|
تم استيراده من نسخة : المكتبة الشاملة المكية
أنواعه وأحكامه
اعداد
ابو عبد الله المصلحي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين, وأزكى الصلاة وأتم التسليم على نبينا الأمين, محمد وعلى الآل والصحب أجمعين, ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد :
فهذا بحث أقدمه للقراء الكرام في قضية من قضايا أصول الفقه الذي هو من أجل العلوم, كيف لا, وقد جعله الرازي في ( المحصول ) أهم شروط المجتهد؟ ولأجل ذلك قال أبن تيمية : لابد ا يكون مع الإنسان أصول كلية ترد إليها الجزئيات ليتكلم بعلم وعدل. ثم يعرف الجزئيات كيف وقعت, والا فيبقى في كذب وجهل في الجزئيات, وجهل وظلم في الكليات, فيتولد فساد عظيم. المجموع ( 19/110 ).
وسميته بـ ( الترك أنواعه وأحكامه ). راجيا من الله تعالى أن ينفع به من كتبه وقرائه أنه سميع مجيب.
تمهيد
تعريف الترك
لغة : هو ودع الشيء وتخليته. 1
اصطلاحيا : فيه للعلماء ثلاثة تعريفات :
? هو عدم فعل المقدور سواء قصد التارك أم لم يقصد, كما في النوم, وسواء تعرض لضده أم لم يتعرض. وعلى هذا لا يكون عدم مالا يقدر عليه تركا, ولذ لا يقال ترك فلان خلق الأجسام.
? هو عدم فعل المقدور عليه قصدا, فلا يقال ترك النائم الكتابة. وهذا القول – كما ترى أضيق نطاقا من الأول, حيث انه خص الترك بالأمر المقصود, بخلاف الأول فانه عام يشمل المقصود وغير المقصود.
? هو من أفعال القلوب لأنه انصراف القلب عن الفعل وكف النفس عنه.2
موضوع البحث :
ينقسم الترك إلى قسمين :
الأول : الترك غير المقصود وهذا لا يستدل به على حكم شرعي لخلوه من الدلالة.
الثاني : الترك المقصود وهذا هو محل البحث.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- أنظر : لسان العرب مادة ( ترك ).
2- أنظر : شرح جمع لجوامع للمحلي ( 1/214 ), أفعال الرسول للأشقر ( 2/47 ).
المسالة الأولى :
هل الكف فعل ؟
أختلف الأصوليون في ذلك على قولين :
الأول : أن الكف فعل من الأفعال, وهذا قول الجمهور.1
(1/1)
الثاني : انه ليس بفعل.
الراجح :
هو القول الأول :
وذلك للأدلة التالية :
1- قال تعالى { لَولا يَنهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الأثم وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يصنعون } ( المائدة : 63 ).
وجه الدلالة : أن الله تعالى سمى ترك العباد والعلماء للنهي عن المنكر صنعا, والصنع فعل.
2- قول النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) : ( عرضت علي أعمال أمتي حسنها وسيئها فوجدت في محاسن أعمالها إماطة الأذى عن الطريق, ووجدت في مساوئ أعمالها النخامة تكون في المسجد لا تدفن ).
المسالة الثانية :
أقسام تروك النبي (( - صلى الله عليه وسلم - وحكم كل قسم :
1- الترك لداعي الجلبة البشرية.
مثال : ترك النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) أكل لحم الضب.
حكمه : لا يدل على تحريم ولا كراهة2.
2- الترك المبين لنص مجمل :
مثال : تركه (( - صلى الله عليه وسلم - الإحلال من العمرة مع صحابته وقال : إني لبدت رأسي وقلدت هديي فلا أحل حتى أنحر, وقال : لا يحل مني حرام حتى يبلغ الهدي محله. فقد أمتثل الأمر الوارد في الآية بترك التمتع لكونه قد ساق الهدي, وتبين بذلك حكم من ساق الهدي.
حكمه : يؤخذ من النص المبين.
3- الترك الخاص به (( - صلى الله عليه وسلم - .
مثال : ترك أكل الصدقة.
حكمه : لا يدل على تحريم ولا كراهة.
ملاحظة : لا يجوز أن نحمل شيئا من تروكه ( - صلى الله عليه وسلم - ) وعلى الخصوصية إلا بدليل. وهذه الخصوصيات منها ما هو واجب ومنها ما هو مستحب ومنها ما هو مباح.
