إصدار
مركز شعاع الخير للدعوة والبحث العلمي
إشراف : اللجنة العلمية بجمعية دار الكتاب والسنة
فلسطين – محافظة خان يونس شارع أهل السنة ص . ب :4
هاتف : 0097082053150 ناسوخ :0097082053013
daralsunna@hotmail.com www.daralsunna.com
1430هـ - 2009م
!"#$
!"#$
مقدمة
الحَمْدُ لِلَّهِ حَقَّ حَمْدِهِ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَبْدِهِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَوَفْدِهِ، أَمَّا بَعْدُ:
فَهذِهِ رِسَالَةٌ فَرِيدَةٌ، فِي غَايَةٍ أَكِيدَةٍ، ضِمنَ مَشْرُوعِنَا الدَّعَوِيِّ المُبَارَكِ–إِنْ شَاءَ اللهُ- "لِيَتَفَقَّهُوا"، وهيَِ رِسَالَةٌ في بيانِ أهمِّ المُهِمَّاتِ، وَأَجَلِّ الطَّاعاتِ، وأعظَمِ القُرُبَاتِ، ألَا وهي التَّوحيدُ لرَبِّ الأرضِ والسَّماواتِ، دبَّجَها يُراعُ فضيلةِ العَلَّامةِ الشَّيْخِ:
عبدِ اللهِ بْنِ مُحمَّدِ بْنِ حميدٍ - أَعَلى اللهُ في مَدَارِجِ الرِّضَا مَرْقَاهُ-.
وَلَقَدْ رَأَيْنَا -وِمِنْ بَابِ نَشْرِ الخَيرِ والعِلْمِ النَّافعِ-، إدراجَ هذه الرِّسَالةِ المُفِيدَةِ ضِمْنَ سِلْسِلَةِ نَشْرَاتِنَا وإصْدَارَاتِنَا العِلْميَّةِ الدَّعويّةِ.
سَائِلينَ المولى -تَبَاركَ وَتعَالى- أَنْ تَكُونَ خالصةً لوجِهِهِ الكَريمِ، وأنْ يَنْفَعَ بِهَا قَارِئَهَا وَنَاشِرَهَا إنَّهُ نِعْمَ مَسْئُول وَخَيرُ مَأْمُول .
توطئة
تَشْتَمِلُ عَلَى صَفْوةِ عَقيْدَةِ أَهْلِ السُّنَّةِ وخُلاصَتِهَا المُسْتَمَدَّةِ مِنَ الكِتَابِ والسُّنَّةِ
بقلمِ
الشَّيخِ عبدُ الرَّحمنِ بنُ ناصرٍ السعديُّ
قالَ رحمهُ اللهُ(*) (1) مُبَيِّنًا عقيدةَ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ ( العقيدةِ السَّلفيَّةِ النَّقيَّةِ):
__________
(1) (*) كتبها بين يدي شرحه اللطيف على كتاب التوحيد للشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله والمسمى: "القول السديد في مقاصد التوحيد " .(1/1)
* وذَلِكَ أنَّهم: يُؤْمنونَ باللهِ ومَلائكتهِ وكُتُبهِ ورُسلِه واليَومِ الآخرِ، والقَدَرِ خيرِه وشَرِّه.
* فيشهدونَ: أنَّ اللهَ هُوَ الرَّبُّ الإلهُ المعبودُ، المتفرِّدُ بكلِّ كمالٍ فيعبدونَه وحْدَهُ، مُخلصينَ له الدِّين.
* فيقولونَ: إنَّ اللهَ هُوَ الخالقُ البارئُ المُصَوِّرُ الرَّزَّاقُ المُعْطِي المانعُ المدَبِّرُ لجميعِ الأمورِ.
وأنَّه المألوهُ المعبودُ الموحَّدُ المقصودُ، وأَنَّه الأوَّلُ الَّذِي ليسَ قبلَه شيءٌ، الآخرُ الَّذي ليس بَعْدَهُ شيءٌ، الظَّاهرُ الَّذي ليس فوقَه شيءٌ، الباطنُ الَّذي ليس دونَه شيءٌ.
وأَنَّه العليُّ الأعلى بكلِّ مَعْنَى واعتبارٍ، عُلوَّ الذَّاتِ ،وعُلوَّ القَدْرِ، وعُلوَّ القهرِ.
وأَنَّه على العرشِ استوى، استواءً يَليقُ بِعَظمتِه وجَلالِه، ومَعَ عُلوِّهِ المُطْلَقِ وفوقيتِه، فعِلْمُه مُحيطٌ بالظَّواهرِ والبواطنِ والعالمِ العُلويِّ والسُّفليِّ، وهُوَ مَعَ العبادِ بِعِلْمِه، يعلمُ جميعَ أحوالِهم، وهُوَ القَريبُ المُجِيبُ.
وأَنَّه الغنيُّ بذاتِه عَنْ جميعِ مخلوقاتِه، والكُلُّ إليه مُفْتَقِرونَ في إيجادِهم وإيجادِ ما يحتاجون إليه في جميعِ الأوقاتِ، ولا غنَىً لأحدٍ عَنْهُ طَرْفَةَ عَيْنٍ، وهُوَ الرَّءوفُ الرَّحيمُ، الَّذي مَا بِالعبادِ من نعمةٍ دينيَّةٍ ولا دُنيويَّةٍ، ولا دفعَ نقمةٍ إلَّا مِنَ اللهِ، فَهُوَ الجالبُ للنِّعَمِ، الدَّافِعُ للنِّقَمِ.
ومِنْ رحمتِه أَنَّه يَنْزِلُ كُلَّ ليلةٍ إلى السَّماءِ الدُّنيا يستعرضُ حاجاتِ العبادِ حينَ يبقى ثُلُثُ الليلِ الآخرُ، فيقولُ: لا أسألُ عَنْ عبادِي غيرِي، مَنْ ذَا الَّذي يَدْعُوني فأسْتَجِيبُ له، مَنْ ذا الَّذِي يسألُني فأُعْطِيَهُ، مَنْ ذا الَّذي يَسْتَغْفِرُني فأغفرَ له، حتى يَطْلُعَ الفَجْرُ. فهُوَ ينزلُ كما يشاءُ، ويفعلُ كما يريدُ { ? ? ?? ? ٹ ٹ}[الشورى: 11].(1/2)
* ويعتقدونَ أَنَّه الحكيمُ، الَّذِي له الحكمةُ التَّامَّةُ في شرعِه وقَدَرِه، فما خَلَقَ شيئًا عبثًا، ولا شرعَ الشَّرائعَ إلَّا للمصالحِ والحِكَمِ.
وأنَّه التَّوَّابُ العفوُّ الغفورُ، يقبلُ التَّوبةََ مِنْ عبادِه ويعفُو عَنْ السيئاتِ، ويغفرُ الذنوبَ العظيمةَ للتَّائبينَ والمستغفرينَ والمُنيبينَ.
وهو الشَّكورُ الَّذِي يَشْكُرُ القليلَ من العملِ، ويزيدُ الشَّاكرينَ من فضلِه.
* ويَصِفُونَه بما وَصَفَ به نفسَه، وَوَصَفَهُ به رسولُ اللهِ ? .
من الصِّفاتِ الذَّاتيةِ، كالحياةِ الكاملةِ، والسَّمعِ والبصرِ، وكمالِ القُدْرَةِ والعَظَمَةِ والكِبْرِيَاءِ، والمجدِ والجلالِ والجمالِ، والحمدِ المُطلقِ.
ومن صفاتِ الأفعالِ المتعلقةِ بمشيئتِه وقُدرتِه كالرَّحمةِ والرِّضا، والسُّخْطِ والكلامِ، وأَنَّه يتكلمُ بما يشاءُ كيفَ يشاءُ، وكلماتُه لا تَنفدُ، ولا تبيدُ.
وإنَّ القرآنَ كلامُ اللهِ غيرُ مخلوقٍ، منه بَدَأَ، وإليه يَعُودُ.
وأَنَّه لم يَزَلْ ولا يزالُ موصوفًا بأنّه يفعلُ ما يريدُ، ويتكلَّمُ بِمَا شَاءَ، ويحكمُ على عبادِهِ بأحكامِهِ القَدَرِيَّةِ، وأحكامهِ الشَّرعيةِ، وأحكامِه الجزائيةِ، فَهُوَ الحاكمُ المالكُ، ومَنْ سِوَاهُ مملوكٌ محكومٌ عليه، فلا خروجَ لِلْعبادِ عن مُلْكِهِ ولا عَنْ حُكْمِهِ.
* ويُؤمنونَ بما جاءَ به الكتابُ وتواترتْ به السُّنَّةُ: أنَّ المؤمنينَ يَرَوْنَ رَبَّهمْ تعالى عيانًا جَهْرَةً، وأنَّ نعيمَ رُؤيتهِ، والفوزَ برضوانِه أكبرُ النَّعيمِ واللَّذةِ.
وأنَّ مَنْ ماتَ على غيرِ الإيمانِ والتَّوحيدِ فهو مُخَلَّدٌ في نارِ جهنمَ أبدًا، وأنَّ أربابَ الكبائرِ إِذَا ماتُوا عَلى غيرِ توبةٍ، ولا حصلَ لهمْ مُكَفّرٌ لِذنوبِهم، ولا شفاعةٌ فإنَّهمْ وَإِنْ دَخَلُوا النَّارَ لا يُخلَّدُونَ فيها، ولا يَبْقَى في النّارِ أحدٌ في قلبِهِ مثقالَ حبَّةِ خردلٍ مِنْ إيمانٍ إلَّا خَرَجَ مِنْها.(1/3)
وأنَّ الإيمانَ يشملُ عقائدَ القلوبِ وأعمالَها، وأعمالَ الجوارحِ، وأقوالَ اللِّسانِ، فَمَنْ قَامَ بِها على الوَجْهِ الأكملِ فَهُوَ المؤمنُ حقًّا، الَّذِي اسْتَحَقَّ الثَّوابَ وسَلِمَ مِنَ العِقابِ، ومَنْ انتقصَ مِنْهَا شيئًا نَقُصَ مِن إيمانِهِ بِقَدْرِ ذَلِكَ. وَلِذَلِكَ كَانَ الإِيمانُ يزيدُ بالطَّاعةِ وفعلِ الخَيْرِ، ويَنْقُصُ بالمعصيةِ والشرِّ .
