البحر المديد ، ج 4 ، ص : 419
إِلَّا قَلِيلًا إلا إتيانا قليلا ، أو يحضرون ساعة رياء ، ويقفون قليلا ، مقدار ما يرى شهودهم ثم ينصرفون.
أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ جمع شحيح ، وهو البخيل ، نصب على الحال من ضمير يَأْتُونَ أي : لا يأتون الحرب بخلا عليكم بالمعاونة أو بالنفقة فى سبيل اللّه ، أو : فى الظفر والغنيمة ، أي : عند الظفر وقسم الغنيمة. فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ من قبل العدو ، أو : منه صلى اللّه عليه وسلم ، رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ فى تلك الحالة ، تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ يمينا وشمالا كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ كما ينظر المغشى عليه من معالجة سكرات الموت حذرا وخوفا ولواذا بك.
فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ أي : زال ذلك الخوف وأمنوا ، وحيزت الغنائم سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ خاطبوكم مخاطبة شديدة ، وآذوكم بالكلام ، يقال : خطيب سلق : فصيح ، ورجل مسلق وسلّاق : مبالغ فى الكلام. يعنى : بسطوا ألسنتهم فيكم ، وقت قسم الغنيمة ، ويقولون : أعطنا ، أعطنا فإنا قد شهدنا معكم ، وبمكاننا غلبتم عدوكم. أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أي : خاطبوكم أشحة على المال والغنيمة. فهو حال من فاعل سلقوكم ، فهم أشح القوم عند القسم ، وأجبنهم عند الحرب ، أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فى الحقيقة ، بل بالألسنة فقط ، فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ أبطلها ، بإضمار الكفر مع ما أظهروا من الأعمال الخبيثة ، وَكانَ ذلِكَ الإحباط عَلَى اللَّهِ يَسِيراً هينا.
الإشارة : هذه صفة منافقى الصوفية ، يدخلون معهم على تذبذب ، فإذا رأوا قوما توجهوا لخرق عوائدهم وتخريب ظواهرهم ، أو : أرادوا الخروج عن دنياهم عوّقوهم عن ذلك ، وثبطوهم ، وكذلك إذا توجهوا فى سفر لشقة بعيدة عوقوهم ليستتروا بهم ، وقالوا لإخوانهم فى الطريق : هلم إلينا ، ولا يأتون مكان حرب أنفسهم إلا قليلا. أشحة بأنفسهم عليكم ، فإذا جاء الخوف ، وتجلى لهم الحق تعالى باسمه الجليل بأن نزلت بالفقراء محنة ، رأيتهم ينظرون إليك ، تدور أعينهم ، نظر المغشى عليه من الموت ، فإذا ذهب الخوف ، وجاء النصر والعز سلقوكم بألسنة حداد ، وقالوا : إنا كنا معكم ، أولئك لا نصيب لهم مما للقوم من الخصوصية. واللّه تعالى أعلم.
ثم تمم وصفهم ، فقال :
[سورة الأحزاب (33) : آية 20]
يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ ما قاتَلُوا إِلاَّ قَلِيلاً (20)(4/419)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 420
يقول الحق جل جلاله : يَحْسَبُونَ أي : هؤلاء المنافقون الْأَحْزابَ ، يعنى : قريشا وغطفان ، الذين تحزبوا على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، أي : اجتمعوا ، أنهم لَمْ يَذْهَبُوا ولم ينصرفوا لشدة جبنهم ، مع أنهم انصرفوا. وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ كرة ثانية يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ ، والبادون : جمع باد ، أي : يتمنى المنافقون - لجبنهم - أنهم خارجون من المدينة إلى البادية ، حاصلون بين الأعراب ليأمنوا على أنفسهم ، ويعتزلوا مما فيه الخوف من الحرب ، يَسْئَلُونَ كل قادم منهم من جانب المدينة. وقرئ يساءلون «1» ، بالشد. أي : يتساءلون ، بعضهم بعضا عَنْ أَنْبائِكُمْ عن أخباركم وعما جرى عليكم ، وَلَوْ كانُوا أي :
هؤلاء المنافقون فِيكُمْ أي : حاضرون فى عسكركم ، وحضر قتال ، ما قاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا رياء وسمعة ، ولو كان اللّه لكان كثيرا إذ لا يقل عمل للّه.
الإشارة : الجبان يخاف والناس آمنون ، والشجاع يأمن والناس خائفون ، ولا ينال من طريق القوم شيئا جبان ولا مستحى ولا متكبر. فمن أوصاف الضعفاء : أنهم ، إذا نزلت بالقوم شدة أو محنة - كما امتحن الجنيد وأصحابه - يتمنون أنهم خارجون عنهم ، وربما خرجوا بالفعل ، وإن ذهبت شوكتهم يحسبون أنهم لم يذهبوا لشدة جزعهم.
ومن أوصافهم : أنهم يكثر سؤالهم عن أخبار القوم ، والبحث عما جرى بهم خوفا وجزعا ولو مضوا معهم لم يغنوا شيئا. واللّه تعالى أعلم.
ثم ذكر ضدهم من أهل القوة ، فقال :
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 21 الى 24]
لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً (21) وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَما زادَهُمْ إِلاَّ إِيماناً وَتَسْلِيماً (22) مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (23) لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (24)
___________
(1) وهى قراءة رويس ، ورويت عن زيد بن على ، وقتادة ، وغيرهما. انظر الإتحاف (2/ 373).(4/420)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 421
يقول الحق جل جلاله : لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ محمد صلى اللّه عليه وسلم أُسْوَةٌ «1» حَسَنَةٌ خصلة حسنة ، من حقها أن يؤتسى بها كالثبات فى الحرب ، ومقاساة الشدائد ، ومباشرة القتال. أو : فى نفسه قدوة يحسن التأسى به. كما تقول : فى البيضة عشرون رطلا من حديد ، أي : هى فى نفسها عشرون. وفيه لغتان : الضم والكسر ، كالعدوة والعدوة ، والرشوة والرشوة. وهى لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ أي : يخاف اللّه ويخاف اليوم الآخر ، أو : لأجل ثواب اللّه ونعيم اليوم الآخر. و«لمن» : قيل : بدل من ضمير «لكم» ، وفيه ضعف إذ لا يبدل من ضمير المخاطب إلا ما دل على الإحاطة. وقيل : يتعلق بحسنة ، أي : أسوة حسنة كائنة لمن آمن ، وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً أي : فى الخوف والرجاء ، والشدة والرخاء ، فإن المؤتسى بالرسول يكون كذلك.
وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قد أقبلوا عليهم ليستأصلوهم ، وقد وعدهم اللّه أن يسلط عليهم المحن ، ويزلزلوا حتى يستغيثوا ويستنصروا بقوله : أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ .. إلى قوله : نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ «2» ، فلما جاء الأحزاب واضطربوا قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ، وعلموا أن الجنة والنصرة قد وجبت لهم. وعن ابن عباس رضي اللّه عنه أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال لأصحابه : «إنّ الأحزاب سائرون إليكم فى آخر تسع ليال ، أو عشر» ، فلما رأوهم قد أقبلوا للميعاد ، قالوا ذلك «3». وهذا : إشارة إلى الخطب والبلاء ، أي : هذا الخطب الذي وعدنا اللّه ورسوله ، وصدق اللّه ورسوله ، وَما زادَهُمْ ، ما رأوا من اجتماع الأحزاب ومجيئهم ، إِلَّا إِيماناً باللّه وبمواعيده ، وَتَسْلِيماً لقضائه وأقداره.
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُواما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ
أي : صدقوا فيما عاهدوه ، فحذف الجار ، وأوصل المفعول إلى «ما» وذلك أن رجالا من الصحابة نذروا أنهم إذا لقوا حربا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ثبتوا ، وقاتلوا حتى يستشهدوا ، وهم : عثمان بن عفان ، وطلحة ، وسعيد بن زيد ، وحمزة ، ومصعب ، وأنس بن النضر ، وغيرهم. فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ نذره بأن قاتل حتى استشهد كحمزة ، ومصعب ، وأنس بن النضر. والنّحب : النذر ، واستعير للموت لأن كل حى من المحدثات لا بد له أن يموت ، فكأنه نذر لازم فى رقبته ، فإذا مات فقد قضى نحبه ، أي :
نذره. وقال فى الصحاح : النحب : النذر ، ثم قال : والنّحب : المدة والوقت. يقال : قضى فلان نحبه إذا مات. ه. فهو
___________
(1) قرأ عاصم (أسوة) بضم الهمزة ، حيث كان ، وهى لغة قيس وتميم ، وقرأ الباقون بكسرها حيث وقعت. وهى لغة الحجاز.
انظر الإتحاف (2/ 373).
(2) الآية 214 من سورة البقرة.
(3) قال الحافظ ابن حجر ، فى الكافي الشاف (ص 133 ، رقم 208) : لم أجده. [.....](4/421)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 422
لفظ مشترك بين النذر والموت. وصحح ابن عطية أن النحب الذي فى الآية ليس من شرطه الموت. بل معناه :
قضى نذره الذي عاهد اللّه عليه من نصرة الدين ، سواء قتل أو بقي حيّا. بدليل قوله - عليه الصلاة والسلام - فى طلحة : «هذا ممن قضى نحبه» «1» ه.
وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ أي : الموت على الشهادة كعثمان وطلحة ، وَما بَدَّلُوا العهد تَبْدِيلًا ولا غيّروه ، لا المستشهد ، ولا من ينتظر الشهادة. وفيه تعريض بمن بدّل من أهل النفاق ، كقوله تعالى فيما مر : وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ ... «2». لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ بوفائهم بالعهد ، وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ إذا لم يتوبوا ، أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إن تابوا إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً بقبول التوبة ، رَحِيماً بعفو الحوبة.
الإشارة : قد تقدم ما يتعلق بالاقتداء بالرسول - عليه الصلاة والسلام - والاهتداء بهديه ، وأنه منهاج الأكابر.
وقوله تعالى : وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ ... الآية. كذلك الأقوياء من هذه الطائفة ، إذا رأوا ما يهولهم ويروعهم زادهم ذلك إيمانا وتسليما ، ويقينا وطمأنينة ، وتحققوا بصحة الطريق إذ هو منهاج السائرين والأولياء الصادقين ، وسنة الأنبياء والمرسلين. قال تعالى : أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ «3» الآية. وتقدم فى إشاراتها ما يتعلق بهذا المعنى.
قال بعضهم : نحن كالنجوم ، كلما اشتدت الظلمة قوّى نورنا. وقال القشيري : كما أن المنافقين اضطربت عقائدهم عند رؤية الأعداء ، فالمؤمنون وأهل اليقين زادوا ثقة ، وعلى الأعداء جرأة ، ولحكم اللّه استسلاما ، وفى اللّه قوة. ثم قال : قوله تعالى : مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا .... الآية ، شكر صنيعهم فى المراس ، ومدح يقينهم عند شهود الناس ، وسماهم رجالا إثباتا لهم بالخصوصية فى الرتبة ، وتمييزا لهم من بين أشكالهم بعلوّ الحالة ، فمنهم من خرج من دنياه على صدقه ، ومنهم من ينتظر حكم اللّه فى الحياة والممات ، وحقيقة الصدق : حفظ العهد وترك مجاوزة الحدّ. ويقال : استواء السّرّ والجهر. ويقال : هو الثبات عند ما يكون الأمر جدّا.
___________
(1) أخرجه الترمذي فى (المناقب ، مناقب طلحة بن عبيد اللّه 5/ 602 ، ح 3740) وابن ماجة فى (المقدمة : باب فى فضائل أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم 1/ 46 ، ح 126). من حديث معاوية رضي اللّه عنه.
(2) الآية 15 من سورة الأحزاب.
(3) الآية الثانية من سورة العنكبوت.(4/422)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 423
قوله تعالى : .. لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ .. فى الدنيا بالتمكين ، والنصرة على العدو ، وإعلاء الرتبة ، وفى الآخرة بجزيل الثواب ، وجميل المآب ، والخلود فى النعيم المقيم ، والتقدم على الأشكال بالتكريم والتعظيم. وقوله : وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ يقال : إذا لم يجزم بعقوبة المنافق ، وتعلّق القول فيه على الرجاء ، فبالحرىّ ألا يخيّب المؤمن فى رجائه. انتهى كلام القشيري.
ثم ذكر رجوع الأحزاب ، فقال :
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 25 الى 27]
وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ وَكانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزاً (25) وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً (26) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً (27)
يقول الحق جل جلاله : وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا أي : الأحزاب بِغَيْظِهِمْ ملتبسين بغيظهم ، فهو حال كقوله : تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ «1» أي : ردهم غائظين لَمْ يَنالُوا خَيْراً ظفرا ، أي : لم يظفروا بالمسلمين. وسمّاه «خيرا» بزعمهم ، وهو أيضا حال ، أي : غير ظافرين ، وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ بالريح ، والملائكة ، وَكانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزاً قادرا غالبا ، فقهرهم بقدرته وغلبهم بقهريته. وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ : عاونوا الأحزاب وجاءوا بهم مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ ، يعنى بنى قريظة ، أنزلهم مِنْ صَياصِيهِمْ من حصونهم. والصيصة :
ما يتحصن به قال الهروي : وكل ما يتحصن به فهو صيصة ، ويقال لقرون البقر والظبى : صياصى لأنها تتحصن بها ، وفى وصف أصحاب الدجال : «شواربهم كالصياصى» ، لطولها ، وفتلها ، فصارت كالقرون. ه.
روى أن جبريل عليه السّلام أتى النبي صلى اللّه عليه وسلم صبيحة الليلة التي انهزم فيها الأحزاب ، ورجع المسلمون إلى المدينة - على فرسه الحيزوم ، والغبار على وجه الفرس والسّرج ، فقال : ما هذا يا جبريل؟ فقال : من متابعة قريش. ثم قال : إن اللّه يأمرك بالمسير إلى بنى قريظة ، وأنا عائد إليهم ، فإن اللّه داقّهم دقّ البيض على الصّفا ، وهم لكم طعمة.
___________
(1) من الآية 20 من سورة المؤمنون.(4/423)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 424
وفى رواية : لمّا رجع - عليه الصلاة والسلام - ودخل مغتسله ، جاءه جبريل بعمامة من إستبرق ، على بغلة ، عليها قطيفة من ديباج ، فقال : قد وضعت السّلاح ، واللّه ما وضعت الملائكة السلاح ، وما رجعت إلا من طلب القوم ، وإن اللّه يأمرك بالمسير إلى بنى قريظة. فأذّن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فى الناس : أنّ من كان سامعا مطيعا فلا يصلّين العصر إلا فى بنى قريظة. فخرج إليهم ، فحاصرهم خمسا وعشرين ليلة. فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : تنزلون على حكمى؟ فأبوا ، فقال : تنزلون على حكم سعد بن معاذ؟ فرضوا به. فقال سعد : نحكم فيهم : أن تقتل مقاتلتهم ، وتسبى ذراريهم ونساؤهم. فكبّر النبىّ صلى اللّه عليه وسلم وقال : «لقد حكم فيهم بحكم اللّه من فوق سبع أرقعة» «1».
ثم استنزلهم ، وخندق فى سوق المدينة خندقا ، وقدّمهم ، فضرب أعناقهم. وهم من ثمانمائة إلى تسعمائة.
وقيل : كانوا ستمائة مقاتل ، وسبعمائة أسير ، فقتل المقاتلة ، وقسم الأسارى ، وهم الذراري والنساء. وكان علىّ والزبير - رضى اللّه عنهما - يضربان أعناق بنى قريظة. والنبي صلى اللّه عليه وسلم جالس هناك. والقصة مطولة فى كتب السير «2».
وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ الخوف. وفيه السكون والضم ، فَرِيقاً تَقْتُلُونَ ، وهم الرجال وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً وهم النساء والذراري. قالت عائشة رضى اللّه عنهما : لم يقتل صلى اللّه عليه وسلم من نساء بنى قريظة امرأة إلا واحدة ، قتلها بخلاد بن سويد ، كانت شدخت رأسه بحجر من فوق الحصن «3».
وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ كالمواشى والنقود والأمتعة. روى أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم جعل عقارهم للمهاجرين دون الأنصار ، وقال لهم : «إنكم فى منازلكم». وَأورثكم أَرْضاً لَمْ تَطَؤُها بعد ، قيل : خيبر ، ولم يكونوا نالوها ، أو : مكة ، أو : فارس والروم ، أو : كل أرض لم تفتح إلى يوم القيامة ، فمكّنهم اللّه من ذلك كله ، وفتح عليهم مشارق الأرض ومغاربها. وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً ، فيقدر على جميع ذلك.
الإشارة : هذه عادة اللّه مع خواصه ، أن يخوفهم ثم يؤمنهم ، ويذلهم ثم يعزهم ، ويفقرهم ثم يغنيهم ، ويجعل دائرة السوء على من ناوأهم ، ويكفيهم أمرهم من غير محاربة ولا قتال ، وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ ... الآية. ثم يكون لهم التصرف فى الوجود بأسره ، أمرهم بأمر اللّه ، وحكمهم بحكمه ، واللّه غالب على أمره.
___________
(1) أخرجه الطبري فى التفسير (21/ 153). وأخرجه البخاري ومسلم بلفظ : «لقد حكمت فيهم بحكم الملك» ، انظر صحيح البخاري (المغازي ، باب مرجع النبي صلى اللّه عليه وسلم من الأحزاب. ح 41117 ، 4119) ومسلم (الجهاد ، باب جواز قتال من نقض العهد ، 3/ 1388 - 1389 ، ح 64 - 65 - 66).
وقوله صلى اللّه عليه وسلم : «أرقعة» يعنى سبع سموات. وكل سماء يقال لها : (رقيع). انظر النهاية (رقع). ولسان العرب (3/ 1705).
(2) راجع السيرة لابن هشام (3/ 333 - 343).
(3) أخرجه الطبري (21/ 153 - 154).(4/424)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 425
ولمّا نصر اللّه رسوله ، وفرّق عنه الأحزاب ، وفتح عليه قريظة والنضير ، ظن أزواجه أنه اختص بنفائس أموال اليهود وذخائرهم ، فقعدن حوله : وقلن : يا رسول اللّه بنات كسرى وقيصر فى الحلي والحلل والإماء والخول «1» ونحن على ما تراه من الفاقة والضيق ، وآلمن قلبه - عليه الصلاة والسلام - لمطالبتهن له بتوسعة الحال ، وأن يعاملهن به بما يعامل به الملوك والأكابر أزواجهم ، فأنزل اللّه تعالى :
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 28 الى 29]
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلاً (28) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً (29)
يقول الحق جل جلاله : يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ ، وكن تسعا خمسا من قريش : عائشة بنت الصدّيق ، وحفصة بنت الفاروق ، وأم حبيبة بنت سفيان ، وسودة بنت زمعة ، وأم سلمة بنت أبى أمية ، وصفية بنت حيى الخيبرية ، من بنى إسرائيل ، من ذرية هارون عليه السّلام ، وميمونة بنت الحارث الهلالية ، وزينب بنت جحش الأسدية ، وجويرية بنت الحارث المصطلقيّة. أي : فقل لهن إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها أي : التوسعة فى الدنيا وكثرة الأموال والحلل ، فَتَعالَيْنَ أي : أقبلن بإرادتكن واختياركن. وأصل «تعال» أن يقوله من فى المكان المرتفع لمن فى المكان الأدنى ، ثم كثر استعماله فى كل أمر مطلوب. أُمَتِّعْكُنَّ أي : أعطكن متعة الطلاق. وتستحب المتعة لكل مطلقة إلا المفوّضة قبل الوطء مع أخواتها ، كما فى كتب الفقه. وَأُسَرِّحْكُنَّ أطلقكن سَراحاً جَمِيلًا لا ضرر فيه.
وقيل : سبب نزولها : أنهن سألنه زيادة النفقة ، وقيل : آذينه بغيرة بعضهن من بعض ، فاغتم - عليه الصلاة والسلام - لذلك. وقيل : هجرهن شهرا ، فنزلت. وهى آية التخيير. فبدأ بعائشة - رضى اللّه عنها - وكانت أحبهن إليه ، فخيّرها ، وقرأ عليها القرآن ، فاختارت اللّه ورسوله والدار الآخرة ، فرؤى الفرح فى وجهه صلى اللّه عليه وسلم ، ثم اختارت جميعهنّ اختيارها. وروى أنه قال لعائشة : «إنّى ذاكر لك أمرا ، ولا عليك ألا تعجلى فيه حتّى تستأمرى أبويك» ، ثمّ قرأ عليها الآية ، فقالت : أفي هذا استأمر أبوىّ؟ فإنّى أريد اللّه ورسوله والدّار الآخرة «2».
___________
(1) خول الرّجل : حشمه وأتباعه ، واحدهم : خائل ، وقد يكون واحدا. وهو مأخوذ من التخويل ، أي : التمليك ، وقيل : من الرعاية. انظر النهاية (2/ 88) واللسان (خول 2/ 1293).
(2) أخرجه البخاري فى (التفسير ، سورة الأحزاب ، ح 4785) ومسلم فى (الطلاق ، باب بيان أن تخيير امرأته لا يكون طلاقا إلا بالنية 2/ 1103 ، ح 1475) من حديث سيدنا جابر بن عبد اللّه رضي اللّه عنه.(4/425)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 426
وحكم التخيير فى الطلاق : أنه إذا قال لها : اختاري ، فقالت : اخترت نفسى ، أن تقع تطليقة واحدة بائنة ، وإذا اختارت زوجها لم يقع شىء. قاله النسفي. وقال ابن جزى : وإذا اختارت المرأة الطلاق فمذهب مالك : أنه ثلاث ، وقيل : طلقة بائنة. وقيل : رجعية. ووصف السراح بالجميل يحتمل أن يريد أنه دون الثلاث ، أو : يريد الثلاث ، وجماله : حسن المرعى ، والثناء ، وحفظ العهد. ه.
وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ ، «من» : للببان ، أَجْراً عَظِيماً ، فاخترن - رضى اللّه عنهن - ما هو مناسب لحاله - عليه الصلاة والسلام - ، حين خيّر بين أن يكون نبيا عبدا ، أو نبيا ملكا ، فاختار أن يكون نبيا عبدا ، لا ملكا. فاخترن العبودية ، التي اختارها - عليه الصلاة والسلام.
الإشارة : ينبغى لمن قلّده اللّه نساء متعددة أن يخيّرهن ، اقتداء برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذ لا يخلو من حال الغيرة ، فإذا خيّرهن فينبغى أن يغيب عن تشغيبهن ، ولم يصغ بأذنه إلى حديثهن ، ولا ينبغى أن يغتم من أجل الغيرة ، فإنها طبع لازم للبشر ، وليقدّر فى نفسه : أنه إذا تزوجت زوجته غيره ، وهى فى عصمته ، هل يقدر على ذلك أم لا ، فالأمر واحد. واللّه أعلم.
قال القشيري : لم يرد أن يكون قلب واحد من المؤمنين والمؤمنات منه فى شغل ، أو يعود إلى واحد منهم أذى ، أو تعب من الدنيا ، فخيّر صلى اللّه عليه وسلم بأمر ربه نساءه ، ووفق اللّه عائشة ، حتى أخبرت عن صدق قلبها ، وكمال دينها ويقينها ، وما هو المنتظر من أصلها ونيتها. والباقيات جرين على منهاجها ، ونسجن على منوالها. ه.
ثم هددهن وبشّرهن ، فقال :
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 30 الى 31]
يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (30) وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً (31)
يقول الحق جل جلاله : يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ بسيئة بليغة فى القبح مُبَيِّنَةٍ ظاهر فحشها ، من : بيّن ، بمعنى : تبيّن. وقرأ المكي وشعبة بفتح الياء ، وهى عصيانهنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، ونشوزهن.
قال فى المقدمات : كل فاحشة نعتت فى القرآن بالبينة فهى بالنطق ، والتي لم تنعت بها زنى. ه. يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ أي : ضعفى عذاب غيرهنّ من النساء لأن الذنب منهن أقبح فإنّ قبح الذنب يتبع زيادة فضل(4/426)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 427
المذنب والنعمة عليه ، ولذلك قيل : ليست المعصية فى القرب كالمعصية فى البعد. وليس لأحد من النساء مثل فضل النساء النبي صلى اللّه عليه وسلم ، ولذا كان الذم للعاصى العالم أشدّ منه للعاصى الجاهل لأن المعصية من العالم أقبح ، وفى الحديث : «أشدّ الناس عذابا يوم القيامة عالم لم ينفعه اللّه بعلمه» «1» لقوة الجرأة فى العالم دون غيره. ولهذا أيضا فضل حدّ الأحرار على العبيد ، ولم يرجح الكافر. وَكانَ ذلِكَ أي : تضعيف العذاب عليهن عَلَى اللَّهِ يَسِيراً هينا.
وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ أي : يدم على الطاعة لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ، وَتَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ أي : مثل ثوابى غيرها ، مرة على الطاعة ، ومرة على طلبهن رضا النبي صلى اللّه عليه وسلم ، بالقناعة ، وحسن المعاشرة. وقرأ حمزة والكسائي بالغيب «2» على لفظ «من» ، وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً جليل القدر ، وهو الجنة.
الإشارة : من شأن الملك أن يعاتب الوزراء بما لا يعاتب غيرهم ، ويهددهم بما لا يهدد به غيرهم ، ويعطيهم من التقريب والكرامة ما لا يعطى غيرهم ، فإن هفوا وزلّوا عاتبهم ، ثم يردهم إلى مقامهم ، وربما سمح وأغضى.
والغالب : أن الحق تعالى يعجل عتلت خواصه ، فى الدنيا قبل الآخرة ، بمصائب وأهوال ، تصفية وتطهيرا ، ولا يبعدهم من حضرته بما اقترفوا. قال القشيري : زيادة العقوبة على الجرم من أمارات الفضيلة ، كحدّ الحر والعبد ، وتقليل ذلك من أمارات النقص ، ولمّا كانت منزلتهن فى الشرف تزيد وتربو على منزلة جميع النساء ، تضاعفت عقوبتهن على أجرامهن ، وتضاعف ثوابهن على طاعتهن ، فقال : وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ ... وقال : لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ ... الآية ه. واللّه تعالى أعلم.
ثم وصّاهن بما يليق بجنابهن المعظم ، فقال :
يا نِساءَ النَّبِيِّ ...
___________
(1) رواه الطبراني فى الصغير (1/ 182) والبيهقي فى الشعب (ح 1778) من حديث أبى هريرة رضي اللّه عنه ، وقال الهيثمي فى المجمع (1/ 185) ( : رواه الطبراني فى الصغير ، وفيه عثمان البرسي ، ضعّفه أحمد ، والنسائي ، والدارقطني.
(2) قرأ حمزة والكسائي «يعمل» و«يؤتها» بالياء ، وقرأ الباقون «تعمل» و«نوتها». انظر الحجة للفارسى (5/ 474).(4/427)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 428
[سورة الأحزاب (33) : آية 32]
يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً (32)
يقول الحق جل جلاله : يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ أي : لستن كجماعة من جماعات النساء ، أي : إذا تقصيت أمة النساء ، جماعة جماعة ، لم توجد منهن جماعة واحدة تساويكن فى الفضل ، فكما أنه - عليه الصلاة والسلام - ليس كأحد من الرجال ، كما قال : «إنى لست كأحدكم ...» «1» ، كذلك زوجاته التي شرفن به. وأصل «أحد» : وحد ، بمعنى : واحد ، فوضع فى النفي العامّ ، مستويا فيه المذكّر والمؤنث ، والواحد وما وراءه ، أي :
لستن فى الشرف كأحد من النساء ، إِنِ اتَّقَيْتُنَّ مخالفة اللّه ورضا رسوله ، فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ أي : إذا كلمتن الرجال من وراء الحجاب ، فلا تجئنّ بقولكنّ خاضعا ، أي : لينا خنثا مثل قول المريبات ، فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ ريبة ، وفجور ، وهو جواب النهى ، وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفاً حسنا مع كونه خشينا.
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 33 الى 34]
وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (33) وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً (34)
وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ أي : استكن فيه ، والزمن بيوتكن من غير خروج. وقرأ نافع وعاصم بالفتح ، وهو من :
قرر يقرر ، لغة فى قرّ بالمكان ، وأصله : اقررن ، فحذفت الراء ، تخفيفا ، وألقيت فتحتها على ما قبلها. وقيل : من : قار يقار : إذا اجتمع. والباقون بالكسر ، من : قرّ بالمكان يقرّ - بالكسر ، وأصله : اقررن ، فنقلت كسرة الراء إلى القاف ، وحذفت الراء. وقيل : من : وقر يقر وقارا.
وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى أي : لا تتبخترن فى المشي تبختر أهل الجاهلية ، فالتبرج : التبختر فى المشي وإظهار الزينة ، أي : ولا تبرجن تبرجا مثل تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى أي : القديمة ، وهو الزمان الذي ولد فيه إبراهيم عليه السّلام ، فكانت المرأة تتخذ فيه الدرع من اللؤلؤ ، وتعرض نفسها على الرجال ، زمان نمرود الجبار ، والناس كلهم كفار. أو : ما بين آدم ونوح - عليهما السلام - ثمانمائة سنة. وكان نساؤهم أقبح ما يكون ، ورجالهم حسان ، فتريده المرأة على نفسها. أو : زمن داود وسليمان - عليهما السلام - ، وكان للمرأة قميص من الدّر ، غير
___________
(1) بعض حديث شريف ، لفظه كاملا : «إنى لست كهيئتكم ، إنى أطعم وأسقى» أخرجه مسلم فى (الصيام ، باب النهى عن الوصال فى الصوم ، 2/ 774 ، ح 1102) من حديث سيدنا عبد اللّه ابن عمر رضي اللّه عنه.(4/428)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 429
مخيط الجانبين ، فتظهر صورتها فيه. والجاهلية الأخرى : ما بين عيسى ومحمد - عليهما السلام - أو : الجاهلية الأولى : جاهلية الكفر قبل الإسلام ، والجاهلية الأخرى : جاهلية الفسوق والفجور فى الإسلام.
وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ ، خصهما بالذكر تفضيلا لهما لأن من واظب عليهما جرتاه إلى غيرهما.
وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فى سائر ما أمركن به ، ونهاكن عنه.
إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ أي : يا أهل البيت ، أو : أخص أهل البيت. وفيه دليل على أن نساءه من أهل بيته. قال البيضاوي : وتخصيص أهل البيت بفاطمة وعلى وابنيهما ، لما روى أنه - عليه الصلاة والسلام - خرج ذات غدوة عليه مرط مرحّل «1» من شعر أسود ، فجاءت فاطمة ، فأدخلها ، ثم جاء علىّ ، فأدخله فيه ، ثم جاء الحسن والحسين ، فأدخلهما فيه ، فقال : «إنما يريد اللّه ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ...» «2»
والاحتجاج بذلك على عصمتهم ، وكون اجتماعهم حجة ، ضعيف لأن التخصيص بهم لا يناسب ما قبل الآية وما بعدها ، والحديث يقتضى أنهم من أهل البيت ، لا أنه ليس غيرهم. ه. وإنما قال : عَنْكُمُ لأنه أريد الرجال والنساء. والرجس : كل ما يدنس ، من ذنب ، أو عيب ، أو غير ذلك ، وقيل : الشيطان.
وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً من نجاسات الآثام والعيوب ، وهو كالتعليل لما قبله ، فإنما أمرهن ، ونهاهن ، ووعظهن لئلا يقارف أهل البيت ما يدنس ، من المآثم ، وليتصونوا عنها بالتقوى. واستعار للذنب الرجس ، وللتقوى الطهر لأن عرض المقترف للمستقبحات يتلوث بها كما يتلوث بدنه بالأرجاس وأما من تحصّن منها فعرضه مصون ، نقى كالثوب الطاهر. وفيه تنفير لأولى الألباب عن كل ما يدنس القلوب من الأكدار ، وترغيب لهم فى كل ما يطهر القلوب والأسرار ، من الطاعات والأذكار.
وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللَّهِ القرآن وَالْحِكْمَةِ السنّة ، أو : بيان معانى القرآن ، أو :
ما يتلى عليكن من الكتاب الجامع بين الأمرين. إِنَّ اللَّهَ كانَ لَطِيفاً عالما بغوامض الأشياء. خَبِيراً عالما بحقائقها ، أو : هو عالم بأقوالكن وأفعالكن ، فاحذرن مخالفة أمره ونهيه ، ومعصية رسوله صلى اللّه عليه وسلم.
الإشارة : علّق الحق تعالى شرف نساء النبي صلى اللّه عليه وسلم وتفضيلهن على سبعة أمور ، ويقاس عليهن غيرهن من سائر النساء ، فمن فعل هذه الأمور حاز شرف الدنيا والآخرة. الأول : تقوى اللّه فى السر والعلانية ، وهى أساس
___________
(1) المرط : الكساء ، جمعه : «مرط». انظر : النهاية (مرط 4/ 319). والمرحّل : الذي نقش فيه تصاوير رحال الإبل. انظر : النهاية (رحل 2/ 210).
(2) أخرجه مسلم فى (فضائل الصحابة ، باب فضل أهل البيت 4/ 1883 ، ح 2424) من حديث السيدة عائشة - رضى اللّه عنها - . [.....](4/429)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 430
الشرف. الثاني : التحصن مما يوجب ميل الرجال إليهن من التخنث فى الكلام وغيره. الثالث : لزوم البيوت والقرار بها. وقد مدح اللّه نساء الجنة بذلك فقال : حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ «1». الرابع : عدم التبرج ، وهو إظهار الزينة حيث يحضر الرجال. الخامس : إقامة الصلاة وإتقانها وإيتاء الصدقة. السادس : طاعة اللّه ورسوله ، ويدخل فيه طاعة الزوج. السابع : لزوم ذكر اللّه ، وتلاوة كتابه لمن تحسن ذلك فى بيتها. فمن فعلت من النساء هذه الأمور أذهب اللّه عنها دنس المعاصي والعيوب ، وطهرها تطهيرا ، وأبدلها بمحاسن الأخلاق والشيم الكريمة.
واللّه تعالى أعلم.
ولما نزل فى نساء النبي صلى اللّه عليه وسلم ما نزل ، قال نساء المؤمنين : فما نزل فينا؟ فأنزل اللّه تعالى :
[سورة الأحزاب (33) : آية 35]
إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِراتِ وَالْخاشِعِينَ وَالْخاشِعاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِماتِ وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً (35)
يقول الحق جل جلاله : إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ أي : الداخلين فى الإسلام ، المنقادين لأحكام اللّه قولا وفعلا ، فالمسلم : هو الداخل فى السلم بعد الحرب ، المنقاد الذي لا يعاند ، أو : المفوّض أمره إلى اللّه ، المتوكل عليه ، من : أسلم وجهه إلى اللّه ، وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ المصدّقين بالله ورسوله ، وبما يجب أن يصدّق به ، وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ المداومين على الطاعة ، وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقاتِ فى النيات ، والأقوال ، والأفعال ، وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِراتِ على الطاعات وترك السيئات ، وَالْخاشِعِينَ وَالْخاشِعاتِ المتواضعين للّه بالقلوب والجوارح ، أو : الخائفين ، وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقاتِ فرضا ونفلا ، وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِماتِ فرضا ونفلا. وقيل : من تصدق فى أسبوع بدرهم فهو من المتصدقين ، ومن صام البيض من كل شهر ، فهو من
___________
(1) الآية 72 من سورة الرحمن.(4/430)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 431
الصائمين ، وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ عما لا يحلّ ، وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ بقلوبهم وألسنتهم ، بالتسبيح ، والتهليل ، والتكبير ، وتلاوة القرآن ، وغير ذلك من الأذكار ، والاشتغال بالعلم للّه ، ومطالعة الكتب من الذكر. وحذف «كثيرا» فى حق الذاكرات لدلالة ما تقدم عليه.
وقال عطاء : من فوض أمره إلى اللّه فهو داخل فى قوله : إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ ، ومن أقرّ بأن اللّه ربه ، وأن محمدا رسوله ، ولم يخالف قلبه لسانه ، فهو من المؤمنين والمؤمنات ، ومن أطاع اللّه فى الفرض ، والرسول فى السنّة ، فهو داخل فى قوله : وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقاتِ ، ومن صلى فلم يعرف من عن يمينه وعن شماله ، فهو داخل فى قوله : وَالْخاشِعِينَ وَالْخاشِعاتِ ، ومن صبر على الطاعة وعن المعصية ، وعلى الذرية ، فهو من الصَّابِرِينَ وَالصَّابِراتِ ، ومن تصدّق فى كل أسبوع بدرهم فهو من المتصدقين والمتصدقات ، ومن صام فى كل شهر أيام البيض ، الثالث عشر وما بعده ، فهو من الصائمين والصائمات ، ومن حفظ فرجه عما لا يحل فهو من الحافظين فروجهم والحافظات ، ومن صلى الصلوات الخمس بحقوقها فهو من الذاكرين اللّه كثيرا والذاكرات «1».
قال ابن عباس : (جاء إسرافيل عليه السّلام إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال يا محمد : سبحان اللّه ، والحمد للّه ، ولا إله إلا اللّه ، واللّه أكبر ، ولا حول ولا قوة إلا باللّه ، عدد ما علم ، وزنة ما علم ، وملء ما علم. من قالهن كتبت له ست خصال كتب من الذاكرين اللّه كثيرا والذاكرات ، وكان أفضل ممن ذكره فى الليل والنهار ، وكان له عرش فى الجنة ، وتحاتت عنه ذنوبه ، كما تحات ورق الشجر اليابس ، وينظر اللّه إليه ، ومن نظر اليه لم يعذبه). وقال مجاهد : لا يكون العبد من الذاكرين اللّه كثيرا والذاكرات حتى يذكر اللّه قائما وقاعدا ومضجعا. ه. من الثعلبي.
وسئل ابن الصلاح عن القدر الذي يصير به العبد من الذاكرين اللّه كثيرا؟ فقال : إذا واظب على الأذكار المأثورة صباحا ومساء ، وفى الأوقات والأحوال المختلفة ، ليلا ونهارا ، كان من الذاكرين كثيرا. ه. قلت : وقد تتبعت ذلك فى تأليف مختصر سميته : «الأنوار السنية في الأذكار النبوية».
هذا وعطف الإناث على الذكور لاختلاف الجنسين. وهو ضرورى كقوله : ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً «2». وعطف الزوجين على الزوجين لتغاير الوصفين ، وليس بضرورى ، ولو قال : «إن المسلمين والمسلمات المؤمنين والمؤمنات» بغير واو لجاز ، كقوله : مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ قانِتاتٍ ... إلخ. وهو من عطف الصفة ، ومعناه : إن الجامعين والجامعات
___________
(1) ذكره البغوي فى تفسيره (6/ 352).
(2) من الآية 5 من سورة التحريم.(4/431)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 432
لهذه الصفات. أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً لما اقترفوا من السيئات ، وَأَجْراً عَظِيماً على طاعتهم. قال البيضاوي : والآية وعد لهن ، ولأمثالهن ، على الطاعة والتدرّع بهذه الخصال. روى أن أزواج النبي صلى اللّه عليه وسلم قلن : ذكر الرجال فى القرآن بخير فما فينا خير ، فنزلت «1». ه.
الإشارة : اعلم أن اصطلاح الصوفية أن ما يتعلق بعمل الجوارح الظاهرة يسمى إسلاما ، وما يتعلق بعمل القلوب الباطنية يسمى إيمانا ، وما يتعلق بعمل الأرواح والأسرار يسمى إحسانا. قال فى البغية : فالإسلام يشتمل على وظائف الظاهر ، وهى الغالبة عليه ، وذلك من عالم الشهادة ، والإيمان يشتمل على وظائف الباطن ، وهى الغالبة عليه ، وذلك من عالم الغيب ، وهى الأعمال الغيبية ، ولمّا انفتح لها باب من الأعمال الظاهرة للعبادة ، وأشرقت عليها من ذلك أنوار ، وتعلقت همتها بعالم الغيب ، مالت إلى الوفاء بالأعمال الباطنة ، ثم لمّا تمكنت فى الأعمال الباطنة ، واطلعت على عالمها ، وأشرفت على طهارتها ، وتعلقت همتها بعالم الملكوت ، مالت إلى الوفاء بالأسرار الإحسانية ، ومن هناك تدرك غاية طهارتها وتصفيتها ، والاطلاع على معارف الحقائق الإلهية. ثم قال : فإذا تبين هذا ، فالإسلام له معنى يخصه ، وهو انقياد الظاهر بما تكلف به من وظائف الدين ، مع ما لا بد منه من التصديق.
والإيمان له معنى يخصه ، وهو تصديق القلب بجميع ما تضمنه الدين من الأخبار الغيبية ، مع ما لا بد منه من شعبه. والإحسان له معنى يخصه ، وهو تحسين جميع وظائف الدين الإسلامية والإيمانية ، بالإتيان بها على أكمل شروطها ، وأتم وظائفها ، خالصة من جميع شوائب عللها ، سالمة من طوارق آفاتها. ه.
قلت : ولا يكفى فى مقام الإحسان تحسين الوظائف فقط ، بل لا بد فيه من كشف حجاب الكائنات ، حتى يفضى إلى شهود المكوّن ، فيعبد اللّه على العيان. كما فى الحديث : «أن تعبد اللّه كأنك تراه». فإذا تقرر هذا فالآية مشتملة على تدريج السلوك فأول مقامات المريد : الإسلام ، ثم الإيمان ، كما فى الآية ، ثم يكون من القانتين المداومين على الطاعة ، ثم يكون من الصادقين فى أقواله ، وأفعاله ، وأحواله ، صادقا فى طلب مولاه ، غائبا عن كل ما سواه ، ثم من الصابرين على مجاهدة النفس ، ومقاساة الأحوال ، وقطع المقامات والمفاوز. وقال القشيري : من الصابرين على الخصال الحميدة وعن الخصال الذميمة ، وعند جريان مفاجآت القضية. ه. ثم من الخاشعين الخاضعين لهيبة الجلال ، مشاهدا لكمال أنوار الجمال. قال القشيري : الخشوع : إطراق السريرة عند بواده الحقيقة. ه.
___________
(1) أخرجه ، بنحوه ، أحمد فى المسند (6/ 301) والحاكم ، وصححه ووافقه الذهبي (2/ 416) ، والطبراني فى الكبير (23/ 263 ح 554) و(23/ 294 ح 650) من حديث أم سلمة - رضى اللّه عنها - وأخرجه ابن جرير فى التفسير (22/ 10) من حديث ابن عباس رضي اللّه عنه وأم سلمة - رضى اللّه عنها.(4/432)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 433
ثم يتحقق بأوصاف الكمال كالسخاء والكرم ، فيبذل ما عنده فى مرضات ربه ، فيكون من المتصدقين بأموالهم وأنفسهم ، حتى لا يكون لأحد معهم خصومة فيما أخذوا منهم وقالوا فيهم ، ثم يصوم عن شهود السّوى ، ثم يحفظ فرجه عن وقاع الشهوة والهوى ، فلا ينزل إلى سماء الحقوق ، أو أرض الحظوظ ، إلا بالإذن والتمكين ، والرسوخ فى اليقين. ثم يكون من المستهترين بذكر اللّه ، أعنى ذكر الروح والسر ، وهو مقام الإحسان ، الذي هو محل العيان ، فيكون ذاكرا باللّه ، مذكورا فى حضرة اللّه ، مشهورا فى ملكوت اللّه. جعلنا اللّه منهم بمنّه وكرمه.
ثم ذكر قضية تزويجه - عليه الصلاة والسلام - زينب ، مناسبا للحافظين فروجهم ، فقال :
[سورة الأحزاب (33) : آية 36]
وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً (36)
يقول الحق جل جلاله : وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ أي : ما صحّ لرجل مؤمن ، ولا امرأة مؤمنة ، إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً من الأمور أَنْ يَكُونَ «1» لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ أي : أن يختاروا من أحدهم شيئا ، بل الواجب عليهم أن يجعلوا رأيهم تبعا لرأيه ، واختيارهم تلوا لاختياره.
نزلت فى زينب بنت جحش ، وأخيها عبد اللّه بن جحش. وكانت زينب بنت أميمة بنت عبد المطلب ، عمة النبي صلى اللّه عليه وسلم ، فخطبها - عليه الصلاة والسلام - لمولاه زيد بن حارثة ، فلما خطبها ، ظنت أنه يخطبها لنفسه ، فرضيت ، فلما علمت أنه خطبها لزيد كرهت وأبت ، وقالت : أنا أم نساء قريش ، وابنة عمتك ، فلم أكن أرضه لنفسى ، وكذلك قال أخوها. وكانت بيضاء جميلة ، وكان فيها بذاذة ، فأنزل اللّه الآية «2» ، فأعلمهم أنه لا اختيار لهم على ما قضى اللّه ورسوله. فلما نزلت الآية إلى قوله : مُبِيناً قالت : رضيت يا رسول اللّه ، وجعلت أمرها بيد النبي صلى اللّه عليه وسلم
___________
(1) قرأ عاصم ، وحمزة ، والكسائي : (يكون) بالياء من تحت. وقرأ الباقون بالتاء وقد أثبت المفسر - رحمه اللّه - قراءة التاء.
انظر الإتحاف (2/ 376).
(2) أخرجه ابن جرير فى التفسير (22/ 11).(4/433)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 434
وكذلك أخوها ، فأنكحها صلى اللّه عليه وسلم زيدا ، فدخل بها ، وساق إليها النبي صلى اللّه عليه وسلم عشرة دنانير ، وستين درهما ، وملحفة ، ودرعا ، وإزارا ، وخمسين مدّا من طعام ، وثلاثين صاعا من تمر «1». وقيل نزلت فى أم كلثوم بنت عقبة بن أبى معيط ، وكانت من أول من هاجر من النساء ، فوهبت نفسها للنبى صلى اللّه عليه وسلم فقبلها ، وقال : زوجتها من زيد ، فسخطت هى وأخوها ، وقالا : إنما أردنا النبىّ صلى اللّه عليه وسلم ، فنزلت «2». والأول أصح.
وإنما جمع الضمير فى «لهم» ، وكان من حقه أن يوحّد لأن المذكورين وقعا نكرة فى سياق النفي ، فعمّا كل مؤمن ومؤمنة ، فرجع الضمير إلى المعنى ، لا إلى اللفظ. والخيرة : ما يتخير ، وفيه لغتان : سكون الياء ، وفتحها ، وتؤنث وتذكر باعتبار الفعل لمجاز تأنيثها.
وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فيما اختار وقضى فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِيناً بيّن الانحراف عن الصواب.
فإن كان العصيان عصيان رد وامتناع عن القبول فهو ضلال كفر ، وإن كان عصيان فعل ، مع قبول الأمر ، واعتقاد الوجوب ، فهو ضلال فسق.
ثم إن زينب مكثت عند زيد زمانا ، فأتى عليه الصلاة والسلام ذات مرة دار زيد ، لحاجة ، فأبصرها فى درع وخمار ، فوقعت فى نفسه ، وذلك لما سبق فى علم اللّه من كونها له. فقال : «سبحان مقلب القلوب» «3» ، وكانت نفسه قبل ذلك تنفر منها ، لا تريدها ، فانصرف ، وسمعت زينب بالتسبيحة ، فذكرتها لزيد ، ففطن ، وألقى فى نفسه كراهيتها والرغبة عنها فى الوقت ، وقال : يا رسول اللّه إنى أريد فراق صاحبتى؟ فقال : «مالك ، أرابك منها شى ء؟»
___________
(1) انظر تفسير البغوي (6/ 353).
(2) أخرجه ابن جرير فى التفسير (22/ 12) وعزاه السيوطي فى الدر (5/ 381) لابن أبى حاتم. عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم.
والحديث معضل.
(3) قال الحافظ ابن حجر فى الكافي (ص 134 رقم 224) : (ذكره الثعلبي بغير سند ، وأخرج الطبري «22/ 13» معناه من رواية عبد الرحمن بن زيد بن أسلم) قلت : هذه الرواية ، وإن ساقها عدد من المفسرين ، إلا أن العلماء المحققين ردوها فالروايات كلها جاءت من طرق ضعيفة ، ولا يوجد شىء منها فى كتب الحديث المعتمدة ، والذي جاء فى الصحيح يخالف ذلك. ولا يجوز أن يستند إلى روايات ضعيفة فى إثبات خبر فيه نيل من عصمة المعصوم صلى اللّه عليه وسلم. قال الحافظ ابن كثير فى تفسيره : (3/ 490) : (ذكر ابن جرير ، وابن أبى حاتم ، هاهنا ، آثارا عن بعض السلف ، أحببنا أن نضرب عنها صفحا لعدم صحتها ، فلا نوردها) - ثم إن السيدة «زينب بن جحش» - رضى اللّه عنها - ابنه عمته ، ويعرفها مذ كانت طفلة حتى كبرت ، وهو الذي زوّجها لمولاه زيد ، وكان بإمكانه أن يتزوجها قبل أن يزوجها زيدا. فغير معقول - والحال كما ذكر - أن يزوجها لغيره ثم يرغب فيها.
والحق فى المسألة ما سيذكره الشيخ ابن عجيبة بعد ، نقلا عن الشيخ عبد الرحمن الفاسى من أن المعنى : وتخفى فى نفسك ما اطلعت عليه من مفارقة زيد لها ، وتزوجك إياها بعده ... إلخ كلامه.
للمزيد راجع : الشفاء للقاضى عياض (2/ 878 - 880) روح المعاني للألوسى ، (22/ 24 - 25) الإسرائيليات والموضوعات للدكتور محمد أبى شهبة (323 - 328).(4/434)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 435
فقال : لا واللّه ، ما رأيت منها إلا خيرا ، إلا أنها تتعظم علىّ ، لشرفها ، وتؤذيني بلسانها ، فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم : «أمسك عليك زوجك واتق اللّه».
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 37 الى 39]
وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً (37) ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً (38) الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللَّهَ وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً (39)
وهذا معنى قوله : وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ بالإسلام الذي هو من أجلّ النعم وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ بالإعتاق والتبني ، فهو متقلب فى نعمة اللّه ونعمة رسوله صلى اللّه عليه وسلم ، وهو زيد بن حارثة : أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ زينب ، وَاتَّقِ اللَّهَ فلا تطلقها ، وهو نهى تنزيه ، أو : اتق اللّه ، فلا تذمها بالنسبة إلى الكبر وأذى الزوج ، وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ أي : تخفى فى نفسك نكاحها إن طلقها زيد ، وقد أبداه اللّه وأظهره ، وقيل :
الذي أخفاه فى نفسه : تعلق قلبه بها ، ومودة مفارقة زيد إياها.
قال شيخ شيوخنا سيدى عبد الرحمن الفاسى : والصواب أن المعنى : وتخفى فى نفسك ما اطلعت عليه من مفارقة زيد لها ، وتزوجك إياها بعده ، فإن هذا هو الذي أبداه سبحانه وأظهره بعد ذلك. وأما قوله : وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ ، فإنما يعنى به الحياء من الناس فى أن يقابلهم بما يسوءهم ، وهو إخبار زيد بما أطلعه اللّه عليه من صيرورة زوجته زينب له ، بعد مفارقة زيد لها ، لأنه لم يؤمر بإفشاء ذلك ، وإلا لبلّغ من غير روية ولا حشمة ، سالكا فى ذلك سنّة من خلا قبله من الأنبياء ، الذين لا يخشون فى التبليغ أحدا إلا اللّه.
وقال القشيري : أي : تخشى عليهم أن يقعوا فى الفتنة فى قصة زيد [والفتنة التي يقعون فيها هى ظنهم أنه عليه الصلاة والسلام عشقها ، وأمره بطلاقها] وكانت تلك الخشية إشفاقا منه عليهم ، ورحمة لهم ألا يطيقوا سماع هذه الحالة ، بأن يخطر ببالهم ما ليس فى وسعهم. وأما قوله : أَمْسِكْ عَلَيْكَ .... الآية - مع علمه بما يؤول إليه الأمر فى العاقبة ، بما أطلعه اللّه عليه من فراقه لها - فإقامة للشريعة. ه. ملخصا.
وفى الوجيز : وَتَخْشَى النَّاسَ أي : تكره مقالة الناس لو قلت طلّقها ، فيقال : أمر رجلا فطلق امرأته ثم تزوجها. وقد نقل فى نوادر الأصول عن علىّ بن الحسين : أن اللّه أعلم نبيه أنها تكون من أزواجه ، فأخفى ذلك.
فلما جاء زيد يشكوها قال له : اتق اللّه ، وأمسك عليك زوجك «1» ، قال : فعلىّ بن حسين جاء بها من خزانة العلم ، جوهرا من الجواهر ، ودرّا من الدرر ، وأنه إنما عتب اللّه عليه فى أنه قد أعلمه ، ثم قال بعد ذلك لزيد : أمسك ..
___________
(1) أخرجه الطبري (22/ 13).(4/435)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 436
رعاية لما يقال ، وتركا لتدبير اللّه ، مع كونه أحق بالرعاية ، وكيف ، وفى ذلك تشريع لئلا يكون على المؤمنين حرج وضيق فيما فرض اللّه له فيما أعلمه. ثم قال : والحاصل أنه - عليه الصلاة والسلام - لم يلمّ بخطيئة ، بدليل أنه لم يؤمر بتوبة ولا استغفار ، وإنما أخبره بما أضمر فى نفسك ، خشية افتتان الغير ، واللّه أحق أن يخشى ، بأن يبتهل إليه ليزيل عنهم ما يخشى فيهم.
قال ابن عرفة : الصواب : أن ما أخفاه فى نفسه هو : أن اللّه أخبره أن سيتزوجها. وما قاله ابن عطية لا يحل أن يقال ، لأنه تنقيص لم يرد فى حديث صحيح. وإنما ذكره المفسرون. ه. قلت : إنما يكون تنقيصا إذا كان ذلك الواقع فى القلب ثابتا ، وأما إن كان خاطرا مارا فلا نقص إذ ليس فى طوق البشر لأنه من أوصاف العبودية ، بل الكمال فى دفعه ورده بعد هجومه.
ثم قال ابن عرفة ، على قوله : وَتَخْشَى النَّاسَ : هو تمهيد لعذره ، وإن كان لمجرد أمر اللّه له بذلك ، ولا ينبغى حمله على أنه خاف الناس فقط. بل المراد : عتابه على خلط خوفه من اللّه بخوفه من الناس ، وأمره ألا يخاف إلا من اللّه فقط ، خوفا غير مشوب بشىء. ه. قلت : إذا فسرنا الخشية بالحياء لا يحتاج إلى هذا التعسف ، مع أن الخوف من الخلق مذموم ، وحده أو مع خوف اللّه ، والنبي صلى اللّه عليه وسلم منزه عن ذلك ، أي : تستحى من الناس أن يقولوا :
نكح امرأة ابنه ، وكان - عليه الصلاة والسلام - أشد الناس حياء من العذراء فى خدرها. والحياء ممدوح عند الخاص والعام. وأما قوله تعالى : وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ فتنبيه على أن الحياء فى بعض المواضع تركه أولى ، فهو ترقية له ، وتربية لوقت آخر. أو : وتخشى أن يفتتن الناس بذلك ، واللّه أرحم بهم من غيره ، فاللّه أحق أن تخشى ، فتبتهل إليه فى زوال ذلك عنهم. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : فى الآية الأولى حث على التفويض وترك الاختيار ، مع ما أمر به الواحد القهار. وفى الحكم :
«ما ترك من الجهل شيئا من أراد أن يظهر فى الوقت غير ما أظهر اللّه» «1». فالواجب على العبد أن يكون فى الباطن مستسلما لقهره ، وفى الظاهر متمثلا لأمره ، تابعا لسنّة نبيه صلى اللّه عليه وسلم ، ولما يوجب رضاه ومحبته. وفى الآية الثانية تنبيه على أن خواص الخواص يعاتبون على ما لا يعاتب عليه الخواص. والخواص ، يعاتبون على ما لا يعاتب عليه العوام ، فكلما علا المقام ، واشتد القرب ، اشتدت المطالبة بالأدب ، ووقع العتاب على أدنى ما يخل بشىء من الأدب ، على عادة الوزراء مع الملك. وذلك أمر معلوم ، مذوق عند أهل القلوب. وباللّه التوفيق.
___________
(1) انظر الحكم بتبويب المتقى الهندي (ص 20 ، حكمة : 17)(4/436)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 437
ثم ذكر تزوجه - عليه الصلاة والسلام - لزينب بعد مفارقة زيد ، فقال :
فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ ...
يقول الحق جل جلاله : فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً حاجة ، بحيث ملّها ولم تبق له فيها حاجة.
والوطر : الحاجة ، فإذا بلغ البالغ حاجته من شىء له فيه همّة ، يقال : قضى منه وطرا ، أي : فلما قضى حاجته منها ، وطلقها ، وانقضت عدّتها ، زَوَّجْناكَها. روى أنها لما اعتدت قال - عليه الصلاة والسلام - لزيد : «ما أجد أحدا أوثق فى نفسى منك ، ايت زينب فاخطبها لى» قال زيد : فأتيتها وولّيتها ظهرى ، إعظاما لأمر النبي صلى اللّه عليه وسلم ، وقلت :
يا زينب إنّ النبي صلى اللّه عليه وسلم يخطبك ، ففرحت ، وقالت : ما أنا بصانعة شيئا حتى أؤامر ربّى ، فقامت إلى مسجدها ، فنزل القرآن : فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ ... الآية ، فتزوجها عليه الصلاة والسلام ، ودخل بها حينئذ ، وما أولم على امرأة ما أولم عليها ، ذبح شاة ، وأطعم الناس الخبز واللحم حتى امتد النهار «1».
وقيل : زوجّه اللّه تعالى إياها بلا واسطة عقد ، ويؤيده : أنها كانت تقول لسائر أزواج النبي صلى اللّه عليه وسلم : إن اللّه زوجنى من فوق سبع سموات ، وأنتن زوّجكنّ أولياؤكنّ «2». وكانت تقول للنبى صلى اللّه عليه وسلم : إنى لأدلّ عليك بثلاث ، ما من نسائك امرأة تدل عليك بهنّ : جدّى وجدّك واحد ، وإياى أنكحك اللّه من السماء ، وإن السفير لى جبريل «3».
ثم علل تزويجه إياها ، فقال : لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ الذين يتبنونهم إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً ، قال الحسن : ظنت العرب أن حرمة المتبنى مشتبكة كاشتباك الرحم ، فبيّن اللّه تعالى الفرق بينهما ، وأن حلائل الأدعياء غير محرمة. وليست كحلائل أبناء الصلب. قال البيضاوي : وفيه دليل على أن حكمه
___________
(1) أخرجه ، بنحوه ، مسلم فى (النكاح ، باب : زواج زينب بنت جحش ، ونزول الحجاب ، 2/ 1048 - 1049 ح : 1428) من حديث أنس رضي اللّه عنه.
(2) أخرجه البخاري فى (التوحيد ، باب وكان عرشه على الماء ح 7420) من حديث أنس رضي اللّه عنه.
(3) أخرجه الطبري فى تفسيره (22/ 14) من مرسل الشعبي. [.....](4/437)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 438
وحكم الأمة واحد ، إلا ما خصه الدليل. ه. وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ الذي يريد أن يكونه مَفْعُولًا مكونا لا محالة ، كما كان تزويج زينب.
ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللَّهُ لَهُ أي : حلّ له ، أو : قسم له ، من قولهم : فرض له فى الديوان كذا ، وفروض العساكر ، لأرزاقهم. أي : لا حرج على النبي فيما حلّ له وأمر به ، كتزويج زينب ، أو : قسم له من عدد النساء بلا حدّ ، سُنَّةَ اللَّهِ : مصدر مؤكد لما قبله من قوله : ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ أي :
سنّ ذلك سنّة فى الأنبياء الماضين ، وهو : ألا حرج عليهم فى الإقدام على ما أحلّ لهم ووسع عليهم فى باب النكاح وغيره. وكانت تحتهم المهائر «1» والسراري ، وكانت لداود عليه السّلام مائة امرأة ، وثلاثمائة سرّية. فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ أي : فى الأنبياء الذين مضوا من قبله ، وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً أي : قضاء مقضيا ، وحكما مثبوتا مبرما ، لا مرد له.
الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللَّهِ ، هو صفة ل «لذين خلوا من قبل» ، أو : بدل منه ، أو : مدح لهم منصوب ، أو :
مرفوع ، أي : هم الذين ، أو : أعنى الذين يبلغون رسالات اللّه ، وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ ، ونبينا صلى اللّه عليه وسلم من جملتهم ومن أشرفهم ، وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً للمخاوف ، أو : محاسبا ، فينبغى ألا يخشى إلا منه تعالى.
الإشارة : إذا تمكن العبد مع مولاه وتحققت محبته فيه ، كانت حوائجه مقضية ، وهمته كلها نافذة ، إذا اهتم بشىء ، أو خطر على قلبه شىء ، مكّنه اللّه منه ، وسارع فى قضائه ، كما فعل مع حبيبه ، حين خطر بباله تزوج زينب ، أعلمه أنه زوجه إياها. وأهل مقام الفناء جلهم فى هذا المقام ، إذا اهتموا بشىء كان ، إذا ساعدتهم المقادير ، وإلا فسوابق الهمم لا تخرق أسوار الأقدار ، ولذلك قال هنا : وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا ، وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً. وصفة أهل الهمم القاطعة : أنهم لا يخافون إلا اللّه ، ولا يخشون أحدا سواه ، لا يخافون فى اللّه لومة لائم ، ذكرهم للّه دائم ، وقلبهم فى الحضرة هائم. وباللّه التوفيق.
ثم ردّ على من قال : إنه - عليه الصلاة والسلام - تزوج امرأة ابنه ، فقال :
[سورة الأحزاب (33) : آية 40]
ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (40)
___________
(1) المهائر : جمع المهيرة ، وهى الحرة ، والمهائر : الحرائر ، ضد السّرارى. انظر اللسان (مهر 6/ 4287).(4/438)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 439
يقول الحق جل جلاله : ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ أي : لم يكن أبا رجل منكم حقيقة ، حتى يثبت بينه وبينه ما يثبت بين الأب وولده من حرمة الصهر والنكاح ، والمراد : من رجالكم البالغين ، وأما أولاده القاسم ، والطيب ، والطاهر ، فماتوا قبل أن يكونوا رجالا ، وأما الحسن والحسين ، فأحفاد ، لا أولاد. وَلكِنْ كان رَسُولَ اللَّهِ ، وكل رسول أبو أمته ، فيما يرجع إلى وجوب التوقير والتعظيم له عليهم ، ووجوب الشفقة والنصيحة لهم عليه ، لا فى سائر الأحكام الثابتة بين الآباء والأبناء. وزيد واحد من رجالكم ، الذين ليسوا بأولاد حقيقة ، فكان حكمه حكمهم. والتبني من باب الاختصاص والتقريب ، لا غير. وَكان أيضا صلى اللّه عليه وسلم خاتَمَ النَّبِيِّينَ أي : آخرهم الذي ختمهم ، أو : ختموا به على قراءة عاصم. بفتح التاء ، بمعنى : الطابع ، كأنه طبع وختم على مقامات النبوة ، كما يختم على الكتاب لئلا يلحقه شىء. فلا نبى بعده. وعيسى ممّن نبأ قبله ، وحين ينزل ينزل عاملا على شريعته صلى اللّه عليه وسلم ، كأنه بعض أمته. ومن قرأ بكسر التاء ، فمعناه : فاعل الختم ، كما قال - عليه الصلاة والسلام - : «أنا خاتم النبيين فلا نبى بعدي» «1». ويصح أن يكون بمعنى الطابع أيضا إذ فيه لغات خاتم - بالفتح والكسر - ، وخاتام ، وخيتام. وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً ، فيعلم من يليق بأن يختم به النبوة ، وكيف ينبغى شأنه.
الإشارة : كان صلى اللّه عليه وسلم أبا الأرواح حقيقة إذ الوجود كله ممتد من نوره ، وأبا الأشباح باعتبار أنه السابق نوره.
فأول ما ظهر نوره - عليه الصلاة والسلام - ، ومنه امتدت الكائنات ، فهو بذرة الوجود. وسيأتى فى قوله : فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ «2» تتميم ذلك إن شاء اللّه. ولم يكن أبا باعتبار تولد الصلب ، وهو الذي نفاه اللّه تعالى عنه.
ثم حضّ على الذكر إذ هو سبب التهذيب والتأديب ، فيزجر صاحبه عن الخوض فيما لا يعنى ، فقال :
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 41 الى 44]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (42) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً (43) تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً (44)
___________
(1) أخرجه مطولا أحمد فى المسند (5/ 278) ، وعزاه السيوطي فى الدر (5/ 386) لابن مردويه ، عن ثوبان. وجاء الجزء الأول «أنا خاتم النبيين» في حديث «مثلى ومثل الأنبياء من قبلى ..» الحديث ، أخرج البخاري فى (المناقب ، باب خاتم النبيين ، ح 3535) ومسلم فى (الفضائل ، باب ذكر كونه صلى اللّه عليه وسلم خاتم النبيين 4/ 1791) من حديث سيدنا أبى هريرة رضي اللّه عنه.
(2) الآية 81 من سورة الزخرف.(4/439)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 440
يقول الحق جل جلاله : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً قياما ، وقعودا ، وعلى جنوبكم ، قال ابن عباس : (لم يعذر أحد فى ترك ذكر اللّه - عز وجل - إلا من غلب على عقله) «1». وقال : الذكر الكثير : ألّا تنساه أبدا. وروى أبو سعيد عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال : «أكثروا ذكر اللّه حتى يقولوا مجنون» «2».
والذكر أنواع : تهليل ، وتحميد ، وتقديس ، واستغفار ، وتلاوة ، وصلاة على النبي صلى اللّه عليه وسلم. وقيل : المراد : ذكر القلوب ، فإن الذكر الذي يمكن استدامته ، هو ذكر القلب ، وهو استدامة الإيمان والتوحيد. وأمّا ذكر اللسان فإن إدامته كالمتعذر. قاله القشيري. وَسَبِّحُوهُ أي : نزّهوه ، أو : قولوا : سبحان اللّه وبحمده ، بُكْرَةً أول النهار وَأَصِيلًا آخر النهار. وخصّا بالذكر لأن ملائكة الليل وملائكة النهار يجتمعون فيهما. وعن قتادة : (قولوا :
سبحان اللّه ، والحمد للّه ، ولا إله إلا اللّه ، واللّه أكبر ، ولا حول ولا قوة إلا باللّه). أو : الفعلان - أي : (اذكروا) و(سبّحوه) - موجهان إلى البكرة والأصيل ، كقولك : صم وصل يوم الجمعة. والتسبيح من جملة الذكر ، وإنما اختص من بين أنواعه إبانة لفضله لأن معناه : تنزيه ذاته عما لا يجوز عليه من الصفات. ويجوز أن يراد بالذكر وإكثاره : تكثير الطاعات والعبادات ، فإنها من جملة الذكر ، ثم خصّ من الذكر التسبيح بكرة ، وهى صلاة الفجر ، وأصيلا ، وهى صلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء ، أو : صلاة الفجر والعشاءين.
هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ ، لمّا كان من شأن المصلى أن ينعطف فى ركوعه وسجوده استعير لمن ينعطف على غيره ، حنوا عليه ، كحنو المرأة على ولدها. ثم كثر ، حتى استعمل فى الرحمة والترؤف ، ومنه قولهم : صلى اللّه عليك ، أي : ترحم عليك وترأف. فإن قلت : صلاة اللّه غير صلاة الملائكة ، فكيف اشتركا فى العطف؟ قلت : لاشتراكهما فى قدر مشترك ، وهو إرادة وصول الخير إليهم ، إلا أنه منه تعالى برحمته ، ومن الملائكة بالدعاء والاستغفار.
وذكر السدى : أن بنى إسرائيل قالت لموسى عليه السّلام : أيصلى ربنا؟ فكبر هذا الكلام على موسى عليه السّلام ، فأوحى اللّه إليه : أن قل لهم : إنى أصلى ، وإنّ صلاتى رحمتى ، وقد وسعت كل شىء «3». وفى حديث المعراج : «قلت :
إلهى لمّا لحقنى استيحاش قبل قدومى عليك ، سمعت مناديا ينادى بلغة ، تشبه لغة أبى بكر ، فقال : قف ، إن ربك
___________
(1) أخرجه الطبري (22/ 17).
(2) أخرجه أحمد فى المسند (3/ 68 ، 71) والحاكم (1/ 499) وصححه ، من حديث سيدنا أبى سعيد الخدري رضي اللّه عنه.
(3) عزاه فى الدر المنثور (5/ 389) لعبد الرزاق ، وابن المنذر ، وابن أبى حاتم ، عن الحسن.(4/440)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 441
يصلى ، فعجبت من هاتين ، هل سبقنى أبو بكر إلى هذا المقام ، وإن ربى لغنى عن أن يصلّى؟ فقال تعالى : أنا الغنى عن أن أصلّى لأحد ، وإنما أقول : سبحانى ، سبقت رحمتى غضبى. اقرأ يا محمد : هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ ... الآية ، فصلاتى رحمة لك ولأمتك. ثم قال. وأما أمر صاحبك ، فخلقت خلقا على صورته ، يناديك بلغته ، ليزول عنك الاستيحاش ، لئلا يلحقك من عظيم الهيبة ما يقطعك عن فهم ما يراد منك».
والمراد بصلاة الملائكة : قولهم : اللهم صلّ على المؤمنين. جعلوا - لكون دعائهم بالرحمة مستجابا - كأنهم فاعلون الرحمة. والمعنى : هو الذي يترحم عليكم ويترأف ، حيث يدعوكم إلى الخير ، ويأمركم بإكثار ذكره ، ويأمر ملائكته يترحمون عليكم ، ويستغفرون لكم ، ليقربكم ، ويخصكم بخصائص ليست لغيركم. بدليل : لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان ، ثم من ظلمات المعاصي إلى نور الطاعة ، ثم من ظلمات الغفلة إلى نور اليقظة ، ثم من ظلمات الحجاب إلى نور العيان. وقيل : يصلّى عليكم : يشيع لكم الذكر الجميل فى عباده.
وَكانَ اللّه بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً ، قد اعتنى بصلاح أمرهم ، وإثابة أجرهم ، واستعمل فى خدمتهم ملائكته المقربين ، وهو دليل على أن المراد بالصلاة : الرحمة ، حيث صرّح بكونه رحيما بهم. قال أنس : لمّا نزل قوله تعالى : إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ قال أبو بكر : يا رسول اللّه ما خصك اللّه بشريف إلا وقد اشتركنا فيه ، فأنزل قوله : هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ ... إلخ «1».
تَحِيَّتُهُمْ أي : تحية اللّه لهم ، فهو من إضافة المصدر إلى مفعوله ، يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ عند الموت. قال ابن مسعود : إذا جاء ملك الموت لقبض روح المؤمن ، قال : ربك يقرئك السلام «2». أو : يوم الخروج من القبور ، تسلّم عليهم الملائكة وتبشرهم. أو : يوم يرونه فى الجنة ، سَلامٌ ، يقول اللّه تبارك وتعالى : «السلام عليكم يا عبادى ، هل رضيتم؟ فيقولون : وما لنا لا نرضى يا ربنا وقد أعطيت ما لم تعط أحدا من العالمين. فيقول لهم : أعطيكم أفضل من ذلك ، أحل عليكم رضوانى ، فلا أسخط عليكم أبدا» كما فى البخاري «3». وفى رواية غيره : يقول تعالى :
___________
(1) عزاه السيوطي فى الدر المنثور (5/ 389) لعبد بن حميد ، وابن المنذر ، عن مجاهد. وذكره البغوي فى التفسير (6/ 360) عن أنس رضي اللّه عنه.
(2) عزاه السيوطي فى الدر (5/ 390) للمروزى فى الجنائز ، وابن أبى الدنيا ، وأبى الشيخ.
(3) سبق تخريج الحديث.(4/441)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 442
«السلام عليكم ، مرحبا بعبادي الذين أرضونى باتباع أمرى» هو إشارة إلى قوله : سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ «1».
وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً ، يعنى الجنة وما فيها.
الإشارة : قال القشيري : قوله تعالى : اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً. الإشارة فيه : أحبّوا اللّه لقوله - عليه الصلاة والسلام - «من أحبّ شيئا أكثر من ذكره» «2» فيحب أن يقول : اللّه ، ولا ينس اللّه بعد ذكر اللّه. ه. قلت : لأن ذكر اللّه عنوان محبته ، ومنار وصلته ، وهو الباب الأعظم فى الدخول إلى حضرته ، وللّه در القائل :
الذكر عمدة لكل سالك تنورت بنوره المسالك
هو المطية التي لا تنتكب ما بعدها فى سرعة الخطا نجب
به القلوب تطمئن فى اليقين ما بعده على الوصال من معين
به بلوغ السالكين للمنى به بقاء المرء من بعد الفنا
به إليك كل صعب يسهل به البعيد عن قريب يحصل
فهو أقوى سبب لديك وكلّه إليك ، لا عليك
فكل طاعة أتى الفتى بها هو أساسها ، كذاك سقفها
ووحده يفوق كل طاعه كما أتى عن صاحب الشفاعه
كفى بفضله لدا البيان ذهابه بالسهو والنسيان
إذا ذكرت من له الغنى العظيم لديك يصغر الفقير يا نديم
عليه دم حتى إذا تجوهرا بسره الفؤاد كلّ ما ترى
ترى به المذكور دون ستر وقد علا الإدراك درك الفكر
به الحبيب فى الورى تجلى به السّوى عن الحجا تولى
به تمكن المريد فى الفنا حتى يصير قائلا أنا أنا
به رجوعه إلى العبادة به التصرف الذي فى العاده
تاللّه لو جئت بكل قول ما جئتكم بما له من فضل. ه.
___________
(1) من الآية 73 من سورة الزمر.
(2) عزاه السيوطي فى الجامع الصغير (ح 8312) للديلمى ، فى الفردوس ، وضعّفه ، من حديث السيدة عائشة - رضي اللّه عنها.(4/442)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 443
وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : «سبق المفرّدون ، قيل : من المفرّدون يا رسول اللّه؟ قال : المستهترون بذكر اللّه ، يضع الذّكر عنهم أثقالهم ، فيردون يوم القيامة خفافا» «1» وسئل صلى اللّه عليه وسلم : أىّ المجاهدين أعظم أجرا؟ قال : «أكثرهم للّه تبارك وتعالى ذكرا. وقيل : فأى الصالحين أعظم أجرا؟ قال : أكثرهم للّه تبارك وتعالى ذكرا. ثم ذكر الصلاة والزكاة والحج والصدقة ، كل ذلك ورسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول : «أكثرهم للّه تبارك وتعالى ذكرا». فقال أبو بكر لعمر : يا أبا حفص ذهب الذاكرون بكل خير ، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : «أجل» «2» رواه أحمد والطبراني.
وقوله تعالى : هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ ... الآية. قال الورتجبي : صلوات اللّه : اختياره العبد فى الأزل لمعرفته ومحبته ، فإذا خصّه بذلك جعل زلاته مغفورة ، وجعل خواص ملائكة مستغفرين له ، لئلا يحتاج إلى الاستغفار بنفسه عن اشتغاله باللّه ومحبته ، وبتلك الصلاة يخرجهم من ظلمات الطبع إلى نور المشاهدة ، وهذا متولد من اصطفائيته الأزلية ورحمته الكافية القدسية. ألا ترى إلى قوله : وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً أي : قبل وجودهم ، حيث أوجدهم ، وهداهم إلى نفسه ، بلا سبب ولا علة. ثم قال عن ابن عطاء : أعظم عطية للمؤمن فى الجنة : سلام اللّه عليهم من غير واسطة. ه.
وقوله تعالى : تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ قال القشيري : التحية إذا قرنت بالرؤية ، واللقاء إذا قرن بالتحية ، لا يكون إلا بمعنى رؤية البصر ، والتحية : خطاب يفاتح بها الملوك ، أخبر عن علوّ شأنهم ، فهذا السلام يدلّ على علو رتبتهم. ه.
ولمّا أمر بذكره وتنزيهه ، ذكر شهادته لرسوله ، ليدلّ على اقترانها فى صحة الإيمان وكمال الذكر ، فقال :
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 45 الى 48]
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (45) وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً (46) وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلاً كَبِيراً (47) وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ وَدَعْ أَذاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (48)
___________
(1) أخرجه بلفظه الترمذي فى : (الدعوات ، باب : فى العفو والعافية 5/ 539 ، ح : 3596) ، وبنحوه أخرجه مسلم فى (الذكر والدعاء ، باب الحث على ذكر اللّه تعالى 4/ 2062 ، ح 2676) من حديث أبى هريرة رضى اللّه عنه.
والمستهترون بذكر اللّه : المولعون بالذكر : المداومون عليه ، لا يبالون ما قيل فيهم ، ولا ما فعل بهم.
(2) أخرجه أحمد (3/ 438) ، وقال الهيثمي فى مجمع الزوائد (10/ 74) : رواه أحمد والطبراني ، وفيه : زبان بن فائد ، وهو ضعيف ، وقد وثّق ، وكذلك ابن لهيعة ، وبقية رجال أحمد ثقات.(4/443)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 444
قلت : «شاهدا» : حال مقدرة ، كمررت برجل معه صقر صائدا به غدا.
يقول الحق جل جلاله : يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً على من بعث إليهم ، على تصديقهم وتكذيبهم ، أي : مقبولا قولك عند اللّه ، لهم وعليهم ، كما يقبل قول الشاهد العدل فى الحكم ، وَمُبَشِّراً للمؤمنين بالنعيم المقيم ، وَنَذِيراً للكافرين بالعذاب الأليم ، وَداعِياً إِلَى اللَّهِ إلى الإقرار بربوبيته ، وتوحيده ، وما يجب الإيمان به ، من صفاته ، ووعده ، ووعيده ، بِإِذْنِهِ بأمره ، أو : بتيسيره. وقيّد به الدعوى إيذانا بأنه أمر صعب ، لا يتأتى إلا بمعونة من جناب قدسه ، وَسِراجاً مُنِيراً يستضاء به فى ظلمة الجهالة ، وتقتبس من نوره أنوار الهداية ، قد جلى به اللّه ظلمات الشرك ، واهتدى به الضالون ، كما يجلى ظلام الليل بالسراج المنير ، ويهتدى به. وقيل : المراد به القرآن ، فيكون التقدير : وذا سراج. ووصف بالإنارة لأن من السرج من لا يضىء جدا إذا قلّ سليطه ، - أي : زيته - ورقّت فتيلته. أو : شاهدا بوحدانيتنا ، ومبشرا برحمتنا ، ونذيرا بنقمتنا ، وداعيا الى عبادتنا ، وسراجا تنير الطريق إلى حضرتنا.
وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيراً ثوابا عظيما ، يربو على ثواب سائر الأمم. وفى الحديث :
«مثلكم ومثل اليهود والنصارى كمن استأجر عمالا إلى آخر اليوم ، فعملت اليهود إلى الظهر ، ثم عجزوا ، ثم عملت النصارى إلى العصر ، فعجزوا ، ثم عملتم إلى آخر النهار ، فاستحققتم أجر الفريقين ، فغضبت اليهود والنصارى ، وقالوا : نحن أكثر عملا ، وأقلّ أجرا ، فقال لهم اللّه تعالى : هل ظلمتكم من حقكم شيئا؟ قالوا : لا ، قال : فذلك فضلى أوتيه من أشاء» «1» وفى رواية : «أنهم عملوا إلى الظهر ، أو العصر ، وقالوا : لا حاجة لنا بأجرك ، فبطل أجر الفريقين». وهذا فى حق من أدرك الإسلام منهم ولم يؤمن. والحديث فى الصحيح. نقلته بالمعنى.
قال البيضاوي : ولعله معطوف على محذوف ، أي : فراقب أمتك وبشّرهم. ه.
وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ أي : دم على مخالفتهم ، وهو تهييج وتنفير عن حالهم ، وَدَعْ أَذاهُمْ أي : لا تلتفت إليه ، ولا تحتفل بشأنه. وهو من إضافة المصدر إلى الفاعل ، أي : اجعل إيذائهم إياك فى جانب ، وأنت فى جانب ، ولا تبال بهم ، ولا تخف من إيذائهم. أو : إلى المفعول ، أي : دع إيذاءك إياهم مجازاة ومؤاخذة على كفرهم. ولذلك قيل : إنه منسوخ. وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فإنه يكفيكهم ، وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا موكولا عليه ،
___________
(1) أخرجه البخاري فى (الإجارة ، باب الإجارة إلى نصف النهار ، ح 2268) من حديث سيدنا عبد اللّه بن عمر رضي اللّه عنه. [.....](4/444)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 445
ومفوضا إليه الأمر فى الأحوال كلها ، ولعله تعالى لمّا وصفه بخمسة أوصاف ، قابل كلا منها بخطاب مناسب له ، فقابل الشاهد بقوله : وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ لأنه يكون شاهدا على أمته ، وهم يكونون شهداء على سائر الأمم ، وهو الفضل الكبير ، وقابل المبشّر بالإعراض عن الكافرين والمنافقين لأنه إذا أعرض عنهم أقبل بكليته على المؤمنين ، وهو مناسب للبشارة ، وقابل النذير بدع أذاهم لأنه إذا ترك أذاهم فى العاجل ، والأذى له ، لا بد له من عقاب عاجل أو آجل ، كانوا منذرين به فى المستقبل. وقابل الداعي إلى اللّه بأمره بالتوكل عليه لأن من توكل على اللّه يسّر عليه كل عسير ، فتسهل الدعوة ، ويتيسر أمرها ، وقابل السراج المنير بالاكتفاء به وكيلا لأن من أناره اللّه وجعله برهانا على جميع خلقه كان حقيقا بأن يكتفى به عن جميع خلقه. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : قال الورتجبي : إنا أرسلناك بالحقيقة شاهدا ، أنت شاهدنا ، شاهدناك وشهدت علينا ، فألبستك أنوار ربوبيتى ، فمن شهدك بالحقيقة فقد شهدنا. قلت : لأن نوره صلى اللّه عليه وسلم أول نور ظهر من نور الحق ، فمن شهده شهد الحق.
ثم قال : ومن نظر إليك فقد نظر إلينا. قال صلى اللّه عليه وسلم : «من عرفنى فقد عرف الحق ، ومن رآنى فقد رأى الحق». ثم قال :
وَسِراجاً مُنِيراً ، أسرجت نورك من نورى ، فتنور بنوري عيون عبادى المؤمنين ، فيأتون إلىّ بنورك. ثم أمره بأن يبشر المؤمنين بأنهم يصلون إلى مشاهدته ، بلا حجاب ولا عتاب. ه.
قال القشيري : يا أيها المشرّف من قبلنا إنّا أرسلناك شاهدا بوحدانيتنا ، ومبشرا ، تبشر عبادنا بنا ، وتحذّرهم مخالفة أمرنا ، وتعلمهم مواضع الخوف منا ، وداعيا الخلق إلينا بنا ، وسراجا منيرا يستضيئون بك ، وشمسا ينبسط شعاعك على جميع من صدّقك وآمن بك ، ولا يصل إلينا إلا من اتّبعك وخدمك وقدّمك ، وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بفضلنا عليهم ، ونيلهم طولنا عليهم ، وإحساننا إليهم. ومن لم تؤثر فيهم بركة إيمانهم بك فلا قدر لهم عندنا. ولا تطع من أعرضنا عنه وأضللناه ، من أهل الكفر والنفاق ، وأهل البدع والشقاق ، وتوكل على اللّه بدوام الانقطاع إليه ، وكفى باللّه وكيلا. ه.
ثم ذكر حكم المطلقة قبل الدخول ، وأنه لا عدّة عليها. مناسب لقوله : فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ ... إلخ ، فقال :
[سورة الأحزاب (33) : آية 49]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلاً (49)(4/445)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 446
يقول الحق جل جلاله : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ أي : تزوجتموهن. والنكاح فى الأصل : الوطء ، من : تناكحت الأشجار : إذا التصق بعضها ببعض. وتسمية العقد نكاحا مجاز لملابسته له ، من حيث إنه طريق إليه ، كتسمية الخمر إثما لأنها سببه ، ولم يرد لفظ النكاح فى كتاب اللّه إلا فى معنى العقد لأنه لو استعمل فى الوطء لكان تصريحا به ، ومن آداب القرآن الكناية عنه بلفظ الملامسة ، والمماسة ، والقربان ، والتغشى ، والإتيان ، تعليما للأدب والحياء. وفى تخصيص المؤمنات ، مع أن الكتابيات تساوى المؤمنات فى هذا الحكم ، إشارة إلى أن الأولى للمؤمن أن ينكح المؤمنة ، تخييرا للنطفة. والمعنى : إذا تزوجتم النساء ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ تجامعوهن. والخلوة الصحيحة كالمسّ ، فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها أي : تستوفون عددها ، وتعدونها عليهن ، من : عددته الدراهم فاعتدها ، كقوله : كلته الطعام فاكتاله. والإسناد إلى الرجال للدلالة على أن العدّة تجب على النساء لحق الأزواج ، كما يشعر به ، فَما لَكُمْ. والإتيان ب «ثم» إزاحة ما عسى أن يتوهم أن تراخى الطلاق [ربما يمكن الإصابة فتجب العدة] «1».
فَمَتِّعُوهُنَّ بشىء من المال ، وهذا فى المفوض لها قبل الفرض ، وأما المفروض لها ، أو المسمى صداقها ، فتأخذ نصف مهرها ، ولا متعة لها على المشهور. وَسَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلًا أي : لا تمسكوهنّ ضرارا ، وأخرجوهن من بيوتكم إذ لا عدة لكم عليهن. قال القشيري : (سراحا جميلا) لا تذكروهن بعد الفراق إلا بخير ، ولا تستردوا منهن شيئا ، ولا تجمعوا عليهن سوء الحال والإضرار من جهة المال. ه.
الإشارة : أيها المريدون إذا طلقتم نفوسكم ، وغبتم عنها بخمرة قوية ، من قبل أن تمسوهن بمجاهدة ولا مخالفة ، فمتعوها بالشهود ، وسرحوا فكرتها فى ذات المعبود ، سراحا جميلا ، لا حجر فيه ولا حصر ، فمن رزقه اللّه الغيبة عن نفسه ، حتى غاب عن حظوظها وهواها ، فقد كفاه اللّه قتالها ، فيدخل الحضرة بلا مشقة ولا تعب ، لكنه نادر ، وعلى تقدير وجوده يكون ناقص التربية لأنه يكون كمن طويت له الطرق للحج ، فلا يعرفها كما يعرفها من سافر فيها ، وكابد مشقتها ، وعرف منازلها ومياهها ، ووعرها وسهلها ، ومخوفها ومأمونها ، وكلهم أولياء للّه تعالى ، لكن طريق التربية أن يكون المريد سلك الطريقة ، وقاس شدائد نفسه ، وعالجها ليعالج غيره بما يعالج نفسه ، على يد شيخ عارف بالطريق. وباللّه التوفيق.
___________
(1) العبارة كما فى البيضاوي : [وفائدة «ثم» إزاحة ما عسى أن يتوهم تراخى الطلاق ريثما تمكن الإصابة ، كما يؤثر فى النسب يؤثر فى العدة].(4/446)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 447
ثم وسّع على نبيه فى باب النكاح ، فقال تعالى :
[سورة الأحزاب (33) : آية 50]
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللاَّتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ اللاَّتِي هاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (50)
يقول الحق جل جلاله : يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ مهورهن إذ المهر أجر البضع ، ولذا قال الكرخي - من الحنفية - : إن النكاح بلفظ الإجارة جائز ، والجواب : أن التأبيد من شرط النكاح ، والتأقيت من شرط الإجارة ، وبينهما منافاة ، وإيتاؤها : إعطاؤها عاجلا ، أو فرضها فى المفوض ، وتسميته فى المسمى. والمراد بالأزواج المحلّلة له - عليه الصلاة والسلام - : نساؤه اللاتي فى عصمته حينئذ ، كعائشة وغيرها ، وكان قد أعطاهن مهورهن ، أو : جميع النساء اللاتي يريد أن يتزوجهن ، فأباح له جميع النساء.
وهذا أوسع.
وَأحللنا لك ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ من السّرارى مِمَّا أَفاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ من الغنائم ، وهى صفية ، أعتقها وتزوجها ، وَبَناتِ عَمِّكَ ، وَبَناتِ عَمَّاتِكَ ، وَبَناتِ خالِكَ ، وَبَناتِ خالاتِكَ ، يعنى قرابتك ، التي من جهة أبيك ، ومن جهة أمك. وكان له - عليه الصلاة والسلام - أعمام وعمات ، أخوة لأبيه ، ولم يكن لأمه صلى اللّه عليه وسلم أخ ولا أخت ، فإنما يعنى بخاله وخالته : عشيرة أمه ، وهم بنو زهرة ، ولذلك كانوا يقولون : نحن أخوال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. فإذا قلنا : المراد بقوله : أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ من كان فى عصمته ، فهذا عطف عليهن ، وإباحة لأن يتزوج قرابته ، زيادة على من كان فى عصمته ، وإذا قلنا : المراد : جميع النساء ، فهذا تحديد لهن ، على وجه التشريف ، بعد دخولهن فى العموم. وقوله : اللَّاتِي هاجَرْنَ مَعَكَ ، قيد فى حلّية قرابته - عليه الصلاة والسلام - . قالت أم(4/447)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 448
هانئ : خطبنى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فاعتذرت إليه ، فعذرنى ، فأنزل اللّه هذه الآية ، فلم أحلّ له لأنى لم أهاجر معه ، كنت من الطلقاء «1».
و«مع» هنا : ليست للاقتران ، بل لوجود الهجرة فقط ، كقوله : أَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ
«2».
وَأحللنا لك امْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ من غير مهر ولا عقد ، فهو منصوب بفعل يفسره ما قبله ، أو : عطف على ما سبقه ، ولا يدفعه أن «التي» للاستقبال لأن المعنى بالإحلال : الإعلام بالحلّ ، أي :
أعلمناك حلّ امرأة مؤمنة وهبت لك نفسها ، ولا تطلب مهرا إن اتفق ، ولذلك نكّرها. واختلف فى اتفاق ذلك ، والقائل به ذكر أربعا : ميمونة بنت الحارث ، حين جاءها الخاطب ، قالت : البعير وما عليه لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فتزوجها. وزينب بنت خزيمة الأنصارية ، أم المساكين ، وتوفيت فى حياته صلى اللّه عليه وسلم ، وأم شريك بنت جابر الأسدية ، وقيل : أم شريك العامرية ، قيل : إن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم تزوجها ، ولم يثبت ذلك. ذكره ابن عبد البر. وخولة بنت حكيم السلمية. ذكر البخاري عن عائشة أنها قالت : كانت خولة بنت حكيم من اللائي وهبن أنفسهن. قال أبو نعيم :
تزوجها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ولم يدخل بها. قال السهيلي : فدلّ أنهن كن غير واحدة. واللّه أعلم. ه. وقال ابن عباس : هو بيان حكم فى المستقبل ، ولم يكن عنده أحد منهن بالهبة ، فانظره «3».
وقرأ الحسن بفتح «أن» على حذف لام التعليل. وقرأ ابن مسعود رضي اللّه عنه بغير «إن» أي : وأحللنا لك امرأة مؤمنة وهبت نفسها للنبى إن أراد النبي أن يستنكحها ، أي : طلب نكاحها والرغبة فيها. وقيل : نكح واستنكح بمعنى واحد.
والشرط الثاني تقييد للأول ، كأنه قال : أحللنا لك امرأة إن وهبت نفسها ، وأنت تريد أن تستنكحها ، وإرادته هى :
قبول [الهبة] «4».
جعلنا ذلك خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ، بل يجب عليهم المهر ، تسمية أو فرضا. وفيه إيذان بأنه مما خص به - عليه الصلاة والسلام - لشرف نبوته ، وتقرير لاستحقاقه الكرامة. قال ابن جزى : وانظر كيف رجع من الغيبة إلى الخطاب ليخص المخاطب وحده. وقيل : إن «خالصة» يرجع إلى كل ما تقدم من النساء المباحات له
___________
(1) أخرجه الترمذي فى (التفسير - سورة الأحزاب 5/ 331 ، ح 3214) ، والحاكم وصححه ووافقه الذهبي (2/ 420) ، والبيهقي فى السنن (7/ 54) وابن جرير فى التفسير (22/ 20) والطبراني فى الكبير (24/ 405 ح 985) وقال الترمذي : حسن صحيح.
(2) من الآية 44 من سورة النمل.
(3) انظر : تفسير القرطبي (6/ 5443) والبحر المحيط (7/ 233).
(4) فى الأصول : الهدية.(4/448)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 449
صلى اللّه عليه وسلم لأن سائر المؤمنين قصّروا على أربع نسوة ، وأبيح له - عليه الصلاة والسلام - أكثر من ذلك. ومذهب مالك :
أن النكاح بلفظ الهبة لا ينعقد ، خلافا لأبى حنيفة. ه. قلت : إن قرنه ذكر الصداق جاز ، كما فى المختصر.
و(خالصة) : مصدر مؤكد ، أي : خلص إحلالها ، أو : إحلال ما أحللنا لك على القيود المذكورة خلوصا لك. أو :
حال من الضمير فى (وهبت) ، أو : صفة لمصدر محذوف ، أي : هبة خالصة لك.
قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ أي : ما أوجبنا من المهور على أمتك فى زوجاتهم ، أو :
ما أوجبنا عليهم فى أزواجهم من الحقوق ، كالنفقة وحسن المعاشرة ، أو : ما فرضنا عليهم من الاقتصار على الأربع ، أو : ما أوجبنا عليهم من الإشهاد والولي ، وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ بالشراء وغيره من وجوه الملك ، فقد علمنا ما فرضنا عليهم من الإنفاق والرفق ، وألا يكلفوهن ما لا طاقة لهن به ، مع حليّة الوطء ، ولو تعددن. وإنما وسّعنا عليك فى أمر النساء لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ ضيق ، وهو راجع لقوله : خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ.
والجملة من قوله : قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا .. إلخ : اعتراضية للدلالة على أن الفرق بينه وبين المؤمنين فى نحو ذلك ليس لمجرد التوسيع عليه ، بل لمعان تقتضى التوسيع عليه والتضييق عليهم تارة ، والعكس أخرى ، كنكاح الكتابية والأمة ، فتحرمان عليه صلى اللّه عليه وسلم دون أمته. وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً بالتوسعة على عباده ، أو : غفورا لما يعسر التجرد عنه ، رحيما بالتوسعة فى مظان الحرج.
الإشارة : قد وسّع اللّه على خواصه فى باب النكاح ، وأمدهم فى ذلك بالقوة ، وأعطاهم من الباءة ما لم يعط غيرهم ، تشريفا وترغيبا فى هذا الأمر ، لإبقاء النسل الطيب ، ولما فيه من التوسعة فى المعرفة ، وحسن الخلق ، وتعلم السياسة ، فدلّ ذلك أن كثرة النساء لا ينافى الزهد ، ولا يقدح فى كمال المعرفة ، بل يزيد فيها. قال الإمام ابن منصور المقدسي ، فى شرح منازل السائرين - فى باب الزهد - : ومتعلق الزهد ستة أشياء ، لا يستحق العبد اسم الزهد حتى يزهد فيها ، وهى : المال ، والرئاسة ، والناس ، والنفس ، وكل ما دون اللّه. وليس المراد رفضها عن الملك ، فقد كان داود وسليمان - عليهما السلام - من أزهد أهل زمانهما ، ولهما من الملك والنساء والملك ما لهما. وكان نبينا صلى اللّه عليه وسلم أزهد البشر على الإطلاق ، وله تسع نسوة ، وكان علىّ بن أبى طالب - كرم اللّه وجهه ، وعبد الرحمن بن عوف ، والزبير ، وعثمان - رضوان اللّه عليهم - من الزهاد ، مع مالهم من الأموال - أي : والنساء - فكان لعلىّ رضي اللّه عنه أربع حرائر ، وسبعة عشر سرية ، ولعبد الرحمن بن عوف والزبير أربع أربع ، ولعثمان كذلك. وتزوج المغيرة بن شعبة تسعا وتسعين امرأة. ثم قال : وكان الحسن بن علىّ - رضى اللّه عنهما - من الزهاد ، مع أنه كان من أكثر الأمة محبة للنساء ونكاحهن. ثم قال : ومن أحسن ما قيل فى الزهد كلام الحسن وغيره ، قال : ليس الزهد فى الدنيا(4/449)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 450
بتحريم الحلال ، ولا بإضاعة المال ، وإنما الزهد أن تكون بما فى يد اللّه أوثق منك بما فى يدك ، وأن تكون فى ثواب المصيبة إذا أصبت بها أرغب منك فيها لو لم تصبك. انتهى المقصود منه.
ثم وسّع على نبيه فى القسمة ، فقال :
[سورة الأحزاب (33) : آية 51]
تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَلِيماً (51)
يقول الحق جل جلاله لرسوله صلى اللّه عليه وسلم : تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ أي : تؤخرها فى القسمة ، وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ أي : تضمها إليك ، والمعنى : تترك مضاجعة من تشاء منهن وتضاجع من تشاء ، فقد خيّره اللّه فى القسمة وعدمها. قال أبو رزين : لما نزلت آية التخيير أشفقن أن يطلّقن ، فقلن : يا نبىّ اللّه اجعل لنا من مالك ونفسك ما شئت ، ودعنا على حالنا «1» ، فكان ممن أرجى منهن : سودة ، وجويرية ، وصفية ، وميمونة ، وأم حبيبة ، فكان يقيم لهن ما يشاء ، وكان ممن آوى إليه عائشة ، وحفصة ، وأم سلمة ، وزينب ، فكان يقسم لهن بالسوية «2» ، لا يفضل بعضهن على بعض. فآوى أربعا وأرجى خمسا. وقيل : إنه كان صلى اللّه عليه وسلم يسوّى بين الجميع فى القسم ، إلا سودة ، فإنها وهبت ليلتها لعائشة ، حين هم بطلاقها ، وقالت : لا تطلّقنى حتى أحشر فى زمرتك وفى نسائك. والجمهور على أنه صلى اللّه عليه وسلم كان يعدل فى القسمة بين نسائه ، أخذا منه بأفضل الأخلاق ، مع أن اللّه خيّره. وقيل : (ترجى من تشاء) أي : تطلق من تشاء منهن ، وتمسك من تشاء. وقيل : تترك تزوج من شئت من أمتك ، وتتزوج من شئت.
وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ أي : ومن دعوت إلى فراشك ، وطلبت صحبتها ، ممن عزلت عن نفسك بالإرجاء ، فلا ضيق عليك فى ذلك ، أي : ليس إذا عزلتها من القسمة ، أو من العصمة ، لم يجز لك ردّها إلى نفسك ، بل افعل ما شئت ، فلا حرج عليك. ذلِكَ التفويض إلى مشيئتك أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ أي : هو أقرب إلى قرة أعينهن ، وقلة حزنهن ، ورضاهن جميعا لأنه إذا علمن أنّ هذا الحكم من عند اللّه اطمأنت نفوسهنّ ، وذهب التغاير ، وحصل الرضا ، وقرّت العيون.
___________
(1) أخرجه بمعناه الطبري (22/ 26) عن أبى رزين. وانظر أسباب النزول للواحدى (ص : 371).
(2) عزاه الحافظ ابن حجر فى الكافي (ص 135 ح 232) لابن أبى شيبة ، وعبد الرزّاق ، عن أبى رزين ، وهذا مرسل.(4/450)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 451
قلت : والذي يظهر أن من أرجاه صلى اللّه عليه وسلم من النساء إنما كان بوحي ، ومن ضمه كذلك إذ لا يتصرف إلا بإذن من اللّه ، فإذا علم النساء أن الإرجاء والإيواء كان بوحي من اللّه رضين بذلك ، وقرت أعينهن ، وزال تغايرهن ، وأما مطلق التفويض إليه فقط ، فلا يقطع الغيرة فى العادة ، فالإشارة تعود إلى حكم الإرجاء والإيواء فتأمله. و«كلهن» :
تأكيد ضمير «يرضين».
وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ من أمر النساء ، والميل إلى بعضهن ، أو : يعلم ما فى قلوبكم من الرضا بحكم اللّه والتفويض إليه ، ففيه تهديد لمن لم يرض منهن بما دبّر اللّه ، وفوّض إلى رسوله ، وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً بذات الصدور ، حَلِيماً لا يعاجل بالعقوبة ، فهو حقيق بأن يتقى ويحذر.
الإشارة : إذا تحقق فناء العبد وزواله ، وتكملت ولايته ، كان مفوضا إليه فى الأمور ، يفعل ما يشاء ، ويترك ما يشاء ، لم يبق عليه تحجير ، ولم يتوجه إليه عتاب لأن العبد المملوك إذا تحققت محبة سيده له ، كتب له عقد التحرير. وشاهده حديث : «إذا أحبّ اللّه عبدا لم يضره ذنب» «1» ، وحديث البخاري : «لعلّ اللّه اطّلع على أهل بدر فقال : اعملوا ما شئتم ، فقد غفرت لكم» «2» ، وسببه معلوم.
وفى القوت عن زيد بن أرقم : إن اللّه عز وجل ليحب العبد ، حتى يبلغ من حبه أن يقول له : اصنع ما شئت ، فقد غفرت لك. وقال الشيخ أبو الحسن الشاذلى رضى اللّه عنه : يبلغ الولي مبلغا يقال له : أصحبناك السلامة ، وأسقطنا عنك الملامة ، فاصنع ما شئت. ومصداقه من كتاب اللّه : قوله تعالى فى حق سليمان عليه السّلام : هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ «3». وهذا وإن كان للنبى من أجل العصمة ، فلمن كان من الأولياء فى مقام الإمامة قسط منه ،
___________
(1) ذكره الغزالي فى الإحياء (كتاب المحبة 4/ 345) من حديث أنس بن مالك رضي اللّه عنه. وقال العراقي فى المغني : ذكره صاحب الفردوس - الديلمي - ولم يخرجه ولده فى مسنده. ه. والحديث أخرجه - مطولا - القشيري فى الرسالة (باب التوبة/ 76) عن شيخه «ابن فورك» بسنده عن أنس. وزاد الزبيدي فى إتحاف السادة المتقين (9/ 609) عز والحديث لابن أبى الدنيا ، وابن النجار فى تاريخه.
قلت : معناه : أنه إذا أحب اللّه العبد تاب عليه قبل الموت ، فلم تضره الذنوب الماضية ، ولو كثرت ، كما لا يضر الكفر الماضي قبل الإسلام.
(2) جزء من حديث ، أخرجه بطوله البخاري فى (الجهاد ، باب الجاسوس ، ح 3007) ومسلم فى (فضائل الصحابة ، باب من فضائل أهل بدر - رضى اللّه عنهم 4/ 1941 - 1942 ، ح 2494) عن سيدنا علىّ بن أبى طالب رضي اللّه عنه.
وسبب الحديث : أن حاطب بن أبى بلتعة ، أرسل رسالة مع امرأة إلى قريش ، يخبرهم فيه ببعض أمر رسول صلى اللّه عليه وسلم ، فلما أتى برسالة إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم ، قال : «يا خاطب! ما هذا؟» قال : لا تعجل علىّ يا رسول اللّه! إنى كنت امرأ ملصقا فى قريش ، وكان ممن كان معك من المهاجرين ، لهم قرابات بمكة يحمون بها أهليهم ، فأحببت إذا فاتنى ذلك من النسب فيهم ، أن أتخذ فيهم يدا ، يحمون بها قرابتى ، ولم أفعل كفرا ولا ارتدادا عن دينى ، ولا رضا بالكفر بعد الإسلام. فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم : «صدق» فقال عمر : دعنى ، يا رسول اللّه أضرب عنق هذا المنافق فقال : «إنه قد شهد بدرا ..» الحديث.
(3) الآية 39 من سورة «ص».(4/451)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 452
من أجل الحفظة. وقال أيضا رضي اللّه عنه فى بعض أدعيته : وأدرج أسمائى تحت أسمائك ، وصفاتى تحت صفاتك ، وأفعالى تحت أفعالك ، درج السلامة ، وإسقاط الملامة ، وتنزل الكرامة ، وظهور الإمامة. ه.
فإذا اندرجت أسماء العبد وصفاته وأفعاله تحت أسماء الرب ، وصفاته ، وأفعاله ، لم يبق للعبد وجود أصلا ، وكان الفعل كله باللّه ، ومن اللّه ، وإلى اللّه. وهذا مقام عزيز ، لا يناله إلا الأفراد من أهل الفناء فى اللّه ، والبقاء باللّه ، وقد غطى وصفهم بوصفه ، ونعتهم بنعته ، فغيّبهم عن اسمهم ورسمهم ، فهم باللّه فيما يفعلون ويذرون. واللّه تعالى أعلم.
ثم قال تعالى :
[سورة الأحزاب (33) : آية 52]
لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلاَّ ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً (52)
يقول الحق جل جلاله : لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ أي : من بعد التسع ، اللاتي خيرتهن فاخترنك لأن التسع نصاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، كما أن الأربع نصاب أمته. لمّا اخترن اللّه ورسوله والدار الآخرة قصره اللّه عليهن ، وقيل : هى منسوخة كما يأتى. أو : لا يحلّ لك نساء الأجانب ، وإنما لك نساء قرابتك ، كبنات عمك ، وبنات عماتك ، وبنات خالك ، وبنات خالاتك ، فيحل لك منهن ما شئت ، ولو ثلاثمائة ، أو أكثر. أو : لا يحل لك النساء من غير المسلمات ، كالكتابيات والمشركات. وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ بالطلاق. والمعنى : ولا أن تستبدل بهؤلاء التسع أزواجا ، بكلهن أو بعضهن ، كرامة لهن ، وجزاء على ما اخترن ورضين. فقصر رسوله صلى اللّه عليه وسلم على التسع اللاتي مات عنهن. وقال أبو هريرة وابن زيد : كانت العرب فى الجاهلية يتبادلون بالأزواج ، يعطى امرأة هذا أياما ويأخذ امرأته ، فأنزل اللّه : وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ بأن تعطي بعض أزواجك وتأخذ بعض أزواجهم ، إِلَّا ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ ، فلا بأس أن تبادل بجاريتك. و«من» : لتأكيد النفي ليفيد استغراق جنس الأزواج بالتحريم ، وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ أي : حسن الأزواج المتبدلة. وقيل : هى أسماء بنت عميس ، امرأة جعفر بن أبى طالب ، فإنها ممن أعجبه حسنهنّ.
وعن عائشة وأم سلمة ، (ما مات رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. حتى أحلّ اللّه له أن يتزوج من النساء ما شاء) «1» ، يعنى أن الآية نسخت إما بالسنّة ، أو : بقوله : إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ. وترتيب النزول ليس على ترتيب
___________
(1) أخرجه ، عن السيدة عائشة ، رضى الله عنها ، أحمد فى المسند (4/ 41) والترمذي فى (التفسير - سورة الأحزاب 5/ 332 ، ح 3216) وقال : حديث حسن صحيح. والنسائي فى (النكاح ، باب ما افترض اللّه عز وجل على رسوله صلى اللّه عليه وسلم وحرمه على خلقه ، 6/ 56) والدارمي فى (النكاح ، باب قول اللّه تعالى : لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ 2/ 205 ، ح 2241) وصححه الحاكم (2/ 437) ووافقه الذهبي.(4/452)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 453
المصحف. إِلَّا ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ استثناء من النساء لأنه يتناول الأزواج ، وقيل : منقطع ، أي : لكن ما ملكت يمينك ، فيحل لك ما شئت ، وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً حافظا ومطلعا. وهو تحذير عن مجاوزة حدوده.
واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : من نكح أبكار الحقائق العرفانية ودخل بأسرار العلوم اللدنية ، لا يحل له أن ينكح ثيبات نساء العلوم الرسمية ، ولا أن يتبدل بما عنده من المواهب الربانية ، بغيرها من العلوم اللسانية ، ولو أعجبك حسنها ورونقها - على الفرض والتقدير - إذ التنزل إليها بطالة عند المحققين ، إلا ما كنت تملكه قبل علم الحقيقة ، فلا بأس أن تنزل إلى تعليمه وإفادته ، إن توسعت فى علم الباطن ، وصرت من الأغنياء الكبار ، تنفق كيف تشاء ، فلا يضرك حينئذ التنزل إلى علم الظاهر. وقد كان شيخ شيوخنا سيدى يوسف الفاسى رضي اللّه عنه عنده مجلسان مجلس لأهل الظاهر ، ومجلس لأهل الباطن. فإن كان فى مجلس الظاهر ، وجاء إليه أحد من الفقراء ، يقول : اذهب حتى نأتى إلى مجلسكم ، وإن كان فى مجلس أهل الباطن ، وجاء إليه أحد من أهل الظاهر ، قال : اذهب حتى نأتى إليكم. وكان له هذا بعد الرسوخ فى علم الحقيقة. وباللّه التوفيق.
ولمّا أو لم - عليه الصلاة والسلام - على زينب ، جلس قوم فى بيته يتحدثون ، فأنزل اللّه تعالى فى شأنهم :
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 53 الى 54]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً (53) إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (54)
يقول الحق جل جلاله : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ وكانت تسعا ، إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ أي : إلا وقت أن يؤذن لكم ، أو : إلا مأذونا لكم ، فجملة : (إلا أن يؤذن) : فى موضع الحال ، أو الظرف. و(غير ناظرين) : حال من (لا تدخلوا) ، وقع الاستثناء على الوقت والحال ، كأنه قيل : لا تدخلوا بيوت(4/453)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 454
النبي إلا وقت الإذن ، ولا تدخلوها إلا غَيْرَ ناظِرِينَ أي : منتظرين إِناهُ أي : إدراكه ونضجه. قال ابن عزيز : إناه : بلوغ وقته ، يقال : أنى يأنى ، وآن يئين : إذا شهى ، بمنزلة : حان يحين. ه. وقال الهروي : أي :
غير ناظرين نضجه وبلوغ وقته ، مكسور الهمزة مقصور ، فإذا فتحت مددت ، فقلت : الإناء ، أي غير ناظرين وقت الطعام وساعة أكله.
روى أن النبي صلى اللّه عليه وسلم أو لّم على زينب بتمر وسويق ، وذبح شاة ، وأمر أنسا أن يدعوا الناس ، فترادفوا أفواجا ، يأكل كل فوج ، فيخرج ، ثم يدخل فوج ، إلى أن قال : يا رسول اللّه دعوت حتى ما أجد أحدا أدعوه. فقال : «ارفعوا طعامكم» وتفرق الناس ، وبقي ثلاثة نفر يتحدثون ، فأطالوا ، فقام رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ليخرجوا ، فطاف بالحجرات ، وسلم عليهن ، ودعون له ، ورجع ، فإذا الثلاثة جلوس يتحدثون. وكان صلى اللّه عليه وسلم شديد الحياء ، فتولى ، فلما رأوه متوليا خرجوا ، فنزلت الآية ، وهى آية الحجاب. قال أنس : فضرب بينى وبينه الحجاب «1».
قال تعالى : وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا ، فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا : تفرقوا ، وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ أي : ولا تدخلوها حال كونكم مستأنسين لحديث ، أو : غير ناظرين ولا مستأنسين ، فهو منصوب ، أو مجرور ، عطف على «ناظرين» ، نهوا أن يطيلوا الجلوس فى بيته صلى اللّه عليه وسلم مستأنسين بعضهم ببعض ، لأجل حديث يتحدثون به ، إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ من إخراجكم وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ ، يعنى أن إخراجكم حق ، ما ينبغى أن يستحى منه ، ولا يترك بيانه ، حياء ، أو : لا يأمر بالحياء فى الحق ، ولا يشرع ذلك.
وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ أي : نساء النبي صلى اللّه عليه وسلم ، بدلالة البيوت عليهن لأن فيها نساءه ، مَتاعاً عارية أو حاجة ، فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ستر ، ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ من خواطر الشيطان وعوارض الفتن. وكانت النساء قبل هذه الآية يبرزن للرجال ، وكان عمر رضي اللّه عنه يحب ضرب الحجاب عليهن ، ويودّ أن ينزل فيه ، وقال : يا رسول اللّه : يدخل عليك البرّ والفاجر ، فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب؟ فنزلت «2».
وقيل : إنه عليه الصلاة والسلام ، كان يطعم ومعه بعض أصحابه ، فأصابت يد رجل يد عائشة ، فكره النبىّ صلى اللّه عليه وسلم ذلك فنزلت الآية «3». واللّه تعالى أعلم.
___________
(1) أخرجه البخاري فى (التفسير ، سورة الأحزاب ، ح 4793) وفى (الاستئذان) ، ومسلم فى (النكاح ، باب زواج زينب بنت جحش 2/ 1052 ، ح 95 من كتاب النكاح) من حديث سيدنا أنس رضي اللّه عنه.
(2) أخرجه البخاري فى (التفسير ، باب : واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى ، ح 4483). عن أنس رضي اللّه عنه.
(3) أخرجه الطبري فى التفسير (22/ 39) والواحدي فى أسباب النزول (ص 374) عن مجاهد ، مرسلا. [.....](4/454)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 455
الإشارة : العلماء ومشايخ التربية ورثة الأنبياء ، فإذا دعوا إلى طعام فلا يدخل أحد حتى يؤذن له ، فإذا طعموا فلينتشروا ، وإذا سأل أحد حاجته من أهل دار الشيخ فليسأل من وراء الباب ، وليتنح عن مقابلة الباب لئلا يتكشف على عرض شيخه ، فيسىء الأدب معه ، وهو سبب الخسران.
ثم نهى عن تزوج نساء النبي صلى اللّه عليه وسلم ، فقال :
وَما كانَ لَكُمْ ...
يقول الحق جل جلاله : وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ أي : ما صحّ لكم إيذاء رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وهو كفر ، وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً تعظيما لحرمته صلى اللّه عليه وسلم ، ولبقاء عصمته عليهن ، ولذلك وجبت نفقتهن بعده ، لقوله : «ما بقي بعد نفقة أهلى صدقة». وكذا السكنى كما قد علم ، وبه قال ابن العربي.
وعطف (و لا أن تنكحوا) على (أن تؤذوا) من عطف الخاص على العام إذ تزوج نسائه من أعظم الإيذاء. إِنَّ ذلِكُمْ أي : الإيذاء أو التزوج كانَ عِنْدَ اللَّهِ ذنبا عَظِيماً.
إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً من أذى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، أو نكاح أزواجه ، أَوْ تُخْفُوهُ فى أنفسكم ، فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً ، فيعاقبكم عليه. روى أن رجلا من الصحابة قال : لئن قبض النبي صلى اللّه عليه وسلم لأنكحنّ عائشة ، فنزلت ، فحرّمن «1». وفيه نزلت : إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً أي : من نكاح عائشة ، أَوْ تُخْفُوهُ ... إلخ. وكان - عليه الصلاة والسلام - ملك قتيبة بنت الأشعث بن قيس ، ولم يبن بها ، فتزوجها عكرمة بن أبى جهل ، بعد ذلك ، فهمّ به أبو بكر ، وشقّ عليه ، حتى قال له عمر : يا خليفة رسول اللّه ، ليست من نسائه ، ولم يخيرها ، ولم يحجبها ، وقد برأها اللّه منه بالردة ، حين ارتدت مع قومها ، فسكن أبو بكر. وقال الزهري : إن العالية بنت ظبيان ، التي طلق النبىّ صلى اللّه عليه وسلم تزوجت رجلا وولدت له قبل أن يحرم أزواج النبي صلى اللّه عليه وسلم «2».
___________
(1) ذكره الواحدي فى أسباب النزول (ص 374) بدون سند. وعزاه السيوطي فى الدر المنثور (5/ 404) لابن مردويه ، عن ابن عباس رضي اللّه عنه.
(2) أخرجه البيهقي فى الكبرى (7/ 73) عن يونس ، عن ابن شهاب ، بلاغا.(4/455)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 456
الإشارة : مذهب الصوفية تشديد الأدب مع الأشياخ ، فإذا مات الشيخ ، أو طلّق امرأة بعد الدخول ، فلا يتزوجها أحد من تلامذته أبدا ، تعظيما وأدبا مع الشيخ. وأما تزوج بنت الشيخ فلا بأس ، إن قدر على القيام بالأدب معها ، والصبر على أذاها ، وإلا فالبعد أحسن وأسلم ، واللّه تعالى أعلم.
قال القشيري : قوله تعالى إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً .... الآية : حفظ القلب مع اللّه تعالى ، ومراعاة الأمر - بينه وبين اللّه على الصّحة فى دوام الأوقات لا يقوى عليه إلا الخواصّ ، من أهل الحضور. ه.
ثم رخّص للأقارب أن يدخلوا على أزواج النبي صلى اللّه عليه وسلم ، فقال :
[سورة الأحزاب (33) : آية 55]
لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ وَلا أَبْنائِهِنَّ وَلا إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ أَخَواتِهِنَّ وَلا نِسائِهِنَّ وَلا ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً (55)
يقول الحق جل جلاله : لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ وَلا أَبْنائِهِنَّ وَلا إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ أَخَواتِهِنَّ أن يدخلوا عليهن بلا حجاب. قال ابن عباس : لما نزلت آية الحجاب قال الآباء والأبناء والأقارب : ونحن أيضا نكلمهن من وراء حجاب ، فنزلت : لا جُناحَ ... إلخ ، أي : لا إثم عليهن فى أن لا يحتجبن من هؤلاء. ولم يذكر العم والخال لأنهما يجريان مجرى الوالدين. وقد جاء تسمية العم أبا فى قوله تعالى : نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ .. «1» وإسماعيل عم يعقوب ، فسمّاه أبا. وذكر القاضي إسماعيل ، عن الحسن والحسين : أنهما كانا لا يريان أمهات المؤمنين. وقال ابن عباس : إن رؤيتهما لهن تحل ، أي : لأنهما ولدا البعل. قال القاضي : وأحسب أن الحسن والحسين ذهبا فى ذلك إلى أن أبناء البعولة لم يذكروا فى الآية. وقال فى سورة النور : وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إلى قوله : ... أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ «2» ، فذهب ابن عباس إلى ما فى سورة النور ، وذهب الحسن والحسين إلى ما فى هذه السورة. ه.
___________
(1) الآية 133 من سورة البقرة.
(2) الآية 31 من سورة النور.(4/456)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 457
وَلا نِسائِهِنَّ أي : نساء المؤمنات ، فلا حجاب عليهن ، وَلا ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ من العبيد والإماء.
وقيل : من الإماء خاصة ، وأما العبيد فهم كالأجانب. وهو المشهور ، وَاتَّقِينَ اللَّهَ فيما أمرتن به من الحجاب ، وما نزل فيه الوحى من الاستتار ، واحتطن فى ذلك. ونقل الكلام فيه من الغيبة إلى الخطاب لشدة التهديد ، ولذا قال : إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً عالما يعلم خطرات القلوب وهواجسها ، فيعاتب عليها.
الإشارة : ما قيل فى أزواج النبي صلى اللّه عليه وسلم يقال فى نساء المشايخ والعلماء ، فتحتجبن من جميع الخلق ، إلا من محارمهن ، ولا يمنعهن من إدخال محارمهن عليهن إلا جامد أو جاهل ، ولا ينبغى لأحد أن يمنع زوجه من لقاء محرمها والدخول عليها إلا لفساد بيّن. وباللّه التوفيق.
ثم أمر بالصلاة على رسوله صلى اللّه عليه وسلم وحضّ عليها ، بعد أن أمر بتعظيمه واحترامه ، فقال :
[سورة الأحزاب (33) : آية 56]
إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً (56)
يقول الحق جل جلاله : إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يعتنون بإظهار شرفه وتعظيم شأنه.
وقال صاحب المغني : الصواب عندى : أن الصلاة لغة بمعنى واحد ، وهو العطف ، ثم العطف بالنسبة إلى اللّه تعالى :
الرحمة ، وإلى الملائكة : الاستغفار ، وإلى الآدميين : دعاء. واختاره السّهيلى قبله. والمراد بالرحمة منه تعالى غايتها ، وهو إفاضة الخير والإحسان ، لا رقة القلب ، الذي هو معنى الرحمة حقيقة. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ أي : قولوا : اللهم صلّ على محمد - أو : صلى اللّه على محمد. وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً أي : قولوا : اللهم سلّم على محمد ، أو : صلّ وسلّم على محمد ، أو : انقادوا لأمره وحكمه ، انقيادا كليا.
وعن كعب بن عجرة : قلنا : يا رسول اللّه ، أما السلام عليك ، فقد عرفناه ، فكيف الصلاة عليك؟ قال : «قولوا اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد ، كما صلّيت على ابراهيم ، إنك حميد مجيد ، اللهمّ بارك على محمد وعلى آل محمد ، كما باركت على إبراهيم ، إنك حميد مجيد» «1». ومعرفتهم السلام من التشهد. والصلاة على غير الأنبياء
___________
(1) أخرجه البخاري فى (التفسير - سورة الأحزاب ، باب : إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ ح 4797).(4/457)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 458
بالتبع جائزة. وأما بالاستقلال فمكروه ، وهو من شعار الروافض. ه. قال الكواشي : روى أنه قيل يا رسول اللّه : أرأيت قول اللّه تعالى : إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ .. الآية؟ فقال : هذا من العلم المكنون ، ولو لا أنكم سألتمونى عنه ما أخبرتكم ، إن اللّه وكل بي ملكين ، فلا أذكر عند عبد مسلم ، فيصلى علىّ ، إلا قال ذانك الملكان : غفر اللّه لك.
وقال اللّه وملائكته جوابا لذينك الملكين : آمين. ولا أذكر عند عبد مسلم ، فلا يصلى علىّ إلا قال ذانك الملكان :
لا غفر اللّه لك. وقال اللّه جوابا لذينك الملكين : آمين «1». ه.
والصلاة على النبي صلى اللّه عليه وسلم واجبة. فمنهم من أوجبها عند ذكره كلما ذكر ، وعليه الجمهور ، وهو الاحتياط للحديث المتقدم. ولقوله صلى اللّه عليه وسلم : «من ذكرت عنده فلم يصلّ علىّ دخل النار». ومنهم من أوجبها فى كل مجلس مرة ، وإن تكرر ذكره ، كتشميت العاطس وآية السجدة. ومنهم من أوجبها مرة فى العمر. قالوا : وكذلك الخلاف فى إظهار الشهادتين ، وأما ذكرها فى الصلاة فليست شرطا عند أبى حنيفة ومالك ، خلافا للشافعى ، والاحتياط : الإكثار منها بغير حصر ، ولا يغفل عنها إلا من لا خير فيه. واختلف هل كانت الأمم الماضية متعبدة بالصلاة على أنبيائهم. قال القسطلاني : إنه لم ينقل إلينا ذلك ، ولا يلزم من عدم النقل عدم الوقوع. ه.
الإشارة : اعلم أن الصلاة عليه صلى اللّه عليه وسلم سلم ومعراج الوصول إلى اللّه لأن تكثير الصلاة عليه صلى اللّه عليه وسلم توجب محبته ، ومحبته - عليه الصلاة والسلام - توجب محبة اللّه تعالى ، ومحبته تعالى للعبد تجذبه إلى حضرته ، بواسطة وبغيرها. وأيضا : الرسول صلى اللّه عليه وسلم وزير مقرب ، ومن رام دخول حضرة الملوك يخدم الوزير ، ويتقرب إليه ، حتى يدخله على الملك. فهو صلى اللّه عليه وسلم حجاب اللّه الأعظم ، وبابه الأكرم ، فمن رام الدخول من غير بابه طرد وأبعد ، وفى ذلك يقول ابن وفا :
وأنت باب اللّه ، أىّ امرئ وفاه من غيرك لا يدخل.
وقال الشيخ الجزولى رضي اللّه عنه فى دلائل الخيرات : وهى من أهم المهمات لمن يريد القرب من رب الأرباب.
وقال شارحه : ووجه أهميتها من وجوه ، منها : ما فيها من التوسل إلى اللّه سبحانه بحبيبه ومصطفاه. وقد قال تعالى : وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ «2» ، ولا وسيلة إليه أقرب ، ولا أعظم ، من رسوله الأكرم صلى اللّه عليه وسلم.
___________
(1) قال الهيثمي فى المجمع (7/ 93) : رواه الطبراني ، وفيه الحكم بن عبد اللّه بن خطاف ، وهو كذّاب.
(2) من الآية 35 من سورة المائدة.(4/458)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 459
ومنها : أن اللّه تعالى أمر بها ، وحضّنا عليها ، تشريفا له وتكريما ، وتفضيلا لجلاله ، ووعد من استعملها حسن المآب ، وجزيل الثواب ، فهى من أنجح الأعمال ، وأرجح الأقوال ، وأزكى الأحوال ، وأحظى القربات ، وأعم البركات.
وبها يتوصل إلى رضا الرحمن ، وتنال السعادة والرضوان ، وتجاب الدعوات ، ويرتقى إلى أرفع الدرجات. وأوحى اللّه تعالى إلى موسى عليه السّلام : يا موسى أتريد أن أكون أقرب إليك من كلامك إلى لسانك ، ومن وسواس قلبك إلى قلبك ، ومن روحك إلى بدنك ، ومن نور بصرك إلى عينيك؟ قال : نعم يا رب ، قال : فأكثر من الصلاة على محمد صلى اللّه عليه وسلم.
ومنها : أنه صلى اللّه عليه وسلم محبوب للّه عز وجل ، عظيم القدر عنده ، وقد صلّى عليه هو وملائكته ، فوجبت محبة المحبوب ، والتقرب إلى اللّه تعالى بمحبته ، وتعظيمه ، والاشتغال بحقه ، والصلاة عليه ، والاقتداء بصلاته ، وصلاة ملائكته عليه. قلت : وهذا التشريف أتم وأعظم من تشريف آدم عليه السّلام ، بأمر الملائكة بالسجود له لأنه لا يجوز أن يكون اللّه مع الملائكة فى ذلك التشريف. فتشريف يصدر عنه مع ملائكة أبلغ من تشريف تختص به الملائكة.
ومنها : ما ورد فى فضلها ، ووعد عليها من جزيل الأجر وعظيم القدر ، وفوز مستعملها برضا اللّه ، وقضاء حوائج آخرته ودنياه.
ومنها : ما فيها من شكر الواسطة فى نعم اللّه علينا المأمور ، بشكره ، وما من نعمة للّه علينا ، سابقة ولا لاحقة من نعمة الإيجاد والإمداد ، فى الدنيا والآخرة ، إلا وهو السبب فى وصولها إلينا ، وإجرائها علينا ، فوجب حقه علينا ، ووجب علينا فى شكر نعمته ألا نفتر عن الصلاة عليه ، مع دخول كل نفس وخروجه.
ومنها : ما فيها من القيام برسم العبودية ، بالرجوع لما يقتضى الأصل نفيه ، فهو أبلغ فى الامتثال ، ومن أجل ذلك كانت فضيلة الصلاة على النبي صلى اللّه عليه وسلم على كل عمل. والذي يقتضى الأصل نفيه ، هو كون العبد يتقرب إلى اللّه بالاشتغال بحق غيره لأن قولنا «اللهم صلّ على محمد» هو الاشتغال بحق محمد صلى اللّه عليه وسلم ، وأصل التعبدات : ألا يتقرب إلى اللّه تعالى إلا بالاشتغال بحقه. ولكن لمّا كان الاشتغال بالصلاة على محمد بإذن من اللّه تعالى ، كان الاشتغال بها أبلغ فى امتثال الأمر ، فهى بمثابة أمر اللّه تعالى للملائكة بالسجود لآدم ، فكان شرفهم فى امتثال أمر اللّه ، وإهانة إبليس فى مخالفة أمره سبحانه.
ومنها : ما جرب من تأثيرها ، والنفع بها فى التنوير ورفع الهمة ، حتى قيل : إنها تكفى عن الشيخ فى الطريق ، وتقوم مقامه ، حسبما نقله الشيخ السنوسى ، والشيخ زروق ، وغيرهما.(4/459)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 460
ومنها : ما فيها من سير الاعتدال ، الجامع لكمال العبد وتكميله ، ففى الصلاة على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ذكر اللّه ورسوله ، ولا كذلك عكسه ، فلذلك كانت المثابرة على الأذكار والدوام عليها يحصل به الانحراف ، وتكسب نورانية تحرق الأوصاف ، وتثير وهجا وحرارة فى الطباع ، والصلاة على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم تذهب وهج الطّباع ، وتقوى النفوس لأنها كالماء البارد ، فكانت تقوم مقام شيخ التربية. انتهى كلامه.
قلت : والحق الذي لا غبار عليه : أن الصلاة عليه صلى اللّه عليه وسلم ، والإكثار منها ، تدلّ صاحبها على من يأخذ بيده ، وتوصله إلى شيخ التربية ، الذي هو خليفة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، إن كان صادق الطلب ، وأما كونها تقوم مقام الشيخ فى دخول مقام الفناء والبقاء ، حتى تعتدل حقيقته وشريعته فلا إذ لا تنقطع رعونات النفوس إلا بآمر وناه من غيره ، يكون عالما بدسائس النفوس وخدعها ، وغاية ما توصل إليه الصلاة على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم - إن لم يظفر بالشيخ - الفناء فى الصفات ، وينال مقام الصلاح الأكبر ، ويظهر له كرامات وخوارق ، ويكون من أرباب الأحوال ، وإن وصل إلى مقام الفناء تكون شريعته أكبر من حقيقته.
