بسم الله الرحمن الرحيم
مُقدمة :
الحمد لله رب العالمين , والعاقبة للمتقين , والصلاة والسلام على إمام المرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
أما بعد .. فهذا شرح مختصر للقصيدة السنية والمنظومة البهية المشهورة بـ ( الحائية ) لناظمها الإمام المحقق والحافظ المتقن شيخ بغداد أبي داود سليمان بن الأشعث السجستاني ابن صاحب السنن الإمام المعروف رحمهما الله .
وهي منظومة شائعة الذكر , رفيعة الشأن , عذبة الألفاظ , سهلة الحفظ , لها مكانة عالية ومنزلة رفيعة عند أهل العلم في قديم الزمان وحديثه , تواتر نقلها عن ابن أبي داود رحمه الله فقد رواها عنه غير واحد من أهل العلك كالآجري , وابن بطة , وابن شاهين وغيرهم , وثلاثتهم من تلاميذ الناظم , وتنازلها غير واحد من أهل العلم بالشرح .
قال الذهبي رحمه الله منوهاً بهذه المنظومة مبيناً لأهميتها ( هذه القصيدة متواترة عن ناظمها رواها الآجري وصنف لها شرحاً , وأبو عبدالله ابن بطة في الإبانة (1) , ومِمن شرحها ابن البناء )(2) , وشروحاتهم لا أعلم لها وجوداً , وممن شرحها أيضا الإمام السفاريني وشرحه لها مطبوع في مجلدين بعنوان ( لوائح الأنوار السنية ولواقح الأفكار السُّنية شرح قصيدة ابن أبي داود الحائية في عقيدة أهل الآثار السلفية )(1/1)
وقد سميت هذا الشرح ( التحفة السنية شرح قصدية أبي داود الحائية ) وأصله دروس ألقيتها في مسجد الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة عام 1417هـ كتبه عني أحد طلاب العلم فيها وهو الأخ الفاضل يحيي بن علي بن يحيي , ثم قمت , بمراجعته والإضافة عليه وتنقيحه حسب الاستطاعة , وهو جهد المُقل وبضاعة الضعيف المقصر , فما كان فيه من حق وصواب فهو من الله وحده , وما كان من خطأ ونقص فهو بسبب ضعفي وقصوري وقلة علمي , ولا يفوتني هنا أن أشكر كل من قدم أي نوع من أنواع المساعدة والتعاون في سبيل إحراج هذا الكتاب سواء في صفه وتنضيده , أو مراجعته وتصحيحه , أو طباعته ونشره , وأسأل الله أن يجزي الجميع خير الجزاء , كما أسأله أن ينفع به ويتقبله بقبول حسن ويجعله لوجهه خالصاً ولعباده نافعاً إنه سميع مجيب وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه .
*ترجمة موجزة للناظم ابن أبي داود (3)
*اسمه ونسبه وكنيته : هو الإمام العلامة الحافظ شيخ بغداد , عبدالله بن الإمام أبي داود سليمان ابن الأشعث , أبوبكر السجستاني .
*ولادته : ولد الإمام أبوبكر بن أبي داود بسجستان في سنة ثلاثين ومائتين (230هـ )
*نشأته وطلبه للعلم : سافر به أبوه وهو صغيرٌ من سجستان يطوف به شرقاً وغرباً بخراسان وأصبهان وبغداد والكوفة ومكة والمدينة والشام ومصر وغيرها يسمع ويكتب , واستوطن بغداد وكان أول شيخٍ سمع منه محمد بن اسلم الطوسي , وسُر أبوه بذلك , لجلالة محمد بن اسلم .
وكان ذا همة عليه منذ صغره في التحصيل والطلب , ومن دلائل هذه الهمة قوله رحمه الله ( دخلت الكوفة ومعي درهم واحد , فأخذت به ثلاثين مد باقلا , فكنت آكل منه , وأكتب عن أبي سعيد الأشج , فما فرغ الباقلا حتى كتبت عنه ثلاثين ألف حديث ما بين مقطع ومرسل )(4)(1/2)
وكان حافظا متقنا قال رحمه الله ( حدثت من حفظي في أصبهان بستة وثلاثين ألف حديث , ألزموني فيها سبعة أحاديث فلما انصرفت وجدت في كتابي خمسة منها على ما كتبت حدثتهم به )(5)
ويقول تلميذه أبو حفص ابن شاهين مبيناً قوة حفظه ( أملى علينا بن أبي داود سنتين وما رأيت بيده كتاباً , إنما كان يملي حفظاً فكان يقعد على المنبر بعدما كبر ويقعد دونه بدرجة ابنه أبو معمر بيده كتاب فيقول حديث كذا فيسرده من حفظه حتى يأتي على المجلس )
*بعض شيوخه : روى عن أبيه , وأحمد بن صالح , ومحمد بن بشار , وعمرو بن عثمان الحمصي , وإسحاق الكوسج , وعمرو بن علي الفلاس , ومحمد بن يحيي الذهلي .
*بعض تلاميذه : حدث عنه خلق كثيرون منهم ابن حبان صاحب الصحيح , وأبوالحسن الدارقطني , وأبوحفص بن شاهين و أبومحمد أحمد الحاكم , وابن بطة , ومحمد بن عم زنبور الوراق , وأبومسلم محمد بن أحمد الكاتب , ونصف بن علي الوزير , وأبوالقاسم بن حبابة .
*مكانته العلمية وثناء العلماء عليه : قال الحافظ أبومحمد الخلال ( كان ابن أبي داود إمام أهل العراق ومن نصب له السلطان المنبر , وقد كان في وقته بالعراق أسند منه , ولم يبلغوا في الآلة والإتقان ما بلغ هو )
وقال الخطيب البغدادي ( كان فقيهاً عالماً حافظاً )(6)
وقال ابن خلكان ( كان أبوبكر ابن لأبي داود من أكابر الحفاظ ببغداد , عالماً متفقهاً عليه إماما )
وقال الذهبي ( وكان من بحور العلم بحيث إن بعضهم فضله على أبيه )
وقال أيضا ( كان أبوبكر من الحافظ المبرزين ما هو بدون أبيه , صنف التصانيف وانتهت إليه رئاسة الحنابة ببغداد )
وقال أيضا ( والرجل من كبار علماء المسلمين ومن أوثق الحفاظ )
*عقيدته : كان رحمه على عقيدة السلف أصحاب الحديث , وليس أدل على ذلك من منظومته الحائية هذه , فإنه قرر فيها - على وجازتها - مجمل الاعتقاد على طريقة أهل السنة والجماعة .(1/3)
وقد ثبت عنه أنه قال عقب هذه المنظومة ( هذا قولي , وقول أبي , وقل شيوخنا , وقل العلماء ممن لم نرهم كما بلغنا عنهم , فمن قال علي غير ذلك فقد كذب )
وهي منظومة عظيمة في تقرير المعتقد الحق الذي كان عليه أهل السنة والجماعة تدل على مكانة ناظمها وسعة باعه , وحسن معتقده وطيب نصحه .
وعلى كلٍّ فإمامة ناظمها ومكانته معروفة بين أهل العلم , فهو من أئمة السلف , وأوعية السنة , وحافظ الحديث , ودعاة الحق والهدى , متفقٌ على إمامته وفضله رحمه الله وغفر له ولجميع أئمة المسلمين .
*مؤلفاته : وصفه الذهبي بأنه صاحب التصانيف , فمن جملة تلك التصانيف : السنن , والبعث , والمصاحف , وشرعة المقارئ , والناسخ والمنسوخ .
*وفاته : توفي رحمه الله ببغداد في شهر ذي الحجة سنة ست عشرة وثلاثمائة 316هـ , عن سبعة وثمانين عاماً , وقيل صلى عليه زهاء ثلاثمائة ألف إنسان وأكثر , وخلف ثلاثة بنين : عبدالأعلى , ومحمداً وأبا معمر عبيد الله , خمس بنات .
المنظومة :
1- تمسك بحبلِ الله وأتبعِ الهُدى * * * ولا تكُ بدعيا لعلك تُفلحُ
2- ودنْ بكتابِ الله والسننِ التي *** أتت عنْ رسول الله تنجو وتربحُ
3- وقل غيرُ مخلوقٍ كلام مليكنا *** بذلك دان الأتقياء , وأفصحوا
4- ولا تكُ في القرآن بالوقف قائلاً *** كما قال أتْباعٌ لجمٍ وأسححُوا
5- ولا تقل القرآن حلْقٌ قرأْتُهُ **** فإن كلام اللهِ باللفظ يُوضحُ
6- وقل يتجلى الله للخلقِ جهرةً *** كما البدر لا يخفى وربك أوضحُ
7- وليس بمولدٍ وليس بوالدٍ **** وليس له شِبْهٌ تعالى المُسبحُ
8- وقد يُنكِر الجهمي هذا عندنا *** بمصداقِ ما قلنا حديثٌ مصرحُ
9- رواه جريرٌ عم مقالِ مُحمدٍ --- فقلُ مِثل ما قد قال ذاك تنْجحُ
10- وقد ينكرُ الجهمي أيضاً يمينهُ --- وكِلتا يديه بالفواضلِ تنْفحُ
11- وقل ينزلُ الجبارُ في كلِّ ليلةٍ --- بر كيفَ جلَّ الواحدُ المُتمَدحُ(1/4)
12- إلى طبقِ الدنيا يمُنُّ بفضلهِ --- فتفرجُ أبواب السماءِ وتُفتحُ
13- يقولُ أَلا مُستغفرٌ يَلقَ غافراً --- ومُستمنحٌ خيراً ورِزْقاً فُمنحُ
14- روى ذاك قومٌ لا يردُّ حديثُهم -- ألا خابَ قومٌ كذبوهم وقُبِّحوا
15- وقل: إنَّ خير النَّاسِ بعد محمَّدٍ -- وزيراهُ قدَماً ثم عثمانُ الارجَحُ
16- ورابعهُمْ خيرُ البريَّة بعدهُم --- عليٌّ حليفُ الخيرِ بالخيرِ مُنْجِحُ
17- وإنَّهم للرَّهطُ لا ريبَ فيهمُ -- على نُجبِ الفردوسِ بالنُّور تَسرحُ
18- سعيدٌ وسعدٌ وابن عوفٍ وطلحةُ --- وعامرُ فهرٍ والزبيرُ الممدَّح
19- وقل خيرض قولٍ في الصحابة كلِّهم - ولا تك طعَّاناً تعيبُ وتجرحُ
20- فقد نطقَ الوحيُ المبينث بفضلِهم-- وفي الفتح آيٌ للصَّحابةِ تمدحُ
21- وبالقدرِ المقدورِ أيقِن فإنَّه -- - دعامةُ عقدِ الدِّين ، والدِّينُ أفيحُ
22- ولا تُنكِرَنْ جهلاً نكيراً ومُنكراً - ولا الحوْضَ والِميزانَ انك تُنصحُ
23- وقُلْ يُخرجُ اللهُ الْعظيمُ بِفَضلِهِ - مِنَ النارِ أجْساداً مِنَ الفَحْمِ تُطرحُ
24- عَلى النهرِ في الفِرْدوسِ تَحْيَا بِمَائِهِ -كَحِبِّ حَمِيلِ السَّيْلِ إذْ جَاءَ يَطْفَحُ
25- وإن رَسُولَ اللهِ للخَلْقِ شَافِعٌ --- وقُلْ في عَذابِ القَبْرِ حَقّ موَُضحُ
26- ولاَ تُكْفِرنْ أَهلَ الصلاةِ وإِنْ عَصَوْا -فَكُلهُمُ يَعْصِي وذُو العَرشِ يَصفَحُ
27- ولَا تَعتقِدْ رأيَ الْخَوَارجِ إِنهُ --- مقَالٌ لَمنْ يَهواهُ يُردي ويَفْضَحُ
28- ولا تكُ مُرْجيًّا لَعُوبا بدينهِ --- ألاَ إِنمَا المُرْجِي بِالدينِ يَمْزحُ
29- وقلْ : إنمَا الإِيمانُ : قولٌ ونِيةٌ--- وفعلٌ عَلَى قولِ النبِي مُصَرحُ
30- ويَنْقُصُ طوراً بالمَعَاصِي وتَارةً --- بِطَاعَتِهِ يَمْنَي وفي الوَزْنِ يَرْجَحُ
31- ودعْ عَنْكَ آراءَ الرجالِ وقَوْلَهُمْ - فقولُ رسولِ اللهِ أزكَى وأَشْرحُ(1/5)
32- ولا تَكُ مِن قوْمٍ تلهوْا بدينِهِمْ --- فَتَطْعَنَ في أهلِ الحَديثِ وتقدحُ
33- إِذَا مَا اعْتقدْت الدهْرَ يا صَاحِ هذهِ -فأَنْت عَلَى خَيْرٍ تبيتُ وتُصْبِحُ
ـــــــــ
1-العلو 2/1223
2-ذكر ذلك ابن رجب في ذيل طبقات الحنابلة 1/35
3- يراجع في ترجمته سير أعلام النبلاء 13/221 وما بعدها
4-تاريخ بغداد 9/466-467
5-تايرخ بغداد 9/466
6-تاريخ بغداد 9/464
1- تمسك بحبلِ الله وأتبعِ الهُدى ولا تكُ بدعيا لعلك تُفلحُ
بدأ الناظم منظومتَه في الاعتقاد بهذين البيتين العظيمين , وهذان البيتان فيهما الدعوة إلى الاعتصام بالكتاب والسنة والتحذير من البدع , وقد بدأ بهما قبل بيان الاعتقاد ومسائله على طريقة أهل السنة في كتب الاعتقاد وقد جرت عادتهم في الغالب على البدء بهذا الأمر , وهذا منهم تحديدٌ لمصدر التلقي في أصول الدين وفروعه ليكون بناء المعتقد وقيامه على أسس سليمة وأصول صحيحة قويمة , وعندما يُحدد العبد مصدره في التلقي , ويكون مصدره من المنبع الأساس وهو الكتاب والسنة , فإنه يرى ما سواه من المنابع مدراً , فلا يأخذ منها شيئاً ولا يجعلها مصدراً له في دينه وعقيدته , وإنما يتلقى من المنبع الصافي والمعين النقي الذي لا شائبة فيه ولا كدر , فيسلم له بذلك معتقده ويصح إيمانه .
وأهل السنة مصدرهم في التلقي هو : الكتاب والسنة , بهما يأخذون , وعنهما يتلقون , وعليهما يُعولون , لا يحيدون عنهما قيد اُنملةٍ بل هم كما قال الأوزاعي ( ندور مع الكتاب والسنة حيث دارا ) لا يُحدثون شيئاً من قِبل أنفسهم .
يقول شيخ الإسلام رحمه الله ( ليس الاعتقاد لي ولا لمن هم أكبر مني , الاعتقاد لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم ) .
فمن الله الرسالة وعلى الرسول البلاغ وعلينا التصديق والتسليم .(1/6)
ولذا نجد كتب أهل السنة تبدأ بتحديد المصدر قبل بسط الاعتقاد , وهذا نستفيده مما كان يداوم عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبة الجمعة , فكان دائما يقول في مقدمتها ( أما بعد فإن أصدق الحديث كتاب الله , وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها ... )(1) الحديث . وتكراره صلى الله عليه وسلم لذلك كل جمعة فيه تأكيد على أهمية العناية بهذا المصدر وضرورة رعايته والمحافظة عليه .
قوله : ( تسمك ) التمسك في اللغة الأخذ بالشيء والاعتصام به , وهذا مأخوذ من قوله تعالى ( وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ )( آل عمران 103)
وقوله تعالى ( وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ )( الأعراف 170)
( حبل الله ) للعلماء فيه أقوال وأكثرها عند المفسرين : القرآن كما ذكر ذلك ابن القيم رحمه الله , وهو مراد الناظم هنا , لأنه ذكر السنة بعده , والناظم رحمه الله بقوله ( تمسك بحبل الله ) يخاطب السُّنِّيَّ ويقول له : ليكن مرجعك دائماً وأبداً كتاب الله , ومع تسمك به .
( اتبع الهدى ) أي : السنة .
والهدى في الكتاب والسنة يطلق على أمرين :
1- التوفيق والإلهام
2- الدلالة والبيان والإرشاد
ومن خلال السياق يمكن معرفة المراد . فقوله تعالى ( إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ )( القصص56)
وقوله تعالى ( لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ )( البقرة272)(1/7)
وقوله تعالى ( مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ )( الأعراف178)
وقوله تعالى ( اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ )( الفاتحة6 )
كل هذه الآيات في هداية التوفيق , وليست لأحد غير الله تعالى وكان النبي صلى الله عليه وسلم يستهدي ربه فيقول في دعائه ( اللهم إني أسألك الهدى والسداد) (2)
فالذي يشرح الصدر ويوفق ويهدي هو الله ولذلك قال سبحانه مخاطباً نبيه صلى الله عليه وسلم ( إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ )( القصص56)
والأخرى هداية الدلالة والبيان .
قال تعالى ( وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ )( فصلت17 )
ولو كان من باب هداية التوفيق لما استحبوا العمى على الهدى .
وقال تعالى ( وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ )( البلد10 )
وهذه الهداية تكون كذلك للأنبياء والصالحين والعلماء ومن ذلك قوله تعالى في حق رسوله صلى الله عليه وسلم ( ..وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ) ( الشورى52 )
وقوله تعالى ( وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ ) ( السجدة24 )
( اتبع الهدى ) أي ألزم طريق الهدى والرشاد الذي بينه ودل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو خير هديٍ وأكلمه وفي الحديث يقول النبي صلى الله عليه وسلم ( وخير الهدي هدي محمد )(3) وفي رواية ( وخير الهدي ) الهُدي : الدلالة والإرشاد , والهدي : الطريق , وهديه صلى الله عليه وسلم ما بينه للناس ودلهم عليه مما أوحى إليه ربه , فهو لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى , وهديه صلى الله عليه وسلم خير زاد ليوم المعاد , والوقوف بين يدي رب العباد .(1/8)
وفي حثه رحمه الله على التمسك بالسنة إبطال لقول الطائفة الضالة يتسمون بـ ( القرآنين ) الذين يقولون : نحن لا نأخذ إلا بالقرآن , ومن كان كذلك فهو ليس بآخذٍ حتى بالقرآن , لأن الله قد أمر في كتابه في آيات عديدة بالأخذ بالسنة والتسمك بها, ولذا لا يكون العبد متمسكاً بالقرآن إلا إذا أخذ بالسنة , فلا بد من الأخذ بالأمرين معاً .
قال تعالى آمراً أمهات المؤمنين ( وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا )( الأحزاب34 )
وقال سبحانه ( وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا )
( الحشر7 ) .
الشطر الأول من البيت وهو قوله ( تمسك بحبل الله وأتبع الهدى ) فيه تحديدٌ للمصدر في التلقي , ولما حدده حذر من مخالفته فقال ( ولا تك بدعياً ).
وهو بهذا السياق يشير إلى أصل مهم وهو : أن من تخلى عن حبل الله وتخلى عن السنة فهو آخذ بسبيل بدعة وضلالة , ولذا عرف بعض أهل العلم البدعة :
فالناظم رحمه الله يقول : ولا تك بدعياً بترك الكتاب والسنة , وهو بهذا يشير إلى الهُوة العميقة التي سقط فيها المبتدعة جميعاً , وهي تركهم للكتاب والسنة , وإلا كانوا أهل سنة وجماعة , ولما كانوا أهل أهواء وبدع .
فالبدعي هو : من ترك الكتاب والسنة ولم يتلق عنهما , ولم يأخذ دينه منهما .
ومن نَظَر إلى عامة أهل البدع وجد أن منشأ ضلالهم هو عدم التمسك بالكتاب والسنة إما بالاعتماد على العقول والآراء , أو المنامات , أو الحكايات , أو غير ذلك مما جعله أهل الأهواء مصدراً لهم في الاستدلال .
وقوله ( لعلك تفلح ) هذه نتيجة التمسك بالكتاب والسنة , واجتناب البدع .(1/9)
والفلاح كلمة جامعة لخيري الدنيا والآخرة , وقد قيل لا كلمة في اللغة أجمع للخيرات من كلمة الفلاح , والفلاح لا يكون إلا بالتمسك بالكتب والسنة والإبتعاد عن البدع , ومن لم يتمسك بالكتاب والسنة , وذهب إلى شيء من تلك المصادر لم يفلح , ولهذا جاء عن الإمام أحمد رحمه الله أنه قال ( ما ارتدى أحد بالكلام فأفلح ) وعندما ناظر الشافعي بِشراً فتغلب عليه وخرج بشرٌ قال الشافعي ( لا يفلح ) .
وهذا المعنى دل عليه القرآن الكريم كما في أول سورة البقرة في قلوه تعالى ( الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) ( البقرة1-5 )
و ( لعل ) عند الناظم هنا ليست للترجي , لأن من اعتصم بالكتاب والسنة ففلاحه متحقق , إلا إن قُصِد فعلُ العبد بتحقيقه لهذا المقام وتتميمه لهذا الاعتصام
ــــــــــــ
1- اخرجه مسلم برقم 867 من حديث جابر بن عبدالله رضي الله عنه
2- أخرجه مسلم برقم 2725 من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه
3-اخرجه مسلم برقم 867 من حديث جابر بن عبدالله رضي الله عنه
2- ودنْ بكتابِ الله والسننِ التي** أتت عنْ رسول الله تنجو وتربحُ
( دن ) فعل أمر من الفعل دان يدين ديناً
والمعنى : أقم دينك على الكتاب والسنة وآمن وأطع وامتثل ما جاء فيهما , بتصديق الأخبار وفعل الأوامر وترك النواهي .(1/10)
وقوله ( والسنن التي أتت عن رسول الله ) السُّنن : جمع سنة , والمراد الأحاديث المروية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الثابتة عنه , فقوله ( أتت عن رسول الله ) هذا تقييد وإرشاد إلى أن السنن لا بد أن تصحح حتى يؤخذ بها وتكون مقبولة , فإن صحت سواء بطريق التواتر أو الآحاد فهي حجة وعمدة في أمور الدين كلها العقيدةِ وغيرها .
قوله : ( تنجو ) لم يذكر من أي شيء , ليعم النجاة من كل شر وبلاء في الدنيا والآخرة , وقوله ( وتربح ) هذا زيادة على النجاة , فالنجاة رأس المال وفوقه أرباح متعددة بسحب قوة اعتصام المرء بالكتاب والسنة أرباح دنيوية وأرباح أخروية .