* وَمِنْ أُصُولِهِم السَّعْيُ والجِدُّ فيما ينفعُ مِنْ أُمورِ الدِّين ِوالدُّنيا مَعَ الاستعانةِ بِاللهِ، فَهُمْ حَرِيْصُونَ على ما ينفعُهم ويستعينونَ باللهِ. وكذلك يُحقِّقُونَ الإخلاصَ للهِ في جميعِ حركاتِهم، ويتبعونَ رسولَ اللهِ في الإخلاصِ للمعْبُودِ، والمتابعةِ للرسولِ، والنَّصيحةِ للمؤمنينَ أتْبَاعِ طَرِيقِهم.
* ويَشْهَدُونَ أنَّ محمَّدًا عبدُه ورسولُه أرسلَه اللهُ بِالُهدى ودينِ الحَق لِيُظْهِرَهُ على الدِّينِ كُلِّهِ، وأنَّه أَوْلَى بالمؤمنينَ مِنْ أنفسِهم، وهو خاتمُ النَّبيينَ، أُرْسِلَ إلى الإنسِ والجنِّ بشيرًا ونذيرًا، ودَاعِيًا إلى اللهِ بإذنِه وسراجًا منيرًا، أرسلَه بصلاحِ الدِّينِ وصلاحِ الدُّنيا، وليقومَ الخلْقُ بِعِبَادَةِ اللهِ، ويَسْتَعِيْنُوا برزقِه على ذَلِكَ.
* ويَعْلَمُون أنه أعلَمُ الخلقِ وأَصدقُهم، وأَنصحُهم وأعظمُهم بيانًا، فَيُعَظِّمُونَهُ ويُحِبُونَهُ، ويُقَدِّمُونَ محبتَه على محبّةِ الخَلْقِ كُلِّهِم، ويتّبعُونَه في أصولِ دينِهم وفُروعِهِ.
* ويقدِّمُونَ قَوْلَهُ وهَدْيَهُ على قولِ كُلِّ أحدٍ وهديِه.(1/4)
* ويَعْتَقِدُونَ أنَّ اللهَ جَمَعَ له من الفضائلِِ والخصائصِ والكمالاتِ مَا لم يجمَعْه لأحدٍ، فَهُوَ أعلى الخلقِ مقامًا، وأعظمُهم جَاهًا، وأكملُهم في كُلِّ فضيلةٍ، لم يَبْقَ خيرٌ إلا دَلَّ أُمَّتَهُ عليه، ولا شَرٌّ إلا حذَّرَهم مِنْهُ. ... وكذلك يؤمنونَ بِكُلِّ كتابٍ أنزلَه اللهُ، وكُلِّ رسولٍ أرسلَهُ اللهُ، لا يُفَرِّقُونَ بينَ أَحَدٍ من رُسُلِهِ.
*ويُؤمنونَ بالقَدَرِ كُلِّهِ، وأنَّ جميعَ أعمالِ العبادِ خيرِها وشرِّها قَدْ أحاطَ بها عِلْمُ اللِه، وَجَرَى بها قلمُه، ونفذتْ فيها مشيئتُه، وتعلَّقتْ بها حكمتُه، حَيْثُ خَلَقَ للعبادِ قُدْرَةً وَإِرَادةً، تقعُ بها أقوالُهم وأفعالُهم بحسبِ مَشيئتِهم، لم يُجْبِرْهُمْ على شَيءٍ منها، بَلْ مُختارينَ لها، وخَصَّ المؤمنينَ بأنْ حَبَّبَ إليهمُ الإيمانَ وزَيَّنَهُ في قلوبِهم، وكَرَّهَ إليهمُ الكُفْرَ والفُسُوقَ والعِصْيانَ بعَدْلِهِ وحِكْمَتِهِ.
* ومِنْ أُصُولِ أَهْلِ السُّنَّةِ: أنهم َيدِينُونَ بالنَّصيحةِ للهِ ولكتابِهِ ورسولِهِ، ولِأَئمَّةِ المسلمينَ وعامَّتِهم، ويأمرونَ بالمعروفِ، ويَنْهَوْنَ عَنْ المُنكرِ على ما تُوجبُهُ الشَّرِيعةُ، ويأمرونَ بِبِرِّ الوالدينِ وصِلَةِ الأرحامِ، والإحسانِ إلى الجيرانِ والمماليكِ والمُعَامِلِيْنَ، وَمَنْ لَهُ حَقٌّ، وبالإحسانِ إلى الخلقِ أجمعينَ.
* ويَدْعُونَ: إلى مكارمِ الأخلاقِ ومَحَاسِنِها، ويَنْهَوْنَ عَنْ مَسَاوِئ ِالأخلاقِ وأَرْذَلِها.
* ويعتقدونَ: أنَّ أكملَ المؤمنينَ إيمانًا ويقينًا، أحسنُهُم أعمالًا وأخلاقًا، وأَصْدَقُهُم أقوالًا، وأهداهُمْ إلى كُلِّ خيرٍ وفضيلةٍ، وأبعدُهم مِنْ كُلِّ رذيلةٍ.(1/5)
* ويأمرونَ بالقيامِ بشرائعِ الدِّينِ، على ما جاءَ عَنْ نبيِّهِم فيها، وفي صفاتِها ومكملاتِها. والتَّحذيرِ عن مُفْسِدَاتِها ومُنْقِصَاتِها. ... ويَرَوْنَ الجِهَاد في سبيلِ اللهِ ماضيًا مَعَ البَرِّ والفاجِرِ، وأنه ذِرْوَةُ سَنام الدِّينِ. جِهادَ العِلْمِ والحُجَّةِ. وجهادَ السِّلاحِ، وأنه فرضٌ على كُلِّ مسلمٍ أَنْ يُدَافِعَ عَنِ الدِّينِ بكُلِّ مُمْكِنٍ ومُسْتَطَاعٍ.
* وَمِنْ أُصُولِهم: الحَثُّ على جَمْعِ كلمةِ الُمسلمينَ. والسَّعْيُ في تقريبِ قلوبِهم وتأليفِهَا. والتَّحْذيرِ مِنَ التَّفَرقِ والتَّعادِّي والتَّباغضِ والعملِ بِكُلِّ وسيلةٍ تُوصلُ إلى هذا.
* وَمِنْ أُصُولِهِم: النَّهْيُ عن أذيَّةِ الخلْقِ في دمائِهم وأموالهِم وأعراضِهم وجميعِ حُقُوقِهم، والأمرُ بالعدْلِ والإِنصافِ في جميعِ المُعاملاتِ. والنَّدْبُ إلى الإحسانِ والفَضلِ فيها.
* وُيُؤْمِنُونَ: بأنّ أفضلَ الأُمَمِ أمَّةُ محمَّدٍ ?، وأَفْضَلَهُمْ أصْحَابُ رسولِ الله ? . خصوصًا الخلفاءُ الراشدونَ، والعَشَرَةُ الَمشْهُودِ لهم بالجنَّةِ، وأهلُ بدرٍ، وبيعةِ الرِّضوانِ والسَّابقونَ الأوَّلُونَ مِنَ المُهاجرينَ والأنصارِ. فَيُحِبُّونَ الصَّحَابةَ، ويَدِيْنُونَ للهِ بذلك.
* وَيَدِيْنُونَ للهِ: باحترامِ العُلماءِ الهُداةِ وأئمةِ العدلِ، ومَنْ لَهُمْ المقاماتُ العاليةُ في الدِّينِ والفضلِ المتنوِّعِ على المسلمينَ، ويسألونَ اللهَ أَنْ يُعِيْذَهُمْ مِنَ الشَّكِّ والشِّرْكِ، والشِّقاقِ والنِّفاقِ، وسُوءِ الأخلاقِ، وَأَنْ يُثَبِّتَهم على دينِ نبيِّهم إلى المماتِ . ... * ويَنْشُرُونَ مَحَاسِنَهُم، ويسْكتونَ عَمَّا قِيْلَ عَنْ مَسَاوِئِهم.
هذه الأصُولُ الكُليةُ بها يؤمنونَ، ولها يَعْتَقدونَ، وإليها يَدْعُونَ.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ
مقدمة(1/6)
الحمدُ للهِ الَّذِي خَلَقَ العِبادَ لعبادتِه، وأَمَرَهُم بتوحيدِه وطاعتِه، وأشهدُ أنْ لا إله إلَّا اللهُ وحدَه، لا شَرِيْكَ لَهُ في رُبوبيتِه، وإلاهِيَّتِه، وأشهدُ أنَّ محمَّدًا عبدُه ورسولُه ?، وعلى آلِهِ وأصحابِهِ، وَمَنْ اتبعَ سَبِيلَه ودَعَا بِدَعْوَتِهِ، وسَلَّمَ تَسْلِيمًا كثيرًا إلى يومِ الدِّينِ.
وبعدُ:- فهذه نُبْذَهٌ يسيرةٌ تُبَيِّنُ للمُسْلمِ العقيدةَ السَّلفيةَ النَّقيةَ عَنْ كُلِّ ما يشُوبُها مِنْ خُرَافةٍ وبِدْعةٍ، عقيدةَ أهلِ السُّنةِ والجمَاعة من سَلَفِ هذه الأُمَّةِ، مِنَ الصَّحابةِ والتَّابعينَ، وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ مُحَقِّقي العلماءِ الَّذِين أجمعَ المسلمونَ على هِدَايتِهم، ودِرَايَتِهم مِنَ السَّابقينَ الأَوَّلِينَ مِنَ المُهاجرينَ والأنصارِ، والَّذينَ اتَّبعوهم بإحسانٍ.
** * *
( اعلمْ أنَّ التَّوحيدَ الَّذِي دلَّ عليه القرآنُ و السُّنَّةُ ، وأجمعَ عليه سَلَفُ الأمَّةِ، ثَلاثَةُ أقْسَامٍ:
1 - تَوحِيدُ الرُّبوبيةِ.
2- تَوحِيدُ الأُلوهيةِ.
3- تَوحِيدُ الأَسماءِ والصِّفاتِ.
** * *
فَصْلٌ
ِفي بَيَانِ تَوْحِيْدِ الرُّبُوبِيَّةِ
( أَمَّا تَوحيدُ الرُّبوبيَّةِ، فقدْ اعترفَ به المُشْرِكُونَ الَّذين بُعِثَ فيهم رَسُولُ اللهِ ? ، ولم يُدْخِلْهم في الإسلامِ، فهم مُقِرُّونَ بأنَّ اللهَ هُوَ الخالقُ الرَّازقُ، المُحْيي المُميتُ، المُتَصَرِّفُ في هذا العالمِ بما تَقْتَضِيه حِكْمَتُه وإرَادَتُه، ومجردُ الاعترافِ بهذا لا يكونُ به الإنسانُ مُسْلمًا، قالَ تعالى: {? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ?? ? ? ?}[يونس: 31].
