهد زينب وليلى وسُعدى، والغرام له وقد تروَّق راحًا فى ظلال خيامها معتَّقةً، فالمطربون لها تشدو على سُررٍ مرفوعة ونمارق وريح الصَّبا بالنشر فى حيها تعدو هنالك قد طبنا وطابت نفوسنا وغِبنا عن الأكوان لمَّا دنا الوجْدُ فقل لأناس عاذلين: ترفقوا بنا، إننا من دأبنا الصدقُ والودُ وصلِّ وسلِّم سيدى كل لحظة على المصطفى المختار ما سبَّح الرعدُ لعل هذا اللون من شعر الخمرة الصوفية الذى جادت به قريحة عمر اليافى أقل تبرجا من النماذج السابقة، وهو فى الحق أدنى إلى الأدب، وأبعد عن اللغو، وأقرب إلى الروح الصوفية الشفافة الجديرة بالشدو - ولو من خلال الخمر - بالحب الإلهى، هذا فضلا عن تتويج الشاعر لقصيدته بالصلاة والسلام على خير الخلق وسيد البشر. فإذا كان السياق متعلقا بالشاعر الشاب الشيخ محمد الغزالى، فإننا نجد فى ديوانه - هذا الذى بين أيدينا - أربع قصائد، كل واحدة منها تحمل عنوان "الخمرة الإلهية " ولكنها أكثر أدبا من قصائد الآخرين، وأوفر حرصا على الاعتدال، وأنشط ص _054(1/48)
إقبالا على تصوير الوجد الصوفى مبرأ من الانغماس فى أسرار الرمز، منزها عن الإفراط فى استعمال مصطلحات الخمرالمحرمة، تلك المصطلحات التى قرأناها عند غيره من الشعراء فى النماذج التى تمثلنا بها فى الصفحات القريبة الماضية. فالكأس التى يشرب منه الغزالى الشاب المتصوف فيها " بسمة نور "، وهى مصعدات إلى حمى الله. يقول الشيخ الغزالى فى " الخمرة الإلهية " فى قصيدته الأولى فى وصف كأسه: ضحوكٌ إلى الشُّرب الصفى وهيجها ففى بسمات الكأس بسمة نور عذاب شهيات التحسى كأنما سِرارُ وجود الروح ذوْبُ نميرِ دفوق المعانى مصعدات إلى الحمى حمى الله مضواء كفيضِ ذرُور ويعمد الشيخ الغزالى إلى مناجاة الكأس وما حوت من خمر يستحيل إلا أن تكون طهورا، ومن ثم فهى الكمال المستفيض الذى تسعد الروح العامرة من سناه فيقول: حماك، وهل يسمو إلى السدةِ التى علاها الجلال الطلق غير طهور؟ حماك وهل يهوى بُعَيد انفساحه مصرَّعُ أقيادٍ ذليل مرير؟ فأنت الكمالُ المستفيض بداعة فيا سعدَ روحٍ من سناه عَميرُ!! **** ويمضى الشيخ الغزالى المتصوف مفتونا بكأس الخمر الإلهية، متعجبا من الطمأنينة والوداعة والأمن التى تبعثها فى النفر قائلا: فأىُّ كئوسٍ غولُها للدُّنى التى تروع بؤساها وأىُّ خمورِ..؟ ويا عجبا كم من طمأنينة بها وداعةُ إيمانٍ وأمنُ قدير..؟ نماها الجنابُ المستعرُّ شموخه حواشى ركابٍ بالضياء منير ص _055(1/49)
وفى القصيدة الثانية التى تحمل العنوان نفسه الذى أطلقه الشاعر على خمريته " الإلهية " الأولى، ينغمس الشاعر فى الشفافية الصوفية الآمنة، فما أن يشعر أن حياته تقطع شوطا ما مجفلة عن الله بعيدة عن المنهج الأسمى حتى يشرب من الكئوس المحفوفة بالأمن والهدى، هذا وإن الخمور التى حوتها تلك الكئوس متناهية الصفاء كمالا، ينفى السوء جناها وشهدها، ويتوسل الشيخ الصوفى الشاب الشاعر إلى الكئوس وما حوت من خمر تناهى صفاؤها أن تعيده ـ وقد مسته سحابة ضلال حارقة ـ إلى الله بأن تغتال الصحو الزائف، وترده إلى عالم الحب والصفاء فيقول: غريبا أرى نفسى فأجُفل إذ هوت حياتىَ يغزوها عن الله بعدها ورب كئوس حفَّها الأمن والهدى شربت فما أسمى الذى رد مجدُها خمور تناهى فى الكمال صفاؤها نفى السوء معناها إذا اشْتِير شهدُها ***** أعيدى طريد القرب من شرِّ ضلَّة رمته بعمياء تسعَّر وقدُها لطال غرورٌ كان يُزجى خُداعه! بنفسى فمن وتر قد اهتاج حقدُها إلى الله! واغتالى من الصحو زائفا كذوْب حياة خابَ فى السعْي وِردُها ويقترب الشيخ من ملامح الخمر كما يصفها الدنيويون بقدر ضئيل حين يصفها بأنها معتقة الآماد، ثم ينثنى سريعا فينغمس فى خمر الصفاء الطاهرة التى طاب خلدها، وزكى رحيقها، مباركة بنور الله أو هكذا أراد فيقول: معتقة الآماد فهى قديمة مع الله ما أزكى! وقد طاب خلدُها له المجد جبَّارا إذا كان بؤسُها له المجدُ رحمانا إذا كان سعدُها سكبت على كل الحياة ملامحا تلوح بنور الله إذ كان فرْدها ص _056(1/50)
وفى قصيدة " الخمرة الإلهية " الثالثة يتحول الشاب محمد الغزالى الذى لم يكن قد بلغ العشرين من عمره المبارك المعطاء إلى حالة من الوجد الصوفى شبه الكامل، أقول شبه الكامل لأنه ظل ممسكا بحبل الوسطية الصوفية، لم يغْلُ فى معنى، ولم يتطرف فى تعبير، وإنما هو بالقدر الذى يعبّ فيه من خمر نشوة الروح، بقدر ما تنكشف له أسرار للكون كانت خافية عليه، منيعة فى الوصول إليها، ولا ينسى الشاعر أن يقتبس من البلاغة القرآنية فى البيت الأخير من هذه الفقرة حين شبه بهجة النشوان بالسراب فى القيعة مهتديا بقوله تعالى: (والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء) يقول الشاعر الشاب الصوفى محمد الغزالى: كلما زدتُ احتساء زادنى طيبُ رياها نفاسات وديعهْ وحبتنى كشف أسرارٍ لدى خافيات الكون تلقاها منيعهْ ***** جرعةُ الإلهام والقرب وما فى جلال الله من حُسنى بديعهْ وشعاعُ الهدْىِ فى الأكواب ومن خامرته ومضة اللمح سريعهْ اغْتدَى نشوانَ لا يلوى على بهجةٍ كالآلِ وضَّاحًا بقيعهْ ويبلغ الشيخ الغزالى المتصوف غاية الإبداع فى قصيدته الرابعة " الخمرة الإلهية " وقد تحدى - بغير قصد منه - شعراء المتصوفة الخمريين معنى ومبنى، وحسا وجرسا، وفناء ووجدا، وتحريرا وتعبيرا، لالتزامه بالوسطية الصوفية وانصرافه عن " العربدة " والغلو حين يقول: جَنَى المخمورُ ما يبغى شهيا جناهُ من طِلا الرحمنِ كأسا جِوارٌ حف عليها كل شىء فمن يسمو إليه طاب نفسا ص _057(1/51)
كيانى فى وضوح العلم نور كما الأكوان فى الأدراك شمسا فلن ألفى الجهول وقد علانى ولن آلوه إشهادا محسا هواتف باسمه ينبئن عنه وكنت حسبتها من قبل خرسا عرانى من معانيها قرار شعورى إن عداه صار بخسا * * * الدين ومكارم الأخلاق: أما وقد سلك الشاعر الشاب نفسه فى قافلة المتصوفة بصوت عال وحبل متين، فلا بأس عليه إذا ما باح باستمساكه بدينه، وأعلن حرصه على الالتزام بشعائر العبادة، وإذا كانت الصلاة مخّ العبادة، فكان من العفويات أن يكون للصلاة نصيب فى شعره فى قصيدة نورانية مباركة يصف فيها وقفة المصلى بين يدى الله وصفا يغوص فيه إلى أعماق النفس المؤمنة، ويقف الشاعر عند طهارة المصفى وقفة تأمل واستغراق، وتمنَّى أن يكون العمر كله صلاة فيقول: تلكمُ الوقفة ما أجملها! فى حُفولٍ بالمعانى الذاخرهْ تلكم الوقفة فيها متعةٌ من جلالِ الفتراتِ الطاهرهْ * * * * فالطويَّات الخفياتُ إلى صمتها البارعِ تُلْفى سافرهْ مُسْلساتُ القيدِ قد أسلمها مبهمُ الأنفسِ أولى آخرهْ * * * * * فترات الطهرِ ما أجملها...! حين تبدو فى الذهولِ الذاكرهْ فلو ان العمرَ منها كلَّه ما درى التشريدَ حتى البادرهْ ص _058(1/52)
وإذا كان المرء يناجى ربه فى الصلاة، فإن الشيخ الغزالى يضيف إلى مناجاة خالقه فى الصلاة، مناجاة الصلاة نفسها، لأن الصلاة هى التى أوصلته إلى مناجاة خالقه، ففى الصلاة تكبير وقرآن ودعاء وركوع وسجود، وليس فى متع العبادات ما هو أجمل من السجود لله ومناجاته فيها وتوحيده بعدها، إنه لا يحس بتلك المتعة الربانية إلا من مارس الصلاة وعقلها، وقد كان الشيخ الغزالى من هذا الفريق الذى يمتع قلبه وعقله وخاطره بالصلاة وأركانها ومفرداتها، ولذلك نراه يناجى حملاته على هذا النحو النورانى فيقول: واصلاتى حينما يرفعْنَنِى من حدودٍ للحياةِ الظاهرهْ واصلاتى بكنوزِ النورِ أنْ يقطعَ الجسمُ الأثيمُ الآصرهْ * * * مذْكِراتى أبدًا بالصحو إنْ غام أفْقى فتعالتْ باهرهْ كالحصاناتِ تقينى سوء ما يبتغينى من دنايا قاسرهْ.. ويطرق شاعرنا موضوعا يجمع بين الجد والطرافة، وبين الدين والأخلاق، إنه الدين والفضيلة، أو " الفضيلة والدين " طبقا لترتيب الشاعر نفسه فى تقديم لفظ الفضيلة على لفظ الدين، ومن المعروف أن الدين يدعو إلى الفضائل، والفضائل ثمرة من ثمار الدين، وبغير ممارسة الفضائل لا يكون التديُّن كاملا. إن هذا المعنى هو الذى قصد إليه الشيخ الغزالى فى أبياته التى تحمل عنوان " الفضيلة والدين " وإن كان قد صاغها فى قالب تحليلى تطبيقى وإطار توجيهى نفسى. إن شيخنا الشاب يسوغ الرابطة بين الفضيلة والدين على هذا النحو: لم يكُ الدينُ عصمتى فى عزوفى عن حقير من الأمورِ مُعافِ إن داعى الفضائل نفسٌ هو فيها الطلابُ حتى توافى ليس إيحاؤه الكمالَ بعلمٍ لجهول به يريدُ الشافى هى نفسى الحادى الذى أرتضيه وبنفسى الوِرْدُ الجميل الصافى ص _059(1/53)
والحرب دائمة دائبة بين الخير والشر، الخير ممثلا فى ملائكته، والشر ممثلا فى جنوده، والشيخ الغزالى عاش مناصرا لملائكة الخير بالدعوة إلى الله والأمر بالمعروف، محاربا جنود الشر الذين يصدون الناس عن ذكر الله ويحسِّنون الشر ويشجعون على اقترافه، ويقبحون الخير ويدعون إلى الانصراف عن فعله. لقد عاشر الشيخ شبابه وكهولته وشيخوخته محتضنا فعل الخير، ومن ثم وقر فى خاطره حب الملائكة فناداهم وناجاحم فى قصيدته التى جعل عنوانها " ملائك الخير" وكان ذلك فى زمن مبكر من حياته طبقا لما هو واضح فى صوغ الأبيات وأسلوبها: ملائكَ الخير لا تنْسَيْنَنى أبدًا لا زال فيض نداكِ الجزلُ لى مددا وفى غضونِ هجومِ الشرِّ فاضطهدى جنودَه السودَ ما إنْ زال منعقدا وعكِّرى نصره بالنهضِ وسوسةً وبالضمير مُثارًا إن يكن خلدَا هديلُك الطهرُ جُلُّ الهدْىِ نبرتُه لا زال مُتَّسقَ النغمات مطردا ويستنهض الشاعر ملائكة الخير لتأخذ بيد اليائس وتسلمه إلى الأمل الذى يملأ حياته، وتساعد الضال وتنتشله من غوايته، وتصل به إلى مرافئ الهداية وشواطئ اليقين، وفى ذلك يقول: ملائكَ الخيرِ كم لليأس من غلبٍ إذا الشقىُّ تمادى غيه عددا ولم يجدْ أملا يرضَى لعثْرتهِ إقالةً فتهاوَى حيثما وَرَدَا فأنهضيه ليرجو عند كبوته مواطنَ الخير يسعى نحوها صُعُدا ملائكَ الخير فاهديهِ إلى رشَدٍ رأى المآبَ ذلولًا فانبرى سَهِدا إذا تناهى ضلالٌ فى غوايته فعجِّلى الحسْمَ والإيقاعَ ما وُجِدوا ملائكَ الخيرِ لا آلوكِ مستمعًا ولست آلوكِ حتى النصرِ مجتهدا ومثلما احتفل الشاعر بملائكة الخير واستدعاهم، فقد شغلته خطيئات الناس، يرتكبونها فى طيش، ويعاقرونها فى نهم، ويقدمون على ممارستها فى سقوط، إنها ص _060(1/54)