قال الله تعالى ( قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ )( البقرة38 )
وقال تعالى ( ...فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى ) ( طه123 )
جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال في معنى هذه الآية ( تكفل الله لمن قرأ القرآن وعمل بما فيه أن لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة )
3- وقل غيرُ مخلوقٍ كلام مليكنا *** بذلك دان الأتقياء , وأفصحوا
لعل الناظم بهذه الصفة قبل غيرها من الصفات , لمناسبة السياق , وذلك أنه بدأ في البيتين الأولين بذكر التمسك بالكتاب والسنة , فلما ذكر وجوب التسمك بالقرآن , بدأ بذكر أبيات فيها ذكر عقيدة أهل السنة والجماعة في القرآن والرد على الذين خالفوا الحق وباينوه وجانبوا معتقد أهل السنة فيه , فهذه الأبيات فيهابيانٌ موجز لمعتقد أهل السنة في هذه المسألة , وردٌّ على أصناف من أهل البدع , وهم طوائف عديدة , أشار المصنف إلى بعضهم فبدأ رحمه الله بالكلام في هذه المسألى بقوله ( وقل غيرُ مخلوقٍ كلام مليكنا )(1/11)
( قْل ) الخطاب لصاحب السنة المتمسك بالكتاب والسنة , أي : قل معتقداً مؤمناً بهذا الأمر غير شاك فيه ولا متردد ,, لأن القول إذا أُطلق فإنه يشمل قول القلب واللسان , ومن ذلك قوله تعالى ( قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ ... )( البقرة136 ) أي : قولوا ذلك بقلوبكم إيماناً واعتقاداً وبألسنتكم نطقاً وتلفظا .
( غير مخلوق كلام مليكنا ) وهذا فيه إثبات أمرين يتعلقان بصفة الكلام :
الأمر الأول : أن الكلام صفة الله , فالقرآن كلام الله وليس كلام أحد من المخلوقين , وإضافته إلأى الله من باب إضافة الصفة إلى الموصوف , بخلاف المعتزلة الذين قالوا هو من باب إضافة المخلوق إلى الخالق .
والمضافات إلى الله تعالى على نوعين : مضاف إلى الله من باب إضافة الصفة إلى الموصوف مثل سمع الله وبصر الله وقدرة الله وكلام الله وعلم الله , وضابطه ما إذا كان المضاف وصفاً لا يقوم إلا بموصوف , ومضاف إلى الله من باب إضافة المخلوق إلى الخالق مثل عبدالله وأمة الله وناقة الله وبيت الله , وضباطه ما إإذا كان المضاف عيناً قائما بنفسه .
وهكذا الشأن فيما يقال فيه ( من الله ) فقد يكون منه وصفاً , وقد يكون منه خلقاً . فقوله تعالى ( ... وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ )( السجدة13 ) . القول وصفللرب سبحانه ونعت من نعوته .
وقوله ( وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ ... )( الجاثية13 ) مافي السماوات ومافي الأرض جميعاً هو من الله خقلاً وإيجاداً .
وفي هذا الباب ضل طائفتان : المعتزلة حيث جعلوا الجميع إضافته إلى الله إضافة خلق وغيجاد , ليصلوا إلى مبتغاهم وهو القول بأن كلام الله مخلوق , وغلاة الصوفية حيث جعلوا الجميع إضافته إلى الله إضافة وصف , ليصلوا إلى متغاهم وهو القول بالحلول ووحدة الوجود تعالى الله عما يصفون .(1/12)
والحق وسط بين ذلك , والحاصل أن إضافة الكلام إلى الله عزوجل من باب إضافة الصفة إلى الموصوف .
وعندما يقال كلام مليكنا يتضمن الأصل في الصفات , وهو ا، ما يضاف إلى الله من الصفات يثبت له على وجه يليق به , وهذا تضمنه قوله ( كلام مليكنا ) أي هي صفة لله تليق به لا تشبه صفات المخلوقين , فهو سبحانه له الكمال في ذاته وصفاته . ولذا قال بعض السلف ( إذا أردت أن تتعرف الفرق بين كلام الله وكلام المخلوقين فهو كالفرق بين الخالق والمخلوق )
والقاعدة عند أهل العلم : أن الإضافة تقتضي التخصيص , فعندما يضاف الكلام إلى الله فإنه يخصه ويليق بجلاله وكماله , وعندما يضاف الكلام إلى المخلوق فيخصه ويليق بعجزه ونقصه , ولا يلزم من اتفاق الشيئين في الاسم أن يتفقا في الحقيقة والمسمة . هذا بين المخلوق والمخلوق , فيكف بين المخلوق والخالق .
الأمر الثاني : قوله ( غير مخلوق ) وهذا فيه رد وإبطال لقول من قال إن كلام الله مخلوق من المخلوقات التي أوجدها الله بقدرته , فالناظم بين بطلان هذا المعتقد بقوله ( غير مخلوق ) والقول بخلق القرآن هو معتقد الجهمية والمعتزلة وغيرهم .
والجهمية يصرحون بهذه ويقولون : القرآن مخلوق والكلام مخلوق ولا يقولون هو كلام الله , ولهذا حاول شيخهم تحريف قوله تعالى ( ...وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا) ( النساء164 ) إلى نصب لفظ الجلالة فراراً من إضافة الكلام إلى الله .
وأما المعتزلة فيضيفون الكلام إلى الله ولكنهم يجعلونه من باب إضافة المخلوق إلى الخالق.
والاشاعرة والكلابية أيضا يقولون بخلق القرآن , ولكن لا يصرحون بذلك , ويقولون : الكلام نوعان كلام نفسي ليس بحرف ولا صوت وهذا يضيفونه إلى الله , أم الكلام اللفظي الذي يشتمل على الحرق والصوت والذي هو القرآن افهو مخلوق , وهو عبارة أو حكاية عن كلام الله وليس كلام الله بل هو مخلوقٌ من جملة سائر المخلوقات , وبذلك يلتقون مع الجهمية .(1/13)
فالمصنف بقوله ( غير مخلوق ) أبطل جميع هذه المقالات .
فالقرآن كلام الله حقيقة وهو بحرف وصت سمعه جبريل من الله عزوجل وألفاظه ومعانيه كلام الله , ليس كلام الله ألفاظه دون معانيه , ولا معانيه دون ألفاظه .
وقوله ( مليكنا ) فيه إثبات صفة الملك لله . فالله مالك الملك , والملك كله لله .
قال الله تعالة ( قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) ( آل عمران26 ) .
والمخلوق إذا ملك شيئاً فإنما هو بتمليك الله له , فالله مالك الدنيا والآخرة , والملك من معاني الربوبية , لأن الربوبية لها معانٍ منها : االسيد والمطاع والملك .
قوله رحمه الله ( بذلك ) الأشارة هنا إلى ما تقدم في الشطر الأول من بيان المعتقد الحق في كلام الله .
( دان الأتقياء ) أي : آنوا واعتقدوا ذلك , والأتقياء : دانوا بأن القرآن كلام الله غيرُ مخلوق , فهذا معتقدهم الذي لا يحيدون عنه , والنقول عنهم في ذلك كثيرة , فاللالكائي رحمه الله عقد فصلاً في ( شرح الاعتقاد ) في بيان أن كلام الله غير مخلوق وسكى أكثر من خمسمائة نفس من هؤلاء , وبعضهم يروي عنه بالإسناد , كلهم يقرر أن القرآن كلام الله غير مخلوق ومن قال إنه مخلوق فهو كافرٌ والنقول عنهم في هذا المعني كثيرة جدا .
وفي هذا يقول ابن القيم رحمه الله :
ولقد تقلد كفرهم خمسون في عشر من العلماء في البلدان
واللالكائي الإمام حكاه عنهم بل قد حكاه قبله الطبراني(1/14)
قوله ( الأتقياء ) اختيار هذه الصفة لأهل السنة في غاية الجودة والدقة , فالتقوى : هي الوقاية بأن يجعل بينه وبين ما يخشاه وقاية تقييه , فتقوى الله عزوجل أن يجعل بينه وبين ما يخشاه من غضب الله وسخطه وقاية تقيه بفعل الأوامر وترك النواهي , ولهذا أفضل ما فسرت به التقوى قول طلق بن حبيب رحمه الله: { التقوى أن تعمل بطاعة الله على نور من الله ترجوا ثواب الله , وأن تترك معصية الله على نور من الله تخاف عقاب الله }
قال ابن القيم رحمه الله ( وهذا من أحسن ما عرفت به التقوى )
وقال الذهبي في ترجمته ( وقد أحسن وأجاد )
وكذلك شيخ الإسلام أشاد بهذا التعريف , وكذا ان رجب .
فهؤلاء الأعلام - أعني أئمة أهل السنة - اتقوا الله بلزوم السنن والطاعات وبترك النواهي والمحدثات , وأعظم ما تركوه وابتعدوا عنه الكفر والبدع والمحدثات والتي منها القول بخلق القرآن وإضافةً إلى ما فيه من كفر وضلال فقد ترتب عليه من المفاسد والأخطار عند من قال به شيء كثيراً ولذلك ترتب على قول الجهمية امتهان لكلام الله , وعدم مبالاة به , لأنه بزعمهم مخلوق من المخلوقات .
( وأفصحوا ) أي : إضافة إلى أنهم دانوا بذلك واعتقدوه بقلوبهم فقد أفصحوا به وصرحوا به وأبانوه وقرروه في المجالس ووضحوه , وانتصورا له , ولا سيما عندما يعلن أهل الباطل باطلهم ويصرحون بضلالهم .
ولهذا يُنقل عن أبي إسحاق الإسفراييني أنه كان كل جمعة يقف ويقول ( القرآن كلام الله غير مخلوق خرقاً لقول الباقلاني , وذلك حتى لا يظن من يأتي بعدنا أننا علة معتقده ) , وذلك لأنه كان في عصره , نقل ذلك عنه شيخ الإسلام ( شرح العقيدة الأصفهانية )
وهذا أي الإفصاح قد مضى عليه أهل السنة في تآليفهم , فما تجد كتاباً مؤلفاً في الاعتقاد إلا وفيه التصريح بذلك والإفصاح به , بل أفردوا في ذلك كتباً ومصنفات .
4 - ولا تكُ في القرآن بالوقف قائلاً*** كما قال أتْباعٌ لجمٍ وأسححُوا(1/15)
بعد أن أنهى الناظم الكلام علىالمسألة الأولى بدأ يرد على طائفة من طوائف الجهمية , وهو الواقفة .
معلوم أن مذهب أهل السنة هو أنهم يفصحون ويصرحون بأن القرآن كلام غير مخلوق , ومذهب الجهمية يصرحون فيه بضد ذلك , وهو أن القرآن مخلوق , ونشأ على إثر عقيدة الجهمية هذه بدعة الواقفة , فنشؤوا متأثرين ببدعة الجهمية الذين قالوا القرآن مخلوق , وبدؤوا ينشرون ذلك بين الناس , وأخذوا يثيرون الشبه , وأهل السنة يردون عليهم , ففي هذه الأجواء نشأ الوافقة الذين تأثروا بالجهمية - وهو قوم شكاك - فقالوا القرآن كلام الله ولا يقال مخلوق ولا غير مخلوق , وإنما قالوا ذلك لتأثرهم ببدعة الجهمية ودخولها في نفوسهم , ولذلك لم يستطيعوا الإفصاح بالمعتقد الحق وهو أن القرآن غير مخلوق , ولذا قال الإمام ( الواقفة جهمية ) والناظم أيضا يقول ذلك فقد وصفهم بأنهم ( اتباع الجهمية ) وبعض أهل العلم قال ( هم شر من الجهمية ) , ووجه : أن معتقد الجهمية مصرح فيه بالباطل , وهو وهو أن القرآن مخلوق , فنقده وبيان فساده للناس بالحجج والبراهين سهل , ولكن لما يأتي الواقفة ويقررون مذهبهم على أنه من باب الورع ويقفون في هذه الصفة , فهذا أخطر ما يكون على العوام , فيظنون أن في قولهم شيئاً من الوسطية والاعتدال , والواجب الإفصاح بالمعتقد الحق الذي دل عليه الكتاب والسنة . وعدم الإيمان به أو التوقف والتردد كله زيغٌ وضلال , والله يقول ( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا ... )(الحجرات15) والتوقف عن الإيمان بالحق نوعٌ من الشك والريْب .(1/16)
( جهم ) هو ابن صفوان , رأس من رؤوس الجهمية , وقد ذكر أهل العلم منشأ هذا التعطيل : أن الجهم أخذه عن الجعد بن درهم عن ابان بن سمعان عن طالوت ابن أهت لبيد عن لبيد بن الأعصم اليهودي وهو أخذ ذلك عن يهود اليمن , هذه سلسلة هذا الضلال متصلةٌ باليهود , ومن هذا يعلم أن أساس التعطيل هم اليهود كما أنهم هم أساس الرافضة .
( أسجحوا ) أسجح بالشيء أي لانت به نفسه , فأتباع جهم لانت نفوسهم ومالت قلوبهم إلى هذا المعتقد , وفي نسخة ( أسمحوا ) وهو بمعناه أي : سمحت نفوسهم باعتقاد هذا القول وتقريره رغم فساده وبطلانه .
5- ولا تقل القرآن حلْقٌ قرأْتُهُ --- فإن كلام اللهِ باللفظ يُوضحُ
ثم قال ( ولا تقل القرآن خلق قرأته ... ) أي لا تقل قراءتي بالقرآن مخلوقة , وهذا فيه الرد على بدعة أخرى غير بدعة الواقفة , ألا وهي بدعة اللفظية الذين يقولون لفظي بالقرآن مخلوق , أو تلاوتي بالقرآن مخلوقة أو قراءتي بالقرآن مخلوقة .
ومنشأ هذه البدعة هي بدعة الجهمية نفسها , وشبهتهم هي شبهة الجهمية , لأن اللفظ والتلاوة والقرءة كلها مصادر تحتمل أحد أمرين : تحتمل الملفوظ والمتلو والمقروء وهو كلام الله وهذا غير مخلوق , وتحتمل حركة اللسان والشافه والحنجرة وصوت الإنسان وهي مخلوقة , فعندما يقال ( لفظي بالقرآن مخلوق ) يحتمل أحد هذين .
فاللفظية هم - كما قرر أهل العلم - جهمية , وإنشاؤهم لهذه البدعة إنما كان لتقرير مذهب الجهم من طريق آخر وشبهة أخرى , للتلبيس على الناس , فهو عندما يقول ( لفظي بالقرآن مخلوق ) إلى قول الجهمية القائلين بخلق القرآن , ولذا قال الإمام أحمد رحمه الله وغيره ( اللفظية جهمية ) . أي : من قال اللفظ بالقرآن مخلوق فهو قائل بقول الجهم .(1/17)
قال الإمام أحمد رحمه الله ( من قال لفظي بالقرآن مخلوق فهو جهمي , ومن قال غير مخلوق فهو مبتدع ) لأن قوله ( لفظي بالقرآن مخلوق ) يحتمل أمرين أحدهما مخلوق وهو حركة اللسان والآخر غير مخلوق وهو كلام الله , وباطل أن يقال إن كلامه سبحانه مخلوقٌ .
وعندما يقول ( لفظي بالقرآن غير مخلوق ) يحتمل أمرين أحدهما حركة اللسان وباطل أن يُقال هذا غير مخلوق , والآخر المتلو المقروء وهذا غير مخلوق , ولذا كان الصواب التفصيل , فإن قصد به الملفوظ فهو كلام الله غير مخلوق , وإن أراد حركة اللسان والحنجرة وصوت العبد فهو مخلوق , فالصوت صوت القاري والكلام كلام الباري , الكلام إنما يضاف إلى من قال ابتداءً لا إلى من قال إبلاغاً وأداءً , ولذا قال الإمام أحمد ( القرآن كلام الله حيثما توجه ) أي سواءً حُفظ في الصدور , أو كُتب في السطور , أو تُلي بالألسن , أو سُمع بالآذان .
والعلة في نهي الناظم عن قول اللفظية هي المُبَينة في قوله ( فإن كلام الله باللفظ يوضح ) وهذا معنى قول أهل السنة والجماعة ( القرآن كلام الله ألفاظه ومعانيه ليس كلام الله دون المعنى ولا المعنى دون اللفظ , واللفظ به يُوضِّح المعنى , ويُبين المراد , ويجلي المقصود ) .
6- وقل يتجلى الله للخلقِ جهرةً -- كما البدر لا يخفى وربك أوضحُ
الرؤية حق دل عليها الكتاب والسنة المتوارتة , وأجمع عليها المسلمون , ولا ينكر الرؤية إلا الجهمية الضُّلال ومَنْ تأثر بهم , وقد قال بعض السلف مثل الشافعي رحمه الله ( من أنكر رؤية الله حري أن يحرم منها )
( وقل ) الخطاب مُوجه لصلحب السنة ومن يريد اتباع سنة النبي صلى الله عليه وسلم ولزوم أمره واقتفاء أثره , وأما صاحب الهوى والآراء والمنطق وغير ذلك فإنه لا يقيم للسنة وزناً ولا يرفع بها رأساً ولا يعبأ بها .(1/18)
ثل يا صاحب السنة غير متردد ولا شاك ( يتجلى ) التجلي هو الظهور والبيان أي يظهر ( الله للخلق ) والمراد بالخلق المؤمنون , فهم الذين ينعم عليهم سبحانه يوم القيامة برؤيته ويكرمهم بالظنر إليه , بل إن رؤيتهم له سبحانه هي أجلُّ مقاصدهم وأعظم غاياتهم وأهدافهم , ومن دعائهم ( اللهم إنا نسألك لذة النظر إلى وجهك الكريم والشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة ) وهو من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم من حديث عمار بن ياسر رضي الله عنه .
أما الكفار فلا يرونه , كما في قوله تعالى ( كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ ) ( المطففين15 ) ولئن كان حجبُ الكفار عن رؤية الرب العظيم نوعاً من العقوبة , فإن تمكين المؤمنين منها أجلُّ هبة وأعظم عطية.
( جهرة ) أي عياناً جهاراً ليس بينهم وبين الله ما يحجبهم ( كما البدر لا يخفى ) البدر : هو القمر ليلة الرابع عشر عندما يمتلئ نوراً , وعندما لا يكون بيننا وبينه سحاي , فإن المؤمنين يرونه جميعاً ولا يحتاجون إلأى تضام وتزاحم لرؤيته ساأن الأشياء الدقيقة , وكذلك لا يتضارُّون في رؤيته فلا يحصل لأحد ضرر في رؤيته , وكل ذلك يؤكد أن الرؤية تكون حقيقة وبيسر وسهولة , فإن الشمس والقمر يراهما الناس بأبصارهم رؤية حقيقية دون عنت أو مشقة والنبي صلى الله عليه وسلم قال ( إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ... )(2) , والكاف للتشبيه هنا للرب بالقمر أو الشمس - تعالى الله عن ذلك - وإنما التشبيه هنا للرؤية بالرؤية , وليس للمرئي بالمرئي , أي كما أن رؤية القمر تكون للناس حقيقةً عياناً بأبصارهم , فكذلك رؤية الله تكون حقيقةً عياناً بأبصارهم .
( كما ) الكاف للتشبيه , و ( ما ) زائدة , أي كالبدر .(1/19)
( وربك أوضح ) القمر من مخلوقات الله ومع ذلك يراه الناس ليلة البدر عياناً بدون ضيم وضرر ونحو ذلك , فكيف بالرب الخالق تعالى ؟! فإنه أوضح من كل شيء سيراه المؤمنون بأبصارهم هياناً على الحقيقة .
قوله ( وربك ) أي : أيها المخاطًب بهذا النظم , وهو رب الخلائق أجمعين , رباهم بنعمه لا ربًّ لهم سواه ولا خالق لهم غيره .
وربوبيته لخلق نوعان :عامة و خاصة , فأما العامة بالخلق والرزق والإنعام والصحة ونحو ذلك من الأمور التي هي عام في المؤمن والكافر والبر والفاجر , وأما الخاصة فهي التربية على الإيمان والهداية للطاعة والتوفيق للعبادة وهذه مختصة للمؤمنين .
___________
1- أخرجه النسائي في سننه برقم 1305 , وصححه الألباني في صحيح سنن النسائي برقم 1304
2- أخرجه البخاري برقم 554 , ومسام برقم 633
7- وليس بمولدٍ وليس بوالدٍ --- وليس له شِبْهٌ تعالى المُسبحُ
هذا البيت ذكره الناظم بعد إثبات الرية لله , ليبين به أن إثباتها حقيقةً لا يستلزم تشبيه الله بالمولود أو بالولد , ولا يستلزم التشبيه , لأن أهل السنة يثبتون الصفات على وجه يليق بالله تعالى , والإضافة تقتضي إلى المخلوق , فعندما تضاف الصفة إلى الله فإنها تليق بكمال الله , وإذا أضيفت إلى المخلوق فإنها تليق بضعفه ونقصه.
ومن هنا يعلم أن مقالة التعطيل أساسها التثميل , فالمعطل بلغ درجة التعطيل لما مثل , فلم يفهم من الصفة التي أضيفت إلى الله إلا عين الصفة التي يعلمها من المخلوق , فكل معطل سائر تحت هذا الوهم الفاسد كما قال أحد هؤلاء يصف المتكلمين ( أناس مضوا تحت التوهم يظنون أن الحق معهم ولكن الحق وراءهم ) , هذا ذكره الهبي عن أبي حيان في التوحيدي , ثم قال ( وأنت حامل لوئهم ) .(1/20)
يقولون : لو أثبتنا الرؤية لله حقيقةً , لأثبتنا له الجسمية ولشبهناه بالمخلوق الحادث , لأن الرؤية لا تقع إلا على ذي جسم , وهذا قياس فاسد , حيث قاسوا الله بالمخلوق , ولهذا قال السلف ( ولا يقاس بخلقه ) , فالناظم جاء بهذا البيت ليزيل التوهم الذي قد يأتي , وهذا التوهم جاء بعد مقالة الجهمية , وأما قبلها فلا وهم , فإن الصحابة لم يخطر ببالهم شيء من ذلك .
أي مع أنه يُرى يوم القيامة حقيقةً بالأبصار .
( ليس بمولود وليس بوالد ) أي لم يتفرع عن غيره ولم يتفرع عنه غيره , وهذا مأخوذ من قوله تعالى ( لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ . وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ ) ( الإخلاص 3-4 )
( وليس له شبه ) أي : الله سبحانه وتعالى , والشبه هو المثيل والنظير , والله لا شبيه له ولا مثيل ولا نظير لا في أسمائه ولا في صفاته ولا في أفعاله .
قال الله تعالى ( ...لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ )( الشورى11 )
وقال تعالى ( ... هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا )( مريم65 )
وقال ( وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ )( الإخلاص4 )
وقال ( فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ )( البقرة22 )
ويؤخذ من هذا أن إثبات الصفات لا يقتضي التمثيل فإن التمثيل أمر آخر غير إثبات الصفات .
يقول الإمام أحمد رحمه الله ( المشبه يقول يدي كيدي وسمع كسمعي ... والله يقول ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ) , فالذي يثبت الصفات لله على الوجه الذي يليق به ليس بمشبهة , وإنما الشمبه الذي يشبه صفات الله بصفات خلقه , وأهل السنة مطبقون على ذم هؤلاء المشبهة , وأن مقالتهم كفر وضلال .