وأنظر الموسوعة الفقهية ـ ج2 , مادة اختصاص, حيث ذكر الأشياء التي أختص بها النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- انظر : أصول السر خسي ( 1/80 ) , الموافقات ( 1/12 ) , ط عبد الله دراز.
2- أنظر : الموفقات ( 4/60 ).
(1/2)
2- الترك المجرد, وهو ماعدا الأقسام السابقة. وهذا إن ظهر فيه قصد التعبد فانه يدل على الكراهية, وأن لم يظهر فيه قصد التعبد فهو يدل على الإباحة 1.
المسالة الثالثة :
التأسي بالترك :
لا فرق بين الفعل والترك في التأسي.
قال الشوكاني : تركه ( - صلى الله عليه وسلم - ) للشيء كفعله له في التأسي به فيه2.
قال الجصاص : نقول في الترك كقولنا في الفعل, فمتى رأينا النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) قد ترك فعل شيء ولم ندر على أي وجه تركه, قلنا : تركه على جهة الإباحة. وليس بواجب علينا إلا أن يثبت أنه تركه على جهة التأثم فيجب علينا حينئذ تركه حتى يقوم الدليل على أنه مخصص به دوننا 3.
المسالة الرابعة :
كما أن تكرار الفعل يقوي من كونه ( - صلى الله عليه وسلم - ) فعله على جهة التعبد, فكذلك تكرار الترك يقوي من كونه ( - صلى الله عليه وسلم - ) تركه على جهة التعبد.
مثال : ورد في الصحيحين عن أبن عمر (رضي الله عنهما) أن رسول الله ( - صلى الله عليه وسلم - ) كان يسبح على ظهر راحلته حيث كان وجهه يوميء برأسه, وفي رواية للبخاري إلا الفرائض ولمسلم غير انه لا يصلي عليها إلا المكتوبة.
قال الشيخ محمد سليمان الأشقر : فان تركه لصلاة الفريضة على الراحلة لو كان تركه مرة أو مرتين لا يدل على المنع منها, يقول أبن دقيق العيد : ( قد يتمسك بما في الحديث في أن صلاة الفرض لا تؤدي على الراحلة, وليس ذلك بقوي في الاستدلال, لأنه ليس فيه إلا ترك الفعل المخصوص وليس الترك بدليل على الامتناع. ثم قال : وقد يقال إن دخول وقت الفريضة مما يكثر على المسافرين, فترك الصلاة لها دائما مع فعل النوافل على الراحلة يشعر بالفرقان بينهما في الجواز وعدمه ). وهذا الذي قال أخيرا هو الذي نريده وهو المعتمد عند الفقهاء في هذا الفرع 4.
المسالة الخامسة :
أسباب الترك :
الأسباب التي كان النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) يترك الشيء لأجلها ترجع إلى أنواع وهي :
(1/3)
1- ترك الفعل المستحب خشية أن يفرض على الأمة.
مثال : ترك قيام رمضان.
2- ترك الفعل المستحب خشية أن يظن البعض أنه واجب, أو ترك المباح خشية أن يظن البعض أنه مستحب أو واجب.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1-أنظر : أفعال الرسول ( 2/55-57 ).
2- أنظر : إرشاد الفحول ( ص42 )
3-أنظر : البحر المحيط.
4- أنظر : أفعال الرسول ( 2/60 ).
مثال : كان ( - صلى الله عليه وسلم - ) يتوضأ لكل صلاة على سبيل الاستحباب ثم ترك ذلك يوم فتح مكة حيث صلى الصلوات كلها بوضوء واحد فقال عمر ( - رضي الله عنهم - ) : يا رسول فعلت اليوم شيئا لم تكن تفعله. فقال عمدا فعلته يا عمر. ويسن الاقتداء به ( - صلى الله عليه وسلم - ) في هذا النوع ممن يقتدى به إذا توهم بعض الحاضرين شيئا من ذلك.
قال الشاطبي : لا ينبغي لمن التزم عبادة من العبادات الدينية الندبية أن يواظب عليه مواظبة يفهم الجاهل منها الوجوب إذا كان منظورا إليه مرموقا, أو مظنة لذلك يل الذي ينبغي له أن يدعها في بعض الأوقات حتى يعلم أنها غير واجبة 1 . أ.هـ
3- الترك لأجل المشقة التي تلحق بالأمة في الإقتداء بالفعل ولو استحبابا.