أي: أَفَلا تُفْرِدُونَه بالعِبَادةِ، وتَتْركُونَ عِبَادةَ مَا سِوَاه.(1/7)
فقولُه تعالى: {? ? ? ? ? ?} [يونس: 31]، أي: مَنْ ذَا الَّذي يُنْزِلُ من السَّماءِ ماءَ المطرِ، فَيَشُقُّ الأرضَ شَقًّا بِقُدْرتِه، ومَشِيئتِه، فَيُخْرِجُ منها حَبًّا، وعِنَبًا وقَضْبًا، وَزَيتونًا ونخلًا، وحدائقَ غُلْبًا، وفَاكِهَةً وَأبّاً، أإلهٌ مَعَ اللهِ؟ فسيقولونَ اللهُ.
وقولُه: { ? ? ? ? }[يونس: 31]، أي: الَّذي وَهَبَكُم هذه القُوَّةَ السَّامعةَ، والقُوَّةَ البَاصِرةَ، ولو شاءَ لذهبَ بها، ولسَلَبَكُم إيَّاها، كقولِه تعالى: { ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? } [الملك: 23].
وقالَ: { ? ? ? ? ? ? ? } [الأنعام: 46].
وقولُه: { ? ? ? ? ? ? ? ? ?} [يونس: 31] بقدرتِه العظيمةِ، ومِنَّتِه العَمِيمةِ.
وقولُه: { ? ? ?? } [يونس: 31]، أيْ: مَنْ بيدِه مَلَكوتُ كُلِّ شيءٍ، وهو يُجِيْرُ ولا يُجَارُ عليه، وهو المُتصَرِّفُ الحاكمُ الَّذِي لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِه، ولا يُسْأَلُ عما يَفعلُ وهُمْ يُسألونَ { ک ک گ گ گگ ?? ? ? ? } [الرحمن: 29] فالمُلكُ كُلُّه العلويُّ والسُّفليُّ، وما فيهما من ملائكةٍ وإنسٍٍ وجانٍّ، فَقِيرُونَ إليه عبيدٌ له، خَاضعونَ لَدَيْه { ? ?? } [يونس: 31] أيْ: وهم يعلمونَ ذلك، ويَعْترفونَ بِه، { ? ? ?} [يونس: 31] أيْ: أفلا تخافونَ مِنْهُ أنْ تعبدوا مَعَهُ غَيرَه بآرائِكم وجَهْلِكم، فكثيرًا مما يحتجُّ سُبحانَهُ وتعالى على المشركينَ، بما اعترفُوا بِه مِنْ توحيدِ الرُّبوبيَّةِ على ما أَنكروهُ مِنْ توحيدِ الأُلوهيَّةِ، والآياتُ في هذا المعنى كثيرةٌ جدًّا: {? ? ? ? ? ?? ?? ? ?? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ?? ? ? ??? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??? ?? ? ? ? ? } [المؤمنون: 84 - 89].(1/8)
( وتوحيدُ الرُّبوبيّةِ، قد فُطِرتْ على قَبُولِه، والاعترافِ به قُلوبُ بني آدمَ، فلم يُنكرْهُ إلَّا شُذَّاذٌ قَليلونَ، مِنْ بَنِي آدمَ، فَفِرْعَونُ القائلُ:{ ? ? چ چ }[النازعات: 24]، والقائلُ: { چ چ چ ? ? ?} [القصص: 38] مُعتَرفٌ في نفسِ الأمرِ بوجودِ الخالقِ المُوجِدِ لِهذا العالمِ، كما حَكَى اللهُ عَنْهُ، في قولِه: { ? ? ? ? ? پپ} [النمل: 14] وفيما حَكَى اللهُ عَنْ نبيِّهِ مُوسى - عليه السلام - في قولهِ لفرعونَ: { ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? } [الإسراء: 102].
فَصْلٌ
فِي تَوْحِيْدِ الأُلُوهِيَّةِ
( وَهُوَ إِخْلاَصُ العبادةِ للهِ سُبْحَانه وتعالى وحدَه لا شَريكَ له، فلا يُعْبدُ إلَّا اللهُ وَحْدَه، ولا يُدْعَى إلَّا هُو، دُونَ غَيْرِه من الملائكةِ والنَّبيِّينَ والأولياءِ الصَّالحينَ وغيرِهم، ولا يُلْتَجَأُ لكشفِ الضُّرِّ إلَّا إليه، ولا لِجَلْبِ الخيرِ إلَّا إليه، ولا يُنْذَرُ إلَّا لَهُ، ولا يُذْبحُ إلَّا لَهُ، ولا يُتَوكَّلُ إلَّا عليه، ولا يُخَافُ إلَّا مِنْهُ سُبحانَهُ، ولا يُسْتَعانُ ولا يُسْتَغَاثُ إلَّا بِهِ وحدَه، إلى غيرِ ذلك مِنْ أنواعِ العبادةِ، كالرَّغبةِ والرَّهبةِ، والإنابةِ إلى الله، والخُشوعِ له، فَصرفُ شَيءٍ مِنْها إلى غيرِ اللهِ شِرْكٌ مُنَافٍ للتَّوحيدِ الَّذِي أُرْسِلُ لأجلِهِ الرُّسلُ، فجميعُ الرُّسلِ أُرسلوا لتحقيقِ هذا النوعِ مِنَ التَّوحيدِ. قالَ تعالى: { ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? } [الأعراف: 59] فهذه دعوةُ أولِ رسولٍ بعدَ حُدوثِ الشِّركِ إلى عبادةِ اللهِ وحدَه سُبْحانَهُ .
وقالَ هودٌ - عليه السلام - لقومِه: { ? ? ? ? ? ?} [الأعراف: 65].
وقالَ صالحٌ - عليه السلام - لقومِه: { ? ? ? ? ? ? ?? } [هود: 61].(1/9)
وقالَ شعيبٌ - عليه السلام - لقومِه: { ? چ چ چ چ ? ? } [الأعراف: 85]. وقالَ إبراهيمُ - عليه السلام - لقومِه: { ? ? ?? ? ? ? ? ? ?} [العنكبوت: 16]. ... وقالَ تعالى مُخاطبًا لِنَبِيِّنِا مُحَمَّدٍ ?: {? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ?} [الأنبياء: 25].
( وأوَّلُ ما أُمِرَ به نبيُّنَا محمدٍ ? سيدُ المُرْسلينَ، وخاتمُ النَّبيينَ توحيدُ اللهِ بعبادتِه وَحْدَه، لا شَرِيكَ له، وإخلاصُِ الدِّينِ لَهُ وَحْدَهُ، كما قالَ - عز وجل - : { ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? } [المدثر: 1-3]، ومعنى قوله: { ? ? }، أي: عَظِّمْ ربَّكَ بالتَّوحيدِ، وإخلاصِ العبادةِ له وَحْدَهُ، لا شريكَ له، وهذا قَبْلَ الأمرِ بالصَّلاةِ، والزَّكاةِ، والصَّومِ، والحَجِّ، وغيرِها من شعائرِ الإسلامِ.
( ومعنى { ے ? } [المدثر: 2]، أي: أنذرْ عَنْ الشِّركِ في عبادةِ اللهِ وَحْدَهُ لا شريكَ له، وهذا قبلَ الإنذارِ عَنْ الزِّنا، والسَّرقةِ والرِّبا، وظُلْمِ النَّاسِ، وغيرِ ذَلِكَ مِنَ الذُّنوبِ الكِبارِ .
( وهذا النَّوعُ مِنَ التَّوحيدِ هُوَ أَعظمُ أُصولِ الدِّينِ وأفرضُها، فلأجلِه خَلَقَ اللهُ الخَلْقَ، كَما قال: {? ? ? ? ? ?} [الذاريات: 56]، ولِأجْلِهِ أَرْسَلَ اللهُ الرُّسلَ، وأَنزلَ الكُتُبَ، كما قالَ تعالى: {? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ?? } [النحل: 36].(1/10)
( ومعنى: { چ چ} وَحِّدُوا اللهَ، وأَفْرِدُوه بالتَّألُّهِ له تعالى، فالعبادةُ: "اسْمٌ جامعٌ لِكُلِّ مَا يُحِبُّهُ اللهُ ويرضاهُ مِنَ الأقوالِ والأفعالِ الظَّاهرةِ، والباطنةِ" (1) مِنَ الدُّعاءِ والخوفِ، والرَّجاءِ والتَّوكلِ، والرَّغبةِ، والرَّهبةِ، والخُشُوعِ، والخَشيْةِ، والاستعانةِ، والاسْتِغَاثةِ، والذَّبحِ، والنَّذرِ، إلى غيرِ ذلك مِنْ أنواعِ العبادةِ. وَصرْفُ شيءٍ مِنْ هذا إلى غيرِ اللهِ شِرْكٌ باللهِ، ومُنَافٍ لكلمةِ التَّوحيد: لا إله إلَّا اللهُ، التي أُرْسِلَ لأَجْلِها جميعُ الرُّسلِ، فإنَّها كلمةٌ عظيمةٌ، قامتْ بها الأرضُ والسَّماواتُ، وخُلِقَتْ لأَجلِها جميعُ المخلوقاتِ، وبِها أرسلَ اللهُ تعالى رُسُلَه، وأَنزلَ كُتُبَه، وشَرَعَ شَرَائِعَهُ، ولِأَجْلِهَا نُصِبَتْ الموازينُ، وَوُضِعتْ الدَّواوينُ، وقَامَ سُوقُ الجنَّةِ والنَّارِ، وبها انقسمتْ الخليقةُ إلى المؤمنينَ والكفَّارِ، والأبرارِ والفُجَّارِ، فهي مَنْشَأُ الخلقِ والأمرِ، والثَّوابِ والعقابِ، وهي الحقُّ الَّذِي خُلِقَتْ له الخَلِيقةُ، وعَنْها وعَنْ حُقُوقِها السُّؤالُ والحِسَابُ، وعليها يقعُ الثَّوابُ والعقابُ، وعليها نُصِبتْ القِبلةُ، وعليها أُسِّسَتْ المِلَّةُ، ولأجلِها جُرِّدتْ السُّيوفُ للجهادِ، وهي حَقُّ اللهِ على جميعِ العبادِ، فهي كلمةُ الإسلامِ، ومِفْتَاحُ دَارِ السَّلامِ، وعنها يُسْأَلُ الأَوَّلونَ والآخرونَ: "فلا تزولُ قدمُ العبدِ بين يَدي اللهِ حَتَّى يُسْأَلَ عن مَسْألتينِ: ماذا كُنْتُم تَعْبدون؟ وماذا أَجَبْتُم المُرْسَلين؟ فجوابُ الأولى: بتحقيقِ لا إله إلَّا اللهُ، مَعْرفةً وإِقرارًا وَعَملًا.