والمعطلة يرمون اهل السنة بالتشبيه , إما لأنهم لم يفهموا مقالتهم , لأو أنهم أصحاب أغراض سيئة وقصد فاسد .(1/21)
( تعالى ) أي عن الشبيه والنظير أي ارتفع قدره وجل شأنه وتعاظم أن يكون له شبيه أو نظير فهو ينزه الله عن ذلك . والتعالي من العول وهو الرفعة , وهو ثابت لله ذاتاً وقدراً وقهراً .
( المسبح ) أي المنزَّه , لأن التسبيح في اللغة التزيه , وهذا التسبيح عبادة مقربة لله ورد الأمر بها في مواطن كثيرة , بل جاء الترغيب والحث على الإكثار من الستبيح في الأوقات المختلفة , ورُتِّب على القيام به في الأجور العظيمة والثواب الجزيل وفي الحديث ( من قال حين يصبح سبحان الله وبجمده مائة مرة غفرت له ذنوبه ولو كانت مثل زبد البحر )(1) , وهو كلام الحبيب إلى الرحمن كما في الحديث ( كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن : سبحان الله بحمده , سبحان الله العظيم )(2) وفي الحديث ( أحب الكلام إلى الله : سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر )(3) .
وتسبيح الله يكون عما لا يليق به .
وأما المعطلة فيفهمون من التسبيح تنزيه الله عن الصفات , ولذا يقولون : سبحان الله المنزه عن الصفات , قال أحد أهل العلم ( فانظروا إلى تسبيح الجهمية كيف أدى بهم إلى التعطيل ) , فهذ التسبيح أدى بهم إلى هذا الزيغ والضلال .
ولا يجوز لمسلم أن يسبح الله عما جاءت به المرسلون , وإنما يجب تسبيح الله عما جاء به أعداء الرسل المخالوفن لهم , ولذن قال تعالى ( سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ ) أي : أعداء الرسل ( وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ )( الصافات180-181 ) نزه نفسه عما يصفه به أعداء الرسل لأنه يتضمن الشتبيه والتعطيل , وسلم على المرسلين , لسلامة ما قالوه في حق الله من النقص والعيب .(1/22)
ومن أسماء الله ( القدوس والسلام ) وهما من أسماء التنزيه فيُنزه الله عن أن يوصف بصفات نقص أو أن يوصف بالنقص , ويُنزه سبحانه عن أن يُشبه أحداً من خلقه أو يُشبه أحدٌ من خلقه , يُنزه سبحانه عن أن يوسف بما لا يليق به , أمَّا أوصافه سبحانه اللائقة بجلاله وكماله فليس من الستبيح في شيء نفيها وتعطيلها .
ــــــــــــ
(1) أخرجه البخاري برقم6405 , ومسلم برقم2691 من حديث أبي هريرة رضي الله عنه .
(2) أخرجه البخاري برقم6406 , ومسلم برقم2694 من حديث أبي هريرة رضي الله عنه .
(3) أخرجه مسلم برقم2137 من حديث سمرة بن جندب رضي الله عنه .
8- وقد يُنكِر الجهمي هذا عندنا -- بمصداقِ ما قلنا حديثٌ مصرحُ
وقال: ( وقد ينكر الجهمي ... )
( وقد ) عندما تدخل على المضارع فإن لها أحوالاً بحسب السياق , أحياناً تكون للتقليل , وأحياناً للتكثير , وأحياناً للتحقيق والتأكيد , وهنا المراد التحقيق والتأكيد , فيقول : حقيقة مقال الجهمية إنكار رؤية الله , ولذا يقول الإمام أحمد رحمه الله ( من ينكر الرؤية جهمي )
( والجهمي ) أي المتأثر بالجهم بن صفوان شيخ الطريقة وأستاذ القوم .
( هذا ) أي رؤية الله , ولما ذَكَرَ مقال الجهمي بدأ بالرد عليهم فقال ( وعندنا ) أي نحن معاشر أهل السنة والجماعة ( بمصداق ما قلناه ) أي بتصديق الذي قلناه وهو إثباتنا للرؤية ( حديث مصرح ) ليس بالتخرصات والآراء بل بالنصوص من الكتاب أو السنة.(1/23)
( مصرح ) أي صريح الدلالة على إثبات الرؤية , وفي نسخة أخرى ( حديث مُصَحح ) أي صحيح ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم , والمعنيان يكمل أحدهما الآخر , فالحديث في الرؤية مُصحح من قبل الأئمة , بل هو متواتر , نص على ذلك غير واحد من أهل العلم , قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ( وهذا الحديث من أصح الأحاديث على وجه الأرض المتلقاة بالقبول المُجْمِع عليها العلماء بالحديث وسائر أهل السنة )(1) . ومُصَرح بإثبات الرؤية لله سبحانه ' فلم يبق لمبطلٍ متعلق .
ــــــــــــــــــ
(1) مجموع الفتاوى 6/421
9- رواه جريرٌ عم مقالِ مُحمدٍ --- فقلُ مِثل ما قد قال ذاك تنْجحُ
( رواه جرير عم مقال محمد ) أي رواه الصحابي جرير بن عبدالله البجلي رضي الله عنه عن قول النبي صلى الله عليه وسلم وهو في الصحيحن وغيرهما من كتب السنة .
روى البخاري ومسلم عن جرير بن عبدالله البجلي رضي الله عنه قال : كنا جلوساً عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ نظر إلى القمر ليلة البدر , فقال ( أما إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر ليلة البدر لا تُضامون فيرؤيته , فإن استطعتم أن لا تُغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وصلاة قبل غروبها فافعلوا )(1) يعني الفجر والعصر .
هذا ما أشار إليه الناظم هنا , وحديث الرؤية حديث متواتر رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم غري واحد نت الصحابة منهم : أبوهريرة وأبوموسى الاشعري وجارب بن عبدالله وغيرهم رضي الله عنهم , والواجب الوقوف عند الأحاديث الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم سواء منها المتواتر أو الآحاد , لكا أهل التعطيل لا يقيمون لها وزناً ولا يرفعون لها رأساً , بل يشمئزون من ذكرها ويتكلفون في دفعها وردها .
وبعد أن رد الناظم على الجهمية قال ( فقل ) أي يا صاحب السنة ( مثل ما قال ) أي رسول الله صلى الله عليه وسلم لا مثل ما يقوله الجهمية المعلطة النفاة .(1/24)
( في ذاك ) أي في الرؤية , أو في صفات الله عموماً , فكأن الناظم هنا يعطي منهجاً دقيقاً هو سبيل النجاة , أن يقول السني في صفات الله كما قال النبي صلى الله عليه وسلم وهذا معنى ما قاله الإمام أحمد رحمه الله ( نصف الله بما وصف به نفسه , وبما وصفه به نبيه صلى الله عليه وسلم لا نتجاوز القرآن والحديث )
( تنجح ) أي بذلك يكون نجاحك , والنجاح هو الظفر وميل المقصود وهو هنا الظفر بفضل الله , وتحقيق المعتقد الحق , والفوز بسعادة الدنيا والآخرة .
ـــــــــــ
(1)أخرجه البخاري برقم554 ومسلم برقم633
10- وقد ينكرُ الجهمي أيضاً يمينهُ --- وكِلتا يديه بالفواضلِ تنْفحُ
هذا البيت عُقد لإثبات هذه الصفة العظيمة صفة اليدين لله على وجه يليق بجلاله , وأهل السنة يثبتون اليدين لله حقيقة على الوجه اللائق بكمال الله وجلاله دون تشبيهٍ بيدي المخلوق , بل يقولون : لله يدان حقيقيتان لا تشبهان يدي المخلوق , وهذا شأنهم في إثبات جميع الصفات , فهم عند الإثبات يحذرون من منزلقين خطيرين هما : التعطيل والتمثيل , فمنهجهم في الصفات يقوم على أصلين هما : الإثبات بلا تمثيل , والتنزيه بلا تعطيل , فأهل السنة يثبتون اليد لله بلا تمثيل لها بصفة المخلوق وينزهون الله عن النقص , ولكن دون تعطيل له عن إثبات اليد الحقيقية اللائقة بجلاله وكماله .
ويضاد هذا المنهج الذي يقوم عليه مسلك أهل السنة في إثبات الصفات منهجان منحرفان :
الأول : إثباتٌ بمتثيلٍ , وهم المشبهة الذين يمثلون صفات الله بصفات خلقه وأهل السنة ليسوا مشبهةً إذ الشتبيه ضلال وكفر , لأن من يقول عن ربه إن يده كيده وسمعه كمسعه وبصره كبصره فهو إنما يعبد صنماً ووثناً من الأوثان .(1/25)
الثاني : تنزيه بتعطيل , وهم المعطلة الذين يجحدون صفات الله وينفونها بحجة تنزيه الله عن مماثلة خلقه , وهم أقسام كثيرة : منهم من يعطل الأسماء والصفات , ومنهم من يعطل الصفات دون الأسماء , ومنهم من يعطل بعض الصفات دون بعض , ومعطِّل الصفات عابد للعدم , ولذا قيل : المشبه بعدا صنماً , والمعطل يعبد عدماً .
وهذان المنهجان وما تفرع عنهما يجمعهما وصف جامع وهو الإلحاد في أسماء الله وصفاته , وقد أمرنا الله تعالى أن نذر هذا المنهج وتوعد أهله باشد الوعيد في قوله ( وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) الأعراف180 .
الممثلة يقولون في اليد : كأيدينا فلم يثبتوا لله يده التي تليق به , والمعطلة يقولون : يلزم من إثباتها التمثيل فلا نثبت لله بدا حقيقةً . ولهذا ( فكل معطل ممثل وكل ممثل معطل ) .
( كل معطل ممثل ) لأن تعطيله للصفات إنما قام على ساق التمثيل , فما جحد اليد إلا لأنه توهم أول الأمر أن إثباتها لله حقيقة يلزم منه التشبيه فنفى عن الله اليد , فهو لما يقرأ قوله تعالى ( مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَأَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ العالين ) ص75 / لا يفهم منه إلا يد المخلوق وهذا يدفعه إلى تنزيه الله , ولا سبيل عنده إلا تنزيه الله إلا بنفي اليد عن الله , وعلى هذا مضى عامة معطلة الصفات يعطلونها , لأنهم لا يفهمون من المضاف إلى الله إلا عين ما يرونه ويشاهدونه في المخلوق .(1/26)
ولهذا يصرح بعضهم بهذا فيقولون ( لا نعقل يداً إلا عين ما نراه في الشاهد ) فهم فرو من شر ووقعوا في شر أخبث منه , ثم إنهم لما عطلوا صفة الله نتيجة للتمثيل الذي هم مرضى به انتقلوا منه إلى تمثيل آخر , فمثلوا الله إما بالمعدومات أو الجمادات أو الممتنعات بحسب نوع تعطيلهم , ويظهر من هذا أن كل معطل ممثل مرتين مرة قبل التعطيل ومره بعده , فكل تعطيل محفوف بتمثيل .
( وكل ممثل معطل ) من يمثل صفة الله بصفة خلقه فهو معطل وليس معطلاً مرة واحدة بل معطل ثلاث مرات , فالذي يقرأ قوله تعالى ( مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ .. )ص75 / ثم يفهم منها يد كأيديهم وقع في التعطيل ثلاث مرات :
1- كونه عطل الله عن صفة اليد الحقيقية اللائقة به التي لا تشبه يد المخلوقين .
2- كونه عطل هذا النص وهو قوله تعالى ( ( مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ .. )ص75 / عن مدلوله , ومدلوله إثبات يد حقيقة تليق بالله , وصَرَفَه إلى إثبات يد تشبه يد المخلوقين .
3- كونه عطل النصوص الكثيرة في القرآن النافية للشتبيه كقوله تعالى ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ) الشورى11 .
ولم يسلم من التعطيل والتمثيل أحد من الطوائف برمتها غير أهل السنة والجماعة , ومن سواهم معطلة ممثلة في الوقت نفسه , وإن كان يزعم كل واحد منهم ظاهر قوله أنه غير معطل أو غير ممثل .
والناظم بدأ إثبات صفة اليد بالرد على الجهمية , والجهمية أساس الشر ورأس البلاء في تعطيل الصفات , ولذا فكل معطل جهمي , وكل معطل شيخه الأول الجهم بن صفوان , لأنهم ورثوا منه تركة التعطيل ولكنهم في أخذهم عنه يتفاوتون , فبعضهم أخذ منه بحظ وافر و وبعضهم أخذ منه دون ذلك .
( وقد ينكر الجهمي ) أي يجحد السائر على منهج الجهم والمتأثر بشبهه، و ( قد ) هنا للتأكيد والتحقيق.
( أيضا ) أي مع إنكاره للصفات الأخرى.(1/27)
( يمينه ) أي ثبوت اليمين واليد لله تعالى. وهنا سؤال: كيف أنكر الجهمية اليمين واليد لله مع أن اليد ثابتة في القران والسنة بمئات النصوص، ووصفت بصفات كثيرة لا تجعل من يقرأ تلك الأدلة يتردد في إثباتها لله، بل قد وصفت اليد بصفات تصل إلى مائة صفة، مثل الطي والقبض والبسط والأخذ و الإعطاء وغير ذلك من الصفات، كلها تؤكد إثبات هذه الصفة لله حقيقة على الوجه اللائق به.
و إذا كان الأمر كذلك، فكيف غرس الجهم في نفوس من تأثر به عدم إثبات اليد لله؟ وقبل مقالة الجهم كان كل من يقرأ آيات الصفات في القران لا يفهم منها إلا الصفات الحقيقية اللائقة بالله، ويعلم ذلك بالنظر إلى العوام الذين لم يتلقوا بجهمي أو أي متكلم، فإذا تليت عليهم آية في الصفات لا يفهمون منها إلا الصفة الحقيقية.
فدبر الجهم خطة وبدا بتعقيد القواعد الكليات لجحد الصفات، فهو لا يستطيع أن يأتي إلى الناس رأسا ويقول لهم : ليس لله يد، فجاء بألفاظ مجملة ونزه الله عنها، وجعل تنزيه الله عنها أصولا كلية عند هؤلاء، ثم توصل إلى إنكار الصفات من خلال ذلك، حيث جاء بلفظ الجسم والحيز والجهة، فقال مثلا: هل الله جسم؟ فاحذ يقرر أن الله ليس بجسم ولا يوصف بالجسمية، فلما قرر ذلك ومكنه من نفوسهم اخذ يقرر فيهم ما يريد فقال: لو أثبتنا لله اليد أثبتنا له الجسمية ولو أثبتنا له الجسمية شبهناه بخلقه ومن ثم غرس فيهم تعطي الصفات.
ولكن واجهته مشكلة وهي النصوص الكثيرة من الكتاب والسنة التي تصادم تقريره، فدلهم على التحريف، وبهذا توصل الجهم إلى تقرير إنكار صفات الله لدى من استهوتهم شبهته واستفزهم ضلاله و باطله من ذوي الجهل وقلة البصيرة بالدين .(1/28)
( اليمين ) صفة ثابتة لله، فالله له يدان حقيقيتان، وفي رواية لمسلم إثبات يدين لله : يمين وشمال، ومن أهل العلم من صوب أن لفظ الشمال لم يثبت و إنما الثابت ( الأخرى ) بدل الشمال، وعلى كل فهذه الرواية ليست معارضة لقوله صلى الله عليه وسلم ( وكلتا يدي ربي يمين )(1) لان أهل العلم وضحوا أن المراد بقوله صلى الله عليه وسلم ( وكلتا يدي ربي يمين ) نفي توهم النقص ؛ لأنه قد تبادر إلى بعض الأذهان أن الشمال أو الأخرى انقص من اليمين.
و اليمين ثابتة لله في القران والسنة، قال تعالى ( وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ) (الزمر67)، وفي هذه الآية رد بين على المعطلة الذين قالوا إن إثبات اليد لله يلزم منه تشبيه الله بالخلق . فيقال لهم: كيف يفهم عاقل تأمل هذه الآية انه يلزم من إثبات اليد لله حقيقة تشبيه الله بالمخلوق وقد وصف يده سبحانه بهذه العظمة والكمال .
ويرد عليهم بأنه لا يلزم من اتفاق الشيئين في الاسم أن يتفقا في الحقيقة و المسمى، هذا بين المخلوق والمخلوق، فكيف بين الخالق والمخلوق ؟
( وكلتا يديه ) وفيه إثبات اليدين لله حقيقة على الوجه اللائق به، وهذا التنصيص بأن له يدين جاء في القران والسنة، قال تعالى ( بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ ... ) (المائدة 64) .
وفي الحديث ( يمين الله ملآى لا يغيظها نفقة سحاء الليل والنهار، أ رأيتم ما انفق منذ خلق السماوات والأرض، فانه لم يغض ما في يمينه وعرشه على الماء وبيده الأخرى القسط يرفع ويخفض ). رواه البخاري ومسلم(2) .(1/29)
وهذه الآية والحديث من أقوى الأدلة في الرد على من قال يده قدرته، فيقال لهم: هل لله قدرتان؟ و بإجماع أهل الإسلام انه ليس لله قدرتان، وتفسيرها بالنعمة أيضا مردود؛ لأنه لا يقول أحد أن لله نعمتين بل نعمه كثيرة، وماذا يقول هؤلاء في الحديث؟ هل يقولون وبقدرته الأخرى أو بنعمته الأخرى أو ماذا يقولون؟
ولا يعارض ثبوت اليدين لله أن اليد قد جاءت في بعض النصوص بصيغة الجمع كما في قوله تعالى ( أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ ) (يس71)
وكذلك جاءت مفردة كما في قوله تعالى ( تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) (الملك1).
لأن لغة العرب تتسع للإخبار عن المثنى بالجمع أو المفرد، قد ورد ذلك في القران كما في قوله تعالى ( فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا ) (التحريم4)، ومازال العرب يقولون رأيتك بعيني، وسمعتك بأذني، والمراد عيني وأذني، فلا تعارض إذا بين الألفاظ الواردة. ومثله تماما القول في العين .
( وكلتا يديه بالفواضل ) الفواضل جمع فاضلة، وهو الخير والجود والكرم والعطاء، قال الله تعالى ( بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ ) (المائدة64) .
روى مسلم في صحيحه عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال ( إن المقسطين عند الله يوم القيامة على منابر من نور عن يمين الحمن وكلتا يديه يمين الذين يعدلون في حكمهم و أهليهم وما ولوا )(3) .
( تنفح ) والنفح العطاء، وفي بعض النسخ ( تنضح )، و النضح هو الرش والسقي، والمقصود انه يعطي الجزيل ويكرم عباده ويعطيهم العطاء الواسع، كما في الحديث ( يمين الله ملآى لا يغيضها نفقة سحاء الليل والنهار... )(4)(1/30)
واليد من صفات الله الذاتية، والناظم عندما يذكر إنكار الجهمية لليد يشير بذلك إلى إنكارهم للصفات الذاتية الأخرى كالوجه والقدم والعين والساق ونحوها فمضمون كلامه الرد عليهم في إنكارهم بقية الصفات الذاتية؛ لان القول في الصفات واحد.
وصفات الله نوعان:
ذاتية و ضابطها : هي التي لا تنفك عن الذات، ولا تعلق لها بالمشيئة.
وفعلية : وهي التي تتعلق بالمشيئة.
ولا فرق عند أهل السنة والجماعة بين الصفات من حيث الإثبات فكلها حق تثبت لله كما وردت ويؤمن بها كما جاءت بلا تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل.
ــــــــــــــــــ
(1) أخرجه مسلم برقم1827 من حديث عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما .
(2) البخاري برقم7411 ومسلم برقم993 من حديث ابي هريرة رضي الله عنه
(3) بنفس تخريج (1)
(4) بنفس تخريج (2)
__________________
11- وقل ينزلُ الجبارُ في كلِّ ليلةٍ --- بر كيفَ جلَّ الواحدُ المُتمَدحُ
هذه الأبيات في إثبات نزول الله في كل ليله إلى سماء الدنيا، و أهل السنة مذهبهم في النزول هو مذهبهم في بقية الصفات، فكل صفة لله ثبتت في الكتاب والسنة يمرها أهل السنة كما جاءت و يثبونها لله كما أثبتها لنفسه وكما أثبتها له رسوله صلى الله عليه وسلم، وليس أحد من أهل السنة يتقدم بين يدي الله ورسوله معترضا على قوله بان يقول بعد إثبات الله الصفة : هذا لا يليق بك يا الله، أو بعد إثبات الرسول صلى الله عليه وسلم لها هذا لا يليق بالله، فينفي عن الله الصفات تنزيها لله عما وصف به نفسه ووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم و كأنه اعلم بالله من نفسه واعلم بالله من رسوله صلى الله عليه وسلم، تعالى الله عما يقولون وسبحان الله عما يصفون، ولذا أهل السنة يقولون لا بد من أصول ثلاثة لمن أراد الاشتغال بالأسماء والصفات:
الأول : أن يُقر في نفسه انه لا أحد اعلم بالله من الله. ( قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ ) (البقرة140)(1/31)
الثاني : انه لا أحد اعلم بالله من خلق الله من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو اعلم الخلق بالله (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى . إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ) (النجم 3 / 4)
الثالث: أن الله بالنسبة لنا غيب لم نره، فلا مجال للإنسان أن يخوض فيما هو غائب عنه من وصف إلا بوحي.
وعليه فالطريقة الحقة في باب الصفات: أن نصف الله بما وصف به نفسه وبما وصفه به رسوله لا نتجاوز القران والحديث، كما قال رحمه الله ( ندور مع السنة حيث دارت ) أي نفياً و إثباتاً.
فمن تقررت في قلبه تلك الأصول امتنع أن يخوض في الصفات بما لا يعم، وعلم فساد مذهب أهل الكلام الباطل الذين يتقدمون باراهم وعقولهم الفاسدة بين يدي الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.(1/32)
( النزول ) قد وردت به السنة، وحديثه متواتر رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم ثمانية وعشرون صحابيا، وهذا يعني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال هذا القول (ينزل ربنا إلى السماء الدنيا )(1) غير مرة , ، وهو عليه الصلاة والسلام افصح الناس وابلغهم وانصحهم، وقد بلغ ما انزل إليه أتم البلاغ، وبينه احسن البيان واوضحه، وهو احسن خلق الله تنزيها لله وتعظيما له، فقال في اكثر من مرة ( ينزل ربنا ) و إثباته صلى الله عليه وسلم لربه هذه الصفة لا يتنافى مع تنزيهه له سبحانه، فماذا يقول المعطلون المعترضون على قول الله ورسوله صلى الله عليه وسلم والمتقدمين بين يدي الله ورسوله صلى الله عليه وسلم؟ أما الصحابة و التابعون و أئمة السلف فلم ينقل عن أحد منهم انه قال هذا لا يليق بالله و أنها ليست على ظاهرها وهم المعطلة الجهمية ومن لف لفهم فيقولون : الله لا ينزل؛ لانا لو أتثبتنا لله النزول لأثبتنا له الحركة والمكان، وهكذا ينفون عن الله صفة النزول، وهذه التعليلات العقلية لها منشأ فاسد في قلوب هؤلاء انبثق منه إنكارهم للصفات، وهو قياس الخالق بالمخلوق، أو فهم الصفة التي تضاف إلى الخالق كما يفهمون من الصفة التي تضاف إلى المخلوق ، فقالوا : لو أتثبتنا لله النزول لاثبتنا له الحركة والانتقال والمكان، وهذه الأمور من صفات الحوادث والله منزه عن الحوادث، إذاً ما النتيجة؟ نفي هذه الصفة.