مثال : تركه ( - صلى الله عليه وسلم - ) الرمل في الأشواط الأربعة الأخيرة من الطواف. ففي حديث أبن عباس رضي الله عنهما قال : ولم يمنعه أن يرمل الأشواط كلها إلا الإبقاء عليهم. رواه البخاري.
4- ترك المطلوب خشية من حدوث مفسدة أعظم من بقائه, وهذا من السياسة الشرعية.
مثال : ما قاله ( - صلى الله عليه وسلم - ) لعائشة ( - رضي الله عنهم - ) : لولا أن قومك حديث عهدهم بكفر لنقضت الكعبة فجعلت لها بابين, باب يدخلون منه الناس وباب يخرجون. رواه البخاري. وقد بوب عليه : باب من ترك بعض الاختيار مخافة أن يقصر فهم بعض الناس فيقعوا فد اشد منه.
5- الترك على سبيل العقوبة.
مثال : تركه ( - صلى الله عليه وسلم - ) الصلاة على المدين. رواه البخاري.
(1/4)
فائدة : هذا الحكم منسوخ بقوله ( - رضي الله عنهم - ): من ترك دينا أو ضياعا فالي. فقد جاء في حديث أبي هريرة ( - رضي الله عنهم - ) أن رسول الله ( - رضي الله عنهم - ) كان يؤتي بالرجل المتوفى, عليه دين, فأن حدث أنه ترك وفاء صلى عليه, وإلا قال للمسلمين صلوا على صاحبكم,فلما فتح الله على رسوله كان يصلي ولا يسال عن الدين. متفق عليه.
6- الترك لمانع شرعي.
مثال : قصه نومه ( - صلى الله عليه وسلم - ) ومن معه عن صلاة الفجر فما استيقظوا إلا بعد طلوع الشمس, وقال ( - صلى الله عليه وسلم - ) : من نسي صلاة أو نام عنها فكفارتها أن يصليها إذا ذكرها. متفق عليه. ومع هذا لم يبادر إلى الصلاة بل اقتادوا رواحلهم حتى خرجوا من الوادي ثم صلوا. فالترك حصل لان الوادي في شيطان, كما جاء في رواية أخرى. وقد علم من طريقة الشارع النهي عن الصلاة في أماكن حضور الشياطين. وأما قول الشيخ سليمان الأشقر ( فيحتمل أن الترك لكون الشمس في أول طلوعها )2 فبعيد لأنهم استيقظوا على حر الشمس كما في رواية أخرى.
المسالة السادسة :
نقل الترك : هناك طريقان لمعرفة أن النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) ترك الشيء وهما :
1- الطريق الأول :
ذكر الصحابي ذلك, وهو الأكثر, من أمثلته قول أن عباس رضي الله عنهما في صلاة العيد : لم يكن يؤذن يوم الفطر ولا يوم الأضحى. متفق عليه. وقول أنس ( - رضي الله عنهم - ) : قنت
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- أنظر : الموافقات ( 3/332 ).
2- كما في أفعال الرسول ( 2/65 ).
رسول الله ( - صلى الله عليه وسلم - ) شهر يدعو على أحياء من أحياء العرب ثم تركه. رواه مسلم.
وهذا الطريق على نوعين :
أ النفي الجازم, وهو قليل, وهو أن يكون الناقل قد أطلع على كل أحوال النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ).
(1/5)
مثال : عن عائشة ( - رضي الله عنهم - ) قالت : ما أعتمر رسول الله ( - صلى الله عليه وسلم - ) في رجب قط. فهذا على سبيل الجزم لان الاعتمار منه ( - صلى الله عليه وسلم - ) أمر لا يخفى.
ب النفي على سبيل الظن, وهو الأكثر, وهو أن يكون الناقل قد أطلع على غالب أحواله ( - صلى الله عليه وسلم - ).
مثال : عن عائشة ( - رضي الله عنهم - ) قالت : من حدثكم أن رسول الله ( - صلى الله عليه وسلم - ) بال قائما فلا تصدقوه ما كان يبول إلا قاعدا. متفق عليه. فهذا ليس نفي قاطع لأنها لم تشاهد كل أحواله خارج منزله.
ثمرة هذا التقسيم :
تظهر ثمرة ذلك عند التعارض بين الأدلة وعلى الترتيب التالي :
? إذا تعارض نقل الترك الجازم مع نقل الفعل, لم يترجح أحدهما على الأخر, ولابد من ألتماس دليل خارجي لأجل الترجيح.
? إذا تعارض نقل الترك الظني مع نقل الفعل قدمنا نقل الفعل.