__________
(1) نقلاً عن رسالة العبودية لشيخ الإسلام ابن تيمية حيث ذكر هذا التعريف ص(5).(1/11)
وجوابُ الثَّانيةِ: بتحقيقِ، أنَّ محمدًا رَسُولُ اللهِ معرفةً وإقرارًا وانقيادًا وطاعَةً" (1) .
( ومعنى الإله: هو المأْلُوهُ المعبودُ الَّذِي يَسْتَحِقُّ العبادةَ، وليس هو الإله بمعنى القَادِرِ على الاختراعِ، فإذا فَسَّر المُفَسِّرُ الإلهَ بمعنى القادرِ على الاختراعِ، واعتقدَ أنَّ هذا المعنى هو أَخَصُّ وَصْفِ الإله، وجعلَ إثباتَ هذا هو الغايةَ في التَّوحيدِ كما يفعلُ ذلك من يفعلُه من مُتَكَلِّمةِ الصِّفاتيّةِ وغيرِهم، لم يعرفوا حقيقةَ التَّوحيدِ الَّذِي بَعثَ به رسولَه ?، فإنَّ مُشْرِكي العَرَبِ كانوا مُقِرِّينَ بأنَّ اللهَ وَحْدَه خَالِقُ كُلِّ شيءٍ، وكانوا مَعَ هذا مُشْركين (2) ، قال تعالى: {ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ?? }[العنكبوت: 61] ومعَ ذلك كانوا يعبدون، ويدعون غيره، ويطلُبون المَدَدَ مِنْ دونِ اللهِ، وإذا قِيْلَ لهم: لِمَ تعبدونَ وتدعونَ غيرَ اللهِ وأنتم تُقِرُّونَ بأنَّ اللهَ هو الخالقُ لكلِّ شيءٍ؟ يُجيبون: { ک ک گ گ گ گ ? } [الزمر: 3] وقد وقعَ كثيرٌ من النَّاسِ في كثيرٍ من أنواعِ الشِّركِ الَّذِي حذَّرَ عنه النَّبيُّ ?، وجاءَ الإسلامُ لمحوِها.
( "ومنْ أنواع الشِّرك الَّذِي وقع فيه الكثير طلب الحوائج من الموتى، والاستغاثة بهم، والتَّوجه إليهم، وهذا أَصْلُ شِرك العالم، فإنَّ الميتَ قد انقطع عَمَلُه، وهو لا يملك لنفسه نَفعًا ولا ضَرًّا، فضلا عَمَّن اسْتَغَاث به، أو سأله أن يَشْفع له عند الله، وهذا من جهله بالشَّافع والمَشْفُوع" (3) .
__________
(1) نقلاً عن زاد المعاد لابن القيم (1/84) وهو موجود أيضا في إغاثة اللهفان (1/84)ومدارج السالكين (1/34) والرسالة التبوكية ص(55) وكلها من مؤلفات ابن القيم أيضًا.
(2) )) راجع: مجموع فتاوى شيخ الإسلام (3/105:97) واقتضاء الصراط المستقيم(2/855) وفتح المجيد ص(27).
(3) )) نقلاً عن مدارج السالكين (1/346) وراجع فتح المجيد ص(282).(1/12)
ولكن يا حَسْرَة على العباد يعملون على قبور المشايخ وَمَشاهِدهم ما كان يعمله المُشْرِكُون على مَشَاهد أوْثَانهم.
(قال العلامةُ ابنُ القيم الجوزية رحمه الله: "هذه المَشَاهدُ المَشْهُودةُ اليومَ قد اتَّخذها الغُلاة أعيادًا للصَّلاةِ إليها والطَّوافِ بها، وتَقبيلها، واستلامِها، وتعفيرِ الخدودِ على ترابِها، وعِبادةِ أصحابِها، والاستغاثةِ بهم، وسؤالِهمُ النَّصرَ، والرِّزقَ، والعافيةَ وقضاءَ الدِّيون، وتفريجَ الكُربات، وإغاثة اللَّهفات، وغير ذلك من أنواع الطَّلبات، التي كان عبادُ الأوثان يَسْأَلُونها أوثانهم، ومن لم يُصَدِّقْ ذلك، فليَحْضُر مَشْهدًا من مَشاهدهم المعروفة، حتى يَرَى الغُلاة، وقد نزلوا عن الأكوار والدَّواب -إذا رَأَوها من مكان بعيد- فَوَضعوا لها الجباه، وقبَّلوا الأرض، وكَشَفوا الرُّؤوس، وارتفعت أصواتهم بالضَّجيج، وتباكوا حتى تسمع لهم النَّشيج، ورأوا أنهم قد أربوا في الرِّبح على الحجيج، فاستغاثوا بِمَن لا يُبدي ولا يُعيد، ونادوا، ولكن من مكان بعيد، حتى إذا دَنَوا منها صَلُّوا عند القبر رَكْعَتين، وَرأوا أَنَّهم قد أحرزوا من الأجر كأَجر من صلَّى إلى القبلتين، فتراهم حول القبر رُكَّعًا سُجَّدًا، يَبتغون فَضلاً من الميت ورِضوانًا، وقد ملئوا أكُفَّهم خيبةً وخُسْرانًا، فلغير الله - بل للشَّيطان- ما يُراق هناك من العَبَرات، ويرتفع من الأصوات، ويطلب من الميِّت من الحاجات، ويُسْأل من تَفريج الكُرُبات، وإغناء ذَوي الفَاقَات، ومُعَافاة أُولي العَاهات والبَلِيَّات، ثم انثنوا بعد ذلك حول القبر طَائفين تَشبيهًا له بالبيت الحرام الَّذِي جَعَله الله مُباركًا وهدى للعالمين، ثمَّ أخذوا في التَّقبيل والاستلام، أَرَأَيت الحجر الأسود وما يَفْعل به وفد البيت الحرام!! ثمَّ عفَّروا لديه تلك الجِبَاه والخُدود، التي يعلم الله أَنَّها لم تُعَفَّر كذلك بين يديه في السُّجود، ثم كملوا مَنَاسك(1/13)
حج القبر بالتَّقصير والحلاق، واستمتعوا بخلاقهم من ذلك الوَثَن؛ إذ لم يكن لهم عند الله من خَلاق، وقرَّبوا لذلك الوثن القَرابين، وكانت صلاتهم ونسكهم، وقربانهم لغير الله رب العالمين".
قال أبو الوفاء ابن عقيل الحنبلي رحمه الله تعالى: "لما صعبت التكاليف على الجهال والطغام، عدلوا عن أوضاع الشرع إلى تعظيم أوضاع وضعوها لأنفسهم، فسهلت عليهم؛ إذ لم يدخلوا بها تحت أمر غيرهم، قال: وهم عندي كفار، مثل تعظيم القبور، والتزامها بما نهى عنه الشرع من إيقاد النيران، وتقبيلها وتخليقها، وخطاب الموتى بالحوائج، وكتب الرقاع فيها، يا مولاي، افعل لي كذا وكذا، وأخذ تربتها تبركًا، وإفاضة الطيب على القبور، وشد الرحال إليها، وإلقاء الخرق على الشجر؛ اقتداء بمن عبد اللات والعزى، والويل عندهم لمن لم يقبل مشهد الكف، ولم يتسمح بآجُرَّةِ مسجد الملموسة يوم الأربعاء، ولم يقل الحمالون على جنازته الصديق أبو بكر ، أو محمد وعلي ، أو لم يعقد على قبر أبيه أزجًا بالجِصِّ والآجُرِّ، ولم يخرق ثيابه إلى الذيل، ولم يُرِقْ مَاءَ الوَرد على القبر" (1) .
__________
(1) )) إغاثة اللهفان(1/305:304).(1/14)
(قال العلامة ابن القيم رحمه الله: "وَمَنْ جَمَعَ بين سُنَّةِ رسولِ اللهِ ? في القُبورِ، وما أَمَر به ونَهَى عنه، وما كان عليه أَصْحَابُه، وما عليه أَكثرُ النَّاسِ اليوم، رأى أحدَهما مُضَادًّا للآخرِ، مناقضًا له بحيثُ لا يجتمعان أبدًا، فنهى رسولُ اللهِ ? عن الصَّلاةِ إلى القبورِ، وهؤلاءِ يُصَلُّون عندها وإليها، ونهى عن اتَّخاذها مَسَاجدَ وهؤلاءِ يَبنون عليها المساجد، ويُسَمُّونها مَشَاهد؛ مُضَاهاة لبيوت الله، ونهى عن إيقاد السُّرج عليها، وهؤلاء يوقفون الوقوف على إيقاد القناديل، ونهى عن أن تُتَّخذ عيدًا، وهؤلاء يَتَّخذونها أعيادًا وَمَناسك، ويجتمعون لها كاجتماعهم للعيد، أو أكثر، وأمر بتَسويتها لما روى مسلم في صحيحه، عن أبي الهياج الأسدي قال: قال لِي عَلِيٌّ : " أَلاَ أَبْعَثُكَ عَلَى مَا بَعَثَنِي عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ ? أن لا تَدَعَ صُورةً إلَّا طَمَسْتَهَا وَلا قَبْرًا مُشْرِفًا إلَّا سَوَّيْتَهُ " (1) ، وحديث ثُمامة بن شفي، وهو عند مسلم أيضًا قال: " كُنَّا مع فُضالة بن عبيد بأرض الرُّوم برودس، فتوفي صَاحِبٌ لنا، فأمر فُضَالة بقبره فَسُوِّي، ثم قال: سمعت رسول الله ? يَأْمُر بِتَسْوِيتها" (2) ، وهؤلاء يُبَالِغون في مخالفة هذين الحديثين، ويرفعونها عن الأرض كالبيت، ويَعْقِدون عليها القباب، ونَهى عن تجصيص القبر والبناء عليه لما روى مسلم في صحيحه، عن جابر - رضي الله عنه - ، قال:" نَهَى رَسُولُ اللهِ ? عن تَجْصِيصِ القبرِ، وأن يُقْعَدَ عَلَيه، وأَن يُبْنَى عليه" (3) ، وَنَهى عن الكِتابة عَليها لما روى أبو دَاود في سننه:" أنَّ رسول الله ? نَهَى عن تَجْصِيص القُبور، وأن يُكْتَبَ عَلَيها ".