هذا ما ذقناه ، وشهدناه ، وسمعناه من أشياخنا ، والطريق التي أدركناهم يستعملونها ، وأخذناها منهم ، أنهم يأمرون المريد إن رأوه أهلا للتربية أن يلتزم الاسم المفرد ، ويفنى فيه ، حتى تنهدم به عوالمه ، فإذا تحقق فناؤه وغاب عن نفسه ورسمه ، ردوه إلى مقام البقاء ، وحينئذ يأمرونه بالصلاة على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، لتكون صلاته عليه كاملة ، يصلى على روحه وسره بلا حجاب ، ويشاهده فى كل ساعة كما يشاهدونه. وباللّه التوفيق.
ثم ذكر أهل الغفلة والبعد ، فقال :
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 57 الى 58]
إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً (57) وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (58)
يقول الحق جل جلاله : إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ بارتكابهم ما يكرهانه من الكفر والمعاصي والبدع. وقال ابن عباس : هم اليهود والنصارى والمشركون. فقالت اليهود : يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ «1» ، إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ «2»
___________
(1) كما ذكرت الآية 64 من سورة المائدة.
(2) كما ذكرت الآية 181 من سورة آل عمران(4/460)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 461
وقالت النصارى : الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ «1» ، إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ «2». وقال المشركون : الملائكة بنات اللّه ، والأصنام شركاؤه. وقيل : يؤذونه : يلحدون فى أسمائه وصفاته. ويؤذون رسول اللّه ، حين شج وجهه ، وكسرت رباعيته ، وقيل له : هو ساحر وشاعر ومجنون. أو : بترك سنّته ومخالفة شريعته. ويحتمل أن يكون المراد يؤذون رسول اللّه فقط بالتنقيص ، أو بالتعرض لنسائه. وذكر اسم اللّه للتشريف. لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ أي : أبعدهم من رحمته فى الدارين وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً يهينهم ويخزيهم فى النار.
وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا بغير جناية يستحقون بها الإيذاء ، فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً كذبا وَإِثْماً مُبِيناً ظاهرا ، وإنما أطلق فى إيذاء اللّه ورسوله ، وقيّد إيذاء المؤمنين والمؤمنات لأن إيذاء اللّه ورسوله لا يكون إلا بغير حق ، وأما إيذاء المؤمنين فمنه ما يكون بحق ، كالحدّ والتعزير ، ومنه باطل. وقيل :
نزلت فى ناس من المنافقين ، كانوا يؤذون عليّا رضي اللّه عنه ، ويسمعونه ، وقيل : فى زناة المدينة ، كانوا يمشون فى طرق المدينة ، ويتبعون النساء إذا تبرزن بالليل لقضاء حوائجهن ، فيغمزون المرأة ، فإن سكتت اتبعوها ، وإن زجرتهم انتهوا «3». وعن الفضيل : لا يحلّ أن تؤذى كلبا أو خنزيرا بغير حق ، فكيف بالمؤمنين؟. ه.
الإشارة : إذاية اللّه ورسوله هى إذاية أوليائه ، ونقله الثعلبي عن أهل المعاني ، فقال : فأراد اللّه تعالى المبالغة فى النهى عن أذى أوليائه ، فجعل أذاهم أذاه. ه. ويؤيده الحديث القدسي : «من آذى لى وليّا فقد بارزني بالمحاربة» «4» ، أو كما سبحانه. وإذاية المؤمنين كثيرة ، تكون باللسان وبغيره ، وقد قالوا : البر لا يؤذى الذر. ومن أركان التصوف : كف الأذى ، وحمل الجفا ، وشهود الصفا ، ورمى الدنيا بالقفا. وباللّه التوفيق.
ثم أمر بتمييز الحرائر من الإماء فى اللباس ، فقال :
[سورة الأحزاب (33) : آية 59]
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (59)
___________
(1) كما ذكرت الآية 30 من سورة التوبة.
(2) كما ذكرت الآية 73 من سورة المائدة.
(3) ذكره الواحدي فى أسباب النزول (ص 377) والبغوي فى التفسير (6/ 376) عن الضحاك ، والسدى ، والكلبي.
(4) أخرجه البخاري فى (الرقاق ، باب : التواضع ، ح 6502). من حديث أبى هريرة بلفظ : «من عادى لى وليّا فقد آذنته بالحرب ..»
الحديث وأخرجه الإمام أحمد فى المسند (6/ 256) من حديث السيدة عائشة - رضى اللّه عنها - بلفظ : «من أذل لى وليّا فقد استحل محاربتى ...» الحديث.(4/461)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 462
يقول الحق جل جلاله : يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ أي : يرخين على وجوههنّ من جلابيبهن فيغطين بها وجوههن. والجلباب : كل ما يستر الكل ، مثل الملحفة ، والمعنى : قل للحرائر يرخين أرديتهن وملاحفهن ويغطين بها وجوههن ورؤوسهن ، ليعلم أنهن حرائر فلا يؤذين. وذلِكَ أَدْنى أي : أقرب وأجدر ، أَنْ يُعْرَفْنَ من الإماء فَلا يُؤْذَيْنَ ، وذلك أن النساء فى أول الإسلام كن على زيهنّ فى الجاهلية متبدّلات ، تبرز المرأة فى درج وخمار ، لا فصل بين الحرّة والأمة. وكان الفتيان يتعرّضون للإماء ، إذا خرجن بالليل لقضاء حاجتهنّ فى النخيل والغيضات «1» ، وكن يخرجن مختلطات مع الحرائر ، فربما تعرضوا للحرّة ، يحسبونها أمة ، فأمرن أن يخالفن بزيهنّ عن زى الإماء بلباس الجلابيب ، وستر الرؤوس والوجوه ، فلا يطمع فيهنّ طامع.
قال ابن عباس رضي اللّه عنه : أمر اللّه تعالى نساء المؤمنين أن يغطين رؤوسهن ووجوههن بالجلابيب ، ويبدين عينا واحدة. قلت : وقد مرّ فى سورة النور «2» أن الوجه والكفين ليس بعورة ، إلا لخوف الفتنة ، وأما الإماء فلا تسترن شيئا إلا ما بين السرة والركبة ، كالرجل. قال أنس : مرت جارية متقنعة بعمر بن الخطاب فعلاها بالدرة ، وقال :
يا لكاع أنت تشبهين بالحرائر ، فألق القناع. وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً لما سلف منهن من التفريط ، رَحِيماً بتعليمهن آداب المكارم.
الإشارة : ينبغى لنساء الخواص أن يتميزن من نساء العامة بزيادة الصّون والتحفظ ، وقلة الخروج ، فإذا لزمهنّ الخروج ، فليخرجن فى لباس خشين ، بحيث لا يعرفن ، أو يخرجن ليلا. وثبت أن زوجة الشيخ أبى الحسن الشاذلى رضي اللّه عنه لم تخرج من دارها إلا خرجتن خرجة حين زفت إلى زوجها ، وخرجة إلى المقابر. نفعنا اللّه ببركاتهم. آمين.
ثم هدد المنافقين ، حيث كانوا [يؤذوان ] «3» رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم والمؤمنين ، فقال :
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 60 الى 62]
لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلاَّ قَلِيلاً (60) مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً (61) سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً (62)
___________
(1) الغيضة : هى الشجر الملتف ، وجمعه : غياض وغيضات. انظر اللسان (غيض 5/ 3327). [.....]
(2) راجع تفسير الآية 31 من سورة النور.
(3) فى الأصول الخطية [يؤذوا] ..(4/462)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 463
قلت : (لنغرينك) : جواب القسم المغني عن جواب الشرط. و(ثم لا يجاورنك) : عطف عليه لأنه يصح أن يجاب به القسم لصحة قولك : لئن لم ينتهوا لا يجاورنك ، ولمّا كان الجلاء عن الوطن أعظم من جميع ما أصيبوا به عطف بثم ، لبعد حاله عن حال المعطوف عليه. و(ملعونين) : نصب على الشتم أو الحال ، والاستثناء دخل على الظرف والحال معا ، أي : لا يجاورنك إلا قليلا فى اللعنة والبعد ، ولا يصح نصبه بأخذوا لأن ما بعد حرف الشرط لا يعمل فيما قبله.
يقول الحق جل جلاله : لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ عن نفاقهم وإيذائهم ، وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فجور ، وهم الزناة من قوله : «فيطمع الذي فى قلبه مرض». وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ ، وهم أناس كانوا يرجفون بأخبار السوء فى المدينة ، من سرايا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فيقولون : هزموا وقتلوا ، وجرى عليهم كيت وكيت ، فيكسرون بذلك قلوب المؤمنين. يقال : رجف بكذا : إذا أخبر به على غير حقيقته لكونه خبرا مزلزلا غير ثابت ، من :
الرجفة ، وهى الزلزلة ، لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ : لنأمرنك بقتالهم وإجلائهم ، أو ما يضطرهم إلى طلب الجلاء ، أو :
لنسلطنك عليهم ، ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها فى المدينة إِلَّا زمنا قَلِيلًا.
والمعنى : لئن لم ينته المنافقون عن عداوتهم وكيدهم ، والفسقة عن فجورهم ، والمرجفون عما يلقون من أخبار السوء ، لنأمرنك بأن تفعل بهم الأفاعيل التي تسوءهم ، بأن تضطرهم إلى طلب الجلاء من المدينة ، وألّا يساكنوك فيها إلّا زمنا قليلا ، ريثما يرتحلون. فسمّى ذلك إغراء ، وهو التحريش ، على سبيل المجاز. حال كونهم مَلْعُونِينَ أي : لا يجاورونك إلا ملعونين ، مبعدين عن الرحمة أَيْنَما ثُقِفُوا وجدوا ، أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا ، والتشديد للتكثير.
سُنَّةَ اللَّهِ أي : سنّ اللّه ذلك سنّة فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ فى المنافقين الذين كانوا ينافقون الأنبياء من قبل ، ويسعون فى وهنهم بالإرجاف ونحوه أن يقتّلوا أينما وجدوا ، وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا أي : لا يبدل اللّه سنّته ولا يقدر أحد أن يبدلها ، بل يجريها مجرى واحدا فى الأمم كلهم.
قال ابن جزى : تضمنت الآية وعيد هؤلاء الأصناف إن لم ينتهوا ، ولم ينفذ الوعيد فيهم. ففى ذلك دليل على بطلان القول بوجوب إنفاذ الوعيد فى الآخرة. وقيل : إنهم انتهوا وستروا أمرهم فكف عنهم إنفاء الوعيد. ه.
الإشارة : منافقو الصوفية هم الذين ينتسبون إلى الصوفية ، ويدّعون محبة القوم ، وهم يعترضون على الفقراء ، ويرفعون الميزان عليهم ، وهم الذين فى قلوبهم مرض ، أي : حيرة وضيق من غم الحجاب إذ لو ارتفع عنهم(4/463)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 464
الحجاب لم يعترضوا على أحد ، وهم المرجفون بأهل النسبة ، إذا سمعوا شيئا يسوؤهم أفشوه ، وأظهروا الفرح. لئن لم ينتهوا عن ذلك ليسلطن اللّه عليهم من يخرجهم من النسبة بالكلية ، ثم لا يبقون فيها إلا قليلا ، ممقوتين عند أهل التحقيق ، أينما وجدوا ، أخذوا بالفعل أو بالقول فيهم. وقد ألّف بعض الفقهاء تأليفا فى الرد على الفقراء ، فسلط اللّه عليه من أهانه ، ووسمه بالبلادة والجمود ، ولا زال مهانا أينما ذكر ، والعياذ باللّه.
ولما ذكر حال المنافقين ، ذكر حال المشركين ، لاشتراكهم فى الكفر ، فقال :
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 63 الى 68]
يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً (63) إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً (64) خالِدِينَ فِيها أَبَداً لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (65) يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا (66) وَقالُوا رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا (67)
رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً (68)
يقول الحق جل جلاله : يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ ، كان المشركون يسألون رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن وقت الساعة ، استعجالا واستهزاء ، واليهود يسألون امتحانا لأن اللّه تعالى أخفى وقتها فى التوراة وفى كل كتاب ، فأمر رسوله صلى اللّه عليه وسلم أن يجيبهم بأنه علم قد استأثر اللّه به ، ثم بيّن لرسوله عليه الصلاة والسلام - أنها قريبة الوقوع ، تهديدا للمستعجلين ، وإسكاتا للممتحنين فقال : قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ ، لم يطلع عليها ملكا ولا نبيا.
وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً أي : شيئا قريبا ، أو : فى زمان قريب ، فتنصب على الظرفية ، ويجوز أن يكون التذكير لأن الساعة فى معنى اليوم أو الزمان.
إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ أبعدهم عن رحمته ، وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً نارا شديدة التسعير ، أي : الإيقاد ، خالِدِينَ فِيها أَبَداً ، وهذا يرد مذهب الجهمية فى زعمهم أن النار تفنى ، و(خالدين) : حال مقدرة من ضمير «لهم». لا يَجِدُونَ وَلِيًّا يحفظهم ، وَلا نَصِيراً يمنعهم ويدفع العذاب عنهم ، وذلك يَوْمَ تُقَلَّبُ أو : واذكر يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ تطوف من جهة إلى جهة ، كما ترى البضعة «1» من اللحم تدور
___________
(1) البضعة : القطعة. انظر اللسان (بضع ، 1/ 296).(4/464)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 465
فى القدر إذا غلت. وخصّت الوجوه لأنها أكرم موضع على الإنسان من جسده. أو : يكون الوجه كناية عن الجملة.
حال كونهم يَقُولُونَ يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا فى الدنيا ، فنتخلص من هذا العذاب ، فندّموا حيث لم ينفع الندم.
وَقالُوا رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا ، والمراد : رؤساء الكفر ، الذين لقنوهم الكفر ، وزيّنوه لهم. وقرأ ابن عامر ويعقوب «ساداتنا» بالجمع ، جمع : سادة ، وسادة : جمع سيد ، فهو جمع الجمع ، فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا أي :
أتلفونا عن طريق الرشد. يقال : ضلّ السبيل وأضله إياه ، وزيادة الألف للإطلاق. رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ أي : مثلى ما آتيتنا منه للضلال والإضلال ، وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً «1» كثير العدد ، تكثيرا لأعداد اللاعنين ، أو : العنهم المرة بعد المرة. وقرأ عاصم بالباء ، أي : لعنا هو أشد اللعن وأعظمه. وهو يدلّ على تعدد الأجزاء والأفراد.
الإشارة : مذهب العباد والزهاد والصالحين : جعل الساعة نصب أعينهم ، لا يغيبون عنها ، فهم يجتهدون فى التأهب لها ليلا ونهارا. ومذهب العارفين الموحّدين : الغيبة عنها ، بالاستغراق فى شهود الحق ، فلا يشغلهم الحق ، دنيا ولا آخرة ، ولا جنة ولا نار لما دخلوا جنة المعارف ، غابوا عن كل شىء ، فانخلعوا عن الكونين بشهود المكوّن ، وجعلوا الوجود وجودا واحدا إذ المتجلى هنا وثم واحد. وإذا كان كبراء الضلال يضاعف عذابهم ، وكان كبراء الهداية يضاعف ثوابهم ، يأخذون ثواب الاهتداء والإرشاد ، فمن دلّ على هدى كان له أجره وأجر من اتبعه إلى يوم القيامة ، ومن اهتدى على يديه أحد جرى عليه أجره ، وكان فى ميزانه كل من تبعه كذلك ، وفى ذلك يقول القائل :
والمرء فى ميزانه اتباعه فاقدر إذن قدر النبىّ محمد «2»
ثم رجع إلى النهى عن إذاية الرسول ، فقال :
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 69 الى 71]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قالُوا وَكانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً (69) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً (71)
___________
(1) قرأ عاصم «كبيرا» بالباء ، وقرأ الباقون «كثيرا» بالتاء ، من الكثرة. انظر الإتحاف (2/ 378).
(2) انظر ديوان البوصيرى (ص 122) ، وفيه :
والمرء فى ميراثه أتباعه فاقدر إذن فضل النبي محمد(4/465)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 466
يقول الحق جل جلاله : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى من بنى إسرائيل فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قالُوا. وذلك أن بنى إسرائيل كانوا يغتسلون عرايا ، ينظر بعضهم إلى بعض ، وكان موسى عليه السّلام يستتر لشدة حيائه ، فقالوا : ما يمنع موسى من الاغتسال معنا إلا أنه آدر - والأدرة : انتفاخ الأنثيين - أو : به عيب من برص أو غيره ، فذهب يغتسل وحده ، فوضع ثوبه على حجر ، ففرّ الحجر بثوبه ، فلجّ فى أثره يقول : ثوبى حجر ، ثوبى حجر! حتى نظروا إلى سوأته ، فقالوا : واللّه ما بموسى من بأس ، فقام الحجر من بعد ما نظروا إليه ، وأخذ ثوبه ، فطفق بالحجر ضربا ، ثلاثا أو أربعا «1».
وقيل : كان أذاهم : ادعاءهم عليه قتل أخيه. قال علىّ رضي اللّه عنه : صعد موسى وهارون الجبل ، فمات هارون ، فقالت بنو إسرائيل : أنت قتلته. وكان أشدّ لنا حبا ، وألين منك ، فآذوه بذلك ، فأمر تعالى الملائكة فحملته ، حتى مرت به على بنى إسرائيل ، وتكلمت الملائكة بمماته ، حتى تحققت بنو إسرائيل أنه قد مات ، فبّرأ اللّه موسى من ذلك ، ثم دفنوه. فلم يطلع على قبره إلا الرّخم «2» من الطير ، وإن اللّه جعله أصم أبكم «3» ، وقيل : إنه على سرير فى كهف الجبل. وقيل : إن قارون استأجر امرأة مومسة ، لتقذف موسى بنفسها على رأس الملأ ، فعصمها اللّه ، وبرأ موسى ، وأهلك قارون «4». وقد تقدم.
وَكانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً ذا جاه ومنزلة رفيعة ، مستجاب الدعوة. وقرأ ابن مسعود والأعمش «وكان عبدا للّه وجيها».
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ فى ارتكاب ما يكرهه ، فضلا عما يؤذى رسوله ، وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيداً صدقا وصوابا ، أو : قاصدا إلى الحق. والسداد : القصد إلى الحق والقول بالعدل. والمراد : نهيهم عما خاضوا فيه من حديث زينب من غير قصد وعدل فى القول. والحث على أن يسددوا قولهم فى كل باب لأن حفظ اللسان ، وسداد القول رأس كل خير ، ولذلك قال : يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ أي : يوفقكم لصالح الأعمال ، أو : يقبل طاعتكم ، ويثيبكم عليها ، وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ أي : يمحها.
___________
(1) أخرجه البخاري فى (الأنبياء - باب 28 ح 3404) من حديث أبى هريرة رضي اللّه عنه.
(2) الرّخم : نوع من الطير معروف ، واحدته : «رخمة» ، وهو موصوف بالغدر ، وقيل بالقذر. انظر النهاية (2/ 212).
(3) أخرجه ابن جرير (22/ 52) والحاكم وصححه () ، وانظر الدر المنثور (5/ 419).
(4) ذكره البغوي فى التفسير (6/ 379) عن أبى العالية.(4/466)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 467
والمعنى : راقبوا اللّه فى حفظ ألسنتكم ، وتسديد قولكم ، فإنكم إن فعلتم ذلك أعطاكم ما هو غاية الطلبة من تقبل حسناتكم ، ومن مغفرة سيئاتكم. وهذه الآية مقررة للتى قبلها ، فدلت تلك على النهى عما يؤذى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وهذه على الأمر باتقاء اللّه فى حفظ اللسان ، ليترادف عليها النهى والأمر ، مع اتباع النهى ما يتضمن الوعيد من قصة موسى عليه السّلام ، واتباع الأمر الوعد البليغ بتقوى اللّه الصارف عن الأذى والداعي إلى تركه.
ثم وعدهم بالفوز العظيم بقوله : وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فى الأوامر والنواهي فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً ، يعيش فى الدنيا حميدا ، وفى الآخرة سعيدا. جعلنا اللّه منهم ، آمين.
الإشارة : فى الآية تسلية لمن أوذى من الأولياء بالتأسى بالأنبياء. روى أن موسى عليه السّلام قال : يا رب احبس علىّ ألسنة الناس ، فقال له : هذا شىء لم أصنعه لنفسى ، فكيف أفعله بك. وأوحى تبارك وتعالى إلى عزير : إن لم تطب نفسا بأن أجعلك علكا فى أفواه الماضغين ، لم أثبتك عندى من المتواضعين. ه.
واعلم أن تعظيم الرسول صلى اللّه عليه وسلم هو سبب السعادة والفوز الكبير ، وتعظيم أولياء اللّه وخدمتهم هو سبب الوصول إلى اللّه العلى الكبير ، وتقوى اللّه أساس الطريق ، وحفظ اللسان وتحرى القول السديد هو سبب الوصول إلى عين التحقيق.
قال الشيخ زروق رضي اللّه عنه فى بعض وصاياه - بعد كلام - : ولكن قد تصعب التقوى على النفس لاتساع أمرها ، فتوجّه لترك العظائم والقواعد المقدر عليها ، تعن على ما بعدها ، وأعظم ذلك معصية : الغيبة قولا وسماعا ، فإنها خفيفة على النفوس لإلفها ، مستسهلة لاعتيادها ، مع أنها صاعقة الدين ، وآفة المذنبين ، من اتقاها أفلح فى بقية أمره ، ومن وقع فيها خسر فيما وراءها. قال اللّه تعالى : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ... الآية ، فجعل صلاح العمل متوقفا على سداد القول ، وكذلك ورد : أن الجوارح تصبح تشتكى اللسان ، وتقول : اتق اللّه فينا ، فإنك إن استقمت استقمنا ، وإن اعوججت اعوججنا. فلا تهمل يا أخى لسانك ، وخصوصا فى هذه الخصلة ، فتورع فيها أكثر ما تورع فى مأكلك ومشربك ، فإذا فعلت طابت حياتك ، وكفيت الشواغب ، ظاهرا وباطنا. ه.
فإذا تحققت بالتقوى ، وحصّنت لسانك بالقول السديد ، كنت أهلا لحمل الأمانة ، كما قال تعالى :
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 72 الى 73]
إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً (72) لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (37)(4/467)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 468
يقول الحق جل جلاله : إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ ، الأمانة هنا هى التوحيد فى الباطن ، والقيام بوظائف الدين فى الظاهر ، من الأوامر والنواهي ، فالإيمان أمانة الباطن ، والشريعة بأنواعها كلها أمانة الظاهر ، فمن قام بهاتين الخصلتين كان أمينا ، وإلا كان خائنا. والمعنى : إنا عرضنا هذه الأمانة على هذه الأجرام العظام ، ولها الثواب العظيم ، إن أحسنت القيام بها ، والعقاب الأليم إن خانت ، فأبت وأشفقت واستعفت منها ، مخافة ألا تقدر عليها ، فطلبت السلامة ، ولا ثواب ولا عقاب. وهذا معنى قوله : فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها. فيحتمل أن يكون الإباء بإدراك ، خلقه اللّه فيها ، وقيل : أحياها وأعقلها ، كقوله : ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً «1». ويحتمل أن يكون هذا العرض على أهلها من الملائكة والجن.
وقال شيخ شيوخنا سيدى عبد الرحمن الفاسى : وقد يقال : الأمانة هى ما أخذ عليهم من عهد التوحيد فى الغيب بعد الإشهاد لربوبيته ، وينظر لذلك قوله : «لن يسعنى أرضى ولا سمائى ووسعني قلب عبدى المؤمن».
وأما حملها على التكاليف فلا يختص بالآدمى لأن الجن أيضا مكلف ، ومناسبة الآية لما قبلها : أن الوفاء بها من جملة التقوى المأمور بها. ه.
وقيل : لم يقع عرض حقيقة ، وإنما المقصود : تعظيم شأن الطاعة ، وسماها أمانة من حيث إنها واجبة الأداء.
والمعنى : أنها لعظمة شأنها لو عرضت على هذه الأجرام العظام ، وكانت ذا شعور وإدراك ، لأبين أن يحملنها ، وأشفقن منها ، وحملها الإنسان ، مع ضعف بنيته ، ورخاوة قوته ، لا جرم ، فإن الراعي لها ، والقائم بحقوقها ، بخير الدارين. ه. قاله البيضاوي. والمراد بالإباية : الاستعفاء ، لا الاستكبار ، أي : أشفقن منها فعفا عنهن وأعفاهن.
وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ أي : آدم. قيل : فما تم له يوم من تحملها حتى وقع فى أمر الشجرة ، وقيل : جنس الإنسان ، وهذا يناسب حمل الأمانة على العهد الذي أخذ على الأرواح فى عالم الغيب. إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا حيث تعرض لهذا الخطر الكبير ، ثم إن قام بها ورعاها حق رعايتها خرج من الظلم والجهل ، وكان صالحا أمينا
___________
(1) الآية 11 من سورة فصلت.(4/468)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 469
عدولا ، وإن خانها ولم يقم بها ، كان ظلوما جهولا ، كلّ على قدر خيانته وظلمه ، فالكفار خانوا أصل الأمانة ، وهى الإيمان فكفروا ، ومن دونهم خانوا بارتكاب المناهي أو ترك الطاعة ، فبعضهم أشد ، وبعضهم أهون ، وكل واحد عقوبته على قدر خيانته.
ثم علل عرضها ، وهو : لتقوم الحجة على عباده ، فقال : لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ حيث لم يقوموا بها ، وخانوا فيها ، فتقوم الحجة عليهم ، ولا يظلم ربك أحدا. وقال أبو حيان : اللام للصيرورة والعاقبة. وقال أبو البقاء : اللام متعلق بحملها ، وحينئذ تكون للعاقبة قطعا. وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ، حيث حملوا الأمانة ، إلا أن العبد لا يخلو من تفريط ، قال تعالى : كَلَّا لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ «1» وقال :
وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ «2» ولذلك قال : وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً ، فالغفران لمن لحقه تفريط وتقصير ، والرحمة لمن اجتهد قدر طاقته ، كالأولياء وكبار الصالحين.
والحاصل : أن العذاب لمن تحملها أولا ، ولم يقم بحقها ثانيا. والغفران لمن تحملها وقام بحقها ، والرحمة لمن تحملها ورعاها حق رعايتها. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : الأمانة التي عرضها اللّه على السموات والأرض والجبال هى شهود أسرار الربوبية فى الباطن ، والقيام بآداب العبودية فى الظاهر ، أو تقول : هى إشراق أسرار الحقائق فى الباطن ، والقيام بالشرائع فى الظاهر ، مع الاعتدال ، بحيث لا تغلب الحقائق على الشرائع ، ولا الشرائع على الحقائق ، فلا يغلب السكر على الصحو ، ولا الصحو على السكر. وهذا السر خاص بالآدمى لأنه اجتمع فيه الضدان اللطافة والكثافة ، النور والظلمة ، المعنى والحس ، القدرة والحكمة ، فهو سماوى أرضى ، روحانى بشرى ، معنوى وحسى. ولذلك خصه اللّه تعالى من بين سائر الأكوان بقوله : خَلَقْتُ بِيَدَيَّ «3» أي : بيد القدرة والحكمة ، فكان جامعا للضدين ، ملكيا ملكوتيا ، حسه حكمة ، ومعناه قدرة. وليست هذه المزية لغيره من الكائنات ، فالملائكة والجن معناهم غالب على حسهم ، فإذا أشرقت عليهم أنوار الحقائق غلب عليهم السكر والهيمان ، والحيوانات والجمادات حسهم غالب على معناهم ، فلا يظهر عليهم شىء من الأنوار والأسرار.
___________
(1) الآية 23 من سورة عبس.
(2) الآية 67 من سورة الزمر.
(3) من الآية 75 من سورة (ص).(4/469)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 470
وهذا السر الذي خص به الآدمي هو كامن فيه ، من حيث هو ، كان كافرا أو مؤمنا ، كما كمن الزبد فى اللبن ، فلا يظهر إلا بعد الترييب والضرب والمخض ، وإلا بقي فيه كامنا ، وكذلك الإنسان ، السر فيه كامن ، وهو نور الولاية الكبرى ، فإذا آمن ووحد اللّه تعالى ، واهتز بذكر اللّه ، وضرب قلبه باسم الجلالة ، ظهر سره ، إن وجد شيخا يخرجه من سجن نفسه وأسر هواه.
وله مثال آخر ، وهو أن كمون السر فيه ككمون الحب فى الغصون قبل ظهوره ، فإذا نزل المطر ، وضربت الرياح أغصان الأشجار ، أزهرت الأغصان وأثمرت ، وإليه أشار فى المباحث الأصلية ، حيث قال :
وهى من النفوس فى كمون كما يكون الحب فى الغصون
حتى إذا أرعدت الرعود وانسكب الماء ولان العود
وجال فى أغصانها الرياح فعندها يرتقب اللقاح
ثم قال :
فهذه فواكه المعارف لم تشر بالتالد أو بالطارف «1»
ما نالها ذو العين والفلوس وإنما تباع بالنفوس
فلا يظهر هذا السر الكامن فى الإنسان إلا بعد إرعاد الرعود فيه ، وهى المجاهدة والمكابدة ، وقتل النفوس ، بخرق عوائدها ، وبعد نزول أمطار النفخات الإلهية ، والخمرة الأزلية ، على يد الأشياخ ، الذين أهّلهم اللّه لسقى هذا الماء ، وتجول فى أغصان عوالمه رياح الواردات ، وينحط مع أهل الفن ، حتى يسرى فيه أنوارهم ، ويتأدب بآدابهم ، فحينئذ ينتظر لقاح السر فيه ، ويجنى ثمار معارفه ، وإلا بقي السر أبدا كامنا فيه. وباللّه التوفيق ، وهو الهادي إلى سواء الطريق. وصلى اللّه على سيدنا محمد وآله.
___________
(1) التالد : المال القديم الأصلى ، الذي ولد عندك ، وطال فى ملكك. انظر اللسان (تلد ، 1/ 439) والطارف والطريف : الحادث من المال ، أي : الذي تجدد ملكه ، وهو ضد التالد. انظر (طرف ، 4/ 2657) وانظر شرح الأبيات فى الفتوحات الإلهية (117 - 126). [.....](4/470)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 471
سورة سبإ
مكية ، إلا قوله : وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ .. الآية «1» ، فاختلف فيه ، مكى أو مدنى؟ وهى خمس وخمسون آية. ومناسبتها لما قبلها : قوله : إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ «2» مع قوله : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ، وكأنه يشير إلى أنه تعالى غنى عمن حمل الأمانة ، ومن لم يحملها ، فمن حملها فلنفسه ، ومن تركها فعليها ، وإن اللّه لغنى عن العالمين ، ولذلك افتتح بالثناء عليه ، فقال :
[سورة سبإ (34) : الآيات 1 الى 2]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (1) يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (2)
يقول الحق جل جلاله : الْحَمْدُ لِلَّهِ ، إن أجرى على المعهود فهو بما حمد به نفسه محمود ، وإن أجرى على الاستغراق فله لكل المحامد الاستحقاق. واللام فى (لله) للتمليك لأنه خالق ناطق الحمد أصلا ، فكان بملكه مالك للحمد ، وللتحميد أهلا ، الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ خلقا ، وملكا ، وقهرا ، فكان حقيقا بأن يحمد سرا وجهرا ، وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ كما له الحمد فى الدنيا إذ النعم فى الدارين هو موليها والمنعم بها.
غير أن الحمد هنا واجب لأن الدنيا دار التكليف. وثمّ لا لأن الدار دار التعريف ، لا دار التكليف. وإنما يحمد أهل الجنة سروا بالنعيم ، وتلذذا بما نالوا من الفوز العظيم ، كقوله : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ .. «3» والْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ .. «4» فأشار إلى استحقاقه الحمد فى الدنيا بقوله : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وأشار إلى استحقاقه فى الآخرة بقوله : وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ بتدبير ما فى السموات والأرض ، الْخَبِيرُ بضمير من يحمده ليوم الجزاء والعرض.
يَعْلَمُ ما يَلِجُ : ما يدخل فِي الْأَرْضِ من الأموات والدفائن ، وَما يَخْرُجُ مِنْها من النبات وجواهر المعادن ، وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ من الأمطار وأنواع البركات ، وَما يَعْرُجُ يصعد فِيها من الملائكة والدعوات ، وَهُوَ الرَّحِيمُ بإنزال ما يحتاجون إليه ، الْغَفُورُ بما يجترئون عليه. قاله النسفي.
___________
(1) الآية 6 من السورة.
(2) الآية 72 من سورة الأحزاب.
(3) من الآية 74 من سورة الزمر.
(4) من الآية 34 من سورة فاطر.(4/471)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 472
الإشارة : المستحق للحمد هو الذي بيده ما فى سماوات الأرواح من الكشوفات وأنواع الترقيات ، إلى ما لا نهاية له ، من عظمة الذات ، وبيده ما فى أرض النفوس من القيام بالطاعات وآداب العبودية وتحسين الحالات ، وما يلحق ذلك من المجاهدات والمكابدات ، وبيده ما يتحفهم به فى الآخرة ، من التعريفات الجمالية ، والفتوحات الربانية ، والترقي فى الكشوفات السرمدية. فله الحمد فى هذه العوالم الثلاثة إذ كلها بيده ، يخص بها من يشاء من عباده ، مع غناه عن الكل ، وإحاطته بالكل ، ورحمته للكل ، يعلم ما يلج فى أرض النفوس من الهواجس والخواطر ، وما يخرج منها من الصغائر والكبائر ، أو من الطاعة والإحسان من ذوى البصائر ، وما ينزل من سماء الملكوت من العلوم والأسرار ، وما يعرج فيها من الطاعات والأذكار ، وهو الرحيم بالتقريب والإقبال ، الغفور لمساوئ الضمائر والأفعال.
ثم ردّ على من أنكر الآخرة ، التي تقدم ذكرها ، فقال :
[سورة سبإ (34) : الآيات 3 الى 5]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (3) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (5)
قلت : (و لا أصغر) و(لا أكبر) : عطف على (مثقال) ، أو : مبتدأ ، وخبره : ما بعد الاستثناء. و(ليجزى) : متعلق بقوله : (لتأتينكم) ، وتجويز ابن جزى تعلقه بيعزب بعيد لأن الإحاطة بعلمه تعالى ذاتية ، والذاتي لا يعلل ، وإنما تعلل الأفعال لجوازها ، ويصح تعلقه بما تعلق به (فى كتاب) أي : أحصى فى كتاب مبين للجزاء.
يقول الحق جل جلاله : وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أي : منكر والبعث. والناطق بهذه المقالة أبو سفيان بن حرب ، ووافق عليها غيره ، وقد أسلم هو. قالوا : لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ ، وإنما هى أرحام تدفع ، وأرض تبلع. قبّح اللّه رأيهم ، وأخلى الأرض منهم. قُلْ لهم : بَلى ، أبطل مقالتهم الفاسدة ببلى ، التي للإضراب ، وأوجب ما بعدها ، أي : ليس الأمر إلا إتيانها ، ثم أعيد إيجابه ، مؤكدا بما هو الغاية فى التوكيد والتشديد ، وهو التوكيد باليمين باللّه عز وجل ، فقال : وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ.(4/472)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 473
ولمّا كان قيام الساعة من الغيوب المستقبلية الحقية أتبعه بقوله : عالِمِ الْغَيْبِ ، وقرأ حمزة والكسائي :
«علّام الغيب» ، بالمبالغة ، يعلم ما غاب فى عالم ملكه وملكوته ، لا يَعْزُبُ عَنْهُ : لا يغيب عن علمه مِثْقالُ ذَرَّةٍ : مقدار أصغر نملة فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ ، وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ أي : من مثقال ذرة وَلا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ فى اللوح المحفوظ ، أو فى علمه القديم ، وكنّى عنه بالكتاب لأن الكتاب يحصى ما فيه.
قال الغزالي ، فى عقيدة أهل السنة : وأنه تعالى عالم بجميع المعلومات ، محيط بما يجرى من تخوم الأرض إلى أعلى السماوات ، لا يعزب عن علمه مثقال ذرة فى الأرض ولا فى السماء ، يعلم دبيب النملة السوداء ، على الصخرة الصماء ، فى الليلة الظلماء ، ويدرك حركة الذر فى جو السماء ، ويعلم السر وأخفى ، ويطّلع على هواجس الضمائر ، وحركات الخواطر ، وخفيات السرائر ، بعلم قديم أزلى ، لم يزل موصوفا به فى أزل الأزل. ه.
ثم علل إتيان الساعة بقوله : لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ، أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ لما اقترفوا من العصيان ، وما قصروا فيه من مدراج الإيمان ، وَرِزْقٌ كَرِيمٌ لما صبروا عليه من مناهج الإحسان. وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ بالإبطال وتعويق الناس عنها ، أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ أي : لهم عذاب من أقبح العذاب مؤلم. ورفع «أليم» مكى وحفص ويعقوب ، نعت لعذاب ، وغيرهم بالجر نعت لرجز. قال قتادة :
الرجز : سوء العذاب «1».
الإشارة : بقدر ما يربو الإيمان فى القلب يعظم الإيمان بالبعث وما بعده ، حتى يكون نصب عين المؤمن ، لا يغيب عنه ساعة ، فإذا دخل مقام العيان ، استغرق فى شهود الذات ، فغاب عن الدارين ، ولم يبق له إلا وجود واحد ، يتلون بهيئة الدنيا والآخرة. وفى الحقيقة ما ثمّ إلا واحد أحد ، الأكوان ثابتة بإثباته ، ممحوة بأحدية ذاته.
كان اللّه ولا شىء معه ، وهو الآن كما كان ، ويكون فى المآل كما هو الآن. واللّه تعالى أعلم.
ثم ذكر ضدهم ، فقال :
[سورة سبإ (34) : آية 6]
وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (6)
___________
(1) أخرجه الطبري (22/ 61).(4/473)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 474
قلت : (و يرى) : مرفوع ، استئناف ، أو منصوب ، عطف على (ليجزى). و(الحق) : مفعول ثان ليرى العلمية.
والمفعول الأول : (الذي أنزل) وهو ضمير فصل.
يقول الحق جل جلاله : وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ من الصحابة ، وممن شايعهم من علماء الأمة ومن ضاهاهم ، أو علماء أهل الكتاب الذين أسلموا ، كعبد اللّه بن سلام ، وكعب الأحبار ، أي : يعلمون الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ يعنى القرآن هُوَ الْحَقَّ ، لا يرتابون فى حقيّته لما انطوى عليه من الإعجاز ، وبموافقته للكتب السالفة ، على يد من تحققت أميته. أو : ليجزى المؤمنين ، وليعلم أولو العلم عند مجىء الساعة أنه الحق ، علما لا يزاد عليه فى الإيقان ، لكونه محل العيان ، كما علموه فى الدنيا من طريق البرهان. وَيَهْدِي إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ، وهو دين اللّه ، من التوحيد ، وما يتبعه من الاستقامة.
الإشارة : أول ما يرتفع الحجاب عن العبد بينه وبين كلام سيده ، فيسمع كلامه منه ، لكن من وراء رداء الكبرياء ، وهو رداء الحس والوهم ، فيجد حلاوة الكلام ويتمتع بتلاوته ، فيلزمه الخشوع والبكاء والرقة عد تلاوته.
قال جعفر الصادق : «لقد تجلى الحق تعالى فى كلامه ولكن لا تشعرون». ثم يرتفع الحجاب بينه وبين الحق تعالى ، فيسمع كلامه بلا واسطة ولا حجاب ، فتغيب حلاوة الكلام فى حلاوة شهود المتكلم ، فينقلب البكاء سرورا ، والقبض بسطا. وعن هذا المعنى عبّر الصدّيق عند رؤيته قوما يبكون عند التلاوة ، فقال : «كذلك كنا ولكن قست القلوب» «1» فعبر عن حال التمكن والتصلب بالقسوة لأن القلب قبل تمكن صاحبه يكون سريع التأثر للواردات ، فإذا تمكن واشتد لم يتأثر بشىء. وصراط العزيز الحميد هو طريق السلوك إلى حضرة ملك الملوك. وباللّه التوفيق.
ثم ذكر مقالة أخرى للكفرة ، فقال :
[سورة سبإ (34) : الآيات 7 الى 9]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (7) أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ (8) أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (9)
___________
(1) راجع التعليق على إشارة الآية 58 من سورة مريم.(4/474)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 475
قلت : (إذا) : العامل فيه محذوف ، دلّ عيه : لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ. و(ممزّق) : مصدر ، أي : تجددون إذا مزقتم كل تمزيق ، و(جديد) : فعيل بمعنى فاعل ، عند البصريين. تقول : جدّ الثوب فهو جديد ، أو بمعنى مفعول ، كقتيل ، من جد النساج الثوب : قطعه. ولا يجوز فتح (إنكم) للأم فى خبره. و(أفترى) : الهمزة للاستفهام ، وحذفت همزة الوصل للاستغناء عنها.
يقول الحق جل جلاله : وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا من منكرى البعث : هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ ، يعنون محمدا صلى اللّه عليه وسلم ، وإنما نكّروه - مع أنه كان مشهورا علما فى قريش ، وكان إنباؤه بالبعث شائعا عندهم - تجاهلا به وبأمره. وباب التجاهل فى البلاغة معلوم ، دال على سحرها ، يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أي : يحدثكم بأعجوبة من الأعاجيب ، إنكم تبعثون وتنشئون خلقا جديدا ، بعد أن تكونوا رفاتا وترابا ، وتمزق أجسادكم بالبلى ، كل تمزيق ، وتفرقون كل تفريق ، أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أي : أهو مفتر على اللّه كذبا فيما ينسب إليه من ذلك؟ أَمْ بِهِ جِنَّةٌ : جنون توهمه ذلك ، وتلقيه على لسانه. واستدلت المعتزلة بالآية على أن بين الصدق والكذب واسطة ، وهو كل خبر لا يكون عن بصيرة بالمخبر عنه ، وأجيب : بأن الافتراء أخص من الكذب ، لاختصاص الافتراء بالتعمد ، والكذب أعم. وكأنه قيل : أتعمد الكذب أو لم يتعمد بل به جنون.
قال تعالى : بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ أي : ليس محمد من الافتراء والجنون فى شىء ، وهو منزه عنهما ، بل هؤلاء الكفرة ، المنكرون للبعث ، واقعون فى عذاب النار ، وفيما يؤديهم إليه من الضلال البعيد عن الحق ، بحيث لا يرجى لهم الخلاص منه ، وهم لا يشعرون بذلك ، وذلك أحق بالجنون. جعل وقوعهم فى العذاب رسيلا لوقوعهم فى الضلال ، مبالغة فى استحقاقهم له ، كأنهما كائنان فى وقت واحد لأن الضلال ، لمّا كان العذاب من لوازمه ، جعلا كأنهما مقترنان. ووصف الضلال بالبعيد من الإسناد المجازى لأنّ البعيد فى صفة الضالّ إذا بعد عن الجادة.
أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ ، إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ أي : أعموا فلم ينظروا إلى السماء والأرض ، وأنهما أينما كانوا ، وحيثما ساروا ، وجدوهما أمامهم وخلفهم ، محيطتان بهم ، لا يقدرون أن ينفذوا من أقطارهما ، وأن يخرجوا عما هم فيه ، من ملكوت اللّه ، ولم يخافوا أن يخسف اللّه بهم فى الأرض ، أو يسقط عليهم كِسَفاً قطعة ، أو قطعا من السماء بتكذيبهم الآيات ، وكفرهم بما جاء به الرسول ، كما فعل بقارون وأصحاب الأيكة.
وقرأ حمزة والكسائي «يخسف» ، و«يسقط» بالياء «1» لعود الضمير على (اللّه) فى قوله : أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ ، وقرأ حفص : «كسفا» بالتحريك ، جمعا. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً إن فى النظر إلى السماء والأرض والتفكر فيهما ،
___________
(1) وكذا قوله : (يشأ). وقرأ الباقون بنون العظمة فى الثلاثة. انظر الإتحاف (2/ 382).(4/475)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 476
وما يدلان عليه من كمال قدرته تعالى لدلالة ظاهرة على البعث والإنشاء من بعد التفريق ، لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ راجع بقلبه إلى ربه ، مطيع له تعالى ، إذ المنيب لا يخلو من النظر فى آيات اللّه ، فيعتبر ، ويعلم أن من قدر على إنشاء هذه الأجرام العظام ، قادر على إحياء الأموات وبعثها ، وحسابها وعقابها.
الإشارة : يقول شيوخ التربية : بقدر ما يمزق الظاهر بالتخريب والإهمال يحيى الباطن ويعمر بنور اللّه ، وبقدر ما يعمر الظاهر يخرب الباطن ، فيقع الإنكار عليهم ، ويقول الجهلة : هل ندلكم على رجل ينبئكم إذا مزقتم فى الظاهر كل ممزق ، يجدد الايمان والإحسان فى بواطنكم ، أفترى على اللّه كذبا أم به جنة؟ بل الذي لا يؤمنون بالنشأة الآخرة - وهى حياة الروح بمعرفة اللّه - فى عذاب الحجاب والضلال ، عن معرفة العيان بعيد ، ما داموا على ذلك الاعتقاد ، ثم يهددون بما يهدد به منكر والبعث. واللّه تعالى أعلم.
ثم ذكر تعالى نعمته على داود وسليمان ، احتجاجا على ما منح محمد - عليه الصلاة والسلام - من الرسالة والوحى ، ردا لقولهم : أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً ، ودلالة على قدرته تعالى على البعث وغيره ، فقال :
[سورة سبإ (34) : الآيات 10 الى 11]
وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10) أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (11)
قلت : (يا جبال) : بدل من (فضلا) ، أو يقدر : وقلنا. و(الطير) : عطف على محل الجبال ، ومن رفعه فعلى لفظه.
يقول الحق جل جلاله : وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلًا أي : مزية خصّ بها على سائر الأنبياء ، وهو ما جمع له من النبوة ، والملك ، والصوت الحسن ، وإلانة الحديد ، وتعلم صنعة الزرد ، وغير ذلك مما خص به ، أو :
فضلا على سائر الناس بما ذكر ، وقلنا : يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ رجّعى معه التسبيح. ومعنى تسبيح الجبال معه :
أن اللّه تعالى يخلق فيها تسبيحا ، فيسمع منها كما يسمع من المسبّح ، معجزة لداود عليه السّلام ، فكان إذا تخلل الجبال وسبح جاوبته الجبال بالتسبيح ، نحو ما سبّح به. وهو من التأويب ، أي : الترجيع ، وقيل : من الإياب بمعنى الرجوع ، أي : ارجعي معه بالتسبيح. وَالطَّيْرَ أي : أوبى معه ، أو : وسخرنا له الطير تؤب معه. قال وهب : فكان داود إذا نادى بالنياحة على نفسه ، من أجل زلته ، أجابته الجبال بصداها ، وعكفت الطير عليه من فوقه ، فصدى الجبال الذي يسمعه الناس منها هو من ذلك اليوم «1».
___________
(1) انظر تفسير البغوي (6/ 388).(4/476)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 477
قال القشيري : يقال أوحى اللّه إلى داود عليه السّلام : كانت تلك الزلة مباركة عليك ، فقال : يا رب وكيف تكون الزلة مباركة؟ فقال : كنت تجىء بأقدار المطيعين ، والآن تجىء بانكسار المذنبين ، يا داود أنين المذنبين أحب إلىّ من صراخ العابدين. ه. مختصرا. وفى هذا اللفظ من قوله : يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ من الفخامة ما لا يخفى ، حيث جعلت الجبال بمنزلة العقلاء الذين إذا أمرهم بالطاعة أطاعوا ، وإذا دعاهم أجابوا ، إشعارا بأنه ما من حيوان وجماد إلا وهو منقاد لقدرة اللّه تعالى ومشيئته. ولو قال : آتينا داود منا فضلا تأويب الجبال معه والطير لم يكن فيه هذه الفخامة.
وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ أي : جعلناه له لينا ، كالطين المعجون ، يصرفه بيده كيف يشاء ، من غير نار ولا ضرب بمطرقة ، قيل : سبب لينه له : أنه لما ملك بنى إسرائيل ، وكان من عادته أن يخرج متنكرا ، ويسأل كل من لقيه : ما يقول الناس فى داود؟ فيثنون خيرا ، فلقى ملكا فى صورة آدمي ، فسأله ، فقال : نعم الرجل ، لو لا خصلة فيه : يأكل ويطعم عياله من بيت المال ، فتنبه ، وسأل اللّه تعالى أن يسبب له سببا يغنيه عن بيت المال ، فألان له الحديد مثل الشمع ، وعلمه صنعة الدروع ، وهو أول من اتخذها. وكانت قبل ذلك صفائح «1».
ويقال : كان يبيع كل درع منها بأربعة آلاف ، فيأكل ويطعم عياله ، ويتصدق على الفقراء والمساكين. وقيل :
كان يلين له ولمن اشتغل معه له ، قلت : ذكر ابن حجر فى شرح الهمزية أن نبينا صلى اللّه عليه وسلم كان إذا وطئ على صخرة أثر فيها قدمه ، وهذا أبلغ من إلانة الحديد لأن لين الحجارة لا يعرف بنار ، ولا بغيرها ، بخلاف الحديد. ه. وقيل :
لأن لين الحديد فى يد داود عليه السّلام لما أولى من شدة القوة.
وأمرناه أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ أي : دروعا واسعة تامة ، من : السبوغ ، بمعنى الإطالة ، وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ لا تجعل المسامير دقاقا فيقلق ، ولا غلاظا فتنكسر الحلق ، أو تؤذى لابسها. والتقدير : التوسط فى الشيء ، والسرد : صنعة الدروع ، ومنه قيل لصانعه : السراد والزراد. وَاعْمَلُوا صالِحاً شكرا لما أسدى إليكم. والضمير لداود وأهله. والعمل الصالح : ما يصلح للقبول لإخلاصه واتقائه ، إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ فأجازيكم عليه.
الإشارة : الفضل الذي أوتيه داود عليه السّلام هو كشف الحجاب بينه وبين الكون ، فلما شهد المكون ، كانت الأكوان معه. «أنت مع الأكوان ما لم تشهد المكون ، فإذا شهدت المكون كانت الأكوان معك». ولا يلزم من كونها معه فى المعنى ، بحيث تتعشق له وتهواه ، أي : تتقاد كلها له فى الحس ، بل ينقاد إليه منها ما يحتاج إليه ، حسبما تقتضيه الحكمة ، وتسبق به المشيئة ، فسوابق الهمم لا تخرق أسوار الأقدار. وقوله تعالى : وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ فى الظاهر : الحديد
___________
(1) ذكر البغوي (6/ 388) وابن كثير (3/ 527).(4/477)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 478
الحسى ، وفى الباطن : القلوب الصلبة كالحديد ، فتلين لوعظه بالإيمان والمعرفة. وكذا فى حق كل عارف تلين لوعظه القلوب ، وتقشعر من كلامه الجلود. وهو أعظم نفعا من لين الحديد الحسى. ويقال له : أن اعمل سابغات ، أي : دروعا تامة ، يتحصن بها من الشيطان والهوى ، وهو ذكر اللّه ، يستعمله ويأمر به ، ذكرا متوسطا ، من غير إفراط ممل ، ولا تفريط مخل. فإذا انتعش الناس على يده كبر قدره عند ربه ، فيؤمر بالشكر ، وهو قوله : وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ. واللّه تعالى أعلم.
ثم ذكر سليمان عليه السّلام ، فقال :
[سورة سبإ (34) : الآيات 12 الى 13]
وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ (12) يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ (13)
قلت : «الريح» : مفعول بمحذوف ، أي : وسخرنا له الريح ، ومن رفعه فمبتدأ تقدم خبره.
يقول الحق جل جلاله : وَسخرنا لِسُلَيْمانَ الرِّيحَ ، وهى الصبا ، غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ أي : جريها بالغد مسيرة شهر ، إلى نصف النهار ، وجريها بالعشي كذلك. فتسير فى يوم واحد مسيرة شهرين. وكان يغدو من دمشق ، مكان داره ، فيقيل بإصطخر فارس ، وبينهما مسيرة شهر ، ويروح من إصطخر فيبيت بكابل ، وبيهما مسيرة شهر للراكب المسرع. وقيل : كان يتغذّى بالرىّ ، ويتعشى بسمرقند. وعن الحسن : لمّا عقر سليمان الخيل ، غضبا للّه تعالى ، أبدله اللّه خيرا منها الريح ، تجرى بأمره حيث شاء ، غدوها شهر ورواحها شهر. ه «1».
قال ابن زيد : كان لسليمان مركب من خشب ، وكان فيه ألف ركن ، فى كل ركن ألف بيت معه ، فيه الجن والإنس ، تحت كل ركن ألف شيطان ، يرفعون ذلك المركب ، فإذا ارتفع أتت الريح الرخاء فتسير به وبهم. قلت : وقد تقدم أن العاصفة هى التي ترفعه ، والرخاء تسير به ، وهو أصح. ثم قال : فتقيل عند قوم ، وتمسى عند قوم ، وبينهما شهر ، فلا يدرى القوم إلا وقد أظلهم ، معه الجيوش.
___________
(1) عزاه فى الدر المنثور (5/ 427) لعبد الرزاق ، وابن أبى شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبى حاتم ، عن الحسن.(4/478)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 479
ويروى أن سليمان سار من أرض العراق ، فقال بمدينة مرو ، وصلى العصر بمدينة بلخ ، تحمله الريح ، وتظله الطير ، ثم سار من بلخ متخللا بلاد الترك ، ثم سار به إلى أرض الصين ، ثم عطف يمنة على مطلع الشمس ، على ساحل البحر ، حتى أتى أرض فارس ، فنزلها أياما ، وغدا منها فقال بكسكر ، ثم راح إلى اليمن ، وكان مستقره بها بمدنية تدمر ، وقد كان أمر الشياطين قبل شخوصه من الشام إلى العراق ، فبنوها له بالصفاح ، والعمد ، والرخام الأبيض والأصفر. ه.
قلت : وذكر أبو السعود فى سورة «ص» أنه غزا بلاد المغرب الأندلسى وطنجة وغيرهما ، واللّه تعالى أعلم.
ووجدت هذه الأبيات منقورة فى صخرة بأرض كسكر ، أنشأها بعض أصحاب سليمان عليه السّلام :
ونحن ولا حول سوي حول ربّنا نروح إلى الأوطان من أرض كسكر
إذ نحن رحنا كان ريث رواحنا مسيرة شهر والغدوّ لآخر
أناس أعزّ اللّه طوعا نفوسهم بنصر ابن داود النبىّ المطهّر
لهم فى معالى الدّين فضل ورفعة وإن نسبوا يوما فمن خير معشر
متى يركب الريح المطيعة أسرعت مبادرة عن شهرها لم تقصّر
تظلّهم طير صفوف عليهم متى رفرفت من فوقهم لم تنفّر «1»
قال القشيري : وفى القصة أنه لا حظ يوما ملكه ، فمال الريح ، فقال له : استو ، فقال له مادمت أنت مستويا بقلبك كنت مستويا لك ، فحيث ملت. ه.
ثم قال : وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ أي : معدن النحاس. والقطر : النحاس ، وهو الصفر ، ولكنه أذابه له ، وكان يسيل فى الشهر ثلاثة أيام ، كما يسيل الماء. وكان قبل سليمان لا يذوب. قال ابن عباس : كانت تسيل له باليمن عين من نحاس ، يصنع منها ما أحب. وقيل : القطر : النحاس والحديد ، وما جرى مجرى ذلك ، كان يسيل له منه عيون.
وقيل : ألانه له كما ألان الحديد لأبيه ، وإنما ينتفع الناس اليوم بما أجرى اللّه تعالى لسليمان ، كما قيل.
وَسخرنا له مِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ ما يشاء بِإِذْنِ رَبِّهِ أي : بأمر ربه ، وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا أي : ومن يعدل منهم عن أمرنا الذي أمرنا به من طاعة سليمان نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ :
عذاب الآخرة. وقيل : كان معه ملك بيده سوط من نار ، فمن زاغ عن طاعة سليمان ضربة بذلك ضربة أحرقته.
___________
(1) انظر الأبيات فى : تفسير القرطبي (6/ 5504 - 5505) والبحر المحيط (7/ 254).(4/479)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 480
يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ أي : مساجد ، أو مساكن وقصور ، والمحراب : مقدم كل مسجد ومجلس وبيت. وَتَماثِيلَ صور الملائكة والأنبياء ، على ما اعتادوا من العبادات ، ليراها الناس ، فيعبدوا نحو عبادتهم.
صنعوا له ذلك فى المساجد ، ليجتهد الناس فى العبادة. أو : صور السباع والطيور ، روى أنهم عملوا له أسدين فى أسفل كرسيه ، ونسرين فوقه ، فإذا أراد أن يصعد بسط الأسدان له ذراعيهما ، وإذا قعد أظله النسران بأجنحتهما. وكان التصوير مباحا. وَجِفانٍ وصحاف ، جمع : جفنة ، وهى القصعة ، كَالْجَوابِ جمع جابية ، وهى الحياض الكبار. قيل : كان يقعد على الجفنة ألف رجل ، يأكلون بين يديه ، وَقُدُورٍ راسِياتٍ ثابتات على الأثافى ، لا تنزل لعظمها ، ولا تعطل لدوام طبخها. وقيل : كان قوائمها من الجبال ، يصعد إليها بالسلالم ، وقيل : باقية باليمن.
وقلنا : اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً أي : اعملوا بطاعة اللّه ، واجهدوا أنفسكم فى عبادته ، شكرا لما أولاكم من نعمه. قال ثابت : كان داود جزأ ساعات الليل والنهار على أهله ، فلم تكن تأتى ساعة من ساعات الليل والنهار إلا وإنسان من آل داود قائم يصلّى. ه «1».
وقال سعيد بن المسيب : لما فرغ سليمان من بيت المقدس انغلقت أبوابه ، فعالجها ، فلم تنفتح ، حتى قال :
بصلوات آل داود إلا فتحت الأبواب ، ففتحت ، ففرغ له سليمان عشرة آلاف من قراء بنى إسرائيل خمسة آلاف بالليل ، وخمسة آلاف بالنهار ، فلا تأتى ساعة من ليل ولا نهار إلا واللّه عز وجل يعبد فيها. ه. وعن الفضيل :
(اعملوا آل داود) أي : ارحموا أهل البلاء ، وسلوا ربكم العافية.
و(شكرا) : مفعول له ، أو حال ، أي : شاكرين ، أو مصدر ، أي : اشكروا شكرا لأن «اعملوا» فيه معنى اشكروا ، من حيث إن العمل للنعم شكر ، أو : مفعول به ، أي : إنّا سخرنا لكم الجن يعملون لكم ما شئتم ، فاعملوا أنتم شكرا.
وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ ، يحتمل أن يكون من تمام الخطاب لداود عليه السّلام ، أو خطاب لنبينا صلى اللّه عليه وسلم. والشكور :
القائم بحق الشكر ، الباذل وسعه فيه ، قد شغل به بقلبه ولسانه وجوارحه فى أكثر أوقاته ، اعتقادا واعترافا وكدحا. وعن ابن عباس : هو من يشكر على أحواله كلها. وقيل : من شكر على الشكر ، ومن يرى عجزه عن الشكر. قال البيضاوي :
لأن توفيقه للشكر نعمة ، فتقتضى شكرا آخر ، لا إلى نهاية ، ولذلك قيل : الشكور من يرى عجزه عن الشكر. ه.
الإشارة : وسخرنا لسليمان ريح الهداية ، تهب بين يديه ، يهتدى به مسيرة شهر وأكثر ، وأسلنا لوعظه وتذكيره العيون الجامدة ، فقطرت بالدموع خشوعا وخضوعا. وكل من أقبل على اللّه بكليته سخرت له الكائنات ، جنها وإنسها ، يتصرف بهمته فيها. فحينئذ يقال له ما قيل لآل داود : اعملوا آل داود شكرا. قال الجنيد : الشكر : بذل المجهود بين يدى المعبود. وقال أيضا : الشكر ألا يعصى اللّه بنعمه.
___________
(1) عزاه السيوطي فى الدر (5/ 430) لابن أبى شيبة ، وأحمد ، فى الزهد ، وابن أبى حاتم ، والبيهقي فى الشعب ، عن ثابت البناني.(4/480)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 481
والشكر على ثلاثة أوجه : شكر بالقلب ، وشكر باللسان ، وشكر بسائر الأركان. فشكر القلب : أن يعقتد أن النعم كلها من اللّه ، وشكر اللسان : الثناء على اللّه وكثرة المدح له ، وشكر الجوارح : أن يعمل العمل الصالح. وسئل أبو حازم : ما شكر العينين؟ قال : إذا رأيت بهما خيرا أعلنته ، وإذا رأيت بهما شرا سترته ، قيل : فما شكر الأذنين؟
قال : إذا سمعت بهما خيرا وعيته ، وإذا سمعت بهما شرا دفنته ، قيل : فما شكر اليدين؟ قال : ألا تأخذ بهما ما ليس لك ، ولا تمنع حقا هو للّه فيهما ، قيل : فما شكر البطن؟ قال : أن يكون أسفله صبرا ، وأعلاه علما ، قيل : فما شكر الفرج؟
قال : كما قال اللّه تعالى : وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ الآية «1» ، قيل : فما شكر الرجلين؟ قال : إن رأيت شيئا غبطته استعملتهما ، وإن رأيت شيئا مقته كفقتهما. ه.
والناس فى الشكر درجات : عوام ، وخواص ، وخواص الخواص. فدرجة العوام : الشكر على النّعم ، ودرجة الخواص : الشكر على النّعم والنقم ، وعلى كل حال ، ودرجة خواص الخواص : أن يغيب عن النعم بمشاهدة المنعم.
قال رجل لإبراهيم بن أدهم : إن الفقراء إذا أعطوا شكروا ، وإذا منعوا صبروا ، فقال : هذه أخلاق الكلاب عندنا ، ولكن الفقراء إذا منعوا شكروا ، وإذا أعطوا آثروا. ه.
وهذان الآخران يصدق عليهما قوله تعالى : «وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ ، وخصه القشيري بالقسم الثالث ، فقال :
فكان الشاكر يشكر على البذل ، والشكور على المنع ، فكيف بالبذل؟ ثم قال : ويقال فى قَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ :
قليل من يأخذ النعمة منى ، فلا يحملها على الأسباب ، فيشكر الوسائط ولا يشكرنى. وفى الحكم : «من لم يشكر النعم فقد تعرض لزوالها ، ومن شكرها فقد قيدها بعقالها». فالشكر قيد الموجود ، وصيد المفقود. واللّه تعالى أعلم.
ثم ذكر موت سليمان عليه السّلام ، فقال :
[سورة سبإ (34) : آية 14]
فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ (14)
يقول الحق جل جلاله : فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ على سليمان الْمَوْتَ ما دَلَّهُمْ أي : الجن وآل داود عَلى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ أي : الأرضة ، وهى دويبة تأكل الخشب ، ويقال : لها ، سرفة والقادح. والأرض هنا مصدر : أرضت الخشبة ، بالبناء للمفعول ، أرضا : أكلتها الأرضة. فأضيفت إلى فعلها وهو الأرض ، أي : الأكل.
___________
(1) الآية 5 من سورة المؤمنون.(4/481)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 482
تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ ، أي : عصاه ، سميت منسأة لأنها تنسى ، أي : تطرح ويرمى بها. وفيها لغتان الهمز وعدمه ، فقرأ نافع وأبو عمرو بترك الهمز ، وعليه قول الشاعر :
إذا دببت على المنساة من كبر فقد تباعد عنك اللهو والغزل
وقرأ غيرهما بالهمز ، وهو أشهر.
فَلَمَّا خَرَّ سقط سليمان تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أي : تحققت وعلمت علما يقينا ، بعد التباس الأمر على عامتهم وضعفتهم ، أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا بعد موت سليمان فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ فى العمل الشاق له ، لظنهم حياته ، فلو كانوا يعلمون الغيب كما زعموا لعلموا موته.
وذلك أن داود عليه السّلام أسس بيت المقدس ، فى موضع فسطاط موسى عليه السّلام ، فمات قبل أن يتمه ، فوصّى به إلى سليمان ، فأمر الشياطين بإتمامه. فلما بقي من عمره سنه ، سأل اللّه تعالى أن يعمّى عليهم موته حتى يفرغوا ، ولتبطل دعواهم علم الغيب. وكان عمر سليمان ثلاثا وخمسين سنة. وملك وهو ابن ثلاث عشرة سنة. فبقى فى ملكه أربعين سنة ، وابتدأ بناء بيت المقدس لأربع مضين من ملكه. قال الثعلبي : فبنى سليمان المسجد بالرخام الأبيض والأصفر والأخضر ، وعمّره بأساطين المها الصافي ، وسقفه بأنواع الجواهر ، وفضض سقوفه وحيطانه باللئالئ ، وسائر أنواع الجواهر ، وبسط أرضه بألواح الفيروزج ، فلم يكن فى الأرض أبهى ولا أنور من ذلك المسجد.
كان يضىء فى الظلمة كالقمر ليلة البدر «1». ومن أعاجيب ما اتخد فى بيت القدس ، أن بنى بيتا وطيّن حائطه بالخضرة ، وصقله ، فإذا دخله الورع البار استبان فيه خياله أبيض ، وإذا دخله الفاجر استبان فيه خياله أسود ، فارتدع كثير من الناس عن الفجور.
قال صلى اللّه عليه وسلم : «لما فرغ سليمان من بناء بيت المقدس سأل ربه ثلاثا ، فأعطاه اثنتين ، وأن أرجو أنى يكون قد أعطاه الثالثة ، سأله حكما يصادف حكمه ، فأعطاه إياه ، وسأله ملكا لا ينبغى لأحد من بعده ، فأعطاه إياه ، وسأله ألا يأتى أحد هذا البيت يصلى فيه ركعتين إلا خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه ، وأنا أرجو أن يكون قد أعطاه ذلك» «2» ه.
فلم يزل بيت المقدس على ما بناه سليمان عليه السّلام حتى خرّ به بخت نصر ، وأخذ ما كان فيه من الذهب والفضة واليواقيت ، وحمله إلى دار مملكته من العراق.
ثم قال «3» : قال المفسرون : كان سليمان ينفرد فى بيت المقدس السنة والسنتين ، والشهر والشهرين ، يدخل فيه طعامه وشرابه ، فدخله فى المرة التي مات فيها. وكان بدء ذلك أنه لم يكن يوم يصبح فيه إلا نبتت فى بيت
___________
(1) انظر تفسير البغوي (5/ 390). [.....]
(2) أخرجه ابن ماجه فى (الإقامة ، باب ما جاء فى الصلاة فى مسجد المقدس 1/ 452 ، ح 1408) من حديث عبد اللّه بن عمرو بن العاص رضي اللّه عنه.
(3) أي الثعلبي.(4/482)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 483
المقدس شجرة ، فيسألها : ما اسمك؟ فتقول الشجرة : اسمى كذا ، فيأمر بها فنقطع ، فإن كانت لغرس غرسها ، وإن كانت لدواء كتبت. فبينما هو يصلى ذات يوم إذ رأى شجرة بين يديه ، فقال لها : ما اسمك؟ قالت : الخروبة ، قال لها : ولأى شىء نبتّ؟ قالت : لخراب هذا المسجد ، فقال : ما كان اللّه ليخربه وأنا حىّ ، أنت التي على وجهك هلاكى ، وهلاك بيت المقدس ، فنزعها وغرسها فى حائط ، ثم قال : اللهم أعم عن الجن موتى ، حتى يعلم الإنس أن الجن لا يعلمون الغيب. وكانت الجن تخبر الإنس أنهم يعلمون أشياء من علم الغيب ، ثم دخل المحراب ، وقام يصلى على عصاه ، فمات «1».
وقيل : إن سليمان قال لأصحابه ذات يوم : قد آتاني اللّه ما ترون ، وما مرّ علىّ يوم فى ملكى بحيث صفا لى من الكدر ، وقد أحببت أن يكون لى يوم واحد يصفو لى من الكدر ، فدخل قصره من الغد ، وأمر بغلق أبوابه ، ومنع الناس من الدخول عليه ، ورفع الأخبار إليه. ثم اتكأ على عصاه ينظر فى ممالكه ، إذ نظر إلى شاب حسن الوجه ، عليه ثياب بيض ، قد خرج عليه من جوانب قصره ، فقال : السلام عليك يا سليمان ، فقال : عليك السلام ، كيف دخلت قصرى؟ فقال : أنا الذي لا يحجبنى حاجب ، ولا يدفعنى بواب ، ولا أهاب الملوك ، ولا أقبل الرشا ، وما كنت لأدخل هذا القصر من غير إذن. فقال سليمان : فمن أذن لك فى دخوله؟ قال : ربه ، فارتعد سليمان ، وعلم أنه ملك الموت ، فقال : يا ملك الموت هذا اليوم الذي أردت أن يصفو لى ، قال : يا سليمان ذلك اليوم لم يخلق فى أيام الدنيا ، فقبض روحه وهو متكىء على عصاه. ه.
وفى رواية : أنه دعا الشياطين ، فبنوا له صرحا من قوارير ، ليس له باب ، فقام يصلى ، واتكأ على عصاه ، فدخل عليه ملك الموت فقبض روحه «2». واللّه تعالى أعلم أىّ ذلك كان. وبقي سليمان ميتا ، وهو قائم على عصاه سنة ، حتى أكلت الأرضة عصاه. ولم يعلموا منذ كم مات ، فوضعوا الأرضة على العصا ، فأكلت منها يوما وليلة ، ثم حسبوا على ذلك النحو ، فوجدوه قد مات منذ سنة. سبحان الحي الذي لا يموت ، ولا ينقضى ملكه.
الإشارة : كل دولة فى الدنيا تحول ، وكل عز فيها عن قريب يزول ، فالعاقل من صرف دولته فى طاعته مولاه ، وبذل جهده فى محبته ورضاه ، فإن كانت قسمته فى الأغنياء كان من الشاكرين ، وإن كانت فى الفقراء كان من الصابرين ، والفقير الصابر أحظى من الغنى الشاكر ، ولذلك ورد أن سليمان عليه السّلام آخر من يدخل الجنة من
___________
(1) انظر : تفسير الطبري (22/ 75) وتفسير ابن كثير (3/ 529).
(2) أخرجه الطبري (22/ 75 - 76) عن ابن زيد.(4/483)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 484
الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - ، وعبد الرحمن بن عوف آخر من يدخلها من الصحابة - رضوان اللّه عليهم أجمعين. والغنى الشاكر هو الذي يعطى ولا يبالى ، ويتواضع للكبير والصغير ، والوجيه والحقير ، والفقير الصابر هو الذي يغتبط بفقره ، ويكتمه عن غيره. وباللّه التوفيق.
ثم ذكر حال من لم يشكر النعم ، فقال :
[سورة سبإ (34) : الآيات 15 الى 17]
لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16) ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلاَّ الْكَفُورَ (17)
قلت : (لسبأ) فيه الصرف ، بتأويل الحي ، وعدمه ، بتأويل القبيلة. و(مسكنهم) ، من قرأ بالإفراد وفتح الكاف على القياس فى الاسم والمصدر ، كمدخل ، ومن كسره فلغة ، والسماع فى المصدر كمسجد. و(جنتان) : بدل من (آية) أو : خبر عن مضمر ، أي : هى جنتان. و(أكل خمط) «1» ، فمن أضافه فإضافة الشيء إلى جنسه ، كثوب خز ، ومن نوّنه قطعه عن الإضافة ، وجعله عطف بيان. أو صفة ، بتأويل خمط ببشيع.
يقول الحق جل جلاله : لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ ، سئل صلى اللّه عليه وسلم أرجلا كان أو امرأة ، أو أرضا أو جبلا أو واديا ، فقال صلى اللّه عليه وسلم : «هو رجل من العرب ، ولد عشرة من الولد ، فتيامن ستة ، وتشاءم أربعة : فالذين تيامنوا كثرة ، فكندة ، والأشعريون ، والأزد ، ومذجح ، وأنمار ، وحمير ، فقال رجل : من أنمار يا رسول اللّه؟ قال : منهم خثعم وبجيلة. والذي تشاءموا : عاملة ، وجذام ، ولخم ، وغسان» «2».
قلت : وسبأ هو ابن يشخب بن يعرب بن قحطان. واختلف فى قحطان ، فقيل : هو ابن عابر بن شالح بن أرفخشد بن سام بن نوح. وقيل : هو أخو هود عليه السّلام. وقيل : هو هود ، بنفسه ، وإن هودا هو ابن عبد اللّه بن رباح ، لا ابن عابر ، على الأصح. فهو على هذا القول ابن أرم بن سام. وقيل : قحطان من ولد إسماعيل ، فهو ابن أيمن بن
___________
(1) قرأ نافع ، وابن كثير : «أكل» بسكون الكاف ، وبالتنوين ، وقرأ ابن عامر ، وعاصم ، وحمزة ، والكسائي ، وأبو جعفر : بضم الكاف مع التنوين. وقرأ أبو عمرو : ويعقوب بضم الكاف من غير تنوين. انظر الإتحاف (2/ 385).
(2) أخرجه أبو داود فى (الحروف والقراءات 4/ 288 ح 3988) مختصرا ، والترمذي فى (التفسير ، باب ومن سورة سبأ 5/ 336 - 337 ، ح 3222) ، وقال : «حديث حسن غريب» والحاكم (2/ 224) عن فروة بن مسيك المرادي.(4/484)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 485
قيذر بن إسماعيل. وقيل : هو ابن الهميسع ابن أيمن. وبأيمن سميت اليمن ، وقيل : لأنها عن يمين الكعبة. هذا والعرب كلها يجمعها أصلان : عدنان وقحطان ، فلا عربى فى الأرض إلا وهو ينتهى إلى أحدهما ، فيقال :
عدنانى أو قحطانى.
ومن جعل العرب كلها من ولد إسماعيل مرّ على أن قحطان من ذرية إسماعيل ، كما تقدم ، واختلف فى خزاعة ، فقيل : قحطانية ، وقيل : عدنانية ، وأن جدهم عمرو بن لحى ، وأما الأوس والخزرج فهما من ذرية سبأ ، نزلت يثرب ، بعد سيل العرم ، كما يأتى.
قال تعالى : لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ «1» أي : فى بلدهم ، أو أرضهم ، التي كانوا مقيمين فيها باليمن ، آيَةٌ دالة على وحدانيته تعالى ، وباهر قدرته ، وإحسانه ، ووجوب شكر نعمه ، وهى : جَنَّتانِ أي : جماعة من البساتين ، عَنْ يَمِينٍ واديهم ، وَشِمالٍ وعن شماله. وكل واحدة من الجماعتين فى تقاربها وتصافها كأنها جنة واحدة ، كما يكون بساتين البلاد العامرة. قيل : كان الناس يتعاطون ذلك على جنبتى الوادي ، مسيرة أربعين يوما ، وكلها تسقى من ذلك الوادي لارتفاع سده. أو : أراد بستانين ، لكل رجل بستان عن يمين داره ، وبستان عن شماله. ومعنى كونهما آية : أن أهلها لمّا أعرضوا عن شكر النعم سلبهم اللّه النعمة ، ليعتبروا ويتعظوا ، فلا يعودوا لما كانوا عليه من الكفر وغمط النعم ، فلما أثمرت البساتين قلنا لهم - على لسان الرسل المبعوثين إليهم ، أو بلسان الحال ، أو هم أحقاء بأن يقال لهم ذلك : كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بالإيمان والعمل الصالح ، بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ أي : هذه البلدة التي فيها رزقكم بلدة طيبة ، وَرَبٌّ غَفُورٌ أي : وربكم الذي رزقكم وطلب شكركم ربّ غفور لمن شكره.
قال ابن عباس : كانت سبأ على ثلاثة فراسخ من صنعاء ، وكانت أخصب البلاد ، فتخرج المرأة على رأسها المكتل ، وتسير بين تلك الشجر ، فيمتلئ المكتل مما يتساقط فيه من الشجر «2» ولقد كان الرجل يخرج لزيارة أقاربه ، وعلى رأسه مكتل ، أو قفة ، أو طبق فارغ ، فلا يصل إلى حيث يريد إلا والطبق قد امتلأ فاكهة ، مما تسقطه الرياح ، دون أن يمد يده إلى شىء من ثمرها. ومن طيبها : أنها لم تر فى بلدهم بعوضة قط ، ولا ذباب ، ولا برغوث ، ولا عقرب ، ولا حية. وإذا جاءهم الركب فى ثيابهم القمل والدواب ماتت الدواب والقمل لطيب هواها.
___________
(1) قرأ حمزة ، وحفص : (مسكنهم) بسكون السين وفتح الكاف ، بلا ألف على الإفراد. وقرأ الكسائي بالتوحيد وكسر الكاف. وقرأ الباقون «مساكنهم» بفتح السين وألف وكسر الكاف على الجمع. وقد سار الشيخ المفسر على قراءة الجمع. انظر الإتحاف (2/ 384).
(2) أخرجه الطبري (22/ 77) عن قتادة.(4/485)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 486
فَأَعْرَضُوا عن الشكر ، بتكذيب أنبيائهم ، وكفر نعمة اللّه عليهم. وقالوا : ما نعرف للّه علينا من نعمة ، عائذا باللّه.
قال وهب : بعث اللّه إلى سبأ ثلاثة عشر نبيا ، يدعونهم إلى اللّه تعالى ، فكذّبوهم «1» ، فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ أي :
سيل الأمر العرم ، أي : الصعب. من : عرم الرجل فهو عارم ، وعرم : إذا شرس خلقه وصعب ، أي : أرسلنا عليهم سيلا شديدا ، مزّق سدهم ، وغرق بساتينهم. قيل : جمع عرمة ، وهى السد الذي يمسك الماء إلى وقت حاجته.
قال ابن عباس رضي اللّه عنه : كان هذا السد يسقى جنتها ، وبنته بلقيس لأنها لمّا ملكت جعل قومها يقتتلون على ماء مواشيهم ، فنهتهم ، فأبوا ، فنزلت عن ملكها ، فلما كثر الشرّ بينهم أرادوها أن ترجع إلى ملكها ، فأبت ، فقالوا : لترجعى أو لنقتلنك ، فجاءت ، وأمرت بواديهم فسد أعلاه بالعرم ، وهو المسنّاة - بلغة حمير - فسدت ما بين الجبلين بالصخر والنار ، وجعلت له أبوابا ثلاثة ، بعضها فوق بعض ، وبنت من دونه بركة عظيمة ، وجعلت فيها اثنى عشر مخرجا ، على عدة أنهارهم. فلما جاء المطر اجتمع ماء الصخر وأودية اليمن ، فاحتبس السيل من وراء السدّ ، ففتحت الباب الأعلى ، وجرى ماؤه فى البركة ، وألقت البقر فيها ، فخرج بعض البقر أسرع من بعض ، فلم تزل تضيق تلك الأنهار ، وترسل البقر فى الماء ، حتى خرجت جميعا معا ، فكانت تقسمه بينهم على ذلك ، حتى كان من شأنها وشأن سليمان ما كان. فكانوا يسقون من الباب الأعلى ، ثم من الثاني ، ثم من الأسفل ، فلا ينفد حتى يثوب الماء من السنة المقبلة. فلما كفروا وطغوا ، سلط اللّه عليهم جرذا ، يسمى الخلد - وهو الفأر - فنقبه من أسفله ، فغرّق الماء جنتهم ، وخرّب أرضهم. ه «2».
قال وهب : وكانوا يزعمون أنهم يجدون فى علمهم وكهانتهم أنه يخرب سدهم فأرة ، فلم يتركوا فرجة بين صخرتين إلا ربطوا عندها هرا ، فلما حان ما أراد اللّه بهم ، أقبلت فأرة حمراء ، إلى بعض تلك الهرر ، فساورتها - أي : حاربتها ، حتى استأخرت عنها - أي : عن تلك الفرجة - الهرة ، فدخلت فى الفرجة التي كات عندها ، ونقبت السد ، حتى أوهنته للسيل ، وهم لا يدرون ، فلما جاء السيل دخل فى تلك الخلل ، حتى بلغ السد ، فخربه ، وفاض على أموالهم ، فغرقتها ، ودفن بيوتهم ، ومزقوا ، حتى صاروا مثلا عند العرب ، فقالوا : تفرقوا أيادى سبأ. ه «3».
وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ المذكورتين جَنَّتَيْنِ أخريين. وتسمية المبدلتين جنتين للمشاكلة وازدواج الكلام ، كقوله : وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها «4». ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ الأكل : الثمر المأكول ، يخفف ويثقل. والخمط ، قال ابن عباس : شجر الأراك «5» ، وقال أبو عبيد : كل شجر مؤذ مشوّك. وقال الزجاج : كل شجر مر. ه. وفى القاموس :
___________
(1) أخرجه الطبري (22/ 78).
(2) ذكره الطبري (22/ 79) والبغوي (6/ 394).
(3) أخرجه الطبري (22/ 80) بنحوه ، عن وهب.
(4) الآية 40 من سورة الشورى.
(5) أخرجه الطبري (22/ 81).(4/486)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 487
الخمط : الحامض المر من كل شىء ، وكل نبت أخذ طعما من مرارة وحموضة ، وشجر كالسدر ، وشجر قاتل ، أو كل شجر لا شوك له. ه. وقرأ البصريان بالإضافة ، من إضافة الشيء إلى جنسه ، كثوب خز لأن المراد بالأكل المأكول ، أي : ذواتى ثمر شجر بشيع. والباقون : بالتنوين ، عطف بيان ، أو صفة ، بتأويل خمط ببشيع ، أي : مأكول بشيع. وَأَثْلٍ هو شجر يشبه الطرفاء ، أعظم منه ، وأجود عودا. وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ. والحاصل أن اللّه تعالى أهلك أشجارهم المثمرة ، وأنبت مكانها الطرفاء والسدر. وإنما قال : السدر ، لأنه أكرم ما بدلوا به لأنه يكون فى الجنان.
ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا
أي : جزيناهم ذلك بكفرهم ، فذلك مفعول مطلق بجزينا ، وهل يجازى «1» هذا الجزاء الكلى إِلَّا الْكَفُورَ أي : لا يجازى بمثل هذا الجزاء إلا من كفر النعمة ولم يشكرها ، أو :
كفر باللّه ، أو هل يعاقب لأن الجزاء وإن كان عامّا يستعمل فى معنى المعاقبة ، [وفى معنى الإثابة] «2» لكن المراد الخاص ، وهو المعاقبة. قال الواحدي : وذلك لأن المؤمن يكفر عنه سيئاته ، والكافر يجازى بكل سوء عمله. قلت : بل الظاهر المجازاة الدنيوية بسلب النعم ، ولا تسلب إلا للكفور ، دون الشكور. قاله فى الحاشية.
وعن الضحاك : كانوا فى الفترة التي بين عيسى ومحمد - عليهما السلام. ه. قلت : ولعلهم استمروا من زمن سليمان إلى أن جاوزوا زمن عيسى عليه السّلام.
الإشارة : لكل مريد وعارف جنتان عن يمين وشمال ، يقطف من ثمارهما ما يشاء جنة العبودية ، وجنة الربوبية ، جنة العبودية للقيام بآداب الشريعة ، وجنة الربوبية للقيام بشهود الحقيقة ، فيتفنن فى جنة العبودية بعلوم الحكمة ، ويتفنن فى جنة الربوبية بعلوم القدرة ، وهى أسرار الذات وأنوار الصفات. كلوا من رزق ربكم حلاوة المعاملة فى جنة العبودية ، وحلاوة المشاهدة فى جنة الربوبية بلدة طيبة هى جنة الربوبية إذ لا أطيب من شهود الحبيب ، ورب غفور لتقصير القيام بآداب العبودية إذ لا يقدر أحد أن يحصيها ، ولا جزءا منها. فأعرض أهل الغفلة عن القيام بحقهما ، ولم يعرفوهما ، فأرسلنا على قلوبهم سيل العرم ، وهو سيل الخواطر والوساوس ، وخوض القلب فى حس الأكوان ، فبدلناهم بجنتيهم جنتين مرارة الحرص والتعب ، والهم والشغب. ذلك جزيناهم بكفرهم بطريق الخصوص من أهل التربية ، وهل يجازى إلا الكفور.
___________
(1) قرأ حمزة ، والكسائي ، وحفص ، ويعقوب (و هل نجازى) بنون العظمة وكسر الزاى ، ونصب «الكفور». وقرأ الباقون (يجازى) بالياء المضمومة ، وفتح الزاى ، ورفع الكفور. انظر الإتحاف (2/ 385). [.....]
(2) ما بين المعقوفتين زيادة ليست فى الأصول. وأثبته لاقتضاء السياق له.(4/487)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 488
قال القشيري : وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ .. الآية ، كذلك من الناس من يكون فى رغد من الحال ، واتصال من التوفيق ، وطيب من القلب ، ومساعدة من الوقت ، فيرتكب زلّة ، أو يتبع شهوة ، ولا يعرف قدر ما يفوته فيفتر عليه الحال ، فلا وقت ولا حال ، ولا قرب ولا وصال ، يظلم عليه النهار ، بعد أن كانت لياليه مضيئة. وأنشدوا :
ما زلت أختال فى زمانى حتى أمنت الزمان مكره
طال علينا الصدود حتى لم يبق مما شهدت ذرّه «1»
ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا .. الآية : ما عوقبوا إلا بما استوجبوا ، وما سقوا إلّا ما أفيضوا ، ولا وقعوا إلّا فى الوهدة التي حفروا ، وما قتلوا إلا بالسيف الذي صنعوا. ه.
ثم ذكر سبب تمزيقهم ، فقال :
[سورة سبإ (34) : الآيات 18 الى 19]
وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ (18) فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (19)
يقول الحق جل جلاله : وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ أي : بين سبأ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها بالتوسعة على أهلها بالنعم والمياه ، وهى قرى الشام ، قُرىً ظاهِرَةً متواصلة يرى بعضها من بعض لتقاربها ، فهى ظاهرة لأعين الناظرين ، أو : ظاهرة للسّابلة ، لم تبعد عن مسالكهم حتى تخفى عليهم ، وهى أربعة آلاف وسبعمائة قرية متصلة ، من سبأ إلى الشام ، وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ أي : جعلنا هذه القرى على مقدار معلوم ، يقيل المسافر فى قرية ، ويروح إلى أخرى ، إلى أن يبلغ الشام. وقلنا لهم : سِيرُوا فِيها ، ولا قول هناك ، ولكنهم لمّا تمكنوا من السير ، ويسّرت لهم أسبابه ، فكأنهم أمروا بذلك ، فقيل لهم : سيروا فى تلك القرى لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ أي : سيروا فيها إن شئتم بالليل ، وإن شئتم بالنهار ، فإن الأمن فيها لا يختلف باختلاف الأوقات ، أو : سيروا فيها آمنين لا تخافوا عدوا ، ولا جوعا ، ولا عطشا ، وإن تطاولت مدة سيركم ، وامتدت أياما وليالى. فبطروا النعمة ، وسئموا العافية ، وطلبوا الكدر والتعب.
___________
(1) الأبيات بنحوها فى لطائف الإشارات (3/ 181) ، وجاءت فى شرح أسماء اللّه الحسنى/ 173 مسبوقة ببيت ، هو :
يا سائلى كيف كنت بعده؟ لقيت ما ساءنى وسره(4/488)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 489
فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا قالوا : يا ليتها كانت بعيدة ، نسير على نجائبنا ، ونتخذ الزاد ، ونختص بالريح فى تجاراتنا ، أرادوا أن يتطاولوا على الفقراء بالركوب على الرواحل ، ويختصوا بالأرباح. وقرأ يعقوب «ربّنا» بالرفع «باعد» بفتح العين ، فربنا : مبتدأ ، والجملة : خبر ، على أنه شكوى منهم ببعد سفرهم ، إفراطا فى الترفيه وعدم الاعتداد بالنعمة. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وهشام بشد العين ، من «بعّد» المضعف. والباقون بالألف والتخفيف ، من : باعد ، بمعنى «بعد» المشددة. وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بما قالوا ، وما طلبوا ، ففرّق اللّه شملهم ، كما قال تعالى :
فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ يتحدث الناس بهم ، ويتعجبون من أحوالهم ، ويضرب بهم الأمثال ، يقال : تفرقوا أيادى سبأ ، وأيدى سبأ ، يقال بالوجهين. وفى الصحاح : ذهبوا أيادى سبأ ، أي : متفرقين ، فهو من المركّب تركيب مزج.
وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ أي : فرقناهم كل تفريق ، فتيامن منهم ست قبائل ، وتشاءمت أربعة ، حسبما تقدم فى الحديث. قال الشعبي : أما غسان فلحقوا بالشام ، وأما أنمار فلحقوا بيثرب ، وأما خزاعة فلحقوا بتهامة ، والأزد بنعمان. ه. قلت : وفيه مخالفة لظاهر الحديث ، فإن أنمار جد خثعم وبجيلة ، ولم يكونوا فى المدينة.
والذي هو المشهور أن الأوس والخزرج هما اللذان قدّما المدينة ، فوجدوا فيها طائفة من بنى إسرائيل ، بعد قتلهم للعماليق. وسبب نزولهم بها : أن حبرين منهم مرّا بيثرب مع تبع ، فقالا له : نجد فى علمنا أن هذه المدينة مهاجر نبى ، يخرج فى آخر الزمان ، يكون سنه كذا وكذا ، فاستوطناها ، يترصّدان خروجه صلى اللّه عليه وسلم ، فمن نسلهما بقيت اليهود فى المدينة ، والأوس والخزرج هما ابنا حارثة بن ثعلبة بن عمرو بن حارثة بن امرئ القيس بن ثعلبة بن مازن بن الأسد بن الغوث بن بنت مالك بن زيد بن كهلان بن سبأ. وولد مازن بن الأسد هم غسان ، سموا بماء اليمن ، شربوا منه. ويقال : غسان : ماء بالشمال شربوا منه ، نسبوا إليه. قال حسان :
أما سألت فإنا معشر نجب الأسد نسبتنا والماء غسان
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ عن المعاصي شَكُورٍ للنعم ، أو : لكل مؤمن لأن الإيمان نصفان نصفه صبر ، ونصفه شكر.
الإشارة : وجعلنا بين السائرين وبين منازل الحضرة المقدسة منازل ظاهرة ، ينزلوها ، ويرحلون عنها ، آمنين من الرجوع ، إن صدقوا فى الطلب ، وهى منازل كثيرة ، وأهمها اثنا عشر مقاما : التوبة ، والخوف ، والرجاء ، والزهد ، والصبر ، والشكر ، والتوكل ، والرضا ، والتسليم ، والمراقبة ، والمشاهدة. ومنازل الحضرة هى الفناء ، والبقاء ، وبقاء البقاء ، والترقي فى معاريج الأسرار والكشوفات ، أبدا سرمدا. يقال للسائرين : سيروا فيها ، وأقيموا فى كل منزل منها ، ليالى وأياما ، حتى يتحقق به نازله ، ثم يرحل عنه إلى ما بعده. ثم إن قوما سئموا من السير وادعوا القوة ، فقالوا : (4/489)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 490
ربّنا باعد بين أسفارنا حتى يظهر عزمنا وقوتنا ، وظلموا أنفسهم بذلك ، ففرقناهم عنا كل تفريق ، وعوّقناهم عن السير كل تعويق ، ليكون ذلك آية وعبرة لمن بعدهم ، فلا يخرجون عن مقام الاستضعاف والمسكنة ، والانكسار والذلة «أنا عند المنكسرة قلوبهم من أجلى».
وسبب الحرمان هو إبليس ، كما قال تعالى :
[سورة سبإ (34) : الآيات 20 الى 21]
وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20) وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (21)
يقول الحق جل جلاله : وَلَقَدْ صَدَّقَ»
عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ ، الضمير فى «عليهم» لكفار سبأ وغيرهم.
وكأن إبليس أضمر فى نفسه حين أقسم : لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ «2» أنه يسلط عليهم ، وظن أنه يتمكن منهم ، فلما أغواهم وكفروا صدق ظنه فيهم. فمن قرأ بالتخفيف ف «ظنه» : ظرف ، أي : صدق فى ظنه. ومن قرأ بالتشديد فظنه مفعول به ، أي : وجد ظنه صادقا عليهم حين كفروا فَاتَّبَعُوهُ أي : أهل سبأ ومن دان دينهم ، إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ، قللهم بالإضافة إلى الكفار ، قال تعالى : وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ «3» وفى الحديث : «ما أنتم فى أهل الشرك إلا كشعرة بيضاء فى جلد ثور أسود» «4».
وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ أي : ما كان لإبليس على من صدق ظنه عليهم من تسلط واستيلاء بالوسوسة ، إِلَّا لِنَعْلَمَ موجودا ما علمناه معدوما مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ أي : إلا ليتعلق علمنا بذلك تعلقا تنجيزيا ، يترتب عليه الجزاء ، أو : ليتميز المؤمن من الشاك ، أو : ليؤمن من قدّر إيمانه ، ويشك من قدر ضلاله. وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ محافظ رقيب ، وفعيل ومفاعل أخوان.
الإشارة : كل من لم يصل إلى حضرة العيان صدق عليه بعض ظن الشيطان لأنه لما رأى بشرية آدم مجوفة ، ظن أنه يجرى معه مجرى الدم ، فكل من لم يسد مجاريه بذكر اللّه ، حتى يستولى الذكر على بشريته ، فيصير قطعة من نور ، فلا بد أن يدخل معه بعض وساوسه ، ولا يزال يتسلط على قلب ابن آدم ، حتى يدخل حضرة
___________
(1) قرأ عاصم ، وحمزة ، والكسائي «صدّق» بتشديد الدال. وقرأ الباقون بالتخفيف. انظر الإتحاف (2/ 386).
(2) من الآية 82 من سورة ص.
(3) من الآية 17 من سورة الأعراف.
(4) أخرجه مطولا البخاري فى (الرقاق ، باب الحشر ، ح 6528) ومسلم فى (الإيمان ، باب كون هذه الأمة نصف أهل الجنة 1/ 200 ، ح 221) من حديث عبد اللّه بن مسعود رضي اللّه عنه.(4/490)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 491
القدس ، فحيئنذ يحرس منه ، لقوله تعالى : إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ «1». وعباده الحقيقيون هم الذين تحرروا مما سواه ، فلم يبق لهم فى هذا العالم علقة ، وهم المرادون بقوله تعالى : إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ، وما سلّطه علهم إلا ليتميز الخواص من العوام ، فلو لا ميادين النفوس ، ومجاهدة إبليس ، ما تحقق سير السائرين ، أي : وما كان له عليهم من تسلط إلا لنعلم علم ظهور من يؤمن بالخصلة الآخرة ، وهى الشهود ، ممن هو منها فى شك ، وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ يحفظ قلوب أوليائه من استيلاء غيره عليها. وباللّه التوفيق.
ولمّا كان تسلط إبليس جله من الشرك ، الذي زيّنه لهم ، رده بقوله :
[سورة سبإ (34) : الآيات 22 الى 23]
قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ وَما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22) وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا ما ذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (23)
قلت : حذف مفعولى زعم ، أي : زعمتموهم آلهة تعبدونهم من دون اللّه ، بدلالة السياق عليهما.
يقول الحق جل جلاله : قُلِ لهم ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي : زعمتموهم آلهة ، فعبدتموهم من دون اللّه ، من الأصنام والملائكة ، وسميتموهم باسمه ، فالتجئوا إليهم فيما يعروكم ، كما تلتجئون إليه فى اقتحام الشدائد الكبرى. وانتظروا استجابتهم لدعائكم كما تنتظرون استجابته. وهذا تعجيز وإقامة حجة على بطلان عبادتها. ويروى أنها نزلت عند الجوع الذي أصاب قريشا. ثم ذكر عجزهم فقال : لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ من خير أو شر ، ونفع أو ضر فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ ، وَما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ أي : وما لهم فى هذين العالمين العلوي والسفلى ، من شرك فى الخلق ، ولا فى الملك ، وَما لَهُ تعالى مِنْهُمْ من آلهتهم مِنْ ظَهِيرٍ معين يعنيه على تدبير خلقه. يريد أنه على هذه الصفة من العجز ، فكيف يصحّ أن يدعوا كما يدعى تعالى ، أو يرجوا كما يرجى سبحانه؟
ثم أبطل قولهم : هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ «2» بقوله : وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ تعالى فى الشفاعة ، ممن له جاه عنده ، كالأنبياء ، والملائكة ، والأولياء ، والعلماء الأتقياء ، وغيرهم ممن له مزية عند اللّه. وقرأ
___________
(1) الآية 42 من سورة الحجر.
(2) من الآية 18 من سورة يونس.(4/491)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 492
أبو عمرو «1» والأخوان بالبناء للمفعول ، أي : إلا من وقع الإذن للشفيع لأجله. ثم ردّ على من زعم من الكفار أن الملائكة تشفع ، قطعا لمكانها من اللّه ، فقال : حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا ما ذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ ، فحتى : غاية لمحذوف ، أي : وكيف تشفع قبل الإذن ، وهى فى غاية الخوف والهيبة من اللّه ، إذا سمعوا الوحى صعقوا ، حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ أي : كشف الفزع عن قلوبهم قالُوا ما ذا قالَ رَبُّكُمْ من الوحى؟
قالُوا الْحَقَّ ، فمن كان هذا وصفه لا يجترىء على الشفاعة إلا بإذن خاص. قال الكواشي : إنه يفزع عن قلوبهم حين سمعوا كلام اللّه لجبريل بالوحى ، قال صلى اللّه عليه وسلم : (إذا أراد اللّه تعالى أن يوحى بالأمر لأهل السماء أخذت السموات منه رجفة - أو قال : رعدة شديدة - خوفا من ذلك ، فإذا سمع أهل السموات صعقوا ، وخروّا سجدا ، فيكون أول من يرفع رأسه جبريل ، فيكلمه من وحيه بما أراد ، ثم يمرّ على سماء سماء ، إلى أن ينزل بالوحى ، فإذا مرّ على الملائكة سألوه ، ثم قالوا : ماذا قال ربكم؟ فيقول جبريل : قال الحقّ «2». نصب المفعول بقالوا ، وجمع الضمير تعظيما للّه تعالى.
ثم قال : وفى الحديث : «إذا تكلم اللّه بالوحى سمع أهل السماء صلصلة ، كجر السلسلة على الصفا ، فيصعقون ، حتى يأتيهم جبريل ، فيفزغ عن قلوبهم ، - أي : يكشف - وبخبرهم الخبر ، ثم قال «3» : وقيل المعنى : أنه لا يشفع أحد إلا بعد الإذن ، ولا يشعر به إلا المقربون لما غشى عليهم من هول ذلك اليوم ، فإذا ذهب الفزع عن قلوبهم ، قالوا : ماذا قال ربكم فى الشفاعة؟ قالوا الحق ، أي : أذن فيها. ه. ومثل هذا لابن عطية ، وتبعه ابن جزى ، قال :
الضمير فى «قلوبهم» ، وفى «قالوا» للملائكة. فإن قيل : كيف ذلك ، ولم يتقدم لهم ذكر؟ فالجواب : أنه قد وقعت إليهم إشارة بقوله : وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ لأن بعض العرب كانوا يعبدون الملائكة ، ويقولون :
هؤلاء شفعاؤنا عند اللّه ، فذكر الشفاعة يقتضى ذكر الشافعين ، فعاد الضمير على الشفعاء ، الذين دلّ عليهم ذكر الشفاعة. ه.
وقرأ يعقوب وابن عامر «فزع» بفتح الفاء بالبناء للفاعل. والتضعيف للسلب والإزالة ، أي : سلب الفزع وأزاله عن قلوبهم ، مثل : قردت البعير : إذا أزلت قراده ، ومن بناه للمفعول فالجار نائب. وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ أي :
المتعالي عن سمة الحدوث ، وإدراك العقول ، الكبير الشأن ، فلا يقدر أحد على شفاعة بلا إذنه.
___________
(1) فى الأصول [ابن عمرو].
(2) أخرجه الطبري (22/ 91) والبغوي فى التفسير (6/ 398) والبيهقي فى الأسماء والصفات (1/ 326) وابن أبى عاصم فى السنّة (1/ 227) من حديث النواس بن سمعان.
(3) أي : الكواشي.(4/492)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 493
الإشارة : كل من آثر شيئا أو أحبه سوى اللّه ، أو خافه ، يقال له : ادعوا الذين زعمتم أنهم ينفعونكم أو يضرونكم ، من دون اللّه ، لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ ... الآية. وأما محبة الأنبياء والأولياء والعلماء الأتقياء فهى محبة اللّه ، لأنهم يوصلون إليه ، فلم يحبهم أحد إلا لأجل اللّه ، فتنفع شفاعتهم بإذن اللّه. وقوله : حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ .. إلخ ، قال الورتجبي : وصف سبحانه أهل الوجد ، من الملائكة المقربين ، وذلك من صولة الخطاب ، فإذا سمعوا كلام الحق ، من نفس العظمة ، وقعوا فى بحار هيبته وإجلاله ، حتى فنوا تحت سلطان كبريائه ، ولم يعرفوا معنى الخطاب فى أول وارد السلطنة. فإذا فاقوا سألوا معنى الخطاب من جبريل عليه السّلام ، فهو من أهل الصحو والتمكين فى المعرفة. ه.
ثم تتم قوله : لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ أي : لا من رزق ولا غيره ، فقال :
[سورة سبإ (34) : الآيات 24 الى 27]
قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (24) قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (25) قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (26) قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ كَلاَّ بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27)
يقول الحق جل جلاله : قُلْ لهم : مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي : بأسباب سماوية وأرضية؟ قُلِ اللَّهُ وحده. أمره أن يقرّرهم ، ثم أمره بأن يتولى الإجابة والإقرار عنهم ، أي : يرزقكم اللّه لا غيره ، وذلك للإشعار بأنهم مقرّون به بقلوبهم ، إلا أنهم ربما أبوا أن يتكلموا به ، لأنهم إن تفوّهوا بأن اللّه رازقهم لزمهم أن يقال لهم : فما لكم لا تعبدون من يرزقكم ، وتؤثرون عليه من لا يقدر على شى ء؟
ثم أمره أن يقول لهم بعد الإلزام والإحجاج : وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ أي : ما نحن وأنتم على حالة واحدة ، بلى على حالين متضادين ، وأحدنا مهتد ، وهو من اتضحت حجته ، والآخر ضال ، وهو من قامت عليه الحجة. ومعناه : أن أحد الفريقين من الموحدين ومن المشركين لعلى أحد الأمرين من الهدى والضلال.
وهذا من كلام المنصف ، الذي كل من سمعه ، من موال ومعاند ، قال لمن خوطب به : قد أنصفك صاحبك. وفى ذكره بعد تقديم ما قدّم من التقرير : دلالة واضحة على من هو من الفريقين على الهدى ، ومن هو فى الضلال المبين ، ولكن التعريض أوصل بالمجادل إلى الغرض ، ونحوه قولك لمن تحقق كذبه : إن أحدنا لكاذب ، ويحتمل أن يكون من تجاهل العارف.(4/493)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 494
قال الكواشي : وهذا من المعاريض ، وقد ثبت أن من اتبع محمدا على الهدى ، ومن لم يتبعه على الضلال. ه ويحتمل أن يكون من اللف والنشر المرتب. وفيه ضعف. وخولف بين حرفى الجار ، الداخلين على الهدى والضلال لأن صاحب الهدى كأنه مستعل على فرس جواد ، يركضه حيث شاء ، والضال كأنه منغمس فى ظلام ، لا يدرى أين يتوجّه.
قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ أي : ليس القصد بدعائى إياكم خوفا من ضرر كفركم ، وإنما القصد بما أدعوكم إليه الخير لكم ، فلا يسأل أحد عن عمل الآخر ، وإنما يسأل كل واحد عن عمله. وهذا أيضا أدخل فى الإنصاف ، حيث أسند الإجرام إلى أنفسهم ، وهو محظور ، والعمل إلى المخاطبين ، وهو مأمور به مشكور.
قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا يوم القيامة ، ثُمَّ يَفْتَحُ أي : يحكم بَيْنَنا بِالْحَقِّ بلا جور ولا ميل ، فيدخل المحقّين الجنة ، والمبطلين النار ، وَهُوَ الْفَتَّاحُ الحاكم الْعَلِيمُ بما ينبغى أن يحكم به.
قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ أي : ألحقتموهم بِهِ شُرَكاءَ فى العبادة معه ، بأى صفة ألحقتموهم به شركاء فى استحقاق العبادة ، وهم أعجز شىء. قال القشيري : كانوا يقولون فى تلبيتهم : لبيك لا شريك لك ، إلا شريكا هو لك ، تملكه وما ملك لانهماكهم فى ضلالهم ، مع تحققهم بأنها جمادات لا تفقه ولا تعقل ، ولا تسمع ولا تبصر ، ولا شبهة لهم غير تقليد أسلافهم. ه. ومعنى قوله : (أرونى) مع كونه يراهم : أن يريهم الخطأ العظيم فى إلحاق الشركاء باللّه ، وأن يطلعهم على [حالة] «1» الإشراك به ، ولذلك زجرهم بقوله : كَلَّا أي : ارتدعوا عن هذه المقالة الشنعاء ، وتنبهوا عن ضلالكم. بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ أي : الغالب القاهر ، فلا يشاركه أحد ، و«هو» : ضمير الشأن ، الْحَكِيمُ فى تدبيره وصنعه. والمعنى : بل الوحدانية للّه وحده لأن الكلام إنما وقع فى الشركة ، ولا نزاع فى إثبات اللّه ووجوده ، وإنما النزاع فى وحدانية. أي : بل هو اللّه وحده العزيز الحكيم.
الإشارة : أرزاق الأرواح والأشباح بيد اللّه ، فأهل القلوب من أهل التجريد اشتغلوا بطلب أرزاق الأرواح ، وغابوا عن طلب أرزاق الأشباح ، مع كونهم مفتقرين إليه ، أي : غابوا عن أسبابه. وأهل الظاهر اشتغلوا بطلب أرزاق الأشباح ، وغابوا عن التوجه إلى أرزاق الأرواح ، مع كونهم أحوج الناس إليه. وكل فريق يرجح ما هو فيه ، فأهل الأسباب يعترضون على أهل التجريد ، ويرجحون تعاطى الأسباب ، وأهل التجريد يرجحون مقام التجريد ، فيقولون لهم : وإنا أو إياكم لعلى هدى أو فى ضلال مبين. قل : لا تسألون عما أجرمنا ، بزعمكم ، من ترك الأسباب ، ولا نسأل
___________
(1) فى الأصول [إحالة] والمثبت هو الذي فى تفسير النسفي.(4/494)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 495
عما تعملون. وسيجمع اللّه بيننا ، ويحكم بما هو الحق ، فإن كنتم تعتمدون على الأسباب ، وتركنون إليها ، فهو شرك ، أرونى الذين ألحقتم به شركاء ، كلا ، بل هو اللّه العزيز الحكيم ، يعز أولياءه ، المتوجهين إليه ، الحكيم فى إسقاط من أعرض عنه إلى غيره.
قال القشيري : قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ، أخبر سبحانه أنه يجمع بين عباده ، ثم يعاملهم فى حال اجتماعهم ، بغير ما يعاملهم فى حال افتراقهم ، وللاجتماع أثر كبير فى الشريعة ، وللصلاة فى الجماعة أثر مخصوص. ثم قال :
وللشيوخ فى الاجتماع زوائد ، ويستروحون إلى هذه الآية : قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ثُمَّ يَفْتَحُ ... ه.
ولمّا ذكر ما منّ به على داود وسليمان ، وذكر وبال من لم يشكر النعم ، ذكر ما منّ به على نبينا محمد صلى اللّه عليه وسلم من عموم الرسالة والدعوة ، فقال :
[سورة سبإ (34) : الآيات 28 الى 30]
وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (28) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (29) قُلْ لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ (30)
قلت : «كافة» : حال من «الناس» ، على قول الفارسي وابن جنى وابن كيسان ، واختاره ابن مالك. وقال الأكثر :
إنه حال من الكاف ، والتاء للمبالغة ، وما قاله ابن مالك أحسن. انظر الأزهرى.
يقول الحق جل جلاله : وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ أي : جميعا ، إنسهم وجنّهم ، عربيهم وعجميهم ، أحمرهم وأسودهم. وقدّم الحال للاهنمام. قال صلى اللّه عليه وسلم : «أعطيت خمسا لم يعطهنّ أحد قبلى بعثت إلى الأحمر والأسود ، وجعلت لى الأرض مسجدا وطهورا ، وأحلت لى الغنائم ، ولم تحّل لأحد قبلى ، ونصرت بالرّعب مسيرة شهر ، وأعطت الشفاعة ، فادخرتها لأمتى يوم القيامة ، وهى إن شاء اللّه نائلة من لا يشرك باللّه شيئا» «1».
أو : وما أرسلناك إلا رسالة عامة لهم ، محيطة بهم لأنها إذا عمتهم فقد [كفتهم ] «2» أن يخرج منها أحد.
وقال الزجاج : معنى الكافة فى اللغة : الإحاطة ، والمعنى : أرسلناك جامعا للناس فى الإنذار والإبلاغ ، على أنه حال
___________
(1) أخرجه البخاري فى (التيمم ، باب 1 ح 335) ومسلم فى (فاتحة كتاب المساجد ومواضع الصلاة 1/ 370 ، ح 521) من حديث جابر بن عبد اللّه رضي اللّه عنه.
(2) فى الأصول [كفهم ] والمثبت من تفسير أبى السعود. [.....](4/495)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 496
من الكاف ، والتاء للمبالغة ، كالراوية والعلّامة. حال كونك بَشِيراً بالفضل العظيم لمن أقر ، وَنَذِيراً بالعذاب لمن أصرّ ، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ أي : الكفرة ، لا يَعْلَمُونَ ذلك ، فيحملهم جهلهم على مخالفتك.
وَيَقُولُونَ من فرط جلهم : مَتى هذَا الْوَعْدُ أي : القيامة ، المشار إليها بقوله : قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا «1» ، أو : الوعد بالعذاب الذي أنذرت به. وأطلق الوعد على الموعود به لأنه من متعلقاته ، إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ فى إتيانه؟ قُلْ لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ ، «الميعاد» : ظرف الوعد ، من مكان ، أو زمان. وهو - هنا - الزمان ، بدليل من قرأ «ميعاد يوم» ، فأبدل منه «اليوم». وأما الإضافة فإضافة تبيين ، كما تقول : بعير سائبة ، أي : قد وقت لعذابكم يوما لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ أي : لا يمكنكم التأخر عنه بالإمهال ، ولا التقدم عليه بالاستعجال. ووجه انطباق هذا الجواب على سؤالهم : أنهم سألوا عن ذلك ، وهم منكرون به ، تعنتا لا استرشادا ، فجاء الجواب على طريق التهديد مطابقا للسؤال ، على وجه الإنكار والتعنت ، وأنهم مرصدون له ، يفاجئهم ، فلا يستطيعون تأخرا ، ولا تقدما عليه.
الإشارة : الداعون إلى اللّه على فرقتين : فرقة تدعو إلى معرفة أحكام اللّه ، وهم العلماء ، وفرقة تدعو إلى معرفة ذات اللّه بالعيان ، وهم الأولياء العارفون باللّه ، فالأولون دعوتهم خاصة بمن فى مذهبهم ، والآخرون دعوتهم عامة إذ معرفة اللّه تعالى الذوقية لم يقع فيها اختلاف مذاهب ، فأهل المشرق والمغرب كلهم متفقون عليها ، فشيخ واحد يربى جميع أهل المذاهب ، إن خضعوا له ، وفى ذلك يقول صاحب المباحث :
مذاهب الناس على اختلاف ومذهب القوم على ائتلاف
وقال الشاعر :
عبارتنا شتى وحسنك واحد وكلّ إلى ذاك الجمال يشير
ويقول من استبعد الفتح : متى هذا الوعد إن كنتم صادقين؟ قل : لكم ميعاد يوم عيّنه للفتح ، لا يتقدم ولا يتأخر.
فالأدب : الخدمة وعدم الاستعجال.
___________
(1) الآية 26 من السورة.(4/496)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 497
ثم ذكر ما يلقون فى ذلك الميعاد على كفرهم ، فقال :
[سورة سبإ (34) : الآيات 31 الى 33]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْ لا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (31) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (32) وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (33)
قلت : أتى بالعاطف فى قوله : (و قال) الأخيرة ، وترك فى الأولى لأن قول الرؤساء جواب لقول المستضعفين ، فحسن ترك العاطف ، ثم جىء بكلام آخر للمستضعفين ، فعطفه على كلامهم الأول. و(مكر الليل) :
الإضافة على معنى «فى» ، وإضافة المكر إلى الليل على الاتساع ، بإجراء الثاني مجرى المفعول به ، وإضافة المكر إليه ، أو : جعل الليل والنهار ماكرين بهم مجازا.
يقول الحق جل جلاله : وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا ، كأبى جهل وأضرابه : لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ أي : ما نزل قبل القرآن ، من كتب اللّه تعالى ، الدالة على البعث. وقيل : إن كفار قريش سألوا أهل الكتب عن الرسول صلى اللّه عليه وسلم ، فأخبروهم أنهم يجدون نعته فى كتبهم ، فغضبوا ، وقالوا ذلك. وقيل : (الذين بين يديه) :
القيامة والجنة والنار ، فكأنهم جحدوا أن يكون القرآن من عند اللّه ، وأن يكون ما دلّ عليه من الإعادة للجزاء حقيقة.
وَلَوْ تَرى يا محمد ، أو من تصح منه الرؤية ، إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ محبوسون عِنْدَ رَبِّهِمْ فى موقف الحساب يَرْجِعُ يردّ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ فى الجدال والمحاورة. أخبر عن عاقبتهم ومآلهم فى الآخرة ، فقال لرسوله صلى اللّه عليه وسلم ، أو للمخاطب : ولو ترى فى الآخرة موقفهم ، وهم يتجاذبون أطراف المحاورة ، ويتراجعونها بينهم ، لرأيت أمرا فظيعا ، فحذف الجواب لأن العبارة لا تفى به. ثم بيّن بعض محاورتهم بقوله : (4/497)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 498
يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أي : الأتباع السفلة لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا أي : الرؤساء المقدّمين : لَوْ لا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ لو لا دعاؤكم إيّانا إلى الكفر لكنا مؤمنين باللّه ورسوله.
قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ : رددناكم عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ أي : بل أنتم صددتم باختباركم ، ولم نقهركم على الكفر. أنكروا أنهم كانوا صادّين لهم عن الإيمان ، وأثبتوا أنهم هم الذين صدّوا أنفسهم ، حيث أعرضوا عن الهدى ، وآثروا التقليد عليه. وإنما وقعت «إذ» مضافا إليها ، وإن كانت «إذ» و«إذا» من الظروف اللازمة للظرفية لأنه قد اتّسع فى الزمان ما لم يتّسع فى غيره.
وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أي : بل مكركم بنا بالليل والنهار هو الذي صدنا عن الهدى. أو : مكر بنا الليل والنهار ، وطول السلامة ، حتى ظننا أنكم على حق فقلدناكم. إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً : أشباها ، نعبدها معه. والحاصل : أن المستكبرين لمّا أنكروا أن يكونوا هم السبب فى كفر المستضعفين ، وأثبتوا أن ذلك بسبب اختيارهم ، كرّ عليهم المستضعفون بقولهم : بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ ، فأبطلوا إضرابهم بإضرابهم ، كأنهم قالوا : ما كان الإجرام من جهتنا ، بل من جهة مكركم بنا دائما ، ليلا ونهارا ، وحملكم إيّانا على الشرك واتخاذ الأنداد.
ثم حصل الندم حيث لم ينفع ، كما قال تعالى : وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ أي : أضمر الندم كلا الفريقين ، وأخفاه عن رفيقه ، مخافة التعيير ، لمّا رأوا العذاب ، وتحققوا لحوقه بهم ، فندم المستكبرون على إضلالهم وضلالهم ، والمستضعفون على ضلالهم واتباعهم. وقيل : معنى أسروا : أظهروا ، فهو من الأضداد. وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا أي : فى أعناقهم. فأظهر فى محل الإضمار للدلالة على ما استوجبوا به الأغلال ، وهو كفرهم. هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ أي : لا يفعل بهم إلا ما استوجبته أعمالهم الخبيثة فى الدنيا.
الإشارة : كل من له رئاسة وجاه ، عالما كان أو جاهلا ، وصدّ الناس عن طريق التربية على يد المشايخ ، يقع له هذا الخصام ، مع من صدّهم من ضعفاء الناس ، حيث يرتفع المقربون ، ويسقط الغافلون من تلك المراتب ، فيقع الندم والتحسر ، ويتبرأ الرؤساء من المرءوسين من عامة أهل اليمين. قال القشيري : وهكذا أصحاب الزلات ، الأخلاء فى الفساد - أي : يتبرأ بعضهم من بعض - وكذلك الجوارح والأعضاء ، يشهد بعضها على بعض ، اليد تقول للجملة : أخذت ، العين تقول : أبصرت ، والاختلاف فى الجملة عقوبة. ومن عمل بالمعاصي أخرج اللّه عليه من كان أطوع له ، ولكنهم لا يعلمون ذلك. ولو علموا لاعتذروا ، ولو اعتذروا لتابوا وتوقفوا ، ولكن ليقضى اللّه أمرا كان مفعولا. ه.(4/498)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 499
ثم سلّى رسوله ، فقال :
[سورة سبإ (34) : الآيات 34 الى 36]
وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (34) وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (35) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (36)
يقول الحق جل جلاله : وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ رسول إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها : متنعّموها ، ورؤساؤها : إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ ، فهذه تسليه لرسول صلى اللّه عليه وسلم مما لقى من رؤساء قومه من التكذيب ، والكفر بما جاء به ، وأنه لم يرسل قطّ إلى أهل قرية من نذير إلا قالوا له مثل ما قال لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أهل مكة. وتخصيص المتنعمين بالتكذيب لأن الداعي إلى التكبر ، وعدم الخضوع للغير هو الانهماك فى الشهوات ، والاستهانة بمن لم يحظ بها ، جهلا ، ولذلك افتخروا بالأموال الفانية ، كما قال تعالى :
وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالًا وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ ، رأوا - من فرط جهلهم - أنهم أكرم على اللّه من أن يعذّبهم. نظروا إلى أحوالهم فى الدنيا ، وظنوا أنهم لو لم يكرموا على اللّه لما رزقهم ذلك. ولو لا أن المؤمنين هانوا عليه لما حرمهم ذلك ، فأبطل اللّه رأيهم الفاسد بقوله : قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ أي : يضيقه على من يشاء ، فإن الرزق بيد اللّه ، يقسمه كيف يشاء. فربما وسّع على العاصي ، استدراجا ، وضيّق على المطيع ، تمحيصا وتطهيرا ، فيوسع على المطيع ، ويضيق على العاصي ، وربما وسّع عليهما على حسب مشيئته ، فلا يقاس عليهما أمر الثواب ، ولو كان ذلك لكرامة وهوان يوجبانه لم يكن بمشيئته. وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ فيظنون أن كثرة الأموال والأولاد للشرف والكرامة عند اللّه. وقد تكون للاستدراج ، وصاحبها لا يشعر.
الإشارة : ما حاز الخصوصية وتبع أهلها إلا ضعفاء المال والجاه ، الذين هم أتباع الرسل ، فهم الذين حطّوا رؤوسهم ، وباعوا نفوسهم وأموالهم للّه ، وبذلوها لمن يعرّفهم به ، فعوّضهم جنة المعارف ، يتبوءون منها حيث شاءوا ، وأما من له جاه أو مال فقلّ من يحط رأسه منهم ، إلا من سبقت له العناية الكبرى. قال القشيري : بعد كلام : ولكنها أقسام سبقت ، وأحكام حقت ، ثم اللّه غالب على أمره. وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالًا وَأَوْلاداً ، وليس هدا بكثرة الأموال والأولاد ، وإنما هى ببصائر مفتوحة لقوم ، ومسدودة لقوم ه.(4/499)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 500
ثم قال تعالى :
[سورة سبإ (34) : الآيات 37 الى 38]
وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ (37) وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ (38)
قلت : جمع التكسير يذكّر ويؤنث للعقلاء وغيرهم ، ولذلك قال : «بالتي». و(زلفى) : مفعول مطلق ، أي : وما جماعة أموالكم ولا جماعة أولادكم ، و(إلا من آمن) : مستثنى من الكاف فى «تقربكم» ، متصل ، وقيل : منقطع.
و(من) : شرط ، جوابه : (فأولئك). وعلى الاتصال ف «من» منصوبة بتقرب.
يقول الحق جل جلاله : وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى أي : قربة ، إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ، يعنى أن الأموال لا تقرب أحدا إلا المؤمن الصالح ، الذي ينفقها فى سبيل اللّه. والأولاد لا تقرب أحدا من اللّه إلا من علّمهم الخير ، وفقّههم فى الدين ، وأرشدهم للصلاح والطاعة ، فإنّ عملهم يجرى عليه بعد موته لقوله صلى اللّه عليه وسلم : «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية ، وعلم بثه فى صدور الرجال ، وولد صالح يدعو له بعد موته» «1».
فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ أي : تضاعف لهم حسناتهم ، الواحدة عشرا إلى سبعمائة ، على قدر النية والإخلاص. وهو من إضافة المصدر إلى المفعول. والأصل : يجازون الضعف ، ثم جزاء الضعف ، ثم أضيف. وقرأ يعقوب بالنصب على التمييز ، أي : فأولئك لهم الضعف لأعمالهم جزاء بِما عَمِلُوا أي : بأعمالهم وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ أي : فى غرفات الجنان آمنون من كل هائل وشاغل. وقرأ حمزة : «فى الغرفة» إرادة الجنس.
وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آياتِنا فى إبطالها ، بالرد والطعن مُعاجِزِينَ : مغالبين لأنبيائنا ، أو : سابقين ، ظانين أنهم يفوتوننا ، أُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ يحضرونه فيحيط بهم.
الإشارة : الأموال والأولاد لا تقرب العبد ولا تبعده ، إنما يقربه سابق العناية ، ويبدعه سابق الشقاء ، فمن سبقته العناية قربته أمواله ، بإنفاق المال فى سبيل اللّه ، وإرشاد الأولاد إلى طاعة اللّه ، ومن سبق له الشقاء صرف أمواله
___________
(1) أخرجه ، بنحوه ، مسلم فى (الوصية ، باب ما يلحق الإنسان من الثواب بعد وفاته ، 3/ 1255 ح 1631) من حديث ابى هريرة رضي اللّه عنه.(4/500)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 501
فى الهوى ، وأولاده فى جمع الدنيا. قال القشيري : لا تستحقّ الزّلفى عند اللّه بالمال ، ولا بالأولاد ، ولكن بالأعمال الصالحة الخالصة ، والأحوال الصافية ، والأنفس الزاكية ، بل بالعناية السابقة ، والهداية اللاحقة ، والرعاية الصادقة.
ه. وقال فى قوله : وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ : هم الذين لا يحترمون الأولياء ، ولا يراعون حقّ اللّه فى السّر ، فهم فى عذاب الاعتراض على أولياء اللّه ، وعذاب الوقوع بشؤم ذلك فى ارتكاب محارم اللّه ، ثم فى عذاب السقوط من عين اللّه تعالى. ه.
ثم حضّ على الصدقة ، فقال :
[سورة سبإ (34) : آية 39]
قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (39)
يقول الحق جل جلاله : قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ ، إنما كرره تزهيدا فى المال ، وحضا على إنفاقه فى سبيل اللّه. ولذلك عقبه بقوله : وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ ، إما عاجلا فى الدنيا إذا شاء ، أو آجلا فى الآخرة ، ما لم يكن إسرافا ، كنزهة لهو ، أو فى بنيان ، أو معصية. وذكر الكواشي هنا أحاديث منها : «كلّ معروف صدقة ، وكل ما أنفق الرجل على نفسه وأهله صدقه ، وما وقى به الرجل عرضه كتبت له بها صدقة - وهو ما أعطى لشاعر ، أو لذى اللسان المتّقى - وما أنفق المؤمن صدقة فعلى اللّه خلفها ضامنا ، إلا ما كان من نفقة فى بنيان أو معصية» «1». قلت : يقيد النفقة فى البنيان بما زاد على الحاجة والضرورة ، وإلا فهو مأمور به ، فيؤجر عليه. واللّه تعالى أعلم.
وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ المطعمين لأن كل من رزق غيره من سلطان ، أو سيّد ، أو زوج ، أو غيره ، فهو من رزق اللّه ، أجراه على يد هؤلاء ، وهو خالق الرزق ، والأسباب التي بها ينتفع المرزوق بالرزق. وعن بعضهم قال :
الحمد للّه الذي أوجده ، وجعلنى ممن يشتهى ، فكم من مشته لا يجد ، وواجد لا يشتهى!.
الإشارة : فى الآية إشارة إلى منقبة السخاء ، وإطلاق اليد بالعطاء ، وهو من علامة اليقين ، وخروج الدنيا من القلب. وذكر الترمذي الحكيم حديثا طويلا عن الزبير رضي اللّه عنه رأيت أن أذكره لكثرة فوائد مع مناسبة لهذا المعنى.
قال : جئت حتى جلست بين يدى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فأخذ بطرف عمامتى من ورائي ، ثم قال : «يا زبير إنى رسول اللّه إليك خاصة ، وإلى الناس عامة. أتدرون ما قال ربكم؟ قلت : اللّه ورسوله أعلم. قال. قال ربكم حين استوى على
___________
(1) رواه الدار قطنى فى سننه (3/ 28) والحاكم فى المستدرك (2/ 50) من حديث جابر رضي اللّه عنه. وصححه الحاكم ، وتعقبه الذهبي.(4/501)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 502
عرشه ونظر إلى خلقه : عبادى أنتم خلقى وأنا ربكم ، أرزاقكم بيدي ، فلا تتعبوا فيما تكفلت لكم به ، فاطلبوا منى أرزاقكم ، وإلىّ فارفعوا حوائجكم ، انصبوا إلىّ أنفسكم أصبّ عليكم أرزاقكم. أتدرون ما قال ربكم؟ قال اللّه تبارك وتعالى : يا ابن آدم أنفق أنفق عليك ، وأوسع أوسع عليك ، ولا تضيق فأضيق عليك ، ولا تصرّ فأصرّ عليك ، ولا تخزن فأخزن عليك ، إن باب الرزق مفتوح من فوق سبع سموات ، متواصل إلى العرش ، لا يغلق ليلا ولا نهارا ، ينزل اللّه منه الرزق ، على كل امرئ بقدر نيته ، وعطيته ، وصدقته ، ونفقته ، من أكثر أكثر عليه ، ومن أقل أقل عليه ، ومن أمسك أمسك عليه. يا زبير فكل وأطعم ، ولا توك فيوك عليك «1» ، ولا تحص فيحص عليك ، ولا تقتّر فيقتر عليك ، ولا تعسر فيعسر عليك. يا زبير ، إن اللّه يحب الإنفاق ، ويبعض الإقتار ، وإن السخاء من اليقين ، والبخل من الشك ، فلا يدخل النار من أيقن ، ولا يدخل الجنة من شك. يا زبير إن اللّه يحب السخاوة ، ولو بفلق تمرة ، والشجاعة ، ولو بقتل عقرب أو حية. يا زبير إن اللّه يحب الصبر عند زلزلة الزلازل ، واليقين النافذ عند مجىء الشهوات ، والعقل الكامل عند نزول الشبهات. والورع الصادق عند الحرام والخبيثات. يا زبير عظّم الإخوان ، وأجلّ الأبرار ، ووقر الأخيار ، وصل الجار ، ولا تماش الفجار ، تدخل الجنة بلا حساب ولا عقاب ، هذه وصية اللّه إلىّ ، ووصيتي إليك».
ثم ذكر توبيخه على الشرك ، فقال :
[سورة سبإ (34) : الآيات 40 الى 42]
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ (40) قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (41) فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (42)
يقول الحق جل جلاله : وَاذكر يَوْمَ يَحْشُرُهُمْ «2» جَمِيعاً ، العابدين والمعبودين ، ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ؟ هو خطاب للملائكة ، وتقريع للكفرة ، وارد على المثل السائر من قول العامة : الخطاب للسارية وافهمى يا جارية. ونحوه قوله : .. أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي .. الآية «3». وتخصيص
___________
(1) أي : لا تدخر وتشد ما عندك ، وتمنع ما فى يديك ، فتنقطع مادة الرزق عنك. والوكاء : الخيط الذي تشد به الصرّة والكيس وغيرهما. انظر النهاية فى غريب الحديث (وكاء ، 5/ 222 - 223).
(2) قرأ حفص ، ويعقوب : «يحشرهم» بالياء ، وقرأ الباقون «نحشرهم» و«نقول» بالنون. وقد أثبت المفسر قراءة النون. انظر إتحاف فضلاء البشر (2/ 388).
(3) من الآية 116 من سورة المائدة.(4/502)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 503
الملائكة لأنهم أشرف شركائهم ، والصالحون للخطاب منهم. قالُوا سُبْحانَكَ تنزيها لك أن يعبد معك غيرك. أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ أنت الذي نواليه من دونهم ، لا موالاة بيننا وبينهم. والموالاة خلاف المعاداة ، وهى مفاعلة من الولي ، وهو القرب. والولىّ يقع على الموالي والموالي جميعا. فبينوا بإثبات موالاة اللّه تعالى ومعاداة الكفار : براءتهم من الرضا بعبادتهم لهم فإنّ من كان على هذه الصفة ، كانت حاله منافية لذلك.
ثم قالوا : بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أي : الشياطين ، حيث أطاعوهم فى عبادة غير اللّه ، أو : كانوا يدخلون فى أجواف الأصنام ، إذا عبدت ، فيعبدون بعبادتها ، أو : صوّرت لهم الشياطين صور قوم من الجن ، وقالوا : هذه صور الملائكة فاعبدوها. أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ أي : أكثر الإنس ، أو : الكفار ، بِهِمْ بالجن مُؤْمِنُونَ مصدقون لهم فيما يأمرونهم به. والأكثر هنا بمعنى الكل.