يُقال لهم: إذا كانت تعليلاتكم هذه صحيحةً، فلماذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم في غير مجلس ( ينزل ربنا؟ ) يجيب هؤلاء المتكلمون : النبي صلى الله عليه وسلم لم يقصد بقله هذا نزول الله، و إنما أراد نزول الملك. يقال لهم: إذا كان ذلك كذلك فان هذا الكلام من النبي صلى الله عليه وسلم اقرب ما يكون إلى الألغاز والتعمية منه إلى الفصاحة والبيان.(1/33)
و إذا كان كلام هؤلاء حقا لكان اللازم على النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول: ينزل ملك ربنا صراحةً، ولكنه لم يفعل ولو مرة ، فهو في كل مرة يقول ( ينزل ربنا ) ولو كان كلامهم حقا لقال ولو في مجلس واحد: ينزل ملك ربنا؛ حتى يحمل المطلق على المقيد، ولكنه لم يفعل، وقولهم هذا بلا شك فيه طعن في علم النبي صلى الله عليه وسلم و فصاحته، وطعن في نصحه صلى الله عليه وسلم، لأنه يقال هؤلاء : هذا الذي تقولونه هل علمه النبي صلى الله عليه وسلم أم لم يعلمه ؟ فان قالوا : لم يعلمه وعلمناه دونه فهو تجهيل للرسول صلى الله عليه وسلم، وان قالوا: هذا أمر علمه النبي صلى الله عليه وسلم يقال لهم: هل هو قادر على الإفصاح عنه وبيانه للامة بوضوح أم ليس بقادر؟ فان قالوا ليس بقادر على الإفصاح عنه وافصح عنه الجهمية فهذا طعن في فصاحته وبيانه، وان قالوا قادر على الإفصاح عنه، يقال لهم: هذا فيه طعن في نصحه، لأنه عالم قادر ومع ذلك لم يفصح لأنه لم يقل ولا مرة واحدة ينزل ملك ربنا، وان قالوا هو نصح الأمة وبين، قيل لهم: أعطونا ولو حديثا واحدا قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: ينزل ملك ربنا.
وهذه الأمور الثلاثة يمكن أن تقال في شان من ينفي أي صفة من الصفات.
والناظم رحمه الله يثبت نزول الله على وجه يليق بالله، و أهل السنة في النزول يحترزون من أمرين:
1- تعطيل النزول ونفيه.
2- تكييف النزول.
على القاعدة ( إثبات بلا تمثيل، وتنزيه بلا تعطيل ).
( قل ) الخطاب لصاحب السنة والعقيدة السلفية أي قل ذلك غير متردد ولا مرتاب , بل قله مؤمناً موقناً , لأن هذه الكلمة قالها النبي صلى الله عليه وسلم في غير مجلس , فإذا قلت ذلك لم تزد على أن قلت مثل ما قال النبي صلى الله عليه وسلم , ولم ترد على أن آمنت بما آمن به النبي صلى الله عليه وسلم .
وهذا البيت اشتمل على على الأصليين , ففي قوله ( ينزل الجبار في كل ليلة ) احتراز من التعطيل .(1/34)
وفي قوله ( بلا كيف جل الواحد .. ) احتراز من التكييف وفي نفيه للتكييف نفي للتمثيل , لأن الممثل مكيف , ولذا ( كل ممثل مكيف وليس كل مكيف ممثلاً ) لأن الممثل يقول ينزل الله كنزول المخلوق , وهو في الوقت نفسه كَّيف صفات الله بكيفية صفات المخلوق , وليس كل مكيف ممثلاً لأن التكييف يكون بتمثيل , وقد يكون بلا تمثيل وإنما بتخيل الذهن .
( بلا كيف ) مراد الناظم بهذا القول , أي : بلا كيف معلوم لنا , فهو نفيٌ لعلمنا بالكيفية وليس نفياً للكيفية , لأن ما لا كيفية له لا وجود له , فإن صفات الله لها كيفيةٌ اللهُ أعلم بها , ولذا قال الإمام مالك رحمه الله ( والكيف مجهول ) ولم يقل : الكيف معدوم .
والعلم بكيفية الصفات فرع عن العلم بكيفية الذات , فإذا قال الجهمي كيف ينزل ربنا إلى سماء الدنيا ؟ قل كيف هو في ذاته ؟ فإذا قال أنا لا أعلم كيفيته قيل له ونحن لا نعلم كيفية نزوله إذ العلم بكيفية الصفة يستلزم العلم بكيفية الموصوف وهو فرع له وتابع له .
فأهل السنة يقولون ينزل الله إلى السماء الدنيا كما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يكيفيون , فلا يجعلون لصفة الله كيفيةً ككيفية المخلوق , ولا كيفية يتخيلونها في الذهن , والمعطلة الذين نفوا النزول إنما نفوه بعد تكييفٍ , لأنه قد استقر في أذهانهم النزول الذي في المخلوق , وهذا الذي فهموه في عقولهم ظنوا أن أهل السنة يثبتونه فرموهم بالتشبيه .(1/35)
وبعضهم افترى على شيخ الإسلام أن نزل عن المنبر وقال ( ينزل الله كنزولي هذا ) ذكر ذلك ابن بطوطة في رحلته , وهذا كذب وافتراء عليه رحمه الله , لأنه كان في السجن في الوقت الذي مر فيه ابن بطوطة دمشق , والذي يريد أن يعرف عقيدة الشيخ يقرأ كتاب ( شرح حديث الزول ) وقد قرر فيه إبطال تشبيه نزول الله بنزول المخلوقين في مواضع , والذي دفع هؤلاء إلى هذا الإفتراء على شيخ الإسلام وغيره هو أنهم لم يفهموا من الزول إلا نزول المخلوق , ولما رأوا أهل السنة يثبتون هذا النزول وصفوهم بالتشبيه . وحاشاهم من التشبيه .
( الجبار ) هو الله وهو اسم من أسمائه كما في قوله تعالى ( هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ ) ( الحشر23 ) .
والجبر الذي في اسمه الجبار من دلالاته : الإصلاح , يقال : جبر كسره أي أصلحه , وجبر حال الفقير , أي : أصلحه .
ومن مدلولاته العلو والقهر , أي العلي على خلقه والقهر فوق عباده .
( جل ) أي عظم قدره عن التكييف سواء كان مبناه الأوهام , أو القياس بصفات المخلوق , قال الله تعالى ( تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ ) ( الرحمن78 ) .
( الواحد ) المنفرد بصفات كماله ونعوت جلاله .
( المتمدح ) المتمدح صفة للواحد , أي الذي يمدحه المؤمنون ويثنون عليه فهو الذي أسبغ على العباد من النعم وأولاهم من العطاء ما يوجب مدحهم له , وحسن الثناء عليه وحمده , وهو جل وعلا لا يُحصي أحدٌ الثناء عليه , وهو سبحانه يُثني عليه ويُمدح على أسمائه الحسنى وصفاته العُلى , وعلى نعمه وعطاياه التي لا تُعد ولا تُحصى .
12- إلى طبقِ الدنيا يمُنُّ بفضلهِ --- فتفرجُ أبواب السماءِ وتُفتحُ(1/36)
هذه الجملة في هذا البيت مكملة للبيت السابق , فهذا كقوله صلى الله عليه وسلم ( ينزل ربنا إلى السماء الدنيا ) , فالجار والمجرور في قوله ( إلى طبق الدنيا ) متعلق بقوله ( ينزل الجبار ) .
( طبق ) هو الغطاء , والسماء غطاءٌ للأرض , وكل سماء غطاء للسماء التي دونها , وسماء الدنيا سميت بذلك , لقربها من الأرض .
( يمن بفضله ) المن هو البذل والعطاء فينزل سبحانه ليعطي ويتفضل على العباد بالخيرات وأنواع الهبات .
( فتفرج أبواب السماء وتفتح ) , قوله ( تفرج ) أي تنشق وتنفتح والسماء لها أبواب دل على ذلك نصوص كثيرة , منها قوله تعالى ( ...لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ ... ) ( الأعراف 40 ) .
وقد جاء في بعض روايات حديث النزول أن أبواب السماء تفتح وقت النزول الإلهي , ففي المسند للإمام أحمد عن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ( إذا كان ثلث الليل الباقي يهبط الله عزوجل إلى السماء الدنيا , ثم تفتح أبواب السماء , ثم يبسط يده فيقول : هل من سائل يعطى سؤله فلا يزال كذلك حتى يطلع الفجر )(1) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) المسند رقم 3672
13- يقولُ أَلا مُستغفرٌ يَلقَ غافراً --- ومُستمنحٌ خيراً ورِزْقاً فُمنحُ
( يقول ) أي الله سبحانه عندما ينزل , فالقائل هو الله , لأنه لا يصح أن يقول المَلَك ( من يستغفرني من يسألني من يدعوني ) وهذا يبين بطلان قول الجهمية : إن الذي ينزل هو المَلَك , لأنه لو كان الذي ينزل هو المَلَك لقال : 'ن الله يغفر الذنوب فمن يستغفره , كما في الحديث الآخر ( إذا أحب الله عبداً نادى جبريل إني أحبٌّ فلاناً فأحبه فيحبُّه جبريل وينادي أهل السماء إن الله يحب فلاناً فأحبوه ... )(1) الحديث .
وجاء في بعض روايات حديث النزول أن الله يقول ( لا أسألُ عن عبادي أحداً غيري )(2) وهي مبطلة لمقالة هؤلاء , لأن هذا لا يمكن أن يقول إلا الله .(1/37)
( أن مستغفرٌ ) , ( ألا ) أداة تخصيص , فهو يخص على الاستغفار والإستمناح , والمستغفر : طالب الغفران .
( يلق غافراً ) هو الله الغفور ذو الرحمة سبحانه وتعالى ( ... وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ ... ) ( آل عمران135 ) .
( مستمنح ) من يطلب المنح وهو العطاء , أي يسأل الله الخيرَ والرزقَ , والخيرُ شاملٌ لأمور كثيرة .
( فيمنَح ) أي قيمنحه الله حاجته ويعطيه سؤله , فإن خزائنه ملآى لا يغسضها نفقة , يقول تعالى في الحديث القدسي ( يا عبادي لو أنَّ أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني وأعطيت كلَّ واحد منهم مسألته ما نقص ذلك من ملكي شيئاً إلا كما يُنقص المخيط إذا غمس في البحر )(3) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه البخاري برقم 6040 ومسلم برقم 2637 من حديث أبي هريرة رضي الله عنه .
(2) أخرجه أحمد برقم 16316
(3) أخرجه مسلم برقم 2577 من حديث أبي ذر رضي الله عنه
14- روى ذاك قومٌ لا يردُّ حديثُهم --- ألا خابَ قومٌ كذبوهم وقُبِّحوا
ثم ذكر الناظم رحمه الله دليل النزول فقال :
( روى ذاك قوم لا يرد حديثهم ) الإشارة بقوله ( ذاك ) إلى النزول الإلهي الثابت , أي : الذي رووا حديث النزول ثقات أثبات لا يرد حديثهم بل يتلقى بالقبول , والحديث متواترٌ , نص على ذلك غير واحد من الأئمة منهم : شيخ الإسلام في ( شرح حديث النزول ) , وابن القيم في ( الصواعق المرسلة ) والذهبي في ( العلو ) والسيوطي في ( الأزهار المتناثرة ) , والكتاني , وقد ذكر ابن القيم في ( الصواعق ) أن ثمانية وعشرين صحابياً رووه , وذكرهم .
( ألا خاب ) ( ألا ) أداة استفتاح و تنبيه , أي خسر الذين كذبوا هؤلاء الرواة الأثبات نقلوا النزول عن النبي صلى الله عليه وسلم .(1/38)
وهؤلاء الذين كذبوا الصحابة في هذه الأمور قبلوا عنهم أحاديث الأحكام , فَلِم هذا التفريق ؟! قال عباد بن العوام ( قدم علينا شريك فسألته عن الحديث " إن الله ينزل ليلة النصف من شعبان (1) " قلنا : إن قوماً ينكرون هذه الأحاديث !! قال فما يقولون ؟ قلنا : يطعنون فيها , فقال : إن الذين جاءوا بهذه الأحاديث هم الذين جاءوا بالقرآن وبالصلاة والحج وبالصوم , فما يُعرف الله إلا بهذه الأحاديث ) .
وهذا الضلال مبنيٌّ على القاعدة التي قعدها المعتزلة : أن خبر الآحاد لا يقبل في العقيدة , مع أن حديث النزول متواتر , فما الضابط عندهم ؟ ومن يتأمل يجد أنَّ الضابط عند هؤلاء هو : أنَّ كلَّ حديث خالف مذهبهم ردوه بحجة أنَّه خبر آحاد وإن كان متواتراً , وكل حديث وافق هواهم قبلوه ولو كان مكذوباً , ولذا اعتمدوا على الحديث المكذوب ( أو ما خلق الله العقل ) , فالقوم أصحاب أهواء .
الناظم رحمه الله لم يذكر العلو والاستواء , لكن في ضمن الأبيات التي ذكرها إشارة إلى ذلك فاكتفى به , لأن في إثبات النزول إثباتاً للعلو , ولهذا أورد الإمام الذهبي رحمه الله هذه المنظومة بكاملها في كتابه ( العلو) في سياق ما نقله عن الأئمة من نقول في تقرير علو الله على خلقه , وسيأتي أيضاً قول الناظم ( وذو العرش يصفح ) وفيه إثبات العرش العظيم الذي استوى عليه الربُّ عزوجل .
ـــــــــــ
أخرجه الترمذي (739) وإسناده ضعيف
15- وقل: إنَّ خير النَّاسِ بعد محمَّدٍ --- وزيراهُ قدَماً ثم عثمانُ الارجَحُ
هذا مختصرٌ لمعتقد أهل السنة في الصحابة , ومع اقتضاء المنظومة الإختصار إلا أن الناظم قد أتى منه بالشيء الكثير , وبدأه بذكر التفاضل بينهم رضي الله عنهم أجميعن .
( قل ) أي يا صاحب السنة ويا من يريد لنفسه المعتقدَ الصحيحَ , معتقدَ أهل السنة والطائفة المنصورة والفرقة الناجية , قل وأنت منشرحُ الصدر وغيرُ شاك ولا مرتاب :(1/39)
( إن خير الناس بعد محمد ) أي أفضل الناس وأزكاهم بعد محمد صلى الله عليه وسلم , والناظم هنا يقرر من هم أفضل أمة محمد صلى الله عليه وسلم , فيقول : إن خير الناس بعد محمد صلى الله عليه وسلم ( وزيراه قدماً ) وهما : أبوبكر وعمر رضي الله عنهما .
و ( الوزير ) في اللغة هو العوين للملك والذي يحتمل عنه أثقاله ويشير عليه ويعينه , ولذا وصف الناظم أبابكر وعمر بأنهما وزيران له صلى الله عليه وسلم .
( قدماً ) اسم زمان من القِدَم , أي هما وزيران له منذ بداية الدعوة , لأن نصرتهم للنبي صلى الله عليه وسلم كانت قديمةً , وقد جاء في حديث يُرفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم عند الترمذي والحاكم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( ما من نبي إلا كان له وزيران من أهل الأرض ووزيران من أهل السماء فوزيرا أهل السماء هما جبريل وميكال ووزيرا الأرض أبوبكر وعمر )(1) ولكن الحديث ضعيف وله طريقان آخران ضعيفان , لكن ثبت في فضلهما وخيريتهما أحاديث .
روى البخاري ومسلم من حديث عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه ( أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال : أي الناس أحب إليك ؟ قال : عائشة . فقلت : من الرجال ؟ قال : أبوهما , فقلت ثم من ؟ فقال عمر بن الخطاب )(2)
وليسا أفضل هذه الأمة فحسب بل هما افضل الناس بعد النبيين والمرسلين كما في الحديث ( أبوبكر وعمر سيدا كهول أهل الجنة من الأولين والآخرين إلا النبيين والمرسلين )
وهو مروي عن غير واحد من الصحابة منهم علي بن أبي طالب وأنس ابن ماللك وجابر وأبوسعيد وهو حديث صحيح بمجموع طرقه (3)(1/40)
وثبت في صحيح البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما , أنه قال ( كنا زمن النبي لا نعدل بأبي بكر أحداً , ثم عمر ثم عثمان , ثم نترك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا نفاضل بينهم )(4) وروى البخاري عن محمد بن الحنيفة قال : قلت لأبي يعن يعلي بن أبي طالب رضي الله عنه ( أي الناس خير بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال : أبوبكر , قلت : ثم من ؟ قال : عمر , قال : وخشيت أن يقول عثمان , قلت ثم أنت ؟ قال : ما أنا إلا واحد من المسلمين )(5) .
وقد تواتر هذا عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه بل جاء عنه أنه قال ( لا يفضلني أحد على أبي بكر وعمر إلا جلدته حد المفتري )(6) , وذلك لأنه افترى الكذب عندما قدَّم عليا على الوزيرين .
والنصوص الواردة في تفضيل أبي بكر وعمر كثيرة جداً , أوردها أهل العلم في الكتب التي تعتني بمناقب الصحابة , وتفضيلُ أبي بكر وعمر على الصحابة كلهم محل اتفاق بين أهل العلم , وقد ذكر القاضي أبويعلى عن الإمام أحمد أن قال ( من فضل عليا على أبي بكر وعمر أو قدمه عليهما في الفضيلة والإمامة دون النسب فهو رافضي مبتدع فاسق ) .
ــــــــــ
(1) الترمذي برقم3680 والحاكم في المستدرك 2/290 وقال " صحيح الإسناد ولم يخرجاه " وقد ضعفه الألباني في ضعيف سنن الترمذي برقم3680
(2) البخاري برقم3662 , ومسلم برقم2384
(3) انظر السلسلة الصحيحة برقم 824
(4) البخاري برقم 3655
(5) البخاري برقم 3671
(6) أخرجه ابن أبي عاصم في السنة 1219
16- ورابعهُمْ خيرُ البريَّة بعدهُم --- عليٌّ حليفُ الخيرِ بالخيرِ مُنْجِحُ
أي رابع الصحابة في الفضل هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه
( خير البرية ) أي خير الناس بعد أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم . ( البرية ) من : برأ الله الخلق يبرؤهم أي خلقهم .(1/41)
وعليٌّ هو ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وزوج ابنته وأبو السبطين صاحب المناقب الكثيرة , وقد أشار الناظم إلى بعض فضائله .
( حليف ) أي المحالف للخير الذي حليفه الخير دائماَ يحظى بالخير وينلل الخير ويحصله أي أنه دائماً ملازم للخير .
( بالخير منجح ) من النجاح , وهو تحصيل المقصود والظفر به .
وفي بعض النسخ ( بالخير يمنح ) , وفي نسخة ( بالخير ممنح ) أي أنه يعطي الناس ويمنحهم , ففيه وصفه بالسخاء والجود والكرم .
17- وإنَّهم للرَّهطُ لا ريبَ فيهمُ --- على نُجبِ الفردوسِ بالنُّور تَسرحُ
أي هؤلاء المذكورون من الصحابة الخلفاء الأربعة , وكذلك الذين سرد اسماءهم في البيت الآتي .
( للرهط ) وهو عشيرة الرجل , ويطلق على ما دون العشرة , وقيل ما بين الثلاثة إلى العشرة .
وفي بعض النسخ ( والرهط ) ولعله الأقرب , ويكون الضمير في قوله ( وإنهم ) عائداً على الأربعة والرهط معطوف عليه , والمقصود بهم الستة المذكورون في البيت الذي بعده .
( لا ريب فيهم ) لا تهمة ولا شك فيهم وفيما سينالونه من الله من الفضل ولا شك في منزلتهم عند أهل السنة , ولا ريب في أنهم من أهل الجنة .
( على نجب ) جمع نجيب وهو أكرم المال وأنفسه , والمراد أنهم يسرحون في الجنة على نجب الفردوس وهي النوق الكريمة والخيل الكريمة يروحون عليها ويغدون في الجنة , روى مسلم عن أبي مسعود الأنصاري قال جاء رجل بناقة مخطومة فقال هذه في سبيل الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( لك بها يوم القيامة سبعمائة ناقة كلها مخطومة )(1)(1/42)
وروى الترمذي عن سليمان بن بريدة بن الحصيب عن أبيه أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله هل في الجنة من خيل ؟ قال ( إن أدخلك الله الجنة فلا تشاء أن تحمل فيها على فرس من ياقوتة حمراء يطير بك في الجنة حيث شئت إلا فعلت ) قال : وسأله رجل فقال : يا رسول الله هل في الجنة من إبل ؟ قال : قلم يقل له مثل ما قال لصحابه , قال ( إن يدخلك الله الجنة يكن لك فيها ما اشتهت نفسك ولذت عينك )(2) , وسنده ضعيف , لكنه جاء من طريق أخرى مرسلاً بسند صحيح , وله شاهد من حديث بريدة رضي الله عنه قيرتقي بذلك إلى درجة الحسن , كما في السلسلة الصحيحة للألباني رحمه الله برقم 3001 .
ويقصد الناظم رحمه الله بهذا أن هؤلاء مقطوع لهم بالجنة سهد لهم بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم , سيأتي إن شاء الله ذكر بعض الأحاديث الدالة على ذلك .
( الفردوس) اسم من أسماء الجنة , وهو اسم لأعلى الجنة وأوسطها وفي الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيله , كل درجتين ما بينهما كما بين السماء والأرض , فإذا سألتم الله فسلوه الفردوس فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة وفوقه عرش الرحمن ومنه تفجر أنهار الجنة )(3)
( بالنور تسرح ) اي بمن عليها من أهل النور والوضاءة والبهاء والحسن .
( تسرح ) أي تذهب حيث شاء راكبها , وفي بعض النسخ ( في الخلد تسرح ) والخلد هي الجنة , لأنها دار النعيم المقيم الذي لا يحول ولا يزول . وفي هذا أن أهل الجنة يتزاورون فيها يغدون ويروحون لتتم لذتهم وليكمل أنسهم وسرورهم , نسأل الله الكريم من فضله .