__________
(1) )) صحيح مسلم الجنائز (969)، سنن الترمذي الجنائز (1049)، سنن النسائي الجنائز (2031)، سنن أبي داود الجنائز (3218) .
(2) )) صحيح مسلم الجنائز (969) .
(3) )) صحيح مسلم الجنائز (969) .(1/15)
(1) .
وهؤلاء يَتَّخِذون عليها الألواح، وَيكْتُبون عليها القُرآن وغيره، ونهى عن أن يُزاد عليها غير تُرابها، كما روى أبو داود عن جابر -أيضًا-:" أنَّ رسولَ الله ? نَهَى أن يُجَصَّصَ القَبرُ، أو يُكْتَبَ عليه، أو يُزادَ عليه" (2) ، وهؤلاءِ يَزِيدون عليه الآجُرَّ، والجِصَّ، والأحجارَ، قال إبراهيمُ النخعيُّ : "كَانُوا يكرهونَ الآجُرَّ على قبورِهم .... "، والمقصودُ أنَّ هؤلاء ِالمُعَظِّمين للقُبورِ، المُتَّخِذِينها أعيادًا، الموقدينَ عليها السُّرجَ، الذين يبنون عليها المَسَاجدَ والقِبابَ، المناقضون لما أمرَ به رسولُ اللهِ ? محادُّون لما جاء به، وأعظم ذلك اتِّخاذها مَسَاجد، وإيقاد السُّرج عليها، وهو من الكبائر، وقد صرح الفقهاء من أصحاب أحمد وغيرهم بتحريمه.
قال أبو محمد المقدسيُّ: ولو أبيح اتخاذ السُّرج عليها لم يُلْعَن من فَعَله؛ ولأن فيه تضييعًا للمال في غير فائدة، وإفراطًا في تعظيم القبور أشبه بتعظيم الأصنام.
قال: ولا يجوز اتخاذ المَسَاجد على القبور لهذا الخبر، ولأنَّ النَّبيَّ ? قال:" لَعَنَ اللهُ اليهودَ والنَّصارى؛ اتَّخذُوا قُبورَ أَنبيائِهم مَسَاجِد، يُحَذِّر مَا صَنَعوا" (3) .
ولأنَّ تخصيصَ القُبورِ بالصَّلاةِ عندها يُشبْه تعظيمَ الأصنامِ بالسُّجودِ لها، والتَّقرُّبِ إليها، وقد روينا أن ابتداءَ عبادةِ الأصنام تعظيمُ الأمواتِ باتِّخاذِ صُوَرِهم، والتَّمسحِ بها، والصَّلاةِ عندها". اهـ (4) .
__________
(1) )) حديث صحيح: رواه أبو داود(3325)، والترمذي(1052)، قال الترمذي : حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ وصححه الألباني في أحكام الجنائز ص (204).
(2) )) حديث صحيح: رواه أبو داود(3326)، وصححه الألباني لطرقه في أحكام الجنائز ص (204).
(3) )) البخاري (435)،ومسلم(531) من حديث عائشة رضي الله عنها.
(4) )) إغاثة اللهفان(1/308:306) وراجع فتح المجيد ص(703:701).(1/16)
( قال العلامةُ المباركفوري الهندي في كتابه: [تُحفة الأحوذي بشِرَحِ جامع التِّرمذي]: على قولِ علي لأبي الهياج الأسدي: أبعثك على ما بعثني النَّبيُّ ?: "أن لا تدع قبرًا مشرفًا إلا سويته، ولا تمثالًا إلا طمسته" ما نصه: "ومن رفع القبور الداخل تحت الحديث دخولًا أوليًّا، القبب والمشاهد المعمورة على القبور، وأيضًا هو من اتخاذ القبور مساجد، وقد لعنَ النَّبيُّ ? فاعلَ ذلك، وكم قد سرى عن تشييد أبنية القبور وتحسينها من مفاسدٍ يَبكي لها الإسلام، منها: اعتقاد الجهلة لها كاعتقاد الكفار للأصنام، بل ظنوا أنها قادرة على جلب النفع ودفع الضر، فجعلوها مقصدًا لطلب قضاء الحوائج، وملجأ لنجاح المطالب، وسألوا منها ما يسأله العباد من ربهم، وشدوا إليها الرحال، وتمسحوا بها، واستغاثوا، وبالجملة أنهم لم يدعوا شيئًا ما كانت الجاهلية تفعله بالأصنام إلا فعلوه؛ فإنا لله وإنا إليه راجعون.
ومع هذا المنكرِ الشَّنيعِ، والكفرِ الفظيعِ لا نجدُ مَنْ يَغضبُ للهِ، ويغارُ حميةً للدِّينِ الحنيفِ، لا عالمًا ولا متعلمًا، ولا أميرًا ولا وزيرًا، ولا ملكًا، وقد توارد إلينا من الأخبار ما لا يُشَكُّ مَعَه أنَّ كثيرًا مِنْ هؤلاءِ القبوريين، أو أكثرَهم إذا توجَّهَتْ عليه يمينٌ من خصمِه حَلَفَ باللهِ فاجرًا، فإذا قيل له بعد ذلك: احْلِفْ بشيخِك ومعتقدِك الولي الفلاني، تلعثمَ، وتلكأَ، وأبى، واعترفَ بالحقِّ، وهذا من أبينِ الأدلةِ الدَّالةِ على أنَّ شركَهم قد بلغَ فوقَ شِرْكِ مَنْ قال: إنَّه تعالى ثاني اثنين، أو ثالث ثلاثة.
فيا علماءَ الدَّينِ، ويا ملوكَ المسلمينَ، أيُّ رزءٍ للإسلامِ أشدُّ من الكُفرِ، وأيُّ بلاءٍ لهذا الدِّينِ أضرُّ عليه من عبادةِ غيرِ الله، وأيُّ مصيبةٍ يصابُ بها المسلمونَ تعدلُ هذه المصيبةَ، وأيُّ منكرٍ يجبُ إنكارُه إنْ لم يكنْ إنكارُ هذا الشِّركِ البَيِّنِ واجبًا؟!(1/17)
لَقَد أَسْمَعْتَ لَو نَادَيْتَ حَيًّا *** وَلَكِن لاَ حَيَاة لِمَن تُنَادِي
وَلَو نارًا نَفَخْتَ بِها أَضَاءَت ***وَلكِن أَنْتَ تَنْفُخُ في رَمَادِ " (1) .
( قال العلامة ابن القيم رحمه الله - في قصة هدم الَّلات لما أسلمت ثَقيف-: "فيه أنَّه لا يجُوز إبقاء مَوَاضع الشِّرك والطَّواغيت بعد القُدرة على هَدْمها، وإبطالها يَومًا واحدًا، وكذا حكم المَشَاهد التي بُنِيت على القبور، والتي اتُّخذت أوثانًا تعبد من دون الله، والأحجار التي تُقصَدُ للتبرُّكِ والنَّذْرِ، لا يجوزُ إبقاءُ شيءٍ منها على وجهِ الأرضِ مَعَ القُدْرَةِ على إزالتِها، وكثيرٌ منها بمنزلةِ اللاتِ والعُزَّى، ومناة، أو أعظمُ شركًا عندها وبها... فاتبعَ هؤلاءِ سُنَنَ مَنْ كانَ قبلَهم، وسلكوا سبيلَهم حَذْوَ القُذَّةِ بالقُذَّةِ، وغَلبَ الشِّركُ على أكثرِ النُّفوسِ لظهورِ الجهلِ، وخفاءِ العِلْمِ، وصارَ المعروفُ منكرًا والمنكرُ معروفًا، والسُّنَّةُ بدعةً، والبدعةُ سُنَّةً، وطمست الأعلامُ، واشتدَّت غربةُ الإسلامِ، وقلَّ العُلماءُ، وغَلَبَ السُّفهاءُ، وتَفَاقمَ الأمرُ، واشتدَّ البأسُ، وظهرَ الفسادُ في البَرِّ والبَحرِ بما كسبتْ أيدي النَّاسِ، ولكنْ لا تزالُ طائفةٌ من العصابةِ المحمديةِ بالحقِّ قائمينَ، ولأهلِ الشِّركِ والبدعِ مُجاهدين، إلى أن يرثَ اللهُ الأرضَ وَمَنْ عليها، وهو خيرُ الوارثينَ" ا.هـ ملخصًا (2) .
( وماذا يُفيدُ الملتجئونَ إلى أصحابِ القُبورِ، وهم لا يملكون لأنفسِهم نَفعًا ولا ضرًّا، بل هم محتاجون إلى رحمةِ الله، وإلى من يَدْعُو لهم من الأحياءِ بالرحمةِ والمغفرةِ لهم.
__________
(1) )) تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي للمباركفوري (4/151:150).
(2) )) زاد المعاد لابن القيم (3/507:506).(1/18)
فهذا سيدُ الخلقِ، وأشرف المرسلين، وأكرم البرية يقول لأعز النَّاس عنده بنته فاطمة، والتي هي بِضْعة منه، وعمه عباس بن عبد المطَّلب، وعمته صفية بنت عبد المُطَّلب، ولعشيرته الأقربين: " يا مَعْشَر قريش -أو كلمة نحوها- اشتروا أنفسكم؛ (أي بالإيمان بالله، والعمل الصَّالح)، لا أُغْني عَنْكُم مِن الله شَيْئًا، يا عبَّاس بن عبد المُطَّلب لا أغني عَنْكَ من الله شَيْئًا، يا صَفِيَّة عَمَّة رَسُول الله ? لا أُغْنِي عَنْكِ مِن الله شَيئًا، ويا فَاطمة بنت مُحَمَّد ، سَلِيني من مَالي ما شِئْتِ لا أُغْنِي عَنْكِ مِنَ الله شيئًا " (1) .
فإذا كان سيدُ المرسلين صرَّحَ بأنه لا يغني شيئًا عن سيدةِ نساء العالمين، ثمَّ نظرَ فيما وقع في قلوب خواصِّ النَّاسِ اليوم، فتبين له التوحيد وغربة الدين.
وفي الحديث: ردٌّ على من تعلَّقَ على الأنبياء والصالحين، ورغب إليهم؛ ليشفعوا له، وينفعوه، أو يدفعوا عنه .