قال تعالى : فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرًّا لأن الأمر فى ذلك اليوم إليه وحده ، لا يملك أحد فيه منفعة ولا مضرة لأحد لأن الدار دار ثواب وعقاب ، والمثيب والمعاقب هو اللّه ، فكانت حالها خلاف حال الدنيا ، التي هى دار تكليف ، والناس فيها مخلىّ بينهم ، يتضارون ، ويتنافعون ، وأما يوم القيامة فلا فعل لأحد قط.
ثم ذكر معاقبة الظالمين بقوله : وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا بوضع العبادة فى غير موضعها : ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ فى الدنيا.
الإشارة : ما أحببت شيئا إلا وكنت له عبدا ، ولا يحب أن تكون لغيره عبدا ، فإذا تحققت الحقائق ، التحق كل عابد بمعبوده ، وكل حبيب بمحبوبه ، فيرتفع الحق بأهله ، ويهوى الباطل بأهله. وكل ما سوى اللّه باطل ، فارفع همتك أيها العبد عن هذه الدار وما فيها ، وتعلق بالباقي ، دون الفاني ، ولا تتعلق بشىء سوى المتكبر المتعالي.
قال القشيري : قوله تعالى : فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ .. إلخ ، الإشارة فى هذا : أنّ من علّق قلبه بالأغيار ، وظنّ صلاح حاله فى الاختيار ، والاستعانة بالأمثال والأشكال ، نزع اللّه الرحمة من قلوبهم ، وتركهم ، وتشوش أحوالهم ، فلا لهم من الأشكال والأمثال معونة ، ولا لهم فى عقولهم استبصار ، ولا إلى اللّه رجوع ، فإن رجعوا لا يرحمهم ولا يحبهم ، ويقول : ذوقوا وبال ما به استوجبتم هذه العقوبة. ه. قلت : قوله : «فإن رجعوا لا يرحمهم» يعنى أنهم فزعوا أولا إلى المخلوق ، فلما لم ينجح مسعاهم ، رجعوا إلى اللّه ، فلم ينفعهم ، ولو تابوا فى المستقبل لقبل توبتهم.
وقال أيضا : ومن تشديد العقوبة الافتضاح فى السؤال. وفى بعض الأخبار : أن عبيدا يسألهم الحق غدا ، فيقع عليهم من الخجل ما يقولون : يا ربنا لو عذبتنا بما شئت من ألوان العقوبة ، ولا تعذبنا بهذا السؤال. ه. وباللّه التوفيق.(4/503)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 504
ثم ذكر حال أهل الغفلة ، فقال :
[سورة سبإ (34) : الآيات 43 الى 45]
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلاَّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ وَقالُوا ما هذا إِلاَّ إِفْكٌ مُفْتَرىً وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (43) وَما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (44) وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما بَلَغُوا مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (45)
يقول الحق جل جلاله : وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا أي : إذا قرئت عليهم آيات القرآن ، بَيِّناتٍ :
واضحات ، قالُوا أي : المشركون : ما هذا؟ يعنون محمدا صلى اللّه عليه وسلم إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ : يصرفكم عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ من الأصنام. وَقالُوا ما هذا أي : القرآن إِلَّا إِفْكٌ : كذب مُفْتَرىً بإضافته إلى اللّه تعالى. وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أي : وقالوا. والعدول عنه دليل على إنكار عظيم ، وغضب شديد ، حيث سجّل عليهم بالكفر والجحد ، لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ أي : للقرآن ، أو لأمر النبوة كله ، لما عجزوا عن معارضته ، قالوا : إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ أي : ما هذا إلا سحر ظاهر سحريته. وإنكارهم أولا باعتبار معناه ، وثانيا باعتبار لفظه وإعجازه ، ولذلك سموه سحرا.
قال تعالى : وَما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها أي : ما أعطينا مشركى مكة كتبا يدرسونها ، فيها برهان على صحة الشرك. وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ أي : ولا أرسلنا إليهم نذيرا ينذرهم بالعقاب إن لم يشركوا ، ويدعوهم إليه ، إذ لا وجه له ، فمن أين وقع لهم هذه الشبهة؟ وهذا فى غاية التجهيل لهم ، والتسفيه لرأيهم.
ثم هددهم بقوله : وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أي : وكذّب الذين تقدموا من الأمم الماضية ، والقرون الخالية ، الرسل ، كما كذّب هؤلاء. وَما بَلَغُوا مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ أي : وما بلغ أهل مكة عشر ما أوتى الأولون ، من طول الأعمار ، وقوة الأجرام ، وكثرة الأموال والأولاد ، وتوالى النعم ، والظهور فى البلاد. والمعشار : مفعال ، من : العشر ، ولم يأت هذا البناء إلا فى العشرة والأربعة. قالوا : معشار ومرباع. وقال فى القوت : المعشار : عشر العشر.
فَكَذَّبُوا رُسُلِي أي : فكذبت تلك الأمم رسلى ، فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ أي : فانظر كيف كان إنكارى عليهم(4/504)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 505
بالهلاك والتدمير. فالنكير : مصدر ، كالإنكار معنى ، وكالنذير وزنا. و(كيف) للتعظيم ، لا لمجرد الاستفهام ، أي :
فحين كذبوا رسلى جاءهم إنكارى بالتدمير والاستئصال ، ولم تغن عنهم تلك الأموال والأولاد ، وما كانوا مستظهرين به من الرئاسة والجاه ، فليحذر هؤلاء أن يحل بهم مثل [ما حل ] «1» بأولئك لمشاركتهم لهم فى الكفر والعدوان.
الإشارة : تكذيب الصادقين سنّة ماضية ، وكل من ظهر بخصوصية يجذب الناس إلى اللّه ، ويخرجهم من عوائدهم ، قالوا : ما هذا إلا سحر مفترى ، وما سمعنا بهذا فى آبائنا الأولين ، فحين كذّبوا أولياء زمانهم حرموا بركتهم ، فبقوا فى عذاب الحرص والتعب ، والهلع والنصب. قال القشيري : إن الحكماء والأولياء - الذين هم الأئمة فى هذه الطريقة - إذا دلوا الناس على اللّه ، قال إخوانهم من إخوان السوء - وربما كان من الأقارب وأبناء الدنيا :
من ذا الذي يطيق هذا؟ ولا بد من الدنيا مادمت تعيش! .. وأمثال هذا كثير ، حتى يميل ذلك المسكين من قبل النصح ، فيهلك ويضل. ه. باختصار. وقال فى قوله تعالى : وَما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها .. ما حاصله : إن أرباب القلوب إذا تكلموا بالحقائق ، على سبيل الإلهام والفيض ، لا يطلب منهم البرهان على ما نطقوا به ، فإذا طالبهم أهل القبلة بذلك ، فسبيلهم السكوت عنهم ، حتى يجيب عنهم الحق تعالى. ه. وباللّه التوفيق.
ثم أمر بالتفكر والاعتبار ، فقال :
[سورة سبإ (34) : آية 46]
قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ (46)
قلت : «أن تقوموا» : بدل من «واحدة» ، أو خبر عن مضمر.
يقول الحق جل جلاله : قُلْ لهم : إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ بخصلة واحدة ، وهى : أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ أي : لوجه اللّه خالصا ، لا لحمية ، ولا عصبية ، بل لطلب الحق والاسترشاد. فالقيام على هذا معنوى ، وهو القصد والتوجه بالقلب ، وقيل : حسى ، وهو قيامهم وتفرقهم عن مجلس رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فيقوم كل واحد منفردا بنفسه ، يتفكر ، أو مع صاحبه. وهذا معنى قوله : مَثْنى وَفُرادى أي : اثنين اثنين ، أو فردا فردا. والمعنى :
أعظكم بواحدة أن تعملوا ما أصبتم الحق ، وتخلصتم من الجهل. وهى أن تقوموا وتنهضوا اللّه ، معرضين عن المراء
___________
(1) فى النسخة الأم [ما حق ].(4/505)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 506
والتقليد ، متفرقين اثنين اثنين ، أو واحدا واحدا فإنّ الازدحام يشوّش الخاطر ، ويخلط القول ، ويمنع من الرّوية ، ويقلّ فيه الإنصاف ، ويكثر الاعتساف.
ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا فى أمر محمد صلى اللّه عليه وسلم ، وما جاء به ، حتى تعلموا أنه حق ، أما الاثنان فيتفكران ويعرض كل واحد منهما محصول فكره على صاحبه ، وينظران فيه نظر الصدق والإنصاف ، حتى يؤديهما النظر الصحيح إلى الحق ، وكذلك المفرد ، يتفكر فى نفسه ويعرض فكره على عقله. فإذا تفكرتم بالانصاف عرفتم أن ما بِصاحِبِكُمْ يعنى محمدا صلى اللّه عليه وسلم مِنْ جِنَّةٍ من جنون ، وهذا كقوله : أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ «1».
ومنهم من يقف على «تتفكروا» ثم يستأنف النفي. قال القشيري : يقول : إذا سوّلت لكم أنفسكم تكذيب الرسل ، فأمعنوا النظر ، هل ترون فيهم آثار ما رميتموهم به - هذا محمد صلى اللّه عليه وسلم قلتم ساحر ، فأين آثار السحر فى أحواله وأفعاله وأقواله؟ قلتم : فأىّ قسم من أقسام الشعر كلامه؟ قلتم مجنون ، فأىّ جنون ظهر منه؟ وإذا عجزتم فهلا اعترفتم به أنه صادق؟!. ه.
إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ أي : قدّام عذاب شديد ، وهو عذاب الآخرة ، وهو كقوله صلى اللّه عليه وسلم : «بعثت بين يدى الساعة» «2».
الإشارة : فكرة الاعتبار تشد عروة الإيمان ، وفكرة الاستبصار تشد عروة الإحسان ، فأول ما يتفكر فيه الإنسان فى أمره صلى اللّه عليه وسلم ، وما جاء به من العلوم اللدنية ، والأسرار الربانية ، مع ما أخبر به من قصص القرون الماضية ، والشرائع المتباينة ، مع كونه أميا ، لم يقرأ ، ولم يطالع كتابا قط ، وما أخبر به من أمر الغيب ، فوقع كما أخبر ، وما ظهر على يديه من المعجزات ، وما اتصف به عليه الصلاة والسلام من الأخلاق الحسنة ، والشيم الزكية ، وما كان عليه من سياسة الخلق ، مع مشاهدة الحق. وهذا لا يطاق إلا بأمر ربانى ، وتأييد إلهى. فإذا أشرقت على قلبه أنوار النبوة ، ترقى بها إلى أنوار الربوبية ، فيتفكر فى عجائب السموات والأرض ، فيعرف عظمة صانعها ، فإذا سقط على شيخ عارف باللّه أدخله فكرة العيان ، فيغيب عن نظرة الأكوان ، ويبقى المكوّن وحده. كان اللّه ولا شىء معه ، وهو الآن على ما عليه كان.
___________
(1) من الآية 184 من سورة الأعراف.
(2) بعض حديث ، أخرجه أحمد فى المسند (2/ 50) وابن أبى شيبة فى مصنفه ، من حديث سيدنا عبد اللّه بن عمر رضي اللّه عنه (5/ 313) ، وانظر : مجمع الزوائد (5/ 267) ، وجاء معنى الجملة عند البخاري ومسلم بلفظ : «بعثت أنا والساعة كهاتين» أخرجه البخاري فى (الرقاق ، باب : قول النبي صلى اللّه عليه وسلم : «بعثت أنا والساعة كهاتين» ح 6504) ومسلم فى (الفتن ، باب قرب الساعة ، 4/ 2268 ، ح 2951) من حديث أنس بن مالك رضي اللّه عنه.(4/506)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 507
ثم بيّن أنه لا يطلب أجرا على الإنذار إزاحة للتهمة عنه ، فقال :
[سورة سبإ (34) : آية 47]
قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (47)
يقول الحق جل جلاله : قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ عليه أي : على إنذارى وتبليغ الرسالة مِنْ أَجْرٍ ، إذ لو كنت كذلك لا تهمتمونى أنى أطمع فى أموالكم. وما طلبت من ذلك فَهُوَ لَكُمْ ، ومعناه : نفى سؤاله الأجر رأسا. نحو : ما لى فى هذا فهو لك ، وما تعطنى تصدق به على نفسك. إِنْ أَجْرِيَ فى ذلك إِلَّا عَلَى اللَّهِ ، وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ فيعلم أنى لا أطلب الأجر فى نصيحتكم ، ودعائكم إليه ، إلا منه تعالى.
الإشارة : تقدم مرارا أن الدعاة إلى اللّه ينبغى لهم أن يتنزّهوا عن الطمع فى الناس جهدهم ، ولو اضطروا إلى ذلك إذ لا يقع النفع العام على أيديهم إلا بعد الزهد التام ، والتعفف التام عما فى أيدى الناس ، فإذا تحققوا بهذا الأمر جعلهم اللّه حجة ، يدمغ بهم على الباطل ، كما قال تعالى :
[سورة سبإ (34) : الآيات 48 الى 50]
قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (48) قُلْ جاءَ الْحَقُّ وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ (49) قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (50)
يقول الحق جل جلاله : قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ أي : بالوحى ، فيرمى به على الباطل ، من الكفر وشبهه ، فيدمغه ، أو : يرمى به إلى أقطار الآفاق ، فيكون وعدا بإظهار الإسلام ، أو : يلقيه وينزله إلى أنبيائه.
والقذف : رمى السهم ونحوه بدفع واعتماد ، ويستعار لمطلق الإلقاء ، ومنه : وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ «1». تم وصف الرب بقوله : عَلَّامُ الْغُيُوبِ أي : هو علام الغيوب.
قُلْ جاءَ الْحَقُّ أي : الإسلام ، أو : القرآن ، وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ أي : زال الباطل وهلك ، لأن الإبداء والإعادة من صفات الحي ، فعدمهما عين الهلاك ، والمعنى : جاء الحق وهلك الباطل ، كقوله : جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ «2» قال الكواشي : المعنى : ذهب الباطل لمجىء الحق ، فلم يبق له بقية حتى يبدئ شيئا أو يعيده. ثم
___________
(1) من الآية 26 من سورة الأحزاب.
(2) الآية 81 من سورة الإسراء.(4/507)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 508
قال : وهذا مثل ، يقال : فلان لا يبدئ ولا يعيد ، إذا كان لا يلتفت إليه ولا يعتمد عليه. وقال الهروي : الباطل : إبليس ، ما يبدىء ولا يعيد : لا يخلق ولا يبعث ، واللّه تعالى هو المبدئ المعيد ، ومعناهما : الخالق الباعث. وقال فى الصحاح :
وفلان ما يبدئ وما يعيد ، أي : ما يتكلم ببادية ولا عائدة ، ومثله فى القاموس.
والحاصل : أنه عبارة عن زهوق الباطل ، حتى لا يبقى له ظهور. وعن ابن مسعود رضي اللّه عنه دخل النبىّ صلى اللّه عليه وسلم مكة يوم الفتح ، وحول الكعبة أصنام ، فجعل يطعنها بعود ، فتقطع لقفاها ، ويقول : «جاء الحقّ وزهق الباطل ، إن الباطل كان زهوقا. قل جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد» «1».
ولما قالوا له صلى اللّه عليه وسلم : قد ضللت بترك دين آبائك قال اللّه تعالى : قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ عن الحق فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي فإن وبال ضلالى عليها ، وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي أي : فبتسديده بالوحى إلىّ. وكان قياس المقابلة أن يقال : وإن اهتديت فإنما أهتدى لها ، كقوله : فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها «2» ، ولكن هما متقابلان معنى لأنّ النفس كلّ ما يضرها فهو بسببها ، وما لها مما ينفعها ، فهو بهداية ربها وتوفيقه ، وهذا حكم عمل لكل مكلّف. وإنما أمر رسوله أن ينسبه إلى نفسه تشريعا لغيره لأنه إذا كان هذا له مع جلالة قدره فما باله بغيره؟. إِنَّهُ سَمِيعٌ لما أقوله لكم ، قَرِيبٌ منى ومنكم ، فيجازينى ويجازيكم على ما أخفيتم وما أعلنتم.
الإشارة : الحق هو العلم باللّه ، والباطل الجهل باللّه ، أو : ما سوى اللّه ، فإذا حصل للعبد العلم باللّه غاب عنه كل ما سواه ، وما بقي فى الوجود إلا اللّه ، وفى ذلك يقول الشاعر :
فلم يبق إلا اللّه لم يبق كائن فما ثم موصول ولا ثم بائن
بذا جاء برهان العيان فما أرى بعيني إلا عينه إذ أعاين
وفى القوت فى تفسير الآية : أي : لما جاء الحق أبطل الباطل وأعاده ، فأظهر حقيقة الأمر بدءا وعودا ، أي :
كشف ما يبدىء الباطل للابتداء ، وما يعيد على العبد من الأحكام ، يعنى : أن نور الحق يكشف حقيقة الباطل وضرر عاقبته ، وقبحه فى ذاته. واللّه أعلم. ه. ومن رمى بباطل أو بدعة ، وهو محقق بالحق ، متمسك بالسنة النبوية ، فليقل لمن رماه : (إن ضللت فإنما أضل على نفسى ..) الآية.
___________
(1) أخرجه البخاري فى (المظلم ، باب : هل تكسر الدنان التي فيها خمر ، ح 2478) ومسلم فى (الجهاد والسير ، باب إزالة الأصنام من حول الكعبة 3/ 1408. ح 1781) من حديث عبد اللّه بن مسعود رضي اللّه عنه.
(2) الآية 41 من سورة الزمر.(4/508)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 509
ثم ذكر حسرة من فاته الإيمان فى إبّانه ، فقال :
[سورة سبإ (34) : الآيات 51 الى 54]
وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (51) وَقالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (52) وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (53) وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ (54)
قلت : «مريب» : اسم فاعل ، من : أراب ، أي : أتى بريبة ، وأربته : أوقعته فى الريبة. ونسبة الإرابة إلى الشك مجاز. والمراد : وصفه بالشدة والإظلام ، بحيث إنه يوقع فى شك آخر.
يقول الحق جل جلاله : وَلَوْ تَرى يا محمد ، أو : يا من تصح منه الرؤية ، الكفرة. إِذْ فَزِعُوا حين فزعوا عند صيحة البعث ، لرأيت أمرا فظيعا هائلا ، فَلا فَوْتَ أي : لا مهرب لهم ، أو : فلا يفوتون اللّه ولا يسبقونه. وَأُخِذُوا إلى النار مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ من المحشر إلى قعر جهنم. أو : ولو ترى إذ فزعوا عند الموت فلا فوت منه ، وأخذوا من ظهر الأرض إلى بطنها ، أو : إذ فزعوا يوم بدر ، وأخذوا من صحراء بدر إلى القليب.
وَقالُوا حين عاينوا العذاب : آمَنَّا بِهِ أي : بمحمد صلى اللّه عليه وسلم لمرور ذكره فى قوله : ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ «1» أو : باللّه ، أو : بالقرآن المذكور فى قوله : فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ أي : التناول. من قرأه بالواو «2» فوجهه : أنه مصدر : ناش ، ينوش ، نوشا ، أي : تناول ، وهى لغة حجازية ، ومنه : تناوش القوم فى الحرب : إذا تدانوا ، وتناول بعضهم بعضا ، أي : ومن أين لهم تناول التوبة وقد بعدت عنهم ، يعنى أن التوبة كانت منهم قريبة ، تقبل منهم فى الدنيا ، وقد ذهبت الدنيا وبعدت عن الآخرة. وقيل : هو تمثيل لطلبهم ما لا يكون ، وهو أن ينفعهم إيمانهم فى ذلك الوقت ، كما نفع المؤمنين إيمانهم فى الدنيا ، فمثّلت حالهم بحال من يريد أن يتناول
___________
(1) الآية 46 من السورة. [.....]
(2) قرأ أبو عمرو ، وأبو بكر ، وحمزة ، والكسائي (التناوش) بالهمزة ، وقرأ الباقون (التناوش) بالواو من غير همز.(4/509)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 510
الشيء من غلوة كما يتناوله الآخر من ألف ذراع. ووجه من قرأه بالهمز : أنه مصدر : تناءش ، بمعنى أبطأ ، أو :
بعد ، يقال : تناءشت الشيء : أخذته من بعد. والنئيش : الشيء البطيء ، كما قال الشاعر :
وجئت نئيشا بعد ما فاتك الخير «1».
أي : جئت بطيئا. وقيل : الهمز بدل الواو ، كالصائم ، والقائم ، وأقتت. والمعنى : ومن أين لهم حصول الإيمان المتعذر بعد حصول البعد عن وقته.
وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ حصول العذاب ، أو : قبل الموت فى الدنيا ، وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ ، هو عطف على «كفروا» على حكاية الحال الماضية ، أي : وقد كفروا فى الدنيا ، ورموا بظنونهم فى الأمور المغيبة ، فقالوا : لا بعث ولا حساب ، ولا جنة ولا نار. مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ عن الحق والصواب ، أو : هو قولهم فى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، شاعر ، ساحر ، كذاب ، وهو رجم بالغيب إذ لم يشاهدوا منه سحرا ولا شعرا ولا كذبا. وقد أتوا بهذا الأمر من جهة بعيدة من حاله صلى اللّه عليه وسلم إذ لم يعرفوه إلا بالصدق ، والأمانة ، ورجاحة العقل.
وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ من نفع الإيمان يومئذ ، والنجاة به من النيران ، والفوز بنعيم الجنان ، أو بين الرد إلى الدنيا ، كما حكى عنهم بقوله : فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً «2» كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ أي :
بأشباههم من الكفرة الدارجة من قبلهم ، فإنه قد حيل بينهم وبين ما يشتهون من الإيمان والعمل الصالح بالموت ، وهذه الأفعال كلها تقع فى المستقبل ، عبّر عنها بالماضي لتحقق وقوعها. إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ فى أمر الرسول والبعث ، مُرِيبٍ : موقع للريبة ، أو : ذى ريبة ، نعت به للمبالغة. وفيه رد على من زعم أن اللّه لا يعذّب على الشك ، قاله النسفي.
الإشارة : قوم غفلوا عن تحقيق الإيمان ، وتربيته ، بصحبه أهل الإيقان ، حتى إذا كشف - بعد الموت - عن مقامهم القصير ، ومكانهم البعيد ، قالوا : آمنا وتيقنا ، وأنى لهم التناوش من مكان بعيد. وقوم اشتغلوا بالبطالة والتقصير ، وصرفوا فى الشهوات والحظوظ عمرهم القصير ، وتوغلوا فى أشغال الدنيا وزخارفها ، فذهلوا عن الجد والتشمير ، فإذا انقضت عنهم أيام الدنيا حيل بينهم وبين ما يشتهون ، من اغتنام الأوقات ، وتعمير الساعات ، لنيل المراتب والدرجات ، وهنالك يقع الندم حين لم ينفع ، ويطلب الرجوع فلا يسمع.
___________
(1) عجز بيت ، وهو كما فى القرطبي (6/ 5553) :
قعدت زمانا عن طلابك للعلا وجئت نئيشا بعد ما فاتك الخبر
(2) من الآية 12 من سورة السجدة.(4/510)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 511
قال القشيري : إذا تابوا - وقد أغلقت الأبواب ، وندموا - وقد تقطعت بهم الأسباب ، فليس إلا الحسرات مع الندم ، ولات حين ندامة! كذلك من استهان بتفاصيل فترته ، ولم يستفق من غفلته فتجاوز حده ، ويعفى عنه كرّه.
فإذا استمكن فى القسوة ، وتجاوز فى سوء الأدب حدّ القلة ، وزاد على مقدار الكثرة ، فيحصل لهم من الحق ردّ ، ويستقبلهم حجاب البعد. فعند ذلك لا يسمع لهم دعاء ، ولا يرحم لهم بكاء ، كما قيل ، وأنشد :
فخلّ سبيل العين بعدك للبكا فليس لأيام الصفاء رجوع. ه
وقوم شمروا عن سابق الجد والتشمير ، ولم يقنعوا من مولاهم بقليل ولا كثير ، قد انتهزوا فرصة الأعمار ، ولم يشغلهم عن اللّه ربع ولاديار ، عمّروا أوقاتهم بالذكر والتذكار ، وفكرة الاعتبار والاستبصار ، حتى وردوا دار القرار ، أولئك المصطفون الأخيار ، يدفع اللّه تعالى بهم عن أهل الدنيا الأنكاد والأغيار ، ويكشف عن قلوبهم الحجب والأستار. وقوم حققوا مقام الإيمان ، واشتغلوا بتربيته ، بصحبة أهل الإيقان ، حتى أفضوا إلى مقام العيان ، فلا تعلم نفس ما أخفى لهم من قرة أعين. جعلنا اللّه من خواصهم بمنّه وكرمه ، وبمحمد نبيه وحبه صلى اللّه عليه وسلم وعلى آله وصحبه.(4/511)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 512(4/512)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 513
سورة فاطر
مكية. وآيها ست - أو خمس - وأربعون. ومناسبتها لما قبلها : أن صدرها استدلال على عظم ذاته ، وباهر قدرته ، وتحقيق رسالة نبيه ، بجعل الملائكة رسلا إليه ، ففيها إزاحة للشك ، وقلع للريب ، الواقع فى قلوب الكفرة ، الذي ختمت به السورة ، فكأنه تعالى حمد نفسه على إظهار شأنه ، وإن لم يحمده عتاة خلقه.
[سورة فاطر (35) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1)
قلت : (أولى) : اسم جمع ، كذو ، وهو بدل من «رسلا» ، أو نعت له ، ومَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ : نعوت لأجنحة ، وهو غير منصرف لأنه معدول عن اثنين اثنين ، وثلاثة ثلاثة ، وهو باعتبار الأشخاص ، أي : منهم من له اثنان ، ومنهم من له ثلاثة ، هذا ظاهر الكشاف.
يقول الحق جل جلاله : الْحَمْدُ لِلَّهِ ، حمد نفسه تعليما وتعظيما ، فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مبديهما ومبدعهما. قال ابن عباس رضي اللّه عنه : «ما كنت أدرى معنى فاطر حتى اختصم إلىّ أعرابيان فى بئر ، فقال أحدهما : أنا فطرتها ، أي : ابتدأتها». قال البيضاوي : من الفطر ، بمعنى الشق ، كأنه شق العدم بإخراجهما منه. قلت :
وكأنه شق النور الكثيف من النور اللطيف ، فنور السموات والأرض من نوره الأزلى ، وسره الخفي. جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا إلى عباده ، أي : وسائط بين اللّه وبين أنبيائه والصالحين من عباده ، فيبلغون إليهم رسالاته بالوحى ، والإلهام ، والرؤيا الصادقة. أُولِي أَجْنِحَةٍ متعددة مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ أي : منهم ملائكة لهم اثنان لكل واحد جناحان ، ومنهم من له ثلاثة ، ومنهم من له أربعة ، بتفاوت ما لهم من المراتب ، ينزلون بها ، ويعرجون ، أو : يسرعون نحو ما وكلهم اللّه عليه ، يتصرفون فيه على ما أمرهم به ، ولعله تعالى لم يرد الحصر ونفى ما زاد عليها ، لما روى أنه صلى اللّه عليه وسلم رأى جبريل ليلة المعراج ، وله ستمائة جناح «1». وروى أنه طلب منه أن يريه
___________
(1) أخرجه البخاري فى (بدء الخلق ، باب إذا قال أحدكم «آمين» ح 3232) ومسلم فى (الإيمان ، باب ذكر سدرة المنتهى 1/ 158 ، ح 174) من حديث ابن مسعود رضي اللّه عنه ، لكنه ليس فيه «ليلة المعراج».(4/513)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 514
صورته التي خلقه اللّه عليها ، فلما رآه كذلك خرّ مغشيا عليه. وقال : ما كنت أرى شيئا من الخلق هكذا. فقال له : لو رأيت إسرافيل ، إنّ له لاثنى عشر جناحا بالمشرق ، واثنى عشر جناحا بالمغرب ، وإنّ العرش لعلى كاهله ، وإنه ليتضاءل لعظمة اللّه تعالى «1» ه.
يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ أي : يزيد فى خلق الأجنحة وغيره ما يريد. وقيل : هو الوجه الحسن ، والشعر الحسن ، والصوت الحسن ، والحظّ الحسن ، والملاحة فى العينين. والآية مطلقة تتناول كلّ زيادة فى الخلق ، من طول قامة ، واعتدال صورة ، وتمام فى الأعضاء ، وقوة فى البطش ، وحصافة العقل ، وجزالة فى الرأى ، وفصاحة فى اللسان ، وحسن خلق فى المعاشرة ، ومحبة فى قلوب المؤمنين وغير ذلك. إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فيقدر على ما يشاء ، من زيادة فى الخلق ، ونقصان فيها ، على حسب المشيئة السابقة.
الإشارة : الحمد فى القرآن وقع على أربعة أقسام : حمد مطلق ، وهو الواقع على عظمة ذاته ، من غير أن يكون فى مقابلة شىء ، وهو قوله : قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى «2» ، الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ «3» ، وحمد وقع فى مقابلة تنزيه ذاته عن النقائص ، وهو قوله : وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً ... «4» الآية. وحمد وقع فى مقابلد نعمة الإيجاد ، وهو قوله : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ .. «5» ، وحمد وقع فى مقابلة نعمة الإمداد الحسى ، كقوله : الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ ، فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّماواتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعالَمِينَ «6» ، فإن التربية تقتضى وصول ما يحتاج إليه المربّى ، أو الإمداد المعنوي ، وهو إمداد القلوب والأرواح بالهداية ، وهو قوله : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ «7» الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا .. «8» فهذه أربعة : حمد مطلق ، أو مقيد بشأن التنزيه ، أو بنعمة الإيجاد ، أو الإمداد ، وما وقع هنا فى إظهار تجلياته ، من أرضه وسماواته ، ولطائف ملائكته ، فإن ذلك كله من نور جبروته.
وقوله تعالى : يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ قال القشيري : يقال : هو الفهم عن اللّه ، أو السخاء والجود ، أو :
الرضا بالتقدير ، أو : علو الهمة ، أو : التواضع فى الشرف ، أو : العفة فى الفقر ، أو : الظرف - أي : الظرافة - فى الشمائل ، أو : أن يكون محببا فى القلوب ، أو : خفة الروح ، أو : تحرّر القلب عن رقّ الحرمان - أي : بالوقوف مع الأكوان - أو : ألا يطلب لنفسه منزلة فى الدارين - أي : بأن يكون عبد اللّه حقيقة - . ه. ملخصا.
___________
(1) ذكره القرطبي (6/ 5558) عن الزهري.
(2) من الآية 59 من سورة النمل.
(3) من الآية 75 من سورة النحل.
(4) الآية 111 من سورة الإسراء.
(5) من الآية الأولى من سورة الأنعام.
(6) الآية 36 من سورة الجاثية.
(7) الآية الأولى من سورة الكهف.
(8) من الآية 43 من سورة الأعراف.(4/514)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 515
والصواب أن الزيادة تشمل ذلك كله ، وكل من خصه بشىء فإنما ذلك رحمة منه تعالى ، كما قال تعالى :
[سورة فاطر (35) : آية 2]
ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2)
يقول الحق جل جلاله : ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ أي : ما يطلق ويرسل من رحمة ، كنعمة ، ومطر ، وأمن ، وعافية ، ورزق ، وعلم ، ومعرفة ، ونبوة ، وغيرها ، فَلا مُمْسِكَ لَها فلا أحد يقدر على إمساكها وردها ، واستعير الفتح للإطلاق لأنه مسبب عنه. ونكّر الرحمة للإشاعة والإبهام ، كأنه قال : من أىّ رحمة كانت ، فتشمل نعمة الدفع والجلب ، كدفع المحن وجلب المنن. والاعتراف بالمنعم من تمام النعمة ، والأمران مدرجان فى الفتح والإمساك ، وَما يُمْسِكْ أي : يمنع ويحبس من ذلك فَلا مُرْسِلَ لَهُ فلا مطلق له مِنْ بَعْدِهِ من بعد إمساكه. وأنث الضمير الراجع إلى الاسم المتضمّن معنى الشرط على معنى الرحمة ، وذكّره حملا على لفظ المرجوع إليه إذ لا تأنيث فيه لأن الأول فسرّ بالرحمة ، فحسن إتباع الضمير التفسير ، ولم يفسر الثاني فترك على أصل التذكير.
وعن معاذ رضي اللّه عنه مرفوعا : «لا تزال يد اللّه مبسوطة على هذه الأمة ما لم يرفق خيارهم بشرارهم ، ويعظّم برّهم فاجرهم ، وتعن قراؤهم على أمراءهم على معصية اللّه. فإذا فعلوا ذلك نزع اللّه يده عنهم» «1» قال ابن عرفه : يؤخذ من قوله تعالى : وَما يُمْسِكْ .. أن العدم السابق الإضافى متعلق للقدرة ، وجعله بعض الأصوليين متعلقا للإرادة أيضا ، وذلك لأن المصحح للتعلق الإمكان. ه. قال الأبى : لا دليل فى الآية لاحتمال أن يكون التقدير : وما يريد إمساكه ، فيكون من متعلقات الإرادة ، ويحتمل : وما يمسك عن الإرسال بعد وجوده ، كإمساك الماء عن النزول بعد خلقه فى السحاب. ه. وَهُوَ الْعَزِيزُ الغالب ، القادر على الإرسال والإمساك. الْحَكِيمُ الذي يرسل ويمسك ، بما تقتضى الحكمة إرساله ، أو إمساكه.
الإشارة : ما يفتح اللّه لقلوب عباده من نفحات ، وواردات ، وإلهامات ، وعلوم لدنية ، وحكم ربانية ، وتعرفات جمالية وجلالية ، فلا ممسك لها ، بل اللّه يفتح على من يشاء ، ويسد الباب فى وجه من شاء. وسد الباب فى وجه العبد عن معرفته الخاصة ، علامته : عدم إيصاله إلى أوليائه. فكل من وصله إليهم ، وصحبهم ، وعظّمهم ، وخدمهم ،
___________
(1) ذكر نحوه العراقي فى المغني (2/ 164) وعزاه لأبى عمرو الداني ، فى كتاب الفتن ، من رواية الحسن ، مرسلا ، بلفظ : (لا تزال هذه الأمة تحت يد اللّه وكنفه ما لم يمالىء قراؤها أمراءها) وقال العراقي. ورواه الديلمي فى مسند الفردوس ، من حديث علىّ ، وابن عمر ، بلفظ : «ما لم يعظم أبرارها فجارها ، ويداهن خيارها شرارها ، وإسنادهما ضعيف.(4/515)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 516
فقد فتح اللّه له الباب فى وصوله إليه ، وكل من نكبه عنهم ، ولم يصحبهم ، كما ذكر ، فقد سد الباب فى وجهه عن معرفته العيانية. وفى الحكم : «سبحان من لم يجعل الدليل على أوليائه إلا من حيث الدليل عليه ، ولم يوصل إليهم إلا من أراد أن يوصله إليه» «1». وما يمسك من ذلك فلا مرسل له من بعده ، ولو صلى وصام ألف عام. قال القشيري : ما يلوح لقلوب العارفين من أنوار التحقيق لا سحاب يستره ، ولا ضباب يقهره. ويقال : ما يلزم قلوب أوليائه وأحوالهم من التيسير فلا ممسك له ، والذي يمنع من أعدائه - بسبب ما يلقيهم فيه من انغلاق الأمور واستصعابها - فلا ميسّر له من دونه. ه. وباللّه التوفيق.
ثم ذكّرهم بالنعم لأن تذكر النعم سبب الفتح ، فقال :
[سورة فاطر (35) : الآيات 3 الى 4]
يا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (3) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (4)
قلت : «غير اللّه» : من رفعه فنعت للمحل ، أي : هل خالق غير اللّه ، ومن جره : فنعت للفظ. و«يرزقكم» : إما استئناف ، أو : صفة ثانية لخالق ، و«لا إله إلا هو» : مستأنفة ، لا محل لها.
يقول الحق جل جلاله : يا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ باللسان والقلب ، وهى التي تقدمت ، من بسط الأرض كالمهاد ، ورفع السماء بلا عماد ، وإرسال الرسل للهداية والإرشاد ، والزيادة فى الخلق ، وفتح أبواب الرزق. ثم نبّه على أصل النعم ، وهو توحيد المنعّم ، فقال : هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ بالمطر وَالْأَرْضِ بالنبات ، بل لا خالق يرزق غيره ، لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ. فمن أىّ وجه تصرفون عن التوحيد إلى الشرك.
ثم سلّى نبيه عن صدف قومه عن شكر المنعم بقوله : وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ ، فلك فيهم أسوة ، فاصبر كما صبروا. وتنكير «رسل» للتعظيم ، المقتضى لزيادة التسلية ، والحث على المصابرة ، أي : فقد
___________
(1) انظر الحكم بتبويب المتقى الهندي (ص/ 13 ، حكمة/ 156). [.....](4/516)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 517
كذّبت رسل عظام ، ذوو عدد كثير ، وأولو آيات عديدة ، وأهل أعمار طوال ، وأصحاب صبر وعزم. وتقدير الكلام :
وإن يكذبوك فتأسّ بتكذيب الرسل قبلك لأن الجزاء يعقب الشرط ، ولو أجرى على الظاهر ، لكان الجزاء مقدما على الشرط لأن تكذيب الرسل سابق ، فوضع فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ موضع فتأسّ ، استغناء بالسبب عن المسبب. وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ ، وهو كلام مشتمل على الوعد والوعيد ، من رجوع الأمور إلى حكمه ، ومجازاة المكذّب والمكذّب بكل ما يستحقه فى الدنيا والآخرة ، فى الدنيا بالنصر والعز لأهل الحق ، وبالذل والإهانة لأهل التكذيب ، وفى الآخرة معلوم ، فالإطلاق أحسن من التقييد بالآخرة. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : ذكر النعمة هو أن ينظر العبد ، ويتفكر فى نفسه ، فيجد نفسه مغروقة فى النعم الظاهرة والباطنة. وقد تقدم تعدادها فى لقمان «1». وليتفكر فى حالته الماضية ، فقد كان جاهلا ، فعلّمه اللّه ، ضالا ، فهداه اللّه ، غافلا ، فأيقظه اللّه ، عاصيا ، فوفقه اللّه ، إلى غير ذلك من الأحوال السنية. ولينظر أيضا إلى من تحته من العباد ، فيجد كثيرا من هو أسوأ منه حالا ومقاما ، فيحمد اللّه ويشكره. قال صلى اللّه عليه وسلم : «انظروا إلى من هو تحتكم ولا تنظروا إلى من فوقكم فهو أجدر ألا تزدروا نعمة اللّه عليكم» «2». وحمله المحققون على العموم فى الدين والدنيا. ذكره ابن عباد فى الرسائل وغيره.
وقال عمر بن عبد العزيز رضي اللّه عنه : تذاكروا النعم فإن ذكرها شكر. ه. وقال القشيري : من ذكر نعمته فصاحب عبادة ، ونائل زيادة ، ومن ذكر المنعم فصاحب إرادة ، ونائل زيادة ، ولكن فرق بين زيادة وزيادة ، هذا زيادته فى الدارين عطاؤه ، وهذا زيادته لقاؤه ، اليوم سرّا بسرّ ، من حيث المشاهدة ، وغدا جهرا بجهر ، من حيث المعاينة. ه.
قلت : من تحقق بغاية الشهود لم يبق له فرق بين شهود الدارين إذا المتجلى واحد. ثم قال : والنعمة على قسمين :
ما دفع من المحن ، وما وضع من المنن ، فذكره لما دفع عنه يوجب دوام العصمة ، وذكره لما نفعه به يوجب تمام النعمة ، هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ ..؟ فائدة هذا التعريف بوحدانيته ، فإذا عرف أنه لا رازق غيره لم يعلّق قلبه بأحد فى طلب شىء. وتوهم شىء من أمثاله وأشكاله ، ويستريح لشهود تقديره ، ولا محالة يخلص فى توكله وتفويضه. ه.
___________
(1) راجع تفسير الآية 20 من سورة لقمان.
(2) أخرجه مسلم فى (الزهد والرقائق 4/ 2275 ، ح 2963) من حديث أبى هريرة رضي اللّه عنه.(4/517)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 518
ثم قال فى قوله : وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ ... الآية : وفى هذا إشارة للحكماء ، وأرباب القلوب ، مع العوامّ والأجانب عن هذه الطريقة ، فإنهم لا يقبلون منهم إلا القليل ، وأهل الحقائق منهم أبدا فى مقاساة الأذية ، إلا بستر حالهم عنهم ، والعوام أقرب إلى هذه الطريقة من القرّاء المتعمقين ، والعلماء المتجمدين ، الذين هم لهذه الأصول منكرون. ه.
ثم حذّر من الدنيا لأنها تنسى النّعم والشكر ، فقال :
[سورة فاطر (35) : الآيات 5 الى 7]
يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (5) إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ (6) الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (7)
يقول الحق جل جلاله : يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ بالبعث والجزاء حَقٌّ ، أي : كائن لا محالة ، فاستعدوا للقائه ، فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا لا تخدعنكم زخارف الدنيا الغرارة ، ولا يذهلنكم التمتع بها ، والتلذذ بملاذها ، والاشتغال بجمعها واحتكارها ، عن التأهب للقاء اللّه ، وطلب ما عنده. وفى الحديث : «فلا تخدعنكم زخارف دنيا دنية ، عن مراتب جنات عليه ، فكأن قد كشف القناع ، وارتفع الارتياب ، ولاقى كل امرئ مستقره ، وعرف مثواه ومنقلبه». وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ أي : الشيطان ، فإنه يمنّيكم الأمانى الكاذبة ، ويقول : إن اللّه غنى عن عبادتك وعن تكذيبك. أو : إن اللّه غفور لمن عصاه.
إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ ظاهر العداوة ، فعل بأبيكم ما فعل ، وأنتم تعاملونه معاملة الحبيب الناصح ، فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا فلا تقبلوا غروره فى عقائدكم وأفعالكم ، وكونوا على حذر منه فى جميع أحوالكم إذ لا يوجد منه إلا ما يدل على عداوته فى سركم وجهركم.
قال الورتجبي : إنه عدو لأنه من عالم القهر خلق ، ونحن من عالم اللطف خلقنا. والطبعان متخالفان أبدا ، لأن القهر واللطف تسابقا فى الأزل ، فسبق اللطف القهر ، فعداوته من جهة الطبع الأول ، والجهل بالعصمة ، وأنوار التأييد والنصرة ، ومن لا يعرفه بما وصفنا ، كيف يتخذه عدوا؟ وهو لا يعرف مكائده ، ولا يعرف مكائده إلا ولىّ أو صدّيق. ه.(4/518)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 519
ثم خطّأ من اتبعه بأن غرضه أن يورد شيعته موارد الهلاك ، بقوله : إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ ، فهو تقرير لعداوته ، وبيان لغرضه فى دعوى شيعته إلى اتباع الهوى ، والركون إلى الدنيا ، أي : إنما يدعوهم إلى الهوى ، ليكونوا من أهل النار.
ثم بيّن مآل من اتبعه ومن عاداه ، فقال : الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ أي : فمن أجابه إلى ما دعى فله عذاب شديد لأنه صار من حزبه وأتباعه ، وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ولم يجيبوه ، ولم يصيروا من حزبه ، بل عادوه ، لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ لكبر جهاده ودوامه.
الإشارة : وعد اللّه هنا عام ، وكله حق ، واجب الوقوع ، لا يتخلف ، فيصدق بوعد الرزق ، وكفاية من انقطع إليه عن الخلق ، لقوله : وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ «1» وتولى من أصلح حاله لقوله : وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ «2» ، ويصدق بإثابة المطيع ، وعتاب العاصي ، أو : حلمه عنه ، وغير ذلك من المواعد كلها ، فيجب على العبد كفه عن الاهتمام بالرزق ، وخوف الخلق ، والتشمير فى الطاعة ، والفرار من المعصية ، إن كان له ثقة بوعد ربه ، وإلا فالخلل فى إيمانه.
وقوله تعالى : إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ ... إلخ ، قوم فهموا من الخطاب أنهم أمروا بعداوة الشيطان ، فاشتغلوا بعداوته ومحاربته ، فشغلهم ذلك عن محبة الحبيب ، وقوم فهموا من سر الخطاب : إن الشيطان لكم عدو ، وأنا لكم حبيب ، فاشتغلوا بمحبة الحبيب ، فكفاهم عداوة العدو. قيل لبعضهم : كيف صنعك مع الشيطان؟ فقال : نحن قوم صرفنا هممنا إلى اللّه ، فكفانا من دونه. فالشيطان كالكلب إن اشتغلت بدفعه مزّق الثياب ، أو قطع الإهاب ، وإن رفعته إلى مولاه كفاك شره. وكذلك النفس إن اشتغلت بتصفيتها ومجاهدتها على الدوام شغلتك عن ذكر اللّه ، والفناء فيه ، ولكن الدواء هو الغيبة عنها ، والاشتغال باللّه دائما ، فإذا أظهرت رأسها بقيام شهوتها ، دقّه ، بعكس مرادها ، وغب عنها فى ذكر اللّه. ومن حكم شيخنا البوزيدى رضي اللّه عنه : «أنس نفسك باللّه ، واعتمد على فضل اللّه ، وامتثل شيئا ما ، وينوب اللّه». «3» وفى الحكم العطائية : «إذا علمت أن الشيطان لا يغفل عنك ، فلا تغفل أنت عمن ناصيتك بيده». وقال أيضا : «وحرّك عليك النفس ليدوم إقبالك عليه». وقال : «لو كنت لا تصل إليه إلا بعد فناء مساوئك ، ومحو دعاويك ، لم تصل إليه أبدا. ولكن إذا أراد أن يوصلك إليه ، غطى وصفك بوصفه ، ونعتك بنعته ، فوصلك بما منه إليك ، لا بما منك إليك» «4».
___________
(1) من الآية 3 من سورة الطلاق.
(2) من الآية 196 من سورة الأعراف.
(3) انظر الحكم بتبويب المتقى الهندي (ص/ 23 ، حكمة/ 236).
(4) (ص/ 31 ، حكمة 130).(4/519)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 520
ومن جملة عداوته تزيين القبائح ، كما قال تعالى :
[سورة فاطر (35) : آية 8]
أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ (8)
قلت : «أفمن» : مبتدأ حذف خبره ، أي : كمن هداه اللّه ، أو ذهبت نفسك عليه حسرات. و«حسرات» : مفعول له.
وجمعها لتضاعف اغتمامه ، أو تعدد مساوئهم. و«عليهم» : صلة لتذهب ، كما تقول : هلك عليه حبا ، ومات عليه حزنا. ولا يتعلق بحسرات لأن المصدر لا يتقدّم عليه صلته ، إلا أن يتسامح فى الجار والمجرور.
يقول الحق جل جلاله : أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ بأن غلب هواه على عقله ، وجهله على علمه ، حتى انعكس رأيه ، فَرَآهُ حَسَناً فرأى الباطل حقا ، والقبيح حسنا ، كمن هداه اللّه واستبصر ، فرأى الحق حقا ، والباطل باطلا ، فتبع الحق ، وأعرض عن الباطل ، ليس الأمر كذلك ، فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ ، فمن أضله رأى الباطل حقا ، فتبعه ، ومن هداه رأى الباطل باطلا ، فاجتنبه ، والحق حقا فاتبعه.
فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ أي : فلا تهلك نفسك عليهم للحسرات على غيهم وإصرارهم على التكذيب ، فإن أمرهم بيدي ، وأنا أرحم بهم منك ، فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب. إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ فيجازيهم عليه ، وهو وعيد لهم بالعقاب على سوء صنيعهم.
الإشارة : إذا أراد اللّه إبعاد قوم غطى نور بصيرتهم بظلمة الهوى ، فيزيّن فى عينهم القبيح ، ويستقبح المليح ، فيرون القبيح حسنا ، والحسن قبيحا ، كما قال الشاعر :
يغمى على المرء فى أيام محنته حتى يرى حسنا ما ليس بالحسن
قال القشيري : ومعنى التزيين كالكافر يتوهّم أنّ فعله حسن ، وهو عند اللّه من أقبح القبيح ، ثم الراغب فى الدنيا يجمع حلالها وحرامها ، ويحوّش حطامها «1» ، لا يتفكر فى زوالها ، ولا فى ارتحاله عنها من قبل كمالها ، لقد زيّن له سوء عمله ، والذي يتبع الشهوات يبيع مؤبد راحته فى الجنة ، بمتابعة شهوة ساعة ، فلقد زين له سوء عمله ، والذي يؤثر على ربّه شيئا من المخلوقات ، فهو من جملتهم ، والذي يتوهّم أنه إذا وجد النجاة والدرجات فى الجنة
___________
(1) أي : يجمعه ويدخره.(4/520)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 521
فقد اكتفى ، فقد زيّن له سوء عمله ، حيث تغافل عن حلاوة مناجاته. والذي هو فى صحبة حظوظه ، دون إيثار حقوق اللّه ، فقد زين له سوء عمله فرآه حسنا. ه.
قلت : وكذلك من وقف مع الكرامات والمقامات ، وحلاوة الطاعات ، دون درجة المشاهدة ، فقد زين له سوء عمله. والحاصل : كل من وقف مع شىء ، دون تحقيق الفناء فى الذات ، فهو مزيّن له سوء عمله. وكل من لم يصحب الرجال فهو غالط ، يظن أنه واصل ، وهو منقطع فى أول البدايات. وباللّه التوفيق. وقوله تعالى : فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ ، كذلك يقال للواعظ ، إذا رأى إدبار الخلق ، وعدم تأثير الوعظ فيهم ، فليكتف بعلم اللّه فيهم ، ولا يتأسف على أحد ، فإن التوفيق بيد اللّه.
وربما يحييهم بعد حين ، كما يحيى الأرض بعد موتها ، كما أشار إلى ذلك بقوله :
[سورة فاطر (35) : آية 9]
وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذلِكَ النُّشُورُ (9)
قلت : «كذلك» : خبر مقدم ، و«النشور» : مبتدأ.
يقول الحق جل جلاله : وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ ، وفى قراءة بالإفراد ، للجنس «1» ، فَتُثِيرُ سَحاباً أي : تزعجه ، وعبّر بالمضارع على حكاية الحال الماضية استحضارا لتلك الصورة البديعة ، التي تقع فيها إثارة الرياح السحاب ، الدالة على كمال القدرة وباهر الحكمة. فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ لا نبات فيه ، فَأَحْيَيْنا بِهِ أي : بالمطر النازل منه الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها بعد يبسها. وعدل من الغيبة الى التكلم لأنه أدخل فى الاختصاص لما فيه من مزيد بديع الصنع ، كَذلِكَ النُّشُورُ أي : مثل إحياء الموات نشور الأموات. وقيل : يحيى اللّه الخلق بماء يرسله من تحت العرش ، كمنىّ الرجال ، فتنبت به الأجساد فى قبورها ، ثم يرسل الأرواح فتدخل فى أشباحها «2». قال أبو رزين : قلت : يا رسول اللّه كيف يحيى اللّه الموتى؟ وما آية ذلك فى خلقه؟ فقال : «هل مررت بواد أهلك محلا؟ - أي : جدبا - قلت : نعم ، قال : فكذلك يحيى اللّه الموتى ، وتلك آية اللّه فى خلقه» «3».
___________
(1) قرأ ابن كثير ، وحمزة ، والكسائي (الريح) بالتوحيد ، وقرأ الباقون (الرياح) بالجمع. انظر الإتحاف (2/ 392).
(2) ذكره الطبري (22/ 119).
(3) أخرجه أحمد فى المسند (4/ 11) والطبراني فى الكبير (19/ 208 ح 470) والطيالسي (ص 147 ح 1089) عن أبى رزين العقيلي. قال الهيثمي فى المجمع (1/ 85) : رجاله ثقات.(4/521)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 522
الإشارة : واللّه الذي أرسل رياح الهداية ، فتزعج سحاب الغين عن قلوب أهل الهداية ، فسقناه - أي : ريح الهداية - إلى قلب ميت بالغفلة والجهل باللّه ، فأحيينا بالوارد الناشئ عن ريح الهداية أرض النفوس ، بالنشاط إلى العبادة ، والذكر ، والمعرفة ، بعد موتها بالغفلة والقسوة ، كذلك النشور. وذلك عزها ، كما قال تعالى :
[سورة فاطر (35) : آية 10]
مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ (10)
يقول الحق جل جلاله : مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ أي : الشرف والمنعة على الدوام ، فى الدنيا والآخرة ، فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً فليطلبها من عنده ، بالتقوى ، والعلم ، والعمل الصالح ، كالزهد فى الدنيا ، والتبتل إلى اللّه ، أي : فالعزة كلها مختصة باللّه ، عز الدنيا وعز الآخرة. وكان الكفار يتعززون بالأصنام ، كما قال تعالى : وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا «1» ، والمنافقون كانوا يتعززون بالمشركين ، كما قال تعالى : الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً .. «2» ، فبيّن أن العزة إنما هى للّه بقوله : «فإن العزة للّه» فليطلبها من أرادها من عنده. فوضع قوله : فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ موضعه ، استغناء به عنه لدلالته لأن الشيء لا يطلب إلا من عند صاحبه ومالكه. ونظيره قولك : من أراد النصيحة فهى عند الأبرار ، أي :
فليطلبها من عندهم. وفى الحديث : «إن ربكم يقول كل يوم : أنا العزيز ، فمن أراد عزّ الدارين فليطع العزيز» «3».
ثم ذكر ما يطلب به العز ، وهو العمل المقبول ، بقوله : إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ كلمة التوحية : لا إله إلا اللّه ، وما يلحقها من الأذكار ، والدعاء ، والقراءة. وعنه صلى اللّه عليه وسلم : «هو سبحان اللّه والحمد للّه ، ولا إله إلا اللّه ، واللّه أكبر. إذا قالها العبد عرج بها الملك إلى السماء ، فحيّا بها وجه الرحمن «4». وكان القياس : الطيبة ، ولكن كل جمع ليس بينه وبين واحدة إلا التاء يذكّر ويؤنّث. ومعنى الصعود : القبول والرضا ، وكل ما اتصف بالقبول وصف بالرفعة والصعود.
___________
(1) الآية 81 من سورة مريم.
(2) الآية 139 من سورة النساء.
(3) ذكره ابن الجوزي فى الموضوعات (1/ 120) عن أنس رضي اللّه عنه. وقال ابن الجوزي : وهذا من تلصيص سعيد بن هبيرة العامري ، قال ابن عدى : كان يحدث الموضوعات.
(4) أخرجه بنحوه الطبري (22/ 120) والحاكم - وصححه ووافقه الذهبي (2/ 425) - وأخرجه البيهقي فى الأسماء والصفات (2/ 34) والبغوي فى التفسير (6/ 414 - 415) من حديث ابن مسعود ، موقوفا. [.....](4/522)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 523
وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ كالعبادة الخالصة يَرْفَعُهُ اللّه تعالى ، أي : يقبله. أو : الكلم الطيب ، فالرافع على هذا الكلم الطيب ، والمرفوع العمل الصالح ، أي : والعمل الصالح يرفعه الكلم الطيب لأن العمل متوقف على التوحيد ، المأخوذ من الكلم الطيب وفيه إشارة إلى أن العمل يتوقف على الرفع ، والكلم الطيب يصعد بنفسه ، ففيه ترجيح الذكر على سائر العمل. وقيل : بالعكس ، أي : والعمل الصالح يرفع الكلم الطيب ، فإذا لم يكن عمل صالح فلا يقبل منه الكلم الطيب. وقيل : والعمل الصالح يرفع العامل ويشرفه ، أي : من أراد العزّة والرفعة فليعمل العمل الصالح فإنه هو الذي يرفع العبد.
ثم ذكر سبب الذل فى الدارين ، فقال : وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ المكرات السَّيِّئاتِ ، فالسيئات : صفة لمصدر محذوف لأن «مكر» لا يتعدى بنفسه. والمراد : مكر قريش برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حين اجتمعوا فى دار الندوة كما قال تعالى : وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا ... «1» الآية. لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ فى الآخرة ، وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ أي : يفسد ويبطل ، دون مكر اللّه بهم ، فالضمير يفيد الاختصاص.
الإشارة : العز على قسمين : عز الظاهر ، وعز الباطن ، فعز الظاهر هو تعظيم الجاه وبعد الصيت ، واحترام الناس لصاحبه ، ولمن تعلق به ، وسببه : التقوى ، والعلم ، والعمل ، ومكارم الأخلاق كالسخاء ، والتواضع ، وحسن الخلق ، والإحسان إلى عباد اللّه. وعز الباطن : هو الغنى باللّه ، وبمعرفته ، والتحرر من رق الطمع ، والتحلي بحلية الورع. وسببه الذل للّه ، يظهر ذلك بين أقرانه ، كما قال الشاعر :
تذلّل لمن تهوى لتكسب عزة فكم عزة قد نالها المرء بالذّل
إذا كان من تهوى عزيزا ولم تكن ذليلا له فاقر السلام على الوصل
وغايته : الوصول إلى معرفة الشهود والعيان. فإذا تعزز القلب باللّه لم يلتفت إلى شىء ، ولم يفتقر إلى شىء ، وكان حرا من كل شىء ، عبدا للّه فى كل شىء. وقد يجتمع للعبد العزان معا ، إذا كان عارفا باللّه عاملا ، وقد ينفرد عز الظاهر فى أهل الظاهر ، وينفرد عز الباطن فى بعض أهل الباطن ، يتركهم تحت أستار الخمول ، حتى يلقوه وهم
___________
(1) من الآية 30 من سورة الأنفال.(4/523)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 524
عرائس الأولياء ، ضنّ بهم الحق تعالى عن خلقه ، فلم يظهرهم لأحد ، حتى قدموا عليه ، وهم الأولياء الأخفياء الأتقياء ، كما ورد مدحهم فى الحديث «1». وكلا العزين للّه ، وبيد اللّه ، فلا يطلب واحد منهما إلا منه سبحانه.
قال القشيري : وقال فى آية أخرى : وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ «2» فأثبت العزة لغيره ، والجمع بينهما :
أن عزّة الربوبية للّه وصفا ، وعزّة الرسول والمؤمنين للّه فضلا ، ومنه لطفا ، فإذا العزة للّه جميعا. والكم الطيب هو الذي يصدر عن عقيدة طيبة ، وقلب طيب ، لا كدر فيه ولا أغيار ، وقيل : ما ليس فيه حظ للعبد ، وقيل : ما يستخرج من العبد ، وهو فيه مفقود ، وقيل : ما ليس فيه حاجة ، ولا يطلب عليه عوض ، وقيل : ما يشهد بصحته الإذن والتوقيف. انظر القشيري.
ويؤخذ من قوله : وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ أن العمل إذا بقي بين عين العبد يلحظه ، وينظر إليه ، فهو علامة على عدم قبوله ، إذ لو قبل لرفع عن نظره ، فلا عمل أرجى للقلوب من عمل يغيب عنك شهوده ، ويختفى لديك وجوده. والذين يمكرون بالأولياء ، المكرات السيئات ، لهم عذاب شديد ، وهو البعد من اللّه ، ومكر أولئك هو يبور. وأما الأولياء فهم فى حجاب مستور ، من كل مكر وخداع وغرور.
ثم ذكر أصل نشأتهم ليتحققوا ضعفهم ووهنهم ، فقال :
[سورة فاطر (35) : آية 11]
وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (11)
يقول الحق جل جلاله : وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ أي : أباكم مِنْ تُرابٍ ، ثُمَّ أنشأكم مِنْ نُطْفَةٍ ، ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً أصنافا ، أو : ذكرانا وإناثا ، وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ إلا معلومة له ، وقتا وكيفية ، وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ أي : وما يمد فى عمر أحد فيكون طويلا. وإنما سمّاه معمّرا لما هو صائر
___________
(1) يشير الشيخ المفسر - رحمه اللّه - إلى حديث : «إن لله ضنائن من خلقه ، يغدوهم فى رحمته ، يحييهم فى عافية ، ويميتهم فى عافية ، وإذا توفاهم توفاهم إلى جنته ، أولئك الذي تمر عليهم الفتن كقطع الليل المظلم وهم بها فى عافية» ، عزاه السيوطي فى الجامع الصغير (ح 2372) للطبرانى ، وأبى نعيم فى الحلية ، عن ابن عمر رضي اللّه عنه.
(2) من الآية 8 من سورة المنافقون.(4/524)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 525
إليه ، وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ أي : يكون عمره قصيرا إِلَّا فِي كِتابٍ أي : اللوح المحفوظ ، أو : صحيفة الإنسان. وقال ابن جبير : «مكتوب فى أول الكتاب : عمره كذا وكذا ، ثم يكتب أسفل ذلك : ذهب يوم ، ذهب يومان ، ذهب ثلاثة ، حتى ينقطع عمره» «1». ففسر النقص بالذهاب ، ولا يذهب شىء من عمره إلا فى كتاب. ويمكن أن يجرى على ظاهره ، باعتبار المحو والإثبات فى غير أم الكتاب ، كما ورد فى صلة الرحم وقطعها. وانظر عند قوله :
يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ ... «2» إلخ. إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ أي : إحصاء الأعمار ، أو زيادتها ونقصانها ، سهل على علم اللّه وقدرته.
الإشارة : أصل نشأة الأشباح من الصلصال ، وأصل نشأة الأرواح من نور الكبير المتعال ، فمن غلبت طينته على روحانيته ، وهواه على عقله ، التحق بالبهائم ، ومن غلبت روحانيته على بشريته ، وعقله على هواه ، التحق بالملائكة الكرام.
وقوله تعالى : وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ .. الآية ، طول العمر وقصره عند الحكماء ، ليس هو بكثرة آماده ، وإنما هو بكثرة أمداده. وفى الحكم : «ربّ عمر اتسعت آماده ، وقلّت أمداده ، وربّ عمر قليلة آماده ، كثيرة أمداده».
والأمداد : ما يجد القلب من معارف اللّه ، وعلومه ، وأنواره ، وأسراره. فربّ قلب استمد فى زمان قليل ، من العلوم والمعارف والأسرار ، ما لم يستمده غيره فى أزمنة متطاولة. وقال أيضا : «من بورك له فى عمره ، أدرك فى يسير من الزمان من منن اللّه تعالى ، ما لا يدخل تحت دوائر العبارة ، ولا تلحقه الإشارة» «3». والغالب أن هذه الأمداد إنما تنال بصحبة الرجال العارفين باللّه ، فإن المدد الذي يحصل له معهم فى ساعة واحدة لا يحصل فى أزمنة طويلة مع غيرهم ، ولو كثرت صلاتهم وصيامهم.
وقال فى القوت : فإن البركة فى العمر أن تدرك فى عمرك القصير ، بيقظتك ، ما فات غيرك فى عمره الطويل بعد ، فيرتفع لك فى السنة ما لا يرتفع لغيرك فى عشرين سنة. وللخصوص من المقربين فى مقامات القرب عند التجلي بصفات الرب إلحاق برفع الدرجات ، وتدارك بما فات عند أذكارهم ، وأعمال قلوبهم ، اليسيرة ، فى هذه الأوقات. فكل ذرة من تسبيح ، أو تهليل ، أو حمد ، أو تدبر ، أو تبصرة ، أو تفكر وتذكرة ، لمشاهدة قرب ، ووجد برب ، ونظرة إلى حبيب ، ودنو من قريب ، أفضل من أمثال الجبال من أعمال الغافلين ، الذين هم لنفوسهم واجدون ، وللخلق مشاهدون. ومثال العارفين ، فيما ذكرناه من قيامهم بشهادتهم ورعايتهم لأماناتهم وعهدهم ، فى وقت
___________
(1) عزاه السيوطي فى الدر المنثور (5/ 464) لعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبى حاتم ، وأبى الشيخ فى العظمة.
(2) الآية 40 من سورة الرعد.
(3) انظر الحكم بتبويب المتقى الهندي (ص 28 ، حكمة 259 ، 260).(4/525)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 526
قربهم وحضورهم مثل العامل فى ليلة القدر ، العمل فيها ، لمن وافقها ، خير من ألف شهر. وقد قال بعض العلماء :
كل ليلة للعارف بمنزلة ليلة القدر. ه. منه.
ثم ذكر دلائل قدرته تتميما لقوله : إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ، فقال :
[سورة فاطر (35) : آية 12]
وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12)
يقول الحق جل جلاله : وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ فى العذوبة والملوحة ، بل هما مختلفان ، والماء واحد ، هذا عَذْبٌ فُراتٌ أي : شديد العذوبة. وقيل : هو الذي يكسر العطش لشدة برودته ، سائِغٌ شَرابُهُ أي :
سهل الانحدار ، مرىء ، لعذوبته ، وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ شديد الملوحة ، وقيل : الذي تحرق ملوحته. وَمِنْ كُلٍّ أي : من كل واحد منهما تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا ، وهو السمك ، وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً وهى اللؤلؤ والمرجان. قيل : من الملح فقط. وقيل : منهما. قال بعضهم : نسب استخراج الحلية إليهما لأنه تكون فى البحر عيون عذبة ، تمتزج بماء الملح ، فيكون اللؤلؤ من ذلك ه. تَلْبَسُونَها أي : نساؤكم لأن القصد بالتزين هو الرجال.
وَتَرَى الْفُلْكَ السفن ، فِيهِ مَواخِرَ شواقّ للماء بجريها ، يقال : مخرت السفينة الماء : شقّته ، وهى جمع ماخرة ، لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ من فضل اللّه ، ولم يتقدم له ذكر فى الآية ولكن فيما قبلها ، ولو لم يجر له ذكر ، لم يشكل لدلالة المعنى عليه. وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ اللّه على ما أولاكم من فضله.
وقيل : هو ضرب مثل للكافر والمؤمن ، فالمؤمن ، يجرى عذب فرات ، والكافر ملح أجاج. ثم ذكر - على سبيل الاستطراد - ما يتعلق بالبحرين من نعم اللّه وعطائه. ويحتمل أن يكون على غير الاستطراد ، وهو أن يشبّه الجنسين ، ثم يفضّل البحر الأجاج على الكافر ، وهو ما خص به من المنافع ، كاستخراج اللؤلؤ ، والمرجان ، والسمك ، وجرى الفلك فيه ، وغير ذلك. والكافر خلوّ من المنافع بالكلية ، فهو على طريقة قوله تعالى : ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ ثم قال : وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ .. «1».
___________
(1) الآية 74 من سورة البقرة.(4/526)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 527
الإشارة : بحر الشريعة عذب فرات ، سائغ شرابه ، وبحر الحقيقة ملح أجاج لأنه مرّ على النفس ، يحتاج ركوبه إلى بذل المهج والنفوس ، وحط الرؤوس ، وبذل الأموال ، ورفض الأوطان والدنيا وأهلها. بخلاف الشريعة ، فلا تحتاج إلى هذا كله ، وإن كانت متوقفة على مشاق التعلم والتدريس ، ولكن تنال مع بقاء عز النفس والمال والجاه ، وغير ذلك. ومن كلّ تأكلون لحما طريا ، فبحر الشريعة ينال منه حلاوة المعاملة الظاهرة ، وبحر الحقيقة يأكل منه حلاوة الشهود والمعرفة. وترى سفن الأفكار فى بحار الأحدية ، مواخر ، تجول فى عظمة بحر الجبروت والملكوت ، ولتبتغوا من فضله تمام معرفته ، ولتكونوا من الشاكرين ، أي : ممن يعبد شكرا ، لا قهرا.
قال القشيري : وما يستوى الوقتان ، هذا بسط ، وصاحبه فى روح ، وهذا قبض ، وصاحبه فى نوح. هذا خوف وصاحبه فى اجتياح ، وهذا رجاء وصاحبه فى ارتياح. قلت : الرجاء عذب ، والخوف ملح ، خلاف ما يقتضى كلامه. ثم قال : هذا فرق ، وصاحبه بوصف العبودية ، وهذا جمع ، وصاحبه بشهود الربوبية.
ثم ذكر دليلا آخر ، فقال :
[سورة فاطر (35) : الآيات 13 الى 14]
يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13) إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14)
يقول الحق جل جلاله : يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ ، وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ أي : يدخل من ساعات أحدهما فى الآخر ، حتى يصير الزائد منهما خمس عشرة ساعة ، والناقص تسعا. وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ذللها لما يراد منهما ، كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أي : يوم القيامة ، فينقطع جريهما ، ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ ، الإشارة إلى فاعل هذه الأشياء ، وهى : مبتدأ ، و«اللّه» وما بعده : أخبار ، لَهُ الْمُلْكُ له التصرف التام. وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ من الأصنام ، أي : تعبدونهم ، ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ وهى القشرة الرقيقة الملتفة على النواة ، كما أن النقير : النقطة فى ظهره. وهما كنايتان عن حقارة الشيء وتصغيره.(4/527)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 528
إِنْ تَدْعُوهُمْ أي : الأصنام لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ لأنهم جماد ، وَلَوْ سَمِعُوا على سبيل الفرض مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ لأنهم لا يدّعون ما تدّعون لهم من الإلهية ، بل يتبرؤون منها. وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ بإشراككم لهم ، وعبادتكم إياهم. ويقولون : ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ «1». وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ أي : ولا يخبرك بالأمر على حقيقته مخبر مثل خبير به ، وهو اللّه تعالىفإنه خبير به على الحقيقة ، دون سائر المخبرين. والمراد : تحقيق ما أخبر به من حال آلهتهم ، ونفى ما يدعون لها. أو : ولا يخبرك أيها المفتون بأسباب الغرور ، كما ينبئك اللّه الخبير بخبايا الأمور وتحقيقها ، أي : لا يخبرك بالأمور مخبر هو خبير عالم به ، يريد أنّ الخبير بالأمور وحده هو الذي يخبرك بالحقيقة ، دون سائر المخبرين. والمعنى : أنّ هذا الذي أخبرتكم به من حال الأوثان هو الحق لأنه خبير بما أخبرت به. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : قال الشيخ أبو العباس المرسى رضي اللّه عنه : يولج الليل فى النهار ، ويولج النهار فى الليل. يولج المعصية فى الطاعة ، ويولج الطاعة فى المعصية. يعمل العبد الطاعة فيعجب بها ، ويعتمد عليها ، ويستصغر من لم يفعلها ، ويطلب من اللّه العوض عليها ، فهذه حسنات أحاطت بها سيئات. ويذنب العبد الذنب ، فيلتجأ إلى اللّه فيه ، ويعتذر منه ، ويستصغر نفسه ، ويعظم من لم يفعله ، فهذه سيئة أحاطت بها حسنات ، فأيتهما الطاعة ، وأيتهما المعصية؟ ه.
أو : يولج ليل القبض فى نهار البسط ، وبالعكس ، أو : يولج ليل الحجبة فى نهار الكشف ، ونهار الكشف فى ليل القطيعة ، يتواردان إلى حال طلوع شمس العرفان ، فلا غروب لها ، كما قال الشاعر :
طلعت شمس من أحب بليل واستنارت فما تلاها غروب
إنّ شمس النهار تغرب باللي ل وشمس القلوب ليست تغيب «2».
قال القشيري : يولج الليل فى النهار ، تغلب النّفس مرة على القلب ، وبالعكس ، وكذلك القبض والبسط ، فقد يستويان ، وقد يغلب أحدهما ، وكذلك الصحو والسكر ، والفناء والبقاء ، وآثار شموس التوحيد ، وأقمار المعرفة على ما يريد من إظهارها على القلوب. ه. فهذه كلها يولج أحدها فى الآخر. ولا يعرف هذا إلا من تحقق بفقره إلى اللّه تعالى ، كما قال :
[سورة فاطر (35) : الآيات 15 الى 17]
يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (16) وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (17)
___________
(1) من الآية 28 من سورة يونس.
(2) البيت من الخفيف ، وهو للحلاج. انظر ديوانه ص 23 ، وصلة تاريخ الطبري 11/ 87.(4/528)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 529
يقول الحق جل جلاله : يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ فى دقائق الأمور وجليلها ، فى كل لحظة لا يستغنى أحد عنه طرفة عين ، ولا أقل من ذلك إذ لا قيام للعبد إلا به ، فهو مفتقر إلى اللّه ، إيجادا وإمدادا. قال البيضاوي : وتعريف الفقراء للمبالغة فى فقرهم ، كأنهم لشدة افتقارهم ، وكثرة احتياجهم ، هم الفقراء دون غيرهم ، وأن افتقار سائر الخلق بالإضافة إلى فقرهم غير معتد به ، ولذلك قال : وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً «1» قلت : ويمكن أن يكون الحصر باعتبار الحق تعالى ، أي : أنتم فقراء دون خالقكم ، بدليل وصله بقوله : وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ.
وقال ذون النون رضي اللّه عنه : الخلق محتاجون إليه فى كل نفس ، وطرفة ، ولحظة ، وكيف لا ، ووجودهم به ، وبقاؤهم به؟ ، وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ عن الأشياء كلها ، الْحَمِيدُ أي : المجمود بكل لسان. ولم يسمّهم بالفقر للتحقير ، بل للتعظيم لأن العبد إذا أظهر فقره لسيده الغنى أغناه عن أشكاله وأمثاله. وذكر «الحميد» ليدل به على أنه الغنى النافع بغناه خلقه ، والجواد المنعم عليهم إذ ليس كلّ غنىّ نافعا بغناه ، إلا إذا كان الغنىّ جوادا منعما ، وإذا جاد وأنعم ، حمده المنعم عليهم.
ولمّا ذكر افتقارهم إلى نعمة الإيجاد ، ذكر افتقارهم إلى نعمة الإمداد ، بقوله : إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أي : إن يشأ يفنيكم كلكم ، ويردكم إلى العدم فإنّ غناه بذاته ، لا بكم ، وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ يكون أطوع منكم ، أو بعالم آخر غير ما تعرفون. وَما ذلِكَ أي : الإفناء والإنشاء عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ بممتنع. وعن ابن عباس : يخلق بعدكم من يعبده ، لا يشرك به شيئا. قال القشيري : فقر الخلقة عام لكلّ أحد ، فى أول حال وجوده ليبديه وينشيه ، وفى ثانى حال بقائه ليديمه ويبقيه. ه. قلت : وإليه أشار فى الحكم بقوله : «نعمتان ما خلا موجود عنهما ، ولا بد لكل موجود منهما : نعمة الإيجاد ، ونعمة الإمداد ، أنعم أولا بالإيجاد ، وثانيا بتوالي الإمداد».
الإشارة : الفقر على أربعة أقسام : فقر من الدين ، وفقر من اليقين ، وفقر من المال ، وفقر مما سوى اللّه.
فالأولان مذمومان ، وصاحبهما موسوم بالإفلاس والهلع ، ومنهما وقع التعوذ فى الحديث. والثالث : إن صحبه الرضا فممدوح ، وفيه وردت الأحاديث النبوية ، وإلّا فمذموم ، ويشمله التعوذ فى الحديث. الرابع : هو مطلب القاصدين والعارفين ، وهو الغيبة عما سوى اللّه ، والغنى باللّه ، كما قال الشيخ أبو الحسن : «أسألك الفقر عما سواك ، والغنى بك ، حتى لا نشهد إلا إياك» وهو ينشأ عن التحقق بالفقر ظاهرا وباطنا لأن الفقر من وصف العبد ، والغنى
___________
(1) الآية 28 من سورة النساء.(4/529)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 530
من وصف الرب ، فمن تحقق بوصفه أمده اللّه بوصفه ، «تحقق بوصفك يمدك بوصفه ، تحقق بفقرك يمدك بغناه ، تحقق بذلك يمدك بعزه» «1».
وقال القشيري - بعد كلام - : والفقراء على أقسام فقير إلى اللّه ، وفقير إلى شىء هو من اللّه معلوم وموسوم.
ومن افتقر إلى شىء استغنى بوجود ذلك الشيء ، فالفقير إلى اللّه هو الغنى باللّه ، فالافتقار إلى اللّه لا يخلو من الاستغناء باللّه. فالفقير إليه مستغن به ، والمستغنى به فقير إليه. ومن شرف الفقر اقترانه بالتواضع والخشوع ، ومن آفات الغنى امتزاجه بالتكبّر. وشرف العبد وعزه فى فقره ، وذلّه وصغاره فى توهمه الغنى ، وأنشدوا.
وإذا تذلّلت الرقاب [تقرّبا] «2» منّا إليك فعزّها فى ذلّها
ومن شرط الفقير : ألا يملك شيئا ، ولا يملكه شىء. ومن آداب الفقير الصادق : إظهار التكثر عند وجود التقتر ، والشكر على البلوى ، والبعد عن الشكوى. ويقال : الفقر المحمود : العيش مع اللّه براحة الفراغ على سرمد الوقت ، من غير استكراه شىء منه بكلّ وجه. ه. ملخصا.
قال الورتجبي : فطرة الإنسانية وقعت من الغيب مضطربة متحركة إلى الأزل ، بنعت الافتقار إليه ، كانجذاب الحديد إلى المغناطيس لأنها وقعت بنعت العشق ، والعاشق مفتقر إلى معشوقه ، انفعالا ، فمن عرفه بالأزلية والأبدية يفتقر إليه افتقارا قطعيا لأن بقاءه لا يكون إلا به. وإذا كان كذلك صار غنيا باللّه ، متصفا بغناه ، غنيا به عن غيره ، مفتقرا إليه. فإذا كان فى محل الصحو يكون مفتقرا إليه ، وإذا كان فى محل السكر بقي فى رؤية غناه عنه ، فصار محجوبا عنه ، ولا يدرى. ه.
وقال سهل رضي اللّه عنه : لمّا خلق اللّه الخلق حكم لنفسه بالغنى ، ولهم بالفقر ، فمن ادّعى الغنى ، حجب عن اللّه ، ومن أظهر فقره أوصله فقره إليه. فينبغى للعبد أن يكون مفتقرا بالسرّ إليه ، ومنقطعا عن الغير إليه ، حتى يكون عبوديّته للّه محضة ، فالعبودية هى الذل والخضوع. ه.
وقال الواسطي : من استغنى باللّه لا يفتقر ، ومن يتعزز باللّه لا يذل. وقال يحيى بن معاذ : الفقر خير للعبد من الغنى لأن الذلة فى الفقر ، والكبر فى الغنى ، والرجوع إلى اللّه بالتواضع والذلّة خير من الرجوع إليه بكثرة الأعمال. وقيل : صفة الأولياء ثلاثة : الثقة باللّه فى كل شىء ، والفقر إليه فى كل شىء ، والرجوع إليه من كل شىء.
___________
(1) فى الأصول [بقربها].
(2) انظر الحكم (ص 31 ، حكمة/ 178).(4/530)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 531
وكيف يفتقر العبد إلى العبد وهو لا يغنى عنه شيئا؟! قال تعالى :
[سورة فاطر (35) : آية 18]
وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (18)
قلت : «وازرة» : صفة لمحذوف ، أي : نفس آثمة. و«إن تدع» : شرط ، و«لا يحمل» : جواب ، و«لا» النافية لا تمنع الجواب من الجزم.
يقول الحق جل جلاله : وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى أي : ولا تحمل نفس آثمة إثم نفس أخرى ، والوزر والوقر أخوان ، ووزر الشيء : حمله. والمعنى : أن كل نفس يوم القيامة لا تحمل إلا وزرها الذي اقترفته ، فلا تؤخذ نفس بذنب نفس أخرى ، كما تأخذ جبابرة الدنيا الظلمة الجار بجريمة الجار ، والقريب بالقريب ، فذلك ظلم محض.
وأما قوله تعالى : وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ «1» ففى الضالّين المضلّين ، فإنهم يحملون أثقال إضلالهم وأثقال ضلالهم ، وكل ذلك أوزارهم ، ليس فيها شىء من أوزار غيرهم. ألا ترى كيف كذّبهم اللّه تعالى فى قوله :
اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ «2».
قال ابن عطية : من تطرق من الحكام إلى أخذ قريب بقريبه فى جريمة - كفعل [زياد ونحوه ] «3» ، فإن ذلك ، لأن المأخوذ ربما أعان المجرم بمؤازرة ، أو مواصلة ، أو اطلاع على حاله ، أو تقرير له ، فهذا قد أخذ من الجرم بنصيب. وهذا هو المعنى بقوله تعالى : وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ ... الآية لأنهم أغروهم ، وهو معنى قوله صلى اللّه عليه وسلم : «من سنّ سنّة حسنة ..» «4» الحديث ، فراجعه. قلت : لا يجوز الإقدام على ظلم أحد بمجرد الظن ، فالصواب حسم هذا الباب ، والتصريح بتحريمه لكثرة جور الحكام.
ثم قال تعالى : وَإِنْ تَدْعُ نفس مُثْقَلَةٌ بالذنب أحدا إِلى حِمْلِها أي : إلى حمل ثقل ذنوبها ، ليتحمل عنها بعض ذلك ، لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ المدعو ، المفهوم من قوله : وَإِنْ تَدْعُ ، ذا قُرْبى
___________
(1) الآية 13 من سورة العنكبوت.
(2) الآية 12 من سورة العنكبوت. [.....]
(3) فى الأصول [كفعل زاد] والمثبت هو الذى فى تفسير ابن عطية. قلت : قال أبو حيّان فى البحر المحيط ، تعقيبا على كلام ابن عطية : «وكأن ابن عطية تأوّل أفعال زياد ، وما فعل فى الإسلام ، وكانت سيرته قريبة من سيرة الحجّاج»
(4) الحديث أخرجه كاملا مسلم فى (الزكاة ، باب الحث على الصدقة ، 2/ 705 ، ح 1017) من حديث جرير بن عبد اللّه.(4/531)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 532
ذا قرابة قريبة ، كأب ، وولد ، وأخ. والفرق بين معنى قوله : وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وبين قوله : إِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ أنّ الأول دالّ على عدل اللّه فى حكمه ، وأنه لا يؤاخذ نفسا بغير ذنبها ، والثاني : فى بيان أنه لا غياث يومئذ لمن استغاث ، فمن أثقلته ذنوبه ثم استغاث بأحد لم يغثه ، وهذا غاية الإنذار.
ثم بيّن من ينتفع به بقوله : إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ أي : إنما ينتفع بإنذارك من خشى ربه بِالْغَيْبِ أي : يخشون ربهم غائبين عنه ، أو : يخشون عذابه غائبا عنهم ، فهو حال ، إما من الفاعل أو المفعول المحذوف. أو : يخشون ربهم فى حال الغيب ، حيث لا اطلاع للغير عليهم ، فيتقون اللّه فى السر ، كما يتقون فى العلانية. وَأَقامُوا الصَّلاةَ أتقنوها فى مواقيتها ، وَمَنْ تَزَكَّى أي : تطهر بفعل الطاعات ، وترك المنهيات ، فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ إذا نفعه يعود لها ، وهو اعتراض مؤكد لخشيتهم ، وإقامتهم الصلاة لأنها من جملة التزكى. وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ المرجع ، فيجازيهم على تزكيتهم ، وهو وعد للمتزكّين بالثواب.
الإشارة : وبال الوزر خاص بصاحبه ، إلا إذا كان مقتدى به ، فإنّ عيبه أو نقصه يسرى فى أصحابه ، حتى يطهر منه لأن الصحبة صيرت الجسدين واحدا. وراجع ما تقدم عند قوله : وَاتَّقُوا فِتْنَةً ... «1» الآية. قال القشيري : وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى : كلّ مطالب بعمله ، ومحاسب عن ديوانه. ولكلّ معه شأن ، وله مع كلّ أحد شأن ، ومن العبادات ما تجرى فيها النيابة ، ولكن فى المعارف لا تجرى النيابة ولو أن عبدا عاصيا منهمكا فى غوايته فاتته صلاة مفروضة ، فلو قضى عنه ألف ولىّ ، وألف صفىّ ، تلك الصلاة الواحدة ، عن كل ركعة ألف ركعة لم تقبل. ه. وقال فى قوله تعالى : إِنَّما تُنْذِرُ ... إلخ : الإنذار هو الإعلام بموضع المخافة. والخشية هى المخافة ، فمعنى الآية : لا ينتفع بالتخويف إلا صاحب الخوف - طير السماء على إلا فها تقع. ه.
ثم ضرب المثل لمن تزكى ، ومن لم يتزك ، فقال :
[سورة فاطر (35) : الآيات 19 الى 24]
وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ (19) وَلا الظُّلُماتُ وَلا النُّورُ (20) وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ (21) وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلا الْأَمْواتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22) إِنْ أَنْتَ إِلاَّ نَذِيرٌ (23)
إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلا فِيها نَذِيرٌ (24)
___________
(1) الآية 25 من سورة الأنفال.(4/532)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 533
يقول الحق جل جلاله : وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أي : لا يستوى الكافر والمؤمن ، أو الجاهل والعالم. وقيل : هما مثلان للصنم وللّه تعالى. وَلَا الظُّلُماتُ كالكفر والجهل ، وَلَا النُّورُ كالإيمان والمعرفة ، وَلَا الظِّلُّ كنعيم الجنان ، وَلَا الْحَرُورُ كأليم النيران. والحرور : الريح الحارّ كالسموم ، إلا أن السموم يكون بالنهار ، والحرور يكون بالليل والنهار. قاله الفرّاء.
وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ ، تمثيل آخر للمؤمنين والكافرين ، أبلغ من الأول ، ولذلك كرر الفعل ، وقيل : للعلماء والجهال. وزيادة «لا» فى الجميع للتأكيد ، وهذه الواوات بعضها ضمت شفعا إلى شفع ، وبعضها وترا إلى وتر. إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ بهدايته وتوفيقه لفهم آياته والاتعاظ بها. وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ ، شبّه الكفار بالموتى ، حيث لا ينتفعون بمسموعهم ، مبالغة فى تصاممهم ، يعنى أنه تعالى علم من يدخل فى الإسلام ممن لا يدخل فيهدى من يشاء هدايته ، وأما أنت فخفى عليك أمرهم ، فلذلك تحرص على إسلام قوم مخذولين ، فإنذار هم كإنذار من فى القبور من الموتى.
قال ابن عطية : الآية تمثيل بما يحسّه البشر ، ويعهده جميعنا من أنّ الميت الذي فى القبر لا يسمع ، وأما الأرواح فلا نقول : إنها فى القبر ، بل تتضمن الأحاديث أن أرواح المؤمنين فى شجر عند العرش ، وفى قناديل وغير ذلك «1» ، وأن أرواح الكفرة فى سجّين ، ويجوز فى بعض الأحيان أن تكون الأرواح عند القبور ، فربما سمعت ، وكذلك أهل قليب بدر ، إنما سمعت أرواحهم ، فلا تعارض بين الآية وحديث القليب. ه «2».
ثم قال تعالى : إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ أي : ما عليك إلا التبليغ والإنذار ، فإن كان المنذر ممن يسمع الإنذار نفعه ، وإن كان من المصريين فلا عليك.
إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ أي : محقا ، أو : محقين ، أو : إرسالا مصحوبا بالحق ، فهو حال من الفاعل ، أو المفعول ، أو صفة لمصدر محذوف ، بَشِيراً لمن آمن وَنَذِيراً لمن كفر ، وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ أي :
ما من أمة من الأمم الماضية ، قبل أمتك ، إلا فيها نذير نبىّ ، أو عالم ، يخوفهم. ويقال لأهل كل عصر : أمة.
والمراد هنا : أهل العصر. قال ابن عطية : معناه : أن دعوة اللّه تعالى قد عمّت جميع الخلق ، وإن كان فيهم من لم تباشره النّذارة ، فهو ممن بلغته الدعوة ، لأن آدم بعث إلى بنيه ، ثم لم تنقطع النذارة إلى وقت محمد صلى اللّه عليه وسلم. والآية
___________
(1) من هذه الأحاديث ما أخرجه الدارمي فى (الجهاد ، باب أرواح الشهداء) عن مسروق ، قال : سألنا عبد اللّه فى أرواح الشهداء ولو لا عبد اللّه لم يحدثنا أحد. قال : أرواح الشهداء عند اللّه يوم القيامة فى حواصل طير خضر ، لها قناديل معلقة بالعرش ، تسرح فى أىّ الجنة حيث شاءت ، ثم ترجع إلى قناديلها ، فيشرف عليهم ربهم ، فيقول : ألكم حاجة؟ تريدون شيئا؟ فيقولون : لا ، إلا أن نرجع إلى الدنيا فنقتل مرة أخرى.
(2) النقل باختصار.(4/533)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 534
تتضمن أن قريشا لم يأتهم نذير ، ومعناه : نذير مباشر ، وما ذكر المتكلمون من فرض أصحاب الفترات ونحوهم ، فإنما ذلك بالفرض ، لا أنه توجد أمة لم تعلم أن فى الأرض دعوة إلى عبادة اللّه. ه.
وذكر فى الإحياء ، فى باب التوبة : أنه يشبه أن يكون من لم تبلغهم الدعوة فى أطراف البلاد ، وعاشوا [على البله ] «1» وعدم المعرفة ، فلم تكن لهم معرفة ، ولا جحود ، ولا طاعة ، ولا معصية ، هم أهل الأعراف لأنه لا وسيلة تقربهم ، ولا جناية تبعدهم ، فما هم من أهل الجنة ، ولا من أهل النار ، ويتركون فى منزلة بين المنزلتين ، ومقام بين المقامين. ه. وقال ابن مرزوق فى شرح حديث [هرقل ] «2» : الدين الحق هو الإسلام ، وما سواه باطل ، عقلا ونقلا ، فلا عذر لمنتحيله بالإجماع ، كان متأولا مجتهدا ، أو مقلدا جاهلا لأن أدلة الإسلام واضحة قطعية ، ومخالف مقتضاها مخطئ قطعا. ه.
وقال ابن عطية أيضا ، ما نصه : آدم عليه السّلام فمن بعده ، دعا إلى توحيد اللّه تعالى دعاء عاما ، واستمر ذلك على العالم ، فواجب على الآدمي أن يبحث عن الشرع ، الآمر بتوحيد اللّه تعالى ، وينظر فى الأدلة المنصوبة على ذلك ، بحسب إيجاب الشرع النظر فيها ، ويؤمن ، ولا يعبد غير اللّه ، فمن فرضناه لم يجد سبيلا إلى العلم فأولئك أهل الفترات ، الذين أطلق عليهم أهل العلم أنهم فى الجنة ، وهم بمنزلة الأطفال والمجانين ، ومن قصر فى النظر والبحث ، فعبد صنما أو غيره ، وكفر ، فهذا ترك الواجب عليه ، مستوجب للعقاب بالنار. ه. وقال أيضا : إنما صاحب الفترة بفرض أنه آدمي ، لم يصل إليه : أن اللّه بعث رسولا ، ولا دعا إلى دين - وهذا قليل الوجود - إلا إن شذ فى أطراف الأرض ، والمواضع المنقطعة عن العمران. ه.
والحاصل : أن من بلغه خبر الشرائع السابقة ، والدعاء إلى توحيد اللّه ، لا عذر له ، وإنما بعثت الرسل بعد ذلك تجديدا ، ومبالغة فى إزاحة العذر ، وإكمال البيان. قاله المحشى.
الإشارة : وما يستوى الأعمى ، الذي لا يرى إلا حس الكائنات ، والبصير ، الذي فتحت بصيرته ، فشاهد المكوّن ، ولم يقف مع حس الكون ، ولا الظلمات : المعاصي والغفلة ودائرة الحس ، ونور اليقظة والعفة والمعرفة ، ولا ظل برد الرضا والتسليم ، وحرور التدبير والاختيار ، وما يستوى الأحياء ، وهم العارفون باللّه ، الذاكرون اللّه ، والأموات الجاهلون ، أو الغافلون. قال القشيري : وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ .. الآية ، كذلك لا يستوى الموصول بنا والمشغول عنّا ، والمجذوب إلينا والمحجوب عنّا ، ومن أشهدناه حقّنا ، ومن أغفلنا قلبه عن ذكرنا. ه.
___________
(1) الكلمة مشتبهة فى الأصول ، وأثبتها من إحياء علوم الدين 4/ 32.
(2) ما بين المعقوفتين أثبته من النسخة التيمورية ، وهو مطموس فى النسخ الأخرى. قلت : وحديث هرقل أخرجه البخاري فى (بدء الوحى ، باب 6 ، ح 7) ومسلم فى (الجهاد ، باب كتاب النبي صلى اللّه عليه وسلم إلى هرقل يدعوه إلى الإسلام 3/ 1393 - 1397 ، ح 1773) عن سيدنا عبد اللّه بن عباس رضي اللّه عنه.(4/534)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 535
وقوله تعالى : وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ. النذير على قسمين : نذير من وبال الذنوب ، ونذير من وبال العيوب. فوبال الذنوب : العذاب ، ووبال العيوب : الحجاب ، فمن تطهر من الذنوب استوجب نعيم الجنان ، ومن تطهر من العيوب استوجب لذيذ الشهود والعيان. فالنذير الأول عالم بأحكام اللّه ، والثاني عارف باللّه ، الأول مقتصد ، والثاني سابق ، ولا يخلو الدهر منهما ، حتى يأتى أمر اللّه ، فالشريعة باقية بقيام العلماء ، والطريقة والحقيقة قائمتان بقيام الأولياء العارفين باللّه ، أهل التربية النبوية ، بالاصطلاح ، والهمة ، والحال. ومن قال خلاف هذا فقد قال بالمحال.
ثم سلّى نبيه لأنه لمّا أنذر قومه قابلوه بالتكذيب ، فقال :
[سورة فاطر (35) : الآيات 25 الى 26]
وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ (25) ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (26)
يقول الحق جل جلاله : وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ أي : قومك فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ رسلهم ، حال كونهم قد جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ بالمعجزات الواضحة ، وَبِالزُّبُرِ وبالصحف وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ أي : التوراة ، والإنجيل ، والزبور. ولمّا كانت هذه الأشياء من جنسهم ، أسند المجيء بها إليهم إسنادا مطلقا ، وإن كان بعضها فى جميعهم ، وهى البينات ، وبعضها فى بعضهم ، وهى الزبر والكتاب. ويجوز أن يراد بالزبر والكتاب واحد ، والعطف لتغاير الوصفين ، فكونها زبر باعتبار ما فيها من المواعظ التي تزير القلوب ، وكونها كتبا منيرة لما فيها من الأحكام والبراهين النيرة. ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا أي : ثم عاقبت الكفرة بأنواع العقاب ، فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ إنكارى عليهم ، وتعذيبى لهم؟ والاستفهام للتهويل.
الإشارة : تكذيب الصادقين سنّة ماضية. فأولياء كل زمان يتسلون بمن سلف قبلهم ، فقد قتل بعضهم ، وسجن بعضهم ، وأجلى بعضهم ، إلى غير ذلك زيادة فى مقامهم وترقية بأسرارهم. واللّه عليم حكيم.
ثم ذكر دلائل قدرته على إهلاك من خالف أمره ، فقال :
[سورة فاطر (35) : آية 27]
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ (27)(4/535)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 536
قلت : «مختلفا» : نعت «ثمرات». و«مختلف ألوانه» : صفة لمحذوف ، أي : صنف مختلف.
يقول الحق جل جلاله : أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ بالماء ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها أي : أجناسها ، كالرمان ، والتفاح ، والتين ، والعنب ، وغيرها مما لا يحصى ، أو : ألوانها : هيئاتها من الحمرة والصفرة ونحوهما. وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ طرق مختلفة اللون. جمع : جدّة ، كمدّة ومدد. والجدة : الطريقة والخطة ، تكون فى الجبل ، تخالف لون ما يليها. وكل طريقة من سواد أو بياض فهى جدة. قاله الهروي. وهى مبتدأ وخبر ، أي : وطرق بِيضٌ وَحُمْرٌ كائنة من الجبال.
وَغَرابِيبُ سُودٌ أي : ومنها غرابيب سود ، أي : ومن الطرق سود غرابيب جمع : غربيب ، وهى الذي أبعد فى السواد وأغرب ، ومنه : الغراب. قال الهروي : هى الجواد ذوات الصخور السود ، والغربيب : شديدة السواد. ه.
وفى الصحاح : تقول هذا أسود غربيب ، أي : شديد السواد ، وإذا قلت : غرابيب سود تجعل السود بدلا من غرابيب لأن توكيد الألوان لا يتقدم. ه. تقول : أصفر فاقع ، وأسود حالك ، ولا يتقدم الوصف ، ونقل الكواشي عن أبى عبيد :
أن فى الآية تقديما وتأخيرا ، تقديره : وسود غرابيب. وفائدته : أن يكون المؤكد مضمرا ، والمظهر تفسيرا له ، فيدل على الاعتناء به ، لكونهما معا يدلان على معنى واحد ه. ولا بد من تقدير حذف مضاف فى قوله : وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ أي : من الجبال ذو جدد بيض ، وحمر ، وسود غرابيب حتى يؤول إلى قولك : ومن الجبال مختلف ألوانه ، كما قال : ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها.
[سورة فاطر (35) : آية 28]
وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28)
وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ ، أي : ومنهم صنف مختلف ألوانه بالحمرة والصفرة والبياض والسواد. كَذلِكَ أي : كاختلاف الثمرات والجبال. قال القشيري : تخصيص الفعل بهيئته وألوانه من أدلة قصد الفاعل وبرهانه. فإتقان الفعل وإحكامه شواهد الصنع وإعلامه. وكذلك أيضا الناس والدواب والأنعام ، بل جميع المخلوقات ، متجانس الأعيان ، مختلف الصفات ، وهو دليل ثبوت منشئها بنعت الجلال ه.
الإشارة : ألم تر أن اللّه أنزل من سماء الغيوب ماء الواردات الإلهية ، فأخرجنا به ثمرات ، وهى العلوم والأذواق والوجدان ، مختلف ألوانها ، فمنها علوم الشرائع ، وتحقيق مسائلها ، ومنها علم العقائد ، وتشييد أدلتها وبراهينها ، ومنها علوم اللسان بإتقان قواعدها ، ومنها علم القلوب وتصفيتها من العيوب ، وهو علم الطريقة ، ومنها علم الأسرار ، وهى أسرار الذات والصفات ، وهو علم الحقيقة. ومن جبال العقل طرق بيض ، وحمر ، وسود ، فالبيض : طرق الكشف والبيان ، وحلاوة الذوق والوجدان ، والحمر : طرق الدليل والبرهان لأنها قد تظهر وتخفى ، والسود الغرابيب : عقول(4/536)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 537
الفلاسفة والطبائعيين ، أهل الحدس والتخمين ، إذا لم يقتدوا بالكتاب المبين ، وشرع النبي الأمين. أولئك هم الضالون المضلّون.
ولمّا كان النظر فى هذه المصنوعات إنما يكون بالعلم ، ذكر أهله ، فقال :
إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ ...
يقول الحق جل جلاله : إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ أي : يخافه مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ لأنهم هم الذين يتفكرون فى عجائب مصنوعاته ، ودلائل قدرته ، فيعرفون عظمته وكبرياءه ، وجلاله وجماله ، ويتفكرون فيما أعد اللّه لمن عصاه من العذاب ومناقشة الحساب ، وفيما أعد لمن خافه وأطاعه من الثواب ، وحسن المآب ، فيزدادون خشية ، ورهبة ، ومحبة ، ورغبة فى طاعته ، وموجب رضوانه ، دون من عداهم من الجهال. وفى الحديث عنه صلى اللّه عليه وسلم :
«أعلمكم باللّه أشدكم له خشية» «1» وقال صلى اللّه عليه وسلم : «رأس الحكمة مخافة اللّه» «2».
وقال الربيع بن أنس : من لم يخش اللّه فليس بعالم ، وقال ابن عباس فى تفسير الآية : كفى بالزهد علما ، وقال ابن مسعود : كفى بخشية اللّه علما ، وبالاعتذار جهلا. وفى الحكم : «خير علم ما كانت الخشية معه». وقال فى التنوير : اعلم أن العلم حيثما تكرر فى الكتاب والسنّة فإنما المراد به العلم النافع ، الذي تقارنه الخشية ، وتكتنفه المخافة. قال تعالى : إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ. بيّن سبحانه أن الخشية تلازم العلم ، وفهم من هذا أن العلماء إنما هم أهل الخشية. ه.
وقال الشيخ ابن عباد رضي اللّه عنه : واعلم أن العلم النافع ، المتفق عليه فيما سلف وخلف ، إنما هو العلم الذي يؤدى بصاحبه إلى الخوف والخشية ، وملازمة التواضع والذلة ، والتخلق بأخلاق الإيمان ، إلى ما يتبع ذلك من بغض الدنيا والزهادة فيها ، وإيثار الآخرة عليها ، ولزوم الأدب بين يدى اللّه تعالى ، إلى غير ذلك من الصفات العلية ، والمناحى السنية. ه.
___________
(1) قال الحافظ ابن حجر : لم أجده هكذا ، وفى الصحيح : «أنا أعلمكم باللّه وأشدكم له خشية». حاشية الكشاف (3/ 611).
(2) أخرجه البيهقي فى الشعب (1/ 471/ ح 743 ، 744) عن ابن مسعود ، موقوفا ومرفوعا. قال العراقي فى المغني : رواه أبو بكر بن لال الفقيه فى مكارم الأخلاق ، والبيهقي فى الشعب ، وضعّفه من حديث ابن مسعود ، ورواه فى دلائل النبوة ، من حديث عقبة بن عامر ، ولا يصح أيضا.(4/537)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 538
وقال فى لطائف المنن : شاهد العلم ، الذي هو مطلب اللّه تعالى : الخشية ، وشاهد الخشية : موافقة الأمر ، فأما علم تكون معه الرغبة فى الدنيا ، والتملق لأربابها ، وصرف الهمة لاكتسابها ، والجمع ، والادخار ، والمباهاة ، والاستكثار ، وطول الأمل ، ونسيان الآخرة ، فما أبعد من هذا نعته من أن يكون من ورثة الأنبياء! وهل ينتقل الشيء الموروث إلى الوارث إلا بالصفة التي كان بها عند الموروث عنه. ومثل من هذه الأوصاف أوصافه من العلماء كالشمعة ، تضىء على غيرها ، وهى تحرق نفسها. جعل اللّه العلم - الذي علمه من هذا وصفه - حجة عليه ، وسببا فى تكثير العقوبة لديه. ه.
وتقديم اسم اللّه تعالى ، وتأخير العلماء ، يؤذن أن معناه : إن الذين يخشون اللّه من عباده العلماء دون غيرهم.
ولو عكس ، بأن قال : إنما يخشى العلماء اللّه ، لكان المعنى : أنهم لا يخشون إلا اللّه.
وقرأ أبو حنيفة وعمر بن عبد العزيز : بنصب «العلماء» ورفع «اللّه». والخشية فى هذه القراءة بمعنى التعظيم.
والمعنى : إنما يعظم اللّه من عباده العلماء. وعنه صلى اللّه عليه وسلم : «يقول اللّه للعلماء يوم القيامة - إذا قعد على كرسيّه ، يفصل قضاء عباده : إنى لم أجعل علمى وحلمى فيكم إلا وأنا أريد أن أغفر لكم ، على ما كان فيكم ، ولا أبالى» «1» ، قال المنذرى : انظر إلى قوله : «علمى وحلمى» يتضح لك بإضافته إليه أنه لم يرد به علم أكثر أهل الزمان المجرّد عن العمل به والإخلاص. وفى رواية : «لم أجعل حكمتى فيكم إلا لخير أريده بكم ، ادخلوا الجنة بما فيكم». وقال - عليه الصلاة والسلام - : «يوزن يوم القيامة مداد العلماء ودماء الشهداء ، فيرجع مداد العلماء على دماء الشهداء» «2».
إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ ، هو تعليل لوجوب الخشية لدلالته على عقوبة العصاة لعزته وغلبته ، وإثابة أهل الطاعة ، والعفو عنهم لعظيم غفرانه ، والمعاقب والمثيب حقه أن يخشى.
الإشارة : العلماء على قسمين علماء بأحكام اللّه ، وعلماء باللّه ، العلماء بالأحكام يخشون غضبه وعقابه ، والعلماء باللّه يخشون إبعاده واحتجابه ، العلماء بالأحكام يتقون مواطن الآثام ، والعلماء باللّه يتقون سوء الأدب فى حضرة الملك العلام. فخشية العلماء باللّه أرق وأشد. العلماء باللّه أخذوا علمهم من اللّه ، والعلماء بالأحكام أخذوا علمهم عن الأموات. قال الشيخ أبو يزيد رضي اللّه عنه : فى علماء أهل الرواية : مساكين أخذوا علمهم ميت عن ميت ، وأخذنا علمنا عن الحي الذي لا يموت. ه.
___________
(1) أخرجه للطبرانى فى الكبير (1381) من حديث ثعلبة بن الحكم الصحابي. قال الهيثمي فى مجمع الزوائد (1/ 126) : ورجاله موثقون.
(2) عزاه السيوطي فى الجامع الصغير (ح/ 10026) للمرهبى ، عن عمران بن حصين ، وابن عبد البر ، فى العلم ، عن أبى الدرداء ، وابن الجوزي فى العلل ، عن النعمان بن بشير ، وضعّفه.(4/538)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 539
والفرق بين الخوف والرهبة والخشية : أن الخوف من العقاب ، والرهبة من العتاب ، والخشية من الإبعاد. قال القشيري : والفرق بين الخشية والرهبة : أنّ الرهبة : خوف يوجب هرب صاحبه ، فيجرى فى تفرقته. والخشية إذا حصلت كبحت صاحبها ، فيبقى مع اللّه. فقدمت الخشية على الرهبة فى الجملة ، والخوف قضية الإيمان ، قال تعالى : وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ «1». والخشية قضية العلم والهيبة. ه. ثم قال : العالم يخاف تقصيره فى حقّ ربه ، والعارف يخشى من سوء أدبه وترك احترام ، وانبساط فى غير وقت ، بإطلاق لفظ ، أو ترخيص بترك الأولى. ه.
قال الورتجبي : الخوف عموم ، والخشية خصوص. وقد قرن سبحانه الخشية بالعلم ، أي : العلم باللّه وجلاله وقدره وربوبيته وعبوديته له. وحقيقة الخشية : وقوع إجلال الحق فى قلوب العارفين ، ممزوجا بسنا التعظيم ، ورؤية الكبرياء والعظمة ، ولا يحصل ذلك إلا لمن شاهد القدم ، والأزل ، والبقاء ، والأبد ، فمن زاد علمه باللّه زاد خشية ، لقوله صلى اللّه عليه وسلم : «أنا أعرفكم باللّه وأخشاكم منه». ه. وفى الحديث : قيل يا رسول اللّه : أي الأعمال أفضل؟ قال : «العلم» قيل : أىّ العلم؟ قال : «العلم باللّه سبحانه» «2». وقال صلى اللّه عليه وسلم : «ما بال أقوام يتنزهون عن الشيء أصنعه؟ واللّه إنى لأعلمكم باللّه ، وأشدّكم له خشية» «3».
ثم قال «4» : عن جعفر الصادق : العلم أمر ترك الحرمة فى العبادات ، وترك الحرمة فى الحياء من الحق ، وترك الحرمة فى متابعة الرسول ، وترك الحرمة فى خدمة الأولياء الصدّيقين. ه. ومعى كلامه : أن العلم الحقيقي هو الذي يأمن صاحبه من انتهاك حرمة العبادات ، ومن هتك حرمة الاحتشام من اللّه ورسوله وأوليائه. ومن أراد من العلماء السلامة من الاغترار بالعلم فليطالع شرح ابن عباد ، فى قول الحكم : «العلم إن قارنته الخشية فلك ، وإلا ، فعليك». وباللّه التوفيق.
___________
(1) من الآية 175 من سورة آل عمران.
(2) ذكره ابن عراق فى تنزيه الشريعة (كتاب العلم ، 1/ 278 ، القسم الثالث) وعزاه لابن حبان ، والديلمي عن أنس ، عن طريق عباد ابن عبد الصمد. قال فى تنزيه الشريعة (1/ 70) : «عباد بن عبد الصمد عن أنس ، بنسخة ، أكثرها موضوع. قاله ابن حبان».
قلت : معني الحديث صحيح.
(3) أخرجه البخاري فى (الاعتصام ، باب ما يكره من التعمق والتنازع والغلو فى الدين والبدع ، ح 7301) ، ومسلم فى (الفضائل ، باب علمه صلى اللّه عليه وسلم باللّه وشدة خشيته ، 4/ 1829 ، ح 2356) من حديث السيدة عائشة بلفظ : «... لأنا أعلمهم باللّه ، وأشدهم له خشية». [.....]
(4) أي : الورتجبي.(4/539)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 540
ولمّا ذكر العلماء ، ذكر حملة القرآن ، فقال :
[سورة فاطر (35) : الآيات 29 الى 31]
إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (30) وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (31)
يقول الحق جل جلاله : إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ أي : يداومون على تلاوة القرآن وَأَقامُوا الصَّلاةَ أتقنوها فى أوقاتها ، وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ فرضا ونفلا سِرًّا وَعَلانِيَةً مسرّين النفل ، ومعلنين الفرض ، ولم يقنعوا بتلاوته عن العمل به. وخبر «إن» : قوله : يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ لن تكسد ، وهو ثواب أعمالهم ، يعنى : يطلبون تجارة ينتفى عنها الكسد ، وتنفق عند اللّه.
لِيُوَفِّيَهُمْ متعلق ب : «تبور» ، أي : ليوفيهم بإنفاقها عند اللّه أُجُورَهُمْ ثواب أعمالهم وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بتفسيح القبور ، أو : تشفيعهم فى أهلهم ، ومن أحسن إليهم ، أو : تضعيف حسناتهم ، أو : بتحقيق وعد لقائه.
أخرج ابن أبى شيبة عن بريدة ، قال : سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول : «إن القرآن يلقى صاحبه يوم القيامة ، حين ينشق عنه القبر ، كالرجل الشاحب ، يقول له : هل تعرفنى؟ فيقول : ما أعرفك ، فيقول : أنا صاحبك الذي أظمأتك فى الهواجر ، وأسهرت ليلتك ، فإنّ كل تاجر وراء تجارته. قال : فيعطى الملك بيمينه ، والخلد بشماله ، ويوضع على رأسه تاج الوقار ، ويكسى والداه حلّتين ، لا تقوّم لهما الدنيا ، فيقولان : بم كسينا هذا؟ فيقال لهما : بأخذ ولدكما القرآن. ثم يقال له : اقرأ ، واصعد فى درج الجنة وغرفها ، فهو فى صعود مادام يقرأ» «1».
وذكر فى بعض الأخبار : أن حملة القرآن يحشرون يوم القيامة على كثبان المسك ، وأنوار وجوههم تغشى النظار ، فإذا أتوا إلى الصراط تلقتهم الملائكة الذين وكلوا بحملة القرآن ، فتأخذ بأيديهم ، وتوضع التيجان على
___________
(1) أخرجه أحمد فى المسند (5/ 348) ، وأخرجه ، مختصرا ، ابن ماجه فى (الأدب ، باب ثواب القرآن 2/ 1242 ح 3781) والدارمي فى (فضائل القرآن ، باب فى فضل سورة البقرة وآل عمران ، 2/ 543 ح 3391) والحاكم (1/ 568) وصححه على شرط مسلم ، ووافقه الذهبي.(4/540)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 541
رؤوسهم ، والحلل على أجسادهم ، وتقرب إليهم خيل من نور الجنة ، عليها سرج المسك الأذفر ، ألجمتها من اللؤلؤ والياقوت ، فيركبونها ، وتطير بهم على الصراط ، ويجوز فى شفاعة كل واحد منهم مائة ألف ممن استوجب النار ، وينادى مناد : هؤلاء أحباء اللّه ، الذين قرأوا كتاب اللّه ، وعملوا به ، لا خوف عليهم ولا هم يحزنون. ه.
إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ ، غفور لهفواتهم ، شكور لأعمالهم ، يعطى الجزيل ، على العمل القليل.
وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ أي : القرآن ، و«من» : للتبيين ، هُوَ الْحَقُّ لا مرية فيه ، مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ لما تقدمه من الكتب ، إِنَّ اللَّهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ عالم بالظواهر والبواطن ، فعلمك وأبصر أحوالك ، ورآك أهلا لأن يوحى إليك هذا الكتاب المعجز ، الذي هو عيار على سائر الكتب.
الإشارة : كل ما ورد فى فضل أهل القرآن ، فالمراد به فى حق من عمل به ، وأخلص فى قراءته ، وحافظ على حدوده ، ورعاه حق رعايته. وقد ورد فيمن لم يعمل به ، أو قرأه لغير اللّه ، وعيد كبير ، وورد أنهم أول من يدخل جهنم. قال شيخ شيوخنا ، سيدى عبد الرحمن الفاسى ، بعد ذكر الحديثين فى فضل حامل القرآن : وهذا مقيد بالعمل ، أي : فإنّ منزلتك عند آخر آية مما عملت ، لا مما تلوت بلسانك وخالفت بعملك لأنه لو كان كذلك لا نخرقت أصول الدين ، ويؤدى إلى أن من حفظ سرد القرآن اليوم ، يكون أفضل من كثير من الصحابة الأخيار ، والصالحين الأبرار فإن كثيرا من خيارهم مات قبل حفظ جميعه. ه.
ثم فصّل أحوالهم ، فقال :
[سورة فاطر (35) : الآيات 32 الى 35]
ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (33) وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ (35)(4/541)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 542
يقول الحق جل جلاله : ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ أي : أوحينا إليك القرآن ، وأورثناه من بعدك ، أي : حكمنا بتوريثه الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا ، وهم أمة محمد صلى اللّه عليه وسلم من الصحابة والتابعين ، وتابعيهم ، ومن بعدهم إلى يوم الدين لأنّ اللّه اصطفاهم على سائر الأمم ، وجعلهم أمة وسطا ليكونوا شهداء على الناس ، واختصهم بالانتساب إلى أكرم رسله. قال ابن عطية : الكتاب هنا يراد به معانى القرآن وأحكامه وعقائده ، فكأن اللّه تعالى أعطى أمة محمد القرآن ، وهو قد تضمن معانى الكتب المنزلة قبله ، فكأنه ورّث أمة محمد الكتاب الذي كان فى الأمم قبلها. ه.
ثم رتّبهم مراتب ، فقال : فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ بالتقصير فى العمل به ، وهو المرجأ لأمر اللّه ، وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وهو الذي خلط عملا صالحا وآخر سيئا ، وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ ، بأن جمع بين علمه والعمل به ، وإرشاد العباد إلى اتباعه. وهذا أوفق بالحديث ، فقد روى عن عمر رضي اللّه عنه أنه قال على المنبر - بعد قراءة هذه الآية :
قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : «سابقنا سابق ، ومقتصدنا ناج ، وظالمنا مغفور له» «1» وعنه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال : «السابق يدخل الجنة بغير حساب ، والمقتصد يحاسب حسابا يسيرا ثم يدخل الجنة ، والظالم يحبس ، حتى يظن أنه لن ينجو ، ثم تناله الرحمة ، فيدخل الجنة» رواه [أبو الدرداء] «2». وقال ابن عباس رضي اللّه عنه : السابق ، المخلص ، والمقتصد : المرائى ، والظالم : الكافر النعمة غير الجاحد له ، لأنه حكم للثلاثة بدخول الجنة. وقال الربيع بن أنس : الظالم : صاحب الكبائر ، والمقتصد : صاحب الصغائر ، والسابق : المجتنب لهما. وقال الحسن : الظالم : من رجحت سيئاته ، والسابق :
من رجحت حسناته ، والمقتصد : من استوت حسناته وسيئاته. وسئل أبو يوسف عن هذه الآية فقال : كلهم مؤمنون.
وأما صفة الكفار فبعد هذا ، وهو قوله : وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ «3». وأما الطبقات الثلاث فهم من الذين اصطفى من عباده لأنه قال : فمنهم ، ومنهم ، ومنهم ، والكل راجع إلى قوله : الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فهم أهل الإيمان ، وعليه الجمهور.
وإنما قدّم الظالم للإيذان بكثرتهم ، وأنّ المقتصد : قليل بالإضافة إليهم ، والسابقون أقل من القليل. وقال ابن عطاء : إنما قدم الظالم لئلا ييأس من فضله. وقيل : إنما قدّمه ليعرّفه أن ذنبه لا يبعده من ربّه. وقيل : لأن أول
___________
(1) عزاه السيوطي فى الدر المنثور (5/ 473) لسعيد بن منصور ، وابن أبى شيبة ، وابن المنذر ، والبيهقي فى البعث ، موقوفا على سيدنا عمر. وأخرجه البغوي فى تفسيره (6/ 421) مرفوعا. وعزى السيوطي المرفوع للعقيلى فى الضعفاء (3/ 443) وبن لال ، وابن مردويه ، والبيهقي.
(2) فى الأصول : [أبو داود] والصواب ما أثبت ، قلت : والحديث أخرجه أحمد فى المسند (5/ 194 ، 198 و6/ 444) ، قال الهثيمى فى المجمع (7/ 96) : «رواه أحمد بأسانيد ، رجال أحدها رجال الصحيح». وأخرجه الحاكم (2/ 426) والطبري (22/ 137) والبغوي فى التفسير (6/ 421) كلهم من حديث أبى الدرداء رضي اللّه عنه.
(3) الآية 36 من سورة فاطر.(4/542)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 543
الأحوال معصية ، ثم توبة ، ثم استقامة. وقال سهل : السابق : العالم ، والمقتصد : المتعلم ، والظالم : الجاهل. وقال أيضا :
السابق : الذي اشتغل بمعاده ، والمقتصد : الذي اشتغل بمعاشه ومعاده ، والظالم : الذي اشتغل بمعاشه عن معاده.
وقيل : الظالم : الذي يعبده على الغفلة والعادة ، والمقتصد : الذي يعبده على الرغبة والرهبة ، والسابق : الذي يعبده على الهيبة والاستحقاق. وقيل : الظالم : من أخذ الدنيا حلالا وحراما ، والمقتصد : المجتهد ألا يأخذها إلا من حلال ، والسابق : من أعرض عنها جملة.
وقيل : الظالم : طالب الدنيا ، والمقتصد : طالب الآخرة ، والسابق : طالب الحق لا يبغى به بدلا. جعلنا اللّه منهم بمنّه وكرمه. وقال عكرمة والحسن وقتادة : الأقسام الثلاثة فى جميع العباد فالظالم لنفسه : الكافر ، والمقتصد :
المؤمن العاصي ، والسابق : التقى على الإطلاق. وقالوا هذه الآية نظير قوله تعالى : وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً «1» والتحقيق ما تقدم.
وقوله : بِإِذْنِ اللَّهِ أي : بأمره ، أو : بتوفيقه وهدايته ذلِكَ أي : إيراث الكتاب والاصطفائية. أو السبق إلى الخيرات هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ الذي لا أكبر منه ، وهو جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها أي : الفرق الثلاث لأنها ميراث ، والعاق والبار فى الميراث سواء ، إذا كانوا مقرين فى النسب. وقرأ أبو عمرو بالبناء للمفعول.
يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ جمع أسورة ، جمع سوار ، مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً أي : من ذهب مرصّع باللؤلؤ. وقرأ نافع بالنصب «2» ، عطف على محل أساور ، أي : يحلون أساور ولؤلؤا. وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ لما فيه من اللذة والليونة والزينة.
وَقالُوا بعد دخولهم الجنة : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ خوف النار ، أو : خوف الموت ، أو :
الخاتمة ، أو : هم الرزق. والتحقيق : أنه يعم جميع الأحزان والهموم ، دنيوية أو أخروية ، وعن ابن عمر : قال النبي صلى اللّه عليه وسلم : «ليس على أهل لا إلا اللّه وحشة ، فى قبورهم ، ولا فى محشرهم ، وكأنى بأهل لا إله إلا اللّه يخرجون من قبورهم ، وهم ينفضون التراب عن وجوههم ، فيقولون : الحمد للّه الذي أذهب عنا الحزن» «3». إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ ، يغفر الجنايات ، وإن كثرت ، ويقبل الطاعات ، ويشكر عاملها ، وإن قلّت. الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ
___________
(1) الآية 7 من سورة الواقعة.
(2) وهى أيضا قراءة عاصم. وقرأ الباقون بالجر عطفا على «ذهب». انظر الإتحاف (2/ 393).
(3) أخرجه البغوي فى تفسيره (6/ 424) وعزاه الحافظ ابن حجر ، فى الكافي الشاف (ص 139) لأبى يعلى ، وابن أبى حاتم ، والبيهقي فى أول الشعب ، والطبراني فى الأوسط.(4/543)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 544
أي : دار الإقامة لا نبرح عنها ولا نفارقها. يقال : أقمت إقامة ومقاما ومقامة ، مِنْ فَضْلِهِ أي : من عطائه وإفضاله ، لا باستحقاق أعمالنا ، لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ تعب ومشقة وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ إعياء وكلل من التعب ، وفترة إذ لا تكليف فيها ولا كد. نفى عنهم أولا التعب والمشقة ، وثانيا ما يتبعه من الإعياء والملل.
وأخرج البيهقي : أن رجلا قال يا رسول اللّه : إن النوم مما يقرّ اللّه به أعيننا ، فهل فى الجنة من نوم؟ فقال : «إن النوم شريك الموت - أو أخو الموت - وإن أهل الجنة لا ينامون - أو : ليس فى الجنة موت». وفى رواية أخرى ، قال : فما راحتهم؟ قال : «ليس فيها لغوب ، كل أمرهم راحة» «1» ، فالنوم ينشأ من نصب الأبدان ، ومن ثقل الطعام ، وكلاهما منتفيان فى الجنة.
قال الضحاك : إذا دخل أهل الجنة الجنة ، استقبلهم الولدان والخدم ، كأنهم اللؤلؤ المكنون ، فيبعث اللّه ملكا من الملائكة ، معه هدية من رب العالمين ، وكسوة من كسوة الجنة ، فيلبسه ، فيريد أن يدخل الجنة فيقول الملك : كما أنت ، فيقف ، ومعه عشرة خواتم ، فيضعها فى أصابعه ، مكتوب : طبتم فادخلوها خالدين ، وفى الثانية : ادخلوها بسلام ، ذلك يوم الخلود ، وفى الثالثة : رفعت عنكم الأحزان والهموم ، وفى الرابعة : وزوجناهم بحور عين ، وفى الخامسة : ادخلوها بسلام آمنين ، وفى السادسة : إنى جزيتهم اليوم بما صبروا ، وفى السابعة : أنهم هم الفائزون. وفى الثامنة : صرتم آمنين لا تخافون أبدا ، وفى التاسعة : رفقتم النبيين والصديقين والشهداء ، وفى العاشرة : سكنتم فى جوار من لا يؤذى الجيران. فلما دخلوا قالوا : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ .. إلى : لُغُوبٌ. ه.
الإشارة : قال الورتجبي : الاصطفائية تقدمت الوراثة لمحبته ومشاهدته ، ثم خاطبهم بما له عندهم وما لهم عنده. وهذا الميراث الذي أورثهم من جهة نسب معرفتهم به ، واصطفائيته إياهم ، وهو محل القرب والانبساط ، لذلك قال : ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا ، ثم قسمهم على ثلاثة أقسام : ظالم ، ومقتصد ، وسابق. والحمد للّه الذي جعل الظالم من أهل الاصطفائية. ثم قال : فالظالم عندى - واللّه أعلم - الذي وازى القدم بشرط إرادة حمل وارد جميع الذات والصفات ، وطلب كنه الأزلية بنعت إدراكه ، فأى ظالم أعظم منه؟ إذ طلب شيئا مستحيلا ، ألا ترى كيف وصف سبحانه آدم بهذا الظلم بقوله : وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا «2» ، وهذا من كمال شوقه إلى حقيقة الحق ، وكمال عشقه ، ومحبة جلاله. ه.
___________
(1) عزاه السيوطي فى الدر (5/ 476) لابن أبى حاتم ، وابن مردويه ، والبيهقي فى البعث ، عن عبد اللّه بن أبى أوفى رضي اللّه عنه.
(2) الآية 72 من سورة الأحزاب.(4/544)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 545
قلت : وهذا النوع من المتوجهين غلب عليه سكر المحبة ، ودهش العشق ، فادعى قوة الربوبية ، وطلب إدراك الألوهية ، ونسى ضعف عبوديته ، فكان ظالما لنفسه ، من هذا المعنى إذ العبودية لا تطيق إدراك كنه الربوبية. ولو أنه طلب الوصول إليه من جهة فقره ، وضعفه ، لكان مقتصدا ، ولو أنه طلب الوصول إلى اللّه باللّه لكان سابقا.
فالأقسام الثلاثة تجرى فى المتوجهين فالظالم لنفسه : من غلب سكره على صحوه فى بدايته ، والمقتصد من غلب صحوه على سكره فى بداية سيره ، والسابق من اعتدل سكره مع صحوه فى نهايته أو سيره.
أو الظالم : السالك المحض ، والمقتصد : المجذوب المحض ، والسابق : الجامع بينهما إذ هو الذي يصلح للتربية. أو الظالم : الذي ظاهره خير من باطنه ، والمقتصد : الذي استوى ظاهره وباطنه ، والسابق : هو الذي باطنه خير من ظاهره.
وعن عليّ - كرم اللّه وجهه - : الظالم : الآخذ بأقوال النبي صلى اللّه عليه وسلم ، والمقتصد : الآخذ بأقواله وأفعاله ، والسابق :
الآخذ بأقواله وأفعاله وأخلاقه. وقال القشيري : ويقال : الظالم : من غلبت زلّاته ، والمقتصد : من استوت حالاته ، والسابق : من زادت حسناته. أو : الظالم : من زهد فى دنياه ، والمقتصد : من رغب فى عقباه ، والسابق : من آثر على الدارين مولاه. أو : الظالم : من نجم كوكب عقله ، والمقتصد : من طلع بدر علمه ، والسابق : من ذرّت شمس معرفته.
أو : الظالم : من طلبه ، والمقتصد : من وجده ، والسابق : من بقي معه. أو : الظالم : من ترك الزلة ، والمقتصد : من ترك الغفلة ، والسابق : من ترك العلاقة. أو : الظالم : من جاد بنفسه ، والمقتصد : من لم يبخل بقلبه ، والسابق : من جاد بروحه. أو : الظالم : من له علم اليقين ، والمقتصد : من له عين اليقين ، والسابق : من له حق اليقين. أو : الظالم.
بترك الحرام ، والمقتصد : بترك الشّبهة ، والسابق : بترك الفضل فى الجملة.
أو : الظالم : صاحب سخاء ، والمقتصد : صاحب جود ، والسابق : صاحب إيثار. أو : الظالم : صاحب رجاء ، والمقتصد : صاحب بسط ، والسابق : صاحب أنس. أو : الظالم : صاحب خوف ، والمقتصد : صاحب خشية ، والسابق :
صاحب هيبة. أو : الظالم له المغفرة ، والمقتصد : له الرحمة ، والسابق : له القربة ، أو : الظالم : طالب النجاة ، والمقتصد : طالب الدرجات ، والسابق : طالب المناجاة. أو : الظالم : أمن من العقوبة ، والمقتصد : طالب المثوبة ، والسابق : متحقق بالقربة. أو : الظالم : صاحب التوكل ، والمقتصد : صاحب التسليم ، والسابق : صاحب التفويض ، أو :
الظالم : صاحب تواجد ، والمقتصد : صاحب وجد ، والسابق : صاحب وجود - غير محجوب عنه البتة - . أو : الظالم :
مجذوب إلى فعله ، والمقصد مكاشف بوصفه ، والسابق : مستهلك فى حقه ، الذي هو وجوده. أو : الظالم : صاحب(4/545)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 546
المحاضرة ، والمقتصد : صاحب المكاشفة ، والسابق : صاحب المشاهدة. وبعضهم قال : يراه الظالم فى الآخرة فى كل جمعة ، والمقتصد : فى كل يوم مرة ، والسابق : غير محجوب عنه البتة. ه. باختصار.
والتحقيق : أن الأقسام الثلاثة تجرى فى كل من العارفين ، والسائرين ، والعلماء ، والعباد ، والزهاد ، والصالحين.
إذ كل فن له بداية ووسط ونهاية. ذلك السبق إلى اللّه هو الفضل الكبير ، جنات المعارف يدخلونها ، يحلّون فيها فيها من أساور من ذهب ، وهى الأحوال ، ولؤلؤا ، وهى المقامات ، ولباسهم فيها حرير ، وهى خالص أعمال الشريعة ولبها. وقالوا : الحمد للّه الذي أذهب عنا الحزن إذ لا حزن مع العيان ، ولا أغيار مع الأنوار ، ولا أكدار مع الأسرار ، ما تجده القلوب من الأحزان فلما منعت من العيان. ولابن الفارض رضي اللّه عنه فى وصف الخمرة :
وإن خطرت يوما على خاطر امرئ أقامت بها الأفراح وارتحل الهمّ
وقال أيضا :
فما سكنت والهمّ يوما بموضع ، كذلك لم يسكن مع النغم الغمّ «1»
إنّ ربنا لغفور بتغطية العيوب ، شكور بكشف الغيوب ، الذي أحلنا دار المقامة ، هى التمكين فى الحضرة ، بفضله ، لا بحول منا ولا قوة ، لا يمسنا فيها نصب. قال القشيري : إذا أرادوا أن يروا مولاهم لا يحتاجون إلى قطع مسافة ، بل هم فى غرفهم يشاهدون مولاهم ، ويلقون فيها تحية وسلاما ، وإذا رأوه لا يحتاجون إلى تحديق مقلة من جهة ، كما هم يرونه بلا كيفية. ه.
ثم ذكر أضدادهم ، فقال :
[سورة فاطر (35) : الآيات 36 الى 37]
وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (37)
___________
(1) فى الأصول الخطية : [كذلك لا يسكن مع النعم الغم ].(4/546)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 547
قلت : «فيموتوا» : جواب النفي.
