البحر المديد ، ج 5 ، ص : 254
يقول الحق جل جلاله : وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا أي : متلبسا بآياتنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ فَقالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ فأجابوه بقولهم : فأتنا بآية إن كنت من الصادقين كما صرح به فى آية أخرى «1». فَلَمَّا جاءَهُمْ بِآياتِنا إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ يسخرون منها ، ويهزؤون ، ويسمّونها سحرا. و«إذا» للمفاجأة ، وهو جواب «لمّا» لأن فعل المفاجأة معها مقدّر ، وهو العامل فى «إذا» ، أي : لما جاءهم فاجؤوا وقت ضحكهم منها ، أي :
استهزؤوا بها أول ما رأوها ، ولم يتأملوا فيها.
وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ من الآيات إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها قرينتها ، وصاحبتها التي كانت قبلها ، أي :
ما ظهر لهم آية إلا وهى بالغة أقصى مراتب الإعجاز ، بحيث يجزم كلّ من ينظر إليها أنها أكبر من كلّ ما يقاس بها من الآيات. والمراد : وصف الكلّ بغاية الكبر من غير ملاحظة قصور فى شىء منها ، قال النّسفى : وظاهر النظم يدلّ على أن اللاحقة أعظم من السابقة ، وليس كذلك ، بل المراد بهذا الكلام : أنهن موصوفات بالكبر ، كما يقال : هما أخوان ، كل منهما أكبر من الآخر. ه. وقال فى الانتصاف : الظاهر : أن كلّ آية إذا أفردت استغرقت عظمتها الفكر وبهرته ، حتى يجزم أنها النّهاية ، وأنّ كلّ آية دونها ، فإذا نقل الفكر إلى الأخرى كانت كذلك.
وحاصله : أنه لا يقدر الفكر أن يجمع بين آيتين ، لتتميز الفاضلة من المفضولة. ه.
وَأَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ وهو ما قال تعالى : وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ «2» ، فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ ... الآية «3». لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ لكى يرجعوا عما هم عليه من الضلال.
وَقالُوا يا أَيُّهَا السَّاحِرُ ، كانوا يقولون للعالم : إنما هو ساحر لتعظيمهم علم السحر ، أو : نادوه بذلك فى مثل تلك الحالة لغاية عتوهم ونهاية حماقتهم. وقرأ الشامي بضم الهاء «4» ، لاتباع حركة ما قبلها حين سقطت الألف ، ادْعُ لَنا رَبَّكَ يكشف عنا العذاب بِما عَهِدَ عِنْدَكَ أي : لعهده عندك بأن دعوتك مستجابة ، أو : بما عهد عندك من النّبوة والجاه ، أو : بما عهد من كشف العذاب عمن اهتدى ، إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ مؤمنون إن كشف عنا بدعوتك ، كقوله : لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ «5» ، فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ بدعوته إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ ينقضون العهد ، أي : فاجؤوا وقت نكث عهدهم بالاهتداء. وقد مرّ تمامه فى الأعراف «6».
___________
(1) فى قوله تعالى : .. إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ الآية 106 من سورة الأعراف. [.....]
(2) الآية 130 من سورة الأعراف.
(3) الآية 133 من سورة الأعراف.
(4) أي «يا أيّه» وبهذا قرأ ابن عامر.
(5) من الآية 134 من سورة الأعراف.
(6) راجع تفسير الآيات 133 - 136 من سورة الأعراف.(5/254)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 255
الإشارة : قد ظهرت الآيات على الأنبياء والرّسل ، فلم ينتفع بها إلا من سبقت له العناية ، وكذلك ظهرت الكرامات على أيدى الأولياء الداعين إلى اللّه ، فلم ينتفع بها إلا من سبق له التقريب والاصطفاء. على أن الصادق فى الطلب لا يحتاج إلى ظهور كرامة ، بل إذا أراد اللّه أن يوصله إليه وصله إلى ولىّ من أوليائه ، فطوى عنه وجود بشريته ، وأشهده سر خصوصيته ، فخضع له من غير توقف على كرامة ولا آية. وأما من لم يسبق له التقريب إذا رأى ألف آية ضحك منها واستهزأ ، ورماها بالسحر والشعوذة ، والعياذ باللّه من البعد والطرد.
ثم ذكر عتو فرعون وطغيانه ، فقال :
[سورة الزخرف (43) : الآيات 51 الى 56]
وَنادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قالَ يا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ (51) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكادُ يُبِينُ (52) فَلَوْ لا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (53) فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (54) فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ (55)
فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِلْآخِرِينَ (56)
يقول الحق جل جلاله : وَنادى فِرْعَوْنُ ، إما بنفسه ، أو : أمر من ينادى ، كقولك : قطع الأمير اللص.
والظاهر أنه نادى بنفسه ، فِي قَوْمِهِ فى مجمعهم وفيما بينهم ، بعد أن كشف العذاب عنهم ، مخافة أن يؤمنوا ، قالَ يا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ أنهار النّيل ، ومعظمها أربعة نهر الملك ، ونهر طولون ، ونهر دمياط ، ونهر تييس ، تَجْرِي مِنْ تَحْتِي تحت سريرى لارتفاعه ، أو : بين يدى فى جناتى وبساتينى.
قال عمرو بن العاص رضي اللّه عنه : نيل مصر سيد الأنهار ، سخّر اللّه له كلّ نهر بين المشرق والمغرب ، فإذا أراد اللّه أن يجريه أمر الأنهار فأمدته بمائها ، وفجّر له الأرض عيونا ، فإذا انتهت جريته إلى ما أراد اللّه سبحانه أوحى إلى كل ماء أن يرجع إلى عنصره. قاله فى الاكتفاء. ومهبطه من جبل القمر. وقيل : أصله من الجنة ، واللّه تعالى أعلم. وحدّ مصر : من بحر الاسكندرية إلى أسوان ، بطول النّيل. والأنهار المذكورة هى الخلجان الكبار ، الخارجة من النيل.(5/255)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 256
وعن عبد اللّه بن طاهر : أنه لما ولى مصر خرج إليها ، فلما شارفها ، قال : أهي القرية التي افتخر بها فرعون ، حتى قال : أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ؟ واللّه لهى أقلّ عندى من أن أدخلها ، فثنى عنانه. وعن هارون الرّشيد : أنه لما قرأها ، قال : واللّه لأولينّها أخسّ عبيدى ، فولاها الخصيب ، وكان خادم وضوئه «1».
وَهذِهِ الْأَنْهارُ : إما عطف على «ملك مصر» ، ف «تجرى» : حال منها ، أو : واو الحال ، ف «هذه» مبتدأ ، و«الأنهار» : صفتها و«تجرى» : خبر ، أَفَلا تُبْصِرُونَ قوتى وسلطانى ، مع ضعف موسى وقلة أتباعه. أراد بذلك استعظام ملكه وترغيب النّاس فى اتباعه.
ثم قال : أَمْ أَنَا خَيْرٌ مع هذه المملكة والبسطة مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ أي : ضعيف حقير ، من :
المهانة ، وهى القلة. وَلا يَكادُ يُبِينُ الكلام لما به من اللثة. قاله افتراء عليه عليه السّلام ، وتنقيصا له فى أعين الناس ، باعتبار ما كان فى لسانه عليه السّلام. وقد كانت ذهبت عنه ، لقوله تعالى : قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى «2». والهمزة للتقرير ، كأنه قال إثر ما عدد من أسباب فضله ، ومبادئ خيريته : أثبت عندكم واستقر لديكم أنى أنا خير ، وهذه حالى ، من هذا. وإما متصلة ، والمعنى : أفلا تبصرون أم تبصرون؟ فوضع قوله : أَمْ أَنَا خَيْرٌ موضع «تبصرون» لأنهم إذا قالوا : أنت خير فهم عنده بصراء. وهذا من باب تنزيل السبب منزلة المسبب. انظر أبا السعود.
فَلَوْ لا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ «3» مِنْ ذَهَبٍ أي : فهلا ألقى عليه مقاليد الملك إن كان صادقا ، لأنهم كانوا إذا سوّدوا رجلا سوّروه بسوار ، وطوقوه بطوق من ذهب. أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ مقرونين يمشون معه ، مقترن بعضهم ببعض ، ليكونوا أعضاده وأنصاره ، أو : ليشهدوا له بالنبوة؟ فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ أي : فاستفزهم ، وطلب منهم الخفة والسرعة فى مطاوعته. أو : فاستخف أحلامهم واستزلهم ، فَأَطاعُوهُ فيما أمرهم به إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ ، خارجين عن الدين ، فلذلك سارعوا إلى طاعته.
فَلَمَّا آسَفُونا أغضبونا أشد الغضب ، منقول من : أسف : إذ اشتد غضبه ، انْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ ، والمعنى : أنهم أفرطوا فى المعاصي فاستوجبوا أن نعجّل لهم العذاب ، وألا نحلم عليهم. فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً قدوة لمن بعدهم من الكفار ، يسلكون مسلكهم فى استيجاب مثل ما حلّ بهم من العذاب ، ف كل من تفرعن
___________
(1) انظر تفسير القرطبي (7/ 6102) وتفسير النّسفى (3/ 276).
(2) الآية 36 من سورة طه.
(3) قرأ حفص ويعقوب «أسورة» بسكون السين بلا ألف ، جمع «سوار» كأخمرة وخمار ، وقرأ الباقون «أساورة» بفتح السين ، وألف ، جمع «أسورة» ، كأسقية وأساقى ، أو جمع «أساور» بمعنى «سوار». وقد أثبت المفسر - رحمه اللّه - قراءة «أساورة». انظر : شرح الهداية (2/ 508) والإتحاف (2/ 457).(5/256)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 257
وتجبر ففرعون إمامه وقدوته. أو : جعلناهم متقدمين فى الهلاك ، ليتعظ بهم من بعدهم إلى يوم القيامة.
والسلف : جمع سالف ، وهو الفارط المتقدم ، وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ أي : عظة لهم ، أو : قصة عجيبة ، تسير مسير الأمثال ، فيقال : مثلكم كقوم فرعون ، كما قال تعالى : كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ «1». وهاهنا قراءات ، قد وجهناها فى كتاب مستقل.
الإشارة : عاقبة التكبر والافتخار الذّل والهوان والدمار ، وعاقبة التواضع والانكسار العز والنّصرة ، انظر إلى فرعون لما تعزز واستكبر هلك مع قومه فى لجة البحار. قال القشيري : ليعلم أن من تعزز بشىء دون اللّه فهلاكه وحتفه فيه ، وفرعون لمّا استصغر موسى وحديثه ، وعابه بالفقر ، سلّطه اللّه عليه ، فكان هلاكه بيده ، وما استصغر أحد أحدا إلا سلط عليه. ثم قال فى قوله تعالى : فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ : طاعة الرهبة لا تكون مخلصة ، وإنما تكون الطاعة صادقة إذا صدرت عن الرّغبة ، فَلَمَّا آسَفُونا أغضبونا ، وإنما أراد : أغضبوا أولياءنا ، وهذا أصل فى باب الجمع ، أضاف إغضابهم أولياءه إلى نفسه. وفى الخبر أنه تعالى يقول : «مرضت فلم تعدنى» «2» وقال لإبراهيم عليه السّلام : يَأْتُوكَ رِجالًا «3» وقال لنبينا صلّى اللّه عليه وسلم : مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ «4» ه.
ثم ذكر شأن عيسى ، فقال :
[سورة الزخرف (43) : الآيات 57 الى 62]
وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57) وَقالُوا أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (58) إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَجَعَلْناهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرائِيلَ (59) وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (60) وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِها وَاتَّبِعُونِ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (61)
وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (62)
___________
(1) من الآية 11 من سورة آل عمران.
(2) حديث قدسى صحيح ، أوله : «يا ابن آدم ...» ، أخرجه مسلم فى (البر والصلة ، باب فضل عيادة المريض ، 4/ 1990 ، ح 56) من حديث أبى هريرة رضي اللّه عنه.
(3) من الآية 27 من سورة الحج.
(4) من الآية 80 من سورة النّساء.(5/257)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 258
يقول الحق جل جلاله : وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا ، وذلك أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قرأ على قريش : إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ ... «1» الآية ، فغضبوا ، فقال ابن الزّبعرى : يا محمد! أخاصة لنا ولآلهتنا ، أم لجميع الأمم؟ فقال عليه الصلاة والسّلام : «هو لكم ولآلهتكم ولجميع الأمم» ، فقالوا : ألست تزعم أن عيسى [نبى ] ، يثنى عليه وعلى أمّه خيرا ، وقد علمت أنّ النّصارى يعبدونهما؟ وعزير يعبد ، والملائكة يعبدون ، فإن كان هؤلاء فى النّار ، فقد رضينا أن نكون نحن وآلهتنا معهم ، ففرحوا ، وضحكوا ، وسكت النّبىّ صلّى اللّه عليه وسلم انتظارا للوحى.
وفى رواية : فقال لهم صلّى اللّه عليه وسلم : «إنما عبدوا الشياطين التي أمرتهم بذلك». وقال ابن الزبعرى : «ما أجهلك بلغة قومك ، أما فهمت أن «ما» لما لا يعقل ، فهى خاصة بالأصنام» «2» ، فأنزل اللّه : إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى ... «3» الآية. ونزلت هذه الآية.
والمعنى : ولما ضرب ابن الزبعرى عيسى ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا لآلهتهم ، وجادل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم بعبادة النّصارى إياه إِذا قَوْمُكَ قريش مِنْهُ أي : من هذا المثل يَصِدُّونَ ترتفع لهم جلبة وضجيج ، فرحا وضحكا ، فهو من : الصديد ، وهو الجلبة ورفع الصوت ، ويؤيده : تعديته بمن ، ولو كان من الصدود لقال : «عنه» ، وقرئ بالكسر والضم ، قيل : هما لغتان ، كيعكفون ويعكفون ويعرشون ويعرشون ، وقيل : بالكسر معناه : الصديد ، أي : الضجيج والضحك ، وبالضم معناه : الإعراض ، فيكون من الصدود ، أي : فهم من أجل هذا المثل يعرضون عن الحق ، أي :
يثبتون على ما كانوا عليه من الإعراض ، أو يزدادون.
وَقالُوا أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ يعنى أن آلهتنا عندك ليست بخير من عيسى ، فإذا كان عيسى من حصب جهنم كان أمر آلهتنا هينا. أو : فإذا كان عيسى فى النّار ، فلا بأس بكوننا مع آلهتنا فيها. قال تعالى : ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا أي : ما ضربوا لك ذلك المثل إلا لأجل الجدال والخصام ، لا لطلب الحق حتى يذعنوا له عند ظهوره ، بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ أي : لدّا ، شداد الخصومة ، مجبولون على اللجاج ، وذلك أن الآية إنما قصدت الأصنام ، بدليل التعبير ب «ما» ، إلا أن ابن الزبعرى حدا عنه لمّا رأى كلام اللّه تعالى محتملا لفظه للعموم ، مع علمه بأن المراد به أصنامهم ، وجد للحيلة مساغا ، فصرف اللفظ إلى الشمول والإحاطة بكلّ معبود غير اللّه ، على طريق اللجاج والجدال والمكابرة ، وتوقّح فى ذلك ، فصمت عنه صلّى اللّه عليه وسلم حتى أجاب عنه ربه.
___________
(1) الآية 98 من سورة الأنبياء.
(2) قال الحافظ ابن حجر فى الكافر الشاف (ص 111 - 112) : «استقر فى ألسنة كثير من علماء العجم ، وفى كتبهم أن النّبى صلّى اللّه عليه وسلم قال «ما أجهلك بلغة قومك ..» إلخ. وهو شىء لا أصل ولا يوجد لا مسندا ولا غير مسنده. ه. ووجدت على هامش النّسخة الأم ما يلى :
«هذه الرّواية لا أصل لها ، بل الخبر من أصله لم يورده المؤلف كما هو ، ولبيان ذلك لا يسعه هذا المحل» ه. [.....]
(3) الآية 101 من سورة الأنبياء.(5/258)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 259
وقيل : لما سمعوا قوله تعالى : إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ ... «1» الآية ، قالوا : نحن أهدى من النّصارى ، لأنهم عبدوا آدميا ، ونحن نعبد الملائكة ، فنزلت. فقولهم : آلهتنا خير ، هو حينئذ تفضيل لآلهتهم على عيسى عليه السّلام لأن المراد بهم الملائكة. ومعنى : ما ضَرَبُوهُ .. إلخ : ما قالوا هذا القول إلا للجدال. وقيل : لما نزل : إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ .. الآية ، قالوا : ما يريد محمد إلا أن نعبده كما عبد النّصارى المسيح. ومعنى «يصدون» : يضجون ويسخرون ، والضمير على هذا فى «أم» هو لمحمد صلّى اللّه عليه وسلم ، وغرضهم ومرادهم بالموازنة بينه وبين آلهتهم الاستهزاء به صلّى اللّه عليه وسلم ويجوز أن يكون مرادهم التنصّل عما أنكر عليهم من قولهم : الملائكة بنات اللّه ، ومن عبادتهم لهم ، كأنهم قالوا : ما قلنا بدعا من القول ، ولا فعلنا منكرا من الفعل ، فإنّ النّصارى جعلوا المسيح ابن اللّه ، وعبدوه ، فنحن أرشد منهم قولا وفعلا ، حيث نسبنا له الملائكة ، وهم نسبوا إليه الأناسى. فقوله تعالى : إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ أي : ما عيسى إلا عبد ، كسائر العبيد ، أنعمنا عليه بالنبوة ، وَجَعَلْناهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرائِيلَ ، أي : أمرا عجيبا ، حقيقا بأن يسير ذكره كالأمثال السائرة ، ففيه تنبيه على بطلان رفعه عن رتبة العبودية ، أي : قصارى أمره أنه ممن أنعمنا عليه بالنبوة ، وخصصناه ببعض الخواص البديعة ، بأن خلقناه على وجه بديع ، وقد خلقنا آدم بوجه أبدع منه ، فأين هو من رتبة الرّبوبية حتى يتوهم أنه رضى بعبادته مع اللّه؟ ومن عبده فإنما عبد الشيطان.
ثم قال تعالى : وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ بدلا منكم ، كذا قال الزجاج ، ف «من» بمعنى البدل يَخْلُفُونَ أي : يخلفونكم فى الأرض ، أي : لو نشاء لذهبنا بكم وجعلنا بدلا منكم ملائكة يخلفونكم فى الأرض ، فيكونون أطوع منكم للّه تعالى ، وقيل : (و لو نشاء) لقدرتنا على عجائب الأمور (لجعلنا منكم) بطريق التوالد ، وأنتم رجال ، من شأنكم الولادة - (ملائكة) كما خلقناهم بطريق الإبداع (فى الأرض) مستقرين فيها ، كما جعلناهم مستقرين فى السماء ، يخلفونكم مثل أولادكم ، ويباشرون الأفاعيل المنوطة بمباشرتكم ، فكيف يستحقون المعبودية مع أنهم أجسام ، متولدون عن أجسام ، والمستحق للعبادة يتعالى عن ذلك؟! وَإِنَّهُ أي : عيسى عليه السّلام لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ أي : مما يعلم به مجىء الساعة عند نزوله. وقرأ ابن عباس «لعلم» بفتح اللام «2» ، أي : وإن نزوله لعلم للساعة ، أو : وإن وجوده بغير أب ، وإحياءه للموتى ، دليل على صحة البعث ، الذي هو معظم ما ينكره الكفرة.
___________
(1) الآية 59 من سورة آل عمران.
(2) اللام الثانية مع فتح العين(لعلم) وهو الأمارة والعلامة.(5/259)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 260
وفى الحديث : إن عيسى عليه السّلام ينزل على ثنية بالأرض المقدسة ، يقال لها : أفيق ، وهى عقبة بيت المقدس ، وعليه ممصّرتان «1» ، وشعر رأسه دهين ، وبيده حربة يقتل بها الدجال ، فيأتى بيت المقدس ، والنّاس فى صلاة العصر ، والإمام يؤم بهم ، فيتأخر الإمام ، فيقدمه عيسى ، ويصلى خلفه على شريعة محمد صلّى اللّه عليه وسلم ، ويقتل الخنزير ، ويكسر الصليب ، ويخرب البيع والكنائس ، ويقتل النّصارى إلا من آمن به وبمحمد صلّى اللّه عليه وسلم «2».
وقيل : الضمير للقرآن لأن فيه الإعلام بالساعة ، فَلا تَمْتَرُنَّ بِها فلا تشكنّ فيها ، من المرية ، وهو الشك ، وَاتَّبِعُونِ أي : اتبعوا هداى وشرائعى ، أو : رسولى ، وقيل : هو قول نبينا صلّى اللّه عليه وسلم مأمورا به من جهته تعالى :
هذا أي : الذي أدعوكم إليه صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ موصل إلى الحق. وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطانُ عن اتباعى إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ بيّن العداوة ، حيث أخرج آباءكم من الجنة ، وعرضكم للبلية.
الإشارة : الوعظ والتذكير لا تسرى أنواره فى القلوب إلا مع التسليم والتصديق ، والسكوت والاستماع ، كما كان الصحابة - رضي اللّه عنهم - مع الرّسول صلّى اللّه عليه وسلم كأنّ على رؤوسهم الطير ، وأما إن دخل معه الجدال واللجاج ذهبت بركته ، ولم تسر أنواره ، ولذلك قيل : مذهب الصوفية مبنى على التسليم والتصديق ، ومذهب الفقهاء مبنى على البحث والتفتيش ، لكن مع الإنصاف ، وخفض الصوت ، وحسن السؤال من غير ملاججة ولا غضب.
ثم ذكر بعثة عيسى ودعوته إلى اللّه ، فقال :
[سورة الزخرف (43) : الآيات 63 الى 66]
وَلَمَّا جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (63) إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (64) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ (65) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (66)
___________
(1) ممصرتان : تثنية «ممصّرة». وهى الثياب التي فيها صفرة خفيفة. انظر النّهاية فى غريب الحديث (مصر 4/ 336).
(2) ذكره بلفظه القرطبي فى تفسيره (7/ 6109) وعزاه للثعلبى ، وأخرجه بلفظ مقارب أبو داود فى (الملاحم ، باب خروج الرّجال ، 4/ 498 ح 4324). عن أبى هريرة. وأصل الحديث فى الصحيحين. انظر البخاري (كتاب الأنبياء ، باب نزول عيسى بن مريم عليهما السّلام ح 3448) ومسلم (الإيمان ، باب نزول عيسى ابن مريم حكما بشريعة نبينا محمد صلّى اللّه عليه وسلم 1/ 135 ح 155).(5/260)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 261
يقول الحق جل جلاله : وَلَمَّا جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ بالمعجزات أو : بآيات الإنجيل أو : بالشرائع الواضحات قالَ لبنى إسرائيل : قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ بالشريعة ، أو : بالإنجيل المشتمل عليها وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ وهو ما يتعلق بأمور الدين ، وأما ما يتعلق بأمور الدنيا فليس بيانه من وظائف الأنبياء - عليهم السّلام - كما قال صلّى اللّه عليه وسلم : «أنتم أعلم بدنياكم» «1» ، وهو عطف على مقدر ، ينبئ عنه المجيء بالحكمة ، كأنه قيل : جئتكم بالحكمة لأعلمكم إياها ، ولأبيّن لكم ما تختلفون فيه ، فَاتَّقُوا اللَّهَ فى مخالفتى وَأَطِيعُونِ فيما أبلغكم عن اللّه تعالى :
إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ بيان لما أمرهم به من الطاعة ، وهو اعتقاد التوحيد ، والتعبد بالشرائع ، هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ لا يضل سالكه فهذا تمام كلام عيسى عليه السّلام ، وقيل : قوله : هذا .... إلخ من كلام اللّه تعالى ، مقرر لمقالة عيسى عليه السّلام.
فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ أي : الفرق المتحزبة بعد عيسى ، وهم : اليعقوبية والنّسطورية ، والملكانية ، والشمعونية ، مِنْ بَيْنِهِمْ أي : من بين النّصارى ، أو : من بين من بعث إليهم من اليهود والنّصارى ، أي : اختلافا ناشئا من بينهم ، من غير حجة ولا برهان ، فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا من المختلفين ، حيث قالوا فى عيسى ما كفروا به ، مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ وهو يوم القيامة هَلْ يَنْظُرُونَ أي : ما ينتظر أولئك الكفرة ، أو قوم عيسى إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ : بدل من «الساعة» أي : هل ينتظرون إلا إتيان الساعة بَغْتَةً فجأة وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ غافلون عن الاستعداد لها ، لاشتغالهم بأمر دنياهم ، أو : منكرون لها ، غير مترقبين وقوعها.
الإشارة : كانت الرّسل - عليهم السّلام - يبينون لأممهم ما يقع فيه الاختلاف من أمر الدين ، سواء تعلق ذلك بالظاهر أو بالباطن ، بما يوحى إليهم من إلهام ، أو بملك مرسل ، فلما ماتوا بقي خلفاؤهم من العلماء والأولياء ، فالعلماء يبينون ما اختلف فيه من الشرائع والعقائد ، بما عندهم من القواعد والبراهين ، والأولياء يبينون الحقائق ، وما يتعلق بالقلوب من الشكوك والخواطر ، وسائر الأمراض ، بما عندهم من الأذواق والكشوفات. فالعلماء يرجعون إلى كتبهم وعلومهم ، والأولياء يرجعون إلى قلوبهم وأذواقهم ، حتى كان فيما سلف من العلماء إذا توقفوا فى مسألة عقلية أو قلبية أخذوا صوفيا أميا فيسألونه ، ويجبرونه على الجواب ، فيجيبهم عن كلّ ما يسألونه ، كقصة أبى الحسن النوري مع القاضي ، وغيره ، وقد كان الشعراني يسأل شيخه الخواص - وهو أمي - عن أمور معضلة ، فيجيب عنها ، حتى إن كتبه كلها مطرزة بكلامه - رضي اللّه عنهم أجمعين.
___________
(1) أخرجه مسلم فى (الفضائل ، باب وجوب امتثال ما قاله شرعا ، 4/ 1835 ح 2363) عن السيدة عائشة - رضي اللّه عنها - وسيدنا أنس رضي اللّه عنه بلفظ : «أنتم أعلم بأمر دنياكم».(5/261)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 262
وأهل الأذواق هم المتقون المتحابون فى اللّه ، الذين أشار إليهم تعالى بقوله :
[سورة الزخرف (43) : الآيات 67 الى 73]
الْأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ (67) يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (68) الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا وَكانُوا مُسْلِمِينَ (69) ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ تُحْبَرُونَ (70) يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوابٍ وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ (71)
وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (72) لَكُمْ فِيها فاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْها تَأْكُلُونَ (73)
يقول الحق جل جلاله : الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ أي : المتحابون فى الدنيا على الأمور الذميمة متعادون يوم القيامة ، يبغض بعضهم بعضا ، فتنقطع فى ذلك اليوم كلّ خلة كانت لغير اللّه ، وتنقلب عداوة ومقتا لانقطاع سببها ، وهو الاجتماع على الهوى ، إِلَّا الْمُتَّقِينَ أي : الأخلة المصادقين فى اللّه ، فإنها الخلة الباقية لأن خلتهم فى الدنيا لمّا كانت للّه ، وفى اللّه ، بقيت على حالها لأن ما كان للّه دام واتصل ، وما كان لغير اللّه انقطع وانفصل ، بل تزداد خلتهم بمشاهدة كلّ واحد منهم بركة خلتهم من الثواب ، ورفع الدرجات. وسئل صلّى اللّه عليه وسلم :
من أولياء اللّه الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون؟ فقال : «المتحابون فى اللّه» ، وخرّج البزار عن ابن عباس رضي اللّه عنه : قيل : يا رسول اللّه! أىّ جلسائنا خير؟ قال : «من ذكّركم باللّه رؤيته ، وزاد فى عملكم منطقه وذكّركم باللّه علمه» «1».
ومن كلام الشيخ أبى مدين رضي اللّه عنه : دليل تخليطك صحبتك للمخلطين ، ودليل انقطاعك إلى اللّه صحبتك للمنقطعين. ه. وفى سماع العتبية : قال مالك : لا تصحب فاجرا لئلا تتعلّم من فجوره ، قال ابن رشد : لا ينبغى أن يصحب إلا من يقتدى به فى دينه وخيره لأن قرين السوء يردى ، قال الحكيم :
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه ف كل قرين بالمقارن مقتد «2».
___________
(1) أخرجه أبو يعلى فى مسنده (2436) عن ابن عباس رضي اللّه عنه.
(2) البيت منسوب إلى عدى بن زيد : انظر : نهاية الأرب (3/ 65) والعقد الفريد (2/ 311).(5/262)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 263
وفى الحديث : «المرء على دين خليله» وسيأتى ، فى الإشارة بقية الكلام على المتحابين فى اللّه.
ويقال لهم حينئذ ، تشريفا لهم ، وتطييبا لقلوبهم : يا عِبادِ «1» لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ ، ثم وصفهم أو مدحهم بقوله : الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا صدّقوا بآياتنا التنزيلية ، وَكانُوا مُسْلِمِينَ منقادين لأحكامنا ، مخلصين وجوههم لنا ، وعن مقاتل : «إذا بعث اللّه النّاس ، فزع كلّ أحد ، فينادى مناد : يا عبادى ، لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون ، فيرجوها النّاس كلهم ، فيتبعها الذين آمنوا بآياتنا وكانوا مسلمين ، فينكّس أهل الأديان الباطلة رؤوسهم» «2» ، ثم يقول لهم : ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ نساؤكم المؤمنات تُحْبَرُونَ تسرّون سرورا يظهر حباره - أي : أثره - على وجوهكم أو : تزينون ، من : الحبرة وهو حسن الهيئة ، أو : تكرمون إكراما بليغا ، وتتنعمون بأنواع النّعيم. والحبرة : المبالغة فيما وصف بجميل وتقدم فى قوله : فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ «3» أنه السماع.
يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ أي : بعد دخولهم الجنة حسبما أمروا به وَأَكْوابٍ من ذهب حذف لدلالة ما قبله. والصحاف : جمع صحفة ، قيل : هى كالقصعة ، وقيل : أعظم القصاع ، فهى ثلاث : الجفنة ، ثم القصعة ، ثم الصحفة ، والأكواب : جمع كوب ، وهو كوز مستدير لا عروة له.
وفى حديث أبى هريرة ، عنه صلّى اللّه عليه وسلم : قال : «أدنى أهل الجنة من له سبع درجات ، هو على السادسة ، وفوقه السابعة ، وإنّ له ثلاثمائة خادم ، ويغدى عليه ويراح بثلاثمائة صحفة من ذهب ، فى كلّ صحفة لون ليس فى الأخرى مثله ، وإنه ليلذ آخره كما يلذّ أوله ، ويقول : لو أذنت لى يا رب لأطعمت أهل الجنة ، وأسقيتهم ، ولا ينقص مما عندى شىء ، وإنّ له من الحور العين لاثنين وسبعين زوجة ، سوى أزواجه فى الدنيا ، وإن الواحدة منهن ليأخذ مقعدها قدر ميل» «4». وفى حديث عكرمة : «إن أدنى أهل الجنة منزلة من يفسح له فى بصره مسيرة مائة عام ، فى قصور من ذهب ، وخيام من لؤلؤ ، وليس منها موضع شبر إلا معمور ، يغدى عليه ويراح بسبعين ألف صحفة
___________
(1) هكذا (يا عبادى لا خوف) بإثبات الياء ، وإسكانها ، وهى قراءة نافع ، وأبى عمرو ، وابن عامر ، وأبى جعفر ، وصلا ووقفا. والباقون بحذفها فى الحالين. انظر الإتحاف (2/ 458 - 459).
(2) أخرجه الطبري (25/ 95) عن سليمان التيمي.
(3) الآية 15 من سورة الرّوم.
(4) أخرجه أحمد (2/ 537) وقال ابن القيم فى حادى الأرواح (223) : «سكين بن عبد العزيز ، ضعّفه النّسائى. وشهر بن حوشب ، ضعفه مشهور. والحديث منكر ، يخالف الأحاديث الصحيحة».(5/263)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 264
من ذهب ، ليس فيها صحفة إلا وفيها لون ليس فى الأخرى مثله ، شهوته فى آخرها كشهوته فى أولها ، ولو نزل به جميع أهل الدنيا لوسع عليهم مما أعطى ، ولا ينقص ذلك مما أوتى شيئا» «1». ويجمع بينهما بتعدد أهل هذه المنزلة ، وتفاوتهم.
وَفِيها أي : فى الجنة ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ من فنون الملاذ. ومن قرأ بحذف الهاء فلطول الموصول بالفعل والفاعل. وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ أي : تستلذه ، وتقر بمشاهدته ، وهذا حصر لأنواع النّعيم لأنها إما مشتهيات فى القلوب ، أو : مستلذات فى العيون ، ففى الجنة كلّ ما يشتهى العبد من الملابس والمناكح والمراكب.
روى أن رجلا قال : يا رسول اللّه ، إنى أحبّ الخيل ، فهل فى الجنة خيل؟ فقال : «إن يدخلك اللّه الجنة فلا تشاء أن تركب فرسا من ياقوتة حمراء ، يطير بك فى الجنة حيث شئت ، إلا فعلت ، قال أعرابى : يا رسول اللّه ، إنى أحبّ الإبل ، فهل فى الجنة إبل؟ فقال : يا أعرابى ، إن يدخلك اللّه الجنة ففيها ما اشتهت نفسك ولذت عيناك» «2». ه. وقال أبو طيبة السلمى : إن الشرذمة من أهل الجنة لتظلهم سحابة ، فتقول : ما أمطركم؟ فما يدعو داع من القوم بشىء إلا أمطرته ، حتى إن الرّجل منهم يقول : أمطر علينا كواعب أترابا. وقال أبو أمامة : إن الرّجل من أهل الجنة ليشتهى الطائر وهو يطير ، فيقع نضيجا فى كفه كما أراد ، فيأ كل منه حتى تشهى نفسه ، ثم يطير كما كان أول مرة ، ويشتهى الشراب ، فيقع الإبريق فى يده ، فيشرب منه ما يريد ، ثم يرفع الإبريق إلى مكانه. ه. من الثعلبي.
قال القشيري : وفيها ما تشتهيه الأنفس للعباد لأنهم [قاسوا] «3» فى الدنيا - بحكم المجاهدات - الجوع والعطش ، وتحملوا وجوه المشاقّ ، فيجزون فى الجنة وجوها من الثواب ، وأما أهل المعرفة والمحبّون فلهم ما تلذّ أعينهم من النظر إلى اللّه ، لطول ما قاسوه من فرط الاشتياق بقلوبهم ، وما عالجوه من احتراقهم فيه لشدة غليلهم. ه.
والحاصل : أن ما تشتهى الأنفس يرجع لنعيم الأشباح ، وتلذ الأعين لنعيم الأرواح من النّظر ، والقرب ، والمناجاة والمكالمة ، والرّضوان الأكبر ، منحنا اللّه من ذلك الحظ الأوفر.
وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ إتمام للنعمة ، وكمال للسرور فإن كلّ نعيم له زواله مكدر بخوف زواله لا محالة.
وَتِلْكَ الْجَنَّةُ مبتدأ وخبر ، والَّتِي أُورِثْتُمُوها : صفة الجنة ، أو : «الجنة» صفة المبتدأ ، الذي هو الإشارة ، و«التي أورثتموها» : خبره. أو : «التي أورثتموها» صفة المبتدأ ، وبِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ : خبر ، أي : حاصلة ، أو كائنة
___________
(1) عزاه السيوطي فى الدر المنثور (5/ 732) لعبد بن حميد ، عن عكرمة ، يرفعه.
(2) أخرجه أحمد فى المسند (5/ 352) والترمذي فى (صفة الجنة ، باب ما جاء فى صفة خيل الجنة 4/ 885/ ح 2543) والبغوي فى التفسير (7/ 222) عن عبد الرّحمن بن سابط مرسلا. وقال الهيثمي (10/ 413) : رواه الطبراني ورجاله ثقات. [.....]
(3) فى الأصول : [قاموا] وما أثبته هو الذي فى القشيري.(5/264)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 265
بما كنتم تعملون فى الدنيا ، شبه جزاء العمل بالميراث لبقائه على أهله دائما ، ولا ينافى هذا قوله صلّى اللّه عليه وسلم : «لن يدخل أحدكم الجنة عمله» «1» لأن نفس الدخول بالرحمة ، والتنعم والدرجات بقدر العمل ، أو : تقول : الحديث خرج مخرج الحقيقة ، والآية خرجت مخرج الشريعة ، فالحقيقة تنفى العمل عن العبد ، وتثبته للّه ، والشريعة تثبته له باعتبار الكسب ، والدين كله وارد بين حقيقة وشريعة فإذا شرع القرآن حققته السّنة ، وإذا شرعت السنة حققه القرآن. واللّه تعالى أعلم.
لَكُمْ فِيها فاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ بحسب الأنواع والأصناف ، لا بحسب الأفراد فقط ، مِنْها تَأْكُلُونَ أي : لا تأكلون إلا بعضها ، وأعقابها باقية فى أشجارها على الدوام ، لا ترى فيها شجرا خلت عن ثمرها لحظة ، فهى مزيّنة بالثمار أبدا ، موقورة بها ، وعن النّبى صلّى اللّه عليه وسلم : «لا ينزع رجل فى الجنة من ثمرها إلا نبت فى مكانها مثلاها» «2».
الإشارة : كل خلة وصحبة تنقطع يوم القيامة ، إلّا خلة المتحابين فى اللّه ، وهم الذين ورد فى الحديث : أنهم يكونون فى ظل العرش ، والنّاس فى حر الشمس ، يغشى نورهم النّاس فى المحشر ، يغبطهم النّبيون والشهداء لمنزلتهم عند اللّه. قيل : يا رسول اللّه ، من هؤلاء؟ صفهم لنا لنعرفهم ، قال : «رجال من قبائل شتى ، يجتمعون على ذكر اللّه» «3».
وقد ورد فيهم أحاديث ، منها : حديث الموطأ ، عن معاذ ، قال : سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يقول : «قال اللّه تعالى :
وجبت محبّتى للمتحابّين فىّ ، والمتجالسين فىّ ، والمتباذلين فىّ ، والمتزاورين فىّ» «4» ، وفى رواية أبى مسلم الخولاني : قال صلّى اللّه عليه وسلم : «المتحابّون فى اللّه على منابر من نور ، فى ظلّ العرش ، يوم لا ظلّ إلا ظلّه» «5» ، وفى حديث آخر : «ما تحابّ اثنان فى اللّه إلا وضع لهما كرسيّا ، فيجلسان عليه حتى يفرع من الحساب» «6» وقال : صلى اللّه عليه وسلم : «إنّ المتحابّين فى اللّه لترى غرفهم فى الجنة كالكوكب الطّالع الشّرقى أو الغربي ، فيقال : من هؤلاء؟ فيقال : هؤلاء المتحابّون فى اللّه عز وجل».
___________
(1) حديث صحيح ، أخرجه البخاري فى (الرقاق ، باب القصد والمداومة على العمل ، ح 6467). ومسلم فى (صفات المنافقين وأحكامهم ، باب لن يدخل أحد الجنة بعمله ، بل برحمة اللّه تعالى 4/ 2171 ، ح 2818) من حديث السيدة عائشة - رضي اللّه عنها : وأول الحديث : «سددوا وقاربوا ...».
(2) أخرجه الطبري (25/ 97) والبزار (كشف الأستار ح 3530) وقال الهيثمي فى مجمع الزوائد (10/ 414) : رواه الطبراني والبزار ، ورجال الطبراني وأحد إسنادى البزار ثقات.
(3) قال الهيثمي فى المجمع (10/ 77) : رواه الطبراني ، وإسناده حسن.
(4) رواه مالك فى الموطأ (2/ 953) وأحمد (5/ 233) والحاكم (4/ 169) وصحّحه ووافقه الذهبي.
(5) رواه ابن حبان (577) وعبد اللّه بن الإمام أحمد فى زوائد المسند (5/ 329).
(6) عزاه السيوطي فى الجامع الصغير (ح 7868) للطبرانى ، عن أبى عبيدة ومعاذ ، وضعّفه.(5/265)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 266
وفى رواية : «إنّ فى الجنة غرفا يرى ظواهرها من بواطنها ، وبواطنها من ظواهرها ، أعدّها اللّه للمتحابّين فى اللّه ، والمتزاورين فيه ، والمتباذلين فيه» «1» وفى لفظ آخر : «إنّ فى الجنة لعمدا من ياقوت ، عليها غرف من زبرجد ، لها أبواب مفتّحة تضىء كما يضىء الكوكب الدّرّى ، قلنا : يا رسول اللّه ، من يسكنها؟ قال : المتحابّون فى اللّه والمتباذلون فى اللّه ، والمتلاقون فى اللّه ، مكتوب على وجوههم : هؤلاء المتحابون فى اللّه» «2» وفى الأثر أيضا : إذا كان يوم القيامة ، نادى مناد : أين المتحابون فى اللّه؟ فيقوم ناس - وهم يسير - فينطلقون إلى الجنّة سراعا ، فتتلقّاهم الملائكة : فيقولون : رأيناكم سراعا إلى الجنة ، فمن أنتم؟ فيقولون : نحن المتحابّون فى اللّه فيقولون : وما كان تحابّكم؟ فيقولون : كنّا نتحابّ فى اللّه ونتزاور فى اللّه ، ونتعاطف فى اللّه ، ونتباذل فى اللّه ، فيقال لهم : ادخلوا الجنة ، فنعم أجر العاملين. ه. من البدور السافرة. والتباذل : المواساة بالبذل.
وذكر فى الإحياء شروط المتحابين فى اللّه ، فقال رضي اللّه عنه : اعلم أن عقد الأخوة رابطة بين الشخصين ، كعقد النكاح بين الزوجين ، ثم قال : فلأخيك عليك حق فى المال ، وفى النّفس ، وفى اللسان ، وفى القلب. وبالعفو ، وبالدعاء ، وذلك تجمعه ثمانية حقوق :
الحق الأول : فى المال بالمواساة ، وذلك على ثلاثة مراتب أدناها : أن تنزله منزلة عبدك وخادمك ، فتقوم بحاجاته بفضلة مالك ، فإذا سنحت له حاجة ، وعندك فضلة أعطيته ابتداء ، فإذا أحوجته إلى سؤال فهو غاية التقصير. الثانية : أن تنزله منزلة نفسك ، وترضى بمشاركته إياك فى مالك ، فتسمح له فى مشاركته. الثالثة - وهى العليا - : أن تؤثره على نفسك ، وتقدم حاجته على حاجتك ، وهى رتبة الصدّيقين ، ومنتهى درجات المتحابين.
الحق الثاني : الإعانة بالنفس فى قضاء الحاجات ، والقيام بها قبل السؤال ، وهذا أيضا لها درجات كالمواساة ، فأدناها : القيام بالحاجة عند السؤال ، ولكن مع البشاشة والاستبشار ، وإظهار الفرح. وأوسطها : أن تجعل حاجته كحاجتك ، فتكون متفقدا لحاجته ، غير غافل عن أحواله ، كما لا تغفل عن أحوال نفسك ، وتغنيه عن السؤال.
وأعلاها : أن تؤثره على نفسك ، وتقدم حاجته على حاجتك ، وتؤثره على نفسك ، وأقاربك ، وأولادك. كان الحسن يقول : إخواننا أحبّ إلينا من أهلينا وأولادنا لأن أهلينا يذكروننا الدنيا ، وإخواننا يذكروننا الآخرة.
___________
(1) رواه الطبراني فى الأوسط (ح 2903) ، عن بريدة. قال الهيثمي فى المجمع (10/ 278) : «وفيه إسماعيل بن سيف ، وهو ضعيف».
(2) رواه البزار (كشف الأستار ، ح 3592) عن أبى هريرة رضي اللّه عنه.(5/266)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 267
الحق الثالث : على اللسان بالسكوت ، فيسكت عن التجسس ، والسؤال عن أحواله ، وإذا رآه فى طريقه فلا يسأله عن غرضه وحاجته ، فربما يثقل عليه ، أو يحتاج إلى أن يكذب ، ويسكت عن أسراره التي بثها إليه ، فلا يبثها إلى غيره ، ولا إلى أخص أصدقائه ، ولا يكشف شيئا منها ولو بعد القطيعة ، وليسكن عن مماراته ومدافعته فى كلامه.
الحق الرّابع : على اللسان بالنطق ، فيتودد إليه بلسانه ، ويتفقده فى أحواله ، كالسؤال عن عارض عرض له ، وأظهر شغل القلب بسببه ، فينبغى أن يظهر له بلسانه كراهتها. والأحوال التي يسرّ بها ، ينبغى أن يظهر له بلسانه مشاركته فى السرور بها. فمعنى الأخوة : المساهمة فى السراء والضراء ، ويدعوه بأحب أسمائه فى حضوره ومغيبه ، ويثنى عليه بما يعرف من محاسن أحواله ، عند من يريد هو الثناء عنده ، وكذا على أولاده وأهله ، حتى على عقله ، وخلقه ، وهيئته ، وخطه ، وشعره ، وتصنيفه ، وجميع ما يفرح به ، من غير كذب ولا إفراط ، ويذب عنه فى غيبته مهما قصد بسوء ، ويعلمه مما علمه اللّه وينصحه.
الحق الخامس : العفو عن الزلات والهفوات ، فإن كانت زلته فى الدين بارتكاب معصية ، فليتلطف فى نصحه ، فإن بقي مصرا ، فقد اختلف الصحابة فى ذلك ، فذهب أبو ذر إلى مقاطعته ، وقال : إذا انقلب أخوك عما كان عليه فابغضه من حيث أحببته. وذهب أبو الدرداء ، وجماعة ، إلى خلاف ذلك ، وقال أبو الدرداء : إذا تغير أخوك عما كان عليه فلا تدعه لأجل ذلك فإن أخاك يعوجّ مرة ويستقيم أخرى. وهذا ألطف وأفقه ، وذلك لما فى هذه الطريق من الرّفق ، والاستمالة ، والتعطف ، المفضى إلى الرّجوع والتوبة. وأيضا : للأخوة عقد ، ينزل منزلة القرابة ، فإذا انعقدت وجب الوفاء بها ، ومن الوفاء : ألا يهمله أيام حاجته وفقره ، وفقر الدين أشد من فقر المال. ثم قال : والفاجر إذا صحب تقيا وهو ينظر إلى خوفه رجع عن قريب ، ويتخلى من الإصرار ، بل الكسلان يصحب الحريص فى العمل ، فيحرص حياء منه ، وإن كانت زلته فى حقك فلا خلاف أن العفو والاحتمال هو المطلوب. ه. قلت : ولعل حق القلب يندرج هنا مع المحبة وشهود الصفاء منه.
الحق السادس : الدعاء له فى حياته ومماته بكلّ ما يحب لنفسه وأهله. قلت : ومن ذلك زيارة قبره ، وإيصال النفع له فى ذلك الوقت.
الحق السابع : الوفاء والإخلاص. ومعنى الوفاء : الثبات على الحب ، وإدامته إلى الممات ، معه ومع أولاده وأصدقائه.(5/267)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 268
الحق الثامن : التخفيف وترك التكليف والتكلف ، فلا تكلف أخاك ما يشق عليه بل تروح سره عن مهماتك وحاجاتك ، وترفهه عن أن تحمّله شيئا من أعبائك ، ولا تكلفه التواضع لك ، والتفقد والقيام بحقوقك ، بل ما تقصد بمحبته إلا اللّه تعالى. ه. باختصار «1».
وفى وصية القطب ابن مشيش ، لأبى الحسن - رضي اللّه عنهما - : لا تصحب من يؤثر نفسه عليك ، فإنه لئيم ولا من يؤثرك على نفسه ، فإنه قلما يدوم واصحب من إذا ذكر ذكر اللّه ، فاللّه يغنى به إذا شهد ، وينوب عنه إذا فقد ، ذكره نور القلوب ، ومشاهدته مفاتح الغيوب. ومعنى كلام الشيخ : لا تصحب من يبخل عنك بما عنده من العلوم ، ولا من يتكلف لك ، فإنه لا يدوم ، وهذه صحبة الشيخوخة.
وقال صلّى اللّه عليه وسلم : «مثل الأخوين كمثل اليدين ، يغسل إحداهما الأخرى ، وكمثل البنيان يشدّ بعضه بعضا» «2». وفى معناه قيل :
إنّ أخاك الحقّ من كان معك ومن يضرّ نفسه لينفعك
ومن إذا رأى زمانا صدّعك شتّت فيك شمله ليجمعك
وهذا فى حق الإخوان ، واللّه تعالى أعلم.
ثم ذكر تعالى أضداد هؤلاء ، فقال :
[سورة الزخرف (43) : الآيات 74 الى 80]
إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ (74) لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (75) وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (76) وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ (77) لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (78)
أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (79) أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ بَلى وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (80)
قلت : (خالدون) : خبر «إن» ، و(فى عذاب) : معمول الخبر ، أو : خبر ، و«خالدون» خبر بعد خبر.
___________
(1) انظر : إحياء علوم الدين. (كتاب آداب الألفه والأخوة).
(2) قال العراقي فى المغني (2/ 172) : «رواه السلمى فى آداب الصحبة ، وأبو المنصور الديلمي فى مسند الفردوس ، من حديث أنس.
وفيه أحمد بن محمد بن غالب الباهلي ، كذاب. وهو من قول سلمان الفارسي فى الأول من الحزبيات».(5/268)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 269
يقول الحق جل جلاله : إِنَّ الْمُجْرِمِينَ أي : الراسخين فى الإجرام ، وهم الكفار ، كما ينبئ عنه إتيانه فى مقابلة المؤمنين فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ ، لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ لا يخفف عنهم ، من قولهم : فترت عنه الحمى :
سكتت. قال القشيري : هم الكفار والمشركون ، أهل الخلود ، لا يخفف عنهم ، وأما أهل التوحيد فقد يكون قوم منهم فى النار ، ولكن لا يخلدون فيها فيقتضى دليل الخطاب أنه يفتّر عنهم العذاب ، أي : يخفف ، وورد فى الخبر الصحيح :
«أن الحق يميتهم إماتة إلى أن يخرجوا منها» والميت لا يحس ولا يألم ، وذكر فى الآية أنهم مُبْلِسُونَ فيدلّ أن المؤمنين لا إبلاس لهم ، وإن كانوا فى بلائهم فهم على وصف رجائهم ، ويعدون أيامهم. ه.
وحمل ابن عطية الموت على المقاربة ، لا الموت حقيقة لأن الآخرة لا موت فيها قال : والحديث أراه على التشبيه ، لأنه كالسبات والرّكود والهمود ، فجعله موتا. انظره فى ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى ، «1». وقال عياض فى الإكمال :
عن بعض المتكلمين : يحتمل الحقيقة ، ويحتمل الغيبة عن الإحساس ، كالنوم ، وقد سمى النّوم وفاتا لإعدامه الحس. ه.
وَهُمْ فِيهِ أي : فى العذاب مُبْلِسُونَ آيسون من الفرج ، متحيّرون ، وَما ظَلَمْناهُمْ بذلك ، حيث أرسلنا الرّسل وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ بتعريض أنفسهم للعذاب الخالد ، بمخالفة الرّسل ، وإيثارهم التقليد على النّظر.
وَنادَوْا وهم فى النّار لمّا أيسوا من الفتور «2» يا مالِكُ ، وهو خازن النّار. قيل لابن عباس : إن ابن مسعود يقرأ «يا مال» - ورويت عن النّبى صلّى اللّه عليه وسلم «3» - فقال «4» : «ما أشغل أهل النّار عن الترخيم «5» ، قيل : هو رمز إلى ضعفهم وعجزهم عن تمام اللفظ. لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ أي : ليمتنا حتى نستريح ، من : قضى عليه إذا أماته ، والمعنى : سل ربك أن يقضى علينا بالموت ، وهذا لا ينافى ما ذكر من إبلاسهم لأنه جؤار ، وتمنى الموت لفرط الشدة. قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ لابثون فى العذاب ، لا تتخلصون منه بموت ولا فتور ، قال الأعمش : أنبئت أن بين دعائهم وبين إجابتهم ألف عام «6» ، وفى الحديث : «لو قيل لأهل النّار : إنكم ماكثون فى النّار عدد كلّ حصاة فى الدنيا لفرحوا ولو قيل لأهل الجنة ذلك لحزنوا ، ولكن جعل اللّه لهم الأبد».
___________
(1) الآية 13 من سورة الأعلى.
(2) أي : فتور العذاب عنهم.
(3) نقل القرطبي (7/ 6120) عن أبى بكر الأنبارى قوله فى رفع هذه القراءة إلى النّبى صلّى اللّه عليه وسلم : «لا يعمل على هذا الحديث ، لأنه مقطوع ، لا يقبل مثله فى الرّواية عن الرّسول صلّى اللّه عليه وسلم. وكتاب اللّه أحق أن يحتاط له ، وينفى عنه الباطل».
قلت : الذي فى الصحيح أن النّبى صلّى اللّه عليه وسلم كان يقرأ : «ونادوا يا ملك». فقد أخرج البخاري فى (التفسير - سورة الزخرف ، باب وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ الآية ح 4819) عن صفوان بن يعلى عن أبيه قال : «سمعت النّبى صلّى اللّه عليه وسلم يقرأ على المنبر : وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ ..» الحديث. [.....]
(4) أي : سيدنا ابن عباس رضي اللّه عنه.
(5) الترخيم : التليين وقيل : هو للحذف : ومنه : ترخيم الاسم فى النّداء ، وهو أن يحذف من آخره حرف أو أكثر ، فتقول فى : «مالك» يا مال ، وفى «حارث» يا حا .. وهكذا. وسمى ترخيما لتليين المنادى صوته بحذف الحرف. انظر اللسان (رخم 3/ 1617).
وانظر قول ابن عباس رضي اللّه عنه فى فتح الباري (8/ 431) وتفسير النّسفى (3/ 283).
(6) قول الأعمش ، ذكره الترمذي فى (صفة جهنم ، باب ما جاء فى صفة طعام أهل النّار).(5/269)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 270
لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ فى الدنيا بإرسال الرّسل ، وإنزال الكتب ، وهو خطاب توبيخ وتقريع من جهته - تعالى ، مقرر لجواب مالك ، ومبين لسبب مكثهم ، وقيل : الضمير فى (قال) للّه تعالى ، أي : لقد أعذرنا إليكم بإرسال الرّسل بالحق وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ أىّ حق كان كارِهُونَ لا تسمعونه وتفرون منه لأن مع الباطل الدّعة ، ومع الحق التعب ، هذا فى مطلق الحق ، وأما فى الحق المعهود ، الذي هو التوحيد والقرآن ، فكلهم كارهون مشمئزون منه.
أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً : مبتدأ ، ناع على المشركين ما فعلوا من الكيد لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ، و«أم» منقطعة ، وما فيها من معنى «بل» للانتقال من توبيخ أهل النّار إلى حكاية جناية هؤلاء ، أي : أم أحكم مشركو مكة أمرا من كيدهم ومكرهم برسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ، فَإِنَّا مُبْرِمُونَ كيدنا حقيقة ، كما أبرموا كيدهم صورة ، كقوله تعالى : أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ «1» الآية. وكانوا يتناجون فى أنديتهم ، ويتشاورون فى أمره صلّى اللّه عليه وسلم.
أَمْ يَحْسَبُونَ بل يحسبون أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وهو ما حدّثوا به أنفسهم أو غيرهم فى مكان خال ، وَنَجْواهُمْ أي : ما تكلموا به فيما بينهم بطريق التناجي ، بَلى نحن نسمعها ونطّلع عليها وَرُسُلُنا الملائكة الذين يحفظون عليهم أعمالهم ، ويلازمونهم أينما كانوا لَدَيْهِمْ أي : عندهم يَكْتُبُونَ كل ما صدر عنهم من الأفعال والأقوال ، ومن جملتها : ما ذكر من سرهم ونجواهم ، والجملة : إما عطف على ما يترجم عنه «بلى» ، أي : نكتبها ورسلنا كذلك ، أو حال ، أي : نسمعها والحال أن رسلنا يكتبونه.
الإشارة : قوله تعالى : إِنَّ الْمُجْرِمِينَ ... إلخ .. أما أهل الشرك فقد اتفق المسلمون على خلودهم ، إلا ما انفرد به ابن العربي الحاتمي والجيلي ، فقد نقلا خبرا مأثورا : أن النّار تخرب ، وينبت موضعها الجرجير ، وينتقل زبانيتها إلى خزنة الجنان ، فهذا من جهة الكرم وشمول الرّحمة لا يمنع ، ومن جهة ظواهر النّصوص معارض ، وباطن المشيئة مما اختص اللّه تعالى به. ونقل الجيلي أيضا فى كتابه (الإنسان الكامل) : أن بعض أهل النار أفضل عند اللّه من بعض أهل الجنة يتجلى لهم الحق تعالى فى دار الشقاء. ونقل أيضا : أن بعض أهل النّار تعرض عليهم الجنة فيأنفون منها ، وأن بعض أهل النّار يتلذذون بها كصاحب الجرب. وذكر بعضهم أن أهل النّار يتطبعون بها ، كالسمندل ، فهذه مقالات غريبة ، اللّه أعلم بصحتها. وعلى تقدير وقوعها فى غيب مشيئته تعالى ، فلعلها فى قوم مخصوصين من المسلمين ختم لهم بالشقاء بعد مقاسات شدائد الطاعة ، أو : فى قوم من أهل الفترة لم يكن فيهم
___________
(1) من الآية 42 من سورة الطور.(5/270)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 271
إذاية ، أو صدر منهم إحسان ، واللّه أعلم بأسرار غيبه ، وأما أهل التوحيد فحالهم فى النّار أرفق من هذا ، بل حالهم فيها أروح من حال الدنيا من وجه.
قال القشيري : ولقد قال الشيوخ ، إن حال المؤمنين فى النّار - من وجه - أروح لقلوبهم من حالهم اليوم فى الدنيا لأن اليوم خوف الهلاك وغدا يقين النّجاة ، وأنشدوا :
عيب السلامة أنّ صاحبها متوقّع لقواصم الظّهر
وفضيلة البلوى ترقّب أهلها عقبى الرّجاء ودورة الدّهر «1»
ثم قال فى قوله تعالى : وَنادَوْا يا مالِكُ لو قالوا : يا ملك بدل من يا مالك لكان أقرب إلى الإجابة ، ولكنّ الأجنبية حالت بينهم وبين ذلك. ه. أي : تعلقهم بالمخلوق دون الخالق. وقوله تعالى : أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً ... إلخ ، هى عادته تعالى مع خواصه كيفما كانوا ، يرد كيد من كادهم فى نحره. وقوله تعالى : أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ ... إلخ ، قال القشيري : إنما خوّفهم بسماع الملائكة ، وكتابتهم أعمالهم عليهم ، لغفلتهم عن اللّه ، ولو كان لهم خبر عن اللّه لما [خوفهم ] «2» بغير اللّه ، ومن علم أن أعماله تكتب عليه ، ويطالب بمقتضاها ، قلّ إلمامه بما يخاف أن يسأل عنه. ه.
ثم ردّ على من زعم اتخاذ الولد للّه تعالى ، كعيسى والملائكة ، فقال :
[سورة الزخرف (43) : الآيات 81 الى 86]
قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ (81) سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (82) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (83) وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (84) وَتَبارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (85)
وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (86)
___________
(1) فى القشيري : [عقب الرّجاء مودة الدهر].
(2) فى القشيري [خافوهم ].(5/271)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 272
يقول الحق جل جلاله : قُلْ يا محمد إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ على زعمكم فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ للّه ، كان أو لم يكن ، ويسمى هذا إرخاء العنان ، أي : أنا أول من يخضع للّه ، كان له ولد أو لم يكن ، وقد قام البرهان على نفيه. قال معناه السدى ، أو : وإن كان للرّحمن ولد فأنا أول من يعظم ذلك الولد ، وأسبقكم إلى طاعته ، والانقياد إليه ، كما يعظم ولد الملك ، لتعظيم أبيه وهذا الكلام وارد على سبيل الفرض ، والمراد : نفى الولد ، وذلك أنه علّق العبادة بكينونة الولد ، وهى محال فى نفسها ، فكان المعلق بها محالا مثلها ، ونظيره ، قول سعيد بن جبير للحجاج ، - حين قال له : واللّه لأبدلنّك بالدنيا نار تلظى - : لو عرفت أن ذلك إليك ما عبدت إلها غيرك. أو : إن كان للرّحمن ولد فى زعمكم فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ أي : الموحّدين للّه ، المكذّبين قولكم ، بإضافة الولد إليه لأن من عبد اللّه ، واعترف بأنه إلهه فقد دفع أن يكون له ولد. أو : إن كان للرّحمن ولد فأنا أول العابدين ، أي : الجاحدين والآنفين من أن يكون له ولد ، من عبد : بكسر الباء : إذا اشتد أنفه فهو عبد وعابد ، ومنه قول الشاعر :
متى ما يشا ذو الودّ يصرم خليله ويعبد عليه لا محالة ظالما «1»
وقول الحريري :
قال ما يجب على عابد الحقّ قال يحلف بالإله الخلق «2».
أي : على جاحد الحق. وقيل : هى «إن» النافية ، أي : ما كان للرحمن ولد فأنا أول من عبد اللّه ووحّده ، فيوقف على «ولد» على هذا التأويل.
روى : أن النّضر قال : إن الملائكة بنات اللّه ، فنزلت الآية ، فقال النّضر : ألا ترون أنه صدّقنى فقال الوليد : ما صدّقك ، ولكن قال : ما كان للرحمن ولدا ، فأنا أوّل الموحدين من أهل مكة أن لا ولد له «3». وسيأتى فى الإشارة قول آخر.
قال القشيري : وفى الآية وأمثالها دليل على جواز حكاية قول المبتدعة فيما أخطأوا فيه فى الاعتقاد ، على وجه الردّ عليهم. ه. قلت : ولا تجوز مطالعة أقوالهم إلا لمن رسخت قدمه فى المعرفة ، والإعراض عنها أسلم.
ثم نزّه ذاته عن اتخاذ الولد ، فقال : سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ أي : تنزه رب هذه العوالم العظام عن اتخاذ الولد لأن اتخاذ الولد من صفة الأجسام ، ولو كان جسما ما قدر على خلو هذه
___________
(1) البيت للمرقش الأصغر. انظر المفضليات (502) وروح المعاني للألوسى (25/ 105).
(2) هكذا فى الأصول ، وأظنه [الحق ] ، ولم أقف على البيت فى غير هذا المكان.
(3) ذكره النّسفى (3/ 283).(5/272)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 273
الأجرام ، وفى إضافة اسم الرّب إلى أعظم الأجرام وأقواها ، تنبيه على أنها وما فيها من المخلوقات حيث كانت تحت ملكوت ربوبيته كيف يتوهم أن يكون شىء منها جزءا منه. وفى تكرير اسم الرّب تفخيم لشأن العرش.
فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا فى باطلهم وَيَلْعَبُوا فى [دنياهم ] «1» أي : حيث لم يذعنوا لك ، ولم يرجعوا عن غيهم ، أعرض عنهم واتركهم فى لهوهم ولعبهم ، حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ ، وهو القيامة ، فإنهم يومئذ يعلمون ما فعلوا ، وما يفعل بهم ، أو : يوم بدر ، قاله عكرمة وغيره. وهذا دليل على أن ما يقولونه إنما هو خوض ولعب لا حقيقة له.
ثم ذكر انفراده بالألوهية فى العالم العلوي والسفلى ، فقال : وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ أي :
وهو الذي هو معبود فى السماء وفى الأرض ، فضمّن «إله» معنى مألوه ، أي : وهو الذي يستحق أن يعبد فيهما. وقرأ عمر ، وأبى ، وابن مسعود : «وهو الذي فى السماء اللّه وفى الأرض اللّه» كقوله تعالى : وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ «2» ، وقد مر تحقيقه عبارة وإشارة. والرّاجع إلى الموصول : محذوف لطول الصلة ، كقولهم : ما أنا بالذي قائل لك سوءا ، والتقدير : وهو الذي هو فى السماء إله ، و«إله» : خبر عن مضمر ، ولا يصح أن يكون «إله» مبتدأ ، و«فى السماء» خبره لخلو الصلة حينئذ عن العائد وَهُوَ الْحَكِيمُ فى أقواله وأفعاله الْعَلِيمُ بما كان وما يكون ، أو : الحكيم فى إمهال العصاة ، العليم بما يؤول أمرهم إليه ، وهو كالدليل على ما قبله من التنزيه ، وانفراده بالربوبية.
وَتَبارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي : تقدّس وتعاظم الذي ملك ما استقر فى السموات والأرض وَما بَيْنَهُما إما على الدوام ، كالهواء ، أو فى بعض الأوقات ، كالطير ، وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ أي : العلم بالساعة التي فيها تقوم ، وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ للجزاء ، والالتفات للتهديد ، فيمن قرأ بالخطاب. وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ أي : لا تملك آلهتهم التي يدعونها مِنْ دُونِهِ أي : من دون اللّه الشَّفاعَةَ كما زعموا أنهم شفعاؤهم عند اللّه إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ الذي هو التوحيد ، وَهُمْ يَعْلَمُونَ بما يشهدون به عن بصيرة وإيقان وإخلاص ، وهم خواص المسلمين ، والملائكة. وجمع الضميرين باعتبار معنى (من) كما أن الإفراد أولا باعتبار لفظها. والاستثناء : إما متصل ، والموصل عام لكلّ ما يعبد من دون اللّه ، أو : منقطع ، على أنه خاص بالأصنام.
___________
(1) فى الأصول [دينهم ] والمثبت من النّسفى وأبى السعود.
(2) من الآية 3 من سورة الأنعام.(5/273)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 274
الإشارة : قل يا محمد : إن كان للرحمن ولد ، على زعمكم فى عيسى والملائكة ، فأنا أولى بهذه النّسبة على تقدير صحتها لأنى أنا أول من عبد اللّه فى سابق الوجود لأن أول ما ظهر نورى ، فعبد اللّه سنين متطاولة ثم تفرعت منه الكائنات ، ومن سبق إلى الطاعة كان أولى بالتقريب ، فلم خصصتم الملائكة وعيسى بهذه النّسبة ، وأنا قد سبقتهم فى العبادة ، بل لا وجود لهم إلا من نورى ، لكن لا ولد له ، فأنا عبد اللّه ورسوله. قال جعفر الصادق : أول ما خلق اللّه نور محمد صلّى اللّه عليه وسلم قبل كلّ شىء ، وأول من وحّد اللّه عز وجل من خلقه ، درة محمد صلّى اللّه عليه وسلم ، وأول ما جرى به القلم «لا إله إلا اللّه محمد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم». ه. قاله الورتجبي. ففى الآية إشارة إلى سبقيته صلّى اللّه عليه وسلم ، وأنه أول تجل من تجليات الحق ، فمن نوره انشقت أسرار الذات ، وانفلقت أنوار الصفات ، وامتدت من نوره جميع الكائنات.
قوله تعالى فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا ... إلخ ، كل من خاض فى بحار التوحيد بغير برهان العيان ، تصدق عليه الآية ، وكذا كلّ من اشتغل بغير اللّه ، وبغير ما يقرب إليه فهو ممن يخوض ويلعب ، وفى الحديث : «الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر اللّه ، وما والاه ، أو عالما أو متعلما» «1».
وقوله تعالى : وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ ... إلخ. قال القشيري : وفى الآية دليل على أن جميع المسلمين تكون شفاعتهم غدا مقبولة. ه. أي : لأنهم فى الدنيا شهدوا بالحق ، وهو التوحيد عن علم وبصيرة ، لكن فى تعميمه نظر لأن الاستثناء ، الأصل فيه الاتصال ، ولأن من شهد بالحق مستثنى من «الذين يدعون من دونه» - وهم الملائكة ، وعيسى ، وعزير ، فهم الذين شهدوا بالحق ممن دعوا من دون اللّه ، وشفاعة من عداهم مأخوذة من أدلة أخرى.
ثم ذكر إقرار المشركين بالربوبية ، فقال :
[سورة الزخرف (43) : الآيات 87 الى 89]
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (87) وَقِيلِهِ يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ (88) فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (89)
قالت : (قيله) : مصدر مضاف لفاعله ، يقال : قال قولا وقالا وقيلا ومقالا. واختلف فى نصبه «2». فقيل : عطف على «سرهم» «3» ، أي : يعلم سرهم ونجواهم وقيله ، وقيل : عطف على محل «الساعة» ، أي : يعلم الساعة ويعلم قيله ،
___________
(1) أخرجه ابن ماجه (الزهد ، باب مثل الدنيا 2/ 1377 ، ح 4112) والترمذي فى (الزهد ، باب 14 .. 3/ 486 ، ح 2322) والبيهقي فى الشعب (1708) من حديث أبى هريرة رضي اللّه عنه. وقال الترمذي : (حديث حسن) والمراد بالدنيا : كل ما يشغل عن اللّه تعالى ، ويبعد عنه.
(2) قرأ الجمهور «قيله» بنصب اللام ، وضم الهاء. وقرأ عاصم وحمزة بخفض اللام وكسر الهاء.
(3) من الآية 80 ، وانظر الهداية للمهدوى (2/ 510). [.....](5/274)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 275
ويجوز أن يكون الجر والنّصب على إضمار القسم ، وحذفه ، كقوله تعالى : قالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ «1» وجوابه :
إِنَّ هؤُلاءِ ... إلخ.
يقول الحق جل جلاله : وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ أي : المشركين ، أو : العابدين والمعبودين مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ لا الأصنام والملائكة فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ فكيف يصرفون عن عبادته إلى عبادة غيره ، مع كون الكل مخلوقا له تعالى.
ولما شق عليه صلّى اللّه عليه وسلم صرفهم عن الإيمان جعل يستغيث ربه فى شأنهم ، حرصا على إيمانهم ، ويقول : يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ أي : قد عالجتهم فلم ينفع فيهم شىء ، فلم يبق إلا الرّجوع إليك ، إما إن تهديهم ، أو تهلكهم ، فأخبر تعالى أنه يسمع سرهم ونجواهم ، وقوله عليه السّلام فى شأنهم ، قال له تعالى : فَاصْفَحْ عَنْهُمْ أي : أعرض عنهم وأمهلهم ، وَقُلْ سَلامٌ أي : أمرى تسلّم منكم ومتاركة ، حتى نأمرك بجهادهم ، فَاصْفَحْ عَنْهُمْ أي : أعرض عنهم وأمهلهم ، وَقُلْ سَلامٌ أي : أمرى تسلّم منكم ومتاركة ، حتى نأمرك بجهادهم ، فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حالهم قطعا ، وإن تأخر ذلك. وهو وعيد من اللّه تعالى ، وتسلية لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ، أو : فسوف يعلمون حقيقة ما أنكروا من رسالتك. ومن قرأ بالخطاب «2» ، فهو داخل فى حيز «قل» ، من جملة ما يقال لهم.
الإشارة : العجب كلّ العجب أن يعلم العبد أنه لا خالق له سوى ربه ، ولا محسن له غيره ، وهو يميل بالمحبة أو الركون إلى غيره ، وفى الحكم : «والعجب كلّ العجب ممن يهرب مما لا انفكاك له عنه ، ويطلب ما لا بقاء له معه ، فإنها لا تعمى الأبصار ، ولكن تعمى القلوب التي فى الصدور.» ويقال لمن دعا إلى اللّه فلم ينجح دعاؤه : فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ ... الآية.
وباللّه التوفيق .. وصلّى اللّه على سيدنا محمد وآله.
___________
(1) الآية 84 من سورة ص.
(2) قرأ نافع وابن عامر وأبو جعفر ، بالخطاب على الالتفات ، والباقون بالغيب. انظر : الاتحاف/ 461.(5/275)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 276(5/276)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 277
سورة الدّخان
مكية. وهى سبع وخمسون آية. ومناسبتها لما قبلها قوله : فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ على الاحتمال الثاني «1» ، أي :
سوف تعلمون حقيقة ما أنزلنا على محمد ، ثم أقسم أنه أنزل فى ليلة مباركة ، أو لقوله : إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ «2» أي : بما أنزلت إلىّ ، فأقسم اللّه تعالى أنه أنزله من عنده ، أو يرجع لقوله : وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ «3» والحديث شجون ، يجر بعضه بعضا.
[سورة الدخان (44) : الآيات 1 الى 9]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
حم (1) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4)
أَمْراً مِنْ عِنْدِنا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (6) رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (7) لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (8) بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (9)
يقول الحق جل جلاله : حم يا محمد وَحق الْكِتابِ الْمُبِينِ ، الواضح البيّن ، وجواب القسم : إِنَّا أَنْزَلْناهُ أي : الكتاب الذي هو القرآن فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ ، ليلة القدر ، أو ليلة النّصف من شعبان ، والجمهور على الأول ، لقوله : إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ «4» وقوله : شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ «5» ، وليلة القدر على المشهور فى شهر رمضان ، وسيأتى الجمع بينهما. ثم قيل : أنزله جملة من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا ، ثم نزل به جبريل نجوما ، على حسب الوقائع ، فى ثلاث وعشرين سنة ، وقيل : معنى نزوله فيها : ابتداء نزوله.
___________
(1) راجع تفسير الآية الأخيرة من سورة الزخرف.
(2) الآية 88 من سورة الزخرف.
(3) الآية 44 من سورة الزخرف.
(4) الآية الأولى من سورة القدر.
(5) من الآية 185 من سورة البقرة.(5/277)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 278
والمباركة : الكثيرة الخير لما ينزل فيها من الخير والبركة ، والمنافع الدينية والدنيوية ، ولو لم يوجد فيها إلا إنزال القرآن لكفى به بركة.
إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ استئناف مبين لما يقتضى الإنزال ، كأنه قيل : إنا أنزلناه لأن من شأننا الإنذار والتحذير من العقاب ، فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ استئناف أيضا مبين لسر تخصيص هذه الليلة بالإنزال ، أي : إنما أنزلناه فى هذه الليلة المباركة ، لأنها فيها يفرق كلّ أمر حكيم ، أي : ذى حكمة بالغة ، ومعنى «يفرق» : يفصل ويكتب كلّ أمر من أرزاق العباد وآجالهم وجميع أمورهم ، من هذه الليلة إلى ليلة القدر المستقبلة ، وقيل : الضمير فى «فيها» يرجع لليلة النّصف ، على الخلاف المتقدم.
وروى أبو الشيخ ، بسند صحيح ، عن ابن عباس رضي اللّه عنه فى قوله : يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ قال : «ليلة النصف من شعبان ، يدبر أمر السنة ، فيمحو ما يشاء ويثبت غيره الشقاوة والسعادة ، والموت والحياة». قال السيوطي : سنده صحيح لا غبار عليه ولا مطعن فيه. ه. وروى عن ابن عباس : قال : إن اللّه يقضى الأقضية كلها ليلة النّصف من شعبان ، ويسلمها إلى أربابها ليلة القدر. وفى رواية : ليلة السابع والعشرين من رمضان ، قيل :
وبذلك يرتفع الخلاف أن الأمر يبتدأ فى ليلة النّصف من شعبان ، ويكمل فى ليلة السابع والعشرين من رمضان «1».
واللّه أعلم.
وقوله تعالى : حَكِيمٍ الحكيم : ذو الحكمة ، وذلك أن تخصيص اللّه كلّ أحد بحالة معينة من الرّزق والأجل ، والسعادة والشقاوة ، فى هذه الليلة ، يدلّ على حكمة بالغة فأسند إلى الليلة لكونها ظرفا ، إسنادا مجازيا.
وقوله : أَمْراً مِنْ عِنْدِنا : منصوب على الاختصاص ، أي : أعنى بهذا الأمر أمرا حاصلا من عندنا ، على مقتضى حكمتنا ، وهو بيان لفخامته الإضافية ، بعد بيان فخامته الذاتية ، ويجوز أن يكون حالا من كلّ أمر لتخصيصه بالوصف ، إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ بدل من «إنا كنا منذرين».
ورَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ : مفعول له ، أي : أنزلنا القرآن لأن من عادتنا إرسال الرّسل بالكتب لأجل إفاضة رحمتنا. ووضع الرّب موضع الضمير ، والأصل : رحمة منا للإيذان بأن ذلك من أحكام الرّبوبية ومقتضياتها ، وإضافته إلى ضميره صلّى اللّه عليه وسلم لتشريفه وفخامته.
___________
(1) على هامش النّسخة الأم مايلى : كيف يرتفع ، واللّه تعالى يقول فيها - أي : الليلة المباركة «يفرق كلّ أمر حكيم» وهى ليلة القدر؟
على أنه : أي إشكال لكلام اللّه تعالى مع كلام غيره ، والمرفوع بذلك ضعيف أيضا ، فلا إشكال من كلّ جهة ، واللّه الحمد. ه.(5/278)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 279
وقال الطيبي : هذه الجمل كلها واردة على التعليل المتداخل فكأنه لما قيل : إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ قيل :
فلم أنزل؟ فأجيب : لأن من شأننا التحذير والعقاب ، فقيل : لم خص الإنزال فى هذه الليلة؟ فقيل : لأنه من الأمور المحكمة ، ومن شأن هذه الليلة أن يفرق فيها كلّ أمر حكيم ، فقيل : لم كان من الأمور المحكمة؟ فأجيب : لأن ذا الجلال والإكرام أراد إرسال الرّحمة للعالمين ، ومن حق المنزل عليه أن يكون حكيما ، لكونه للعالمين نذيرا ، أو داعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ .... الآية ، فقيل : لما ذا رحمهم الرّب بذلك؟ فأجيب : لأنه وحده سميع عليم ، يعلم جريان أحوال عباده ، ويعلم ما يحتاجون إليه دنيا وأخرى. ه. وهذا معنى قوله : إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ لأقوالهم وحده ، الْعَلِيمُ بأحوالهم.
رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما ، من جرّه «1» بدل من «ربك» ، ومن رفعه خبر عن مضمر ، أي : هو رب العوالم العلوية والسفلية ، وما بينها ، إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ أي : من أهل الإيقان ، ومعنى الشرط : أنهم كانوا يقرون بأن للسموات والأرض ربا وخالقا ، فإن كان إقرارهم عن علم وإيقان فهو الذي أنزل الكتاب وأرسل الرّسل رحمة منه ، وإن كانوا مذبذبين فليعلموا ذلك.
لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ، من قصر إفراد لا قصر قلب «2» لأن المشركين كانوا يثبتون الألوهية للّه - تعالى - ويشركون معه غيره ، فردّ اللّه عليهم بكونه لا يستحق العبادة غيره ، يُحْيِي وَيُمِيتُ ، ثم يبعث للجزاء ، رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ أي : هو رب الجميع ، ثم ردّ أن يكونوا موقنين بقوله : بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ ، وإقرارهم غير صادر عن علم وإيقان ، بل قول مخلوط بهزؤ ولعب. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : (حم) ، قال الورتجبي : الحاء : الوحى الخاص إلى محمد ، والميم : محمد صلّى اللّه عليه وسلم ، وذلك الوحى الخاص بلا واسطة خبر عن سر فى سر ، لا يطلع على ذلك - الذي بين المحب والمحبوب - أحد من خلق اللّه ، ألا ترى كيف قال سبحانه : فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى
«3»؟ وذلك إشارة إلى وحي السر فى السر ، وجملتها قسم ، أي : بمعنى الوحى السرى والمحبوب ، والقرآن الظاهر الذي ينبئ عن الأسرار ، إنا أنزلناه. ه. قال القشيري : الحاء تشير إلى حقّه ، والميم إلى محبته ، ومعناه : بحقي ومحبتى لعبادى ، وكتابى العزيز إليهم ، ألا أعذّب أهل محبتى بفرقتى. ه.
___________
(1) قرأ عاصم وحمزة والكسائي وخلف «رب» بخفض الباء ، بدل من (ربك) أو صفة ، وقرأ الباقون بالرفع ، على إضمار مبتدأ ، أو مبتدأ ، خبره : (لا إله إلا هو). انظر : الإتحاف (1/ 462).
(2) القصر عند أهل البيان : تخصيص شىء بآخر ، ويسمّى الأول مقصورا والثاني مقصورا عليه ، كقولك : ما زيد إلا شاعر ، فإن كان المخاطب يعتقد أنه شاعر وعالم معا ، قيل له : قصر إفراد ، وإن كان يعتقد أنه عالم لا شاعر ، قيل له : قصر قلب ، وإن كان يتردد بين كونه عالما أو شاعرا قيل له : قصر تعيين. انظر محيط المحيط (ص 738).
(3) الآية 10 من سورة النّجم(5/279)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 280
والليلة المباركة عند القوم ، هى ليلة الوصال والاتصال ، حين يمتحى وجودهم ، ويتحقق فناؤهم ، وكلّ وقت يجدون فيه قلوبهم ، ويفقدون وجودهم فهو مبارك ، وهو ليلة القدر عندهم ، فإذا دام اتصالهم ، كانت أوقاتهم كلها ليلة القدر ، وكلها مباركة. قال الورتجبي : قوله تعالى : فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ كانت مباركة لتجلى الحق فيها بالأقضية ، والرّحمة غالبة فيها ، ومن جملتها : إنزال القرآن فيها فإنه افتتاح وصلة لأهل القربة. ه.
قال القشيري : وسمّاها ليلة مباركة لأنها ليلة افتتاح الوصلة ، وأشدّ الليالى بركة ، ليلة يكون العبد فيها حاضرا بقلبه ، مشاهدا لربه ، يتنسم «1» بأنوار الوصلة ، ويجد فيها نسيم القربة ، وأحوال هذه الطائفة فى لياليهم مختلفة ، كما قالوا ، وأنشدوا :
لا أظلم الليل ولا ادّعى أنّ نجوم الليل ليست تغور
ليلى كما شاء فإن لم يزر طال ، وإن زار فليلى قصير. ه. «2»
أي : ليلى كما شاء المحبوب ، فإن لم يزرنى طال ليلى ، وإن زارنى قصر. والحاصل : أن أوقات الجمال والبسط كلها قصيرة ، وأوقات الجلال كلها طويلة ، وقوله تعالى : فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ أي : فى ليلة الوصال تفرق وتبرز الحكم والمواهب القدسية ، بلا واسطة ، بل أمرا من عندنا ، والغالب أن هذه الحالة لا تكون إلا عند الحيرة والشدة من الفاقة أو غيرها ، وكان بعض العارفين من أشياخنا يستعدون فيها لكتب المواهب ، ويسمونها ليلة القدر.
وقوله تعالى : إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ ، رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ هو الرّسول صلّى اللّه عليه وسلم قال : «أنا الرّحمة المهداة» «3» ، فرحمة مفعول به ، إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ
. قال القشيري : السميع لأنين المشتاقين ، العليم بحنين المحبين. ه. لا إِلهَ إِلَّا هُوَ أي : لا يستحق أن يتأله ويعشق إلا هو ، يُحْيِي وَيُمِيتُ يحيى قلوب قوم بمعرفته ومحبته ، ويميت قلوبا بالجهل والبعد ، يفعل ما يشاء ، ويحكم ما يريد. ثم وصف أهل الجهل والبعد بقوله : بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ ، وأما أهل المعرفة والقرب فهم فى حضرة محبوبهم يتنعمون ، ومن روح وصاله يتنسمون. قال القشيري : واللعب يجرى على غير ترتيب ، تشبيها باللعاب الذي يسيل لا على نظام مخصوص ، ووصف الكافر باللعب لتردده وشكّه وتحيّره فى عقيدته. ه.
___________
(1) فى القشيري : يتنعم.
(2) فى القشيري :
لا أظلم الليل ولا أدعى أن نجوم الليل ليست تزول
ليلى كما شاءت قصير إنا جاءت ، وإن ضنت فليلى طويل
ونسب البيتان فى زهرة الآداب (3/ 84) إلى علىّ بن خليل.
(3) أخرجه البراز (2/ 217) والطبراني فى الصغير (1/ 95) والحاكم (1/ 35) «وصححه» والقضاعي (1/ 189 - 190) عن أبى صالح عن أبى هريرة. وأخرجه عن أبى صالح مرسلا ، الدارمي فى (المقدمة ، باب كيف كان أول شأن النّبى صلّى اللّه عليه وسلم ، ح 15) والبيهقي فى الشعب (ح 1446) والحديث صحّحه الألبانى فى تخريج المشكاة (3/ 1615). [.....](5/280)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 281
ثم هددهم بقوله :
[سورة الدخان (44) : الآيات 10 الى 16]
فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ (10) يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ (11) رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (12) أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (13) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (14)
إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عائِدُونَ (15) يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (16)
يقول الحق جل جلاله : فَارْتَقِبْ فانتظر يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ ، قال علىّ وابن عباس وابن عمر والحسن - رضي اللّه عنهم - : هو دخان يجىء قبل يوم القيامة ، يصيب المؤمن منه مثل الزكام ، وينضج رؤوس المنافقين والكافرين ، حتى تكون كأنها مصليّة حنيذة «1» ، وتكون الأرض كلها كبيت أوقد فيه نار ، ليس فيه خصاص «2» ، ويؤيد هذا حديث حذيفة : «أول الآيات الدخان ، ونزول عيسى ، ونار تخرج من عدن ، تسوق النّاس إلى المحشر ، تقيل معهم إذا قالوا ...» الحديث «3» ، انظر الثعلبي.
وأنكر هذا ابن مسعود ، وقال : هذا الدخان قد رأته قريش حين دعا عليهم النّبى صلّى اللّه عليه وسلم بسبع كسبع يوسف ، فكان الرّجل يرى من الجوع دخانا بينه وبين السماء «4». ويؤيده ما يأتى بعده. وقوله مُبِينٍ أي : ظاهر لا يشك أحد أنه دخان ، يَغْشَى النَّاسَ أي : يحيط بهم ، حتى كان الرّجل يحدّث الرّجل ، ويسمع كلامه ، ولا يراه من الدخان ، أي : انتظر يوم شدة ومجاعة فإن الجائع يرى بينه وبين السماء كهيئة الدخان ، إما لضعف بصره ، أو لأن عام القحط يظلم الهواء لقلة الأمطار ، أو كثرة الغبار ، هذا عَذابٌ أَلِيمٌ أي : قائلين هذا عذاب أليم.
ولما اشتد بهم القحط ، مشى أبو سفيان ، ونفر معه إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم وناشده اللّه - تعالى - والرّحم ، وواعدوه إن دعا لهم ، وكشف عنهم ، أن يؤمنوا ، وذلك قوله تعالى : رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ أي : سنؤمن إن
___________
(1) المصليّة والحنيذة : المشوية.
(2) الخصاص : الفرج والخرق فى البناء أو الباب ونحوه ، راجع اللسان (خصص 2/ 1173) والخبر أخرجه الطبري (25/ 113).
(3) أخرجه البغوي فى تفسيره (7/ 230) من حديث حذيفة بن اليمان ، وأخرجه الطبري (25/ 114) بذكر كلمة (الدجال) بدل (الدخان).
(4) معنى ما أخرجه البخاري فى (التفسير ، سورة حم الدخان ، باب أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ ح 4823) ومسلم (فى صفات المنافقين ، باب الدخان ح 2798) (39). ولفظه كما عند البخاري : قال عبد اللّه : «إن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم لما دعا قريشا كذبوه واستعصوا عليه ، فقال : اللهم أعنى عليه بسبع كسبع يوسف. فأصابهم سنة حصت كلّ شىء ، حتى كانوا يأكلون الميتة وكان يقوم أحدهم ، فكان يرى بينه وبين السماء مثل الدخان ، من الجهد والجوع. ثم قرأ : فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ ، يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ حتى بلغ : إِنَّكُمْ عائِدُونَ قال عبد اللّه : أفيكشف عنهم العذاب يوم القيامة؟ قال : والبطشة الكبرى يوم بدر».(5/281)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 282
كشف عنا العذاب ، قال تعالى : أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى أي : كيف يذّكرون ويتعظون ويفون بما وعدوه من الإيمان عند كشف العذاب ، وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ أي : والحال أنهم يشاهدون من دواعى التذكير وموجبات الاتعاظ ، ما هو أعظم منه ، حيث جاءهم رسول عظيم الشأن ، بيّن البرهان ، يبين لهم مناهج الحق بإظهار آيات ظاهرة ، ومعجزات قاهرة ، تخرّ لها صمّ الجبال.
ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ أي : عن ذلك الرّسول ، بعد ما شاهدوا من العظائم ما يوجب الإقبال عليه ، ولم يقنعوا بالتولى ، بل اقترفوا ما هو أشنع ، وَقالُوا فى حقه عليه السّلام : مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ أي : قالوا تارة معلّم يعلمه غلام أعجمى لبعض ثقيف ، وتارة مجنون ، أو : يقول بعضهم كذا ، وبعضهم كذا ، وكيف يتوقع من قوم هذه صفتهم أن يتأثروا بالعظة والتذكير؟! قال تعالى : إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلًا أي : زمنا قليلا ، أو كشفا قليلا ، إِنَّكُمْ عائِدُونَ إلى الكفر ، الذي أنتم فيه ، أو : إلى العذاب بعد صرف الدخان ، على القول الأول ، يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى يوم بدر ، أو يوم القيامة ، إِنَّا مُنْتَقِمُونَ أي : ننتقم منهم فى ذلك اليوم. وانتصاب يَوْمَ نَبْطِشُ باذكر أو بما دلّ عليه (إنا منتقمون) ، وهو ننتقم ، لا بمنتقمون ، لأن ما بعد «إن» لا يعمل فيما قبله.
الإشارة : فارتقب أيها العارف يوم تأتى السماء بدخان مبين ، أي : يوم يبرز من سماء الغيوب بدخان الحس ، وظلمة الأسباب تغشى قلوب النّاس ، فتحجبهم عن شمس العرفان ، هذا عذاب أليم موجع للقلوب ، حيث حجبها عن حضرة علام الغيوب. وأما العارف فشمسه ضاحية ، ونهاره مشرق على الدوام ، كما قال شاعرهم :
ليلى بوجهك مشرق وظلامه فى النّاس سار
الناس فى سدف الظّلام ونحن فى ضوء النّهار
وقال آخر :
طلعت شمس من أحب بليل فاستنارت فما تلاها غروب
إن شمس النّهار تغرب بليل وشمس القلوب ليست تغيب «1»
قال القشيري : قيامة هؤلاء - أي الصوفية - معجّلة لهم ، يوم تأتى السماء فيه بدخان مبين ، وهو باب غيبة الأخبار ، وانسداد باب ما كان مفتوحا من الأنس بالأحباب. قلت : وأحسن من عبارته أن تقول : وهو باب غيبة الأنوار ، وانسداد منبع الأسرار. ثم قال : وفى معناه قالوا :
___________
(1) البيتان من الخفيف ، وهما للحلاج ، كما فى ديوانه/ 23 تحقيق د/ كامل الشيبى. وصلة تاريخ الطبري 11/ 87.(5/282)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 283
فلا الشمس شمس تستنير ولا الضحى يطلق ولا ماء الحياة ببارد. ه. «1»
وقوله تعالى : رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ قال القشيري : وقد يستزيد هؤلاء العذاب على العكس من أحوال الخلق ، وفى ذلك أنشدوا :
وكلّ مآربى قد نلت منها سوى ملك ودّ قلبى بالعذاب «2»
فهم يسألون البلاء بدل ما يستكشفه الخلق ، وأنشدوا :
أنت البلاء فكيف أرجو كشفه إنّ البلاء إذا فقدت بلائي. ه.
قلت : وأصرح منه : قال الشاعر :
يا من عذابى عذب فى محبّته لا أشتكى منك لا صدّا ولا مللا
وقول الجيلاني «3» - رضي اللّه عنه :
تلذّ لى الآلام إذ كنت مسقمى وإن تختبرني فهى عندى صنائع
تحكّم بما تهواه فىّ فإننى فقير لسلطان المحبة طائع
قوله تعالى : أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى أي : كيف يتعظ من تنكب عن صحبة الرّجال ، وملأ قلبه بالخواطر والأشغال؟ وقد جاءهم من يدعوهم إلى الكبير المتعال ، فأنكروه ، وقالوا : معلّم مجنون ، إنا كاشفوا العذاب عن قلوبهم من الشكوك والخواطر قليلا ، حين يتوجهون إلينا ، ويفزعون إلى بابنا ، أو يسمعون من بعض أوليائنا ، ثم تكثر عليهم الخواطر ، حين تنقشع عنهم سحابة أمطار الواردات من قلوب أوليائنا ، إنكم عائدون إلى ما كنتم عليه ، يوم نبطش البطشة الكبرى ، هى خطفة الموت ، فلا ينفع فيها ندم ولا رجوع ، بل يورثهم حزنا طويلا ، فلا يجدون فى ظلال انتقامنا مقيلا ، فننتقم ممن أعرض بسريرته عن دوام رؤيتنا.
___________
(1) هكذا فى الأصول ، أما فى لطائف الإشارات ، فالشطر الأول فيه : [فما جانب الدنيا بسهل ولا الضحى ].
والبيت لأبى تمام ، فى رثاء خالد بن يزيد. انظر ديوان أبى تمام (4/ 72).
(2) هكذا فى الأصول ، والشطر الثاني فى القشيري وغيره من المصادر والمذكورة بعد : [سوى ملذوذ وجدى بالعذاب ].
هذا ، والبيت جاء منسوبا للحلاج فى ديوانه (قسم أعشار نسبت للحلاج ص 68) وتاريخ بغداد (8/ 116) ، كما نسب البيت فى الكواكب الدرية (44) والفتوحات المكية (3/ 185) لأبى يزيد البسطامي.
(3) الشيخ عبد الكريم الجيلي فى عينيته (ص 50 - 51).(5/283)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 284
ثم ذكر وبال من سلك مسلكهم ، فقال :
[سورة الدخان (44) : الآيات 17 الى 24]
وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (17) أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (18) وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (19) وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (20) وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (21)
فَدَعا رَبَّهُ أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (22) فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلاً إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (23) وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (24)
يقول الحق جل جلاله : وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قبل هؤلاء المشركين ، قَوْمَ فِرْعَوْنَ أي : امتحناهم بإرسال موسى عليه السّلام ، أو : أوقعناهم فى الفتنة بالإمهال وتوسيع الأرزاق ، أو فعلنا بهم فعل المختبر ليظهر ما كان باطنا ، وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ موسى عليه السّلام ، أي : كريم على اللّه ، أو على المؤمنين ، أو فى نفسه حسيب نسيب ، لأن اللّه - تعالى - لم يبعث نبيا إلا من سادات قومه : أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللَّهِ أي : بأن أدوا إلىّ ، أي : ادفعوا عباد اللّه ، وهم بنو إسرائيل ، بأن ترسلوهم معى ، فكانت دعوة موسى لفرعون بعد الإقرار بالتوحيد إرسال بنى إسرائيل من يده ، أو : بأن أدوا إلىّ يا عباد اللّه ما يجب عليكم من الإيمان ، وقبول الدعوة ، فالعباد على هذا عام. ف «إن» مفسرة لأن مجىء الرّسل لا يكون إلا بدعوة ، وهى تتضمن القول ، أو مخففة ، أي : جاءهم بأن الشأن أدوا إلىّ ، و«عباد اللّه» على الأول : مفعول به ، وعلى الثاني : منادى ، إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ تعليل للأمر ، أو لوجوب المأمور ، أي : رسول غير ظنين ، قد ائتمنني اللّه على وحيه ، وصدّقنى بالمعجزات القاهرة.
وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ أي : لا تتكبروا على اللّه بالاستهانة بوحيه وبرسوله أو : لا تتكبروا على نبىّ اللّه ، إِنِّي آتِيكُمْ من جهته تعالى بِسُلْطانٍ مُبِينٍ بحجة واضحة ، لا سبيل إلى إنكارها ، تدل على نبوتى. وفى إيراد الأداء مع الأمين ، والسلطان مع العلو ، من الجزالة ما لا يخفى ، وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أي : التجأت إليه ، وتوكلت عليه ، أَنْ تَرْجُمُونِ ، من أن ترجمون ، أي : تؤذوننى ضربا وشتما ، أو تقتلونى رجما.
قيل : لما قال : وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ توعدوه بالرجم ، فتوكّل على اللّه ، واعتصم به ، ولم يبال بما توعدوه.
وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ أي : وإن كابرتم ولم تذعنوا لى ، فلا موالاة بينى وبين من لا يؤمن ، فتنحوا عنى ، أو : فخلّونى كفافا لا لى ولا علىّ ، ولا تتعرضوا لى بشرّكم وأذاكم ، فليس ذلك جزاء من دعاكم إلى ما فيه فلاحكم ، قال أبو السعود : وحمله على قطع الوصلة وعدم الموالاة بينه وبينهم ، يأباه المقام.(5/284)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 285
فَدَعا رَبَّهُ بعد ما تمادوا على تكذيبه ، شاكيا إلى ربه : أَنَّ هؤُلاءِ أي : بأن هؤلاء ، قَوْمٌ مُجْرِمُونَ ، وهو تعريض بالدعاء عليهم ، بذكر ما استوجبوه ، ولذلك سمى دعاء ، وقيل : كان دعاؤه :
اللهم عجّل لهم ما يستوجبونه بإجرامهم ، وقيل : هو قوله : أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ «1» وقيل : قوله : لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ «2» ، وقرىء بالكسر «3» على إضمار القول. قال تعالى له - بعد : فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلًا ، والفاء تؤذن بشرط محذوف ، أي : إن كان الأمر كما تقول فَأَسْرِ بِعِبادِي بنى إسرائيل لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ أي : دبّر اللّه أن تتقدموا ، ويتبعكم فرعون وجنوده ، فننجّى المتقدمين ، ونغرق الباقين ، وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً ساكنا على حالته بعد ما جاوزته ، ولا تضربه بعصاك لينطبق ، ولا تغيره عن حاله ليدخله القبط ، أراد موسى عليه السّلام لمّا جاوزه أن يضربه بعصا لينطبق ، فأمره أن يتركه ساكنا على هيئته «4» ، قارا على حالته ، من انتصاب الماء كالطود العظيم ، وكون الطريق يبسا لا يغير منه شيئا ، ليدخله القبط ، فإذا دخلوا فيه أطبقه اللّه عليهم ، فالرهو فى كلام العرب :
السكون ، قال الشاعر :
طير رأت بازيا نضح الدّعاء به وأمّة خرجت رهوا إلى عيد
أي : ساكنة ، وقيل : الرهو : الفرجة الواسعة ، أي : اتركه مفتوحا على حاله منفرجا ، إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ بعد خروجكم من البحر. وقرئ بالفتح ، أي : لأنهم.
الإشارة : كل زمان له فراعين ، يحبسون النّاس عن طريق اللّه ، وعن خدمته ، فيبعث اللّه إليهم من يذكّرهم ، ويأمرهم بتخلية سبيلهم ، أو بأداء الحقوق الواجبة عليهم ، فإذا كذّب الداعي ، قال : وإن لم تؤمنوا فاعتزلون ، فاذا أيس من إقبالهم دعا عليهم ، فيغرقون فى بحر الهوى ، ويهلكون فى أودية الخواطر. وباللّه التوفيق.
ثم حضّ على الاعتبار ، فقال :
[سورة الدخان (44) : الآيات 25 الى 33]
كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (26) وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ (27) كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ (28) فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ وَما كانُوا مُنْظَرِينَ (29)
وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ (30) مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ (31) وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ (32) وَآتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ ما فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ (33)
___________
(1) الآية 10 من سورة القمر.
(2) الآية 85 من سورة يونس.
(3) قرأ «إن هؤلاء» بالكسر ابن أبى إسحاق وعيسى والحسن فى رواية ، وزيد بن علىّ. انظر مختصر ابن خالويه (ص 138) والبحر المحيط (8/ 36).
(4) قاله قتادة فيما أخرجه ابن جرير (25/ 121).(5/285)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 286
يقول الحق جل جلاله : كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ أي : كثيرا ما ترك فرعون وجنوده بمصر من بساتين. روى أنها كانت متصلة بضفتى النّيل جميعا ، من رشيد إلى أسوان ، (و عيون) يحتمل أن يريد الخلجان ، شبهها بالعيون ، أو كانت ثمّ عيون وانقضت ، وَزُرُوعٍ أي : مزارع ، وَمَقامٍ كَرِيمٍ ، محافل مزينة ، ومنازل محسّنة ، وسماه كريما لأنه مجلس الملوك ، وقيل : المنابر ، وَنَعْمَةٍ أي : بسطة ولذاذة عيش وتنعّم ، كانُوا فِيها فاكِهِينَ أي : متنعّمين فرحين مسرورين.
وفى المشارق : النعمة - بالفتح : التنعم ، وبالكسر : اسم ما أنعم اللّه به على عباده ، قال ابن عطية : النعمة - بالفتح : غضاوة العيش ، ولذاذة الحياة ، والنّعمة - بالكسر : أعم من هذا كله ، وقد تكون الأمراض والمصائب نعما ، ولا يقال فيها نعمة بالفتح. ه. فانظره.
كَذلِكَ ، أي : الأمر كذلك ، فالكاف فى محل الرّفع ، على أنه خبر عن مضمر ، أو نصب على أنه مصدر لمحذوف يدل عليه : (تركوا) أي : مثل ذلك السلب سلبناهم إياها ، وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ ليسوا منهم فى شىء فى قرابة ولا دين ، ولا ولاء ، وهم بنو إسرائيل ، بأن تولوا أحكامها والتصرف فيها. وقال الحسن : رجعوا بعد هلاك فرعون إلى مصر ، نظيره : وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ ... «1» الآية ، ومثله عن القرطبي والبيضاوي ، وكذلك فى نوادر الأصول ، وقد تقدم الكلام عليه فى الشعراء «2». وفى الآية اعتبار واستبصار ، وتنبيه للعاقل على عدم الاغترار ، وسيأتى فى الإشارة ما فيه كفاية نظما ونثرا.
فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ ، مجاز عن عدم الاكتراث بهلاكهم ، والاعتداد بوجودهم ، وفيه تهكم بهم ، وبحالهم المنافية ، بحال من يعظم فقده ، فيقال : بكت عليهم السماء والأرض ، وكانت العرب إذا عظّمت مهلك رجل قالوا : بكته الرّيح والبرق والسماء ، قال الشاعر :
___________
(1) من الآية 137 من سورة الأعراف.
(2) عند تفسير الآية 59 من سورة الشعراء. [.....](5/286)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 287
الرّيح تبكى شجوها والبرق يلمع فى الغمامه «1»
وقال جرير ، يرثى عمر بن عبد العزيز :
فالشّمس طالعة ليست بكاسفة تبكى عليك نجوم اللّيل والقمرا
حمّلت أمرا عظيما فاصطبرت له وقمت فينا بأمر اللّه يا عمرا «2».
وقيل : البكاء حقيقة ، وأن المؤمن تبكى عليه من الأرض مصلّاه ، ومحل عبادته ، ومن السماء مصعد عمله ، كما فى الحديث «3» ، وإذا مات العالم بكت عليه حيتان البحر ، ودوابه ، وهوام البر وأنعامه ، والطير فى الهواء ، وهؤلاء لمّا ماتوا كفارا لم يعبأ الوجود بفقدهم ، بل يفرح بهلاكهم. وَما كانُوا لمّا جاء وقت هلاكهم مُنْظَرِينَ ممهلين إلى وقت آخر ، أو إلى الآخرة ، بل عجّل لهم فى الدنيا.
وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ لما فعلنا بفرعون وقومه ما فعلنا مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ ، من استعباد فرعون إياهم ، وقتل أبنائهم ، واستحياء نسائهم ، مِنْ فِرْعَوْنَ ، بدل من العذاب المهين بإعادة الجار ، كأنه فى نفسه كان عذابا مهينا ، لإفراطه فى تعذيبهم وإهانتهم ، أو خبر عن مضمر ، أي : ذلك من فرعون ، وقرئ «من فرعون» «4» على معنى : هل تعرفونه من هو فى عتوه وتفرعنه؟ وفى إبهام أمره أولا ، وتبيينه بقوله تعالى : إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ ثانيا ، من الإفصاح عن كنه أمره فى الشر والفساد مما لا مزيد عليه ، وقوله تعالى : مِنَ الْمُسْرِفِينَ إما خبر ثان ، أي : كان متكبرا مسرفا ، أو حال من الضمير فى «عاليا» ، أي : كان رفيع الطبقة من بين المسرفين ، فائقا لهم ، بليغا فى الإسراف.
___________
(1) هذا البيت من أبيات قالها ابن المفرّغ فى بيعه جارية تسمى «الأراكة» وغلاما يسمى «بردا» ، وكانا أعز عليه من نفسه ، وقد رغمه عباد بن زياد على بيعهما ، ومن أبيات ابن المفرغ هذه :
والعبد يقرع بالعصا والحرّ تكفيه الملامة
والقصة فى خزانة الأدب.
(2) انظر ديوان جرير/ 235. وأمالى المرتضى (1/ 52).
(3) أخرج ابن جرير فى التفسير (25/ 124) من حديث ابن عباس رضي اللّه عنه موقوفا : «ليس أحد من الخلائق إلا له باب فى السماء ، منه ينزل رزقه وفيه يصعد عمله ، فإذا مات المؤمن فأغلق بابه من السماء فقده فبكى عليه ، وإذا فقد مصلاه من الأرض التي كان يصلى فيها ، ويذكر اللّه فيها ، بكت عليه ، وإن آل فرعون لم يكن لهم فى الأرض آثار صالحة ، ولم يكن يصعد إلى اللّه منهم خير ، فلم تبك عليهم السماء والأرض».
وأخرج الترمذي فى (التفسير - سورة الدخان ح 3255) وأبو يعلى فى مسنده (4/ 157) والبغوي فى التفسير (7/ 232) والخطيب فى تاريخ بغداد (8/ 327) عن أنس بن مالك مرفوعا : «ما من مؤمن إلا وله بابان ، باب يصعد منه عمله ، وباب ينزل منه رزقه ، فإذا مات بكيا عليه ، ذلك قوله عز وجل : فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ ، قال الترمذي : حديث غريب لا نعرفه مرفوعا إلا من هذا الوجه». وانظر مجمع الزوائد 7/ 105.
(4) على الاستفهام. عزاها أبو حيان لابن عباس رضي اللّه عنه ، انظر البحر المحيط 8/ 38.(5/287)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 288
وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ أي : بنى إسرائيل عَلى عِلْمٍ أي : عالمين بأنهم أحقاء بالاختيار ، أو عالمين بأنهم يزيغون فى بعض الأوقات ، ويكثر منهم الفرطات ، فلم يؤثر ذلك فى سوابق علمنا ، ليعلم أن الجنايات لا تؤثر فى الرعايات ، عَلَى الْعالَمِينَ أي : عالمى زمانهم ، لما كثر فيهم من الأنبياء ، وَآتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ ، كفلق البحر ، وتظليل الغمام ، وإنزال المن والسلوى ، وغيرها من عظائم الآيات ، ما فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ نعمة ظاهرة ، أو :
اختبار ظاهر ، لينظر كيف يعملون ، وقيل : البلاء المبين هو المطالبة بالشكر عند الرّضا ، والصبر عند الكدر والعناء.
الإشارة : كم ترك أهل الغفلة والاغترار ، من جنات وعيون ، وزروع ومقام كريم ، من قصور وديار ، فارقوها ، أخصب ما كانوا فيها ، وأزعجوا عنها أحوج ما كانوا إليها ، استبدلوا سعة القصور بضيق اللحود والقبور ، ومحاسن الملابس والتيجان بعصائب الخرق والأكفان ، فيا من ركن إلى الدنيا ، انظر كيف تفعل بأهلها ، فرحم اللّه عبدا أخذ من الدنيا الكفاف ، وصاحب فيها العفاف ، وتزود للرحيل ، وتأهب للمسير.
ذكر الطرطوسي فى كتابه «سراج الملوك» : قال أبو عبد اللّه بن حمدون : كنت مع المتوكل ، لما خرج إلى دمشق ، فركب يوما إلى رصافة «هشام بن عبد الملك» فنظر إلى قصورها خاوية ، ثم خرج فنظر إلى دير هناك قديم ، حسن البناء ، بين مزارع وأشجار ، فدخله ، فبينما هو يطوف به ، إذ بصر برقعة قد التصقت بصدره ، فأمر بقلعها ، فإذا فيها مكتوب هذه الأبيات :
أيا منزلا بالدّير أصبح خاليا تلاعب فيه شمأل ودفور
كأنّك لم يسكنك بيض نواعم ولم يتبختر فى قبابك حور
وأبناء أملاك غواشم سادات صغيرهم عند الأنام كبير
إذا لبسوا أدراعهم فعوابس وإن لبسوا تيجانهم فبدور
على أنّهم يوم اللّقاء ضراغم وأنّهم يوم النّوال بحور
ليالى هشام بالرّصافة قاطن وفيك ابنه يا دير وهو أمير.
إلى أن قال :
بلى فسقاك الغيث صوب سحائب عليك بها بعد الرّواح بكور
تذكّرت قومى فيكما فبكيتهم بشجو ومثلى بالبكاء جدير
فعزيت نفسى وهى نفس إذا جرى لها ذكر قومى أنّة وزفير(5/288)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 289
فلما قرأها المتوكّل ارتاع ، ثم دعا صاحب الدير ، فسأله : من كتبها؟ فقال : لا علم لى ، وانصرف ه.
ومن هذا القبيل ما وجد مكتوبا على باب «كافور الإخشيدى» بمصر :
انظر إلى عبر الأيّام ما صنعت أفنت أناسا بها كانوا وما فنيت
ديارهم ضحكت أيّام دولتهم فإذا خلت منهم صاحتهم وبكت
ومن هذا أيضا ما وجد على قصر «ذى يزن» مكتوبا :
باتوا على قلل الأجبال تحرسهم غلب الرّجال فلم تمنعهم القلل
واستنزلوا من أعالى عز معقلهم فأسكنوا حفرا ، يا بئس ما نزلوا
أين الوجوه التي كانت محجّبة من دونها تضرب الأستار والكلل؟
فأفصح القبر عنهم حين سائلهم تلك الوجوه عليها الدود تقتبل
قد طال ما أكلوا دهرا وما شربوا فأصبحوا بعد طول الأكل قد أكلوا
وحاصل الدنيا ما قال الشاعر :
ألا إنّما الدنيا كأحلام نائم وما خير عيش لا يكون بدائم «1»؟!
تأمّل إذا ما نلت بالأمس لذّة فأفينتها هل أنت إلا كحالم؟!
هذه فكرة اعتبار ، وأما فكرة استبصار ، فما ثمّ إلا تصرفات الحق ، ومظاهر أسرار ذاته ، وأنوار صفاته ، ظهرت فى عالم الحكمة بالأشكال والرّسوم ، وأما فى عالم القدرة فما ثمّ إلا الحي القيوم.
تجلّى حبيبى فى مرائى جماله ففى كلّ مرئىّ للحبيب طلائع
فلمّا تبدّى حسنه متنوّعا تسمّى بأسماء فهن مطالع «2»
وقوله تعالى : فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ يفهم منه : أن من عظم قدره تبكى على فقده السموات والأرض ومن فيهن ، فى عالم الحس ، الذي هو عالم الأشباح ، وتفرح به أهل السموات السبع فى عالم الأرواح
___________
(1) ورد : وكلّ نعيم فيها ليس بدائم.
(2) البيتان للجيلى. انظر : النادرات العينية/ 69.(5/289)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 290
لتخلصه إليها ، فيستبشر بقدومه كلّ من هنالك ، وينظر اللّه إلى خلقه بعين الرّحمة ، فيرتحم ببركة قدومه الوجود بأسره. واللّه ذو الفضل العظيم.
وقوله تعالى : وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ قال القشيري : ويقال : على علم بمحبة قلوبهم لنا مع كثرة ذنوبهم فينا ، ويقال : على علم بما نودع عندهم من أسرارنا ، ونكاشفهم به من حقائق حقنا.
وقال الورتجبي : وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ أي : على علم بصفاتنا ، ومعرفة بذاتنا ، ومشاهدة على أسرارنا ، وبيان على معرفة العبودية والرّبوبية ، ودقائق الخطرات والقهريات واللطيفات فى زمان المراقبات. ه.
وقال الواسطي : اخترناهم على علم منا بجنايتهم ، وما يقترفون من أنواع المخالفات ، فلم يؤثر ذلك فى سوابق علمنا لهم ، ليعلم أن الجنايات لا تؤثر فى الرّعايات. وقال الجرّار : علمنا ما أودعنا فيهم من خصائص سرنا ، فاخترناهم بعلمنا على العالمين. ه. قلت : والمقصود بالذات : بيان أن اختياره - تعالى - مرتب على سابق علمه الأزلى ، وعلمه - تعالى - لا تغيره الحوادث ، وقد انقطعت دولة بنى إسرائيل ، فما بقي الكلام إلا مع الملة المحمدية.
ثم ردّ على من أنكر البعث ، بعد أن ذكر بعض أشراطه ، كالدخان وغيره ، فقال :
[سورة الدخان (44) : الآيات 34 الى 39]
إِنَّ هؤُلاءِ لَيَقُولُونَ (34) إِنْ هِيَ إِلاَّ مَوْتَتُنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (35) فَأْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (36) أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْناهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ (37) وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (38)
ما خَلَقْناهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (39)
يقول الحق جل جلاله : إِنَّ هؤُلاءِ يعنى كفار قريش لأن الكلام معهم ، وقصة فرعون مسوقة للدلالة على مماثلتهم فى الإصرار على الضلالة ، والتحذير من حلول مثل ما حلّ بهم ، لَيَقُولُونَ إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولى أي : ما العاقبة ونهاية الأمر إلا الموتة الأولى ، المزيلة للحياة الدنيوية ، ولا قصد فيه لإثبات موتة أخرى ، كقولك : حج زيد الحجة الأولى ومات ، أو : ما الموتة التي تعقبها حياة إلا الموتة الأولى ، التي تقدمت وجودنا ، كقوله : وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ «1» كأنهم لما قيل لهم : إنكم تموتون موتة تعقبها حياة ، كما تقدمتكم كذلك ، أنكروها ، وقالوا : ما هى إلا موتتنا الأولى ، وأما الثانية فلا حياة تعقبها ، أو : ليست الموتة إلا هذه الموتة ، دون الموتة
___________
(1) من الآية 28 من سورة البقرة.(5/290)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 291
التي تعقب حياة القبر كما تزعمون ، وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ بمبعوثين ، فَأْتُوا بِآبائِنا ، خطاب لمن كان بعدهم النّشر ، من الرّسول والمؤمنين ، إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أي : إن صدقتم فيما تقولون ، فعجّلوا لنا إحياء من مات من آبائنا بسؤالكم ربكم ، حتى يكون دليلا على أن ما تعدونه من البعث حق.
قيل : كانوا يطلبون أن ينشر لهم قصىّ بن كلاب ، ليشاوروه ، وكان كبيرهم ومفزعهم فى المهمات ، قال تعالى : أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ ، ردّ لقولهم وتهديد لهم ، أي : أهم خير فى القوة والمنعة ، اللتين يدفع بهما أسباب الهلاك ، أم قوم تبع الحميرى؟ وكان سار بالجيوش حتى حيّر الحيرة ، وبنى سمرقند ، وقيل : هدمها ، وكان مؤمنا وقومه كافرين ، ولذلك ذمهم اللّه - تعالى - دونه ، وكان يكتب فى عنوان كتابه : بسم اللّه الذي ملك برا وبحرا ومضحا وريحا.
قال القشيري : كان تبع ملك اليمن ، وكان قومه فيهم كثرة ، وكان مسلما ، فأهلك اللّه قومه على كثرة عددهم وكمال قوتهم. ه. روى عنه عليه السّلام أنه قال : «لا تسبوا تبعا فإنه كان مؤمنا» «1» ه. وقيل : كان نبيا ، وفى حديث أبى هريرة عنه صلّى اللّه عليه وسلم قال : «لا أدرى تبعا كان نبيا أو غير نبى» «2».
وذكر السهيلي : أن الحديث يؤذن بأنه واحد بعينه ، وهو - واللّه أعلم - أسعد أبو كرب ، الذي كسا الكعبة بعد ما أراد غزوه ، وبعد ما غزا المدينة ، وأراد خرابها ، ثم انصرف عنها ، لما أخبر أنها مهاجر نبى اسمه «أحمد» وقال فيه شعرا ، وأودعه عند أهلها ، فكانوا يتوارثونه كابرا عن كابر ، إلى أن هاجر النّبى صلّى اللّه عليه وسلم فأدوه إليه. ويقال : كان الكتاب والشعر عند أبى أيوب الأنصاري ، حتى نزل عليه النّبى صلّى اللّه عليه وسلم فدفعه إليه ، وفى الكتاب الشعر ، وهو :
شهدت على أحمد «3» أنه رسول من اللّه بارى النّسم
فلو مدّ عمرى إلى عمره لكنت وزيرا له وابن عم
وألزمت طاعته كلّ من على الأرض ، من عرب وعجم
ولكن قولى له دائما سلام على أحمد فى الأمم
___________
(1) أخرجه الإمام أحمد (5/ 340) والبغوي فى التفسير (7/ 234) وزاد السيوطي عزوه فى الدر (5/ 750) للطبرانى وابن أبى حاتم وابن مردويه ، من حديث سهل بن سعد ، وقال ابن حجر فى الكافي الشاف (ص/ 148) : «وفيه ابن لهيعة عن عمرو بن جابر ، وهما ضعيفان».
(2) أخرجه الحاكم (1/ 36) والبيهقي فى السنن (8/ 329) والبغوي فى التفسير (7/ 235) وعزاه الحافظ ابن حجر فى الكافي (ص 148) للثعلبى ، من حديث أبى هريرة ، رضي اللّه عنه ، والحديث صحّحه الحاكم ووافقه الذهبي.
(3) كلمة «أحمد» ممنوعة من الصرف هذا ، وصرفت هنا لضرورة الشعر.(5/291)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 292
وذكر الزجاج وابن أبى الدنيا : أنه حفر قبر بصنعاء فى الإسلام ، فوجد فيه امرأتان ، وعند رؤوسهما لوح من فضة ، مكتوب فيه بالذهب اسمهما ، وأنهما بنتا تبع ، تشهدان ألا إله إلا اللّه ، ولا تشركان به شيئا ، وعلى ذلك مات الصالحون قبلهما. ه «1». ويقال لملوك اليمن : التبابعة لأنهم يتبعون ، ويقال لهم : الأقيال لأنهم يتقيلون. ه.
وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ : عطف على «قوم تبع» ، والمراد بهم عاد وثمود ، وأضرابهم من كلّ جبار عنيد ، أولى بأس شديد ، أَهْلَكْناهُمْ بأنواع من العذاب إِنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ ، تعليل لإهلاكهم ، ليعلم أن أولئك حيث أهلكوا بسبب إجرامهم مع ما كانوا عليه من غاية القوة والشدة ، فكان مهلك هؤلاء - وهم شركاؤهم فى الإجرام ، مع كونهم أضعف منهم فى الشدة والقوة - أولى.
قال الطيبي : لما أنكر المشركون الحشر ، بقولهم : (إن هى إلا موتتنا الأولى) وبّخهم بقوله : أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ إيذانا بأن هذا الإنكار ليس عن حجة قاطعة ودليل ظاهر ، بل عن مجرد حب العاجلة ، والتمتع بملاذ الدنيا ، والاغترار بالمال والمآل والقوة والمنعة ، أي : كما فعل بمن سلك قبلهم من الفراعنة والتبابعة حتى هلكوا ، كذلك يفعل بهؤلاء إن لم يرتدعوا.
ثم قرر أن الحشر لا بد منه بقوله : وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما أي : بين الجنسين ، لاعِبِينَ لاهين من غير أن يكون فى خلقهما غرض صحيح ، وغاية حميدة ، جلّ جناب الجلال عن ذلك ، ما خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ أي : ما خلقناهما ملتبسا بشىء من الأشياء إلا ملتبسا بالحق ، أو : ما خلقناهما بسبب من الأسباب إلا بسبب الحق ، الذي هو الإيمان والطاعة فى الدنيا ، والبعث والجزاء فى العقبى.
قال الطيبي : وقد سبق مرارا : أنه ما خلقهما إلا ليوحّد ويعبد ، ثم لا بد أن يجزى المطيع والعاصي ، وليست هذه دار الجزاء. وقال ابن عرفه : قوله : إِلَّا بِالْحَقِّ أي : إلا مصاحبين للدلالة على النّشأة الآخرة ، وهى حق. ه.
وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ أنهن خلقن لذلك ، بل عبثا ، تعالى اللّه عن ذلك.
الإشارة : كانت الجاهلية تنكر البعث الحسى ، والجهلة اليوم ينكرون البعث المعنوي ، ويقولون : إن هى إلا موتتنا الأولى ، أي : موت قلوبنا وأرواحنا بالجهل والغفلة ، فكيف يكون الرّجل منهمكا فى المعاصي ، ميت القلب ، ثم ينقذه اللّه ويحييه بمعرفته ، حتى يصير وليا من أوليائه «من استغرب أن ينقذه اللّه من شهوته ، وأن يخرجه من
___________
(1) ذكره القرطبي (7/ 6151).(5/292)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 293
وجود غفلته ، فقد استعجز قدرة الإلهية ، وكان اللّه على كلّ شىء مقتدرا» «1» أهم خير أم قوم تبع؟ وقد أخرج اللّه من قومه أنصار نبيه صلّى اللّه عليه وسلم ، وكانوا من خواص أحبابه ، حتى قال : «الناس دثار والأنصار شعار ، لو سلك النّاس واديا أو شعبا ، وسلكت الأنصار واديا ، لسلكت وادي الأنصار وشعبهم» «2». وما خلقنا الأجرام العظام إلا لتدل على كمال قدرتنا ، والسّلام.
ثم ذكر شأن البعث الذي أنكرته الجاهلية ، فقال :
[سورة الدخان (44) : الآيات 40 الى 50]
إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (40) يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (41) إِلاَّ مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (42) إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ (43) طَعامُ الْأَثِيمِ (44)
كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (45) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (46) خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ (47) ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ (48) ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49)
إِنَّ هذا ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ (50)
يقول الحق جل جلاله : إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ أي : فصل الحق عن الباطل ، وتمييز المحق من المبطل ، أو فصل الرّجل عن أقاربه وأحبابه ، وهو يوم القيامة ، مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ أي : وقت موعدهم كلهم ، يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً لا يغنى ناصر عن ناصر ، ولا حميم عن حميم ، ولا نسب عن نسيب ، شيئا من الإغناء.
قال قتادة : انقطعت الأسباب يومئذ بابن آدم ، وصار النّاس إلى أعمالهم ، فمن أصاب يومئذ خيرا ، سعد به ، ومن أصاب يومئذ شرا شقى به «3». ه. ويَوْمَ : بدل من يوم الفصل ، أو : صفة لميقاتهم ، أو : ظرف لما دلّ عليه الفصل ، أي : يفصل فى هذا اليوم ، وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ يمنعون مما أراد اللّه ، والضمير ل «مولى»
___________
(1) حكمة عطائية. انظر الحكم بتبويب المتقى الهندي ، (ص 18 ، حكمة 197).
(2) أخرجه مطولا البخاري فى (المغازي ، باب غزوة الطائف ، ح 4330) ومسلم فى (الزكاة ، باب إعطاء المؤلفة قلوبهم على الإسلام .. رقم 1061 ح 9139 من حديث عبد اللّه بن زيد ، والشعار هو : الثوب الذي يلى الجسد ، والدثار فوقه ، ومعنى الحديث :
الأنصار هم البطانة والخاصة ، وألصق النّاس بي من سائر للناس.
(3) أخرجه الطبري ، وزاد السيوطي عزوه فى الدر (5/ 751) لعبد بن حميد. [.....](5/293)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 294
باعتبار المعنى ، لأنه عام ، وقوله : إِلَّا مَنْ رَحِمَ بدل من الواو فى «ينصرون» ، أي : لا يمنع من العذاب إلا من رحم اللّه ، بالعفو عنه ، أو بقبول الشفاعة فيه ، أو : منصوب على الاستثناء المنقطع ، أو : مرفوع على الابتداء ، أي :
لكن من رحم اللَّهُ فيغنى عنه إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الغالب ، الذي لا ينصر من أراد تعذيبه ، الرَّحِيمُ لمن أراد أن يرحمه.
إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ ، هى على صورة شجرة الدنيا ، لكنها من النّار ، والزقوم تمرها وهو كلّ طعام ثقيل.
روى : أنها لما نزلت ، جمع أبو جهل عجوة وزبدا ، وقال لأصحابه : تزقموا ، فهذا هو الزقوم ، وهو طعامى الذي حدّث به محمد «1» ، قصد بذلك المغالطة والتلبيس على الجهلة. أي : إن ثمر شجرة الزقوم هو طَعامُ الْأَثِيمِ أي :
الكثير الإثم ، وهو الكافر لدلالة ما قبله وما بعده عليه. وقيل : نزلت فى أبى جهل ، ثم تعم. وكان أبو الدرداء يقرئ رجلا ، فكان أبو الدرداء يقول : طعام الأثيم ، والرّجل يقول : طعام اليتيم ، فكرر عليه ، فلم يفهم منه فقال :
«طعام الفاجر يا هذا «2»». قال النّسفى : وبهذا يستدل على أن إبدال الكلمة مكان الكلمة جائز ، إذا كانت مؤدّية معناها ، ومنه أجاز أبو حنيفة رضي اللّه عنه القراءة بالفارسية ، بشرط أن يؤدى القارئ المعاني كلها ، من غير أن يخرم منها شيئا «3». انظر بقيته.
كَالْمُهْلِ ، وهو دردّىّ الزيت «4» ، أو : ما يمهل فى النّار فيذوب ، من نحاس وغيره ، يَغْلِي فِي الْبُطُونِ من قرأه بالغيب «5» رده للمهل ، أو للطعام ، ومن قرأه بالتاء رده للشجرة ، كَغَلْيِ الْحَمِيمِ الماء الحار الذي انتهى غليانه ، أي : غليان كغلى الحميم ، فالكاف فى محل نصب ، ثم يقال للزبانية : خُذُوهُ أي :
الأثيم فَاعْتِلُوهُ أي : جروه ، فالعتل : الأخذ بمجامع الشيء والسّوق بالعنف والقهر ، يقال : عتل يعتل بالضم والكسر ، أي : جروه إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ وسطها ومعظمها.
___________
(1) أخرج سعيد بن منصور عن أبى مالك قال : «إن أبا جهل كان يأتى بالتمر والزبد ، فيقول : تزقموا بهذا الزقوم الذي يعدكم به محمد ، فنزلت : إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ» انظر الدر المنثور (5/ 752).
(2) أخرجه الحاكم (2/ 451) «وصحّحه وأقره الذهبي» والطبري (25/ 131) وزاد السيوطي عزوه فى الدر (5/ 753) لعبد الرّزاق وعبد بن حميد وابن المنذر ، عن همام بن الحارث.
(3) قال أحمد بن المنير الإسكندرى فى الانتصاف : لا دليل فيه لذلك ، وقول أبى الدرداء محمول على إيضاح المعنى ، ليكون وضوح المعنى عند المتعلم عونا على أن يأتى بالقراءة كما أنزلت ، وعلى هذا حمله القاضي أبو بكر فى الانتصار. (حاشية الكشاف 4/ 281). وانظر أيضا : تفسير القرطبي 7/ 6154).
(4) الدردي : ما رسب أسفل الزيت ونحوه.
(5) قرأ ابن كثير وحفص : (يغلى) بالياء على التذكير ، والباقون «تغلى» بالتأنيث. انظر : الإتحاف (2/ 464).(5/294)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 295
ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ ، المصبوب هو الحميم ، لا عذابه ، إلا أنه إذا صب عليه الحميم ، فقد صب عليه عذابه وشدته : والأصل : ثم صبوا فوق رأسه عذابا هو الحميم ، ثم أضيف العذاب إلى الحميم للمبالغة ، وزيد «من» للدلالة على أن المصبوب بعض هذا النّوع ، ويقال له : ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ على سبيل الهزؤ والتهكم ، روى أن أبا جهل قال لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم : ما بين جبليها أعز ولا أكرم منى ، فو اللّه لا تستطيع أنت ولا ربك أن تفعلا بي شيئا «1» ، فتقول له الزبانية هذا على طريق الاستهزاء والتوبيخ. وقرأ الكسائي : «أنك» بالفتح «2» ، أي : لأنك أنت العزيز فى قومك ، الكريم فى زعمك. إِنَّ هذا ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ تشكّون ، وتمارون فيه ، والجمع باعتبار المعنى لأن المراد جنس الأثيم.
الإشارة : يوم الفصل هو اليوم الذي يقع فيه الانفصال بين درجة المقربين ، ومقام عامة أهل اليمين ، فيرتفع المقربون ، ويسقط الغافلون ، فلا يغنى صاحب عن صاحب شيئا ، ولا هم ينصرون من السقوط عن مراتب الرّجال ، فلا ينفع حينئذ إلا ما سلف من صالح الأعمال ، إلا من رحم اللّه ، ممن تعلق بالمشايخ الكبار ، من المريدين ، فإنهم يرتفعون معهم بشفاعتهم. وشجرة الزقوم هى شجرة المعصية فإنها تغلى فى البطون ، وتعوق عن الوصول ، فقد قالوا : من أكل الحرام عصى اللّه ، أحبّ أم كره ، ومن أكل الحلال أطاع اللّه ، أحبّ أم كره ، فيقال : خذوه فادفعوه إلى سواء الجحيم ، وهى نار القطيعة والبعد ، ثم صبوا فوق رأسه من هموم الدنيا ، وشغب الخوض والخواطر ، ذق إنك أنت العزيز الكريم ، ولو كنت ذليلا خاملا لنلت العز والكرامة. وباللّه التوفيق.
ثم شفع بضدهم ، فقال :
[سورة الدخان (44) : الآيات 51 الى 59]
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ (51) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (52) يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقابِلِينَ (53) كَذلِكَ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (54) يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ آمِنِينَ (55)
لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الْأُولى وَوَقاهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (56) فَضْلاً مِنْ رَبِّكَ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (57) فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (58) فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ (59)
___________
(1) أخرجه الطبري (25/ 134) وعزاه السيوطي فى الدر (5/ 753) لعبد الرّزّاق ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، عن قتادة.
(2) على العلة ، وقرأ الباقون بكسرها .. انظر الاتحاف 2/ 464.(5/295)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 296
يقول الحق جل جلاله : إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ ، بضم الميم «1» : مصدر ، أي : فى إقامة حسنة ، وبالفتح :
اسم مكان ، أي : فى مكان كريم ، وأصل المقام ، بالفتح : موضع القيام ، ثم عمم واستعمل فى جميع الأمكنة ، حتى قيل لموضع القعود : مقام ، وإن لم يقم فيه أصلا ، ويقال : كنا فى مقام فلان ، أي : مجلسه ، فهو من الخاص الذي وقع مستعملا فى معنى العموم ، وقوله : أَمِينٍ : وصف له ، أي : يأمن صاحبه الآفات والانتقال عنه ، وهو من الأمن ضد الخيانة ، وصف به المكان مجازا ، لأن المكان المخيف يخون صاحبه بما يلقى فيه من المكاره.
وقوله : ي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ
: بدل من «مقام» جىء به دلالة على نزاهته واشتماله على طيبات المآكل والمشارب ، يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ ، وهو ما رقّ من الديباج ، وَإِسْتَبْرَقٍ ما غلظ منه ، وهو معرّب ، والجملة إما حال ، أو استئناف ، حال كونهم مُتَقابِلِينَ فى مجالسهم ، يستأنس بعضهم ببعض ، كَذلِكَ أي :
الأمر كذلك ، قيل : المعنى فيه أنه لم يستوف الوصف ، وأنه بمثابة ما لا يحيط به الوصف ، فكأنه قال : الأمر نحو ذلك وما أشبهه ، وليس بعين الوصف وتحققه.
وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ أي : قرنّاهم وأصحبناهم ، ولذلك عدى بالباء. قال القشيري : وليس فى الجنة عقد نكاح ولا طلاق ، بل تمكن الولىّ من هذه الألطاف بهذه الأوصاف ه. والحور : جمع حوراء ، وهى الشديدة سواد العين ، والشديدة بياضها ، والعين : جمع عيناء ، وهى الواسعة العين ، واختلف فى أنها نساء الدنيا أو غيرها.
يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ أي : يطلبون ويأمرون بإحضار ما يشتهونه من الفواكه ، لا يختص بزمان ولا مكان ، آمِنِينَ من زواله وانقطاعه ، ومن ضرره عند الإكثار منه ، أو : من كلّ ما يسوءهم ، لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ أصلا ، بل يستمرون على الحياة الأبدية ، إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى سوى الموتة الأولى ، التي ذاقوها ، أو :
لكن الموتة الأولى قد ذاقوها فى الدنيا ، فالاستثناء منقطع ، أو متصل على أن المراد استحالة ذوق الموت إلا إذا كان يمكن ذوق الموتة الأولى حينئذ ، وهو محال ، على نمط قوله : إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ «2».
وَوَقاهُمْ ربهم عَذابَ الْجَحِيمِ ، فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ أي : أعطوا ذلك كله عطاء وتفضلا منه - تعالى إذ لا يجب عليه شىء ، فهو مفعول له ، أو مصدر مؤكد لما قبله ، لأن قوله : وَقاهُمْ فى معنى تفضل عليهم ، ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ الذي لا فوز وراءه إذ هو خلاص من جميع المكاره ، ونيل لكلّ المطالب.
___________
(1) قرأ نافع وابن عامر وأبو جعفر بضم الميم الأولى فى «مقام» بمعنى الإقامة ، وقرأ الباقون بفتحها ، موضع الإقامة.
(2) من الآية 22 من سورة النّساء.(5/296)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 297
فَإِنَّما يَسَّرْناهُ أي : الكتاب ، وقد جرى ذكره فى أول السورة ، أي : سهّلنا قراءته بِلِسانِكَ ، بلغتك لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ أي : كى يفهموه ويتعظوا به ، ويعملوا بموجبه ، فلم يفعلوا ، فَارْتَقِبْ فانظر ما يحلّ بهم ، إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ ما يحلّ بك. قال القشيري : فارتقب العواقب ترى العجائب ، إنهم مرتقبون ، ولكن لا يرون إلا ما يكرهون. ه.
الإشارة : إن المتقين شهود ما سوانا فى مقام العرفان ، وهو مقام المقربين ، وهو محل الأمن والأمان ، فى جنات المعارف ، وعيون العلوم والحكم ، يلبسون من أسرار الحقيقة وأنوار الشريعة ، ما تبتهج به بواطنهم وظواهرهم ، متقابلين فى المقامات ، يجمعهم الفناء والبقاء ، ويتفاوتون فى اتساع المقامات والأسرار ، تفاوت أهل غرف الجنان ، كذلك ، أي : الأمر فوق ما تصف ، وزوجانهم بعرائس المعرفة ، لا يذوقون فى جنات المعارف - إذا دخلوها - الموت أبدا إلا الموتة الأولى ، وهى موت نفوسهم ، فحييت أرواحهم حياة أبدية ، وأما الموت الحسى فإنما هو انتقال من عالم إلى عالم ، ومن مقام إلى مقام ، ووقاهم ربهم عذاب الجحيم ، فضلا منه وإحسانا ، خلق فيهم المجاهدة ، ومنّ عليهم بالمشاهدة.
وقال الورتجبي بعد كلام : إذا أحضرهم - تعالى - فى ساحة كبريائه ، ويتجلى لهم بالبديهة من غير الجبّارية والقهّارية يكونون فى محل الفناء ، وفى فناء الفناء ، وغلبات سطوات ألوهيته ، فإذا صاروا فانين ، ألبسهم اللّه لباس بقائه ، فيبقون ببقائه أبد الآبدين ، فإذا الاستثناء وقع على التحقيق ، لا على التأويل ، فياربّ موت هناك ، ويا ربّ حياة هناك لأن الحدث لا يستقيم عند بروز حقائق بواطن القدم ، ألا ترى إلى إشارة النّبى صلّى اللّه عليه وسلم كيف قال : «حجابه النور ، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه» «1» أي : فيتلاشى الخلق ويبقى الحق.
قيل للجنيد : أهل الجنة باقون ببقاء الحق؟ فقال : لا ، ولكنهم مبقون ببقاء الحق ، والباقي على الحقيقة من لم يزل ، ولا يزال باقيا. ه.
والحاصل : أنه لا عدم بعد وجودهم باللّه ، ولا يكون إلا بعد الفناء عن أوصاف الخليقة ، ووجود البشرية ، بالاندراج فى وجود الحق ، ثم الحياة بحياته ، والبقاء ببقائه أبدا ، قاله فى الحاشية الفاسية. والفرق بين الباقي والمبقى فى كلام الجنيد : أن الباقي يدلّ على ثبوت بقائه مستقلا ، بخلاف المبقى ، لا وجود لبقائه ، بل مبقى ببقاء غيره.
___________
(1) سبق تخريج الحديث الشريف ، انظر (4/ 178).(5/297)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 298
وقال فى قطب العارفين ، لمّا تكلم على التقوى : التقوى مطرد فى وجوه كثيرة ، تقوى الشرك ، ثم تقوى المعصية ، ثم تقوى فضل المباح ، ثم تقوى كلّ ما يسترق القلوب عن اللّه تعالى ، وإلى هذا الصنف الإشارة بسر قوله تعالى إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ... الآية. ه. وعنه صلّى اللّه عليه وسلم : «من قرأ سورة الدخان فى ليلة أصبح يستغفر له سبعون ألف ملك» «1» ذكره فى الجامع ، وفى فضلها أحاديث ، تركتها.
___________
(1) أخرجه الترمذي فى (فضائل القرآن ، باب ما جاء فى فضل «حم الدخان» ح 2888) وقال : «هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه ، وعمر بن أبى خثعم يضعف». وأخرجه ابن السنى فى عمل اليوم والليلة (باب ما يستحب أن يقرأ فى اليوم والليلة) والبيهقي فى الشعب (الباب التاسع عشر ، فصل فى فضائل السور ، ح 2475) والبغوي فى التفسير (7/ 238) وابن عدى فى الكامل (5/ 2720) من حديث أبى هريرة رضي اللّه عنه.(5/298)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 299
سورة الجاثية
مكية ، وقيل : إلا قوله : قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا .. إلخ. وهى سبع وثلاثون آية. ووجه مناسبتها : قوله :
فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ «1» مع قوله : تَنْزِيلُ الْكِتابِ أي : فالذى يسرناه بلسانك هو منزل من اللّه ، الغالب على أمره.
[سورة الجاثية (45) : الآيات 1 الى 6]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (3) وَفِي خَلْقِكُمْ وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (4)
وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (5) تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ (6)
قلت : (و اختلاف الليل والنّهار ...) الآية فيها العطف على عاملين ، . سواء نصبت «آيات» أو رفعتها ، فالعاملان إذا نصبت «إن» و«فى» أقيمت الواو مقامهما ، فعملت الجر فى (و اختلاف) والنّصب فى (آيات) ، وإذا رفعت فالعاملان الابتداء ، وحرف «فى» عملت الواو الرّفع فى «آيات» والجرّ فى «واختلاف» وهذا مذهب الأخفش ، فإنه يجوّز العطف على عاملين ، وأما سيبويه فلا يجيزه ، وتخريج الآية عنده : أن يكون على إضمار «فى» ، والذي حسّنه : تقديم ذكر «فى» فى الآيتين قبله ، ويؤيده : قراءة ابن مسعود رضي اللّه عنه : (و فى اختلاف الليل والنّهار) وفيها أوجه أخر.
يقول الحق جل جلاله : حم يا حبيب يا مجيد هذا تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ، فكونه من اللّه عز وجل دلّ أنه حق وصدق وصواب ، وكونه من العزيز دلّ أنه معجز ، يغلب ولا يغلب ، وكونه من الحكيم دلّ أنه مشتمل على الحكم البالغة ، وأنه محكم فى نفسه ، ينسخ ولا ينسخ.
ثم برهن على عزته ، وباهر حكمته ، فقال : إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إما فى نفس السموات والأرض فإن فى شكلهما من بدائع وفنون الحكم ما يقصر عنه البيان ، وإما فى خلقهما وإظهارهما ، كما فى قوله تعالى : إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ «2» ، لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ لدلالات على وحدانيته تعالى لأهل الإيمان ،
___________
(1) الآية 58 من سورة الدخان.
(2) الآية 190 من سورة آل عمران.(5/299)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 300
وهو الأوفق بقوله : وَفِي خَلْقِكُمْ أي : من نطفة ثم من علقة متقلبة من أطوار مختلفة إلى تمام الخلق ، وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ : عطف على المضاف دون المضاف إليه ، أي : وفى خلق ما يبث ، أي : ينشر ويصرّف من دابة آياتٌ ظاهرة على باهر قدرته وحكمته ، لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ أي : من شأنهم أن يوقنوا بالأشياء على ما هى عليه ، ويعرفوا فيها صانعها ، وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أي : تعاقبهما بالذهاب والمجيء ، أو : تفاوتهما طولا ، وقصرا ، وَفى ما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ مطر لأنه بسبب الرّزق ، فعبّر عن السبب بالمسبب لأنه نتيجته ، تنبيها على كونه آية من جهة القدرة والرّحمة ، فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بأن أخرج أصناف الزرع والثمرات والنّبات بَعْدَ مَوْتِها أي : خلوها عن آثار الحياة وانتفاء قوة التنمية عنها ، وخلو أشجارها عن الثمار والأزهار.
وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ أي : هبوبها من جهة إلى أخرى ، ومن حال إلى حال ، وتأخيره عن نزول المطر مع تقدمه عليه فى الوجود ، إما للإيذان بأنه آية مستقلة ، ولو روعى الترتيب الوجودي لربما توهم أن مجموع تصريف الرياح ونزول المطر آية واحدة ، أو : لأن كون التصريف آية ليس مجرد كونه مبتدأ لإنشاء المطر ، بل له ولسائر المنافع ، التي من جملتها : سوق السفن فى البحار ، وإلقاح الأشجار ، آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ يتدبرون بعقولهم ، فيصلون إلى صريح التوحيد. وفى تقديم الإيمان على الإيقان ، وتأخير تدبر العقل لأن العباد إذا نظروا فى السموات والأرض نظرا صحيحا علموا أنها مصنوعة ، وأنه لا بدّ لها من صانع ، فآمنوا باللّه ، وإذا نظروا فى خلق أنفسهم ، وتنقلها من حال إلى حال ، وفى خلق ما ظهر على ظهر الأرض من صنوف الحيوان ازدادوا إيمانا وأيقنوا ، فإذا نظروا فى سائر الحوادث التي تتجدد فى كلّ وقت ، كتعاقب الليل والنّهار ، ونزول الأمطار ، وحياة الأرض بعد موتها ، وتصريف الرّياح ، جنوبا وشمالا ، ودبورا وصبا ، عقلوا ، واستحكم فى عقولهم ، وخلص يقينهم ، فكانوا من ذوى الألباب.
تِلْكَ آياتُ اللَّهِ مبتدأ وخبر ، ونَتْلُوها عَلَيْكَ حال ، والعامل : معنى الإشارة ، أي : تلك الآيات المتقدمة هى آيات اللّه الدالة على وجوب وجوده واتصافه بأوصاف الكمال ، حال كونها متلوة عليك ، ملتبسة بِالْحَقِّ أو : نتلوها محقين فى ذلك ، فالجار والمجرور : حال من المفعول أو الفاعل. فَبِأَيِّ حَدِيثٍ من الأحاديث بَعْدَ اللَّهِ وَآياتِهِ أي : بعد آيات اللّه ، كقولك : أعجبنى زيد وكرمه ، أي : أعجبنى كرم زيد ، أو : بعد حديث اللّه ، الذي هو القرآن ، وآياته العامة فى كلّ شىء ، فيكون على حذف مضاف ، أو : يراد بها القرآن أيضا ، والعطف للتغاير العنواني ، فالأول من جهة كونه حديثا حسنا ، والثاني باعتبار كونه معجزا ، أي : فبأى حديث بعد أحسن الحديث وأبهر الآيات يُؤْمِنُونَ يصدّقون؟! ومن قرأ بالخطاب «1» يقدر : قل يا محمد.
___________
(1) قرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وأبو بكر ويعقوب «يؤمنون» بالتاء ، وقرأ الباقون بالغيب. انظر الإتحاف (2/ 466). [.....](5/300)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 301
الإشارة : قال القشيري : الحاء تدل على حياته ، والميم تدل على مودته ، كأنه قال : بحق حياتى ومودتى لأوليائى ، لا شىء أعز على أحبائى من لقائى ، العزيز فى جلاله ، الحكيم فى فعاله ، العزيز فى أزله ، الحكيم فى لطفه بالعبد بوصف إقباله.
قوله تعالى : إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ .. الآية شواهد الرّبوبية لائحة ، وأدلة الإلهية واضحة ، فمن صحا فكره عن سكر الغفلة ، ووضع سرّه فى محل العبرة ، حظى - لا محالة - بحقائق الوصلة. ه. قلت : إنما يحظى بالوصله إذا نفذت بصيرته إلى شهود المكوّن ، ولم يقف مع شىء من حس الكائنات ، بل نفذ إلى ما فيها من أسرار المعاني ، فعرف فيها مولاها ، وشاهد فيها المتجلى بها ، وإلا بقي مسجونا محصورا فى ذاته.
قوله تعالى : وَفِي خَلْقِكُمْ ... الآية ، قال القشيري : إذا أنعم العبد النّظر فى استواء قدّه وقامته ، واستكمال خلقه «1» ، وتمام تمييزه ، وما هو مخصوص به من جوارحه وحوائجه ، ثم فكّر فيما عداه من الدواب ، وأجزائها وأعضائها ، ووقف على اختصاصه ، وامتياز بنى آدم من بين البريّة من الحيوانات ، فى الفهم والعقل والتمييز والعلم ، ثم فى الإيمان والعرفان ، ووجوه خصائص أهل الصفوة من هذه الطائفة من فنون الإحسان عرف تخصيصهم بمناقبهم ، وانفرادهم بفضلهم ، فاستيقن أن اللّه أكرمهم ، وعلى كثير من المخلوقات قدّمهم.
ثم قال فى قوله : وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ ... الآية. جعل اللّه العلوم الدينية كسبية مصحّحة بالدلائل ، محتفة بالشواهد ، فمن لم يستبصر لها زلّت قدمه عن الصراط المستقيم ، ووقع فى عذاب الجحيم ، فاليوم فى ظلمة الحيرة والتقليد ، وفى الآخرة فى التخليد فى الوعيد. ه. قلت : النظر فى دلائل الكائنات من غير تنوير ، ولا صحبة أهل التنوير ، لا تزيد إلا حيرة ، ولذلك قال بعضهم : إيمان أهل علم الكلام كالخيط فى الهواء ، يميل مع كل ريح ، فالتقليد حينئذ أسلم ، والتمسك بظاهر الكتاب والسنة أتم ، ومن سقط على العارفين باللّه ، لم يحتج إلى دليل ولا شاهد ، وأغناه شهود الشهيد عن كلّ شاهد.
عجبت لمن يبغى عليك شهادة وأنت الذي أشهدته كلّ شاهد.
كيف يعرف بالمعارف من به عرفت المعارف؟! تنزه الحق تعالى أن يفتقر إلى دليل يدلّ عليه ، بل به يستدل على غيره ، فلا يجد غيره. تلك آيات شواهد نتلوها عليك لترانا فيها ، لا لتراها مفروقة عنا ، ولذلك قال تعالى : (بالحق) ، أي : ملتبسة بنور الحق ، اللّه نور السماوات والأرض.
___________
(1) فى القشيري : عقله.(5/301)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 302
قوله تعالى : فَبِأَيِّ حَدِيثٍ ... الآية ، قال القشيري : فمن لا يؤمن بها فبأى حديث يؤمن؟ ومن أي أصل ينشأ بعده «1»؟ ومن أي بحر فى التحقيق يغترف؟ هيهات ما بقي للإشكال فى هذا مجال. ه.
ثم ذكر حال من أعرض عنها ، فقال
[سورة الجاثية (45) : الآيات 7 الى 11]
وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (7) يَسْمَعُ آياتِ اللَّهِ تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (8) وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً اتَّخَذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (9) مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ ما كَسَبُوا شَيْئاً وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (10) هذا هُدىً وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (11)
يقول الحق جل جلاله : وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ كذّاب أَثِيمٍ كثير الآثام ، يَسْمَعُ آياتِ اللَّهِ التنزيلية تُتْلى عَلَيْهِ ، وجملة «يسمع» صفة أخرى لأفّاك ، أو استئناف ، أو حال من ضمير «أثيم» ، و«تتلى» : حال من «آيات اللّه» ، ثُمَّ يُصِرُّ أي : يقيم على كفره ، حال كونه مُسْتَكْبِراً عن الإيمان بالآيات ، والإذعان لما تنطق به من الحق ، مزدريا بها ، معجبا بما عنده من الأباطيل. قيل : نزلت فى النّضر بن الحارث ، وكان يشترى من أحاديث الأعاجم ، ويشغل بها النّاس عن سماع القرآن «2» ، والآية عامة فى كلّ من كان مضارا لدين اللّه وجيء بثمّ لأن الإصرار على الضلالة ، والاستكبار عن الإيمان عند سماع آيات القرآن ، مستبعد فى العقول. ثم قال :
كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها أي : كأنه لم يسمعها ، فأن مخففة ، ومحل الجملة النّصب على الحال ، أي : يصر شبيها بغير السامع ، فَبَشِّرْهُ على إصراره واستكباره بِعَذابٍ أَلِيمٍ أي : أخبره خبر يظهر أثره على البشرة ، تهكما به.
وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً أي : إذا بلغه من آياتنا شيئا يمكن أن يتشبث بها المعاند ، ويجد له محملا فاسدا يتوسل به إلى الطعن والمغمزة ، اتَّخَذَها أي : مهزوءا بها ، لا ما يسمعه فقط ، وإنما لم يقل : اتخذه للإشعار بأنه إذا أحسّ بشىء من الكلام فيه شىء بزعمه الرّكيك لم يقتصر على الاستهزاء بما بلغه ، بل يستهزئ بالجميع ، ويجوز أن يرجع الضمير (لشى ء) لأنه فى معنى الآية. أُولئِكَ لَهُمْ بسبب جناياتهم المذكورة عَذابٌ مُهِينٌ ، وصف العذاب بالإهانة توفية لحق استكبارهم واستهزائهم بآيات اللّه تعالى ، وجمع الإشارة باعتبار
___________
(1) فى القشيري : [يستمد بعده ] وهو أنسب.
(2) ذكره فى البحر المحيط (8/ 44).(5/302)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 303
ما فى لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ من الشمول ، كما فى قوله تعالى : كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ «1» ، وأفرد فيما سبق من الضمائر باعتبار كلّ واحد واحد. مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ أي : من قدّامهم ، لأنهم متوجهون إلى ما أعدّ لهم ، أو :
من خلفهم لأنهم معرضون عن ذلك ، مقبلون على الدنيا ، فإن الوراء : اسم للجهة التي يواريها الشخص من قدّام وخلف ، وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ لا يدفع عنهم ما كَسَبُوا من الأموال والأولاد شَيْئاً من عذاب اللّه تعالى ، وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ أي : الأصنام ، و«ما» مصدرية ، أو موصولة ، وتوسيط حرف النفي بين المعطوفين ينبئ أن عدم إغناء الأصنام أظهر وأجلى من عدم إغناء الأموال والأولاد قطعا ، مبنى على زعمهم الفاسد ، حيث كانوا يطمعون فى شفاعتهم وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ لا يقادر قدره.
هذا أي : القرآن هُدىً فى غاية الكمال من الهداية ، كأنه نفس الهدى ، وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ أي : القرآن ، وإنما وضع موضع ضميره الآيات لزيادة تشنيع كفرهم وتفظيع حالهم ، لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ من أشد العذاب أَلِيمٌ مؤلم ، بالرفع «2» صفة «عذاب» ، وبالجر صفة «رجز» ، وتنوين عذاب فى المواضع الثلاثة للتفخيم.
الإشارة : من لم يضبط لسانه وجوارحه ، وتصاممت آذان قلبه عن تدبر القرآن ، فالويل حاصل له ، ويبشّر بالخيبة والخسران من مراتب أهل العرفان ، ومن ضبط أمور ظاهره بالتقوى ، وفتحت آذان قلبه لسماع كلام المولى ، فقد فار بعز الدارين. قال القشيري : فمن استمع بسمع الفهم ، واستبصر بنور التوحيد ، فاز بذخر الدارين ، وتصدّى لعز المنزلتين ، ومن تصامم بحكم الغفلة ، وقع فى وهدة الجهل ، ووسم بكى الهجر. ه.
قوله تعالى : إِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً اتَّخَذَها هُزُواً. قال القشيري : وقد يكاشف العبد من مواطن القلب بتعريفات لا يداخله فيها ريب ، ولا يتخللّه فيها شك فيما هو فيه من حاله ، فإذا استهان بها وقع فى ذلّ الحجبة ، وحجاب الفرقة وهوانها. ه. فإذا صفا القلب صار مرسى لتجلى الواردات الإلهية ، وهى آية من آياته ، فإذا تجلى فيه شىء بأمر أو نهى فاستهان به وخالفه أدبه الحق على ذلك ، إما فى ظاهره ، وهو أخف ، أو فى باطنه بالحجبة أو الفرقة ، ولقد سمعت شيخ شيوخنا ، مولاى العربي الدرقاوى رضي اللّه عنه يقول : لى ثلاثون سنة ما خالفت قلبى فى شىء إلا أدبنى الحق تعالى عليه. ه. أي : فى ظاهره ، وذلك لغاية صفائه.
___________
(1) من الآية 53 من سورة المؤمنون.
(2) قرأ «أليم» برفع الميم ، ابن كثير وحفص ويعقوب ، وقرأ الباقون بالجر. انظر الإتحاف (2/ 466).(5/303)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 304
قوله تعالى : مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ .. الآية ، لا عذاب أشد من الحجب بعد الإظهار ، والفرقة بعد الوصال. وأنشدوا :
فخلّ سبيل العين بعدك للبكا فليس لأيّام الصّفاء رجوع
انظر القشيري.
ولمّا ذكر ما منّ به عليهم من النّعم الباطنة ، وهى دلائل التوحيد ، ذكر ما منّ به عليهم من النّعم الظاهرة ، فقال :
[سورة الجاثية (45) : الآيات 12 الى 13]
اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (13)
يقول الحق جل جلاله : اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ أي : ذللّه ، بأن جعله أملس السطح ، يطفو عليه ما فوقه ، ولا يمنع الغوص فيه ، لميعانه ، لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ بإذنه ، وأنتم راكبوها ، وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ بالتجارة ، والغوص لابتغاء الحلية ، كاللؤلؤ والمرجان ، وكالصيد وغيرها ، وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ولكى تشكروا النّعم المترتبة على ذلك ، وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ من الموجودات ، بأن جعلها مدارا لمنافعهم.
قال القشيري : إذ ما من شىء من الأعيان الظاهرة ، إلا وللإنسان به انتفاع من وجوه ، فالسماء لهم بناء ، والأرض لهم مهاد ، وليتأمل العبد فى كلّ شىء [لو لم يكن ، أىّ خلل يرجع إلى الخلق؟] «1» ، لو لا الشمس كيف كانوا يتصرفون بالنهار ، ؟ ولو لا الليل ، كيف كانوا يسكنون؟ ولو لا القمر هل كانوا يهتدون للحساب والآجال؟
وكذلك جميع المخلوقات. ه. وقوله : جَمِيعاً مِنْهُ : حال ، وليس من التوكيد لعدم الضمير ، ولو كان توكيدا لقال : جميعه ، ثم التوكيد بجميع قليل ، فلا يحمل التنزيل عليه ، قاله فى المغني. والمنفي كونه توكيدا اصطلاحيا ، فلا ينافى كونه حالا مؤكدة فى المعنى. إِنَّ فِي ذلِكَ أي : فيما ذكر من الأمور العظام لَآياتٍ عظيمة الشأن ، كثيرة العدد ، لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ فى بدائع صنعه تعالى ، فإنهم يقفون بذلك على جلائل نعمه تعالى ودقائقها ، ويوفقون لشكرها.
الإشارة : اللّه الذي سخّر لكم بحر التوحيد الخاص ، وهو تجلى عظمة الذات ، لتجرى فلك الأفكار فى تيار بحر الذات ونور الصفات ، فتراها تعوم تارة فى أسرار الجبروت الأعلى ، وتارة فى أنوار الملكوت الأدنى ، ولتبتغوا من
___________
(1) العبارة فى القشيري : كيف إن كان خلل فى شىء منها ما ذا يمكن أن يكون؟.(5/304)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 305
فضل معرفته ، وزيادة الترقي فى كشف الأسرار ، وهذا لمن اتسع عليه فضاء الشهود ، وزاحت عنه حجب الكائنات ، وأما من بقي مسجونا فيها ، السماء تظله ، والأرض تقله ، فلا يطمع أن تسرح فكرته فى هذه البحار ، وحسبه أن يكون حمارا يسافر فى البر ، تعبه كثير ، وربحه قليل ، والغناء به بعيد ، وسبب بقائه فى تعب البر عدم صحبته للرجال البحرية ، الذين هم ريّاس البحر ، وشيوخ ركّب البر. وباللّه التوفيق.
قال القشيري : اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ تركبونه ، فربما تسلم السفينة ، وربما تغرق ، كذلك العبد فى فلك الاعتصام فى بحار التقدير ، تمشى بهم رياح العناية ، وترفع لهم شراع التوكل ، تجرى فى البحر لتجر اليقين ، فإن هبت رياح السلامة نجت السفينة ، وإن هبت نكباء الفتنة لم يبق بيد الملاح شىء ، فعند ذلك المقادير غالبة ، وبلغت قلوب أهل السفينة الحناجر. ه. قلت : من ركب مع رائس ماهر الغالب عليه السلامة.
قوله تعالى : وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ ، فى بعض الأثر : يقول اللّه تعالى :
«يا ابن آدم خلقت الأشياء من أجلك ، وخلقتك من أجلى ، فلا تشتغل بما خلقته لك عما خلقتك لأجله» «1» أي : لا تنشغل بخدمة الكون عن خدمة المكوّن ، فما أفلح من انشغل بدنياه ، وآثر هواه على خدمة مولاه ، كان حرا والأشياء كلها عبيد له ، فصار عبدا لعبيده ، بحبه للأشياء وتعشقه لها ، كانت الأشياء تعشقه وتخدمه ، ثم صار يخدم الأشياء ويعشقها ، أنت مع الأكوان ما لم تشهد المكوّن ، فإذا شهدت المكوّن كانت الأكوان معك ، فاعرف قدرك أيها الإنسان ، وارفع همتك عن الأكوان ، وعلّق قلبك بالملك الديان ، يعطك الحق تعالى من العرش إلى الفرش ، تتصرف فيه بهمتك كيف شئت ، وما ذلك على اللّه بعزيز.
ثم بيّن الطريق الموصل إلى هذا ، وهو حسن الخلق مع كلّ مخلوق ، فقال :
[سورة الجاثية (45) : الآيات14 الى 15]
قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (14) مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (15)
قلت : (يغفروا) ، قيل : جواب الأمر المذكور ، أي : إن تقل يغفروا ، وقيل : لأمر محذوف ، أي : قل لهم اغفروا يغفروا ، وقيل : حذف لام الأمر ، أي : ليغفروا ، وقرأ أبو جعفر : (ليجزى قوما) بالبناء للمفعول ، ونصب (قوما) إما
___________
(1) رواه الشيخ محى الدين ابن عربى فى «مشكاة الأنوار فيما روى عن اللّه سبحانه من الأخبار ، ح 58» وقال : «رويته من جزء الرّبعى».(5/305)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 306
على نيابة المصدر ، أي : ليجزى الجزاء قوما ، أو ليجزى الخير قوما ، فأضمر الخير لدلالة الكلام عليه ، أو ناب الجار مع وجود المفعول به ، وهو قليل.
يقول الحق جل جلاله : قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ أي : يعفوا ويصفحوا عن الذين لا يتوقعون نقمه ووقائعه بأعدائه ، من قولهم : «أيام العرب» ، لوقائعها ، أو : لا يؤمّلون الأوقات التي وقّتها اللّه تعالى لثواب المؤمنين ، ووعدهم بالفوز فيها ، قيل : نزلت قبل آية القتال ثم نسخت. قال ابن عطية : ينبغى إن يقال :
إن الأمور العظام ، كالقتل والكفر مجاهدة ونحو ذلك ، قد نسخ غفرانه آية السيف والجزية ، وإن الأمور الحقيرة ، كالجفاء فى القول ونحو ذلك ، يحتمل أن تبقى محكمة ، وأن يكون العفو عنها أقرب للتقوى. ه.
قيل : نزلت فى عمر رضي اللّه عنه حين شتمه رجل من غفار ، فهمّ أن يبطش به ، فنزلت «1». وقيل : نزلت فى ناس من أصحاب النّبى صلّى اللّه عليه وسلم كانوا فى أذىّ شديد من المشركين ، قبل أن يؤمروا بالقتال ، فشكوا ذلك إلى النّبى صلّى اللّه عليه وسلم ، فنزلت «2» ، وعلى هذا تكون الآية مكية. وقال ابن عباس : لما نزل : مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً «3» قال فنحاص : افتقر ربّ محمد ، فلما بلغ ذلك عمر ، طلبه بالسيف ليقتله ، فنزلت ، فوضع السيف ، وقال : والذي بعثك بالحق لا يرى الغضب فى وجهى «4». وقيل : فى شأن أبىّ بن سلول ، رأس المنافقين ، لمّا قال فى غزوة المريسيع : ما مثلنا ومثل هؤلاء - يعنى المهاجرين - إلا كما قيل : سمّن كلبك يأكلك ، فبلغ ذلك عمر ، فاشتمل السيف ، يريد التوجه إليه ، فنزلت «5». وعلى هذا تكون مدنية.
لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ أي : إنما أمروا أن يغفروا ليوفيهم جزاء مغفرتهم يوم القيامة. وتنكير (قوم) مدح لهم ، كأنه قيل : ليجزى قوما - أيّما قوم ، أو قوما مخصوصين - بالصبر بسبب ما كسبوا فى الدنيا من الأعمال الحسنة ، التي من جملتها الصبر على إذاية الكفار ، والإغضاء عنهم ، بكظم الغيظ ، واحتمال المكروه ، ما يقصر عنه البيان من الثواب العظيم ، ويجوز أن يراد بالقوم : الكفرة ، وبما كانوا يكسبون : سيئاتهم ، التي من جملتها ما كانوا يؤذون به المسلمين.
مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها أي : لها الثواب وعليها العقاب ، لا يكاد يسرى عمل إلى غير عامله ، ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ فيجازيكم على أعمالكم ، خيرا كان أو شرا.
___________
(1) ذكره القرطبي (7/ 6162) وعزاه للنحاس والمهدوى ، عن الضحاك عن ابن عباس.
(2) ذكره البغوي فى تفسيره (7/ 243). عن القرظي والسدى.
(3) الآية 245 من سورة البقرة.
(4) أخرجه الواحدي فى أسباب النّزول (ص 293 - 294) عن ميمون بن مهران عن ابن عباس رضي اللّه عنه ، بسند ضعيف.
(5) ذكره الواحدي فى أسباب النّزول (293) والقرطبي (7/ 6167) عن ابن عباس فى رواية عطاء.(5/306)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 307
الإشارة : مذهب الصوفية : العفو عمن ظلمهم ، والإحسان إلى من أساء إليهم لأنهم رحمة للعباد ، ومقصدهم بذلك رضا اللّه ، لأن الخلق عيال اللّه ، وأحب الخلق إلى اللّه أنفعهم لعياله. قال اللجائى رضي اللّه عنه فى شمائل الخصوص :
قصد السادات بالعفو عمن ظلمهم ، ابتغاء مرضاة اللّه ، لا ابتغاء الثواب ، فإنه تعالى يحب العفو ، وتسمّى به.
ومقصدهم بالعفو أيضا : قطع العداوة والحقد عن الظالم ، وترك الانتصار منه ، بيد أو لسان ، استعدادا منهم لسلامة الصدور. ومقصدهم أيضا : زوال الذّلة عن الظالم فى موقف الحساب ، من أجل ما يطالب به من الحقوق ، وهو ضرب من الشفقة على العبيد ، وهو مقام محمود ، فشأنهم رضا اللّه عنهم إذا حلّ بالعباد فى الموقف بلاء ، أرادوا أن يكونوا للخلق فداء ، فهذا أدنى مقام فى العفو. ه.
وفى الحديث : «إذا جمع اللّه الخلائق يوم القيامة ، نادى مناد : أين أهل الفضل ، فيقوم ناس ، وهم يسير ، فينطلقون إلى الجنة سراعا ، فتتلقاهم الملائكة ، فيقولون : إنّا نراكم سراعا؟ فيقولون : نحن أهل الفضل ، فيقولون : وما فضلكم؟ فيقولون : كنا إذا ظلمنا صبرنا ، وإذا جهل علينا حلمنا ، فيقال لهم : ادخلوا الجنة : فنعم أجر العاملين» «1».
قال القشيري بعد كلام : فمن أراد أن يعرف كيف يحفظ أولياءه ، وكيف يدمّر أعداءه ، فليصبر على أيام قلائل ، ليعلم كيف صارت عواقبهم ، من عمل صالحا فله مهناه ، ومن ارتكب سيئة قاسى بلواه ، ثم مرجعه إلى مولاه. ه.
ثم ذكر ما منّ به على بنى إسرائيل ، بعد ما ذكر ما منّ به على عباده جملة ، فقال :
[سورة الجاثية (45) : الآيات 16 الى 17]
وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (16) وَآتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (17)
يقول الحق جل جلاله : وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ أي : الفصل بين العباد ، لأن الملك لم يزل فيهم حتى غيّروا ، أو : الحكمة النّظرية والعملية والفقه فى الدين ، وَالنُّبُوَّةَ حيث كثر فيهم الأنبياء ما لم
___________
(1) رواه الأصبهانى فى الترغيب (2374) عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده.(5/307)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 308
يكثر فى غيرهم. وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ ما أحلّ اللّه لهم من اللذائذ ، كالمن والسلوى ، وغيره من الأرزاق ، وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ على عالمى زمانهم.
وَآتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ دلائل ظاهرة من أمر الدين ، ومعجزات قاهرة. قال ابن عباس : هو العلم بمبعث النّبى صلّى اللّه عليه وسلم ، وما بيّن لهم من أمره ، وأنه يهاجر من تهامة إلى يثرب ، ويكون أنصاره أهل يثرب ، فَمَا اخْتَلَفُوا فى ذلك الأمر إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بحقيقته وحقيّته ، فجعلوا ما يوجب زوال الخلاف موجبا له ، بَغْياً بَيْنَهُمْ أي : عداوة وحسدا ، حدث بينهم ، لا شك وقع لهم فيه ، إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ بالمؤاخذة والجزاء فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ من أمر الدين.
الإشارة : كانت بنو إسرائيل فى أول أمرها متمسكة بكتاب ربها ، عاملة بما شرعت لها أنبياؤها ، فرفع اللّه بذلك قدرها ، حتى تحاسدوا ، وتهاجروا على الدنيا والرّئاسة ، فأعقبهم اللّه ذل الأبد ، فهذه سنّة اللّه تعالى فى عباده ، من تمسك بالكتاب والسنة ، وزهد فى الدنيا ، وتواضع لعباد اللّه ، رفعه اللّه وأعزه ، فإذا خرج عن هذا الوصف انعكس حاله إلى أسفل ، والعياذ باللّه.
ولما ذكر شريعة موسى أعقبه بشريعة نبينا - صلوات اللّه وسلامه عليهم أجمعين ، فقال :
[سورة الجاثية (45) : الآيات 18 الى 20]
ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (18) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (19) هذا بَصائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (20)
يقول الحق جل جلاله : ثُمَّ جَعَلْناكَ يا محمد بعد اختلاف أهل الكتاب ، عَلى شَرِيعَةٍ على طريقة عظيمة الشأن ، ومنهاج واضح مِنَ الْأَمْرِ الدين ، وأصل الشريعة فى اللغة : مورد الماء ، أي : الطريق الموصلة إليه ، ثم جعل للطريق الموصلة إلى حياة القلوب والأرواح لأن الماء به حياة الأشباح ، فَاتَّبِعْها بإجراء أحكامها فى نفسك وفى غيرك ، من غير إخلال بشىء منها. قال ابن عرفه : الخطاب له عليه السّلام ، والمراد غيره لأنه معلوم الاتباع التام ، أو : دم على اتباعها. ه.
وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ أي : لا تتبع آراء الجهلة واعتقاداتهم الزائغة التابعة للشهوات ، وهم رؤساء قريش ، كانوا يقولون له صلّى اللّه عليه وسلم : ارجع إلى دين آبائك. إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً مما أراد بك إن اتبعتهم ، أي : لن ينفعونك بدفع ما ينزل بك بدلا من اللّه شيئا إن اتبعت أهواءهم ، وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ(5/308)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 309
بَعْضٍ
فلا يواليهم ولا تتبع أهواءهم إلا من كان ظالما مثلهم ، وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ أي : ناصر المتقين ، الذين أنت قدوتهم ، فدم على ما أنت عليه من توليته خاصة ، والإعراض عما سواه بالكلية.
هذا بَصائِرُ لِلنَّاسِ أي : هذا القرآن واتباع الشريعة بصائر لقلوب النّاس ، كما جعل روحا وحياة لها ، فإنّ من تمسك بالكتاب والسنة ، وأمعن فيها النّظر ، وعمل بمقتضاهما ، فتحت بصيرته ، وحيى قلبه ، وَهُدىً من الضلالة وَرَحْمَةٌ من العذاب ، لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ لمن كمل إيمانه وإيقانه بالأمور الغيبية.
الإشارة : الشريعة لها ظاهر وباطن ، وهو لبها وخالصها ، فالعامة أخذوا بظاهرها ، فأخذوا بكلّ ما يبيحه ظاهر الشريعة من الرّخص والسهولة ، ولا نظر عندهم لقلوبهم من النّقص والزيادة ، والخاصة أخذوا بباطنها ، فأخذوا منها بالمهم ، وتركوا كلّ ما يفتنهم أو ينقص من نور إيقانهم ، فوصلوا بذلك إلى حضرة ربهم ، فيقال للمريد : ثم جعلناك على طريقة واضحة من أمر الخاصة ، فاتبعها ، ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون ما يزيد فى قلوبهم وما ينقص. إنهم لن يغنوا عنك من اللّه شيئا إن أبعدك بميلك إليهم واتباع أغراضهم.
قال القشيري : إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إن أراد بك نعمة ، فلا يمنعها أحد ، وأن أراد بك فتنة فلا يصرفها عنك أحد ، فلا تعلّق بمخلوق فكرك ، ولا توجه ضميرك إلى شىء ، وثق به ، وتوكّل عليه. ه. وأهل الغفلة بعضهم أولياء بعض ، يتوالون على حظوظ الدنيا وشهواتها ، وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ الذين اتقوا كلّ ما يشغل عن اللّه ، هذا بَصائِرُ لِلنَّاسِ أي : سبب فتح بصائرهم ، وَهُدىً أي : إشارة لطريق الوصول ، ورحمة للأرواح والقلوب ، لقوم يوقنون ، أي : لأهل اليقين الكبير.
قال القشيري : هذا بَصائِرُ لِلنَّاسِ ، أنوار البصيرة إذا تلألأت انكشفت دونها تهمة التجويز ، ونظر النّاس على مراتب ، من نظر بنور نجومه ، فهو صاحب عقل ، ومن نظر بنور فراسته فهو صاحب ظن ، يقوّيه لوح ، ولكنه من وراء ستر ، ومن نظر بيقين فهو على تحكم برهان ، ومن نظر بعين إيمان فهو بوصف اتباع ، ومن نظر بنور بصيرة ، فهو على نهار ، وشمسه طالعة ، وشمسه عن السحاب مصحية. ه.
ثم بيّن حال من لا يرجو أيام اللّه ومن يرجوه ، فقال :
[سورة الجاثية (45) : الآيات 21 الى 22]
أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ (21) وَخَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (22)(5/309)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 310
قلت (أم) : منقطعة ، والهمزة لانكار الحسبان ، من قرأ «سواء» بالرفع «1» فخبر مقدم ، (و محياهم) : مبتدأ ، ومن قرأ بالنصب فحال من ضمير الظرف ، أي : كائنين كالذين آمنوا ، حال كونهم مستويا محياهم ومماتهم ، و«محياهم» - حينئذ - : فاعل بسواء ، وقرأ الأعمش : «ومماتهم» بالنصب على الظرفية.
يقول الحق جل جلاله : أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا
اكتسبوا السَّيِّئاتِ
من الكفر والمعاصي ، وسميت الأعضاء جوارح لاكتسابها الخير والشر ، ويقال : فلان جارحة أهله أي : كاسبهم ، أي : أظنوا أن نصيّرهم كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ
، وهم فيما هم فيه من محاسن الأعمال ، ونعاملهم معاملتهم فى رفع الدرجات ، أي : حتى يكونوا سَواءً
فى مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ
،
كلّا ، بل نجعل أهل الإيمان فى محياهم ومماتهم متنعمين بطاعة مولاهم ، مطمئنين به ، يحيون حياة طيبة ، ويموتون موتة حسنة ، وفى مماتهم مكرمين بلقاء مولاهم ، فى روح وريحان ، وجنات نعيم ، ونجعل أهل الكفر والعصيان فى محياهم فى ذلّ المعصية ، وكد الحرص وكدر العيش ، وفى الممات فى ضيق العذاب الخالد ، ساءَ ما يَحْكُمُونَ
أي : ساء حكمهم هذا ، أو : بئس شيئا حكموا به.
قال النّسفى : والمعنى إنكار أن يستوى المسيئون والمحسنون محيا ومماتا لافتراق أحوالهم أحياء ، حيث عاش هؤلاء على القيام بالطاعات ، وأولئك على اقتراف السيئات ، ومماتا ، حيث مات هؤلاء على البشرى بالرحمة والكرامة ، وأولئك على اليأس من الرّحمة والنّدامة. وقيل : معناه : إنكار أن يستووا فى [الممات ، كما استووا فى ] «2» الحياة فى الرّزق والصحة. ساء ما يحكمون ، فليس من أقعد على بساط الموافقة ، كمن أبعد فى مقام المخالفة ، بل تفرّق بينهم ، فنعلى المؤمنين ، ونخزى الكافرين. ه.
وسبب نزول الآية : افتخار وقع للكفار على المؤمنين ، قالوا : لئن كانت آخرة كما تزعمون لنفضلن فيها كما فضلنا فى الدنيا ، فردّ اللّه عليهم ، وأبطل أمنيتهم «3».
وَخَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ لتدل على قدرته على البعث وغيره ، قال البيضاوي : كأنه دليل على الحكم السابق ، من حيث إن خلق ذلك بالحق المقتضى للعدل ، يقتضى انتصار المظلوم من الظالم ، والتفاوت بين المحسن والمسيء ، إذا لم يكن فى المحيا كان بعد الممات. ه. وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ : عطف
___________
(1) قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر برفع «سواء» وقرأ حفص وحمزة والكسائي وخلف بالنصب. انظر الإتحاف 2/ 467. [.....]
(2) ما بين المعقوفتين من تفسير النّسفى ، وأثبته لاقتضاء السياق ذلك.
(3) ذكره البغوي فى التفسير (7/ 244).(5/310)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 311
على هذه العلة المحذوفة ، أي : لتدل ولتجزى ، أو على «بالحق» لأن فيه معنى التعليل إذ معناه : خلقها مقرونة بالحكمة والصواب ، دون العبث ولتجزى ... إلخ ، أو : ليعدل وتجزى كلّ نفس بما كسبت ، وَهُمْ أي : النفوس ، المدلول عليها بكلّ نفس لا يُظْلَمُونَ بنقص الثواب أو زيادة عقاب.
الإشارة : أم حسب الذين ماتوا على دنس الإصرار ، أن نجعلهم كالمطهرين الأبرار ، أم حسب الذين عاشوا فى البطالة والتقصير أن نجعلهم كالذين عاشوا فى الجد والتشمير؟ «أم حسب الذين عاشوا فى غم الحجاب ، وصاروا إلى سوء الحساب ، أن نجعلهم كالذين تهذبوا حتى ارتفع عنهم الحجاب ، وصاروا إلى غاية الكرامة والاقتراب؟
لا استواء بينهم فى المحيا ولا فى الممات ، الأولون عاشوا معيشة ضنكا ، وصاروا بعد الموت إلى النّدامة والحسرة ، والآخرون عاشوا عيشة راضية ، وماتوا موتة طيبة ، وصاروا إلى كرامة أبدية ، ولهذا بكت الأكابر عند قراءتها ، فروى عن تميم الداري : أنه كان يصلى ليلة عند المقام ، فبلغ هذه الآية ، فجعل يبكى ويرددها إلى الصباح. وعن الفضيل : أنه بلغها ، فجعل يبكى ، ويقول : يا فضيل! ليت شعرى من أىّ الفريقين أنت؟. وعن الرّبيع بن خيثم : أنه قام يصلى ليلة ، فمر بهذه الآية ، فمكث ليلة حتى أصبح يبكى بكاء شديدا ، وكانت تسمى مبكاة العابدين.
وسبب تسوية العاصي مع المطيع الانهماك فى الهوى ، كما أبان ذلك الحق تعالى بقوله :
[سورة الجاثية (45) : آية 23]
أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (23)
يقول الحق جل جلاله : أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أي : أباح لنفسه كلّ ما تهواه ، سواء كان مباحا أو غير مباح ، فكأنه يعبده كما يعبد الرّجل إلهه ، وإليه أشار فى المباحث بقوله :
ومن أباح النّفس ما تهواه فإنما معبوده هواه
فالآية وإن نزلت فى هوىالكفر فهى متناولة لكلّ هوى النّفس الأمّارة ، قال ابن جبير : نزلت فى قريش والعرب ، كانوا يعبدون الحجارة والذهب والفضة ، فإذا وجدوا شيئا أحسن ألقوه وعبدوا غيره «1». ه. ومتابعة الهوى كلها مذمومة ، فإن كان ما هوته محرّما أفضى بصاحبه إلى العقاب ، وإن كان مباحا بقي صاحبه فى غم الحجاب وسوء الحساب ، وأسر نفسه وكدّ طبعه. وفى الحديث عنه صلّى اللّه عليه وسلم : «ما عبد تحت السماء أبغض إلى اللّه تعالى من
___________
(1) ذكره القرطبي (7/ 6173) والبغوي (7/ 245).(5/311)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 312
هوى» «1» ، وقال صلّى اللّه عليه وسلم : «ثلاث مهلكات شحّ مطاع ، وهوى متبع ، وإعجاب المرء بنفسه» «2» وقال أيضا : «الكيّس من دان نفسه ، وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من أتبع نفسه هواها ، وتمنّى على اللّه» «3» ، وسيأتى فى الإشارة تمامه.
ثم قال تعالى : وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ أي : خذله على علم منه ، باختياره الضلالة ، أي : عالما بضلاله ، وتبديله لفطرة اللّه التي فطر النّاس عليها. وقيل : نزلت فى أمية بن أبى الصلت ، وكان عنده علم بالكتب المتقدمة ، فكان ينتظر بعثة الرّسول صلّى اللّه عليه وسلم ، فلما ظهر ، قال : ما كنت لأومن لرسول ليس من ثقيف ، وأشعاره محشوة بالتوحيد ، ولكن سبق له الشقاء ، فلم يؤمن ، وختم على سمعه فلا يقبل وعظا وقلبه ، فلا يعتقد حقّا ، أي : لا يتأثر بالمواعظ ، ولا يتفكر فى الآيات والنّذر. وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً أي : ظلمة مانعة من الاعتبار والاستبصار ، فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ من بعد إضلال اللّه إياه؟ أَفَلا تَذَكَّرُونَ أفلا تتعظون ، فتسلمون الأمور إلى مولاها ، يضل من يشاء ويهدى من يشاء.
الإشارة : حقيقة الهوى كلّ ما تعشقه النّفس ، وتميل إليه من الحظوظ العاجلة ، ويجرى ذلك فى المآكل ، والمشارب ، والملابس ، والمناكح ، والجاه ، ورفع المنزلة ، فليجاهد العبد نفسه فى ترك ذلك كله ، حتى لا تحب إلا ما هو طاعة يقرب إلى اللّه ، كما قال صلّى اللّه عليه وسلم : «لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تابعا لما جئت به» «4» فإن كان فى طريق الإرادة والتربية ترك كلّ ما تميل إليه نفسه وتسكن إليه ، ولو كان طاعة ، كما قال البوصيرى رضي اللّه عنه :
وراعها وهى فى الأعمال سائمة وإن هى استحلت المرعى فلا تسم
فإنّ حلاوة الطاعة سموم قاتلة ، يمنع الوقوف معها من الترقي إلى حلاوة الشهود ولذة المعرفة ، وكذلك الركون إلى الكرامات ، والوقوف مع المقامات ، كلها أهوية تمنع مما هو أعلى منها من مقام العيان ، فلا يزل المريد يجاهد نفسه ، ويرحلها عن هذه الحظوظ ، حتى تتمحض محبتها فى الحق تعالى ، فلا يشتهى إلا شهود ذاته الأقدس ، أو ما يقضيه عليه ، فإذا ظهر بهذا المقام لم تبق له مجاهدة ولا رياضة ، وكان ملكا حرا ، فيقال له حينئذ :
___________
(1) الحديث ذكره القرطبي فى تفسيره (7/ 6173) عن أبى أمامة.
(2) أخرجه مطولا البزار (كشف الأستار/ 81) ، وأبو نعيم فى الحلية (2/ 243) من حديث أنس رضي اللّه عنه. وأخرجه الطبراني فى الأوسط (ح 5754) من حديث ابن عمر رضي اللّه عنه.
(3) أخرجه أحمد (4/ 124) وابن ماجه فى (الزهد ، بات ذكر الموت والاستعداد له ، ح 4260) والترمذي ، وحسّنه فى (صفة القيامة والرّقائق ، ح 2459) والحاكم (4/ 251) «وصحّحه وأقره الذهبي» والطبراني فى الكبير (7/ 338 ، ح 7141) وابن المبارك فى الزهد (56 ح 25) من حديث شداد بن أوس.
(4) أخرجه البغوي فى شرح السنة (213) والبغدادي فى تاريخ بغداد (4/ 369) من حديث عبد اللّه بن عمرو بن العاص. وقد بسط الكلام على هذا الحديث الحافظ ابن رجب فى «جامع العلوم والحكم» فراجعه إن شئت.(5/312)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 313
لك الدهر طوع ، والأنام عبيد فعش ، كل يوم من أيامك «1» عيد.
وطريق السير فى هذا أن يساس نفسه شيئا فشيئا ، يمنعها من المكروهات ، ثم من المباحات شيئا فشيئا ، حتى تستأنس ، يترك شهوة ثم أخرى ، وهكذا ، وأما لو منعها الكلّ دفعة واحدة فربما تمل وتسقط ، وقد قال عليه الصلاة والسّلام : «لا يكن أحدكم كالمنبت ، لا أرضا قطع ، ولا ظهرا أبقى» «2». وإلى هذا أشار فى المباحث ، حيث قال :
واحتل على النّفس فرّب حيله أنفع فى النّصرة من قبيله
وأعظم الحظوظ حب الجاه والتقدم ، فلا يسامحها المريد فى شىء من ذلك قط ، ولينزل بها إلى الخمول والسفليات ، وأما شهوة البطن والفرج فما تشوفت إليه النّفس من ذلك فليمنعها منها كليا ، وما أتاها من غير حرص ولا تشوف فليأخذ منه قدر الحاجة ، مع الشكر عليه ، هكذا يسير حتى يتحقق وصوله ، ويتمكن من معرفة الحق ، وحينئذ فلا كلام معه ، كما تقدم ، ولا بد من صحبة شيخ عارف كامل ، يلقيه زمام نفسه ، فيحمله بهمته ، وإلا فلا طاقة على مجاهدتها أصلا ، وجرّب ففى التجريب علم الحقائق.
قال القشيري : من لم يسلك سبيل الاتباع ، ولم يستوف أحكام الرّياضة ، ولم ينسلخ عن هواه بالكلية ، ولم يؤدبه إمام مقتدى به ، فهو ينحرف فى كلّ وهدة ، ويهيم فى كلّ ضلالة ، ويضلّ فى كلّ فجّ ، خسرانه أكثر من ربحه ، ونقصانه أوفر من رجحانه ، أولئك فى ضلال بعيد ، زمامهم بيد هواهم ، أولئك أهل المكر ، استدرجوا وما يشعرون. ه. وفى الحكم : «لا يخاف أن تلتبس الطرق عليك ، وإنما يخاف من غلبة الهوى عليك» «3». فمن غلبه الهوى غلبه الوجود بأسره ، وتصرف فيه ، أحب أم كره ، ومن غلب هواه غلب الوجود بأسره ، وتصرف فيه بهمته كيف شاء.
حكى عن أبى عمران الواسطي ، قال : انكسرت بنا السفينة ، فبقيت أنا وامرأتى على ألواح ، وقد ولدت فى تلك الليلة صبية ، فصاحت بي ، وقالت : يقتلنى العطش ، فقلت : هو ذا يرى حالنا ، فرفعت رأسى ، فإذا رجل جالس فى يده سلسلة من ذهب ، فيها كوز من ياقوت أحمر ، فقال : هاك اشربا ، فأخذت الكوز ، فشربنا ، فإذا هو أطيب من
___________
(1) هكذا ، وأرى - أنها «زمانك» ليستقيم الوزن.
(2) أخرجه البيهقي السنن (3/ 18) والبزار (74) والحاكم فى معرفة علوم الحديث (ص 96) والشهاب القضاعي فى مسنده (ح 1147 ، وح 1148) عن جابر مرفوعا ، بلفظ «إن هذا الدين متين ، فأوغل فيه برفق ، فإنّ المنبت ..» إلخ الحديث ، وزاد القضاعي بعد «فأوغل فيه برفق» : «ولا تبغض إلى نفسك عبادة اللّه» وأخرجه بنحوه البيهقي فى الشعب (ح 3885) عن السيدة عائشة رضي اللّه عنها ، و(ح 3886) عن عمرو بن العاص رضي اللّه عنه.
وانظر الشذرة فى الأحاديث المشتهرة (ح 893) وكشف الخفاء (2339).