كما أنَّ فيه: دلالةٌ صريحةٌ على أنه لا يجوزُ أنْ يُسألَ العبدُ إلا بما يقدرُ عليه من أمورِ الدّنيا، وأمّا الرحمةُ والمغفرةُ والجنة، والنجاة من النار، ونحو ذلك من كل ما لا يقدر عليه إلا الله تعالى، فلا يجوز أن يطلب إلا منه تعالى، فإن ما عند الله لا يُنَال إلا بتجريد التوحيد، والإخلاص له بما شرعه لعباده أن يَتَقَرَّبوا به إليه، فإذا كان لا ينفع بنته ولا عمه، ولا عمته، ولا قرابته، إلا ذلك فغيرهم أولى وأحرى، وفي قصة عمه أبي طالب معتبر.
__________
(1) )) البخاري (2753)، ومسلم(204) (248) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - .(1/19)
فانظرْ إلى الواقعِ الآنَ من كثيرٍ من النّاس من الالتجاءِ إلى الأموات، والتوجه إليهم بالرَّغبات والرَّهبات، وهم عاجزون لا يملكون لأنفسهم ضرًا، ولا نفعًا، فضلًا عن غيرهم، يتبين لك أنهم ليسوا على شيء { ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?} [الأعراف: 30] أظهرَ لهم الشيطانُ الشِّركَ في قالبِ محبةِ الصَّالحينَ، وكلُّ صالحٍ يبرأُ إلى اللهِ من هذا الشِّركِ في الدُّنيا، ويومَ يقومُ الأشهادُ. ... (ولا ريبَ أن محبةَ الصالحين إنما تحصلُ بموافقتِهم في الدِّين، ومتابعتِهم في طاعةِ رَبِّ العالمينَ، لا باتخاذهم أندادًا مِنْ دون اللهِ يحبونَهم كَحُبِّ اللهِ؛ إشراكًا بالله، وعبادةً لغيرِ اللهِ، وعداوةً للهِ ولرسولِه، والصَّالحينَ من عبادِه، كما قال تعالى: { چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ?? ? ? ? ? ?? ں ں ? ? ? ? ? ? ہہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? } [المائدة: 116، 117].
ونحنُ مَعَ هذا لا نُنكِرُ شفاعةَ رسولِ اللهِ ? والأنبياء والصالحين، فقد صَحَّ أنَّ الأنبياءَ يشفعونَ، والأولياءَ يشفعون، والأفراطَ يشفعون، لكنْ لا نطلبُ الشّفاعةَ منهم، ولكنْ نطلبُها مِنَ اللهِ، فلا يشفعُ أحدٌ إلا بإذنِ اللهِ له، كما قال تعالى: { ? ? ? ? ?} [البقرة: 255]، وهو سبحانه وتعالى لا يأذن إلا لمِنْ رضيَ اللهُ قولَه وعملَه، كما في قوله تعالى: { ? چ چ چ چ} [الأنبياء: 28]، فنقولُ: اللَّهُمَّ لا تَحرِمَنَا شفاعةَ نبيِّك، اللَّهمُّ شَفِّعْهُ فِيْنَا، وأمثالُ هذا.(1/20)
والأحياء يشفعون للميِّت إذا قاموا يصلون عليه بدعائهم له، كما في صحيح مسلم من حديث ابن عباس وغيره، أن رسولَ اللهِ ? قال: "مَا مِنْ مُسْلِمٍ يموتُ فيقومونَ على جنازته أربعون رجلاً لا يشركونَ بالله شيئًا إلا شَفَّعَهُمُ اللهُ فيه" (1) ، وكما في دعاء المُصَلِّينَ على الطِّفلِ المتوفى، فإنهم يقولون في دعائهم: "اللهم اجعله لوالديه فرطًا وأجرًا، وشفيعًا مجابًا"، فيسألون الله أن يقبل شفاعة هذا الفرط لوالديه، لا لأنَّهم يطلبونَ الشَّفاعةَ من الفرط نفسِه؛ لأنّ الشَّفاعةَ مِلْكٌ لله، قال تعالى: { گ گ ? ?? ? ? ? ?? } [الزمر: 44].
فَصْلٌ
فِي تَوْحِيْدِ الأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ
( هو: اعتقادُ انفرادِ اللهِ بالكمالِ المطلقِ مِنْ جميعِ الوجوهِ بنعوتِ العظمةِ والجلالِ، وذلك بإثباتِ ما أثبتَهُ لنفسِه، أو أثبتَهُ له رَسُولُه ? منَ الأسماءِ والصفاتِ بغيرِ تحريفٍ ولا تعطيلٍ، ولا تكييفٍ ولا تمثيلٍ، بل نعتقدُ أنَّ اللهَ {? ? ?? ? ٹ ٹ }[الشورى: 11]، فلا ننفي عنه بما وصفَ به نفسَه، ولا نُحرِّفُ الكَلِمَ عَنْ مواضعِه، ولا نُلْحِدُ في أسماءِ اللهِ وآياتِه.
( فَمِنْ صفاتِ اللهِ التي وصفَ بها نفسَه:
الاستواءُ :
1 - فقال عزَّ مِنْ قائل في سورة الأعراف: { ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ }[الأعراف: 54].
2 - وقال في سورة يونس: {? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ?? } [يونس: 3].
3 - وقال في سورة الرعد: { ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ? ? ? ? ?? } [الرعد: 2].
4 - وقال في سورة طه: { ژ ژ ڑ} [طه: 5].
5 - وقال في سورة الفرقان: { چ چ چ چ? } [الفرقان: 59].
6 - وقال في سورة السجدة: {? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ} [السجدة: 4].
7 - وقال في سورة الحديد: { ? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ?? } [الحديد: 4].
__________
(1) )) مسلم (948) (59).(1/21)
فهذه سبعةُ مواضعٍ، أخبرَ فيها سبحانه أَنَّه على العَرشِ، وروى أبو هريرةَ - رضي الله عنه - قال: سمعتْ رسولَ اللهِ ? يقولُ: " إنَّ اللهَ - عز وجل - كَتَبَ كِتَابًا قبل أنْ يَخْلُقَ الخلقَ: إنَّ رَحْمَتِي سَبَقَت غَضَبِى، فهو عِنْدَهُ فَوق العَرش" (1) .
وقد سُئِل الإمامُ مالكٍ رحمه الله عن قوله: { ژ ژ ڑ}كيف استوى؟ فأطرقَ مالكٌ ، وعَلَتْهُ الرَّحضاءُ - يعني العَرَقُ-، وانتظرَ القومُ ما يجيءُ منه، فيه فرفعَ رأسَه، وقال: "الاستواءُ غيرُ مجهولٍ، والكَيفُ غيرُ معقولٍ، والإيمانُ به واجبٌ، والسؤالُ عنه بدعةٌ، وأحسبُك رجلَ سوءٍ، وأَمرَ به فأخرج" (2) .
وهذا الجوابُ من مالكٍ رحمه اللهُ في الاستواءِ كافٍ وشافٍ في جميعِ الصفاتِ؛ مثل النُّزولِ، والمَجيء، واليد، والوجه، وغَيرِها، فيُقالُ في النُّزولِ: النُّزولُ معلومٌ، والكيفُ مجهولٌ، والإيمانُ به واجبٌ، والسؤالُ عنه بِدعةٌ.
وهكذا يُقالُ في سائرِ الصِّفاتِ الواردةِ في الكتابِ والسُّنةِ، ولا يجوزُ تأويلُ الاستواءِ على العرشِ بالاستيلاءِ؛ لأنَّه لو كان كذلك لم يكن ينبغي أنْ يَخصَّ العرش بالاستيلاء عليه دون سائر خلقه؛ إذ هو مستولٍ على العرشِ، وعلى الخلق، ليس للعرشِ مَزِيَّةٍ.
__________
(1) )) البخاري (7551)، ومسلم(2751) (14) .
(2) )) أثرٌ صحيحٌ: أخرجه ابن قدامة في العلو (104)، واللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة (664) وأبو عثمان الصابوني في عقيدة السلف (24-26) من طرق يقوي بعضها بعضًا.(1/22)
قال الإمامُ أبو بكرٍ بنُ خزيمة رحمه الله: "مَنْ لم يقرّ بأنَّ اللهَ على عرشِه استوى فوقَ سبعِ سماوات، بائنٌ مِنْ خلقِه فهو كافرٌ، يُستتابُ، فإنْ تابَ، وإلا ضُرِبتْ عُنقُهُ، وأُلْقِي على مَزْبلةٍ؛ لئلا يَتَأَذَّى بريحهِ أهلُ القِبلةِ، وأهلُ الذِّمَّةِ" (1) .
( كما أنَّ أهلَ السنةِ والجماعة يعتقدونَ أنَّ اللهَ سبحانه وتعالى فوقَ سماواتِه، بائنٌ من خلقه، قال الله تعالى: { ? ? ? ? ? ? ??} [فاطر: 10] { ٹ ٹ ٹ ٹ ?} [ آل عمران آية: 55] { ? ? ? ?? } [النساء: 158] {? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? } [الملك: 16]، وفي حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - : أنَّ النَّبيَّ ? قال: "أَلا تَأْمَنُوني، وأَنَا أَمِينُ مَنْ في السَّمَاء " (2) ، وفي حديث معاوية بن الحكم السلمي - رضي الله عنه - : " أنَّ النبيَّ ? قال للجارية: أين الله؟ قالت: في السماء، قال: من أنا؟ قالت: أنت رسول الله، قال: أعتقها؛ فإنها مؤمنة" (3) .
ومُنْكِرُ أن يكونَ اللهُ في جهةِ العلوِّ بعد هذه الآيات والأحاديث مخالفٌ لكتاب اللهِ، ومنكرٌ لسنة رسول الله ? .
__________
(1) )) قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتوى الحموية ص (91) بعد أن ساقه "ذكره عنه الحاكم بإسنادٍ صحيحٍ"، وعزاه ابن القيم في اجتماع الجيوش (194) للحاكم في علوم الحديث وفي كتاب تاريخ نيسابور .
(2) )) البخاري (4351)، ومسلم (1064) (144) من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - .
(3) )) مسلم (537) (33)، وأبو داود ، والنسائي.(1/23)
قال مالك بن أنس: "اللهُ في السَّماءِ، وعلمُه في كُلِّ مكانٍ، لا يخلو مِنْ علمِه مكانٌ"، وقال عبدُ اللهِ بْنُ المُبارك: "نعرفُ ربنا فوق سبع سماوات بائنًا من خلقه، ولا نقول كما قالت الجهمية: إنه ها هنا، وأشار إلى الأرض" (1) ، بل نعتقدُ أن الله سبحانه وتعالى فوق سَمَاواته مُسْتوٍ على عرشه، وأنه ينزل كل ليلة إلى سَماء الدُّنيا، فيجب الإيمان والتَّسليم لذلك، وترك الاعتراض عليه، وإمراره من غير تكييف ولا تمثيل ولا تأويل، ولا نفي لحقيقة النُّزول، فروى أبو هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله ? قال: "يَنْزِلُ رَبُّنا - عز وجل - كُل ليلة إلى سماء الدُّنيا، حين يبقى ثُلثُ اللَّيلِ الآخر، فيقول: مَن يَدْعُوني فأَسْتَجِيبُ لَهُ، مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَه، مَن يَسْتَغْفِرنَي فَأَغْفِرُ لَهُ، حَتَّى يَطْلُعَ الفَجرُ" (2) .
وفي لفظٍ: " يَنْزلُ اللهُ - عز وجل - " ولا يصح حملُه على نزول القدرة ولا الرحمة، ولا نزول ملك، لما روى مسلم - بإسناده- عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - ، عن رسول الله ? قال: "ينزل الله - عز وجل - إلى سماء الدنيا حين يمضي ثلث الليل الأول، فيقول: أنا الملك، أنا الملك من ذا الَّذِي يدعوني فأستجيب له، من ذا الَّذِي يستغفرني فأغفرَ له، حتى يضيءَ الفجرُ" (3) .
__________
(1) )) عزاهُ ابنُ القيم في اجتماع الجيوش ص (134) وعثمان الدارمي، والحاكم والبيهقي وغيرُهم ثم قال "بأصح إسنادٍ" وفي موضع آخر ص (214،213) قال: " وقد صح عنه صحة قريبة من التواتر أنه قيل له بماذا نعرف ربنا قال بأنه فوق سمواته على عرشه بائنٌ من خلقه".
(2) )) البخاري (1145)، ومسلم(758) (168) .
(3) )) مسلم (758) (169) .(1/24)
وروى رفاعةُ بْنُ عروبة الجهنيُّ أن رسول الله ? قال: "إذا مضى نصف الليل، أو ثلث الليل ينزل الله - عز وجل - إلى سماء الدنيا، فيقول: لا أسأل عن عبادي أحدًا غيري، من ذا الَّذِي يستغفرني أغفر له، من ذا الَّذِي يدعوني أستجيب له، من ذا الَّذِي يسألني أعطيه، حتى ينفجرَ الصُّبحُ" (1) ، وهذان الحديثان يقطعان تأويلَ كُلِّ متأولٍ، ويدحضان حُجَّةَ كُلِّ مبطلٍ.
وروى حديثَ النُّزولِ عليٌّ بْنُ أبي طالب ، وعبدُ الله بن مسعود ، وجبيرُ بْنُ مطعمٍ ، وجابرٌ بْنُ عبدِ الله، وأبو سعيدٍ الخُدْري، وعمرو بنُ عبسة، وأبو الدَّرداءِ، وعثمانُ بنُ أبي العاص، ومعاذُ بْنُ جبلٍ، وأمُّ سلمةَ زوجُ النَّبيِّ ? ، وخَلْقٌ سِوَاهم - رضي الله عنهم - ، ونحنُ مؤمنونَ بذلك، مُصدِّقون مِنْ غيرِ أنْ نصفَ له كيفيةً، أو نشبِّهَه بنزولِ المخلوقينَ.
( اليَدان: ومن صفاته سُبحانه الواردةِ في كتابِه العزيزِ، والثَّابتةِ عن رسولِ الله ? اليدان، قال الله - عز وجل - : { ? ? ? } [المائدة: 64]، وقال - عز وجل - : { ? ? ? ? ? ? ?? } [ص: 75].
فلا نقولُ: يدُ كيد، ولا نُكَيِّفُ ولا نُشَبِّهُ، ولا نَتَأَوَّلُ اليدينِ على القدرتين، كما يقولُ أهلُ التَّأويلِ، بل نؤمنُ بذلك، ونُثْبِتُ الصِّفةَ من غيرِ تكييفٍ، ولا تشبيهٍ، ولا يَصِحُّ حملُ اليدينِ على القدرتين؛ فإنَّ قُدرةَ اللهِ - عز وجل - واحدة، ولا على النعمتين؛ فإنَّ نعمَ اللهِ - عز وجل - لا تُحصى كما قال - عز وجل - : {? ? ? ? ? ?? } [النحل: 18].
(ونُثْبِتَ للهِ - عز وجل - صفةُ النَّفسِ التي وردت في كتابِ اللهِ تعالى، وثبتت في سُنَّةِ رسولِهِ ?.
__________
(1) )) رواه الإمام أحمد في مسنده (4/16)، وراجع لشرحها الحديث والكلام باستفاضة"شرح حديث النزول" لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.(1/25)
قال اللهُ - عز وجل - إخبارًا عن نَبِيِّه عِيسى - عليه السلام - أنَّه قال-: { ں ں ? ? ? ? ? ? ہہ } [المائدة: 116]، وقال - عز وجل - : { ? ? ? ? ?? } [الأنعام: 54]، وقال سبحانه وتعالى لموسى - عليه السلام - : { ? ?} [طه: 41]، وقال: { ? ? ?? } [آل عمران: 28] وروى أبو هريرةَ - رضي الله عنه - عن النَّبيِّ ? قال: " يَقُولُ اللَّهُ - عز وجل - : أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِى بِى وَأَنَا مَعَهُ حِينَ يَذْكُرُنِى إِنْ ذَكَرَنِى فِى نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِى نَفْسِى وَإِنْ ذَكَرَنِى فِى مَلإٍ ذَكَرْتُهُ فِى مَلإٍ هُمْ خَيْرٌ مِنْهُمْ وَإِنْ تَقَرَّبَ مِنِّى شِبْرًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَىَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ بَاعًا وَإِنْ أَتَانِى يَمْشِى أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً" (1) .
( الوَجْه: ومن الصِّفاتِ التي نطقَ بها القرآنُ، وصَحَّت بها الأخبارُ: الوَجَه . قالَ اللهُ - عز وجل - : { ? ? ? ? } [الرحمن: 27]، { ? ? ? ? ?? } [القصص: 88] وفي حديثِ أبي موسى - رضي الله عنه - قال: قامَ فِيْنَا رسولُ الله ? بأربعٍ، فقال:" إِنَّ اللهَ لاَ يَنَامُ وَلاَ يَنْبَغِى لَهُ أَنْ يَنَامَ يخْفِضُ الْقِسْطَ يَرْفَعُهُ وَيُرْفَعُ إِلَيْهِ عَمَلُ اللَّيْل قبل عملِ النَّهَار، وَعَمَلُ النَّهَارِ قَبْلَ عَمَلِ اللَّيْلِ، حِجَابُهُ النُّورُ لَوْ كَشَفَهُ لأَحْرَقَ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ كُلَّ شيءٍ أدركَهُ بصرُهُ، ثُمَّ قَرأ: { ? ? ? ? ? ں ں } "[النمل: 8] (2) .
فهذه صفةٌ ثابتةٌ بنصِّ الكتابِ، وخبرِ الصَّادقِ الأمينِ، فيجبُ الإقرارُ بِها، والتَّسليمُ كسائرِ الصِّفاتِ الثَّابتةِ بِواضحِ الدِّلالاتِ.
__________
(1) )) مسلم(2675) (293) ، وهو عند البخاري أيضًا (7405).
(2) )) مسلم(179) (2) وليس عنده جملة :"ثم قرأ : { ? ? ? ? ? ں ں } وهي عند أبي يعلى في المسند.(1/26)
( ونعتقدُ أنَّ اللهَ سُبحانه وتعالى يُرى في الآخرةِ -كما جاءَ في كتابِه-، وصَحَّ به النَّقلُ عَنْ رسولِه ? قالَ اللهُ - عز وجل - : {پ ? ? ? ? ? ? } [القيامة: 22-23] وروى جريرٌ بنُ عبدِ الله البجليُّ - رضي الله عنه - قال: كُنَّا جُلوسًا ليلةً مَعَ رسولِ اللهِ ? ، فنظرَ إلى القَمَرِ ليلةَ أربعَ عَشرة، فقالَ: " إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ - عز وجل - كَمَا تَرَوْنَ الْقَمَرَ لَا تُضَامُونَ فِي رُؤْيَتِهِ " الحديث (1) .
قالَ مالكٌ بْنُ أنسٍ - رضي الله عنه - : "النَّاسُ ينظرونَ إلى اللهِ تعالى بأعيُنِهم يومَ القِيامةِ".
( وفي معتقدِ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ إنَّ اللهَ - عز وجل - لم يزلْ متكلمًا بكلامٍ إذا شَاءَ متى شاءَ، قالَ اللهُ - عز وجل - : { ? چ چ چ} [النساء: 164].