يقول الحق جل جلاله : وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ ، يخلدون فيها ، لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا أي : لا يحكم بموت ثان فيستريحوا ، وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها ساعة ، بل كلما خبت زيد إسعارها ، وهذا مثل قوله : لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ «1» ، وذكر عياض انعقاد الإجماع على أن الكفار لا تنفعهم أعمالهم ، ولا يثابون عليها. ولا تخفيف عذاب. وقد ورد فى الصحيح سؤال عائشة عن ابن جدعان ، وأنه كان يصل الرحم ، ويطعم المساكين ، فهل ذلك نافعه ، فقال عليه السّلام : «لا ، فإنه لم يقل يوما : رب اغفر لى خطيئتى يوم الدين». ثم قال عياض : ولكن بعضهم يكون أشد عذابا ، بحسب جرائمهم.
وذكر أبو بكر البيهقي : أنه يجوز أن يراد بما ورد فى الآيات والأخبار من بطلان خيرات الكفار : أنهم لا يتخلصون بها من النار ، ولكن يخفف عنهم ما يستوجبونه بجناية سوى الكفر ، ودافعه المازري. قال شارح الصغاني بعد هذا النقل : وعلى ما قاله عياض ، فما ورد فى أبى طالب من النفع بشفاعته صلى اللّه عليه وسلم ، بسبب ذبّه عنه ونصرته له ، مختص به. ه. ويرد عليه ما ورد من التخفيف فى حاتم بكرمه ، فالظاهر ما قاله البيهقي. واللّه أعلم.
ومثل ما قاله فى أبى طالب ، قيل فى انتفاع أبى لهب بعتق ثويبة ، كما فى الصحيح «2».
والحاصل : أن التخفيف يقع فى بعض الكفار ، لبره فى الدنيا ، تفضلا منه تعالى ، لا فى مقابلة عملهم لعدم شرط قبوله. انظر الحاشية.
كَذلِكَ أي : مثل ذلك الجزاء الفظيع ، نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ مبالغ فى الكفران وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها : يستغيثون ، فهو يفتعلون ، من : الصراخ ، وهو الصياح بجهد ومشقة. فاستعمل فى الاستغاثة لجهر صوت المستغيث. يقولون : رَبَّنا أَخْرِجْنا منها ، وردنا إلى الدنيا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ ، فنؤمن بعد
___________
(1) من الآية 75 من سورة الزخرف.
(2) كانت السيدة (ثويبة) مولاة لأبى لهب ، عم الرسول صلى اللّه عليه وسلم ، فأعتقها حين بشرته بمولد النبي صلى اللّه عليه وسلم - على أصح الأقوال - حين قالت لأبى لهب :
أشعرت أن آمنة قد ولدت غلاما لأخيك عبد الله ، فقال لها : اذهبي فأنت حرة. ويؤكد ذلك ما أخرجه الإمام البخاري فى (النكاح ، باب وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ ح 5101) عن عروة بن الزبير «أن ثوبية مولاة أبى لهب ، وكان أبو لهب أعتقها ، فأرضعت النبي صلى اللّه عليه وسلم ، فلما مات أبو لهب ، أريه بعض أهله بشر حيبة. قال له : ماذا لقيت؟ قال أبو لهب : لم ألق بعدكم [راحة - رخاء] غير أنى سقيت فى هذه بعتقي ثويبة» وأشار إلى النقيرة التي بين الإبهام والتي تليها من الأصابع.
وقد نظم شمس الدين محمد بن ناصر فى هذا المعنى شعرا ، قال فيه :
إذا كان هذا كافرا جاء ذمه وتبت يداه فى الجحيم مخلدا
أتى أنه فى يوم الاثنين دائما يخفف عنه للسرور بأحمدا
فما الظن بالعبد الذي كان عمره بأحمد مسرورا ومات موحدا
انظر : شرح المواهب (1/ 138 - 139) وأيضا : الطبقات الكبرى لابن سعد (1/ 108) وكتاب «أعظم المرسلين» لشيخنا البركة الدكتور «جودة المهدى» (177 - 79).(4/547)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 548
الكفر ، ونطيع بعد المعصية. فيجابون بعد قدر عمر الدنيا : أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ أي : أو لم نعمركم تعميرا يتذكر فيه المتذكر. وهو متناول لكل عمر يتمكن منه المكلّف من إصلاح شأنه ، والتدبر فى آياته ، وإن قصر ، إلا أن التوبيخ فى المتطاول أعظم. وقيل : هو ثمانى عشرة سنة. وقيل : ما بين العشرين إلى الستين ، وقيل : أربعون. وروى أن العبد إذا بلغ أربعين سنة ولم يتب ، مسح الشيطان على وجهه. وقال : وجه لا يفلح أبدا ، وقيل : ستون. وعنه صلى اللّه عليه وسلم : «العمر الذي أعذر اللّه فيه ابن آدم ستون سنة» «1» ، وفى البخاري عنه عليه السّلام : «أعذر اللّه المرء آخر أجله حتى بلغ ستين سنة» «2».
وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ أي : الرسول عليه السّلام ، أو : الكتاب ، وقيل : الشيخوخة ، وزوال السن ، وقيل : الشيب. قال ابن عزيز : وليس هذا شىء لأن الحجة تلحق كل بالغ وإن لم يشب. وإن كانت العرب تسمى الشيب النذير. ه. ولقوله تعالى بعد : فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ، فإنه يتعين كونه الرسول ، وهو عطف على معنى : أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ لأن لفظه استخبار ، كأنه قيل : قد عمرناكم وجاءكم النذير. قال قتادة : احتج عليهم بطول العمر ، وبالرسول ، فانقطعت حجتهم. قال تعالى : فَذُوقُوا العذاب فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ يدفع العذاب عنهم.
الإشارة : الذين كفروا بطريق الخصوصية ، وأنكروا وجود التربية بالاصطلاح ، فبقوا مع نفوسهم ، لهم نار القطيعة ولو دخلوا الجنة الحسية ، لا يقضى عليهم فيموتوا ، ويرجعوا إلى الاستعداد بدخول الحضرة ، ولا يخفف عنهم من عذاب حجاب الغفلة ، بل يزيد الحجاب بتراكم الحظوظ ، ونسج الأكنة على القلوب ، كذلك نجزى كل كفور وجحود لطريق التربية. وهم يصطرخون فيها ، بلسان حالهم ، قائلين : ربنا أخرجنا ، وردّنا إلى دار الفناء ، نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل ، حتى ندخل ، كما دخلها أهل العزم واليقظة؟ فيقال لهم : أو لم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر ، وجاءكم النذير ، من ينذركم وبال القطيعة ، ويعرفكم بطريق الحضرة ، فأنكرتموه ، فذوقوا وبال القطيعة ، فما للظالمين من نصير.
ولمّا كان الكفر والإيمان من أعمال القلوب ، قد يخفى على الناس ، أخبر أن اللّه هو مطلع على ما فيها ، فقال :
[سورة فاطر (35) : الآيات 38 الى 39]
إِنَّ اللَّهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (38) هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلاَّ مَقْتاً وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلاَّ خَساراً (39)
___________
(1) عزاه المناوى فى الفتح السماوي (3/ 947) للبزار ، من حديث أبى هريرة رضي اللّه عنه. وأصله عند البخاري. [.....]
(2) أخرجه البخاري فى (الرقاق ، باب من بلغ ستين سنة فقد أعذر اللّه إليه فى العمر ، ح 6419) من حديث أبى هريرة رضي اللّه عنه.(4/548)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 549
يقول الحق جل جلاله : إِنَّ اللَّهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ
أي : ما غاب فيهما عنكم ، إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ
،
تعليل لما قبله لأنه إذا علم ما فى الصدور ، وهى أخفى ما يكون ، فقد علم كل غيب فى العالم. وذات الصدور : مضمراتها ووساوسها. وهى تأنيث «ذو» ، بمعنى : صاحب الوساوس والخطرات ، تصحب الصدور وتلازمها فى الغالب ، أي : عليم بما فى القلوب ، أو بحقائقها ، على أن «ذات» بمعنى الحقيقة.
هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ أي : جعلكم خلفاء عنه فى التصرف فى الأرض ، قد ملككم مقاليد التصرف فيها ، وسلطكم على ما فيها ، وأباح لكم منافعها لتشكروه بالتوحيد والطاعة. فَمَنْ كَفَرَ منكم ، وغمط مثل هذه النعمة السنيّة ، فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ فوبال كفره راجع عليه ، وهو مقت اللّه ، وخسران الآخرة ، كما قال تعالى : وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتاً ، وهو أشد البغض ، وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَساراً : هلاكا وخسرانا.
الإشارة : إن اللّه عالم بما غاب فى سموات الأرواح ، من أسرار العلوم والمكاشفات ، والاطلاع على أسرار الذات ، وأنوار الصفات ، وما غاب فى أرض النفوس من الموافقات أو المخالفات ، إنه عليم بحقائق القلوب ، من صفائها وكدرها ، وما فيها من اليقين والمعرفة ، وضدهما.
قال القشيري : إِنَّ اللَّهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ
، بإخلاص المخلصين ، وصدق الصادقين ، ونفاق المنافقين ، وجحد الكافرين ، ومن يريد بالناس شرا ، ومن يحسن باللّه ظنا. ه.
وقال فى قوله تعالى : هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ : أهلّ كلّ عصر خليفة عصر تقدمهم ، فمن قوم هم أنفسهم جمال ، ومن قوم أراذل وأنذال ، والأفاضل زمانهم لهم محنة ، والأراذل هم لزمانهم محنة. وحاصل كلامه :
أن قوما عرفوا حق الخلافة ، فقاموا بحقها ، وشكروا اللّه عليها ، بالقيام بطاعته ، فكانوا فى زمانهم جمالا لأنفسهم ، ولأهل عصرهم ، لكنهم لمّا تحملوا مشاق الطاعات ، وترادف الأزمات ، كان زمانهم لهم محنة. وقوما لم يعرفوا حق الخلافة ، فاشتغلوا بالعصيان ، فانتحس الزمان بهم ، فكانوا محنة لزمانهم.
ثم ردّ على من كفر بالشرك ، فقال :
[سورة فاطر (35) : آية 40]
قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلاَّ غُرُوراً (40)(4/549)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 550
قلت : «أرأيتم» : بمعنى : أخبرونى ، وهى تطلب مفعولين : أحدهما منصوب ، والآخر مشتمل على استفهام ، كقولك : أرأيت زيدا ما فعل ، فالأول : (شركاءكم) والثاني : (ماذا خلقوا). و(أرونى) : اعتراض ، فيها تأكيد للكلام وتشديد. ويحتمل أن يكون من باب التنازع لأنه توارد على (ماذا خلقوا) : (أرأيتم) و(أرونى) ، ويكون قد أعمل الثاني على المختار عند البصريين. قاله أبو حيان. ولابن عطية وابن عرفة غير هذا ، فانظره. و«بعضهم» : بدل من «الظالمين».
يقول الحق جل جلاله : قُلْ لهم أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ أي : أخبرونى عن آلهتكم التي أشركتموها فى العبادة مع اللّه ، الَّذِينَ تَدْعُونَ أي : تعبدونهم مِنْ دُونِ اللَّهِ ، ما سندكم فى عبادتهم؟ أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أي : جزء من الأرض ، استبدّوا بخلقه حتى استحقوا العبادة بسبب ذلك ، أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ أي : أم لهم مع اللّه شركة فى خلق السموات حتى استحقوا أن يعبدوا؟ بل لا شىء من ذلك ، فبطل استحقاقها للعبادة. أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً أم معهم كتاب من عند اللّه ينطق بأنهم شركاؤه ، فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ فهم على حجة وبرهان من ذلك الكتاب؟ قال ابن عرفة : هذا إشارة إلى الدليل السمعي ، والأول إشارة إلى الدليل العقلي ، فهم لم يستندوا فى عبادتهم الأصنام إلى دليل عقلى ولا سمعى ، بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ أي :
ما يعد الظالمون ، وهم الرؤساء بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلَّا غُرُوراً باطلا وتمويها ، وهو قولهم : هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ «1». لمّا نفى أنواع الحجج العقلية والسمعية ، أضرب عنه بذكر ما حملهم عليه ، وهو تقرير الأسلاف الأخلاف ، والرؤساء الأتباع بأنهم شفعاء عند اللّه تقربهم إليه. هذا هو التقليد الردئ ، والعياذ باللّه.
الإشارة : كل من ركن إلى مخلوق ، أو اعتمد عليه ، يتلى عليه : أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ .. الآية. وفى الحكم : «كما لا يقبل العمل المشترك ، لا يحب القلب المشترك. العمل المشترك لا يقبله ، والقلب المشترك لا يقبل عليه».
ثم ذكر من يستحق العبادة وحده ، فقال :
[سورة فاطر (35) : آية 41]
إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً (41)
___________
(1) من الآية 18 من سورة يونس.(4/550)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 551
يقول الحق جل جلاله : إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا أي : يمنعهما من أن تزولا لأن إمساكهما منع. والمشهور عند المنجمين : أن السموات هى الأفلاك التي تدور دورة بين الليل والنهار. وإنكار ابن يهود على كعب ، كما فى الثعلبي ، تحامل إذ لا يلزم من دورانها عدم إمساكها بالقدرة ، وانظر عند قوله : وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها .. «1» قال القشيري : أمسكهما بقدرته ، وأتقنهما بحكمته ، وزينهما بمشيئته ، وخلق أهلهما على موجب قضيته ، فلا شبيه فى إبقائهما وإمساكهما يساهمه ، ولا شريك فى إيجادهما وإعدامهما يقاسمه. ه.
وَلَئِنْ زالَتا ، على سبيل الفرض ، إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ ، من بعد إمساكه. و«من» الأولى :
مزيدة ، لتأكيد النفي ، والثانية : ابتدائية ، إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً ، غير معاجل بالعقوبة ، حيث أمسكهما على من يشرك به ويعصيه ، وكانتا جديرتين بأن تهدّ هدّا ، كما قال : تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ .. «2» الآية.
الإشارة : الوجود قائم بين سماء القدرة وأرض الحكمة ، بين سماء الأرواح وأرض الأشباح ، بين سماء المعاني وأرض الحس ، فلو زال أحدهما لاختل نظام الوجود ، وبطلت حكمة الحكيم العليم. الأول : عالم التعريف ، والثاني :
عالم التكليف. الأول : محل التنزيه ، والثاني : محل التشبيه ، الأول : محل أسرار الذات ، والثاني : محل أنوار الصفات ، مع اتحاد المظهر إذ الصفات لا تفارق الموصوف ، فافهم. وفى بعض الأثر : «إن العبد إذا عصى اللّه استأذت السماء أن تسقط عليه من فوقه ، والأرض أن تخسف من تحته ، فيمسكهما اللّه تعالى بحلمه وعفوه ، ثم تلى الآية : إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا إلى قوله : كانَ حَلِيماً غَفُوراً» ه. بالمعنى.
ثم ذكر عناد قريش وعتوهم ، تتميما لقوله : وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ .. إلخ ، فقال :
[سورة فاطر (35) : الآيات 42 الى 44]
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً (42) اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً (43) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَما كانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ عَلِيماً قَدِيراً (44) ___________
(1) الآية 38 من سورة يس.
(2) الآية 90 من سورة مريم.(4/551)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 552
قلت : «جهد» : نصب على المصدر ، أو على الحال. و«استكبار» و«مكر» : مفعول من أجله أو حال.
يقول الحق جل جلاله : وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ أي : إقساما وثيقا ، أو : جاهدين فى أيمانهم :
لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ رسول لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ المهتدية ، بدليل قوله : (أهدى) وقوله فى سورة الأنعام : لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ «1» وذلك أن قريشا قالوا قبل مبعث النبي صلى اللّه عليه وسلم لمّا بلغهم أن أهل الكتاب كذّبوا رسلهم : لعن اللّه اليهود والنصارى ، أتتهم الرسل فكذبوهم ، فو اللّه لئن أتانا رسول لنكونن أهدى من إحدى الأمم «2» ، أي : من الأمة التي يقال فيها : هى أهدى الأمم ، تفضيلا لها على غيرها فى الهدى والاستقامة. كما يقال للداهية العظيمة : هى أهدى الدواهي. فلما بعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، ما زادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً أي : ما زادهم مجىء الرسول صلى اللّه عليه وسلم إلا تباعدا عن الحق ، وهو إسناد مجازىّ إذ لا فاعل غيره.
اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ أي : ما زادهم إلا تهورا للاستكبار ومكر السيّء. أو : مستكبرين وماكرين برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم والمؤمنين ، المكر القبيح ، وهو إجماعهم على قتله. عليه الصلاة والسلام ، وإذاية من تبعه.
وأصل قوله : (و مكر السيئ) : وأن مكروا المكر السيّء ، فحذف الموصوف استغناء بوصفه ، ثم أبدل «أن» مع الفعل بالمصدر ، ثم أضيف إلى صفته اتساعا ، كصلاة الأولى ، ومسجد الجامع. وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ أي : لا يحيط وينزل المكر السيّء إلا بمن مكره ، وقد حاق بهم يوم بدر. وفى المثل : من حفر حفرة وقع فيها.
فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ : ما ينتظرون إلا أن ينزل بهم ما نزل بالمكذبين الأولين ، من العذاب المستأصل ، كما هى سنّة اللّه فيمن كذّب الرسل. فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا ، وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا ، بيّن أن سنّته - التي هى الانتقام من مكذّبى الرسل - سنّة ماضية ، لا يبدلها فى ذاتها ، ولا يحوّلها عن وقتها ، وأنّ ذلك مفعول لا محالة.
أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ممن كذّبوا رسلهم ، كيف أهلكهم اللّه ودمرهم ، كعاد ، وثمود ، وقرى قوم لوط. استشهد عليهم بما كانوا يشاهدونه فى مسايرهم إلى الشام واليمن والعراق ، من آثار الماضين ، وعلامات هلاكهم ودمارهم. وَقد كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً واقتدارا ، فلم يتمكنوا من الفرار ، وَما كانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ ليسبقه ويفوته مِنْ شَيْءٍ أىّ شىء كان فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ عَلِيماً بأحوالهم قَدِيراً على أخذهم. وباللّه التوفيق.
___________
(1) من الآية 157 من سورة الأنعام.
(2) قاله الضحاك ، فيما ذكره ابن كثير فى تفسيره (3/ 562).(4/552)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 553
الإشارة : ترى بعض الناس يقول : لئن ظهر شيخ التربية لنكونن أول من يدخل معه ، فلما ظهر ، عاند واستكبر ، وربما أنكر ومكر. نعوذ باللّه من سابق الخذلان. قال القشيري : ليس لقولهم تحقيق ، ولا لضمانهم توثيق ، وما يعدون من أنفسهم فصريح زور ، وما يوهمون من وفاقهم فصرف غرور. وكذلك المريد فى أول نشاطه ، تمنّيه نفسه ما لا يقدر عليه ، فربما يعاهد اللّه ، ويؤكد فيه عقدا مع اللّه ، فإذا عضّته شهوته ، وأراد الشيطان أن يكذبه ، صرعه بكيده ، وأركسه فى كوة غيّه ، وفتنة نفسه فيسودّ وجهه ، ويذهب ماء وجهه.
ثم قال فى قوله : أَوَلَمْ يَسِيرُوا .. إلخ : ما خاب له ولىّ ، وما ربح له عدو ، ولا تنال الحقيقة بمن انعكس قصده ، وارتد عليه كيده ، دمرّ على أعدائه تدميرا ، وأوسع لأوليائه فضلا كبيرا. ه.
ثم تمم قوله : إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً بقوله :
[سورة فاطر (35) : آية 45]
وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً (45)
يقول الحق جل جلاله : وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا بما اقترفوا من المعاصي ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها على ظهر الأرض لأنه جرى ذكرها فى قوله : وَما كانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ «1» ، مِنْ دَابَّةٍ من نسمة تدبّ عليها. قيل : أهل المعاصي فقط من الناس ، وقيل : من الجن والإنس.
والمشهور : أنه عام فى كل ما يدب لأن الكل خلق للآدمى. وعن ابن مسعود : (إن الجعل «2» ليعذب فى جحره بذنب ابن آدم) «3» ، يعنى ما يصيبه من القحط ، بشؤم معاصيه. وقال أبو هريرة : إن الحبارى «4» لتموت هزالا فى وكرها بظلم الظالم. ه.
___________
(1) الآية 44 من السورة.
(2) الجعل : حيوان معروف كالخنفساء. انظر النهاية فى غريب الحديث (جعل 1/ 277).
(3) عزاه السيوطي فى الدر (5/ 480) للفريابى ، وابن المنذر ، والطبراني ، والحاكم ، وصححه.
(4) الحبارى : طائر معروف ، وهو على شكل الإوزة ، برأسه وبطنه غبرة ، ولون ظهره وجناحيه كلون السمانى غالبا. والجمع حبابير ، وحباريات. انظر اللسان (حبر) مع تعليق محققه.
وقال : ابن الأثير فى النهاية (1/ 328) :
وإنما خصها بالذكر لأنها أبعد الطير نجعة ، فربما تذيح بالبصرة ، ويوجد فى حوصلتها الحبة الخضراء ، وبين البصرة وبين منابتها مسيرة أيام.(4/553)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 554
قال القشيري : لو عجّل لهم ما يستوحبونه من الثواب والعقاب ، لم تف أعمارهم القليلة ، وما اتسعت أفهامهم القصيرة له ، فأخّر ذلك ليوم الحشر ، فإنّه طويل ، واللّه على كل شىء قدير ، بأمور عباده بصير ، وإليه المصير ه وهذا معنى قوله : وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى هو يوم القيامة ، فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ أجل جمعهم ، فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً أي : لن يخفى عليه حقيقة أمرهم ، وحكمة حكمهم ، فيجازيهم على قدر أعمالهم.
الإشارة : تعجيل العقوبة فى دار الدنيا للمؤمن إحسان ، وتأخيرها لدار الدوام استدراج وخذلان. فكل من له عناية سابقة عاتبه اللّه فى الدنيا ، بمصيبة فى بدنه ، أو ماله ، أو فى أهله ، ومن لا عناية له أخرت عقوباته كلها لدار الجزاء. نسأل اللّه العصمة بمنّه وكرمه ، وبسيدنا محمد نبيه - صلى اللّه عليه ، وعلى آله وصحبه.(4/554)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 555
سورة يس
مكية ، وقيل : إلا قوله : وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ «1» ، نزلت فى بنى سلمة ، حين أرادوا الانتقال إلى جوار النبي صلى اللّه عليه وسلم «2». وآيها : ثلاث وثمانون آية. ومناسبتها لما قبلها : قوله : فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ «3» مع قوله :
إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ فقد حقق هنا نذارته ورسالته بالقسم. وعنه صلى اللّه عليه وسلم : «يس تدعى المعمة ، تعم صاحبها بخير الدارين ، والدافعة والقاضية - تدفع عنه كل شر ، وتقضى له كل حاجة» «4». وفى خبر آخر : «يس لما قرئ له» ، وفى حديث آخر : «ما قرأها خائف إلا أمن ، ولا جائع إلا شبع ، ولا عطشان إلا روى ، ولا عريان إلا كسى ، ولا مسجون إلا سرح ، ولا عازب إلا تزوج ، ولا مسافر إلا أعين ، ولا ذو ضالة إلا وجدها». وقال صلى اللّه عليه وسلم : «من قرأ يس عند الموت ، أو قرئ عليه ، أنزل اللّه بعدد كل حرف منها عشرة من الملائكة ، يقفون بين يديه ، ويصلون عليه ، ويستغفرون له ، ويشهدون جنازته».
[سورة يس (36) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (4)
يقول الحق جل جلاله : يس أيها السيد المفخم ، والمجيد المعظم ، وَحق الْقُرْآنِ الْحَكِيمِ المحكم إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ. وفى الحديث : «إن اللّه تعالى سمّانى فى القرآن بسبعة أسماء : محمد ، وأحمد ، وطه ، ويس ، والمزّمّل ، والمدّثر ، وعبد اللّه» ، قيل : ولا تصح الاسمية فى يس لإجماع القراء السبعة على قراءتها ساكنة ، على أنها حروف هجاء محكية ، ولو سمى بها لأعربت غير مصروفة ، كهابيل وقابيل ، ومثلها «طس» و«حم» ، كما قال الشاعر :
لما سمى بها السورة فهلا تلى حميم قبل التكلم.
___________
(1) الآية 12.
(2) أخرجه الترمذي فى (التفسير ، باب : ومن سورة يس ، 5/ 339 ، ح 3226) والحاكم ، وصححه ، وأقره الذهبي (2/ 428) ، والواحدي فى أسباب النزول (ص 378 - 379) عن أبى سعيد الخدري. وقال الترمذي : «حديث حسن غريب» وقال الحافظ ابن كثير فى التفسير (3/ 566) معلقا على حديث نحوه ، رواه البزار : فيه غرابة.
(3) من الآية 42 من سورة فاطر.
(4) أخرجه البيهقي فى شعب الإيمان (2/ 481 ، ح 2465) وضعّفه ، من حديث أبى بكر الصدّيق رضي اللّه عنه. وذكره بنحوه ، مطولا ، القرطبي فى تفسيره (6/ 5602) وعزاه للثعلبى ، من حديث السيدة عائشة رضى اللّه عنها. [.....](4/555)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 556
فدلّ على أنها حروف حال التلاوة. نعم قد قرئ «يس» بضم النون ، ونصبها ، خارج السبعة ، وعلى ذلك تخرج بأن اللفظ اسم للسورة ، كأنه قال : أتل يس ، على النصب ، وعلى أنها اسم من أسمائه صلى اللّه عليه وسلم ، وتوجه فى قراءة الضم على النداء. ه. قلت : والظاهر أنها حروف مختصرة من السيد ، على طريق الرمز بين الأحباء ، إخفاء عن الرقباء.
ثم أقسم على رسالته ، ردا على من أنكره بقوله : وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ أي : ذى الحكمة البالغة ، أو : المحكم الذي لا ينسخه كتاب ، أو : ذى كلام حكيم ، فوصف بصفة المتكلم به ، إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ من أعظمهم وأجلّهم. وهو ردّ على من قال من الكفار : لَسْتَ مُرْسَلًا «1». عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ أي : كائنا على طريق مستقيم ، يوصل من سلكه إلى جوار الكريم ، فهو حال من المستكن فى الجار والمجرور. وفائدته : وصف الشرع بالاستقامة صريحا ، وإن دلّ عليه : إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ التزاما ، أو : خبر ثان لإن. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : قال القشيري : يس ، معناه : يا سيد - رقّاه أشرف المنازل ، وإن لم يسم إليه بطرق التأميل ، سنّة منه سبحانه أنه لا يضع أسراره إلا عند من تقاصرت الأوهام عن استحقاقه ، ولذلك قضوا بالعجب فى استحقاقه ، وقالوا : كيف آثر يتيم أبى طالب من بين البرية ، ولقد كان - صلوات اللّه عليه - فى سابق اختياره تعالى مقدّما على الكافة من أشكاله وأضرابه ، وفى معناه قيل :
هذا وإن أصبح فى أطمار وكان فى فقر من اليسار
آثر عندى من أخى وجارى وصاحب الدرهم والدينار
وصاحب الأمر مع الإكثار «2». ه.
___________
(1) من الآية 43 من سورة الرعد.
(2) وردت الأبيات - كاملة - فى قصة ، ذكرها ابن كثير فى البداية والنهاية (8/ 89 - 90) ، وملخصها :
كان معاوية بن أبى سفيان على السماط ، فمثل بين يديه شاب من بنى عذرة ، فأنشده شعرا ، مضمونه : التشوق إلى زوجته سعاد.
وقال : يا أمير المؤمنين : إنى كنت متزوجا بابنة عم لى ، وكان لى إبل وغنم ، وأنفقت ذلك عليها ، فلما قلّ ما بيدي رغب عنى أبوها ، وشكانى إلى عاملك بالكوفة (ابن أم الحكم) وبلغه جمالها ، فحبسنى ، وحملنى على أن أطلقها ، فلما انقضت عدتها أعطاها عاملك عشرة آلاف درهم ، فزوّجه إياها ، فهل من فرج؟
فكتب معاوية إلى ابن أم الحكم يؤنبه ، وأمره بطلاقها ، فطلقها ، وسيّرها إلى معاوية ، وخيّرها معاوية بين زوجها وابن أم الحكم ، فاختارت زوجها الأول ، وأنشدت الأبيات :
هذا وإن أصبح فى أطمار وكان فى نقص من اليسار
أكبر عندى من أبى وجارى وصاحب الدرهم والدينار
أخشى إذا غدرت حر النار خلى سبيلى ما به عار
لعلنا نرجع للديار وأن عسى نظفر بالأوطار
راجع أيضا : تزيين الأسواق (1/ 249) ، ونهاية الأرب (2/ 159) ، ولطائف الإشارات (1/ 42 - 43).(4/556)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 557
قال الورتجبي : قيل : الياء تشير إلى يوم الميثاق ، والسين تشير إلى سره مع الأحباب ، فقال : بحق يوم الميثاق ، وسرى مع الأحباب ، وبالقرآن الحكيم ، إنك لمن المرسلين يا محمد ه ..
وجاء : «إن قلب القرآن يس ، وقلبه : سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ» «1». قلت : وهو إشارة إلى سر القربة ، الداعي إليه القرآن ، وعليه مداره ، وحاصله : تسليم اللّه على عباده كفاحا ، لحياتهم به ، وأنسهم بحديثه وسره. وقيل : لأن فيه تقرير أصول الدين. قاله فى الحاشية الفاسية.
ثم فسّر القرآن ، المقسم به ، فقال :
[سورة يس (36) : الآيات 5 الى 11]
تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (5) لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ (6) لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (7) إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8) وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (9)
وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (10) إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (11)
قلت : «تنزيل» : خبر ، أي : هو تنزيل. ومن نصبه فمصدر ، أي : نزل تنزيل ، أو : اقرأ تنزيل ، وقرئ بالجر ، بدل من القرآن. و«ما أنذر» : نعت لقوم. و«ما» : نفى ، عند الجمهور ، أو : موصولة مفعولا ثانيا لتنذر ، أي : العذاب الذي أنذره آباؤهم ، أو : مصدرية ، أي : لتنذر قوما إنذار مثل إنذار آبائهم.
يقول الحق جل جلاله : هذا ، أو هو تَنْزِيلَ «2» الْعَزِيزِ أي : الغالب القاهر بفصاحة نظم كتابه أوهام ذوى العناد ، الرَّحِيمِ الجاذب بلطافة معنى خطابه أفهام ذوى الرشاد. أنزلناه لِتُنْذِرَ به قَوْماً ، أو :
___________
(1) وردت الجملة الأولى فى حديث أخرجه الترمذي فى (فضائل القرآن ، باب : ما جاء فى فضل «يس» 5/ 150 ، ح 2887) والدرامى فى (فضائل القرآن ، باب فضل يس ، 2/ 548 ، ح 3416) وأحمد فى المسند (5/ 26) عن أنس. بلفظ «إن لكل شىء قلبا ، وقلب القرآن يس ..» الحديث ، قال الترمذي : هذا حديث غريب. وهارون أبو محمد شيخ مجهول.
(2) قرأ ابن عامر ، وحفص ، وحمزة ، والكسائي ، بنصب اللام على المصدر. وقرأ الحسن بالجر ، وقرأ الباقون بالرفع ، خبر لمقدر. وقد سار المفسر على قراءة الرفع. انظر الإتحاف (2/ 397).(4/557)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 558
أرسلناك لتنذر قوما غافلين ، ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ أي : غير منذر آباؤهم ، كقوله : لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ «1» وقوله : وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ «2» أو : لتخوف قوما العذاب الذي أنذر به آباؤهم ، لقوله :
َّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً
«3». أو : لتنذر قوما إنذار آبائهم ، وهو ضعيف إذ لم يتقدم لهم إنذار. فَهُمْ غافِلُونَ ، إن جعلت «ما» نافية فهو متعلق بالنفي ، أي : لم ينذروا فهم غافلون ، وإلا فهو متعلق بقوله : إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ لتنذر قوما ، كقولك : أرسلته إلى فلان لينذره فهو غافل.
لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ، يعنى قوله : لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ «4» أي : تعلق بهم هذا القول ، وثبت عليهم ووجب لأنه علم أنهم يموتون على الكفر. قال ابن عرفة : إنذارهم مع إخباره بأنهم لا يؤمنون ليس من تكليف ما لا يطاق عقلا وعادة ، وما لا يطاق من جهة السمع يصح التكليف به ، اعتبارا بظاهر الأمر ، وإلا لزم أن تكون التكاليف كلها لا تطاق ، ولا فائدة فيها لأنّ المكلفين قسمان : فمن علم تعالى أنه لا يؤمن فلا فائدة فى أمره بالايمان إذ لا يطيقه ، ومن علم أنه يؤمن فلا فائدة فى إنذاره وأمره بالإيمان إذ لا يطيق عدمه. ه. قلت : الحكمة تقتضى تكليفهم لتقوم الحجة عليهم أو لهم ، والقدرة تقتضى عذرهم. والنظر فى هذه الدار - التي هى دار التكليف - للحكمة لا للقدرة.
ثم مثّل تصميمهم على الكفر ، وأنه لا سبيل إلى ارعوائهم ، بأن جعلهم كالمغلولين المقمحين فى أنهم لا يلتفتون إلى الحق ، ولا يعطفون أعناقهم نحوه ، وكالحاصلين بين سدّين ، لا ينظرون ما قدّامهم ولا ما خلفهم ، بقوله : إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ ، معناه : فالأغلال واصلة إلى الأذقان ملزوزة إليها ، فَهُمْ مُقْمَحُونَ مرفوعة رؤوسهم إلى فوق ، يقال : قمح البعير فهو قامح إذا روى فرفع رأسه ، وهذا لأنّ طوق الغلّ الذي فى عنق المغلول ، يكون فى ملتقى طرفيه ، تحت الذقن ، حلقة ، فلا [تخليه ] «5» يطأطئ رأسه ، فلا يزال مقمحا. والغل : ما أحاط بالعنق على معنى التثقيف والتعذيب. والأذقان والذقن : مجتمع اللحيين. وقيل : «فهى» أي :
الأيدى. وذلك أن الغل إنما يكون فى العنق مع اليدين. وفى مصحف أبى : «إنا جعلنا فى أيمانهم أغلالا» وفى بعضها : «فى أيديهم فهى إلى الأذقان فهم مقمحون».
وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا ، بفتح السين وضمها - قيل : ما كان من عمل الناس فبالفتح ، وما كان من خلق اللّه ، كالجبل ونحوه ، فالبضمّ ، أي : جعلنا الموانع والعوائق محيطة بهم ، فهم محبوسون
___________
(1) الآية 3 من سورة السجدة.
(2) الآية 44 من سورة سبأ.
(3) الآية 430 من سورة النبأ.
(4) الآية 13 من سورة السجدة.
(5) ما بين المعقوفتين مطموس فى النسخة الأم ، وغير موجود فى غيرها من النسخ المعتمدة فى التحقيق.(4/558)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 559
فى مطمورة الجهالة ، ممنوعون عن النظر فى الآيات والدلائل ، فَأَغْشَيْناهُمْ أي : فأغشيناهم أبصارهم ، أي :
غطيناها وجعلنا عليها غشاوة ، فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ الحق والرشاد.
وقيل : نزلت فى بنى مخزوم ، وذلك أن أبا جهل حلف : لئن رأى محمدا يصلّى ليرضخّنّ رأسه ، فأتاه وهو يصلّى ، ومعه حجر ، فلما رفع يده انثنت إلى عنقه ، ولزق الحجر بيده ، حتى فكّوه عنها بجهد ، فرجع إلى قومه ، فأخبرهم ، فقال مخزومىّ : أنا أقتله بهذا الحجر ، فذهب ، فأعمى اللّه بصره ، فلم ير النبىّ صلى اللّه عليه وسلم ، وسمع قوله ، فرجع إلى أصحابه ، ولم يرهم حتى نادوه «1». وقيل : هى ذكر حالهم فى الآخرة ، وحين يدخلون النار ، فتكون حقيقة.
فالأغلال فى أعناقهم ، والنار محيطة بهم. والأول أرجح وأنسب لقوله : وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ، أي : الإنذار وتركه فى حقهم سواء إذ لا هادى لمن أضله اللّه.
روى أن عمر بن عبد العزيز قرأ الآية فى غيلان القدرىّ ، فقال غيلان : كأنى لم أقرأها قط ، أشهدك أنى تائب عن قولى فى القدر. فقال عمر : اللهم إن صدق فتب عليه ، وإن كذب فسلّط عليه من لا يرحمه ، فأخذه هشام بن عبد الملك من غده ، فقطع يديه ورجليه ، وصلبه على باب دمشق «2».
ثم ذكر من ينفعه الإنذار ، فقال : إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ أي : إنما ينتفع بإنذارك من تبع القرآن وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ وخاف عقاب اللّه قبل أن يراه ، أو : تقول : نزّل وجود الإنذار لمن لم ينتفع به منزلة العدم ، فمن لم يؤمن كأنه لم ينذر ، وإنما الإنذار لمن انتفع به. فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ ، وهو العفو عن ذنوبه ، وَأَجْرٍ كَرِيمٍ الجنة وما فيها.
الإشارة : كل من تصدى لوعظ الناس ، وإنذارهم ، على فترة من الأولياء ، يقال له : لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم فهم غافلون. ويقال فى حق من سبق له الإبعاد عن طريق أهل الرشاد : لقد حقّ القول على أكثرهم ، فهم لا يؤمنون. إنا جعلنا فى أعناقهم أغلالا تمنعهم من حط رؤوسهم لأولياء زمانهم ، وجعلنا من بين أيديهم سدا : موانع تمنعهم من النهوض إلى اللّه ، ومن خلفهم سدا : علائق تردهم عن حضرة اللّه ، فأغشيناهم : غطّينا أعين بصيرتهم ، فلا يرون خصوصية أحد ممن يدلّ على اللّه ، فهم لا يبصرون داعيا ، ولا يلبون مناديا ، فالإنذار وعدمه فى حقهم سواء ، ومعالجة دائهم عناء. قال الورتجبي : سد ما خلفهم سد قهر الأزل ، وسد ما بين أيديهم شقاوة الأبد ، فبنفسه منعهم من نفسه. لا
___________
(1) أخرجه الطبري مختصرا (22/ 152) عن عكرمة. وعزاه الحافظ ابن حجر فى الكافي الشاف (139) لابن إسحاق فى السيرة ، وأبى نعيم فى الدلائل ، عن عكرمة ، عن ابن عباس - رضى اللّه عنهما.
(2) انظر تفسير النسفي (3/ 97).(4/559)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 560
جرم أنهم فى غشاوة القسوة ، لا يبصرونه أبدا. ه. إنما ينتفع بتذكير الداعين إلى اللّه من خشع قلبه بذكر اللّه ، واشتاقت روحه إلى لقاء اللّه ، فبشّره بمغفرة لذنوبه ، وتغطية لعيوبه ، وأجر كريم ، وهو النظر إلى وجه اللّه العظيم.
ثم ردّ على من أنكر البعث ، ممن سبق له الشقاء ، فقال :
[سورة يس (36) : آية 12]
إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ (12)
يقول الحق جل جلاله : إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى أي : نبعثهم بعد مماتهم ، أو : نخرجهم من الشرك إلى الإيمان. قال شيخ شيوخنا سيدى عبد الرحمن الفاسى : لمّا أمر بالتبشير بالمغفرة ، والأجر الكريم ، لمن انتفع بالإنذار ، أعلم بحكم من لم يؤمن ، ولم ينتفع بالإنذار ، وأنه يبعثهم ، وإليه حكمهم ، كما قال : إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ «1» ه.
وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا ما أسلفوا من الأعمال الصالحات وغيرها ، وَآثارَهُمْ ما تركوه بعدهم من آثار حسنة ، كعلم علّموه ، أو كتاب صنّفوه ، أو حبس حبسوه ، أو رباط أو مسجد صنعوه. أو آثار سيئة ، كبدعة ابتدعوها فى الإسلام. ونحوه قوله تعالى : يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ
«2» أي : قدّم من عمله وأخّر من آثاره. وفى الحديث : «من سنّ فى الإسلام سنّة حسنة ، فعمل بها من بعده ، كان له أجرها ومثل أجر من عمل بها إلى يوم القيامة ، من غير أن ينقص من أجورهم شىء. ومن سنّ فى الإسلام سنّة سيئة فعليه وزرها ، ووزر من عمل بها ، من غير أن ينقص من أوزارهم شى ء» «3» وفى خبر آخر : «سبع تجرى على العبد بعد موته : من غرس غرسا ، أو حفر بئرا ، أو أجرى نهرا ، أو علّم علما ، أو بنى مسجدا ، أو ورّث مصحفا ، أو ولدا صالحا»»
. انظر المنذرى. وهذا كله داخل فى قوله تعالى : وَآثارَهُمْ قيل : آثارهم : خطاهم إلى المساجد ، للجمعة وغيرها.
وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ حفظناه ، أو عددناه وبيّناه فِي إِمامٍ كتاب مُبِينٍ اللوح المحفوظ لأنه أصل الكتب وإمامها ، وقيل : صحف الأعمال. والمراد : تهديد العباد بإحصاء ما صنعوه من خير أو شر ، لينزجروا عن معاصى اللّه ، وينهضوا إلى طاعة اللّه.
___________
(1) الآية 36 من سورة الأنعام.
(2) الآية 13 من سورة القيامة.
(3) أخرجه مسلم ، فى (الزكاة ، باب : الحث على الصدقة ولو بشق تمرة ، 2/ 704 - 705 ، ح 1017) من حديث جرير. [.....]
(4) أخرجه بنحوه البزار (كشف الأستار - 149) والبيهقي فى الشعب (ح 3449) من حديث أنس بن مالك. وأخرجه ابن ماجه ، بلفظ مقارب ، فى (المقدمة/ ح 242) من حديث أبى هريرة رضي اللّه عنه.(4/560)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 561
الإشارة : إنّا نحن نحيى القلوب الميتة بالغفلة والجهل ، فنحييها بالعلم والمعرفة ، ونكتب ما قدّموا من العلوم ، والأسرار والمعارف ، وآثارهم ، أي : الأنوار المتعدية إلى الغير ، ممن اقتبس منهم وأخذ عنهم. قال القشيري : نحيى قلوبا ماتت بالقسوة ، بما نمطر عليها من صنوف الإقبال والزلفة ، ونكتب ما قدموا وَآثارَهُمْ خطاهم إلى المساجد ، ووقوفهم على بساط المناجاة معنا ، وما ترقرق من دموعهم على عرصات خدودهم ، وتصاعد أنفاسهم. ه.
ثم ضرب مثلا لقريش فى تكذيبهم ، وفيه تسلية للنبى صلى اللّه عليه وسلم ، فقال :
[سورة يس (36) : الآيات 13 الى 19]
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13) إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ فَقالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (14) قالُوا ما أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ (15) قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16) وَما عَلَيْنا إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (17)
قالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (18) قالُوا طائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (19)
قلت : «اضرب» : يكون بمعنى : اجعل ، فيتعدى إلى مفعولين ، و«مثلا» : مفعول أول ، وأَصْحابَ : مفعول ثان ، أو : بمعنى «مثل» ، من قولهم : عندى من هذا الضرب كذا ، أي : من هذا المثال. و«أصحاب» : بدل من «مثلا» ، و«إذ» :
بدل من «أصحاب». و«أئن ذكّرتم» : شرط ، حذف جوابه.
يقول الحق جل جلاله : وَاضْرِبْ لَهُمْ أي : لقريش مَثَلًا أَصْحابَ الْقَرْيَةِ أي : واضرب لهم مثل أصحاب القرية «أنطاكية» أي : اذكر لهم قصة عجيبة قصة أصحاب القرية ، إِذْ جاءَهَا أي : حين جاءها الْمُرْسَلُونَ رسل عيسى عليه السّلام «1» ، بعثهم دعاة إلى الحق ، إلى أهل أنطاكية. وكانوا عبدة أوثان.
إِذْ أَرْسَلْنا : بدل من «إذ» الأولى ، أي : إذ بعثنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ ، بعثهما عيسى عليه السّلام ، وهما يوحنا وبولس ، أو : صادقا وصدوقا ، أو غيرهما. فلما قربا إلى المدينة ، رأيا شيخا يرعى غنيمات له ، وهو حبيب النجار ، فسأل عن حالهما ، فقالا : نحن رسولا عيسى ، ندعوكم من عبادة الأوثان إلى عبادة الرحمن؟ فقال : أمعكما آية؟
___________
(1) هذا قول قتادة ، أخرجه الطبري (22/ 155) والظاهر من (أرسلنا) أنهم أنبياء ، أرسلهم اللّه ، ويدلّ عليه : قول المرسل إليهم : ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا وهذه المحاورة لا تكون إلا مع من أرسله اللّه ، ولو كان هؤلاء من الحواريين لقالوا عبارة تناسب أنهم من عند المسيح - عليه السّلام. راجع تفسير ابن كثير (3/ 569) والبحر المحيط (7/ 313).(4/561)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 562
فقالا : نشفى المريض ، ونبرىء الأكمه والأبرص ، وكان له ابن مريض منذ سنين ، فمسحاه ، فقام ، فآمن حبيب ، وفشا الخبر ، فشفى على أيديهما خلق كثير ، فدعاهما الملك ، وقال : ألنا إله سوى آلهتنا؟ فقالا : نعم ، من أوجدك وآلهتك ، فقال : قوما حتى أنظر فى أمركما ، فحبسهما.
ثم بعث عيسى عليه السّلام شمعون ، فدخل متنكرا ، وعاشر حاشية الملك ، حتى استأنسوا به ، ورفعوا خبره إلى الملك ، فاستأنس به. فقال له ذات يوم : بلغني أنك حبست رجلين ، فهل سمعت قولهما؟ قال : لا ، فدعاهما. فقال شمعون : من أرسلكما؟ فقالا : اللّه الذي خلق كل شىء ، ورزق كل حىّ ، وليس له شريك. فقال : صفاه وأوجزا ، فقالا :
يفعل ما يشاء ، ويحكم ما يريد ، قال : وما آيتكما؟ قالا : ما يتمنّى الملك ، فدعا بغلام أكمه ، فدعوا اللّه ، فأبصر الغلام ، فقال شمعون للملك : أرأيت لو سألت إلهك حتى يصنع مثل هذا ، فيكون لك وله الشرف؟ فقال : ليس لى عنك سرّ ، إن إلهنا لا يبصر ولا يسمع ، ولا يضر ، ولا ينفع. فقال : إن قدر إلهاكما على إحياء ميّت آمنا ، فدعوا بغلام مات منذ سبعة أيام ، فقام ، فقال : إنى دخلت فى سبعة أودية من النار لما مت عليه من الشرك ، وأنا أحذّركم ما أنتم عليه! فآمنوا. قال : وفتحت أبواب السماء ، فرأيت شابا حسن الوجه ، يشفع لهؤلاء الثلاثة ، قال الملك : من هم؟ قال : شمعون وهذان ، فتعجّب الملك. فلمّا رأى شمعون أن قوله أثّر فيه ، نصحه وآمن ، وآمن قوم ، ومن لم يؤمن صاح عليهم جبريل ، فهلكوا «1». كما سيذكره بقوله : إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ.
وهذا معنى قوله هنا : فَكَذَّبُوهُما أي : فكذّب أصحاب القرية المرسلين ، فَعَزَّزْنا : قويناهما. وقرأ شعبة بالتخفيف ، من : عزّه : غلبه ، أي : فغلبنا وقهرنا بِثالِثٍ ، وهو شمعون ، وترك ذكر المفعول به لأنّ المراد ذكر المعزّز به ، وهو شمعون ، وما لطف به من التدبير حتى عزّ الحق ، وذلّ الباطل. وإذا كان الكلام منصبا إلى غرض من الأغراض جعل سياقه له وتوجّهه إليه كأنما سواه مرفوض. فَقالُوا أي : الثلاثة لأهل القرية : إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ من عند عيسى ، الذي هو من عند اللّه. وقيل : كانوا أنبياء من عند اللّه - عز وجل - أرسلهم إلى قرية ، ويرجحه قول الكفرة : ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا ، إذ هذه محاورة إنما تقال لمن ادعى الرسالة ، أي : ما أنتم إلا بشر ، ولا مزية لكم علينا وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ أي : وحيا ، إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ فيما تدعون من الرسالة. قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ ، أكّد الثاني باللام دون الأول لأن الأول مجرد إخبار ،
___________
(1) انظر تفسير البغوي (7/ 11 - 12).(4/562)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 563
والثاني جواب عن إنكار ، فيحتاج إلى زيادة تأكيد. ورَبُّنا يَعْلَمُ جار مجرى القسم فى التأكيد ، وكذلك قولهم : شهد اللّه ، وعلم اللّه. وَما عَلَيْنا إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ أي : التبليغ الظاهر ، المكشوف بالآيات الظاهرة الشاهدة بصحته.
قالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ تشاء منا بكم. وذلك أنهم كرهوا دينهم ، ونفرت منه نفوسهم. وعادة الجهال أن يتيمّنوا بكل شىء مالوا إليه ، وقبلته طباعهم ، ويتشاءموا بما نفروا عنه ، وكرهوه ، فإن أصابهم بلاء ، أو نعمة ، قالوا :
بشؤم هذا ، وبركة ذلك. وقيل : حبس عنهم المطر ، فقالوا ذلك. وقيل : ظهر فيهم الجذام ، وقيل : اختلفت كلماتهم. ثم قالوا لهم : لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا عن مقالتكم هذه لَنَرْجُمَنَّكُمْ لنقتلنكم بالحجارة ، أو : لنطردنّكم ، أو : لنشتمنكم ، وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ وليصيبنّكممنا عذاب الحريق ، وهو أشد العذاب.
قالُوا أي : الرسل طائِرُكُمْ سبب شؤمكم مَعَكُمْ وهو الكفر ، أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ أي : وعظتم ، ودعيتم إلى الإسلام تطيرتم ، وقلتم ما قلتم ، بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ مجاوزون الحد فى العصيان ، فمن ثمّ أتاكم الشؤم ، لا من قبل الرسل. أو : بل أنتم قوم مسرفون فى ضلالكم وغيّكم ، حيث تتشاءمون بمن يجب التبرّك به من رسل اللّه - عليهم الصلاة والسلام.
الإشارة : إذا أرسل اللّه إلى قلب ولىّ واردا أولا ، ثم شك فيه ، ودفعه ، ثم أرسل ثانيا ودفعه ، ثم عززه بثالث ، وجب تصديقه والعمل بما يقول ، وإلا وقع فى العنت وسوء الأدب لأن القلب إذا صفى من الأكدار لا يتجلى فيه إلا الحق ، وإلا وجب اتهامه ، حتى يتبين وجهه. وباقى الآية فيه تسلية لمن قوبل بالتكذيب من الأولياء والصالحين. وباللّه التوفيق.
ثم تمم القصة ، فقال :
[سورة يس (36) : الآيات 20 الى 27]
وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21) وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22) أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ (23) إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (24)
إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (25) قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27)(4/563)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 564
يقول الحق جل جلاله : وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى ، وهو حبيب النجار «1» ، وكان فى غار من الجبل يعبد اللّه ، فلما بلغه خبر الرسل أتاهم ، وأظهر دينه. قال القشيري : فى القصة أنه جاء من قرية فسمّاها مدينة ، وقال : من أقصاها ، ولم يكن بينهما تفاوت كثير ، وكذلك أجرى سنّته فى استكثار القليل من فعل عبده ، إذا كان يرضاه ، ويستنزر الكثير من فضله إذا بذله وأعطاه. ه.
ولما قدم سألهم : أتطلبون على ما تقولون أجرا؟ فقالوا : لا ، قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ ، اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً على تبليغ الرسالة وَهُمْ مُهْتَدُونَ على جادة الهداية والنصح وتبليغ الرسالة. فقالوا : وأنت على دين هؤلاء؟ فقال : وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي : خلقنى وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ، وفيه التفات من التكلم إلى الخطاب ، ومقتضى الظاهر : وإليه أرجع. والتحقيق : أن المراد : مالكم لا تعبدون ، لكن لمّا عبّر عنهم بطريق التكلم تلطف فى الإرشاد ، بإيراده فى معرض المناصحة لنفسه ، وإمحاض النصح ، حيث أراد لهم ما أراد لها ، جرى على ذلك فى قوله : وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ، والمراد : تقريعهم على ترك عبادة خالقهم إلى عبادة غيره.
ثم قال : أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً يعنى الأصنام ، إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ ، وهو شرط جوابه :
لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ من مكروه بالنصر والمظاهرة ، إِنِّي إِذاً أي : إذا اتخذت إلها غيره لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ لفى خطأ بيّن ، لا يخفى على عاقل ، إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ أي : اسمعوا إيمانى ، لتشهدوا به لى يوم القيامة ، فقتله قومه «2».
ولمّا مات قِيلَ له : ادْخُلِ الْجَنَّةَ ، فدفن فى أنطاكية ، وقبره بها. ولم يقل : قيل له لأن الكلام مسوق لبيان القول ، لا لبيان المقول له لكونه معلوما. وفيه دلالة على أن الجنة مخلوقة الآن. وقال الحسن : لمّا أراد القوم أن يقتلوه رفعه اللّه ، فهو فى الجنة «3» ، ولا يموت إلا بفناء السماوات والأرض ، فلما دخل الجنة ورأى نعمها ، وما أعد اللّه لأهل الإيمان ، قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِما غَفَرَ لِي رَبِّي أي : بالسبب الذي غفر لى ربى به ، وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ بالجنة ، وهو الإيمان باللّه ورسله ، أو : بمغفرة ربى وإكرامى ، ف «ما» : موصولة ، حذف عائدها المجرور ، لكونه جرّ بما جرّ به الموصول ، أو : مصدرية ، وقيل : استفهامية. وردّ بعدم حذف ألفها.
___________
(1) أخرجه ابن جرير (22/ 159) ، وعزاه السيوطي فى الدر (5/ 491) لعبد بن حميد ، وعبد الرزاق ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبى حاتم ، عن قتادة.
(2) عزاه ابن كثير فى تفسيره (4/ 568) لابن إسحاق ، فيما بلغه عن ابن عباس - رضى اللّه عنهما ، وكعب ، ووهب.
(3) ذكره البغوي فى تفسيره (7/ 15).(4/564)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 565
قال الكواشي : تمنى أن يعلم قومه أنّ اللّه قد غفر له ، وأكرمه ، ليرغب قومه فى اتباع الرسل ، فيسلموا ، فنصح قومه حيا وميتا. وكذلك ينبغى أن يكون كل داع إلى اللّه تعالى ، فى المجاهدة والنصيحة لعباد اللّه ، وألّا يحقد عليهم إن آذوه ، وأن يكظم كل غيظ يناله بسببهم. وعن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : «سبّاق الأمم ثلاثة : على بن أبى طالب ، وصاحب يس ، ومؤمن آل فرعون» «1». ه.
قال القشيري : قد أبلغ - حبيب الوعظ ، وصدق النّصح ، ولكن كما قالوا وأنشدوا :
وكم سقت فى آثاركم من نصيحة وقد يستفيد البغة المتنصّح «2»
فلمّا صدق فى حاله ، وصبر على ما لقى من قومه ، ورجع إلى ربه ، تلقّاه بحسن إقباله ، وآواه إلى كنف إفضاله ، ووجد ما وعده به من لطف نواله ، فتمنّى أن يعلم قومه حاله ، فحقّق مناه ، وأخبر عن حاله ، وأنزل فيه خطابه ، وعرف قومه ه.
الإشارة : أحبّ الخلق إلى اللّه أنفعهم لعياله وأنصحهم لهم. وفى الحديث : «لئن يهدى اللّه بك رجلا واحدا خير لك من حمر النّعم» «3» فينبغى لمن أراد الظفر بمحبة الحبيب ، وينال منه الحظوة والتقريب ، أن يتحمل المشاق فى إرشاد عباد اللّه ، ويستعمل الأسفار فى ذلك ، لينال عنده الجاه الكبير ، والقرب العظيم. حققنا اللّه بذلك بمنّه وكرمه.
ثم ذكر هلاك قومه ، فقال :
[سورة يس (36) : الآيات 28 الى 29]
وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ (28) إِنْ كانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ (29)
يقول الحق جل جلاله : وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ أي : من بعد قتله ، أو رفعه مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ فيهلكهم ، وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ وما كان يصحّ فى حكمنا فى إهلاك قوم أن ننزل عليهم جندا من
___________
(1) عزاه السيوطي فى الدر المنثور (5/ 492) بنحوه ، للطبرانى ، وابن مردويه ، بسند ضعيف ، عن ابن عباس رضي اللّه عنه.
(2) البيت للعباس بن الفرج الرياشي. انظر : الكامل للمبرد (2/ 392).
(3) جزء من حديث شريف ، أخرجه البخاري فى (فضائل الصحابة ، باب : مناقب سيدنا على بن أبى طالب ، ح 3701) ومسلم فى (فضائل الصحابة باب : من فضائل سيدنا على بن أبى طالب رضي اللّه عنه ، 4/ 1872 ، ح 2406) من حديث سهل بن سعد ، رضي اللّه عنه.(4/565)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 566
السماء ، كما فعلنا معك يوم بدر والخندق لحظوتك عندنا. وفيه تحقير لإهلاكهم ، وتعظيم لشأن الرسول - عليه الصلاة والسلام - قال فى الكشاف : فإن قلت : لم أنزل الجنود من السماء يوم بدر والخندق ، مع أنه كان يكفى ملك واحد ، فقد أهلكت مدائن قوم لوط بريشة من جناح جبريل ، وبلاد ثمود وقوم صالح بصيحة واحدة؟ قلت : لأن اللّه فضّل محمدا صلى اللّه عليه وسلم بكل شىء ، على كبار الأنبياء وأولى العزم ، فضلا عن حبيب النجار. ه. ملخصا. إِنْ كانَتْ العقوبة إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً ، صاح عليهم جبريل عليه السّلام فَإِذا هُمْ خامِدُونَ ميتون.
الإشارة : كل وعيد ورد فى مكذّبى الرسل يجر ذيله على مكذّبى الأولياء لأنهم خلفاء الأنبياء ، إلا أن عقوبة مؤذى الأولياء ، تارة تكون ظاهرة ، فى الأبدان والأموال ، وتارة باطنة ، فى قسوة القلوب والتعويق عن صالح الأعمال ، وكسف نور الإيمان والإسلام ، والبعد وسوء الختام ، وهى الحسرة العظمى ، كما قال تعالى :
[سورة يس (36) : الآيات 30 الى 32]
يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (30) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ (31) وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (32)
قلت : كَمْ أَهْلَكْنا : معلّقة ليروا عن المفعولين. وأَنَّهُمْ : بدل من كَمْ ، والتقدير : ألم يروا كثرة إهلاكنا قبلهم من القرون كونهم غير راجعين إليهم. ووَ إِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ : من قرأ «لما» بالتخفيف «1» ، فإن : مخففة ، واللام : فارقة ، و«ما» مزيدة ، أي : وإنه ، أي : الأمر والشأن لجميع محضرون عندنا. ومن قرأها بالتشديد فإن :
نافية ، و«لمّا» : بمعنى إلا ، أي : ما كلهم إلا مجموعون ومحضرون للحساب.
يقول الحق جل جلاله : يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ تعالى ، فهذا أوان حضورك. ثم بيّن لأى شىء كانت الحسرة عليهم ، فقال : ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ من عند اللّه إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ ، فإن المستهزئين بالناصحين المخلصين ، المنوط بنصحهم خير الدارين ، أحقّاء بأن يتحسّروا ، ويتحسّر عليهم المتحسّرون ، ويتلهّف المتلهّفون. أو : هم متحسّر عليهم من جهة الملائكة والمؤمنين من الثقلين.
أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أي : ألم يعلموا كثرة إهلاكنا قبلهم من القرون الماضية ، أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ أي : كونهم غير راجعين إليهم أبدا حتى يلحقوا بهم ، ففيهم عبرة وموعظة لمن يتعظ. وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ
___________
(1) قرأ ، ابن عامر ، وعاصم ، وحمزة «لمّا» بتشديد الميم. وقرأ الباقون بالتخفيف. انظر الإتحاف (2/ 400).(4/566)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 567
أي : وإن كلهم مجموعون محضرون للحساب ، أو معذّبون. وإنما أخبر عن «كل» بجميع لأن «كل» تفيد معنى الإحاطة. والجميع : فعيل ، بمعنى مفعول ، ومعناه : الاجتماع ، والمعنى : أن المحشر يجمعهم ، فكلهم مجموعون محضرون للحساب.
الإشارة : يا حسرة على العباد ، ما يأتيهم من داع يدعو إلى اللّه ، على طريق التربية الكاملة ، إلا كانوا به يستهزؤون. ألم يروا كم أهلكنا قبلهم من القرون ، ماتوا على الغفلة والحجاب ، وكلهم محضرون للعتاب والحساب ، ماتوا محجوبين ، ويبعثون محجوبين لإنكارهم فى الدنيا من يرفع عنهم الحجاب ، ويفتح لهم الباب ، وهم شيوخ التربية ، الموجودون فى كل زمان. أو : يا حسرة على المتوجهين ، ما يأتيهم من وارد على قلوبهم إلا كانوا به يستهزؤون ، ولو فهموا عن اللّه لعملوا بما يرد على قلوبهم الصافية.
ثم ذكر دلائل قدرته على البعث والإحضار ، فقال :
[سورة يس (36) : الآيات 33 الى 36]
وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (33) وَجَعَلْنا فِيها جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ وَفَجَّرْنا فِيها مِنَ الْعُيُونِ (34) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ (35) سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ (36)
قلت : «وآية لهم» : مبتدأ ، وجملة «الأرض الميتة» : خبر.
يقول الحق جل جلاله : وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها أي : وعلامة لهم تدلّ على أن اللّه يبعث الموتى ، ويحضرهم للحساب ، إحياء الأرض اليابسة بالمطر ، فاهتزت وربت بالنبات. وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا جنس الحب ، فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ ، هم وأنعامهم. وقدّم الظرف ليدل على أن الحبّ هو الشيء الذي يتعلق به معظم العيش ، ويقوم ، بالارتفاق به ، صلاح الإنسان ، إذا قلّ جاء القحط ، ووقع الضرّ ، وإذا فقد حضر الهلاك ، ونزل البلاء.
وَجَعَلْنا فِيها فى الأرض جَنَّاتٍ بساتين مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ ، وَفَجَّرْنا فِيها مِنَ الْعُيُونِ ، «من» :
زائدة عند الأخفش ، وعند غيره : المفعول : محذوف ، أي : ما تتمتعون به من العيون.(4/567)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 568
لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ أي : من ثمر اللّه ، أي : ليأكلوا مما خلق اللّه تعالى من الثمر ، أو : من ثمرة ، يخلقها اللّه من ذلك ، على قراءة الأخوين «1». وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أي : ومما عملته أيديهم من الغرس ، والسقي ، والتلقيح ، وغير ذلك ، مما تتوقف عليه فى عالم الحكمة ، إلى أن يبلغ الثمر منتهاه. يعنى : أن الثمر فى نفسه فعل اللّه ، وفيه آثار من عمل ابن آدم ، حكمة ، وتغطية لأسرار الربوبية. وأصله : من ثمرنا ، كما قال : وَجَعَلْنا وَفَجَّرْنا ، فالتفت إلى الغيبة. ويجوز أن يرجع الضمير إلى النخيل ، ويترك الأعناب غير مرجوع إليها لأنه علم أنها فى حكم النخيل. وقيل : «ما» نافية ، على أن الثمرة خلق اللّه ، ولم تعمله أيدى الناس ، ولا يقدرون عليه. أَفَلا يَشْكُرُونَ اللّه على هذه النعم الجسيمة ، وهو حثّ على الشكر.
سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ الأصناف كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ من النخيل ، والشجر ، والزرع ، والثمار ، كيف جعلها مختلفة فى الطعوم ، والروائح ، والشكل ، والهيئة ، واختلاف أوراق الأشجار ، وفنون أغصانها ، وأصناف نورها وأزهارها ، واختلاف أشكال ثمارها ، فى تفردها واجتماعها ، مع ما بسط فيها من الطبائع الأربع من الحرورة ، والبرودة ، والرطوبة ، واليبوسة ، وما فيها من المنافع المتنوعة. وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ الأولاد ذكورا وإناثا ، وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ من أصناف لم يطلعهم اللّه عليها ، ولم يتوصّلوا إلى معرفتها ، ففى البحار عجائب لا يعلمها الناس. قال تعالى : وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ «2». وفائدة التنزيه : نفى تشبيه الذات بشىء من هذه الأزواج.
واللّه تعالى أعلم.
قال القشيري : والعجب ممّن ينكر أصول الدين ، ويقول : ليس فى الكتاب عليه دليل ، وأكثر ما فى القرآن من الآيات تدل على سبيل الاستدلال ، ولكن يهدى لنوره من يشاء ، ولو أنهم أنصفوا واشتغلوا بأهم شىء لهم ما ضيّعوا أصول الدين ، ورضوا فيها بالتقليد ، وادّعوا فى الفروع رتبة الإمامة والتصدير ، وفى معناها قيل :
يا من تصدّر فى دست «3» الإمامة من مسائل الفقه إملاء وتدريسا
غفلت عن حجج التوحيد تحكمها شيّدت فرعا وما مهّدت تأسيسا! ه
قلت : وحاصله : مدح علم الأصول وترك علم أصل الأصل ، وهو علم التوحيد الخاص ، أعنى الشهود والعيان.
وقد قلت فى ذلك ، تذليلا :
___________
(1) قرأ حمزة والكسائي (من ثمر) بضم المثلثة والميم. وهى إما جمع «ثمرة» مثل : خشبة وخشب. وإما جمع ثمار ، وثمار جمع ثمرة ، فيكون جمع الجمع. انظر : شرح الهداية للمهدوى (2/ 285) ، وإتحاف فضلاء البشر (2/ 25).
(2) من الآية 8 من سورة النحل.
(3) الدست : صدر البيت.(4/568)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 569
يا من تصدّى لعلم الأصل يحكمه قد فاتك الذوق بالوجدان مستأنسا.
الإشارة : وآية لهم النفس الميتة بالجهل أحييناها بالعلم ، وأخرجنا منها علما لدّنيا ، فمنه تتقوت القلوب والأرواح ، وجعلنا فيها جنات المعارف ، من نخيل الحقائق ، وأعناب الشرائع ، وفجّرنا فيها من عيون الحكم ، ليأكلوا من ثمره ، ومما عملته أيديهم ، من المجاهدات والمكابدات ، فإنها تثمر المشاهدات. سبحان الذي خلق الأزواج كلها من الأحوال ، والمقامات ، والعلوم ، والمعارف ، مما يستخرج من النفوس والأرواح ، ومما لا يعلمه إلا اللّه.
ثم ذكر برهانا آخر ، فقال :
[سورة يس (36) : الآيات 37 الى 40]
وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ (37) وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38) وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39) لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40)
يقول الحق جل جلاله : وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ نخرج منه النهار ، إخراجا لا يبقى معه شىء من ضوء النهار. مستعار من : سلخ الجلد عن الشاة ، أو : ننزع عنه الضوء نزع القميص الأبيض ، فيعرى نفس الزمان ، كشخص أسود ، نزع عنه قميص أبيض لأن أصل ما بين السماء والأرض من الهواء : الظلمة ، فاكتسى بعضه ضوء الشمس ، كبيت مظلم أسرج فيه ، فإذا غاب السراج أظلم. فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ داخلون فى الظلام.
وَآية لهم أيضا الشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها لحدّ لها مؤقّت ، تنتهى إليه من فلكها فى آخر السنة.
شبهت بمستقرّ المسافر إذا انتهى سفره ، أو : لحدّ لها من مسيرها كلّ يوم فى مرائى عيون الناس ، وهو المغرب. وفى الحديث الصحيح - من طريق أبى ذر - : «إنها تسجد كل يوم تحت العرش ، فتستأذن ، فيؤذن لها ، ويوشك أن تستأذن فلا يؤذن لها ، فتطلع من مغربها» ، ذرّ قال صلى اللّه عليه وسلم : «وذلك قوله : وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها» «1».
___________
(1) أخرجه البخاري فى (بدء الخلق ، باب صفة الشمس والقمر ، ح 3199) ومسلم فى (الإيمان ، باب بيان الزمن الذي لا يقبل فيه الإيمان ، 1/ 139 ح 251) من حديث أبى ذر رضي اللّه عنه. [.....](4/569)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 570
وعن ابن عباس : أن الشمس بمنزلة السانية ، تجرى بالنهار فى السماء فى فلكها ، فإذا غربت جرت فى الليل تحت الأرض فى فلكها ، حتى تطلع من مشرقها ، وكذلك القمر. كذا نقل الكواشي عنه. ولعله لا يناقض ما جاء فى الحديث ، من أنها تسجد تحت العرش ، لإحاطة العرش بالجميع ، فهى حيث ما انتهت تحته. ونقل الأقليشى من حديث عكرمة ، عن ابن عباس : (ما طلعت شمس حتى ينخسها سبعون ألف ملك ، فيقولون لها : اطلعى ، فتقول : لا أطلع على قوم يعبدوننى من دون اللّه ، فيأتيها ملك من اللّه ، فيأمرها بالطلوع ، فتستقل بضياء بنى آدم ، فيأتيها شيطان يريد أن يصدها عن الطلوع ، فتطلع بين قرنيه ، فيحرقه اللّه تعالى تحتها ، وما غربت شمس قط إلا خرّت للّه ساجدة ، فيأتيها شيطان ، يريد أن يصدها عن السجود ، فتغرب بين قرنيه ، فيحرقه اللّه تعالى ، وذلك قوله صلى اللّه عليه وسلم : «ما طلعت شمس إلا بين قرنى الشيطان ، ولا غربت إلا بين قرنى الشيطان» «1». ه. على نقل شيخ شيوخنا الفاسى.
وقرأ ابن عباس وابن مسعود : «تجرى لا مستقر لها» ، ومعناها : إنها جارية أبدا ، لا تثبت فى مكان. وقراءة الجماعة أوفق بالحديث. ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ أي : ذلك الجري على ذلك التقدير البديع ، والحساب الدقيق ، تقدير الغالب بقدرته على كل مقدور ، العليم بكل معلوم.
وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ ، من نصبه فبفعل مضمر ، ومن رفعه فمبتدأ ، والخبر : قَدَّرْناهُ مَنازِلَ ، وهى ثمانية وعشرون منزلا : فرع الدلو المقدم ، فرع الدلو المؤخر ، بطن الحوت ، النطح ، البطين ، الثّريّا ، الدّبران ، الهقعة ، الهنعة ، الذّراع ، النّثرة ، الصّرفة ، الجبهة ، الطّرفة ، الزّبرة ، العوّاء ، السّماك ، الغفر ، الزّبانى ، الإكليل ، القلب ، الشّولة ، النعائم ، البلدة ، سعد الذّابح ، سعد السّعود ، سعد الأخبية «2» ، ينزل القمر كل ليلة فى واحد منها لا يتخطاها ، ولا يتقاصر عنها. على تقدير مستو ، يسير فيها من ليلة المستهلّ إلى الثامنة والعشرين ، ثم يستترّ ليلتين ، أو ليلة إذا نقص الشهر. ولا بد فى قَدَّرْناهُ مَنازِلَ من تقدير مضاف أي : قدرّنا سيره ، أو نوره ، فيزيد وينقص ، إذ لا معنى لتقدير القمر منازل ، فيكون «منازل» ظرفا.
فإذا كان فى آخر منازله ، دق وتقوس ، حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ أي : كالشّمراخ ، وهو عنقود التمر إذا يبس واعوج. ووزنه فعلون ، من الانعطاف ، وهو الانعراج ، الْقَدِيمِ العتيق المحول «3» ، وإذا قدم دقّ ، وانحنى ، واصفرّ ، فشبه القمر به من ثلاثة أوجه.
___________
(1) أخرجه ابن عساكر (تهذيب تاريخ دمشق 3/ 124).
(2) انظر البحر المحيط (7/ 322) وتفسير القرطبي (6/ 5632 - 5633).
(3) أي : مرّ عليه حول (عام) فصاعدا.(4/570)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 571
لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها يصحّ ويستقيم لها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ فتجتمع معه فى وقت واحد ، وتداخله فى سلطانه ، فتطمس نوره قبل تمام وقته لأن لكلّ واحد من النيّرين سلطانا عل حياله ، فسلطان الشمس بالنهار ، وسلطان القمر بالليل. وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ ولا يسبق الليل النهار ، أي : آية الليل لا تسبق آية النهار ، وهى النيّران. ولا يزال الأمر على هذا الترتيب إلى أن تقوم الساعة ، فيجمع اللّه بين الشمس والقمر ، ويكوران ويرميان فى النار ، وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ أي : وكلهم فى فلك يسبحون يسيرون فالتنوين للعوض والضمير للشمس والقمر فإنّ اختلاف الأحوال يوجب تعددا ما فى الذات ، أو : للكواكب فإن ذكر النيرين مشعر بها وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ يقرأ مقلوبا ومرتبا ، ففيه نوع من البديع.
الإشارة : وآية لهم ليل الغفلة نسلخ منه نهار اليقظة ، ونهار اليقظة ، نسلخ منه ليل الغفلة ، فلا يزال العبد بين غفلة ويقظة ، حتى تشرق عليه شمس العرفان ، وتستقر فى قلبه ، فلا غروب لها ، وإليه الإشارة بقوله : وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ، ومستقرها : قلوب العارفين. وقمر الإيمان قدّرناه منازل ، ينقص ويزيد ، بزيادة التفرغ والتوجه ونقصانه ، حتى تطلع عليه شمس العرفان ، فينسخ نوره ، فلا زيادة ولا نقصان. قال القشيري : فشبيه الشمس عارف أبدا فى ضياء معرفته ، صاحب تمكين ، غير متلوّن ، شرف فى بروج سعادته قائما ، لا يأخذه كسوف ، ولا يستره سحاب. وشبيه القمر عبد تلون أحواله فى التنقل ، صاحب تلوين ، له من البسط ما يرقيه إلى حدّ الوصال ، ثم يردّ إلى الفترة ، ويقع فى القبض مما كان فيه من صفاء الحال ، فيتناقص ، ويرجع إلى نقص أمره ، إلى أن يدفع قلبه عن وقته ، ويجود عليه الحقّ سبحانه ، فيوفّقه لرجوعه عن فترته ، وإفاقته من سكرته ، فلا يزال تصفوا أحواله ، إلى أن يقرب من الوصال ، ويرزق صفة الكمال ، ثم بعد ذلك يأخذ فى النقص والزوال ، كذلك حاله إلى أن يحقّ له بالمقسوم ارتحاله ، وأنشدوا :
كلّ يوم تتلون غير هذا بك أجمل. «1» ه.
ثم ذكر دليلا آخر ، فقال :
[سورة يس (36) : الآيات 41 الى 44]
وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (41) وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ (42) وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ (43) إِلاَّ رَحْمَةً مِنَّا وَمَتاعاً إِلى حِينٍ (44)
___________
(1) غنته جارية فى قصة. انظرها فى الرسالة القشيرية/ 156. وورد فى الكبريت الأحمر (2/ 147) : [غير هذا بك أحسن ].(4/571)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 572
يقول الحق جل جلاله : وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ أولادهم ، الذين يبعثونهم إلى تجاراتهم ، أو صبيانهم ونسائهم الذين يستصحبونهم فإن الذرّية تقع عليهن لأنهن مزارعها. وتخصيصهم لأن استقرارهم فى السفن أشق ، وتماسكهم فيها أعجب ، أو خصهم لضعفهم عن السفر ، فالنعمة فيهم أظهر. فحملناهم فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ : المملوء ، والظاهر : أن الضمير فى «ذريتهم» للجنس. كأنه قال : ذريات جنسهم ونوعهم. قال ابن عباس وجماعة : يريد بالذريّات المحمولين : أصحاب نوح فى السفينة ، ويريد بقوله : وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ : السفن الموجودة فى جنس بنى آدم إلى يوم القيامة ، وإياها عنى بقوله : وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ .. إلخ.
وأما إطلاق الذرية على الآباء ، فقال ابن عطية : لا يعرف لغة ، وإنما المراد بالذرية الجنس ، أو حقيقة ما تقدم.
وعليه يكون قوله : وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ يراد به الإبل فإنها سفن العرب.
وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ إذا اركبوا سفن البحر ، فَلا صَرِيخَ لَهُمْ فلا مغيث ، أو : لا مستغيث لهم ، وهو أبلغ ، أي : لم تبق لهم قدرة على الاستغاثة. وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ ينجون من الموت ، إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتاعاً إِلى حِينٍ أي : لا ينقذون إلا لرحمة منا ، ولتمتيع بالحياة إلى انقضاء الأجل. فهما مفعولان له. وقال بعضهم :
الاستثناء راجع لثلاث جمل : «نغرقهم» ، «فلا صريخ لهم» ، «ولا هم ينقذون».
الإشارة : إذا عامت أفكار العارفين ، فى بحار التوحيد ، وأسرار التفريد ، تلاطمت عليها أمواج الدهش من كبرياء اللّه ، فإن سبق لها سابق عناية الاعتدال أوت إلى سفينة الشريعة ، بعد ركوبها فى فلك الحقيقة ، وإليه الإشارة فى قوله : حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ، وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ. وإن لم تسبق له عناية ، غرق فى بحر الزندقة والإلحاد ، كما قال تعالى : وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ من شيخ كامل ، ولا هم ينقذون إلا رحمة منا ومتاعا إلى حين الكمال ، فيعتدل. قال القشيري : الآية إشارة إلى حمل الخلق فى سفينة السلامة ، فى بحار التقدير ، عند تلاطم أمواجها ، بفنون من التغيير والتأثير ، وكم من عبد غرق فى أشغاله ، فى ليله ونهاره ، لا يستريح لحظة فى كدّ أفعاله ، ومقاساة التعب من أعماله ، وجمع ماله ، بنسيان عاقبته ومآله. ثم قال فى قوله تعالى :
وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ : لو لا صفة جوده وفضله لحلّ بهم من البلاء ما حلّ بأمثالهم ، لكنه لحسن إفضاله ، حفظهم فى جميع أحوالهم. ه.(4/572)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 573
ثم ذكر كفرهم لهذه النعم ، فقال :
[سورة يس (36) : الآيات 45 الى 47]
وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَما خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (45) وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (46) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (47)
قلت : جواب «إذا» محذوف ، أي : أعرضوا ، فدل عليه قوله : «معرضين».
يقول الحق جل جلاله : وَإِذا قِيلَ لَهُمُ أي : كفار قريش : اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَما خَلْفَكُمْ أي :
ما تقدّم من ذنوبكم ، وما تأخّر مما أنتم تعملونه بعد ، أو : ما بين أيديكم : ما سلف من مثل الوقائع التي حلّت بالأمم المكذبة قبلكم ، وما خلفكم من أمر الساعة ، أو : ما بين أيديكم من فتنة الدنيا ، وما خلفكم من عذاب الآخرة.
لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ لتكونوا فى رجاء رحمة اللّه ، فإذا قيل لهم ذلك أعرضوا.
قال تعالى : وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ الدالة على وحدانية تعالى ، وصدق رسوله ، إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ لا يلتفتون إليها ، ولا يرفعون لها رأسا ، ف «من» الأولى لتأكيد النفي ، والثانية للتبعيض ، أي : دأبهم الإعراض عن كل آية وموعظة.
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ أي : تصدّقوا على الفقراء ، قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا من مشركى مكة لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ. عن ابن عباس رضي اللّه عنه : كان بمكة زنادقة ، فإذا أمروا بالصدقة على المساكين ، قالوا : لا واللّه ، أيفقره اللّه ونطعمه نحن؟! «1». قيل : سبب الآية : أن قريشا لمّا أسلم ضعفاؤهم ، قطعوا عنهم صلاتهم ، فندبهم بعض المؤمنين إلى ذلك ، فقالوا تلك المقالة.
وقيل : إن قريشا شحّت - بسبب أزمة نزلت بهم - على المساكين ، مؤمنهم وكافرهم ، فندبهم النبي صلى اللّه عليه وسلم إلى النفقة على المساكين ، فقالوا على سبيل الجهل : أنطعم قوما أراد اللّه فقرهم وتعذيبهم. ومن أمثالهم : كن مع اللّه على المدبر ، حتى كان الرجل يرعى إبله ، فيجعل السمان فى الخصب ، والمهازيل فى الجدب ، فإذا قيل له فى ذلك ، قال :
___________
(1) انظر : البحر المحيط (7/ 325) وتفسير القرطبي (6/ 5641).(4/573)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 574
أكرم ما أكرم اللّه ، وأهين ما أهان اللّه. ويحتمل أن يكون قولهم ذلك استهزاء ، فكأنهم قالوا : لم لا يرزقهم إلهك الذي تزعم.
قال الكواشي : قد يتمسك بهذه الآية بعض البخلاء ، فيقول : لا أعطى من حرمه اللّه. وليس هذا بصحيح لأن اللّه تعالى أغنى وأفقر ، وجعل للفقير جزءا من مال الغنى كما يشاء. وفى الإحياء : أن المراد بالصدقة وشرعها :
التخلص من رذيلة البخل ، وذلك نفع يعود على المتصدق ، بإخراجه عن حب الدنيا ، وتعلق قلبه بها ، الصادّ عن اللّه ، وهؤلاء لم يفهموا حكمة اللّه ، فقالوا ما قالوا. ه. ثم قال : إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ فى أمركم لنا بالنفقة ، أو فى غير ذلك من دينكم ، أو : يكون من قول اللّه تعالى للكفرة.
الإشارة : وإذا قيل للعامة : اتقوا ما بين أيديكم ، من شدائد الدنيا ، وما خلفكم ، من أهوال الآخرة ، لعلكم ترحمون فيهما فإن التقوى الكاملة تحفظ الرجل فى حياته وبعد مماته ، وربما يسرى الحفظ إلى عقبه ، كما هو مشاهد فى عقب أولياء اللّه. أو : إذا قيل لهم : اتقوا خواطر التدبير فيما بين أيديكم إذ ليس أمره بيدكم ، فجل ما تبنيه من التدبير تهدمه رياح التقدير ، وخواطر التدبير ، فيما سلف قبلكم ، إذ فيه تحصيل الحاصل ، وتعطيل الوقت بلا فائدة. لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ بمقام الرضا ، وسكون القلب وراحته تحت مجارى القضاء ، أعرضوا وانهمكوا فى أودية الغفلة والخواطر. وما تأتيهم من آية دالة على وحدانيته تعالى ، وانفراده بالخلق والتدبير ، إلا كانوا عنها معرضين.
قال القشيري : هذه صفة من سيّبهم فى أودية الخذلان ، ووسمهم بسمة الحرمان ، وأصمّهم عن سماع الرّشد ، وصدّهم بالخذلان عن سلوك القصد ، فلا تأتيهم آية فى الزّجر إلا قابلوها بإعراضهم ، وتجافوا عن الاعتبار بها ، على دوام انقباضهم ، وإذا أمروا بالإنفاق والإطعام عارضوا بأنّ اللّه رازق الأنام ، وإذا شاء نظر إليهم بالإنعام. ه.
ثم ذكر استعجالهم البعث ، فقال :
[سورة يس (36) : الآيات 48 الى 54]
وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (48) ما يَنْظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (49) فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (50) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (51) قالُوا يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (52)
إِنْ كانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (53) فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلا تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (54)(4/574)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 575
يقول الحق جل جلاله : وَيَقُولُونَ - استهزاء - : مَتى هذَا الْوَعْدُ أي : وعد البعث والقيامة إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ فيما تقولون. خطاب للنبى صلى اللّه عليه وسلم ، وأصحابه. قال تعالى : ما يَنْظُرُونَ ينتظرون إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً هى : النفخة الأولى ، تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ يختصمون ، يخصم بعضهم بعضا فى المعاملات ، لا يخطر ببالهم أمرها ، فتأتيهم بغتة. وقرأ حمزة - بسكون الخاء - من : خصمه : إذا غلبه فى الخصومة. وفتح الباقون ، مع الاختلاس والنقل وعدمهما. فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً فلا يستطيعون أن يوصوا فى أمورهم بشىء ، وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ ولا يقدرون على الرجوع إلى منازلهم ، بل يموتون حيث يسمعون الصيحة.
وَنُفِخَ فِي الصُّورِ النفخة الثانية ، بعد خلو الأرض أربعين سنة. والصور : القرن ، أو : جمع صورة. فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ القبور إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ يسرعون فى المشي إلى المحشر.
قالُوا يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا من أنشرنا مِنْ مَرْقَدِنا مضجعنا؟. قال مجاهد وأبىّ بن كعب : للكفار هجعة يجدون فيها طعم النوم ، فإذا صيح بأهل القبور ، قالوا يا ويلنا من بعثنا؟ وأنكره ابن عطية ، وقال : إنما هو استعارة ، كما تقول فى قتيل : هذا مرقده إلى يوم القيامة. فتقول الملائكة فى جوابهم : هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ ، أو يقوله المؤمنون ، أو : الكفار ، يتذكرون ما سمعوه من الرسل ، فيجيبون به أنفسهم ، أو بعضهم بعضا. و«ما» : مصدرية ، أي : هذا وعد الرحمن وصدق المرسلين ، على تسمية الموعود والمصدوق فيه بالوعد والصدق. أو : موصولة ، أي : هذا الذي وعده الرحمن والذي صدقه المرسلون ، أي : والذي صدق فيه المرسلون.
إِنْ كانَتْ النفخة الأخيرة إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ للحساب ، ثم يقال لهم فى ذلك اليوم : فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلا تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ من خير أو شر.
الإشارة : إذا كبر يقين العبد صارت عنده الأمور المستقبلة واقعة ، والآجلة عاجلة ، فيستعد لها قبل هجومها ، ويتأهب للقائها قبل وقوعها ، أولئك الأكياس ، الذين نظروا إلى باطن الدنيا ، حين نظر الناس إلى ظاهرها ، واهتموا بآجالها ، حين اغتر الناس بعاجلها ، كما فى الحديث فى صفة أولياء اللّه.(4/575)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 576
ثم بيّن الحق تعالى مآلهم ، فقال :
[سورة يس (36) : الآيات 55 الى 59]
إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ (55) هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ (56) لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ (57) سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (58) وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (59)
قلت : «سلام» : بدل من «ما» ، أو : خبر عن مضمر ، أو : مبتدأ حذف خبره ، أو : من ذلك سلام ، وهو أظهر ليكون عاما ، أي : ولهم كل ما يتمنون ، كقوله : وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ
«1» ومن جملة ذلك : سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ فيوقف على «ما يدّعون». و«قولا» : منصوب على المصدر المحذوف ، أي : يقال لهم «قولا» ، وقيل :
على الاختصاص.
يقول الحق جل جلاله : إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ - بضم الغين وسكونها «2» - أي : فى شغل لا يوصف لعظم بهجته وجماله. فالتنكير للتعظيم ، وهو افتضاض الأبكار ، على شط الأنهار ، تحت الأشجار ، أو سماع الأوتار فى ضيافة الجبار. وعن أبى هريرة وابن عباس - رضى اللّه عنهما - قيل : يا رسول اللّه أنفضي إلى نسائنا فى الجنة ، كما نفضى إليهن فى الدنيا؟. قال : «نعم ، والذي نفس محمد بيده إن الرجل ليفضى فى الغداة الواحدة إلى مائة عذراء» «3» وعن أبى أمامة : سئل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : هل يتناكح أهل الجنة؟ فقال : «نعم ، بذكر لا يملّ ، وشهوة لا تنقطع ، دحما دحما» «4». قال فى القاموس : دحمه - كمنعه : دفعه شديدا. وعن أبى سعيد الخدري قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : «أهل الجنة إذا جامعوا نساءهم عادوا أبكارا» «5» ، وفى رواية أبى الدرداء : «ليس فى الجنة منّى» ، وفى رواية : «بول أهل الجنة عرق يسيل تحت أقدامهم مسكا» «6» وعن إبراهيم النخعي : جماع ما شئت ، ولا ولد. ه. فإذا اشتهى الولد كان بلا وجع ، فقد روى الحاكم والبيهقي عنه - عليه الصلاة والسلام - : «إن الرجل من أهل الجنة ليولد له الولد ، كما يشتهى ، فيكون حمله وفصاله وشبابه فى ساعة واحدة». انظر البدور السافرة.
___________
(1) من الآية 31 من سورة فصلت.
(2) قرأ ابن عامر ، وعاصم ، وحمزة ، والكسائي ، وأبو جعفر (شغل) بضم الغين ، وقرأ الباقون بالسكون. انظر الإتحاف (2/ 102).
(3) أخرج حديث أبى هريرة : البزار (كشف الأستار ح 3525). قال الهيثمي فى المجمع (10/ 416) : (رواه البزار والطبراني ، ورجال هذه الرواية رجال الصحيح ، غير محمد بن ثواب ، وهو ثقة). وحديث ابن عباس عزاه فى المجمع لأبى يعلى.
(4) عزاه فى المجمع (10/ 416) للطبرانى.
(5) أخرجه البراز (كشف الأستار ح 3527). وقال الهيثمي فى المجمع (10/ 417) : رواه البزار ، والطبراني فى الصغير ، وفيه معلى ابن عبد الرحمن ، وهو كذاب.
(6) عزاه فى المجمع (10/ 416) للطبرانى فى الأوسط وفى الكبير ، بنحوه ، عن زيد بن أرقم.(4/576)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 577
قلت : والتحقيق أن شغل أهل الجنة مختلف ، فمنهم من هو مشتغل بنعيم الأشباح ، من حور ، وولدان ، وأطعمة ، وأشربة ، على ما يشتهى ، ومنهم من هو مشتغل بنعيم الأرواح ، كالنظر لوجه اللّه العظيم ، ومشاهدة الحبيب ، ومناجاة ومكالمات ، ومكاشفات ، وترقّيات فى معاريج الأسرار كل ساعة. ومنهم من يجمع له بين النعيمين ، وسيأتى فى الإشارة. وقوله تعالى : فاكِهُونَ أي : متلذذون فى النعمة ، والفاكه والفكه : المتنعم ، ومنه : الفكاهة لأنه مما يتلذّذ به ، وكذا الفاكهة.
ثم قال تعالى : هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ جمع ظل ، وهو : الموضع الذي لا تقع عليه الشمس. وفى قراءة «ظلل» بالضم ، جمع ظلة ، كبرمة وبرام ، وهو ما يسترك عن الشمس ، وظل أهل الجنة لا تنسخه شمس ، قال تعالى : وَظِلٍّ مَمْدُودٍ «1» عَلَى الْأَرائِكِ : جمع أريكة ، وهى السرير فى الحجلة. فالأرائك : السرر المفروشة ، بشرط أن تكون عليها الحجلة ، وإلا فليست بأريكة ، والحجلة : ما يستر السرير من ثوب الحرير. وهم مُتَّكِؤُنَ عليها كالملوك على الأسرة. لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ كثيرة مما يشتهون. وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ أي : كل ما يدعونه يأتيهم فورا ، فوزنه : يفتعلون ، من الدعاء ، أو : ما يتمنون من نعيم الأشباح والأرواح ، من قولهم : ادّع علىّ ما شئت ، أي : تمنّه. وقال الفراء : هو من الدعوى ، ولا يدّعون إلا ما يستحقون.
سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ أي : من أهم ما يدعون : سلام يقال لهم قولا من رب رحيم ، بلا واسطة مبالغة فى تعظيمهم ، وذلك غاية متمناهم ، مضافا لرؤيته ، ومن مقتضى الرحمة : الإبقاء عليهم مع ذلك. قال القشيري : يسمعون كلامه وسلامه بلا واسطة ، وأكّد بقوله : قَوْلًا. وبقوله : مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ ليعلم أنه ليس على لسان سفير ، والرحمة فى تلك الحالة أن يرزقهم الرؤية فى حال التسليم عليهم ، ليكمل لهم النعمة ه. وفى الحديث عنه صلى اللّه عليه وسلم : «بينا أهل الجنة فى نعيمهم ، إذ سطع لهم نور ، فرفعوا رؤوسهم ، فإذا الربّ قد أشرف عليهم من فوقهم ، فيقول : السلام عليكم يا أهل الجنة ، فينظر إليهم ، وينظرون إليه» «2».
ثم ذكر أهل البعد والحجاب ، فقال : وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ أي : انفردوا عن المؤمنين وكونوا على حدة ، وذلك حين يحشر المؤمنون ، ويساق بهم إلى الجنة. وقال قتادة : عزلوا عن كل خير. وعن الضحاك : لكل كافر بيت من النار ، يكون فيه ، لا يرى ولا يرى أبدا. ه.
___________
(1) الآية 30 من سورة الواقعة.
(2) أخرجه ابن ماجه فى (المقدمة ، باب فيما أنكرت الجهمية 1/ 66 ، ح 184) وزاد السيوطي فى الدر المنثور (5/ 501) عزوه لابن أبى الدنيا ، فى صفة الجنة ، والبزار ، وابن أبى حاتم ، والآجرى فى الرؤية ، وابن مردويه ، عن سيدنا جابر رضي اللّه عنه.(4/577)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 578
الإشارة : إنّ أصحاب الجنة المعجّلة لأوليائه ، اليوم ، فى شغل كبير ، لا تجدهم إلا مشتغلين باللّه ، بين شهود واستبصار ، وتفكر واعتبار ، فى محل المشاهدة والمكالمة ، والمناجاة والمساررة ، أوقاتهم محفوظة ، وحركاتهم وسكناتهم بالإخلاص ملحوظة ، فهم فى شغل شاغل عن الدنيا وأهلها ، هم ومن تعلق بهم فى ظلال الرضا ، وبرد التسليم يرتادون ، وفى مشاهدة وجه الحبيب يتنعمون. قال القشيري : إن أصحاب الجنة اليوم ، أي : طلابها ، والساعون لها ، والعاملون لنيلها ، ولمثل ذلك فليعمل العاملون ، فهم فى الدنيا فى طلب الجنة عن المنعم بها ، كما جاء فى الحديث : «أكثر أهل الجنة البله» «1» ، ومن كان فى الدنيا عن الدنيا حرّا ، فلا يبعد أن يكون فى الجنة عن الجنة حرا ، «يختص برحمته من يشاء» - قلت : فالبله هم أهل الحجاب ، الذين يعبدون اللّه لطلب الجزاء ، ويقنعون بالنعيم الحسى - ثم قال : ويقال : الحقّ تعالى لا يتعلّق به حقّ ولا باطل ، فلا تنافى بين اشتغالهم بلذاتهم مع أهليهم ، وبين شهودهم مولاهم ، كما أنهم اليوم مستديمون لمعرفته ، بأى حالة كانت. ولا يقدح اشتغالهم باستيفاء حظوظهم ، فى معارفهم. ه. مختصرا.
قلت : وما فى سورة الواقعة ، من ذكر نعيم السابقين ، يدلّ على أنهم يجتمع لهم نعيم الحور والولدان ، مع نعيم العيان والرضوان لأنهم فى الدنيا جمعوا بين القيام بوظائف الشريعة ، ومعاينة أسرار الحقيقة. واللّه تعالى أعلم.
قوله تعالى : سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ قال ابن عطاء : السلام جليل عظيم الخطر ، وأجلّه خطرا ما كان وقت المشاهدة والمصافحة ، حين يقول : سلام قولا من رب رحيم. قال القشيري : الرحمة فى ذلك الوقت أن يبقهم فى حال سماع السلام ، أو حال اللقاء ، لئلا تصحبهم دهشة ، ولا تلحقهم حيرة. ه. وقال الورتجبي : سلام اللّه أزلى الأبد ، غير منقطع عن عباده الصالحين ، فى الدنيا والآخرة ، لكن فى الجنة ترفع عن آذانهم جميع الحجب ، فسمعوا كلامه ، ونظروا إلى وجهه كفاحا. ه. قلت : وقد يرفع فى دار الدنيا ، فيسمع سلام اللّه على عباده ، كما وقع لبعض الأولياء - . قيل : وفى قوله : رَحِيمٍ إشارة إلى عدم حجبهم عن جماله أبدا ، مع الإبقاء عليهم فى حال السلام واللقاء ، فلا تصحبهم دهشة ، كما تقدم. وقيل : الإشارة فى الرحيمية : أن ذلك الوصول ليس باستحقاق ولا سبب من فعل العبد ، وإنما هو بالرحمة ، فيكون للعاصى فيه نفس ومساغ للرجاء. قاله المحشى.
___________
(1) أخرجه البيهقي فى شعب الإيمان (2/ 120 - 126 ، ح 1366) من حديث جابر رضي اللّه عنه قال البيهقي معقبا : هذا الحديث بهذا الإسناد منكر.
كما أخرجه البيهقي فى الموضع نفسه (ح 1367) والديلمي (الفردوس ح 1463) ، وعزاه فى الكنز (ح 39283) للبزار ، من حديث أنس بن مالك. وقال العراقي فى المغني (3/ 20) : أخرجه البزار ، من حديث أنس وضعّفه ، وصححه القرطبي فى التذكرة ، وليس كذلك ، فقد قال ابن عدى : إنه منكر. راجع الكامل لابن عدى (3/ 1160) والعلل المتناهية (2/ 934).
قلت : قال فى النهاية فى غريب الحديث (1/ 155) : «البله» هو جمع الأبله. وهو الغافل عن الشر ، المطبوع على الخير ، وقيل : هم الذين غلبت عليهم سلامة الصدور وحسن الظن بالناس لأنهم أغفلوا أمر ديناهم ، فجهلوا حذق التصرف فيها ، وأقبلوا على آخرتهم ، فشغلوا أنفسهم بها ، فاستحقوا أن يكونوا أكثر أهل الجنة. فأما الأبله ، وهو الذي لا عقل له ، فغير مراد فى الحديث. [.....](4/578)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 579
وقوله : وَامْتازُوا الْيَوْمَ إشارة إلى أن غيبة الرقيب من أتم النعمة ، وإبعاد العدوّ من أجلّ العوارف ، فالأولياء فى إيجاب القربة ، والأعداء فى العذاب والحجبة. انظر القشيري.
ثم ذكر توبيخ أعدائه يوم القيامة ، فقال :
[سورة يس (36) : الآيات 60 الى 65]
أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62) هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (63) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (64)
الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (65)
يقول الحق جل جلاله ، فى توبيخ الكفرة يوم القيامة : أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ، يقال : عهد إليه : إذا وصّاه. وهذا العهد إما على ألسنة الرسل ، أو : يوم : «ألست بربكم» ، أو : ما نصبه لهم من الحجج العقلية ، والدلائل السمعية ، الآمرة بعبادته ، الزاجرة عن عبادة غيره. وعبادة الشيطان :
طاعته فيما يوسوس به إليهم ، ويزيّنه لهم. وَأَنِ اعْبُدُونِي : عطف على «ألّا تعبدوا» ، أي : عهدنا إليكم ألّا تطيعوا الشيطان ووحّدونى ، وأطيعونى ، هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ إشارة إلى ما عهد إليهم فيه من معصية الشيطان ، وطاعة الرحمن ، أي : هذا طريق بليغ فى الاستقامة ، لا طريق أقوم منه. وفيه إشارة إلى جنايتهم على أنفسهم بعد النصح التام ، فلا حجة بعد الإعذار ، ولا ظلم بعد التذكير والإنذار.
وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا أي : خلقا كَثِيراً - وفيه لغات مذكورة فى كتب القراءات - أي : ولقد أتلف الشيطان عن طريقى المستقيم خلقا كثيرا ، بأن أشركوا معى غيرى ، أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ ، قرّعهم على تركهم الانتفاع بالعقل ، الذي ركّبه فيهم ، حيث استعملوه فيما يضرهم ، من تدبير حظوظهم وهواهم. هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ بها ، اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ أي : ادخلوا واحترقوا فيها ، بكفركم وإنكاركم لها.
الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ أي : نمنعهم من الكلام ، وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ. يروى : أنهم يجحدون ، ويخاصمون ، فتشهد عليهم جيرانهم ، وأهاليهم ، وعشائرهم ، فيحلفون : ما كانوا(4/579)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 580
مشركين ، فحينئذ يختم على أفواههم ، وتتكلم أيديهم وأرجلهم. وفى الحديث : «يقول العبد يوم القيامة : إنى لا أجيز علىّ إلا شاهدا من نفسى ، فيختم على فيه ، ويقال لأركانه : انطقى ، فتنطق بأعماله ، ثم يخلّى بينه وبين الكلام ، فيقول : بعدا لكنّ ، وسحقا ، فعنكنّ كنت أناضل» «1».
الإشارة : كل من آثر حظوظه ومناه ، ولم يقدر على مجاهدة هواه ، حتى مات محجوبا عن اللّه ، يلحقه شىء من هذا التقريع. والصراط المستقيم : هو طريق التربية ، التي توّصل إلى الحضرة ، التي قام بيانها الأولياء العارفون باللّه. ولقد أضلّ الشيطان عنها خلقا كثيرا ، حملهم على طلب الدنيا والرئاسة والجاه ، فلم يقدروا على التفرغ لذكر اللّه ، ولم يحطوا رؤوسهم لمن يعرّفهم باللّه ، فيقال لهم : هذه نار القطيعة التي كنتم توعدون ، إن بقيتم مع حظوظهم ورئاستكم ، اصلوها اليوم بكفركم بطريق التربية ، اليوم نختم على أفواههم ، فلا مناجاة بينهم وبين حبيبهم ، وتكلمنا أيديهم ، وتشهد أرجلهم - بلسان الحال أو المقال - بما كانوا يكسبون من التقصير.
قال القشيري : قوله : وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ .... إلخ ، فأمّا الكفار فشهادة أعضائهم عليهم مؤبدة ، وأما العصاة من المؤمنين فقد تشهد عليهم أعضاؤهم بالعصيان ، ولكن تشهد عليهم بعض أعضائهم بالإحسان ، وأنشدوا :
بينى وبينك يا ظلوم الموقف والحاكم العدل ، الجواد المنصف.
وفى بعض الأخبار المروية : أن عبدا شهدت أعضاؤه عليه بالزّلّة ، فتطير شعرة من جفن عينه ، فتشهد له بالشهادة. فيقول الحق تعالى : يا شعره جفن عبدى احتجّى عن عبدى ، فتشهد له بالبكاء من خوفه ، فيغفر له ، وينادى مناد : هذا عتيق اللّه بشعرة. ه.
ثم هددهم فى دار الدنيا ، فقال :
[سورة يس (36) : الآيات 66 الى 68]
وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (66) وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ عَلى مَكانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ (67) وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ (68)
___________
(1) أخرجه مسلم فى (الزهد ، 4/ 2880 ، ح 2969) من حديث سيدنا أنس بن مالك رضي اللّه عنه.(4/580)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 581
يقول الحق جل جلاله : وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ اليوم ، أي : أعميناهم وأذهبنا أبصارهم.
والطمس : سد شق العين حتى تعود ممسوخة. فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ ، على حذف الجار ، وإيصال الفعل ، أي :
فاستبقوا إلى الطريق الذي اعتادوا سلوكه ، وبادروا إليه لما يلحقهم من الخوف ، فَأَنَّى يُبْصِرُونَ فكيف يبصرون حينئذ من جهة سلوكهم ، فيضلون فى طريقهم عن بلوغ أملهم.
وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ قردة ، وخنازير ، أو حجارة ، عَلى مَكانَتِهِمْ : على منازلهم ، وفى ديارهم ، حيث يأمنون من المكاره. والمكانة والمكان واحد ، كالمقامة والمقام. فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ فلم يقدروا على ذهاب ومجىء ، أو : مضيا أمامهم ، ولا يرجعون خلفهم. والمعنى : أنهم لكفرهم ونقضهم ما عهد إليهم أحقاء بأن نفعل بهم ذلك ، لكنا لم نفعل لشمول الرحمة لهم ، واقتضاء الحكمة إمهالهم.
وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نطل عمره نُنَكِّسْهُ «1» فِي الْخَلْقِ نقلبه فيه. وقرأ عاصم وحمزة بالتشديد. والنكس والتنكيس : جعل الشيء أعلاه أسفله. والمعنى : من أطلنا عمره نكسنا خلقه ، وهو نوع من المسخ ، فصار بدل القوة ضعفا ، وبدل الشباب هرما ، وذلك أنا خلقناه على ضعف فى جسده ، وخلو من عقل وعلم ، ثم جعلناه يتزايد إلى أن يبلغ أشده ، ويستكمل قوته ، ويعقل ، ويعلم ما له وعليه ، فإذا انتهى نكّسناه فى الخلق ، فجعلناه يتناقص حتى يرجع إلى حال شبيهة بحال الصبىّ ، فى ضعف جسده ، وقلّة عقله ، وخلوّه من العلم ، كما ينكس السهم ، فيجعل أعلاه أسفله. قال تعالى : وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ «2». قال ابن عباس :
«من قرأ القرآن - أي وعمل به - لم يرد إلى أرذل العمر». أَفَلا يَعْقِلُونَ أنّ من قدر أن ينقلهم من الشباب إلى الهرم ، ومن القوة إلى الضعف ، ومن رجاحة العقل إلى الخرف وقلة التمييز ، قادر على أن يطمس على أعينهم ، ويمسخهم على مكانتهم ، ويبعثهم بعد الموت.
الإشارة : ولو نشاء لطمسنا على أعينهم ، فلا يهتدون إلى طريق السلوك ، ولا يسلكونها ، فيبقوا فى الحجاب على الدوام. ولو نشاء لمسخنا قلوبهم على مكانتهم ، من رجاحة العقل والفهم ، فلا يتدبرون إلا فى الأمور الحسية ،
___________
(1) قرأ عاصم وحمزة «ننكسه» بضم الأول ، وفتح الثاني ، وتشديد الثالث وكسره ، مضارع : (نكّس) ، للتكثير ، وقرأ الباقون بفتح الأول ، وإسكان الثاني ، وضم الثالث ، وتخفيفه. مضارع «نكسه» كنصره. انظر الإتحاف (20/ 404).
(2) الآية 70 من سورة النحل.(4/581)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 582
فلا يستطيعون مضيا فى بلاد المعاني ، ولا رجوعا عن الحسيات. ومن نعمّره من هؤلاء ننكّسه فى الخلق ، فيلحقه الخرف والضعف ، وأما من اهتدى إلى طريق السير ، وسلك بلاد المعاني ، فلا يزيده طول العمر إلا رجاحة فى العقل ، وقوة فى العلم ، وتمكينا فى المعاني والمعرفة.
قال القشيري : ومن نعمّره ننكّسه فى الخلق : نرده إلى العكس ، فكما كان يزداد فى القوة ، يأخذ فى النقصان ، إلى أن يبلغ أرذل العمر ، فيصير إلى مثل حال الطفولية من الضعف ، ثم لا يبقى بعد النقصان شىء ، كما أنشدوا :
طوى العصران ما نشراه منى فأبلى جدتى نشر وطى
أرانى كلّ يوم فى انتقاص ولا يبقى مع النقصان شىّ «1»
وهذا فى الجثة والمبانى ، دون الأحوال والمعاني ، فإن الأحوال - فى حق الجثة - فى الزيادة إلى بلوغ حد الخرف ، فيختلّ رأيه وعقله. وأصحاب الحقائق تشيب ذوائبهم ، ولكنّ محابّهم ومعانيهم فى عنفوان شبابها ، وطراوة جدّتها. ه.
ثم أنكر على من رمى القرآن بكونه شعرا ، فقال :
[سورة يس (36) : الآيات 69 الى 70]
وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (69) لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ (70)
يقول الحق جل جلاله : وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ أي : وما علّمنا نبينا محمدا الشعر ، حتى يقدر أن يقول شعرا ، فيتهم على القرآن ، أو : وما علّمناه بتعلم القرآن الشعر ، على معنى : أن القرآن ليس بشعر ، فإنه غير مقفّى ولا موزون ، وليس معناه ما يتوقاه الشعراء من التخييلات المرغبة والمنفرة ونحوها. فأين الوزن فيه؟ وأين التقفية؟
فلا مناسبة بينه وبين كلام الشعراء ، وَما يَنْبَغِي لَهُ أي : وما يليق بحاله ، ولا يتأتى له لو طلبه ، أي : جعلناه بحيث لو أراد قرض الشعر لم يتأتّ له ، ولم يسهل ، كما جعلناه أمّيا لم يهتد إلى الخط لتكون الحجة أثبت ، والشبهة أدحض.
___________
(1) نسب البيتان إلى محمد بن يعقوب بن إسماعيل ، كما فى كتاب الوافي بالوفيات (5/ 222). ونسبا إلى أبى بكر بن أبى الدنيا ، كما فى تاريخ بغداد (14/ 311).(4/582)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 583
وأما قوله - عليه الصلاة والسلام - : «أنا النّبىّ لا كذب ، أنا ابن عبد المطّلب» «1» ، وقوله : «هل أنت إلّا إصبع دميت ، وفى سبيل اللّه ما لقيت» «2» ، فهو مما اتفق وزنه من غير قصد ، كما يتفق فى خطاب الناس ورسائلهم ومحاوراتهم ، ولا يسمى شعرا إلا ما قصد وزنه.
ولمّا نفى القرآن أن يكون من جنس الشعر ، قال : إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ أي : ما الذي يعلّم ويقوله إلا ذكر من اللّه ، يوعظ به الإنس والجن ، وَقُرْآنٌ أي : كتاب سماوى ، يقرأ فى المحاريب ، ويتلى فى المتعبّدات ، وينال بتلاوته والعمل به أعلا الدرجات. فكم بينه وبين الشعر ، الذي هو من همزات الشيطان؟!.
أنزلناه إليك لِتُنْذِرَ بِهِ «3» يا محمد ، أو : لينذر القرآن مَنْ كانَ حَيًّا بالإيمان ، أو عاقلا متأملا فإن الغافل كالميت ، أو : من سبق فى علم اللّه أنه يحيى فإن الحياة الأبدية بالإيمان ، وتخصيص الإنذار به لأنه المنتفع به ، وَيَحِقَّ الْقَوْلُ أي : تجب كلمة العذاب عَلَى الْكافِرِينَ المصرّين على الكفر ، وجعلهم فى مقابلة من كان حيا إشعار بأنهم بكفرهم فى حكم الأموات ، كقوله : وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ «4».
الإشارة : أما النبي - عليه الصلاة والسلام - فنفى اللّه عنه صنعة الشّعر ، والقوة عليه ، لئلا يتهم فيما يقوله ، وأما الأولياء فكثير منهم تكون له القوة عليه ، ويصرف ذلك فى أمداح الخمرة الأزلية ، والحضرة القدسية ، أو فى الحضرة النبوية ، وينالون بذلك تقريبا ، ورتبة كبيرة ، وأما قوله - عليه الصلاة والسلام - : «لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحا يريه خير من أن يمتلئ شعرا» «5» فالمراد به شعر الهوى ، الذي يشغل عن ذكر اللّه ، أو يصرف القلب عن حضرة اللّه. قيل لعائشة - رضى اللّه عنها - أكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يتمثل بشىء من الشعر؟ فقالت : لم يتمثل بشىء من الشعر إلا بيت طرفة ، أخى بنى قيس :
ستبدي لك الأيّام ما كنت جاهلا ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد.
وربما عكسه فقال : «ويأتيك من لم تزود بالأخبار» «6». وباللّه التوفيق.
___________
(1) أخرجه البخاري فى (الجهاد ، باب من قاد دابة غيره فى الحرب ، ح 2864) ومسلم فى (الجهاد ، باب فى غزوة حنين ، 3/ 1400 ، ح 1776) من حديث البراء بن عازب.
(2) أخرجه البخاري فى (الجهاد ، باب من ينكب فى سبيل اللّه ، ح 2802) وفى (الأدب ، باب ما يجوز من الشعر والرجز) ومسلم فى (الجهاد ، باب لقى النبي صلى اللّه عليه وسلم من أذى المشركين والمنافقين ، 3/ 1421 ، ح 1796) من حديث جندب بن سفيان.
(3) قرأ نافع ، وابن عامر ، وأبو جعفر ، ويعقوب «لتنذر» بالخطاب. وقرأ الباقون «لينذر» بالغيب. انظر الإتحاف (2/ 404).
(4) من الآية 22 من سورة فاطر.
(5) أخرجه البخاري فى (الأدب ، باب ما يكره أن يكون الغالب على الإنسان الشعر حتى يصدّه عن ذكر اللّه ، ح 6155) ومسلم فى (كتاب الشعر ، 4/ 1769 ح 2257).
(6) أخرجه بنحوه ، وبدون ذكر بيت الشعر ، الطبري فى تفسيره (23/ 27) وعزاه السيوطي فى الدر (5/ 505) لعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبى حاتم. وانظر : تفسير البغوي (7/ 27) وتفسير ابن كثير (3/ 579).(4/583)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 584
ثم ذكّرهم بالنعم ، عليهم ينقادوا بملاطفة الإحسان فقال :
[سورة يس (36) : الآيات 71 الى 73]
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ (71) وَذَلَّلْناها لَهُمْ فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَمِنْها يَأْكُلُونَ (72) وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ وَمَشارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ (73)
يقول الحق جل جلاله : أَوَلَمْ يَرَوْا أي : أعملوا ولم يعلموا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أي :
أظهرته قدرتنا ، ولم يقدر على إحداثه غيرنا. وذكر الأيدى ، وإسناد العمل إليها ، استعارة ، تفيد مبالغة فى الاختصاص والتفرد بالإيجاد ، أَنْعاماً ، خصّها بالذكر لما فيها من بدائع الحكمة والمنافع الجمة. فَهُمْ لَها مالِكُونَ أي : خلقناها لأجلهم ، فملكناها إياهم ، فهم يتصرفون فيها تصرّف المالك ، مختصّون بالانتفاع بها. أو :
فهم لها حافظون قاهرون.
وَذَلَّلْناها لَهُمْ وصيّرناها منقادة لهم. وإلا فمن كان يقدر عليها لو لا تذليله وتسخيره لها. وبهذا أمر الراكب أن يشكر هذه النعمة ، ويسبح بقوله : سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ «1» فَمِنْها رَكُوبُهُمْ أي : مركوبهم ، وهو ما يركب منها ، وقرىء بضم الراء ، أي : ذو ركوبهم. أو : فمن منافعها ركوبهم. وَمِنْها يَأْكُلُونَ ما يأكلون لحمه ، أي : سخرناها لهم ليركبوا ظهرها ويأكلوا لحمها. وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ من الجلود ، والأوبار ، والأصواف ، وغير ذلك ، وَمَشارِبُ من اللبن ، على تلونه من المضروب وغيره ، وهو جمع : مشرب ، بمعنى : موضع الشرب. أو : المصدر ، أي : الشرب. أَفَلا يَشْكُرُونَ نعم اللّه فى ذلك؟ إذ لو لا إيجاده إيها لها ما أمكن الانتفاع بها.
الإشارة : قوم نظروا إلى ما منّ اللّه إليهم من المبرة والإكرام ، فانقادوا إليه بملاطفة الإحسان ، فعرفوا المنعّم ، وشكروا الواحد المنان ، فسخّر لهم الكون وما فيه ، وقوم لم ينجع فيهم سوابغ النعم ، فسلّط عليهم المصائب والنقم ، فانقادوا إليه قهرا بسلاسل الامتحان ، «عجب ربك من قوم يساقون إلى الجنة بالسلاسل» «2» ، وكل هؤلاء سبقت لهم
___________
(1) الآية 13 من سورة الزخرف.
(2) لفظ حديث ، أخرجه البخاري فى (الجهاد ، باب الأسارى فى السلاسل ، ح 3010) من حديث سيدنا أبى هريرة رضي اللّه عنه.(4/584)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 585
من اللّه العناية. وقوم لم ينجح فيهم نعم ولا نقم ، قد سبق لهم الخذلان ، فأصروا على العصيان ، ولم يشكروا اللّه على ما أسدى من سوابغ الإحسان ، وإلى هؤلاء توجه الخطاب بقوله :
[سورة يس (36) : الآيات 74 الى 76]
وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (74) لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (75) فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ (76)
يقول الحق جل جلاله : وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً ، أشركوها معه فى العبادة ، بعد ما رأوا منه تلك القدرة الباهرة ، والنعم المتظاهرة ، وتحققوا أنه المنفرد بها ، فعبدوا الأصنام ، لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ بها إذا حزبهم أمر. والأمر بالعكس ، لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ أبدا ، وَهُمْ لَهُمْ أي : الكفار للأصنام جُنْدٌ أي : أعوان وشيعة مُحْضَرُونَ يخدمونهم ، ويذبّون عنهم ، ويعكفون على عبادتهم. أو : اتخذوهم لينصروهم عند اللّه ، ويشفعوا لهم ، والأمر على خلاف ما توهموا ، فهم يوم القيامة جند معدّون لهم ، محضرون لعذابهم لأنهم يجعلون وقودا للنار ، التي يحترقون بها.
ثم سلّى نبيه مما يسمع بقوله : فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ فلا يهمنّك تكذيبهم ، وأذاهم ، وما تسمع منهم من الإشراك والإلحاد. إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ من عداوتهم وكفرهم ، وَما يُعْلِنُونَ ، فيجازيهم عليه ، فحقّ مثلك أن يتسلّى بهذا الوعيد ، ويستحضر فى نفسه صورة حاله وحالهم فى الآخرة ، حتى ينقشع عنهم الهمّ ، ولا يرهقه حزن. وهو تعليل للنهى على طريق الاستئناف ، ولذلك لو قرئ «أنّا» بالفتح ، على حذف لام التعليل ، لجاز ، خلافا لمن أنكره وأبطل صلاة من قرأ به. انظر النسفي.
الإشارة : كل من ركن إلى شىء دون اللّه ، فهو فى حقه صنم ، كائنا ما كان ، علما ، أو عملا ، أو حالا ، أو غير ذلك. ولذلك قال القطب ابن مشيش لأبى حسن الشاذلى - رضى اللّه عنهما - لمّا قال : بم تلقى اللّه يا أبا الحسن؟
فقال له : بفقري ، قال : إذا تلقاه بالصنم الأعظم ، أي : وإنما يلقى اللّه باللّه ، ويغيب عما سواه. وقوله تعالى :
فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ فيه تسلية لمن أوذى فى جانب اللّه. قال القشيري : إذا علم العبد أنه بمرأى من الحق ، هان عليه ما يقاسيه ، لا سيما إذا كان فى اللّه. ه.(4/585)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 586
ثم أبطل دعوى من أنكر البعث ، وهو من جملة قولهم ، الذي أمر نبيه بالتسلى عنه ، فقال :
[سورة يس (36) : الآيات 77 الى 83]
أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (77) وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ (81)
إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83)
يقول الحق جل جلاله : أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ مذرة ، خارجة من الإحليل ، الذي هو قناة النجاسة ، فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ بيّن الخصومة ، أي : فهو على مهانة أصله ، ودناءة أوله ، يتصدّى لمخاصمة ربه ، وينكر قدرته على إحياء الميت بعد ما رمّت عظامه. وهى تسلية ثانية له صلى اللّه عليه وسلم ، وتهوين ما يقولونه فى جانب الحشر ، وهو توبيخ بليغ حيث عجّب منه ، وجعله إفراطا فى الخصومة بيّنا فيها.
روى أن أبىّ بن خلف أتى النبي صلى اللّه عليه وسلم بعظم بال ، ففتّه بيده ، وقال : يا محمد أترى اللّه يحيى هذا بعد ما رمّ؟
فقال صلى اللّه عليه وسلم : «نعم ويبعثك ويدخلك جهنم» «1» فنزلت الآية.
وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا ، أمرا عجيبا ، بأن جعلنا مثل الخلق العاجزين ، فنعجز عما عجزوا عنه من إحياء الموتى ، وَنَسِيَ خَلْقَهُ من المنىّ المهين ، فهو أغرب من إحياء العظم الرميم. و«خلقه» : مصدر مضاف للمفعول ، أي : خلقنا إياه ، قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ بال مفتت ، وهو اسم لما بلي من العظام ، لا صفة ، ولذلك لم يؤنّث. وقد وقع خبرا لمؤنث ، وقيل : صفة بمعنى مفعول ، من : رممته ، فيكون كقتيل وجريح. وفيه
___________
(1) أخرجه الطبري (23/ 30) والواحدي فى أسباب النزول (ص 379) عن قتادة. وعزاه السيوطي فى الدر (5/ 508) لسعيد بن منصور ، وابن المنذر ، والبيهقي فى البعث ، عن أبى مالك. وأخرج الحاكم (2/ 429) وصححه ووافقه الذهبي عن ابن عباس : أن الآية نزلت فى العاص بن وائل. والآية عامة ، والألف واللام فى قوله تعالى : أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ للجنس ، يعم كل منكر للبعث.(4/586)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 587
دليل على أن العظم تحله الحياة ، فإذا مات صار نجسا ، وهو مذهب مالك والشافعي ، وقال أبو حنيفة : لا تحلّه الحياة ، فهو طاهر كالشعر والعصب.
قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها خلقها أَوَّلَ مَرَّةٍ أي : ابتداء ، وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ مخلوق عَلِيمٌ لا يخفى عليه أجزاؤه ، وإن تفرقت فى البر أو البحر ، فيجمعه ، ويعيده كما كان.
ثم ذكر برهان إحيائه الموتى بقوله : الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ، كالمرخ والعفار ، ناراً ، فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ تقدحون ، ولا تشكون أنها نار خرجت منه ، فمن قدر على إحداث النار من الشجر الأخضر ، مع ما فيه من المائية ، المضادة للنار ، كان أقدر على إيجاد الحياة والغضاضة فيما غضا ويبس ، وهى الزناد عند العرب ، وأكثرها من المرخ والعفار ، وفى أمثالهم : «فى كلّ شجر نار ، واستمجد المرخ والعفار» أي :
استكثر فى هذين الصنفين. وكان الرجل يقطع منهما غصنين مثل السواكين ، وهما خضراوان ، يقطر منهما الماء ، فيسحق المرخ - وهو ذكر - على العفار - وهى أنثى ، فينقدح النار بإذن اللّه تعالى. وعن ابن عباس رضي اللّه عنه :
ليس من الشجر شجرة إلا وفيها نار ، إلا العناب لمصلحة الدقّ للثياب.
والمرخ - ككتف : شجر سريع الورى. قاله فى الصحاح. وهو المسمى عندنا بالكلخ. وفى القاموس : عفار كسحاب : شجر يتخذ منه الزناد. قال ابن عطية : النار موجودة فى كل عود ، غير أنها فى المتحلحل ، المفتوح المسام ، أوجد ، وكذلك هو المرخ والعفار. ه.
أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مع كبر جرمهما ، وعظم شأنهما بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ مثل أجسامهم فى الصّغر والحقارة ، بالإضافة إلى السموات والأرض ، أو : أن يعيدهم مثل ما كانوا عليه فى الذات والصفات لأن المعاد مثل المبدأ ، بل أسهل ، بَلى أي : قل : بلى هو قادر على ذلك ، وَهُوَ الْخَلَّاقُ كثير الخلق والاختراع ، الْعَلِيمُ بأحوال خلقه ، أو : كثير المخلوقات والمعلومات.
إِنَّما أَمْرُهُ شأنه إِذا أَرادَ شَيْئاً يكونه أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ فيحدث ، أي : فهو كائن موجود ، لا محالة. وهو تمثيل لتأثير قدرته فى الأشياء ، بأمر المطاع للمطيع فى حصول المأمور ، من غير امتناع وتوقف ، من غير أن يحتاج إلى كاف ولا نون ، وإنما هو بيان لسرعة الإيجاد ، كأنه يقول : كما لا يثقل عليكم قول «كن» ، فكذلك لا يصعب على اللّه إنشاؤكم وإعادتكم. قال الكواشي : ثم أومأ إلى كيفية خلقه الأشياء المختلفة فى الزمان المتحد ، وذلك ممتنع على غيره ، فقال : إِنَّما أَمْرُهُ ... الآية ، فيحدث من غير توقف ، فمن رفع «فيكون» ، (4/587)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 588
فلأنه جملة من مبتدأ وخبر ، أي : فهو يكون. ومن نصب فللعطف على «يقول». والمعنى : أنه ليس ممن يلحقه نصب ولا مشقة ، ولا يتعاظمه أمر ، بل إيجاد المعدومات ، وإعدام الموجودات ، عليه أسرع من لمح البصر ه.
فَسُبْحانَ تنزيها له مما وصفه به المشركون ، وتعجيب مما قالوا ، الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ أي : ملك كُلِّ شَيْءٍ والتصرف فيه على الإطلاق. وزيادة الواو والتاء للمبالغة ، أي : مالك كلّ شىء ، وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ بالبعث للجزاء والحساب.
الإشارة : أو لم ير الإنسان أنّا خلقناه من نطفة مهينة ، فإذا هو خصيم لنا فى تدبيرنا واختيارنا ، وينازعنا فى مرادنا من خلقنا ، ومرادنا منهم : ما هم عليه. فاستحى أيها الإنسان أن تخاصم اللّه فى حكمه ، أو تنازعه فى تقديره وتدبيره ، وسلّم الأمور لمن بيده الخلق والأمر. بكى بعض الصالحين أربعين سنة على ذنب أذنبه. قيل له : وما هو؟
قال : (قلت لشىء كان : ليته لم يكن). فارض بما يختاره الحق لك ، جلاليا كان أو جماليا ولا تختر من أمرك شيئا ، واللّه يعلم وأنتم لا تعلمون. وكل من اهتم بأمر نفسه ، واشتغل بتدبير شئونها ، فقد ضرب للّه مثلا ، بأن أشرك نفسه معه ، ونسى خلقه ، ولو فكر فى ضعف أصله ، وحاله ، لاستحيا أن يدبّر لنفسه مع ربه ، وفى الإشارات عن اللّه تعالى : أيها العبد لو أذنت لك أن تدبر لنفسك لكنت تستحيى منى أن تدبر لها ، فكيف وقد نهيتك عن الندية!.
وكما قدر على إحياء العظام الرميمة ، يقدر على إحياء القلوب الميتة ، ومن قدر على استخراج النار من محل الماء ، يقدر على استخراج العلم من الجهل ، واليقظة من الغفلة ، ومن كان أمره بين الكاف والنون ، بل أسرع من لحظ العيون ، ينبغى أن يرجع إليه فى جميع الشئون. قال القشيري : فسبحان الذي بيده ملكوت كل شىء ، فلا يحدث شىء - قلّ أو كثر - إلا بإبداعه وإنشائه ، ولا يبقى منها شىء إلا بإبقائه ، فمنه ظهر ما يحدث ، وإليه يصير ما يخلق. ه.
قال النسفي : قال صلى اللّه عليه وسلم : «من قرأ يس يريد بها وجه اللّه غفر اللّه له ، وأعطى من الأجر كمن قرأ القرآن اثنتين وعشرين مرة» وباللّه التوفيق ، ولا حول ولا قوة إلا باللّه العلى العظيم ، وصلى اللّه على سيدنا ومولانا محمد ، وآله وصحبه ، وسلم.(4/588)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 589
سورة الصّافّات
مكية. وهى مائة وإحدى ، أو اثنتان ، وثمانون آية. ومناسبتها لما قبلها : أنها رد على المشركين فى عبادة الأصنام ، وانكارهم البعث ، المختتم بهما السورة قبلها ، فقال فى صدر هذه : إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ ، ثم قال :
وَقالُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ أَإِذا مِتْنا ... «1» إلخ. قال تعالى :
[سورة الصافات (37) : الآيات 1 الى 10]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (1) فَالزَّاجِراتِ زَجْراً (2) فَالتَّالِياتِ ذِكْراً (3) إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ (4)
رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَرَبُّ الْمَشارِقِ (5) إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ (6) وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ (7) لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ (8) دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ (9)
إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ (10)
يقول الحق جل جلاله : وَالصَّافَّاتِ صَفًّا ، فَالزَّاجِراتِ زَجْراً ، فَالتَّالِياتِ ذِكْراً ، أقسم بطوائف الملائكة ، الصافين أقدامهم فى مراتب العبادة ، كل على ما أمر به ، فالزجرات السحاب سوقا إلى ما أراد اللّه ، أو :
عن المعاصي بإلهام الخير. أو : الشياطين عن التعرض لهم. (فالتاليات ذكرا) لكلام اللّه تعالى من الكتب المنزلة وغيرها ، قاله ابن عباس وابن مسعود وغيرهما. وفيه رد على ابن الصلاح ، حيث قال فى فتاويه : إن الملائكة لا تقرأ القرآن ، وإنما قراءته كرامة أكرم اللّه بها البشر. قال : فقد ورد أن الملائكة لم تعط ذلك ، فهى حريصة لذلك على استماعه من الإنس ، كما نقله عنه فى الإتقان ، فانظره.
أو : بنفوس العلماء والعمال ، الصافات أقدامها فى التهجد وسائر الصلوات ، فالزاجرات بالمواعظ والنصائح ، فالتاليات آيات اللّه ، والدراسات شرائعه. أو : بنفوس الغزاة فى سبيل اللّه ، التي تصف الصفوف ، وتزجر الخيل للجهاد ، وتتلو الذكر مع ذلك ، لا يشغلهم عنه مبارزة العدو. و(صفا) : مصدر مؤكد ، وكذلك (زجرا) ، والفاء تدلّ على الترتيب ، فتفيد فضل المتقدم على المتأخر ، فتفيد الفضل للصف ، ثم للزجر ، ثم للتلاوة ، أو بالعكس.