ـــــــــــــــــ
(1) مسلم 1892
(2)الترمذي برقم 2543
(3) أخرجه البخاري برقم 6987
18- - سعيدٌ وسعدٌ وابن عوفٍ وطلحةُ --- وعامرُ فهرٍ والزبيرُ الممدَّح(1/43)
هذا تفسير وبيان الرهط بذكر أسمائهم , وهؤلاء الستة مع الأربعة الخلفاء هم العشرة المبشرون بالجنة كما بشرهم بذلك النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الثابت الصحيح . فهم الرهط الذين لا ريب في دخولهم الجنة , ولا ريب أنهم على نجب الفردوس في جنة الخلد يسرحون , وقد ورد في بشارتهم بالجنة أحاديث , منها مارواه الترمذي عن عبدالرحمن بن عوف رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ( أبوبكر في الجنة , وعمر في الجنة , وعثمان في الجنة , وعلي في الجنة , وطلحة في الجنة , والزبير في الجنة , وعبدالرحمن بن عوف في الجنة , وسعد في الجنة , وسعيد في الجنة , وأبوعبيدة بن الجراح في الجنة )(1) وفي الترمذي وابن ماجه عن سعيد بن زيد مثله (2) .
قال الناظم :
للمصطفى خير صحب أنهم في جنة الخلد نصا زادهم شرفا
هم طلحة وابن عوف والزبير مع أبي عبيدة والسعدان والخلفاء
( سعيد ) هو ابن زيد بن عمرو بن نفيل , ابن عم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنهما تعالى , ( وسعد ) هو ابن أبي وقاص ( وابن عوف ) هو عبدالرحمن , ( وطلحة ) هو ابن عبيد الله , ( وعامر فهر) هو أبوعبيدة عامر بن الجراح الفهري القرشي , ( والزبير ) هو ابن العوام ( الممدح ) أي : الذي له المدائح الكثيرة , والمدائح الكثيرة لهؤلاء جميعاً ومن أعظم هذا المدح تبشيرهم بالجنة , وينظر في مناقب هؤلاء على الخصوص كتاب ( الرياض النضرة في مناقب العشرة ) للمحب الطبري .
ــــــــــــــــــــ
(1) الترمذي برقم3474 وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم 50
(2) الترمذي برقم 3748 وابن ماجه برقم 133
19- وقل خيرض قولٍ في الصحابة كلِّهم --- ولا تك طعَّاناً تعيبُ وتجرحُ
ولما ذكر الناظم هؤلاء تكلم عن الصحابة عموماً فقال ( وقل خير قول في الصحابة كلهم ) أي لا يكن قولك الخير وكلامك الحسن خاصا بهؤلاء الذين ذكروا بل قل في الصحابة جميعهم , فكلهم عدول أهل فضل ونُبل .(1/44)
والصحابي : هو الذي لقي النبي صلى الله عليه وسلم مؤمناً به ومات على ذلك , فكل من كان بهذه الصفة فهو من الصحابة وقل خير قول , ولما ذكر الله في سورة الحشر المهاجرين والأنصار قال ( وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ )( الحشر10)
فذكر الله لمن جاء بعدهم صفتين هما : سلامة الصدر وسلامة اللسان .
وهكذا يجب أن يكون صاحب السنة تجاه الصحابة فلا يحمل عليهم في قلبه غلاًّ ويكون سليم اللسان فلا يقدح فيهم ولا يخوض فيما شجر بينهم بل يقول عنهم ما يزيد حبهم في القلوب . والناظم رحمه الله أشار إلى تحقيق هاتين الصفتين بقوله ( وقل خير قول ) وقد مر معنا أن القول إذ أطلق يشمل قول القلب وقول اللسان , ويكون المعنى قل فيهم خير قول بقلبك بأن يكون سليماً من الغل والحقد ولا يحمل تجاههم إلا الخير , وبلسانك بأن يكون سليماً من الطعن والقدح ولا تتكلم عنهم إلا بخير .
( ولا تك طعاناً تعيب وتجرح ) لما أمر ورغب صاحب السنة في أن يقول في الصحابة خير قول , حذره من أن يقع في الطعن والتجريح لأي أحد منهم ( طعانا ) أي كثير الطعن , والمقصود النهي عن الطعن في الصحابة , وليس المقصود النهي عن المبالغة في الطعن , فقد يأتي على وزن ] فعال [ ما لا يُراد به المبالغة كقوله تعالى ( مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكُ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ ) (فصلت46) . أي : ليس بذي ظلم . وفي الحديث عن ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعاً ( ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان ولا الفاحش والبذيء )(1) أي ليس بذي طعن وليس بذي لعن , هذا مع عموم المسلمين , فكيف بالأمر مع الصحابة المعَدلين .(1/45)
( تجرح ) الجرح هو الكَلمُ , فالخوض فيما شجر بين الصحابة والنيل منهم ليس دأب أهل السنة من منهجهم , بل هو شأن أهل الأهواء وسبيل أهل الضلال .
والناظم هنا يقرر عدالة الصحابة ومكانتهم , الذين شرفهم الله بصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم وسماع الوحي منه غظًّا طريًّا , فهم عدول ثقات , وهم حملة الدين ونقلته للأمة , يقول ابن مسعود رضي الله عليه ( من كان متأسيا فليتأس بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم , فإنهم كانوا أبر هذه الأمة قلوباً , وأعمقها تكلفاً , وأقومها هدياً , وأحسنها حالاً , اختارهم الله لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم , وإقامة دينه , فاعرفوا لهم فضلهم واتبعوهم في آثارهم فإنهم كانوا على الهدى المستقيم ) .
ومن هنا يُعلم أن أي طعن في الصحابة فإنما هو طعن في الدين , لأن الطعن في الناقل طعن في المنقول , لأن الصحابة هم الذين نقلوا الدين , ولذا ما من حديث نرويه عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا والواسطة بيننا وبينه أحد الصحابة , فالطعن فيهم طعن في الدين , ولذا يقول أبوزرعة الرازي رحمه الله ( إذا رأيتم الرجل ينتقص أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعلموا أنه زنديق , لأن الدين حق , والقرآن حق , وإنما نقل لنا ذلك الصحابة فهؤلاء أرادوا الجرح في شهودنا ليبطلوا الكتاب والسنة وهم بالجرح أولى وهو زنادقة ) .
فتكفير الصحابة وتكذيبهم دسيسة من دسائس اليهود وليس المقصود به الطعن في الصحابة ذاتهم , وإنما المقصود الحيلولة بين الناس وبين الدين , فعندما يروج الروافض أن أبا هريرة رضي الله عنه كذاب أو غيرَه من الصحابة فإن مَنْ انطلت عليه هذه الدعاية ينصرف عن الدين ولا يثق به ولا يطمئن لعدم ثقته بمن نقله , وأي ثقة تبقى في دين يُرمى حملته بالكذب ويُتهمون بالكفر , وبهذا يُعرف مراد القوم .
وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من سب الصحابة أشد التحذير وأمر بالإمساك عن القدح فيهم أو الطعن .(1/46)
ففي الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ما أدرك مُد أحدهم ولا نصيفه )(2) .
وثبت عنه صلى الله عليه وسلم فيما رواه عنه ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال ( إذا ذُكر أصحابي فأمسكوا )(3) . والمراد : إذا ذكروا بغير الجميل .
فالصحابة رضي الله عنهم لا يُذكرون إلا بالخير والجميل والإحسان مع الدعاء لهم بالمغفرة والرحمة والرضوان , خلاف ما يفعله ذوو القلوب المنكوسة والعقول والمعكوسة من خوضٍ في الصحابة أو بعضهم طعناً وتنقصاً وسبًّا وتجريحاً . ففعلوا نقيض ما أمروا به , واقترفوا ضد ما دُعوا إليه .
روى مسلم في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها قالت لعروة بن الزبير ( يا ابن أخي أمروا أن يستغفروا لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فسبوهم )(4) . نعوذ بالله من الزيغ والبهتان , ونسأله سبحانه ألا يجعل في قلوبنا غِلا لأحد من أهل الإيمان , وأن يغفر للصحابة الأبرار العدول الأخيار ولكل من اتبعه بالخير والإحسان .
ثم إن الناظم لمل بين مكانة الصحابة وحث على قول الخير فيهم وحذر من الطعن فيهم قال مبيناً الدليل على ما ذكر .
ــــــــــــــ
(1) أخرجه أحمد في المسند برقم 3839 وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم 320
(2) البخاري برقم 3673 , ومسلم برقم 2541
(3) أخرجه الطبراني في الكبير برقم 1448 , وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم34
(4) مسلم برقم 3022
20- فقد نطقَ الوحيُ المبينث بفضلِهم--- وفي الفتح آيٌ للصَّحابةِ تمدحُ(1/47)
ما سبق هو تقرير لمعتقد أهل السنة والجماعة في الصحابة , وهذا البيت فيه دليل ذلك المعتقد , ولذا فإن المنظومة على اختصارها ذُكِرت فيها المباحث بأدلتها وقوله ( فقد نطق ... ) منن قوله تعالى ( هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ )(الجاثية29)
( الوحي ) هو القرآن الكريم كلام الله , الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد .
( المبين ) الواضح البين الذي لا لبس فيه ولا غموض , والمبين للشرائع والأحكام , والموضح لطريق الحق والهدى من الباطل والضلال .
( بفضلهم ) الجار والمجرور متعلق بالفعل نطق , والقرآن مليء بالأدلة التي تبين فضل الصحابة ومن ذلك ما أشار إليه الناظم رحمه الله بقوله :
( وفي الفتح آي للصحابة تمدح ) وفي نسخة ( وفي الصحابة تمدح ) يشير إلى أن الوحي مليء بالأدلة الدالة على فضل الصحابة , وينبه في الوقت نفسه على كثرة الآيات في سورة الفتح التي تمدح الصحابة وتبين فضائلهم , وعند تأمل هذه السورة نجد مواضع كثيرة فيها مشتملة على مدح الصحابة : ففي أول السورة ( هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا )(الفتح4)
ثم بعدها بآيات ( إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا )(الفتح10)(1/48)
ثم ذكر حال المخالفين من الأعراب , ثم قال ( لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا )(الفتح18)
ثم بعدها بآيات قال ( إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا )(الفتح26)
ثم ختم السورة بقوله ( مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا )(29)
فكل هذه الآيات في فضل الصحابة , بل الآية الأخيرة فيهال ذكر فضل الصحابة في القرآن , وبيان فضلهم في التوراة والإنجيل , بذكر مثلهم في التوراة وهو أنهم ( أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ )
ومثلهم في الإنجيل وهو أنهم ( كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ ... )(1/49)
وهذه الآية احتج بها بعض السلف منهم الإمام مالك على كفر الروافض , لأن الله يقول ( لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ )
وبهذا أنهى الناظم الكلام في الصحابة , حيث بين مكانتهم وفضلهم , وحذر من الطعن فيهم والجرح لهم , وقرر بإيجاز عقيدة أهل السنة والجماعة فيهم - رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم أجمعين .
21- وبالقدرِ المقدورِ أيقِن فإنَّه -- دعامةُ عقدِ الدِّين ، والدِّينُ أفيحُ
هذا البيت في إثبات الركن السادس من أركان الإيمان وهو الإيمان بالقضاء بالقدر , كما جاء في حديث جبريل المشهور , قال أخبرني عن الإيمان . قال ( أنْ تؤمن بالله , وملائكته , وكتبه , ورسله , واليوم الآخر , والقدر خيره وشره ) . وهذا جزء من حديث طويل خرجه مسلم عن ابن عمر عن أبيه عمر رضي الله عنهما , والحديث له قصة كما في مسلم , فإن ابن عمر رضي الله عنه جاءه رجلان فقالا له : إن قِبلنا قومٌ يقرؤون القرآن , ويقولون إن الأمر أُنُفٌ ولا قدر . فقال ابن عمر ( إّذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم وأنهم برء مني , والذي يحلف به عبدالله بن عمر لو أن لأحدهم مثل أحد ذهباً فأنفقه ما قُبل منه حتى يؤمن بالقدر , فإني سمعت أبي يقول : بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر الحديث) (1) .
فالإيمان بالقدر ركن من أركان الإيمان , وأصل من أصول الدين , وعمود من أعمدته , وإنْ انهدم فلا يبقى إيمان ولا دين , فالدين له فروع كثيرة ولكنه يقوم على ستة أصول لا ينفك بعضها عن بعض منها الإيمان بالقدر , وبزوال شيء منها ينهدم الدين ولا يبقى . ولذا جاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال (القدر نظام التوحيد فمن وحد الله وكذب بالقدر فقد نقض تكذيبُه توحيده ) أي أنه إذا لم يكن إيمان بالقدر فليس هناك توحيد . والكفر بالقدر كفر بالله كما قال الإمام أحمد رحمه الله ( القدر قدرة الله ) .(1/50)
وقد جاء في القرآن نصوص كثيرة واضحة الدلالة ليس فيها أدنى إشكال في أن الأمور كلها بقدر , قال تعالى ( إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ )(القمر49)
وقال تعالى ( مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا )(الأحزاب38)
وقال تعالى ( وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ )(التكوير29)
وقال تعالى ( الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى . وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى )(الأعلى3,2)
وقال تعالى ( .. ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى )(طه40)
فكل شئ بقدر الأعيان والصفات , فأعيان المخلوقات وكذلك ما يقوم بها من صفات كالحركات والسكنات والكلام والسكوت كلها بقدر , وقد جاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عند البخاري في خلق أفعال العباد(2)( كل شئ بقدر حتى وضعك يدك على خدك )
ولا تسقط ورقة من شجرة إلا بقدر , حتى العجز والكيس بقدر قدره الله وقضاه كما قال صلى الله عليه وسلم ( كل شيءٍ بقدر حتى العجز والكيس ) رواه مسلم(3) . من حديث عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما .
فكل شئ بقدر ولا يمكن أن يكون في الكون شئ لم يرده الله ولم يخلقه إذ الملك ملكه والخلق خلقه , والإيمان بالقدر بأن يؤمن العبد بأن الله سبق في علمه وجود الكائنات وما يعلمه العباد من خير وشر , وكتب كل ذلك في اللوح المحفوظ , وأن وجود أي شيء من ذلك إنما يكون بمشيئته , وأنه سبحانه الخالق لكل شيء .
وعليه فالإيمان بالقدر لا يكون إلا بالإتيان بمراتب القدر , وهي أربع مراتب :
1) الإيمان بعلم الله الأزلي : وأنه أحاط بكل شئ علماً , وأنه علم ما كان وما سيكون وما لم يكن لو كان كيف يكون ( وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ )(الأنفال23)(1/51)
يقول تعالى ( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ * يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ )(سبأ2,1)
وقال تعالى ( يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ )(لقمان16)
2) الإيمان بالكتابة : وأن كل شيء كتب ودون في اللوح المحفوظ . قال الله تعالى ( وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ * وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ )(القمر53,52)
وقال تعالى ( مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ )(الحديد22)
وعن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة وعرشه على الماء ) رواه مسلم(4) .
وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ( إن أول ما خلق الله القلم قال له اكتب فجرى بتلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة ) رواه أحمد والترمذي(5) .
3) الإيمان بالمشيئة : وأن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يمن . قال الله تعالى ( وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ )(التكوير29)
وقال تعالى ( وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ )(البقرة من الآية255)(1/52)
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في وصيته لابن عباس رضي الله عنهما ( واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء كتبه الله لك , ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء كتبه الله عليك , رُفعت الأقلام وجَفت الصحف )(6)
وللشافعي أربعة أبيات يقول عنها ابن عبدالبر إنها من أثبت ما نسب إليه , ومن أحسن ما قيل في القدر نظماً :
ما شئت كان وإن لم أشأ وما شئت إن لم تشأ لم يكن
خلقتَ العباد على ما علمتَ وفي العلم يجرى الفتى والمسن
على ذا مننتَ وهذا خذلتَ وهذا أعنتَ وذا لم تُعِن
فمنهم شقي ومنهم سعيد ومنهم قبيح ومنهم حسن
4) الإيمان بالإيجاد والخلق : وأن الموجد الخالق للأشياء كلها هو الله تعالى كما قال تعالى ( بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ )(الفاتحة1) .
وقال تعالى ( اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ )(الزمر62)
وقال تعالى ( وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ )(الصافات96)
فهذه مراتب القدر , وليس هناك مخلوق إلا ويمر بهذه المراتب , وهذه المراتب لا إيمان بالقدر إلا بالإيمان بها , وكل مرتبة منها عليها عشرات الأدلة من الكتاب والسنة , وجمعها أحدهم في بيت واحد فقال :
علمٌ كتابهُ مولانا مشيئتُه وخلقُه وهو إيجادٌ وتكوينٌ
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) مسلم برقم 1
(2) برقم 96 مرفوعا
(3) مسلم برقم 2655
(4) مسلم برقم 2653
(5) أحمد في المسند برقم23083 والترمذي برقم2155 وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم 2017
(6) أخرجه الترمذي برقم25106 وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم7959
ثم إنه قد نشأ في الأمة فرقتان ضلتا في هذا الباب . فرقة كان ضلالها بنفي القدر , وأخرى بالغلو في إثباته , وكلاهما على طرفي نقيض , وكلا طرفي قصد الأمور ذميم , وخير الأمور الوسط .(1/53)
وغلاة منكري القدر كانوا ينكرون القدر بمراتبه الأربعة , وهؤلاء ذكر غير واحد من أله العلم أنهم انقرضوا , ثم صار أمر خَلَفِهم إلى إثبات العلم والكتابة وإنكار المشيئة والإيجاد , فيقولون ( إن الله علم فعل الإنسان وكتبه ولكنه لم يشأه ولم يوجده وإنما خلقه الإنسان )
وكان أحمد رحمه الله يقول ( ناظروا القدرية بالعلم فإن جحدوه كفروا وإن أقروا به خصموا ) وهؤلاء يسمون القدرية النفاة , وهم المعتزلة وهو الذين ورد فيهم أنهم مجوس هذه الأمة , لقولهم بخالقين , كالمجوس الذين قالوا بإثبات خالقين النور والظلمة , والمعتزلة أثبتوا خالقين : الله وهو خالق الأعيان , والإنسان وهو خالق أفعاله .
ويقابل هؤلاء القدرية المجبرة وهو الجبرية الجهمية , وهؤلاء غلوا في إثبات القدر , قالوا أفعال العباد بقدرة الله ولا قدرة ولا مشيئة للعبد فيها بل هو كالورقة في مهب الريح مجبور على فعل نفسه , والفاعل الحقيقي هو الله والإنسان ليس له مشيئة بل هو مثل الورقة في مهب الريح , ومن هنا سموا جبرية , وهؤلاء لا يطبقون مذهبهم في كل شئ بل يطبقونه في حالات دون حالات , وهذا تناقض , والتناقض دليل فساد المذهب , وهذه عادة أهل البدع الوقوع في التناقض . فإنه لو زنى الجبري وترك الصلاة وارتكب الموبقات فاعترض عليه أحد قال أنا مجبور كالورقة في مهب الريح .(1/54)
بينما هو نفسه لو جاء شخص وضربه أو اعتدى على ماله أو حق من حقوقه وقال أنا كالورقة في مهب الريح لم يقبل منه الجبري ذلك , وهذا هو التناقض , فهو في الأمور التي يحبها يقول أنا مجبور , وإذا فُعل به ما يكره ترك مذهبه . ومن هنا يعلم أن مذهب أهل البدع ليس عن عقيدة وإنما هو عن أهواء وشهوات . ولذا قال بعض أهل العلم لأحدهم ( أنت عند الطاعة قدري , وعند المعصية جبري ) , لأنه إذا فعل الطاعة : أنا الفاعل لها بمشيئتي ولا قدرة لله عليها , وإذا فعل المعاصي قال : أنا مجبور ولا مشيئة لي . وهذا يبين أنهم أهل أهواء ومتبعون لحظوظ النفس .
ويُرد على الفرقتين بقوله تعالى ( لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ )(التكوير29,28) . ففي قوله ( لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ ... ) رد على الجبرية , وفي قوله ( وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ) رد على القدرية .
( وبالقدر المقدور أيقن ) أي آمن بالقدر المقدور , أي الصادر عن الربِّ سبحانه مقدراً محكماً , وقد عرفنا أنه لا إيمان بالقدر إلا بالإيمان بمراتبه الأربعة .
وقوله ( أَيْقِن ) اليقين ضد الشك والمراد أي لا يكن في قلبك أي شك في ذلك , فاليقين انتفاء الشك , وهو تمام العلم وكماله فإذا وجد شك أو تردد أو ظن ذهب اليقين . ولا يكفي العلم فقط بل لابد من اليقين .
( فإنه دِعامة عقد الدين ) ( الدعامة ) : بكسر الدال : عماد البيت وأساس البناء , و ( العِقْد ) بكسر العين القلادة , فالدين عبارة عن عِقد ينتظم أموراً كثيرةً , وله شعب متنوعة وأجزاء متعددة وأعمال وفيرة وله أعمدة ودعائم يقوم عليها بناؤه , والإيمان بالقدر هو أحد هذه الأعمدة والدعائم التي يقوم عليها هذا البناء , وهذا يؤكد أن زوال هذا الركن يؤدي إلى زوال الدين والإيمان , وانفراط هذا العقد المبارك .(1/55)
( والدين ) أل هنا للعهد وهو إما ذهني أو ذكري , وهو هنا ذهني أي الدين المعهود وهو دين الإسلام ( إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ ... )(آل عمران19) وهو الدين الذي ارتضاه الله لعباده ( ... الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ... )(المائدة3) , ولا يقبل الله من أحدٍ دين سواه ( وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ )(آل عمران85)
( أفيح ) أي واسع , فيه أعمال كثيرة , وطاعات عديدة , وعبادات متنوعة وأحكام جليلة , ولكنه يقوم على أعمدة راسخة وأسس متينة , ومن تلك الأعمدة الإيمان بالقدر .
وينبغي أن يعلم أنه لا يتنافى مع الإيمان بالقدر فعل الأسباب بل إن من تمام الإيمان بالقدر فعل الأسباب , ويوضحه حديث علي رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما قال له بعض الصحابة : فيما العمل ؟ أفي أمر مستأنف أم في قدر وقضي ؟ ( بل فيما قدر وقضى ) قالوا ففيما العمل ؟ قال ( اعملوا فكل مسير لما خلق له , فمن كان من أهل السعادة يسره الله لعمل أهل السعادة ومن كان من أهل الشقاوة يسره لعمل أهل الشقاوة )(7) .(1/56)
وهذه الكلمة من النبي صلى الله عليه وسلم فيها برد اليقين والشفاء . ولذا لما قال لهم ذلك كان منهم أمران : آمنوا بالقدر , وتنافسوا في فعل الأعمال واجتهدوا في الإتيان بالطاعات . وقوله صلى الله عليه وسلم ( اعملوا ) لا يُوجه لمن لا مشيئة له , بل هو موجه لمن لا مشيئة يختار بها ما يريد , وهذا يدل على أن الإنسان عنده مشيئة بها يختار ما يريد وهذا متقرر عند كل الناس في أمر الدنيا . وقوله صلى الله عليه وسلم ( فكل مسير لما خلق له ) أي : أن مشيئة العبد التي يعمل بها تحت مشيئة الله فالعبد له مشيئة بها يختار ويريد وليس مجبراً كالورقة في مهب الريح . فإذا كان الأمر كذلك فإن علينا أن نحرص على ما ينفعنا ونستعين بالله ونطلب منه العون والتوفيق كمال قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه عنه أبوهريرة ( احرص على ما ينفعك واستعن بالله )(8) .