__________
(1) )) البخاري(573) ومسلم (633) (211)، وأحاديث الرؤية متواترة كما نص على ذلك ابنُ القيم في حادي الأرواح ص (277)، والحافظُ في فتح الباري (1/203).(1/27)
( قالَ أبو العباسِ بْنُ سريجٍ: "إنَّ جميعَ الآي الواردةِ عَنْ اللهِ في ذاتِه وصفاتِه والأخبارَ الصَّادِقَةِ الصَّادِرَةِ عَنْ رسُولِ اللهِ ? في صفاتِه التي صَحَّحَها أهلُ النَّقلُ، يجبُ على المرءِ المُسلمِ الإيمانُ بِكُلِّ واحدٍ منه. كما وَرَدَ، وتَسْلِيمُ أمْرِهِ إلى اللهِ كما أمرَ، وذَلِكَ مِثْلَ قولِه سُبحانه: {? ? ? ? ? ? ? ? ? ? } [البقرة: 210]، وقولِه: { ? ? ? ? ? } [الفجر: 22]، وقولِه: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}[طه: 5]، وقولِه: {?? ? ? ? ? ? ??} [الزمر: 67]. ونظائرُها مما نطقَ به القرآنُ، كالفوقيَّةِ، والنَّفسِ، واليدينِ، والسَّمعِ، والبَصَرِ، والكَلامِ، والعَينِ، والنَّظرِ، والإرادةِ، والرِّضاءِ، والغضبِ، والمحبةِ، والكراهةِ. والقُربِ والبُعدِ، والسُّخطِ والاستجابةِ، وصعودِ الكلامِ الطَّيِّبِ إليه، وَعُرُوجِ الملائكةِ والرُّوحِ إليْهِ، ونزولِ القُرآنِ مِنْهُ، وندائِه الأنبياءَ وقولِهِ للملائكةِ، وقَبْضِهِ وبَسْطِهِ، وَعِلْمِهِ، ووحْدَانيتِه، وقُدْرَتِه، ومشيئتِه، وَصَمَدَانِيَّتِه، وفردانيِّتِه، وأوَّليتِه، وآخريَّتِه، وظاهريَّتِه، وباطنِيَّتِه، وحياتِه، وبقائِه، وأزليَّتِه، ونورِه، وتجلِّيهِ، والوجهِ، وخَلْقِ آدمِ بيدِه، ونحوِ قولِه: { ? ? ? ?}[الملك: 16].(1/28)
وسماعِه مِنْ غَيْرِه، وسماعِ غَيْرِه مِنْهُ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ صِفاتِه المذكورةِ في كتابِه الُمنزَّلِ، وجميعِ ما لَفِظَ به المصطفى من صفاتِه، كغرسِ جنَّةِ الفِرْدَوْسِ بيدهِ، وشجرةِ طُوبَى بيدِه، وخطِّ التَّوراةِ بيدِه، والضَّحكِ والتعجبِ، ووضعِه القَدَمِ، وذِكْرِ الأصابعِ، والنُّزولِ كُلَّ ليلةٍ إلى سماءِ الدُّنيا، وغيرِته، وفرحِه بتوبةِ العبدِ، وأنَّه ليس بأعورٍ، وإنَّ كِلْتَا يَديْهِ يمينٌ، "وحديثِ القبضتينِ" وله كُل يوم كذا وكذا نظره في اللوح المحفوظ، "وأنَّه يومَ القيامةِ يَحثُو ثلاثَ حثياتٍ مِنْ حَثياتِه، فيدخلَهم الجنَّةَ"، وحديثِ" القبضةِ التي يُخْرِجُ بِها مِنَ النَّارِ قومًا لم يعملُوا خيرًا قطُّ"، وإثباتِ الكلامِ بالحرفِ والصَّوتِ، وكلامِه للملائكةِ، ولآدمَ، ولموسى، ومحمدٍ، والشهداءِ، وللمؤمنينَ عِنْدَ الحسابِ، وفي الجنَّةِ، ونُزولِ القرآنِ إلى سماءِ الدُّنيا، وكونِ القرآنِ في المصاحفِ، " مَا أَذِنَ اللَّهُ لِشَىْءٍ كَأَذَنِهِ لِنَبِىٍّ يَتَغَنَّى بِالْقُرْآنِ "، وصعودِ الأقوالِ والأعمالِ والأرواحِ إليه.(1/29)
وغيرِ هذا مِمَّا صَحَّ عنه ? مِنَ الأخبارِ الوَاردة ِفي صفاتِ اللهِ سبحانه ما بلغَنا، وما لم يبلغْنا مِمَّا صَحَّ عنه، اعتقادُنا فيه أنْ نقبلَها ولا نَرُدَّها، ولا نَتَأَوَّلهَا بتأويلِ المخالفينَ، ولا نحملَها على تشبيه المشبهين، ولا نزيدَ عليها، ولا نُنُقِصَ مِنها، ولا نُكيِّفَها، ولا نشيرَ إليها بخواطرِ القلوبِ، بَلْ نُطْلِقُ ما أطلقَهُ اللهُ، ونُفَسِّرُ ما فَسَّرَهُ النَّبيُّ ? وأصحابُه والتَّابعونَ، والأئمةُ المرضيونَ مِنَ السَّلفِ المعروفينَ بالدِّينِ والأمانةِ، ونُجمِعُ على ما أجمعوا عليه، ونُمْسِكُ عَمَّا أمْسَكُوا عَنْهُ، وَنُسَلِّمُ الخبرَ لظاهرِه، والآيةَ لظاهرِها، مَعَ اعتقادِ معناها ومَا دَلَّتْ عليه، لا نقولُ بتأويلِ المعتزلةِ والأشعريَّةِ، والجهميَّةِ، والمُلحدةِ، والمُجَسِّمةِ، والمُشَبِّهةِ، والكَرَّاميَّةِ، والمكيِّفةِ، بَلْ نَقْبَلُها بلا تأويلٍ، ونؤمنُ بها بِلا تمثيلٍ، ونقولُ: الإيمانُ بها واجبٌ على وجهٍ يَلِيْقُ بِجلالِه" (1) .
( قال نعيمُ بنُ حمادٍ شيخُ البُخاري رحمهُ اللهُ: "مَنْ شَبَّهَ اللهَ بخلقِهِ فَقَدْ كَفَرَ، وَمَنْ جَحَدَ مَا وَصَفَ اللهُ بِهِ نَفْسَهُ فَقَدْ كَفَرَ، وَليسَ مَا وَصفَ اللهُ نفسَهُ تشبيهًا" (2) .
وقد قالَ الله تعالى: { ? ? ?? ? ٹ ٹ}[الشورى: 11]، فقوله: { ? ? ??}رَدٌّ على المُشَبِّهةِ، وقوله: { ? ٹ ٹ} رَدٌّ على المُعطِّلةِ .
__________
(1) )) نقلاً عن اجتماع الجيوش الإسلامية ص (174:170).
(2) )) أثرٌ صحيحٌ: أخرجه الذهبي في العلو بإسنادٍ صحيحٍ، وصححه الألباني في مختصرِ العلو ص (184).(1/30)
( فكما أنَّ ذاتَ اللهِ ثابتةٌ حقيقةٌ مِنْ غَيْرِ أنْ تكونَ مِنْ جنسِ المخلوقاتِ، فصفاتُه ثابتةٌ حقيقيةٌ مِنْ غَيْرِ أنْ تكونَ مِنْ جِنْسِ صفاتِ المخلوقينَ، فَمَنْ قَالَ: لا أعقلُ علمًا ويدًا إلا مِنْ جِنْسِ العِلْمِ واليدِ المعهودةِ، قِيلَ له: فكيفَ تعقلُ ذاتًا مِنْ غَيْرِ جِنْسِ ذاتِ المخلوقينَ؟! وِمِنَ المعلومِ أنَّ صفاتِ كلَّ موصوفٍ تناسبُ ذاتَه، وتلائمُ حقيقتَه، فَمَنْ لم يفهمْ مِنْ صفاتِ الرَّبِّ الَّذِي: { ? ? ??} [الشورى: 11] إلا ما يناسبُ المخلوقينَ فَقَدْ ضَلَّ في عقلِه ودينِه. وَمَا أَحْسَنَ مَا قَالَ بَعْضُهُمْ :" إذا قَالَ لَك الجهميُّ: كَيْفَ اسْتَوَى؟ أَوْ كَيْفَ يَنْزِلُ إلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا؟ أَوْ كَيْفَ يَدَاهُ؟وَنَحْوَ ذَلِكَ فَقُلْ لَهُ : كَيْفَ هُوَ فِي ذَاتِهِ؟ فَإِذَا قَالَ لَكَ لَا يَعْلَمُ مَا هُوَ إلَّا هُوَ وَكُنْهُ الْبَارِي تَعَالَى غَيْرَ مَعْلُومٍ لِلْبَشَرِ . فَقُلْ لَهُ: فَالْعِلْمُ بِكَيْفِيَّةِ الصِّفَةِ مُسْتَلْزِمٌ لِلْعِلْمِ بِكَيْفِيَّةِ الْمَوْصُوفِ؛ فَكَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ تَعْلَمَ كَيْفِيَّةَ صِفَةٍ لِمَوْصُوفِ لَمْ تَعْلَمْ كَيْفِيَّتَهُ وَإِنَّمَا تَعْلَمُ الذَّاتَ وَالصِّفَاتِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَنْبَغِي لَك " (1) .
(وَمَنْ أَوَّلَ نصوصَ الصِّفاتِ، أو قَالَ: إنَّها ألفاظٌ لا يُعْقَلُ معناها، ولا يُدْرَى ما أرادَ اللهُ ورسولُه مِنْهَا، ولكنْ نقرأُها ألفاظًا لا مَعانيَ لها، فقدْ أخطأَ خطأً بَيِّنًا، بَلْ هي آياتٌ بيناتٌ دالةٌ على أشرفِ المعاني وَأَجَلِّها.
__________
(1) )) نقلاً من مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية (5/115).(1/31)
( وبالجملةِ: إنَّ مذهبَ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ: إثباتُ ما أَثْبَتَهُ الرَّبُّ لنفسِه، ومَا أثْبَتَهُ له أعلمُ الخلقِ محمدٌ ?، كالاستواءِ، والمحبةِ، والغضبِ، والرِّضا، والسَّمعِ والبصرِ، والرَّحمةِ، والعِلْمِ، والكلامِ، واليَدَيْنِ، والوجهِ، والنِّداءِ، وَإنَّ هذا القرآنَ المحفوظَ في صُدُورِنا المتلوَّ بألسنتِنا المسموعَ بآذاننِا هو كلامه حقيقةً، كما قال تعالى: {گ گ گ ? ? ? ? ? ?? } [العنكبوت: 49]، وقوله: {? ? ? ?? ? ?} [فاطر:29]، وقوله: { ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? } [التوبة: 6]، إلى غيرِ ذلك مما وَرَدَ في الكتابِ، وصَحَّ عن رسولِ اللهِ ? مِنْ إثباتِ الصِّفاتِ له جَلَّ وعلا، إثباتًا بلا تمثيلٍ، وتنزيها بلا تعطيلٍ، مَعَ اعتقاد معناها وما دلت عليه، على حد قوله تعالى: { ? ? ?? ? ٹ ٹ} [الشورى: 11]، وقوله: { ? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? } [الإخلاص: 1-4].
وهذا هو حقيقةُ مَذْهبِ سَلَفِ هذه الأمَّةِ مِنَ الصَّحابةِ والتَّابِعينَ، وأئمةِ العلماءِ المُحققينَ، واللهُ سُبْحانه وتعالى أعلمُ، وصلى اللهُ على سيدِنا محمدٍ ، وعلى آله وصحبِه وسَلمَ تسليمًا كثيرًا إلى يومِ الدِّينِ.
فهرس
مقدمة مركز شعاع الخير............................................................ ... 5
توطئة تشتمل على صفوة عقيدة أهل السنة وخلاصتها المستمدة من الكتاب والسنة ...............................................................................
مقدمة المؤلف ....................... ............................................... ... 13
فصل في بيان توحيد الربوبية ...................................................... ... 15
فصل في بيان توحيد الألوهية ..................................................... ... 17
فصل في بيان توحيد الأسماء والصفات .......................................... ... 31(1/32)
الفهرس ............................................................................. ... 44(1/33)