(3) حكمة رقم (107) انظر تبويب الحكم ص 17.(5/313)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 314
المسك ، وأبرد من الثلج ، وأحلى من العسل ، فقلت : من أنت؟ فقال : أنا عبد لمولاك ، فقلت : بم وصلت إلى هذا؟
فقال : تركت هواى لمرضاته ، فأجلسنى فى الهواء ، ثم غاب ولم أره. ه. وقال سهل رضي اللّه عنه : هواك داؤك ، فإن خالفته فدواؤك ، وقال وهب : إذا عرض لك أمران ، وشككت فى خيرهما ، فانظر أبعدهما من هواك فأته. ه. ومثله فى الحكم : «إذا التبس عليك أمران ، فانظر أثقلهما على النّفس ، فاتبعه ، فإنه لا يثقل عليها الا ما كان حقا». فالعز كله فى مخالفة الهوى ، والذل والهوان كله فى متابعة الهوى ، فنون الهوان سرقت من الهوى ، كما قال الشاعر :
لون الهوان من الهوى مسروقة أسير كلّ هوى أسير هوان.
وقال آخر :
إن الهوى لهو الهوان بعينه فإذا هويت فقد لقيت هوانا
وإذا هويت فقد تعبّدك الهوى فاخضع لحبّك كائنا من كانا
وقال ابن المبارك :
ومن البلاء للبلاء علامة ألا يرى لك عن هواك نزوع
العبد أعنى النّفس فى شهواتها والحرّ يشبع تارة ويجوع. «1»
ولابن دريد :
إذا طالبتك النّفس يوما بشهوة وكان إليها للخلاف طريق
فدعها وخالف ما هويت فإنما هواك عدو والخلاف صديق
وقال أبو عبيد الطوسي :
والنّفس إن أعطيتها مناها فاغرة نحو هواها فاها
هذا ، وللآية إشارة آخري ، رويت عن بعض مشايخنا ، قال : يمكن أن تكون الآية مدحا ، يقول تعالى : أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ ، وهو اللّه تعالى ، ومحبوبه وهواه ، لا يهوى معه غيره ، وأضله اللّه ، فى محبته ، على علم منه باللّه ، وختم على سمعه وقلبه بمحبته ، فلا يسمع إلا منه ، ولا يحب غيره ، وجعل على بصره غشاوة ، فلا يرى سواه ، فمن
___________
(1) انظر ديوان ابن المبارك (ص 82) والبيت فيه : [والعبد عبد النّفس ] كما جاء البيتان فى ديوان سيدنا علىّ بن أبى طالب رضي اللّه عنه ، (ص 122) ومعهما بيت ثالث ، هو :
وكفاك من عبر الحوادث أنه يبلى الجديد ويحصد المزروع(5/314)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 315
يهديه هذه الهداية العظمى من بعد اللّه ، «1» وهذا يسلّم فى طريق الإشارة ، لأنها خارجة عن سياق العبارة ، وللقرآن أسرار باطنة ، يعرفها أهل الباطن فقط ، فسلّم تسلم.
ثم ذكر مقالة أهل الأهواء والضلال ، فقال :
[سورة الجاثية (45) : الآيات 24 الى 25]
وَقالُوا ما هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلاَّ الدَّهْرُ وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (24) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ ما كانَ حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (25)
يقول الحق جل جلاله : وَقالُوا من غاية غيهم وضلالهم : ما هِيَ أي : ما الحياة لأنهم وعدوا حياة ثانية ، إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا التي نحن فيها ، نَمُوتُ وَنَحْيا أي : يصيبنا الموت والحياة فيها ، وليس وراء ذلك حياة ، أو : نموت بأنفسنا ونحيا ببقاء أولادنا ، أو : يموت بعض ويحيا بعض ، أو : نكون مواتا نطفا فى الأصلاب ، ونحيا بعد ذلك. وقيل : هذا كلام من يقول بالتناسخ ، فإنه عقيدة أكثر عبدة الأوثان ، أي : يموت الرّجل ، ثم تجعل روحه فى شبح آخر ، فيحيا به ، وهو باطل عند أهل الإسلام. ثم قالوا : وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ إلا مرور الزمان وهو فى الأصل : مدة بقاء العالم ، من : دهره : إذا غلبه ، وكانوا يزعمون أن مرور الزمان بالليالي والأيام هو المؤثّر فى هلاك الأنفس ، وينكرون ملك الموت ، وقبضه الأرواح بأمر اللّه تعالى ، وكانوا يضيفون كلّ حادثة تحدث إلى الدهر والزمان ، كما قال شاعرهم :
أشاب الصغير وأفنى الكبير كرّ الغداة ومرّ العشىّ.
ومنه قول تبع الأكبر ، أو غيره :
منع البقاء تغرّب الشمس وطلوعها من حيث لا تمسى
وطلوعها بيضاء صافية وغروبها صفراء كالورس «2»
تجرى على كبد السماء كما يجرى حمام الموت بالنفس
اليوم أعلم ما يجىء به ومضى بفصل قضائه أمس
___________
(1) فى هذا الكلام نظر.
(2) الورس : نبات كالسمسم أصفر يزرع باليمن ويصبغ به ، ويتخذ منه الغمرة للوجه. وقيل صنف من الكمكم ، وقيل : يشبهه. انظر اللسان (ورس 6/ 4812) ومحيط المحيط (ص 965).(5/315)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 316
فإن كان تبّعا المتقدم فنسبة الفعل إلى الدهر مجاز ، كما سيأتى ، وعقيدة الموحدين ألّا فاعل إلا اللّه ، فالدهر مسخّر بأمر اللّه وقدرته ، بل هو من أسرار اللّه وأنوار صفاته ، ولذلك قال صلّى اللّه عليه وسلم : «لا تسبّوا الدهر ، فإن اللّه هو الدهر» «1» وقال صلّى اللّه عليه وسلم : «قال اللّه تعالى : يؤذينى ابن آدم ، يسبّ الدّهر ، وأنا الدهر ، بيدي الأمر ، أقلّب الليل والنّهار» «2» فالأمور كلها بيد اللّه ، والدهر إنما هو مظهر لعجائب القدرة ، كما قال أبو على الثقفي رضي اللّه عنه :
يا عاتب الدهر إذا نابه «3» لا تلم الدهر على غدره
الدهر مأمور له آمر قد انتهى الدهر إلى أمره
كم كافر أمواله جمّة تزاد أضعافا على كفره؟
ومؤمن ليس له درهم يزداد إيمانا على فقره؟
وقد ينسب أهل التوحيد الفعل إلى الدهر مجازا ، تغزلا ، فى أشعارهم ، كما قال عبد الملك بن مروان ، حين ضعف حاله :
فاستأثر الدهر الغداة بهم والدهر يرمينى وما أرمى
يا دهر قد أكثرت فجعتنا بسراتنا وقرت فى العظم
وتركتنا لحمّا على وضم «4» لو كنت تستبقى من اللحم!!
وسلبتنا ما لست تعقبنا يا دهر ما أنصفت فى الحكم!!.
قال تعالى : وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ أي : ليس لهم بما ذكر من اقتصار الحياة على ما فى الدنيا ، وإسناد التأثير إلى الدهر ، (من علم) يستند إلى عقل ولا نقل ، إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ ما هم إلا قوم قصارى أمرهم الظن والتقليد ، هذا معتقدهم الفاسد فى أنفسهم.
___________
(1) أخرجه مسلم فى (الألفاظ من الأدب ، باب النّهى عن سب الدهر ، رقم 2246 ، ح 5) من حديث أبى هريرة رضي اللّه عنه. قال الخطابي : معناه أنا صاحب الدهر ، ومدبر الأمور التي ينسبونها إلى الدهر فمن سب الدهر من أجل أنه فاعل هذه الأمور عاد سبه إلى ربه الذي هو فاعلها. انظر فتح الباري (8/ 438). [.....]
(2) أخرجه البخاري فى (التفسير - تفسير سورة الجاثية ، باب وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ ح 6284) وفى (الأدب ، باب لا تسبوا الدهر) ومسلم فى (الموضع السابق ، ح 2) من حديث أبى هريرة رضي اللّه عنه.
(3) فى الأصول : [يا عالما بعجب من دهره ] والمثبت من تفسير القرطبي.
(4) الوضم : خشبة الجزار يقطع عليها اللحم ، وكلّ ما وقيت به اللحم عن الأرض من خشب وحصير. يجمع على أوضام وأوضمة.
وتركهم لحما على وضم ، أي أوقع بهم فذلّلهم وأوجعهم. انظر اللسان (وضم 6/ 4861).(5/316)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 317
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا الناطقة بالحق ، الذي من جملته البعث ، بَيِّناتٍ واضحات الدلالة على ما نطقت به ، أو مبينات له ، ما كانَ حُجَّتَهُمْ ما كان متمسكا لهم شىء من الأشياء ، إِلَّا أَنْ قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ فى أنّا نبعث بعد الموت ، أي : لا شبهة لهم إلا هذا القول الباطل ، الذي يستحيل أن يكون من قبيل الحجة ، أي : ليس لهم حجة إلا العناد والاستبعاد. وتسميته حجة إما لسوقهم إياه مساق الحجة فى زعمهم ، أو تهكما بهم ، كقول القائل : «تحية بينهم ضرب وجيع». قال ابن عرفة : وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ ... الآية ، أي : إنهم مع كونهم ظانين فهم بحيث لو استدل لهم لما ازدادوا إلا ضلالا ، وقد تقرر فى علم الجدل أن المصمم على الشيء يصعب نقله عنه ، بخلاف الظان والشاك ، فأتت هذه الآية نفيا لما يتوهم فى هؤلاء أنهم حيث لا يقين عندهم يسهل رجوعهم ، حين تظهر الحجة. ه. ومن نصب «حجتهم» فخبر كان ، ومن رفعه فاسمها «1».
الإشارة : قال القشيري : وَقالُوا ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا ... الآية ، اغتروا بما وجدوا عليه خلفهم ، وأرخوا فى البهيمية عنانهم وعمرهم ، وأغفوا عن ذكر الفكرة قلوبهم ، فلا بالعلم استبصروا ، ولا من الحقائق استمدوا ، رأس ما لهم الظن ، وهم غافلون ، وإذا تتلى عليهم الآيات طلبوا إحياء موتاهم ، وسوف يرون ما استبعدوا. ه.
ثم قرر البعث الذي أنكروه ، فقال :
[سورة الجاثية (45) : الآيات 26 الى 32]
قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (26) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ (27) وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (29) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (30)
وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ (31) وَإِذا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها قُلْتُمْ ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلاَّ ظَنًّا وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (32)
___________
(1) قرأ الجمهور «حجتهم» بالنصب ، وعن الحسن وغيره «حجتهم» بالرفع ، اسم كان ، و«إلا أن قالوا» الخبر ، وهى قراءة شاذة. انظر :
الإتحاف (2/ 467) وإعراب القراءات الشاذة للعكبرى (2/ 471).(5/317)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 318
قلت : (و يوم) : منصوب بيخسر ، و«يومئذ» بدل منه ، و«كل أمة تدعى» : مبتدأ وخبر ، ومن نصب «1» فبدل من «كل أمة» ، (و الساعة لا ريب فيها) من رفعها فمبتدأ «2» ، ومن نصبها فعطف على (وعد اللّه).
يقول الحق جل جلاله : قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ فى الدنيا ثُمَّ يُمِيتُكُمْ عند انقضاء أعماركم ، لا كما تزعمون من أنكم تحيون وتموتون بحكم الدهر ، ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ بعد الموت إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ للجزاء ، لا رَيْبَ فِيهِ أي : فى جمعكم فإنّ من قدر على البدء قدر على الإعادة ، والحكمة اقتضت الجمع للجزاء لا محالة ، وتأخيره ليوم معلوم ، والرّدّ لأبائهم كما اقترحوا ، حيث كان مزاحما للحكمة التشريعية ، امتنع إيقاعه لرفع الإيمان بالغيب حينئذ ، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ قدرة اللّه على البعث ، وحكمة إمهاله ، لإعراضهم عن التفكر بالانهماك فى الغفلة ، وهو استدراك من قوله : (لا ريب) ، إما من تمام الكلام المأمور به ، أو مستأنف من جهته تعالى ، تحقيقا للحق ، وتنبيها على أن ارتيابهم إنما هو لجهلهم وتقصيرهم فى التفكر والنّظر ، لا لأن فيه شائبة ريب ما.
وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي : له التصرف فيهما وفيما بينهما ، وهو بيان لاختصاص الملك المطلق باللّه ، إثر بيان تصرفه تعالى فى النّاس بالإحياء والإماتة ، والبعث والجمع والجزاء ، وكأنه دليل لما قبله ، وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ الداخلون فى الباطل ، وهو الكفر ، وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ من الأمم المجموعة جاثِيَةً باركة على الرّكب ، مستوفزة من هول ذلك اليوم ، يقال : جثا فلان يجثو : إذا جلس على ركبتيه ، قال سلمان رضي اللّه عنه : فى القيامة ساعة هى عشر سنين ، يخرّ النّاس فيها جثاة على ركبهم ، حتى إن إبراهيم ينادى : نفسى نفسى «3». ه. وروى : أن جهنم حين يؤمر بها أن تساق إلى الموقف ، تنفلت من أيدى الزبانية ، حتى تهم أن تأتى على أهل الموقف جميعا ، وتزفر زفرة تذهب بحاسة الآذان ، فيجثوا الكلّ على الرّكب ، حتى المرسلين ، وكلّ واحد يقول : نفسى نفسى ، لا أسألك اليوم غيرها ، ونبينا عليه الصلاة والسّلام يقول : «أمتى أمتى». نقله الغزالي ، وعن ابن عباس : جاثية : مجتمعة ، وقيل : جماعات ، من : الجثوة ، وهى الجماعة.
كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا صحيفة أعمالها ، والمراد الجنس ، أي : صحائف أعمالها ، الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فى الدنيا ، ثم يقال لهم : هذا كِتابُنا ، أضيف الكتاب إليهم أولا لملابسته إياهم ، لأن أعمالهم مثبتة فيه ، وإلى اللّه ثانيا لأنه مالكه ، والآمر للملائكة بكتبه ، وأضيف لنون العظمة تفخيما لشأنه ، وتهويلا
___________
(1) قرأ يعقوب بنصب «كل» وقرأ الباقون برفعها.
(2) قرأ حمزة «والساعة» بالنصب ، وقرأ الباقون بالرفع.
(3) ذكره البغوي فى تفسيره (7/ 246) والقرطبي (7/ 6180).(5/318)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 319
لأمره ، يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ يشهد عليكم ملتبسا بالحق ، من غير زيادة ولا نقصان ، إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ أي : نستكتب ونطلب نسخ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فى الدنيا ، من الأعمال ، حسنة أو سيئة ، وقال ابن عزيز : نستنسخ :
نثبت ، ويقال : نستنسخ : نأخذ نسخته ، وذلك أن الملكين يرفعان عمل الإنسان ، صغيره وكبيره ، فيثبت اللّه منه ما كان له ثواب أو عقاب ، ويطرح منه اللغو ، وروى عن ابن عباس وغيره حديثا : «أن اللّه يأمر بعرض أعمال العباد كلّ يوم خميس ، فينقل من الصحف التي ترفع الحفظة ، كل ما هو معدّ أن يكون له ثواب وعقاب ، ويلقى الباقي ، فهذا هو النّسخ من أصل.
وقيل : المراد بكتابنا : اللوح المحفوظ. قال صلّى اللّه عليه وسلم : «أول ما خلق اللّه القلم من نور مسيرة خمسمائة عام ، واللوح من نور مسيرة خمسمائة عام ، فقال للقلم : أجر ، فجرى بما هو كائن إلى يوم القيامة من عمل ، برها وفاجرها ، ورطبها ويابسها ، ثم قرأ : هذا كِتابُنا يَنْطِقُ .. الآية» ، فيروى «أن الملائكة تصعد كلّ يوم إلى الملك الموكل باللوح ، فيقولون : أعطنا ما يعمل صاحبنا اليوم ، فينسخ من اللوح عمله ذلك اليوم ، ويعطيه إياهم ، فإذا انقضى أجله ، قال لهم : لا نجد لصاحبكم عملا بقي له ، فيعلمون أنه انقضى أجله».
ثم فصّل أحوال أهل الموقف ، فقال : فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ، أي : جنته ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ الظاهر ، الذي لا فوز وراءه ، وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فيقال لهم على وجه التقريع والتوبيخ : أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ أي : ألم تكن تأتيكم رسلى فلم تكن آياتي تتلى عليكم ، فحذف المعطوف عليه ، ثقة ، بقرينة الكلام ، فَاسْتَكْبَرْتُمْ عن الإيمان بها ، وَكُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ أي : قوما عادتكم الإجرام.
وَإِذا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ أي : وكنتم إذا قيل لكم : إن وعد اللّه بالجزاء حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها أي :
فى وقوعها قُلْتُمْ ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ أىّ شىء هى الساعة ، استهزاء بها ، إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا ، أصله :
نظن ظنا ، ومعناه : إثبات الظن ، فحسب ، فأدخل حرف النّفى والاستثناء ليفيد إثبات الظن مع نفى ما سواه. وقال المبرد : أصله : إن نحن إلا نظن ظنا ، وإنما أوّله لأنه لا يصح التفريع فى المصدر المؤكد ، لعدم حصول الفائدة ، إذ لا معنى لقولك : لا نضرب إلا ضربا ، وجوابه : إن المصدر نوعى لا مؤكد ، أي : ظنا حقيرا ضعيفا. وفى الآية اللف والنّشر المعكوس «1». فقوله : قُلْتُمْ ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ راجع لقوله : وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها ، وقوله : إِنْ نَظُنُّ إِلَّا
___________
(1) اللف والنّشر : هو أن يذكر متعدد ثم يذكر ما لكلّ من أفراده ، شائعا من غير تعيين ، اعتمادا على تصرف السامع فى رده إليه ، وهو إما أن يكون النّشر فيه على ترتيب اللف ، نحو : وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ ، وإما أن يكون على خلاف ترتيبه ، نحو فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ.
انظر التعريفات (244) ومحيط المحيط (ص 561).(5/319)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 320
ظَنًّا راجع لقوله : إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ ، وكذا قوله : وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ أي : لا يقين عندنا ، وهو راجع لقوله إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ. قاله ابن عرفة. ولعل هؤلاء غير القائلين : ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا. واللّه أعلم.
الإشارة : قل اللّه يحييكم الحياة الفانية ، ثم يميتكم عن حظوظكم ، وعن شهود وجودكم ، ثم يجمعكم به إلى يوم القيامة ، لا يعزلكم عن رؤيته أبدا ، ولكن أكثر النّاس لا يعلمون أن هذا يقع فى الدنيا ، مع أن الملك للّه يتصرف فيه كيف شاء ، يوصّل من أراد ، ويبعد من شاء. ويوم تقوم الساعة يخسر الباطلون والمبطلون ، ويفوز المجتهدون والواصلون. وترى كلّ أمة جاثية من هيبة المتجلى باسمه القهار ، وهذه القهرية - نعم - لا ينجو منها خاص ولا عام لأن الطبع البشرى يثبت عند صدمات الجلال. وقوله تعالى : كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا هو أيضا عام ، فيستبشر المجتهدون ، ويحزن البطالون ، ولا يظلم ربك أحدا ، فاليوم يوم عمل ، وغدا يوم جزاء ، فأهل الإيقان يفوزون بغاية النّعيم والرّضوان ، وأهل الشك يخلدون فى الخسران ، فيظهر لهم ما لم يكونوا يحتسبون ، كما قال :
[سورة الجاثية (45) : الآيات 33 الى 37]
وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (33) وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ (34) ذلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللَّهِ هُزُواً وَغَرَّتْكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْها وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (35) فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّماواتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعالَمِينَ (36) وَلَهُ الْكِبْرِياءُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (37)
يقول الحق جل جلاله : وَبَدا لَهُمْ أي : ظهر لهؤلاء الكفرة سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا قبائح أعمالهم على ما هى عليه من الصورة المنكرة الهائلة ، وعاينوا وخامة عاقبتها ، أو : جزاؤها ، فإن جزاء السيئة سيئة مثلها ، وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ أي : نزل بهم جزاء استهزائهم من العقاب العظيم ، وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْساكُمْ نترككم ترك المنسى ، كَما نَسِيتُمْ فى الدنيا لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا أي : كما تركتم الاستعداد له ، ولم تبالوا به. وإضافة اللقاء إلى اليوم إضافة المصدر إلى ظرفه ، أي : لقاء اللّه فى يومكم هذا ، أو لقاء جزائه ، وَمَأْواكُمُ النَّارُ أي : منزلكم ، وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ لا أحد يمنعكم أو يخلصكم منها.
ذلِكُمْ العذاب بِأَنَّكُمُ بسبب أنكم اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللَّهِ المنزّلة هُزُواً مهزوا بها ، ولم ترفعوا لها رأسا ، وَغَرَّتْكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وألهتكم زخارف الدنيا ، فحسبتم ألّا حياة بعدها ، فَالْيَوْمَ(5/320)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 321
لا يُخْرَجُونَ مِنْها
أي : من النّار ، والالتفات إلى الغيبة للإيذان بإسقاطهم عن رتبة الخطاب ، استهانة بهم. وقرأ الأخوان بالخطاب «1». وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ أي : لا يطلب منهم أن يعتبوا ربهم ، أي : يرضوه بعمل صالح لفوات إبانه ، وإن طلبوا الرّجوع لم يقبل منهم.
فَلِلَّهِ الْحَمْدُ خاصة ، رَبِّ السَّماواتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعالَمِينَ ، فلا يستحق الحمد أحد سواه ، أي :
فاحمدوا اللّه الذي هو ربكم ورب كلّ شىء ، فإن مثل هذه الرّبوبية العامة ، توجب الحمد والثناء على كلّ مربوب ، وتكرير الرّب للتأكيد والإيذان بأن ربوبيته تعالى لكلّ منهما بطريق الأصالة. وَلَهُ الْكِبْرِياءُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي : وكبّروه ، فقد ظهرت آثار كبريائه وعظمته فى السموات والأرض ، وإظهارهما فى موضع الإضمار لتفخيم شأن الكبرياء ، وَهُوَ الْعَزِيزُ الذي لا يغلب ، الْحَكِيمُ فى كلّ ما قضى وقدّر ، فاحمدوه وكبّروه ، وأطيعوه ، فصاحب هذه الصفات العظام مستحق لذلك.
الإشارة : وقيل اليوم ننساكم من شهود قربى ، كما نسيتم لقاء يومكم هذا ، فلو ذكرتمونى على الدوام لقربتكم على الدوام ، ولو ذكرتمونى على الانفراد لأشهدتكم ذاتى على التماد ، ولكنكم اتخذتم آيات اللّه الدالة على وجودى من الكائنات ، والدالة على شهودى من الأولياء ، هزوا ، وغرتكم الحياة الدنيا ، فاليوم لا يخرجون من غم الحجاب ، ولا يمنعون من انسداله ، ولا هم يرضون ربهم ، فيرضى عنهم ، فللّه الحمد على غناه عن الكل ، وله الكبرياء فى السموات والأرض ، أي : رداء الكبرياء منشور على أسرار ذاته فى السموات والأرض ، وهو ما ظهر من حسها ، كما هو منشور على وجهه فى جنة عدن ، كما فى الحديث.
وقال الورتجبي : نفى الحق الكبرياء عن الحدثان لأنه هو المستحق للكبرياء ، وكبرياؤه ظاهر فى كلّ ذرة ، من العرش إلى الثرى ، إذ هى كلها مستغرقة مقهورة فى أنوار كبريائه ، يعز بعزه الأولياء ، ويقهر بقهره الأعداء ، حكيم فى إبداع الخلق وإلزامهم عبوديته ، التي هى شرائعه المحكمة بحكمه ، وقال سهل رضي اللّه عنه : وله الكبرياء : العلو والقدرة والعظمة ، والحول والقوة فى جميع الملك ، فمن اعتصم به أيّده بحوله وقوته ، ومن اعتمد على نفسه وكله اللّه إليها. ه. وباللّه التوفيق ، وصلّى اللّه على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
___________
(1) قرأ حمزة والكسائي : «لا تخرجون» بفتح الياء وضم الرّاء. وقرأ الآخرون بضم الياء وفتح الرّاء. انظر الإتحاف (2/ 468).(5/321)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 322(5/322)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 323
سورة الأحقاف
مكية : وقيل : إلا قوله : قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ «1» الآية ، وقوله : فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ «2». وهى خمس وثلاثون آية. ومناسبتها لما قبلها : قوله : ذلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللَّهِ هُزُواً «3» أي : حيث قلتم : إن محمدا اختلقها ، مع قوله : تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ ، فهى رد عليهم.
[سورة الأحقاف (46) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ (3)
يقول الحق جل جلاله : حم يا محمد ، أو : الوحى إلى محمد ، تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ أي :
هذا تنزيل القرآن ، وهو من اللّه الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ، فمن حفظه ، وعرف ما فيه ، وعمل بمضمنه كان عزيزا على اللّه ، حكيما فيما يبدئ ويعيد. ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما من المخلوقات إِلَّا بِالْحَقِّ أي :
إلا ملتبسا بالحق الذي تقتضيه الحكمة التكوينية والتشريعية ، فالاستثناء مفرغ من أعم المفاعيل ، أو من أعم الأحوال ، أي : ما خلقناهما فى حال من الأحوال إلا حال ملابستنا بالحق ، وفيه من الدلالة على وجود الصانع ، وصفات كماله ، وابتناء أفعاله على حكمة بالغة ، ما لا يخفى ، وَأَجَلٍ مُسَمًّى تنتهى إليه ، وهو يوم القيامة ، يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات. وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا به من هول ذلك اليوم ، الذي لا بد لكل مخلوق من الانتهاء إليه ، مُعْرِضُونَ لا يؤمنون به ، ولا يهتمون بالاستعداد له ، ويجوز أن تكون «ما» مصدرية ، أي : عن إنذارهم ذلك اليوم معرضون.
وحاصل افتتاح السورة : أنّ الوحى الخاص إلى محمد هو منزل من اللّه العزيز ، الذي عزّ عن الافتراء عليه ، وأعزّ بالوحى من تمسك به ، الحكيم فى تنزيله وحيه ، مرشدا لعباده لما فيه صلاحهم وهداهم ، ومن حكمته : أنّ
___________
(1) الآية 10 من السورة.
(2) الآية الأخيرة.
(3) من الآية 35 من سورة الجاثية.(5/323)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 324
خلق السموات والأرض دالا بذلك على توحيده ، وكماله فى أوصافه وتدابيره ، المقتضية لترتب دار الجزاء على دار العمل ، بحيث لا يسوّى بين مبطل ومحق ، فأرشد بخلق الأشياء إلى حكمته دلالة ، ثم بإنزال الوحى بذلك قالة ، ومع وضوح الأمر فى دلالتهما أعرض الذين كفروا من غير دليل عقلى ولا نقلى متواتر ولا آحاد ، على أنّ ما اقتضاه الوحى إلى محمد من التوحيد ، والجزاء المرتب على الإخلاص له ، والصدق فى عبودية اللّه ، والدعاء إلى محاسن الأخلاق ، مما اجتمعت عليه الرّسل قبله ، فليس بمبدع من عنده. ه. من الحاشية.
الإشارة : حم يا حبيب ممجد ، قد مجدناك بإنزال كتابتا ، وعززناك برسالتنا ، ما خلقنا الكائنات إلا ملتبسة بأسرار الحق ، وأهل الغفلة معرضون عن هذا.
قال القشيري : حميت قلوب أهل عنايتى ، فصرفت عنها خواطر التجويز ، ورميتها فى مشاهد اليقين بنور التحقيق ، فيها شواهد برهانهم ، أي : برهان العيان - فأضفنا إليها لطائف إحساننا ، فكملت منالها من عين الوصلة.
وغديناهم بنسيم الأنس فى ساحات القربة. (العزيز) المعز للمؤمنين بإنزال الكتب ، (الحكيم) لكتابه عن التبديل والتحويل. ه. وخواطر التجويز هى خواطر الشك فى المقدور ، يجوز الوقوع وعدمه بسبب ضعف اليقين ، فإذا انتفى عن القلب خواطر التجويز ، دخله السكون والطمأنية ، وارتاح فى ظل برد الرّضا والتسليم. واللّه تعالى أعلم.
ثم وبّخهم على الشرك بعد ظهور بطلانه ، فقال :
[سورة الأحقاف (46) : الآيات 4 الى 6]
قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (4) وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ (5) وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ (6)
يقول الحق جل جلاله : قُلْ يا محمد ، توبيخا وتبكيتا لهم : أَرَأَيْتُمْ أخبرونى ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ، ما تعبدون من الأصنام من دون اللّه ، أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أىّ شىء خلقوا فى الأرض إن كانوا آلهة؟ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ أي : أم لهم شركة مع اللّه فى خلق السموات ، حتى يتوهم(5/324)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 325
أن تكون لهم شائبة استحقاق للعبادة؟ فإنّ من لا مدخل له فى شىء من الأشياء ، بوجه من الوجوه ، بمعزل من ذلك الاستحقاق بأسره ، وإن كان من الأحياء العقلاء ، فما ظنك بالجماد؟ ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا أي : من قبل القرآن ، يعنى : أن هذا الكتاب ناطق بالتوحيد ، وإبطال الشرك ، وما من كتاب أنزل من قبله من كتب اللّه إلا وهو ناطق بمثل ذلك ، فأتوا بكتاب واحد منزل من قبله ، شاهد بصحة ما أنتم عليه من عبادة غير اللّه ، أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ أو بقية من علم بقيت عندكم من علوم الأقدمين ، شاهدة باستحقاق الأصنام للعبادة ، إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ فى أن اللّه أمركم بعبادة الأوثان ، فإن الدعوى لا تصح ما لم يقم عليها برهان عقلى ، ولا سلطان نقلى ، وحيث لم يقم عليها شىء ، بل قامت على خلافها أدلة العقل والنّقل تبين بطلانها.
وَمَنْ أَضَلُّ أي : لا أحد أشد ضلالا مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ، غاية لنفى الإجابة ، وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ ، لأنهم جمادات لا يسمعون.
وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ عند قيام الساعة كانُوا لَهُمْ أَعْداءً أي : الأصنام لعبدتها ، وَكانُوا أي :
الأصنام بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ ، جاحدين ، يقولون : ما دعوناهم إلى عبادتنا ، والحاصل : أنهم فى الدنيا لا ينفعونهم ، وفى الآخرة يتبرءون منهم ، ويكونون عليهم ضدا ، ولمّا أسند إليهم ما يسند إلى العقلاء من الاستجابة والغفلة عبّر عنهم ب «من» و«هم» ، ووصفهم بترك الاستجابة تهكما بها وبعبدتها. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : يقال لأهل الغفلة : أرأيتم ما تركنون إليه من الخلق ، هل لهم قوة على نفعكم أو ضركم؟ أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ ... الآية. فلا أحد أضل ممن يرجو الضعيف مثله ، الذي لا يستجيب له إلى يوم القيامة ، وهو غافل عن إجابته فى الحال والمآل ، وإذا أحبه على هوى الدنيا صارت يوم القيامة عدواة ومقتا.
ثم ذكر كفرهم بالتنزيل المتقدم ، فقال :
[سورة الأحقاف (46) : الآيات 7 الى 8]
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (8)(5/325)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 326
يقول الحق جل جلاله : وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ ، واضحات ، أو : مبينات ، جمع بيّنة ، وهى الحجة والشاهد ، قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ أي : لأجله وفى شأنه ، والمراد بالحق : الآيات المتلوة ، وبالذين كفروا :
المتلوّ عليهم ، فوضع الظاهر موضع الضمير للتسجيل عليهم بالكفر والمتلو بالحق ، والأصل : قالوا فى شأن الآيات ، التي هى حق لَمَّا جاءَهُمْ أي : بادهوا الحق بالجحود ساعة أتاهم ، وأول ما سمعوه ، من غير إجالة فكر ولا إعادة نظر : هذا سِحْرٌ مُبِينٌ ظاهر كونه سحر.
أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ ، إضراب وانتقال من حكاية شناعتهم السابقة - وهى تسميتهم الآيات سحرا ، إلى حكاية ما هو أشنع منها ، وهو كون الرّسول صلّى اللّه عليه وسلم افْتَراهُ أي : اختلقه ، وأضافه إلى اللّه كذبا ، والضمير للحق ، والمراد به الآيات. قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أي : إن افتريته على سبيل الفرض لعاجلنى اللّه بعقوبة الافتراء ، فلا تقدرون على كفه عن معاجلتى ، ولا تملكون لى شيئا من دفعه ، فكيف أفتريه وأتعرض لعقابه الذي لا مناص منه؟! هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ من القدح فى وحي اللّه - تعالى - والطعن فى آياته ، وتسميته سحرا تارة وفرية أخرى. كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ حيث يشهد لى بالصدق والبلاغ ، وعليكم بالكذب والجحود ، وهو وعيد بجزاء إفاضتهم ، وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ لمن تاب وآمن ، وهو وعد لمن آمن بالمغفرة والرّحمة ، وترغيب فى الإسلام.
الإشارة : رمى أهل الخصوصية بالسحر عادة مستمرة ، وسنّة ماضية ، ولقد سمعنا هذا فينا وفى أشياخنا مرارا ، فيقول أهل الخصوصية : إن افترينا على اللّه كذبا عاجلنا بالعقوبة ، فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً ... الآية.
ثم أمر نبيه بالجواب عما رموه به ، فقال :
[سورة الأحقاف (46) : الآيات 9 الى 10]
قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ وَما أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (9) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10)
يقول الحق جل جلاله : قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً أي : بديعا ، كخف وخفيف ، ونصب ونصيب ، فالبدع والبديع من الأشياء : ما لم يتقدم مثله ، أي : لست بأول مرسل فتنكر نبوتى ، بل تقدمت الرّسل قبلى ، واقترحت عليهم المعجزات ، فلم يقدروا على الإتيان بشىء إلا ما أظهره اللّه على أيديهم ، فى الوقت الذي يريد. قيل : كانت(5/326)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 327
قريش تقترح على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم آيات تظهر لهم ، ويسألونه عن الغيبيات ، عنادا ومكابرة ، فأمر صلّى اللّه عليه وسلم بأن يقول لهم : ما كنت بدعا من الرّسل ، قادرا على ما لم يقدروا عليه ، حتى آتيكم بكلّ ما تقترحونه ، وأخبركم بكلّ ما تسألون عنه من الغيوب ، فإنّ من قبلى من الرّسل - عليهم السّلام - ما كانوا يأتون إلا بما آتاهم اللّه - تعالى - من الآيات ، ولا يخبرون إلا بما أوحى إليهم ، وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ أي : لا أدرى ما يصيبنا فيما يستقبل من الزمان من أفعاله تعالى ، وما ذا يبرز لنا من قضاياه. وعن الحسن : ما أدرى ما يصير إليه أمرى وأمركم فى الدنيا.
وعن ابن عباس رضي اللّه عنه : ما يفعل بي ولا بكم فى الآخرة.
وقال : إنه منسوخ بقوله : لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ. «1» قال شيخ شيوخنا الفاسى : وهو بعيد ، ولا يصح النّسخ لأنه لا يكون فى الأخبار ، ولأنه لم يزل يعلم أن المؤمن فى الجنة ، والكافر فى النّار ، من أول ما بعثه اللّه ، لكن محمل قول ابن عباس وغيره على أنه لم تكشف له الخاتمة ، فقال : لا أدرى ، وأما من وافى على الإيمان ، فقد أعلم بنجاته من أول الرّسالة ، وإلا فكان للكفار أن يقولوا : وكيف تدعونا إلى ما لا تدرى له عاقبة؟ قاله ابن عطية. ه. وقال أبو السعود : والأوفق بما ذكر من سبب النّزول : أن «ما» عبارة عما علمه ليس من وظائف النبوة ، من الحوادث الواقعات الدنيوية ، دون ما سيقع فى الآخرة ، فإنّ العلم بذلك من وظائف النّبوة ، وقد ورد به الوحى ، الناطق بتفاصيل الفعل بالجانبين. هذا ، وقد روى عن الكلبي : «أن أصحاب النّبى صلّى اللّه عليه وسلم قالو له صلّى اللّه عليه وسلم وقد ضجروا من إذاية المشركين : متى نكون على هذا؟ فقال : ما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ أأترك بمكة أو أومر بالخروج إلى أرض ذات نخيل وشجر ، قد رفعت إلىّ ورأيتها. ه. «2». وسيأتى فى الإشارة تحقيق المسألة - إن شاء اللّه تعالى.
ثم قال : إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ أي : ما أفعل إلا الاتباع ، على معنى : قصر أفعاله صلّى اللّه عليه وسلم على اتباع الوحى ، لا قصر اتباعه على الوحى ، كما هو المتبادر ، وهو جواب عن اقتراحهم الإخبار بالغيوب ، أو عن استعجال المسلمين أن يتخلصوا من إذاية المشركين ، والأول هو الأوفق بقوله : وَما أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ أنذركم عقاب اللّه - تعالى - حسبما يوحى إلىّ من الإنذار بالمعجزات الباهرة.
___________
(1) الآية الثانية من سورة الفتح.
(2) ذكر الواحدي فى أسباب النّزول (ص 395) عن الكلبي ، عن أبى صالح ، عن سيدنا ابن عباس : لمّا اشتد البلاء بأصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ، رأى فى المنام أنه يهاجر إلى أرض ذات نخل وشجر وماء ، فقصّها على أصحابه ، فاستبشروا بذلك ، ورأوا فيها فرجا مما هم فيه من أذى المشركين ، ثم إنهم مكثوا برهة لا يرون ذلك ، فقالوا : يا رسول اللّه! متى نهاجر إلى الأرض التي رأيت؟ فسكت النبي صلّى اللّه عليه وسلم فأنزل اللّه تعالى : وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ.
ومعلوم أن الكلبي لم يسمع من أبى صالح ، وأبا صالح لم يسمع ابن عباس رضي اللّه عنه. [.....](5/327)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 328
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ ما يوحى إلىّ من القرآن مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لا بسحر ولا مفترى ، كما تزعمون وَقد كَفَرْتُمْ بِهِ ، وَشَهِدَ شاهِدٌ عظيم مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ الواقفين على شئون اللّه وأسرار الوحى ، بما أتوا من التوراة. والشاهد : عبد اللّه بن سلام ، عند الجمهور ، ولهذا قيل : إن الآية مدنية ، لأن إسلام «عبد اللّه بن سلام» بالمدينة. قلت : لمّا علم اللّه ما يكون من ابن سلام من الإسلام أخبر به قبل وقوعه ، وجعل شهادته المستقبلة كالواقعة ، فالآية مكية.
وقوله : عَلى مِثْلِهِ أي : مثل القرآن من المعاني المنطوية فى التوراة ، المطابقة لما فى القرآن من الوعد والوعيد وغير ذلك ، فإنّ ما فيه عين ما فيها فى الحقيقة ، كايعرب عنه قوله تعالى : وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ «1» والمثلية باعتبار كونه من عند اللّه. وقيل : المثل : صلة.
فَآمَنَ ذلك الشاهد لمّا تحقق برسالته. روى أنه لما قدم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم نظر إلى وجهه ، فعلم أنه ليس بوجه كذاب ، وقال له : إنى سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبىّ : ما أول أشراط الساعة؟ وما أول طعام يأكله أهل الجنة؟ وما بال الولد ينزع إلى أبيه أو إلى أمه؟ فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم : «أما أول أشراط الساعة فنار تحشر النّاس من المشرق إلى المغرب ، وأول طعام يأكله أهل الجنة فزيادة كبد الحوت ، وأما الولد فإذا سبق ماء الرّجل نزعه ، وإن سبق ماء المرأة نزعته ، فقال : أشهد أنك رسول اللّه حقا ، فأسلم «2».
وَاسْتَكْبَرْتُمْ عن الإيمان به ، وجواب الشرط محذوف ، والمعنى : أخبرونى إن كان من عند اللّه ، وشهد بذلك أعلم بنى إسرائيل ، فآمن به من غير تلعثم ، واستكبرتم عن الإيمان به بعد هذه البينة ، فمن أضل منكم؟ بدليل قوله تعالى : أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ ... الآية «3» أو : إن كان القرآن من عند اللّه وكفرتم به ألستم ظالمين؟ ويدل عليه قوله : إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ، والتقديران صحيحان ، لأن عدم الهداية مستلزم الضلال ، ووصفهم بالظلم للإشعار بعلة الحكم ، فإن تركه - تعالى - لهدايتهم إنما هو لظلمهم. وقال الواحدي :
معنى : إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ : إن اللّه جعل جزاء المعاندين للإيمان بعد الوضوح والبيان أن يمدهم فى ضلالتهم ، ويحرمهم الهداية. ه.
___________
(1) الآية 196 من سورة الشعراء
(2) أخرجه البخاري فى (تفسير سورة البقرة ، باب من كان عدوا لجبريل ح 4480) مطولا ، عن أنس رضي اللّه عنه ، وكذا أخرجه أحمد فى المسند (3/ 108) والبيهقي فى الدلائل (2/ 528 - 529).
(3) الآية 52 من سورة فصلت(5/328)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 329
الإشارة : قل ما كنت بدعا من الرّسل ، وكذلك الولىّ يقول : ما كنت بدعا من الأولياء ، مع العصمة والحفظ وصريح الوعد بالنجاة ، لا تساع معرفتهم وعلمهم باللّه لأنهم لا يقفون مع وعد ولا وعيد لأن غيب المشيئة لا يعلم حقيقته إلا اللّه ، وقد يكون الوعد معلقا بشروط أخفاها اللّه عنهم ، ليتحقق اختصاصه بحقيقة العلم ، وفى الحديث : «لا تأمن مكرى وإن أمّنتك» ، ولذلك كان العارف لا يزول اضطراره ، ولا يكون مع غير اللّه قراره ، وعلى ذلك الششترى فى نونيته ، حيث قال :
وأي وصال فى القضيّة يدّعى وأكمل من الخلق لم يدّع الأمنا؟
هذا ، وقد قال تعالى فى حق رسوله صلّى اللّه عليه وسلم : وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى «1» وقال : لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ «2» ، ومع ذلك كله لم يقف مع ظاهر الوعد ، لغيب المشيئة ، فقال فى حديث ابن مظعون : «واللّه لا أدرى - وأنا رسول - ما يفعل بي» وحديث ابن مظعون بالمدينة بعد الهجرة «3» ، فتبيّن أنّ الأمن الحقيقي لا يحصل لأحد قبل الختام ، وإن كان الغالب والطرف الرّاجح أن من وعد بخير أو بشّر به ينجز له بفضل اللّه وكرمه ، والكريم إذا وعد لا يخلف ، لكن المشيئة وقهرية الرّبوبية لا تزال فوق رأس العبد حتى يلقاه. واللّه تعالى أعلم.
قال القشيري : وفى الآية دليل على فساد قول أهل البدع ، حيث لم يجوزوا إيلام البريء عقلا لأنه لو لم يجز ذلك لكان يقول : أعلم قطعا أنى معصوم ، فلا محالة يغفر لى ، ولكنه قال هذا ليعلم أن الأمر أمره ، والحكم حكمه ، له أن يفعل بعباده ما يريد. ه.
وقال الورتجبي : لا أدرى أين استغرق فى بحار وصال جماله الأبدى ، وهناك لججات تغيب فى ذرة منها جميع الأرواح العاشقة ، والأسرار الوالهة ، والقلوب الحائرة. ه. والحاصل : أنه لا يدرى نهاية مناله من اللّه ، لنفى الغاية فى حقه تعالى والنّهاية ، وهو صريح استبعاد الششترى دعوى الوصال ، واللّه أعلم. ه من الحاشية.
___________
(1) الآيتان : 4 - 5 سورة الضحى
(2) الآية الثانية من سورة الفتح.
(3) حديث عثمان بن مظعون - رضي اللّه عنه - أخرجه البخاري فى (الجنائز ، باب الدخول على الميت بعد الموت إذا أدرج فى أكفانه ، ح 1243) ولفظه : عن خارجة بن زيد بن ثابت : أن أم العلاء - امرأة من الأنصار ، بايعت النّبى صلّى اللّه عليه وسلم - أخبرته أنه اقتسم المهاجرون قرعة فطار لنا عثمان بن مظعون فأنزلناه فى أبياتنا ، فوجع وجعه الذي توفى فيه ، فلما توفى وغسّل ، وكفن فى أثوابه ، دخل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ، فقلت : رحمة اللّه عليك أبا السائب ، فشهادتى عليك لقد أكرمك اللّه ، فقال النّبى صلّى اللّه عليه وسلم : «وما يدريك أن اللّه قد أكرمه؟» فقلت : بأبى أنت يا رسول اللّه ، فمن يكرمه اللّه؟ فقال : «أما هو فقد جاءه اليقين ، واللّه إنى لأرجو له الخير ، واللّه ما أدرى ، وأنا رسول اللّه ، ما يفعل بي ، فو اللّه لا أزكى أحدا بعده أبدا.(5/329)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 330
ثم حكى مقالة أخرى للكفار من مقالاتهم الباطلة ، فقال :
[سورة الأحقاف (46) : الآيات 11 الى 12]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ (11) وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً وَهذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ لِساناً عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ (12)
يقول الحق جل جلاله : وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أي : لأجلهم ، وهو كلام كفار مكة ، قالوا : إنّ عامة من يتبع محمد السّقاط ، يعنون الفقراء ، كعمار وصهيب وبلال وابن مسعود - رضي اللّه عنهم - قالوا : لَوْ كانَ ما جاء به محمد من القرآن والدين خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ ، فإن معالى الأمور لا تنالها أيدى الأراذل ، فإنّ عامتهم فقراء وموال ورعاة ، قالوه زعما منهم أن الرّئاسة الدينية مما تنال بأسباب دنيوية ، كما قالوا : لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ «1» ، وضلّ عنهم أنها منوطة بكمالات نفسانية ، وملكات روحانية ، مبناها : الإعراض عن زخارف الدنيا ، والإقبال على اللّه بالكلية ، وأنّ من فاز بها حازها بحذافيرها ، ومن حرمها فما له عند اللّه من خلاق. والحاصل : أن هذه المقالة سببها الرّضا عن النّفس ، وهو أصل كلّ معصية وغفلة. ثم قال تعالى : وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ ، العامل فى الظرف محذوف لدلالة الكلام عليه ، أي : وإذ لم يهتدوا به ظهر عنادهم ، وقالوا ما قالوا. فَسَيَقُولُونَ غير مكتفين بنفي خيريته : هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ أي : كذب متقادم ، كقوله : أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ «2».
وقال القشيري : إنه تكذيب للرسل فيما بيّن لهم ، فيما أنزل عليهم من بعثة محمد رسولا ، يعنى : فيكون كقوله تعالى : إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ «3». وقيل لابن عباس : أين نجد فى القرآن «من كره شيئا عاداه» ، فقرأ هذه الآية : وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا .. إلخ.
وَمِنْ قَبْلِهِ أي : من قبل القرآن كِتابُ مُوسى أي : التوراة ، فكتاب : مبتدأ ، و«من قبله» : خبر ، والاستقرار هو العامل فى قوله : إِماماً وَرَحْمَةً على أنهما حالان من الكتاب ، أي : قدوة يؤتم به فى دين اللّه
___________
(1) من الآية 31 من سورة الزخرف.
(2) من الآية 25 من سورة الأنعام.
(3) من الآية 48 من سورة القصص ، وكذا من الآية 30 من سورة الزخرف.(5/330)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 331
وشرائعه ، ورحمة من اللّه - تعالى - لمن آمن به. وَهذا القرآن ، الذي يقولون فى حقه ما يقولون ، هو كِتابُ عظيم الشأن مُصَدِّقٌ لكتاب موسى ، الذي هو إماما ورحمة ، أو : لما بين يديه من جميع الكتب الإلهية. قال ابن عرفة : وجه مناسبتها لما قبلها : أنه لما تضمن قوله : فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ تقبيحهم إياه بأنه إما كذب فى نفسه ، أو شبيه بما قبله من الأكاذيب والافتراءات ، عقبه ببيان أنه إما صدق فى نفسه ، أو شبيه بما قبله من الكتب الصادقة. ه.
حال كون الكتاب لِساناً عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا : متعلق بمصدّق ، أو بأنزل ، محذوفا ، وفيه ضمير الكتاب ، أو : اللّه - تعالى ، أو : الرسول صلّى اللّه عليه وسلم ، ويؤيده : قراءة الخطاب «1» ، وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ فى حيز النّصب ، عطف على محل «لينذر» لأنه مفعول له ، أي : للإنذار والبشرى ، أو : وهو بشرى للمحسنين ، للمؤمنين المطيعين.
الإشارة : قال فى الحكم : «أصل كلّ معصية وغفلة وشهوة : الرضا عن النّفس ، وأصل كلّ طاعة ويقظة وعفة :
عدم الرّضا منك عنها ، ولأن تصحب جاهلا لا يرضى عن نفسه ، خير من أن تصحب عالما يرضى عن نفسه ، فأىّ علم لعالم يرضى عن نفسه؟ وأىّ جهل لجاهل لا يرضى عن نفسه؟» «2» ، وعلامة الرّضا عن النّفس : تغطية مساوئها ، وإظهار محاسنها ، كما قال الشاعر :
وعين الرّضا عن كلّ عيب كليلة ولكن عين السخط تبدى المساويا
وإذا نقصها له أحد انتقم منه وغضب ، وإذا مدحها له فرح واستبشر ، ويرى أنه أهل لكلّ خير ، وأولى من غيره ، فيقول إذا رأى من حاز خيرا أو رئاسة ، كما قال الكفار : لو كان خيرا ما سبقونا إليه ، وعلامة عدم الرّضا عنها : إظهار مساوئها ، واتهامها فى كلّ حال.
وقال أبو حفص الحداد : من لم يتهم نفسه على دوام الأوقات ، ولم يخالفها فى جميع الأحوال ، ولم يجرها إلى مكروهها فى سائر أيامه ، كان مغرورا ، ومن نظر إلى نفسه باستحسان شىء منها فقد أهلكها ، وكيف يصح لعاقل الرضا عن نفسه؟! والكريم ابن الكريم ابن الكريم يقول : وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي «3» ه.
___________
(1) قرأ «لتنذر» بالخطاب ، نافع ، وابن عامر ، وأبو جعفر بخلفه ، ويعقوب ، وقرأ الباقون بالغيب. انظر الإتحاف (2/ 469 - 470).
(2) حكمة رقم/ 35 ، انظر تبويب الحكم ص/ 17.
(3) من الآية 35 من سورة يوسف.(5/331)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 332
فإذا لم يرض عن نفسه ، وهذبها ، استقامت أحواله ، وكان من المحسنين ، الذين قال اللّه - تعالى - فى شأنهم :
[سورة الأحقاف (46) : الآيات 13 الى 14]
إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (13) أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (14)
يقول الحق جل جلاله : إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا أي : جمعوا بين التوحيد ، الذي هو خاصة العلم ، والاستقامة فى الظاهر ، التي هى منتهى العمل ، فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ من لحوق مكروه ، وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ على فوات مرغوب ، و«ثم» للدلالة على تراخى رتبة العمل ، وتوقف الاعتداد به على التوحيد. ودخلت الفاء لتضمن الموصول معنى الشرط ، والتعبير بالمضارع للدلالة على دوام نفى الحزن عنهم ، أُولئِكَ الموصوفون بما ذكر من الاسمين الجليلين ، أَصْحابُ الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها : حال من أصحاب الجنة ، والعامل :
معنى الإشارة ، جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ من الأعمال الصالحة ، و«جزاء» مصدر لمحذوف ، أي : جوزوا جزاء ، أو بمعنى ما تقدم ، فإن قوله : أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ فى معنى : جزيناهم.
الإشارة : مضى تفسير الاستقامة ، وأنّ من درج على الإيمان والاستقامة حظى بكلّ كرامة ، ووصل إلى جزيل السلامة ، وقيل : السين فى الاستقامة سين الطلب ، وأنّ المستقيم يتوسل إلى اللّه - تعالى - فى أن يقيمه على الحق ، ويثبته على الصدق. ه.
قال الورتجبي : ما قال القوم هذا القول - أي : «ربنا اللّه» - حتى شاهدوه بقلوبهم ، وعقولهم ، وأرواحهم ، وأسرارهم ، مشاهدة الحق سبحانه ، فإذا رأوه يقولون : هذا الهلال ، وصاحوا ، وضحكوا ، فهذا القول منهم بعد كشف مشاهده الحق لهم ، فلما رأوه أحبوه وعرفوه ، وشربوا من بحار وصاله ، حتى تمكنوا ، فاستقاموا بقوتها فى موازاة رؤية أنوار الأزل والآباد ، واستقاموا فى مراد اللّه منهم ، وأداء حقوق عبوديته ، فلا يبقى عليهم خوف الحجاب ، ولا حزن العتاب ، قال اللّه تعالى : فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ. ه.
ثم وصّى بالربوبية الصغرى بعد الكبرى ، فقال : (5/332)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 333
[سورة الأحقاف (46) : الآيات 15 الى 16]
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (15) أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ (16)
يقول الحق جل جلاله : وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بأن يحسن بِوالِدَيْهِ حُسْناً»
وقرأ أهل الكوفة إِحْساناً وهما مصدران ، وقرىء : «حسنا» بفتح الحاء والسين ، أي : يفعل بهما فعلا حسنا ، أو : وصينا إيصاء حسنا ، حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً أي : حملته بكره ومشقة ، ووضعته كذلك ، وذكره للحث على الإحسان والبرور بها ، فإن الإحسان إليها أوجب ، وأحق من الأب. ونصبهما على الحال ، أي : حملته كارهة ، أو : ذات كره ، وفيه لغتان الفتح والضم ، وقيل : بالفتح مصدر ، وبالضم اسمه. وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ أي : ومدة حمله وفصاله ، وهو الفطام. وقرأ يعقوب : «وفصله» وهما لغتان كالفطم والفطام ، ثَلاثُونَ شَهْراً لأن فى هذه المدة عظّم مشقة التربية ، وفيه دليل على أن أقل مدة ستة أشهر لأنه إذ حط منه للفطام حولان ، لقوله تعالى : حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ «2» يبقى للحمل ستة ، قيل : ولعل تعيين أقل مدة الحمل ، وأكثر مدة الرّضاع لانضباطهما ، وارتباط النّسب والرّضاع بهما.
حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ أي : اكتهل ، واستحكم عقله وقوته ، وانتهت قامته وشبابه ، وهى ما بين ثمانى عشرة سنة إلى أربعين ، وقال زيد بن أسلم : الحلم ، وقال قتادة : ستة وثلاثون سنة ، وهو الرّاجح ، وقال الحسن : قيام الحجة عليه. وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً ، وهو نهاية الأشدّ ، وتمام العقل ، وكمال الاستواء.
قيل : لم يبعث نبىّ إلا بعد الأربعين ، قال ابن عطية : وإنما ذكر - تعالى - الأربعين ، لأنها حدّ الإنسان فى فلاحه ونجاته ، وفى الحديث. «إن الشيطان يمدّ يده على وجه من زاد على الأربعين ولم يتب ، فيقول : بأبى وجه لا يفلح» «3». ه. ومن حديث أنس قال صلّى اللّه عليه وسلم : «من بلغ أربعين سنة أمّنه اللّه من البلايا الثلاث الجنون والجذام
___________
(1) أثبت المفسر - رحمه اللّه - قراءة «حسنا» بضم الحاء وسكون السين ، بلا همز ولا ألف ، مفعولا به ، وهى قراءة ابن كثير ، ونافع ، وأبى عمرو ، وابن عامر. وقرأ عاصم وحمزة والكسائي وخلف «إحسانا» على أنها مصدر. انظر السبعة/ 596 والإتحاف 2/ 470.
(2) من الآية 233 من سورة البقرة. [.....]
(3) ذكره ابن عطية ، (13/ 348) وأبو حيان فى البحر المحيط (8/ 61) بلفظ : «ان الشيطان يجر يده ..». ولم أقف على هذا الحديث عند غيرهما.(5/333)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 334
والبرص ، فإذا بلغ الخمسين خفف اللّه عنه الحساب ، فإذا بلغ ستين سنة رزقه اللّه الإنابة كما يحب ، فإذا بلغ سبعين سنة غفر اللّه ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، وشفع فى أهل بيته ، وناداه مناد من السماء : هذا أسير اللّه فى أرضه».
وهذا فى العبد المقبل على اللّه. واللّه تعالى أعلم. وقرئ : «حتى إذا استوى وبلغ أشدّه».
قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أي : ألهمنى أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ من الهداية والتوحيد ، والاستقامة على الدين ، وَعَلى والِدَيَّ كذلك ، وجمع بين شكر النّعمة عليه وعلى والديه لأن النّعمة عليهما نعمة عليه ، وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ ، التنكير للتفخيم والتكثير ، قيل : هو الصلوات الخمس ، والعموم أحسن ، وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي أي : واجعل الصلاح ساريا فى ذريتى راسخا فيهم ، أو : اجعل ذريتى موقعا للصلاح دائما فيهم ، إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ من كلّ ذنب ، وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ الذين أخلصوا لك أنفسهم ، وانقادوا إليك بكليتهم. «1»
قال علىّ رضي اللّه عنه : نزلت فى أبى بكر - رضي اللّه عنه ، ولم تجتمع لأحد من أصحاب النّبى صلّى اللّه عليه وسلم من المهاجرين من أسلم أبواه غيره ، وأوصاه اللّه بهما. ه. فاجتمع لأبى بكر إسلام أبى قحافة وأمه «أم الخير» وأولاده ، عبد الرّحمن ، وابنه عتيق ، فاستجاب اللّه دعاءه فى نفسه وفى ذريته ، فإنه آمن بالنبي صلّى اللّه عليه وسلم وهو ابن ثمان وثلاثين سنة ، ودعا لهم وهو ابن أربعين سنة. قال ابن عباس : أعتق أبو بكر تسعة من المؤمنين ، منهم : بلال ، وعامر بن فهيرة ، ولم يرد شيئا من الخير إلا أعانه اللّه عليه. «2» ه.
قال ابن عطية : معنى الآية : هكذا ينبغى للإنسان أن يكون ، فهى وصية اللّه - تعالى - للإنسان فى كلّ الشرائع ، وقول من قال : إنها فى أبى بكر وأبويه ضعيف ، لأن هذه نزلت فى مكة بلا خلاف ، وأبو قحافة أسلم يوم الفتح. ه. قلت : كثيرا ما يقع فى التنزيل تنزيل المستقبل منزلة الماضي ، فيخبر عنه كأنه واقع ، ومنه : وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ «3» ووَ وَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ «4» ، وهذه الآية فى إسلام أبى قحافة.
واللّه تعالى أعلم.
أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا «5» من الطاعات ، فإن المباح لا يثاب عليه إلا بنية صالحة ، فإنه ينقلب حينئذ طاعة ، وضمّن «يتقبل» معنى يتجاوز ، فعدّاه بعن إذ لا عمل يستوجب القبول ، لو لا عفو
___________
(1) ذكره القرطبي (7/ 6201).
(2) انظر تفسير البغوي (7/ 258) وزاد المسير (7/ 378).
(3) الآية 10 من سورة الأحقاف.
(4) الآيتان 6 - 7 من سورة فصلت.
(5) قرأة حمزة والكسائي وحفص (نتقبل ، ونتجاوز) بالنون المفتوحة و«أحسن» بالنصب ، وقرأ الباقون (يتقبل - يتجاوز) بالياء المضمومة ، ورفع «أحسن» .. انظر الإتحاف (2/ 471).(5/334)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 335
اللّه وتجاوزه عن عامله ، إذ لا يخلو عمل من خلل أو نقص ، فإذا تجاوز الحق عن عبده قبله منه على نقصه ، فلو لا حلمه - تعالى - ورأفته ما كان عمل أهلا للقبول. وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ فيغفرها لهم ، فِي جملة أَصْحابِ الْجَنَّةِ ، كقولك : أكرمنى الأمير فى ناس من أصحابه ، أي : أكرمنى فى جملة من أكرمهم ، ونظمنى فى سلكهم ، ومحله : نصب على الحال ، أي : كائنين فى أصحاب الجنة ، ومعدودين فيهم ، وَعْدَ الصِّدْقِ أي :
وعدهم وعدا صدقا ، فهو مصدر مؤكد ، لأن قوله : نَتَقَبَّلُ ونَتَجاوَزُ وعد من اللّه - تعالى لهم بالتقبل والتجاوز ، الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ فى الدنيا على ألسنة الرّسل - عليهم السّلام.
الإشارة : لمّا كانت تربية الأبوين مظهرا لنعمة الإمداد بعد ظهور نعمة الإيجاد ، وصىّ اللّه - تعالى - بالإحسان إليهما ، وفى الحقيقة : ما ثمّ إلا تربية الحق ، ظهرت فى تجلى الوالدين ، قذف الرّأفة فى قلوبهما ، حتى قاما بتربية الولد ، فالإحسان إليها إحسان إلى اللّه - تعالى - فى الحقيقة. وقال الورتجبي : وصى الإنسان بالإحسان إلى أبويه ، لأنهما أسباب وجوده ، ومصادر أفعال الحق بدا منهما بدائع قدرته ، وأنوار ربوبيته ، فحرمتهما حرمة الأصل ، ومن صبر فى طاعتهما رزقه اللّه حسن المعاشرة على بساط حرمته وقربته.
قال بعضهم : أوصى اللّه العوام ببر الوالدين لما لهما عليه من نعمة التربية والحفظ ، فمن حفظ وصية اللّه فى الأبوين ، وفّقه بركة ذلك ، لحفظ حرمات اللّه ، وكذلك رعاية الأوامر والمحافظة عليها توصل بركتها بصاحبها إلى محل الرّضا والأنس. ه.
قال القشيري : وشر خصال الولد : التبرم بطول حياتهما ، والتأذى بما يجب من حقهما ، وعن قريب يموت الأصل ، وقد يبقى النّسل ، ولا بد أن يتبع الأصل. ه. أي : فيعق إن عق أصله ، ويبر إن بر ، وفى الحديث : «برّوا آباءكم تبرّكم أبناؤكم» «1». ثم قال : ولقد قالوا فى هذا المعنى وأنشدوا :
رويدك إنّ الدّهر فيه كفاية لتفريق ذات البين فارتقب الدّهرا «2». ه.
قلت : وقد تقدم أن حرمة الشيخ أوكد من حرمة الوالدين ، فيقدم أمره على أمرهما ، كما تقدم عن الجنيد فى سورة النّساء «3». واللّه تعالى أعلم.
___________
(1) رواه الطبراني فى الأوسط (ح/ 1002) من حديث ابن عمر رضي اللّه عنه. قال الهيثمي فى مجمع الزوائد (8/ 138) : ورجاله رجال الصحيح غير شيخ الطبراني.
(2) منسوب إلى أبى على الثقفي ، كما فى طبقات السلمى/ 364 وطبقات الشافعية الكبرى (3/ 195) ، ونسب إلى عبيد اللّه بن عبد اللّه طاهر ، فى زهر الآداب (2/ 604) وأمالى المرتضى (1/ 119).
(3) راجع إشارة الآية 36 من سورة النّساء.(5/335)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 336
ثم ذكر وبال عقوقهما ، فقال :
[سورة الأحقاف (46) : الآيات 17 الى 19]
وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُما يَسْتَغِيثانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ ما هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (17) أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ (18) وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (19)
قلت : وَالَّذِي قالَ : مبتدأ ، وخبره : أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ ، والمراد ب «الذي قال» الجنس ، ولذلك جمع الخبر.
يقول الحق جل جلاله : وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ عند دعوتهما إلى الإيمان : أُفٍّ لَكُما ، وهو صوت يصدر عن المرء عند تضجره وقنطه ، واللام لبيان المؤفف ، كما فى «هيت لك» وفيه أربعون لغة ، مبسوطة فى محلها ، أي : هذا التأفيف لكما خاصة ، أو لأجلكما دون غيركما.
وعن الحسن : نزلت فى الكافر العاقّ لوالديه ، المكذّب بالبعث ، وقيل : نزلت فى عبد الرّحمن بن أبى بكر رضي اللّه عنه ، قبل إسلامه. وأنكرت عائشة - رضي اللّه عنها - ذلك ، وقالت : واللّه ما نزال فى آل أبى بكر شيئا من القرآن ، سوى براءتي «1» ، ويبطل ذلك «2» قطعا : قوله تعالى : أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ ، لأنّ عبد الرّحمن بن أبى بكر أسلم ، وكان من فضلاء الصحابة ، وحضر فتوح الشام ، وكان له هناك غناء عظيم ، وكان يسرد الصيام. قال السدى :
ما رأيت أعبد منه. ه. وقال ابن عباس : نزلت فى ابن لأبى بكر ، ولم يسمه ، ويرده ما تقدم عن عائشة ، ويدل على العموم : قوله تعالى : أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ ، ولو أراد واحدا لقال : حق عليه القول.
ثم قال لهما : أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ أي : أبعث وأخرج من الأرض ، وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي ولم يبعث أحد منهم ، وَهُما يَسْتَغِيثانِ اللَّهَ ، يسألانه أن يغيثه ويوفقه للإيمان ، أو يقولان : الغياث باللّه منك ، ومن قولك ، وهو استعظام لقوله ، ويقولان له : وَيْلَكَ دعاء عليه بالثبور والهلاك ، والمراد به : الحث والتحريض
___________
(1) أخرجه بنحوه البخاري فى (التفسير - سورة الأحقاف ، باب وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما .. ح 4827).
(2) أي : القول بأن الآية نزلت فى سيدنا عبد الرّحمن بن أبى بكر رضي اللّه عنه.(5/336)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 337
على الإيمان ، لا حقيقة الهلاك ، آمِنْ باللّه وبالبعث إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ بالبعث والحساب حَقٌّ لا مرية فيه ، وأضاف الوعد إليه - تعالى - تحقيقا للحق ، وتنبيها على خطئه ، فَيَقُولُ مكذّبا لهما : ما هذا الذي تسميانه وعد اللّه إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ ، أباطيلهم التي سطروها فى كتبهم ، من غير أن يكون له حقيقة.
أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ ، وهو قوله تعالى لإبليس : لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ «1» كما يبنئ عنه قوله تعالى - : فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أي : فى جملة أمم قد مضت ، إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ حيث ضيّعوا فطرتهم الأصلية ، الجارية مجرى رؤوس أموالهم ، باتباعهم الشيطان ، وتقليدا بآبائهم الضالين.
وَلِكُلٍّ من الفريقين المذكورين ، الأبرار والفجار ، دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا أي : منازل ومراتب من جزاء ما عملوا من الخير والشر ، ويقال فى جانب الجنة : درجات ، وفى جانب النّار : دركات ، فغلب هنا جانب الخير.
قال الطيبي : ولكلّ من الجنسين المذكورين درجات ، والظاهر أن أحد الجنسين ما دلّ عليه قوله : إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا «2» ، والآخر قوله : وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما ، ثم غلب الدرجات على الدركات ، لأنه لمّا ذكر الفريق الأول ، ووصفهم بثبات فى القول ، واستقامة فى الفعل ، وعقّب ذلك بذكر فريق الكافرين ، ووصفهم بعقوق الوالدين ، وبإنكارهم البعث ، وجعل العقوق أصلا فى الاعتبار ، وكرر فى القسم الأول الجزاء ، وهو ذكر الجنة مرارا ثلاثا ، وأفرد ذكر النّار ، وأخّره ، وذكر ما يجمعهما ، وهو قوله : وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ غلّب الدرجات على الدركات لذلك ، وفيه ألا شىء أعظم من التوحيد والثبات عليه ، وبر الوالدين والإحسان إليهما ، ولا شىء أفحش من عقوق الوالدين ، وإنكار الحشر ، وفى إيقاع إنكار الحشر مقابلا لإثبات التوحيد الدلالة على أن المنكر معطل مبطل لحكمة اللّه فى إيجاد العالم. ه.
وَلِيُوَفِّيَهُمْ «3» أَعْمالَهُمْ ، وقرأ المكي والبصري بالغيب ، أي : وليوفيهم اللّه جزاء أعمالهم ، وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ بنقص ثواب الأولين ، وزيادة عقاب الآخرين ، واللام متعلقة بمحذوف ، أي : وليوفيهم أعمالهم ، ولا يظلمهم حقوقهم ، فعل ما فعل من ترتيب الدرجات أو الدركات.
___________
(1) الآية 18 من سورة الأعراف.
(2) الآية 13 من السورة نفسها.
(3) أثبت المفسر - رحمه اللّه - قراءة «ولنوفيهم» بنون العظمة ، وهى قراءة نافع ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائي ، وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وعاصم : «وليوفيهم» بالياء. انظر : السبعة لابن مجاهد/ 598. [.....](5/337)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 338
الإشارة : عقوق الأساتيذ «1» أقبح من عقوق الوالدين ، كما أن برهما أوكد لأن الشيخ أخرجك من ظلمة الجهل إلى نور المعرفة باللّه ، والوالدان أخرجاك إلى دار التعب ، معرض لأمرين ، إما السلامة أو العطب ، والمراد بالشيخ هنا شيخ التربية ، لا شيخ التعليم ، فلا يقدّم حقه على حق الوالدين ، هذا ومن يسّر اللّه عليه الجمع بين بر الوالدين والشيخ فهو كمال الكمال. وباللّه التوفيق.
ثم ذكر جزاء العاقّ المنكر للبعث ، فقال.
[سورة الأحقاف (46) : آية 20]
وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (20)
قلت : «ويوم» : منصوب بقول مقدّر قبل «أذهبتم» أي : يقال لهم : أذهبتم طيباتكم يوم عرضكم ، أو بالذكر ، وهو أحسن.
يقول الحق جل جلاله : وَاذكر يَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أي : يعذّبون بها ، من قولهم : عرض بنو فلان على السيف ، إذا قتلوا به ، وقيل : المراد : عرض النّار عليهم ، من قولهم : عرضت النّاقة على الحوض ، يريدون : عرض الحوض عليها ، فقلبوا. وإذا عرضوا عليها يقال لهم : أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ أي :
أخذتم ما كتب لكم من حظوظ الدنيا ولذائذها فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا فقد قدمتم حظكم من النّعيم فى الدر الفانية.
قال ابن عرفة : قيل : المراد بالطيبات المستلذات ، والظاهر : أن المراد أسباب المستلذات ، أي : الأسباب التي تتوصلون بها إلى نيل المستلذات فى الدر الآخرة ، إذ نسيتموها فى الدنيا ، أي : تركتموها ولم تفعلوها. ه. قلت :
يبعده قوله : وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها أي : فلم يبق ذلك لكم شيئا منها ، بل قدمتم جنتكم فى دنياكم.
وعن عمر - رضي اللّه عنه : لو شئت كنت أطيبكم طعاما ، وألينكم لباسا ، ولكنى أستبقى طيباتى. ولما قدم الشام صنع له طعام لم ير قبله مثله ، قال : هذا لنا ، فما للفقراء المسلمين الذين ماتوا وهم لا يشبعون من خبز الشعير؟ قال خالد :
لهم الجنة ، فاغرورقت عينا عمر وبكى ، وقال : لئن كان حظنا من الحطام ، وذهبوا بالجنة ، لقد باينونا بونا بعيدا «2».
___________
(1) أساتيذ جمع أستاذ. ويجمع أيضا على أساتذة وأستاذين ، وهو فارسى معرّب ، والأستاذ : المعلم والمقرئ والعالم ، وأستاذ الصناعة :
رئيسها. انظر محيط المحيط (ص 9 ، مادة الأستاذ).
(2) انظر هذه الأخبار وغيرها فى كتاب «مناقب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب» لابن الجوزي/ 153 - 167.(5/338)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 339
وقال أبو هريرة رضي اللّه عنه : إنما كان طعامنا مع النّبى صلّى اللّه عليه وسلم الماء والتمر ، واللّه ما كان نرى سمراءكم هذه ، وقال أبو موسى : ما كان لباسنا مع النّبى صلّى اللّه عليه وسلم إلا الصوف.
وروى : أن النّبىّ صلّى اللّه عليه وسلم دخل على أهل الصّفة ، وهم يرقعون ثيابهم بالأدم ، ما يجدون لها رقاعا ، فقال : «أنتم اليوم خير أم يوم يغدو أحدكم فى حلة ، ويروح فى أخرى ، ويغدا عليه بجفنة «1» ويراح بأخرى ، ويستر بيته كما تستر الكعبة»؟ قالوا : نحن يومئذ خير ، فقال لهم : «بل أنتم اليوم خير» «2».
وقال عمرو بن العاص «3» : كنت أتغدى عند عمر الخبز والزيت ، والخبز والخل ، والخبز واللبن ، والخبز والقديد ، وأجلّ ذلك اللحم الغريض «4» ، وكان يقول : لا تنخلوا الدقيق ، فإنه كله طعام ، ثم قال عمر رضي اللّه عنه : واللّه الذي لا إله إلا هو ، لو لا أنى أخاف أن تنقص حسناتى يوم القيامة لشاركتهم فى العيش! ولكنى سمعت اللّه يقول لقوم : أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها. ه «5».
فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ أي : الهوان ، وقرىء به ، بِما كُنْتُمْ فى الدنيا تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ ، بغير استحقاق لذلك ، وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ ، وتخرجون عن طاعة اللّه عز وجل ، أي :
بسبب استكباركم وفسقكم.
الإشارة : مازالت الأكابر من الأولياء تتنكب الحظوظ والشهوات ، مجاهدة لنفوسهم ، وتصفية لقلوبهم ، فإنّ تتبع الشهوات يقسى القلب ، ويكسف نور العقل ، كما قال الشاعر :
إنارة العقل مكسوف بطوع هوى وعقل عاصى الهوى يزداد تنويرا.
هذا فى حال سيرهم ، فإذا تحقق وصولهم فلا كلام عليهم لأنهم يأخذون من اللّه ، ويتصرفون به فى أمورهم كلها ، فلا حرج عليهم فى نيل ما أنعم اللّه به عليهم ، حيث أمنوا ضرره ، ومن ذلك : ما روى عن إبراهيم بن أدهم ،
___________
(1) الجفنة : قصعة الطعام ، والجمع جفان وجفنات.
(2) عزاه فى كنز العمال (ح 6227) لهناد وأبى نعيم فى الحلية عن الحسن مرسلا. كما ذكره بنحوه (ح 6226) وعزاه للطبرانى والبيهقي ، عن عبد اللّه بن يزيد الخطمي.
(3) فى القرطبي : حفص بن أبى العاص.
(4) الغريض : الطري. انظر اللسان (غرض ، 5/ 3241).
(5) ذكره بأطول من هنا : القرطبي فى تفسيره (7/ 6208) ثم قال : «والذي يضبط هذا الباب ويحفظ قانونه : على المرء أن يأكل ما وجد ، طيبا كان أو قفارا ، ولا يتكلف الطيب ويتخذه عادة ، وقد كان النّبى صلّى اللّه عليه وسلم يشبع إذا وجد ، ويصبر إذا عدم ، ويأكل الحلوى إذا قدر عليها ، ويشرب العسل إذا اتفق له ، ويأكل اللحم إذا تيسر له ، ولا يعتمده أصلا ، ولا يجعله دينا ، ومعيشة النّبى صلّى اللّه عليه وسلم وسلم معلومة ...» انظر بقيته.(5/339)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 340
أنه أصلح ذات يوم طعاما كثيرا ، ودعا نفرا يسيرا ، منهم الأوزاعى والثوري ، فقال له الثوري : أما تخاف أن يكون هذا إسرافا؟ فقال : ليس فى الطعام إسراف ، إنما الإسراف فى الثياب والأثاث ، ودفع أيضا إلى بعض إخوانه دراهم ، فقال : خذ لنا بهذه زبدا وعسلا وخبزا حوارى «1» ، فقال : يا أبا إسحاق : هذا كله؟ قال : ويحك إذا وجدنا أكلنا أكل الرجال ، وإذا عدمنا صبرنا صبر الرّجال ، وإن معروفا الكرخي كأن يهدى له طيبات الطعام ، فيأكل ، فيقال له : إن أخاك بشرا كان لا يأكل من هذا ، فيقول : أخى بشر قبضه الورع ، وأنا بسطتنى المعرفة ، وإنما أنا ضيف فى دار مولاى ، إذا أطعمنى أكلت ، وإذا جوّعنى صبرت ، مالى وللاعتراض والتمييز. ه.
والحاصل : أن النّاس أقسام ثلاثة : عوام ، لا همة لهم فى السير ، وإنما قنعوا أن يكونوا من عامة أهل اليمين.
فهؤلاء يأخذون كلّ ما أباحته الشريعة ، إذ لا سير لهم حتى يخافوا من تخلفهم ، وخواص ، نهضت همتهم إلى اللّه ، وراموا الوصول إليه ، وهم فى السير لم يتحقق وصولهم ، أو من العبّاد والزهاد ، يخافون إن تناولوا المستلذات تفتّرت عزائمهم ، فهؤلاء يتأكد فى حقهم ترك الحظوظ والشهوات ، والقسم الثالث : خواص الخواص ، قد تحقق وصولهم ، ورسخت أقدامهم فى المعرفة ، فهؤلاء لا كلام معهم ، ولا ميزان عليهم.
قال فى الإحياء ، بعد كلام : وأ كل الشهوات لا يسلّم إلا لمن نظر من مشكاة الولاية والنّبوة ، فيكون بينه وبين اللّه علامة فى استرساله وانقباضه ، ولا يكون ذلك إلا بعد خروج النّفس من طاعه الهوى والعادة بالكلية ، حتى يكون أكله إذا أكل بنية ، كما يكون إمساكه بنية ، فيكون عاملا له فى إفطاره وإمساكه. ثم قال : وينبغى أن يتعلم الحزم من عمر ، فإنه كان يرى النّبىّ صلّى اللّه عليه وسلم يحب العسل ويأكله ، ثم لم يقس نفسه عليه ، بل لمّا عرض عليه ماء مبّرد بالعسل جعل يدير الإناء فى كفه ، ويقول : أشربها فتذهب حلاوتها وتبقى تباعتها ، اعزلوا عنى حسابها ، وتركها ، رضي اللّه عنه «2».
ثم ذكر وبال من تمتع بدنياه ، وأعرض عن أخراه ، فقال :
[سورة الأحقاف (46) : الآيات 21 الى 25]
وَاذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (21) قالُوا أَجِئْتَنا لِتَأْفِكَنا عَنْ آلِهَتِنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (22) قالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (23) فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ (24) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلاَّ مَساكِنُهُمْ كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (25)
___________
(1) الحوارى هو الدقيق الأبيض ، وهو لباب الدقيق وأجوده وأخلصه. انظر اللسان (حور 2/ 1044).
(2) ذكره بنحوه ابن الجوزي فى مناقب أمير المؤمنين (ص 164) عن ثابت.(5/340)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 341
يقول الحق جل جلاله : وَاذْكُرْ أَخا عادٍ وهو هود عليه السّلام إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ : بدل اشتمال أي : وقت إنذاره قومه بِالْأَحْقافِ : جمع حقّف ، وهو رمل مستطيل فيه انحناء ، من : احقوقف الشيء إذا اعوجّ ، وكان عاد أصحاب عمد ، يسكنون بين رمال مشرفة على البحر ، بأرض يقال لها : «الشّحر» بأرض اليمن. وعن ابن عباس :
الأحقاف : وادّ بين عمان ومهرة ، وقال مقاتل : كانت منازل عاد باليمن ، فى حضرموت ، بموضع يقال له : مهرة ، وإليه تنسب الإبل المهرية ، ويقال لها : المهارى ، وكانوا أهل عمد سيارة فى الرّبيع ، فإذا هاج العود رجعوا إلى منازلهم ، وكانوا من قبيلة إرم «1» ، والمشهور : أن الأحقاف اسم جبل ذا رمل مستطيل ، كانت منازل عاد حوله.
وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ : جمع نذير ، بمعنى المنذر ، أي : مضت الرّسل ، مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أي : من قبل هود ومن بعده ، وقوله : وَقَدْ خَلَتِ .. إلخ : جملة معترضة بين إنذار قومه وبين قوله : أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ مؤكدة لوجوب العمل بموجب الإنذار ، وإيذانا باشتراكهم فى العبادة المذكورة ، والمعنى : واذكر لقومك إنذار هود قومه عاقبة الشرك والعذاب العظيم ، وقد أنذر من تقدمه من الرّسل ، ومن تأخر عنه قومهم قبل ذلك. إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ إن عصيتمونى عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ يوم القيامة.
قالُوا أَجِئْتَنا لِتَأْفِكَنا لتصرفنا عَنْ آلِهَتِنا ، عن عبادتها ، فَأْتِنا بِما تَعِدُنا من العذاب العظيم إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ فى وعدك بنزوله بنا ، قالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ بوقت نزوله ، أو بجميع الأشياء التي من جملتها ذلك ، عِنْدَ اللَّهِ وحده ، لا علم لى بوقت نزوله ، ولا دخل لى فى إتيانه وحلوله ، وإنما علم ذلك عند اللّه ، فيأتيكم به فى وقته المقدّر له. وَأُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ من التخويف والإنذار من غير وقف على تعيين وقت نزول العذاب ، وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ حيث تقترحون علىّ ما ليس من وظائف الرّسل ، من الإتيان بالعذاب وتعيين وقته.
___________
(1) انظر تفسير البغوي 7/ 262.(5/341)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 342
روى : أنهم قحطوا سنين ، ففزعوا إلى الكعبة ، وقد كانت بنتها العمالقة ، ثم خربت ، فطافوا بها ، واستغاثوا ، فعرضت لهم ثلاث سحابات سوداء وحمراء وبيضاء ، وقيل لهم : اختاروا واحدة ، فاختاروا السوداء ، فمرت إلى بلادهم ، فلما رأوها مستقبلة أوديتهم ، فرحوا واستبشروا ، وهذا معنى قوله ، تعالى : فَلَمَّا رَأَوْهُ أي : العذاب الذي استعجلوه بقولهم : فَأْتِنا بِما تَعِدُنا ، وقيل : الضمير مبهم ، يفسره قوله : عارِضاً على أنه تمييز ، أي : رأوا عارضا ، والعارض : السحاب ، سمى به لأنه يعرض السحاب فى أفق السماء. قال المفسرون : ساق اللّه السحابة السوداء التي اختاروها بما فيها من النّقمة ، فخرجت عليهم من واد يقال له : «مغيث» ، فلما رأوها مستقبلة أوديتهم ، أي : متوجهة إليها ، فرحوا ، وقالوا : هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا أي : ممطر إيانا ، لأنه صفة النّكرة ، فيقدر انفصاله.
قال اللّه تعالى : بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ من العذاب ، وقيل : القائل هود عليه السّلام ، رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ ، فجعلت تحمل الفساطيط ، وتحمل الظعينة فترفعها فى الجو ، فترى كأنها جرادة.
قال ابن عباس : لما دنا العارض ، قاموا فنظروا ، فأول ما عرفوا أنه عذاب رأوا ما كان خارجا من ديارهم من حالهم ومواشيهم ، تطير بهم الرّيح بين السماء والأرض ، مثل الرّيش ، فدخلوا بيوتهم ، وأغلقوا أبوابهم ، فألقت الرّيح أبوابهم ، وصرعتهم ، وأمر اللّه تعالى الرّيح فأمالت عليهم الرّمال ، فكانوا تحت الرّمل سبع ليال وثمانية أيام حسوما ، لهم أنين ، ثم أمر اللّه تعالى الرّيح ، فكشفت عنهم الرّمال ، فاحتملتهم ، فرمت منهم فى البحر ، وشدخت الباقي بالحجارة «1».
وقيل : أول من أبصر العذاب امرأة منهم ، قالت : رأيت ريحا فيها كشهب النّار ، وهو معنى قوله : تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ أي : تهلك من نفوس عاد وأموالهم الجم الكثير ، فعبّر عن الكثرة بالكلية. بِأَمْرِ رَبِّها أي : رب الرّيح ، وفى ذكر الأمر والرّب ، والإضافة إلى الرّيح ، من الدلالة على عظيم شأنه - تعالى - ما لا يخفى ، فَأَصْبَحُوا لا يُرى «2» إِلَّا مَساكِنُهُمْ أي : فجاءت الرّيح فدمرتهم ، فصاروا بحيث لا يرى شىء إلا مساكنهم خاوية ، ومن قرأ بتاء الخطاب ، فهو لكلّ من يتأتى منه الرّؤية ، تنبيها على أن حالهم صار بحيث لو نظر كلّ أحد بلادهم لا يرى فيها إلا مساكنهم.
___________
(1) انظر تفسير البغوي (7/ 263).
(2) قرأ عاصم وحمزة ويعقوب «يرى» بضم الياء ، و«مساكنهم» برفع النّون ، نائب فاعل ، وقرأ الباقون «ترى» بالتاء وفتحها ، و«مساكنهم» بالنصب ، مفعولا به. انظر الإتحاف (2/ 472 - 473).(5/342)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 343
كَذلِكَ أي : مثل ذلك الجزاء الفظيع نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ وننجى المؤمنين. روى أن هود عليه السّلام ومن معه من المؤمنين فى حظيرته ، ما يصيبهم من الرّيح إلا ماتلين على الجلود ، وتلذه الأنفس ، وإنها لتمرّ من عاد بالظعن بين السماء والأرض ، وتدمغهم بالحجارة. سبحان الحكيم القدير ، اللطيف الخبير.
الإشارة : إنما جاءت النّذر من عهد آدم عليه السّلام إلى قيام الساعة ، تأمر بعبادة اللّه ، ورفض كلّ ما سواه ، فمن تمسك بذلك نجى ، ومن عبد غير اللّه ، أو مال إلى سواه ، عاجلته العقوبة فى الظاهر أو الباطن. واللّه تعالى أعلم.
ثم خوّف هذه الأمة بما جرى على عاد ، فقال :
[سورة الأحقاف (46) : الآيات 26 الى 28]
وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (26) وَلَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى وَصَرَّفْنَا الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (27) فَلَوْ لا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْباناً آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذلِكَ إِفْكُهُمْ وَما كانُوا يَفْتَرُونَ (28)
قلت : فِيما : موصولة ، أو موصوفة ، ومفعول اتَّخَذُوا الأول : محذوف ، وآلِهَةً : مفعول ثان ، أي :
اتخذوهم آلهة ، وقُرْباناً : حال ، ولا يصح أن يكون مفعولا ثانيا ل «اتخذوا» ، و«آلهة» : بدل ، لفساد المعنى ، وأجازه ابن عطية ، ووجه فساده : أن اتخاذهم آلهة مناف لاتخاذهم قربانا لأن القربان مقصود لغيره ، والآلهة مقصودة بنفسها ، فتأمله ، و«إن» نافية ، والأصل : فيما ما مكنكم فيه ، ولمّا كان التكرار مستثقلا جىء بأن ، كما قالوا فى مهما ، والأصل : ما ما ، فلبشاعة التكرار قلبوا الألف هاء ، وقيل : «إن» صلة ، أي : فى مثل ما مكنكم فيه ، والأول أحسن.
يقول الحق جل جلاله : وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ أي : قررنا عاد ومكناهم فى التصرف فِيما أي : فى الذي ، أو فى شىء ما مَكَّنَّاكُمْ يا معشر قريش فِيهِ من السعة والبسطة ، وطول الأعمار ، وسائر مبادئ التصرفات ، فما أغنى عنهم شىء من ذلك ، حين نزل بهم الهلاك ، وهذا كقوله تعالى : كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ ، «1» أو : ولقد مكنهم فى مثل ما مكنكم فيه ، فما جرى عليهم يجرى
___________
(1) من الآية 6 من سورة الأنعام.(5/343)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 344
عليكم ، حيث خالفتم نبيكم ، والأول أوفق بقوله : كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ «1» وقوله : هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً وَرِءْياً «2».
وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً أي : آلات الإدراك والفهم ، ليعرفوا بكلّ واحدة منها ما خلقت له ، وما نيطت به معرفته ، من فنون النّعم ، ويستدلوا بها شئون منعمها ، ويداوموا على شكرها ، ويوحدوا خالقها ، فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ حيث لم يستعملوه فى استماع الوحى ومواعظ الرّسل ، وَلا أَبْصارُهُمْ حيث لم يبصروا ما نصب من الآيات الدالة على وحدانيته - تعالى - ووجوب وجوده ، وَلا أَفْئِدَتُهُمْ حيث لم يتفكروا بها فى عظمة اللّه - تعالى - وأسباب معرفته ، فما أغنت عنهم مِنْ شَيْءٍ أي : شيئا من الإغناء. ومِنْ : زائدة للتأكيد ، وقوله : إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللَّهِ : ظرف لقوله : فَما أَغْنى جار مجرى التعليل ، لاستواء مؤدّى التعليل والظرف فى قولك : ضربته إذ أساء ، أو : لإساءته ، لأنك إذا ضربته وقت إساءته فإنما ضربته فيه لوجود إساءته فيه ، وكذلك الحال فى «حيث» دون سائر الظروف غالبا ، أي : فما أغنت عنهم آلات الإدراك لأجل جحودهم بآيات اللّه. وَحاقَ أي : نزل بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ من العذاب الذي كانوا يستعجلونه بطريق الاستهزاء ، ويقولون : فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ.
وَلَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى يا أهل مكة ، كحجر ثمود ، وقرى لوط ، والمراد : أهل القرى ، ولذلك قال : وَصَرَّفْنَا الْآياتِ ، كرّرناه ، لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ أي : كرّرنا عليهم الحجج وأنواع العبر لعلهم يرجعون من الطغيان إلى الإيمان ، فلم يرجعوا ، فأنزلنا عليهم العذاب.
فَلَوْ لا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْباناً آلِهَةً أي : فهلا منعهم وخلصهم من العذاب الأصنام الذين اتخذوهم آلهة من دون اللّه ، حال كونها متقربا بها إلى اللّه ، حيث كانوا يقولون : ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى «3» ، وهؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ «4» بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ أي : غابوا عن نصرتهم ، وَذلِكَ إِفْكُهُمْ وَما كانُوا يَفْتَرُونَ ، الإشارة إلى امتناع نصرة آلهتهم وضلالهم ، أي : وذلك أثر إفكهم الذي هو اتخاذها آلهة ، وثمرة شركهم ، وافترائهم على اللّه الكذب.
___________
(1) الآية 21 من سورة غافر. [.....]
(2) من الآية 74 من سورة مريم.
(3) من الآية 3 من سورة الزمر.
(4) من الآية 18 من سورة يونس.(5/344)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 345
وقرأ ابن عباس وابن الزبير : إِفْكُهُمْ «1» أي : صرفهم عن التوحيد. وقرئ : بتشديد الفاء ، للتكثير «2».
الإشارة : التمكن من كثرة الحس لا يزيد إلا ضعفا فى المعنى ، وبعدا من الحق ، ولذلك يقول الصوفية : كل ما زاد فى الحس نقص فى المعنى ، وكلّ ما نقص من الحس زاد فى المعنى ، والمراد بالمعنى : كشف أسرار الذات وأنوار الصفات ، وما مكّن اللّه - تعالى - عبده من الحواس الخمس إلا ليستعملها فيما يقربه إليه ، ويوصله إلى معرفته ، فإذا صرفها فى غير ذلك ، عوقب عليها. وباللّه التوفيق.
ثم ذكر حال من أغنى عنه سمعه ونفعه ، حيث استعمله فيما وصله إلى ربه ، فقال :
[سورة الأحقاف (46) : الآيات 29 الى 32]
وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29) قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (30) يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (31) وَمَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (32)
قلت : «النفر» بالفتح : الجماعة من ثلاثة إلى عشرة ، وقيل : إلى سبعة ، ولا يقال نفر فيما زاد على عشرة ، والرّهط والقوم والعشيرة والمعشر معناهم الجمع ، ولا واحد لهم من لفظه ، وهو للرجال دون النّساء. قاله فى المصباح. ومِنَ الْجِنِّ : نعت للنفر ، وكذا يَسْتَمِعُونَ.
يقول الحق جل جلاله : وَاذكر إِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ أي : أملناهم إليك ، وأقبلنا بهم نحوك ، وهم جن نصيبين ، أو جن نينوى ، قال فى القاموس : «نينوى» بكسر أوله ، موضع بالكوفة ، وقرية بالموصل
___________
(1) انظر مختصر ابن خالويه (ص 140) والبحر المحيط (8/ 66).
(2) «أفكهم» وبذلك قرأ أبو عياض ، كما فى مختصر ابن خالويه/ 140 والمحتسب (2/ 267) وزاد فى البحر المحيط (8/ 66) :
وعكرمة.(5/345)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 346
ليونس عليه السّلام. ه. يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ
منه عليه السّلام فَلَمَّا حَضَرُوهُ أي : الرسول صلّى اللّه عليه وسلم ، أو القرآن ، أي : كانوا منه حيث يسمعونه ، قالُوا أي : قال بعضهم لبعض : أَنْصِتُوا اسكتوا مستمعين ، فَلَمَّا قُضِيَ ، تمّ وفرغ من تلاوته ، وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ ، مقدّرين إنذارهم عند رجوعهم إليهم.
روى : أن الجنّ كانت تسترق السمع ، فلما حرست السماء ، ورموا بالشهب ، قالوا : ما هذا إلا لأمر حدث ، فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها ، لتعرفوا ما هذا ، فنهض سبعة أو تسعة من أشراف جن نصيبين أو نينوى ، منهم : «زوبعة» فمضوا نحو تهامة ، ثم انتهوا إلى وادي نخلة ، فوافقوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم وهو قائم يصلى صلاة الفجر ، فاستمعوا القرآن ، وذلك عند منصرفه من الطائف ، حين ذهب يدعوهم إلى اللّه ، فكذّبوه ، وردوا عليه ، وأغروا به سفاءهم ، فمضى على وجهه ، حتى وصل إلى نخلة ، فصلى بها الغداة ، فوافاه نفر الجن يصلى ، فاستمعوا لقراءته ، ولم يشعر بهم ، فأخبره اللّه تعالى باستماعهم «1».
وقيل : أمره اللّه - تعالى - أن ينذر الجن ، ويقرأ عليهم ، فصرف اللّه إليه نفرا منهم ، وجمعهم له ، فقال صلّى اللّه عليه وسلم :
إنى أمرت أن أقرأ على الجن ، فمن يتبعنى؟ قالها ثلاثا ، فأطرقوا إلا عبد اللّه مسعود ، قال : فانطلقنا حتى إذا كنا بأعلى مكة ، فى شعب الحجون ، فخطّ خطا ، فقال : لا تخرج عنه حتى أعود إليك ، ثم افتتح القرآن ، وسمعت لغطا شديدا ، حتى خفت على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم فجعلت أرى أمثال النّسور تهوى وتمشى ، وغشيته أسودة كثيرة حالت بينى وبينه ، حتى ما أسمع صوته ، ثم تتقطع كقطع؟؟؟ ، ففرغ صلّى اللّه عليه وسلم مع الفجر ، فقال : أنمت؟ فقلت : لا واللّه ، ولقد هممت مرارا أن أستغيث بالناس حتى سمعتك تقرعهم بعصاك ، تقول : أجلسوا ، فقال : لو خرجت لم آمن عليك أن يتخطفك بعضهم ، ثم قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم : «هل رأيت شيئا؟» قلت : نعم ، رجالا سودا ، فى ثياب بيض ، قال : «أولئك جن نصيبن» «2» وكانوا اثنى عشر ألفا ، والسورة التي قرأ عليهم : اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ.
فلمّا رجعوا إلى قومهم قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى ، قيل : قالوا ذلك لأنهم كانوا على اليهودية ، وعن ابن عباس : إن الجن لم تكن سمعت بأمر عيسى عليه السّلام وهو بعيد. حال كون الكتاب مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ من العقائد الصحيحة ، أو إلى اللّه ، وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ يوصل إلى اللّه ، وهو الشرائع والأعمال الصالحة.
___________
(1) أخرجه بمعناه البخاري فى (الأذان ، باب الجهر بقراءة صلاة الفجر ح 773) وكذا أخرجه فى (التفسير ، سورة الجن) من حديث عبد اللّه بن عباس رضي اللّه عنه.
(2) انظر تفسير البغوي 7/ 267.(5/346)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 347
يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ وهو محمد صلّى اللّه عليه وسلم ، وَآمِنُوا بِهِ أي : بالرسول أو القرآن. وصفوه بالدعوة إلى اللّه - تعالى - بعد ما وصفوه بالهداية إلى الحق والطريق المستقيم لتلازمهما ، دعوهم إلى ذلك بعد بيان حقيقته واستقامته ، ترغيبا فى الإجابة ، ثم أكدوه بقولهم : يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ أي : بعض ذنوبكم ، وهو ما كان فى حق خالص للّه - تعالى - فإنّ حقوق العباد لا تغفر بالإيمان ، وقيل : تغفر. وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ موجع.
واختلف فى مؤمنى الجن ، هل يثابون على الطاعة ، ويدخلون الجنة ، أو يجارون من النّار فقط؟ قال الفخر :
والصحيح أنهم فى حكم بنى آدم ، يستحقون الثواب على الطاعة ، والعقاب على المعصية ، وهو قول مالك ، وابن أبى ليلى ، وقال الضحاك : يدخلون الجنة ويأكلون ويشربون. ه. ويؤيده قوله تعالى : وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا كما تقدم فى الأنعام «1».
وَمَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ أي : لا ينجى منه مهرب ، وإظهار «داعى اللّه» من غير اكتفاء بضميره ، للمبالغة فى الإيجاب ، بزيادة المهابة والتقرير وتربيته ، وإدخال الرّوعة. وتقييد الإعجاز بكونه فى الأرض لتوسيع الدائرة ، أي : فليس بمعجز له - تعالى - وإن هرب فى أقطار الأرض ودخل فى أعماقها.
وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ ينصرونه من عذاب اللّه ، وهو بيان لاستحالة نجاته بواسطة ، إثر بيان استحالة نجاته بنفسه ، وجمع «الأولياء» مبالغة ، إذا كان لا ينفعه أولياء ، فأولى واحد. أُولئِكَ الموصوفون بعدم إجابة داعى اللّه فِي ضَلالٍ مُبِينٍ أي : ظاهر ، بحيث لا تخفى ضلالته على أحد ، حيث أعرضوا عن إجابة من هذا شأنه ، وجمع الإشارة باعتبار معنى «من» ، وأفرد أولا باعتبار لفظها.
الإشارة : قد استعملت الجن الأدب بين يديه صلّى اللّه عليه وسلم حيث قالوا : أنصتوا ، فالجلوس مع الأكابر يحتاج إلى أدب كبير ، كالصمت ، والوقار ، والهيبة ، والخضوع ، كما كانت حالة الصحابة - رضي اللّه عنهم - مع الرّسول صلّى اللّه عليه وسلم إذا تكلم أنصتوا كأنما على رؤوسهم الطير. قال الشيخ أبو الحسن رضي اللّه عنه : «إذا جالست الكبراء فدع ما تعرف إلى مالا تعرف ، لتفوز بالسر المكنون» فإذا انقضى مجلس التذكير رجع كلّ واحد منذرا وداعيا إلى اللّه كلّ من لقيه ، وقد كان صلّى اللّه عليه وسلم يقول لأصحابه : «ليبلغ الشاهد الغائب» «2» فمن بلغه ذلك واستجاب ربح وغنم ، ومن لا يجب داعى اللّه
___________
(1) راجع تفسير الآية 132 من سورة الأنعام. وانظر فى حكم مؤمنى الجن : تفسير القرطبي (7/ 6224) و«آكام المرجان فى أحكام الجان» للشبلى النّعمانى.
(2) جزء من حديث خطبة الرّسول فى حجة الوداع ، أخرجه البخاري فى (الحج ، باب الخطبة أيام منى ح 1741) ، ومسلم فى (القسامة ، باب تعليظ تحريم الدماء والأعراض والأموال رقم 1679 ، ح 29 ، 30) عن أبى بكرة رضي اللّه عنه.(5/347)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 348
خاب وخسر ، والاستجابة أقسام ، قال القشيري : فمستجيب بنفسه ، ومستجيب بقلبه ، ومستجيب بروحه ، ومستجيب بسرّه ، ومن توقف عند دعاء الداعي إليه ، ولم يبادر إلى الاستجابة هجر فيما كان يخاطب به. ه.
قلت : المستجيب بنفسه هو المستجيب بالقيام بوظائف الإسلام ، والمستجيب بقلبه القائم بوظائف الإيمان ، والمستجيب بروحه القائم بوظائف الإحسان ، والمستجيب بسره هو المتمكن من دوام الشهود والعيان ، وقول : هجر فيما يخاطب به ، أي : كان يخاطب بملاحظة الإحسان ، فإذا لم يبادر قيد بسلاسل الامتحان. واللّه تعالى أعلم.
ثم برهن على قوله ، فليس بمعجزه فى الأرض ، فقال :
[سورة الأحقاف (46) : الآيات 33 الى 34]
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (33) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (34)
قلت : وَلَمْ يَعْيَ : حال من فاعل «خلق» ، يقال : عى ، كرضى ، وعى بالإدغام ، وهو أكثر. قاله فى الصحاح.
وفى القاموس : عىّ بالأمر وعيى كرضى ، وتعايا واستعيا وتعيّا : لم يهتد لوجه مراده ، أو عجز عنه ولم يطق إحكامه. ه. وبِقادِرٍ : خبر «أن» ، ودخلت الباء لاشتمال النّفى الذي فى صدر الآية على «أنّ» وما فى حيزّها ، قال الزجاج : لوقلت : ما ظنت أنّ زيدا بقائم ، جاز.
يقول الحق جل جلاله : أَوَلَمْ يَرَوْا أي : ألم يتفكروا ولم يعلموا علما جازما أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ ، ابتداء من غير مثال يحتويه ، ولا قانون يحتذيه ، وَالحال أنه لَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ أي : لم يتعب ولم ينصب بذلك أصلا ، ولم يعجز عنه ، أليس من فعل ذلك بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى بَلى :
جواب النّفى ، أي : بلى هو قادر على ذلك ، إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ تقرير للقدرة على وجه عام ، ليكون كالبرهان على المقصود.
ثم ذكر عقاب من أنكر البعث المبرهن عليه ، فقال : وَاذكر يَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ فيقال لهم : أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ ، فالإشارة إلى ما يشاهدونه من فظيع العذاب ، وفيه تهكم بهم ، وتوبيخ لهم ، على استهزائهم بوعد اللّه تعالى ووعيده ، ونفيه بقولهم : «وما نحن بمعذبين» ، قالُوا فى جواب الملائكة : بَلى(5/348)
البحر المديد ج 5 ، ص : 349
وَرَبِّنا
إنه لحق ، أكدوا جوابهم بالقسم كأنهم يطمعون فى الخلاص بالاعتراف بحقيقتهما كما فى الدنيا ، وأنّى لهم ذلك؟ قالَ تعالى لهم : فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ بها فى الدنيا ، ومعنى الأمر : الإهانة بهم والتوبيخ لهم ، نعوذ باللّه من موارد الهوان.
الإشارة : تربية اليقين تطلب فى أمرين ، حتى يكونا كرأى العين : وجود الحق أو شهوده ، وإتيان الساعة وقربها ، حتى تكون نصب العين ، وتقدم حديث حارثة شاهدا على إيمانه ، حيث قال : «وكأنى أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون ...» الحديث.
ثم أمر بالصبر على ما يسمع من الكفرة ، فى إمكان البعث وغيره ، فقال :
[سورة الأحقاف (46) : آية 35]
فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ ساعَةً مِنْ نَهارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ (35)
قلت : لَهُمْ : متعلق بتستعجل ، وأما تعليقه ببلاغ فضعيف ، لا يليق بإعجاز التنزيل ، خلافا لوقف الهبطى ، وبَلاغٌ : خبر عن مضمر ، أي : هذا بلاغ.
يقول الحق جل جلاله : فَاصْبِرْ يا محمد على ما يصيبك من جهة الكفرة كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ أي : الثبات والحزم مِنَ الرُّسُلِ ، فإنك من جملتهم ، بل من أكملهم وأفضلهم ، و«من» للتبعيض ، واختلف فى تعيينهم ، فقيل : هم المذكرون فى الأحزاب وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ «1» وهم أهل الشرائع ، الذي اجتهدوا فى تأسيسها وتقريرها ، وصبروا على تحمل مشاقها ، وسياسة من تمسك بها ، ومعاداة الطاعنين فيها. وقيل : هم الصابرون على بلاء اللّه تعالى ، كنوح صبر على إذاية قومه ، كانوا يضربونه حتى يغشى عليه ، وإبراهيم صبر على النّار ، وذبح ولده ، ومفارقة وطنه ، وترك ولده ببلد خالية من العمران ، ويعقوب على فقد ولده ، وذهاب بصره ، ويوسف على الجب والسجن ، وأيوب على الضر ، وموسى قال له قومه : إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قالَ كَلَّا إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ «2» وعلى مكابدة التيه مع قومه ، وداود بكى على خطيئته أربعين سنة ، وعيسى لم يضع لبنة على لبنة.
___________
(1) الآية 7 من سورة الأحزاب.
(2) الآيتان 61 ، 62 من سورة الشعراء.(5/349)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 350
وقيل : هم اثنا عشر نبيا ، أرسلوا إلى بنى إسرائيل ، فعصوهم ، فأوحى اللّه إلى الأنبياء : إنى مرسل عذابى على عصاة بنى إسرائيل ، فشقّ عليهم ، فأوحى اللّه إليهم : أن اختاروا لأنفسكم ، إن شئتم أنزلت بكم العذاب ، وأنجيت بنى إسرائيل ، وإن شئتم أنجبتكم وأنزلت ببني إسرائيل ، فتشاوروا بينهم ، فاجتمع رأيهم على أن ينزل بهم العذاب وينجى بنى إسرائيل ، فسلّط عليهم ملوك الأرض ، فمنهم من نشر بالمناشير ، ومنهم من سلخ جلدة رأسه ووجهه ، ومنهم من رفع على الخشب ، ومنهم من أحرق بالنار. نسأل اللّه العافية ، فإنهم أقوياء ونحن ضعفاء.
وقيل : «من» للتبيين ، كقولك : اشتريت ثيابا من الخز ، فكلهم أولو العزم ، وقيل : إلا يونس ، لقوله : وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ «1» وآدم لقوله : وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً «2».
ثم قال تعالى : وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ أي : لكفار مكة نزول العذاب ، فإنه نازل بهم ، كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ من العذاب لَمْ يَلْبَثُوا فى الدنيا إِلَّا ساعَةً يسيرة مِنْ نَهارٍ لما يشاهدونه من شدة العذاب وطول مدته. قال الثعالبي : وإذا علمت أيها الأخ أن الدنيا أضغاث أحلام ، كان من الحزم اشتغالك الآن بتحصيل الزاد للمعاد ، وحفظ الحواس ، ومراعاة الأنفاس ، ومراقبة مولاك ، فاتخذه صاحبا ، ودع النّاس جانبا ، ثم نقل عن الغزالي ما يهيج النّفس إلى النّهوض إلى اللّه ، والفرار مما سواه ، فانظره.
هذا بَلاغٌ أي : هذا الذي وعظتم به كفاية فى الموعظة ، أو تبليغ من الرّسول ، أو منى إليك ، ومنك إلى العالمين. فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ أي : ما يهلك إلا الخارجون عن هذا الاتعاظ ، أو عن هذه المواعظ ، أو عن الطاعة ، أو : فلا يهلك مع هذه المواعظ البالغة ، والأدلة القاطعة إلا من هلك عن بينة ، أو : فلا يهلك مع رحمة اللّه وتفضله إلا الهالكون ، ونظير ما ختم به هنا ما ختم به سورة الأنبياء : إِنَّ فِي هذا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ الآية «3».
فائدة : قال ابن عباس : إذا عسر على المرأة ولدها ، فليكتب هاتين الآتين الكريمتين فى صحيفة ، ثم تغسل وجهها منها ، وتسقى منها : بسم اللّه الرّحمن الرّحيم ، لا إله إلا اللّه ، العظيم الحليم ، سبحان اللّه رب السموات والأرض ، ورب العرش العظيم ، كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها ، كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ. صدق اللّه العظيم. ه.
___________
(1) الآية 48 من سورة القلم.
(2) الآية 115 من سورة طه.
(3) الآية 106 من سورة الأنبياء. [.....](5/350)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 351
الإشارة : أولو العزم من الأولياء هم أولو الجد والتشمير ، قد خلّصهم البلاء وشحّرهم ، فهم جلاليون الظاهر ، جماليون الباطن ، قد أسسوا منار الطريق ، وأظهروا معالم التحقيق ، قاسوا شدائد المجاهدة ، وأفضوا إلى دوام المشاهدة ، عالجوا سياسة الخلق ، حتى هدى اللّه على أيديهم الجم الغفير ، فهم خلفاء الرّسل فى تجديد الشرائع ، وإحياء الدين - جعلنا اللّه منهم بمنّه وكرمه. فيقال لكلّ ولىّ من أولى العزم : فاصبر كما صبر أولو العزم من الأولياء قبلك.
قال القشيري : والصبر هو الوقوف لحكم اللّه تعالى ، والثبات من غير بثّ الاستكراه. ه. أي : من غير إظهار الشكوى والتذكرة. قلت : وأعظم مواطن الصبر عند ورود الفاقات ، وتوالى الأزمات ، وصيانة الوجه عن ذل المخلوقات ، وللّه در القائل.
ارض بأدنى العيش واشكر عليه شكر من القلّ كثير لديه
وجانب الحرص الّذى لم يزل يحطّ قدر المتراقى إليه
وحام عن عرضك واستبقه كما يحامى اللّيث عن لبدتيه
واصبر على ماناب من نوب صبر أولى العزم ، واغمض عليه
ولبدتى الأسد : جانبا كتفيه.
ويقال لأولى العزم ، حين يؤذون من جهة الخلق : وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ ... الآية. وقوله تعالى : كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ... الآية ، قال القشيري : مدة الخلق من مبتدأ خلقتهم إلى منتهى آجالهم ، بالإضافة إلى الأزلية ، كلحظة ، بل هى أقلّ ، إذ الأول لا ابتداء له ولا انتهاء ، وأىّ خطر لما حصل فى لحظة .. خيرا كان أو شرا؟. ه.
قال الورتجبي ، ثم بيّن أن عند معاينة سطوات القهريات ، لا يهلك فيها إلا الخارجون من نعوت استعداد معرفتى ، حين يحتجبون بظلمات نعوتهم «1» بقوله : فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ الخارجون بالدعاوى الباطلة. ه. وباللّه التوفيق ، وصلّى اللّه على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
___________
(1) فى الورتجبي : ظنونهم.(5/351)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 352(5/352)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 353
سورة محمّد «1»
مدنية. وهى ثمان وثلاثون آية ، ومناسبتها لما قبلها : قوله : (فهل يهلك إلا القوم الفاسقون) ، فإنهم الكفرة الذين أشار إليهم بقوله :
[سورة محمد (47) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (1) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بالَهُمْ (2) ذلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ (3)
قلت : (الذين) : مبتدأ ، و(أضل) : خبر ، و(من ربهم) : حال من ضمير الحق ، وجملة (و هو ...) إلخ : اعتراضية بين المبتدأ والخبر ، و(ذلك) : مبتدأ ، و(بأن) : خبر.
يقول الحق جل جلاله : الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي : أعرضوا وامتنعوا عن الدخول فى الإسلام ، أو صدوا غيرهم عنه. قال الجوهري : صدّ عنه ، يصدّ ، صدودا : أعرض ، وصدّه عن الأمر صدا : منعه ، وصرفه عنه. ه. وهم المطعمون يوم بدر «2» ، أو : أهل الكتاب ، كانوا يصدون من أراد الدخول فى الإسلام ، منهم ومن غيرهم ، أو عام فى كل من كفر وصدّ. فهؤلاء أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ أي : أحبطها وأبطلها ، أي : جعلها ضالة ضائعة ، ليس لها من يتقبلها ويثيب عليها ، كضالة الإبل. وليس المعنى أنه أبطلها بعد أن لم تكن كذلك ، بل بمعنى :
أنه حكم ببطلانها وضياعها ، فإنّ ما كانوا يعملونه من أعمال البر ، كصلة الأرحام ، وقرى الضيف ، وفك الأسارى ، وغيرها من المكارم ، ليس لها أثر من أصلها لعدم الإيمان ، أو : أبطل ما عملوا من الكيد برسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ، والصد عن سبيله ، بنصر رسوله ، وإظهار دينه على الدين كله ، وهو الأوفق بقوله : فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ «3».
___________
(1) فى الأصول : «سورة محمد أو القتال».
(2) قاله ابن عباس رضي اللّه عنه - فيما ذكره القرطبي فى تفسيره (7/ 6230). «وهم اثنا عشر رجلا ، وذكر القرطبي أسماءهم.
(3) الآية 8 من نفس السورة.(5/353)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 354
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ قيل : هم ناس من قريش ، وقيل : من الأنصار ، وقيل : من آمن من أهل الكتاب ، والمختار أنه عام ، وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ صلى اللّه عليه وسلم ، وهو القرآن ، وخص بالذكر من بين ما يجب الإيمان به تنويها بشأنه ، وتنبيها على سمو مكانه من بين ما يجب الإيمان به ، وأنه الأصل فى الكل ولذلك أكّده بقوله : وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ أي : القرآن ، لكونه ناسخا لغيره من الكتب ، وقيل : دين محمد - صلّى اللّه عليه وسلم إذ لا يرد عليه النّسخ ، وهو ناسخ لسائر الأديان ، كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ أي : ستر بالإيمان والعمل الصالح ما كان منهم من الكفر والمعاصي لرجوعهم عنها بالتوبة وَأَصْلَحَ بالَهُمْ أي : حالهم وشأنهم ، بالتوفيق لأمور الدين ، وبالتسليط على الدنيا ، بما أعطاهم اللّه من النّصرة والعزة والتمكين فى البلاد.
ذلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ أي : ذلك الأمر ، وهو إضلال أعمال أهل الكفر ، وتكفير سيئات أهل الإيمان ، وإصلاح شأنهم كائن بسبب اتباع هؤلاء الباطل وهو الشيطان ، حيث فعلوا ما فعلوا من الكفر والصد ، واتباع هؤلاء الحق ، وهو القرآن ، أو ما جاء به صلّى اللّه عليه وسلم ، أو يراد بالباطل : الزائل الذاهب من الدّين الفاسد ، وبالحق : الدين الثابت ، أو يراد بالباطل : نفس الكفر والصد ، وبالحق : نفس الإيمان والأعمال الصالحة.
كَذلِكَ أي : مثل الضرب البديع يَضْرِبُ اللَّهُ أي : يبين لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ أي : أحوال الفريقين ، وأوصافهما ، الجارية فى الغرابة مجرى الأمثال ، وهو اتباع الأولين الباطل ، وخيبتهم وخسرانهم ، واتباع الآخرين الحقّ ، وفوزهم وفلاحهم ، والضمير راجع إلى النّاس ، أو إلى المذكورين من الفريقين ، على معنى : أنه يضرب أمثالهم لأجل النّاس ليعتبروا بهم ، وقد جعل اتباع الباطل مثلا لعمل الكافرين ، واتباع الحق مثلا لعمل المؤمنين ، أو جعل الإضلال مثلا لخيبة الكفار ، وتكفير السيئات مثلا لفوز الأبرار.
الإشارة : الذين كفروا بوجود الخصوصية ، وصدوا النّاس عنها أبطل سيرهم إليه ، فكلما ساروا رجعوا ، والذين آمنوا الإيمان الكامل واتبعوا السنة النّبوية ، ستر مساوئهم ، وأصلح شأنهم ، حتى صلحوا لحضرته. قال القشيري :
الذين كفروا : امتنعوا ، وصدوا : منعوا «1» ، فلا متناعهم عن اللّه استوجبوا العقوبة ، ولمنعهم الخلق عن اللّه استوجبوا الحجبة. ثم قال فى قوله : وَأَصْلَحَ بالَهُمْ : فالكفر للأعمال محبط ، والإيمان للخلود مسقط ، ويقال : الذين اشتغلوا بطاعة اللّه ، ولم يعملوا شيئا مما خالف اللّه - فلا محالة - يقوم اللّه بكفاية أشغالهم. ه.
___________
(1) فى القشيري : وصدوا فمنعوا.(5/354)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 355
وقوله تعالى : ذلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ ... الآية ، قال الورتجبي : اتبع الكفرة ما وقع فى مخايلهم ، من هواجس النّفس ، ووساوس الشيطان ، ولا يقبلون طرائق الرّشد من حيث الوحى والإلهام ، وأنّ الذين صدقوا فى دين اللّه ، وشاهدوا اللّه باللّه ، اتبعوا سنة رسوله وخطابه ، وما يقع فى أسرارهم من النّور والبيان ، والإلهام والكلام ، بنعت الإخلاص فى طاعته ، والأدب فى خدمته والإعراض عن غيره. قال ابن عطاء : اتباع الباطل :
ارتكاب الشهوات وأمالى النّفس ، واتباع الحق : اتباع الأوامر والسنن. ه. قال القشيري : اتباع الحق بموافقة السنة ، ومتابعة الجد فى رعاية الحق وإيثار رضاه ، والقيام بالطاعة ، واتباع الباطل : الابتداع والعمل بالهوى ، وإيثار الحظوظ وارتكاب المعصية. ه.
ثم أقرّ بجهاد من كفر وصدّ ، فقال :
[سورة محمد (47) : الآيات 4 الى 9]
فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها ذلِكَ وَلَوْ يَشاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ (4) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ (5) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ (6) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ (7) وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (8)
ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ (9)
قلت : (فضرب) : مصدر ، نائب عن فعله ، مضاف إلى مفعوله ، و(منّا) و(فداء) : مصدران لمحذوف ، و(الذين كفروا) : مبتدأ حذف خبره ، وهو العامل فى المصدر ، أي : والذين كفروا فأتعسهم تعسا ، و(أضل أعمالهم) : عطف على الخبر المحذوف.
يقول الحق جل جلاله : فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فى المحاربة فَضَرْبَ الرِّقابِ ، أصله : فاضربوا الرقاب ضربا ، فحذف الفعل وناب عن مصدره للاختصار ، مع إعطاء معنى التوكيد ، لدلالة نصبه على مؤكده ، وضرب الرّقاب عبارة عن مطلق القتل ، والتعبير به عن القتل تصوير له بأشنع صورة وتهويل لأمره ، وإرشاد للغزاة إلى أيسر ما يكون ، حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ أكثرتم فيه القتل ، وأغلظتموه ، من : الشيء الثخين ، وهو الغليظ ، (5/355)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 356
أو : أثقلتموهم بالجراح وهزمتموهم ، فَشُدُّوا الْوَثاقَ أي : فأسروهم ، وشدوا وثاقهم ، لئلا يتفلتوا ، والوثاق بالفتح والكسر : ما يشد به. فإذا أسرتموهم فتخيروا فيهم فَإِمَّا مَنًّا أي : فإما أن تمنوا منا بعد الأسر ، وَإِمَّا فِداءً :
أن تفدوا فداء ، والمعنى : التخير بين الأمرين بعد الأسر ، بين أن يمنّوا عليهم فيطلقوهم ، وبين أن يفادوهم ، ومذهب مالك : أن الإمام مخيّر فى الأسارى بين خمسة ، وهى : المنّ ، والفداء ، والقتل ، والاسترقاق ، وضرب الجزية ، وقيل :
لا يجوز المن ولا الفداء لأن الآية منسوخة بقوله : فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ «1» فيتعين قتلهم ، والصحيح أنها محكمة. ومذهب الشافعي : أن الإمام مخير بين أربعة : القتل ، والاسترقاق ، والفداء بأسارى المسلمين ، والمنّ. ولعل لجزية عنده خاصة بأهل الكتاب.
ومذهب أبى حنيفة : التخيير بين القتل والاسترقاق فقط ، قال : والآية منسوخة لأن سورة براءة آخر ما نزل.
وعن مجاهد : ليس اليوم منّ ولا فداء ، والمراد بالمنّ فى الآية أن يمنّ عليهم بترك القتل ، فيسترقوا ، أو يمنّ عليهم بإعطاء الجزية. ه.
والمشهور : مذهب مالك لأن النّبى صلّى اللّه عليه وسلم قتل عقبة بن أبى معيط ، والنّضر بن الحارث ، يوم بدر صبرا ، وفادى سائر الأسارى ، ومنّ على ثمامة بن أثال الحنفي ، وهو أسير ، واسترق نساء بنى قريظة ، فباعهم ، وضرب الجزية على نصارى نجران ومجوس هاجر.
ثم ذكر غاية الحرب فقال : حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها أي : اضربوا رقابهم حتى تضع الحرب أثقالها ، وآلاتها ، التي لا تقوم إلا بها ، كالسلاح والكراع ، وذلك حيث لم يبق حرب ، بأن تضع أهل الحرب عدتها. وقيل :
(أوزارها) : آثامها ، يعنى : حتى يترك أهل الحرب المشركين شركهم ، بأن يسلموا جميعا. والمختار : أن المعنى :
أثخنوا المشركين بالقتل والأسر حتى يظهر الإسلام على سائر الأديان ، ويؤمن أهل الكتاب ، طوعا أو كرها ، ويكون الدين كله للّه ، فلا يحتاج إلى قتال. وقال الحسن : معناه : حتى لا يعبد إلا اللّه. وقال ابن عطية : ظاهر اللفظ : أنها استعارة ، يراد بها التزام الأمر كذلك أبدا ، كما تقول : أنا أفعل ذلك إلى يوم القيامة. ه. فالغاية ب «حتى» ، راجعة إلى الضرب والشد ، وما ترتب عليه من المنّ والفداء.
ذلِكَ الأمر ذلك ، أو افعلوا ذلك ، وَلَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ لانتقم مِنْهُمْ بغير قتال بأن ينزل بهم أسباب الهلاك والاستئصال ، كالخسف أو الرّجف أو غير ذلك ، وَلكِنْ أمركم بالقتال لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ
___________
(1) الآية 5 من سورة التوبة.(5/356)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 357
أي : المؤمنين بالكافرين ، فأمرهم بالجهاد ليستوجبوا الثواب العظيم ، وليسلم من سبق إسلامه من الكافرين. وَالَّذِينَ قُتِلُوا «1» فِي سَبِيلِ اللَّهِ لإعلاء كلمة التوحيد ، لا لغرض آخر ، فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ فلن يضيعها.
سَيَهْدِيهِمْ فى الدنيا إلى طريق الرّشد والصواب ، وفى الآخرة إلى جزيل الثواب ، وقيل : يهديهم إلى جواب منكر ونكير ، وَيُصْلِحُ بالَهُمْ بأن يقبل أعمالهم ويرضى خصماءهم ، وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ.
قال مجاهد : عرفهم مساكنهم فيها حتى لا يحتاجوا إلى دليل لها «2» ، أو : طيّبها ، من : العرف ، وهو طيب الرّائحة ، ويمكن الجمع : بأن عرف المحل يهدى صاحبه الى جنته ومحله.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ بنصر دينه وإظهار شريعه نبيه يَنْصُرْكُمْ على عدوكم ، ويفتح لكم ، وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ فى مواطن الحرب ومواقفها ، أو على محجة الإسلام ، وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ أي : فيقال : تعسا لهم ، والتعس : الهلاك ، أو السقوط والانحطاط ، أو العثار ، أو البعد. وقال ابن السكيت : التعس : أن يجر على وجهه. ه أي : أتعسهم اللّه تعسا ، أي : أهلكهم وأبعدهم. وقال ابن عباس : «فى الدنيا بالقتل والأسر ، وفى الآخرة بالتردي فى النّار». والمراد بالذين كفروا عام ، وقيل : المراد من يضاد الذين ينصرون دين اللّه ، كأنه قيل :
إن تنصروا اللّه ينصركم ويثبت أقدامكم ، ومن لم ينصره فتعسا له ، فوضع «الذين كفروا» موضع من لم ينصره تغليظا ، فهو وفق لأسلوب السورة من التقابل المعنوي ، فهو عطف جملة على جملة شرطية مثلها ، ولذلك دخلت الفاء فى خبر الموصول ، كما قرره الزجاج. انظر الطيّبى. ه من الحاشية. وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ أي : أحبطها وأبطلها.
ذلِكَ التعس والإضلال بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ من القرآن لما فيه من التوحيد وسائر الأحكام ، المخالفة لما ألفوه واشتهته أنفسهم الأمّارة بالسوء ، فَأَحْبَطَ لأجل ذلك أَعْمالَهُمْ التي كانوا عملوها ، من صلة الأرحام وغيرها.
الإشارة : نهاية الجهاد الأصغر : وضع الحرب أوزارها بالإسلام أو السّلم ، ونهاية الجهاد الأكبر : استسلام النّفس وانقيادها لما يراد منها ، أو موتها بالغيبة عنها بالكلية. قال بعض العارفين : انتهى سير السائرين إلى الظفر
___________
(1) قرأ أبو عمرو وحفص (قتلوا) بضم القاف ، وقرأ الباقون (قاتلوا) بفتح القاف ، وتخفيف التاء ، وألف بينهما. انظر : السبعة لابن مجاهد/ 600 والإتحاف 2/ 475 - 476.
(2) هذا معنى ما قاله مجاهد وأكثر المفسرين. وقول مجاهد أخرجه الطبري ، وفى الصحيح ما يدل على صحة هذا القول ، فقد أخرج البخاري فى (الرقاق ، باب القصاص يوم القيامة ح 6535) عن أبى سعيد الخدري قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم : «يخلص المؤمنون من النّار ، فيحبسون على قنطرة بين الجنة والنّار ، فيقتص لبعضهم من بعض مظالم كانت بينهم فى الدنيا حتى إذا هذّبوا ونقّوا أذن لهم فى دخول الجنة ، فوالذى نفس محمد بيده لأحدهم أهدى بمنزله فى الجنة منه بمنزله كان فى الدنيا».(5/357)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 358
بنفوسهم ، فإن ظفروا بها وصلوا. ه. فالإشارة بقوله : (إذا لقيتم الذين كفروا ...) إلخ إلى قتل الهوى والشيطان وسائر القواطع ، حتى إذا أثخنتموهم فشدّوا وثاقهم ، ولا تأمنوا غائلتهم.
قال القشيري ، بعد كلام : وكذلك العبد إذا ظفر بنفسه فلا ينبغى أن يبقى بعد انتقاش شوكها بقية ، ولا فى قلع شجرها مستطاعا وميسورا فالحيّة إن بقيت منها بقية من الحياة من وضع عليها إصبعه بثّت سمّها فيه. ه. فإذا تمكنتم من معرفة اللّه ، فإما أن تمنوا عليها بترك جهادها الأكبر ، وإما أن تفدوها بالغيبة عنها فى حلاوة الشهود ، حتى تضع الحرب أوزارها بالموت ، ولو شاء اللّه لخلّصكم منها من غير جهاد ، فالقدرة صالحة ، ولكن ليختبركم ، فيظهر السائرون من القاعدين مع حظوظهم «لولا ميادين النّفوس ما تحقق سير السائرين» «1». والذين قاتلوا نفوسهم فى سبيل اللّه وطلب معرفته ، فلن يضلّ أعمالهم ، سيهديهم إلى معرفته ، ويصلح بالهم بالاستغراق فى شهوده ، ويدخلهم جنة المعارف ، قد عرّفها لهم ، وبيّنها على أيدى الوسائط من الشيوخ العارفين ، أو طيّبها لهم ، فيهتدون بنسيم واردات التوجه ، إلى أنوار المواجهة. وقد أشار تعالى بقوله : وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ إلى طلب الإخلاص ، فلا يوصل الجهاد الأصغر ولا الأكبر إلى رضوان اللّه ، أو معرفته ، إلا بتحقق الإخلاص ، من غير التفات لغرض نفسانى ، لا عاجلا ولا آجلا.
ذكر الشيخ أبو نعيم الحافظ : أن ميسرة الخادم ، قال : غزونا فى بعض الغزوات ، فإذا بفتى «2» جانبى ، وهو مقنع بالحديد ، فحمل على الميمنة ، ثم الميسرة ، ثم على القلب ، ثم أنشأ يقول :
أحسن بمولاك سعيد ظنّا هذا الذي كنت تمنّى «3»
تنح يا حور الجنان عنّا ما فيك قاتلنا ولا قتلنا
لكن إلى سيدكنّ اشتقنا قد علم السر وما أعلنّا
قال : فحمل فقاتل ، فقتل منهم عددا ، ثم رجع إلى موقفه ، فتكالب عليه العدو ، فحمل ، وأنشأ يقول :
قد كنت أرجو ورجائى لم يخب ألّا يضيع اليوم كدىّ والطّلب
يا من ملأ تلك القصور باللعب لولاك ما طابت ولا طاب الطّرب
___________
(1) حكمة عطائية رقم (244) انظر الحكم بتبويب المتقى الهندي ص 18.
(2) اسمه «سعيد» كما هو واضح من البيت الأول ، وترجم له أبو نعيم ب «سعيد الشهيد ، المقنع فى الحديد ، المشتاق إلى رؤية المنعم المجيد».
(3) هكذا فى الأصول ، وفى الحلية : [هذا الذي كنت له تمنى ].(5/358)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 359
ثم حمل فقاتل ، فقتل عددا كثيرا ، ثم رجع إلى مصافه ، فتكالب عليه العدو ، فحمل ثالثة ، وأنشأ يقول :
يا لعبة الخلد قفى ثمّ اسمعي مالك قاتلنا فكفّى وارجعي
ثمّ ارجعي إلى الجنان وأسرعى لا تطمعى لا تطمعى لا تطمعى
فقاتل رضي اللّه عنه حتى قتل - رحمه اللّه. ه «1».
قوله تعالى : إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ
، فيه ترغيب وتنشيط لأهل الوعظ والتذكير ، الداعين إلى اللّه ، الذين يسعون فى إظهار الدين ، وإرشاد عباد اللّه إلى محبة اللّه وطاعته. وفى الحديث عنه - صلّى اللّه عليه وسلم :
«والذي نفس محمد بيده ، لئن شئتم لأقسمن لكم ، إن أحب عباد اللّه إلى اللّه الذين يحببون اللّه إلى عباده ، ويحببون عباد اللّه إلى اللّه ، ويمشون فى الأرض بالنصيحة». وقال أيضا : «الخلق عيال اللّه ، وأحب الخلق إلى اللّه أنفعهم لعياله» «2» وأعظم النّفع : إرشادهم إلى اللّه ، الذي هو سبب سعادتهم السرمدية.
وقال الورتجبي : نصرة العبد للّه : أن يجاهد نفسه وهواه وشيطانه ، فإنهم أعداؤه ، فإذا خاصمها يقويه اللّه وينصره عليهم ، بأن يدفع شرهم عنه ، ويجعله مستقيما فى طاعة اللّه ، ويجازيه بكشف جماله ، حتى يثبت فى مقام العبودية ، وانكشاف أنوار الرّبوبية. ه.
قال القشيري : ونصرة اللّه للعبد بإعلاء كلمته ، وقمع أعدائه. ثم قال فى قوله تعالى : وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ هو إدامة التوفيق ، لئلا ينهزم من صولة أعداء الدين ، ولا يضعف قلبه فى معاداتهم ، ولا ينكسر باطنه ثقة باللّه فى إعزاز دينه. ه. ثم ذكر تعالى أضداد الداعين إلى اللّه ، الناصرين لدينه ، وهم المنتقدون عليهم ، فقال : وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ أي : خيبة لهم ، وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ ، فلا يتوصلون بها إلى معرفته ، لكونها معلولة.
ثم أمر بالتفكر والنّظر لأنه أقرب الطرق إلى التخلص من غوائل الأعداء ، فقال :
[سورة محمد (47) : الآيات 10 الى 12]
أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها (10) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ (11) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ (12)
___________
(1) أخرجه أبو نعيم فى الحلية (10/ 165 - 166).
(2) أخرجه البيهقي فى الشعب (ح 7445) والطبراني فى الكبير (ح 10033) وأبو يعلى فى مسنده (6/ رقم 3315 و3370) من حديث أنس بن مالك رضي اللّه عنه ، وأخرجه البيهقي فى الشعب (ح 7448) وأبو نعيم فى الحلية (2/ 102) من حديث عبد اللّه بن مسعود رضي اللّه عنه.(5/359)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 360
يقول الحق جل جلاله : أَفَلَمْ يَسِيرُوا أي : أقعدوا فلم يسيروا فِي الْأَرْضِ ، يعنى كفار مكة ، فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ من الأمم المكذبة؟ فإنّ آثار ديارهم تنبئ عن أخبارهم ، فقد دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ، فالجملة : استئناف مبنى على سؤال ، كأنه قيل : كيف كان عاقبتهم؟ فقيل : استأصل اللّه عليهم ما اختص بهم من أنفسهم وأهليهم وأموالهم ، يقال : دمّره أهلكه ، ودمّر عليه : أهلك عليه ما يختص به ، قاله أبو السعود. وفى الصحاح : الدمار : الهلاك ، دمّره تدميرا ، ودمّر عليه ، بمعنى. ه. فظاهره : أن معناهما واحد ، وفسره فى الأساس بالهلاك المستأصل ، وقال الطيبي : فى دمّر عليهم تضمين معنى أطبق ، فعدى بعلى ، ولذلك استأصل. ه.
وَلِلْكافِرِينَ أي : ولهؤلاء الكافرين السائرين بسيرتهم أَمْثالُها أي : أمثال تلك الهلكة المفهومة من التدمير ، أو أمثال عواقبهم أو عقوباتهم ، لكن لا على أنّ لهؤلاء أمثال ما لأولئك وأضعافه بل مثله ، وإنما جمع باعتبار مماثلته لعواقب متعددة ، حسبما تعدّد الأمم المعذّبة ، ويجوز أن يكون عذابهم أشدّ من عذاب الأولين فقد قتلوا وأسروا بأيدى من كانوا يستخفونهم ويستضعفونهم ، والقتل بيد المثل أشد ألما من الهلاك بسبب عام. وقيل :
دمّر اللّه عليهم فى الدنيا ، ولهم فى الآخرة أمثالها.
ذلِكَ أي : نصر المؤمنين وهلاك الكافرين فى الحال أو المال بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا أي : ناصرهم ومعزّهم وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ فيدفع عنهم ما حلّ بهم من العقوبة ، ولا يخالف هذا قوله : ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ «1» لأن المولى هناك بمعنى المالك.
إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ، وهذا بيان لحكم ولاية اللّه لهم وثمرتها الأخروية ، وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ فى الدنيا بمتاعها أياما قلائل ، وَيَأْكُلُونَ غافلين عن عواقبهم ، غير متفكرين فيها كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ فى مسارحها ، غافلة عما هى بصدده من النّحر والذبح ، فالتشبيه بالأنعام صادق بالغفلة عن تدبير العاقبة ، وعن شكر المنعم ، وبعدم التمييز للمضرّ من غيره ، كأ كل الحرام وعدم توقيه ، وكذا كونه غير مقصور على الحاجة ، ولا على وقتها ، وسيأتى فى الإشارة إن شاء اللّه. وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ أي :
منزل ثواه وإقامته ، والجملة إما حال مقدرة من واو (يأكلون) ، أو استئناف.
___________
(1) من الآية 62 من سورة الأنعام. [.....](5/360)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 361
الإشارة : تفكر الاعتبار يكون فى أربعة ، الأول : فى سرعة ذهاب الدنيا وانقراضها ، كأضغاث أحلام ، وكيف غرّت من انتشب بها ، وأخذته فى شبكتها ، حتى قدم على اللّه بلا زاد ، وكيف دمّر اللّه على أهل الطغيان ، واستأصل شأفتهم ، فينتج ذلك التشمير والتأهب ليوم الجزاء. الثاني : فى دوام دار البقاء ، ودوام نعيمها ، فينتهز الفرصة فى العمل الصالح. الثالث : فى النّعم التي أنعم اللّه بها على عباده ، الدنيوية والأخروية ، الحسية والمعنوية ، قال تعالى : وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوها «1» فينتج ذلك الشكر ، لتدوم عليه. الرابع : فى نصب هذه العوالم ، على ما هى عليه من الإبداع والإتقان ، فيثمر ذلك معرفة الصانع ، وباهر قدرته وحكمته.
وقوله تعالى : ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا ... إلخ ، قال القشيري : المولى : المحب ، فهو محب الذين آمنوا ، والكافرين لا يحبهم ، ويصح أن يقال : أرجى آية فى القرآن هذه الآية ، لم يقل مولى الزهّاد والعباد وأصحاب الأوراد والاجتهاد بل قال : مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا ، والمؤمن وإن كان عاصيا فهو من جملتهم. ه - والمحبة تتفاوت بقدر زيادة الإيمان والإيقان حتى يصير محبوبا مقربا.
قوله تعالى : وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ ، وكذلك الغافل ، فالأنعام تأكل بلا تمييز ، من أي موضع وجدت ، كذلك الجاهل ، لا تمييز له من الحلال أو من الحرام ، والأنعام ليس لها وقت لأكلها ، بل تأكل فى كل وقت ، وكذلك الغافل والكافر. فقد ورد «أن الكافر يأكل فى سبعة أمعاء ، والمؤمن يجتزئ بما تيسر» «2» ، كما فى الخبر : «ما ملأ آدمي وعاء شرا من بطن» «3». والأنعام تأكل على الغفلة ، فمن كان فى أكله ناسيا لربه ، فأكله كأكل الأنعام. انظر القشيري.
ولما أمرهم بالنظر فلم يفعلوا ، هددهم بالهلاك ، فقال :
[سورة محمد (47) : الآيات 13 الى 14]
وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ (13) أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ (14)
___________
(1) من الآية 34 من سورة إبراهيم.
(2) ورد بلفظ «إن المؤمن يأكل فى معىّ واحد ، وإن الكافر يأكل فى سبعة أمعاء» ، الحديث أخرجه البخاري فى (الأطعمة ، باب المؤمن يأكل فى معى واحد ، ح 5393) ومسلم فى (الأشربة باب المؤمن يأكل فى معى واحد رقم 2061 ، ح 184) من حديث ابن عمر رضي اللّه عنه.
(3) بعض حديث أخرجه الترمذي فى (الزهد ، باب ما جاء فى كراهية كثرة الأكل ، ح 2380) وقال : «حديث صحيح» وابن ماجه فى (الأطعمة ، باب الاقتصاد فى الأكل وكراهة الشبع ، ح 3349) والنّسائى فى الكبرى (آداب الأكل ، باب ذكر القدر الذي يستحب للإنسان من الأكل ح 6768) والحاكم (4/ 121) «وصحّحه الذهبي» من حديث مقدام بن معدى كرب.(5/361)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 362
قلت : (كأيّن) : كلمة مركبة من الكاف و«أىّ» ، بمعنى كم الخبرية ، ومحلها : الرفع بالابتداء ، وقوله : (هى أشد) : نعت لقرية ، و(أهلكناهم) : خبر ، وحذف المضاف ، أي : أهل قرية ، بدليل «أهلكناهم».
يقول الحق جل جلاله : وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أي : كثير من أهل قرية هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ مكة ، الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أي : تسببوا فى خروجك ، أي : وكم من قوم هم أشدّ قوة من قومك الذين أخرجوك ، أَهْلَكْناهُمْ بأنواع العذاب ، فَلا ناصِرَ لَهُمْ فلم يكن لهم من ينصرهم ويدفع العذاب عنهم ، فأنتم يا معشر قريش أهون منهم ، وأولى بنزول ما حجل بهم.
أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ أي : حجة واضحة ، وبرهان قاطع ، وهو القرآن المعجز ، وسائر المعجزات ، يعنى : رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ، كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ ، وهم أهل مكة ، زين الشيطان شركهم وعداوتهم للّه ولرسول صلّى اللّه عليه وسلم ، وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ الزائغة ، وانهمكوا فى فنون الضلالات ، من غير أن يكون لهم شبهة توهم صحة ما هم عليه ، فضلا عن حجة تدل عليها. وقيل : المراد بمن كان على بينة : المؤمنون فقط ، المتمسكون بأدلة الدين.
قال أبو السعود : وجعلها عبارة عن النّبى عليه السّلام وعن المؤمنين ، لا يساعده النّظم الكريم ، على أن الموازاة بينه صلّى اللّه عليه وسلم ، وبين من زيّن له سوء عمله مما يأباه منصبه الجليل. والتقدير : أليس الأمر كما ذكر؟ فمن كان مستقرا على حجة ظاهرة ، وبرهان نيّر من مالك أمره ومربّيه ، وهو القرآن ، وسائر الحجج العقلية ، كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ من الشرك وسائر المعاصي ، مع كونه فى نفسه أقبح القبائح. ه.
الإشارة : فى الآية تهديد لمن يؤذى أولياء اللّه ، ويخرجهم من مواطنهم بالهلاك العاجل أو الآجل. وقوله تعالى : أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ تقدم فى سورة هود الكلام عليها «1». وقال القشيري هنا ، فى تفسير البينة :
هى الضياء والحجة والاستبصار بواضح المحجة ، فالعلماء فى ضياء برهانهم ، والعارفون فى ضياء بيانهم ، فهؤلاء بأحكام أدلة الأصول يبصرون ، وهؤلاء بحكم الإلهام والوصول يستبصرون. ه.
ثم عرّف بالجنة ، التي تقدمت فى قوله : عَرَّفَها لَهُمْ ، فقال :
___________
(1) راجع إشارة الآية 17 من سورة هود.(5/362)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 363
[سورة محمد (47) : آية 15]
مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ (15)
قلت : (مثل) : مبتدأ حذف خبره ، أي : صفة الجنة ما تسمعون ، وقدّره سيبويه : فيما يتلى عليكم مثل الجنة ، وقيل : المثل زائد ، أي : الجنة فيها أنهار ... إلخ ، و(كمن هو خالد) : خبر لمحذوف ، أي : أمن هو خالد فى هذه الجنة ، كمن هو خالد فى النّار؟.
يقول الحق جل جلاله : مَثَلُ الْجَنَّةِ أي : صفتها العجيبة ، العظيمة الشأن الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ الشرك والمعاصي ، هو ما نذكره لكم ، فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ غير متغير الطعم واللون والرّائحة ، يقال : أسن الماء :
إذا تغير ، سواء أنتن أم لا ، فهو آسن وأسن ، وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ كما تتغير ألبان الدنيا بالحموضة وغيرها ، وانظر إذا تمنّاه كذلك مربّيا أو مضروبا. والظاهر : أنه يعطاه كذلك ، إذ فيها ما تشتهيه الأنفس. وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ أي : لذيذة ، ليس فيها كراهة طعم وريح ، ولا غائلة سكر ، وإنما هى تلذذ محض. و«لذة» :
إما تأنيث «لذّ» ، بمعنى لذيذ ، أو : مصدر نعت به للمبالغة.
وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى لم يخرج من بطون النّحل فيخالطه شمع أو غيره ، وفى حديث الترمذي : «إنّ فى الجنة بحر الماء ، وبحر اللبن ، وبحر العسل ، وبحر الخمر ، ثم تشقّق الأنهار بعد» «1» قال : حسن صحيح. وعن كعب : نهر دجلة من نهر ماء الجنة ، والفرات نهر من لبنها ، والنيل من نهر خمرها ، وسيحان من نهر عسلها ، والكل يخرج من الكوثر «2». قلت : ولعل الثلاثة لمّا خرجوا إلى الدنيا تغير حالهم ، ليبقى الإيمان بالغيب. واللّه تعالى أعلم.
قيل : بدئ من هذه الأنهار بالماء لأنه لا يستغنى عنه قط ، ثم باللبن لأنه يجرى مجرى المطعوم والمشروب فى كثير من الأوقات ، ثم بالخمر لأنه إذا حصل الرّىّ والمطعوم تشوقت النّفس إلى ما يلتذ به ، ثم بالعسل لأنه فيه الشفاء فى الدنيا مما يعرض من المشروب والمطعوم فهو متأخر فى الرّتبة.
___________
(1) أخرجه الترمذي فى (صفة الجنة ، باب ما جاء فى صفة أنهار الجنة ح 2571) والدارمي فى (الرقائق ، باب فى أنهار الجنة ح 2836) وأحمد فى المسند (5/ 5) عن حكيم بن معاوية عن أبيه ، قال الترمذي : «حديث حسن صحيح».
(2) ذكره بلفظه القرطبي (7/ 6244) والبغوي فى التفسير (7/ 282) وذكره بلفظ مقارب السيوطي فى الدر (6/ 25) وعزاه للحرث بن أبى أسامة فى مسنده ، عن كعب.
هذا ، وقد وجدت على هامش النّسخة الأم ما يلى : هذا من خرافات كعب ، التي كثر بهما القصاص والوعاظ مسائل العلم ، بدون طائل ولا جدوى ، والحديث الصحيح إنما فيه أنها من الجنة ، فإما أن ذلك حقيقة على ظاهره ، وإما أن يكون خرج مخرج التشبيه ، كما هو قول طائفة».
قلت : حديث أنها من أنهار الجنة أخرجه مسلم فى (الجنة ، باب ما فى الدنيا من أنهار الجنة ، ح 2839) عن أبى هريرة ، ولفظه :
«سيحان وجيحان والنّيل والفرات كلّ من أنهار الجنة».(5/363)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 364
وَلَهُمْ فِيها مع ما ذكر من فنون الأنعام مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ أي : صنف من كلّ الثمرات. وَلهم مَغْفِرَةٌ عظيمة مِنْ رَبِّهِمْ أي : كائنة من ربهم ، فهو متعلق بمحذوف ، صفة لمغفرة ، مؤكدة لما أفاده التنكير من الفخامة الذاتية بالفخامة الإضافية ، أي : مغفرة عظيمة من ربهم. وعبّر بعنوان المغفرة دون الرّحمة إشعارا بأن الميل إلى نعيم الأشباح نقص فى الدارين يستوجب المغفرة.
أيكون هذا كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ؟ أو : مثل الجنة كمثل جزاء من هو خالد فى النّار؟ وهو كلام فى صورة الإثبات ، ومعناه : النفي ، لانطوائه تحت حكم كلام مصدّر بحرف الإنكار ، ودخوله فى حيّزه ، وهو قوله :
أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ «1» ، وفائدة حذف حرف الإنكار : زيادة تصوير لمكابرة من يسوّى بين المتمسك بالبيّنة والتابع لهواه ، وأنه بمنزلة من يثبت التسوية بين الجنة ، التي يجرى فيها تلك الأنهار ، وبين النّار ، التي يسقى أهلها الحميم الحار ، المشار إليه بقوله : وَسُقُوا ماءً حَمِيماً حارا فى النّهاية ، إذا دنا منهم شوى وجوههم ، ووقعت فروة رؤوسهم فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ مصارينهم ، التي هى مكان تلك الأشربة. نسأل اللّه العافية.
الإشارة : مثل جنة المعارف ، التي وعدها المتقون كلّ ما يشغل عن اللّه ، فيها أنهار من ماء علوم الحقيقة ، غير متغير صفاؤها ، ولا متكدرة أنوارها ، وأنهار من لبن علوم الشريعة المؤيّدة بالكتاب والسنة ، لم تتغير حلاوة معاملتها ، ولا لذة مناجاتها ، وأنهار من خمرة الشهود ، لذة للشاربين لها ، تذهل حلاوتها العقول ، وتفوت عن مدارك النقول ، وأنهار من عسل حلاوة المكالمة والمساررة والمناجاة ، صافيات الأوقات ، محفوظة من المكدرات ، ولهم فيها من طرف الحكم ، وفواكه العلوم ، ما لا تحصيه الطروس ، ولا تدركه محافل الدروس.
قال القشيري : (مثل الجنة) ، أي : صفتها كذا ، وللأولياء اليوم ، لهم شراب الوفاء ، ثم شراب الصفاء ، ثم شراب الولاء ، ثم شراب فى حال اللقاء ، ولكلّ من هذه الأشربة عمل ، ولصاحبه سكر وصحو ، فمن تحسى شراب الوفاء لم ينظر إلى أحد من الخلق فى أيام غيبته عن إحساسه ، وأنشدوا :
وما سرّ صدرى منذ شطّت بك النّوى أنيس ولا كأس ولا متطرف «2»
___________
(1) الآية 14 من سورة محمد.
(2) ورد :
وما سر قلبى منذ شط به النّوى نعيم ولا كأس ولا متصرف
ونسب إلى عبد اللّه بن أحمد بن مصروف. انظر يتيمة الدهر 3/ 108.(5/364)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 365
ومن شرب بكأس الصفا خلص له عن كلّ شوب بلا كدورة فى عهده ، فهو فى كلّ وقت ظامئ عن نفسه ، خال عن مطالباته ، قائم به ، بلا شغل فى الدنيا ولا فى الآخرة ، ومن شرب كأس الولاء عدم فيه القرار ، ولم يغب سيره لحظة ، ليلا ولا نهارا ، ومن شرب فى حال اللقاء أنس على الدوام ببقائه فلم يطلب مع بقائه شيئا آخر ، لا من عطائه ولا من لقائه لاستهلاكه فى علائه عند سطوات كبريائه. ه.
قلت : أما شراب الوفاء فهو عقد الإرادة مع الشيخ ، أو عقد المحبة والخدمة مع الحق ، فيجب الوفاء بكلّ منهما ، وهو كشرب العطشان من الماء العذب ، وأما شراب الصفاء فهو صفاء العلم باللّه ، وهو كاللبن تتغذى به الأرواح فى حال ترقيها إلى الحضرة ، وأما شراب الولاء فهو شراب أهل التمكين من الولاية الكبرى ، فيشربون من الخمرة الأزلية ، فيسكرون ، ثم يصحون ، وفيها يقول الششترى رضي اللّه عنه :
لا شراب الدوالي ، إنها أرضيه خمرها دون خمرى ، خمرتى أزليه «1»
وأما شراب حال اللقاء فالمراد به : أوقات رجوعهم إلى البقاء ، فيتفننون فى علوم الحكمة وحلاوة المعاملة.
واللّه تعالى أعلم.
ثم شفع بأضدادهم ، فقال :
[سورة محمد (47) : الآيات 16 الى 18]
وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ما ذا قالَ آنِفاً أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ (16) وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ (17) فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ (18)
قلت : (آنفا) : قال الزمخشري ومن تبعه : ظرف ، أي : الساعة ، وقال أبو حيان : لا أعلم أحدا عدّه من الظروف ، وجوّز «مكىّ» فيه الظرف والحالية ، . قال الهروي : «آنفا» مأخوذة من : ائتنفت الشيء : إذا ابتدأته ، وروضة أنف : إذا لم ترع. المعنى : ما ذا قال فى وقت يقرب من وقتنا؟. و(أن تأتيهم) : بدل اشتمال من الساعة.
يقول الحق جل جلاله : وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ ، وهم المنافقون ، كانوا يحضرون مجلس رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ، ويسمعون كلامه ولا يعونه ، ولا يراعونه حق رعايته ، تهاونا منهم ، حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ
___________
(1) انظر الديوان ص 310. والدوالى : العنب(5/365)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 366
من الصحابة - رضي اللّه عنهم - : ما ذا قالَ آنِفاً ما الذي قال الساعة؟ على طريقة الاستهزاء ، أو : ما القول الذي ائتنفه الآن قبل انفصالنا عنه؟.
وقال مقاتل : كان النّبى صلّى اللّه عليه وسلم يخطب ، ويعيب المنافقين ، فسمع المنافقون قوله ، فلما خرجوا من المسجد ، سألوا ابن مسعود عما قال النّبى صلّى اللّه عليه وسلم استهزاء «1». وقال ابن عباس : «أنا من الذين أتوا العلم ، وقد سئلت فيمن سئل» «2».
ويقال : الناس ثلاثة : سامع عامل ، وسامع غافل ، وسامع تارك.
أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ لعدم توجهها إلى الخير أصلا ، وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ الباطلة ، فلذلك فعلوا ما فعلوا ، مما لا خير فيه ، وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا إلى طريق الحق زادَهُمْ اللّه بذلك هُدىً علما وبصيرة ، أو شرح صدر بالتوفيق والإلهام ، أو : زادهم ما سمعوا من الرّسول صلّى اللّه عليه وسلم هداية على ما عندهم ، وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ أعانهم عليها ، أو : آتاهم جزاء تقواهم ، أو : بيّن لهم ما يتقون.
فَهَلْ يَنْظُرُونَ أي : ما ينتظرون إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً أي : تباغتهم بغتة ، وهى الفجاءة ، والمعنى :
أنهم لا يتذكرون بأحوال الأمم الخالية ، ولا بالإخبار بإتيان الساعة ، وما فيها من عظائم الأهوال ، وما ينظرون إلا إتيان نفس الساعة بغتة ، فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها علاماتها ، جمع : شرط بالتحريك ، بمعنى : العلامة ، وهى مبعث محمد صلّى اللّه عليه وسلم ، وانشقاق القمر ، والدخان ، على قول. وقيل : قطع الأرحام ، وقلة الكرام ، وكثر اللئام ، فقوله تعالى : فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها تعليل لمفاجأتها ، لا لمطلق إتيانها ، على معنى : أنه لم يبق من الأمور الموجبة للتذكير أمر مترقب ينتظرونه سوى إتيان نفس الساعة ، إذ قد جاء أشراطها ، فلم يرفعوا لها رأسا ، ولم يعدوها من مبادئ إتيانها فيكون إتيانها بطريق المفاجأة لا محالة.
فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ ، قال الأخفش : التقدير : فأنّى لهم ذكراهم إذا جاءتهم ، أي : فمن أين لهم التذكير والاتعاظ إذا جاءتهم الساعة؟ ف «ذكراهم» : مبتدأ ، و«أنّى» : خبر مقدم ، و«إذا جاءتهم» : اعتراض ، وسط بينهما ، رمز إلى غاية سرعة مجيئها ، والمقصود : عدم نفع التذكير عند مجيئها ، كقوله تعالى : يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى «3».
___________
(1) ذكره البغوي فى تفسيره (7/ 283).
(2) أخرجه ابن جرير (26/ 51) والحاكم (التفسير 2/ 457) بلفظ : «كنت فيمن يسئل» والحديث صحّحه الحاكم ، من طريق سعيد بن جبير ، ووافقه الذهبي.
(3) من الآية 23 من سورة الفجر.(5/366)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 367
الإشارة : مجلس الوعظ والتذكير ، إن كان المذكّر من أهل التنوير ، نهض المستمع له إلى اللّه قطعا ، لكن ذلك يتفاوت على قدر سريان النّور فيه قطعا ، فمنهم من يصل النّور إلى ظاهر قلبه ، ومنهم من يصل إلى داخل القلب ، ومنهم من يصل إلى روحه ، ومنهم من يصل إلى سره ، وذلك على قدر التفرع والاستعداد ، فمن وصل النّور إلى ظاهر قلبه نهض إلى العمل الظاهر ، وكان بين حب الدنيا والآخرة ، ومن وصل إلى قلبه نهض بقلبه إلى اللّه ، ورفض الدنيا وراءه ، ومن وصل إلى روحه انكشف عنه الحجاب ، ومن وصل إلى سره تمكن من شهود الحق.
وفى الحكم : «تسبق أنوار الحكماء أقوالهم ، فحيثما سار التنوير وصل التعبير» «1» ، وهذا إن حضر مستفيدا ، وأما إن حضر منتقدا ، فهو قوله تعالى : وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ .. الآية ، والذين اهتدوا لدخول طريق التربية زادهم هدى ، فلا يزالون يزيدون تربية وترقية إلى أن يصلوا إلى مقام التمكين من الشهود. قال القشيري : والذين اهتدوا بأنواع المجاهدات زادهم هدى لأنوار المشاهدات ، واهتدوا بتأمل البرهان ، فزادهم هدى بروح البيان ، أو اهتدوا بعلم اليقين ، فزادهم هدى بحق اليقين. ه.
ثم ذكر سبب الهداية وأساسها ، فقال :
[سورة محمد (47) : آية 19]
فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْواكُمْ (19)
يقول الحق جل جلاله : فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ أي : إذا علمت أن مدار السعادة ، والفوز بالنعيم فى دار البقاء هو التوحيد والطاعة ، ومناط الشقاء والخسران فى دار الهوان هو الإشراك والعصيان ، فاثبت على ما أنت عليه من التوحيد ، واعلم أنه لا إله فى الوجود إلا اللّه ، فلا يستحق العبادة غيره ، وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وهو ما قد يصدر منه صلّى اللّه عليه وسلم من خلاف الأولى ، عبّر عنه بالذنب نظرا إلى منصبه الجليل ، كيف لا ، وحسنات الأبرار سيئات المقربين؟ ف كل مقام له آداب ، فإذا أخلّ بشىء من آدابه أمر بالاستغفار ، فلمقام الرّسالة آداب ، ولمقام الولاية آداب ، ولمقام الصلاح آداب ، وضعف العبودية لا يقوم بجميع حقوق الرّبوبية ، قال تعالى : وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ «2».
وبالجملة ، فالقيام بالآداب مع اللّه - تعالى - على ما يستحقه - سبحانه - حتى يحيط العبد بجميع الآداب مع عظمة
___________
(1) حكمة (رقم 182) انظر تبويب الحكم للمتقى الهندي (ص 36).
(2) من الآية 67 من سورة الزمر. [.....](5/367)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 368
الربوبية محال عادة ، قال صلّى اللّه عليه وسلم مع جلالة منصبه : «لا أحصى ثناء عليك ، أنت كما أثنيت على نفسك» «1» ف كل ما قرب العبد من الحضرة شدد عليه فى طلب الأدب ، فإذا أخذته سنة أمر بالاستغفار ، ولذلك كان صلّى اللّه عليه وسلم يستغفر فى المجلس سبعين مرة ، أو مائة ، على ما فى الأثر «2».
وقال شيخ شيوخنا ، سيدى عبد الرّحمن الفاسى ، بعد كلام : والحق أن استغفاره صلّى اللّه عليه وسلم طلب ثبات المغفرة والستر من الوقوع ، لا طلب العفو بعد الوقوع ، وقد أخبره تعالى بأنه فعل. وقد يقال : استغفار تعبد لا غير. قال : والذي يظهر لى أن أمره بالاستغفار مع وعد اللّه بأنه مغفور له إشارة إلى الوقوف مع غيب المشيئة ، لا مع الوعد ، وذلك حقيقة ، والوقوف مع الوعد شريعة. وقال الطيبي : إذا تيقنت أن الساعة آتية ، وقد جاء أشراطها ، فخذ بالأهم فالأهم ، والأولى فالأولى ، فتمسك بالتوحيد ، ونزّه اللّه عما لا ينبغى ، ثم طهّر نفسك بالاستغفار عما لا يليق بك ، من ترك الأولى ، فإذا صرت كاملا فى نفسك فكن مكملا لغيرك ، فاستغفر لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ. ه. أي : استغفر لذنوبهم ، بالدعاء لهم ، وترغيبهم فيما يستدعى غفران ذنوبهم.
وفى إعادة الجار تنبيه على اختلاف متعلّقيه إذ ليس موجب استغفاره صلّى اللّه عليه وسلم كموجب استغفارهم ، فسيئاته - عليه السّلام - فرضا - حسناتهم. وفى حذف المضاف ، وإقامة المضاف إليه مقامه - أي : ولذنب المؤمنين - إشعار بعراقتهم فى الذنوب ، وفرط افتقارهم إلى الاستغفار.
وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْواكُمْ أي : يعلم متقلبكم فى الدنيا ، فإنها مراحل لا بد من قطعها ، ويعلم مثواكم فى العقبى فإنها مواطن إقامتكم ، فلا يأمركم إلا بما هو خير لكم فيهما ، فبادروا إلى الامتثال لما أمركم به ، فإنه المهم لكم ، أو : يعلم متقلبكم : فى معايشكم ومتاجركم ، ومثواكم : حيث تستقرون فى منازلكم ، أو متقلبكم : فى حياتكم ، ومثواكم : فى القبور ، أو : متقلبكم : فى أعمالكم الحسنة أو السيئة ، ومثواكم : من الجنة أو النّار ، أو : يعلم جميع أحوالكم فلا يخفى عليه شىء منها ، فمثله حقيق بأن يخشى ويتقى ويستغفر.
الإشارة : قال القشيري : قال تعالى لنبيه صلّى اللّه عليه وسلم : فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ ، وكان عالما ، ولكن أمره باستدامة العلم واستزادته ، وذلك فى الثاني من حاله فى ابتداء العلم ، لأن العلم أمر ، ولا يجوز البقاء على الأمر الواحد ، ف كل لحظة يأتى فيها علم. ويقال : كان له علم اليقين ، فأمر بعين اليقين ، أو : كان له عين اليقين ، فأمر
___________
(1) بعض حديث صحيح ، أخرجه مسلم فى (الصلاة ، باب ما يقال فى الرّكوع والسجود ح 486) من حديث السيدة عائشة - رضي اللّه عنها.
(2) أخرج مسلم فى (الذكر والدعاء والتوبة ، باب الاستغفار واستحباب الاستغفار والاستكثار منه ح 2702) عن الأغر المزني ، قال :
قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم : «إنه ليغان على قلبى وإنى لأستغفر اللّه فى كلّ يوم مائة مرة».(5/368)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 369
بحق اليقين. ويقال : قال صلّى اللّه عليه وسلم : «أنا أعملكم باللّه وأخشاكم له» فنزلت الآية «1» ، أي : أمر بالتواضع. وهنا سؤال :
كيف قال : «فاعلم» ولم يقل صلّى اللّه عليه وسلم بعد : علمت ، كما قال إبراهيم حين قال له : أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ «2» ويجاب :
بأن اللّه تعالى أخبر عنه بقوله : آمَنَ الرَّسُولُ «3» والإيمان هو العلم ، فإخبار الحق - تعالى - عنه أتم من إخباره عن نفسه بقوله : علمته.
ويقال : إبراهيم عليه السّلام لما قال : أَسْلَمْتُ ابتلى ، ونبينا صلّى اللّه عليه وسلم لم يقل علمت ، فعوفى ، ويقال : فرق بن موسى ، لمّا احتاج إلى زيادة العلم أحيل على الخضر ، ونبينا صلّى اللّه عليه وسلم قال له : قُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً «4» فكم بين من أحيل فى استزاده العلم على عبد ، وبين من أمر باستزادة العلم من الحق. ويقال : إنما أمره بقوله : فَاعْلَمْ بالانقطاع إليه من الحظوظ من الخلق ، ثم بالانقطاع منه إليه ، وإذا قال العبد هذه الكلمة على العادة ، والغفلة عن الحقيقة ، [وهى نصف البيان ] «5» فليس لهذا القول كبير قيمة ، وهذا إذا تعجب من شىء فذكر هذه الكلمة ، فليس له قدر ، وإذا قاله مخلصا ذاكرا لمعناها ، متحققا بحقيقتها ، فإن قاله بنفسه فهو فى وطن التفرقة ، وعندهم هذا من الشّرك الخفىّ ، وإن قاله بالحق فهو إخلاص ، والعبد أولا يعلم ربه بدليل وحجة ، فعلمه بنفسه ضرورى ، وهو أصل الأصول ، وعليه ينبنى كلّ علم استدلالى ، ثم تزداد قوة علمه بزيادة البيان ، وزيادة الحجج ، ويتناقض علمه بنفسه لغلبة ذكر اللّه بقلبه عليه ، فإذا انتهى لحال المشاهدة ، واستيلاء سلطان الحقيقة عليه ، صار علمه فى تلك الحالة ضروريا ، ويقل إحساسه بنفسه ، حتى يصير علمه بنفسه كالاستدلال ، وكأنه غافل عن نفسه ، أو ناس لنفسه ، ويقال : الذي فى البحر غلب عليه ما يأخذه من الرّؤية عن ذكر نفسه ، فإذا ركب البحر فرّ من هذه الحالة ، فإذا غرق فى البحر فلا إحساس له بشىء سوى ما هو مستغرق فيه مستهلك. ه.
قلت : لا مدخل للحجج هنا ، وإنما هو أذواق وكشوفات ، فالصواب أن يقول : ثم تزداد قوة علمه ، بزيادة الكشف والذوق ، حتى يغيب عن وجوده ، بشهود معبوده ، فيتناقض علمه ، فيصير علمه باللّه ضروريا ، وعلمه بعدم وجوده ضروريا ، واللّه تعالى أعلم.
___________
(1) نزول الآية فى هذا لم أقف عليه ، أما الحديث فصحيح ، فقد ترجم البخاري فى صحيحه (كتاب الإيمان ، باب قول النّبى صلّى اللّه عليه وسلم «أنا أعلمكم باللّه» ح 20) وأورد حديث السيدة عائشة - رضي اللّه عنها - قالت : كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم إذا أمرهم من الأعمال بما يطيقون ، قالا : إنا لسنا كهيئتك يا رسول اللّه ، إن اللّه قد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ، فيغضب صلّى اللّه عليه وسلم ، حتى يعرف الغضب فى وجهه ، ثم يقول : «إن أتقاكم وأعلمكم باللّه أنا». وأخرج البخاري أيضا فى (الأدب ، باب من لم يواجه النّاس بالعتاب ح 6101) عن السيدة عائشة - رضى عنها - قالت : صنع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم شيئا ، فترخص فيه ، فتنزه عنه قوم ، فبلغ ذلك النّبى صلّى اللّه عليه وسلم ، فخطب فحمد اللّه ، ثم قال : «ما بال أقوام يتنزهون عن الشيء أصنعه ، فاللّه إنى لأعلمهم باللّه عز وجل ، وأشدهم له خشية».
(2) من الآية 131 من سورة البقرة.
(3) من الآية 285 سورة البقرة.
(4) من الآية 114 من سورة طه.
(5) فى القشيري : [أي كان بصفة النّسيان ] وهو أنسب.(5/369)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 370
وقوله تعالى : وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ قال الورتجبي عن الجنيد : إي : اعلم حقيقة أنك بنا ولنا وبنا ، علمتنا ، وإياك أن ترى نفسك فى ذلك ، فإن خطر بك خاطر غير ، فاستغفر من خاطرك ، فلا ذنب ولا خطب أعظم ممن رجع عنا إلى سوانا ، ولو فى خطرة ونفس. ثم قال عن الأستاذ القشيري : إذا علمت أنك علمته فاستغفر لذنبك من هذا فإن الحق علا جلال قدره أن يعلمه غيره. ه. قلت : وحاصله : أنّ استغفاره صلّى اللّه عليه وسلم ما عسى أن يخطر بباله رؤية وجوده ، كما قال الشاعر :
وجودك ذنب لا يقاس به ذنب فلا وجود للغير معه أصلا ، فهو الذي عرف نفسه بنفسه ، ووحّد نفسه بنفسه ، وقدّس نفسه بنفسه ، وعظّم نفسه بنفسه ، كما قال الهروي رضي اللّه عنه حين سئل عن التوحيد الخاص :
ما وحّد الواحد من واحد إذ كلّ من وحّده جاحد
توحيد من ينطق عن نعته عارية أبطلها الواحد
توحيده إيّاه توحيده ونعت من ينعته لاحد «1»
ثم ذكر حال المؤمنين والمنافقين عند نزول الوحى ، فقال :
[سورة محمد (47) : الآيات 20 الى 24]
وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْ لا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلى لَهُمْ (20) طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ (21) فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ (22) أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ (23) أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها (24)
يقول الحق جل جلاله : وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْ لا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فيها ذكر الجهاد ، وذلك أنّ المؤمنين كان حرصهم على الجهاد يبعثهم على تمنى ظهور الإسلام ، وتمنى قتال العدو ، فكانوا يأنسون بالوحى ،
___________
(1) راجع التعليق على هذه الأبيات عند إشارة الآيات : 2 - 4 من سورة الفاتحة.(5/370)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 371
ويستوحشون إذا أبطأ ، وكان المنافقون على العكس من ذلك ، فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فى معنى الجهاد مُحْكَمَةٌ أي : مبيّنة غير متشابهة ، لا تحتمل وجها إلا وجوب الجهاد. وعن قتادة : كل سورة فيها ذكر القتال فهى محكمة «1» لأن النّسخ لا يرد عليها لأن القتال نسخ ما كان قبل من الصلح والمهادنة ، وهو غير منسوخ إلى يوم القيامة. ه.
وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ أي : أمر فيها بالجهاد رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ نفاق ، أي : رأيت المنافقين فيما بينهم يضجرون منها ، يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ أي : تشخص أبصارهم جبنا وجزعا كما ينظر من أصابته الغشية عند الموت.
قال القشيري : كان المسلمون تضيق صدورهم لتأخر الوحى ، وكانوا يتمنون أن ينزل الوحى بسرعة ، والمنافقون إذا ذكر القتال يكرهون ذلك لما كان يشق عليهم القتال ، فكانوا بذلك يفتضحون وينظرون إليه نظر المغشىّ عليه من الموت أي : بغاية الكراهة لذلك ، فَأَوْلى لَهُمْ تهديد ، أي : الوعيد لهم. ه. وقيل : المعنى :
فويل لهم ، وهو أفعل ، من : الولي ، وهو القرب ، والمعنى : الدعاء عليهم بأن يليهم المكروه ، ويقرب من ساحتهم ، وقيل : أصله : أويل ، فقلب ، فوزنه : أفلع ، قال الثعلبي : يقال لمن همّ بالعطب ثم أفلت : أولى لك ، أي : قاربت العطب.
وقوله تعالى : طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ : استئناف ، أي : طاعة للّه وللرسول ، وقول معروف حسن خير لهم ، أو : يكون حكاية قول المنافقين ، أي : قالوا : أمرنا طاعة وقول معروف ، قالوه نفاقا ، فيكون خبرا عن مضمر ، وقيل :
«أولى» : مبتدأ ، و«طاعة» : خبره ، وهذا أحسن ، وهو المشهور من استعمال «أولى» بمعنى : أحق وأصوب ، أي :
فالطاعة والقول المعروف أولى لهم وأصوب.
فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ أي : فإذا جدّ الأمر ولزمهم القتال فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ فى الإيمان والطاعة لَكانَ الصدق خَيْراً لَهُمْ من كراهة الجهاد ، وقيل : جواب «إذا» وهو العامل فيها - محذوف ، أي : فإذا عزم الأمر خالفوا أو تخلفوا ، أو نافقوا ، أو كرهوا.
فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ أي : فلعلكّم إن أعرضتم عن دين اللّه وسنة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم أن ترجعوا إلى ما كنتم عليه فى الجاهلية من الإفساد فى الأرض ، بالتغاور والتناهب ، وقطع الأرحام ، بمقاتلة بعض الأقارب بعضا ، أو : فهل عسيتم إن توليتم أمور النّاس وتأمّرتم عليهم أن تفسدوا فى الأرض ، تفاخرا على الملك ، وتهالكا على الدنيا ، فإن أحوالكم شاهدة بذلك من خراب الدين ، والحرص على الدنيا. قال فى
___________
(1) أخرج قول قتادة ، الطبري (26/ 54).(5/371)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 372
الحاشية الفاسية : والأشهر أنه من الولاية ، أي : إن وليتم الحكم ، وقد جاء حديث أنهم قريش أخذ اللّه عليهم إن ولوا أمر النّاس ألا يفسدوا ، ولا يقطعوا الأرحام ، قاله ابن حجر «1». ه.
وخبر «عسى» : «أن تفسدوا» ، والشرط اعتراض بين الاسم والخبر ، والتقدير : فهل عسيتم أن تفسدوا فى الأرض إن توليتم. تقول : عسى يا فلان إن فعلت كذا أن يكون كذا ، فهل عسيت أنت ذلك ، أي : فهل توقعت ذلك؟
أُولئِكَ المذكورون ، فالإشارة إلى المخاطبين ، إيذانا بأن ذكر مساوئهم أوجب إسقاطهم عن رتبة الخطاب ، وحكاية أحوالهم الفظيعة لغيرهم ، وهو مبتدأ ، وخبره : الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ أبعدهم عن رحمته ، فَأَصَمَّهُمْ عن استماع الحق والموعظة لتصاممهم عنه بسوء اختيارهم ، وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ لتعاميهم عما يشاهدونه من الآيات المنصوبة فى الأنفس والآفاق.
أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ فيعرفون ما فيه من المواعظ والزواجر حتى لا يقعوا فيما وقعوا فيه من الموبقات ، أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها فلا يصل إليها وعظ أصلا ، و«أم» منقطعة ، وما فيها من معنى «بل» للانتقال من التوبيخ على عدم التدبر إلى التوبيخ بكون قلوبهم مقفلة ، لا تقبل التدبر والتفكر ، والهمزة للتقرير. وتنكير «قلوب» ، إما لتهويل حالها ، وتفظيع شأنها ، بإبهام أمرها فى الفساد والجهالة ، كأنه قيل : قلوب منكرة لا يعرف حالها ، ولا يقادر قدرها فى القسوة ، وإما لأنّ المراد بها قلوب بعض منهم ، وهم المنافقون ، وإضافة الأقفال إليها للدلالة على أنها مخصوصة بها ، مناسبة لها ، غير مجانسة لسائر الأفعال المعهودة.
قال القشيري : إذا تدبروا القرآن أفضى بهم إلى حس العرفان ، وأزاحهم عن ظلمة التحيّر أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها أقفل الحقّ على قلوب الكفار ، فلا يدخلها زواجر التنبيه ، ولا تنبسط عليها شعاع العلم ، ولا يحصل فيهم الخطاب ، والباب إذا كان مقفلا ، فكما لا يدخل فيه شىء لا يخرج ما فيه ، كذلك هى قلوب الكفار مقفلة فلا الكفر الذي فيها يخرج ، ولا الإيمان الذي يدعون إليه يدخل فى قلوبهم. ه.
وقال ابن عطية : هو الرّان الذي منعهم من الإيمان ، ثم ذكر حكاية الشاب ، وذلك أن وفد اليمن قدم على النّبىّ صلى اللّه عليه وسلم وفيهم شاب ، فقرأ عليهم النّبىّ صلّى اللّه عليه وسلم هذه الآية ، فقال الشابّ : عليها أقفالها حتى يفتحها اللّه ويفرجها ، قال عمر :
___________
(1) فى فتح الباري (التفسير ، سورة سيدنا محمد صلّى اللّه عليه وسلم 8/ 445) وعزى ابن حجر الحديث المشار إليه للطبرى فى تهذيبه ، من حديث عبد اللّه بن مغفل. ونصه : «سمعت النّبى صلّى اللّه عليه وسلم يقول : فَهَلْ ، عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قال : هم هذا الحي من قريش ، أخذ اللّه عليهم إن ولوا النّاس أن لا يفسدوا فى الأرض ولا يقطعوا أرحامهم».(5/372)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 373
فعظم فى عينى ، فما زالت فى نفس عمر رضي اللّه عنه - حتى ولّى الخلافة ، فاستعان بذلك الفتى «1». ه. وفى الحديث :
«إذا أراد اللّه بعبد خيرا فتح له قفل قلبه ، وجعل فيه اليقين» «2».
الإشارة : أهل التوجه والرّياضة يفرحون بما ينزل بهم ، مما يثقل على نفوسهم ، كالفاقات والأزمات ، وتسليط الخلق عليهم ، وغير ذلك من النّوائب لتموت نفوسهم فتحيا قلوبهم وأرواحهم بمعرفة اللّه ، والذين فى قلوبهم مرض كالوساوس والخواطر يفرون من ذلك ، وينظرون - حين يرون أمارات ذلك - نظر المغشى عليه من الموت ، فالأولى لهم الخضوع تحت مجارى الأقدار ، والرّضا والتسليم لأحكام الواحد القهار ، فإذا عزم الأمر بالتوجه إلى جهاد النّفس ، أو بالسفر إلى من يداويها ، فلو صدقوا فى الطلب ، وتوجهوا للطبيب ، لكان خيرا لهم. فهل عسيتم إن توليتم وأعرضتم عن ذلك ، ولم تسافروا إلى الطبيب ، أن تفسدوا فى الأرض بالمعاصي والغفلة ، وتقطعوا أرحامكم ، إذ لا يصل رحمه حقيقة إلا من صفا قلبه ، ودخله الخوف والهيبة ، أولئك الذين أبعدهم اللّه عن حضرته ، فأصمّهم عن سماع الداعي إلى اللّه ، وأعمى أبصارهم عن رؤية خصوصيته ، وأنوار معرفته ، أفلا يتدبرون القرآن ، فإنّ فيه علوم الظاهر والباطن ، لكن إذا زالت عن القلوب الأقفال ، وحاصلها أربعة : حب الدنيا ، وحب الرّئاسة ، والانهماك فى الحظوظ والشهوات ، وكثرة العلائق والشواغل ، فإن سلم من هذه صفا قلبه ، وتجلت فيه أسرار معانى الذات والصفات ، فيتدبر القرآن ، ويغوص فى بحر أسراره ، ويستخرج يواقيته ودرره. وباللّه التوفيق.
ثم ذكر من رجع بعد التوجه ، فقال :
إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا ...
___________
(1) أخرجه الطبري (26/ 58) والبغوي فى التفسير (7/ 287) وزاد السيوطي عزوه فى الدر (6/ 52) لإسحاق بن راهويه ، وابن المنذر ، وابن مردويه ، عن عروة.
(2) ذكره فى كنز العمال (ح 30768) وعزاه لأبى الشيخ عن أبى ذر. وقال المناوى فى الفيض (1/ 260) : «وفيه سعيد بن إبراهيم ، قال الذهبي : مجهول». وبقية الحديث : «جعل فيه اليقين والصدق ، وجعل قلبه واعيا لما سلك فيه ، وجعل قلبه سليما ، ولسانه صادقا ، وخليقته مستقيمة ، وجعل أذنه سميعة ، وعينه بصيرة».(5/373)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 374
[سورة محمد (47) : الآيات 25 الى 28]
إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى لَهُمْ (25) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ (26) فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ (27) ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ (28)
يقول الحق جل جلاله : إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ أي : رجعوا إلى الكفر ، وهم المنافقون ، الذين وصفوا قبل بمرض القلوب ، وغيره ، من قبائح الأفعال والأحوال ، فإنهم كفروا به صلّى اللّه عليه وسلم مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى بالدلائل الظاهرة ، والمعجزات القاهرة. وقيل : اليهود ، وقيل : أهل الكتابين جميعا ، كفروا به صلّى اللّه عليه وسلم بعد ما وجدوا نعته فى كتابهم ، وعرفوا أنه المنعوت بذلك ، وقوله تعالى : الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ ، الجملة : خبر «إن» أي :
الشيطان زيّن لهم ذلك ، أو : سهّل لهم ركوب العظائم ، من : السّول ، وهو الاسترخاء ، أي : أرخى العنان لهم ، حتى جرّهم إلى مراده ، وَأَمْلى لَهُمْ ومدّ لهم فى الآمال والأمانى ، وقرأ البصري : «وأملى» بالبناء للمفعول ، أي :
أملهوا ومدّ فى عمرهم.
ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللَّهُ الإشارة إلى ما ذكر من ارتدادهم ، لا إلى الإملاء ، ولا إلى التسويل - كما قيل - إذ ليس شيئا منهما سببا فى القول الآتي أي : ذلك الارتداد بسبب أنهم - أي المنافقون - قالوا لليهود الذين كرهوا ما نزّل اللّه من القرآن على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم بعد ما علموا أنه من عند اللّه حسدا وطمعا فى نزوله عليهم : سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ أي : عداوة محمد [والقعود عن ] «1» نصر دينه ، أو : فى نصرهم والدفع عنهم إن نزل بهم شىء ، من قبله عليه السّلام ، وهو الذي حكاه عنهم بقوله تعالى : أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ ... الآية «2» وهم بنو قريظة والنّضير ، الذين كانوا يوالونهم ويوادونهم ، وإنما كانوا يقولون لهم ذلك سرا ، كما ينبئ عنه قوله تعالى : وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ «3» أي : جميع أسرارهم التي من جملتها : قولهم هذا ، وقرأ الأخوان وحفص بكسر الهمزة مصدر ، أي : إخفاءهم لما يقولون لليهود.
فَكَيْفَ تكون حيلتهم وما يصنعون إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ حال كونهم يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ ، وهو تصوير لحال توفيهم على أهول الوجوه وأفظعها. وعن ابن عباس رضي اللّه عنه : «لا يتوفى أحد على
___________
(1) ما بين المعقوفتين ليس فى الأصول ، وأثبته لاقتضاء السياق له.
(2) الآية 11 من سورة الحشر. [.....]
(3) قرأ حفص وحمزة والكسائي «إسرارهم» بكسر الهمزة ، مصدر «أسرّ» ، وقرأ الباقون «بالهمزة المفتوحة» جمع : سرّ.
انظر الهداية للمهدوى (2/ 516) والإتحاف 2/ 478.(5/374)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 375
معصية إلا تضرب الملائكة وجهه ودبره» «1». ذلِكَ التوفى الهائل بِأَنَّهُمُ ، بسبب أنهم اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللَّهَ من الكفر والمعاصي ومعاونة الكفرة ، وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ من الطاعة والإيمان ونصر المؤمنين ، فَأَحْبَطَ لأجل ذلك أَعْمالَهُمْ التي عملوها حال الإيمان وبعد الارتداد ، من أعمال البر.
[سورة محمد (47) : الآيات 29 الى 30]
أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغانَهُمْ (29) وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ (30)
أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ، هم المنافقون الذين فصلت أحوالهم الشنيعة ، أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغانَهُمْ أحقادهم ، ف «أم» منقطعة ، وأ «ن» مخففة ، واسمها : ضمير الشأن ، أي : أظن المنافقون الذين فى قلوبهم حقد وعداوة أنه لن يخرج اللّه حقادهم ، ولن يبرزها لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم والمؤمنين ، فيبقى أمورهم مستورة؟ بل لا يكاد يدخل ذلك تحت الاحتمال.
وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ ودللناك عليهم بأمارات ، حتى تعرفهم بأعينهم ، معرفة مزاحمة للرؤية. والالتفات لنون العظمة لإبراز العناية بالإرادة ، وفى مسند أحمد ، عن ابن مسعود : خطبنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم فحمد اللّه ، وأثنى عليه ، ثم قال : «إن منكم منافقين ، فمن سميت فليقم ، ثم قال : قم يا فلان ، حتى سمى ستة وثلاثين» «2» انظر الطيبي. فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ بعلامتهم التي نسمهم بها ، وعن ابن عباس رضي اللّه عنه : ما خفى عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم بعد هذه الآية شىء من المنافقين كان يعرفهم بسيماهم ، ولقد كنا فى بعض الغزوات وفيها تسعة من المنافقين ، يشكرهم النّاس «3» فناموا ، فأصبح على وجه كلّ واحد منهم مكتوب : هذا منافق» «4» قال ابن زيد : قصد اللّه إظهارهم ، وأمرهم أن يخرجوا من المسجد ، فأبوا إلا أن يتمسكوا بلا إله إلا اللّه ، فحقنت دمائهم ، ونكحوا ونكح منهم بها.
وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ أي : واللّه لتعرفنهم فِي لَحْنِ الْقَوْلِ أي : مجراه وأسلوبه وإمالته عن الاعتدال لما فيه من التذويق والتشديق ، وقد كانت ألسنتهم حادة ، وقلوبهم خاربة ، كما قال تعالى : وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ ...
الآية «5» ، من فى قلبه شىء لا بد أن يظهر على لسانه ، كما قيل : «ما كمن فيك ظهر على فيك». وهذه الجمل كلها داخلة تحت «لو» معلقة بالمشيئة ، واللحن يطلق على وجهين : صواب وخطأ ، فالفعل من الصواب : لحن يلحن لحنا ،
___________
(1) ذكره القرطبي (7/ 6257) بنحوه.
(2) أخرجه أحمد فى المسند (5/ 273) والطبراني فى الكبير (17/ 246 ح 687).
(3) فى القرطبي : يشك فيهم النّاس.
(4) على هامش النّسخة الأم مايلى : «هذا غريب جدا ، بل باطل عن ابن عباس». قلت : والخبر ذكره القرطبي فى التفسير (7/ 6259) عن أنس.
(5) الآية 402 من سورة البقرة.(5/375)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 376
كفرح ، فهو لحن ، إذا فطن للشىء ، ومنه قوله صلّى اللّه عليه وسلم : «ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض» «1» أي : لقوته على تصريف الكلام. والفعل من الخطأ : لحن يلحن لحنا ، كجعل ، فهو لاحن إذا أخطأ ، والأصل فيه : إزالة الكلام عن جهته ، مأخوذ من : اللحن ، وهو ضد الإعراب ، وهو الذهاب عن الصواب فى الكلام «2». وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ فيجازيكم بحسب قصدكم إذ الأعمال بالنيات ، وهذا وعد للمؤمنين ، وإيذان بأن حالهم بخلاف حال المنافقين ، أو :
يعلم جميع أعمال العباد ، فيميز خيرها من شرها.
الإشارة : إن الذين ارتدوا على أدبارهم ، أي : رجعوا عن صحبة المشايخ ، بعد ما ظهر لهم أسرار خصوصيتهم الشيطان سول لهم وأملى لهم ، وتقدم عن القشيري : أنه يتخلف عنهم يوم القيامة ، ولا يلحق بالمقربين ، ولو يشفع فيه ألف عارف ، بل من كمال المكر به أن يلقى شبهه فى الآخرة على غيره ، حتى يتوهم عارفوه من أهل المعرفة أنه هو ، فلا يشفع أحد فيه لظنهم أنه معهم ، فإذا ارتفعوا إلى عليين محيت صورته ، ورفع إلى مقام العامة ، انظر معناه فى آل عمران «3».
وقال هنا : الذي طلع فجر قلبه وتلألأ نور التوحيد فيه ، ثم ارتد قبل طلوع نهار إيمانه انكسف شمس يومه ، وأظلم نهار عرفانه ، ودجا ليل شكّه ، وغابت نجوم عقله ، فحدّث عن ظلماتهم ولا حرج. ه. ولا سيما إذا تحزّب مع العامة فى الإذاية ، وقال للذين كرهوا ما نزّل اللّه على أهل الخصوصية من الأسرار : سنطيعكم فى بعض الأمر من إذايتهم ، واللّه يعلم إسرارهم ، وباقى الوعيد الذي فى الآية ربما يشملهم. وقوله تعالى : أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أي : عداوة لأولياء اللّه أن لن يخرج اللّه أضغانهم؟ بل يخرجها ويظهر وبالها ، ويفتضحون ولو بعد حين ، وقوله تعالى : وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ فى قوة الخطاب ، ومفهوم الكلام لأن الأسرة تدلّ على السريرة ، وما خامر القلوب فعلى الوجوه يلوح ، وأنشدوا فى المعنى :
لست «4» من ليس يدرى ما هوان من كرامه إنّ للحبّ وللبغض على الوجه علامه
المؤمن ينظر بنور الفراسة ، والعارف ينظر بعين التحقيق ، والموحّد ينظر باللّه ، ولا يستتر عليه شىء. ه من القشيري.
___________
(1) بعض حديث أخرجه البخاري فى (الشهادات ، باب من أقام البينة بعد اليمين ح 2680) ومسلم فى (الأقضية ، باب الحكم بالظاهر واللحن بالحجة ح 1713). من حديث أم سلمة - رضي اللّه عنها.