مثال تطبيقي :
عن حذيفة ( - رضي الله عنهم - ) أن النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) أتى سباطة قوم فبال قائما. رواه البخاري. فهذا نقل للفعل ويتعارض مع الحديث المتقدم عن عائشة ( - رضي الله عنهم - ) الذي فيه نقل للترك, فهنا قدموا حديث حذيفة على حديث عائشة لأن نقل الفعل يقدم على نقل الترك الظني.1
1- الطريق الثاني : قال أبن رقيم ( رحمه الله ) : عدم نقلهم لما لو فعله لتوفرت هممهم ودواعيهم على نقله , هو نقل لتركه, فحيث لم ينقله واحد منهم البتة ولا حدث به علم أنه لم يكن 2 .
ومثل له بترك التلفظ بالنية في بداية الصلاة, وترك قنوت الفجر, ثم قال : ومن الممتنع أن يفعل ذلك ولا ينقله أحد.
وهذه القاعدة التي ذكرها أبن القيم قال بها أئمة آخرون مثل أبن دقيق العيد في أحكام الأحكام ( 1/260 ) وأبن رشد كما نقله عنه الشاطبي في الموفقات ( 2/413 ).
هذا وقد ذكر أبن القيم اعتراضا على هذه القاعدة فقال :
إن قيل : من أين لكم أنه لم يفعله وعدم النقل لا يستلزم نقل العدم ؟
(1/6)
ثم أجاب عن ذلك قائلا : فهذا سؤال بعيد جدا عن هديه وسنته وما كان عليه. ولو صح هذا السؤال وقبل, لاستحب مستحب الغسل لكل صلاة وقال من أين لكم أنه لم ينقل ؟
وأستحب لنا مستحب آخر الأذان للتراويح وقال : من أين لكم أنه لم ينقل ؟.... وأنفتح باب البدعة وقال كل من دعا إلى بدعة :من أين لكم أنه لم ينقل ؟. ومن هذا تركه ( - صلى الله عليه وسلم - )
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- أنظر : إرشاد الفحول ( ص 279 ).
2- أنظر : أعلام الموقعين ( 2/370 ).
أخذ الزكاة من الخضروات والمطابخ وهو يزرعونها بجواره بالمدينة كل سنة فلا يطالبهم بالزكاة ولا هم يؤدونها إليه 1 .
مناقشة القاعدة :
أن القول بهذه القاعدة ( ترك النقل وهو نقل للترك ) على أطلاقها ولا يصح لأنه يؤدي إلى عدم العمل بعمومات النصوص. بيانه : أن أي فرد مندرج تحت نص عام يعطى حكم العام وأن لم ينقل إلينا أن النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) فعل هذا الفرد بخصوصه. وهذه القاعدة تقتضي أن هذا الفرد لا يعطى حكم العام حتى ينقل إلينا فعل ( - صلى الله عليه وسلم - ) له بالرغم من أنه يشمله النص العام وعلى هذا لا يصبح للنص العام فائدة لأن معرفة الحكم هذا الفرد تتوقف على نقل الفعل لا على عموم النص, وهذا باطل.
ويزيد ذلك وضوحا ما جاء عن أهل العلم من الخلاف في الأصناف
الخارجة من الأرض التي تؤخذ منها الزكاة. فلو كان ترك النقل نقلا للترك لصح قول الظاهرية القائلين بالاقتصار على الأصناف الأربعة لكون أن النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) لم ينقل عنه أنه أخذ الزكاة مما عداها, ولكن الجمهور خالفوهم فأخذوا بالعموم, وأن اختلفوا في تفاصيل ذلك ولم يعملوا بهذه القاعدة 2.
(1/7)
قال أبن العربي المالكي رحمه الله : فأن قيل : فلم ينقل عن النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) أنه اخذ الزكاة من خضر المدينة ولا خيبر؟ قلنا كذلك قال علماؤنا. وتحقيقه انه عدم دليل لا وجود دليل. فأن قيل لو أخذ لنقل؟ قلنا وأي حاجه لنقله والقران يكفي فيه؟ 3.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- أنظر : المغني لأبن قدامه ( 2/690 ) , المحلى لأبن حزم ( 5/210 )
2- أنظر : أحكام القرآن لأبن العربي ( 2/752 ).
3- أنظر : أعلام الموقعين ( 2/372 ).