طبقا لما يصفها الشاعر الشاب هواجس شر تحولت إلى خطر كاسح، وسقوط عميق. يقول الشيخ الغزالى فى قصيدته التى جعل عنوانها " الخطيئة ": هواجسُ الشر أضحت وطأةً عظُمت ثم استحالت غِلابا بيِّنَ الخطرِ فى فترة همدتْ فى النفسي عصمتها فراضها فعنتْ إصغاء مؤتمِرِ وسطوةُ الشر إنْ تلقى مهادنة تستل ماضيةً فى غير ما حذرِ وفى مجموعة من الصيغ الرفيعة المعنى الرقيقة الأسلوب يغوص الشاعر بوجدانه لكى يحلل مواقف الخطيئة ويقبحها، ويجلِّى شرور الإقدام عليها بحكمة قريبة من فطنة الشيوخ، بحيث إن من يقرأ هذا الشعر ولا يعرف أن الشيخ الغزالى قاله ولما يبلغ العشرين، ينصرف خاطره على التوِّ إلى أن هذا الذى يقرؤه عطاء شيخ علامة، شبع اغترافا من العلم الدينى، وفيض قريحة شاعر محصته التجارب وحركته السنون الطوال. يقول الشيخ شابا مستكملا تقبيح الخطيئة: وللسقوط سويعاتٌ تطيش لها عواطفٌ طالما ضجَّت لدى النذرِ وفى طباع الأناسى ما يُزيِّنها شوهاء قاتمة، يا خفة البشر! ساعُ الخطيئة فى مربدّ عسرتها تجوزها الروح فى لجبٍ من الغِيَرِ يستمرئُ الجسدُ المنهومُ ما حَلِيت مظاهرٌ قد حوت من كل ذى قذرِ فإنْ ثوَيتَ فليْلُ الإثيمِ مطّردٌ وإن خرجت فلا يقربكَ مِن وَضَرِ حكمة وتأملات: عرفت الشيخ الغزالى طوال رحلة حياته حكيما عاقلا متأنيا متأملا فى الكون والحياة، ولم تكن هذه الصفات قاصرة على المراحل المتوسطة والأخيرة من حياته المباركة، ولكنها لازمته ورافقته منذ صغره، كان حكيما وهو دون التاسعة عشرة، وكان عميق التأمل ولما يكمل عقدين من سنيه: ص _061(1/55)
يكتب الشيخ الغزالى قصيدته " النفس والكون " فيكتب لها مقدمة قصيرة فى سطرين اثنين يغنيان عن صفحتين توطئة وتقديما، يقول فيهما:" بين النفس والكون علاقة، فكأن عناصرها أخذت من كل آياته معانيها وترجمت فى إحساسها به غوامضه " ثم ينطلق بعد ذلك مفصلا هذه المعانى فى قصيدته التى صاغها على هذا النحو العميق والفكر البديع: من مديد الفضاء دقَّ عن الفهـ ـم وضوحًا أو إدِّراكَ نهايهْ وابهامِ الآفاق عمقا بعيدا ما أحاطت به وُهُومُ درايهْ صاغت القدرةُ الصناعُ نفوسًا مبدعات فهنّ فى الكون آيهْ *** نحن أصداء ما حوى من معانٍ حافلات بالسعدِ أو بالشكايهْ تكفهر الأجواءُ والنفسُ ضلالا وتستنير هدايهْ والجديد النضير بعد الـ بِلى الهش معانٍ للهدمِ أو للبنايهْ ردَّدتها الأرواحُ ثم أفاضت ما أحسَّت به على الكون غايهْ عاكساتٍ نفسَ الشعور قويا أو ضئيل المرمى قصىّ الزرايهْ نحن فى الكون كالخلاصة جُمِّـ عنا شتيتا من مُستدقّ العنايهْ إن الشاعر يفسر فى وضوح وحكمة وعميق تأمل، صلة النفس بالكون، ثم ينثنى أخيرا ليجملها فى هذا البيت النفيس: نحن فى الكون كالخلاصة جُمِّـ ـعنا شتيتا من مُستدقّ العنايهْ ويشغل التفكير فى الكون حيزا من هموم الشاعر، وبخاصة ذلك الغموض الذى لم يكن تكشف شىء منه إبان كتابة هذا الديوان، ولكن لم يغفل الشاعر عن استشراف المستقبل فينشئ هذه الأبيات التى جعل عنوانها " جهالة " وفيها يقول: ص _062(1/56)
أنت يا كون بالغموض محوط فى جميع الأنحاء أسداف غيب سرمدى النقاب لا كُنه بادٍ من طواياك للوضـ،وح ملبَّى أين علْم الإنسان؟ لم يجِز الأر ض قصورا بل فى عناء المكبِّ تلكمُ الذرةُ الضئيلة فى الكو ن فسيحًا نورٌ بأعماء لجب خفى الأمسُ أمسُ بدءِ وجودٍ مخرسُ السرّ شامل الصمت صعب والغدُ المنتحى قصىّ انتهاءٍ للختامِ المرقوب فى كل حجب وكان الشيخ الغزالى يعيش فى النور حياته، وينأى بها أن تكون فى ظلام، سواء أكان النور حسيا أم معنويا، وسواء أكان الظلام ملموسا أم متصورا، كان رحمه الله يحب النور فى مختلف صوره: نور الإيمان، نور الحقيقة، نور البصيرة، نور العدالة حتى نور المصباح ونور الشمعة، ومن ثم فقد عبر عن ضميره أوضح تعبير حين خاطب " نور الحقيقة " بهذه الأبيات، مستمسكا به متشبثا بضيائه إلا فى حالة واحدة ذكرها فى بيته الأخير: أيها النور أنت تلقى و ضوحا لأناس عاشوا بأبشع سر لا يُطيقون فى الحقيقة عيشا فضياء الحقيقة الغمر يزرى حشرات فى نورها الحق تفنى مثل قتل الشعاع كل مضر ولهذا، الظلام خير من النور إذا كنتَ لا ترى وجه حر ومن أكثر القصائد أو المقطوعات التى تجمع بين الطرافة والحكمة، وبين النظرة الواضحة والتأمل العميق، موضوع الشيخوخة، ولعل مبعث الطرافة فى ذلك هو أن الشيخ الغزالى يتناول هذا الموضوع وهو فى أواخر العقد الثانى من عمره؟ أى لم يكن قد بلغ سن العشرين بعد، فكأنه تقمص شخصية شيخ يعيش التجربة بكل أبعادها، يكابد متاعبها ويشقى بأثقالها فيقول: ص _063(1/57)
برزخ بين حياة وممات فيه من كل رسوم وشمات بين ضعف وفوًى حفّهما قاصر اليأس وحلو الأمنيات قرب الشيخ إلى حيث أنى عالم قد أدرجته الظلمات كل أسباب الحياة اجتمعت غير نذر لتولى هاربات ليس يهوى من شاهقه نحو وادى الموت إلا دركات ليحول الحب يأسًا من طلاب ويحول الشوق عجزا من ثبات ونذير الضعف يبدو كلما فرب المرءُ وئيدًا للفوات وللحقيقة والإنصاف فإن هذا الديوان ملىء بنماذج من شعر الحكمة، مترع بقصائد التأملات، وكل من الحكمة والتأملات تكاد توشّى صفحات الديوان من أوله إلى آخره مما يجعلنا نكتفى بهذا القدر من النماذج، مضافا إليها قصيدة " الحصاد " وهى طراز من الشعر المحكم الحلقات الموسوم بالأناقة والجزالة، مع رقى الفكرة ودقة الإيقاع مما يجعلها متميزة عن غيرها فى هذا السياق، لأن القارئ قد يحس فى غيرها ببعض الزحافات والعلل والإقواء هنا وهناك، وهى ظاهرة تحدت فى شعر الناشئين، وتغتفر للواعدين منهم، الأمر الذى لا يفزع قارئا واعيا، أو يزعج متابعًا مستنيرا. فإذا عدنا إلى قصيدة " الحصاد " وجدنا أنفسنا نستمتع بسيمفونية جميلة، لحمتها الحكمة وسداها الإيقاع؟ لأن الشاعر كأنما حضر عيد الحصاد فى قريته، وفرح مع الحاصدين، وغنى مع المنشدين، وذاق لذة طعم الثمرة اليانعة واستمتع بخير الحبة الناضجة. يقول " الشيخ " الشاب الشاعر: لليوم ما غرسوا قدْمًا وما اجتهدوا! وبورك الغرس فى أعقابه حصدوا وبُورك الزهر لم يكذب وقد بسمت تُرجى الأمانى نورا سوقه النضد هذا جنى البدء فى داني سنابله للنصر ما عملوا والصدق ما وعدوا هما الغذاءان من روح ومن جسد نعم الغذاءان يلقى الروحُ والجسدُ ص _064(1/58)
الماء والنور والفلاح قد صنعوا عقدا من الثمر المنظوم يطرد! قد أبرزوه كئوسًا بالجنى حفلت ونمقوه جلالًا حيثما احتشدوا وأتت عطاءً جزيلا كلما ارتقبوا!! ثمارها الجود فى كل الذى وجدوا *** أحزان وأشجان: كان للشيخ الغزالى شقيقة طفلة، أصابها المرض ولا تملك التعبير عن آلامها، وكانت يانعة كالزهرة الباسمة، ناعمة كالوردة الفضة داعبها النسيم، كان الشيخ الغزالى يحب شقيقته طفولتها وبراءتها، فتألم لألمها وأشفق عليها وعلى نفسه من شكايتها فصور هذه الآلام، بل صور أخته الطفلة فى حالاتها المتقلبة فى قصيدة اختار لها عنوانا معبرا هو " الألم الضال فى مرض الطفولة" شحنها بكل ما عرى نفسه من هواجس وآلام وتوجع. يقول فيها: أأول ما تدرين ين من أكدارها؟!! وأول ما تلقين من أوضارها تأوهت يا أختى الصغيرة آهة ألا إن من صدري توقد نارها فزعت إذ الداء الأليم توحشت مخالبه تجتث نضر افترارها وفجعت فى نفس برىء مراحها تداعبنى إن تدن أو فى ازورارها فألمس دنيا عالم الطهر مرسلًا سجية أبرار زكت لم تدارها! وما إن يفرغ " الشيخ " الشاب من تصوير الآلام المبرحة التى تكابدها أخته الصغيرة، حتى ينصرف إلى مناجاتها فى قبائل من المعانى الإنسانية العميقة التعبير بالحنان، المترعة بالألم الزاخرة بالبكاء قائلا: أنينك يا أختى الصغيرة مقبضى أنين كهول فى تداني سرارها علقت بصدر الأم تبغين نجوة وليس سوى وجد حوى الصدر كارها تحركت فى المهد الصغير كأنما تذودين سوءى من جحيم ديارها بكيت عميق الحزن جد موجّع وبتُّ كئيب النفس نائى اصطبارها ص _065(1/59)
وتذوى الزهرة الجميلة، وتصعد روحها الطاهرة إلى الرفيق الأعلى، وتنتظم عالم الأبرار مع رفاقها ورفيقاتها فى دار الخلود ورحاب الرحمات، فيستبد الحزن بالشقيق الشاب الذى افتقد جوهر حبه ومصدر أنسه المتمثل فى الزهرة الجميلة الآفلة، ويجف الدمع فى عينيه، بل يجف القلم فى يده فلا يملك أن يرثيها إلا بأبيات قليلة ضمنها تباريح حزنه ونبرات أساه جعل عنوانها " سقطت ولما تنضج " قال فيها: العبث الموفور فى هزلها حوى الهدوء وحوى الفضيلهْ تحطمت كئوس صافى الضِّيا فرقة الأعين حسرى كليله كلاكما طريد زاكى النماء وعذب هذى الحياة الجميله لم يسعدا بعد بالنضوج بل ماتت الرئة الضئيله ويبدو أن فجيعة الغزالى الشاب ابن الثمانية عشر ربيعا أو أقل من ذلك كانت ثقيلة الوقع على نفسه وحسه ووجدناته ومشاعره قد جعلته يفكر لا فى موت شقيقته الطفلة وحدها، بل يفكر فى موت الأطفال وكنهه وحكمته، ويكتب قصيدة يجعل عنوانها " موت الأطفال " ويكتب مقدمة نثرية لأبياته تحمل أفكارا تمت بصلة ما إلى فكر أبى العلاء المعرى، هذا نصها: " سواء أخفيت أم وضحت حكمة الإرادة فى إيجاد طفل تعذبه ثم تهلكه فمما لا ريب فيه أن هذا الكائن ضحية وأنه روح طرق عالم الحياة الحسية عابرا " إنها كلمات تبدو غريبة عن فكر الشيخ الغزالى ونهجه، ولكن ينبغى ألا ننسى أن الشيخ الغزالى آنذاك كان الشاب محمد الغزالى الطالب فى معهد الإسكندرية الثانوى، وأن فكره آنذاك لم يكن من عمق الفهم لحقيقة الموت مثلما هو فى الشيخ الغزالى الكبير، شاب رزئ فى شقيقته الطفلة الجميلة البريئة التى كانت فيما يبدو تحتل كل ركن فى قلبه احتلالا ملك عليه كل شئ فى تفكيره، فلم ير أمامه من شئ إلا مصيبته فى وفاتها. ص _066(1/60)
يقول الشاب محمد الغزالى فى قصيدته " موت الأطفال " بعد المقدمة الغريبة التى سطرها مقدما بها أبياته: يا بنى الموت الألى عشْنَ له فانقضى عمر وعى الدنيا سدى وانطوى لم يدر إلا عابرا هذه الدنيا كأنْ ما وُجدا قد ذهبتم فى ضحايا حكمة ليت شعرى هل ذهبتم سُعدا يا فتاتى حلو أطيافك يأتى كما قد حفّه صفو الندى ضاحكات اللهو يهزمن النهى فى اكتئاب منه فى النفسي صدى عدت من حيث أتيت طفلة وطن الأبرار يلقاك غدا أوهل يحسب فى هذى الحياة روح صدق لم يدنس جسدا ومثلما كان لمحمد الغزالى الشاب أحزان عميقة دافقة عبر عنها فى شكايات ورثائيات، فقد كان له كذلك أشجان لصيقة، والأشجان أقل ثقلا وأخف أثرا على النفس من الأحزان، ولكن فى حالات ذوى القربى الأقربين ربما تساوت مشاعر الأشجان مع جراحات الأحزان، فمن النماذج التى تجلت فيها أشجان الشاعر وافرة الحس متزاحمة المشاعر قصيدته " الشيخ الباكى ". إن النبرات الحميمة التى تجلت فى هذه القصيدة تشى بأنها قيلت فى واحد من أقرب الأقربين إلى الشيخ الغزالى، ربما كان الجد- فيما لو كان على قيد الحياة آنذاك أو الأب أو العم أو الخال، ذلك لأن القصيدة مترعة بمجموعة من العواطف الآسرة التى لا تتجمع فى فؤاد امرئ بعيد الصلة بمن أنشئت القصيدة فى شأنه: محت عبرات الشيخ كل الذى رأت عيون الصبا البسام فى الأعصر الغبر فتلك تجاعيد الإياس التى بدت تكلل خديه اندحارا على دحر يخط مسيل الدمع فيها جوانحا تذبذب فيها اليأس فى الألم المر ص _067(1/61)