(2) انظر اللسان (لحن 5/ 4013 - 4014).
(3) راجع إشارة الآية 90 من سورة آل عمران. (1/ 379).
(4) هكذا فى الأصول ، وأظنه : لست ممن.(5/376)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 377
ثم ذكر اختباره لأهل الصدق ، فقال :
[سورة محمد (47) : الآيات 31 الى 32]
وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ (31) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ (32)
يقول الحق جل جلاله : وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ أي : واللّه لنختبرنّكم بالأمر بالجهاد ، ونحوه من التكاليف الشاقة ، أي : نعاملكم معاملة المختبر ليكون أبلغ فى إظهار العدل ، حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ على مشاق الجهاد والتكاليف ، علما ظاهرا ، يتعلق به الجزاء بعد تعلق العلم به فى الأزل ، وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ أي : ونختبر أسراركم بإظهار ما فيها من خير أو شر ، بالنهوض أو التخلف ، وقيل : أراد بأخباركم : أعمالكم ، عبّر بالأخبار عن الأعمال على سبيل الكناية لأن الإخبار تابع لوجود المخبر عنه ، إن كان الخبر حسنا كان المخبر عنه - وهو العمل - حسنا ، وإن كان الخبر قبيحا فالمخبر عنه قبيح. ه.
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا الناس عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ أي : عادوه مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى بما شاهدوا من نعته فى التوراة ، وبما ظهر على يديه من المعجزات ، ونزل من الآيات ، وهم بنوا قريظة والنّضير ، أو : المطعمون يوم بدر من رؤساء قريش ، لَنْ يَضُرُّوا بكفرهم وصدهم اللَّهَ شَيْئاً من الأشياء ، أو :
شيئا من الصد ، أو : لن يضروا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم بمشاقته ، وقد حذف المضاف لتعظيم شأنه وتعظيم مشاقته.
وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ أي : مكائدهم التي نصبوها فى إبطال دينه تعالى ، ومشاقة رسوله صلّى اللّه عليه وسلم ، فلا يصلون بها إلى ما كانوا يبغون من الغوائل ، ولا يثمر لهم إلا القتل والجلاء عن أوطانهم.
الإشارة : قال القشيري : فى الابتلاء والامتحان يتبين جواهر الرّجال ، فيظهر المخلص ، ويفتضح الممارق «1» ، وينكشف المنافق. ه. وكان الفضيل إذا قرأ هذه الآية بكى ، وقال : اللهم لا تبلنا فإنك إن بلوتنا فضحتنا وهتكت أستارنا. ه. ويبغى أن يزيد : وإن بلوتنا فأيّدنا ، وباللّه التوفيق. إن الذين جحدوا وصدوا النّاس عن طريق الوصول ، وخرجوا عن منهاج السنة ، لن يضروا اللّه شيئا فإن للّه رجالا يقومون بالدعوة ، لا يضرهم من عاداهم ، حتى يأتى أمر اللّه ، وسيحبط أعمال الصادّين المعوّقين ، فلا ينهضون إلى اللّه نهوض الرّجال ، بشؤم انتقادهم. واللّه تعالى أعلم.
___________
(1) فى القشيري : المماذق.(5/377)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 378
ولمّا ذمّ الذين كرهوا الجهاد ، أمر المؤمنين بالطاعة فيه ، وألّا يكونوا أمثال أولئك ، فقال :
[سورة محمد (47) : الآيات 33 الى 38]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ (33) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ ماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ (34) فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ (35) إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ (36) إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ (37)
ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ (38)
يقول الحق جل جلاله : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ فيما يأمركم به من الجهاد وغيره وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فيما سنّه لكم ، وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ بما أبطل به هؤلاء أعمالهم من الكفر والنّفاق ، وغير ذلك من مفسدات الأعمال ، كالعجب والرّياء ، والمن والأذى ، وليس فيه دليل على إحباط الطاعات بالكبائر ، خلافا للمعتزلة ، أو : لا تبطلوا أعمالكم بأن تقطعوها قبل تمامها. وبها احتج الفقهاء على وجوب إتمام العمل فأوجبوا على من شرع فى نافلة إتمامها ، وأخذه عن الآية ضعيف لأن السياق إنما هو فى إحباط العمل بالكفر ، لقوله قبل : وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ ثم قال : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تكونوا كهؤلاء الذين أحبط اللّه أعمالهم بكفرهم وصدهم عن سبيل اللّه ، ومشاقتهم الرّسول ، ويؤيده أيضا : قوله تعالى : إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ ماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ، هذا عام فى كلّ من مات على الكفر ، وإن صح نزوله فى أهل القليب «1».
فَلا تَهِنُوا لا تضعفوا عن الجهاد وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ ، أي : لا تدعوا الكفار إلى الصلح والمسالمة فإن ذلك إعطاء الدنيّة - أي : الذلة - فى الدين ، ويجوز أن يكون منصوبا بإضمار «أن» فى جواب النّهى أي : لا تهنوا مع
___________
(1) انظر تفسير البغوي (7/ 290) والقرطبي (7/ 6262).(5/378)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 379
إعطاء السلم ، وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ : الأغلبون ، وَاللَّهُ مَعَكُمْ بالنصر والمعونة ، ومن كان غالبا ومنصورا واللّه معه ، لا يتصور منه إظهار الذلة والضراعة لعدوه ، وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ لن يضيعها ، من : وترت الرّجل : إذا قتلت له قتيلا ، من ولد أو أخ أو حميم ، فأفردته منه ، حتى صار وترا ، عبّر عن ترك الإثابة فى مقابلة العمل بالوتر ، الذي هو إضاعة شىء معتد به من الأنفس والأموال ، مع أن الأعمال غير موجبة للثواب على قاعدة أهل السنّة ، إبرازا لغاية اللطف ، بتصوير الثواب بصورة الحق المستحق ، وتنزيل ترك الإثابة منزلة إضاعة أعظم الحقوق وإتلافها ، سبحانه من رب رحيم!.
إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ لا ثبات لها ، ولا اعتداد بها ، فلا تؤثروا حياتها الفانية على الحياة الأبدية بالموت فى الجهاد الأصغر أو الأكبر ، وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ أي : ثواب إيمانكم وأعمالكم من الباقيات الصالحات ، التي فيها يتنافس المتنافسون ، وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ بحيث يخل أداؤها بمعايشكم ، وإنما سألكم نزرا يسيرا هو ربع العشر ، تؤدونه إلى فقرائكم.
إِنْ يَسْئَلْكُمُوها أي : جميع أموالكم فَيُحْفِكُمْ أي : يجهدكم بطلب الكل ، فالإحفاء والإلحاف : المبالغة فى السؤال ، وبلوغ الغاية ، يقال : أحفاه فى المسألة : إذا لم يترك شيئا من الإلحاح ، وأحفى شاربه : استأصله ، أي : إن يسألكم جميعها تَبْخَلُوا فلا تعطوا شيئا ، وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ أي : أحقادكم لأن عند سؤال المال يظهر الصادق من الكاذب ، وضمير «لا يسألكم» وما بعدها للّه أو لرسوله. وضمير «يخرج» للّه تعالى ، ويؤيده القراءة بنون العظمة «1» ، أو البخل لأنه سبب الأضغان.
ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ أي : يا هؤلاء ، وقيل : (ها) : للتنبيه ، و(هؤلاء) : موصول بمعنى «الذين» ، وصلته :
تُدْعَوْنَ أي : أنتم الذين تدعون لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ هى النّفقة فى الغزو والزكاة ، كأنه قيل : الدليل على أنه لو أحفاكم لبخلتم أنكم تدعون إلى أداء ربع العشر ، فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ أي : فمنكم ناس يبخلون به ، وَمَنْ يَبْخَلْ بالصدقة وأداء الفريضة فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ فإنّ كلّا من نفع الإنفاق وضرر البخل عائد إليه ، وفى حديث الترمذي : «السخي قريب من اللّه ، قريب من الجنة ، قريب من النّاس ، بعيد من النّار ، والبخيل بعيد من اللّه ، بعيد من الجنة ، بعيد من النّاس ، قريب من النّار ، ولجاهل سخى أحبّ إلى اللّه من عابد بخيل» «2» وفى رواية : «من عالم بخيل» والبخل يتعدى ب «عن» ، و«على» ، لتضمنه معنى : الإمساك والتعدي.
___________
(1) وبها قرأ يعقوب الحضرمي ، انظر البحر المحيط (8/ 85).
(2) أخرجه الترمذي فى (البر والصلة ، باب ما جاء فى السخاء ، ح 1961) والبغوي فى التفسير (2/ 104 - 105) والطبراني فى الأوسط (ح 2363) من حديث أبى هريرة رضي اللّه عنه قال الترمذي : «هذا حديث غريب». [.....](5/379)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 380
وَاللَّهُ الْغَنِيُّ عن كلّ ما سواه ، ويفتقر إليه كلّ ما عداه ، وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ أي : إنه - تعالى - لا يأمر بذلك لحاجته إليه لأنه الغنىّ عن الحاجات ، ولكن لحاجتكم وفقركم إلى الثواب ، وَإِنْ تَتَوَلَّوْا أي : وإن تعرضوا أيها العرب عن طاعته ، وطاعة رسوله ، والإنفاق فى سبيله يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ، يخلف قوما خيرا منكم وأطوع ، ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ فى الطاعة ، بل أطوع ، راغبين فيما يقرب إلى اللّه ورسوله ، وهم فارس ، وسئل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم عن هؤلاء القوم - وكان سلمان إلى جنبه ، فضرب على فخذه ، فقال : «هذا وقومه ، والذي نفسى بيده لو كان الإيمان بالثريا لتناوله رجال من فارس» «1».
قلت : صدق الصادق المصدوق ، فكم خرج منهم من جهابذة العلماء ، وأكابر الأولياء ، كالجنيد ، إمام الصوفية ، والغزالي ، حبر هذه الأمة ، وأضرابهما. وقيل : الملائكة ، وقيل : الأنصار ، وقيل : كندة ، وقيل : الروم ، والأول أشهر.
الإشارة : يا أيها الذين آمنوا أطيعوا اللّه وأطيعوا الرّسول ، أو خليفته ، وهو الداعي إلى اللّه على بصيرة العيان ، ولا تبطلوا أعمالكم ، برجوعكم عن السير ، بترك المجاهدة قبل المشاهدة. إنّ الذين كفروا بوجود خصوصية التربية ، وصدوا النّاس عنها ، ثم ماتوا على ذلك ، لن يستر اللّه مساوئهم ، ولا يغيّبهم عن شهود نفوسهم التي حجبتهم عن اللّه. فلا تهنوا : لا تضعفوا ، أيها المترفهون ، عن مجاهدة نفوسكم ، فينقطع سيركم ، وذلك بالرجوع إلى الدنيا ، ولا تدعوا إلى السلم والمصالحة بينكم وبين نفوسكم ، وأنتم الأعلون ، قد أشرفتم على الظفر بها ، واللّه معكم لقوله :
وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ «2» ، ولن ينقصكم شيئا من أعمالكم ، بل يريكم ثمرتها ، عاجلا وآجلا ، ولا يفترنّكم عن المجاهدة طول الأمل.
إنما الحياة الدنيا لعب ولهو أي : ساعة من نهار ، وإن تؤمنوا بكلّ ما وعد اللّه ، وتتقوا كلّ ما يشغل عن اللّه ، يؤتكم أجوركم عاجلا وآجلا ، ولا يسألكم الداعي إليه جميع أموالكم ، إنما يسألكم ما يخف عليكم ، تقدموه بين يدى نجواكم ، ولو سألكم جميع أموالكم لبخلتم ، ويخرج أضغانكم ، وهذا فى حق عامة المريدين ، وأما الخاصة الأقوياء ، فلو سئلوا أرواحهم لبذلوها ، واستحقروها فى جنب ما نالوا من الخصوصية ، وأما أموالهم فأهون عندهم من أن يبخلوا بشىء منها ، ويقال لعامة الطالبين للوصول : ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ ... الآية.
___________
(1) أخرجه الترمذي فى (التفسير - سورة سيدنا محمد صلّى اللّه عليه وسلم ح 3260 ، 3261) وقال «هذا حديث غريب» والحاكم (2/ 458) «وصححه ، وسكت عنه الذهبي». والطبري فى (26/ 66 - 67) وعبد الرّزاق فى المصنف (11/ 66) والبغوي فى التفسير (7/ 292) وفى شرح السنة (14/ 200) عن أبى هريرة رضي اللّه عنه وزاد السيوطي فى الدر (6/ 55) عزوه لعبد بن حميد ، وابن أبى حاتم ، والطبراني فى الأوسط ، (ح 8838) والبيهقي فى الدلائل (6/ 334).
(2) الآية 69 من سورة العنكبوت.(5/380)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 381
قال القشيري : واللّه الغنى لذاته بذاته ، ومن غنائه : تمكنه من تنفيذ مراده ، واستغناؤه عما سواه ، وأنتم الفقراء إلى اللّه ، فى نعمة الإيجاد ، ونعمة الإمداد ، فى الابتداء ليخلقكم ، وفى الوسط ليربيكم ، وفى الانتهاء يفنيكم عن أنانيتكم ، ويبقيكم بهويته ، فاللّه غنى عنكم من الأزل إلى الأبد ، وأنتم الفقراء محتاجون إليه من الأزل إلى الأبد «1». ه.
وإن تتولوا عن السير ، وتركنوا إلى الرّخص والشهوات قبل التمكين ، يستبدل قوما غيركم ، يكونوا أحزم منكم ، وأشد مجاهدة ، صادقين فى الطلب ، ثابتين القدم فى آداب العبودية ، قد أدركتهم جذبات العناية ، وهبّت عليهم ريح الهداية ، ثم لا يكونوا أمثالكم فى التولي والضعف ، حتى يصلوا إلى مولاهم. وباللّه التوفيق ، وهو الهادي إلى سواء الطريق ، وصلّى اللّه على سيدنا ومولانا محمد وآله وصحبه وسلم.
___________
(1) بالمعنى.(5/381)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 382(5/382)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 383
سورة الفتح
مدنية. وهى تسع وعشرون آية. ومناسبتها لما قبلها : قوله تعالى : وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ «1» فإنه بشارة بالفتح الذي أشار إليه سبحانه بقوله :
[سورة الفتح (48) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً (2) وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً (3)
يقول الحق جل جلاله : إِنَّا فَتَحْنا لَكَ ، الفتح عبارة عن الظفر بالبلدة عنوة أو صلحا ، بحرب أو بدون ، فإنه ما لم يقع الظفر منغلق ، مأخوذ من : فتح باب الدار. وإسناده إلى نون العظمة لإسناد الفعل إلى اللّه تعالى خلقا وإيجادا. قيل : المراد به فتح مكة ، وهو المروي عن أنس رضي اللّه عنه ، بشّر به صلّى اللّه عليه وسلم عند انصرافه من الحديبية.
والتعبير عنه بصيغة الماضي على سنن الأخبار الإلهية المحققة الوقوع ، للإيذان بتحققه ، تأكيدا للتبشير ، وتصدير الكلام بحرف التحقيق لذلك ، وفيه من الفخامة والدلالة على علو شأن المخبر به - وهو الفتح - ما لا يخفى. وقيل :
هو فتح الحديبية ، وهو الذي عند البخاري عن أنس «2» ، وهو الصحيح عند ابن عطية ، وعليه الجمهور. وفيها أخذت البيعة على الجهاد ، وهو كان سبب إظهار الإسلام وفشوه ، وذلك أنّ المشركين كانوا ممنوعين من مخالطة أهل الإسلام ، للحرب التي كانت بينهم ، فلما وقع الصلح اختلط النّاس بعضهم مع بعض ، وجعل الكفار يرون أنوار الإسلام ، ويسمعون القرآن ، فأسلم حينئذ بشر كثير قبل فتح مكة.
وقد ورد عنه صلّى اللّه عليه وسلم حين بلغه أن رجلا قال : ما هذا بفتح ، لقد صدّونا عن البيت ، ومنعونا ، قال : «بل هو أعظم الفتوح ، وقد رضي المشركون أن يدفعوكم بالراح ، ويسألوكم القضية ، ويرغبوا إليكم فى الأمان ، وقد رأوا منكم
___________
(1) الآية 35 من سورة «محمد» صلى اللّه عليه وسلم.
(2) أخرجه البخاري فى (التفسير - سورة الفتح ، باب إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً ح 4 483).(5/383)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 384
ما يكرهون» «1». وعن الشعبي أنه قال : نزلت سورة الفتح بالحديبية ، وأصاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم فى تلك الغزوة ما لم يصب فى غزوة ، حيث بويع بيعة الرّضوان ، وغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، وبلغ الهدى محلّه ، وبشروا بخيبر ، وظهرت الرّوم على فارس ، ففرح به المسلمون ، وكان فى فتح الحديبية آية عظيمة ، وهى أنه نزح ماؤها حتى لم يبق فيها قطرة ، فتمضمض رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ثم مجّه فيها ، فدرّت بالماء ، حتى شرب جميع من كان معه «2» ، وقيل : جاش بالماء حتى امتلأت ولم ينفد ماؤها بعد «3». وقيل : هو جميع ما فتح له صلّى اللّه عليه وسلم ، من الإسلام ، والدعوة ، والنّبوة ، والحجة ، والسيف ، ولا فتح أبين منه وأعظم ، وهو رأس الفتوح كافة إذ لا فتح من فتوح الإسلام إلا هو شعبة من شعبه ، وفرع من فروعه. وقيل : الفتح : بمعنى القضاء ، والمعنى : قضينا لك على أهل مكة أن تدخلها من قابل ، وأيّا ما كان فحذف المفعول للقصد إلى نفس الفعل ، والإيذان بأنّ مناط التبشير هو نفس الفتح الصادر عنه سبحانه ، لا خصوصية المفتوح. قاله أبو السعود.
فَتْحاً مُبِيناً ظاهر الأمر ، مكشوف الحال ، فارقا بين الحق والباطل. وقوله تعالى : لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ غاية للفتح ، من حيث إنه مترتب على سعيه صلّى اللّه عليه وسلم فى إعلاء كلمة اللّه ، بمكابدة مشاق الحروب ، واقتحام موارد الخطوب ، أي : جعلنا الفتح على يديك ، وبسبب سعيك ، ليكون سببا لغفران اللّه لك ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ أي : جميع ما فرط منك من ترك الأولى ، وما سيقع ، وتسميته ذنبا بالنظر إلى منصبه الجليل ، وتقدم قريبا تحقيقه «4». وقول الجلال «5» : «اللام للعلة الغائية فمدخولها مسبب لا سبب» ، لا يريد التعليل على حقيقته العقلية ، فإنه عليه تعالى محال ، وإنما يريد صورة التعليل ، الذي هو حكمة الشيء ، وفائدته العائدة على خلقه ، فضلا وإحسانا ، فالحكم والمصالح غاية لأفعاله تعالى ، ومنافع راجعة إلى المخلوقات ، وليس شىء منها غرضا وعلة غائية لفعله ، بحيث يكون سببا لإقدامه على الفعل ، وعلة غائية للفعل لغناه تعالى ، وكماله فى ذاته عن الاستكمال
___________
(1) ذكره السيوطي مطولا فى الدر (6/ 58) وعزاه للبيهقى.
(2) أخرج البخاري فى (المغازي ، باب غزوة الحديبية ح 4150) عن البراء قال : تعدون أنتم الفتح فتح مكة وقد كان فتح مكة فتحا ، ونحن نعدّ الفتح بيعة الرّضوان ، يوم الحديبية ، كنا مع النّبى صلّى اللّه عليه وسلم أربع عشرة مائة ، والحديبية بئر ، فنزحناها فلم نترك فيها قطرة ، فبلغ ذلك النّبى صلّى اللّه عليه وسلم ، فأتانا ، فجلس على شفيرها ، ثم دعا بإناء من ماء فتوضا ، ثم مضمض ودعا ، ثم صبّه فيها ، فتركناها غير بعيد ، ثم إنها أصدرتنا ما شئنا نحن وركابنا».
وقوله صلّى اللّه عليه وسلم : «أصدرتنا» أي : رجعتنا ، يعنى : أنهم رجعوا عنها وقد رووا.
(3) على هامش النّسخة الأم ما يلى : قلت : هذه القصة تكررت منه صلّى اللّه عليه وسلم فى عدة مرات ، وفى مواطن متعددة ، فلا خصوصية للحديبية بذلك. ه.
(4) عند الآية 19 من سورة «محمد» صلى اللّه عليه وسلم.
(5) أي : جلال الدين المحلى فى تفسير الجلالين (511). وقد فسر المحلى من أول سورة الكهف الى آخر سورة النّاس.(5/384)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 385
بفعل من الأفعال ، وما ورد فى الآيات والأحاديث مما يوهم الغرض والعلة فإنه يحمل على الغايات المترتبة والحكمة ، فاحتفظ بذلك. قاله صاحب الحاشية الفاسية. واللائق أن المعنى : إنا فتحنا لك وقضينا لك بأمر عاقبته أن جمع اللّه لك بين سعادة الدنيا والآخرة ، بأن غفر لك ، وأتم نعمته عليك وهداك ، ونصرك. فاللام لام العاقبة لا لام العلة فإن إفضال اللّه على رسوله لا يعلل ولا يوازى بعمل. ه.
وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ بإعلاء الدين ، وضم الملك إلى النّبوة ، وغيرها مما أفاض عليه من النّعم الدينية والدنيوية ، وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً أي : يثبتك على الطريق القويم ، والدين المستقيم ، والاستقامة وإن كانت حاصلة قبل الفتح ، لكن حصل بعد ذلك من اتضاح سبيل الحق ، واستقامة مناهجه ، ما لم يكن حاصلا قبل.
وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ أي : يظهر دينك ، ويعزّك ، فإظهار الاسم الجليل لكونه خاتمة الغايات ، ولإظهار كمال العناية بشأن النّصر ، كما يعرب عنه تأكيده بقوله : نَصْراً عَزِيزاً أي : نصرا فيه عزة ومنعة ، أو : قويا منيعا ، على وصف المصدر بوصف صاحبه ، مجازا ، للمبالغة ، أو : عزيزا صاحبه.
الإشارة : إنّا فتحنا لك فتحا مبينا ، بأن كشفنا لك عن أسرار ذاتنا ، وأنوار صفاتنا ، وجمال أفعالنا ، فشاهدتنا بنا ، ليغفر لك اللّه ، أي : ليغيبك عن وجودك فى شعور محبوبك ، ويستر عنك حسك ورسمك ، حتى تكون بنا فى كل شىء ، قديما وحديثا ، قال القشيري : وذنب الوجود هو الشرك فى الوجود ، وغفره : ستره بنور الوحدة ، لمحو ظلمة الاثنينية ه. ويتم نعمته عليك بالجمع بين شهود الرّبوبية ، والقيام بآداب العبودية ، ودلالة الخلق على شهود قيام الديمومية ، ويهديك طريقا مستقيما توصل إلى حضرتنا ، فتسلكها وتبينها لمن يكون على قدمك ، وينصرك اللّه نصرا عزيزا ، بالتمكن فى شهود ذاتنا ، والعكوف فى حضرتنا ، محفوفا بالنصرة والعناية ، محمولا فى محفّة الرّعاية.
ولمّا نزل قوله : لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ قال المؤمنون : هذا لك يا رسول اللّه ، فمالنا؟ فأنزل اللّه «1» :
[سورة الفتح (48) : الآيات 4 الى 7]
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (4) لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَكانَ ذلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزاً عَظِيماً (5) وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً (6) وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (7) ___________
(1) أخرجه البخاري فى (المغازي ، باب غزوة الحديبية ح 4172) من حديث أنس ، وفيه : «فنزلت عليه لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ... الآية».(5/385)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 386
يقول الحق جل جلاله : هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ أي : السكون والطمأنينة ، فعلة ، من : السكون ، كالبهيتة من البهتان ، فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ حتى لم يتضعضعوا من الشروط التي عقدها صلّى اللّه عليه وسلم مع المشركين ، من ردّ من أسلم منهم ، وعدم ردهم من رجع إليهم ، ومن دخول مكة قابلا بلا سلاح ، وغير ذلك مما فعله صلّى اللّه عليه وسلم معهم بالوحى ، وما صدر عن عمر رضي اللّه عنه فلشدة قوته وصلابته ، وما زال يعتق ويفعل أمورا كفارة لذلك. وقيل : (السكينة) :
الصبر على ما أمر به اللّه من الشرائع والثقة بوعد اللّه ، والتعظيم لأمر اللّه ، لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ أي :
يقينا إلى يقينهم ، أو : إيمانا بالشرائع مع إيمانهم بالعقائد.
وعن ابن عباس رضي اللّه عنه قال : بعث اللّه نبيه بشهادة «ألا إله إلا اللّه» فلما صدّقوه فيها ، زادهم الصلاة ، فلما صدّقوه ، زادهم الزكاة ، فلما صدّقوه ، زادهم الحج ، فلما صدّقوا زادهم الجهاد ، ثم أكمل لهم دينهم «1» ، فذلك قوله :
لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ ، وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يدبرها كما يريد ، يسلط بعضها على بعض تارة ، ويوقع الصلح بينهما أخرى ، حسبما تقتضيه مشيئته المبنية على الحكم والمصالح ، وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً مبالغا فى العلم بجميع الأمور ، حَكِيماً فى تدبيره وتقديره.
لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ، اللام متعلق بما يدل عليه ما ذكر من قوله : وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ من معنى التصرف ، أي : دبّر ما دبّر من تسليط المؤمنين ، ليعرفوا نعمة اللّه ويشكروها ، فيدخلهم جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ، وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ أي : يغطّى عنهم مساوئهم ، فلا يظهرها لهم ولا لغيرهم.
وتقديم الإدخال على التكفير ، مع أن الترتيب فى الوجود على العكس للمسارعة إلى بيان ما هو المطلب الأعلى.
وَكانَ ذلِكَ أي : ما ذكر من الإدخال والتكفير عِنْدَ اللَّهِ فَوْزاً عَظِيماً لا يقادر قدره لأنه منتهى
___________
(1) أخرجه الطبري (26/ 72) وزاد السيوطي فى الدر المنثور (6/ 62) عزوه لابن المنذر ، والطبراني ، وابن مردويه ، والبيهقي فى الدلائل.
هذا ، وعلى هامش النّسخة الأم ما يلى : قلت : هذا يقتضى أن الحج فرض قبل الجهاد ، وليس كذلك ، بل الجهاد فرض قبل الزكاة ، فينبغى أن لا يكون هذا صحيحا. ه.(5/386)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 387
ما امتدت إليه أعناق الهمم من جلب نفع ودفع ضر. و«عند اللّه» : حال من «فوزا عظيما» لأنه صفته فى الأصل ، فلما قدّم عليه صار حالا ، أي : كائنا عند اللّه فى علمه وقضائه. والجملة : اعتراض مقرّر لما قبله.
وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ لما أغاظهم من ذلك وكرهوه ، وهو عطف على «يدخل» ، وفى تقديم المنافقين على المشركين ما لا يخفى من الدلالة على أنهم أحق منهم بالعذاب. الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ أي : ظن الأمر السّوء ، وهو ألا ينصر اللّه رسوله والمؤمنين ، ولا يرجعهم إلى مكة ، فالسّوء عبارة عن رداءة الشيء وفساده ، يقال : فعل سوء ، أي : مسخوط فاسد. عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ أي : ما يظنونه ويتربصونه بالمؤمنين ، وهو دائر عليهم وحائق بهم. وفيه لغتان : فتح السين وضمها ، كالكره والكره ، والضّعف والضّعف ، غير أن المفتوح غلب عليه أن يضاف إليه ما يراد ذمّه من كلّ شىء ، وأما السوء فجار مجرى الشيء الذي هو نقيض الخير ، أي : الدائرة التي يذمونها ويسخطونها دائرة عليهم ، ولا حقة بهم ، وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً لهم ، وهو عطف لما استوجبوه فى الآخرة على ما استوجبوه فى الدنيا ، وعطف «ولعنهم» وما بعده بالواو ، مع أن حقهما الفاء المفيدة للسببية إيذانا باستقلال كلّ واحد منهما بالوعيد ، وأصالته ، من غير اعتبار استتباع بعضها لبعض.
وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ، إعادة لما سبق ، وفائدتها : التنبيه على أن للّه جنود الرّحمة وجنود العذاب ، كما ينبئ عنه التعرض لوصف العزة فى قوله : وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً أي : غالبا ، فلا يردّ بأسه حَكِيماً فلا يعترض صنعه. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : هو الذي أنزل السكينة فى قلوب المتوجهين ، حتى سكنوا لصدمات تجلى الجلال ، وأنوار الجمال ، وسكنوا تحت مجارى الأقدار ، كيفما برزت ، بمرارة أو حلاوة. قال القشيري : والسكينة : ما يسكن إليه القلب من أنوار الإيمان والإيقان ، أو العرفان بمشاهدة العيان ، بل الاستغراق فى بحر العين بلا أين. ه. «1» ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم ، فيترقوا من مقام الإسلام إلى مقام الإيمان ، ومن مقام الإيمان إلى مقام الإحسان ، أو من علم اليقين إلى عين اليقين ، ومن عين اليقين إلى حق اليقين ، أو من المراقبة إلى المشاهدة ، أو من رؤية الأسباب إلى مسبب الأسباب.
وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وهى الجنود التي يمد اللّه بها الرّوح فى محاربتها للنفس ، حتى تغلبها وتستولى عليها ، وهى اليقين ، والعلم ، والذكر ، والفكر ، والواردات الإلهية ، التي تأتى من حضرة القهار ، فتدمغ
___________
(1) لم أقف على النّص فى مظانه فى تفسير القشيري.(5/387)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 388
كل ما تصادمه من الأغيار والأكدار ، وكان اللّه عليما بمن يستحق هذه الواردات ، حكيما فى ترتيبها وتدبيرها ، ليدخل من تأيد بها جنات المعارف ، تجرى من تحتها أنهار العلوم والحكم ، ويغطى عنهم مساوئهم حتى يصلوا إليه ، بما منه إليهم ، لا بما منهم إليه وهذا هو الفوز العظيم ، يفوز صاحبه بالنعيم المقيم ، فى جوار الكريم. ويعذب أهل النفاق المنتقدين على أولياء اللّه ، المتوجهين إليه ، الظانين باللّه ظن السوء ، وهو أن خصوصية التربية انقطعت. وللّه جنود السموات والأرض ، أي : جنود الحجاب ، وهو جند النّفس ، من الهوى والشيطان ، والدنيا والنّاس ، يسلطها على من يشاء من عباده ، إن يبقى فى ظلمة الحجاب ، واللّه غالب على أمره.
ثم شهد لرسوله بالرسالة ، بعد بشارته بالفتح والعصمة ، فقال :
[سورة الفتح (48) : الآيات 8 الى 10]
إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (8) لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (9) إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (10)
يقول الحق جل جلاله : إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً تشهد على أمتك يوم القيامة ، كقوله : وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً «1» وهو حال مقدّرة ، وَمُبَشِّراً لأهل الطاعة بالجنة ، وَنَذِيراً لأهل المعصية بالنار ، لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ، والخطاب للرسول والأمة ، وَتُعَزِّرُوهُ تقوّوه بنصر دينه ، وَتُوَقِّرُوهُ أي :
تعظّموه بتعظيم رسوله وسائر حرماته ، وَتُسَبِّحُوهُ تنزهوه ، أو تصلوا له ، من : السبحة ، بُكْرَةً وَأَصِيلًا غدوة وعشية ، قيل : غدوة : صلاة الفجر ، وعشية : الظهر والعصر والمغرب والعشاء. والضمائر للّه تعالى. ومن فرّق فجعل الأولين للنبى صلّى اللّه عليه وسلم والأخير للّه تعالى ، فقد أبعد. وقرأ المكي والبصري بالغيب فى الأربعة ، والضمائر للناس ، وقرأ ابن السميفع «2» : «وتعززوه» بزائين «3» ، أي : تنصروه وتعزوا دينه.
___________
(1) من الآية 143 من سورة البقرة. [.....]
(2) فى الأصول : «السميقع».
(3) وهى قراءة شاذة. انظر المحتسب 2/ 275.(5/388)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 389
إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ على الجهاد ، بيعة الرّضوان إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ لأنه خليفة عنه ، فعقد البيعة معه صلى اللّه عليه وسلم كعقدها مع اللّه من غير تفاوت بينهما ، كقوله : مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ «1» ثم أكد ذلك بقوله : يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ يعنى : أن يد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم الذي تعلو أيدى المبايعين هى يد اللّه ، من باب مبالغة التشبيه ، فَمَنْ نَكَثَ نقض البيعة ، ولم يف بها فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ فلا يعود ضرر نكثه إلا عليه ، قال جابر رضي اللّه عنه : «بايعنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم تحت الشجرة على الموت ، وعلى ألّا نفرّ ، فما نكث أحد منا البيعة ، إلا جدّ بن قيس المنافق ، اختبأ تحت إبط بعيره ، ولم يسر مع القوم «2». وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ ، يقال : وفيت بالعهد وأوفيت. وقرأ حفص بضم الهاء من «عليه» توسلا لتفخيم لام الجلالة ، وقيل : هو الأصل ، وإنما كسر لمناسبة الياء. أي : ومن وفّى بعهده بالبيعة فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً الجنة وما فيها.
الإشارة : لكلّ جيل من النّاس يبعث اللّه من يذكّرهم ، ويدعوهم إلى اللّه ، بمعرفته ، أو بإقامة دينه ، ليدوم الإيمان باللّه ورسوله ، ويحصل النّصر والتعظيم للدين إلى يوم الدين ، ولولا هؤلاء الخلفاء لضاع الدين. وقوله تعالى : إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ الآية ، قال الورتجبي : ثم صرّح بأنه عليه السّلام مرآة لظهور ذاته وصفاته ، وهو مقام الاتصاف بأنوار الذات والصفات فى نور الفعل ، فصار هو هو ، إذ غاب الفعل فى الصفة ، وغابت الصفة فى الذات.
فقال : إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ ... الآية. وإلى ذلك يشير الحلّاج وغيره. وقال فى القوت : هذه أمدح آية فى كتاب اللّه عز وجل ، وأبلغ فضيلة فيه لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم لأنه جعله فى اللفظ بدلا عنه ، وفى الحكم مقامه ، ولم يدخل فيه كاف التشبيه ، فيقول : كأنما ، ولا لام الملك ، فيقول : للّه ، وليس هذا من الرّبوبية للخلق سوى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم. ه.
وقال الحسن بن منصور الحلاج : لم يظهر الحق تعالى مقام الجمع على أحد بالتصريح إلا على أخص نسمه وأشرفه ، فقال : إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ. ه.
قال القشيري : وفى هذه الآية تصريح بعين الجمع ، كما قال : وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ «3» وقال فى مختصره :
يشير إلى كمال فنائه وجوده عليه السّلام فى اللّه وبقائه باللّه. ه. فالآية تشير إلى مقام الجمع ، المنبه عليه فى الحديث :
«فإذا أحببته كنت سمعه ، وبصره ، ويده» «4» وسائر قواه ، الذي هو سر الخلافة والبقاء باللّه ، وهذا الأمر حاصل
___________
(1) من الآية 80 من سورة النّساء.
(2) أخرجه مسلم فى (الإمارة ، باب استحباب مبايعة الإمام الجيش عند إرادة القتال ، رقم 1856 ، ح 68 ، 69).
(3) من الآية 17 من سورة الأنفال.
(4) سبق تخريج الحديث.(5/389)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 390
لخلفائه صلّى اللّه عليه وسلم من العارفين باللّه ، أهل الفناء والبقاء ، وهم أهل التربية النّبوية فى كلّ زمان ، فمن بايعهم فقد بايع اللّه ، ومن نظر إليهم فقد نظر إلى اللّه ، فمن نكث العهد بعد عقده معهم فإنما ينكثه على نفسه ، فتيبس شجرة إرادته ، ويطمس نور بصيرته ، فيرجع إلى مقام عامة أهل اليمين ومن أوفى بما عاهد عليه اللّه فسيؤتيه أجرا عظيما شهود ذاته المقدسة على الدوام ، والظفر بمقام المقربين ، ثبتنا اللّه على منهاجه القويم ، من غير انتكاص ولا رجوع ، آمين.
ثم ذكر من تخلّف عن البيعة ، فقال :
[سورة الفتح (48) : الآيات 11 الى 14]
سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (11) بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيِّنَ ذلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً (12) وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَعِيراً (13) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (14)
يقول الحق جل جلاله : سَيَقُولُ لَكَ يا محمد إذا رجعت من الحديبية الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ وهم الذين تخلفوا عن الحديبية ، وهم أعراب غفار ، ومزينة ، وجهينة ، وأسلم ، وأشجع ، والديل ، وذلك أنه صلّى اللّه عليه وسلم حين أراد المسير إلى مكة ، عام الحديبية ، معتمرا ، استنفر من حول المدينة من الأعراب وأهل البوادي ، ليخرجوا معه ، حذرا من قريش أن يعرضوا له بحرب ، أو يصدوه عن البيت ، وأحرم صلّى اللّه عليه وسلم وساق معه الهدى ليعلم أنه لا يريد حربا ، فتثاقل كثير من الأعراب ، وقالوا : نذهب إلى قوم غزوه فى داره بالمدينة ، وقتلوا أصحابه ، فنقاتلهم ، وظنوا أنه لا ينقلب إلى المدينة ، فأوحى اللّه تعالى إليه ما قالوا «1» ، حيث تعللوا وقالوا : شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا
___________
(1) انظر تفسير البغوي (7/ 300).(5/390)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 391
ولم يكن تخلفنا عنك اختيارا ، بل عن اضطرار ، فَاسْتَغْفِرْ لَنا ، فأكذبهم اللّه بقوله : يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ ، فليس تخلفهم لأجل ذلك ، وإنما تخلفوا شكا ونفاقا ، وطلبهم الاستغفار أيضا ليس بصادر عن حقيقة.
قُلْ لهم : فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً فمن يمنعكم من مشيئة اللّه وقضائه إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أي : ما يضركم من هلاك الأهل والمال وضياعها ، حتى تخلفتم عن الخروج لحفظها ، أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً أي : من يقدر على ضرركم إن أراد بكم نزول ما ينفعكم ، من حفظ أموالكم وأهليكم ، فأىّ حاجة إلى التخلف لأجل القيام بحفظهما والأمر كله بيد اللّه؟ بَلْ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً ، إضراب عما قالوه ، وبيان لكذبه بعد بيان فساده على تقدير صدقه ، أي : ليس الأمر كما يقولون ، بل كان اللّه خبيرا بجميع الأعمال ، التي من جملتها تخلفكم وما هو سببه ، فلا ينفعكم الكذب مع علم اللّه بجميع أسراركم.
بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً بأن يستأصلهم المشركون بالموت ، فخشيتم إن كنتم معهم أن يصيبكم ذلك ، فتخلفتم لأجل ذلك ، لا لما ذكرتم من المعاذير الباطلة ، وَزُيِّنَ ذلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ زيّنه الشيطان وقبلتموه ، واشتغلتم بشأن أنفسكم ، غير مبالين بهم ، وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ ، والمراد به الظن الأول ، والتكرير لتشديد التوبيخ والتسجيل عليه بالسوء ، أو ما يعمه وغيره من الظنون الفاسدة ، كعلو الكفر ، وظهور الفساد ، وعدم صحة رسالته صلّى اللّه عليه وسلم ، فإن الجازم بصحتها لا يحول حول فكره هذه الظنون الباطلة ، وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً هالكين عند اللّه ، مستوجبين لسخطه وعقابه ، جمع : بائر ، كعائذ وعوذ ، من بار الشيء : هلك وفسد ، أي : كنتم قوما فاسدين فى أنفسكم وقلوبكم ونيّاتكم.
وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنا أعددنا لِلْكافِرِينَ أي : لهم ، فأقيم الظاهر مقام المضمر للإيذان بأن من لم يجمع بين الإيمان باللّه وبرسوله فهو كافر مستوجب السعير. ونكّر سَعِيراً لأنها نار مخصوصة ، كما نكّر ناراً تَلَظَّى «1». وهذا كلام وارد من قبله تعالى ، غير داخل فى الكلام المتقدم ، مقرر لبوارهم ، ومبيّن لكيفيته ، أي : ومن لم يؤمن كهؤلاء المتخلفين ، فإنا أعتدنا له سعيرا يحترق بها.
وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يدبره تدبير قادر حكيم ، ويتصرف فيهما وفيما بينهما كيف يشاء ، يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ بقدرته وحكمته ، من غير دخل لأحد فى شىء ، ومن حكمته : مغفرته
___________
(1) الآية 14 من سورة الليل.(5/391)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 392
للمؤمنين وتعذيبه للكافرين. وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً ، مبالغا فى المغفرة والرّحمة لمن يشاء ، أي : لمن تقتضى الحكمة مغفرته ممن يؤمن به وبرسوله ، وأما من عداه من الكفر فبمعزل من ذلك قطعا.
الإشارة : هذه الآية تجر ذيلها على من تخلف من المريدين عن زيارة المشايخ من غير عذر بيّن ، واعتذر بأعذار كاذبة ، يقول بلسانه ما ليس فى قلبه ، وما زالت الأشياخ تقول : كل شىء يسمح فيه إلا القدوم «1» إذ به تحصل التربية والترقية ، وتقول أيضا : من جلس عنا لعذر صحيح عذرناه ، وربما يصل إليه المدد فى موضعه ، ومن جلس لغير عذر لا نسامح له ، بل يحرم من زيادة الإمداد ، ومن الترقي فى المقامات والأسرار ، وما قطع الناس عن اللّه إلا أموالهم وأهلوهم اشتغلوا بهم ، وحرموا السير والوصول ، ف كل مريد شغله عن زيارة شيخه أهله وماله لا يأتى منه شىء. قل : فمن يملك لكم من اللّه شيئا إن أراد بكم ضرا ، بأن قطعكم عنه بعلة الأهل والمال ، أو :
أراد بكم نفعا ، بأن وصلكم إليه ، وغيّب عنكم أهلكم ومالكم ، بل كان اللّه بما تعملون خبيرا ، يعلم من تحلف لعذر صحيح ، أو لعذر باطل. وباللّه التوفيق.
ثم قال :
[سورة الفتح (48) : الآيات 15 الى 16]
سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا كَذلِكُمْ قالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (15) قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً (16)
يقول الحق جل جلاله : سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ المذكورون آنفا إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ أي : مغانم خيبر تَأْخُذُونَها حسبما وعدكم اللّه بها ، وخصّكم بها ، عوض ما فاتكم من مغانم مكة. و(إذا) : ظرف لما قبله ، لا شرط لما بعده ، أي : سيقولون عند انطلاقكم إلى مغانم خيبر : ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ إلى خيبر ، ونشهد معكم قتال أهلها يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ الذي وعد به أهل الحديبية بأن يخصّهم بغنائم خيبر ولا يشاركهم فيها أحد ، فأراد المخلّفون أن يشاركوهم ويبدلوا وعد اللّه. وكانت وقعة الحديبية فى ذى الحجة سنة ست ، فلما رجع إلى
___________
(1) أي : القدوم على مشايخ التربية وزيارتهم.(5/392)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 393
المدينة أقام بها بقية ذى الحجة ، ثم غزا فى أول السابعة خيبر ، ففتحها ، وغنم أموالا كثيرة ، فخصصها بأهل الحديبية ، بأمره تعالى ، قُلْ لهم إقناطا لهم : لَنْ تَتَّبِعُونا إلى خيبر ، وهو نفى بمعنى النّهى ، للمبالغة ، أي :
لا تتبعونا ، أو : نفى محض ، إخبار من اللّه تعالى بعدم اتباعهم وألا يبدّل القول لديه.
كَذلِكُمْ قالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ أي : من قبل انصرافهم إلى الغنيمة ، وأنّ غنيمة خيبر لمن شهد الحديبية فقط ، فَسَيَقُولُونَ للمؤمنين عند سماع هذا النّهى : بَلْ تَحْسُدُونَنا أي : ليس ذلك النّهى من عند اللّه ، بل تحسدوننا أن نشارككم فى الغنائم ، بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ كلام اللّه إِلَّا قَلِيلًا شيئا قليلا ، يعنى : مجرد اللفظ ، أو : لا يفهمون إلا فهما قليلا وهو فطنتهم لأمور الدنيا دون الدين ، وهو ردّ لقولهم الباطل ، ووصف لهم بسوء الفهم والجهل المفرط. والفرق بين الإضرابين : أن الأول ردّ أنّ يكون حكم اللّه ألا يتبعوهم وإثبات الحسد ، والثاني إضراب عن وصفهم بإضافة الحسد إلى المؤمنين إلى وصفهم بما هو أعظم منه ، وهو الجهل وقلة الفقه.
قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ وهم الذين تخلفوا عن الحديبية : سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ يعنى : بنى حنيفة ، قوم مسليمة الكذاب ، وأهل الرّدة الذين حاربهم أبو بكر رضي اللّه عنه ، لأن المشركين وأهل الرّدة هم الذين لا يقبل منهم إلا الإسلام أو السيف. واستدل بالآية على حقيّة خلافة أبى بكر ، وأخذها من القرآن بقوله :
سَتُدْعَوْنَ فكان الداعي لهؤلاء الأعراب إلى قتال بنى حنيفة ، وكانوا أولى بأس شديد ، هو أبو بكر ، بلا خلاف ، قاتلوهم ليسلموا لا ليعطوا الجزية بأمر الصدّيق. وقيل : هم فارس ، والداعي لقتالهم «عمر» ، فدلت على صحة إمامته ، وهو يدل على صحة إمامة أبى بكر. تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ أي : يكون أحد الأمرين ، إما المقاتلة أو الإسلام ، ومعنى «يسلمون» على هذا التأويل : ينقادون لأن فارس مجوس ، تقبل منهم الجزية ، فَإِنْ تُطِيعُوا من دعاكم إلى قتالهم يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً هو الغنيمة فى الدنيا ، والجنة فى الآخرة ، وَإِنْ تَتَوَلَّوْا عن الدعوة ، كما توليتم من قبل فى الحديبية ، يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً لتضاعف جرمكم. وقد تضمنت الآية إيجاب طاعة الأمراء بالوعد بالثواب عليها ، والوعيد بالعقاب على التولي ، وقد تقدم فى النّساء «1».
الإشارة : سيقول المخلفون عن السير بترك مجاهدة النّفوس ، التي بها يتحقق سير السائرين : ذرونا نتبعكم فى السير إلى اللّه من غير مجاهدة ولا تجريد ، يريدون أن يبدلوا كلام اللّه ، وهو قوله : وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا «2» ، فخص الهداية إلى الوصول بالمجاهدة ، لا بالبقاء مع حظوظ النّفوس ، قل : لن تتبعونا فى
___________
(1) راجع تفسير الآية 59 من سورة النّساء ، (1/ 519).
(2) الآية 69 من سورة العنكبوت.(5/393)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 394
السير ، ولو فعلتم ما فعلتم بلا مجاهدة ، كذلك حكم الحكيم العليم ، فإن قالوا : حسدتمونا ، حيث لم تسيرونا على ما نحن عليه ، فقد دلّ ذلك على جهلهم ، وعدم فهمهم ، قل للمخلفين على السير ، بالبقاء مع حظوظهم : ستدعون إلى مجاهدة قوم أولى بأس شديد ، وهو النّفس ، بتحميلها ما يثقل عليها ، كالذل ، والفقر ، والهوى بمخالفته ، والدنيا بالزهد فيها ورميها وراء الظهر ، والنّاس بالفرار منهم جملة ، إلا من يدلّ على اللّه ، تقاتلوهم ، أو يسلمون ، بأن ينقادوا لكم ، ويصيروا طوع أيديكم ، فإن تطيعوا يؤتكم اللّه أجرا حسنا ، وهو لذة الشهوة ، ورؤية الملك الودود ، عاجلا وآجلا ، وإن تتولوا كما توليتم فى زمان البطالة ، وبقيتم مع هوى نفوسكم ، يعذّبكم عذابا أليما ، بغم الحجاب وسوء العقاب.
قال القشيري : قوله تعالى : فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً دلت الآية على أنه يجوز أن تكون للعبد بداية غير مرضية ، ثم تتغير للصلاح ، وأنشدوا :
إذا فسد الإنسان بعد صلاحه فرجّ له بعد الفساد صلاحا «1»
قلت : وجه الاستدلال : أن طاعتهم كانت بعد التخلف والعصيان ، فقبلت منهم.
ثم استثنى أهل الأعذار الصحيحة ، فقال :
[سورة الفتح (48) : آية 17]
لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذاباً أَلِيماً (17)
يقول الحق جل جلاله : لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ فى التخلف عن الغزو وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ ، وَلا عَلَى الْمَرِيضِ الذي لا يقدر على الحرب حَرَجٌ لأن الجهاد منوط بالاستطاعة ونفى الحرج ، وهؤلاء أعذارهم ظاهرة صحيحة ، فلا حرج عليهم فى التخلف. وفى التصريح بنفي الحرج مع كلّ طائفة مزيد اعتناء بأمرهم ، وتوسيع لدائرة الرّخصة. وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فيما ذكر من الأوامر والنّواهى ، يُدْخِلْهُ «2» جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ. وَمَنْ يَتَوَلَّ يعرض عن الطاعة يُعَذِّبْهُ عَذاباً أَلِيماً لا يقادر قدره. وقرأ نافع والشامي بنون العظمة ، والباقي بياء الغيبة.
___________
(1) فى القشيري [فرجّ له عود الصلاح لعلّه ].
(2) أثبت المفسر - رحمه اللّه - قراءة «ندخله» و«نعذبه» بنون العظمة ، وهى قراءة نافع ، وابن عامر ، وأبى جعفر ، وقرأ الباقون «يدخله» و«يعذبه» بالياء. انظر الإتحاف (2/ 482).(5/394)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 395
الإشارة : أصحاب هذه الأعذار إن صحبوا الرّجال ، وحطوا رؤوسهم لهم ، وبذلوا نفوسهم وفلوسهم ، سقط عنهم السفر إلى صحبة أشياخهم ، ووصلت الواردات والأمداد إليهم فى أماكنهم ، ونالوا مراتب الرّجال ، حيث حبسهم العذر من العمى والعرج والمرض المزمن ، واللّه يرزق العبد على قدر نيته وهمته.
ثم ذكر شأن بيعة الرّضوان ، فقال :
[سورة الفتح (48) : الآيات 18 الى 21]
لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً (18) وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (19) وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً (20) وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قَدْ أَحاطَ اللَّهُ بِها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً (21)
يقول الحق جل جلاله : لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ ، وهم الذين ذكر شأن مبايعتهم بقوله : إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ ... الآية ، وبهذه الآية سميت بيعة الرّضوان ، و«إذ» منصوب ب «رضى» ، وصيغة المضارع لاستحضار الصورة العجيبة ، و(تحت الشجرة) : متعلق به ، أو : بمحذوف ، حال من مفعوله ، أي : رضى عنهم وقت مبايعتهم لك تَحْتَ الشَّجَرَةِ أو : حاصلا تحتها.
روى : أنه صلّى اللّه عليه وسلم ، لمّا نزل الحديبية ، بعث خراش بن أمية الخزاعي ، رسولا إلى أهل مكة ، فهمّوا به ، وأنزلوه عن بعيره ، فمنعته الأحابيش ، فلما رجع دعا بعمر ليبعثه ، فقال : يا رسول اللّه إنى أخاف قريشا على نفسى ، وليس بمكة من بنى عدى أحد يمنعنى ، ولكن عثمان أعز بمكة منى ، فبعث عثمان إلى أبى سفيان وأشراف قريش ، يخبرهم أنه صلّى اللّه عليه وسلم جاء زائرا إلى البيت ، معظّما لحرمته ، ولم يرد حربا ، فوقروه ، وقالوا : إن شئت أن تطوف بالبيت فافعل ، فقال : ما كنت لأطوف قبل أن يطوف رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ، فاحتبس عندهم ، فأرّجف بأنهم قتلوه ، فقال صلى اللّه عليه وسلم : «لا نبرح حتى نناجز القوم» ودعا النّاس إلى البيعة ، فبايعوه تحت الشجرة - وكانت سمرة «1» وقيل : سدرة - على أن يقاتلوا قريشا ، ولا يفروا ، «2» وأول من بايع «أبو سنان الأسدى» ، واسمه : وهب بن عبد اللّه بن محصن ، ابن
___________
(1) السمرة : واحده السّمر ، كرجل : شجرة الطلح. انظر النّهاية (سمر 2/ 399). [.....]
(2) أخرجه البخاري فى (الجهاد والسبر باب البيعة فى الحرب أن لا يفروا ح 2958) عن عبد اللّه بن عمر رضي اللّه عنه ، وأخرجه مسلم فى (الإمارة ، باب استحباب مبايعة الإمام الجيش عند إرادة القتال ح 1856) من حديث جابر بن عبد اللّه رضي اللّه عنه.(5/395)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 396
أخى عكاشة بن محصن. وقيل : بايعوه على الموت عنده «1» ، فقال لهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم : «أنتم اليوم خير أهل الأرض» «2» وقال أيضا : «لا يدخل النّار أحد ممن بايع تحت الشجرة» «3». وكانوا ألفا وخمسمائة وخمسة وعشرين ، وقيل : ألفا وأربعمائة. والحديبية بتخفيف الياء ، قاله فى المصباح ، وهى على عشرة أميال من مكة.
فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ من الإخلاص ، وصدق الضمائر فيما بايعوا عليه. وقال القشيري : علم ما فى قلوبهم من الاضطراب والتشكيك. وذلك أنه صلّى اللّه عليه وسلم رأى فى منامه أنهم يدخلون المسجد الحرام آمنين ، فبشّر أصحابه ، فلما صدوا خامر قلوبهم شك «4» ، فَأَنْزَلَ اللّه السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ أي : اليقين والطمأنينة ، فذهب عنهم. ثم قال :
وفى الآية دليل على أنه قد يخطر ببال الإنسان خواطر مشكّكة ، وفى الرّيب موقعة ، ثم لا عبرة ، فإن اللّه تعالى إذا أراد بعبده خيرا ألزم التوحيد قلبه ، وقارن التحقيق سرّه ، فلا يضرّه كيد الشيطان. قال تعالى : إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا ... الآية «5».
فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ أي : الطمأنينة والأمن ، وسكون النّفس ، بالربط على قلوبهم ، وَأَثابَهُمْ أي :
جازاهم فَتْحاً قَرِيباً وهو فتح خيبر عقب انصرافهم من الحديبية كما تقدم. وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها وهى مغانم خيبر ، وكانت أرضا ذات عقار وأموال ، فقسمها بينهم ، وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً منيعا فلا يغالب ، حَكِيماً فيما يحكم به فلا يعارض.
___________
(1) أخرجه البخاري فى (المغازي ، باب غزوة الحديبية ح 4169) ومسلم فى (الإمارة باب البيعة فى الحرب أن لا يفروا ح 1860) عن سلمة بن الأكوع.
وقد بيّن العلماء أنه لا تنافى بين من قال : إنهم بايعوا النّبى صلّى اللّه عليه وسلم يومئذ على الموت ، وبين من قال : إنهم بايعوه على عدم الفرار.
قال الحافظ ابن حجر فى الفتح (7/ 515 : فحاصل الجمع أنّ من أطلق أن البيعة كانت على الموت أراد لازمها ، لأنه إذا بايع أنه لا يفر لزم من ذلك أن يثبت ، والذي يثبت إما أن يغلب وإما أن يؤسر ، والذي يؤسر إما أن ينجو وإما أن يموت ، ولمّا كان الموت لا يؤمن فى مثل ذلك أطلقه الرّاوى. وحاصله : أن أحدهما حكى صورة البيعة ، والآخر حكى ما تئول إليه ، وجمع الترمذي بأن بعضا بايع على الموت ، وبعضا بايع على أن لا يفر. ه.
(2) أخرجه البخاري فى (المغازي ، باب غزوة الحديبية ، ح 4154) ومسلم فى (الإمارة ، باب استحباب مبايعة الإمام الجيش عند إرادة القتال ، رقم 1856 ، ح 71) من حديث جابر عبد اللّه رضي اللّه عنه.
(3) أخرجه أحمد فى المسند (3/ 350). وأبو داود فى (السنة ، باب فى الخلفاء ح 4653) والترمذي فى (المناقب ، باب ما جاء فى فضل من بايع تحت الشجرة ح 3860) وقال : حديث حسن صحيح.
وأخرج مسلم فى (فضائل الصحابة باب من فضائل أصحاب الشجرة ح 2496) من حديث جابر ، عن أم مبشّر ، أنها سمعت النبي صلّى اللّه عليه وسلم يقول عند حفصة : «لا يدخل النّار - إن شاء اللّه - من أصحاب الشجرة أحد ، الذين بايعوه تحتها».
(4) فى القشيري : شىء.
(5) الآية 201 من سورة الأعراف.(5/396)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 397
وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها هو ما فتح على المؤمنين ، وغنموه مع النّبى صلّى اللّه عليه وسلم وبعده إلى يوم القيامة. والالتفات إلى الخطاب لتشريفهم فى مقام الامتنان. فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ المغانم ، يعنى مغانم خيبر ، وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ أي : أيدى أهل خيبر وحلفاءهم من أسد وغطفان حين جاءوا لنصرتهم ، فقذف اللّه فى قلوبهم الرّعب فانصرفوا ، وقيل : أيدى أهل مكة بالصلح ، وَلِتَكُونَ هذه الكفّة آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وعبرة يعرفون أنهم من اللّه بمكان ، وأنه ضامن لنصرتهم والفتح عليهم ، أو : لتكون آية يعرفون بها صدق الرّسول صلّى اللّه عليه وسلم من وعده إياهم عند رجوعه من الحديبية بما ذكر من المغانم ، ودخول مكة ، ودخول المسجد الحرام آمنين. واللام إما متعلقة بمحذوف مؤخر ، أي : وليكون آية لهم فعل ما فعل من التعجيل والكف ، وإما يتعلق بعلة أخرى محذوفة من أحد الفعلين ، أي : فعجّل لكم هذه وكفّ أيدى النّاس عنكم لتغنموها ولتكون ... إلخ ، وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً أي : يزيدكم بصيرة ويقينا وثقة بوعد اللّه حتى تثقوا فى أموركم كلها بوعد اللّه تعالى.
قال الثعلبي ، ولمّا فتح النّبىّ صلّى اللّه عليه وسلم حصون خيبر سمع أهل فدك ما صنع - عليه السلام - بأهل خيبر ، فأرسلوا له يسألونه أن يسيرهم ويحقن دماءهم ، ويخلوا له الأموال ، ففعل ، ثم صالح أهل خيبر ، على أن يعملوا فى أموالهم على النصف ، على أنه إن شاء أجلاهم متى شاء «1» ، ففعلوا ، فكانت خيبر فيئا للمسلمين ، وكانت فدك خالصة له صلّى اللّه عليه وسلم ، إذ لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب ، ولما اطمأن صلّى اللّه عليه وسلم بعد فتح خيبر أهدت له زينب الحارث اليهودية شاة مصليّة مسمومة ، أكثرت فى ذراعها السم ، فأخذ صلّى اللّه عليه وسلم الذراع ، فأ كل منه ، ثم كلمه ، فأمسك ، وأ كل معه بشر بن البراء بن معرور ، فمات من ساعته ، وسلم صلّى اللّه عليه وسلم حتى قام عليه بعد سنتين ، فمات به ، فجمع له بين الشهادة والنّبوة «2».
ثم قال تعالى : وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها أي : وعجّل لكم مغانم أخرى ، وهى مغانم هوازن فى غزوة حنين. ووصفها بعدم القدرة عليها لما كان فيها من الجولة. قَدْ أَحاطَ اللَّهُ بِها قدر عليها واستولى ، وأظهركم عليها ، وهى صفة أخرى ل «أخرى» مفيدة لسهولة بأسها بالنسبة إلى قدرته تعالى ، بعد بيان صعوبة منالها بالنظر إلى حذرهم. ويجوز فى «أخرى» النصب بفعل مضمر ، يفسره قَدْ أَحاطَ اللَّهُ بِها ، أي : وقضى اللّه أخرى ، ولا ريب فى أن الإخبار بقضاء إياها بعد اندراجها فى جملة الغنائم الموعودة بقوله : وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً فيه مزيد فائدة ، وإنما الفائدة فى بيان تعجيلها وتأخير هذه.
___________
(1) حديث مصالحة النّبى صلّى اللّه عليه وسلم لأهل خيبر ، أخرجه البخاري فى (فرض الخمس ، باب ما كان النّبى ، صلى اللّه عليه وسلم يعطى المؤلفة قلوبهم وغيرهم من الخمس ونحوه ح 3152) ومسلم فى (المساقاة ، باب المساقاة والمعاملة بجزء من الثمر والزرع ، ح 1551) عن ابن عمر رضي اللّه عنه.
(2) انظر سيرة ابن هشام (2/ 337 - 338) وتفسير البغوي (7/ 311). وحديث أكلة خيبر أخرجه البخاري فى (الهبة ، باب قبول الهدية من المشركين ، ح 2617) ومسلم فى (السّلام ، باب السم ، ح 2190) عن أنس رضي اللّه عنه.(5/397)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 398
وقال ابن عباس والحسن ومقاتل : وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها هى فارس والرّوم. وقال مجاهد : ما فتحوا حتى اليوم «1». ه. قلت : بل إلى يوم القيامة وهذا أظهر الأقوال. أي : لم تقدروا على أخذها الآن وستأخذونها ، وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً لأن قدرته تعالى عامة التعلق ، لا تختص بشىء دون شىء.
قال ابن عرفة : مذهبنا أن المستحيل لا يصدق عليه شىء ، فيبقى النّظر : هل يطلق على الواجب شىء ، لقوله تعالى : قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللَّهُ «2» أم لا يطلق عليه شى ء؟ فإن قلنا : يصلح الإطلاق وجب التخصيص فى الآية ، فيكون عاما مخصوصا ، وإن قلنا بعدم صحته ، فيبقى النّظر : هل المراد بالقدرة الإحداث أو الصلاحية ، فإن أريد الإحداث فهى مخصوصة ، وإن أريد الصلاحية فهو عام غير مخصوص. ه.
الإشارة : مشايخ التربية خلفاء الرّسول صلّى اللّه عليه وسلم فحين بايعهم على عقد الإرادة فكأنما بايع الرّسول ، فيقال على طريق الإشارة : لقد رضي اللّه عن المؤمنين المتوجهين ، إذ يبايعونك أيها العارف تحت الشجرة ، تحت ظل شجرة همتك ، فعلم ما فى قلوبهم من الصدق ، فأنزل السكينة عليهم ، حتى سكنوا تحت مشاق التربية والرّياضة ، وأثابهم فتحا قريبا ، وهو الوصول إلى حضرة العيان ، ومغانم كثيرة فتوحات ومكاشفات ، وأسرار ، وترقيات كثيرة ، إلى ما لا نهاية له ، يأخذونها. ووعدكم اللّه مغانم كثيرة تأخذونها بعد الفتح ، من الرّجوع إلى البقاء وبقاء البقاء ، والتوسع فى المقامات ، والترقي فى معارج المكاشفات ، فعجّل لكم هذه ، هو مقام الفناء ، وكفّ أيدى القواطع عنكم ، لتتوجهوا إلى مولاكم ، لتكون عبرة للمؤمنين المتخلفين عن السير ، يهتدون بهديكم ، ويهديكم صراطا مستقيما :
طريق الوصول إلى حضرة القدس ، ومحل الأنس ، وأخرى لم تقدروا عليها فى الدنيا ، ادخرها لكم يوم القيامة ، هو المقام فى مقعد صدق عند مليك مقتدر.
وقال الورتجبي : لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ أي : رضى عنهم فى الأزل ، وسابق علم القدم ، ويبقى رضاه إلى الأبد لأن رضاه صفة الأزلية الباقية الأبدية ، لا تتغير بتغير الحدثان ، ولا بالوقت والزمان ، ولا بالطاعة والعصيان ، فإذا هم فى اصطفائيته باقون إلى الأبد ، لا يسقطون من درجاتهم بالزلات ولا بالبشرية ، ولا بالشهوات ، لأن أهل الرّضا محروسون برعايته ، لا تجرى عليهم نعوت أهل البعد ، وصاروا متصفين بوصف رضاه ، فرضوا عنه كما رضى عنهم ، قال تعالى : رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ «3» ، وهذا بعد قذف نور الأنس فى قلوبهم بقوله : فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ فسكنت قلوبهم إليه ، واطمأنت به لتنزّل اليقين. ه.
___________
(1) ذكره البغوي فى تفسيره (7/ 312).
(2) من الآية 19 من سورة الأنعام.
(3) من الآية 119 من سورة المائدة.(5/398)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 399
قلت : هذا لمن تحققت محبوبيته ممن رسخت قدمه فى شهود الحق ، واطمأن به ، وأما قبل هذا فالأمر مبهم.
قال اللجائى ، فى كتابه «قطب العارفين» : وإياك أن تعتقد أنّ فى النّاس شرا منك ، وإن كان عاصيا وأنت مطيع ، فإنّ الأمر يحدث بعد الأمر ، وسر اللّه تعالى فى خلقه غامض ، لا يدرى من يبوء بالشقاوة ، ولا من يفوز بالسعادة ، وقد يتلقى العبد رضا اللّه تعالى بحسنة واحدة ، ويتلقى سخطه بذنب واحد ، فإنّ أمر اللّه خفى فى غموض المشيئة ... إلخ.
ثم بشّرهم بالنصر ، فقال :
[سورة الفتح (48) : الآيات 22 الى 24]
وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (22) سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً (23) وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً (24)
يقول الحق جل جلاله : وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا من أهل مكة ولم يصالحوا ، أو من خلفاء خيبر ، الذين جاءوا لنصرهم لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ منهزمين ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا يلى أمرهم ، وَلا نَصِيراً ينصرهم. سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ : مصدر مؤكد ، أي : سنّ اللّه غلبة أنبيائه سنة ماضية ، وهو قوله :
لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي «1» وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا تغيرا.
وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ أي : أيدى كفار أهل مكة وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ عن أهل مكة بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ أي : أقدركم وسلّطكم عليهم ، يعنى : قضى بينهم وبينكم المكافّة والمحاجزة بعد ما خوّلكم الظفر عليهم والغلبة ، وذلك أن عكرمة بن أبى جهل خرج فى خمسمائة إلى الحديبية ، يطلب غرة بالمسلمين ، فبعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم خالد بن الوليد على جند ، فهزمهم ، حتى أدخلهم حيطان مكة ، ثم عاد ثانيا
___________
(1) من الآية 21 من سورة المجادلة.(5/399)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 400
فهزمه ، ثم عاد فهزمه «1» ، هكذا نقله الثعلبي وغيره. فانظره مع ما فى الاكتفاء للكلاعى : أن خالدا كان مع المشركين فى الحديبية ، وإنما أسلم بعد الحديبية قبل الفتح ، وكان فى السنة الثامنة ، والحديبية فى السادسة ، والذي ذكر النّسفى أنه عليه السّلام بعث من هزمهم ، ولم يسمه ، وهزم خالد لبعض قريش إنما كان فى الفتح ، لا فى الحديبية ، فلعل الرّاوى غلط. وقال أنس : إن ثمانين رجلا من أهل مكة هبطوا على النّبى صلّى اللّه عليه وسلم وأصحابه من جبل التنعيم عند صلاة الفجر ، عام الحديبية ، ليقاتلوا المسلمين ، فأخذهم النّبى صلّى اللّه عليه وسلم سلما ، فأعتقهم ، فنزلت الآية «2».
ووجه المنّة فى كفّ أيدى المؤمنين عن الكافرين : ما ذكر بعد من قوله : وَلَوْ لا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ ... الآية ، أو : ما تطرق بسببه من الصلح وانقيادهم إليه ، فإنهم لما رأوا أصحابهم انهزموا أذعنوا للصلح ، وقال القشيري : بعد أن اضطرهم المسلمون إلى بيوتهم ، أنزل اللّه هذه الآية يمنّ عليهم ، حيث كفّ أيدى بعضهم عن بعض ، عن قدرة من المسلمين ، لا عن عجز ، فأما الكفار فكفّوا أيديهم رعبا وخوفا ، وأما المسلمون فنهيا من قبل اللّه ، لما فى أصلابهم من المؤمنين. ه. وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ من مقاتلتهم وهزمهم أولا ، والكفّ عنهم ثانيا ، لتعظيم بيته الحرام ، وقرأ البصري بياء الغيب ، أي : بما يعمل المشركون بَصِيراً فيجازى كلّا بما يستحقه.
[سورة الفتح (48) : آية 25]
هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْ لا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً (25)
هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَصدوا الْهَدْيَ حال كونه مَعْكُوفاً أي : محبوسا عن أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ أي : مكانه الذي يحلّ به نحره ، وهو منى وكان صلّى اللّه عليه وسلم ساق سبعين بدنة ، فلما صدّ ، نحرها بموضعه ، وبه استدل من قال : أنّ المحصر ينحر هداياه بموضعه ، وروى أن خيامه صلّى اللّه عليه وسلم كانت فى الحل ، ومصلّاه فى الحرم ، وهناك نحرت هداياه صلّى اللّه عليه وسلم. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : يقال لمن سبقت لهم العناية ، وحفّت بهم الرّعاية : لو قاتلكم الذين كفروا من النّفس الأمارة ، والشيطان ، والهوى ، وسائر القواطع ، لولّوا الأدبار ، ثم لا يجدون تسلطا عليكم أبدا ، سنّة اللّه التي قد خلت فيمن توجه إليه بصدق الطلب ، ودخل تحت تربية الرّجال ، فإن همتهم دائرة عليه ، ولن تجد لسنة اللّه تبديلا. وهو الذي كفّ أيدى الأعداء من القواطع عنكم ، وكفّ أيديكم عنهم ، من بعد أن أظفركم عليهم ، فإنّ النّفس إذا تعذبت واطمأنت وجب الكفّ عن مجاهدتها ، ووجب البرور بها ، وتصديقها فيما تحدثه ، وكذا سائر القواطع تجب الغيبة عنها ، وعدم
___________
(1) أخرجه ابن جرير (26/ 95) وانظر الكافي الشاف (ح 424) فقد قال الحافظ ابن حجر معقبا : «فى صحته نظر لأن خالدا لم يكن أسلم فى الحديبية. وظاهر السياق أن هذه القصة كانت فى الحديبية». وسيذكر الشيخ بعد قليل حديث أنس. وهو أصح لوروده فى الصحيح.
(2) أخرجه مسلم فى (الجهاد ، باب قول اللّه تعالى : وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ ح 1808) من حديث أنس رضي اللّه عنه. [.....](5/400)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 401
الالتفات إليها غيبة فى اللّه واشتغالا بشهوده. وقيل لبعضهم : متى ينتهى سير الطالبين؟ قال : «الظفر بنفوسهم ، فإن ظفروا بها وصلوا». وأيض : الا تجتمع المجاهدة مع المشاهد ، فإذا تحققت المشاهدة فلا مجاهدة. هم الذين كفروا من النّفوس المتمردة ، والهوى ، وصدوكم عن مسجد الحضرة ، والهدى معكوفا ، وحبسوكم عن التقرب إلى اللّه بالنفس والمال أن يبلغ محله ، بأن تمنعكم من إعطائه ، أو تشيبه بما يفسده من الرّياء والعجب ، لئلا تبلغ محل الإخلاص.
ثم ذكر حكمة منعهم من دخول مكة عام الحديبية ، فقال :
قلت : (أن تطؤوهم) : بدل اشتمال من رجال ونساء ، ومن ضمير «تعلموهم» وبغير متعلق بتطؤهم ، وجواب «لولا» محذوف ، أغنى عنه جواب «لو» أي : لما كف أيديكم عنهم.
يقول الحق جل جلاله : وَلَوْ لا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ بمكة ، ضعفوا عن الهجرة لَمْ تَعْلَمُوهُمْ لم تعرفوهم بأعيانهم لاختلاطهم مع المشركين ، أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ أي : غير عالمين بهم فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ أي : مشقة ومكروه. وفى تفسير المحلى «المعرة» بالإثم نظر ، مع فرض عدم العلم ، إلا أن يحمل على صورة الإثم ، وهو الخطأ ، وفيه الكفارة. والمعرة : مفعلة من : عراه : إذا دهاه ما يكرهه وشقّ عليه ، وهو هنا الكفارة إذا قتله خطأ ، وسوء مقالة المشركين أنهم فعلوا بأهل دينهم مثل ما فعلوا بنا من غير تمييز ، والإثم إذا قصد قتله. والوطء عبارة عن الإيقاع والإبادة. والحاصل أنه كان بمكة قوم مسلمون مختلطون بالمشركين ، غير متميّزين منهم ، فقيل : ولولا كراهة أن تهلكوا ناسا من المؤمنين بين ظهرانى المشركين وأنتم غير عارفين بهم ، فتصيبكم بإهلاكهم مشقة ومكروه ، ولما كففنا أيديكم عنهم ، ولسلطانكم عليهم.
وكان ذلك الكفّ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ أي : فى توفيقه لزيادة الخير والطاعة لمؤمنيهم ، أو : ليدخلهم فى الإسلام من رغب فيه من مشركيهم مَنْ يَشاءُ زيادته أو هدايته ، فاللام متعلقة بمحذوف ، تعليل لما دلت عليه الآية ، وسيقت له ، من كفّ الأيدى عن أهل مكة ، والمنع من قتلهم ، صونا لما بين أظهرهم من المؤمنين.
لَوْ تَزَيَّلُوا أي : تفرقوا وتميز المسلمون من الكافرين ، لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً بقتل(5/401)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 402
مقاتلتهم ، وسبى ذراريهم. ويجوز أن يكون : «لو تزيلوا» كالتكرير ل «لولا ..» لمرجعهما لمعنى واحد ، ويكون (لعذّبنا ...) إلخ ، هو جواب «لولا» والتقدير : ولولا أن تطئوا رجالا مؤمنين ونساء مؤمنات من غير علم ، ولو كانوا متميزين لعذبناهم بالسيف.
الإشارة : إذا اختلط أهل الانتقاد مع أهل الاعتقاد ، لا يعم البلاء المعدّ لأهل الانتقاد ، ولو تزيلوا لعذبنا المنكرين عذابا أليما ، وكذلك إذا اختلط الفجار مع الأبرار ، وغلب جمع الأبرار ، لا يعم البلاء ، ويصرف عن الجميع ، فلو تزيل الفجار لعذبوا عذابا أليما.
قال القشيري : قد تكون فى النّفس أوصاف مستحسنة ، تليق بالفيض الإلهى ، مع أوصاف مذمومة ، فلو سلطناكم على إهلاكها بالمرة ، لفاتكم ما فيها من الأوصاف الحسنة ، فتصيبكم معرة ، ليدخل اللّه فى رحمته بالوصول إلى حضرته من يشاء من النّفوس ، بتصفية ما فيها من الرّذائل. لو تزيلوا تميز ما يصلح قلعه ، كالكبر ، والشر ، والحرص والحقد ، أو ما يصلح تبديله ، كالبخل بالسخاء ، والحرص بالقناعة ، والغضب بالحلم ، والجبن بالشجاعة ، والشهوة بالعفة ، لعذّبنا النّفوس المتمردة عذابا أليما ، بإهلاكها بالكلية. بالمعنى.
ثم وصف أهل الكفر المتقدمين الآن بالحمية ، فقال :
[سورة الفتح (48) : آية 26]
إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (26)
يقول الحق جل جلاله : واذكر إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا من قريش أي : ألقوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ أي : الأنفة والتكبر ، أو : صيّروا الحمية راسخة فى قلوبهم حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ : بدل ، أي : حميّة الملة الجاهلية ، أو الحميّة النّاشئة من الجاهلية ، ووضع الموصول موضع ضميرهم ، إذ تقدم ذكرهم ، لذمّهم بما فى حيز الصلة ، وتعليل الحكم به. والجعل بمعنى الإلقاء ، فلا يتعدى إلى مفعولين ، أو : بمعنى التصيير ، فالمفعول الثاني محذوف ، كما تقدم. و«الذين» : فاعل ، على كلّ حال. فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ أي : أنزل فى قلوبهم الطمأنينة والوقار ، فلم يتضعضعوا من الشروط التي شرطت قريش.(5/402)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 403
روى : أن رسول اللّه لمّا نزل الحديبية بعثت قريش سهيل بن عمرو ، وحويطب بن عبد العزّى ، ومكرز بن حفص ، على أن يعرضوا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم أن يرجع من عامه ذلك ، على أن تخلى له قريش مكة من العام القابل ثلاثة أيام ، ففعل ذلك ، وكتب بينهم كتابا ، فقال صلّى اللّه عليه وسلم لعلىّ رضي اللّه عنه : «اكتب «بسم اللّه الرّحمن الرّحيم» فقال سهيل وأصحابه : ما نعرف هذا ، ولكن اكتب : باسمك اللهم ، ثم قال : «اكتب : هذا ما صالح عليه رسول اللّه أهل مكة» فقالوا :
لو كنا نعلم أنك رسول اللّه ما صددناك عن البيت وما قاتلناك ، ولكن اكتب : هذا ما صالح عليه محمد بن عبد اللّه أهل مكة ، فقال صلّى اللّه عليه وسلم : «اكتب ما يريدون ، فأنا أشهد أنّى رسول ، وأنا محمد بن عبد اللّه» فهمّ المسلمون أن يأبوا ذلك ، ويبطشوا بهم ، فأنزل اللّه السكينة عليهم ، فتوقّروا وحلموا «1». وفى رواية البخاري : فكتب علىّ رضي اللّه عنه : «هذا ما قضى عليه محمد رسول اللّه» فلما أبوا ذلك ، قال صلّى اللّه عليه وسلم لعلىّ : «امح رسول اللّه ، واكتب : محمد بن عبد اللّه» ، فقال : وللّه لا أمحوك أبدا ، فأخذ صلّى اللّه عليه وسلم الصحيفة وكتب ما أرادوا. قيل : كتب بيده معجزة ، وقيل : أمر من كتب ، وهو الأصح.
وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى ، شهادة «لا إله إلا اللّه» «2» ، وقيل : «بسم اللّه الرّحمن الرّحيم ، وقيل : محمد رسول اللّه ، وقيل : الوفاء بالعهد ، والثبات عليه. وإضافتها إلى التقوى لأنها سببها وأساسها ، وقيل : كلمة أهل التقوى.
وَكانُوا أَحَقَّ بِها أي : متصفين بمزيد استحقاق بها ، على أن صيغة التفضيل للزيادة مطلقا ، أو : أحق بها من غيرهم من سائر الأمم وَكانوا أيضا أَهْلَها المتأهلون لها بتأهيل اللّه إياهم. قال القشيري : كلمة التقوى هى التوحيد عن قلب صادق ، وأن يكون مع الكلمة الاتقاء من الشرك ، وكانوا أحق بها فى سابق حكمه ، وقديم علمه ، وهذا إلزام إكرام ولطف ، لا إلزام إكراه وعنف ، وإلزام بر ، لا إلزام جبر. ه. وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً فيجرى الأمور على مساقها ، فيسوق كلّا إلى ما يستحقه.
الإشارة : لا يصل العبد إلى مولاه حتى تكون نفسه أرضية ، وروحه سماوية ، يدور مع الحق أينما دار ، ويخضع للحق أينما ظهر ، ولأهله أينما ظهروا ، لم تبق فيه حميّة ولا أنفه ، بل يكون كالأرض يطأها البار والفاجر ، ولا تميز بينهما ، وأما من فيه حمية الجاهلية ، فهو من أهل الخذلان ، وأما أهل العناية ، فأشار إليهم بقوله : فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ
___________
(1) أخرجه البيهقى فى دلائل النّبوة (باب سياق قصة الحديبية 4/ 105) من حديث عروة بن الزبير ، مرسلا ، والقصة هى الصحيح ، فقد أخرجها البخارى فى (الصلح ، باب كيف يكتب : هذا ما صالح فلان بن فلان ، ح 2698) كما أخرجها مطولة فى (الشروط ، باب الشروط فى الجهاد ، 5/ 329 - 333) من حديث عروة بن الزبير ، عن المسور بن مخرمة ومروان ، وأخرجها مسلم فى (الجهاد ، باب صلح الحديبية ح 1783) من حديث البراء بن عازب - رضي اللّه عن الصحابة أجمعين.
(2) هذا هو التفسير المروى عن الرّسول صلّى اللّه عليه وسلم. وأخرجه الترمذى فى (التفسير - سورة الفتح ح 3265) وأحمد فى المسند (5/ 138 ، ح 21151) والحاكم (2/ 461) «وصحّحه ووافقه الذهبى» والطبرانى فى الكبير (1/ 168) من حديث علىّ رضي اللّه عنه. وأخرجه البيهقى فى الأسماء والصفات (ص 109) من حديث الطفيل بن أبىّ ، عن أبيه.(5/403)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 404
فكان متواضعا سهلا لينا ، كما قال تعالى : وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ «1» وعلى المؤمنين ، فأخبر عنهم بقوله : أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ «2» الآية ، «وألزمهم كلمة التقوى» ، «لا إله إلا اللّه» لأنها تهذب الأخلاق ، وتخرج ما فى القلب من الأمراض والنّفاق لأن النّفى : تنزيه وتخلية ، والإثبات : نور وتحلية ، فلا يزال النّفى يخرج من القلب ما فيه هى الظلمة والمساوئ ، حتى يتطهر ويتصف بكمال المحاسن.
قال فى نوادر الأصول ، لمّا تكلم على وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى : هو «لا إله إلا اللّه» ، وجه تسميتها بذلك : أنه اتقى بها ونفى ما أحدث م ... ن الشرك ، حمية للتوحيد وعصبية وغيرة ، اقتضاها نور التوحيد والمحبة ، فنفى القلب كلّ رب ادعى العباد ربوبيته ، وولهت قلوبهم إليه ، فابتدأ هذا القلب - الذي وصفنا - بالنفي لأرباب الأرض ، ثم سما عاليا حتى انتهى إلى الرّب الأعلى ، فوقف عنده ، وتذلل وخشع له ، واطمأن ووله إليه. وقال لنبيه : سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى «3» أي : إن هذه أرباب متفرقون ، والرّب اللّه الواحد القهار ، فهداه إلى الرّب الأعلى ، وقال : وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى «4». ثم قال : ألزم قلوبهم هذه الكلمة بنور المحبة ، كما قال : حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ «5» ، فبحلاوة الحب ، وزينة البهاء ، صارت الكلمة لازمة لقلوبهم.
وأما قوله : وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها فإنما صاروا كذلك لأن اللّه كان ولا شىء ، فخلق المقادير ، وخلق الخلق فى ظلمة ، ثم رش عليهم من نوره ، فمن أصابه من ذلك النّور اهتدى ، ومن أخطأه ضل ، فقد علم من يخطئه ممن يصيبه. ثم ذكر أحاديث ، من ذلك : حديث [ابن عمرو] «6» : «إن اللّه خلق خلقه ، ثم جعلهم فى ظلمة ، ثم أخذ من نوره ما شاء ، فألقاه عليهم ، فأصاب النّور من شاء أن يصيبه ، وأخطأ من شاء أن يخطئه ...» الحديث «7». ثم قال بعد كلام طويل : ثم لمّا نفخ الرّوح فى آدم أخرج نسم بنيه ، أهل اليمين ، من كتفه الأيمن فى صفاء وتلألؤ ، وأصحاب الشمال [كالحمّة] «8» سود من كتفه الأيسر ، والسابقون أمام الفريقين ، المقربون ، وهم الرّسل والأنبياء والأولياء ،
___________
(1) الآية 4 من سورة القلم.
(2) من الآية 29 من سورة الفتح.
(3) الآية الأولى من سورة الأعلى.
(4) من الآية 42 من سورة النّجم.
(5) من الآية 7 من سورة الحجرات.
(6) فى الأصول [ابن عمر] والمثبت هو الصحيح ، فالحديث مروى عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص.
(7) أخرجه بنحوه الترمذي وحسّنه فى (الإيمان ، باب افتراق هذه الأمة ، ح 2642) وأحمد فى المسند (ح 6854) ومطولا (ح 6644) والحاكم (1/ 30 - 31) «وصحّحه ووافقه الذهبي» وكذا صحّحه ابن حبان (ص 449) من حديث عبد اللّه بن عمرو بن العاص ، وقال الهيثمي فى المجمع (7/ 193 - 194) : «رواه أحمد بإسنادين ، والبزار والطبراني ، ورجال أحد إسنادى أحمد ثقات».
(8) فى الأصول [كالحمية] والمثبت من نوادر الأصول ، وهو الصحيح.
والحم : الأسود من كلّ شىء ، والاسم : الحمّة. انظر اللسان (حمم 2/ 1009).(5/404)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 405
فقرّبهم «1» كلهم ، وأخذ عليهم الميثاق على الإقرار بالعبودية ، وأشهدهم على أنفسهم ، وشهد عليهم بذلك ، ثم ردهم إلى الأصلاب ليخرجهم تناسلا إلى الأرحام «2». ه.
وقال الجنيد رضي اللّه عنه فى قوله : وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها : من أدركه عناية السبق فى الأزل جرى عليه عنوان المواصلة ، وهو أحق بها ، لما سبق إليه من كرامة الأزل. ه. والحاصل : أنهم أحق بها بالسبق بالاصطفائية ، وبقيت نعوتها وأنوارها فى قلوبهم ، دون الذين حجبهم اللّه عن رؤية نورها. قاله فى الحاشية.
ثم بشّرهم بفتح مكة ، وصدق الرّؤيا التي رآها النّبى صلّى اللّه عليه وسلم ، فقال :
[سورة الفتح (48) : آية 27]
لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً (27)
يقول الحق جل جلاله : لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا أي : صدقه فى رؤياه ولم يكذبه - تعالى اللّه عن الكذب - فحذف الجارّ وأوصل الفعل كقوله : صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ «3» يقال : صدقه الحديث : إذا حققه وبينّه له ، أو : أخبره بصدق ، روى أنه صلّى اللّه عليه وسلم رأى فى النّوم ، قبل خروجه إلى الحديبية ، كأنّه وأصحابه قد دخلوا مكة آمنين ، وقد حلقوا وقصّروا ، فقص الرّؤيا على أصحابه ، ففرحوا ، وحسبوا أنهم داخلوها ، وقالوا : إن رؤيا رسول اللّه حق. واللّه تعالى قد أبهم الأمر عليهم لينفرد بالعلم الحقيقي ، فلما صدوا ، قال عبد اللّه بن أبىّ وغيره من المنافقين : واللّه ما حلقنا ولا قصّرنا ، ولا رأينا المسجد الحرام ، فنزلت «4» : لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ فيما أراه ، وما كذب عليه ، ولكن فى الوقت الذي يريد.
وقوله : بِالْحَقِّ ، إما صفة لمصدر محذوف ، أي : صدقا ملتبسا بالحق ، أي : بالغرض الصحيح ، والحكمة البالغة التي تميز بين الرّاسخ فى الإيمان والمتزلزل فيه ، أو : حال من الرّؤيا ، أي : ملتبسة بالحق ليست من قبيل
___________
(1) فى نوادر الأصول : [فقررهم ].
(2) النقل بتصرف.
(3) من الآية 23 من سورة الأحزاب.
(4) أخرجه البيهقي فى دلائل النّبوة (باب نزول الفتح مرجع الحديبية 4/ 364) وابن جرير فى التفسير (26/ 107) عن مجاهد ، مرسلا. [.....](5/405)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 406
أضغاث الأحلام ، ويجوز أن يكون قسما ، أي : أقسم بالحق لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ ، وعلى الأول : جواب القسم محذوف ، أي : واللّه لتدخلن المسجد الحرام ، والجملة القسمية : استئناف بيانى ، كأن قائلا قال : ففيم صدقه؟ فقال :
(لتدخلن المسجد إن شاء اللّه). وهو تعليق للعدة بالمشيئة لتعليم العباد. قال ثعلب : استثنى اللّه فيما يعلم ليستثنى الخلق فيما لا يعلمون. وقال فى القوت : استثنى اللّه معلما لعباده ورادا لهم إلى مشيئته ، وهو أصدق القائلين ، وأعلم العالمين. ه. أو : للإشعار بأن بعضهم لا يدخلونه ، لموت ، أو : غيبة ، أو غير ذلك ، أو : هو حكاية لما قاله ملك الرّؤيا لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ، أو لما قاله صلّى اللّه عليه وسلم لأصحابه ، حين قصّ عليهم ، أي : واللّه لتدخلنها آمِنِينَ من غائلة العدو ، فهو حال من فاعل «لتدخلن» والشرط معترض. مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ أي : محلقا بعضكم ، ومقصرا آخرون ، لا تَخافُونَ بعد ذلك أبدا ، فهو حال أيضا ، أو استئناف ، فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا من الحكمة فى تأخير فتح مكة إلى العام القابل ، فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فتح مكة فَتْحاً قَرِيباً وهو فتح خيبر ، لتستروح إليه قلوب المؤمنين ، إلى أن يتيسر الفتح الموعود. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : العارف الكامل لا يركن إلى شىء دون اللّه تعالى ، فلا يطمئن إلى وعد ، ولا يخاف من وعيد ، بل هو عبد بين يدى سيده ، ينظر ما يبرز من زمن عنصر قدرته ، فإن بشّر بشىء فى النّوم أو اليقظة ، لا يركن إليه ، ولا يقف معه لأن غيب المشيئة غامض ، وإن خوّف بشىء فى النّوم أو غيره ، لا يفزع ولا يجزع لأن الغنى باللّه والأنس به غيّبه عن كلّ شىء ، وفى اللّه خلف من كلّ تلف «ما ذا فقد من وجدك؟ «1»» واللّه يتولى الصالحين ، وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً .. الآية «2».
قال فى الإبريز «3» : الرؤيا المحزّنة إنما هى اختبار من اللّه للعبد ، هل يبقى مع ربه أو ينقطع عنه ، فإن كان العبد متعلقا به تعالى ، ورأى الرّؤيا المحزنة ، لم يلتفت إليها ، ولما يبال بها لعلمه بأنه منسوب إلى من بيده تصاريف الأمور ، وأنّ ما اختاره تعالى سبقت به المشيئة ، فلا يهوله أمر الرّؤيا ، ولا يلقى إليها بالا ، وهذه لا تضره بإذن اللّه تعالى : وإذا كان العبد غير متعلق بربه ، ورأى رؤيا محزنة ، جعلها نصب عينيه ، وعمّر بها باطنه ، وانقطع بها عن ربه ، ويقدّر أنها لا محالة نازلة به ، فهذا هو الذي تضره لأنّ من خاف من شىء سلّطه عليه. ه.
___________
(1) من مناجاة الشيخ ابن عطاء السكندرى. انظر تبويب الحكم للمتّقى الهندي (ص 42).
(2) الآية 2 من سورة الطلاق.
(3) لسيدى عبد العزيز الدبّاغ - رحمه اللّه تعالى.(5/406)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 407
وسئل سهل التستري رضي اللّه عنه عن الاستثناء فى هذه الآية ، فقال : تأكيدا فى الافتقار إليه ، وتأديبا لعباده فى كل حال ووقت. ه. أي : أدّبهم لئلا يقفوا مع شىء دونه.
ثم ردّ حميّة الجاهلية فى عدم إقرارهم برسالته صلّى اللّه عليه وسلم ، فقال :
[سورة الفتح (48) : الآيات 28 الى 29]
هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (28) مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً (29)
يقول الحق جل جلاله : هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى بالتوحيد ، أي : ملتبسا به ، أو : بسببه ، أو :
لأجله ، وَدِينِ الْحَقِّ وبدين الإسلام ، وبيان الإيمان والإحسان. وقال الورتجبي : ودين الحق : هو بيان معرفته والأدب بين يديه. ه. لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ ليعليه على جنس الدين ، يريد الأديان كلها من أديان المشركين وأهل الكتاب ، وقد حقق ذلك سبحانه ، فإنك لا ترى دينا قط إلا والإسلام فوقه بالعزة والغلبة ، إلا ما كان من النّصارى بالجزيرة «1» ، حيث فرّط أهل الإسلام ، وقيل : هو عند نزول عيسى عليه السّلام حين لا يبقى على وجه الأرض كافر. وقيل : هو إظهاره بالحجج والآيات. وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً على أن ما وعده كائن. وعن الحسن :
شهد على نفسه أنه سيظهر دينه ، أو : كفى به شهيدا على نبوة محمد صلّى اللّه عليه وسلم وهو تمييز ، أو حال.
مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ أي : ذلك المرسل بالهدى ودين الحق هو محمد رسول اللّه ، فهو خبر عن مضمر ، و«رسول» : نعت ، أو : بدل ، أو : بيان ، أو : «محمد» : مبتدأ و«رسول» : خبر ، وَالَّذِينَ مَعَهُ : مبتدأ ، خبره : أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ
___________
(1) يعنى الأندلس.(5/407)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 408
أو : «الذين» : عطف على «محمد» ، و«أشداء» : خبر الجميع ، أي : غلاظ شداد على الكفار فى حربهم ، رحماء متعاطفون بينهم ، يعنى : أنهم كانوا يظهرون لمن خالف دينهم الشّدة والصلابة ، ولمن وافق دينهم الرّأفة والرّحمة ، وهذا كقوله تعالى : أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ «1» ، وبلغ من تشديدهم على الكفار أنهم كانوا يتحرّزون من ثيابهم أن تلزق بثياب الكفار ، ومن أبدانهم أن تمسّ أبدانهم ، وبلغ من تراحمهم فيما بينهم : أنهم كانوا لا يرى مؤمن مؤمنا إلا صافحه وعانقه.
وهذا الوصف الذي مدح اللّه به الصحابة - رضي اللّه عنهم - مطلوب من جميع المؤمنين ، لقوله صلّى اللّه عليه وسلم : «ترى المؤمنين فى تراحمهم وتوادّهم وتعاطفهم كالجسد الواحد ، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمّى» «2». رواه البخاري ، وقال أيضا : «نظر الرّجل إلى أخيه شوقا خير من اعتكاف سنة فى مسجدى هذا» ، «3» ذكره فى الجامع.
تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً أي : تشاهدهم حال كونهم راكعين ساجدين لمواظبتهم على الصلوات ، أو : على قيام الليل ، كما قال من شاهد حالهم : رهبان بالليل أسدّ بالنهار ، وهو استئناف ، أو : خبر ، يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً أي : ثوابا ورضا وتقريبا سِيماهُمْ علاماتهم فِي وُجُوهِهِمْ فى جباههم مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ أي : من التأثير الذي يؤثّره كثرة السجود. وما روى عنه عليه السّلام : «لا تعلموا صوركم» «4» أي : لا تسموها ، إنما هو فيمن يتعمد ذلك باعتماد جبهته على الأرض ، ليحدث ذلك فيها ، وذلك رياء ونفاق ، وأما إن حدث بغير تعمد ، فلا ينهى عنه ، وقد ظهر على كثير من السلف الصالح غرة فى جباههم مع تحقق إخلاصهم.
وقال منصور : سألت مجاهدا عن قوله : سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ أهو الأثر يكون بين عينى الرّجل؟ قال : لا ربما يكون بين عينى الرّجل مثل ركبة البعير ، وهو أقسى قلبا من الحجارة ، ولكنه نور فى وجوههم من الخشوع.
وقال ابن جريج : هو الوقار والبهاء ، وقيل : صفرة الوجوه ، وأثر السهر. وقال الحسن : إذا رأيتهم حسبتهم مرضى ، وما هم مرضى. وقال سفيان وعطاء : استنارت وجوههم من طول ما صلّوا بالليل ، لقوله عليه السّلام : «من كثرت صلاته
___________
(1) من الآية 54 من سورة المائدة.
(2) أخرجه البخاري فى (الأدب ، باب رحمة النّاس والبهائم ، ح 6011) ومسلم فى (البر والصلة باب تراحم المؤمنين وتعاطفهم وتعاضدهم ، ح 2586) من حديث النّعمان بن بشير رضي اللّه عنه.
(3) عزاه السيوطي فى الجامع الصغير (ح 9266) للحكيم عن ابن عمرو ، وضعّفه.
(4) على هامش النّسخة الأم : «هذا حديث لا أصل له».(5/408)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 409
بالليل حسن وجهه بالنّهار» «1» وقال ابن عطية : إنه من قول شريك «2» لا حديث ، فانظره ، وقال ابن جبير : فى وجوههم يوم القيامة يعرفون به أنهم سجدوا فى الدنيا للّه تعالى. ه.
ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ ، الإشارة إلى ما ذكر من نعوتهم الجليلة ، وما فيها من معنى البعد مع قرب العهد للإيذان بعلو شأنه ، وبعد منزلته فى الفضل ، أي : ذلك وصفهم العجيب الجاري فى الغرابة مجرى الأمثال ، هو نعتهم فى التوراة ، أي : كونهم أشدّاء على الكفار ، رحماء بينهم ، سيماهم فى وجوههم.
ثم ذكر وصفهم فى الإنجيل فقال : وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ .. إلخ ، وقيل : عطف على ما قبله ، بزيادة «مثل» ، أي : ذلك مثلهم فى التوراة والإنجيل ، ثم بيّن المثل فقال : هم كزرع أَخْرَجَ شَطْأَهُ فراخه ، يقال : أشطأ الزرع : أفرخ ، فهو مشطىء ، وفيه لغات : شطأه بالسكون والفتح ، وحذف الهمزة ، كقضاة. و«شطه» ، بالقصر.
فَآزَرَهُ فقوّاه ، من : المؤازرة ، وهى الإعانة ، فَاسْتَغْلَظَ فصار من الرّقة إلى الغلظ ، فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ فاستوى على قصبه ، جمع : ساق ، يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ يتعجبون من قوّته ، وكثافته ، وغلظه ، وحسن نباته ومنظره. وهو مثل ضربه اللّه لأصحابه صلّى اللّه عليه وسلم فى بدء الإسلام ، ثم كثروا واستحكموا ، بترقى أمرهم يوما بيوم ، بحيث أعجب النّاس أمرهم ، فكان الإسلام يتقوى كما تقوى الطاقة من الزرع ، بما يحتفّ بها مما يتولّد منها.
وقيل : مكتوب فى الإنجيل : سيخرج قوم ينبتون نبات الزرع ، يأمرون بالمعروف ، وينهون عن المنكر «3». وعن عكرمة : أخرج شطأه بأبى بكر ، فآزره بعمر ، فاستغلظ بعثمان ، فاستوى على سوقه بعلي. «4». وحكى النّقاش عن ابن عباس ، أنه قال : الزرع النّبى صلّى اللّه عليه وسلم ، فآزره علىّ بن أبى طالب ، فاستغلظ بأبى بكر ، فاستوى على سوقه بعمر. ه.
___________
(1) أخرجه ابن ماجة فى (إقامة الصلاة والسنة فيها ، باب ما جاء فى قيام الليل ، ح 1333) قال : «حدثنا إسماعيل بن محمد الطلحي ، ثنا ثابت بن موسى أبو يزيد ، عن شريك ، عن الأعمش ، عن أبى سفيان ، عن جابر رضي اللّه عنه الحديث» ورفعه ..
(2) «شريك» أحد رواة الحديث. قال السندي :
معنى الحديث ثابت بموافقة القرآن ، وشهادة التجربة ، لكن الحفّاظ على أن الحديث بهذا اللفظ غير ثابت. وأخرج البيهقي فى الشعب ، عن محمد بن عبد الرّحمن بن كامل قال : قلت لمحمد بن عبد اللّه بن نمير : ما تقول فى ثابت بن موسى؟ قال : شيخ له فضل وإسلام ودين وصلاح وعبادة ، قلت : ما تقول فى هذا الحديث؟ قال : غلط من الشيخ ، وأما غير ذلك فلا يتوهم عليه. وقد تواردت أقوال الأئمة على عدّ هذا الحديث فى الموضوع ، على سبيل الغلط ، لا العمد ، وخالفهم القضاعي فى مسند الشهاب ، فمال فى الحديث إلى ثبوته. انظر حاشية سنن ابن ماجة (1/ 423). وانظر أيضا - تفسير القرطبي (7/ 6302).
(3) أخرجه الطبري (26/ 114) عن قتادة.
(4) انظر هذه الأقوال فى تفسير البغوي (7/ 325).(5/409)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 410
واختار ابن عطية : أن المثل شامل للنبى صلّى اللّه عليه وسلم وللصحابة ، فإنّ النّبى صلّى اللّه عليه وسلم بعث وحده ، فهو الزرع ، حبّة واحدة ، ثم كثر المسلمون ، فهم كالشطء ، تقوّى بهم صلّى اللّه عليه وسلم.
لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ تعليل لما يعرب عنه الكلام من تشبيههم بالزرع فى ذكائه واستحكامه ، أي : جعلهم كذلك ليغيظ بهم من كفر باللّه.
وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً استئناف مبيّن لما خصّهم به من الكرامة فى الآخرة ، بعد بيان ما خصّهم به فى الدنيا ، ويجوز أن يرجع لقوله : (ليغيظ بهم ...) إلخ : أي : ليغيظ بهم وعدهم بالمغفرة والأجر العظيم لأن الكفار إذا سمعوا ما أعدّ لهم فى الآخرة مع ما خصّهم فى الدنيا من العزة والنّصر غاظهم ذلك أشد الغيظ ، و«من» فى «منهم» للبيان ، كقوله : فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ «1» ، أي : وعد اللّه الذين آمنوا من هؤلاء.
الإشارة : هو الذي أرسل رسوله بالهدى : بيان الشرائع ، ودين الحق : بيان الحقائق ، فمن جمع بينهما من أمته ظهر دينه وطريقته ، وهذا هو الولىّ المحمدي ، أعنى : ظاهره شريعة ، وباطنه حقيقة ، وما وصف به سبحانه أصحاب الرّسول صلّى اللّه عليه وسلم هو وصف الصوفية ، أهل التربية النّبوية ، خصوصا طريق الشاذلية ، حتى قال بعضهم : من حلف أن طريق الشاذلية عليها كانت بواطن الصحابة ما حنث. وقوله تعالى : يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً قال الورتجبي : أي : يطلبون مزيد كشف فى الذات والدنو والوصال والبقاء مع بقائه بلا عتاب ولا حجاب ، وهذا محل الرضوان الأكبر. ه.
وقوله تعالى : سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ أي : نورهم فى وجوههم ، لتوجههم نحو الحق ، فإنّ من قرب من نور الحق ظهرت عليه أنوار المعرفة ، وجمالها وبهاؤها ، ولو كان زنجيا أو حبشيا ، وفى ذلك قيل :
وعلى العارفين أيضا بهاء وعليهم من المحبّة نور
ويقال : السيما للعارفين ، والبهجة للمحبين ، فالسيما هى الطمأنينة ، والرّزانة ، والهيبة والوقار ، كل من رآهم بديهة هابهم ، ومن خالطهم معرفة أحبهم ، والبهجة : حسن السمت والهدى ، وغلبة الشوق ، والعشق ، واللهج بالذكر اللساني. واللّه تعالى أعلم.
___________
(1) من الآية 30 من سورة الحج.(5/410)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 411
وروى السلمى عن عبد العزيز المكي : ليس السيما النّحولة والصفرة ، ولكنه نور يظهر على وجوه العابدين ، يبدو من باطنهم على ظاهرهم ، يتبين ذلك للمؤمنين ، ولو كان ذلك فى زنجى أو حبشى. وعن بعضهم : ترى على وجوههم هيئة لقرب عهدهم بمناجاة سيدهم. وقال ابن عطاء : ترى عليهم طلع الأنوار لائحة. وقال الورتجبي :
المؤمن وجه للّه بلا قفا ، مقبلا عليه ، غير معرض عنه ، وذلك سيما المؤمن. ه. وباللّه التوفيق ، وصلّى اللّه على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.(5/411)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 412(5/412)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 413
سورة الحجرات
مدنية. وهى ثمانى عشرة آية. ومناسبتها لما قبلها : أنه تعالى لمّا مدح الصحابة ، وبشّرهم بالمغفرة علّمهم الأدب لأنه من أعظم أسباب المغفرة والقرب ، فقال :
[سورة الحجرات (49) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (2) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3)
يقول الحق جل جلاله : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ، تصدير الخطاب بالنداء ، تنبيه المخاطبين على أنّ ما فى حيّزه أمر خطير يستدعى اعتنائهم بشأنه ، وفرط اهتمامهم بتلقيه ومراعاته ، ووصفهم بالإيمان لتنشيطهم ، والإيذان بأنه داع إلى المحافظة عليه ووازع عن الإخلال به ، لا تُقَدِّمُوا أي : لا تفعلوا التقديم ، على ترك المفعول للقصد إلى نفس الفعل من غير اعتبار تعلقه بأمر من الأمور ، على طريقة قولهم : فلان يعطى ويمنع ، أو :
لا تقدّموا أمورا من الأمور ، على حذف المفعول ، للعموم ، أو : يكون التقديم بمعنى التقدم ، من «قدّم» اللازم ، ومنه :
مقدمة الجيش ، للجماعة المتقدّمة ، ويؤيده قراءة من قرأ : (لا تقدّموا) «1» بحذف إحدى التاءين ، أي : لا تتقدموا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ، أي : لا تقطعوا أمرا قبل أن يحكما به ، وحقيقة قولك : جلست بين يدى فلان : أن تجلس بين الجهتين المسامتتين ليمينه وشماله قريبا منه ، فسميت الجهتان يدين لكونهما على سمت اليدين مع القرب منهما ، توسعا ، كما يسمّى الشيء باسم غيره إذا جاوره.
___________
(1) وهى قراءة يعقوب ، أحد القراء العشرة. انظر الإتحاف (2/ 485). [.....](5/413)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 414
وفى هذه العبارة ضرب من المجاز الذي يسمى تمثيلا ، وفيه فائدة جليلة ، وهى : تصوير الهجنة والشناعة فيما نهوا عنه من الإقدام على أمر من الأمور دون الاحتذاء على أمثلة الكتاب والسنة. ويجوز أن يجرى مجرى قولك :
سرّنى زيد وحسن ماله ، فكذلك هنا المعنى : لا تقدّموا بين يدى رسول اللّه - صلّى اللّه عليه وسلم. وفائدة هذا الأسلوب : الدلالة على قوة الاختصاص ، ولمّا كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم من اللّه بالمكان الذي لا يخفى سلك به هذا المسلك ، وفى هذا تمهيد لما نقم منهم من رفع أصواتهم فوق صوته لأن من فضّله اللّه بهذه الأثرة ، واختصه بهذا الاختصاص ، كان أدنى ما يجب له من التهيّب والإجلال : أن لا يرفع صوت بين يديه ، ولا يقطع أمر دونه ، فالتقدم عليه تقدم على اللّه لأنه لا ينطق عن الهوى ، فينبغى الاقتداء بالملائكة حيث قيل فيهم : لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ ... إلخ «1».
قال عبد اللّه بن الزبير : قدم وفد من تميم على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم. فقال أبو بكر : لو أمّرت عليهم القعقاع بن معبد ، وقال عمر : يا رسول اللّه بل أمّر الأقرع بن حابس فقال أبو بكر : ما أردت إلا خلافى ، وقال عمر : ما أردت خلافك ، وارتفعت أصواتهما ، فنزلت «2». فعلى هذا يكون المعنى : لا تقدّموا ولاة ، والعموم أحسن كما تقدم. وعبارة البخاري : «وقال مجاهد : (لا تقدموا) لا تفتاتوا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم حتى يقضى اللّه - عز وجل - على لسانه» «3».
وعن الحسن : أن ناسا ذبحوا يوم الأضحى قبل الصلاة ، فنزلت ، فأمرهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم أن يعيدوا «4» ، وعن عائشة :
أنها نزلت فى النّهى عن صوم يوم الشك «5».
وَاتَّقُوا اللَّهَ فى كلّ ما تأتون وتذرون من الأحوال والأفعال ، التي من جملتها ما نحن فيه ، إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ لأقوالكم عَلِيمٌ بأفعالكم ، فمن حقّه أن يتّقى ويراقب.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ ، شروع فى النّهى عن التجاوز فى كيفية القول عند النّبى صلّى اللّه عليه وسلم ، بعد النّهى عن التجاوز فى نفس القول والفعل ، وإعادة النّداء مع قرب العهد للمبالغة فى الإيقاظ والتنبيه ، والإشعار باستقلال كلّ من الكلامين باستدعاء الاعتناء بشأنه أي : لا تبلغوا بأصواتكم وراء حدّ يبلغه
___________
(1) من الآية 27 من سورة الأنبياء.
(2) أخرجه البخاري فى (التفسير ، باب إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ ح 4847).
(3) ذكره البخاري فى (التفسير ، سورة الحجرات). وأخرجه الطبري (26/ 116).
(4) أخرجه الطبري (26/ 117). وعزاه السيوطي فى الدر (6/ 86) لابن أبى الدنيا فى الأضاحى.
(5) عزاه السيوطي فى الدر (6/ 86) لابن النّجار فى تاريخه ، والطبراني فى الأوسط ، وابن مردويه.
هذا ، وما ذكره المفسر عن السيدة عائشة والحسن إنما هو داخل فى عموم الآية ، لا أنه سبب النّزول لأن ما ذكر عن السيدة عائشة والحسن مخالف للرواية الصحيحة الواردة فى سبب النّزول ، والتي أخرجها البخاري.(5/414)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 415
صوته صلّى اللّه عليه وسلم ، بل يكون كلامه عاليا لكلامكم ، وجهره باهرا لجهركم ، حتى تكون مزيّته عليكم لائحة ، وسابقته لديكم واضحة.
وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ إذا كلمتموه كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أي : جهرا كائنا كالجهر الجاري فيما بينكم ، بل اجعلوا أصواتكم أخفض من صوته ، واختاروا فى مخاطبته القول اللين القريب من الهمس ، كما هو الدأب فى مخاطبة المهاب المعظّم ، وحافظوا على مراعاة هيبة النّبوة وجلالة مقدارها. وقيل : معنى : لا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ : لا تقولوا : يا محمد ، يا أحمد ، بل : يا رسول اللّه. يا نبى اللّه ، ولمّا نزلت هذه الآية ما كلم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم أبو بكر إلا كأخى السّرار «1».
وعن ابن عباس رضي اللّه عنه : أنها نزلت فى ثبات بن قيس بن شماس ، وكان فى أذنيه وقر ، وكان جهورىّ الصوت ، وكان إذا تكلم رفع صوته ، وربما كان يكلّم النّبىّ صلّى اللّه عليه وسلم فيتأذى من صوته. ه. والصحيح ما تقدم. وفى الآية أنهم [لم ] «2» ينهوا عن الجهر مطلقا ، وإنما نهوا عن جهر مخصوص ، أي : الجهر المنعوت بمماثلة ما اعتادوه فيما بينهم ، وهو الخلوّ عن مراعاة هيبة النّبوة ، وجلالة مقدارها.
وقوله : أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ مفعول من أجله ، أي : لا تجهروا خشية أن تحبط أعمالكم ، وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ فإنّ سوء الأدب ربما يؤدى بصاحبه إلى العطب وهو لا يشعر. ولمّا نزلت الآية جلس ثابت بن قيس فى بيته ولم يخرج ، فتفقّده صلّى اللّه عليه وسلم ، فدعاه فسأله ، فقال : يا رسول اللّه لقد أنزلت عليك هذه الآية ، وإنى رجل جهير الصوت ، فأخاف أن يكون عملى قد حبط ، فقال له صلّى اللّه عليه وسلم : «لست هناك ، تعيش بخير ، وتموت بخير ، وإنك من أهل الجنة» «3».
وأما ما يروى عن الحسن : أنها نزلت فى المنافقين ، الذي كانوا يرفعون أصواتهم فوق صوته صلّى اللّه عليه وسلم فقد قيل :
محمله : أنّ نهيهم مندرج تحت نهى المؤمنين بدليل النّص.
إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أي : يخفضون أصواتهم فى مجلسه ، تعظيما له ، وانتهاء عما نهوا عنه ، أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى أي : أخلصها وصفّاها ، من قولهم : امتحن الذهب وفتنه : إذا أذابه ، وفى القاموس : محنه ، كمنعه : اختبره ، كامتحنه ، ثم قال : وامتحن القول : نظر فيه ودبّره ، واللّه قلوبهم : شرحها ووسّعها ، وفى الأساس : ومن المجاز : محن الأديم : مدّده حتى وسعه ، وبه فسّر قوله تعالى :
___________
(1) أخرجه الحاكم (2/ 462) «وصحّحه على شرط مسلم ، وأقره الذهبي» ، والبيهقي فى الشعب (رقم 1520 و1521) عن أبى هريرة رضي اللّه عنه.
(2) فى الأصول : [لن ].
(3) أخرجه بمعناه البخاري فى (المناقب ، باب علامات النّبوة فى الإسلام ح 3613) ومسلم فى (الإيمان ، باب مخافة المؤمن أن يحبط عمله ، رقم 187 ح 119) من حديث أنس بن مالك رضي اللّه عنه.(5/415)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 416
امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى أي : شرحها ووسعها ، لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ أي : مغفرة لذنوبهم ، وأجر عظيم : نعيم الجنان.
الإشارة : على هذه الآية والتي بعدها اعتمد الصوفية فيما دوّنوه من آداب المريد مع الشيخ ، وهى كثيرة أفردت بالتأليف ، وقد جمع شيخنا البوزيدى الحسنى رضي اللّه عنه كتابا جليلا جمع فيه من الآداب ما لم يوجد فى غيره ، فيجب على كلّ مريد طالب للوصول مطالعته والعمل بما فيه.
والذي يؤخذ من الآية : أنه لا يتقدم بين يدى شيخه بالكلام ، لا سيما إذا سأله أحد ، فمن الفضول القبيح أن يسبق شيخه بالجواب ، فإنّ السائل لا يرضى بجواب غير الشيخ ، مع ما فيه من إظهار علمه ، وإشهار شأنه ، والتقدم على شيخه. ومن ذلك أيضا : ألّا يقطع أمرا دون مشورته ، ما دام تحت الحجرية ، وألّا يتقدم أمامه فى المشي إلا بإذنه ، وأن يغضّ صوته عند حضوره ، بل لا يتكلم إلا أن يأذن له فى الكلام ، ويكون بخفض صوت وتعظيم.
قلت : وما زالت أشياخنا تأمرنا بالتكلم عند المذاكرة إذ بالكلام تعرف أحوال الرّجال ، وسمعت شيخ شيخنا ، مولاى العربي الدرقاوى الحسنى رضي اللّه عنه يقول : حكّونا فى المذاكرة ليظهر العلم ، وكونوا معنا كما قال القائل : حك لى نربل لك ، لا كما قال القائل : سفّج لى نعسل لك. ه. لكن يكون بحثه مع الشيخ على وجه الاسترشاد والاستعلام ، من غير معارضة ولا جدال ، وإلا فالسكوت أسلم.
قال القشيري : لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ : لا تعملوا فى أمر الدين من ذات أنفسكم شيئا ، وقّفوا حيثما وقفتم ، وافعلوا ما به أمرتم ، أي : اعملوا بالشرع لا بالطبع فى طلب الحق ، وكونوا من أصحاب الاقتداء والاتباع ، لا من أرباب الابتداء أو الابتداع.
وقال فى قوله تعالى : لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ ... الآية ، يشير إلى أنه من شرط المؤمن : ألا يرى رأيه وعقله واختياره فوق رأى النّبى والشيخ ، ويكون مستسلما لرأيه ، ويحفظ الأدب فى خدمته وصحبته ، وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أي : لا تخاطبوه كخطاب بعضكم لبعض ، بل خاطبوه بالتعظيم والتبجيل ، ولا تنظروا إليه بالعين التي تنظرون إلى أمثالكم ، وإنه لحسن خلقه قد يلاعبكم ، فلا تنبسطوا معه ، متجاسرين عليه بما يعاشركم من خلقه ، ولا تبدأوه بحديث حتى يفاتحكم ، أن تحبط أعمالكم بسوء أدبكم ، وأنتم لا تشعرون. إنّ الذين يغضون أصواتهم عند رسول اللّه وعند شيخه أولئك الذين امتحن اللّه قلوبهم للتقوى ، أي :
انتزع عنها حبّ الشهوات ، وصفّاها من دنس سوء الأخلاق ، وتخلقت بمكارم الأخلاق ، حتى انسلخت من عادات البشرية «1». ه.
___________
(1) بالمعنى(5/416)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 417
وقال فى القوت : الوقاية مقرونة بالنصرة فإذا تولّاه نصره على أعدائه ، وأعدى عدوه نفسه ، فإذا نصره عليها ، أخرج الشهوة منها ، فامتحن قلبه للتقوى ، ومحّض نفسه ، فخلّصها من الهوى .. ه.
ثم ذكر من لم يستعمل الأدب مع الحضرة النّبوية ، فقال :
[سورة الحجرات (49) : الآيات 4 الى 5]
إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (4) وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)
يقول الحق جل جلاله : إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ من خارجها ، أو : من خلفها ، أو :
من أمامها ، فالوراء : الجهة التي توارى عنك الشخص تظلّله من خلف أو من قدّام ، و«من» لابتداء الغاية ، وأنّ المناداة نشأت من ذلك المكان ، والحجرة : الرقعة من الأرض ، المحجورة بحائط يحوط عليها ، فعلة ، بمعنى مفعولة ، كالقبضة ، والجمع : حجرات ، بضمتين ، وبفتح الجيم ، والمراد : حجرات النّبى صلّى اللّه عليه وسلم ، وكان لكلّ امرأة حجرة.
نزلت فى وفد بنى تميم ، وكانوا سبعين ، وفيهم عينية بن حصن الفزاري ، والأقرع بن حابس ، وفدوا على النبي صلّى اللّه عليه وسلم وقت الظهيرة ، وهو راقد ، فنادوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم من وراء حجراته ، وقالوا : اخرج إلينا يا محمد فإنّ مدحنا زين ، وذمّنا شين ، فاستيقظ ، وخرج عليه السّلام وهو يقول : «ذلكم اللّه الذي مدحه زين ، وذمّه شين» ، فقالوا : نحن قوم من بنى تميم ، جئنا بشاعرنا وخطيبنا ، لنشاعرك ، ونفاخرك ، فقال صلّى اللّه عليه وسلم : «ما بالشعر بعثت ، ولا بالفخار أمرت» ، ثم أمر صلّى اللّه عليه وسلم خطيبهم فتكلّم ، ثم قال لثابت بن قيس بن شماس - وكانخطيب النّبى صلّى اللّه عليه وسلم : قم ، فقام ، فخطب ، فأقحم خطيبهم ، ثم قام شاب منهم ، فأنشأ يقول :
نحن الكرام فلا حىّ يعادلنا فينا الرّؤوس وفينا يقسم الرّبع
ونطعم النّاس عند القحط كلّهم إنّا كذلك عند الفخر نرتفع «1»
___________
(1) هكذا جاء فى الأصول ، أما فى البحر المحيط (8/ 106 - 107) وأسباب النّزول للواحدى (ص 405) وغيرهما من المصادر ، فذكروا بعد البيت الأول :
ونطعم النّاس عند القحط كلهم من السديف إذا لم يؤنس الفزع
إذا أبينا فلا يأبى لنا أحد إنا كذلك عند الفخر نرتفع.(5/417)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 418
فقال صلّى اللّه عليه وسلم لحسّان : قم فأجبه ، فقال :
إنّ الذوائب من فهر وإخوتهم قد شرّعوا سنّة للناس تتبع
يرضى بها كلّ من كانت سريرته تقوى الإله وكلّ الفخر يصطنع «1»
ثم قال الأقرع شعرا افتخر به ، فقال عليه السّلام - لحسّان ، قم فأجبه ، فقال حسّان :
بنى دارم ، لا تفخروا ، إنّ فخركم يعود وبالا عند ذكر المكارم
هبلتم ، علينا تفخرون وأنتم لنا خول من بين ظئر وخادم «2»
فقال صلّى اللّه عليه وسلم : «لقد كنت غنيا عن هذا يا أخا بنى دارم أن يذكر منك ما قد ظننت أن النّاس قد نسوه» ، ثم قال الأقرع : تكلم خطيبنا ، فكان خطيبهم أحسن قيلا ، وتكلم شاعرنا فكان شاعرهم أشعر. ه «3».
هذا ومناداتهم من وراء الحجرات إما لأنهم أتوها حجرة حجرة ، فنادوه صلّى اللّه عليه وسلم من ورائها ، أو : بأنهم تفرقوا على الحجرات متطلبين له صلّى اللّه عليه وسلم ، أو : نادوه من وراء الحجرة التي كان فيها ، ولكنها جمعت إجلالا لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم. وقيل :
الذي ناداه عيينة بن حصن والأقرع ، وإنما أسند إلى جميعهم لأنهم راضون بذلك وأمروا به. أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ ، إذ لو كان لهم عقل لما تجاسروا على هذه العظيمة من سوء الأدب.
وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا أي : ولو تحقق صبرهم وانتظارهم ، فمحل (أنهم صبروا) رفع على الفاعلية لأنّ «أن» تسبك بالمصدر ، لكنها تفيد التحقق والثبوت ، للفرق بين قولك : بلغني قيامك ، وبلغني أنك قائم ، و«حتى» تفيد أن الصبر ينبغى أن يكون مغيّا بخروجه عليه السّلام ، فإنها مختصة بالغايات. والصبر : حبس النّفس على أن تنازع إلى هواها ، وقيل : «الصبر مرّ ، لا يتجرعه إلا حرّ». أي : لو تأنوا حتى تخرج إليهم بلا مناداة لكان الصبر خيرا لهم من الاستعجال ، لما فيه من رعاية حسن الأدب ، وتعظيم الرّسول ، الموجبتين للثناء والثواب ، والإسعاف بالمسئول إذ روى أنهم وفدوا شافعين فى أسارى بنى العنبر ، وذلك أنه صلّى اللّه عليه وسلم بعث سرية إلى حى بنى العنبر ، وأمّر عليهم عيينة
___________
(1) انظر ديوان حسان بشرح البرقوقى ص 301. وفيه :
إن الذوائب من فهر وإخوتهم قد بينوا سنة للناس تتبع
يرضى بها كلّ من كانت سريرته تقوى الإله وبالأمر الذي شرعوا
(2) انظر ديوان حسان ص 437.
(3) أخرجه الواحدي فى أسباب النّزول ص (404 - 406) عن جابر بن عبد اللّه. وعزاه الحافظ ابن حجر فى الكافي الشاف (ص 155 - 156 رقم 15) للثعلبى. وأخرج الجزء الأول من القصة ، الترمذي فى (التفسير ، باب ومن سورة الحجرات ، ح 3267) عن البراء بن عازب رضي اللّه عنه.(5/418)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 419
ابن حصن ، فهربوا وتركوا عيالهم ، فسباهم عيينة ، ثم قدم رجالهم يفدون الذراري ، فلما رأتهم الذرارىّ أجهشوا إلى آبائهم يبكون ، فعجلوا أن يخرج إليهم النّبى صلّى اللّه عليه وسلم ، فنادوه حتى أيقظوه من نومه ، فخرج إليهم ، فأطلق النّصف وفادى النصف «1» ، وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ بليغ المغفرة والرّحمة واسعهما ، فلن يضيق ساحتهما عن هؤلاء إن تابوا وأصلحوا.
الإشارة : من آداب المريد ألّا يوقظ شيخه من نومه ، ولو بقي ألف سنة ينتظره ، وألّا يطلب خروجه إليه حتى يخرج بنفسه ، وألّا يقف قبالة باب حجرته لئلا يرى بعض محارمه. ومن آدابه أيضا : ألا يبيت معه فى مسكن واحد ، وألّا يأكل معه ، إلا أن يعزم عليه ، وألّا يجلس على فراشه أو سجّادته إلا بأمره ، وإذا تعارض الأمر والأدب ، فهل يقدّم الأمر أو الأدب؟ خلاف ، وقد تقدم فى صلح الحديبية : أن سيدنا عليا - كرم اللّه وجهه - قدّم الأدب على الأمر ، حين قال له صلّى اللّه عليه وسلم : «امح اسم رسول اللّه من الصحيفة» «2» ، فأبى ، وقال : «واللّه لا أمحوك أبدا».
واللّه تعالى أعلم.
ومن جملة الأدب : التأنى فى الأمور وعدم العجلة ، كما أبان ذلك بقوله تعالى :
[سورة الحجرات (49) : الآيات 6 الى 8]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ (6) وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (8)
يقول الحق جل جلاله : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ. نزلت فى الوليد بن عقبة بن أبى معيط ، وكان من فضلاء الصحابة - رضي اللّه عنه - بعثه النّبى صلّى اللّه عليه وسلم إلى بنى المصطلق ، بعد الوقعة مصدّقا ، وكان بينه وبينهم عداوة فى الجاهلية ، فخرجوا يتلقّونه ، تعظيما لأمر النّبى صلّى اللّه عليه وسلم ، فظن أنهم مقاتلوه فرجع ، وقال لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : قد ارتدوا ومنعوا الزكاة ، فهمّ صلّى اللّه عليه وسلم أن يغزوهم ، ثم أتوا النّبىّ صلّى اللّه عليه وسلم وأخبروه أنهم إنما خرجوا يتلقّونه تكرمة
___________
(1) انظر تفسير البغوي (7/ 337). [.....]
(2) راجع تفسير الآية 26 من سورة الفتح.(5/419)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 420
فاتهمهم النّبى صلّى اللّه عليه وسلم وبعث إليهم «خالد بن الوليد» خفية مع عسكر ، وأمره أن يخفى عليهم قدومه ، ويتطلع عليهم ، فإن رأى ما يدلّ على إيمانهم أخذ زكاتهم ورجع ، وإن رأى غير ذلك استعمل فيهم ما يستعمل فى الكفار ، فسمع خالد فيهم آذان صلاتى المغرب والعشاء ، فأخذ صدقاتهم ، ولم ير منهم إلا الطاعة ، فنزلت الآية «1».
وسمّى الوليد فاسقا لعدم تثبّته فخرج بذلك عن كمال الطاعة ، وفى تسميته بذلك زجر لغيره ، وترغيب له فى التوبة ، واللّه تعالى أعلم بغيبه ، حتى قال بعضهم : إنها من المتشابه ، لما ثبت من تحقق إيمان الوليد. وقال أبو عمر فى الاستيعاب : لا يصح أن الآية نزلت فى قضية الوليد لأنه كان فى زمن النّبى صلّى اللّه عليه وسلم من «2» ثمانية أعوام ، أو من عشرة ، فكيف يبعثه رسولا؟! «3» ه. قلت : لا غرابة فيه ، وقد كان صلّى اللّه عليه وسلم يؤمّر أسامة بن زيد على جيش ، فيه أبو بكر وعمر ، مع حداثة سنّه ، كما فى البخاري وغيره.
وفى تنكير (فاسق) و(نبأ) شياع فى الفسّاق والأنباء ، أي : إذا جاءكم فاسق أىّ فاسق كان ، بأيّ خبر فَتَبَيَّنُوا أي : فتوقفوا فيه ، وتطلّبوا بيان الأمر وانكشاف الحقيقة ، ولا تعتمدوا قول من لا يتحرى الصدق ، ولا يتحامى الكذب ، الذي هو نوع من الفسوق.
وفى الآية دليل على قبول خبر الواحد العدل لأنا لو توقفنا فى خبره لسوّينا بينه وبين الفاسق ، ولخلا التخصيص به عن الفائدة. وقرأ الأخوان : «فتثبتوا» والتثبّت والتبيّن متقاربان ، وهما : طلب الثبات والبيان والتعرّف.
أَنْ تُصِيبُوا أي : لئلا تصيبوا قَوْماً بِجَهالَةٍ : حال ، أي : جاهلين بحقيقة الأمر وكنه القصة.
فَتُصْبِحُوا فتصيروا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ مغتمين على ما فعلتم ، متمنين أنه لم يقع ، والنّدم : ضرب من الغم وهو أن يغتم على ما وقع ، يتمنى أنه لم يقع ، وهو غم يصحب الإنسان صحبة لها دوام فى الجملة.
وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ فلا تكذبوا ، فإن اللّه يخبره ، فيهتك سر الكاذب ، أو : فارجعوا إليه واطلبوا رأيه ، ثم استأنف بقوله : لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ لوقعتم فى العنت وهو الجهد والهلاك.
___________
(1) أخرجه أحمد فى المسند (4/ 279) والطبراني فى الكبير (3/ 401) والطبري (26/ 123) وعبد الرّزاق فى التفسير (2/ 231) وقال الهيثمي فى المجمع (7/ 111) : «رواه الطبراني ، وفيه موسى بن عبيدة ، وهو ضعيف ، وانظر : تفسير ابن كثير (4/ 206 - 210) والفتح السماوي مع حاشية المحقق (3/ 1001).
(2) هكذا فى الأصول ، وأظنه : «ابن»
(3) لم أقف عليه بهذا اللفظ ، ولا على معناه ، وإنما وجدت ما يفيد ترجيح ابن عبد البر بأن الوليد لم يكن غلاما فى هذا الوقت. راجع الاستيعاب (4/ 114). وهذا أيضا ما رجحه ابن حجر فى الإصابة (3/ 601) حيث قال : قلت : ومما يؤيد أنه كان رجلا : أنه كان قدم فى فداء ابن عم أبيه «الحارث بن أبى وجزة بن أبى عمرو بن أمية» ، وكان أسر يوم بدر ، فافتداه بأربعة آلاف. حكاه أصحاب المغازي. ه.(5/420)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 421
والتعبير بالمضارع للدلالة على أنّ عنتهم إنما يلزم فى استمرار طاعته لهم فى كلّ ما يعرض من الأمور ، وأما طاعته فى بعض الأمور استئلافا لهم ، فلا. انظر أبا السعود. وهذا يدل على أنّ بعض المؤمنين زيّن لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم الإيقاع ببني المصطلق تصديقا لقول الوليد ، وأنّ بعضهم كانوا يتصوّنون ويتحرّجون الوقوع بهم تأنيا وتثبتا فى الأمر ، وهم الذين استثناهم اللّه بقوله :
وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ ، وأسنده إلى الكلّ تنبيها على أن أكثرهم تحرّجوا الوقوع بهم وتأنّوا ، وقيل : هم الذين امتحن اللّه قلوبهم للتقوى ، وهو تجديد للخطاب وتوجيه إلى بعضهم بطريق الاستدراك ، بيانا لبراءتهم عن أوصاف الأولين وإحمادا لأفعالهم ، أي : ولكنه - تعالى - جعل الإيمان محبوبا لديكم وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ حتى رسخ فيها ، ولذ كل صدر منكم ما يليق به من التثبت والتحرّج ، وحاصل الآية على هذا : واعلموا أنّ فيكم رسول اللّه ، فلا تقرّون معه على خطأ ، لو يطيعكم فى كثير من الأمر لعنتّم ، ولكنّ اللّه حبّب إلى بعضكم الإيمان ، فلا يأمر إلا بما هو صواب من التأنّى وعدم العجلة.
قلت : والأحسن فى معنى الاستدراك : أنّ التقدير : لو يطعيكم فى كثير من الأمر لعنتّم ، ولكن اللّه لا يقره على طاعتكم بل ينزل عليه الوحى بما فيه صلاحكم وراحتكم لأنّ اللّه حبّب إليكم الإيمان وزيّنه فى قلوبكم ، فلا يسلك بكم إلى ما يليق بشأنكم من الحفظ والعصمة.
ثم قال : وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ ولذلك تحرجتم عمّا لا يليق مما لا يخير فيه مما يؤدى إلى عنتكم ، قال ابن عرفة : العطف فى هذه الآية تدلى فالكفر أشدّها ، والفسوق دونه ، والعصيان أخفّ لصدقه على ترك المندوبات ، حسبما نقل ذلك البغداديون وحملوا عليه ، ومن لم يجب الدعوة فقد عصى أبا القاسم. ه.
أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ أي : أولئك المستثنون ، أو : المتصفون بالإيمان ، المزيّن فى قلوبهم ، هم السالكون على طريق السّوى ، الموصل إلى الحق ، أي : أصابوا طريق الحق ، ولم يميلوا عن الاستقامة. والرّشد : الاستقامة على طريق الحق مع تصلّب فيه ، من : الرشادة ، وهى الصخرة الصماء. فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً أي : إفضالا من اللّه وإنعاما عليهم مفعول من أجله ، أي : حبّب وكرّه للفضل والنّعمة عليهم وَاللَّهُ عَلِيمٌ مبالغ فى العلم ، فيعلم أحوال المؤمنين وما بينهم من التفاضل ، حَكِيمٌ يفعل ما يفعل لحكمة بالغة.
الإشارة : إن جاءكم خاطر سوء بنبإ سوء فتبينوا وتثبتوا ، ولا تبادروا بإظهاره ، خشية أن تصيبوا قوما بجهالة ، فتظنوا بهم السوء ، وتقعوا فى الغيبة ، فتصبحوا على ما فعلتم نادمين ، فالمنافق قلبه على طرف لسانه ، إذا خطر فيه شىء نطق به ، فهذا هالك ، والمؤمن لسانه من وراء قلبه ، إذا خطر شىء نظر فيه ، ووزنه بميزان الشرع ، فإن كان(5/421)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 422
فيه مصلحة نطق به ، وإلا ردّه وكتمه ، فالواجب : وزن الخواطر بالقسطاس المستقيم ، فلا يظهر منها إلا ما يعود عليه منفعته.
وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ ، قد بيّن لكم ما تفعلون وما تذرون ، ظاهرا وباطنا ، ومن اتصل بخليفة الرّسول ، وهو الشيخ حكّمه على نفسه ، فإن خطر فى قلبه شىء يهمّ أمره عرضه عليه ، والشيخ ينظر بعين البصيرة ، لو يطيعكم فى كثير من أمركم التي تعزمون عليها لعنتّم ، ولكنّ اللّه حبب إليكم الإيمان ، وزيّنه فى قلوبكم ، فتستمعون لما يأمركم به ، وتمتثلون أمره ، وكرّه إليكم الكفر والفسوق الخروج عن أمره ونهيه ، والعصيان لما يأمركم به ، فلا ترون إلا ما يسرّكم ، ويفضى بكم إلى السهولة والرّاحة ، فضلا من اللّه ونعمة ، فإنّ السقوط على الشيخ إنما هو محض فضل وكرم ، فللّه الحمد وله الشكر دائما سرمدا.
وللقشيرى إشارة أخرى ، قال : إن جاءكم فاسق بنبإ يشير إلى تسويلات النّفوس الأمّارة بالسوء ، ومجيئها كل ساعة بنبإ شهوة من شهوات الدنيا فتبينوا ربحها من خسرانها ، من قبل أن تصيبوا قوما من القلوب وصفائها بجهالة ، فإنّ ما فيه شفاء النّفوس وحياتها فيه مرض القلوب ومماتها فتصبحوا صباح القيامة على ما فعلتم نادمين ، واعلموا أن فيكم رسول اللّه ، يشير إلى رسول الإلهام فى أنفسكم ، يلهمكم فجور نفوسكم وتقواها ، لو يطيعكم فى كثير من أمر النّفس الأمّارة ، لعنتم لوقعتم فى الهلاك ، ولكنّ اللّه حبّب إليكم الإيمان بالإلهامات الرّبانية ، وزيّنه فى قلوبكم بقلم الكرم ، وكرّه بنور نظر العناية إليكم الكفر ، والفسوق : هو ستر الحق والخروج إلى الباطل ، والعصيان ، وهو الإعراض عن طلب الحق ، أولئك هم الرّاشدون إلى الحق بإرشاد الحق ، فضلا من اللّه ونعمة منه ، ينعم به على من شاء من عباده ، واللّه عليم حكيم «1». ه.
ثم أمر الرّاشدين المتقدمين بالإصلاح بين النّاس ، إذ لا ينجح فى الغالب إلا على أيديهم ، فقال :
[سورة الحجرات (49) : الآيات 9 الى 10]
وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10)
___________
(1) لم أقف على هذا النّص فى محله من لطائف الإشارات.(5/422)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 423
يقول الحق جل جلاله : وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا أي : تقاتلوا. والجمع باعتبار المعنى لأن كل طائفة جمع كقوله : هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا «1» ، فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بالنصح والدعاء إلى حكم اللّه تعالى ، فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى ولم تتأثر بالنصيحة فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ ترجع إِلى أَمْرِ اللَّهِ إلى حكمه ، أو : إلى ما أمر به من الصلح وزوال الشحناء ، والفيء : الرجوع ، وقد يسمى به الظل والغنيمة ، لأن الظل يرجع بعد نسخ الشمس ، والغنيمة ترجع من أيدى الكفار إلى المسلمين.
وحكم الفئة الباغية : وجوب قتالها ، فإذا كفّت عن القتال أيديها تركت. قال ابن جزى : وأمر اللّه فى هذه الآية بقتال الفئة الباغية وذلك إذا تبيّن أنها باغية ، فأما الفتن التي تقع بين المسلمين فاختلف العلماء فيها على قولين ، أحدهما : أنه لا يجوز النّهوض ، فى شىء منها ولا القتال ، وهذا مذهب سعد بن أبى وقاص ، وأبى ذر ، وجماعة من الصحابة ، وحجتهم حديث : «قتال المسلم كفر» «2» ، وحديث : الأمر بكسر السيوف فى الفتن ، والقول الثاني :
النهوض فيها واجب ، لتكف الفئة الباغية ، وهذا مذهب علىّ ، وعائشة ، وطلحة ، وأكثر الصحابة ، وهو مذهب مالك وغيره من الفقهاء ، وحجتهم هذه الآية. فإذا فرّعنا على القول الأول ، فإن دخل داخل على من اعتزل الفرقتين منزله يريد نفسه أو ماله فعليه دفعه ، وإن أدّى ذلك إلى قتله لحديث : «من قتل دون نفسه وماله فهو شهيد» «3».
وإذا فرّعنا على الثاني ، فاختلف مع من يكون النّهوض من الفئتين؟ فقيل : مع السواد الأعظم ، وقيل : مع العلماء ، وقيل : مع من يرى أنّ الحق معه. ه.
قلت : إذا وقعت الحرب بين القبائل فمن تعدّت تربتها إلى تربة غيرها فهى باغية ، يجب كفّها ، وإذا وقعت بين الحدود فالمشهور : النهوض ، ثم يقع السؤال عن السبب فمن ظهر ظلمه وجب كفّه ، فإن أشكل الأمر ، فالإمساك عن القتال أسلم. واللّه تعالى أعلم.
فَإِنْ فاءَتْ عن البغي ، وأقلعت عن القتال فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ بفصل ما بينهما على حكم اللّه تعالى ، ولا تكتفوا بمجرد متاركتهما لئلا يكون بينهما قتال فى وقت آخر ، وتقييد الإصلاح بالعدل لأنه مظنة الحيف لوقوعه بعد المقاتلة ، وقد أكد ذلك بقوله : وَأَقْسِطُوا أي : واعدلوا فى كلّ ما تأتون وما تذرون ،
___________
(1) من الآية 19 من سورة الحج.
(2) أخرجه أحمد فى المسند ، (1/ 178) والترمذي فى (الإيمان ، باب سباب المؤمن فسوق ، ح 2634) والنّسائى فى (تحريم الدم ، باب قتال المسلم) من حديث ابن مسعود رضي اللّه عنه.
(3) أخرجه البخاري فى (المظالم ، باب من قاتل دون ماله ح 2480) من حديث عبد اللّه بن عمرو بن العاص ، بلفظ : «من قتل دون ماله فهو شهيد». وأخرجه أبو داود فى (السنة ، باب فى قتال اللصوص ح 4772) والترمذي فى (الديات ، باب من قاتل دون ماله ح 1421) وكذا ابن ماجة والنّسائى ، من حديث سعيد بن زيد ، بلفظ : «من قتل دون ماله فهو شهيد ، ومن قتل دون دينه فهو شهيد ، ومن قتل دون دمه فهو شهيد ، ومن قتل دون أهله فهو شهيد».(5/423)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 424
إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ العادلين ، فيجازيهم أحسن الجزاء ، والقسط بالفتح : الجور ، وبالكسر : العدل ، والفعل من الأول : قسط فهو قاسط : جار ، ومن الثاني : أقسط فهو مقسط : عدل ، وهمزته للسلب ، أي : أزال القسط ، أي : الجور.
والآية نزلت فى قتال حدث بين الأوس والخزرج ، وذلك أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ذهب يعود سعد بن عبادة ، فمرّ بمجلس من الأنصار ، فيه أخلاط من المسلمين والمنافقين ، فوقف صلّى اللّه عليه وسلم على المجلس ، ووعظ وذكّر ، فقال عبد اللّه ابن أبى : يا هذا ، لا تؤذنا فى مجالسنا ، واجلس فى موضعك ، فمن جاءك فاقصص عليه ، فقال عبد اللّه بن رواحة : بل أغثنا يا رسول اللّه وذكّرنا ، فارتفعت أصواتهما ، وتضاربوا بالنعال ، فنزلت الآية ، وقيل غير ذلك «1».
وفى الآية دليل على أنّ الباغي لا يخرج ببغيه عن الإيمان ، وأنه يجب نصرة المظلوم ، وعلى فضيلة الإصلاح بين النّاس.
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ أي : منتسبون إلى أصل واحد ، وهو الإيمان الموجب للحياة الأبدية ، فيجب الاجتهاد فى التآلف بينهما لتحقق الأخوة. والفاء فى قوله : فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ للإيذان بأنّ الأخوة الدينية موجبة للإصلاح. ووضع المظهر مقام المضمر مضافا إلى المأمورين للمبالغة فى تأكيد وجوب الإصلاح والتحضيض عليه ، وتخصيص الاثنين بالذكر لإثبات وجوب الإصلاح فيما فوق ذلك بطريق الأولى لتضاعف الفتنة والفساد فيه. وقيل : المراد بالأخوين : الأوس والخزرج. وقرأ يعقوب : «إخوتكم» بالجمع. وَاتَّقُوا اللَّهَ فيما تأتون وتذرون ، التي من جملتها : الإصلاح بين النّاس لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ راجين أن ترحموا على تقواكم ، لأن التقوى تحملكم على التواصل والائتلاف ، وهو سبب نزول الرّحمة.
الإشارة : النفس الطبيعية والرّوح متقابلان ، والحرب بينهما سجال ، فالنفس تريد السقوط إلى أرض الحظوظ والبقاء مع عوائدها ، والرّوح تريد العروج إلى سماء المعارف وحضرة الأسرار ، وبينما اتصال والتصاق ، فإن غلبت النفس هبطت بالروح إلى الحضيض الأسفل ، ومنعتها من العلوم اللدنية والأسرار الرّبانية ، وإن غلبت الرّوح ، عرجت بالنفس إلى أعلى عليين ، بعد تزكيتها وتصفيتها ، فتكسوها حلة الرّوحانية ، وينكشف لها من العلوم والأسرار ما كان للروح ، ولكلّ جند تقابل به ، فيقال من طريق الإشارة : وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما ، بأن تؤخذ
___________
(1) والذي فى الصحيح : ما أخرجه البخاري فى (الصلح ، باب ما جاء فى الإصلاح بين النّاس ، ح 2691) ومسلم فى (الجهاد والسير ، باب فى دعاء النّبى صلّى اللّه عليه وسلم وصبره على أذى المنافقين ح 1799) عن أنس بن مالك قال : قيل للنبى صلّى اللّه عليه وسلم : لو أتيت عبد اللّه بن أبىّ؟ قال : فانطلق إليه ، وركب حمارا ، وانطلق المسلمون ، وهى أرض سبخة ، فلما أتاه النّبى صلّى اللّه عليه وسلم قال : إليك عنى ، فو اللّه لقد آذاني نتن حمارك. فقال رجل من الأنصار : واللّه لحمار رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم أطيب ريحا منك ، قال : فغضب لعبد اللّه رجل من قومه. قال : فغضب لكلّ واحد منهما أصحابه ، قال : فكان بينهم ضرب بالجريد وبالأيدى وبالنعال ، قال : فبلغت أنها نزلت فيهم :
وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما.(5/424)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 425
النفس بالسياسة شيئا فشيئا ، ينقص من حظوظها شيئا فشيئا ، حتى تتزكى وتعالج الرّوح لدخول الحضرة ، وعكوف الهم فى الذكر شيئا فشيئا ، حتى تدخل الحضرة وهى لا تشعر ، ثم تشعر ويقع الاستغراق. وأما إن قطعت النّفس عن جميع مألوفاتها مرة واحدة ، أو كلفت الرّوح الحضور فى الذكر على الدوام مرة واحدة ، أفسدتهما ، لقوله : صلى اللّه عليه وسلم :
«ادخلوا فى هذا الدين برفق ، فما شاد أحدكم الدين إلا غلبه» «1» وقال أيضا : «لا يكن أحدكم كالمنبت ، لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى» «2» فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغى ، بأن تردع النّفس إن طغت ، وتأخذ لجام الروح إن هاجت ، حتى تفيء إلى أمر اللّه ، وهو الاعتدال ، فيعطى كلّ ذى حق حقه ، ويوفى كلّ ذى قسط قسطه.
وقوله تعالى : إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ قال الورتجبي : افهم أيها العاقل أن اللّه سبحانه خلق الأرواح المقدسة من عالم الملكوت ، وألبسها أنوار الجبروت فمواردها من قربه مختلفة ، لكن عينها واحدة ، وخلق هياكلها وأشباحها من تربة الأرض التي أخلصها من جملتها ، وزيّنها بنور قدرته ، ونفخ فيها تلك الأرواح ، [وجعل من الأرواح والأجسام النفوس ] «3» الأمّارة التي ليست من قبيل الأرواح ، ولا من قبيل الأجسام ، وجعلها مخالفة للأرواح ومساكنها ، فأرسل اللّه عليها جند العقول ، يدفع بها شرّها ، فإذا امتحن اللّه عباده المؤمنين هيّج نفوسهم الأمّارة ليظهر حقائق درجاتهم من الإيمان ، فأمرهم أن يعينوا العقل والرّوح والقلب على النّفس حتى تنهزم لأن المؤمنين كالبنيان يشد بعضهم بعضا.
ثم بيّن أنّ فى الإصلاح بين الإخوان الفلاح والنّجاة ، إذا كان مقرونا بالتقوى التي تقدس البواطن من البغي والحسد بقوله : (و اتقوا اللّه لعلكم ترحمون) فإذا فهمت ما ذكرت علمت أنّ حقيقة الأخوة مصدر الاتحاد ، فإنهم كنفس واحدة لأن مصادرهم مصدر واحد ، [وهو] «4» آدم ، ومصدر روح آدم نور الملكوت ، ومصدر جسمه تربة الجنة فى بعض الأقوال. لذلك يصعد الرّوح إلى الملكوت ، والجسم إلى الجنة ، كما قال صلّى اللّه عليه وسلم : «كل شىء يرجع إلى أصل «5»». ه. قلت : صعود الرّوح إلى الملكوت هو شهود معانى الأسرار فى دار الجنة ، ونزول الجسم إلى الجنة هو تمتعه بنعيم حسها فى عالم الأشباح ، وكلّ ذلك بعد الموت ، وأحسن العبارة أن يقال : لأن مصادرهم مصدر واحد ، وهو بحر الجبروت ، المتدفق بأنوار الملكوت ، والوجود بأسره موجة من بحر الجبروت.
___________
(1) يريد الشيخ حديث : «إن الدين يسر ، ولن يشادّ الدين أحد إلا غلبه ...» الحديث أخرجه البخاري فى (الإيمان ، باب الدين يسر ، ح 39) من حديث أبى هريرة رضي اللّه عنه.
(2) سبق تخريج الحديث عند تفسير الآية 23 من سورة الجاثية
(3) عبارة الورتجبي : [وجعل بين الأرواح والأجسام والنّفوس ].
(4) فى الأصول : [بنوا] والمثبت من الورتجبي.
(5) على هامش النّسخة الأم مايلى : لعله يريد : «كل ميسر لما خلق له» أما بهذا اللفظ فلا نراه وارد. واللّه أعلم. ه. [.....](5/425)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 426
ثم قال الورتجبي : قال أبو بكر النّقاش : سألت الجنيد عن الأخ الحقيقي؟ فقال : هو أنت فى الحقيقة ، غير أنه غيرك فى الهيكل. قلت : يعنى أن النّاس فى الحقيقة ذات واحدة ، وما افترقوا إلا فى الهياكل ، فكلهم أخوة. وقال أبو عثمان الحيرى : أخوة الدين أثبت من أخوة النّسب ، فإن أخوة النّسب تقطع بمخالفة الدين ، وأخوة الدين لا تقطع بمخالفة النّسب. ه. وتقدم لنا شروط الأخوة فى قوله تعالى : الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ ... الآية «1».
وقال القشيري هنا : ومن حق الأخوة ألا تلجأه إلى الاعتذار ، بل تبسط عذره ، أي : تذكر عذره قبل أن يعتذر ، فإن أشكل عليك وجهه عدت بالملامة على نفسك فى خفاء عذره عليك ، وتتوب عليه إذا أذنب ، وتعوده إذا مرض ، وإذا أشار عليك بشىء فلا تطالبه بالدليل وإيراد الحجة ، كما أنشدوا :
إذا استنجدوا لم يسألوا من دعاهم لأيّة حرب أم لأىّ مكان «2». ه.
ومن أوكد شروطها «3» : التعظيم ، كما أبان ذلك بقوله تعالى :
[سورة الحجرات (49) : آية 11]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11)
يقول الحق جل جلاله : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ أي :
عسى أن يكون المسخور منهم خيرا عند اللّه - تعالى - من الساخرين لأن النّاس لا يطّلعون إلا على الظواهر ، وهو تعليل للنهى ، والقوم خاص بالرجال لأنهم القوامون على النّساء ، وهو فى الأصل : جمع قائم ، كصوم وزور ، فى جمع صائم وزائر ، واختصاص القوم بالرجال صريح فى الآية إذ لو كانت النّساء داخلة فى الرّجال ، لم يقل :
وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ ، وحقق ذلك زهير فى قوله :
وما أدرى وسوف إخال أدرى أقوم آل حصن أم نساء؟ «4»
وأمّا قولهم فى قوم فرعون ، وقوم عاد : هم الذكور والإناث ، فليس لفظ القوم شاملا لهم ، ولكن قصد ذكر الذكور ، والإناث تبع لهم.
___________
(1) الآية 67 من سورة الزخرف.
(2) البيت ينسب إلى وداك بن ثميل المازني. كما فى العقد الفريد (5/ 202) ، ونهاية الأرب (3/ 229).
(3) أي : الأخوة.
(4) حيث أراد بالقوم الرّجال دون النّساء. والبيت من الوافر. انظر ديوان زهير (12) والمغني (1/ 41).(5/426)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 427
وَلا يسخر نِساءٌ مؤمنات مِنْ نِساءٍ منهن عَسى أَنْ يَكُنَّ أي : المسخور منهن خَيْراً مِنْهُنَّ أي : الساخرات ، فإنّ مناط الخيرية فى الفريقين ليس ما يظهر من الصور والأشكال ، والأوضاع والأطوار ، التي عليها يدور أمر السخرية ، وإنما هى الأمور الكامنة فى القلوب ، من تحقيق الإيمان ، وكمال الإيقان ، وموارد العرفان ، وهى خفيّة ، فقد يصغّر العبد من عظّم اللّه ، ويتحقر من وقّره اللّه ، فيسقط من عين اللّه ، فينبغى ألا يجترئ أحد على الاستهزاء بأحد إذا رآه رثّ الحال ، أو ذا عاهة فى بدنه ، ولو فى دينه ، فلعله يتوب ويبتلى بما ابتلى به. وفى الحديث : «لا تظهر الشماتة لأخيك فيعافيه اللّه ويبتليك» «1». وعن ابن مسعود رضي اللّه عنه : البلاء موكّل بالقول ، لو سخرت من كلب لخشيت أن أحوّل كلبا. ه.
وتنكير القوم والنّساء إما لإرادة البعض ، أي : لا يسخر بعض المؤمنين والمؤمنات من بعض ، وإما لإرادة الشيوع ، وأن يصير كلّ جماعة منهم منهية عن السخرية ، وإنما لم يقل : رجل من رجل ، ولا امرأة من امرأة إعلاما بإقدام غير واحد من رجالهم وغير واحدة من نسائهم على السخرية ، واستفظاعا للشأن الذي كانوا عليه.
وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ ولا يعيب بعضكم بعضا بالطعن فى نسبه أو دينه ، واللمز : الطعن والضرب باللسان ، والمؤمنون كنفس واحدة ، فإذا عاب المؤمن المؤمن فقد عاب نفسه. وقيل : معناه : لا تفعلوا ما تلمزون به أنفسكم بالتعرض للكلام لأن من فعل ما استحق به اللمز فقد لمز نفسه حقيقة. وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ أي : لا يدع بعضكم بعضا بلقب السوء ، فالتنابز بالألقاب : التداعي بها. والتلقيب المنهي عنه ما يدخل على المدعوّ به كراهية ، لكونه تقصيرا به وذمّا له ، فأمّا ما يحبه فلا بأس به ، وكذا ما يقع به التمييز ، كقول المحدّثين : حدثنا الأعمش والأحدب والأعور.
روى أن قوما من بنى تميم استهزأوا ببلال وخبّاب وعمّار وصهيب ، فنزلت «2». وعن عائشة - رضي اللّه عنها - أنها كانت تسخر من زينب بنت خزيمة ، وكانت قصيرة. وعن أنس : عيّرت نساء النّبى صلّى اللّه عليه وسلم أمّ سلمة بالقصر ، فنزلت «3». وروى : أنها نزلت فى ثابت بن قيس ، وكان به وقر - أي : صمم - فكانوا يوسّعون له فى مجلس رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فأتى قوما وهو يقول : تفسّحوا ، حتى انتهى إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم فقال لرجل : تنحّ فلم يفعل ، فقال : من هذا؟
فقال : أنا فلان ، فقال : فلان بن فلانة - يريد أمّا كان يعير بها فى الجاهلية ، فخجل الرّجل ، فنزلت ، فقال ثابت : واللّه لا أفخر على أحد بعد هذا أبدا «4».
___________
(1) أخرجه الترمذي فى (صفة القيامة والرّقائق ، باب 54 ، ح 2506) من حديث واثلة بن الأسقع رضي اللّه عنه. وقال الترمذي : «حديث حسن غريب».
(2) عزاه السيوطي فى الدر (6/ 96 - 97) لابن أبى حاتم ، عن مقاتل.
(3) ذكره الواحدي فى أسباب النّزول (ص 409).
(4) ذكره البغوي فى تفسيره 70/ 342 - 343) عن ابن عباس رضي اللّه عنه.(5/427)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 428
وقال ابن زيد : معنى وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ لا يقل أحد : يا يهودى ، بعد إسلامه ، ولا يا فاسق ، بعد توبته.
بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ يعنى : أن اللقب بئس الاسم هو ، وهو ارتكاب الفسق بعد الإيمان ، وهو استهجان للتنابز بالألقاب ، وارتكاب هذه الجريمة بعد الدخول فى الإسلام ، أو : بئس قول الرّجل لأخيه : يا فاسق ، بعد توبته ، أو : يا يهودى ، بعد إيمانه ، أي : بئس الرّمى بالفسوق بعد الإيمان.
روى : أنّ الآية نزلت فى صفية بنت حيى ، أتت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم فقالت : إن النّساء يقلن لى : يا يهودية بنت يهوديّين ، فقال صلّى اللّه عليه وسلم : «هلّا قلت : إن أبى هارون ، وعمى موسى ، وزوجى محمد صلّى اللّه عليه وسلم» «1» ، أو : يراد بالاسم هنا :
الذكر ، من قولهم : طار اسمه فى النّاس بالكرم أو اللؤم ، كأنه قيل : بئس الذكر المرتفع للمؤمنين بسبب ارتكاب هذه الجرائم أن يذكروا بالفسق.
وقوله : بَعْدَ الْإِيمانِ ، استقباح للجمع بين الإيمان والفسق الذي يحظره الإيمان ، كما تقول : بئس الشأن بعد الكبرة الصّبوة. وَمَنْ لَمْ يَتُبْ عما نهى عنه فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ بوضع المخالفة موضع الطاعة ، فإن تاب واستغفر خرج من الظلم.
وعن حذيفة رضي اللّه عنه : شكوت إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ذرب لسانى ، فقال : «أين أنت من الاستغفار؟ إنى لأستغفر اللّه كل يوم مائة مرة» «2» ، والذرب - بفتح الذال والرّاء : الفحش ، وفى حديث ابن عمر : كنا نعدّ لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم فى المجلس الواحد مائة مرة : «رب اغفر لى ، وتب علىّ ، إنك أنت التواب الرّحيم» «3».
الإشارة : مذهب الصوفية التعظيم والإجلال لكل ما خلق اللّه ، كائنا من كان لنفوذ بصيرتهم إلى شهود الصانع والمتجلّى ، دون الوقوف مع حس الصنعة الظاهرة ، وقالوا : «شروط التصوف أربعة : كف الأذى ، وحمل الجفا ، وشهود الصفا ، ورمى الدنيا بالقفا». فشهود الصفا يجرى فى الأشياء كلها ، فإياك يا أخى أن تحقر أحدا من خلق اللّه فتطرد عن بابه ، وأنت لا تشعر ، وللّه در القائل :
___________
(1) أخرج الترمذي فى (المناقب ، باب فضل أزواج النّبى صلّى اللّه عليه وسلم ح 3894) والنّسائى فى الكبرى (عشرة النّساء 33) من حديث أنس رضي اللّه عنه.
(2) أخرجه أحمد (5/ 394 و396 ، ح 23233 و23255) وابن أبى شيبة (كتاب الدعاء 6/ 57 ، ح 29432) والحاكم (2/ 457) «وصحّحه وأقره الذهبي» والبيهقي فى الشعب (6786).
(3) أخرجه أبو داود فى (الصلاة ، باب فى الاستغفار ، ح 1516) والترمذي فى (الدعوات ، باب ما يقول إذا قام من مجلسه ، ح 3434) وقال : «حديث حسن صحيح غريب» وابن ماجة فى (الأدب ، باب الاستغفار ، ح 3814) والنّسائى فى عمل اليوم والليلة (ص 148) وزاد السيوطي عزوه فى الدر (6/ 48) لابن أبى شيبة وابن مردويه ، والبيهقي فى الأسماء والصفات.(5/428)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 429
للّه فى الخلق أسرار وأنوار ويصطفى اللّه من يرضى ويختار
لا تحقرنّ فقيرا إن مررت به فقد يكون له حظّ ومقدار
والمرء بالنّفس لا باللّبس تعرفه قد يخلق الغمد والهندىّ بتّار
والتّبر فى التّرب قد تخفى مكانته حتّى يخلّصه بالسّبك مسبار
وربّ أشعث ذى طمرين مجتهد له على اللّه فى الإقسام إبّرار
وعن أبى سعيد الخراز ، قال : دخلت المسجد الجامع ، فرأيت فقيرا ، عليه خرقتان ، فقلت فى نفسى : هذا وأشباهه كل على النّاس ، فنادانى ، وتلا : وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ «1» فاستغفرت اللّه فى سرى ، فنادانى وقال : وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ «2» ثم غاب عنى فلم أره. ه.
وقال صلّى اللّه عليه وسلم : «إن المستهزئين بالناس يفتح لأحدهم باب من الجنة ، فيقال لأحدهم : هلّم ، فيجىء بغمه وكربه ، فإذا جاء أغلق دونه ، ثم يفعل به هكذا مرارا ، من باب إلى باب ، حتى يأتيه الإياس» «3». بالمعنى من البدور السافرة.
ثم نهى عن الظن ، فقال :
[سورة الحجرات (49) : آية 12]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12)
يقول الحق جل جلاله : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ أي : كونوا فى جانب منه ، يقال :
جنّبه الشرّ إذا أبعده عنه ، أي : جعله فى جانب منه ، و«جنّب» يتعدى إلى مفعولين ، قال تعالى : وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ «4» ، ومطاوعه : اجتنب ، ينقص مفعولا ، وإبهام «الكثير» لإيجاب التأمل فى كل ظن ، حتى يعلم من
___________
(1) من الآية 235 من سورة البقرة.
(2) من الآية 25 من سورة الشورى.
(3) أخرجه البيهقي فى شعب الإيمان (ح 6757) عن الحسن ، مرسلا. [.....]
(4) من الآية 35 من سورة إبراهيم.(5/429)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 430
أىّ قبيل هو ، فإنّ من الظن ما يجب اتباعه كالظن فيما لا قاطع فيه من العمليات ، وحسن الظن باللّه تعالى ، ومنه ما يحرم ، وهو ما يوجب نقصا بالإلهيات والنّبوات ، وحيث يخالفه قاطع ، وظن السوء بالمؤمنين ، ومنه ما يباح ، كأمور المعاش.
إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ ، تعليل للأمر بالاجتناب ، قال الزجاج : هو ظنّك بأهل الخير سوءا ، فأما أهل الفسق فلنا أن نظنّ بهم مثل الذي ظهر عليهم ، وقيل المعنى : اجتنبوا اجتنابا كثيرا من الظن ، وتحرّزوا منه ، إن بعض الظن إثم ، وأولى كثيره ، والإثم : الذنب الذي يستحق صاحبه العقاب ، وفى الحديث عنه صلّى اللّه عليه وسلم : «إياكم والظن ، فإن الظنّ أكذب الحديث» «1» ، فالواجب ألّا يعتمد على مجرد الظن ، فيعمل به ، أو يتكلم بحسبه.
قال ابن عطية : وما زال أولو العزم يحترسون من سوء الظن ، ويجتنبون ذرائعه. قال النّووى : واعلم أن سوء الظن حرام مثل القول ، فكما يحرم أن تحدّث غيرك بمساوئ إنسان يحرم أن تحدّث نفسك بذلك ، وتسىء الظن به ، والمراد : عقد القلب وحكمه على غيره بالسوء ، فأما الخواطر ، وحديث النّفس ، إذا لم يستقر ويستمر عليه صاحبه ، فمعفوّ عنه باتفاق لأنه لا اختيار له فى وقوعه ، ولا طريق له إلى الانفكاك عنه. ه.
وقال فى التمهيد : وقد ثبت عن النّبى صلّى اللّه عليه وسلم أنه قال : «حرّم اللّه من المؤمن : دمه وماله وعرضه ، وألا يظنّ به إلا الخير» «2». ه. ونقل أيضا أن عمر بن عبد العزيز كان إذا ذكر عنده رجل بفضل أو صلاح ، قال : كيف هو إذا ذكر عنده إخوانه؟ فإن قالوا : ينتقص منهم ، وينال منهم ، قال عمر : ليس هو كما تقولون ، وإن قالوا : إنه يذكر منهم جميلا ، ويحسن الثناء عليهم ، قال : هو كما تقولون إن شاء اللّه. ه. وفى الحديث أيضا : «خصلتان ليس فوقهما شىء من الخير ، حسن الظنّ باللّه ، وحسن الظن بعباد اللّه. وخصلتان ليس فوقهما شىء من الشر ، سوء الظن باللّه ، وسوء الظن بعباد اللّه».
وَلا تَجَسَّسُوا لا تبحثوا عن عورات المسلمين ومعايبهم ، يقال : تجسس الأمر : إذا تطلبه وبحث عنه ، تفعل من : الجسّ. وعن مجاهد : خذوا ما ظهر ودعوا ما ستر اللّه. وقال سهل : لا تبحثوا عن طلب ما ستر اللّه على
___________
(1) أخرجه بطوله البخاري فى (الأدب ، باب يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ ح 6066) ومسلم فى (البر والصلة ، باب تحريم الظن ، ح 2563).
(2) انظر التمهيد (20/ 157) ، وأخرج الطبراني فى الكبير (110/ 37 ح 10966) عن ابن عباس - رضي اللّه عنهما - قال : نظر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم إلى الكعبة فقال : «لا إله إلا اللّه» ما أطيبك وأطيب ريحك وأعظم حرمتك ، والمؤمن أعظم حرمة منك ، إن اللّه عز وجل جعلك حراما ، وحرّم من المؤمن ماله ودمه وعرضه وأن يظن به ظنا سيئا».(5/430)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 431
عباده ، وفى الحديث : «لا تتبعوا عورات المسلمين فإنّ من تتبع عورات المسلمين تتبع اللّه عورته حتى يفضحه ولو فى جوف بيته» «1».
قال ابن عرفة : من هو مستور الحال فلا يحلّ التجسس عليه ، ومن اشتهر بشرب خمر ونحوه فالتجسس عليه مطلوب أو واجب. ه. قلت : معناه : التجسس عليه بالشم ونحوه ليقام عليه الحد ، لا دخول داره لينظر ما فيها من الخمر ونحوه ، فإنه منهى عنه ، وأمّا فعل عمر - رضي اللّه عنه - فحال غالبة ، يقتصر عليها فى محلها. وانظر الثعلبي ، فقد ذكر عن عمر رضي اللّه عنه أنه فعل من ذلك أمورا ، ومجملها ما ذكرنا.
وقرئ بالحاء «2» ، من «الحس» الذي هو أثر الجس وغايته ، وقيل : التجسس - بالجيم - يكون بالسؤال ، وبالحاء يكون بالاطلاع والنّظر ، وفى الإحياء : التجسس - أي : بالجيم - فى تطلع الأخبار ، والتحسس بالمراقبة بالعين. ه.
وقال بعضهم : التجسس - بالجيم - فى الشر ، وبالحاء فى الخير ، وقد يتداخلان.
والحاصل : أنه يجب ترك البحث عن أخبار النّاس ، والتماس المعاذر ، حتى يحسن الظن بالجميع ، فإنّ التجسس هو السبب فى الوقوع فى الغيبة ، ولذلك قدّمه الحق - تعالى - على النّهى عن الغيبة ، حيث قال : وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أي : لا يذكر بعضكم بعضا بسوء. فالغيبة : الذكر بالعيب فى ظهر الغيب ، من الاغتياب ، كالغيلة من الاغتيال. وسئل صلّى اللّه عليه وسلم عن الغيبة ، فقال : «ذكرك أخاك بما يكره ، فإن كان فيه فقد اغتبته ، وإن لم يكن فيه فقد بهتّه» «3».
وعن معاذ : كنا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم فذكر القوم رجلا ، فقالوا : لا يأكل إلا إذا أطعم ، ولا يرحل إلا إذا رحّل ، فما أضعفه! فقال عليه السّلام : «اغتبتم أخاكم» ، فقالوا : يا رسول اللّه ، أو غيبة أن يحدّث بما فيه؟ قال : «فحسبكم غيبة أن تحدّثوا عن أخيكم بما فيه» «4». قال أبو هريرة : قام رجل من عند النّبى صلّى اللّه عليه وسلم فرأوا فى قيامه عجزا ، فقالوا : يا رسول اللّه ، ما أعجز فلانا! فقال عليه السّلام : «أكلتم لحم أخيكم واغتبتموه»»
.
___________
(1) أخرجه الترمذي فى (البر والصلة ، باب ما جاء فى تعظيم المؤمن ح 2032) وابن حبان (موارد ص 359) من حديث ابن عمر رضي اللّه عنه. وأخرجه أبو داود فى (الأدب ، باب فى الغيبة ، ح 4880) من حديث أبى برزة الأسلمى.
(2) نسبها فى البحر المحيط (8/ 113) للحسن وأبى رجاء وابن سيرين.
(3) أخرجه مسلم فى (البر والصلة ، باب تحريم الغيبة ح 3589) من حديث أبى هريرة رضي اللّه عنه.
(4) رواه الأصبهانى فى الترغيب (2208) عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. ولم أقف عليه من حديث معاذ رضي اللّه عنه.
(5) عزاه المنذرى فى الترغيب والترهيب (ح 4170) لأبى يعلى فى مسنده (6151) والطبراني - واللفظ له - عن أبى هريرة رضي اللّه عنه.(5/431)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 432
قال النّووى : الغيبة : كل ما أفهمت به غيرك نقصان مسلم عاقل ، وهو حرام. ه. قوله : ما أفهمت ... إلخ ، يتناول اللفظ الصريح والكناية والرّمز والتعريض والإشارة بالعين والرّأس ، والتحكية بأن يفعل مثله ، كالتعارج ، أو يحكى كلامه على هيئته ليضحك غيره ، فهذا كله حرام ، إن فهم المخاطب تعيين الشخص المغتاب ، وإلا فلا بأس ، واللّه تعالى أعلم. ولا فرق بين غيبة الحي والميت ، لما ورد : «من شتم ميتا أو اغتابه فكأنما شتم ألف نبى ، ومن اغتابه فكأنما اغتاب ألف ملك ، وأحبط اللّه له عمل سبعين سنة ، ووضع على قدمه سبعين كية من نار» «1».
والسامع للغيبة كالمغتاب ، إلّا أن يغير أو يقوم ، وورد عن الشيخ أبى المواهب التونسى الشاذلى أن النّبى صلّى اللّه عليه وسلم قال له : «فإن كان ولا بد من سماعك غيبة النّاس - أي : وقع منك - فاقرأ سورة الإخلاص والمعوذتين ، واهد ثوابها للمغتاب فإن اللّه يرضيه عنك بذلك». ه.
وعن ابن عباس رضي اللّه عنه : الغيبة إدام كلاب النّاس. ه. وتشبيههم بالكلاب فى التمزيق والتخريق ، فهم يمزقون أعراض النّاس ، كالكلاب على الجيفة ، لا يطيب لهم مجلس إلا بذكر عيوب النّاس. وفى الحديث : «رأيت ليلة أسرى بي رجالا لهم أظفار من نحاس ، يخمشون وجوههم ولحومهم ، فقلت : من هؤلاء يا جبريل؟ فقال : هؤلاء الذين يأكلون لحوم النّاس ويقعون فى أعراضهم» «2».
أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً ، هذا تمثيل وتصوير لما يناله المغتاب من عرض المغتاب على أفحش وجه. وفيه مبالغات ، منها : الاستفهام الذي معناه التقرير ، ومنها : فعل ما هو الغاية فى الكراهة موصولا بالمحبة ، ومنها : إسناد الفعل إلى أَحَدُكُمْ إشعارا بأنّ أحدا من الأحدين لا يحبّ ذلك ، ومنها : أنه لم يقتصر على تمثيل الاغتياب بأ كل لحم مطلق الإنسان ، بل جعله أخا للآكل ، ومنها : أنه لم يقتصر على أكل لحم الأخ حتى جعله ميتا. وعن قتادة : كما تكره إن وجدت جيفة مدوّدة أن تأكل منها كذلك فاكره لحم أخيك. ه.
ولمّا قررهم بأن أحدا منهم لا يحب أكل جيفة أخيه عقّب ذلك بقوله : فَكَرِهْتُمُوهُ أي : وحيث كان الأمر كما ذكر فقد كرهتموه ، فكما تحققت كراهتكم له باستقامة العقل فاكرهوا ما هو نظيره باستقامة الدين.
وَاتَّقُوا اللَّهَ فى ترك ما أمرتم باجتنابه ، والنّدم على ما صدر منكم منه ، فإنكم إن اتقيتم وتبتم تقبّل اللّه توبتكم ، وأنعم عليكم بثواب المتقين التائبين ، إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ مبالغ فى قبول التوبة ، وإفاضة الرّحمة ، حيث جعل التائب كمن لا ذنب له ، ولم يخص تائبا دون تائب ، بل يعم الجميع ، وإن كثرت ذنوبه.
___________
(1) على هامش النّسخة الأم : يا أستاذ هذا الحديث كذب موضوع ، ظاهر من لفظه. ه.
(2) أخرجه أبو داود فى (الأدب ، باب فى الغيبة ، ح 4878) وأحمد (3/ 224) من حديث أنس رضي اللّه عنه.(5/432)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 433
روى أنّ سلمان كان يخدم رجلين من الصحابة ، ويصلح طعامهما ، فنام عن شأنه يوما ، فبعثاه إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال : «ما عندى شى ء» فأخبرهما سلمان ، فقالا : لو بعثناه إلى بئر سميحة لغار ماؤها. فلما جاءا إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال لهما : «مالى أرى حمرة اللّحم فى أفواهكما؟» فقالا : ما تناولنا لحما ، فقال : «إنكما قد اغتبتما ، من اغتاب مسلما فقد أكل لحمه» ، ثم قرأ الآية «1».
وقيل : غيبة الخلق إنما تكون بالغيبة عن الحق. ه. قاله النّسفى. قال بعضهم : والغيبة صاعقة الدين ، فمن أراد أن يفرّق حسناته يمينا وشمالا فليغتب النّاس. وقيل : مثل صاحب الغيبة مثل من نصب منجنيقا فهو يرمى به حسناته يمينا وشمالا ، شرقا وغربا. ه. والأحاديث والحكايات فى ذم الغيبة كثيرة ، نجانا اللّه منها بحفظه ورعايته.
وهل هى من الكبائر أو من الصغائر؟ خلاف ، رجّح بعض أنها من الصغائر لعموم البلوى بها ، قال بعضهم : هى فاكهة القراء ، ومراتع النّساء ، وبساتين الملوك ، ومزبلة المتقين ، وإدام كلاب النّاس. ه «2».
الإشارة : من نظر النّاس بعين الجمع عذرهم فيما يصدر منهم ، وحسّن الظن فيما لم يصدر منهم ، وعظّم الجميع ، ومن نظرهم بعين الفرق طال خصمه معهم فيما فعلوا ، وساء ظنّه بهم فيما لم يفعلوا ، وصغّرهم حيث لم ير منهم ما لا يعجبه ، فالسلامة : النظر إليهم بعين الجمع ، وإقامة الحقوق عليهم فى مقام الفرق ، قياما بالحكمة فى عين القدرة. وفى الحديث : «ثلاثة دبت لهذه الأمة الظن ، والطيرة ، والحسد» قيل : فما النّجاة؟ قال :
«إذا ظننت فلا تحقّق ، وإذا تطيرت فامض ، وإذا حسدت فلا تبغ» «3» أو كما - قال عليه السّلام. قال القشيري : النفس لا تصدّق ، والقلب لا يكذّب ، والتمييز بينهما مشكل ، ومن بقيت عليه من حظوظه بقية - وإن قلّت - فليس له أن يدّعى بيان القلب - أي : استفتاءه - بل يتهم نفسه ما دام عليه شىء من نفسه ، ويجب أن يتهم نفسه فى كل ما يقع له من نقصان غيره ، هذا أمير المؤمنين عمر قال وهو يخطب النّاس : «كل النّاس أفقه من عمر حتى النّساء» «4». ه.
___________
(1) قال المناوى فى الفتح السماوي (3/ 1004) : «ذكره الثعلبي بغير إسناد ، وروى معناه الأصبهانى فى الترغيب عن عبد الرّحمن ابن أبى ليلى».
(2) على هامش النّسخة الأم مايلى : غريب هذا الترجيح ، وأغرب منه دليله ، فالأحاديث الكثيرة الصحيحة تفيد أن الغيبة من الكبائر ، بل من أكبرها ، بل من أربى الرّبا ، وأشد من ست وثلاثين زنية ، والزنا والرّبا من الكبائر ، وأيضا : هى من حقوق الخلق ، التي لا تكفّر إلا بالاستحلال ، فكيف تكون من الصغائر أ. ه.
(3) ذكره ابن عبد البر فى التمهيد (6/ 125) بلفظ (ثلاث لا يسلم منهن أحد ..) الحديث ، وعزاه لعبد الرّزاق ، عن إسماعيل بن أمية. وذكره الهيثمي فى المجمع (8/ 81) وابن كثير فى التفسير (4/ 13) بلفظ «ثلاث لازمات لأمتى ..» الحديث ، وفيه : «وإذا حسدت فاستغفر اللّه» وعزاه كل منهما للطبرانى عن حارثة بن النّعمان. وقال الهيثمي : «وفيه إسماعيل بن قيس الأنصاري ، وهو ضعيف».
(4) قاله رضي اللّه عنه بعد أن خطب ناهيا عن المغالاة فى مهور النّساء ، وأن لا يزدن عن أربعمائة درهم ، فقالت له امرأة من قريش : أما سمعت اللّه يقول : وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً [النساء/ 20]. ذكره فى كنز العمال (رقم 45798) وعزاه لسعيد بن منصور ، وأبى يعلى فى مسنده ، والمحاملي فى أماليه ، عن مسروق. وانظر : الشذرة فى الأحاديث المشتهرة (رقم 697). [.....](5/433)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 434
قوله تعالى : وَلا تَجَسَّسُوا .. إلخ ، التجسس عن أخبار النّاس من علامة الإفلاس ، قال القشيري : العارف لا يتفرغ من شهود الحقّ إلى شهود الخلق ، فكيف يتفرغ إلى التجسس عن أحوالهم؟! لأن من اشتغل بنفسه لا يتفرغ إلى الخلق ، ومن اشتغل بالحق لا يتفرغ لنفسه ، فكيف إلى غيره؟! ه.
قوله تعالى : وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً ، ليست الغيبة خاصة باللسان فى حق الخاصة ، بل تكون أيضا بالقلب ، وحديث النّفس ، فيعاتبون عليها كما تعاتب العامة على غيبة اللسان ، وتذكّر قضية الجنيد مع الفقير الذي رآه يسأل ، وهى مشهورة ، وتقدمت حكاية أبى سعيد الخراز ، ونقل الكواشي عن أبى عثمان : أنّ من وجد فى قلبه غيبة لأخيه ، ولم يعمل فى صرف ذلك عن قلبه بالدعاء له خاصة ، والتضرع إلى اللّه بأن يخلّصه منه أخاف أن يبتليه اللّه فى نفسه بتلك المعايب. ه. قال القشيري : وعزيز رؤية من لا يغتاب أحدا بين يديك. ه. وقد أبيحت الغيبة فى أمور معلومة ، منها : التحرز منه لئلا يقع الاغترار بكلامه أو صحبته ، والترك أسلم وأنجى.
ثم نهى عن الافتخار بالأنساب ، فقال :
[سورة الحجرات (49) : آية 13]
يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)
يقول الحق جل جلاله : يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى آدم وحوّاء ، أو : كل واحد منكم من أب وأم فما منكم من أحد إلا وهو يدلى بما يدلى به الآخر ، سواء بسواء ، فلا معنى للتفاخر والتفاضل بالنسب. وفى الحديث : «لا فضل لعربى على عجمى ، ولا لعجمى على عربى ، ولا لأحمر على أسود ، ولا لأسود على أحمر إلا بالتقى» «1». وقال أيضا : «ثلاثة من أمر الجاهلية الفخر بالأحساب ، والطعن فى الأنساب ، والدعاء بدعاء الجاهلية» «2» أو كما قال صلّى اللّه عليه وسلم.
وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ ، الشعوب : رؤوس القبائل ، مثل ربيعة ومضر ، والأوس والخزرج ، واحدها :
شعب - بفتح الشين ، سمّوا بذلك لتشعبهم كتشعب أغصان الشجرة ، والقبائل : دون الشعوب ، واحدها : قبيلة ، كبكر من ربيعة ، وتميم من مضر. ودون القبائل : العمائر ، جمع عمارة بفتح العين ، وهم كشيبان من بكر ، ودارم من تميم ،
___________
(1) أخرجه مطولا : البيهقي فى الشعب (ح 5137) من حديث جابر بن عبد اللّه رضي اللّه عنه.
(2) ذكره الهيثمي فى المجمع (3/ 16) بنحوه ، وعزاه للطبرانى فى الكبير. عن سلمان مرفوعا ، وقال : «فيه عبد الغفور أبو الصباح ، وهو ضعيف».(5/434)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 435
ودون العمائر : البطون ، واحدها : بطن ، وهى كبنى غالب ولؤى من قريش ، ودون البطون : الأفخاذ ، واحدها : فخذ ، كهاشم وأمية من بنى لؤى ، ثم الفصائل والعشائر ، واحدها : فصيلة وعشيرة ، فالشعب تجمع القبائل ، والقبيلة تجمع العمائر ، والعمارة تجمع البطون ، والبطن يجمع الأفخاذ ، والفخذ يجمع الفصائل «1». وقيل : الشعوب من العجم ، والقبائل من العرب ، والأسباط من بنى إسرائيل. لِتَعارَفُوا أي : إنما جعلناكم كذلك ليعرف بعضكم نسب بعض ، فلا يتعدى إلى غير آبائه ، لا لتتفاخروا بالأجداد والأنساب.
ثم ذكر الخصلة التي يفضل بها الإنسان ، ويكتسب الشرف والكرم عند اللّه ، فقال : إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ أي : لا أنسبكم ، فإنّ مدار كمال النّفوس وتفاوت الأشخاص هو التقوى ، فمن رام نيل الدرجات العلا فعليه بالتقوى ، قال صلّى اللّه عليه وسلم : «من سره أن يكون أكرم النّاس فليتق اللّه» «2» وروى أنه صلّى اللّه عليه وسلم طاف يوم فتح مكة ، ثم حمد اللّه ، وأثنى عليه ، وقال : «الحمد للّه الذي أذهب [عبيّة] «3» الجاهلية وتكبّرها يا أيها النّاس إنما النّاس رجلان رجل مؤمن تقىّ كريم على اللّه ، ورجل فاجر شقى هيّن على اللّه» ثم قرأ الآية «4».
وعن ابن عباس - رضي اللّه عنهما : كرم الدنيا الغنى ، وكرم الآخرة التقى. وقال قتادة : أكرم الكرم التقى ، وألأم اللؤم الفجور ، وسئل عليه السّلام عن خير النّاس؟ فقال : «آمركم بالمعروف ، وأنهاكم عن المنكر ، وأوصلكم للرحم» وقال عمر رضي اللّه عنه : «كرم الرّجل : دينه وتقواه ، وأصله : عقله ، ومروءته : خلقه ، وحسبه : ماله» «5».
وعن يزيد بن شجرة : مرّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم فى سوق المدينة ، فرأى غلاما أسود ، قائما ينادى عليه من يزيد فى ثمنه ، وكان الغلام يقول : من اشترانى فعلى شرط ألّا يمنعنى من الصلوات الخمس خلف رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ، فاشتراه
___________
(1) وقد نظمها بعض الأدباء ، فقال :
اقصد الشعب فهو أكثر حى عددا فى الحواء ثم القبيلة
ثم تتلوها العمارة ثم ال بطن والفخذ بعدها والفصيلة
ثم من بعدها العشيرة لكن هى فى جنب ما ذكرناه قليله
(2) أخرجهالحاكم (4/ 270) والطبراني فى الكبير (10/ 389) وأبو نعيم فى الحلية (3/ 218) عن ابن عباس رضي اللّه عنه.
(3) فى الأصول [غيبة] أما عن معناها ، فقال ابن الأثير : يعنى الكبر ، وتضم عينها وتكسر ، وهى فعّولة أو فعّيلة ، فإن كانت «فعّولة» فهى من التّعبية ، لأن المتكبر ذو تكلف وتعبية ، خلاف من يسترسل على سجيته ، وإن كانت «فعّلية» فهى من عباب الماء ، وهو أوله وارتفاعه. انظر النّهاية (عبب 3/ 169) ..
(4) أخرجه بطوله الترمذي فى (التفسير سورة الحجرات ، ح 3270) ، والبغوي فى تفسيره (7/ 348) وفى شرح السنة (13/ 124) من حديث ابن عمر رضي اللّه عنه.
(5) أخرجه ابن أبى شيبة (8/ 520) والبيهقي فى السنن (195/ 10) من قول سيدنا عمر ، موقوفا ، بلفظ «حسب الرّجل دينه ، ومروءته خلقه ، وأصله عقله ، وأخرج الإمام مالك فى الموطأ (ص 463) عن سيدنا عمر موقوفا : «الكرم التقوى ، والحسب والمال ...» ، وأخرج أحمد (2/ 365) والحاكم (1/ 123) والبيهقي فى السنن (7/ 136) وابن حبان (إحسان - 483) والقضاعي فى مسند الشهاب (190) عن أبى هريرة ، مرفوعا : «كرم المرء دينه ، ومروءته عقله ، وحسبه خلقه» قال الحاكم : «صحيح على شرط مسلم».(5/435)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 436
بعضهم ، فعاده رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ، ثم توفى ، فتولى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم غسله وتكفينه ودفنه ، فقالت المهاجرون : هاجرنا ديارنا وأموالنا وأهلينا ، فما نرى أحدا منا لقى فى حياته ولا موته ما لقى هذا الغلام ، وقالت الأنصار : آويناه ونصرناه وواسيناه بأموالنا ، فآثر علينا عبدا حبشيا ، فنزلت «1».
وقال صلّى اللّه عليه وسلم : «إنّ اللّه لا ينظر إلى صوركم ، ولا إلى أموالكم ، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم ، وإنما أنتم بنو آدم ، أكرمكم عند اللّه أتقاكم ، وأنتم تقولون : فلان بن فلان ، وأنا اليوم أرفع نسبى وأضع أنسابكم ، أين المتقون» «2». وقيل :
يا رسول اللّه ، من أكرم النّاس؟ قال : «أتقاهم» «3». ه وأنشدوا :
ما يصنع العبد بعزّ الغنى والعز كل العزّ للمتّقى
من عرف اللّه فلم تغنه معرفة اللّه فذاك الشّقى
إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ، عليم بكرم القلوب وتقواها ، خبير بهمم النّفوس فى هواها.
الإشارة : كان سيدنا علىّ رضي اللّه عنه يقول : «ما لابن آدم والفخر ، أوله نطفة مذرة ، وآخره جيفة قذرة ، وفيما بينهما يحمل العذرة» وكان ينشد :
الناس من جهة التمثيل أكفاء أبوهم آدم والأم حوّاء
ومن يرم منهم فخرا بذي نسب فإن أصلهم الطّين والماء
ما الفخر إلا لأهل العلم إنّهم على الهدى لمن اهتدى أدلّاء
وقدر كل امرئ ما كان يتقنه والجاهلون لأهل العلم أعداء «4»
___________
(1) ذكره الواحدي فى أسباب النّزول (ص 411 - 412) بدون إسناد.
(2) أخرجه إلى قوله : «وأعمالكم» مسلم فى (البر والصلة ، باب تحريم ظلم المسلم وخذله ، رقم 2564 ، ح 34) من حديث أبى هريرة رضي اللّه عنه. والجزء الثاني جاء فى حديث ، لفظه : «إذا كان يوم القيامة أمر اللّه مناديا ينادى : ألا إنى جعلت نسبا وجعلتم نسبا ، فجعلت أكرمكم أتقاكم ، فأبيتم إلا أن تقولوا : فلان بن فلان خير من فلان بن فلان ، فاليوم أرفع نسبى وأضع نسبكم ، أين المتقون؟» الحديث أخرجه الطبراني فى الأوسط (ح 4511) والصغير (634) وبنحوه البيهقي فى الشعب (ح 5139) عن أبى هريرة رضي اللّه عنه.