المسالة السابعة :
السكوت مع عدم وجود مانع من الكلام يدل على أنه ليس في المسألة حكم. إذ لو كان هناك حكم لوجب بيانه. ومثاله ما رواه أبو داوود من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن مرثد بن أبى مرثد كان يحمل الاسلوى بمكة, وكانت بمكة بغي يقال لها عناق, وكانت صديقته, قال فجئت إلى النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) فقلت له : يا رسول الله أنكح عناقا؟ قال فسكت عني, فنزلت ( الزانية لا نكحها إلا زان أو مشرك ) فدعاني فقرأها علي وقال لا تنكحها 1.
وإذا سئل النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) عن حكم واقعة, فذكر لها حكما وسكت عن حكم آخر. فهل يدل سكوته عن انتفاء الحكم عن المسكوت عنه؟
الجواب : إن ذلك على قسمين :
1- أن يكون المسكوت عنه قد تبين حكمه من دليل آخر. ففي هذه الحالة لا يدل السكوت على انتفاء الحكم بل هو أحالة منه على الدليل.
2- أن يكون المسكوت عنه لم يتبن حكمه من دليل آخر, بل هو متردد فيه, ففي هذه الحالة يدل السكوت على انتفاء الحكم.
(1/8)
مثال تطبيقي : حديث أبي هريرة ( - رضي الله عنهم - ) في قصة الأنصاري الذي وطأ زوجته في نهار رمضان. فأمره النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) بالكفارة وسكت عن بيان حكم المرأة, فأستدل بسكوته بعض الفقهاء على إن المرأة لا كفارة عليها, وهو قول الشافعي ورواية عن أحمد. وذهب الجمهور إلى إن عليها الكفارة, لأن الأصل في التشريع هو المساواة بين الرجال والنساء في الأحكام إلا ما دل الدليل على خصوصيته 2 .
المسالة الثامنة :
أسباب ترك الجواب :
قد يسأل النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) ويسكت عن الإجابة لوجود مانع, والموانع مختلفة منها :
1- أن يقف عن الجواب لمهلة النظر لأنه كان له حق الاجتهاد في النوازل.
2- أن يكون السؤال لم يقع بعد فيترك الجواب لعدم الحاجة.
3- أن يخاف غائلة الفتوة وهو ترتب شر أعظم من مفسدة الإمساك عنها فيترك الجواب ترجيحا بدفع أعلى المفسدتين بفعل أدناهما.
4- أن لا يحتمل عقل السامع الجواب فيسكت لئلا يكون الجواب فتنه له.
5- أن يكون السكوت عقوبة للشخص مثل قصة الثلاثة الذين خلفوا.
6- أن يعدل في الجواب إلى ما هو انفع للسائل.
7- أن يكون السائل متلبسا بمعصية ظاهرة هي أكبر مما يسأل عنه.
8- أن يكون السؤال منكرا فيسكت عن الجواب لبيان أن السؤال مما لا ينبغي.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- أنظر : تفسير القرطبي ( 10/168 ).
2- أنظر : المغني ( 3/133 ).
هذه جملة من المواضيع التي يكره فيها السؤال وليست الكراهة فيها على درجة واحدة بل منها ما تشتد كراهته فيصل إلى التحريم ومنها ما يخف ومنها ما يكون حل اجتهاد. وقد ذكر ذلك الشاطبي وترجم له ( كراهية السؤال في مواضع ) ومن استفدت 1.
المسالة التاسعة :
قال الشافعي (رحمه الله ) : ترك الأستفصال مع قيام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال 2.
شرح القاعدة :
(1/9)
إذا سئل النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) عن حكم واقعة, وكانت هذه الواقعة تحتمل أكثر من صورة, وأجاب النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) بدون أستفصال عن حالة الواقعة, فأن الحكم المذكور يعم كل الصور المحتملة.
والدليل على هذه القاعدة إن الحكم لو كان مختص بصورة معينة دون الباقي لوجب بيان ذلك لان تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز.
أمثلة تطبيقية :
1- من أسلم وتحته أختان :
النص : عن فيروز قال : أسلمت وتحتي امرأتان أختان, فأمرني النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) أن أطلق أحداهما. رواه الخمسة إلا النسائي.
الحكم : من اسلم وتحته أختان وجب عليه مفارقة أحداهما, وهو مخير فيمن يمسكها أو يطلقها.
وجه الدلالة : أن النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) خيره في ذلك ولم يستفصل منه هل تزوجهما بعقد واحد أم بعقدين , وهو قول مالك والشافعي وأحمد.