هكذا بكى الشيخ الكبير مصدر الإشفاق ومنبع الشجن ودليل ذلك مسيل الدمع الذى خط أحزانا فى قسمات وجنتيه، ويرمى الشجن بثقله على الشاب محمد الغزالى لأنه من أقرب ذوى الأرحام إليه، فيتمنى أن يتوقف الدمع ويكف الشيخ عن البكاء، وفى ذلك يقول شاعرنا الشاب راجيا بل متمنيا: ألا ليت هذا الشيخ لم يبك إننى أحس لهيبا فى فؤادى من النكر خصاد سنين قوّضت جل عمره شقاء معنّى أعقب الوصل بالهجر أراه وقد حانت لتمزيق عمره قواطعُ تُدنيه سريعا من القبر أهاب به عجز فلم يستطع ونى كغير رضوخ الضعف نأيا عن النصر وحالت حياة النور فى نفسه دجى يزهده فيها زهادة مضطر ومن أعمق ما أبدع الشاعر الشاب شجنا تلك القصيدة التى كتبها فى كفاح أبيه، وجعل لها عنوانا مترعا بالإشفاق، إن عنوان قصيدته فى أبيه هو " طريد " والطريد يكون دائم الركض دائب السعى، ولم يكن ركض أبيه فرارا من أحد، ولا دأبه هدفا غير كريم، ولكن كان الركض الدائم والسعى الدائب يستهدفان أكرم مسعى، وأنبل هدف، وهما السعى فى الحياة لتلبية أسباب العيش الكريم للأسرة ممثلة فى زوجة فضلى، وأبناء نجباء، وأما القصيدة فهى تقدم نفسها على هذا النحو الفريد: تقسمه الإجهاد فهو مثقل ينوء بأعباء المعايش متعبا مدى العمر لا يلقى سلاحا بكفه فطورا أخا حرب وطورا تأهبا يظل بحومات الجهاد مكافحا فسببان فى أيامه الشيب والصبا طريد من الإسعاد فالدهر خلفه دءوب ولن يألو هوى العيش مأربا كأن من الكون المدار حراكه فليس بوقّاف وليس مغلبا ألدّانِ موصولا الغلاب فحيثما ترى غالبا فالنصر قد نال غاصبا فبوركت من عمر تضاعف سعيه وبوركت من فذ وبوركت يا أبا ص _068(1/62)
فضائل وشمائل: عرف الناس الشيخ الغزالى كواحد من أعظم الدعاة إلى الله على بصيرة غزير العلم، عظيم الحلم، فصيح اللسان، ناصع البيان وافر التقوى، باش الوجه، جامعا لمكارم الأخلاق. هذه الشمائل ليست وافدة على الشيخ الغزالى أو حديثة القدوم عليه، وإنما أكثرها وفى مقدمتها جماع الفضائل ومكارم الأخلاق أصيلة فيه منذ صباه الأول، رافقته ناشئا، ولازمته يافعا وصاحبته شابا، وغمرته كهلا، وسارت فى ركابه شيخا وداعيا ومعلما. من ثم لم يكن مستغربا من الشيخ أن يكون ديوانه الذى أنشأ جميع قصائده قبل سن العشرين مزدانا بشعر الفضائل، موشيا بقصائد مكارم الأخلاق، وهى منتثره على صفحات الديوان مثلما تنتثر النجوم فى صفحة السماء، تعلى من قدر الديوان، وترفع من شأنه، وتحبب قراءته إلى ذوى الفطرة السليمة، وتزين مطالعته لطلاب الأدب الرفيع والساعين إلى اقتناص مكارم الأخلاق. يتناول الشاب محمد الغزالى موضوع الغنى والفقر، والثراء والعدم، يعالج فيه فلسفة الغنى وما إذا كان المال وحده يؤدى إلى السعادة، وانتهى إلى أن المال لا وزن له ما لم يقض حاجة بائس أو يعالج محنة مكلوم، ومن ثم فإن الغنى هو غنى النفس وليس غنى الثراء وحده، يقول الغزالى فى أبيات جعل عنوانها " سَرِىٌّ وثَرِى ": وددت الغنى لو أن ذا المال مسعد سعادة ذى روح سعادة ذى عقل فلما رأيت المغتنين سعوا له لذاذة ملبوس لذاذة فى أكل حقرت ثراء يبتغى الذل موئلًا يريد مَقامى فى مواطنه الغفل وددت الغنى أقضِى مطالب بائس أواسى جروحا أو أبدد من جهل وشر الذى آسى عليه مطالب لروحى كبيحات ترددن فى قفل غنى أنا بالنفس والسعدِ والمنى فأى ثراء يبتغينى سوى غل ص _069(1/63)
وإذا كان الشاب محمد الغزالى قد فرق بين الثرى والسرى فى أبياته السابقة، نازعا إلى الخير مشجعا أصحاب المال على فعله ونفع الناس وإلا فالقناعة هى الغنى، فإنه يحذر من فعل الشر بإظهار وجهه القبيح، وما أكثر الوجوه القبيحة للشر الذى ينبغى أن يحذر اللجوء إليه ذوو المروءات وأصحاب كريم الفعال، لذلك يجعل الشيخ الغزالى عنوان المقطوعة التى تناول فيها الموضوع " حذار " وفيها يقول: احذر الشر ما بدا إلحاحه واحتسمه إن الضلال كفاحُهْ ليس أولى بالحسم مثل عدو لا يبالى بأى نصر سلاحه أو جدير بالاجتثاث كخصم للغلاب الشريف يأبى نجاحه سبل الشر ما بحثت طوال مبهمات السعي الخبيث مباحه فى اسم هذا الضلال كل دليل عن شعاب يضل فيها جماحه ومن الخير الانصراف عن خضراء الدمن، ومن الشر الاهتمام بها والإقبال عليها، وخضراء الدمن ـ طبقا للقول الشريف ـ هى الفتاة الجميلة تنشأ فى منابت السوء، يسر المرء شكلها وجمالها ويسوؤه خلقها وفعلها. إن الشيخ الغزالى يحفظ الحديث الشريف صغيرا، ويعرف معناه ومرماه، ومن ثم فهو يجعل ـ فى نطاق كريم الفعال ومكارم الأخلاق ـ خضراء الدمن موضوعا يطرقه فى شعره، ليحذر البسطاء من خطر الاقتراب منها والاغترار بجمالها، وتلك هى أبيات الشاب محمد الغزالى: يا ضيعة الحسن الذى أضفى عليك بهاؤُهُ وكساك من نور الجما ل سموّه وسناؤه يا ليت قدس الطهر لم يسكب عليك نقاؤه خدع معانى الخير يُز جَى للنهى لألاؤه أو ليت برق السحر لم يستبقه وشّاؤه يا كذب ما أوحى إلى من راعهن طلاؤه هبة الطبيعة صادفت روحا خبيثا داؤه كم ذا يفجَّع وامقٌ قد مسَّه إغواؤه ص _070(1/64)
والشيخ الغزالى ـ شابا ـ وقد أنضم نفسه فى سلك الشعراء قد عرف أن بعض موضوعات الشعر توصف بسوء السمعة كالهجاء والغزل المكشوف الذى يؤذى الذوق ويخدش الحياء ويغتال سمعة العفيفات الحرائر، بل إن فن المديح أيضا يصنف مع هذه الفنون سالفة الذكر إذا ما اصطنع الكذب ومارس النفاق وخلع على الممدوح من صفات الحسن ما هو عطل منها، ومن المؤسف أن الكثرة من شعراء المديح لم يبرءوا من هذه الصفات المرذولة حتى إن الأمير قابوس بن وشمكير سلطان طبرستان كان يرفض أن يستقبل الشعراء الذين يقفون ببابه برغم كونه شاعرا، وكان يقول لحاجبه: إنهم كاذبون منافقون، ويكتفى بأن يأمره بإجازتهم بالمال دون السماح لهم بالإنشاد بين يديه، فأراد الشاعر الشاب محمد الغزالى أن يبين أن المديح إذا ما توخى الصدق والاعتدال وقاطع النفاق والابتذال، صار من أكرم الفنون مقالة، ومن أسمى الموضوعات مكانة، فأنشأ لمثل هذا النهج مثالا فى قصيدة جعل عنوانها " مدحة فى صنيع " وفيها يقول: إذا كان حسن الشعر ميْنًا مزخرفا فلا كان شعرٌ نكب الصدق قائلهْ! لمحت اتساقا بين كل محبب وبيتك فى قلب هو الطهر آهلهْ صنيع كعمق الخير فيك قبوله ومن روحك الزاكى ثوى فى نائله توسمت إخلاصًا يحفّ جلاله وبهجة جوّاد نفى الزيفَ سائله *** أفاضت شعوري الجزل آيةُ منّةٍ نصرت بها والربع عُريان ماحله فكنت كزهر القفر أظهر طيبه من الشوك مؤذى اللمس تذوى قواتله فأىُّ جميل كبّلتنى قيودُه؟ وأىُّ شكور إننى الآن فاعلُه؟ هكذا كان محمد الغزالى معلما للفضائل فى فجر سنيه التى قال فيها شعرا مثلما كان داعيا لمكارم الأخلاق فى جميع مراحل حياته. ص _071(1/65)
الوصف: كان الشعراء الفحول الأقدمون وبخاصة شعراء الشام ومصر والأندلس يرون أنه لا تكتمل للشاعر أسباب النبوغ إلا إذا أجاد شعر الوصف بعامة ووصف الطبيعة بخاصة، وقد برع فى ذلك البحترى، وأبو تمام، وابن الرومى، وابن المعتز فى العراق، والصنوبرى، والسرى الرفاء، وأبو عثمان، وأبو بكر الخالديان، وأبو الفتح كشاجم، والوأواء الدمشقى فى بلاد الشام، وابن وكيع التنيسى، وصالح بن مؤنس، وأبو القاسم بن طباطبا، وأبو نصر كشاجم، والمرفقى فى مصر وابن خفاجة، وابن حمديس، وأمية بن الصلت، وأحمد بن عبد ربه، وابن شهيد، وابن الزقاق البلنسى، وابن الحاج، والمعتمد بن عباد وغيرهم فى الأندلس. أراد الشاب الصغير محمد الغزالى أن يصنع فى شعر الطبيعة مثلما صنع هؤلاء الفحول المشاهير، وليس من شك فى أن هذا الصنيع كان أمرا موسوما بالجرأة، ولا نريد أن نقول بالغرور، فالغزالى لم يكن قد بلغ العشرين من عمره وهو يطرق باب الشعر ويسهم فيه، ومع ذلك فقد طرق باب الوصف، فوصف الشمس، والشروق، ووصف الفجر والليل، ووصف البدر والنجوم بل إنه تشجع فوصف الطبيعة الخضراء، فكان ـ من عجب وبرغم حداثة سنه ومحدودية تجاربه ـ فارسا جريئا وإن يكن فى أول مراحل الفروسية الشعرية التى لم يكملها طبقا لما أوضحناه فى صدر هذه المقدمة. من المنطق ألا نمثل لكل هذه الموضوعات التى أشرنا إليها، ولكننا سنورد أمثلة من خلالها يمكن تقديم صورة أمينة عن الشاعر اليافع محمد الغزالى. فى جرأة محمودة يصف شاعرنا الفجر، وهو فى نهجه هذا لا ينحو طريق القصيدة المعتادة، ولكنه يسلك نهج المخمسات التى تتفق قوافيها فى المصاريع الأربعة الأولى، وتختلف فى المصراع الخامس الذى يتفق مع أمثاله قافية ورويا، يقدم الشيخ الغزالى الشاب هذا النهج الجديد قائلا: ما ذوَّب الغياهبا؟ وغرب الكواكبا؟ وشيب الذوائبا؟ فكاد يُخفى هاربا ضمتَ الظلام المطبقِ؟! لمح ضياء قاربا مُواكبا مَواكبا!! بالنور يرمى دائبا(1/66)
يدرجها السبائبا ظُلم الدَّجى المتسقِ ص _072
ما أخرص الجنادبا قضَّته ليلًا صاخبا وبالصريرِ جاوبا دياجيا سوَاكبا؟! صريرِ صمت ريِّقِ نحن صداه جانبا إذ ظن لمحا رائبا فى الأفق يعلو غالبا مُعصفَرا وخاصبا مفرَّ من ذا الفلقِ!! أحيا الحراكَ الذاهبا فى الليل كان غاربا للنور يبدو صاحبا ها هو ذا مخاطبا لليلٍ أن انطقِ! وحين ينظم الشاعر قصيدته فى النجوم يطلق عليها " لآلئ الليل "، ويصفها مبعثرات إلى الآفاق، تفوق فى بعثرتها تنسيق ناظم، وهى تشتت جحافل الظلام المتكاثرة، إلى غير ذلك من الأوصاف البديعة التى خلعها عليها شاعرنا الشاب الذى يقول: لآلئُ الليل فى ديجوره الطامى كجوهر ـ قذف الأصدافَ ـ بسَّامِ مبعثرات إلى الآفاق فى عجب تفوق بعثرة تنسيق نظّام طرائق النور تزجى الهدْى وسوسة رصينة كالسكون الهادئ النامى تلك المصابيح حيرى فى توهُّجها فى أى ناحية تزجى السَّنا السامى! تكاثرت ظلمات الليل فالتهبت لا تعرف اليأس فى تشتيت إبهام كأنها إذ تُغالى فى مخاوفها ما ترسل اللمحُ إلا محضَ إعلامِ؟ منائرُ الفكر الوضاحة اتقدت فى نفس قاسية تأبى لإلهام ص _073(1/67)
وفى مجال الطبيعة الحية ينشط الشاعر لوصفها وقد جعلها أمَّه، فيصف مروجها وبهاءها وشدة الحنين إليها، مجتهدا فى أن يرسم صورة لها مثلما فعل شعراء الطبيعة السابقون، ولكنه إذ يثبت قدمه على أبوابها يظل محتاجا إلى مزيد من الجهد والعمر والزمان حتى ينتظم صفوفهم، وقد كان الغزالى الشاعر حريا بتحقيق ذلك لو كتب له أن يستمر مع الشعر إنشاء وإنشادا، ومع ذلك فإن الشاعر الشاب بقصيدته " حنين إلى الطبيعة " قد حقق غير قليل من التوفيق فى التزام السمات الأنيقة والقسمات الدقيقة والخيال الخصب فى محاولته تلك التى يقول فيها: تلك المروج ـ بهيجةً ـ يهتز فى إيناعها سحر الحياة الخالدُ ويموج فى سيقانها متأوِّبا نَغَمُ الطلاقة والرفيف الناشد خضراء يانعة كميسور المنى صفراء يابسة جناها الحاصد أمى الطبيعة ما أجلَّ معانيا يرنو إلى أصدائهن الواجد أمى الطبيعة كلما زدنا نؤًى عنها فكل مزيَّفٍ يتزايد فى صُنعها الفنان كلُّ سذاجةٍ هى فى ذرا التنسيق قصدٌ واحد *** تتساقط الحجب التى تطويننى فى شر ما ألقى فهن مصائدُ أمى الطبيعة كم أحنّ إذا سعت قدماى فى ضاحى حماكِ أشاهد * * * * * القصائد الوطنية: كان الطلبة المصريون فى الماضى غير البعيد يمارسون السياسة ممارسة فعلية، يقومون بالتظاهرات الكثيفة العارمة ضد الفساد والاستبداد، سواء أكان الاستبداد من حكام الداخل، أم من المستعمر الذى احتل أرض الوطن، وفرض حكمه وسيادته عليها، ومن الحقائق التى عاشها جيلنا فى أيام الطفولة واليفاع أن تظاهرات الطلاب كم أسقطت من حكومات منحرفة، ووزارات مستبدة، وكم ص _074(1/68)