(3) بعض حديث أخرجه البخاري فى (التفسير ، سورة يوسف ، باب : لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ ح 4689) ومسلم فى (الفضائل ، باب من فضائل يوسف عليه السّلام رقم 2378) عن أبى هريرة رضي اللّه عنه. ولفظ البخاري : سئل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم : أي النّاس أكرم؟ قال : «أكرمهم عند اللّه أتقاهم» ولفظ مسلم نحوه.
(4) هكذا فى الأصول ، وانظر ديوان «الإمام علىّ» جمع وضبط «نعيم زرزور» (ص 5 - 6) وتفسير القرطبي (7/ 6347) وإتحاف السادة المتقين (1/ 88) فقد جاءت الأبيات فيها بأتم من هنا مع اختلاف.(5/436)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 437
وقوله : مالفخر إلا لأهل العلم .. إلخ ، يعنى : لو كان الفخر مباحا ما أبيح إلّا لهم ، وإلا فهم أولى بالتواضع ، اقتداء برسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ، وقد قال : «من تواضع دون قدره رفعه اللّه فوق قدره» «1» فما رفع اللّه قدر العلماء إلا بتواضعهم حتى ينالهم الشريف والوضيع ، والصغير والكبير ، والقوى والضعيف ، فمن لم يكن هكذا فليس بعالم لأنّ الخشية تحمل على التواضع ، ومن لم يخش فليس بعالم حقيقة. قال تعالى : إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ «2».
وقوله تعالى : إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ ، اعلم أنّ نصيب كلّ عبد من اللّه تعالى على قدر تقواه ، وتقواه على قدر توجهه إلى اللّه ، وتوجهه على قدر تفرغه من الشواغل ، وتفرغه على قدر زهده ، وزهده على قدر محبته ومحبته على قدر علمه باللّه ، وعلمه على قدر يقينه ، ويقينه على قدر كشف الحجاب عنه ، وكشف الحجاب على قدر جذب العناية ، وجذب العناية على قدر السابقة ، وهى سر القدر الذي لم يكشف فى هذه الدار. وسقوط العبد من عين اللّه على قدر قلة تقواه ، وقلة تقواه على قدر ضعف توجهه ، وضعف توجهه على قدر تشعب همومه ، وتشعب همومه على قدر حرصه ورغبته فى الدنيا ، ورغبته فى الدنيا على قدر ضعف محبته فى اللّه ، وضعف محبته على قدر جهله به ، وجهله على قدر ضعف يقينه ، وضعف اليقين من كثافة الحجاب ، وكثافة الحجاب من عدم جذب العناية ، وعدم جذب العناية من علامة الخذلان السابق ، الذي هو سر القدر. واللّه تعالى أعلم.
ثم إنّ أساس التقوى : الإيمان الصادق دون الكاذب ، الذي أشار إليه بقوله :
[سورة الحجرات (49) : الآيات 14 الى 15]
قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15)
يقول الحق جل جلاله : قالَتِ الْأَعْرابُ أي : بعض الأعراب آمَنَّا ، نزلت فى نفر من بنى أسد ، قدموا المدينة فى سنة جدبة ، فأظهروا الإسلام ، ولم يؤمنوا فى السر ، وأفسدوا طرق المدنية بالعذرات ، وأغلوا
___________
(1) لم أقف عليه بهذا اللفظ ، وأخرج أحمد فى المسند (3/ 36) وابن ماجه فى (الزهد 3/ 2/ 1398 ، ح 4176) عن أبى سعيد الخدري ، قال : قال صلّى اللّه عليه وسلم : «من يتواضع للّه سبحانه درجة يرفعه اللّه به درجة ، ومن يتكبر على اللّه درجة ، يضعه اللّه به درجة ، حتى يجعله فى أسفل سافلين».
(2) الآية 28 من سورة فاطر.(5/437)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 438
أسعارها ، وكانوا يقولون لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم : أتيناك بالأثقال والعيال ، ولم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان ، وهم يريدون الصدقة ، ويقولون : أعطنا ، ويمنّون بإسلامهم «1».
قُلْ لهم : لَمْ تُؤْمِنُوا لم تصدّقوا بقلوبكم وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا ، فالإيمان هو التصديق بالقلب مع الإذعان به ، والإسلام هو الدخول فى السّلم ، والخروج من أن يكون حربا للمؤمنين بإظهار الشهادتين ألا ترى إلى قوله : وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ فهو يدل على أنّ مجرد النّطق بالشهادتين ليس بإيمان ، فتحصّل أن ما يكون من الإقرار باللسان من غير مواطأة للقلب فهو إسلام ، وما واطأ فيه القلب اللسان فهو إيمان ، وهذا من حيث اللغة ، وأما فى الشرع فهما متلازمان ، فلا إسلام إلا بعد إيمان ، ولا إيمان إلا بعد النّطق بالشهادة إلا لعذر.
والتعبير ب «لمّا» يدل على أن الإيمان متوقّع من بعضهم وقد وقع. فإن قلت : مقتضى نظم الكلام أن يقول : قل لا تقولوا آمنا ولكن قولوا أسلمنا ، أو : قل لم تؤمنوا ولكن أسلمتم؟ قلت : أفاد هذا النّظم تكذيب دعواهم أولا ، فقيل : قل لم تؤمنوا ، مع حسن أدب ، فلم يقل : كذبتم صريحا ، ووضع «لم تؤمنوا» الذي هو نفس ما ادّعوا إثباته موضعه ، واستغنى بقوله : لَمْ تُؤْمِنُوا عن أن يقال : لا تقولوا آمنا لاستهجان أن يخاطبوا بلفظ مؤداه النّهى عن القول بالإيمان ، ولم يقل : ولكن أسلمتم ليكون قولهم خارجا مخرج الزعم والدعوى ، كما كان قولهم : «آمنا» كذلك ، ولو قيل : ولكن أسلمتم لكان كالتسليم ، والاعتداد بقولهم ، وهو غير معتدّ به.
وليس قوله : وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ تكريرا لمعنى قوله : لَمْ تُؤْمِنُوا فإنّ فائدة قوله : لَمْ تُؤْمِنُوا تكذيب دعواهم ، وقوله : وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ توقيت لما أمروا به أن يقولوه ، كأنه قيل لهم : ولكن قولوا أسلمنا حين لم يثبت مواطأة قلوبكم لألسنتكم لأنه كلام واقع موقع الحال من الضمير فى «قولوا». قاله النّسفى.
وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ بالإخلاص وترك النّفاق لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً من أجورها. يقال :
ألت يألت «2» ، وألات يليت ، ولات يليت ، بمعنى ، وهو النّقص ، إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ لما فرط من الذنوب ، رَحِيمٌ يستر العيوب.
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا لم يشكّوا ، من : ارتاب ، مضارع رابه : إذا أوقعه فى الشك والتهمة ، والمعنى : أنهم آمنوا ثم لم يقع فى إيمانهم شك فيما آمنوا ، ولا اتهام لمن صدّقوه ، ولمّا كان الإيقان
___________
(1) ذكره الواحدي فى أسباب النّزول (ص 412) والبغوي فى التفسير (7/ 349) بدون إسناد ، وعزاه ابن كثير فى التفسير (4/ 219 - 22) للبزار ، عن ابن عباس رضي اللّه عنه. [.....]
(2) بضم اللام وكسرها ، انظر البحر المحيط (8/ 104).(5/438)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 439
وزوال الرّيب ملاك الإيمان أفرد بالذكر بعد تقدم الإيمان ، تنبيها على علو مكانه ، وعطف على الإيمان بثمّ إشعارا باستقراره فى الأزمنة المتراخية المتطاولة غضّا جديدا. وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي :
جاهدوا ما ينبغى جهاده من الكفار والأنفس والهوى ، بالإعانة بأموالهم ، والمباشرة بأنفسهم فى طلب رضا اللّه.
أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ أي : الذين صدقوا فى قولهم : آمنا ، لم يكذّبوا كما كذّب أعراب بنى أسد بل إيمانهم إيمان صدق وحق. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : مذهب الصوفية : أن العمل إذا كان حدّه الجوارح الظاهرة يسمى مقام الإسلام ، وإذا انتقل لتصفية البواطن بالرياضة والمجاهدة يسمى مقام الإيمان ، وإذا فتح على العبد بأسرار الحقيقة يسمى مقام الإحسان ، وقد جعل الساحلى مقام الإسلام مركّبا من ثلاثة التوبة والتقوى والاستقامة ، والإيمان مركبا من الإخلاص والصدق والطمأنينة ، والإحسان مركّبا من المراقبة والمشاهدة والمعرفة ، ولكلّ زمان ورجال تربية واصطلاح فى السير ، والمقصد واحد ، وهو المعرفة العيانية.
قال القشيري : الإيمان هو حياة القلوب ، والقلوب لا تحيا إلا بعد ذبح النّفوس ، والنّفوس لا تموت ، ولكنها تغيب. ه. أي : المقصود بقتل النّفوس هو الغيبة عنها فى نور التجلي ، فإذا وقع الفناء فى شهود الحق عن شهود الخلق فلا مجاهدة. وقال القشيري فى مختصره : قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا ... إلخ ، يشير إلى أنّ حقيقة الإيمان ليست مما يتناول باللسان ، بل هو نور يدخل القلوب ، إذا شرح اللّه صدر العبد للإسلام كما قال تعالى : فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ «1» ، وقال عليه السّلام فى صفة ذلك النّور : «إنّ النّور إذا وقع فى القلب انفسح له واتسع» ، قالوا : يا رسول اللّه هل لذلك النّور من علامة؟ قال : «بلى التجافي عن دار الغرور ، والإنابة إلى دار الخلود ، والاستعداد للموت قبل نزوله» «2». لهذا قال تعالى : وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ أي : نور الإيمان. ه.
(و إن تطيعوا اللّه ورسوله) فى الأوامر والنّواهى بعد ذبح النّفوس بسيف الصدق (لا يلتكم عن أعمالكم شيئا) بل كل ما تتقربون به إلى اللّه من مجاهدة النّفوس ترون جزاءه عاجلا ، من كشف غطاء ، وحلاوة شهود ، إن اللّه غفور
___________
(1) من الآية 22 من سورة الزمر.
(2) أخرجه الحاكم (4/ 311) والبيهقي فى الشعب (ح 10552) وابن أبى شيبة فى مصنفه (الزهد ، باب 6 ، ح 14) والبغوي فى التفسير (7/ 114 - 115) وابن جرير (8/ 27) من حديث ابن مسعود رضي اللّه عنه ، «والحديث سكت عند الحاكم ، وتعقبه الذهبي» ورواه البيهقي فى الأسماء (ص 156) وقال : «هذا منقطع» وابن المبارك فى الزهد (رقم 315 ، ص 106) عن أبى جعفر المدائني ، مرسلا ، ورواه بنحوه الحكيم الترمذي فى النّوادر (الأصل السادس والثمانين) من حديث ابن عمر رضي اللّه عنه. وقد ذكر ابن كثير (2/ 176) لهذا الحديث طرقا كثيرة ، متصلة ومرسلة ، ومال إلى تقويته لتعدد طرقه.(5/439)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 440
لمن وقع له فتور ، رحيم بمن وقع منه نهوض ، (إنما المؤمنون الذين آمنوا باللّه) وشاهدوا أنواره وأسراره ، (و رسوله) حيث عرفوا حقيقته النّورانية الأولية ، (ثم لم يرتابوا) لم يخطر على بالهم خواطر سوء ، ولا شكوك فيما وعد اللّه من الرّزق وغيره لأنّ حجاب نفوسهم قد زال عنهم ، فصار الغيب شهادة ، والخبر عيانا ، والتعبير ب «ثم» يقتضى تأخر تربية اليقين شيئا فشيئا حتى يحصل التمكين فى مقامات اليقين ، مع التمكين فى مقام الشهود والعيان.
ثم ذكر سبب إزاحة الشكوك عنهم بقوله : (و جاهدوا بأموالهم) حيث بذلوها للّه (و أنفسهم) حيث جاهدوها فى طلب اللّه (أولئك هم الصادقون) فى طلب الحق ، فظفروا بما أمّلوا ، وربحوا فيما به تجروا. جعلنا اللّه منهم بمنّه وكرمه.
ثم ردّ على من منّ على اللّه بدينه ، فقال :
[سورة الحجرات (49) : الآيات 16 الى 18]
قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (16) يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (17) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (18)
يقول الحق جل جلاله : قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ أي : أتخبرونه بذلك بقولكم آمنّا؟ روى أنه لمّا نزل قوله : قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا جاؤوا يحلفون إنهم لصادقون فأكذبهم اللّه بقوله : قُلْ أَتُعَلِّمُونَ .. «1» إلخ. والتعبير عنه بالتعليم لغاية تشنيعهم ، كأنهم وصفوه تعالى بالجهل. قال الهروي : و«علّمت» و«أعلمت» فى اللغة بمعنى واحد ، وفى القاموس : وعلّمه العلم تعليما ، وأعلمه إياه فتعلمه. ه. وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ فلا يحتاج إلى إعلام أحد ، وهو حال مؤكدة لتشنيعهم ، وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ أي : مبالغ فى العلم بجميع الأشياء ، التي من جملتها ما أخفوه من الكفر عند إظهارهم الإيمان.
يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا أي : يعدون إسلامهم منّة عليك ، ف «أن» نصب على نزع الخافض ، والمنّ : ذكر النعمة على وجه الافتخار. وقال النّسفى : هو ذكر الأيادى تعريضا للشكر ، و[نهينا] «2» عنه. ه. فانظره.
___________
(1) انظر تفسير القرطبي (7/ 6354).
(2) فى الأصول : «ونهيا».(5/440)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 441
قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ أي : لا تعدوا إسلامكم منة علىّ ، فإنّ نفعه قاصر عليكم إن صح ، بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أي : المنة إنما هى للّه عليكم أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ أي : لأن هداكم ، أو : بأن هداكم للإيمان على زعمكم إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ فى ادّعاء الإيمان ، إلّا أنكم تزعمون وتدعون ما اللّه عليم بخلافه. وجواب الشرط محذوف لدلالة ما قبله عليه أي : إن كنتم صادقين فى ادعائكم الإيمان فللّه المنّة عليكم.
وفى سياق النّظم الكريم من اللطف ما لا يخفى فإنهم لمّا سموا ما فى صدورهم إيمانا ، ومنّوا به ، نفى تعالى كونه إيمانا ، وسمّاه إسلاما ، كأنه قيل : يمنون عليك بما هو فى الحقيقة إسلام وليس بإيمان ، بل لو صح ادّعاؤهم للإيمان فللّه المنّة عليهم بالهداية إليه لا لهم.
إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي : ما غاب فيهما ، وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ فى سركم وعلانيتكم ، وهذا بيان لكونهم غير صادقين فى دعواهم ، يعنى : اللّه تعالى يعلم كلّ مستتر فى العالم ، ويبصر كل عمل تعملونه فى سركم وعلانيتكم ، لا يخفى عليه منه شىء ، فكيف يخفى عليه ما فى ضمائركم. قال الورتجبي :
ليس للّه غيب ، إذ الغيب شىء مستور ، وجميع الغيوب عيان للّه - تعالى - وكيف يغيب عنه وهو موجده؟! يبصر ببصره القديم ما كان وما لم يكن ، وهناك العلم والبصر واحد. ه. قوله : «العلم والبصر واحد» هذا على مذهب الصوفية فى أن بصره يتعلق بالمعدوم ، كما يتعلق به العلم ، ومذهب علماء الكلام : أن متعلق البصر خاص بالموجودات ، فمتعلق العلم أوسع. وانظر حاشية الفاسى على الصغرى.
الإشارة : كل من تمنى أن يعلم النّاس ما عنده من العلم والسر يقال له : أتعلّمون اللّه بدينكم ، واللّه يعلم ما فى سموات القلوب والأرواح من السر واليقين ، وما فى أرض النّفوس من عدم القناعة بعلم اللّه ، واللّه بكلّ شىء عليم.
وفى الحكم : «استشرافك أن يعلم النّاس بخصوصيتك دليل على عدم صدقك فى عبوديتك» «1». وكلّ من غلب عليه الجهل حتى منّ على شيخه بصحبته له ، أو بما أعطاه ، يقال فى حقه : يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا .. الآية.
وقوله تعالى : وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ قال القشيري : فمن لاحظ شيئا من أعماله وأحواله فإن رآها من نفسه كان شركا ، وإن رآها لنفسه كان مكرا ، وإن رآها من ربه بربه كان توحيدا. وفقنا اللّه لذلك بمنّه وجوده. ه.
وصلّى اللّه على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما.
___________
(1) حكمة رقم 161 انظر تبويب الحكم للمتقى الهندي (ص 11).(5/441)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 442(5/442)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 443
سورة ق
مكية. وهى خمس وأربعون آية. ووجه مناسبتها : أن السورة قبلها واردة فى الترغيب فى الأدب ، والترهيب من سوء الأدب ، ولا يتحقق ذلك إلا لمن صحت عنده رسالة الرّسول ونبوته ، فأقسم فى هذه السورة على تحقيق رسالته وإنذاره بقوله :
[سورة ق (50) : الآيات 1 الى 11]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ (2) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (3) قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ (4)
بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (5) أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ (6) وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8) وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9)
وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ (10) رِزْقاً لِلْعِبادِ وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ الْخُرُوجُ (11)
يقول الحق جل جلاله : ق أيها القريب المقرب من حضرتنا وَحق الْقُرْآنِ الْمَجِيدِ إنك لرسول مجيد ، أو : ق أي : وحق القوىّ القريب ، والقادر القاهر. وقال مجاهد : هو جبل محيط بالأرض من زمردة خضراء ، وعليه طغى الماء ، وخضرة السماء منه ، والسماء مقبّبة عليه ، وما أصاب النّاس من زمرد فمما تساقط من ذلك الجبل. وروى أن ذا القرنين وصل إليه ، فخاطبه «1» ، وقال : يا قاف أخبرنى بشىء من عظمة اللّه ، قال : إن
___________
(1) قال ابن كثير فى تفسيره (4/ 222) : «وقد روى عن بعض السلف أنهم قالوا : «ق» جبل محيط بجميع الأرض ، يقال له : جبل قاف ، وكأن هذا - واللّه أعلم - من خرافات بنى إسرائيل التي أخذها عنهم بعض النّاس ، لما رأوا من جواز الرّواية عنهم ، مما لا يصدّق ولا يكذب ، وعندى : أن هذا وأشباهه من اختلاق بعض زنادقتهم ، يلبسون به على النّاس أمر دينهم».(5/443)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 444
شأن ربنا لعظيم ، وإن ورائي أرضا ميسرة خمسمائة عام ، فى عرض خمسمائة عام ، من ثلج يحطم بعضه بعضا ، لولا ذلك الثلج لاحترقت من نار جهنم. ه.
وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ أي : ذى المجد والشرف على سائر الكتب ، أو : لأنه كلام مجيد ، من علم معانيه وعمل بما فيه مجد عند اللّه وعند النّاس. وجواب القسم محذوف ، أي : إنك لرسول نذير ، أو : لتبعثن ، بدليل قوله : أَإِذا مِتْنا .. إلخ ، أو : إنا أنزلناه إليك لتنذر به فلم يؤمنوا ، بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ أي : لأن جاءهم مُنْذِرٌ مِنْهُمْ من جنسهم ، لا من جنس الملائكة ، أو : من جلدتهم ، وهو إنكار لتعجّبهم مما ليس بعجب ، وهو أن يخوفهم من غضب اللّه رجل منهم قد عرفوا عدالته وأمانته ، ومن كان كذلك لم يكن إلا ناصحا لقومه ، خائفا أن ينالهم مكروه وإذا علم أن مخوفا أظلهم لزمه أن ينذرهم ، فكيف بما هو غاية المخاوف؟ أو إنكار لتعجّبهم مما أنذرهم به من البعث مع علمهم بقدرة اللّه تعالى على خلق السموات والأرض وما بينهما ، وإقرارهم بالنشأة الأولى ، مع شهادة العقل بأنه لا بدّ من الجزاء ، وإلا كان إنشاء الخلق عبثا. ثم بيّن تعجبهم بقوله : فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ أي : هذا الذي يقوله محمد من البعث بعد الموت شىء عجيب ، أو : كون محمد منذرا بالقرآن شىء يتعجب منه. ووضع «الكافرون» موضع الضمير للدلالة على أنهم فى قولهم هذا مقدمون على كفر عظيم.
ثم قالوا : أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً أي : أنبعث حين نموت ونصير ترابا كما يقوله هذا النّذير؟ ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ أي : ذلك البعث بعد هذه الحالة رجوع مستبعد ، منكر ، بعيد من الوهم والعادة. فالعامل فى «إذا» محذوف مفهوم من الكلام كما قدرنا. قال تعالى : قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ ، وهو ردّ لاستبعادهم فإنّ من عمّ علمه ولطفه حتى ينتهى إلى حيث علم ما تنقص الأرض من أجساد الموتى ، وتأكل من لحومهم وعظمهم ، كيف يستبعد رجعه إياهم أحياء كما كانوا؟! عن النّبى صلّى اللّه عليه وسلم : «كل ابن آدم يأكله التراب إلا عجب الذّنب ، ومنه خلق ، وفيه يركّب» «1» وهو العصعص ، وقال فى المصباح : العجب «2» - كفلس - من كلّ دابة : ما انضم عليه الورك من أصل الذّنب. ه. وهو عظم صغير قدر الحمصة ، لا تأكله الأرض ، كما لا تأكل أجساد الأنبياء والأولياء والشهداء.
قال ابن عطية : حفظ ما تنقص الأرض إنما هو ليعود بعينه يوم القيامة ، وهذا هو الحق. وذهب بعض الأصوليين إلى أن الأجساد المبعوثة يجوز أن تكون غير هذه ، هذا عندى خلاف ظاهر كتاب اللّه ، ولو كانت غيرها كيف كانت تشهد الجلود والأيدى والأرجل على الكفرة؟ إلى غير ذلك مما يقتضى أن أجساد الدنيا هى التي تعود. ه.
___________
(1) أخرجه مسلم فى (الفتن ، باب ما بين النّفختين ح 2955) من حديث أبى هريرة رضي اللّه عنه ، وأخرجه البخاري مطولا وبنحوه فى (التفسير - سورة الزمر ، باب وَنُفِخَ فِي الصُّورِ .. ح 4814).
(2) بسكون الجيم.(5/444)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 445
وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ لتفاصيل الأشياء ، أو : محفوظ من التغيير ، وهو اللوح المحفوظ ، أو : حافظا لما أودعه وكتب فيه ، أو : يريد علمه تعالى ، فيكون تمثيلا لعلمه تعالى بكليات الأشياء وجزئياتها ، بعلم من عنده كتاب حفيظ يتلقى منه كلّ شىء.
بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ ، إضراب وانتقال من بيان شناعتهم السابقة ، وتكذيب البعث ، الى ما هو أشنع منه وأفظع ، وهو تكذيبهم للنبوة الثابتة بالمعجزات الباهرة ، لَمَّا جاءَهُمْ من غير تأمل وتفكر ، وقيل : الحق : القرآن ، أو : الإخبار بالبعث ، فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ مضطرب ، لا قرار له ، يقال : مرج الخاتم فى إصبعه إذا اضطرب من سعته ، فيقولون تارة : مجنون ، وطورا : ساحر ، ومرة : كاهن ، ولا يثبتون على قول. أو : مختلط ، يقال : مرج أمر الناس : اختلط. أو : ملبس ، قال قتادة : من ترك الحق مرج عليه أمره ، وألبس عليه دينه.
أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ بحيث يشاهدونها كلّ وقت كَيْفَ بَنَيْناها رفعناها بغير عمد وَزَيَّنَّاها بما فيها من الكواكب المترتبة على نظام عجيب ، وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ من فنوق لملاستها وسلامتها من كلّ عيب وخلل ، وَالْأَرْضَ مَدَدْناها بسطناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ جبالا ثوابت ، من : رسى الشيء ثبت ، والتعبير عنها بهذا الوصف للإيذان بأن إلقاءها إنما هو للإرساء ، وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ صنف بَهِيجٍ حسن. تَبْصِرَةً وَذِكْرى علتان للأفعال المذكورة ، أي : فعلنا ما فعلنا تبصرا وتذكيرا لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ أي : راجع إلى ربه ، متفكر فى بدائع صنائعه.
وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً كثير المنافع فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ بساتين كثيرة وَحَبَّ الْحَصِيدِ أي :
حب الزرع الذي شأنه أن يحصد من البرّ والشعير وأمثالهما ، وتخصيص حب الحصيد بالذكر لأنه المقصود بالذات إذ به جل القوام.
وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ طوالا فى السماء ، أو : حوامل ، من : بسقت الشاة : إذا حملت. وتخصيصها بالذكر مع اندراجها فى «جنات» لبيان فضلها على سائر الأشجار ، لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ منضود ، بعضه فوق بعض ، والمراد :
تراكم الطلع ، أو : كثرة ما فيه من الثمر ، رِزْقاً لِلْعِبادِ أي : لرزق أشباحهم ، كما أن قوله : تَبْصِرَةً وَذِكْرى لرزق أرواحهم. وفيه تنبيه على أن الواجب على العبد أن يكون انتفاعه بما ذكر من حيث التذكر والتبصر الذي هو رزق الرّوح أهم وأقدم من تمتعه من حيث الرّزق الحسى ، وَأَحْيَيْنا بِهِ بذلك الماء بَلْدَةً مَيْتاً أرضا جدبة ، لا نماء فيها أصلا ، فلما أنزلنا عليها الماء ربت واهتزت بالنبات والأزهار ، بعد ما كانت جامدة. وضمّن البلدة معنى(5/445)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 446
البلد فذكّر الوصف. كَذلِكَ الْخُرُوجُ من القبور ، فكما حييت هذه البلدة الميتة كذلك تخرجون أحياء بعد موتكم ، لأن إحياء الموات كإحياء الأموات. وقدّم الخبر للقصد إلى القصر. والإشارة فى «كذلك» إلى الحياة المستفادة من الإحياء ، وما فيه من معنى البعد للإشعار ببعد رتبها ، أي : مثل ذلك الحياة البديعة حياتكم بالبعث من القبور ، لا شىء مخالف لها. وفى التعبير عن إخراج النّبات من الأرض بالإحياء ، وعن حياة الأموات بالخروج تفخيم لشأن النّبات ، وتهوين لأمر البعث ، وتحقيق للمماثلة لتوضيح منهاج القياس ، وتقريبه إلى أفهام النّاس.
الإشارة : ق أيها القريب المقرب ، وحق القرآن المجيد ، إنك لحبيب مجيد ، رسول من عند الملك المجيد ، وإن كنت بشرا فنسبتك من البشر كياقوتة بين الحجر ، فالبشرية لا تنافى الخصوصية ، بل تجامعها منّة منه تعالى وفضلا ، على من شاء من عباده ، فاستبعاد الكفار مجامعة الخصوصية للبشرية كاستبعاد إبليس تفضيل آدم لكونه بشرا من طين ، وذلك قياس فاسد ، مضاد للنص ، وكما استبعدت الكفرة وجود خصوصية النّبوة فى البشر ، استبعدت الجهلة خصوصية التربية بالاصطلاح فى البشر ، بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم ، يدل على اللّه ، ويبين الطريق إليه ، قالوا : هذا شىء عجيب ، أئذا متنا بأن ماتت قلوبنا بالغفلة ، وكنا ترابا أرضيين بشريين ، تحيى أرواحنا بمعرفة العيان؟! ذلك رجع بعيد.
قال تعالى : (قد علمنا ما تنقص الأرض منهم) أرض النّفوس من أرواحهم ، وتهوى بها إلى الحضيض الأسفل ، فيجذبها إلى أعلى عليين ، إن سبقت عنايتنا ، وعندنا كتاب حفيظ يحفظ المراتب والمقامات ، فيلتحق كل واحد بما سبق له. بل كذّبوا بالحق ، وهو الداعي إلى الحق ، لمّا جاءهم فى كلّ زمان ، فهم فى أمر مريج ، تارة يقرون وجود التربية بالهمة والحال ، وينكرون الاصطلاح ، وتارة يقرون بالجميع ، وينكرون تعيينه ، أفلم ينظروا إلى سماء القلوب والأرواح ، كيف بنيناها ، أي : رفعنا قدرها بالعلوم والمعارف ، وزيّناها بأنوار الإيمان والإحسان ، وليس فيها خلل ، وأرض النّفوس مددناها : جعلناها بساطا للعبودية ، وألقينا فيها رواسى أرسيناها بالعقول الصافية الثابتة ، لئلا تضطرب عند زلزلات الامتحان ، وأنبتنا فيها من كلّ صنف بهيج ، من فنون علم الحكمة والتشريع ، تبصرة وتذكيرا لكلّ عبد منيب ، راجع إلى مولاه ، قاصد لمعرفته.
قال القشيري : تبصرة وذكرى لمن رجع إلينا فى شهود أفعالنا الى رؤية صفاتنا ، ومن شهود صفاتنا إلى شهود ذاتنا. ه. ونزّلنا من السماء ماء العلوم اللدنية ، كثير البركة والنّفع ، فأنبتنا به جنات المعارف وحب الحصيد ، وهو حب المحبة لأنه يحصد من القلب محبة ما سوى اللّه. والنّخل باسقات ، أي : شجرة المعرفة الكاملة لها طلع نضيد : (5/446)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 447
ثمرة المعرفة وحلاوة الشهود ، رزقا لأرواح العباد ، وأحيينا به نفسا ميتة بالغفلة والجهل ، كذلك الخروج من ظلمة الجهل إلى نور العلم ، أي : مثل هذا الخروج البديع يكون الخروج ، وإلا فلا.
ثم هدّدهم بما جرى على من قبلهم ، فقال
[سورة ق (50) : الآيات 12 الى 15]
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (12) وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوانُ لُوطٍ (13) وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (14) أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (15)
يقول الحق جل جلاله : كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ أي : قبل قريش قَوْمُ نُوحٍ نوحا ، حيث أنذرهم بالبعث ، وَأَصْحابُ الرَّسِّ ، قيل : هم من بعث إليهم شعيب عليه السّلام كما مرّ فى سورة الفرقان بيانه «1» وقيل : قوم باليمامة ، وقيل : أصحاب الأخدود. والرّس : بئر لم تطو ، وَثَمُودُ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ ، أراد بفرعون قومه ليلائم ما قبله لأن المعطوف عليه جماعات ، وَإِخْوانُ لُوطٍ ، قيل : كان قومه من أصهاره عليه السّلام ، فسماهم إخوانه ، وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ هم ممن بعث إليهم شعيب عليه السّلام غير أهل مدين ، وَقَوْمُ تُبَّعٍ هو ملك باليمن ، دعا قومه إلى الإسلام وهم حمير ، فكذّبوه ، وسمّى تبعا لكثرة تبعه.
قال ابن إسحاق : كان تبع الآخر هو أسعد بن كرب ، حين أقبل من المشرق ، ومرّ على المدينة ، ولم يهج أهلها ، وخلف عندهم ابنا له ، فقتل غيلة ، فجاء مجمعا على حربهم ، وخراب المدينة ، فأجمع هذا الحي من الأنصار على قتاله ، وسيدهم عمرو بن طلحة ، أخو بنى النجار ، فتزعم الأنصار : أنهم كانوا يقاتلونه بالنهار ، ويقرونه بالليل ، فيعجبه ذلك ، ويقول : إن قومنا هؤلاء لكرام ، فبينما هو كذلك إذ جاءه حبران من أحبار بنى قريظة ، من علماء أهل زمانهما ، فقالا : أيها الملك لا تقاتلهم ، فإنا لا نأمن عليك العقوبة لأنها مهاجر نبىّ يخرج من هذا الحي ، من قريش ، فى آخر الزمان ، هى داره وقراره ، فكفّ عنهم ، ثم دعواه إلى دينهما ، فاتبعهما ، ثم رجع إلى اليمن ، فقالت له حمير : لا تدخلها وقد فارقت ديننا ، فحاكمنا إلى النار ، وقد كانت باليمن نار أسفل جبل يتحاكمون إليها ، فتأكل الظالم ولا تضر المظلوم ، فخرجوا بأصنامهم ، وخرج الحبران بمصاحفهما ، فأكلت النار الأوثان ، وما قرّبوا معها ، ومن دخل ذلك من رجال حمير ، وخرج الحبران بمصاحفهما فى أعناقهما ، يتلوان التوراة ، ولم تضرهما ، فأطبق
___________
(1) راجع تفسير الآية 38 من سورة الفرقان.(5/447)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 448
أهل حمير على دين الحبرين ، فمن هنالك كان أصل اليهودية باليمن. قال الرياشي : كان أبو كرب أسعد الحميرى من التبابعة ، آمن بالنبي صلّى اللّه عليه وسلم قبل أن يبعث بسبعمائة سنة. وتقدم شعره فى الدخان «1».
كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فيما أرسلوا به من الشرائع ، التي من جملتها : البعث الذي أجمعوا عليه قاطبة ، أي : كل قوم من الأقوام المذكورين كذّبوا رسولهم فَحَقَّ وَعِيدِ أي : فوجب وحلّ عليهم وعيدى ، وهى كلمة العذاب.
وفيه تسلية لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم وتهديد لهم.
أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ ، استئناف مقرر لصحة البعث ، الذي حكيت أحوال المنكرين له من الأمم المهلكة.
والعىّ بالأمر : العجز عنه ، يقال : عيى بالأمر : إذا لم يهتد لوجه عمله. والهمزة للإنكار ، والفاء : عطف على مقدر ، ينبئ عنه المقام ، كأنه قيل : أقصدنا الخلق الأول فعجزنا عنه حتى يتوهم عجزنا عن الإعادة؟ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ أي : بل هم فى لبس وخلط وشبهة ، قد لبس عليهم الشيطان وحيّرهم ، حيث سوّل لهم أن إحياء الموتى خارج عن العادة ، فتركوا لذلك الاستدلال الصحيح ، وهو : أن من قدر على الإنشاء كان على الإعادة أقدر.
وهو معطوف على مقدر يدل عليه ما قبله ، كأنه قيل : هم غير منكرين لقدرتنا على الخلق الأول ، بل هم فى خلط وشبهة من خلق مستأنف جديد. وتنكير «خلق» لتفخيم شأنه ، والإشعار بخروجه عن حدود العادة ، والإيذان بأنه حقيق بأن يبحث عنه ويهتم بمعرفته.
الإشارة : قال القشيري : الإشارة فى الآية إلى أنّ الغالب فى كلّ زمان غلبة الهوى والطبيعة الحيوانية واستيلاء الحس على النّاس ، نفوسهم متمردة ، بعيدة من الحق ، قريبة من الباطل ، كلما جاء إليهم رسول كذّبوه ، وعلى ما جاء به قاتلوه ، فحقّ عليهم عذاب ربهم ، لمّا كفروا نعمه ، فما أعياه إهلاكهم. ه. قلت : وكذلك جرى فى كل زمان ، كل من أمر النّاس بإخراجهم عن عوائدهم ، ومخالفة أهوائهم ، رفضوه وعادوه ، فقلّ بسبب ذلك المخلصون ، وكثر المخلطون ، فإذا قالوا : لا يمكن الإخراج عن العوائد ، قلنا : القدرة صالحة ، قال تعالى : أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ ، وهو إحياء القلب الميت ، فيجدّد إيمانه ، وتحيا روحه حياة سرمدية.
وباللّه التوفيق.
ثم إنّ عادته تعالى فى التنزيل : أنه مهما ذكر دلائل قدرته ذكر بإثره شأن علمه ، أو بالعكس ، إشارة إلى إسناد كل المقدورات إليه تعالى ، ردا على الطبائعيين لأنّ الفاعل بالطبيعة لا يتوقف على العلم ، ولذلك قال تعالى :
___________
(1) راجع تفسير الآيات : 34 - 39.(5/448)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 449
[سورة ق (50) : الآيات 16 الى 22]
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ (17) ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18) وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (20)
وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ (21) لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22)
يقول الحق جل جلاله : وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ أي : ما تحدّثه نفسه ويهجس فى ضميره من خير وشر. والوسوسة : الصوت الخفي ، ووسوسة النّفس : ما يخطر بالبال. والضمير فى «به» ل «ما» إن جعلتها موصولة ، والباء كما فى : صوّت بكذا ، أو : للإنسان ، إن جعلتها مصدرية. والباء حينئذ للتعددية.
وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ أي : أعلم بحاله مما كان أقرب إليه مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ. والحبل : العرق ، وإضافته بيانية والوريدان : عرقان مكتفان بصفحتى العنق فى مقدمه متصلان بالوتين ، والوتين : عرق فى القلب إذا انقطع مات صاحبه. قاله فى القاموس ، يردان من الرّأس إليه ، وقيل : سمى وريد لأن الماء يرده.
إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ أي : الملكان الحافظان لأعمال العبد. والظرف : منصوب بما فى «أقرب» من معنى الفعل ، أي : يتقرب إذ يتلقى. والمعنى : أنه تعالى لطيف يتوصل علمه إلى ما لا شىء أخفى منه ، وهو أقرب للإنسان من كل قريب ، حين يتلقى الحافظان ما يتلفظ به ، وفيه إيذان بأنه تعالى غنىّ عن استحفاظها لإحاطة علمه بما يخفى عليهم ، وإنما ذلك لمافى كتبهما وحفظهما لأعمال العباد ، وعرض صحائفها يوم يقوم الأشهاد ، وعلم العبد بذلك مع علمه بإحاطته بتفاصيل أحواله من زيادة لطف به فى الكف عن السيئات ، والرّغبة فى الحسنات. ثم ذكر مكانهما بقوله : عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ أي : عن اليمين قعيد وعن الشمال قعيد ، وحذف الأول للدلالة الثاني عليه.
وقعيد : بمعنى مقاعد ، كالجليس بمعنى المجالس ، أو : بمعنى قاعد ، كالسميع والعليم. وعنه صلّى اللّه عليه وسلم : «إن مقعد ملكيك على ثنّيتيك ، ولسانك قلمهما ، وريقك مدادهما ، وأنت تجرى فيما لا يعنيك لا تستحيى من اللّه ولا منهما!» «1» وقال الضحاك : مجلسهما تحت الثغر من الحنك ، ورواه عن الحسن «2» ، وكان يعجبه أن ينظف عنفقته «3».
___________
(1) ذكره بلفظه القرطبي فى التفسير (7/ 6365) عن سيدنا علىّ رضي اللّه عنه ، مرفوعا ، وقال السيوطي فى الدر المنثور (6/ 118) : أخرج أبو نعيم والديلمي ، عن معاذ بن جبل رضي اللّه عنه. مرفوعا : إن اللّه لطّف الملكين الحافظين حتى أجلسهما على النّاجذين ، وجعل لسانه قلمهما ، وريقه مدادهما».
(2) العبارة فى القرطبي : ورواه عوف عن الحسن قال : وكان يعجبه. إلخ.
(3) العنفقة : شعيرات بين الشفة السفلى والذقن. انظر : النهاية (عنفق 3/ 309). [.....](5/449)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 450
ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ أي : ما يتكلم به وما يرمى به من فيه إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ حافظ عَتِيدٌ حاضر لازم ، أو معد مهيأ لكتابة ما أمر به من الخير والشر. وقال أبو أمامه عنه صلّى اللّه عليه وسلم : «كاتب الحسنات عن يمين الرجل وكاتب السيئات عن يساره ، وكاتب الحسنات أمين على كاتب السيئات ، فإذا عمل حسنة كتبها صاحب اليمين عشرا ، وإذا عمل سيئة قال صاحب اليمين لصاحب الشمال : دعه سبع ساعات ، لعله يسبّح أو يستغفر» «1».
قال الحسن : إنّ الملكين يجتنبان العبد عند غائطه ، وعند جماعه ، ويكتبان عليه كل شىء ، حتى أنينه فى مرضه. وقال عكرمة : لا يكتبان عليه إلا ما يؤجر عليه أو يؤزر «2». وعنه عليه السّلام : «ما من حافظين يرفعان إلى اللّه ما حفظا ، فيرى اللّه تعالى فى أول الصحيفة خيرا وفى أخرها خيرا ، إلا قال للملائكة : اشهدوا أنى قد غفرت لعبدى ما بين طرفى الصحيفة» «3». والحفظه أربعة ، اثنان بالليل ، واثنان بالنهار ، فإذا مات العبد قاموا على قبره يكبران ويهللان ويكتب ذلك للعبد المؤمن.
ولمّا ذكر إنكارهم للبعث ، واحتج عليهم بعموم قدرته وعلمه ، أعلمهم أن ما أنكروه هم لا قوة بعد الموت ، ونبّه على اقتراب ذلك بأن عبّر عنه بلفظ الماضي فقال : وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ .. إلخ. وقال ابن عطية : هو عندى عطف على «إذ يتلقى» والتقدير : وإذ تجىء سكرة الموت ، يعنى فهو كقوله : وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ الآية «4» ه. وحاصل الآية حينئذ : ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ظاهره وباطنه ، ونحن أقرب إليه فى جميع أحواله ، فى حياته ، ووقت مجىء سكرة الموت ، أي : شدته الذاهبة بالعقل ، ملتبسة بِالْحَقِّ أي : بحقيقة الأمر ، وجلاء الحال ، من سعادة الميت أو شقاوته ، ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ أي : تنفر وتهرب وتميل عنه طبعا. والإشارة إلى الموت.
والخطاب للإنسان فى قوله : وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ على طريقة الالتفات.
وَنُفِخَ فِي الصُّورِ نفخة البعث ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ أي : وقت ذلك النفخ هو يوم الوعيد ، أي : يوم إنجاز الوعد ووقوع الوعيد. وتخصيص الوعيد بالذكر لتهويله ، ولذلك بدأ ببيان حال الكفرة بقوله : وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ من النفوس البرة والفاجرة مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ أي : ملكان ، أحدهما يسوقه إلى المحشر ، والآخر يشهد
___________
(1) أخرجه البغوي فى التفسير (7/ 359) والبيهقي فى الشعب (الباب السابع والأربعون ، ح 7049) والطبراني فى الكبير (8/ 225 ، ح 7787) وأيضا (8/ 295 - 296 ، ح 7971) وأبو نعيم فى الحلية (6/ 124) من حديث أبى أمامة رضي اللّه عنه ، وقال الهيثمي فى المجمع (10/ 208) : «رواه الطبراني بأسانيد ، ورجال أحدها وثقوا».
(2) عزاه السيوطي فى الدر (6/ 119) لابن المنذر.
(3) ذكره القرطبي (7/ 6366) عن أبى هريرة وأنس - رضى اللّه عنهما.
(4) الآية 85 من سورة الواقعة.(5/450)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 451
عليه بعمله. قيل : السائق : كاتب الحسنات ، والشاهد : كاتب السيئات ، ويقال لها : (لقد كنت فى غفلة من هذا) النازل بك اليوم ، فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فأزلنا غفلتك ، وهو الوقوف مع المحسوسات والإلف ، والانهماك فى الحظوظ ، وقصر النظر عليها ، فشاهدت اليوم ما كنت غافلا عنه فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ نافذ لزوال المانع. جعلت الغفلة كأنها غطاء غطى به جسده ، أو غشاوة غطى بها عينيه فهو لا يبصر شيئا ، فإذا كان يوم القيامة سقط ، وزالت عنه الغفلة ، وكشف غطاؤه ، فبصر ما يبصره من الحق ، ورجع بصره الكليل حديدا ، لتيقظه حين لم ينفع التى قظ.
وباللّه التوفيق.
الإشارة : هذه الآية وأشباهها أصل فى مقام المراقبة القلبية ، فينبغى للعبد أن يستحيى من اللّه أن يحدّث فى نفسه بشىء يستحيى أن يظهره ، يعنى الاسترسال معه ، وإلا فالخواطر العارضة لا قدرة على دفعها. قال القشيري :
(ما توسوس به نفسه) من شهوة تطلب استيفاءها ، أو تصنّع مع الخلق ، أو سوء خلق ، أو اعتقاد فاسد ، أو غير ذلك من أوصاف النّفس ، توسوس بذلك لتشّوش عليه قلبه ووقته ، وكيف لا نعلم ذلك وكلّ ذلك مما خلقناه وقدرناه. ه.
وقوله تعالى : وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ أي : أنا أقرب إلى كلّ أحد من عروق قلبه ، وهذا لأن قيام الفعل بالصفات ، والصفات لا تفارق الذات ، فالقرب بالعلم والقدرة ، وتستلزم القرب بالذات ، وقرب الحق من خلقه هو قرب المعاني من الأوانى ، إذ هى كليتها وقائمة بها ، فافهم. قال القشيري : وفى هذه الآية هيبة وفزع لقوم ، وروح وأنس وسكون قلب لقوم. ه. وقوله تعالى : إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ .. إلخ ، كأنه تعالى يقول : من لم يعرف قدر قربى منه ، بأن يعده وهمه وجهله ، فإنى أوكّل عليه رقيبين يحفظان أعماله لعله ينزجز.
وقوله تعالى : ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ .. إلخ ، وأما عمل القلوب فاختص اللّه تعالى بعلمها ، وهى محض الإخلاص. قال بعضهم : الإخلاص : إخفاء العمل بحيث لم يطلع عليه ملك فيكتبه ، ولا شيطان فيفسده ، فالعارفون جلّ أعمالهم قلبية ، نظرة أو فكرة. روى أن بعض العارفين قال له حفظته : يا سيدى أظهر لنا شيئا من أعمالك نفرح به عند اللّه ، فقال لهم : يكفيكم الصلوات الخمس. ه. قال القشيري : وفيه أيضا إشارة إلى كمال عنايته فى حق عباده ، إذ جعل على كلّ واحد رقيبين من الملائكة ليحفظوه بالليل والنهار ، إذا كان قاعدا فواحد عن يمينه وواحد عن شماله ، وإذا قام فواحد عند رأسه ، وواحد عند قدمه ، وإذا كان ماشيا فواحد بين يديه وواحد خلفه. انظر بقيته. ه. وهذان غير الملكين الموكلين بحفظ الأعمال. واللّه أعلم.
وقال فى قوله : وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ : إذا أشرفت النفس على الخروج من الدنيا ، فأحوالهم تختلف ، فمنهم من يزداد فى ذلك الوقت خوفه ، ولا يتبيّن حاله إلا عند ذهاب الروح ، ومنهم من يكاشف قبل خروجه(5/451)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 452
فتسكن روحه «1» ، ويحفظ عليه عقله ، ويتم له حضوره وتمييزه ، فسلّم الروح على مهل من غير استكراه وعبوس منهم. وفى معناه يقول بعضهم :
أنا إن متّ فالهوى حشو قلبى وبداء الهوى تموت الكرام «2».
وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ لكلّ نفس ما وعدها اللّه ، بحسب سيرها من أول العمر إلى يوم البعث ، (و جاءت كلّ نفس معها سائق) وهو الذي ساقها فى مبدأ الوجود ، إما سوقا باللطف ، أو سوقا بالعنف عند قوله :
«هؤلاء إلى الجنة ولا أبالى وهؤلاء الى النار ولا أبالى» «3» ، وشهيد يشهد عليها بما جرى لها من الأحكام الأزلية (لقد كنت فى غفلة من هذا) قال القشيري : يشير إلى أن الإنسان ، وإن خلق من عالم الغيب والشهادة ، فالغالب عليه فى البداية الشهادة ، وهو العالم الحسى ، فيرى بالحواس الظاهرة العالم المحسوس مع اختلاف أجناسه ، وهو بمعزل عن إدراك عالم الغيب ، فمن الناس يكشف له غطاؤه عن بصر بصيرته ، فيجعل حديدا ، يبصر رشده ، ويحذر شره ، وهم المؤمنون من أهل السعادة ، ومنهم من يكشف له غطاء عن بصر بصيرته يوم القيامة يوم لا ينفع نفسا إيمانها ..
الآية «4» ، وهم الكفار من أهل الشقاوة. ه.
ثم ذكر أحوالهم بعد البعث ، فقال
[سورة ق (50) : الآيات 23 الى 29]
وَقالَ قَرِينُهُ هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ (23) أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (24) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (25) الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ (26) قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (27)
قالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (28) ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَما أَنَا بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (29)
___________
(1) فى القشيري : فيسكن روعه.
(2) فى الرسالة القشيرية (308) : قال على المزين : كنت بمكة ، فخرجت أريد المدينة المنورة ، وإذا أنا بشاب ينزع ، فقلت له : قل «لا إلا إلا اللّه» ففتح عينيه وأنشأ يقول : [.....] البيت. فشهق شهقة ، ثم مات.
(3) أخرجه أحمد (4/ 186) وابن سعد فى الطبقات (1/ 30) و(7/ 417) وابن حبان فى صحيحه (1806) والحاكم (1/ 31) «وصحّحه وأقره الذهبي» عن عبد الرحمن بن قتادة السلمى - وكان من أصحاب النّبى صلّى اللّه عليه وسلم - مرفوعا : «إن اللّه - عز وجل - خلق آدم ، ثم أخذ الخلق من ظهره ، وقال : هؤلاء إلى الجنة ولا أبالى ، وهؤلاء إلى النار ولا أبالى. فقال قائل : يا رسول اللّه! فعلى ما ذا نعمل؟ قال صلّى اللّه عليه وسلم : «على مواقع القدر». قال الزبيدي فى اتحاف السادة المتقين (9/ 207) عن العراقي : «رجاله ثقات» والحديث صحّحه الألبانى (سلسلة الأحاديث الصحيحة ح 48).
(4) نص الآية .. يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً .. الآية 158 من سورة الأنعام.(5/452)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 453
يقول الحق جل جلاله : وَقالَ قَرِينُهُ أي : الشيطان المقيض له ، أو : الملك الكاتب الشاهد عليه : هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ أي : هذا ما عندى وفى ملكى عتيد لجهنم ، قد هيأته بإغوائى وإضلالى ، أو : هذا ديوان عمله عندى عتيد مهيأ للعرض ، ف «ما» موصولة ، إما بدل من «هذا» أو صفة ، و«عتيد» : خبر ، أو : خبر ، و«عتيد» : خبر آخر ، أو :
موصوفة خبر «هذا» ، و«لدىّ» : صفته ، وكذا «عتيد» أي : هذا شىء ثابت لدىّ عتيد.
ثم يقول اللّه تعالى للسائق والشهيد : أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ ، أو : لملكين من خزنة جهنم ، أو : يكون الخطاب لواحد ، وكان الأصل : ألق ألق ، فناب «ألقيا» عن التكرار لأن الفاعل كالجزء من الفعل ، فكان تثنية الفاعل نائبا عن تكرار الفعل ، أو : أصله : ألقين ، والألف بدل من نون التوكيد ، إجراء للموصول مجرى الوقف ، دليله : قراءة الحسن :
(ألقين) «1» والأحسن : أن يراد جنس قرينه ، فيصدق بالسائق والشهيد ، فيقال لهما : أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ بالنعم والمنعم عَنِيدٍ : مجانب للحق ، معاد لأهله ، مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ كثير المنع للمال عن حقوقه ، أو : منّاع لجنس الخير أن يصل إلى أهله ، أو : يراد بالخير الإسلام ، لأن الآية نزلت فى الوليد بن المغيرة ، لمّا منع بنى أخيه من الإسلام. مُعْتَدٍ ظالم متخطّ للحق مُرِيبٍ : شاك فى اللّه تعالى وفى دينه.
الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ : بدل من «كل كفّار» ولا يجوز أن يكون صفة لأن النكرة لا توصف بالموصول ، خلافا لابن عطية ، أو : مبتدأ مضمن معنى الشرط ، خبره : فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ ، وعلى الأول يكون «فألقياه» تكريرا للتوكيد ، أو مفعولا بمضمر ، يفسره «فألقياه» أي : ألق الذي جعل مع اللّه إلها آخر ألقياه.
قالَ قَرِينُهُ أي : شيطانه الذي قرن به ، وهذا يؤيد أن المراد بالمتقدم جنس القرين ، وإنما أخليت هذه الجملة من الواو دون الأولى لأن الأولى واجب عطفها للدلالة على الجمع بين معناها ومعنى ما قبلها فى الحصول ، أي :
مجىء كلّ نفس مع ملكين ، وقول قرينه ما قال له ، وأما هذه فهى مستأنفة ، كما تستأنف الجمل الواقعة فى حكاية التقاول ، كما فى مقاولة موسى وفرعون فى قوله : وَما رَبُّ الْعالَمِينَ قالَ ... إلى آخر الآيات «2» ، فكأن الكافر قال : هو أطغانى ، فأجابه قرينه بتكذيبه فقال : رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ عن الحق ، أي : ما أوقعته فى الطغيان بالقهر ، ولكن طغى واختار الضلالة على الهدى ، وهذا كقوله : وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ «3» ، فالوسوسة والتزيين حاصل منه ، والاختيار من الكافر ، والفعل للّه ، لا يسأل عما يفعل.
قالَ تعالى : لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ أي : فى موقف الحساب والجزاء ، إذ لا فائدة فى ذلك ، والجملة استئناف جواب عن سؤال ، كأن قائلا قال : فما ذا قال اللّه تعالى لهم؟ قال : لا تختصموا عندى وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ
___________
(1) بنون التوكيد الخفيفة ، نحو قوله : «لنسفعا». وانظر مختصر ابن خالويه/ ص 145 والمحتسب (2/ 284) وإعراب شواذ القراآت للعكبرى (2/ 507) والقرطبى (7/ 6371).
(2) الآيات : 23 - 31 من سورة الشعراء.
(3) الآية 22 من سورة إبراهيم.(5/453)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 454
فى دار الكسب على ألسنة رسلى ، فلا تطمعوا فى الخلاص منه بما أنتم فيه من التعلل بالمعاذير الباطلة.
والجملة فيها تعليل للنهى ، على معنى : لا تختصموا وقد صح عندكم أنى قدمت إليكم بالوعيد حيث قلت : «لأملان جهنم ..» إلخ ، فاتبعتموه معرضين عن الحق ، فلا وجه للاختصام فى هذا الوقت. والباء إما مزيدة كما فى قوله :
وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ «1» أو معدية على أن «قدّم» مضارع تقدم.
ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ أي : لا تطمعوا أن يبدل قولى ووعيدي بإدخال الكفار فى النار ، وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ فلا أعذب عبدا بغير ذنب من قبله ، بل بما صدر منه من الجنايات ، حسبما أشير إليه آنفا. والتعبير عنه بالظلم مع أن تعذيبهم بغير ذنب ليس بظلم على ما تقرر من قاعدة أهل السنة ، فضلا عن كونه ظلما مفرطا لتأكيد هذا المعنى ، بإبراز ما ذكر من التعذيب بغير ذنب فى معرض المبالغة فى الظلم ، وقيل : هو لرعاية جمعية العبيد ، من قولهم : فلان ظالم لعبده وظلّام لعبيده ، وقيل : ظلّام بمعنى : ذى ظلم ، كلبّان لذى اللبن. والله تعالى أعلم.
الإشارة : قرين الإنسان نفسه الأمّارة وروحه المطمئنة ، فإذا غلبت النفس على الروح وصرّفت صاحبها فى الهوى ، تقول يوم القيامة : هذا ما لدىّ عتيد ، مهيأ للعتاب ، فيقال لهما : ألقيا فى نار القطيعة كلّ كفّار للنعم ، جحود لوجود الطبيب ، منّاع للخير ، فلم يصرفه فيما يخلصه من نفسه ، معتد على اللّه بتكبره ، وعدم حط رأسه للداعى إلى اللّه ، مريب ، قد لعبت به الشكوك والأوهام والخواطر ، أو : شاك فى وجود الطبيب ، الذي جعل مع اللّه إلها آخر ، يحبه ويخضع له ، من الهوى والدنيا ، وكلّ ما أشركه مع اللّه فى المحبة ، فألقياه فى العذاب الشديد : الحجب عن اللّه ، وعدم اللحوق بأولياء اللّه ، أو العذاب الحسى. قال قرينه - روحه التي كانت سماوية ، فصيرها أرضية ، بمتابعة هواه : ربنا ما أطغيته ، فإنه ليس الإغواء والإطغاء من شأنى ، ولكن كان فى ضلال بعيد ، حيث أطاع نفسه وهواه ، ورمانى فى مزابل الشهوات والغفلة ، قال تعالى : (لا تختصموا لدىّ) اليوم ، قد قدمت إليكم بالوعيد ، حيث قلت :
إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ «2» قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها «3» وقلت فى شأن من جاهد نفسه ، وردها لأصلها : يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ «4» الآية ، ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ فإنى وعدت أهل المجاهدة بالوصول إلى حضرتى ، والتنعم برؤيتى بقولي : وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا ... «5» الآية ، وأهل الغفلة بالحجاب ، بقولي : كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ ، كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ «6» ، وما ظلمت أحدا قط ، لأن الظلم ليس من شأنى ، ولا يليق بملكي.
___________
(1) من الآية 195 من سورة البقرة.
(2) من الآية 53 من سورة يوسف.
(3) الآيتان 9 - 10 من سورة الشمس. [.....]
(4) من الآية 27 من سورة الفجر.
(5) الآية 69 من سورة العنكبوت.
(6) الآيتان 14 - 15 من سورة المطففين.(5/454)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 455
ثم ذكر اليوم الذي يظهر الوعد والوعيد ، فقال
[سورة ق (50) : الآيات 30 الى 35]
يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (30) وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31) هذا ما تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (33) ادْخُلُوها بِسَلامٍ ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (34)
لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها وَلَدَيْنا مَزِيدٌ (35)
يقول الحق جل جلاله : واذكر يَوْمَ نَقُولُ «1» لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ؟ وقرأ غير نافع وشعبة : بنون العظمة.
فالعامل فى الظرف : اذكر أو : «بظلّام» أو محذوف مؤخر ، أي : يكون من الأحوال والأهوال ما يقصر عنه المقال ، وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ؟ أي : من زيادة ، مصدر كالمجيد ، أو : مفعول ، كالمنيع ، أي : هل بقي ما يزاد ، يعنى : أنها مع اتساعها وتباعد أقطارها يطرح فيها النّاس والجنة فوجا بعد فوج حتى تملأ وَتَقُولُ بعد امتلائها : هَلْ مِنْ مَزِيدٍ أي : هل بقي فىّ موضع لم يمتلى ء؟! يعنى : قد امتلأت. أو : أنها من السعة يدخل من يدخلها ولم تمتلىء فتطلب المزيد ، وهذا أولى «2».
قال ابن جزى : واختلف هل تتكلم جهنم حقيقة ، أو مجازا بلسان الحال ، والأظهر : أنه حقيقة ، وذلك على اللّه يسير ، ومعنى قولها : هل من مزيد : أنها تطلب الزيادة ، وكانت لم تمتلئ ، وقيل : معناه : لا مزيد ، أي : ليس عندى موضع للزيادة ، فهى على هذا قد امتلأت ، والأول أرجح ، لما ورد فى الحديث : «لا تزال جهنم يلقى فيها وتقول : هل من مزيد؟ حتى يضع الجبار فيها قدمه ، فتنزوى ، وتقول : قط قط» «3» وفى هذا الحديث كلام ليس هذا موضعه. ه.
قال فى الحاشية : ووضع القدم مثل للردع والقمع ، أي : يأتيها أمر يكفها عن طلب المزيد وقال ابن حجر :
واختلف فى المراد بالقدم ، فطريق السلف فى هذا وغيره مشهورة. ثم قال : وقال كثير من أهل العلم بتأويل ذلك ،
___________
(1) هكذا بالياء ، وهى قراءة نافع ، وقرأ الباقون «نقول» بالنون. انظر الإتحاف (2/ 489).
(2) على هامش النّسخة الأم ما يلى : بل هذا هو الواجب ، وما قبله باطل بداهة ونصا عن الرّسول صلّى اللّه عليه وسلم ، فكان الواجب عدم ذكر القول الباطل المقطوع ببطلانه ، لا سيما مع عدم رده والمبالغة فى إبطاله ، ففى الحديث الصحيح : «أنها لا تزال تطلب المزيد حتى يضع الجبار فيها قدمه فتقول : قط قط». ه.
(3) أخرجه البخاري فى (الأيمان والنّذور ، باب الحلف بعزة اللّه ، ح 6661) ومسلم فى (الجنة ، باب النّار يدخلها الجبارون ، ح 2848) من حديث أنس بن مالك. رضي اللّه عنه.(5/455)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 456
فقيل : المراد إذلال جهنم ، فإنها إذا بلغت فى الطغيان ، وطلبت المزيد ، أذلها اللّه ، كوضعها تحت القدم ، وليس المراد حقيقة القدم ، والعرب تستعمل ألفاظ الأعضاء ظرفا للأمثال ، ولا تريد أعيانها ، كقولهم : رغم أنفه ، وسقط فى يده. ه. قلت : من دخل بحار الأحدية لم يصعب عليه حلّ أمثال هذه الشّبه ، فإن تجليات الحق لا تنحصر ، فيتجلى سبحانه كيف شاء ، وبما شاء ، ولا حصر ولا تحييز ، ولا يفهم هذه إلا أهل الفناء والبقاء بصحبة الرّجال.
ثم قال تعالى : وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ ، وهو شروع فى بيان أحوال المؤمنين بعد النّفخ ومجىء النّفوس إلى موقف الحساب. وتقديم الكفرة فى أمثال هذا إما لتقديم الترهيب على الترغيب ، أو لكثرة أهل الكفر ، فإن المؤمنين بينهم كالشعرة البيضاء فى جلد أسود «1» ، أي : قربت الجنة للمتقين الكفر والمعاصي ، بحيث يشاهدونها من الموقف ، ويقفون على ما فيها من فنون المحاسن ، فيبتهجون بأنهم محشورون إليها ، فائزون بها ، ويأتى فى الإشارة بقية بيان ، إن شاء اللّه. وقوله : غَيْرَ بَعِيدٍ تأكيد للإزلاف ، أي : مكانا غير بعيد ، ويجوز أن يكون التذكير لكونه على زنة المصدر ، الذي يستوى فى الوصف به المذكر والمؤنث ، أو لتأوّل الجنة بالبستان.
هذا ما تُوعَدُونَ أي : هذا الثواب ، أو الإزلاف ، ما كنتم توعدون به فى الدنيا ، وهو حاصل لِكُلِّ أَوَّابٍ أي : رجّاع إلى اللّه تعالى حَفِيظٍ لأوامر اللّه ، أو لما استودعه اللّه من حقوقه ، مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ :
بدل من «أواب» أو مبتدأ ، خبره : أدخلوها ، على تقدير : يقال لهم : ادخلوها لأن «من» فى معنى الجمع ، والخشية :
انزعاج القلب عند ذكر الخطيئة أو التقصير أو الهيبة. وقوله تعالى : (بالغيب) حال من فاعل «خشى» ، أو من مفعوله ، أو صفة لمصدره ، أي : خشية ملتبسة بالغيب ، حيث خشى عقابه وهو غائب عنه ، وخشى الرّحمن وهو غائب عن الأعين فى رداء الكبرياء ، لا تراه الأعين الحسية الحادثة. والتعرض لعنوان الرّحمن للثناء البليغ على الخاشى ، حيث خشيه مع علمه بسعة رحمته ، فلم يصدهم علمهم بسعة رحمته عن خوفه تعالى ، أو : للإشعار بأنهم مع خشيتهم عقابه راجون رحمته. وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ راجع إلى اللّه ، أو سريرة مرضية ، وعقيدة صحيحة.
يقال لهم : ادْخُلُوها بِسَلامٍ أي : سالمين من زوال النّعم وحلول النّقم ، أو : ملتبسين بسلام من اللّه تعالى وملائكته عليكم ، ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ ، الإشارة إلى الزمان الممتد الواقع فى بعض منه ما ذكر من الأحوال ، أي :
___________
(1) كما جاء فى الصحيح ، فقد أخرج البخاري فى مواضع منها (الرقاق باب كيف الحشر ، ح 6528) ومسلم فى (الإيمان ، باب كون هذه الأمة نصف أهل الجنة رقم 376 ، ح 221) عن عبد اللّه بن مسعود رضي اللّه عنه قال : كنا مع النّبى صلّى اللّه عليه وسلم فى قبة ، فقال :
«أترضون أن تكونوا ربع أهل الجنة» قلنا : نعم ، قال «أترضون أن تكونوا ثلث أهل الجنة» قلنا : نعم ، قال : «أترضون أن تكونوا شطر أهل الجنة» قلنا : نعم ، قال : «والذي نفسى محمد بيده ، إنى لأرجو أن تكونوا شطر أهل الجنة ، وذلك أن الجنة لا يدخلها إلا نفس مسلمة ، وما أنتم فى أهل الشرك إلا كالشعرة البيضاء فى جلد الثور الأسود ، أو كالشعرة السوداء فى جلد الثور الأحمر».(5/456)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 457
نهاية ذلك اليوم هو يوم الخلود ، الذي لا انتهاء له ، لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها من فنون المطالب ومنتهى الرّغائب وَلَدَيْنا مَزِيدٌ هو النّظر إلى وجهه الكريم ، على قدر حضورهم اليوم ، أو : هو ما لا يخطر ببالهم ، ولا يندرج تحت مشيئتهم من الكرامات ، التي لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر. وقيل : إن السحاب تمر بأهل الجنة فتمطر عليهم الحور ، فتقول ، نحن المزيد الذي قال تعالى : وَلَدَيْنا مَزِيدٌ قلت : مزيد كلّ واحد على قدر همته وشهوته. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : يوم يقول لجهنم : هل امتلأت؟ وتقول : هل من مزيد ، كذلك النّفس ، نار شهواتها مشتعلة كلما أعطيتها شيئا من حظوظها طلبت المزيد ، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ، ويتوب اللّه على من تاب ، وفى الحديث : «اثنان لا يشبعان ، طالب الدنيا وطالب علم ، طالب الدنيا يزداد من اللّه بعدا ، وطالب العلم يزداد من اللّه رضا وقربا» أو كما قال صلّى اللّه عليه وسلم «1».
واعلم أن الرّوح إذا عشقت شيئا فإن كان من الدنيا يسمى حرصا ، وإن كان فى جانب الحق سمى محبة وشوقا ، وفى الحقيقة ما هى إلا محبة واحدة ، إلا أنها لما تاهت انقلبت محبتها للفروقات الحسية ، وغابت عن المعاني الأزلية ، وكلما زاد فى الحرص نقص من المحبة ، وما نقص من الحرص زاد فى المحبة. ويقال : كلما زادت محبة الحس نقصت المعنى ، وبالعكس ، وإذا اشتعلت نار المحبة فلا تسكن بما يلقى فيها من الأمور الحسية ، كانت حظوظا أو حقوقا ، بل كلما ألقى فيها تقول : هل من مزيد ، حتى يضع الجبار قدمه ، وهو قذف نور معرفته فى القلب ، فحينئذ يحصل الفناء وتقول : قط قط.
ثم أخبر عن حال المؤمنين بقوله : (و أزلفت الجنة للمتقين) أي : قربت جنة المعارف إلى قلوب خواص المتقين ، الذين اتقوا ما سوى اللّه ، فقربت منهم ، ودخلوها فى الدنيا ، فإذا كان يوم القيامة قربت إليهم الجنة الحسية فى المحشر ، فيركبون فى قصورها وغرفها ، وتطير بهم إلى الجنة ، فلا يحسون بالصراط ولا بالنار ، وفيهم قال تعالى : لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها الآية «2». والنّاس على ثلاثة أصناف قوم يحشرون إلى الجنة مشاة ، وهم الذين قال اللّه فيهم : وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً «3» وهم عوام المؤمنين ، وقوم يحشرون إلى الجنة ركبانا
___________
(1) أخرجه الدارمي فى (المقدمة ، باب فى فضل العلم والعالم ، ح 332) من حديث عبد اللّه بن مسعود رضي اللّه عنه. ولفظه : «منهومان لا يشبعان : صاحب العلم وصاحب الدنيا ، ولا يستويان ، أما صاحب العلم فيزداد رضي الرّحمن ، وأما صاحب الدنيا ، فيتمادى فى الطغيان ، ثم قرأ عبد اللّه. كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى قال : وقال الآخر : إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ. وسند الحديث فيه انقطاع. انظر المشكاة (1/ 87).
(2) الآية 102 من سورة الأنبياء.
(3) الآية 73 من سورة الزمر.(5/457)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 458
على طاعتهم ، المصورة لهم على صورة المراكب ، وهؤلاء الخواص من العباد والزهاد والعلماء والصالحين ، وأما خواص الخواص ، وهم العارفون ومن تعلق بهم ، فهم الذين قال اللّه فيهم : وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ تقرب منهم ، فيركبون فيها ، ويسرحون إلى الجنة. انظر القشيري.
وقوله تعالى : هذا ما تُوعَدُونَ الإشارة إلى مقعد صدق ، ولو كان إلى الجنة لقال «هذه». قاله القشيري. ثم وصف أهل هذا المقام بقوله : لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ أي : راجع إلى اللّه فى جميع أموره ، لا يعرف غيره ، ولا يلتجىء إلا إليه ، حفيظ لأنفاسه مع اللّه ، لا يصرفها إلا فى طلب اللّه ، من خشى الرّحمن بالغيب ، أي : بنور الغيب يشاهد شواهد الحق ، فيخشى بعده أو حجبه. قال القشيري : والخشية تكون مقرونة بالأنس ، ولذلك لم يقل : من خشى الجبار. ثم قال : والخشية من الرّحمن خشية الفراق ، ويقال : هو مقتضى علمه بأنه يفعل ما يشاء ، لا يسأل عما يفعل ، ويقال : الخشية ألطف من الخوف ، فكأنها قريبة من الهيبة. ه. (و جاء بقلب منيب) مقبل على اللّه بكليته ، معرض عما سواه ، (ادخلوها) جنة المعارف (بسلام) من العيوب ، آمنين من السلب والرّجوع ، وهذا قوله (ذلك يوم الخلود) فيها ، لهم ما يشاءون من فنون المكاشفات ، ولذيذ المشاهدات ، ولدينا مزيد ، زيادة ترقى أبدا سرمدا ، جعلنا اللّه من هذا القبيل فى الرّعيل الأول ، آمين.
ثم رجع إلى تهديد الكفرة ، فقال
[سورة ق (50) : الآيات 36 الى 38]
وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (36) إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37) وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ (38)
يقول الحق جل جلاله : وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ قبل قومك مِنْ قَرْنٍ من القرون الذين كذّبوا رسلهم هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ من قومك بَطْشاً قوة وسطوة ، فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ أي : خرّبوا وطافوا وتصرفوا فى أقطارها ، وجالوا فى أكناف الأرض كلّ مجال حذار من الموت هَلْ وجدوا مِنْ مَحِيصٍ أي : مهرب منها؟
بل لحقتهم ودقت أعناقهم ، أو : هل وجدوا من مهرب من أمر اللّه وقضائه؟ وأصل التنقيب والنّقب : البحث والطلب ، قال امرؤ القيس :
لقد نقّبت فى الآفاق حتّى رضيت من الغنيمة بالإياب «1»
___________
(1) فى الديوان : [وقد طوّفت فى الآفاق حتى ...] انظر الديوان (72).(5/458)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 459
ودخلت الفاء للتسبب عن قوله : (هم أشد منهم بطشا) أي : شدة بطشهم ، أي : قدرتهم على التنقيب فى البلاد ، ويجوز أن يعود الضمير إلى أهل مكة ، أي : ساروا فى أسفارهم ومسايرهم فى بلد القرون ، فهل رأوا لهم محيصا حتى يؤملوا مثله أنفسهم؟ ويؤيده قراءة من قرأ (فنقّبوا) على صيغة الأمر.
إِنَّ فِي ذلِكَ أي : فيما ذكر من قصصهم ، أو : فيما ذكر فى السورة لَذِكْرى لتذكرة وعظة لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ سليم واع يدرك كنه ما يشاهده من الأمور ، ويتفكر فيها ، ليعلم أن مدار دمارهم هو الكفر ، فيرتدع عنه بمجرد مشاهدة الآثار من غير تذكير ، أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ أي : أصغى بقلبه إلى ما يتلى عليه من الوحى النّاطق بما جرى عليهم ، فإن من فعله يقف على كنه الأمر ، فينزجر عما يؤدى إليه من الكفر والمعاصي ، يقال : ألق إلىّ سمعك ، أي : استمع ، ف «أو» لمنع الخلو ، لا لمنع الجمع ، فإن إلقاء السمع لا يجدى بدون سلامة القلب عما ذكر من الصفات ، للإيذان بأن من عرى قلبه عنهما كمن لا قلب له أصلا : وقوله تعالى : وَهُوَ شَهِيدٌ : حال ، أي :
والحال أنه حاضر القلب لا يغفل أو : شاهد على ما يقرأ من كتاب اللّه.
وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما من أصناف المخلوقات ، وهذا أيضا احتجاج على القدرة على البعث بما هو أكبر ، كقوله : لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ «1» وقوله تعالى : فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ إنما خلقها فى تلك المدة تعليما لخلقه التؤدة ، وإلا فهو قادر على أن يخلقها فى لمحة ، وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ «2» ، ويحتمل أن هذا فى عالم الأمر ، وأما عالم الخلق فاقتضت الحكمة خلقه بالتدريج ، وله الخلق والأمر ، ثم قال تعالى : وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ من إعياء ولا تعب فى الجملة ، وهذا رد على جهلة اليهود ، أنه تعالى بدأ العالم يوم الأحد ، وفرغ منه يوم الجمعة ، واستراح يوم السبت ، واستلقى على العرش «3» ، تعالى عما يقولون علوا كبيرا.
الإشارة : كثيرا ما أهلك اللّه من النّفوس المتمردة فى القرون الماضية ، زجرا لمن يأتى بعدهم ، ففى ذلك ذكرى لمن كان له قلب سليم من تعلقات الكونين. قال القشيري : فالقلوب أربعة قلب فاسد وهو الكافر ، وقلب مقفول ، وهو قلب المنافق ، وقلب مطمئن ، وهو قلب المؤمن ، وقلب سليم ، وهو قلب المحبين والمحبوبين ، الذين هو مرآة صفات جمال اللّه وجلاله ، كما قال تعالى : «لا يسعنى أرضى ولا سمائى ، ووسعني قلب عبدى المؤمن» «4». ه.
___________
(1) الآية 57 من سورة غافر.
(2) الآية 50 من سورة القمر.
(3) نزول الآية ردّا على اليهود ، أخرجه الطبري (26/ 178) والواحدي فى الأسباب (ص 413). [.....]
(4) سبق.(5/459)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 460
وقال الشبلي : لمن كان له قلب حاضر مع اللّه ، لا يغفل عنه طرفة عين. وقال يحيى بن معاذ : القلب قلبان قلب احتشى بأشغال الدنيا ، حتى إذا حضر أمر من أمور الآخرة لم يدر ما يصنع ، وقلب احتشى باللّه وشهوده ، فإذا حضر أمر من أمور الكونين لم يدر ما يصنع ، غائب من الكونين بشهود المكوّن. وقال القتاد : لمن كان له قلب لا يتقلب عن اللّه فى السراء والضراء. ه. (أو ألقى السمع وهو شهيد) أي : يشهد ما من اللّه إلى اللّه ، أو : يشهد أسرار الذات. قال القشيري : يعنى من لم يكن له قلب بهذه الصفة يكون له سمع يسمع اللّه وهو حاضر مع اللّه ، فيعتبر بما يشير إليه اللّه فى إظهار اللطف أو القهر. ه. (و لقد خلقنا السموات) أي : سماوات الأرواح ، وأرض الأشباح ، وما بينهما من النّفوس والقلوب والأسرار ، وسر الأسرار ، فى ستة أيام ، أي : ستة أنواع من المخلوقات ، وهى محصورة فيما ذكرناه من الأرواح ، والأشباح ، والنّفوس ، والقلوب ، والأسرار ، وسر الأسرار ، فلا مخلوق إلا وهو داخل فى جملتها ، لا يخرج عنها ، وما مسّنا من لغوب لأن أمرنا بين الكاف والنّون.
ثم أمر نبيه بالصبر على ما يسمع فى جانبه تعالى ، أو فى نفسه ، فقال
[سورة ق (50) : الآيات 39 الى 45]
فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (39) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبارَ السُّجُودِ (40) وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (41) يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (42) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (43)
يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ (44) نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ (45)
يقول الحق جل جلاله : فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ أي : ما يقوله المشركون فى شأن البعث من الأباطيل ، فإنّ اللّه قادر على بعثهم والانتقام منهم ، أو : يقولونه فى جانبك من النّقص والتكذيب ، أو : ما تقوله اليهود من مقالات الكفر والتشبيه ، وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ أي : اصبر على ما تسمع واشتغل باللّه عنهم ، فسبّح ، أي : نزّه ربك عن العجز عما يمكن ، وعن وصفه تعالى بما يوجب التشبيه ، حامدا له تعالى على ما أنعم به عليك من إصابة الحق والرّشاد ، قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ ، وهما وقت الفجر والعصر ، وفضلهما مشهور.(5/460)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 461
وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ أي : وسبّحه فى بعض الليل وَأَدْبارَ السُّجُودِ أي : أعقاب الصلوات ، جمع : دبر ، ومن قرأ بالكسر «1» ، فمصدر ، من : أدبرت الصلاة : انقضت ، ومعناه : وقت انقضاء الصلاة ، وقيل : المراد بالتسبيح :
الصلوات الخمس ، فالمراد بما قبل الطلوع : صلاة الفجر ، وبما قبل الغروب : الظهر والعصر ، وبما من الليل : المغرب والعشاء والتهجد ، وبأدبار السجود : النوافل بعد المكتوبات.
وَاسْتَمِعْ أي : لما يوحى إليك من أحوال القيامة ، وفيه تهويل وتفظيع للمخبر به ، يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ «2» أي : إسرافيل عليه السّلام ، فيقول : أيتها العظام البالية ، واللحوم المتمزقة ، والشعور المتفرقة إن اللّه يأمركن أن تجتمعن لفصل القضاء ، وقيل : إسرافيل ينفخ ، وجبريل ينادى بالمحشر ، مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ بحيث يصل نداؤه إلى الكل ، على سواء ، وقيل : من حجرة بيت المقدس ، وهو أقرب مكان من الأرض إلى السماء ، باثنى عشر ميلا ، وهى وسط الأرض ، وقيل : من تحت أقدامهم ، وقيل : من منابت شعورهم ، فيسمع من كلّ شعرة. «ويوم» منصوب بما دلّ عليه «يوم الخروج» أي : يوم يناد المناد يخرجون من القبور ، فيوقف على «واستمع» وقيل : تقديره : واستمع حديث يوم يناد المنادى.
ويَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ : بدل من «يوم يناد» أي : واستمع يوم يناد المنادى ، وذلك اليوم هو يوم يسمعون الصيحة ، وهى النّفخة الثانية. وبِالْحَقِّ : متعلق بالصيحة ، أو : حال ، أي : ملتبسة بالحق ، وهو البعث والحشر للجزاء ، ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ من القبور.
إِنَّا نَحْن ُ نُحْيِي
الخلق وَنُمِيتُ أي : نميتهم فى الدنيا من غير أن يشاركنا فى ذلك أحد ، وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ أي : مصيرهم إلينا لا إلى غيرنا. وذلك يَوْمَ تَشَقَّقُ أصله : تتشقق ، فأدغم ، وقرأ الكوفيون والبصري «3» بالتخفيف ، بحذف إحدى التاءين ، أي تتصدع ، الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً فيخرج المؤمنون من صدوعها مسرعين ، ذلِكَ حَشْرٌ أي : بعث عَلَيْنا يَسِيرٌ هيّن ، وهو معادل لقول الكفرة : (ذلك رجع بعيد) ، وتقديم الجار والمجرور لتخصيص اليسر به تعالى.
___________
(1) قرأ نافع وابن كثير وحمزة وأبو جعفر وخلف «وإدبار» بكسر الهمزة ، وقرأ الباقون بفتحها ، جمع «دبر». انظر الإتحاف 2/ 489.
(2) أثبت المفسر - رحمة اللّه - قراءة «المنادى» بإثبات الياء ، وهى قراءة نافع وأبى عمرو وصلا ، وفى الحالين ابن كثير ويعقوب ، وقرأ الباقون بغير ياء وصلا ووقفا.
(3) قرأ «تشقق» بتخفيف الشين ، أبو عمرو وعاصم وحمزة والكسائي ، وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر «تشقّق» بتشديد الشين.
انظر السبعة/ 607.(5/461)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 462
نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ من نفى البعث وتكذيب الآيات ، وغير ذلك مما لا خير فيه ، وهو تهديد لهم ، وتسلية لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ، وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ أي : ما أنت بمسلط عليهم ، إنما أنت داع ، كقوله : لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ «1» من : جبره على الأمر : قهره ، أي : ما أنت بوال عليهم تجبرهم على الإيمان ، وهذا قبل الأمر بالقتال ، فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ ، لأنه هو الذي يتأثر بالوعظ ، كقوله : إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها «2» وأما من عداهم ، فنحن نفعل بهم ما توجبه أقوالهم ، وتستدعيه أعمالهم من أنواع العقاب وفنون العذاب.
الإشارة : فاصبر أيها المتوجّه على ما تسمع من الأذى ، وغب عن ذلك بذكر ربك قبل طلوع شمس البسط ، وقبل غروبها ، أي : اشتغل باللّه فى القبض والبسط ، أو : قبل طلوع شمس المعرفة ، فى حال السير ، وقبل الغروب حين تطلع ، ومن ليل القبض أو القطيعة فسبّح حتى يطلع نهار البسط أو المعرفة ، وأدبار السجود ، أي : عقب سجود القلب فى الحضرة ، فلا يرفع رأسه أبدا ، واستمع يوم يناد المنادى ، وهى الهواتف الغيبية ، والواردات الإلهية ، والإلهامات الصادقة ، من مكان قريب ، هو القلب ، يوم يسمعون الصيحة ، أي : تسمع النّفوس صيحة الداعي إلى الحق بالحق ، فتجيب وتخصع إن سبقت لها العناية ، ذلك يوم الخروج ، خروج العوائد والشهوات من القلب ، فتحيى الروح ، وتبعث بعد موتها بالغفلة والجهل ، بإذن اللّه ، إنا نحن نحيى نفوسا بمعرفتنا ، ونميت نفوسا بقهريتنا ، وإلينا المصير ، أي : الرجوع إنما هو إلينا ، فمن رجع إلينا اختيارا أكرمناه ونعّمناه ، وفى حضرة القدس أسكناه ، ومن رجع قهرا بالموت عاتبناه أو سامحناه ، وفى مقام البعد أقمناه.
يوم تشقق الأرض عنهم : أرض الحشر فى حق العامة ، وأرض الوجود فى حق الخاصة ، أي : يذهب حس الكائنات ، وتضمحل الرّسوم ، وتبدل الأرض والسموات ، ذلك حشر علينا يسير ، أي : جمعكم إلينا ، بإفناء وجودكم ، وإبقائكم بوجودنا ، يسير على قدرتنا ، وجذب عنايتنا. ويقال لكلّ داع إلى اللّه ، فى كلّ زمان ، حين يدبر النّاس عنه ، وينالون منه : نحن أعلم بما يقولون ، وما أنت عليهم بجبّار ، إنما أنت داع : خليفة الرّسول ، فذكّر بالقرآن ، وادع إلى اللّه من يخاف وعيد إذ هو الذي يتأثر بالوعظ والتذكير ، وباللّه التوفيق ، وهو الهادي إلى سواء الطريق ، وصلّى اللّه على سيدنا محمد وآله وصحبه ، وسلم ،
___________
(1) الآية 22 من سورة الغاشية.
(2) الآية 45 من سورة النّازعات.(5/462)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 463
سورة الذّاريات
مكية. وهى ستون آية. ومناسبتها لما قبلها ما ختمت به من قوله تعالى : ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ «1» ، فأقسم سبحانه فى صدر هذه السورة إنه لواقع ، حيث قال :
[سورة الذاريات (51) : الآيات 1 الى 6]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالذَّارِياتِ ذَرْواً (1) فَالْحامِلاتِ وِقْراً (2) فَالْجارِياتِ يُسْراً (3) فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً (4)
إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ (5) وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ (6)
يقول الحق جل جلاله : وَالذَّارِياتِ الرياح الذاريات لأنها تذرو التراب والحشيش وغير ذلك ، يقال :
ذرت الرّياح تذرو ذروا ، وأذرت تذرى ، وذَرْواً : مصدر ، والعامل فيه اسم الفاعل. فَالْحامِلاتِ وِقْراً ، أي :
السحاب الحاملة للأمطار ، أو : الرياح الحاملة للسحاب الموقورة بالماء. وقال ابن عباس : السفن الموقورة بالناس ، ف «وقرا» : مفعول بالحاملات ، فَالْجارِياتِ يُسْراً أي : السفن الجارية فى البحر والرّياح الجارية فى مهابها ، أو السحاب الجارية فى الجو تسوق الرّياح ، أو : الكواكب السيارة الجارية فى مجاريها ومنازلها بسهولة ، (يسرا) : نعت لمصدر محذوف ، أي : جريا ذا يسر.
فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً أي : الملائكة التي تقسم الأمور الغيبية من الأمطار والأرزاق والآجال ، والخلق فى الأرحام ، وأمر الرّياح ، وغير ذلك لأن هذا كله إنما هو بملائكة تخدمه ، ف «أمرا» هنا جنس ، وأنّث «المقسّمات» لأن المراد الجماعات ، ويجوز أن يراد الرّياح فى الكل ، فإنها تنشئ السحاب ، وتقلّه ، وتصرّفه ، وتجرى به فى الجو جريا سهلا ، وتقسّم الأمطار بتصريف السحاب فى الأقطار. ومعنى الفاء على الأول : أنه تعالى أقسم بالرياح ، فبالسحاب التي تسوقه ، فبالفلك الجارية بهبوبها ، فبالملائكة التي تقسم الأرزاق ، وعلى الثاني : أنها تبتدئ بالهبوب ، فتذرو التراب والحصباء ، فتقل السحاب ، فتجرى فى الجو باسطة له ، فتقسّم المطر.
وقال أبو السعود : فإن حملت الأمور المقسم بها على ذوات مختلفة ، فالفاء لترتيب الإقسام باعتبار ما بينها فى التفاوت فى الدلالة على كمال القوة ، وإلا فهى لترتيب ما صدر عن الرّيح من الأفاعيل ، فإنها تذرو الأبخرة إلى الجو حتى تنعقد سحابا ، فتجرى به باسطة له إلى ما أمرت به ، فتقسم المطر. ه.
___________
(1) من الآية 44 من سورة «ق».(5/463)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 464
والمقسم عليه قوله : إِنَّ ما تُوعَدُونَ من البعث والجزاء ، لَصادِقٌ لوعد صادق ، وَإِنَّ الدِّينَ أي : الجزاء على الأعمال لَواقِعٌ لكائن لا محاله. وتخصيص الأمور المذكورة بالإقسام بها رمزا إلى شهادتها بتحقيق مضمون الجملة المقسم عليها ، من حيث إنها أمور بديعة ، مخالفة لمقتضى الطبيعة ، فمن قدر عليها فهو قادر على البعث الموعود ، و«ما» موصولة ، أو مصدرية ، ووصف الوعد بالصدق كوصف العيشة بالرضا.
واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : والذاريات : رياح الواردات الإلهية ، التي ترد على القلوب ، فتذرو منها الأمراض والشكوك والأوهام والخواطر لأنها تأتى من حضرة قهّار ، لا تصادم شيئا إلا دفعته ، فالحاملات وقرا فالأنفس المطهرة ، الحاملة للعلوم والحكم والمواهب ، وقرا : حملا لا حدّ له ، فالجاريات يسرا : فالأفكار الجارية فى بحار الأحدية ، من الجبروت إلى الملكوت ، ثم تنزل إلى عالم الملك ، تتفنن فى علوم الحكمة ، فى جريا يسرا شيئا فشيئا ، فالمقسّمات أمرا :
فالأرواح أو الأسرار الكاملة ، التي تقسم الأرزاق المعنوية والحسية ، حيث جعل اللّه لها ذلك بفضله عند كمالها ، وهذه أرواح أهل التصرف من الأولياء. إنما توعدون من الوصول إلينا لصادق لمن صدق فى الطلب ، وإنّ الجزاء على المجاهدة بالمشاهدة لواقع. قال القشيري : إن اللّه تعالى وعد المطيعين بالجنة ، والتائبين بالمحبة ، والأولياء بالقربة ، والعارفين بالوصلة ، والطالبين بالوجدان. ولعلّ مراده بالأولياء عموم الصالحين.
ثم جدّد قسما آخر ، فقال : -
[سورة الذاريات (51) : الآيات 7 الى 14]
وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ (7) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (8) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (9) قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (10) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ ساهُونَ (11)
يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (12) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (14)
يقول الحق جل جلاله : وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ ذات الطرق الحسيّة ، مثل ما يظهر على الماء والرّمال من هبوب الرّياح ، وكذلك الطرق التي فى الأكسية من الحرير وغيره ، يقال لها : حبك جمع حبيكة ، كطريقة وطرق ، أو : جمع حباك ، قال الرّاجز :
كأنما جلّاها «1» الحوّاك طنفسة فى وشيها حباك «2»
___________
(1) هكذا فى الأصول. وفى تفسير الطبري وابن عطية وغيرهما : (جلّلها) وهو الصواب.
(2) يصف الرّاجز ظهر أتان من حمر الوحش بأن فيه خطوطا وطرائق ، وجللها : ألبسها وكساها ، والطنفسة : البساط أو النّمرقة فوق الرحل ، والوشي : الزخرف والنّقش ، والحباك : الطريقة.(5/464)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 465
والحوّاك : صانع الحياكة ، والمراد : إما الطريق المحسوسة ، التي هى مسير الكواكب ، أو : المعنوية ، التي يسلكها النظار فى النّجوم ، فإن لها طرائق. قال البيضاوي : النكتة فى هذا القسم : تشبيه أقوالهم فى اختلافها ، وتباين أغراضها ، بطرائق السماوات فى تباعدها ، واختلاف غاياتها ، وقال ابن عباس وغيره : ذات الخلق المستوي ، وعن الحسن : حبكها نجومها. وقال ابن زيد : ذات أشدة ، لقوله تعالى : سَبْعاً شِداداً «1».
إِنَّكُمْ يا أهل مكة لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ متخالف متناقض ، وهو قولهم فى حقه صلّى اللّه عليه وسلم تارة : شاعر ، وأخرى ساحر ، وفى شأن القرآن ، تارة : شعر ، وأخرى أساطير الأولين. يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ يصرف عن القرآن ، أو عن الرّسول ، من ثبت له الصرف الحقيقي ، الذي لا صرف أفظع وأشد منه ، فكأنّ لا صرف حقيقة إلا لهذا الصرف ، أي : يصرف عن الإيمان من صرف عن كلّ سعادة وخير ، أو : يصرف عن الإيمان من صرف فى سابق الأزل.
قلت : والأظهر أن يرجع لما قبله ، أي : يصرف عن هذا القول المختلف من صرف فى علم اللّه تعالى ، وسبقت له العناية ، يقال : أفكه عن كذا : صرفه عنه ، وإن كان الغالب استعماله فى الصرف عن الخير إلى الشر ، لكنه عرفى ، لا لغوى. واللّه تعالى أعلم.
قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ ، دعاء عليهم ، كقوله : قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ «2» ، وأصله : الدعاء بالقتل والهلاك ، ثم جرى مجرى «لعن» ، والخرّاصون : الكذابون المقدّرون ما لا صحة له ، وهم أصحاب القول المختلف ، كأنه قيل : لعن هؤلاء الخراصون الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ فى جهل يغمرهم ، ساهُونَ غافلون عما أمروا به ، يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ أي : متى وقوع يوم الجزاء ، لكن لا بطريق الاستعلام حقيقة ، بل بطريق الاستعجال ، استهزاء ، فإنّ «أيّان» ظرف للوقوع المقدّر لأن «أيّان» إنما يقع ظرفا للحدثان.
ثم أجابهم بقوله : يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ أي : يقع يوم هم على النّار يحرقون ويعذّبون ، ويجوز أن يكون خبرا عن مضمر ، أي : هو يوم هم ، وبنى لإضافته إلى مضمر ، ويؤيده أنه قرئ بالرفع «3». ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ أي :
وتقول لهم خزنة النّار : ذوقوا عذابكم وإحراقكم بالنار ، هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ أي : هذا العذاب هو الذي
___________
(1) من الآية 12 من سورة النّبإ ، وانظر فى هذه الأقوال تفسير البغوي 7/ 371 - 372 والقرطبي (7/ 6387 - 6388).
(2) الآية 17 من سورة عبس.
(3) «يوم» بالرفع ، وهى قراءة ابن أبى عبلة والزعفراني. انظر مختصر ابن خالويه فى شواذ القراءات (ص/ 146) والبحر المحيط (8/ 134).(5/465)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 466
كنتم تستعجلونه فى الدنيا ، بقولكم : فَأْتِنا بِما تَعِدُنا «1» ، ف «هذا» : مبتدأ ، و«الذي ..» إلخ : خبر ، ويجوز أن يكون «هذا» بدلا من فتنتكم ، و«الذي» : صفته.
الإشارة : أقسم اللّه تعالى بسماء الحقائق ، وتسمى سماء الأرواح لأن أهل الحقائق روحانيون سماويون ، ترقّوا من أرض الأشباح إلى سماء الأرواح ، حيث غلبت روحانيتهم ، على بشريتهم ، كما أن أهل الشرائع اليابسة أرضيين بشريين ، حيث غلبت بشريتهم الطينية على روحانيتهم السماوية ، ولكلّ واحدة طرق ، فطرق سماء الحقائق هى المسالك التي توصل إليها ، وهى قطع المقامات والمنازل ، وخرق الحجب النّفسانية ، حتى يفضوا إلى مقام العيان «فى مقعد صدق عند مليك مقتدر» وطرق أرض الشرائع هى المذاهب التي سلكها الأولون ، واقتدى بهم الآخرون ، يفضوا أهلها إلى رضا اللّه ونعيمه. وكان الشيخ الشاذلى رضي اللّه عنه يقول فى تلميذه المرسى : إن أبا العباس أعرف بطرق السماء منه بطرق الأرض ، أي : أعرف بمسالك الحقائق منه بمذاهب الشرائع ، وهذا إشارة قوله : ذاتِ الْحُبُكِ أي :
الطرق. إن أهل الجهل باللّه لفى قول مختلف مضطرب ، لا تجد قلوبهم تأتلف على شىء ، قلوبهم متشعبة ، ونياتهم مختلفة ، وهممهم دنية ، وأقوالهم مضطربة ، بخلاف أهل الحقائق العارفين باللّه ، قلوبهم مجتمعة على محبة واحدة ، وقصد واحد ، وهو اللّه ، بدايتهم فى السلوك مختلفة ، ونهايتهم متفقة ، وهو الوصول إلى حضرة العيان ، وللّه در ابن البنا ، حيث قال :
مذاهب النّاس على اختلاف ومذهب القوم على ائتلاف
وقال الشاعر :
عباراتهم شتى وحسنك واحد وكلّ إلى ذاك الجمال يشير
يؤفك عن هذا الاختلاف من صرف فى سابق العناية ، أو من صرف من عالم الأشباح إلى عالم الأرواح. قتل الخراصون المعتمدون على ظنهم وحدسهم ، فعلومهم جلها مظنونة ، وإيمانهم غيبى ، وتوحيدهم دليلى من وراء الحجاب ، لا يسلم من طوارق الاضطراب ، الذين هم فى غمرة أي : فى غفلة وجهل وضلالة - ساهون عما أمروا به من جهاد النّفوس ، والسير إلى حضرة القدوس ، أو ساهون غائبون عن مراتب الرّجال ، لا يعرفون أين ساروا ، وفى أىّ بحار سبحوا وغاصوا ، كما قال شاعرهم :
تركنا البحور الزاخرات وراءنا فمن أين يدرى النّاس أين توجهنا؟
___________
(1) من الآية 70 من سورة الأعراف.(5/466)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 467
يسألون أيّان يوم الدين لطول أملهم ، أو يسألون أيّان يوم الجزاء على المجاهدة. قال تعالى : هو (يوم هم) أي :
أهل الغفلة - على نار القطيعة أو الشهوة يفتنون بالدنيا وأهوالها ، والعارفون منزّهون فى جنات المعارف. ويقال للغافلين : ذوقوا وبال فتنتكم ، وهو الحجاب وسوء الحساب ، هذا الذي كنتم به تستعجلون ، بإنكاركم على أهل الدعوة الربانيين ، فتستعجلون الفتح من غير مفتاح ، تطلبون مقام المشاهدة من غير مجاهدة ، وهو محال فى عالم الحكمة «1». وباللّه التوفيق.
ثم ذكر أضدادهم ، فقال :
[سورة الذاريات (51) : الآيات 15 الى 19]
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ (16) كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19)
يقول الحق جل جلاله : إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ عظيمة ، لا يبلغ كنهها ، ولا يقادر قدرها ، ولعل المراد بها الأنهار الجارية ، بحيث يرونها ، ويقع عليها أبصارهم ، لا أنهم فيها ، آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ أي :
نائلين ما أعطاهم راضين به ، بمعنى أنّ كلّ ما يأتهم حسن مرضى ، يتلقى بحسن القبول ، إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ فى الدنيا مُحْسِنِينَ
متقنين لأعمالهم الصالحة ، آتين بها على ما ينبغى ، فلذلك نالوا ما نالوا من الفوز العظيم ، ومعنى الإحسان ما فسره به عليه الصلاة والسّلام : «أن تعبد اللّه كأنك تراه» الحديث «2». ومن جملته ما أشار إليه بقوله :
كانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ أي : كانوا يهجعون ، أي : ينامون فى طائفة قليلة من الليل ، على أن «قليلا» ظرف أو كانوا يهجعون هجوعا قليلا ، على أنه صفة لمصدر ، و«ما» مزيدة فى الوجهين ، ويجوز أن تكون مصدرية مرتفعة ب «قليلا» على الفاعل ، أي : كانوا قليلا من الليل هجوعهم. وقال النسفي : يرتفع هجوعهم على البدل من الواو فى «كانوا» لا بقليلا لأنه صار موصوفا بقوله : مِنَ اللَّيْلِ فبعد من شبه الفعل وعمله ، ولا يجوز أن
___________
(1) على هامش النّسخة الأساسية مايلى : ليس بمحال ، وكم من واحد جذبته العناية الإلهية وانتشلته .... الغفلة والظلمات فأصبح على بساط القرب والمشاهدة دون أدنى مجاهدة ، بل نص العارفون على أن طريق المجاهدة انقطعت ، ولم يبق إلا طريق المحبة بعد جذب العناية الإلهية. ه. [.....]
(2) جزء من حديث سؤال سيدنا جبريل عن الإسلام والإيمان والإحسان ، وهو حديث مشهور. أخرجه البخاري فى (الإيمان باب سؤال جبريل النّبى عن الإيمان والإسلام والإحسان وعلم الساعة ، ح 50) ومسلم فى (الإيمان ، باب بيان الإيمان والإسلام والإحسان رقم 9 ، ح 5) من حديث أبى هريرة رضي اللّه عنه.(5/467)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 468
تكون «ما» نافية على معنى : أنهم لا يهجعون من الليل قليلا ويحيونه كله. ه. أو كانوا ناسا قليلا ما يهجعون من اللّه لأن «ما» النافية لا يعمل ما بعدها فيما قبلها ، ولأن المحسنين وهم السابقون كانوا كثيرا فى الصدر الأول ، وموجودون فى كلّ زمان ومكان ، فلا معنى لقلتهم ، خلافا لوقف الهبطى ، وأيضا : فمدحهم بإحياء الليل كله مخالف لحالته صلّى اللّه عليه وسلم ، وما كان يأمر به.
وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ، وصفهم بأنهم يحيون جل الليل متهجدين ، فإذا أسحروا أخذوا فى الاستغفار من رؤية أعمالهم. والسحر : السدس الأخير من الليل ، وفى بناء الفعل على الضمير إشعار بأنهم الأحقاء بأن يوصفوا بالاستغفار ، كأنهم المختصون به ، لاستدامتهم له ، وإطنابهم فيه.
وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ أي : نصيب وافر ، يوجبونه على أنفسهم ، تقربا إلى اللّه تعالى ، وإشفاقا على النّاس ، لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ أي : لمن يصرح بالسؤال لحاجة ، وللمتعفف الذي يتعرّض ولا يسأل حياء وتعففا ، يحسبه الناس غنيا فيحرم نفسه من الصدقة. وقد تكلم فى نوادر الأصول «1» على من سأل باللّه ، أي : قال : أعطنى لوجه اللّه ، هل يجب إعطاؤه أم لا؟ ، وفى الحديث : «من سألكم باللّه فأعطوه» «2». قال : وهو مقيد بما إذا سأل بحق ، أي :
لحاجة ، وأما إذا سأل بباطل - أي : لغير حاجة - فإنما سأل بالشيطان لأن وجه اللّه حق. ثم ذكر كلام علىّ شاهدا ، «3» ثم حديث معاذ : «من سألكم باللّه فأعطوه ، فإن شئتم فدعوه» ، قال معاذ : وذلك أن تعرف أنه غير مستحق ، وإذا عرفتم أنه مستحق ، وسأل فلم تعطوه فأنتم ظلمة. وألحق بغير المستحق من اشتبه حاله لتعليق الظلم على معرفة الاستحقاق خاصة.
وقال النّووى فى الأذكار : يكره منع من سأل باللّه ، وتشفع به لحديث : «من سأل باللّه فأعطوه» قال : ويكره أن يسأل بوجه اللّه عير الجنة. ه. وفى حديث المنذرى : «ملعون من سأل بوجه اللّه ، وملعون من سأل بوجه اللّه ، ثم منع سائله ما لم يسأل هجرا» «4». وقال فى كتابه «الأخبار» على قوله عليه الصلاة والسّلام : «من سألكم باللّه فأعطوه» إجلالا للّه تعالى ، وتعظيما ، وإيجابا لحقه. ثم قال : إذ ليس يجب إعطاء السائل إذا كان فى معصية أو
___________
(1) الأصل التاسع عشر والمائتان (فى الاستعاذة باللّه تعالى ، 2/ 187 - 188).
(2) جزء من حديث أخرجه أحمد فى المسند (2/ 68) وأبو داود فى (الزكاة ، باب عطية من سأل باللّه ، ح 1672) والحاكم فى المستدرك (1/ 412) «وصحّحه وأقره الذهبي» من حديث ابن عمر رضي اللّه عنه وكذا أخرجه الطبراني فى الكبير (12/ 397) والبيهقي (4/ 199). وفى أوله : «من استعاذ باللّه فأعيذوه ...» الحديث.
(3) قال الحكيم الترمذي : «سأل رجل علىّ بن أبى طالب رضي اللّه عنه شيئا ، فلم يعطه فقال : أسألك بوجه اللّه تعالى ، فقال له : كذبت ، ليس بوجه اللّه سألتى ، إنما وجه اللّه الحق ، ولكن سألت بوجهك الخلق».
(4) ذكره المنذرى فى الترغيب والترهيب (ح 1246) وعزاه للطبرانى ، من حديث أبى موسى الأشعري. قال الهيثمي فى مجمع الزوائد (3/ 103) : «رواه الطبراني فى الكبير ، وإسناده حسن ، على ضعف فى بعضه مع توثيق».
وقوله «هجرا» بضم الهاء وسكون الجيم : أي : ما لم يسأل أمرا قبيحا لا يليق ، ويحتمل أنه أراد : ما لم يسأل سؤالا قبيحا بكلام قبيح.(5/468)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 469
فضول ، فمن سأل باللّه فيما ليس عليه ولا عليك فرضه ، فإعطاؤك إياه لإجلال حق اللّه وتعظيمه ، وليس عليك بفرض ولا حتم. انظر تمامه فى الحاشية الفاسية.
الإشارة : إنّ المتقين ما سوى اللّه فى جنات المعارف ، وعيون العلوم والأسرار. قال القشيري : فى عاجلهم فى جنة الوصل ، وفى آجلهم فى جنة الفضل ، فغدا نجاة ودرجات ، واليوم قربات ومناجاة. ه. (آخذين ما آتاهم ربهم) من فنون المواهب والأسرار ، وغدا من فنون التقريب والإبرار ، راضين بالقسمة ، قليلة أو كثيرة. إنهم كانوا قبل ذلك : قبل الإعطاء ، محسنين ، يعبدون اللّه على الإخلاص ، يأخذون من اللّه ، ويدفعون به ، وله ، ولا يردون ما أعطاهم ، ولو كان أمثال الجبال ، ولا يسألون ما لم يعطهم ، اكتفاء بعلم ربهم.
قال القشيري : كانوا قبل وجودهم محسنين ، وإحسانهم : كانوا يحبون اللّه باللّه ، يحبهم ويحبونه وهم فى العدم ، ولمّا حصلوا فى الوجود ، كانوا قليلا من الليل ما يهجعون ، كأنّ نومهم عبادة ، لقوله عليه الصلاة والسّلام : «نوم العالم عبادة» «1» ، فمن يكون فى العبادة لا يكون نائما ، وهجوع القلب : غفلته ، وقلوبهم فى الحضرة ، ناموا أو استيقظوا ، فغفلتهم بالنسبة إلى حضورهم قليلة. وقال سهل رضي اللّه عنه : أي : كانوا لا يغفلون عن الذكر فى حال ، يعنى هجروا النّوم لوجود الأنس فى الذكر ، والمراد بالنوم : نوم القلب بالغفلة.
(و بالأسحار هم يستغفرون) ، قال القشيري : أخبر عن تهجدهم ، وقلة دعاويهم ، وتنزلهم بالأسحار ، منزلة العاصين ، تصغيرا لقدرهم ، واحتقارا لفعلهم. ثم قال : والسهر لهم فى ليالهم دائم ، إما لفرط لهف ، أو شدة أسف ، وإما لاشتياق ، أو للفراق ، كما قالوا :
كم ليلة فيك لا صباح لها أفنيتها قابضا على كبدى
قد غصّت العين بالدموع وقد وضعت خدى على بنان يدى «2»
وإما لكمال أنس ، وطيب روح ، كما قالوا :
سقى اللّه عيشا قصيرا مضى زمان الهوى فى الصبا والمجون «3»
لياليه تحكى انسداد لحاظ لعينىّ عند ارتداد الجفون. ه. «4»
___________
(1) أخرجه الديلمي (مسند الفردوس ح 6731) عن عبد اللّه بن أبى أوفى ، بزيادة «ونفسه تسبيح» وعمله مضاعف ، ودعاؤه مستجاب ، وذنبه مغفور» وأخرجه الديلمي (ح 6734) والبيهقي فى الشعب (ح 3937) بلفظ «الصائم» بدل «العالم». وانظر كشف الخفاء 2/ 445 ، والأسرار المرفوعة ص 374.
(2) القائل هو أحمد بن يوسف ، صاحب ديوان الرّسائل فى عهد المأمون. انظر الأغانى (22/ 570).
(3) فى الأصول : السجون.
(4) البيت فى الأصول : [لياليه تحكى إنشاء اللحاظ .. للعين عند ارتداء الجفون ] والمثبت هو الذي فى لطائف الإشارات.(5/469)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 470
وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ أي : هم يواسون من قصدهم بالحس والمعنى ، فيبذلون ما خوّلهم اللّه من الأموال ، للسائل والمتعفف ، وما خوّلهم اللّه من العلوم ، للطالب والمعرض ، وهو المحروم ، فيقصدونه بالدواء بما أمكن فإنهم أطباء ، والطبيب يقصد المريض أينما وجده ، شفقة ورحمة ، ونصحا للعباد. وباللّه التوفيق.
ثم ذكر دلائل قدرته على ما أقسم عليه من البعث ، فقال :
[سورة الذاريات (51) : الآيات 20 الى 23]
وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ (21) وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ (22) فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23)
يقول الحق جل جلاله : وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ دالة على كمال قدرته على البعث وغيره ، من حيث إنها مدحوة كالبساط الممهد ، وفيها مسالك وفجاج للمتقلبين فى أقطارها ، والسالكين فى مناكبها ، وفيها سهل وجبل ، وبحر وبر ، وقطع متجاورات ، وعيون متفجرات ، ومعادن مقنية ، ودواب منبثة ، مختلفة الصور والأشكال ، متباينة الهيئات والأفعال ، وهى مع كبر شكلها مبسوطة على الماء ، المرفوع فوق الهواء ، فالقدرة فيها ظاهرة ، والحكمة فها باهرة ، ففى ذلك عبرة لِلْمُوقِنِينَ الموحّدين ، الذين ينظرون بعين الاعتبار ، ويشاهدون صانعها ببصيرة الاستبصار.
وَفِي أَنْفُسِكُمْ آيات وعجائب القدرة إذ ليس شىء فى العالم إلا وفى الأنفس له نظير ، مع ما فيه من الهيئات النّابعة والمصادر البهية ، والترتيبات العجيبة ، خلقه نطفة ، ثم علقة ، ثم مضغة ، ثم فصلها إلى العظم والعصب والعروق ، فالعظام عمود الجسد ، ضم بعضها إلى بعض بمفاصل وأقفال ربطت بها ، ولم تكن عظما واحدا لأنه إذ ذاك يكون كالخشبة ، لا يقوم ولا يجلس ، ولا يركع ولا يسجد لخالقه ، ثم خلق تعالى المخ فى العظام فى غاية الرّطوبة ليرطب يبس العظام ، ويتقوى به ، ثم خلق سبحانه اللحم وعباه على العظام ، وسدّ به خلل الجسد ، واعتدلت هيئته ، ثم خلق سبحانه العروق فى جميع الجسد جداول ، يجرى الغذاء منها إلى أركان الجسد ، لكلّ موضع من الجسد عدد معلوم ، ثم أجرى الدم فى العروق سيالا خاثرا ، ولو كان يابسا ، أو اكتف مما هو فيه ، لم يجر فى العروق ، ثم كسى سبحانه اللحم بالجلد كالوعاء له ، ولولا ذلك لكان قشرا أحمر ، وفى ذلك هلاكه ، ثم كساه الشعر وقاية وزينة ، وليّن أصوله ، ولم تكن يابسة مثل رؤوس الإبر ، وإلا لم يهنه عيش ، وجعل الحواجب والأشفار وقاية للعين ، ولولا ذلك لأهلكهما الغبار والسقط ، وجعلها سبحانه طوع يده ، يتمكن من رفعها عند قصد النّظر ، ومن إرخائها على جميع العين عند إرادة إمساك النّظر عما يضر دينا ودنيا ، وجعل شعرها صفا واحدا لينظر من خللها ، (5/470)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 471
ثم خلق سبحانه شفتين ينطبقان على الفم يصونان الحلق والفم من الرّياح والغبار ، ولما فيهما من كمال الزينة ، ثم خلق اللّه سبحانه الأسنان ليتمكن من قطع مأكوله وطحنه ، ولم تكن له فى أول خلقته لئلا يؤذى أمه ، وجعلها ثلاثة أصناف : قسم يصلح للكسر ، كالأنياب ، وقسم يصلح للقطع ، كالرباعية ، وقسم يصلح للطحن ، كالأضراس ...
إلى غير ذلك مما فى الإنسان من عجائب الصنع وبدائع التركيب.
أَفَلا تُبْصِرُونَ أي : تنظرون نظر من يعتبر ، وما قيل : إن التقدير : أفلا تبصرون فى أنفسكم ، فضعيف لأنه يفضى إلى تقديم ما فى حيّز الاستفهام عليه.
وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وهو المطر. وعن الحسن أنه كان إذا رأى السحاب قال لأصحابه : فيه رزقكم إلا أنكم تحرمونه بخطاياكم «1» ، أو : فى سماء الغيب تقدير رزقكم ، فهو مضمون عند اللّه فى سماء غيبه ، ستر ذلك بسر الحكمة ، وهو الأسباب ، وَما تُوعَدُونَ أي : وفى السماء ما توعدون من الثواب لأن الجنة فى السماء السابعة ، سقفها العرش ، أو : أراد : إنما توعدونه من الرّزق فى الدنيا وما توعدونه فى العقبى كله مقدّر ومكتوب فى السماء ، وقيل : إنه مبتدأ وخبره : فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ أي : ما توعدون من البعث وما بعده ، أو : ما توعدونه من الرّزق المقسوم ، فوربّ العالم العلوي والسفلى إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ : أي : مثل نطقكم ، شبّه ما وعد به من الرّزق وغيره بتحقق نطق الآدمي لأنه ضرورى ، يعرفه من نفسه كلّ أحد.
قال الطيبي : وإنما خص النّطق دون سائر الأعمال الضرورية ، لكونه أبقى وأظهر ، ومن الاحتمال أبعد ، فإنّ النطق يفصح عن كلّ شىء ، ويجلى كلّ شبهة. ه. فضمان الرّزق وإنجاز وعده ضرورى ، كنطق النّاطق. روى عن الأصمعى أنه قال : أقبلت من جامع البصرة ، فطلع أعرابى على قعود ، فقال : من الرّجل؟ فقلت : من بنى أصمع ، فقال : من أين أقبلت؟ فقلت : من موضع يتلى فيه كلام اللّه ، قال : اتل علىّ ، فتلوت : وَالذَّارِياتِ ...
فلما بلغت قوله : وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ قال : حسبك ، فقام إلى ناقته فنحرها ، ووزعها على من أقبل وأدبر ، وعمد إلى سيفه وقوسه فكسّرهما ، وولّى ، فلما حججت مع الرّشيد ، وطفت ، فإذا أنا بصوت رقيق يهتف بي ، فالتفتّ ، فإذا أنا بالأعرابى قد نحل واصفرّ ، فسلّم علىّ ، واستقرأ السورة ، فلما بلغت الآية ، صاح ، وقال : قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا ، ثم قال : وهل غير هذا؟ فقرأت : فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ فقال : سبحان اللّه! من الذي أغضب الجليل حتى حلف؟ لم يصدقوه بقوله حتى حلف ، قالها ثلاثا ، وخرجت معها نفسه ه. من النّسفى «2».
قلت : وقد سمعت حكاية أخرى ، فيها عبرة ، وذلك أن رجلا سمع قارئا يقرأ هذه الآية ، فدخل بيته ، ولزم زاوية منه يذكر فيها ، ويتبتل ، فجاءت امرأته تنقم عليه ، وتأمره بالخدمة ، فقال لها : قال تعالى : وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ
___________
(1) ذكره القرطبى (7/ 6399).
(2) وذكره القرطبى (7/ 6399).(5/471)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 472
، فلما أيست منه ذهبت تحفر شيئا ، فوجدت آنية مملوءة دنانير ، فجاءت إليه ، وقالت : قد أتانا رزقنا ، قم تحفره معى ، هو فى موضع كذا ، فقال : إنما قال تعالى : (فى السماء) ولم يقل فى الأرض ، فامتنع ، فذهبت إلى أخ لها تستعين به ، فلما فتحتها وجدتها مملوءة عقارب ، فقالت : واللّه لأطرحنها عليه لنستريح منه ، ففتحت كوة من السقف ، وطرحتها عليه ، فسقطت دنانير ، فقال : الآن نعم ، قد آتاني من حيث قال ربى : وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ. ه.
وذكر فى التنوير : أن الملائكة لمّا نزلت هذه الآية ضجت فى السماء ، وقالت : ما أضعف بنى آدم حتى أحوجوا ربهم إلى الحلف.
الإشارة : وفى أرض نفوس العارفين آيات ، منها : أن الأرض تحمل كلّ شىء ، ولا تستثقل شيئا ، فكذلك نفس العارف ، تحمل كلّ كلّ وثقيل ، ومن استثقل حملا ، أو تبرم من أحد ، أو من شىء ، ساقته القدرة إليه ، فلغيبته عن الحق ، ومطالعته الخلق بعين التفرقة ، وأهل الحقائق لا يتصفون بهذه الصفة. ومنها : أنها يلقى عليها كلّ قذارة وقمامة فتنبت كلّ زهر ونور وورد ، فكذلك العارف يلقى عليه كلّ جفاء ، ولا يظهر منه إلا الصفاء. ومنها : أن الأرض الطيبة تنبت الطيب ، وينصع نباتها ، والأرض السبخة لا تنبت شيئا ، كذلك القلوب الطيبة تنبت كلّ ما يلقى فيها من الخير ، والقلوب الخبيثة لا تعى شيئا ، ولا ينبت فيها إلا الخبيث.
وقوله تعالى : وَفِي أَنْفُسِكُمْ .. قال القشيري : يشير إلى أن النّفس مرآة جميع صفات الحق ، لهذا قال عليه الصلاة والسّلام : «من عرف نفسه فقد عرف ربه» «1» فلا يعرف أحد نفسه إلا بعد كمالها ، وكمالها : أن تصير مرآة كاملة تامة مصقولة ، قابلة لتجلى صفات الحق لها ، فيعرف نفسه بالمرءاتية ، ويعرف ربه بالتجلى فيها ، كما قال تعالى : سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ ... الآية «2». ه.
قلت : حديث «من عرف نفسه» أنكره النّووى ، وقال إنه من كلام يحيى بن معاذ «3» وقد اشتهر عند الصوفية حديثا ، ومعناه حق فإنّ من عرف حقيقة نفسه ، وأنها مظهر من مظاهر الحق ، وغاب عن حس وجوده الوهم ، فقد عرف ربه وشهده ، فاطلب المعرفة فى نفسك ، ولا تطلبها فى غيرك ، فليس الأمر عنك خارجا ، وللّه در الششترى فى بعض أزجاله ، حيث قال :
وإليك هو السّير «4» وأنت معنى الخير
وما دونك غير
___________
(1) قال السخاوي فى المقاصد (ص 198) : «لا يعرف مرفوعا ، وإنما يحكى عن يحيى بن معاذ الرّازى من قوله» ، وقال السيوطي فى القول الأشبه (2/ 351) من الحاوي للفتاوى : «هذا الحديث ليس بصحيح».
(2) الآية 53 من سورة فصلت.
(3) على هامش النّسخة الأم ما يلى : قلت : كذا قالوا لأنهم وجدوه مرويا عنه ، فظنوه من كلامه ، وهو إنما رواه من التوراة ، ففيها :
«قال اللّه تعالى : يا ابن آدم اعرف نفسك تعرف ربك» فمن هنا أخذ يحيى بن معاذ الرّازى. ه. [.....]
(4) فى الديوان (ص 114) : [وإليك السير].(5/472)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 473
وقال أيضا :
يا قاصدا عين الخبر غطّاه أينك «1»
إرجع لذاتك واعتبر ما ثمّ غيرك
الخير منك والخبر والسر عندك
وقوله تعالى : وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ قال الورتجبي : وفى سماء صفاتى رزق أرواحكم ، من مشاهدة النّور ، وغذاء العلم الرّبانى ، وما توعدون من مشاهدة الذات وكشف عيانه. ه.
قلت : هذا قوت الأرواح ، أمّا قوت الأشباح فتجب الغيبة عنه ، ثقة باللّه ، وتوكلا عليه. قال فى قطب العارفين :
اعلم أنه عز وجل قسّم الأرزاق فى الأزل ، وجزّأه على عمر العبد ، ووقّت أوقاته ، وحدّ للعبد ما يأتيه منه فى السنة ، والشهر ، واليوم ، والساعة ، ف كل ما حدّ لك أن تناله من رزقك عند صلاة العصر ، مثلا ، لا تناله عند صلاة الصبح ، ولو طلبته بكلّ حيلة فى السموات والأرض ، فإن الطلب لا يجمع ، والتوكّل لا يمنع. ه. وقال فيه أيضا : العارف يجد فى نفسه الاعتماد على اللّه ، وإن كانت السماء لا تمطر ، والأرض لا تنبت ... ، إلخ كلامه ، ومثله قول ذى النون : لو كانت السماء من زجاج ، والأرض من نحاس لا تنبت شيئا ، ومصر كلها عيالى ، ما اهتممت لهم برزق لأنّ من خلقهم هو الذي تكفل برزقهم. ه. وقال فى القطب أيضا : ومن علامة جهل قلب العالم : خوف شدائد السنيين الآتيات ، والاستعداد لها قبل مجيئها ، بمصاحبة الاضطراب ، وفقد الطمأنينة بالقسمة السابقة ، فمن اتصف بهذه الصفة فقد نازع الرّبوبية ، وانسلخ من العبودية. ه.
ثم سرد قصص الأمم السالفة ، وما جرى عليها لأنّ فيها آيات ، فتنخرط فى سلك الآيات المتقدمة ، فقال :
[سورة الذاريات (51) : الآيات 24 الى 37]
هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (25) فَراغَ إِلى أَهْلِهِ فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (26) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قالَ أَلا تَأْكُلُونَ (27) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (28)
فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَها وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (29) قالُوا كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (30) قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (31) قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (32) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ (33)
مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (34) فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (36) وَتَرَكْنا فِيها آيَةً لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ (37)
___________
(1) فى الديوان : (ص 267) غطاه غينك رضي اللّه عنه.(5/473)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 474
يقول الحق جل جلاله : هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ ، استفتح بالاستفهام التشويقى ، تفخيما لشأن الحديث ، وتنبيها على أنه ليس مما علمه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم بغير طريق الوحى. والضيف فى الأصل : مصدر : كالزور ، والصوع ، يصدق بالواحد والجماعة ، قيل : كانوا اثنى عشر ملكا ، وقيل : تسعة عاشرهم جبريل. وجعلهم ضيفا لأنهم فى صورة الضيف ، حيث أضافهم إبراهيم ، أو لأنهم كانوا فى حسبانه كذلك. وقوله الْمُكْرَمِينَ أي : عند اللّه ، لأنهم عباد مكرمون ، أو عند إبراهيم ، حيث خدمهم بنفسه ، وأخدمهم امرأته ، وعجّل لهم القرى.
إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ : ظرف للحديث ، أو لما فى الضيف من معنى الفعل ، أو بالمكرمين ، إن فسر بإكرام إبراهيم لهم ، فَقالُوا سَلاماً أي : نسلّم عليك سلاما ، قالَ إبراهيم : سَلامٌ أي : عليكم سلام. عدل به إلى الرّفع بالابتداء للقصد إلى الثبوت والدوام حتى تكون تحيته عليه السّلام أحسن من تحيتهم ، وهذا أيضا من إكرامه ، قَوْمٌ مُنْكَرُونَ أي : أنتم قوم منكرون ، لا نعرفكم ، فعرّفونى من أنتم. قيل : إنما أنكرهم لأنهم ليسوا ممن عهدهم من النّاس ، أو : لأن أوضاعهم وأشكالهم خلاف ما عليه النّاس ، وقيل : إنما قال ذلك سرا ولم يخاطبهم به ، وإلا لعرّفوه بأنفسهم.
فَراغَ إِلى أَهْلِهِ أي : ذهب إليهم فى خفية من ضيوفه ، فالروغان : الذهاب بسرعة ، وقيل : فى خفية. ومن آداب المضيف أن يبادر الضيف : بالقرى ، وأن يخفى أمره من غير أن يشعر به الضيف ، حذرا من أن يكفّه ، وكان عامة مال إبراهيم البقر. فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ ، الفاء فصيحة تفصح عن جمل حذفت لدلالة الحال عليها ، وإيذانا بكمال سرعة المجيء ، أي : فذبح عجلا فحنذه «1» ، فجاء به ، فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ ، بأن وضعه بين أيديهم ، حسبما هو المعتاد ، فلم يأكلوا ، ف قالَ أَلا تَأْكُلُونَ ، أنكر عليهم ترك الأكل ، أو : حثّهم عليه ، فَأَوْجَسَ أضمر مِنْهُمْ خِيفَةً خوفا ، لتوهم أنهم جاءوا للشر لأن من لم يأكل طعامك لم يحفظ ذمامك. عن ابن عباس رضي اللّه عنه : وقع فى نفسه أنهم ملائكة أرسلوا للعذاب ، قالُوا لا تَخَفْ إنّا رسل اللّه. قيل : مسح جبريل العجل بجناحه فقام يدرج حتى لحق بأمه «2» ، فعرفهم وأمن منهم ، وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ أي : يبلغ ويكون عالما ، وهو إسحاق عليه السّلام.
___________
(1) أي : شواه ، انظر اللسان (حنذ 2/ 1021).
(2) رواه عون بن أبى شداد ، فيما ذكره القرطبي (7/ 6402).(5/474)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 475
فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ سارة لمّا سمعت بشارتهم إلى بيتها ، وكانت فى زاوية منه تنظر إليهم ، فِي صَرَّةٍ صيحة ، من الصرير ، وهو الصوت ، ومنه : صرير الباب وصرير الأقلام. قال الزجّاج : الصرّة : شدّة الصياح. وفى القاموس الصرّة : - بالكسر : أشد الصياح ، وبالفتح : الشدة من الكرب والحزن والحر والعطفة والجماعة وتغضيب الوجه. ه. ومحله النّصب على الحال ، أي : فجاءت صارة ، وقيل : صرتها : قولها : يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ ... «1»
أو : فجاءت مغضّبة الوجه ، كما هو شأن من يخبر بشىء غريب ، استبعادا له ، فَصَكَّتْ وَجْهَها لطمته ببسط يدها ، وقيل : ضربت بأطراف أصابعها جبهتها ، فعل المتعجب ، وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ أي : إنها عجوز عاقر ، فكيف ألد؟!.
قالُوا كَذلِكَ أي : مثل ما قلنا وأخبرناك به قالَ رَبُّكِ أي : إنما نخبرك عن اللّه تعالى ، واللّه قادر على ما يستعبد ، إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ فى فعله ، الْعَلِيمُ فلا يخفى عليه شىء ، فيكون قوله حقا ، وفعله متقنا لا محالة.
روى أن جبريل عليه السّلام قال لها حين استبعدت : انظري إلى بيتك ، فنظرت ، فإذا جذوعه مورقة مثمرة ، ولم تكن هذه المفاوضة مع سارة فقط ، بل هى وإبراهيم عليه السّلام حاضر ، حسبما شرح فى سورة الحجر «2» ، وإنما لم يذكرها اكتفاء بما ذكر هناك ، كما أنه لم يذكر هناك سارة ، اكتفاء بما ذكر هنا وفى سورة هود «3».
ولمّا تحقق أنهم ملائكة ، ولم ينزلوا إلا لأمر ، قالَ فَما خَطْبُكُمْ أي : فما شأنكم وما طلبتكم وفيم أرسلتم؟
أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ ، هل أرسلتم بالبشارة خاصة ، أو لأمر آخر ، أو لهما؟ قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ أي :
قوم لوط ، لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ أي : طين متحجر ، هو السجّيل ، وهو طين طبخ ، كما يطبخ الآجر ، حتى صار فى صلابة الحجارة ، مُسَوَّمَةً معلّمة ، على كلّ واحد اسم من يهلك بها ، من السّومة وهى العلامة ، أو : مرسلة ، من أسمت الماشية : أرسلتها ، ومر تفصيله فى هود «4» عِنْدَ رَبِّكَ أي : فى ملكه وسلطانه لِلْمُسْرِفِينَ المجاوزين الحدّ فى الفجور.
فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها ، الفاء فصيحة ، مفصحة عن جمل قد حذفت ، ثقة بذكرها فى مواضع أخر ، كأنه قيل : فباشروا ما أمروا به ، فذهبوا إلى لوط ، وكان من قصتهم ما ذكر فى موضع آخر ، فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها أي : من قرى قوم لوط مِنَ الْمُؤْمِنِينَ يعنى لوطا ومن آمن معه. قيل : كان لوط وأهل بيته الذين نجوا ثلاثة
___________
(1) كما جاء فى الآية 72 من سورة هود.
(2) عند قوله تعالى : بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ. قالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ الآيتان 55 - 56.
(3) فى قوله تعالى : وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ الآية 71.
(4) عند تفسير الآيات 81 - 82.(5/475)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 476
عشر. فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ أي : غير أهل بيت مِنَ الْمُسْلِمِينَ ، وفيه دليل على أن الإسلام والإيمان واحد ، أي : باعتبار الشرع ، وأما فى اللغة فمختلف ، والإسلام محله الظاهر ، والإيمان محله الباطن. وَتَرَكْنا فِيها أي : فى قراهم آيَةً لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ أي : من شأنهم أن يخافوا لسلامة فطرتهم ، ورقة قلوبهم ، وأما من عداهم من ذوى القلوب القاسية ، فإنهم لا يعتبرون بها ، ولا يعدونها آية.
الإشارة : الإشارة بإبراهيم إلى القلب ، وأضيافه : تجليات الحق ، فنقول حينئذ : هل بلغك حديث إبراهيم القلب ، حين يدخل عليه أنوار التجليات ، مسلّمة عليه ، فينكرها أول مرة ، حيث لم يألف إلا رؤية حس الكائنات ، فراغ إلى أهله : عوالمه ، فجاء بعجل سمين النفس أو السّوى ، فقرّبه إليهم ، بذلا لها فى مرضاة اللّه ، فقال : ألا تأكلون منها ، لتذهب عنى شوكتها إذ لا تثبت أنوار الشهود إلا بعد محق النّفس وموتها ، فأوجس منهم خيفة لأن صدمات التجلي تدهش الألباب ، إلا من ثبته اللّه ، قالوا : لا تخف ، أي : لا تكن خوّافا ، إذ لا ينال هذا السر إلا الشجعان ، كما قال الجيلاني «1» :
وإيّاك حزما لا يهولك أمرها فما نالها إلا الشّجاع المقارع
وبشّروه بغلام عليم ، وهو نتيجة المعرفة ، من اليقين الكبير ، والطمأنينة العظمى ، فأقبلت النّفس تصيح ، وتقول :
أألد هذا الغلام ، من هذا القلب ، وقد كبر على ضعف اليقين ، وأنا عجوز ، شخت فى العوائد ، عقيم من علوم الأسرار؟! ، فتقول القدرة : كذلك قال ربك ، هو علىّ هيّن ، أتعجبين من قدرة اللّه ، «من استغرب أن ينقذه اللّه من شهوته ، وأن يخرجه من وجود غفلته. فقد استعجز القدرة الإلهية ، وكان اللّه على كلّ شىء مقتدرا» «2» إنه هو الحكيم فى ترتيب الفتح على كسب المجاهدة ، العليم بوقت الفتح ، وبمن يستحقه. قال إبراهيم القلب أو الرّوح : فما خطبكم أيها التجليات ، أو الواردات الإلهية ، قالوا : إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين ، وهم جند النّفس ، لنرسل عليهم حجارة من طين ، مسومة عند ربك للمسرفين ، وهم الأذكار والأوراد والمجاهدات والرّياضات والمعاملات المهلكة للنفس وأوصافها ، فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين ، سالمين من الهلاك ، وهو ما كان لها من الأوصاف الحميدة ، والعلوم الرّسمية ، إذ لا تخرج المجاهدة إلا من كان مذموما ، فما وجدنا فيها من ذلك إلا النّذر القليل إذ معاملة النّفس جلها مدخولة ، وتركنا فيها آية من تزكية النّفس ، وتهذيب أخلاقها ، للذين يخافون العذاب الأليم ، فيشتغلون بتزكيتها لئلا يلحقهم ذلك العذاب.
___________
(1) الشيخ عبد الكريم الجيلي فى عينيته (ص 78).
(2) حكمة عطائية رقم (197) انظر تبويب الحكم (ص 18).(5/476)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 477
ثم ذكر آيات أخرى فى بقية الأمم ، فقال :
[سورة الذاريات (51) : الآيات 38 الى 49]
وَفِي مُوسى إِذْ أَرْسَلْناهُ إِلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (38) فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقالَ ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (39) فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (40) وَفِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (41) ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (42)
وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ (43) فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (44) فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ وَما كانُوا مُنْتَصِرِينَ (45) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (46) وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (47)
وَالْأَرْضَ فَرَشْناها فَنِعْمَ الْماهِدُونَ (48) وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (49)
قلت : (و فى موسى) : عطف على (و فى الأرض) ، أو على قوله : (و تركنا فيها آية) على معنى : وجعلنا فى موسى آية ، كقوله :
علفتها تبنا وماءا باردا «1».
و(إذ أرسلناه) : منصوب بآيات ، أو : بمحذوف ، أي : كائنة وقت إرسالنا ، أو بتركنا.
يقول الحق جل جلاله : وَفِي مُوسى آية ظاهرة حاصلة إِذْ أَرْسَلْناهُ إِلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ بحجة واضحة ، وهى ما ظهر على يديه من المعجزات الباهرة ، فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ فأعرض عن الإيمان وازورّ عنه «2» بِرُكْنِهِ بما يتقوى به من جنوده وملكه ، والرّكن : ما يركن إليه الإنسان من عزّ وجند ، وَقالَ فى موسى : هو ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ ، كأنه نسب ما ظهر على يديه عليه السّلام من الخوارق العجيبة إلى الجن ، وتردد هل ذلك باختياره وسعيه ، أو بغيرهما.أَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِ
، وفيه من الدلالة على عظم شأن القدرة الربانية ، ونهاية حماقة فرعون ما لا يخفى ، هُوَ مُلِيمٌ
، آت بما يلام عليه من الكفر والطغيان.
___________
(1) شطر بيت ، تمامه : حتى شتت همالة عيناها.
(2) أي : مال عنه.(5/477)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 478
وَفِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ ، وصفت بالعقيم لأنها أهلكتهم ، وقطعت دابرهم ، أو : لأنها لم تتضمن خيرا ما ، من إنشاء مطر ، أو إلقاح شجر ، وهى الدّبور ، على المشهور ، لقوله عليه السّلام : «نصرت بالصّبا ، وأهلكت عاد بالدّبور» «1» ، ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ أي : مرت عليه إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ وهو كلّ ما رمّ ، أي : بلى وتفتت ، من عظم ، أو نبات ، أو غير ، والمعنى : ما تركت شيئا هبت عليه من أنفسهم وأموالهم إلا أهلكته.
وَفِي ثَمُودَ آية أيضا إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ ، تفسيره قوله تعالى : تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ «2» ، روى أن صالحا قال لهم : تصبح وجوهكم غدا مصفرة ، وبعد غد محمرة ، وفى الثالث مسودة ، ثم يصحبكم العذاب ، فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ استكبروا عن الامتثال ، فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ العذاب ، وكلّ عذاب مهلك صاعقة. قيل : لما رأوا العلامات من اصفرار الوجوه ، واحمرارها ، واسودادها ، التي بينت لهم ، عمدوا إلى قتله عليه السّلام فنجّاه اللّه تعالى إلى أرض فلسطين ، وتقدم فى النّمل «3» ، ولمّا كان ضحوة اليوم الرّابع تحنطوا وتكفنوا بالأنطاع ، فأتتهم الصيحة ، فهلكوا ، كبيرهم وصغيرهم وهم ينظرون إليها ، ويعاينونها جهرا ، فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ من هرب ، أو هو من قولهم : ما يقوم بهذا الأمر : إذا عجز عن دفعه. وَما كانُوا مُنْتَصِرِينَ ممتنعين من العذاب بغيرهم ، كما لم يمتنعوا بأنفسهم.
وَقَوْمَ نُوحٍ أي : وأهلكنا قوم نوح لأن ما قبله يدل عليه ، أو : واذكر قوم نوح ، ومن قرأ بالجر «4» فعطف على ثمود ، أي : وفى قوم نوح آية ، ويؤيده قراءة عبد اللّه «وفى قوم نوح» مِنْ قَبْلُ أي : قبل هؤلاء المذكورين ، إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ خارجين عن الحدود بما كانوا فيه من الكفر والمعاصي وإذاية نوح عليه السّلام.
وَالسَّماءَ بَنَيْناها من باب الاشتغال ، أي : بنينا السماء ، بنيناها بِأَيْدٍ بقوة ، والأيد : القوة ، وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ لقادرين ، من الوسع ، وهو الطاقة ، والموسع : القوىّ على الإنفاق ، أو : لموسعون بين السماء والأرض ، أو : لموسعون الأرزاق على من نشاء ، وهو تتميم كما تمم ما بعده بقوله : (فنعم الماهدون) لزيادة الامتنان.
وَالْأَرْضَ فَرَشْناها بسطناها ومهّدناها لتستقروا عليها ، فَنِعْمَ الْماهِدُونَ نحن. وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ نوعين ذكر وأنثى ، وقيل : متقابلين ، السماء والأرض ، والليل والنّهار ، والشمس والقمر ، والبر والبحر ،
___________
(1) متفق عليه ، وسبق تخريجه عند تفسير الآية 46 من سورة الرّوم (4/ 349).
(2) من الآية 65 من سورة هود. [.....]
(3) راجع تفسير الآيات 48 - 53 من سورة النّمل ، فى المجلد الرّابع (ص 202 - 203).
(4) قرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي وخلف (و قوم) بجر الميم ، وقرأ الباقون بنصبها. راجع الإتحاف 2/ 493.(5/478)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 479
الموت والحياة. قال الحسن : كل شىء زوج ، واللّه فرد لا مثل له. لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ أي : جعلنا ذلك كله ، من بناء السماء ، وفرش الأرض ، وخلق الأزواج ، لتذكّروا ، وتعرفوا أنه خالق الكلّ ورازقهم ، وأنه المستحق للعبادة ، وأنه قادر على إعادة الجميع ، وتعملوا بمقتضاه. وباللّه التوفيق.
الإشارة : وفى موسى القلب إذ أرسلناه إلى فرعون النّفس ، بسلطان ، أي : بتسلط وحجة ظاهرة ، لتتأدب وتتهذب ، فتولى فرعون النّفس بركنه ، وقوة هواه ، وقال لموسى القلب : ساحر أو مجنون ، حيث يأمرنى بالخضوع والذل ، الذي يفرّ منه كلّ عاقل ، طبعا ، فأخذناه وجنوده من الهوى والجهل والغفلة ، فنبذناهم فى اليمّ فى بحر الوحدة ، فلما غرقت فى بحر العظمة ، ذابت وتلاشت ، ولم يبق لها ولا لجنودها أثر ، وهو - أي : فرعون النّفس - مليم :
فعل ما يلام عليه من الميل إلى ما سوى اللّه قبل إلقائه فى اليم.
وفى عاد ، وهى جند النّفس وأوصاف البشرية ، من التكبر ، والحسد ، والحرص ، وغير ذلك ، إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم ريح المجاهدة والمكابدة. أو : ريح الواردات القهرية ، ما تذر من شىء من الأوصاف المذمومة إلا أهلكته ، وجعلته كالرميم. وفى ثمود ، وهم أهل الغفلة ، إذ قيل لهم : تمتعوا بدنياكم إلى حين زمان قليل مدة عمركم القصير ، فعتوا : تكبروا عن أمر ربهم ، وهو الزهد فى الدنيا ، والخضوع لمن يدعوهم إلى اللّه ، فأخذتهم صاعقة الموت على الغفلة والبطالة ، وهم لا ينظرون إلى ارتحالهم عما جمعوا ، فما استطاعوا من قيام ، حتى يدفعوا ما نزل بهم ، ولو افتدوا بالدنيا وما فيها ، وما كانوا ممتنعين من قهرية الموت ، فرحلوا بغير زاد ولا استعداد. وقوم نوح من قبل ، وهو من سلف من الأمم الغافلة ، إنهم كانوا قوما فاسقين خارجين عن حضرتنا.
والسماء ، أي : سماء الأرواح ، بنيناها ورفعناها بأيد ، ورفعنا إليها من أحببنا من عبادنا ، وإنا لموسعون على المتوجهين إلينا فى المعارف والأنوار ، والعلوم والأسرار ، والأرض وأرض النّفوس ، فرشناها للعبودية ، والقيام بآداب الربوبية ، فنعم الماهدون ، مهدنا الطريق لذوى التحقيق ، ومن كلّ شىء من تجليات الحق ، خلقنا ، أي : أظهرنا زوجين ، الحس والمعنى ، الحكمة والقدرة ، الشريعة والحقيقة ، الفرق والجمع ، الملك والملكوت ، الأشباح والأرواح ، الذات والصفات ، فتجلى الحق جل جلاله بين هذين الضدين ليبقى الكنز مدفونا ، والسر مصونا ، ولو تجلى بضد واحد لبطلت الحكمة ، وتعطلت أسرار الرّبوبية ، فمن لم يعرف اللّه تعالى فى هذين الضدين ، لم يعرفه أبدا ، ومن لم يفرق بين هذين الضدين ، فى هذه الأشياء المذكورة ، لم تنسج فكرته ، فصفاء الغزول هو التمييز بين هذين الضدين ، ذوقا ، وبينهما تنسج الفكرة ، وبالغيبة عن الأول فى شهود الثاني يحصل القرب إلى اللّه تعالى ، كما أبان ذلك فى قوله : (5/479)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 480
[سورة الذاريات (51) : الآيات 50 الى 55]
فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (51) كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52) أَتَواصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ (53) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ (54)
وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55)
يقول الحق جل جلاله : فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ ، الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها ، أي : إذا كان الأمر كما ذكر من شئونه تعالى فى إهلاك من تعدى الحدود ، ففروا إلى اللّه بالإيمان والطاعة ، كى تنجو من غضبه ، وتفوزوا بثوابه ، أو : ففروا من الكفر إلى الإيمان ، ومن المعصية إلى الطاعة ، أو : من طاعة الشيطان إلى طاعة الرّحمن ، إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ ، تعليل للأمر بالفرار إليه تعالى ، فإنّ كونه صلّى اللّه عليه وسلم منذرا منه تعالى ، لا من تلقاء نفسه ، موجب للفرار ، وفيه وعد كريم بنجاتهم من المهروب ، وفوزهم بالمطلوب ، وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ هو نهى موجب للفرار من سبب العقاب ، بعد الأمر بالفرار من نفس العقاب ، كما يشعر به قوله تعالى : إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ أي :
من الجعل المنهي عنه نَذِيرٌ مُبِينٌ كأنه قيل : ففروا إلى اللّه من عقابه ، ومن سببه ، وهو جعلكم مع اللّه إلها آخر.
كَذلِكَ أي : الأمر ما ذكر من تكذيبهم الرّسول ، وتسميتهم له ساحرا أو مجنونا ، ثم فسر ما أجمل بقوله ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ من قبل قومك مِنْ رَسُولٍ من رسل اللّه إِلَّا قالُوا فى حقه : هو ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ ، فرموهم بالسحر والجنون لجهلهم ، أَتَواصَوْا بِهِ ، الضمير للقول ، أي : أتواصى الأولون والآخرون بهذا القول ، حتى قالوه جميعا متفقين عليه ، بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ أي : لم يتواصوا به لأنهم لم يتلاقوا فى زمان واحد ، بل جمعتهم العلة الواحدة ، وهى الطغيان ، فَتَوَلَّ عَنْهُمْ أي : أعرض عن الذين كرّرت عليهم الدعوة ، فلم يجيبوا عنادا ، فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ فلا لوم عليك فى إعراضك بعد ما بلّغت الرّسالة ، وبذلت مجهودك فى البلاغ والدعوة. وَذَكِّرْ وعظ بالقرآن فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ الذين قدّر اللّه سبحانه وتعالى إيمانهم ، أو آمنوا بالفعل ، فإنها تزيدهم بصيرة وقوة فى اليقين والعلم. وباللّه التوفيق.
الإشارة : الفرار إلى اللّه يكون من خمسة أشياء : من الكفر إلى الإيمان ، ومن المعصية إلى الطاعة بالتوبة ، ومن الغفلة إلى اليقظة بدوام الذكر ، ومن المقام مع العوائد والحظوظ إلى الزهد بالمجاهدة وخرق العوائد ، ومن شهود الحس إلى شهود المعنى ، وهو مقام الشهود. وفى القوت : وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ الفرد ، (ففروا إلى اللّه) أي : من الأشكال والأضداد إلى الواحد الفرد. وفى البخاري : «معناه : من اللّه إليه» «1».
___________
(1) ذكره البخاري فى (التفسير - سورة الذاريات).(5/480)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 481
قال القشيري : ارجعوا إلى اللّه ، والإشارة إلى حالتين ، إما رغبة فى شىء ، أو رهبة من شىء ، أو حالى خوف ورجاء ، أو طلب نفع أو دفع ضر ، وينبغى أن يفر من الجهل إلى العلم ، ومن الهوى إلى التقوى ، ومن الشك إلى اليقين ، ومن الشيطان إلى اللّه ، ومن فعله الذي هو بلاؤه إلى فعله الذي هو كفايته ، ومن وصفه الذي هو سخطه ، إلى وصفه الذي هو رحمته ، ومن نفسه ، حيث قال : وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ «1» إلى نفسه ، حيث قال : فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ. ه. ونقل الورتجبي عن الخراز «2» ، فقال : أظهر معنى الرّبوبية والوحدانية ، بأن خلق الأزواج «3» فتخلص له الفردانية ، فلما تبين أن أشكال الأشياء تواقع «4» علة الفناء دعا العباد إلى نفسه لأنه الباقي ، وغيره فان ، بقوله :
فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ أي : ففروا من وجودكم ، ومن الأشياء كلها ، إلى اللّه بنعت الشوق والمحبة والتجريد عما سواه. ه.
ولمّا أمرهم بالفرار إليه ، أعلم أنه ما خلقهم إلا لذلك ، فقال :
[سورة الذاريات (51) : الآيات 56 الى 60]
وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ (56) ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58) فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ فَلا يَسْتَعْجِلُونِ (59) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (60)
يقول الحق جل جلاله : وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ أي : إلا لنأمرهم بالعبادة والخضوع لربوبيتى ، لا لنستعين بهم على شأن من شئونى ، كما هى عادة السادات فى كسب العبيد ، ليستعينوا بهم على أمر الرزق والمعاش ، ويدلّ على هذا التأويل : قوله تعالى ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ ... إلخ ، قال ابن المنير : إلا لأمرهم بعبادته ، لا لطلب رزق لأنفسهم ، ولا إطعام لى ، كما هو حال السادات من الخلق مع عبيدهم ، بل اللّه هو الذي يرزق ، وإنما على عباده العبادة له لأنهم مكلفون ، ابتلاء وامتحانا ، أما الإرادة فكما تعلقت بالعبادة تعلقت بما يخالفها ، لقوله :
وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ «5». ه. وقيل المعنى : ما خلقهم إلا مستعدين للعبادة ، متمكنين منها أتم استعداد ، وأكمل تمكن ، فمنهم من أطاع ، ومنهم من كفر ، وهو كقولهم : البقر مخلوقة للحرث ، أي : قابلة لذلك ، وقد يكون فيها من لا يحرث. والحاصل : أنه لا يلزم من كون الشيء معدّا لشىء أن يقع منه جميع ذلك.
أو : ما خلقتهم إلا ليتذللوا لى ، ولقدرتى ، وإن لم يكن ذلك على قواعد شرع ، وهذا عام فى الكل ، طوعا أو كرها إذ كلّ ما خلق منقاد لقدرته وقهريته ، عابد له بهذا المعنى. وفى البخاري : وما خلقت أهل السعادة من
___________
(1) من الآية 28 من سورة آل عمران.
(2) فى الورتجبي : الحراز.
(3) فى الورتجبي : الأرواح.
(4) فى الورتجبي : مواضع.
(5) من الآية 179 من سورة الأعراف.(5/481)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 482
الفريقين إلا ليوحّدون. وقال بعضهم : خلقهم ليفعلوا ، ففعل بعض وترك بعض. وليس فيه حجة لأهل القدر. ه.
منه «1». والمراد بأهل القدر : المعتزلة ، القائلون بأن اللّه تعالى لم يرد الكفر والمعاصي ، وهو باطل ، وسيأتى فى الإشارة بقية تحقيق إن شاء اللّه.
ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ أي : ما خلقتهم ليرزقوا أنفسهم ، أو واحدا من عبادى ، وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ ، قال ثعلب : أن يطعموا عبادى ، وهو إضافة تخصيص ، كقوله عليه السّلام : «من أكرم مؤمنا فقد أكرمنى ومن آذى مؤمنا فقد آذاني» «2» ، والحاصل : أنه تعالى بيّن أن شأنه مع عباده متعاليا عن أن يكون كشأن السادات مع عبيدهم ، حيث يملكونهم ليستعينوا بهم فى تحصيل معايشهم ، وتهيئة أرزاقهم ، أي : ما أريد أن أصرفهم فى تحصيل رزقى ولا رزقهم ، بل أتفضل عليهم برزقهم ، وبما يصلحهم ويعيشهم من عندى ، فليشتغلوا بما خلقوا له من عبادتى.
إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ أي : يرزق كلّ من يفتقر إلى الرّزق ، وفيه تلويح بأنه غنى عنه ، ذُو الْقُوَّةِ ذو الاقتدار ، الْمَتِينُ أي : الشديد الصلب. وقرأ الأعمش «المتين» بالجر «3» ، نعت للقوة ، أي : ذو القوة المتينة ، وإنما ذكّره لتأول القوة بالاقتدار.
فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا أنفسهم ، بتعريضها للعذاب ، حيث كذّبوا الرّسول صلّى اللّه عليه وسلم ، أو : وضعوا التكذيب مكان التصديق ، وهم أهل مكة ، ذَنُوباً أي : نصيبا وافرا من العذاب ، مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ مثل عذاب نظائرهم من الأمم المحكية. قال الزجاج : الذنوب فى اللغة : النصيب ، مأخوذ من مقاسمة السقاة الماء بالذنوب ، وهو الدلو العظيم المملوء. فَلا يَسْتَعْجِلُونِ ذلك النّصيب ، فإنه لاحق بهم ، وهذا جواب النّضر وأصحابه حين استعجلوا العذاب.
فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ، وضع الموصول موضع ضميرهم تسجيلا عليهم بالكفر ، أي : فويل لهم مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ ، أي : من يوم القيامة ، أو يوم بدر ، والأول أنسب لما فى صدر السورة الآتية.
الإشارة : اعلم أن الحق - جل جلاله - إنما بعث الرّسل بإظهار الشرائع ، ليحوّشوا العباد إلى اللّه ، ويدعوهم إليه كافة ، ويأمروهم بالتبتل والانقطاع ، من غير التفات لمن سبق له السعادة أو الشقاء لأن ذلك من سر القدر ، وغيب المشيئة لا يجوز كشفه فى حالة الدعوة ، فقوله تعالى : وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ هذا ما يمكن
___________
(1) ذكره البخاري فى (التفسير ، سورة «والذاريات»)
(2) أخرجه الديلمي (مسند الفردوس ح 5806) والطبراني فى الأوسط (ح 8645) من حديث جابر رضي اللّه عنه بلفظ : «من أكرم أخاه المؤمن فإنما يكرم اللّه عز وجل». وليس فيه الجزء الأخير.
(3) انظر «المحتسب فى تبيين وجوه شواذ القراءات» لابن جنى (2/ 289).(5/482)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 483
الأمر به فى ظاهر الأمر ، ويؤمر بإظهاره فى حالة الدعوة ، وكون الحق تبارك وتعالى أراد من قوم الكفر والمعاصي من غيب المشيئة ، وسر القدر لا يقدح فى عموم الدعوة التي تعلقت بالظواهر لأنه من قبيل الحقيقة ، وما جاءت الرّسل إلا بالشريعة ، فالدعاة إلى اللّه يعممون الدعوة ، ويحرّضون على التبتل والانقطاع إلى اللّه ، وينظرون إلى ما يبرز من غيب المشيئة. وقال الورتجبي : عن جعفر الصادق وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ أي :
ليعرفونى. ه. ومداره قوله صلّى اللّه عليه وسلم فيما يحكيه عن رب العزة : «كنت كنزا مخفيا لم أعرف ، فأحببت أن أعرف ، فخلقت الخلق لأعرف» «1» أي : ما أظهرت الخلق إلا لأعرف بهم ، فتجليت بهم فى قوالب العبودية ، لتظهر ربوبيتى فى قوالب العبودية ، فتظهر قدرتى وحكمتى ، فسبحان الحكيم العليم.
قال أبو السعود : ولعل السر فى التعبير عن المعرفة بالعبادة للتنبيه على أن المعتبر هى المعرفة الحاصلة بعبادته تعالى ، لا ما يحصل بغيرها ، كمعرفة الفلاسفة. ه. قلت : وكلّ معرفة وحقيقة لا تصحبها شريعة لا عبرة بها ، بل هى زندقة أو دعوى «2». وباللّه التوفيق.
وقوله تعالى : إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ، هذه الآية وأمثالها هى التي غسلت الأمراض والشكوك من قلوب الصدّيقين ، حتى حصل لهم اليقين الكبير ، فسكنت نفوسهم ، واطمأنت قلوبهم ، فهم فى روح وريحان. والأحاديث فى ضمان الرّزق كثيرة ، وأقوال السلف كذلك ، وفى حديث أبى سعيد الخدري عنه صلّى اللّه عليه وسلم قال : «لو فرّ أحدكم من رزقه لتبعه كما يتبعه الموت» «3» وقال أيضا عن اللّه عز وجل : «يقول : يا ابن آدم تفرغ لعبادتى ، أملأ صدرك غنى ، وأسد فقرك ، وإلا تفعل ملأت يدك شغلا» «4» ، وقال صلّى اللّه عليه وسلم : «من كانت الآخرة همّه ، جعل اللّه غناه فى قلبه ، وجمع له شمله ، وأتته الدنيا وهى صاغرة ، ومن كانت الدنيا همه جعل اللّه فقره بين عينيه ، وفرّق عليه شمله ، ولم يأته من الدنيا إلا ما قدّر له» «5».
___________
(1) قال ابن تيمية : إنه ليس من كلام النّبى صلّى اللّه عليه وسلم ، ولا يعرف له سند صحيح ولا ضعيف» وتبعه الزركشي وابن حجر. انظر : الشذرة (ح 717) وأسنى المطالب (1110) وتنزيه الشريعة (1/ 148).
(2) صدقت يا شيخنا رضي اللّه عنك.
(3) أخرجه الطبراني فى الصغير (1/ 220) والأوسط (ح 4444) وقال الهيثمي فى مجمع الزوائد (4/ 72) : «رواه الطبراني فى الأوسط والصغير ، وفيه عطية العوفى ، وهو ضعيف وقد وثّق». [.....]
(4) أخرجه أحمد فى المسند (2/ 358) والترمذي فى (صفة القيامة 4/ 554 ، ح 2466) وابن ماجة فى (الزهد ، باب الهم بالدنيا ، ح 4107) والحاكم (2/ 443) «وصحّحه وافقه الذهبي» من حديث أبى هريرة.
(5) أخرجه الترمذي فى الموضع السابق (ح 2465) من حديث أنس ، وبنحوه أخرجه ابن ماجة فى الموضع السابق (ح 4105) من حديث زيد بن ثابت رضي اللّه عنه.(5/483)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 484
وقال المحاسبى : قلت لشيخنا : من أين وقع الاضطراب فى القلوب ، وقد جاء الضمان من اللّه عز وجل؟ قال :
من وجهين من قلة المعرفة وقلة حسن الظن. ثم قال : قلت : شىء غيره؟ قال : نعم ، إن اللّه عز وجل وعد الأرزاق وضمنها ، وغيّب الأوقات ، ليختبر أهل العقول ، ولولا ذلك لكان كلّ المؤمنين راضين ، صابرين ، متوكلين ، لكن اللّه - عز وجل - أعلمهم أنه رازقهم ، وحلف لهم ، وغيّب عنهم أوقات العطاء ، فمن هنا عرف الخاص من العام ، وتفاوت العباد ، فمنهم ساكن ، ومنهم متحرك ، ومنهم ساخط ، ومنهم جازع ، فعلى قدر ما تفاوتوا فى المعرفة تفاوتوا فى اليقين. ه. مختصرا. وباللّه التوفيق. وصلّى اللّه على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.(5/484)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 485
سورة الطّور
مكية. وهى سبع وأربعون آية. ومناسبتها لما قبلها قوله : فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ «1» وهو يوم القيامة ، وهو الذي أقسم عليه بقوله :
[سورة الطور (52) : الآيات 1 الى 8]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالطُّورِ (1) وَكِتابٍ مَسْطُورٍ (2) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (3) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (4)
وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (5) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (6) إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ (7) ما لَهُ مِنْ دافِعٍ (8)
يقول الحق جل جلاله : وَالطُّورِ ، هو الجبل الذي كلّم اللّه عليه موسى بمدين ، وَكِتابٍ مَسْطُورٍ وهو القرآن العظيم ، ونكّر لأنه كتاب مخصوص من بين سائر الكتب ، أو : اللوح المحفوظ ، أو : التوراة ، كتبه اللّه لموسى ، وهو يسمع صرير القلم ، فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ ، الرق : الجلد الذي يكتب فيه ، والمراد : الصحيفة ، وتنكيره للتفخيم والإشعار بأنها ليست مما يتعارفه النّاس ، والمنشور : المفتوح لا ختم عليه ، أو : الظاهر للناس ، وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ وهو بيت فى السماء السابعة ، حيال الكعبة ، ويقال له : الضراح «2» ، وعمرانه بكثرة زواره من الملائكة ، روى : أنه يدخله كلّ يوم سبعون ألف ملك ، يطوفون به ، ويخرجون ، ومن دخله لا يعود إليه أبدا «3» ، وخازنه ملك يقال له : «رزين». وقيل : الكعبة ، وعمارته بالحجاج والعمّار والمجاورين.
وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ أي : السماء ، أو : العرش ، وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ أي : المملوء ، وهو البحر المحيط ، أو الموقد ، من قوله تعالى : وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ «4» ، والمراد الجنس ، روى «أن اللّه تعالى يجعل البحار يوم القيامة
___________
(1) الآية الأخيرة من سورة الذاريات.
(2) روى ذلك عن ابن عباس ، مرفوعا ، فيما ذكره السيوطي فى الدر (6/ 144) وعزاه للطبرانى وابن مردويه ، بسند ضعيف.
وأخرجه ابن جرير ، عن سيدنا علىّ رضي اللّه عنه.
(3) أخرجه مسلم فى (الإيمان) باب الإسراء برسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ح رقم 59 ، ح 162) عن أنس بن مالك رضي اللّه عنه فى حديث الإسراء ، وفيه :
«فإذا أنا بإبراهيم عليه السّلام مسندا ظهره إلى البيت المعمور ، وإذا هو يدخله كلّ يوم سبعون ألف ملك ، لا يعودون إليه ...» الحديث.
(4) الآية 6 من سورة التكوير.(5/485)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 486
نارا ، تسجر بها نار جهنم ، كما يسجر التنور بالحطب» وعن ابن عباس : المسجور : المحبوس «1» ، أي : الملجم بالقدرة.
والواو الأولى للقسم ، والتوالي للعطف ، والمقسم عليه : إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ لنازل حتما ، ما لَهُ مِنْ دافِعٍ أي : لا يمنعه مانع ، والجملة : صفة لواقع ، أي : وقع غير مدفوع. و«من» مزيدة للتأكيد ، وتخصيص هذه الأمور بالإقسام بها لأنها أمور عظام ، تنبئ عن عظم قدرة اللّه تعالى ، وكما علمه ، وحكمته الدالة على إحاطته تعالى بتفاصيل أعمال العباد ، وضبطها ، الشاهدة بصدق أخباره ، التي من جملتها : الجملة المقسم عليها.
الإشارة : أقسم اللّه تعالى بجبل العقل ، الذي أرسى به النّفس أن تميل إلى ما فيه هلاكها ، وبما كتب فى قلوب أوليائه من اليقين ، والعلوم ، والأسرار ، قال تعالى : أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ»
وذلك حين رقّت وصفت من الأغيار ، ثم أقسم أيضا بذلك القلب ، وهو البيت المعمور لأن القلب بيت الرّب ، «يا داوود طهّر بيتا أسكنه ...»
الحديث «3» ، وهو معمور بالمعارف والأنوار ، وأقسم بسماء الأرواح المرفوعة عن خوض عالم الأشباح ، وهو سقف بيت القلب ، وبحر الأحدية الذي عمر كلّ شىء ، وأحاط بكلّ شىء ، وأفنى كلّ شىء ، فالوجود كله بحر متصل ، أوله وآخره ، وظاهره وباطنه. إنّ عذاب ربك لأهل العذاب ، وهم أهل الحجاب ، لواقع ، وأعظم العذاب : غم الحجاب وسوء الحساب. ومن دعاء السرى السقطي : اللهم مهما عذبتنى فلا تعذبنى بذل الحجاب. ه. ما له من دافع لا يدفعه أحد من الخلق ، إلا من رحم اللّه ، أو : من أهلّه اللّه لذلك من أهل التربية النّبوية.
ثم ذكر وقت ما أقسم عليه ، فقال :
[سورة الطور (52) : الآيات 9 الى 16]
يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً (9) وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً (10) فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (11) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (12) يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (13)
هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (14) أَفَسِحْرٌ هذا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ (15) اصْلَوْها فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (16)
يقول الحق جل جلاله : واذكر يَوْمَ تَمُورُ أو : لواقع يوم تمور السَّماءُ أي : تدور كالرحى مضطربة مَوْراً عظيما تتكفأ بأهلها كالسفينة ، وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً أي : تزول عن وجه الأرض ، فتصير فى الهواء
___________
(1) أخرجه الطبري.
(2) من الآية 22 من سورة المجادلة.
(3) ذكره ابن القيسرانى فى تذكرة الموضوعات (536).(5/486)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 487
كالهباء. وتأكيد الفعل بمصدريهما للإيذان بغرابتهما وخروجهما عن الحدود المعهودة ، أي : مورا عجيبا وسيرا بديعا ، لا يدرك كنههما. فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ إذا وقع ذلك ، أو : إذا كان الأمر كما ذكر ، فويل لهم إذا وقع ذلك ، الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ أي : فى اندفاع عجيب فى الأباطيل والأكاذيب يَلْعَبُونَ : يلهون ، فالخوض غلب بإطلاقه فى الاندفاع فى الباطل والكذب ، ومنه قوله : وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ «1». يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا أي : يدفعون إليها دفعا عنيفا شديدا ، بأن تغلّ أيديهم إلى أعناقهم ، وتجمع نواصيهم إلى أقدامهم ، فيدفعون إلى النّار على وجوههم ، ويقال لهم : هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ فى الدنيا.
أَفَسِحْرٌ هذا ، توبيخ وتقريع لهم ، حيث كانوا يسمون الوحى النّاطق بذلك العذاب سحرا ، كأنه قيل : كنتم تقولون للقرآن النّاطق بهذا سحرا ، أفهذا أيضا سحر؟. وتقديم الخبر لأنه محط الإنكار ومدار التوبيخ. أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ أم أنتم عمى عن المخبر عنه ، كما كنتم عميا عن الخبر؟ وهذا تقريع وتهكم ، اصْلَوْها فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا أي : ادخلوها وقاسوا شدائدها فافعلوا ما شئتم من الصبر وعدمه ، سَواءٌ عَلَيْكُمْ الأمران الصبر وعدمه ، ف «سواء» : مبتدأ حذف خبره. وعلل استواء الصبر وعدمه بقوله : إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ من الكفر والمعاصي ، فالصبر إنما يكون له مزية على الجزع لنفعه فى العاقبة بأن يجازى عليه الصابر جزاء الخير ، وأما الصبر على العذاب ، الذي هو الجزاء ، ولا عاقبة له ولا منفعة ، فلا مزيّة له على الجزع. نعوذ باللّه من موارد الهوان.
الإشارة : يوم تمور سماء الأرواح ، أي : تتحرك الأرواح وتهيج بالواردات الإلهية ، شوقا إلى اللقاء ، فإذا حصل اللقاء وقع لها السكون والطمأنينة ، ولذلك قيل : «المحبة أولها جنون ، ووسطها فنون ، وآخرها سكون». وسبب هذا الاضطراب الذي يظهر على المريد فى أول بدايته : أنّ جند الأنوار إذا أراد أن يدخل على جند الأغيار ، ويخرجه من وطنه - الذي هو باطن العبد - وقع بينهما تجارب وتضارب ، فجند الأنوار يريد أن يقلع جند الأغيار من باطن العبد ، ويسكن هو ، وجند الأغيار يريد المقام فى وطنه ، فلا يزال القتال بينهما ، حتى يغلب واحد منهما ، فإذا غلب جند الأنوار سكن فى الباطن ، وسكن الظاهر ، ولم تقع فكرة العبد إلا فى التوحيد ، أو ما يقرب إلى الحق تعالى ، وإذا غلب جند الأغيار ، ولم يترك جند الأنوار يدخل إلى الباطن ، سكن الظاهر أيضا ، ويبقى باطن العبد محشوا بالخواطر والوساوس الدنيوية كما كان ، ورجع العبد إلى مقام العمومية.
وقوله تعالى : وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً أي : تزول جبال وجود العبد عند إشراق أنوار الحقائق ، فويل يومئذ للمكذّبين ، أي : بعد لأهل الإنكار عن حضرة الأسرار ، حين ظفر الطالب بالمطلوب ، ووصل المحب إلى المحبوب ،
___________
(1) الآية 45 من سورة المدثر.(5/487)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 488
الذين هم فى خوض الدنيا وشهواتها وزخارفها يلعبون ، لا حديث لهم إلا عليها ، ولا فكرة إلا فيها. يوم يدعّون إلى النار القطيعة والبعد ، دعّا ، لا خلاص منها ، ولا رجوع ، فتناديهم عزة الحق تعالى : هذه النّار التي كنتم بها تكذّبون ، وتقولون : لا يقطعنا عن اللّه شىء من الدنيا ، وترمون أهل التربية بالسحر ، أفسحر هذا أم أنتم لا تبصرون حقائق هذه المعاني؟ أصلوا نار القطيعة ، فاصبروا على غم الحجاب ، أو لا تصبروا ، إذ لم تصبروا على مخالفة النفوس حين ينفعكم الصبر ، سواء عليكم أجزعتم أم صبرتم ، إنما تجزون ما كنتم تعملون فى الدنيا ، من إيثار الهوى والحظوظ ، على مجاهدة النّفوس.
ثم ذكر أضدادهم ، فقال :
[سورة الطور (52) : الآيات 17 الى 23]
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (17) فاكِهِينَ بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (18) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (19) مُتَّكِئِينَ عَلى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (20) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ (21)
وَأَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (22) يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ (23)
يقول الحق جل جلاله : إِنَّ الْمُتَّقِينَ الشرك والمعاصي فِي جَنَّاتٍ عظيمة وَنَعِيمٍ أىّ نعيم ، فالتنكير للتفخيم ، أو : للتنوع ، أي : جنات مخصوصة بهم ، ونعيم مخصوص ، فاكِهِينَ ناعمين متلذذين بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ بما أتحفهم ، وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ ، عطف على «آتاهم» على أن «ما» مصدرية ، أي :
فاكهين بإتيانهم وبوقايتهم ، أو : على «فى جنات النّعيم» أي : استقروا فى جنات ووقاهم ، أو : حال ، إما من المستكن فى الخبر ، أو : من فاعل «آتى» ، أو : مفعوله بإضمار «قد». وإظهار الرّب فى موضع الإضمار مضافا إلى ضمير (هم) لتشريفهم ، ويقال لهم : كُلُوا وَاشْرَبُوا ما شئتم هَنِيئاً أي : أكلا وشربا هنيئا ، أو : طعاما وشرابا هنيئا ، لا تنغيص فيه بخوف انقطاعه أو فواته ، بِما كُنْتُمْ أي : عوض ما كنتم تَعْمَلُونَ فى الدنيا من الخير ، أو جزاءه.
مُتَّكِئِينَ عَلى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ مصطفة ، وهو حال من الضمير فى «كلوا واشربوا» ، وَزَوَّجْناهُمْ أي :
قرنّاهم بِحُورٍ جمع حوراء عِينٍ : جمع عيناء ، أي : عظام الأعين حسانها. وفى الكشّاف : وإنما دخلت(5/488)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 489
الباء فى (بحور) لتضمن معنى زوجناهم قرناهم. ه. وقال الهروي : (زوّجناهم) أي : قرناهم ، والأزواج : الأشكال والقرناء ، وليس فى الجنة تزويج. ه. والمنفي : تحمل مؤنة التزويج والمعاقدة ، وإنما يقع التمليك والإقران.
وَالَّذِينَ آمَنُوا : مبتدأ ، وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ : عطف على (آمنوا) ، وبِإِيمانٍ متعلق بالاتباع ، والخبر :
أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ «1» أي : تلحق الأولاد بدرجات الآباء إذ شاركوهم فى الإيمان ، وإن قصرت أعمال الذرية عن أعمال الآباء ، وكذلك الآباء تلحق بدرجة الأبناء لتقرّ بذلك أعينهم ، فيلحق بعضهم ببعض ، إذا اجتمعوا فى الإيمان من غير أن ينقص أجر من هو أحسن عملا شيئا ، بزيادته فى درجة الأنقص ، ولا فرق بين من بلغ من الذرية ، أو لم يبلغ ، إذا كان الآباء مؤمنين. انظر الثعلبي.
وفى حديث ابن عباس : «إذا دخل أهل الجنة الجنة ، يسأل الرّجل عن أبويه ، وزوجته ، وولده ، فيقال : إنهم لم يدركوا ما أدركت ، فيقول : لقد عملت لى ولهم أجمعين ، فيؤمر بإلحاقهم به» «2». قال القشيري : ليكمل عليهم سرورهم بذلك فإنّ الانفراد بالنعمة والقلب مشتغل بالأهل والذرية ينغص العيش ، وكذلك كلّ من يلاحظ قلبا من صديق وقريب وولىّ وخادم ، قال تعالى فى قصة يوسف : وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ «3». ه.
قال فى الحاشية : وربما يستأنس بما ذكر فى الجملة بقوله : وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ... الآية «4» ، وما قيل فى سبب نزولها «5» ، وكذلك حديث : «المرء مع من أحب» «6» ، وحال الجنة مما لا يخطر على بال ، فيجوز أن يكون الأدنى مع الأعلى بمنازلته معه ، مع مباينته له بحقيقته ، كما أنّ حيطة الحق تعالى شاملة للكل ، وكلّ يتعرف له على قدره ، فالكلّ معه بمطلق التعرف ، مع تحقق التفاوت ، وأهل الجنة فيها على حكم الأرواح ، وأحكامها لا تكيف ، واعتبر بالفروع مع الأصول ، مع تفاوتها. واللّه أعلم. ه.
___________
(1) أثبت المفسر - رحمه اللّه - قراءة «ذرياتهم» بالجمع ، وهى قراءة نافع وأبى جعفر ، فى الثاني دون الأول ، وقرأ ابن كثير ، وعاصم ، وحمزة ، والكسائي ، وخلف : «ذريتهم» بالتوحيد فى الأول والثاني ، وقرأ ابن عامر ويعقوب «ذرياتهم» بالجمع فى الأول والثاني.
انظر الإتحاف 2/ 495 - 496.
(2) عزاه السيوطي فى الدر (6/ 148) للطبرانى وابن مردويه ، عن ابن عباس رضي اللّه عنه مرفوعا ..
(3) من الآية 93 من سورة يوسف.
(4) الآية 69 من سورة النّساء. [.....]
(5) راجع سبب نزول الآية فى (1/ 525).
(6) أخرجه البخاري فى (الأدب ، باب علامة الحب فى اللّه ، ح 6169 وح 6170) عن ابن مسعود ، وأبى موسى - رضي اللّه عنهما ، ومسلم فى (البر والصلة ، باب المرء مع من أحب ، ح 2640) عن ابن مسعود.(5/489)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 490
والحاصل : أنهم يلحقون بهم فى الطبقة ، ويتفاوتون فى نعيم الأرواح والأشباح ، وفى الرّؤية والزيادة «1». واللّه تعالى أعلم.
وَما أَلَتْناهُمْ أي : ما نقصنا الآباء بهذا الإلحاق مِنْ عَمَلِهِمْ من ثواب عملهم مِنْ شَيْءٍ بأن أعطينا بعض مثوباتهم لأبنائهم ، فتنقص مثوبتهم ، وتنحط درجتهم ، وإنما رفعناهم إلى منزلتهم بمحض التفضل والإحسان. والألت : البخس. وقرأ المكي : (ألتناهم) بكسر اللام ، من : ألت يألت ، كعلم يعلم «2» ، و«من» الأولى متعلقة ب «ألتناهم» ، والثانية زائدة لتأكيد النّفى. كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ أي : كل امرئ مرهون عند اللّه تعالى بعمله ، فإن كان صالحا فله ، وإلا أهلكه. والجملة : استئناف بيانى ، كأنه لمّا قال : ما نقصناهم من عملهم شيئا نعطيه الأبناء حتى يلحقوا بهم على سبيل التفضل ، قيل : لم كان الإلحاق تفضلا؟ قال : لأن كلّ امرئ بما كسب رهين ، وهؤلاء لم يكن لهم عمل يلحقوا بسببه بهم ، فألحقوا تفضلا.
وَأَمْدَدْناهُمْ أي : وزودناهم فى وقت بعد وقت بِفاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ من فنون النّعماء وألوان اللآلئ ، وإن لم يطلبوا ذلك. يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً أي : يتعاطون ويتعاورون «3» هم وجلساؤهم من أقربائهم كأسا فيها خمر ، يتناول هذا الكأس من يد هذا ، وهذا من يد هذا ، بكمال رغبة واشتياق ، لا لَغْوٌ فِيها أي : فى شربها ، فلا يتكلمون فى أثناء الشراب إلا بكلام طيب ، فلا يجرى بينهم باطل ، وَلا تَأْثِيمٌ أي : لا يفعلون ما يوجب إثما لصاحبه لو فعله فى دار التكليف ، كما هو شأن المنادمين فى الدنيا ، وإنما يتكلمون بالحكم وأحاسن الكلام ، ويفعلون ما يفعله الكرام.
قال القشيري : لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ لا يجرى بينهم باطل ولا ما فيه لوم ، كما يجرى من الشّرب «4» اليوم فى الدنيا ، ولا تذهب عقولهم ، فيجرى بينهم ما يخرج عن حدّ الأدب والاستقامة ، وكيف لا يكون مجلسهم بهذه الصفة ، وعلى المعلوم من يسقيهم بمشهد من مجلوسهم ، وعلى رؤية من شربهم ، والقوم عن الدار وعن ما فيها مختطفون باستيلاء ما يستغرقهم ، فالشراب يؤنسهم ، ولكن لا يمر بحاستهم. ه.
وقرأ المكي والبصري بالفتح «5» فيها على إعمال «لا» النافية للجنس.
___________
(1) على هامش النّسخة الأم ما يلى : هذا تحكم على الآية ، وعلى كرم اللّه تعالى ، فإن الآية مطلقة فى الإلحاق ، فلا يقيدها إلا آية ، أو حديث صحيح. ه.
(2) والأول (ألتناهم) بفتح اللام ، من : ألت يألت ، كضرب يضرب.
(3) تعوروا الشيء وتعاوروه : تداولوه فيما بينهم. انظر اللسان (عور 4/ 3168).
(4) الشّرب : جمع شارب ، كراكب ، وركب. وهم القوم يشربون ويجتمعون للشراب ، انظر اللسان (شرب ، 4/ 2222).
(5) فى «لا لغو فيها ولا تأثيم» وقد قرأ ابن كثير وأبو عمرو بالفتح بلا تنوين ، وقرأ الباقون بالرفع والتنوين. انظر الإتحاف 1/ 496.(5/490)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 491
الإشارة : إنّ المتقين ما سوى اللّه فى جنات المعارف عاجلا ، وجنات الزخارف والمعارف آجلا ، ونعيم المشاهدات والمكاشفات والمناجاة ، فاكهين ، معجبين ، متلذذين بما آتاهم ربهم من أصناف ألطافه ، وتقريبه ، ووقاهم ربّهم عذاب الجحيم ، أي : نار شهوة نفوسهم ، فبردت عنهم ، وسلموا منها ، كلوا من طعام المشاهدات ، واشربوا من أمداد الزيادات والترقيات ، هنيئا بما كنتم تعملون من المجاهدات والمكابدات ، متكئين على سرر المقامات ، والدرجات ، مصفوفة فى منازل العبودية ، وزوجناهم بحور عين من أبكار الحقائق ، وثيبات العلوم ، والذين آمنوا بهذه الطريق وسلكوها ، واتبعتهم ذريتهم ومن تعلق بهم من طلاب الحق ، ألحقنا بهم ذريتهم ومن تعلق بهم ، وإن لم يبلغوا صفاء مشربهم من الوصال والاتصال ، فيكونون معهم فى الدرجة ، مع تفاوتهم فى نعيم المشاهدة ، وما ألتناهم من عملهم من شىء ، بل ألحقناهم بهم فضلا وكرما ، مع توفر ثواب عمل الملحق بهم. كل امرئ بما كسب رهين ، لا يزيد نعيم روحه على سعيه فى الدنيا ومجاهدته ، وإن تساوى فى الدرجة مع غيره. وأمددناهم بفاكهة من حلاوة المعاملة ، ولحم مما يشتهون من لذائذ المشاهدة ، يتنازعون فيها فى جنة المعارف ، كأس خمرة المحبة والفناء ، فيفنون عن وجودهم فى شهود محبوبهم. يتناولون ذلك من أشياخهم واحدا بعد واحد ، وقد يجتمعون فى كأس واحدة ، لا لغو فيها ، أي : لا حديث للنفس فى حال شربها ، بل الهم كله مجموع فيها ، كما قال القائل :
وإذا جلست إلى المدام وشربه فاجعل حديثك كلّه فى الكأس
فالخمرة التي يشوبها شىء من حديث النّفس ليست بصافية من الأكدار. ولا تأثيم بنزوع الرّوح إلى طبع النفس ، إذا نزلت إلى سماء الحقوق ، أو أرض الحظوظ ، بل تكون فى ذلك باللّه ، ومن اللّه ، وإلى اللّه ، تنزل بالإذن والتمكين ، والرّسوخ فى اليقين ، جعلنا اللّه من ذلك القبيل بمنّه وكرمه.
وقال الورتجبي : يَتَنازَعُونَ ... الآية ، وصفهم اللّه فى شربهم كاسات شراب الوصلة بالمسارعة والشوق إلى مزيد القربة ، ثم وصف شرابهم أنه يورثهم التمكين والاستقامة فى السكر ، لا يزول حالهم إلى الشطح والعربدة ، وما يتكلم به سكارى المعرفة فى الدنيا عند الخلق ، ولا يشابه حال أهل الحضرة حال أهل الدنيا من جميع المعاني. ه.
ثم قال تعالى :
[سورة الطور (52) : الآيات 24 الى 28]
وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (24) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (25) قالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ (26) فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ (27) إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (28)(5/491)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 492
يقول الحق جل جلاله : وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ أي : بالكأس أو : فى شأن الخدمة كلها غِلْمانٌ لَهُمْ أي :
مماليك مخصصون بهم ، قيل : أولاد الكفار الذين ماتوا صغارا ، وقيل : توجدهم القدرة من الغيب ، وفى الحديث : «إن أدنى أهل الجنة منزلة من ينادى الخادم من خدامه ، فيجيبه ألف ، كلهم يناديه : لبيك لبيك» «1». قلت : هذا فى مقام أهل اليمين ، ولما المقربون فإذا اهتموا بشىء حضر ، بغلام أو بغير غلام ، من غير احتياج إلى نداء. وقال ابن عمر رضي اللّه عنه : (ما من أحد من أهل الجنة إلا يسعى عليه ألف غلام ، كل غلام على عمل ما عليه صاحبه) «2».
كَأَنَّهُمْ من بياضهم وصفائهم لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ مصون فى الصدف لأنه حينئذ يكون أصفى وأبهى ، أو مخزون لأنه لا يخزن إلا الثمن الغالي القيمة. قيل لقتادة : هذا الخادم فكيف المخدوم؟ ، فقال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم :
«والذي نفسى بيده إن فضل المخدوم على الخادم كفضل القمر ليلة البدر على سائر النّجوم» «3».
وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ يسأل بعضهم بعضا عن أحواله وأعماله ، وما استحق به نيل ما عند اللّه ، ف كل بعض سائل ومسئول. قالُوا أي : المسئولون فى جوابهم ، وهم كلّ واحد منهم فى الحقيقة : إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا أي : فى الدنيا مُشْفِقِينَ أرقّاء القلوب من خشية اللّه ، أو : خائفين من نزع الإيمان وفوت الأمان ، أو : من ردّ الحسنات والأخذ بالسيئات ، أو : واجلين من العاقبة ، فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا بالمغفرة والرّحمة وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ وهى الرّيح الحارة ، التي تدخل المسامّ ، فسمّيت بها نار جهنم لأنها بهذه الصفة. إِنَّا كُنَّا قَبْلُ أي : من قبل لقاء اللّه والمصير إليه - يعنون : فى الدنيا ، نَدْعُوهُ نعبده ولا نعبد غيره ، أو نسأله الوقاية ، إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ المحسن الرَّحِيمُ الكثير الرّحمة ، الذي إذا عبد أثاب ، وإذا سئل أجاب ، وقرأ نافع والكسائي بالفتح «4» ، أي : لأنه ، أو بأنه.
الإشارة : ويطوف على قلوبهم علوم وهبية ، وحكم غيبية ، تزهو على اليواقيت المكنونة. وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون : كيف سلكوا طريق الوصول ، وكيف كانت مجاهدة كلّ واحد ومسيره إلى اللّه ، إما تحدثا بالنعم ، أو :
للاقتداء بهم ، وفى الحكم : «عبارتهم إما لفيضان وجد ، أو : لهداية مريد» «5». إنّا كنا قبل الوصول فى أهلنا ، أي : فى عالم الإنسانية مشفقين من الانقطاع والرّجوع ، خائفين من سموم صفات البهيمية والشيطانية ، والشهوات الدنيوية ، فإنها تهب بسموم قهر الحق ، قهر بها جلّ عباده فانقطعوا عنه ، فمنّ اللّه علينا ، ووصلنا بما منه إلينا ، لا بما منا إليه ،
___________
(1) عزاه الحافظ ابن حجر فى الكافي الشاف (ص 160) للثعلبى ، عن وكيع عن هشام عن أبيه ، عن السيدة عائشة - رضي اللّه عنها.
(2) ذكره البغوي فى تفسيره (7/ 390).
(3) أخرجه عبد الرّزّاق فى التفسير (2/ 248) والطبري (27/ 29) عن قتادة ، مرسلا.
(4) فى «ندعوه أنه» على التعليل ، وقرأ الباقون «إنه» بالكسر على الاستئناف. انظر الإتحاف (2/ 497).
(5) حكمة رقم 186 انظر الحكم بتبويب المتقى الهندي (ص/ 36).(5/492)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 493
ووقانا عذاب السموم ، وهو الحرص والجزع ، والانقطاع عن الحبيب ، ولو لا فضله ما تخلصنا منه ، إنّا كنا من قبل الوصول ندعوه أن يأخذ بأيدينا ، ويجذبنا إلى حضرته ، ويرحمنا بالوصول ، ويبرّ بنا ، إنه هو البر بمزيده ، الرحيم بمن ينيب إليه.
ثم أمر نبيّه باستمراره على ما أمره به من التذكير فيما سلف ، فقال :
[سورة الطور (52) : الآيات 29 الى 43]
فَذَكِّرْ فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ (29) أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (30) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (31) أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ (32) أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ (33)
فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ (34) أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ (36) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ (37) أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (38)
أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ (39) أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (40) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (41) أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (42) أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (43)
يقول الحق جل جلاله : فَذَكِّرْ أي : فاثبت على ما أنت عليه من تذكير النّاس وموعظتهم ، فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ أي : بحمده وإنعامه عليك بالنبوة ورجاحة العقل بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ كما زعموا ، قاتلهم اللّه أنّى يؤفكون ، أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ أي : حوادث الدهر ، أي : ننتظر به نوائب الزمان حتى يهلك كما هلك الشعراء من قبله ، زهير والنّابغة. و«أم» فى هذه الآي منقطعة بمعنى «بل».
قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ أتربّص هلاككم ، كما تتربصون هلاكى. وفيه عدة كريمة بإهلاكهم.
وقد جرب أنّ من تربص موت أحد لينال رئاسته ، أو ما عنده ، لا يموت إلا قبله.
أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ أي : عقولهم بِهذا التناقض فى المقالات ، فإنّ الكاهن يكون ذا فطنة ودقة نظر فى الأمور ، والمجنون مغطى عقله ، مختل فكره ، والشاعر يقول ما لا يفعل ، فكيف يجتمع أوصاف هؤلاء فى(5/493)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 494
واحد؟ وكانت قريش يدعون أهل الأحلام والنّهى ، فكذبهم ما صدر منهم من هذه المقالات المضطربة ، أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ يجاوزون الحدود فى المكابرة والعناد ، ولا يحومون حول الرّشد والسداد. وإسناد الأمر إلى الأحلام مجاز.
أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ اختلقته من تلقاء نفسه ، بَلْ لا يُؤْمِنُونَ ، ردّ عليهم ، أي : ليس الأمر كما زعموا ، بل لكفرهم وعنادهم يقذفون بهذه الأباطيل ، التي لا يخفى بطلانها على أحد ، فكيف يقدر البشر أن يأتى بما عجز عنه كافة الأمم من العرب والعجم ، فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ أي : مثل القرآن فى البلاغة والإعجاز إِنْ كانُوا صادِقِينَ فى أن محمدا تقوّله من تلقاء نفسه لأنه بلغاتهم ، وهم فصحاء ، مشاركون له صلّى اللّه عليه وسلم فى العربية والبلاغة ، مع ما لهم من طول الممارسة للخطب والأشعار ، وكثرة المقاولة للنظم والنّثر ، والمبالغة فى حفظ الوقائع والأيام ، ولا ريب فى أنّ القدرة على الشيء من موجبات الإتيان به مع دواعى الأمر بذلك من تعجيزهم وإفحامهم وطلب معارضتهم.
أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أي : أم أحدثوا وقدّروا هذا التقدير البديع ، الذي عليه فطرتهم ، من غير محدث ومقدّر. أو : أم خلقوا من غير شىء من الحكمة ، بأن خلقوا عبثا ، فلا يتوجه عليهم حساب ولا عقاب؟ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ الموجدون لأنفسهم؟ فيلزم عليه الدور ، وهو تقدم الشيء على نفسه وتأخره عنها ، أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فلا يعبدون خالقهما بَلْ لا يُوقِنُونَ لا يتدبرون فى الآيات ، فيعلمون خالقهم ، وخالق السموات والأرض ، فيفردونه بالعبادة.
أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ من النّبوة والرّزق وغيرهما ، فيخصّوا بما شاءوا من شاءوا ، أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ أي : الأرباب الغالبون ، المسلّطون على الأمور يدبرونها كيف شاءوا ، حتى يدبروا أمر الرّبوبية ، ويبنوا الأمور على إرادتهم ومشيئتهم. وقرأ المكي والشامي بالسين على الأصل.
أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ منصوب يرتقون به إلى السماء ، يَسْتَمِعُونَ فِيهِ كلام الملائكة ، وما يوحى إليهم من علم الغيب ، حتى يعلموا أن ما هم عليه حق ، وما عليه غيرهم باطل ، أو ما هو كائن من الأمور التي يتفوّهون بها رجما بالغيب ، ويعلّقون بها أطماعهم الفارغة من هلاكه صلّى اللّه عليه وسلم قبلهم ، وانفرادهم بالرئاسة. و«فى» : سببية ، أي :
يستمعون بسبب حصولهم فيه ، أو : ضمّن «يستمعون» يعرجون. وقال الزجاج : (يستمعون فيه) أي : عليه ، فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ بحجة واضحة ، تصدق استماع مستمعهم.(5/494)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 495
ثم سفّه أحلامهم بقوله : أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ ، حيث اختاروا للّه ما يكرهون ، وهم حكماء فى زعمهم ، أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً على التبليغ والإنذار فَهُمْ لأجل ذلك مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ أي : من التزام غرامة فادحة محمّلون الثقل ، فلذلك لا يتبعونك. والمغرم : أن يلزم الإنسان ما ليس عليه. أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ أي : اللوح المحفوظ ، المكتوب فيه الغيوب ، فَهُمْ يَكْتُبُونَ ما فيه ، حتى يتكلموا فى ذلك بنفي أو إثبات.
أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً هو كيدهم برسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم فى دار النّدوة ، فَالَّذِينَ كَفَرُوا وهم المذكورون ، ووضع الموصول موضع ضميرهم للتسجيل عليهم بالكفر ، أي : ف هُمُ الْمَكِيدُونَ الذين يحيق بهم كيدهم ، ويعود عليهم وباله ، لا من أرادوا أن يكيدوه وهو ما أصابهم يوم بدر وغيره. أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يمنعهم من عذابه ، سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ أي : تنزيها له عن إشراكهم ، أو : عن شركة ما يشركونه به. وحاصل ما ذكر الحق وتعالى من الإضرابات : أحد عشر ، ثمانية طعنوا بها فى جانب النّبوة ، وثلاثة فى جانب الرّبوبية ، وهو قوله : أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ ، أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ ، أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ ذكرها الحق تعالى تسلية لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أي : كما طعنوا فى جنابك طعنوا فى جانبى ، فاصبر حتى نأخذهم.
الإشارة : فذكّر أيها الخليفة للرسول ، فما أنت بحمد اللّه بكاهن ولا مجنون ، وإن رموك بشىء من ذلك. قال القشيري : قد علموا أنه صلّى اللّه عليه وسلم برىء من الكهانة والجنون ، ولكنهم قالوه على جهة الاشتفاء ، كالسفيه إذا بسط لسانه فيمن يشنأه «1» بما يعلم أنه برىء مما يقوله. ه. وكلّ ما قيل فى جانب النّبوة يقال مثله فى جانب الولاية ، سنّة ماضية. قال القشيري : طبع الإنسان متنفرة من حقيقة الدين ، مجبولة على حب الدنيا والحظوظ ، لا يمكن الخروج منها إلا بجهد جهيد ، على قانون الشريعة ، ومتابعة الرّسول صلّى اللّه عليه وسلم وخلفائه ، وهم العلماء الرّبانيون ، الراسخون فى العلم باللّه ، من المشايخ المسلّكين فى كلّ زمان ، والخلق مع دعوى إسلامهم ينكرون على سيرهم فى الأغلب ، ويستبعدون ترك الدنيا والعزلة ، والانقطاع عن الخلق ، والتبتل إلى اللّه ، وطلب الأمن. كتب اللّه فى قلوبهم الإيمان ، وأيّدهم بروح منه ، وهو الصدق فى الطلب ، وحسن الإرادة المنتجة من بذر يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ، وذلك فضل اللّه يؤتيه من يشاء. ه مختصرا.
وقوله تعالى : قُلْ تَرَبَّصُوا ... الآية ، قال القشيري : ولا ينبغى لأحد أن يتمنى نفاق سوقه بموت أحد ، لتنتهى النوبة إليه ، قلّ ما تكون هذه صفتة إلا سبقته منيته ، ولا يدرك ما تمناه. ه. وقال فى مختصرة : الآية تشير إلى التصبر فى الأمور ، ودعوة الخلق إلى اللّه ، والتوكّل على اللّه فيما يجرى على يد عباده ، والتسليم لأحكامه فى
___________
(1) أي : يبغضه.(5/495)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 496
المقبولين والمردودين. ه. وقوله : أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا ... إلى قوله : عَمَّا يُشْرِكُونَ هذه صفة أهل الانتقاد على أهل الخصوصية فى كلّ زمان ، وهى تدلّ على غاية حمقهم وسفههم ، نجانا اللّه من جميع ذلك.
ثم هددهم بعد تبيين عنادهم ، فقال :
[سورة الطور (52) : الآيات 44 الى 47]
وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً يَقُولُوا سَحابٌ مَرْكُومٌ (44) فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (45) يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (46) وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذاباً دُونَ ذلِكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (47)
يقول الحق جل جلاله : وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً قطعة مِنَ السَّماءِ ساقِطاً عليهم لتعذيبهم ، يَقُولُوا من فرط طغيانهم وعنادهم : هذا سَحابٌ مَرْكُومٌ أي : تراكم بعضها على بعض لمطرنا ، ولم يصدقوا أنه ساقط عليهم لعذابهم ، يعنى : أنهم بلغوا من الطغيان بحيث لو أسقطناه عليهم حسبما قالوا : أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً «1» لعاندوا وقالوا سحاب مركوم. فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ «2» ، وهو اليوم الذي صعقوا فيه بالقتل يوم بدر ، لا عند النّفخة الأولى ، كما قيل إذ لا يصعق بها إلا من كان حيّا حينئذ «3». وقرأ عاصم والشامي بضم الياء ، يقال : صعقه ، فصعق ، أو : من أصعقه.
يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً من الإغناء ، بدل من «يومهم» ولا يخفى أن التعرض لبيان عدم نفع كيدهم يستدعى استعمالهم له فى الانتفاع به ، وليس ذلك إلا ما دبّروه فى أمره صلّى اللّه عليه وسلم من الكيد يوم بدر ، من
___________
(1) من الآية 92 من سورة الإسراء. [.....]
(2) قرأ عاصم وابن عامر «يصعقون» بضم الياء ، مبنيا للمفعول. وقرأ الباقون بفتحها ، مبنيا للفاعل. انظر الإتحاف (2/ 498).
(3) على هامش النّسخة الأم مايلى :
هذا باطل بداهة ، بل المراد به عند النّفخة ، كما فى آية المعارج : ... حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ ، يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ ... الآية : 42 - 43. وقوله : لا يصعق بها إلا من كان حيا حينئذ ، أبطل من الذي قبله ، فإن اللّه تعالى يقول : فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ ... ومن فى الأرض عام ، بدليل الحديث المخرّج فى الصحيح : «يصعق النّاس فأكون أول من أفاق ، فإذا موسى باطش بالعرش ، فلا أدرى أكان ممن صعق فأفاق قبلى ، أو كان ممن استثنى اللّه ، فصرح صلّى اللّه عليه وسلم النبي بأن جميع الخلق يصعقون ، فمن أين جاء هذا الوهم فى تخصيص ذلك بالأحياء ، بل قوله تعالى : فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ نص فى ذلك أيضا لأن الضمير عائد على من فى السموات ومن فى الأرض. وأيضا : فإن يوم بدر لم يكن فيه صعق ، وإنما كان فيه قتل ، وليس هو بصعق. ثم إن اللّه يخاطب كفار قريش كلهم ، ولم يمت منهم يوم بدر إلا سبعون ... ه.
قلت : حديث الصعق الذي ذكره المحشى ، أخرجه البخاري فى (الرقاق ، باب نفخ الصعق ح 6517) ومسلم فى (الفضائل ، باب من فضائل موسى ، رقم 2373 ، ح 160) من حديث أبى هريرة رضي اللّه عنه.(5/496)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 497
مناشبتهم القتال ، وقصد قتله خفية ، وليس يجرى فى نفخة الصعق شىء من الكيد والحيل ، فلا يليق حمله عليه «1».
وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ من جهة الغير فى دفع العذاب عنهم.
وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا أي : لهم ، ووضع الموصول موضع الضمير تسجيلا عليهم بالظلم ، أي : وإنّ لهؤلاء الظلمة عَذاباً آخر دُونَ ذلِكَ دون ما لا قوة من القتل ، أي : قبله ، وهو القحط الذي أصابهم ، حتى أكلوا الجلود والميتة. أو : وإنّ لهم عذابا دون ذلك ، أي : وراءه ، وهو عذاب القبر وما بعده من فنون عذاب الآخرة ، وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ أن الأمر كما ذكر ، وفيه إشارة إلى أن فيهم من يعلم ذلك ، وإنما يصر على ذلك عنادا أو : لا يعلمون شيئا أصلا إذ هم جاهلية جهلاء.
الإشارة : أهل الحسد والعناد لا ينفعهم ما يرونه من المعجزات والكرامات ، أو الحسد يغطى نور البصيرة ، فذرهم فى غفلتهم وحيرتهم ، وكثافة حجابهم ، حتى يصعقوا بالموت فيعرفون الحق ، حين لا تنفع المعرفة فيقع النّدم والتحسّر. وإنّ لهم عذابا دون ذلك ، وهو عيشهم فى الدنيا عيش ضنك فى هم وغم وجزع وهلع ، ولكنّ أكثرهم لا يعلمون ذلك لأنهم لا يرون إلا من هو مثلهم. ومن توسعت دائرة معرفته ، فعاش فى روح وريحان ، فهو غائب عنهم ، لا يعرفون مقامه ، ولا منزلته.
ثم أمر بالصبر ، الذي هو عنوان الظفر بكلّ مطلوب ، فقال :
[سورة الطور (52) : الآيات 48 الى 49]
وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبارَ النُّجُومِ (49)
يقول الحق جل جلاله لنبيه صلّى اللّه عليه وسلم ولمن كان على قدمه : وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ بإمهالهم إلى اليوم الموعود مع مقاساتك آذاهم ، أو : واصبر لما حكم به عليك من شدائد الوقت ، وإذاية الخلق ، فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا أي :
حفظنا وحمايتنا ، بحيث نراقبك ونكلؤك. والمراد بالحكم : القضاء السابق ، أي : لما قضى به عليك ، وفى إضافة الحكم إلى عنوان الرّبوبية تهييج على الصبر ، وحمل عليه ، أي : إنما هو حكم سيدك الذي يربيك ويقوم بأمورك وحفظك ، فما فيه إلا نفعك ورفعة قدرك. وجمع العين والضمير للإيذان بغاية الاعتناء بالحفظ والرّعاية. وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ أي : نزّهه ملتبسا بحمده على نعمائه الفائتة للحصر ، حِينَ تَقُومُ أي : من أىّ مكان قمت ، أو : من
___________
(1) بل يليق حمله على نفخة الصعق ، على أن يكون المراد بكيدهم : ما كادوا به فى الدنيا.(5/497)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 498
منامك. وقال سعيد بن جبير : حين تقوم من مجلسك تقول : سبحانك اللهم وبحمدك. وقال الضحاك والرّبيع : إذا قمت إلى الصلاة فقل : سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك ، وتعالى جدّك ، ولا إله غيرك «1». ه. وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ أي : فى بعض الليل وأفراده لأن العبادة فيه أشق على النّفس ، وأبعد من الرّياء ، كما يلوح به تقديمه على الفعل ، والمراد إما الصلاة فى الليل ، أو التسبيح باللسان سبحان اللّه وبحمده ، وَإِدْبارَ النُّجُومِ أي : وقت إدبارها ، أي : غيبتها بضوء الصبح ، والمراد : آخر الليل ، وقيل : التسبيح من الليل : صلاة العشاء ، وإدبار النّجوم :
صلاة الفجر. وقرأ زيد عن يعقوب بفتح الهمز «2» ، أي : أعقابها إذا غربت.
الإشارة : فى هذه تسلية لأهل البلاء والجلال ، فإنّ من علم أن ما أصابه إنما هو حكم ربه ، الذي يقوم به ويحفظه ، وهو بمرئ منه ومسمع ، لا يهوله ما نزل ، بل يزيده غبطة وسرورا لعلمه بأنه ما أنزله به إلا لرفعة قدره ، وتشحير «3» ذهب نفسه ، وقطع البقايا منه ، فهو فى الحقيقة نعمة لا نقمة ، وفى الحكم : «من ظن انفكاك لطف اللّه عن قدره فذلك لقصور نظره». «4»
قال القشيري : أي : اصبر لما حكم به فى الأزل ، فإنه لا يتغير حكمنا الأول إن صبرت وإن لم تصبر ، لكن إن صبرت على قضائى جزيت ثواب الصابرين بغير حساب. وفيه إشارة آخري ، أي : اصبر فإنك بأعيننا نعينك على الصبر لأحكامنا الأزلية ، كما قال تعالى : وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ «5». ه. وقيل المعنى : فإنك من جملة أعيننا ، وأعيان الحق الكمل من الأنبياء ، والرّسل ، والملائكة ، وأكابر أوليائه ، فإنهم أعيان تجلياته ، ولذلك الإشارة بقول عمر رضي اللّه عنه فى شأن علىّ - كرم اللّه وجهه ، حين ضرب شخصا فشكاه : «أصابته عين من عيون اللّه» ، وذلك لما تمكنوا من سر الحقيقة ، صاروا عين العين. ومن ذلك قولهم : ليس الشأن أن تعرف الاسم ، إنما الشأن أن تكون عين الاسم ، أي : عين المسمّى ، وهو سر التصرف بالهوية عند التمكين فيها ، وتمكن غيبة الشهود فى الملك المعبود ، وقوله تعالى : وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ ... إلخ ، فيه إشارة إلى مداومة الذكر ، والاستغراق فيه ، ودوام التّنزيه للّه تعالى عن رؤية شىء معه. وباللّه التوفيق ، وصلّى اللّه على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
___________
(1) أخرجه الطبري (27/ 38) وزاد السيوطي عزوه فى الدر (6/ 151) لسعيد بن منصور ، وابن أبى شيبة ، وابن المنذر ، عن الضحاك.
(2) وقرأ بها أيضا الأعمش ، كما فى مختصر ابن خالويه (ص 147) وسالم بن أبى الجعد ، ومحمد بن السميفع ، كما فى القرطبي (7/ 6438).
(3) أي : تنقية وتصفية.
(4) حكمة رقم (106) انظر تبويب الحكم (ص/ 21).
(5) من الآية 127 من سورة النّحل.(5/498)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 499
سورة النّجم
مكية. وهى اثنتان وستون آية. وهى أول سورة أعلن بها النّبىّ صلّى اللّه عليه وسلم. ومناسبتها لما قبلها : قوله : أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ «1» فأقسم هنا أنه ما ينطق عن الهوى ، فقال :
[سورة النجم (53) : الآيات 1 الى 18]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالنَّجْمِ إِذا هَوى (1) ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى (2) وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (3) إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحى (4)
عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى (7) ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى (8) فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى (9)
فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى (10) ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى (11) أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى (12) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى (14)
عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى (16) ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى (17) لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى (18)
يقول الحق جل جلاله : وَالنَّجْمِ أي : الثريا ، أو : جنس النّجم إِذا هَوى إذا غرب ، أو : انتثر يوم القيامة ، أو طلع ، يقال : هوى هويا ، بوزن «فيول» إذا غرب ، وهوى هويا ، بوزن دخول : إذا طلع «2». والعامل فى (إذا) فعل القسم ، أي : أقسم بالنجم وقت غروبه أو طلوعه. وجواب القسم : ما ضَلَّ عن قصد الحق صاحِبُكُمْ أي : محمد صلّى اللّه عليه وسلم ، والخطاب لقريش. وَما غَوى فى اتباع الباطل ، أو : ما اعتقد باطلا قط ، أي : هو فى غاية الهدى والرّشد ، وليس مما تتوهموه من الضلالة والغواية فى شىء. فالضلال نقيض الهدى ، والغى نقيض الرّشد ، ومرجعهما لشىء واحد ، وهو عدم اتباع طريق الحق.
___________
(1) الآية سورة الطور 33.
(2) راجع لسان العرب (مادة هوا 6/ 4727).(5/499)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 500
وقال الفخر : أكثر المفسرين لم يفرقوا بين الغى والضلال ، والفرق بينهما : أنّ الغى فى مقابلة الرّشد ، والضلال أعم منه ، والاسم من الغى : الغواية - بالفتح - والحاصل : أنّ الغى أقبح من الضلال ، إذ لا يرجى فلاحه. وإيراده صلّى اللّه عليه وسلم بعنوان صاحبهم للإيذان بوقوفهم على تفاصيل أحواله الشريفة ، وإحاطتهم خبرا ببراءته - عليه الصلاة والسّلام - مما نفى عنه بالكلية ، وباتصافه - عليه الصلاة والسّلام - بغاية الهدى والرّشد فإنّ كون صحبتهم له صلّى اللّه عليه وسلم ، ومشاهدتهم لمحاسن شؤونه العظيمة مقتضية لذلك حتما. وتقييد القسم بوقت الهوى لأن النّجم لا يهتدى به الساري إلا عند هبوطه أو صعوده ، وأما ما دام فى وسط السماء فلا يهتدى به ، ولا يعرف المشرق من المغرب ، ولا الشمال من الجنوب.
ثم قال : وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى أي : وما يصدر نطقه بالقرآن أو غيره عن هواه ورأيه أصلا ، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ من اللّه تعالى يُوحى إليه ، وهى صفة مؤكدة لوحى ، لرفع المجاز ، مفيدة لاستمرار التجدد للوحى ، واحتج بهذه الآية من لا يرى الاجتهاد للأنبياء - عليهم السّلام - ويجاب بأن اللّه تعالى إذا سوّغ لهم الاجتهاد وقررهم عليه كان كالوحى ، لا نطقا عن الهوى.
عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى أي : ملك شديد قواه ، وهو جبريل عليه السّلام ، فإنه الواسطة فى إيراد الوحى إلى الأنبياء ، ومن قوته أنه خلع قرى قوم لوط من الماء الأسود الذي تحت الثرى ، وحملها على جناحه ، ورفعها إلى السماء ثم قلبها ، وصاح صيحة بثمود ، فأصبحوا جاثمين ، وكان هبوطه على الأنبياء وصعوده أسرع من لحظة.
ذُو مِرَّةٍ أي : ذو خصابة «1» فى عقله ، ورزانة ومتانة فى دينه. وأصل المرة : الشدّة ، من مراير الحبل ، وهو فتله فتلا شديدا ، أو : ذو حسن فى منظره ، فَاسْتَوى : عطف على «علّمه» بطريق التفسير ، فإنه إلى قوله :
(ما أوحى) بيان لكيفية التعليم ، أو : فاستقام على صورته التي خلقه اللّه عليها ، دون الصورة التي كان يتمثل بها كلما هبط بالوحى ، وذلك أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم أحب أن يراه فى الصورة التي خلقه اللّه عليها ، وكان صلّى اللّه عليه وسلم بحراء ، فطلع له جبريل من المشرق ، وسدّ الأرض من المغرب ، وملأ الأفق ، فخرّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ، فنزل فى صورة الآدمي ، فضمه إلى نفسه ، وجعل يمسح الغبار عن وجهه. قيل : ما رآه أحد من الأنبياء فى صورته الأصلية إلا النّبى صلى اللّه عليه وسلم فإنه رآه فيها مرتين مرة فى الأرض ، ومرة فى السماء ، وقيل : استوى بقوته على ما جعل له [من الأمر] «2».
___________
(1) فى تفسير أبى السعود [خصافة].
(2) زيادة من تفسير أبى السعود.(5/500)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 501
وَهُوَ أي : جبريل بِالْأُفُقِ الْأَعْلى أفق الشمس ، أي : مطلعها ، ثُمَّ دَنا جبريل من النّبى صلّى اللّه عليه وسلم فَتَدَلَّى أي : زاد فى القرب ، أو : استرسل من الأفق مع تعلق به. يقال : تدلت الشجرة ، ودلّى رجله من السرير ، وأدلى دلوه ، والدوالي : الثمر المعلّق. فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أي : مقدار قوسين عربيين. والقاب : المقدار. قال قتادة وغيره : معناه : من طرف العود إلى طرفه الآخر. وقال مجاهد والحسن : من الوتر إلى العود فى وسط القوس ، أي :
فكان بين جبريل والنّبى صلّى اللّه عليه وسلم مقدار قوسين ، أَوْ أَدْنى فى تقديركم ، كقوله : أَوْ يَزِيدُونَ «1» وهذا لأنهم خوطبوا على لغتهم وفهمهم ، وهم يقولون : هذا مقدار قوسين أو أدنى.
فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى
أي : فأوحى اللّه تعالى إلى عبده بواسطة تجلى جبريل (ما أوحى) من الأمور العظيمة التي لا تفى بها العبارة ، وقيل : أوحى إليه : «أنّ الجنة محرّمة على الأنبياء حتى تدخلها ، وعلى الأمم حتى تدخلها أمتك» ويمكن حمل الآية على قصة المعراج ، أي : (علّمه شديد القوى) وهو اللّه تعالى ، (ذو مرة) أي : شدة ومتانة ، ومنه : اسمه «المتين» ، (فاستوى) بنوره أي : تجلى بنور ذاته من ناحية الأفق ، أي : العلو (فتدلى) ذلك النّور (فكان قاب قوسين أو أدنى) وفى البخاري : «فدنا ربّ العزة دنو يليق بجلاله ومجده» ويرجع لتجليه لنبيه ، وتنزله له ، وتعرّفه له ، وفى حديث الإسراء عنه - عليه الصلاة والسّلام : «سمع النّداء من العلي الأعلى : أدن يا خير البرية ، أدن يا محمد ، فأدنانى ربى حتى كنت كما قال تعالى : ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى ». قال القشيري : ويقال : كان بينه وبين ربه قدر قوسين أو أدنى ، فأوحى إلى عبده ما أوحى.
ما كَذَبَ الْفُؤادُ أي : فؤاد محمد عليه السّلام ما رَأى أي : ما رآه ببصره من صورة جبريل على تلك الكيفية ، أو :
من نور الحق تعالى الذي تجلى له ، أي : ما قال فؤاده لمّا رآه : لم أعرفك ، ولو قال ذلك لكان كاذبا لأنه عرفه بقلبه ، كما عرفه ببصره ، وقيل : على إسقاط الخافض ، أي : ما كذب القلب فيما رآه البصر ، بل ما رآه ببصره حققه ، وفى الحديث : سئل صلّى اللّه عليه وسلم هل رأيت ربك؟ قال : «رأيت ربى بفؤادى مرتين» «2» ، حديث آخر : «جعل نور بصرى فى فؤادى ، فنظرت إليه بفؤادى» «3» ، يعنى أنه انعكس نور البصر إلى نور البصيرة فرأى ببصره ما رأته البصيرة ، وجاء
___________
(1) من الآية 147 من سورة الصافات.
(2) أخرجه الطبري ، وعزاه السيوطي فى الدر (6/ 160) لعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبى حاتم ، عن محمد بن كعب القرظي ، عن بعض أصحاب النّبى صلّى اللّه عليه وسلم. وأخرج مسلم فى (الإيمان ، باب معنى قول اللّه عز وجل : وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى .. رقم 284 ح 176) عن ابن عباس ، قال : «رآه بفؤاده مرتين». [.....]
(3) أخرجه بطوله ، الطبري ، عن ابن عباس ، فى رواية لحديث «اختصام الملأ الأعلى فى الدرجات والكفارات». قال ابن كثير فى التفسير (4/ 251) : «إسناده ضعيف».(5/501)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 502
أيضا : أنه لما انتهى إلى العرش صار كله بصرا ، وبهذا يرتفع الخلاف ، وأنه رآه ببصر رأسه وقوله صلّى اللّه عليه وسلم ، حين سأله أبو ذر : هل رأيت ربك؟ فقال : «نورانى أراه» «1» وفى رواية : «نور أنّى أراه»؟ «2» بالاستفهام ، وفى طريق آخر :
«رأيت نورا» «3» وحاصلها : أنه رأى ذات الحق متجلية بنور من نور جبروته إذ لا يمكن أن ترى الذات إلا بواسطة التجليات ، كما هو مقرر عند محققى الصوفية ، كما قال الشاعر :
وليست تنال الذات من غير مظهر ولو هتك الإنسان من شدة الحرص
وقال كعب لابن عباس : إنّ اللّه قسم رؤيته وكلامه بين محمد وموسى ، فكلّم موسى مرتين ، ورآه محمد مرتين «4». وقيل لابن عباس : ألم يقل اللّه : لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ «5» ، قال : ذلك إذا تجلى بنوره «6». الذي هو نوره الأصلى ، يعنى أن اللّه تعالى يتجلىلخلقه على ما يطيقون ، ولو تجلى بنوره الأصلى لتلاشى الخلق ، كما قال فى الحديث : «حجابه النّور ، لو كشفه لأحرقت تجليات وجهه ما أدركه من بصره» «7».
أَفَتُمارُونَهُ أي : أفتجادلونه ، من : المراء ، وهو المجادلة ، واشتقاقه من : مرى النّاقة ، وهو استخراج لبنها ، كأنّ كلّ واحد من المتجادلين يمرى ما عند صاحبه ، أي : يستخرجه. وقرىء فى التواتر : «أفتمرونه» «8» أي :
أفتغلبونه. ولما فيه من معنى الغلبة ، قال تعالى : عَلى ما يَرى فعدّى بعلى ، كما تقول : غلبته على كذا ، وقيل :
أفتمرونه : أفتجحدونه ، يقال : مريته حقّه : جحدته ، وتعديته ب «على» على مذهب التضمين ، والمعنى : أفتخاصمونه على ما يرى معاينة ، وحققه باطنا.
___________
(1) ذكر هذه الرّواية بنصها السيوطي فى الدر المنثور (6/ 160) وعزاها لمسلم والترمذي وابن مردويه ، عن أبى ذر ، ولم أقف عليها فى مسلم والترمذي. وقال الإمام النّووى فى شرح صحيح مسلم (3/ 12) : قال الإمام المازري : وروى : «نورانى أراه» بفتح الرّاء وكسر النّون وتشديد الياء ، ويحتمل أن يكون معناه راجعا إلى ما قلنا ، أي : خالق النّور المانع من رؤيته ، فيكون من صفات الأفعال.
وقال القاضي عياض - رحمه اللّه : هذه الرّواية لم تقع إلينا ، ولا رأيتها فى شىء من الأصول. ه.
(2) أخرجه مسلم فى (الإيمان ، باب فى قوله صلّى اللّه عليه وسلم : نور أنى أراه ، رقم 291 ، ح 178).
(3) أخرجه مسلم فى الموضع السابق (رقم 292).
(4) أخرجه بطوله الترمذي فى (التفسير ، باب ومن سورة النّجم ، ح 3728).
(5) من الآية 103 من سورة الأنعام.
(6) أخرجه البيهقي فى الأسماء والصفات (ص 410) وضعّفه ، عن عكرمة عن ابن عباس ، بلفظ : «قال : يا لا أم لك ، ذلك نوره الذي هو نوره ، إذا تجلى بنوره لا يدركه شى ء».
(7) جزء من حديث صحيح أخرجه مسلم فى (الإيمان ، باب فى قوله عليه السّلام : «إن اللّه لا ينام ، رقم 293 ح 179) عن أبى موسى رضي اللّه عنه.
(8) «أفتمرونه» بفتح التاء وسكون الميم بلا ألف. وبها قرأ حمزة والكسائي ويعقوب ، وخلف. وقرأ الجمهور «أفتمارونه» بضم التاء وفتح الميم وألف بعدها. انظر الإتحاف (2/ 501).(5/502)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 503
وَلَقَدْ رَآهُ أي : رأى محمد جبريل على صورته الأصلية ، أو : رأى ربه على تجل خاص وتعرف تام ، نَزْلَةً أُخْرى مرّة أخرى ، والحاصل : أنه عليه السّلام رأى ربه بتجل خاص جبروتى مرتين ، عند خرق الحجب العلوية فوق العرش ، عند السدرة ، وأما رؤيته عليه السّلام للّه تعالى فى مظاهر الكائنات ففى كلّ حين ، لا يغيب عنه طرفة عين.
والنّزلة : فعلة من النّزول ، نصب نصب الظرف الذي هو «مرّة». عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى ، الجمهور : أنها شجرة النّبق فى السماء السابعة ، عن يمين العرش ، وتسميتها المنتهى إما لأنها فى منتهى الجنة وآخرها ، أو : لأنها لم يجاوزها أحد ، وإليها ينتهى علم الخلائق ، ولا يعلم أحد ما وراءها ، أو : إليها ينتهى أرواح الخلائق ، أو : أرواح الشهداء ، وفى الحديث : «أنها شجرة يسير الرّاكب فى ظلها ألف عام ، لا يقطعها ، والورقة منها تظل الأمّة ، وتمرها كالقلال الكبار». «1»
عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى أي : الجنة التي يصير إليها المتقون ويأوون إليها ، أو : تأوى إليها أرواح الشهداء والصدّيقين والأنبياء. قال ابن جزى : يعنى أن الجنة التي وعد اللّه بها عباده هى عند سدرة المنتهى ، وقيل : هى جنة أخرى ، والأول أظهر وأشهر. ه. ويؤيده ما فى الحديث : «إن النّيل والفرات يخرجان من أصلها» وهما من الجنة ، كما فى الصحيح «2». إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى ، ظرف للرؤية ، أي : لقد رآه عند السدرة وقت ما غشيها ما غشيها ، مما لا يكتنهه الوصف ، ولا يفى به البيان ، وصيغة المضارع لحكاية الحال الماضية ، استحضارا لصورتها البديعة ، أو للإيذان باستمرار الغشيان وتجدده ، وقيل : يغشاها الجمّ الغفير من الملائكة ، يعبدون اللّه تعالى عندها ، وقيل : يزورونها متبركين بها ، كما يزور النّاس الكعبة ، وقيل : يغشاها فراش من ذهب ، والفراش - بفتح الفاء - ما يطير ويضطرب. ما زاغَ الْبَصَرُ أي : بصر محمد صلّى اللّه عليه وسلم ، أي : ما عدل عن رؤية العجائب التي مكّن من رؤيتها ، وَما طَغى وما جاوز ما أمر برؤيته ، لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى أي : واللّه لقد رآى من عجائب الملكوت وأسرار الجبروت وما لا يفى به نطاق العبارة ، وقد دونت هنا كتب فى عجائب ما رآه صلّى اللّه عليه وسلم ليلة المعراج.
الإشارة : أقسم اللّه تعالى بنجم العلم إذا طلع فى أفق سماء القلوب الصاحية ، إنّ هذا القلب الذي طلع فيه نجم العلم باللّه ، وأشرقت عليه شمس الحقائق ، لا يضل صاحبه ولا يغوى ، وما ينطق عن الهوى لأنه مستغرق فى شهود الحق ، لا يتجلى فيه إلا الحق ، (إن هو) أي : ما يتجلى فيه إلا وحي يوحى من قبل الإلهام الإلهى ، علّمه شديد القوى ، وهو الوارد الرّبانى ، ذو مرة وشدة لأنه من حضرة قهّار ، ولا يصادم شيئا إلا دفعه ، فاستوى وهو بالأفق
___________
(1) جزء من حديث الإسراء الطويل ، وأخرجه البخاري فى (بدء الخلق ، باب ذكر الملائكة ، ح 3207) ومسلم فى (الإيمان ، باب الإسراء رقم 264 ، ح 164) عن أنس ، عن مالك بن صعصعة ، وفيه : «ورفعت لى سدرة المنتهى ، فإذا نبقها كأنه قلال هجر ، وورقها كأنه آذان الفيول ، فى أصلها أربعة أنهار ، نهران باطنان ، ونهران ظاهران ، فسألت جبريل ، فقال : «أما الباطنان ففى الجنة ، وأما الظاهران النّيل والفرات ..» الحديث.
(2) قوله : «هما فى الجنة كما فى الصحيح» يشير الشيخ - رحمه اللّه - إلى ما أخرجه مسلم فى (الجنة ، باب ما فى الدنيا من أنهار الجنة ح 2839) عن أبى هريرة رضي اللّه عنه قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم : «سيحان وجيحان والنّيل والفرات كلّ من أنهار الجنة».(5/503)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 504
الأعلى من سماء الغيوب ، ثم دنا من القلب فتدلى ، فكان من القلب قاب قوسين أو أدنى ، فأوحى اللّه تعالى بواسطة ذلك الوارد إلى عبده ما أوحى من علوم الحقائق والأسرار ، ومن مكاشفات غيوب الأقدار ، ما كذب الفؤاد فيما رأى لأنه حق ، لكن قهرية العبودية غيّبت عنه تعيين وقت وقوعه. ولقد رآه ، أي : رأى القلب أسرار ذات الحق ، نزلة أخرى فى عالم الجبروت ، الخارج عن دائرة التجليات الكونية ، وهى الأسرار اللطيفة ، المحيطة فى الأنوار الملكوتية والملكية ، عند سدرة المنتهى ، وهى شجرة القبضة المحمدية ، التي انتهى إليها علم العلماء ، وأرواح الشهداء ، إذ لا يخرج عن دائرتها أفكار العارفين. عندها جنة المأوى التي يأوى إليها أفكار العارفين وأسرار الرّاسخين ، إذ يعشى السدرة - أي : شجرة الكون - ما يغشى من الفناء والتلاشى عند سطوع شمس الحقائق ، ما زاغ بصر البصيرة عن شهود تلك الأسرار ، وما حجبه عنها أرض ، ولا سماء ، ولا عرش ، ولا كرسى لتلطف تلك العوالم فى نظر العارف ، وما طغى : وما جاوز العبودية حتى يطمع فى الإحاطة بعظمة كنه الرّبوبية ، فإنّ الإحاطة لا تمكن ، لا فى هذه الدار ، ولا فى تلك الدار ، بل يبقى الترقي فى الكشوفات ، والمزيد من حلاوة الشهود أبدا سرمدا ، لقد رأى هذا القلب الصافي من عجائب ربه الكبرى ، حيث وسع من لم تسعه أرضه ولا سماؤه.
وقال الورتجبي : بعد كلام : فى هذه الآية بيان كمال شرف حبيبه ، إذ رآه نزلة أخرى ، عند سدرة المنتهى ، ظن صلى اللّه عليه وسلم أنّ ما رآه فى الأول لا يكون فى الكون - أي : فى مظهر الكون - لكمال علمه بتنزيه الحق ، فلما رآه ثانيا علم أنه لا يحجبه شىء من الحدثان ، وعادة الكبراء إذا زارهم أحد يأتون معه إلى باب الدار إذا كان عليهم كريما ، فهذا منه سبحانه إظهار كمال حبه لحبيبه. وحقيقة الإشارة : أنه سبحانه أراد أن يعرف حبيبه مقام الالتباس ، فلبس [الأمر] «1» ، وظهر المكر ، وبان الحقّ من شجرة سدرة المنتهى ، كما بان من شجرة العناب لموسى ، ليعرفه حبيبه بكمال المعرفة ، إذ ليس بعارف من لم يعرف حبيبه فى لباس مختلفة ، وبيان ذلك فى قوله : (إذ يغشى السدرة ما يغشى) وأبهم ما غشيه لأن العقول لا تدرك حقائق ما يغشاها ، وكيف يغشاها ، والقدم منزّه عن الحلول فى الأماكن؟! كان ولا شجرة ، وكانت الشجرة مرآة لظهوره سبحانه ، ما ألطف ظهوره ، لا يعلم تأويله إلا اللّه ، والرّاسخون فى العلم يؤمنون به بعد عرفانهم به. ه.
ولمّا فرغ من ذكر عظمة اللّه وكبريائه ، ذكر حقارة من عبد من دونه ، ترهيبا وترغيبا ، فقال
[سورة النجم (53) : الآيات 19 الى 25]
أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى (20) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى (21) تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى (22) إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى (23)
أَمْ لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى (24) فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى (25)
___________
(1) زيادة أثبتها من الورتجبي.(5/504)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 505
يقول الحق جل جلاله : أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى أي : أخبرونى عن هذه الأشياء التي تعبدونها من دون اللّه ، هل لها من القدرة والعظمة التي وصف بها ربّ العزة فى الآي السابقة حتى استحقت العبادة ، أم لا؟ واللات وما بعدها : أصنام كانت لهم ، فاللات كانت لثقيف بالطائف ، وقيل : كانت بنخلة تعبدها قريش ، وهى فعلة ، من : لوى لأنهم كانوا يلوون عليها ويطوفون بها. وقرأ ابن عباس ومجاهد ورويس بتشديد التاء ، على أنه اسم فاعل ، اشتهر به رجلا كان يلتّ السّويق بالزيت ، ويطعمه الحاجّ ، فلما مات عكفوا على قبره يعبدونه «1». (و العزى) كانت لغطفان ، وهى شجرة كانوا يعبدونها ، فبعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم خالد بن الوليد فقطعها ، فخرجت منها شيطانة ناشرة شعرها ، واضعة يدها على رأسها ، وهو تولول ، فجعل خالد يضربها بالسيف حتى قتلها ، فأخبر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم فقال : «تلك العزى ، لن تعبد بعد اليوم أبدا» «2».
(و مناة) : صخرة على ساحل البحر لهذيل وخزاعة ، وقيل : بيت بالمشلّل يعبده بنو كعب ، وسميت مناة لأن دماء النّسائك تمنى ، أي : تراق عندها لأنهم كانوا يذبحون عندها. وقرأ ابن كثير بالهمزة بعد الألف ، مشتق من النوء لأنهم كانوا يستمطرون بالأنواء عندها ، تبركا بها ، وقيل : سموا هذه الأصنام بأسماء اللّه ، وأنّثوها ، كأنها بنات اللّه فى زعمهم الفاسد ، فاللات من «اللّه» ، كما قالوا : عمر وعمرة ، وعباس وعباسة ، فالتاء للتأنيث. والعزّى : تأنيث العزيز ، ومناة : تأنيث منان ، فغيّر تخفيفا ، ويؤيد هذا قوله تعالى ردا عليهم : أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى .
والْأُخْرى : صفة ذمّ لها ، وهى المتأخرة الوضيعة القدر ، كقوله : قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ «3» أي : وضعاؤهم لرؤسائهم ، وقيل : وصفها بالوصفين لأنهم كانوا يعظّمونها أكثر من اللات والعزى ، والفاء فى قوله : (أ فرأيتم) للعطف على محذوف ، وهى لترتيب ما بعدها على ما قبلها ، أي : عقب ما سمعتم من كمال عظمته تعالى فى ملكه وملكوته ، وأحكام قدرته ، ونفوذ أمره فى الملأ الأعلى وما تحت الثرى وما بينهما ، رأيتم هذه الأصنام مع حقارتها بنات اللّه ، مع وأدكم البنات ، وكراهتكم لهنّ؟.
___________
(1) أخرج البخاري المقطع الأول : «كان اللات رجلا يلت سويق الحاج» فى (التفسير ، سورة النّجم ، باب أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى رقم 4859).
(2) عزاه المناوى فى الفتح السماوي 3/ 907 لابن مردويه ، من حديث ابن عباس رضي اللّه عنه. [.....]
(3) من الآية 38 من سورة الأعراف.(5/505)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 506
أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى أي : أتحبون لكم الذكر وتنسبون له الأنثى كهذه الأصنام والملائكة؟ تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى أي : جائرة ، من : ضازه يضيزه : إذا ظلمه ، وصرح فى القاموس بأنه مثلث الضاد ضيزى وضوزى وضازى ، وهو هنا فعلى بالضم ، من الضيز ، لكنه كسر فاؤه لتسلم الياء ، كما فعل فى «بيض» ، فإن «فعلى» بالكسر لم تأت وصفا ، وإنما هى من بناء الأسماء ، كالشّعرى والدفلى. وقال ابن هشام : فإن كانت فعلى صفة محضة وجب قلب الضمة كسرة ، ولم يسمع من ذلك إلا «قسمة ضيزى» «ومشية حيكى» ، أي : يتحرك فيها المنكبان. ه.
وقرأ المكىّ بالهمز «1» ، من : ضأزه : ظلمه ، فهو مصدر نعت به.
إِنْ هِيَ أي : هذه الأصنام إِلَّا أَسْماءٌ وليس تحتها فى الحقيقة مسميات لأنكم تدّعون لها الألوهية ، وهى أبعد شىء منها ، سَمَّيْتُمُوها آلهة ، أو : سميتم بها هذه الأصنام ، واعتقدتم أنها آلهة ، بمقتضى أهوائكم الباطلة ، أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ، ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها بعبادتها مِنْ سُلْطانٍ من حجة. إِنْ يَتَّبِعُونَ فيما ذكر من التسمية والعمل بموجبها إِلَّا الظَّنَّ : إلا توهم أنّ ما هم عليه حق ، توهما باطلا ، وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ أي : ما تشتهيه أنفسهم الأمّارة ، وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى الرسول والكتاب فتركوه.
أَمْ لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى. «أم» : منقطعة ، والهمزة للإنكار ، أي : ليس للإنسان كلّ ما يتمناه وتشتهيه نفسه من الأمور التي من جملتها أطماعهم الفارغة فى شفاعة الآلهة ونظائرها ، كقول بعضهم : وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى «2» ، وكتمنّى بعضهم أن يكون هو النّبى ، فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى أي : الدنيا والآخرة ، هو مالكهما والحاكم فيهما ، يعطى الشفاعة والنّبوة من شاء ، لا من تمناهما بمجرد الهوى ، وهو تعليل لانتفاء أن يكون للإنسان ما تمنّى ، فإنّ اختصاص أمور الآخرة والأولى به تعالى مقتض لانتفاء أن يكون للإنسان شىء مما تمنى إلا أن يشاء ويرضى.
الإشارة : هذه الأصنام موجودة فى كلّ إنسان ، فاللات : حب اللذات والشهوات الجسمانية الفانية ، فمن كان حريصا عليها ، جامعا لأسبابها ، فهو عابد لها ، والعزى : حب العز والجاه والرّئاسة وسائر الشهوات القلبية ، فمن طلبها فهو عبد لها ، ومناة : تمنى البقاء فى الدنيا الدنية الحقيرة ، وطول الأمل فيها ، وكراهية الموت ، فمن كان هذا وصفه فهو عبد الدنيا ، كاره لقاء اللّه ، فيكره اللّه لقاءه ، فتوجه لهؤلاء العتاب بقوله تعالى : أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى ، أَلَكُمُ الذَّكَرُ حيث تحبون ما هو كمال لأنفسكم ، وَلَهُ الْأُنْثى ؟ حيث جعلتم هذه الأشياء الحقيرة
___________
(1) «ضئزى» بهمزة ساكنة ، وبها قرأ ابن كثير المكي. انظر الإتحاف (1/ 501).
(2) الآية 50 من سورة فصلت.(5/506)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 507
شريكة للّه فى استحقاق العبادة والمحبة ، تلك إذا قسمة ضيزى جائرة ، ما هى إلا أسماء ليس تحتها طائل ، تفنى ويبقى عليها العذاب والعتاب ، سميتموها واعتنيتم بشأنها والانكباب عليها ، أنتم وآباؤكم ، ما أنزل اللّه بمتابعتها والحرص على تحصيلها من سلطان ولا برهان ، إن يتبعون فى اتباعها والحرص عليها إلا الظن ، ظنوا أنها حيث كانت مباحة فى ظاهر الشرع لا تضر القلب ولا تحجبه عن شهود الرّب ، وهو رأى فاسد إذ ليس للقلب إلا وجهة واحدة ، إن توجه لطلب الحظوظ أعرض عن اللّه قطعا ، وإن توجه للّه أعرض عما سواه ، وراجع ما تقدم فى قوله :
أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ الآية «1». ويتبعون أيضا ما تهوى الأنفس الأمّارة لأنها لا تهوى إلا ما فيه حظها وهواها ، ولقد جاءهم من ربهم الهدى ، أي : من يهدى إلى طريق السلوك ، بقطع العلائق النّفسانية والقلبية ، وهم خلفاء الرّسول عليه السّلام ، الدعوان إلى اللّه ، من شيوخ التربية فى كلّ زمان ، أم للإنسان ما تمنى ، ليس له ما يتمنى إلا بسابق العناية ، فلا يدرك العبد من الدنيا والآخرة ، ومن اللّه تعالى ، إلا ما سبق به القدر ، كما قال الشاعر :
ما كلّ ما يتمنى المرء يدركه تجرى الرّياح بما لا تشتهى السفن
فللّه الآخرة والأولى ، قال القشيري : يشير إلى قهرمانية الحق تعالى على العالم كله ، ملكه وملكوته ، الأخروى والدنيوي ، فلا يملك الإنسان من أمر الدارين شيئا ، بل ملك الآخرة تحت تصرف يده اليمنى ، المقتضية لموجبات حصول الآخرة من الأعمال الصالحة والأفعال الحسنة ، يهبه باسمه الواهب لمن شاء أن يكون مظهرا للطفه وجماله ، وملك الدنيا تحت تصرف يده اليسرى ، المقتضية لأسباب حصول الدنيا ، من حب الدنيا الدنية ، المنتجة للخطيئة ومتابعة النّفس الخبيثة ، وموافقة الطبيعة اللئيمة ، باسمه المقسط ، لمن شاء أن يكون مظهر قهره وجلاله ، وليس ذلك يزيد فى ملكه ، ولا هذا ينقص من ملكه ، وكلتا يديه ملأى سحّاء ، أي : فياضة. ه.
ثم نفى الشفاعة عمّن يستحقها من الملائكة الكرام ، فضلا عمن لا يستحقها من الأصنام اللئام ، فقال :
[سورة النجم (53) : الآيات 26 الى 30]
وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى (26) إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى (27) وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً (28) فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الْحَياةَ الدُّنْيا (29) ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى (30)
___________
(1) الآية 20 من سورة الأحقاف.(5/507)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 508
قلت : (كم) : خبرية ، تفيد التكثير ، ومحلها : رفع بالابتداء ، والجملة المنفية : خبر ، وجمع الضمير فى (شفاعتهم) لأن النّكرة المنفية تعم.
يقول الحق جل جلاله : وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ أي : كثير من الملائكة لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ عند اللّه تعالى شَيْئاً من الإغناء فى وقت من الأوقات ، إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لهم فى الشفاعة لِمَنْ يَشاءُ أن يشفعوا له ، وَيَرْضى ويراه أهلا للشفاعة من أهل التوحيد والإيمان ، وأما من عداهم من أهل الكفر والطغيان فهم عن إذن اللّه بمعزل ، وعن الشفاعة بألف معزل ، فإذا كان حال الملائكة فى باب الشفاعة كما ذكر ، فما ظنهم بحال الأصنام؟! ثم شنّع عليهم فى اعتقادهم الفاسد فى الملائكة ، فقال : إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وما فيها من العقاب على ما يتعاطونه من الكفر والمعاصي لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ المنزّهين عن سمات النّقص تَسْمِيَةَ الْأُنْثى ، فإن قولهم : الملائكة بنات اللّه ، قول منهم بأن كلا منهم بنته - سبحانه ، وهى التسمية بالأنثى ، وفى تعليقها بعدم الإيمان بالآخرة إشعار بأنهم فى الشناعة واستتباع العقوبة بحيث لا يجترىء عليها إلا من لا يؤمن رأسا.
وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ أي : بما يقولون. وقرئ «بها» أي : بالتسمية ، أو بالملائكة. إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ ، وهو تقليد الآباء ، وَإِنَّ الظَّنَّ أي : جنس الظن ، ولذلك أظهر فى موضع الإضمار ، لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً من الإغناء لأن الحق عبارة عن حقيقة الشيء ، وهو لا يدرك إلا بالعلم ، والظن لا اعتداد به فى باب المعارف الحقيقية ، وإنما يعتد به فى العمليات وما يؤدى إليها.
فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا أي : عنهم ، ووضع الموصول موضع ضميرهم للتوصل إلى وصفهم بما فى حيز الصلة من الأوصاف القبيحة ، ولتعليل الحكم ، أي : فأعرض عمن تولى عن ذكرنا المفيد للعلم اليقيني ، وهو القرآن المنطوى على علوم الأولين والآخرين ، المذكّر بالأمور الآخرة ، أو : عن ذكرنا كما ينبغى ، فإن ذلك يستتبع ذكر الآخرة وما فيها من الأمور المرغوب فيها والمرهوب عنها ، قال الطيبي : أعرض عن دعوة من تدعوه إلى لقاء ربه والدار الآخرة ، وهو يقول : ما هى إلا حياتنا الدنيا ... إلخ ، وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا وزخارفها ، قاصرا(5/508)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 509
نظره إليها ، والمراد بالإعراض عنه : إهماله والغيبة عنه ، فإنّ من أعرض عن الذكر ، وانهمك فى الدنيا ، بحيث كانت هى منتهى همته ، وقصارى سعيه ، لا تزيده الدعوة إلى خلافها إلا عنادا ، وإصرارا على الباطل.
ذلِكَ أي : ما هم فيه من التولّى ، وقصر الإرادة على الحياة الدنيا هو مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ أي : منتهى علمهم ، لا يكادون يجاوزونه إلى غيره ، فلا تجدى فيهم الدعوة والإرشاد شيئا. وجمع الضمير بعد أن أفرده باعتبار معنى «من» ولفظها ، والمراد بالعلم : مطلق الإدراك الشامل للظن الفاسد. إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى أي : هو أعلم بالضال والمهتدى ومجازاتهما ، وهو تعليل الأمر بالإعراض ، وتكرير «هو أعلم» لزيادة التقرير ، وللإيذان بكمال تباين المعلومين ، أي : هو المبالغ فى العلم بمن لا يرعوى عن الضلال ، ومن يقبل الاهتداء فى الجملة ، فلا تتعب نفسك فى دعوتهم ، فإنهم من القبيل الأول.
الإشارة : شفاعة كلّ أحد على قدر جاهه وتمكنه من اللّه ، فقد يشفع الولىّ فى أهل زمانه ، كما تقدم فى مريم «1». والاعتقاد فى الملائكة : أنهم أنوار لطيفة من تجليات الحق ، اللطافة فيهم أغلب ، لا يتصفون بذكورة ولا أنوثة ، يتشكلون كيف شاءوا. وقوله تعالى : فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا ... الآية ، فيه تحذير من مخالطة الغافلين والصحبة لهم ، فإنّ صحبتهم سم قاتل ، والجلوس معهم تضييع وبطالة ، إلا أن يستولى نور من يصحبهم على ظلمتهم ، فيجرّهم إلى اللّه ، فهذا جلوسه معهم كمال. وقال بعضهم : الوحدة أفضل من الجلوس مع العامة ، والجلوس مع الخاصة أفضل من العزلة ، إلا من تحقق كماله ، فلا كلام معه.
إشارة أخرى : وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ .... إلخ ، أي : كثير من الأرواح الصافية السماوية لا تغنى شفاعتها فى الأنفس الظلمانية الطبيعية ، لتنقلها من عالم الأشباح إلى عالم الأرواح ، إلا من بعد أنّ يأذن اللّه لمن يشاء انتقاله وعروجه إلى سماء الأرواح ، ويرضى أن يسكنه فى الحضرة القدسية. إن الذين لا يؤمنون بالحالة الآخرة ، وهى الانتقال من عالم الأشباح إلى عالم الأرواح ، وينكرون على من يوصل إليها ، ليسمون الخواطر القلبية بتسمية الخواطر النّفسانية ، أي : لا يميّزون بينهما ، لجهلهم بأحوال القلوب ، ما لهم به - أي : بهذا التمييز - من علم ، إن يتبعون فى جلّ اعتقاداتهم إلا الظن القوى ، وإنّ الظن لا يغنى عن الحق شيئا ، فلا ينفع فى مقام الإيمان إلا الجزم عن دليل وبرهان ، ولا فى مقام الإحسان إلا شهود الحق بالعيان ، فمن لم يحصل هذا فهو غافل عن ذكر اللّه الحقيقي ، يجب الإعراض عنه ، قال تعالى : فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا وزخارفها ، ذلك مبلغهم
___________
(1) راجع إشارة الآية 87 من سورة مريم.(5/509)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 510
من العلم ، يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا ، وهم عن الآخرة هم غافلون. وقال اللجائى ، فى قطبه : وإياك أن تكون دنياك إرادة قلبك تبعا لشهوات نفسك ، أو تكون دنياك أحب إليك من آخرتك ، وقلبك من ذكر مولاك خاليا معرضا ، فإنها صفة الهالكين ، وإليه الإشارة بقوله تعالى : فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا ... الآية. وقيل لأبى الحسن الشاذلى : يا سيدى ، بم فقت أهل عصرك ، ولم نر لك كبير عمل؟ فقال : بخصلة ، أمر اللّه بها نبيه صلّى اللّه عليه وسلم ، وتمسكت بها أنا ، وهى الإعراض عنكم وعن دنياكم. ه. إن ربك هو أعلم بمن ضلّ عن طريق الوصول إليه ، وهو أعلم بمن اهتدى إليها ، فيعينه ، ويجذبه إلى حضرته ، فإن الأمر كله بيده ، كما قال :
[سورة النجم (53) : الآيات 31 الى 32]
وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (31) الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى (32)
يقول الحق جل جلاله : وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ خلقا وملكا ، لا لغيره ، لا استقلالا ولا اشتراكا ، لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا بعقاب ما عملوا من السوء ، أو : بسبب ما عملوا ، وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى بالمثوبة الحسنى ، وهى الجنة ، والمعنى : أن اللّه تعالى إنما خلق هذا العالم العلوي والسفلى ، وتصرف فيه بقدرته بين جلاله وجماله ، ليجزى المحسن من المكلّفين ، والمسيء منهم إذ من شأن الملك أن ينصر أولياءه ويكرمهم ، ويقهر أعداءه ويهينهم.
وقال الطيبي : «ليجزى» راجع لقوله : هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ .. الآية ، والمعنى : إنّ ربك هو أعلم بمن ضل وبمن اهتدى ليجزى كلّ واحد بما يستحقه ، يعنى : أنه عالم ، كامل العلم ، قادر ، تام القدرة ، يعلم أحوال المكلّفين فيجازيهم ، لا يمنعه أحد مما يريده لأنّ كلّ شىء من السموات والأرض ملكه ، وتحت قهره وسلطانه ، فقوله : وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ : جملة معترضة ، توكيد للاقتدار وعدم المعارض. ه.
الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ : بدل من الموصول الثاني ، أو : رفع على المدح ، أي : هم الذين يجتنبون.
والتعبير بالمضارع للدلالة على تجدد الاجتناب واستمراره. وكبائر الإثم : ما يكبر عقابه من الذنوب ، وهو ما رتّب(5/510)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 511
عليه الوعيد بخصوصه. قال ابن عطية : وتحرير القول فى الكبائر : أنها كلّ معصية يوجد فيها حدّ فى الدنيا ، أو توعّد عليها بنار فى الآخرة ، أو بلعنة ونحوها. وقرأ الأخوان : (كبير الإثم) على إرادة الجنس ، أو الشرك ، وَيجتنبون الْفَواحِشَ وهو ما فحش من الكبائر ، كأنه قيل : يجتنبون الكبائر وما فحش منها خصوصا ، فيحتمل أن يريد بالكبائر : ما فيه حق اللّه وحده ، والفواحش منها : ما فيه حق اللّه وحق عباده ، إِلَّا اللَّمَمَ أي : إلا ما قلّ وصغر ، فإنه مغفور لمن يجتنب الكبائر ، وقيل : هى النّظرة والغمزة والقبلة ، وقيل : الخطرة من الذنب ، وقيل : كل ذنب لم يجعل اللّه فيه حدّا ولا عذابا. والاستثناء منقطع لأنه ليس من الكبائر ولا من الفواحش.
إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ حيث يغفر الصغائر باجتناب الكبائر ، أو : حيث يغفر ما يشاء من الذنوب من غير توبة ، وهذا أحسن ، هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ فى ضمن إنشاء أبيكم آدم عليه السّلام مِنَ الْأَرْضِ إنشاء إجماليا ، حسبما مرّ تحقيقه مرارا ، وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ أي : يعلم وقت كونكم أجنة فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ على أطوار مختلفة ، لا يخفى عليه حال من أحوالكم ، ولا عمل من أعمالكم.
فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ فلا تنسبوها إلى زكاء الأعمال ، وزيادة الخير والطاعات ، أو : إلى الزكاة والطهارة من المساوئ ، ولا تثنوا عليها ، واهضموها ، فقد علم اللّه الزكىّ منكم والتقىّ ، قبل أن يخرجكم من صلب آدم ، وقبل أن تخرجوا من بطون أمهاتكم. وقيل : كان ناس يعملون أعمالا حسنة ، ثم يقولون : صلاتنا وصيامنا وحجّنا ، فنزلت.
وهذا إذا كان على سبيل الإعجاب أو الرّياء ، لا على سبيل الاعتراف بالنعمة ، والتحدث بها ، فإنه جائز لأن المسرة بالطاعة طاعة ، وذكرها شكرها. والأحسن فى إيراد الاعتراف والشكر أن يقدم ذكر نقصه ، فيقول مثلا : كنا جهالا فعلّمنا اللّه ، وكنا ضلّالا فهدانا اللّه ، وكنا غافلين فأيقظنا اللّه ، وهكذا فنحن اليوم كذا وكذا.
قال ابن عطية : ويحتمل أن يكون نهيا عن أن يزكّى بعض النّاس بعضا ، وإذا كان هذا ، فإنما ينهى عن تزكية السّمع «1» ، أو القطع بالتزكية ، ومن ذلك الحديث فى «عثمان بن مظعون» عند موته «2» ، وأما تزكية القدوة أو الإمام ، أو أحدا ، ليؤتم به أو ليتهمّم النّاس بالخير ، فجائز ، وقد زكّى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم أبا بكر وغيره ، وكذلك تزكية الشهود فى الحقوق جائزة للضرورة إليها ، وأصل التزكية : التقوى ، واللّه تعالى أعلم بتقوى النّاس منكم. ه «3».
___________
(1) فى ابن عطية : السمعة والمدح للدنيا.
(2) حديث عثمان بن مطعون رضي اللّه عنه - سبق ذكره وتخريجه عند التعليق على إشارة الآية 9 من سورة الأحقاف ، فراجعه إن شئت.
(3) ببعض المعنى(5/511)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 512
وقال فى القوت : هذه الذنوب تدخل على النّفوس من معانى صفاتها ، وغرائز جبلاتها ، وأول إنشائها من نبات الأرض ، وتركيب الأطوار فى الأرحام ، خلق من بعد خلق ، ومن اختلاط الأمشاج بعضها مع بعض ، ولذلك عقبه بقوله : هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ ... الآية. ه.
ثم قال تعالى : هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى ، فاكتفوا بعلمه عن علم النّاس ، وبجزائه عن ثناء النّاس. وباللّه التوفيق.
الإشارة : وللّه ما فى سموات الأرواح من أنوار الشهود ، وما فى أرض النّفوس من آداب العبودية ، رتّب ذلك ليجزى الذين أساءوا بوقوفهم مع أرض النّفوس فى العالم المحسوس ، ويجزى الذين آمنوا بترقيهم إلى مقام الإحسان ، بالحسنى ، وهى المعرفة ، حيث ترقّوا من أرض الأشباح إلى عالم سماء الأرواح ، وهم الذين يجتنبون كبائر الإثم ، وهو شهود وجودهم مع وجود الحق محبوبهم ، ووقوفهم مع عالم الحس ، والفواحش ، وهو اعتراضهم على اللّه فيما يبرز من عنصر قدرته ، وتصغيرهم شيئا مما عظّم اللّه ، إلا اللمم خواطر تخطر ولا تثبت.
قال القشيري : كبائر الإثم ثلاث محبة النّفس الأمّارة ، ومحبة الهوى النّافخ فى نيران النّفس ، ومحبة الدنيا ، التي هى رأس كلّ خطيئة ، ولكلّ واحدة من هذه الثلاث فاحشة لازمة لها ، أما فاحشة محبة النّفس : فموافقة الطبيعة ومخالفة الشريعة ، وأما فاحشة محبة الهوى : فحب الدنيا وشهواتها ، وأما فاحشة محبة الدنيا فالإعراض عن اللّه ، والإقبال على ما سواه. وقوله إِلَّا اللَّمَمَ أي : الميل اليسير إلى الهوى والنّفس والدنيا ، بحسب ضرورته البشرية من استراحة البدن ، ونيل قليل من حظوظ الدنيا ، بحسب الحقوق ، لا بحسب الحظوظ ، فإنّ مباشر الحقوق مغفور ، ومباشر الحظوظ مغرور. ه.
إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ يستر العيوب ، ويوصل إلى حضرة الغيوب. هو أعلم بكم إذ أنشأكم من أرض البشرية ، ورقّاكم إلى عالم الرّوحانية ، وإذ أنتم أجنة فى أول بدايتكم فى بطون أمهاتكم ، فى بطون الهوى والغفلة ، ودائرة الكون ، فأخرجكم منها بمحض فضله ، فلا تزكّوا أنفسكم ، فتنظروا إليها بعين الرّضا ، أو تنسبوا إليها شيئا من الكمالات قبل صفائها. قال القشيري : تزكية المرء نفسه علامة كونه محجوبا لأنّ المجذوب عن بقائه ، المستغرق فى شهود ربّه ، لا يزكّى نفسه. ه. قلت : هذا مادام فى السير ، وأما إن حصل له الوصول فلا نفس له ، وإنما يزكّى ربه إذا زكّاها ، هو أعلم بمن اتقى ما سواه.(5/512)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 513
ثم ذكر وبال من زكى نفسه ، فقال :
[سورة النجم (53) : الآيات 33 الى 41]
أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (33) وَأَعْطى قَلِيلاً وَأَكْدى (34) أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى (35) أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى (36) وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37)
أَلاَّ تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى (38) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلاَّ ما سَعى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى (40) ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى (41)
يقول الحق جل جلاله : أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى أعرض عن الإيمان وَأَعْطى قَلِيلًا وَأَكْدى أي : قطع عطيته وأمسك ، وأصله : إكداء الحافر ، وهو أن تلقاه كدية - وهى صلابة ، كالصخرة - فيمسك عن الحفر. [قال ] «1» ابن عباس : «هو فيمن كفر بعد الإيمان» ، وقيل : فى الوليد بن المغيرة ، وكان قد اتّبع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم فعيّره بعض الكافرين ، وقال : تركت دين الأشياخ ، وزعمت أنهم فى النّار؟ قال : إنى خشيت عذاب اللّه ، فضمن له إن أعطاه شيئا من ماله ، ورجع إلى شركه ، أن يتحمّل عنه عذاب اللّه ، ففعل ذلك المغرور ، وأعطى الذي عاتبه بعض ما كان ضمن له ثم بخل به ومنعه «2». أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى أي : يعلم هذا المغرور أنّ ما ضمنه له حق؟
أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ يخبر بِما فِي صُحُفِ مُوسى أي : التوراة ، وَإِبْراهِيمَ أي : وما فى صحف إبراهيم الَّذِي وَفَّى أي : أكمل وأتم ما ابتلى به من الكلمات ، أو : ما أمر به ، أو بالغ فى الوفاء بما عاهد اللّه عليه.
وعن الحسن : ما أمره اللّه بشىء إلا وفّى به. وعن عطاء بن السائب : عهد ألّا يسأل مخلوقا ، فلما قذف فى النّار قال له جبريل : ألك حاجة؟ فقال : أما إليك فلا. وقال الشيخ المرسى : وفّى بمقتضى قوله : (حسبى اللّه) وعن النّبى صلّى اللّه عليه وسلم :
«وفّى عمله كلّ يوم بأربع ركعات فى صدر النّهار» «3» وهى صلاة الضحى. وروى : «ألا أخبركم لم سمّى خليله «الذي وفّى» كان يقول إذا أصبح وإذا أمسى : «فسبحان اللّه حين تمسون ...» إلى «تظهرون»» «4» وقيل : وفّى سهام
___________
(1) زيادة ليست فى الأصول.
(2) أخرجه ابن جرير (27/ 70) عن ابن زياد ، بدون تعيين من نزلت فيه.
(3) أخرجه الطبري (27/ 73) وعزاه السيوطي فى الدر (6/ 168) لسعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ، وابن أبى حاتم ، وابن مردويه ، والشيرازي فى الألقاب ، والديلمي ، بسند ضعيف ، عن أبى أمامة رضي اللّه عنه.
(4) أخرجه أحمد فى المسند (3/ 439) عن سهل بن سعد الساعدي عن أبيه ، وقال الهيثمي (10/ 117) : «فيه ضعفاء وثقوا».
وأخرجه الطبري (27/ 73) عن أنس عن أبيه.(5/513)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 514
الإسلام ، وهى ثلاثون ، عشرة فى التوبة : التَّائِبُونَ ... «1» إلخ ، وعشرة فى الأحزاب : إِنَّ الْمُسْلِمِينَ ... «2»
وعشرة فى المؤمنين : قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ. وقيل : وفىّ حيث أسلم بدنه للنيران ، وولده للقربان ، وطعامه للضيفان.
وروى : أنه كان يوم يضيف ضيفا ، فإن وافقه أكرمه ، وإلّا نوى الصوم «3». وتقديم موسى لأنّ صحفه وهى التوراة أكثر وأشهر.
ثم فسّر ما فى تلك الصحف فقال : أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى أي : أنه لا تحمل نفس وازرة وزر نفس أخرى ، بل كلّ نفس تستقل بحمل وزرها ، يقال : وزر يزر إذا اكتسب وزرا ، و«أن» مخففة ، وكأنّ قائلا قال : ما فى صحف موسى وإبراهيم؟ فقال : ألّا تحمل نفس مثقلة بوزرها وزر نفس أخرى.
وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى هو أيضا مما فى صحف موسى وإبراهيم ، وهو بيان لعدم انتفاع الإنسان بعمل غيره ، إثر بيان عدم انتفاعه من حيث رفع الضرر عنه به ، وأما ما صح من الأخبار فى الصدقة عن الميت والحج عنه ، فلأنه لمّا نواه عنه كان كالوكيل عنه ، فهو نائب عنه.
قال ابن عطية : الجمهور أنّ قوله : وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى محكم لا نسخ فيه ، وهو لفظ عام مخصّص. ه. يعنى : أن المراد : الكافر ، وهكذا استقرئ من لفظ «الإنسان» فى القرآن ، وأما المؤمن فجاءت نصوص تقتضى انتفاعه بعمل غيره ، إذا وهب له من صدقة ودعاء وشفاعة واستغفار ، ونحو ذلك ، وإلّا لم يكن فائدة لمشروعية ذلك ، فيتصور التخصيص فى لفظ «الإنسان» وفى السعى ، بأن يخص الإنسان بالكافر ، أو السعى بالصلاة ، ونحو ذلك مما لا يقبل النّيابة مثلا. والحاصل : أن الإيمان سعى يستتبع الانتفاع بسعى الغير ، بخلاف من ليس له الإيمان. ه. قاله الفاسى : وكان عز الدين يحتج بهذه الآية فى عدم وصول ثواب القراءة للميت ، فلما مات رؤى فى النّوم ، فقال : وجدنا الأمر خلاف ذلك.
قلت : أما فى الأجور فيحصل الانتفاع بسعى الغير ، إن نواه له ، وأما فى رفع الستور ، وكشف الحجب ، والترقي إلى مقام المقربين ، فالآية صريحة فيه ، لا تخصيص فيها إذ ليس للإنسان من حلاوة المشاهدة والقرب إلا بقدر ما سعى من المجاهدة. واللّه تعالى أعلم.
___________
(1) الآية 112 من سورة التوبة.
(2) الآية 35 من سورة الأحزاب. [.....]
(3) قال أبو حيان فى البحر المحيط 8/ 164 : وللمفسرين أقوال غير هذه ، وينبغى أن تكون هذه الأقوال أمثلة لما وفّى ، لا على سبيل التعيين. ه.(5/514)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 515
ثم قال : وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى أي : يعرض عليه ، ويكشف له يوم القيامة فى صحيفته وميزانه ، ثُمَّ يُجْزاهُ أي : يجزى العبد سعيه ، يقال : جزاه اللّه عمله ، وجزاه عليه ، بحذف الجار وإيصال الفعل ، ويجوز أن يكون الضمير للجزاء ، ثم فسّره بقوله : الْجَزاءَ الْأَوْفى أو : أبدله منه ، أي : الجزاء الأكمل بحيث يزيده ولا ينقصه.
الإشارة : أفرأيت الذي تولى عن طريق السلوك ، بعد أن أعطى نفسه وفلسه ، وتوجه إلى حضرة مولاه ، ثم منّته نفسه ، وغرّته أنه يصل بلا عطاء ولا مجاهدة ، فقطع ذلك واشتغل بنفسه ، أو غرّه أحد حتى ردّه ، وضمن له الوصول ، بلا ذلك ، أعنده علم الغيب حتى علم أنه يصل بلا واسطة ولا مجاهدة؟ فهو يرى عاقبة ما هو سائر إليه.
وتصدق الإشارة بمن صحب شيخا ، وأعطاه بعض ماله أو نفسه ، ثم رجع ومال إلى غيره ، فلا يأتى منه شىء ، أعنده علم الغيب ، وأنّ فتحه على يد ذلك الشخص ، فهو يرى ما فيه صلاحه وفساده؟ وهذا إن كان شيخه أهلا للتربية ، وإلّا فلا. أم لم ينبأ هذا المنقطع بما فى صحف موسى وإبراهيم ، أنه لا يتحمل أحد عن أحد مجاهدة النفوس ورياضتها؟ وأن ليس للإنسان من لذة الشهود والعيان إلا ما سعى فيه بالمجاهدة ، وبذل النّفس والفلس ، وأنّ سعيه سوف يرى؟ أي : يظهر أثره من الأخلاق الحسنة ، والرّزانة والطمأنينة ، وبهجة المحبين ، وسيما العارفين.
وقسّم القشيري السعى على أربعة أقسام الأول : السعى فى تزكية النّفس وتطهيرها ، ونتيجته : النهوض للعمل الصالح ، الذي يستوجب صاحبه نعيم الجنان. الثاني : السعى فى تصفية القلب من صداء ظلمات البشرية ، وغطاء عورات الطبيعية ، ونتيجته : صحته من الأمراض القلبية ، كحب الدنيا والرّئاسة والحسد ، وغير ذلك ، ليتهيأ لدخول الواردات الإلهية. الثالث : السعى فى تزكية الرّوح ، بمنعها من طلب الحظوظ الرّوحانية ، كطلب الكرامات ، والوقوف مع المقامات ، وحلاوة المعاملات ، لتتهيأ بذلك للاستشراف على مقام المشاهدات ، وحمل أعباء أسرار الذات. الرابع : السعى فى تزكية السر بتحليته بالصفات الإلهية ، والأخلاق الرّبانية ، ليتحقق بمقام الفناء والبقاء ، وهو منتهى السعى وكماله. ه. بالمعنى.
وإلى هذا الانتهاء أشار تعالى بقوله :
[سورة النجم (53) : الآيات 42 الى 62]
وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى (42) وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى (43) وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا (44) وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (45) مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى (46)
وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى (47) وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى (48) وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى (49) وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى (50) وَثَمُودَ فَما أَبْقى (51)
وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى (52) وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى (53) فَغَشَّاها ما غَشَّى (54) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى (55) هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى (56)
أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (57) لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ كاشِفَةٌ (58) أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59) وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ (60) وَأَنْتُمْ سامِدُونَ (61)
فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا (62)(5/515)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 516
يقول الحق جل جلاله فى بقية ذكر ما فى الصحف الأولى : وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى أي : الانتهاء ، أي : ينتهى إليه الخلق ويرجعون ، إليه كقوله : وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ «1» أو : ينتهى علم العلماء إليه ثم يقفون ، لقوله صلّى اللّه عليه وسلم :
«لا فكرة فى الرّب» «2» أي : كنه الذات ، وسيأتى فى الإشارة. وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى أي : خلق الضحك والبكاء ، أو : خلق الفرح والحزن ، أو : أضحك المؤمنين فى الآخرة ، وأبكى الكافرين ، أو : أضحك المؤمنين فى العقبى بالمواهب وأبكاهم فى الدنيا بالنوائب ، وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا أي : أمات الآباء وأحيا الأبناء ، أو : أمات بالكفر وأحيا بالإيمان.
وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى ، مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى : إذ تدفق وتدفع فى الرّحم. يقال : منى وأمنى ، وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى الإحياء بعد الموت ، وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى أي : صيّر الفقير غنيا وَأَقْنى أي :
أعطى القنية ، وهو المال الذي تأثّلته «3» ، وعزمت ألّا تخرجه من يدك. وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى ، وهو كوكب يطلع بعد الجوزاء فى شدة الحر ، وكانت خزاعة تعبدها. سنّ لهم ذلك «ابن أبى كبشة» رجل من أشرافهم ، قال :
لأن النّجوم تقطع السماء عرضا ، والشعرى طولا ، ويقال لها : شعرى العبور. انظر الثعلبي. وكانت قريش تقول لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ابن أبى كبشة ، تشبيها له صلّى اللّه عليه وسلم به ، لمخالفته إياهم فى دينهم ، فأخبر تعالى أنه ربّ معبودهم ، فهو أحق بالعبادة وحده.
___________
(1) من الآية 48 من سورة الحج.
(2) أخرجه البغوي فى التفسير (7/ 417) وزاده السيوطي عزوه فى الدر (6/ 170) للدارقطنى فى الأفراد ، عن أبى بن كعب.
وهذا مثل ما روى عن ابن عباس مرفوعا : «تفكروا فى الخلق ولا تتفكروا فى الخالق ، فإنكم لن تقدروا» عزاه السيوطي فى الدر (6/ 170) لأبى الشيخ فى العظمة. وانظر : كشف الخفاء 8/ 371 ، وسلسلة الأحاديث الصحيحة للألبانى 4/ 397.
(3) المتأثل : الجامع. والتأثل اتخاذ أصل مال ، وكلّ شىء له أصل قديم ، أو جمع حتى يصير له أصل ، فهو مؤثّل.
انظر اللسان (أثل 1/ 28).(5/516)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 517
وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى ، وهم قوم هود ، وعاد الأخرى : عاد إرم ، وقيل : معنى الأولى [العدمي ] «1» لأنهم أولى الأمم هلاكا بعد قوم نوح ، وقال الطبري وغيره : سميت «أولى» لأن ثمّ عادا آخرة ، وهى قبيلة كانت بمكة مع العماليق ، وهم بنوا لقيم بن هزّال. واللّه أعلم. ه «2». قلت : والتحقيق : أن عادا الأولى هى عاد إرم ، وهى قبيلة هود التي هلكت بالريح ، ثم بقيت منهم بقايا ، فكثروا وعمّروا بعدهم ، فقيل لهم عاد الأخيرة ، وأنظر أبا السعود فى سورة الفجر. «3» وهاهنا قراءات ، وجّهناها فى كتاب الدرر «4».
وَثَمُودَ «5» أي : وأهلك ثمودا ، وهم قوم صالح ، فَما أَبْقى أحدا منهم ، وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ وأهلك قوم نوح من قبل عاد وثمود ، إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى من عاد وثمود لأنهم كانوا يضربونه حتى لا يكون به حراك ، وينفرون منه حتى كانوا يحذّرون صبيانهم أن يسمعوا منه ، وَالْمُؤْتَفِكَةَ أي : والقرى التي ائتفكت ، أي : انقلبت بأهلها ، وهم قوم لوط. يقال : أفكه فائتفك ، أي : قلبه فانقلب ، (و المؤتفكة) منصوب ب أَهْوى أي : رفعها إلى السماء على جناح جبريل ، ثم أهواها إلى الأرض ، أي : أسقطها ، فَغَشَّاها ألبسها من فنون العذاب ما غَشَّى ، وفيه تهويل لما صبّ عليها من العذاب ، وأمطر عليها من الصخر المنضود.
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ أيها المخاطب تَتَمارى أي : تتشكك؟ ، أي : فبأى نعم من نعم مولاك تحجد ولا تشكر؟ فكم أولاك من النّعم ، ودفع عنك من النّقم ، وتسمية الأمور المتعددة قبل نعما مع أن بعضها نقم لأنها أيضا نعم من حيث إنها نصرة الأنبياء والمرسلين ، وعظة وعبرة للمعتبرين. هذا نَذِيرٌ أي : محمد منذر مِنَ النُّذُرِ الْأُولى من المنذرين الأولين ، وقال : «الأولى» على تأويل الجماعة ، أو : هذا القرآن نذير من النّذر الأولى ، أي : إنذار من جنس الإنذارات الأولى التي أنذر بها من قبلكم.
___________
(1) فى تفسير أبى السعود [القدماء].
(2) العبارة بالمعنى ، ونصها كما فى تفسير الطبري (27/ 78) : «وإنما مثل لعاد بن إرم : عاد الأولى ، لأن بنى لقيم بن هزال بن هزيل بن عبيل بن ضد بن عاد الأكبر ، كانوا أيام أرسل اللّه تعالى على عاد الأكبر عذابه ، سكانا بمكة مع إخوانهم من العمالقة».
(3) عند تفسير الآية السادسة من سورة الفجر ، وانظر تفسير أبى السعود 9/ 154.
(4) للشيخ ابن عجيبة - رحمه اللّه تعالى - مؤلف فى القراءات ، سماه «الدرر المتناثرة فى توجيه القراءات المتواترة» وهو كما يقول ابن عجيبة فى الفهرسة : تأليف يشتمل على آداب القراءة والتعريف بالشيوخ العشرة ، ورواتهم ، وتوجيه قراءة كلّ واحد منهم ، وفيه عشرون كراسة. انظر الفهرسة/ 38.
(5) أثبت المفسر قراءة «ثمودا» بالتنوين ، وقرأ عاصم وحمزة ويعقوب بغير تنوين. والباقون بالتنوين. انظر الإتحاف (2/ 503).(5/517)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 518
أَزِفَتِ الْآزِفَةُ أي : قربت الساعة الموصوفة بالقرب فى قوله : اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ «1» ، وفى ذكرها بعد إنذارهم إشعار بأنّ تعذيبهم مؤخر إلى يوم القيامة ، لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ كاشِفَةٌ أي : ليس لها نفس مبيّنة وقت قيامها إلّا اللّه تعالى ، وهذا كقوله : لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ «2» أو : ليس لها نفس قادرة على كشف أهوالها إذا وقعت إلا اللّه تعالى ، فيكشفها عمن شاء ، ويعذّب بها من شاء.
ولمّا استهزؤوا بالقرآن ، الناطق بأهوال القيامة ، نزل قوله تعالى : أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ إنكارا ، وَتَضْحَكُونَ استهزاء ، وَلا تَبْكُونَ خشوعا ، وَأَنْتُمْ سامِدُونَ غافلون ، أو : لاهون لاعبون ، وكانوا إذا سمعوا القرآن عارضوه بالغناء ليشغلوا النّاس عن استماعه ، فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا ولا تعبدوا معه غيره ، من اللات والعزى ومناة الشعرى ، وغيرها من الأصنام ، أي : اعبدوا رب الأرباب ، وسارعوا له ، رجاء فى رحمته. والفاء لترتيب الأمر بالسجود على بطلان مقابلة القرآن بالإنكار والاستهزاء ، ووجوب تلقيه بالإيمان والخضوع والخشوع ، أي : إذا كان الأمر كذلك فاسجدوا للّه الذي أنزله واعبدوه.
الإشارة : وأنّ إلى ربك المنتهى ، انتهى سير السائرين إلى الوصول إلى اللّه ، والعكوف فى حضرته. ومعنى الوصول إلى اللّه : العلم بأحدية وجوده ، فيمتحى وجود العبد فى وجود الرّب ، وتضمحل الكائنات فى وجود المكوّن ، فتسقط شفعية الأثر ، وتثبت وترية المؤثّر ، كما قال القائل :
وبروح وراح عاد شفعى وترى
وقال آخر : فلم يبق إلا اللّه لم يبق كائن فما ثمّ موصول ولا ثم بائن
بذا جاء برهان العيان ، فما أرى بعينىّ إلا عينه إذ أعاين
إلى غير ذلك مما غنّوا به من أذواقهم ووجدانهم.
ثم قال تعالى : (و أنه هو أضحك وأبكى) أي : قبض وبسط ، أو : أنه أضحك أرواحا بكشف الحجاب ، وأبكى نفوسا بذل الحجاب ، أو : أضحك إذا تجلى بصفة الجمال ، وأبكى إذا تجلى بصفة الجلال ، وأنه هو أمات قلوبا بالجهل والغفلة ، بمقتضى اسمه القهّار ، وأحيا قلوبا بالعلم والمعرفة ، بمقتضى اسمه الغفار ، أو : أمات نفوسا عن شهواتها الفانية ، وأحيا بسبب ذلك أرواحا بكمال المعرفة ، فاتصفت بالأوصاف الرّبانية ، أو : أمات أرواحا بغلبة ظلمة النّفس واستيلائها عليها ، وأحيا نفوسا باستيلاء الأرواح عليها ، وغلبة نورها ، فحييت وانقلبت روحا. وأنه خلق الزوجين ، أي : الصنفين الذكر والأنثى ، الحس والمعنى ، الحقيقية والشريعة ، القدرة والحكمة ، كما تقدم. وقال القشيري : الروح
___________
(1) الآية الأولى من سورة القمر.
(2) من الآية 187 من سورة الأعراف.(5/518)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 519
كأنها ذكر موصوفة بصفة الفاعلية ، والنّفس أنثى موصوفة بصفة القابلية ، لتحصل نتيجة القلب ، بحصول المطالب الدنيوية والأخروية. ه. مختصرا. وقال بعضهم : والشيطان كالذكر ، والنّفس كالأنثى ، يتولد بينهما المعصية. ه.
وأنّ عليه النّشأة الأخرى ، وهو بعث الأرواح من موت الغفلة ، وحشرها إلى موقف المراقبة والمحاسبة ، ثم إدخالها جنة المعارف ، فلا تتشاق إلى جنة الزخارف أبدا ، أو : النشأة الأخرى : الجذب بعد السلوك ، والفناء بعد البقاء ، ثم البقاء بعد الفناء ، البقاء الأول بوجود النّفس ، والثاني باللّه. وأنه هو أغنى به بوصول العبد إلى مشاهدته ، وأفنى بأن مكّنه منه فزاد غناه. وطبّل على ماله ، وأنه هو ربّ الشّعرى ، وهو كلّ ما عبد من الهوى والدنيا ، فكيف يعبد المربوب اللئيم ، ويترك الرّب الكريم؟! وأنه أهلك عادا الأولى النفوس المتفرعنة ، والأهوية المغوية ، أرسل عليهم ريح الهداية القوية ، حتى اضمحلت وخضعت لمولاها ، وثمود الخواطر ، فما أبقى منها إلا خواطر الخير ، التي تأمر بالخير ، وقوم نوح من القواطع الأربعة النفس ، والشيطان ، والنّاس ، والدنيا ، فطعنهم عن المتوجه من قبل ، أي : من قبل أن يتوجه إلينا ، لما سبق فى علمنا أنهم كانوا هم أظلم وأطغى من بقية العلائق ، والنّفس المؤتفكة ، أي :
المنقلبة عن التوجه ، أهوى بها فى أسفل سافلين ، باعتبار أهل عليين ، فغشّاها من الدنيا ومن الخواطر والهموم والغموم ، ما غشّى.
فإذا سلمت أيها العبد من هؤلاء القواطع والعلائق ، وتوجهت إلى مولاك ، فبأى آلاء ربك تتمارى؟ بل الواجب عليك أن تشكر اللّه آناء الليل والنّهار. هذا الذي أخذ بيدك نذير من النّذر الأولى ، المتقدمين الداعين إلى اللّه فى كل زمان ، أزفت الآزفة ، أي : قربت ساعة الفتح حين توجهت وانقطعت عنك العلائق ، ووجدت من يدخلك بحر الحقائق ، ليس لها من دون اللّه كاشفة ، لا يشكف لك هذه الحقائق إلا الذي منّ عليك بصحبة من يدلك عليه. قال القشيري : أزفت الآزفة : قربت الحقيقة الموصوفة بالقرب والدنو ، وأنت أيها السالك فى عينها ، وما لك بها شعور ، لفنائك فى أوصافك النّفسانية «1». ه. مختصرا. أفمن هذا الحديث العجيب ، والغزل الرّقيق الغريب ، تعجبون ، إنكارا ، وتضحكون استهزاء؟ قلت : وقد رأيت كثيرا ممن ينكر الإشارة ، ويستهزئ بها ، ويتنكب مطالعتها ، وقد قيل :
من كره شيئا عاداه. ولا تبكون على أنفسكم ، حيث حرمت من هذه المواهب ، وأنتم سامدون غافلون لاهون ، للدنيا طالبون ، فاسجدوا للّه واعبدوا ، وتضرعوا إليه ، حتى يخرجكم من سجن هواكم ونفوسكم.
وباللّه التوفيق ، وهو الهادي إلى سواء الطريق ، وصلّى اللّه على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
___________
(1) لم أقف على هذا النّص أو على معناه فى لطائف الإشارات.(5/519)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 520(5/520)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 521
سورة القمر
مكية كلها عند الجمهور ، وقيل : إلّا قوله : سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ ... إلخ. وهى خمسون آية ، ومناسبتها لما قبلها : قوله تعالى : أَزِفَتِ الْآزِفَةُ «1» وهى التي أخبر عنها بقوله :
[سورة القمر (54) : الآيات 1 الى 8]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (2) وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (3) وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ (4)
حِكْمَةٌ بالِغَةٌ فَما تُغْنِ النُّذُرُ (5) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ (6) خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ (7) مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ (8)
يقول الحق جل جلاله : اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ قربت القيامة ، قال القشيري : ومعنى قربها : أنّ ما بقي من الزمان إلى القيامة قليل بالإضافة إلى ما مضى. ه. قال ابن عطية : وأمرها مجهول التحديد ، وكلّ ما يروى من التحديد فى عمر الدنيا فضعيف. ه. وَانْشَقَّ الْقَمَرُ نصفين ، وقرىء : و«قد انشقّ القمر» ، أي : اقتربت الساعة وقد حصل من آيات اقترابها أنّ القمر قد انشقّ ، كما تقول : أقبل الأمير ، وقد جاء البشير بقدومه.
قال ابن مسعود رضي اللّه عنه : انشق القمر على عهد النّبى صلّى اللّه عليه وسلم فرقتين ، فكانت إحداهما فوق الجبل ، والأخرى أسفل من الجبل ، فقال صلّى اللّه عليه وسلم : «اشهدوا» «2». قال ابن عباس : إنّ المشركين قالوا للنبى صلّى اللّه عليه وسلم : إن كنت صادقا فشق لنا القمر فلقتين ، فقال : «إن فعلت أتؤمنون؟» فقالوا : نعم ، وكانت ليلة بدر ، فسأل صلّى اللّه عليه وسلم ربه فانشق فرقتين ، نصف على أبى قبيس ، ونصف على قعيقعان «3». وقيل : سألوا آية مجملة ، فأراهم انشقاق القمر «4». قال ابن عطية : وعليه الجمهور ، يعنى عدم التعيين.
___________
(1) الآية 57 من سورة النّجم.
(2) أخرجه البخاري فى (التفسير ، تفسير سورة القمر ، باب وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) ومسلم فى (صفات المنافقين وأحكامهم ، باب انشقاق القمر ، ح 2800). [.....]
(3) ذكره القرطبي فى تفسيره (7/ 6483). وقعيقعان : جبل بمكة. انظر اللسان (قعع 5/ 3696).
(4) أخرجه البخاري فى (مناقب الأنصار ، باب انشقاق القمر ح 3868) عن أنس بن مالك.(5/521)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 522
وفى صحيح مسلم : أنه انشق مرتين «1» ، وصرح فى شرح المواقف بأن انشقاقه متواتر. ه. وقيل : معناه انشق ، أي : ينشق يوم القيامة ، وهو ضعيف ، ولا يقال : لو انشقّ لما خفى على أهل الأقطار ، ولو ظهر عندهم لنقل متواترا لأن الطباع جبلت على نشر العجائب ، لأنه يجوز أن يحجبه اللّه عنهم بغيم أو غيره ، مع أنه كان ليلا ، وجلّ النّاس نائمون ، وأيضا : عادة اللّه - تعالى - فى معجزاته أنه لا يراها إلّا من ظهرت لأجله فى الغالب.
تنبيه : قال القسطلاني فى المواهب اللدنية : ما يذكره بعض القصاص أن القمر دخل فى جيب النّبى صلّى اللّه عليه وسلم وخرج من كمه ، ليس له أصل ، كما حكاه الزركشي عن شيخه العماد ابن كثير. ه.
وَإِنْ يَرَوْا أي : أهل مكة آيَةً تدل على صدق رسوله صلّى اللّه عليه وسلم يُعْرِضُوا عن الإيمان وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ محكم شديد قوىّ ، من : المرّة ، وهى القوة ، أو : دائم مطّرد. روى : أنه لما انشق قالوا : هذا سحر ابن أبى كبشة؟ فسلوا السّفار ، فلما قدموا سألوهم ، فقالوا : إنهم قد رأينه ، فقالوا : قد استمر سحره فى البلاد ، فنزلت «2». قال البيضاوي : دل قوله : (مستمر) على أنهم رأوا قبله آيات أخرى مترادفة ، ومعجزات سابقة. ه. أو : مستمر ذاهب ومارّ ، يزول ولا يبقى ، من : مرّ الشيء واستمر : ذهب.
وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ الباطلة ، وما زيّن لهم الشيطان من دفع الحق بعد ظهوره ، حتى قالوا : سحر القمر ، أو : سحر أعيننا ، وَكُلُّ أَمْرٍ وعدهم اللّه به مُسْتَقِرٌّ كائن فى وقته ، أو : كل أمر قدر واقع لا محالة يستقر فى وقته ، أو : كل أمر من الخير والشر يقع بأهله من الثواب والعقاب ، وقرىء «مستقر» بالجر «3» ، فيعطف على «الساعة» ، أي : اقتربت الساعة وكلّ أمر مستقر ، يعنى : أشراطها.
وَلَقَدْ جاءَهُمْ أي : أهل مكة فى القرآن مِنَ الْأَنْباءِ من أخبار القرون الماضية ، وكيف أهلكوا بالتكذيب ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ أي : ازدجار عن الكفر والعناد ، يقول : زجرته وازدجرته ، أي : منعته ، وأصله : ازتجر ، افتعل ، من الزجر ، ولكن التاء إذا وقعت بعد زاى ساكنة أبدلت دالا لأن التاء حرف مهموس ، والزاى حرف مجهور.
فأبدل من التاء حرف مجهور ، وهو الدال ليناسب الميم.
___________
(1) أخرجه مسلم فى (صفات المنافقين وأحكامهم ، باب انشقاق القمر ح 2802) عن قتادة.
(2) أخرجه الطبري (27/ 85) وعزاه السيوطي فى الدر (6/ 176) لابن المنذر ، وابن مردويه ، وأبى نعيم ، والبيهقي ، كلاهما فى الدلائل ، عن عبد اللّه بن مسعود رضي اللّه عنه.
(3) قرأ أبو جعفر «مستقر» بخفض الرّاء ، صفة ، ورفع (كل) حينئذ بالعطف على «الساعة» ، وقيل : بالابتداء والخبر ، أي : وكلّ أمر مستقر لهم فى القدر بالغوه. وقرأ الباقون بالرفع ، خبر «كل». انظر الإتحاف (2/ 505).(5/522)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 523
حِكْمَةٌ بالِغَةٌ : بدل من «ما» ، أو : خبر ، أي : هو حكمة بالغة ناهية فى الرّشد والصواب ، أو : بالغة من اللّه إليهم. قال القشيري : والحكمة البالغة الصحيحة الظاهرة الواضحة لمن فكّر فيها. ه. قال المحلى : وصفت بالبلاغة لأنها تبلغ من مقصد الوعظ والبيان ما لا يبلغ غيرها ه. فَما تُغْنِ النُّذُرُ شيئا ، حيث سبق القدر بكفرهم ، و«ما» نافية ، أو استفهامية منصوبة ب «تغن» ، أي : فأىّ إغناء تغنى النّذر مع سابق القدر؟ والنّذر : جمع نذير ، وهم الرّسل ، أو : المنذر به ، أو : مصدر بمعنى الإنذار ، والتعبير بالمضارع للدلالة على تجدد عدم الإغناء ، واستمراره حسب تجدد مجىء الزواجر واستمرارها.
فَتَوَلَّ عَنْهُمْ لعلمك بأنّ الإنذار لا يغنى فيهم شيئا ، واذكر يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ «1» وهو إسرافيل عليه السّلام إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ أي : منكر فظيع ، تنكره النّفوس ، لعدم العهد بمثله ، وهو هول القيامة. خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ يَخْرُجُونَ ، ف «خشعا» : حال من فاعل «يخرجون» ، أي : يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ أذلة أبصارهم من شدة الهول لأن ذلة الذليل وعزة العزيز يظهرن فى أعينهما ، ومن قرأ : «خاشعا» «2» فوجهه : أنه أسند إلى ظاهر ، فيجب تجريده كالفعل ، وأما من قرأ بالجمع ، فهو على لغة : «أكلونى البراغيث» ، كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ فى الكثرة والتموّج والتفرق فى الأقطار. قال ابن عطية : فى الحديث : أن مريم دعت للجراد فقالت : اللهم أعشها بغير رضاع ، وتتابع بينها بغير شباع. ه.
ثم وصف خروجهم من القبور ، فقال : مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ مسرعين مادى أعناقهم إليه ، أو ناظرين إليه ، يَقُولُ الْكافِرُونَ استئناف بيانى ، وقع جوابا عما نشأ من وصف اليوم بالأهوال ، وأهله بسوء الحال ، كأنّ قائلا قال : فما ذا يكون حينئذ؟ فقال : يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ صعب شديد. وفى إسناد هذا القول إلى الكفار تلويح بأنّ المؤمنين ليسوا فى تلك المرتبة. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : اقتربت ساعة الفتح لمن جدّ فى السير ، ولازم صحبة أهل القرب ، قال القشيري : الساعة ساعتان كبرى ، وهى عامة ، وصغرى ، وهى خاصة بالنسبة إلى السالك إلى اللّه ، برفع الأوصاف البشرية ، وقطع العلائق الطبيعية. ثم قال : وإليه الإشارة بقوله صلّى اللّه عليه وسلم : «من مات فقد قامت قيامته» «3» راجعة إلى الساعة الصغرى. ه. أي :
___________
(1) أثبت المصنف الياء فى «الداع إلى» وهى قراءة ورش وأبى عمرو وأبى جعفر ، وصلا ، والبزي ويعقوب فى الحالين. وقرأ الباقون بغير ياء وصلا ووقفا. انظر السبعة/ 617 والإتحاف 2/ 505.
(2) قرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي ويعقوب «خاشعا» بفتح الخاء وألف بعدها وكسر الشين مخففة ، بالإفراد. وقرأ الباقون «خشعا» بضم الخاء وفتح الشين وتشديدها بلا ألف. انظر الإتحاف (2/ 506).
(3) قال العراقي فى المغني 4/ 67 : «أخرجه ابن أبى الدنيا فى كتاب الموت ، من حديث أنس ، بسند ضعيف» وكذا قال الشوكانى فى الفوائد المجموعة (ص 267) وزاد : «وهو من قول الفضيل بن عياض رحمه اللّه تعالى» وأخرجه الديلمي ، الفردوس بمأثور الخطاب (ح 1117) عن أنس بلفظ : «إذا مات أحدكم فقد قامت قيامته ...» الحديث. وانظر كشف الخفاء (ح/ 2618).(5/523)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 524
من مات عن رؤية نفسه قامت قيامته بلقاء ربه وشهوده. وقوله تعالى : وَانْشَقَّ الْقَمَرُ أي : قمر الإيمان فإنه إذا أشرقت عليه شمس العيان ، لم يبق لنوره أثر ، ليس الخبر كالعيان ، وإن يروا - أي : أهل الغفلة والحجاب - آية تدل على طلوع شمس العيان على العبد المخصوص ، يعرضوا منكرين ، وَيَقُولُوا : هذا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ .. الآية ، وكلّ أمر قدّره الحق - تعالى فى الأزل ، من أوقات الفتح أو غيره ، مستقر ، يستقر ويقع فى وقته ، لا يتقدم ولا يتأخر ، فلا ينبغى للمريد أن يستعجل الفتح قبل إبانه ، فربما عوقب بحرمانه ، ولقد جاءهم من الأخبار عن منكرى أهل الخصوصية ، وما لحق أهل الانتقاد من الهلاك أو الطرد والبعد ما فيه مزدجر ، كما فعل بابن البراء وأمثاله ، حكمة من اللّه بالغة ، وسنة ماضية ، يقول : «من آذى لى وليّا فقد آذن بالحرب» فما تغن النّذر إذا سبق الخذلان ، فتولّ أيها السالك عنهم ، وعن خوضهم ، واشتغل باللّه عنهم فسيكفيكهم اللّه وهو السميع العليم ، واذكر الموت وما بعده ، فإنه حينئذ يظهر عز الأولياء ، وذل الأغبياء ، يقولون : هذا يوم عسر على من طغى وتجبر.
ثم سرد قصص الأنبياء ، تسلية لرسوله صلّى اللّه عليه وسلم - وتفسيرا لقوله : وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ فقال :
[سورة القمر (54) : الآيات 9 الى 17]
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا وَقالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (9) فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10) فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ (11) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12) وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ (13)
تَجْرِي بِأَعْيُنِنا جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ (14) وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (15) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (16) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17)
يقول الحق جل جلاله : كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ أي : قبل أهل مكة قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا نوحا عليه السّلام.
ومعنى تكرار التكذيب : أنهم كذّبوا تكذيبا عقب تكذيب ، كلما خلا منهم قرن مكذّب ، جاء عقبه قرن آخر مكذّب مثله ، وقيل : كذبت قوم نوح الرّسل ، (فكذّبوا عبدنا) لأنه من جملتهم. وفى ذكره عليه السّلام بعنوان العبودية مع إضافته لنون العظمة تفخيم له عليه السّلام ورفع لمحله ، وزيادة تشنيع لمكذّبيه ، وَقالُوا مَجْنُونٌ أي : لم يقتصروا على مجرد التكذيب ، بل نسبوه للجنون ، وَازْدُجِرَ أي : زجر عن أداء الرّسالة بالشتم ، وهدّد بالقتل ، أو : هو من جملة قولهم ، أي : قالوا : هو مجنون وقد ازدجرته الجن ، أي : تخبّطته وذهبت بلبه.(5/524)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 525
فَدَعا رَبَّهُ حين أيس منهم أَنِّي مَغْلُوبٌ أي : بأنى مغلوب من جهة قومى ، بتسليطهم علىّ ، فلم يسمعونى ، واستحكم اليأس من إجابتهم. قال القشيري : مغلوب بالتسلط لا بالحجة ، إذ الحجة كانت له. ه. وهذا جار فيمن لم يستجب لك ، تقول : غلبنى. ثم دعا عليهم بقوله : فَانْتَصِرْ فانتقم منهم بعذاب تبعثه عليهم ، وذلك بعد تحقق يأسه منهم وعظم إذايتهم. فقد روى أن الواحد منهم كان يلقاه فيضربه حتى يغشى عليه ، فيقول :
اللهم اغفر لقومى فإنهم لا يعلمون.
فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ منصب بكثرة وتتابع لم ينقطع أربعين يوما ، قال يمان : حتى طبق بين السماء والأرض «1» ، وقيل : كانوا يطلبون المطر سنين ، فأهلكوا بمطلوبهم. وفتح الأبواب كناية عن كثرة الأمطار ، وشدة أنصابها ، وقيل : كان فى السماء يومئذ أبواب حقيقة.
وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً وجعلنا الأرض كلها كأنها عيون تتفجر ، وهو أبلغ من قولك : وفجرنا عيون الأرض ، ومثله : وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً «2» فى إفادة العموم والشمول ، فَالْتَقَى الْماءُ أي : مياه السماء ومياه الأرض ، وقرىء : «الماءان» «3» ، أي : النوعان من الماء السمائى والأرضى. عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ أي : قضى فى أم الكتاب ، وهو هلاك قوم نوح بالطوفان ، أو : قدر أنّ الماءين يكون مقدارهما واحدا من غير تفاوت. قيل : كان ماء السماء باردا كالثلج ، وماء الأرض مثل الحميم ، ويقال : إنّ الماء الذي نبع من الأرض نضب ، والذي نزل من السماء بقي حارا.
وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ أي : أخشاب عريضة ، والمراد : السفينة ، وهى من الصفات التي تقوم مقام موصوفها كالشرح له ، وهو من فصيح الكلام ومن بديعه ، وَدُسُرٍ ومسامير ، جمع : دسار ، وهو المسمار ، فعال من : دسره : إذا دفعه لأنه يدسر به منفذه. تَجْرِي بِأَعْيُنِنا أي. بمرأىّ منا ، أو : بحفظنا ، وهو حال من فاعل «تجرى» ، أي : تجرى محفوظة جَزاءً مفعول له ، أي : فعلنا ذلك جزاء لِمَنْ كانَ كُفِرَ وهو نوح عليه السّلام ، وجعله مكفورا لأن النّبى نعمة من اللّه ورحمة ، فكان نوح نعمة مكفورة. وقرأ مجاهد بفتح الكاف ، أي : عقابا لمن كفر باللّه. قيل : ما نجا من الغرق إلّا عوج بن عنق ، كان الماء إلى حجزته «4» ، وسبب نجاته : أنّ نوحا احتاج إلى
___________
(1) ذكره البغوي فى تفسيره 7/ 428.
(2) من الآية 4 من سورة مريم.
(3) عزاها فى مختصر ابن خالويه ، وزاد فى البحر المحيط (8/ 175) علىّ والحسن ومحمد بن كعب.
(4) الحجزة : موضع التكة من السروال.(5/525)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 526
خشب الساج للسفينة ، فلم يمكنه نقلها ، فحمل عوج تلك الخشب إليه من الشام ، فشكر اللّه له ذلك ، ونجّاه من الغرق.
قاله الثعلبي «1». قلت : وقد تقدم إبطاله فى سورة العقود «2» ، وأنه من وضع الزنادقة. ذكره القسطلاني.
وَلَقَدْ تَرَكْناها أي : السفينة ، أو : الفعلة ، أي : جعلناها آيَةً يعتبر بها من يقف على خبرها. وعن قتادة :
أبقاها اللّه بأرض الجزيرة ، وقيل : على الجودىّ ، حتى رآها أوائل هذه الأمة «3». فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ من متعظ يتعظ ويعتبر ، وأصله : مذتكر ، فأبدلت التاء دالا مهملة ، وأدغمت الذال فيها لقرب المخرج ، فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ؟! استفهام تعظيم وتعجيب ، أي : كان عذابى وإنذارى لهم على هيئة هائلة ، لا يحيط بها الوصف ، والنّذر :
جمع نذير ، بمعنى الإنذار.
وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ أي : سهّلناه للادّكار والاتعاظ بأن شحنّاه بأنواع المواعظ والعبر ، وصرّفنا فيه من الوعد والوعيد ما فيه شفاء وكفاية. فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ؟ إنكار ونفى للمتعظ على أبلغ وجه ، أي : فهل من متعظ يقبل الاتعاظ ، وقيل : ولقد سهّلناه للحفظ ، وأعنّا من أراد حفظه ، فهل من طالب لحفظه ليعان عليه؟ قال القشيري : وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ يسّر قراءته على ألسنة قوم ، وعلمه على قوم ، وفهمه على قلوب قوم ، وحفظه على قلوب قوم ، وكلهم أهل القرآن ، وكلهم أهل اللّه وخاصته. ويقال : كاشف الأرواح من قوم قبل إدخالها فى الأجساد ، فهل من مدكر يذكر العهد الذي جرى لنا معه؟. ه.
ويروى : أن كتب أهل الأديان من التوراة فى الإنجيل والزبور لا يتلوها أهلها إلا نظرا ، ولا يحفظونها ظاهرا كالقرآن ، وفى القوت : مما خصّ اللّه به هذه الأمة ثلاثة أشياء : حفظ كتابنا هذا ، إلا ما ألهم اللّه عزيزا من التوراة بعد أن كان بختنصّر أحرق جميعها ، ومنها : تبقية الإسناد فيهم ، يأثره خلف عن سلف ، متصلا إلى نبينا صلّى اللّه عليه وسلم ، وإنما كانوا يستنسخون الصحف ، كلما خلقت صحيفة جددت ، فكان ذلك أثرة العلم فيهم ، والثالثة : أن كان مؤمن من هذه الأمة يسئل عن علم الإيمان ، ويسمع قوله مع حداثة سنه ، ولم يكن مما مضى يسمعون العلم إلا من الأحبار والقسيسين والرّهبان. وزاد رابعة : وهى ثبات الإيمان فى قلوبهم ، لا يعتوره شك ، ولا يختلجه شرك ، مع تقليب الجوارح فى المعاصي. وقد قال قوم موسى : اجْعَلْ لَنا إِلهاً «4» بعد أن رأوا الآيات العظيمة ، من انفلاق البحر وغيره. ه. قال أبو السعود : وحمل تيسيره على حفظه لا يساعده المقام. ه.
___________
(1) وذكره القرطبي فى تفسيره (7/ 6489).
(2) لم يذكر الشيخ شيئا عن عوج بن عنق فى تفسير سورة المائدة. وقد ولع بعض المفسرين بذكر قصة عوج عند تفسير قوله تعالى :
قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها المائدة/ 22. وقد بين العلماء زيف ما نقل فى هذه القصة. راجع فى هذا ، الإسرائيليات والموضوعات للدكتور محمد أبى شهبة/ 186. [.....]
(3) أخرجه ابن جرير (27/ 95) وعزاه السيوطي فى الدر (6/ 180) لعبد الرّزّاق وعبد بن حميد وابن المنذر.
(4) من الآية 138 من سورة الأعراف.(5/526)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 527
الإشارة : فى الآية تسلية لمن أوذى من الأولياء ، وإجابة الدعاء على الظالم ، لهم إن [أذن ] «1» لهم فى ذلك بإلهام أو هاتف ، وإلّا فالصبر أولى ، وجعل القشيري نوحا إشارة إلى القلب ، وقومه جنود النّفس ، من الهوى والدنيا وسائر العلائق ، فيكون التقدير : كذبت النّفس وجنودها القلب ، فيما يرد عليه من تجليات الحق ، وكشوفات الغيب ، وقالوا : إنما هو مجنون فيما يخبر به ، فزجرته ، ومنعته من تلك الواردات الإلهية بظلمات شهواتها ، فدعا ربه وقال :
أنى مغلوب فى يد النّفس وجنودها ، فانتصر لى حتى تغيبنى عنهم ، ففتحنا أبواب سماء الغيب بأمطار الواردات الإلهية القهّارية ، لتمحق تلك الظلمات النّفسانية ، وفجرنا أرض البشرية بعلوم آداب العبودية ، فالتقى ماء الواردات ، التي هى من حضرة الرّبوبية ، مع ماء علوم العبودية ، على أمر قد قدر أنه ينصر القلب ، ويرقيه إلى حضرة القدس ، وحملناه على سفينة الجذب والعناية ، تجرى بحفظنا ، جزاء لنعمة القلب التي كفرت به النّفس وجنودها ، ولقد تركنا هذه الفعلة آية يعتبر بها السائرون إلينا ، والطالبون لنا ، فهل من مدكر؟ فكيف كان عذابى لمن استولت عليه النّفس وجنودها؟ وكيف كان إنذارى من غم الحجاب ، وسوء الحساب ، ولقد يسّرنا القرآن للذكر للاتعاظ ، فهل من مدكر ، فينهض من غفلته إلى مولاه؟.
ثم ذكر قصة عاد ، فقال :
[سورة القمر (54) : الآيات 18 الى 22]
كَذَّبَتْ عادٌ فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (18) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (19) تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (20) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (21) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (22)
يقول الحق جل جلاله : كَذَّبَتْ عادٌ هودا عليه السّلام ، فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ؟! أي : وإنذارى لهم بالعذاب قبل نزوله ، والاستفهام لتوجيه قلوب السامعين للإصغاء إلى ما يلقى إليهم قبل ذكره لتهويله وتعظيمه ، وتعجيبهم من حاله قبل بيانه ، كما قبله وما بعده ، كأنه قيل : كذبت عاد فهل سمعتم ما حلّ بهم؟ أو : فاسمعوا ، فكيف كان عذابى وإنذارى لهم.
ثم بيّن ما أجمل فقال : إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً باردة أو : شديدة الصوت فِي يَوْمِ نَحْسٍ شؤم مُسْتَمِرٍّ شؤمه عليهم إلى أن أهلكهم ، وكان فى أربعاء آخر شوال ، تَنْزِعُ النَّاسَ أي : تقلعهم ، وجاء بالظاهر
___________
(1) فى الأصول [أوذن ].(5/527)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 528
مكان المضمر ليشمل ذكورهم وإناثهم ، صغيرهم وكبيرهم. روى : أنهم كانوا يتداخلون الشّعاب ، ويحفرون الحفر ، ويندسون فيها ، ويمسك بعضهم ببعض فتزعجهم الرّيح ، وتصرعهم موتى.
قال ابن إسحاق : ولمّا هاجت عليهم الرّيح ، قام سبعة نفر من عاد [فأولجوا]»
العيال فى شعب بين جبلين ، ثم اصطفوا على باب الشعب ، ليردوا الرّيح عنهم ، فجعلت الرّيح تجعفهم «2» رجلا رجلا. ه. ثم صاروا بعد موتهم كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ أي : أصول نخل منقلع من مغارسه ، وشبهوا بأعجاز النّخلة ، وهى أصولها التي قطعت رؤوسها لأنّ الرّيح كانت تقطع رؤوسهم ، فتبقى أجسادا بلا رؤوس ، فيتساقطون على الأرض أمواتا ، وهم جثث طوال. وتذكير صفة النّخل بالنظر إلى اللفظ ، كما أن تأنيثه فى قوله تعالى : أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ «3» بالنظر للمعنى. فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ؟! تهويل وتعجيب من أمرهما بعد بيانهما ، فليس فيه شائبة تكرار ، وما قيل :
من أن الأول لما حاق بهم فى الدنيا ، والثاني لما يحيق بهم فى الآخرة ، يرده ترتيب الثاني على العذاب الدنيوي.
وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ؟! وفى تكريره بعد كلّ قصة تنبيه على أن إيراد قصص الأمم إنما هو للوعظ والتذكار ، وللانزجار عن مثل فعلهم ، لا لمجرد السماع والتلذذ بأخبارهم ، كما هى عادة القصاص.
الإشارة : من شأن النّفوس العاتية المتجبرة العادية تكذيب أهل الخصوصية كيفما كانوا ، ولا ترضى بحط رأسها لمن يدعوها إلى ربها ، فيرسل اللّه عليهم ريح الهوى والخذلان ، فتصرعهم فى محل الذل والهوان ، وتتركهم عبيدا لنفوسهم الخسيسة ، وللدنيا الدنية ، فكيف كان عذابى لهؤلاء وإنذارى لهم؟!. ولقد يسرنا القرآن للذكر ، وبيّنا فيه ما فعلنا بأهل التكبر والعناد من الإهانة والطرد والإبعاد ، فهل من مدكر ، يتيقظ من سنة غفلته ، ويرحل من دنياه لآخرته ، ومن نفسه إلى ربه؟.
ثم ذكر قصة ثمود ، فقال :
[سورة القمر (54) : الآيات 23 الى 32]
كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (23) فَقالُوا أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (24) أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (25) سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (26) إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ (27)
وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ (28) فَنادَوْا صاحِبَهُمْ فَتَعاطى فَعَقَرَ (29) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (30) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (31) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (32)
___________
(1) فى الأصول : [فألجوا].
(2) تجعفهم : تصرعهم.
(3) من الآية 7 من سورة الحاقة.(5/528)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 529
يقول الحق جل جلاله : كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ بصالح عليه السّلام لأنّ من كذّب واحدا فقد كذّب الجميع لاتفاقهم فى الشرائع ، أو : كذّبوا بالإنذارات والمواعظ التي يسمعونها من صالح ، فَقالُوا أَبَشَراً مِنَّا أي : كائنا من جنسنا ، وانتصابه بفعل يفسره «نتبعه» أي : أنتبع بشرا منا واحِداً منفردا لا تباعة له؟ أو : واحدا من النّاس لا شرف له نَتَّبِعُهُ وندع ديننا؟ إِنَّا إِذاً أي : على تقدير اتباعنا له ، وهو مفرد ونحن أمة جمة لَفِي ضَلالٍ عن الصواب وَسُعُرٍ نيران تحرق ، جمع «سعير». كان صالح يقول لهم : إن لم تتبعونى كنتم فى ضلال عن الحق ، وصرتم إلى سعير ، ونيران تحرق ، فعكسوا عليه ، لغاية عتوهم ، وقالوا : إن اتبعناك كنا كما تقول.
وقيل : المراد بالسعر : الجنون ، لأنها تشوه صاحبها ، أنكروا أن يكون الرّسول بشرا ، وطلبوا أن يكون من الملائكة ، وأنكروا أن تتبع أمة واحدا ، أو : رجلا لا شرف له فى زعمهم ، حيث لم يتعاط معهم أسباب الدنيا. ويؤيد التأويل الثاني قولهم : أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ أي : الوحى عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا وفينا من هو أحق منه بالاختيار للنبوة؟ بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ أي. بطر متكبر ، حمله بطره وطلبه التعظيم علينا على ادعائه ذلك.
قال تعالى : سَيَعْلَمُونَ غَداً أي : عن قريب ، وهو عند نزول العذاب بهم ، أو يوم القيامة ، مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ أصالح أم من كذّبه؟ وقرأ الشامي وحمزة بتاء الخطاب ، على حكاية ما قاله صالح مجيبا لهم. إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ باعثوها ومخرجوها من الهضبة كما سألوا ، فِتْنَةً لَهُمْ ابتلاء وامتحانا لهم ، مفعول له ، أو :
حال ، فَارْتَقِبْهُمْ فانتظرهم وتبصّر ما هم صانعون وَاصْطَبِرْ على أذاهم ، ولا تعجل حتى يأتيك أمرى.
وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ مقسوم بينهم ، لها شرب يوم ، ولهم شرب يوم ، وقال : «بينهم» تغليبا للعقلاء.
كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ محضور ، يحضر القوم الشرب يوما ، وتحضر النّاقة يوما ، فَنادَوْا صاحِبَهُمْ قدار بن سالف ، حمير ثمود ، فَتَعاطى فاجترأ على تعاطى الأمر العظيم ، غير مكترث به ، فَعَقَرَ الناقة ، ، أو :
فتعاطى النّاقة فعقرها ، أو : تعاطى السيف فقتلها ، والتعاطي : تناول الشيء بتكلف. وقال أبو حيان : هو مضارع عاطا ، وكأنّ هذه الفعلة تدافعها النّاس بعضهم بعضا ، فتعاطاها قدار وتناول العقر بيده. ه.(5/529)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 530
فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ ، إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ فى اليوم الرّابع من عقرها ، صَيْحَةً واحِدَةً صاح بهم جبريل عليه السّلام فَكانُوا فصاروا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ كالشجر اليابس الذي يجده من يعمل الحظيرة ، فالهشيم :
الشجر اليابس المتكسر ، الذي يبس من طول الزمان ، وتتوطّؤه البهائم فيتحطّم ويتهشّم ، والمحتظر : الذي يعمل الحظيرة. قال ابن عباس : «هو الرّجل يجعل لغنمه حظيرة من الشجر والشوك ، فما يسقط من ذلك ودرسته الغنم فهو هشيم» «1» شبههم فى تبددهم ، وتفرق أو صالهم ، بالشوك الساقط على الأرض ، وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ فيتعظ بما يسمع من هذه القصص.
الإشارة : سبب إنكار النّاس على أهل الخصوصية ظهور وصف البشرية عليهم ، ولا يلزم من وجود الخصوصية عدم وصف البشرية ، ووصف البشرية على قسمين :
قسم لازم ، لا تنفك العبودية عنه ، كالأ كل والشرب والنّوم والنّكاح ، وغيرها من الأوصاف الضرورية ، وهذه هى التي تجامع الخصوصية وبها سترت ، واحتجبت حتى أنكرت ، فوجودها فى العبد كمال لأنها صوان لسر الخصوصية. قال فى الحكم : «سبحان من ستر سر الخصوصية بظهور وصف البشرية ، وظهر بعظمة الرّبوبية فى إظهار العبودية». وقسم عارض يمكن زواله وهى الأوصاف المذمومة ، كالكبر والحسد والحقد ، وحب الدنيا والرّياسة ، وغير ذلك ، فهذا لا تجامعه الخصوصية ، ولا بد من التطهير منه فى وجودها.
وللقشيرى إشارة أخرى ، وحاصلها : كذبت ثمود النفس الأمّارة وجنودها صالح القلب حين دعاها إلى الخروج عن عوائدها ، والتطهر من أوصافها المذمومة ، فقالت النّفس وجنودها : أنتبع واحدا منا ، لأنه مخلوق مثلنا ، ونحن عصبة؟ إنا إذا لفى ضلال وسعر ، أألقي الذكر الإلهامى عليه من بيننا؟ بل هو كذّاب أشر ، سيعلمون غدا ، حين يقع لهم الرّحيل من عالمهم ، من الكذاب الأشر ، أثمود النّفس وجنودها ، أم صالح القلب؟ إنّا مرسل ناقة النّفس فتنة لهم ، ابتلاء ليظهر الخصوص من العموم ، فارتقبهم ، لعلهم يرجعون إلى أصلهم من النّزاهة والطهارة ، واصطبر فى مجاهدتهم ، ونبئهم أنّ ماء الحياة - وهى الخمرة الأزلية - قسمة بينهم ، من شرب منها صفا ، ومن تنكب عنها أظلم ، كل شرب يحضره من يتأهل له. فنادوا صاحبهم - وهو الهوى - فتعاطى ناقة النّفس ، التي أرادت العروج إلى وطن الرّوح ، فعقرها وردها إلى وطنها الخسيس ، فكيف كان عذابى لها ، وإنذارى إياها؟ إنّا أرسلنا عليهم صيحة القهر ، فسقطوا إلى الحضيض الأسفل ، فكانوا كهشيم المحتظر صاروا أرضيين بعد أن كانوا سماويين. ه بالمعنى مع تخالف له.
___________
(1) انظر تفسير البغوي 7/ 431.(5/530)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 531
ثم قال القشيري : اعلم أن النّفس حقيقة واحدة ، غير متعددة ، لكن بحسب توارد الصفات المتباينة تعددت أسماؤها ، فإذا توجهت إلى الحق توجها كليّا سميت مطمئنة ، وإذا توجهت إلى الطبيعة البشرية توجها كليا سميت أمّارة ، وإذا توجهت إلى الحق تارة ، وإلى الطبيعة أخرى سميت لوّامة. ه مختصرا.
ثم ذكر قصة لوط ، فقال :
[سورة القمر (54) : الآيات 33 الى 40]
كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (33) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً إِلاَّ آلَ لُوطٍ نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ (34) نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنا كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ (35) وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنا فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ (36) وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ (37)
وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذابٌ مُسْتَقِرٌّ (38) فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ (39) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (40)
يقول الحق جل جلاله : كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ ، وقد تقدم ، إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ أي : على قوم لوط حاصِباً أي : ريحا تحصبهم ، أي : ترميهم بالحصباء ، إِلَّا آلَ لُوطٍ ابنتيه ومن آمن معه ، نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ ملتبسين بسحر من الأسحار ، ولذا صرفه ، وهو آخر الليل ، أو : السدس الأخير منه ، وقيل : هما سحران ، فالسحر الأعلى : قبل انصداع الفجر ، والآخر : عند انصداعه ، نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنا أي : إنعاما منا ، وهو علة لنجّينا ، كَذلِكَ أي : مثل ذلك الجزاء العجيب نَجْزِي مَنْ شَكَرَ نعمتنا بالإيمان والطاعة.
وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ لوط بَطْشَتَنا أخذتنا الشديدة بالعذاب ، فَتَمارَوْا فكذّبوا بِالنُّذُرِ بإنذاره متشاكّين فيه ، وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ قصدوا الفجور بأضيافه ، فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ فمسخناها وسويناها كسائر الوجه ، أي : صارت وجوههم صفيحة واحدة لا ثقب فيها.
روى أنهم لمّا قصدوا دار لوط ، وعالجوا بابها ليدخلوا ، قالت الرّسل للوط : خلّ بينهم وبين الدخول ، فإنّا رسل ربك ، لن يصلوا إليك. وفى رواية : لمّا منعوا من الباب تسوروا الحائط ، فدخلوا ، فصفعهم جبريل بجناحه فتركهم عميا يترددون ، ولا يهتدون إلى الباب ، فأخرجهم لوط عميا. وقلنا لهم على ألسنة الرّسل ، أو بلسان الحال :
فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ أي : وبال إنذارى ، والمراد به : الطمس فإنه من جملة ما أنذروا به.(5/531)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 532
وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً أول النّهار عَذابٌ مُسْتَقِرٌّ لا يفارقهم حتى يسلمهم إلى النّار ، وفى وصفه بالاستقرار إيماء إلى أنّ عذاب الطمس ينتهى إليه ، فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ ، حكاية لما قيل لهم حينئذ من جهته - تعالى - تشديدا للعتاب.
وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ، قال النّسفى : وفائدة تكرير هذه الآية أن يجدّدوا عند سماع كلّ نبأ من أنباء الأولين ادّكارا واتعاظا إذا سمعوا الحث على ذلك ، وأن يستأنفوا تنبّها واستيقاظا إذا سمعوا الحثّ على ذلك ، وهكذا حكم التكرير فى قوله ، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ «1» عند كلّ نعمة عدّها ، وقوله : وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ «2» عند كلّ آية أوردها ، وكذا تكرير القصص فى أنفسها لتكون تلك العبر حاضرة للقلوب ، مصوّرة فى الأذهان ، [مذكّرة] «3» غير منسيّة فى كلّ أوان. ه.
الإشارة : قال القشيري : يشير إلى أنّ كلّ من غلبته الشهوة البهيمية - شهوه الجماع - يجب عليه أن يقهر تلك الصفة ، ويكسرها بأحجار ذكر «لا إله إلا اللّه» ، ويعالج تلك الصفة بضدها ، وهو العفة. ه. فالإشارة بقوم لوط إلى الشهوات الجسمانية ، فقد كذّبت الرّوح حين دعتها إلى مقام الصفا ، ودعتها النّفس بالميل إليها إلى الحضيض الأسفل ، فإذا أراد اللّه نصر عبده أرسل عليها حاصب الواردات والمجاهدات ، فمحت أوصافها الذميمة ، ونقلتها إلى مقام الرّوحانية ، قال تعالى : إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً إِلَّا آلَ لُوطٍ يعنى الأوصاف المحمودة ، نجيناهم فى آخر ليل القطيعة ، أو : الروح وأوصافها الحميدة ، نجيناها فى وقت النّفحات من التدنس بأوصاف النّفس الأمّارة ، نعمة من عندنا ، لا بمجاهدة ولا سبب ، كذلك نجزى من شكر نعمة العناية ، وشكر من جاءت على يديه الهداية ، وهم الوسائط من شيوخ التربية. ولقد أنذر الرّوح النّفس وهواها وجنودها بطشتنا : قهرنا ، بوارد قهرى ، من خوف مزعج ، أو شوق مقلق ، حتى يخرجها من وطنها ، فتماروا بالنذر ، وقالوا : لم يبق من يخرجنا من وطننا ، فقد انقطعت التربية ، ولا يمكن إخراجنا بغيرها ، ولقد راودوه عن ضيفه ، راودوا الرّوح عن نور معرفته ويقينه ، بالميل إلى شهوات النّفس فطمسنا أعينهم ، فلم يتمكنوا من رد الرّوح إذا سبقت لها العناية ، فيقال للنفس وجنودها : ذوقوا عذابى ونذرى بالبقاء مع الخواطر والهموم ، ولقد صبّحهم أول نهار المعرفة حين أشرقت شموس العيان عذاب مستقر ، وهو محق أوصاف النّفس ، والغيبة عنها أبدا سرمدا. واللّه تعالى أعلم.
___________
(1) كررت هذه الآية فى سورة الرّحمن إحدى وثلاثين مرة ، المرة الأولى جاءت فى الآية 13.
(2) الآية 15 من سورة المرسلات.
(3) فى النّسفى [مذكورة].(5/532)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 533
ثم ذكر قوم فرعون ، تعالى :
[سورة القمر (54) : الآيات 41 الى 42]
وَلَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (41) كَذَّبُوا بِآياتِنا كُلِّها فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ (42)
يقول الحق جل جلاله : وَلَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ موسى وهارون ، جمعهما لغاية ما عالجا فى إنذارهم ، أو : بمعنى الإنذار ، وصدّر قصتهم بالتوكيد القسمي لإبراز كمال الاعتناء بشأنها لغاية عظم ما فيها من الآيات ، وكثرتها ، وهول ما لا قوة من العذاب ، واكتفى بذكر آل فرعون للعلم بأنّ نفسه أولى بذلك ، كَذَّبُوا بِآياتِنا كُلِّها وهى التسع فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ لا يغالب مُقْتَدِرٍ لا يعجزه شىء.
الإشارة : النفوس الفراعنة ، التي حكمت المشيئة بشقائها ، لا ينفع فيها وعظ ولا تذكير لأنّ الكبرياء من صفة الحق ، فمن نازع اللّه فيها قصمه اللّه وأبعده.
ثم هدد قريشا بما نزل على من قبلهم ، فقال :
[سورة القمر (54) : الآيات 43 الى 48]
أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ (43) أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (44) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45) بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ (46) إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (47)
يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48)
يقول الحق جل جلاله : أَكُفَّارُكُمْ يا معشر العرب ، أو : يا أهل مكة خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ الكفار المعدودين فى السورة قوم نوح وهود وصالح ولوط وآل فرعون ، والمعنى : أنه أصابهم ما أصابهم مع ظهور خيريتهم منكم قوّة وآلة ومكانة فى الدنيا ، أو : كانوا أقلّ منكم كفرا وعنادا ، فهل تطمعون ألّا يصيبكم مثل ما أصابهم ، وأنتم شر منهم مكانة ، وأسوأ حالا؟ أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ أم نزلت عليكم يا أهل مكة براءة فى الكتب المتقدمة : أنّ من كفر منكم وكذّب الرّسول كان آمنا من عذاب اللّه ، فأمنتم بتلك البراءة؟
أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ أي : جماعة أمرنا جميع مُنْتَصِرٌ ممتنع لا نرام ولا نضام ، والالتفات للإيذان باقتضاء حالهم الإعراض عنهم ، وإسقاطهم عن رتبة الخطاب ، وحكاية قبائحهم لغيرهم ، أي : أيقولون واثقين(5/533)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 534
بشوكتهم : نحن أولوا حزم ورأى ، أمرنا مجتمع لا يقدر علينا ، أو : منتصرون من الأعداء ، لا نغلب ، أو :
متناصرون ، ينصر بعضنا بعضا. والإفراد باعتبار لفظ «جميع».
سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ جمع أهل مكة ، وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ الأدبار. والتوحيد لإرادة الجنس ، أو : إرادة أنّ كل منهم يولّى دبره ، وقد كان كذلك يوم بدر. قال عمر رضي اللّه عنه : لما نزلت : سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ كنت لا أدرى أي جمع يهزم؟ فلما كان يوم بدر رأيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يلبس الدرع ، ويقول : سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ فعرفت تأويلها «1» ، فالآية مكية على الصحيح. بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ أي : ليس هذا تمام عقوبتهم ، بل الساعة موعد أصل عذابهم ، وهذا طلائعه ، وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ أي : أقصى غاية من الفظاعة والمرارة من عذاب الدنيا.
والداهية : الأمر الفظيع الذي لا يهتدى إلى الخلاص منه ، وإظهار الساعة فى موضع إضمارها تربية لهولها.
إِنَّ الْمُجْرِمِينَ من الأولين والآخرين فِي ضَلالٍ عن الحق فى الدنيا وَسُعُرٍ ونيران تحرق فى الآخرة ، أو : لفى هلاك ونيران مسعرة ، يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ يجرّون فيها عَلى وُجُوهِهِمْ ويقال لهم :
ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ أي : قيسوا حرها وألمها ، كقولك : وجد مسّ الحمّى ، وذاق طعم الضرب لأن النّار إذا أصابتهم بحرّها فكأنها تمسهم مسّا بذلك ، و«سقر» غير مصروف للعلمية والتعريف لأنها علم لجهنم ، من : سقرته النّار :
إذا لوّحته.
الإشارة : ما قيل فى منكرى خصوصية النّبوة ، يقال فى منكرى خصوصية الولاية إذا اشتغل بأذاهم ، يعنى : أنّ من أنكر على الأولياء المتقدمين قد أصابهم ما أصابهم ، إما ذل فى الظاهر ، أو طرد فى الباطن ، وأنتم أيها المنكرون على أهل زمانكم مثلهم. أمنتقدكم خير من أولئكم أم لكم براءة من العذاب فى كتب اللّه تعالى؟ أم يقولون : نحن جميع ، أي : مجتمعون على الدين ، لا يصيبنا ما أصاب الكفار ، فيقال لهم : سيهزم جمعكم ، ويتفرق شملكم ، وتفضوا إلى ما أسلفتم ، نادمين على ما فعلتم ، ولن ينفع النّدم حين تزل القدم ، فتبقون فى حسرة البعد على الدوام ، فالكفار حرموا من جنة الزخارف ، وأنتم تحرمون من جنة المعارف ، مع غم الحجاب وذل البعد عن الحضرة القدسية ، إن المجرمين - وهم أهل الطعن والانتقاد - فى ضلال عن طريق الوصول إلى اللّه ، ونيران القطيعة ، يوم
___________
(1) أخرجه الإمام أحمد (2/ 329) والطبري (27/ 108). وزاد المناوى فى الفتح السماوي (3/ 1018 - 1019) عزوه لعبد الرّزاق وابن أبى حاتم ، وابن مردويه ، فى تفاسيرهم ، من مرسل عكرمة.(5/534)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 535
يسحبون على وجوههم ، فينهكمون فى الدنيا فى الحظوظ والشهوات ، وفى الآخرة فى نار البعد والقطيعة ، على دوام الأوقات ، ويقال لهم : ذوقوا مرارة الحجاب وسوء الحساب ، وكلّ هذا بقدر وقضاء سابق ، كما قال تعالى :
[سورة القمر (54) : الآيات 49 الى 55]
إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ (49) وَما أَمْرُنا إِلاَّ واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50) وَلَقَدْ أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (51) وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (52) وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (53)
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55)
يقول الحق جل جلاله : إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ أي : بتقدير سابق فى اللوح قبل وقوعه ، قد علمنا حاله وزمانه قبل ظهوره ، أو : خلقناه كلّ شىء مقدّرا محكما مرتبا على حسب ما اقتضته الحكمة ، و«كل» : منصوب بفعل يفسره الظاهر. وقرىء بالرفع شاذا ، والنّصب أولى لأنه لو رفع لأمكن أن يكون «خلقنا» صفة لشىء ، ويكون الخبر مقدرا ، أي : إنا كلّ شىء مخلوق لنا حاصل بقدر ، فيكون حجة للمعتزلة ، باعتبار المفهوم ، وأن أفعال العباد غير مخلوقة للّه. فلم يسبق لها قدر ، تعالى اللّه عن قولهم ، ويجوز أن يكون الخبر : «خلقناه» ، فلا حجة فيه ، ولا يجوز فى النّصب أن يكون «خلقنا» صفة لشىء لأنه يفسر النّاصب ، والصفة لا تعمل فى الموصوف ، وما لا يعمل لا يفسر عاملا. قال أبو هريرة : جاء مشركو قريش إلى النّبى صلّى اللّه عليه وسلم يخاصمونه فى القدر ، فنزلت الآية «1» ، وكان عمر يحلف أنها نزلت فى القدرية ، أي : على طريق الإخبار بالغيب.
وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ أي : كلمة واحدة ، سريعة التكوين ، وهو قوله تعالى : كُنْ أي : وما أمرنا لشىء نريد تكوينه إلّا أن نقول له : كن ، فيكون ، أو : إلّا فعلة واحدة ، وهو الإيجاد بلا معالجة ، كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ فى السرعة ، أي : على قد ما يلمح أحد ببصره ، وقيل : المراد سرعة القيامة ، لقوله تعالى : وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ «2».
وَلَقَدْ أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ أي : أشباهكم فى الكفر من الأمم ، وقيل : أتباعكم ، فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ من متعظ بذلك وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ من الكفر والمعاصي مكتوب على التفصيل فِي الزُّبُرِ فى ديوان الحفظة ، وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ من الأعمال ، ومن كلّ ما هو كائن مُسْتَطَرٌ مسطور فى اللوح بتفاصيله.
___________
(1) أخرجه مسلم فى (القدر ، باب كلّ شىء بقدر ، ح 2656).
(2) الآية 77 من سورة النّحل.(5/535)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 536
ولمّا بيّن سوء حال الكفرة بقوله : إِنَّ الْمُجْرِمِينَ ... إلخ ، بيّن حسن حال المؤمنين ، جمعا بين الترهيب والترغيب فقال : إِنَّ الْمُتَّقِينَ أي : الكفر والمعاصي فِي جَنَّاتٍ عظيمة وَنَهَرٍ أي : أنهار كذلك. والإفراد للاكتفاء بذكر الجنس ، مراعاة للفواصل ، وقرىء : «ونهر» «1» جمع «نهر» ، كأسد وأسد. فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ فى مكان مرضى ، وقرئ «فيمقاعد صدق» «2» ، عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ أي : مقربين عند مليك قادر لا يقادر قدر ملكه وسلطانه ، فلا شىء إلا وهو تحت ملكوته ، سبحانه ، ما أعظم شأنه. والعندية : عندية منزلة وكرامة وزلفى ، لا مسافة ولا محاسّة.
الإشارة : هذه الآية وأشباهها هى التي غسلت القلوب من الأحزان والأغيار ، وأراحت العبد من كدّ التدبير والاختيار لأنّ العاقل إذا علم علم يقين أنّ شئونه وأحواله ، وكلّ ما ينزل به ، قد عمه القدر ، لا يتقدم شىء عن وقته ولا يتأخر ، فوّض أمره إلى اللّه ، واستسلم لأحكام مولاه ، وتلقى ما ينزل به من النّوازل بالرضا والقبول ، خيرا كان أو شرا ، كما قال الشاعر :
إذا كانت الأقدار من مالك الملك فسيّان عندى ما يسر وما يبكى
وقال آخر :
تسلّ عن الهموم تسل «3» فما الدنيا سوى ثوب يعار
وسلّم للمهيمن فى قضاه ولا تختر فليس لك اختيار
فما تدرى إذا ما الليل ولّى بأيّ غريبة يأتى النّهار
وقوله تعالى : وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ .. إلخ ، هذا فى عالم الأمر ، ويسمى عالم القدرة ، وأما فى عالم الخلق ، ويسمى عالم الحكمة ، فجلّه بالتدريج والترتيب ، سترا لأسرار الرّبوبية ، وصونا لسر القدرة الإلهية ، ليبقى الإيمان بالغيب ، فتظهر مزية المؤمن ، ويقال لأهل العناد المتجبرة : ولقد أهلكنا أشياعكم إما بالهلاك الحسى ، أو المعنوي ، كالطرد والبعد ، فهل من متعظ ، يرجع عن عناده؟ وكلّ شىء فعلوه فى ديوان صحائفهم ، وكلّ صغير وكبير من
___________
(1) عزاها فى مختصر ابن خالويه/ 149 للأعرج. وزاد فى البحر المحيط (8/ 182) الأعمش وأبا مجلز واليماني وأبا نهيك وزهير العرقبى. [.....]
(2) عزاها فى مختصر ابن خالويه/ 149 وفى البحر المحيط (8/ 182) لعثمان البتى.
(3) كذا ، والشطرة غير مستقيمة الوزن ، وقد تكون : «تسل عن الهموم به تسل».(5/536)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 537
أعمال العباد مسطورة فى العلم القديم. إنّ المتقين ما سوى اللّه ، فى جنات المعارف ، وأنهار العلوم والحكم ، فى مقعد صدق ، هو حضرة القدس ، ومحل الأنس ، عند مليك مقتدر. قال الورتجبي : مقامات العندية جنانها زفارف الأنس ، وأنهارها أنوار القدس ، أجلسهم اللّه فى بساط الزلفة والمداناة ، التي لا يتغير صاحبها بعلة القهر ، ولا يزول عنها بالتستر والحجاب لذلك سماه «مقعد صدق» أي : محل كرامة دائمة ، ومزية قائمة ، ومواصلة سرمدية ، واللّه مقدّر قادر. انظر تمام كلامه.
وباللّه التوفيق ، وهو الهادي إلى سواء الطريق ، وصلّى اللّه على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم «1».
___________
(1) إلى هنا ينتهى المجلد الخامس بتجزئة المحقق. ويتلوه - إن شاء اللّه - المجلد السادس ، وأوله تفسير سورة «الرحمن» ، أسأل اللّه تعالى أن ينفعنى وجميع المسلمين به ، وأن يبلغنا بهذا الكتاب أسمى الدرجات ، وأن يوفقنا لما يقربنا إليه فى كلّ الأوقات ، وألا يجعلنا من المفتونين. اللهم اغفر لنا وارحمنا ويسر لنا كلّ عسير. آمين.
أحمد عبد اللّه القرشي(5/537)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 538(5/538)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 539
فهرس المجلد الخامس
سورة ص 5 سورة الزمر 47 سورة غافر 109 سورة فصلت 159 سورة الشورى 193 سورة الزخرف 233 سورة الدخان 277 سورة الجاثية 299 سورة الأحقاف 323 سورة محمد 353 سورة الفتح 383 سورة الحجرات 413 سورة ق 443 سورة الذاريات 463 سورة الطور 485 سورة القمر 521 ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ...(5/539)
تنبيه :
نظرا لعدم اكتمال هذه النسخة فقد تم الاعتماد من أول سورة الرحمن : آخر سورة الناس على دار الكتب العلمية ـ بيروت
عدد الأجزاء / 8
الطبعة الثانية / 2002 م ـ 1423 هـ
تنبيه آخر
أولا : الترقيم داخل الصفحات
ثانيا : الترقيم لذيل الصفحات وليس لأولها(7/264)
سورة الرحمن
جزء : 7 رقم الصفحة : 265
يقول الحق جلّ جلاله : {الرحمنُ علَّمَ القرآنَ} عدّد في هذه الصورة الكريمة ما أفاض على كافة الأنام من فنون نِعمه الدينية والدنيوية ، الأنفسية والآفاقية ، وأنكر عليهم إثر كل منها إخلالهم بموجب شكرها ، وبدأ بتعليم القرآن ؛ لأنه أعظمها شأناً ، وأرفعها مكاناً ، كيف لا وهو مدار السعادة الدينية والدنيوية ؟ وإسناد تعليم القرآن إلى اسم " الرَّحْمَان " للإيذان بأنه من آثار الرحمة الواسعة وأحكامها.
ثم ثنَّى بنعمة الإيمان ، فقال : {خَلَقَ الإِنسانَ} أي : جنس الإنسان ، أو آدم ، أو محمد صلى الله عليه وسلم ، والمراد بخلقه : إنشاؤه على ما هو عليه من القُوى الظاهرة والباطنة. {علَّمه البيانَ} وهو المنطق الفصيح ، المُعْرِب عما في الضمير ، وليس المراد بتعليمه : تمكينه من بيان ما في نفسه ، بل منه ومِن فهم بيان غيره ، إذ هو الذي يدور عليه التعليم. وأَخَّر ذِكر خلق الإنسان عن تعليم القرآن ؛ ليعلم إنما خلقه للدين ، وليُحيط علماً بوحي الله وكُتبه ، ثم ذكر ما تميز به من سائر الحيوان ، وهو البيان والإفصاح عما في الضمير. والجمل الثلاث أخبار مترادفة للرحمن ، وإخلاء الأخيرتين عن العاطف لمجيئها على نمط التعديد ، كما تقول : زيد أغناك بعد فقر ، أعزّك بعد ذلك ، كثَّرك بعد قِلَّة ، فعل بك ما لم يفعل أحدٌ بأحدٍ ، فما تُنكر إحسانه ؟ .
266
ثم ذكر النِعَم الآفاقية ، فقال : {الشمسُ والقمرُ بحُسْبَانٍ} أي : يجريان بحساب معلوم ، وتقدير سويِّ ، في بُروجهما ومنازلهما ، بحيث ينتظم بذلك أمور الكائنات السفلية ، وتختلف الفصول والأوقات ، ويُعلم منها عدد السنين والحساب ، ولو كان الدهر كله نهاراً أو ليلاً لبطلت هذه الحكمة ، ولم يَدْر أحدٌ كيف يحسب شيئاً ، ولاختلّ نظام العالم بالكلية ، وقال مجاهد : (بحُسْبان) كحسبان الرحا ، يدوران في مثل قطب الرحا ، وهو مُؤيِّدٌ لأهل التنجيم. قال بعضهم : إنَّ الشمس قدر الدنيا مائة وعشرون مرة ، لأجل ذلك أن الإنسان يجدها قبالته حيث صار. وقال في شرح الوغليسية : إنَّ الشمس قدر الدنيا بمائة ونيف وستين مرة ، والقمر قدر الدنيا ثمان مرات ، ويُحيط بهما بصر أقل من حبة السمسم ، الله أكبر وأعز وأعلا. هـ. ويقال : مكتوب في وجه الشمس : " لا إله إلا الله محمد رسول الله ، خلق الشمس بقدرته ، وأجراها بأمره " وفي وجه القمر مكتوب : " لا إله إلا الله ، محمد رسول الله ، خالق الخير والشر بقدرته ، يبتلي بهما مَن يشاء مِن خلقه ، فطُوبى لمَن أجرى اللّهُ الخير على يديه ، والويل لمَن أجرى اللّهُ الشر على يديه ".
{(7/265)
جزء : 7 رقم الصفحة : 266
والنجمُ والشجرُ يسجدان} النجم : النبات الذي ينجم ، أي : يطلع من الأرض ولا ساق له ، كالبقول ، والشجر : الذي له ساق. وقيل : {النجم} : نجوم السماء وسجودهما : انقيادهما لما يُراد منهما ، شُبّها بالساجدين من المكلّفين في انقيادهما ، واتصلت هاتان الجملتان بالرحمن بالوصل المعنويّ ، لِما علم أنَّ الحُسبان حسبانه ، والسجود له لا لغيره ، كأنه قيل : الشمس والقمر بحسبانه والنجم والشجر يسجدان له ، ولم يذكر العاطف في الجُمل الأُولِ وجِيء به بعدُ ؛ لأنّ الأُولَ وردت على سبيل التعديد كما تقدّم ، ثم ردَّ الكلام إلى منهاجه في وصل ما يجب وصله ؛ للتناسب والتقارب بالعطف وبيان والتناسب : أنَّ الشمس والقمر سماويان ، والنجم والشجر أرضيان ، فعطف أحد المتقابلين على الآخر ، وأيضاً : حُسبان الشمس والقمر نوع من الانقياد لأمر الله ، فهو مناسب لسجود النجم والشجر. ثم قال تعالى : {والسماءَ رفَعها} أي : خَلَقها مسموكةً مرفوعةً ، حيث جعلها منشأ أحكامه ، ومسكن ملائكته الذي يهبطون بالوحي على أنبيائه ، ونبّه بذلك على كبرياء شأنه ، ومُلكه وسلطانه ، {وَوَضَعَ الميزانَ} أي : كل ما يُوزن به الأشياء ويعرف مقاديرها ، من ميزان ، وقَرَسْطون ، ومكيال ، ومعيار ، والقرسطون - بفتحتين : العدلة التي توزن بها الفضة ، أي : خَلَقه موضعاً على الأرض من حيث علّق به أحكام العباد على التسوية والتعديل في أخذهم وإعطائهم. وقيل : معنى الميزان ، العدل ، أي : شرع العدل وأمر به حتى يوفّى كل ذي حق حقه ، حتى انتظم أمر العالم واستقام ، كما قال صلى الله عليه وسلم : " بالعدل قامت السماوات والأرض " ، والعدل : ما حكمت به الشريعةُ المحمدية ، من كتاب ، وسُنة ، وإجماع ، وقياس. وأمر بذلك {ألاَّ تَطْغَوْا في الميزانِ} أي : لئلا تجوروا في الميزان بعد
267
الإنصاف في حقوق العباد ، فـ " أن " ناصبة ، أو مُفَسِّرة ، أو ناهية ، {وأَقيموا الوزنَ بالقِسْطِ} وأقيموا أوزانكم بالعدل {ولا تُخْسِرُوا الميزانَ} ولا تنقصوه بالتطفيف ، نهى عن الطغيان ، الذي هو اعتداء وزيادة ، وعن الخسران ، الذي هو تطفيف ونقصان ، وكرّر لفظ " الميزان " تشديداً للوصية ، وتقويةً للأمر باستعماله الحثّ عليه.
ولمّا ذكر نعمة الإمداد المعنوي ، وهو مدد الأرواح ، ذكر مددَ الأشباح ، فقال : {والأرضَ وضعها} خفضها مدحوّة على الماء {للأنام} للخلق ، وهو ما على وجه الأرض من دابة. وعن الحسن : الجن والإنس ، فهي كالمهاد ، يتصرفن فوقها. {فيها فاكهةٌ} ضروب مما يُتفكّه به ، {والنخلُ ذاتُ الأكمام} وهي أوعية الثمر ، واحدها : كِمٌّ ، بكسر الكاف ، أو : كلّ ما يَكُم ، أي : يُغطّى ، من ليفه وسعفه وكُفُرَّاه ، والكُفرّ : وعاء الطَّلْعِ ، وكله مُنتفع به ، كما يُنتفع بالمكموم من ثمره وجُمّاره وجّذوعه.
{(7/266)
جزء : 7 رقم الصفحة : 266
والحبُّ ذو العَصْفِ} هو ورق الزرع ، أو التبن ، {والريحانُ} أي : الرزق وهو اللبّ ، أي : فيها ما يتلذذ به ، والجامع بين التلذُّذ والتغذّي ، وهو تمر النخل ، وما يتغذّى به فقط ، وهو الحب المشتمل على علق الدواب وزرق العباد. وقرأ الأخَوان : (والريحانِ) بالجر ، عطفاً على " العصف " والباقون بالرفع عطفاً على " الحب " على حذف مضاف ، أي : وذو الريحان ، فحذف المضاف وأُقيم المضاف إليه مقامه. وقيل : معناه : وفيه الريحان الذي يُشم. وقرأ الشامي بنصب الجميع ، أي : خلق الحب والريحان.
{فَبأيّ آلاءِ رِّبكما} أي : نِعَمَه التي عَدَّدها من أول السورة ، {تُكَذِّبان} والخطاب للثقلين المدلول عليهما بقوله تعالى : {للأنام} وينطق به قوله : {أيه الثقلان} والفاء لترتيب الإنكار والتوبيخ على ما فصّل من فنون النعماء ، وصنوف الآلاء ، الموجبة للإيمان والشكر ، والتعرُّض لعنوان الربوبية المنبئة عن المالكية والتربية ، مع الإضافة إلى ضميرهم لتأكيد النكير وتشديد التوبيخ. ومعنى تكذيبهم آلائه تعالى : كفرهم بها ، وإمّا بإنكار كونه نعمة في نفسه ، كتعليم القرآن وما يستند إليه من النعم الدينية ، وإمّا بإنكاره كونه من الله تعالى مع الاعتراف بكونه نعمة في نفسه ، كالنعم الدنيوية الواصلة إليهم بإسناده إلى غيره تعالى ، اشتراكاً أو استقلالاً ، صريحاً أو دلالة ، فإنَّ إشراكهم لآلهتهم معه تعالى في العبادة من دواعي إشراكهم لها به تعالى. انظر أبا السعود. أي : إذا كان الأمر كما فصّل فبأيّ فرد من أفارد نعمه تعالى تُكذِّبان ، مع أنّ كُلاًّ منها ناطق بالحق ، شاهد بالصدق ؟ والله تعالى أعلم.
الإشارة : اعلم أنَّ " الرحمن " من الأسماء الخاصة بالذات العلية ، لا يُوصف به غيره تعالى ، لا حقيقة ولا مجازاً ؛ لأنها مقتضية لنعمة الإيجاد ، ولا يصح مِن غيره ، بخلاف
268
" الرحيم " فإنه مقتضٍ لنعمة الإمداد ، وقد يصح من غيره تعالى مجازاً ، فلذلك يجوز أن يُوصف العبد بالرحيم ، ولا يوصف بالرحمن ، ثم إنَّ الرحمة المشتمل عليها الرحمن على قسمين : رحمة ذاتية لا تُفارق الذات ، ورحمة صفاتية يقع بها الإمداد للخلق ، فيرحَم بها مَنْ يشاء من عباده ، وتسمى الرحمة الذاتية رحمانية ، ولمَّا كانت لا تُفارق الذات وقع التعبير بها في الاستواء ، فقال تعالى : {الرَّحْمَانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَىا} [طه : 5] ، {ثُمَّ اسْتَوَىا عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَانُ} [الفرقان : 59] ، وإليه أشار في الحِكَم بقوله : يا مَن استوى برحمانيته على عرشه ، فصار العرش غيباً في رحمانيته... الخ.(7/267)
جزء : 7 رقم الصفحة : 266
وأما الرحمة الصفاتية ، وهي التي يقع بها الإمداد ، فتتنوع بتنوُّع الأسماء الحسنى ، وهي تسعة وتسعون. أمّا الأسماء الجمالية فالرحمة فيها ظاهرة ، وأمّا الأسماء الجلالية فالرحمة فيها : عدم انفكاك لطف الله عن قدره ، والرحمة الذاتية هي المُوفية مائة ، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم : " إنّ اللّهَ تعالى خَلَقَ مائةَ رحمة ، أَمسك عنده تسعةً وتسعين ، وأنزل واحدةً إلى الدنيا ، بها يتراحم الخلقُ " الحديث ، أو كما قال عليه السلام. ولمَّا كان القرآن من أجلّ النِعَم عبّر عن تعليمه بالرحمانية ، التي هي من الصفات الخاصة ؛ لأنّ القرآن مُظهر لأوصاف الذات وأسرارها وأفعالها ، وكاشف لحقائقها ، عند مَن فُتحت بصيرته.
وقوله تعالى : {خَلَقَ الإِنسانَ} أي : أظهره من سر اللطافة إلى مظهر الكثافة جاهلاً به من جهة الجسمانية ، ثم {علَّمه البيان} أي : بيان السير إلى معرفته ، بأن ركّب فيه العقل المميز ، ونَصَبَ له مظاهر يتعرّف بها ، وبعث له دالاًّ يدله ، ويُعلمه أسرار الربوبية وآداب العبودية ، فلا يزال يُحاذيه ، ويسير به حتى يستنير قمر توحيده ، وتُشرق شمس عرفانه ، وإليه الإشارة بقوله : {الشمس والقمر بُحسبان} أي : يجريان بحسب معلوم ، في زيادة نور التوحيد ونقصانه ، على حسب استعداد العبد وتوجهه. قال القشيري بعد كلام : وكذلك شموس المعارف ، وأقمار العلوم - في طلوعها في أوْج القلوبِ والأسرار - في حكم الله تعالى وتقديره حسابٌ معلومٌ ، يُجْريهما على ما سبق به الحُكْمُ. هـ. والنجم والشجر يسجدان ، أي : ونجم نور العقل الطبيعي ، وشجر الفكر الاعتباري يخضعان ويضمحلان عند سطوع شمس نهار العرفان ، وأمَا نور العقل الوهبي ، والفكر الاستبصاري ، فيطويان الكونَ طيّاً ؛ لانَّ نورهما مستمد من العقل الأكبر ، وهو أول الفيض الإلهي ، المتدفق من بحر الجبروت ، وسماء الأرواح ، رَفَعَا عن لوث عالم الأشباح ، وهو محل شهود أسرار الذات وأنوار الصفات ، وتجليات الأنبياء والرسل ، فمَن ترقّى إليه لا تغيب عنه أرواح الأنبياء وذواتهم ، فالمتجلي واحد. ووضع الميزان على النفوس الظلمانية ، ألاَّ تَطْغَوا في الميزان ، بتعديّ حدود الرياضة والمجاهدة ، وأقيموا عليها الوزن بالقسط ، ولا تُخسروا
269
الميزان بإهمالها في هواها وحظوظها. والأرض ، أي : أرض البشرية وضعها لقيام وظائف العبودية ، اليت رتّبها للأنام ، فيها فاكهة العلوم الوهبية إن صفت ، ونَخْل علوم الشريعة ذات الأكمام ، وهي البراهين التي تستخرج بها مسائلها ، فمَن وقف مع قشر الأكمام كان مقلِّداً. ومَن نفذ إلى لُبها كان مجتهداً منِ نِحريراً.(7/268)
جزء : 7 رقم الصفحة : 266
وقال القشيري : {والنخلُ ذات الأكمام} من فواكه الوحدانيات المستورة عن الأغيار ، المستورة عن غير أهلها. ثم قال : {والحب ذو العصف} من حبة المحبة الذاتية ، غير القابلة للتغيُّر والاستبدلال ، المشتملة على الأرزاق المكتنفة بالمعارف والحاقئق والحِكِم. هـ. والريحان هو قوت الأرواح من اليقين ، أو نسيم الأذواق والوجدان ، {فبأي آلاء ربكما تُكذّبان} أيها الثقلان ، أو أيها النفس والروح ؛ إذ كل منهما فاز بأمنيته ، ووصل إلى نهاية ما اشتهاه ، إذا عمل بما تقدّم ، وأصغى بأُذن قلبه إلى ما عددناه. وبالله التوفيق.(7/269)
جزء : 7 رقم الصفحة : 266
يقول الحق جلّ جلاله : {خَلَقَ الإِنسانَ} آدم {من صلصالٍ} من طين يابس ، له صلصلة ، أي : صوت {كالفَخَّار} كالطين المطبوخ بالنار وهو الخزف. ولا تخالف بين هذا وبين قوله : {مِّنْ حَمإٍ مَّسْنُونٍ} [الحجر : 26] و {مِّن طِينٍ لاَّزِب} [الصافات : 11] لاتفاقهما معنىً ، لأنَّ المعنى : أنَّ أصل خلقه من تراب ، ثم جعله طيناً ، ثم حمأً مسنوناً ، ثم صلصالاً. {وخَلَقَ الجانَّ} أي : الجن ، او أبا الجن إبليس ، {من مَارجٍ من نار} والمارج هو اللهب الصافي ، الذي لا دخان فيه ، وقيل : المختلط بسواد النار ، من : مَرجَ الشي : إذا اضطرب أو اختلط ، و " مِن " : بيانية ، كأ ، ه قيل : مِن صاف النار ، أو مختلط من النار ، أو أراد : من نار مخصوصة.
{فبأي آلاءِ ربكما تُكَذِّبان} مما أفاض عليكما في تضاعيف خلقكما من سوابغ النعم. قال القشيري : وكرّر سبحانه هذه الآية في غير موضع ، على جهة التقرير بالنعمة على التفاصيل. نعمة بعد نعمة ، ووجه النعمة في خلق آدم من طين : أنه رقّاه إلى رتبةٍ
270
بعد أن خلقه من طين ، وكذلك القول في {مارج من نار}.هـ. يعني : أنَّ آدم رقّاه إلى رتبة الروحانية والخلافة ، والجن إلى رتبة التصرُّف الباطني في الآدمي وغيره.
{ربُّ المشْرِقَين وربُّ المغربين} أي : مشرقي الشمس في الصيف والشتاء ، ومَغْربيها. قال ابن الحشا : المشرق الشتوي : هو النقطة التي تطلع فيها الشمس فيها في الأفق في نصف دجنبر ، أقصر ما يكون النهار من أيام السنة ، والمشرق الصيفي : هو النقطة التي تطلع فيها الشمس في نصف يونية ، أطول ما يكون من أيام السنة. والمغربان : حيث تغرب في هذين اليومين ، ومشارق الشمس ومغاربها في سائر أيام السنة ليس هذين المشرقين والمغربين.هـ. وقوله : في نصف دجنبر ونصف يونية ، هذا في زمانه ، وأمّا اليوم فهي على ثمانية أيام ونحوها ، لزيادة حركة الإقبال. قال ابن عطية : متى وقع ذكر المشرق والمغرب فهو إشارة إلى الناحيتين ، أي : مشرق الصيف والشتاء ومغربهما. ومتى وقع ذكر الشارق والمغارب فيهو إشارة إلى تفصيل مشرق كل يوم ومغربه ، ومتى ذكر المشرقان فهو إشارة إلى نهايتي المشارق والمغارب ؛ لأنّ ذكر نهايتي الشيء ذكر لجميعه. هـ.
{(7/270)
جزء : 7 رقم الصفحة : 270
فبأي آلاء ربكما تُكَذِّبان} قال القشيري : ووجه النعمة في مشرق الشمس ومغربها : جريانه على ترتيب بديع ؛ ليكمل انتفاع الخلق بذلك. هـ.
{مَرَجَ البحرين يلتقيان} أي : أرسل البحر الملح والبحر العذب متجاورين متلاقيين ، لا فصل بين الماءين بإسماك أحدهما عن الآخر في مرأى العين. قال في الحاشية : ويُقرب ما ذكره ما هو مشهود في الريف مع الماء ، فاعتبر به ، وبالأبيض من البيضة مع الأصفر منها ، وقيل : أرسل بحري فارس والروم يلتقيان في المحيط ؛ لانهما خلجان يتشعبان منه ، {بينهما برزخٌ} حاجز من قدرة ا لله تعالى ، {لا يَبغِيان} لا يتجاوزان حدّيهما ، ولا يبغي أحدُهما على الآخر بالممازجة وإبطال الخاصية ، أو : لا يتجاوزان حدّيهما بإغراق ما بينهما ، {فبأي آلاء ربكما تُكَذِّبان} وليس شيء منها يقبل التكذيب. {يَخْرُجُ منهما اللؤلؤُ والمَرجانُ} اللؤلؤ : الدرّ ، والمَرجان : الخرزُ الأحمر المشهور. قلت : هو شجر ينبت في الحجر في وسط البحر ، وهو موجود في بحر المغرب ، ما بين طنجة وسبتة. وقال الطرطوشي : هو عروق حُمر يطلع من البحر كأصابع الكف ، وشاهدناه بأرض المغرب مراراً. هـ. وقيل : اللؤلؤ : كِبار الدر ، والمرجان : صِغاره. وإنما قال : " منهما " وهما إنما يخرجان من الملح ؛ لأنهما لمّا التقيا وصارا كالشيء الواحد جاز أن يُقال : يخرجان منهما. ونقل الأخفش عن قوم : أنهما يخرجان من المالح والعذب ، وليس لِمن ردّه حجة قاطعة ، ومَن أثبت أَولى ممن نفى. هـ. قال أبو حيان : والظاهر خروجهما منهما ، وحكاه الأخفش عن قوم. هـ. {فبأي آلاء ربكما تُكَذَّبان} مع ظهور هذه النعمة.
{وله الجوارِ} أي : السفن ، جمع : جارية ، {المُنشَئاتُ} المرفوعات الشُرَّع ، وقرأ حمزة ويحيى بكسر الشين ، أي : الرافعات الشُروع ، أي القلاع ، أو : اللاتي يُنشئن الأمواج
271
بمَخْرهن {في البحر كالأعلام} كالجبال الشاهقة ، جمع عَلَم ، وهو الجبل الطويل ، {فبأي آلاء ربكما تُكَذِّبان} مِن خلق مواد السفن والإرشاد إلى أخذها ، وكيفية تركيبها ، وإجرائها في البحر ، بأسباب لا يَقدر على خلقها وجمعها وترتيبها غيره سبحانه.
{كُلُّ مَن عليها} على الأرض {فانِ ويبقى وجهُ ربك} أي : ذاته ، قال القشيري : وفي بقائه سبحانه خَلَفُ من كلِّ تلفٍ ، وتسليةٌ للمؤمنين عما يُصيبهم من المصائب ، ويفوتهم من المواهب. هـ. {ذو الجلال} ذو العظمة والسلطان ، {والإِكرام} أي : الفضل التام بالتجاوز والإحسان. وهذه الصفة من عظم صفات الله تعالى ، وفي الحديث : " ألظوا - أي : تعلقوا - بيا ذا الجلال والإكرام " يعني : نادوه به ، يُقال : ألظ بالمكان : إذا أدام به ، وألظ بالدعاء : إذا لزمه ، وروي أنه صلى الله عليه وسلم مرّ برجل يُصلِّي ، ويقول : يا ذا الجلال والإكرام ، فقال : " قد استُجيب لك " {فبأي آلاء ربكما تُكَذِّبان} فإنَّ إفناءهم وإخراجهم من ضيق هذه الدار الدنية ، وإحياءهم وإبقاءهم في الدار الباقية في النعيم السرمدي من عظائم النِعم.(7/271)
جزء : 7 رقم الصفحة : 270
الإشارة : اختص مظهَر الإنسان عن سائر المظاهر باعتدال خلقته ، لطافةً وكثافةً ، معنىً وحسّاً ، روحانيّاً وبشريةٌ ، فلذلك فاقت معرفته إذا عرف سائر المخلوقات ، بخلاف الجن والملائكة ، اللطافةُ غالبة عليهم ، فمَن كان منهم عارفاً لا تجده إلا متحرفاً ، غالباً عليه الهيمان والسُكْر ، وأمّا الآدمي فمَن غلبت رَوحانيتُه على صلصاليته ، ومعناه على حسه ، كان كالملائكة أو أفضل ، ومَن غلبت طينتُه على روحانيته ، وحسُّه على معناه ، كان كالبهائم أو أضل.
وقوله تعالى : {رَبُّ المشرقين وربُّ المغربين} أي : رب مشرق شمس العرفان وقمر الإيمان ، ومغربهما عند غين الأنوار والأغيار. وقال القشيري : يُشير مشرق الروح والقلب ، ومغرب النفس والهوى. هـ. فإذا أشرق نور الروح والقلب غابت ظلمة النفس والهوى ، وإذا استولت ظلمة النفس والهوى على الروح والقلب غربت شمسهما ، {فبأي آلاء ربكما تُكَذِّبان} مع ما في ذلك في اللطائف الغامضة ، والغوامض الخفية ، من عدم سكون الروح والقلب إلى التجلِّي الجمالي ، وعدم اضطراب النفس والهوى بالتجلِّي القهري الجلالي ؛ لأنَّ الكامل من هذه الطائفة هو الذي يُشاهد الجمالَ في الجلال ، والجلالَ في الجمال ، فلا يسكن إلى شيء ، ولا يقف مع شيء.
وقوله تعالى : {مَرَجَ البحرين يلتقيان} يُشير إلى بحر علم الشريعة ، وبحر علم الحقيقة ، يلتقيان في الإنسان الكامل ، {بينهما برزخ} وهو العقل ، فإنه يحجز الشريعةَ أن
272
تعدو محلها ، والحقيقة أن تُجاوز محلها ، فالشريعة محلها الظواهر ، والحقيقة محلها البواطن ، والعقل برزخ بينهما ، يقوم بحُكم كل واحدة منهما ، فمَن خفَّ عقله غلبت إحداهما عليه ، إمّا الشريعة ، فيكون يابساً جامداً لا يخلو من فسوق ، وإمّا الحقيقة ، فيكون إما سكراناً أو زنديقاً. {فبأي آلاء ربكما تُكَذِّبان ؟ } حيث هَدى العبدَ إلى القيام بحقهما ، وإنزال كل واحدة في محلها ، {يَخرج منهما اللؤلؤ والمرجان} فيخرج من بحر الحقيقة جواهرَ الحِكم ويواقيت العلوم ، ومن بحر الشريعة مَرجان تحرير النقول ، وتحقيق مبانيها ، والإتيان بها من معادنها ، {فبأي آلاء ربكما تُكذَّبان} حيث وفَّق غوّاص بحر الحقيقة إلى استخراج أسرارها ، وغوّاص بحر الشريعة إلى إظهار أنوارها. {وله الجوارِ} ، أي : سفن استخراج أسرارها ، وغوّاص بحر الشريعة إلى أظهار أنوارها. {المنشأت} في بحر الذات ، مع رسوخ عقلها ، كالجبل الراسي ، فتعوم سفنُ أفكار العارفين في بحر الجبروت وأنوار الملكوت ، ثم ترسي في مرساة العبودية ، للقيام بآداب الربوبية ، {فبأي آلاء ربكما تُكَذِّبان} مع عظيم هذا اللطف الكبير ، والمنَّة الكريمة ، حيث يتلاطم عليهم أموَاجُ بحر الذات ، فيكونوا من المغرقين في الزندقة ، أو ذهاب العقل بالكلية ، لكن مَنْ صَحبَ رئيسا عارفاً لا يخاف من الغرق إن شاء الله.
{(7/272)
جزء : 7 رقم الصفحة : 270
كلُّ مَن عليها فانٍ} كل مَنْ على بساط المملكة فَانٍ متلاشٍ ، {ويبقى وجه ربك} أي : ذاته المقدسة ، فلا موجود معها على الحقيقة ، كما قال الشاعر :
فَالْكُلُّ دُونَ اللَّه إِنْ حَقَّقْتَه
عَدمٌ عَلَى التَّفْصِيل والإجمال
وهذا معلوم عند أرباب الأذواق ، مُقرر عند أهل الفناء والبقاء ، فلا يجحده إلاَّ جهول ، كما قال تعالى : {فبأي آلاء ربكما تُكذِّبان} ؟ .(7/273)
جزء : 7 رقم الصفحة : 270
يقول الحق جلّ جلاله : {يَسْألُه مَن في السماوات والأرض} مِن ملَكٍ وإنسٍ وجن وغيرهم ، لا غنى لأحد منهم عنه سبحانه ، كل منهم يسأل حاجته ، إما بلسان مقاله ، أو بلسان حاله ، أهل السموات يسأله قوت أرواحهم ، وأهل الأرض قوتَ أشباحهم
273
وأرواحهم. وقال أبو السعود : فإنهم كافة ، من حيث حقائقهم الممكِنة ، بمعزلٍ من استحقاق الوجود ، وما يتفرّع عليه من الكمالات بأسره ، بحيث لو انقطع ما بينهم وبين العناية الإلهية من العلاقة لم يشمُّوا رائحة الوجود أصلاً ، فهم في كل أمر مستمدون على الاستدعاء والسؤال. هـ.
ويُوقف على قوله : {والأرض} ثم يبتدأ بقوله : {كُلَّ يومٍ} فهو ظرف لقوله : {هو في شأن} أي : هو كائن كل وقت وحين في شأنٍ من شؤون خلقه ، التي من جملتها : إعطاؤهم ما سألوا ، فإنه تعالى لا يزال يُنشئ أشخاصاً ، ويُفني آخرين ، ويأتي بأحوالٍ ويذهب بأحوالٍ ، حسبما تقتضيه مشيئته ، المبنية على الحِكَم البالغة ، وسمعتُ شيخنا الفقيه العلاّمة ، سيدي " التاودي بن سودة " - رحمه الله - يقول في تفسيرها : إنَّ من شؤونه تعالى أنه كل يوم يُجهّز ثلاثة جيوش : جيشاً إلى الأرحام ، وجيشاً إلى الدنيا ، وجيشاً إلى المقابر. هـ. وعن ابن عيينة : الدهر عند الله يومان ، أحدهما : اليوم الذي هو مدة الدنيا ، فشأنه فيه : الأمر والنهي ، والإحياء والإماتة ، والإعطاء والمنع ، والآخر : يوم القيامة ، فشأنه فيه : الجزاء والحساب.
ورُوي عنه صلى الله عليه وسلم أنه تلاها ، فقيل له : ما هذا الشأن ؟ فقال : " من شأنه أن يغفر ذنباً ، ويفرّج كرباً ، ويرفع قوماً ويضع آخرين " وقيل : نزلت في اليهود حين قالوا : إن الله لا يقضي يوم السبت شأناً ، فردّ الله عليهم ؛ والمراد بهذه الشؤون : أمور يُبديها ولا يبتديها ، فقد جفّ القلم بما هو كائن إلى ما لا نهاية له. ومنه : ما جاء في القضاء على الولد في الرحم ، بسعادةٍ أو غيرها ، ليس ذلك القضاء إنشاء وابتداء ، وإنما هو إبداء وإظهار للملائكة ما سبق به قضاؤه وقدره ، وهو مسطور في اللوح ، ولذلك جاء : " إنه يُقال للملك : انطلق إلى أم الكتاب ، فينطلق ، فيجد قصة ذلك فيه... " الحديث. وقيل : شأنه تعالى : سَوْق المقادير إلى المواقيت.(7/274)
جزء : 7 رقم الصفحة : 273
قال النسفي : قيل : إنَّ عبد الله بن طاهر دعا الحسينَ بن الفضل ، وقال له : أشكلت عليّ ثلاث آيات ، دعوتك لتكشفها لي ، قوله تعالى : {فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ} [المائدة : 31] وقد صحّ : أن الندم توبة ، وقوله : {كل يوم هو في شأنٍ} وقد صحّ أن القلم جفّ بما هو كائن إلى يوم القيامة ، وقوله : {وَأَن لَّيْسَ للإِنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى} [النجم : 39] فما بال الأضعاف ؟ فقال الحسين : يجوز ألاَّ يكون الندم توبة في تلك الآية. وقيل : إن ندم قابيل لم يكن على قتل هابيل ، ولكن على حمله وتكلفه مشقته ، وقوله : {وأن ليس للإِنسان إلا ما سعى} مخصوص بقوم إبراهيم وموسى - عليهما السلام- ، وأمَّا قوله : {كل يوم هو في شأن} فإنها شؤون يُبديها لا يبتديها ، فقال عبدُ الله فقبَّل رأسه ووسّع خراجه. هـ.
274
{فبأي آلاء ربكما تُكَذِّبان} مع مشاهدتكم لما ذكر من شؤون إحسانه تعالى.
{سَنَفْرُغ لكم أيه الثقلانِ} سنتجرّد لحسابكم وجزائكم ، مستعار من قول الرجل لمَن يتهدّده : سأفرغ لك ، أي : سأتجرد للإيقاع بك من كل ما يشغلني عنك ، ويجوز أن يُراد : ستنتهي الدنيا ويبلغ آخرها ، وينتهي عند ذلك شؤون الخلق ، التي أرادها بقوله : {كل يوم هو في شأن} فلا يبقى إلاَّ شأن واحد ، وهو جزاؤكم ، فجعل ذلك فراغاً لهم على طريق المثل ، و " الثقلان " : الجن والإنس ، سُمّيا بذلك ؛ لثقلهما على الأرض ، أو : لرزانة آرائهما ، أو : لأنهما مُثقلان بالتكليف ، {فبأي آلاء ربكما} التي من جملتها : التنبيه على ما يلقونه يوم القيامة ، للتحذير عما يؤدي إلى سوء الحساب ، {تُكذِّبان} بأقوالكما أو بأعمالكما.
{يا معشرَ الجنِّ والإِنس} هو كالترجمة لقوله : " أيه الثقلان " {إِن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرضِ} بأن تهربوا من قضائي ، وتخرجوا من ملكوتي ، ومن أقطار سماواتي وأرضي ، {فانفذوا} وخلِّصوا أنفسكم من عقابي ، {لا تنفُذون} لا تقدرون على النفوذ {إِلاَّ بسلطانٍ} إِلاّ بقوةٍ وقهرٍ ، وأنتم من ذلك بمعزل بعيد. قيل : يُقال لهم هذا يوم القيامة ، حين تُحدق بهم الملائكة ، فإذا رآهم الجن والإنس هربوا ، فلا يأتون وجهاً إلاّ وجدوا الملائكة أحاطت به. {فبأي آلاء ربكما تُكَذِّبان} التي من جملتها : التنبيه والتحذير ؛ ليقع التأهُّب لتلك الأهوال.
{يُرْسَلُ عليكم شُواظ من نارٍ} أي : لهب خالص منها. وفيه لغتان : ضم الشين وكسرها ، {ونُحاسٌ} أي : دخان ، مَن رفعه عطفه على " شواظ " ومَن جرّه فعلى " نار " ، والمعنى ، إذا خرجتم من قبوركم يُرسل عليكم لهب خالص من النار ، ودخان يسوقكم إلى المحشر ، {فلا تنتصرانِ} فلا تمنعان منهما ، {فبأي آلاء ربكما تُكَذِّبان} فإنَّ بيان العواقب لُطفٌ ونعمةٌ لمَن ينتبه.
{(7/275)
جزء : 7 رقم الصفحة : 273
فإِذا انشقت السماءُ} أي : انصدعت يوم القيامة {فكانت وَرْدَةً} فصارت كلون الورد الأحمر {كالدِّهان} كدهن الزيت ، كما قال : {كَالْمُهْلِ} [المعارج : 8] وهو دُردِيّ الزيت ، وهو جمع دهن ، وقيل : الدهان : الأديم الأحمر. وجواب " إذا " محذوف ، أي : يكون من الأهوال والأحوال ما لا يحيط به دائرة المقال.
قلت : وهذا الانشقاق يحصل للسموات والناسُ في المحشر ، ثم تدنو الشمس من الخلائق ، فيعظم الخطب والهول ، إلاّ ما استثني في حديث السبعة. وقيل : يحصل قبل
275
البعث ، كما في البدور السافرة. والله أعلم بحقيقة الأمر.
{فبأي آلاء ربكما تُكَذِّبان} مع عِظم شأنها ، {فيومئذ لا يُسأل عن ذنبه إِنس ولا جانٌّ} لأنهم يُعرفون بسيماهم وذلك أول ما يخرجون من القبور ، ويُحشرون إلى الموقف أفواجاً على اختلاف مراتبهم ، وأمّا قوله تعالى : {فوَرَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [الحجر : 92] ونحوه ؛ ففي موقف المناقشة والحساب ، فيوم القيامة يوم طويل ، وفيه مواطن ، يُسألون في موطن ، ولا يُسألون في آخر. وقال قتادة : قد كانت مسألة ، ثم ختم على أفواه القوم. وقيل : لا يُسأل ليَعلم من جهته ، ولكن يُسأل للتوبيخ. وضمير {ذنبه} للإنس لتقدُّمه رتبة ، وإفراده لأنّ المراد فرد من الإنس ، والمراد بالجان الجن ، فوضع الجان - الذي هو أبو الجن موضع الجن ، كأنه قيل : لا يُسأل عن ذنبه أنسي ولا جني ، {فبأي آلاء ربكما تُكذِّبان} مع كثر منافعها ؛ فإنَّ الإخبار بما ذكر يزجركم عن الشر المؤدي إليه.
الإشارة : يسأله مَن في سماوات الأرواح ما يليق بروحانيته ، من كشف الأسرار ، وتوالي الأنوار ، فهو دائم سائل مفتقر ، لا يزول اضطراره ، ولا يكون مع غير الله قراره ، وسؤاله إما بلسان حاله أو مقاله ، ويسأله مَن في أرض البشرية ممن لم يترقّ إلى عالم الروحانية ما يليق بضعف بشريته ، من القوت الحسي ، وما يلائمه من ضرورية البشرية ، أو يكون سبب نجاته ونعيمه يوم القيامة ، من الاستقامة الظاهرة.
وأشار بقوله : {كل يوم هو في شأن} إلى اختلاف تجلياته في كل لحظة ، فيتجلّى في ساعة واحدة بقبض قوم وبسط آخرين ، ورفع قوم وذلّ آخرين ، وإعطاء قوم ومنع آخرين ، وترقية قوم وخفض آخرين ، إلى ما لا نهاية له ، ولذلك تختلف الواردات على قلوب العارفين ، ينسخ بعضها بعضاً ، ولذلك أيضاً تجد العارفين لا يسكنون إلى شيء ، ولا يقفون مع شيء ولا يُعولون على شيء ، بل ينظرون ما يبرز من عنصر القدرة ، فيسيرون معه ، إذا أصبحوا نظروا ما يفعل الله بهم ، وإذا أمسوا كذلك ، قد هدمت المعرفة أركانَ عزائمهم ، وحلّت عقدهم ، فهم في عموم أوقاتهم لا يُريدون ولا يختارون ولا يُدبّرون ؛ لعِلمهم أن الأمر بيد غيرهم ، ليس لهم من الأمر شيء.(7/276)
جزء : 7 رقم الصفحة : 273
وقوله تعالى : {سنفرغ لكم أيه الثقلان} فسّر القشيري الثقلين بالروح وصفاتها الحميدة ، وبالنفس وصفاتها الذميمة ، أي : سنفرغ لإكرامكم ، ورفع أقداركم يا معشر الأرواح المطهرة ، بأن أتجلّى لكم ، فتُشاهدوني في كل وقت وحين ، وسنفرغ لكم أيتها النفوس الظلمانية بأنواع الامتحان بصُنوف المحن ، فلا تدخلوا جنتي حتى تتهذبوا وتصفوا من كدرات الأغيار ، ولا أتجلّى لكم إلاّ في وقت الاحتياج والاضطرار. والحاصل : أنَّ المدار كله على هذه الدار ، فمَن صفا هنا صُفي له ثَمّ ، ومَن كدر هنا كدر عليه هناك. ويُقال لأهل النفوس الظلمانية : {يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض} بفكرة بصائركم فانفذوا ، ولا قدرة لكم على ذلك ؛ لسجن أرواحكم
276
في هياكل ذواتكم ، وإحاطة دائرة الكون بكم ، لا تنفذون إلاّ بسلطانٍ : إلاّ بقوة سلطان أرواحكم على نفوسكم ، فتجذبها إلى عالم الروحانية ، بصحبة طبيب ماهر ، فحيئذ تنفذ بصيرتكم عن دائرة الأكوان ، وتُفضوا إلى فضاء العيان ، وإذا كان يوم القيامة خرقت أرواحُهم بأشباحهم محيطاتِ الأكوان ، وأَفضوا في الهوى إلى سعة الجنان ، قال تعالى : {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِين} [الشعراء : 90] ، وقد تقدّم معناه.
{يُرسل عليكم شُواظ من نار ونُحاس...} الخ ، قال القشيري : يُخاطب معشر جن النفس بإرسال لهب البُعد والقطيعة عليهم ، بواسطة انغماسهم وانهماكهم في استيفاء اللذات الجسمانية ، والشهوات الحيوانية ، على الدوام والاستمرار ، ويُخاطب معشر إنس الروح بصب الصُفر المذاب على رؤوسهم ، بسبب انحطاطهم من المقام الروحي العلوي ، إلى المقام النفس السفلي بالتراجع ، ولا يقدر أحدهما على نصرة الآخر. {فبأي آلاء ربكما تُكذّبان} فإنَّ تعذيب مستحق العذاب ، وتنعيم متسحق النعيم ، والتمييز بين جن النفس العاصي ، وبين إنس الروح ، من الآلاء العظيمة. هـ. فإذا انشقت السماء الحسية ، أي : ذابت وتلاشت بذكر اسم الله عليها من العارف ، فكانت وردةً يهب بنسيم المعاني من أكنافها ، كالدهان : كالزيت المُذاب ، حين تذوب بالفكرة الصافية ، والحاصل : أنَّ سائر الكائنات ، تذوب وتتلطّف حين تستولي عليها المعاني القائمة بها ، {فبأي آلاء ربكما تُكذِّبان} مع ظهور هذه النعمة العظيمة ، التي خَفِيَتْ عن جُلّ الناس ، {فيومئذ لا يُسأل عن ذنبه إنس ولا جان} ممن بلغ منهم إلى هذه المرتبة العظيمة ، فأهل العيان لم يبقَ في حقهم طاعة ولا عصيان ، فلا يتوجه إليهم سؤال ولا عتاب ، وفي مناجاة الحق لسيدنا موسى عليه السلام : لا يا موسى إنما يُطيعني ويعصيني أهل الحجاب ، وأما مَن لا حجاب بيني وبينه فلا طاعة في حقه ولا معصية. وقال الشيخ أبو الحسن رضي الله عنه : يبلغ الوليّ مبلغاً يُقال له : افعل ما شئت ، أصحبناك السلام ، وأسقطنا عنك الملامة. هـ. وهذا بعد محق أوصاف النفس ، وبعد التحقق بالفناء والبقاء. والله تعالى أعلم.(7/277)
جزء : 7 رقم الصفحة : 273
يقول الحق جلّ جلاله : {يُغْرَفُ المجرمون} أي : الكفرة {بسيماهم} بسواد وجوههم ، وزُرقة عيونهم ، أو : بما يعلوهم من الكآبة والحزن. قيل : هو تعليل لقوله : {فيومئذ لا يُسأل عن ذنبه إنس ولا جان} أي : لا يُسألون لأنهم معروفون ، {فيُؤخذُ بالنواصي والأقدام} أي : يُجمع بين نواصيهم وأقدامهم في سلسلة من وراء ظهورهم ،
277
وقيل : تسحبهم الملائكةُ ، تارة يُأخذ بالنواصي ، وتارة بالأقدام ، فالجار نائب الفاعل ، {فبأي آلاء ربكما تُكَذِّبان} فإنَّ التخويف من هذه الأهوال قبل وقوعها من أجلّ النعم ؛ ليقع الزجر عما يُؤدي إليها.
{هذه جهنمُ التي يُكذِّب بها المجرمون} أي : يُقال لهم : هذه جهنم التي كذبتم بها ، توبيخاً وعقاباً ، {يطوف بينهما وبين حميمٍ آنٍ} أي : بالغ من الحرارة أقصاها ، فالحميم : المار الحار ، " والآنِ " : البالغ في الحرارة ، فهم يُعذّبون بين الحرق بالنار وشرب الحميم الحار. قال كَعْب : إن وادياً من أودية جهنم ، يجتمع فيه صديد أهل النار ، ينغمسون بأغلالهم فيه ، حتى يخلع أوصالهم ، ثم يُخرجون منها ، وقد أحدث اللّهخ لهم خلقاً جديداً ، فيُلقون في النار ، فذلك قوله تعالى : {يطوفون بينها وبين حميمٍ آنٍ} ، {فبأي آلاء ربكما تُكَذِّبان} ، وقد تقدّم تفسير كون هذا نِعماً مراراً.
الإشارة : فسَّر القشيري " المجرمون " هنا بطائفتين ، الأولى : المتشدقون من علماء الكلام ، الذي يتكلمون في ذاته وصفاته وأفعاله بما ليس لهم به علم ، ويُجادلون أربابَ الكشف والشهود بسبب علومهم الجدلية ، ويفوهون بقوة الجبهة وصلابة الناصية ، فلا شك أنهم يُجرون على ناصيتهم في نار البُعد والطرد عن مراتب أهل العرفان. الطائقة الثانية : المتصوفة الجاهلة ، المنقطعون عن الطريق المستقيم ، والمنهج القويم ، بسبب دخولهم في هذه الطريق بالتقليد ، من غير إذن شيخ كامل ، واصِلٍ مُوصِل ، فلا شك أنهم يخرجون بأقدامهم المُعْوَجة عن سلوك طريق الحق إلى نار البُعد والقطيعة. هـ. بالمعنى. والسيما التي يُعرفون بها ، إما علو النفس ، وغِلظة الطبع ، وطلب الجاه ، وإما قلقة اللسان ، وإظهار العلوم ، فالعارف الكامل بعكس هذا كله ، متواضع ، سهل ، لَيِّن ، الخفاء أحب إليه من الظهور ، لسان حاله أفصح من مقاله. ثم قال تعالى : {هذه جهنم التي يُكذِّب بها المجرمون} المتقدمون ، لأنهم ضلّ سعيهم في الحياة الدنيا. وهم يحسبون أنهم يُحسنون صُنعاً ، {يطوفون بينها} أي : بين نار القطيعة وحميم التدبير والاختيار ، مِن هَمّ الرز ، وخوف الخلق ، وغم الحجاب : نسأل الله العصمة بمنِّه وكرمه.(7/278)
جزء : 7 رقم الصفحة : 277
278
يقول الحق جلّ جلاله : {ولِمَنْ خافَ مقامَ ربه} أي : قيامه بين يديه للحساب {يوم يقوم الناس لرب العالمين} أو : قيامه تعالى على أحواله ، من : قام عليه ، إذا راقبه ، كقوله : {أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْس بِمَا كَسَبَتْ} [الرعد : 33]. قال مجاهد : هو الرجل يهم بالمعصية ، فيذكر الله تعالى ، فيدعها من خوفه. قال السدي : شيئا ، مفقودان : الخوف المزعج ، والشوق المقلق. هـ. أي : للخائف {جنتانِ} أي : بستانان من الياقوت الأحمر والزبرجد الأخضر ، مسيرة كل بستان : مائة سنة. وقال صلى الله عليه وسلم : " هل تدرون ما هاتان الجنتان ؟ هما بستانان في بستانين ، قرارهما لابث ، وفرعهما ثابت ، وشجرهما نابت " ، أَكْرَم بهما المؤمن ليتكامل سروره بالتنقُّل لمن جنة إلى جنة ، وقيل : جنة لخوفه وجنة لتركه شهوته ، أو : جنة لعقيدته وجنة لعمله ، أو : جنة لفعل الطاعة وجنة لتركه المعصية ، أو : جنة يُثاب بها وجنة يُتفضل عليه بها ، أو : روحانية وجسمانية ، أو : جنة للسابقين وجنة لأهل اليمين ، أو : جنة للإنس وجنة للجن ؛ لأنّ الخطاب للثقلين ، كأنه قيل : لكل خائف منكما جنتان. والأول أرجح ، وسيأتي في الإشارة بقيته ، {فبأي آلاء ربكما تُكَذِّبان}.
ثم وصف تلك الجنتين بقوله : {ذَوَاتا أفَنانٍ} أغصان ، جمع " فَنن " ، وخصّ الأفنان لأنها هي التي تُورق ، ومنها تُجنى الثمار ، وتعقد الظلال ، أو جمع فَنّ ، بمعنى النوع ، أي : ذواتا أنواع من الأشجار والثمار ، مما تشتهي الأنفس وتلذّ الأعين ، {فبأي آلاء ربكما تُكذِّبان} وليس فيها شيء يقبل التكذيب.
{(7/279)
جزء : 7 رقم الصفحة : 278
فيهما} أي : في الجنتين {عينانِ تجريان} حيث شاؤوا إلى الأعالي والأسافل. وعن الحسن : تجريان بالماء الزلال ، إحداهما : التسنيم ، والأخرى : السلسبيل ، وقيل : بالماء والخمر ، {فبأي آلاء ربكما تُكذِّبان} ، {فيهما من كل فاكهةٍ زوجان} صنفان ، صنف معروف وصنف غريب ، أو رطب ويابس. {فبأي آلاء ربكما تُكَذِّبان}.