2- قضاء الصوم عن الميت :
النص : عن أبن عباس ( - رضي الله عنهم - ) قال : جاء رجل إلى النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) فقال : يا رسول الله إن أمي ماتت وعليها صوم شهر أفاقضيه عنها؟ فقال : لو كان على أمك دين أكنت قاضيه عنها؟ قال : نعم. قال : فدين الله أحق ان يقضى. متفق عليه.
الحكم : يدل الحديث على أنه لا يختص جواز النيابة بصوم النذر بل هو عام يشمل النذر والفرض, وهو منصوص الشافعية 3.
وجه الدلالة : القاعدة أعلاه.
ملاحظه : القاعدة المذكورة ليست على أطلاقها بل تخرج منها الحالتان التاليتان :
الحالة الأولى :
أن يتبين لنا أن النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) قد أطلع على صفة الواقعة. فهنا لا حاجة إلى الاستفصال يدل على العموم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- أنظر : الموافقات ( 5/387 )ط مشهور حسن سلمان , أعلام الموقعين ( 4/157 ).
2- انظر : الفروق للقرافي ( 2/87 ).
3- أنظر : أحكام الأحكام ( 2/23 ).
الحالة الثانية :
(1/10)
أن يكون الاحتمال بعيدا فلا يدل ترك الأستفصال على العموم لأن الاستفصال عن الاحتمالات البعيدة لا يهتم به المفتي ولا يبحث عنه. مثال ذلك خبر الأنصاري الذي وطئ زوجته في نهار رمضان فأوجب النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) عليه الكفارة. فجمهور الفقهاء لم يجعلوا الحكم يشمل الناسي وقالوا ترك الاستفصال لا يدل على العموم بل هذا خاص بالمتعمد وذلك لأن حالة النسيان بالنسبة للوطء أمر مستبعد فلا يدخل في الحكم 1.
فإذا ليس المراد بقيام الاحتمال هو الاحتمالات الضعيفة. إذ قلما تخلو واقعة من احتمال ضعيف أو مستبعد. وقد قال الشافعي في مناظرة له : قل شيء إلا ويطرقه الاحتمال, ولكن الكلام على ظاهرة حتى تقوم دلالة على أنه غير مراد 2.
ملاحظة : إذا كنا لا نعلم أن النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) علم بوصف الواقعة من طريق آخر أم لا, فهل نعمل بالقاعدة؟ هذه المسألة فيها ثلاثة أقوال, أصحها العمل بالقاعدة أعلاه وذلك لأننا وان لم يحصل عندنا العلم بذلك لكن عدم العلم لا يمنع الظهور وهو كاف.
وهذا اختيار أبن تيمية والزركشي رحمهما الله تعالى 3.
المسالة العاشرة :
قاعدة (لا ينسب لساكت قول ) التي نص عليها الشافعي قاعدة صحيحة 4. ولكن يستثنى منها حالتين :
2- ما قام الدليل على استثنائه, مثل سكوت البكر إذا أستؤذنت في النكاح, فهو بمنزلة الإذن الصريح لقوله ( - صلى الله عليه وسلم - ) : والبكر تستأذن وإذنها صماتها. متفق عليه.
2- تقرير النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) حيث قامت الأدلة على حجيته.
المسالة الحادية عشرة :
ترك المندوب إذا صار شعارا للمبتدعة :
(1/11)
قال الزركشي رحمه الله : ولا يترك لكونه صار شعارا للمبتدعة خلافا لأبن أبي هريرة, ولهذا ترك الترجيع في الآذان, والجهر بالبسملة, والقنوت في الصبح, والتختم باليمين, وتسطيح القبور, محتجا بأنه ( - صلى الله عليه وسلم - ) ترك القيام للجنازة لما أخبر أن اليهود تفعله. وأجيب : بأن له ذلك لأنه مشرع, بخلاف غيره, لا يترك سنة صحت عنه. وفصل الغزالي بين السنين المستقلة وبين الهيئات التابعة, فقال لا يترك القنوت إذا صار شعارا للمبتدعة !! بخلاف التختم باليمين ونحوها, فأنها هيئات تابعة. فحصل ثلاثة أوجه, والصحيح المنع مطلقا .ا.هـ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- انظر : أحكام الأحكام ( 2/11 ). وخالف في ذلك الإمام أحمد وبعض المالكية حيث عمموا الحكم فأوجبوا الكفارة وعلى الناسي وأنظر فتح الباري ( 4/164 ).