نددت بتجاوزات الاستعمار الأوربى لأقطار الأمة العربية من المغرب العربى غربا مرورا بالجزائر وتونس وليبيا وامتدادا إلى سورية ولبنان والعراق. ولم يكن النشاط السياسى الطلابى مقصورا على طلاب الجامعة والمعاهد العليا وحدهم، وإنما كان يتسع ليشمل المرحلة الثانوية، وهى تساوى المرحلتين الإعدادية والثانوية فى زماننا هذا، وكانت هناك مدارس ثانوية ذات شهرة فى الإسهام فى السياسة وذات صيت بعيد فى التظاهرات والثورات التى كانت تدخل الفزع إلى قلوب الحكام والمستعمرين على حد سواء وتربك ترتيباتهم وتجهض مؤامراتهم. من المدارس الثانوية التى عرفت بقوة شكيمة طلابها بحيث كان نظام الحكم يتحامى غضبهم: المدرسة الخديوية فى القاهرة والسعيدية فى الجيزة، وطنطا الثانوية، والعباسية ورأس التين فى الإسكندرية وأسيوط الثانوية. ومن المعاهد الدينية الأزهرية ذات الشكيمة والعزم المعهد الأحمدى بطنطا ومعهد الإسكندرية الدينى. كان الشيخ الغزالى رحمه الله إبان كتابة ديوانه هذا، طالبا بالمعهد الدينى بالإسكندرية، فشهد كبريات الأحداث السياسية فى عقد الثلاثينيات، وكان عقد الثورة على الفساد الداخلى والاستعمار الخارجى، فأسهم بشخصه مع زملائه فى العمل الوطنى، وعرف أسباب الفساد، واستجلى مظالم الاستعمار، وشارك فى معرفة أمراض الأمة، واستنهاض عزمتها، واستيقاظ وطنيَّتها، وبالتالى ترجم تلك الأحداث الوطنية إلى قصائد شعرية انسربت فى المسيرة العامة بأفراحها وأحزانها وصعودها وهبوطها ونجاحها وفشلها. يكتب الغزالى الشاب ثلاث قصائد طويلة يوجهها إلى الأمة هى: " عودة الأمس "، و" إلى الأمة الكريمة "، و" أمة مسروقة تحت الشمس "، بل يكتب قصيدة عنوانها " جيش مصر" يشن فيها حملة توبيخ وتقريع للمسئولين لسوء حال جيش مصر الذى حولوه إلى جيش غير صالح للقتال، واقتصرت مهمته على توديع المحمل وتضييع الجنازات. ويلتفت الشيخ الغزالى طالب معهد إسكندرية الدينى إلى(1/69)
شخصية الزعيم المصرى الثائر أحمد عرابى فيكتب قصيدة فى تحيته، ويتذكر الشيخ الطالب " السكندرى " ضرب الأسطول الإنجليزي للإسكندرية فينشئ قصيدة وطنية يضمنها أحزانه وأشجانه لضرب المدينة المسالمة التى يعيش فيها كطالب علم، ينعم بأرضها ويستمتع ببحرها ويستظل بسمائها. ص _075
هكذا عاش الشاب محمد الغزالى الطالب بالمرحلة الثانوية، حاملا هموم وطنه وأحزان أمته، فيترجمها إلى نشاط سياسى يمارسه، وتسجيل أدبى يؤديه، بإنشاء القصائد الوطنية التى تنبه الغافل وتلهب مشاعر اليقظان. فإذا ما عدنا إلى عطاء الشاعر الشاب قارئين مستمتعين، بل متأثرين ثائرين، فإن قصيدته " إلى الأمة الكريمة " تلفت الأنظار وتستهوى القلوب، لأنها قصيدة ساخنة تخاطب ضمير أبناء مصر، تستنهض هممهم، وتوقظ النوّام من سباتهم، فى ثوب من عبارات التقريع وكلمات التوبيخ، وفيها أيضا يدعوهم إلى الثورة على مصائب التأخر وألوان الفساد، وهى قصيدة طويلة يستهلها بما يشبه الصدمة الكهربائية قائلا: مستمرئى الذل هل تدرون ما كانا أخزاكم الله، ما تأتون بهتانا وفيها أيضا يقول: يا ضيعة الأمس كم ذا سغتمو جرعًا تثير ذكرا يعير البأس مَن هانا دمُ الضحايا أكان الماء منسكبا مستمرئَ الهون فى واد به ازدانا دم العزيز لمصر جدَّ مرتخصٍ لو خلّف التعب المحزون شجعانا "يا ليت لى بكم قوما إذا ركبوا شدَّوا الإغارة فرسانا وركبانا" يا للضعيف إذا سيمَ الحياة لُقًى ولم يجد من وراء النصر نشدانا إنِّى لأهتف من قلبى ألَا فئةٌ للنيل ما نكثته العهدَ خذلانًا! ويمضى الشاعر داعيا إلى الثورة دعوة صريحة يقول فيها: دعوت للثورة الكبرى تؤج دمًا يأبى الحديدَ ويأبى النارَ شطآنا دعوت للثورة الكبرى إلى غرض ينفى السكون إذا ما سيم إذعانا سكتُّ محتسب الصيحات فى غضب لما رأيتكمُ للذل أخدانا أما وقد فرغ الشاعر الشاب من قصيدته الساخنة التى عرى فيها تخاذل الأمة واندحارها، الأمر الذى دفعه إلى الدعوة(1/70)
للثورة، فقد رأى أن يذكر الأمة بأمجادها، ص _076
ومحاولة استنهاضها، لتسير فى طريق مجدها القديم، فى قصيدة نفيسة جعل عنوانها " عودة الأمس " صور فيها ماضى مجد الأمة الإسلامية ـ ممثلا فى الشرق ـ علميا وفكريا وحضاريا مع تذكير واضح وعين فاحصة إلى الحاضر الخابى، والواقع المتدهور للمسلمين، وتصوير الحضارة الغربية بصورتها الحقيقية المتوحشة البربرية التى ناصبت الشرق العداء، واستباحت أرضه وعرضه ظلما وعدوانا. يقول الشاعر الشاب محمد الغزالى فى مقام إيقاظ قومه وتنبيه أمته: أيها الشرق... أنت جدّ غريب عن جلال، عفى وأمسٍ عظيمِ تنكر العين أى أنقاض سوء؟ قد تبقت من البناء الفخيم أيها الشرق قد غفوت طويلا وتماديت غافل التهويم إن سِحرا تزهو به جنباتٌ منك يذروه رائع التحطيم ارتضتك السماء مهبط وحى حِقب الطهر فى ديار النعيم فإذا الصفحة الربيع مُحُولٌ ومحت نورها رياحُ سمومِ يا حفيدَ العتيق من كل مجد أين فى الابن مجد أكرم خيمِ! ضجّت الأرض من حضارة سوء قد غلا شرها وغربٍ أثيم أين من ذاك للفضيلة شرقٌ؟ لا كدنيا الآلات صرعى جحيم! أيها الشرق هل أراك عزيزا فى انتصار على الألدِّ الخصيم وحين كتب شاعرنا الشاب قصيدته فى جيش مصر وما كانت عليه حاله من ضعف واستكانة، وذلة وتعطل، قفزت إلى ذهنه شخصية البطل أحمد عرابى وزير الحربية، وصاحب الثورة التى ارتبطت باسمه، والمعارك الحربية التى خاضها ضد الإنجليز، وكان النصر مؤكدا للجيش المصرى بقيادته لولا الخيانات العديدة التى تسببت فى هزيمة الجيش العظيم وقائده الباسل، والتى كان أهمها خيانتين: خيانة الفرنسى ديليسبس وخيانة الضابط خنفس. إن الشاعر الشاب محمدًا الغزالى المتوهج وطنية، الممتلئ حماسا وحمية يكتب قصيدة عنوانها " أحمد عرابى "، يصب فيها الشاعر كل ما تحمل جوانحه من حب وتقدير وتحية وتمجيد للبطل أحمد عرابى، يقول فى بعضها: ص _077(1/71)
حيتك من نفسى عواطفُ ثائر لا يستكين لسطوة من جائرِ ويثيرها نارا يهول وقودها فيبيد أو تلقاه أوْبة ظافر حيتك من نفسى عواطف مخلصٍ لا مأرب يلهيه شأن الفاجر للمجد ما يبغى يُكلل أمَّة للنصر ما يسعى قليل الناصرِ *** حيتك نفسى بل تحية أمة تحبوك تمجيد الجرىء الماهر إن فاتك النصر الجميل فإنها كبوات جد فى طريق واعر *** إن فاتك النجح العزيز فإننا نسعى نحطم رغم جدّ عاثر فى ثورة كبرى سنسعرها لظًى يفنى أتون لهيبها المتطاير ويبلغ افتتان الشاعر الشاب بعرابى قمته فى تقديمه لشخصه على هذا النحو الجريء: قدِّست مهزوما تعفِّر فى الثرى قدست مقهورا كسير الناظر قدِّست يوم بكيت إذ سقط الحمى لا نصر يرجى لا دفاع مغامر *** إن الذى قدمناه من نماذج يدل فى وضوح على أن محمدا الغزالى الشاب كان شاعرا واعدا، أسهم بفنه الشعرى الجاد فى جميع قضايا زمانه، وتحدث فى صراحة وإبانة ـ شعرا ـ عن قضايا نفسه. والأمر الذى نرمى إلى توضيحه والتأكيد عليه هو أن هذا الديوان الذى نقدمه، قد كتب كله فى سنوات قليلة سابقة على سنة 1936 م أى أن محمدا الغزالى كتب هذا الديوان بجميع محتوياته وهو دون التاسعة عشرة من عمره المبارك، ومن ثم ينبغى أن يتسامح القارئ معه حين يعثر على هفوة هنا أو غفوة هناك، فلم يكن الشاب قد استوى على دوحة الشعر عوده كاملا وهو يكتب هذا الحصاد النفيس أغلبه، المتوسط أقله. ص _078(1/72)
لقد سعدت بالجهد الذى بذلته فى تحقيق هذا الديوان، فقد سلَّمه إلى المهندس ضياء الدين والدكتور علاء الدين نجلا الشيخ الجليل وقد عثرا على هذا الديوان مجموعا بحروف المطبعة القديمة، وكان اكتشافهما له بين مخلفات والدهما الجليل ـ طيب الله ثراه ـ أمرا يدعوا إلى السرور، بل وإلى دهشة بعض أصدقاء الشيخ الذين لم يكونوا يعرفون من أمر شاعريته شيئا. لقد كانت الأخطاء المطبعية من الكثرة بحيث تحول بين المرء وبين قراءة الديوان وبالتالى فهمه، إذ لم تكد تخلو صفحة من عديد من الأخطاء التى يصعب تصويبها، فضلا عن الألفاظ الساقطة من الطابع والكلمات المشوهة التى تحتاج إثبات بدائل لها، مما يشكل موقفا شائكا ومحوطا بالعقبات الصعاب. غير أن حبى للشيخ الغزالى وأخوتى له عقودا من السنين قد بعثا الهمة فى نفسى، والصبر فى جوانحى، فتوفرت على الديوان قراءة مرات متتالية مستأنية، وفى كل قراءة كانت عينى تقع على جديد من الأخطاء اللفظية والمعنوية والأسلوبية والعروضية والألفاظ الساقطة والكلمات المشوهة، أو تلك التى ربكت جامع الحروف فقدم بعضها على الآخر إلى غير ذلك مما يصعب حصره ويقصر الباع عن استقصائه. هذا وكان الشيخ الشاعر الشاب كثيرا ما يختار كلمات غير شائعة الاستعمال وألفاظا غير مأنوسة للناس، يصعب على القارئ غير المتمرس فهم معانيها ودلالاتها فوضعت فى الهوامش شروحا لها، وتجليات لمعانيها، وبذلك يكون ديوان الشيخ محمد الغزالى الذى اختار له عنوان " الحياة الأولى " صالحا لأن يتبوأ مكانه فى قلوب محبيه الكثار، ومريديه الكبار. نسأل الله أن يجعله مصدر نفع، وسبيل فائدة، وأداة تربية، ووسيلة تهذيب، فالديوان يستهدف كل هذه الأغراض التى لم يغفل عنها الشيخ الجليل يوما ما فى حياته، وهى إن شاء الله تعالى فى ميزان حسناته، كما نسأله تعالى أن يتقبل هذا الجهد المتواضع خالصا لوجهه الكريم، وعليه سبحانه قصد السبيل. فجر الجمعة 10 من جمادى الأولى(1/73)
1418 12 من سبتمبر ( أيلول) 1997 مصطفى الشكعة ص _079
الحياة الأولى
ديوان شعر
للعالم الجليل
الشيخ محمد الغزالي
طيب الله ثراه
ص _081
الحياة الأولى أو نحو المجد ثمانى عشرة مرَّت سُهادا!! أردتُ على المنامِ. ولن أُرادا فكانت يقظةُ المُضنى بنائى كَرَى النوَّامِ أنْ يغفو اتئادا وكانت فى سبيل المجدِ تسعى تُغَالِبهُ ولا تألُو اطرادا إلى أن أشرقَتْ هدْيًا جليلا شموس الصَّحْوِ فى أفقى تهادى * * * وأضْحَتْ لِلْوَرَى عندى ظلالٌ مقلَّصة الرسومِ. نأتْ مِهَادا!! عَنَاني ما قَلَوْهُ من عظيمٍ تجافَوه وأعْياني افتقادا تنكَّر لى! ركودٌ ليس يفْتَا يثير الصمْت كى يطغى فسادا وشرُّ النوم ما ران انبهامًا يُضيَّعُ فى مجاهله الفؤادا ثمانى عشرةً مرت طلابا حثيث السَّيْر ما همدت نفادا كأنى إذ أُطِلُّ على رحاب حواها الأمس يُوسعها ابتعادا تلوحُ لمقلتى أعلام نفسٍ محيرة لِنَشْدَتِهَا ارتيادا يشعُّ لها وميضٌ من حياةٍ يُحسُّ بخيمِها العاني المرادا ص _082
تحس بخيمها العانى شرودًا يُراودُها لِيْسْلِسهَا القيادا
فتهزمَه وتُرجعُهُ فلولا كبيحاتٌ تحذِّره المعادا
كأن النصر خامرنى انتشاءً وقد نُكّبتُ أثقالا شدادا
وزالت عن وَهيجى مظلماتٌ صنعْن له حجابا أو رمادا
إمضاء
محمد الغزالى
ص _083(1/74)