{متكئينَ} نصب على المدح للخائفين ، أو : حال منهم ؛ لأنّ مَن خاف في معنى الجمع ، {على فُرُش بطائنُها من إِستبرقٍ} من ديباج ثخين ، وحيث كانت بطائنها كذلك فما ظنك بظاهرها ؟ وقيل : ظاهرها سُندس ، وقيل : من نور ، وقيل : لا يعلمها إلاّ الله. والبطائن : جمع بطانة ، وهو : ما يلي الأرض ، والإستبرق معرَّب ، {وجَنَى الجنتين دانٍ} أي : ما يجتنى من أشجارها من الثمار قريب ، يناله القائم والقاعد والمضطجع. قال ابن عباس رضي الله عنه : تدنو الشجيرة حتى يجنيها وليُّ الله ، إن شاء قائماً ، وإن شاء قاعداً ، وإن شاء مضطجعاً.
قال القشيري : وفي الخبر المسند : " مَن قال سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله ،
279
والله أكبر ، غرس له بها ألف شجرة في الجنة ، أصلها الذهب ، وفرعها الدر ، وطلعها كثدي الأبكار ، ألين من الزبد ، وأحلى من العسل ، كلما أُخذ منها شيء عاد كما كان ، وذاك قوله تعالى : {وجَنَى الجنتين دانٍ} إذا أرادوه أتى إلى أفواههم ، حتى يتناولون من غير مشقة ، ويقال : ينالها القائم والقاعد والنائم. هـ. {فبأي آلاء ربكما تُكَذِّبان} ، {فيهن} أي : الجنتين ؛ لاشتمالها على أماكن وقصور ومجالس ، أو : في هذه الآلاء المعدودة ، من الجنتين والعينين والفاكهة والغرس والجَنْي ، {قاصراتُ الطَّرْفِ} جَوار قَصَرْنَ أبصارَهنّ على أزواجهن ، لا ينظرن إلى غيرهم ، {لم يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قبلهم ولا جانٌّ} أي : لم يمس الإنسيات أحدٌ من الإنس ، لا الجنيات أحدٌ من الجن. والطمث : الجماع بالتدمية. وفي الآية دليل على أنّ الجن يطمثون كما يطمث الإنس. {فبأي آلاء رَبكما تُكذِّبان كأنهنَّ} أي : تلك الجوار {الياقوتُ} صفاءً {والمَرْجانُ} بياضاً ، على أنَّ المرجان صغار الدر ، أو : في الصفاء وحُمرة الوجه. قيل : إنَّ الجواري تلبس سبعين حلة ، فيُرى مُخ ساقها من ورائها ، كام يرى الشراب الأحمر في الزجاجة. {فبأي آلاء ربكما تُكَذِّبان}.
{هل جزاءُ الإِحسان إِلاَّ الإِحسانُ} هو استئناف مقرر لما فصّل قبله ، أي : ما جزاء الإحسانِ في العمل إلاّ الإحسانُ في الثواب ، قال أنس : قرأها النبي صلى الله عليه وسلم فقال : " هل تدرون ماذا قال ربكم ؟ قال : هل جزاءُ مَن أنعمتُ عليه بالتوحيد إلاّ الجنة " وفي لفظ آخر : " هل جزاء مَن أنعمت عليه بتوحيدي ومعرفتي إلاّ أن أُسكنه جنتي وحظيرة قدسي برحمتي " أو : هل جزاء مَن قال " لا إله إلا الله " إلاَّ الجنة. قال السدي : هل جزاء الذين أطاعوا في الدنيا إلاّ الكرامة في الآخرة. وقال جعفر الصادق : هل جزاء مَن أحسنتُ إليه في الأزل إلاَّ حفظ الإحسان عليه في الأبد. قال الحسن : هي مسجلة - أي مطلقة - للبر والفاجر ، للفاجر في دنياه ، وللبَر في عُقباه. هـ. {فبأي آلاء ربكما تُكذِّبان}.(7/280)
جزء : 7 رقم الصفحة : 278
الإشارة : {ولمن خاف مَقام ربه} فرَاقَبه ، ثم شاهَده ، {جنتان} جنة المعارف مُعجّلة ، وجنة الزخارف معها مُؤجلة ، أو : جنة المعارف لأرواحهم ، وجنة الزخارف لأشباحهم. قال القشيري : جنتان : جنة مُعَجَّلة من حلاوة الطاعة ورَوْح القرب ، ومؤجَّلة في الآخرة ، وهي جنة الثواب ، وهم مختلفون في جنان الدنيا على قدر تفاوت مقادير أحوالهم ، كما يختلفون في الآخرة في درجاتهم. هـ. فجنة حلاوة الطاعة لأهل اليمين ، وجنة روح القرب للمقربين. قال الورتجبي : جنتان : جنة المشاهدة وجنة المكالمة ، جنة
280
المحبة وجنة المكاشفة ، جنة المعرفة وجنة التوحيد ، جنة المقامات وجنة الحالات ، جنة القلب وجنة الروح ، جنة الكرامات وجنة المداناة. هـ. أو : جنة الوصال وجنة الكمال ، أو : جنة الكمال وجنة التكميل ، أو جنة الفناء وجنة البقاء ، أو جنة البقاء وجنة الترقِّي إلى غير انتهاء.
وقوله تعالى : {ذواتا أفنان} يُشير إلى ما في هاتين الجنتين من فنون العلوم والأذواق ، والأسرار والأنوار ، وتفنُّن الأفكار في بحار الأسرار ، فيهما لكل واحدٍ عينان تجريان ، إحداهما بعلوم الشريعة والمعاملة وآداب العبودية ، وأخرى بعلوم الحقيقة والطريقة والتوحيد الخاص ، فيهما من كل فاكهةٍ من فواكه الأذواق صنفان : صنف حاصل ، وصنف يتجدّد بتجدُّد الأنفاس ، أو : صنف لعالم الحكمة ، وصنف لعالم القدرة ، أو : صنف للذات وصنف للصفات ، أو : صنف لحلاوة المشاهدة وصنف لآداب المعاملة. متكئين على فُرش الأُنس ، بطائنها من استبرق الروح والفَرح ودوام البِسط ، وجنا الجنتين دانٍ لمَن تمكّن من الشهود ؛ لأنّ ثمار المعارف من حلاوة الشهود والأُنس صارت طوع يده ، فشُهوده دائم ، وقُربه للحبيب لازم ، فمهما أجال فكرته غاصت في بحار الأحدية ، واستخرجت من يواقيت الحِكَم ، وجواهر العلوم ، ما لا يُحيط به المفهوم ، بخلاف غير المتمكن ، تعب الفكرة ينقص له من لذة الشهود. قال القشيري : إذ لا لذة في أوائل المشاهدة ، وإليه الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم : " اللهم ارزقني لذةَ النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك ، في غير ضرّاء مضرة... " الحديث. هـ. فِيهن قاصرات الطرف ، أي : أبكار الحقائق خاصة بهم لا تنكشف لغيرهم. لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان ؛ لم يمس تلك الحقائق غيرهم ، لأنها خاصة بأهل الأذواق ، وكل واحد يمس من الحقائق ما لا يمس غيره ، وينكشف له ما لا ينكشف لغيره ، لأنها على حسب الاستعداد. كأنهن - أي : تلك الحقائق - الياقوتُ في صفاء معناها ، والمرجان في حسن مبناها ، هذا جزاء أهل مقام الإحسان.
{(7/281)
جزء : 7 رقم الصفحة : 278
هل جزاء الإحسان إلاّ الإحسان} أي : هل جزاء أهل مقام الإحسان إلاَّ الإحسان والتقريب والتخصيص بهذه العلوم والحقائق ، أو : هل جزاء الإحسان معنا إلا الإحسان بكشف ذاتنا ، أو : هل جزاء الإحسان إلى عبادي إلاّ الإحسانُ بقربي وولايتي. قال ابن جزي : ويحتمل أن يكون الإحسان هنا هو الذي سأل عنه جبريل عليه السلام " أن تعبد الله كأنك تراه " فجعل جزاء ذلك الإحسان بهاتين الجنتين ، ويُقوي ذلك : انه جعل هاتين
281
الجنتين الموصوفتين هنا لأهل المقام العَلي ؛ وجعل جنتين وجعل جنتين دونهما لمَن كان دون ذلك ، فالجنتان المذكورتان أولاً للسابقين ، والمذكورتان بعد ذلك لأصحاب اليمين ، حسبما ورد في الواقعة. انظر تمامه.(7/282)
جزء : 7 رقم الصفحة : 278
يقول الحق جلّ جلاله : {ومِن دونهما جنتانِ} أي : ومن دون تَيْنِك الجنتين الموعودتين للمقربين {جنتان} أخريان لِمن دونهم من أصحاب اليمين ، ويؤيده حديث أبي موسى ، قال في هذه الآية. {ولمن خاف مقام ربه} قال : " جنتان من ذهب للسابقين ، وجنتان من وَرِق لأصحاب اليمين " ورَفَعه ، ولا شك أنَّ الذهب أرفع من الوَرِق ، فلا يلتفت إلى الفضة مَن له الذهب ، خلافاً لمن قال : يلزم حرمان أهل الطبقة الأولى - وهم السابقون - ما ذكر في الحديث من الفضة ، واختار في نوادر الأصول أنَّ قوله : {ومن دونهما} أي : في القُرب إلى العرش ، وأنَّ هذه أعلى وَصْفاً مما ذكر قبلُ ، إلى العرش ، وبَسَطَ القول في ذلك ، ومثله ذكره ابن عطية عن ابن عباس ، واحتج لذلك ، ولكن الأكثرعلى خلاف ذلك ، وسيأتي بيانه إن شاء الله.
{فبأي آلاء ربكما تُكّذِبان مُدْهامَّتان} خضراوان تميلان إلى السواد ، من شدة الخضرة ، وفيه إشعار بأنَّ الغالب على هاتين الجنتين النبات والرياحين المنبسطة على وجه الأرض ، وعلى الأُوليين الأشجار والفواكه ، ومَن اشتهى فيها شيئاً يُعطاه ، {فبأي آلاء ربكما تُكَذِّبان} كرر التوبيخ مع ذكر الموصوف ومع صفته تنبيهاً على أنّ تكذيب كل من الموصوف والصفة حقيق بالإنكار ، {فيهما عينان نَضَّاختان} فوّارتان بالماء ، والنضخ أكثر من النضح - بالمهملة - وهو الرش ، {فبأي آلاء ربكما تُكذِّبان}.
{فيهما فاكهةُ ونخلٌ ورمانٌ} عطف الأخيرين على الفاكهة عطف خاص على عام ؛ لفضلهما ، فإنَّ ثمر النخل فاكهة وغذاء ، والرمان فاكهة ودواء. قال أبو حنيفة : مَن حَلَفَ لا يأكل فاكهة فأكل رُماناً أو رطباً لم يحنث ، وقوفاً مع ظاهر العطف ، وعندنا الأَيمان مبنية
282
على الأعراف ، وهي تختلف باختلاف الأقطار. {فبأي آلاء ربكما تُكَذِّبان} ولا شيء منها يقبل الإنكار.
{(7/283)
جزء : 7 رقم الصفحة : 282
فيهنَّ خَيْراتٌ حِسَانٌ} أي : في الجنتين المشتملتين على قصور ومساكن نساء {خيرات} أي : فاضلات الخُلُق ، حِسان الخَلْق ، وهو مخفف من " خير " بالتشديد ، وقرئ (خيِّرات) على الأصل ، {فبأي آلاء ربكما تُكَذِّبان}. {حُورٌ} بدل من " خيرات " {مَقصوراتٌ في الخيام} قُصِرن في خدورهن. يقال : امرأة قصيرة وقَصُورة ، ومقصورة ، أي مخدّرة ، أو : مقصورات الطرف على أزواجهن ساكنة في الخيام. قال القشيري : قصرن أنفسَهن وقلوبَهن وأبصارَهن على أزواجهن. هـ. يقلن : نحن الناعماتُ فلا نبأس ، الخالداتُ فلا نَبيدُ ، الراضيات فلا نَسْخَط. وفي خبر : أن عائشة قالت : " إنَّ المؤمنات أجَبْنَهُنَّ ، نحن المُصلِّياتُ وما صلَّيْتُنَّ ، نحن الصائمات وما صُمتُنَّ ، نحن المتصدِّقاتُ وما تصدَّقْتنَّ ، قالت عائشة : فغلبنهن ". والخيام من الدر المجوف ، {فبأي آلاء ربكنما تُكَذِّبان}. {لم يَطْمِثْهُن إِنسٌ قبلهم ولا جانٌّ فبأي آلاء ربكما تُكَذِّبان}.
{متكئين} نصب على الاختصاص ، {على رَفْرَفٍ} هو كل ثوب عريض ، وقيل : هو الوسائد ، والأظهر من الحديث أنه سرير مفروش بثياب خُضر ، يركب فيه أهل الجنة ، ويسير بهم حيث شاؤوا ، وقوله : {خُضْرٍ} ، وصف لرفرف ؛ لأنه مُحلّى بثيابٍ خُضر ، والرفرف : إما اسم جنس ، أو اسم جمع ، واحده : رفرفة. {وعبقريٍّ حِسَانٍ} أي : طنافس ، وهي جياد البُسط ، كالزرابي وشبهها. والعبقري : منسوب إلى عبقر ، تزعم العرب أنه اسم بلد الجن ، يسبون إليه كل شيء عجيب. وقال أبو عبيد : هو منسوب إلى أرض يُعمل فيها الوَشي ، فينسب إليها كل مبالغ في الوصف ، وقال الخليل : كل جليل فاضل نفيس فاخر من الرجال وغيرهم عند العرب عبْقري ، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم في عمر : " فلم أرَ عَبْقريّاً من الناس يَفْرِي فَرْيَه " والمراد به الجنس ، ولذلك وصفه بالجمع ، {فبأي آلاء ربكما تُكذِّبان} قال النسفي : وإنما تقاصرت صفات هاتين الجنتين عن الأوليين حتى قيل : [ومن دونهما] لأنَّ {مدهامتان} دون {ذواتا أفنان} ، و {نضّاختان} دون {تجريان} ، و {فاكهة} دون {من كل فاكهة زوجان} ، وكذلك صفة الحور والمتّكأ. هـ.
{تبارك اسمُ ربك} أي : تنزّه وتقدّس ، أو تكاثر خيره. وفيه تقرير لما ذكر في السورة الكريمة من آلائه الفائضة على الأنام ، {ذي الجلال} ذي العظمة. وقرأ الشامي بالرفع ، صفة لاسم ، {والإكرام} لأوليائه بالإنعام.
283
قيل : لمَّ ختم تعالى نِعم الدنيا بقوله : {ويبقى وجهُ ربك ذي الجلال والإِكرام} ختم نِعم الآخرة بقوله : {تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام} وناسب هذا ذكر البقاء والديمومية له تعالى ، إذ ذكر فناء العالم ، وناسب هنا ذكر ما امتنّ به من البركة ، وهي الخير والزيادة ، إذ جاء ذلك عقب ما امتنّ به على المؤمنين ، وما آتاهم في دار كرامته من الخير وزيادته وديمومته.(7/284)
جزء : 7 رقم الصفحة : 282
روَى جابر أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قرأ سورة الرحمن ، فقال : " ما لي أراكم سكوتاً ، لَلْجِنُّ كانوا أحسن منكم ردّاً ، ما أتيتُ على قول الله : {فبأي آلاء ربكما تُكذِّبان} إلاَّ قالوا : ولا شيء من نعمك ربنا نكذِّب ، فلك الحمد ولك الشكر ". وكررت هذه الآية في هذه السورة إحد وثلاثين مرة ، ذُكرت ثمانية منها عقب آيات فيها عجائب خلق الله ، وبدائع صنعه ، ومبدأ الخلق ومعادهم ، ثم سبعة منها عقب آيات فيها ذكر النار وشدائدها ، على عدد أبوب جهنم ، وبعد هذه السبعة ثمانية في وصف الجنتين وأهلها ، على عدد أبوب الجنة ، وثمانية أخرى بعدها للجنتين اللتين دونهما ، فمَن اعتقد الثمانية الأولى وعمل بموجبها فُتحت له أبواب الجنة وغُلقت أبواب جهنم. قاله النسفي.
الإشارة : ومن دون جنتي أهل المقربين جنتا أهل اليمين ، وهما جنة حلاوة الطاعة وكمال الاستقامة ، أو حلاوة المعاملات وظهور الكرامات ، أو حلاوة المناجاة وحصول المداناة ، أو : جنة مُعجَّلة في البرزخ لأرواحهم ، وأخرى بعد البعث لأشباحهم ، وهذا يجري أيضاً في حق المقربين. وقوله : {مُدْهامتان} شديدة خضرتها ؛ لانَّ النظر إلى الخضرة أمْيَلُ ، وكذلك أهل العبادة الظاهرية حين يجدون حلاوتها ، ويقفون معها ، ترمُقهم أبصار العامة بالتعظيم والتكريم ، فربما يجنون بعض جزاء أعمالهم ، بخلاف أهل الباطن ، أهل الفناء والبقاء ، لا ترى منهم إلاّ النيران ؛ لفرارهم من الخلق ، ولخفاء عبادتهم بين فكرة ونظرة ، فيهما عينان نضاختان فوارتان بالعلوم الظاهرة التي أثمرتها التقوى ، لقوله تعالى : {وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} [البقرة : 282] ، وكثرة العلوم كمال عند أهل الظاهر ، ولا يعتبره أهل الباطن ؛ إذ المدار عندهم على الأذواق والوجدان ، وتحقيق عين العيان. وفي كتاب شيخ شيوخنا ، سيدي " عليّ العمراني " رضي الله عنه قال : علم الحرب وما جرى بينهم إنما يوجد عند المستشرف على المعركة ، وأمّا المباشِر للحرب فهو في شغل شاغل عنه.
284
فيها فاكهة ، أي : تفنُّن في تحقيق المسائل ، ونخل ؛ تضلُّع من علم الحديث ، ورُمان ؛ تغلغل في التفسير ، أو : فيهما فاكهة تحقيق علم المعاملة ، ونخل تحقيق علم الاعتقادات المجازية ، ورمان تمسك بعلم التصوُّف ، الذي هو دواء القلوب ، فيهن خيرات حسان في تلك الجنان أخلاق حسان ، وهي ثمرة العلم النافع ، حور مقصورات في الخيام ، أي : تلك الأخلاق الطيبة مقصورة على قلوب أهل الصفا ، لا تظهر إلا لهم ، أو : في تلك الجنان الذي هي القلوب ، علوم غريبة ، لم تكشف لغيرهم ، لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان ؛ لم يفك انغلاقها أحد قبلهم. وفي التسهيل : وإذا كانت العلوم مِنحاً إلهية ، ومواهب اختصاصية ، فغير مستبعد أن يدخر لكثير من المتأخرين ما عسر على كثير من المتقدمين. هـ. متكئين على رَفرفٍ ، أي : بساط فكرة الاعتبار ، يستخرج بها جواهر العلوم ، ووصفه بالخضرة لظهور أثر فكرهة الاعتبار بما تجليه من العلوم ، وفي الحديث : " ساعة من العالِم يتفكر في علمه خير من عبادة الجاهل ألف سنة " أو كما قال صلى الله عليه وسلم ، وكذلك وصفه بالعبقرية والجَودة ؛ لكماله في محله. {تبارك اسم ربك} أي : تعاظم قدره {ذي الجلال والإكرام} حيث مَنَّ بهذه النعم الجِسام على الفريقين ، وبالله التوفيق ، ولا حول ولا قوة إلاّ بالله العلي العظيم ، وصلّى على سيدنا محمد وآله وصحبه ، وسلّم.
285(7/285)
جزء : 7 رقم الصفحة : 282
سورة الواقعة(7/286)
جزء : 7 رقم الصفحة : 285
قال ابن عطية : رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " مَن دوام على قراءة سورة الواقعة لم يفتقر أبداً " ، ودعا عثمانُ عبدَ الله بنَ مسعود إلى عطائه ، فأبى أن يأخذ ، فقيل له : خُذ للعيال ، فقال : إنهم يقرؤون سورة الواقعة ، وسمعتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم يقول : " مَن قرأها لم يفتقر أبداً " قال ابن عطية : فيها ذكر القيامة ، وحظوظ الناس في الآخرة ، وفَهْمُ ذلك غِنىً لا فقر معه ، ومَن فهِمه شُغل بالاستعداد. هـ. وقال مسروق : مَن أراد أن يعلم نبأ الأولين ، ونبأ أهل الجنة ، ونبأ أهل النار ، ونبأ الدنيا والآخرة ؛ فليقرأ سورة الواقعة. هـ.
يقول الحق جلّ جلاله : {إِذا وَقَعت الواقعةُ} إذا قامت القيامة ، وذلك عند النفخة الثانية ، ووُصفت بالوقوع لأنها تقع لا محالة ، فكأنها واقعة في نفسها ، كأنه قيل : أذا وقعت التي لا بُدّ من وقوعها. ووقوع الأمر : نزوله ، يقال : وقع ما كنت أتوقعه ، وانتصاب {إذا} بمضمر يُنبئ عن الهول والفظاعة ، كأنه قيل : إذا وقعت الواقعة يكون من الأهوال ما لا يَفي به المقال ، أو : بالنفي المفهوم من قوله : {ليس لِوقعتها كاذبةٌ} أي : لا كذب وقت وقوعها ، أو : باذكر ، أو : بمضمون السورة قبلها ، أي : يكون ما ذكر من نعِيم
286
الفريقين إذا وقعت الواقعة ، ثم استأنف بقوله : {يس لوقعتها كاذبةٌ} أي : لا يكون عند وقوعها نَفْسٌ تَكذب على الله ، أو : تكذب في نفسها كما تكذب اليوم ، لأنَّ كل نفس حينئذ مؤمنة صادقة مصدّقة ، وأكثر النفوس اليوم كواذب مكذّبات ، واللام مثلها في قوله : {قَدَّمْتُ لِحَيَاتِى} [الفجر : 24] ، أي : ظرفية ، أي : ليس عند وقوعها كذب ، أو : تعليلية ، قال الفراء : {كاذبة} : مصدر ، كالعاقبة والعالية ، وقيل : صفة لمحذوف ، كما تقدّم.
{(7/287)
جزء : 7 رقم الصفحة : 286
خافضةٌ رافعةٌ} أي : هي خافضة لأقوام ، رافعة لآخرين ، وهو تقرير لِعظمها وتهويل لأمرها ، فإنَّ الوقائع العِظام شأنها كذلك ، أو : بيان لِما يكون يومئذ من حَطّ الأشقياء إلى الدركات ، ورفع السعداء إلى الدرجات ، ومن زلزلة الأشياء وإزالة الأجرام عن مقارها ، بنثر الكواكب وتسيير الجبال ، كما أبان ذلك بقوله : {إِذا رُجَّتِ الأرضُ رجّاً} : حُرِّكت تحريكاً شديداً حتى تهدِم كلَّ شيء فوقها ، من جبل وبناء ، وهو متعلق بخافضه ، أي : تخفض وترفع وقت رج الأرض ، أي : عند ذلك ينخفض ما هو مرتفع ، ويرتفع ما هو منخفض ، أو : بدل من : {إذا وقعت} ، وجواب الشرط : {فأصحاب الميمنة} ، والمعنى : إذا كان كذا فأصحاب الميمنة ما أسعدهم ، وما أعظم ما يُجازون به ، وما أعظم رتبتهم عند الله في ذلك الوقت الشديد الصعب على العالم. وتقديم الخفض الملتّت ، من : بسَّ السويق : إذا لتّه ، أو : سِيقت وسُيّرت عن أماكنها ، من : بسّ الغنم : إذا ساقها ، كقوله تعالى : {وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ} [النبأ : 20]. {فكانت} أي : فصارت بسبب ذلك ؛ {هباءً} غباراً {مُنبثاً} منتشراً متفرقاً في الهواء ، والهباء : ما يتطاير في الهواء من الأجزاء الدقيقة ، ولا يكاد يُرى إلاّ في الشمس إذا دخلت في كُوة ، {وكنتم} معاشر الخلق ، أو : أيتها الأُمة {أزواجاً} أصنافاً {ثلاثة} صنفان في الجنة ، وصنف النار ، قال قتادة : هي منازل الناس يوم القيامة.
ثم فسّر تلك الأزواج ، فقال : {فأصحابُ الميمنة} وهم الذي يؤتون صحائفهم بأيمانهم {ما أصحابُ الميمنة} ، تعظيم لشأنهم ، و " ما " : استفهام تعجب مبتدأ ، و " أصحاب " : خبر ، والجملة : خبر المتبدأ الأول ، والأصل : فأصحاب الميمنة ما هم ؟ أي : أيّ شيء هم في حالهم وصفتهم ؟ فوضع الظاهر موضع المضمر زيادة في التعظيم ، ومثله : {الْحَآقَّةُ مَا الْحَآقَّةُ} [الحاقة : 1 ، 2] ونظائرها.
{وأصحابُ المشئمةِ} أي : الذين يُؤتون صحائفهم بشمالهم {ما أصحابُ المشئمة} أي : أيّ شيء هم ؟ ! تعجيب من حالهم الفظيع ، أو : فأصحاب المنزلة السنية ؛ وأصحاب المنزلة الدنية الخسيسة ، من قولك : فلان مِني باليمين ، وفلان مِني بالشمال ؛ إذا وصفتهما عندك بالرفعة والوضعة ، وذلك لتيمُّنهم بالميامن وتشاؤمهم بالشمائل ، وقيل : يُؤخذ بأهل الجنة ذات اليمين ، وبأل النار ذات الشمال. وقال القشيري : أصحاب الميمنة : هم الذين
287
في جانب اليمين من آدم وقت ذرَّ الذرية من صُلبه ، وأصحاب المشئمة الذين كانوا في جانب شماله. هـ. قلت : وكذلك رآهم النبي - عليه الصلاة والسلام - ليلة المعراج.
{(7/288)
جزء : 7 رقم الصفحة : 286
والسابقون السابقون} مبتدأ وخبر ، على معنى تعظيم الأمر وتفخيمه ؛ لأنّ المبتدأ إذا أُعيد بنفسه خبراً دلَّ على التفخيم ، كقوله الشاعر :
أنا أبو النَّجْمِ وشِعْري شِعْري
والمعنى : والسابقون هم الذين اشتهرت أحوالُهم ، وعُرفت محاسنهم ، أو : والسابقون إلى الخيرات هم السابقون إلى الجنات ، وقال أبو السعود : الذي تقتضيه جزالة النظم أنَّ " أصحاب الميمنة " : خبر مبتدأ محذوف ، وكذا قوله تعالى : {والسابقون} فإنَّ المترقب عند بيان انقسام الناس إلى الأقسام الثلاثة بيان أنفس الأقسام ، وأمّا أوصافها وأحوالها فحقها أن تُبين بعد ذلك بإسنادها إليه ، والتقدير : فأحدها أصحاب الميمنة ، والآخر أصحاب المشئمة ، والثالث السابقون. ثم أطال الكلام في ذلك ، فانظره.
واختُلف في تعيينهم ، فقيل : هم الذين سبقوا إلى الإيمان ، وإيضاحه ، عند ظهور الحق من غير تلعثم ولا توان ، وقيل : الذين سبقوا في حيازات الفضائل والكمالات ، وقيل : هم الذي صلُّوا إلى القبلتين ، كما قال تعالى : {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ} [التوبة : 100] وقيل : السابقون إلى الصلوات الخمس ، وقيل : المسارعون في الخيرات. والتحقيق : أنهم السابقون إلى الله بالمجاهدة والمكابدة ، حتى أفضوا إلى مقام المشاهدة ، وهو مقام الإحسان.
{أولئك المقرَّبون} أشار إليهم بإشارة البُعد مع قُرب العهد ؛ للإيذان ببُعد منزلتهم في الفضل والشرف ، أي : أولئك السابقون إلى الله هم المقربون إلى الله في الكرامة والتعظيم ، الذي تلي درجاتهم درجات الأنبياء ، وهم {في جنات النعيم} أي : ذات التنعُّم ، فتَصْدق بالفردوس ، التي هي مسكن المقربين ، وإنما أخَّر ذكر السابقين مع كونهم أحق بالتقدُّم في الذكر ؛ ليقترن ذكرهم ببيان محاسن أحوالهم ، ويتخلّص إلى ذكر نعيمهم الآتي ، على أنّ إيرادهم بعنوان المسبق مطلقاً مُعْرِبٌ عن إحرازهم لقصب السبق من جميع الأمور. الإشارة : إذا وقعت الحقيقة المتوقعة للمتوجهين ؛ كان من العلوم والأسرار ما لا تُحيط به عامة الأفكار ، ووقوع الحقيقة : برزوها معهم ، وإشراق أنوارها على قلوبهم ،
288
فتفنى الكائنات وتضمحل الرسوم والإشارات ، ويبقى الحيّ القيوم وحده ، كما كان وحده ، ليس لوقعتها كاذبة ؛ لا كذب في وقوعها ، ولا شك في إظهارها على مَن توجه إليها ، وصَحِبَ أهلها ، وحطّ رأسه لأربابها ، وامتثل كل ما يأمرونه به ، خافضة لمن توجه إليها ، وَوَصَلَ لأنوارها ، وتحقق بأسرارها. يعني : هكذا شأنها في الجملة ، تخفض قوماً وترفع آخرين ، وإنما تقع لمَن توجه إليها إذا رُجت أرض النفوس منه رجّاً ، أي : تحركت واضطربت ، بمنازلة الأحوال ، وارتكاب الشدائد والأهوال ، وتوالي الأذكار ، والاضطراب في الأسفار ، فإنَّ كُمون سرها في الإنسان كَكمُون الزبد في اللبن ، فلا بد من مخضه لاستخراج زُبده. وبُست جبال العقل منه بسّاً ، فكانت هباءً مُنبثاً ؛ لأنّ نور العقل يتغطّى بنور شمس العرفان ، ويضمحل كما يضمحل نور القمر إذا طلعت الشمس ، وكنتم أيها الطالبون المتوجهون أصنافاً ثلاثة : قومٌ توجهوا إليها ، ثم قنعوا بما برز لهم من شعاع أنوارها ، وهم عامة المتوجهين. وقوم استشرفوا عليها فلم يطيقوا أنوارها ، فرجعوا القهقرى ، وهم أهل الحرمان ، من أهل المشأمه. وقوم أدركوها ، وتحققوا بها ذوقاً وكشفاً ، ففنوا وبقوا ، سَكروا وصحوا ، وهم السابقون المقربون في جنات المعارف ، ونعيم الشهود ، أبداً سرمداً ، جعلنا من خواصهم آمين ، وسيأتي إن شاء الله في آخر السورة تحقيق الفرق بين المقربين وأصحاب اليمين.(7/289)
جزء : 7 رقم الصفحة : 286
يقول الحق جلّ جلاله : {ثُلّةٌ} أي : هم ثلة ، أي : جماعة كثيرة {من الأولين} والثُلة : الأمة الكثيرة من الناس ، {وقليل من الآخِرين} ممن يتأخر من هذه الأمة ، والمعنى : أن السابقين في أول الأمة المحمدية كثير ، وفي آخرها قليل ، وذلك أنَّ صدر هذه الأمة كَثُر فيها خير ، وظهرت فيها أنوار وأسرار ، وخرج منها جهابذة من العلماء والأولياء ، بخلاف آخرها ، السابقون فيها قليلون بالنسبة إلى عامة أهل اليمين ، ويُؤيد هذا قوله صلى الله عليه وسلم : " خير القرون قرني ، ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم " ، وصرّح في حديث
289
آخر أنهم جميعاً من أمته ، فقال : " الفرقتان من أمتي " ، فسابق أول الأمة ثلة ، وسابق سائرها إلى يوم القيامة قليل. هـ. من الثعالبي. وقيل : المراد بالأولين : الأمم الماضية ، والآخرين : الأمة المحمدية ، وهو بعيد أو فاسدٌ ، واقتصر في نوادر الأصول على أنَّ الثلة الأنبياء ، وخُتموا بمحمد صلى الله عليه وسلم ومِنْ بعده الأولياء ، وعددهم قليل في كل زمان. هـ. وفي المَحلِّي هنا تخليط. انظر الحاشية.
{على سُرُرٍ} جمع سرير ، {موضونةٍ} قال ابن عباس : " مرمولة " ، أي : منسوجة بقضبان الذهب ، وقضبان اللؤلؤ الرطب ، طولُ السرير : ثلاثمائة ذراع ، فإذا أراد الجلوس تواضع ، فإذا استوى عليه ارتفع ، {متكئين عليها} حال من الضمير في الظرف ، وهو العامل فيه ، أي : استقروا على سُرر متكئين عليها اتكاء الملوك على الأَسِرة ، {متقابلين} ينظر بعضهم في وجوه بعض ، ولا ينظر بعضهم من أقفاء بعض. وُصفوا بحسن العِشْرة ، وتهذيب الأخلاق ، وصفاء المودة. وهو أيضاً حال.
{يطوف عليهم} يَخدمهم {وِلدانٌ} غلمان ، جمع وليدٍ ، {مُخلَّدون} مُبْقَّوْنَ أبداً على شكل الولدان ، لا يتحولون عنه إلى الكِبَر ، وقيل : مقرَّطون ، والخِلَدَةُ : القُرْط ، وهو ما يلقى في الأذن من الأخراص وغيرها. قيل : هم أطفال أهل الدنيا ، لم يكن لهم حسنات يُثابون عليها ، ولا سيئات يعاقبون عليها. وفي الحديث : " أولاد الكفار خُدّام أهل الجنة " وهذا هو الصحيح. {بأكوابٍ} جمع كوب ، وهو آنية لا عروة لها ولا خرطوم ، {وأباريقَ} جمع إبريق ، وهو ما له خرطوم وعروة ، {وكأسٍ} أي : قدح فيه شراب ، فإن لم يكن فيه شراب فلا يُسمى كأساً ، {من مَعينٍ} من خمر ، يجري من العيون ، {لا يُصَدَّعون عنها} أي : بسببها ، أي : لا يصدر عنها صُداع ، وهو وجع الرأس ، {ولا يُنزَفُونَ} ولا يسكرون ، يقال : نزَف الرجل : ذهب عقله بالسُكر ، فهو نزيف ومنزوف. وقرأ أهل الكوفة بضم الياء وكسر الزاي ، أي : لا ينفذ شرابهم ، يقال : أُنزف القوم : إذا نفد شرابهم. وفي الحديث : " زَمزمُ لا تُنْزَفُ ولا تُذَمّ " أي : لا ينفذ ماؤها.
{(7/290)
جزء : 7 رقم الصفحة : 289
وفاكهةٍ مما يتَخيَّرون} أي : يختارونه ويأخذون خيره وأفضله ، يجنونه بأيديهم ، وهو أشد نعيماً وسروراً من أخذه مجنياً ، {ولحم طيرٍ مما يشتهون} مما يتمنون مشوياً أو مطبوخاً ، {وحُورٌ عِينٌ} أي : وفيها حور عين ، أو : لهم حور عين ، ويجوز أن يعطف
290
على " ولدان " أي : وتخدمهم حُور عين ، زيادة في التعظيم ، ومَن قرأ بالخفض عطفه على " جنات النعيم " كأنه قيل : هم في جنات النعيم وفاكهة ولحم طير وحور {كأماثلِ اللؤلؤ المكنونِ} في الصفاء والنقاء. والمكنون : المصون في صَدفه. وقال الزجاج : كأمثال الدُرِّ حين يخرج من صدفه ، لم يُغيرّه الزمان واختلاف الأيدي عليه ، {جزاء بما كانوا يعملون} مفعول له ، أي : يفعل بهم ذلك لجزاء أعمالهم الصالحة أو : مصدر ، أي : يُجزَون جزاء ، فنفس الدخول للجنة بمحض الرحمة ، وكثرة النعيم والغُرف بالعمل ، والترقي باليقين والمعرفة - والله تعالى أعلم - فلا تعارض.
{لا يَسْمَعون فيها} في الجنة {لَغواً} باطلاً {ولا تأثيماً} هذياناً ، أو : ما يُؤهم صاحبه لو كف ، {إِلاَّ قِيلا} أي : قولاً {سلاماً سلاماً} أي : ذا سلامة. والاستثناء منقطع ، و " سلاماً " بدل من " قيلاً " أو : مفعول به لـ " قيلاً " ، أي : لا يسمعون فيها إلا أن يقولوا سلاماً سلاماً ، والمعنى : أنهم يُفشون السلام فيُسَلِّمون سلاماً بعد سلام ، أو : لا يسمع كلٌّ من المسلِّم والمسلِّم عليه إلا سلام الآخر بدءاً ورداً. والله تعالى أعلم.
الإشارة : أخبر تعالى أنّ المقربين في الصدر الأول أكثر من الزمان الأخير ، وهو كذلك من جهة الكمية ، وأما من جهة الكيفية فالمقربون في آخر الزمان أعظم رتبةً ، وأوسع علماً وتحقيقاً ؛ لأنهم نهضوا في زمان الغفلة ، وجدُّوا في زمان الفترة ، لم يجدوا من أهل الجدّ إلا قليلاً ، ولا من أهل الحق إلا نذراً يسيراً ، فحيث نهضوا وحدهم عوّضهم الله مرتبة لم يعطها لغيرهم ، ويشهد لهذا قوله عليه السلام : " اشتقت إلى إخواني " قال أصحابه ، نحن إخوانك يا رسول الله ؟ قال : " أنتم أصحابي ، إخواني قوم يأتون بعدي ، مِن نعتهم كذا وكذا " ثم قال : " يعدل عمل واحد منهم سبعين منكم " قالوا : يا رسول الله منهم ؟ قال : " منكم " قيل : بماذا يا رسول الله ؟ قال : " إنكم وجدتم على الخير أعواناً ، وهم لم يجدوا عليه أعواناً " وفي حديث آخر ، رواته ثقات : قالوا : يا رسول الله ؛ هل أحد خير منا ؟ قال : " قوم يجيئون بعدكم ، فيجدون كتاباً بين لوحين ، يؤمنون بما فيه ، ويؤمنون بي ، ولم يروني ، ويُصَدِّقون بما جئتُ به ، ويعملون به ، فهم خير منكم " ، ولا يلزم من تفضيلهم مِن جهةٍ تفضيلهم مطلقاً.(7/291)
جزء : 7 رقم الصفحة : 289
ثم وصف المقرّبين بكونهم على سُرر الهداية ، منسوجة بالعِز والعناية ، محفوفة بالنصر والرعاية ، متكئين عليها ، راسخين فيها ، متقابلين في المقامات والأخلاق ، أي : يواجه بعضهم بعضاً بقلوبهم وأسرارهم ، لا تَباغض بينهم ولا تحاسد ، تطوف عليهم الأكوان وتخدمهم ، " أنت مع الأكوان ما لم تشهد المُكوّن ، فإذا شهدت المُكوِّن كانت الأكوان معك " : يُسقون بأكوابٍ وأباريق من علم الطريق ، وكأس من خمر الحقيقة ، فلا
291
يتصدّعون من أجلها ؛ إذ ليست كخمر الدوالي ، ولا يُنزفون : لا يسكرون سُكْر اصطلام ، وإنما يسكرون سُكراً مشوباً بصَحْوٍ ، إذا كان الساقي عارفاً ماهراً. وفاكهة ؛ حلاوة الشهود ، مما يتخيرون ، إن شاؤوا بالفكرة والنظرة ، وإن شاؤوا بالذِكر والمذاكرة ، وكان بعض أشياخنا يقول : خمرة الناس في الحضرة ، وخمرتنا في الهدرة ، أي : المذاكرة. ولحم طير من علوم الطريقة والشريعة ، مما يشتهون منها ، وحُورق عِين من أبكار الحقائق ، مصونة عن غير أهلها ، كأمثال اللؤلؤ المكنون ، جزاء على مجاهدتهم ومكابدتهم. لا يسمعون في جنة المعارف لغواً ولا تأثيماً ؛ لتهذيب أخلاق أهلها ، كما قال ابن الفارض رضي الله عنه :
تُهذّبُ أخلاقَ النّدامى ، فيَهْتدي
بها لطريقه العزم مَن لا له عَزْم
ويكرُمُ مَن لا يَعْرف الجودَ كَفّثه
ويحلُمُ عند الغيظ مَن لا له حِلم
فلا تسمع من الصوفية إِلا قيلاً سلاماً سلاماً ، كما قيل في حقيقة التصوُّف : أخلاقٌ كرام ، ظهرت من قوم كرام ، في زمن كريم.هـ.(7/292)
جزء : 7 رقم الصفحة : 289
يقول الحق جلّ جلاله : {وأصحابُ اليمين ما أصحابُ اليمين} استفهام تعجيب ، تفخيماً لحالهم ، وتعظيماً لشأنهم ، ثم ذكر نعيمهم فقال : {في سِدْرٍ مَّخْضُودٍ} والسدر : شجر النبق ، والمخضود : الذي لا شوك له ، كأنه خُضِد شوكه ، أي : قُطع ، أي : ليس هو كسِدر الدنيا ، وقيل : مخضود ، أي : ثنى إغصانه من كثرة حمله ، من خَضَدَ الغصن : إذا ثناه وهو رطب. قال ابن جُبَيْر : ثمرها أعظم من القلال ، وثمار الجنة كلها بادية ، ليس شيء منها في غلاف. رُوي أنَّ المسلمين نظروا إلى وادٍ بالطائف مخصب ، فأعجبهم سِدرها ، وقالوا : يا ليت لنا مثله في الجنة ، فنزلت ، وقال أمية بن أبي الصلت في وصف الجنة :
إنَّ الحَدائِقَ في الجِنان ظَلِيلةٌ
فيها الكواعِبُ ، سِدْرُهَا مَخْضُودُ
{وطَلْحٍ مَّنضُودٍ} الطلح : شجرة الموز ، والنضود : الذي نضد بالحمل من أسفله إلى أعلاه ، فليست له ساق بارزة ، وفي جامع العُتْبية عن مالك ، قال : بلغني أنّ الطلح المنضود ، المذكور في الآية ، هو الموز ، وهو مما يشبه ثمار الجنة ، لقوله تعالى :
292
{أُكُلُهَا دَآئِمٌ} [الرعد : 35] ، والموز يؤكل في الشتاء والصيف.هـ.
{وظِلّ ممدودٍ} منبسط ، لا يتقلص ولا ينقطع ، كظل ما بين طلوع الفجر وطلوع الشمس. {وماءٍ مسكوبٍ} جارٍ بلا أُخدود ، يُسْكَب لهم أين شاؤوا ، وكيف شاؤوا ، بلا تعب. {وفاكهةٍ كثيرةٍ} بحسب الأنواع والأجناس ، {لا مقطوعةٍ} لا تنقطع في بعض الأوقات ، كفواكه الدنيا ، بل هي دائمة ، {ولا ممنوعةٍ} عن تناولها بوجه من الوجوه ، أو : لا يحظر عليها ، كبساتين الدنيا ، أو : لا مقطوعة بالأزمان ، ولا ممنوعة بالأثمان.
{وفُرُشٍ مرفوعةٍ} رفيعة القدر ، أو : مرفوعة على الأسرَّة ، وارتفاع السرير خمسمائة سنة ، وقيل : كنّى بالفُرُش عن النساء ؛ لأنَّ المرأة يُكنّى عنها بالفراش ، مرفوعة على الأرائك ، قال تعالى : {هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِى ظَلاَلٍ عَلَى الأَرَآئِكِ مُتَّكِئُونَ} [يس : 65] ، ويؤيده قوله : {إِنَّا أنشأناهن إِنشاءً} أي : ابتدأنا خلقهن ابتداءً من غير ولادة. فإما أن يُراد : اللاتي ابتدئ إنشاؤهن ، وهن الحور ، أو : اللاتي أُعيد إنشاؤن ، وهن نساء الدنيا ، وعلى غير هذا التأويل أضمر لهنّ ؛ لأنّ ذكر الفُرش ، وهي المضاجع ، دلَّ عليه. {فجعلناهن أبكاراً} أي : عذارى ، كلما أتاهنَ أزواجهنَ وجدوهنَ أبكاراً. {عُرُباً} جمع عَرُوب ، وهي المحبّبة لزوجها ، الحسنة التبعُّل ، {أتراباً} : مستويات في السنّ ، بنات ثلاثٍ وثلاثين ، وأزواجهنّ كذلك. {لأصحاب} أي : أنشأناهن أصحاب {اليمين}.
{(7/293)
جزء : 7 رقم الصفحة : 292
ثُلةٌ} أي : أصحاب اليمين ثلة : جماعة كثيرة {من الأولين} ، {وثُلة} وجماعة كثيرة {من الآخرِين} فالسابقون كثيرون من الأولين وقليل من الآخرين ، وأصحاب اليمين كثيرون من الأولين والآخرين. هذا المتعين في تفسير الآية. والله تعالى أعلم.
الإشارة : أصحاب اليمين هم أهل الحجاب ، المحصورون في سجن الأكوان ، المحيط بهم دوائر حسهم ، من العُبّاد والزُهّاد ، والعُلماء بالشرائع ، والصالحين الأبرار ، وعامة المسلمين. هم في سدر مخضود ؛ كثرة الأعمال المخضودة من شوك الرياء والعجب ، المنزهة من الفتور والقصور ، وطلح منضود ؛ حلاوة الطاعات ، وتحقيق المقامات ، وظِلٍّ ممدود ؛ ظل راحة القناعة لمَن أُعطيها ، وروح الرضا والتسليم لمَن منحه. وماء مسكوب ؛ عِلْم التوحيد البرهاني أو الإلهامي ، وفاكهة كثيرة : حلاوة المناجاة ، وظهور الكرامات ، ولذة التفنُّن في العلوم الرسمية ، لا مقطوعة ولا ممنوعة لمَن رسخ فيها. وفُرش مرفوعة ؛ تفاوت درجاتهم على حسب أعمالهم : إنّا أنشأناهن إنشاءً ، لكل فريق مما تقدم ، زيادة في عمله ، أو علمه ، أو زهده ، على ما يليق بحاله ، فكل صنفٍ له تَرقٍّ في فنه وزيادة في محله. فجعلناهن أبكاراً ؛ لأن كل زيادة تكون جديدة لم يعهدها
293
صاحبها ، عُرباً يعشقها وتعشقه ، أتراباً ، تكون على قدر حاله وفهمه وذوقه. هذا لعامة أصحاب اليمين ، وهم كثيرون ، سَلفاً وخَلفاً.(7/294)
جزء : 7 رقم الصفحة : 292
يقول الحق جلّ جلاله : {وأصحابُ الشمال ما أصحابُ الشمال} تفظيع لشأنهم ، والشمال والمشأمة واحد. {في سَمُوم} في حرّ نار تنفذ في المسامّ ، {وحميم} وماء حارّ ، تناهي في الحرارة ، {وظِلٍّ من يَحْمُوم} من دخان أسود بهيم ، {لا باردٍ} كسائر الظلال ، {ولا كريم} فيه خير مّا في الجملة ، سمّاه ظلاًّ ، ثم نفى عنه برد الظل ورَوْحَه ونفعَه لمَن يأوي إليه من أذى الحر ، وذلك كرمه - ليمحي عنه ما في مدلول الظل من الاسترواح إليه ، والمعنى : أنه ظلٌّ حار ضارّ.
{إِنهم كانوا قبل ذلك} أي : في الدنيا {مُتْرَفِينَ} منعّمين بأنواع النِعَم ، من المآكل والمشارب ، والمساكن الطيبة ، والمقامات الكريمة ، منهمكين في الشهوات ، فمَنَعَهم ذلك من الانزجار ، وشَغَلَهم عن الاعتبار. وهو تعليل لابتلائهم بما ذكر من العذاب ، {وكانوا يُصِرُّون} يُداومون {على الحِنْثِ العظيم} أي : على الذنب العظيم ، وهو الشرك ؛ لأنه نقض عهد الميثاق ، وخروج عن طاعة الملك إلى نصر غيره. والحنث : نقض العهد الموثّق باليمين ، أو : الكفر بالبعث ، لقوله : {وَأَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لاَ يَبْعَثُ اللَّهُ مَن يَمُوتُ} [النحل : 38] ، ثم صار يُطلق على مطلق الذنب ، ومنه : بلغ الغلامُ الحنث ، أي : وقت الحلم ووقت المؤاخذة بالذنب.
{وكانوا يقولون} لغاية عتوهم : {أئِذا مِتْنَا وكنا تراباً وعظاماً} أي : إذا صارت أجزاؤنا من الجلد والعظم واللحم ، بعضها تراباً ، وبعضها عظاماً نخرة ، نُبعث بعد ذلك ؟ وتقديم التراب لعراقته في الاستبعاد وانقلابها حيواناً. والعامل في " إذا " ما دلّ عليه قوله : {أئنا لمبعوثون} أي : أنْبعث إذا صرنا في هذه الحالة ؟ ولا يعمل فيه لفظه ؛ لأنّ " إنّ " والاستفهام لا يعمل ما بعدها فيما قبلهما ، {أَوَ آباؤنا الأولون} يُبعثون أيضاً ؟ دخلت همزة الاستفهام على حرف العطف ، وحسن العطف على المضمر في {لمبعوثون} من
294
غير توكيدٍ بـ " نحن " للفاصل الذي هو الهمزة ، يعنون بذلك : أن بعث آبائهم أبعد في الوقوع من بعثهم. وقرئ في السبع بأو العاطفة.(7/295)
جزء : 7 رقم الصفحة : 294
ثم ردّ عليهم بقوله : {قل إِنّ الأولين والآخِرين} أي : إنّ الأولين من الأمم المتقدمين ، الذين من جملتهم آباؤكم ، والآخرين ، الذين من جملتهم أنتم. وفي تقديم " الأولين " مبالغة في الرد ، حيث كان إنكارهم لبعث آبائهم أشد مع مراعاة الترتيب ، {لمجموعون} بالبعث {إِلى ميقاتٍ يومٍ معلوم} أي : إلى ما وقتت به الدنيا باعتبار فنائها من يوم معلوم ، وهو يوم البعث والحساب ، والإضافة بمعنى " من " كخاتم فضة.
{ثم إِنكم أيها الضالون} عن الهدى {المكذِّبون} بالبعث ، والخطاب لأهل مكة وأضرابهم ، {لآكلون} بعد البعث والجمع ودخول جهنم {مِن شجرٍ مِن زقوم} " مِن " الأولى : لابتداء الغاية ، والثانية : لبيان الشجر. {فمالئُون منها البطونَ} أي : بطونكم من شدة الجوع ، {فشاربون عليه} عقب ذلك بلا ريث {من الحميم} الماء الحار. أنّث ضمير الشجر على المعنى ، وذكَّره على اللفظ في " منها " و " عليه ". {فشاربون شُرْبَ الهِيم} وهي الإبل التي بها الهُيَام ، وهو داء يُصيبها فتشرب ولا تروَى ، أي : لا يكون شربكم شراباً معتاداً ، بل يكون مثل شرب الإبل الهيم ، واحدها : " هيماء وأَهْيَم " وحاصل الآية : أنه يُسلط عليهم من الجوع ما يضطرون إلى شرب الحميم ، الذي يُقَطِّع أمعاءهم ، فيشربونه شرب الهِيم ، وإنما صحّ عطف الشاربين على الشاربين ، وهما لذوات متّفقة ، لأنَّ كونهم شاربين الحميم مع ما هو عليه من تناهي الحرارة ، وقطع الأمعاء ، أمر عجيب ، وشربهم له على ذلك كشرب الهِيم الماء أمر عجيب أيضاً ، فكانت صفتين مختلفتين.
{هذا نُزلُهم} النُزل : هو الرزق الذي يُعدّ للنازل تكرمةً له ، {يَوْمَ الدَّينِ} يوم الجزاء ، فإذا كان نُزلهم هذا ، فما ظنك بعدما استقر بهم القرار ، واطمأنت بهم الدار في النار ؟ وفيه من التهكُّم ما لا يخفى.
{نحن خلَقناكم فلولا} فلاّ {تُصَدِّقُونَ} تحضيض على التصديق ، إمَّا بالخَلق ؛ لأنهم وإن كانوا مصدّقين به إلاّ أنه لمّا كان مذهبهم خلاف ما يقتضيه التصديق فكأنهم مكذّبون به ، وإمّا بالعبث ؛ لأنّ مَن خلَق أولاً لم يمتنع عليه أن يَخلق ثانياً.(7/296)
جزء : 7 رقم الصفحة : 294
الإشارة : أصحاب الشمال هم أهل الخذلان من العصاة والجُهال ، في سَموم الجهل والبُعُد ، ينفذ في مسام أرواحهم وقلوبهم ، وحميم الحرص والتعب ، والجزع والهلع ، وظِلٍّ من يحموم ، وهو التدبير والاختيار ، لا بارد ولا كريم ، أي : ليس كظل الرضا وبرد التسليم ، بل هو ظل مشؤوم ، حاجب عن شمس العيان ، مُوقع في ظل الذل والطمع والهوان. إنهم كانوا قبل ذلك ؛ قبل وقت وصول العارفين مُترفين متنعمين في الحظوظ ، منهمكين في الشهوات ، وكانوا يُصِرُّون على الحنث العظيم ، وهو حب الدنيا ، الذي هو
295
رأس كل خطيئة ، وكانوا يُنكرون بعث الأرواح من الجهل إلى العرفان ، ويقولون : {أئذا متنا وكنا تراباً} ، أي : أرضيين بشريين ، وعظاماً يابسين بالقسوة والبُعد ، {أئنا لمبعوثون} من هذه الموتة إلى حياة أرواحنا بالعلم والمعرفة ؟ والحاصل : أنهم كانوا ينكرون وجود أهل التربية ؛ الذي يُحيي اللّهُ بهم القلوبَ والأرواحَ الميتة بالجهل والغفلة. قل إنَّ الأولين منكم الذين كانوا على هذا الوصف ، والآخرين إلى يوم القيامة ، لمجموعون إلى الحضرة ، إذا صَحِبوا أهل التربية ، فيفتح الله عليهم إلى ميقات يوم معلوم ، وهو الحد الذي سبق لفتحهم. ثم إنكم أيها الضالون المكذّبون المنكِّرون لوجود الطبيب ، الذي يُحيي الأرواح الميتة والقلوب ، {لآكلون من شجر من زقوم} وهي شجرة الجهل وتوارد الشكوك والخواطر على قلوبكم ، فمالئون منها بطونكم ، بحيث لا يبقى في بواطنكم متسع لأنوار اليقين والمعرفة ، فشاربون على ذلك من الحميم ، وهو الغضب والتدبير والاختيار ، {فشاربون شُرب الهيم} ، لا يملُّون منه ليلاً ولا نهاراً ، كذا يَظلُّون يَبنون ويَهدمون ، وهو عين البطالة والتضييع. {هذا نُزلهم يوم الدين} ، أي : يوم يُجازِي الحقُّ المتوجهين إليه بالوصال وراحة الاتصال. {نحن خلقناكم} : أنشأناكم من العدم ، فلولا تُصدِّقون في إحياء أرواحكم بالعلم والمعرفة بعد موتها ، فإنّ القادر على إنشاء الأشباح قادر على إحياء الأرواح. والله تعالى أعلم.(7/297)
جزء : 7 رقم الصفحة : 294
يقول الحق جلّ جلاله : {أفرأيتم ما تُمْنُون} أي : تقذفونه في الأرحام من النُطف ، {أأنتم تخلقونه} تُقدِّرونه وتُصورونه وتجعلونه بشراً سويّاً {أم نحن الخالقون} من غير علة ولا علاج " ؟ قال الطيبي : وجه الاستدلال بهذه الآية على البعث أن يُقال : إنّ المَني إنما يحصل من فضلة الهضم ، وهو كالطل المنبث في أطراف الأعضاء ، وبهذا تشترك الأعضاء بالتذاذ الوقاع لحصول الانحلال عنها كلها ، ثم إنّ الله سبحانه وتعالى يُسلط قوة الشهوة على البنية ، حتى إنها تجمع تلك الأجزاء الطلّية ، والحاصل أن تلك الأجزاء كانت مفْترقة جدّاً أولاً في أطراف العالم ، ثم إنه تعالى جمعها في بدن ذلك الحيوان ، فتفرّقت في
296
أطراف بدنه ، ثم جمعها الله في أوعية المَني ، فأخرجها ماءً دافقاً إلى قرار الرحم ، فإذا كان قادراً على جمع هذه الأجزاء المتفرقة ، وتكوين الحيوان منها ، فإذا افترقت بالموت مرة أُخرى ؛ لم يمتنع عليها جمعها وتكوينها مرة أخرى. هـ. وذَكَرَ عند قوله تعالى : {يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَرَآئِبِ} [الطارق : 7] أنَّ المني يتولد من فضلة الهضم الرابع ، وينفصل من جميع أجزاء البدن ، فيأخذ من كل عضو طبيعته وخاصيته ، ومعظمُهُ يتولد من الدماغ ، وهو أعظم الأعضاء معنويةً فيه. انظر بقيته في الحاشية.
{(7/298)
جزء : 7 رقم الصفحة : 296
نحن قدَّرنا بينكم الموتَ} أي : قسمناه ووقّتنا موت كل أحد بوقت معين ، حسبما تقتضيه قسمتنا ، المبنية على الحِكَم البالغة. قال القشيري : فيكون في الوقت الذي نريده ، منكم مَنْ يموت طفلاً ، ومنكم مَن يموت شابّاً ، وكهلاً وشيخاً ، وبعللٍ مختلفة ، وبأسباب متفاوتة ، وأوقاتٍ مختلفة. هـ. {وما نحن بمسبوقين} بعاجزين {على أن نُبَدَّلَ أمثالَكم} بل نحن قادرون على ذلك ، لا تسبقونني ولا تغلبونني على أن نُذهبكم ، ونأتي مكانكم بأشباهكم من الخلق ، والتبديل يكون بالذات أو بالصفات ، {ونُنشِئَكم فيما لا تعلمون} ونخلقكم بعد التبديل في صورة لا تعهدونها. قال الحسن : نجعلكم قردةً وخنازير ، يعني : إنَّا نقدر على الأمرين جميعاً ، أي : خلق ما يماثلكم وما لا يماثلكم فكيف نعجز عن إعادتكم. و {أمثال} إمّا جمع " مِثْل " بالسكون - وهو التبديل بالذات ، أو : " مَثَل " بالفتح ، وهو التبديل في الصفات ، أي : على أن نُبدّل ونُغيّر صفاتكم التي أنتم عليها ، وننشِئَكم في صفات لا تعلمونها. {ولقد علمتم النشأةَ الأولى} أي : فطرة آدم عليه السلام : أو : خلقتهم من نطفة ، ثم من علقة ، ثم من مضغة... الخ ، {فلولا تَذَكَّرُون} فهلاَّ تذكرون أنْ مَن قدر عليها قدر على النشأة الأخرى.
ولمّا ذكّرهم بنعمة الإيجاد ، ذكّرهم بنعمة الإمداد ، فقال : {أفرأيتم ما تحرثون} أي : ما تبذرون حبه وتقلِبون الأرض عليه ، {أأنتم تزرعونه} أن : تُنبتونه وتُخرجونه من الأرض نباتاً {أم نحن الزارعون} المُنبِتون له ؟ وفي الحديث : " لا يقل أحدكم ، زرعت ، وليقل : حرثت " {لو نشاء لجعلناه حُطاماً} هشيماً منكسِراً قبل إدراكه ، {فَظَلْتم} بسبب ذلك {تَفَكَّهُون} تتعجَّبُون من سوء حاله إثر ما شهدتموه على أحسن ما يكون ، أو : تندمون على تعبكم فيه وإنفاقكم عليه ، أو : على ما اقترفتم من المعاصي التي أُصبتم لذلك من أجلها ، و " تفكه " من أفعال الإزالة ، كتخرّج ، وتأثّم ، أي : أزال الفُكَاهة ، وهي المسرة ، فتحصل الندامة ، {إِنَّا لمُغْرَمُونَ} أي : قائلين : إنّا لملزمون غرامةَ ما أنفقنا فيها ، أو : لمهلَكون لِهلاك قوتنا ، من : الغرام ، وهو الهلاك ، {بل نحن محرومون} حُرمنا ما رزقنا بشؤم تفريطنا ، فالمحروم هو الممنوع الرزق. قال ابن عباس : " هو المحارَف " الذي انحرف عنه رزقه.
297
{أفرأيتم الماءَ الذي تشربون} أي : الماء العذب الصالح للشرب ، {أأنتم أنزلتموه من المُزنِ} السحاب الأبيض ، وهو أعذب ماءٍ ، أو مطلق السحاب ، واحدها " مزنة " ، {أم نحن المنزلون} بقدرتنا ، فأسكناه في الأرض ، ثم أخرجناه عيوناً وأنهاراً ؟ {لو نشاء جعلناه أُجَاجاً} أي : ملحاً ، أو مُرّاً لا يُقْدَر على شربه ، {فلولا} فهلاَّ {تشكرون} تحضيض على شكر الكل ، وحذف اللام هنا مع إثباتها في الشرطية الأولى ؛ لأنّ هذه اللام تُفيد معنى التأكيد ، فأُدخلت في آية المطعوم دون المشروب ؛ للدلالة على أن أمر المطعوم متقدم على أمر المشروب ، وأنْ الوعيد بفقده أشد وأصعب ، مِن قِبَل أنّ المشروب إنما يُحتاج إليه تبعاً للمطعوم ، ولهذا قُدِّمت آية المطعوم على آية المشروب ، وقيل غير ذلك في حكمة إدخالها.
{(7/299)
جزء : 7 رقم الصفحة : 296
أفرأيتم النارَ التي تُورون} أي : تقدحونها وتستخرجونها من الزناد ، والعرب كانت تقدح بعودين ، تحك أحدهما على الآخر ، ويُسمون الأعلى : الزند ، والسفلى : الزندة ، شبّهوهما بالفحل والطروقة. {أأنتم أنشأتم شجرتَهَا} التي بها الزناد ، وهي المرْخ والعَفَار ، {أم نحن المنشئون} الخالقون لها ابتداءً بقدرتنا ؟ والتعبير عن خلقها بالنشأ ، المنبئ عن بديع الصنع ، المُعْرِب عن كمال القدرة والحكمة ؛ لِما فيه من الغرابة الفارقة بينهما وبين سائر الأشجار ، التي لا تخلو عن النار ، حتى قيل : في كل شجر نار واستمجد المرخ والعَفَار ، كما أنّ التعبير عن نفخ الروح بالإنشاء في قوله : {ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً ءَاخَرَ} [المؤمنون : 14] كذلك.
ثم بيَّن منافعها ، فقال : {نحن جعلناها تذكرةً} تذكيراً لنار جهنم ، لينظروا إليها ، ويذكروا ما وُعدوا به من نار جهنم ، أو : تذكرة وأنموذجاً ، لما رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " نارُكم هذه التي يُوقدها بنو آدم هي جزءٌ من سبعين جزءاً من حَرِّ جهنم " وقيل : تبصرة في أمر البعث ؛ فإنه ليس أبدع من إخراج النار من الشيء الرطب ، {ومتاعاً للمُقْوين} منفعة للمقوين المسافرين الذي ينزلون القِواء ، وهو القفر. وفي القاموس : القِيُّ : فقر الأرض ، كالِقواء - بالكسر والمد : القفر. هـ. وتخصيصهم بذلك ؛ لأنهم أحوج إليها ؛ فإنّ المقيمين والنازلين بقرب منازلهم ليسوا بمضطرين إلى الاقتداح بالزناد ، أو : للذين خلت بطونهم ومزاودهم من الطعام ، من قولهم : أَقْوت الدار : إذا خلت من ساكنها. والأول أحسن.
بدأ أولاً بنعمة الإيجاد ، ثم بإمداد الطعام ، ثم بالشراب ، وما يُعجن به من الطعام ، ثم بما يطبخ به ؛ فلا يؤكل الطعام إلاّ بعد هذه الثلاث ، ولا يستغني عنه الجسد ما دام حيّاً في حكم العادة.
298
ولمَّا ذكر دلائل توحيده وقدرته ، أمر بتنزيهه عمَّا لا يليق بحاله ؛ لأنّ العقل إذا أدرك الصانع سما إلى درك كنهه ، فربما يقع في التشبيه أو التجسيم أو التعطيل ، فقال : {فَسَبِّح باسم ربك} أي : فنزّه ربك عما لا يليق به أيها المستمع المستدل ، فأراد بالاسم المسمى ، والباء صلة ، أي : نزَّه ربك {العظيم} أو : نزّه ربك ملتبساً بذكر اسمه. والعظيم : صفة للرب ، أو للاسم ، لأن المراد به المسمى. والله تعالى أعلم.
الإشارة : أفرأيتم أيها المشايخ ما تُمْنون من نُطف الإرادة في قلوب المريدين ، أأنتم تخلقونه في قلوبهم حتى تنبت فيها بذرة الإرادة ، وتهيج شجرة المحبة ، فتُثمر بالمعرفة ، أم نحن الخالقون ؟ نحن قدّرنا بينكم الموت ، فمنكم مَن يموت الموت الحسي أو المعنوي قبل الوصول ، ومنكم مَن يموت بعد الوصول ، والموت المعنوي : هو الرجوع عن السير ، ولا يكون إلاَّ قبل الوصول ، وما نحن بمسبوقين على أن نُبدل أمثالكم ، ونُغيّر صفاتكم ، فإنّ القلوب بيد الله ، وننشئكم فيما لا تعلمون من الجهل والبُعد. ولقد علمتم النشأة الأولى ، التي كنتم عليها حال الغفلة والبطالة قبل ملاقاة الرجال ، أفلا تذكرون فتشكرون على نعمة اليقظة والمعرفة.(7/300)
جزء : 7 رقم الصفحة : 296
أفرأيتم ما تحرثون من الأعمال والأحوال والمجاهدات والرياضات ، أأنتم تزرعونه ، أي : تُنبتونه حتى يُقبل منكم ، وتجنون ثماره ، أم نحن الزارعون ؟ لو نشاء لأبطلناه ورددناه فنجعله هباءً منثوراً ، فظلتم تندمون على ما فات منكم من المشاق ، حيث لم تجنوا ثمرتها ، تقولون : إنّا لمغرمون ، حيث افتقرنا ودفعنا أموالنا في حال الجذبة الأولى ، بل نحن محرمون من ثمار مجاهدتنا وطاعتنا ، أفرأيتم الماء الذي تشربون ، وهو ماء الحياة الذي تحيا به القلوب ، تشربونه بوسائط المشايخ ، يزقّه الشيخُ لروح المريد ، كما يزق الطيرُ أفراخه ، وبذلك تحيا روحه ، فتغيب عن عوالم حسها ، أأنتم أنزلتموه من سحاب الهداية والعناية ، أم نحن المنزِلون ؟ لو نشاء جعلناه أُجاجاً فَتَمجه الروحُ بعد شربها ، أو تمتنع من شربه ، فالأول للداخلين إذا لم تسعفهم رياح المقادير ، فتنكسر سفينة سيرهم بعد الركوب ، والثاني للطالبين المحرومين من أرزاق المعرفة. فلولا تشكرون هذه النعم ، حيث وفقكم لشرب الخمر ، ودمتم حتى سكرتم وصحوتم ، وحييت بها أرواحكم وأشباحكم. أفرأيتم النار نار الشهوة التي تُورون ؛ تقدحونها في نفوسكم ، أأنتم أنشأتم شجرتها ، وهي النفس الطبيعية ، أم نحن المنشئون ؟ نحن جعلناها تذكرة ، أي : إيقاظاً توقظ صاحبها ليتلجئ إلى مولاه ، وفي الحِكَم : " وحرَّك عليك النفس ليُديم إقبالك عليه " : وجعلناها متاعاً للسائرين ؛ إذ بجهادها يتحقق سيرهم ، وبتصفيتها يتحقق كمالهم ، وبفنائها يتحقق وصولهم ، وكان شيخ شيخنا حين يشتكي له أحد له بنفسه ، يقول : أما أنا فجزاها علي خيراً ، ما ربحت إلاّ منها. وقال القشيري : {أفرأيتم النار...} الخ ، يشير إلى نار المحبة المشتعلة الموقدة ،
299
بمقدح الطلب في حراقة قلب المحب الصادق في سلوكه وشجرتها هي العناية الإلهية ، يدل على هذا قول العارف أبي الحسن المنصور - قدّس الله سره - حين سُئل عن حقيقة المحبة ، فقال : هي العناية الإلهية السرميدة ، لولاها ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ، فنحن جلعناها تذكرة لأرباب النفوس البشرية ، ليهدتوا بها إلى سلوك طريق الحق ، ومتاعاً للمُوقين ، أي غذاء أرواح المحبين ، الطاوين أياماً وليالي من الطعام والشراب ، كا رُوي عن سهل التستري : أنه كان يطوي ثلاثين يوماً ، وعن أبي عقيل المغربي : أنه ما أكل ستين سنة وهو مجاور بمكة ، وعن كثيرين من السالكين المرتاضين. هـ.
وقوله تعالى : {فسبِّح باسم ربك العظيم} قال الورتجبي : أَمَرَه أن ينزهه لا بنفسه بل بربه ، ثم قال : والاسم والمسمى واحد ، أي : قدسني بي فإني أعظم من أن تُقدسني بنفسك ، أو بشيء دوني ، ألا ترى إشارة قوله : {العظيم} أي : عظم جلاله أن يبلغ إلى أن تمدحه الخليقة ، وأن تصِفة البرية. هـ.(7/301)
جزء : 7 رقم الصفحة : 296
قلت : " فلا " : صلة ، كقوله : {فَلاَ وَرَبِّكَ...} [النساء : 65]. ومَن قرأ باللام فهي لام الابتداء ، دخلت على مبتدأ محذوف ، أي : فلأنا أُقسم ، ولا يصح أن تكون للقسم ؛ لأنها لا بد أن تقرن بنون التوكيد.
يقول الحق جلّ جلاله : {فلا أُقِسِمُ بمواقعِ النجومِ} بمساقطها ومغاربها. وقرأ الأخَوان " بموقع " على الإفراد ، وتخصيصها بالقَسَم لِمَا في غروبها من زوال أثرها ، والدلالة على وجود مؤثر دائم لا يتغير ، أو : لأنّ ذلك وقت قيام المجتهدين والمبتهلين إليه تعالى ، وأوان نزول الرحمة والرضوان عليها ، واستعظم ذلك بقوله : {وإنه لقَسَم لو تعلمون عظيمٌ} وهو اعتراض في اعتراض ، لأنه اعتراض بين القسم والمقسَم عليه بقوله : {إِنه لقرآن كريمٌ} أي : حسن مرضيّ ، أو نفّاع جمّ المنافع ؛ لاشتماله على أصول العلوم المهمة في صلاح المعاش والمعاد ، أو : كريم على الله تعالى ، واعترض بين الموصوف وصفته بـ {لو تعلمون} وجواب " لو " متروك ، أريد به نفي علمهم ، أو : محذوف ، ثقةً ، والتقدير : وإنه لقسم لو تعلمون ذلك ، لكن لا تعلمون كُنه ذلك ، أو : لو تعلمون ذلك لعظمتموه ، أو : لعملتم بموجبه ، {في كتابٍ مكنون} مَصون من غير المقربين من
300
الملائكة ، لا يطلع عليه مَن سواهم ، وهو اللوح المحفوظ.
{لا يَمسُّه إِلاَّ المُطَهَّرون} أي : الملائكة المنزّهون عن الكدرات الجسمانية ، وأوضار الذنوب. هذا إن جعلته صفة لكتاب مكنون ، وهو اللوح ، وإن جعلته صفة للقرآن ؛ فالمعنى : لا ينبغي أن يمسّه إلاَّ مَن هو على الطهارة مِن الناس ، والمراد : المكتوب منه. قال ابن جزي : فإن قلنا إنَّ الكتاب المكنون هو الصحف التي بأيدي الملائكة ، فالمطهَّرون يُراد به الملائكة ؛ لأنهم مُطهَّرون من الذنوب والعيوب ، وإن قلنا أنَّ الكتاب المكنون هو الصحف التي بأيدي الناس ؛ فيحتمل أن يريد بالمطهرين : المسلمين ؛ لأنهم مُطَهرون من الكفر ، أو يريد : المطهرين من الحدث الأكبر ، وهو الجنابة والحيض ، فالطهارة على هذا : الاغتسال. أو : المطهرين من الحدث الأصغر ، فالطهارة على هذا : الوضوء ، ويحتمل أن يكون قوله : {لا يمسُّه} خبراً أو نهياً ، على أنه قد أنكر بعضهم أن يكون نهياً ، وقال : لو كان نهياً لكان بفتح السين. والتحقيق : أن النهي يصح مع ضم السين ؛ لأن الفعل المضاعف إذا كان مجزوماً واتصل به ضمير المفرد المذكر ضُم عند التقاء الساكنين ، اتباعاً لحركة الضمير ، وإذا جعلته خبر ؛ فيحتمل أن يُراد به مجرد الإخبار ، أو : يكون خبراً بمعنى النهي ، وإذا كان لمجرد الإخبار ، فالمعنى : لا ينبغي أن يمسه إلاَّ المطهرون ، أي : هذا حقه ، وإن وقع خلاف ذلك.(7/302)
جزء : 7 رقم الصفحة : 300
واختلف الفقهاء فيمن يجوز له مَسّ المصحف على حسب الاحتمالات في الآية ، فأجمعوا على أنه لا يمسه كافر ، واختلفوا فيما سواه على أقوال ؛ فقال بعضهم : لا يجوز أن يمسه الجُنب ولا الحائض ولا المحدِث الحدثَ الأصغر ، وهذا قول مالك وأصحابه ، ومَنعوا أيضاً أن يحمله بعلاقة أو وسادة ، وحجتهم : الآية ، على أن يُراد بالمطهرين الطهارة من الحدث الأصغر والأكبر ، وقد احتج مالك في الموطأ بالآية ، ومن حجتهم أيضاً : كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عَمرو بن حزم ألاَّ يمسَّ القرآن إلا طاهرٌ. القول الثاني : أنه يجوز مسه للجنب والحائض والمحدِث حدثاً أصغر ، وهو مذهب أحمد بن حنبل والظاهرية ، وحملوا " المطهرين " على أنهم المسلمون أو الملائكة. والقول الثالث : أنه يجوز مسه بالحدث الأصغر دون الأكبر ، وحمل صاحب هذا القول " المطهرين " على أن يُراد من الحدث : الأكبر ، ورخَّص مالك في مسِّه على غير وضوء لمُعلِّم الصبيان ؛ لأجل المشقة.
واختلفوا في قراءة الجنب للقرآن ، فمنعه الشافعي وأبو حنيفة مطلقاً ، وأجازه الظاهرية مطلقاً ، وأجاز مالك قراءة الآيات اليسيرة ، أي : لتعوُّذ ونحوه. واختلفوا في قراءة الحائض والنفساء للقرآن عن ظاهر قلب ، فعن مالك روايتان ، وفرّق بعضهم بين الكثير
301
واليسير. هـ. قلت : المشهور في الحائض والنفساء جواز القراءة مطلقاً. وقال الكواشي عن ابن عطاء : لا يفهم إشارات القراءة إلاَّ مَن طَهَّر سره من الأكوان. هـ. وفي آخر البخاري ؛ " لا يمسه " : لا يجد طعمه ونَفْعَه إلاَّ مَن آمن بالقرآن ، ولا يحمله بحقه إلاَّ المؤمنُ لقوله : {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُواْ التَّوْرَاةَ} [الجمعة : 5]. هـ.
{تنزيلٌ من رب العالمين} : صفة رابعة للقرآن ، أي : نزل من رب العالمين ، وُصف بالمصدر ؛ لأنه نزل منجّماً من بين سائر الكتب ، فكأنه في نفسه تنزيل ، {أفبهذا الحديثِ} أي : القرآن {أنتم مُّدْهِنون} متهاونون به ، كمَن يُدهن في بعض الأمر ، أي : يلين جانبه ، فلا يتصلّب فيه تهاوناً به. قال ابن عطية : قال ابن عباس : المداهنة هي المهاودة فيما لا يحل ، والمداراة : المهادوة فيما يحل. هـ.
{وتجعلون رزقَكم أنكم تُكذِّبون} أي : وتجعلون شكر رزقكم التكذيب ، أي : وضعتم التكذيب موضع الشكر. وفي قراءة عليّ رضي الله عنه ، وهي مروية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : {وتجعلون شكركم أنكم تكذِّبون} أي : وتجعلون شكركم لنعمة القرآن التكذيب. وقيل : نزلت في الأنواء ونسبة الأمطار إليها ، أي : وتجعلون شكر ما رزقكم الله من الغيث أنكم تكذّبون كونَه من الله ، حيث تنسبونه إلى النجوم ، وتقولون : مُطرنا بنوء كذا ، والمنهي إنما هو اعتقاد التأثير للنجوم ، لا من بابا العلامة وقيل : مطلقاً ، سدّاً للذريعة ، وهو مقتضى كلام ابن رشد ، وعزاه لسحنون. والمسألة خلافية ، وقد قال صلى الله عليه وسلم : " إذا ذُكرت النجوم فأمْسِكوا " ، ومنهم مَن فصّل في المسألة ، فقال : يجوز إضافة الأفعال السيئة إليها لقوله صلى الله عليه وسلم : " تعوّذوا بالله من شر هذا ، فإنه الغاسق إذا وقب " وأشار إلى القمر. وأما الحسنة فالشكر يقتضي إضافتها إلى الله ، وكذا الأدب. والله تعالى أعلم.(7/303)
جزء : 7 رقم الصفحة : 300
الإشارة : مواقع النجوم هي أسرار العارفين ؛ لأنه يغرق في بحارها كل ما سوى الله ، وتغيب فيها نجوم العلم العقلي والنقلي ، وأقمار التوحيد البرهاني ؛ لأنه إذا أشرقت في قلوبهم شمس العرفان ، لم يبقَ لنور النجوم والقمر أثر ، وقد قلت في قصيدتي العينية :
تبدّت لنا شمسُ النهارِ وأشرقتْ
فلم يَبق ضوءُ النجمِ والشمسُ طالعُ
قال شيخ شيوخنا ، سيدي عبد الرحمن الفاسي : كنتُ أعرف أربعة عشر علماً ، فلما تعلمتُ علم الحقيقة شرطت ذلك كله. هـ. يعني : وقع الاستغناء عنها ، فالكنز الذي ظفر به من العلم بالله ، على نعت العيان ، فلم يبقَ للروح التفات إلى شيء قط. " ماذا فقد من وجدك " ؟ وليس المراد أنها ذهبت معرفتها عنه ، بل لو رجع إليها لوجدها تشحرت واتسعت أمدادها ، ولكن ظفر بعلم يُعد الاشتغال بغيره بطالة ، كما قال الغزالي لابن العربي
302
المعافري : كنتَ الصاحِبَ في زمن البطالة ، يعني : قبل ملاقاته بالشيخ. وإنما كان القسم به عظيماً ؛ لأنه ليس عند الله أعظم من قلوب الواصلين وأسرار العارفين ، لأنها وسعت الرب تعالى علماً وتجلياً ، " لم يسعني أرضي ولا سمائي ، ووسعني قلب عبدي المؤمن ". فالقَسم عظيم ، والمُقسَم به أعظم ، والمُقسَم عليه أعظم ، وهو القرآن الكريم ، {لا يسمّه إلاّ المطهرون} قال الجنيد : لا يمسّه إلاّ العارفون بالله ، المطهرون سرهم عما سوى الله. هـ. أي : لا يمس أبكار حقائقه ودقائق إشارته إلاّ القلوب المطهَرة من الأكدار والأغيار ، وهي قلوب العارفين : {تنزيل من رب العالمين} على سيد المرسلين ، ثم غرفت أسرارَه قلوبُ خلفائه العارفين. أفبهذا الحديث أنتم مدهنون. قال القشيري : أي : أنتم تتهاونون في قبول مثل هذا الكلام الحق ، وتعجبون من مثل هذه الحقيقيات والتدقيقات. هـ. والعتاب لمَن يتهاون بعلم الإشارة ويُنكرها. ويتنكّب مطالعتها. وتجعلون شكر رزقكم إياها - حيث استخرجها بواسطة قلوب العارفين - التكذيب بها والإنكار على أربابها.(7/304)
جزء : 7 رقم الصفحة : 300
يقول الحق جلّ جلاله لمَّا وبَّخهم على تكذيبهم بالقرآن الناطق بقوله : {نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ} [الواقعة : 75] ، ثم أوقفهم على أنهم تحت قهر ملكوته ، من حيث طعامهم وشرابهم وسائر أسباب معاشهم ، عجزهم بقهرية الموت ، فقال : {فلولا} أي : هلاَّ {إِذا بلغتْ} الروح عند الموت {الحلقومَ} وهو ممرّ الطعام والشراب ، وتداعت للخروج {وأنتم حينئذٍ} أيها الحاضرون حول صاحبها {تنظرون} إلى ما هو فيه من الغمرات ، {ونحن أقربُ إِليه} علماً وقدرة وإحاطة {منكم} حيث لا تعرفون من حاله إلاَّ ما تُشاهدون من أثر الشدة ، من غير أن تقفوا على كنهها وكيفيتها وأسبابها ، ولا أن تقدروا على دفع أدنى شيء منها ، ونحن المتولون لتفاصيل أحواله ، {ولكن لا تُبصرون} لا تدركون ذلك لجهلكم بشؤوننا ، {فلولا إِن كنتم غير مَدِينينَ} غير مربوبين مقهورين ، من : دان السطلان رعيته : إذا ساسهم واستعبدهم ، والمحضَض عليه قوله : {ترجعونها}
303
تردون الروح إلى الجسد بعد بلوغ الحلقوم {إِن كنتم صادقين} أنكم غير مربوبين مقهورين.
وترتيب الآية : فلولا إذا بلغت الروحُ الحلقومَ ، وأنتم تنظرون إليه ، يُعالج سكرات الموت ، ترجعونها إلى الجسد إن كنتم غير مربوبين ، فـ " لولا " الثانية مكررة للأولى ؛ للتأكيد ، والمعنى : إنكم في عموم جحودكم إن أنزلت عليكم كتاباً قلتم : سحرٌ وافتراءٌ ، وإن أرسلتُ إليكم رسولاً صادقاً قلتم : ساحرٌ كذابٌ ، وإن رزقتكم مطراً يُحييكم قلتم : صدق نوء كذا ، على مذهب التعطيل ، فما لكم لا ترجعون الروح إلى البدن إذا بلغ الحلقوم ، إن كنتم صادقين في تعطيلكم وكفركم بالمُحيي المييت ، المبدئ المعيد ، وأنكم غير مربوبين مقهورين ؟ !.(7/305)
جزء : 7 رقم الصفحة : 303
ثم ذكر أحوال الأرواح عبد الموت في البرزخ ، فقال : {فأمّا إِن كان} المتوفى {من المقرَّبين} من السابقين ، من الأزواج الثلاثة المذكورة أول السورة ، عبّر عنهم هنا بأجلّ أوصافهم ، وهو شدة القرب ، بعد أن عبّر عنهم أولاً بالسبق ، فالسابقون هم المقربون ، وهم العارفون بالله معرفة العيان ، أهل الفناء في الذات ، لقوله صلى الله عليه وسلم : " سبق المُفَرِّدون " ، قيل : ومَن المُفَرِّدون يا رسول الله ؟ قال : " المسْتَهترون بذكر الله " الحديث. فالسابقون هم المولعون بذكر الله ، حتى امتزج مع لحمهم ودمهم ، فحصل لهم القرب من الحق.
{فَرَوْحٌ} أي : فلهم روح ، أي : راحة للروح لأرواحهم من هموم الدنيا وغمومها ، ومن ضيق عالم الأشباح إلى خالص عالم الأرواح ، مع أن هذا حاصل لهم قبل الموت ، لكن يتسع ميدانه بعد الموت ، أو : رحمة تخصهم ، أو : نسيم يهب عليهم. وفي القاموس : الرَّوح - بالفتح : الراحة والرحمة ونعيم الريح. هـ. وقرئ بالضم ، وهي مروية عنه صلى الله عليه وسلم ، أي : الحياة والبقاء ، أو : فله حياة طيبة دائمة لا موت فيها {وريحانٌ} أي : رزق ، بلغة حِمْير ، والمراد : رزق أرواحهم من العلوم والأسرار ، أو : أشباحهم ، فإنّ أرواحهم تتطور على شكر صاحبها ، فتأكل من ثمار الجنة ، وتشرب من أنهارها. كما في حديث الشهداء ، والصديقون أعظم منهم ، أو : جنة ، أو : هو الريحان الذي يُشمّ. قال أبو العالية : " لا يُفارق أحدٌ من المقربين الدنيا حتى يؤتى ببعض من ريحان الجنة فيشمه ، فتفيض روحه " ، {وجنةُ نعيم} تتنعّم فيها روحه في عالم البرزخ ، ثم جسمه وروحه بعد البعث ، وهذا يقتضي أنّ الأرواح تدخل الجنة قبل البعث ، وهو خاص بالشهداء والصدِّيقين.
{وأمّا إِن كان مِن أصحاب اليمين فسلامٌ لك من أصحاب اليمين} أي : فسلام لك
304
يا صاحب اليمين من إخوانك أصحاب اليمين ، أي : يسلّمون عليك ؛ فإنّ الروح إذا سُئلت في القبر عُرج بها إلى أرواح أهلها ، فيتلقونه ويُسلّمون عليه ، ويهنُّونه بالخروج من سجن الدنيا ، أو : سلامة لك يا محمد من أصحاب اليمين ، فلا ترى فيهم إلاَّ السلامة.
{وأمّا إِن كان من المكذّبين الضالين} هم الصنف الثالث من الأزواج الثلالثة ، وهم الذين قبل لهم : {ثم إنكم إيها الضالون المكذِّبون}... الخ ، {فَنُزُلٌ من حَميم} أي : فله نُزل من حميم يشربه ، {وتَصْلِيهُ جحيمِ} إدخال في النار ، ومقاساة ألوانِ عذابها. وهذا يدل على أنّ الكافر بمجرد موته يدخل النار. وقيل : معنى ذلك : ما يجده في القبر من سموم النار ودخانها. ويحتمل : أن الآية لا تختص بعالم البرزخ ، بل تعم البرزخ وما بعده.(7/306)
جزء : 7 رقم الصفحة : 303
وقد تكلم الناسُ عن الأرواح في عالم البرزخ ، وحاصل ما ظهر لنا من الأحاديث والأخبار : أنّ أرواح الصدّيقين ، وهم المقربون ، تتشكل على صورة أجسامهم ، وتذهب حيث شاءت في الجنان وغيرها. وأرواح الشهداء تدخل في حواصل طيور خُضر ، تسرح في الجنة حيث شاءت ، لمّا كانت أرواحهم في الدنيا مسجونة في هيكل ذاتهم ، سُجنت في حواصل الطيور ، بخلاف العارفين لّمَا سرحت أفكارهم في الملكوت والجبروت ؛ أُطلقت أرواحهم بعد الموت ، وأرواح الصالحين الأبرار وعامة المؤمنين ، ممن لم ينفذ فيه الوعيد ؛ متفرقة في البرزخ ، فمنهم في ظل شجرة المنتهَى ، ومنهم في السموات ، على قدر سعيهم في الدنيا. وكل صنف يُجمع مع صنفه جماعةً ، فالعلماء مع صنفهم ، والقراء كذلك ، والصالحون كذلك ، والأولياء كذلك ، والمنهمكون في الدنيا إذا سلموا من العذاب تكون أرواحهم كالنائم المستغرق ، لا يشعر بمرور الأيام ، حتى يستيقظ بنفخة البعث ، وأما مَن نفذ فيهم الوعيد ، فهم يُعذبون بأنواع من العذاب ، وتذكَّر حديث البخاري في الرؤيا التي رآها صلى الله عليه وسلم في شأن الزناة وأكل الربا ، وغيرهم. وفي ابن حجر : أن أرواح المؤمنين في عليين ، وأرواح الكافر في سجين ، ولكل روح بجسدها اتصال معنوي ، لا يُشبه الاتصال في الحيلة الدنيا ، بل أشبه شيء به حال النائم ، وإن كان هو أشد من حال النائم اتصالاً قال : وبهذا يُجمع بين ما ورد أن مقرها في عليين أو سجين ، وبين ما نقل ابن عبد البر عن الجمهور : أنها عند أَفْنية قبورها. قال : ومع ذلك فهي مأذون لها في التصرُّف ، وتأوي إلى محلها من عليين أو سجين ، وإذا نقل الميت من قبر إلى قبر ، فالاتصال المذكور متصل ، وكذا إذا تفرقت الأجزاء. هـ.
وفي الأصل الرابع والخمسين من نوادر الأصول : إذا قَدِمَ المؤمنُ على ربه لقاه رَوحاً وريحاناً وبشرى على ألسنة الرسل ، وهو قوله : {إِنَّ الَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُواْ تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلاَئِكَةُ} [فصلت : 30] ، ثم يأمر له في قبره بكسوة من فِراش ودِثار ورياحين ، وهو قوله : {وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ} {الروم : 44] ، ويُنور له
305
في مضجعه ، ويُؤنسه بملائكته الكرام ، إلى أن يلقاه عرصة القيامة ، فيبعثه إلى الموطن الذي هيأ له نزلاً. هـ. وقال في الأصل السبعين : إنّ الشهداء يُعجّل لهم تعالى اللقاء ، ويحييهم قبل نفخة الصور ، ويكلمهم كِفاحاً ، كما لأهل الجنة ، وليس لمَن دونهم من الأموات هذه الدرجة إلاّ للصدّيقين ، فهم أجدر بذلك ؛ لبذلهم نفوسهم لله تعالى مدة أعمارهم ، والشهداء بذلوها في طاعة الله ساعة ، فظهر أن للشهيد حياة خاصة على مَن دونه ، وأحرى منه الصدّيق. هـ.(7/307)
جزء : 7 رقم الصفحة : 303
وبالجملة : فالأرواح منها في البرزخ تجول وتُبصر أحوال أهل الدنيا ، ومنها تحت العرش ، ومنها طيّارة في الجنان وإلى حيث شاءت ، على أقدارهم من السعي إلى الله أيام الحياة ، ومنها ما تسرح وتتردد إلى جثتها تزورها ، ومنها ما يلقى أرواح المقبوضين. وعن سَلمان : إنّ الأرواح المؤمنين - أي : الكُمل - تذهب في برازخ من الأرض حيث شاءت ، بين السماء والأرض ، حتى يردها الله إلى جسدها ، فإذا ترددت هذه الأرواح علمت بأحوال الأحياء ، وإذا ورد عليهم من الأحياء ميت ، التفُّوا وتساءلوا عن الأخبار. هـ. قلت : وهذه أرواح العارفين دون غيرهم. والله تعالى أعلم. وفي بعض الأثر : إذا مات العارف قبل لروحه : جُل حيث شئتِ.
{إِنَّ هذا} أي : الذي ذكر في السورة الكريمة {لهو حقُّ اليقين} أي : الحق الثابت من اليقين ، أو : حق الخبر اليقين ، {فسبِّح باسم ربك العظيم} الفاء لترتيب التسبيح ، أو الأمر به على ما قبلها ، فإنّ حقيّة ما فصل في تضاعيف السورة الكريمة مما يوجب تنزيهه تعالى عما لا يليق بشأنه الجليل ؛ من الأمور التي من جملتها الإشراك والتكذيب بآياته الناطقة بالحق.
الإشارة : فأمّا إن كان من المقربين ؛ فرَوْح الوصال ، وريحان الجمال ، ومِنّة الكمال ، أو : فرَوْح الفضاء ، وريحان العطاء ، وجنة البقاء ، أو : فروح الفناء ، وريحان البقاء ، وجنة الترقي أبداً سرمداً ، أو : فرَوْح الأنس لقلبه ، وريحان القدس لروحه ، وجنة الفردوس لنفسه ، {وأمّا إِن كان مِن أصحاب اليمين فسلامٌ لك} أي : فسلام عليك يا محمد {من أًصحاب اليمين} فهم يسلمون عليك ، ويشتاقون إلى لقائك ، ويرتاحون للقدوم عليك وصحبتك. والحاصل : أنَّ المقرَّب راحته ونعيمه في وصاله بربه ، وصاحب اليمين اشتياقه لرسوله ، وراحته ونعيمه في حصبته وجواره ، فالمُقرَّب فانٍ في ذات الحق ، وصاحب اليمين فانٍ في رسوله صلى الله عليه وسلم سيد الخلق ، فأهل الفناء في الذات هم المقربون ، وأهل الفناء في النبي صلى الله عليه وسلم هم أصحاب اليمين ، فحاصل الآية : {فأمّا إِن كان مِن المقربين} فهو لي ، وأُجازيه برَوْح وريحان وجنة نعيم ، وأما إن كان من أصحاب اليمين فمُسلم لك ، وهو من أصحاب اليمين ، هذا حاصل ما حرره شيخ شيوخنا الفاسي في حاشيته.
وفي الإحياء ما حاصله : أنَّ المقرَّب له الوصال إلى سعادة الملك ، وصاحب اليمين
306
له النجاة ، وهو سالك ، والمقرَّب واصل ، والمعرِض عن الله له الجحيم. والخبر عن ذلك كله حق يقين عند العارف بالله ؛ لأنه أدرك ذلك كله مشاهدةً. وفي القوت بعد كلام : وأيضاً للمقربين من كل هولٍ رَوح به لشهادتهم القريب ، وفي كل كربٍ ريحان لقرب الحبيب ، كما لأهل اليمين من كل ذلك سلامة. هـ.(7/308)
جزء : 7 رقم الصفحة : 303
قال النسفي : رُوي أنَّ عثمان بن عفان رضي الله عنه دخل على ابن مسعود رضي الله عنه في مرض موته ، فقال : ما تشتكي ؟ فقال : ذنوبي ، فقال : ما تشتهي ؟ فقال : رحمة ربي - وفي رواية : ما يقضي ربي - فقال : أفلا تدعوا الطبيب ؟ فقال : الطبيب أمرضني ، فقال : ألا نأمر لك بعطاء ؟ فقال : لا حاجة لي فيه ، قال : ندفعه إلى بناتك ، قال : لا حاجة لهن فيه ، قد أمرتهنّ بأن يقرأن سورة الواقعة ، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " مَن قرأ سورة الواقعة كل ليلة لم تُصبه فاقة أبداً " وليس في هذه السور الثلاث ذكر لفظ " الله " (اقتربت ، والرحمن ، والواقعة). هـ. وبالله التوفيق ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، وصلّى الله على سيدنا محمد وصحبه وسلّم.
307(7/309)
جزء : 7 رقم الصفحة : 303
سورة الحديد(7/310)
جزء : 7 رقم الصفحة : 307
قلت : وقعت مادة التسبيح في القرآن بلفظ الماضي والمضارع والأمر والمصدر ؛ استيفاء لهذه المادة ، فقال هنا : {سَبَّحَ} وفي الجمعة : {يُسَبِّحُ} [الجمعة : 1] و {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى : 1] و {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى} [الإسراء : 1]. وهذا الفعل قد عُدّي باللام تارة ، وبنفسه أخرى في قوله : {وَسَبِّحُوهُ} [الأحزاب : 42] ، وأصله : التعدي بنفسه ؛ لأنّ معنى سبَّحته : بعّدته من السوء ، من : سَبَح : إذا ذهب وبَعُد ، فاللام إما أن تكون مثل اللام في : نصحته ونصحت له ، وإما أن يراد بـ " سبَّح لله " : اكتسب التسبيح لأجل الله ولوجهه خالصاً. قاله النسفي.
يقول الحق جلّ جلاله : {سَبَّح لله} أي : نَزَّه اللّهَ عما لا يليق بجلاله ، اعتقاداً ، أو قولاً وعملاً ، مَن استقر {في السماوات والأرض} مِن الملائكة والجن والإنس
308
والجمادات ، بلسان الحال والمقال ، فإنَّ كل فرد من أفراد الموجودات يدلّ بإمكانه وحدوثه على الصانع القديم ، الواجب الوجود ، المتصف بالكمال ، المنزَّه عن النقائص ، وهو المراد بقوله تعالى : {وَإِن مِّن شَىْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء : 44] قيل : إنما استغنى عن إعادة الموصل في خصوص هذه السورة لتكرر ذكر الأرض هنا في أربعة مواضع. هـ. {وهو العزيزُ} المنتقِم ممن لم يُسبِّح له عناداً ، {الحكيمُ} في مجازاة مَن سبَّح له انقياداً.
{وله مُلك السماواتِ والأرض} أي : التصرُّف الكلي فيهما وفيما فيهما من الموجودات ، مِن نعت الإيجاد والإعدام وسائر التصرفات. قال الورتجبي : ذكر الله سبحانه ملكه على قدر أفهام الخليقة ، وإلاّ فأين السموات والأرض من ملكه ، والسموات والأرضون في ميادين مملكته أقل من خردلة! لمّا علم عجز خلقه عن إدراك ما فوق رؤيتهم ، ذكر أنَّ مُلك السموات والأرض مِلكُ قدرته الواسعة ، التي إذا أراد الله إيجاد شيء يقول كن فيكون بقدرته ، وليس لقدرته نهاية ، ولا لإرادته منتهى. هـ. {يُحيي ويميت} استئناف مُبيِّن لبعض أحكام المُلك ، أي : هو يُحيي الموتى ويُميت الأحياء ، {وهو على كل شيءٍ} من الأشياء ، التي من جملتها الإحياء والإماتة {قدير} لا يعجزه شيء.
{(7/311)
جزء : 7 رقم الصفحة : 308
وهو الأولُ} القديم قبل كل شيء ، {والآخرُ} الذي يَبقى بعد فناء كل شيء ، {والظاهرُ} الذي ظهر بكل شيء ، {والباطنُ} الذي اختفى بعد ظهوره في كل شيء ، وقد جاء في الحديث : " اللهم أنت الأول ، فليس قبلك شيء ، وأنت الآخر ، فليس بعدك شيء ، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء ، وأنت الباطن ، فليس دونك شيء " قال الطيبي : فالمعنيّ بالظاهر على التفسير النبوي : الغالب الذي يَغلب ولا يُغلب ، فيتصرف في المكونات على سبيل الغلبة والاستيلاء ؛ إذ ليس فوقه أحدٌ يمنعه ، وبالباطن ألاّ ملجأ ولا منجا دونه ، يُنجي ملتجئاً له. هـ. وسيأتي في الإشارة تحقيقه إن شاء الله. {وهو بكل شيءٍ عليم} لا يعزب عن علمه شيء من الظاهر والخفيِّ. {هو الذي خلق السماوات والأرضَ في ستة أيام} من أيام الدنيا ، ولو أراد أن يخلقها في طرفة عين لفعل ، ولكن جعل الست أصلاً ليكون عليها المدار ، وتعليماً للتأني ، {ثم استوى} أي : استولى {على العرش} حتى صار العرش وما احتوى عليه غيباً في عظمة أسرار ذاته ، {يعلم ما يَلِجُ في الأرض} ما يدخل فيها ، من البذر ، والقطر ، والكنوز ، والأمطار ، {وما يعرجُ فيها} من الملائكة والأموات والأعمال ، {وهو معكم أينما كنتم} بالعلم والقدرة والإحاطة الذاتية ، وما ادعاه ابنُ عطية من الإجماع أنه بالعلم ، فإن كان مراده من أهل الظاهر فمسلّم ، وأمّا أهل الباطن فمجمِعون على خلافه ، انظر الإشارة.
309
{والله بما تعملون بصير} فيُجازي كلاًّ بعمله.
{له مُلك السماوات والأرضِ} تكرير للتأكيد ، وتمهيد لقوله : {وإِلى الله تُرجع الأمورُ} أي : إليه وحده لا إلى غيره استقلالاً واشتراكاً ترجع جميع الأمور ، {يُولج الليلَ في النهار} يُدخل الليل في النهار ، بأن ينقص من الليل ويزيد في النهار ، {ويُولج النهارَ في الليل} بأن ينقص من النهار ويزيد الليل ، {وهو عليم بذات الصدور} أي : بمكنونها اللازمة لها من الهواجس والخواطر ، بيان لإحاطة علمه تعالى بما يضمرونه من نياتهم وخواطرهم ، بعد بيان إحاطته بأعمالهم التي يظهرونها على جوارحهم ، أو بحقائق الصدور من صلاحها وفسادها ، كَنّى بها عن القلوب. والله تعالى أعلم.
الإشارة : التسبيح مأخوذ من السبْح ، وهو العوم ، فأفكار العارفين تعوم في قلزوم بحر الذات وتيار الصفات ، وترجع إلى ساحل البر لتقوم بوظائف العبودية والعبادات ، وقد سبَح في بحر الذات وغرق فيه أهلُ السموات والأرض ، شعروا أم لم يشعروا ، بل كل الكائنات غريقة في بحر الذات ، ممحوة بأحديتها. قال القشيري : تنزيهاً لله تعالى من حيث الاسم الجامع لجميع الأسماء والصفات الجلالية والجمالية ما في السموات الذات من الأسماء الذاتية ، المتجلية في المظاهر الكلية ، وما في أرض الصفات من الأسماء الصفاتية ، المتجلية في المظاهر الجزئية. اعلم أن فَلَك الذات سماء الصفات ، وفلك الصفات أرض الذات ، وكذلك فلك الصفات سماء الأسماء ، وفلك الأسماء أرض الصفات ، وهذه السموات والأرضون كلها مظاهر اسم الله الأعظم ، وهو المسبَّح - بالفتح - في مقام التفصيل ، والمسبِّح - بالكسر - في مقام الجمع ، كما ذكرنا. هـ.(7/312)
جزء : 7 رقم الصفحة : 308
قلت : ومعنى قوله : " فلك الذات سماء الصفات "... الخ ، أنَّ أسرار الذات اللطيفة الأصلية سقف لأنوار الصفات ، المتجلّي بها ، وأنوار الصفات ، أرض لتلك الأسرار ، وكذلك أنوار الصفات سقف لأرض الأسماء ، والأسماء أرض لسماء الصفات ، وبقي عليه أن يقول : وفلك الأسماء سماء للأثر ، والأثر أرض لسماء الأسماء ، فكل مقام سماء لما تحته ، وأرض لما فوقه ، فالأثار أرض لسماء الأسماء ، والأسماء أرض للصفات ، والصفات أرض للذات ، دلّ بوجود آثاره على وجود أسمائه ، وبوجود أسمائه على وجود صفاته ، وبوجود صفاته على وجود ذاته ، وهذا مقام الترقي ، ومقام التدلي بالعكس ، انظر الحِكَم ، وهو العزيز أن يُدرك كنه ربوبيته ، الحكيم في اختفائه بعد ظهوره. له ملك سموات الأرواح وأرض الأشباح ، أو : ملك سموات أفلاك الذات والصفات والأسماء ، وفلك أرضها ، على ما تقدّم. يُحيي قلوب أوليائه بمعرفته ، ويُميت قلوب أعدائه بالجهل به ، أو يُحيي القلوب بالعلم به ، ويُميت النفوس بالفناء عنها ، وهو على كل شيء قدير من الأحياء والإماتة وغيرهما. هو الأول بلا بداية والآخر بل نهاية ، وهو الظاهر ، فلا ظاهر معه ، وهو الباطن في حال ظهوره. أو : هو الظاهر بتجلياته ، والباطن
310
بما نشر عليها من رداء كبريائه ، أو : الظاهر بقدرته ، والباطن بحكمته ، أو : الظاهر بالتعريف ، والباطن باعتبار التكييف. والحاصل : أنه ظاهر في بطونه ، باطن في ظهوره ، ما ظهر به هو الذي بطن فيه ، وما بطن فيه هو الذي ظهر به ، اسمه الظاهر يقتضي بطون الأشياء واستهلاكها وتلاشيها ؛ إذ لا ظاهر معه ، واسمه الباطن يقتضي ظهور حسها ، ليكون باطناً فيها. وفي الحِكَم قال : " أظهر كل شيء بأنه الباطن ، وطوى وجود كل شيء بأنه الظاهر ". ولا يفهم هذا إلاّ أهل الأذواق.
قال القشيري : هو الأول في عين آخريته ، والآخر في عين أوليته ، والظاهر في عين باطنيته ، والباطن في عين ظاهريته ، من حيثية واحدة ، واعتبار واحد ، في آنٍ واحد ؛ لأنها ذاته المطلقة عن هذه الاعتبارات المختلفة ، والحيثيات المتنافرة ؛ لإحاطته بالكل ، واستغنائه عن الكل. قيل لأبي سعيد الخراز : بِمَ عرفت الله ؟ قال : بجمعه بين الأضداد ، ثم تلا هذه الآية : {هو الأول والآخر...} الخ ، ولا يتصور الجمع بين الأضداد إلاَّ مِن حيثية واحدة ، واعتبار واحد ، في آنٍ واحد. هـ.
{هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام} قال القشيري : يُشير إلى مراتب الصفات الستة ، وهي : الحياة ، والعلم ، والقدرة ، والإرادة ، والسمع ، والبصر ، أي : هو الذي تجلّى للأشياء كلها بذاته الموصوفة بالصفاة بالصفات الستة. انظر بقيته فيه. وتقدم الكلام على الاستواء في سورة الأعراف والسجدة. يعلم ما يلج في أرض البشرية من المساوئ ، وما يخرج منها بالتخلية والمجاهدة ، وما ينزل من سماء الغيوب على القلوب المطهرة ، من العلوم والأسرار ، وما يعرج فيها من حلاوة الشهود ، وهو معكم أينما كنتم بذاته وصفاته ، على ما يليق بجلال قدسه وكمال كبريائه ؛ إذ الصفة لا تُفارق الموصوف فإذا كانت المعية بالعلم لَزِمَ أن تكون بالذات ، فافهم ، وسلِّم إن لم تذق.(7/313)
جزء : 7 رقم الصفحة : 308
حدثني شيخي ، الفقيه المحرر " الجنوي " : أنَّ علماء مصر اجتمعوا للمناظرة في صفة المعية ، فانفصل مجلسهم على أنها بالذات ، على ما يليق به. وسمعتُه أيضاً يقول : إنَّ الفقيه العلامة " سيدي أحمد بن مبارك " لقي الرجل الصالح سيدي " أحمد الصقلي " ، فقال له : كيف تعتقد : {وهو معكم أين ما كنتم} ؟ فقال : بالذات ، فقال له : أشهد أنك من العارفين. هـ. قلت : فبحر الذات متصل ، لا يتصور فيه انفصال ، ولا يخلو منه مكان ولا زمان ، كان ولا زمان ولا مكان ، وهو الآن على ما عليه كان.
وقال الورتجبي : للعارفين في هذا مقامان : مقام عين الجمع ، ومقام إفراد القديم من الحدوث. فمِن حيث الوحدة والقِدم تتصاغر الأكوان في عزة الرحمن ، وسطوات عظمته ،
311
حتى لا يبقى أثرها. ثم قال : ومِن حيث الجمع باشر نورُ الصفة نورَ العقل ، ونورُ الصفة قائم بالذات ، فيتجلّى بنوره لفعله من ذاته وصفاته ، ثم يتجلّى من الفعل ، فترى جميعَ الوجوه مرآةَ وجوده ، وهو ظاهر لكل شيء ، من كل شيء للعموم بالفعل ، وللخصوص بالاسم والنعت ، ولخصوص الخصوص بالصفة ، وللقائمين بمشاهدة ذاته بالذات ، فهو تعالى منزّه عن البينونة والحلول والافتراق والاجتماع ، وإنما هو ذوق العشق ، ولا يعلم تأويله إلاّ العاشقون. هـ. وحاصل كلامه : أنك إن نظرت للوحدة لم يبقَ مَن تحصل معه المعية ؛ إذ لا شيء معه ، وإن نظرت من حيث الجمع والفرق أثبتَ الفرق في عين الجمع فتحصل المعية منه له جمعاً ، ومنه لأثره فرقاً ، ولا فرق حقيقة ، فافهم ، ولا يفهم هذا إلاّ أهل العشق الكامل ، وهم أهل الفناء ، كما قال ابن الفارض :
فلم تَهْوَني ما لم تكن فيَّ فانياً
ولم تَفْنَ ما لم تجْتَل فيك صورتي(7/314)
جزء : 7 رقم الصفحة : 308
يقول الحق جلّ جلاله : {آمِنوا بالله ورسوله} أي : دُوموا على إيمانكم ، إن كان خطاباً للمؤمنين ، فيكون توطئة لدعائهم إلى ما بعده من الإنفاق وغيره ؛ لأنهم أهل لهذه الرُتب الرفيعة ، أو : أَحْدِثوا الإيمان ، إن كان خطاباً للكفار ، {وأَنفِقوا} أي : تصدّقوا ، فيشمل الزكاة وغيرها ، {مما جعلكم مستخلفين فيه} أي : جعلكم خلفاء في التصرُّف فيه من غير أن تملكوه حقيقةً ، وما أنتم فيه إلاّ بمنزلة الوكلاء والنُواب ، فأنفِقوا منها في حقوق الله تعالى ، وَلْيَهُنْ عليكم الإنفاق منها ، كما يهون على الرجل الإنفاق من مال غيره إذا أَذِنَ له ، أو : جعلكم مستخلفين ممن كان قبلكم فيما كان في أيديهم بتوريثكم إياه ، وسينقله منكم إلى غيركم ، فاعتبِروا بحالهم ولا تبخلوا به ، {فالذين آمنوا} بالله ورسوله {منكم وأنفَقوا لهم أجرٌ كبير} لا يُقادر قدره.
312
{وما لكم لا تؤمنون بالله} هو حال ، أي : أيّ شيء حصل لكم غير مؤمنين ، وهو توبيخ على ترك الإيمان حسبما أُمروا به ، بإنكار أن يكون لهم عذر مّا في الجملة ، {والرسولُ يدعوكم} ويُنبهكم عيله ، ويُقيم لكم الحجج على ذلك ، {لتؤمنوا بربكم وقد أخذ} قبل ذلك عليكم ميثاقه في عالم الذر ، على الإقرار بالربوبية ، والتصديق بالداعي ، بعد أن رَكّب فيكم العقول ، فلم يبق لكم عذر في ترك الإيمان ، أو : أخذ ميثاقه بنصب الأدلة والتمكين من النظر ، فانظروا واعتبروا وآمنوا ، {إِن كنتم مؤمنين} بأخذ هذا الميثاق ، أو : بموجبٍ ما ، فإنَّ هذا موجب لا موجب وراءه.
{(7/315)
جزء : 7 رقم الصفحة : 312
هو الذي يُنَزِّلُ على عبده} محمد صلى الله عليه وسلم {آيات بيناتٍ} واضحاتٍ ، يعني القرآن ، {ليُخرجَكم} أي : الله تعالى ، أو العبد {من الظلمات} أي : من ظلمات الكفر والمعاصي والغفلة ، إلى نور الإيمان والتوبة واليقظة ، {وإنَّ الله بكم لرؤوف رحيم} حيث يهديكم إلى سعادة الدارين ، بإرسال الرسول ، وتنزيل الآيات ، بعد نصب الحُجج العقلية.
ثم وبَّخهم على ترك الإنفاق ، بعد توبيخهم على ترك الإيمان ، على ترتيب قوله : {آمِنوا} و {إنفِقوا} فقال : {وما لكم ألاَّ تُنفقوا في سبيل الله} أي : أيّ شيء حصل لكم في ألاّ تنفقوا فيما هو قُربة إلى الله تعالى ، وهو له حقيقة ، وإنما أنتم خلفاؤه في صرفه إلى ما عيّنه من المصارف ؟ {ولله ميراثُ السماوات والأرض} يرث كل شيء فيهما ، لا يبقى لأحد شيء من ذلك ، وإذا كان كذلك فأيّ عذر لكم في ترك إنفاقه {في سبيل الله} والله مُهلككم ، فوارث أموالكم ؟ فتقديمها لله أولى ، وهي أبلغ آية في الحث على الصدقة. وإظهار اسم الجليل في موضع الإضمار في " لله " لزيادة التقرير ، وتربية المهابة.
ثم بيّن التفاوت بين المنفِقين منهم باعتبار الزمان ، فقال : {لا يستوي منكم مَن أنفق مِن قبل الفتح وقاتلَ} مع مَن أنفق بعد الفتح وقاتل ، حذفه لدلالة ما بعده عليه من قوله : {أولئك أعظم درجة... } الخ ، والمراد : فتح مكة ، أي : لا يستوي مَن أنفق قبل عز الإسلام وظهوره ، مع مَن أنفق بعد لك ، {أولئك} الذين أنفقوا قبل الفتح وقاتلوا ، وهم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار ، الذين قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم : " لو أنفق أحدكم مثل أُحُدٍ ذهباً ما بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ ، ولا نِصفه " ، فهم {أعظمُ درجةً من الذين أنفقوا من بعدُ وقاتلَوا} لأنّ مَن أنفق وقت الحاجة والاضطرار ، أعظم ممن أنفق في حال السعة والبسط ، {وكُلاًّ} أي : كل واحد من الفريقين {وَعَدَ اللّهُ الحسنى} وهي الجنة مع تفاوت الدرجات. وقرأ الشامي بالرفع ، مبتدأ ، أي : وعده الله الحسنى ، {والله بما تعملون خبير} فيُجازيكم على قدر أعمالكم.
{من ذا الذي يُقْرِضُ اللّهَ قرضاً حسناً} هو ندب بليغ من الله تعالى إلى الإنفاق في
313
سبيله ، بعد الأمر به ، والتوبيخ على تركه ، وبيان درجات المنفقين ، أي : مَن ذا الذي يُنفق ماله في سبيل الله رجاء أن يعوضه مثل ذلك وأكثر ، فإنه كمن يُقرضه. وحسن الإنفاق بالإخلاص فيه ، وتحري أكرم المال ، وأفضل الجهات ، {فيُضاعِفه له} أي : يعطيه أجره على إنفاقه مضاعفاً أضعافاً كثيرة من فضله ، {وله أجرٌ كريمٌ} وذلك الأجر المضموم إليه الأَضعاف كريمٌ في نفسه ، حقيقٌ بأن يُتنافس فيه وإن لم يُضاعف ، فكيف وقد ضُوعف أضعافاً كثيرة! ومن نصب فعلى جواب الاستفهام.(7/316)
جزء : 7 رقم الصفحة : 312
الإشارة : أَمَرَ الحقُّ تعالى مشايخَ التربية ، والعلماءَ الأتقيا ، أن يؤمنوا إيمان شهود وعيان ، أو إيمان تحقيق وبرهان ، فالأول للأولياء ، والثاني للعلماء ، ثم قال : {وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه} من العلوم الوهبية ، أو الرسمية ، فالذين آمنوا منكم كما تقدّم ، مما عندهم سعة العلوم الوهبية ، أو مِن ضيق العلوم الرسمية ، لهم أجر كبير : سكنى الحضرة ، في مقعد صدق ، أو بُحْبُوحة الجنة في نعيم الأشباح. وما لكم لا تؤمنون بالله ، أي : تُجددوا إيمانكم كل ساعة ، بفكرة الاستبصار والاعتبار ، والرسولُ يدعوكم لتُجددوا إيمانكم ، وقد أخذ ميثاقكم في عالم الذر ، ثم جدّده ببعث الرسل وخلفائهم من شيوخ التربية ، الداعين إلى الله ، إن كنتم مؤمنين بهذا الميثاق. هو الذي يُنزِّل على عبده آيات بينات ، وهو القرآن ، يَنزل على رسوله صلى الله عليه وسلم ليُخرجكم من الظلمات إلى النور ، من ظلمة المعاصي إلى نور التوبة والاستقامة ، ومن ظلمة الغفلة إلى نور اليقظة ، ومن ظلمة الهوى والحظوظ إلى نور الزهد والعِفة ، ومن ظلمة الحس إلى نور المعنى ، ومن ظلمة الجهل إلى نور العلم بالله.
وما لكم ألاَّ تنفقوا مُهجكم وأرواحكم في سبيل الله ، ببذلها في مرضاة الله ، ولله ميراث السموات والأرض ، فيرثكم بأشباحكم وأرواحكم ، فمَن بذلها عوّضه دوام الشهود ، ومَن بخل بها عقبه حسرة الحجاب ، لا يستوي منكم مَن أنفق نفسه وقاتلها قبل ظهور الطريق ، مع مَن أنفق وجاهد بعد ظهورها ، فالسابقون لم يجدوا أعواناً ، والمتأخرون وجدوا أعواناً ، وكُلاًّ وعد الله الحسنى الجنة الحسية ، وزاد السابقين الجنة المعنوية ، جنةَ المعارف. والله بما تعملون خبير ، لا يخفى عليه مَن تقدم ممن تأخر. {من ذا الذي يُقرض الله قرضاً حسناً} ، قال القشيري : هو أن يُقرض وينقطع عن قلبه حُبّ الدارين ، ففي الخبر : " خير الصدقة ما كان عن ظهر غنىً ". هـ. فيضاعفه له بالترفي إلى ما لا نهاية له ، وله أجر كريم ، وهو مقعد صدق عند مليك مقتدر.
314(7/317)
جزء : 7 رقم الصفحة : 312
يقول الحق جلّ جلاله : واذكر {يومَ ترى} أو : لهم أجر كبير {يومَ ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نُورُهم} وهو نور الإيمان في الدنيا ، يكون هناك حسيّاً يسعى {بين أيديهم وبأَيمانهم} وقيل : هو القرآن ، وعن ابن مسعود رضي الله عنه : يؤتون نورهم على قدر أعمالهم ، فمنهم مَن يؤتى نوره كالنخلة ، ومنهك كالرجل القائم ، وأدناهم نوراً مَنْ نوره على إبهام رجله ، يطفأ تارة ويلمع تارة.
قلت : ومنهم مَن نُوره كالقمر ليلة البدر ، ومنهم مَن نوره كالشمس الضاحية ، يُضيء خمسمائة عام ، كما في أحاديث أخرى ، وذلك على قدر إيمانهم وعرفانهم. قال الحسن : يستضيئون به على الصراط ، وهم متفاوتون في السرعة ، قال أبو نصر الهمداني : أمة محمد صلى الله عليه وسلم على سبعة أنواع : الصدِّيقون ، والعلماء ، والبُدلاء ، والشهداء ، والحُجاج ، والمطيعون ، والعاصون ، فالصدِّيقون يمرُّون كالبرق ، والعلماء ، أي : العاملون ، كالريح العاصف ، والبدلاء كالطير في ساعة ، والشهداء كالجواد المسرع ، يمرُّون في نصف يوم ، والحجاج يمرُّون يومٍ كامل ، والمطيعون في شهر ، والعاصون يضعون أقدامهم على الصراط ، وأوزارهم على ظهرهم ، فيعثرون ، فتقصد جهنم أن تحرقهم ، فترى نور الإيمان في قلوبهم ، فتقول : جز يا مؤمن ، فإنَّ نورك قد أطفا لهبي. هـ. قلت : الصدِّيقون على قسمين ، أما أهل الاقتداء ، الدالُّون على الله ، المسلِّكون ، فتقرب الغُرف لهم ، فيركبونها ، ويمرُّون ، وأما الأفراد فيطيرون كالبرق. والله تعالى أعلم.(7/318)
جزء : 7 رقم الصفحة : 315
وقال مقاتل : يكون هذا النور لهم دليلاً إلى الجنة ، وتخصيص الجهتين لأنّ السعداء يُؤتون صحائف أعمالهم من هاتين الجهتين {من بين أيديهم وعن إيمانهم} كما أنَّ الأشقياء يؤتون صحائفهم من شمائلهم ووراء ظهورهم ، فجَعَل النور في الجهتين إشعاراً لهم بأنهم بحسناتهم وبصحائفهم البيض أفلحوا.
وتقول لهم الملائكة : {بُشراكم اليومَ جناتٌ} أي : دخول جنات ؛ لأنّ البشارة تقع بالإجداث دون الجُثث ، {تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك هو الفوز العظيم}. {يومَ} بدل من " يوم ترى " {يقول المنافقون والمنافقاتُ للذين آمنوا انُظرونا} أي :
315
انتظرونا ؛ لأنه يُسرَع بهم إلى الجنة كالبرق الخاطف ، ويبقى المنافقون في ظلمة ، فيقولون للمؤمنين : قفوا في سيركم لنستضيء بنوركم. وقرأ حمزة : " أَنظِرونا " ، من الإنظار ، وهو التأخير ، أي : أَمهِلوا علينا. وقال الفراء : تقول العرب : أنظرني ، أي : انتظرني ، فتتفق القراءتان. وقيل : من النظر ، أي : التفتوا إلينا وأَبْصِرونا {نَقتبس مِن نوركم} لأنَّ نورهم بين أيديهم ، فيُقال طرداً لهم وتهكُّماً بهم من جهة المؤمنين أو الملائكة : {ارجعوا وراءكم} أي : إلى الموقف ، إلى حيث أُعطينا هذا النور {فالتمِسوا نوراً} فإنّا هناك اقتبسناه ، أو : التفتوا وراءكم ، فيلتفتون فيُحال بينهم ، {فضُرِبَ} حينئذ {بينهم} بين الفريقين {بسُورٍ} بحائطٍ حائل بين شق الجنة وشق النار ، {له باب} يلي المنافقين ، ليروا ما فيه من المؤمنون من الأنوار والرحمة ، فيزدادون حسرة ، {باطِنُه} أي : باطن ذلك السور ، وهو الجهة التي تلي المؤمنين {فيه الرحمةُ وظاهرهُ} الذي يلي المنافقين {مِن قِبَلِه العذابُ} أي : العذاب حاصل من قِبَلِه. فالعذاب : مبتدأ ، و {مِن قِبَلِه} : خبر ، أي : ظاهر السور تليه جهنم أو الظلمة ، فيقابله العذاب ، فهم بين النار والسور.
{يُنادونهم} أي : ينادي المنافقون المؤمنين : {ألم نكن معكم} في الدنيا ؟ يريدون موافقتهم لهم في الظاهر ، {قالوا} أي : المؤمنون : {بلى} كنتم معنا في الظاهر {ولكنكم فتنتم أنفسَكم} أي : محنتموها وأهلكتموها بالنفاق والكفر ، {وتربصتم} بالمؤمنين الدوائر ، {وارتبتم} في أمر الدين {وغرتكم الأمانيُّ} الفارغة ، التي من جملتها أطماعكم في انتكاس الإسلام ، أو : طول الأمل وامتداد الأعمار {حتى جاء أمرُ الله} ؛ الموت ، {وغرَّكم بالله} الكريم {الغَرُورُ} أي : الشيطان بأنَّ الله غفور كريم لا يعذبكم ، أو : بأنه لا بعث ولا حساب.
{(7/319)
جزء : 7 رقم الصفحة : 315
فاليومَ لا يُؤخذ منكم فديةٌ} فداء {ولا من الذين كفروا} جهراً ، {مأواكم النارُ} أي : مرجعكم ، لا تبرحون عنها أبداً {هي مولاكم} أي : المتصرفة فيكم تصرُّف المولى في ملكه ، أو : هي أولى بكم ، وحقيقة مكانكم الذي يقال فيه هو أولى بكم ، أو : ناصركم ، على طريق :
تحيةٌ بينهم ضَرْبٌ وجِيعُ
فيكون تهكُّماً بهم ، {وبئس المصيرُ} أي : النار.
الإشارة : يوم ترى المؤمنين والمؤمنات ، الكاملين في الإيمان ، الطالبين الوصول ،
316
يسعى نورُهم ، وهو نور التوجُّه بين أيديهم وبأيمانهم ، فيهتدون إلى أنوار المواجهة ، وهي المشاهدة ، فيقال لهم : بُشراكم اليوم جنات المعارف ، تجري من تحتها أنهار العلوم ، خالدين فيها ، ذلك هو الفوز العظيم. قال القشيري : قوله تعالى : {يسعى نورهم...} الخ ؛ كما أنَّ لهم في العرصة هذا النور ؛ فاليومَ لهم نورٌ في قلوبهم وبواطنهم ، يمشون في نورهم ، ويهتدون به في جميع أحوالهم ، قال صلى الله عليه وسلم : {المؤمن ينظر بنور الله} ، وقال تعالى : {فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ} [الزمر : 22]. وربما سقط ذلك النورُ على مَنْ يَقْربُ إليهم ، وربما يقع من ذلك على القلوب ، فلا محالة لأوليائه هذه الخصوصية. هـ. قال الورتجبي : ونورُ الحق الذي ألبس العارف تخضع له الأكوان ومَن فيها ، ومثله لسهل. فانظره مسْتوفٍ.
يوم يقول المنافقون والمنافقات ، وهم الذين اعتنوا بتزيين الظواهر ، وغفلوا عن البواطن ، فصارت خراباً من النور ، يقولون في الدنيا : انظُرونا والتفتوا إلينا ، نقتبس من نوركم ، قيل : ارجعوا وراءكم ، إلى دنياكم وحظوظكم ، فاتلمسوا نوراً ، تهكُّماً بهم ، فضُرب بينهم بسورٍ معنوي ، وهو خرق العوائد ، وتخريب الظواهر ؛ إذ لا يقدرون على ارتكابه ، له باب ليدخل معهم مَن أراد نورهم ، باطن ذلك السور فيه الرحمة ، وهي الراحة ، والطمأنينة ، والبسط ، وبهجة المعارف ، وظاهره الذي يلي العامة من قِبَلِه العذاب ، وهو ما هم فيه من الحرص ، والتعب ، والجزع ، والهلع ، والقبض. ينادونهم : ألم نكن معكم في عالم الحس ؟ وهو عالم الأشباح ، قالوا : بلى ، ولكنكم لم ترتقوا إلى عالم المعاني ، وهو عالم الأرواح ، الذي هو محل الراحة والهنا والسرور ، بل فَتنتم أنفسكم بأشغال الدنيا ، واشتغلتم بطلب حظوظها وجاهها ، ورئاستها وطيب مأكلها ، ومشربها وملبسها ، وتربصتم بأهل التوجه الدوائر ، أو الرجوع إلى ما أنتم فيه ، وارتبتم في وجود خصوصية التربية ، وغَرَّتكم الأماني : المطامع الكاذبة ، وأنكم تنالون الخصوصية بغير صحبة ولا مجاهدة ، وغرّكم طولُ الأمل والتسويف ، عن التوبة والتوجُّه ، وغرّك بحلمه الغرور ، فزيَّن لكم القعود والتخلُّف عن مقامات الرجال ، فاليوم ، أي : حين ظهرت مقامات الرجال في الدنيا والآخرة ، لا يؤخذ منكم فدية في التخلُّص من غم الحجاب ، ولا من الذين كفروا ، مأواكم نار القطيعة ، هي مولاكم ومنسحبة عليكم ، وبئس المصير.(7/320)
جزء : 7 رقم الصفحة : 315
317
قلت : {ألم يأن} : مجزوم بحذف الياء ، من : أَنَى يأنِي ، كمَضَى يمضي : إذا حان وقرب. و {أن تخشع} : فاعل. و {لا يكونوا} : عطف على " تخشع " ، وقرأ رويس عن يعقوب بالخطاب ، فيكون التفاتاً ؛ للاعتناء بالتحذير ، أو نهياً.
يقول الحق جلّ جلاله : {ألم يَأْنِ} ألم يحضر ، أو يقرب {للذين آمنوا أن تخشع قُلوبُهم لذكر الله} أو : ألم يجيء وقت خشوع قلوب المؤمنين لذكر الله تعالى ، وتطمئن به ، ويسارعون إلى طاعته ، بالامثال لأوامره والاجتناب لنواهيه. قيل : كانوا مجدبين بمكة ، فلما هاجروا وأصابوا الرزق والنعمة ، ففتروا عما كانوا عليه ، فنزلت. وبه تعلم أنَّ الشدة هي عين الرخاء ، وأنَّ الجلال هو الجمال ، وأين هو حبيبك ثَمَّ هو عدوك. وعن ابن مسعود رضي الله عنه : ما كان بين إسلامنا وبين أن عوتبنا بهذه الآية إلا أربعُ سنين. وعن ابن عباس رضي الله عنه : استبطأ قلوب المؤمنين فعاتبهم على رأس ثلاث عشرة سنة من نزول القرآن.
وعن أبي بكر رضي الله عنه : إنَّ هذه الآية قُرئت بين يديه ، وعنده قوم من أهل اليمامة ، فبكوا بكاءً شديداً ، فنظر إليهم فقال : " هكذا كنا حتى قست قلوبنا ". قلت : مراده بالقسوة : التصلُّب والتثبُّت للورادات ، وذلك أنَّ القلب في البدايات يكون رطباً مغلوباً للأحوال والواردات ، يتأثر بأدنى شيء ، فإذا استمر مع الأنوار والواردات ؛ استأنس بها وتصلّب واشتد ، فلا تؤثر فيه الواردات ، فيكون مالكاً للأحوال ، لا مملوكاً ، وهذا أمر ذَوقْي ، يرتفع البكاء عن العارفين ، ويظهر على الصالحين والطالبين. وهذه الآية أيضاً كانت سبب توبة الفُضيل ، كان صاعداً لجارية ، فسمع قارئاً يقرأها ، فقال : قد آن الخشوع والرجوع ، فتاب.
والمراد بذكر الله ذكر اسمه تعالى على أي لفظ كان ، كقوله : {إِنَّمَا الْمُؤمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ...} [الأنفال : 2] الآية ، أو : القرآن ، فيكون قوله : {وما نَزَلَ من الحق} عطف تفسير ، أو لتغاير العنوانين ، فإنه ذِكْرٌ وموعظة ، كما أنه حقٌّ نازل من السماء. والمراد بالخشوع : الإنابة والخضوع ، ومتابعة الأمر والنهي. {ولا يكونوا كالذين أُوتوا الكتاب من قبلُ} أي : اليهود والنصارى ، {فطال عليهم الأمدُ} الزمن بينهم وبين أنبيائهم ، {فقست قلوبُهم} باتباع الشهوات ، وذلك أنَّ بني إسرائيل كان الحقُّ يحول بينهم وبين شهواتهم ، وإذا سمِعوا التوراة خشعوا له ، ورقَّت قلوبهم ، فلما طال عليهم الزمان غلب عليهم الجفاء والقسوة ، واختلفوا.(7/321)
جزء : 7 رقم الصفحة : 317
قال ابن مسعود : إن بني إسرائيل لمّا طال عليهم الأمد قست قلوبُهم ، فاخترعوا كتاباً
318
من عند أنفسهم ، استحلته أنفُسِهم ، وكان الحق يحول بينهم وبين كثيرٍ من شهواتهم ، حتى نبذوا كتابَ الله وراء ظهورهم ، كأنهم لا يعلمون ، ثم قالوا : اعْرِضوا هذا الكتاب على بني إسرائيل ، فإن تابعوكم فاتركوهم ، وإلاَّ فاقتلوهم. ثم اتفقوا أن يرسلوه إلى عالمٍ من علمائهم ، [وقالوا] : إن هو تابعنا لم يخالفنا أحد ، وإلاَّ قتلتموه ، فلا يختلف علينا بعده أحد ، فأرسلوا إليه ، فكتب كتاب الله في ورقة ، وجعلها في قرن ، وعلقها في عنقه ، ثم لبس عليه ثيابه ، وأتاهم ، فعرضوا عليه كتابهم ، وقالوا : أتؤمن بهذا ؟ فأومئ إلى صدره ، وقال : آمنتُ بهذا - يعني المعلَّق على صدره - فافترقت بنو إسرائيل على بضع وسبعين ملة. هـ.
قال تعالى : {وكثيرُ منهم فاسقون} خارجون عن دينهم ، رافضون لما في الكتابين ، أي : وقليل منهم مؤمنون ، فنهى الله تعالى المؤمنين أن يكونوا مثلهم. وقال ابن عطية : الإشارة بقوله : {أوتوا الكتاب} إلى بني إسرائيل المعاصرين لموسى عليه السلام ، ولذلك قال : {من قبل} ، وإنما شبّه أهل عصر نبي بأهل عصر نبي ، وقوله : {فطال عليهم الأمدُ} قيل : أمد الحياة ، وقيل : أمد انتظار القيامة. هـ. وقال مقاتل : {الأمد} هنا : الأمل ، أي : لما طالت آمالهم لا جرم قست قلوبهم. هـ. قيل : إن الصحابة ملُّوا ملالة ، فقالوا : حدِّثنا ، فنزل : {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} [يوسف : 3] ، وبعد مدة قالوا : لو ذَكَّرتَنا ، فنزلت هذه السورة.
وهذه الآية {اعلموا أنَّ الله يُحيي الأرضَ بعد موتها} قيل : هذا تمثيل لأثر الذكر في القلوب ، وأنه يُحييها كما يُحيي الغيثُ الأرض ، وفيه إرشاد إلى أنَّ طريق زوال القسوة ليس إلاَّ الالتجاء إلى الله ، ونفى الحول والقوة ؛ لأنه تعالى القادر وحده على ذلك ، كما أنه وحده يُحيي الأرض ، {قد بيّنا لكم الآيات} التي من جملتها هذه الآية ، {لعلكم تعقلون} كي تعقلوا ما فيها ، وتعملوا بموجبها ، فتفوزوا بسعادة الدارين. والله تعالى أعلم.
الإشارة : خشوع القلب لذكر الله هو ذهوله وغيبته عند سطوع أنوار المذكور ، فيغيب الذاكر في المذكور ، وهو الفناء ، والخشوع لسماع ما نزل من الحق : أن يسمعه من الحق ، لا من الخلق ، وهو أقصى درجات المقربين. ثم نهى تعالى الخواص أن يتشبّهوا بأهل العلوم الرسمية اللسانية ؛ لأنه طال بهم الأمل ، وتنافسوا في الرئاسة ، وتهالكوا في الحظوظ العاجلة ، حتى قست قلوبهم ، وخرجوا عن الإرادة بالكلية ، قال القشيري : وقسوة القلب إنما تحصل من اتباع الشهوة ؛ فإن الشهوة والصفوة لا يجتمعان ، وموجِبُ القسوة : انحرافُ القلب عن مراقبة الربِّ ، ويقال : موجب القسوة أوله خطرة ، فإنْ لم تتدارَكْ صارت فكرة ، وإن لم تتدارَكْ صارت عزيمة ، فإن لم تتدارَكْ صارت مخالفة ، فإن لم تتلافَ صارت قسوةً ، وبعد ذلك طبع ودين. هـ. وحينئذ لا ينفع الوعظ والتذكير ، كما قال :
319
إذا قسا القلبُ لم تنفعه موعظةٌ
كالأرض إن سبختْ لم ينفع المطرُ(7/322)
جزء : 7 رقم الصفحة : 317
اعلموا أن الله يُحيي أرض القلوب بالعلم والمعرفة ، بعد موتها بالغفلة والجهل ، قد بيَّنَّا الآيات لمَن يتدبّر ويعقل.(7/323)
جزء : 7 رقم الصفحة : 317
قلت : {المصدقين} مَن قرأ بالتشديد فيهما فاسم فاعل ، من : تصدّق ، أدغمت التاء في الصاد ، ومَن قرأ بتخفيف الصاد فاسم فاعل صدّق. و {أقرضوا} : عطف على الصلة ، أي : إن الذين تصدّقوا وأقرضوا.
يقول الحق جلّ جلاله : {إِنَّ المصدِّقين والمصدِّقات} أي : المتصدقين بأموالهم والمتصدقات أو : المصدقين بالله ورسوله والمصدقات ، {وأقرضوا اللّهَ قرضاً حسناً} وهو أن تتصدّق من كسبٍ طيبٍ ، بقلب طيب ، {يُضاعف لهم} بأضعاف كثيرة إلى سبعمائة ، {ولهم أجرٌ كريمٌ} الجنة وما فيها.
وقد ورد في الصدقات أحاديث ، منها : أنها تدفع سبعين باباً من السوء ، وتزيد البركة في العمر. رُوي أن شابّاً وشابة دخلا على سليمان عليه السلام فعقد لهما النكاح ، وخرجا من عنده مسرورين ، وحضر ملك الموت ، فقال : لا تعجب من سرورهما ، فقد أُمرت أن أقبض روح هذا الشاب بعد خمسة أيام ، فجعل سليمانُ يراعي حالَ الشاب ، حتى ذهبت ستة أيام ، ثم خمسة أشهر ، فعجب من ذلك ، فدخل عليه ملك الموت ، فسأله عن ذلك ، فقال : إني أُمرت أن أقبض روحه كما ذكرتُ لك ، فلما خرج من عندك لقيه سائل ، فدفع له درهماً ، فدعا له بالبقاء ، فأُمرت بتأخير الأمر عنه ببركة صدقته. هـ. وانظر عند قوله : {يَمْحُواْ اللَّهُ مَا يَشَآءُ} [الرعد : 38] ، ومثله قضية الرجل الذي آذى جيرانَه ، فدعا موسى عليه السلام عليه ، ثم تصدَّق صبيحة اليوم برغيف ، فنزل الثعبان ، فلقيته الصدقة فسقط ميتاً على حزمة حطبه.
{والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصدّيقون} المبالغون في التصديق ، أو الصدق ، وهو أولى ؛ لأنّ وزن المبالغة لا يساغ من غير الثلاثي في الأكثر إلا نادراً ،
320
كمسّيك من أمسك. {و} هم أيضاً {الشهداءُ عند ربهم} وظاهره : أن كل مَن آمن بالله ورسله ينال درجة الصدّيقين ، الذين درجتهم دون درجة الأنبياء ، وفوق درجة الخواص ، وأنَّ كل مَن آمن ينال درجة الشهداء ، وليس كذلك ، فينبغي حمل قوله : {آمَنوا} على خصوص إيمان وكماله ، وهم الذين لم يشكّوا في الرسل حين أخبَروهم ، ولم يتوقفوا ساعة ، أي : سبقوا إلى الإيمان ، واستشهدوا في سبيل الله. وسيأتي في الإشارة حقيقة الصدّيق. وقيل : كل مَن آمن بالله ورسله مطلق الإيمان فهو صدّيق وشهيد ، أي : ملحق بهما ، وإن لم يتساووا في النعيم ، كقوله : {وَمَن يُطِع اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّيِنَ وَالصِّدِّيقِينَ...} [النساء : 69].(7/324)
جزء : 7 رقم الصفحة : 320
والحاصل على هذه العبارة : الترغيب في الإيمان والحث عليه ، وهو وارد في كلام العرب في مبالغة التشبيه ، تقول : فلان هو حاتم بعينه ، إذا شابهه في الجود ، ويؤيد هذا حديث البراء بن عازب : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " مؤمنو أمتي شهداء " قال مجاهد : (كل مؤمن صدّيق وشهيد) ، أي : على ما تقدّم ، وإنما خصّ النبي صلى الله عليه وسلم ذكرَ الشهداء السبعة تشريفاً على رتب الشهداء غيرهم ، ألا ترى أنَّ المقتول في سبيل الله مخصوص أيضاً بتشريف ينفرد به ، وقال بعضهم : معنى الشهداء هنا : أنهم يشهدون على الأمم. قال ابن عباس ومسروق والضحاك : الكلام تام في قوله : " الصدّيقون " ، وقوله : " الشهداء " استئناف كلام ، أي : والشهداء حاضرون عند ربهم ، أو : والشهداء {لهم أجرهم ونورهم} عند ربهم ، قال أبو حيان : والظاهر : أن " الشهداء " مبتدأ ، خبره ما بعده. هـ.
قلت : الظاهر : أنَّ الآية متصلة ، فكل مؤمن حقيقي صدّيق وشهيد ، أي : يلحق بهم ، وقوله : {لهم أجرهم ونورهم} أي : لهم أجر الصدّيقين ونورهم ، على التشبيه ، ولا يبلغ المشبَّه درجة المشبَّه به. وإذا قيّدنا الإيمان بالسبق ، فالمعنى لهم أجرهم كامل ونورهم تام ، ويؤيد عدم التقييد : ذكر ضده عقبه ، كما هو عادة التنزيل ، بقوله : {والذين كفروا وكذّبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم}.
الإشارة : إنَّ المصدّقين والمصدّقات ، وهم الذين بذلوا مهجهم وأرواحهم في مرضاة الله - ومَن كان في الله تلفه كان على الله خَلَفَه - وأقرضوا الله قرضاً حسناً ، أي : قطعوا قلوبهم عن محبة ما سواه ، وحصروه في حضرة الله ، يُضاعف لهم أنوارهم وأسرارهم ،
321
ولهم أجر كريم ، شهود الذات الأقدس ، وهؤلاء هم الصدِّيقون المشار إليهم بقوله : {والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصدّيقون} فهذا الإيمان عند الصوفية مقيد ، قال الورتجبي : هم الذين شاهدوا الله بالله بنعت المعرفة والمحبة ، وتبعوا رسولَه بنعت المحبة والمعرفة بشرفه وفضله ، والانقياد بين يدي أمره ونهيه ، فأولئك هم الصدّيقون ؛ لأنهم معادن الإخلاص واليقين ، وتصديق الله في قوله بعد أن شاهدوه مشاهدة الصديقية ، التي لا اضطراب فيها من جهة معارضة النفس والشيطان ، وهم شهداء الله المقتولون بسيوف محبته ، مطروحون في بحر وصلته ، يَحْيون بجماله ، يَشهدون على وجودهم بفنائه في الله ، وبفناء الكون في عظمة الله ، وهم قوم يستشرفون على هموم الخلائق بنور الله ، يشهدون لهم وعليهم ؛ لِصدق الفراسة ؛ لأنهم أمناء الله ، خصَّهم الله بالصديقية والسعادة والولاية والخلافة.هـ.(7/325)
جزء : 7 رقم الصفحة : 320
وقال القشيري : الصدّيق مَن استوى ظاهرُه وباطنُه ، ويقال : هو الذي يحمل الأمرَ على الأشَق ، لا يَنْزلُ إلى الرُّخَصِ ، ولا يجنح إلى التأويلات ، والشهداء : الذين يشهدون بقلوبهم مواطن الوصلة ، ويعتكفون بأسرارهم في أوطان القُربة ، ونُورهم : ما كحل الحق به بصائرهم من أنوار التوحيد. هـ.(7/326)
جزء : 7 رقم الصفحة : 320
يقول الحق جلّ جلاله : {اعْلَموا أنما الحياةُ الدنيا لَعِبٌ} كلعب الصبيان ، {وَلَهوٌ} كلهو الفتيان ، {وزِينَةٌ} كزينة النسوان ، {وتفاخر بينكم} كتفاخر الأقران ، {وتكاثرٌ} كتكاثر الدهقان - أي الفلاحين - {في الأموال والأولاد} أي : مباهاة بهما. والتكاثر : الاستكثار ، والحاصل : أنها من محقرات الأمور التي لا يركن إليها العقلاء ، فضلاً عن الاطمئنان بها ، وأنها مع ذلك سريعة الزوال ، وشيكة الاضمحلال ، ولذلك قال : {كَمَثَل غيثٍ أعجَبَ الكفَّارَ} أي : الحُرّاث ، من : كَفَرَ الحبَ : ستره ، ويقال : كفرت الغمامُ النجومَ : سترتها ، أي : أعجب الزراع {نباتُه} أي : النبات الحاصل منه ، {ثم يَهيجُ} أي : يجف بعد خضرته ونضارته ، {فتراه مُصْفراً} بعد ما رأيته ناضراً مونِعاً ، وإنما لم يقل : ثم تراه ؛ إيذاناً بأنّ اصفراره مقارن لجفافه. {ثم يكون حُطاماً} متفتتاً متكسراً ، شبَّه حالَ الدنيا وسرعة تقضّيها مع قلة جدواها بنباتٍ أنبته الغيث ، فاستوى وقوي ، وأعجب به حُرّاثه ، أو :
322
الكفار الجاحدون لنعمة الله تعالى فيما رزقهم من الغيث والنبات ، فبعث عليه العاهة ، فهاج ، واصفرّ وصار حطاماً.
وهذا المثل هو لمَن اشتغل بالدنيا ، والجري عليها ، وأمّا ما كان منها في طاعة الله ، أو في الضرورات التي تُقيم الأولاد ، وتُعين الطاعات ، فلا يدخل في هذا المثل ، وهذا مثال للإنسان ينشأ شابّاً قويّاً ، حَسن المنظر والهيئة ، ثم يأخذ في النقص والهرم ، ثم يموت ، ويضمحل أمره ، وتصير الأموال لغيره. قال القشيري : الدنيا حقيرة ، وأحقرُ منها قَدْراً : طالبُها ، وأقلُّ منها خَطَراً : المُزاحِم فيها ، فما هي إلاّ جيفة ، وطلاب الجيفةِ ليس لهم خطر ، وأخسُّهم مَن يبخل بها. وهذه الدنيا المذمومة هي ما شَغَل العبد عن الآخرة ، فكل ما شغله عن الآخرة فهي الدنيا. هـ.
{(7/327)
جزء : 7 رقم الصفحة : 322
وفي الآخرةِ عذابٌ شديدٌ} لمَن أعرض عن الله ، {ومغفرةٌ من الله ورضوانٌ} لمَن أقبل على الله ، وزهد فيما سواه. والحاصل : أنّ الدنيا ليست إلاَّ محقراتٍ من الأمور ، وهي اللعب ، واللهو ، والزينة ، والتفاخر ، والتكاثر ، وأمّا الآخرة ؛ فما هي إلا أمورٌ عِظام ، وهي العذاب الشديد ، والمغفرة ، والرضوان من الله الحميد. والكاف في " كَمَثَلِ " في محل رفع ، خبر بعد خبر ، {وما الحياةُ الدنيا إِلا متاعُ الغُرور} لمَن ركن إليها ، واعتمد عليها ، ومتاع الغرور : هو الذي يظهر ما حسن منه ، ويبطن ما قبح ، يفعله مَن يغر الناس ويغشهم ، وكذلك الدنيا تُظهر لطلابها حلاوةً ووَلُوعاً ، وتزداد عليهم شيئاً فشيئاً ، فينهمكون في حلاوة شهواتها وبهجتها ، ويغفلون عن الاستعداد ، والعمر يفنى من يدهم في البطالة ، فهي تغرهم وتخدعهم حتى تسوقهم إلى الموت مفلسين. قال ذو النون : يا معشر المريدين ؛ لا تطلبوا الدنيا ، وإن طلبتموها فلا تحبوها ، فإنّ الزاد منها ، والمَقيل في غيرها.
ولمَّا حقَّر الدنيا ، وصغّ أمرها ، وعظّم أمر الآخرة ، حَثَّ عبادَه على المسارعة إلى نيل ما وَعَد من ذلك ، وهي المغفرة والرضوان ، فقال : {سابِقوا} بالأعمال الصالحة {إِلى مغفرة من ربكم} أو : سارِعوا مسارعة السابقين لأقرانهم في المضمار ، {وجنةٍ عرضها كعرض السماء والأرض} أي : كعرض سبع سموات ، وسبع أرضين ، إذا مدت إحداها حَذْو الأخرى ، وذَكَر العرض دون الطول ؛ لأنّ كل ما له عرض وطول فعَرضه أقلّ من طوله ، فإذا وصف عَرضه بالبسط عُرف أن طوله أبسط ، وهذا تقريب لأفهام العرب ، وإلاَّ فالجنة أعظم من ذلك مراراً ، كيف لا والمؤمن الواحد يُعطي قدر الدنيا عشر مرات! {أُعِدَّتْ} تلك الجنة {للذين آمنوا بالله ورسله} وهو دليل أنها مخلوقة ، {ذلك فضلُ الله يؤتيه من يشاء} وهم المؤمنون ، وفيه دليل أنه " لا يدخل الجنة أحدٌ بعمله " كما في
323
الحديث : {والله ذو الفضل العظيم} وبذلك يؤتي من شاء ذلك الفضل ، الذي لا غاية وراءه.
الإشارة : قد شبّه بعضُ الحكماء الدنيا بسبعة أشياء ، شبّهها بالماء المالح ، يغرق ولا يروي ، ويضر ولا ينفع ، وشبهها بظل الغمام ، يغر ويخذل ، وشببها بالبرق الخاطف في سرعة الذهاب والإضرار ، وبسحاب الصيف ، يضر ولا ينفع ، وبزهر الربيع ، يغر بزهرته ، ثم يصفر فتراه هَشيماً ، بأحلام النائم ، يرى السرورَ في منامه ، فإذا استيقظ لم يجد في يديه شيئاً إلاّ الحسرة ، وبالعسل المشوب بالسم الرعاف ، يغر ويقتل. هـ. قال حفيده : فتأملت هذه الحروف سبعين سنة ، ثم زِدتُ فيها حرفاً واحداً فشبهتها بالغول التي تهلك مَن أجابها ، وتترك مَن أعرض عنها. هـ. وفي كتاب قطب العارفين ، لسيدي عبد الرحمن اللجائي ، قال : فأول درجة الذاهبين إلى الله تعالى : بغض الدنيا ، التي هي ظلمة القلوب ، وحجاب لوائح الغيوب ، والحاجزة بين المحب والمحبوب ، فبقدر رفضها يستعد للسفر ، ويصح للقلوب النظر ، فإن كانت الدنيا من قلب العبد مرفوضة ، حتى لا تعدل عنده جناح بعوضة ، فقد وضع قدمه في أول درجة من درجات المريدين ، فينظر العبد بعد ذلك ما قدّمت دنياه ، ويقبل على أخراه. هـ.(7/328)
جزء : 7 رقم الصفحة : 322
وذكر القشيري في إشارة الآية : أنها إشارة إلى أطوار النفس والقلب والروح والسر ، فقال بعد كلام : وأيضاً يُشير إلى تعب صِبا النفس الأمّارة بملاعب المخالفات الشرعية ، والموافقات الطبيعية ، وإلى لهو شاب القلب بالصفات القلبية ، مثل الزهد ، والورع ، والتوكُّل والتقيُّيد بها ، وإلى زينة كهل السر بالأحوال السرية ، والمنازلات الغيبية ، مثل الكشوفات والمشاهدات والمعاينات ، وإلى تفاخر شيخ الروح بإنبات التجليات والتنزلات ، وإلى تكاثر سر السر بالفناء عن ناسوتيته ، والبقاء بلاهوتيته الجامع. هـ. إلاّ أنه قدّم السر على الروح ، والمعهود العكس ، فانظره.
قوله : {سابِقوا...} الآية ، فيه إغراء على النهوض إلى الله ، وسرعة السير إلى الحق تعالى ، التنافس في السبق ، كما قال الشاعر :
السباقَ السباقَ قولاً وفعلاً
حَذَّر النفسَ حسرةَ المسبوق
حُكي عن أبي خالد القيرواني ، وكان من العُبّاد ، المجتهدين : أنه رأى خيلاً يسابقَ بها ، فتقدمها فَرَسان ، ثم تقدم أحدهما الآخر ، ثم جدّ الثاني حتى سبق الأول ، فتخلّل أبو خالد ، حتى وصلَ إلى الفرس السابق ، فجعل يُقبّله ، ويقول : بارك الله فيك ، صبرت فظفرت ، ثم سقط مغشيّاً. هـ. قال الورتجبي : دعا المريدين إلى مغفرته بنعت الإسراع ، يعني في قوله : {سارِعوا} ودعا المشتاقين إلى جماله بنعت الاشتياق ، وقد دخل الكل في مظنة الخطاب ؛ لأنّ الكل قد وقعوا في بحار الذنوب ، حين لم يعرفوه حقّ معرفته ، فدعاهم إلى التطهير برحمته من الغرور بأنهم عرفوه. هـ. أي : دعاهم إلى التطهير من
324
الاغترار بمعرفته ، وهي لم تحصل. والله تعالى أعلم.(7/329)
جزء : 7 رقم الصفحة : 322
قلت : {في الأرض} : نعت لمصيبة ، أي : كائنة في الأرض ، و(في كتاب) : حال.
يقول الحق جلّ جلاله : {ما أصاب من مصيبةٍ في الأرض} من الجدب وآفات الزروع والفواكه ، {ولا في أنفُسِكُم} من الأمراض والأوصاب وموت الأولاد {إِلاَّ} مكتوب {في كتابٍ} اللوح {من قبل أن نبرأها} أي : مِن قبل أن تخلق الأنفس أو المصائب ، {إِنّ ذلك على الله يسير} أي : إن إثباتها في اللوح سهل على قدرته كلحظة ، وكما كُتبت المصائب ، كُتبت المسرات والمواهب ، وقد يدلّ عليها قوله تعالى : {لِكَيْلا تأسَوا} أي : أخبرناكم بذلك لِكيلا تحزنوا {على ما فاتكم} من الدنيا حزناً يقنطكم ، {ولا تفرحوا} فرح المختال الفخور {بما آتاكم} من الدنيا وسعتها ، ومن العافية وصحتها ، فإنَّ مَنْ عَلِمَ أنَّ الكل مقدر ، يفوت ما قدر فواته ، ويأتي ما قدّر إتيانه ، لا محالة ، لا يعظم جزعه على ما فات ، ولا فرحه بما هو آت ، ومع هذا كل ما ينزل بالنفس من المصائب زيادة في درجاته ، وتطهير من سيئاته ، ففي صحيح مسلم : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ما يُصيب المسلم من وَصَبٍ ، ولا نَصَب ، ولا سقم ، ولا حَزَنٍ ، حتى الهمَ يَهُمُّه ، إلاَّ كفّر به من سيئاته " وقال أيضاً صلى الله عليه وسلم : " عجبت لقضاء الله تعالى للمؤمن : إن قضى له بالسراء رضي وكان خيراً ، وإن قضى له بالضراء ورضي كان خيراً له " ، وقال أيضاً : " ما من مسلم يُشاكُ بشوكةٍ فما فوقها ، إلاَّ كُتبتْ له درجةٌ ، ومُحيتْ عنه بها خَطيئةٌ ". وليس أحد إلاَّ وهو يفرح بمنفعةٍ تُصيبه ، ويحزن عند مضرةٍ تنزل به ، لأنه طبع بشري ، ولذلك كان عمر رضي الله عنه إذا أوتي بغنيمة أو خير يقول : (اللهم إنا لا نستيطع إلاَّ أن نفرح بما آتيتنا) ، ولكن ينبغي أن يكون الفرح شكراً ، والحزن صبراً ، وإنما يُذم مِن الحزن الجزع المنافي للصبر ، ومن الفرح الأشر المُطغي المُلهي عن الشكر ، والمؤدّي إلى الفخر ، {واللّهُ لا يُحب كلَّ مختال فخور} فإنَّ مَن فرح بحظوظ الدنيا ،
325
وعظمت في نفسه ، اختال وافتخر بها ، لا محالة. وفي تخصيص التنزيل الذم بالفرح المذكور إيذان بأنه أقبح من الأسى.(7/330)
جزء : 7 رقم الصفحة : 325
ثم أبدل من " كل مختال " تفسيراً له فقال : {الذين يبخلون ويأمرون الناسَ بالبخل} أي : لا يُحب الذين يفرحون الفرحَ المُطغي إذا رُزقوا مالاً أو حظّاً من الدنيا ، فلأجل فرحهم به عزّ في نفوسهم ، فبخلوا به ، وأَمروا غيرهم بإمساكه ، ويحضُّونهم على البخل والادخار ، {ومَن يتولَ} يُعرض عن الإنفاق ، أو عن أوامر الله تعالى ونواهيه ، ولم ينتهِ عما نهى عنه من الأسى على الفائت ، والفرح بالآتي ، {فإِنَّ الله هو الغنيُّ الحميدُ} أي : غني عنه وعن أنفاقه ، محمودٌ في ذاته ، لا يضره إعراضُ مَن أعرض عن شكره ، بالتقرُّب إليه بشيء من نعمه. وفيه تهديد وإشعار بأنَّ الأمر بالإنفاق إنما هلو لمصحلة المنفق فقط. وقرأ المدنيان وابن عامر بغير " هو " الذي يفيد الحصر ، اكتفاء عنها بتعريف الجُزأين ، مع تأكيد " إنّ " ، وقرأ الباقون بزيادتها ؛ للتنصيص على الحصر والتأكيد ، وهو ضمير فصل عن البصريين ، أي : الفرق ؛ لأنه يفرق بين الخبر والصفة ، وعماد عند الكوفيين ، ورابطة عند المنطقيين.
الإشارة : ما أصاب من مصيبة في أرض البشرية ، من غلبة الطبع ، والميل إلى الحظوظ النفسانية ، ولا في أنفسكم ؛ ولا في باطن أنفسكم ، مما يُصيب القلبَ من الأمراض ، كالعجب والرياء والكبر والحسد ، وغيرها ، وما يُصيب الروح من الوقوف مع المقامات ، أو الكرامات ، أو الكشوفات ، إلاَّ في كتاب سابق ، وهو العلم القديم ، والقضاء المحتوم ، فمَن وافقته رياح القضاء نهض رغماً عن أنفه ، ومَن انتكبته نكس على عقبيه ، أو وقف عن سيره ، فالرجوع إلى الله واجب في الحالتين ، عبودية وأدباً ، فعلنا ذلك لكيلا تأسَوا على ما فاتكم. فمَن تحقّق بالعبودية لا يفوته شيء ، ولا تفرحوا بما آتاكم مما شأنه يزول. قال القشيري : هذه صفة المتحررين من رِقِّ النفس ، وقيمة الرجال إنما تتبين بتغيُّرهم ، فمَن لم يتغير بما يَرِدُ عليه مما لا يريده من جفاءٍ أو مكروهٍ أو محبةٍ فهو كامل ، ومَن لم يتغير بالمضار ، ولا يَسُرُّه الوجد ، كما لا يُحْزِنْه العَدَم ، فهو سَيِّد وقته. هـ. قلت : وهذه كانت سيرة الصحابة رضي الله عنهم كما قال كعب بن زهير في وصفهم :
لا يَفرحونَ إذا نالت رِماحُهُمُ
قَوْماً وليسوا مجازيعاً إذا نِيلوا
ثم قال : ويُقال : إذا أردْتَ أن تعرفَ الرجلَ فاطلبْه عند الموارد ، والتغيراتُ من علامات بقاء النفْس بأيّ وجهٍ كان. هـ. وقال الورتجبي عن الواسطي : العارف مستهلك في كُنه المعروف ، فإذا حصل بمقام المعرفة لا يبقى عليه قصد فرح ولا أسى ، قال الله تعالى : {لِكَيلا تأسوا...} الآية. هـ. قلت : وإليه أشار في الحِكَم بقوله : " ما تجده
326
القلوب من الأحزان فلِما منعت من الشهود والعيان " ، وقال ابن الفارض ، في شان الخمرة إذا دخلت القلب :(7/331)
جزء : 7 رقم الصفحة : 325
وإن خطرتْ يوماً على خاطر امرىءٍ
أقامتْ به الأفراحُ وارتحلَ الهمّ
أوحى الله تعالى إلى داود عليه السلام : " يا داود ، قُل للصدِّيقين : بي فليفرحوا ، وبذكري فليتنعموا " واحتجّ الغزالي بهذه الآية على أن الرزق لا يزيد بالطلب ، ولا ينقص بتركه ، ولو كان يزيد بالطلب وينقص بالترك لكان للأسى والفرح موضع ، إذ هو قصَّر وتوانى حتى فاته ، وشمَّر وجدّ حتى حصَّله ، وقد قال صلى الله عليه وسلم للسائل : " ما لك ، لو لم تأتها لأتتك " ، ثم أورد كون الثواب والعقاب مكتوبيْن ، ويزيد بالطلب وينقص بتركه ، ثم فرّق بأنّ المكتوب قسمان : قسم مكتوب مطلقاً ، من غير شرط وتعليقٍ بفعل العبد ، وهو الأرزاق والآجال ، وقسم معلّق بفعل العبد ، وهو الثواب والعقاب. هـ.
قلت : في تفريقه نظر ، والحق : التفصيل في النظر ، فمَن نظر لعالم الحكمة ، وهو عالم التشريع ، وجدهما معاً مقيدين بفعل العبد ، أمّا الرزق الحسي فيأتي بسبب الفعل ، إن توجه للأسباب ونقص من التقوى ، وبغير سبب إن تجرّد من الأسباب ، وحصل مقام التقوى ؛ لقوله تعالى : {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً...} [الطلاق : 2] الآية ، فالمُتَّقِي المنقطع إلى الله ناب اللّهُ عنه في الفعل ، ومَن نظر لعالم القدرة ، وهو عالم الحقيقة ، وجد الفعل كله من الله بلا واسطة {لا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون} وكذلك أمر الرزق المعنوي ، وهو الطاعة واليقين ، التي يتربت عليهما الثواب والعقاب ، فمَن نظر لعالَم الحكمة وجده مقيداً بسبب العبد واجتهاده ، وبها جاءت الشريعة ، ومَن نظر لعالَم القدرة امتحى العبد ووجوده ، فضلاً عن فعله وتسبُّبه ، فتأمّله.
قوله تعالى : {والله لا يُحب كل مختال فخور} قال القشيري : لأنّ الاختيال من بقاء النفس ، والفخر رؤية خطر ما به يفتخر. هـ. {الذين يبخلون} بما عندهم من الأرزاق الحسية والمعنوية ، والبخل بها علامة الفرح بها ، والوقوف معها ، وأمّا مَن وصل إلى شهود مُعطيهما ومُجريها فلا يبخل بشيء ؛ لغناه بالله عن كل شيء ، ومَن يتولّ عن هذا كله ، فإِنَّ الله الغني عنه وعن جميع الخلق ، المحمود قبل وجود الخلق. والله تعالى أعلم.(7/332)
جزء : 7 رقم الصفحة : 325
يقول الحق جلّ جلاله : {لقد أرسلنا رسلنا} من البشر {بالبينات} الحُجج والمعجزات ، أو : لقد أرسلنا الملائكة إلى الإنبياء ، والأنبياء إلى الأمم ، ويؤيده قوله تعالى : {وأنزلنا معهم الكتابَ} أي : جنس الكتاب الشامل للكل ؛ لأنّ الكتاب من شأنه أن ينزل مع الملائكة ، ويُجاب : بأن التقدير : وأنزلنا عليه الكتاب مصحوباً معهم لا تُفارقهم أحكامه ، {و} أنزلنا {الميزانَ} أي : الشرع ؛ لأنه عِيار الأحكام الصحيحة والفاسدة ، {ليقوم الناسُ بالقسط} أي : العدل ، وقيل المراد : الميزان الحسي. رُوي أن جبريل عليه السلام نزل بالميزان ، فدفعه إلى نوح عليه السلام ، وقال : " مُرْ قومَك يَزِنوا به ". {وأنزلنا الحديدَ} قال ابن عباس : " نزل آدم من الجنة ومعه آلة الحدادين ، خمسة أشياء : السندان ، والكَلْبتانِ ، والمِيقَعَةُ ، والمِطرقة ، والإبرة ". أو : {أنزلنا الحديد} أخرجناه من المعادن ، والمعادن تتكون من الماء النازل في الأرض ، فينعقد في عروق المعادن ، وقيل : المراد به السلاح.
وحاصل مضمن الآية : أرسلنا الرسلَ وأنزلنا الكتابَ ، فمَن تبع طوعاً نجا ، ومَن أعرض فقد أنزلنا الحديد يُحارب به حتى يستقيم كرهاً. {فيه بأس شديد} أي : قوة وشدة يتمنّع بها ويحارب ، {ومنافعُ للناس} يستعملونه في أدواتهم ، فلا تجد صنعة تستغني عن الحديد ، {وليعلم اللّهُ} علم ظهور {مَن ينصُرُه ورسُلَه} باستعمال السيوف والرماح وسائر السلاح في مجاهدة أعداء الدين ، {بالغيبِ} غائباً عنهم في مقام الإيمان بالغيب ، {إِنَّ الله قويٌّ عزيزٌ} فيدفع بقوته مَن يُعرض عن ملته ، وينصر بعزته مَن ينصر دينه ، فيقوى جأشه على الثبوت في مداحض الحرب.(7/333)
جزء : 7 رقم الصفحة : 327
قال النسفي : والمناسبة بين هذه الأشياء الثلاثة : أنّ الكتاب قانون الشريعة ، ودستور الأحكام الدينية ، يُبين سبيل المراشد والعهود ، ويتضمن جوامع الأحكام والحدود ، ويأمر بالعدل والإحسان ، وينهى عن البغي والطغيان ، والاجتناب عن الظلم إنما يقع بآلة بها يقع التعامل ، ويحصل بها التساوي والتعادل ، وهي الميزان. ومن المعلوم : أنَّ الكتاب الجامع للأوامر الإلهية ، والآلة الموضوعة للتعامل بالتسوية ، إنما يُحافظ العوامّ على اتباعها
328
بالسيف ، الذي هو حجة الله على مَن جحد وعَنَد ، ونزع من صفقة الجماعة اليد ، وهو الحديد ، الذي وصف بالبأس الشديد. هـ.
{ولقد أرسلنا نوحاً وإِبراهيم} خُصّا بالذكر لأنهما أبوان للأنبياء عليهم السلام {وجعلنا في ذريتهما} أولادهما {النبوةَ} الوحي {والكتابَ} جنس الكتاب. وعن ابن عباس : " الخطّ بالقلم ". يقال : كتب كتاباً وكتابة. {فمنهم} من الذرية ، أو : مِن المرسَل إليهم ، المدلول عليه من الإرسال ، {مُهتدٍ} إلى الحق ، {وكثيرٌ منهم فاسقون} خارجون عن الطريق المستقيم ، والعدول عن سبيل المقابلة للمبالغة في الذم ، والإيذان بكثرة الضلاّل والفسّاق.
{ثم قَفِّينا على آثارهم} أي : نوح وإبراهيم ، ومَن مضى من الأنبياء ، أو : مَن عاصروهم من الرسل ، {برسلنا وقَفِّينا بعيسى ابن مريم} أي : أرسلنا رسولاً بعد رسول حتى انتهى إلى عيسى ابن مريم. والتقفية : من القفا ، كأنّ كل واحد جاء في قفا صاحبه من ورائه ، {وآتيناه} أي : عيسى {الإِنجيلَ} وفيه لغتان كسر الهمزة وفتحه ، وهو عجمي لا يلزم فيه أبنية العرب ، {وجعلنا في قلوب الذين ابتَعوه} وهم النصارى {رأفةً} مودةً وليناً ، {ورحمةً} تعطُّفاً على إخوانهم ، وهذا ظاهر في النصارى دون اليهود ، فأتباع عيسى أولاً كانوا الحواريين ، وطائفة من اليهود ، وكفرت به الطائفة الباقية ، فالنصارى أشياع الحواريين ، فما زالت الرحمة فيهم ، وأما اليهود فقلوبهم أقسى من الحجر. {ورهبانيةً ابتدعوها} من باب الاشتغال ، أي : وابتدعوا رهبانية ابتدعوها من عند أنفسهم. أو : معطوفة على ما قبلها ، أي : وجعلنا في قلوبهم رهبانيةً مبتدَعةً مِن عندهم ، أي : وقفيناهم للتراحم بينهم ولابتداع الرهابنية واستحداثها ، وهي : المبالغة في الرهبة بالعبادة ، والانقطاع عن الناس ، وهي منسوبة إلى الرَهْبان ، وهو الخائف ، فعلان من : رَهَبَ ، كخشيان ، من خشي. وقرئ بضم الراء ، نسبة إلى الرُّهْبان جمع راهب ، كراكب وركبان. وسبب ابتداعهم إياها : أنَّ الجبابرة ظهروا على المؤمنين بعد رفع عيسى عليه السلام ، فقاتلوهم ثلاث مرات ، فقُتل المؤمنون حتى لم يبقَ منهم إلاَّ القليل ، فخافوا أن يفتونهم في دينهم ، فاختاروا الرهبانية في قُلَل الجبال ، فارين بدينهم ، مختلِّصين أنفسهم. انظر الثعلبي فقد نقله حديثاً.
{(7/334)
جزء : 7 رقم الصفحة : 327
ما كتبناها عليهم} أي : لم نفرضها عليهم ، ولكن نذروها على أنفسهم. ما فعلوا ذلك {إِلاَّ ابتغاءَ رِضْوانِ الله} عليهم ، قيل : الاستثناء منقطع ، أي : ما كتبناها عليهم لكن فعلوها ابتغاء رضوان الله ، وقيل : متصل من أعم الأحوال ، أي : ما كتبناها عليهم في حال من الأحوال إلاّ ابتغاء الرضوان ، {فما رَعَوْها حقَّ رعايتها} كما يجب على الناذر رعاية نذره ؛ لأنه عهد مع الله ، لا يحلّ نكثه ، وقيل : في حق مَن أدرك البعثة فلم يؤمن بالنبي صلى الله عليه وسلم أي : فما رَعَوا تلك الرهبانية حقها ، حيث لم يؤمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم ، ويؤيده قوله تعالى : {فآتينا الذين آمنوا منهم} إيماناً صحيحاً ، وهو الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم {أجرَهم} ما
329
يخصهم من الأجر ، {وكثيرٌ منهم فاسقون} خارجون عن حد الاتباع ، كافرون بالله ورسوله.
الإشارة : كل زمان يبعث اللّهُ رُسلاً يدعون إلى الله ، وهم الأولياء العارفون ، خلفاء الرسل ، بالبينات الواضحة على ولايتهم ، لمَن سبقت له العناية ، وأنزلنا معهم الكتاب ، أي : الواردات الإلهية ، والميزان ، وهو إلهام اصطلاح التربية المناسبة لذلك الزمان ، فيزن بها أحوالَ المريدين ، ويعطي كل واحد ما يناسبه من الأوراد ، والأعمال ، والأحوال ، ليقوم الناس في أنفسهم بالقسط ، من غير إفراط ولا تفريط ، وأنزلنا الحديد ، إشارة إلى الجذب ، الذي في قلوب العارفين ، فيه بأس شديد ، يذهب العقول ، ومنافع للناس ، لأنه هو النور الذي يمشي به الوليّ في الناس ، إذ بذلك الجذب يجذب قلوبَ المريدين ، ومَن لم يكن له ذلك الجذب ، فلا يصلح للتربية ؛ لأنه ظاهري محض ، ولا بُد لهذا الجذب أن يصحبه سلوك في الظاهر ، وإلاَّ فلا يصلح أيضاً للتربية كالمصطلمين. خصّ هذا النور بأوليائه لِيعلم مَن ينصُر دينَه وسنةَ رسوله منهم ، بالغيب ، أي : مع غيب المشيئة عنهم ، فهم يجتهدون في نصر الدين ، وينظرون ما يفعل الله ، وما سبق به القدر ، وأمّا أمر الربوبية فهم في مقام العيان منها ، إنَّ الله قوي ، يُقوي قلوب المتوجهين ، عزيز يُعز من يجتهد في نصر الدين.
ولقد أرسلنا نوحاً وإبراهيم ، خصّ هذين الرسولين ؛ لأنّ نوحاً عليه السلام كان في غاية القوة والشدة ، وإبراهيم كان في غاية الليونة ، وهكذا أولياء كل زمان ، بعضهم يميل للقوة جدّاً ، وبعضهم يميل للرطوبة ، فإذا أراد الله أن يُظهر طريقةً أ مِلةً جعل فيها هذين الضدين ، من الأولياء مَنْ يميل لليونة ومَنْ يميل للقوة ، ليعتدل الأمر في الوجود ، فإن انفرد صاحبُ القوة احترق الوجود ، أو غرق ، كما جرى في زمان نوح عليه السلام ، حين انفرد بالقوة ، وإن انفرد صاحب الليونة وقعت برودة في الدين ، كما وقع في زمن إبراهيم عليه السلام إذ لم تكن أمته كثيرة ، ولمّا اجتمعا في زمان موسى كثرت أتباعه ؛ لأنَّ موسى عليه السلام كان قوياً ، وهارون كان ليناً ، فكثرت أتباعه. وعظمت هذه المة المحمدية لدوام اجتماعهما في أمته ، فكان عليه الصلاة والسلام سهلاً ليناً ، وكان في مقابلته عمر من وزرائه قوياً صلباً في دين الله ، ثم استخلف أبو بكر على قدم الرسول صلى الله عليه وسلم فقابله عمر رضي الله عنه ، فلما استخلف عمر ولان ؛ قابله عليّ رضي الله عنه ، وهكذا كل طائفة كثرت أتباعها تجد فيها هذين الضدين. سبحان المدبِّر الحكيم ، الجامع للأضداد.(7/335)
جزء : 7 رقم الصفحة : 327
وقوله تعالى : {وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفةً ورحمةً} هي صفة المريدين المتوجهين ، ورهبانيةُ هذه الأمة : المساجد والزوايا ، كما في الحديث. وليس من شأن
330
العارفين الانفراد في الجبال والفيافي ، إنما شأنهم خلط الناس وإرشادهم. قال الورتجبي : وصف الله تعالى هنا أهل السنة وأهل البدعة ، أهل السنة : أهل الرحمة والرأفة ، وأهل البدعة : أهل الرهبانية المبتدعة من أنفسهم. وصف الله قلوب المتمسكين بسنّة الأنبياء بالمودة والشفقة في دينه ومتابعة رسله ، فتلك المودة من مودة الله إياهم ، وتلك الرحمة من رحمة الله عليهم ، حيث اختارهم في الأزل ؛ لأنهم خلفاء الأنبياء ، وقادة الأمة ، ووصف المتكلفين الذي ابتدعوا رهبانية من أنفسهم ، مثل ترك أكل اللحم ، والجلوس في الزوايا للأربعين ، عن الإتيان إلى الجمعة والجماعات ، لأجل قبول العامة ، فإنهم ليسوا على الطريق المستقيم ، بل هم يتبعون شياطينهم ، الذي غوتهم في دينهم ، بل زيّنوا في قلوبهم المحالات والمزخافات ، وما كتبنا عليهم إلا ابتغاء رضوان الله ، ورضوان الله هو في الشريعة والطريقة الأحمدية صلى الله عليه وسلم. هـ. وقوله : " الأربعين " كان العبّاد ينذرون خُلوة أربعين يوماً ، فيتخلّفون عن الجمعة والجماعة ، والأمر كما قيل : إذا ثبت عدالة المرء فليترك وما فعل ، فهو أسلم. والله تعالى أعلم.(7/336)
جزء : 7 رقم الصفحة : 327
يقول الحق جلّ جلاله : {يأيها الذين آمنوا} بالرسل المتقدمة {اتقوا اللهَ} أي : خافوه {وآمِنوا برسوله} محمدٍ صلى الله عليه وسلم ، المذكور في كتابكم ، {يُؤتِكم كِفْلَين} نصيبين {من رحمته} لإيمانكم بالرسول صلى الله عليه وسلم وبمَن قبله ، لكن لا بمعنى أن شريعتهم باقية بعد البعثة ، بل على أنها كانت حقاً قبل النسخ ، وإنما أعطى مَن آمن بنبينا كفلين مع بطلان شريعته ، لصعوبة الخروج عن الإلف والعادة ، {ويجعل لكم نوراً تمشون به} يوم القيامة ، كما سبق للمؤمنين في قوله : {يَسْعَى نُورُهُم...} [الحديد : 12] الخ ، {ويغفرْ لكم} ما أسلفتم من الكفر والمعاصي ، {واللهُ غفور رحيم} ويؤيد هذا التأويل وأنَّ الخطاب لأهل الكتاب : قوله صلى الله عليه وسلم : " ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين : رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بي... " الحديث. وقيل : الخطاب للمؤمنين ، أي : يأيها الذين آمنوا اتقوا الله فيما نهاكم عنه ، ودُوموا على إيمانكم ، يؤتكم كفلين...الخ ، ويؤيد هذا حديث الصحيحين : " مَثَلُ أهل الكتاب قبلنا كمثل رجل استأجر أُجراء يعملون إلى الليل على قيراط قيراط ، فعملت اليهود
331
إلى نصف النهار ، ثم عجزوا ، ثم عملت النصارى إلى العصر ، فعجزوا ، ثم عملتم إلى الليل ، فاستوفيتم أجر الفريقين ، فقيل : ما شأن هؤلاء أقل عملاً وأعظم أجراً ؟ فقال : هي ظلمتكم من حقكم شيئاً ؟ قالوا : لا ، قال : ذلك فضلي أوتيه مَن أشاء ". قيل : لمّا نزل قوله : {أولئك يُؤتون أجرهم مرتين بما صبروا} افتخر مؤمنو أهل الكتاب على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فنزل. {يا أيها الذين آمنوا...} الخ. ولمّا نزلت هذه الآية الكريمة في هذا الوعد الكريم للمؤمنين حسدتهم اليهود ، فأنزل الله : {لئلا يعلم أهل الكتاب ألاَّ يقدرون على شيء...} الخ ، أي : إنما خصصت المسلمين بذلك ليعلم أهل الكتاب أنه ، أي : الأمر والشأن لا يملكون فضل الله ، ولا يدخل تحت قدرتهم ، فـ " إن " مخففة ، واسمها : ضمير الشأن ، و(لا) مزيدة ، أي : ليعلم أهل الكتاب أنه لا يقدرون {على شيءٍ من فضل الله} ولا يملكونه ، حتى يخصوا به مَن شاؤوا ، {و} ليعلموا أيضاً {أنَّ الفضلَ بيد الله} في ملكه وتصرفه ، {يُؤتيه من يشاء} من عباده {واللّهُ ذو الفضل العظيم} لا نهاية لفضله. وعلى أنَّ الخطاب لأهل الكتاب يكون قوله : {لئلا يعلم أهل الكتاب} أي : مَن لم يؤمن منهم ، فيكون راجعاً لمضمون الجملة الطلبية ، المتضمنة لمعنى الشرط ، أي : {يا أيها الذين آمنوا} بموسى وعيسى {اتقوا الله وآمنوا برسوله} فإن فعلتم ذلك {يُؤتكم كفلين من رحمته...} الخ ، وإنما جَعلتُ هذا لمَن آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم ، ليعلم أهل الكتاب الذين لم يؤمنوا به أنهم لا يملكون من فضل الله شيئاً ، وأنَّ الفضل بيد الله... الخ.(7/337)
جزء : 7 رقم الصفحة : 331
الإشارة : تنسحب هذه الآية من طريق الإشارة على مَن كانت في أسلافه خصوصية ولاية ، أو صلاح ، أو شرف علم أو رئاسة مَّا ، ثم ظهرت التربية الحقيقية في غير أسلافه ، فإن حطّ رأسه وصَدّق بالخصوصية لغيره أعطي أجره مرتين ، وعظم قدره في مقام الولاية ، وإنما كانت تنتقل دولة الولاية ؛ ليعلم أهلُ الخصوصية المتقدمة أنّ الفضل بيد الله ، يُؤتيه مَن يشاء ، والله ذو الفضل العظيم. والله الموفق ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وصلّى الله على سيدنا محمد ، وآله وصحبه ، وسلّم.
332(7/338)
جزء : 7 رقم الصفحة : 331
سورة المجادلة(7/339)
جزء : 7 رقم الصفحة : 332
يقول الحق جلّ جلاله : {قد سَمِعَ اللّهُ قولَ التي تُجادِلُك} وهي خولة ، {في زوجها} أوس ، أي : تُراجعك الكلام في شانه ، وفيما صدر منه صدر منه في حقها مِن الظِّهار ، أو تسألك وتستفيتك. وقال الكواشي : " قد سمع " أي : عَلِمَ وأجاب قولها ، أي : دعاءها. وفي " قد " هنا معنى التوقُّ ؛ لأنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم والمرأة كانا يتوقعان أن يُنزل اللّهُ في مجادلتهما ما يفرج الله به عنهما. هـ. وقال الفخر : هذه الواقعة تدل على أنّ مَن انقطع رجاؤه من الخلق ، ولم يبقَ له في مُهمه أحدٌ إلاَّ الخالق ، كفاه الله ذلك المُهم. وقال القشيري : لمّا صدقت في شكواها إلى الله ، وأيِسَتْ مِن كشف ضُرِّها من غير الله ، أنزل الله
333
في شأنها : {قد سمع الله...} ويقال : صارت قصتها فرجةً ورحمةً للمؤمنين إلى يوم القيامة ، في قضية الظهار ، ليعلم العالمون أنه لا يخسر على الله أحد. هـ.
ولمّا نزلت السورة بإثر الشكوى ، قالت عائشة رضي الله عنها : " ما أسمع الله " تعجُّباً من سرعة نزولها.
{وتشتكي إلى اللهِ} أي : تتضرع إليه ، وتُظهر ما بها من الكرب ، {واللهُ يسمع تحاورَكما} مراجعتكما الكلام ، من : حاور إذا رجع. وصيغة المضارع للدلالة على استمرار السمع ، حسب استمرار التحاور وتجدُّده ، وفي نظمها في سلك الخطاب تشريفٌ لها. والجملة استئناف ، جار مجرى التعليل لِمَا قبله ، فإنّ إلحافَها في المسألة ، ومبالغتها في التضرُّع إلى الله تعالى ، ومدافعته صلى الله عليه وسلم إياها ، منبئٌ عن التوقف وترقُّب الوحي ، وعلمه تعالى بحالهما من دواعي الإجابة ، أي : قد سمع قول المرأة وأجاب طلبتها ؛ لأنه يسمع تحاوركما. وقيل : هو حال ، وهو بعيد. {إِنَّ الله سميع بصير} تعليل لِما قبله ، أي : مُبالغ في العلم بالمسموعات والمبصرات ، ومِن قضيته : أن يسمع تحاوركما ، ويرى ما يقارنه من الهيئات ، التي مِن جملتها : رفع رأسها إلى السماء ، وإثارة التضرُّع ، وإظهار الاسم الجليل في الموضعين لتربية المهابة ، وتعليل الحكم بوصف الألوهية ، وتأكيد الجملتين.
الإشارة : قد سمع الله قولَ الروح ، التي تُجادل في شأن القلب ؛ لأنه مقرها ومسكنها ، إن صلح صلحت ، وإن فسد بحب الدنيا ومتابعة الهوى ، فسدت ، فهي تُجادل رسولَ الإلهام وتشتكي إلى الله من القلب الفاسد ، والله يسمع تحاورهما وتضرعَها إن صدقت في طلب الحق ، فيُجيب دعاءها ، ويُقيض لها طبيباً يُعالجه ، حتى ترجع لأصلها منه ، إنّ الله سميعٌ بصير.(7/340)
جزء : 7 رقم الصفحة : 333
يقول الحق جلّ جلاله : {وَالَّذِينَ يَظَّهَّرُونَ} وأصله : يتظهرون ، فأدمغت التاء في الظاء ، وقرأ عاصم : بضم الياء وتخفيف الظاء ، مضارع ظاهر ؛ لأنّ كل واحد يباعد
332
صاحبه ، وقرأ ابن عامر والأخوان وأبو جعفر وخلف بفتح الياء وشد الظاء بالمد ، مضارع " تظاهر " ، والحاصل في فعل الظهار ثلاث لغات : ظاهر وتظاهر وتظهر ، مأخذة من الظهر ؛ لأنه يُشَبِّه امرأته بظهر أُمه ، ولا مفهوم للظهر ، بل كل جزء منها مثل الظهر. وفي قوله : {منكم} توبيخ للعرب ، لأنه كان من أيْمان الجاهلية خاصة ، دون سائر الأمم ، {مِن نسائهم} من زوجاتهم ، {ما هن أمهاتِهم} : خبر الموصول ، أي : ليسوا بأمهاتهم حقيقة ، فهو كذب محض ، {إِنْ أمهاتُهم} حقيقة {إِلاّ اللائي وَلَدنَهُمْ} مِن بطونهن ، فلا تشبّه بهن في الحرمة إلاّ مَن ألحقها الشرع بهن من المرضعات وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم ، فيدخلن بذلك في حكم الأمهات ، وأما الزوجات فأبعد شيء من الأمومة. {وزُوراً} كذباً باطلاً ، منحرفاً عن الحق ، {وإنّ الله لعفوٌّ غفور} لما سلف منهم.
ثم ذَكَر الحُكم بعد بيان إنكاره ، فقال : {والذين يَظَّهرون مِن نسائهم ثم يعودون لِما قالوا} أي : والذين يقولون ذلك القول المُنكَر ، ثم يعودون إلى ما قالوا بالتدارك والتلافي ورفع التضرُّر ، أو : لِنقيض ما قالوا : قال ابن جزي : في معنى العود ستة أقوال : الأول : إيقاع الظِّهار في الإسلام ، فالمعنى أنهم كانوا يُظاهرون في الجاهلية ، فإذا فعلوه في الإسلام فذلك عود إليه ، هذا قول ابن قتيبة ، فتجب الكفارة عنده بنفس الظَّهار ، بخلاف أقوال غيره ، فإنَّ الكفارة لا تجب إلاّ بالظهار والعود معاً. القول الثاني : إنّ العود هو وطء الزوجة ، رُوي ذلك عن مالك ، فلا تجب الكفارة على هذا حتى يطأ ، فإذا وطئها وجبت عليه الكفارة ، أمسك الزوجةَ أو طلّقها ، أو ماتت. الثالث : إنَّ العَوْد هو العزم على الوطء ، ورُوي هذا أيضاً عن مالك ، فإذا عزم على الوطء وجبت الكفارة ، أمسك ، أو طلَّق ، أو ماتت. الرابع : إن العود هو العزم على الوطء والإمساك ، وهذا أصح الروايات عن مالك. الخامس : إنه العزم على الإمساك خاصة ، وهذا مذهب الشافعي ، فإذا ظاهر ولم يُطَلَّقها بعد الظَّهار لزمته الكفارة. السادس : إنه تكرار الظهار مرة أخرى ، وهذا مذهب الظاهرية ، وهو ضعيف ، لأنهم لا يرون الظَّهار موجباً حكماً في أول مرة ، وإنما يُوجبه في الثانية ، وإنما نزلت فيما ظاهر أول مرة ، فذلك يرد عليهم ، ويختلف معنى " لِما قالوه " باختلاف هذه الأقوال ، فالمعنى : يعودون للوطء الذي حرَّموه ، أو للعزم عليه ، أو للإمساك الذي تركوه ، أو للعزم عليه. هـ.
{(7/341)
جزء : 7 رقم الصفحة : 332
فتحريرُ رقبةٍ} أي : فتداركه ، أو فعليه ، أو فالواجب تحرير رقبة. واشترط مالك والشافعي أن تكون مؤمنة ، حملاً للمُطْلَق على المقيد ؛ لأنه قيّدها في القتل بالإيمان ، والفاء للسببية ، ومِن فوائدها : الدلالة على تكرُّر وجوب التحرير بتكرُّر الظهار. {مِن قبل أن يتماسا} أي : المظاهِر والمظاهَر منها ، ومذهب مالك والجمهور : أن المسّ هنا يُراد به الوطء ، وما دونه من اللمس والقُبلة ، فلا يجوز للمظاهِر أن يفعل شيئاً من ذلك حتى
335
يُكفِّر ، فإن فعل شيئاً من ذلك تاب ولا يعود. وقال الحسن والثوري : أراد الوطء خاصة ، فأباحا ما دونه من قبل الكفارة. {ذلكم} الحُكم {تُوعظون به} لأنَّ الحُكم بالكفارة دليل على ارتكاب الجناية ، فيجب أن تتعظوا بهذا الحُكم حتى لا تعودوا إلى الظهار ، وتخافوا عقابَ الله عليه ، {واللهُ بما تعملون خبيرٌ} مُطَّلِع على ما ظهر مِن أعمالكم ، التي مِن جملتها الظاهر.