2- أنظر : البحر المحيط ( 3/152 ).
3- أنظر : المسودة ( ص109 ).
4- أنظر : الأشباه والنظائر للسيوطي ( ص 142 ).
المسالة الثانية عشرة :
ترك المندوب لخوف أتفاد العامة انه واجب :
قال الزركشي : ولا يترك لخوف أتقاد العامة وجوبه, خلافا لمالك. ووافقه من أصحابنا أبو إسحاق المروزي فيما حكاه الدرامي في الاستذكار أنه قال : لا أحب أن يداوم الإمام على مثل أن يقرا كل يوم جمعة بالجمعة ونحوه لئلا يعتقد العامة وجوبه 1.
وهذه المسالة مبنية على قاعدة ( سد الذرائع ) وهي معمول بها عند المالكية,ممنوعة عند الشافعية. ولذلك قرر الشاطبي المالكي في الموافقات عكس ما قرره الزركشي الشافعي في البحر المحيط حيث قال : لا ينبغي لمن ألتزم عبادة من العبادات البدنية الندبية أن يواظب عليه مواظبة يفهم الجاهل منها الوجوب إذا كان منظورا إليه مرموقا, أو مظنة لذلك, بل الذي ينبغي له أن يدعها في بعض الأوقات, حتى يعلم أنها غير واجبة.....وكذلك إذا كانت العبادة تتأتي على كيفات ...2
قلت : والقول ما قال الشاطبي, والله أعلم.
(1/12)
المسالة الثالثة عشرة :
البيان بالترك :
يعد الترك وسيلة مهمة من وسائل البيان للأحكام الشرعية وذلك على التفصيل التالي :
1- بيان المندوب :
قال الشاطبي :وكما إن من حقيقة استقرار المندوب أن لا يسوى بينه وبين الواجب في الفعل, وكذلك من حقيقة استقرار أن لا يسوى بينه وبين بعض المباحات في الترك المطلق من غير بيان.
فأنه لو وقعت التسوية بينهما لفهم من ذلك مشروعية الترك كما تقدم ولم يفهم كون المندوب مندوبا.
وقال أيضا : والآمر أن كان مندوبا ومظنة لاعتقاد الوجوب فبيانه بالترك أو القول الذي يجتمع إليه الترك, مثال ترك الأضحية, وترك صيام الستة من شوال 3.
2- بيان المباح :
قال الشاطبي : المباحات من حقيقة استقرارها مباحات لا يسوى بينها وبين المندوبات والمكروهات, فأنه بالدوام على فعلها ربما توهمت أنها مندوبات, فلذلك يسن تركها أحيانا, وبالدوام على تركها ربما توهمت أنها مكروهات, فلذلك يسن فعلها أحيانا 4.
3- بيان المكروه :
قال الشاطبي : من حقيقة كون المكروه مكروها أن لا يسوى بينه وبين بعض المحرمات بالترك مطلقا, إذا خيف اعتقاد المكروه محرما. فان قيل : إن في بيان ذلك ارتكابا للمكروه, وهو منهي عنه؟ فالجواب البيان أكد, وقد يرتكب النهي الحتم للمصلحة الراجحة, فارتكاب المكروه للمصلحة الراجحة جائز من باب أولى 5.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- أنظر : البحر المحيط ( 1/291 ).
2- أنظر : الموافقات ( 4/118 – 119 ).
3- أنظر : الموافقات ( 4/92 , 108 ).
4- أنظر : الموافقات ( 4/111).
5- أنظر : الموافقات ( 4/117 ) , البحر المحيط ( 4/176 ).
فائدة :
إن أحب الالتزام بالمستحب والمداومة عليه فينبغي أن لا يكون ذلك بمرأى ومسمع من الناس, لأنه إن كان كذلك فربما عده بعض العوام من الواجبات فإذا لابد في إظهاره من عدم استقرارية عليه أحيانا, ولابد في الاستمرار عليه من عدم إظهاره أحيانا.
المسالة الرابعة عشرة :
(1/13)
النية في الترك :
ذهب بعض العلماء إلى إن التروك لا تفتقر إلى النية, وعللوا ذلك بأن التروك غير داخلة في الأعمال فلا يشملها الحديث ( إنما الأعمال بالنيات ). فالعبد يخرج من عهدة النواهي وان لم يشعر بها أصلا فضلا عن القصد في تركها 1. هكذا قالوا, والصواب إن المكلف إذا استحضر النية في التروك كان فعله صحيحا في الدنيا ويثاب عليه في الآخرة. وان لم توجد النية في الترك كان فعله صحيحا في الدنيا بمعنى تبرئ ذمته لكنه لا يثاب في الآخرة.