الخمرة الإلهية (1) ضحوكٌ إلى الشُّرب الصفى وهيجها ففى بسمات الكأس بسمة نور عذاب شهيات التحسى كأنما سِرارُ وجود الروح ذوْبُ نميرِ دفوق المعانى مصعدات إلى الحمى حمى الله مضواء كفيضِ ذرُور * * * حماك، وهل يسمو إلى السدةِ التى علاها الجلال الطلق غير طهور؟ حماك وهل يهوى بُعَيد انفساحه مصرَّعُ أقيادٍ ذليل مرير؟ فأنت الكمالُ المستفيض بداعة فيا سعدَ روحٍ من سناه عَميرُ!! * * * حياتُك ضِلاتٌ فخذْ من رحيقها قطَيْراتِ مجدودِ الحياةِ قريرِ فتم السعاداتُ التى لن تنالَها بأسهالِ دنيا أو رُؤًى لحسيرِ ولو مسَّ اللمحُ صرعى شرورها بغيًّا لأضحتْ طُهْرَ بنتِ الحورِ * * * ص _084
كأن السرور المجتنى من شرابها إليه سرورُ الأرضِ جدُّ حقيرِ إذا صحوُها يخبو فَلِمْ ألفَ كابيا ثوى فيه إيحاشُ الشقاوة يورى كمثل مزجًّى من ربا الخلد مسعدٍ إلى جاحمٍ وعرِ المهاد حرورِ * * * فأىُّ كئوسٍ غولُها للدُّنى التى تروع بؤساها وأىُّ خمورِ..؟ ويا عجبا كم من طمأنينة بها وداعةُ إيمانٍ وأمنُ قدير..؟ نماها الجنابُ المستعرُّ شموخه حواشى ركابٍ بالضياء منيرِ ص _085
الخمرة الإلهية (2) غريبا أرى نفسى فأجُفل إذ هوت حياتىَ يغزوها عن الله بعدها ورب كئوس حفَّها الأمن والهدى شربت فما أسمى الذى رد مجدُها خمور تناهى فى الكمال صفاؤها نفى السوء معناها إذا اشْتِير شهدُها * * * أعيدى طريد القرب من شرِّ ضلَّة رمته بعمياء تسعَّر وقدُها لطال غرورٌ كان يُزجى خُداعه! بنفسى فمن وتر قد اهتاج حقدُها إلى الله! واغتالى من الصحو زائفا كذوْب حياة خابَ فى السعْي وِردُها ودنيا أتاهت عن مثابٍ هوَيْتُه هداى بريقِ الكأسِ إنْ ضلَّ قصدُها أصارعها آصار نفسٍ تريدها حياة مرجَّى القرب لله وَجْدُها ففى الكأس فيضُ الحق والجدِّ كلما طغى من جحيم الناس يُجتاح نكدُها * * * ص _086(1/75)
أعيدى طريد القُرب يا خمر إننى يهونُ لدىَّ المنع. لا جاد رفدها وفى الكأس ريٌّ للصداة إلى الهدى تثير حياةً لن يُغلَّبَ وَأْدُها مشاعرُ مغلولٍ طوى الكون حِسُّه ودنيا شباب ليس ينفك قيدُها * * * معتقة الآماد فهى قديمة مع الله ما أزكى! وقد طاب خلدُها له المجد جبَّارا إذا كان بؤسُها له المجدُ رحمانا إذا كان سعدُها سكبت على كل الحياة ملامحا تلوح بنور الله إذ كان فرْدها ص _087
الخمرة الإلهية (3) نشوةُ الروح زهاها قبسٌ فى دُنًى أخرى، إلى الأوْجِ رفيعهْ طوَّفت فيها، ورادتها، فما أدركتْ خُبْرَ نواحيها الوسيعهْ..!! كلما زدتُ احتساء زادنى طيبُ رياها نفاسات وديعهْ وحبتنى كشف أسرارٍ لدى خافيات الكون تلقاها منيعهْ *** جرعةُ الإلهام والقرب وما فى جلال الله من حُسنى بديعهْ وشعاعُ الهدْىِ فى الأكواب ومن خامرته ومضة اللمح سريعهْ اغْتدَى نشوانَ لا يلوى على بهجةٍ كالآلِ وضَّاحًا بقيعهْ *** اسقنيها أنّسَ أوضارى إذا حفلتْ بالشر دنيانا الوضيعة واسقنى أكؤسها مترعةً أستفق من هول بؤسها المريعهْ ينظمُ الأرواحَ فيَّاض سناها فى مجانى الصفو والبِشْرِ المريعهْ ص _088
فيك يا خمر انطلاقى عازفا عن شرور خفَّتِ الدنيا صريعهْ أين غَوْل الظاهر المزرىِّ فى مسعداتٍ من معانيها المذيعهْ لذةُ الأرواح فى معراجها نحو أوطانٍ نأت عنها سميعهْ فهى لا تألو طلابا نحوها أبدا تهتف فى شوق نَزُوعه **** يا جمالَ الكأس فى رقراقها هدأتى فى قُرَّةِ النفسِ الصديعهْ وانصرامٌ لقيودٍ أُحكِمَتْ ذلةُ الهونِ ودنياه الفظيعهْ ص _089(1/76)
الخمرة الإلهية (4) فؤادى ما وعى أو ما أحسَّا فلن يرضى من الأوهام أنسَا صميمُ الحق باعدنا مداهُ ولو شئنا لأدركناه لَمسَا جنى الخمورُ ما يبغى شهيا جناه من طِلا الرحمنِ كأسَا جِوارٌ حف عليها كلَّ شىء فمن يسمو إليه طابَ نفسا * * * كيانى فى وضوح العلم نور كما الأكوان فى الأدراك شمسا فلن ألفى الجهول وقد علانى ولن آلوه إشهادا محسا هواتف باسمه ينبئن عنه وكنت حسبتها من قبل خرسا عرانى من معانيها قرار شعورى إن عداه صار بخسا * * * تفجَّر سلسبيل الخمر ريًّا لظمآنٍ صدِىِّ ما تحسَّى دمائى فى عروقى مفعمات حنينا للرضا لم يدر يأسا ص _090
بعدت عن الأنام فليت شعرى أقُرْبَى منك أرجوها مؤسَّى تباعدنى الحياة فهل ترانى أُحيَّر إن تخفَّى الحقُّ لبسا سناء الشرق يحبوها ضياءً ويحبوها عقيقُ الغربِ وَرْسا وأذنى مثل عَيْنى قد سبتها معانٍ أرسِلَتْ تهمِسنَ هَمسَا ص _091
عوائق يا قيودى تحطمى عند مثواك فارتمى قد تأبيتُ ذلة فى تباريح أدهم وتمردت كلما توثقينى بمحكم وترينين بغيةً للركود المهدَّم فإذا شئتُ رِفعَةً كنتِ أغلال مُرْغم * * * يا قيودى تحطمى عند مثواك فارتمى إن أمرا رغبْتُه قد غدا غير مُلْزم واحتباسا أردْتِهِ لم يُتحْ لم يُحَتَّم فى انتصارٍ وأدْتُهُ بعد أن كان هازمى فأنا الآن مطلق لست للذل أنتمى ص _092
يا قيودى تحطمى عند مثواك فارتمى كل غل حطمته كاد يرتد حاطمى كيف يرضى سفوحها مستطيع التسنم لا سكون يروضنى فيه تخضيع مسلم فاستقرى مهينة عند أدنى القدم ص _093(1/77)
دنياى هى دنياى عشت فيها فريدا وانتأيت المأوى القصىَّ عتيدا وبحسبى فى عزلتى من سمير أننى ما حييت أبقى وحيدا أخلصتنى من كل أوشاب سوء تبتغينى منذ اقتحمتُ الوجودا تبتغينى قسْرًا يكفكف نارى يتمشى فى جذْوَتيْهَا خمودا وإياسًا يُزجى السكون قتولًا لنشاط ما يستكين همودا قدْ تناءت عنِّى وليس انتصارا فى كفاح، بل كنت عنها صَدُودا ما لهذى الناس هوت فى حضيض ساء ما استمرءوا القرار البعيدا ارتضوا من حراكها الهون قصدا فى ضلالٍ عن السبيل مجيدا فوعوا من عظيمها أن ما لم يك قدْحًا يك الجليلَ التليدا ص _094
هى دنياى قد ضننتُ بها فى مسترادٍ من المطاعن سُودا
وضجيج من المعانى هواءٌ مٌقفرُ الجدِّ مستريبٌ جُمُودا
قد طغى سوْؤهُ وأينعَ شوْكًا قتل الزهورَ واستحرَّ صعودا
كم من الخير صار للشرِّ يحيى فيحيل المواتَ أنضَر عودا
وضلال يجرى إلى يقظات فى جلال الأحياء حتى تبيدا
ص _095
النفس والكون بين النفس والكون علاقة فكأن عناصرها أخذت من كل آياته معانيها وترجمت فى إحساسها به غوامضه. من مديد الفضاء دقَّ عن الفهـ ـم وضوحًا أو إدِّراكَ نهايهْ وابهامِ الآفاق عمقا بعيدا ما أحاطت به وُهُومُ درايهْ صاغت القدرةُ الصناعُ نفوسًا مبدعات فهنّ فى الكون آيهْ *** نحن أصداء ما حوى من معانٍ حافلات بالسعدِ أو بالشكايهْ تكفهر الأجواءُ والنفسُ ضلالا وتستنير هدايهْ والجديد النضير بعد الـ بِلى الهش معانٍ للهدمِ أو للبنايهْ ردَّدتها الأرواحُ ثم أفاضت ما أحسَّت به على الكون غايهْ عاكساتٍ نفسَ الشعور قويا أو ضئيل المرمى قصىّ الزرايهْ نحن فى الكون كالخلاصة جُمِّـ عنا شتيتا من مُستدقّ العنايهْ ص _096(1/78)
الخطيئة هواجسُ الشر أضحت وطأةً عظُمت ثم استحالت غِلابا بيِّنَ الخطرِ فى فترة همدتْ فى النفسي عصمتها فراضها فعنتْ إصغاء مؤتمِرِ وسطوةُ الشر إنْ تلقى مهادنة تستل ماضيةً فى غير ما حذرِ وللسقوط سويعاتٌ تطيش لها عواطفٌ طالما ضجَّت لدى النذرِ وفى طباع الأناسى ما يُزيِّنها شوهاء قاتمة، يا خفة البشر! ساعُ الخطيئة فى مربدّ عسرتها تجوزها الروح فى لجبٍ من الغِيَرِ يستمرئُ الجسدُ المنهومُ ما حَلِيت مظاهرٌ قد حوت من كل ذى قذرِ فإنْ ثوَيتَ فليْلُ الإثيمِ مطّردٌ وإن خرجت فلا يقربكَ مِن وَضَرِ ص _097
ملائك الخير ملائكَ الخير لا تنْسَيْنَنى أبدًا لا زال فيض نداكِ الجزلُ لى مددا وفى غضونِ هجومِ الشرِّ فاضطهدى جنودَه السودَ ما إنْ زال منعقدا وعكِّرى نصره بالنهضِ وسوسةً وبالضمير مُثارًا إن يكن خلدَا هديلُك الطهرُ جُلُّ الهدْىِ نبرتُه لا زال مُتَّسقَ النغمات مطردا ملائكَ الخيرِ كم لليأس من غلبٍ إذا الشقىُّ تمادى غيه عددا ولم يجدْ أملا يرضَى لعثْرتهِ إقالةً فتهاوَى حيثما وَرَدَا فأنهضيه ليرجو عند كبوته مواطنَ الخير يسعى نحوها صُعُدا ملائكَ الخير فاهديهِ إلى رشَدٍ رأى المآبَ ذلولًا فانبرى سَهِدا إذا تناهى ضلالٌ فى غوايته فعجِّلى الحسْمَ والإيقاعَ ما وُجِدوا ملائكَ الخيرِ لا آلوكِ مستمعًا ولست آلوكِ حتى النصرِ مجتهدا ص _098
يقظة يا حياتى حفَّك الهديان من روح وعقلِ وحُبيتِ اليقظة الكبـ رى نجاةً من مضلِّ ووَعيتِ الفكرةَ العُليا تحامت كلَّ سِفلِ جزلة النَّبع سكوبٍ من حضيضِ الجسمِ تُعلى يا حياتى إنما البدء طهور الخلْقِ سَهلى من طهور النورِ يروى مستهامًا مثل ثملِ * * * فالجمال الفذُّ فى روح صدق غيرِ نذلِ فيه للمجدِ اتساقٌ لبغيضِ الشر يُجلى كيف يصفو نورُ روحٍ فى ظلالِ الجسمِ غُفلِ ما بهاء فى وعاءٍ ليس يحوى غير خلِّ فانتهاك الجسم شىءٌ ليس يعتدُّ بفضلِ ص _099(1/79)
إن كمال الروح يستأ ديه فليأمرْ ويملى يا حياتى هو منظا رك للعيش المذلِّ إن للجسم طباعا إن تغالتْ فلِقَتْلِ فاعكسى الأمر تريه إنما صحَّ بشلِّ *** ما دوىُّ الشهوة المر نان إلا مثل طبْلِ وضئيلُ الثلْمِ يُقصى الصـ وت فى أهونِ شكلِ ص _100
" الصلاة "...؟؟ تلكمُ الوقفة ما أجملها! فى حُفولٍ بالمعانى الذاخرهْ تلكم الوقفة فيها متعةٌ من جلالِ الفتراتِ الطاهرهْ *** فالطويَّات الخفياتُ إلى صمتها البارعِ تُلْفى سافرهْ مُسْلساتُ القيدِ قد أسلمها مبهمُ الأنفسِ أولى آخرهْ *** فترات الطهرِ ما أجملها...! حين تبدو فى الذهولِ الذاكرهْ فلو ان العمرَ منها كلَّه ما درى التشريدَ حتى البادرهْ واصلاتى حينما يرفعْنَنِى من حدودٍ للحياةِ الظاهرهْ واصلاتى بكنوزِ النورِ أنْ يقطعَ الجسمُ الأثيمُ الآصرهْ *** مذْكِراتى أبدًا بالصحو إنْ غام أفْقى فتعالتْ باهرهْ كالحصاناتِ تقينى سوء ما يبتغينى من دنايا قاسرهْ.. ص _101
معانى الضاحك.... أستعرضُ الدنيا وإنى الآملُ أبدًا لمحْياها أنا المتفائلُ قلبى يحدثنى حديث مؤكدٍ السعد فى العيشِ المحبَّبِ ماثلُ الحزنُ فيها قد نفاهُ لُبُّها لبٌّ جميل الزهو إذ يتخايلُ!! صدفتْ عن الأكدار دنيا لا تنِى تُزجى الضياءَ إذا غزاها آفلُ خفِيتْ فما الداجى السحيقُ بِعَادُه الوعْرُ مَجْهَلُه الذى يتشاكلُ إلا يزيدُ هواى فيه خفاؤه ويزيدُ نَشْدتَهُ المحبُّ السائل نورُ الحياة وما أجلَّ طيوفه! يزكو برونقها البريقُ الحائلُ وَحْىُ الضياء نصاعة ورحابة كالعرس زخرفُه سرورٌ كاملُ فى الأرض مرْبَعُها ومَشْتاها أرى نورَ المُنى إن كان يأسٌ ماحلُ والقبةُ الفيحاءُ غائمة وضا حيةُ الصحيفة فى مدًى يتطاولُ جددُ المعاني فى الحياة قصيَّةٌ عن لغوِ مصنوعٍ سناهُ زائلُ عيناى شوَّاقان حسنًا يجتلِى للنفسِ عيشًا فيه فهو الآهلُ نُهُرٌ وليلاتٌ يروعُ جلالُها فِتَنًا يُنمِّقُها السلامُ الشاملُ ص _102(1/80)
بسماتىَ الحسنى وكم أرسلْتُها عفوًا تداعبُ طيبَها وتبادلُ فِطرُ الحياة رحيبةٌ ميمونةٌ بقيت فلا المعنى المنضّرُ ذابلُ لا شؤم يذهبُ بى مذاهبَ أسودِ عن كل أفراح الدُّنا يتذاهلُ!!! * * * نفسى هواها الخيرُ، فهى غريبةٌ عن سوءِ ما يهوِى إليهِ سافلُ ناسٌ تهوِّمُ فى مباءةِ عاصفٍ نُكْرُ الحياةِ بها مبينٌ غائلُ نبذتهمُ الدنيا سعادةَ مُرْتَجٍ ضاحى السريرةِ للونى يستأصلُ!! مُسِخوا ضعافا فى اجتماعٍ شانه للسوءِ قوَّالٌ له أو فاعلُ صفحات ما خَطَّت نصاعتُها سوى خطراتِ قلبٍ بالعلا هو حافلُ عقلى ولا نورٌ يحلُّ رحابه إلا ومن قلبى استطابَ الناهلُ لم يرْضَ إيحاءً ولا هديًا إذا لمح المهانة فيه خيّم عاقلُ تدرى النفوسُ الملهماتُ طريقها؟ بين الأباطيلِ التى تتخاذلُ!! ص _103