{فمن لم يجد} الرقبة {فصيامُ شهرين} أي : فعليه صيام شهرين {مُتتابعين مِن قبل أن يتماسا} فإنْ أفسده باختياره من أوله باتفاق ، وإن أفسده بعذر ، كمرض أو نسيان ، فقال مالك : يبني على ما كان معه ، في رواية عنه ، وقال أبو حنيفة : يبتدئ ، ورُوي القولان عن الشافعي. {فمَن لا يستطعْ} الصيام {فإِطعام ستين مسكيناً} بمُدّ هشام على مذهب مالك. واختلف في قدره ، فقيل : إنه مدان غير ثلث بمُد النبي صلى الله عليه وسلم وقيل : إنه مُد وثلث ، وقيل : إنه مُدان ، وبه قال أبو حنيفة ، وقال الشافعي وابن القصار : يُطعم مُدّاً بمُد النبي صلى الله عليه وسلم لكل مسكين ، ولا يجزئه إلاّ كمالُ الستين ، فإنْ أطعم مسكيناً واحداً ستين يوماً لم يجزه عند مالك والشافعي ، خلافاً لأبي حنيفة ، وكذلك إن أطعم ثلاثين مرتين ، والطعام يكون من غالب قوت البلد.
وذكر الحق جلّ جلاله : {من قبل أن يتماسا} في العتق والصوم ، ولم يذكره في الإطعام ، فاختلف العلماءُ في ذلك ، فَحَمل مالك الإطعامَ على ما قبله ، ورأى أنه لا يكون إلاّ قبل المسيس ، وجعل ذلك مِن المُطْلَق الذي يُحمل على المقَيد. وقال ابو حنيفة : يجوز للمظاهِر إذا كان من أهل الإطعام أن يطأ قبل الكفارة ؛ لأن الله لم ينص في الإطعام أنه قبل المسيس ، وقال الشافعي : يجب تقديمه على المسيس ، لكن لا يستانف إن مسّ في حال الإطعام. وجعل الأطعام. وجعل الحق جلّ جلاله كفارة الظهار مُرتّبة ، فلا ينتقل عن الأول حتى يعجز عنه ، ومثلها كفارة القتل والتمتُّع ، وقد نظم بعضهم أنواع الكفارات ، ما فيه الترتيب وما فيه التخيير ، فقال :(7/342)
جزء : 7 رقم الصفحة : 332
خيِّرْ بصوم ثم صيد وأذى
وقل لكل خصلةٍ يا حبذا
ورتّب الظهار والتمتعا
والقتل ثم في اليمين اجتمعا
{ذلك لتؤمنوا} الإشارة إلى ما مرّ من البيان والتعليم للأحكام ، ومحله رفع أو نصب ، أي : ذلك واقع ، أو فصّلنا ذلك لتؤمنوا {بالله ورسولِه} وتعملوا بشرائعه التي شرعها لكم ، وترفُضوا ما كنتم عليه في جاهليتكم ، {وتلك} أي : الأحكام التي وصفنا في الظِهار والكفارة ، {حدودُ الله} التي لا يجوز تعدّيها ، {وللكافرين} أي : الذين لا يعملون بها {عذابٌ أليم} عبّر عنه بالكفر تغليظاً على طريق : {وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران : 97].
336
الإشارة : الذين يباعدون من أنفسهم ، فيُحرِّمون عليها التمتُّع بما أحلّ الله من الطيبات ، تضييقاً وتشديداً عليها ، مفْرطين في ذلك ، محتجين لذلك بأنهم كانوا في بطن الشهوات ، فقد ملكتهم ملك الأم لولدها ، قال تعالى : " ما هن أمهاتِهم إنْ أُمهاتهم إلاّ اللائي ولدنهم ، وإنهم ليقولون مُنكراً من القول وزوراً " حيث حرّموا ما أحلّ الله ، والمراد بذلك الإفراط المؤدي إلى التلف. قال القشيري : لأنّ النفس مطية الروح ، فلا تسلك طريق السير إلاّ بها ، وهي مددها ومعونتها ، كما قال عليه السلام : " إنّ لنفسك عليك حقاً " فلا بد للروح من مسامحة النفس ومداراتها في بضع الأوقات ، لتميل النفس إلى تصرفها وحكمها فيها ، وإلاّ ضعفت وكَلَّت عن موافقتها ، فتنقطع الروح عن السلوك إلى الله.هـ. قلت : وإليه الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم : " لا يكن أحدكم كالمنبت ، لا أرضاً قطع ، ولا ظهراً أبقى " {وإن الله لعفو غفور} لمَن وقع له شيء من هذا ورجع.
والذين يُظاهرون من نسائهم ، يُباعدون من أنفسهم ، ثم يعودون إلى الترفُّق بها والاستمتاع بما أحلّ الله لها ، فكفارته تحرير رقبةً مِن ملك الشهوة ، فلا يتناول شيئاً من المباحات الطيبة ، إلاّ بنية التقرُّب إلى الله والشكر ، لا بنية مجرد الاستمتاع ، ولا يتناول من الشهوات التي شرهت إليها النفس ، وحرصت على تحصيلها قبل حصولها ، شيئاً قط ، فإن لم يقدر عليها على هذا النمط ، فعليه صيام شهرين أو أكثر ، مجاهدةً ورياضةً ، حتى تقف على حد الضرورة ، فإن لم يتسطع فإطعام ستين مسكيناً أو أكثر ، بكل ما يدخل عليه من الحظوظ. وقال القشيري : وإن لم يقدر على تحرير رقبته على هذا الارتباط ؛ فيجب على الروح أن تصوم شهرين متتابين ، يعني يمسك نفسَه عن الالتفات إلى الكونين على الدوام والاستمرار ، من غير تخلُّل التفات ، وإن لم يتمكن مِن قطع هذا الالتفات ، لبقية من بقايا أنانيته ، فيجب عليه إطعام ستين مسكيناً من مساكين القوى الروحانية ، المستهلك لسلطنة النفس وصفاتها ، ليقيمهم على التخلُّق بالأخلاق الإلهية ، والتحقق بالصفات الروحانية ، هـ. ذلك لتؤمنوا بالله ورسوله الإيمان الكامل ، وتلك حدود الله لا يجوز تعدِّيها بالأهوية والبدع ، وللكافرين لهذه الحِكم عذاب البُعد ونار القطيعة ، المؤلم للروح والقلب ، بغم الحجاب وسوء الحساب.(7/343)
جزء : 7 رقم الصفحة : 332
يقول الحق جلّ جلاله : {إِنَّ الذين يُحادون اللّهَ ورسولَه} أي : يُعادونهما ويُشاقونهما ؛ فإنَّ كُلاَّ من المتعادين في عدوةٍ وشِقٍّ غير الآخر ، وكذلك يكون كُلُّ واحدٍ منهما في حدّ غير حدّ الآخر ، غير أنَّ لذكر المُحادَّة هنا لمّا ذكر حدود الله مِن حسن الموقع ما لا غاية وراءه. ثم أخبر عنهم فقال : {كُبِتُوا} أي : أُخذوا وأُهلكوا ، أو : لُعنوا {كما كُبِتَ الذين من قبلهم} من كُفار الأمم الماضية المعادين للرسل عليهم السلام. وقال القشيري : يُحادّون : يُخالفون أمر الله ، ويتركون طاعة رسول الله ، أذِلُّوا وأُخْزوا كما أُذِلَّ مَنْ قبلهم من الكفار والعصاة. نزلت في المستهزئين يوم ا لخندق ، إذ الله أجرى سُنته بالانتقام من أهل الإجرام ، ومَن ضيَّعَ لرسول الله سُنةً واحدة في دينه ببدعة انخرط في سلك هذا الخزي ، ووقع في هذا الذُّل. هـ. وقال ابن عطية : الآية نزلت في المنافقين واليهود ، وكانوا يتربصون بالرسول والمؤمنين الدوائر ، ويتمنون فيهم المكروه ، ويتناجون بذلك. هـ.
{وقد أنزلنا آياتٍ بيناتٍ} : حال من ضمير " كُبتوا " أي : كُبتوا بمحادتهم ، والحال أنَّا قد أنزلنا آيات واضحات فيمن حاد الله ورسولَه ، ممن قبلهم من الأمم وفيما فعلنا بهم ، أو : آيات على صدق الرسول وصحة ما جاء به ، {وللكافرين} بهذه الآيات ، أو : بكل ما يجب الإيمان به ، فيدخل فيه تلك الآيات دخولاً أوليّاً ، {عذابٌ مهين} يذهب بعزِّهم وكِبْرهم.
واذكر {يومَ يبعثهم اللهُ جميعاً} أو : لهم ذلك العذاب {يومَ يبعثهم اللهُ جميعاً} أي : لا يترك أحداً منهم ، أو مجتمعين في حال واحد وصعيدٍ واحد ، {فيُنَبئهم بما عمِلوا} من القبائح ، تخجيلاً لهم ، وتشهيراً لحالهم ، وتشديداً لعذابهم ، فيتمنون حينئذ المسارعة إلى النار ، لِما يلحقهم من الخزي على رؤوس الأشهاد ، {أحصاه اللهُ} أحاط به عدداً ، لم يفته منه شيء ، والجملة استئناف بياني ، كأنه قيل : كيف ينبئهم بما عملوا ، وهي أعراض مُنقضية متلاشية ، فقيل : {أحصاه اللهُ ونَسًوه} أي : قد نسوه لأنهم تهاونوا به حين ارتكبوه وإنما تحفظ معظّمات الأمور. وهو حال أيضاً. {واللهُ على كل شيءٍ شهيدٌ} لا يغيب عنه شيء. والجملة اعتراض تذييلي ، مقرِّرة لإحصائه تعالى.(7/344)
جزء : 7 رقم الصفحة : 337
ثم استشهد على شمول شهادته تعالى ، فقال : {ألم تَرَ أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض} فهو كقوله تعالى : {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِى رَبِّهِ} [البقرة : 258] ، {أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِى كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ} [الشعراء : 225] أي : ألم تعلم علماً مزاحماً
338
للمشاهدة أنَّ الله يعلم ما استقر في السماوات وما في الأرض من الموجودات ، {ما يكونُ من نجْوَى ثلاثةٍ} : استئناف مُقَرِّر لِما قبله مِن سعة علمه تعالى ، ومُبَيّن لكيفيته ، و " كان " تامة ، أي : ما يقع من تناجي ثلاثة نفر في مساررتهم {إِلاَّ هو} أي : الله تعالى {رابعُهم} أي : جاعلهم أربعة من حيث إنه تعالى يُشاركهم في الاطلاع عليها ، {ولا خمسةٍ} أي : ولا نجوى خمسة {إِلاّ هو سادسُهم ولا أدنَى} ولا أقل {من ذلك ولا أكثرَ إِلاّ هو معهم} يعلم ما يتناجون به ، فلا يخفى عليهم ما هم فيه. وتخصيص العددين إما لخصوص الواقعة ، فإنّ الآية نزلت في المنافقين ، وكانوا يتناجون مغايظةً للمؤمنين على هذين العددين ، وقيل : المعنى : ما يتناجى منهم ثلاثة ولا خمسة ولا أدنى من عددهم ولا أكثر ، إلا والله معهم ، يسمع ما يقولون ، ولأنّ أهل التناجي في العادة طائفة من أهل الرأي والتجارب ، وأول عَدَدهم الاثنان فصاعداً ، إلى خمسة ، إلى ستة ، إلى ما اقتضته الحال ، فذكر عزَ وجل الثلاثة والخمسة ، وقال : {ولا أدنى من ذلك} فدلّ على الاثنين والأربعة ، وقال : {ولا أكثرَ} فدلّ على ما فوق هذا العدد. قاله النسفي.
{ثم يُنبِّئُهم} يُخبرهم {بما عَمِلوا} تفضيحاً وإظهاراً لِما يوجب عذابهم. {إِنّ الله بكل شيء عليم} لأنَّ نسبة ذاته المقتضية للعلم إلى الكل سواء ، فلا يخلو منه زمان ولا مكان.
الإشارة : في الحديث : " مَن عادى لي وليّاً فقد آذنته بالحرب " فمَن حادّ أولياءَ الله فقد حادّ الله ورسولَه ، فيُكبت كما كُبِتَ مَن قبله ممن اشتغل بإذايتهم ، وقد أنزلنا آيات واضحات على ثبوت الولاية في كل زمان ، قال تعالى : {مَا نَنسَخْ مِنْ ءَايَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَآ أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة : 106] ، وللكافرين الجاحدين لخصوصيتهم عذاب مهين ، وهو البُعد والطرد وغم الحجاب وسوء الحساب. يوم يبعثهم الله جميعاً ، أي : أهل الإنكار ، فيُنبئهم بما عملوا من الانتقاد والإذاية ، أحصاه اللّهُ ونسوه ، لأنهم يعتقدون أنهم في ذلك على صواب ؛ لجهلهم المُرَكَّب ، فإذا تناجوا في شأنهم بما يسؤوهم فيقال في حقهم : {ما يكون من نجوى ثلاثةٍ إلاّ هو رابعهم...} الآية. قال القشيري : {إنّ الذين يُحادون الله ورسولَه} ، يعني : يُحادون مظاهر الله ، وهم الأولياء المحققون ، العارفون القائمون بأسرار الحقائق ، ومظاهر رسول الله ، وهم العلماء العاملون ، القائمون بأحكام الشرائع ، كُبتوا : أُفحموا بالحُجج وإظهار البراهين من الكرامات الظاهرة ، وخرق العادات الباهرة ، أو نشر العلوم الشريعة ، ونشر الأحكام الفرعية ، وقد أنزلنا بصحة ولايتهم ، وقوة وراثتهم ، علامات ظاهرة ، ودلالات زاهرة ، من المشاهدات والمعاينات ، أو الحجج القاطعة
339
والبراهين الساطعة ، ومن ستر أنوار ولايتهم ، وآثارَ وراثتهم ، بساتر إنكاره ، فله عذاب القطيعة والفضيحة مع إهانة من غير إبانة هـ. ببعض البيان.(7/345)
جزء : 7 رقم الصفحة : 337
قال الورتجبي : قوله تعالى : {إلا هو معهم} المعية بالعلم عموم ، وبالقرب خصوص ، والقرب بالعلم عموم ، وبظهور التجلِّي خصوص ، وذلك دنو {دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى} ، فإذا ارتفع الأين والبين والمكان والجهات ، واتصل أنوارُ كشوف الذات والصفات بالعارف ، فذلك حقيقة المعية ، إذ هو سبحانه مُنزّه عن الانفصال والاتصال بالحدث. ولو ترى أهل النجوى ، الذين مجالستهم لله وفي الله ، لترَى من وجوههم أنوار المعية ، أين أنت من العلم الظاهر ، الذي يدل على الرسوم. ألم تعلم أنَّ علمه تعالى أزلي ، وبالعلم يتجلّى للمعلومات ، فالصفات شاملة على الأفعال ، ظاهرة من مشاهد الملعومات ، فإذا كان الذرات لا تخلو من قرب الصفات ، كيف تخلو عن قرب الذات الأرواحُ العالية المقدّسة العاشقة المستغرقة في بحر وُجوده ، لا تظن في حقي أني جاهل بأنّ القديم لا يكون محل للحوادث ، فإنه حديث المُحدَثين ، أعبرْ من هذا البحر حتى لا تجد الحدثان ولا الإنسان في مشاهدة الرحمان هـ.
قلت : وحاصل كلامه : أنَّ المعيّة بالعلم تستلزم المعية بالذات ، إذا الصفة لا تفارق الموصوف ، وإنَّ بحر الذات اللطيف محيط بالكثيف منه من غير انفصال ، وأما كون القديم لا يكون محل الحوادث فصحيح ، لكن الحوادث عندنا فانية متلاشية ، إذ ما ثَمَّ إلا تلوينات الخمرة الأزلية ، وقد قال الجنيد : " إذا قرن الحادث بالقديم تلاشى الحادث وبقي القديم " ، فاعبُرْ عن عالَم الحس إلى بحر المعاني ، حتى لا تجد إلاَّ القديم الأزلي ، فافهم وسلِّم.
إن لم ترَ الهلالَ فسَلِّم
لأناس رأوه بالأبصار(7/346)
جزء : 7 رقم الصفحة : 337
يقول الحق جلّ جلاله : {ألم تَرَ إِلى الذين نُهوا عن النجوى ثم يعودون لنما نُهوا عنه} نزلت في اليهود والمنافقين ، كانوا يتناجون فيما بينهم ، ويتغامزون بأعينهم إذا رأوا المؤمنين ، يريدون أن يغيظوهم ، فنهاهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ، فعادوا لمثل فعلهم. والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم. والهمزة للتعجيب مِن حالهم ، وصيغة المضارع للدلالة على تكرير عودهم وتجدُّده ، واستحضار صورته العجيبة. وفي السِّيَر : أنه أمر بإخراجهم من المسجد ،
340
فأُخرجوا مجرورين ، كما في الاكتفاء. {ويتناجون بالإِثم والعُدوان} أي : بما هو إثم في نفسه وعدوان للمؤمنين ، {ومعصيتِ الرسول} أي : وتواصٍ بمعصية الرسول. وذكره صلى الله عليه وسلم بعنوان الرسالة بين الخطابين المتوجهيْن إليه عليه السّلام لزيادة تشنُّعهم واستعظام معصيتهم ، {وإِذا جاؤوا حَيَّوكَ} أي : سلَّموا عليك {بما لم يُحَيِّك به اللهُ} بما لا يُسلم عليك الله تعالى ، فكانوا يقولون في تحيتهم : السام عليك يا محمد. والسام : الموت ، والله تعالى يقول في سلامه على رسوله : {وَسَلاَمٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} [النمل : 29] {وَسَلاَمٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ} [الصفات : 181]. {ويقولون في أنفسِهم} أي : فيما بينهم ، أو في ضمائرهم ، {لولا يُعذبُنا اللّهُ بما نقول} هلاّ يُعذبنا الله بذلك ، فلو كان نبيّاً لعاقبنا بالهلاك ، قال تعالى : {حَسْبُهم} عذاباً {جهنمُ يصلونها} يدخلونها فيحترقون فيها ، {فبئس المصيرُ} المرجع جهنم.
الإشارة : ألم ترَ إلى الذين نُهوا عن الوقوع في أهل الخصوصية ، والتناجي بما يسؤوهم ثم يعودون لما نُهوا عنه ، ويتناجون بالإثم والعدوان ، وما فيه فساد البين وتشتيت القلوب ، ومعصية الرسول بمخالفة سنته ، وإذا جاؤوك أيها العارف ، الخليفة للرسول ، حيَّوك بما لم يُحيك به الله ، أي : خاطبوك بما لم يأمر الله أن تُخاطَب به من التعظيم ، ويقولون في أنفسهم ، لولا يُعذبنا الله بن نفعل من تصغيرهم ، حسبهم نار القطيعة والبُعد ، مُخلّدون فيها ، فبئس المصير.(7/347)
جزء : 7 رقم الصفحة : 340
يقول الحق جلّ جلاله : {يا أيها الذين آمنوا إِذا تناجيتم} في أنديتكم وفي خلواتكم {فلا تتناجَوا بالإِثم والعدوانِ ومعصيتِ الرسول} كفعل هؤلاء المنافقين ، {وتناجَوا بالبِرِّ والتقوى} أي : بما تضمن خير المؤمنين ، والاتقاء عن معصية الرسول صلى الله عليه وسلم ، أو : بأداء الفرائض وترك المعاصي ، {واتقوا اللهّ الذي إِليه تحشرون} فيُجازيكم بما تتناجون به من خير أو شر ، {إِنما النجوى} المعهودة التي هي التناجي بالإثم والعدوان ، {من الشيطان} لا من غيره ، فإنه المزيِّن لها والحامل عليها {لِيَحْزُنَ} بها {الذين آمنوا} بتوهيمه أنها في نكبةٍ أصابتهم ، أو أصابت إخوانهم ، او في الاشتغال بثلْمهم وتنقيصهم. ولهذا نهى الشارع أن يتناجى اثنان دون الثالث ، لئلا يتوهم أنهم يتكلمون فهي. قال تعالى {وليس بضارَّهم} أن يتناجى اثنان دون الثالث ، لئلا يتوهم أنهم يتكلمون فهي. قال تعالى {وليس بضارِّهم} أي : وليس الشيطان أو الحزن بضارهم {شيئاً} من الأشياء ، أو شيئاً من الضرر {إِلاّ بإِذن الله} بمشيئته ، {وعلى الله فلتوكل المؤمنون} فلا تُبالوا بنجواهم ، فإنَّ الله تعالى يعصمهم
341
من شره وضرره ، فيلكلوا أمرَهم إلى الله ، ويتعوّذوا من شر الشيطان ، فإنَّ كيده ضعيف.
قال القشيري : إنما قَبُحَ التناجي منهم ، وعَظُمَ خطره ؛ لأنه تضمَّن فسادَ ذات البيْن ، وخيرُ الأمور ما عاد بإصلاح ذات البيْن ، وبعكسه يكون الأمر بالضد ، يعني : فيعظم خطر التناجي بالبر والتقوى ، وبما يقرب إلى الله. ثم قال : إذا كانت المشاهدة غالبةً ، والقلوب حاضرةً ، والتوكل صحيحاً ، والنظرُ في موضعه صائباً ، فلا تأثير لهذه الحالات ، أي : لحزن الشيطان وتوهيمه وإضراره ، وإنما هذا للضعفاء. هـ.
الإشارة : يا أيها الذين آمنوا إذا تناجيتم مع قلوبكم وأسراركم فلا تتناجوا بالإثم ، وهو تدبير أمر الدنيا وشؤونها ، بل غيبوا عنها يأتيكم نصيبكم منها ، مع الفوز بالحضور مع الله ، ولا تتناجوا بالعدوان ، وهو شغل القلب بأمر الخلق ، دفعاً وجلباً ، ضرّاً ونفعاً ، إذ ليس بيدهم شيء ، ومعصية الرسول ، وهو إضمار ترك السُنة ، أو مخالفة أمر المشايخ ، وتَناجَوا بالبر ، وهو الفكرة في عظمة الله ، والتقوى ، وهو الغيبة عما سوى الله بِحَصر القلب عن الخروج من الحضرة ، واتقوا الله بترك ما سواه ، الذي إليه تُحشرون فيُدخلكم في مقعد صدق عند مليك مقتدر. إنما النجوى ، أي : الفكرة في الدنيا ، من الشيطان ؛ لأنّ له بيتاً في القلب لجهة الشمال ، إذا ذكر الله انخنس ، وإذا غفل القلب وسوس بهموم الدنيا ، ليَحْزُن الذين آمنوا ؛ ليكدر عليهم وقتهم ، وليس بضارِّهم شيئاً إذا قَوِيَ نور الإيمان إلاّ بإذن الله ومشيئته ، فلا تسليط له من نفسه. وليس بضارِّهم شيئاً إذا قَوِيَ نور الإيمان إلاّ بإذن الله ومشيئته ، فلا تسليط له من نفسه. وعلى الله فليتوكل المؤمنون ، فإذا صحّ توكلهم حَفِظَهم منه ، لقوله تعالى : {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [النحل : 99] ، وقد تقدّم عن القشيري : أنّ الأقوياء لا يلحقهم شيء من حزنه وإضراره. وبالله التوفيق.(7/348)
جزء : 7 رقم الصفحة : 341
يقول الحق جلّ جلاله : {يا أيها الذينَ آمنوا إذا قيل لكم تفسحوا في المجلس} [المجادلة : 11] أي : توسَعوا فيه ، وقيل : " في المجلس " متعلق بقيل ، أي : إذا قيل لكم في المجلس تفسّحوا فافسحوا ، والمراد : مجلس الرسول صلى الله عليه وسلم ، وكانوا يتضامُّون فيه تنافساً فيه صلى الله عليه وسلم وحرصاً على استماع كلامه. وقرأ عاصم " مجالس " أي : في مجالس الرسول التي تجلسونها. وقيل : المراد : مجالس القتال ، وهي مراكز الغزاة ، كقوله تعالى : {مَقَاعِدَ
342
لِلْقِتَالِ} [آل عمران : 121] قيل : كان الرجل يأتي الصف ، فيقول : تفَفسَّحوا ، فيأبَوا ، لحرصهم. والأول أنسب بذكر النجوى أولاً وثانياً. فإن امتثلتم وتفسحتم {يَفْسَحِ اللهُ لكم} في كل ما تريدون التفسُّح فيه ، من الرزق ، والدار ، والصدر ، والقبر ، والجنة ، والعلم ، والمعرفة. {وإِذا قيل انشُزُوا} أي : ارتفعوا من مجلسه ، وانهضوا للصلاة ، أو الجهاد ، أو غيرهما من أعمال البر ، أو : انشزوا للتوسعة في المجلس على المقبِلين ، {فانشُزُوا} أي : فانهضوا ولا تُبطِئوا ، وقيل : كانوا يُطيلون الجلوس معه صلى الله عليه وسلم وربما جلس قوم حتى يؤمروا بالقيام ، فأُمروا بالقيام وعدم التثقيل. وفي مضارع " نشز " لغتان الضم والكسر ، والأمر تابع له.
{يَرْفَعِ اللّهُ الذين آمنوا منكم} بامتثال أوامره وأَمْرِ رسوله ، بالنصر وحسن الذكر في الدنيا ، والإيواء إلى غرف الجنان في الآخرة. {و} يرفع {الذين أُوتوا العلمَ} خصوصاً {درجاتٍ} عالية ، بما جمعوا من أثريْ العلم والعمل ، فإنّ العلم مع علو رتبته يزيد مع العمل رفعةً لا يُدرك شأوها ، بخلاف العلم العاري عن العمل ، وإن كان له شرف في الجملة ، ولذلك يُقتدى بالعالِم في أفعاله فقط. وفي هذه الدرجات قولان ، أحدهما : في الدنيا ، في الرتبة والشرف والتعظيم ، والآخر : في الآخرة ، وهو أرجح. وعن ابن عباس رضي الله عنهما : " يرفع العالم فوق المؤمن سبعمائة درجة ، بين كل درجة كما بين السماء والأرض " ، ومثل هذا لا يُقال بالرأي. وتقدير الآية : يرفع الله الذي آمنوا منكم درجةً ، والذين أُوتوا العلم درجات ، وقيل : " درجات " يرجع لهما معاً ، وتفضيل أهل العلم يؤخذ من خارج.(7/349)
جزء : 7 رقم الصفحة : 342
وعن ابن مسعود رضي الله عنه ، أنه كان إذا قرأها قال : " يا أيها الناي افهموا هذه الآية ، ولترغبكم في العلم ". وعن النبي صلى الله عليه وسلم : " فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدرعلى سائر الكواكب " ، وعنه صلى الله عليه وسلم : " عبادة العالم يوماً واحداً تعدل عبادة العابد أربعين سنة " يعني الجاهل ، وعنه صلى الله عليه وسلم : " يشفعُ يومَ القيامة ثلاثةٌ : الأنبياء ، ثم العلماء ، ثم الشهداء " ، فأَعْظِم بمرتبةٍ هي واسطة بين النبوة والشهادة ، بشهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويشمل الحديث العلماء بالله وبأحكام الله ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما : خُيّر سليمان عليه السلام بين العلم والمال والمُلك ، فاخترا العلم ، فأعطى المالَ والمُلكَ معه. وقال صلى الله عليه وسلم : " أوحى اللّهُ إلى إبراهيم عليه السلام : يا إبراهيم إني عليم ، أُحب كل عليم
343
" وعن بعض الحكماء : ليت شعري أيّ شيءٍ أدرك مَن فاته العلم ؟ وأيّ شيءٍ فات مَن أدرك العلم ؟ والعلوم أنواع ، وشرفها باعتبار المعلوم ، فأفضل العلوم : العلم بالذات العلية ، على نعت الكشف والعيان ، ثم العلم بالصفات والأسماء ، ثم العلم بالأحكام ، ثم العلم بالآلات الموصلة إليه.
{واللهُ بما تعملون خبير} تهديد لمَن لم يمتثل الأمر. والله تعالى أعلم.
الإشارة : ما قيل في مجلس العِلم يُقال في مجلس الوعظ ، بل هو عينه ؛ لأنه العلم النافع ، فإذا قَدِمَ واحدٌ من الفقراء أو غيرهم لمجلس الشيخ ، فوجد فُرجة جلس فيها ، وإلاّ جلس خلف الحلقة ، ولو مع النعال ، فلا يُزاحم ولا يُقم أحداً ليجلس ، إلاّ أن يأمره الشيخ بالتقدُّم لمنفعة فيه في إعانة الشيخ ، فليتقدّم برفق ولطافة وأدب. وإذا قيل لأهل المجلس : تفسَّحوا فليتفسَّحوا ، يفسح الله لهم في العلم والعرفان ، والأخلاق والوجدان ، والمقامات ، وسائر ما يطلب التوسُّع فيه. وإذا قيل : انشُزُوا لصلاة أو خدمة أو ملاقاة ، فانشُزُوا ، يرفع الله الذين آمنوا منكم ، وليس فيهم أهلية لصريح المعرفة درجةً عن العامة ، حيث صَحِبُوا العارفين للتبرُّك والحُرمة. ويرفع الذين أُتوا العلم بالذات ، على سبيل الكشف والعيان ، درجات ، سبعمائة درجة ، على العالم صاحب الدليل والبرهان ، فيرفع العالِم فوق الجاهل سبعمائة درجة ، ويرفع العارف فوق العالِم سبعمائة. فالناس أربع طبقات : الطبعة العيا الأولياء والعارفون بالله ، ثم العلماء ، ثم الصالحون ، ثم عامة المؤمنين. والمراد بالأولياء مَن منَّ اللّهُ عليه بملاقاة شيخ التربية ، حتى دخل مقام الفناء والبقاء ، زاح عنه حجاب الكائنات ، وأفضى إلى شهود المكوِّن ، فهؤلاء هم المقرَّبون الصدِّيقون ، والمراد بالعلماء العاملون المخلِصون.(7/350)
جزء : 7 رقم الصفحة : 342
قال في " لطائف المنن " : وحيثما وقع العِلم في كتاب الله عزّ وجل ، وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنما المراد به النافع ، المخمِد للهوى ، القامع للنفس ، الذي تكتنفه الخشية ، وتكون معه الإنابة ، قال الله تعالى : {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاؤُاْ} [فاطر : 28] ، فلم يجعل عِلم مَن لم يخشَ من العلماء علماً ، فشاهد العلم الذي هو مطلوب الله : الخشية ، وشاهد الخشية : موافقة الأمر ، وأمّا عِلم مَن يكوم معه الرغبة في الدنيا ، والتملُّق لأربابها ، وصرف الهمة لاكتسابها ، والجمع والإدخار ، والمباهاة والاستكثار ، وطول الأمل ونسيان الآخرة ، فما أبعد مَن هذا وصفه من أن يكون من ورثة الأنبياء عليهم السلام ، وهل ينتقل الشيء الموروث إلى الوارث إلاّ بالصفة التي كان بها عند الموروث ، ومثَلُ من هذه الأوصاف وصفُه كمَثَل الشمعة تُشيء على غيرها وهي تحرق نفسها ، جعل الله عِلمَ مَن هذا وصفه حجة عليه ، وسبباً في تكثير العقوبة لديه ، ولا يغرنك أن يكون به انتفاع للبادي والحاضر ، فقد قال صلى الله عليه وسلم : " إنَّ الله يؤيدُ هذا الدين بالرجل الفاجر " ، ومثَلُ مَن
344
تعلّم العلم لاكتساب الدنيا ، وتحصيل الرفعة بها ، كمثل مَن رفع العذرة بملعقة من ياقوت ، فما أشرف الوسيلة ، وما أخس المتوسل إليه! ومثَلُ مَن قطع الأوقات في طلب العلم ، فمكث أربعين سنة يتعلّم العلم ولا يعمل به ، كمثل مَن قعد هذه المدة يتطهّر ويُجدد الطهارة ، ولم يُصلِّ صلاةً واحدة ، إذ مقصود العلم العمل ، كما أنَّ المقصود بالطهارة وجود الصلاة ، ولقد سأل رجلٌ الحسنَ البصري عن مسألة ، فأفتاه فيها ، فقال الرجل للحسن : قد خالفك الفقهاءُ ، فزجره الحسن ، وقال : ويحك ، وهل رأيت فقيهاً ، إنما الفقيه مَن فقه عن الله أمْرَه ونهيه. وسمعتُ شيخنا أبا العباس رضي الله عنه يقول : الفقيه مَن انفقأ الحجاب عن عينيْ قلبه ، فشاهد ملكوت ربه. انتهى كلامه.
فالعلماء المخلِصون الذين عرفوا الله من طريق البرهان ، تلي درجتهم درجةَ الأولياء الذين هم أهل الشهود والعيان ، ثم الصالحون الأبرار ، ثم عامة المؤمنين ، ومَن قال خلاف هذا فهو جاهل بمرتبة الولاية ، قال صلى الله عليه وسلم : " عامة أهل الجنة البُله " وعِلِّيُون لذوي الألباب ، وذووا الألباب هم أهل البصائر ، الذين فتح الله بصيرتَهم ، وتطهّرت سريرتهم بالمجاهدة والرياضة ، حتى شاهدوا الحق وعرفوه ، وقال تعالى : {فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَائِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَائِكَ هُمْ أُوْلُو الأَلْبَابِ} [الزمر : 17 ، 18] ، وراجع ما تقدّم في تفسيرها ، وكل مَن كان محجوباً عن الله ، يتسدل بغيره عليه ، فهو من البُله ، إلاّ أنّ صاحب الاستدلال أربع من المقلِّد ، أي : سَلِمَ من الوسواس ، وإلاّ فالمقلِّد أحسن منه.(7/351)
جزء : 7 رقم الصفحة : 342
ولمّا تكلم في الإحياء على درجات التوحيد ، قال : " والدرجة العليا في ذلك للأنبياء ، ثم للأوياء العارفين ، ثم للعلماء الراسخين ، ثم الصالحين " ، فقدَّم الأولياء على العلماء. وقال الأستاذ القشيري في أول رسالته : فقد جعل الله هذه الطائفة صفوة أوليائه ، وفضَّلهم على الكافة من عباده بعد رسله وأنبيائه. هـ. سُئل ابن رشد - رحمه الله - عن قول الغزالي والقشيري بتفضيل الأولياء على العلماء ، فقال : أمّا تفضيل العارفين بالله على العارفين بأحكام الله ؛ فقول الأستاذ أبي حامد متفق عليه ، ولا يشك عاقل أنّ العارفين بما يجب لله من أوصاف الجلال ونعوت الكمال أفضل من العارفين بالأحكام ، بل العارفون بالله أفضل من أهل الأصول والفروع ؛ لأنّ العلم يشرف بشرف المعلوم. ثم أطال الكلام في الاستدلال على ذلك ، فانظر. ذكره في المعيار.
وقال بعضهم في تفضيل العارف على العالِم : إنّ العارف فوق ما يقول ، والعالِم دون ما يقول ، يعني : أن العارف إذا تكلم في مقام من مقامات اليقين ، كان قَدَمُه فوق ما
345
وصف ، لأنه يسلكه دوماً ثم يصفه ، والعالم إنما يصفه بالنعت ، وأيضاً : العالِم يدلك على العمل ، والعارف يُخرجك عن شهود العمل ، العالِم يحملك حِمل التكليف ، والعارف يروحك بشهود التعريف ، العالِم يَدُلك على علم الرسوم ، والعارف يُعرّفك بذات الحي القيوم ، العالِمَ يَدُلك على الأسباب ، والعارف يدلك على مُسبِّب الأسباب ، العالِم يَدُلك على شهود الوسائط ، والعارف يَدُلك على محرك الوسائط ، العالِم يُحذّرك من الوقوف مع الأغيار ، والعارف يُحذّرك من الوقوف مع الأنوار ، ويزج بك في حضرة الأسرار ، العالِم يُحذّرك من الشرك الجلي ، والعارف يُخلِّصك من الشرك الخفي ، إلى غير من الفروقات بين العارف والعالم. ومن اصطلاحات الصوفية ، أنَّ العالِم بالأحكام يسمى عالماً ، والعالِم بالذات عياناً وكشفاً يسمى عارفاً ، كما في القوت. وبالله التوفيق.(7/352)
جزء : 7 رقم الصفحة : 342
يقول الحق جلّ جلاله : {يا أيها الذين آمنوا إِذا ناجيتم الرسولَ} أي : إذا أردتم مناجاته في بعض شؤونكم المهمة ، {فقدِّموا بين يدي نجواكم} أي : قبل نجواكم {صدقة} وهي استعارة ممن له يدان ، كقول عمر رضي الله عنه : " من أفضل ما أوتيت العرب الشِعر ، يقدّمه الرجل أما حاجته ، فيستمطر به الكريم ، ويستنزل به اللئيم " يريد : قبل حاجته. وفي هذا الأمر تعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم ، وانتفاع الفقراء ، والزجر عن الإفراط في مناجاته وسؤاله عليه الصلاة والسلام ، والتمييز بين المخلِص والمنافق ، وبين مُحب الآخرة ومُحب الدنيا ، وهل الأمر للندب ، أو للوجوب لكنه نسخ بقوله : {أأشفقتم..} الخ ؟ وعن عليّ رضي الله عنه : " إنَّ في كتاب الله آية ما عمل بها أحدٌ غيري ، كان لي دينار فصرّفته فكنت إذا ناجيته صلى الله عليه وسلم تصدّقت به ". وقال أيضاً : " أنا كنت سبب الرخصة والتخفيف عن المسلمين " ، قال رضي الله عنه : فَهِم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أنّ هذه العبادة قد شقّت على الناس ، فقال : " يا عليّ كم ترى حدّ هذه الصدقة ؟ أتراه ديناراً ؟ " قلت : لا ، قال : " فنصف دينار " ؟ قلت : لا ، قال : " فكم " ؟ قلت : حبة من شعير ، قال : " إنك لزهيد " فأنزل الله الرخصة ". قال الفخر : قوله صلى الله عليه وسلم لعليّ : " إنك لزهيد " معناه : إنك قليل المال ،
346
فقدّرتَ على حسب حالك. وفي رواية : " شعيرة من ذهب " ، فقال : إنك لزهيد " ، أي : مُصعِّر مقلِّل للدنيا. قاله في القوت.
{ذلك} التقديم للصدقة {خير لكم} في دينكم {وأطهرُ} لنفوسكم من رذيلة البُخل ، ولأنَّ الصدقة طُهرة. {فإِن لم تجدوا} ما تتصدقون به {فإِنَّ الله غفور رحيم} في ترخيص المناجاة من غير صدقة. قيل : كان ذلك عشر ليال ، ثم نُسِخَ ، وقيل : ما كان إلاَّ ساعة من نهار. وعن عليّ - كرّم الله وجهه - أنه قال : سألتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عن عشر مسائل ، فأجابني عنها ، ثم نزل نسخ الصدقة ، قلت : يا رسول الله ؛ ما الوفاء ؟ قال : " التوحيد وشهادة أن لا إله إلاّ الله " قلت : وما الفساد ؟ قال : " الكفر والشرك بالله " قلت : وما الحق ؟ قال : " الإسلام ، والقرآن والولاية إذا انتهات إليك " قلت : وما الحيلة ؟ قال : " ترك الحيلة " ، قلت : وما عَلَيَّ ؟ قال : " طاعة الله وطاعة رسوله " ، قلت : وكيف أدعو الله تعالى ؟ قال : " بالصدق واليقين " قلت : وماذا سأل الله ؟ قال : " العافية " قلت : وما أصنع لنجاة نفسي ؟ قال : " كلْ حلالاً ، وقل صدقاً " قلت : وما السرور ؟ قال : " الجنة " قلت : وما الراحة ؟ قال : " لقاء الله " فلما فرغت منها نزل نسخ الصدقة.
{(7/353)
جزء : 7 رقم الصفحة : 346
أأشفقتم أن تُقَدِّموا بين يَدَيْ نجواكم صدقاتٍ} أي : أَخِفْتُم الفقرَ مِن تقديم الصدقات ، أو : أَخِفْتُم من هذا الأمر لِما فيه من الإنفاق الذي تكرهه النفوس ، {فإِذ لم تفعلوا} ما أُمرتم به وشقّ عليكم ، {وتاب اللهُ عليكم} أي : خفّف عنكم ، وأزال عنكم المؤاخذة بترك تقديم الصدقة على المناجاة ، كما أزال المؤاخذة بالذنب عن التائب عنه ، {فأقيموا الصلاةَ وآتُوا الزكاة} أي : فإذا فرَّطتم فيما أُمرتم به من تقديم الصدقات ، فتداركوه بالمثابرة على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة ، {وأطيعوا اللهَ ورسولَه} في سائر الأوامر ، فإنَّ القيام بها كالجابر لِما وقع في ذلك من التفريط ، {واللهُ خبير بما تعملون} ظاهراً وباطناً ، وهو وعدٌ ووعيد.
الإشارة : إذا أردتم مناجاة المشايخ في زيارتكم ، فقدِّموا بين يدي نجواكم صدقة ، تُدفع للشيخ ، أو لأهل داره ، فإنها مفتاح لفيض المواهب ، مثالها كالدلو ، لا يمكن رفع الماء إلاَّ به ، ذلك خير لكم ، وأطهر لقلوبكم من رذيلة من البخل ، فإن لم تجدوا شيئاً فإن الله غفور رحيم. أأشفقتم أن تُقدِّموا بين يدي نجواكم صدقات ؛ لِثَقَلِ ذلك على النفس ؟ فإذ لم تفعلوا وزُرتم بلا صدقة ، وقد تاب الله عليكم من هذا التفريط ، فأقيموا صلاة القلوب ، وهو التعظيم ، ودوام العكوف في حضرة علاّم الغيوب ، وآتوا زكاة أبدانكم ، بإجهادها في خدمة المشايخ والإخوان ، وأطيعوا الله ورسوله وخلفاءه فيما يأمرونكم به وينهونكم عنه ، {والله خبير بما تعملون}.
347(7/354)
جزء : 7 رقم الصفحة : 346
يقول الحق جلّ جلاله : {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِين تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِم} وهم اليهود ، لقوله : {مَن لَّعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ} [المائدة : 60]. والغضب في حقه تعالى : إرادة الانتقام. كان المنافقون يتولّون اليهود ، وينقلون إليهم أسرار المؤمنين ، ففضحهم الله. ثم قال تعالى : {ما هم منكم} يا معشر المسلمين {ولا منهم} أي : من اليهود ، بل كانوا {مُّذبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لآَ إِلَى هَؤُلأَءِ إِلَى هَؤُلآَءِ} [النساء : 143]. {ويحلفون على الكذب} أي : يقولون : والله إنّ لمسلمون لا منافقون ، {وهم يعلمون} أنهم كاذبون منافقون ، {أعدَّ اللهُ لهم عذاباً شديداً} نوعاً من العذاب متفاقماً ، {إِنهم ساء ما كانوا يعملون} فيما مضى من الزمان ، كانوا مُصرِّين على سوء العمل ، وتمرّنوا عليه ، أو : هي حكاية ما يقال لهم في الآخرة.
{اتخَذُوا أَيمانهم} الكاذبة {جُنَّةً} وقايةً دون أموالهم ودمائهم ، {فصَدُّوا} الناسَ في خلال أمنهم وسلامتهم ، أو : فصدُّوا بأنفسهم {عن سبيل الله} عن طاعته والإيمان به ، {فلهم عذابٌ مُهين} يُهينهم ويُخزيهم ، وأعدّ لهم العذاب المخزي لكفرهم وصدهم ، كقوله : {الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَاباً فَوْقَ الَعَذَابِ} [النحل : 88]. {لن تُغني عنهم أموالُهم ولا أولادُهم من الله} من عذاب الله {شيئاً} قليلاً من الإغناء ، أي : ما يخافون عليه من الأموال والأولاد فيحلفون لأجله ، لا ينفعهم عند الله. رُوي أنَّ رجلاً منهم قال : لنُنصرنّ يوم القيامة بأموالنا وأنفسنا وأولادنا. فنزلت. {أولئك} الموصوفون بما ذكر من القبائح {أصحابُ النار} ملازموها {هم فيها خالدون}.
{(7/355)
جزء : 7 رقم الصفحة : 348
يومَ يبعثهم اللهُ جميعاً فيحلِفون له} أي : لله تعالى في الآخرة أنهم كانوا مُخلِصين غير منافقين ، {كما يحلفون لكم} في الدنيا على ذلك ، {ويَحْسَبون أنهم} في الدنيا {على شيءٍ} من النفع ، أو : يحسبون في الآخرة أنهم على شيءٍ من النفع ، مِن جلب منفعة أو دفع مضرة ، كما كانوا في الدنيا ، حيث كانوا يدفعون بها عن أزواجهم وأموالهم ، {ألا إِنهم هم الكاذبون} البالغون في الكذب إلى غايةٍ لا مطمح وراءها ، حيث تجاسروا على الكذب بين يدي علاّم الغيوب.
{استحوذَ عليهم الشيطانُ} استولى عليهم ومَلَكَهم ، {فأنساهم ذكرَ الله} بحيث لم
348
يذكروه بقلوبهم ولا بألسنتهم ، {أولئك حزبُ الشيطان} أي : جنوده وأتباعه ، {ألا إِنّ حزبَ الشيطان هم الخاسرون} أي : الموصوفون بالخسران الذي لا غياية وراءه ، حيث فوّتوا على أنفسهم النعيم المقيم ، وأخذوا بدله العذاب الأليم ، وفي تصدير الجمة بحرفي التنبيه والتحقيق ، وإظهار الشيطان معاً في موضع الإضمارِ ، وتوسيط ضمير الفصل ، من فنون التأكيد ما لا يخفى.
الإشارة : منافقون الصوفية هم الذين يُقرُّون أهلَ الظاهر وينصرونهم ، ويُنكرون على أهل الباطن ، فإذا لقوهم أظهروا لهم المودّة والوفاق ، وادَّعوا أنهم منهم ، فهم مذبذبون بين ذلك ، لا إلى هؤلاء ، ولا إلى هؤلاء ، ليسوا من أهل الظاهر المحض ، ولا من أهل الباطن ، لعدم تحققهم به ، تجر الآية ذيلَها عليهم. والعذاب المعدّ لهم غم الحجاب ، وتخلُّفهم عن درجات المقربين. قوله تعالى : {اتخذوا أَيمانهم جُنة} قال القشيري : مَن استتر بحُجة طاعته لأجل دنياه ؛ انكشف لسهام التقدير من حيث لا يشعر ، ثم لا دينُه يبقى ، ولا دنياه تَسْلَم. قال تعالى : {لن تُغني عنهم أموالُهم ولا أولادهم من الله شيئاً} الآية. هـ. يوم يبعثهم الله جميعاً فيتحاشون إلى المقربين ، ويحلفون بلسان حالهم : أنهم كانوا منهم ، كما يحلفون اليوم ، ويظنون أنهم من أهل الباطن ، ويحسبون أنهم على شيء ، فيبدوا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون ، وذلك لعدم صُحبتهم للعارفين المخلِصين ، حصل لهم الغلظ ، فوقفوا مع حُسبانهم الضال ، ولو دامت صُحبتُهم لأهل التوحيد الخاص لتنبّهوا لغلطهم. استحوذ عليهم الشيطانُ ، فزيّن لهم الوقوفَ مع ما هم فيه ، فأنساهم ذكرَ العيان ، فكانوا من حزب الشيطان في الجملة ، بالنسبة إلى مَن فوقهم. قال شاة الكرماني : علامة استحواذ الشيطان على العبد : أن يشغله بعمارة ظاهره ، من المأكل والملبس ، ويشغل قلبه عن التفكُّر في آلاء الله ونعمائه ، والقيام بشكرها ، ويشغل لسانه عن ذكر ربه ، بالكذب والغيبة والبهتان ، ويشغل قلبه عن التفكُّر والمراقبة بتدبير الدنيا وجمعها. هـ.(7/356)
جزء : 7 رقم الصفحة : 348
يقول الحق جلّ جلاله : {إِنّ الذين يُحادون اللهَ ورسولَه} أي : يخالفونهما ، ويجعلون بينهم وبينهما حدّاً ، وهم حزب الشيطان المتقدم ، {أولئك في} جملة {الأذَلِّينَ} لا ترى أحداً أذلّ منهم من الأولين والآخرين ؛ لأنّ ذِلة أحد المتخاصمين على قدر عزة الآخر ، وحيث كانت عزة الله غير متناهية كانت ذلة مَن يُحاده كذلك. {كتب اللهُ} في اللوح وقضاه ، وحيث جرى مجرى القسم أجيب بما يُجاب به ، فقال : {لأغْلِبنَّ أنا ورسلي} بالحجة والسيف ، أو بأحدهما ، وهو تعليل لِما قبله من كون مَن حاد الله في
349
الأَذلِّين. {إِنَّ الله قويٌّ} على نُصرة أوليائه ، {عزيزٌ} لا يمتنع عليه ما يريد.
الإشارة : كل مَن يُعادي أهلَ الله مخذول ، عاقبته الذل في الدنيا والآخرة ، {كتب الله لأغْلِبَنَّ أنا ورسلي} وخلفاؤهم من أولئك ، {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِىٌّ عَزِيزٌ} [الحج : 40] ، إلاَّ مَن تعدّى منهم طورَه ، كمَن تعرّض للظهور ، وهو من أهل الباطن ، فإنَّ القدرة تخدمه وتؤدبه ؛ لأنّ الباطن لا ينقلب ظاهراً ، ولا عكسه. والله تعالى أعلم.
350(7/357)
جزء : 7 رقم الصفحة : 349(7/358)
جزء : 8 رقم الصفحة : 3
سورة الحشر
يقول الحق جلّ جلاله : {سَبَّح لله ما في السماوات وما في الأرض} أي : نزّهه أهلُ السماوات السبع ، وأهلُ الأرضين السبع. وكرر الموصول هنا لزيادة التقرير ، والتنبيه على استقلال كل مِن الفريقين بالتسبيح. قال الكواشي : فيه إيماء إلى قدرة الله تعالى ، وأنه أهل لأن يُسبَّح لمنِّه على المؤمنين بنصرهم على أعدائهم ، {وهو العزيزُ الحكيم} ، قال ابن عطية : صفتان مناسبتان لِمَا يأتي بعدُ ، من قصة العدو الذي أخرجهم مِن ديارهم. هـ.
رُويَ أنَّ هذه السورة بأسرها نزلت في بني النضير ، وهو رهط من اليهود ، من ذرية هارون عليه السلام ، نزلوا المدينة في فتن بني إسرائيل لبعثته صلى الله عليه وسلم ، وقيل : هم بقية الحبرْين اللذين كانا مع تُبع ، فنزلا المدينة انتظاراً له صلى الله عليه وسلم ، وذلك أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم حين قَدِمَ المدينة صالحهم على ألاّ يكونوا عليه ولا له ، فلما ظَهَرَ يوم بدر ، قالوا : هو النبيّ الذي نعْتُه في التوراة : لا تُردُّ له رايةٌ ، فلما كان يوم أُحُد ما كان ، ارتابوا ونكثوا ، فخرج
3
كعبُ بن الأشرف في أربعين راكباً ، فحالف أبا سفيان عند الكعبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر عليه السلام محمدَ بن مسلمة الأنصاري في فتية ، فقتل كعباً غيلة ، وكان أخاه من الرضاعة ، وقد كان عليه السلام اطلع منهم على خائنةٍ ونقض عهدٍ ، حين أتاهم ومعه أبو بكر وعمر وعليّ ، ليستعينهم في دية الرجلين اللذَين قتلهما عَمرو بنُ أمية الضمري ، غلطاً ، فأجابوه على ذلك ، وأجسلوه تحت الحِصن ، وأمروا رجلاً منهم أن يطرح على النبي صلى الله عليه وسلم رَحىً ، فنزل جبريلُ فأخذ بيده وأقامه ، فرجع إلى المدينة ، وأمر المسلمين بالخروج إلى بني النضير ، وهم بقريةٍ يقال لها : زهرة ، فأمرهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم بالخروج من المدينة ، فاستمهلوه عشرة أيام ليتجهزوا للخروج ، فدسّ إليهم عبدُ الله بن أُبي وأصحابهُمن المنافقين : لا تخرجوا من الحصن ، فإن قاتلوكم فنحن معكم ، لا نخذلكم ، ولئن خرجتم لَنَخْرُجنَّ معكم ، فحصّنوا أسوارَهم ، فحاصرهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم إحدى وعشرين ليلة ، وأمر بقطع نخلهم ، فلما قذف اللهُ في قلوبهم الرعب ، وأيسوا من نصر المنافقين ، طلبوا الصُلح ، فأبى عليهم إلاّ الجلاء ، على أن يَحْمِل كلُّ ثلاثة أبياتٍ على بعيرٍ ما شاؤوا من متاعهم ، وللنبي صلى الله عليه وسلم ما بقي ، فخرجوا إلى الشام ، وإلى أذرعات وأريحا ، إلاّ بيتين ؛ آل أبي الحقيق ، وآل حُيَي بن أخطب ، فإنهم لحقوا بخيبر ، ولحقت طائفة بالحيرة ، وذلك قوله تعالى :
{(8/3)
جزء : 8 رقم الصفحة : 3
هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب مِن ديارهم} بالمدينة ، أي : هو الذي تولّى إخراجهم ، لا بسبب فيه لأحد غيره. واللام في قوله : {لأول الحشر} متعلق بأخْرَج ، وهو اللام في قوله : {قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} [الفجر : 24] أي : أخرجهم عند أول الحشر ، وكونه أول الحشر ؛ لأنّ هذا أول حشرهم إلى الشام ، وكانوا مِن سبط لم يُصبهم جلاء قط ، وهم أول مَن أُخرج من أهل الكتاب من جزيرة العرب إلى الشام ، وآخر حشرهم : إجلاء عُمر إياهم من خيبر إلى الشام ، أو : آخر حشرهم : حشر يوم القيامة ، قال ابن عباس رضي الله عنه : " مَن شك أنَّ المحشر بالشام فليقرأ هذه الآية " فهم الحشر الأول ، وسائر الناس الحشر الثاني. وقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لمّا خرجوا : " امضوا ، فإنكم أول الحشر ونحن على الأثر " {ما ظننتم أن يخرجوا} ، لشدة بأسهم ، ومَنعَتهم ، ووثاقه حصونهم ، وكثرة عَددهم وعُدتهم ، {وظنوا أنهم مانعتهم حُصُونُهم من الله} أي : ظنوا أنّ حصونهم تمنعهم من بأس الله. والفريق بين هذا التركيب والنظم الذي جاء عليه التنزيل : أنّ في تقديم الخبر على المبتدأ دليلاً على فرط وُثوقهم بحصانتها ومنعها إياهم ، وفي مصير ضميرهم اسماً لـ " أن " ، وإسناد الجملة إليه ، دليل على اعتقادهم في أنفسهم أنهم في عزة ومنعة ، لا يُبالَى معها
4
بأحد يتعرض لهم ، أو يطمع في مغازيهم ، وليس ذلك في قولك : وظنوا أنّ حصونهم تمنعهم. {فأتاهم اللهُ} أي : أمره وعقابه {من حيث لم يحتسبوا} ؛ من حيث لم يظنوا ، ولم يخطر ببالهم ، حتى قُتل " كعب " رئيسهم على يد أخيه رضاعاً.
{وقَذَفَ في قلوبهم الرُّعْبَ} ؛ الخوف والجزع ، {يُخْربون بيوتَهم بأيديهم وأيدي المؤمنين} ، فكانوا يُخربون بواطنَها ، والمسلمون ظواهرَها ، لِمَا أراد الله مِن استئصال شأفتهم ، وألاَّ تبقى لهم بالمدينة دار ، ولا منهم دَيَّار. والذي دعاهم إلى التخريب حاجتهم إلى الخشب والحجارة ، ليسدُّوا بها أفواه الأزفَّة ولئلا يبقى بعد جلائهم مساكن للمسلمين ، وأن ينقلوا معهم ما كان في أبنيتهم من جيّد الخشب والساج ، وأمّا المؤمنون فدعاهم إلى التخريب إزالة مُتحصّنهم ، وأن تتسع لهم مجال الحرب. ومعنى تخريبهم إياها بأيدي المؤمنين : أنهم لما عرّضوهم بنكث العهد لذلك ، وكان السبب فيه ؛ فكأنهم أمروهم به ، وكلّفوهم إياه. {فاعتبِروا يا أُولي الأبصارِ} أي : فاتعِظوا بما جرى عليهم من الأمور الهائلة على وجهٍ لا تهتدي إليه الأفكار ، أو : فتأملوا فيما نزل بهؤلاء ، والسبب الذي استحقوا به ذلك ، فاحذروا أن تفعلوا مثَل فعلهم ، فتُعاقََبوا مثل عقوبتهم. قال البيضاوي : اتعِظوا بحالهم ، فلا تغدروا ، ولا تعتمدوا على غير الله. هـ. وهذا دليل على جواز القياس.
{(8/4)
جزء : 8 رقم الصفحة : 3
ولولا أن كتب اللهُ عليهم الجلاء} ؛ الخروج من الوطن ، على ذلك الوجه الفظيع {لعذَّبهم في الدنيا} بالقتل والسبي ، كما فعل ببني قريظة ، {ولهم في الآخرة عذابُ النار} الذي لا أشد منه ، {ذلك بأنهم} أي : إنما أصابهم ذلك بسبب أنهم {شاقُوا اللهَ} ؛ خالَفوه {ورسوله} وفعلوا ما فعلوا ، مما حكي عنهم من القبائح ، {ومَن يُشاقِّ اللهَ} ، وقرئ : " يشاقِق " على الأصل. والاقتصار على مشاققته لتضمنها مشاققته عليه السلام ، وليوافق قوله تعالى : {فإنَّ الله شديدُ العقاب} ، والجملة : إما نفس الجزاء على حذف العائد ، أي : شديد العقاب له ، أو : تعليل للجزاء المحذوف ، أي : يُعاقبه لأنّ الله شديد العقاب.
الإشارة : " سبِّح لله " نزَّه الله تعالى مَن وجود الغيرية والإثنينية ما في سموات الأرواح من علوم الأحدية ، ونزّهه ما في أرض النفوس والعقول من البراهين القطعية عن الشبيه والنظير. والعارف الكامل هو الذي يجمع بين التنزيه والتشبيه في ذات واحدة ، في دفعة واحدة ، فالتنزيه من حيث ذات المعاني ، والتشبيه من حيث الأواني ، أو التنزيه من حيث الجمع ، والتشبيه من حيث الفرق ، أو التنزيه من حيث اسمه الباطن ، والتشبيه من حيث اسمه الظاهر. وانظر القشيري في مختصر الإشارات ، ولعل هذا المنزع هو الذي رام الجيلاني ، حيث قال في عينيته :
وإياكَ والتنزيهَ فهو مُقيّدٌ
وإياك والتشبيهَ فهو مُخَادِعُ
5
أي : لا تقف مع واحدٍ منهما ، فأطلق عنان المعاني في كل ما ترى ، ولا تشبه المعاني بشيء ، إذ ليس مثلها ولا معها فإياك أن تنزّه المعاني عن شيء ، فتقيّد عن الشهود فيه ، وإياك أن تشببها بشيء ؛ إذ ليس مثلها شيء في الوجود. والله تعالى أعلم. ولا يعلم هذا إلا أهل الذوق الكبير.
ثم قال تعالى : {هو الذي أخرج} الخواطر الردية ، والخبائث اليهودية ، من ديار القلوب ، عند أول حشرها إلى الحضرة ، ما ظننتم أن يخرجوا ، لتمكنها من النفس ، وتمرُّنها معها ، وظنوا أنهم مانعتهم حصونُهم من الله ، حيث تحصّنوا بتمكن العوائد ورسوخها في النفس ، ومخالطة الأحباب والعشائر ، والرئاسة والجاه والمال ، فأتاهم الله من حيث لم يحتسِبوا ، حيث قيَّض لها شيخاً عارفاً ، وقذف في القلب خوفاً مزعجاً ، أو شوقاً مقلقاً ، وقذف في قلوبهم الرعب ، فخرجت تلك الخبائث قهراً ، يُخربون بيوتهم ، أي : بيوت ظواهرهم بأيديهم وأيدي المؤمنين ، أي : بإعانة المشايخ والإخوان ، فطهَّروا بواطنهم من الخبائث ، وخرّبوا ظواهرهم من زينة الحس ، فحينئذ تعمّرت بواطنُهم بأسرار العلوم والمعارف ، فاعتبروا يا أولي الأبصار ، وافعلوا مثل فعلهم ، ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء من القلوب ؛ لعذّبهم في الدنيا بالحرص والجزع والطمع ، ولهم في الآخرة عذاب نار القطيعة ، بعد إسدال الحجاب في الدنيا ، ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ؛ إذ كل مخالفة إنما هي من النفس وجنودها في عالم الحكمة.(8/5)
جزء : 8 رقم الصفحة : 3
{ما قطعتم من لِّينَةٍ} ، قال القشيري : هو نوع من النخل ما عَدا العجوة والبَرْنِيّ ، أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقطعها من مال بني النضير ، فقطع بعضها ، فقالت اليهود : أي فائدة في هذا ؟ فبقي المسلمون في الجواب ، فأنزل الله هذه الآية. هـ. وأصلها : لونة ، من الألوان ، فقلبت ياء ، وقيل : اللينة : النخلة الكريمة ، كأنهم اشتقوها من اللين ، أي : أيّ شيء قطعتم من لِينة {أو تركتموها قائمةً على أصولها} من غير أن تتعرضوا لها بشيء {فبإذن الله} ؛ فقطعها وتركها بإذن الله ، {وليُخزي الفاسقين} أي : وليذل اليهود ويغيظهم أذِنَ في قطعها وقلعها وفي تركها ، وأمر المؤمنين أن يحتكموا في أموالهم كيف شاؤوا. واستُدل به على جواز هدم ديار الكفرة ، وقطع أشجارهم ، وحرق زروعهم ، إذا لم يُرج وكان فيه إنكاء للعدو. وتخصيص اللينة بالقطع ليكون غيظهم أشد.
الإشارة : قَطْعُ شجرة حب الدنيا من القلب واجب على المريد في بدايته ، ولو أدّى إلى إفساد المال لإصلاح قلبه ، ارتكاباً لأخف الضررين ، ومنه : قضية الشبلي في إحراق
6
ثوب وقلنسوته ، في حكاية التلميذ ، فإذا تمكن من المعرفة خُيِّر ، وله يقال : {ما قطعتم من لينة أو تركتموها...} الآية. وقال القشيري بعد تفسير الظاهر : وفيه دليل على أن الشرع غير مُعَلل ، فإذا جاء الأمر الشرعي بَطَلَ طلب التعليل ، وسكتَت الألسن عن المطالبة بـ " لِمَ " وخُطورُ الاعتراض والاستقباحِ بالبال خروج عن حدّ العرفان ، والشيوخ قالوا : مَن قال لأستاذه : " لِمَ " لا يفلح ، وكل مريدٍ يكون لأمثال هذه الخواطر جولان في قلبه لا يجيءُ منه شيء ، ومَن لم يتجرّد قلبُه عن طلب الإعلال ، ولم يباشِرْ حُسْنَ الرضا بكل ما يجري ، واستحسانَ ، كل ما يبدو من الغيب من الله سرّه وقلبَه فليس من الله في شيء. هـ. ومثله قول الحِكَم : " ما ترك مِن الجهل شيئاً مَن أراد أن يظهر في الوقت غير ما أظهره الله فيه ".(8/6)
جزء : 8 رقم الصفحة : 6
قلت : جملة {وما أفاء} : شرطية معطوفة على مثلها ، وهو : {ما قطعتم..} الآية ، وكلتاهما إخبار وإعلام ، أي : اعلموا أن ذلك القطع والترك كان بإذن الله ، وذلك الفيء كان بتسليط الله لا بسعيكم ، لكنه لم يُعلم منه كيفية القسمة ، فبيّنها بعدُ بقوله : {وما أفاء الله على رسوله...} الخ ، وقيل : غير ذلك على ما سيأتي.
يقول الحق جلّ جلاله : {وما أفاء الله على رسوله منهم} أي : ما أعاده الله من مالهم ، وفيه إشعار بأنه كان حقيقاً بأن يكون له صلى الله عليه وسلم ، وإنما وقع في أيديهم بغير حق ، فردّه الله تعالى إلى مستحقه ، لأنه تعالى خلق الناس لعبادته ، وخَلَقَ ما خَلَقَ ليتوسَلوا به إلى طاعته ، فهو جديرٌ بأن يكون للمؤمنين. {فما أوجفتمْ عليه} أي : فما أجريتم على تحصيله وتغنيمه ، من : الوجيف ، وهو : سرعة السير ، و " مِن " في قوله : {مِن خَيْلَ ولا رِكابٍ} زائدة لتأكيد النفي ، أي : فما أجريتم على تحصيله خيلاً ولا ركاباً ، وهو ما يركب من الإبل خاصة ، كما أنَّ الراكب عندهم راكبها لا غير ، وأمّا راكب الفرس فإنما يُسمونه فارساً ، ولا واحد لها من لفظها ، وإنما الواحد منها : راحلة. والمعنى : ما قطعتم لها شقةً بعيدة ، ولا لقيتم مشقة شديدة ، وذلك لأن قُراهم كانت على ميلين من المدينة ، فمشوا إليها مشياً ، وما كان فيهم إلاَّ النبي صلى الله عليه وسلم فَفَتَحَها صُلحاً ، كأنه قيل : ما أفاء الله على رسوله فما حصَّلتموه بكد اليمين ولا بعرق الجبين ، {ولكنَّ اللهَ يُسَلِّطُ رسلَه على مَن
7
يشاء} أي : ولكن جرت سنّة الله أن يُسلّط رسلَه على مَن يشاء من أعدائهم ، وقد سلّط رسولَه صلى الله عليه وسلم تسليطاً غير معتاد ، من غير أن تقتحموا الخطوب ، وتُقاسموا شدائد الحروب ، فلا حقّ لكم في أموالهم. {واللهُ على كل شيء قدير} يفعل ما يشاء ، تارة على الوجوه المعهودة ، وأخرى على غيرها.(8/7)
جزء : 8 رقم الصفحة : 7
ثم بيّن قسمة الفيء ، فقال : {ما أفاء اللهُ على رسوله من أهل القُرى} ، فلم يدخل العاطف ؛ لأنَّ الجملة بيان للأولى ، وقيل : الأولى نزلت في أموال بني النضير ، وقد جعلها الله لرسوله خاصة ، فقسمها على المهاجرين ، ولم يُعط الأنصارَ منها ، إلاّ لثلاثة ، لفقرهم ، أبو دُجانة ، وسهل بن حنيف ، والحارث بن الصمة ، والثانية : نزلت في كل قريةٍ فُتحت عنوة ، وهو الظاهر ، فقال في بيان مصرف الفيء : {فللّه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل}. واختلف في قسمته ، فقيل : يُسدس لظاهر الآية ، ويُصرف سهم الله إلى عمارة الكعبة وسائر المساجد ، وقيل : يُخمس ، وذكر الله للتعظيم ، ويُصرف سهم الرسول للإمام على قولٍ ، وإلى العساكر والثغور على قولٍ ، وإلى مصالح المسلمين على قولٍ. وقد تقدّم في سورة الأنفال تحقيقه. وإنما بيّنا قسمته ، {كي لا يكون دُولَة} أي : كي لا يكون الفيء الذي حقه أن يكون للفقراء يعيشون به {دُولة بين الأغنياء منكم} أي : يتداوله الأغنياء بينهم ، ويختصُّون به. والدولة : ما يدول للإنسان ، أي : ما يدور له من الغنى والجدّ والغلبة وغيرها ، وقيل : الدولة - بالفتح - من المُلك ، وبالضم من المِلك - بالكسر-.
{وما آتاكم الرسولُ} أي : ما أعطاكموه من الفيء أو من الأمر ، {فَخُذوه} فاقبلوه ، أو : افعلوه ، فإنه واجب ، {وما نهاكم عنه} أي : عن أخذه ، أو عن تعاطيه {فانتهوا} عنه ، ولا تطلبوه ، أو : لا تفعلوه ، لَمَّا خصّ عليه السلام المهاجرين بفيء بني النضير وما حولها من القرى ، قالت الأنصار : لنا معهم سهم ، فنزلت {واتقوا الله} في مخالفته عليه السلام ، {إنَّ الله شديدُ العقاب} لمَن خالف رسولَه صلى الله عليه وسلم ، والأحسن : أن يكون عاماً في كل ما جاء به الرسول ، والفيء داخل في العموم.
الإشارة : العلم على قسمين ؛ علم وهبي إلهي ، يفيض على رسول القلب ، بمحض الفضل والجود ، وهو ما يختص بأسرار الربوبية فهذا يختص به صاحبه ، ولا يبذله لغيره إلاّ مَن بذل نفسه له ، وإليه تُشير الآية الأولى. وعلم كسبي ، يُكتسب بالجد والتشمير في تعلُّمه وأخذه ، فهذا يجب بذله لعامة الناس وخاصتهم ، وإليه تشير الآية الثانية. وإنما اختص علم السر بأهله كي لا يكون دُولة بين الأغنياء من أهل الظاهر ، فيُبتذل ويُشتهر ، وهو فساد نظام العالم. وقوله تعالى : {وما آتاكم الرسولُ فخُذوه} قال القشيري : هذا
8
أصل في وجوب متابعة الرسول ، ولزوم طريقته وسنته ، على ما في العلم تفصيله. والواجبُ على العبد عَرْضُ ما وقع له من الخواطر ، ويُكاشَفُ به من الأحوالِ ، على العلم ، فما لم يقبله الكتاب والسنّة فهو ضلال. هـ.(8/8)
جزء : 8 رقم الصفحة : 7
قلت : " للفقراء " يتعلق بمحذوف ، أي : يعطي ، أو : اعْجَبوا ، على أنه استئناف ، وقيل : بدل من " ذي القربى ". و " وتبوؤوا الدارَ والإيمان " أي : وأَلِفوا الإيمان ، ولا يصح العطف ؛ لئلا يلزم أنّ الإيمان متبوأ ، وإنما يُتبوأ المنزل ؛ إذ التبوء : التهيؤ ، يقال : بوأت له منزلاً ، أي : هيأته له ، وفي إعراب الحوفي في سورة آل عمران : يقال تبوأ فلان الدار إذا لزمها. هـ. فعلى هذا يصح العطف ، ولا يحتاج إلى تقدير عاملٍ آخر. قال ابن هشام : ولا يجوز كون الإيمان مفعولاً معه ؛ لعدم الفائدة في تقييد الأنصار المعطوفين على المهاجرين بمصاحبة الإيمان ، إذ هو أمر معلوم. هـ. وانظر ابن جزي ، فإنه هو الوجه المستحسن عنده في توجيه الآية ، والمعنى : أنهم جمعوا بين الحالتين قبل المهاجرين ؛ لأن المهاجرين إنما سبقوهم بالإيمان ، لا بنزول الدار ، قال : فيكون الإيمان على هذا مفعولاً معه ، وأصله لابن عطية ، وبهذا الاقتراح يصح معنى قوله : {مِن قبلهم} فتأمله. انظر الحاشية.
يقول الحق جلّ جلاله : {للفقراءِ} أي : يعطى الفيء للفقراء {المهاجرين الذين أُخرجوا من ديارهم وأموالِهم} حيث اضطرهم كفارُ مكة إلى الخروج من مكة ، وكانوا مائة رجل. وفيه دليل على أنّ الكفار يملكون ما استولوا عليه من أموال المسلمين ؛ لأنّ الله تعالى سمّاهم فقراء ، مع أنهم كانت لهم ديار وأموال بمكة ، فخرجوا {يبتغون فضلاً من الله ورضواناً} أي : طالبين منه تعالى رزقاً في الدنيا ، ورضا في الآخرة ، أو : يطلبون الجنة ورضوان الله أو : زيادة في الإيمان والرضوان ، {وينصرون اللهَ ورسولَه} أي : ناوين نصرة دين الله وإعانة رسوله ، {أولئك} الموصوفون بما فصّل من الصفات الحميدة {هُم الصادقون} ؛ الراسخون في الصدق ، حيث ظهر ذلك عليهم ؛ بما فعلوا من مفارقة الأوطان والأهل والولدان.
9
{والذين تبوؤوا الدارَ والإِيمانَ} ، هذا استئناف مسوق لمدح الأنصار بخصال حميدة ، من جملتها : محبتهم للمهاجرين ، ورضاهم باختصاصهم بالفيء أكمل رضا ، أي : اتخذوا المدينة والإيمان مباءة وسكناً وتمكّنوا فيهما أشد تمكين ، {مِن قبلهم} أي : من قبل هجرة المهاجرين ، أو تبوؤوا الدار ولزموا الإيمان ، ولزومه : إخلاصه وظهور شعائره وأحكامه ، ولا ريب في تقدُّم الأنصار في ذلك على المهاجرين ؛ لأنّ المهاجرين لم يتأتَّ لهم أظهاره قبل الهجرة ، فتقدمهم في إظهاره فقط ، لا في إخلاصه ؛ إذ لا يتصور تقدمهم عليهم في ذلك.
{(8/9)
جزء : 8 رقم الصفحة : 9
يُحبون مَنْ هاجر إليهم} حتى شاطروهم أموالهم ، وأنزلوهم منازلهم ، ونزل مَن كانت له امرأتان عن إحداهما ليتزوجها المهاجري ، ومحبتهم للمهاجرين من حيث هجرتهم لنصرة الدين لشدة محبتهم للإيمان ، {ولا يجدون في صُدورهم} ؛ في نفوسهم {حاجةً} أي : شيئاً محتاجاً إليه ، يقال : خذ منه حاجتك ، أي : ما تحتاج إليه ، يعني : أنّ نفوسهم لم تتبع ما أوتوا من الفيء ، ولم تطمح إلى شيء منه تحتاج إليه ، وقيل : حاجة : حسداً أو كزازة ، مما أُعطي المهاجرون من الفيء ، حيث خصّهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم به. {ويُؤثرون على أنفسهم} أي : يُقدمون المهاجرين على أنفسهم في كل شيء من أسباب المعاش ، {ولو كان بهم خصاصةٌ} أي : حاجة وخلّة ، وأصلها : خُصاص البيت ، أي : فروجه. والجملة : حال ، أي : يُؤثرون في حال خصاصتهم. قال ابن عباس : لما ظفر النبيُّ صلى الله عليه وسلم بأموال بني النضير ، قال للأنصار : إن شئتم قسمتم للمهاجرين من أموالكم ودياركم ، وشاركتموهم في هذه الغنيمة ، وإن شئتم كانت لكم دياركم وأموالكم ، ولم يقسم لكم شيء من الغنيمة ، فقالت الأنصار : بل نقسم لهم من ديارنا وأموالنا ، ونؤثرهم بالغنيمة ، ولا نُشاركهم فيها ، فنزلت. وهذا صريح في أنَّ قوله تعالى : {والذين تبوؤوا الدار} استئناف غير معطوف على الفقراء المهاجرين ، نعم يجوز عطفه عليهم باعتبار شركة الأنصار للمهاجرين في الصدق ، دون الفيء ، فيكون قوله تعالى : {يُحبون} وما عطف عليه استئنافاً مقرراً لصدقهم ، أو حال. قاله أبو السعود.
قلت : إذا جعلنا قولَه تعالى : {ما أفاء اللهُ على رسوله مِن أهل القُرى} استئنافاً غير مُبيّنِ لِما قبله ، بل في كل فيء يأتي بعد بني النضير ، صحّ عطف الأنصار على فقراء المهاجرين في كل شيء ، وكذا قوله : {والذين جاؤوا مِن بعدهم} عطف عليهم ، فيكون المعنى : يقسم الفيء للفقراء المهاجرين ، وللذين تبوؤوا الدار والإيمان من قبلهم ، وللذين جاؤوا مِن بعدهم. ويؤيد هذا ما رُوي أنّ عمر رضي الله عنه لمّا قرأ هذه الآية إلى آخرها قال : هذه الآية استوعبت المسلمين ، ما على وجه الأرض مسلم إلاَّ وله في هذا الفيء حق ، إلا ما ملكت أيْمَانهم. هـ.
وقيل : نزلت في ضيفٍ نزل بالنبي صلى الله عليه وسلم فلم يجد عنده شيئاً ، فقال صلى الله عليه وسلم : " مَن يُضيف
10
هذا ؟ " فقال : رجلٌ من الأنصار - قيل : أبو طلحة ، أنا يا رسول الله ، فلم يجد من الطعام إلاّ ما يكفي الصبية ، فقال لامرأته : نوّمي الصبيان ، وأطِفئي السراج ، وقرّبي الطعام ، فنظهر للضيف أنَّا نأكل معه ، ونمضغ ألسنتنا ليأكل ، فأكل الضيف وحده ، فلما أصبح قال صلى الله عليه وسلم للرجل : " إنَّ الله ضحك مِن فعلكما " عن أنس : أُهدي لبعضهم رأس مشويّ ، وهو مجهود ، فَوَجَّهه إلى جارِه ، وجارُه وَجَّهَه إلى جارِه ، فتداولته تسعةُ أنْفُس ، حتى عاد إلى الأول.
{(8/10)
جزء : 8 رقم الصفحة : 9
ومَن يُوق شُحَّ نفسه} أي : مَن يقيه الله شحَّ نفسه حتى يغالبها فيما يغلب عليها ، مِن حب المال وبُغضَ الإنفاق ، {فأولئك هم المفلحون} ؛ الفائزون بكل مطلوب ، والناجون من كل مرهوب. والشح - بالضم والكسر - : اللُّؤم ، وأن تكون نفس الرجل كزّةً حريصة على المنع. وإضافته إلى النفس لأنه غريزة فيها ، وأما البخل فهم المنع نفسه ، وقيل : الشُح : أكل مال أخيك ظلماً ، والبخل : منع مالك ، وقيل : الشُح : منع ما عندك والطمع في غيرك ، والبُخل : منع مالك من غير طمع ، فالشُح أقبح من البخل. والجملة : اعتراض وارد لمدح الأنصار بالسخاء ، بعد مدحهم بالإيثار. وجميع الإشارة باعتبار " مَن " لأنها واقعة على الجمع.
ثم ذكر التابعين ، فقال : {والذين جاؤوا مِن بعدهم} هم التابعون بإحسان إلى يوم القيامة ، وقيل : هم الذين هاجروا بعدما قوي الإسلام ، {يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان} ، وصفوهم بذلك اعترافاً بفضلهم ، وعن عائشة رضي الله عنها : " أُمِرُوا بأن يستغفروا لهم ، فسبُّوهم " {ولا تجعل في قلوبنا غِلاًّ} أي : حقداً وعداوة {للذين آمنوا} على الإطلاق ، {ربنا إِنك رؤوف رحيم} ؛ مبالغ في الرأفة والرحمة ، فأنت حقيق بأن تجيب دعاءنا برأفتك ورحمتك.
الإشارة : الذين يستحقون المواهب ، والفيض الإلهي والاصطفاء ، ثلاث أصناف ، الأول : الفقراء الذين هاجروا أوطانهم ، وتركوا ديارهم وعشائرهم ؛ طلباً لصلاح قلوبهم وأسرارهم ، والثاني : القوم الذين نزلوا بهم إذا آووهم وآثروهم بأموالهم وأنفسهم ، الثالث : مَن جاء بعدهم طلباً لذلك ، على الوصف الذي ذكره الحق {يقولون ربنا اغفر لنا...} الخ. قال الورتجبي : قوله تعالى : {والذين تبوؤوا الدارَ والإيمان...} الخ ، أثنى الله سبحانه على الفقراء ، ووصَفَهم بأحسن الوصف ، إذ كانوا صادقين في فقرهم ، ثم أثنى على الأغنياء لِصدقهم في غناهم ، ووصَفَهم بالإيمان والمعرفة بالله من قبلهم ولزومهم مواضع قربه ، وخفضِهم جناحهم لإخوانهم من الفقراء ، ومحبتهم ، وتقديسهم من الحسد والشح والبُغض وحب الدنيا ، ثم وَصَفَهم بالسخاء والإيثار ، فلم يبقَ في قلوبهم من حب
11
الدنيا وجاهها ذرة. ومَنْ سجيتُه مقدسة مِن حرص نفسه أفلح وظفر برؤية ربه. هـ. قلت : كأنه يشير إلى أنَّ قوله تعالى : {للفقراء المهاجرين} هم أهل السير من المريدين ، وقوله تعالى : {والذين تبوؤوا الدار...} هو الواصلون العارفون ، أي : تبوؤوا دارَ المعرفة ، حيث سكنوها ، ورسخوا فيها ، وأَلفِوا الإيمان وذاقوا حلاوته.(8/11)
جزء : 8 رقم الصفحة : 9
وقوله تعالى : {ويُؤثرون على أنفسهم...} الخ ، بعد أن وَصَفَهم بقطع الطمع والحرص ، والزهد فيما لم يملكوا بقوله : {ولا يجدون في صدورهم حاجة} وَصَفَهم بالإيثار فيما ملكوا ، وبذلك يتم تحقيق خروج الدنيا من قلوبهم ، بحيث لا يتعلق القلب بما فات منها ، ولا يُمسك ما وجد منها ، بل يُؤثر به مع الحاجة إليه ، فالآية تشير إلى سلامة الصدور ، وسخاوة الأنفس ، وهذا كان وصف الصحابة - رضي الله عنهم - وبهذين الخصلتين فاقوا جميعَ الناس ، وهي أخلاق الصوفية - رضي الله عنهم - قال الشيخ أبو يزيد : ما غلبني أحد غير شاب من بَلْخ ، قَدِمَ حاجًّا ، فقال : يا أبا يزيد ، ما الزهد عندكم ؟ فقلت : إذا وجدنا أكلنا ، وإذا فقدنا صبرنا ، فقال : هكذا عندنا الكلاب ببلخ ، فقلت : وما الزهد عندكم ؟ فقال : إذا وجدنا آثرنا ، وإذا فقدنا شكرنا. هـ. وسُئل ذو النون : ما حد الزاهد المشروح صدره ؟ فقال : ثلاثة ؛ تفريق المجموع ، وترك طلب المفقود ، والإيثار عند القوت. هـ.(8/12)
جزء : 8 رقم الصفحة : 9
يقول الحق جلّ جلاله : {ألم تَرَ إلى الذين نافقوا} أي : ألم ترَ يا محمد ، أو : يا مَن يسمع ، إلى عبد الله بن أُبيّ وأشياعه ؟ حكاية لما جرى بين الكفرة والمنافقين ، من الأقوال الكاذبة والأحوال الفاسدة ، بعد حكاية محاسن أقوال المؤمنين ، وأحوالهم الحميدة ، على اختلاف طبقاتهم. وقوله تعالى : {يقولون} استئناف لبيان المتعجب منه ، وصيغة المضارع للدلالة على استمرار قولهم ، أو : لاستحضار صورته. واللام في قوله : {لإِخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب} للتبليغ ، والمراد بالأخوة : أخوة الكفر ، واللام في قوله : {لئن أُخرجتم} موطئة للقسم ، و {لنَخَرُجَنَّ} جوابه ، أي : والله لئن أُخرجتم من دياركم
12
{لنَخْرُجَنَّ معكم} ، رُوي أن ابن أُبي وأصحابه دسُّوا إلى بني النضير ، حين حاصرهم النبي صلى الله عليه وسلم : لا تخرجوا من الحصن ، فإن قاتلوكم فنحن معكم ، لا نخذلكم ، ولئن أُخرجتم لنخرُجن معكم ، {ولا نُطيعُ فيكم} ؛ في قتالكم {أحداً أبداً} ، يعني رسول الله والمسلمين ، أو : لا نُطيع في خذلانكم وإخلاف ما وعدناكم من النصرة أحداً ، وإن طال الزمان ، {وإن قُوتلتم لننصرنكم} ، قال تعالى في تكذيبهم : {واللهُ يشهد إنهم لكاذبون} في مواعدهم المؤكدة بأيمانهم الفاجرة.
{لئن أُخرجوا لا يخرجون معهم ولئن قُوتلوا لا ينصرونهم} ، وكان الأمر كذلك ، فلم يقدر أحد أن يرفع رأسه لنصرتهم ، ففيه معجزة واضحة ، {ولئن نصروهم} على الفرض والتقدير ، {ليُوَلُّنَّ الأدبارَ} فراراً {ثم لا يُنصرون} أبداً ، إما المنافقون أو اليهود ، أي : لا تكون لهم شوكة أبداً. وإنما قال : {ولئن نصروهم} بعد الإخبار بأنهم لا ينصرونهم ، أي : على الفرض والتقدير كقوله : {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر : 65] ، والحق تعالى كما يعلم ما يكون ، يعلم ما لا يكون أن لو كان كيف يكون.
{(8/13)
جزء : 8 رقم الصفحة : 12
لأنتم أشدُّ رهبةً} أي : أشد مرهوبية ، مصدر : رُهِبَ ، المبني للمفعول ، أي : أنتم أشد خوفاً {في صُدورهم من الله} دلالة على نفاقهم ، يعني : إنهم يُظهرون لكم في العلانية خوفَ الله ، وأنتم أهيب في صدورهم من الله ، {ذلك} أي : ما ذكر من كون رهبتهم منكم أشد من رهبة الله {بأنهم قوم لا يفقهون} شيئاً حتى يعلموا عظمة الله تعالى ، فيخشوه حق خشيته.
{لا يُقاتلونكم} أي : اليهود والمنافقون ، أي : لا يقدرون على قتالكم {جميعاً} ؛ مجتمعين متفقين في موطن من المواطن ، {إلاّ في قُرىً محصنةٍ} ، بالدُّروب والخنادق ، {أو مِن وراء جُدُر} دون أن يصحروا ويبارزوكم ؛ لفرط رهبتهم. وقرأ المكي : " جدار " بالإفراد. {بأسُهم بينهم شديدٌ} ، بيان لِما ذكر من أنَّ رهبتهم ليس لضعفهم وجُبنهم في أنفسهم ، فإنّ بأسهم بالنسبة إلى أقرانهم شديد ، وإنما ضعفُهم وجبنهُم بالنسبة إليكم ، بما قذف الله تعالى في قلوبهم من الرعب.
{تَحْسَبُهم} أي : المنافقين واليهود {جميعاً} أي : مجتمعين ذوي أُلفة واتحاد ، {وقلوبُهم شَتَّى} ؛ متفرقة لا أُلفة بينها. قال ابن عطية : وهذه حالة الجماعة المتخاذلة. هـ. يعني : أنّ بينهم إحناً وعداوات ، فلا يتعاضدون حقَّ التناصر ولا ينصرون أبداً. قال القشيري : اجتماع النفوس مع تنافر القلوب أصلِ كل فساد ، وموجب كل تخاذل ، واتفاق القلوب ، والاشتراك في الهمّة ، والتساوي في القصد ، يُوجب كلٍّ ظفرٍ وسعادة. هـ. وما وصف به الحق تعالى المنافقين واليهود كله تجسير للمؤمنين ، وتشجيع لقلوبهم على قتالهم. {ذلك} التفرُّق {بأنهم قوم لا يعقلون} شيئاً ، حتى يعرفوا الحق ويتبعوه ، وتطئمن به قلوبهم ، وتتحد كلمتهم ، ويَرمُوا عن قوس واحدة ، لكن لّمَّا جهلوا الحق
13
تشتتت طُرُقهم ، وتشتتت القلوب حسب تشتُّت الطُرق ، وأما ما قيل من أنّ المعنى : لا يعقلون أنّ تشتيت القلوب مما يُوهن قلوبهم ، فبعيد.
الإشارة : إذا حاصر المريدُ قريةَ القلب ليُخرج منها الأوصاف المذمومة لتتهيأ لسكنى سلطان المعرفة ، تقول الحظوظ والأهوية المنافقة للنفس ، وأوصافها اليهودية : لا تخرجوا ، فنحن نُعاونكم ، وفي نصرتكم ، لئن أُخرجتم لنخرجنَّ معكم ، ولا نُطيع فيكم أحداً أبداً ، وإن قوتلتم بالمجاهدة والرياضة ؛ لننصرنكم بالتخاذل والتثُّبط ، والله يشهد أنهم لكاذبون ؛ إذ لا قدرة لشيء إلاّ بإذن الله. {لئن أُخرجوا لا يخرجون معهم...} الآية. لا يقاتلونكم جميعاً ، أي : لا يجتمع جند الهوى النفس على قتالكم ، إلاّ في قلوب غافلة ، شديدة العلائق والمساوىء محصنة من دخول النور بأسوار الشواغل والعلائق ، أو : تُوَسْوِس من وراء جُدُر الإيمان ، وأما القلوب الفارغة من الشواغل ، المطهرة من المساوئ ، فإنما يقاتلها البعض الباقي فيها. بأسهم بينهم شديد ، أي : الحرب بينهم سجال ، إذا غلب جند النفس استولت ظلماتها على الروح ، وإذا غلب جند القلب والروح استولى النورُ على ظلمة النفس ، تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى ، أي : تظنون أنَّ مهاوي الهوى ومهاوي النفس واحدة ، وقلوبهم شتى ، فالأهواء مختلفة ، والحظوظ متفاوتة ، والمساوىء متفرقة ، فلكل شخص حظ ، ولكل نفس هوى غير ما يشتهي الآخر ، وذلك بأنهم قوم لا يعقلون ، ولو عقلوا لاتفقت أهواؤهم في محبة الله ورسوله ، قال صلى الله عليه وسلم : " لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تابعاً لما جئتُ به ".(8/14)
جزء : 8 رقم الصفحة : 12
يقول الحق جلّ جلاله : مَثَلهم ، أي : مثل اليهود في حلول البأس بهم {كَمَثَلِ الذين مِن قبلهم} وهم أهل بدر {قريبًا} أي : استقر مِن قبلهم زمنًا قريبًا ، فكانت غزوة بني النضير على رأس ستة أشهر من بدر ، كما صدر به البخاري عن الزهري. ثم قال : وجعله ابن إسحاق بعد بئر معونة وأُحد. هـ. قلت : وهو الموافق لِما تقدم في صدر السورة ، وهو المشهور ، {ذاقوا وبالَ أمرِهم} أي : ذاقوا سوء عاقبة أمرهم وعداوتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو القتل في الدنيا ، {ولهم} مع ذلك في الآخرة {عذابٌ أليمٌ}.
ومَثَل المنافقين {كَمَثَلِ الشيطانِ إِذ قال للإِنسان اكْفُرْ فلما كفر قال إِني بريء منك
14
إِني أخاف اللهَ ربَّ العالمين} أي : مثل المنافقين في أغوائهم اليهود على القتال ، ووعدهم إياهم النصر ، ثم مشاركتهم لهم وخذلانهم كمثل الشيطان إذ استغوى الإنسان بكيده ، ثم تبرّأ منه في العاقبة. وقيل : المراد : استغواؤه قريشًا يوم بدر ، وقوله : {لاَ غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ} [الأنفال : 48] إلى قوله : {إِنِّي بَرِياءٌ مِّنْكُمْ} [الأنفال : 48]. قال أبو السعود : وقد أجمل في النظم الكريم ، حيث أسند كُلاًّ من الخبرين إلى المقدّر المضاف إلى ضمير الفريقين من غير تعيين ما أسند إليه بخصوصه ، ثقةً بأنّ السامع يَرُد كُلاًّ مِن المثالين إلى ما يُماثله ، كأنه قيل : مَثَل اليهود في حلول العذاب ، كمَثَل الذين من قبلهم... الخ ، ومثل المنافقين في إغرائهم إياهم على القتال حسبما تقدّم عنهم كمثل الشيطان...الخ. هـ. {فكان عَاقِبتهما} أي : عاقبة الإنسان الكافر والشيطان ، {أنهما في النار خالِدَيْن فيها} ، فـ " عاقبتهما " : خبر كان ، و " أنهما " اسمها ، و " خالِدَين " : حال. {وذلك جزاءُ الظالمين} أي : الخلود في النار جزاء كل ظالم. وذكر الثعلبي هنا قصة برصيصا الراهب الطويلة ، فانظرها فيه ، ففيها عبرة ، وقيل : فيه نزلت الآية.(8/15)
جزء : 8 رقم الصفحة : 14
الإشارة : مثل الأوصاف المذمومة حيث ترد عليها أنوار الشهود ؛ كمثل كفار قريش حين استولت عليها الأنصار والمهاجرون ، وأمدّهم الله بملائكة السماء ، فهزموهم وقتلوهم ، ودفنوهم في القليب ، ومثل النفوس الأمّارة وجنودها ، كمثل الشيطان يوسوس بالمعاصي ، ثم يرجع ، فكان عاقبتهما إذا أطاعه الإنسان أنهما في النار القطيعة خالدَين فيها ، وذلك جزاء الظالمين لنفوسهم ، حيث حرموها الوصول. والله تعالى أعلم.(8/16)
جزء : 8 رقم الصفحة : 14
يقول الحقّ جلّ جلاله : {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله} في كل ما تأتون وتذرون ، {ولتنظرْ نَفْس ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ} أي : أيّ شيء قدمت من الأعمال الصالحة ليوم القيامة. سمّاه باليوم الذي يلي يومك تقريبًا له ، أو عبّر عن الآخرة بالغد ، كأنّ الدنيا والآخرة نهاران يوم وغد ، وتنكيره لتفخيمه وتهويله ، كأنه قيل : لغد لا يعرف كنهه لغاية عِظمه. وعن مالك بن دينار : مكتوب على باب الجنة : وجدنا ما عملنا ، ربحنا ما قدّمنا ، خسرنا ما خلفنا. {واتقوا اللهَ} ، كرر تأكيدًا للأمر بالتقوى ، أو الأول في أداء الواجبات ، كما يشعر به ما بعده من الأمر بالعمل ، وهذا في ترك المعاصي ، كما يؤذن به الوعيد في قوله : {إِنَّ الله خبير بما تعملون} أي : من المعاصي.
{ولا تكونوا كالذين نَسُوا اللهَ} أي : نسوا حقوقه تعالى أو : تركوا ذكره ، {فأنساهم أنفسهم} ؛
15
فأهملهم ولم يذكرهم بتوفيقِ ولا هداية ، أو : جعلهم ناسين لها حتى لم يسمعوا ما ينفعها ، ولم يفعلوا ما يخلصها ، أو : أراهم يوم القيامة من الأهوال ما أنساهم أنفسهم ، {أولئك هم الفاسقون} ؛ الكاملون في الفسق.
{لا يستوي أصحابُ النار} الذي نسوا الله فاستحقُّوا الخلود في النار {وأصحابُ الجنة} الذين اتقوا الله ، فاستحقُّوا الخلود في الجنة ، {أصحابُ الجنة هم الفائزون} ، وهذا تنبيه وإيقاظ وإيذان بأن غفلتهم وقلة فكرهم في العاقبة ، وتهالكهم ، على إيثار العاجلة واتباع الشهوات ، كأنهم لايعرفون الفرق بين الجنة والنار ، والبَوْن العظيم بين أصحابها ، وأنَّ الفوز العظيم لأصحاب الجنة ، والعذاب الأليم لأصحاب النار ، فمِن حقهم أن يعلموا وينتبهوا له ، كما تقول لمَن يعق أباه : هو أبوك ، تجعله بمنزلة مَن لا يعرفه ؛ لتنبهه بذلك على حق الأبوة الذي يقتضي البر والتعطُّف. واستدل بالآية على أنّ المسلم لا يُقتل بالكافر ، وأنَّ الكفار لا يملكون أموال المسلمين ، ورُدَّ بأنَّ عدم الاستواء إنما هو في الأحوال الأخروية ، لا الدنيوية. والله تعالى أعلم.(8/17)
جزء : 8 رقم الصفحة : 15
الإشارة : {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله} ، أن تشهدوا معه سواه {ولتنظر نفس ما قدمت لغدٍ} من المعرفة ، فإنّ الشهود يوم القيامة على قدر المعرفة هنا ، " واتقوا الله " فلا تؤثروا عليه سواه ، {ولا تكونوا كالذين نسوا الله} أي : ذكره والتوجه إليه ، " فأنساهم أنفسهم " أي : غيّبهم عن إصلاحها وعلاجها ، حتى ماتت في أودية الخواطر والشكوك ، " أولئك هم الفاسقون " الخارجون عن الحضرة المقدسة. " لا يستوي أصحاب النار " أي : نار القطيعة والحجاب " وأصحاب الجنة " أي : جنة المعارف ، " أصحاب الجنة هم الفائزون " بكل مطلوب ، الناجون من كل مرهوب.(8/18)
جزء : 8 رقم الصفحة : 15
يقول الحقّ جلّ جلاله : {لو أنزلنا هذا القرآن} العظيم الشأن ، المنطوي على فنون القوارع ، {على جبلٍ} من الجبال ، مع كونه علَماً في القسوة وعدم التأثير بما يُصادمه ، {لَرَأيته خاشعًا} ؛ خاضعًا متصدِّعًا متشققًا {من خشية الله} أي : من شأن القرآن وعظمته أنه لو جُعل في الجبل تمييز ، ونزل عليه ، لخضع وتطأطأ وتشقق من خشية الله ، وهذا تمثيل وتخييل لعلو شأن القرآن ، وقوة تأثير ما فيه من المواعظ ، كما ينطق به قوله تعالى : {وتلك الأمثالُ نضربها للناس لعلهم يتفكرون} ، وهي إشارة إلى هذا المثل ، وإلى أمثاله في مواضع من التنزيل. والمراد : توبيخ الإنسان على قسوة قلبه ، وقلة تخشُّعه عند تلاوة
16
القرآن ، وتدبُّر قوارعه وزواجره.
الإشارة : قال ابن عطاء : أشار إلى فضله على أوليائه وأهل معرفته ، أنَّ شيئًا من الأشياء لا يقوم لصفاته ، ولا يبقى مع تجلَّيه ، إِلاّ مَن قوّاه الله على ذلك ، وهو قلوب العارفين. هـ. قلت : وهذا في تجلِّي الصفات ، فما بالك بتجلِّي الذات ؟ ! فلا يطيقه إلاّ قلوب الراسخين المقربين ، وقال العارف الورتجبي : لو كانت الجبالُ مقامَ الإنسان في الخطاب لتدكدكت الجبال ، وتذرّرت ، وانفلتت الصخور الصم ، وانهدمت الشامخات العاليات ، في سطوات أنواره ، وهجوم سنا أقداره ، وذلك بأنها عرفت حقيقةً ، وأقرت بالعجز عن حمل هذا الخطاب العظيم حيث قال سبحانه : {فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا} [الأحزاب : 72]. قلت : وكأنه يُشير إلى أن تجلي صفة كلامه من جملة الأمانة التي عرضت على السموات والأرض والجبال ، فأبيْنَ أن يحملنها ، وهذه الأمانة هي تجلِّي الذات وتجلِّي الصفات ، فلم يطق حملها إلاَّ الإنسان الكامل ، وهو العارف الحقيقي ، أما عن تجلِّي الذات فقد أشفقت مِن حمله السمواتُ والأرضُ والجبالُ ، حسبما تقدّم. أما تجلِّي الصفات ؛ فذكر هنا أنه لو تجلّت للجبل لخضع وتشقّق ولم يطق حملها ، فلو زالت حُجب الغفلة عن القلوب لذابت من هيبة تجلِّي صفة كلامه وخطابه تعالى ، إلاَّ أنَّ الله تعالى قَوَّى قلوب أوليائه حتى أطاقوا شهود ذاته ، وسماع خطابه ، بعد انقشاع الحُجب عن قلوبهم. ثم قال الورتجبي : ولا تخض يا أخي في بحر كلام المتكلمين أنَّ الجبال ليس لها عقل ، فإِنَّ هناك أرواحًا وعقولاً لا يعلمها إلا الله {يَآجِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ} [سبأ : 10] ولو لا هناك ما يقبل الخطاب لما خاطبها ، فإنَّ ببعض الخطاب ومباشرة الأمر تهبط من خشية الله ، قال الله تعالى : {وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [البقرة : 74] والخشية : مكان العلم بالله وبخطابه. هـ. قلت : أسرار المعاني القائمة بالأواني سارية في الجمادات وغيرها ، فهي عاقلة عالمة في باطن الأمر.
والله تعالى أعلم.(8/19)
جزء : 8 رقم الصفحة : 16
يقول الحق جلّ جلاله : {هو اللهُ الذي لا إِله إِلاّ هو} وحده {عَالِمُ الغيبِ والشهادة} أي : ما غاب عن الحس من الأسرار القديمة ، وما حضر له من الأجرام الحسية. قال الورتجبي : أي : عالم بالمعلومات الغيبية قبل وجودها ، وبعد وجودها ، لا يزيد علمه بالغيب علمه بالعلانية ، لا علمه بالعلانية علمه بالغيب. هـ. وتقديم الغيب على
17
الشهادة لتقدُّمه في الوجود ، وتعلُّق العلم القديم به ، أو : المراد بالغيب : المعدوم ، وبالشهادة : الموجود ، أو السر والعلانية ، {هو الرحمنُ الرحيم} أي : الرحمن بجلائل النِعم ، والرحيم بدقائقها ، أو : الرحمن بنعمة الإيجاد ، والرحيم بنعمة الإمداد.
{هو اللهُ الذي لا إله إلاّ هو} ، كرر لإبراز الاعتناء بأمر التوحيد ، {الملكُ} ؛ المتصرف بالإطلاق ، الذي لا يزول مُلكه أبدًا ، {القدوسُ} ؛ البليغ في النزاهة عما لا يليق به. وقُرىء بالفتح ، وهي لغة فيه ، {السلام} ذو السلامة من كل نقص ، أو : الذي يَسلم الخلق من ظلمه ، أو : ذو السلام على أوليائه يوم القيامة ، {المؤمنُ} ؛ واهب الأمْن ، أو : المؤمن مِن عذابه مَن أطاعه ، أو المصدِّق لعباده إذا وحّدوه ، أو : المصدِّق للرسل بالمعجزات ، {المهيمِنُ} ؛ الرقيب الحافظ لكل شيء مُفَيْعِل ، من : الأمن ، بقلب همزته هاء ، {العزيزُ} ، الغالب الذي لا يُغلب ، {الجبَّارُ} الذي جَبَرَ خلقه على ما أراد ، أو : جبر أحوالهم ، أي : أصلحها ، {المتكبّر} الذي تكبّر عن كل ما يوجب حاجة أو نقصًا ، أو : البليغ الكبرياء والعظمة. {سبحان الله عما يشركون} ، نزَّه ذاته عما يصفه به المشركون إثر تعداد صفاته التي لا يمكن أن يُشارَك في شيءٍ منها أصلاً.
{هو اللهُ الخالقُ} ؛ المقدّر للأشياء على مقتضى حكمته ، {البارىء} ؛ الموجد لها بريةً من التفاوت ؛ وقيل : المميِز بعضها من بعض بالأشكال المختلفة ، {المُصَوِّر} ؛ الموجد لصورها وكيفيتها كما أراد. قال الغزالي : الخالق من حيث إنه مُقدِّر ، البارىء من حيث إنه مُوجد ، المصوِّر ، مِن حيث أنه مُصَوِّر صور المخترعات أحسن ترتيب ، ومُزيّنها أحسن تزيين. هـ. قلت : وحاصل كلامه : أن الخالق يرجع للإرادة ، والبارىء للقدرة ، والمُصَوِّر للحكمة ، والأحسن : أن يُقال : إنّ الخالق : المخترع للأشياء من غير أصل ، البارىء : المهيىء كلَّ ممكن لقبول صورته ، فهو من معنى الإرادة ؛ إذ متعلّقه التخصيص ، المُصَوِّر : المُعطي كل مخلوق ما هيىء له من صورة وجوده بحكمته ، فهو معاني اسمه " الحكيم ".
{(8/20)
جزء : 8 رقم الصفحة : 17
له الأسماءُ الحسنى} لدلالتها على المعاني الحسنة ، وتقدم عدها في آخر الإسراء. {يُسبح له ما في السمواتِ والإرض} ؛ ينطق بتنزيهه عن جميع النقائص تنزيهًا ظاهرًا ، {وهو العزيزُ} لا يُغلب ، {الحكيمُ} الذي لايمكن الاعتراض عليه في شيء من تقديراته. ختم السورة بما بدأ به من التسبيح. عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال : سألت حبيبي رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عن اسم الله الأعظم ؟ فقال : " عليك بآخر الحشر ، فأَكْثِر قراءته " ، فأعدتُ عليه ، فأعاد عليّ فأعدت عليه ، فأعاد عليّ ، وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : " مَن قال حين يُصبح ثلاث مرات : أعوذ بالله السيمع
18
العليم ، من الشيطان الرجيم ، وقرأ ثلاث آيات من آخر سورة الحشر ، وكّلَ اللهُ سبعين ألف ملك يُصلُّون عليه حتى يُمسي ، فإذا مات في ذلك اليوم مات شهيدًا ، ومَن قالها حين يُمسي كان بتلك المنزلة " رواه الترمذي. وأسند ابن جزي حديثًا إلى عبد الله بن مسعود : أنه قال : قرأتُ على النبي صلى الله عليه وسلم فلما انتهيت إلى آخر الحشر ، قال : " ضع يدك على رأسك " قلت : ولِمَ ذلك يا رسول الله ؟ قال : " أقرأني جبريلُ القرآنَ ، فلما انتهيت إلى آخر الحشر ، قال : ضع يدك على رأسك يا محمد ، قلت : ولمَ ذاك ؟ قال : إن الله تبارك وتعالى افتتح القرآن فضرب فيه ، فلما انتهى إلى آخر الحشر ، أمر الملائكة أن تضع يدها على رؤوسها ، فقالت : يا ربنا ولِمَ ذلك ؟ قال : لأنه شفاء من كل داء إلا السام " وسمعتُ من شيخنا الفقيه الجنوي أنه حديث ضعيب ، يعمل به الإنسان وحده ، فإذا كان مع الناس تركه ، لئلا تعتقد العامة أنه مندوب أو واجب. هـ.
الإشارة : قد ذكرنا في تفسير الفاتحة الكبير كيفية التعلُّق والتخلُّق والتحقُّق بهذه الأسماء. وقال الورتجبي : بيّن بقوله : " الأسماء " أنَّ لذاته النعوت والأسامي القديمة المقدسة عن الإشراك والإدراك ، فلما ظهر بهذه الأوصاف أظهر أنوار صفاته في الآيات ، وألبس أرواح نوره الأرواح والأشباح والأعصار والأدهار والشواهد والحوادث ، فسبّحه الكلُّ بألسنة نورية غيبية صفاتية ، لقوله : {يُسبح له...} الآية ، قلت : أرواح نوره هي أسرار ذاته اللطيفة السارية في الأشباح والأرواح والجمادات وجميع الموجودات ، التي بها قامت. قال : ثم بيّن أنه منزّه بتنزيهه عن تنزيههم وإدراكهم وعلمهم بقوله : {وهو العزيز الحكيم} العزيز عن الإدراك ، الحكيم في إنشاء الأقدار. تعالى الله عما أشار إليه الواصف الحدثاني واللسان الإنساني. هـ.
19(8/21)
جزء : 8 رقم الصفحة : 17
سورة الممتحنة(8/22)
جزء : 8 رقم الصفحة : 19
يقول الحقّ جلّ جلاله : {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوَّكم أولياء} أي : أصدقاء ، نزلت في حاطب بن أبي بلتعة ، وذلك أنه لمّا تجهز رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لغزوة الفتح ، كتب إلى أهل مكة ، إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم يُرديكم ، فخُذوا حِذركم. وفي رواية : كتب : إنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يسير إليكم بجيشٍ كالليل ، يسيل كالسيل ، فالحذرَ الحذرَ ، وأرسله مع " ساره " مولاة بني المطلب ، وقيل : كلثوم بنت عقبة بن أبي مُعيط ، فنزل جبريلُ عليه السلام بالخبر ، فبعث رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عليًّا وعمّاراً ، وطلحة ، والزبير ، والمقداد ، وأبا مرثد ، وقال : " انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ ، فإنّ بها ظعينة ، معها كتاب إلى أهل مكة ، فخذوه منها ، وخلُوها ، فإن أبتْ فاضربوا عنقها " فأدركوها ثمة ، فجحدت ، فسلّ عليٌّ سيفه ، فأخرجته من عِقاصِها. زاد النسفي : أنه عليه السلام أمَّن يوم الفتح جميعَ الناس إلاّ أربعة ، هي أحدهم ، فاستحضر رسول الله صلى الله عليه وسلم حاطباً ، وقال : " ما حملك على
20
هذا " ؟ فقال : يا رسول الله! ما كفرتُ منذ أسلمتُ ، ولا غششتُ منذ نصحتُ ، ولكني كنتُ امرءاً مُلْصَقًا في قريش ، ليس لي فيهم مَن يحمي أهلي ، فأردتُ أن أتخذ عندهم يداً ، وعملتُ أن كتابي لا يُغني شيئاً ، فصدّقه صلى الله عليه وسلم ، وقَبِلَ عُذره ، فقال عمر : دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق ، فقال رسول الله صلى الله عليه سلم : " وما يدريك يا عمر ، لعل الله قد اطلع على أهل بدر ، فقال لهم : اعملوا ما شئتم فقد غفرتُ لكم " ففاضت عينا عمر رضي الله عنه ، أي : من بكاء الفرح. والعَدُو : فَعُول ، من : عدا ، ولكونه على زنة المصدر أوقع على الجمع إيقاعه على الواحد. وفي الآية دليل على أنّ الكبيرة لا تسلب الإيمان.(8/23)
جزء : 8 رقم الصفحة : 20
وقوله : {تُلْقٌونَ إِليهم بالمودةِ} : حال ، أي : لا تتخذوهم أولياء مُلقين إليهم ، أو : استئناف ، أو : صفة لأولياء ، أي : توصلون إليهم المودة ، على أن الباء زائدة ، كقوله : {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة : 195] ، أو : تُلقون إليهم أخبارَ النبي صلى الله عليه وسلم بسبب المودة التي بينكم وبينهم ، فتكون أصلية. {وقد كفروا بما جاءكم من الحق} : حال من فاعل " تتخذوا " أو " تُلقون " ، أي : لا تتولوهم ، أو : لا تودوهم وهذه حالتهم يكفرون {بما جاءكم من الحق} ؛ الإسلام ، أو : القرآن ، جعلوا ما هو سبب الإيمان سبب الكفر. {يُخرجون الرسولَ وإِياكم} من مكة ، وهواستئناف مُبيَّن لكفرهم وعتوهم ، أو حال من " كفروا ". وصيغة المضارع لاستحضار الصورة. وقوله : {أن تؤمنوا بالله ربِّكم} تعليل للإخراج ، أي : يُخرجونكم لإيمانكم ، {إِن كنتم خرجتمْ جهادًا في سبيلي وابتغاء مرضاتي} ، هو متعلق بـ " لاتتخذوا " كأنه قيل : لا تودُّوا أعدائي إن كنتم أوليائي.
{تُسِرُّون إِليهم بالمودةِ} أي : تُفضون إليهم بمودتكم سرًّا ، أو تُسِرُّون إليهم أسرارَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم بسبب المودة ، وهو استئناف وارد على نهج العتاب والتوبيخ. {وأنا أعلمُ} أي : والحال أني أعلم منكم {بما أخفيتم وما أعلنتم} ومُطلِع رسولي على ما تُسِرُّون ، فإني طائل لكم في الإسرار ، وقيل : الباء زائدة ، و " أعلم " مضارع و " ما " موصولة ، أو مصدرية. {ومَن يَفْعله منكم} أي : الاتخاذ {فقد ضَلَّ سواء السبيل} ؛ فقد أخطأ طريق الحق والصواب.
{إِن يَثْقفوكم} أي : يظفروا بكم {يكونوا لكم أعداءً} أي : يُظهروا ما في قلوبهم من العداوة ، ويُرتبوا عليها أحكامها ، {ويبسُطُوا إِليكم أيديَهم وألسنتهم بالسوء} ؛ بما يسوؤكم من القتل والأسر. {ووَدُّوا لو تكفرون} أي : تمنُّوا ارتدادكم. وصيغة الماضي لتحقُّق ودادهم قبل أن يثقفوكم.
{لن تنفَعَكُم أرحامُكُم} ؛ قراباتكم {ولا أولادُكم} الذين تُوالون المشركين لأجلهم ، وتتقرّبون إليهم محاماةً عليهم ، {يومَ القِيامة يَفْصِلُ بينكم} وبين أقاربكم
21
وأولادكم ، بما اعتراكم من أهوال ذلك اليوم ، حسبما نطق به قوله تعالى : {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ...} [عبس : 34-36] الآيات ، ويحتمل أن يكون ظرفًا لـ " تنفعكم " ، أي : لا تنفعكم أقاربكم يوم القيامة ، ثم استأنف بقوله : {يفصل بينكم} لبيان عدم نفعهم. وهنا قراءات بيّنّاها في غير هذا. {والله بما تعملون بصير} فيجازيكم على أعمالكم.(8/24)
جزء : 8 رقم الصفحة : 20
الإشارة : أعدى الأعادي إليك نفسك ، فهي عدوة لله ولرسوله ولأوليائه ؛ لأنها أمّارة بالسوء ، ويُضاف إليها جنودها ، فيقال {يا ايها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء} ، من النفس وجنودها ، تُلقون إليهم بالمودّة والموافقة ، وقد كفروا بما جاءكم من الحق من طريق المجاهدة ، يُخرجون الرسول : الوارد الحقيقي ، أو الإيمان العياني ، من قلوبكم ، ويُخرجونكم من الحضرة كراهةَ أن تُؤمنوا بالله ربكم إيماناً حقيقيًّا ، إن كنتم خرجتم عن هواكم جهادًا في سبيلي ، وابتغاء مرضاتي ومعرفتي ، تُسِرُّون إليه بالمودة والموافقة ، وأنا أعلم بما أخفيتم من الميل إلى حظوظها ، وما أعلنتم ، ومَن يفعله ـ أي : الميل عن طريق المجاهدة ـ فقد ضلّ سواء السبيل ؛ طريق الوصول ، فقد قيل : " مَن رأيته يتبع الرُخص والشهوات ، فاعلم أنه لا يأتي منه شيء ". لن تنفعكم أقاربكم ولا حظوظكم ، بدلاً من الله شيئًا " ماذا وجَدَ من فقدك " ، فالحظوظ الفانية تفنى وتبقى الحسرة والندامة. يوم القيامة يفصلُ بينكم وبينها ؛ لفنائها ، أو بينكم وبين ما تشتهون من دوام النظرة ، والله بما تعملون بصير ، فيُجازي على قدر الكدّ والتعب.(8/25)
جزء : 8 رقم الصفحة : 20
يقول الحق جلّ جلاله : {قد كانت لكم أُسوةٌ} أي : قدوة {حسنةٌ} أو : خصلة حميدة ، حقيقة بأن يُرتقى بها ويُقتدى ، كائنة {في إِبراهيمَ والذين معه} من أصحابه المؤمنين ، أو : الأنبياء المعاصرين له ، وقريبًا من عصره ، ورجّحه الطبري وغيره ؛ لأنه لم يروا لإبراهيم أتباع مؤمنون وقت مكافحته نمرودًا. وقد قال لسارة ، حين رحل بها إلى الشام : " ليس على وجه الأرض مَن يعبد الله غيري وغيرك ". {إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ} ، جمْع بريء ، كظريف وظرفاء ، أي : نتبرأ منكم {ومما تعبدون من دون الله} من الأصنام ، {كَفَرنا بكم} أي : بدينكم ، أو : معبودكم ، أو : بكم وبأصنامكم ، فلا نعتد
22
بشأنكم وبآلهتكم ، {وبدا بيننا وبينكم العداوةُ والبغضاءُ أبداً} أي : هذا دأبنا أبداً {حتى تُؤمنوا بالله وَحْدَه} وتتركوا ما أنتم عليه من الشرك ، فتنقلب العداوة حينئذ ولاية ، والبغضاء محبة.
وحاصل الآية : أنّ الحق تعالى يقول : إن كانت عداوة الكفار لكم إنما هي لأجل إيمانكم بالحق ، فعادوهم أنتم ، وكافحوهم بالعداوة ، وأَظْهِروا البغضاء لهم والمقت ، وصَرِّحوا أنّ سبب العداوة ليس إلاّ كفركم بالله ، وما دام هذا السبب قائمًا كانت العداوة ، حتى إن أزلتموه انقلبت العداوةُ مولاةً ، وأنتم مقتدون في ذلك بالخليل عليه السلام وسائر الأنبياء ، حيث كافحوا الكفارَ بالعداوة ، وتوكّلوا على الله. قال ابن عطية : هذه الأسوة مقيّدة بالتبرِّي من المشركين وإشراكهم ، وهو مطرد في كل ملة ، وفي نبينا صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة على الإطلاق ، في العقائد وفي أحكام الشرع. هـ.(8/26)
جزء : 8 رقم الصفحة : 22
فلكم أسوة فيمن تقدّم. {إِلاَّ قولَ إِبراهيمَ لأبيه لأَستغفرنَّ لك} ، وذلك لموعدةٍ وعدها إياه ، أي : اقتدوا به في كل شيء ، ولا تقتدوا به في استغفاره لأبيه الكافر. واستغفاره عليه السلام لأبيه الكافر جائز عقلاً وشرعاً قبل النهي ، لوقوعه قبل تبيُّن أنه من أصحاب الجحيم ، لكنه ليس مما ينبغي أن يُؤتسى به أصلاً. {وما أَمْلِكُ لك من الله من شيءٍ} أي : من هداية ومغفرة وتوفيق. وهذه الجملة من تمام قول المستثنى ، كأنه قال : أستغفرُ لك وما في طاقتي إلاّ الاستغفار ، إظهاراً للعجز وتفويضاً للأمر. {ربنا عليك توكلنا وإِليك أَنَبْنا} أي : أَقبلنا ، {وإِليك المصيرُ} ؛ المرجع ، وهو من تمام ما نقل عن إبراهيم عليه السلام ومَن معه مِن الأسوة الحسنة ، وهو راجع لِما قبل الاستثناء ، قالوه بعد المهاجرة ونشر البغضاء ، التجاء إلى الله تعالى في جميع أمورهم ، لا سيما في موافقة الكفرة ، وكفاية شرورهم ، وقيل : معناه : قولوا ، فيكون أبتداء كلام خطاباً لهذه الأمة ، وضعّفه أبو السعود. وتقديم المعمول لقصر التوكُّل والإنابة والمصير عليه تعالى.
{ربنا لا تجعلنا فتنةً للذين كفروا} بأن تُسلطهم علينا ، فيفتنونا بعذاب لا نُطيقه ، {واغفر لنا} ما فرط منا ، {ربنا إِنك أنت العزيزُ} الذي لا يذلّ مَن التجأ إليه ، ولا يخيب رجاء مَن توكل عليه ، {الحكيمُ} الذي لا يفعل إلاَّ ما فيه حكمة بالغة. وتكرير النداء للمبالغة في التضرُّع والالتجاء.
{لقد كان لكم فيهم} ؛ في إبراهيم ومَن معه {أُسوةٌ حسنةً} ، تكرير للمبالغة في الحث على الاقتداء به ، ولذلك صدّره بالقسم. وقوله : {لمَن كان يرجو اللهَ واليومَ الآخر} بدل من " لكم " ، وحكمته : الإيذان بأن مَن يؤمن بالله واليوم الآخر لا يترك الاقتداء بهم ، وأنّ تركه مخلّ بالإيمان بهما ، كما ينبىء عنه قوله تعالى : {ومَن يتولَّ فإِنَّ اللهَ هو الغنيُّ الحميدُ} ، فإنه إنما يُوعَد بأمثاله الكفرة ، أي : هو الغني عن الخلق ، الحميد المستحق للحمد وحده.
23
الإشارة : ينبغي للمريد أن يكون إبراهيميًّا ، يتبرأ من كل ما يشغله عن الله ، أيًّا مَن كان ، ويظهر العداوة والبغضاء لكل مَن يقطعه عن مولاه ، حتى يوافقه على طريقه وسيرته ، إلاّ على وجه النصيحة والدعاء إلى الله ، إن كان أهلاً لذلك ، فيُذكِّر مَن خالفه في طريقه ، فإن أيس منه استغفر له ، ودعا له بالهداية ، مُقرًّا بالعجز عن هدايته وتوفيقه ، ثم يلتجىء إلى مولاه في جميع أموره ، ويتحصّن بالله من فتنة أهل الظلم والغفلة. والله غالب على أمره.(8/27)
جزء : 8 رقم الصفحة : 22
يقول الحق جلّ جلاله : {عسى اللهُ أن يجعلَ بينكم وبين الذين عادَيْتم منهم} ؛ من أقاربكم المشركين ، {مودةً} بأن يُوافقوكم في الدين. وَعَدهم بذلك لما رأى منهم من التصلُّب في الدين ، والتشديد في معاداة أقربائهم ، تطييباً لقلوبهم ، ولقد أنجز وَعْدَه الكريم ، فأسْلَم كثير منهم يوم فتح مكة ، فتصافوا ، وتوادوا ، وصاروا أولياء وإخواناً ، وخالَطوهم وناكَحوهم. و " عسى " من الله واجبة الوقوع. {واللهُ قديرٌ} أي : مبالغ في القدرة على تغيير الأحوال وتسهيل أسباب المودة ، {واللهُ غفور رحيم} ، فيغفر لمَن أسلم من المؤمنين ويرحمهم ، أو : غفور لما فَرَط منكم من مولاتهم قبلُ ، وما بقي في قلوبكم من ميل الطبع إلى الرحم بعدُ ، رحيم لمَن لم تبقَ فيه بقية.
الإشارة : عسى الله أن يجعل بينكم وبين نفوسكم ، التي عاديتموها وخالفتموها ، وقطعتم مواد هواها ، مودةً ، حين تتهذّب وتتأدّب وترتاض بالمجاهدة ، فالواجب حينئذ البرور بها ، والإحسان إليها ، لأنها انقلبت روحانية ، تصطاد بها العلوم اللدنية ، والمعارف الربانية ، وفيها يقول شيخ شيوخنا ، سيدي عبد الرحمن المجذوب رضي الله عنه :
سايس من النفس جهدك
صبّح ومس عليها
لعلها تدخل في يدك
تعود تصطاد بها
فالآية تسلية وترجية لأهل المجاهدة من السائرين دون الواصلين ؛ فإنّ المجاهدة لا تكون إلاّ قبل المشاهدة ، أو : تكون تسلية لهم عند مقاطعة أقاربهم وعشائرهم ، حين فرُّوا عنهم لله ، بأن يهديهم الله ، حتى يوافقوهم على طريقهم. وبالله التوفيق.(8/28)
جزء : 8 رقم الصفحة : 23
يقول الحق جلّ جلاله : {لا ينهاكم اللهُ عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يُخرجوكم من دياركم أن تَبروهم} أي : لا ينهاكم عن البر بهؤلاء ، فـ " أن تبروهم " : بدل من الموصول ، {وتُقْسِطوا إِليهم} أي : تقضوا إليهم بالقسط ، أي : بالعدل ، ولا تظلموهم ، وإذا نهى عن الظلم في حق المشرك ، فكيف في حق المسلم ؟ {إِن اللهَ يُحب المُقسِطين} ؛ الحاكمين بالعدل ، رُوِي أن " قُتَيلةَ بنت عبد العزى " قَدِمَتْ مشركة على بنتها " أسماء بنت أبي بكر " رضي الله عنه ، بهدايا ، فلم تقبلها ، ولم تأذن لها بالدخول فنزلت ، وأمرها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن تقبل منها ، وتُكرمها ، وتُحسن إليها. وقيل : المراد بهم خزاعة ، وكانوا صالحوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ألاّ يقاتلوه ، ولا يُعينوا عليه. قال المحلي : وهذا قبل الأمر بجهادهم. ومثله لابن عطية ، فإنه نقل الخلاف ، ثم قال : وعلى أنها في الكفار فالآية منسوخة بالقتال. هـ.
قال الكواشي : نزلت رخصة في صلة الذين لم يُعادوا المؤمنين ولم يُقاتلوهم. ثم قال : وفي هذه الآية دلالة على جواز صلة الكفار ، الذين لم ينصبوا لحرب المسلمين ، وبِرهم ، وإن انقطعت الموالاة بينهم. هـ. قال القشيري : مَن كان فيهم حُسن خُلق ، أو للمسلمين منهم رِفْق ، أُمروا بالملاينة معهم ، شاهد هذه الجملة : " إنَّ الله يُحب الرِّفق في الأمر كله ". هـ. المحشي. وهذا : فيما لا ضرر فيه للمسلمين ، وفي المدارك : حكى الدارقطني أنَّ عبدَ وزيرِ المعتضد دخل على القاضي إسماعيل ، وكان نصرانيّاً ، فقام له ورحّب به ، فرأى إنكار مَن عنده ، فقال : علمت إنكاركم ، وقد قال تعالى : {لا ينهاكم الله...} الآية ، وهذا رجل يقضي حوائج المسلمين ، وهو سفير بيننا وبين المعتضد ، وهذا مَن البر ، فسكت الجماعةُ عند ذلك. هـ. قال البرزلي : ولعله رأى ذلك ضرورة ، وتأنّس بظاهر الآية ، وخاف مِن أذاه إن لم يفعل ذلك. هـ.(8/29)
جزء : 8 رقم الصفحة : 24
وفي حديث الجامع : " بُعثتُ بمداراة الناس " ، قيل : والفرق بينها وبين المداهنة : أنَّ المداهنة : إظهار الرضا بفعل الفاسق من غير إنكار عليه ، والمداراة : هي الرفق في تعليم الجاهل ، والملاطفة في نهي الفاسق عن فعله ، وقد قال تعالى : {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَّيِّنًا} [طه : 44] ، وقيل : المداهنة : ترك الدين بالدنيا ، والمداراة : بيع الدنيا بحفظ الدين.
وقد عَدّ السهروردي في " الآداب " مِن رُخص الصوفية : التكلُّف مع أبناء الدنيا
25
والرؤساء والسلاطين ، والقيام لهم ، وحسن الإقبال عليهم ، والأدب في ذلك : إلاّ يكون طمعاً في دنياهم ، ولا اتخاذ جاه عندهم كان صلى الله عليه وسلم يدخل عليه سادات قريش فيُكرمهم ، ويُجلهم ، ويُحسن مجالستهم ، وقال : " إذا أتاكم كريم قوم فأكرِموه " هـ. وانظر الأصل الرابع والثمانين في إنزال الناس منازلهم ، فقد ذكر فيه : أن العاقل عن الله يُعاشر الناس على ما دبَّر الله لهم ، فالغَنِيّ قد أكرمه الله كرامةَ ابتلاء ، كما ذكر في تنزيله ، فإذا لم تُنزله المنزلةَ التي أنزله الله فيها ، فاستهنت به ، وحقّرته من غير جرم استحق بذلك الجفاء ، فقد تركتَ موافقة الله في تدبيره ، وأفسدت عليه دينه وأثمتَه ، وكذلك معاملة الملوك والوُلاة على هذا السبيل ، فإذا عاملت الملوك والسلاطين بمعاملة الرعية ، فقد استخففت بحق السلطان ، وكيف يجوز أن تستخف بحقه ، والسلطان ظل الله في الأرض ؟ به تسكن النفوس ، وتجمع الأمور ، والناظر إلى ظل الله عليهم في الشغل عن الالتفات إلى أعمالهم.
ثم ذكر أنّ ضد ما ذكر مِن ضعف المعرفة واليقين ، وعدم التخلُّص من النفس ، فلم تكن لقوتِهم مطالعة ما ذكر ، فخافوا على نفوسهم من مخالطتهم أن يجدوا حلاوة بِرهم ، فتخلط قلوبُهم بقلوبهم ، فجانبوهم ، والآخرون نظروا إليهم بغير الجمع ، فشغلوا بما ألبسَهم مِن ظله عن جميع ما هم فيه ، فلم يضرهم اختلاطهم بهم. وبهذه القوة كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يلقون الأمراء ، الذين قد ظهر جَوْرهم ، ويقبلون جوائزهم ، فكان ابن دينار ومحمد بن واسع ، ومَن قبلهم ، والحسن البصري ، يلقون الأمراء ويَقبلُون منهم ، فكانوا يلقونهم بما ذكر من رؤية ظل الله عليهم ، ويُظهرون العطف عليهم والنصيحة لهم.
ثم وَجَّه حديثَ ابن عباس : " ملعون مَن أكرم بالغنى وأهان بالفقر " فإنَّ معناه : مَن عظَّم الدنيا وعظَّم أهلها ، فأمّا مَن دقت الدنيا في عينه ، يرى أهلَها مُبْتَلون بها ، بما تقتضيه من القيام بالشكر ، ثم غرقه في حِسَابه ، فيرحمه كما يرحم الذي ذهب به السيل ، ويكرمه ، ويبره بما عَوّده الله ، وأبقاه على دينه ، لئلا يَفسد ، فذلك فعل الأنبياء والأولياء ، وبذلك وصَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " إذا أتاكم كريمُ قومٍ فأكرموه " فهو إنما يُكرم لله ويهين لله ، لا للدنيا ، ومن فعل ذلك للدنيا كان ملعونًا ، ثم ذكر حديث : " مَن أُعطي حظه من الرفق أُعطي حظَّه من خير الدنيا والآخرة ، من حُرمه حُرم كذلك " ، ثم ذكر قصة نسْطُور
26
صاحب ابن مريم عليه السلام ورفقه وتلطُّفه مع ذلك الملك الذي سجن صاحبيْه ، حتى استخلصهما منه برفق ، وأعلم الملكَ وجميعَ الناس في قضية عجيبة ، فعليك بها.
{(8/30)
جزء : 8 رقم الصفحة : 24
إِنما ينهاكم اللهُ عن} موالاة {الذي قاتلوكم في الدين وأَخْرَجوكم من دياركم} ، وهم عتاة أهل مكة ، {وظاهَرُوا} أي : عاوَنُوا {على إِخراجكم} وهم سائر أهلها ، {أن تَوَلَّوْهم} : بدل اشتمال من الموصول ، والمعنى : لا ينهاكم عن مبرة مَن لم يتعرّض لكم ، إنما ينهاكم عمّن أذاكم {أن تَولَّوهُم ومَن يتولهمْ فأولئك هم الظالمون} حيث وضعوا التولي في غير موضعه. الإشارة : لا ينهاكم الله عن النفوس المطيعة ، التي لم تصدكم عن السير إلى الحضرة ، أن تبرُّوا بها ، وترفقوا بها ، إنما ينهاكم عن النفوس الفاجرة ، التي قاتلتكم ، وصدّتكم عن الحضرة ، وأخرجتكم عن دائرة الولاية ، باتباع هواها أن تولوها ، وتسعوا في حظوظها وهواها ، ومَن يتولها ، وبقي في رِقَّها ؛ فقد ظلم نفسه وبخسها ، حيث حرمها نعيمَ الحضرة. أو : لا ينهاكم الله عن بعض العامة ، التي لا مضرة فيهم ، أن تبرهم بالوعظ والتذكير ، وتُقسطوا إليهم بقول الإحسان ، إنما ينهاكم عن أهل الإنكار المخالفين لكم ، من الجبابرة الغافلين ، والقراء المداهنين ، والعلماء المتجبرين ، والفقراء الجاهلين ، أن تولوهم ؛ فإنَّ مخالطتهم سم قاتل للمريد ، ومَن يتولهم لا يُفلح أبدًا.(8/31)
جزء : 8 رقم الصفحة : 24
قلت : {إذا جاءكم المؤمناتُ} إنما حُذفت تاء التأنيث للفصل بالمفعول ، ورُدّ بأنّ الحذف مع الفصل بغير " إلاّ " مرجوح ، والصواب : أنه على حذف الموصوف ، أي : النساء المؤمنات ، وهو اسم جمع ، يجوز في الأمران ، كقوله تعالى : {وَقَالَ نِسْوَةٌ...} [يوسف : 30].
يقول الحق جلّ جلاله : {يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمناتُ} أي : مُشْرِفات على الإيمان ونَطَقْن بالشهادة ، وإنما ظهر بعد الامتحان ، {مُهاجراتٍ} من بين الكفار ، {فامْتَحِنُوهن} ؛ فاختبروهن بما يغلب على ظنكم موافقة قلوبهن للسانهن. كان صلى الله عليه وسلم
27
يستحلفهن : ما خرجن من بُغض زوْج ، ولا رغبة من أرض إلى أرض ، ولا التماسَ دُنيا ، ولا عشقًا لرجل منا بل حبًّا لله ورسوله. وقد كان صلى الله عليه وسلم صالح أهلَ مكة على أنَّ مَنْ أسلم منهم يَرُده إليهم ، فجاءت " سُبيْعَةُ بنت الحارث " مُسْلِمةً بعد الفراغ من الكتاب ، فقال زوجها : اردد عليّ امرأتي ، فنزلت ، فاستحلفها صلى الله عليه وسلم بما تقدّم ، فحلفت ، فلم يردها عليه ، وأعطى مهرها زوجَها ، فتزوجها عمرُ ، فكان صلى الله عليه وسلم يَرُد مَن جاء من الرجال ، ولا يَرُد النساء. وعن ابن عباس : امتحانها : أن تقول : أشهد أن لا إله إلا الله ، وأنّ محمدًا رسول الله.
{اللهُ أعلم بإِيمانهن} ، لأنه المُطّلع على قلوبهن. وفيه إشارة إلى التخفيف في الامتحان ، وأنه ليس المطلوب غايته لتصلوا إلى العلم ، بل ما يحصل به الظن القوي ، وأما العلم فخاص بالله تعالى. {فإِن عَلِمْتُموهن مؤمناتٍ} ، العلم الذي تبلغه طاقتكم ، وهو الظن القوي ، بظهور الأمارات. وتسمية الظن علمًا يُؤذن بأنَّ الظن الغالب ، وما يفضي إليه القياس ، جارٍ مجرى العلم ، وصاحبه غير داخل في قوله : {وَلآ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمُ} [الإسراء : 36]. قاله النسفي. {فلا تَرْجِعُوهنَّ إِلى الكفار} أي : إلى أزواجهن الكفرة ، {لا هُنَّ حِلٌّ لهم ، ولا هم يَحِلُّونَ لهن} ، تعليل للنهي ، أي : حيث خرجت مسلمة حَرُمت على المشرك. والتكرير إما لتأكيد الحرمة ، أو الأول : لبيان زوال النكاح الأول ، والثاني : لبيان امتناع النكاح الجديد ، ما دام مشركاً ، فإنْ أسلم في عِدتها كان أولى بها.
{(8/32)
جزء : 8 رقم الصفحة : 27
وآتوهم ما أنفقوا} أي : أعطوا أزواجَهن مثلَ ما دفعوا من المهور ، {ولا جُناحَ عليكم أن تَنكحوهن} ، فإنَّ إسلامهن حالَ بينهن وبين أزواجهن الكفار ، {إِذا آتيتموهن أُجورهنَّ} ؛ مهورهن ؛ لأنّ المهر أجر البُضْع ، وبه احتجّ أبو حنيفة على ألاّ عِدَّة على المهاجِرة. قال الكواشي : أباح تعالى نكاحهن وإن كان لهن أزواج في دار الحرب ؛ لأنَّ الإسلام فرّق بينهن وبين أزواجهن بعد انقضاء العدة ، فإن أسلم الزوج قبل انقضاء العدة فهي امرأته عند مالك والشافعي وأحمد ، خلافًاً لأبي حنيفة في غير الحامل. هـ. {ولا تُمسكوا بِعِصَم الكوافرٍ} ، العصمة : ما يعتصم به من عقدٍ وسبب. والكوافر : جمع كافرة ، وهي التي بقيت في دار الحرب ، أو : لحقت بدار الحرب مرتدةً ، أي : لا يكن بينكم وبين النساء الكوافر عصمة ولا عُلقة زوجية. قال ابن عباس رضي الله عنه : مَن كانت له امراة كافرة بمكة فلا يعتَدنَّ بها من نسائه ؛ لأنَّ اختلاف الدارين قطع عصمتها منه. ولمّا نزلت الآية طلَّق عمرُ رضي الله عنه امرأتين كانتا له بمكة ، قُرَيْبَة بنت أبي أمية ، وأم كلثوم الخزاعية.
{واسألوا ما أنفقتم} من مهور أزواجكم اللاحقات بالكفار ، أي : اطلبوه من الكفرة ، {وَلْيَسْألوا ما أنفقوا} من مهور نسائهم المهاجرات ممن تزوجها منا. {ذلكم حُكْمُ الله} أي : جميع ما ذكر في هذا الآية. وقوله : {يحكم بينكم} : كلام مستأنف أو : حال من " حُكم الله " على حذف الضمير ، أي : يحكمه الله ، وجعل الحُكْم حاكماً على
28
المبالغة وقال : " يحكم " مستقبلاً ، مع أن الحكم ماضٍ باعتبار ظهور متعلقة ، {واللهُ عليم حكيمٌ} يشرع ما تقتضيه الحكمة البالغة.
رُوي أنه لمّا نزلت الآية أدّى المؤمنون ما أُمروا به من مهور المهاجرات إلى أزواجهن من المشركين ، وأبى المشركون أن يردُّوا شيئًا من مهور الكوافر إلى أزواجهن المسلمين ، فنزل قوله تعالى : {وإن فاتكم} أي : سبقكم وانفلت منكم {شيءٌ من أزواجكم إِلى الكفار} أي : أحَدٌ من أزواجكم ، وقرىء به. وإيقاع " شيء " موقعه للتحقير والتعميم ، {فعاقبتم} ، من المعاقبة ، لا من العقوبة ، أي : صرتم منهم إلى الحال التي صاروا إليها منكم ، وذلك بأن يفوت إليكم شيء من أزواجهم ، شبّه ما حكم به على المسلمين والكافرين ، من أداء هؤلاء مهور نساء أولئك تارة ، وأداء هؤلاء مهور نساء هؤلاء أخرى ، بأمر يتعاقبون فيه كما يتعاقب في الركوب وغيره. {فآتوا الذين ذهبتْ أزواجُهم} منكم إلى الكفار {مثلَ ما أنفقوا} ، تُعطوه من مهر المهاجرة التي تزوجتموها ، ولا تؤتوا زوجها الكافر شيئًا ، أي : ما كنتم تُعطونه للكفار من مهور أزواجهم المهاجرات أعطوه لمَن فاتت زوجته ولحقت بالكفار ، فأزال الله دفعها إليهم ، حين لم يرضوا بحُكمه ، على أنّ هذا حكم قد نُسخ. قال ابن عطية : وهذه الآية كلها قد ارتفع حكمها. هـ. وذكر الكواشي الخلاف في النسخ وعدمه ، وأنَّ رد المال مستمر ، وذكر الخلاف في أنَّ الإنفاق كان على الوجوب أو الندب. هـ.(8/33)
جزء : 8 رقم الصفحة : 27
وقيل : معنى " فعاقبتم " من العقوبة ، أي : فأصبتموهم في القتال ، حتى غنمتم ، فأعطوا المسلمين الذين ارتدت زوجاتهم ، ولحقْن بدار الحرب مهورَ زوجاتهم من هذه الغنيمة. قال ابن عباس : خمس نسوة رجعن عن الإسلام ، ولحقن بالمشركين ، من نساء المهاجرين : أم الحكم بنت أبي سفيان ، وكانت عند عياض بن شداد ، وفاطمة بنت أبي أمية ، أخت أم سلمة ، وكانت تحت عمر بن الخطاب ، وعزةُ بنت عبد العزى ، كانت تحت هشام بن العاص ، وأم كلثوم بنت جرول ، كانت تحت عمر أيضًا ، فأعطاهم النبي صلى الله عليه وسلم مهور نسائهم من الغنيمة. هـ. {واتقوا اللهَ الذي أنتم به مؤمنون} أي : احذروا أن تتعدُّوا ما أُمرتم به ؛ فإن الإيمان يقتضي فعل ما أمر به صاحبه.
الإشارة : يا أيها الذين آمنوا إيمان الخصوص ، وهم المشايخ العارفون ؛ إذا جاءكم النفوس المؤمنه بطريقكم ، وأرادوا الانخراط في سلككم ، فامتحنونهن ، هل هي صادقة الطلب ، أو تريد حرفًا من حروف الهوى ، فإن علمتم صدقهن ، فلا تردجعوهن إلى أهل الغفلة ، سيما أهل الإنكار ؛ إذ لا يحل مخالطتهم في طريق الخصوص ، وآتوهم من العلوم والمعارف عِوض ما أنفقوا من أنفسهم وأموالهم ، ولاجناح عليكم أن تعقدوا عليهم عقدة الإرادة ، التي هي كعقدة النكاح إذا آتيتموهن أجورهن ، وهو أن تبذلوا لهم ما عندكم من
29
السر ، قدر ما يطيقون ، ومن نقض العهد ورجع عن الإرادة فلا تُمسكوا بعصمته ، وأطلقوه مع نفسه ، فإن سألكم شيئًا مما كان بذل فسلوه عوض ما بذلتم له من العلم ، وإن رجع أحد منكم إلى أهل الإنكار ، ثم جاء أحد منهم إليكم فآتوه من العلم ما آتيتم مَن فرّ منكم ، واتقوا الله الذي توجهتم إليه ، فلا تُعطوا السر مَن لا يستحقه ، ولا تمنعوه من مستحقه. والله تعالى أعلم بأسرار كتابه.(8/34)
جزء : 8 رقم الصفحة : 27
يقول الحق جلّ جلاله : {يا أيها النبي إِذا جاءك المؤمناتُ} حال كونهن {يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللهِ شَيْئًا وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أوْلادَهُن} ، يريد : وأد البنات ، {وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ} ، كانت المرأة تلتقط المولود ، فتقول لزوجها : هو ولدي منك. كنَّى بالبهتان المفترى بين يديها ورجليها عن الولد الذي تلصقه بزوجها كذباً ؛ لأنّ بطنها الذي تحمله فيه بين اليدين ، وفرجها الذي تلد منه بين الرِجلْين. {ولا يَعْصِينَكَ في معروفٍ} أي : فيما تأمرهن من معروف ، وتنهاهن عن منكر. والتعبير بالمعروف مع أنّ الرسول صلى الله عليه وسلم لا يأمر إلاّ به ؛ للتنبيه على أنه لا تجوز طاعة مخلوق في معصية الخالق. وتخصيص الأمور المعدودة بالذكر في حقهن ؛ لكثرة وقوعها فيهن. {فبايعْهُنَّ} على ما ذكر وما لم يذكر ؛ لوضوح أمره ، {واسْتَغفِرْ لهنَّ اللهَ} فيما مضى ، {إِنَّ الله غفور رحيمٌ} أي : مبالغ في المغفرة والرحمة ، فيغفر لهن ويرحمهن إذا وَفَّيْن بما بايعن عليه.
رُوي : أنه صلى الله عليه وسلم لمّا فرغ يوم فتح مكة من بيعة الرجال ، أخذ في بيعة النساء ، وهو على الصفا ، وعُمرُ قاعد أسفل منه ، يُبايعهنّ عنه بأمره ، وهند بنت عتبة ـ امراة أبي سفيان ـ متقنّعه متنكّرة مع النساء ، خوفًا من النبي صلى الله عليه سلم أن يعرفها ، فقال صلى الله عليه وسلم : " أبايعكن على ألا تُشركن بالله شيئًا " فقالت هند : والله إنك لتأخذ علينا شيئًا ما رأيتك أخذته على الرجال ـ لأنه عليه السلام بايع الرجال على الإسلام والجهاد فقط ـ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " ولا تسرقن " فقالت هند : إنّ أبا سفيان رجل شحيح ، وإني أصَبتُ منم ماله هَنَاتٍ ، فقال أبو سفيان : هو لك حلال ، فقال : " ولا تزنين " فقالت هند : أَوَتزني الحُرّة ؟ فقال : " ولا تقتلن أولادكنّ " ، فقالت هند : رَبيناهم صغارًا وقتلتموهم كبارًا ، وكان ابنها قُتل يوم بدر ، فقال : " ولا تأتين ببهتان... " الخ ، فقالت هند : والله إنّ البهتان لقبيح ، وما تأمرنا إلاّ بالرشد ومكارم الأخلاق! فقال : " ولا تعصين في معروف " فقالت : وما جلسنا في مجلسنا
30
هذا وفي أنفسان أن نعصيك في شيء ، فأقرّ النسوةُ بما أخذ عليهن.(8/35)
جزء : 8 رقم الصفحة : 30
وقالت أميمة : يا رسول الله ، صافحْنا ؟ فقال : " إني لا أُصافح النساء ، إنما قَوْلي لامرأة كقولي لمائة امرأة " ، قالت عائشة : ما مست يدُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم يدَ امرأةٍ قط ، إنما بايعهن كلامًا ، وقيل : لفّ على يده ثوبًا ، وقيل : غمس يده في قدح ، فغمسْن أيديهن فيه. والله تعالى أعلم.
الإشارة : الشيخ في قومه كالنبي في أمته ، فيُقال له : إذا جاءك النفوسُ المؤمنةُ يُبايعنك على ألا ترى مع الله شيئاً ، ولا تميل إلى الدنيا ، ولا إلى الهوى ، ولا تهمل ما تنتج أفكارُها من الواردات ، ولا تأتي ببهتان تفتريه ؛ بأن تنسب فعلاً إلى غير الله ، أو بأن تكذب في أحوالها وأقوالها ، ولا تعصي فيما تأمرها وتنهاها ، فإن جاءت على ما ذكر فبايعها واستغفِر لها الله فيما فرّطت فيه ، إنّ الله غفور رحيم.
31(8/36)
جزء : 8 رقم الصفحة : 30
سورة الصف(8/37)
جزء : 8 رقم الصفحة : 31
يقول الحق جلّ جلاله : {سَبَّح لله ما في السماوات وما في الأرض وهو العزيزُ الحكيم}. ولمَّا قال بعضُ الصحابة : لو نعلم أحب الأعمال إلى الله لبذلنا في أموالنا ، فنزلت أية الجهاد ، فتباطأ بعضُهم ، فنزلت : {يا أيها الذين آمنوا لِمَ تقولون ما لا تفعلون}. وقيل : لمَّا أخبر الله بثواب شهداء بدر ، فقالوا : والله لئن شَهِدنا قتالاً لنُفْرِغَنَّ فيه وُسْعَنا ، ففرُّوا يوم أُحُد ، فنزلت. وقيل : نزلت فيمن يمدح كذباً ، حيث كان يقول : قتلتُ ، ولم يقتل ، وطعنتُ ، ولم يطعن ، وقيل : كان رجل قد آذى المسلمين يوم بدر ونكأ فيهم ، فقتله صُهيب ، وانتحل قتله آخر ، فنزلت في المنتحِل. أي : لأيّ شيء تقولونه من الخير والمعروف ، على أنّ مدار التوبيخ إنما هو عدم فعلهم ، وإنما وجّه إلى قولهم تنبيهاً على تضاعيف معصيتهم ، لبيان أنَّ المنكَر ليس ترك الخير الموعود فقط ، بل الوعد به أيضاً ، وقد كانوا يحسبونه معروفاً ، ولو قيل : لِمَ لا تفعلون ما تقولون ، لفُهم منه أنّ المنكَر إنما هو ترك المفعول.
{كَبُرَ مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون} ، هو بيان لغاية قُبح ما فعلوا ، وفرط سماحته ، و " كَبُرَ " جارية مجرى نعم ، بزيادة معنى التعجُّب ، ومعنى التعجُّب : تعظيم الأمر في قلوب السامعين ؛ لأنّ التعجُّب لا يكون إلاّ مِن شيءٍ خارج عن نظائره ، وفي " كَبُرَ " ضمير مبهَم مفسَّر بالنكرة بعده ، و " أن تقولوا " هو المخصوص بالذم ، وقيل : قصد فيه التعجُّب من غير لفظه ، وأُسند إلى " إن تقولوا " ، ونصب " مقتاً " على تفسيره ، دلالةً على أنّ
33
قولهم ما لا يفعلون مقتٌ خالص لا شوب فيه ، كأنه قيل : ما أكبر مقتاً قولهم بلا عمل.
ثم بيَّن ما هو مَرْضِي عنده ، بعد بيان ما هو ممقوت بقوله : {إِنَّ اللهَ يُحب الذين يُقاتِلون في سبيله} ، وهو المقصود بالذات من السورة ؛ وقوله : {صفًّا} أي : صافِّين أنفسهم ، أو مصفوفين ، مصدر وقع موقع الحال ، {كأنهم بُنيان مرصُوص} ؛ لاصق بعضه ببعض ، وقيل : أريد : استواء نيّاتهم في حرب عدوّهم ، حتى يكونوا في اجتماع الكلمة كالبنيان الذي رُصَّ بعضه إلى بعض ، وهو حالٌ أيضاً ، أي : مشبّهين بالبنيان الملاصق. قال ابن عرفة : التشبيه في الثبات وعدم الفرار كثبوت البناء ولزومه. هـ.(8/38)
جزء : 8 رقم الصفحة : 33
الإشارة : {سَبَّحَ لله} ، قال الورتجبي : لمَّا عاينوا آيات الله طلبوا فيها مشاهدة الله ، فوجدوا في نفوسهم تأثير مباشرة نور قدرة الله ، فقدَّسُوه أنه باين بوجوده من الحدثان. هـ. قوله تعالى : {كَبُرَ مقتًا}... الخ ، قال القشيري : خُلفُ الوعد مع كلِّ أحدٍ قبيحٌ ، ومع الله أقبح ، ويُقال : إظهارُ التجلُّدِ من غير شهودِ مواضعَ الفقر إلى الحقِّ في كل نَفَسٍ يؤذِنُ بالبقاء مع ما حصل به الدعوى ، واللهُ يحب التبرِّي من الحول والقوة. ويقال : لم يتوعَّد على زَلَّةٍ بمثْلِ ما توعَّد على هذا ، بقوله : {كَبُرَ مقتًا عند الله}. هـ. ولذا فرّ كثير من العلماء عن الوعظ والتذكير ، وآثروا السكوت ، كما قال بعضهم :
لو كان ينفعني وعظي وعظتُكم
أنا الغريق فما خوفي مِن البلل
قال أبو زيد الثعالبي : وهذا إن وَجد مَن يكفيه ويقوم عنه في الوعظ ، وإلاّ فلا ينبغي السكوت. قال الباجي في سنن الصالحين ، عن الأصمعي : بلغني أنَّ بعض الحُكماء كان يقول : إني لأعظكم ، وإني لكبير الذنوب ، ولو أنَّ أحداً لا يعظ أخاه حتى يُحْكِم أمرَ نفسه لتُرك الأمر بالخير ، واقتُصر على الشر ، ولكن محادثة الإخوان حياة القلوب وجلاء النفوس ، وتذكير مِن النسيان. وقال أبو حازم : إني لأعظ الناسَ ، وما أنا بموضع الوعظ ، ولكن أُريد به نفسي. هـ. قلت : وكان شيخ شيوخنا سيدي على الجمل العمراني رضي الله عنه يقول حين يُذَكِّر : نحْن ما ننبَحُ إلاّ على نفوسنا. هـ.
ثم قال : وقال الحسن لِمطرف : عِظ أصحابك ، فقال : أخاف أنْ أقولَ ما لا أفعل ، فقال : يرحمك الله ، وأيّنا يفعل ما يقول ، ودّ الشيطانُ لو ظفر منكم بهذه ، فلم يأمر أحدٌ منكم بمعروف ولم ينهَ عن منكر. هـ. وفي حديث الجامع : " مُروا بالمعروف وإنْ لم تَفعلُوه ، وانْهَوْا عن المنكرِ وإن لم تَتجنبُوه " وقال الغزالي : مَن ترك العمل خوف الآفة والرياء ، فإنَّ ذلك منتهى بغية الشيطان منه ، إذ المراد منه ألاَّ يفوته الإخلاص ، ومهما ترك العمل فقد ضيَّع العمل والإخلاص. هـ. قلت : ولا شك أنَّ الوعظ مِن المخلصين وأهل
34
القلوب ، أشد تأثيراً من غيرهم ، فإنَّ الكلامَ إذا خرج من القلب وقع في القلب ، وإذا خرج من اللسان حدّه الآذان ، وفي الحِكَم : " تسبق أنوارُ الحكماء أقوالَهم ، فحيث ما صار التنوير وصل التعبير ". فأهل النور تسري أنوارُهم في الجالسين قبل أن يتكلموا ، وربما انتفع الناسُ بصمتهم ، كما ينتفعون بكلامهم ، وأمّا أهل الظُلمة ـ وهو مَن في قلبه حُب الدنيا ـ فكلامهم قليل الجدوى ، تسبق ظلمةُ قلوبهم إلى قلوب السامعين ، فلا ينتفع إلاّ القليل.(8/39)
جزء : 8 رقم الصفحة : 33
يقول الحقّ جلّ جلاله : واذكر يا محمد لهؤلاء المعرضين عن الجهاد قول موسى لبنى إسرائيل ، حين ندبهم إلى قتل الجبابرة ، بقوله : {يَاقَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ} [المائدة : 21] الآية ، فلم يمتثلوا أمره ، وعصوه أشد عِصيان ، حيث قالوا : {يَامُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ...} [المائدة : 22] الآية ، إلى أن قالوا : {فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ...} [المائدة : 24] الآية. وآذوه عليه السلام كل الإذاية فقال : {يا قوم لِمَ تُؤذونني وقد تعلمون أني رسولُ الله إِليكم} ، فالجملة : حال ، والحال أنكم تعلمون عِلماً قطعياً ، مستمراً ، بمشاهدة ما ترون من المعجزات الباهرة ، أني رسولُ الله إليكم ، لأُرشدكم إلى خير الدنيا والأخرة ، ومِن قضية عِلْمكم أن تُبالغوا في تعظيمي ، وتُسارعوا إلى طاعتي ، {فلما زاغوا} أي : أصرُّوا على الزيغ عن الحق الذي جاءهم به ، واستمروا عليه {أزاغ اللهُ قلوبَهم} ؛ صرفها عن قبول الحق ، والميل إلى الصواب ، لصرف اختيارهم نحو الغيّ والإضلال ، {واللهُ لا يهدي القوم الفاسقين} أي : لا يهدي القوم الخارجين عن الطاعة ومنهاج الحق ، المصرِّين على الغواية ، هدايةً موصّلَة إلى الطاعة وحسن الأدب ، والمراد بهم المذكورون خاصة ، والإظهار في موضع الإضمار لذمِّهم بالفسق وتعليل عدم الهداية ، أو جنس الفاسقين ، وهم داخلون في حكمهم دخولاً أوليًّا ، وأَيًّا ما كان فوصفهم بالفسق نظر إلى ما في قوله تعالى : {فافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [المائدة : 25] ، هذا الذي تقتضيه جزالة النظم الكريم ،
35
ويرتضيه الذوق السليم. انظر أبا السعود.
{(8/40)
جزء : 8 رقم الصفحة : 35
وإِذ قال عيسى ابنُ مريم يا بني إِسرائيلَ} ، لم يقل : يا قوم ، كما قال موسى ، لأنه لا نسب له فيهم من جهة الأب ، حتى يكونوا مِن قومه : {إِني رسولُ الله إِليكم} ، كان رسولاً لهم ولمَن دخل معهم ، كالنصارى ، {مُصَدِّقًا لما بين يديَّ مِن التوراة} ، وهو من إحدى الدواعي إلى تصديقهم إياه ، {ومُبشِّرًا برسولٍ يأتي من بعدي} ، وهو من الدواعي أيضاً إلى تصديقه ؛ لأنَّ بشارته به عليه السلام واقعة في التوراة ، أي : أُرسلت إليكم في حال تصديقي للتوراة ، وفي حال بشارتي برسول يأتي من بعدي ، يعني : أنَّ ديني التصديق بكتب الله وأنبيائه ، مَن تقدّم ومَن تأخّر ، وهذا الرسول {اسمُه أحمدُ} وهو محمد صلى الله عليه وسلم.
قال القشيري : كل نبيًّ بشّر قومَه بنبيِّنا صلى الله وعليه وسلم ، وأفرد اللهُ عيسى بالذِّكْرِ في هذا الموضع لأنه أخِرُ نبيِّ قبل نبيِّنا صلى الله عليه وسلم ، فبيّن أنّ البشارة به عَمَّتْ جميعَ الأنبياء واحداً بعد واحدٍ حتى انتهى إلى عيسى عليه السلام. هـ. قال الكواشي : و " أحمد " بناء مبالغة ، والمعنى : أنَّ الأنبياء كلهم حمّادون الله ، وهو أكثر حمداً مِن غيره ، وكلهم محمودون لِما فيهم جميل الأخلاق ، وهو أكثرهم خِلالاً حميدة. ثم قال : وعن كعب : قال الحواريون : يا روح الله ؛ هل بعدنا من أمة ؟ قال : نعم ، أمة أحمد ، حكماء ، علماء ، أبراراً ، أتقياء ، كأنهم من الفقه أنبياء ، يرضون من الله باليسير من الرزق ، ويرضى باليسير من العمل. هـ. وقال السهيلي : في اسمه " أحمد ومحمد " إشارة إلى كونه خاتماً ؛ لأنَّ الحمد مشروع عند انقضاء الأمور واختتامها وتمامها.هـ.
{فلما جاءَهم} أيك عيسى ، أو محمد ـ عليهما السلام ـ {بالبيناتِ} ؛ المعجزات الظاهرة ، {قالوا هذا سِحرٌ مبين} ؛ ظاهر سحريته ، وقرأ الإخوان " ساحر " وصف للرسول.
{ومَن أظلمُ ممن افترى على الله الكذبَ وهو يُدْعَى إِلى الإِسلام} أي : أيّ الناس أشد ظلماً ممن يُدْعى إلى سعادة الدارين ، فيضع موضع الإجابة الافتراءَ على الله عزّ وجل ، بقوله لكلامه الذي دعا عباده إلى الحق : هذا سحر ؟ أي : هو أظلم من كل ظالم ، {واللهُ لا يهدي القومَ الظالمين} أي : لا يُرشدهم إلى ما فيه صلاحهم ؛ لعدم توجههم إليه. {يُريدون لِيُطفئوا نورَ الله بإفواههم} أي : دينه أو : كتابه ، أو حجته النيِّرة ، واللام مزيدة ، أي : يُريدون إطفاءَ نور الله ، أو للتعليل والمفعول محذوف ، أي : يريدون الكذب ليُطفئوا نورَ الله ، وهو تهكُّم بهم في إرادتهم إبطال الإسلام ، بقولهم في القرآن : هذا سحر ، مُثِّلت حالهم بحال مَن ينفخ في نور الشمس بفيه ليطفئه ، {والله مُتِم نُوره} أي : مبلغه إلى غاية يُنشره في الآفاق ، ويُعليه على الأديان {ولو كَرِه الكافرون}.
{(8/41)
جزء : 8 رقم الصفحة : 35
هو الذي أرسل رسولَه بالهُدى} ؛ بالقرآن ، أو بالمعجزات ، أو بالهداية {ودين الحق} ؛ الملة الحنيفية {ليُظهره على الدين كلِّه} أي : ليعليه على جميع الأديان المخالفة
36
له ، ولقد أنجز الله ـ عزّ وعلا ـ وعده ، حيث جعله بحيث لم يبقَ دين من الأديان إلاَّ وهو مغلوب مقهور بدين الإسلام. وعن مجاهد : إذا نزل عيسى لم يكن إلا دين الإسلام. هـ. {ولو كَرِه المشركون} ذلك ، قال الطيبي : قوله تعالى : {ومَن أظلم...} الخ ، حذَّر تعالى مما لقي قوم موسى من إزاغة القلوب ، والحرمان من التوفيق ، بسبب الأذى ، وما ارتكب قوم عيسى بعد مجيئه بالبينات من تكذيبه وقولهم فيه : " هذا سحر مبين " ، ألاَ ترى كيف جمع الكل في قوله : {ومن أظلم...} الآية ، قال : وقضية الدعوة إلى الإسلام توقير مَن يدعو إليه ، وإجابة دعوته. ثم قال : وأمّا قوله : {والله لا يهدي القوم الظالمين} هو تذييل لقوله : {ومَن أظلم ممن أفترى...} الآية ؛ لأنّ الظلم هو : وضع الشيء في غير محله ، وأيُّ ظلم أعظم من جعل إجابة الداعي إلى الله مفترياً ؟ ! والكفر : التغطية ومحاولة إطفاء النور إخفاء وتغطية ، ودين الحق هو التوحيد ، والشركُ يقابله ، ولذلك قال : {ولو كره المشركون}. هـ.
الإشارة : سوء الأدب مع الأكابر ، وإذايتهم ، سبب كل طرد وبُعد ، وسبب كلّ ذُل وهوان ، وحسن الأدب معهم وتعظيمهم ، سبب كُلِّ تقريب واصطفاء ، وسبب كُلِّ عز ونصر ، ولذلك قال الصوفية : " اجعل عَمَلك مِلحًا ، وأدبك دقيقًا ". ألآ ترى بنى إسرائيل حين أساؤوا الأدب مع نبي الله موسى بقولهم : {فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلآ...} [المائدة : 24] الخ كيف أذلَّهم الله وأخزاهم إلى يوم القيامة ، وانظر أصحابَ نبينا صلى الله عليه وسلم حيث تأدّبوا غاية الأدب ، وقالوا يوم بدر : " لا نقول كما قالت بنو إسرائيل : اذهب أنت وربك ، ولكن اذهب أنت وربك ونحن معك ، والله لو خُضت بنا ضحضاح البحر لخضناه معك " كيف أعزَّهم الله ونصرهم على سائر الأديان ، ببركة حُسن أدبهم ـ رضي الله عنهم وأرضاهم.(8/42)
جزء : 8 رقم الصفحة : 35
يقول الحق جلّ جلاله : {يا أيها الذين آمنوا هل أَدُلُّكُمْ على تجارةٍ تُنجِيكم من عذابٍ أليم} ، وكأنهم قالوا : وما هذه التجارة ، أو : ماذا نصنع ؟ فقال : {تؤمنون بالله ورسوله وتُجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفُسِكم} ، وهو خبر بمعنى الأمر ، أي :
37
وجاهِدوا ، وجيء به بصيغة الخبر للإيذان بوجوب الامتثال ، فكأنه قد وقع ، فأخبر بوقوعه ، وقرىء " تؤمنوا " و " تجاهدوا " على إضمار لام الأمر. {ذلكم خير لكم} ، الإشارة إلى الإيمان والجهاد بقِسْميه ، أي : هو خير لكم من أموالكم وأنفسكم {إن كنتم تعلمون} أنه خير لكم ، وقد قلتم : لو نعلم أيّ الأعمال أحب إلى الله لسارعنا ، فهذا هو أحب الأعمال إلى الله ، أو : إن كنتم من أهل العلم ؛ فإنَّ الجهلة لا يعتد بأفعالهم.
{يَغفر لكم ذنوبكم} : جواب للأمر المدلول بلفظ الخبر ، على قول ، أو شرط مقدّر ، أي : إن تُؤمنوا وتُجاهدوا يغفر لكم ذنوبكم {ويُدْخِلْكم جناتٍ تجري مِن تحتها الأنهارُ ومساكنَ طيبةً} ولا تطيب إلاّ بشهود الحبيب {في جناتِ عَدْن} أي : إقامة لا انتقال عنها. وجنة عدن هي مدينة الجنة ووسطها ، يسكنها الصالحون الأبرار من العلماء والشهداء ، وفوقها الفردوس ، هي مسكن الأنبياء والصدِّيقين من المقربين ، هذا هو المشهور ، كما في الصحيح ، {ذلك الفوزُ العظيمُ} أي : ما ذكر من المغفرة وإدخال الجنة الموصوفة بما ذكر من الأوصاف الجليلة هو الفوز الذي لا فوز وراءه.
{(8/43)
جزء : 8 رقم الصفحة : 37
وأُخرى} أي : ولكم إلى هذه النعمة العظيمة نعمةٌُ أخرى عاجلة {تُحبونها} وترغبون فيها ، وفيه شيء من التوبيخ على محبة العاجل. ثم فسَّرها بقوله : {نصرٌ من الله وفتحٌ قريبٌ} أي : عاجِل ، وهو فتح مكة ، والنصر على قريش ، أو فتح فارس والروم ، أو : هل أَدُلكم على تجارةٍ تُنجيكم ، وعلى تجارةٍ تُحبونها ، وهي نصر وفتح قريب ، {وبَشِّر المؤمنين} : عطف على " تؤمنوا " لأنه في معنى الأمر ، كأنه قيل لهم : آمنوا وجاهِدوا يُثبكم الله وينصركم ، وبشر أيها الرسول بذلك المؤمنين.
{يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصارَ الله} أي : أنصار دينه {كما قال عيسى ابنُ مريمَ للحواريين مَنْ أنصاري إِلى الله} ؟ أي : مَن يكون مِن جندي ومختصاً بي ، متوجهاً إلى الله. ظاهره تشبيه كونهم أنصاراً بقول عيسى : {مَن أنصاري إلى الله} ولكنه محمول على المعنى ، أي : كونوا أنصارَ الله ، كما كان الحواريون أنصارَ عيسى ، حينما قال لهم : مَن أنصاري إلى الله ؟ {قال الحواريون نحن أنصارُ الله} أي : نحن الذين ينصرون دينه ، والحواريون : أصفياؤه ، وهم أول مَن آمن به من بني إسرائيل ، قاله ابن عباس ، وقيل : كانوا اثني عشر رجلاً. وحواري الرجل : صفوته وخاصته ، من الحَور ، وهو البياض الخالص ، وقيل : كانوا قصّارين يُحوِّرون الثياب ، أي : يُبيّضونها ، وقيل : إنما سُمُّوا حواريين لأنهم كانوا يُطهرون النفوس بإقامتهم الدين والعلم ، ولمَّا كفرت اليهود بعيسى عليه السلام ، وهَمُّوا بقتله ، فرَّ مع الحواريين إلى النصارى بقرية يُقال لها : نصرى ، فنصوره ، فقاتل اليهودَ بهم مع الحواريين ، وهذا معنى قوله تعالى : {فآمنت طائفةٌ من بني إسرائيل وكفرت طائفةٌ} به ، فقاتلوهم {فإيَّدنا الذين آمنوا} بعيسى عليه السلام {على عدوهم} أي : قوّيناهم {فأصبحوا ظاهِرين} ؛ غالبين عليهم.
38
الإشارة : هل أّدلُكم على تجارةٍ ، وهي سلوك طريق التربية ، على أيدي الرجال ، تُنجيكم من عذاب أليم ، وهو غم الحجاب على الدوام ؛ تؤمنون بالله ورسوله أولاً ، وتجاهدون هواكم وسائرَ العلائق بأموالكم وأنفسكم ثانياً ، فالأموال تدفعونها لمن يدلكم على ربكم ، والأنفس تُقدمونها لمَن يُربيكم ، يَتحكم فيها بما يشاء {في سبيل الله} في الطريق الموصلة إلى حضرته ، {ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون} أي : إن كان لكم علم وعقل ، فهذا خير لكم ، يغفر لكم ذنوبكم ، أي : يُغطي مساوئكم ، فيُغطي وصفكم بصوفه ، ونعتكم بنعته ، فيُوصلكم بما منه إليكم ، لا بما منكم إليه ، ويُدخلكم جنات المعارف ، تجري من تحتها أنهار العلوم ، ومساكن طيبة ، هي السكنى والأطمئنان في مقامات اليقين ، مع شهود رب العالمين ، أو روح الرضا وريحان التسليم ، أو الإقامة في حضرة القدس ، مع التنزُّه في المقامات ، في جنات عدن ، وهي الرسوخ والإقامة في جنات المعارف ذلك الفوز العظيم.
{(8/44)
جزء : 8 رقم الصفحة : 37
وأُخرى تحبونها} عاجلة ، {نصر من الله} : عِزٌّ دائم ، {وفتح قريب} هو دخول بلاد المعاني. وقال القشيري : الفتح القريب : الرؤية والزلفة ، ويقال : الشهود ، ويقال : الوجود أبد الأبد. هـ. {وبَشِّر} بأنهم ظافرون بهذا ، إن فعلوا ما أُمروا به. وقال الورتجبي : نصر الله : تأييده الأزلي ، الذي سبق للعارفين والموحِّدين ، والفتح القريب : كشف نقابه وفتح أبواب وِصاله ، بنصره ظهروا على نفوسهم ، فقهروها ، وبفتحه أبواب الغيب شاهَدوا كل مغيب مستور من أحكام الربوبية وأنوار الألوهية. هـ. وباقي الآية يُرغب في القيام في نصر الدين ، وإرشاد العباد إلى الله ، حتى تظهر أنوار الدين ، وتخمد ظلمة المعاصي والبِدَع من أقطار البلاد ، وبالله التوفيق ، وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وسلّم.
39(8/45)
جزء : 8 رقم الصفحة : 37
سورة الجمعة(8/46)
جزء : 8 رقم الصفحة : 39
يقول الحق جلّ جلاله : {يُسَبِّحُ لله ما في السموات وما في الأرض} ، وهذا التسبيح إمّا أن يكون : تسبيح خِلقة ، يعني : أنك إذا نظرت إلى شيء دلتك خِلقتُه على وحدانيته تعالى ، وتنزيهِه عما لا يليق به ، وإمّا أن يكون تسبيح معرفة ؛ بأن يخلق في كل شيء ما يعرفه به تعالى وينزّهه ، ألا ترى إلى قوله تعالى : {وَإِن مِن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِحُ بحَمدِهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُون تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء : 44] ، أو : تسبيح ضرورة ، بأن يُجري اللهُ التسبيحَ على كل جوهر ، من غير معرفةٍ له بذلك. قاله النسفي.
{الملكِ القُدُّسِ} أي : المنزَّه عما لا يليق به من الكمالات. ولا يُقال : المنزّه عن النقائص ؛ إذ لا يصح اتصافه بها حتى تُنفى عنه ، وربما يكون نقصاً في حقه ، كما يُقال : الملِك ليس بجزار. {العزيزِ الحكيمِ} ، وقرئت هذه الصفات الأربع بالرفع على المدح.
{هو الذي بَعَثَ في الأميين رسولاً منهم} أي : بعث رجلاً أُميًّا في قوم أميين ، وقيل : {منهم} : من أنفسهم ، يعلمون نَسَبه وأحواله وصِدْقَه. والأُمي : منسوب إلى أميّة العرب ؛ لأنهم لايقرؤون ولا يكتبون من بين الأمم. قيل. بُدئت الكتابة في العرب بالطائف ، وهم أخذوها من أهل الحيرة ، وأهل الحيرة من أهل الأنبار. {يتلو عليهم آياته} ؛
40
القرآن {ويُزكِّيهم} ؛ يطهرهم من الشرك وخبائث الجاهلية ، {ويُعَلّمهم الكتابَ} ؛ القرآن {والحكمةَ} ؛ السُنَّة ، أو الفقه في الدين ، أو إتقان العلم والعمل ، {وإِن كانوا من قبلُ لفي ضلالٍ مبين} ؛ كفر وجهالة. و " إن " مخففة ، أي : وإن الشأن كانوا في ضلال فظيع ، وهو بيان لشدة افتقارهم لمَن يرشدهم ، وإزاحة لِمَا عسى أن يتوهم مِن تعلُّمه صلى الله عليه وسلم مِن الغير ؛ إذ كلهم كانوا مغروقين في الجهل والضلال ، ليس فيهم مَن يعلم شيئاً.
{وآخرين منهم} : عطف على " الأميين " أي : بعث في الأميين ، الذين في عصره ، وفي آخرين من الأميين {لَمَّا يلحقوا بهم} أي : لم يلحقوا بهم بعدُ ، وسيلحقون ، وهم الذين يأتون بعد الصحابة إلى يوم القيامة ، وقيل : هم العجم ، أي : وآخرين من جنسهم ، وقيل : عطف على " يُعلّمهم " أي : يُعلّم أخرين منهم ، وعلى كلِّ فدعوته صلى الله عليه وسلم عامة. {وهو العزيزُ الحكيم} ؛ المبالغ في العزة والحكمة ، ولذلك مكَّن رجلاً أميًّا من ذلك الأمر العظيم ، واصطفاه من بين كافة البشر.
{(8/47)
جزء : 8 رقم الصفحة : 40
ذلك} الذي امتاز به محمد صلى الله عليه وسلم من بين سائر البشر {فضلُ الله} وإحسانه ، أو : ذلك التوفيق حتى يؤمنوا من فضل الله ، لا باستحقاق ، أو الاعتناء بالبعث وعدم الإهمال ، مع ما حصل منه من النتائج المذكورة ، فضل من الله ، وقطع الأسباب في الجملة في استحقاق الفضل ؛ إذ علقه بالمشيئة في قوله : {يؤتيه مَن يشاء} تفضُّلاً وعطية ، {والله ذو الفضل العظيم} الذي يُستحقر دونه نِعم الدنيا والآخرة. الإشارة : كل مَن لم يعرف الله معرفةَ العيان ، فهو من الأميين ، فكما مَنَّ الله تعالى على عباده ببعثه الرسول ، بعد أن كانوا في ضلالٍ مبين ، كذلك مَنَّ على أمته بعده ، فبَعَثَ مشايخَ التربية يتلو عليهم آياته الدالة على شهوده وظهوره ، ويزكيهم من الرذائل التي تحجبهم عن الله ، ويُعلّمهم أسرارَ الكتاب ، وأسرارَ الحكمة ، وهي الشريعة ، إذ لا يوقف على أسرارهما إلاّ بعد تطهير القلوب ، وتزكية النفوس ، وإن كانوا من قبل ملاقاة المشايخ لفي ضلال مبين ، حائدين عن طريق الشهود ، وبعث أيضاً في آخرين منهم من يُذكِّرهم ويُعرفهم بالله ، وهكذا لا ينقطع الداعي إلى يوم القيامة ، لكن لا يصل إليه إلاّ مَن أراد الله أن يوصله إليه ، ولذلك قال : {ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء...} الآية.(8/48)
جزء : 8 رقم الصفحة : 40
يقول الحقّ جلّ جلاله : {مَثَلُ} اليهود {الذين حُمِّلُوا التوراةَ} أي : كُلِّفوا علمها ، والعمل بما فيها ، {ثم لم يحملوها} ؛ لم يعملوا بما فيها ، فكأنهم لم يحملوها ، {كَمَثَلِ الحمارِ يحمل أسفاراً} جمع سفر ، وهو الكتاب الكبير ، شَبّه اليهودَ بالحمار ، فإنهم حملة التوراة وقُرّاؤها وحُفّاظ ما فيها ، ثمّ لم يعملوا بها ، ولم ينتفعوا بآياتها ، وذلك : أنَّ فيها بعث رسولِ الله صلى الله عليه وسلم والبشارة به ، فلم يؤمنوا ، فهم أشبه شيء بحمار حمل كُتباً كباراً من كتب العلم ، فهو يشمي بها ، ولا يدري منها إلاَّ ما يلحقه من الكدّ والتعب. وفي التلخيص : وَجْهُ الشَبَه : حرمان الانتفاع بأبلغ نافع ، مع تحمُّل التعب في استصحابه ، وكل مَن عَلِمَ ولم يعمل بعلمه فهذا مثلُه. قال الطيبي : لمّا تمسكت اليهود بقوله : " في الأميين " ؛ لأنه خاص بالعرب ، أتبعه بضرب المثل لمَن تمسّك بهذه الشبهة ، وترك الدلائل الواضحة المسطورة بعموم البعثة ، وأنه كالحمار يحمل أسفاراً ، ولا يدري ما حمل ، ولا ما فيه. هـ. وجملة " يحمل " حال ، والعامل فيها ، معنى المثل ، أو : صفة للحمار ؛ إذ ليس المراد به معيناً ، فهو كقوله :
ولقد أَمُرُّ على اللئيم يَسُبُّني...
{بئس مثلُ القومِ الذين كذّبوا بآيات الله} أي : بئس مثلاً مثل القوم الذين كذّبوا ، أو بئس مثل القوم المكذِّبين مثلهم ، وهم اليهود الذين كذّبوا بآيات الله الدالة على صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، {واللهُ لا يهدي القوم الظالمين} وقت اختيارهم الظلمَ ، أو : لا يهدي مَن سبق في علمه أنه يكون ظالماً ، أو الظالمين لأنفسهم بتعريضها للعذاب الخالد.
{(8/49)
جزء : 8 رقم الصفحة : 41
قل يا أيها الذين هادوا إِن زعمتم أنكم أولياءُ لله من دون الناس فتَمَنَّوا الموتَ إِن كنتم صادقين} ، كانوا يقولون : {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة : 18] ، أي : إن كان قولكم حقًا ، وكنتم على ثقة ، فتمنُّوا على الله أن يُميتمكم ويبعثكم سريعاً إلى دار كرامته ، التي أعدّها لأوليائه ، فإنّ الحبيب يُحب لقاء حبيبه ، وينتقل من دار الأكدار ، إلى دار السرور والهناء ، قال تعالى : {ولا يتمنونه أبداً بما قدمت أيديهم} من الكفر والمعاصي الموجبة للنار. والباء متعلقة بما يدل عليه النفي ، أي : يأبون ذلك بسبب ما قدمت أيديهم ،
42
{والله عليم بالظالمين} أي : بهم. وإيثار الإظهار في موضع الإضمار لذمهم والتسجيل عليهم بالظلم في كل ما يأتون وما يذرون من الأمور ، التي من جملتها ادعاء ما هم عنه بمعزل من ولاية الله.
ثم إنهم لم يجسر أحدٌ منهم أن يتمناها ، بل فرٌّوا منها ، كما قال تعالى : {قل إِنَّ الموت الذي تفرون منه} ولم تجسروا أن تتمنوه خيفة أن تؤخذوا بوبال كفركم ، {فإنه مُلاقيكم} لا محالة ، من خير صارف يلويه ، ولا عاطف يُثنيه ، وقد قال صلى الله عليه وسلم : " لو تَمَنَّوه لماتوا من ساعتهم " ، وهذه إحدى المعجزات. ودخلت الباء في خبر " إن " مع أنه لا يجوز : إن زيداً فمنطلق ؛ لأنَّ " الذي " قد عُرف فيه معنى الشرط والجزاء ، كأنه قيل : إن فررتم من أي موت كان ؛ من قتال أو غيره ، فإنه ملاقيكم ، {ثم تُرَدُّون إلى عالم الغيب والشهادة} الذي لاتخفى عليه خافية ، {فيُنبئكم بما كنتم تعملون} من الكفر والمعاصي ، بأن يجازيكم عليها. قال الكواشي : أكذب اللهُ اليهودَ في ثلاث ، افتخروا بأنهم أولياء الله فكذبهم بقوله : {فتَمنَّواالموتَ} وبأنهم أهل الكتاب ، والعرب لا كتاب لهم ، فشُبِّهوا بالحمار يحمل أسفاراً ، وبالسبت ، وأنه ليس للمسلمين مثله ، فجعل الله لهم الجمعة. هـ. ولذلك ذكرها بإثر تكذيبهم.
الإشارة : مَثَلُ الذي يقرأ القرآن ويتلوه ولا يتدبّر معانيه ، أو يقرأ العلم ولا يعمل به ، كمثل الحمار..الخ. وعُروض الموت على النفس ، أو العمل أو الحال ، ميزان صحيح ، فكل حال وعمل ، أو شخص هزمه الموت فهو معلول ، وحب البقاء للترقِّي والتوسعة في المعرفة محمود ، وغيره مذموم ، وقد تقدّم في البقرة تفصيل ذلك ، فراجعه إن شئت.
وأمّا تمني الموت فقد نُهي عنه ، إلاّ لخوف الفتنة ، فقد قال ابن عباس لعمر رضي الله عنهما : ما لك تُكثر الدعاء بالموت ؟ وما الذي مَلِلت من العيش ؟ أما تُقوّم فاسداً وتعين صالحاً ؟ فقال عمر : يا بن عباس! كيف لا أتمنى الموت ، وأطلب القدوم على الله ، ولست أرى في الناس إلاّ فاتحاً فاه لِلعدة من الدنيا إمّا بحق لا يثق به ، أو بباطل لا يناله ، ولولا أن يسألني ربي عن الناس لفررت منهم ، وتصبح الأرض مني بلاقع. هـ.(8/50)
جزء : 8 رقم الصفحة : 41
وقيل لسفيان الثوري : لِمَ تتمنَّ الموت ، وقد نهى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عنه ؟ فقال : إن سألني ربي عن ذلك أقول : لثقتي بك يا رب ، وخوفي من الناس ، ثم أنشد :
قد قلتُ لمّا مَدَحوا الحياة وأسرفوا
في الموت ألف فضيلة لا تُعرف
فيها أمان لقائه بلقائه
وفراق كل معاشرِ لا يُنصِف
وقال طاوس : لا يحرز المرء إلاَّ حفرته ، وأنشدوا :
يبكي الرجالُ على الحياة وقد
أفنى دموعي شوقي إلى الأجل
43
أموت من قبل أن يفر مني
دَهْري فإني منه على وجل(8/51)
جزء : 8 رقم الصفحة : 41
يقول الحق جلّ جلاله : {يا أيها الذين آمنوا إِذا نودي للصلاة من يوم الجمعة} ، والإمام على المنبر ، و " مِن " بيان لـ " إذا " أو تفسير لها ، وقيل : " مِن " بمعنى " في " كقوله : {مَاذَا خَلَقُواْ مِن ألأَرْضِ} [فاطر : 40 و الأحقاف : 4] أي : في الأرض. وإنما سُمي جُمعة لاجتماع الناس فيه للصلاة ، وقيل : أول مَن سمّاها جمعة : كعب بن لؤي ، وكان يُسمى العروبة ، وقيل : إنَّ الأنصار قالوا قبل الهجرة : لليهود يومٌ يجتمعون فيه في كل سبعة أيام ، وللنصارى مثل ذلك ، فهلُموا نجعل يوماً نجتمع فيه ، فنذكر الله نُصلّي ، فقالوا : يوم السبت لليهود ، ويوم الأحد للنصارى ، فاجعلوه يوم الجمعة ، فاجتعوا إلى سعد بن زُرارة ، فصلَّى بهم ركعتين ، وذكَّرهم ، فسموه يومَ الجمعة ، لاجتماعهم فيه ، فأنزل الله آية الجمعة ـ أي : بعد ذلك ـ تقريراً لفعلهم ، فهي أول جمعة كانت في الإسلام. وأما أول جمعة جمعها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فهي لمَا قَدِم المدينةَ مهاجراً ، نزل قباء ، على بني عَمرو بن عوف ، وأقام بها يوم الاثنين والثلاثاء الأربعاء والخميس ، وأسّس مسجدهم ، ثم خرج يوم الجمعة عامداً إلى المدينة ، فأدركته الصلاة في بني سالم بن عوف ، في بطن وادٍ لهم ، وقد بنوا هناك مسجداً ، فخطب ، وصلّى الجمعة فيه. انظر الثعلبي.
ويم الجمعة سيد الأيام ، وفي الحديث : " مَن مات يوم الجمعة كتب الله له أجر شهيد ، ووُقي فتنة القبر ". فإذا نُودي للصلاة {فاسْعَوا إِلى ذكر الله} أي : امشوا واحضروا الخطبة والصلاة {وذَرُوا البيع} أي : اتركوا المعاملة كلها ، وإنما خص البيع ؛ لأنّ يوم الجمعة كان سوقًا يتكاثر فيه البيع والشراء عند الزوال ، فقيل لهم : بادِروا إلى تجارة الآخرة ، واتركوا تجارة الدنيا ، {واسْعَوا إِلى ذكر الله} الذي لا شيء أنفع منه ، {ذلكم} أي : السعي إلى ذكر الله {خيرٌ لكم} من البيع والشراء {إِن كنتم تعلمون} الخير والشر الحقيقيين ، أو : إن كنتم
44
من أهل العلم.
{(8/52)
جزء : 8 رقم الصفحة : 44
فإِذا قُضِيَتِ الصلاةُ} أي : أُدّيت وفرغ منها {فانتشِرُوا في الأرض} ، أمْرُ إباحة ، أي : اخرجوا لإقامة مصالحكم ، {وابتغوا من فضل الله} ؛ الرزق ، قال ابن عباس : " إنما هي عيادة المريض ، وحضور الجنائز ، وزيارة أخ في الله " ومثله في الحديث ، وعن الحسن : طلب العلم ، وقيل : صلاة التطوُّع. {واذكروا اللهَ كثيراً} ، أي : ذكراً كثيراً ، أو زمناً كثيراً ، ولا تخصُّوا ذكره بالصلاة ، {لعلكم تُفلحون} أي : كي تفوزوا بخير الدارين.
{وإِذا رأَوْا تجارةً أو لهواً انفَضُّوا إِليها} ، رُوي أنّ أهل المدينة أصابهم جوع وغلاء شديد ، فقَدِم دِحْيَة بن خَليفةَ ، بتجارة من زيت الشام ، والنبيُّ صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة ، فقاموا إليها ؛ خشية أن يُسبقوا إليه ، فما بقي معه عليه السلام إلاّ ثمانية ، أو اثنا عشر ؛ العشرة المبشَّرون بالجنة ، وبلال وابن مسعود ، وقيل : أربعون ، وهذا مبنى الخلاف في عدد الجماعة التي تنعقد بهم وتجب عليهم ، فقال مالك : تنعقد باثني عشر غير الإمام ، وتجب على قرية يُمكنهم الإقامة والدفع عن أنفسهم في الغالب ، وقال الشافعي : أربعون رجلاً وقال أبو حنيفة : لا بد من المصر الجامع ، والسلطان القاهر ، وتصح الصلاة عنده بأربعة. ولمّا انفضُّوا قال صلى الله عليه وسلم : " والذي نفس محمد بيده لو قاموا جميعاً لأضرم الله عليهم الوادي ناراً " وفي مراسيل أبي داود : إنّ الخطبة كانت بعد الصلاة ، فتأوّلوا ـ رضي الله عنهم ـ أنهم قد قضوا ما عليهم ، فحولت الخطبة بعد ذلك قبل الصلاة. هـ.
وكانوا إذا أقبلت العير استقبلوها بالطبل والتصفيق ، وهو المراد باللهو. وتخصيص التجارة برجْع الضمير إليها ؛ لأنها المقصودة ، أو لأن الانفضاض إذا كان للتجارة مع الحاجة إليها مذموماً ، فما ظنك بالانفضاض إلى اللهو ، فهو مذموم في نفسه ، وقيل : التقدير : إذا رأوا تجارة انفضُّوا إليها ، أو لهواً انفضُّوا إليه ، فحذف الثاني لدلالة الأول عليه. وقال أبو حيان : وإنما قال : " إليها " ، ولم يقل : إليهما ، لأن العطف بـ " أو " لا يثنى فيه الضمير ، بل يفرد ، وقال الطيبي : الضمير راجع إلى اللهو ، باعتبار المعنى ، والسر فيه : أنَّ التجارة إذا شغلت المكلّف عن الذكر عُدت لهواً ، وتعد فضلاً إن لم تشغله ، كما ذكر قبل ذلك ، فراجعه.
{وتَركُوك قائمًا} على المنبر ، وفيه ندليل على طلب القيام في الخطبة إلاَّ لعذر. {قل ما عند الله} من الثواب {خير من اللهو ومن التجارة} فإنَّ في ذلك نفع محقق دائم ، بخلاف ما فيهما من النفع المتوهم. {واللهُ خيرُ الرازقين} فإليه اسعوا ، ومنه اطلبوا الرزق ، أي : لا يفوتهم رزق الله بترك البيع ، فهو خير الرازقين.
45
الإشارة : إذا نُودي لصلاة القلوب في مقام الجمع ، من ناحية الداعي إليها ، وهم المشايخ العارفون ، فاسعوا إلى ذكر الله ، ودُوموا عليه باللسان والقلب ، ثم بالقلب فقط ، ثم بالروح ، ثم بالسر ، فإنَّ الذكر منشور الولاية ، ولا بد منه في البداية والنهاية ، قال الورتجبي بعد كلام : الساعي إلى الذكر مقام المريدين ، والمحقق في المعرفة غلب عليه ذكر الله إياه بنعت تجلِّي نفسه لقلبه. هـ.