___________
(1) الآية 15 من سورة الصافات. [.....](4/589)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 590
وجواب القسم : إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ لا شريك معه يستحق أن يعبد ، رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ، وهو خبر بعد خبر ، أو : خبر عن مضمر ، أي : هو رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَرَبُّ الْمَشارِقِ أي : مطالع الشمس ، وهى ثلاث مائة وستون مشرقا ، وكذلك المغارب. تشرق الشمس كلّ يوم فى مشرق منها ، وتغرب فى مغرب ، ولا تطلع ولا تغرب فى واحد يومين. وأما : رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ «1» فإنه أريد مشرقى الصيف والشتاء ومغربيهما. وأما : رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ «2» فإنه أريد به الجهة ، فالمشرق جهة ، والمغرب جهة. قال الكواشي : لم يذكر المغارب لأن المشارق تدل عليها.
إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا القربى منكم ، تأنيث الأدنى ، بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ بالإضافة ، أي : بأن زينتها الكواكب ومن قرأ بالتنوين والخفض «3» فبدل ، أي : هى الكواكب ، ومن قرأ بالنصب فعلى إضمار «أعنى» ، أو : بدل من محل «بزينة» ، أي : زيّنا الكواكب ، أو : على إعمال المصدر منونا فى المفعول ، أي : بتزين الكواكب. قال البيضاوي : وركوز الثوابت فى الكوة الثامنة ، وما عدا القمر من السيارات فى الست المتوسطة بينهما وبين سماء الدنيا إن تحقق لم يقدح فى ذلك ، فإن أهل الأرض يرونها بأسرها كجواهر مشرقة ، متلألئة على سطحها الأزرق. ه.
وَحِفْظاً من الشياطين ، كما قال : وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ «4» أو :
بإضمار فعله ، أي : حفظناها حفظا مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ خارج عن الطاعة ، فيرمى بالشهب. لا يَسَّمَّعُونَ «5» إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى : استئناف لبيان حالهم ، بعد بيان حفظ السماء منهم ، ولا يجوز وصفه لكل شيطان لأنه يقتضى أن يكون الحفظ من شياطين لا يسمعون. والضمير لكلّ باعتبار المعنى لأنه فى معنى شياطين ، وتعدية (يسمعون) بإلى لتضمنه معنى الإصغاء مبالغة فى نفيه ، وتهويلا لما يمنعهم عنه. ومن قرأ بالتشديد فأصله : «يتسمّعون» فأدغم. والتسمّع : طلب السماع. يقال : تسمّع فسمع أو لم يسمع إذا منعه مانع. والملأ الأعلى هم : الملائكة لأنهم فى السموات العلى ، والإنس والجن هم الملأ الأسفل لأنهم سكان الأرض ، وَيُقْذَفُونَ يرمون بالشهب ، مِنْ كُلِّ جانِبٍ من جميع جوانب السماء ، من أىّ جهة صعدوا للاستراق.
___________
(1) الآية 17 من سورة الرحمن.
(2) الآية 9 من سورة المزمل.
(3) قرأ حفص ، وحمزة ، بتنوين (زينة) وجر (الكواكب). وقرأ أبو بكر بتنوين (زينة) ونصب (الكواكب). والباقون بحذف التنوين ، على إضافة «زينة» للكواكب. انظر الإتحاف (2/ 408).
(4) الآية 5 من سورة الملك.
(5) قرأ حفص ، وحمزة ، والكسائي ، بتشديد السين والميم ، والأصل «يتسمعون» فأدغمت التاء. وقرأ الباقون بالتخفيف.
انظر الإتحاف (2/ 408).(4/590)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 591
دُحُوراً مفعول له ، أي : ويقذفون للدحور ، وهو الطرد ، أو : مدحورين ، على الحال ، أو : لأن القذف والطرد متقاربان فى المعنى ، فيكون مصدرا له ، فكأنه قيل : ويقذفون قذفا ، وَلَهُمْ عَذابٌ آخر واصِبٌ دائم ، أو :
شديد ، وهو عذاب الآخرة ، أو : عذاب الدنيا لأنه دائم الوجوب لأنهم فى الدنيا مرجمون بالشهب دائما ، إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ ، «من» : بدل من ضمير «يسمعون» ، أي : لا يتسمع الشياطين إلا الشيطان الذي خطف الخطفة ، أي : اختلس شيئا من كلام الملائكة بسرعة ، فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ أي : نجم مضىء يثقبه ، أو يحرقه ، أو يخبله ، ومنه تكون الغيلان. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : أقسم الحق تعالى بصفوف الذاكرين ، الزاجرين للخواطر عن قلوبهم ، فى طلب الحضور ، التالين لذكر ربهم لرفع الستور ، إنه منفرد فى ألوهيته ، متوحد فى ربوبيته إذ هو ربّ كل شىء ، ربّ سموات الأرواح ، وربّ أرض النفوس والأشباح ، وربّ مشارق أنوار العرفان ، وهى قلوب أهل العيان ، ولم يذكر المغارب لأن شمس القلوب إذا طلعت ليس لها مغيب.
قوله تعالى : إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا .. إلخ ، قال القشيري : زيّن السماء بالنجوم ، وزيّن قلوب أوليائه بنجوم المعارف والأحوال. ه. وقوله تعالى : وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ ، قال القشيري : كذلك حفظ القلوب بأنوار التوحيد ، فإذا قرب منها الشيطان رجمها بنجوم معارفهم ، إلا من خطف الخطفة ، كذلك إذا اغتنم الشيطان من الأولياء أن يلقى شيئا من وساوسه تذكّروا ، فإذا هم مبصرون. ه.
وقال فى لطائف المنن : إن اللّه تعالى إذ تولى وليّا صان قلبه من الأغيار ، وحرسه بدوام الأنوار ، حتى لقد قال بعض العارفين : إذا كان سبحانه قد حرس السماء بالكواكب والشهب كى لا يسترق السمع منها ، فقلب المؤمن أولى بذلك ، لقول اللّه سبحانه ، فيما يحكيه عنه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : «لم تسعنى أرضى ولا سمائى ، ووسعني قلب عبدى المؤمن». ه. والمراد : المؤمن الكامل ، الذي تولى اللّه حفظه ، وهو الولي العارف.
ثم ردّ على من أنكر البعث بعد هذه الدلائل الباهرة ، فقال :
فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ ...(4/591)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 592
[سورة الصافات (37) : آية 11]
فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ (11)
يقول الحق جل جلاله : فَاسْتَفْتِهِمْ أي : فاستخبر كفّار مكّة أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أي : أقوى خلقا وأعظم ، أو : أصعب خلقا وأشقه. أَمْ مَنْ خَلَقْنا يعنى ما ذكر من السماء والأرض وما بينهما ، وما يعمرهما من الملائكة والكواكب ، والشّهب الثواقب؟. وجىء ب «من» تغليبا للعقلاء. ويدلّ عليه قراءة من قرأ : (أم من عددنا) بالتشديد والتخفيف. والقصد : الرد على منكرى البعث ، فإنّ من قدر على خلق هذه العوالم ، على عظمها ، كان على بعثهم أقدر.
ثم ذكر ضعف أصلهم بقوله : إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ لاصق باليد ، أو : لازم. وقرئ به ، أي : يلزم من جاوره ويلصق به. وهذا شاهد عليهم بالضعف لأن ما يصنع من الطين غير موصوف بالصلابة والقوة. أو :
احتجاج عليهم بأن الطين اللازب الذي خلقوا منه إنما هو تراب ، فمن أين استنكروا أن نخلق من تراب مثله خلقا آخر؟ حيث قالوا : أَإِذا كُنَّا تُراباً «1» إلخ ، وهذا المعنى يعضده ما يتلوه بعد من ذكر إنكارهم البعث.
[سورة الصافات (37) : آية 12]
بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (12)
بَلْ عَجِبْتَ من تكذيبهم إيّاك ، وإنكارهم البعث ، وَيَسْخَرُونَ هم منك ، ومن تعجبك ، أو : من أمر البعث ، قال الكواشي : ولمّا لم تؤثّر فيهم البراهين ، أمر نبيّه - عليه الصلاة والسلام - بالإضراب عنهم ، والإعجاب منهم ، حيث لم يؤمنوا به وبالبعث ، والمعنى : إنك تعجبت من تكذيبهم ، وهم يسخرون منك ومن تعجبك. ه. قال قتادة : لمّا نزل القرآن عجب منه النبي صلى اللّه عليه وسلم ، واعتقد أنه لا يسمعه أحد إلا آمن به ، فلما سمعه المشركون ، ولم يؤمنوا ، وسخروا ، تعجّب من ذلك «2». ه. وذكر ابن عطية وغيره : أن الآية نزلت فى ركانة ، الذي صرعه صلى اللّه عليه وسلم «3» ، وذكر ابن عبد البر : أنه أسلم يوم الفتح. ه.
وقرأ الأخوان «عجبت» بضم التاء ، أي : استعظمت. والعجب : روعة تعترى الإنسان عند استعظام الشيء لخفاء سببه ، وهو فى حقه تعالى محال ، ومعناه : التعجب لغيره ، أي : كل من يرى حالهم يقول : عجبت ، ونحوه : قوله صلى اللّه عليه وسلم : «عجب اللّه من شاب ليست له صبوة» «4». وهو عبارة عما يظهره اللّه فى جانب المتعجب منه ، من التعظيم أو التحقير ، أو : قل يا محمد : عجبت ويسخرون.
___________
(1) الآية 5 من سورة الرعد.
(2) أخرجه الطبري (23/ 44).
(3) حديث صرع النبي صلى اللّه عليه وسلم للركانة ، أخرجه الترمذي فى (اللباس ، باب العمائم على القلانس 4/ 217 ح 1784) وأبو داود فى (اللباس ، باب فى العمائم 4/ 341 ح 4078) عن أبى ركانة.
(4) أخرجه أحمد (4/ 151) والطبراني فى الكبير (17/ 309) من حديث عقبة بن عامر. قال الهيثمي فى المجمع (10/ 270) :
وإسناده حسن.(4/592)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 593
[سورة الصافات (37) : آية 13]
وَإِذا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ (13)
وَإِذا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ أي : ودأبهم أنهم إذا وعظوا بشىء لا يتعظون به.
[سورة الصافات (37) : آية 14]
وَإِذا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (14)
وَإِذا رَأَوْا آيَةً معجزة ، كانشقاق القمر ، ونحوه ، يَسْتَسْخِرُونَ يبالغون فى السخرية ، ويقولون : إنه سحر ، ويستدعى بعضهم بعضا أن يسخر منها ،
[سورة الصافات (37) : آية 15]
وَقالُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (15)
وَقالُوا إِنْ هذا ما هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ ظاهر سحريته ،
[سورة الصافات (37) : آية 16]
أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (16)
أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ أي : أنبعث إذا كنا ترابا وعظاما؟
[سورة الصافات (37) : آية 17]
أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (17)
أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ ، فمن فتح الواو عطف على محلّ «إنّ» واسمها ، والهمزة للإنكار ، أي : أو يبعث أيضا آباؤنا الأولون الأقدمون ، على زيادة الاستبعاد ، يعنون أنهم أقدم ، فبعثهم أبعد وأبطل. ومن سكّن «1» فمن عطف أحد الشيئين ، أي : أيبعث واحد منا ، على المبالغة فى الإنكار.
[سورة الصافات (37) : الآيات 18 الى 21]
قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ داخِرُونَ (18) فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ (19) وَقالُوا يا وَيْلَنا هذا يَوْمُ الدِّينِ (20) هذا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (21)
قُلْ نَعَمْ تبعثون وَأَنْتُمْ داخِرُونَ صاغرون.
فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ أي : صيحة واحدة ، وهى النفحة الثانية ، والفاء : جواب شرط مقدر ، أي : إذا كان كذلك فما هى إلا صيحة واحدة ، وهى مبهمة ، يفسرها خبرها. أو : فإنما البعثة زجرة واحدة. والزجرة : الصيحة ، من قولك : زجر الراعي الإبل والغنم : إذا صاح عليها ، فَإِذا هُمْ أحياء يَنْظُرُونَ إلى سوء أعمالهم ، أو :
ينظرون ما يحلّ بهم.
وَقالُوا يا وَيْلَنا ، الويل : كلمة يقولها القائل وقت الهلكة ، هذا يَوْمُ الدِّينِ اليوم الذي يدان فيه العباد ، ويجازون بأعمالهم. هذا يَوْمُ الْفَصْلِ أي : يوم القضاء والفرق بين فرق الهدى والضلالة ، الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ ، يحتمل أن يكون قوله : هذا يَوْمُ الدِّينِ من كلام الكفرة ، بعضهم مع بعض ، وأن يكون من كلام الملائكة لهم ، وأن يكون يا وَيْلَنا هذا يَوْمُ الدِّينِ من كلام الكفرة ، وما بعده كلام الملائكة ، جوابا لهم. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : الإنسان فيه عالمان ، عالم فى غاية الضعف والخسة ، وهى بشريته الطينية ، أصلها من ماء مهين.
وعالم فى غاية القوة والكمال ، وهى روحانيته السماوية النورانية ، فإذا حييت الروح بالعلم بالله ، واستولت على البشرية ، استيلاء النار على الفحمة ، أكسبتها القوة والشرف ، وإذا ماتت الروح بالغفلة والجهل ، واستولت عليه البشرية أكسبتها الضعف والذل ، والعارف الكامل هو الذي ينزل كل شىء فى محله ، فينزل الضعف فى ظاهره ، والقوة فى باطنه ، فظاهره يمتد من الوجود بأسره ، وباطنه يمد الوجود بأسره. فمن نظر إلى أصل ظاهره تواضع وعرف قدره ، ولذلك قال سيدنا على كرم اللّه وجهه : ما لابن آدم والفخر ، وأوله نطفة مذرة ، وآخره جيفة قذرة ، وفيما بينهما يحمل العذرة. ه.
___________
(1) قرأ قالون ، وابن عامر ، وأبو جعفر ، بإسكان الواو ، وقرأ الباقون بالفتح. انظر الإتحاف (2/ 410).(4/593)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 594
ومن نظر إلى باطنه تاه على الوجود بأسره ، لكن من آداب العبد : ألا يظهر بين يدى سيده إلا ما يناسب العبودية ، من الضعف ، والذل ، والفقر ، فإذا تحقق بوصفه مدّه اللّه بوصفه. وبالله التوفيق.
ثم ذكر مثال أهل الكفر ، فقال :
[سورة الصافات (37) : الآيات 22 الى 34]
احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ (23) وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ (24) ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ (25) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (26)
وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (27) قالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ (28) قالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (29) وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ (30) فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ (31)
فَأَغْوَيْناكُمْ إِنَّا كُنَّا غاوِينَ (32) فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (33) إِنَّا كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (34)
يقول الحق جل جلاله للملائكة يوم القيامة : احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا أي : اجمعوا الذين كفروا وَأَزْواجَهُمْ وأشباههم ، فيحشر عابد الصنم مع عبدة الأصنام ، وعابد الكواكب مع عبدتها. أو : نساءهم الكافرات ، أو : قرناءهم من الشياطين. و«الواو» بمعنى «مع» ، أو : عاطفة. وَما كانُوا يَعْبُدُونَ ، مِنْ دُونِ اللَّهِ أي : الأصنام ، اجمعوها معهم ، فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ أي : دلّوهم على طريقها ، وعرّفوهم بها. وعن الأصمعى : يقال : هديته فى الدين هدى ، وهديته الطريق هداية.
وَقِفُوهُمْ : احبسوهم إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ عن أقوالهم وأفعالهم وعقائدهم ، ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ لا ينصر بعضكم بعضا. وهذا توبيخ لهم بالعجز عن التناصر ، بعد ما كانوا يتناصرون فى الدنيا ، أو : استهزاء بهم.
وقيل : هو جواب لأبى جهل ، حيث قال يوم بدر : نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ «1» ، وجملة النفي : حال ، أي : ما لكم غير متناصرين ، بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ منقادون لما يراد بهم لعجزهم ، وانسداد أبواب الحيل عليهم ، أو : قد أسلم بعضهم بعضا وخذله.
وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ أي : التابع على المتبوع يَتَساءَلُونَ يتخاصمون ، ويسأل بعضهم بعضا سؤال توبيخ وتسخط ، قالُوا أي : الأتباع للمتبوعين : إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ أي : تصدوننا عن
___________
(1) كما حكت الآية 44 من سورة القمر.(4/594)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 595
الحق والإيمان ، قاله الحسن. وبيانه : أن العرب كانت تتيمن بالسانح «1» عن اليمين من الطير ، ويناسبه ما ذكره ابن عطية فى جملة التأويلات بقوله : ومنها : أن يريد باليمين اليمن ، أي : تأتوننا من جهة النصائح ، والعمل الذي يتيمن به. ه. قلت : والأحسن : أن يقدر معلق الجار ، أي : تأتوننا وتصرفوننا عن طريق أهل اليمين.
قالُوا أي : الرؤساء : بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ أي : بل أنتم أبيتم الإيمان ، وأعرضتم عنه مع تمكّنكم منه ، مختارين للكفر ، غير ملجئين إليه ، أو : بل أنتم سبقت منكم الضلالة على إغوائنا ، وإنما نشأ عن إغوائنا دوام كفركم لا استئنافه. وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ
وقهر ، نسلبكم به تمكّنكم واختياركم ، بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ أي : بل كنتم قوما مختارين للطغيان ، فَحَقَّ عَلَيْنا أي : لزمنا جميعا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ ، يعنى : حقت علينا كلمته بأنا ذائقون لعذابه. ولو حكى الوعيد على ما هو لقال : إنكم لذائقون ، لكنه عدل به إلى لفظ المتكلم لأنهم يتكلّمون بذلك عن أنفسهم. ثم قالوا لضعفائهم : فَأَغْوَيْناكُمْ فدعوناكم إلى الغي إِنَّا كُنَّا غاوِينَ فأردنا إغواءكم لتكونوا مثلنا ، فَإِنَّهُمْ أي : الأتباع والمتبوعين جميعا ، يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ كما كانوا مشتركين فى الغواية. إِنَّا كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ المشركين ، أي : مثل ذلك الفعل نفعل بكل مجرم.
الإشارة : ويقال على طريق العكس : احشروا الذين أحسنوا واتقوا ربهم ، وأزواجهم ، ومن انتسب إليهم ، فاهدوهم إلى طريق الجنان ، وقفوهم يشفعوا فيمن تعلّق بهم ، إنهم مسؤولون عن أصحابهم وعشائرهم ، حتى يخلصوهم من ورطة الحساب. ما لكم لا تناصرون ، فينصر بعضكم بعضا فى هذا الموطن الهائل ، بل هم اليوم منقادون لأمر اللّه ، حتى يأذن لهم فى الشفاعة. وفى الحديث : «اتّخذوا يدا عند الفقراء ، فإن لهم دولة يوم القيامة» «2» ودولتهم :
الشفاعة فيمن أحبهم وأحسن إليهم. والفقراء هم المتوجهون إلى اللّه تعالى ، حتى وصلوا إلى حضرته. ومن صدّ الناس عن طريقه وصحبتهم ، يتعلق به المخذول عنهم ، فيقول له : (إنكم كنتم تأتوننا عن اليمين ...) الآية.
ثم ذكر سبب ورودهم العذاب ، فقال :
[سورة الصافات (37) : الآيات 35 الى 39]
إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (35) وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ (36) بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (37) إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ (38) وَما تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (39)
___________
(1) السانح : ما أتاك عن يمينك من ظبى أو طائر ، أو غير ذلك ، والبارح : ما أتاك من ذلك عن يسارك. انظر اللسان (سنح 3/ 2112).
(2) عزاه السيوطي فى الجامع الصغير (ح 104) لأبى نعيم فى الحلية ، عن الحسين بن على رضي اللّه عنه. والحديث ضعفه السيوطي.(4/595)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 596
يقول الحق جل جلاله : إِنَّهُمْ أي : المشركين كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ ، هو أعم من إذا قيل لهم : قولوها ، أو : ذكرت بمحضرهم ، يَسْتَكْبِرُونَ أي : يتعاظمون عن قولها ، أي : كانوا فى الدنيا إذا سمعوا كلمة التوحيد استكبروا عنها ، وأبوا إلا الشرك ، وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ ، يعنون نبينا محمدا صلى اللّه عليه وسلم ، بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ لكونه مصدّقا لما بين يديه من الرسل. وهو ردّ عليهم بأن ما جاء به الحق من التوحيد قد قام عليه البرهان ، وتطابق عليه المرسلون. فقوله تعالى : بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ مقابل لقولهم :
«شاعر» لأن الشاعر فى الغالب كذوب ، وتصديق المرسلين فى مقابلة مجنون لأنه لا يكون إلا من العاقل. قال تعالى لهم : إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ بالإشراك وتكذيب الرسول وَما تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إلا مثل ما عملتم بلا زيادة ولا نقصان ، فعذبتم ، على الكفر والتكذيب ، وخلدتم ، على نيتكم الدوام عليه.
الإشارة : ينبغى للمؤمن إذا سمع كلمة التوحيد ، وهى «لا إله إلا اللّه» أن يخشع قلبه ، وتهتز جوارحه ، فرحا بها ، ويخضع لمن جاء بها ، ودلّ عليها ، حتى يدخله فى بحار معانيها ، وهو التوحيد الخاص ، أعنى : توحيد أهل العيان ، وهم خلفاء الرسول صلى اللّه عليه وسلم فى التربية النبوية. قال القشيري : .. كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ ..
إلخ. احتجابهم بقلوبهم أوقعهم فى وهدة عذابهم ، وذلك أنهم استكبروا عن الإقرار بربوبيته ، ولو عرفوا لافتخروا بعبوديته قال تعالى : إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ .. «1» وقال : نْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ ..
«2» ، فمن عرف اللّه فلا لذة له إلا فى طاعته وعبوديته ، قال قائلهم :
ويظهر فى الورى عزّ الموالي فيلزمنى له ذلّ العبيد
ولمّا لم يحتشموا من وصفه - سبحانه - بما لا يليق بجلاله ، لم يبالوا بها أطلقوا من المثالب فى جانب أنبيائه. ه.
ثم استثنى المخلصين ، فقال :
[سورة الصافات (37) : الآيات 40 الى 50]
إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (40) أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (41) فَواكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ (42) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (43) عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (44)
يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (45) بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (46) لا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ (47) وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ عِينٌ (48) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (49)
فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (50)
___________
(1) من الآية 206 من سورة الأعراف. [.....]
(2) من الآية 173 من سورة النساء.(4/596)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 597
يقول الحق جل جلاله : إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ - بفتح اللام ، وكسرها «1» - أي : لكن عباد اللّه المخلصين فى أعمالهم ، أو : الذين أخلصهم اللّه ونجاهم من الشرك ، فليسوا مع أولئك المعذّبين ، بل أُولئِكَ المخلصون لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ ، يأتيهم بكرة وعشيا ، كحال المياسير فى الدنيا ، فهو معلوم الوقت لأن النفس إليه أسكن. قال القشيري : قد كان فى وقت الرسول صلى اللّه عليه وسلم من له رزق معلوم ، فهو من جملة المياسير ، وهذه صفة أهل الجنة ، لهم فى الآخرة رزق معلوم لأبشارهم وأسرارهم ، فالأغنياء - اليوم - لهم رزق معلوم لأبشارهم ، والفقراء لهم رزق معلوم لقلوبهم وأسرارهم. ه.
ثم فسّره بقوله : فَواكِهُ : جمع فاكهة ، وهى كل ما يتلّذذ به ، فليس قوتهم لحفظ الصحة ، بل رزقهم كله فواكه لأنهم مستغنون عن حفظ الصحة بالأقوات لأن أجسامهم نورانية مخلوقة للأبد ، فما يأكلونه إنما هو للتلذذ.
أو : معلوم ، أي : منعوت بخصائص خلق عليها من طيب طعم ، ورائحة ، ولذّة ، وحسن منظر ، وَهُمْ مُكْرَمُونَ :
معظّمون. قال القشيري : من ذلك : ورد الرسل عليهم من قبل اللّه - عزّ وجلّ - فى كل وقت ، وكذلك اليوم الخطاب وارد على قلوب الخواص فى كل وقت بكلّ أمر. ه.
وقوله : فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ، إما ظرف لمكرمون ، أو : حال ، أو : خبر ، أي : فى جنة ليس فيها إلا النعيم المقيم. وكذا عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ : يقابل بعضها بعضا ، إن استوت درجتهم ، فالتقابل أتم للسرور ، وآنس.
يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ إناء من زجاج فيه شراب ، ولا يكون كأسا حتى يكون فيه شراب ، وإلا فهو إناء.
وقد تسمّى الخمر كأسا. قال الأخفش : كل كأس فى القرآن فهو خمر. ومثل لابن عباس. مِنْ مَعِينٍ من خمر معين ، أي : جارية فى أنهار ظاهرة للعيون ، وصف بما وصف به الماء لأنه يجرى فى الجنة أنهارا ، كما يجرى الماء ، قال تعالى : وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ «2». وقوله : بَيْضاءَ صفة للكأس ، أي : صافية فى نهاية اللطافة.
لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ أي : لذيذة للشاربين ، وصفت باللذة ، كأنها نفس اللذة وعينها. أو : ذات لذة. لا فِيها غَوْلٌ أي : لا تغتال عقولهم فتذهب بها ، كخمر الدنيا ، وهو من : غاله يغوله : إذا أهلكه وأفسده. أو : لا فيها غول : إثم ، أو وجع بطن أو صداع ، وهو وجع الرأس ، أي : لا ينشأ عنها شىء مما ذكر. وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ يسكرون ، من :
نزف الشارب : إذا ذهب عقله. ويقال للسكران : نزيف ، ومنزوف. ومن قرأ بكسر الزاى «3» فمعناه : لا ينفد شرابهم ، يقال : أنزف الرجل فهو منزف : إذا فنيت خمرته.
___________
(1) قرأ نافع ، وعاصم ، وحمزة ، والكسائي ، وأبو جعفر ، «المخلصين» بفتح اللام.
(2) من الآية 15 من سورة سيدنا محمد.
(3) قرأ بذلك حمزة ، والكسائي. وقرأ الباقون بفتح الزاى .. انظر الإتحاف (2/ 411).(4/597)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 598
وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ أي : حور قصرت أبصارهنّ على أزواجهن ، لا يمددن طرفا إلى غيرهم عِينٌ : جمع عيناء ، أي : نجلاء ، واسعة العين. يقال : رجل أعين ، وامرأة عيناء ، ورجال ونساء عين. كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ مصون مستور. شبههنّ ببيض النعام المكنون من الريح والغبار ، فى الصفاء والبياض.
فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ فى الجنة ، تساؤل راحة وتنعم. والمعنى : أنهم يشربون ويتحادثون على الشرب ، كعادة الشّرب «1». قال الشاعر :
وما بقيت من اللّذّات إلّا أحاديث الكرام على المدام
أو : أقبل بعضهم على بعض يتساءلون عما جرى عليهم فى الدنيا. وجىء به ماضيا على ما عرف فى أخباره المحققة الوقوع.
الإشارة : المخلصين - بالفتح - أبلغ من المخلصين - بالكسر - المخلصين : أخلصهم اللّه واصطفاهم ، والمخلصى : ن طالبين الإخلاص ، مجتهدين فيه ، الأولون مجذوبون ، والآخرون سالكون ، الأولون محبوبون ، والآخرون محبون ، الأولون واصلون ، والآخرون سائرون. قال القشيري : والإخلاص : إفراد الحقّ - سبحانه - بالعبودية ، فالذى يشوب عمله برياء ليس بمخلص. ويقال : الإخلاص : تصفية العمل ، لا توفيقه ، وفى الخبر :
«يا معاذ : أخلص العمل ، يكفك القليل منه» «2». ويقال : الإخلاص : فقد رؤية الأشخاص. ه.
أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ للمخلصين - بالفتح - رزق أرواحهم وأسرارهم ، من النظر إلى وجه الحبيب فى كل ساعة. وللمخلصين ، رزق أشباحهم مما يشتهون. وقد يجتمع لهما ، ويغلب لكل واحد ما كان الغالب على همته فى الدنيا. وهم مكرمون بالتقريب والمشاهدة ، على قدر سعيهم هنا ، ويشربون كأس المحبة والاصطفاء على قدر شربهم هنا خمرة المعاني ، وشرب خمرة المعاني على قدر الغيبة عن حس الأوانى والزهد فى بهجتها.
وقوله تعالى : فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ ، كان من تمام نعميهم فى الشرب : التحادث عليها بما يناسب حالها ، ومدحها ، كما قال الشاعر :
وإذا جسلت إلى المدام وشربه فاجعل حديثك كله فى الكأس
___________
(1) الشّرب : القوم يشربون ، ويجتمعون على الشراب ، جمع شارب ، كركب ورجل. انظر اللسان (شرب 4/ 222).
(2) عزاه السيوطي فى الجامع الصغير (ح 298) لابن أبى الدنيا فى الإخلاص ، والحاكم ، عن معاذ.(4/598)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 599
كذلك العارف إذا جلس مجلس الفكرة ، وغاب فى الشهود والنظرة ، لا يجول إلا فى عظمة الذات ، وأسرارها ، وبهائها ، وجمالها ، لا يخطر على باله غيرها ، فحديث روحه وسره كله فى الخمرة الأزلية. هذه هى الفكرة الصافية ، والنظرة الشافية ، متعنا اللّه بها على الدوام. آمين.
ثم ذكر حال من يعوق عن شرب هذه الخمرة ، فقال :
[سورة الصافات (37) : الآيات 51 الى 61]
قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ (51) يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (52) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ (53) قالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (54) فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ (55)
قالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (56) وَلَوْ لا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (57) أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (58) إِلاَّ مَوْتَتَنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (59) إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (60)
لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ (61)
يقول الحق جل جلاله : قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ أي : من أهل الجنة إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ فى الدنيا ، قيل :
كان شيطانا ، وقيل : من الإنس ، ففيه التحفظ من قرناء السوء ، وقيل : كانا شريكين بثمانية آلاف دينار ، أحدهما :
قطروس ، وهو الكافر ، والآخر : يهوذا ، المؤمن ، فكان أحدهما مشغولا بعبادة اللّه ، وكان الآخر مقبلا على ماله ، فحلّ الشركة مع المؤمن ، وبقي وحده لتقصير المؤمن فى التجارة ، وجعل الكافر كلما اشترى شيئا من دار ، أو جارية ، أو بستان ، عرضه على المؤمن ، وفخر عليه ، فيمضى المؤمن ، ويتصدق بنحو ذلك ، ليشترى به من اللّه تعالى فى الجنة. فكان من أمرهما فى الجنة ما قصّه اللّه تعالى فى هذه الآية «1». قال السهيلي : هما المذكوران فى سورة الكهف بقوله : وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ ..»
إلخ.
يَقُولُ أي : قرين السوء ، لقرينه المؤمن فى الدنيا : أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ بالبعث؟ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ لمحاسبون ومجزيون بأعمالنا؟ من : الدين ، وهو الجزاء.
___________
(1) ذكر السيوطي القصة بطولها فى الدر (5/ 518 - 519) وعزاها لعبد الرزاق ، وابن المنذر ، عن عطاء الخراسانى ، وأخرجها الطبري (23/ 56) عن فرات بن ثعلبة البهراني. وقد ذكر الشيخ ابن عجيبة - رحمه اللّه تعالى - القصة كاملة عند تفسير الآية 32 من سورة الكهف.
(2) الآية 32 وما بعدها من سورة الكهف.(4/599)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 600
قالَ ذلك القائل لمن معه فى الجنة : هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ معى إلى النار ، لأريكم حال ذلك القرين. قيل :
إن فى الجنة كوى ينظر أهلها منها إلى أهل النار. قلت : حال الجنة كله خوارق ، فيكشف لهم عن حال أهل النار كيف شاء. وقيل : القائل : هو اللّه ، أو : بعض الملائكة. يقول لهم : هل تحبون أن تطلعوا على أهل النار ، لأريكم ذلك القرين ، أو : لتعلموا منزلتكم من منزلتهم. قال الكواشي : أو : إن المؤمن يقول لإخوانه من أهل الجنة : هل أنتم ناظرون أخى فى النار؟ ، فيقولون له : أنت أعرف به منا ، فانظر إليه. فَاطَّلَعَ على أهل النار فَرَآهُ أي :
قرينه فِي سَواءِ الْجَحِيمِ فى وسطها.
قالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ لتهلكنى بإغوائك. و«إن» مخففة ، واللام : فارقة ، أي : إنه قربت لتهلكنى ، وَلَوْ لا نِعْمَةُ رَبِّي علىّ بالهداية ، والعصمة ، والتوفيق للتمسك بعروة الإسلام ، لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ معك ، أو : من الذين أحضروا العذاب ، كما أحضرته أنت وأمثالك.
أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ ، إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ ، الفاء للعطف على محذوف ، أي : أنحن مخلّدون فما نحن بميتين ولا معذّبين. وعلى هذا يكون الخطاب لرفقائه فى الجنة ، لما رأى ما نزل بقرينه ، ونظر إلى حاله وحال رفقائه فى الجنة ، تحدّثا بنعمة اللّه. أو : قاله بمرأى من قرينه ومسمع ليكون توبيخا له ، وزيادة تعذيب ، ويحتمل أن يكون الخطاب لقرينه ، كأنه يقول : أين الذي كنت تقول فى الدنيا من أنّا نموت ، وليس بعد الموت عقاب ولا عذاب؟ كقوله : إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولى «1» والتقدير : أكما كنت تزعم هو ما نحن بميتين إلا موتتنا الأولى ، وما نحن بمعذّبين ، بل الأمر وقع خلافه ، وكان يقال له : نحن نموت ونسأل فى القبر ، ثم نموت ونحيا ، فيقول :
ما نحن بميتين إلا موتتنا الأولى وما نحن بمعذّبين.
وقوله تعالى : إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ .. إلخ ، يحتمل أن يكون من خطاب المؤمن لقرينه ، وأن يكون من خطاب اللّه تعالى لنبيه - عليه الصلاة والسلام ، أي : إن هذا النعيم الذي نحن فيه لهو الفوز العظيم. ثم قال اللّه - عز وجل : لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ أي : لنيل مثل هذا يجب أن يعمل العاملون ، لا للحظوظ الدنيوية ، المشوبة بالالآم ، السريعة الانصرام. أو : لمثل هذا فليجتهد المجتهدون ، مادام يمكنهم الاجتهاد ، فإنّ الدنيا دار عمل ، والآخرة دار جزاء ، فبقدر ما يزرع هنا يحصد ثمّ ، وسيندم المفرط إذا حان وقت الحصاد.
___________
(1) الآية 35 من سورة الدخان.(4/600)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 601
الإشارة : تنسحب الآية من طريق الإشارة على من رام النهوض إلى اللّه ، بصحبة الرجال فى طريق التجريد ، فينهاه رفقاؤه ، فيخالفهم ، وينهض إلى اللّه ، فإذا كان يوم القيامة رفع مع المقربين ، فيقول لهم : إنى كان قرين ينكر طريق الخصوص ، وينهانى عن صحبتهم ، فيطلع عليه ، فيراه فى أسفل الجنة ، مع عامة أهل اليمين ، فيحمد اللّه على مخالفته ، ويقول : لو لا نعمة ربى لكنت من المحضرين معك. قال القشيري : فيقول الولىّ له : إن كدتّ لتردين ، لو لا نعمة ربى. نطقوا بالحق ، ولكنهم لم يصرّحوا بعين التوحيد إذ جعلوا الفضل واسطة ، والأولى أن يقول : ولو لا ربى لكنت من المحضرين. ثم يقول : لمثل هذا فليعمل العاملون. ثم قال : فإذا بدت شظية ، من الحقائق ، أو ذرة من نسيم القرية ، فبالحرىّ أن يقول القائل : لمثل هذا الحال تبذل الأرواح ، وأنشدوا :
على مثل ليلى يقتل المرء نفسه وإن بات من ليلى على اليأس طاويا «1». ه.
ثم قال تعالى :
[سورة الصافات (37) : الآيات 62 الى 74]
أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (62) إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (63) إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (64) طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ (65) فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (66)
ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ (67) ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (68) إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آباءَهُمْ ضالِّينَ (69) فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ (70) وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (71)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (72) فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73) إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (74)
يقول الحق جل جلاله : أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ أي : أنعيم الجنة وما فيها من اللذات ، والطعام ، والشراب ، خير نزلا أم شجرة الزقوم؟ النزل : ما يقدم للنازل من الرزق. و«نزلا» : تمييز ، وفى ذكره : تنبيه على أن ما ذكر من النعيم لأهل الجنة بمنزلة ما يقدم للنازل ، ولهم من وراء ذلك ما تقصر عنه الأفهام ، وكذلك الزقوم لأهل النار. قال ابن عطية : فى البلاد الجدبة المجاورة للصحارى شجرة ، مرّة ، مسمومة ، لها لبن ، إن مسّ جسم أحد تورّم ومات منه ، فى غالب الأمر ، تسمّى شجرة الزقوم. والتزقم : البلع على شدة وجهد. ه. وفى
___________
(1) البيت لمجنون ليلى. انظر : ديوانه : / 296 وتزيين الأسواق/ 128. وجاء فى لطائف الإشارات : (سلمى) بدل (ليلى).(4/601)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 602
الحديث : «لو أن قطرة من الزقوم قطرت فى بحار الدنيا لأفسدت على أهل الأرض معايشهم. فكيف بمن يكون الزقوم طعامه!» «1». وقال ابن عرفه : هذه الشجرة يحتمل أن تكون واحدة بالنوع ، فيكون كل جهة من جهات جهنم فيها شجرة ، أو : تكون واحدة بالشخص. ه.
إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ محنة وعذابا لهم فى الآخرة ، وابتلاء لهم فى الدنيا. وذلك أنهم قالوا : كيف تكون فى النار شجرة ، والنار تحرق الشجر؟ ولم يعلموا أن من قدر على خلق حيوان يعيش فى النار ويتلذذ بها - وهو السمندل - «2» كيف لا يقدر على خلق شجر فى النار ، وحفظه من الإحراق؟ إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ ، قيل : منبتها فى قعر جهنم ، وأغصانها ترتفع إلى دركاتها ، وهذا يؤيد أنها واحدة بالشخص.
طَلْعُها أي : حملها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ ، الطلع للنخلة ، فاستعير لما يطلع من شجرة الزقوم من حملها ، وشبه برؤوس الشياطين للدلالة على تناهيه فى الكراهة ، وقبح المنظر لأن الشيطان مكروه مستقبح فى طباع الناس لاعتقادهم أنه شرّ محض. وقيل : الشياطين : حيّات هائلة ، قبيحة المنظر ، لها أعراف يقال لها شياطين. وقيل : شبه بما استقر فى النفوس من كراهة رؤوس الشياطين وقبحها ، وإن كانت لا ترى ، كما شبهوا سنان الرماح بأنياب أغوال ، كما قال امرؤ القيس :
أيقتلني والمشرفىّ مضاجعى ومسنونة زرق كأنياب أغوال «3»
فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها أي : من طلع تلك الشجرة ، فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ مما يبلغهم من الجوع الشديد ، فيملؤون بطونهم منها مع تناهى بشاعتها ، ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها على أكلها ، أي : بعد ما شبعوا منها ، وغلبهم العطش ، وطال استقاؤهم ، لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ أي : لشرابا من غساق ، أو : حديد ، مشوبا بماء حار ، يشوى وجوههم ، ويقطع أمعاءهم ، فى مقابلة ما قال فى شراب أهل الجنة : وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ «4» وأتى ب «ثم» لما فى شرابهم من مزيد البشاعة والكراهة فإنّ الزقوم حار محرق ، وشرابهم أشد حرا وإحراقا.
___________
(1) أخرجه الترمذي وصححه فى (صفة جهنم ، باب ما جاء فى صفة شراب أهل النار ، 4/ 609 ، ح 2585) ، وابن ماجة فى (الزهد ، باب صفة النار ، 2/ 446 ، ح 4325) وابن حبان (ح 7470) والحاكم (2/ 294) وصححه ، من حديث ابن عباس - رضى اللّه عنهما.
(2) السمندل : طائر إذا انقطع نسله ، وهرم ، ألقى نفسه فى الجمر ، فيعود إلى شبابه. وقيل : هو دابة يدخل النار فلا تحرقه. انظر اللسان (سمندل ، 3/ 2105).
(3) انظر : ديوان امرئ القيس (ص 33). والكامل (3/ 96) ..
(4) الآية 27 من سورة المطففين. [.....](4/602)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 603
ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ أي : إنهم يخرجون من مقارهم فى الجحيم - وهو الدركات التي أسكنوها - إلى شجرة الزقوم ، فيأكلون منها إلى أن يتملّوا. ويشربون بعد ذلك ، ثم يرجعون إلى دركاتهم ، كما تورد الإبل ، ثم ترد إلى وطنها. ومعنى التراخي فى ذلك ظاهر.
ثم ذكر سبب عذابهم ، فقال : إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آباءَهُمْ ضالِّينَ ، فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ ، علّل استحقاقهم للوقوع فى تلك الشدائد بتقليد آبائهم فى الضلال ، وترك اتباع الدليل. والإهراع : الإسراع الشديد. كأنهم يزعجون ويحثّون حثّا. وفيه إشعار بأنهم بادروا إلى اتباعهم من غير توقف ولا نظر. وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ قبل قومك قريش أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ ، يعنى الأمم الماضية ، بالتقليد وترك النظر. وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ أنبياء ، حذّروهم العواقب. فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ الذين أنذروا ، وحذّروا ، فقد أهلكوا جميعا ، إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ أي : إلا الذين آمنوا ، وأخلصوا دينهم لله ، أو : أخلصهم اللّه لدينه ، على القراءتين «1».
الإشارة : إذا قامت القيامة انحاز الجمال كله إلى أهل الإيمان والإحسان ، وانحاز الجلال كله إلى أهل الكفر والعصيان ، فيرى المؤمن من جماله تعالى وبره وإحسانه ما لا تفى به العبارة ، ويرى الكافر من جلاله تعالى وقهره ما لا يكيف. وأما فى دار الدنيا فالجمال والجلال يجريان على كل أحد ، مؤمنا أو كافرا ، كان من الخاصة أو العامة ، غير أن الخاصة يزيدون إلى اللّه تعالى فى الجلال والجمال لمعرفتهم فى الحالتين. وأما العامة فلا يزيدون إلا بالجمال لإنكارهم فى الجلال. والمراد بالجلال : كل ما يقهر النفس ويذلها. واللّه تعالى أعلم.
ثم ذكر أول المنذرين من أولى العزم ، فقال :
[سورة الصافات (37) : الآيات 75 الى 82]
وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (75) وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ (77) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (78) سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ (79)
إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (80) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (81) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (82)
يقول الحق جل جلاله : وَلَقَدْ نادانا أي : دعانا نُوحٌ ، حين أيس من قومه بقوله : أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ «2» أو : دعانا لننجيه من الغرق ، فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ أي : فأجبناه أحسن الإجابة ، ونصرناه على أعدائه ،
___________
(1) فى «المخلصين» ، وقد قرأ بفتح اللام : نافع وعاصم ، وحمزة ، والكسائي ، وأبو جعفر. وقرأ الباقون بالكسر.
(2) الآية 10 من سورة القمر.(4/603)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 604
وانتقمنا منهم بأبلغ ما يكون ، فو اللّه لنعم المجيبون نحن ، فحذف القسم لدلالة اللام عليه. وحذف المخصوص ، والجمع دليل العظمة والكبرياء. وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ ومن آمن به وأولاده المؤمنين مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ ، وهو غمّ الغرق ، أو : إذاية قومه ، وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ ، وقد فنى غيرهم. قال قتادة : الناس كلهم من ذرية نوح ، وكان لنوح عليه السّلام ثلاثة أولاد : سام - وهو أبو العرب وفارس والروم ، وحام - وهو أبو السودان ، من المشرق إلى المغرب - ويافث - وهو أبو الترك ويأجوج وماجوج «1». وقد نظمه بعضهم ، فقال :
العرب والروم وفارس اعلمن أولاد سام فيهم الخير كمن
من نسل حام نشا السودان شرقا وغربا ، ذا له برهان
يأجوج مأجوج مع الصقالبة ليافث ، لا خير فيهم قاطبه.
وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ أي : وأبقينا عليه الثناء الحسن فى الأمم الآخرين ، الذين يأتون بعده من الأنبياء والأمم إلى يوم القيامة ، سَلامٌ عَلى نُوحٍ : مبتدأ وخبر ، استئناف ، فِي الْعالَمِينَ ، يعنى : أنهم يسلّمون عليه تسليما ، ويدعون له ، أي : ثبتت هذه التحية فيهم ، ولا يخلو أحد منهم منها ، كأنّ اللّه أثبت التسليم على نوح وأدامه فى الملائكة والثقلين ، يسلّمون عليه عن آخرهم. إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ، فنكرمهم ونحييهم ، وهو تعليل لما فعل بنوح من التكرمة السنية ، بأنه مجازاة له على إحسانه ، إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ علّل كونه محسنا بأنه كان عبدا مؤمنا ليريك جلالة محلّ الإيمان. ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ أي : الكافرين.
ذكر فى كتاب حياة الحيوان ، عن القشيري : أن العقرب والحية أتيا نوحا عليه السّلام فقالتا : احملنا معك ، ونحن نعاهدك ألا نضر أحدا ذكرك ، فحملهما. فمن قرأ ، حين يخاف مضرتهما ، حين يمسى وحين يصبح : سلام على نوح فى العالمين ، ومحمد فى المرسلين ، إنا كذلك نجزى المحسنين ، إنه من عبادنا المؤمنين ، ما ضرتاه. ه. وقال نبينا - عليه الصلاة والسلام : «من قال حين يمسى وحين يصبح : أعوذ بكلمات اللّه التامات من شرّ ما خلق ، لم يضره شى ء» «2».
الإشارة : إذا تحقق الإيمان والإحسان فى عبد أعطى ثلاث خصال : نفوذ الدعوة ، والثناء الحسن بعده ، والبركة فى الذرية ، كل ذلك مقتبس من قضية نوح عليه السّلام.
___________
(1) قاله سعيد بن المسيب ، كما فى تفسير ابن كثير (4/ 13).
(2) أخرجه ، بنحوه ، مسلم فى : (الذكر والدعاء ، باب فى التعوذ من سوء القضاء ، 4/ 2080 ، ح 2708 ، 2709) من حديث سعد بن أبى وقاص ، وأبى هريرة - رضى اللّه عنهما.(4/604)
البحر المديد ج 4 ، ص : 605
ثم ذكر خليله إبراهيم عليه السّلام ، فقال :
[سورة الصافات (37) : الآيات 83 الى 87]
وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ (83) إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (84) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما ذا تَعْبُدُونَ (85) أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (86) فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (87)
قلت : (أ ئفكا) : مفعول له ، و(آلهة) : مفعول «تريدون» ، أي : أتريدون آلهة من دون اللّه إفكا وزورا. وإنما قدّم المفعول به على الفعل للعناية له ، وقدّم المفعول له على المفعول به لأنه كان الأهم عنده أن يكافحهم بأنهم على إفك وباطل فى شركهم. ويجوز أن يكون «إفكا» مفعولا به ، أي : أتريدون إفكا. ثم فسّر الإفك بقوله : آلِهَةً دُونَ اللَّهِ على أنها إفك فى نفسها ، أو : حالا ، أي : أتريدون آلهة من دون اللّه آفكين.
يقول الحق جل جلاله : وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ أي : نوح لَإِبْراهِيمَ ، أي : ممن شايعه على أصول الدين ، وإن اختلفا فى الفروع ، أو : شايعه على التصلب فى دين اللّه ، ومصابرة المكذّبين. وكان بين نوح وإبراهيم ألفان وستمائة وأربعون سنة ، وما كان بينهما إلا نبيّان هود ، وصالح. إِذْ جاءَ رَبَّهُ : متعلق بما فى الشيعة من معنى المشايعة ، أي : وممن شايعه على دينه إبراهيم ، حين جاء ربه بِقَلْبٍ سَلِيمٍ من الشرك ، أو : من آفات القلوب ، ومعنى المجيء بقلبه ربه : أنه أخلص لله قلبه ، وعلم ذلك منه.
إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما ذا تَعْبُدُونَ ، «إذ» : بدل من الأولى ، أو : ظرف لجاء ، أو : لسليم ، أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ أتريدون آلهة تعبدونها من دون اللّه إفكا وزورا وباطلا. فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ يفعل بكم إذا لقيتموه ، وقد عبدتم غيره ، فما تقولون ، وكيف بكم فى مقام الخجل الذي بين أيديكم ، وإن كنتم اليوم غائبين عنه؟. أو : أىّ شىء ظنكم بمن هو حقيق بالعبادة لكونه رب العالمين ، حتى تركتم عبادته ، وأشركتم معه غيره ، أو أمنتم عذابه؟.
الإشارة : لا يكون العبد إبراهيميا حنيفيا حتى يقدس قلبه مما سوى اللّه ، ويرفض كلّ ما عبده الناس من دون اللّه ، كحب الدنيا ، والرئاسة ، والجاه ، فيجئ إلى اللّه بقلب سليم ، أي : مقدس من شوائب الطبيعة ، فهو سالم مما دون اللّه لاتصاله بالله. قال القشيري : «بقلب سليم» لا آفة فيه. ويقال : لديغ من محبة الأغيار ، أو : من الحظوظ ، أو : من الاختيار والمنازعة. والله تعالى أعلم.(4/605)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 606
ثم ذكر كسره الأصنام ، وما ترتب عليه ، فقال :
[سورة الصافات (37) : الآيات 88 الى 98]
فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88) فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ (89) فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (90) فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ فَقالَ أَلا تَأْكُلُونَ (91) ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ (92)
فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ (93) فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (94) قالَ أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ (95) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ (96) قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (97)
فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ (98)
يقول الحق جل جلاله : فَنَظَرَ إبراهيم نَظْرَةً فِي النُّجُومِ ، وذلك أن قومه كانوا يتعاطون علم النجوم ، فعاملهم بما يعلمون لئلا ينكروا عليه تخلّفه. وكانو يقولون : إذا طلع سهيل مقابل الزهرة سقم من نظر إليه ، فاعتلّ عليهم لأنه نظر إليه ليتركوه. وذلك أنه كان لهم من الغد عيد ومجمع ، وكانوا يدخلون على أصنامهم ، فيقربون إليها القرابين ، ويضعون بين أيديها الطعام ، قبل خروجهم إلى عيدهم ، لتبارك عليه ، فإذا قدموا أكلوه. فلما نظر إلى النجوم ، قال : إِنِّي سَقِيمٌ إنى مشارف للسقم - وهو الطاعون ، وكان أغلب الأسقام عليهم ، وكانوا يخافون العدوى - ليتفرقوا عنه ، فهربوا منه إلى عيدهم ، وتركوه فى بيت الأصنام ، ليس معه أحد ، ففعل بالأصنام ما فعل. قيل : إن علم النجوم كان حقا ثم نسخ الاشتغال به.
والكذب حرام إلا إذا عرّض. والذي قاله إبراهيم عليه السّلام معراض من الكلام ، أي : سأسقم ، أو : من فى عنقه الموت سقيم ، أو : سقيم مما أرى من مخالفتكم وعبادتكم الأصنام. وعلى كل حال لم يلم إبراهيم بشىء من الكذب ، وإنما عرّض. وأيضا : إنما كان لمصلحة ، وقد أبيح لها ، كالجهاد ونحوه. وفى الحديث : «ما كذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات ، ما منها واحدة إلا وهو يناضل عن دينه لقوله : إِنِّي سَقِيمٌ ، وقوله : فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ «1» ، وقوله لسارة : هى أختى» «2».
قال السدى : خرج معهم إلى بعض الطريق ، فوقع فى نفسه كيده آلهتهم ، فقال : إنى سقيم أشتكى رجلى.
فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ أعرضوا عنه مولين الأدبار ، فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ فمال إليها سرّا ، وكانت اثنتين وسبعين صنما من خشب ، وحديد ، ورصاص ، ونحاس ، وفضة ، وذهب ، وكان كبيرهم من ذهب ، فى عنقه
___________
(1) من الآية 63 من سورة الأنبياء.
(2) أخرجه بنحوه البخاري فى (أحاديث الأنبياء ، باب : قول اللّه تعالى : وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا ، ح 3358) ومسلم فى (الفضائل ، باب من فضائل إبراهيم الخليل عليه السّلام 4/ 1840 ح/ 2371) من حديث أبى هريرة رضي اللّه عنه.(4/606)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 607
ياقوتتان ، فَقالَ لها ، استهزاء : أَلا تَأْكُلُونَ من الطعام الذي وضع عندكم ، ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ؟.
والجمع بالواو والنون لأنه خاطبها خطاب من يعقل. فَراغَ عَلَيْهِمْ فمال إليهم سرا ، فضربهم ضَرْباً بِالْيَمِينِ أي : ضربا شديدا بالقوة لأن اليمين أقوى الجارحتين وأشدّهما ، أو : بالقوة والمتانة ، أو : بسبب الحلف الذي سبق منه بقوله : وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ «1».
فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ إلى إبراهيم يَزِفُّونَ : يسرعون ، من : الزفيف ، وهو الإسراع. وكان قد رآه بعضهم يكسرها. فأخبرهم ، فلما جاء من لم يره قال لمن رآه : مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا «2» فأجابوه على سبيل التعريض :
سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ «3» ، ثم قالوا بأجمعهم : نحن نعبدها وأنت تكسرها؟ ، فأجابهم بقوله :
قالَ أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ : ما تنجرونه بأيديكم من الأصنام؟ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ أي : وخلق ما تعملونه من الأصنام. أو : «ما» مصدرية ، أي : وخلق أعمالكم. وهو دليلنا فى خلق الأفعال لله تعالى ، أي : اللّه خالقكم وخالق أعمالكم ، فلم تعبدون غيره؟!.
قالُوا ابْنُوا لَهُ أي : لأجله بُنْياناً من الحجر ، طوله ثلاثون ذراعا ، وعرضه عشرون ذراعا ، فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ فى النار الشديدة : وقيل : كل نار بعضها فوق بعض فهو جحيم. فبنوه وملؤوه حطبا ، وأضرموه نارا ، فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً بإلقائه فى النار ، فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ المقهورين عند إلقائه ، حين خرج من النار سالما ، فعلاهم بالحجة والنصرة. قيل : ذكر أسفل ، هنا لمناسبة ذكر البناء ، بخلاف سورة الأنبياء «4».
الإشارة : كلّ عبد مأمور بكسر صنمه ، وهو : ما تركن إليه نفسه من حظ ، أو هوى ، أو علم ، أو عمل ، أو حال ، أو مقام. وفى الإشارات عن اللّه تعالى : لا تركنن لشىء دوننا ، فإنه وبال عليك ، وقاتل لك ، فإن ركنت إلى العلم تتبعناه عليك ، وإن أويت إلى العمل رددناه إليك ، وإن وثقت بالحال وقفناك معه ، وإن أنست بالوجد استدرجناك فيه ، وإن لحظت إلى الخلق وكلناك إليهم ، وإن اعتززت بالمعرفة نكرناها عليك ، فأىّ حيلة لك ، وأىّ قوة معك؟
فارضنا لك ربا حتى نرضاك لنا عبدا. ه. ولا بأس أن يتعلل لنفسه ، ويحتال عليه بحيل ، كما تعلل الخليل للقعود لكسر الأصنام ، لعلها توافقه على ترك ما تهواه وتركن إليه ، كما قال القائل «5» :
فاحتل على النفس قربّ حيله أنفع فى النصرة من قبيله.
___________
(1) الآية 57 من سورة الأنبياء.
(2) الآية 59 من سورة الأنبياء.
(3) الآية 60 من سورة الأنبياء.
(4) فى قوله تعالى : وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ الآية 70.
(5) وهو ابن البنا السرقسطي ، فى المباحث الأصلية (ص 505).(4/607)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 608
ثم ذكر هجرة إبراهيم ، وما امتحن به ، فقال :
[سورة الصافات (37) : الآيات 99 الى 111]
وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ (99) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100) فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ (101) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ما ذا تَرى قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102) فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103)
وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (108)
سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ (109) كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (110) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (111)
قلت : «معه» : يتعلق بمحذوف ، أي : بلغ السعى يسعى معه ، ولا يتعلق ببلغ لأنه يقتضى الاشتراك فى البلوغ ، ولا بالسعي لأن المصدر لا يتقدم عليه معموله ، إلا أن يقال : يتسع فى الظروف ما لا يتسع فى غيرها.
يقول الحق جل جلاله : وَقالَ إبراهيم : إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي إلى موضع أمرنى ربى بالذهاب إليه ، وهو الشام ، أو : إلى مرضاة ربى ، بامتثال أمره بالهجرة ، أو : إلى المكان الذي أتجرد فيه إلى عبادة ربى ، سَيَهْدِينِ أي : سيرشدنى إلى ما فيه صلاح دينى ، أو : إلى مقصدى ، وإنما بتّ القول لسبق وعده لأن اللّه وعده بالهداية ، أو : لفرط توكله ، أو : للبناء على عادته معه. ولم يكن كذلك حال موسى عليه السّلام حيث عبّر بما يقتضى الرجاء «1».
ثم قال : رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ بعض الصالحين ، يعيننى على الدعوة والطاعة ، ويونسى فى الغربة.
يريد الولد لأن لفظ الهبة غلب على الولد. فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ ، انطوت البشارة على ثلاث : على أنّ الولد ذكر ، وأنه يبلغ أوان الحلم لأن الصبىّ لا يوصف بالحلم ، وأنه يكون حليما ، وأىّ حليم أعظم من حلمه ، حيث عرض عليه أبوه الذبح وهو مراهق ، فقال : سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ «2» ، ثم استسلم. وقيل : ما نعت اللّه نبيا بالحلم إلا إبراهيم وابنه لمعزّة وجوده.
___________
(1) حيث قال : عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ الآية 22 من سورة القصص.
(2) الآية 102 من سورة الصافات.(4/608)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 609
فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ أي : فلما وجد وبلغ أن يسعى مع أبيه فى أشغاله وحوائجه ، أي : الحدّ الذي يقدر على السعى مع ابنه ، وكان إذ ذاك ابن ثلاث عشرة سنة. وقيل : سبع سنين. قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ أي : قيل له فى المنام : اذبح ابنك ، ورؤيا الأنبياء وحي ، كاليقظة. قال الكواشي : لم ير أنه يذبحه فى النوم ، ولكنه أمر فى النوم بذبحه ، بدليل قوله : افْعَلْ ما تُؤْمَرُ. وقيل : رأى أنه يعالج ذبحه ، ولم ير إراقة الدم.
وقال قتادة : رؤيا الأنبياء حق ، إذا رأوا شيئا فعلوه «1». وفى رؤيا ذلك فى النوم وتحققه إياه حتى عمل بما رأى ، إيذان بأن الأنبياء قد تجوهرت نفوسهم ، فلا مجال للكذب فيما يوحى إليهم ، وفيما يصدر عنهم ، فهم صادقون مصدّقون ، فليس للشيطان عليهم سبيل ، وإيذان بأن من كان فى منامه صادقا كان يقظته أولى بالصدق. ه.
وإنما لم يقل : «رأيت» لأنه رأى مرة بعد أخرى ، فقد قيل : رأى ليلة التروية كأنّ قائلا يقول له : إن اللّه يأمرك بذبح ابنك هذا ، فلما أصبح روّى فى ذلك من الصباح إلى الرواح ليعلم أمن اللّه هذا الحلم ، أم لا ، فسمّى يوم التروية ، فلما أمسى رأى مثل ذلك ، فعرف أنه من اللّه ، فسمّى يوم عرفة ، ثم رأى مثله فى الليلة الثالثة ، فهم بنحره ، فسمّى يوم النحر «2».
واختلف من المخاطب المأمور بذبحه ، فقال أهل الكتابين : هو إسحاق ، وبه قال عمر ، وعلىّ ، وابن مسعود ، والعباس ، وابنه عبد اللّه ، وكعب الأحبار ، وسعيد بن جبير ، وقتادة ، ومسروق ، وعكرمة ، والقاسم بن أبى برّة ، وعطاء ، ومقاتل ، والزهري ، والسدى. قال سعيد بن جبير : أرى إبراهيم ذبح إسحاق فى المنام ، فسار به على البراق مسيرة شهر فى غداة واحدة ، حتى أتى المنحر بمنى ، فلما صرف عنه الذبح ، وأمره أن يذبح الكبش ، وذبحه ، سار به مسيرة شهر فى روحة واحدة ، طويت له الأودية والجبال. ه.
واحتج أهل هذا القول بأنه ليس فى القرآن أن إبراهيم بشّر بولد إلا بإسحاق ، وقال هنا : فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ فتعيّن أنه إسحاق إذ هو المبشّر به فى غير هذه الآية ، وبأن الذي كان يسعى معه فى حوائجه وأشغاله إنما هو إسحاق ، وأما إسماعيل فإنما كان بمكة غائبا عنه ، ولم يثبت فى الصحيح أن إبراهيم قدم مكة إلا ثلاث مرات وإسماعيل متزوج. وبما روى أن موسى عليه السّلام قال : يا رب الناس يقولون : إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب ، فبم ذلك؟
فقال : إن إبراهيم لم يعدل بي شيئا قط إلا اختارني ، وإن إسحاق جاد لى بالذبح ، وهو لى بغير ذلك أجود ، وإن يعقوب كلما زدته بلاء زاد لى حسن ظن «3». وقال يوسف للملك : أترغب أن تأكل معى ، وأنا - واللّه - يوسف بن
___________
(1) عزاه السيوطي فى الدر (5/ 528) لعبد بن حميد. [.....]
(2) انظر تفسير البغوي (7/ 48).
(3) أخرجه الطبري فى تفسيره (23/ 82) وعزاه السيوطي فى الدر (5/ 530) لابن أبى شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، والبيهقي فى الشعب ، عن عبد اللّه بن عمير.(4/609)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 610
يعقوب ، نبى اللّه ، ابن إسحاق ، ذبيح اللّه ، ابن إبراهيم ، خليل اللّه «1». وبما روى أن نبينا - عليه الصلاة والسلام - سئل : أي النسب أشرف؟ فقال : «يوسف صدّيق اللّه ، ابن يعقوب إسرائيل اللّه ، ابن إسحاق ذبيح اللّه ، ابن إبراهيم خليل اللّه» «2». وفى الجامع الصغير : «الذبيح إسحاق» رواه الدار قطنى عن ابن مسعود ، والبزار وابن مردويه عن العباس ، وأبى هريرة «3».
وقال آخرون : هو إسماعيل ، وبه قال عمر ، وأبو الطفيل عامر بن واثلة ، وسعيد من المسيب ، والشعبي ، ويوسف ابن مهران ، ومجاهد ، وابن عباس أيضا ، وغيرهم. واحتجوا بأن البشارة بإسحاق متأخرة عن قصة الذبح. وبقوله عليه السلام : «أنا ابن الذبيحين» «4» فأحدهما : جده إسماعيل ، والآخر : أبوه ، فإن عبد المطلب نذر أن يذبح ولدا إن سهل له حفر زمزم ، أو بلغ بنوه عشرا ، فلما سهل ، أقرع بينهم ، فخرج السهم على عبد اللّه ، ففداه بمائة من الإبل ، ولذلك سنت الدية مائة. وبأن ذلك كان بمكة ، وكان قرنا الكبش معلّقين بالكعبة حتى احترقا معها فى أيام ابن الزبير ، ولم يكن إسحاق ثمة. ه.
وقد يجاب بأن البشارة أولا كانت بولادته ، والثانية بنبوته ، أو : بسلامته. وبأن الثانية تفسير للأولى ، كأنه قال بعد ما فرغ من ذكر المبشر به : وكانت تلك البشارة بإسحاق. قاله الفاسى فى حاشيته. وعن الحديث بأن العم يطلق عليه أبا ، كقوله تعالى : نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ «5» وكان عمّا له ، وتقدم عن ابن جبير أن إبراهيم سار بابنه على البراق إلى مكة وحيث كان الذبح بها بقي القربان فيها. واللّه تعالى أعلم بغيبه «6».
___________
(1) أخرجه الطبري (23/ 83) عن أبى ميسرة.
(2) عزاه السيوطي فى الدر (5/ 531) للطبرانى ، وابن مردويه ، عن ابن مسعود رضي اللّه عنه.
(3) حديث رقم (4349) وعبارة السيوطي : « (قط) فى الإفراد ، عن ابن مسعود ، والبزار وابن مردويه ، عن العباس بن عبد المطلب ، وابن مردويه عن أبى هريرة ، والحديث ضعّفه السيوطي.
(4) أخرج ابن جرير (23/ 85) والحاكم فى المستدرك (2/ 554) عن الصّنابحى ، قال : كنا عند معاوية بن أبى سفيان ، فذكروا الذبيح ، إسماعيل أو إسحاق ، فقال : على الخبير سقطتم ، كنا عند رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فجاءه رجل ، فقال : يا رسول اللّه عد علىّ مما أفاء اللّه عليك يا ابن الذبيحين ، فضحك عليه الصلاة والسلام ، فقال له : يا أمير المؤمنين ، وما الذبيحان؟ فقال : إن عبد المطلب لما أمر بحفر زمزم ...» إلخ. والحديث ضعفه السيوطي فى الدر المنثور (5/ 529).
(5) من الآية 133 من سورة البقرة.
(6) الصواب فى هذه المسألة : أن الذبيح هو سيدنا إسماعيل عليه السّلام ، وهذا هو المروي عن جمهرة الصحابة والتابعين - كسيدنا علىّ ، وابن عمر ، وسعيد بن المسيب ، والربيع بن أنس ، والشعبي ، وأحمد بن حنبل ، وغيرهم ، واستدلوا على ذلك بأدلة كثيرة ، منها :
أن اللّه تعالى لمّا ذكر قصة إبراهيم وابنه الذبيح فى هذه السورة (الصافات ، الآيات 100 - 111) عطف على ذلك فقال :
وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ فهذه بشارة من اللّه تعالى ، شكرا له على صبره على ما أمر به. وهذا ظاهر جدا فى أن المبشر به غير الأول ، بل هو كالنص فيه ، وغير معقول أن يبشر بإسحاق بعد قصة يكون فيها هو الذبيح.(4/610)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 611
ولمّا قال له : إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ ، فَانْظُرْ ما ذا تَرى قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ به سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ على الذبح. روى أن إبراهيم قال لابنه : انطلق بنا نقرب قربانا لله تعالى ، فأخذ سكينا وحبلا ، ثم انطلق معه ، حتى إذا ذهب بين الجبال ، قال له الغلام : يا أبت أين قربانك؟ فقال : يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ ... الآية ، فقال : يا أبت خذ بناصيتي ، واجلس بين كتفى ، حتى لا أؤذيك إذا أصابتنى الشفرة ، ولا تذبحنى وأنت تنظر لوجهى لئلا ترحمنى ، واجعل وجهى إلى الأرض. وفى رواية واذبحني وأنا ساجد ، واقرأ على أمي السلام ، وإن رأيت أن تردّ قميصى إلى أمي فافعل ، عسى أن يسليها عنى. قال إبراهيم : نعم العون أنت على أمر اللّه تعالى. فربطه إبراهيم عليه السّلام ثم جعل يقبله ، وهو يبكى ، والابن يبكى ، حتى استنقعت الدموع تحت خده.
فَلَمَّا أَسْلَما أي : انقادا لأمر اللّه وخضعا. وعن قتادة : أسلم هذا ابنه ، وهذا نفسه. وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ صرعه على جنبه ، ووضع السكين على حلقه ، فلم تعمل ، ثم وضع السكين على قفاه فانقلب السكين ، ونودى :
___________
فإن قيل : فالبشارة الثانية وقعت على نبوته ، أي : لمّا صبر الأب على ما أمر به ، وأسلم الولد لأمر اللّه ، جازاه اللّه على ذلك بأن أعطاه النبوة.
قيل : البشارة وقعت على المجموع على ذاته ووجوده ، وأن يكون نبيا ، ولهذا نصب «نبيا» على الحال المقدر ، أي : مقدرا نبوته ، فلا يمكن إخراج البشارة أن تقع على الأصل ، ثم تخص بالحال التابعة الجارية مجرى الغفلة ، هذا محال من الكلام ، بل إذا وقعت البشارة على نبوته ، فوقوعها على وجوده أولى وأحرى.
أن البشارة بإسحاق وقعت مقرونة بولادة يعقوب ، على ما هو الظاهر من قوله : فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ ، وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ سورة هود/ 71 ، ولا يتصور أن يبشر بالولد وولد الولد دفعة ، ثم يؤمر بذبح الولد قبل ولادة ولده.
وأيضا : فلا ريب أن الذبيح كان بمكة ، ولذلك جعلت القرابين يوم النحر بها ، كما جعل السعى بين الصفا والمروة ، ورمى الجمار ، تذكيرا لشأن إسماعيل وأمه ، وإقامة لذكر اللّه ، ومعلوم أن إسماعيل وأمه هما اللذان كانا بمكة ، دون إسحاق وأمه. وكان النحر بمكة من تمام حج البيت ، ولو كان الذبح بالشام - كما يزعم أهل الكتاب - لكانت القرابين والنحر بالشام ، لا بمكة.
وفى هذا الشأن نقل عن الأصمعى أنه قال : سألت أبا عمرو بن العلاء عن الذبيح ، فقال : يا أصمعى أين عقلك ، ومتى كان إسحاق بمكة؟ وإنما كان إسماعيل بمكة ، وهو الذي بنى البيت مع أبيه ، والمنحر بمكة.
أما من نقل من أخبار من أن الذبيح هو إسحاق فهو منقول عن أهل الكتاب ، وحال أهل الكتاب ، لا يخفى عل ذوى الألباب ، ونقل ابن القيم فى زاد المعاد (1/ 71) عن الشيخ ابن تيمية - رحمهما اللّه - قوله : هذا القول إنما هو متلقى عن أهل الكتاب ، مع أنه باطل بنص كتابهم ، فإن فيه : إن اللّه أمر إبراهيم أن يذبح ابنه بكره ، وفى لفظ : «وحيده» ولا يشك أهل الكتاب مع المسلمين أن إسماعيل هو بكر أولاده ، والذي غرّ أصحاب هذا القول أن فى التوراة ، التي بأيديهم : اذبح ابنك إسحاق. وقال : وهذه الزيادة من تحريفهم وكذبهم ، لأنها تناقض قوله : (اذبح بكرك ووحيدك) ، ولكن اليهود حسدت بنى إسماعيل على هذا الشرف ، وأحبوا أن يكون لهم ، وأن يسوقوه إليهم ، ويختاروه لأنفسهم دون العرب ، ويأبى اللّه إلا أن يجعل فضله لأهله».
للمزيد فى هذه المسألة انظر : مفاتيح الغيب (3/ 247) - تفسير ابن كثير (4/ 17 - 19) زاد المعاد لابن القيم (1/ 71 - 75) القول الفصيح ، للسيوطى ، ضمن كتاب الحاوي (1/ 318 - 322) - الإسرائيليات والموضوعات ، للدكتور أبى شهبة (252 - 260).(4/611)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 612
يا إبراهيم قد صدّقت الرؤيا. روى أنّ ذلك المكان عند الصخرة التي بمنى. وجواب «لما» محذوف ، أي : فلما أسلما رحما وسعدا. وقال بعض الكوفيين : الجواب : (و تله) ، والواو : زائدة. وقال الكسائي : الجواب : (و ناديناه). والواو زائدة. وقال الخليل وسيبويه : الجواب محذوف ، أي : فلما أسلما سلما. وقدّر الراضي : فلما أسلما كان من لطف اللّه مالا يوصف. ه.
وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا أي : حققت ما أمرناك به فى المنام ، من تسليم الولد للذبح ، وبالعزم والإتيان بالمقدمات ، إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ تعليل لما خوّلهما من الفرج بعد الشدة. والحاصل : أن الجزاء هو الوقاية من الذبح ، مع إمرار السكين ، ولم تقطع ، جزاء على إحسانهما ، وقد ظهرت الحكمة بصدقهما ، فإن المقصود إخلاء السر من عادة الطبيعة ، لا تحصيل الذبح ، روى أنه لما أمرّ السكين فلم تقطع ، تعجّب ، فنودى : يا إبراهيم كان المقصود من هذا استسلامكما ، لا ذبح ولدك.
إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ الاختبار البيّن ، الذي يتميز فيه المخلصون من غيرهم. أو : المحنة البيّنة الصعبة ، فإنه لا محنة أصعب منها. وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ : ضخم الجثة سمين. قال ابن عباس : هو الكبش الذي قرّبه هابيل فقبل منه ، وكان يرعى فى الجنة حتى فدى به ولد إبراهيم. وعنه : لو تمت تلك الذبيحة لصارت سنّة ، وذبح الناس أولادهم. روى أن الكبش هرب من إبراهيم عند الجمرة ، فرماه سبع حصيات ، حتى أخذه ، فبقيت سنّة فى الرمي. قلت : والجمهور : أن الشيطان تعرض له عند ذهابه لذبح ولده ، ثلاث مرات ، فرماه سبع حصات عند كل مرة ، فبقيت سنّة فى الرمي. وروى أنه لما ذبحه ، قال جبريل : اللّه أكبر ، فقال الذبيح : لا إله إلا اللّه ، واللّه أكبر ، فقال إبراهيم : اللّه أكبر ولله الحمد ، فبقيت سنّة صبيحة العيد.
قال البيضاوي : واحتج به من جوز النسخ قبل الفعل ، فإنه عليه السّلام كان مأمورا بالذبح ، لقوله : افْعَلْ ما تُؤْمَرُ ولم يحصل. ه. قال سيدى عبد الرحمن الفاسى فى الحاشية : ولمّا بذل إبراهيم وسعه ، وفعل ما يفعله الذابح من ضجعه على شقه ، وإمرار الشفرة على حلقه ، لم يكن هذا من النسخ قبل الفعل ، وإن كان ورود النسخ قبل الفعل جائز ، لكن هذه الآية ليست منه فى شىء لأنه عليه السّلام باشر الفعل بقدر الإمكان وبذل المجهود ، ولم يكن منه تقصير ، ولو لم يمنع مانع القدرة الإلهية لتم الذبح المأمور به ، لهذا قال تعالى : صَدَّقْتَ الرُّؤْيا. وإنما احتيج إلى الفداء لتحصيل حقيقة الذبح فيه نيابة عن المفدى شرعا ، وعلامة على غاية القبول والرضا عنهما ، وعوض عن ذلك ما هو كرامة لهما ، ولمن بعدهما إلى غابر الدهر. ه.
وقيل : إن هذه الآية نسخ بها الأمر بالذبح قبل التمكين من الفعل ، بناء على أن إبراهيم لم يمر الآلة. وعزاه المحلى فى جمع الجوامع لمذهب أهل السنة. وعليه ينزل الفداء ، ثم قال : والحق : أن الآية من المنسوخ قبل تمام الفعل وكماله ، لا قبل الأخذ فيه ومعالجته. ثم اعترض كلام ابن عطية ، وقال : فيه تدافع ، فانظره.(4/612)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 613
وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ أي : الثناء الحسن فى الأمم الآخرين ، سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ ، سبق بيانه فى نوح «1» كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ، لم يقل : إنا كذلك ، هنا ، كما فى غيره لأنه قد سبق فى القصة ، فاكتفى هنا عن ذكره. إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ ، فيه تنويه بشأن الإيمان لأنه أساس لكل ما يبنى عليه من معرفة وإحسان.
الإشارة : قال إنى ذاهب إلى ربى بالتوجه والعزم ، سيهدين إلى صريح معرفته ، ومكافحة رؤيته ، ودوام شهوده. فالذهاب إليه يفضى إلى الذهاب فيه ، وهو غيبة العبد عن شهود نفسه ، بشهود محبوبه ، وهذه الحالة متبوعة للامتحان إذ امتحان كل عبد على قدر مقامه ، فكلما علا المقام عظم الامتحان. فامتحن الخليل بأربع محن : تسليم بدنه للنيران ، وولده للقربان ، ورمى آخر عند البيت فى يد الرحمن ، «2» وذهاب زوجه للجبّار ، فوقع اللطف فى الجميع ، واصطفى خليلا للرحمن. وأيضا : الحق غيور ، لا يحب أن يرى فى قلب خليله أو وليّه شيئا سواه ، فأمر بذبح ولده لإخراجه من قلبه ، كما فرّق بين يوسف ووالده ، وامتحن حبيبه صلى اللّه عليه وسلم فى عائشة صدّيقته ، وهذه عادة اللّه مع أصفيائه.
قال القشيري : يقال فى القصة : أنه رآه راكبا على فرس أشهب ، فاستحسنه ، ونظر إليه بقلبه ، فأمر بذبحه ، فلما أخرجه من قلبه ، واستسلم لذبحه ، ظهر الفداء. وقيل له : كان المقصود من هذا فراغ قلبك منه ، لا ذبحه. ويقال فى القصة : أنه أمر أباه أن يشدّ يديه ورجليه لئلا يضطرب إذا مسّه ألم الذبح ، فيعاتب ، ثم لمّا همّ بذبحه قال : افتح القيد عنى ، فإنى لا أتحرك ، فإنى أخشى أن أعاتب ، فيقول : أمشدود اليد جئتنى؟ وأنشدوا :
ولو بيد الحبيب سقيت سمّا لكان السّمّ من يده يطيب
قيل : إن الولد كان أشدّ بلاء ، لأنه وجد الذبح من يد أبيه ، ولم يتعوّد منه إلا التربية بالجميل ، فكان البلاء منها «3» أشد إذ لم يتوقعه منها. وقيل : بل إبراهيم أشد بلاء لأنه كان يحتاج أن يذبح ابنه بيده ، ويعيش بعده ، ولم يأت الولد بالدعوى ، بل قال : إن شاء اللّه ، فتأدب بلفظ الاستثناء. ثم قال : ويقال : إنّ اللّه ستر عليهما ما علم أنه أريد منهما فى حال البلاء ، وإنما كشف لهما بعد مضىّ وقت المحنة ، لئلا يبطل معنى الابتلاء ، وهو توجع القلب
___________
(1) راجع تفسير الآية 79 من هذه السورة.
(2) هذا على أن الذبيح هو إسحاق ، وقد مر آنفا أن الصحيح أنه سيدنا إسماعيل عليه السّلام.
(3) أي : من اليد.(4/613)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 614
بالقهرية ، وكذلك لما ألقى فى النار أخفى عنه المراد منه ، وهو السلامة منها ليحصل معنى الابتلاء. وهكذا يكون الحال فى حال البلاء ، [ينسد عيون التهدى إلى الحال ] «1». وكذلك كان حال نبينا صلى اللّه عليه وسلم فى الإفك ، وأيوب عليه السّلام ، وإنما تبين الأمر بعد ظهور أجر المحنة وزوالها ، وإلّا لم تكن حينئذ محنة ، ولكن مع استعجام الحال وانبهامه إذ لو كشف الأمر عن صاحبه لم يكن حينئذ بلاء. ه. ملخصا.
ثم قال تعالى :
[سورة الصافات (37) : الآيات 112 الى 113]
وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (112) وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ (113)
قلت : «نبيا» : حال مقدرة من «إسحاق» ، ولا بد من تقدير مضاف محذوف ، أي : وبشرناه بوجود إسحاق نبيّا ، أي : بأن يوجد مقدرا نبوته ، فالعامل فى الحال : الوجود ، لا فعل البشارة ، قاله الكواشي وغيره.
يقول الحق جل جلاله : وَبَشَّرْناهُ أي : إبراهيم بِإِسْحاقَ بعد امتحانه ، نَبِيًّا أي : يكون نبيا.
قال قتادة : بشّره بنبوة إسحاق بعد ما امتحنه بذبحه. قالوا : ولا يجوز أن يبشّر بنبوته وذبحه معا لأن الامتحان لا يصح مع كونه عالما بأن سيكون نبيا. ه. قلت : لا يبعد أن يبشّر بهما معا قبل المحنة لأن العارف لا يقف مع وعد ولا وعيد لاتساع علمه ، فإن الوعد قد يكون متوقفا على شروط ، قد لا يلم العبد بها ، وراجع ما تقدم عند قوله : حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا «2» بالتخفيف ، وعند قوله : وَزُلْزِلُوا زِلْزالًا شَدِيداً «3». ثم قال قتادة : وهذه حجة لمن يقول : إن الذبيح كان إسحاق. ومن قال : كان إسماعيل الذبيح ، قال : بشّر إبراهيم بولد يكون نبيا بعد القصة لطاعته. ه. وذكر ابن عطية عن مالك أنه نزع بهذه الآية لكون الذبيح إسماعيل ، انظر بقية كلامه. وتقدم الجواب عنه ، فإنّ الأولى بولادته ، وهذه بنبوته. انظر الحاشية.
وقوله : مِنَ الصَّالِحِينَ : حال ثانية ، وورودها على سبيل الثناء لأن كل نبىّ لا بد أن يكون من الصالحين.
قال ابن عرفه : الصلاح مقول بالتشكيك ، فصلاح النبي أعظم من صلاح الولي. ه. وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ أي : أفضنا عليهم بركات الدين والدنيا. وقيل : باركنا على إبراهيم فى أولاده ، وعلى إسحاق بأن أخرجنا
___________
(1) عبارة القشيري : (تنسد الوجوه فى الحال).
(2) الآية 110 من سورة يوسف. [.....]
(3) الآية 11 من سورة الأحزاب.(4/614)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 615
من صلبه ألف نبىّ ، أولهم يعقوب ، وآخرهم عيسى عليه السّلام. وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما أي : إبراهيم وإسحاق ، وليس لإسماعيل هنا ذكر ، استغناء بذكر ترجمته فى مريم «1» ، مُحْسِنٌ مؤمن وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ بالكفر مُبِينٌ ظاهر كفره. أو : محسن إلى الناس ، وظالم لنفسه بتعديه عن حدود الشرع.
وفيه تنبيه على أن الخبيث والطيب لا يجرى أمرهما على العرق والعنصر ، فقد يلد البرّ الفاجر ، والفاجر البرّ.
وهذا مما يهدم الطبائع والعناصر ، وتنبيه على أن الظلم فى أعقابهما لم يعد عليهما بعيب ، وأن المرء إنما يعاب بسوء فعله ، ويعاقب بما كسبت يداه ، لا على ما وجد من أصله وفرعه. قاله النسفي. قلت : قاعدة «العرق نزاع» أغلبية ، لا كلية. وقيل : هو حديث ، فيكون أغلبيا ، فالشجرة الطيبة لا تنبت فى الغالب إلا الطيب ، إلا لعارض ، والشجرة الخبيثة لا تجد فروعها إلا مثلها ، إلا لسبب. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : البشارة الكبيرة ، والبركة العظيمة ، إنما تقع فى الغالب بعد الامتحان الكبير ، فبقدر الامتحان يكون الامتكان ، ويقدر الجلال يعظم الجمال ، فإنّ مع العسر يسرا. فبقدر الفقر يعقب الغنى ، وبقدر الذل يعقب العز ، إن كان فى جانب اللّه. وقس على هذا .. ويسرى ذلك فى العقب ، كما هو مشاهد فى عقب الصالحين والعلماء والأولياء. وبالله التوفيق.
ثم ذكر موسى وهارون ، فقال :
[سورة الصافات (37) : الآيات 114 الى 122]
وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلى مُوسى وَهارُونَ (114) وَنَجَّيْناهُما وَقَوْمَهُما مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (115) وَنَصَرْناهُمْ فَكانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (116) وَآتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ (117) وَهَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (118)
وَتَرَكْنا عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ (119) سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ (120) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (121) إِنَّهُما مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (122)
يقول الحق جل جلاله : وَلَقَدْ مَنَنَّا أنعمنا عَلى مُوسى وَهارُونَ بالنبوة وغيرها من المنافع الدينية والدنيوية ، وَنَجَّيْناهُما وَقَوْمَهُما بنى إسرائيل ، مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ من الغرق والدهش الذي
___________
(1) فى قوله تعالى : وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ وَكانَ رَسُولًا نَبِيًّا ، وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا الآيتان : 54 - 55.(4/615)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 616
أصابهم ، حين طلعت خيل فرعون عليهم ، أو : من سلطان فرعون وقومه وعنتهم. وَنَصَرْناهُمْ أي : موسى وهارون وقومهما ، فَكانُوا هُمُ الْغالِبِينَ على فرعون وقومه. وَآتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ البليغ فى بيانه ، وهو التوراة ، وَهَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ صراط أهل الإسلام ، وهو الطريق الذي يوصل إلى الحق ، وَتَرَكْنا عَلَيْهِما الثناء الحسن فِي الْآخِرِينَ الآيتين بعدهما ، سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ ، إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ، إِنَّهُما مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ الكاملين فى الإيمان.
الإشارة : منّ عليهما أولا بالخصوصية ، ثم امتحنهما عليها بالكرب العظيم ، كما هى عادته فى أهل الخصوصية ، ثم منّ عليهم بالفرج والنصر والعز ، ثم هداهما إلى طريق السير إليه ، فى الظاهر والباطن ، بإنزال الكتاب ، وبيان طريق الرشد والصواب ، فالطريق المستقيم هى طريق الوصول إلى الحضرة ، وشهود عين التوحيد الخاص ، ثم ينشر الصيت والذكر الحسن فى الحياة والممات. واللّه تعالى أعلم.
ثم ذكر إلياس ، فقال :
[سورة الصافات (37) : الآيات 123 الى 132]
وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ (124) أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ (125) اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (126) فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (127)
إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (128) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (129) سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ (130) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (131) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (132)
يقول الحق جل جلاله : وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ، وهو إلياس بن ياسين بن العيزار ، من سبط هارون عليه السّلام. قال ابن إسحاق : لمّا قبض اللّه حزقيل النبي ، عظمت الأحداث فى بنى إسرائيل ، ونسوا عهد اللّه ، وعبدوا الأوثان ، فبعث اللّه إلياس «1» ، وبنو إسرائيل حينئذ متفرقون فى أرض الشام ، وفيهم ملوك كثيرة. وذلك أن يوشع لمّا فتح الشام بعد موسى عليه السّلام وملكها ، بوأها بنى إسرائيل ، وقسمها بينهم ، وأحلّ سبطا منهم ببعلبك ونواحيها. ومنهم السبط الذي نشأ منهم إلياس. انظر الثعلبي. وقيل : إلياس هو إدريس. وقرأ ابن مسعود - رضى اللّه عنه - : «وإن إدريس» موضع إلياس. والمشهور ما تقدم.
___________
(1) أخرجه الطبري (23/ 92) عن ابن إسحاق ، عن وهب بن منبه.(4/616)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 617
إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ ألا تخافون اللّه ، أَتَدْعُونَ بَعْلًا ، هو علم لصنم ، كان من ذهب ، وكان طوله عشرين ذراعا ، وكان له أربعة أوجه ، فافتتنوا به وعظّموه ، حتى أخدموه أربعمائة سادن ، وجعلوهم أنبياءه.
وكان الشيطان يوسوس إليهم شريعة من الضلالة ، وكان موضعهم يسمى «بك» فركب معه وصار «بعلبكّ» ، وهو من بلاد الشام ، قلت : ويسمونه اليوم عكا ، وفيه قبر صالح عليه السّلام ، وقيل : إن إلياس والخضر حيان ، يلتقيان كل سنة بالموسم «1» ، فيأخذ كل واحد من شعر صاحبه. قيل : إن إلياس وكّل بالفيافي ، والخضر وكّل بالبحار. وقيل : إن اللّه قطع عنه لذة المطعم والمشرب ، وأليس الريش ، وطار مع الملائكة ، فصار إنسيا ملكيا ، أرضيا سماويا. فهو مازال حيا. فالله أعلم.
ثم قال : وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ أي : تعبدون صنما جامدا ، وتتركون عبادة اللّه الذي هو أحسن الخالقين.
اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ «2». من نصب الثلاثة فبدل ، ومن رفعها فمبتدأ وخبر. فَكَذَّبُوهُ فسلط اللّه عليهم ، بعد رفعه ، أو موته ، عدوا ، فقتل ملكهم وكثيرا منهم ، فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ فى النار ، وإنما أطلقه اكتفاء بالقرينة ، أو : لأن الإحضار المطلق مخصوص بالشر. إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ من قومه ، فإنهم ناجون من حضور العذاب ، وَتَرَكْنا عَلَيْهِ الثناء الحسن فِي الْآخِرِينَ. سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ «3» ، وهو إلياس وأهله لأن «ياسين» اسم أبيه. وقرأ أكثر القراء : إلياسين ، بكسر الهمزة ووصل اللام ، أي : إلياس وقومه المؤمنين ، كقولهم : الخبيبون والمهلّبون ، يعنون عبد اللّه بن الزبير وقومه. والمهلّب وأتباعه. إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ. إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ وقيل : آل ياسين هو نبينا محمد صلى اللّه عليه وسلم وأهله ، والسياق يأباه.
الإشارة : يؤخذ من قوله تعالى : أَلا تَتَّقُونَ ، أَتَدْعُونَ بَعْلًا .. إلخ ، أن مدار التقوى هو توحيد اللّه ، والانحياش إليه ، والبعد عن كل ما سواه ، والرجوع إلى اللّه فى كل شىء ، والاعتماد عليه فى كل حال. ويؤخذ من قوله : سلام على آل ياسين فى قراءة المد ، أن الرجل الصالح ينتفع به أهله وأقاربه ، وهو كذلك فإن عظم صلاحه تعدت منفعته إلى جيرانه وقبيلته ، فإذا كبر جاهه شفع فى الوجود بأسره.
___________
(1) عزاه فى الدر المنثور (5/ 537) لابن عساكر ، عن ابن شوذب ، والحسن.
(2) قرأ حفص ، وحمزة ، والكسائي بنصب الأسماء الثلاثة ، وقرأ الباقون بالرفع. انظر الحجة للفارسى (6/ 63).
(3) قرأ نافع ، وابن عامر ، ويعقوب : (آل ياسين) بفتح الهمزة ، مشبعة ، وكسر اللام ، مفصولة عما بعدها ، والمراد : ولد ياسين وأصحابه ، قرأ الباقون «على إلياسين ، بكسر الهمزة ، وسكون اللام ، موصولة بما بعدها ، كلمة واحدة ، جمع «إلياس». انظر الإتحاف (2/ 416).(4/617)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 618
ثم ذكر لوطا عليه السّلام ، فقال :
[سورة الصافات (37) : الآيات 133 الى 138]
وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (133) إِذْ نَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (134) إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ (135) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (136) وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137)
وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (138)
يقول الحق جل جلاله : وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ، إِذْ نَجَّيْناهُ أي : واذكر إذ نجيناه وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ ، إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ فى الباقين لأنها شاركتهم فى عصيانهم ، فحقّ عليهم العذاب مثل ما حق عليهم ، ثُمَّ دَمَّرْنَا
: أهلكنا الْآخَرِينَ ،
وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ
داخلين فى الصباح ، وَبِاللَّيْلِ
أي : ومساء ، أو : نهارا وليلا. ولعل مدينتهم الخالية كانت قريب منزل ينزل به المسافر ، فيغدوا منه ذهابا ، ويروح إليه إيابا ، فكانت قريش تنزل به وتروح عنه فى متاجرهم إلى الشام ، فتشاهد آثارهم والدارسة ، وديارهم الخالية.
أَفَلا تَعْقِلُونَ
أفما فيكم عقول تعتبرون بها؟ وإنما لم يختم قصة لوط ويونس بالسلام ، كما ختم قصص من قبلهما لأن اللّه تعالى قد سلّم على جميع المرسلين فى آخر السورة ، أو : تفرقة بينهما وبين أرباب الشرائع ، من أولى العزم.
الإشارة : ينبغى لمن له عقل إذا مرّ بآثار من سلف قبله أن يعتبر ، وينظر كيف كان حالهم ، وإلى ما صار إليه مآلهم ، وأنه عن قريب لا حق بهم ، فيتأهب للسفر ، ويتزود للمسير. وبالله التوفيق.
ثم ذكر قصة يونس ، فقال :
[سورة الصافات (37) : الآيات 139 الى 148]
وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140) فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (141) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (142) فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143)
لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144) فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (145) وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (146) وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147) فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ (148)(4/618)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 619
يقول الحق جل جلاله : وَإِنَّ يُونُسَ
بن متى ، اسم أبيه ، لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ
إلى أهل نينوى ، فكذّبوه ، فوعدهم بالعذاب ، فلما رأى أمارات العذاب هرب عنهم ، وهى معنى قوله : إِذْ أَبَقَ
هرب. والإباق : الهرب إلى حيث لا يهتدى إليه الطلب ، فسمى هربه من قومه - بغير إذن ربه - إباقا ، مجازا. روى أنه لمّا فرّ عنهم ، وقف فى مكان ينتظر نزول العذاب بهم ، وكان يحب ذلك لتكذيبهم إياه ، فلما رأوا مخايل العذاب تابوا وخرجوا إلى الصحراء ، يجأرون إلى اللّه تعالى ، فكشف عنهم ، فلما رأى يونس العذاب انكشف عنهم ، كره أن يرجع إليهم ، فركب البحر ، فأوى إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ
: المملوء بالناس والمتاع ، فلما ركب معهم وقفت السفينة ، فقالوا :
هاهنا عبد آبق من سيده. وفيما يزعم أهل البحر : أن السفينة إذا كان فيها آبق لم تجر ، فاقترعوا ، فخرجت القرعة على يونس ، فقال : أنا الآبق ، وزجّ بنفسه فى البحر ، فذلك قوله : فَساهَمَ
: فقارعهم مرة - أو ثلاثا - بالسهام ، فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ
المغلوبين بالقرعة. فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ فابتلعه وَهُوَ مُلِيمٌ داخل فى الملامة ، أو : آت بما يلام عليه ، ولم يلم فإذا ليم كان مألوما.
فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ من الذاكرين كثيرا بالتسبيح ، أو : من القائلين : لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ «1» أو : من المصلين قبل ذلك قال ابن عباس رضي اللّه عنه : كل تسبيح فى القرآن فهو صلاة. قال الحسن : ما كان له صلاة فى بطن الحوت ، ولكنه قدّم عملا صالحا فنجّاه ، وإنّ العمل الصالح يرفع صاحبه ، إذا عثر وجد متكئا. ه «2». أي : فلو لا طاعته قبل ذلك لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قيل : للبث حيّا إلى يوم البعث.
وعن قتادة : لكان بطن الحوت قبرا له إلى يوم القيامة. وقد لبث فى بطنه ثلاثة أيام ، أو : سبعة أو : أربعين يوما.
وعن الشعبي : التقمه ضحوة ، ولفظه عشية. قيل : أوحى اللّه تعالى إل الحوت : إنى جعلت بطنك ليونس سجنا - وفى رواية : مسجدا - ولم أجعله لك طعاما «3». ه.
فَنَبَذْناهُ أي : أخرجناه بِالْعَراءِ بالمكان الخالي ، لا شجر فيه ولا نبات. أو : بالفضاء ، وَهُوَ سَقِيمٌ عليل مطبوخ ، مما ناله من بطن الحوت. قيل : إنه عاد بدنه كبدن الصبى حين يولد. وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً أي : أنبتناها فوقه ، مظلة له ، كما يطنّب البيت على الإنسان ، مِنْ يَقْطِينٍ ، الجمهور على أنه القرع ،
___________
(1) الآية 87 من سورة الأنبياء.
(2) انظر : تفسير البغوي (7/ 60).
(3) قال الحافظ ابن حجر : «لم أجده». وذكره الزيلعى فى تخريج أحاديث الكشاف (535) وعزاه لابن مردويه ، عن ابن مسعود ، فى قصة يونس. وانظر الفتح السماوي (3/ 957).(4/619)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 620
وفائدته : أن الذباب لا تجتمع عنده ، وأنه أسرع الأشجار نباتا ، وامتدادا ، وارتفاعا ، وأن ورقه باطنها رطبة. وقيل لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : إنك لتحب القرع ، فقال : «أجل ، هى شجرة أخى يونس» «1» ، قلت : ولعلها النوع الذي يسمى اليوم «السلاوى» لأنه هو الذي ورقه لينة ، وفيه منافع.
روى أن ظبية كانت تختلف إليه ، فيشرب من لبنها بكرة وعشية ، حتى نبت لحمه ، وأرسل اللّه تعالى على اليقطين دابة تقرض ورقها ، فتساقطت حتى أذته الشمس ، فشكاها إلى اللّه تعالى. وفى رواية : فحزن عليها ، فقيل له : أنت الذي لم تخلق ، ولم تسق ، ولم تنبت ، تحزن عليها وأنا الذي خلقت مائة ألف من الناس أو يزيدون تريد منى أن أستأصلهم فى ساعة واحدة ، وقد تابوا ، وتبت عليهم ، فأين رحمتى يا يونس ، أنا أرحم الراحمين «2». ه.
وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ ، المراد به القوم الذين بعث إليهم قبل الالتقام ، فتكون «قد» مضمرة ، أَوْ يَزِيدُونَ فى مرأى الناظر ، أي : إذا رأها الرائي قال : هى مائة ألف أو أكثر. وقال الزجّاج : «أو» بمعنى «بل». وقيل : بمعنى الواو. قال ابن عباس : زادوا على مائة ألف عشرين ألفا. وقال الحسن : بضعا وثلاثين ألفا.
وقال ابن جبير : سبعين ألفا. وقيل : وأرسلناه بعد الالتقام إلى مائة ألف. وقيل : قوما آخرين. فَآمَنُوا به ، وبما أرسل به ، فَمَتَّعْناهُمْ بالحياة إِلى حِينٍ منتهى أجلهم ، ولم يعاجلوا ، حيث تابوا وآمنوا.
الإشارة : فى قصة يونس نكتة صوفية ، ينبغى الاعتناء بها ، وهو أن العبد إذا زلّت قدمه ، وانحط عن منهاج الاستقامة ، لا ييأس ولا يضعف عن التوجه ، بل يلزم قرع الباب ، ويتذكر ما سلف له من صالح الأعمال ، فإن اللّه تعالى يرعى ذمام عبده ، كما يرعى العبد ذمام سيده ، وفى حال البعد والغضب يظهر المحب الصادق من الكذّاب ، وفى ذلك يقول ابن وفا رضي اللّه عنه :
ونحن على العهد نرعى الذمام وعهد المحبين لا ينقضى
صددت فكنت مليح الصدود وأعرضت أفديك من معرض
وفى حالة السخط لا فى الرضا بيان المحب من المبغض.
___________
(1) عزاه السيوطي فى الدر المنثور (5/ 544) لعبد بن حميد ، وابن جرير ، عن شهر بن حوشب.
(2) عزاه السيوطي فى الدر (5/ 454 - 546) لعبد الرزاق ، وأحمد فى الزهد ، وعبد بن حميد ، عن وهب.(4/620)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 621
وفيها أيضا : الحث على الشفقة على عباد اللّه ، وإن كانوا عصاة. قال القشيري : وفى القصة : أن اللّه تعالى أوحى إلى يونس بعد نجاته : قل لفلان الفخّار : يكسر من الجرات ما عمله فى هذه السنة كلّها ، فقال يونس : يا ربّ ، إنه تعنى مدة فى إنجاز ذلك ، فكيف آمره أن يكسرها كلّها؟ فقال له : يا يونس ، يرقّ قلبك لخزاف يتلف عمل سنة ، وأردت أن أهلك مائة ألف من عبادى؟ لم تخلقهم ، ولو خلقتهم لرحمتهم. ه.
ثم وبّخ قريشا على قولهم : الملائكة بنات اللّه - بعد ذكر هلاك من كفر من الأمم قبلهم ، تهديدا ، فقال :
[سورة الصافات (37) : الآيات 149 الى 160]
فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (149) أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ (150) أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (151) وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (152) أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ (153)
ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (154) أَفَلا تَذَكَّرُونَ (155) أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ (156) فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (157) وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (158)
سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (159) إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (160)
يقول الحق جل جلاله : فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ ، أمر رسوله أولا فى أول السورة باستفتاء قريش على وجه إنكار البعث ، بقوله : فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً «1» ، ثم أمره هنا باستفتائهم [عن ] «2» وجه القسمة الضّيزى التي قسموها ، بأن جعلوا لله الإناث ، ولهم الذكور فى قولهم : الملائكة بنات اللّه ، مع كراهتهم لهن ، واستنكافهم من ذكرهن ، وليس من باب العطف النحوي ، خلافا للزمخشرى.
أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ حاضرون حتى تحققوا أنهم إناث. وتخصيص علمهم بالمشاهدة استهزاء بهم ، وتجهيل لهم ، لأنهم كما لم يعلموا ذلك مشاهدة ، لم يعلموه بخلق اللّه علمه فى قلوبهم ، ولا بإخبار صادق ، ولا بطريق استدلال ونظر ، بل بمجرد ظن وتخمين ، وإلقاء الشيطان إليهم. أو : معناه : أنهم يقولون ذلك عن طمأنينة نفس لإفراط جهلهم ، كأنهم شاهدوا خلقهم.
___________
(1) الآية 11 من سورة الصافات.
(2) فى الأصول [على ].(4/621)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 622
أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللَّهُ ، وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ فى قولهم. أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ ، الهمزة للاستفهام الإنكارى ، وحذفت همزة الوصل استغناء عنها بهمزة الاستفهام ، والاصطفاء : أخذ صفوة الشيء ، ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ هذا الحكم الفاسد ، الذي لا يرتضيه عقل ولا نقل ، أَفَلا تَذَكَّرُونَ فتعرفوا أنه منزّه عن ذلك أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ حجة واضحة نزلت عليكم من السماء بأن الملائكة بنات اللّه؟ فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ
الذي أنزل عليكم ، إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ
فى دعواكم.
وَجَعَلُوا بَيْنَهُ بين اللّه وَبَيْنَ الْجِنَّةِ الملائكة - لاستتارهم ، نَسَباً وهو زعمهم أنهم بنات اللّه.
أو : قالوا : إن اللّه صاهر الجن ، تزوج سرواتهم فولدت له الملائكة «1» ، تعالى اللّه عن قولهم علوا كبيرا. وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ أي : ولقد علمت الملائكة إن الذين قالوا هذا القول لمحضرون فى النار. أو : لقد علمت الملائكة إنهم سيحضرون للحساب من جملة العباد ، فكيف تكون بنات اللّه؟. سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ ، نزّه نفسه عما يصفه الكفرة من الولد والصاحبة ، إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ ، استثناء منقطع من «المحضرين» ، أي : لكن المخلصون ناجون من النار. و«سبحان اللّه» : اعتراض بين الاستثناء وبين ما وقع منه ، ويجوز أن يقع الاستثناء من واو «يصفون» ، أي : عما يصفه هؤلاء الكفرة لكن المخلصون برءاء من أن يصفوه بذلك.
الإشارة : الحق تعالى فى عالم القدرة منزه عن الولد والصاحبة ، وتصور الاثنينية ، وإنما سر الازدواج والتولد خاص بعالم الحكمة فى حضرة الأشباح ، فليكن للعارف عينان عين تنظر لعالم القدرة فى حضرة أسرار الذات ، فتوحّد اللّه ، وتنزهه عن الاثنينية ، وعين تنظر لعالم الحكمة ، فتثبت سر الازدواج والتولد فى حضرة الأشباح ، والمظهر واحد ، ولا يفهم هذا إلا الأفراد من البحرية ، الذين خاضوا بحر أحدية الذات وتيار الصفات ، فحطّ رأسك لهم ، إن أردت أن تذوق هذه الأسرار. وإلا فسلم تسلم.
ثم بيّن أنّ الأمور كلها بيد اللّه ، هداية وإضلالا ، فقال :
[سورة الصافات (37) : الآيات 161 الى 163]
فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ (161) ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ (162) إِلاَّ مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ (163)
___________
(1) انظر تفسير الطبري (23/ 108). [.....](4/622)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 623
يقول الحق جل جلاله : فَإِنَّكُمْ أيها المشركون وَما تَعْبُدُونَ أي : ومعبوديكم ، ما أَنْتُمْ وهم جميعا عَلَيْهِ على اللّه بِفاتِنِينَ بمضلّين ، إِلَّا مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ أي : إلا من سبق فى علمه أنه من أهل النار. والمعنى : إنكم لستم تضلّون أحدا إلا أصحاب النار ، الذين سبق فى علمه أنهم يستوجبون بأعمالهم النار ، يقال : فتن فلان على فلان امرأته : أفسدها عليه. وقال الحسن : فإنكم أيها القائلون لهذا القول والذي تعبدونه من الأصنام ، ما أنتم على عبادة الأصنام بمضلّين أحدا ، إلا من أوجبت عليه الضلال فى السابقة. ه. وفيها دليل للقدر ، بل هى صريحة فيه. و«ما» فى «أنتم» : نافية ، و«من» : فى موضع النصب بفاتنين ، على الاستثناء المفرغ ، أي : لا تفتنون إلا الذي هو صالى الجحيم. وحذفت الياء فى الرسم اكتفاء بالكسرة ، وقرأ الحسن : «صال الجحيم» بضم اللام - ووجهه : أنه جمع ، فحذفت النون للإضافة. والواو لالتقاء الساكنين ، و«من» مفرد فى اللفظ ، جمع فى المعنى ، فحمل «هو» على اللفظ ، و«الصالون» على المعنى.
الإشارة : ويقال لمن يرغّب الناس فى الدنيا ، ويدلهم على جمعها ، والاعتناء بها ، بمقاله ، أو بحاله ، ويزهّد فى طريق التجريد والانقطاع إلى اللّه : ما أنتم بفاتنين أحدا عن طريق اللّه ، إلا من سبق أنه يصلى نار القطيعة والبعد ، وأما من سبقت له سابقة الوصال ، فلا يصده عن اللّه فاتن ولا ضال. ولا شك أن من يدلّ الناس على الدنيا فقد غشهم. قال القطب ابن مشيش رضي اللّه عنه : من دلّك على الدنيا فقد غشك ، ومن دلّك على العمل فقد أتبعك ، ومن دلك على اللّه فقد نصحك. ه. فالدلالة على الدنيا من شأن المغرورين ، ورين الفاتنين ، والدلالة على العمل من شأن الصالحين ، الواقفين مع ظاهر الشريعة وعملها ، والدلالة على اللّه من شأن العارفين أهل التربية ، يدلون على اللّه ، بسقى الكؤوس ، ونسيان النفوس ، ودخول حضرة القدوس ، من باب الكرم والجود. وبالله التوفيق.
ثم رجع إلى الكلام على الملائكة ، فقال :
[سورة الصافات (37) : الآيات 164 الى 166]
وَما مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ (164) وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (165) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (166)
يقول الحق جل جلاله : حاكيا عن الملائكة : وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ فى العبادة ، أو : فى السموات ، نعبد اللّه فيه ، أو : فى القرب والمشاهدة لا نتعداه ، ولا نترقى عنه إلى غيره ، ففيه تنبيه واعتراف بافتقارهم لمخصصهم ، القاضي بحدوثهم. وفى اعترافهم بذلك ردّ على زعم الكفار أنهم بنات اللّه ، أو شركاء له ، وتنزيه له تعالى عن ذلك لتنافى العبودية والطاعة التي اعترفوا بها ، والبنوة المدّعاة من الكفار ، تعالى اللّه عن قولهم. وهذا(4/623)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 624
يجرى أيضا فى القول الذي يقول : إنهم قسم ثالث ، مجردات ، ليسوا بجوهر ولا عرض ، كالأرواح ، فإنها على تقدير كونها كذلك ، جائزة لقبولها التفاوت فى العلوم والمعارف وغير ذلك. وذلك قاض بالافتقار ، والتخصيص لما هى عليه ، المستلزم للحدوث. قاله فى الحاشية.
قلت : القول بأن الملائكة مجردات عن المادة ، هو قول الفلاسفة ، ونحى إليه الغزالي. وهو مناقض للقرآن والحديث لأن كونهم صفوفا قائمين ، أو ساجدين ، أو سائرين ، يقتضى تشكيلهم وتحييزهم ، فيستلزم المادة إلا أنها نورانية لطيفة ، وكذلك الأرواح ، على ما فى الأحاديث ، فإنها متحيزة على أشكال لطيفة. والله أعلم.
وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ نصفّ أقدامنا فى الصلاة ، أو : نصفّ حول العرش داعين للمؤمنين ، وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ المنزّهون اللّه تعالى عما نسبته إليه الكفرة ، من الولد ، وغير ذلك من الأباطيل المذكورة. أو :
المشتغلون بالتسبيح على الدوام ، أو : المصلّون. ويحتمل أن يكون هذا وما قبله من قوله : سُبْحانَ اللَّهِ .... إلخ ، من كلام الملائكة ، حتى يتصل بذكرهم «1» ، كأنه قيل : ولقد علم الملائكة أن المشركين محضرون للعذاب على افترائهم على اللّه فيما نسبوا إليه ، وقالوا : سبحان اللّه ، ونزّهوه عن ذلك ، واستثنوا عباد اللّه المخلصين ، وبرّؤوهم من ذلك ، وقالوا للكفرة : وإذا صح ذلك فإنكم وآلهتكم لا تقدرون أن تفتنوا على اللّه أحدا من خلقه ، وتضلّوه ، إلّا من كان من أهل النار ، وكيف نكون مناسبين لرب العزة! وما نحن إلا عبيد أذلاء بين يديه ، لكلّ منا مقام من الطاعة معلوم ، لا يستطيع أن يزلّ عنه ، ونحن نصفّ أقدامنا لعبادته ، مسبّحين بحمده ، كما يجب على العباد. ولعل قولهم : وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ إشارة إلى تفاوتهم فى درجات القرب ومقامات اليقين. وقولهم : وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ إشارة إلى تفاوتهم فى الطاعات والعبادات ، وهم طبقات منهم هائمون مستغرقون فى الشهود ، ومنهم مستغرقون فى مقام الهيبة والمراقبة ، ومنهم مستغرقون فى الخدمة والعبادة. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : مادة الآدمي أكمل من مادة الملائكة ، فإذا اتصل العبد بشيخ كامل ، واعتنى بتصفية روحه وسره ، طوى نوره الوجود بأسره ، ولا يزال يترقى فى معاريج أسرار التوحيد والتفريد ، وتتوارد عليه الكشوفات ، والعلوم ، والأسرار ، فى هذه الدار الفانية ، وفى تلك الدار الباقية ، أبدا سرمدا ، بخلاف الملائكة ، فإنّ لكل واحد مقاما معلوما لايتعداه ، كما أخبر تعالى.
وسرّ ذلك : أن الآدمي فيه بشرية وروحانية ، فكلما جاهد نفسه ، وغاب عن حس بشريته ترقى فى معارج التوحيد ، والمجاهدة لا تنقطع عنه فى هذا الدار لأنها دار أكدار ، فلا ينقطع عنه الترقي فى المشاهدة ، وأما فى تلك
___________
(1) فى قوله : وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ.(4/624)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 625
الدار فالترقى فيها من باب الكرم والإثابة على ما هنا. وأيضا : البشرية للآدمى بمنزلة الطلاء للمرآة ، فالمرآة بلا طلاء لا ترى فيها صور الأشياء ، كذلك الملائكة لا بشرية لهم ، فلا تنكشف لهم الحقائق كما تنكشف للآدمى ، ولو كشف لهم ما انكشف له لذابوا. واللّه أعلم.
قال فى القوت : لعمرى إن سائر الملائكة لا ينتقلون فى المقامات كترقى المؤمنين ، إنما لكلّ مقام معلوم ، لا ينتقل إلى غيره ، إلا أنهم يمدّون من ذلك بمدد لا نهاية له إلى يوم القيامة ، بأكثر ما يزداد جملة البشر ه.
قلت : ومعنى كلامه : أن الملائكة يمدون فى مقامهم بقوة لا يستطيعها البشر ، فمن كان فى مقام الهيبة دام فيها ، وقوى عليها ، ومن كان فى مقام الخدمة ، دام عليها ، وقوى عليها ، قوة لا يطيقها البشر ، ولا يترقى عنها ، بخلاف الآدمي ، فليست فيه هذه القوة ، لكنه يترقى من مقام إلى مقام ، ويترقى فى المعارف على الدوام.
ثم بسط صاحب القوت فى ذلك الكلام فى فضائل الصلاة ، وأنها جامعة لما فرق على الملائكة من الأعمال والأذكار. قال : وبذلك فضل المؤمنون الملائكة ، وكذلك فضل الموقن أيضا فى مقامات اليقين من أعمال القلوب ، على الأملاك بالتنقيل بأن جمعت فيه ، ورفع فيها مقامات ، والملائكة لا ينقلون ، بل كل ملك موقوف فى مقام معلوم ، لا ينقل منه إلى غيره ، وإنما له المزيد من المقام الواحد على قدر قواه ، وجمع ذلك كله فى قلب المؤمن ، ونقل فيه مقامات. وكان له من كل مقام مشاهدات. ه.
قال المحشى الفاسى : وفيه نظر ، مع تلقيهم ضروب الوحى الجامع للمقامات ، فكيف لا يمكّنهم تحققا بها على اختلافها؟ ، ولو كان كما قال لكان كل ملك إنما يتلقى من الوحى ما يناسبه ، ويختص بمقامه ، وليس الأمر كذلك ضرورة. ه. قلت : وفى نظره نظر إذ لا يلزم من تلقيهم للوحى على أنواعه أن يترقوا به إذ ليس الترقي هو مجرد العلم ، بل الترقي إنما هو أذواق ووجدان ، وكشوفات بعد حصول العلم. وقد يتحقق العلم بالمقام ، ولا ينتقل عنه إلى غيره ، بل قد يعلمه ولا يذوقه ، كما هو محقق عند أهل الفن ، ثم قال : والحق ما نبّه عليه البيضاوي. وكلام القوت ينظر لقول الحكماء ، ومثله كلام الإحياء. ه.
ونص البيضاوي فى قوله تعالى : قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ «1» الآية : إنّ علوم الملائكة وكمالاتهم تقبل الزيادة ، والحكماء منعوا ذلك فى الطبقات العليا منهم ، وحملوا عليه قوله تعالى : وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ.
ه. قلت : ترقى الآدمي هو انتقاله من مقام إلى مقام ، حتى يكاشف بأسرار الذات وأنوار الصفات ، ثم لا يزال يترقى
___________
(1) الآية 33 من سورة البقرة.(4/625)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 626
فى الأذواق والكشوفات ، يتجدد له فى كل يوم وساعة ، حلاوة وكشف لم تكن عنده قبل ، بخلاف الملائكة ، فإنما يترقى كل واحد فى كشف أسرار مقامه ، ويجد حلاوة فى ذلك المقام لم تكن له قبل ، ولا ينتقل عنه ، فمن كان من أهل الخدمة زاده اللّه حلاوتها. ومن كان من أهل المراقبة فكذلك. ومن كان من أهل المشاهدة غلب عليه السكر و؟؟؟ ان ، ولا يزيد على ذلك. وهم الطبقة العليا ، فلا منافاة بين كلام القوت وكلام البيضاوي لأن الترقي إنما هو فى الأذواق والكشوفات ، لا فى العلوم الغيبية ، ولا فى الكمالات النفسية. فتأمله.
وقال القشيري : الملائكة لا يتخطون مقامهم ، ولا يتعدّون حدّهم ، والأولياء مقامهم مستور بينهم وبين اللّه ، لا يطلع عليه أحد ، والأنبياء - عليهم السّلام - لهم مقام مشهور ، مؤيّد بالمعجزات الظاهرة لأنهم للخلق قدوة ، فأمرهم على الشهرة ، وأمر الأولياء على السّتر. ه. وقال الورتجبي : أهل البدايات فى مقام الطاعات ، والأوساط فى المقامات ، مثل التوكل والرضا ، والتسليم ، والمحبّون فى مقامات الحالات والمواجيد ، وأهل المعرفة فى مقام معارف ، ينقلون فى المشاهدة من مقام إلى مقام ، ولا يبقى المقام للموحدين ، فإنهم مستغرقون فى بحار الذات والصفات ، فليس لهم مقام معلوم لأن هناك لم يكن لهم وقوف ، حيث أفناهم قهر الجلال ، والجمال ، والعظمة ، والكبرياء ، عن كل ما وجدوا من الحق ، فيبقوا فى الفناء إلى الأبد. ه. قلت : ما ذكر من الطبقات الثلاث هم العباد ، والزهاد ، وأرباب الأحوال ، وحالهم كحال الملائكة ، يمدّون فى مقامهم ، ولا ينتقلون منه ، فلكل واحدة قوة فى مقامه ، لا يطيقها العارف ، لكنه فاتهم بالترقي عنهم إلى مشاهدة الذات ، والترقي فيها أبدا.
ثم قال الورتجبي فى قوله تعالى : وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ : لمّا كانوا من أهل المقامات المعلومات افتخروا بمقاماتهم فى العبودية ، من الصلاة والتسبيح ، ولو كانوا من أهل الحقائق فى المعرفة لفنوا عن ملاحظة طاعتهم ، من استيلاء أنوار مشاهدة الحق عليهم ، والاستغراق فى بحار من الألوهية. قال بعضهم : لذلك قطعت بهم مقاماتهم عن ملاحظة المنّة ، حتى قالوا بالتفخيم : إِنَّا لَنَحْنُ ، فلما أظهروا سرائرهم عارضوا إظهار أفعال الربوبية بالمعارضة ، حتى قالوا : أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها. ه. وكلامنا كله مع عامة الملائكة ، وأما المقربون فالأدب الإمساك عنهم - صلوات اللّه وسلامه عليهم.
ثم رجع إلى الكلام مع قريش ، فقال :
[سورة الصافات (37) : الآيات 167 الى 182]
وَإِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ (167) لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ (168) لَكُنَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (169) فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (170) وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171)
إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ (173) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (174) وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (175) أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ (176)
فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ (177) وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (178) وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (179) سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181)
وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (182)(4/626)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 627
يقول الحق جل جلاله : وَإِنْ كانُوا أي : مشركو قريش لَيَقُولُونَ قبل مبعثه صلى اللّه عليه وسلم : لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ أي : كتابا من كتب الأولين ، الذين نزل عليهم التوراة والإنجيل ، لَكُنَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ أي : لأخلصنا للّه ، وما كذّبنا كما كذّبوا ، ولما خالفنا كما خالفوا ، فلما جاءهم الذكر الذي هو سيد الأذكار ، والكتاب الذي هو مهيمن على الكتب ، فكفروا به ، فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ عاقبة تكذيبهم ، وما يحلّ بهم من الانتقام. و«إن» مخففة ، واللام فارقة. وفى ذلك أنهم كانوا يقولون ، مؤكّدين للقول ، جادّين فيه ، ثم نقضوا بأشنع نقض ، فكم بين أول الأمر وآخره!.
ثم بشّر رسوله بالنصر والعز ، فقال : وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ أي : وعدناهم بالنصر والغلبة.
والكلمة هى قوله : إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ دون غيرهم ، إِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ
،
وإنما سمّاها كلمة ، وهى كلمات لأنها لمّا انتظمت فى معنى واحد كانت فى حكم كلمة مفردة ، والمراد : الوعد بعلوّهم على عدوهم فى مقام الاحتجاج وملاحم القتال فى الدنيا ، وعلوهم عليهم فى الآخرة. وعن الحسن : ما غلب نبىّ فى حرب قط.
وعن ابن عباس رضي اللّه عنه : إن لم ينتصروا فى الدنيا نصروا فى العقبى. والحاصل : أن قاعدة أمرهم ، وأساسه ، والغالب منه : الظفر والنصر ، وإن وقع فى تضاعيف ذلك شوب من الابتلاء والمحنة فنادر ، والعبرة بالغالب.
فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ إلى مدة يسيرة. وهى المدة التي أملهوا فيها ، أو : إلى بدر ، أو : إلى فتح مكة ، وَأَبْصِرْهُمْ أي : أبصر ما ينالهم ، والمراد بالأمر : الدلالة على أن ذلك كائن قريب ، فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ ما قضينا لك من النصر والتأييد ، والثواب الجزيل فى الآخرة. و«سوف» للوعيد ، لا للتبعيد.
ولمّا نزل : فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ قالوا : متى هو؟ فنزل : أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ قبل وقته؟ فَإِذا نَزَلَ العذاب بِساحَتِهِمْ فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ صباحهم. واللام للجنس لأن «ساء» و«ليس» يقتضيان ذلك. قيل : هو(4/627)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 628
نزول رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يوم الفتح بمكة. وقيل : نزول العذاب بهم يوم القيامة. شبهه بجيش هجم فأناخ بفنائهم بغتة.
والصباح : مستعار من : صباح الجيش المبيت ، استعير لوقت نزول العذاب. ولمّا كثرت الغارة فى الصباح سموا الغارة صباحا ، وإن وقعت فى غيره.
وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ ، وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ ، كرر ليكون تسلية بعد تسلية ، وتأكيدا لوقوع الوعد إلى تأكيد ، وفيه فائدة ، وهو إطلاق الفعلين معا عن التقييد بالمفعول ، بعد التقييد له ، إيذان بأنه يبصر من صنوف المسرة ويبصرون من أنواع المساءة ما لا يفى به نطاق العبارة. وقيل : أريد بأحدهما : عذاب الدنيا ، وبالآخرة : عذاب الآخرة.
سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ ، أضيف الربّ إلى العزة لاختصاصه بها ، أو : يريد : أن ما من عزّة لأحد إلا وهو ربها ومالكها ، لقوله : وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ «1» أي : تنزيها له عما يصفون من الولد والصاحبة والشريك. وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ ، عمم الرسل بالسلام بعد ما خصص البعض فى السورة لأن فى تخصيص كلّ بالذكر تطويلا.
وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ على هلاك الأعداء ، ونصرة الأنبياء.
قيل : فى ختم السورة بالتسبيح بعد ما تضمنته السورة من تخليط المشركين وأكاذبيهم ، ونسبتهم إلى جلاله الأقدس ما لا يليق بجنابه الأرفع ، تعليم للمؤمنين ما يختمون به مجالسهم لأنهم لا يخلو إذا جلسوا مجلسا من فلتة أو هفوة ، وكلمات فيها رضى اللّه وسخطه ، فالواجب على المؤمن إذا قام من مجلسه أن يتلو هذه الآية لتكون مكفرة لتلك السقطات ، ويحمد لما وفق من الطيبات ، ومن ثمّ قال صلى اللّه عليه وسلم : «كلمات لا يتكلم بهن أحد فى مجلسه عند قيامه ثلاث مرات إلا كفّر بهن عنه ، ولا يقولهن فى مجلس خير ، ومجلس ذكر ، إلا ختم اللّه بهن ، كما يختم بخاتم على الصحيفة سبحانك اللهم وبحمدك ، أشهد ألا إله إلا أنت ، استغفرك وأتوب إليك» «2». والمراد هو ختم المجلس أو الكلام بالتنزيه. وعن علىّ - كرم اللّه وجهه : من أراد أن يكتال بالمكيال الأوفى من الأجر يوم القيامة ، فليكن آخر كلامه : سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ «3» .. إلخ.
___________
(1) من الآية 26 من سورة آل عمران.
(2) أخرجه ، بلفظه ، أبو داود فى (الأدب ، باب فى كفارة المجلس 5/ 181 ، ح 4857) وابن حبان فى صحيحه (592) عن عبد اللّه ابن عمرو بن العاص ، موقوفا. وأخرجه أبو داود فى الموضع نفسه (ح 4858) عن أبى هريرة مرفوعا. ولم يذكر أبو داود نص الرواية ، بل قال - بعد ذكره لرواية عبد اللّه بن عمرو : (عن أبى هريرة ، عن النبي صلى اللّه عليه وسلم مثله) ، وأخرجه بنحوه الترمذي فى (الدعوات باب : ما يقول إذا أقام من المجلس 5/ 460 - 461 ، ح 3433) من حديث أبى هريرة ، مرفوعا.
(3) أخرجه البغوي فى تفسيره (7/ 66) وعبد الرزاق فى المصنف (2/ 237) ، عن سيدنا علىّ ، موقوفا ، وعزاه السيوطي فى الدر المنثور (5/ 554) لابن أبى حاتم ، من رواية الشعبي ، عن النبي صلى اللّه عليه وسلم ، مرسلا.(4/628)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 629
وعنه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال : «إذا سلمتم على فسلّموا على المرسلين ، فإنما أنا أحدهم» «1».
الإشارة : ترى بعض الناس يقول : لو ظهر شيخ التربية لكنّا من المخلصين ، بصحبته وخدمته ، فلما ظهر كل الظهور جحد وكفر ، وأنف واستكبر ، وقنع بما عنده من العلم ، فإذا رأى ما ينزل بأهل النسبة من أصحابه ، من الامتحان فى أول البادية ، قال : ليس هذه طريق الولاية ، فيقال له : ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين ، ولمن كان على قدمهم ، إنهم لهم المنصورون ، وإنّ جندنا لهم الغالبون ، فتولّ عن مثل هذا حتى حين ، وهو وقت هجوم الموت عليه ، وأبصر ما يحلّ به من غم الحجاب ، وسوء الحساب ، فسوف يبصرون ما يناله أهل النسبة من الاصطفاء والتقريب ، فإذا طلب الكرامة بالانتصار ممن ظلمهم ، فيقال له : أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ ... الآية. والغالب عليهم الرحمة. فإذا أوذوا قابلوا بالإحسان ، إذ لم يروا الفعل إلا من الرحمن ، فينزهونه بقولهم : سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ ، وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ «2».
___________
(1) أخرجه الطبري (23/ 116) وزاد السيوطي فى الدر (5/ 553) عزوه لعبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبى حاتم ، عن قتادة ، بنحوه. كما عزاه السيوطي لابن مردويه ، وابن سعد ، عن قتادة ، عن أنس.
(2) إلى هنا ينتهى المجلد الرابع بتجزئة المحقق ، ويتلوه - إن شاء اللّه - المجلد الخامس ، وأوله تفسير سورة «ص». - أسأل اللّه العلى القدير - أن يتقبله بأحسن قبول ، وأن يبلّغ من طالعه كل مأمول. والحمد لله رب العالمين ، وصلى اللّه على سيدنا محمد ، وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا. وكان الفراغ من نسخ هذا المجلد وتحقيقه ومراجعته فى الثاني عشر من ربيع الأول ، سنة عشرين وأربعمائة وألف ، على يد/ أحمد عبد اللّه القرشي ، عفا اللّه عنه ، آمين.(4/629)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 5
[المجلد الخامس ]
سورة ص
مكية ، أو : سورة داود. وآيها : ست أو ثمان وثمانون آية. ومناسبتها لما قبلها : قوله تعالى : لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ «1» مع قوله : وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ ، فأخبر عنهم أولا أنهم لو نزل عليهم الذكر لأخلصوا فى الإيمان ، فلما نزل كفروا به ، وتعززوا عنه ، قال تعالى :
[سورة ص (38) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ (2) كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنادَوْا وَلاتَ حِينَ مَناصٍ (3)
يقول الحق جل جلاله : ص أي : أيها الصادق المصدوق. وقال القشيري : معناه : مفتاح اسمه الصادق ، والصبور ، والصمد. أقسم بهذه الأسماء ، وبالقرآن ذِي الذِّكْرِ أي : ذى الشرف التام ، الباقي ، المخلد لمن تمسك به ، أو : ذى الوعظ البليغ لمن اتعظ به ، أو : الذكر للأمم والقصص والغيوب. أو : يراد به الجميع.
وجواب القسم : محذوف ، أي : إنه لكلام معجز ، أو : إنه لمن عند اللّه ، أو : إن محمدا لصادق ، أو : ما الأمر كما يزعمون ، أو : إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ وقيل : إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ أو : إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ ، وهو بعيد.
بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا من قريش فِي عِزَّةٍ تكبّر عن الإذعان لذلك ، والاعتراف بالحق ، وَشِقاقٍ خلاف للّه ولرسوله. والإضراب عن كلام محذوف يدل عليه جواب القسم ، أي : إن كفرهم ليس عليه برهان ، بل هو بسبب العزة ، والعداوة ، والشقاق ، وقصد المخالفة. والتنكير فى «عزة وشقاق» للدلالة على شدتهما وتفاقمهما.
وقرىء «فى غرة» «2» أي : فى غفلة عما يجب عليهم من النّظر واتباع الحق.
ثم هددهم بقوله : كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ من قبل قومك مِنْ قَرْنٍ من أمّة أو جيل ، فَنادَوْا أي : فدعوا واستغاثوا حين رأوا العذاب : وَلاتَ حِينَ مَناصٍ أي : وليس الوقت وقت خلاص ونجاة وفرار ،
___________
(1) الآية 168 من سورة الصافات.
(2) هى قراءة حماد بن الزبرقان. انظر مختصر ابن خالويه ص 130.(5/5)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 6
والمعنى : أنهم استغاثوا حين لم ينفعهم ذلك. وَلاتَ هى «لا» المشبّهة ب «ليس» ، زيدت عليها تاء التأنيث ، كما زيدت على «ربّ» و«ثمّ» للتوكيد ، وتغيّر بذلك حكمها ، حيث لم تدخل إلا على الأحيان ، ولم يبرز إلا أحد معموليها ، إما الاسم أو الخبر ، وامتنع بروزهما بنفي الأحيان ، وهذا مذهب الخليل وسيبويه ، وعند الأخفش أنها النافية للجنس ، زيدت عليها الهاء ، وخصّت بنفي الأحيان. وقال أبو محمد مكى : الوقف عليها عند سيبويه ، والفراء ، وأبى إسحاق ، وابن كيسان ، بالتاء ، وعليه جماعة القراء ، وبه أتى خط المصحف. وعند المبرد والكسائي بالهاء ، بمنزلة «رب». ه.
الإشارة : افتتح الحق جل جلاله هذه السورة ، التي ذكر فيها أكابر أصفيائه ، بحرف الصاد ، إشارة إلى مادة الصبر ، والصدق ، والصمدانية ، والصفاء إذ بهذه المقامات ارتفع من ارتفع ، وبالإخلال بها سقط من سقط.