الزمن السَّحُور رافقتُ هذا الكونَ من مولده إلى الممات المرتجى المرتقبِ فأنتَ للحياة صنوٌ مفرد مكتنفٌ تحف منها ضجيجَ الموكبِ مواكبُ الحياة تسعى حيةً أو أدرجتْ مظلمَ ذاك التَّربِ تحثها آملةً فى غدها تستاقُها هامدةً فى الذهبِ أمسُ الدفينُ مغيّبٌ لا يُرتجى مثل الغداةِ تحف سترَ مغيبِ سيانِ علمٌ ليس يجدى ماضيا أو جهلُ آمادِ الظلامِ المختبى لا نورَ إلا اليوم فى إشراقه وحوى شموسَ الأمسِ داجى المغربِ من مطلق الزمن السحور رحابةً وفتاء آثارٍ كثيرِ الشيبِ غمر القرون سحيقة فى غابر وطوى القرون خفية كالغيهبِ سيار والإصرار ملءُ فؤاده سيارُ لا يدرى لغوبَ المتعبِ إنْ نرضَ أو لا نرضَ فهو مسخر يطوى الدُّنا فى سيرهن الدائبِ **** لمسحِ زمانٍ ثم ماذا؟ ما ترى؟؟ شاخ اكتهالا ذا الوليد المحتبِى ص _104(1/81)
أو نال من خفضٍ ومن رفاهة يأسُ بؤسٍ فى ضياعِ المتربِ وبدَّل النصرَ الربيعَ قاحلًا وبدَّل الربْعَ قواءَ الحزبِ أو غلب الصمت حياةً ما ونتْ تثير إحياءَ الحراك الصاخبِ فى كلِّ أفئدة الورى لك مَعْلَمُ متباينُ الأوسام جِدُّ معجبِ!! كم أنت فى القصر المحببِ موجزٌ إن سرَّ قلب المرء أو إنْ يطربِ!! كم أنتّ فى الطولِ المُمِلِّ لجاجةٌ مكروهة تُرمَى لدى المكتئبِ!! متباين الأوسان ناءٍ سِرُّه طاغى الحقيقة والسرار المخصبِ بحرٌ هى الأيام فى قطراته ذخرت بها أمواجُه إن تصخبِ لا اليومَ مقياسُ الدهور بعيدةٌ لا الذرة الصغرى بتيهٍ سَبْسَبِ الشمسُ إن دارت ففى دوراتها فردٌ مدارٌ وعديدُ أحقُبِ ما اليوم إلا لمحة فى خاطرٍ فى ذهن ميعاد الهدى منشعب يا قسمتى منهُ وما أضْألها! فى عُمْرِ كونٍ مدلهم النقبِ كم قد أرى من بكرِ زاهيةٍ أو كم أرى من مغربٍ ملتهبِ يا ليت شعرى هل أنا مُقْتَطعٌ منكَ أو أنت قاطعى مُقتَضبى إنى لأرجوك انفِساحًا أجلى فسحةَ مجدودِ مُضاء الكوكبِ ص _105(1/82)
الحضارة الحديثة ما قادها الغرب فلتصمدْ لها الغِيرُ تلك الحياةُ التى تَهْوِى وتنحدرُ غِيلتْ براءتُها والشرقُ مَدْرَجُها لا إثمَ يوبقها بالسوءِ ينهمرُ لما تعرَّفها الغربُ المريد ذوتْ مواطنُ الخير يمحو خِصبَها الشررُ فكلما جدَّت السعىَ الحثيثَ إذا معرقلُ السعيِ قد باتت له حفرُ كأنما الغربُ موكولٌ إليه دُجًى يطوى الحياةَ إذا تعلو فتندثرُ قد كان شيطانُها إذ كان موردها مزالقا حفها من حتفها الخطرُ حضارة ساء ما شادَ البغاةُ بها وساء ما زخرفوا فيها وما بَذَروا قد نمَّقوا الظاهر الخداع واصطنعوا مظاهرا لبُّها استخذى به الوضرُ ما ثَمَّ إلا رسوم كل ما عُنيَتْ به وجوهر ما يجدى له احتقروا فدينهم من هواها كل ما رغبوا وسعيهم من هواها كل ما اقتدروا حضارة الآلةِ المطموسة احترقت من حرها الروحُ إذ للضيق تُقْتَسرُ إراحةُ الجسدِ المنهوك غايتها وبئس ما كَيَّلته ضاق ذا الوطرُ ص _106
ما أكرمَ المهد حتى فى الشرورِ يُرَى سهلَ الخليقةِ، لا تعقيدَ، محتقرُ تلك الحياة كأنها لم ترب على هَدْى السماءِ تعالتْ رُسْلُها الطُّهُرُ أغايةُ الأعصرِ الفيحاءِ طيبةً ذاك المصيرُ ؟ فما أسمى الذى خسِروا!! ص _107
الأمل أيها الهاتفُ بى: إلى الإمام أىُّ معنى فى دمائى ثائر؟ يستحثّ السير دفاقَ الدوامِ جارفًا كلَّ عناء قاهر! * * * فى رسوخٍ واطرادٍ لا يبيدْ دائب السعي دءوبَ الزمنِ كل يوم فى دُنا عزم جديد ناهلُ القوة نائى الوهنِ ناهل القوة من معنى الحديد وانسكاب من جلال الفطن * * * أيها الصبحُ إذا كان ظلام لا وقوف فى الزمانِ السائرِ!! مُذكرى بالنصر إن كان صدام فى دُجى الضعفِ البئوس الخائرِ ص _108(1/83)
ينتقل المنتحر من لا شعور بالسعادة إلى لا شعور مطلق (من منطقهم)!! أيها الباخعون أنفسهم إن فقد الشعور أمر مقيتُ قد تركتم نور الحياة وأوصد تُم رتاجَ الدجى فأين المبيت ما بدلتم من عيشكم؟ أشقاءٌ أم نعيم فى نيله أن تموتوا لا شقاء ولا نعيما زعمتم فقْدُ حِسٍّ عن الحياة شتيتُ إن خيرا منه شقاءٌ مقيم فى حياةٍ بنورِها مكبوتُأ ص _109
سرى وثرى ! وددتُ الغنى لو أن ذا المال مسعدٌ سعادةَ ذى روحٍ سعادة ذى عقلِ فلما رأيتُ المغتنين سعوا له لذاذةَ ملبوسٍ لذاذة فى أكلِ حقرتُ ثراءً يبتغى الذل موئلًا يريد مَقامى فى مواطنه الغُفلِ وددت الغنى أقضِى مطالب بائس أواسى جروحا أو أبدد من جهلِ وشر الذى آسى عليه مطالب لروحى كبيحات ترددن فى قفل غنى أنا بالنفس والسعدِ والمنى فأى ثراء يبتغينى سوى غُلِّ ص _110
السعادة فى الطفولة أظنُّوا فى الطفولة كلَّ سعدٍ ينقَّبُ عنه فى النهجِ الشرودِ لعمرُ الحق ما جدْوَى هناءٍ قصىٍّ عن مداريك الوليدِ ؟ فلا يُفرحِكْ أنك كنت قبلًا صفىَّ العيش فى الأمسِ الرغيدِ! فما كنت الذى ظفرت يداه شهيا من أفاويقِ الجدودِ ص _111
خضراء الدمن أو الجمال القبيح يا ضيعة الحسن الذى أضفى عليك بهاؤُهُ وكساك من نور الجما ل سموّه وسناؤهُ يا ليت قدس الطهر لم يسكب عليك نقاؤهُ خدع معانى الخير يُز جَى للنهى لألاؤهُ أو ليت برق السحر لم يستبقه وشّاؤهُ يا كذب ما أوحى إلى من راعهن طلاؤهُ هبة الطبيعة صادفت روحا خبيثا داؤهُ كم ذا يفجَّع وامقٌ قد مسَّه إغواؤهُ دنيا الجمال المستفيـ ض عذوبةً إغراؤهُ قد خامرتْه نقمةٌ فانجاب عنه ضِياؤهُ ص _112
بونٌ تفاقمَ نأيهُ بَعَثَ الأسى إزراؤهُ
بُعْدُ الجمال سُمُوُّه والقُبحُ ضَلَّ شقاؤهُ
ص _113(1/84)
الذكاء الظالم وقالوا فى عقوقٍ واستساغوا (ذكاءُ المرءِ محسوبٌ عليهِ)!! أظنَّوا حين قالوا فى هدوءٍ لَبِيبًا يرتضى جَوْرًا لديهِ؟ ينكب عنه ما جلبتْ شرورٌ ويدفع سُوء ما يجرى إليهِ فإما باءَ بالخذلانِ محضًا أو الحق المضيع فى يديهِ! أتلك القسمةُ الضِّيزى قضاءٌ سوىٌّ أم مثير غضبتيهِ! كأنَّ العيش لا يُعْطى حقوقا قنوعًا لم يُحَملقْ نظرتيهِ ص _114
حذار.. احذر الشر ما بدا إلحاحهْ واحتسمه إن الضلال كفاحُهْ ليس أولى بالحسْمِ مثل عدوٍّ لا يبالى بأىِّ نصرٍ سلاحهْ أو جديرٍ بالاجتثاثِ كخَصْمٍ للغلابِ الشريفِ يأبى نجاحُهْ سُبُل الشَّرِّ ما بحثْتَ طوالٌ مبهمات السعى الخبيثِ مُباحهْ فى اسم هذا الضلالِ كلُّ دليلٍ عن شعابٍ يضلُّ فيها جماحه ص _115
الشيخوخة برزخ بين حياة وممات فيه من كل رسوم وسمات بين ضعف وقوًى حفّهما قاصر اليأس وحلو الأمنيات قرب الشيخ إلى حيث أنى عالم قد أدرجته الظلمات كل أسباب الحياة اجتمعت غير نذر لتولى هاربات **** ليس يهوى من شاهقه نحو وادى الموت إلا دركات ليحول الحب يأسًا من طلاب ويحول الشوق عجزا من ثبات ونذير الضعف يبدو كلما قرُب المرءُ وئيدًا للفوات ص _116
نور الحقيقة أيها النور أنت تلقى و ضوحا لأناس عاشوا بأبشع سر لا يُطيقون فى الحقيقة عيشا فضياء الحقيقة الغمر يزرى حشرات فى نورها الحق تفنى مثل قتل الشعاع كل مضر ولهذا، الظلام خير من النور إذا كنتَ لا ترى وجه حر ص _117
جهالة ..؟ أنت يا كون بالغموض محوط فى جميع الأنحاء أسداف غيب سرمدى النقاب لا كُنه بادٍ من طواياك للوضوح ملبَّى أين علْم الإنسان؟ لم يجِز الأرض قصورا بل فى عناء المكبِّ تلكمُ الذرةُ الضئيلة فى الكون فسيحًا نورٌ بأعماء لجب خفى الأمسُ أمسُ بدءِ وجودٍ مخرسُ السرّ شامل الصمت صعب والغدُ المنتحى قصىّ انتهاءٍ للختامِ المرقوب فى كل حجب ص _118(1/85)
الفضيلة والدين لم يكُ الدينُ عصمتى فى عزوفى عن حقير من الأمورِ مُعافِ إن داعى الفضائل نفسٌ هو فيها الطلابُ حتى توافى ليس إيحاؤه الكمالَ بعلمٍ لجهول به يريدُ الشافى هى نفسى الحادى الذى أرتضيه وبنفسى الوِرْدُ الجميل الصافى ص _119
المجرم الأول عثرت إحدى بعثات التنقيب فى كهف من آثار العصر الحجرى القديم على جثة غرس فى عنقها فأس لرجل قتل غيلة وهو متمدد فى أمن النيام. لك سوءُ البدءِ الأثيم إذا ما دنِّسَ الأرضَ فيضُ هذِى الشرورِ يا سُرور الشيطان أولُ غرس قد جناه خيرُ الجنى المنظورِ وافتتحت الصراع والليلُ درع مظلمُ النفسِ فى الدُّجى كالقريرِ فسننت الجور الخبيثَ جبانا ليت منه شرا أتى فى شفور هُزِم الخير أوَّلَ الأمر لكن هو نصر الشرور جِدّ حقيرِ أئ خَبثٍ إذ الإمامُ ذبيحٌ هزمته غوائلُ الشريرِ عنصرَ الشرِّ أنت جد قديرٍ فى قديمٍ أو فى جديد العصور وَافق الأمن يومَه فى زرىٍّ من خلال الورى بَلِىٍّ نضيرِ ص _120
الروح المعنوى ذاك جسمى ـ مادام ـ للروح يعنو وقوى الروح فى اطرادِ نماءِ هو ملَك عالم ليس يعصى ليس يعصى فيما إليه يشاءُ (فإذا حلَّت الهداية روحًا نشطت للعبادة الأعضاء) سامها الأمر فهى طوع لديه وتمشَّى إلى الوضوح الخفاء وإذا الروح شاقه نيلُ أمر فتأبَّى، فلن يدوم الإباء هو بين الضلوع خافٍ كظيمٌ سوف تبدو من حَرِّه صعداء ص _121(1/86)
موت الأطفال سواء أخفيت أم وضحت حكمة الإرادة فى إيجاد طفل تعذبه ثم تهلكه، فمما لا ريب فيه أن هذا الكائن ضحية وأنه روح طرق عالم الحياة الحسية عابرا، والقصيدة مقولة فى طفلة متوفاة. يا بنى الموت الألى عشْنَ له فانقضى عمر وعى الدنيا سدى وانطوى لم يدر إلا عابرا هذه الدنيا كأنْ ما وُجدا قد ذهبتم فى ضحايا حكمة ليت شعرى هل ذهبتم سُعدا يا فتاتى حلو أطيافك يأتى كما قد حفّه صفو الندى ضاحكات اللهو يهزمن النهى فى اكتئاب منه فى النفسي صدى عدت من حيث أتيت طفلة وطن الأبرار يلقاك غدا أو هل يحسب فى هذى الحياة روح صدق لم يدنس جسدا ص _122
الذكريات ذكرياتى كلما أسترجعها باعثُ الأحياء فى الماضى الدفينْ استرقْتُ السمع كى أبصرها كرَّةً أخرى وموفورَ الحنينْ هى سَوْراتُ شعورى دافقا فى وميض من وضوح المستبينْ هى صوت الأمس لم يخرس صداه شغلُ اليوم ولا عذب الفتونْ لا. ولا النسيانُ ألقى حُجْبَه فخفاها فى مغاليق الدجُون * * * ذلك الماضى الذى لن يرجعَا أنا أحيا فيه حينا بعد حينْ ينجلى الإبهامُ عن صفحته فيعود الأمس ألَّاق الجبينْ وإذا اليوم أضاءت شمسُه شمسُ أيامٍ غدتْ فى الغابرين * * * ويدور الكون فى رحلته دورةً للخلف فى وهم الظنون فأرى الآمالَ فى مصرعها وأرى الآمال فى النصر المتين ص _123
وأذوق الأرىَ والشَّرى معا كخيالات خفَتْ ثم تبينْ **** هى إن سعدًا ففى تَذْكَارها خيرُ إسعاد لمهزوم الشجونْ أو شقاء كان إحساسًا بها خيرُ شكرٍ لغدِ الأمسِ الحزينْ ص _124(1/87)
صمت الريف الهامد تلك المسارب شتى فى طرائقها لتثقلَ النفسَ أغلالا وآصارَا قد كنتُ أحسبهُ إنصات مُدَّكِرٍ فى الفكر يسبح أنجادًا وأغوارا فطالت الفكر اللائى تساوره وصرت أوقظه ما أُلتُ إنذارا فليس ثمَّت إلا الصمت متصلا! وما استحال حراكا يغتلى نارا!! فسامنى المللُ المكروهُ لافحةً وزادنى السأمُ الملعونُ أحجارا ما يفعل الصلدُ والأمواج تقذفه وتنثنى عنه كالوجلانِ إدبارا..؟ ص _125