ــــــــ
(7) أخرجه البخاري برقم4948 ومسلم برقم2647
(8) أخرجه مسلم برقم2664
22- ولا تُنكِرَنْ جهلاً نكيراً ومُنكراً **** ولا الحوْضَ والِميزانَ انك تُنصحُ
هذه الأبيات يتحدث فيها الناظم عن الإيمان باليوم الآخر الذي هو أحد أركان الإيمان الستة ، وقد مر في الأبيات السابقة بعض هذه الأركان وهذه الأركان الستة مترابطة لا ينفك بعضها عن بعض والإيمان ببعضها يوجب الإيمان ببعضها الآخر والكفر ببعضها كفر بباقيها.
وقد جمع بين هذه الأركان في نصوص كثيرة من القران قال الله تعالى :(1/57)
( لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ )(البقرة177)
وقال تعالى ( آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ )(البقرة285)
وقال تعالى ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا )(النساء136)
فالإيمان باليوم الأخر أصل من أصول الدين ، ومن لا يؤمن باليوم الآخر لا يؤمن بالله. والناظم يتحدث هنا عن هذا الركن العظيم . ولأن المنظومة مختصرة لا مجال فيها للبسط والإطناب فانه أشار إلى بعض الأمور الكائنة في اليوم الأخر منبهاً بذلك الأمور الأخرى التي لم يتمكن من ذكرها مراعاة الاختصار . وقد ذكر في هذه الأبيات الأربعة جملة من أمور يوم القيامة فذكر منكرا و نكيرا ، والحوض، والميزان، و إخراج عصاه الموحدين من النار والشفاعة ، وعذاب القبر.(1/58)
والإيمان باليوم الآخر ضابطه : الإيمان بكل ما اخبر الله به وما أخبر به رسوله صلى الله علية وسلم مما يكون بعد الموت . وهذا من اجمع ما يكون في تعريف الإيمان باليوم الآخر ،
لشموله لكل ما يكون بداية من دخول القبر إلى افتراق الناس إلى فريقين ، فريق في الجنة وفريق في السعير.
ويدخل في الإيمان باليوم الآخر الإيمان بأشراط الساعة لأنها أمارات وعلامات على دنوها وقرب مجيئها . قال تعالى ( فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ )(محمد18)
وفي حديث جبريل قال ( أخبرني عن الساعة , قال ما المسؤول عنها بأعلم من السائل , قال أخبرني عن أماراتها , قال : أن تلد الأمة ربتها , وأن ترى الحفاة العراة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان )(1) . فالساعة لها علامات كبرى عند قرب قيامها , وعلامات صغرى تكون قبل ذلك .
فالإيمان بهذه العلامات من الإيمان باليوم الآخر .
ثم الإيمان بالقبر وفتنته وعذابه ونعيمه , وأن الناس يفتتنون في القبور . قال صلى الله عليه وسلم ( عذاب القبر حق )(2) وقد كان يتعوذ منه دبر كلا صلاة
( ولا تنكرن ) ( لا ) ناهية , و ( تنكرن ) من الإنكار وهو الجحد وعدم الإثبات
( جهلاً ) مفعول لأجله , أي تنكر وجودهما لأجل جهلك وبسبب قلة علمك. ( نكيراً ومنكراً ) هذان ملكان من ملائكة الله زرق العيون سود الوجوه كما في الترمذي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ( الحديث )(3)
وسبب هذه التسمية لأنهما يأتيان على صورة منكرة لم يعهدها الإنسان وليس فيها أنسٌ للناظرين , ويُسميان الفتانان , لأنهما يفتنان الناس في قبورهم . فالإيمان بالمنكر والنكير من الإيمان باليوم الآخر . وقد سأل رجل الإمام أحمد : هل نقول المنكر والنكير أو الملكين ؟ قال ( المنكر والنكير هكذا هو ) .(1/59)
فالحديث صح في ذكر هذين الاسمين فيجب الإيمان بهذين الاسمين والمعتزلة الذين يحكمون عقولهم في الشرع يردون هذا ولا يؤمنون به ويقولون ( لا يصح أن يقال عن بعض ملائكة الله أنه منكر ونكير ) فأنكروا هذا بالعقل وهذا من غلبة الجهل وقلة العلم من هؤلاء بالشرع ولذا قال الناظم ( جهلا ) أي لا ينكرن يا صاحب السنة بسبب الجهل هذا الأمر .
وهذه إشارة منه إلى أنه لا ينكر منكر ونكير إلا جاهل , أما العالم بالكتاب والسنة فإنه يؤمن به .
والمعتزلة وإن كانوا أهل كلام فإنهم ليسوا أهل علم . ولذا قال أبويوسف ( العلم بالكلام جهل والجهل بالكلام علم ) . فالعلم قال الله قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الصحابة رضوان الله تعالى عليهم . فالمتكلم وإن كان صاحب فصاحة وبيان ومنطق وجدل فإنه جاهل لا علم له .
ثم إن هذين الملكين يأتيان العبد في قبره ويجلسانه ويسألانه من ربك وما دينك ومن نبيك . ولذا من الأمور المهمة نشر هذه الأصول الثلاثة بين الناس وتعليمهم إياها لأنها أول ما يسأل عنها الإنسان في قبره . ولذا كان من نصيحة الإمام محمد بن عبدالوهاب رحمه الله للأمة تأليفه لرسالته الجليلة الأًول الثلاثة وأدلتها . وعلى ضوء جواب الإنسان على هذه الأسئلة وتثبيت الله له من عدم تثبيته يكون الناس على قسمين قسم يعذبون في قبورهم وقسم ينعمون . وعذاب القبر حق , قال الله في حق آل فرعون ( النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ )(غافر46) . فهم الآن يعذبون في القبر يومياً إلى قيام الساعة وهذا حال كل كافر بالله , أما أهل التوحيد ممن هم عصاة وأهل كبائر ليس تعذيبهم في القبر كتعذيب الكافر وإنما يعذبون على قدر كبائرهم . وأما المؤمن فإنه مُنعم في قبره .(1/60)
ولا يجوز إنكار عذاب القبر ونعيمه بالعقل والمنطق والتجارب , خاصة تجارب الملاحدة حيث قالوا ( حفرنا القبور فلم نجد جنة ولا نارا ولم نر عذاباً ولا نعيماً) وليكن فإن الله تعالى يقول في صفة المتقين ( ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) (البقرة2-3) أي : يؤمنون بكل ما غاب عنهم مِما أخرتهم به .
ـــــــــــــــــــــــ
(1) مسلم برقم 1
(2) أخرجه البخاري برقم1372 , ومسلم برقم584
(3) الترمذي برقم 1071 , وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي برقم1071
ثم إن الناظم قد بدأ كلامه عن الإيمان باليوم الآخر بالكلام عن الملكين منكر ونكير إشارة إلى أن القبر وما فيه هو أول منازل الآخرة وأن من مات قامت قيامته , والمؤمن يؤمن بهذا وبكل ما يكون بعده , فنؤمن بالنفح بالصور وهو قرن يُنفخ فيه والموكول به إسرافيل . والنفخات الثلاث نفخة الفزع ونفخة الصعق ونفخة القيام , وبعض العلماء جعلها نفختين , والصحيح أنها ثلاث , وكلها ذكرت في القرآن ( وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ )(النمل87)
( وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ )(الزمر68)
فينفخ في الصور النفخة الأولى فيفزع الناس ثم ينفخ فيه فيصعقون ثم ينفخ فيقومون لرب العالمين وفي الحديث أن بينهما أربعين . ولا يُدرى أربعين ماذا ؟ وجاء في وصف قيامهم بأنهم ( يقومون حفاة عراة غرلا )(4)(1/61)
وكذلك الإيمان الحشر أي حشر الناس في عرصات يوم القيامة لله , ويحشرون كلهم من أولهم إلى آخرهم يجمعون على صعيد واحد ( وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا )(الكهف47)
وكذلك الإيمان بدنو الشمس من الخلائق وتفاوت الناس في العرق ومن يظلهم الله في ظله ومن لا يظلهم .
وكذلك الإيمان بالدواوين ومجيء الرب لفصل القضاء والإيمان بالصراط وكل ما جاء في الكتاب والسنة .
وفي ذكر الناظم للمنكر والنكير وتحذيره من إنكار وجودهما وإنكار ما يقومان به من مهام بأمر الله عز وجل وهما ملكان من الملائكة إشارةٌ إلى وجوب الإيمان بالملائكة عموماً وبأسمائهم ووظائفهم وأوصافهم وأعدادهم الواردة في الكتاب والسنة إجمالاً فيما أجمل وتفصيلاً فيما فُصل , بل الإيمان بهم ركن من أركان الإيمان وأصل من أصوله العظام .
( ولا الحوض والميزان إنك تنصح ) أي ولا تنكرن جهلاً الحوض المورد والذي أعده الله لنبيه ولأمته . وجاء وصف هذا الحوض في السنة أن ( طول شهر وعرضه شهر , وماءه أحلى من العسل , وأطيب من ريح المسك , وعدد كيزانه عدد نجوم السماء , من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبداً )(5)(1/62)
وأحاديث الحوض متواترة كما ذكر ذلك السيوطي وغيره وذكر أنه مروي عن خمسين صحابيا . وجاء في الحديث ( لكل نبي حوض )(6) . وفي بعض الأحاديث ذكر صلى الله عليه وسلم ( أن بعض الناس يذاد عن هذا الحوض فيقول النبي أصحابي أصحابي فيقال له إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك )(7) وهو محمول على من ارتد عن الإسلام ومات مرتدًّا , ومن العجب أن يحمل الروافض هذا الحديث على صحابة النبي صلى الله عليه وسلم , مع أنهم ومن على شاكلتهم هم المعنيون بهذا الحديث , لأن الصحابة لم يغيروا ولم يحدثوا بعده كما قال تعالى ( مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا )(الأحزاب23) .
وأما الذين بدلوا وحرفوا هم الروافض حتى إنهم حرفوا القرآن وزادوا فيه وأنقصوا . فهم رموا الصحابة بما هم أهله . والشاهد أن الإيمان بالحوض المورود واجب ولا ينكره إلا جاهل بالحديث .(1/63)
( والميزان ) ومن الإيمان باليوم الآخر الإيمان بالميزان الذي ينصب يوم القيامة ( وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ )(الأنبياء47) . فتوزن الأعمال والدواوين والأشخاص . وهو ميزان حقيقي له كفتان يوضع على كفه الحسنات ويوضع على كفة السيئات . ومن ذلك حديث البطاقة . والشاهد فيه ذكر الكفتين وهو قوله ( فتوضع البطاقة في كفة والسجلات في كفة ) وجاء في بعض الآثار ( له لسان وكِفتان ) وهو مروي عن ابن عباس رضي الله عنهما , ذكره أبوالشيخ من طريق الكلبي , ويروي أيضاً عن الحسن , ولم يأت ذكر اللسان في حديث مرفوع . وأحاديث الميزان متواترة , والقرآن مليء بالآيات عن الميزان , وهي موازين تزن بمثاقيل الذر ( فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ)(الزلزلة 7-8) . ويدخل تحت الإيمان بالدواوين وأخذ الكتاب باليمين أو بالشمال من وراء الظهر , وما يتبع ذلك من نعيم أو عذاب , ومن انقسام إلى فرقتين فريق في الجنة وفريق في السعير .
ـــــــــــ
(4) أخرجه مسلم برقم2859
(5) أخرجه البخاري 6579 , ومسلم 2292
(6) أخرجه الترمذي برقم2443 , وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم1589
(7) أخرجه البخاري برقم 6582 , ومسلم 2304
23- وقُلْ يُخرجُ اللهُ الْعظيمُ بِفَضلِهِ *** مِنَ النارِ أجْساداً مِنَ الفَحْمِ تُطرحُ
هذان البيتان يذكر الناظم رحمه الله فيهما أهل الكبائر من عصاة الموحدين الذين أدخلوا النار بسبب كبائرهم وذنوبهم , وأنهم يخرجون على هذه الهيئة التي ذكر وأنهم يُطرحون على أنهار الجنة فيحيون بمائه وتعود لهم صحتهم وتزدان هيأتهم .(1/64)
وقد أخذ هذا رحمه الله من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( أما أهل النار الذين هم أهلها لا يموتون فيها ولا يحيون . ولكنْ ناس أًصابتهم النار بذنوبهم فأماتتهم إماتةً حتى إذا كانوا فحماً أذن بالشفاعة فجيء بهم ضبائرَ ضبائرَ فبثوا على أنهار الجنة , ثم قيل : يا أهل الجنة أفيضوا عليهم . فينبتون نباتَ الحِبةِ تكون في حميل السيل ) فقال رجل من القوم كأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد كان بالبداية . رواه مسلم(1) . وقوله ( ضبائر ) أي جماعات .
وفي الصحيحين عنه رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه ( يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار , ثم يقول الله تعالى : أخرجوا من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان , فيخرجون منها قد اسودوا فيُلقون في نهر الحياء أو الحياة - شك مالك - فينبتون كما تنبت الحِبة في جانب السيل ألم تر أنها تخرج صفراء ملتوية )(2)
( وقل بخرج الله العظيم بفضله ) أي يخرجهم من النار وإنما هو فضل من الله وحتى إذنه للشافع فضل من الله وتشريف له أي للشافع .
( من النار أجساداً من الفحم ) لأن النار أهلكتهم وأماتتهم وأحرقتهم حتى صاروا فحماً , والفحم هو الجمر الطافي وهو أسود اللون .
( تطرح ) أي يلقون على النهر فالجار والمجرور في قوله (على النهر ) متعلق بالفعل المضارع ( تطرح ) .
ـــــــــــ
(1) مسلم برقم 185
(2) البخاري برقم22 , ومسلم برقم 184
24- عَلى النهرِ في الفِرْدوسِ تَحْيَا بِمَائِهِ *** كَحِبِّ حَمِيلِ السَّيْلِ إذْ جَاءَ يَطْفَحُ
( الفردوس ) اسم من أسماء الجنة , ويطلق على أعلى الجنة وفي الحديث , قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إذا سألتم الله الجنة فاسألوه الفردوس فإنه أعلى الجنة ووسط الجنة وفوقه عرس الرحمن )(1) .(1/65)
( كحِب حميل السيل ) وفي بعض النسخ ( كحِبة حميل السيل ) وهما بمعنى واحد , ( والحِب ) بالكسر هو بزور الصحراء مِما ليس بقوت , وقيل هو نبت صغير ينبت في الحشيش , وأمَّا ( الحَبة ) بفتح الحاء فهي ما يزرعه الناس , وحميل السيل أي : الذي يحمله السيل , لأن السيل إذا جاء حمل معه البذور ثم يلقيها على جنبتيه ثم تحيى هذه البذور وتنبت بماء السيل , وهكذا الشأن يكون في هؤلاء المخرَجين .
( إذا جاء يطفح ) أي : إذ جاء ذلك السيْل يعني وقت مجيئه ( يطفح ) أي يفيض , يُقال طفح الإناء أي : امتلأ وارتفع الماء فيه .
وهؤلاء الذين ضُرب لهم هذا المثل هم من أهل الكبائر والعظائم فيما دون الشرك , وأمَّا المشركين الكفار فهم مخلدون في النار أبد الآبدين , لا يُقضى عليهم فيموتوا ولا يُخفف عنهم من عذابهم , ولا يخرجون منها أبداً كما قال تعالى ( وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ * وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ )(فاطر36-37)
فهذا شأن الكفار ومآلهم , وأمَّا مرتكبو الكبائر وعصاة الموحدين فحكمهم عند أهل السنة أنهم تحت المشيئة إن شاء الله عذبهم وإن شاء غفر لهم وإن أدخلهم النار فلا يخلدون فيهل بل يخرجون بشفاعة الشافعين وبرحمة أرحم الراحمين .
والبيتان (23-24) يتضمنان الرد على الخوارج والمعتزلة الذين يقولون إن مرتكب الكبيرة مخلد في النار .
وفي البيتين أيضاً إشارة إلى الجنة ونعيمها والنار وعذابها , والإيمانُ بذلك وبكافة التفاصيل الواردة في الكتاب والسنة المتعلقة بالجنة والنار هو من الإيمان باليوم الآخر .
ـــــــــ(1/66)
(1)البخاري برقم 6987
25- وإن رَسُولَ اللهِ للخَلْقِ شَافِعٌ *** وقُلْ في عَذابِ القَبْرِ حَقّ موَُضحُ
( وإن رسول الله ) فيه الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم ويجمع خصائصه، والرسول : هو من بعثه الله بوحيه الكريم و ذكره الحكيم مبشرا ونذيرا و داعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا .
والمراد برسول الله هنا ، أي محمد صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين وإمام المرسلين وقائد الغر المحجلين ، صاحب المقام المحمود والحوض المورود الشافع المشفع صلوات الله وسلامه عليه.(1/67)
( للخلق ) إشارة إلى الشفاعة العظمى التي تكون في عرصات يوم القيامة والتي يغبطه عليها الأولون والآخرون ، وهذه الشفاعة من الرسول صلى الله عليه وسلم تكون لجميع الخلائق بان يبدأ الله في حسابهم ، و حديث الشفاعة حديث متواتر قد ورد من عدة اوجه عن جماعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم منهم أبو بكر وابن عمر وابن عباس وابوهريرة وانس وحذيفة وغيرهم رضي الله تعالى عن الصحابة أجمعين ، ومن هذه الأحاديث ما رواه الشيخان من حديث أبى هريرة - رضي الله تعالى عنه - قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( انا سيد الناس يوم القيامة، وهل تدرون مم ذلك يجمع الناس الاولين والاخرين في صعيد واحد، يسمعهم الداعي، وينفذهم البصر، وتدنو الشمس، فيبلغ الناس من الغم والكرب ما لا يطيقون ولا يحتملون فيقول الناس الا ترون ما قد بلغكم الا تنظرون من يشفع لكم الى ربكم فيقول بعض الناس لبعض عليكم بادم فياتون ادم عليه السلام فيقولون له انت ابو البشر خلقك الله بيده . ونفخ فيك من روحه، وامر الملائكة فسجدوا لك، اشفع لنا الى ربك، الا ترى الى ما نحن فيه الا ترى الى ما قد بلغنا فيقول ادم ان ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله، وانه نهاني عن الشجرة فعصيته، نفسي نفسي نفسي، اذهبوا الى غيري، اذهبوا الى نوح، فياتون نوحا فيقولون يا نوح انك انت اول الرسل الى اهل الارض، وقد سماك الله عبدا شكورا اشفع لنا الى ربك، الا ترى الى ما نحن فيه فيقول ان ربي عز وجل قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وانه قد كانت لي دعوة دعوتها على قومي نفسي نفسي نفسي اذهبوا الى غيري، اذهبوا الى ابراهيم، فياتون ابراهيم، فيقولون يا ابراهيم، انت نبي الله وخليله من اهل الارض اشفع لنا الى ربك الا ترى الى ما نحن فيه فيقول لهم ان ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله، واني قد كنت كذبت ثلاث كذبات ـ فذكرهن(1/68)
ابو حيان في الحديث ـ نفسي نفسي - نفسي، اذهبوا الى غيري اذهبوا الى موسى، فياتون موسى، فيقولون يا موسى انت رسول الله، فضلك الله برسالته وبكلامه على الناس، اشفع لنا الى ربك الا ترى الى ما نحن فيه فيقول ان ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، واني قد قتلت نفسا لم اومر بقتلها، نفسي نفسي نفسي، اذهبوا الى غيري، اذهبوا الى عيسى، فياتون عيسى فيقولون يا عيسى انت رسول الله وكلمته القاها الى مريم وروح منه، وكلمت الناس في المهد صبيا اشفع لنا الا ترى الى ما نحن فيه فيقول عيسى ان ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله ـ ولم يذكر ذنبا ـ نفسي نفسي نفسي، اذهبوا الى غيري اذهبوا الى محمد صلى الله عليه وسلم فياتون محمدا صلى الله عليه وسلم فيقولون يا محمد انت رسول الله وخاتم الانبياء، وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تاخر، اشفع لنا الى ربك الا ترى الى ما نحن فيه فانطلق فاتي تحت العرش، فاقع ساجدا لربي عز وجل ثم يفتح الله على من محامده وحسن الثناء عليه شيئا لم يفتحه على احد قبلي ثم يقال يا محمد ارفع راسك، سل تعطه، واشفع تشفع، فارفع راسي، فاقول امتي يا رب، امتي يا رب فيقال يا محمد ادخل من امتك من لا حساب عليهم من الباب الايمن من ابواب الجنة وهم شركاء الناس فيما سوى ذلك من الابواب، ثم قال والذي نفسي بيده ان ما بين المصراعين من مصاريع الجنة كما بين مكة وحمير، او كما بين مكة وبصرى )(1) .
ويدخل في عموم قول الناظم : ( للخلق شافع ) الإيمان بجميع أنواع الشفاعات الواردة المختصة بالنبي صلى الله عليه وسلم مثل شفاعته بأهل الجنة بدخول الجنة وشفاعته لعمه أبى طالب بان يُخفف عنه العذاب ، وشفاعته لأهل الكبائر ممن استحقوا دخول النار بان لا يدخلوها ومن دخلها منهم بأن يخرج منها، وهذه الشفاعة يشاركه الأنبياء والصالحون والملائكة.(1/69)
( وقل في عذاب القبر حق موضح ) أخي آمن وصدق بعذاب القبر.
و( القبر ) مفرد جمعه قبور واقبر، وهو من نعم الله ومنته على بني آدم هداهم لهذا الأمر تكريما وإحسانا ، قال الله تعالى ( ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ )(عبس21) , أي : جعل له قبراً يُوارى فيه بدنه إكراماً له وتفضلاً عليه , ولم يجعله ممن يلقى على وجه الأرض ويتأذى منه الناس أو تأكله الوحوش والطيور والسباع.
( موضح ) أي موضح في الكتاب والسنه ، ولذا يجب على كل مسلم أن يقول عذاب القبر حق، و الأدلة على أن عذاب القبر حق من الكتاب والسنه كثيرة، قال الله تعالى عن ال فرعون( النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ )(غافر46) .