فبالصبر على المجاهدات تتحقق الإمامة والقدوة ، وبالصدق فى الطلب يقع الظفر بكلّ مطلب ، وبالصمدانية تقع الحرية من رقّ الأشياء ، وبالصفاء تحصل المشاهدة والمكالمة ، فكأن الحق تعالى أقسم بهذه الأشياء وبكتابه العزيز إن المتكبرين على أهل الخصوصية ما أنكروا إلا جحودا وعنادا ، وتعززا واستكبارا ، لا لخلل فيهم ، ثم أوعدهم بالهلاك ، كما أهلك من قبلهم ، فاستغاثوا حين لم ينفعهم الغياث.
ثم ذكر تعجبهم من كون المنذر منهم ، فقال :
[سورة ص (38) : الآيات 4 الى 7]
وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ (4) أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ (5) وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ (6) ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هذا إِلاَّ اخْتِلاقٌ (7)
يقول الحق جل جلاله : وَعَجِبُوا أي : كفار قريش من أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ رسول من أنفسهم ، استبعدوا أن يكون الرّسول من البشر. قال القشيري : وعجبوا أن جاءهم منذر منهم ، ولم يعجبوا أن يكون المنحوت إلها لهم ، وهذه مناقضة ظاهرة. ه. يعنى : لأن المستحق للإعجاب إلهية المنحوت من الحجر ، لا وجود منذر من البشر ، وهم عكسوا القضية. وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ أي : ساحر فيما يظهر من المعجزات ، كذّاب فيما يدعيه من الرّسالة. وضع الظاهر موضع المضمر تسجيلا عليهم بالكفر ، وغضبا عليهم ، وإشعارا بأن كفرهم هو الذي جسرهم على هذه المقالة الشنعاء.(5/6)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 7
ثم قالوا : أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً بأن نفى الألوهية التي كانت لآلهتهم وقصرها على واحد ، إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ بليغ فى العجب ، وذلك لأنه خلاف ما ألفوا عليه آباءهم ، الذين أطبقوا على عبادة آلهتهم ، كابرا عن كابر ، فإنّ مدار كلّ ما يأتون ويذرون ، من أمور دينهم ، هو التقليد والاعتياد ، فيعدون ما يخالف ما اعتادوه عجبا من العجاب ، بل محالا ، وأما جعل مدار تعجبهم عدم وفاء علم الواحد ، وقدرته بالأشياء الكثيرة ، فلا وجه له لأنهم لا يدّعون أن لآلهتهم علما وقدرة ومدخلا فى حدوق شىء من الأشياء ، حتى يلزم من ألوهيتهم بقاء الأثر بلا مؤثر ، قاله أبو السعود منتقدا على البيضاوي.
قال القشيري : لم تباشر خلاصة التوحيد قلوبهم ، وبعدوا عن ذلك تجويزا ، فضلا عن أن يكون إثباتا وحكما ، فلا عرفوا أولا معنى الإلهية فإن الإلهية هى القدرة على الاختراع. وتقدير قادرين على ذلك غير صحيح لما يجب من وجود التمانع بينهما وجوازه ، وذلك يمنع من كمالها ، ولو لم يكونا كاملى الوصف لم يكونا إلهين ، وكلّ من جرّ ثبوته لسقوطه فهو مطرح باطل. ه.
روى أنه لما أسلم عمر رضي اللّه عنه فرح به المؤمنون ، وشقّ على قريش ، فاجتمع خمسة وعشرون نفسا من صناديدهم ، ومشوا إلى أبى طالب ، وقالوا : أنت كبيرنا ، وقد علمت ما فعل هؤلاء السفهاء - أي : الذين دخلوا فى الإسلام - وجئناك لتقضى بيننا وبين ابن أخيك ، فاستحضر أبو طالب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ، فقال : يا ابن أخى هؤلاء قومك يسألونك السواء ، فلا تمل كلّ الميل على قومك ، فقال - عليه الصلاة والسّلام - «ما ذا يسألوننى»؟ فقالوا :
ارفضنا وارفض ذكر آلهتنا ، وندعك وإلهك ، فقال - عليه الصلاة والسّلام : «أعطوني كلمة واحدة تملكون بها العرب ، وتدين لكم العجم» ، قالوا : نعم ، وعشرا «1». قال : «قولوا : لا إله إلا اللّه» فقاموا ، وقالوا : أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً ، إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ «2». قيل : العجب : ما له مثل ، والعجاب : لا مثل له.
وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أي : وانطلق الأشراف من قريش عن مجلس أبى طالب ، بعد ما بكّتهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم بالجواب ، وشاهدوا تصلبه - عليه الصلاة والسّلام - فى الدين ، وعزيمته على إظهاره ، ويئسوا مما كانوا يرجونه ، بتوسط أبى طالب ، من المصالحة على الوجه المذكور ، قائلين أَنِ امْشُوا و«أن» تفسيرية لأن المنطلقين عن
___________
(1) أي : نعطيكها وعشر كلمات معها.
(2) أخرجه بنحوه أحمد فى المسند (1/ 227 ، 362) والترمذي وحسّنه فى (التفسير - سورة ص ، ح 3232) والنّسائى فى الكبرى (التفسير 4/ 456) وابن حبان (الموارد ح 1757) والطبري فى التفسير (23/ 125) والبيهقي فى السنن (9/ 188). والواحدي فى الأسباب (ص 380) وصحّحه الحاكم (2/ 432) ووافقه الذهبي. عن ابن عباس رضي اللّه عنه.(5/7)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 8
مجلس التقاول لا بد لهم من أن يتكلموا ، أو يتفاوضوا فيما جرى لهم ، فكان انطلاقهم مضمنا معنى القول ، وقيل :
ليس المراد بالانطلاق المشي ، بل انطلاق ألسنتهم بهذا الكلام ، كما أنه ليس المراد بالمشي المتعارف ، بل الاستمرار على المشي ، يعنى أنه على هذا القول : عبارة عن تفرقهم فى طرق مكة ، وإشاعتهم للكفر. ه. أي : امشوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ أي : اثبتوا على عبادتها ، متحملين لما تسمعون فى حقها من القدح.
قال القشيري : إذا [تواصى ] «1» الكفار فيما بينهم بالصبر على آلهتهم ، فالمأمنون أولى بالصبر على عبادة معبودهم ، والاستقامة فى دينهم. ه.
إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ أي : هذا الذي شاهدناه من محمد صلّى اللّه عليه وسلم من أمر التوحيد ، وإبطال أمر آلهتنا ، لشىء يراد إمضاؤه وتنفيذه ، من جهته - عليه الصلاة والسّلام - لا محالة ، من غير صارف يلويه ، ولا عاطف يثنيه ، لا قول يقال من طرف اللسان ، وأمر ترجى فيه المسامحة بشفاعة أو امتنان ، فاقطعوا أطماعكم عن استنزاله عن رأيه ، بواسطة أبى طالب وشفاعته ، وحسبكم ألا تمنعوا من عباده ألهتكم بالكلية ، فاصبروا عليها ، وتحملوا ما تسمعون فى حقها من القدح وسوء المقالة ، أو : إنّ هذا الأمر لشىء يريده اللّه تعالى ، ويحكم بإمضائه ، فلا مرد له ، ولا ينفع فيه إلا الصبر ، أو : إنّ هذا الأمر لشىء من نوائب الدهر ، يراد بنا ، فلا انفكاك لنا منه ، أو : إن دينكم لشىء يراد ، أي : يطلب ليؤخذ منكم وتغلبوا عليه ، أو : إن هذا الذي يدعيه من التوحيد ، ويقصده من الرّئاسة ، والترفع على العرب والعجم ، لشىء يتمنى ، ويريده كلّ أحد. فتأمل هذه الأقاويل ، واختر منها ما يساعده النّظم الجليل.
ما سَمِعْنا بِهذا الذي يقوله من أمر التوحيد فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ أي : فى ملة عيسى ، التي هى آخر الملل لأن النّصارى مثلثة غير موحدة ، أو : فى ملة قريش التي أدركنا عليها آباءنا ، ويجوز أن يكون الجار والمجرور حالا من «هذا» ، أي : ما سمعنا بهذا من أهل الكتاب ولا الكهان كائنا فى الملة المترقبة. ولقد كذبوا فى ذلك أقبح كذب فإن حديث البعثة والتوحيد ، وإبطال عبادة الأصنام ، كان أشهر الأمور قبل الظهور. إِنْ هذا أي : ما هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ أي : كذب ، اختلقه من تلقاء نفسه.
[سورة ص (38) : الآيات 8 الى 11]
أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ (8) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (9) أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ (10) جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ (11)
أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ أي : القرآن : مِنْ بَيْنِنا ونحن رؤساء النّاس وأشرافهم. أنكروا أن يختص بالشرف من بين أشرافهم ، وينزل عليه الكتاب من بينهم ، حسدا من عند أنفسهم ، كقولهم : لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ «2». وأمثال هذه المقالات الباطلة دليل على أن مناط تكذيبهم ليس إلا الحسد ، وقصر النّظر على الحطام الدنيوية ، والعياذ باللّه.
___________
(1) فى الأصول [توصوا].
(2) الآية 31 من سورة الزخرف.(5/8)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 9
قال الورتجبي : كانوا منطمسة العيون عما ألبسه الحق من أنوار ربوبيته ، وسنا جلاله وجماله ، لم يروا إلا الصورة الإنسانية ، التي هى ميراث آدم من ظاهر الخلقة. وهذا كقوله : وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ «1» ، استبعدوا اصطفائيته بالوحى ، ولم يعرفوا أنه أثر اللّه فى العالم ، ومشكاة تجليه ، حتى قالوا مثل ما قالوا : وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ ، رأوا أنفسهم خالية عن مشاهدة الغيوب ، وإدراك نور صفات الحق ، فقاسوا نفس محمد صلّى اللّه عليه وسلم بأنفسهم ، ولم يعلموا أنه كان نفس النّفوس ، وروح الأرواح ، وأصل الخليقة ، وباكورة من بساتين الرّبوبية. يا ليتهم لو رأوه فى مشاهدة الملكوت ، ومناصب الجبروت ، إذ خاطبه الحق بلولاك ما خلقت الأفلاك. ه.
الإشارة : هذه عادة اللّه تعالى فى خلقه ، كل من يأمر النّاس بالتجريد ، وخرق العوائد ، وصريح التوحيد ، وترك ما عليه النّاس من جمع الدنيا ، وحب الرّئاسة ، والجاه ، أنكروه ، وسفّهوا رأيه ، وقالوا فيه : ساحر كذّاب. ويقول بعضهم لبعض : امشوا واصبروا على ما أنتم عليه ، من جمع الدنيا ، والخدمة على العيال ، وعلى ما وجدتم عليه أسلافكم ، من الوقوف مع العوائد ، ما سمعنا بهذا الذي يدلّ عليه هذا الرّجل من ترك الأسباب والانقطاع إلى اللّه فى هذا الزمان ، إن هذا الا اختلاق ، أأنزلت عليه الخصوصية من بيننا ، ولم يعلموا أن اللّه يختص برحمته من يشاء ، ويبعث فى كلّ زمان من يجدد الدين بتربية مخصوصة. واللّه تعالى أعلم.
ثم ردّ عليهم بقوله :
بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ ...
يقول الحق جل جلاله : بَلْ هُمْ أي : كفار قريش فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي من القرآن ، أو الوحى ، لميلهم إلى التقليد ، وإعراضهم عن النّظر فى الأدلة المؤدية إلى علم حقيقته ، بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ أي : بل لما يذوقوا عذابى الموعود فى القرآن ، ولذلك شكّوا فيه ، فإذا ذاقوه زال ما بهم من الشك والحسد حينئذ ، أي : إنهم لا يصدّقون به إلا أن يمسّهم العذاب ، فحينئذ يصدّقون ، ولات حين تصديق.
___________
(1) الآية 198 من سورة الأعراف. [.....](5/9)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 10
أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ أي : ما هم بمالكى خزائن الرّحمة حتى يصيبوا بها من شاءوا ، ويصرفوها عمن شاءوا ، ويختاروا للنبوة بعض صناديدهم ، ويترفّعوا بها عن محمد صلّى اللّه عليه وسلم ، وإنما يملك الرحمة وخزائنها العزيز القاهر على خلقه ، الوهّاب الكثير المواهب ، المصيب بها من يشاء. والمعنى : أن النّبوة عطية من اللّه تعالى ، يتفضل بها على من يشاء من عباده المصطفين ، لا مانع له ، فإنه الغالب ، الذي له أن يهب كل ما يشاء لكلّ من يشاء.
وفى إضافة اسم الرّب المنبئ عن التربية والتبليغ إلى الكمال إلى ضميرة - عليه الصلاة والسّلام - من تشريفه واللطف به ما لا يخفى.
أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما أي : بل ألهم ملك هذه العوالم العلوية والسفلية حتى يتكلموا فى الأمور الرّبانية ، ويتحكموا فى التدابير الإلهية ، التي اختصّ بها رب العزّة والكبرياء؟ ثم تهكّم بهم غاية التهكم فقال : فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ ، وهو جواب عن شرط مقدر ، أي : إن كان لهم ما ذكر من الملك ، ويملكون التصرف فى قسمة الرّحمة ، فليصعدوا فى المعارج والطرق التي يتوصّل بها إلى السماء ، حتى يدبروا أمر العالم وملكوت اللّه ، فينزلون الوحى إلى من يختارون ويستصوبون. والسبب ، فى الأصل : ما يتوصل به إلى المطلوب.
ثم وعد نبيه - عليه الصلاة والسّلام - بالنصر عليهم بقوله : جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ أي : هم جند ما من الكفار المتحزبين على الرّسل مَهْزُومٌ مكسور عما قريب ، فلا تبال بما يقولون ، ولا تكترث بما يهذون. و«جند» : خبر ، أو : مبتدأ ، و«مهزوم» : خبره و«ما» : صلة مقوّية للنكرة. أو : للتقليل والتحقير.
و«من الأحزاب» : متعلق بجند ، أو : بمهزوم ، و«هنالك» : إشارة إلى بدر ومصارعهم ، أو : إلى حيث وضعوا فيه أنفسهم من الانتداب لمثل ذلك القول العظيم ، من قولهم لمن ينتدب لأمر وليس من أهله : لست هنالك.
الإشارة : يقال فى جانب أهل الغفلة : بل فى شك من حلاوة ذكرى ومعرفتى ، حيث لم يذوقوا. قال إبراهيم ابن أدهم رضي اللّه عنه : (خرج النّاس من الدنيا ولم يذوقوا شيئا ، قيل : ومافاتهم؟ قال : حلاوة المعرفة). بل لمّا يذوقوا عذابى ، هو وبال القطيعة والبعد ، والانحطاط عن درجات المقربين ، وسيذوقونه إذا تحققت الحقائق ، حيث لا ينفع مال ولا بنون ، إلا من أتى اللّه بقلب سليم. ويقال فى جانب من حسد أهل الخصوصية : أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ ... الآية.(5/10)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 11
ثم هدد كفار قريش بقوله :
[سورة ص (38) : الآيات 12 الى 15]
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ (12) وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ أُولئِكَ الْأَحْزابُ (13) إِنْ كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقابِ (14) وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً ما لَها مِنْ فَواقٍ (15)
يقول الحق جل جلاله : كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ أي : قبل أهل مكة قَوْمُ نُوحٍ نوحا ، وَعادٌ هودا وَفِرْعَوْنُ موسى ، ذُو الْأَوْتادِ ، قيل : كانت له أربعة أوتاد وحبال يلعب بها أو عليها بين يديه ، وقيل :
كان يوتّد من يعذب بأربعة أوتاد فى يديه ورجليه ، ويتركه حتى يموت. وقيل : كان يرسل عليه عقارب وحيات.
وقيل : معناه : ذو الملك الثابت ، من : ثبات البيت المطنّب «1» بأوتاده ، فاستعير لرسوخ السلطنة ، واستقامة الأمر ، كقول الشاعر :
ولقد غنوا فيها بأنعم عيشة فى ظلّ ملك ثابت الأوتاد «2»
وَثَمُودُ وهم قوم صالح ، وَقَوْمُ لُوطٍ كذّبوا لوطا ، وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ أصحاب [الغيضة] «3» كذّبوا شعيبا عليه السّلام ، أُولئِكَ الْأَحْزابُ : بدل من الطوائف المذكورة. وفيه فضل تأكيد وتمهيد لما يعقبه ، وأراد بهذه الإشارة الإعلام بأن الأحزاب الذين جعل الجند المهزوم منهم هم هؤلاء الطوائف ، وأنهم الذين وجد منهم التكذيب ، ولذلك قال :
إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ أي : ما كلّ أحد من آحاد أولئك الأحزاب ، أو : ما كلّ حزب منهم إلا كذّب الرسل لأن تكذيب واحد منهم تكذيب لجميعهم لاتفاق الكلّ على الحق ، أو : ما كلّ حزب إلا كذّب رسوله ، على نهج مقابل الجمع بالجمع. وأيّا ما كان فالاستثناء مفرغ من أعم [العلل ] فى خبر المبتدأ ، أي : ما كلّ أحد منهم محكوم عليه بحكم إلا أنه كذب الرّسل ، فَحَقَّ عِقابِ أي : فوجب لذلك أن أعاقبهم حق العقاب ، التي كانت توجبه جناياتهم من أصناف العقوبات.
___________
(1) خباء مطنب ، أي : مشدود بالأطناب ، والأطناب : ما يشد به البيت من الحبال بين الأرض والطرائق ، وقيل : هى الأوتاد ، واحدتها :
طنب. انظر اللسان (4/ 2708).
(2) البيت للأسود بن يعفر. انظر غريب القرآن لابن قتيبة (2/ 100) ومعانى القرآن للنحاس (6/ 85).
(3) فى الأصول الخطية [الغيظة].(5/11)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 12
وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ أي : وما ينتظر أهل مكة. وفى الإشارة إليهم بهؤلاء تحقير لشأنهم ، وتهوين لأمرهم ، أي : وما ينتظر هؤلاء الكفرة الذين هم أمثال أولئك الطوائف المهلكة فى الكفر والتكذيب ، إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً وهى النّفخة الثانية لما فيها من الشدة والهول ، فإنها داهية ، يعم هولها جميع الأمم ، برها وفاجرها. والمعنى : أنه ليس بينهم وبين حلول ما أعد اللّه لهم من العقاب إلا نفخة البعث ، أخرت عقوبتهم إلى الآخرة لأن حلولها بهم فى الدنيا يوجب الاستئصال ، وقد قال تعالى : وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ «1» ، فأخرت ليوم القيامة.
وأما ما قيل من أنها النّفخة الأولى فمما لا وجه له لأنه لا يشاهد هولها ، ولا يصعق بها إلا من كان حيّا عند وقوعها. قاله أبو السعود.
ما لَها مِنْ فَواقٍ أي : من توقّف مقدار فواق ، هو ما بين حلبتى الحالب ، أي : إذا جاء وقتها لم تستأخر هذا القدر من الزمان. وعن ابن عباس : ما لها من رجوع وترداد ، من أفاق المريض : إذا رجع إلى الصحّة ، وفواق الناقة : ساعة يرجع الدرّ إلى ضرعها. يريد : أنها نفخة واحدة ، لا تثنى ، ولا تردد. والفواق بمعنى التأخر ، فيه لغتان : الفتح والضم ، وأما ما بين حلبتى النّاقة ، فبالضم فقط.
الإشارة : ما جرى على مكذبى الرّسل يجرى فى مكذّبى الأولياء ، إلّا أن عذابهم البعد والطرد ، وحرمان معرفة العيان. وباللّه التوفيق.
ثم ذكر استعجالهم العذاب ، فقال :
[سورة ص (38) : الآيات 16 الى 20]
وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ (16) اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (17) إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ (18) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (19) وَشَدَدْنا مُلْكَهُ وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ (20)
يقول الحق جل جلاله : وَقالُوا أي : كفار مكة لمّا سمعوا بتأخير عقابهم إلى الآخرة : رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا أي : حظّنا من العذاب الذي وعدتنا به ، قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ ولا تؤخره إلى الصيحة المذكورة. وفى القاموس : القط - بالكسر : النصيب ، والصّك ، وكتاب المحاسبة. ه. أو : عجّل لنا صحيفة أعمالنا لننظر فيها ، أو :
___________
(1) من الآية 33 من سورة الأنفال.(5/12)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 13
حظنا من الجنة لأنه صلّى اللّه عليه وسلم ذكر وعد اللّه المؤمنين بالجنة ، فقالوا على سبيل الهزء : عجّل لنا نصيبنا منها «1».
وتصدير دعائهم بالنداء للإمعان فى الاستهزاء ، كأنهم يدعون ذلك بكمال الرّغبة.
اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ من أمثال هذه المقالات الباطلة. ثم سلّاه بما يقص عليه من خبر الأنبياء - عليهم السّلام - الذين كانت بدايتهم أيام المحن ، ثم جاءتهم أيام المنن ، وبدأ بنبيه داود عليه السّلام ، فقال : وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ، فإنه كان فى أول أمره ضعيفا ، يرعى الغنم ، ثم صار نبيا ملكا ، ذا الأيادى العظام. وقوله : ذَا الْأَيْدِ أي : ذا القوة فى الدين ، والملك ، والنّبوة. يقال : فلان ذو يد وأيد وأياد ، بمعنى القوة ، وأياد كلّ شىء : ما يتقوى به.
إِنَّهُ أَوَّابٌ : رجّاع إلى اللّه فى كلّ شىء ، أو : إلى مرضاة اللّه تعالى. وهو تعليل لكونه ذا الأيد ، ودليل على القوة فى الدين فإنه كان عليه السّلام يصوم يوما ويفطر يوما ، وهو أشدّ الصوم ، ويقوم نصف الليل «2» ، مع مكابدة سياسة النّبوة والملك والشهود ، فقد أعطى القوة فى الجهتين.
إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ أي : ذللناها له ، تسير معه حيث يريد. ولم يقل «له» لأن تسخير الجبال له عليه السّلام لم يكن بطريق التفويض الكلى ، كتسخير الرّياح وغيرها لابنه ، بل بطريق التبعية ، والاقتداء به فى عبادة اللّه تعالى. وقيل : مَعَهُ متعلق ب يُسَبِّحْنَ ، أي : سخرناها تسبّح معه ، إما بلسان المقال ، يخلق اللّه لها صوتا ، أو :
بلسان الحال ، أي : يقدس اللّه تعالى وينزهه عما لا يليق به. والجملة : حال ، أي : مسبّحات ، واختيار الفعل ليدل على حدوث التسبيح من الجبال ، وتجدده شيئا بعد شىء ، وحالا بعد حال ، بِالْعَشِيِّ فى طرفى النّهار ، والعشىّ :
وقت العصر إلى الليل وَالْإِشْراقِ ، وهو حين تشرق الشمس ، أي : تضىء ، وهو وقت الضحى ، وأما شروقها - الثلاثي : فطلوعها ، تقول : شرقت الشمس ولمّا تشرق ، أي : طلعت ولم تضيء. وعن ابن عباس رضي اللّه عنه : ما عرفت صلاة الضحى إلا بهذه الآية «3». وعنه - عليه الصلاة والسّلام - أنه صلّى عند أم هانىء صلاة الضحى ، وقال :
«هذه صلاة الإشراق» «4».
___________
(1) انظر تفسير البغوي (7/ 75).
(2) أخرج البخاري فى (التهجد ، باب من نام عند السحر ، ح 1131) ومسلم فى (الصيام ، باب النّهى عن صوم الدهر 2/ 816 ، ح 189) عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص ، قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم : «أحب الصلاة إلى اللّه صلاة داود عليه السّلام وأحبّ الصيام إلى اللّه صيام داود ، كان ينام نصف الليل ، ويقوم ثلثه ، وينام سدسه ، وكان يصوم يوما ويفطر يوما».
(3) عزاه السيوطي فى الدر المنثور (5/ 562) لسعيد بن منصور ، بلفظ : طلبت صلاة الضحى فى القرآن ، فوجدتها بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ. وانظر روايات أخرى تفيد هذا المعنى ذكرها السيوطي فى الدر.
(4) أخرجه البغوي فى التفسير (7/ 76) عن ابن عباس بلفظ : قال - أي ابن عباس - : كنت أمرّ بهذه الآية لا أدرى ما هى حتى حدثتنى أم هانى بنت أبى طالب : أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم دخل عليها فدعا بوضوء فتوضأ ، ثم صلّى الضحى ، فقال : «يا أم هانىء هذه صلاة الإشراق».(5/13)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 14
وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً أي : وسخّرنا الطير مجموعة من كلّ ناحية. عن ابن عباس رضي اللّه عنه : كان إذا سبّح ، جاوبته الجبال بالتسبيح ، واجتمعت إليه الطير ، فسبّحت ، فذلك حشرها. كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ أي : كل واحد من الجبال والطير لأجل تسبيح داود. ووضع الأوّاب موضع المسبّح لأن الأوّاب : الكثير الرّجوع إلى اللّه تعالى ، من عادته أن يكثر ذكر اللّه ، ويدير تسبيحه وتقديسه على لسانه. وقيل : الضمير للّه ، أي : كل من داود والجبال والطير أواب ، أي :
مسبّح للّه تعالى ومرجّع للتسبيح ، وقيل : لداود ، أي : يرجع لأمره.
وَشَدَدْنا مُلْكَهُ أي : قوّيناه بالهيبة والنّصرة وكثرة الجنود. قيل : كان بيت المقدس حول محرابه ثلاثة وثلاثون ألف رجل. قال القشيري : ويقال : وشددنا ملكه بالعدل فى القضية ، وحسن السيرة فى الرّعية ، أو : بدعاء المستضعفين ، أو : بقوم مناصحين ، كانوا يدلونه على ما فيه صلاح ملكه ، أو : بقبوله الحق من كلّ أحد ، أو :
برجوعه إلينا فى عموم الأوقات. ه. وقال ابن عباس : أن رجلا من بنى إسرائيل استعدى على رجل من عظمائهم إلى داود ، فقال المستعدى : إن هذا غصبنى بقرتي ، فجحد الآخر ، ولم تكن له بينة ، فقال داود : قوما حتى أنظر فى أمركما ، فأوحى اللّه تعالى إلى داود فى منامه : أن اقتل الرّجل الذي استعدى عليه ، فتثبت داود حتى أوحى اللّه إليه ثلاثا أن يقتله ، أو تأتيه العقوبة من اللّه ، فأرسل داود إلى الرّجل : أن اللّه قد أوحى إلىّ أن أقتلك ، فقال : تقتلنى بغير بينة؟ فقال : نعم ، واللّه لأنفذنّ أمر اللّه فيك ، فلما عرف الرّجل أنه قاتله ، فقال : لا تعجل علىّ حتى أخبرك أن اللّه تعالى لم يأخذنى بهذا الذنب ، الذي هو السرقة ، ولكنى كنت قتلت أبا هذا غيلة ، وأخذت البقرة ، فقتله داود ، فقال الناس : إذا أذنب أحد ذنبا أظهره اللّه عليه فقتله ، فهابوه ، وعظمت هيبته فى القلوب ه. «1».
وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ النبوة ، وكمال العلم ، وإتقان العمل ، والإصابة فى الأمور ، أو : الزبور وعلم الشرائع. وكلّ كلام وافق الحق فهو حكمه. وَفَصْلَ الْخِطابِ علم القضاء وقطع الخصام ، فكان لا يتتعتع فى القضاء بين الناس ، أو : الفصل بين الحق والباطل. والفصل : هو [التمييز] «2» بين الشيئين ، وقيل : الكلام البيّن ، بحيث يفهمه المخاطب بلا التباس ، فصل بمعنى مفصول ، أو : الكلام البيّن الذي يبين المراد بسرعة ، فيكون بمعنى فاصل ، والمراد : ما أعطاه اللّه من فصاحة الكلام ، الذي كان يفصل به بين الحق والباطل ، والصحيح والفاسد ، فى قضاياه
___________
(1) أخرجه الطبري (23/ 138 - 139) والبغوي فى التفسير (7/ 77). وعزاه فى الدر المنثور (5/ 563) لعبد بن حميد ، وابن أبى حاتم ، عن ابن عباس رضي اللّه عنه.
(2) فى الأصول [التحيز].(5/14)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 15
وحكوماته ، وتدابير الملك ، والمشورات. وعن علىّ رضي اللّه عنه : «هو البينة على المدّعى ، واليمين على من أنكر» وعن الشعبي : «هو : أما بعد» «1» فهو أول من تكلم بها ، فإنّ من تكلم فى الذي له شأن يفتتح بذكر اللّه وتحميده ، فإذا أراد أن يخرج إلى الغرض المسوق له الكلام ، فصل بينه وبين ذكر اللّه بقوله : أما بعد.
الإشارة : فاصبر أيها الفقير على ما يقولون فيك ، وتسلّ بمن قبلك من أهل الخصوصية الكبرى والصغرى ، ففيهم أسوة حسنة لمن كان يرجو الوصول إلى اللّه تعالى. وقوله تعالى : إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ ... إلخ. قال القشيري : كل من تحقق بحالة ساعده كلّ شىء. ه. قلت : وفى الحكم : «أنت مع الأكوان ما لم تشهد المكوّن ، فإذا شهدت المكوّن كانت الأكوان معك» وباللّه التوفيق.
ثم ذكر امتحان داود عليه السّلام ، فقال :
[سورة ص (38) : الآيات 21 الى 25]
وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ (21) إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قالُوا لا تَخَفْ خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ (22) إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ (23) قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَقَلِيلٌ ما هُمْ وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ (24) فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ (25)
يقول الحق جل جلاله : وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ استفهام ، معناه التعجب والتشويق إلى استماع ما فى حيزه لأنه من الأنباء البديعة ، والأخبار العجيبة. والخصم - فى الأصل : مصدر ، ولذلك يطلق على الواحد والجمع ، كالضيف والزور. وأريد هنا اثنان ، وإنما جمع الضمير بناء على أن أقل الجمع اثنان. إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ أي : تصعّدوا سوره ونزلوا إليه. والسور : الحائط المرتفع ، ونظيره : تسنمه : إذا علا سنمه. والمحراب :
___________
(1) انظر هذه الأقوال فى تفسير الطبري (3/ 140) والبغوي (7/ 77 - 78) والدر المنثور (5/ 564).(5/15)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 16
الغرفة ، أو : المسجد ، سمى محرابا لتحارب الشيطان فيه والخواطر الرّدية. و«إذ» : متعلق بمحذوف ، أي : نبأ تحاكم الخصمين ، أو : بالخصم لما فيه من معنى الخصومة ، إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ : بدل مما قبله ، أو : ظرف لتسوروا ، فَفَزِعَ مِنْهُمْ : تروع منهم.
روى أن اللّه تعالى بعث إليه ملكين فى صورة إنسانين ، قيل : جبريل وميكائيل ، فطلبا أن يدخلا عليه ، فوجداه فى عبادته ، فمنعهما الحرس ، فتسوّروا عليه المحراب ، فلم يشعر إلا وهما بين يديه ، جالسان ، ففزع منهم لأنهم دخلوا عليه فى غير يوم القضاء ، ولأنهم نزلوا من فوق ، وفى يوم الاحتجاب ، والحرس حوله لا يتركون من يدخل عليه. قال الحسن : جزأ داود عليه السّلام الدهر أربعة أجزاء يوما لنسائه ، ويوما للعبادة ، ويوما للقضاء ، ويوما للمذاكرة مع بنى إسرائيل. فدخلوا عليه يوم عبادته.
فلما فزع قالُوا لا تَخَفْ ، نحن خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ أي : ظلم وتطاول عليه ، فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ لا تجر ، من : الشطط ، وهو مجاوزة الحدّ وتخطى الحق ، وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ وأرشدنا إلى وسط الطريق ومحجته ، والمراد : عين الحق وصريحه.
روى : أن أهل زمان داود عليه السّلام كان يسأل بعضهم بعضا أن ينزل له عن امرأته ، فيتزوجها إذا أعجبته ، وكان لهم عادة فى المواساة بذلك. وكان فى أول الإسلام شىء من ذلك بين المهاجرين والأنصار ، فاتفق أنّ عين داود عليه السّلام وقعت عل امرأة أوريا ، وكانت جميلة ، فأحبّها ، فسأله النّزول له عنها ، فاستحيا أن يردّه ، ففعل ، فتزوجها ، وهى أم سليمان فعوتب فى ذلك ، وقيل له : إنك مع عظيم منزلتك ، وكثرة نسائك ، لم يكن ينبغى لك أن تسأل رجلا ليس له إلا امرأة واحدة ، كان الواجب عليك مغالبة هواك ، وقهر نفسك ، والصبر على ما امتحنت به. وقيل :
خطبها أوريا ، وخطبها داود ، فآثره أهلها ، فكانت زلته أن خطب على خطبة أخيه المؤمن مع كثرة نسائه «1». ه.
ولعلم لم يكن محرما فى شرعهم ، وإنما كان خلاف الأولى.
وقال شيخ شيوخنا فى حاشيته : لا يصح هذا فى حق الأنبياء ، وما يحكى أنه بعث أوريا إلى الغزو مرة بعد مرة ، وأحب أن يقتل ليتزوجها ، فلا يليق من المتسمين بالصلاح من أبناء النّاس ، فضلا عن بعض أعلام الأنبياء.
وقال علىّ - كرم اللّه وجهه - : من حدثكم بحديث داود عليه السّلام على ما يرويه القصّاص جلدته مائة وستين «2» ، وهو
___________
(1) قال القاضي عياض فى الشفاء (2/ 827) : لا تلتفت إلى ما سطره الأخباريون من أهل الكتاب ، الذين بدّلوا وغيّروا ، ونقله المفسرون ، ولم ينص اللّه تعالى على شىء من ذلك فى كتابه ، ولا ورد فى حديث صحيح ، والذي نصّ اللّه عليه فى قصة داود :
قوله : وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ وليس فى قصة داود وأوريا خبر ثابت.
وقال الحافظ ابن كثير فى تفسيره (4/ 31) : قد ذكر المفسرون هاهنا قصة أكثرها مأخوذ من الإسرائيليات ، ولم يثبت فيها عن المعصوم حديث يجب اتباعه .... فالأولى أن يقتصر على مجرد تلاوة هذه القصة ، وأن يرد علمها إلى اللّه عز وجل ، فإن القرآن حق ، وما تضمن فهو حق أيضا. وانظر : الإسرائيليات والموضوعات لأبى شهبة (264 - 270).
(2) قال الحافظ ابن حجر ، فى الكافي الشاف : (رقم 306) : لم أجده.(5/16)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 17
حدّ الفرية على الأنبياء - يعنى الحدّ مرتين - وروى : أن رجلا حدّث بها عند عمر بن عبد العزيز ، وعنده رجل من أهل الحق ، فكذّب المحدّث ، وقال : إن كانت القصة على ما فى كتاب اللّه ، فما ينبغى أن يلتمس خلافها ، ولا أن يقال غير ذلك ، وإن كانت على ما ذكرت ، وقد سترها اللّه على نبيه ، فما ينبغى إظهارها عليه ، فقال عمر : لسماعى لهذا الكلام أحبّ إلىّ مما طلعت عليه الشمس «1».
والذي يدلّ عليه المثل الذي ضربه اللّه لقصته عليه السّلام ليس إلا أنه طلب من زوج المرأة أن ينزل عنها فحسب ، فتزوجها ، وإنما جاءت على طريق التمثيل والتعريض ، دون التصريح لكونها أبلغ فى التوبيخ ، من قبل أنّ المتأمل إذا أدّاه إلى الشعور بالمعرّض به كان أوقع فى نفسه ، وأشدّ تمكّنا من قلبه ، وأعظم أثرا فيه ، مع مراعاة حسن الأدب ، بترك المجاهرة بالعتاب. قاله النّسفى.
ثم ذكر التعريض بقوله : إِنَّ هذا أَخِي فى الدين ، أو : فى الصداقة ، أو : الشركة. والتعبير به لبيان كمال قبح ما فعل به صاحبه ، لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً النعجة : الأنثى من الضأن ، وقد يكنى بها عن المرأة ، والكناية والتعريض أبلغ من التصريح «2». وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ لا أملك غيرها ، فَقالَ أَكْفِلْنِيها أي :
ملّكنيها ، واجعلنى أكفلها كما أكفل ما تحت يدى ، وَعَزَّنِي غلبنى فِي الْخِطابِ فى الخصومة ، أي : كان أقدر منى على الاحتجاج والمجادلة ، أو : غلبنى فى الخطبة ، حيث خطبت وخطب ، فأخذها ، وهذا منهما تعريض وتمثيل ، كأنهما قالا : نحن كخصمين هذه حالهما ، فمثّلت قصة أوريا مع داود بقصة رجل له نعجة واحدة ، وخليطه له تسع وتسعون ، فأراد صاحبه تتمة المائة ، فطمع فى نعجة خليطه ، وحاجّه فى أخذها ، محاججة حريص على بلوغ مراده. وإنما كان ذلك على وجه التحاكم إليه ، ليحكم بما حكم به من قوله :
قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ ، حتى يكون محجوجا بحكمه. وهو جواب عن قسم محذوف ، قصد به عليه السّلام المبالغة فى إنكار فعل صاحبه به ، وتهجين طمعه فى نعجة من ليس له غيرها ، مع أنّ له قطيعا منها. ولعله عليه السّلام قال ذلك بعد اعتراف صاحبه بما ادعاه عليه ، أو : بناه على تقدير صدق المدعى ، أي :
إن كنت صدقت فقد ظلمك ، والسؤال : مصدر مضاف إلى المفعول ، وتعديته إلى مفعول آخر لتضمينه معنى الضم.
___________
(1) ذكره النّسفى فى تفسيره (3/ 150). [.....]
(2) الظاهر : إبقاء لفظ النّعجة على الحقيقة ، من كونها أنثى الضأن ، ولا يكنى بها عن المرأة ، ولا ضرورة تدعو إلى ذلك. انظر البحر المحيط (7/ 376).(5/17)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 18
وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ الشركاء الذين خلطوا أموالهم ، لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ غير مراع لحق الصحبة والشركة ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ منهم ، فإنهم يتحامون عن البغي والعدوان ، وَقَلِيلٌ ما هُمْ أي : وهم قليل. و«ما» : مزيدة للإبهام ، والتعجب من قلتهم. والجملة : اعتراض. وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ ، الظن مستعار للعلم الاستدلالي لما بينهما من المشابهة الظاهرة ، أي : علم بما جرى فى مجلس الحكومة وقيل : لمّا قضى بينهما نظر أحدهما إلى الآخر ، فضحك ، ثم صعدا إلى السماء فعلم عليه السّلام أنه تعالى ابتلاه. والقصر منصّب على الفتنة ، أي : علم أنما فعلناه به فتنة وامتحان.
واختلف فى سبب امتحانه ، قيل : لأنه تمنى منزلة آبائه إبراهيم وإسحاق ويعقوب ، وقال : يا رب أرى الخير كله ذهب به آبائي ، فأوحى إليه : إنى ابتليتهم ، فصبروا فابتلى إبراهيم بنمرود وبذبح ولده ، وإسحاق بالذبح «1».
ويعقوب بالحزن على يوسف وذهاب بصره ، وأنت لم تبتل بشىء ، فقال : يا رب ابتلنى بمثل ما ابتليتهم به ، فابتلى بالمرأة «2». وقيل : إنه ادعى القوة ، وقال : إنه لا يخاف من نفسه قط ، فامتحن ، فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ إثر ما علم أن ما صدر منه ذنب وَخَرَّ راكِعاً أي : ساجدا ، على تسمية السجود ركوعا ، أو : خرّ راكعا مصليا صلاة التوبة ، وَأَنابَ أي : رجع إلى اللّه بالتوبة ، روى : أنه بقي ساجدا أربعين يوما يبكى ، حتى نبت البقل من دموعه ، ولم يشرب ماء إلا وثلثاه دموع ، واشتغل بذلك عن الملك ، حتى وثب ابن له ، يقال له : «إيشا» على ملكه ودعا إلى نفسه ، واجتمع إليه أهل الزيغ من بنى إسرائيل ، فلما غفر له حاربه فهزمه. ه.
وهذا الموضع فيه سجدة عند مالك ، خلافا للشافعى ، إلا أنه اختلف فى مذهب مالك هل سجد عند قوله :
وَأَنابَ أو عند قوله : وَحُسْنَ مَآبٍ. وروى الترمذي عن أبى سعيد الخدري : أنه رأى فى المنام شجرة تقرأ سورة «ص» ، فلما بلغت : «وأناب» سجدت ، وقالت : اللهم اكتب لى بها أجرا ، وحط عنى بها وزرا ، وارزقني بها شكرا ، وتقبلها منى كما تقبلتها من عبدك داود ، فقال له - عليه الصلاة والسّلام - «وسجدت أنت يا أبا سعيد؟» قلت : لا. قال : «كنت أحق بالسجود من الشجرة» ، ثم تلى نبى اللّه الآيات ، حتى بلغ : وَأَنابَ فسجد ، وقال كما قالت الشجرة «3».
___________
(1) تقدم أن الذبيح هو إسماعيل عليه السّلام ، راجع التعليق على تفسير الآيات : 99 - 111 من سورة الصافات.
(2) انظر تفسير الطبري (23/ 146) والبغوي (7/ 78).
(3) أخرجه ، عن ابن عباس ، الترمذي فى (أبواب السفر ، باب ما يقول فى سجود القرآن 3/ 472 - 473 - ح 579) ، وابن ماجه فى (إقامة الصلاة والسنة ، باب : سجود القرآن 1/ 334 ، ح 1053) والحاكم وصحّحه ووافقه الذهبي ، (1/ 219 - 220) والبغوي فى تفسيره (7/ 86) قال - أي : ابن عباس - : جاء رجل إلى النّبى صلّى اللّه عليه وسلم فقال : يا رسول اللّه ، إنى رأيتى الليلة وأنا نائم كأنى أصلى خلف شجرة ، فسجدت ، فسجدت الشجرة لسجودى .. إلخ الحديث. قال الترمذي : (و فى الباب عن أبى سعيد) قلت : حديث أبى سعيد الخدري عزاه السيوطي فى الدر المنثور (5/ 572) لأبى يعلى.(5/18)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 19
فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ أي : ما استغفر منه. قال القشيري : ولمّا أوحى اللّه بالمغفرة ، قال : يا رب كيف بحديث الخصم؟ - أي : الرجل الذي ظلمته - فقال : قد استوهبتك منه. ه. وفى رواية : إنى أعطيه يوم القيامة ما لم تر عيناه ، فاستوهبك منه فيهبك لى ، قال : يا رب الآن قد عرفت أنك غفرت لى «1». ه. قال تعالى وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى لقربى وكرامة بعد المغفرة ، وَحُسْنَ مَآبٍ مرجع فى الجنة.
الإشارة : إنما عوتب داود عليه السّلام لأنه التفت إلى الجمال الحسى الفرقى ، دون الجمال المعنوي الجمعى ، ولو سبته المعاني بجمالها ما التفت إلى الجمال الفرقى ، فلما نبّهه الحق تعالى استغفر ورجع إلى الجمال المعنوي ، الذي هو جمال الحضرة القدسية ، وعبارة شيخ شيوخنا سيدى عبد الرّحمن الفاسى رضي اللّه عنه : عدّ عليه التفاته عن الجمال المطلق عن الأشكال والصور إلى المقيد بهما ، وهى مقام تفرقة ، لا مقام جمع ، فاستغفر ورجع إلى شهود الفاعل جمعا ، عن شهود فعله فرقا ، فخلع عليه خلعة الخلافة والله أعلم. ه. قال القشيري : قال داود عليه السّلام : يا رب إنى أجد فى التوراة أنك أعطيت الأنبياء الرّتب العالية ، فأعطينها؟ فقال : إنهم صبروا لمّا ابتليتهم ، فوعد من نفسه الصبر إذا ابتلاه ، طمعا فى مثل تلك الرّتب ، فأخبر أنه يبتليه يوم كذا ، فلما جاء ذلك اليوم دخل خلوته ، وأغلق أبوابه ، ولم يمكنه غلق باب السماء. وقد قال الحكماء : الهارب مما هو كائن فى كف الطالب يتقلب. ثم إنه كان فى البيت كوة ، يدخل منها النّور ، فدخل منها طير صغير ، كأنه من ذهب ، وكان لداود ولد صغير ، فهمّ أن يقبضه لابنه ، فمازال يحاوله ويتبعه حتى وقع بصره على المرأة ، فامتحن بها ، فلم يدع به الاهتمام بولده حتى فعل ما فعل ، وفى ذلك لأولى الأبصار عبرة. ه.
وقال عند قوله : فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ : التجأ داود عليه السّلام فى أوائل البلاء إلى التوبة ، والبكاء ، والتضرع ، والاستكانة ، فوجد المغفرة والتجاوز. وهكذا من رجع فى أوائل الشدائد إلى اللّه ، فاللّه يكفيه ويتوب عليه ، و[كذلك ] «2» من صبر إلى حين طالت عليه المحنة. ويقال : إن زلة قدّرها عليك ، توصلك إليه بندمك ، أحرى بك من طاعة ، إعجابك بها يقصيك عن ربك. ه. وفى الحكم : «معصية أورثت ذلا وافتقارا ، خير من طاعة أورثت عزا واستكبارا» وقال الشيخ أبو العباس المرسى رضي اللّه عنه : كل سوء أدب يثمر لك حسن أدب فهو أدب. ه.
___________
(1) انظر تفسير البغوي (7/ 84).
(2) ما بين المعقوفتين مستدرك من لطائف الإشارات.(5/19)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 20
ولمّا تحققت إنابته ، جعله اللّه خليفة ، كما قال :
[سورة ص (38) : الآيات 26 الى 28]
يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ (26) وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (27) أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28)
يقول الحق جل جلاله : يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ أي : استخلفناك على الملك فيها ، والحكم فيما بين أهلها ، أو : جعلناك خليفة عمّن كان قبلك من الأنبياء القائمين بالحق ، وفيه دليل على أن حاله عليه السّلام بعد التوبة ، كما كان قبلها ، لم يتغير قط ، خلاف ما نقله الثعلبي من تغير حاله وصوته ، ومنع الطيور من إجابته ، فانظره.
فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ بحكم اللّه تعالى ، إذ كنت خليفته ، أو : بالعدل ، وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى أي : هوى النفس فى الحكومات ، وغيرها من أمور الدين والدنيا ، بل قف عند ما حدّ لك. وفيه تنبيه على أن أقبح جنايات العبد متابعة هواه ، فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي : فيكون الهوى ، أو اتباعه ، سببا لضلالك عن دلائله اللاتي نصبها على الحق ، تكوينا وتشريعا. و«يضلك» : منصوب فى جواب النّهى ، أو : مجزوم ، فتح لالتقاء الساكنين.
إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ عن طريقه الموصلة إليه. وأظهر «سبيل اللّه» فى موضع الإضمار للإيذان بكمال شناعة الضلال عنه ، لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا بسبب نسيانهم يَوْمَ الْحِسابِ فإنّ تذكره وترداده على القلب يقتضى ملازمة الحق ومباعدة الهوى.
وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما من المخلوقات على هذا النّظام البديع باطِلًا أي : خلقا باطلا ، عاريا عن الحكمة ، أو : مبطلين عابثين ، بل لحكم بالغة ، وأسرار باهرة ، حيث خلقنا من بينها نفوسا ، أودعناها العقل لتميز بين الحق والباطل ، والنّافع والضار ، ومكنّاها من التصرفات العلمية والعملية ، فى استجلاب(5/20)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 21
منافعها ، واستدفاع مضارها ، ونصبنا لها للحق دلائل آفاقية ، ونفسية ، ومنحناها القدرة على الاستشهاد بها ، ثم لم نقتصر على ذلك المقدار من الألطاف ، بل أرسلنا إليها رسلا ، وأنزلنا عليها كتبا ، بيّنا فيها كيفية الأدب معنا ، وهيئة السير إلى حضرة قدسنا ، وقيّضنا لها جهابذة ، غاصوا على جواهر معانيها ، فاستخرجوا منها كيفية المعاملة معنا ، ظاهرا وباطنا ، وأوعدنا فيها بالعقاب لمن أعرض عنها ، ووعدنا بالثواب الجزيل لمن تمسك بها ، ولم نخلق شيئا باطلا.
ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا ، الإشارة إلى خلق العبث ، والظن بمعنى المظنون ، أي : خلقها عبثا هو مظنون الذين كفروا ، وإنما جعلوا ظانين أنه خلقها للعبث ، وإن لم يصرحوا بذلك لأنه لمّا كان إنكارهم للبعث ، والثواب ، والحساب ، والعقاب ، التي عليها يدور فلك تكوين العالم ، مؤديا إلى خلقها عبثا ، جعلوا كأنهم يظنون ذلك ويقولونه لأن الجزاء هو الذي سيقت إليه الحكمة فى خلق العالم ، فمن جحده فقد جحده الحكمة فى خلق العالم.
فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ ، الفاء سببية لإفادة ثبوت الويل لهم على ظنهم الباطل ، وأظهر فى موضع الإضمار للإشعار بأن الكفر علة ثبوت الويل لهم ، و«من النّار» : تعليلية ، كما فى قوله : فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ «1» أي : فويل لهم بسبب النّار المترتبة على ظنهم وكفرهم.
أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ ، «أم» : منقطعة ، والاستفهام فيها للإنكار ، والمراد أنه لو بطل الجزاء - كما تقول الكفرة - لا ستوت أحوال أتقياء المؤمنين وأشقياء الكفرة ، ومن سوّى بينهما كان سفيها ، ولم يكن حكيما ، أي : بل أنجعل المؤمنين المصلحين كالكفرة المفسدين فى أقطار الأرض ، كما يقتضيه عدم البعث وما يترتب عليه من الجزاء لاستواء الفريقين فى التمتع فى الحياة الدنيا ، بل الكفرة أوفر حظا فيها من المؤمنين ، مع صبر المؤمنين ، وتعبهم فى مشاق الطاعات ، لكن ذلك الجعل محال ، فتعين البعث والجزاء لرفع الأولين إلى أعلى عليين ، وخفض الآخرين إلى أسفل سافلين.
أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ إنكار للتسوية بين الفريقين المذكورين ، وحمل الفجار على فجرة المؤمنين مما لا يساعده المقام ، ويجوز أن يراد بهذين الفريقين عين الأولين ، ويكون التكرير باعتبار وصفين آخرين ، هما أدخل فى إنكار التسوية من الوصفين الأولين. وقيل : قالت قريش للمؤمنين : إنا نعطى من الخير يوم القيامة مثل ما تعطون ، فنزلت «2».
___________
(1) من الآية 79 من سورة البقرة.
(2) ذكره البغوي فى تفسيره (7/ 87).(5/21)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 22
الإشارة : قال الورتجبي : ولمّا خرج داود من امتحان الحق وبلائه ، كساه خلعة الرّبوبية ، وألبسه لباس العزة والسلطنة ، كآدم خرج من البلاء ، وجلس فى الأرض على بساط فلك الخلافة ، وذلك بعد كونهما متخلقين بخلق الرحمن ، مصوّرين بصورة الرّوح الأعظم ، فإذا تمكن داود فى العشق ، والمحبة ، والنّبوة ، والرّسالة ، والتخلق ، صار أمره أمر الحق ، ونهيه نهى الحق. ه. وقال ابن عطية : لا يطلق خليفة اللّه إلا لنبى ، وإطلاقه فى غير الأنبياء تجوّز وغلوّ. ه. قلت : يطلق عند الأولياء على من تحققت حريته ، ورسخت ولايته ، وظهر تصرفه فى الوجود بالهمة ، حتى يكون أمره بأمر اللّه ، غالبا ، وهو مقام القطبانية ، فالمراتب ثلاث : صلاح ، وولاية ، وخلافة ، فالصلاح لمن صلح ظاهره بالتقوى ، والولاية لمن تحقق شهوده ، مع بقية من نفسه ، بحيث تقل عثراته جدا ، والخلافة لمن تحققت حريته ، وظهرت عصمته بجذب العناية. واللّه تعالى أعلم.
وقوله تعالى : وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى ، الهوى : ما تهواه النّفس ، وتميل إليه ، من الحظوظ الفانية ، قلبية كانت ، كحب الجاه ، والمال ، وكالميل فى الحكم عن صريح الحق ، أو : نفسانية ، كالتأنق فى المآكل ، والمشارب ، والمناكح.
واتباع الهوى : طلبه ، والسعى فى تحصيله ، فإن كان حراما قدح فى الإيمان ، وإن كان مباحا قدح فى نور مقام الإحسان ، فإن تيسّر من غير طلب وتشوف ، وكان موافقا للسان الشرع ، جاز تناول الكفاية منه ، مع الشكر وشهود المنّة. قال عمر بن عبد العزيز : إذا وافق الحقّ الهوى ، كان كالزبد بالبرسام ، أي : الكسر. وفى الحكم : «لا يخاف أن تلتبس الطرق عليك ، إنما يخاف من غلبة الهوى عليك» «1» وغلبة الهوى : قهره وسلطنته ، بحيث لا يملك نفسه عند هيجان شهوتها.
وقوله تعالى : وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلًا أي : بل خلقناهما لنعرف بهما ، فما نصبت الكائنات لتراها ، بل لترى فيها مولاها. وقد تقدم هذا مرارا.
ولا ينال هذا المقام إلا بعبادة التفكر والتدبر ، كما أشار إلى ذلك بقوله :
[سورة ص (38) : آية 29]
كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (29)
قلت : «كتاب» : خبر عن مضمر ، أي : هذا ، و«أنزلناه» : صفة له ، و«مبارك» : خبر ثان ، أو : صفة الكتاب ، و«لّيدبروا» : متعلق بأنزلناه.
___________
(1) حكمة رقم 107 ، انظر الحكم بتبويب المتقى الهندي ص 17.(5/22)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 23
قيل : لمّا نفى التسوية بين الصالح المتّقى ، والمفسد الفاجر ، بيّن ما تحصل به لمتبعيه السعادة الأبدية ، ويحصل به الصلاح التام ، والتقوى الكاملة. وهو كتاب اللّه فقال جل جلاله : هذا كِتابٌ وهو القرآن أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ كثير المنافع الدينية والدنيوية ، أنزلناه لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ أي : ليتفكروا فى آياته ، التي من جملتها هذه الآيات المعربة عن أسرار التكوين والتشريع ، فيعرفوا ما فى ظاهرها من المعاني الفائقة ، والتأويلات اللائقة.
وقرىء : لتدبروا على الخطاب «1» ، أي : أنت وعلماء أمتك ، بحذف إحدى التاءين. وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ أي : وليتّعظ به ذوو العقول الصافية ، السليمة من الهوى ، فيقفوا على ما فيه ، ويعملوا به ، فإنّ الكتب الإلهية ما نزلت إلا ليتدبر ما فيها ، ويعمل به. وعن الحسن : قد قرأ هذا القرآن عبيد وصبيان ، لا علم لهم بتأويله ، حفظوا حروفه وضيّعوا حدوده. ه.
الإشارة : كتاب اللّه العزيز بطاقة من عند الملك ، والمراد من البطاقة فهم ما فيها ، والعمل به ، لا قراءة حروفها ورسومها فقط ، فمن فعل ذلك فهو مقصّر.
وذكر فى الإحياء أن آداب القراءة عشرة ، أي : الآداب الباطنية :
الأول : فهم عظمة الكلام وعلوّه ، وفضل اللّه سبحانه بخلقه ، فى نزوله عن عرش جلاله ، إلى درجة أفهام خلقه ، فلو لا استتار كنّه جلال كلام اللّه تعالى ، بكسوة الحروف ، لما ثبت لكلام اللّه عرش ولا ثرى ، ولتلاشى ما بينهما من عظمة سلطانه ، ولو لا تثبيت اللّه موسى عليه السّلام ما أطاق سماع كلامه ، كما لم يطق الجبل مبادر نوره.
الثاني : تعظيم المتكلم به ، وهو اللّه سبحانه ، فيخطر فى قلبه عظمة المتكلم ، ويعلم أن ما يقرأه ليس من كلام البشر ، وأن فى تلاوة كتابه غاية الخطر ، ولهذا كان عكرمة إذا نشر المصحف غشى عليه.
الثالث : حضور القلب ، وترك حديث النّفس ، فإذا قرأ آية غافلا أعادها.
الرابع : التدبر ، وهو وراء الحضور ، فإنه قد لا يتفكر فى غير القرآن ، ولكنه مقتصر على سماع القرآن من نفسه وهو لا يتدبره. قال علىّ رضي اللّه عنه : لا خير فى عبادة لا فقه فيها ، ولا خير فى قراءة لا تدبّر فيها.
الخامس : التفهم «2» ، وهو أن يستوضح كلّ آية ما يليق بها إذ القرآن مشتمل على ذكر صفات اللّه تعالى ، وذكر أفعاله ، وذكر أحوال أنبيائه - عليهم السّلام - ، وذكر أحوال المكذّبين ، وكيف أهلكوا ، وذكر أوامره وزواجره ، وذكر الجنة والنّار ، قال عبد اللّه بن مسعود رضي اللّه عنه : «من أراد علم الأولين والآخرين فليثوّر القرآن» ، أي : فإنه مشتمل على فعل اللّه ، وصفاته ، وكشف أسرار ذاته ، لمن تأمله حق تأمله.
___________
(1) وبذلك قرأ أبو جعفر .. انظر إتحاف فضلاء البشر (2/ 421).
(2) فى الأصول [التفهيم ] والمثبت هو الذي فى الإحياء.(5/23)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 24
السادس : التخلي عن موانع الفهم ، ومعظمها أربعة : أولها : صرف الهمة إلى إخراج الحروف من مخارجها ، وهذا تولى حفظه شيطان وكّل بالقراء. وكذلك الاشتغال بضبط رواياته ، فأنى تنكشف لهذا أسرار المعاني. ثانيها : أن يكون مقيدا بمذهب ، أخذه بالتقليد ، وجمد عليه ، فهذا شخص قيّده معتقده ، فلا يمكن أن يخطر بباله غير معتقده ، فلا يتبحر فى معانى القرآن لأنه مقيد بما جمد عليه. ثالثها : أن يكون مصرا على ذنب ، أو متصفا بكبر ، أو : مبتلى بهوى فى الدنيا ، وبهذا ابتلى كثير من النّاس ، وإليه الإشارة بقوله تعالى :
سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ «1» أي : عن فهم آياتي. رابعها : أن يكون قد قرأ تفسيرا ظاهرا ، واعتقد أنه لا معنى لكلمات القرآن إلا ما يتناوله النّقل عن ابن عباس وغيره ، وأمّا ما وراء ذلك تفسير بالرأى ، فهذا أيضا من أعظم الحجب فإن القرآن العظيم له ظاهر وباطن ، وحدّ ومطّلع ، فالفهم فيه لا ينقطع إلى الأبد ، فهو بحر مبذول ، يغرف منه كلّ واحد على قدر وسعه ، إلى يوم القيامة.
السابع : التخصيص ، وهو أن يعتقد أنه المقصود بكلّ خطاب فى القرآن ، فإن سمع أمرا أو نهيا ، قدر أنه المأمور والمنهي ، وكذلك إن سمع وعدا ووعيدا ، وإن سمع قصص الأولين علم أن المقصود به الاعتبار ، ليأخذ من تضاعيفه ما يحتاج إليه ، ويتقوى إيمانه ، قال تعالى : وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ «2» فالقرآن لم ينزل خاصا برسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ، بل هو شفاء ورحمة ونور للعالمين ، فيثبت فؤاد كلّ من يسمعه.
الثامن : التأثير ، وهو أن يتأثر قلبه بآثار مختلفة ، بحسب اختلاف الآيات ، فيكون له بحسب كلّ فهم حال ووجد ، يتصف به قلبه من الخوف ، والرّجاء ، والقبض ، والبسط ، وغير ذلك.
التاسع : الترقي وهو أن يترقى إلى أن يسمع الكلام من اللّه سبحانه ، لا من نفسه ، ولا من غيره. فدرجات القرآن ثلاث : أدناها : أن يقدر العبد كأنه يقرأ على اللّه تعالى ، واقفا بين يديه ، فيكون حاله السؤال والتملق.
ثانيها : أن يشهد بقلبه كأن اللّه تعالى يخاطبه بألفاظه ، ويناجيه بإنعامه وإحسانه ، فمقامه الحياء والتعظيم. الثالثة :
أن يرى فى الكلام المتكلّم ، فلا ينظر إلى نفسه ، ولا إلى قراءته ، بل يكون مقصور الهم على المتكلم ، مستغرقا فى شهوده ، وهذه درجة المقربين ، وما قبلها درجة أصحاب اليمين ، وما خرج عن هذا فهو درجة الغافلين. وعن الدرجة العليا أخبر جعفر الصادق رضي اللّه عنه بقوله : واللّه لقد تجلى اللّه لخلقه فى كلامه ولكن لا يبصرون. ه. وقال
___________
(1) من الآية 146 من سورة الأعراف.
(2) الآية 120 من سورة هود.(5/24)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 25
بعض الحكماء : كنت أقرأ القرآن ولا أجد حلاوة ، حتى تلوته كأنه أسمعه من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يتلوه على أصحابه ، ثم رفعت إلى مقام ، كأنى أسمعه من جبريل ، يلقيه على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ، ثم جاء اللّه بمنزلة أخرى ، فأنا الآن أسمعه من المتكلّم به ، فعندها وجدت له لذة ونعيما لا أصبر عنه.
العاشر : التبري ، وهو أن يتبرأ من حوله ، وقوته ، والالتفات إلى نفسه بعين الرّضا. انظر بقية كلامه فقد اختصرناه غاية.
ثم ذكر سليمان عليه السّلام ، فقال :
[سورة ص (38) : الآيات 30 الى 33]
وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (30) إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ (31) فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ (32) رُدُّوها عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ (33)
يقول الحق جل جلاله : وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ أي : سليمان ، فهو المخصوص ، إِنَّهُ أَوَّابٌ أي : رجّاع إلى اللّه تعالى فى السراء والضراء ، وفى كلّ أموره ، إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ أي : واذكر ما صدر عنه حين عرض عليه بِالْعَشِيِّ وهو ما بين الظهر إلى آخر النّهار ، الصَّافِناتُ الْجِيادُ أي :
الخيل الصافنات ، وهى التي تقوم على طرف سنبك يد أو رجل. وهى من الصفات المحمودة ، لا تكاد توجد إلا فى الخيل العراب ، الخلّص. وقيل : هو الذي يجمع يديه ويستبق بهما ، والجياد : جمع جواد ، أو : جود ، وهو الذي يسرع فى جريه ، أو : الذي يجود عند الرّكض ، وقيل : وصفت بالصفون والجودة لبيان جمعها بين الوصفين المحمودين ، واقفة وجارية ، أي : إذا وقفت كانت ساكنة ، وإذا جرت كانت سراعا خفافا فى جريها.
روى أنه عليه السّلام غزا أهل دمشق ونصيبين ، وأصاب ألف فرس ، وقيل : أصابها أبوه من العمالقة ، وورثها منه ، وفيه نظر فإن الأنبياء لا يورثون ، إلا أن يكون تركها حبسا ، فورث النّظر فيها. ويكون عقرها بنية إبدالها. وقيل :
خرجت من البحر لها أجنحة ، فقعد يوما بعد ما صلّى الظهر على كرسيه ، فاستعرضها ، فلم تزل تعرض عليه حتى غربت الشمس ، وغفل عن العصر ، أو : عن الورد ، كان له من الذكر وقتئذ ، وهو أليق بالعصمة ، فاغتم لما فاته ، فاستردها ، فعقرها ، تقربا إلى اللّه تعالى ، وبقي مائة ، فما فى أيدى النّاس اليوم من الجياد فمن نسلها «1».
___________
(1) انظر تفسير البغوي (7/ 88). [.....](5/25)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 26
وقيل : لمّا عقرها أبدل اللّه تعالى له خيرا منها ، وهى الرّيح تجرى بأمره ، فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي ، قاله عليه السّلام عند غروب الشمس ، اعترافا بما صدر عنه من الاشتغال بها عن الصلاة أو الذكر ، وغايته حينئذ : أن الأولى استغراق الأوقات فى ذكر اللّه من الاشتغال بالدنيا ، فترك الأولى ، وتحسر لذلك ، وأمر بالقطع.
وأما حمله على الصلاة والاشتغال بها حتى يفوت الوقت ، فذنب عظيم ، تأباه العصمة. قاله شيخ شيوخنا الفاسى.
وقد يجاب بأنّ تركه كان نسيانا وذهولا ، لا عمدا ، فلا معصية.
وعدّى «أحببت» ب «عن» دون «على» لتضمنه معنى النّيابة ، أي : أنبت حب الخير «1» ، وهو المال الكثير ، والمراد : الخيل التي شغلته عن ذكر ربه ، حَتَّى تَوارَتْ أي : استترت بِالْحِجابِ أي : غربت واحتجبت عن العيون ، و«عن» : متعلق بأحببت ، باعتبار استمرار المحبة ودوامها. حسب استمرار العرض ، أي : أنبت حب الخير عن ذكر ربى ، واستمر ذلك حتى غربت الشمس. وإضمارها من غير تقدم ذكر لدلالة «العشى» عليها.
رُدُّوها عَلَيَّ ، هو من مقالة سليمان ، فَطَفِقَ مَسْحاً ، الفاء فصيحة ، مفصحة عن جملة حذفت ، لدلالة الكلام عليها ، إيذانا بسرعة الامتثال ، أي : فردّوها عليه ، فأخذ يمسح السيف مسحا بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ أي : بسوقها وأعناقها يقطعها ، من قولهم : مسح عنقه بالسيف ، وقيل : جعل يمسح بيده أعناقها وسوقها ، حبا لها ، وإعجابا بها ، وهو ينافى سياق الكلام «2».
الإشارة : لم يذكر الحق تعالى لسليمان ترجمة مخصوصة ، كما ذكر لغيره بقوله : وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ، وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ ، بل خرطه فى سلك ترجمة أبيه ، وجعله هبة له تنبيها على أن مقام أهل الجمال الدنيوي ، لا يبلغ مقام أهل الجلال ففيه تنبيه على أن الفقير الصابر أعظم من الغنى الشاكر. قاله فى القوت.
وقوله تعالى : فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ ، فيه : أن من ترك شيئا عوّضه اللّه خيرا منه ، فمن كان فى اللّه تلفه ، كان على اللّه خلفه. وفيه حجة للصوفية على إتلاف كلّ ما شغل القلب عن اللّه ، كما فعل الشبلي من تمزيق الثياب الرفهة «3». واللّه تعالى أعلم.
___________
(1) أي : أنبت حب الخير عن ذكر ربى ووضعته موضعه.
(2) وقيل معناه : أنه حبسها فى سبيل اللّه ، وكوى سوقها وأعناقها بكىّ الصدقة. وهذا هو الذي رحجه أبو حيان ، لأنه يناسب مناصب الأنبياء ، لا القول الأول فإن فيه ما لا يليق ذكره بالنسبة للأنبياء. انظر البحر المحيط (7/ 380).
(3) قال القرطبي فى تفسير (6/ 5806) : وقد استدل الشبلي وغيره من الصوفية فى تقطيع ثيابهم وتخريقها بفعل سليمان هذا ، وهو استدلال فاسد ، لأنه لا يجوز أن ينسب إلى نبى معصوم أنه فعل الفساد. والمفسرون اختلفوا فى معنى الآية ... وأما إفساد ثوب صحيح لا لغرض صحيح ، فإنه لا يجوز .. انظر بقية كلامه.(5/26)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 27
ثم ذكر امتحانه ، فقال :
[سورة ص (38) : الآيات 34 الى 40]
وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ (34) قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (35) فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ (36) وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (37) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (38)
هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ (39) وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ (40)
يقول الحق جل جلاله : وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ أي : ابتليناه ، وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ سرير ملكه ، جَسَداً شق ولد ، أو جنيا ، ثُمَّ أَنابَ رجع إلى اللّه تعالى ، وأظهر ما قيل فى فتنته عليه السّلام ما روى مرفوعا : أنه قال : لأطوفنّ الليلة على سبعين - أو تسع وتسعين - امرأة ، تأتى كلّ واحدة منهن بفارس ، يجاهد فى سبيل اللّه ، ولم يقل «إن شاء اللّه» فطاف عليهنّ ، فلم تحمل إلا امرأة واحدة ، جاءت بشقّ رجل. قال نبينا عليه الصلاة والسّلام : «والذي نفسى بيده لو قال : إن شاء اللّه ، لجاهدوا فى سبيل اللّه فرسانا أجمعون»»
فالفتنة على هذا : كونه لم يقل : «إن شاء اللّه» والجسد هو شق الإنسان الذي ولد له. وقيل : إنه ولد له ابن ، فأجمعت الشياطين على قتله ، وقالوا : إن عاش له ولد لم ننفك من خدمته ، فلمّا علم ذلك ، حمله فى السحاب ، فما شعر حتى ألقى على كرسيه جسدا ميتا ، فتنبه لخطأه ، حيث لم يتوكل على اللّه.
وقيل : إنه غزا صيدون من الجزائر ، فقتل ملكها ، وأخذ بنتا له تسمى جرادة ، من أحسن النّاس ، فاصطفاها لنفسه ، وأسلمت على جفاء ، وأحبها ، وكان لا يرقأ دمعها ، جزعا على أبيها ، فأمر الشياطين فمثّلوا لها صورته ، فكانت تغدوا عليها وتروح مع ولائدها ، فيسجدن لها ، كعادتهن فى ملكه ، فأخبره صاحبه آصف بذلك ، فكسر الصورة ، وعاقب المرأة ، ثم خرج إلى فلاة ، وفرش له الرّماد ، وجلس عليه تائبا إلى اللّه متضرعا. وكانت له أم ولد ، يقال لها : «أمينة» إذا دخل للطهارة ، أو لإصابة امرأة ، يعطيها خاتمه ، وكان فيها ملكه ، فأعطاها يوما ، فتمثل لها بصورته شيطان ، اسمه «صخر» وأخذ الخاتم ، فتختم به ، وجلس على كرسيه ، فاجتمع عليه الخلق ، ونفذ حكمه فى كل شىء ، إلا فى نسائه ، على المشهور ، وغير سليمان عن هيئته ، فأتى «أمينة» لطلب الخاتم ، فأنكرته وطردته ، فعلم
___________
(1) أخرجه البخاري فى (أحاديث الأنبياء ، باب وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ ح 3424) ومسلم فى (الأيمان ، باب الاستثناء 3/ 1275 ح 1654) من حديث أبى هريرة رضي اللّه عنه.(5/27)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 28
أن الخطيئة قد أدركته ، فكان يطوف على البيوت يتكفف ، وإذا قال : أنا سليمان ، حثوا التراب عليه ، وسبّوه ، ثم عمد إلى السمّاكين ينقل لهم السمك ، فيعطونه كلّ يوم سمكتين ، فمكث على ذلك أربعين صباحا ، عدد ما عبد الوثن فى بيته ، فأنكر آصف وعظماء بنى إسرائيل حكم الشيطان ، حتى دخلوا على نسائه ، فقالوا : قد أنكرنا حكمه ، فذهبوا حتى جلسوا بين يديه ، فنشروا التوراة ، فقرؤوها ، فطار من بين أيديهم ، والخاتم معه ، ثم قذفه فى البحر ، فابتعلته سمكة ، فوقعت فى يد سليمان ، فبقر بطنها ، فإذا هو بالخاتم ، فتختم به ، وخرّ ساجدا للّه ، وعاد إليه ملكه ، وقبض الجنى «صخر» فجعله فى وسط صخرة ، وشد عليه بأخرى ، ثم أوثقهما بالحديد والرّصاص ، وقذفه فى البحر ، فهو باق فيه. فالجسد على هذا عبارة عن «صخر» سمى به ، وهو جسم لا روح فيه لأنه تمثيل بما لم يكن كذلك ، والخطيئة : تغافله عليه السّلام عن حال أهله لأن اتخاذ التماثيل لم يكن محظورا حينئذ ، والسجود للصورة بغير علم منه لا يضره. وأنكر بعض المحققين هذه القصة. وقال : لا يصح ما نقله الأخباريون وأهل التفسير فى هذا الموضع ، من تشبه الشيطان بنبيه ، وتسلطه على ملكه ، وتصرفه فى أمته والجور فى حكمه «1».
قال القاضي عياض : الشياطين لا يتسلطون على مثل هذا ، وقد عصم اللّه الأنبياء عن مثله. ومثله لا بن العربي أيضا. وحكى إنكاره عن السمرقندي. وقال الطيبي : أشبه الأقاويل فى إلقاء الجسد هو شق الولد ، كما تقدم. وخالفه ابن حجر ، فقال : قال غير واحد من المفسرين : أن المراد بالجسد المذكور شيطان ، وهو المعتمد ، فاللّه أعلم ، غير أن التنزيه أسلم.
قال شيخ شيوخنا الفاسى فى حاشيته : وليس هذه كقصة أيوب ، فيما يذكر أنه تسلط الشيطان على إتلاف ماله وولده ، وضرره فى جسده لأن ذلك إنما فيه تسلط على محض ضرر دنيوى لا دينى. وقد قال عليه الصلاة والسّلام : «تفلت علىّ البارحة عفريت ...» الحديث «2». وكذا سحر ، وسمّ وشجّ. والتسلط المذكور فى حق سليمان ، فيه تلبيس فى الدين فلا يصح ، إلا أن يقال : أنه لم يقر ، بل رفع اللبس بعد ذلك ، كما فى آية : فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ «3» ، واللّه أعلم ه.
___________
(1) قال النّسفى - رحمه اللّه - فى تفسيره (3/ 156) : وأما ما يروى من حديث الخاتم ، والشيطان ، وعبادة الوثن فى بيت سليمان عليه السّلام ، فمن أباطيل اليهود. وقال فى البحر المحيط (7/ 381) : نقل المفسرون فى هذه الفتنة وإلقاء الجسد أقوالا ، يجب براءة الأنبياء منها ، يوقف عليها فى كتبهم ، وهى مما لا يحل نقلها ، وإما هى من أوضاع اليهود والزنادقة. للمزيد انظر تفسير ابن كثير (4/ 36) والإسرائيليات والموضوعات فى كتب التفسير (270 - 275).
(2) ولفظه كاملا : «إن عفريتا من الجن تفلت علىّ البارحة ، ليقطع علىّ الصلاة ، فأمكننى الله منه ، فأخذته ، فأردت أن أربطه على سارية من سوارى المسجد ، تنظروا إليه كلكم. فذكرت دعوة أخى سليمان : رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي فرددته خاسئا» أخرجه البخاري فى (الأنبياء ، باب قوله تعالى : وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ح 2423) ومسلم فى (المساجد ، باب جواز لعن الشيطان فى أثناء الصلاة والتعوذ منه. 1/ 384 ح 541) من حديث أبى هريرة رضي اللّه عنه.
(3) من الآية 52 من سورة الحج.(5/28)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 29
قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي ، هو بدل من «أناب» ، أي : اغفر لى ما صدر عنى من الزلة ، وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي ، ليكون معجزة لى ، مناسبة لحالى ، فإنه عليه السّلام لمّا نشأ فى بيت الملك والنّبوة ، وورثهما معّا ، استدعى من ربه معجزة جامعة لحكمهما. أو : لا ينبغى لأحد يسلبه منى بعد هذه السلبة ، أو : لا يصح لأحد من بعدي لعظمته وشدته.
قال القشيري : ويقال : لا ينبغى لأحد من بعد أن يسأل الملك ، بل يجب أن يكل أمره إلى اللّه - ومثله للجنيد ، وزاد : فإن الملك شغل عن المالك - أو : يقال : لا ينبغى لأحد من بعدي من الملوك ، لا من الأنبياء ، وإنما سأل الملك لسياسة النّاس ، وإنصاف بعضهم من بعض ، والقيام بحق اللّه ، ولم يسأله لأجل ميله إلى الدنيا. وهو كما قال يوسف عليه السّلام : اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ ... «1». ثم قال : علم أن نبينا عليه الصلاة والسّلام لا يلاحظ الدنيا ، ولا يملكها ، تحقيرا لها فقال : لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي لا لأنه بخل به عليه ، ولكن لعلمه أنه لا ينظر إلى ذلك.
ه. هذا ، وقد يقال : أن قوله : وَهَبْ لِي مُلْكاً قد جرى على لسانه ، كما هو حال النّطق باللّه من أهل اللّه ، ولذلك كان الأمر كذلك ، ولم يزاحمه أحد ، كقول الخليل» : وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا «2» ، لما جرى به القضاء أنطقه اللّه بما سيكون. وتقديم الاستغفار على الاستيهاب لمزيد اهتمامه بأمر الدين ، جريا على سنن الأنبياء والصالحين ، وكون ذلك أدخل فى الإجابة.
إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ تعليل للدعاء بالهبة والمغفرة معا ، فإن المغفرة من أحكام وصف الوهّابية قطعا ، فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ فذللناها لطاعة ، إجابة لدعوته ، فعاد أمره عليه السّلام إلى ما كان عليه قبل الفتنة ، قيل : فتن سليمان بعد ما ملك عشرين ، وملك بعد الفتنة عشرين ، فسخرت له الرّيح تَجْرِي بِأَمْرِهِ بيان لتسخيرها ، رُخاءً أي : لينة ، من الرّخاوة ، أو : طيبة لا تزعج ، وهذا بعد أن تقلّ السرير من الأرض الإعصار ، فإذا صار فى الهواء حملته الرّخاء الطيبة ، حَيْثُ أَصابَ أي : قصد وشاء ، بلغة حمير. تقول العرب : أصاب الصواب فأخطاء الجواب ، أي : أراد الصواب فأخطأ. قال الشاعر :
أصاب الكلام فلم يستطع فأخطا الجواب لدى المفصل
وَسخرنا له الشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ : بدل من «الشياطين». فكانوا يبنون له ما يشاء ، ويغوصون له فى البحر لاستخراج اللآلئ ، وهو أول من استخرج اللؤلؤ من البحر ، أي : وسخّرنا له كلّ بناء
___________
(1) من الآية 55 من سورة يوسف.
(2) من الآية 129 من سورة البقرة.(5/29)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 30
وغواص من الشياطين ، وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ فكان يقرن مردة الشياطين ، بعضهم مع بعض ، فى القيود والسلاسل ، للتأديب والكف عن العباد.
والصفد : القيد ، وقد يسمى العطاء بالصفد لأنه ارتباط للمنعّم عليه فى يد المنعم. ومنه قول علىّ رضي اللّه عنه : (من برّك فقد أسرك ، ومن جفاك فقد أطلقك) ، ومن هذا كانت الصوفية يهربون من خير النّاس ، أكثر مما يهربون من شرهم. قال الشيخ عبد السّلام بن مشيس لأبى الحسن الشاذلى - رضي اللّه عنهما : يا أبا الحسن اهرب من خير النّاس ، أكثر مما تهرب من شرهم ، فإنّ خيرهم يصيبك فى قلبك ، وشرهم يصيبك فى بدنك ، ولئن تصاب فى بدنك خير من أن تصاب فى قلبك ، ولعدو تصل به إلى ربك خير من حبيب يقطعك عن ربك. ه.
هذا عَطاؤُنا ، هو حكاية لما خوطب به سليمان من قبل الحق تعالى ، أي : وقلنا له هذا الذي أعطيناك من الملك العظيم ، والسلطنة ، والتسلط على ما لم يسلط عليه غيرك ، هو عطاؤنا الخاص بك ، فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ أي :
أعط من شئت ، وامنع من شئت ، بِغَيْرِ حِسابٍ أي : غير محاسب على منّه ومنعه لتفويض التصرف فيه إليك ، فكان إذا أعطى أجر ، وإذا منع لم يأثم ، بخلاف غيره. قال الحسن : إن اللّه لم يعط أحدا عطية إلا جعل فيها حسابا ، إلا سليمان ، فإن اللّه أعطاه عطاء هينا. وهذا مما خص به سليمان عليه السّلام ، وأما غيره ، فيؤخر على بذله ، ويعاقب على منعه من حقه ، وبِغَيْرِ حِسابٍ : قيل : متعلق بعطاؤنا ، وقيل : حال من المستكن فى الأمر ، أي :
هذا عطاؤنا جما كثيرا ، لا يكاد يقدر على حصره ، أو : هذا التسخير عطاؤنا فامنن على من شئت من الشياطين بالإطلاق ، أو : أمسك من شئت منهم فى الوثاق ، لا حساب عليك فى ذلك.
وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى لقربى فى الآخرة ، مع ماله فى الدنيا من الملك العظيم ، وَحُسْنَ مَآبٍ مرجع ، وهى الجنة. وزلفى : اسم إن ، و«له» : خبر ، و«عند» : متعلق بالاستقرار.
روى أن سليمان عليه السّلام لما ورث ملك أبيه ، سار من الشام إلى العراق ، فبلغ خبره كسرى ، فهرب إلى خراسان ، فلم يلبث حتى هلك. ثم سار سليمان عليه السّلام إلى مرو ، ثم إلى بلاد الترك ، فأوغل فيها ، ثم جاز بلاد الصين ، ثم عطف إلى أن وافى بلد فارس ، فنزلها أياما ، ثم عاد إلى الشام ، فأمر بيناء بيت المقدس ، فلما فرغ منه سار إلى تهامة ، ثم إلى صنعاء ، وكان من حديثه مع صاحبتها ما ذكر اللّه ، وغزا بلاد المغرب الأندلس وطنجة وغيرهما.
انظر أبا السعود «1». واللّه تعالى أعلم.
___________
(1) إرشاد العقل السليم (7/ 228).(5/30)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 31
الإشارة : ما أعطى اللّه عبدا مكنة إلا بعد محنة ، ولا رفع مقاما إلا بعد ابتلاء ، إما فى البدن والمال ، وإما فى الدين ، إن صحبه رجوع وانكسار. كأنّ اللّه تعالى إذا أراد أن يرفع عبدا أهبطه إلى أرض قهرية العبودية ، ثم يرفعه إلى مشاهدة عظمة الرّبوبية ، ثم يملكه الوجود بأسره ، يتصرف فيه بهمته كيف شاء. ولذلك قيل فى معصية آدم :
نعمت المعصية أورثت الخلافة. وشاهده حديث : «أنا عند المنكسرة قلوبهم من أجلى» «1». ومن كان اللّه عنده ، ما ذا يفوته؟
وقوله تعالى : وَهَبْ لِي مُلْكاً .. إلخ ، قال القشيري : لم يطلب الملك الظاهر ، وإنما أراد به أن يملك نفسه ، فإن الملك - على الحقيقة - من ملك نفسه ، فمن ملكها لم يتّبع هواه ، - أي : فيكون حرا ، فيملكه اللّه التصرف فى الوجود. ثم قال : ويقال أراد به كمال حاله فى شهود ربه ، حتى لا يرى معه غيره ، ويقال : سأل القناعة التي لا يبقى معها اختيار. ه.
وقوله تعالى : هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ ، هو عند الأولياء ليس خاصا بسليمان ، ف كل من تمكّن مع اللّه التمكن الكبير يفوض إليه الأمر ، ويقال : افعل ما شئت ، وشاهده : حديث أهل بدر. وقال الشيخ أبو الحسن الشاذلى : رضي اللّه عنه يبلغ الولىّ مبلغا يقال له : أصحبناك السلامة ، وأسقطنا عك الملامة ، فاصنع ما شئت. ثم استشهد بالآية فى حق سليمان ، هذا ، وإن كان للنبى من أجل العصمة ، فلمن كان من الأولياء فى مقام الإمامة قسط منه ، من أجل الحفظة.
ثم ذكر أيوب عليه السّلام ، فقال :
[سورة ص (38) : الآيات 41 الى 44]
وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ (41) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ (42) وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (43) وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (44)
___________
(1) سبق تخريج الحديث.(5/31)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 32
يقول الحق جل جلاله : وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ ، وهو ابن عيصو ابن إسحاق عليه السّلام ، أي : من ذريته لأنه بعد يوسف ، وامرأته : رحمة بنت إفرائيم بن يوسف. إِذْ نادى رَبَّهُ ، وهو بدل اشتمال من «عبدنا». و«أيوب» :
عطف له ، أَنِّي أي : بأنى مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ «1» أي : تعب ، وفيه قراءات بفتحتين ، وبضمتين ، وبضم وسكون ، وبنصب وسكون. وَعَذابٍ أي : ألم ، يريد ما كان يقاسيه من فنون الشدائد ، وهو الضر فى قوله : مَسَّنِيَ الضُّرُّ «2» ، وهو حكاية لكلامه الذي ناداه به ، وإلا لقيل : إنه مسه. وإسناده إلى الشيطان على طريق الأدب فى إسناد ما كان فيه كمال إلى اللّه تعالى ، وما كان فيه نقص إلى الشيطان أو غيره ، كقول الخليل : وَإِذا مَرِضْتُ «3» ولم يقل : أمرضنى. وكقول يوشع عليه السّلام : وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ «4». وفى الحقيقة : كل من عند اللّه. وقيل : أراد ما كان يوسوس به إليه فى مرضه ، من تعظيم ما نزل به من البلاء ، ويغريه على الكراهة والجزع ، فالتجأ إلى اللّه فى أن يكفيه ذلك بكشف البلاء ، أو بدفعه ورده بالصبر الجميل.
وروى : أنه كان يعوده ثلاثة من المؤمنين ، فارتد أحدهم ، فسأل عنه ، فقيل : ألقى إليه الشيطان : أن اللّه لا يبتلى الأنبياء والصالحين ، فشكا ذلك إلى ربه. وذكر فى سبب بلائه أنه ذبح شاة فأكلها ، وجاره جائع ، أو : رأى منكرا فسكت عنه ، أو : استغاثه مظلوم فلم يغثه ، أو : كانت مواشيه فى ناحية ملك كافر ، فداهنه ، فلم يغره ، أو : سؤاله امتحانا لصبره ، أي : هل يصبر أم لا ، أو : ابتلاه لرفع درجاته بلا سبب ، وهو أولى «5».
ارْكُضْ بِرِجْلِكَ ، حكاية ما أجيب به أيوب عليه السّلام ، أي : أرسلنا له جبريل عليه السّلام بعد انتهاء مدة مرضه ، فقال له : اركض ، أي : اضرب برجلك الأرض ، وهى أرض موضع بالجابية «6» ، فضربها ، فنبعت عين ، فقيل : هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ أي : هذا ما تغتسل منه ، وتشرب منه ، فيبرأ ظاهرك وباطنك ، وقيل : نبعت له عينان حارة للاغتسال ، وباردة للشرب ، فاغتسل من إحداهما ، فبرئ ما فى ظاهره ، وشرب من الأخرى ، فبرئ ما فى باطنه ، بإذن اللّه تعالى. ومدة مرضه قيل : ثمان عشرة سنة ، وقيل : أربعين ، وقيل : سبع سنين ، وسبعة أشهر ، وسبعة أيام ، وسبع ساعات «7».
___________
(1) قرأ أبو جعفر «بنصب» بضم النّون والصاد ، وقرأ يعقوب بفتحهما ، وقرأ الباقون بضم النّون وسكون الصاد. انظر الإتحاف (2/ 421)
(2) من الآية 83 من سورة الأنبياء.
(3) من الآية 80 من سورة الشعراء. [.....]
(4) من الآية 63 من سورة الكهف.
(5) انظر تفسير النّسفى (3/ 157).
(6) الجابية : موضع بالشام.
(7) راجع (3/ 487) من هذا الكتاب.(5/32)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 33
وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ ، قيل : أحياهم اللّه بأعيانهم ، وزاد مثلهم ، وقيل : جمعهم بعد تفرقهم ، وقيل :
أعطاه أمثالهم وزاده ضعفهم. قال القشيري : وكان له سبع بنات ، وثلاثة بنين ، فى مكتب واحد ، فحرك الشيطان الاسطوانة ، فانهدم البيت عليهم. ه. ولم يذكر كم كان له من الزوجات ، فقد سلمت [منهن ] «1» «رحمة» وهلك الباقي.
أعطيناه ذلك رَحْمَةً مِنَّا أي : رحمة عظيمة عليه من قبلنا. وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ أي : ولنذكرهم بذلك ليصبروا على الشدائد ، ويلتجئوا إلى اللّه فيما ينزل بهم لأنهم إذا سمعوا بما أنعمنا به عليه ، لصبره ، رغبّهم فى الصبر على البلاء.
ولمّا حلف : ليضربنّ امرأته مائة ضربة ، حيث أبطأت عليه فى حاجتها. وقيل : باعت ذوائبها واشترت به رغيفين ، وكانت متعلق أيوب. وقيل : طمع الشيطان فيها أن يسجد زوجها له فيشفيه ، أمره اللّه تعالى ببر يمينه ، فقال : وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً حزمة صغيرة من حشيش أو ريحان ، وعن ابن عباس رضي اللّه عنه : قبضة من الشجر ، فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ ، وهذه الرّخصة باقية عند الشافعي وأبى حنيفة ، خلافا لمالك لأن الأيمان عنده مبنية على الأعراف. قال تعالى : إِنَّا وَجَدْناهُ علمناه صابِراً على البلاء ، وأما شكواه فليست جزعا ، بل رجوعا إلى مولاه ، على أنه عليه السّلام إنما طلب الشفاء خيفة على قومه ، حيث كان الشيطان يوسوس إليهم ، لو كان نبيا لما ابتلى بمثل ما ابتلى به ، وإرادة القوة على الطاعة ، فقد بلغ أمره إلى أن لم يبق منه إلا القلب واللسان. قلت :
طلب الشفاء لا ينافى الرّضا لأن العبد ضعيف ، لا قوة له على قهرية الحق. ثم قال تعالى : نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ رجّاع إلى اللّه تعالى. قال القشيري : لم يشغله البلاء عن المبلى. وهو تعليل لمرضه.
الإشارة : كثير من الصوفية اختاروا البلاء على العافية ، وبعضهم اختار العافية ، قال علىّ رضي اللّه عنه : لأن أعطى فأشكر أحب إلىّ من أن أبتلى فأصبر ، أي : لأنه طريق السلامة ، وبه وردت الأحاديث ، والأولى للعبد ألا يختار مع سيده شيئا ، بل يكون مفوضا مستسلما ، يتلقى ما يرد عليه بالترحيب ، أىّ شىء كان. وباللّه التوفيق.
ثم ذكر إبراهيم وبنيه ، فقال :
[سورة ص (38) : الآيات 45 الى 47]
وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ (45) إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (46) وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ (47)
___________
(1) فى الأصول [منهم ].(5/33)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 34
يقول الحق جل جلاله : وَاذْكُرْ عِبادَنا ، وقرأ المكي «1» : «عبدنا» ، إما على إرادة الخبر ، وإما أن يريد «إبراهيم» وحده لشرفه ، ثم عطف عليه من بعده ، ثم بيّنهم بقوله : إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ أي : أولى القوة فى الطاعة والبصيرة فى الدين ، أو : أولى الأعمال الجليلة ، والعلوم الشريفة. فعبّر بالأيدى عن الأعمال لأن أكثرها تباشر بها ، وبالأبصار عن المعارف لأنها أقوى مبادئها. وفيه تعريض بالجهلة الباطلين ، كأنهم كالزّمنى والعماة ، وتوبيخ على ترك المجاهدة والفكرة مع تمكنهم منهما.
إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ أي : جعلناهم خالصين لنا بخصلة عظيمة الشأن ، لا شوب فيها ، هى ذِكْرَى الدَّارِ أي : تذكر للدار الآخرة على الدوام ، فإنّ خلوصهم فى الطاعة بسبب تذكرهم لها ، وذلك لأن مطمح أنظارهم ، ومسرح أفكارهم ، فى كلّ ما يأتون وما يذرون ، جوار اللّه عز وجل ، والفوز بلقائه ، ولا يتأتى ذلك على الدوام إلا فى الآخرة ، فمطلبهم إنما هو الجوار والرّؤية ، لا مجرد الحضور فى تلك الدار ، كما قال ابن الفارض - رضي اللّه عنه :
ليس سؤلى من الجنان نعيما غير أنّى أريدها لأراك
قال ابن عطية : يحتمل أن يكون معنى الآية : إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بأن خلص لهم التذكير بالدار الآخرة ، ودعاء الناس إليها ، أي : وتزهيدهم فى الدنيا ، كما هو ديدن الأنبياء والرّسل. وهذا قول قتادة ، أو : إنا أخلصناهم بأن خلص لهم ذكرهم للدار الآخرة وخوفهم والعمل بحسب ذلك. وهذا قول مجاهد. ه. قلت : مرتبة الرّسل تنافى العمل لحرف ، فإنّ أولياء هذه الأمة تحرروا من العمل للحرف ، بل عبدوا اللّه شكرا ومحبة وعبودية ، لا طعما فى شىء ، فكيف بأكابر الرّسل. وإطلاق الدار للإشعار بأنها الدار فى الحقيقة ، وإنما الدنيا معبر إليها.
ومن قرأ بالإضافة «2» ، فمن إضافة الشيء إلى ما بيّنه لأن الخالصة تكون ذكرى وغير ذكرى ، و«ذكرى» :
مصدر مضاف إلى المفعول ، أي : بإخلاصهم ذكرى الدار. وقيل : خالصة بمعنى خلوص ، وهى مضافة إلى الفاعل ، أي : بأن خلصت لهم ذكرى الدار ، على أنهم لا يشوبون ذكرى الدار بشىء آخر ، إنما همّهم ذكرى الدار الآخرة لجوار الحبيب.
___________
(1) وهو ابن كثير الداري ، أحد القراء السبعة.
(2) أي : «خالصة» بغير تنوين ، مضافا للبيان ، كما فى «بشهاب قبس». وبها قرأ نافع وأبو جعفر. انظر الإتحاف (2/ 422)(5/34)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 35
وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ المختارين من بين أبناء جنسهم الْأَخْيارِ : جمع خير ، أو : خير ، على التخفيف ، كأموات جمع ميّت ، أو : ميت.
الإشارة : أولياء هذه الأمة - أي : العارفون باللّه - يزاحمون الأنبياء والرّسل فى جلّ المراتب ، قال عليه السّلام : «علماء أمتى كأنبياء بنى إسرائيل» «1» أي : العلماء باللّه فإنهم لم يقفوا مع دنيا ولا مع آخرة ، بل حطوا هممهم على اللّه ، ولم يقصدوا شيئا سواه ، خلعوا النّعلين عن الكونين ، وركضوا إلى المكوّن ، وكانت لهم اليد الطولى فى عمل الطاعات عبوديّة ، والبصيرة النّافذة فى مشاهدة الرّبوبية ، هذه طريقهم ، وهذا مذهبهم ، ومن حاد منهم عن هذا لم يعدّوه منهم. جعلنا اللّه ممن خرط فى سلكهم.
ثم ذكر بقية بنيه ، فقال :
[سورة ص (38) : آية 48]
وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ (48)
يقول الحق جل جلاله : وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ ، فصل ترجمته عن أبيه وأخيه للإشعار بعلو شأنه ، واستقلاله بالشرف والذكر ، ولعراقته فى الصبر ، الذي هو المقصود بالتذكير ، وهو أكبر بنيه. وَاذكر الْيَسَعَ بن خطوب «2» بن العجوز ، استعمله إلياس على بنى إسرائيل ، ثم استنبئ. و«ال» فيه ، قيل : للتعريف ، وأصله : يسع ، وقيل : زائدة لأنه عجمى علم ، وقيل : هو يوشع ، وَذَا الْكِفْلِ وهو ابن عم اليسع ، أو : بشر بن أيوب. واختلف فى نبوته وسبب لقبه ، فقيل : فرّ إليه مائة نبى من بنى إسرائيل ، خوفا من القتل ، فآواهم وكفلهم ، وقيل : تكفل بعبادة رجل صالح كان فى وقته. وَكُلٌّ أي : وكلهم مِنَ الْأَحْبارِ المشهورين بالخيرة.
الإشارة : إنما كان هؤلاء مصطفين أخيارا بالوفاء بالعهود ، والوقوف مع الحدود ، والصبر على طاعة الملك المعبود ، وتحمل ما يقرب إلى حضرة الشهود. ف كل من اتصف بهذه الخصال كان من المصطفين الأخيار.
ثم ذكر عامة المؤمنين ، أو : ما أعد لمن ذكر آجلا ، بعد ذكرهم الجميل عاجلا ، فقال :
[سورة ص (38) : الآيات 49 الى 54]
هذا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (49) جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ (50) مُتَّكِئِينَ فِيها يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرابٍ (51) وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ أَتْرابٌ (52) هذا ما تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسابِ (53)
إِنَّ هذا لَرِزْقُنا ما لَهُ مِنْ نَفادٍ (54)
___________
(1) قال فى كشف الخفاء (2/ 83 ، ح 1744) : «قال السيوطي فى الدرر : لا أصل له. وقال فى المقاصد : قال شيخنا - يعنى ابن حجر - ومن قبله الدميري والزركشي : إنه لا أصل له. زاد بعضهم : ولا يعرف فى كتاب معتبر». وانظر أيضا العلل المتناهية (ح 702).
(2) فى نسخة [قطوب ].(5/35)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 36
قلت : (جنات) : عطف بيان لحسن مآب ، أو : بدل. و(مفتحة) : حال من (جنات عدن). والعامل فيها :
الاستقرار فى (للمتقين). و(الأبواب) : نائب الفاعل لمفتّحة. والرّابط بين الحال وصاحبها : إما ضمير مقدّر ، كما هو رأى البصريين ، أي : الأبواب منها ، أو : الألف واللام القائم مقامه ، كما هو رأى الكوفيين ، أي : أبوابها. و(متكئين) :
حال من ضمير (لهم) ، والعامل فيه : (مفتحة). و(يدعون) : إما استئناف ، أو : حال مما ذكر ، أو : من ضمير (متكئين).
يقول الحق جل جلاله : هذا أي : هذا الذي ذكر من الآيات النّاطقة بمحاسن الأنبياء والرّسل ، ذِكْرٌ أي : شرف لهم ، وذكر جميل يذكرون به أبدا ، أو : نوع من الذكر ، أي : القرآن. وآي منه مشتمل على أنباء الأنبياء ، أو : تذكير ووعظ لأنه يذكر أحوال الأكابر ليقتدى بهم ، أو : ذكر من مضى الأنبياء ، أو : شرف لك لأنه معجزة لك يدلّ على صدقك ، وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ أي : جنس المتقين ، أو : من ذكر من الرّسل ، عبّر عنهم بالمتقين مدحا لهم بالتقوى إذ هى غاية الكمال. لَحُسْنَ مَآبٍ مرجع.
ثم بيّنه بقوله : جَنَّاتِ عَدْنٍ إقامة مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ فإذا جاءوها لا يلحقهم ذلّ الحجاب ، ولا كلفة الاستئذان ، تستقبلهم الملائكة بالتبجيل والترحيب ، مُتَّكِئِينَ فِيها على أرائكهم فى حجالهم ، يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ مما يشتهون وَشَرابٍ كثير كذلك ، حذف اكتفاء بالأول ، والاقتصار على دعاء الفاكهة للإيذان بأن مطاعمهم لمحض [التفكه ] «1» والتلذذ ، دون التغذي والحاجة ، فإنه لا تحلل فى الأبدان ولا حاجة.
وَعِنْدَهُمْ حور قاصِراتُ الطَّرْفِ على أزواجهن ، لا ينظرون إلى غيرهم ، أَتْرابٌ لدات ، أسنانهنّ كأسنانهم. قيل : ثلاث وثلاثون سنة لكل واحد ، أو : مستويات فى الحسن والجمال والشكل لأن التحاب بين الأقران أبلغ وأثبت ، وقيل : أتراب بعضهن لبعض ، لا عجوز فيهن ولا صبية. واشتقاقه من التراب ، فإنه [يمسّهن ] «2» فى وقت واحد.
___________
(1) فى الأصول [الفاكهة].
(2) فى الأصول الخطية [يمسهم ].(5/36)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 37
هذا ما تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسابِ ، قال ابن عرفة : اللام للتوقيت ، أي : عنده ، أو : للتعليل ، فإن الحساب علّة للوصول إلى الجزاء. وقرأ المكي والبصري بياء الغيب ، ليوافق ما قبله ، والالتفات أليق بمقام الامتنان والتكريم. إِنَّ هذا الذي ذكر من ألوان النّعيم والكرامات لَرِزْقُنا أعطيناكموه ، ما لَهُ مِنْ نَفادٍ من انقطاع وتمام أبدا.
الإشارة : كل من توجه إلى اللّه بكليته ، واتصف بمحاسن الأخلاق ، كان له ذكر وشرف فى الدنيا ، وكرامة فى العقبى ، بما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر.
ثم ذكر أضدادهم بقوله :
[سورة ص (38) : الآيات 55 الى 64]
هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (55) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمِهادُ (56) هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (57) وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ (58) هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لا مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ (59)
قالُوا بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا فَبِئْسَ الْقَرارُ (60) قالُوا رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ (61) وَقالُوا ما لَنا لا نَرى رِجالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ (62) أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ (63) إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (64)
قلت : (هذا) : خبر ، أي : الأمر هذا ، أو : مبتدأ أي : هذا كما ذكر ، وهو من الاقتضاب «1» الذي يقرب من التخلص «2» ، كقوله بعد الحمد : أما بعد. قال السعد : هو من فصل الخطاب ، الذي هو أحسن موقعا من التخلص. قال :
وقد يكون الخبر مذكورا كقوله : هذا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ .. الآية. ه. قال الطيبي : هو من فصل الخطاب ، على التقدير الأول ، لا الثاني. ه. أي : إذا كان خبرا عن مضمر ، لا ما إذا ذكر الخبر.
يقول الحق جل جلاله : هذا
أي : الأمر هذا ، وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ مرجع جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها يدخلونها ، حال من جهنم ، فَبِئْسَ الْمِهادُ : الفراش ، شبّه ما تحتهم من النّار بالمهاد الذي يفرش للنائم ، والمخصوص محذوف ، أي : جهنم.
___________
(1) الاقتضاب عند البلغاء : الانتقال مما افتتح به الكلام إلى المقصود من غير مناسبة ، كقولك بعد حمد اللّه : أما بعد فقد فعلت كذا وكذا. انظر محيط المحيط (ص 742).
(2) التخلص عند البلغاء : الانتقال مما افتتح به الكلام إلى المقصود مع رعاية المناسبة. انظر محيط المحيط (ص 248).(5/37)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 38
هذا فَلْيَذُوقُوهُ أي : ليذوقوا هذا فليذوقوه ، كقوله تعالى : وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ «1» أو : العذاب هذا فليذوقوه ، وهو حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ .. إلخ ، أو : (هذا) : مبتدأ ، و(حميم وغساق) : خبر ، وما بينهما اعتراض ، والغساق :
ما يغسق ، أي : يسيل من صديد أهل النّار ، يقال : غسقت العين إذا سال دمعها. وقيل : الحميم يحرق بحرّه ، والغساق يحرق ببرده. قيل : «لو قطرت منه قطرة بالمشرق لأنتنت أهل المغرب ، ولو قطرت بالمغرب لأنتنت أهل المشرق ، وقيل : الغساق : عذاب لا يعلمه إلا اللّه. وهو بالتخفيف والتشديد ، قرىء بهما «2».
وَآخَرُ أي : وعذاب آخر ، أو : مذوق آخر ، مِنْ شَكْلِهِ من مثل العذاب المذكور. وقرأ البصري :
«أخر» بالجمع ، أي : ومذوقات أخر من شكل هذا العذاب فى الشدّة والفظاعة ، أَزْواجٌ أي : أصناف ، وهو خبر لآخر ، أو : صفة له ، أو : للثلاثة.
هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ ، حكاية لما يقوله الخزنة للطاغين إذا دخلوا النّار ، واقتحمها معهم فوج كانوا يتبعونهم فى الكفر والضلالة. والاقتحام : الدخول فى الشيء بشدة ، أو : من كلام الطاغين بعضهم من بعض.
لا مَرْحَباً بِهِمْ ، هو من تمام كلام الخزنة ، على الأول ، أو : من كلام الطاغين ، دعاء منهم على أتباعهم. يقال لمن يدعو له أو يفرح به : مرحبا ، أي : وجدت مكانا رحبا ، لا ضيقا ، ثم تدخل عليه النّفى فى دعاء السوء ، فتقول :
لا مرحبا. و«بهم» : بيان للمدعو عليهم ، إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ أي : داخلوها. وهو تعليل لاستحقاقهم الدعاء عليهم.
وقيل : (هذا فوج ...) إلخ ، من كلام الخزنة لرؤساء الكفرة. و(لا مرحبا بهم ...) إلخ ، من كلام الرّؤساء.
قالُوا أي : الأتباع : بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ أي : الدعاء الذي دعوتم به علينا أنتم أحقّ به ، وعللوا ذلك بقوله : أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا أي : إنكم دعوتمونا للكفر ، فتبعناكم ، فقدمتمونا به للعذاب ، فَبِئْسَ الْقَرارُ أي : بئس المقر جهنم ، قصدوا بذمها تغليظ جناية الرّؤساء عليهم. قالُوا أي : الأتباع ، معرضين عن خصومتهم ، متوجهين إلى اللّه : رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً أي : مضاعفا. فِي النَّارِ أو : ذا ضعف ، ومثله قوله : رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً «3» ، وهو أن يزيد على عذابه مثله.
___________
(1) من الآية 40 من سورة البقرة. [.....]
(2) قرأ حمزة والكسائي وحفص بالتشديد. وخففها الآخرون. انظر الإتحاف (2/ 423).
(3) من الآية 38 من سورة الأعراف.(5/38)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 39
وَقالُوا أي : الرؤساء : ما لَنا لا نَرى رِجالًا ، يعنون : فقراء المسلمين ، كُنَّا نَعُدُّهُمْ فى الدنيا مِنَ الْأَشْرارِ من الأرذال الذين لا خير فيهم ولا جدوى ، حيث كانوا يسترذلونهم ويسخرون منهم ، أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا ، بهمزة الاستفهام ، سقطت لأجلها همزة الوصل. والجملة : استئنافية ، ومن قرأ بالوصل «1» فقط فالجملة : صفة ثانية لرجال ، أَمْ زاغَتْ مالت عَنْهُمُ الْأَبْصارُ ، والمعنى على الاستفهام : أتخذناهم سخريا وليسوا كذلك ، فلم يدخلوا معنا النّار فهم فى الجنة ، أم دخلوها معنا ، ولكن مالت عنهم أبصارنا ، فلا نراهم معنا؟ وعلى الاستخبار : ما لنا لا نرى رجالا معنا فى النّار ، كانوا عندنا أشرار ، قد اتخذناهم سخريا نسخر بهم ، ثم أضربوا وقالوا : بل زاعت عنهم الأبصار ، فلا نراهم فيها ، وإن كانوا معنا ، أو : زاغت أبصارنا ، وكلّت أفهامنا عنهم ، حتى خفى علينا مقامهم ، وأنهم على الحق ونحن على الباطل ، وما تبعناهم. ومن قرأ «سخريا» بالضم «2» فمن :
التسخير والاستخدام. ومن قرأ بالكسر ، فمن السخر ، الذي هو الهزء. وجوز فى القاموس الضم والكسر فيهما معا ، فراجعه.
إِنَّ ذلِكَ الذي حكى من أحوالهم لَحَقٌّ لا بد من وقوعه البتة ، وهو تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ فيها على ما تقدم.
ولمّا شبّه تفاوضهم ، وما يجرى بينهم من السؤال والجواب ، بما يجرى بين المتخاصمين ، سمّاه تخاصما ، وبأنّ قول الرّؤساء : لا مَرْحَباً وقول الاتباع : بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ من باب الخصومة لا محالة ، فسمى التقاول كله تخاصما لا شتماله على ذلك.
الإشارة : كل من تعدى وطغى ، ولم يتب ، من المؤمنين ، يرى شيئا من أهوال الكفرة ، فلا يدخل الجنة حتى يتخلص ، وكلّ من سخر بالفقراء يسقط فى الحضيض الأسفل ، ويكون سكناه فى أسفل الجنة ، فيقول : ما لنا لا نرى معنا رجالا كنا نعدّهم من المبتدعة الأشرار ، اتخذناهم سخريا ، وهم كبراء عند اللّه ، رفعوا عنا ، أم هم معنا ولكن زاغت عنهم الأبصار؟ فيجابون : بأنهم رفعوا مع المقربين ، كانوا مشتغلين بنا ، وكنتم منهم تضحكون. إنى جزيتهم اليوم بما صبروا أنهم هم الفائزون بالقرب ومشاهدة طلعتنا ، فى كلّ حين ، وباللّه التوفيق.
___________
(1) قرأ أبو عمرو ، وحمزة ، والكسائي ، ويعقوب «اتخذناهم» بوصل الهمزة بما قبلها ، وبكسر الألف عند الابتداء. وقرأ الباقون بقطع الألف وفتحها ، على الاستفهام. انظر الإتحاف (2/ 423).
(2) قرأ بضم السين نافع ، وحمزة ، والكسائي ، وأبو جعفر. وقرأ الباقون بكسرها.(5/39)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 40
ثم قرر تحقيق الرّسالة والوحدانية ، فقال :
[سورة ص (38) : الآيات 65 الى 70]
قُلْ إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (65) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (66) قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (67) أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (68) ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (69)
إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلاَّ أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (70)
يقول الحق جل جلاله : قُلْ يا محمد للمشركين : إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ من جهته تعالى ، أنذركم عذابه ، وَما مِنْ إِلهٍ فى الوجود إِلَّا اللَّهُ الْواحِدُ الذي لا يقبل الشركة أصلا ، الْقَهَّارُ لكل شىء سواه ، رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا من المخلوقات ، فكيف يتوهم أن يكون له شريك منها ، الْعَزِيزُ الذي لا يغلب الْغَفَّارُ المبالغ فى المغفرة لمن يشاء. وفى هذه النّعوت من تقرير التوحيد ، والوعد للموحّدين ، والوعيد للمشركين ، ما لا يخفى. وتثنية ما يشعر بالوعيد من وصف القهر والعزة وتقديمهما على وصف المغفرة لتقوية الإنذار.
قُلْ هُوَ أي : ما نبأتكم به من كونى رسولا ، وأنّ اللّه واحد لا شريك له ، نَبَأٌ عَظِيمٌ وارد من جهته تعالى ، لا يعرض عن مثله إلا غافل منهمك. أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ غافلون ، وعن ابن عباس : النبأ العظيم :
القرآن. وعن الحسن : يوم القيامة. وتكرير الأمر للإيذان بأن المقول أمر جليل ، له شأن خطير ، لا بد من الاعتناء به ، أمرا وائتمارا.
ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ ، احتجاج على صحة نبوته ، بأن ما ينبئ به عن الملأ الأعلى ، واختصامهم ، أمر غيبى ، لم يكن له به علم قطّ ، ثم علمه وأخبر به ، ولم يسلك الطريق الذي سلكه النّاس فى علم ما لم يعلموا ، وهو الأخذ عن أهل العلم ، ودراسة الكتب ، فتحقق أن ذلك لم يحصل له إلا بالوحى من اللّه تعالى. والملأ الأعلى هم الملائكة ، وآدم ، وإبليس لأنهم كانوا فى السماء ، وكان اختصامهم : التقاول بينهم ، كقولهم :
أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها ... «1» إلخ ، وكقول إبليس : أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ ... «2» إلخ ، ويدل عليه ما يأتى من الآيات. وقيل : اختصامهم فى الكفارات وغفران الذنوب ، فإن العبد إذا فعل حسنة اختلفت الملائكة فى قدر ثوابه ، حتى يقضى اللّه ما شاء.
___________
(1) الآية 30 من سورة البقرة.
(2) من الآية 12 من سورة الأعراف ، والآية 76 من سورة «ص».(5/40)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 41
وروى فى هذا حديث ، وهو أنه - عليه الصلاة والسّلام - قال له ربه - عز وجل - فى النّوم : «أتدري فيما يختصم الملأ الأعلى؟ قلت : لا ، قال : اختصموا فى الكفارات والدرجات ، فأما الكفارات فإسباغ الوضوء على المكاره ، ونقل الأقدام إلى الجماعات ، وانتظار الصلاة بعد الصلاة ، وأما الدرجات فإفشاء السّلام ، وإطعام الطعام ، والصلاة بالليل والنّاس نيام» «1». رواه الترمذي.
و«إذ يختصمون» : متعلق بمحذوف يقتضيه المقام إذ المراد نفى علمه - عليه الصلاة والسّلام - بحالهم لا بذواتهم ، والتقدير : ما كان لى فيما سبق علم بما يوحيه فى شأن الملأ الأعلى وقت اختصامهم. وانظر أبا السعود.
إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ أي : ما يوحى إلىّ ما يوحى من الأمور الغيبية ، التي من جملتها حال الملأ الأعلى ، إلا لأنما أنا نذير مبين من جهته تعالى ، فحذف اللام وانتصب بإيصال الفعل إليه ، ويجوز أن يرتفع بالنيابة عن الفاعل ، أي : ما يوحى إلىّ إلا هذا ، وهو أن أنذر وأبلّغ ، ولا أفرط فى ذلك ، أي : ما أومر إلا بهذا الأمر وحده ، وليس إلىّ غير ذلك. وقرىء بكسر «إنما» «2» على الحكاية ، أي : إلا هذا القول ، وهو : أن أقول لكم : إنما أنا نذير مبين ، ولا ادّعى شيئا آخر.
الإشارة : تربية اليقين تطلب فى ثلاثة أمور فى توحيد الألوهية ، بالتبري من الشرك الجلّى والخفي. وهو مفاد قوله : وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللَّهُ ... إلخ. وفى تصديق الواسطة ، وهو النّذير المبين ، بتعظيمه واتباع سنته ومنهاجه القويم ، وفى التصديق بما جاء به ، وهو النّبأ العظيم ، على أىّ تفسير كان ، إما القرآن ، باتباعه ، والتدبر فى معانيه ، أو : يوم القيامة ، بالتأهب له ، وجعله نصب العين. وباللّه التوفيق.
ثم فسّر الاختصام المتقدم ، فقال :
[سورة ص (38) : الآيات 71 الى 85]
إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ (71) فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (72) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (73) إِلاَّ إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ (74) قالَ يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ (75)
قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (76) قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (77) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ (78) قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (79) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (80)
إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (81) قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83) قالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (84) لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (85)
___________
(1) أخرجه الترمذي فى (التفسير - سورة «ص» ح 3234 و3235) من حديث ابن عباس ، ومعاذ بن جبل - رضي اللّه عنهما.
وقال عن حديث ابن عباس : حسن غريب. وعن حديث معاذ : حسن صحيح.
(2) وهى قراءة أبى جعفر المدني. انظر الإتحاف (2/ 424).(5/41)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 42
قلت : (إذ قال) : متعلق بيختصمون ، أو : بدل من (إذ) قبله ، أو : باذكر. و«الحق» : فمن نصبه ، فعلى حذف فعل القسم ، كقولك : اللّه لأفعلن ، أي : أقسم بالحق ، فحذفت الباء ووصل الفعل به ، ومن رفعه فمبتدأ ، أي : الحقّ منى ، أو :
خبر ، أي : أنا الحق. والحق الثاني : مفعول «أقول» ، والجملة : معترضة بين القسم وجوابه ، وهو : (لأملأن).
يقول الحق جل جلاله فى تفسير الاختصام المذكور : إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ حين أراد خلق آدم ، إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ ، وقال : إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها «1». والتعرض لعنوان الرّبوبية ، مع الإضافة إلى ضميره - عليه الصلاة والسّلام - لتشريفه صلّى اللّه عليه وسلم ، والإيذان بأنّ وحي هذا النّبأ إليه تربية وتأييد له. والكاف وارد باعتبار حال الآمر ، لكونه أدلّ على كونه وحيا منزلا من عنده تعالى ، كما فى قوله تعالى : ... يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا ... «2» إلخ ، دون حال المأمور ، وإلا لقال : ربى لأنه داخل فى حيز الأمور.
فَإِذا سَوَّيْتُهُ أي : صوّرته بالصورة الإنسانية ، والخلقة البشرية ، أو : سويت أجزاء بدنه ، بتعديل أعضائه ، وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي الذي خلقته قبل ، وأضافه إليه تخصيصا ، كبيت اللّه ، وناقة اللّه. والرّوح سر من أسرار اللّه ، لطيفة ربانية ، سارية فى كثيفة ظلمانية ، فإذا سرت فيه حيى بإذن اللّه ، أي : فإذا أحييته فَقَعُوا أي : اسقطوا لَهُ ، وهو أمر ، من وقع ، ساجِدِينَ قيل : كان انحناء يدلّ على التواضع ، وقيل : كان سجودا للّه ، أو سجود تحية لآدم وتكريما له.
___________
(1) من الآية 30 من سورة البقرة.
(2) من الآية 54 من سورة الزمر.(5/42)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 43
فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ ، «كل» للإحاطة ، و«أجمعون» للاجتماع ، فأفاد أنهم سجدوا عن آخرهم جميعا ، فى وقت واحد ، غير متفرقين فى أوقات. وظاهر هذه الآية وما فى سورة الحجر «1» : أن الأمر بالسجود كان تعليقيا ، لا تنجيزيا ، فأمرهم بالسجود قبل أن يخلقه ، بل حين أعلمهم بخلقه ، فلما خلقه سجدوا ممتثلين للأمر الأول ، وظاهر ما فى البقرة والأعراف والإسراء والكهف : أن الأمر كان تنجيزيا بعد خلقه ، والجمع بينهما : أنه وقع قبل وبعد ، أو : اكتفى بالتعليقى ، كما يقتضيه الحديث ، حيث قال له بعد نفخ الرّوح فيه : «اذهب فسلّم على أولئك الملائكة ، فسلّم عليهم ، فردوا عليه وسجدوا له». واللّه تعالى أعلم بغيبه.
إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ أي : تعاظم عن السجود ، والاستثناء متصل إن قلنا : كان منهم ، حيث عبد عبادتهم ، واتصف بصفاتهم ، مع كونه جنيا ، أو : منقطع ، أي : لكن إبليس استكبر ، وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ أي : صار منهم بمخالفته للأمر ، واستكباره عن الطاعة ، أو : كان منهم فى علم اللّه.
قالَ يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ أي : عن السجود لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ، بلا واسطة أب ولا أم ، امتثالا لأمرى ، وإعظاما لخطابى ، ولمّا كانت الأعمال تباشر فى الغالب باليد ، أطلقت على القدرة. والتثنية لإبراز كمال الاعتناء بخلقه عليه السّلام ، المستدعى لإجلاله وإعظامه ، قصدا إلى تأكيد الإنكار ، وتشديد التوبيخ. وسيأتى فى الإشارة بقية الكلام فى سر التثنية. قال له تعالى : أَسْتَكْبَرْتَ ، بهمزة الاستفهام ، وطرح همزة الوصل ، أي :
أتكبرت من غير استحقاق ، أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ المستحقين للتفوق ، أو : أستكبرت عن السجود ولم تكن قبل ذلك من المتكبرين ، أم كنت قبل ذلك من المتكبرين على ربك؟.
قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ ، ولا يليق أن يسجد الفاضل للمفضول ، كقوله : لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ «2» ، وبيّن فضيلته فى زعمه بقوله : خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ ، يعنى لو كان مخلوقا من نار لما سجدت له لأنه مخلوق مثلى ، فكيف أسجد لمن هو دونى لأنه طين ، والنّار تغلب الطين وتأكله ، ولقد أخطأ اللعين ، حين خصّ الفضل بما من جهة المادة والعنصر ، وغاب عنه ما من جهة الفاعل ، كما أنبأ عنه قوله تعالى : لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ، وما من جهة الصورة كما نبّه عليه قوله تعالى : وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي ، وما من جهة الغاية ، وهو ما خصّه به من علوم الحكمة ، التي ظهرت بها مزيته على الملائكة ، حتى أمروا بالسجود ، لما ظهر أنه أعلم منهم بما تدور عليه أمر الخلافة فى الأرض ، وأن له خواص ليست لغيره.
___________
(1) فى قوله تعالى : فَإِذاسَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ ، فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ
الآيتان 29 - 30.
(2) الآية 30 من سورة الحجر.(5/43)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 44
قالَ فَاخْرُجْ مِنْها من الجنة ، أو : من زمرة الملائكة ، وهو المراد بالأمر بالهبوط ، أو : من السموات ، أو :
من الخلقة التي أنت فيها ، وانسلخ منها ، فإنه كان يفتخر بخلقته ، فغيّر اللّه خلقته ، فاسودّ بعد ما كان أبيض ، وقبح بعد ما كان حسنا ، وأظلم بعد ما كان نوراينا. فَإِنَّكَ رَجِيمٌ أي : مرجوم ، مطرود ، من كل خير وكرامة. أو : شيطان يرجم بالشهب.
وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إبعادى من الرّحمة. وتقييدها هنا ، وإطلاقها فى قوله : وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ «1» لأن لعنة اللاعنين من الثقلين والملائكة أيضا من جهته تعالى ، وأنهم يدعون عليه بلعنة اللّه وإبعاده من الرّحمة ، إِلى يَوْمِ الدِّينِ إلى يوم الجزاء والعقوبة ، ولا يظن أن لعنته غايتها يوم الدين ، ثم تنقطع ، بل فى الدنيا اللعنة وحدها ، ويوم القيامة يقترن بها العذاب ، فيلقى يومئذ من ألوان العذاب ، وأفانين العقاب ، ما ينسى به اللعنة ، وتصير عنده كالزائد. أو : لمّا كان عليه اللعنة فى أوان الرّحمة ، فأولى أن يكون عليه اللعنة فى غير أوانها ، وكيف ينقطع ، وقد قال تعالى : فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ «2» وهو إمامهم؟.
قالَ إبليس : رَبِّ فَأَنْظِرْنِي أمهلنى وأخّرنى ، أي : إذا جعلتنى رجيما فأمهلنى ولا تمتنى ، إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ أي : آدم وذريته للجزاء بعد فنائهم. وأراد بذلك فسحته لإغوائهم ، وليأخذ منهم ثأره ، وينجو من الموت بالكلية إذ لا موت بعد البعث ، قالَ تعالى : فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ ، وهو وقت النّفخة الأولى ، ومعنى «معلوم» أنه معلوم عند اللّه ، لا يتقدم ولا يتأخر. وورود الجواب بالجملة الاسمية مع التعرّض لشمول ما سأله لآخرين ، على وجه يشعر بكون السائل تبعا لهم فى ذلك ، دليل واضح على أنه إخبار بالإنظار المقدر لهم أزلا ، لا إنشاء لإنظار خاص به ، قد وقع إجابة لدعائه ، أي : إنك من جملة الذين أخرت آجالهم أزلا ، حسبما تقتضيه حكمة التكوين.
قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ، أقسم بعزة اللّه ، وهو سلطانه وقهره على إغواء بنى آدم ، بتزيين المعاصي والكفر ، إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ، وهم الذين أخلصهم اللّه للإيمان به وطاعته ، وعصمهم من الغواية ، أو : الذين أخلصوا قلوبهم وأعمالهم للّه فى قراءة الكسر «3».
___________
(1) من الآية 35 من سورة الحجر.
(2) من الآية 44 من سورة الأعراف. [.....]
(3) قرأ بكسر اللام فى «المخلصين» ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر. اسم فاعل. وقرأ الباقون بفتحها ، اسم مفعول. انظر السبعة ، 348 والإتحاف (2/ 324).(5/44)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 45
قالَ تعالى : فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ أي : أقسم بالحق ولا أقول إلا الحق ، أو : الحق قسمى «1» وأقول الحق : لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ من جنسك ، وهم الشياطين ، وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ من ذرية آدم أَجْمَعِينَ أي : لأعمرنّ جهنم من المتبوعين والتابعين أجمعين ، لا أترك منهم أحدا.
الإشارة : التجلي بهذا الهيكل الآدمي فاق جميع التجليات ، وصورته البديعة فاقت جميع الصور ، ولذلك لم يقل الحق تعالى فى شىء أنه خلقه فى أحسن تقويم إلا الآدمي ، وذلك لأنه اجتمع فيه الضدان ، واعتدل فيه الأمران الظلمة والنّور ، الحس والمعنى ، الروحانية والبشرية ، القدرة والحكمة. ولذلك قال تعالى فيه : لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ، ولم يقله فى غيره ، أي : خلقته بيد القدرة ويد الحكمة. فالقدرة كناية عما فى باطنه من أسرار المعاني الإلهية ، والحكمة عبارة عما فى قالبه من عجائب التصوير ، وغرائب التركيب ، ولذلك كانت معرفته أتم ، وترقيه لا ينقطع ، إن كان من أهله ، وراجع ما تقدم فى قوله تعالى وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ «2».
وقال القشيري بعد كلام : فسبحان اللّه! خلق أعزّ خلقه من أذلّ شىء وأخسّه. ثم قال : ما أودع عند آدم لم يوجد عند غيره ، فيه ظهرت الخصوصية. ه.
ثم نزّه نبيه عن الطمع فى الأجر على التبليغ والتكلف ، فقال :
[سورة ص (38) : الآيات 86 الى 88]
قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (86) إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (87) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (88)
يقول الحق جل جلاله : قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ على تبليغ ، الوحى أو على القرآن مِنْ أَجْرٍ دنيوى ، حتى يثقل عليكم ، وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ أي : المتصنعين بما ليسوا من أهله ، وما عرفتمونى قط متصنعّا حتى أنتحل النّبوة ، أو أتقول القرآن ، وعنه صلّى اللّه عليه وسلم : «للمتكلف ثلاث علامات : ينازع من فوقه ، ويتعاطى ما لا ينال ، ويقول ما لا يعلم» «3».
___________
(1) هذا المعنى على قراءة «فالحق» بالرفع ، وهى قراءة عاصم وحمزة. والمعنى الأول على قراءة «فالحق» بالنصب ، على أنه مقسم به حذف منه حرف القسم ، فانتصب. و«لأملأن» جواب القسم ، وهى قراءة نافع ، وابن كثير ، وأبى عمرو ، وابن عامر ، والكسائي.
انظر الإتحاف (2/ 425).
(2) الآية 70 من سورة الإسراء. (3/ 216 - 218).
(3) عزاه الحافظ ابن حجر فى الكافي الشاف (رقم 314) للثعلبى ، عن سلمة بن نفيل ، مرفوعا.(5/45)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 46
إِنْ هُوَ : ما هو إِلَّا ذِكْرٌ : وعظ من اللّه عز وجل لِلْعالَمِينَ الثقلين كافة ، وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ نبأ القرآن ، وصحة خبره ، وما فيه من الوعد والوعيد ، وذكر البعث والنّشور ، بَعْدَ حِينٍ بعد الموت ، أو : يوم بدر ، أو : القيامة ، أو : بعد ظهور الإسلام وفشوه. وفيه من التهديد ما لا يخفى. ختم السورة بالذكر كما أفتتحها بالذكر.
الإشارة : تقدم مرارا التحذير من طلب الأجر على التعليم ، أو الوعظ والتذكير ، اقتداء بالرسل عليهم السّلام.
وفى الآية أيضا : النهى عن التكلف والتصنع ، وهو نوع من النّفاق ، وضرب من الرّياء. وعن الزبير بن العوام رضي اللّه عنه نادى منادى النّبى صلّى اللّه عليه وسلم : «اللهم اغفر للذين لا يدعون ، ولا يتكلفون ، ألا إنى برىء من التكلف ، وصالحو أمتى» «1».
وقال سلمان «2» : «أمرنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ألّا نتكلف للضيف ما ليس عندنا!» «3». وكان الصحابة رضي اللّه عنهم يقدّمون ما حضر من الكسر اليابسة ، والحشف البالي - أي : الرديء من التمر - ويقولون : لا ندرى أيهما أعظم وزرا ، الذي يحتقر ما قدم إليه ، أو : الذي يحتقر ما عنده فلا يقدمه. ه. وباللّه التوفيق ، ولا حول ولا قوة إلا باللّه ، وصلّى اللّه على سيدنا محمد وآله وصحبه.
___________
(1) ذكره السيوطي فى الدر (5/ 600) بلفظ : «إنى لا ألى من التكلف وصالحو أمتى» وعزاه للديلمى وابن عساكر ، عن الزبير رضي اللّه عنه.
(2) فى الأصول (أبو سليمان).
(3) أخرجه البيهقي فى الشعب (الباب السابع والستون ، ح 9601) من حديث سلمان الفارسي - رضي اللّه عنه.(5/46)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 47
سورة الزمر
مكية ، إلا قوله : قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ .. إلى قوله : وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ «1» فإنها نزلت فى وحشىّ ، قاتل حمزة «2». وهى خمس وسبعون آية فى مصحف البصرة ، واثنان وسبعون فى مصحف الكوفة. ومناسبتها لما قبلها قوله : إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ «3» ، فإنه عين التنزيل الذي صدّر به ، حيث قال :
[سورة الزمر (39) : الآيات 1 الى 2]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (2)
قلت : تَنْزِيلُ : خبر ، أي : هذا تنزيل ، و«من اللّه» : صلة لتنزيل ، أو : خبر ثان ، أو : حال من التنزيل ، عاملها :
معنى الإشارة.