بهجة الحياة يا بهجةً خلَبْتنى كم يُراودنى لِلَهْوكِ العذبِ تزيينٌ وإغراءُ من كلِّ ما زُخرِفَتْ للعين آيتُهُ وخامَرَ النفسَ فيضٌ منه وضَّاءُ مستعذَبُ الشوقِ كالبشرى يهلّ وفى جوانبِ الصدر ترحيبٌ وإصغاءُ وفى جمالِ محيَّاه ذكا قبَسٌ بين الجوانحِ تذكو منهُ سِيماءُ أحبُّ هذى الدُّنا باللُبِّ آخذةً حسْنًا تصرِّفُهُ فى القلبِ صهباءُ كسا الرضا كلَّ شىء بهجةً عجبًا واسْتَلْهَمَتْهُ طِلَابُ الشوقِ سرَّاءُ ص _126
الألم الضال فى مرض الطفولة أأول ما تدرين ين من أكدارها؟!! وأول ما تلقين من أوضارها تأوهت يا أختى الصغيرة آهة ألا إن من صدري توقد نارها فزعت إذ الداء الأليم توحشت مخالبه تجتث نضر افترارها وفجعت فى نفس برىء مراحها تداعبنى إن تدن أو فى ازورارها فألمس دنيا عالم الطهر مرسلًا سجية أبرار زكت لم تدارها! أنينك يا أختى الصغيرة مقبضى أنين كهول فى تداني سرارها علقت بصدر الأم تبغين نجوة وليس سوى وجد حوى الصدر كارها تحركت فى المهد الصغير كأنما تذودين سوءى من جحيم ديارها بكيت عميق الحزن جد موجّع وبتُّ كئيب النفس نائى اصطبارها ص _127
سقطت ولما تنضج العبث الموفور فى هزلها حوى الهدوء وحوى الفضيلهْ تحطمت كئوس صافى الضِّيا فرقة الأعين حسرى كليله كلاكما طريد زاكى النماء وعذب هذى الحياة الجميله لم يسعدا بعد بالنضوج بل ماتت الرئة الضئيله. ص _128(1/88)
الشيخ الباكى محت عبرات الشيخ كل الذى رأت عيون الصبا البسام فى الأعصر الغبر فتلك تجاعيد الإياس التى بدت تكلل خديه اندحارا على دحر يخط مسيل الدمع فيها جوانحا تذبذب فيها اليأس فى الألم المر ألا ليت هذا الشيخ لم يبك إننى أحس لهيبا فى فؤادى من النكر حصاد سنين قوّضت جل عمره شقاء معنّى أعقب الوصل بالهجر أراه وقد حانت لتمزيق عمره قواطعُ تُدنيه سريعا من القبر أهاب به عجز فلم يستطع ونى كغير رضوخ الضعف نأيا عن النصر وحالت حياة النور فى نفسه دجى يزهده فيها زهادة مضطر ص _129
الأعمى غاض الضياء الذى تبدو برونقه طوارئ الروح من نائى مخابيهِ فالجسم سجنٌ شنيعُ الضيق مضطرب وراءه الروح فى أسمى أمانيهِ فعالَم وحده تلقاه معتزلا مباهج الكون أو عالى معانيهِ وعالَم وحده بالبعد معتصم إذ ليس يستطيع قربًا فى تدانيهِ لا يدرك الناسَ إلا من نفوسهم لا اللون يخدع من كذبٍ أحاجيه ص _130
طريد تقسمه الإجهاد فهو مثقل ينوء بأعباء المعايش متعبا مدى العمر لا يلقى سلاحا بكفه فطورا أخا حرب وطورا تأهبا يظل بحومات الجهاد مكافحا فسببان فى أيامه الشيب والصبا طريد من الإسعاد فالدهر خلفه دءوب ولن يألو هوى العيش مأربا كأن من الكون المدار حراكه فليس بوقّاف وليس مغلبا ألدّانِ موصولا الغلاب فحيثما ترى غالبا فالنصر قد نال غاصبا فبوركت من عمر تضاعف سعيه وبوركت من فذ وبوركت يا أبا ص _131(1/89)
القارة المبهمة.. من قبل ومن بعد ظلت قرونا لم تطأها من قدم عصية الأسرار عمياء الظلم رهيبة البلقع تنأى وحشة وتذخر الأغوار سحرا والأكم فى عزلة عن عالم مصطخب بالإثم يزجى فى غمار المزدحم إن تشرق الشمس فى حضارة أنار فيها الطبع كل مكتتم حضارة الوحوش إن خيفت ففى إعلانها الضر نذير وذمم! لا بل عهود ليس صدق مثلها إن نكث العهد بنو الغرب البهم فالرق والظلم اعتدال عندما أذكر عدل الغرب فيما يلتهم والصنم المعبود خير شرعة من شرعة الغرب اللئيم المجترم يا ليت كسفا من ظلام حفها قد قذف السروات فى شر الغيم ***** لقدس الغاب سمت أغصانه تستلهم الرفعة من حر الشمم وقدس الغاب ترى فيه إلى إيراقه اليانع تجعيد القدم ص _132
كم من وحوش آبدات تتقي فياض شر الناس فى هذا الأجم ومن طيور آمنات صدحت تهتف بالألحان سلسال النغم وجلت القفار عفراء الثرى براقة الآل الخلوب المتهم يضل فى روعتها الفكر وفى فجاجها الفيح ترى الغيب ادلهم وجلت القفار ترمى باللظى تسعف أظلاف المها من الضرم حتى إذا الليل ارتخت أسداله فتعصف الريح صقيعا ونقم ** ** واستوطن الأهلون ميمون الحمى لا يعرفون السوء من نابى الشيم فاض عليهم خير ما يجمع من سذاجة بريئة عن التهم حتى إذ ما فتحتم الغرب لها وعرا من الأخطار يحدوه النهم فكظت الوهاد من غازٍ ومن عافٍ يريد الوفر وثّاب الهمم ليعمرَ اليبابُ، ضل المعتدى قولة زورٍ لا يزكيها قسم!! ليئد الأحرار جاء المعتدى ينتهك الأوطان يرتاض الأمم! **** راعت جلال الغاب حربٌ أُسعرت الصادحاتُ الغرُّ من هولٍ تجِمْ وبُدِّلت قدس الموانى سطوة سطوةَ الشرِّ على الطهر الهرم! يا حسرتا حاقت بهنَّ لعنةٌ وانتهى الماضى الذى لن يلتئمْ ص _133(1/90)
طفلة فقيرة.؟ سألته قطعة سؤل ولهى وامقهْ لم يجبها فأجالت نظرات حانقه ورنو مستفيض الر غبات الصادقه هى تبغيه حنانا يستفز دانقه وهى لا تدرى سوى ما تحب عالقه وهو عافٍ مفتر ناء نفسا زائقه *** صاغ من فيه ابتساما كى يرد المارقه! مرقت عن سنة الفقـ ـر فكانت صاعقه! هى بسمة بؤسٍ كل عطف رافقه *** ص _134
أى جدوى لابتسام ليس حلوى شائقه؟
فتلوت فى يديه وبكته شاهقه
زفرات أرسلتها للفؤاد مازقه
** *
لم يجبها ومضى فى هموم سائقه
ملكت مقوده ملكته ماحقه
قدر أبأسه ودَّ لو قد فارقه
طالما شاءت وكم حرمته فارقه
فاستراضت وعنت ـ إذ يرفض ـ واثقه
ثم حالت نظرتاها بالسؤال ناطقه
ص _135
مدحة فى صنيع إذا كان حسن الشعر ميْنًا مزخرفا فلا كان شعرٌ نكب الصدق قائلهْ! لمحت اتساقا بين كل محبب وبيتك فى قلب هو الطهر آهلهْ صنيع كعمق الخير فيك قبوله ومن روحك الزاكى ثوى فى نائله توسمت إخلاصًا يحفّ جلاله وبهجة جوّاد نفى الزيفَ سائله *** أفاضت شعوري الجزل آيةُ منّةٍ نصرت بها والربع عُريان ماحله فكنت كزهر القفر أظهر طيبه من الشوك مؤذى اللمس تذوى قواتله فأىُّ جميل كبّلتنى قيودُه؟ وأىُّ شكور إننى الآن فاعلُه؟ ص _136
صورة... معالم الروح خذها من ملامحها واستوح من ذكر الماضى أمانينا فإن تطرق نسيان ليطويها تستوقف النسى أن يطغى فيبقينا! ص _137
النور الغريق! رعدة تكرء ضعف الـ ـيأس أن يقتدرا هى معنى ليس يدرى فى فى الحياة الخورا رعدة النور غريقا فى المياه انغمرا فالتماع الموج يبدى لمعة تذره بشرا...!!! **** خلته لمح سراب يستخفُّ النظرا خدعة المظهر يزهو فى هباء مخبرا أو أمانى ختلت فى الحياة المظهرا لوحت برقا كذوبا لحزين كى يسرا **** لا تعالت، كم بهاء صير الأوهام صفرا إن حسنا فاض فيها زادها بعدا ونكرا ص _138
إنها لمعات حُسن السـ ـبيلِ المرحهْ
مسبح الحور وهذى خفقات الأجنحهْ
ذوبها الفضى دنيا بالأمانى قرحهْ(1/91)
فى نطاق، عاكسات للشعاع منحه
ومرايا صقلت فأفاضت وضحه
وبريق مستطار ما أحيلَى سبحَه
فيه لحن من نعيم فى خفوتٍ صدحه
ص _139
الحصاد لليوم ما غرسوا قدْمًا وما اجتهدوا! وبورك الغرس فى أعقابه حصدوا وبُورك الزهر لم يكذب وقد بسمت تُرجى الأمانى نورا سوقه النضد هذا جنى البدء فى داني سنابله للنصر ما عملوا والصدق ما وعدوا هما الغذاءان من روح ومن جسد نعم الغذاءان يلقى الروحُ والجسدُ الماء والنور والفلاح قد صنعوا عقدا من الثمر المنظوم يطرد ! قد أبرزوه كئوسًا بالجنى حفلت ونمقوه جلالًا حيثما احتشدوا وأتت عطاءً جزيلا كلما ارتقبوا!! ثمارها الجود فى كل الذى وجدوا ص _140
"الفجر" ما ذوَّب الغياهبا؟ وغرب الكواكبا؟ وشيب الذوائبا؟ فكاد يُخفى هاربا صمتَ الظلام المطبقِ؟! لمح ضياء قاربا مُواكبا مَواكبا!! بالنور يرمى دائبا يدرجها السبائبا ظُلم الدَّجى المتسقِ ما أخرص الجنادبا قضَّته ليلًا صاخبا وبالصريرِ جاوبا دياجيا سوَاكبا؟! صريرِ صمت ريِّقِ نحن صداه جانبا إذ ظن لمحا رائبا فى الأفق يعلو غالبا مُعصفَرا وخاصبا مفرَّ من ذا الفلقِ!! ص _141
أحيا الحراكَ الذاهبا فى الليل كان غاربا للنور يبدو صاحبا ها هو ذا مخاطبا لليلٍ أن انطقِ! ص _142
الشروق فى القبور عصفر الشرق ضياء أبلج ومحا سطر الدياجى السائده كل وسنان نئوم هاجه لهب الأضواء شبَّت صاعده ظلمات الليل حالت مزقا داميات ليس منها ضامده! ورفيق السُّوَق من هدأتها نفخت فيها الرياح الراكده ترسل الأوراق همسا سرها وذؤبات الغصون الجامده وسكون الموت قد ران على نسمات هاجعات هامده! لاغبات ضمنتها ضجعة تجمع الأنفسَ حيرى شارده مزق النأى المعنَّى شملها تحت صفاح راسخات ساجده ساهمات قيدت مرغمةً؟ فاستكانت فى ثراها ساهده ص _143(1/92)
من جمال الشرق صيغت بسمة من جلال القدر تبدو راعده * * * فاضت الأنداء من نور الربى تنتشى منها القلوب الموصده وشدا الطير أهازيج المنى رائع الأصداء حلو الأنشده وعلى القبر سكون أخرس قد أبان الموت منه موعده صمتة لليأس فيها ثورة ولهيب اليأس نار مخمده * * * مولد للنور وهاج السنا يرسل الأحياء لا متئده وانتهاء مقفر مضطرب! يجعل الأكوان تمشى مقعده! * * * بشع الموت إسارا تنطوى فيه أرواح الأناسى نكدهْ بشع الموت ظلاما قاسيا تفزع النفسَ ونجوى الأفئده بشع الموت حجابا قائما تختفى الدنيا به مرتعده بشع الموت ولو أنى إلى ورده الأنكدِ نفسى مورده! ص _1 ص
الشمس من سناك الوهاج ضاءت حياتى فمضى يبسم الطماح المواتى وأثرت السمو فى كل نفس والوضوح البعيد عن شبهات فانتشى الشعاع صحوا منيرا ليس أحلى منه فى اللذات أشرقي فى الوجود طهرا وضيئا وأنيرى السبيل من ظلمات وأميتى اليأس المعذب موتا بدِّليه تيقُّظًا من سبات فى انبثاق الإسفار حُرًّا تعالى شيقا للمحب عذب السمات وانسياب الإشراق يقطر نورا وبهاء قد جلل الضحوات وابعثيه إلى الحياة طروبا يرتوى من نطافك الألقات فإذا علَّ من وميض الظهيرات حُرورا يؤجج العزمات يستحث الحياة برح كفاح وانطلاقا مشوق الوثبات الوداع الميمون يبدو أصيلا مائج النور فى سنا أمنياتى فى نضار من الأشعة سكرى بحبور يحيى رفات الموات خير ماض يحفه خير آتى يتهادى فى ذلك الميقات ص _145(1/93)
ليلات آملة ! يا ليل كم أجذل من ظلمتك ويملأ النفس صدى روعتك يستيقظ الحنين شغوفا بما يقرؤه للغيب فى صفحتك فيرجع الرائد من جولته لم يلق غير الوعر فى بهمتك الوعر! إلا فى فؤادى يرى شر حياة ما خلت من رهبتك فتلك أخطار الدُّجى طراقةً يدحرها عزم نما فى سطوتك فى هدأة الواثق من هدأتك! وقوة الغاشم من قوتك! يا ليل يا مضجع هذا الورى يحلو بى التفكير فى صمتتك فتألق الآمال فى بهجتها والساحر الناصع من نجمتك وتلكم الأسداف فى أثنائها غيبٌ يشوق فى كحيل ظلمتك ص _146
ليلات جادة حُبيت لى يا ليل فى انفرادكا تضطرم الأسرار فى فؤادكا وتعمق الحياة من غمر طما يكتسح الأرجاء من ظلامكا إخال فى دجاك إزراء نهى بعالم تهجوك فى اعتزالكا فأنت عنه مبعد مباين حقرت ذا الشيطان ـ فى جلالكا غمرتنى يا ليل من قساوة قطوب جد قد قسا من ذلكا ينهمر الإيحاء من عوالم رأت دروب متنه مسالكا فثم فى كل الرحاب مهبط للوحي زخارا يُرى هنالكا إن أعوز المدلج نور حسبه هدى من الوحشة فى ظلالكا فى الوحشة المرنان صفو المنتقى تنأى عن الأكدار فى نقائكا لا يجتويها سارٍ اغترب الورى فى حسِّه فارتدَّ يهزأ ضاحكا بادلتنى الصفو بآذان وعت سرائرا تعيش فى شعاركا بادلتنى الشدو أغانى سمت تخترق الآفاق من أحيائكا ص _147