{(8/53)
جزء : 8 رقم الصفحة : 44
وذّرُوا البيع} أي : اتركوا كلَّ ما يشغل عن الله ، فلا تتجلى الحقائق إلاّ بعد ترك العلائق ، ذلكم ، أي : ترك كل شاغل ، خيرٌ لكم إن كنتم تعلمون ، أي : إن كنتم من أهل العلم بالله فإذا قُضيت الصلاة فانتشروا في الأرض... الخ ، أي : إذا حصل لكم البقاء بعد الفناء ؛ فانتشِروا في أرض العبودية ، واتسعوا في ميادين البشرية ، بالاستمتاع بالشهوات المباحة بالإذن والتمكين ، والرسوخ في اليقين ، وابتغوا من فضل الله ، بالتجارات الرابحة ، وهي إرشاد العباد إلى الله ، {واذكروا الله كثيراً} أي : في كل شيء وعند كل شيء ، برؤية الحق في كل شيء ، وإليه تُشير وصيته صلى الله عليه وسلم لمُعاذ بقوله : " واذكر الله عند كل حَجر وشجر ". وقوله تعالى : {وإِذا رأوا تجارةً أو لهواً انفضُّوا إِليها} ، قال القشيري : يشير إلى السالكين المحرومين من الجذبة ـ وهو السالك الأبتر ـ إذا رأوا تجارة ، أي : طاعة تُوجب ثواب الآخرة ، يقومون إليها ، ويَثبون عليها ، نظراً إلى ثواب الآخرة ، كما قال عليه السلام : " لا تكونوا كالأجير السوء ، إن أُعطي عمل ، وإن لم يُعطَ لم يعمل " ، أو لهواً أطرب النفس برؤية الطاعة واستِلْذَاذها بنظر الخلق إليها ، انفضُّوا إليها وتركوك ـ أيها السالك الحقيقي ـ قائماً بعبودية الحق ، ومشاهدة قيوميته ، قل : ما عند الله من المواهب العالية ، والعطايا السنية ، خيرٌ من لهو النفس برؤية الغير ، ومن التجارات بثواب الآخرة ، لقوله تعالى : {فَمَن كَانَ يَرْجُواْ لِقَآءَ رَبِهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلآ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِهِ أَحَداً} [الكهف : 110] أو : ما عند الله نَقْداً للعارفين من واردات القلوب ، وبواده الحقيقية ، خير مما يؤمل من الدنيا والآخرة للغافلين ، والله خير الرازقين ، لإعطائه رزق النفس ، وهو الطاعة على المنهاج والشرع ، ورزق القلب ، وهو الأعمال القلبية ، كالزهد والورع والرضا والتسليم والمراقبة ، والبسط والقبض ، والأُنس والهيبة ، ورزق الروح
بالتجليات والمشاهدات ، والمعاينات والتنزُّلات ، ورزق السر برفع رؤية الغير والغيرية ، ورزق الخفاء بالفناء في الله والبقاء به. هـ. قال الورتجبي : فيه تأديب المريدين حين اشتغلوا عن صحبة المشايخ ، بخلواتهم وعباداتهم ، لطلب الكرامة ، ولم يعلموا أنَّ ما يجدون في خلواتهم بالإضافة إلى ما يجدون في صحبة مشايخهم لَهْوٌ. هـ. وهو حق. وبالله التوفيق. وصلّى الله على سيدنا محمد ، عين عيان التحقيق ، وعلى آله وصحبه وسلّم.
46(8/54)
جزء : 8 رقم الصفحة : 44
سورة المنافقون(8/55)
جزء : 8 رقم الصفحة : 46
يقول الحق جلّ جلاله : {إذا جاءك} أيها الرسول {المنافقون} أي : حضروا مجلسك ، {قالوا نشهدُ إِنك لَرسولُ الله} ، أكدوا بإنَّ واللام ؛ للإيذان بأنَّ شهادتهم هذه صادرة عن صميم قلبهم ، وخلوص اعتقادهم ، ووفور رغبتهم ونشاطهم ، قال تعالى : {واللهُ يعلم إِنك لَرسوله} حقيقةً ، كما يدل عليه ظاهر كلامهم. والجملة معترضة بين شهادتهم وتكذيبهم بقوله : {واللهُ يشهدُ إِنَّ المنافقين لكاذبون} ، وحكمته : أنه لو لم يذكره لتوهم أنَّ قوله : {واللهُ يشهد إِنَّ المنافقين لكاذبون} إبطال للرسالة ، فوسطه بين حكاية قول المنافقين وبين تكذيبهم ؛ ليزيل هذا الوهم ، ويُحقق الرسالة. وقوله : " لكاذبون " أي : في ادعائهم أنهم قالوا ذلك عن اعتقاد وصميم قلب ، كما يُشير إليه ظاهر قولهم. قال القشيري : كذَّبهم فيما قالوا : إنّا نشهد عن بصيرة ، ونعتقد تصديقك ، فلم يكذبهم في الشهادة ، ولكن كذَّبهم في قولهم : إنّا مخلصون مصدِّقون بك. هـ.
{اتخَذوا أيمانَهم} الفاجرة {جُنَّةً} ؛ وقاية عما يتوجه إليهم من المؤاخذة بالقتل والسبي ، وغير ذلك ، واتخاذها جُنَّةً عبارة عن إعدادهم وتهيئهم لها إلى وقت الحاجة ، ليحلفوا بها ، ويتخلّصوا عن المؤاخذة ، {فصَدُّوا} بأنفسهم {عن سبيل الله} وضلُّوا عن طريق الحق ، أو : فصّدُّوا مَن أراد الدخول في الإسلام بإلقاء الشُبه ، وصدُّوا مَن أراد الإنفاق في سبيل الله بالنهي عنه ، كما سيجيء عنهم ، ولا ريب أنّ هذا الصدّ منهم متقدم على حلفهم بالفعل ، ولذلك عبّر بالاتخاذ. {إِنهم ساء ما كانوا يعملون} من النفاق
47
والصدّ. وفي " ساء " معنى التعجب وتعظيم أمرهم للسامعين.
{ذلك} أي : ما تقدّم من قولهم ، الناعي عليهم بأنهم أسوأ الناس أعمالاً ، أو : ما وصف مِن حالهم في النفاق والكذب والاستتار بالأيمان الفاجرة. {بأنهم} ؛ بسبب أنهم {أمنوا} ؛ نطقوا بكلمة الشهادة ، كسائر مَن دخل في الإسلام {ثم كفروا} أي : ظهر كفرهم بما شُوهد منهم من شواهد الكفر ودلائله ، أو : نطقوا بالإيمان عند المؤمنين ، ونطقوا بالكفر عند شياطينهم ، {فطُبعَ على قلوبهم} ؛ ختم عليها ، حتى لا يدخلها الإيمان ، جزاء على نفاقهم ، فتمرّنوا على الكفر ، واطمأنوا به ، {فهم لا يفقهون} شيئًا ، لا يعرفون حقيَّة الإيمان ولا حقيقته أصلاً.(8/56)
جزء : 8 رقم الصفحة : 47
الإشارة : قد يأتي إلى مشايخ التربية مَن يُنافقهم ، طمعًا في الدنيا ، فيقول : نشهد إنك لَمن العارفين ، أو مِن أهل التربية ، مثلاً ، فَتَجُر الآيةُ ذيلَها عليه ، وقد يكون مذبذباً ، تارة تلوح له أنوارُ الولاية ، وتارة تَستر عنه ، فيُصدّق ثم يرجع ، ثم يُطبع على قلبه. قال القشيري : {ذلك بأنهم آمنوا} : استضاؤوا بنور الإجابة ، فلم يَنْبَسِطْ عليهم شعاعُ نور السعادة ، فانطفأ نورُهم بقَهْرِ الحرمان ، وبَقوا في ظلمة القسمة السابقة بحكم الشقاوة. هـ. وهنا إشارة أخرى للقشيري ، وهو : إذا جاءك أيها الروح الصافية منافق الهوى والنفس الأمّارة ، قالوا : نشهد إنك لَرسول الله ، أي : كاملة صافية ، يُريدون بذلك توقفها عن الترقي باستحسان ما أدركت ، والوقوف معه ، والله يعلم إنك لَرسوله ، حين تصفى ، فتكون محل العِلم الرباني ، والوحي الإلهامي ، والله يشهد إنهم لكاذبون في ادعاء الشهادة بلا حقيقة ، اتخذوا أيمانهم جُنَّة ، لئلا تكرّ عليهم بأنوارها ، فتُخرجهم عن عوائدهم وشهواتهم ، فصُدُّوا عن سبيل الله ، حيث بقوا مع عوائدهم ، أو : فصدُّوا الروح إن صدقتهم وطاوعتهم ، ذلك بأنهم أمنوا ، حيث ترد عليهم أنوار الواردات ، ثم كفروا ؛ رجعوا إلى وطنهم ، من الحظوظ ، حيث تخمد أنوار الواردات عنهم ، فطُبع على قلوبهم ، حيث وقفوا مع عوائدهم فهم لا يفقهون : لا يعرفون سر إيجادهم ، ولا لماذا خُلقوا. هـ. بالمعنى.(8/57)
جزء : 8 رقم الصفحة : 47
يقول الحقّ جلّ جلاله : {وإِذا رأيتهم تُعْجِبُكَ أجسامُهم} لضخامتها ، ويروقك منظرُهم ؛ لصباحة وجوههم ، والخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم ، أو : لكل سامع ، {وإِن يقولوا تسمعْ لِقَولهم} لفصاحتهم ، وذلاقة ألسنتهم ، وحلاوة كلامهم ، وكان ابن أُبي رجلاً جسيماً صبيحاً ، وقوم من المنافقين في مثل صفته ، فكانوا يحضرون مجلس الرسول صلى الله عليه وسلم ، ويستندون فيه ، ولهم جهارة المناظرة ، وفصاحة الألسن ، فكان النبي صلى الله عليه وسلم ومَن معه يُعجبون
48
بهم ، ويسمعون إلى كلامهم. {كأنهم خُشُب مُسَنَّدةٌ} أي : هم كخشب مُسَنَّدة ، شُبِّهوا في جلوسهم في مجلس الرسول صلى الله عليهم وسلم مستندين فيها بخُشب منظومة ، مسندة إلى الحائط ، في كونهم أشباحاً خاليه من العلم والخير ؛ لأنّ الخشب إذا انتُفع بها كانت في سَقفٍ ، أو جدارٍ ، أو غير ذلك من مظان الانتفاع ، وما دام متروكاً غير منتفع به ، أُسند إلى الحائط فشُبِّهوا به في عدم الانتفاع. أو : لأنهم أشباح بلا أرواح ، وأجرام بلا أحلام. و " خُشُب " بضمتين ، جمع خَشبة ، كَثمرة وثُمُر ، ويسكن ، كبَدنة وبُدن.
{يحسبون كلَّ صيحةٍ} واقعة {عليهم} ، فـ " كل " : مفعول أول ، و " عليهم " : مفعول ثان ، أي : يظنون كلَّ صيحة واقعة عليهم لاستقرار الرعب في قلوبهم ، فإذا نادى منادٍ في العسكر ، أو انفلتت دابة ، أو نُشِدت ضالّة ؛ ظنوه إيقاعاً بهم. {هم العدوُّ} أي : الكاملون في العداوة ، الراسخون فيها ، فإنّ أعدى الأعادي المكاشِر ، الذي يُكاشر وتحت ضلوعه الداء. فالألف واللام للجنس ، أو : للعهد ، أي : العدو الذي يشهد لك ، ويعتقد خلاف ما يشهد ، {فاحْذرهم} ولا تغتر بحلاوة منطقهم ، {قاتلهم اللهُ} ، دعاء عليهم ، أو : تعليم للمؤمنين أن يدعوا عليهم ، {أنى يُؤفكون} أي : كيف يعدلون عن الحق بعد وضوحه ، تعجُّباً من جهلهم وضلالتهم.
الإشارة : لا عبرة بالأجسام العريضة ، ولا بالألسن الفصيحة ، إنما العبرة بالقلوب المطهرة ، والسرائر المنورة ، " إن الله لا ينظر إلى صوركم... " الحديث ، و " رُبَّ أشعثَ أغبر ، مدفوعٍ بالأبواب ، لو أقسمَ على الله لأبَرَّه في قسمه " قال القشيري : قوله تعالى : {وإذا رأيتهم..} الخ ، أي : هم أشباح وقوالب ، ليس وراءهم ألبابُ وحقائق ، والجوزُ الفارغ يؤنق ظاهره ، ولكن للعب الصبيان. هـ. وقال الشاعر :(8/58)
جزء : 8 رقم الصفحة : 48
وما الحسنُ في وجه الفتى شرفاً له
إذا لم يكن في فعله والخلائق
وقالت العامة : لا يتكلم إلاَّ الجوز الفارغ ، ذمًّا لشقشقة اللسان ، وفي الحديث أيضاً ذمهم والتحذير منهم. أما قوله صلى الله عليه وسلم : " التمسوا حوائجكم عن حِسَان الوُجُوه " فإنما المراد : ما يظهر على الوجه من البهجة والنور ، والخفة والملاحة ، مما خامر الباطن من بشاشة الإيمان ونور المعرفة. والله تعالى أعلم.
49(8/59)
جزء : 8 رقم الصفحة : 48
يقول الحق جلّ جلاله : {وإِذا قيل لهم} عند ظهور نفاقهم : {تعالَوا يستغفر لكم رسولُ الله لَووا رؤوسَهم} أي : عطفوا استكباراً. وقرأ غير نافع بالتشديد للمبالغة. {ورأيتهم يصُدُّون} أي : يُعرضون عن القائل ، أوعن الاستغفار ، {وهم مستكبرون} عن الاعتذار والاستغفار.
رُوي أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم حين لقي بني المصطلق على المُرَيْسيع ـ وهوماءٌ لهم ـ وهزمهم ، وقتلهم ، ازدحم على الماء " جهجاه " أجير لعُمر ـ مع سِنانٍ ـ حليف لعبد الله بن أُبيّ المنافق ـ فصرخ جهجاه : يا للمهاجرين! وصرخ سنان : يا للأنصار! فأعان جَهْجَاهاً جُعال من فقراء المهاجرين ، ولطم سناناً ، فقال ابنُ أُبيّ : أُوَقد فعلوها ، وقال : وما صحبنا محمداً إلا لنُلطَم! وما مثلنا ومثلهم إلاَّ كما قائل القائل : سمِّن كلبك يَأكُلْكَ! والله لئن رجعنا إلى المدينة ليُخرجن الأعزُّ منها الأذلَّ. ثم قال لقومه : كُفوا طعامكم عن هذا الرجل ، ولا تُنفقوا على مَن عنده حتى ينفضُّوا ويتركوه ، فسمع ذلك زيدُ بن أرقم ، وكان حدثاً ، فقال : أنت ـ والله ـ الذليلُ ، المبَغَّضُ في قومك ، ومحمد على رأسه تاج المعراج ، في عزّ من الرحمن ، وقوةٍ من المسلمين ، فقال عبدالله : اسكت ، فإنما كنتُ ألعب ، فأخبر زيدٌ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ، فقال عمر رضي الله عنه : دعني أضرب عنقَ المنافق! فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : " إذن تُرْعَدُ أنوفٌ كثيرة بيثرب " قال : فإن كرهت أن يقتله مُهاجريّ ، فمُر به أنصاريًّا ، فقال : " فكيف إذا تحدّث الناسُ أنّ محمداً يقتل أصحابه ؟ " فأرسل صلى الله عليه وسلم له ، فأتى ، فقال : " أنت صاحب الكلام الذي بلغني " ؟ فقال : والذي أنزل عليك الكتاب ما قلتُ شيئاً من ذلك ، وإنّ زيداً لكاذب ، وهو قوله : {اتخَذوا أَيمانهم جُنَّة} فقال الحاضرون : يا رسول الله! شيخُنا وكبيرُنا ، لا تُصدق عليه كلام غلام ، عسى أن يكون قد وَهم ، قال زيد : فوجدتُ في نفسي ، ولآمَنِي الناسُ ، فلزمتُ بيتي ، فلما نزلت الآية ، قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لزيد : " يا غلام إنَّ الله قد صَدَّقك وكذّب المنافقين " ، فلما بان كذب عبدالله ؛ قيل له : قد نزلت فيك آيٌ شِدادٌ ، فاذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستغفر لك ، فلوى رأسه ، وقال : أمرتموني أن أومن
فآمنتُ ، وأمرتموني أن أزكي مَالي ، فزكّيتُ ، ما بقي لي إلاّ أن أسجد لمحمد ، فنزل : {وإذا قيل لهم تعالوا...} الآية ، وما بقي إلاّ أياماً حتى اشتكى ومات.
50
قاله النسفي ، فانظره ، مع أنّ سورة براءة متأخرة عن هذه ، وفيها : {وَلآ تُصَلِ عَلَى أَحَدٍ مّنْهُم...} [التوبة : 84] التي نزلت فيه.(8/60)
جزء : 8 رقم الصفحة : 50
قالت تعالى : {سواءٌ عليهم أّسْتغفَرتَ لهم أم لم تستغفرْ لهم} ، أي : لا مساغ للنصح فيهم ، {لن يغفر اللهُ لهم} أي : ما داموا على النفاق. والمعنى : سواء عليهم الاستغفار وعدمه ؛ لأنهم لا يلتفتون إليه ، ولا يعتدون به ؛ لكفرهم ، أو لأنّ الله لا يغفر لهم أبداً ، {إِنَّ اللهَ لا يهدي القوم الفاسقين} ؛ لإصرارهم على الفسق ، ورسوخهم في الكفر والنفاق. والمراد : إما هم بأعيانهم ، والإظهار في موضع الإضمار لبيان غلوهم في الفسق ، أو : الجنس ، وهم داخلون في زمرتهم دخولاً أولياً.
{هم الذين يقولون} للأنصار : {لا تُنفقوا على مَن عند رسول الله حتى ينفضوا} ؛ يتفرقوا ، وهذه المقالة كانت السبب في استدعائه إلى الاستغفار ، كما تقدّم ، فحقها التقديم قبل قوله : {وإِذا قيل لهم تعالوا} وإنما أُخرت ليتوجه العتاب إليه مرتين ، كما تقدّم في سورة البقرة.
ثم قال تعالى ، في الرد على الخبيث : {ولله خزائنُ السموات والأرض} ، فهو رد وإبطال لما زعموا من أنَّ عدم إنفاقهم يؤدي إلى انفضاض الفقراء من حوله صلى الله عليه وسلم ببيان أنَّ خزائن الأرزاق بيد الله تعالى خاصة ، يُعطي مَن يشاء ، ويمنع مَن يشاء ، فيرزق منها المهاجرين ، وإن أمسك أهلُ المدينة عنهم ، {ولكنَّ المنافقين لا يفقهون} ؛ ولكن عبد الله وأضرابه لايفقهون ذلك فيهتدون ، بما يُزيِّن لهم الشيطان.
{يقولون لئن رجعنا} من غزوة بني الصطلق {إِلى المدينة ليُخْرِجَنَّ الأعَزُّ منها} يعني : نفسه ـ لعنه الله ـ {الأذلَّ} يعني : جانب المؤمنين ، وإسناد القول بذلك إلى المنافقين ؛ لرضاهم به ، فردّ تعالى عليهم ذلك بقوله : {وللهِ العِزَّةُ ولرسوله وللمؤمنين} أي : ولله الغلبة والعزّة ، ولِمن أعزّه من رسوله والمؤمنين ، لا لغيرهم ، كما أنَّ المَذلة والهوان للشيطان وذويه من الكافرين والمنافقين. وعن بعض الصالحات ، وكانت في هيئة رثّة من الفقر : ألستُ على الإسلام ، وهو العزّ الذي لا ذُلّ معه ، والغنى الذي لا فقر معه ؟ وعن الحسن بن عليّ رضي الله عنه : أنّ رجلاً قال له : إنَّ فيك تيهاً ؟ قال : ليس بتيه ، ولكنه عزّة ، وتلا هذه الآية. هـ.
{ولكنَّ المنافقينَ لا يعلمون} ذلك ؛ لفرط جهلهم وغرورهم ، فيهذون ما يهذون. رُوي أنَّ ولد عبدالله بن أُبيّ ، واسمه عبدالله ، وكان رجلاً صالحاً ، لَمَّا سمع الآية جاء إلى أبيه ، فقال له : أنت والله يا أبت الذليل ، ورسول الله العزيز ، ووقف على باب السكة التي يسلكها أبوه ، وجرّد السيف ، ومنعه الدخول ، وقال : والله لا دخلتَ منزلك إلاَّ أن يأذن في ذلك رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ، وعبد الله في أذل حال ، فبلغ ذلك رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فبعث إليه : " أن خَلِّه يمضي إلى منزله ، وجزاه خيراً " فقال : الآن فنعم. هـ.
51
الإشارة : مَن تكبّر عن حط رأسه للأكابر ففيه خصلة من النفاق ، والمراد بالأكابر : الأولياء العارفون بالله ، مَن تكبّر عنهم مات ، وفيه بقية مِن النفاق ، إذ لا يخلو منه إلاّ بالتطهير الكبير على أيدي المشايخ ، وكذلك مَن منع الناس مِن الإنفاق على أهل النسبة ، كائناً ما كانوا ، فشُؤمه الحرمان من نسيم أهل الوصلة ، {وللّه خزائن السماوات والأرض} أي : خزائن الأرزاق الحسية والمعنوية ، فقد يُعطي أحدهما دون الآخر ، وقد يعطيهما معاً ، أو : يمنعهما معاً ، على حسب المشيئة ، قال رجل لحاتم الأصم : من أين تأكل ؟ فقال : {وللّه خزائن السماوات والأرض} وقال الجنيد : خزائن السماوات : الغيوب ، وخزائن الأرض : القلوب ، وهم علاّم الغيوب ، ومُقلِّب القلوب. وكان الشبلي يقرأ : {وللّه خزائن السماوات والأرض} ويقول : فأين تذهبون. هـ. أي : حين تهتمون بالرزق بعد هذه الآية.
{(8/61)
جزء : 8 رقم الصفحة : 50
ولله العزةُ ولرسوله وللمؤمنين} ، قال بعضهم : عزة الله : قهره ، وعزته لرسوله : إظهاره ، وعزتُه للمؤمنين : نصره إياهم على مَن آذاهم. وقيل : عزة الله : الولاية {هُنَالِكَ الْوَلاَيَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ} [الكهف : 44] ، وعزة الرسول : الكفاية والعناية ، وعزة المؤمنين : الرفعة والرعاية ، وقيل : عزة الله : الربوبية ، وعزة الرسول : النبوة ، وعزة المؤمنين : العبودية ، فإذا أردتَ أيها العبد أن تكون عزيزاً فارفع همتك عن الخلق ، وسُد باب الطمع ، وتحلَّ بحلية الورع. قال بعضهم : والله ما رأيتُ العزّ إلاَّ في رفع الهمة عن الخلق ، وقال آخر : ما قُذِّر لماضغيك أن يمضغاه فلا بدّ أن يمضغاه ، فامضغه ـ ويحك ـ بعز ، ولا تمضغه بذل. هـ.(8/62)
جزء : 8 رقم الصفحة : 50
يقول الحق جلّ جلاله : {يا أيها الذين آمنوا لا تُلهكم أموالكُم} أي : لايشغلكم الاهتمام بتدبير أمورها ، والاعتناء بمصالِحها ، والتمتُّع بها ، {ولا أولادُكم} أي : سروركم بهم ، وشفقتكم عليهم ، والاستغراق في الأسباب ، للنفقة عليهم {عن ذكر الله} أي : عن الاشتغال بذكره عزّ وجل ، من الصلاة ، والذكر ، وسائر العبادات ، والمراد : نهيهم عن التلهي بها ، وتوجيه النهي لهم للمبالغة ، كقوله تعالى : {وَلآ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَئَآنُ قَوْمٍ} [المائدة : 2] ، {ومن يفعل ذلك} أي : التلهي بالدنيا عن الدين {فأولئك هم الخاسرون} ؛ الكاملون في الخسران ، حيث باعوا العظيم الباقي بالحقير الفاني.
{وأَنفِقوا مِن مَّا رزقناكم} أي : بعض ما رزقناكم ، تفضُّلاً ، من غير أن يكون
52
حصوله من جهتكم ادخاراً للآخرة ، وهو عام في المفروض والمندوب ، {مِن قبل أن يأتي أحدَكُم الموتُ} بأن يُشاهد دلائله ، ويُعاين أمارته ومخايله. وتقديم المفعول على الفاعل للاهتمام بما قدّم ، والتشويق لِما أخّر ، {فيقولَ} حين تَيَقُنِه بحلوله : {لولا أخَّرتني} ؛ أمهلتني {إلى أجلٍ قريب} ؛ أمدٍ قصيرٍ ، {فأصَّدَّقَ} بالنصب ، جواب التمني ، {وأكن من الصالحين} بالجزم ، عطفاً على محل {فأصَّدق} أو : على توهُّم إسقاط الفاء ، كأنه قيل : إن أخرتني أصَّدَّق وأكن ، وقرأ أبو عمرو بالنصب عطفاً على اللفظ.
{ولن يُؤخر اللهُ نفساً} ؛ لن يمهلها {إِذا جاء أجَلُهَا} ؛ آخر عُمْرِها المكتوب في اللوح. {واللهُ خبير بما تعملون} فيُجَازيكم عليه ، إن خيراً فخير ، وإن شرًّا فشر ، فسارعوا إلى الخيرات ، واستعِدوا لما هو آت. قال ابن عباس : ما قصَّر أحد في الزكاة والحجِّ إلاَّ سأل الرجعة عند الموت. هـ. والظاهر : أنَّ كل مَن قصَّر في الاجتهاد ، وتعمير الأوقات ، كله يطلب الرجعة ، وكل مَن أدركته المنية قبل الوصول إلى الله مغبون ، ولذلك ذكر التغابن بعدها ، وفي الحديث : " ما مِن أحدٍ إلاَّ سيندم عند الموت ، إن كان عاصياً أن لو تاب ، وإن كان طائعاً أن لو زاد " أو كما قال صلى الله عليه وسلم. قال في غريب المنتقى : إنّ العبد يقول عند كشف الغطاء : يا ملك الموت أَخِّرني يوماً أعتذر فيه إلى ربي ، وأتوب وأتزوّد صالحاً لنفسي ، فيقول المَلك : فَنيت الأيامُ ، فلا يوم ، فيقول : أخَّرني ساعة ، فيقول : فَنِيَت الساعات فلا ساعة. هـ.(8/63)
جزء : 8 رقم الصفحة : 52
قيل : لمَّا كانت سورة المنافقين رأس ثلاث وستين سورة ، أُشير فيها إلى وفاته صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى : {ولن يُؤخر اللهُ نفساً إِذا جاء أجلها} فإنه صلى الله عليه وسلم مات على رأس ثلاث وستين سنة ، وعقبها بالتغابن ، ليظهر التغابن في فقده صلى الله عليه وسلم. هـ.
الإشارة : قد نهى الله تعالى عن الاشتغال عن ذكره بالأموال والأولاد ، ويُقاس عليه سائر القواطع ، فلا عذر للعبد في تركه في وقت من الأوقات ، فما مِن وقت من الأوقات إلاَّ وله حق جديد ، وأمر أكيد ، لا يُقضى في غيره ، فحقوق الأوقات لا تقضى ، بخلاف الحقوق التي لها أوقات محدودة ، فإنها تُقضى في غيرها ، ولمّا كان الذِكر يُطهِّر القلب ، ويُخرج ما فيه من حب الدنيا وغيرها ، أمر بالإنفاق بعد الأمر به ؛ ليسهل الإنفاقَ على العبد. قال بعض الحكماء في مدح الذكر والترغيب فيه : الذكر منشور الولاية ، ولا بُد منه في البداية والنهاية ، وهو يُثمر أحوالاً شريفة ، وماقامات عالية منيفة ، وعلوماً لطيفة ، ويحيي عوالم طالما كانت قَبْلُ مواتاً ، ويُلبِسُ النفسَ وجنودَها ذلة وسُبَاتاً ، ونظيره إذا وصل للقلب : كدخول الماء في الأسراب ، فإنه يُخرج ما فيها من الحشرات والدواب ، فكذلك الذكر ، إذا صدم القلب ، ودخل سُويداءه ، فإنه يُخلصه مِن مساكنة صلصال النفس ، ويُزيل
53
عن ناظره الغشاوة واللبس ، ولهذا كان أفضل الأعمال ، وأزكى الأحوال ، وفُضّل على جهاد السيف والقتال. هـ. وأنفِقوا مما رزقناكم من العلوم والمعارف ، لمَن يطلبها وكان أهلاً لها ، بعد إنفاق ما عنده من الحس ، وإلاَّ فلا خير في فقير شحيح ، فإنه مِن أقبح كل قبيح. فانتهزوا الفرصة ، وبادِروا نفوذ الأجل ، فالترقي إنما تهو في هذه الدار. قال القشيري : لا تَغْتَرُّوا بسلامةِ أوقاتِكم ، وتَرَقَّبوا بغَتَات آجالكم ، وتأهَّبوا لِما بين أيديكم من الرحيل ، ولا تعرجوا في أوطان التسويف. هـ. وبالله التوفيق ، وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه ، وسلّم.
54(8/64)
جزء : 8 رقم الصفحة : 52
سورة التغابن(8/65)
جزء : 8 رقم الصفحة : 54
يقول الحق جلّ جلاله : {يُسبِّح لله ما في السماوات وما في الأرض} أي : يُنزّهه سبحانه جميعُ ما فيهما من المخلوقات عما لا يليق بجناب كبريائه ، قال القشيري : المخلوقات بجملتها مُسَبِّحةٌ لله ، ولكن لا يَسْمَعُ تسبيحَها مَن فيه طَرَشُ النكرة. هـ. {له الملكُ وله الحمدُ} لا لغيره ؛ إذ هو المبدىء لكلّ شيء ، وهو القائم به ، والمهيمن عليه ، وهو المُولي لأصول النِعم وفروعها ، وأمّا ملك غيره فاسترعاء من جنابه ، وحمد غيره اعتداد بأنّ نعمة الله جرت على يديه. فتقديم الظرفين للاختصاص. {وهو على كل شيءٍ قديرٌ} ؛ لأنّ نسبة ذاته المقتضية للقدرة إلى كل سواء.
{هو الذي خَلَقَكُم} خلقاً بديعاً ، حائزاً لجميع الكمالات العلمية والعملية ، ومع ذلك {فمنكم كافرٌ} أي : فبعض منكم مختار للكفر كاسباً له ، على خلاف ما تستدعيه خِلقته ، {ومنكم مؤمن} مختار للإيمان ، كاسباً له ، على حسب ما تقتضيه خِلقته ، وكان الواجب عليكم جميعاً أن تكونوا مختارين للإيمان ، شاكرين لنِعم الخلق والإيجاد ، وما يتفرّع عليهما من سائر النِعم ، فما فعلتُم ذلك مع تمام تمكُّنكم منه ، بل تشعّبتم شعباً ، وتفرقتم فِرَقاً. وتقديم الكفر لأنه الأغلب والأنسب للتوبيخ. قال القشيري : {فمنكم كافر ومنكم مؤمن} أي : في سابق علمه سمَّاه كافراً ، لعلمه أنه يكفر ، وكذلك المؤمن. هـ.
55
قال أبو السعود : حَمْله على ذلك مما لا يليق بالمقام ، فانظره. {واللهُ بما تعملون بصير} فيُجازيكم بذلك ، فاختاروا منه ما ينفعكم من الإيمان والطاعة ، وإياكم وما يرديكم من الكفر والعصيان.
{خَلَقَ السماوات والأرضَ بالحق} ؛ بالحكمة البالغة ، المتضمنة للمصالح الدينية والدنيوية ، حيث جعلها مقرًّا للمكلّفين ليعملوا فيُجازيهم ، {وصوَّركم فأّحْسَن صُوَركم} حيث أنشأكم في أحسن تقويم ، وأودع فيكم من القُوى والمشاعر الظاهرة والباطنة ، ما نيط بها جميع الكمالات البارزة والكامنة ، وخصَّكم بخلاصة خَصائص مُبدعاته ، وجعلكم أنموذجَ جميع مخلوقاته ، فالكائنات كلها منطوية في هذه النشأة.(8/66)
جزء : 8 رقم الصفحة : 55
قال النسفي : أي : خلقكم أحسن الحيوان كلّه ، وأبهاه ، بدليل : أنّ الإنسان لا يتمنّى أن تكون صورته على خلاف ما يرى من سائر الصور ، ومِن حُسن صورته : أنه خلق منتصباً غير منكبٍّ ، ومَن كان دميماً ، مشوّه الصورة ، سمج الخلقة ، فلا سماجة ثمَّ ، ولكن الحسن على طبقات ، فلانحطاطها عمّا فوقها لا تستملح ، ولكنها غير خارجة عن حدّ الحُسن. وقال الحكماء : شيئان لا غاية لهما : الجمال والبيان. هـ. قلت : وما أشار إليه هو الذي نظمه الجيلاني في عينيته ، حيث قال :
وكُلُّ قبيحٍ إن نَسَبْتِ لحُسْنِه
أتتك معاني الحُسْنِ فيه تُسارعُ
يُكَمِّل نُقصانَ القبيحِ جَمَالُه
فما ثَمَّ نُقصانٌ. ولا ثَمَّ بَاشِعُ
{وإِليه المصيرُ} في النشأة الأخرى ، لا إلى غيره ، فأحسِنوا سرائركم ، باستعمال تلك القوى والمشاعر فيما خُلقن له.
{يعلمُ ما في السماوات والأرض ويعلم ما تُسِرُّون وما تُعلنون} أي : ما تُسرونه فيما بينكم ، وما تُظهرونه من الأمور ، والتصريح به مع اندراجه فيما سبق قبله ؛ لأنه الذي يدور عليه الجزاء ، ففيه تأكيد للوعد والوعيد ، وتشديد لهما. وقوله تعالى : {واللهُ عليم بذاتِ الصُدور} : تذييل لِما قبله ، ومُقَرِّر له ، من شمول علمه تعالى لسِرِّهم وعلنهم ، أي : هو محيط بجميع المضمرات المستكنة في صدور الناس ، بحيث لا يُفارقها أصلاً ، فكيف يخفى عليه ما يُسرونه وما يُعلنونه ، فحق أن يُتقى ويُحذر. وإظهار الجلالة للإشعار بعلية الحكم ، وتأكيد استقلال الجملة. قيل : وتقدّم تقرير القدرة على تقرير العلم ؛ لأنّ دلالة المخلوقات على قدرته تعالى بالذات ، وعلى علمه بما فيها من الإتقان والاختصاص ببعض الأوصاف ، وكل ما ذكره بعد قوله : {فمنكم كافر ومنكم مؤمن} في معنى الوعيد على الكفر ، وإنكار أن يُعصى الخالق ولا تُشكر نِعَمه.
قال الطيبي : الفاء في " فمنكم " تفصيلية ، والآية كلها واردة لبيان عظمة الله في مُلكِه وملكوته ، وذلك أنه تعالى لمّا أثبت لذاته الأقدس التنزيه ، وأنّ كل شيء ينزهه ويُقدّسه عما
56
لا يَليق بجلاله ، ثم خصّ أنه لوصفه بالمالكية على الإطلاق ، وكل كمال وجمال ونعمةٍ وإفضال منه ، وهو خالق كل مهتدٍ وضال ، ونظم دليل الآفاق مع ليل الأنفس ، وبيّن أنَّ إليه المصير ، ختم ذلك بإثبات العلم الشامل للكليات والجزئيات ، وكرره تكريراً ، وأكّده توكيداً ، وكأنَّ ذكر العلم في قوله : {والله بما تعملون بصير} استطراد لذكر الخلق وتفصيله ، ولإثبات القضاء والقدر ، ولمّا فرغ من بيان العظمة جاء بالتهديد والوعيد ، وقال : {ألم يأتكم...} الآية. هـ.(8/67)
جزء : 8 رقم الصفحة : 55
الإشارة : هو الذي خلقكم ، فمنكم كافر بطريق الخصوص ، ومنكم مؤمن بها ، داخل فيها ، أي : فمنكم عام ومنكم خاص. قال القشيري : فمنكم كافرٌ ، أي : سائر للحق بالخلق ، ومنكم مؤمن ، أي : مُصدِّقٌ بظهور الحق في الخلق. ثم قسَّم الناسَ على ثلاثة : مَن لا يرى إلاّ الخلق ، وهم أهل الفرق ، ومَن لا يرى إلاّ الحق ، وهم أهل الجمع ، ومَن يرى الحق في الخلق ، والخلق في الحق ، لا يحجبه أحدُهما عن الآخر ، فهم أهل جمع الجمع.
خَلَقَ سماواتِ الأرواح ليُعرف بها ، وأرض الأشباح ليُعبد بها ، وهو الواحد الأحد ، وصوَّركم فأحسن صُورَكم ، حيث جعلها جامعة للعوالم العلوية والسفلية ؛ لأنَّ الله تعالى خلق آدم على صورته ، وذاته المقدسة جامعة لمظاهر الصفات والأسماء ، وتلك المظاهر كلها مجموعة في الصور الآدمية ، بخلاف سائر الكائنات ، فما في صورتها إلآَّ بعض الأسماء والصفات ، فتأمّله. وإليه المصير ، أي : وإلى ذاته ترجع جميع الصور والأشكال ، فما خرج شيء عن إحاطة الذات والصفات ، يعلم ما تُسرُّون من العقائد الصحيحة ، وما تُعلنون من العبادات الخالصة ، أو : ما تُسرُّون من الكشوفات الذوقية ، وما تُعلنون من العبودية الاختيارية ، هذا في خاصة أهل الظاهر وأهل الباطن ، أو : ما تُسرُّون من العقائد الفاسدة ، وما تُعلنون من الأعمال الخبيثة ، أو : ما تُسرُّون من الاتحاد أو الحلول ، وما تعلنون من العمل والمعلول ، وهذا في طالحي الفريقين.(8/68)
جزء : 8 رقم الصفحة : 55
57
يقول الحق جلّ جلاله : لكفار مكة {ألم يأتكم نبأُ الذين كفروا من قبلُ} ؟ كقوم نوح ، ومَن بعدهم من الأمم المُصرَّة على الكفر ، {فذاقوا وبالَ أمرهم} أي : شؤم كفرهم في الدنيا من الهلاك والاستئصال. والوبالُ : الثقل والشدة ، وأمرهم : كفرهم ، عبّر عنه بالأمر إيذاناً بأنه أمر هائلٌ ، وجناية عظيمة ، و " ذاقوا " عطف على " كفروا " أي : ألم يأتكم خبر الذين كفروا فذاقوا من غير مهلة ما يسْتتبعُهُ كفرهم في الدنيا ؟ {ولهم في الآخرة عذابٌ أليم} لا يُقادَر قدره.
{ذلك} أي : ما ذكر من العذاب الذي ذاقوه في الدنيا ، وما سيذوقونه في الآخرة {بأنه} ؛ بسبب أن الشأن {كانت تأتيهم رُسُلهم بالبينات} ؛ بالمعجزات الظاهرة ، {فقالوا أَبَشَرٌ يهدوننا} أي : قال كلُّ قوم من المذكورين في حق رسولهم الذي أتاهم بالمعجزات منكرين كون الرسول من البشر ، متعجبين من ذلك {أَبَشرٌ} مِن جنس البشر {يهدوننا} ، أنكروا رسالة البشر ، ولم ينكروا عبادةَ الحجر ، {فكفروا} بالرسل {وتَوَلَّوا} عن التدبُّر فيما أتوا به من البينات ، أو : عن الإيمان بهم ، {واستغنى اللهُ} أي : أظهر استغناءه عن إيمانهم وطاعتهم ، حيث أهلكهم وقطع دابرهم ، ولولا استغناؤه تعالى عنها ما فعل ذلك ، {والله غنيٌّ} عن العالمين ، فضلاً عن إيمانهم وطاعتهم ، {حميدٌ} يحمده كلُّ مخلوقٍ بلسان الحال والمقال ، أو : مستحق للحمد بذاته ، وإن لم يحمده حامد.
ثم ذكر كفرهم بالبعث ، فقال : {زَعَمَ الذين كفروا أن لن يُبعثوا} ، الزعم : ادّعاء العلم ، فيتعدّى إلى مفعولين ، سدّ مسدهما " أن " المخففة ، أي : أدّعى أهل مكة أنّ الشأن لن يُبعثوا بعد موتهم ، {قل بلى وربي لَتُبعثن} ، ردًّا لزعمهم وإبطالاً لِما نفوه مؤكَّداً بالقسم ، فإن قلْتَ : ما معنى اليمين على شيء أنكروه ؟ قلتُ : هو جائز ؛ لأنّ التهديد به أعظم موقعاً في القلب ، فكأنه قيل : ما تنكرونه والله إنه لواقع لا محالة ، {ثم لتُنبَّؤنَّ بما عَمِلتم} أي : لتُحاسبن وتُجزون بأعمالكم ، {وذلك} أي : ما ذكر من البعث والحساب {على الله يسيرٌ} هيّن ، لتحقق القدرة التامة ، وقبول المادة للإعادة.(8/69)
جزء : 8 رقم الصفحة : 57
الإشارة : ألم يأتكم يا معشر المنكِرين على أولياء زمانكم ، خبر مَن أنكر قبلكم ، ذاقوا وبالَ أمرهم حيث ماتوا محجوبين عن شهوده ، مطرودين عن ساحة قربه ، ذاقوا وبال أمرهم في الدنيا ؛ الجزع والهلع وتسليط الخواطر والشكوك ، ولهم في الآخرة عذاب البُعد والحِجاب ، وسبب ذلك : إنكار الخصوصية عند بشر مثلهم ، فكفروا به ، وتولَّوا عنه ، والله غني عنهم ، وعن توجههم ، وعن جميع الخلق ، زعم الذين كفروا ؛ ستروا الحق بالخلق ، أي : احتجبوا بالخلق عن شهود الحق ، أن لن يُبعثوا على معتقدهم ، قل : بلى وربي لتُبعثن ، كما عشتم محجوبين عن رؤية الحق إلاّ نادراً ؛ لأنَّ العبد يموت على ما عاش ، ويُبعث على ما مات ، من معرفةٍ أو نكران ، ثم لتُحاسبن على أعمالكم ، لا يغادَر منها صغيرة ولا كبيرة ، بخلاف العارفين ، لا يُرفع لهم ميزان ، ولا يتوجه لهم حساب ، حيث
58
فَنوا عن أنفسهم ، وبقوا بالله ، وهم من السبعين ألفاً. وبالله التوفيق.(8/70)
جزء : 8 رقم الصفحة : 57
قلت : الفاء في قوله {فأمِنوا} فصيحة ، مفصحة عن شرط مقدّر ، أي : إذا كان الأمر كما ذكرنا من وقوع البعث لا محالة فآمِنوا وتأهّبوا له.
يقول الحق جلّ جلاله : {فآمِنوا بالله ورسوله} محمد صلى الله عليه وسلم ، {والنورِ الذي أنزلنا} وهو القرآن ، فإنه بيّن حقائق الأشياء ، فيهتَدي به كما يهتدى بالنور. والالتفات في " أنزلنا " لكمال العناية بالإنزال ، {والله بما تعملون} من الامتثال وعدمه {خبير} ، فيجازيكم عليه. وإظهار اسم الجليل لتربية المهابة ، وتأكيد استقلال الجملة.
واذكر {يومَ يجمعكم} أو : لَتنبؤنَّ ، أو خبير {يوم يجمعكم ليوم الجمع} وهو يوم يُجمع فيه الأولون والآخرون للحساب والجزاء ، {ذلك يوم التغَابُنِ} ، مستعار من : تغابن القومُ في التجارة ، وهو أن يُغبن بعضُهم بعضاً ، لنزول السعداء منازلَ الأشقياء التي كانوا ينزلونها لو كانوا سعداء ، ونزول الأشقياء منازل السعداء لو كانوا أشقياء ، كما ورد في الحديث. وقد يتغابن الناسُ في ذلك اليوم بتفاوت الدرجات ، وذلك هو التغابن الحقيقي ، لا التغابن في أمور الدنيا ، {ومَن يؤمن بالله ويعمل صالحاً نُكَفِّرْ} بنون العظمة لنافع والشامي ، وبياء الغيبة ، أي : يُكَفِّر الله {عنه سيئاتِه ونُدْخِلْه جنات} أو : يُدخله الله {جناتٍ تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً ذلك} أي : ما ذكر من تكفير السيئات وإدخال الجنات {الفوزُ العظيم} الذي لا فوز وراءه ؛ لانطوائه على النجاة من أعظم الهلكات ، والظفر بأجل الطلبات.
{والذين كفروا وكَذَّبوا بآياتنا أولئك أصحابُ النار خالدين فيها وبئس المصير} ؛ المرجع ، كأنّ هاتين الآيتين الكريمتين بيان لكيفية التغابن. والله تعالى أعلم.
الإشارة : فأمِنوا بالله ورسوله إيمان العيان ، لا إيمان البرهان ، أي : قدِّموا إيمان البرهان ، ثم سيروا إلى مقام العيان ، وآمِنوا بالقرآن ، وصَفُّوا مرآة قلوبكم حتى تسمعوه منا بلا واسطة ، واذكروا يومَ يجمعكم ليوم الجمع الدائم لأهل الجمع في الدنيا ، ذلك يوم
59
التغابن ، يغبن الذاكرون الغافلين ، والمجتهدون المقصّرين ، والعارفون بالله والمحجوبين عنه ، وهذا هو الغبن الكبير ، ومَن يُؤمن بالله ، ثم يَجْهد في شهود الله ، ويعمل عملاً صالحاً ، وهو العمل بالله ، نُكفِّر عنه سيئاته ، أي رؤية أعماله ووجوده ، أي : نُغَطِّي وصفَه بوصفي ، ونعتَه بنعتي ، ونُدخله جنات المعارف ، تجري من تحتها أنهار العلوم والحِكم ، وذلك هو الفوز العظيم ، أي : خَلْع الوجود المجازي عنه ، وإلباس الوجود الحقيقي هو الفوز العظيم. والذين كفروا بطريق الخصوص ، وكذَّبوا بآياتنا ، وهم العارفون الدالون على الله ، أولئك أصحاب النار ، أي : نار الحجاب وجحيم الاحتجاب ، خالدين فيها ، وبئس المصير الحجاب والاحتجاب.(8/71)
جزء : 8 رقم الصفحة : 59
يقول الحق جلّ جلاله : {ما أصاب من مُصيبةٍ} دنيوية أو أخروية {إِلاّ بإذن الله} أي : بتقديره وإرادته ، كأنها بذاتها متوجهة إلى الإنسان ، متوقفة على إذنه تعالى ، {ومَن يُؤمن بالله} أي : يُصدِّق بأنّ المقادير كلها بيد الله {يَهْدِ قلبه} للرضا والتسليم ، أو الاسترجاع ، فيقول : إنّا لله وإنّا إليه راجعون ، أو : يَهْدِ قلبه حتى يعلم أنّ ما أصابه لم يكن ليخطئه ، وما أخطأه لم يكن ليُصيبه ، وعن مجاهد : إن ابتلي صبر ، وإن أعطي شكر ، وإن ظُلم غفر. ونقل ابن عطية عن المفسرين : أنّ المراد : مَن اعترف بالقدر هانت عليه المصيبة ، وسلَّم لأمر الله تعالى. {واللهُ بكل شيءٍ عليمٌ} فيعلم ما في القلوب من برد الرضا أو حرارة التدبير.
{وأطيعوا اللهَ} فيما أمركم به ، ومن جملته : الرضا بقضائه عن المصائب ، {وأطيعوا الرسولَ} فيما سنَّ لكم من الأخلاق الطيبة ، وكرر الأمر للتأكيد والإيذان بالفرق بين الطاعتين في الكيفية ، {فإِن توليتم} عن طاعتهما {فإنما على رسولنا البلاغُ المبين} ، وهو تعليل للجواب المحذوف ، أي : فإن تُعرضوا فلا بأس عليه ؛ إذ ما عليه إلاّ البلاغ ، وقد فعل ذلك بما لا مزيد عليه. وإظهار الرسول مضافاً إلى نون العظمة في مقام إضماره لتشريفه صلى الله عليه وسلم والإشعار بأنّ مدار الحكم ، الذين هو وظيفته عليه السلام هو محض التبليغ ، ولتشنيع التولِّي عنه.
{اللهُ لا إِله إلاّ هو} لا يستحق العبادة غيره ، فـ " الله " : مبتدأ ، و " لا إله إلا هو " : خبره ، {وعلى الله} دون غيره {فليتوكل المؤمنون} ، حَثّ رسولَه صلى الله عليه وسلم على التوكُّل عليه حتى ينصره الله ، وهي عامة لغيره ، وإظهار الجلالة في موضع الإضمار للإشعار بعليّة
60
التوكُّل والأمر به ، فإنّ الألوهية مقتضية للتبتُل إليه تعالى بالكلية ، وقطع التوكُّل عما سواه بالمرة.
الإشارة : ما من نَفَس تُبديه ، إلاَّ وله قَدَر فيك يُمضيه. ما أصاب من مصيبة قلبية أو نفسية ، ظاهرة أو باطنة ، إلاّ بإذن الله وقَدَرِه ، وكذلك ما أصاب من مسرةٍ أو زيادة إلاّ بإذنه تعالى. قال القشيري : أي : أيّ خصلة حَصَلَت فمن قِبَله ، خَلْقاً ، وبعلمه وإرادته حُكماً ، ومَن يؤمن بالله يهدِ قلبه ، حتى يهتدي إلى الله في السراء والضراء في الدنيا ، وفي الآخرة يهديه إلى الجنة ، وقيل : يهديه للأخلاق السنية ، وقيل : لاتباع السنّة ، واجتنابِ البدعة. هـ. وقال أبو بكر الورّاق : ومَن يؤمن بالله عند النعمة والرخاء فيعلم أنها من فضل الله يهدِ قلبه للشكر ، ومَن يؤمن بالله عن الشدة والبلاء ، فيعلم أنها من الله يَهْد قلبه للصبر والرضا. هـ.(8/72)
جزء : 8 رقم الصفحة : 60
قال في الحاشية الفاسية : والظاهر والمتبادر : أنّ قوله : {ما أصاب...} الآية جمعٌ على الله ، ورَدٌّ من الأسباب ، والوقوف معها ، إلى الوقوف مع قضائه ، وإنما يجد ذلك المؤمن بالله ، وأمّا غيره فصَدْره ضَيق حرج عن قبول المعرفة ، ولذلك قال : {ومَن يؤمن بالله يَهْد قلبه} لمعرفته والأطمئنان به ، أي : ومَن لم يؤمن يَصْلى نار القطيعة والبُعد ، وحرارة التدبير ، ففيه ترغيب في الإيمان وتحذير من الكفر ، وأنّ الإيمان تعقبه جنة الرضا والتسليم ، عاجلاً ، والكفر بضد ذلك ، فبَعد أن ذكر الجزاء في الآخرة أشار إلى الجزاء المعجّل من اليقين والرضا للمؤمن ، وضده للكافر. والله أعلم. هـ.
وأطيعوا اللهَ في الفرائض ، والرسول في السنن ، وقد بقي بعد الرسول خلفاؤه ، يسنون السننَ الخاصة ، فمَن أعرض عنهم ، يقال له : {فإن توليتم...} الآية ، وتقدّم في آل عمران وغيرها الكلام على التوكُّل. وبالله التوفيق.(8/73)
جزء : 8 رقم الصفحة : 60
61
يقول الحق جلّ جلاله : {يا أيها الذين آمنوا إِنّ مِن أزواجكم وأولادِكم عدواً لكم} يشغلونكم عن طاعة الله تعالى ، ويُخاصمونكم في أمور الدنيا ، أي : إنَّ من الأزواج أزواجاً يُعادين بعولتهنّ ويخاصمنَهم ، ومن الأولاد أولاداً يُعادون آباءهم ويعقّونهم ، {فاحذروهم} ؛ كونوا على حذر منهم إن شغلوكم عن الله ، فالضمير للعدو ، فإنه يُطلق على الجمع ، كقوله تعالى : {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّي} [الشعراء : 77] ، أو : للأزواج والأولاد جميعاً ، فالمأمور به على الأول : الحذر عن الكل ، وعلى الثاني : الحذر من البعض ، لأنّ منهم مَن ليس بعدو ، وإمّا الحذر عن عموم الفريقين ، لاشتمالهما على العدو. {وإِن تَعفوا} عن ذنوبهم القابلة للعفو ، بأن تكون متعلقة بأمور الدنيا ، أو بأمور الدين لكن مع التوبة ، أو : تعفوا إذا اطّلعتم منهم على عداوة ، {وتصفحوا} ؛ تُعرضوا عن التوبيخ ، {وتغفروا} ؛ تستروا ذنوبهم ، {فإِنَّ الله غفور رحيم} يغفر لكم ذنوبكم ، ويعاملكم مثل ما عاملتم.
رُوي أنّ ناساً من أهل مكة أرادوا الهجرة ، فتعلّق بهم نساؤهم وأولادهم ، وقالوا : تنطلقون وتُضيعوننا ، فرقُّوا لهم ، ووقفوا ، فلما هاجروا بعد ذلك ، ورأوا الذين سبقوهم قد فَقِهُوا في الدين ، وحازوا رئاسةَ التقدُّم ، أرادوا أن يُعاقبوا أزواجهم وأولادهم ، فرغّبهم في العفو.
{إِنما أموالُكم وأولادُكم فتنةٌ} ؛ بلاءٌ ومحنةٌ ، يوقعون في الإثم والعقوبة ، أو : امتحان واختبار ، يختبر بهما عبادَه ، هل يصدونهم عن الخير أم لا ، فيعرف القويّ في دينه من الضعيف. قال الحسن : أدخل " مِن " للتبعيض في الأزواج والأولاد ؛ لأنَّ كلهم ليسوا بأعداء ، ولم يذكر " مِن " في فتنة الأموال والأولاد ؛ لأنها لا تخلو من فتنة واشتغال قلب بها. كان لابن مسعود بَنون كالبُدور ، فقيل له ـ وهم بين يديه : أيسرُّونك ؟ فقال : لا ، إنما يسرُّني لو نفضت يدي من التراب عند دفنهم ، فنفوز بأجورهم ، قيل له : إنَّ لك الأجر في تربيتهم ، فقال : كل ما يشغل عن الله مشؤوم. هـ. من اللباب. وعن ابن مسعود : لا يقل أحدكم : اللهم اعصمني من الفتنة ؛ إذ لا يخلو منها أحد ، ولكن ليقل : اللهم إنني أعوذ بك من مضلاَّت الفتن. قال أبو بريدة : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة ، فجاءه الحسن والحسين ، عليهما قميصان أحمران ، يجرانهما ، يعثران ، ويقومان ، فنزل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عن المنبر ، حتى أخذهما ، ثم قرأ : {إنما أموالكم وأولادكم فتنة}...الآية ، ثم قال " إني رأيت هذين فلم أصبر " ثم أخذ في خطبته.
{(8/74)
جزء : 8 رقم الصفحة : 61
واللهُ عنده أجرٌ عظيم} لمَن آثر محبةَ الله وطاعتَه على محبة الأموال والأولاد ،
62
والسعي في تدبير مصالحهم ، وليس في الآية ترهيب من مخالطة الأزواج والأولاد ، إنما المراد النهي عن الاشتغال بهم عن ذكر الله وطاعته ، فإذا تيسّر ذلك معهم فالمخالطة أولى ، فَعَن أنس رضي الله عنه : قلت : يا رسول الله ؛ الجلوس مع العيال أحب إليك أم في المسجد ؟ قال : " جلوس ساعة مع العيال أحب إليَّ من الاعتكاف في مسجدي هذا ، ودرهم تُنفقه على العيال أفضل من أن تنفقه في سبيل الله " انظر السمرقندي.
{فاتقوا اللهَ ما استطعتم} أي : ابذلوا جهدَكم وطاقتكم في تقواه ، قال ابن عطية : تقدّم الخلاف هل هذه الآية ناسخة لقوله تعالى : {اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} [آل عمران : 102] أو : مُبيّنة لها ، والمعنى : اتقوا الله حق تقاته فيما استطعتم ، وهذا هو الصحيح. هـ. {واسمَعُوا} ما تُوعظون به ، {وأطيعوا} فيما تُؤمرون به {وأَنفِقوا} مما رزقناكم في الوجوه التي أُمرتم ، فالإنفاق فيها خالصاً لوجهه {خيراً لأنفسِكم} أي : وائتوا خيراً لأنفسكم ، {ومَن يُوقَ شُحَّ نفسه فأولئك هم المفلحون} الفائزون بكل خير.
{إِن تُقرضوا اللهَ} بصرف أموالكم إلى المصارف التي عيّنها {قرضاً حسناً} مقروناً بالإخلاص {يُضاعِفْهُ لكم} بالواحدة عشراً إلى سبعمائة أو أكثر ، {ويغفرْ لكم} ببركة الإنفاق ما فرط منكم ، {واللهُ شكورٌ} يُعطي الجزيل في مقابلة القليل ، {حليمٌ} لا يُعاجِل بالعقوبة ، {عالمُ الغيب والشهادة} لا تخفى عليه خافية ، {العزيزُ الحكيمُ} مبالغ في القدرة والحكمة. والله تعالى أعلم.
الإشارة : كل ما يشغلك عن السير إلى الحضرة ، أو عن الترقِّي في معاريج الوصلة ، فهو عدو لك ، فاحذره ، بالفرار من موافقته والوقوف معه ، فكن إبراهيميًّا ، حيث رمَى أهلَه وولَده في وادٍ غير ذي زرع ، وتركهم في كنف الله وحِفْظِه ، فانظر كيف حَفِظَهم غايةَ الحفظ ، وتولاهم غاية التولي ، وجعل أفئدة الناس تهوي إليهم من كل جانب ، وانصبّت عليهم الأرزاق من كل ناحية ، فهذه عادته تعالى مع أهل التوكُّل والانقطاع إليه. ومِن الأزواج والأولاد مَن يزيد بالرجل ويُعينه على ربه ، فهؤلاء ليسوا بأعداء. قال سهل : مَن دعاك مِن أهلك وولدك للميل للدنيا فهو عدو ، ومَن واخاك على القناعة والتوكُّل فليس بعدو. هـ. قال القشيري : إنَّ من أزواجكم : نفوسكم الأمَارة ، وأولادكم : صفاتها ومُناها وأخلاقها الشهوانية ، عدوًّا لكم ، يمنعكم عن الهجرة إلى مدينة القلب ، الذي هو بيت الرب ، فاحذروا متابعتَهم بالكلية ، وإن تعفوا عن هفواتكم الواقعة في بعض الأوقات ، لكونهم مطية لكم ، وتصفحوا عن التوبيخ ، وتغفروا : تستروا ظلمتهم بنور إيمانكم وشعاع قلوبكم ، فإنّ اللهَ غفور سائر لكم بستر لطفه ، رحيم بإفاضة رحمته عليكم. هـ. ببعض المعنى.(8/75)
جزء : 8 رقم الصفحة : 61
إنما أموالكم وأولادكم فتنة اختبار من الحق ، ليعلم مَن يقف معها ، أو ينفذ عنها ، فأهل العناية لم يشغلهم عن الله شيء ، فحين توجّهوا إليه كفاهم أمْرَهم ، أو : بالغيبة عنها
63
بالخمرة القوية. قال القشيري : أموالكم : أعمالكم المشوبة ، وأولادكم : أخلاقكم المكدرة ، فكدورة الطبع فتنة توجب افتتانكم بالإعراض عن الحق ، والإقبال على الدنيا ، وحب الجاه عند الناس ، والتفاتهم إليكم بحسن الاعتقاد ، والله عنده أجر عظيم بالفناء عن الكل والبقاء بالحق. هـ.
{فاتقوا الله ما استطعتم} أي : غِيبوا عما سوى الله طاقة جهدكم ، وتقدّم أنَّ قوله تعالى : {اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} [آل عمران : 102] خطاب لأهل التجريد ، وهذا خطاب لأهل الأسباب ، والله تعالى أعلم. وقال ابن عطاء : الاستطاعة على الظواهر والأعمال ، وحق تقاته على القلوب والأحوال. هـ. أي : اتقوا الله حق تقاته بتوجيه القلوب إليه بلا التفات ، واتقوا الله ما استطعتم بعمل الجوارح قدر الطاقات. قال القشيري : ما أنتم في الجملة مستطيعين ، ويتوجه إليكم التكليف ، فاتقوا الله ، والتقوى عن شهود التقوى ، بعد ألاّ يكونَ تقصيرٌ في التقوى غايةُ التقوى. هـ. واسمعوا منا بلا واسطة ، وأطيعوا فيما نأمركم به مما يُقرب إلينا ، وننهاكم عنه مما يُبعد عنا. قال القشيري : أطيعوا بالنفس لأحكام الشريعة ، وبالقلب لآداب الطريقة ، وبالروح بطلوع الحقيقة. هـ. وأنفِقوا من أموالكم وعلومكم وأسراركم ، على الطالبين والسالكين والواصلين ، يكن خيراً لأنفسكم ، لأنّ الناس نفس واحدة ، فإنفاقك على غيرك إنفاق على نفسك ، لانتفاء الغيرية في الأحدية. ومن يُوق شُحَّ نفسه بإنفاقها في مرضاة الله ، بأن يُقدمها للمَتالف والمتاعب في طلب الوصول ، فأولئك هم المفلحون الظافرون بشهود الحق. قال القشيري : ومَن يُوق شُحَّ نفسه حتى يرتفع عن قلبه الأخطار ، ويتحرَّر من رِقِّ المكونات ، فأولئك هم المفلحون. هـ. وعن بعضهم : مَن أنفق بكُرهٍ فهو شح ، ومَن أَنفق بطوعٍ فهو الفرض ، ومَن عُوفي من بلاء الجمع والمنع ، والرغبة والحرص ، فقد دخل في ميدان الفلاح. هـ.
إن تُقرضوا الله بإعطاء وجودكم قرضاً حسناً ، من غير اعتبار الغرض والعوض ، بالفناء عن شهود القَرْض والحس ، يُضاعفه لكم بالوجود الحق ، المشتمل على جميع الموجودات الإضافية ، ويغفر لكم : يستر عنكم مساوئكم وحسّ وجودكم قبل فنائكم في الله وبقائكم به. والله شكور يقبل مَن توجه إليه بلا شيء ، حليم يُغيّب العبد عن شهود مساوئه ، بإغراقه في إحسانه. عالم الغيب : بواطن الأرواح ، والشهادة : شهادة ظواهر الأشباح ، العزيز : المعزّ لأوليائه ومكل مَن انتسب إليه ، الحكيم في قسمه المراتب على حسب التوجُّه. وبالله التوفيق ، ولا حول ولا قوة إلاّ بالله. وصلّى الله على سيدنا محمد وآله.
64(8/76)
جزء : 8 رقم الصفحة : 61
سورة الطلاق(8/77)
جزء : 8 رقم الصفحة : 64
{ياأيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَآءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُواْ الْعِدَّةَ وَاتَّقُواْ اللَّهَ رَبَّكُمْ لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلاَ يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لاَ تَدْرِى لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُواْ ذَوَي عَدْلٍ مِّنكُمْ وَأَقِيمُواْ الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ...}.(8/78)
جزء : 8 رقم الصفحة : 65
يقول الحق جلّ جلاله : {يا أيها النبيُّ إِذا طلقتم النساءَ} ، خصَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم بالنداء ، وعمَّ بالخطاب ؛ لأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم إمام أمته وقدوتهم ، كما يُقال لرئيس القوم : يا فلان افعلوا كذا وكذا ؛ إظهاراً لتقدُّمه ، واعتباراً لترؤسه ، وأنه قدوة قومه ، فكان هو وحده في حكم كلّهم ، وسادًّا مسدَّ جميعهم. ومعنى " إذا طلقتم " : إذا أردتم تطليقهن ، كقوله : {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} [المائدة : 6] ، تنزيلاً للمقبل على الشيء المشارِف له منزلةَ الشارع فيه ، كقوله صلى الله عليه وسلم : " مَن قتل قتيلاً فله سلبه " ، ومنه : كان الماشي إلى الصلاة والمنتظر لها في حكم المُصَلِّي. {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} أي : مستقبلات لِعِدَّتهن ، شارعة فيها ، بمجرد الطلاق ، من غير أن تكون في حيض أو نِفاس ، فإنَّ المرأة إذا طلقت في طُهر تعتد بذلك الطُهر من أقرائها ، فتخرج من العدّة برؤية الحيض الثالث ، بخلاف إذا طُلقت في غير طُهر ، فتنتظر الطُهر منه ، فلا تخرج إلاّ برؤية الحيض الرابع. والمراد أن يُطلِّق في طُهر لم يمس فيه ، وهذا هو طلاق السُنَّة. قال ابن جزي : واختلف في الطلاق : هل هو مباح أو مكروه ، وأمّا إن كان على غير وجه السُنة فهو ممنوع. هـ. وفي قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم :
65
" فطلِّقوهن في قُبل عِدّتهن ". قال ابن جزي : واختلف في النهي عن الطلاق في الحيض ، هل هو معلَّل بتطويل العدة ، أو تعبُّد ، والصحيح : أنه معلَّل بذلك ، وينبني على هذا الخلاف فروع ، منها : هل يجوز إذا رضيت به المرأةُ أم لا ؟ ومنها : هل يجوز طلاقها في الحيض وهي حامل أم لا ؟ ومنها : هل يجوز طلاقها قبل الدخول وهي حائض أم لا ؟ فالتعليل بتطويل العدة يقتضي جواز هذه الفروع ، والتعبُّد يقتضي المنع ، ومَن طَلَّق في الحيض لزمه الطلاق ، ثم أُمر بالرجعة على وجه الإجبار عند مالك ، ودون إجبار عند الشافعي حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر ، ثم إن شاء طلَّق وإن شاء أمسك ، حسبما ورد في حديث ابن عمر ، حيث طلّق امرأته ، فأمره صلى الله عليه وسلم برجعتها هـ.
{وأَحْصُوا العِدَّةَ} ؛ اضبطوها ، وأكمِلُوها ثلاثة أقراء كوامل ، لِما ينبني عليها من الأحكام ، كالرجعة والسكنى والميراث وغير ذلك ، {واتقوا اللهَ ربكم} في تطويل العدة عليهن والإضرار بهن. وفي التعبير بعنوان الربوبية تأكيد لِما أمر ، ومبالغة في إيجاب الاتقاء.
{(8/79)
جزء : 8 رقم الصفحة : 65
لا تُخرجوهن من بيوتهن} ؛ من مساكنهن عند الفراق إلى أن تنقضي عدتهن ، وإضافتها إليهن مع أنها للأزواج لتأكيد النهي ببيان كمال استحقاقهن لسكانها ، كأنها أملاكهن. {ولا يَخْرُجْن} ولو بالإذن منكم ، فإنَّ الإذن في الخروج في حكم الإخراج ، وقيل : لا يخرجن باستبدادهن ، أمّا إذا اتفقا على الخروج جاز ، وهو خلاف مذهب مالك ، فلا يجوز لها في مذهبه المَبيت عن بيتها ، ولا أن تغيب عنه ، إلاّ لضرورة التصرُّف ، وذلك لحفظ النسب ، وصيانة المرأة ، فإن كان المسكن ملكًا للزوج ، أو مكترىً عنده لزمه إسكانها فيه ، وإن كان المسكن لها فعليه كِراؤه مدة العدة ، وإن كان قد استمتعته فيه مدة الزوجية ؛ ففي لزوم خِراج العدة له قولان في المذهب ، والصحيح لزومه ؛ لأنّ الاستمتاع قد انقطع بالطلاق.
{إِلاَّ أن يأتين بفاحشةٍ مبيِّنة} ، قيل : الزنا ، فيخرجن لإقامة الحد ، قاله الليثي والثعلبي ، وقيل : سوء الكلام وإظهار الفحش مع الأصْهار ، فتخرج ويسقط حقها من السكنى ، وتلزمها الإقامة في مسكن تتخذه حفظاً للنسب. قاله ابن عباس ، ويؤيده : قراءة أُبي : " إلاَّ أن يفحشن عليكم " ، وقيل : جميع المعاصي من القذف والسرقة وغير ذلك. قاله ابن عباس أيضاً. ومال إليه الطبري. وقيل : الخروج من بيتها خروجَ انتقال ، متى فعلت ذلك سقط حقها. قاله ابن الفرس ، وإلى هذا ذهب مالك في المرأة إذا نشزت في
66
العدة ، وقيل : هو النشوز قبل الطلاق ، فإذا طلّقها بسبب نشوزها فلا سكنى على زوجها قاله قتادة.
{وتلك حدودُ الله} أي : تلك الأحكام المذكورة هي حدود الله التي عيّنها لعباده ، {ومَن يَتَعَدَّ حدودَ الله} المذكورة ، بأن يُخلّ بشيء منها ، على أنَّ الإظهار في محل الإضمار لتهويل أمر التعدي ، والإشعار بعلة الحكم ، {فقد ظَلَمَ نفسه} ؛ أضرَّ بها ، إذ لعله يندم. والتفسير بتعريضها للعذاب يأباه قوله : {لا تدري لعل اللهَ يُحدِثُ بعد ذلك أمراً} فإنه استئناف مسوق لتعليل مضمون الشرطية ، وقد قالوا : إنَّ الأمر الذي يُحدثه اللهُ تعالى : هو أن ينقلب قلبه بُغضها إلى محبتها ، أو : من الرغبة عنها إلى الرغبة فيها ، ويندم ، فلا بد أن يكون الظُلم عبارة عن ضرر دنيوي يلحقه بسبب تعدِّيه ، وهو الندم إن كان طلَّق ثلاثاً ، فيمنع من الرجعة ، أو : الحياء ، إن كان إخراجها من المسكن بلا سبب ، أو : فقد ظَلَمَ نفسَه بتعريضها للعذاب الشامل ؛ الدنيوي والأخروي ، حيث خالف ما أمره سيده. {لاتدري} أيها المخاطب {لعل اللهُ يُحِدثُ بعد ذلك أمراً} وهو الرجعة ، والمعنى : أحصوا العِدَّة وامتثلوا ما أُمرتم به ، لعل الله يُحدث الرجعة لنسائكم.
{(8/80)
جزء : 8 رقم الصفحة : 65
فإذا بَلَغْنَ أجلَهن} أي : قاربن آخر العِدَّة {فأمْسِكُوهنَّ} ؛ راجعوهن {بمعروفٍ} بحُسن معاشرة وإنفاقٍ لائق ، {أو فارِقوهنَّ بمعروفٍ} بإعطاء الصداق والإمتاع حين الطلاق ، والوفاء بالشروط. والمعنى : فأنتم بالخيار ؛ إن شئتم فالرجعة والإمساك بالمعروف ، وإن شئتم فترك الرجعة والمفارقة واتّقاء الضرر ، وهو أن يُراجعها في آخر عدتها ثم يُطلٍّقها ، تطويلاً لعِدتها وتعذيباً لها ، {وأَشْهِدوا} عند الرجعة والمفارقة {ذَوَيْ عَدْلٍ منكم} من المسلمين ، وهذا الإشهاد مندوب على المشهور لئلا يقع بينهما التجاحد. وفي قوله : {ذوي عدل} دلالة على أنهم ذكور ، فلا تجوز شهادة النساء في النكاح ولا في الطلاق عند الجمهور. {وأقيموا الشهادةَ للهِ} أيها الشهود عند الحاجة إليها ، خالصاً لوجهه تعالى. {ذلكم} إشارة إلى الحث على الإشهاد في الرجعة ، أو : إلى جميع ما ذكر ، {يُوعظ به مَن كان يؤمن بالله واليوم الآخر} إِذ هو المنتفِع به ، والمقصود بتذكيره.
الإشارة : إذا طلقتم الدنيا وحظوظَ نفوسكم ؛ فليكن ذلك إلى أجل معلوم ، وهو الرسوخ والتمكين بعد الوصول ، وأَحْصُوا العدّة : اضبطوا أيام سيركم لئلا تضيع في البطالة أو الفضول ، واتقوا ما سوى ربكم أن تلتفتوا إليه ، لا تُخرجوا نفوسكم من أشباحها بشِدة مجاهدتها ، فإنها مَغرفة السر ، ومطيّة السير ، نَبَرُّ بها فيما تقوم بها من مآكل وملبس ونُخالف هواها ، ولا يَخرجن ، إي : ولا تتركوها أن تخرج من عش التربية قبل الترشيد ، إلاّ أن تطغى وتفحش ، فبالِغ في مجاهدتها بما يقارب موتها ، وتلك حدود الله التي حَدّها للسائر ، ومَن يتعدَّ شيئاً منها فقد ظلم نفسه ، إمّا بتفريط أو إفراط ، فصاحب التفريط لا يصل ، وصاحب الإفراط لا يدوم ، لا تدري أيها السائر لعل اللهَ يُحدث بعد ذلك انقياداً
67
وتسهيلاً ، فإذا بلغ أجل الوصول ، وحل التمكين ، فلا ميزان على النفس ، إن شاء أمسك عليها إبقاء ، وإن شاء غاب عنهما فناء ، وأشهِدوا ذّوّيْ عدل منكم ، وهم أهل الفن ، فلا يخرج مِن ربقة المجاهدة وعش الإرادة ، حتى يشهد له الشيخ أو أهل الفن. والله تعالى أعلم.
ثم حَضَّ على التقوى التي هي مجمع الخير ، فقال :
{... وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً}.(8/81)
جزء : 8 رقم الصفحة : 65
يقول الحق جلّ جلاله : {ومَن يَتَّقِ اللهَ} بأن طلَّق للسُنَّة ، ولم يُضار بالمعتدّة ، ولم يُخرجها من مسكنها ، واحتاط في الإشهاد ، وغير ذلك ، {يجعل له مخرجاً} مما عسى يقع في شأن الأزواج من الغموم والمضائق ، ويُفرِّج عنه ما يعتريه من الكروب. رُوي عن ابن عباس أنه قال لمَن طَلَّق ثلاثاً : " إنك لم تتق الله ، فبانت منك امرأتك ". والمختار : أنَّ الآية عامة ، أي : ومَن يتق الله في أقواله وأفعاله وأحواله يجعل له مخرجاً من كرب الدنيا والأخرة. وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأها ، فقال : " مخرجاً من شُبهات الدنيا ، ومن غمرات الموت ، ومن شدائد يوم القيامة " ، قال ابن جزي : وهذا ـ أي العموم ـ أرجح من خمسة أوجه ، الأول : حمل اللفظ على عمومه ، فيدخل فيه الطلاق وغيره. والثاني : رُوي : أنها نزلت في عوف بن مالك الأشجعي ، وذلك أنه أُسر ولده ، وضُيِّق عليه رزقه ، فشكا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمره بالتقوى ، وقال له : " أَكْثِرْ من : لاحَول ولا قوة إلاّ بالله " فلم يلبث إلاَّ يسيراً ، وانطلق ولده ، ووسع عليه زرقه. والثالث : أنه رُوي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إني لأَعْلمُ آية لو أخذ الناسُ بها لكفتهُم {ومَن يتق الله يجعل له مخرجاً} " فما زال يكررها ، انظر بقيته.
{ويَرْزُقه من حيثُ لا يحتسب} أي : من وجوه لاتخطر بباله ولا بحسبه ، {ومَن يتوكل على الله} أي : يكل أمرَه إليه من غير تعلُّق بغير ، ولا تدبير نفس ، {فهو حَسْبُه} ؛ كافيه في جميع أموره ، {إِنَّ اللهَ بالغُ أَمْرِه} ، بالإضافة في قراءة حفص ، أي : منفذاً أمره ، وبالتنوين والنصب عند غيره ، أي : مبلغ ما يريد ، لا يفوته مُراد ، ولا يعجزه مطلوب. {قد جعل اللهُ لكل شيءٍ قَدْراً} ؛ تقديراً ، أو توقيتاً ، أو مقداراً معلوماً ووقتاً محدوداً ، لا يتقدمه ولا يتأخر عنه ، وهذا حث على التوكل وترغيب فيه ، لأنَّ العبد إذا عَلِمَ أنَّ الأمور
68
كلها بيد الله ، من الرزق وغيره وأنَّ لها وقتاً محدوداً لا يُجاوزه ، توكل عليه ، وانجمع بكليته عليه ، ولم يبقَ له إلاّ التسليم للقدَر السابق. قال ابن عطية : في الآية حض على التوكل ، أي : لا بد من نفوذ أمر الله تعالى ، توكلتَ أيها المرء أم لم تتوكل ، فإنْ توكلتَ على الله كفاك ، وتعجّلت الراحة والبركة ، وإن لم تتوكل وَكَلَك إلى جحدك وتسخُّطك ، وأمره نافذ في الوجهين. هـ.(8/82)
جزء : 8 رقم الصفحة : 65
الإشارة : ومَن يتق الله التقوى الكاملة ، يجعل له من كمل مُشْكل وشُبهة ومتشابه مَخرجاً ، فيَنحلّ له كل ما أشكل على الناس في أمر الدين والدنيا ، ويرزقه من العلوم والأسرار والمعارف ، ما لا يخطر على بال ، من حيث لا يحتسب ، من غير تعلُّم ولا مدارسة ، وقال القشيري : إذا صَدَقَ العبدُ في تقواه أخرجه من أشغاله ، كالشعرة من العجين ، لا يتعلق بها شيء ، يضرب على المتقِي سرادقات عنايته ، ويُدخله في كنف الإيواء ويصرف الأشغال ، عن قلبه ، ويُخرجه عن تدبيره ، ويُجرده عن كل شغل ، ويكفيه كل أمر ، وينقله إلى شهود قضاء تقديره. هـ.
وقال الشيخ أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه في هذه التقوى : أن تكون ظاهرة وباطنة ، ظاهرة من المعاصي ، وباطنة من المساوىء والدعاوى ، أمّا مَن طهَّر ظاهره من المعاصي ، وسَدّ الأُفق بالدعاوى وإضافة التدبير والاختيار لنفسه ، فلا يقوم خيره بِشَرِّه ، أي : فلا يدخل في الآية. ثم قال : إلاّ مَن وَطَّن نفسه على الأرياح إلى أيّ وجهة تقلب ، أي : دار مع رياح الأقدار حيث دارت ، ولم يسكن إلى شيء ، وكان ممن قال اللهُ فيه : {تَتَجَافَىا جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} [السجدة : 16] ، أتراه منع جنوبَهم من مضاجع النوم ، وترك قلوبهم مضجعة وساكنة لغيره ، بل رفع قلوبهم عن كل شيء ، ولا يضاجِعُون أسرارهم شيئاً ، فافهم هذا المعنى ، تتجافى جُنوبهم عن مضاجعة الاختيار ومنازعة الأقدار ، يدعون ربهم خوفاً وطمعاً ، فالخوف قَطَعَهم عن غيره ، وبالشوق إليه أطمعهم فيه ، ومما رزقناهنم ينفقون. هـ. مختصراً.
وقوله تعالى : {ويَرْزُقه من حيثُ لا يحتسبُ} قال في الحاشية الفاسية : أي : يرزقه المقدَّر في الأزل من حيث لا مشقة عليه في وصوله إليه ، فيأكل ويلبس من غير انتظار ، ولا استشراف نفس ، ولا تعب ، فيخرج له من الغيب بالبديهة ما يكفيه عن السؤال ، ومَن عَرَف اللهَ عَرَفه بكمال قدرته وإحاطة علمه بكل ذرة ، فيلقي زمام الاختيار إليه ، فيكفيه كل مؤنه في الدنيا والآخرة ، وهو السميع العليم ، وقد قال سهل : التقوى : التبري من الحول والقوة. هـ.
وقوله تعالى : {ومَن يتوكل على الله فهو حَسْبه} قال القشيري : فالله حاسبه ، أي : كافيه. {إِنَّ اللهَ بالغُ أَمْرِه} ، إذا سَبَقَ له شيءٌ من التقدير ، فلا محالةَ يكون ، وفي التوكل لا يتغير المقدور ولا يتأخر ، ولكنَّ المتوكل تكون ثقته بقلبه ، غير كارهٍ لما يرد عليه ، وهذا
69
من أجَلِّ النعم. ثم قال في موضع آخر : التوكل : شهود نَفْسِك خارجاً من المِنَّة ، جارياً عليك أحكام التقدير من غير تدبيرٍ منك ولا اطلاع لك على حُكمه ، فسبيلُ العبد : الخمودُ والرضا دونَ استعلام الأمر. وفي الخبر : " أعوذ بالله من علم لا ينفع " ومن جملته : أن يكون قد وقع لك شُغْلٌ ، واستقبلك مُهمٌ ، وقد اشتبه عليك وجهُ التدبير فيه ، وتكون مُطالباً بالسُكون ، فيطلبك العلم ، وتتمنى أن تعرف متى يصلح هذا الأمر ، وبأي سببٍ ؟ وعلى أي وجهٍ ؟ وعلى يد مَن ؟ فهذا كله تخليطٌ ، وغير مُسلَّم شيءٌ من ذلك للأكابر ، وهو مِن العلم الذي يجب التعوُّذ منه ، فيجب عليك السكون والرضا ، فإذا جاء وقتُ الكَشْف ، فسترى صورة الحال وتعرفه ، وربما ينظر العبدُ في هذه الحالة تعريفاً في المنام ، أوينظر في فال من الجامع ـ اي : ككتاب وشَبهه ـ أو يرجو بيان حاله ، بأن يجري على لسان مستنطق في الوقت ، كلُّ هذا تركُ للأدب ، واللهُ لا يَرْضى بذلك من أوليائه ، بل الواجبُ السكون. هـ.(8/83)
جزء : 8 رقم الصفحة : 65
وقال في القوت : والحسب إلى الحسيب يجعلُه ما شاء كيف شاء ، فقد قيل : {فهو حَسْبُه} أي : التوكل حَسْبُه من سائر المقامات ، ثم قال معرباً باللطافة ، مسلياً للجماعة : {إِنَّ الله بالغ أمره} أي : منفذ حكمه فيمن توكل ، ومَن لا يتوكل ، إلاَّ أنّ مَن توكّل عليه يكون الله ـ عزّ وجل ـ حَسبه ، أي : يكفيه أيضاً مُهِم الدنيا والآخرة ، ولا يزيد مَن لم يتوكل عليه جناح بعوضة في قسْمه ، كما لا ينقص عليه ذرة من رزقه ، لكن يزيد مَن توكل عليه هُدىً إلى هداه ، ويرفعه مقاماً في اليقين قدر تقواه ، ويُعزّه بعزّه ، وينقص مَن لم يتوكل عليه من اليقين ، ويزيده من التعب والهم ، ويُشتت قلبَه ، ويشغل فكرَه ، فالمتوكل عليه يُجب له تكفير السيئات ، ويُلقي عليه رضاه ومحبته في المقامات ، أمّا الكفاية فقد ضَمِنها تعالى لِمن صدق في توكله عليه ، والوقاية قد وهبها لمَن أحسن تفويضه إليه ، إلاّ أنّ الاختيار وعلم الاستتار إليه في الكفاية والوقاية ، يجعل ذلك ما يشاء كيف شاء ، وأين شاء ، من أمور الدنيا وأمور الآخرة ، من حيث يعلم العبد ، ومن حيث لا يعلم ؛ لأنَّ العبد تجري عليه الأحكام في الدارين ، وفقير محتاج إلى الرحمة واللطف في المكانين. هـ.(8/84)
جزء : 8 رقم الصفحة : 65
يقول الحق جلّ جلاله : {واللائي يَئِسْنَ من المحيض من نسائكم} لكبرهن ، وقدّروه بستين ، أو : بخمس وخمسين. رُوي أنَّ ناساً قالوا : قد عرفنا عِدة الأقراء ، فما
70
عدة التي لم تحض ؟ فنزلت. وقوله : {إِن ارتبتمْ} أي : إن أشكل عليكم حكمهنّ كيف يعتددن ، {فعِدَّتهُنَّ ثلاثةُ أشهرٍ} أو : إن ارتبتم في حيضها ، هل انقطع أو لم ينقطع ، فعِدَّتها بالأشهر ، وهي المرتابة التي غابت حيضتُها ، وهي في سن مَن يحيض ، واختلف فيها ، فقيل : ثلاثة أشهر على ظاهر الآية ، وقيل : تسعة ، وتستبرىء بثلاثة ، وهو المشهور في مذهب مالك ، وقدوته في ذلك عُمر بن الخطاب ، لأنّ مذهبه عُمري ، وقيل : تعتد بالأقراء ، ولو بلغت ثلاثين سنة ، حتى تبلغ سن مَن لا يحيض ، وهو مذهب الشافعي وأبي حنيفة. {واللائي لم يَحِضْنَ} من صغر ، فعدتهنّ ثلاثة أشهر ، حذف لدلالة ما قبله ، {وأُولات الأحوالِ أجَلُهُنَّ} أي : عِدّتهن {أن يضعن حَملَهن} سواء كن مطلقات ، أو متوفًّى عنهن أزواجهن ، عند مالك والشافعي وأبي حنيفة وسائر العلماء. وقال عليّ وابن عباس رضي الله عنهما : إنما هذا في المطلقات الحوامل ، وأما المتوقَّى عنهن فعدّتهنَ أقصى الأجلين ، إما الوضع ، أو انقضاء أربعة أشهر وعشر ، وحُجة الجمهور : حديث سُبَيْعة ، أنها لما مات زوجها ، ووضعت ، أَمَرَها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بالتزوُّج ، وقد رُوي أن ابن عباس رجع إليه ، ولو بلغ عليًّا لرجع ، فهذه الآية مخصَّصة لِما في سورة البقرة من قوله تعالى : {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ...} [البقرة : 234].
تنبيه : وَضْعُ الحمل إنما يُبرىء الرحم إذا كان من نكاح صحيح ، وأمّا من الزنى فلا يُبرئ ، باتفاقٍ ، فمَن حملت مِن زنى وهي متزوجة فلا تحل للهارب الذي حملت منه إذا طُلّقت بوضع حملها منه ، بل لا بد من ثلاثة قروء بعد الوضع ، نَعَم مَن لا زوج لها من حُرةٍ أو أَمةٍ إذا حملت من زنى تمَّ استبراؤها بوضع حملها.
{(8/85)
جزء : 8 رقم الصفحة : 70
ومَن يتقِ اللهَ} في شأن أحكام العدة ومراعاة حقوقها {يجعل له من أمره يُسراً} أي : يُسهل عليه أمره. ويتحلّل عليه ما تعقّد ببركة التقوى ، {ذلك} أي : ما علَّمكم من الأحكام {أمرُ الله أَنزله إِليكم} لتعملوا به. وإفراد الكاف مع أنّ المُشار إليهم جماعة ؛ لأنها لتعيين الفرق بين البُعد والقرب ، لا لتعيين خصوصية المخاطبين {ومَن يتق الله} بالمحافظة على أحكامه {يُكفِّر عنه سيئاتِه} فإنَّ الحسنات يُذهبن السيئات ، {ويُعْظِمْ له أجراً} بالمضاعفة والتكثير.
الإشارة : والنفوس التي يئسن من المساوىء والميل إلى الدنيا ، ثم شككتم في تحقق طهارتها ، تنتظر ثلاثة أشهر ، فإذا مضت هذه المدة ولم يظهر منها ميل ، فالغالب طهارتها ، وكذلك النفوس الزكية ، الباقية على الفطرة ، التي لم يظهر منها خَلل ، تنتظر هذه المدة ، فإن ظهرت سلامتها فلا مجاهدة عليها ، والنفوس الحوامل بكثرة الأشغال عِدَّة تمام فتحها أن تضع كل ما يثقل عليها ويمنعها من السير ، ولقد سمعتُ شيخنا البوزيدي رضي الله عنه
71
يقول : إن شئتم أن أُقسم لكم ؛ إنه لا يدخل أحد عالَم الملكوت وفي قلبه علقة. هـ. {ومَن يتق الله} أي : يعزم على البر والتقوى يجعل له تعالى من أمره يُسراً ، يُسهّل عليه طريق السلوك ، ويكفيه كلَّ ما يُثقله ويشغله عنه ، إما بإزالة ذلك له ، أو بغيبته عن شؤونه ، ومَن يتق الله بالفعل يُكَفِّر عنه سيئاتِه ، أي : يُغطّي عنه أوصافه الذميمة بأوصافه الحميدة ، ويُعظم له أجراً بأن يفتح له باب مشاهدته. والله تعالى أعلم.(8/86)
جزء : 8 رقم الصفحة : 70
يقول الحق جّل جلاله : {أَسْكِنُوهُنَّ} أي : المطلَقات {من حيثُ سَكَنتم} أي : مكاناً من حيث سكنتم ، فـ " من " للتبعيض ، أي : بعض مكانِ سكناكم. قال قتادة : لو لم يكن له إلاّ بيت واحد سكنها في بعض جوانبه. {من وُجْدِكُم} أي : وُسْعِكم ، أي : ما تطيقونه ، فهو عطف بيان ، أو بدل. قال أبو حيان : لا يُعرف عطف بيان يعاد فيه العامل ، إنما هذا طريقة البدل مع حرف الجر ، ولذلك أعربه أبو البقاء بدلاً. هـ. والوجد ، يجوز فيه الضم ـ وهو أشهر ـ والفتح والكسر.
قال ابن جزي : فأمّا المطلقات غير المبتوتة فيجب لها على زوجها السُكُنَى والنفقة اتفاقاً ، وأمّا المبتوتة ففيها ثلاثة أقوال ، أحدها : أنها يجب لها السكنى دون الفقة ، وهو مذهب مالك والشافعي ، والثاني : أنها يجب لها السكنى والنفقة ، وهو مذهب أبي حنيفة ، والثالث : أنها ليس لها سُكنى ولا نفقة ، وهو قول محمد ، وثابت البناني ، وأُبي بن كعب. فحُجة مالك : حديث فاطمة بنت قيس ، وهو أنَّ زوجها طلَّقها البتَّةَ ، فقال لها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : " ليس لك عليه نفقة " ، فيوخذ منه : أنَّ لها السُكْنى ، وحُجة مَن أوجب لها السكنى والنفقة : قول عمر بن الخطاب : لا ندع آيةً من كتاب الله ربنا لقول امرأة ، فإني سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول : " لها السُكْنَى والنفقة " ، وحجة مَن لم يجعل لها سكنى ولا نفقة : أنَّ في بعض الروايات عنها ـ أي : فاطمة بنت قيس ـ أنها قالت : " لم يجعل لي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم نفقة ولا سُكْنَى ".
{ولا تُضارُّوهُنَّ} في السُّكْنَى {لِتُضيِّقُوا عليهن} ويُلجأن إلى الخروج ، {وإِن كن}
72
أي : المطلقات {أُولات حملٍ فأَنفِقوا عليهن حتى يضعنَ حَملَهن} فيخرجن من العِدّة. قال ابن جزي : اتفق العلماء على وجوب النفقة في العِدّة للمطلقة ، عملاً بالآية ، سواء كان الطلاق رجعيًّا أو بائناً. واتفقوا أنَّ للمطلقة غير الحامل النفقة والسُكْنى في العِدّة إذا كان الطلاق رجعيًّا ، فإن كان بائناً فاختلفوا في نفقتها حسبما ذكرناه ، وأمّا المتوفَّى عنها إذا كانت حاملاً فلا نفقة لها عند مالك والجمهور ، لأنهم رأوا أنَّ هذه الآية إنما هي في المطلقات. وقال قوم : لها النفقة في التركة. هـ.
{(8/87)
جزء : 8 رقم الصفحة : 72
فإنْ أرضعنَ لكم} هؤلاء المطلقات أولادَكم {فآتوهن أجورَهُنَّ} أي : أجرة الرضاع ، وهي النفقة وسائر المؤن المُفصل في كتب الفقه. {وأْتَمِرُوا بينكم بمعروفٍ} ، خطاب للرجال والنساء ، أي : يأمر كلُّ واحد منكم صاحبَه بخيرٍ ؛ من المسامحة والرفق والإحسان ، ولا يكن من الأب مماكسة ، ومن الأم معاسرة ، أو : تشاوروا بينكم على التراضي في الأجرة ، ومنه : {إِنَّ الْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ} [القصص : 20]. {وإِن تعاسَرتمْ} ؛ تضايقتم ، فلم ترضَ الأمّ بما ترضع به الأجنبية ، {فستُرضِعُ له أخرى} ؛ فستُوجد مرضعةٌ أخرى ، غير متعاسرة ، وفيه معاتبة للأم على المعاسرة. والمعنى : إن تشططت الأمّ على الأب في أجرة الرضاع ، وطلبت منه كثيراً ، فللأب أن يسترضع لولده امرأة أخرى بما هو أرفق إلاّ ألاَّ يَقبل الولدُ غيرها ، فتُجبر على رضاعة بأجرة المثل.
{ليُنفق ذو سَعَةٍ من سَعته ومَن قُدِرَ عليه رزقُه فليُنفق مما آتاه اللهُ} أي : لِينفق كُلٌّ واحد من المعسر والموسر بما يبلغه وسعه ، يعني : ما أمر به من الإنفاق على المطلقات والمرضعات ، {ومن قَدِرَ} أي : ضُيِّق {عليه رزقُه فلينفقْ} عليها {مما آتاه اللهُ} فيَفرض الحاكمُ عليه ما يطيقه ، {لا يُكلِّف اللهُ نفساً إِلاَّ ما آتاها} ؛ أعطاها من الرزق ، وفيه تطييب قلب المعسر ، وترغيب له في بذل مجهوده ، وقد أكد ذلك بالوعد ، حيث قال : {سيجعل اللهُ بعد عُسر يُسراً} أي : بعد ضيق في المعيشة سعة فيها ، فإنّ عادته تعالى أن يُعقب العسر باليسر ، كما قال تعالى : {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً} [الشرح : 5] ، وكرره مرتين ، فلن يغلب عسر يسريْن.
الإشارة : أسكِنوا نفوسَكم من حيث سكنتم بها قبل التوجه ، فينبغي للمريد أن يسايس نفسه شيئاً فشيئاً ، حتى يغيب عنها في شهود الحق ، من غير تشديدٍ في إخراجها عن طبعها بالكلية ، فإنها حينئذٍ تَملّ وتكِلّ ، فقد قيل : مَن سار إلى الله بموافقة طبعه كان الوصول إليه أقرب إليه من طبعه ، ومَن سار إلى الله بمخالفة طبعه كان الوصول إليه على قدر بُعده عن طبعه ، وفيه مشقة وحرج. ولذا قال تعالى : {ولا تُضاروهن لتُضيقوا عليهن} لئلا تمل وترجع من حيث جاءت ، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم : " لا يكن أحدكم كالمُنْبَت ، فلا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى " ، نعم مخالفة طبعها في حب الظهور والجاه ، أو حب الدنيا ،
73
واجب حتماً لا رخصة فيه ، وهذه سيرة أشياخنا رضي الله عنهم لا يُضيقون على المريد في جوع ولا عطش ، ولا كثرة رياضة ، وإنما يأمرونه بالخمول وتخريب الظاهر والزهد التام ، والورع الكامل ، فقد سمعت شيخ شيخنا مولاي العربي الدرقاوي الحسني رضي الله عنه يقول : سُدُّوا باب الطمع ، وافتحوا باب الورع ، واللهِ إن فعلتم ذلك حتى يستولي باطنكم على ظاهركم. هـ. أي : تستولي المعاني على الحس ، فيتحقق الشهود الكامل. وكان أيضاً يقول : نحن لسنا مع جوعٍ ولا مع شبعة ، نحن مع الله. هـ. أي : غائبون عن الجوع والشبع في ذكر الله وشهوده.(8/88)
جزء : 8 رقم الصفحة : 72
وإن كن أُولات حَمل ، أي : ثقل من كثرة العلائق ، فأّنْفِقوا عليهن من الواردات الإلهية بصُحبة الرجال ، حتى تصادم تلك العلائق ، فتهدمها ، فتضع الحمل عنها ، فإن أرْضَعْن لكم ، بإن تهذبت ورجعت روحانيةً تأتيك بالعلوم التي يرتضع منها القلب باليقين والمعرفة ، فأتوهن أجورهن من البرّ بها والرفق ، وائتمروا بينكم بمعروف ، فتُؤمر أنت بالإحسان إليها ، وتُؤمر هي بالطاعة لك ، وإن تعاسرتم ، بأن ضعفت هِمتكم ، وقلّت أمدادكم ، بعدم صحبة أهل الإمداد ، فستُرضع له نفس أخرى ، أي : فليتخذ شيخاً كاملاً يُرضع له نفسه من ثدي أسرار العلوم والمعارف ، ولذلك قيل : مَن لا شيخ له فالشيطان شيخه ، لِيُنفق ذو سعة من سعته ، وهم الواصلون العارفون ، يُنفقون من سعة علومهم وأسرارهم ، على المريدين الذي استرضعوهم ، ومَن قُدر عليه رزقه من المريدين السائرين فليُنفق مما آتاه الله على مَن تعلقَ به من المريدين ، لا يُكلف الله نفساً إلاّ ما آتاها ، سيجعل الله بعد عُسرٍ وضيقِ في العلوم والأسرار يُسراً ، فتتسع عليه العلوم والأسرار بعد التمكين. والله تعالى أعلم.(8/89)
جزء : 8 رقم الصفحة : 72
يقول الحق جلّ جلاله : {وكَأَيِّن من قريةٍ} أي : كثير من أهل قرية {عَتَتْ} ؛ أعرضت {عن أمر ربها ورُسلِه} أي : عن طاعتهما على وجه العتوّ والعناد ، {فحاسبناها حِساباً شديداً} بالاستقصاء والتنقير والمباحثة في كل نقير وقطمير ، {وعذَّبناها عذاباً نُكراً} ؛ منكراً فظيعاً ، والمراد : إمّا عذاب الآخرة ، والتعبير بالماضي لتحقُّق وقوعه ، أو عذاب الدنيا ، وهو أرجح ؛ لأنه سيذكر عذاب الآخرة بعدُ بقوله : {أعدّ اللهُ لهم عذاباً شديداً...} الخ ،
74
{فذاقت وَبَالَ أمرِها} أي : وخامة شأنها ، وعقوبة فعلها. قال في الصحاح : والوَبَلَة ـ بالتحريك : الثِقَّلُ والوخَامةُ ، وقد وَبُل المرتعُ بالضم وَبْلاً ووَبَالاً ، فهو وَبيلٌ ، أي : وخِيمٌ. هـ. وفي القاموس : وبُلَ ككَرُمَ وبَالةً ووبالاً ووبُولاً ، وأرض وَبِيلَةٌ : وخيمةُ المرتَعِ. هـ. {وكان عاقبةُ أمرها خُسراً} أي : خساراً وهلاكاً.
{أعدَّ اللهُ لهم} في الآخرة {عذاباً شديداً} ، وعلى أنَّ الكل في الآخرة يكون هذا تكريراً للوعيد وبياناً لكونه مترقباً ، كأنه قال : أعدّ الله لهم هذا العذاب الشديد ، {فاتقوا اللهَ يا أُولي الألبابِ} في مخالفة أمره ، واحذروا ما حلّ بمَن طغى وعتا. وأولو الألباب هم أهل العقول الصافية ، ثم فسَّرهم بقوله : {الذين آمنوا} إيماناً خالصاً من شوائب الشرك والشك ، فالموصول عطف بيان لأولي الألباب ، أو نعت ، أو منصوب بأعِني ، {قد أنزل اللهُ إِليكم ذكراً} أي : القرآن.(8/90)
جزء : 8 رقم الصفحة : 74
وانتصب {رسولا} بفعل مضمر ، أي : وأرسل رسولاً ، أو : هو بدل من " ذِكْراً " كأنه في نفسه ذكر ، أو : على تقدير حذف مضاف ، قد أنزل ذا ذكر رسولاً ، وأريد بالذكر : الشرف ، كقوله : {وَإِنَهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ} [الزخرف : 44] أي : ذو شرف ومجدٍ عند الله ، أو : للمنزَل عليه ، أو : لقارئه ، وبالرسول : جبريل ، أو محمد ـ عليهما الصلاة والسلام ـ {يتلوا} أي : الرسول ، أو الله ـ عزّ وجل ـ {عليكم آياتِ الله مُبينات} أي : واضحاتٍ ، قد بيَّنها اللهُ تعالى لقوله : {قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الأَيَات} [آل عمران : 118والحديد : 17] وقرىء بكسر الياء ، أي : تُبين ما تحتاجون إليه من الأحكام ، {لِيُخرج الذين آمنوا وَعمِلوا الصالحاتِ من الظلمات إِلى النور} متعلق بـ " يتلو " ، أو : بـ " أنزل " ، وفاعل " يُخرج " إما الله ، أو الرسول ، أي : ليحصّل لهم الله أو الرسول ما هم عليه الآن من الإيمان والعمل الصالح ، أو : ليخرج من عَلِمَ وقدّر أنه سيؤمن ، {ومَن يؤمن بالله ويعمل صالحاً} حسبما بُيّن في تضاعيف ما أنزل من الآيات المبينات {يُدخله جنات تجري من تحتها الأنهارُ} ، وقرأ نافع والشامي بنون العظمة {خالدين فيها أبداً} ، والجمع باعتبار معنى " من " كما أنَّ الإفراد في الضمائر الثلاثة باعتبار لفظها ، {قد أحسن اللهُ له رزقاً} في الدنيا والآخرة. قال القشيري : الرزقُ الحَسَنُ : ما كان على حَدِّ الكفاية ، لا نقصان فيه ، ليضعف عن كفاية صاحبه ، ولا زيادةَ فيه تَشْغَلهُ عن ربهم. هـ. بالمعنى. وسيأتي في الإشارة بقيته.
الإشارة : وكأيّن من قريةٍ من قرى القلوب عتت عن أمر ربها ؛ عن تحمُّل أعباء العبودية ؛ لأنّ القلب لا يحب إلا العلو والغنى والراحة ، فإذا أراد العبد أن ينزل إلى الخمول والذل والفقر والتعب عَتَا وتَكَبَّر ، وقد حكم اللهُ تعالى بالطبع على القلب المتكبّر ، بقوله : {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِرٍ جَبَّارٍ} [غافر : 35] في قراءة الإضافة ، والمراد بالرسل : الواردات القهرية ، فالقلب أيضاً شأنه الفرار منها ؛ لأنها تهدم عليه عوائده ، وحسابه تعالى لها إحصاؤه لخواطرها ، وعتابه عليها ، وتعذيبه بالجزع
75
والهلع ، والحرص والطمع ، وغم الحجاب وسوء الحساب ، فهذا وبال القلوب المتكبِّرة على الله ، وعلى أولياء الله ، وعاقبتها حرمان نعيم الحضرة ، ونسيم القربة. فاتقوا الله يا أولي الألباب : القلوب الصافية ، أي : دُوموا على تقواكم ، واحْذروا مما حلّ بالقلوب الخاربة ، الذين آمنوا إيمان الخصوص ، قد أنزل الله إليكم ذكراً ، أي : مذكِّراً ، رسولاً بعثه الله خليفةَ رسوله الأعظم صلى الله عليه وسلم ، وهو الشيخ الداعي إلى الله ، يتلو عليكم آياته ، أي : شواهده الموصِّلة إليه ، ليُخرج الذين آمنوا وعملوا الأعمال الصالحات ، وهي آداب العبودية ، من ظلمات الجهل والغفلة ، وحس الكائنات إلى نور العيان ، ومَن يُؤمن بالله ، ويثق به في جميع أموره ، (ويعمل صالحاً) يُعرض عما سوى الله ، يُدخله جنات المعارف ، يخلد فيها ، قد أحسن اللهُ له رزقاً لقلبه وروحه وسره ، من العلوم والمعارف والأسرار. قال القشيري بعد كلام : وكذلك أرزاقُ القلوب ـ أي : تكون على حد الكفاية ، من غير زيادة ولا نقصان ـ ثم قال : وحسنها : أن يكون له من الأحوال ما يشتغلُ به في الوقت من غير نقصان يجعله يتعذّب بتعطُّشه ، ولا تكون بزيادة ، فيكون على خَطَرٍ من مغاليط لا يَخْرُجُ منها إلاّ بتأييدٍ من الله سماويٍّ.هـ.
76(8/91)
جزء : 8 رقم الصفحة : 74
سورة التحريم(8/92)
جزء : 8 رقم الصفحة : 76
يقول الحق جلّ جلاله : {يا أيها النبي لِمَ تُحَرِّمُ ما أحلَّ اللهُ}. في سبب نزول هذه السورة روايتان ؛ إحداهما : أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء يوماً إلى بيت زوجه حفصة ، فوجدها ذهبت لزيارة أبيها ، فبعث إلى جاريته مارية ، فقال معها في البيت ، فجاءت حفصة ، فقالت : يا رسول الله ؛ أما كان في نسائك أهون مني ، أتفعل هذا في بيتي ، وعلى فراشي ؟ فقال لها عليه الصلاة والسلام : " أيُرضيك أن أُحَرِّمها " ؟ فقالت : نعم ، فقال : " إني قد حَرّمتها " زاد ابن عباس : وقال مع ذلك : " والله لا أطؤها أبداً " ، ثم قال لها : " لاتُخبري بهذا أحداً ، وأُبشرك أنَّ أبا بكر وعمر يملكان بعدي أمر أمتي " ثم إنِّ حفصة قرعت الجدار الذي بينها وبين عائشة ، وأخبرتها ، وكانتا مصادقتين ، ولم ترَ في إفشائها حَرَجاً ، واستكتمتها ، فأوحى الله إلى نبيه بذلك. ورُوي أنه عليه السلام طلَّق حفصة ، واعتزل نساءه ، فمكث تسعاً وعشرين ليلة في بيت مارية ، فنزل جبريلُ ، وأمره برَدِّها ، وقال له : إنها صوّامة قوّامة ، وإنها من نسائك في الجنة ، فردَّها.
والرواية الثانية : أنه عليه الصلاة والسلام كان يدخل على زوجه زينب بنت جحش ، فتسقيه عسلاً ، فاتفقت عائشةُ وحفصة وسودة على أن تقول له مَن دنا منهن : أكلتَ مغافير ، وهو ضمغ العُرفُط ، وهو حلو كريه الريح ، ففعل ذلك ، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : " لا ، ولكني شربتُ عسلاً " ، فقُلن له : جَرَست نحلُه العُرفُط ، أي : أكلت ، ويقال للنحل : جراس ، فقال صلى الله عليه وسلم : " لا أشربه أبداً " ، وكان يكره أن توجد منه رائحة كريهة ، فدخل بعد ذلك على زينب ، فقالت : ألاَ أسقيك من ذلك العسل ؟ فقال : " لا حاجة لي به " فنزلت الآية عتاباً له على أن ضيَّق على نفسه تحريم الجارية والعسل. والرواية الأولى أشهر عند
79
المفسرين والثانية خرّجها البخاري في صحيحه.
فإن قلتَ : لِمَ عاتبه اللهُ على هذا التحريم ، ولم يعاتب يعقوبَ على تحريم لحوم الإبل على ما ذكر في سورة آل عمران ؟ قلتُ : رتبة نبينا ـ عليه الصلاة والسلام ـ أرفع في المحبة والاعتناء ، فلم يرضَ منه أن يُضيّق على نفسه ، أرأيت إن كان لك ولد تُحبه ، ووسعتَ عليه ، ثم أراد أن يُضيّق على نفسه ، فإنك لا ترضى له ذلك ، محبةً فيه ، وشفقة عليه. وانظر تفسير ابن عرفة.(8/93)
جزء : 8 رقم الصفحة : 79
قال ابن جزي : ولنتكلم على فقه التحريم : فأمّا تحريم الطعام والمال وسائر الاشياء ما عدا النساء فلا يلزم ، ولا شيء عليه فيه عند مالك ، وأوجب عليه أبو حنيفة كفارة اليمين ، وأمّا تحريم الأَمة فإن نوى به العتق لزم ، وإن لم ينو به ذلك لم يلزم ، وكان حكمه ما ذكرناه في الطعام ، وأمَا تحريم الزوجة ، فاختلف الناس فيه على أقوال كثيرة ، فقال أبو بكر الصدّيق وعمر بن الخطاب وابن عباس وعائشة وغيرهم : إنما يلزم فيه كفارة يمين. هـ. قلت : وظاهره : سواء قال لها : أنتِ حرام ، أو حلف بالحرام واحداً أو ثلاثاً ، وسواء كان منجّزاً أومعلّقاً ، كما إذا قال : كل امرأة تزوجتُها عليكِ فهي حرام ، مثلاً ، فلا يلزم من ذلك شيء على قول هؤلاء السادات رضي الله عنهم. ثم قال : وقال مالك في المشهور عنه : هي ثلاث تطليقات في المدخول بها وينوي في غيرها ، وقال ابن الماجشون : هي ثلاث في الوجهين ، ورُوي عن مالك : أنها طلقة بائنة ـ قلتُ : وبهذا جرى العمل اليوم ـ وقيل : رجعية. هـ.
{تبتغي مَرْضَاتَ أزواجِك} : حال ، أو استئناف مُبيّن للحال الداعي ، أي : تطلب رضا أزواجك بالتضييق على نفسك ، والمراد : رضا حفصة ، وهذا يُؤيد أنها نزلت في تحريم الجارية ، وأمّا تحريم العسل فلم يقصد به رضا أزواجه ، وإنما تركه لرائحته. {واللهُ غفور} أي : غفور لك ما كان تركه أولى من الصدع بالحق من غير مبالاة بأحدٍ ، ولا تُضيّق على نفسك ، {رحيم} بك ، حيث وسّع عليك ، ولم يرضَ لك أن تُضيق على نفسك. قال القشيري : ظاهرُ هذا الخطاب عتابٌ على كونه حَرَّمَ على نفسه ما أحلّه اللهُ لمراعاة قلب امرأته ، والإشارة فيه : وجوب تقديم حق الله على كل شيء في كل وقت. ثم قال تعالى ، عنايةً بأمره : {قد فرض اللهُ لكم تَحِلَّةَ أيمانكم} وتجاوزاً عنه بما كان تركه أولى. هـ.
والحاصل : أنه تعالى غفر له ميله للسِّوى سهواً ، والسهو قهرية الحق تعالى ، قهر بها عبادَه ليتميّز ضعف العبودية من قوة الربوبية ، وهو ليس بنقصٍ في حق البشر ، لكنه لمّا
80
كان في الغالب لا يحصل إلاَّ مع عدم العزم عُدَّ تفريطاً وهفوة ، كما قال تعالى في حق آدم : {فَنَسِىَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً} [طه : 115] ، فالمغفرة في الحقيقة ، وطلب التوبة من السهو ، إنما هو لقلة العزم وعدم الحزم ، وحسنات الأبرار سيئات المقربين ، ولا تصغ بأذنك إلى ما قاله الزمخشري ومَن تبعه من كون ما فعله عليه السلام زلة ، حيث حرّم ما أحلّ الله ، فإنه تجاسر على منصب النبوة ، وقلة أدب. وقوله تعالى : {ما أحلّ الله لك} زيادة " لك " تَرُدّ ما زعمه الزمخشري ، ولو كان كما قال لقال له : لِم تحرم ما أحلّ الله.(8/94)
جزء : 8 رقم الصفحة : 79
ثم قال تعالى : {قد فَرَضَ اللهُ لكم تَحِلَّةَ أَيمانكم} أي : شرع لكم تحليلها ، وهو حل ما عقده بالكفَّارة ، أو بالاستثناء متصلاً ، والأول هو المراد هنا ، وهل كفَّر عليه الصلاة والسلام ؟ قال مقاتل : أعتق رقبةً ، وقال الحسن : لم يُكفِّر ؛ لأنه مغفور له. قال بعضهم : هذه التحلة إنما هي لليمين المقرونة بالتحريم ، وقال بعضهم : بل هي لنفس التحريم ، وبه تمسّك أبو حنيفة في تحريم الحلال ، فأوجب كفارةَ اليمين. {واللهُ مولاكم} أي : سيدكم ومتولي أمورَكم ، فلا يُحب ما ضيّق عليكم. قال في الحاشية الفاسية : ومَن تأمّل هذه السورة لاح له منزلةَ حبيب الله عند الله ، وحقق معنى قول عائشة : " يا رسول الله ؛ ما أرى ربك إلاّ يُسارع في هواك " الحديث متفق على صحته هـ {وهو العليمُ} بما يُصلحكم ، فيشرعه لكم ، {الحكيمُ} المتقن في أفعاله وأحكامه ، فلا يأمركم ولا ينهاكم ألاَّ بما تقتضيه الحكمة البالغة.
الإشارة : هذا العتاب يتوجه لكل مَن سبقت له عند الله عناية وزلفى ، إذا ضَيّق على نفسه فيما أحلّ اللهُ له ، فلا يرضى منه ذلك ، محبةً فيه ، وقد صدر مني مثل هذا زمان الوباء ، فحلفت لبعض أزواجي : أني لا أتزوج عليها ، وسبب ذلك أنها كانت مصارِمة لي ، في غاية الغضب والقطيعة ، وقد كان غلب على ظني الموت ، لِما رأيتُ من الازدحام عليه ، فخفتُ أن نموت متقاطعَين ، فلمّا حلفتُ لها رأى بعض الفقراء من أصحابنا : أنه يقرأ عليّ أو معي : {يا أيها النبي لِمَ تُحرم...} الخ السورة ، ففهمت الإشارة على أنّ اليمين لا تلزم ، والله أعلم ، لأنّ بساط اليمين كان غلبة ظن الموت ، فلما تخلّف انحل اليمين ، كقضية الرجل الذي وجد الزحام على اللحم ، فحلف لا يشتري لحماً أبداً ، ثم وجد الفراغ ، فقال مالك : لا يلزمه شيء. هـ.
وقال الورتجبي : أدب نبيه عليه الصلاة والسلام ألاَّ يستبد برأيه ، ويبتع ما يُوحى إليه. هـ. وجعل القشيري النبيَّ إشارة إلى القلب ، أي : يا أيها القلب المتوجِّه لِمَ تُحرم ما أحلّ الله من حلاوة الشهود ، تبتغي مرضاة نفسك وحظوظها ، فتتبع هواها ، وتترخّص في مباحات الشريعة ، وهي تحجب عن أسرار الحقيقة ، أو : لِمَ تُحرِّم ما أحلّ الله من
81
الاستغراق في سُكر بحر الحقيقة ، تبتغي مرضاة بقاء نفسك ، والشعور بوجودها. وكان صلى الله عليه وسلم يقول : " لي وقت لا يَسعني فيه غير ربي " وكان يقول لعائشة حين يغلب عليه السُكْر والاضمحلال في الحق : " كلميني حركيني يا حميراء " وكذلك القلب إذا غلب عليه الوجد ، وخاف من الاصطلام ، أو مِن مَحق البشرية ، يطلب مَن يبرد عليه مِن نفسه أو مِن غيره ، وقد سَمِعْتُ مِن شيخ شيخنا رضي الله عنه أنه قال : كان يغلب عَلَيَّ الوجد والسكر ، فكنت أذهبُ إلى مجالسة العوام ليبُرد عليّ الحال ، خوفاً من الاصطلام أو المحق ، وذلك بعد وفاة شيخه.(8/95)
جزء : 8 رقم الصفحة : 79
وقوله تعالى : {والله غفور رحيم} أي : فلا يؤاخذ العبدَ بهذا الميل اليسير إلى الحس ، دواء لنفسه ، قد فرض اللهُ لكم تحلةَ أيمانكم ، أي : الميل اليسير إلى الرفق بالنفس ؛ لأنها مطية القلب ، بمجاهدتها يصل إلى كعبة الوصول ، وهي حضرة الرب. وبالله التوفيق.(8/96)
جزء : 8 رقم الصفحة : 79
يقول الحق جلّ جلاله : {وإِذ أَسَرَّ} أي : واذكر أيها السامع حين أَسَرَّ {النبيُّ إِلى بعض أزواجه} يعني حفصة {حديثاً} ؛ حديث تحريم مارية ، أو العسل ، أو إمامة الشيخين ، {فلما نَبَّأَتْ به} أي : أخبرت حفصةُ عائشةَ بالحديث وأفشته ، فحذف المفعول ، وهو عائشة ، {وأظْهَرَه اللهُ عليه} أي : أطلع اللهُ تعالى نبيَّه ـ عليه الصلاة والسلام ـ على إفشاء حفصة على لسان جبريل عليه السلام ، أو : أظهر الله عليه الحديث ، من الظهور ، {عَرَّفَ بعضَه} أي : عرَّف النبيُّ صلى الله عليه وسلم حفصةَ بعض الحديث الذي أفشته ، قيل : هو حديث الإمامة ، رُوي أنه عليه الصلاة والسلام قال لها : " ألم أقل لك اكتمي عليّ " ؟ قالت : " والذي بعثك بالحق ما ملكتُ نفسي " فرحاً بالكرامة التي خَصَّ اللهُ تعالى بها أباها.
{وأَعْرَضَ عن بعضٍ} فلم يُخبرها تكرُّماً. قال سفيان : ما زال التغافل من فعل الكرام ، وقال الحسن : ما استقصى كريم قط. وقرأ الكسائي : " عَرَف " بالتخفيف ، أي :
82
جازى عليه ، من قولك للمسيء : لأعْرِفَنَّ لك ما فعلت ، أي : لأجازينَّك عليه ، فاجازاها عليه السلام بأن طلَّقها ، وآلى من نسائه شهراً ، وقعد في مشربة مارية حتى نزلت آية التخيير ، وقيل : هَمَّ بطلاقها ، فقال له جبريل : لا تُطلِّقها ، فإنها صوّامة قوّامة. هـ. قيل : المعرّف : حديث الإمامة ، والمعرَض عنه : حديث مارية. {فلما نَبَّأها به} أي : أخبر صلى الله عليه وسلم حفصةَ بما عرفه من الحديث ، قالت حفصة للنبي عليه السلام : {مَن أنبأكَ هذا قال نبأنيَ العليمُ الخبيرُ} الذي لا تخفى عليه خافية.
{إِن تتوبا إِلى الله} ، الخطاب لحفصة وعائشة ، على الالتفات للمبالغة في العتاب ، {فقد صَغَتْ قُلوبُكما} ؛ مالت عن الواجب في مخالصة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، مِن حُب ما يُحبه ، وكراهة ما يكرهه ، وكان عليه الصلاة والسلام شقَّ عليه تحريم مارية وكَرِهَه ، وهما فرحا بذلك. وجواب الشرط : محذوف ، أي : إن تتوبا إلى الله فهو الواجب ، فقد زالت قلوبكما عن الحق ، أو : تُقبلْ توبتكما ، أو هو : " فقد صغت " أي : إن تتوبا زاغب قلوبكما فاستوجبتما التوبة ، أو : فقد كان منكما ما يقضي أن يُتاب منه. قال ابن عطية : وهذا الجواب للشرط ، وهو متقدم في المعنى ، وإنما نزلت جواباً في اللفظ. هـ. وقُرىء " زاغت " من الزيغ.
{(8/97)
جزء : 8 رقم الصفحة : 82
وإِن تَظَاهرا عليه} أي : تتعاونا عليه بما يسوؤه ، من الإفراط في الغيرة ، وإفشاء سرّه ، والفرح بتحريم مارية ، {فإِنَّ اللهَ هو مولاه} ؛ وليُّه وناصره ، وزيادة " هو " إيذان : أنّه يتولّى ذلك بذاته بلا واسطة ، {وجبريلُ} أيضاً وليّه ، الذي هو رئيس الملائكة المقرّبين ، {وصالحُ المؤمنين} أي : ومَن صلح مِن المؤمنين ، أي : كل مَن آمن وعمل صالحاً ، وقيل : مَن برىء مِن النفاق ، وقيل : الصحابة جملة ، وقال ابن عباس : أبو بكر وعمر ، ورُوي مرفوعاً ، وبه قال عكرمة ومقاتل ، وهو اللائق ؛ لتوسيطه بين جبريل والملائكة عليهم السلام ، فإنه جمع بين التظاهر المعنوي والتظاهر الحسي ، فجبريل ظاهَره عليه السلام بالتأييدات الإلهية ، وهما وزيراه وظهيراه في أمور الرسالة ، وتمشية أحكامها الظاهرة ، ولأنَّ تظاهرهما له صلى الله عليه وسلم أشد تأثيراً في قلوب ينتيْهما ، وتوهيناً في حقهما ، فكانا حقيقا بالذكر ، بخلاف ما إذا أريد به جنس الصالحين ، كما هو المشهور. قاله أبو السعود.
{والملائكةُ} مع تكاثر عددهم وامتلاء السموات من جموعهم {بعد ذلك} أي : بعد نصرةِ الله عزّ وجل ، وناموسه الأعظم ، وصالح المؤمنين ، {ظهيراً} أي : فوْج ظهير مُعاون له ، كأنهم يد واحدة على مَن يعاديه ، فماذا يفيد تظاهر امرأتين على مَنْ هؤلاء ظُهراؤه ؟ ولمّا كانت مظاهرة الملائكة من جملة نصرة الله ، قال : {بعد ذلك} تعظيماً لنصرتهم ومظاهرتهم.
{عسى ربُّه إِن طَلَّقكُنَّ أن يُبْدِلَه} بالتخفيف ، والتشديد للتكثير ، أي : يعطيه اللهُ
83
تعالى بدلكن {أزواجاً خيراً منكن} ، قال النسفي : فإن قلتَ : كيف تكون المبدّلات خيراً منهنَ ، ولم يكن على وجه الأرض نساء خيراً من أمهات المؤمنين ؟ قلتُ : إذا طلّقهنّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لإيذائهنّ إياه لم يبقين على تلك الصفة ، وكان غيرهن من الموصوفات بهذه الأوصاف خيراً منهن. هـ. وأجاب أبو السعود : بأنّ ما عُلّق بما لم يقع لا يجب وقوعه. هـ. وليس فيه ما يدلّ على أنه صلى الله عليه وسلم لم يُطلِّق حفصة ، فإنّ تعليق طلاق الكل لا ينافي تطليق واحدة.
ثم وصف المبدَلات بقوله : {مُسلماتٍ مؤمناتٍ} أي : مُقرّات مخلصات ، أو : منقادات مصدّقات ، {قانتاتٍ} ؛ طائعات ، فالقنوت : هو القيام بطاعة الله ، وطاعة الله في طاعة رسوله ، {تائباتٍ} من الذنوب {عابداتٍ} ؛ متعبدات متذللات ، {سائحاتٍ} ؛ صائمات ، وقيل للصائم : سائح ؛ لأنَّ السائح لا زاد معه ، فلا يزال ممسكاً إلى أن يجد من يُطعمه ، فشبّه به الصائم في إمساكه إلى وقت إفطاره ، أو : مهاجرات. قال زيد بن أسلم : لم يكن في هذه الأمة سياحة إلاَّ الهجرة ، {ثيباتٍ وأبكاراً} ، إنما وسط العاطف بين الثيبات والأبكار ، دون سائر الصفات ؛ لأنهما صفتان متباينتان ، وعَطْف الأبكار على الثيبات من باب الترقي من الأدنى إلى الأعلى ، كقوله تعالى : {وَلاَ يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَ لاَ كَبِيرَةً...} [التوبة : 121]. والله تعالى أعلم.(8/98)
جزء : 8 رقم الصفحة : 82
الإشارة : توجه العتاب له صلى الله عليه وسلم مرتين في تحريم الجارية ، وفي إخفائه لذلك ، إذ فيه بعض مراقبة الخلق ، والعارف لا يُراقب إلاّ الحق ، فهذا قريب من قوله تعالى : {وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أّحَقُّ أَن تَخْشَاهُ} [الأحزاب : 37] ، ففيه من التصوُّف : أنَّ العارف يكون الناس عنده كالموتى ، أو كالهباء في الهواء ، وفي الحديث عنه عليه الصلاة والسلام : " لا يؤمن أحدكم حتى يكون الناس عنده كالأباعر " إذا ليس بيدهم نفع ولا ضر.
وإشارة الآية على ما قال القشيري : وإذ أَسَرَّ القلبُ إلى بعض أزواجه ، وهي النفس والهوى ، حديث المخالفة ، على طريق " شاوروهنّ وخالِفوهنّ " فلما نبأت النفسُ الهوَى لتفعلا ذلك ، وأظهره الله عليه بوحي الإلهام ، عَرَّف بعضَه وأعرض عن بعض ، أي : عاتبهما على البعض ، وسامحهما في الآخر ، فلما نبأ القلبُ النفسَ بما أفشت للهوى ، قالت : مَن أنبأك هذا.. الخ ، إن تتوبا إلى الله ، وتنقادا لحكمه فقد وقع منكما ما يوجب التوبة ، وإن تظاهرا على القلب بتزيين المخالفة وتتبع الحظوظ والشهوات ، فإنَّ الله هو مولاه ، ينصره بالأجناد السماوية والأرضية ، من التأييدات والواردات ، عسى ربه إن طلقكن
84
وغاب عنكن أن يُبدله أخلاقاً طيبة ، ونفوساً مطمئنة ، مسلماتٍ مؤمناتٍ قانتاتٍ تائباتٍ ، عابداتٍ سائحاتٍ بأفكارها في ميادين الغيوب ، وبحار التوحيد ، ثيبات ، أي : تأتي بعلوم الرسميات وأبكار الحقائق.(8/99)
جزء : 8 رقم الصفحة : 82
يقول الحق جلّ جلاله : {يا أيها الذين آمنوا قُو أنفسَكم} أي : نَجُّوها من النار ، بترك المعاصي وفعل الطاعات ، {وأهليكم} بأن تأخذوهم بما تأخذون به أنفسكم ، أو بان تُعلِّموهم وتُرشدوهم. قال القشيري : أظهٍروا من أنفسكم الطاعات ليتعلموا منكم ويقتادوا بأفعالكم. هـ. وفي الحديث : " رحِم الله امرءاً قال : يا أهلاه ، صلاتَكم صيامَكم مسْكينَكم ، يتيمَكم " أي : الزموا ما ينفعكم ، فمَن له أهل وأهملهم من التعلُّم والإرشاد عُوتب عليهم ، أي : احملوهم على الطاعة ، لتَقُوهُمْ {ناراً وقُودُهَا الناسُ والحجارةُ} أي : نوعاً من النار لا تتّقد إلاّ بالناس والحجارةن كما تتّقد غيرها بالحطب. قال ابن عباس : هي حجارة الكبريت ، فهي أشد الأشياء حرًّا. {عليها ملائكةٌ} تلي أمرها والتعذيبَ بها ، وهي الزبانية ، {غِلاظٌ شِدادٌ} ؛ غلاظُ الأقوال ، شِدادُ الأحوال ، أو : غلاظُ الخلْق ، شِداد الخُلُق ، أقوياءُ على الأفعال الشديدة ، لم يخلق اللهُ فيهم رحمة ، {لا يَعْصُون اللهَ ما أَمَرَهم} أي : لا يعصون أمره ، فهو بدل اشتمال من " الله " أو : فيما أمرهم ، على نزع الخافض ، {ويفعلون ما يؤمرون} من غير تراخ ولاتثاقل ، وليست الجملتان في معنى واحد ؛ إذ معنى الأولى : أنهم يمتثلون أمره ويلتزمونها ، ومعنى الثانية : أنهم يُؤدون ما يُؤمرون به ، ولا يتثاقلون عنه ولا يتوَانون فيه.
ويُقال للكفرة يوم القيامة عند دخولهم النار : {يا أيها الذين كفروا لا تعتذروا اليومَ} إذ لا ينفعكم عذركم ؛ حيث فرَّطتم في الدنيا ، {إِنما تُجْزَون} اليوم {ما كنتم تعملون} في الدنيا من الكفر والمعاصي ، بعدما نُهيتُم عنها ، وأُمرتم بالإيمان والطاعة ، فلا عُذر لكم قطعاً.
الإشارة : قُوا أنفسكم نارَ الحجبة والقطيعة ، بتخليتها من الرذائل ، وتحليتها بالفضائل ، ليلحقوا بكم في درجاكم. ونار القطيعة وقودها الناس ، أي : عامة الناس والقلوب القاسية ، عليها ملائكة غِلاظ شِداد ، وهم القواطع القهرية ، فمَن كفر بطريق الخصوصية لا ينفعه يوم القيامة اعتذاره ، حين يسقط عن درجة المقرَّبين الأبرار وبالله التوفيق.
85(8/100)
جزء : 8 رقم الصفحة : 85
يقول الحق جلّ جلاله : {يا أيها الذين آمنوا تُوبوا إِلى الله توبةً نَصوحاً} أي : بالغة في النصح ، وُصفت بذلك مجازاً ، وهي وصف للتائبين ، وهو أن ينصحوا بالتوبة أنفسَهم ، فيأتوا بها على طريقتها ، وذلك أن يتوبوا عن القبائح ، لقبْحها ، نادمين عليها ، مغتمِّين أشد الاغتمام لارتكابها ، عازمين على أنهم لا يعودون إلى قبيح من القبائح ، وقيل : نصوحاً : صادقة ، وقيل : خالصة ، يُقال : عسل ناصح : إذا خلص من شمعه ، وقيل : مِن نصاحة الثوب ، أي : ترقيعه ، لأنها ترقع خروقك في دينك وترمّ خللك ، وقيل : توبة تنصح الناس ، أي : تدعوهم إلى مثلها ؛ لظهور آثارها في صاحبها ، باستعمال الجد والعزيمة في العمل على مقتضياتها ، ومَن قرأ بضم النون فمصدر ، أي : ذات نصوح ، أو تنصح نصوحاً. وفي الحديث : " التوبة النصوح أن يتوب ، ثم لا يعود إلى الذنب إلى أن يعود اللبن في الضرع " وعن حذيفة : " بحسب الرجل من الشر أن يتوب من الذنب ثم يعود فيه " وعن ابن عباس رضي الله عنه : " هي الاستغفار باللسان ، والندم بالجنان ، والإقلاع بالأركان ". {عسى ربُّكم أن يُكَفِّرَ عنكم سيئاتِكم} ، هذا على ما جرى به عادة الملوك من الإجابة بعسى ولعل ، ووقوع ذلك منهم موقع القطع والبت. وقيل : عبّر بـ " عسى " للإشعار أنّ المغفرة تفضل وإحسان ، وأنّ التوبة غير موجبة لها ، ولِيَبقى العبد بين خوف ورجاء ولو عمل ما عمل. {ويُدْخِلَكم جناتٍ تجري من تحتها الأنهارُ يومَ لا يُخزي اللهُ النبيَّ}. هو ظرف لـ " يدخلكم " {والذين آمنوا معه} : عطف على " النبي " ، و " معه " : ظرف لآمنوا ، وفيه تعريض بمَن أخزاهم الله من الكفرة. {نُورُهُمْ} : مبتدأ ، و {يسعى} خبره ، أي : يُضيء {بين أيديهم وبأَيمانهم} أي : على الصراط وفي مواطن القيامة ، {يقولون} حال ، أي : قائلين حين ينطفىء نور المنافقين : {ربنا أتمم لنا نورنا واغفرْ لنا إِنك على كل شيءٍ قديرٌ} ، وقيل : يدعون بذلك تقرُّباً إلى الله مع تمام نورهم ، وقيل : تتفاوت أنوارهم
بحسب أعمالهم ، فيسألون إتمامه تفضُّلاً ، وقيل : السابقون إلى الجنة يمرون مثل البرق على الصراط ، وبعضهم كالريح ، وبعضهم كأجاود الخيل ، وبعضهم حبواً ، وزحفاً ، وهم
86
الذين يقولون : {ربنا أَتمم لنا نورنا}. وقد تقدّم : أنَّ مِن المقربين مَن تُقرّب لهم غُرف الجنات ، فيركبون فيها ، ويسرحون إلى الجنة ، ومنهم مَن يطير في الهواء إلى باب الجنة ، فيقول الخزنة : مَن أنتم ؟ فيقولون : وحن المتحابُّون في الله ، فيقول : اذهبوا فنِعْمَ أجر العاملين ، ويقول بعضهم لبعض : أين الصراط الذي وُعدنه ، فيُقال لهم : جزتموه ولم تشعروا. والله تعالى أعلم.(8/101)
جزء : 8 رقم الصفحة : 86
الإشارة : توبةُ العامة من الذنوب ، وتوبةُ الخاصة من العيوب ، وتوبة خاصة الخاصة من الغيبة عن حضرة علاّم الغيوب ، فهؤلاء أشد الناس افتقاراً إلى التوبة ؛ إذ لا بُد للعبد من سهوٍ وسِنةٍ حتى يجول بقلبه في الأكوان ، أو يميل عن الاعتدال ، فيجب في حقهم الاستغفار منها ، ولذلك كان عليه الصلاة والسلام يستغفر في المجلس الواحد سبعين أو مائة مرة. وقد تكلم السّلفُ عن التوبة النصوح دون ما تقدّم ، فقال ابن جبير : هي التوبة المقبولة ، ولا تُقبل إلا بثلاثة شروط : خوف ألاَّ تُقبل منه ، ورجاء أن تُقبل ، وإدمان الطاعة. وقال ابن المسيب : توبة تنصحون بها أنفسكم ، وقال القرظي : يجمعها أربعة : الاستغفار باللسان ، والإقلاع بالأبدان ، وترك العود بالجنان ، ومهاجرة سيىء الخلان. وقال الثوري : علامتها أربعة : القِلة ، والعِلة ، والذلة ، والغربة. وقال الفضيل : هو أن يكون الذنب نصب عينيه. وقال الواسطي : تكون لا لعرض دنيوي ولا أخروي. وقال أبو بكر الورّاق : هي أن تضيق عليك الدنيا بما رَحُبتْ ، كحالة الذين خُلِّفوا. وقال رُويم : أن تكون لله وجهاً بلا قفا ، كما كنت عند المعصية قفا بلا وجه ، وقالت رابعة : توبة لا ارتياب فيها ، وقال السري : لا تصلح التوبة النصوح إلاّ بنصيحة النفس والمؤمنين ؛ لأنَّ مَن صحّت توبته أَحبَّ أن يكون الناس مثله ، وقال الجنيد : هي أن تنسى الذنب فلا تذكره أبداً ؛ لأنَّ مَن أحب اللهَ نسي ما دونه. هـ.(8/102)
جزء : 8 رقم الصفحة : 86
يقول الحق جلّ جلاله : {يا أيها النبيُّ جاهِدِ الكفارَ} بالسيف {والمنافقين} بالحجة ، أو : بالقول الغليظ والوعظ البليغ ، أو : بإقامة الحدود ، ولم يؤمر بقتالهم لِتَسَتُّر ظاهرهم بالإسلام ، " أُمرت أن أحكم بالظواهر ، والله يتولى السرائر " ، {واغْلُظْ
87
عليهم} ؛ واستعمل الخشونة على الفريقين فيما تجاهدهما به من القتال والمخاصمة باللسان. {ومأوَاهم جهنمُ} يُباشرون فيها عذاباً غليظاً ، {وبئس المصيرُ} جهنم ، أو مصيرهم.
الإشارة : كُلُّ إنسان مأمور بجهاد أعدائه ، من النفس ، والهوى ، والشيطان ، وسائر القواطع ، وبالغلاظ عليهم ، حتى يُسلموا وينقادوا لحُكمه أو تقل شوكتهم ، وهذا هو الجهاد الأكبر ، لدوامه واتصاله ، فمَن دام عليه حتى ظفر بعدوه ، أو لقي ربه ، كان مِن الصدّيقين ، الذين درجتهم فوق درجة الشهداء ، تلي درجة المرسَلين. وبالله التوفيق.(8/103)
جزء : 8 رقم الصفحة : 87
قلت : " مثلاُ " : مفعول ثان لضرب ، أي : جعل ، و " امرأةَ " : مفعول أول ، أي : جعل امرأة نوح وامرأة لوط مثلاُ مضروباً للذين كفروا.
يقول الحق جلّ جلاله : {ضَرَبَ اللهُ مثلاً للذين كفروا} ، ضَرْبُ المثل في أمثال هذه المواقع عبارة عن : إيراد حالة غريبة ليُعرف بها حالة أخرى ، مشاكِلة لها في الغرابة ، أي : ضرب الله مثلاً لحال الذين كفروا حيث يُعاقَبون على كفرهم وعداوتهم للمؤمنين ، ولا ينفعهم ما كان بينهم وبين المؤمنين من النسب والمصاهرة بهاتين المرأتين ، {امرأتَ نوحٍ وامرأتَ لوطٍ} قيل : اسم الأولى : واهلة ، والثانية : راعلة ، {كانتا تحت عبدين من عبادنا صَالِحَينِ} أي : كانتا في عصمة نبييْن عظيميْن ، متمكنين من تحصيل خير الدنيا والأخرة ، وحيازة سعادتهما ، {فخانتاهما} بإفشاء سرهما ، أو بالكفر والنفاق ، {فلم يُغنيا عنهما من الله شيئاً} أي : فلم يُغن الرسولان عن المرأتين بحق ما بينهما من الزواج شيئاً من الإغناء من عذاب الله تعالى ، {وقيل} لهما عند موتهما ، أو يومَ القيامة : {ادخلا النارَ مع الداخلين} أي : مع سائر الداخلين من الكفرة ، الذين لا وصلة بينهم وبين الأنبياء.
88
قال القشيري : لما سبقتً للمرأتين الفُرْقةُ يوم القِسْمة ، لم تنفعهما القرابةُ يومَ العقوبة. هـ. قال ابن عطية : وقول مَن قال : إنَّ في المثلَين عبرة لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم بعيد. هـ. قلت : لا بُعد فيه لذكره إثر تأديب المرأتين ، وليس فيه غض لجانبهنّ المعظم ، إنما فيه إيقاظ وإرشاد لما يزيدهم شرفاً وقُرباً من تعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم وطاعته ، وصيانة سِره ، والمسارعة إلى ما فيه محبتُه ورضاه ، وكل مَن نصحك فقد أحبّك ، وكل مَن أهملك فقد مقتك.
{(8/104)
جزء : 8 رقم الصفحة : 88
وضَرَبَ اللهُ مثلاً للذين آمنوا} في أنهم ينفعهم إيمانهم ، ولو كانوا تحت قهرية الكفرة ، حيث لم يميلوا عنه ، {امرأة فرعونَ} ، وهي أسية بنت مزاحم ، وهي عمة موسى عليه السلام ، آمنت به فعذّبها بالأوتاد الأربعة ، وتَدَ يديها ورجليها وألقاها في الشمس على ظهرها ، وألقى عليها صخرةَ عظيمة ، فأبصرت بيتَها في الجنة ، من دُرة ، وانتزع اللهُ روحَها ، فلقيتها الصخرة بلا روح ، فلم تجد ألماً ، وقال سَلْمَان : كانت امرأة فرعون تُعذَّب بالشمس ، فإذا انصرفوا عنها أظلتها الملائكة ، وفيه بيان أنها لم تمِل عن الإيمان مع شدة ما قاست من العذاب ، وكذا فليكن صوالح النساء ، وأمر عائشة وحفصة أن يكونا كآسية هذه. هـ. من الثعلبي.
{إِذ قالتْ} : ظرف لمحذوف ، أي : ضرب مثلاً لحالها حين قالت : {رَبِّ ابْنِ لي عندكَ} أي : قريباً من رضوانك {بيتاً في الجنة} أو : في أعلى درجات المقربين ، رُوي : أنها لَمّا قالت ذلك أُريت بيتها في الجنة. {ونجِّني من فرعونَ وعملِهِ} أي : من نفسه الخبيثة وعمله السيىء {ونجني من القوم الظالمين} أي : من القبط التابعين له في الظلم قال الحسن وابن كيسان : نجاها الله أكرمَ نجاةٍ ، ورفعها إلى الجنة ، فهي فيها تأكل وتشرب. هـ.
{ومريمَ ابنة عمرانَ} : عطف على " امرأة فرعون " أي : وضرب اللهُ مثلاً للذين آمنوا حالَها وما أُتيت من كرامة الدنيا والآخرة والاصطفاء على نساء العالمين ، مع كون قومها كفاراً ، {التي أحْصَنَتْ فَرْجَها} ؛ حفظته {فنفخنا في مِن روحنا} المخلوقة لنا ، أو : من روح خَلقتُه بلا واسطة ، {وصدَّقتْ بكلماتِ ربها} ؛ بصُحفه المنزلة ، أو : بما أوحى اللهُ إلى أنبيائه ، {وكتابه} أي : جنس الكتاب الشامل للكل ، وقرأ البصري وحفص بالجمع ، أي : كُتبه الأربعة ، وقُرىء : " بكلمة الله وكتابه " أي : بعيسى وبالكتاب المنزَّل عليه الإنجيل ، {وكانت من القانِتين} أي : من عدة المواظبين على الطاعة ، والتذكير للتغليب ، والإشعار بأنَّ طاعتها لم تقصر عن طاعة الرجال ، حتى عُدت من جملتهم ، أو كانت من نسل القانتين ؛ لأنها من أعقاب هارون ، أخي موسى عليهما السلام. وعن النبي صلى الله عليه وسلم : " كَمُل من الرجال كثير ، ولم يكمل من النساء إلا أربع : آسية بنت مزاحم ، ومريم بنت عمران ، وخديجة بنت خويلد ، وفاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم ، وفضل عائشة على النساء كفضل
89
الثريد على سائر الطعام ". قال النسفي : وفي طيِّ هذين التمثيلين تعريض بأمَّيِّ المؤمنين المذكورتين في أوّل السورة ، وما فرط منهما من التظاهر على رسول الله صلى الله عليه وسلم بما كَرِهه ، وتحذير لهما على أغلظ وجه ، وإشارة إلى أنّ مِن حقهما أن تكونا في الأخلاق كهاتين المؤمنتين ، وألاّ تتكلا على أنهما زوجا رسول الله صلى عليه وسلم. هـ. وفي الثعلبي : وقال ابن عباس وجماعة : قطع اللهُ بهذه الآية طمَعَ مَن ركب المعصية ، ورجا أن ينفعه صلاح غيره ، وأخبر أنّ معصية غيره لا تضره إذا كان مطيعاً. هـ.(8/105)
جزء : 8 رقم الصفحة : 88
الإشارة : قال القشيري : المرأتان الكافرتان إشارة إلى النفس الأمّارة والهوى المتَّبع ، أي : كانتا تحت القلب والروح ، فخانتاهما ، حيث غلبتا القلبَ والروحَ ، وجذبتاهما إليهما ، فمال القلب إلى الحظوظ الجسمانية ، ومالت الروحُ إلى الحروف الظلمانية ، كحب الجاه والرئاسة والكرامة ، فلم تُغنيا عنهما من الله شيئاً ، حيث فاتهما اليقين والمعرفة العيانية ، والمرأتان المؤمنتان إشارة إلى النفس المطمئنة والقلب المطمئن ، حيث غلبا النفس الأمّارة والهوى ، لم يضرهما صحبتهما ، فقالت النفس المطمئنة : ربّ ابن لي عندك بيتاً في الجنة ، في مقعد صدق عند مليك مقتدر ، والقلب لمّا حَفِظً نفسه من دخول العلل ، نفخ الحقُّ فيه من روحه ، فأحياه به ، وأشْهَده أنوار قدسه ، فصدّق بكلمات الله الدالة على ذاته ، ثم ترقَّى إلى شهود المتكلِم ، وكان من القانتين ، فجمع بين شهود عظمة الربوبية وآداب العبودية. قال الورتجبي : {فنفخنا فيه...} الآية ، أي : ظهر فيه نور الفعل ، ثم ظهر في نور الفعل نور الصفة ، فظهر في نور الصفة نور الذات ، فكان بنور الذات والصفات حيًّا موصوفاً بصفاته ، ناظراً إلى مشاهدة نور ذاته ، لم تنقطع عنه أنوار الذات والصفات والفعل أبداً. وهذه خاصية لمَن له أثر من روحه. قال بعضهم : نفخ من نوره في روح عبده ، ليحيي بذلك الروح ، ويحيى به ، ويطلب النورَ ولا يغفل عن طلب المُنوِّر ، فيعيش في الدنيا حميداً ، ويُبعث في الآخرة شهيداً ، فلمّا وجدت رَوحُ روحِ الله صدّقت بظهوره في العالم ، وشبيه قلوب العالمين بأنه يكون مرآة الحق للخلق ، وذلك قوله : {وصَدَّقت بكلمات ربها} ولمّا باشر أنوار القدس وروح الأنس كادت نفسها أن تميل إلى السكر في الأنانية ، فسبق لها العناية ، وأبقاها في درجة العبودية ، حتى لا تسقط بالسُكر عن مقام الصحو ، ألآ ترى كيف قال : {وكانت من القانتين} أي : من المستقيمين في معرفتها بربها ، ومعرفتها بقيمة نفسها أنها مُسَخَّرة عاجزة لربها. هـ. وبالله
التوفيق. وصلّى الله على سيدنا محمد وآله.
90(8/106)
جزء : 8 رقم الصفحة : 88
سورة الملك(8/107)
جزء : 8 رقم الصفحة : 90
يقول الحق جلّ جلاله : {تباركَ} أي : تعالى وتعاظم عن صفات المخلوقين فالبركة : السمو والزيادة ، حسية أو عقلية ، وكثرة الخير ودوامه ، والمعنى الأول أنسب للمقام ، باعتبار تعاليه عزّ وجل عما سواه في ذاته وصفاته وأفعاله ، وصيغة التفاعل للمبالغة في ذلك ؛ فإنَّ ما لا يصح نسبته إليه تعالى من الصيغ ، كالتكثُّر ونحوه ، إنما يُنسب إليه تعالى باعتبار غاياتها. وعلى الثاني باعتبار كثرة ما يفيض منه تعالى على مخلوقاته من فنون الخيرات ، أي : تعالى بالذات عن كل ما سواه. {الذي بيده المُلك} أي : بيده التصرُّف التام والاستيلا ء على كل موجود ، وهو مالك المُلك ، يُؤتيه مَن يشاء ، وينزعه عمن يشاء ، واليد : مجاز عن القدرة التامة ، والاستيلاء الكامل. {وهو على كل شيءٍ} من المقدورات ، أو من الإنعام والانتقام {قديرٌ} ؛ مبالغ في القدرة يتصرف فيه على حسب ما تقتضيه مشيئته المبنية على الحِكم البالغة.
والجملة : معطوفة على الصلة ، مقرِّرة لمضمونها ، مفيدة لجريان أحكام مُلكه تعالى في جلائل الأمور ودقائقها ، دالة على العموم والشمول في أنه متصرف في أحوال المُلك
91
في إيجاد أعيان الأشياء ؛ المتصرّف فيها وفي إيجاد عوارضها الذاتية. ولو اقتصر على قوله : {بيده الملك} لأوهم قصوره على تغيُّر أحوال المُلك فقط.
ثم أحال على ما هو مُشاهد من التصرُّف بقوله : {الذي خلق الموتَ والحياةَ} أي : موتكم وحياتكم أيها المكلّفون. ومعنى خلق الموت والحياة : إيجاد ما يصحح الإحساس وإعدامه. والموت عند أهل السنة : صفة وجودية مضادة للحياة ، وأمّا ما رُوي عن ابن عباس : أنه تعالى خلق الموتَ في صورة كبش أملح ، لا يمر بشيء ويجد ريحه إلاّ مات ، وخلق الحياة في صورة فرس ، لا يَمر والا يجد رائحتها شيء إلاّ حيى " فوارد على منهاج التمثيل والتصوير ، ويجوز أن يكون حقيقة ، إذ القدرة صالحة. وتقديم الموت لأنه أدعى لأحسن العمل ، الذي هو حكمة خلق الموت والحياة ، المشار إليه بقوله : {ليبلوكم أَيُّكم أحسنُ عملا} أي : خلق موتكم الذي يعمّ الأمير والأسير ، والحياة التي لا تبقى لعليل ولا طبيب ، ليُعاملكم معالمة مَن يختبركم أيكم أحسن عملاً ؛ فيُجازيكم على مراتب متفاوتة ، حسب طبقات علومكم وأعمالكم ؛ فإنَّ العمل غير مختص بالجوارح ، ولذلك فسَّره صلى الله عليه وسلم بقوله : " أيكم أحسن عقلاً ، وأردع عن محارم الله ، وأسرع في طاعة الله " ، وفي رواية : " أيكم أحسن عقلاً ، وأشدكم له خوفاً ، وأحسنكم في أمره ونهيه نظراً ، ون كانوا أقلّكم تطوُّعاً " وقال ابن عباس وغيره : أيكم أزهد في الدنيا.(8/108)
جزء : 8 رقم الصفحة : 91
قال القشيري : كيف تكونوا في الصبر في المحنة ، والشكر عند المنّة. وقال النسفي : {أيكم أحسن عملاً} : أخلصه وأصوبه ، فالخالص : أن يكون لوجه الله ، والصواب أن يكون على السُنَّة ، والمراد : أنه أعطاكم الحياة التي تقدرون بها على العمل ، وسلّط عليكم الموت ، الذي هو داعيكم إلى اختيار العمل الحسن على القبيح ، فما وراءه إلاّ البعث والجزاء ، الذي لا بدّ منه ، ولمّا قدّم الموت ـ الذي هو أثر صفة القهر ـ على الحياة ـ التي هي أثر صفة اللطف ـ قدّم صفة القهر على صفة اللطف بقوله : {وهو العزيزُ} : الغالب ، الذي لا يُعجزه مَن أساء العمل ، {الغفور} ؛ الستور ، الذي لاييأس منه أهل الإساءة والزلل. هـ.
ثم استشهد على تمام قدرته بقوله : {الذي خلق سبعَ سمواتٍ طِباقاً} أي : متطابقة بعضها فوق بعض ، من طباق النعلَ : أذا خصفها طبقاً على طبق ، وهو مصدر وصف به ، أو : ذات طباق ، أو : طوبقت طباقاً. وقوله تعالى : {ما ترى في خَلْقِ الرحمنِ من تفاوتٍ} صفة أخرى لسبع سموات ، وضع فيها " خَلْق الرحمن " موضع الضمير للتعظيم ، والإشعار بعلة الحكم ، وبأنه تعالى خلقها بقدرته ، رحمةً وتفضُّلاٍ ، ولأنَّ في إبداعها نعماً جليلة. أو : استئناف. والخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم ، أو لكل أحدٍ يصلح للخطاب ، و " مِن " لتأكيد
92
النفي ، أي : ما ترى فيه شيئاً من تفاوت ، أي : اختلاف وعدم تناسب أو اضطراب. وعن السدي : من عيْبٍ. وحقيقة التفاوت : عدم التناسب ، كأنّ بعضاً يفوت بعضاً. وقرأ الأخوان : " تَفَوُّت " كالتعاهد والتعهّد ، والبناء لواحد. {فارجع البصرَ} أي : ردَّه إلى السماء ، حتى يصحَّ عندك ما أُخْبِرْت به معاينةً ، حتى لا يبقى شُبهة. {هل ترى من فطورٍ} ؛ صدروع وشقوق ، جمع : فَطَر ، وهو الشقّ ، يقال : فطره فانفطر.
{ثم ارجع البصرَ كرتينِ} أي : كرّره رجعتين مع الأُولى ، فتكون ثلاثاً ، أو : بالأُولى ، وقيل : لمَ يُرد الاقتصار على مرتين ، بل أراد به التكرير بكثرةٍ ، أي : كرر نظرك ودقّقه مراراً ، هل ترى خللاً أو عيباً في السموات ؟ وجواب الأمر : {ينقلبْ} ؛ يرجع {إليك البصرُ خاسئاً} ؛ ذليلاً ، أو : بعيداً مما تريد ، وهو حال من البصر ، {وهو حَسِيرٌ} أي : كليل لطول المعاودة ، وكثرة المراجعة ، ولم يحصل ما قصد.
ثم بيَّن حُسنها وبهجتها ، فقال : {ولقد زيَّنا السماءَ الدنيا} أي : القُربى منكم {بمصابيحَ} أي : بكواكب مضيئة بالليل إضاءة السراج فيه ، زينةً لسقف هذه الدار ، من السيارة والثوابت ، تتراءى كأنها كلها مركوزة فيها ، مع أنَّ بعضها في سائر السموات ، وما ذلك إلاَّ لأنَّ كل واحدة منها مخلوقة على نمط رائق ، تحار في فهمه الأفكار ، وطراز فائق تهيم في دركه الأنظار. قال الفخر : وليس في هذه الآية ما يدل على أنَّ الكواكب مركوزة في سماء الدنيا ، وذلك لأنَّ السموات إذا كانت شفافة فالكواكب سواء كانت في سماء الدنيا ، أو في سماء أخرى فوقها ، فهي لا بد أن تظهر في سماء الدنيا ، وتلوح فيها ، فعلى كِلا التقديرين فالسماء الدنيا مُزَيّنة بها. هـ.
{(8/109)
جزء : 8 رقم الصفحة : 91
وجعلناها رُجوماً للشياطين} أي : وجعلنا فيها فائدة أخرى ، هي : رجم أعدائكم الذي يُخرجونكم من النور إلى الظلمات ، بانقضاض الشُهب المقتَبسة منها ، فيأخذ المَلك شعلة من نار الكوكب ، ويضرب بها الجني ، فيقتله ، أو يخبِّله ، فيرجع غُولاً يُفزع الناسَ ، وأمّا الكواكب فلا تزول عن أماكنها ؛ لأنها قارّة في الفلك. قال قتادة : خلق الله النجوم لثلاث : زينة السماء ، ورجوماً للشياطين ، وعلامات يهتدى بها ، فمَن تأوّل فيها غير ذلك ، فقد تكلّف ما لا علم له به. {وأعتدنا لهم} ؛ للشياطين {عذابَ السعير} بعد الإحراق في الدنيا بالشُهب. والله تعالى أعلم.
الإشارة : تبارك الذي بيده المُلك ، الملُك الظاهري والمُلك الباطني ، يُعطيهما مَن يشاء ، ويمنعهما مَن يشاء ، فالمُلك الظاهري عز يفنى والملك الباطني عز يبقى ، وهما ضدان لا يجتمعان في شخص واحد ، ولا يتفقان ، بل أحدهما يغير من الآخر ، والمراد بالملك الباطني : معرفة الشهود والعيان ، فلا يناسبها إلاّ الخمول ، ولا تقوم إلاّ به ، ومهما ظهرت أخذ صاحبها وصدمته الحوافر. الذي خلق الموتَ في بعض القلوب والأرواح ، فكانت ميتة جاهلة ذليلة حقيرة ، والحياةَ في بعضها ، فكانت حيّة عارفة مالكة عزيزة ، فعل
93
ذلك ليبلوكم أيك أحسنُ عملاً بالإقبال على الله ، والتوجٌّه بكليته إليه ، أو بالإدبار عنه ، والإعراض عن الداعي إليه. وقيل : أحسن العمل : نيسان العمل ورؤية الفضل. هـ. والمراد : أنه يجتهد في العمل ، ويغيب عنه ، ومَن جعل الموتَ نُصب عينيه لا محالة يجتهد ، ولله در القائل :
وَفِي ذِكْرِ هولِ الموتِ والقَبْر والبلاَ
عَن الشغْل باللذَّاتِ للمرء زَاجِر
أَبَعْدَ اقْتِرابِ الأَربَعينَ تَربُّص
وشَيْب فَذاك مُنْذِرٌ لك ذَاعِر
فَكَمْ في بُطون الأرضِ بعد ظُهورها
مَحَاسِنهم فيها بوَالٍ دَوَاثِر
وأنت على الدنيا مُكب مُنَافِس
لِحُطَامِها فيها حَريص مُكاثر
علَى خطرٍ تُمسي وتُصبح لاَهِياً
أَتدْرِي بماذا لَوْ عقلت تُخاطِر
وَإِنْ أحد يَسعى لدُنياه جَاهداً
ويَذْهلُ عن أخراه لآ شَكَّ خاسِر
فَجدّ ولا تَغفَل ، فَعَيشك زائِل
وأَنْتِ إِلى دارِ الْمَنِيَّةِ صَائِر
وهو العزيز يُعز مَن أقبل عليه ، والغفور لمَن رجع بعد الإعراض إليه. الذي خلق سبعَ سموات الأرواح ، وتقدّم قريباً تفسيرها ، وعالم الأوراح في غاية الإتقان ، ليس فيه خلل ولا تفاوت ، ولقد زيَّنا السماء الدنيا. قال القشيري : أراد بسماء الدنيا سماء القلب ، لدنوه من سماء الروح ، أي : زيّنا ونوّرنا سماء القلب بمصابيح العلم وأنوار الواردات القلبية ، وسبحات الإلهامات الربانية ، وجعلناها رجوماً للشياطين ؛ الخواطر النفاسية ، والهواجس الظلمانية الشيطانية ، وأعتدنا لتلك الخواطر عذابَ السعير ، فيحترق بالخواطر الملكية والرحمانية. هـ.(8/110)
جزء : 8 رقم الصفحة : 91
يقول الحق جلّ جلاله : {وللذين كفروا بربهم} أي : ولكل مَن كفر بالله مِن الشياطين وغيرهم {عَذابُ جهنم} يُعذّبون بها جميعاً ، {وبئس المصيرُ} ، المرجع جهنم. {إِذا أُلقوا فيها} ؛ طُرحوا في جهنم ، كما يُطرح الحطب في النار ، {سَمِعُوا لها} ؛ لجهنم {شهيقاً} ؛ صوتاً منكراً ، كصوت الحمير. شبّه حسيسها المنكر الفظيع بالشهيق. {وهي تفور} ؛ تغلي بهم كغليان المِرُجَل بما فيه.
94
{تكاد تميَّزُ} أي : تتميّز ، يعني : تتقطّع وتتفرّق وينفصل بعضها من بعض {من الغيظ} وذلك حين تمد عنقها إليهم ، لتستولي عليهم. وغيظها حقيقة بالإدراك الذي خلقه الله فيها. {كلما أُلْقِي فيها فوجٌ} ؛ جماعة من الكفار {سألهم خزنتُها} مالك وأعوانه من الزبانية توبيخاً لهم : {ألم يأتكم نذير} ؛ رسولٌ يُخوفكم من هذا العذاب الفظيع ؟ {قالوا بلى قد جاءنا نذيرٌ} ، اعترفوا بعدل الله ، وأنَّ الله أزاح عذرهم ببعث الرسل ، وإنذارهم ما وقعوا فيه ، تحسُّراً على ما فاتهم من السعادة ، وتمهيداً لِما وقع منهم من التفريط تندُّماً اغتماماً على ذلك ، {فكذَّبنا} ذلك النذير في كونه نذيراً من جهته تعالى : {وقلنا ما نزَّل اللهُ من شيءٍ} مما يقولون من وعد ووعيد ، وغير ذلك ، {إِن أنتم إِلاَّ في ضلالٍ كبير} أي : قال الكفار للمنذِّرين : ما أنتم إلاّ في خطأ عظيم ، بعيد عن الصواب.
وجمع ضمير الخطاب مع أنَّ مخاطب كل فوج نذيرُه ؛ لتغليبه على أمثاله ، مبالغةً في التكذيب ، وتمادياً في التضليل ، كما ينبىء عنه تعميم المنزل مع ترك ذكر المنزل عليه ، فإنه مُلوح لعمومه حتماً ، أو : إقامة تكذيب الواحد مقام تكذيب الكل. ويجوز أن يكون قوله : {إن أنتم إلا في ضلال كبير} من كلام الخزنة للكفار ، على إرادة القول ، ومرادهم بالضلال : الهلاك ، أو : سمُّوا جزاء الضلال باسمه ، كقوله : {وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} [الشورى : 40] مشاكلة ، أو : يكون من كلام الرسل ، حكوه للخزنة ، اي : قالوا لنا هذا فلم نهتبله.
{(8/111)
جزء : 8 رقم الصفحة : 94
وقالوا} أيضاً معترفين بتفريطهم : {لو كنا نسمعُ} الإنذار سماع طالب الحقّ {أو نعقلُ} شيئاً {ما كنا في أصحاب السعير} في عِددهم ، ومن أتباعهم ، من الشياطين وغيرهم ، وفيه دليل على أنَّ مدار التكليف على أدلة السمع والعقل ، وأنهما حجتان. {فاعترَفوا بذنبهم} ، الذي هو كفرهم وتكذيبهم الرسل في وقت لا ينفعهم ، {فسُحقاً لأصحابٍ السعير} أي : أبعدهم من رحمته وكرامته ، وهو مصدر مؤكد لعامله ، أي : فسُحقوا سحقاً ، أو : فأسحقهم الله سحقاً ، بحذف الزوائد. وفيه معنى الدعاء.
الإشارة : وللذين كفروا بشهود ربهم في الدنيا عذابُ جهنم ، وهو البُعد والحجاب ، وبئس المرجع ، حين يرجع المقربون إلى مقعد صدق ، عند مليك مقتدر ، إذا أُلقوا في الحُجبة والقطيعة سمعوا لها شهيقاً غيظاً عليهم ، وسخطة بهم ، وبصفاتهم المضلة ، وهي تفور من قُبح أعمالهم. تكاد تميّز من الغيظ عليهم ، كلما أُلقي فيها فوج من أهل الغفلة ، قال لهم خزنتها وهم صور أعمالهم وهيئة أخلاقهم الردية : ألم يأتكم نذير ؛ داع يدعوكم إلى الله ، من العارفين بالله ؟ فاعترفوا بأنهم أنكروهم وجحدوا خصوصيتهم ، فماتوا محجوبين عن الله ، والعياذ بالله.
95(8/112)
جزء : 8 رقم الصفحة : 94
يقول الحق جلّ جلاله : {إِنَّ الذين يخشَون ربهم بالغيب} أي : يخافون عذابه غائباً عنهم ، أو : عن أعين الناس ، أو : بالقلب ؛ لأنّ القلب أمر غيبي ، أو : يخشون ربهم ولم يروه معاينة ، {لهم مغفرة} لذنوبهم {وأجر كبير} لا يقادر قدره ، الجنة وما فيها.
{وأسِرُّوا قولكم أو اجهروا به} ، ظاهره : الأمر بأحد الأمرين ؛ الإسرار والإجهار ومعناه : ليستوِ عندكم إسراركم وإجهاركم ، فإنه في عِلْم الله سواء. كقوله : {سَوَآءٌ مِنكُم مَّنْ أَسَرَ الْقَوْلَ وَمَن جَهَرَ بِهِ} [الرعد : 10] ، وكأنه تعالى لمّا قال : {يخشون ربهم بالغيب} ربما يتوهم أن الله تعالى يغيب عنه شيء ، رفع ذلك. وقيل : إنَّ المشركين كانوا ينالون من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيُخبره جبريلُ عليه السلام بما قالوا فيه ونالوا منه ، فقالوا فيما بينهم : أسِروا قولكم لئلا يسمع رب محمد فيخبره ، فنزلت. وتقديم السر على الجهر للإيذان بافتضاحهم ، ووقوع ما يحذرونه ، وللمبالغة في شمول علمه تعالى ، المحيط بجميع المعلومات ، كأنَّ عِلْمَه تعالى بما يُسرونه أقدم منه بما يجهرونه ، مع كونهما في الحقيقة على السواء ، ولأنَّ مرتبة السر أقدم وجوداً ؛ لأنّ ما يقع به الجهر يتقدّم التحدُّث به في النفس.
وقوله تعالى : {إِنه عليم بذات الصدور} تعليل لِما قبله ، أي : عليم بضمائر الصدور قبل أن تترجم الألسنة ، فكيف لا يعلم ما تتكلم به. وفي صيغة " فعيل " ، وتحلية " الصدور " بلام الاستغراق ، ووصف الضمائر بصاحبتها من الجزالة ما لا غاية وراءه ، كأنه قيل : إنه مبالغ في الإحاطة بمضمرات جميع الناس وأسرارهم الخفية ، المستكنة في صدروهم ، فكيف يخفى عليه ما يُبدونه ؟ ويجوز أن يراد بـ {ذات الصدور} : القلوب التي في الصدور ، أي : عليم بالقلوب وأحوالها ، فلا يخفى عليه من أسرارها ، {ألا يعلم من خلق} " مَنْ " فاعل بيعلم ، {وهو اللطيفُ الخبيرُ} أنكر أن يكون مَن خلق الأشياء وأوجدها غير عالم بباطنها وظاهرها ، وصفته أنه اللطيف ، أي : العالِم بدقائق الأشياء الخبير ؛ العالم بحقائقها. ويجوز أن يكون (مَن) مفعولاً ، أي : ألاَ يعلم اللهُ مَن خلقه.
وفيه على الأول دليل على خلق أفعال العباد ، وهو مذهب أهل السنة ، ووجه الدليل : أنه تعالى لمّا قرر أنه عالم بالسر والجهر ، وبكل ما في الصدور ، قال بعده : {ألا يعلم مَن خَلَقَ} ، وهذا الكلام إنما يتصل بما قبله إذا كان تعالى خالقاً لكل ما يفعلونه في السر والجهر ، وفي القلوب والصدور ، فأنه لو لم يكن خالقاً لها لم يكن قوله : {ألا يعلم مَن خلق} مقتضياً كونَه تعالى عالماً بتلك الأشياء ، وهو خالق الأشياء وأحوالها ، وعالم
96
بجميع ذلك ، ولذلك عقَّب ذلك بقوله : {وهو اللطيف الخبير}.(8/113)
جزء : 8 رقم الصفحة : 96
الإشارة : إنَّ الذين يخشون ربهم بالغيب ، فراقَبوه وعبدوه ، حتى عرفوه ، فصار الغيب عندهم شهادة. قال الورتجبي : وصف الله معرفة العارفين به ، قبل رؤيتهم مشاهدته ، فإذا عاينوه استفادوا من رؤيته علم المعاينة ، وهو المعرفة بالحقيقة ، خشوا منه في غيبة منه ، وهو خشية القلب ، فلما رأوه على الخشية الإجلال ، وهو علم الروح والسر. هـ.
وقوله تعالى : {وهو اللطيفُ الخبير} ، قال بعضهم : الحق تعالى منزّه عن الأين والجهة ، والكيف ، والمادة ، والصورة ، ومع ذلك لا يخلو منه أين ولا مكان ، ولا كم ، ولا كيف ، ولا جسم ، ولا جوهر ، ولا عرض ؛ لأنه للطفه سارٍ في كل شيء ، ولنوريته ظاهر في كل شيء ، ولإطلاقه وإحاطته متكيّف بكل كيف ، غير متقيد بذلك ، ومَن لم يذق هذا ، أو لم يشهده ، فهو أعمى البصيرة ، محروم عن مشاهدة الحق. هـ. وقال الغزالي : إنما يستحق هذا الاسم ـ يعني اللطيف ـ مَن يطلع على غوامض الأشياء ، وما دقّ منها وما لطف ، ثم سلك في إيصالها إلى المستصلح سبيل الرفق دون العُنف ، والخبير هو الذي لا يعزب عنه الأخبار الباطنة ، فلا يجري في المُلك والملكوت شيء ، ولا يتحرك ذرة ولا تسكن ، ولا تضطرب نفس ولا تطمئن ، إلاّ ويكون عنده خبرها. وهو بمعنى العلم ، لكن العلم إذا أُضيف إلى الخفايا الباطنة يسمى خِبرة ، ويسمى صاحبها خبيراً. هـ.(8/114)
جزء : 8 رقم الصفحة : 96
يقول الحق جلّ جلاله : {هو الذي جعل لكم الأرضَ ذلولا} ؛ مذلّلة ليّنة يسهل عليكم سلوكها. وتقديم (لكم) على مفعول الجعل ؛ للاهتمام والتشويق ، {فامشُوا في مناكبها} ؛ جوانبها ، وهو تمثيل لفرط التذلُّل ، فإنَّ منكب البعير أرقّ أعضائه وأصعبها على أن يطأها الراكب بقدميه ، فإذا جعل الأرض في الذل بحيث يتأتى المشي في مناكبها لم يبقَ منها شد لم يتذلّل ، {وكُلوا من رزقه} أي : والتمسوا من رزق الله في سلوكها ، أو إذا تعذّر العيس في أرضٍ فامشوا في مناكبها إلى أرض أخرى ، كما قال الشاعر :
يا نفس مالكِ تهوي الإقامةَ في
أرض تعيش بين من ناواكِ بها
أما سمعتِ وعجز المرء منقصَةٌ
في محكم الوحي : فامشوا في مناكبها
97
أو : كُلوا من رزق الله الخارج منها ، {وإِليه النُشورُ} أي : الرجوع بالبعث ، فتُسألون عن شكر هذه النعم.
ثم هدَّد مَن لم يشكر فقال : {أأمِنْتُم مَن في السماء} من ملكوته وأسرار ذاته ، وعبّر بها ؛ لأنها منزل قضاياه ، وتدبيراته ووحيه ، ومسكن ملائكته وأوامره ونواهيه ، فكل ما يظهر في الأرض إنما يقضي به في السماء ، وحينئذ يبرز ، فكأنه قال : أأمِنتم خالق السموات ؟ وقال اللجائي : كل شيء علا فهو سماء ، وسماء البيت : سقفه ، وليس المقصود في الآية سماء الدنيا ؛ ولا غيرها من السبع الطباق ، وإنما المعنى : أأمِنتم مَن في العلو ، وهو علو الجلال ، وليس كون الله في سماء الحوادث من صفات الكمال ، تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيراً. هـ. وسيأتي في الإشارة تحقيقة عند أهل التوحيد. أي : أأمِنتم مَن في السماء أسرار ذاته {أن يخسف بكم الأرضَ} كما خسف بقارون بعد ما جَعلها لكم ذلولاً تمشون في مناكبها ، وتأكلون من رزقه فيها ، بحيث كفرتم تلك النعمة ، فقلبها لكم {فإِذا هي تمورُ} ؛ تضطرب وتتحرّك.
{أم أَمِنْتُم مَن في السماء أن يُرسل عليكم حاصباً} ؛ حجارة من السماء كما أرسلها على قوم لوط وأصحاب الفيل ، أو : ريحاً فيها حجارة. و " أن " : بدل اشتمال في الموضعين. {فستعلمون} عن قريب {كيف نذيرٍ} أي : إنذاري عن مشاهدتكم للمنذَر به ، ولكن لا ينفعكم العلم حينئذٍ.
{(8/115)
جزء : 8 رقم الصفحة : 97
ولقد كذَّب الذين مِن قبلهم} ؛ من قبل كفار مكة ، من كفار الأمم السابقة ، كقوم نوح وعاد وأضرابهم ، والالتفات إلى الغيبة ؛ لإبراز كمال الإعراض عنهم ، {فكيف كان نكير} ؛ إنكاري عليهم ، بإنزال العذاب ، أي : كان على غاية الهول والفظاعة ، وهذا هو مورد التأكيد القسمي لا تكذيبهم فقط ، وفيه من المبالغة في تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم وتشديد التهويل ما لا يخفى. والله تعالى أعلم.
الإشارة : هو الذي جعل لكم أرض البشرية مذلّلة للعبودية ، والقيام بآداب الربوبية ، فامشوا في مناكبها ؛ فسيحوا بقلوبكم في جوانبها ، تفكُّراً واعتباراً لِما فيهم من عجائب الإتقان ، وبدائع الحِكم ، فقد جمعت أسرار الوجود بأسره ، وكُلوا من رزقه مما اكتسبه القلب بالنظر والتفكُّر ، من قوة الإيمان ، وهو قوت القلوب ، وشهود الحق فيها ، وهو قوت الأرواح والأسرار ، وإليه النُشور ببعث الأرواح من موت الغفلة والجهل ، إلى حياة اليقظة والمعرفة ، أأمِنتم مَن في السماء أن يخسف بكم الأرض ، أي : إذا أسأتم معه الأدب. واعلم أن ذات الحق ـ جلّ جلاله ـ عمّت الوجود ، فليست محصورة في مكان ولا زمان ، {فأينما تُولوا فَثَمّ وجه الله} ، فأسرار ذاته ـ تعالى ـ سارية في كل شيء ، قائمة بكل شيء ، كما تقدّم ، فهو موجود في كل شيء ، لا يخلو منه شيء ، أسرار المعاني قائمة
98
بالأواني ، وإنما خصّ الحق ـ تعالى ـ السماء بالذكر ؛ لأنها مرتفعة معظّمة ، فناسب ذكر العظيم فيها ، وعلى هذا تُحمل الأحاديث والآيات الواردة على هذا المنوال. وليس هنا حلول ولا اتحاد ؛ إذ ليس في الوجود إلاّ تجليات الحق ومظاهر ذاته وصفاته ، كان الله ولا شيء معه ، وهو الآن على ما كان عليه ، فما مثال الكون إلا كجبريل حين يتطوّر على صورة دحية ، غير أنَّ رداء الكبرياء منشور على وجه ذاته وأسرار معانيه ، وهو ما ظهر من حسن الكائنات ، وما تلوّنت به الخمرة من أوصاف العبوية. ولا يفهم هذا إلاَّ أهل الذوق السليم. وبالله التوفيق.(8/116)
جزء : 8 رقم الصفحة : 97
يقول الحق جلّ جلاله : {أَوَلَمْ يَرَوُا} أي : أَغَفلُوا ولم ينظروا {إِلى الطيرِ} ؛ جمع طائر {فوقهم} في الهواء {صافاتٍ} ؛ باسطاتٍ أجنحتها في الجو عند طيرانها {ويقبِضْنَ} ؛ ويضممنها إذا ضربن بها حيناً فحيناً ، للاستظهار به على التحرُّك ، وهو السر في إيثار (ويقبضن) الدال على تجدُّد القبض تارة بعد تارة على " قابضات " ، فـ " يقبضن " : معطوف على اسم الفاعل حملاً على المعنى ، أي : يصففن ويقبضن ، أو : صافات وقابضات. والطيران في الهواء كالسباحة في الماء ، والهواء للطائر كالماء للسابح ، والأصل في السباحة : مدّ الأطراف وبسطها ، وأمّا القبض فطارىء على البسط للاستظهار به على التحرُّك. {ما يُمسِكُهُنَّ} في الجو عند البسط والقبض على خلاف مقتضى الطبع {إلاَّ الرحمنُ} الواسع رحمته كل شيء ، ومن جملتها : إمساكه الطير في الهواء بقدرته ، وإلا فالثقيل يسفل طبعاً ولا يطفو ، وكذلك لو أمسك حِفظَه وتدبيره للعالم لتهافت وتلاشى. {إِنه بكل شيءٍ بصيرٌ} يعلم كيفية إبداع المبدعات ، وتدبير المصنوعات ، ومن مبدعاته : أنَّ الطير على أشكال وخصائص هيّأهن للجري في الهواء.
{أمَّنْ هذا الذي هو جندٌ لكم ينصركم من دون الرحمن} ، هو تبكيت لهم ينفي أن يكون لهم ناصر من عذابه غير الله ، أي : لا ناصر لكم إلاّ الرحمن برحمته. " أم " منقطعة مقدرة ببل ؛ للانتقال من توبيخهم على ترك التأمُّل فيما يشاهدونه من أحوال الطير المنبئة عن تعاجيب قدرة الله تعالى إلى التبكيت بما ذكر من نفي نصرة غيره تعالى ، والالتفات
99
للتشديد في ذلك ، و(من) : مبتدأ و(هذا) : خبره ، و(الذي) وما بعده : صفتهن وإيثار " هذا " تحقيراً له ، و(ينصركم) : صفة لجُند ، باعتبار لفظه ، و(من دون) : إما حال من فاعل " ينصركم " أو لمصدر محذوف ، أي : نصراً حاصلاً من دون الرحمن ، أو : متعلق بينصركم ، كقوله : {مَن يَنصُرُنِى مِنَ اللهِ} [هود : 30] ، والمعنى : بل مَن هذا الحقير الذي هو في زعمكم جند لكم ينصركم نصراً كائناً من دون نصرة الرحمن ؟ ! {إِنِ الكافرون إلاّ في غرورٍ} أي : ما هم في زعمهم أنهم محفوظون من النوائب بحفظ آلهتهم ، لا بحفظه تعالى فقط ، إلاّ في غرور عظيم ، وضلال فاحش من الشيطان. والالتفات إلى الغيبة ؛ للإيذان بافتضاح حالهم ، والإعراض عنهم ، وإظهار قبائحهم ، والإظهار في موضع الإضمار لذمّهم بالكفر ، وتعليل غرورهم به.
{(8/117)
جزء : 8 رقم الصفحة : 99
أمّنْ هذا الذي يرزقكم إِنْ أمسك} اللهُ عزّ وجل {رزقَه} بإمساك المطر وسائر مبادئه ، أي : مَن هذا الحقير الذي يقدر على إتيان رزقكم من آلهتكم إن أمسكه الله ؟ {بل لَجُّوا في عَتُوٍّ ونفورٍ} ، إضراب عن مُقدّر يستدعيه المقام ، كأنه قيل بعد تمام التبكيت والتعجيز : لم يتأثروا بشيء من ذلك ، ولم يذعنوا للحق ، {بل لجُّوا} أي : تمادوا {في عتوٍّ} أي : استكبار وطغيان {ونفورٍ} ؛ وشُرود عن الحق لِثقله عليهم. ثم ضرب مثلاً للمشرِك والموحِّد ، فقال : {أفمن يمشي مُكبًّا على وجهه} أي : ساقطاً على وجهه {أهْدى} ، والفاء لترتيب ذلك على ما ظهر من سواء حالهم ، وسقوطهم في مهاوي الغرور ، وركوبهم متن عشواء العتو والنفور. والمُكب : الساقط على وجهه ، والمعنى : أفمن يمشي وهو يعثر في كل ساعة ، ويخرّ على وجهه في كل خطوة أهدى إلى المقصود {أَمَّنْ يمشي سَوِياً} أي : قائماً سالماً من الخبط والعِثار {على صراط مستقيم} مستوي الأجزاء لا عوج فيه ، ولا انحراف ؟ و " من " الثانية : معطوفة على الأُلى عطف المفرد. وقيل : المراد بالمكب : الأعمى ، وبالسوي : البصير. وقيل : مَن يمشي مُكباً هو الذي يُحشر على وجهه إلى النار ، ومَن يمشي سويًّا : الذي يُحشر على قدميه إلى الجنة.
{قل هو الذي أنشأكم} إنشاءً بديعاً ، {وجعل لكم السمعَ} لتسمعوا آيات الله ، وتمتثلوا ما فيها من الأوامر والنواهي ، وتتعظوا بمواعظها ، {والأبصارَ} لتنظروا بها إلى الآيات التكوينية الشاهدة بشؤون الله تعالى ، {والأفئدةَ} لتتفكروا بها فيما تسمعونه وتشاهدونه من الآيات التنزيلية والتكوينية ؛ لتترقوا في معاريج الإيمان والمعرفة ، {قليلاً ما تشكرون} باستعمالها فيما خُلقت له. و " قليلاً " : إما نعت لمحذوف ، أو : ظرف ، و(ما) : صلة لمحذوف ، أي : شكراً قليلاً ، أو : زمناً قليلاً. وقيل : القلة عبارة عن العدم. {قل هو الذي ذرأكم في الأرض} أي : خلقكم وكثَّركم فيها {وإِليه تُحشرون} للجزاء لا إلى غيره ، فتهيؤوا للقائه.
الإشارة : أَوَلَم يَرَوا إلى طيور أفكار العارفين فوقهم منزلةً ورفعة ، صافاتٍ ، تجول
100
في ميادين الغيوب ، ويقبضن عنانهن ، عكوفاً في الحضرة ، وسكوناً في النظرة ، ما يُمسِكُهن فيها إلاَّ الرحمن الذي مَنَّ عليهم برحمته ، فأسكنهم فيها ، إنه بكل شيء بصير ، فيُبصر مَن توجه إليه ومَن لا ، أمَّنْ هذا الذي هو جند لكم ينصركم على طريق السلوك ، ويُبلغكم إلى حضرة مالك المَلوك ، من دون الرحمن ؟ إنِ الكافرون بهذا إلاّ في غرور ، حيث حسبوا أنَّ وصولهم بحسب جهادهم وطاعتهم ، أمَّن هذا الذي يرزقكم إمداد قلوبكم من العلوم والمعارف واليقين الكبير ، إن أمسك رزقه فلم يتوجه إليكم إلاَّ القليل ، بل لجُّوا في عُتو ونفور ، أفمن يمشي مُكبًّا على وجهه ، حيث رام سلوك الطريق بلا شيخ ولا دليل عارف ، أهدى أمَّنْ يمشي سويًّا سالماً من الانحراف ، على صراط مستقيم ، تُوصله إلى حضرة العيان ، وهو مَن سلك الطريق على يد الخبير ، بل مَن سلكه على يد الخبير أهدى وأصوب ، قل هو الذي أنشأكم وجعل لكم دلائل السلوك إلى معرفته ، لتستدلوا عليه بالأدلة السمعية والعقلية ، ثم تَتَرَقون إلى صريح معرفته ، بسلوك الطريق على يد الخبير ، قل هو الذي ذرأكم في أرض العبودية ، وإليه تُحشرون بشهود عظمة الربوبية.(8/118)
جزء : 8 رقم الصفحة : 99
يقول الحق جلّ جلاله : {ويقولون} مِن فرط عتوهم وعنادهم استهزاءً : {متى هذا الوعدُ} أي : الحشر الموعود {إن كنتم صادقين} فيما تعدونه من مجيء الساعة ؟ والخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين المشاركين له عليه السلام في الوعد ، وتلاوة الآيات المتضمنة له ، وجواب الشرط : محذوف ، أي : إن صدقتم فيه فبيَّنوا وقته ؟ {قل إِنما العلمُ} أي : العلم بوقته {عند الله} تعالى ، لا يطلع عليه غيره {وإِنما أنا نذير مبينٌ} أُنذركم وقوع الموعود لا محالة ، وأمّا العلم بوقت وقوعه فليس من وظائف الإنذار.
{فلما رَأَوه} أي : العذاب الموعود. والفاء فصيحة مُعربة عن تقدير جملة ، كأنه قيل : قد أتاهم الموعود فلما رأوه... الخ ، نزّل ما سيقع بمنزلة الواقع لتحقق وقوعه ، و {زُلفةً} : حال من مفعول " رَأَوه " أي : قريباً منهم ، وهو مصدر ، أي : ذا زلفة ، {سِيئَتْ} أي : تغيرت {وجوهُ الذين كفروا} بأن غشيها الكآبة ورهقها القَترُ والذلة. ووضع الموصول موضع ضميرهم ؛ لذمهم بالكفر ، وتعليل المساءة به. {وقيل} توبيخاً لهم ، وتشديداً لعذابهم : {هذا الذي كنتم به تَدَّعون} ؛ تطلبونه في الدنيا وتستعجلونه
101
إنكاراً واستهزاءً ، وهو " تفتعلون " من الدعاء ، وقيل : من الدعوى ، أي : تدعون ألاَّ بعث ولا حشر. ورُوي عن مجاهد : أنَّ الموعود يوم بدر ، وهو بعيد.
{قل أرأيتم} أي : أخبروني {إِن أهلكنيَ اللهُ} أي : أماتني. والتعبير عنه بالهلاك لِما كانوا يدعون عليه صلى الله عليه وسلم وعلى المؤمنين بالهلاك ، {ومَن معيَ} مِن المؤمنين {أو رَحِمَنا} باخير آجالنا ، فنحن في جوار رحمته متربصون إحدى الحسنيين {فمَن يُجير الكافرين من عذاب أليم} أي : لا يُنجيكم منه أحد ، متنا أو بَقينا. ووضع " الكافرين " موضع ضميرهم ؛ للتسجيل عليهم بالكفر ، وتعليل نفي الإنجاء به ، أي : لا بد من لحوق العذاب لكفركم ، مُتنا أو بقينا ، فلا فائدة في دعائكم علينا.
{(8/119)
جزء : 8 رقم الصفحة : 101
قل هو} أي : الذي أدعوكم إليه {الرحمن} مولى النعم كلها ، {آمَنَّا به} وحده ؛ لعِلْمنا ألاَّ راحم سواه ، {وعليه توكلنا} وحده ؛ لعِلْمنا أنَّ ما عداه كائناً ما كان بمعزل عن النفع والضر. {فستعلمون} عن قريب {مَن هو في ضلالٍ مبينٍ} منا ومنكم ، {قل أرأيتم} ؛ أخبروني {إِن أصبحَ ماؤُكم غوراً} ؛ غائراً في الأرض بالكلية ، أو : لا تناله الدلاء {فمَن يأتيكم بماءٍ معين} ؛ جارٍ أو ظاهر سهل المأخذ ، يصل إليه مَن وصله ؟ . وفي القاموس : ماء معيون ومعين : ظاهر. هـ. وقال مكي : ويجوز أن يكون معين " فعيل " من مَعَن الماء : كثر ، ويجوز أن يكون مفعولاً من العَين ، وأصله : معيون ، ثم أعل ، أي : فمَن يأتيكم بماء يُرى بالعين. هـ. مختصراً.
وقرئت الآية عند مُلحدٍ ، فقال : يأتي بالمعول والفؤوس ، فذهبت عيناه تلك الليلة وَعمِيَ ، وقيل : إنه محمد بن زكريا المتطبب ، أعاذنا الله من سوء الأدب مع كتابه. قال ابن عرفة : ذكر ابن عطية في فضل السورة أربعة أحاديث ، وقد تقرّر أنَّ أحاديث الفضائل لم تصح إلاَّ أحاديث قليلة ، ليس هذا منها. هـ. وفي الموطأ : إنها تُجادل عن صاحبها.
الإشارة : ويقولون ـ أي : أهل الإنكار على المريدين ـ : متى هذا الوعد بالفتح إن كنتم صادقين في الوعد بالفتح على أهل التوجه ؟ قل أيها العارف الداعي إلى الله : إنما العلمُ عند الله ، وإنما أنا نذير مبين ، أُنذر البقاء في غم الحجاب وسوء الحساب ، فلما رأوه ـ أي رأوا أثر الفتح على المتوجهين ، بظهور سيما العارفين على وجوههم ، ونبع الحِكَم من قلوبهم على ألسنتهم ـ زلفةً ، أي : قريباً ، سيئت وجوه الذين كفروا بطريق الخصوص ، وأنكروها ـ أي ساءهم ذلك حسداً أو ندماً ، وقيل هذا الذي كنتم به تَدَّعون ، أي : تدَّعون أنه لا يكون ، وأنه قد انقضى زمانه ، وأهل الإنكار لا محالة يتمنون هلاكَ أهل النِسبة ، فيُقال لهم : أرأيتم إن أهلكنا الله بالموت ، أو رَحِمَنا بالحياة ، فمَن يُجيركم أنتم من
102
عذاب القطيعة والبُعد ، أي : هو لا حق لكم لا محالة ، متنا أو عشنا ، قل هو ، أي : الذي توجهنا إليه ، الرحمن وضمّنا إليه ، آمنّا به وعليه توكلنا في كفاية شروركم ، فستعلمون حين يُرفع المقربون في أعلى عليين ، ويسقط أهل الحجاب في الحضيض الأسفل من الجنة ، مَن هو اليوم في ضلال مبين ، قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم ـ ماء حياة قلوبكم من الإيمان والتوحيد ، غَوْراً ، فمَن يأتيكم بماء معين ؟ أي : فمَن يُظهره لكم ، ما يأتي به إلاَّ أهل العلم بالله.(8/120)