يقول الحق جل جلاله : هذا الذي تتلوه هو تَنْزِيلُ الْكِتابِ ، نزل مِنَ عند اللَّهِ الْعَزِيزِ فى سلطانه الْحَكِيمِ فى تدبيره. وإيثار الوصفين للإيذان بجريان أثريهما فى الكتاب ، بجريان أحكامه ونفوذ أوامره ونواهيه. إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ : ليس بتكرر لأن الأول كالعنوان للكتاب ، والثاني لبيان ما فى الكتاب. قال أبو السعود : والمراد بالكتاب : القرآن ، وإظهاره على تقدير كونه هو المراد بالأول لتعظيمه ومزيد الاعتناء بشأنه. والباء إما متعلقة بالإنزال ، أي : بسبب الحق وإظهاره ، أو : بداعيته واقتضائه ، وإما بمحذوف هو حال من نون العظمة ، أو : من الكتاب ، أي : أنزلناه إليه محقين فى ذلك ، أو : ملتبسا بالحق والصواب ، أي : ما فيه حق لا ريب فيه موجب العمل به حتما. قال القشيري : بالحق ، أي : بالدين الحق والشرع الحق ، وأنا محق فى إنزاله.
___________
(1) الآيات : 53 - 55.
(2) عزاه السيوطي فى الدر (5/ 602) لابن النّحاس فى تاريخه ، عن ابن عباس - رضي اللّه عنهما.
(3) الآية : 87 من سورة (ص).(5/47)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 48
فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ أي : فاعبده تعالى مخلصا دينه من شوائب الشرك والرّياء ، حسبما بيّن فى تضاعيف ما أنزل إليه.
[سورة الزمر (39) : الآيات 3 الى 4]
أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ (3) لَوْ أَرادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ سُبْحانَهُ هُوَ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (4)
أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ أي : هو الذي وجب اختصاصه بأن تخلص له الطاعة من كل شائبة لأنه المنفرد بصفات الألوهية ، التي من جملتها : الاطلاع على السرائر والضمائر.
الإشارة : قال القشيري : كتاب عزيز ، نزل من ربّ عزيز ، على عبد عزيز ، بلسان ملك عزيز ، فى شأن أمة عزيزة ، بأمر عزيز. وأنشدوا :
ورد الرّسول من الحبيب الأول بعد البلاء ، وبعد طول الأمل «1»
تنزيل تنزهت قلوب الأحباب بعد ذبول غصن سرورها ، فى كتاب الأحباب ، عند قراءة فصولها. والعجب منها كيف لا تزهو سرورا بوصولها ، وارتياحا بحصولها ، وكتاب موسى فى الألواح ، ومنها كان يقرأ موسى ، وكتاب نبينا صلّى اللّه عليه وسلم نزل به الرّوح ، الأمين ، على قلبك ، وفصل بين من يكون خطاب ربه مكتوبا فى ألواحه ، وبين من يكون خطاب ربه محفوظا فى قلبه ، وكذلك أمته ، بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ «2» ه.
وقوله تعالى : فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ ، قال القشيري : العبادة : معانقة الطاعات على نعت الخضوع ، وتكون بالنفس وبالقلب وبالروح ، فالتى بالنفس - أي : بالجوارح - الإخلاص فيها : التباعد عن الانتقاص ، والتي بالقلب ، أي : كالفكرة والنّظرة ، الإخلاص فيها : التباعد عن رؤية الأشخاص - أي : الحس من حيث هو - والتي بالروح ، الإخلاص فيها : التنقّى عن رؤية طلب الاختصاص «3».
قوله تعالى : أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ هو ما يكون جملته للّه ، وما للعبد فيه نصيب فهو عن الإخلاص بعيد ، اللهم إلا أن يكون بأمره ، فإنه إذا أمر العبد أن يحتسب الأجر على طاعته ، فأطاعه ، لا يخرج عن الإخلاص بامتثاله ما أمره به ، ولو لا هذا ما صحّ أن يكون فى العالم مخلص ، يعنى : أن جل النّاس إنما يطيعون لاحتساب الأجر ، إلا الفرد النّادر ، فمن زال عنه الحجاب فإنه يعبد اللّه باللّه ، شكرا ، وإظهارا للأدب ، فإن قصد الاحتساب ، ثم طرأ عليه خواطر بعد تحقق الإخلاص ، فلا يضر ، يدل عليه قوله صلّى اللّه عليه وسلم : «من قاتل لتكون كلمة اللّه هى العليا فهو فى سبيل اللّه» «4» وهذا فى أصل القصد ، والعوارض غير مضرة ، كما هو صريح حديث آخر. واللّه تعالى أعلم.
___________
(1) البيت غير موجود فى لطائف الإشارات المطبوع.
(2) الآية 49 من سورة العنكبوت.
(3) بتصرف.
(4) بعض حديث ، أخرجه البخاري فى (الجهاد ، باب من قاتل لتكون كلمة اللّه هى العليا ، ح 810) ومسلم فى (الإمارة ، باب من قاتل لتكون كلمة اللّه هى العليا ، 3/ 1512 ، ح 1904) من حديث أبى موسى الأشعري رضي اللّه عنه. وأول الحديث : (أن أعرابيا أتى النبي صلّى اللّه عليه وسلم ، فقال : يا رسول اللّه! الرجل يقاتل للمغنم ، والرّجل يقاتل ليذكر ، والرّجل يقاتل ليرى مكانه ، فمن فى سبيل اللّه؟ ...)
الحديث. [.....](5/48)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 49
ثم رد على المشركين ، فقال :
وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا ...
قلت : «والذين» : مبتدأ ، وما نَعْبُدُهُمْ : محكى بقول محذوف ، حال من واو «اتخذوا» وجملة «إن اللّه» : خبر ، والاستثناء مفرغ من أعم العلل ، و«زلفى» : مصدر.
يقول الحق جل جلاله : وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ أي : لم يخلصوا فى عبادتهم ، بل شاوبوها بعبادة غيره ، كالأصنام ، والملائكة ، وعيسى ، قائلين : ما نَعْبُدُهُمْ لشىء من الأشياء إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى أي : تقريبا ، إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ وبين خصمائهم ، الذين هم المخلصون للدين ، وقد حذف لدلالة الحال عليه ، كقوله : لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ «1» على أحد الوجهين ، أي : بين أحد منهم وبين غيره. قيل :
كان المسلمون إذا قالوا للمشركين : من خلق السماوات والأرض؟ قالوا : اللّه ، فإذا قالوا لهم : فمالكم تعبدون الأصنام؟
قالوا : ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى اللّه زلفى «2».
إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ يوم القيامة بين المتنازعين من المسلمين والمشركين فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ من التوحيد والإشراك ، وادعاء كل واحد صحّة ما انتحله. وحكمه تعالى هو إدخال الموحدين الجنة والمشركين النّار.
وقيل : الموصول واقع على الأصنام ، والعائد محذوف ، أي : والذين اتخذوهم من دونه أولياء ، قائلين : ما نعبدهم ...
إلخ ، إن اللّه يحكم بينهم ، أي : بين العبدة والمعبودين فيما هم فيه يختلفون ، حيث يرجون منها شفاعتها وهى تلعنهم ، وهذا بعيد.
إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي : لا يوفّق للاهتداء مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ أي : راسخ فى الكذب ، مبالغ فى الكفر ، كما يعرب عنه قراءة من قرأ : «كذاب» أو : «كذوب» «3» ، أي : لا يهديهما اليوم لدينه لسابق الشقاء ، ولا فى الآخرة
___________
(1) من الآية 285 من سورة البقرة.
(2) ذكره البغوي فى تفسيره (7/ 108) عن قتادة.
(3) قرأ أنس بن مالك ، والحسن ، والأعرج ، وابن يعمر : «كذّاب» ، وقرأ زيد بن علىّ : «كذّوب» ... انظر البحر المحيط (7/ 399).(5/49)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 50
لثوابه لأنهما اليوم فاقدان للبصيرة ، غير قابلين للاهتداء لتغييرهما الفطرة الأصلية بالتمرّن فى الضلالة والتمادي فى الغى.
لَوْ أَرادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً كما يزعم من يقول : الملائكة بنات اللّه ، والمسيح وعزيز ابن اللّه ، تعالى اللّه عن قولهم علوا كبيرا ، لَاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ أي : لاختار من خلقه ما يشاء ، ممن له مناسبة صمدانية ، كالملائكة ، فإنهم منزهون عن نقائص البشرية ، كالأ كل والشرب والنّكاح ، لكن لم يرد ذلك لاستحالته فى حقه تعالى.
قال القشيري : خاطبهم على قدر عقولهم وعقائدهم ، فقال : لو أراد اللّه أن يتخذ ولدا بالتبنّي والكرامة لاختار من الملائكة ، الذين هم مبرءون من الأكل والشرب وأوصاف الخلق ، ثم أخبر عن تقدّسه عن ذلك ، فقال :
سُبْحانَهُ أي : تنزيها له عن اتخاذ الولد على الحقيقة لاستحالة معناه فى نعته ، ولا بالتبني ، لتقدّسه عن الجنسية ، والمحالات تدل على وجه الإبعاد. ه.
والحاصل : أن الولد فى حقه تعالى إن كان عن طريق التولد فهو محال ، عقلا ونقلا ، وإن كان عن طريق التبني والكرامة فمحال سمعا ، وقيل : وعقلا. قال شيخ شيوخنا سيدى عبد الرّحمن الفاسى رضي اللّه عنه : قوله ، أي :
القشيري : لتقدسه عن الجنسية ، يعنى لوحدته وقهره ، كما رمز إلى ذلك بذكر الاسمين ، أي : الواحد القهار ، وهما عاملان فى كل مخلوق ، ومحال تعطيلهما بالتبني المقتضى للجنسية ، المباينة للوحدانية والقهر ، فلا يمكن إلا العبودية ، عقلا ، ونقلا ، وحقيقة ، وهذا أشد من كلام ابن عطية ، فإنه جوّز اتخاذه على جهة التشريف والتبني عقلا ، وإن امتنع شرعا ، لعموم آية : وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً «1» لاتخاذ النّسل المستحيل عقلا ونقلا ، ولاتخاذ الاصطفاء الممتنع شرعا. وهو أيضا أشدّ من كلام الزمخشري ، حيث قال : معنى الآية : لو أراد اللّه اتخاذ الولد لا متنع ذلك ، ولكنه يصطفى من يشاء من عباده ، على وجه الاختصاص والتقريب ، لا على وجه اتخاذه ولدا. ه. فأجعل فى الامتناع ، وإن كان المتبادر منه شمول القسمين ، وكذا قرر جواب «لو» ، أي : لامتنع ، وجعل قوله : لَاصْطَفى الذي هو ظاهر فى كونه جوابا غير جواب «بل» على معنى الاستئناف ، وهو خلاف المطروق والمفهوم من جرى الكلام. واللّه أعلم.
وما ذكره الزمخشري أيضا من الامتناع مع الإرادة هو فرض لتعلق الإرادة بالممتنع ، وهى إنما تتعلق بالجائز ، ويحتمل بناؤه على مذهبه الفاسد فى إرادة بعض ما لم يقع ، وهو شنيع مذهبه ، بل ويلزمه عود القهر
___________
(1) الآية 92 من سورة مريم.(5/50)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 51
عليه - تعالى عن ذلك ، وهو اللّه الواحد القهار ، فكيف يريد ويمتنع ما يريده؟! وهل ذلك إلا عين القهر؟ تعالى عن ذلك علوا كبيرا. ه.
قال تعالى : سُبْحانَهُ أي : تنزّه بالذات عن اتخاذ الولد ، تنزهه الخاص به ، على أن" سبحان" مصدر ، من : سبّح : إذا بعّد. هُوَ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ : استئناف مبيّن لتنزهه بحسب الصفات ، إثر بيان تنزهه عنه بحسب الذات ، فإن صفة الألوهية المستتبعة لسائر صفات الكمال ، النافية لسمات النّقصان ، والوحدة الذاتية ، الموجبة لامتناع المماثلة والمشاركة بينه تعالى وبين غيره على الإطلاق ، مما يقتضى تنزهه تعالى عما قالوه ، قضاء متيقنا ، وكذا وصف [القهارية] «1» لأن اتخاذ الولد شأن من يكون تحت ملكوت الغير ، عرضة للفناء ، ليقوم الولد مقامه عند فنائه ، ومن هو مستحيل الفناء ، قهار لكل الكائنات ، كيف يتصور أن يتخذ من الأسماء الفانية من يقوم مقامه؟ قاله أبو السعود.
الإشارة : الحق سبحانه غيور ، لا يرضى لغيره أن يعبد معه غيره ، كان على وجه الواسطة والتقريب ، أو :
على وجه الاستقلال. لذلك حرم السجود لغير اللّه ، وأما الخضوع للأولياء ، العارفين باللّه ، على غير وجه العبادة ، فهو عين الخضوع للّه لأن اللّه تعالى أمر بالخضوع للرسل ، الدالين على اللّه ، وهم ورثتهم فى الدلالة ، لكن لا يكون ذلك على هيئة السجود ، وإنما يكون على وجه تقبيل القدم أو الأرض بين أيديهم ، كما قال الشاعر :
يا من يلوم خمرة المحبه فخذوا عنى هى حلال
ومن يرد يسقى منها عبه خدّ يضع لأقدام الرّجال
رأسى حططت بكلّ شيبه هم الموالي سقونى زلال
وجعل القشيري مناط الرّد على الكفرة حيث فعلوا ذلك ، وقالوا : ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى اللّه ، بغير إذن اللّه ، وإنما حكموا بذلك من ذات أنفسهم. فردّ اللّه عليهم. قال : وفى هذا إشارة إلى ما يفعله العبد من القرب ، بنشاط نفسه ، من غير أن يقتضيه حكم الوقت ، وما يعقد بينه وبين اللّه تعالى من عقود لا يفى بها ، وكان ذلك اتباع هوى.
قال اللّه تعالى : فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها «2». قلت : ولأجل هذا وجب على من أراد الوصول إلى اللّه أن يتخذ شيخا عارفا بأحكام الوقت ، ذا بصيرة بدسائس النّفس ، فيأمره فى كل وقت ، وفى كل زمان ، بما يناسبه ليخرجه من هوى نفسه ، وأسر طبعه ، وإلا بقي فى العنت والبعد عن اللّه ، يعبد اللّه على حرف ، كلما زاد عبادة وقربا - فى
___________
(1) فى الأصول : القاهرية.
(2) من الآية 27 من سور الحديد(5/51)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 52
زعمه - زاد بعدا من ربه ، وهو لا يشعر ، فالنفس إن لم تتصل بمن يرفع عنها الحجاب ، كانت كدود القزّ ، تنسج الحجاب على نفسها بنفسها ، حتى تموت فى وسطه. وفى ذلك يقول الششترى فى نونيته رضي اللّه عنه :
ونحن كدود القزّ يحصرنا الذي صنعنا لدفع الحصر سجنا لنا منّا «1»
وباللّه التوفيق.
ثم ذكر دلائل توحيده تعالى ، فقال :
[سورة الزمر (39) : الآيات 5 الى 6]
خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (5) خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (6)
يقول الحق جل جلاله : خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أي : وما بينهما من الموجودات ، ملتبسة بِالْحَقِّ مشتملة على الحكم والمصالح الدينية والدنيوية يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ ، وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ ، التكوير : اللّف واللّى ، يقال : كار العمامة على رأسه وكوّرها. والمعنى : أن كل واحد منهما يغيّب الآخر إذا طرأ عليه ، ويلفه لف اللباس باللابس ، أو : يغيّبه كما يغيب الملفوف باللفافة ، أو : يجعله كارا عليه كرورا متتابعا ، تتابع أكوار العمامة ، وهذا بيان لكيفية تصرفه تعالى فى السموات والأرض بعد بيان خلقهما ، وعبّر بالمضارع للدلالة على التجرد.
وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ : جعلهما منقادين لأمره. كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ، وهو يوم القيامة ، أو :
كل منهما يجرى لمنتهى دورته ، أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الغالب القادر على كل شىء ، ومن جملتها : عقاب العصاة ، الْغَفَّارُ : المبالغ فى المغفرة ، ولذلك لا يعاجل بالعقوبة ، ولا يمنع ما فى هذه الصنائع البديعة من آثار رحمته.
وتصدير الجملة بحرف التنبيه ، لإظهار كمال الاعتناء بمضمونها.
___________
(1) انظر ديوان الششترى (ص 74)(5/52)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 53
خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ، لمّا ذكر ما يتعلق بالعالم العلوي ، ذكر ما يتعلق بالعالم السفلى ، وترك العاطف للإيذان باستقلاله فى الدلالة على الوحدانية ، وبدأ بالإنسان لأنه المقصود الأهم من هذا العالم ، ولعراقته فى الدلالة على توحيد الحق وباهر قدرته لما فيه من تعاجيب آثار القدرة ، وأسرار الحكمة ، وأصالته فى المعرفة فإن الإنسان بحال نفسه أعرف ، والمراد بالنفس : نفس آدم - عليه السّلام.
ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها : عطف على محذوف ، صفة لنفس ، أي : من نفس خلقها ثم جعل منها زوجها ، أو :
على معنى : واحدة ، أي : نفس وجدت ثم جعل منها زوجها حواء ، وعطفت بثم دلالة على مباينتها له فضلا ومزية ، فهو من التراخي فى الحال والمنزلة ، مع التراخي فى الزمان. وقيل : أخرج ذرية آدم من ظهره كالذّر ، ثم أخرج منه حوّاء ، ففيه ثلاث آيات خلق آدم من غير أب ولا أم ، وخلق حواء من قصيراه «1» ، ثم تشعيب الخلق الفائت للحصر منهما.
وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ أي : قضى وجعل ، أو : خلقها فى الجنة مع آدم عليه السّلام ، ثم أنزلها ، أو : أحدث لكم بأسباب نازلة من السماء ، كالأمطار ، وأشعة الكواكب ، كما تقول الفلاسفة. ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ ذكرا وأنثى ، وهى :
الإبل ، والبقر ، والضأن ، والمعز. فالزوج اسم لواحد معه آخر ، فإذا انفرد فهو فرد ، ووتر.
يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ : استئناف لبيان كيفية خلقهم ، وأطواهم المختلفة ، الدالة على القدرة القاهرة. وصيغة المضارع للدلالة على التجرد. خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ : مصدر مؤكد ، أي : يخلقكم فيها خلقا كائنا من بعد خلق ، أي : خلقا مدرّجا ، حيوانا سويا ، من بعد عظام مكسوة لحما ، من بعد عظام عارية ، من بعد مضغة مخلّقة ، من بعد مضغة غير مخلّقة ، من بعد علقة ، من بعد نطفة ، فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ : ظلمة البطن ، وظلمة الرحم ، وظلمة المشيمة ، أو : ظلمة الصلب ، والبطن ، والرّحم.
ذلِكُمُ : إشارة إلى الحق تعالى ، باعتبار أفعاله المذكورة ، وهو مبتدأ ، وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد منزلته فى العظمة والكبرياء ، أي : ذلكم العظيم الشأن ، الذي عددت أفعاله هو اللَّهُ رَبُّكُمْ أي : مربيكم بنعمة الإيجاد على الأطوار المتقدمة ، وبنعمة الإمداد بعد نفخ الرّوح فيه. لَهُ الْمُلْكُ : التصرف التام على الإطلاق فى الدارين. لا إِلهَ إِلَّا هُوَ : لا متصرف غيره. فَأَنَّى تُصْرَفُونَ : فكيف تصرفون عن عادته تعالى ، مع وفور دواعيها ، وانتفاء الصارف عنها بالكلية ، إلى عبادة غيره ، من غير داع إليها ، مع كثرة الصوارف عنها؟ واللّه تعالى أعلم.
___________
(1) «قصيراه» : مثنى القصيرى ، والقصيران : ضلعان تليان الترقوتين والقصيرى : أسفل الأضلاع. وقيل : هى آخر الجنب. انظر اللسان (5/ 3649 مادة قصر).(5/53)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 54
الإشارة : خلق سماوات الأرواح ، وأرض النّفوس ، بالحق ، أي : لسبب معرفته ، وعبادته ، فالمعرفة للأرواح ، والعبادة للنفوس ، يكوّر نهار البسط على ليل القبض ، وبالعكس ، وسخّر شمس العيان ، وقمر البرهان ، كل يجرى إلى أجل مسمى ، إلا أن قمر البرهان ينتهى بطلوع شمس العيان ، وشمس العيان لا انتهاء لها. أَلا هُوَ الْعَزِيزُ فيمنع بعزته من الوصول إليه من أراد احتجابه ، الْغَفَّارُ فيغطى بفضله مساوئ من أراد وصلته. خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ من روح واحدة ، هى الرّوح الأعظم ، ثم تفرعت منها الأشياء كلها. وأنزل لكم من الأنعام ما تتصرفون فيه ، وتتقربون به إلى ربكم ، ثم ذكّرهم بنعمة الإيجاد ، ونعمة الإمداد ، بقوله : يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ ... إلخ ، فنعمة الإيجاد ظاهرة ، ونعمة الإمداد : ما يتغذى به الجنين فى بطن أمه من دم الحيض.
ثم أمرهم بالشكر عليها ، فقال :
[سورة الزمر (39) : آية 7]
إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (7)
يقول الحق جل جلاله : إِنْ تَكْفُرُوا به تعالى ، بعد مشاهدة هذه النّعم الجسمية ، وشئونه العظيمة ، الموجبة للإيمان والشكر ، فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ أي : فاعلموا أنه تعالى غنىّ عن إيمانكم وشكركم ، وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ لأن الكفر ليس برضا اللّه ، وإن كان بإرادته ، وعدم رضاه تعالى بالكفر لأجل منفعتهم ، ودفع مضرتهم ، رحمة بهم ، لا لتضرره تعالى به. وَإِنْ تَشْكُرُوا وتؤمنوا يَرْضَهُ لَكُمْ أي : يرضي الشكر لأجلكم ومنفعتكم لأنه سبب الفوز بسعادة الدارين.
وإنما قال : لِعِبادِهِ ولم يقل «لكم» ، لتعميم الحكم ، وتعليله بكونهم عباده تعالى ، والحاصل : أن وقوع الطاعة والإيمان هو بقدرته تعالى ، وإرادته ورضاه ، وأما الكفر والمعاصي فهو بقضائه وإرادته ، ولم يرضها من عبده شرعا ، وإن رضيها تكوينا لتقوم الحجة على العبد ، ويظهر صورة العدل ، ولا يظلم ربك أحدا ، وإن كان الكل منه وإليه.
وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى : بيان لعدم سريان كفر الكافر إلى غيره ، أي : ولا تحمل نفس حاملة لوزرها حمل نفس أخرى ، ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ بالبعث بعد الموت ، فَيُنَبِّئُكُمْ يخبركم بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ(5/54)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 55
فى الدنيا من الإيمان والكفر ، فيجازيكم بها ثوابا وعقابا. إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ : أي : بمضمرات القلوب ، فكيف بالأعمال الظاهرة ، وهو تعليل ل «ينبئكم».
الإشارة : قد تقدم الكلام على الشكر فى سورة سبأ «1» قال القشيري : قوله تعالى : وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ إن أطعتنى شكرتك ، وإن ذكرتنى ذكرتك ، وإن خطوت لأجلى خطوة ملأت السموات والأرض من شكرك ، وأنشدوا.
لو علمنا أن الزيارة حق لفرشنا الخدود أرضا لترضى
ثم بيّن حال من يشكر ، فقال :
[سورة الزمر (39) : آية 8]
وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ (8)
يقول الحق جل جلاله : وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ أي : جنس الإنسان ضُرٌّ من مرض وغيره دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إليه راجعا إليه مما كان يدعوه فى حالة الرّخاء لعلمه بأنه بمعزل عن القدرة على كشف ضره ، وهذا وصف للجنس ببعض أفراده ، كقوله تعالى : إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ «2» وقيل : المراد أبو جهل ، أو : كل كافر.
ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ أي : أعطاه نعمة عظيمة من جنابه ، من التخول ، وهو التعهد ، يقال : فلان خائل مال ، إذا كان متعهّدا إليه حسن القيام به. وفى الصحاح : خوّله اللّه الشيء : ملّكه إياه. وفى القاموس : وخوّله اللّه المال :
أعطاه إياه.
قال ابن عطية : خوّله ، أي : ملّكه ، وحكمه فيها ابتداء من اللّه ، لا مجازاة ، ولا يقال فى الجزاء : خوّل. ه. أو :
من الخول ، وهو الافتخار ، أي : جعله يخول ، أي : يختال ويفتخر بنعمه. نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ أي :
نسى الضر الذي كان يدعو اللّه تعالى كشفه من قبل التخويل ، أو : نسى ربه الذي كان يدعو ويتضرع إليه ، على أن
___________
(1) راجع إشارة الآية 13 من سورة سبأ
(2) من الآية 34 من سورة إبراهيم.(5/55)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 56
ما بمعنى مِنْ ، كقوله تعالى : وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى «1» ، أو : إيذانا بأن نسيانه بلغ به إلى حيث لا يعرف ما يدعوه ، وهو كقوله تعالى : عَمَّا أَرْضَعَتْ
«2».
وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً : شركاء فى العبادة لِيُضِلَّ «3» بذلك عَنْ سَبِيلِهِ الذي هو التوحيد. أي :
ليضل غيره ، أو : ليزداد ضلالا ، أو : يثبت عليه ، على القراءتين ، وإلا فأصل الضلال غير متأخر عن الجعل المذكور. واللام للعاقبة ، كما فى قوله : فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً «4» غير أن هذا أقرب للحقيقة لأن الجاعل هنا قاصد بجعله المذكور حقيقة الإضلال والضلال ، وإن لم يعرف لجهله أنهما إضلال وضلال ، وأما آل فرعون فهم غير قاصدين بالتقاطهم العداوة أصلا. قاله أبو السعود.
قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا أي : تمتعا قليلا ، أو : زمانا قليلا فى الدنيا ، وهو تهديد لذلك الضال المضل ، وبيان لحاله ومآله. إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ
أي : من ملازميها ، والمعذّبين فيها على الدوام ، وهو تعليل لقلة التمتع.
وفيه من الإقناط من النّجاة ما لا يخفى ، كأنه قيل : إذا أبيت قبول ما أمرت به من الإيمان والطاعة ، فمن حقك أن تؤمر بتركه لتذوق عقوبته.
الإشارة : الصفة الممدوحة فى الإنسان : أن يكون إذا مسّه الضر التجأ إلى سيده ، مع الرّضا والتسليم ، فإذا كشف عنه شكر اللّه وحمده ، ودام على شكره ، ونسب التأثير إلى الأسباب والعلل ، وهو صريح الآية. وباللّه التوفيق.
ثم ذكر حال من شكر ، فقال :
[سورة الزمر (39) : آية 9]
أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (9)
يقول الحق جل جلاله : أَمَّنْ «5» هُوَ قانِتٌ أي : مطيع ، قائم بواجب الطاعات ، دائم على أداء وظائف العبادات ، آناءَ اللَّيْلِ أي : فى ساعات الليل ، حالتى السراء والضراء ، كمن ليس كذلك ، بل إنما يفزع إلى اللّه
___________
(1) الآية 3 من سورة الليل.
(2) من الآية 2 من سورة الحج.
(3) قرأ الجمهور : «ليضل» بضم الياء ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو : بفتحها. انظر الإتحاف (2/ 427) والبحر المحيط (7/ 401).
(4) الآية 8 من سورة القصص. [.....]
(5) قرأ نافع ، وابن كثير ، وحمزة : بتخفيف الميم ، على أنها موصولة ، دخلت عليها همزة الاستفهام التقريرى ، ومقابله محذوف لفهم المعنى ، والتقدير : أمن هو قانت. إلخ كمن جعل للّه أندادا. وقرأ الباقون بالتشديد. والتوجيه ذكره الشيخ المفسر - رحمه اللّه. انظر :
إتحاف فضلاء البشر (2/ 428).(5/56)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 57
فى الضراء فقط ، فإذا كشف عنه نسى ما كان يدعو إليه من قبل ، وحذفه لدلالة ما قبله عليه. ومن قرأ بالتشديد ، ف «أم» إما متصلة ، حذف مقابلها ، أي : أنت خير حالا ومآلا أم من هو قائم بوظائف العبادات ، أو : منقطعة ، والإضراب للانتقال من التهديد إلى التبكيت بالجواب الملجئ إلى الاعتراف بما بينهما ، كأنه قيل : أم من هو قانت أفضل ، أم من هو كافر مثلك؟.
حال كون القانت ساجِداً وَقائِماً أي : جامعا بين الوصفين المحمودين. وتقديم السجود على القيام لكونه أدخل فى معنى العبادة. يَحْذَرُ الْآخِرَةَ أي : عذاب الآخرة ، حال أخرى ، أو : استئناف ، جواب عما نشأ من حكاية حاله من القنوت والسجود ، كأنه قيل : فما باله يفعل ذلك؟ فيقل : يحذر الآخرة ، وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ أي :
الجنة ، فينجو بذلك مما يحذره ، ويفوز بما يرجوه ، كما ينبئ عنه التعرض لعنوان الرّبوبية ، المنبئة عن التبليغ إلى الكمال ، مع الإضافة إلى ضمير الرّاجى.
ودلت الآية على أن المؤمن يجب أن يكون بين الخوف والرّجاء ، يرجو رحمته ، لا عمله ، ويحذر عقابه لتقصيره فى عمله ، ثم الرّجاء إذا جاوز حدّه يكون أمنا. والخوف إذا جاوز حدّه يكون إياسا ، وقد قال تعالى : فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ «1» ، ولا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ «2» ، فيجب ألا يجاوز أحدهما حدّه بل يكون كالطائر بين جناحيه ، إلا فى حالة المرض ، فيغلب الرّجاء ، ليحسن ظنه باللّه. ومذهب محققى الصوفية : تغليب الرّجاء مطلقا ، لهم ولعباد اللّه لغلبة حسن ظنهم بربهم.
والآية ، قيل : نزلت فى عثمان رضي اللّه عنه كان يحيى الليل ، وقيل : فى عمار وأبى حذيفة «3» ، وهى عامة لمن سواهم.
قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ حقائق الأحوال ، فيعلمون بموجب علمهم ، كالقانت المذكور ، وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ شيئا فيعلمون بمقتضى جهلهم ، كدأب الكافر المتقدم. والاستفهام للتنبيه على أن يكون الأولين فى أعلى معارج الخير ، وكون الآخرين فى أقصى مدارج الشر من الظهور ، بحيث لا يكاد يخفى على أحد.
قال النّسفى : أي : يعلمون ويعملون به ، كأنه جعل من لا يعمل غير عالم ، وفيه ازدراء عظيم بالذين يقتنون - أي : يدخرون - العلوم ، ثم لا يقنتون ، ويتفننون فيها ، ثم يفتنون بالدنيا ، فهم عند اللّه جهلة ، حيث جعل القانتين هم العلماء. أو : يريد به التشبيه ، أي : كما لا يستوى العالم والجاهل ، كذلك لا يستوى المطيع والعاصي. ه.
___________
(1) من الآية 99 من سورة الأعراف.
(2) من الآية 87 من سورة يوسف.
(3) انظر الدر المنثور (5/ 605) وتفسير البغوي (7/ 11) وأسباب النّزول للواحدى (ص 382).(5/57)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 58
الإشارة : القنوت هو القيام بآداب الخدمة ، ظاهرا وباطنا ، من غير فتور ولا تقصير ، قاله القشيري. وهو على قسمين ، قنوت العارفين ، وهى عبادة القلوب ، كالفكرة والنّظرة ، ساعة منها أفضل من عبادة سبعين سنة ، وثمرتها :
التمكن من شهود الذات الأقدس ، عاجلا وآجلا ، وقنوت الصالحين ، وهى عبادة الجوارح ، كالركوع والسجود والتلاوة ، وغيرها من أعمال الجوارح ، وثمرتها نعيم الجنان بالحور والولدان ، مع الرّضا والرّضوان ، ورؤية وجه الرحمن.
روى عن قبيصة بن سفيان ، قال : رأيت سفيان الثوري فى المنام بعد موته ، فقلت له : ما فعل اللّه بك؟ فأنشأ يقول :
نظرت إلى ربّى عيانا فقال لى هنيئا رضائى عنك يا ابن سعيد
لقد كنت قوّاما إذا الليل قد دجا بعبرة محزون وقلب عميد
فدونك فاختر أىّ قصر تريده وزرني فإنى منك غير بعيد
وكان شعبة ومسعر رجلين صالحين ، وكانا من ثقة المحدّثين ، فماتا ، قال أبو أحمد اليزيدي : فرأيتهما فى المنام ، وكنت إلى شعبة أميل منى إلى مسعر ، فقلت لشعبة : يا أبا بسطام ما فعل اللّه بك؟ فقال : يا بنى احفظ ما أقول لك :
حبانى إلهى فى الجنان بقبة لها ألف باب من لجين «1» وجوهرا
وقال لى الجبار : يا شعبة الذي تبحّر فى جمع العلوم وأكثرا
تمتع بقربى ، إننى عنك ذو رضا وعن عبدى القوّام فى الليل مسعرا
كفى مسعرا عزا بأن سيزورنى وأكشف عن وجهى ويدنو لينظروا
وهذا فعالى بالذين تنسكوا ولم يألفوا فى سالف الدهر منكرا.
وقوله تعالى : قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ أي : لا يستوى العالم باللّه مع الجاهل به ، العالم يعبده على العيان ، والجاهل به فى مقام الاستدلال والبرهان. العالم باللّه يستدل باللّه على غيره ، والجاهل يستدل بالأشياء على اللّه ، وشتان بين من يستدل به أو يستدل عليه ، المستدل به عرف الحق لأهله ، وأثبت الأمر
___________
(1) اللّحين : الفضة. انظر اللسان (5/ 4002 ، مادة لجن).(5/58)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 59
من وجود أصله ، والاستدلال عليه من عدم الوصول إليه ، كما فى الحكم «1». العالم باللّه من السابقين المقربين ، والجاهل به من عامة أهل اليمين ، ولو تبحّر فى العلوم الرّسمية غاية التبحر. قال الورتجبي : وصف تعالى أحوال أهل الوجود والكشوفات ، المستأنسين به ، وبلذائذ خطابه ومناجاته ، وتحملوا من لطائف خطابه مكنون أسرار غيبه ، من العلوم الغريبة ، والأنباء العجيبة ، لذلك وصفهم بالعلم الإلهى ، الذي استفادوا من قربه ووصاله ، وكشف جماله بقوله : هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ كيف يستوى الشاهد والغائب ، والشاهد يرى ما لا يرى الغائب؟. ه.
قال القشيري : العلم المخلوق على ضربين : علم مجلوب بكسب العبد ، وموهوب من قبل الرّبّ .. انظر تمامه.
ثم أمر بالتقوى ، التي هى أصل القنوت ، فقال :
[سورة الزمر (39) : آية 10]
قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ (10)
قلت : فِي هذِهِ : متعلق بأحسنوا ، أو : بحسنة ، على أنه بيان لمكانها ، أو : حال من ضميرها فى الظرف.
يقول الحق جل جلاله : قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ بامتثال أوامره ، واجتناب نواهيه ، أمر رسوله صلّى اللّه عليه وسلم بأن يحثّهم على التقوى ويذكّرهم بها ، بعد تخصيص التذكير بأولى الألباب ، إيذانا بأن أولى الألباب هم أهل التقوى ، وفى إضافتهم إلى ضمير الجلالة بقوله : يا عِبادِ تشريف لهم ، ومزيد اعتناء بشأن المأمور به ، وهو التقوى.
ثم حرّض على الامتثال بقوله : لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا أي : اتقوا اللّه وأطاعوه فِي هذِهِ الدُّنْيا الفانية ، التي هى مزرعة الآخرة. حَسَنَةٌ أي : حسنة عظيمة ، لا يكتنه كنهها ، وهى الجنة ونعيمها ، أو : للذين أحسنوا بالطاعة والإخلاص حسنة معجلة فى الدنيا ، وهى الصحة والعافية ، والحياة الطيبة ، أو : للذين أحسنوا ، أي : حصلوا مقام الإحسان - الذي عبّر عنه عليه الصلاة والسّلام بقوله : «أن تعبد اللّه كأنك تراه» - حسنة كبيرة ، وهى لذة الشهود ، والأنس بالملك الودود فى الدارين.
___________
(1) انظر الحكم بتبويب المتقى الهندي/ 27 حكمة 29.(5/59)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 60
ولما كان هذا المقام لا يتأتى تحصيله إلا فى بعض البلاد الخالية من الشواغل والموانع ، أمر بالهجرة من الأرض التي لا يتأتى فيها التفرغ ، فقال : وَأَرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ ، فمن تعسر عليه التفرغ للتقوى ، والإحسان وعمل القلوب ، فى وطنه ، فليهاجر إلى بلد يتمكن فيه ذلك ، كما هى سنّة الأنبياء والأولياء ، فإنه لا عذر له فى التفريط والبطالة أصلا.
ولمّا كان الخروج من الوطن صعبا على النّفوس ، يحتاج إلى صبر كبير رغّب فى الصبر بقوله : إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ على مفارقة الأوطان ، وتحمل مشاق الطاعات ، وتحقيق الإحسان ، أَجْرَهُمْ فى مقابلة ما كابدوه من الصبر ، بِغَيْرِ حِسابٍ بحيث لا يحصى ولا يحصر بل يصب عليهم الأجر صبا ، فلهم مالا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر.
وعن ابن عباس رضي اللّه عنه : (لا يهدى إليه حساب الحسّاب ، ولا يعرف) ، وفى الحديث : «أنه ينصب الموازين يوم القيامة لأهل الصلاة والصيام والحج ، فيوفّون بها أجورهم ، ولا تنصب لأهل البلاء بل يصب عليهم الأجر صبا ، حتى يتمنى أهل العافية فى الدنيا أن أجسادهم تقرض بالمقاريض ، مما يذهب به أهل البلاء من الفضل» «1». وكل ما يشق على النّفس ويتعبها فهو بلاء ، واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : بالتقوى الكاملة يصير العبد من أولى الألباب ، فبقدر ما تعظم التقوى يعظم إشراق النّور فى القلب ، ويتصفى من الرّذائل ، وقد تقدم الكلام عليها مستوفيا عند قوله تعالى : وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ «2» فمن أحسن فى تقواه أحسن اللّه عاقبته ومثواه ، وحفظه فى دنياه وأخراه.
فمن تعذرت عليه التقوى فى وطنه ، فليهاجر منه إلى غيره ، والهجرة سنّة نبوية ، وليتجرع الصبر على مفارقة الأوطان ، ومهاجرة العشائر والإخوان ، لينخرط فى سلك أهل الإحسان ، قال تعالى : وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ «3» الآية.
قال القشيري : الصبر : حبس النّفس على ما تكره ، ويقال : تجرّع كاسات التقدير ، من غير استكراه ولا تعبيس ، ويقال : التهدّف «4» لسهام البلاء. ه.
___________
(1) عزاه السيوطي فى الدر المنثور (5/ 606) لابن مردويه ، من حديث أنس ، وأخرجه الطبراني فى الكبير (12/ 184 ح 12829) من حديث ابن عباس رضي اللّه عنه مختصرا
(2) الآية 100 من سورة النّساء.
(3) الآية 100 من سورة التوبة.
(4) التهدف : الدنو والاستقبال.(5/60)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 61
ثم أمر بالإخلاص ، الذي هو شرط فى الجميع ، فقال :
[سورة الزمر (39) : الآيات 11 الى 16]
قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (11) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (12) قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (13) قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي (14) فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (15)
لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبادَهُ يا عِبادِ فَاتَّقُونِ (16)
يقول الحق جل جلاله : قُلْ لهم : إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ حال كونى مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ من كلّ ما ينافيه من الشرك والرّياء ، وما أمر به صلّى اللّه عليه وسلم يؤمر به أمته بل هم المقصودون. ثم قال : وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ أي : وأمرت بذلك لأجل أن أكون مقدمهم فى الدنيا والآخرة لأن إحراز قصب السبق فى الدين بالإخلاص فيه ، فالإسلام الحقيقي هو المنعوت بالإخلاص ، والتقدير : أمرت بالعبادة والإخلاص فيها ، وأمرت بذلك لأن أكون أول المخلصين.
أو : تكون اللام زائدة ، وهو أظهر ، كقوله تعالى : قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ «1» أي : من قومى ، أو : من أهل زمانى ، أو : أكون أول من دعا غيره إلى ما دعا إليه نفسه ، وهو الإسلام ، وحاصله : أمرت بإخلاص الدين ، وأمرت أن أكون من السابقين فى ذلك زمانا ورتبة لأنه داع إلى الإسلام ، والداعي إلى الشيء ينبغى أن يكون متحليا به ، كما هى سنّة الأنبياء والأولياء ، لا الملوك والمتجبرين.
قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي بترك الإخلاص ، والميل إلى ما أنتم عليه من الشرك عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ هو يوم القيامة. وصف بالعظمة لعظمة ما فيه من الدواهي والأهوال.
قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ لا غيره ، لا استقلالا ولا اشتراكا. وليس بتكرار لأن الأول إخبار عن كونه مأمورا بالإخلاص فى الدين ، وبالسبق إليه ، وهذا إخبار بأنه امتثل الأمر ، وفعل ما أمر به. وقدّم المفعول لأنه جواب لقول الكفرة : اعبد
___________
(1) الآية 14 من سورة الأنعام(5/61)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 62
ما نعبد ، لنعبد ما تعبد ، فهو كقوله : لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ «1» أي : لا أعبد إلا اللّه مُخْلِصاً لَهُ دِينِي من كل ما يشوبه من العلل ، فأمر صلّى اللّه عليه وسلم أولا ببيان كونه مأمورا بعبادة اللّه وإخلاص الدين له ، ثم بالإخبار بخوفه من العذاب على تقدير العصيان ، ثم بالإخبار بامتثاله لما أمر به على أبلغ وجه إظهارا لتصلبه فى الدين ، وحسما لمادة أطماعهم الفارغة ، وتمهيدا لتهديدهم بقوله : فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ أن تعبدوه مِنْ دُونِهِ تعالى. وفيه من الدلالة على شدة الغضب عليهم مالا يخفى ، كأنهم لمّا لم ينتهوا عما نهوا عنه أمروا به ، كى يحيق بهم العذاب.
قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الكاملين فى الخسران ، الذي هو عبارة عن : إضاعة ما يهمه ، وإتلاف ما لا بد منه ، هم الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بتعريضها للعطب ، وَأَهْلِيهِمْ بتعريضهم للتفرق عنهم ، فرقا لا جمع بعده إما فى عذاب الأبد ، إن ماتوا على الكفر معهم ، أو : فى الجنة ، إن آمنوا ، فلا يرونهم أبدا. وقيل : خسروا أهلهم لأنهم لم يدخلوا مدخل الذين لهم أهل فى الجنة ، أو : خسروا أهلهم الذين كانوا يتمتعون بهم ، لو آمنوا. أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ الذي لا خسران أظهر منه. وتصدير الجملة بحرف التنبيه ، والإشارة بذلك إلى بعد منزلة المشار إليه فى الشر. وتوسيط ضمير الفصل ، وتعريف الخسران ، ووصفه بالمبين من الدلالة على كمال هو له وفظاعته ، وأنه لا خسران وراءه ، مالا يخفى.
لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ أي : لهم ظلل كثيرة متراكمة بعضها فوق بعض ، كائنة من النّار ، وَمِنْ تَحْتِهِمْ أيضا ظُلَلٌ أي : أطباق كثيرة ، بعضها تحت بعض ، هى ظلل لآخرين. ذلِكَ العذاب الفظيع هو الذي يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبادَهُ ويحذّرهم إياه ليجتنبوا ما يوقعهم فيه. يا عِبادِ فَاتَّقُونِ ولا تتعرضوا لما يوجب سخطى. وهذه موعظة من اللّه بالغة ، منطوية على غاية اللطف والرّحمة ، جعلنا اللّه من أهلها بمنّه وكرمه.
الإشارة : الإخلاص سر بين اللّه وبين عبده ، لا يطلع عليه ملك فيكتبه ، ولا شيطان فيفسده ، وهو الغيبة عما سوى اللّه ، فلا يرى فى الدارين إلا اللّه ، ولا يعتمد إلا عليه ، ولا يخاف إلا منه ، ولا يرجو إلا إياه. والإسلام هو :
الانقياد بالجوارح فى الظاهر للأحكام التكليفية ، والاستسلام فى الباطن للأحكام القهرية التعريفية ، فالإسلام صورة ، والاستسلام روحها ، فالإسلام بلا استسلام جسد بلا روح.
وقوله تعالى : فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ هو تهديد لمن عبد نفسه وهواه ، وهو الخسران المبين. ويقال : الخاسر :
من خسر أيام عمره بالبطالة والتقصير ، وخسر آخرته بعدم التأهب والتشمير ، وخسر مولاه بعدم الوصول إلى
___________
(1) الآية 6 من سورة الكافرون.(5/62)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 63
مشاهدة حضرة العلى الكبير ، وهى حضرة الذات ، فمن خسر هذا الخسران ، فقد أحاطت به نار القطيعة والحجاب من كل مكان. ذلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبادَهُ قال القشيري : إن خفت اليوم كفيت خوف ذلك اليوم ، وإلا فبين يديك عقبة كؤود.
ثم ذكر ضد أهل الخسران ، فقال :
[سورة الزمر (39) : الآيات 17 الى 18]
وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها وَأَنابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرى فَبَشِّرْ عِبادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ (18)
قلت : أَنْ يَعْبُدُوها : بدل اشتمال من «الطاغوت» ، والطاغوت : فعلوت ، من الطغيان ، بتقديم اللام على العين ، وأصله : طغيوت ، ثم طيغوت ، ثم طاغوت.
يقول الحق جل جلاله : وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أي : البالغ [أقصى ] «1» غاية الطغيان ، وهو الشيطان أَنْ يَعْبُدُوها أي : اجتنبوا عبادة الطاغوت ، الذي هو الشيطان ، أو : كل ما عبد من دون اللّه ، وكلّ من عبد غير اللّه فإنما عبد الشيطان لأنه هو المزيّن لها ، والحامل عليها. وَأَنابُوا إِلَى اللَّهِ أي : وأقبلوا إليه ، معرضين عما سواه ، إقبالا كليا ، لَهُمُ الْبُشْرى بالنعيم المقيم ، على ألسنة الرّسل والملائكة ، عند حضور الموت ، وحين يحشرون ، وبعد ذلك.
فَبَشِّرْ عِبادِ ، الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ أي : ما نزل من الوحى فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أرجحه وأكثره ثوابا ، أو : أبينه ، الذي هو ضد المتشابه. وهؤلاء هم الموصوفون باجتناب الطاغوت ، والإنابة إلى ربهم ، لكن وضع موضع ضميرهم الظاهر تشريفا لهم بالإضافة ، ودلالة على أن مدار اتصافهم بالوصفين الجليلين كونهم نقادا فى الدين ، يميّزون الحق من الباطل ، ويؤثرون الأفضل.
أُولئِكَ المنعوتون بتلك المحاسن الجملية هم الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ لدينه ، والإشارة إليهم باعتبار اتصافهم بما ذكر من النّعوت الجليلة ، وما فيه من معنى البعد للإيذان بعلو رتبهم ، وبعد منزلتهم فى الفضل.
___________
(1) فى الأصول [فى أقصى ].(5/63)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 64
وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ أي : هم أصحاب العقول الصافية ، السليمة من معارضة الوهم ومنازعة الهوى ، المستحقون للهداية ، لا غيرهم.
وفيه دليل على أن الهداية تحصل بفضل اللّه تعالى ، لقوله : هَداهُمُ اللَّهُ ، وقبول النّفس لها لقوله : هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ الإشارة : مذهب الصوفية : الأخذ بالعزائم ، والأرجح من كل شىء ، عقدا ، وقولا ، وعملا ، فأخذوا من العقائد مقام العيان ، ولم يقنعوا بالدليل والبرهان ، وأخذوا من الأقوال ألينها وأطيبها ، ويجمع ذلك : حسن الخلق مع كل مخلوق ، فآثروا العفو على القصاص ، والصفح على العتاب ، وغير ذلك من عزائم الشريعة على رخصها ، ومن الأذكار : أرجحها وأجمعها ، وهو الاسم المفرد ، الذي هو سلطان الأسماء ، ومن الأعمال : أعظمها وأرجحها ، وهو عمل القلوب ، الذي هو الذرة منه تعدل أمثال الجبال من أعمال الجوارح ، كعبادة الفكرة والنّظرة ، وفى الحديث :
«تفكر ساعة أفضل من عبادة سبعين سنة» «1» ، فأوقاتهم كلها ليلة القدر ، وكالتخلق بمكارم الأخلاق ، كالرضا ، والتسليم ، والحلم ، والسخاء ، والكرم ، وغير ذلك من محاسن الخلل ، الذي هو من عمل القلوب ، فهم الذين تحققت فيهم البشارة بقوله : فَبَشِّرْ عِبادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ.
وقال الورتجبي - بعد كلام : ويتبع الكلام الأزلى - الذي هو الخطاب - بالفهم العجيب ، والعلم الغريب ، والإدراك الصافي ، وانفراد الحق عن المخلوق ، فى المحبة ، والشوق ، والمعرفة ، والتوحيد ، والإخلاص ، والعبودية ، والرّبوبية ، والحرية ، فهذا أفضل ورد بالبديهة ، من حيث ظهور الأنباء العجيبة ، والرّوح القدسية ، والإلهامات الربانية .. انظر بقية كلامه. وقال القشيري : الاستماع يكون لكل شىء ، والاتباع يكون للأحسن. ثم قال : من عرف اللّه لا يسمع إلا باللّه. ه. أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ إلى صريح معرفته العيانية. وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ ، ولب الشيء : قلبه وخالصه ، فقلوبهم خالصة لمولاهم ، وأرواحهم متنعمة بشهود حبيبها ، وأسرارهم متنزهة فى رياض ملكوت سيدها. وباللّه التوفيق.
ثم ذكر ضدهم ، فقال :
[سورة الزمر (39) : آية 19]
أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (19)
___________
(1) أخرجه أبو الشيخ فى كتاب العظمة (1/ 300 ، ح 43) عن أبى هريرة بلفظ : «فكرة ساعة خير من عبادة ستين سنة» وأخرجه الديلمي فى الفردوس (2/ 70 ح 2397) من حديث أنس بلفظ «ثمانين سنة» وانظر الموضوعات لابن الجوزي (3/ 144). [.....](5/64)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 65
قلت : مَنْ : شرطية ، دخل عليها همزة الإنكار ، والفاء عاطفة على جملة محذوفة ليتعلق الإنكار والنّفى بمضمونهما معا ، أي : أنت مالك أمر النّاس ، فمن حقّ عليه كلمة العذاب أفأنت تنقذه ، ثم كررت الهمزة فى الجزاء لتأكيد الإنكار ، وتكريره ، لمّا طال الكلام ، ثم وضع موضع الضمير «من فى النّار» لمزيد تشديد الإنكار والاستبعاد ، والتنبيه على أن المحكوم عليه بالعذاب بمنزلة الواقع فى النّار ، ويجوز أن يكون الجزاء محذوفا ، دلّ عليه : أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ ... إلخ ، أي : أفمن حقّ عليه العذاب تنقذه أنت.
يقول الحق جل جلاله : أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ ، وهم عبدة الطاغوت ومتبعو خطواتها ، كما يلوح إليه التعبير عنهم ب «من حق عليه كلمة العذاب» ، فإن المراد بها قوله تعالى لإبليس : لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ «1» ، وقوله تعالى : لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ «2» ، أي : أفمن حقت عليه كلمة الشقاء ، تقدر أن تهديه وتنقذه من الكفر ، الذي هو سبب النّار؟ أو : تقول : المحكوم عليه بالنار بمنزلة الداخل فيها ، فاجتهاده صلّى اللّه عليه وسلم فى دعائهم إلى الإيمان سعى فى إنقاذهم من النّار بعد الدخول فيها ، وهو لا يفيد. فالمراد :
تسكينه صلّى اللّه عليه وسلم وتفريغه من الحرص عليهم.
الإشارة : من سبق له الإبعاد لا يفيده الكد والاجتهاد ، ومن أسدل بينه وبينه الحجاب ، لا يفيده إلا الوقوف بالباب ، حتى يحّن الكريم الوهاب ، فإنّ العواقب فى هذه الدار مبهمة ، والأعمال بالخواتم. قال القشيري : والذين حقت عليهم كلمة العذاب ، فإنهم اليوم اليوم لا يخرجون من حجاب قلوبهم. ه. وباللّه التوفيق.
ولمّا كان المراد بقوله : أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ هم الذين قيل فى حقهم : لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ «3» استدرك عنهم أهل التقى ، فقال :
[سورة الزمر (39) : آية 20]
لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعادَ (20)
___________
(1) الآية 85 من سورة «ص».
(2) الآية 18 من سورة الأعراف.
(3) الآية 16 من السورة.(5/65)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 66
يقول الحق جل جلاله : لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ ، وهم الذين وصفوا بقوله تعالى : يا عِبادِ فَاتَّقُونِ «1» ، ووصفوا بالاجتناب والإنابة ، وحصل لهم البشرى ، حيث استمعوا وتبعوا أحسن القول ، وهم المخاطبون أيضا بقوله : يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ «2» ... الآية.
فبيّن هنا أن لهم درجات عالية فى جنات النّعيم ، فى مقابلة ما للكفرة من دركات سافلة فى الجحيم ، فهى فى مقابلة قوله لهم : مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ فى حق الكفار ، أي : لكن أهل التقى لهم علالى ، بعضها فوق بعض مَبْنِيَّةٌ بناء المنازل المؤسسة على الأرض فى الرّصانة والإحكام. تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا أي :
من تحت تلك الغرف الْأَنْهارُ من غير تفاوت بين العلو والسفل. وَعْدَ اللَّهِ أي : وعد اللّه ذلك وعدا ، فهو مصدر مؤكد لقوله : لَهُمْ غُرَفٌ فإنه فى قوة الوعد. لا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعادَ لاستحالته عليه سبحانه.
الإشارة : من اتقى اللّه فيما أمر ونهى ، كانت له درجات حسية ، مبنية من الذهب والفضة ، يترقى فيها على قدر عمله وتقواه. ومن اتقى ما يشغل عن اللّه من جنس الكائنات ، كانت له درجات ومقامات معنوية ، قربية اصطفائية ، يرتقى فيها بقدر تقواه وسعيه إلى مولاه ، وعد اللّه لا يخلف اللّه الميعاد. قال القشيري : وعد المطيعين الجنة - ولا محالة - لا يخلفه ، ووعد المذنبين المغفرة ، ولا محالة - يغفر لهم ، ووعد المريدين القاصدين بالوصول ، فإذا لم تقع لهم فترة فلا محالة يصدق وعده. ه.
ثم برهن على ما أوعد ووعد مما يكون بعد البعث من آثار قدرته ، فقال :
[سورة الزمر (39) : آية 21]
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (21)
يقول الحق جل جلاله : أَلَمْ تَرَ أيها السامع أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً هو المطر ، وقيل : كل ماء فى الأرض فهو من السماء ، ينزل منها إلى الصخرة ، فيقسمه اللّه تعالى بين البقاع. فَسَلَكَهُ : أدخله ونظمه يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ أي : عيونا ومجارى فى الأرض ، كجرى الدماء فى العروق فى الأجساد ، أو : مياها
___________
(1) من الآية 16 من السورة.
(2) من الآية 10 من سورة الزمر.(5/66)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 67
نابعة فى ظهرها ، فإن الينبوع يطلق على المنبع والنّابع. فنصب «ينابيع» على الحال ، على القول الثاني ، وعلى نزع الخافض ، على الأول.
ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ : أصنافه ، من بر وشعير وغيرهما ، أو : كيفياته من الألوان ، كالصفرة والخضرة والحمرة ، والطعوم وغيرهما. وثُمَّ : للتراخى فى الرّتبة والزمان ، وصيغة المضارع : لاستحضار الصورة البديعة ، ثُمَّ يَهِيجُ أي : يتم جفافه ، ويشرف على أن يثور من منابته ، ويستقل على وجه الأرض ، ساترا لها ، فَتَراهُ مُصْفَرًّا من بعد خضرته ونضرته ، ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً فتاتا متكسرة ، كأن لم يغن بالأمس ، فمن قدر على هذا قدر على إنشاء الخلق بعد فنائهم ومجازاتهم.
وقيل : المراد من الآية : تمثيل الحياة الدنيا ، فى سرعة الزوال ، وقرب الاضمحلال ، بما ذكر من أحوال الزرع ، ترغيبا عن زخارفها وزينتها ، وتحذيرا من الاغترار بمن سرّ بها ، كما فى قوله تعالى : إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ «1» ... الآية ، وقيل : للاستشهاد على تحقق الموعود من الأنهار الجارية من تحت الغرف ، بما يشاهد من إنزال المياه من السماء ، وما يترتب عليه من آثار قدرته تعالى ، وإحكام حكمته ورحمته.
إِنَّ فِي ذلِكَ أي : ما ذكر تفصيلا من إنزال الماء وما نشأ عنه. لَذِكْرى : لتذكيرا عظيما لِأُولِي الْأَلْبابِ : لأصحاب العقول الخالصة من شوائب الهوى ، فيتذكرون بذلك أن الحياة الدنيا فى سرعة التقضي والانصرام ، كما يشاهدونه من حال الحكام كل عام ، فلا يغترون ببهجتها ، ولا يفتنون بفتنتها. أو : يجزمون بأن من قدر على إنزال الماء من السماء ، وإجرائه فى ينابيع الأرض ، قادر على إجراء الأنهار من تحت الغرف. وأما ما قيل : من أنه استدلال على وجود الصانع فلا يليق لأن هذه الأفعال الجليلة ذكرت مسندة إلى اللّه تعالى وإنما يليق الاستدلال بها على وجود الصانع لو ذكرت غير مسندة إلى مؤثر ، فتعيّن أن يكون متعلق التذكير والتنبيه شئونه تعالى وشئون آثاره ، كما بيّن ، لا وجوده تعالى. قاله أبو السعود.
الإشارة : قال القشيري : والإشارة فى هذا أن الإنسان يكون طفلا ، ثم شابا ، ثم كهلا ، ثم شيخا ، ثم يصير إلى أرذل العمر ، ثم إلى آخره يخترم ، ويقال : إن الزرع ما لم يأخذ فى الجفاف لا يؤخذ منه الحبّ ، الذي هو المقصود منه ، كذلك الإنسان مالم [يخل ] «2» من نفسه وحوله لا يكون له قدر ولا قيمة. قلت : يعنى أنه ما لم يمحص نفسه ، وينهكها فى التقرب إلى مولاه ، لا قيمة له.
___________
(1) الآية 24 من سورة يونس.
(2) فى القشيري : [يحصل ].(5/67)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 68
ثم قال : ويقال : إن المؤمن بقوة عقله يوجب [استقلاله بعمله ] «1» إلا أن يبرز منه كمال يمكّنه من وفارة بصيرته ، ثم إذا بدت لائحة من سلطان المعارف تصير تلك [الأبواب ] «2» مغمورة ، فإذا بدت أنوار التوحيد استهلكت تلك الجملة كذلك ، وأنشدوا :
فلمّا استبان الصبح أدرج ضوءه بأنواره ضوء الكواكب «3». ه.
قلت : استقلال العبد بعمله هو مثل بروز الزرع من منبته ، ووفور بصيرته هو إخراج حبه فى سنبله ، وبدو لائحة من سلطان المعارف هو اصفراره ، وظهور أنوار التوحيد التي تفنى وجوده وتغمره فى وجود الحق هو صيرورتها حطاما ، فتأمل. وهذا كله نتيجة شرح الصدر الذي أشار إليه بقوله :
[سورة الزمر (39) : آية 22]
أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (22)
قلت : الهمزة للإنكار ، ومِنْ : مبتدأ ، والخبر محذوف ، أي : كمن ليس كذلك.
يقول الحق جل جلاله : أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ أي : وسّعه وهيّاه لِلْإِسْلامِ حتى قبله وفرح به ، واستضاء بنوره ، فَهُوَ عَلى نُورٍ عظيم مِنْ رَبِّهِ ، وبصيرة فى دينه ، وهذا النّور : هو اللطف الإلهى الفائض عليه عند مشاهدة الآيات التكوينية والتنزيلية ، والتوفيق للاهتداء بها ، أو : بمحض الإلهام من الجود والكرم ، فيقذف فى قلبه نور اليقين ، بلا سبب ، أو : بصحبه أهل النّور ، هل يكون هذا كمن قسا قلبه ، وحرج صدره ، واستولى عليه ظلمة الغى والضلالة ، فأعرض عن تلك الآيات بالكلية؟! ولما نزلت هذه الآية سئل صلّى اللّه عليه وسلم عن الشرح المذكور ، فقال : «نور يقذفه اللّه فى القلب ، فإذا دخل النّور القلب انشرح وانفسح» قيل : وهل لذلك علامة؟ قال : «نعم التجافي عن دار الغرور ، والإنابة إلى دارالخلود ، والاستعداد للموت قبل نزوله» «4».
___________
(1) فى القشيري : [استفادة له بعلمه ]
(2) فى القشيري (الأنوار).
(3) أنشده أبو العباس السهارى. كما فى طبقات الأولياء (367). وجاء فى طبقات الصوفية للسلمى (447) : أنشده أبو العباس السياري ، واسمه : القاسم بن القاسم بن مهدى.
(4) أخرجه البغوي فى تفسيره (7/ 114) والحكيم الترمذي فى نوادر الأصول ، فى (الأصل السادس والثمانين) والحاكم فى المستدرك (4/ 411) وسكت عنه. والبيهقي فى الشعب (ح 10552) من حديث عبد اللّه بن مسعود رضي اللّه عنه.(5/68)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 69
فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ : أي الصلبة اليابسة مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أي : من أجل ذكره ، الذي من حقه أن ينشرح له الصدر ، وتلين له النّفس ، ويطمئن به القلب ، وهؤلاء إذا ذكر اللّه عندهم اشمأزوا من أجله ، وازدادت قلوبهم قساوة.
قال الفخر : اعلم أن ذكر اللّه سبب لحصول النّور والهداية ، وزيادة الاطمئنان فى النّفوس الطاهرة الرّوحانية ، وقد يوجب القسوة والبعد عن الحق فى النّفوس الخبيثة الشيطانية ، فإذا عرفت هذا ، فنقول : رأس الأدوية التي تفيد الصحة الرّوحانية ورتبتها : هو ذكر اللّه ، فإذا اتفق لبعض النّفوس أن صار ذكر اللّه سببا لازدياد مرضها ، كان مرض تلك النّفوس مرضا لا يرجى زواله ، ولا يتوقع علاجه ، وكانت فى نهاية الشر والرّداءة ، فلهذا المعنى قال تعالى : فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ وهذا كلام محقق. ه. وهو كما قيل فى الجعل «1» أنها تتضرر برياح الورد ، أي : وتنتعش بالشين. ف كل من يفر من ذكر اللّه ، ويثقل عليه ، فقلبه جعل.
ذكره فى الحاشية.
أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ أي : أولئك البعداء الموصوفون بما ذكر من قساوة القلوب فى ضلال بعيد من الحق ، ظاهر ضلاله لكل أحد. قيل : نزلت الآية فى حمزة وعلىّ - رضي اللّه عنهما - وأبى لهب وولده «2» ، وقيل :
فى عمّار وأبى جهل. والحق : أنها عامة.
الإشارة : من أراد اللّه به السعادة شرح صدره للإسلام ، فقبله وعمل عمله ، ومن أراد به جذب العناية وتحقيق الولاية ، شرح صدره لطريق أهل مقام الإحسان ، فدخل فى طريقهم ، وهيأ نفسه لصحبتهم وخدمتهم ، فما زال يقطعون به مهامه النّفوس حتى يقولون له : ها أنت وربك ، فتلوح له الأنوار ، وتشرق عليه شموس المعارف والأسرار ، حتى يفنى ويبقى باللّه.
قال القشيري : والنّور الذي من قبله تعالى نور اللوائح بتحقق العلم ، ثم نور اللوامع بثبات الفهم ، ثم نور المحاضرة بزوائد اليقين ، ثم نور المكاشفة بتجلى الصفات ، ثم نور المشاهدة بظهور الذات ، ثم أنوار الصمدية بحقائق التوحيد ، وعند ذلك فلا [وجد ولا فقد] «3» ، ولا بعد ولا قرب ، كلا ، بل هو اللّه الواحد القهار. ه. فمن لم يبلغ هذا لا يخلو قلبه من قساوة ، فويل للقاسية قلوبهم من ذكر اللّه ، أولئك فى ضلال مبين.
___________
(1) الجعل : دابة سوداء من دواب الأرض ، كالخنفساء. انظر اللسان (جعل 1/ 638).
(2) ذكره الواحدي فى أسباب النّزول (ص 383) بدون إسناد.
(3) فى الأصول [فلا وجه ولا قصة] والمثبت من القشيري. [.....](5/69)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 70
ثم ذكر سبب لين القلوب ، وهو كتاب اللّه العزيز ، فقال :
[سورة الزمر (39) : آية 23]
اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (23)
قلت : «كتابا» : بدل من «أحسن» ، أو : حال ، لوصفه بقوله : مُتَشابِهاً. و«مثانى» : صفة أخرى لكتاب ، أو :
حال أخرى منه ، أو : تمييز من «متشابها» ، كما تقول : رأيت رجلا حسنا شمائل ، أي : شمائله ، والمعنى : متشابهة مثانيه. وتَقْشَعِرُّ : الأظهر أنه استئناف ، وقيل : صفة لكتاب ، أو : حال منه.
يقول الحق جل جلاله : اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ وهو القرآن إذ لا حديث أحسن منه ، لا تمله القلوب ، وتسأمه الأسماع بل ترداده يزيده تجملا وطراوة وتكثير حلاوة. روى أن أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ، ملّوا ملة ، فقالوا لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم : حديثا ، فنزلت»
.
والمعنى : أن فيه مندوحة عن سائر الأحاديث.
وفى إيقاع اسم الجلالة مبتدأ ، وبناء «نزّل» عليه ، من تفخيم أحسن الحديث ، ورفع محله ، والاستشهاد على حسنه ، وتأكيد إسناده إليه تعالى ، وأنه من عنده ، لا يمكن صدوره من غيره ، والتنبيه على أنه وحي معجز ، مالا يخفى.
حال كونه كِتاباً مُتَشابِهاً أي : يشبه بعضه بعضا فى الإعجاز والبلاغة ، أو : تشابهت معانيه بالصحة ، والإحكام ، والابتناء على الحق والصدق ، واستتباع منافع الخلق فى المعاد والمعاش ، وتناسب ألفاظه وجمله فى الفصاحة والبلاغة ، وتجاوب نظمه فى الإعجاز. مَثانِيَ : جمع مثنى ، أي : مكرر ، ومردد ، لما ثنى من قصصه ، وأنبائه ، وأحكامه ، وأوامره ونواهيه ، ووعده ووعيده ، ووعظه. وقيل : لأنه يثنّى فى التلاوة ، ويكرر مرة بعد أخرى. قال القشيري : ويشتمل على نوعى الثناء عليه ، بذكر سلطانه وإحسانه ، وصفة الجنة والنّار ، والوعد والوعيد. ه.
___________
(1) أخرجه بنحوه ابن جرير (23/ 211) عن ابن عباس رضي اللّه عنه ، والواحدي فى الأسباب (ص 383) عن سعد ، رضي اللّه عنه.(5/70)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 71
تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ أي : ترتعد وتنقبض ، والاقشعرار : التقبض ، يقال : اقشعرّ الجلد :
إذا انقبض ، ويقال : اقشعر جلده و. وقف شعره : إذا عرض له خوف شديد ، من منكر هائل دهمه بغتة. والمعنى : أنهم إذا سمعوا القرآن وقوارعه وزواجره ، أصابتهم هيبة وخشية تقشعر منه جلودهم ، وإذا ذكروا رحمة اللّه تعالى تبدلت خشيتهم رجاء ، ورهبتهم رغبة ، وذلك قوله تعالى : ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ أي : ساكنة مطمئنة إلى ذكر اللّه.
ذلِكَ أي : الكتاب الذي شرح أحواله هُدَى اللَّهِ ، يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ أن يهديه ، بصرف مجهوده إلى سبب الاهتداء به ، أو بتأمله فيما فى تضاعيفه من شواهد الحقيقة ، ودلائل كونه من عند اللّه.
وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ أي : يخلق فيه الضلالة ، بصرف قدرته إلى مبادئها ، وإعراضه عما يرشد إلى الحق بالكلية ، وعدم تأثره بوعده ووعيده ، أو : من يخذله فَما لَهُ مِنْ هادٍ يخلصه من ورطة الضلال. أو :
ذلك الذي ذكر من الخشية والرّجاء هو أثر هدى اللّه ، يهدى لذلك الأثر من يشاء من عباده ، وَمَنْ يُضْلِلِ أي :
ومن لم يؤثر فيه لطفه وهدايته لقسوة قلبه ، وإصراره على فجوره فَما لَهُ مِنْ هادٍ : من مؤثر فيه بشىء قط.
الإشارة : أول ما يظهر الفتح على قلب العبد فى فهم كتاب اللّه ، والتمتع بحلاوة تلاوته ، ثم ينتقل إلى الاستغراق فى ذكره باللسان ، ثم بالقلب ، ثم إلى الفكرة ، ثم العكوف فى الحضرة ، إن وجد من يربيه وينقله عن هذه المقامات ، وإلا بقي فى مقامه الأول.
وقال الطيبي : من أراد اللّه أن يهديه بالقرآن ، أوقع فى قلبه الخشية ، كقوله : هُدىً لِلْمُتَّقِينَ «1» ثم يتأثر منه ظاهرا ، بأن تأخذه فى بدء الحال قشعريرة لضعفه ، وقوة سطوة الوارد ، فإذا أدمن على سماعه ، وألف أنواره ، يطمئن ويلين ويسكن. ه. قلت : وعن هذا عبّر الصدّيق بقوله حين رأى قوما يبكون عند سماعه : (كذلك كنا ثم قست القلوب) «2» أي : صلبت وقويت على حمل الواردات.
وقال الورتجبي : سماع المريدين بإظهار الحال عليهم ، وسماع العارفين بالطمأنينة والسكون. ه. وقال على قوله : مُتَشابِهاً : إنه أخبر عن كلية الذات والصفات ، التي منبعهما أصل القدم ، وصفاته كذاته ، وذاته كصفاته ،
___________
(1) من الآية 2 من سورة البقرة.
(2) نقله الحافظ أبو نعيم فى الحلية 1/ 33 - 34 ، وراجع البحر المديد 3/ 346.(5/71)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 72
وكلّ صفة كصفة أخرى ، من حيث التنزيه والقدس والتقديس ، والكلام بنفسه متشابه المعاني. ه. يعنى : إنما كان القرآن متشابها لأنه أخبر عن كلية الذات والصفات القديمين ، والذات لها شبه بالصفات من حيث اللطافة ، والصفات تشبه بعضها بعضا فى الدلالة على التنزيه والكمال ، أي : كتابا دالا على كلية الذات المشابهة للصفات.
وهذا حمل بعيد.
ثم ذكر مثال المهتدى والضال ، فقال :
[سورة الزمر (39) : الآيات 24 الى 26]
أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (24) كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (25) فَأَذاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (26)
قلت : وَقِيلَ : عطف على «يتقى» ، أو : حال من ضمير «يتقى» ، بإضمار «قد».
يقول الحق جل جلاله : أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ الذي هو أشرف أعضائه سُوءَ الْعَذابِ أي : العذاب السيّء الشديد يَوْمَ الْقِيامَةِ كمن ليس كذلك ، بل هو آمن ، لا يعتريه مكروه ، ولا يحتاج إلى اتقاء ، بوجه من الوجوه ، وإنما كان يتقى النّار بوجهه لكون يده التي كان يتقى بها المكاره والمخاوف مغلولة إلى عنقه. قال القشيري : قيل : إن الكافر يلقى فى النّار ، فيلقاها أولا بوجهه لأنه يرمى فيها منكوسا «1» فأما المؤمن الموقّى ذلك فهو الملقّى بالكرامة ، فوجهه ضاحك مستبشر «2». ه.
وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ : يقال لهم من جهة خزنه النّار. وصيغة الماضي للدلالة على التحقق. ووضع المظهر فى مقام المضمر للتسجيل عليهم بالظلم ، والإشعار بعلة الأمر فى قوله : ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ أي : وبال ما كنتم تكسبونه فى الدنيا ، من الظلم بالكفر والمعاصي.
___________
(1) أخرج ابن جرير عن ابن عباس رضي اللّه عنهما ، قال : «ينطلق به إلى النّار مكتوفا ثم يرمى فيها ، فأول ما تمس وجهه النّار».
(2) النقل فيه تصرف : انظر لطائف الإشارات.(5/72)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 73
كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ من الأمم السالفة ، فَأَتاهُمُ الْعَذابُ المقرر لكل أمة مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ : من الجهة التي لا يحتسبون ، ولا يخطر ببالهم إتيان الشر منها. فَأَذاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ أي : الذل والصغار فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ، كالمسخ ، والخسف ، والقتل ، والأسر ، والإجلاء ، وغير ذلك من فنون النّكال ، وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ المعد لهم أَكْبَرُ لشدته ودوامه لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ أي : لو كان من شأنهم أن يعلموا شيئا لعلموا ذلك واعتبروا به.
والآية ، يحتمل أن تكون تهديدا لقريش ، فالضمير فى قَبْلِهِمْ يعود إليهم لأن قوله : وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ .. إلخ تعرض بمن أعرض عن كتابه من كفار قريش. وقال أبو السعود : هو استئناف ، مسوق لبيان ما أصاب بعض الكفرة من العذاب ، إثر بيان ما يصيب الكل من العذاب الأخروى. ه.
الإشارة : الوجه هو أشرف الأعضاء وإمامها ، فإن كانت فى الباطن بهجة المحبة ، أو سيما المعرفة ، ظهرت عليه ، فيتنور ويبتهج ، وإن كانت ظلمة المعاصي ، أو كآبة الحجاب ، ظهرت عليه ، وإن كانت غيبة فى الحق أو سكرة ، كان هو أول ما يغيب من الإنسان ويغرق ، ثم تغيب البشرية فى البحر المحيط ، وهو بحر الأحدية. وقوله تعالى : فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ ، قال القشيري : أشدّ العذاب ما يكون بغتة ، كما أن أتمّ السرور ما يكون فلتة. وفى الهجران والفراق والشدة ما يكون بغتة غير متوقعة ، وهو أنكى للفؤاد ، وأشدّ فى التأثير ، وأوجعه للقلوب ، وفى معناه أنشدوا «1» :
فبتّ «2» بخير والدّنى مطمئنة فأصبحت يوما والزمان تقلّبا
وأتمّ السرور وأعظمه تأثيرا ما يكون فجأة ، حتى قال بعضهم : أشد السرور غفلة على غفلة ، وأنشدوا :
بينما خاطر المنى بالتلاقى سابح «3» فى فؤاده وفؤادى
جمع اللّه بيننا فالتقينا هكذا بغتة «4» بلا ميعاد. ه «5»
___________
(1) فى القشيري : وفى معناه قلنا.
(2) فى الأصول : فبتنا.
(3) فى الأصول : سانح.
(4) فى القشيري : صدفة.
(5) انظر لطائف الإشارات 3/ 279.(5/73)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 74
ولمّا بيّن وبال من أعرض عن أحسن الحديث ، بيّن فضله وشرفه ، فقال :
[سورة الزمر (39) : الآيات 27 الى 28]
وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (27) قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (28)
قلت : قرآنا : حال مؤكدة من «هذا» على أن مدار التأكيد هو الوصف ، كقولك : جاءنى زيد رجلا صالحا.
يقول الحق جل جلاله : وَلَقَدْ ضَرَبْنا أي : وضحنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ : يحتاج إليه النّاظر فى أمر دينه ، لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ أي : كى يتذكروا به ويتعظوا ، حال كونه قُرْآناً عَرَبِيًّا لتفهموا معانيه بسرعة ، غَيْرَ ذِي عِوَجٍ : لا اختلاف فيه بوجه من الوجوه ، فهو أبلغ من المستقيم ، وأخص بالمعاني.
وقيل : المراد بالعوج : الشك. لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ما يضرهم فى معادهم ومعاشهم.
الإشارة : قد بيّن اللّه فى القرآن ما يحتاج إليه المريد فى سلوكه وجذبه ، وسيره ووصوله ، من بيان الشرائع وإظهار الطرائق ، وتبيين الحقائق. قال تعالى : ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ «1» لكن لا يغوص على هذا إلا الجهابذة من البحرية الذين غاصوا بأسرارهم فى بحر الأحدية ، وتغلغلوا فى العلوم اللدنية ، ومن لم يبلغ هذا المقام يصحب من يبلغه ، حتى يوصله إلى ربه ، ولا يكون الوصول إلا بلقب مفرد ، غير مشترك ، كما بيّن ذلك بقوله تعالى :
[سورة الزمر (39) : الآيات 29 الى 31]
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (29) إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31)
قلت : مَثَلًا : مفعول ثان لضرب ، ورَجُلًا : مفعول أول ، وأخّر للتشويق إليه ، وليصل بما وصف به ، وقيل : بدل من «مثلا» ، وفِيهِ : خبر ، و«شركاء» : مبتدأ ، والجملة : صفة لرجل ، و«مثلا» : تمييز.
يقول الحق جل جلاله : ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا للمشرك والموحد ، رَجُلًا فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ :
مختلفون متخاصمون عسيرون ، وهو المشرك ، وَرَجُلًا سَلَماً أي : خالصا لِرَجُلٍ فرد ، ليس لغيره عليه
___________
(1) من الآية 38 من سورة الأنعام.(5/74)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 75
سبيل. والمعنى : جعل اللّه مثلا للمشرك حسبما يقوده إليه مذهبه ، من ادعاء كل من معبوديه عبوديته ، عبدا يتشارك فيه جماعة ، يتجاذبونه فى مهماته المتباينة فى تحيره وتعبه ، ومثلا آخر للموحّد ، وهو عبد خالص لرجل واحد فإنه يكون عند سيده أحظى ، وبه أرفق.
هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلًا : إنكار واستبعاد لاستوائهما ، وإيذان بأن ذلك من الجلاء والظهور ، بحيث لا يقدر أحد أن يتفوه باستوائهما ضرورة أن أحدهما فى أعلى عليين ، والآخر فى أسفل سافلين.
وقرأ نافع وابن عامر والكوفيون سَلَماً بفتحتين ، وهو مصدر ، من : سلم له كذا : إذا خلص ، نعت به للمبالغة ، فالقراءتان «1» متفقتان معنى. والمراد من المثل : تصوير استراحة الموحد وانجماعه على معبوده ، وتعب المشرك وتشتيت باله ، وخصوصا مع فرض التعاكس من الشركاء ، فيصير متحيرا ، وفى عنت كبير من الجمع بين أغراضهم ، بل ربما يتعذر ذلك ويستحيل للتضاد فى الأغراض والتناقض ، مع فرض التخالف والتنازع بينهم ، واعتبر ذلك بحال الوالدين ، إذا اختلفا على الولد ، فإنه يعسر إرضاؤهما إلا بمشقة واحتيال ، وكذلك عابد الأوثان فإنه معذّب الفكر بها ، وبحراسة حاله منها ، ومتى توهم أنه أرضى واحدا فى زعمه تفكر فيما يصنع مع الآخر ، فهو أبدا فى تعب وضلال ، وكذلك هو المصانع للناس ، الممتحن بخدمة الملوك. قاله ابن عطية.
والحاصل : أن إرضاء الواحد أسهل وأيسر من إرضاء الجماعة الْحَمْدُ لِلَّهِ على عدم استوائهما. [قال ] «2» الطيبي : ثم إذا لزمتهم الحجة قل : الحمد للّه ، شكرا على ما أولاك من النّصرة ، وقهر الأعداء بالحجج الساطعة. وفيه تنبيه للموحدين على أن ما لهم من المزية ، وعلو الرتبة ، بتوفيق اللّه تعالى ، وأنه منّة جليلة ، موجبة عليهم أن يداواموا على حمده وعبادته ، أو : حيث ضرب لهم المثل الأعلى ، وللمشركين المثال السوء ، فهذا صنع جميل ، ولطف تام ، مستوجب لحمده وشكره بَلْ أَكْثَرُهُمْ أي : المشركون لا يَعْلَمُونَ ذلك ، مع كمال ظهوره ، فيقعون فى ورطة الشرك والضلال ، وهو انتقال من بيان الاستواء على الوجه المذكور ، إلى بيان عدم علمهم ذلك ، مع غاية ظهوره.
___________
(1) قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، ويعقوب : (سالما) بالألف وكسر اللام ، اسم فاعل من سلم ، أي : خالصا من الشركة. وقرأ الباقون :
(سلما) بفتح السين واللام ، بلا ألف ، مصدر وصف به ، مبالغة فى الخلوص من الشركة. انظر الإتحاف (2/ 429) والبحر المحيط (7/ 407).
(2) زيادة ليست فى الأصول.(5/75)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 76
ثم ذكر المحل الذي يظهر فيه عدم استوائهما عيانا ، وهو ما بعد الموت ، فقال : إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ، فتجتمعون عندنا ، فنحكم بينكم. وقيل : كانوا يتريصون برسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم موته ، أي : إنكم جميعا بصدد الموت ، ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ ، فتحتج عليهم بأنك بلّغت الرّسالة ، واجتهدت فى الدعوة ، فتلزمهم الحجة لأنهم قد لجوا فى العناد ، فإذا اعتذروا بتقليد آبائهم لم يقبل عذرهم. وقيل : المراد : الاختصام فيما دار بينهم فى الدنيا. والأول أنسب.
الإشارة : لا يستوى القلب المشترك مع القلب المفرد الخالص للّه ، القلب المشترك تفرقت همومه ، وتشتت أنواره ، بتشتيت شواغله وعلائقه ، وتفرقت محبته ، بتفرق أهوائه وحظوظه ، والقلب المفرد اجتمعت محبته وتوفرت أنواره وأسراره بقدر تفرغه من شواغله وعلائقه. وفى الحكم : «كما لا يحب العمل المشترك ، لا يحب القلب المشترك ، العمل المشترك لا يقبله ، والقلب المشرك لا يقبل عليه». وقال أيضا : «فرّغ قلبك من الأغيار تملؤه بالمعارف والأسرار».
وقيل للجنيد : كيف السبيل إلى الوصول؟ فقال : بتوبة تزيل الإصرار ، وخوف يقطع التّسويف ، ورجاء يبعث على مسالك العمل ، وبإهانة النّفس ، بقربها من الأجل ، وبعدها من الأمل. قيل له : وبم يتوصل إلى هذا؟ فقال :
بقلب مفرد ، فيه توحيد مجرد. ه.
وفى الحديث عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم «من جعل الهموم همّا واحدا - أي : وهو اللّه - كفاه اللّه همّ دنياه ، ومن تشعبت به الهموم لم يبال اللّه به فى أىّ أودية الدنيا هلك» «1» وقال صلّى اللّه عليه وسلم : «من كانت الدنيا همّه فرّق اللّه عليه أمره ، وجعل فقره بين عينيه ، ولم يأته من الدنيا إلا ما قسم له ، ومن كانت الآخرة نيته ، جمع اللّه عليه أمره ، وجعل غناه فى قلبه ، وأتته الدنيا وهى صاغرة» «2». ومن كان اللّه همه بفنائه فيه جمع اللّه عليه سره ، وأغناه به عما سواه ، وخدمه الوجود بأسره ، «أنت مع الأكوان ما لم تشهد المكون ، فإذا شهدت المكون كانت الأكوان معك» «3». واللّه تعالى أعلم.
___________
(1) رواه الحاكم (2/ 443) «وصحّحه ، ووافقه الذهبي». والبيهقي فى الشعب (10340) من حديث ابن عمر رضي اللّه عنه. وأخرجه ابن ماجة بسند ضعيف ، فى (المقدمة ، 1/ 95 ، ح 257) من حديث ابن مسعود رضي اللّه عنه. [.....]
(2) أخرجه أحمد فى المسند (5/ 183) وابن ماجة فى (الزهد ، باب الهم بالدنيا ، 2/ 1375 ، ح 4105) من حديث زيد بن ثابت رضي اللّه عنه ، وأخرجه ، من حديث أنس بن مالك رضي اللّه عنه ، الترمذي فى (صفة القيامة والرّقائق ، 4/ 554 ، ح 2465).
(3) حكمة عطائية ، انظر الحكم بتبويب المتقى الهندي/ ص 33 حكمة 248.(5/76)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 77
ثم بيّن فريقى الاختصام ، فقال :
[سورة الزمر (39) : الآيات 32 الى 35]
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ (32) وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33) لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ (34) لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (35)
يقول الحق جل جلاله : فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ بأن أضاف إليه الشريك والولد ، فإنه لا أحد أظلم منه إذ هو أظلم من كلّ ظالم. وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ أي : الأمر الذي هو نفس الصدق وعين الحق ، وهو ما جاء به النّبى صلّى اللّه عليه وسلم من عند اللّه إِذْ جاءَهُ أي : كذّب فى أول مجيئه ، من غير تأمل فيه ولا تدبر ، أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ؟ أي : لهؤلاء الذين افتروا على اللّه ، وسارعوا إلى التكذيب بالصدق ، فأظهر موضع الإضمار تسجيلا وإيذانا بعلة الحكم الذي استحقوا به جهنم ، والجمع باعتبار معنى" من" ، كما أن الإفراد فى الضمائر السابقة باعتبار لفظها ، أو : لجنس الكفرة ، وهم داخلون فى الكفر دخولا أولياء.
وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وهو محمد صلّى اللّه عليه وسلم وَصَدَّقَ بِهِ : وهم المؤمنون ، أي : والفوج ، أو : الفريق الذي جاء بالصدق ، والفريق الذي صدّق به. أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ : المنعوتون بالتقى ، [التي ] «1» هى أجلّ الرّغائب.
وقرىء «صدق» بالتخفيف «2» ، أي : صدق به النّاس ، فأدّاه إليهم كما أنزل عليه ، من غير تغيير ، وقيل : صار صادقا بسببه لأن ما جاء به من القرآن معجزة دالة على صدقه صلّى اللّه عليه وسلم.
لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ : هو بيان لما لهم فى الآخرة من حسن المآب ، بعد بيان مالهم فى الدنيا من محاسن الأعمال ، أي : لهم ما يشاءونه من جلب المنافع ودفع المضار ، وتوالى المسار فى الآخرة ، لا فى الجنة فقط
___________
(1) فى الأصول [الذي ].
(2) وبه قرأ أبو صالح ، وعكرمة بن سليمان ، ومحمد بن حجازة. انظر : مختصر ابن خالويه (ص 132) ، والمحتسب (2/ 237).(5/77)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 78
لأن بعض ما يشاؤون يقع قبل دخول الجنة ، من تكفير السيئات ، والأمن من الفزع الأكبر ، وسائر أهوال القيامة.
ذلِكَ الذي ذكر من حصول كلّ ما يشاءونه جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ أي : الذين أحسنوا أعمالهم فى الدنيا.
لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا ، اللام متعلق بقوله : لَهُمْ ما يَشاؤُنَ لأنه فى معنى الوعد ، كأنه قيل : وعد اللّه لهم جميع ما يشاءونه من دفع المضار وحصول المسار ليكفر عنهم بموجب ذلك الوعد أسوأ الذي عملوا ، أي : أقبحه وأعظمه ، وأولى أصغره. وقيل : يتعلق بمحذوف ، أي : يسر لهم الصدق والتصديق ليكفر .. إلخ.
وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ فإذا كان فى عملهم حسن وأحسن منه ، جزاهم بجزاء الأحسن على الجميع ، تكرما منه وإحسانا.
والحاصل : أنه سبحانه لكرمه يكفر السيّء والأسوأ بالأحروية ، ويجزى على الحسن بجزاء الأحسن منه والأرجح ، كمن أهدى لملك هديتين صغيرة وكبيرة فكافأه على الصغيرة بقدر ما كافأه على الكبيرة. قال القشيري : وأحسن أعمال المؤمن : الإيمان والمعرفة ، فيكون على أحسن الأعمال أحسن الثواب ، وهو الرّؤية. ه.
وإظهار اسم الجليل فى موضع الإضمار ، لإبراز كمال الاعتناء بمضمون الكلام ، والجمع بين الماضي والمستقبل فى صلة الموصول الثاني - أي : الذي كانوا يعملون - دون الأول للإيذان باستمرارهم على الأعمال الصالحة ، بخلاف السيئة.
الإشارة : كل من ادعى حالا مع اللّه ، وليست متحققة فيه ، فقد كذب على اللّه ، وكلّ من أنكر على أولياء زمانه فقد كذّب بالصدق إذ جاءه. وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ ، وهو من أذن له فى التذكير أو التربية. وَصَدَّقَ بِهِ ، وهو من سمع وتبع ، أولئك هم المتقون ، دون غيرهم ، لهم ما يتمنون عند ربهم فى الدنيا والآخرة ، ذلك جزاء أهل مقام الإحسان ، الذين يعبدونه على العيان ، يغطى وصفهم بوصفه ، ونعتهم بنعته ، فيوصلهم بما منه إليهم ، لا بما منهم إليه ، ثم يكفيهم جميع الشرور ، كما قال تعالى :
[سورة الزمر (39) : الآيات 36 الى 37]
أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (36) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقامٍ (37)(5/78)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 79
يقول الحق جل جلاله : أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ أي : نبيه صلّى اللّه عليه وسلم. نزلت تقوية لقلبه - عليه السّلام ، وإزالة للخوف الذي كان الكفار يخوفونه ، أو : جنس العبد ، فيشمل الأنبياء كلهم والمؤمنين ، وينتظم فيه النّبى صلّى اللّه عليه وسلم انتظاما أوليا ، ويؤيده قراءة الأخوين «1» بالجمع. وهو إنكار ونفى لعدم كفايته تعالى على أبلغ وجه وآكده ، كأنّ الكفاية بلغت من الظهور ما لا يقدر أحد على أن يتفوه بعدهما ، أو يتلعثم فى الجواب بوجودها ، وإذا علم العبد أن الحق تعالى قائم بكفايته ، سكن قلبه واطمأن ، وأسقط الأحمال والكلف عن ظهره ، فلا جرم أن اللّه يكفيه ما أهمه ، ويؤمّنه مما يخافه ، كما قال تعالى لنبيه صلّى اللّه عليه وسلم :
وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ أي : الأوثان التي اتخذوها آلهة دونه تعالى ، وهى جوامد ، لا تضر ولا تنفع ، وهذا تسلية لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم عما قالت قريش : إنا نخاف أن تخبلك آلهتنا ، وتصيبك معرّتها لعيبك إياها. وفى رواية :
قالوا : لتكفنّ عن آلهتنا ، أو ليصيبنك منهم خبل أو جنون «2» ، كما قال قوم هود : إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ «3». وجملة : «ويخوفونك» : استئناف ، أو : حال. وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ حتى غفل عن كفايته وعصمته صلّى اللّه عليه وسلم ، أو : اعتقد أن الأصنام تضر وتنفع فَما لَهُ مِنْ هادٍ يهديه إلى ما يرشده.
وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ إلى توحيده وطاعته فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ يصرفه عن رشده ، أو يصيبه سوء يخل بسلوكه إذ لا راد لفعله ، ولا معارض لقضائه ، كما ينطق به قوله تعالى : أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ : غالب لا يغالب ، منيع لا يمانع ولا ينازع ، ذِي انْتِقامٍ من أعدائه لأوليائه ، بإعزاز أوليائه وإذلال أعدائه. وإظهار الاسم الجليل فى موضع الإضمار لتحقيق مضمون الكلام ، وتربية المهابة. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : إذا علم العبد أن اللّه كاف جميع عباده ، وثق بضمانه ، فاستراح من تعبه ، وأزال الهموم والأكدار عن قلبه ، فيدخل جنة الرّضا والتسليم ، ويهب عليه من روح الوصال وريحان الجمال نسيم ، فيكتفى باللّه ، ويقنع بعلم اللّه ، ويثق بضمانه.
قال فى لطائف المنن : مبنى الولىّ على الاكتفاء باللّه ، والقناعة بعلمه ، والاغتناء بشهوده. قال تعالى :
أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ وقال تعالى : أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ «4». ه. وقال الشيخ
___________
(1) قرأ حمزة والكسائي : (عباده) بألف ، على الجمع. وقرأ الباقون : (عبده) بغير ألف. انظر الإتحاف (2/ 429).
(2) ذكر هذه الرّواية السيوطي فى الدر (5/ 615 - 616) وعزاها لعبد الرّزاق وابن المنذر عن قتادة. وانظر تفسير البغوي (7/ 120).
(3) من الآية 54 من سورة هود.
(4) من الآية 53 من سورة فصلت.(5/79)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 80
أبو الحسن صلّى اللّه عليه وسلم : يقول اللّه - عز وجل : عبدى اجعلنى مكان همك أكفك همك ، عبدى ما كنت بك فأنت فى محل البعد ، وما كنت بي فأنت فى محل القرب ، فاختر لنفسك. ه. أي : ما دمت مهموما بنفسك فأنت فى محل البعد ، وإذا خرجت عنها ، وطرحتها بين يدى خالقها ، أو غبت عن وجودها بالكلية ، فأنت فى محل القرب ، الأول : قرب مراقبة ، والثاني : قرب مشاهدة.
وقوله تعالى : وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ : هو عام فى كلّ ما يخاف منه ، فالعارف لا يخاف من شىء لعلمه بأن اللّه ليس معه شىء ، ولا يقع فى الوجود إلا قدره وقضاؤه ، ومن يعتقد غير هذا فهو ضال ، ومن يضلل اللّه فلا هادى له. وباللّه التوفيق.
ثم قرر هذا الأمر وحقيقته بقوله :
[سورة الزمر (39) : آية 38]
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (38)
يقول الحق جل جلاله : وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ أي : من يخوفونك ممن سوى اللّه ، وقلت لهم : مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ لوضوح الدلائل على انفراده بالاختراع. قُلْ تبكيتا لهم : أَفَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ من الأصنام ، إِنْ أَرادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ أي : إذا تحققتم أن خالق العالم العلوي والسفلى هو اللّه وحده ، فأخبرونى عن آلهتكم ، إن أرادنى اللّه بضر هل يقدر أحد منهم على كشف ذلك الضر عنى؟ أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ أي : بنفع هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ وصارفتها عنى؟! وقرأ البصري : «كاشفات» و«ممسكات» بالتنوين ، ونصب «ضره» و«رحمته» على المفعول. وتعليق إرادة الضر والرّحمة بنفسه صلّى اللّه عليه وسلم ، للرد فى نحورهم حيث كانوا يخوفونه من معرّة الأوثان ، ولما فيه من الإيذان بإمحاض النصيحة. وإنما قال : «كاشفات» و«ممسكات» على التأنيث ، بعد قوله : وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ لأنهن إناث ، وهن اللات ، والعزّى ، ومناة ، وفيه تهكّم بهم ، وبمعبودهم حيث جعلهم يعبدون الإناث.(5/80)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 81
قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ أي : كافينى فى جميع أمورى من إصابة الخير ودفع الشر. روى أنه صلّى اللّه عليه وسلم لما سألهم سكتوا ، فنزلت «1» : قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ ، لا على غيره أصلا لعلمهم بأن كلّ ما سواه تحت قهر ملكوته.
الإشارة : الناس على قسمين : أعداء وأحباب ، فإن نظرت إلى الأعداء وجدتهم لا يقدرون أن ينفعوك بشىء إلا ما قدّر اللّه لك ، وإن نظرت إلى الأعداء وجدتهم لا يقدرون أن يضروك بشىء إلا ما قدّر اللّه عليك ، فارفض الجميع ، وتعلق باللّه يغنك عن غيره ، ويوصل إليك ما قسم لك بالعز والهناء.
ثم توعدهم بالعذاب ، فقال :
[سورة الزمر (39) : الآيات 39 الى 41]
قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (39) مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ (40) إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (41)
يقول الحق جل جلاله : قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ أي : على حالتكم التي أنتم عليها ، وجهتكم من العداوة التي تمكنتم فيها ، فالمكانة بمعنى المكان ، فاستعيرت من العين للمعنى ، وهى الحال ، كما تستعار «هنا».
و«حيث» للزمان ، وإنما وضعا للمكان. وقرأ أبو بكر وحمّاد : «مكانات» بالجمع. إِنِّي عامِلٌ على مكانتى ، فحذف للاختصار ، والمبالغة فى الوعيد ، والإشعار بأن حاله لا تزال تزداد قوة بنصر اللّه تعالى له ، وتأييده ، ولذلك توعدهم بقوله : فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ فإنّ خزى أعدائه دليل غلبته صلّى اللّه عليه وسلم ونصره فى الدنيا والآخرة. وقد أخزاهم وعذّبهم يوم بدر ، وَسوف تعلمون أيضا من يَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ فى الآخرة لأنه مقيم على الدوام.
ثم ذكر الفاصل بين أهل العذاب المقيم ، والنّعيم الدائم ، فقال : إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ لِلنَّاسِ أي :
لأجلهم ، فمن أعرض عنه فقد استحق العذاب الأليم ، ومن تمسك به استوجب النّعيم المقيم ، حال كونه ملتبسا
___________
(1) انظر تفسير القرطبي (6/ 5871) والبغوي (7/ 121).(5/81)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 82
بِالْحَقِّ ناطقا به ، أو : أنزلناه محقين فى إنزاله. فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ ، إنما ينفع به نفسه وَمَنْ ضَلَّ :
بأن أعرض عنه ، أو عن العمل به. فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها لأن وبال إضلاله مقصور عليها. وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ حتى تجبرهم على الهدى ، وما وظيفتك إلا التبليغ ، وقد بلغت أىّ بلاغ.
الإشارة : من ذكّر قوما فأعرضوا عنه ، ولم يرفعوا له رأسا ، يقول لهم : يا قوم اعملوا على مكانتكم .. إلخ ، وأىّ عذاب أشد من الحجاب ، والبعد عن حضرة الحبيب؟.
ثم ذكر دلائل البعث الذي يحل فيه العذاب على أهل الإعراض ، فقال :
[سورة الزمر (39) : آية 42]
اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (42)
يقول الحق جل جلاله : اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ أي : الأرواح حِينَ مَوْتِها فيقبضها إليه قبضا ، وَيتوفى الأنفس الَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فيقبضها ويترك شعاعها فى البدن ، فالتى قضى عليها الموت يتوفاها ظاهرا وباطنا ، والتي لم يقض موتها يتوفاها ظاهرا فقط عند النّوم ، فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ ، لا يردها إلى البدن ، وَيُرْسِلُ الْأُخْرى أي : النائمة إلى بدنها عند التيقظ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى : هو الوقت المضروب لموتها ، فشبه النّائمين بالموتى ، حيث لا يميزون ولا يتصرفون ، كما أن الموتى كذلك.
قال الإمام «1» : النفس الإنسانية عبارة عن جوهر مشرق روحانى ، إذا تعلق بالبدن حصل ضوؤه فى جميع الأعضاء ، وهى الحياة ، ثم إنه فى وقت النّوم ينقطع تعلقه عن ظاهر البدن ، دون باطنه ، وفى وقت الموت ينقطع تعلقه عن ظاهر البدن وباطنه ، فالموت والنّوم من جنس واحد بهذا الاعتبار ، لكن الموت انقطاع كامل ، والنّوم انقطاع ناقص ، فظهر أن القادر الحكيم دبّر [تعلق جوهر] «2» النفس بالبدن على ثلاثة أوجه ، أحدها : أنه دبّر أمرها ، بحيث يقع ضوء [الروح ] «3» على جميع أجزاء البدن ، ظاهره وباطنه ، وذلك هو اليقظة.
___________
(1) هو الإمام الرّازى ، وانظر كلامه فى مفاتيح الغيب (13/ 448). والنّقل بتصرف.
(2) زيارة ليست فى الأصول الخطية. وأثبتها من تفسير الفخر الرّازى.
(3) فى تفسير الرّازى : النفس.(5/82)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 83
وثانيها : بحيث يقطع عن الظاهر والباطن ، وهو الموت. وثالثها : بحيث يقطع عن ظاهر البدن دون الباطن ، وهو النّوم ، فثبت أن النّوم والموت يشتركان فى كلّ واحد منهما بتوفى النّفس ، ثم يمتاز أحدهما بخواص معينة.
ومثل هذا التقدير العجيب لا يمكن صدوره إلا عن القادر العليم الحكيم. ه.
وقال سهل : إن اللّه إذا توفى الأنفس أخرج الرّوح النّورى من لطيف نفس الطبيعي الكثيفى ، فالذى يتوفى فى النوم من لطيف نفس الطبع ، لا لطيف نفس الرّوح. فالنائم يتنفس تنفسا لطيفا ، وهو نفس الرّوح ، الذي إذا زال لم يكن للعبد حركة ، وكان ميتا. وقال : حياة النّفس الطبيعي بنور لطيف ، وحياة لطيف نفس الرّوح بذكر اللّه. وقال أيضا : الروح تقوم بلطيفة فى ذاتها بغير نفس الطبع ، ألا ترى أن اللّه تعالى خاطب الكلّ فى الذر بنفس ، وروح ، وفهم ، وعقل ، وعلم لطيف ، بلا حضور طبع كثيف. ه. قلت : وبهذا الاعتبار يقع لها العذاب فى البرزخ أو النّعيم ، وتذهب وتجىء فى عالم البرزخ.
وقال فى القصد : النفس مع الرّوح كالجسد مع الظل ، والظل يميل ، والأصل لا يميل ، والرّوح سره ، والسر بربه ، وهو شعاع الحقيقة الصغرى ، والسر نور السر الأعلى ، وكلّ هذا مخلوق بقدرة اللّه موثوق ، فلا يستفزك غير هذا فتشقى ، وفى جهنم من نور البعد تلقى. ه. قلت : السر الأعلى هو معانى أسرار الذات القائمة بالأشياء ، وهو قديم غير مخلوق.
وذكر الثعلبي عن ابن عباس أنه قال : فى ابن آدم نفس وروح ، بينهما مثل شعاع الشمس ، فالنفس هى التي بها العقل والتمييز ، والرّوح التي بها التحرك والنّفس فإذا نام العبد قبض اللّه نفسه ولم يقبض روحه. ه. هذا ، وفى الصحيح : إن اللّه قبض أرواحنا حيث شاء ، وردها حيث شاء. فأطلق القبض على الأرواح. والصواب : أن النّفس والرّوح فى هذا واحد بدليل قوله : اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ والحاصل : أن الموت : توف كامل ، بإخراج الرّوح مع شعاعها من البدن ، فتذهب الحياة ، والنّوم : توف ناقص ، بإخراج الرّوح مع بقاء شعاعها فى البدن ، به الحياة والتنفّس.
وعن ابن عباس رضي اللّه عنه أيضا أنه قال : إن أرواح الأحياء والأموات تلتقى فى المنام ، ويتعارف ما شاء اللّه منها ، فإذا أراد اللّه رجوعها إلى الأجسام ، يمسك اللّه عنده أرواح الأموات ، ويرسل أرواح الأحياء إلى أجسادها ، فذلك قوله عز وجل : اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ .. الآية «1».
___________
(1) انظر تفسير النّسفى (2/ 183).(5/83)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 84
وعبارة «عز الدين بن عبد السّلام» : فى كلّ جسد روحان إحداهما : روح اليقظة ، التي أجرى اللّه العادة أنها إذا كانت فى الجسد كان الإنسان متيقظا ، فإذا خرجت من الجسد نام الإنسان ، ورأت تلك الرّوح المنامات ، والأخرى :
روح الحياة ، التي أجرى اللّه العادة أنها إذا كانت فى الجسد كان حيّا فإذا فارقته مات ، فإذا رجعت إليه حيى ، وهاتان الرّوحان فى بطن الإنسان ، لا يعلم مقرّهما إلا من أطلعه اللّه عليهما ، فهما كجنينين فى بطن امرأة. ه.
والآية منبهة على كمال قدرته ، وفيها دلالة على البعث ، وأنه كاليقظة سواء ، وهذا معنى قوله : إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ فى عجائب قدرته ، فيعلمون أن من قدر على إمساك الأرواح فى النّوم ، وردها ، قادر على إماتتها وإحيائها. وفى التوراة : كما تنام تموت ، وكما تستيقظ تبعث.
الإشارة : اللّه يتوفى الأنفس المطهرة إلى حضرة قدسه ، حين موتها من الهوى ، ويقبض الأنفس التي لم تمت من حظوظها فى سجن الأكوان ، وهيكل ذاتها ، فى حال منام غفلتها ، فيمسك التي قضى عليها الموت فى حضرة قدسه ، فلا يردها إلى شهود حضرة الأشباح ، ويرسل الأخرى تجول فى حضرة الأشباح وأودية الدنيا ، إلى أجل مسمّى ، إما موتها الحسى أو المعنوي ، إن سبقت لها سابقة عناية.
ثم تمم الرّد على من اعتقد أن الأصنام تنفع أو تضر ، فقال :
[سورة الزمر (39) : الآيات 43 الى 44]
أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعاءَ قُلْ أَوَلَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ (43) قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (44)
يقول الحق جل جلاله : أَمِ اتَّخَذُوا أي : قريش مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعاءَ ، فيزعمون أن أصنامهم تشفع لهم عند اللّه ، أي : إنهم اتخذوا - على زعمهم - من دون اللّه شفعاء بحكمهم ، لا بتعريف من قبل اللّه وإخبار ، فإن اللّه لا يقبل الشفاعة من أحد إلا بإذن منه ، وإن الذين يقولون ذلك افتراء على اللّه. قُلْ أَوَلَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ ، الهمزة لإنكار الواقع واستقباحه ، والتوبيخ عليه ، أي : قل : أتتخذونهم شفعاء ولو كانوا لا يملكون شيئا من الأشياء ولا يعقلون شيئا ، فضلا عن أن يملكوا الشفاعة عند اللّه تعالى.(5/84)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 85
قُلْ تبكيتا وتجهيلا لهم : لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً أي : هو مالكها ، ولا يقدر أحد أن يتصدى لها ، إلا أن يكون المشفوع له مرتضى ، والشفيع مأذونا ، وكلاهما مفقود فى أصنامهم ، ثم قرر اختصاصه بالشفاعة بقوله :
لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي : له التصرف فيهما ، وفيما فيهما من المخلوقات ، لا يملك أحد أن يتكلم فى أمر من أموره بدون إذنه ورضاه ، ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ يوم القيامة ، لا إلى أحد سواه ، فيفعل يومئذ ما يريد.
قال النّسفى : لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ اليوم ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ يوم القيامة ، فلا يكون الملك فى ذلك اليوم إلّا له ، فله الملك فى الدنيا والآخرة. ه.
الإشارة : الشفاعة إنما تكون لأهل الجاه عند اللّه ، والجاه يعظم بحسب التوجه ، والتوجه يعظم على قدر المحبة ، والمحبة على حسب العناية السابقة ، يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ فبقدر أنوار التوجه تعظم أنوار المواجهة ، وبقدر أنوار المواجهة تتسع المعرفة ، وبحسب المعرفة يكون الجاه ، وبقدر الجاه تتسع الشفاعة ، حتى إن الواحد من الأولياء يشفع فى وجود بأسره من أهل زمانه ، إما عند موته ، أو عند الحساب. واللّه تعالى أعلم.
ثم ذكر علامة أهل الشرك ، فقال :
[سورة الزمر (39) : الآيات 45 الى 46]
وَإِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (45) قُلِ اللَّهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (46)
قلت : «وحده» : منصوب عند سيبويه ، على المصدر ، وعند الفراء : على الحال ، والظاهر : أنه أطلق المصدر على اسمه.
يقول الحق جل جلاله : وَإِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ أي : إذا أفرد اللّه بالذكر ، ولم تذكر معه آلهتهم ، فمدار المعنى على قوله : وَحْدَهُ ، اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أي : انقبضت ونفرت ، كقوله :
... وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً
«1» ، وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ يعنى : آلهتهم ، ذكر اللّه معهم ، أو لم يذكر ، إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ لفرط افتتانهم بها ، ونسيانهم ذكر اللّه ، أو : وإذا قيل لهم :
لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له ، نفروا لأن فيه نفيا لآلهتهم.
___________
(1) من الآية 46 من سورة الإسراء. [.....](5/85)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 86
وقال الورتجبي : صورة الآية وقعت على الجاحدين والمتكبرين ، الذين ليس فى محبتهم إلا متابعة الأشكال والأمثال ، من حيث التشبيه والخيال لأن قلوبهم خلقت على مشاكلة الأضداد والأنداد ، ولم يكن فى قلوبهم سجية أهل المعرفة باللّه ، فإذا سمعوا ذكر من لا يدخل فى الخيال والمثال انقبضت قلوبهم وصدورهم ، ونفرت ، وإذا سمعوا ذكر غير اللّه من الصور والأشباح ، سكنت نفوسهم إليها من غاية غباوتهم ، وكمال جهالتهم ، فهم مثل الصبيان ، إذ هم يفرحون بالأفراس الطينية والأسد الخشبية ، ولا يطيقون أن ينظروا إلى عدو العاديات ، وإلى الضراغم الباديات .. ه. مختصرا.
ولقد بالغ فى بيان حالتيهم المتقابلتين حيث ذكر الغاية فيهما ، فإن الاستبشار : هو أن يمتلىء القلب سرورا ، حتى تنبسط له بشرة الوجه وتتهلل ، والاشمئزاز : أن يمتلىء القلب غيظا وغمّا ، حتى ينقبض منه أديم الوجه ، فتظهر عليه الكآبة والحزن. والعامل فى إِذا الأولى : «اشمأزت» ، وفى الثانية : ما هو العامل فى «إذا» الفجائية ، والتقدير : وقت ذكر الذين من دونه فاجأوا وقت الاستبشار.
ثم أمر نبيه بالالتجاء إليه حين إدبارهم ، فقال : قُلِ اللَّهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي : يا فاطر ، وليس بوصف ، خلافا للفراء والمبرّد ، أي : اللهم يا مظهر السماوات والأرض ، عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أي : ما غاب من أسرار ذاتك وما ظهر ، أو : السر والعلانية ، أي : التجئ إليه تعالى إذا اغتممت من شدة شكيمتهم فى المكابرة والعناد فإنه القادر على الأشياء بجملتها ، والعالم بالأحوال برمتها. أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ أي : حكما يسلمه كلّ مكابر ومعاند ، ويخضع له كلّ عات ومارد ، فاحكم بينى وبين معاندى ، بالنصر عليهم فى الدنيا والآخرة.
وعن ابن المسيّب «1» : «ما أعرف آية قرئت فدعى عندها إلا أجيب سوى هذه». يعنى أنه صلّى اللّه عليه وسلم دعا اللّه أن يحكم بينه وبين عدوه بالاستئصال ، فأمهل لأنه رحمة. وعن الرّبيع بن خثيم - وكان قليل الكلام - : أنه أخبر بقتل الحسين رضي اللّه عنه ، وقالوا : الآن يتكلم ، فما زاد على أن قال : أو قد فعلوا؟ ، وقرأ : اللَّهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ...
الآية ، ثم قال على إثرها : قتل من كان رسول صلّى اللّه عليه وسلم يجلسه فى حجره ، ويقبل فاه «2». ه.
الإشارة : ينبغى للمؤمن أن يكون متعاكسا مع المشرك ، إذا سمع كلمة التوحيد «لا إله إلا اللّه» ، فرح وانبسط ، وإذا ذكر اللغو واللعب اشمأز وانقبض ، والعابد أو الزاهد إذا سمع ما يدل على الطاعة والاستعداد للآخرة فرح ونشط ،
___________
(1) فى النّسفى : الربيع بن المسيب.
(2) انظر : تفسير النّسفى (2/ 185).(5/86)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 87
وإذا سمع ما يدلّ على الدنيا والبطالة اشمأز وانقبض ، والمريد السائر ، إذا سمع ما يقرب إلى اللّه فرح وانبسط ، وإذا سمع ما يبعد عنه من ذكره السّوى اشمأز وانقبض ، وأما الواصل الكامل فلا ينقبض من شىء لزيادته إلى اللّه بكلّ شىء لأنه عرف اللّه فى كلّ شىء ، وسمع منه فى كلّ شىء ، فلا يحجبه عن اللّه شىء ، قد فنيت دائرة حسه ، واتسعت دائرة معرفته ، يأخذ النّصيب من كلّ شىء ، ولا يأخذ النّصيب منه شىء.
قال الشيخ أبو الحسن الشاذلى رضي اللّه عنه : فى بعض كتب اللّه المنزلة على أنبيائه ، يقول اللّه تعالى : من أطاعنى فى كلّ شىء ، بهجرانه لكل شىء ، أطعته فى كلّ شىء ، بأن أتجلى له دون كلّ شىء ، حتى يرانى أقرب إليه من كل شىء. هذه طريق أولى ، وهى طريق السالكين. وطريق أخرى كبرى : من أطاعنى فى كلّ شىء ، بإقباله على كل شىء ، لحسن إرادة مولاه فى كلّ شىء ، أطعته فى كلّ شىء ، بأن أتجلى له فى كلّ شىء ، حتى يرانى كأنى كل شىء. ه.
ثم ذكر وبال الشرك ، فقال :
[سورة الزمر (39) : الآيات 47 الى 48]
وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (47) وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (48)
يقول الحق جل جلاله : وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا بالشرك ، ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً : من الأموال والذخائر ، وَمِثْلَهُ مَعَهُ زائد عليه ، لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذابِ أي : شدته ، يَوْمَ الْقِيامَةِ أي : لو أن لهم جميع ما فى الدنيا لجعلوا ذلك فدية لأنفسهم من العذاب الشديد ، وهيهات هيهات ، ولات حين مناص. وهذا كما ترى وعيد شديد لأهل الشرك ، وإقناط كلى لهم. وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ أي : ظهر لهم من فنون العقوبات ما لم يكن فى ظنهم وحسبانهم ، ولم يحدّثوا به نفوسهم. وهذا غاية من الوعيد ، لا غاية وراءها ، ونظيره فى الوعد : قوله تعالى : فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ «1».
___________
(1) من الآية 17 من سورة السجدة.(5/87)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 88
وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا أي : ظهر لهم سيئات أعمالهم التي كسبوها. أو : سيئات كسبهم حين تعرض عليهم صحائفهم ، وكانت خافية عليهم ، أو : عقاب ذلك. وَحاقَ بِهِمْ أي : نزل بهم وأحاط ، ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ أي : جزاء هزئهم بالإسلام ، ومن جاء به ، ومن تبعه.
الإشارة : الآية تجرّ ذيلها على كلّ ظالم لم يتب ، فيتمنى الفداء بجميع ما فى الأرض ، فلا يمكّن منه. وقوله تعالى : وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ ، هذه الآية عامة ، لا يفلت منها إلا الفرد النّادر ، الذي وصل إلى غاية المعرفة العيانية ، ومن لم يصل إلى هذا المقام فهو مقصر ، يظن أنه فى عليين ، وهو فى أسفل سافلين ، ولذلك عظم خوف السلف منها ، فقد جزع محمد بن المنكدر عند الموت ، فقيل له فى ذلك ، فقال : أخشى آية من كتاب اللّه : وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ فأنا أخشى أن يبدو لى من اللّه ما لم أحتسب «1». وعن سفيان أنه قرأها ، فقال : ويل لأهل الرّياء ، ويل لأهل الرّياء. ه.
وفى الإحياء : من اعتقد فى ذات اللّه وصفاته وأفعاله خلاف الحق ، وخلاف ما هو عليه إما برأيه أو معقوله ونظره ، الذي به يجادل ، وعليه يعول ، وبه يغتر ، وإما بالتقليد ، فمن هذا حاله ربما ينكشف له حال الموت بطلان ما اعتقده جهلا ، فيتطرق له أن كلّ ما اعتقده لا أصل له ، فيكون ذلك سببا فى شكه عند خروج روحه ، فيختم له بسوء الخاتمة ، وهذا هو المراد بقوله تعالى : وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ وبقوله : هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا «2» .. الآية. انظر عبارته فى كتاب الخوف ، وقريبا منه فى القوت ، عصمنا اللّه من سوء القضاء ، وختم لنا بالسعادة التامة بمنّه وكرمه.
ثم ذكر حالة أخرى من قبائح أهل الشرك ، فقال :
[سورة الزمر (39) : الآيات 49 الى 51]
فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (49) قَدْ قالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (50) فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (51)
___________
(1) انظر تفسير البغوي (7/ 124).
(2) الآية 103 من سورة الكهف.(5/88)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 89
يقول الحق جل جلاله : فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ أي : جنسه ضُرٌّ : فقر أو غيره دَعانا معرضا عما سوانا. والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها ، من ذكر حالتى أهل الشرك القبيحتين ، وما بينهما اعتراض مؤكد للإنكار عليهم ، أي : إنهم يشمئزّون عن ذكر اللّه وحده ، ويستبشرون بذكر الآلهة ، فإذا مسهم الضر دعوا من اشمأزوا عن ذكره ، دون من استبشروا بذكره ، فناقضوا فعلهم.
فإن قلت : حق الاعتراض أن يؤكّد المعترض بينه وبينه؟ قلت : ما فى الاعتراض من دعاء الرّسول صلّى اللّه عليه وسلم ربه ، بأمر من اللّه ، وقوله : أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ ، ثم ما عقّبه من الوعد العظيم ، تأكيد لإنكار اشمئزازهم ، واستبشارهم ، ورجوعهم إلى اللّه فى الشدائد ، دون آلهتهم ، كأنه قيل : قل : يا ربّ لا يحكم بينى وبين هؤلاء ، الذين يجترئون عليك مثل هذه الجراءة ، إلا أنت ، ثم هدهم بقوله : ولو أن لهؤلاء الظلمة ما فى الأرض جميعا لافتدوا به.
انظر النّسفى.
ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا : أعطيناه إياها ، تفضلا فإن التخويل مختص به ، لا يطلق على ما أعطى جزاء ، فإذا أعطيناه ذلك قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ أي : ذلك التخويل أو الإنعام عَلى عِلْمٍ منى بوجوه كسبه ، كما قال قارون : إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي «1» أو : على علم منى بأنى سأعطاه ، لما فىّ من فضل واستحقاق ، أو : على علم من اللّه تعالى باستحقاقى لذلك المال ، فتذكير الضمير إما لعوده على التخويل المأخوذ من خَوَّلْناهُ ، أو : بتأويل النّعمة بمعنى الإنعام ، أو : المراد بشىء من النّعمة ، أو : يعود على «ما» إذا قلنا : موصولة ، لا كافة ، أي : إن الذي أوتيته على علم منى.
قال تعالى : بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ أي : ليس ما خوّلناه نعمة بل هى محنة وابتلاء له ليظهر كفره أو شكره. ولما كان الخبر مؤنثا ساغ تأنيث المبتدأ لأجله ، وقرىء : «بل هو فتنة». وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ أنّ الأمر كذلك ، وأنّ التخويل إنما كان فتنة ، وفيه دلالة على أن المراد بالإنسان الجنس.
قَدْ قالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أي : قد قال هذه المقالة ، وهى : إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ من قبلهم ، كقارون وقومه ، قال قارون : إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي «2» وقومه راضون بمقالته ، فكأنهم قالوها معه. ويجوز أن يكون فى الأمم الخالية آخرون قائلون مثلها. فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ من متاع الدنيا ، وما جمعوا منها شيئا حين ينزل بهم العذاب ، فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا أي : جزاء سيئات ما كسبوا ، وهو العذاب فى الدنيا والآخرة ، أو : سمّى جزاء السيئة سيئة للازدواج ، كقوله : وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها «3» أي : فأصابهم وبال
___________
(1) من الآية 78 من سورة القصص.
(2) من الآية 78 من سورة القصص.
(3) من الآية 40 من سورة الشورى.(5/89)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 90
ما كسبوا ، وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ : المشركين ، يعنى قريشا ، سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا من الكفر والمعاصي ، كما أصاب أولئك. والسين للتأكيد. وقد أصابهم ذلك ، حيث قحطوا سبع سنين ، وقتل صناديدهم يوم بدر. وَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ : بفائتين من عذاب اللّه الإشارة : هذه الخصال الذميمة توجد فى كثير من هذه الأمة ، إذا أصابت العبد شدة أو قهرية رجع إلى اللّه ، فإذا فرج عنه بسبب عادى ، كما هو دأب عالم الحكمة ، أسند الفرج إلى ذلك السبب ، فيقول : فلان فرج عنى ، أو الدواء الفلاني شفانى ، وهو شرك ، كاد أن يكون جليا. والواجب : النظر إلى فعل اللّه وقدرته ، وإسقاط الوسائط من نظره ، ولو وجدت حكمة ، فالكمال فعلها وجودا ، والغيبة عنها شهودا. وباللّه التوفيق.
ثم ذكر ما جرت به عادته فى خلقه ، من تعاقب العسر واليسر ، والقبض والبسط ، فقال :
[سورة الزمر (39) : آية 52]
أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52)
يقول الحق جل جلاله : أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أي : أقالوا ذلك ولم يعلموا ، أو : أغفلوا ولم يعلموا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ أي : يوسعه لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ أي : يضيق لمن يشاء بلا سبب ولا علة ، أو : يجعله على قدر القوت من غير زيادة ولا نقصان ، وهو من إتمام النّعمة. وفى الحكم : «من تمام النّعمة عليك أن يعطيك ما يكفيك ، ويمنعك ما يطغيك» «1». إِنَّ فِي ذلِكَ : البسط والقبض لَآياتٍ دالة على أن الحوادث كلها من اللّه بلا واسطة ، لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ، إذ هم المستدلون بها على أن القابض والباسط هو اللّه ، دون غيره.
الإشارة : قد يبسط اللّه الرّزق لمن لا خلاق له عنده ، ويقبضه عن أحب الخلق إليه ، وهو الغالب ، فرزق المتقين كفاف ، ورزق المترفين جزاف.
ولما وبّخ المشركين ، وأطنب الكلام فيه ، وأبرق وأرعد ، رغّب فى التوبة للكافة ، استعطافا وترغيبا بعد الترهيب ، فقال :
___________
(1) انظر الحكم ، بتبويب المتقى الهندي/ ص 37 حكمة 225.(5/90)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 91
[سورة الزمر (39) : الآيات 53 الى 54]
قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (54)
يقول الحق جل جلاله : قُلْ يا محمد يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أي : أفرطوا فى الجناية عليها ، بالإسراف فى المعاصي ، والغلو فيها ، لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ : لا تيأسوا من مغفرته أولا ، وتفضله بالرحمة ثانيا ، إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً ، بالعفو عنها ، إلا الشرك. وفى قراءة النّبى صلّى اللّه عليه وسلم : «يغفر الذنوب جميعا ولا يبالى» «1» لكنها لم تتواتر عنه.
والمغفرة تصدق بعد التعذيب وقبله ، وتقييده بالتوبة خلاف الظاهر ، كيف ، وقوله تعالى : إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ «2» ظاهر فى الإطلاق مما عدا الشرك؟ ولما يدل عليه التعليل بقوله :
إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ على المبالغة ، وإفادة الحصر ، والوعد بالرحمة بعد المغفرة. وما فى عِبادِيَ من الدلالة على الذلة والاختصاص ، المقتضيين للترحم. إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ يستر عظام الذنوب الرَّحِيمُ يكشف فظائع الكروب. والآية ، وإن نزلت فى «وحشي» ، قاتل «حمزة» ، أو فى غيره ، لا تقتضى التخصيص بهم ، فإن أسباب النّزول لا تخصص. وعن النّبى صلّى اللّه عليه وسلم : «ما أحب أن لى الدنيا وما فيها بهذه الآية» «3».
ولما نزلت فى شأن وحشي ، وأسلم ، قال المسلمون : هذه له خاصة ، أو للمسلمين عامة؟ فقال النّبى صلّى اللّه عليه وسلم : «بل هى للمسلمين عامة» «4». وقال قتادة : إن ناسا أصابوا ذنوبا عظاما ، فلما جاء الإسلام أشفقوا ألا يتاب عليهم ، فدعاهم اللّه تعالى بهذه الآية «5». وقال ابن عمر : نزلت هذه الآيات فى عياش بن أبى ربيعة ، والوليد بن الوليد ،
___________
(1) أخرجها الترمذي فى (التفسير - باب ومن سورة الزمر ، ح 3237) والبغوي فى شرح السنة (14/ 384) وفى التفسير (7/ 126) من حديث أسماء بنت يزيد ، قال الترمذي : حديث حسن غريب.
(2) الآية 48 ، 116 من سورة النّساء.
(3) أخرجه أحمد (5/ 275) وابن جرير (24/ 16) والبيهقي فى شعب الإيمان (باب 47 ح 7137) من حديث ثوبان رضي اللّه عنه.
(4) عزاه السيوطي فى الدر (5/ 620) للطبرانى ، وابن مردويه ، والبيهقي فى الشعب ، بسند لين. عن ابن عباس رضي اللّه عنه.
(5) أخرج البخاري فى (التفسير - تفسير سورة الزمر - باب يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ ح 4810) عن سعيد جبير ، عن ابن عباس : أن ناسا من أهل الشرك كانوا قتلوا وأكثروا ، وزنوا وأكثروا ، فأتوا النّبى صلّى اللّه عليه وسلم ، وقالوا : إن الذي تدعو إليه لحسن لو تخبرنا أن لما عملنا كفارة. فنزلت هذه الآية. [.....](5/91)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 92
ونفر كانوا قد أسلموا ثم فتنوا ، فكنا نقول : لا يقبل اللّه منهم صرفا ولا عدلا ، فنزلت الآية ، وكان عمر بن الخطاب كاتبا ، فكتبها بيده ، ثم بعث بها إلى عياش بن أبى ربيعة والوليد ، وإلى أولئك النّفر ، فأسلموا ، وهاجروا «1».
قال علىّ رضي اللّه عنه : «ما فى القرآن آية أوسع من هذه الآية.» «2». فما يقنط النّاس ويشدد عليهم بعد هذه الآية إلا جهول ، أو جامد ، قال زيد بن أسلم : إنّ رجلا كان فى الأمم الماضية مجتهدا فى العبادة ، فيشدد على نفسه ، ويقنط الناس من رحمة اللّه ، فمات ، فقال : أىّ ربّ مالى عندك؟ فقال : النار. فقال : يا رب أين عبادتى؟ فقال : إنك كنت تقنط النّاس من رحمتى فى الدنيا ، فاليوم أقنطك من رحمتى. وعن علىّ - كرم اللّه وجهه - قال : الفقيه كل الفقيه الذي لا يقنط النّاس من رحمة اللّه ، ولا يؤمنهم من عذاب اللّه ، ولا يرخص لهم فى معاصى اللّه. ه.
ثم حضّ على التوبة لتتحقق المغفرة ، فقال : وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ أي : ارجعوا إليه بالتوبة والإخلاص.
فالإنابة أخص من التوبة لأن التوبة : مطلق النّدم على الزلة ، والإنابة : تحقيق التوبة والنّهوض إلى اللّه بإخلاص التوجه. قال صلّى اللّه عليه وسلم : «من السعادة أن يطول عمر الرّجل ويرزقه اللّه الإنابة» «3». قال القشيري : وقيل الفرق بين الإنابة والتوبة : أن التائب يرجع خوفا من العقوبة ، والمنيب يرجع حياء منه تعالى. ه.
والأمر بالتوبة لا يدل على تقييد المغفرة فى الآية بها ، كما تقدم إذ ليس المدعى : أن الآية تدل على حصول المغفرة لكل أحد من غير توبة وسبق تعذيب ، حتى يغنى عن الأمر بها ، وإنما المراد : الإخبار بسعة غفرانه ، سواء كان مع التوبة أم لا. قال ابن عرفة : واعلم أن التوبة من الكفر مقطوع بها ، ومن المعاصي ، قيل : مظنونة ، وقيل :
مقطوع بها ، هذا فى الجملة ، وأما فى التعيين ، كتوبة زيد بن عمرو ، فلا خلاف أنها مظنونة. ه. قلت : قد اقترن بتوبة زيد من الأخبار ما يقطع بصحتها.
ثم قال : وأما العاصي إذا لم يتب فهو فى المشيئة ، مع تغليب جانب الخوف والعقوبة ، واعتقاد أن العذاب أرجح ، وأما العصيان بالقتل ، ففيه خلاف بين أهل السّنة ، فقيل : يخلد فى النّار ، وقيل : فى المشيئة. ه. وقال أبو الحجاج الضرير - رحمه اللّه :
وتوبة الكافر تمحو إثمه لا خلاف فيه بين الأمّه
وتوبة العاصي على الإرجاء وقيل كالأول بالسواء
إذ لا يكون دونه فى الحال وهو عندى أحسن الأقوال
دليله : تتابع الظواهر شاملة مسلم وكافر. ه.
___________
(1) أخرجه الطبري (24/ 15) وانظر : أسباب النّزول للواحدى (ص/ 384).
(2) أخرجه الطبري (24/ 16).
(3) رواه الحاكم (4/ 240) وصحّحه ، ووافقه الذهبي ، من حديث جابر رضي اللّه عنه.(5/92)
البحر المديد ج 5 ، ص : 93
وَأَسْلِمُوا لَهُ أي : اخضعوا له ، وانقادوا لأمره. قال القشيري : أي : أخلصوا فى طاعتكم ، والإسلام - الذي هو الإخلاص بعد الإنابة - : هو أن يعلم نجاته بفضله ، لا بإنابته فبفضله يصل إلى إثابته ، لا بإنابته يصل إلى فضله. ه. مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ فى الدنيا ، أو فى الآخرة ، إن لم تتوبوا قبل نزول العقاب.
قال القشيري : العذاب هنا ، قيل : الفراق ، وقيل : هو أن يفوته وقت الرّجوع بسوء الإياس. ه. ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ :
لا تمنعون منه أبدا.