النجوم لآلئُ الليل فى ديجوره الطامى كجوهر ـ قذف الأصدافَ ـ بسَّامِ مبعثرات إلى الآفاق فى عجب تفوق بعثرة تنسيق نظّام طرائق النور تزجى الهدْى وسوسة رصينة كالسكون الهادئ النامى تلك المصابيح حيرى فى توهُّجها فى أى ناحية تزجى السَّنا السامى! تكاثرت ظلمات الليل فالتهبت لا تعرف اليأس فى تشتيت إبهام كأنها إذ تُغالى فى مخاوفها ما ترسل اللمحُ إلا محضَ إعلامِ؟ منائرُ الفكر الوضاحة اتقدت فى نفس قاسية تأبى لإلهام ص _148(1/94)
البدر ما أجمل الحياة! هادئة الأمانى تنيرها يا بدر وأعذب الشعاعا من عالم الرضوان ترسله يفتر! فى مسعد الأحلام ونجوة الأمانى يقنوه ضوء طهر قد أضفت الأضواء فى الأفق المزدان جمَّله البشر! يثير فى الحياة عالمك الثانى وداعةً يا بدر ص _149
حنين إلى الطبيعة تلك المروج ـ بهيجةً ـ يهتز فى إيناعها سحر الحياة الخالدُ ويموج فى سيقانها متأوِّبا نَغَمُ الطلاقة والرفيف الناشد خضراء يانعة كميسور المنى صفراء يابسة جناها الحاصد أمى الطبيعة ما أجلَّ معانيا يرنو إلى أصدائهن الواجد أمى الطبيعة كلما زدنا نؤًى عنها فكل مزيَّفٍ يتزايد فى صُنعها الفنان كلُّ سذاجةٍ هى فى ذرا التنسيق قصدٌ واحد *** تتساقط الحجب التى تطويننى فى شر ما ألقى فهن مصائدُ أمى الطبيعة كم أحنّ إذا سعت قدماى فى ضاحى حماكِ أشاهد نهلت من النور البهى فقسمت أطياف ألوان ـ تلوح ـ فرائد ما ثم إلا النور يلقى غارس ما ثم إلا النور يلقى رائد ص _150
عودة الأمس أيها الشرق... أنت جدّ غريب عن جلال، عفى وأمسٍ عظيمِ تنكر العين أى أنقاض سوء؟ قد تبقت من البناء الفخيم حقر الرسم،ليس معلم صدق فى ثراه إلى الحقيقة يومى قد حواك البلا الزرى وأوهى صلة الغرب بالجمال القديم أيها الشرق قد غفوت طويلا وتماديت غافل التهويم إن سِحرا تزهو به جنباتٌ منك يذروه رائع التحطيم ارتضتك السماء مهبط وحى حِقب الطهر فى ديار النعيم فإذا الصفحة الربيع مُحُولٌ ومحت نورها رياحُ سمومِ يا حفيدَ العتيق من كل مجد أين فى الابن مجد أكرم خيمِ! ضجّت الأرض من حضارة سوء قد غلا شرها وغربٍ أثيم هل أرى الثورة العظيمة فيضا؟ جارف السيل فى اكتساح التخوم ص _151
مغرب النبل في حضارة شر كل ما شان من طباع اللئيم أين من ذاك للفضيلة شرقٌ؟ لا كدنيا الآلات صرعى جحيم! أيها الشرق هل أراك عزيزا فى انتصار على الألدِّ الخصيم ص _152(1/95)
إلى الأمة الكريمة مستمرئى الذل هل تدرون ما كانا أخزاكم الله، ما تأتون بهتانا أكثرتم اللغو حتى جاء آجلكم يبدى سريرة هذا الجبن إعلانا أين المشاعر ولهى تغتلى حرجا فترسل السيل تلو السيل غضبانا!؟ بل أين مصر تريد النصر غايتها أو إن مصر على الأيام ميدانا يا ضيعة الأمس كم ذا سغتمو جرعًا تثير ذكرا يعير البأس مَن هانا دمُ الضحايا أكان الماء منسكبا مستمرئَ الهون فى واد به ازدانا دم العزيز لمصر جدَّ مرتخصٍ لو خلّف التعب المحزون شجعانا "يا ليت لى بكم قوما إذا ركبوا شدَّوا الإغارة فرسانا وركبانا" يا للضعيف إذا سيمَ الحياة لُقًى ولم يجد من وراء النصر نشدانا إنِّى لأهتف من قلبى ألَا فئةٌ للنيل ما نكثته العهدَ خذلانًا! وفية السر للمجد الذى محقت حضارة الهدم إفناء ونكرانا مستمرئى الهون قد طال الهوان فهل يلقى حديث عن الإعزاز نسيانا ؟ ص _153
دعوت للثورة الكبرى تؤج دمًا يأبى الحديدَ ويأبى النارَ شطآنا دعوت للثورة الكبرى إلى غرض ينفى السكون إذا ما سيم إذعانا سكتُّ محتبس الصيحات فى غضب لما رأيتكمُ للذل أخدانا ص _154
نحن؟ غير أهل لسماء صافيه أترعت زهو الكئوس الزاهيهْ لا غيوم تكسف الإشراق فى جنبات من سناها ضاحيهْ حومت فيها طيور سخرت بالحمى المذلول فهى داويهْ جدّت الأرعادُ إذ نلهو وقد قيدتنا الأرضُ فهى العاليهْ ورفعنا الطرف كى نرمقها فأهالت نظرات زاريهْ ** * * غير أهل لرياضٍ أينعت وتلاقت بالثمار الدانيهْ وتبدَّى نضرة سندسها رائعًا يحكى الجنان الرابيهْ سهَّل الموطئَ من أكنافها فى ظلال الذلِّ فهى ناميهْ هى روضات بنوها خدم حين هانوا للصدور النازيهْ لهمو منها الحصاد المرتجى ولنا منها الجهودُ الداميهْ ص _155
ليت وادى النيل قاعًا صفصفا ذاق أهلوه الذؤام القاضيهْ
فى ذلول منة سهل قد حيوا ما رعوه فرعتهم داهيهْ
إن نكن للعرب ننتمى فلقد مزَّق الذل الصلات الغاليهْ(1/96)
أو نكن أبناء فرعون وهو سيد الدنيا الإله الطاغيهْ
فهو يأبى نسبةً واصمة عزة الرب وعليا نائيهْ
يا عيوبَ البلد الميمون ما نصعت فى المجد دنيا ماضيه
ص _156
جيش مصر سرحوه إنها مهزله أضحكت سخرية قلب الحزينْ أى جيش قاده قاهره وعلته وجمات المستكينْ أى جيش كان للضعف وللَّهْـ ـو فما عن قدرة الجدِّ يبينْ تُخذت أجناده فى زينةٍ تنشر الذلة فى الوادى المهينْ جيش مصر حارس الضعف إذا ثارت النخوة بالمستضعفينْ جيش مصر أثرى أجناده؟ أثرى العدة فى تلك المئينْ أثرى ضباطه ألعوبةً فى يدِ الغصب وكيدِ الغاصبينْ لا سلاحٌ فيه معنى بأسه أو سلاح من دعامات اليقينْ فكأنه ـ عاطلا من جده ـ جدُّ مستخذٍ لهون المرهقينْ كفلولٍ مُزِّقت فاستسلمت من سذاجات جيوش الأولينْ ص _157
تحية عرابى البطل حيتك من نفسى عواطفُ ثائر لا يستكين لسطوة من جائرِ ويثيرها نارا يهول وقودها فيبيد أو تلقاه أوْبة ظافر حيتك من نفسى عواطف مخلصٍ لا مأرب يلهيه شأن الفاجر للمجد ما يبغى يُكلل أمَّة للنصر ما يسعى قليل الناصرِ *** فى حب مصر وفى سبيل خلودها فى حب مصر طليقةً من آسرِ نَفَرت من الوادى الجموع تقودها فى وجه عاتٍ ذى شكيمة قادرِ حيتك نفسى بل تحية أمة تحبوك تمجيد الجرىء الماهرِ إن فاتك النصر الجميل فإنها كبوات جد فى طريق واعرِ *** ص _158(1/97)
إن فاتك النجح العزيز فإننا نسعى نحطم رغم جدّ عاثرِ فى ثورة كبرى سنسعرها لظًى يفنى أتون لهيبها المتطايرِ * * * قدِّست مهزوما تعفِّر فى الثرى قدست مقهورا كسير الناظرِ قدِّست يوم بكيت إذ سقط الحمى لا نصر يرجى لا دفاع مغامرِ * * * نفثات ملتاع الفؤاد تميزا وأنين مكلوم الكرامةِ حائرِ ومرارة الذكر الأليمة قد طغى طوفانها يجتثُّ ضعف الخائرِ * * * غدر من الغرب اللئيم سما به وإلى الحضيض هوى به فى غائرِ لكأنما جَيَشَانُ صدرك حينما غيبت فى لجج العباب الغامرِ أمواجها تهتزُّ صاخبة وفى طغيانها معنى أنين الزافرِ * * * فى الأسر يرسف فى قيود مهانة خير النفوس نهًى وطيب ضمائرِ فى الأسر ما أعْيا وقد حاطت به ظُلَمٌ الغد الداجى وظلم الحاضرِ * * * حيتك أرواحٌ تكافح لا تنى دأب الحريص على الجهاد الذاكرِ أبدًا هو العمل الحثيث أأثمرت أغراسُه أم تلك رُجعى الخاسرِ ص _159
إلى الحرب قيلت فى تطوع طبيب مصرى للجيش الحبشى. إلى الحرب ترغو من جوانبها الدما وترمض صاليها كفاحا إلى الذِّما ويعصف بالموت الذؤام لهيبُها بحموات نار تقذف الهول مضرما فإما جناها الغرب رُجعى ذليلة وإما جناها الشرق صابا وعلقما * * * تطوعتَ تأسو من جراح أعزة أباحوا ضنى الأجسادِ كى يفتدوا الحمى فواسِ جنودَ الحق ما اسطعْتَ رحمة وخفف أنين الموت إن ران مرغما تذكرْ إذ الجندى جاثٍ مضرج تحبب فقد العيش إن جاء مظلما فآلى سيلقاها منايا مريرة ووفَّى فلم ينكص ولن يتجهَّما * * * إلى الحربِ واشهد صولةَ الغىِّ فاتكا وأىُّ انتصار لن يلاقى مكرما ص _160
وراقب أناشيد الفخار مهينة وكيف يريدون الحياة جهنما إلى الحرب يا أجناد حق مضيع فثَمَّ الفخارُ الفذ يفترع السما لنا المجد فى النصر العزيز وإننا لنفخر إن داعى قوانا تحطما ص _161(1/98)
أسُود قصر النيل فى ظلال ثكنات الجيش الإنجليزى أقعت أسود قصر النيل تبعث الأسى والسخرية فى هذا التحفز الذى طال فلم تنكص ولم تهجم. أىُّ عارٍ يا قوم بل أى ذلَّة حين يمسى الدخيل جبَّار صولهْ أى عار يحنى الرءوس خضوعًا ويعيد النفوس نكدا مضله * * * ربضت تحدج العدوَّ بحقدٍ وتذيب البغضاء فى شر حمله أم نماها إلى الهزيمة بأسٌ فاستلانت أجلادُها مضمحله الزئير الرهيب أين صداه والسلاح المهيب بالرغم ثلَّهْ كذبونا يا شرَّ ما ساء مصرا هى بالعبء وحده مستقله ص _162
أشِعارُ القوَى الجليلةِ يبقى تحت صرح الإذلال حتى يُظلَّهْ حطَّموه أو حطموها فإن لم تستطيعوا لقيتم السَّخْرَ كلَّهْ ص _163
ذكرى ضرب الإسكندرية ذكرى تمر وملء النفس أشجانُ فتحرج الصدر غما فهو كظانُ تمر عابرة بالذهن فى عجل تستاق مجفوّة والقلب غضبانُ إنى أشيح فلا أسطيع تذكرة للحق منتهكا يقصيه عدوانُ ورب طالب ثأر لا يطيق ولا يرضى ادكار مصاب وهو حزانُ ذل يكبلنى من هوله كمد فيهرب الفكر لا ينجيه سلوانُ دهى الكنانة ما قد راع عزمتها هوى بها فى حضيض الذل طغيانُ وصار كل خئون غادر عضدا للمعتدى النذل ينزو وهو جذلانُ مصر العزيزة أدناها وصفدها فى محكم الأسر غدَّار وخوَّانُ كم كافحت شرة العادى قساورة جادوا بأنفسهم والحرب نيرانُ وبئست الحرب فيها الرجس منتصر والحق مندحر يعلوه خذلانُ ذكرى تظل تثير الحقد مضطرما وتُوغر الصدر لا يلهيه نسيانُ الثأر يا فتية الوادى فما بسوى نصر عزيز تُزيل العار أوطانُ يا مصر ما شمسك الحسناء مسفرة ولا نباتك حالى العود ريانُ حتى يزول قتام لا يزال قذى ونمحى من قيود الأسر أرسانُ ص _164(1/99)
ابن الظلمات أو الذى يكره السياسة قلتَ لى: " لستَ سياسيا أرى ولجاج القوم عندى مزدَرى كلما صاحوا به من مطلب ليس يأتيهم فغضَّ النظرا هكذا تنطق لم تشعر بما فى جمال السعى أو جهد السُّرى ليست الأوطان فى شوق إلى أنفسٍ أعلى مراميها الثَّرى أيها المغلق روحا وحِجى يا أخا الثورة يا أغبى الورى * * * * * قلتَ لى: "استقلال مصر لا يجى ولو ان العبءَ غير إنجلترا " ما لهذا اليأس يغزو قلب مَن لم يكافح مرة مستنصرا إنه الجبن وعتْه أنفسٌ قد أحبَّ المرء أن يُستصغرا اغترب عنَّا إلى حيث انتهت قدمُ الذل وتمزيق العُرا إن مهْدَ النور يأبى أبدًا نسبة للنذل لن يتحررا ص _165
يا بنى الظلمات لستُ مصدقا أن مصرا أنجبت محتقرا زمَر الغازين ألقت سوءها فى الحمى المذلول حتى استمصرا بذرة الأخلاط هلا عرفت شكر إنعام الذى لن يُشكرا ص _166
أمة مسروقة تحت عين الشمس ( العقاد) وداعًا حياة الخفض ـ لا كنتِ ـ إننا أبينا خضوعا وانتهينا إلى الإبا فإما يئسنا من حياة كريمة فلسنا الأولى يخشون موتا مغلَّبا إلى الموت لا نبغى سواه تنكَّبا إلى الموت محتوم الفناء معذبا سويعات هذا العمر ماذا؟ أتنقضى أويقات ذل أم تُقضَّى مآربا إلى الموت ما فى النفس شوق لمطلب فليست حياة الذل ترضى التطلُّبا أبى القدر القاصى لمصر رغادة وشاء لها مُرَّ الكفاح وخيبا ألا فليكن ما شاءه القدر الذى تخيرنا للسعي والمجد والظُّبا إلى الموت أو نلقى حياة كريمة فنُنعى نحب العيش ذقناه طيِّبا(1/100)