وعن عائشة رضي الله تعالى عنها إن يهودية دخلت عليها فذكرت عذاب القبر فقالت لها أعاذك الله من عذاب القبر فسالت عائشة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عذاب القبر فقال ( نعم عذاب القبر حق ) قالت عائشة رضى الله عنها : فما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد صلى صلاة إلا تعوذ من عذاب القبر . رواه البخاري(2) وفي رواية لأحمد ( أيها الناس استعيذوا بالله من عذاب القبر فان عذاب القبر حق )(3)
وعن آبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( اذا تشهد أحدكم فليستعذ بالله من أربع يقول اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم ومن عذاب القبر ومن فتنة المحيا والممات ومن شر فتنة المسيح الدجال ) رواه المسلم ( 4)
ــــــــــ
(1) البخاري برقم 4712 , ومسلم برقم 194
(2) تقدم تخريجه
(3) أحمد في المسند برقم25025
(4) مسلم برقم 588
26-
ولاَ تُكْفِرنْ أَهلَ الصلاةِ وإِنْ عَصَوْا *** فَكُلهُمُ يَعْصِي وذُو العَرشِ يَصفَحُ(1/70)
هذه الأبيات تشتمل على بيان حكم مرتكب الكبيرة، وهي أول المسائل التي نشبت فيه الخلاف بين فرق الأمة. فنشأت مذاهب الخوارج والمعتزلة والمرجئة ، والناظم في هذه الأبيات بين أولا قول أهل السنه القول الحق ، ثم ذكر قول الخوارج محذرا منه ، ثم ذكر قول المرجئة محذرا منه .
بدا بقول الحق فقال ( ولا تكفرن أهل الصلاة وان عصوا ... ) ( لا ) ناهيه . والمعنى : لا تعتقد كفر أهل الصلاة وان عصوا كما في الحديث ( من صلى صلاتنا واكل ذبيحتنا واستقبل قبلتنا فهو المسلم له ما لنا وعليه ما علينا )(1) وفي قوله ( أهل الصلاة ) إشارة إلى كفر تارك الصلاة وأن من لا يصلي فهو كافر ليس بمسلم ، والأدلة على كفر تارك الصلاة في الكتاب والسنة كثيرة جدا ، قال الله تعالى ( فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ ) (التوبة11)
و قال تعالى مخبرا أن أصحاب الجحيم ( مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ) (المدثر42-43)
وروى مسلم في صحيحه عن جابر بن عبدالله - رضي الله تعالى عنهما - قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة )(2)
و في المسند وغيره عن بريدة - رضي الله تعالى عنه - قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ( العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر )(3)
و في المسند وغيره عن عبدالله بن عمرو بن العاص - رضي الله تعالى عنهما - عن النبي صلى الله عليه وسلم انه ذكر الصلاة يوما فقال ( من حافظ عليها كانت له نورا وبرهانا ونجاة ، ومن لم يحافظ عليها لم يكن له نورا ولا برهانا ولا نجاة ، وكان يوم القيامة مع قارون وفرعون وهامان وأبي بن خلف )(4)
وروى الترمذي عن عبدالله بن شقيق قال ( كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يرون شيئا من الأعمال تركه كفر غير الصلاة )(5)(1/71)
( وان عصوا ) سواء ارتكبوا كبائر أو صغائر ، فلا يجوز تكفيرهم بذلك، فهو رحمه الله يتحدث عن حكم المسلم المصلي إذا ارتكب معاصي دون الكفر فانه لا يكفر ولا يخرج من الدين ، إما إذا وقع في الكفر أو الشرك بأمر آخر ، إما هنا فالناظم يتكلم عن أهل الصلاة إذا وقع من أحدهم ذنوب دون الشرك بالله فانه لا يجوز تكفيره باتفاق أهل السنة و الجماعة
مادام يعلن إسلامه و لم يأتي بأمر مكفر ، أما إذا جاء مكفر فانه يكفر ، وفي عامة كتب الفقه يعقد باب حكم المرتد ، و فيه تبيين الأمور التي من قالها أو فعلها كفر وارتد عن الإسلام ، ولشيخ الإسلام الإمام الجدد محمد بن عبدالوهاب رحمه الله رسالة نافعة مختصرة بعنوان ( نواقص الإسلام ) ذكر فيها أمورا عشرة ينتقض بفعل أي واحد منها الإسلام .
ثم في تكفير المعين لا بد من إقامة الحجة علية فإذا أقيمت عليه الحجة فانه حينئذ يكفره أهل العلم ، لأنهم اعلم بأحوال الناس ومن يستحق منهم التكفير ومن لا يستحق ، و إما عامة الناس فشانهم الاستفادة من أهل العلم.
والأدلة على أن أهل الصلاة لا يكفرون وان عصوا كثيرة ، من ذلك قوله تعالى ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا ) (التحريم8) والخطاب للمطيع والعاصي وناداهم جميعا باسم الإيمان ، وفي هذا دليل على أن مرتكب الكبيرة ليس بكافر.
وكذلك قوله ( وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا )(الحجرات9) والاقتتال من كبائر الذنوب. ومع ذلك سماهم مؤمنين فدل ذلك على أن ارتكاب الكبائر لا يخرج من الملة .
وكذلك قوله تعالى ( فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ )(البقرة178) و هذه وردت في شأن القتال ، فسما القاتل أخا لولي المقتول والاخوة هنا اخوة الدين ، فدل ذلك على أن القتل وغيره من كبائر الإثم لا ينتقل به المسلم من الدين.(1/72)
ولما كانت المنظومة مختصرة لا يمكن استيعاب الأدلة فيها اكتفى الناظم بالإشارة إلى قوله صلى الله علية وسلم ( كل بني أدم خطاء وخير الخطائين التوابون )(6) ولهذا قال ( فكلهم يعصي ) فإذا كان تكفير أهل المعاصي سائغا فلا يبقى أحد عندئذ على الإسلام ، فان النبي صلى الله عليه وسلم اخبر في هذا الحديث الذي أشار إليه الناظم أن كل بني أدم خطاء . وفي الحديث الآخر قال ( لو لم تذنبوا لذهب الله بكم وجاء بقوم يذنبون ويستغفرون فيغفر لهم )(7)
( وذو العرش يصفح ) كما في قوله تعالى( قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرحيم ) (الزمر53) وهذا دلالة على عظيم عفو الله ، وجميل صفحة ، وسعة مغفرته ، وكما رحمته ، وانه سبحانه لايتعاظمه ذنب أن يغفره، فمن تاب تاب الله عليه ، والحسنات ماحية للذنوب ، والمصائب كفارات ، والله ذو الفضل العظيم .
( ذو العرش ) ما يقال فيه ( ذو ) شانه شان المضافات إلى الله وهي على نوعين :
+1" إضافة الصفة إلى الموصوف كما في قوله تعالى( تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ)(الرحمن78) . فالجلال والإكرام وصفان لله تعالى
+2" إضافة المخلوق إلى الخالق ومنه قوله تعالى( ذْو الْعَرْش )(غافر15) فالعرش مخلوق من مخلوقات الله وهذه الإضافة تقتضي التشريق والتكريم .
والعرش هو أكبر المخلوقات ، وهو سقفها وهو على المخلوقات كالقبة . والعرش الحقيقي وهو في اللغة سرير الملك كما في قوله ( إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ )(النمل23) أي ملكة سبأ .(1/73)
وعرش الرحمن له قوائم كما في الحديث ( فإذا موسى اخذ بقائمه من قوائم العرش )(8) وله حملة و هم من الملائكة وعددهم ثمانية ( وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ )( الحاقة17) و هناك ملائكة حافون من فوق العرش . وصفات العرش كثيرة .
ويجب الإيمان بوجود العرش ولا يجوز الخوض فيه بالتأويلات الفاسدة ، بل نومن بأنه عرش حقيقي عظيم كريم مجيد ، ونومن بجميع صفاته الواردة في القران والسنه ، ونومن بان الله مستو عليه استواء يليق بجلاله كما قال ( الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى )(طه5)
أما أهل الكلام فلا يؤمنون بالعرش بل يؤولونه بتأويلات فاسدة . وكذلك يحرفون معنى الاستواء فقوله تعالى ( الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى )(طه5) ما من كلمة من هذه الآية إلا وقد حرفها هؤلاء ، ولهم شبه بها يجحدون الاستواء من أعظمها : لو كان الله مستويا على العرش للزم إن يكون محتاجا إليه كما قال تعالى ( وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ * لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ... )(الزخرف12-13) ولو غرق الفلك لغرق من عليه و لو سقطت الدابة لسقط من عليها ، فدل علي احتياجه إلى الفلك والأنعام والى كل ما يستوي عليه ، ثم جاءوا إلى قوله تعالى ( الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى )(طه5) ولم يفهموا من الاستواء المضاف في الآية إلى الله إلا عين استواء المخلوق وقالوا يلزم من إثبات ذلك احتياجه إلى العرش ، فبناء على هذه الشبهة التي في عقولهم ، نفوا استواء الله على العرش ، وبعد ذلك هم إما أحد خيارين : إما أن يقولوا الله ليس فوق ولا تحت ولا داخل العالم ولا خارجه ، و إما أن يقولوا الله في كل مكان ، فهم فروا من شر ثم وقعوا شرور اعظم و بلاء اشد .(1/74)
وعوداً على مرتكب الكبيرة فالقول الحق فيه انه لا يكفر ، ولا يقال انه مؤمن كامل الإيمان ، و إنما يقال مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته أو يقال مؤمن ثم انتقل الناظم إلى ذكر قولين باطلين في المسألة فقال:
ــــــــــ
(1) البخاري رقم 391
(2) مسلم برقم 82
(3) أحمد في المسند برقم23325 وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم4143
(4) أحمد في المسند برقم 6576 قال الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله (بإسناد حسن) مجموع فتاواه 10/278
(5) الترمذي برقم 2622 , وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي 2622
(6) الترمذي برقم 2499 وحسنه الألباني في صحيح سنن الترمذي 2499
(7) الحاكم في المستدرك برقم 7623 وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم967
(8) البخاري برقم4638 ومسلم برقم 2374
27- ولَا تَعتقِدْ رأيَ الْخَوَارجِ إِنهُ *** َمقَالٌ لَمنْ يَهواهُ يُردي ويَفْضَحُ
( ولا تعتقد ) لا تؤمن ولا تدن .
( رأي الخوارج ) عبر عنه بأنه رأي , لأنه رأي من نتائج عقولهم ومن نسج أفكارهم لا يقوم على دليل من الكتاب والسنة .
والخوراج إنما سموا بذلك لأمرين :
1+1" أنهم خرجوا على الخليفة علي بن أبي طالب رضي الله عنه , وكفروه وناصبوه العداء .
+2" أنهم خرجوا على السنة ففارقوها سواء فيما يتعلق بولي الأمر أو بالمسائل الأخرى.
فالناظم يحذر من الخوارج وقد صحت الأحاديث في التحذير منهم قال الإمام أحمد : صحت من عشرة أوجه . فهو يحذر من رأي الخوارج عموماً , ومن رأيهم في مرتكب الكبيرة خصوصاً , فإن مذهبهم في مرتكب الكبيرة أنه يكون كافراً خارجاً من الملة وهو يوم القيامة من المخلدين في النار أبد الآبدين .
والمعتزلة قالوا بقول الخوارج في حكم مرتكب الكبيرة واختلفوا في شيء واحد . فاتفقوا أنه يخرج من الإيمان وأنه يخلد يوم القيامة في النار .(1/75)
وخالفوهم في مسألة التنصيص على أنه كافر فقالت المعتزلة ليس بمؤمن وليس بكافر بل هو في منزلة بين المنزلتين فحقيقة قولهم : ليس عنده شيء من الإيمان ولم يدخل في الكفر . وفي الحقيقة مؤدى المذهبين واحد .
( إنه مقال لمن يهواه ) هذا تعبير دقيق , لأنه هذه الفرق والمذاهب في حقيقة أمرها مجرد أهواء بها يتركون الكتاب والسنة , ولذا جاء في الحديث ( وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة في الأهواء )(1) فهو يمتلئ قلبه بالهوى فيعمى بصره ولا يهتدي إلى حق ولا يبصر نصا ولا حديثاً بل يمضي في هواه . والذي يهوى مقال الخوارج لا يحصل من ورائه إلا الخسران والخزي والفضيحة ولهذا قال الناظم ( يردي ويفضح ) فمآل من يهوى هوى الخوارج الخسران والردى في الدنيا والآخرة , وكذلك يفضح ويخزي ولا أعظم من هذا الخزي بأن يكفر المسلمين يوترك الملحدين ويتسلط على أهل الإسلام ويسلم منه عبَّاد الأوثان .
ـــــــــــ
(1) رواه ابن أبي عاصم في السنة بهذا اللفظ برقم69 , وقد صححه الألباني في تحقيقه للسنة .
28- ولا تكُ مُرْجيًّا لَعُوبا بدينهِ *** ألاَ إِنمَا المُرْجِي بِالدينِ يَمْزحُ
ثم انتقل إلى قول المرجئة فقال ( ولا تك مرجيَّا ... )
ما وصف به الناظم المرجئة من أحسن ما يوصفون به فإن المرجئة يمزحون بالدين ويلعبون به , وكلما غلا المرء في الإرجاء كان مزحه ولعبه بالدين أكبر فغلاة المرجئة يقولون لا يضر من الإيمان ذنب كما لا ينفع مع الكفر طاعة . والإيمان عندهم المعرفة فقط . فأي مزح ولعب بالدين أعظم من هذا , وأي فتح لباب المعاصي والموبقات أعظم من هذا . ينقل عن أحد المرجئة أنه مر على رجل يشرب الخمر , فشتمه المخمور , فقال المرجي : أهذا جزائي وقد جعلتك مؤمناً كامل الإيمان .
والإرجاء في اللغة التأخير , قال تعالى ( قالوا أَرجِهْ وأَخَاهُ وَاَرْسِلْ في المدائنِ حاشِرينَ) (الأعراف111)(1/76)
وإنما سمي المرجئة بذلك لأنهم أخروا العمل عن الإيمان وقالوا العمل ليس جزءا من الإيمان .
ثم افترق المرجئة إلى فرق :
قسم قالوا : الإيمان المعرفة فقط .
وقسم قالوا : إنه مجرد التصديق .
وقسم قالوا : إنه مجرد النطق .
وقسم قالوا : إنه مجرد النطق والاعتقاد .
وهم متفاوتون في الإرجاء , متفقون على إخراج العمل من مسمى الإيمان . وبقدر حظهم من الإرجاء والغلو فيه يستحقون من الوصف الذي ذكره الناظم .
ووجه اللعب والمزح في الدين على ضوء هذه العقيدة : أن الفاسق إذا قيل له : إيمانك مثل إيمان النبي صلى الله عليه وسلم فهل يُقبِل على الدين ؟ أم أنه سيقول إذا كان إيماني تاما كاملاً وهذه حالي مثلَ إيمان النبي صلى الله عليه وسلم فما الحاجة إلى الالتزام بالدين , فتكون النتيجة إذاً هي اتخاذ الدين لهواً ولعباً , والغلاة من المرجئة يقولون : كما أنه لا ينفع مع الكفر طاعة فإنه لا يضر مع الإيمان ذنب . وهذا قول في غاية الخبث والفساد , وهو سبيل لترك الصلوات ومنع الزكاة وترك الصيام والحج وغير ذلك من الطاعات وذريعة لفعل الفواحش والموبقات ولا يرتاب عاقل أنه هذا لعب بالدين , وأي عبث أفضع وأشد من هذا العبث .
وعلى كل فهذه الأبيات الثلاثة اشتملت على بيان أقوال الطوائف في مرتكب الكبيرة , وهي ثلاثة أقوال : قول أهل السنة والجماعة وهو قول عدل وسط , وقولان متناقضان .
29- وقلْ : إنمَا الإِيمانُ : قولٌ ونِيةٌ *** وفعلٌ عَلَى قولِ النبِي مُصَرحُ
قوله ( وقل إنما الإيمان ... ) الخ
ذكر رحمه الله في هذا البيت عقيدة أهل السنة في الإيمان وانه عندهم يقوم على ثلاثة أركان : اعتقاد بالقلب , وقول باللسان ,وعمل بالقلب , والجوارح . وقد دل على دخول هذه الأمور الثلاثة في الإيمان أدلة كثيرة في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي لا تحصى لكثرتها .(1/77)
والناظم رحمه الله كعادته يدعو صاحب السنة إلى العقيدة الصحيحة السالمة من الشوائب فيقول ( قل إنما الإيمان ... )
( قول) وذلك بان يقول المرء بلسانه ما أمره الله به , وهو على قسمين :
+1" اصل : وهو قول ما يقوم عليه الدين و يبني, وهو الشهادتان و في الحديث :
( أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا اله إلا الله ... )(1)
+2" وفرع : و هو ما يبني على هذا الأصل وينمو عليه , وهو سائر الطاعات التي تؤدى باللسان كالتسبيح و قراءة القران و آمر المعروف والنهي عن المنكر ونحو ذلك .
( ونية ) أي اتقاد الصحيح في القلب يبني عيه عمله قال صلى الله عليه وسلم ( إنما الأعمال بالنيات ... )(2) فإذا كان عند الإنسان قول وعمل بلا نية في قلبه فهو المنافق وهو الذي يكون ذا أعمال صالحة في الظاهر وباطنه بخلاف ذلك .
قال الله تعالى في بيان حال المنافقين ( وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ ) (البقرة14)
وقال تعالى ( إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ) ( المنافقون1)
( وفعل ) أي أن العمل داخل في مسمى الإيمان ولا يقول بخروجه إلا المرجئة . وقد سبق الكلام عليهم . والفعل هو العمل , وهو شامل لعمل القلب مثل المحبة والخشية والإنابة والحياء والتوكل وغيرها من أعمال القلوب , وعمل الجوارح مثل الصلاة والصيام والزكاة والجهاد وبر الوالدين وصلة الأرحام وغيرها من أعمال الجوارح .(1/78)
ومن الأحاديث الجامعة لهذه الأمور الثلاثة , حديث أبى هريرة المعروف بحديث شعب الإيمان ( الإيمان بضع وسبعون شعبة فاعلاها قول لا اله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء وشعبة من الإيمان )(3) فهذا الحديث الجامع دل على دخول ما يكون باللسان والجوارح والقلب فخي مسمى الإيمان .
إما دلالته على ما يكون باللسان ففي قوله ( أعلاها قول لا اله إلا الله ) والقول يشمل قول القلب وقول اللسان عندها يطلق .
قال تعالى ( الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ) (فصلت 30)
وقال تعالى ( قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ) ( البقرة 136)
فالمراد بقوله ( قولوا ) أي بقلوبكم وألسنتكم . ولذلك لا ينصرف القول إلى القول باللسان فقط إلا عندما يقيد قال تعالى ( يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ) (آل عمران 167) وهي صريحة في أن القول يكون بالقلب واللسان ولذلك أهل السنة عندما يقولون في كتبهم الإيمان قول فهو شامل لامرين قول القلب وقول اللسان .
و أما دلالته على دخول ما يكون بالجوارح في مسمى الإيمان ففي قوله ( أدناها إماطة الأذى عن الطريق ) وهذا يدل على الدخول الأعمال في مسمى الإيمان . فإماطة الأذى عمل يقوم به الإنسان وهو جزء من الإيمان وشعبة ومن شعبه .(1/79)
و أما دلالته على دخول ما يكون بالقلب في مسمى الإيمان ففي قوله ( والحياء شعبة من الإيمان ) والحياء عمل من أعمال القلوب , وهو داخل في مسمى الإيمان , فالخشية والتوكل والرغبة والرهبة وغيرها من الأعمال القلبية المأمور بها كلها داخله في مسمى الإيمان .
( على قول النبي مصرح ) ( مصرح ) مبتدأ مؤخر خبره شبه جمله ( على قول النبي ) وهذه الأمر الثلاثة مصرح بها كما قال الناظم في قول النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة فمن قال بذلك فقوله مبني على ما جاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم , ومما يدل دلاله صريحة على دخول الأعمال في مسمى الإيمان حديث وفد عبد القيس وهو ثابت في الصحيحين وغيرهما من حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال لوفد عبد القيس ( أمركم بأربع : الإيمان بالله وهل تدرون ما الإيمان بالله ؟ شهادة أن لا اله إلا الله و اقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وان تعطوا من مغانم الخمس )(4) وهو صريح في الدخول العمل فقحي مسمى الإيمان ,والنصوص في هذا المعنى كثيرة
ـــــــــ
(1) البخاري برقم2946 , ومسلم برقم21
(2) البخاري برقم 1 , ومسلم 1907
(3) البخاري برقم 9 , ومسلم 35
(4) البخاري برقم 53 , ومسلم برقم 17
30- ويَنْقُصُ طوراً بالمَعَاصِي وتَارةً *** بِطَاعَتِهِ يَمْنَي وفي الوَزْنِ يَرْجَحُ
( وينقص طورا... ) أي الإيمان ينقص تارة , ففي هذا البيت يقرر الناظم إن الإيمان يزيد وينقص ويقوي ويضعف .
أما الزيادة فمصرح بها القران . قال تعالى ( وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ )(التوبة 124 )
وقال تعالى ( وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا )(مريم 76)(1/80)
وقال تعالى ( وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا )(الإسراء 109) والهدى والخشوع من الإيمان .
و أما النقصان فمصرح به في السنة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( ما رأيت من ناقصات عقل ودين ... )(1) وهذا النقص لا تحاسب عليه المرأة , لأنها مأمورة بترك الصلاة والصيام وقت الحيض , وقوله صلى الله عليه وسلم ( من رأى منكم منكرا فليغيره بيده , فان لم يستطع فبلسانه , فان لم يستطع فبقلبه وذلك اضعف الإيمان )(2)
وقد جاءت آثار عن الصحابة الصريحة في أن الإيمان يزيد وينقص , فعن عمير بن حبيب الخطمي انه قال : الإيمان يزيد وينقص . قيل وما زيادته ونقصانه ؟ قال إذا ذكرنا الله وحمدناه وسبحانه فتلك زيادته ، وإذا غفلنا و نسينا فذلك نقصانه .
و في هذا الباب ورد عنهم وعن السلف عموما آثار كثيرة , بل هو محل الإجماع و موضع اتفاق
( بطاعته ينمي ) أي أن الإيمان يزيد بطاعة الله , يقال : نم ينمي نميا ونماء , أي: زاد وكثر , وفي نسخة : ( بطاعته ينمو ) وهو بمعناه يقال : نما ينمو نموا , أي : زاد وكثر. قال في اللسان : + نمي : النماء: الزيادة. نمي ينمي نميا ونماء: زاد وكثر,وربما قالوا ينمو نموا "(3) .
( و في الوزن يرجح ) أي انه في الميزان يوم القيامة يثقل , لزيادته بالطاعات و البعد عن معاصيه .
وفي هذين البيتين بين الناظم أمرين حول عقيدة أهل السنه في الإيمان هما :
1ـ أن الإيمان قول وعمل .