فالنية بالنسبة للتروك شرط لحصول الثواب في الآخرة وليست شرطا للصحة في الدنيا 2.
المسالة الخامسة عشر :
علاقة الترك بالمصالح والمفاسد:
تعارض المصلحة والمفسدة يكون على أقسام :
1- تعارض مصلحة مع مصلحة : إذا تعارضت مصلحتان فأنه يفعل أعلاهما ويترك أدناهما.
2- تعارض مفسدة مع مفسدة : إذا تعارضت مفسدتان فأنه يترك أعلاهما ويفعل أدناهما.
3- تعارض مصلحة مع مفسدة ك وهذا ثلاثة أنواع :
? إذا كانت المفسدة أعظم فهنا نترك المصلحة لأجل وجود مفسدة أعظم منها.
? إذا كانت المصلحة أعظم فهنا تغتفر المفسدة في جانب المصلحة.
? إذا كانت المصلحة تساوي المفسدة فهنا تترك المصلحة أيضا
? لأن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح.
المسالة السادسة عشر :
علاقة الترك بأصول البدع :
تتلخص قواعد معرفة البدع من السنن في النقاط التالية 3 :
1- إذا وجد المقتضى ولم يوجد مانع في حياة النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) فأن فعل ذلك بعد وفاته ( - صلى الله عليه وسلم - ) بدعة. مثل الجهر بالأذكار المسنونة بعد الصلاة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- أنظر : شرح العيني على البخاري ( 1/32 ).
2- أنظر : مقاصد المكلفين ( ص 339 – 341 ) تأليف عمر سليمان الأشقر.
3- أنظر : اشراقة الشرعة لأسامة بن توفيق القصاص, أصول البدع والسنن لمصطفى العدوي.
(1/14)
2- إذا وجد المقتضى ووجد مانع في حياة النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) ثم زال المانع بعد وفاته ( - صلى الله عليه وسلم - ) ففعل ذلك لا يعد بدعة. مثل صلاة التراويح جماعة.
3- إذا لم يوجد المقتضى في حياة النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) ثم وجد بعد وفاته ففعل ذلك لا يعد بدعة وهو ما يسمى بالمصالح المرسلة. مثل جمع المصحف.
المسالة السابعة عشرة :
أيهما أكثر أجرا فعل المأمور أو ترك المحضور ؟
تكلم عن ذلك أبن تيمية رحمه الله في مجموع الفتاوى ( 20/85 – 158 ) وترجم لذلك قائلا :
قاعدة في أن جنس فعل المأمور أعظم من جنس ترك المنهي عنه.
وأن جنس ترك المأمور به أعظم من جنس فعل المنهي عنه. وأن مثوبة بني ادم على أداء الواجبات أعظم من مثوبتهم على اترك المحرمات. وأن عقوبتهم على ترك الواجبات أعظم من عقوبتهم على فعل المحرمات.
ثم ذكر أثنين وعشرين وجها لصحة هذه القائلة. مع التنبيه إلى إن كلامه على الجنس لا على كل الأفراد, ففقد يكون ترك بعض المنهيات أعظم أجرا من فعل بعض المأمورات. فترك الفاحشة مع قوة الداعي إليها أعظم من فعل بعض المأمورات.
وقد قال أبن رجب رحمه الله : وقوله ( - صلى الله عليه وسلم - ) ( إذا نهيتم عن شي فاجتنبوه وإذا أمرتم فأتو منه ما استطعتم ) قال بعض العلماء : هذا يؤخذ منه أ النهي أشد من الأمر, لأن النهي لم يرخص في ارتكاب شي منه, والأمر أي بحسب الاستطاعة. وروي هذا عن الأمام أحد رحمه الله. ويشبه هذه قوله بعضهم : أعمال البر يعملها البر و الفاجر, وأما المعاصي فلا يتركها إلا صديق ... والظاهر أن ما ورد من تفضيل ترك بعض المحرمات على فعل الطاعات إنما أريد به نوافل الطاعات, وإلا فجنس الأعمال الواجبات أفضل من ترك المحرمات 1.
تم بحمد الله تعالى
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- أنظر : جامع العلوم والحكم ( ص 90 ), ولأبن القيم كلام على هذا الموضوع تجده في كتابه الفوائد ( ص 119 ).
(1/15)