2ـ انه يزيد وينقص .
فالأول فيه رد على المرجئة , والثاني فيه رد على المرجئة وكذلك على الخوارج والمعتزلة الذين يقولون أن الإيمان شيء واحد , لا يزيد ولا ينقص , والذي افسد على جميع هؤلاء دينهم هو اعتقادهم أن الإيمان كل واحد لا يتجزأ , إذا ذهب بعضه ذهب كله .(1/81)
ثم أن الإيمان يزيد بأمور ينبغي على المسلم أن يحرص عليها ليزداد إيمانه منها: تدبر القران , و معرفة أسماء الله وصفاته , والتفكر في آيات الله و مخلوقاته , ودراسة سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم , وسير الأخبار من المؤمنين , والاجتهاد في فعل الطاعات , وينقص بأمر ينبغي على المسلم أن يحذرها ليسلم إيمانه منها : اتباع خطوات الشياطين , و طاعة النفس الأمارة بالسوء, والافتتان بالدنيا ومخالطة أهل الشر والفساد , والغفلة والإعراض , والانسياق وراء الشهوات .
والمسلم العاقل ينصح لنفسه في إيمانه لتثقل به موازينه يوم لقاء الله عز وجل ( ...فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ )(الأعراف 8) .
والناظم رحمه الله يشير إلى. هذا المعنى عندما قال ( وفي الوزن يرجح ) .
ــــــــــــــــــــــ
1- البخاري برقم 304 , ومسلم برقم 79
2- مسلم برقم 49
3- لسان العرب لابن منظور 8/4551
31- ودعْ عَنْكَ آراءَ الرجالِ وقَوْلَهُمْ *** فقولُ رسولِ اللهِ أزكَى وأَشْرحُ
( ودع ) أي : اترك , و احذر, واجتنب .
( آراء الرجال وقولهم ) أي لا تبن دينك وعقيدتك على الآراء المتلفة والأقوال المحدثة بل ابنها على الكتاب و السنة ففيهما السلامة والعصمة , وقد جاء عن السلف رحمه الله نقول كثيرة في التحذير من الآراء و ذم الرأي و أهله , من لك قول عمر ( ( إياكم و أصحاب الرأي , فانهم أعداء الدين , أعيتهم السنة أن يحفظوها فاعملوا عقولهم )(1)
وقال علي ( ( لو كان الدين يؤخذ بالرأي لكان مسح باطن الخف أولى من مسح ظاهره)(2)(1/82)
والمراد بالرأي هنا أي الرأي المذموم القائم علي الحدس والظن والعقل والمجرد مع التعطيل النصوص وإهمالها والصدود عنها الإعراض , وهو الرأي الذي أحدثت به البدع , وأنشأت به الضلالات , وعطلت به الأسماء والصفات , فمثل هذه الآراء العاطلة والتقريرات الباطنة لا ينبغي لمسلم أن يرعيها باله , بل الواجب أن تطرح وان يحذر منها وان لا يغتر بتزين أهل الباطل لها.
يقول الأوزاعي رحمه الله ( عليك بالأثر وان رفضك الناس وإياك و آراء الرجال وان زخرفوه لك بالقول , فان الأمر ينجلي وأنت علي طريق مستقيم ).
قوله ( آراء الرجال ) ذكر الرجال هنا لا مفهوم له , فالرأي الباطل مذموم سواء كان من الرجال أو النساء , ولكن ذكر الرجال , لأنهم أصحاب الرأي في الغالب .
( فقول رسول الله) أي الصحيح الثابت عنه صلى الله عليه وسلم .
( أزكى) أي : اطهر و أنقى واخلص , وفي بعض النسخ ( أولى ) أي : بالأخذ والتقدم .
( واشرح ) أي للصدر والفؤاد والقلب وادعي للطمأنينة . والناس يوم القيامة لا يسألون إلا عن ذلك كما قال تعالى ( وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ )(القصص65) فلا يسألون عن آراء الرجال وأقوالهم و إنما يسألون عما جاءتهم به رسل الله عليهم صلوات الله وسلامه.
ـــــــــــــــــــــ
1- الدارقطني في سننه برقم 12
2- أبوداود برقم 16 , وصححه الألباني في سنن أبي داود برقم 162
32- ولا تَكُ مِن قوْمٍ تلهوْا بدينِهِمْ *** فَتَطْعَنَ في أهلِ الحَديثِ وتقدحُ
قوله( ولاتك من قوم... ) الخ(1/83)
هذا البيت في غاية التناسق مع الذي قبله حيث أشاد النظم في البيت الأول ضمنا بحملة السنة ونقله الحديث من الصحابة والتابعين و من بعدهم فهؤلاء هم خير الناس و أفضلهم , فليس عندهم آراء منطقية ولا فلسفات عقلية ولا أقوال متكلفة , إنما الذي عندهم تمسك بالنصوص والتزام السنة النبوية , ثم حذر في هذا البيت من طريق أهل اللهو الباطل الذين يطعنون في هذا الأئمة والأفذاذ العلماء والأمجاد فقال :
( ولا تك ) أي احذر أن تكون يا صاحب السنة ويا من هداك الله إلى لزم هدي خير الأمة .
( من قوم تلهوا بدينهم ) أي ممن اتخذوا دينهم لهوا ولعبا . وهذا شامل لأهل البد ع والأهواء
و أهل الفسق والفجور , فان الجميع يشتركون في ذلك بين مقل و مستكثر بسبب جهلهم بالسنة , ومن جهل شيئا عاداه .
( فتطعن في أهل الحديث وتقدح ) وهذه نتيجة اتخاذ الدين لهوا ولعبا: السخرية بأهل الحق والتهكم بالمتمسكين بالسنة والواقعية في أهل الخير والفضل والنبل , وهذه هي حيلة المفاليس في كل زمان واوان .
قال الله تعالى ( إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ . وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ . وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ )(المطففين 29-31) .
ولو كان القوم أهل حق وحجة لنافحوا عنه بالبرهان ولقابلوا الحجة بالحجة والدليل بالدليل,
ولكن لا حيلة لعاطل المفلس إلا التهكم والسخرية والاستهزاء , ومن علامات أهل الأهواء والبدع الوقيعة في أهل الحديث والأثر. وهذا من اعظم العقوق واشد اللوم , إذ أهل الحديث لم يأت منهم إلا الأيادي البيضاء والجميل والإحسان .
قال بعض أهل العلم في بيان أهل الحديث وبيان بعض مآثرهم ومناقبهم .
جزى الله أصحاب الحديث مثوبة ** وبواهم في الخلد أعلى المنازل
فلولا اعتناهم بالحديث وحفظه **** ونفيهم عنه ضروب الأباطل
و إنفاقهم اعمارهم في طلابه ***** وبحبهم عنه بجد مواصل(1/84)
لما كان يدري من غدا متفقها **** صحيح حديث من سقيم وباطل
ولم يستبن ما كان في الذكر مجملا *ولم ندري فرضا من عموم النوافل
لقد بذلوا فيه نفوسا نفيسة ****** وباعوا بالحظ اجل كل عاجل
فحبهم فرض على كل مسلم *****وليس يعاديهم سوى كل جاهل
نسأل الله أن يجزيهم عنا وعن المسلمين خير الجزاء, وان يرفع درجاتهم في عليين , وان يجعل لهم لسان صدق في الآخرين , وان يغفر لنا ولهم أجمعين .
33- إِذَا مَا اعْتقدْت الدهْرَ يا صَاحِ هذهِ *** فأَنْت عَلَى خَيْرٍ تبيتُ وتُصْبِحُ
لما أنها الناظم منظومته وقد جمع فيه أهل أصول عقيدة أهل السنة , ختم بهذا البيت , ليؤكد فيه على أهمية هذا المعتقد , وأهمية المحافظة علية.
فقوله ( إذا ما اعتقدت الدهر... الخ ) أي : إذا كنت يا صاحبي على هذه العقيدة المأخوذة من كتاب الله وسنه رسوله صلى الله علية وسلم , ومن أهلها المتمسكين بها , المحافظين عليها فأنت على خير ما بقيت على هذا المعتقد .
( إذا ) أداة لشرط لا يستقبل من الزمان , وما ( ما ) زائدة .
( اعتقدت ) الاعتقاد مأخوذ من العقد , وهو الربط , لان أمور العقيدة لابد من ربط القلب عليها بحيث يكون الإيمان بها جازما بلا شك ولا ارتياب , فان وجد الشك والريب فما ثم عقيدة . قال الله تعالى ( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا ) (الحجرات 15 ) أي : أيقنوا ولم يشكوا .
( الدهر ) أي مدة حياتك وطول عمرك, وفي هذا أن المعتقد لا ينفع إلا إذا بقي عليه العبد إلى أن يتوفاه الله , كما قال تعالى ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ) (آل عمران 102 ) وقال صلى الله علية وسلم في الدعاء للميت ( اللهم من أحييته منا فاحيه على الإسلام , ومن توفيته من فتوفه على الإيمان).(1)(1/85)
( يا صاح ) مرخم صاحب , أي: يا صاحبي , وهذا من لطف الناظم رحمه الله وحسن تودده وكريم نصحه رحمه الله وغفر له وجزاه خير الجزاء و أوفره .
( هذه ) الإشارة هنا إلى الأصول العظيمة المذكورة في هذه المنظومة , وهي أصول جليلة مبنية على الكتاب والسنة , من تمسك به ونجا ومن انحرف عنها كان من الهالكين .
( فأنت) أي : كائن. وهو واقع في جواب الشرط .
( على خير تبيت وتصبح ) وفي نسخة ( تمسي وتصبح ) أي ما دمت على هذه الأصول مقيما . وبها متمسكا فصباحك ومساؤك نومك واستيقاظك كله في خير وعلى خير . وفي هذا إشارة إلى أن المعتقد الصحيح يورث السلامة والخير في كل حال, ويثمر العواقب الحميدة والخير المستمر وحسن المآل , ويدعو إلى الطاعات الصالحة والأخلاق الحميدة والآداب الكريمة وخير الأعمال .
وفي هذا أيضا دعوة إلى الثبات على هذا المعتقد الحق والحذر من التلون وتنقل كما هو الحال عند أهل الأهواء . أما أهل السنة فعقيدتهم ثابتة وإيمانهم راسخ ويقينهم مستمر بتوفيق من الله عز وجل . ثبتنا الله جميعا على الإيمان ورزقنا حسن الختام .
وبهذا انهي رحمه الله هذه المنظومة , وهي على وجازتها حوت اصل المعتقد , أسس الإيمان , وما لم يذكر فيها يدل عليه ما ذكر, والله اعلم , وصلى الله على محمد وعلى اله وصحبه وسلم تسليما مزيدا .
*ملاحظة : هذه بعض التعليقات الأخيرة للشيخ حفظه الله على هذه القصيدة
الخاتمة
وفيها التنبيه على أمرين :
الأول : عدد أبيات هذه المنظومة ثلاثة وثلاثون بيتاً فقط , رواها عنه غير واحد من تلاميذه دون زيادة على ذلك منهم :(1/86)
1- الحافظ أبو حفص عمر بن أحمد بن شاهين : قال الذهبي رحمه الله في سير أعلام النبلاء وفي العلو ( أنشدنا أبو العباس أحمد بن عبدالحميد , قال : أنشدنا الإمام أبو محمد بن قدامة سنة ثمان عشرة وست مائة , أخبرتنا فاطمة بنت علي الوقاياتي أخبرنا علي بن بيان , أخبرنا الحسين بن علي الطناجيري حدثنا أبو حفص بن شاهين أنشدنا أبوبكر بن أبي داود لنفسه هذه القصيدة وجعلها محنته )(1) وذكر الأبيات .
2- الإمام أبوبكر بن محمد بن الحسين الآجري : قال رحمه الله في كتابه الشريعة ( أملى علينا أبوبكر ابن أبي داود في مسجد الرصافة في يوم الجمعة خمس بقين من شعبان سنة تسع وثلاثمائة ... )(2) وذكر الأبيات
3- عبيد الله الفقيه : قال ابن أبي يعلى في طبقات الحنابلة ( أنبأنا علي المحدث عن عبيد الله الفقيه قال : أنشدنا أبوبكر ابن أبي داود من حفظه لنفسه )(3) وذكر الأبيات .
4- أبوبكر احمد بن ابراهيم : قال أبوالحسن علي بن محمد المعافري المالقي في كتابه الحدائق الغناء ( قرأت علي أبي الحسين أحمد بن حمزة بن علي بن الحسن بدمشق عن أبي العز أحمد بن عبيد الله بن أحمد بن كادش السلمي العكبري قال : أخبرنا أبوطالب محمد بن علي بن الفتح االعشاري قال : أنشدنا أبو بكر أحمد بن ابراهيم قال : أنشدنا أبوبكر بن عبدالله بن سليمان بن الأشعث لنفسه في السنة رحمه الله .. )(4) وذكر الأبيات
ولم يزد جميع هؤلاء فيما ذكروه من أبيات هذه المنظومة على ثلاثة وثلاثين بيتاً .
وقد جاء في آخر كتاب السنة لابن شاهين(5) بعد نهاية الكتاب - وهو من لحق بعض النساخ - إيرادٌ لهذه المنظومة مع زيادة سبعة أبيات بعد الأبيات المتعلقة بالعشرة المبشرين بالجنة , فأصبح مجموع أبيات المنظومة بهذه الزيادة أربعين بيتاً .
والأبيات المزيدة هي .
وسبطي رسول الله وابني خديجة *** وفاطمة ذات النقا أمدح
وعائش أم المؤنين وخالنا *** معاوية أكرم به ثم امنح(1/87)
وأنصاره والمهاجرون ديارهم **** بنصرتهم عن كبة النار زحزحوا
ومن بعدهم فالتابعون لحسن ما *** حذوا فعلهم قولاً وفعلاً فأفلحوا
ومالك والثوري ثم أخوهم **** أبوعمرو الأوزاعي ذاك المسبح
ومن بعدهم فالشافعي وأحمد *** إماما هدى من يتبع الحق يفصح
أولئك قوم قد عفا الله عنهم * وأرضاهم فأحبهم فإنك تفلح
ولاشك في أن هذه الأبيات المزيدة ليست لابن أبي داود رحمه الله , إذ جميع من رووا القصيدة من تلاميذه لم يذكروا هذه الزيادة , ومن بينهم ابن شاهين رحمه الله كما تقدم في رواية الذهبي للمنظومة من طريقه ولي س فيها هذه الزيادة , مِما يدل على أنها زيدت في القصيدة بعدُ .
ثم وَجدت أن ثلاثة من هذه الأبيات قد زادها ابن البناء رحمه الله كما نبه على ذلك السفاريني في شرحه لهذه المنظومة . قال رحمه الله في كتابه لوائح الأنوار السنية
( هذه الثلاثة أبيات وأولها قوله : وعائش أم المؤمنين , وثانيها : وأنصاره والمهاجرون ديارهم , وثالثها : ومن بعدهم والتابعون ... ليست من كلام الناظم الذي هو الإمام الحافظ أبوكر ابن أبي داود بل من كلام العلامة المحقق ابن البناء من أئمة علمائنا )(6) .
وعلى هذا فتبقى أربعة أبيات مزيدة على النظم ولا يُدرى من زادها , لكننا نقطع أنها ليست لابن أبي داود رحمه الله تعالى , ولا تصح نسبتها إليه .
أما معاني هذه الأبيات فلا شك في حسنها وأهميتها , على ضعف تراكيبها وأوزانها , حتى أن القارئ لها ليدرك بمجرد قراءتها أنها مقحمة مزيدة .
الثاني : ابن أبي داود صاحب هذا النظم إمام من أئمة السلف وعلم من أعلام الأمة مشهود له بالفضل والعلم , وبل كان رحمه الله من بحور العلم وأوعية السنة وحفاظ الحديث . وقد سبق أن أشرت في صدر هذا الشرح إلى طرف من النقول عن بعض الأئمة في الثناء عليه وبيان إمامته وفضله وحفظه وإتقانه .(1/88)
ورأيت هنا أن من المناسب الإشارة إلى بعض ما قيل فيه بغير حق سواء مِما ثبت عن قائله أو لم يثبت , لتبرئة ساحة هذا الإمام والدفاع عنه , فإن مِما يُتقرب به إلى الله عزوجل الذب عن أعراض علماء المسلمين وتبرئتهم مِما يُنسب إليهم زورا وباطلا أو على وجهه الصحيح , ونسأل الله أن يبارك في جميع علمائنا المتقدمين منهم والمتأخرين وأن يجزيهم خير الجزاء وأوفره .
وأهم ما وقفت عليه منسوباً إلى ابن أبي داود أمران :
أولا : نسبة الكذب إليه , وهي نسبة لا تصح ولا تثبت .
قال ابن عدي ( حدثنا علي بن عبدالله الداهري سمعت أحمد بن محمد ابن عمر بن كركرة سمعت علي بن الحسين بن الجنيد سمعت أبا داود يقول : ابني عبدالله كذاب . قال ابن صاعد كفانا ما قال أبوه فيه )(7)
وهذا إسناد غير ثابت . قال المعلمي رحمه الله ( الداهري وابن كركرة لم أجد لهما ذكراً في غير هذا الموضع , وقول ابن صاعد + ما قال أبوه فيه " إن أراد هذه الكلمة فإن كانت بلغته بهذا السند فلا تعلمه ثابتاً , وإن كان له مستند آخر فما هو , وإن كان أراد كلمة فما هي )(8) .
قال ابن عدي ( ولولا شرطنا لما ذكرته(9) ... وهو معروف بالطلب , وعامة ما كتبه مع أبيه , وهو مقبول عند أصحاب الحديث , وأما كلام أبيه فما أدري أيش تبين له منه)(10)
هذا إن ثبت , وثبوته محل نظر كما تقدم , وقد شكك الحافظ الذهبي في ثبوت هذا , وأشار إلى بعض المحامل التي يمكن أن يُحمل عليها إن صح .
قال رحمه الله في تذكرة الحفاظ ( أما قول أبيه فيه فالظاهر أنه إن صح عنه فقد عنى أنه كذاب في كلامه لا في الحديث النبوي , وكأنه قال هذا وعبدالله شاب طري ثم كبر وساد)(11)(1/89)
قال في سير أعلام البنلاء ( قلت : لعل قول أبيه فيه إن صح أراد الكذب في لهجته لا في الحديث فإنه حجة فيما ينقله , أو كان يكذب ويُوُري في كلامه , ومن زعم أنه لا يكذب أبداً فهو أرعن . نسأل الله السلامة من عثرة الشباب , ثم إنه شاخ وارعوى ولزم الصدق والتقى )(12) .
وذكره رحمه الله في كتباه الميزان قال ( إنما ذكرته لأنزهه )(13)
وخلاصة القول : أنه نسبة هذا إليه محل نظر بل ليس عليه مسند صحيح , وإن ثبت فهو محمول على أمور لعلها كانت منه كانت في مرحلة الشباب في حديثه وكلامه الخاص , لا فيما يحدث به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن شأنه أجل وقدره أنبل من ذلك . بل هو معدود عند أهل العلم في كبار الحفاظ ومن الأئمة العدول الثقات . فمن حاول لمزه بهذا فإنه يُزري على نفسه , لا سيما إن كان مبنيا على الهوى والشنآن والباطل , وقد مر معنا قوله رحمه الله في منظومته السنية :
ولا تكُ من قومٍ تلهوا بدينهم *** فتطعن في أهل الحديث وتقدح
ثانيا : نُسب إليه رحمه الله شيءٌُ من النصب
والمراد بالنصاب أي : نصب العداء لآل النبي صلى الله عليه وسلم , ولم يثبت عنه رحمه الله شيءٌ من ذلك , بل ثبت عنه ضد ذلك ونقيضه , وهو ولاء آل البيت ومحبتهم والثناء عليهم وذكر فضائلهم ومآثرهم . بل لم يتحقق في ترجتمه من الذي نسبه إلى النصب وما حجته على ذلك , إلا أن هذه التهمة أُلتصقت به في حياته رحمه الله وبرأ نفسه منها ولم يجعل من رماه به في حل .
قال أحمد بن يوسف بن الأزرق ( سمعت أبا بكر ابن أبي داود غير مرةٍ يقول : كل من بيني وبينه شيء أو قال : كل من ذكرني بشيء فهو في حِل إلا من رماني ببغض علي بن أبي طالب )(14)
وخير شاهد ودليل على سلامته من هذه التهمة قصيدته هذه التي بين أيدينا , والتي أن فيها عقيدة أهل السنة والجماعة , فقد قال بعد أن ذكر الخلفاء الثلاثة :
ورابعهم خير البرية بعدهم *** علي حليف الخير بالخير منجح(1/90)
وقد جاء عنه أنه قال في تمام هذه القصيدة ( هذا قولي , وقول أبي , وقول أحمد بن حنبل رجمه الله , وقول من أدركنا من أهل العلم , وقول من لم ندرك من أهل العلم مِمن بلغنا قوله , فمن قال عليًّ غري ذلك فقد كذب ) .
وعلى كلٍّ فقد أطبق العلماء على إمامة ابن أبي داود وفضله وتوثيقه والاحتجاج به وعده من أئمة السلف الأجلاء ومن العلماء الثقات النبلاء , فلم يبق أي معنى للطعن فيه أو التقليل من شأنه وقدره ونبله , وللإمام المعلميرحمه الله كلام نفيس وتحقيق متين في تبرئة ابن أبي داود مما نُسب إليه من النصب وغيره , أجاد فيه وأفاد , وأحسن الدفاع عن هذا الإمام الجليل والذب عنه(15) , فجزاه الله خيراً على نصحه ودفاعه عنه وعن غيره من أئمة المسلمين , ورحم الله ابن أبي داود وغفر له ولجميع علماء المسلمين وللمسلمين والمسلمات والمؤنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات إنه هو الغفور الرحيم . وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
ـــــــــــــــــــــــ
1- سير أعلام النبلاء 13/223 , والعلو 2/1220
2- الشريعة 5/2563
3- -طبقات الحنابلة 2/53
4- الحدائق الغناء ص176
5- انظر الكتاب اللطيف لشرح مذهب أهل السنة ص255
6- لوائح الأنوار السنية 2/105
7- الكامل في ضعفاء الرجال 4/265-266
8- التنكيل للمعمي 1/298
9- أي لولا شرطه في كتابه من أن يذكر كل من تكلم فيه وإن كان الكلام غير قادح
10- الكامل في ضعفاء الرجال 4/266
11- تذكرة الحافظ 2/772
12- سير أعلام النبلاء 13/231
13- ميزان الاعتدال 4/116
14- تاريخ بغداد 9/468
15- انظر : التنكل للمعلمي 1/297-305
تم تفريغ الشرح بواسطة الاخ الكريم العوضي .
تم تنسيق الشرح بواسطة ابن عبد الوهاب السالمي .
عف الله عنهما وغفر الله لهما ولوالديهم وللمسلمين اجمعين.
??
= ??
??
??
- 15 -(1/91)