الإشارة : لا يعظم عندك الذنب عظمة تصدك عن حسن الظن باللّه ، فإن من استحضر عظمة ربه صغر فى عينه كلّ شىء. وتذكر قضية الرّجل الذي قتل تسعا وتسعين نفسا ، ثم سأل راهبا : هل له توبة؟ فقال : لا ، فكمل به المائة ، ثم سأل عارفا ، فقال له : ومن يحول بينك وبينها؟ لكن اخرج من القرية التي كنت تعصى فيها ، واذهب إلى قوم يعبدون اللّه فى مكان ، فذهب ، فأدركه الموت فى الطريق ، فلما أحس بالموت انحاز بصدره إلى القرية التي قصدها ، ثم مات ، فاختصمت فيه ملائكة العذاب وملائكة الرّحمة ، فقال لهم الحق تعالى «1» : قيسوا من القرية التي خرج منها ، إلى القرية التي قصدها ، فإلى أيهما هو أقرب هو منها؟ فوجدوه أقرب إلى القرية التي قصدها بشبر ، فأخذته ملائكة الرّحمة «2». إلى غير ذلك من الحكايات التي لا تحصى فى هذا المعنى.
وتأمل قضية الشاب الذي أتى النّبى صلّى اللّه عليه وسلم يبكى ، فقال : ما يبكيك؟ قال : ذنوبى. فقال له عليه السّلام : إن اللّه يغفر ذنوبك ، ولو كانت مثل السماوات السبع ، والأرضين السبع ، والجبال الرّواسى ، فقال : يا رسول اللّه ، ذنب من ذنوبى أعظم من السماوات السبع والأرضين السبع ، فقال له : ذنوبك أعظم أو العرش؟ قال : ذنوبى ، فقال له : ذنوبك أعظم أو الكرسي؟ قال : ذنوبى ، فقال : ذنوبك أعظم أو إلهك؟ فقال : اللّه أعظم ، فقال : فأخبرنى عن ذنبك. قال : إنى أستحيى ، فقال : فأخبرنى ، فقال : إنى كنت نباشا أنبش القبور منذ سبع سنين ، حتى ماتت جارية من بنات الأنصار ، فنبشتها ، وأخرجتها من كفنها ، فمضيت ، ثم غلبنى الشيطان ، فرجعت ، فجامعتها ، فقامت الجارية ، وقالت : الويل لك يا شاب من ديّان يوم الدين ، يوم يضع كرسيه للقضاء ، يأخذ من الظالم للمظلوم ، تركتنى عريانة فى عساكر الموتى ، وأوقفتنى جنبا ين يدى اللّه ، فقام النّبى صلّى اللّه عليه وسلم وهو يضرب فى قفاه ، وهو يقول : يا فاسق ، اخرج ، ما أقربك من النّار ، فخرج الشاب تائبا إلى اللّه تعالى ، حتى أتى عليه ما شاء اللّه ، ثم قال : يا إله محمد وآدم وحواء ، إن كنت
___________
(1) بوحي ، كما تفيده رواية البخاري. وفى رواية مسلم : «فأتاهم ملك فى صورة آدمي فجعلوه بينهم ، فقال : قيسوا ..» الحديث.
(2) أخرج القصة البخاري فى (أحاديث الأنبياء ، باب حديث الغار ، ح 3470) ومسلم فى (التوبة ، باب قبول توبة القاتل وإن كثر قتله ، 4/ 2118 ، ح 2766) من حديث أبى سعيد الخدري رضي اللّه عنه.(5/93)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 94
غفرت لى فأعلم محمدا وأصحابه ، وإلا فأرسل علىّ نارا من السماء فاحرقنى بها ، ونجنى من عذاب الآخرة ، فجاء جبريل ، فقال : السّلام يقرئك السّلام ، فقال : هو السّلام وإليه يعود السّلام ، قال : يقول : أأنت خلقت خلقى؟ قال :
بل هو الذي خلقهم. قال : يقول : ترزقهم؟ قال : بل هو الذي يرزقهم ، قال : يقول : أأنت تتوب عليهم؟ قال : بل هو الذي يتوب عليهم. قال : فتب على عبدى ، فإنى تبت عليه ، فدعا النّبى صلّى اللّه عليه وسلم الشاب ، وتاب عليه ، وقال : إن اللّه هو التواب الرّحيم. ه. ذكره السمرقندي والثعلبي «1».
ثم أمر باتباع القرآن بعد الإنابة ، فقال :
[سورة الزمر (39) : الآيات 55 الى 59]
وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (55) أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (57) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (58) بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي فَكَذَّبْتَ بِها وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (59)
يقول الحق جل جلاله : وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ أي : القرآن ، فإنه أحسن الحديث ، ولا أحسن منه لفظا ومعنى ، أو : المأمور به دون المنهي ، أو : العزائم دون الرّخص ، كقوله : الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ «2» ، أو : الناسخ دون المنسوخ ، ولعله ما هو أعم ، فيصدق بكلّ ما يقرب إلى اللّه ، كالإنابة ، والطاعة ، ونحوهما ، مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً : فجأة ، وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ بمجيئه لتداركوا وتتأهبوا.
أمرتكم بذلك كراهة أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ ، والتنكير للتكثير ، كما فى قوله : عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ «3» ، أو :
يراد به بعض الأنفس ، وهى نفس الكافر ، أو : يراد نفس متميزة إما بلجاج فى الكفر شديد أو بعقال عظيم :
___________
(1) غفر اللّه لشيخنا ابن عجيبة ، لقد كان فى غنى عن ذكر هذه الرّواية الغريبة.
(2) من الآية 18 من سورة الزمر.
(3) من الآية 14 من سورة التكوير.(5/94)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 95
يا حَسْرَتى ، بألف بدل من ياء الإضافة لأن العرب تقلب ياء المتكلم ألفا فى الاستغاثة ، فيقولون : يا ويلتا ، يا ندامتا ، فيخرجون ذلك على لفظ الدعاء ، وربما ألحقوا بها الهاء ، فيقال : يا رباه ، يا مولاه ، وربما ألحقوا ياء المتكلم ، جمعا بين العوض والمعوض ، وبذلك قرأ أبو جعفر : «يا حسرتاى» أي : يا ندامتاه ويا حزناه. عَلى ما فَرَّطْتُ قصّرت. و«ما» : مصدرية ، أي : على تقصيرى وتفريطى فِي جَنْبِ اللَّهِ أي : جانبه وحقه وطاعته ، أو : فى ذاته ، أي : معرفة ذاته ، أو فى قربه ، من قوله : وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ «1» ، أو : فى سبيل اللّه ودينه ، والعرب تسمى السبب الموصل إلى الشيء جنبا ، تقول : تجرعت فى جنبك غصصا ، أي : لأجلك ، أو : فى الجانب الذي يؤدى إلى رضوانه ، وهو توحيده والإقرار بنبوة نبيه محمد صلّى اللّه عليه وسلم. وقرىء «فى ذكر اللّه». وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ أي : المستهزئين بدين اللّه. قال قتادة : لم يكفه أن ضيّع طاعة اللّه حتى سخر بأهلها. و«إن» : مخفقة ، والجملة : حالية ، أي : فرطت وأنا ساخر.
أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي : أعطانى الهداية ، لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ : من الذين يتقون الشرك. قال الإمام [أبو منصور] «2» : هذا الكافر أعرف بهداية اللّه من المعتزلة. وكذلك أولئك الكفرة ، الذين قالوا لأتباعهم :
لَوْ هَدانَا اللَّهُ لَهَدَيْناكُمْ «3» يقولون : لو وفقنا اللّه للهداية ، وأعطانا الهدى لدعوناكم إليه ، ولكن علم منا اختيار الضلالة والغواية فخذلنا ولم يوفقنا. والمعتزلة يقولون : بل هداهم وأعطاهم التوفيق لكنهم لهم يهتدوا. انظر النسفي.
أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً أي : رجعة للدنيا ، فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ : الموحّدين الطائعين. و«أو» : للدلالة على أنها لا تخلو من هذه الأقوال ، تحيّرا وتحسرا ، وتعليلا بما لا طائل تحته.
فردّ اللّه عليهم بقوله : بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي فَكَذَّبْتَ بِها وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ أي : قد جاءتك آياتي ، وبيّنت لك الهداية من الغواية ، وسبيل الحق من الباطل ، فتركت ذلك ، وضيعت ، واستكبرت عن قبوله ، وآثرت الضلالة على الهدى ، واشتغلت بضد ما أمرت به ، وإنما جاء التضييع من قبلك ، فلا عذر لك.
و«بلى» : جواب لنفى مقدر ، وهو نتيجة القياس الاستثنائى ، أي : لو أن اللّه هدانى لا هتديت وكنت متقيا ، لكنه لم يهدنى ، وإنما أخّره لأنه لا بد من حكاية أقوال النّفس على ترتيبها ، ثم يذكر الجواب فى الجملة. واللّه تعالى أعلم.
___________
(1) من الآية 36 من سورة النّساء.
(2) فى الأصول [ابن منصور] والمثبت هو الذي فى النّسفى.
(3) كما جاء فى الآية 21 من سورة إبراهيم.(5/95)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 96
الإشارة : واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم ، أي : خذوا فى الجد والاجتهاد فى اتباع الأحسن والأرجح ، فى الأفعال ، والأقوال ، والعقائد ، من قبل أن ينزل بكم العذاب. ولا عذاب أشد من الحجاب ، والتخلف عن مقامات الأحباب ، فى وقت لا ينفع التأسف ولا التحسر. قال القشيري : هذا فى أقوام يرون أمثالهم وأشكالهم ، تقدّموا عليهم فى أحوالهم ، فشكوا ما سلف من تقصيرهم ، ويرون ما وفّق أولئك إليه من أعالى الرّتب ، فيعضون بنواجذ الحسرة على أنامل الخيبة. ه. وفى ذلك قيل وأنشد :
السّباق السّباق قولا وفعلا حذر النّفس حسرة المسبوق
وهو معنى قوله : أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ كانت مقصّرة فى الدنيا : يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ أي : فى السير إلى معرفة ذاته ، وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ ممن يتعاطى ذلك ، ويخرب ظاهره لتعمير باطنه ، فكنت أسخر منه وأضحك عليه ، أو تحتج بالقدر ، فتقول : لو أن اللّه هدانى لسلوك طريقه لكنت من المتقين الكاملين فى التقوى.
ولا ينفع الاحتجاج بالقدر فى دار التكليف مع بيان الطريق. أو تقول حين ترى العذاب ، وهو فراق الأحباب والتخلف عنهم : لو أن لى كرة إلى الدنيا ، فأجهد نفسى حتى أكون من أهل الإحسان ، الذين يعبدون اللّه على العيان ، بلى قد جاءتك آياتي ، وهم الدعاة إلىّ فى كلّ زمان ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها ، فكذّبت بها ، واستكبرت عن الخضوع لهم ، وكنت من الجاحدين لطريق التربية.
ثم ذكر مآل أهل التكذيب والصدق ، فقال :
[سورة الزمر (39) : الآيات 60 الى 61]
وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ (60) وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (61)
يقول الحق جل جلاله : وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ ، بأن وصفوه بما لا يليق بشأنه ، كاتخاذ الولد والشريك ونفى الصفات عنه ، وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ بما ينالهم من الشدة والكآبة. والجملة : حال ، على أن الرّؤية بصرية ، أو : مفعول ثان لها ، إن كانت علمية. أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً أي : مقام لِلْمُتَكَبِّرِينَ عن الإيمان والطاعة ، وهو إشارة إلى قوله : وَاسْتَكْبَرْتَ ، ولا ينافى إشعاره بأن تكبرهم علة لاستحقاقهم النّار أن يكون دخولهم فيها لأجل أن كلمة العذاب حقّت عليهم لأن كبرهم مسبب عنها.(5/96)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 97
وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا الشرك والمعاصي ، أي : من جهنم. بِمَفازَتِهِمْ : بفوزهم ، مصدر ميمى ، يقال :
فاز بالمطلوب : ظفر به ، والباء متعلقة بمحذوف ، حال من الموصول ، مفيدة لمقارنة نجاتهم من العذاب بنيل الثواب ، أي : ينجيهم اللّه من مثوى المتكبرين ملتبسين بفوزهم بمطلوبهم ، أو : بسبب فوزهم بالإيمان والأعمال الحسنة فى الدنيا ، ولذا قرأ ابن عباس رضي اللّه عنه : «بمفازتهم بالأعمال الحسنة». قال القشيري : كما وقاهم اليوم من المخالفات ، وحماهم ، فكذلك غدا عن العقوبة وقاهم ، فالمتقون فازوا بسعادة الدارين ، اليوم عصمة ، وغدا نعمة ، واليوم عناية ، وغدا كفاية. ه.
لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ : إما حال أخرى من الموصول ، أو : من مفازتهم وقيل : تفسير للمفازة ، كأنه قيل : وما مفازتهم؟ فقيل : لا يمسهم السوء ، أي : ينجيهم بنفي السوء والحزن عنهم ، فلا يمس أبدانهم سوء ، ولا قلوبهم حزن.
الإشارة : ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على اللّه ، بالدعاوى الباطلة ، من القلوب الخاوية ، ف كل من ادعى حالا ليست فيه ، أو : مرتبة لم يتحققها ، فالآية تجر ذيلها عليه ، واسوداد وجوهم بافتضاحهم.
قال القشيري : هؤلاء الذين ادّعوا أحوالا ، ولم يصدقوا فيها ، وأظهروا المحبة للّه ، ولم يتحققوا بها ، وكفى بهم ذلك افتضاحا ، وأنشدوا :
ولما ادّعيت الحبّ قالت : كذبتنى فما لى أرى الأعضاء منك كواسيا؟
فما الحبّ حتى تنزف العين بالبكا وتخرس حتى لا تجيب المناديا «1».
وينجى اللّه الذين اتقوا شهود السّوى من كل مكروه ، بسبب مفازتهم بمعرفة اللّه فى الدنيا ، لا يمسهم السوء ، أي : غم الحجاب ، لرفعه عنهم على الدوام ، ولا هم يحزنون على فوات شىء إذ لم يفتهم شىء حيث فازوا باللّه ، «ما ذا فقد من وجدك»؟ «2».
___________
(1) انظر : ديوان قيس بن الملوح (مجنون ليلى) ص 213. وقال فى اللمع (321) : كان أبو الحسن سرىّ السّقّطى - رحمه اللّه - كثيرا. ينشد هذه الأبيات :
ولما ادعيت الحب قالت : كذبتنى فما لى أرى الأعضاء منك كواسيا
فما الحب حتى يلصق الجلد بالحشا وتذبل حتى لا تجيب المناديا
وتنحل حتى لا يبقى لك الهوى سوى مقلة تبكى بها أو تناجيا
(2) جزء من مناجاة الشيخ أحمد بن عطاء اللّه السكندرى : انظر الحكم بتويب المتقى الهندي ص/ 42.(5/97)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 98
قال الورتجبي : بمفازتهم : ما كان لهم فى اللّه فى أزل أزله ، من محبتهم ، وقبولهم بمعرفته ، وحسن وصاله ، ودوام شهود كماله. لا يمسهم السوء : لا يلحقهم ، فلا يلحق بهم فى منازل الامتحان ، تفرقة عن مقام الوصلة ، وحجاب عن جمال المشاهدة ، انظر تمامه. وحاصلة : فازوا بإدراك السعادة الأزلية. وعن جعفر الصادق : بمفازتهم :
بسعادتهم القديمة ، يعنى لقوله تعالى : إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى «1» ... الآية. قاله المحشى الفاسى.
ثم برهن على البعث الموعود به قبل ، فقال :
[سورة الزمر (39) : الآيات 62 الى 66]
اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62) لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (63) قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ (64) وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (65) بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (66)
يقول الحق جل جلاله : اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ : جامد أوحى ، خير أو شر ، إيمان أو كفر ، لا بالجبر ، بل بمباشرة الكاسب فى عالم الحكمة ، وفيه إثبات القدرة والعلم ، وهما مصححان للبعث والجزاء بالخير والشر ، لمحسن أو مسىء. قال القشيري : ويدخل تحت قوله : كُلِّ شَيْءٍ كسب العباد ، ولا يدخل كلامه لأن المخاطب لا يدخل تحت خطابه ولا صفاته. ه. والمراد بالكلام : المعاني القديمة ، وأما الألفاظ والحروف فهى مخلوقة ، كما هو مقرر فى محله. وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ أي : حافظ يتولى التصرف فيه كيف يشاء.
لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي : مفاتح خزائنها ، واحدها «مقليد» ، أو : إقليد «2» ، أو : لا واحد لها ، وأصلها فارسية ، والمراد : أنه مالكها وحافظها ، وهو من باب الكناية لأن حافظ الخزائن ومدبّر أمرها هو الذي يملك مقاليدها ، ومنه قولهم : فلان ألقيت إليه مقاليد الملك ، أي : مفاتح التصرف قد سلّمت إليه ، وفيه مزيد دلالة على الاستقلال والاستبداد لأن الخزائن لا يدخلها ولا يتصرف فيها إلا من بيده مفاتحها.
___________
(1) الآية 101 من سورة الأنبياء. [.....]
(2) انظر لسان العرب (5/ 3718 ، مادة قلد).(5/98)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 99
وعن عثمان : أنه سأل النّبى صلّى اللّه عليه وسلم عن المقاليد ، فقال صلّى اللّه عليه وسلم : «هى لا إله إلا اللّه ، واللّه أكبر ، وسبحان اللّه وبحمده ، أستغفر اللّه ، ولا حول ولا قوة إلا باللّه العلى العظيم ، هو الأول والآخر ، والظاهر والباطن ، بيده الخير ، يحيى ويميت وهو على كل شىء قدير» «1». ومعناه : أن للّه هذه الكلمات ، يوحّد بها ويمجّد ، وهى مفاتح خير السماوات والأرض ، ومن تكلّم بها أدرك ذلك فى الدنيا أو فى الآخرة ، ومرجعها إلى التحقق بالعبودية فى الظاهر ، ومعرفة الذات فى الباطن ، وهما السبب فى كل خير ، وبهما يدرك العبد التصرف فى الوجود بأسره ، فتأمله.
وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ أي : كفروا به بعد كونه خالق كل شىء ، ومتصرفا فى ملكه كيف يشاء ، بيده مقاليد العالم العلوي والسفلى ، فكفروا بعد هذا بآياته التكوينية ، المنصوبة فى الآفاق وفى الأنفس ، والتنزيلية ، التي من جملتها هذه الآيات النّاطقة بذلك ، أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ خسرانا لا خسر وراءه ، وقيل : هو متصل بقوله :
وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا ، وما بينهما اعتراض.
قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ به ، وكانوا يقولون له : أسلم لبعض آلهتنا نؤمن بإلهك لفرط جهالتهم. وغير : منصوب ب «أعبد» ، وتَأْمُرُونِّي : اعتراض ، أي : أتأمروني أعبد غير اللّه بعد هذا البيان التام؟
وحذف نون الوقاية وإثباتها مدغمة وغير مدغمة ، كل قرىء به.
وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ : من الأنبياء - عليهم السّلام : لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ ، كلام وارد على طريق الفرض ، لتهييج الرّسل ، وإقناط الكفرة ، والإيذان بغاية بشاعة الإشراك وقبحه ، وكونه بحيث ينهى عنه من لا يكاد يمكن أن يباشره بمن عداه أو : الخطاب له ، والمراد غيره.
وإفراد الخطاب مع كون الموحى إليهم جماعة ، باعتبار خطاب كل واحد فى عصره ، واللام موطئة لقسم محذوف ، والثانية لام الجواب ، وهو سادّ مسدّ جواب الشرط ، وإطلاق الإحباط لاحتمال أن يكون من خصائصهم لأن الإشراك منهم أشد ، وأن يكون مقيدا بالموت ، كما صرح به فى آية البقرة «2» ، وهو مذهب الشافعي ، وذهب مالك إلى أن الشرك يحبط العمل قبل الرّدة ، مات عليها ، أو رجع إلى الإسلام ، فينتقض وضوؤه وصومه. وما قاله الشافعي أظهر.
___________
(1) أخرجه البيهقي فى الأسماء والصفات (باب ذكر الأسماء التي تتبع إثبات الباري ص 13) وابن السنى فى عمل اليوم والليلة (ح 72) والعقيلي فى الضعفاء (ترجمة مخلد أبى هذيل 4/ 231) من حديث ابن عمر. وعزاه المناوى فى الفتح السماوي لأبى يعلى فى مسنده. وذكره ابن الجوزي فى الموضوعات (1/ 144) وقال : «هذا حديث لا يصح». وانظر الفتح السماوي (3/ 968 - 970) مع حاشية المحقق.
(2) فى قوله تعالى : ... وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ .. الآية 217.(5/99)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 100
بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ ، رد لما أمروه به من عبادة آلهتهم ، كأنه قال : لا تعبد ما أمروك بعبادته بل إذا عبدت فاعبد اللّه ، فحذف الشرط ، وأقيم تقديم المفعول مقامه. وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ على ما أنعم به عليك حيث جعلك رأس الموحدين وسيد المرسلين.
الإشارة : اللّه مظهر كل شىء حيث تجلى بها ، وهو قائم بكلّ شىء. له مفاتيح غيوب السماوات والأرض ، لا يطلع عليها إلا من خضع لأوليائه ، الذين هم آيات من آياته. والذين كفروا بآيات اللّه ، الدالة على اللّه ، وهم أولياء اللّه ، أولئك هم الخاسرون ، فلا خسران أعظم من خيبة الوصول إذ لا يخلو المفروق عن اللّه من الشرك الخفي ، فإذا أمر المريد بإظهار شىء من سره ، أو مداهنة غيره ، قال : أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ. وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ بأن طالعت غيرى فى سرك ، أو تشوقت أن يعلم النّاس بخصوصيتك لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ ، بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ واكتف به ، واقنع بعلمه ، واغتن بشهوده ، وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ على ما أولاك من سر خصوصيته.
ثم ردّ على أهل الشرك ، فقال :
[سورة الزمر (39) : آية 67]
وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67)
يقول الحق جل جلاله : وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ أي : ما عظّموه حق تعظيمه حيث جعلوا له شريكا ، أو وصفوه بما لا يليق بشئونه الجليلة ، أو : حيث دعوك إلى عبادة غيره تعالى ، أو : ما عرفوه حق معرفته ، حيث لم يؤمنوا بقدرة اللّه تعالى. قال ابن عباس : فمن آمن أن اللّه على كل شىء قدير ، فقد قدر اللّه حق قدره.
يقال : قدرت الشيء : إذا حزرته لتعرف مبلغه ، والقدر : المقدار. والضمير ، إما لقريش ، المحدث عنهم ، وقيل : لليهود ، حيث تكلموا فى صفات اللّه تعالى ، فألحدوا وجسّموا.
ثم بيّن لهم شيئا من عظمته تعالى ، فقال : وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ : ف «جميعا» : حال من الأرض لأنه بمعنى الأرضين ، أي : والأرضون جميعا مقبوضة له بقدرته يوم القيامة. وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ أي : بقدرته. والقبضة : المرة من القبض ، والقبضة : المقدار المقبوض بالكف ، والمراد من الكلام : تصوير عظمته تعالى ، والتوقيف على كنه جلاله ، وأن تخريب هذا العالم هو عليه شىء هين ، على طريقة التمثيل والتخييل ، من غير اعتبار القبضة واليمين حقيقة ، ولا مجازا ، هكذا قال جمهور المفسرين.(5/100)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 101
قلت : لا يبعد أن تحمل الآية على ظاهرها ، فإن اللّه تعالى يبدل الأرض ويجمعها بأجمعها ، فتكون كخبزة النقي ، ويطوى السماء كطى الكتاب ، حتى يبرز العرش ، كما فى الحديث ، ففى حديث البخاري ، عن أبى سعيد الخدري ، قال النّبى صلّى اللّه عليه وسلم : «تكون الأرض يوم القيامة خبزة واحدة ، يتكفؤها الجبار بيده ، كما يتكفؤ أحدكم خبزته فى السفر ، نزلا لأهل الجنة» «1». وفى حديث أبى هريرة : «إن اللّه يقبض الأرض ، ويطوى السماء بيمينه ، ثم يقول :
أنا الملك ، أين ملوك الأرض» «2» وقال ابن عمر رأيت النّبى صلّى اللّه عليه وسلم قائما على المنبر ، وهو يحكى عن ربه تعالى ، فقال : «إن اللّه تعالى إذا كان يوم القيامة ، جمع السماوات والأرضين السبع فى قبضته ، ثم قال هكذا ، وشد قبضته ، ثم بسطها ، ثم يقول : أنا اللّه ، أنا الرحمن ..» الحديث. وفى لفظ آخر : «يطوى اللّه السماوات يوم القيامة ، ثم يأخذهن بيده اليمنى ، ثم يقول : أنا الملك ، أين الجبارون أين المتكبرون؟» «3». وقال ابن عباس فى تفسير هذه الآية : «كل ذلك فى يمينه ، وليس فى يده الأخرى شىء ، وإنما يستعين بشماله المشغول بيمينه ، وما السماوات السبع ، والأرضون السبع ، فى يد اللّه تعالى ، إلا كخردلة فى يد أحدكم ، ولهذا قال : مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ : يعنى السماوات والأرضين كلها بيمينه» «4» قلت : من كحل عين بصيرته بإثمد التوحيد الخاص ، لا تصعب عليه هذه الأمور إذ تجليات الحق لا تنحصر ، فيمكن أن يتجلى من نور جبروته بنور يشا كل الآدمي فى الأعضاء كلها ، فيكون له ذات لها يدان وقدمان ، وبه ورد أن اللّه يضع قدمه على النّار ، فتقول : قط قط ، ويكشف عن ساقه لأهل الموقف ، ويتقدمهم للجنة ، إلى غير ذلك مما ورد فى الحديث. ولا يلزم من ذلك حصر ولا تجسيم ، إنما هى تجليات للذات الكلية المطلقة ، ولا يفهم هذا إلا أهل الفناء والبقاء من العارفين ، فسلم تسلم.
سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ أي : تنزيها عظيما لمن هذه قدرته وشأنه عما يضاف إليه من الشركاء ، أي : ما أبعد من هذا شأنه عن إشراكهم!
___________
(1) أخرجه البخاري فى (الرقاق ، باب يقبض اللّه الأرض يوم القيامة ، ح 6519) ومسلم فى (صفات المنافقين وأحكامهم ، باب فى نزل أهل الجنة ، 4/ 2151 ، ح 2792).
وقوله صلّى اللّه عليه وسلم (يتكفؤها بيده) أي : يميلها من يد إلى يد حتى تجتمع وتستوى لأنها ليست منبسطة كالرقاقة ونحوها. ومعنى هذا الحديث : أن اللّه يجعل الأرض كالرغيف العظيم.
(2) أخرجه البخاري فى (تفسير سورة الزمر ، باب وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ 5/ 551) ومسلم فى (صفات المنافقين ، باب صفة القيامة والجنة والنّار ، 4/ 2148 ، ح 2787).
(3) أخرجه بنحوه مسلم فى (صفات المنافقين وأحكامهم ، باب : صفة القيامة والجنة والنّار ، 4/ 2148 ، ح 2788) من حديث سيدنا عبد اللّه بن عمر رضي اللّه عنه.
(4) ذكره السيوطي فى الدر (5/ 629) مختصرا ، وعزاه لعبد بن حميد ، وابن أبى حاتم ، وأبى الشيخ.(5/101)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 102
الإشارة : ما عرف اللّه حق معرفته من أثبت الكائنات معه ، وهى ممحوة بأحدية ذاته ، لا وجود لها معه على التحقيق ، فالأرض قبضة أسرار ذاته ، والسماوات محيطات أفلاك أنواره ، وبحر الذات مطبق على الجميع ، ماح للكل ، وأنشدوا :
فالكل دون اللّه إن حقيقته عدم على التفصيل والإجمال
واعلم بأنك والعوالم كلّها لولاه فى محو وفى اضمحلال
من لا وجود لذاته من ذاته فوجوده لولاه عين محال
وقال آخر :
من أبصر الخلق كالسّراب فقد ترّقى عن الحجاب
إلى وجود تراه رتقا بلا ابتعاد ولا اقتراب
ثم تمم أحوال القيامة ، فقال :
[سورة الزمر (39) : الآيات 68 الى 70]
وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ (68) وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها وَوُضِعَ الْكِتابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (69) وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ (70)
يقول الحق جل جلاله : وَنُفِخَ فِي الصُّورِ النفخة الأولى فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ أي : خرّ ميتا ، أو مغشيا عليه ، إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ قيل : جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت ، ثم يميتهم اللّه بعد ذلك ، وقيل : حملة العرش ، وقيل : خزنة النّار والجنة «1».
ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى هى النّفخة الثانية. و«أخرى» : فى محل الرّفع صفة لمحذوف ، أي : نفخ نفخة أخرى ، فَإِذا هُمْ قِيامٌ من قبورهم ، حال كونهم إذا فاجأهم خطب يَنْظُرُونَ يقلبون أبصارهم فى الجوانب
___________
(1) راجع تفسير الآية 87 من سورة النّمل.(5/102)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 103
الأربعة ، كالمبهوتين ، أو : ينظرون ما يفعل بهم ، ودلت الآية على أن النّفخة اثنتان للموت ، والبعث ، وقيل : ثلاث للفزع ، والموت ، والبعث.
وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ أضاءت بِنُورِ رَبِّها حين يتجلى لفصل عباده ، فتشرق الأرض - أي : عرصات القيامة - بنور وجهه ، ويقال : إن اللّه يخلق فى القيامة نورا يلبسه وجه الأرض ، فتشرق به. قال فى الحاشية الفاسية : وهذا القول هو الذي اختاره محيى السنة ، وانتصر له الطيبي ، بما ورد من الأحاديث المقتضية لرؤيته فى عرصات القيامة ، قال : وما تعسف الزمخشري ، من حمل النّور على العدل ، إلا فرارا من ذلك. ه. قال القشيري :
هو نور يخلقه فى القيامة ، عند تكوير الشمس ، وانكدار النّجوم ، ويستضيىء به قوم دون قوم ، والكفار يبقون فى الظلمة ، والمؤمنون : يَسْعى نُورُهُمْ ... الآية «1». ويقال : غدا إشراق الأرض ، واليوم إشراق القلب ، غدا أنوار التولي ، واليوم أنوار التجلي. ه.
وقال السدى : بعدله ، على الاستعارة ، يقال للملك العادل : أشرقت الأرض بعدله ، كما استعيرت الظلمة للظلم.
وفى الحديث : «الظلم ظلمات يوم القيامة» «2».
وَوُضِعَ الْكِتابُ أي : صحائف الأعمال. اكتفى باسم الجنس ، أو : كتاب المحاسبة والجزاء. وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ ليسألهم ربهم عما أجابتهم به أممهم ، وَالشُّهَداءِ أي : الحفظة ، ليشهدوا على كل إنسان بما عمل ، والذين يشهدون للرسل بتبليغ الرّسالة إذا جحدتهم أممهم ، أو : الذين استشهدوا فى سبيل اللّه. وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ :
بين العباد بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ بنقص ثواب ، أو زيادة عقاب. قال ابن عطية : الضمير فى بَيْنَهُمْ عائد على العالم بأجمعه. ه. فيقتضى دخول الملائكة ، ويتصور القضاء فى حقهم ، من حيث جعلوا حفظة على العباد ، وأمناء على الوحى والتبليغ ، وغير ذلك من ترتيبهم فى مقاماتهم ، وترقيهم فى علومهم ، وتفاوتهم فى ذلك. وفى وجوه تخصيصاتهم وتصديقهم فى التبليغ ، ورد ما استندوا فيه لظواهر الأمور ، مع علمه تعالى خلافه ، مما لا اطلاع لهم عليه. قاله فى الحاشية.
وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ جزاء ما عَمِلَتْ ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ فلا يفوته شىء من أفعالهم. ومضمون الآية : تصوير التعرض للقضاء بين العباد على ما هو شأن الملك ، من إحضار الشهود وخواص حضرته ، حين يبرز لذلك ، ويشهده الظالم والمظلوم ، وإن كان كنه معرفته موكولا إليه ، ثم من لوازم ذلك العدل. واللّه تعالى أعلم.
___________
(1) الآية 12 من سورة الحديد.
(2) أخرجه البخاري فى (المظالم ، باب الظلم ظلمات يوم القيامة ح 2447) ومسلم فى (البر ، باب تحريم الظلم ، 4/ 1996 ، ح 2579) من حديث سيدنا عبد اللّه بن عمر رضي اللّه عنه.(5/103)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 104
الإشارة : فى الآية إشارة للفناء والبقاء ، فيصعق العبد عن رؤية وجوده ، ثم يبقى بربه ، فتشرق أرض البشرية بنور وجود الحق ، ثم يشرق العالم كله. قال الورتجبي : نفخة الصعق قهرية جلالية ، ونفخة البعث ظهور أنوار جماله فى أنوار جلاله ، وبذلك ينتظر وقوع نور الكشف بقوله : وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها فيتجلى للخواص ، ثم تستضىء بأنوارهم أرض المحشر ، للعموم والخصوص ، تعالت صفاته عن أن تقع على الأماكن ، أو أن يكون محلا للحدثان ، يا عاقل ، لا تكون ذرة من العرش إلى الثرى إلا وهى مستغرقة فى أنوار إشراق آزاله وآباده. ثم قال عن بعضهم : (إلا من شاء اللّه) هم أهل التمكين ، مكّن اللّه أسرارهم من تحمل الواردات.
ثم ذكر نتيجة الفصل بين العباد ، فقال :
[سورة الزمر (39) : الآيات 71 الى 72]
وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا بَلى وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ (71) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (72)
يقول الحق جل جلاله : وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً أي : تسوقهم الزبانية بالعنف والإهانة ، كما تساق الأسارى والخارجين على السلطان ، إذا سيقوا للقتل أو السجن ، فتسوقهم الزبانية إلى جهنم أفواجا متفرقة ، بعضها إثر بعض ، حسب ترتب طبقاتهم فى الضلالة والشرارة ، والزمر : جمع زمرة ، أي : الجماعة ، واشتقاقها من الزمر ، أي : الصوت. والجماعة لا تخلو عنه.
حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها ليدخلوها ، وهى سبعة «1» ، وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها تقريعا وتوبيخا :
أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ من جنسكم. وقرىء : «نذر منكم» ، يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا أي : وقتكم هذا ، وهو وقت دخولهم النّار. وفيه دليل على أنه لا تكليف قبل الشرع ، من حيث إنهم عللوا توبيخهم بإتيان الرّسل وتبليغ الكتب. قالُوا بَلى قد أتونا وأنذرونا ، وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ أي : ولكن وجبت علينا كلمة اللّه : لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ «2» بسوء أعمالنا حيث كذّبنا ، وقلنا : ما نزّل اللّه
___________
(1) كما ذكر فى سورة الحجر ، فى قوله تعالى : لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ الآية 44.
(2) من الآية 119 من سورة هود.(5/104)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 105
من شىء ، إن أنتم إلا تكذبون. قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أي : مقدرين الخلود ، فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ ، اللام للجنس ، والمخصوص محذوف ، أي : بئس مثوى المتكبرين جهنم ، وتكبرهم مسبب عن استحقاق كلمة العذاب عليهم. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : كل من تكبّر عن أولياء زمانه - أهل التربية - حتى مات محجوبا عن شهود الحق ، يلحقه التوبيخ بلسان الحال ، فيقال له : ألم يأتكم رسل من أولياء زمانكم ، يعرفون بنا فى كلّ زمان؟ فيقولون : بلى ، ولكن حقت علينا كلمة الحجاب ، فيخلدون فى القطيعة والحجاب ، إلا فى وقت مخصوص. وباللّه التوفيق.
ثم ذكر أهل الخير ، فقال :
[سورة الزمر (39) : الآيات 73 الى 75]
وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ (73) وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (74) وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (75)
يقول الحق جل جلاله : وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ مساق إعزاز وتشريف ، بلا إسراع ولا تكليف ، إلى دار الكرامة والتعريف. قيل : يساقون راكبين مبجّلين ، كما يجىء الوافدون إلى دار الملوك ، يساقون إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً جماعة متفاوتين ، بحسب تفاوت مراتبهم فى الفضل ، وعلو الطبقة ، حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها الثمانية. وقرئ بالتخفيف والتشديد «1». وجواب «إذا» محذوف للإيذان بأن لهم من فنون الكرامة ما لا تحيط به العبارة ، كأنه قيل : حتى إذا جاءوها ، وقد فتحت أبوابها ، كان من الأمر والخبر ما يقصر عنه البيان.
وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ ظفرتم ، وتقدستم فى دار التقديس من كل دنس ، وطبتم نفسا ، بما أتيح لكم من النّعيم والأمن ، فَادْخُلُوها خالِدِينَ ، وحذف الواو فى وصف أهل النّار لأن أبواب جهنم لا تفتح
___________
(1) قرأ عاصم وحمزة الكسائي (فتحت) ، بتخفيف التاء ، وقرأ الباقون بالتشديد ، على التكثير. انظر الإتحاف (2/ 432).(5/105)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 106
لهم حتى يصلوا إليها ، وفى وقوفهم قبل فتحها مذلة لهم ، كما هى حال السجون ، بخلاف أهل الجنة ، فإنهم يجدونها مفتوحة ، قال تعالى : مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ «1» ، كما هى حال منازل الأفراح والسرور.
وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ أي : أنجزنا ما وعدنا فى الدنيا من نعيم العقبى. وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ أرض الجنة ، أي : المكان الذي استقروا فيه ، وقد أورثوها وملكوها. وأطلق تصرفهم فيها كما يشاؤون [تشبيها] «2» بحال الوارث وتصرفه فيما يرثه ، واتساعه فيها ، نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ أي : يتخذ كل واحد منا جنة لا توصف ، سعة وزيادة على الحاجة ، فيتبوأ أىّ مكان أراده من جنته الواسعة ، فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ فى الدنيا الجنة.
وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حال كونهم حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ أي : محدقين به. و«من» لابتداء الغاية ، أي :
ابتداء حفوفهم من حول العرش إلى حيث شاء اللّه ، أو : زائدة ، يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ أي : يقولون سبحان اللّه ، والحمد للّه ، سبوح قدوس ، رب الملائكة والرّوح. أو : ينزهونه تعالى عما لا يليق به ، ملتبسين بحمده. والمعنى :
ذاكرين اللّه تعالى بوصفى جلاله وإكرامه ، تلذذا ، وفيه إشعار بأن أقصى درجات العليين فى لذائذهم هو الاستغراق فى شهوده عز وجل.
وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ يقوله أهل الجنة شكرا للّه حين دخلوها ، وتم وعد اللّه لهم : الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ كما قال : وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ «3».
الإشارة : وسيق الذين اتقوا ربهم حق تقاته إلى جنة المعارف ، زمرا ، متفاوتين فى السير ، على قدر تفاوتهم فى القريحة ، والاعتناء ، والتفرغ من الشواغل والعلائق. حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها ، بذهاب حجاب الكائنات ، حتى بقي المكوّن وحده ، كما كان وحده ، وجدوا من الأسرار والأنوار مالا يدخل تحت دوائر العبارة ، ولا تحيط به الإشارة. وقال لهم خزنتها ، وهم شيوخ التربية ، العارفون اللّه : سلام عليكم طبتم ، أي : تقدستم من العيوب والأكدار ، فادخلوها خالدين لأن من وصل لا يرجع أبدا ، وما رجع من رجع إلا من الطريق. وقالوا : الحمد للّه الذي صدقنا وعده ، بأن أنجز لنا ما وعدنا من الوصول ، على ألسنة المشايخ. قال فى الحكم : «سبحان من لم يجعل الدليل على أوليائه إلا من حيث الدليل عليه ، ولم يوصل إليهم إلا من أراد أن يوصله إليه».
___________
(1) من الآية 50 من سورة ص. [.....]
(2) ما بين المعقوفتين ، ليس فى الأصول ، وأثبته لاقتضاء السياق له.
(3) من الآية 10 من سورة يونس.(5/106)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 107
وأورثنا أرض الوجود بأسره ، نتبوأ من جنة المعارف ، فى أقطار الوجود ، بفكرتنا وهمتنا ، حيث نشاء ، فنعم أجر العاملين. وترى الملائكة حافين من حول العرش ، أي : قلب العارف لأنه بيت الرّب ، ومحل قرار نوره ، فيحفونه بالحفظ والرّعاية من دخول الأغيار ، وينزهون اللّه عن الحلول والاستقرار. وقضى بينهم بالحق ، فعزلت الشياطين عن قلوب الذاكرين ، وتسلطت على قلوب الغافلين ، والحمد للّه رب العالمين ، حيث لم يظلم أحدا من العالمين.(5/107)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 108(5/108)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 109
سورة غافر
«1» مكية «2». وآيها : خمس - أو ثمان - وثمانون آية «3» ، ومناسبتها لما قبلها قوله : غافِرِ الذَّنْبِ ... إلخ ، فإنها فذلكة لما تقدم من أحوال المحشر لأن منهم من غفرت ذنوبه ، وقبلت توبته ، فسيق إلى الجنة ، وتطاولت عليه النّعم ، ومنهم من شددّ عقابه ، وردت عليه محاسنه ، فسيق إلى النّار ، قال تعالى :
[سورة غافر (40) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2) غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ إِلاَّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ (4)
يقول الحق جل جلاله : حم أي : يا محمد. فاقتصر على بعض الحروف ، سترا عن الوشاة ، كعادة العشاق فى ذكر محبوبهم ، يرموزن إليه ببعض حروفه. وقال ابن عطية : سأل أعرابى النّبىّ صلّى اللّه عليه وسلم عن «حم» ما هو؟
فقال : «بدء أسماء وفواتح سور» «4» وفى حديث : «إذا بيتّم فقولوا : حم لا ينصرون» قال أبو عبيد : كأن المعنى : اللهم لا ينصرون. قلت : لا يبعد أن يكون توسل بحبيب اللّه على هزم الأعداء. وعن ابن عباس : (أنه اسم اللّه الأعظم).
ه. وكأنه مختصر من «حى قيوم».
تَنْزِيلُ الْكِتابِ أي : هذا تنزيل القرآن مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ أي : العزيز بسلطانه ، الغالب على أمره ، العليم بمن صدّق به وكذّب. وهو تهديد للمشركين ، وبشارة للمؤمنين. والتعرض لوصفى العزة والعلم للإيذان بظهور أثريهما فى الكتاب لظهوره عزه وعز من تمسك به ، ولاشتماله على علوم الأولين والآخرين.
___________
(1) فى الأصول : [سورة المؤمن ].
(2) قال السيوطي فى الدر المنثور (5/ 643) : أخرج ابن الضريس ، والنّحاس والبيهقي فى الدلائل ، عن ابن عباس - رضي اللّه عنهما ، قال : «أنزلت الحواميم السبع بمكة».
(3) قال الداني فى «البيان فى عد آي القرآن» ص 218 : «وهى ثمانون وثنتان فى البصري ، وأربع فى المدنيين والمكي ، وخمس فى الكوفي ، وست فى الشامي». هذا ولم أقف على من قال أنها ثمان وثمانون آية.
(4) ذكره فى المحرر الوجيز (4/ 545) والبحر المحيط (7/ 429).(5/109)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 110
غافِرِ الذَّنْبِ أي : ساتر ذنب المؤمنين وَقابِلِ التَّوْبِ وقابل توبة الرّاجعين شَدِيدِ الْعِقابِ للمخالفين ، ذِي الطَّوْلِ على العارفين ، أي : الفضل التام على العارفين ، أو : ذى الغنى عن الكل. وعن ابن عباس : (غافر الذنب ، وقابل التوب ، لمن قال : «لا إله إلا اللّه» شديد العقاب لمن لم يقل لا إله إلا اللّه) «1».
والتّوب : مصدر ، كالتوبة. ويقال : تاب وثاب وآب ، أي : رجع ، فإن قلت : كيف اختلفت هذه الصفات تعريفا وتنكيرا ، والموصوف معرفة ، وهو اللّه؟ قلت : أما غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ فمعرفتان لأنه لم يرد بهما حدوث الفعلين حتّى يكون فى تقدير الانفصال ، فتكون إضافتهما غير حقيقة ، وإنما أريد ثبوت ذلك ودوامه. وأما شَدِيدِ الْعِقابِ فهو فى تقدير : شديد عقابه ، فيكون نكرة ، فقيل : هو بدل ، وقيل : كلّها أبدال غير أوصاف. وإدخال الواو فى قابِلِ التَّوْبِ لنكتة ، وهى : إفادة الجمع للمذنب التائب بين رحمتين : بين قبول توبته ، فتكتب له طاعة ، وبين جعلها ماحية للذنوب ، كأن لم يذنب ، كأنه قال : جامع المغفرة والقبول. وفى توحيد صفة العذاب مغمورة بصفات النعمة دليل سبقها ورجحانها ، «إن رحمتى سبقت غضبى» «2».
قال القشيري : سنّة اللّه تعالى : إذا خوّف العباد باسم ، أو لفظ ، تدارك قلوبهم بأن يبشّرهم باسمين أو وصفين. ه. روى : أن عمر رضي اللّه عنه افتقد رجلا ذا بأس شديد ، من أهل الشام ، فقيل له : تابع هذا الشراب ، فقال لكاتبه : اكتب : من عمر إلى فلان ، سلام اللّه عليك ، وأنا أحمد إليك اللّه ، الذي لا إله إلا هو ، بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم ... إلى قوله : إِلَيْهِ الْمَصِيرُ وختم الكتاب ، وقال لرسوله : لا تدفعه إليه حتى تجده صاحيا ، ثم أمر من عنده بالدعاء له بالتوبة ، فلما أتته الصحيفة ، جعل يقرؤها ، ويقول : قد وعدني اللّه أن يغفر لى ، وحذّرنى من عقابه ، فلم يبرح يردّدها حتى بكى. ثمّ نزع ، فأحسن النّزوع ، وحسنت توبته. فلما بلغ عمر رضي اللّه عنه أمره ، قال : «هكذا فاصنعوا ، إذا رأيتم أخاكم قد زلّ فسدّدوه ، وادعو له اللّه أن يتوب عليه ، ولا تكونوا أعوانا للشيطان عليه» «3» أي :
بالدعاء عليه ه.
لا إِلهَ إِلَّا هُوَ أي : فيجب الإقبال الكلى عليه ، وهو : إما استئناف ، أو : صفة لذى الطّول ، إِلَيْهِ الْمَصِيرُ أي : المرجع ، فيجازى كلا من العاصي والمطيع. قال القشيري : إذا كان إلى اللّه المصير فقد طاب المسير.
ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ أي : ما يخاصم فيها بالطعن فيها ، واستعمال المقدمات الباطلة لإدحاض الحق المشتملة عليه ، إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا ، وأما الذين آمنوا فلا يخطر ببالهم شائبة شبهة منها ، فضلا عن الطعن فيها ،
___________
(1) ذكره البغوي فى التفسير (7/ 138).
(2) جزء من حديث صحيح ، أخرجه البخاري فى (التوحيد ، باب قول اللّه تعالى : بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ ح 7554) ومسلم فى (التوبة ، باب فى سعة رحمة اللّه تعالى ، رقم 4751 ، ح 15) من حديث أبى هريرة رضي اللّه عنه.
(3) رواه أبو نعيم فى الحلية (4/ 97).(5/110)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 111
وأما الجدال فيها لحل مشكلاتها ، وكشف حقائقها ، وتوضيح مناهج الحق منها ، وردّ مذاهب أهل الزيغ بها ، فمن أعظم الجهاد فى سبيل اللّه.
قال الطيبي : وأما اتصال قوله : ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ ... الآية بما قبله ، فهو أنه لمّا قال تعالى : حم تَنْزِيلُ الْكِتابِ من الإله المعبود ، الموصوف بصفات العلم الكامل ، والعز الغالب ، الجامع بين غفران الذنب وقبول التوبة ، المتفرد بالعقاب ، الذي لا يقدّر كنهه ، وبالإفضال الذي لا يبلغ قدره ، قال : ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ أي : ما يجادل فى مثل هذا الكتاب ، المشتمل على الآيات البينات ، المنزل من مثل ذلك الموصوف بنعوت الكمال ، إلا أمثال هؤلاء الكفرة المغرورين ، فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ فإنه استدراج ، فلا يغرر مثلك فى منصب الرّسالة تقلب أولئك تقلب الأنعام ، المنعّمين فى هذا الحطم. وآيات اللّه : مظهر أقيم مقام المضمر للتعظيم والتفخيم. ه.
والفاء لترتيب النّهى عن الاغترار على ما قبله من التسجيل عليهم بالكفر ، الذي لا شىء أمقت منه عند اللّه ، ولا أجلب لخسران الدنيا والآخرة ، فإنّ من تحقق ذلك لا يكاد يغتر بما لهم من الحظوظ الفانية ، والزخارف الدنيوية ، فإنهم مأخوذون عما قليل ، كما أخذ من قبلهم. ولذلك ذكرهم بقوله : كَذَّبَتْ ... إلخ.
الإشارة : «حم» أي : بحلمي ومجدى تجليت فى كلامى ، المنزل على حبى ، وهو تنزيل الكتاب من اللّه العزيز ، المعزّ لأوليائه ، العليم بما كان وما يكون منهم ، فلا يمنعه علمه عما سلف من قضائه. غافر الذنب لمن أصرّ واجترم ، وقابل التوب لمن تاب واحتشم ، شديد العقاب لمن جحد وكفر ، ذى الطول لمن توجه ووصل ، ويقال : غافر الذنب للغافلين ، وقابل التّوب للمتوجهين ، شديد العقاب للمنكرين ، ذى الطول للعارفين الواصلين. لا إله إلا هو ، فلا موجود معه ، إليه المصير بالسير فى ميادين النّفوس ، حتى يحصل الوصول إلى حضرة القدوس. ما يجادل فى آيات اللّه ، وهم أولياء اللّه ، الدالون على اللّه ، إلا أهل الكفر بوجود الخصوصية. قال القشيري : إذا ظهر البرهان ، واتّضح البيان استسلمت الألباب الصاحية للاستجابة والإيمان. وأمّا أهل الكفر فلهم على الجحود إصرار ، وشؤم شركهم يحول بينهم وبين الإنصاف ، وكذلك من لا يحترم أولياء اللّه ، يصّرّون على إنكارهم تخصيص اللّه عباده بالآيات ، ويعترضون عليهم بقلوبهم ، فيجادلون فى جحد الكرامات ، وسيفتضحون ، ولكنهم لا يميزون بين رجحانهم ونقصانهم. ه.(5/111)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 112
[سورة غافر (40) : الآيات 5 الى 6]
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ (5) وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ (6)
يقول الحق جل جلاله : كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ نوحا ، وَالْأَحْزابُ أي : الذين تحزّبوا على الرسل ، وناصبوهم العداوة ، مِنْ بَعْدِهِمْ أي : من بعد قوم نوح ، كعاد ، وثمود ، وقوم لوط ، وأضرابهم ، وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ من تلك الأمم الماضية بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ ليتمكنوا منه ، فيصيبوا ما أرادوا من تعذيب أو قتل.
والأخذ : الأسر. وَجادَلُوا بِالْباطِلِ الذي لا أصل له ، ولا حقيقة لوجوده ، لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ ليبطلوا به الحق الذي جاءت به من الإيمان وغيره ، فَأَخَذْتُهُمْ بسبب ذلك أخذا وبيلا ، فَكَيْفَ كانَ عِقابِ الذي عاقبتهم به ، فإنّ آثار ديارهم عرضه للناظرين ، وسآخذ هؤلاء أيضا لاتحادهم فى السيرة ، واشتراكهم فى الجريرة ، كما ينبئ عنه قوله :
وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ أي : كما وجب حكم اللّه تعالى وقضاؤه بالتعذيب على أولئك الأمم المكذّبة ، المجترئة على رسلهم ، المجادلة بالباطل لإدحاض الحق ، وجب أيضا عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا بك ، وتحزّبوا عليك ، وهمّوا بما لم ينالوا ، كما ينبئ عنه إضافة اسم الرّب إلى ضميره صلّى اللّه عليه وسلم فإن ذلك للإشعار بأنّ وجوب كلمة العذاب من أحكام التربية ، التي من جملتها : نصرته صلّى اللّه عليه وسلم ، وتعذيب أعدائه ، وذلك إنما يتحقق بكون الموصول عبارة عن كفار قومه ، لا عن الأمم المهلكة.
وقوله تعالى : أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ فى حيز النّصب ، بحذف لام التعليل ، أي : لأنهم مستحقو أشد العقوبات وأفظعها ، الذي هو عذاب النّار ، وملازمتها أبدا ، لكونهم كفارا معاندين ، متحزّبين على الرّسول صلّى اللّه عليه وسلم ، كدأب من قبلهم من الأمم المهلكة ، وقيل : إنه فى محل رفع ، على أنه بدل من «كلمة ربك» والمعنى : ومثل ذلك الوجوب وجب على الكفرة المهلكة كونهم من أصحاب النّار ، أي : كما وجب إهلاكهم فى الدنيا بعذاب الاستئصال وجب تعذيبهم فى الآخرة بعذاب النّار ، ومحل الكاف من (كذلك) على التقديرين : النصب ، على أنه نعت لمصدر محذوف.
الإشارة : الأولياء على قدم الرّسل ، فكل ما لحق الرّسل من الإيذاء يلحق الأولياء ، فقد كذّبت ، وتحزّب عليهم أهل عصرهم ، وهمّوا بأخذهم ، وجادلوا بالباطل ليدحضوا نور اللّه بأفواههم ، واللّه متم نوره ، فأخذهم اللّه بالخذلان والبعد ، والخلود فى نار القطيعة والحجاب ، والعياذ باللّه.(5/112)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 113
ثم ذكر شرف الإيمان وأهله ، فقال :
[سورة غافر (40) : الآيات 7 الى 9]
الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (7) رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (8) وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9)
قلت : (الذين) : مبتدأ ، و(يسبّحون) : خبره ، والجملة : استئناف مسوق لتسلية الرّسول صلّى اللّه عليه وسلم ببيان أن «أشرف» «1» الملائكة - عليهم السّلام - مثابرون على ولاية من معه من المؤمنين ، ونصرتهم ، واستدعاء ما يسعدهم فى الدارين.
يقول الحق جل جلاله : الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ على عواتقهم - وهم محمولون أيضا بلطائف القدرة ، وَمَنْ حَوْلَهُ أي : الحافّين حوله ، وهم الكروبيّون ، سادات الملائكة ، وأعلى طبقاتهم. قال ابن عباس :
حملة العرش ما بين كعب أحدهم إلى أسفل قدميه مسيرة خمسمائة عام «2» ، وقيل : أرجلهم فى الأرض السفلى ، ورؤوسهم خرقت العرش ، وهم خشوع ، لا يرفعون طرفهم ، وهم أشد خوفا من سائر الملائكة «3».
وقال أيضا : لمّا خلق اللّه حملة العرش ، قال لهم : احملوا عرشى قلم يطيقوا ، فخلق اللّه مع كلّ ملك من أعوانهم مثل جنود من فى السموات ومن فى الأرض من الخلق ، فقال لهم : احملوا عرشى ، فلم يطيقوا ، فخلق مع كل واحد منهم مثل جنود سبع سنوات وسبع أرضين ، وما فى الأرض من عدد الحصى والثرى ، فقال : احملوا عرشى ، فلم يطيقوا ، فقال : قولوا : لا حول ولا قوة إلا باللّه العلى العظيم ، فقالوها ، فاستقلوا عرش ربنا ، أي : لمّا حملوه باللّه أطاقوه ،
___________
(1) فى الأصول الخطية [أشرف ] والمثبت من تفسير أبى السعود.
(2) عزاه فى الدر المنثور (5/ 648) لعبد ابن حميد ، وابن مردويه ، والبيهقي فى الأسماء والصفات.
(3) عزاه فى الدر المنثور (5/ 648) لعبد بن حميد ، عن ميسرة.(5/113)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 114
فلم يحمل عرشه إلا قدرته ، وفى الحديث : «إن اللّه أمر جميع الملائكة أن يغدوا ، ويروحوا بالسلام على حملة العرش ، تفضيلا لهم على سائر الملائكة». «1»
وقال وهب بن منبه : حول العرش سبعون ألف صف من الملائكة ، صف خلف صف ، يدورون حول العرش ، يطوفون به ، يقبل هؤلاء ، ويدبر هؤلاء ، فإذا استقبل بعضهم بعضا ، هلّل هؤلاء ، وكبّر هؤلاء ، ومن ورائهم سبعون ألف صف قيام ، أيديهم إلى أعناقهم ، قد وضعوها على عواقتهم ، فإذا سمعوا تكبير هؤلاء وتهليلهم ، رفعوا أصواتهم ، فقالوا : سبحانك وبحمدك ما أعظمك وأجلّك ، أنت اللّه لا إله غيرك ، أنت الأكبر ، الخلق كلهم راجون رحمتك ، ومن وراء هؤلاء مائة ألف صف من الملائكة ، قد وضعوا اليمنى على اليسرى ، ليس منهم أحد إلا يسبح اللّه - تعالى - بتسبيح لا يسبحه الآخر ، ما بين جناحى أحدهم مسيرة ثلاثمائة عام ، واحتجب اللّه عز وجل - بينه وبين الملائكة الذين هم حول العرش - بسبعين حجابا من ظلمة ، وسبعين حجابا من نور ، وسبعين حجابا من درّ أبيض ، وسبعين حجابا من ياقوت أحمر ، وسبعين حجابا من زمرد أخضر ، وسبعين حجابا من ثلج ، وسبعين حجابا من ماء ، إلى ما لا يعلمه إلا اللّه تعالى ه «2».
قلت : لمّا أظهر اللّه العرش تجلى بنور جبروتى رحموتى ، استوى به على العرش ، كما يتجلى يوم القيامة لفصل القضاء ، ثم ضرب الحجب بين هذا التجلي الخاص وبين الملائكة الحافّين ، ولا يلزم عليه حصر ولا تجسيم إذ تجليات الذات العالية لا تنحصر ، وليست هذه الحجب بين الذات الكلية وبين الخلق إذ لا حجاب بينها وبين سائر المخلوقات إلا حجاب القهر والوهم.
واختلف فى هيئة العرش ، فقيل : إنه مستدير ، والكون كله فى جوفه كخردلة فى الهواء ، حتى قيل : هو الفلك التاسع ، وقيل : هو منبسط كهيئة السرير ، وله سوارى وأعمدة ، وهو ظاهر الأخبار النّبوية. روى جعفر الصادق عن أبيه عن جده ، أنه قال : إن بين القائمة من قوائم العرش والقائمة الثانية من خفقان الطير المسرعة قياس ألف عام ، وإن ملكا يقال له : حزقائيل ، له ثمانية عشر ألف جناح ، ما بين الجناح والجناح خمسمائة عام ، فأوحى اللّه إليه : أن طر ، فطار مقدار عشرين ألف سنة ، فلم ينل رأسه قائمة من قوائم العرش ، ثم طار مقدار ثلاثين ألف سنة فلم ينلها ، فأوحى اللّه إليه : لو طرت إلى نفخ الصور لم تبلغ ساق عرشى. ه. مختصرا.
وفى حديث آخر : «إن بين القائمة والقائمة من قوائم العرش ستين ألف صحراء ، فى كل صحراء ستون ألف عالم ، فى كل عالم قدر الثقلين». ومع هذا كله يسعه قلب العارف حتى يكون فى زاوية منه لأنه محدود ، وعظمة
___________
(1) قال الحافظ ابن حجر : لم أجده. انظر الكافي الشاف (ص 144 ، ح 337).
(2) انظر تفسير البغوي (7/ 140 - 141) وزاد المسير (7/ 208). [.....](5/114)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 115
الحق غير محدودة ، وقلب العارف قد تجلت فيه عظمة الحق ، فوسعها ، بدليل الحديث : «لن تسعنى أرضى ولا سمائى ، ووسعني قلب عبدى المؤمن» «1» ، أي : الكامل.
ثم أخبر تعالى عن حملة العرش ومن حوله بقوله : يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ أي : ينزهونه تعالى عما لا يليق بشأنه الجليل ، ملتبسين بحمده على نعمائه التي لا تتناهى ، وَيُؤْمِنُونَ بِهِ إيمانا يناسب حالهم. وفائدة ذكره مع علمنا بأن حملة العرش ومن حوله الذين يسبّحون بحمد ربهم مؤمنون إظهار لشرف الإيمان وفضيلته ، وإبراز لشرف أهله ، والترغيب فيه ، كما وصف الأنبياء فى بعض المواضع بالصلاح. وفيه تنبيه على أن الملائكة لم يحصل لهم العيان ، وإنما وصفوا بالإيمان بالغيب ، وهم طبقات : منهم العارفون أهل العيان ، ومنهم أهل الإيمان.
ثم قال تعالى : وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا أي : ويستغفرون لمن شاركهم فى حالهم من الإيمان ، وفيه دليل على أن الإشراك يجب أن يكون أدعى شىء إلى النّصيحة والشفقة ، وإن تباعدت الأماكن ، وفى نظم استغفارهم لهم فى سلك وظائفهم المفروضة عليهم ، من تسبيحهم ، وتحميدهم ، وإيمانهم ، إيذان بكمال اعتنائهم به ، وإشعار بوقوعه عند اللّه - تعالى - موقع القبول.
رَبَّنا أي : يقولون : ربنا ، إمّا بيان لاستغفارهم ، أو حال ، وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً أي : وسعت رحمتك وعلمك كل شىء ، فأزيل الكلام عن أصله ، بأن أسند الفعل إلى صاحب الرّحمة والعلم ، ونصبا على التمييز ، مبالغة فى وصفه - تعالى - بالرحمة والعلم ، وفى عمومهما ، وتقديم الرّحمة لأنها السابقة والمقصودة هنا ، فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا أي : للذين علمت منهم التوبة ، ليناسب ذكر الرّحمة ، وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ أي :
طريق الهدى التي دعوت إليها. والفاء لترتيب الدعاء على ما قبلها من سعة الرّحمة والعلم ، وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ أي : احفظهم منه ، وهو تصريح بعد إشعار للتأكيد.
رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ إياها ، وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ أي :
صلاحا مصححا لدخول الجنة فى الجملة ، وإن كانوا دون صلاح أصولهم ، و(من) : عطف على ضمير (وعدتهم) ، أي : وأدخل معهم هؤلاء ليتم سرورهم ، ويتضاعف ابتهاجهم. قال سعيد بن جبير : (يدخل الرّجل الجنة ، فيقول :
أين أبى؟ أين أمي؟ أين ولدي؟ أين زوجتى؟ فيقال له : لم يعملوا مثل عملك ، فيقول : كنت أعمل لى ولهم ، فيقال :
أدخلوهم الجنة) «2». وسبق الوعد بالإدخال والإلحاق لا يستدعى حصول الموعود بلا توسط شفاعة واستغفار ، وعليه بنى قول من قال : فائدة الاستغفار للمنيب الكرامة والثواب. انظر أبا السعود.
___________
(1) ذكره الغزالي فى الإحياء (3/ 16) ، قال العراقي فى المغني : «ليس له أصل» وقال القاري فى الأسرار المرفوعة (ص 310) :
«ليس له إسناد معرووف عن النّبى صلّى اللّه عليه وسلم». والحديث وجدته بنحوه عند الديلمي فى الفردوس (3/ 174 ح 4466) من حديث أنس بن مالك رضي اللّه عنه لفظه : «لا يسعنى شىء ووسعني قلب عبدى المؤمن اللين الوادع إذا ألبسته لبسة أحبائى ...» الحديث.
(2) أخرجه ابن جرير (24/ 45).(5/115)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 116
إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ أي : الغالب الذي لا يمتنع عليه مقدور ، وأنت مع ملكك وعزتك لا تفعل شيئا خاليا عن حكمة ، وموجب حكمتك أن تفى بوعدك.
وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ أي : جزاء السيئات ، وهو العذاب ، أو : المعاصي فى الدنيا ، وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ أي : ومن تقه عقاب السيئات يومئذ فقد رحمته ، أو : ومن تقه المعاصي فى الدنيا فقد رحمته فى الآخرة ، وكأنهم طلبوا لهم السبب بعد ما طلبوا المسبّب ، وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ الإشارة إلى الرّحمة المفهومة من رحمته ، أو : إليها وإلى الوقاية ، أي : ذلك التوقي هو الفوز العظيم الذي لا مطمع وراءه لطامع.
الإشارة : العرش وحملته ، والحافّون به محمولون بلطائف القدرة لا حاملون فى الحقيقة ، بل لا وجود لهم مع الحق ، وإنما هم شعاع من أنوار الذات الأقدس وتجلّ من تجلياتها.
وقوله تعالى : يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ ، قال الورتجبي : يسبّحون اللّه بما يجدونه من القدس والتنزيه ، حمدا لأفضاله ، وبأنه منزه عن النّظير والشبيه ، ويؤمنون به فى كل لحظة ، بما يرون منه من كشوف صفات الأوليات ، وأنوار حقائق الذات ، التي تطمس فى كل لمحة مسالك رسوم العقليات ، وهم يقرون كل لحظة بجهلهم عن كنه معرفة وجوده ، ثم بيّن أنهم أهل الرّأفة ، والرّحمة ، والشفقة على أوليائه ، لأنهم إخوانهم فى نسب المعرفة والمحبة.
انظر تمامه.
والحاصل : أنهم مع تجلى أنوار ذاته ، قاصرون عن كنهه ، وحقيقة ذاته ، وغايتهم الإيمان به. قاله فى الحاشية.
قلت : والتحقيق أن المقربين منهم تحصل لهم المعرفة العيانية ، والرّؤية للذات فى مظاهر التجليات ، كما تحصل لخواص الأولياء فى الدنيا ، ولكن معرفة الآدمي أكمل لاعتدال حقيقته وشريعته ، لمّا اعتدل فيه الضدان ، وأما معرفة الملائكة فتكون مائلة لجهة الشكر والهيمان للطافة أجسامهم ، فمثلهم كالمرآة بلا طلاء خلفها ، وأمّا ما ورد فى بعض الأخبار : أن جبريل لم ير اللّه قط قبل يوم القيامة ، فلا يصح إلا أن يحمل على أنه لم يره من غير مظهر ، وهذا لا يمكن له ولا لغيره ، وأما رؤيتهم اللّه يوم القيامة فهم كسائر المؤمنين ، يرونه على قدر تفاوتهم فى المراتب والقرب.
قال إمام أهل السنة ، أبو الحسن الأشعري رضي اللّه عنه ، فى كتاب «الإبانة فى أصول الديانة» : أفضل اللذات لأهل الجنة رؤية اللّه تعالى ، ثم رؤية نبيه صلّى اللّه عليه وسلم ، فلذلك لم يحرم اللّه أنبياءه المرسلين ، وملائكته المقربين ، وجماعة المؤمنين ، والصدّيقين النّظر إلى وجهه تعالى. ه. وفى الآية حث على الدعاء للمؤمنين بظهر الغيب ، والاستغفار لهم ، وهو من شأن الأبدال ، أهل الرّحمة لعباد اللّه ، اقتداء بالملأ الأعلى.(5/116)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 117
ثم شفع بضد أهل الإيمان ، فقال :
[سورة غافر (40) : الآيات 10 الى 12]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ (10) قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (11) ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (12)
يقول الحق جل جلاله : إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنادَوْنَ يوم القيامة ، من قبل الخزنة - وهم فى النّار :
لَمَقْتُ اللَّهِ إياكم اليوم ، وإهانته لكم ، أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ فى الدنيا ، حيث حرمتموها الإيمان وعرضتموها للهوان ، إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ من قبل الرّسل فَتَكْفُرُونَ ، والحاصل : أنهم مقتوا أنفسهم فى الدنيا ، وأهانوها ، حيث لم يؤمنوا ، فإذا دخلوا النّار حصل لهم من المقت والغضب من اللّه أشد وأعظم من ذلك ، ف «إذا» : ظرف للمقت الثاني ، لا الأول ، على المشهور.
قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ أي : إماتتين وإحياءتين ، أو : موتتين وحياتين. قال ابن عباس :
كانوا أمواتا فى الأصلاب ، ثم أحياهم ، ثم أماتهم الموتة التي لا بد منها ، ثم أحياهم للبعث يوم القيامة ، وهذا كقوله تعالى : كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ ... الآية «1». قال السدى : أميتوا فى الدنيا ، ثم أحيوا فى قبورهم للسؤال ، ثم أميتوا فى قبورهم ، ثم أحيوا فى الآخرة.
والحاصل : أنهم أجابوا : بأن الأنبياء دعوهم إلى الإيمان باللّه واليوم الآخر ، وكانوا يعتقدون ما يعتقده الدهرية :
ألّا حياة بعد الموت ، فلم يلتفتوا إلى دعوتهم ، وداموا على الإنكار ، فلمّا رأوا الأمر عيانا ، اعترفوا. ووجه مطابقة قوله : قالُوا رَبَّنا ... إلخ لما قبله : الإقرار بما كانوا منكرين له من البعث ، الذي أوجب لهم المقت والعذاب طمعا فى الإرضاء له بذلك ليتخلصوا من العذاب ، ولذلك قالوا : فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا ، لمّا رأوا الإماتة والإحياء قد تكرر عليهم ، علموا أن اللّه قادر على الإعادة ، كما هو قادر على الإنشاء ، فاعترفوا بذنوبهم التي اقترفوها من إنكار
___________
(1) من الآية 28 من سورة البقرة. وانظر تفسير البغوي (7/ 142).(5/117)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 118
البعث وما يتبعه من جزائهم. ومقصدهم بهذا الإقرار : التوسل بذلك إلى ما علّقوا به أطماعهم الفارغة من الرّجوع إلى الدنيا ، كما صرحوا به فى قولهم : فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ أي : نوع من الخروج ، سريع أو بطيء ، مِنْ سَبِيلٍ أو : لا سبيل إليه قط. وهذا كلام من غلب عليه اليأس ، وإنما يقولون ذلك تحيّرا ، مع نوع استبعاد واستشعار يأس منه ، ولذلك أجيبوا بقوله :
ذلِكُمْ أي : ذلكم الذي أنتم فيه من العذاب ، وألّا سبيل إلى الخروج ، بِأَنَّهُ أي : بسبب أن الشأن إِذا دُعِيَ اللَّهُ فى الدنيا ، أي : عبد وَحْدَهُ منفردا كَفَرْتُمْ بتوحيده ، وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا بالإشراك وتسارعوا فيه ، أي : كنتم فى الدنيا تكفرون بالإيمان ، وتسارعون إلى الشرك. قيل : والتعبير بالاستقبال ، إشارة إلى أنهم لو ردوا لعادوا ، وحيث كان حالكم كذلك ، فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الذي لا يحكم إلا بالحق ، ولا يقضى إلا بما تقتضيه حكمته ، الْعَلِيِّ شأنه ، فلا يردّ قضاؤه ، أو : فالحكم بعذابكم وتخليدكم فى النّار للّه لا لتلك الأصنام التي عبدتموها معه ، الْكَبِيرِ : العظيم سلطانه ، فلا يحدّ جزاؤه. وقيل : إنّ الحرورية «1» أخذوا قولهم : لا حكم إلا للّه ، من هذه الآية. قال علىّ رضي اللّه عنه لمّا سمع مقالتهم : كلمة حق أريد بها باطل. ه.
الإشارة : إنّ الذي كفروا بطريق الخصوص ، وأنكروا وجود التربية ، حتى ماتوا محجوبين عن اللّه ، وبعثوا كذلك ، ينادون يوم القيامة بلسان الحال : لمقت اللّه لكم اليوم - حيث سقطتم عن درجات المقربين - أكبر من مقتكم أنفسكم ، حيث حرمتموها معرفة العيان ومقام الإحسان ، حين كنتم تدعون إلى تربية الإيمان ، وتحقيق الإيقان ، على ألسنة شيوخ التربية ، فتكفرون وتقولون : انقطعت التربية منذ زمان ، ثم يطلبون الخروج من عالم الآخرة إلى عالم الدنيا ، ليحصلوا المعرفة التي فاتتهم ، فيقال لهم : هيهات ، قد فات الإبّان «2» ، «الصيف ضيعت اللبن» «3».
فامكثوا فى حجابكم ، ذلكم بأنه إذا دعى اللّه وحده ، وأن لا موجود سواه ، كفرتم بإنكاركم سبيله ، وهى طريق التجريد والتربية ، وإن يشرك به بالتعمق فى الأسباب ، والمكث فيها ، تؤمنوا. والحاصل : أنهم كانوا ينكرون طريق التجريد ، ويؤمنون بطريق الأسباب ، فالحكم للّه العلى الكبير ، فيرفع من يشاء ، ويضع من يشاء بعلوه وكبير شأنه.
___________
(1) الحرورية : طائفة من الخوارج ، تنسب إلى «حرور» ، اسم قرية بالكوفة. انظر اللسان (حرر 2/ 831).
(2) إبان كل شىء : وقته وحينه الذي يكون فيه. انظر اللسان (ابن 1/ 12).
(3) هذا مثل. والتاء من «ضيعت» مكسورة فى كل حال ، إذا خوطب به المذكر والمؤنث والاثنان والجمع ، لأن المثل فى الأصل خوطبت به امرأة ، وهى دختنوس بنت لقيط بن زرارة ، كانت تحت عمرو بن عمرو بن عدس ، وكان شيخا كبيرا ، ففركته (كرهته) فطلقها ، ثم تزوجها فتى جميل الوجه ، وأجدبت ، فبعثت إلى عمرو تطلب منه حلوبة ، فقال عمرو : «فى الصيف ضيعت اللبن» ، فلما رجع الرّسول ، وقال لها ما قال عمرو ، ضربت يدها على منكب زوجها ، وقالت : «هذا ومذقه خير» تعنى أن هذا الزوج مع عدم اللبن خير من عمرو ، فذهبت كلماتهما مثلا. انظر مجمع الأمثال للميدانى (2/ 434).(5/118)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 119
ثم برهن على علو شأنه بقوله :
[سورة غافر (40) : الآيات 13 الى 17]
هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً وَما يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَنْ يُنِيبُ (13) فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (14) رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ (15) يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ لا يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (16) الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (17)
يقول الحق جل جلاله : هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ الدالة على كبريائه ، وكمال قدرته ، من الرّياح ، والسحاب ، والرّعد ، والبرق ، والصواعق ، وغير ذلك ، لتستدلوا على ذلك ، وتعملوا بموجبها ، فتوحدوه تعالى ، وتخصوه بالعبادة ، وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً مطرا لأنه سبب الرّزق. وأفرده بالذكر مع كونه من جملة الآيات لتفرده بكونه من آثار رحمته ، وجلائل نعمه الموجبة للشكر إذ به قوام الحيوانات بأسرها. وصيغة المضارع فى الفعلين للدلالة على تجدد الإراءة والتنزيل ، واستمرارهما. وَما يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ أي : وما يتعظ ويعتبر بهذه الآيات الباهرة ، ويعمل بمقتضاها إلا من يتوب ويرجع عن غيه إلى اللّه تعالى ، فيتفكر فيما أودعه فى تضاعيف مصنوعاته من شواهد قدرته الكاملة ، ونعمه الشاملة. وأما المعاند فلا يتعظ ولا يعتبر لسفح الران على قلبه.
وإذا كان الأمر كما ذكرنا ، من اختصاص التذكير بمن ينيب ، فَادْعُوا اللَّهَ ، أو : تقول : لمّا ذكر أحوال المشركين ، وأراد أن يشفع بأضدادهم ، جعل قوله : هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ .. إلخ ، توطئة لقوله : فَادْعُوا اللَّهَ أي :
اعبدوه مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ من الشرك الجلى والخفي ، بموجب إنابتكم إليه تعالى وإيمانكم ، وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ وإن غاظ ذلك أعداءكم ، ممن لم يتب مثلكم ، فإن اللّه يكرم مثواكم ، ويرفع درجاتكم ، فإنه رَفِيعُ الدَّرَجاتِ أي : رافع درجات أوليائه المؤمنين ، الداعين إليه ، المخلصين فى الدنيا والآخرة ، فى الدنيا بالعز والنّصر ، وفى الآخرة بالقرب والاختصاص ، أو : رفيع السموات التي هى مصاعد الملائكة ، ومهابطها ، للسفارة بين(5/119)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 120
المرسل والمرسل إليه ، وهو كالمقدمة لقوله : يُلْقِي الرُّوحَ ... إلخ. هذا على أنه اسم فاعل ، مبالغة ، وقيل : هو صفة مشبهة أضيفت إلى فاعلها ، أي : رفيع درجاته بالعلو والقهرية.
ذُو الْعَرْشِ أي : مالكه ، وهما خبران آخران عن هُوَ الَّذِي ... إلخ ، إيذانا بعلو شأنه ، وعظم سلطانه ، الموجبين لتخصيص العبادة به ، وإخلاص الدين له بطريق الاستشهاد بهما عليهما فإنّ ارتفاع الدرجات والاستيلاء على العرش - مع كون العرش محيطا بأكناف العالم العلوي والسفلى ، وهو تحت ملكوته وقبضة قهره مما يقضى بكون علو شأنه وعظيم سلطانه - فى غاية لا غاية ورائها. قاله أبو السعود.
ثم ذكر سبب رفع الدرجات بقوله : يُلْقِي الرُّوحَ أي : ينزل الوحى ، الجاري من القلوب بمنزلة الرّوح من الأجسام ، وكأنه لمّا ذكر رزق الأجسام أتبعه برزق الأرواح ، الذي هو العلم باللّه ، وطريقه الوحى. والتعبير بالمضارع ، قال الطيبي : يفيد استمرار الوحى من لدن آدم إلى زمن سيدنا محمد صلّى اللّه عليه وسلم ، ثم اتصاله إلى قيام يوم التنادى ، بإقامة من يقوم بالدعوة ، على ما روى أبو داود ، عن أبى هريرة ، عن النّبى صلّى اللّه عليه وسلم أنه قال : «إنّ اللّه سيبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدّد لها دينها» «1» ومعنى التجديد : إحياء ما اندرس من العمل بالكتاب والسنّة ، والأمر بمقتضاهما. ه.
قلت : وقد زرت شيخنا البوزيدى رضي اللّه عنه مرة ، فلما وقع بصره علىّ ، قال : واللّه ، حتى يحيى اللّه بك الدين المحمدي. وكتب لى شيخ الجماعة ، وقطب دائرة التربية ، مولاى العربي الدرقاوى رضي اللّه عنه ، فقال فى آخر كتابه :
وأرجو من اللّه ألا تموت حتى تكون داعيا إلى اللّه ، تذكّر أهل المشرق والمغرب. أو ما هذا معناه ، وقد وقع ذلك ، والحمد للّه.
وقوله : مِنْ أَمْرِهِ أي : من قضائه ، أو : بأمره ، فيجوز أن يكون حالا من الرّوح ، أو متعلقا ب (يلقى) أي :
يلقى الرّوح حال كونه ناشئا ، أو : مبتدئا من أمره ، أو : يلقى الوحى بسبب أمره عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وهو الذي اصطفاه لرسالته ، وتبليغ أحكامه إلى عباده ، لِيُنْذِرَ أي : اللّه ، أو : الملقى عليه ، وهو النّبى صلّى اللّه عليه وسلم ، ويؤيده قراءة يعقوب بالخطاب ، أي : لتخوف يَوْمَ التَّلاقِ يوم القيامة لأنه يتلاقى فيه أهل السموات وأهل الأرض ، والأولون والآخرون ، و(يوم) : ظرف للمفعول الثاني ، أي : لينذر النّاس العذاب يوم التلاق ، أو : مفعول ثان لينذر ، فإنه من شدة هوله وفظاعته حقيق بالإنذار.
___________
(1) أخرجه أبو داود فى (الملاحم ، باب ما يذكر فى قرن المائة 4/ 480 ، ح 4291) والحاكم فى المستدرك (الفتن والملاحم ، 4/ 522) والبيهقي فى المعرفة (1/ 124) من حديث أبى هريرة رضي اللّه عنه ، ورمز له السيوطي فى الجامع الصغير (ح 1845) بالصحة.(5/120)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 121
يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ : بدل من «يوم التلاق» أي : خارجون من قبورهم ، أو : ظاهرون ، لا يستترون بشىء من جبل أو أكمة أو بناء لكون الأرض يومئذ قاعا صفصفا ، ولا عليهم ثياب ، إنما هم حفاة عراة ، كما فى الحديث. أو :
بارزة نفوسهم لا يحجبها غواش الأبدان ، أو : بارزة أعمالهم وسرائرهم ، لا يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ من أعمالهم وأحوالهم ، الجلية والخفية ، السابقة واللاحقة ، وهو استئناف لبيان بروزهم ، وإزاحة لما كان يتوهمه المتوهمون فى الدنيا من الاستتار توهما باطلا ، فإذا برزوا وحشروا ، نادى الحق - جل جلاله : لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ؟ فلا يجيبه أحد ، ثم يعود ثلاثا ، فيجيب نفسه بنفسه بقوله : لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ أي : الذي قهر العباد بالموت.
روى أن اللّه تعالى يجمع الخلائق فى صعيد واحد ، فى أرض بيضاء ، كأنها سبيكة فضة ، لم يعص اللّه عليها قط ، فأول ما يتكلم به أن ينادى مناد : لمن الملك اليوم؟ فيجيب نفسه : «للّه الواحد القهار». وقيل : المجيب أهل المحشر ، وروى أيضا : أن هذا القول يقوله الحق تعالى عند فناء الخلق وقبل البعث ، ولعله يقال مرتين.
قال تعالى : الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ من النّفوس البرة والفاجرة ، بِما كَسَبَتْ من خير أو شر ، وهذا من تتمة الجواب ، أو : حكاية لما سيقوله تعالى يومئذ عقب السؤال والجواب ، لا ظُلْمَ الْيَوْمَ بنقص ثواب أو زيادة عذاب ، إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ لأنه لا يشغله شأن عن شأن ، فكما أنه يرزقهم دفعة ، يحاسبهم دفعة ، فيحاسب الخلق قاطبة فى أقرب زمان ، كما نقل عن ابن عباس : أنه تعالى إذا أخذ فى حسابهم لم يقل «1» أهل الجنة إلا فيها ، وأهل النّار إلا فيها. ه.
قلت : المراد بالحساب : إظهار ما يستحق كل واحد من النّعيم أو العذاب ، وأما ما ورد من طول المكث فى المحشر على الكفار والفجار فإنما ذلك تعذيب بعد فراغ المحاسبة. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : هو الذي يريكم آياته الدالة على توحيده ، وينزل لكم من سماء الغيوب علما ، تتقوت به قلوبكم وأرواحكم ، فتغيبون فى مشاهدة المدلول عن الدليل ، وما يتذكّر بهذا ويهتد إليه إلا من ينيب ، ويصحب أهل الإنابة.
فادعوا اللّه ، أي : اعبدوه وادعوا إلى عبادته وإخلاص العمل ، ولو كره الجاحدون ، فإنّ اللّه رفيع درجات الداعين إليه مع المقربين ، فى مقعد صدق عند ذى العرش المجيد. قال القشيري : يرفع درجات المطيعين بظواهرهم فى الجنة ، ودرجات العارفين بقلوبهم فى الدنيا ، فيرفع درجتهم عن النّظر إلى الكونين ، والمساكنة إليهما ، وأما المحبون فيرفع درجتهم عن أن يطلبوا فى الدنيا والعقبى شيئا غير رضا محبوبهم. ه.
___________
(1) من القيلولة.(5/121)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 122
يلقى الرّوح من أمره على من يشاء من عباده ، هو وحي أحكام للأنبياء ، ووحي إلهام للأولياء ، فيحيى اللّه بهم الدين فى كلّ زمان ، وقال القشيري : بعد كلام : ويقال : روح النّبوة ، وروح الرّسالة ، وروح الولاية ، وروح المعرفة.
ه. والمراد بالروح : مطلق الوحى ، لينذر الداعي يوم التلاقي ، فيحصل اللقاء السرمدي مع الحبيب للمقربين ، ويحصل الافتراق والبعد للغافلين ، حين تبرز الخلائق بين يدى اللّه ، لا دعوى لأحد يومئذ ، فيقول الحق تعالى : لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ، لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ.
قال القشيري : لا يتقيد ملكه بيوم ، ولا يختص بوقت ، ولكنّ دعاوى الخلق - اليوم - لا أصل لها ، ترتفع غدا ، وتنقطع تلك الأوهام. ه. ومثله فى الإحياء ، وأنه إذا كشف الغطاء شهد الأمر كذلك ، كما كان كل يوم ، لا فى خصوص ذلك اليوم. فإذا حصل للعبد مقام الفناء ، لم ير فى الدارين إلا اللّه ، فيقول : لمن الملك اليوم؟ فيجيب : للّه الواحد القهار. اليوم تجزى كل نفس بما كسبت من التقريب أو الإبعاد. قال القشيري : يجازيهم على أعمالهم الجنان ، وعلى أحوالهم الرّضوان ، وعلى أنفاسهم - أي : على حفظ أنفاسهم - القرب ، وعلى محبتهم الرّؤية ، ويجازى المذنبين على توبتهم الغفران ، وعلى بكائهم الضياء والشفاء. ه. لا ظلم اليوم ، بل كل واحد يرتفع على قدر سعيه اليوم.
وقوله تعالى : إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ قال القشيري : وسريع الحساب مع أوليائه فى الحال ، يطالبهم بالنقير والقطمير. ه. قلت : يدقق عليهم الحساب فى الحال ، ويرفع مقدارهم فى المآل. وباللّه التوفيق.
ثم حذّر من هول ذلك اليوم ، فقال :
[سورة غافر (40) : الآيات 18 الى 20]
وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ (18) يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ (19) وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (20)
يقول الحق جل جلاله : وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ أي : القيامة ، سميت بها لأزوفها ، أي : قربها. فالأزوف والازدلاف هو القرب ، غير أن فيه إشعارا بضيق الوقت ، أو الخطة الأزفة ، وهى مشارفة أهل النّار لدخولها ، ثم أبدل من يوم الآزفة قوله : إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ أي : التراقى ، يعنى : ترتفع قلوبهم عن مقارّها ، فتلتصق(5/122)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 123
بحناجرهم من الرّعب ، فلا هى تخرج فيموتوا فيستريحوا ، ولا ترجع إلى مقارها فيتروّحوا. حال كونهم كاظِمِينَ ممسكين الغيظ بحناجرهم ، أو : ممسكين قلوبهم بحناجرهم ، يرومون ردها لئلا تخرج ، فهو حال من القلوب ، وجمعت جمع السلامة لوصفها بالكظم ، وهو من أوصاف العقلاء ، أو : من أصحاب القلوب إذ الأصل :
قلوبهم ، أو : من ضميرها فى الظرف ، ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ أي : قريب مشفق وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ أي : ولا شفيع تقبل شفاعته ، فالمراد : نفى الشفاعة والطاعة ، كقول الشاعر :
ولا ترى الضّبّ فيها ينجحر «1» يريد به : نفى الضب وانجحاره. وكقول الآخر :
على لاحب لا يهتدى بمناره «2» وإن احتمل اللفظ نفى الطاعة دون الشفاعة. فعن الحسن البصري : «واللّه ما يكون لهم شفيع البتة». ووضع «الظالمين» موضع الضمير للتسجيل عليهم بالظلم وتعليل الحكم به.
يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ أي : النظرة الخائنة ، كاستراق النّظر إلى ما لا يحلّ. قيل : فيه تقديم وتأخير ، أي :
الأعين الخائنة ، وقيل : مصدر ، كالعافية ، أي : خيانة الأعين. قال ابن عباس رضي اللّه عنه : هو الرّجل يكون جالسا مع القوم ، فتمر المرأة ، فيسارقهم النّظر إليها «3». ه. وقال ابن عطية : متصل بقوله : سَرِيعُ الْحِسابِ ، فيحاسب على خيانة الأعين ، وقالت فرقة : متصل بقوله : لا يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ ، وهذا حسن ، يقويه تناسب المعنيين ، ويبعده بعد الآية من الآية ، وكثرة الحائل. والحاصل : أنه متصل بما تقدم من ذكر اللّه ووصفه ، واعترض فى أثناء ذلك بوصف القيامة لما استطرد إليه من قوله : لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ الآية. قاله المحشى. وَيعلم ما تُخْفِي الصُّدُورُ أي : ما تكنّه من خيانة وأمانة. وقيل : هو أن ينظر إلى أجنبية بشهوة مسارقة ، ثم يتفكر بقلبه فى جمالها ، ولا يعلم بنظرته وفكرته من حضره ، واللّه يعلم ذلك كله.
وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ أي : ومن هذه صفاته لا يقضى إلا بالعدل ، فيجازى كلّا بما يستحقه إذ لا يخفى عليه خفىّ ولا جلىّ ، وَالَّذِينَ يَدْعُونَ يعبدونهم مِنْ دُونِهِ من الآلهة لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ ، وهذا
___________
(1) عجز بيت ، صدره : لا تفزع الأرنب أهوالها.
(2) هذا صدر بيت عجزه : [إذا سافه النّباطىّ جرجرا]. وهو من قصيدة لامرئ القيس فى ديوانه (66). وصدر البيت فى لسان العرب (لحف 5/ 4009). واللحب : الطريق الواسع ، من لحبه : إذا وطئه ومرّ فيه ، والمنار : ما يعلم به الطريق.
والشاهد فى البيت : نفى الاهتداء بالمنار ، والمقصود : نفى المنار ، فلا منار ولا هداية.
(3) عزاه السيوطي فى الدر (5/ 653) لسعيد بن منصور ، وابن أبى شيبة وابن النّذر وابن أبى حاتم.(5/123)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 124
تهكّم بهم لأن الجماد الذي لا يعقل لا يقال فيه : يقضى ولا يقضى ، وقرأ نافع بالخطاب أو : على إضمار «قل» ، إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ تقرير لقوله : يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ ووعيد لهم لأنه يسمع ما يقولون ، ويبصر ما يعملون ، وأنه يعاقبهم عليه ، وتعريض بما يدعون من دون اللّه ، بأنها لا تسمع ولا تبصر.
الإشارة : قال القشيري : قيامة الكل مؤجّلة ، وقيامة المحبين معجّلة ، فى كل نفس من العتاب والعذاب ، والبعاد والاقتراب ، ما لم يكن فى حساب ، وشهادة الأعضاء بالدمع تشهد ، وخفقان القلب ينطق ، والنّحول يخبر ، واللون يفضح ، والعبد يستر ، ولكن البلاء يظهر ، قال :
يا من تغيّر صورتى لمّا بدا لجميع ما ظنّوا بنا تحقيق ه. «1»
وقوله تعالى : إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ ، هو فى حق من فاته التأهب والترقي فى هذه الدار ، فتحسّر حين يعاين مقامات الرّجال ، وليس له شفيع يرقيه ، ولا حميم يصافيه. وقوله تعالى : يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ هو فى حق العارفين : النظر إلى السّوى بعين الاستحسان. قال القشيري : خائنة الأعين هى من المحبين استحسانهم شيئا - أي : من السّوى - وأنشدوا :
يا قرّة العين : سل عينى هل اكتحلت بمنظر حسن مذ غبت عن عينى؟
وأنشد أيضا :
وعينى إذا استحسنت غيركم أمرت الدّمع بتأديبها «2»
قلت : ومثله قول الشاعر :
وناطر فى سوى معناك حقّ له يقتصّ من جفنه بالدّمع وهو دم
والسمع إن حال فيه ما يحدّثه سوى حديثك ، أمسى وقره الصّمم
ثم قال : ومن خائنة الأعين : أن تأخذهم السّنة والسّنات «3» فى أوقات المناجاة ، وفى قصص داود عليه السّلام :
«كذب من ادّعى محبتى ، فإذا جنّة الليل نام عنى» ومن خائنة أعين العارفين : أن يكون لهم خير ، أي : استحسان يقع لقلوبهم مما تقع عليه أعينهم ، ينظرون ولكن لا يبصرون - أي : ينظرون إلى المستحسنات ، ولكن لا يقفون
___________
(1) فى لطائف الإشارات : [لجميع ما ظنوا بنا تصديقا].
(2) فى القشيري : [أمرت السهاد بتعذيبها]. والبيت منسوب إلى سلم الخاسر ، كما فى نهاية الأرب (2/ 56) وفيه :
تقول وفى قولها حشمة أتبكي بعين ترانى بها
فقلت إذ استحسنت غيركم أمرت الدموع بتأديبها با أديبها
(3) فى القشيري : والسبات. [.....](5/124)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 125
معها - ومن خائنة أعين الموحّدين - أي : السائرين للتوحيد - أن يخرج منها قطرة دمع ، تأسفا على مخلوق يفوت من الدنيا والآخرة ، ومن خائنة الأعين : النظر إلى غير المحبوب بأى وجه كان ، ففى الخبر : «حبّك الشيء يعمى ويصمّ» «1» ، أي : يغيبك عن غيره ، فلا ترى إلا محاسن الحبيب ، وجماله فى مظاهر تجلياته ، وإليه يشير قول ابن الفارض رضي اللّه عنه :
عينى لغير جمالكم لا تنظر وسواكم فى خاطرى لا يخطر
وقوله تعالى : وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ قال القشيري : يقضى للأجانب بالبعاد ، ولأهل الوداد بالوصال ، ويقضى يوم القدوم بعدل «2» عمال الصدود. ه. أي : يعدل فى أهل الصدود عن حضرته ، فيجازيهم بنعيم الأشباح فقط. ثم قال : وإذا ذبح الموت غدا بين الجنة والنّار على صورة كبش أملح ، فلا غرو أن يذبح الفراق على رأس سكة الأحباب ، فى صورة شخص ، ويصلب على جذوع الغيرة ، لينظر إليه أهل الحضرة. ه.
ثم أمر بالتفكر - الذي هو طريق النّجاة من كل ضرر - فقال :
[سورة غافر (40) : الآيات 21 الى 22]
أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَما كانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ (21) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ (22)
قلت : (هم أشد) : ضمير فصل ، وحقه أن يقع بين معرفتين ، إلا أنّ (أشد) لمّا ضارع المعرفة فى كونه لا يدخله الألف واللام أجرى مجراها.
يقول الحق جل جلاله : أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي أقطار الْأَرْضِ ، فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ أي : مآل من قبلهم من الأمم المكذّبة لرسلهم ، كعاد ، وثمود ، وأضرابهم ، كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً أي : قدرة وتمكنا من التصرف ، وَآثاراً فِي الْأَرْضِ وأشد تأثيرا فى الأرض ، ببناء القلاع الحصينة ،
___________
(1) أخرجه أحمد فى المسند (5/ 194) وأبو داود فى (الأدب ، باب فى الهوى 5/ 346 ح 5130) والخطيب فى تاريخ بغداد (3/ 117) من حديث أبى الدرداء رضي اللّه عنه.
(2) فى القشيري : [بعزل ] ، وهو أنسب.(5/125)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 126
والمدائن المتينة. وقيل : المعنى : وأكثر آثارا ، أي : ترك آثار فى الأرض ، كالحصون وغيرها. فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ أخذا وبيلا ، وَما كانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ أي : لم يكن لهم شىء يقيهم من عذاب اللّه.
ذلِكَ الأخذ بِأَنَّهُمْ بسبب أنهم كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ بالمعجزات الدالة على صدقهم ، أو : بالأحكام الظاهرة الجلية ، فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ ، متمكن مما يريد غاية التمكن ، قادر على كل شىء ، شَدِيدُ الْعِقابِ لا يؤبه عند عقابه بعقاب.
الإشارة : قال القشيري : أولم يسيروا بنفوسهم فى أقطار الأرض ، ويطوفوا مشارقها ومغاربها ، فيعتبروا بها ، فيذهبوا فيها؟ ويسيروا بقلوبهم فى الملكوت بجولان الفكر ، فيشهدوا أنوار التجلي ، فيستبصروا بها؟ ويسيروا بأسرارهم فى ساحات الصمدية ، فيستهلكوا فى سلطان الحقائق ، ويتخلّصوا من جميع المخلوقات قاصيها ودانيها؟
ثم قال : قوله تعالى : ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ ، إن بغى من أهل السلوك ، قاصد لهم يصل إلى مقصوده ، فليعلم أنّ موجب حجبته اعتراض خامر قلبه على بعض شيوخه ، فى بعض أوقاته ، فإنّ الشيوخ بمحلّ السفير للمريدين. وفى الخبر : «الشيخ فى أهله كالنبىّ فى أمته» «1». ه.
ثم سلّى نبيه بقصة موسى عليه السّلام ، فقال :
[سورة غافر (40) : الآيات 23 الى 27]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (23) إِلى فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَقارُونَ فَقالُوا ساحِرٌ كَذَّابٌ (24) فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (25) وَقالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ (26) وَقالَ مُوسى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ (27)
___________
(1) عزاه السيوطي فى الجامع الصغير (ح 4969 - 4970) للخليلى فى مشيخته ، وابن النّجار ، عن أبى رافع. وابن حبان فى الضعفاء ، والشيرازي فى الألقاب ، عن ابن عمر. والحديث ضعيف. وقال الشوكانى فى الفوائد (286) : جزم ابن حجر وغيره بأنه موضوع. وانظر : تنزيه الشريعة (1/ 207) الشذرة فى الأحاديث المشتهرة للصالحى (1/ 352).(5/126)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 127
يقول الحق جل جلاله : وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا معجزاته التسع وَسُلْطانٍ مُبِينٍ أي : حجة قاهرة ، وهى : إما عين الآيات ، والعطف لتغاير العنوانين ، فكونها آيات من جهة خرق العادة ، وكونها حجة من حيث الدلالة على صدق صاحبها ، وإما أن يريد بالسلطان بعض مشاهيرها ، كالعصا ، أفردت بالذكر مع اندراجها تحت الآيات لعظمها. وقال ابن عرفة : الآيات : المعجزات ، والسلطان المبين ، راجع إلى التحدي بها ، فهو من قبيل الإدعاج «1» ، أو : يكون السلطان راجعا إلى ظهورها إذ ليس من شرطها الظهور ، أو : يرجع إلى نتيجتها ، وهو الغلبة والنّصر. ه.
أرسل إِلى فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَقارُونَ ، فَقالُوا فيما أظهره ، أو : فيما ادّعاه من الرّسالة : هو ساحِرٌ كَذَّابٌ. فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنا وهو الوحى والرّسالة ، قالُوا اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ أي :
صبيانهم الذكور ، وَاسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ للخدمة ، أي : أعيدوا عليهم القتل الذي كنتم تفعلونه أولا ، وكان فرعون قد كفّ عن قتل الولدان لئلا تعطل خدمته ، فلما بعث عليه السّلام ، وأحسّ بأنه قد وقع ما توقع ، أعاده عليهم غيظا ، وحمقا ، وزعما منه أنه يصدهم بذلك عن مظاهرته. وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ فى ضياع وبطلان ، فإنهم باشروا قتلهم أولا ، فما أغنى عنهم ، ونفذ قضاء اللّه بإظهار من خافوه ، فما يغنى عنهم هذا القتل الثاني ، فلم يعلم أن كيده ضائع فى الكرّتين ، واللام : إما للعهد المتقدم ، والإظهار فى موضع الإضمار لذمهم بالكفر ، والإشعار بعلة الحكم ، أو : للجنس ، وهم داخلون فيه دخولا أوليّا. والجملة : اعتراض جىء بها فى تضاعيف ما حكى عنهم من الأباطيل للمسارعة إلى بيان بطلان ما أظهروه من الإبراق والإرعاد الذي لا طائل تحته.
وَقالَ فِرْعَوْنُ لملئه : ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى ، وكان ملؤه إذا همّ بقتله كفّوه ، وقالوا : ليس بالذي تخافه ، وهو أقل من ذلك ، وما هو إلا ساحر ، وإذا قتلته أدخلت شبهة على النّاس ، واعتقدوا أنك عجزت عن معارضته بالحجة ، والظاهر من دهاء اللعين ونكارته أنه قد استيقن أنه نبىّ ، وأن ما جاء به آيات باهرة ، وما هو بسحر ، ولكن كان يخاف إن همّ بقتله أن يعاجل بالهلاك ، وكان قوله تمويها على قومه ، وإيهاما أنهم هم الكافون عن قتله ، ولو لاهم لقتله ، وما كان يكفه إلا ما فى نفسه من الفزع الهائل. وقوله : وَلْيَدْعُ رَبَّهُ تجلد منه وإظهار لعدم المبالاة بدعائه ، ولكنه أخوف ما يخافه.
___________
(1) هكذا.(5/127)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 128
ثم قال : إِنِّي أَخافُ إن لم أقتله أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أي : يغير ما أنتم عليه من الدين ، وهو عبادتهم له وللأصنام لتقربهم إليه ، أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ أي : ما يفسد دنياكم من التحارب والتهارج إن لم يقدر على تبديل دينكم بالكلية. والحاصل : أنه قال : أخاف أن يفسد عليكم دينكم ، بدعوته إلى دينه ، أو : يفسد عليكم دنياكم بما يظهر من التقاتل والتهارج ، الذي يذهب معه الأمن ، وتتعطل المزارع والمكاسب والمعايش.
وَقالَ مُوسى لمّا سمع ما أجراه من الحديث فى قتله لقومه : إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ ، صدّر عليه السّلام كلامه بأنّ تأكيدا له ، وإظهارا لمزية الاعتناء بمضمونه ، وفرط الرّغبة.
وخص اسم الرّب المنبئ عن الحفظ والتربية إذ بهما يقع الحفظ.
وفى قوله : وَرَبِّكُمْ حث لهم على أن يقتدوا به ، فيعوذوا باللّه عياذته ، ويعتصموا بالتوكّل اعتصامه ، ولم يسمّ فرعون ، بل ذكره بوصف يعمه وغيره من الجبابرة لتعميم الاستعاذة ، والإشعار بعلة القساوة والجرأة على اللّه تعالى ، وهو التكبر. قال ابن عرفة : أشار إلى أن كفره لم يكن لأجل أن موسى لم يأت بدليل ولا معجزة ، ولم يكن أيضا لخفاء تلك المعجزة ، وعدم ظهورها ، بل كان لجحود التعنت والتكبر ، والإباية عن الانحطاط من سلطنة الملك إلى رتبة الاتّباع. ه. وقال : لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ لأنه إذا اجتمع فى الرّجل التجبر والتكذيب بالجزاء ، وقلة المبالاة بالعاقبة ، فقد استكمل أسباب القوة والجرأة على اللّه وعباده ، والعياذ باللّه.
الإشارة : قال القشيري : كان موسى عليه السّلام أكرم خلقه فى وقته ، وكان فرعون أخسّ خلقه فى وقته إذ لم يقل أحد : ما علمت لكم من إله غيرى ، فأرسل أخصّ عباده إلى أخسّ عباده. ثم إن فرعون سعى فى قتل موسى ، واستعان على ذلك بخيله ورجله ، ولكن كما قال تعالى : وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ ، وإذا حفر أحد لولىّ اللّه حفرة ، ما وقع فيها غير حافرها ، كذلك أجرى الحقّ سنّته. ه.
ثم ذكر موعظة مؤمن آل فرعون لقومه ، فقال : (5/128)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 129
[سورة غافر (40) : الآيات 28 الى 29]
وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (28) يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جاءَنا قالَ فِرْعَوْنُ ما أُرِيكُمْ إِلاَّ ما أَرى وَما أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشادِ (29)
يقول الحق جل جلاله : وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ ، قيل : كان قبطيا ، ابن عمّ لفرعون ، آمن بموسى سرّا ، وقيل : كان إسرائيليا موحّدا ، وهو المراد بقوله : وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى «1» ، قال ابن عباس : اسمه حزقيل. وقال ابن إسحاق : جبرل ، وقيل : سمعان. وقيل : حبيب «2». ومِنْ آلِ فِرْعَوْنَ : صفة ثانية لرجل ، أو :
صلة ليكتم ، أي : يَكْتُمُ إِيمانَهُ من فرعون وملائه : أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أي : أتقصدون قتله كراهة أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وحده ، من غير روية ولا تأمل فى أمره؟ وهذا إنكار منه عليهم ، كأنه قال : أترتكبون هذه الفعلة الشنعاء - وهى قتل نفس محرمة - من غير حجة ، غير قوله الحق ، وإقراره بالتوحيد؟ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ أي :
والحال أنه جاءكم بالمعجزات الظاهرة ، التي شاهدتموها وعاهدتموها من ربكم ، يعنى أنه لم يكتف ببينة واحدة ، بل جاء ببينات كثيرة مِنْ عند رَبِّكُمْ ، أضافه إليهم ، استنزالا لهم عن رتبة المكابرة ، واستدراجا للاعتراف.
ثم أخذهم بالاحتجاج فقال : وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ ، لا يتخطى وبال كذبه إلى غيره ، فيحتاج فى دفعه إلى قتله ، وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ من العذاب ، احتج عليهم بطريق التقسيم لأنه لا يخلو ، إما أن يكون كاذبا أو صادقا ، فإن كان كاذبا فوبال كذبه عليه ، وإن كان صادقا يصبكم قطعا بعض ما يعدكم من العذاب ، ولم يقل : كل الذي يعدكم ، مع أنه وعد من نبىّ صادق ، مداراة لهم وسلوكا لطريق الإنصاف ، فجاء بما هو أقرب إلى تسليمهم له ، فكأنه قال : إن لم يصبكم الجميع يصبكم البعض ، وليس فيه نفى لإصابة الكل ، فكأنه قال : أقلّ ما فيه أن يصيبكم بعض ما يعدكم ، وهو العذاب العاجل ، وفى ذلك هلاككم ، وكان وعدهم عذاب الدنيا والآخرة. وتفسير البضع بالكل مزيّف. إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ ، هذا احتجاج آخر ذو وجهين أحدهما : أنه لو كان مسرفا كذابا لما هداه اللّه إلى النّبوة ، ولما عضده بتلك البينات ، وثانيهما : إن كان كذلك خذله اللّه وأهلكه ، فلا حاجة إلى قتله. وقيل : أوهم أنه يريد بالمسرف موسى ، وهو يعنى به فرعون ، ويحتمل أن يكون من كلام اللّه - تعالى - اعتراضا بين أجزاء وعظه ، إخبارا بما سبق لهم من الشقاء ، فلا ينفع فيهم الوعظ.
___________
(1) من الآية 20 من سورة يس.
(2) انظر هذه الأقوال فى تفسير القرطبي (7/ 5921) والبغوي (7/ 146).(5/129)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 130
ثم قال : يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ حال كونكم ظاهِرِينَ غالبين عالين على بنى إسرائيل فِي الْأَرْضِ أرض مصر ، لا يقاومكم أحد فى هذا الوقت ، فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جاءَنا يعنى : إن لكم اليوم ملك مصر ، وقد علوتم النّاس ، وقهرتموهم ، فلا تسرفوا على أنفسكم ، ولا تتعرضوا لبأس اللّه ، أي : عذابه فإنه لا طاقة لكم به إن جاءكم ، ولا يمنعكم منه أحد. وإنما نسب ما يسرهم من الملك والظهور فى الأرض إليهم خاصة ، ونظم نفسه فيما يسوؤهم ، من مجىء بأس اللّه تعالى ، إمحاضا للنصح ، وإيذانا بأن الذي ينصحهم به هو مساهم لهم فيه.
قالَ فِرْعَوْنُ بعد ما سمع نصحه لقومه : ما أُرِيكُمْ أي : ما أشير عليكم إِلَّا ما أَرى وأستصوبه من قتل موسى ، يعنى : لا أستصوب إلا قتله ، وهذا الذي تقولونه غير صواب ، وَما أَهْدِيكُمْ بهذا الرّأى إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ أي : الصواب ، ولا أعلنكم إلا ما أعلم ، ولا أسرّ عنكم شيئا خلاف ما أظهر ، يعنى : أن لسانه وقلبه متواطئان على ما يقول ، وقد كذب اللعين ، فقد كان مضمرا للخوف الشديد من جهة موسى عليه السّلام ، ولكنه كان يتجلّد ، ولو لا استشعاره للخوف لم يستشر أحدا فى قتله ، وقد كان سفّاكا جبارا ، فما منعه إلا خوف الهلاك إن مدّ يده إليه. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : قال القشيري : قد نصح وأبلغ مؤمن آل فرعون ، واحتجّ عليهم ، فلم ينجع فيهم قوله ، وأعاد عليهم نصحه فلم يسمعوا ، وكان كما قيل :
وكم سقت فى آثاركم من نصيحة وقد يستفيد البغضة المستنصح «1»
ثم قال تعالى :
[سورة غافر (40) : الآيات 30 الى 33]
وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ (30) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ (31) وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ (32) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ ما لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (33)
___________
(1) البيت للعباس بن الفرج الرّياشى. انظر الكامل للمبرد (2/ 392) وفيه : وكم صغت فى آثاركم ...(5/130)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 131
يقول الحق جل جلاله : وَقالَ الَّذِي آمَنَ مخاطبا قومه : يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ فى تكذيب موسى ، والتعرض له بسوء ، مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ أي : مثل أيام الأمم الماضية المتحزبة على رسلها ، يعنى وقائعهم. وجمع الأحزاب مع التفسير أغنى عن جميع اليوم ، أي : بالإضافة ، وفسره بقوله :
مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ كقوم لوط وشعيب ، لم يلبس أنّ كلّ حزب منهم كان له يوم دمار ، فاقتصر على الواحد من الجمع. ودأب هؤلاء : دؤوبهم فى عملهم من الكفر ، والتكذيب ، وسائر المعاصي ، حتى دمّرهم اللّه. ولا بد من حذف مضاف ، أي : مثل جزاء دأبهم - وهو الهلاك. و(مثل) الثاني :
عطف بيان لمثل الأولى. وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ فلا يعاقبهم بغير ذنب ، أو : يزيد على ما يستحقونه من العذاب ، يعنى أن تدميرهم كان عدلا لأنهم استحقوه بأعمالهم ، وهو أبلغ من قوله : وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ «1» حيث جعل المنفي إرادة الظلم منّكرا ، وإذا بعد عن إرادة ظلم ما لعباده كان عن الظلم أبعد وأبعد. وتفسير المعتزلة :
بأنه لا يريد لهم أن يظلموا ، بعيد لأن أهل اللغة قالوا : إذا قال الرّجل لآخر : لا أريد ظلما لك ، معناه : لا أريد أن أظلمك ، وهذا تخويف بعذاب الدنيا. ثم خوّفهم من عذاب الآخرة بقوله :
وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ أي : يوم القيامة لأنه ينادى فيه بعضهم بعضا للاستغاثة ، ويتصايحون بالويل والثبور ، وينادى أصحاب النّار أصحاب الجنة ، وأصحاب الأعراف رجالا يعرفونهم ، وعن الضحاك : إذا سمعوا زفير النّار ندّوا هربا ، فلا يأتون قطرا من الأقطار ، إلا وجدوا ملائكة صفوفا ، فيرجعون إلى مكانهم ، فبينهما هم يموج بعضهم فى بعض ، إذ سمعوا مناديا : أقبلوا إلى الحساب. أو : ينادى مناد عند الميزان : ألا إن فلانا بن فلان سعد سعادة لا يشقى بعدها أبدا ، ألا إن فلان بن فلان شقى شقاوة لا يسعد بعدها أبدا. قال ابن عطية :
المراد التذكير بكلّ نداء فى القيامة فيه مشقة على الكفار والعصاة ، وذلك كثير. ه.
ثم أبدل من يوم التناد : قوله : يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ أي : منصرفين عن القوم إلى النّار ، أو : فارّين منها غير معاجزين ، ما لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ يعصمكم من عذابه ، ولمّا أيس من قبولهم قال : وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ يهديه إلى طريق النّجاة.
الإشارة : ينبغى للواعظ والمذكّر إذا ذكّر العصاة أن يخوفهم بعذاب الدنيا وعذاب الآخرة ، كما فعل مؤمن آل فرعون ، أما عذاب الدنيا فما يلحق العاصي من الذل والهوان عند اللّه ، وعند عباده ، وما يلحقه إن طال عمره من المسخ وأرذل العمر ، فإنّ المعاصي فى زمن الشباب تجر الوبال إلى زمن الهرم ، كما أن الطاعة فى حال الشباب
___________
(1) من الآية 46 من سورة فصلت.(5/131)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 132
تجر الحفظ والرّعاية إلى حال الكبر ، وأما عذاب الآخرة فمعلوم ، ثم يحضّ على التوبة والإقلاع ، فإنّ التائب الناصح ملحق بالطائع ، فلا يلحقه شىء من ذلك. وباللّه التوفيق.
ثم وبّخهم بما تعودوا من تكذيب الرّسل ، فقال :
[سورة غافر (40) : الآيات 34 الى 35]
وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ (34) الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (35)
قلت : (الذين يجادلون) : بدل من (من هو) ، وإنما جمع لأنه لم يرد مسرفا واحدا ، بل كلّ مسرف.
يقول الحق جل جلاله ، حاكيا لقول المؤمن : وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ ، هو ابن يعقوب ، وقيل : يوسف بن إفرائيم بن يوسف بن يعقوب ، أقام فيهم نبيا عشرين سنة «1» ، وقال وهب : فرعون موسى هو فرعون يوسف ، عمّر إلى زمنه ، وقيل : هو فرعون آخر لأن كلّ من ملك مصر يقال له فرعون ، وهذا أظهر. وقول الجلال المحلى :
هو يوسف بن يعقوب فى قول ، عمّر إلى زمنه ، سهو. وإنما قيل ذلك فى فرعون لا فى يوسف.
قلت : والتحقيق : أنه وبّخهم بما فعل أسلافهم لأنهم على منوالهم ، راضون بما فعلوا ، فالمراد بيوسف ، هو الصّدّيق ، فما زالوا مترددين فى رسالته حتى مات ، واستمر خلفهم على ذلك إلى زمن موسى ، وقوله تعالى : مِنْ قَبْلُ أي : من قبل موسى ، أي : جاءكم يوسف بِالْبَيِّناتِ بالمعجزات الواضحة ، كتعبير الرّؤيا ، ودلائل التوحيد ، كقوله : أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ ... «2» الآية ، وملكه أموالهم ورقابهم فى زمن المسغبة ، وغير ذلك مما دلّ على رسالته. فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ من الدين حَتَّى إِذا هَلَكَ بالموت قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا ، حكما ، من عند أنفسكم ، من غير برهان ، أي : أقمتم على كفركم ، وظننتم أن لا يجدّد عليكم إيجاب الحجة.
___________
(1) ذكره القرطبي (7/ 5928) عن ابن عباس رضي اللّه عنه. وجاء فى البحر المحيط (7/ 445) والنّسفى (3/ 210) «ابراهيم» بدلا من «إفرائيم».
(2) من الآية 39 من سورة يوسف.(5/132)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 133
قال القشيري : يقال : إن تكذيبهم وتكذيب سلفهم للأنبياء - عليهم السّلام - كان قديما حتى أهلكهم ، كذلك يفعل بهؤلاء «1». ه.
كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ أي : مثل ذلك الإضلال الفظيع يضل اللّه من هو مسرف فى عصيانه ، شاكّ فى دينه ، لم يتفكر فيما شهدت البينات بصحته لغلبة الوهم ، والانهماك فى التقليد.
ثم فسّره فقال : الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بالرد والإبطال بِغَيْرِ سُلْطانٍ بغير حجة واضحة ، تصلح للتمسك بها فى الجملة ، أَتاهُمْ : صفة لسلطان ، أي : بغير برهان جاءهم بصحة ذلك ، كَبُرَ مَقْتاً أي : عظم بغضا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا ، وفيه ضرب من التعجب والاستعظام. وفى «كبر» ضمير يعود على «من» وتذكيره باعتبار اللفظ. كَذلِكَ أي : مثل ذلك الطبع الفظيع يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ فيصدر منه أمثال ما ذكر من الإسراف ، والارتياب ، والمجادلة بالباطل. ومن قرأ بالتنوين «2» فوصف لقلب ، وإنما وصف بالتكّبر والتجبّر لأنه منبعهما ، كما تقول : سمعت الأذن ، كقوله : فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ «3» وإن كان الإثم للجملة. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : يقال لأهل كلّ عصر : ولقد جاءكم فلان - لولىّ تقدم قلبهم - بالآيات الدالة على صحّة ولايته ، فما زلتم ، أي : ما زال أسلافكم من أهل عصره - فى شك منه ، حتى إذا مات ظهرت ولايته ، وأقررتم بها ، وقلتم : لن يبعث اللّه من بعده وليّا ، وهذه عادة العامة ، يقرون الأموات من الأولياء ، وينكرون الأحياء. وهى نزعة أهل الكفر والضلال ، كذلك يضل اللّه من هو مسرف مرتاب ، كالذين يخاصمون فى ثبوت الخصوصية عند أربابها ، من غير برهان ، وهو شأن المنكرين ، كذلك يطبع اللّه على كلّ قلب متكبر جبار.
ثم ذكر عتو فرعون وطغيانه ، فقال :
[سورة غافر (40) : الآيات 36 الى 37]
وَقالَ فِرْعَوْنُ يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ (36) أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً وَكَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِي تَبابٍ (37)
___________
(1) بالمعنى.
(2) قرأ أبو عمر (قلب) بالتنوين فى الباء على قطع «قلب» عن الإضافة ، وجعل التكبر والجبروت صفته ، وقرأ الباقون بغير تنوين بإضافة «قلب» إلى ما بعده. واختلف عن ابن عامر. انظر الإتحاف (2/ 437).
(3) من الآية 383 من سورة البقرة.(5/133)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 134
يقول الحق جل جلاله : وَقالَ فِرْعَوْنُ ، تمويها على قومه ، وجهلا منه : يا هامانُ وزيره ابْنِ لِي صَرْحاً أي : قصرا عاليا ، وقيل : الصرح : البناء الظاهر الذي لا يخفى على النّاظر وإن بعد منه.
يقال : صرح الشيء : إذا ظهر. لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ أي : الطرق. ثم أبدل منها تفخيما لشأنها ، وإظهارا أنه يقصد أمرا عظيما :
أَسْبابَ السَّماواتِ أي : طرقها وأبوابها ، وما يؤدّى إليها ، وكلّ ما أدّاك إلى الشيء فهو سبب إليه ، فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى أي : فأنظر إليه وأتحقق وجوده ، قرأه حفص بالنصب ، جواب التمني ، والباقي بالرفع ، عطفا على «أبلغ». قال البيضاوي : ولعله أراد أن يبنى له صرحا فى موضع عال ، يرصد منه أحوال الكواكب ، التي هى أسباب سماوية ، تدلّ على الحوادث الأرضية ، فيرى هل فيها ما يدّل على إرسال اللّه تعالى إياه ، أو أن يرى فساد قوله عليه السّلام فإنّ إخباره عن إله السماء يتوقف على اطلاعه ووصوله إليه ، وذلك لا يتأتى إلا بالصعود للسماء ، وهو مما لا يقوى عليه الإنسان ، وما ذلك إلا لجهله باللّه وكيفية استنبائه. ه.
قلت : والظاهر أنه كان مجسّما ، يعتقد أن اللّه فى السماء ، وأن اطلاعه إليه إنما كان ليرى هل ثم إله ، وإن قوله :
وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً أي : فى ادّعاء إله غيرى ، بدليل قوله : ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي «1» مع أنّ هذا كله إنما هو تمويه منه على قومه ، وجرأة على اللّه ، لا حقيقة له.
قال تعالى : وَكَذلِكَ أي : ومثل ذلك التزيين المفرط ، والصدّ البليغ ، زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ فانهمك فيه انهماكا لا يرعوى عنه بحال ، وَصُدَّ «2» عَنِ السَّبِيلِ أي : سبيل الرّشاد ، وقرأ الكوفيون ويعقوب «وصدّ» بالبناء للمفعول ، فالفاعل فى الحقيقة فيهما هو اللّه ، بتوسط الشيطان فى عالم الحكمة ، ومن قرأ «صدّ» بالبناء للفاعل ، فالفاعل : فرعون ، إما صدّ النّاس عن طريق الحق بأمثال هذه التمويهات ، أو : اتصف بالصدّ. وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبابٍ أي : خسران وهلاك.
الإشارة : ما ظهر على فرعون هو من طغيان النّفس وعتوها ، فإنّ النّفس إذا اتصلت بها العوافي ، وساعدتها أقدار الجمال فى الظاهر ، ادّعت الرّبوبية ، فإنّ فرعون قيل : إنه عاش أربعمائة سنة ، لم يتوجع فيها قط ، فادعى الربوبية ، ولذا قال بعض الصوفية : فى النّفس خاصية ما ظهرت إلا على فرعون ، حين قال : أنا ربكم الأعلى ، فكان
___________
(1) من الآية 38 من سورة القصص. [.....]
(2) قرأ عاصم ، وحمزة ، والكسائي : (و صدّ) بضم الصاد. وقرأ الباقون بالفتح. انظر الحجة للفارسى (6/ 112).(5/134)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 135
نزول الأقدار القهرية والبلايا على العبد ، رحمة عظيمة ، تتحقق بها العبودية ، التي هى شرف العبد ورفعته. وباللّه التوفيق.
ثم ذكر بقية وعظ المؤمن ، فقال :
[سورة غافر (40) : الآيات 38 الى 40]
وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ (38) يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ (39) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ (40)
يقول الحق جل جلاله : وَقالَ الَّذِي آمَنَ أي : مؤمن آل فرعون : يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ فيما دللتكم عليه ، أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ أي : طريقا يوصل صاحبه إلى المقصود. والرّشاد : ضد الغىّ ، وفيه تعريض بأن ما يسلكه فرعون وقومه سبيل الغىّ والضلال.
يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ أي : تمتع يسير لسرعة زوالها ، فالإخلاد إليها أصل الشر ، ومنبع الفتن ، ومنه يتشعب فنون ما يؤدى إلى سخط اللّه. أجمل له أولا ، ثم فسّر ، فاستفتح بذم الدنيا ، وتصغير شأنها ، ثم ثنّى بتعظيم الآخرة ، وبيّن أنها هى الموطن والمستقر بقوله : وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ لخلودها ، ودوامها ، ودوام ما فيها. قال ابن عرفة : التمتع بالدنيا مانع من الزهد ، وكون الآخرة دار مستقر يقتضى وجود الحرص على أسباب الحصول فيها. ه.
ثم ذكر الأعمال التي تبعد عنها أو تقرب إليها ، فقال : مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فى الدنيا فَلا يُجْزى فى الآخرة إِلَّا مِثْلَها عدلا من اللّه تعالى. قال القشيري : له مثلها فى المقدار ، لا فى الصفة لأن الأولى سيئة ، والمكافأة حسنة ليست بسيئة. ه. وقال ابن عرفة : فى توفيه مماثلة العذاب الأبدى على كفر ساعة تتصور المماثلة ، إما باعتبار نيته الكفر دواما ، وإما بأن يقال : ليس المراد المماثلة عقلا ، بل المماثلة شرعا. وفى الإحياء : قال الحسن :
إنما خلّد أهل الجنة فى الجنة ، وأهل النّار ، فى النّار ، بالنية ، وهو - واللّه أعلم - مقتبس من قوله تعالى : أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ «1» ه. قاله المحشى.
___________
(1) من الآية 44 من سورة إبراهيم.(5/135)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 136
وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ الذين عملوا ذلك يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ أي : بغير تقدير ، وموازنة بالعمل ، بل بأضعاف مضاعفة ، فضلا من اللّه - عز وجل - ورحمة. قال القشيري : أي : مؤبدا مخلدا ، لا يخرجون من الجنة ، ولا مما هم عليه من الحال. ه. وجعل العمل عمدة ، والإيمان حالا للإيذان بأنه لا عبرة بالعمل بدونه ، وأنّ ثوابه أعلى من ذلك.
الإشارة : قال الورتجبي : سبيل الرّشاد : طريق المعرفة ، ومعرفة اللّه تعالى : موافقته ومتابعة أنبيائه وأوليائه ، ولا تحصل الموافقة إلا بترك مراد النّفس ، ولذلك قال : يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ. قال محمد بن على الترمذي : لم تزل الدنيا مذمومة فى الأمم السابقة ، عند العقلاء منهم ، وطالبوها مهانين عند الحكماء الماضية ، وما قام داع فى أمة إلا حذّر متابعة الدنيا وجمعها والحب لها ، ألا ترى مؤمن آل فرعون كيف قال : اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ ، كأنهم قالوا : وما سبيل الرّشاد؟ قال : إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ أي : لن تصل إلى سبيل الرّشاد وفى قلبك محبة الدنيا وطلب لها. ه.
[سورة غافر (40) : الآيات 41 الى 46]
وَيا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (41) تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (42) لا جَرَمَ أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيا وَلا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحابُ النَّارِ (43) فَسَتَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (44) فَوَقاهُ اللَّهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ (45)
النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ (46)
يقول الحق جل جلاله ، حاكيا عن المؤمن : وَيا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ إلى السلامة من النار ، وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ بسلوك أسبابها. كرر نداءهم إيقاظا لهم عن سنة الغفلة ، واعتناء بالمنادى به ، ومبالغة فى توبيخهم ، وفيه أنهم قومه ، وأنه من آل فرعون ، وجىء بالواو فى النّداء الثالث ، دون الثاني لأن الثاني(5/136)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 137
داخل فى كلام هو بيان للمجمل وتفسير له ، بخلاف الثالث. ومدار التعجب الذي يلوح به الاستفهام هو دعوتهم إياه إلى النّار ، لا دعوته إياهم إلى النّجاة ، كأنه قيل : أخبرونى كيف هذا الحال أدعوكم إلى الخير وتدعوننى إلى الشر؟
تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ هو بدل من تَدْعُونَنِي الأول ، وفيه تعليل ، والدعاء يتعدّى باللام وبإلى ، كالهداية ، وَأُشْرِكَ بِهِ وتدعوننى لأشرك به ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ أي : بربوبيته ، والمراد بنفي العلم : نفى المعلوم ، كأنه قال : وأشرك به شيئا ليس بإله ، وما ليس بإله كيف يصحّ أن يعلم إلها؟ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ أي : إلى اللّه الجامع لصفات الألوهية ، من كمال القدرة والغلبة ، وما يتوقف عليه من العلم والإرادة إذ بالقدرة يتمكن من المجازاة بالتعذيب ، أو الإحسان بالغفران.
لا جَرَمَ لا شك ، أو : حقا ، وقال البصريون : «لا» نفى رد لما دعوه إليه ، و«جرم» : فعل ، بمعنى : حقّ ، و«أن» مع «ما» فى حيزه فاعل ، أي : حق ووجب أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيا وَلا فِي الْآخِرَةِ أي : وجب عدم دعوة آلهتكم إلى عبادتها ، والظاهر : أن «جرم» من الجرم ، وأراد به هنا الكذب ، أي : لا كذب فى أن ما تدعوننى إليه ليس له دعوة .. إلخ ، فقد يضمن الفعل معنى المصدر ، وتدخل «لا» النافية للجنس عليه ، والمعنى : أن ما تدعوننى إليه ليس له دعوة إلى نفسه قط ، ومن حق المعبود بالحق أن يدعو العباد إلى طاعته ، وما تدعوننى إليه لا يدعو هو إلى عبادته ، ولا يدّعى الرّبوبية ، أو : معناه : ليس له استجابة دعوة فى الدنيا والآخرة ، أو : دعوة مستجابة. جعلت الدعوة التي لا استجابة لها ، ولا منفعة ، كلا دعوة. وَأَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللَّهِ أي : رجوعنا إليه بالموت ، وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ فى الضلال والطغيان ، كالإشراك وسفك الدماء ، هُمْ أَصْحابُ النَّارِ أي : ملازموها.
فَسَتَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لَكُمْ من النّصائح عند نزول العذاب ، وَأُفَوِّضُ أسلّم أَمْرِي إِلَى اللَّهِ ، قاله لمّا توعدوه. إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ فيحرس من يلوذ به من المكاره.
فَوَقاهُ اللَّهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا شدائد مكرهم ، وما همّوا به من إلحاق أنواع العذاب لمن خالفه ، وقيل : إنه خرج من عندهم هاربا إلى جبل ، فبعث قريبا من ألف فى طلبه ، فمنهم من أكلته السباع ، ومن رجع منهم صلبه فرعون. وقيل : لمّا وصلوا إليه ليأخذوه ، وجدوه يصلّى ، والوحوش حوله ، فرجعوا رعبا ، فقتلهم. وقال مقاتل : لمّا قال المؤمن هذه الكلمات ، قصدوا قتله ، فوقاه اللّه من مكرهم ، أي : بعد تفويض أمره إلى اللّه ، فقيل : إنه نجا مع موسى فى البحر. ه. وَحاقَ نزل بِآلِ فِرْعَوْنَ أي : بفرعون وقومه. وعدم التصريح به ، للاستغناء بذكرهم عن ذكره ، ضرورة أنه أولى منهم بذلك ، وسُوءُ الْعَذابِ الغرق والقتل والنّار.(5/137)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 138
وقوله تعالى : النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا : جملة مستأنفة ، مسوقة لبيان سوء العذاب ، والنّار : خبر عن محذوف ، كأن قائلا قال : ما سوء العذاب؟ فقيل : هو النّار ، أو : بدل من «سوء» ، و«النار» : مبتدأ ، و«يعرضون» :
خبر ، وعرضهم عليها : إحراقهم ، يقال : عرض الإمام الأسارى على السيف : إذا قتلهم به. وذلك لأرواحهم ، كما روى ابن مسعود : أن أرواحهم فى أجواف طير سود ، تعرض على النّار - أي : تحرق بها - بكرة وعشيا ، إلى يوم القيامة «1». وتخصيص الوقتين إما لأنهم يعذّبون فى غيرهما بجنس آخر ، أو : يخفف عنهم ، أو : يكون غدوا وعشيا عبارة عن الدوام.
هذا فى الدنيا فى عالم البرزخ ، وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يقال للخزنة : أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ ، من الإدخال الرباعي ، ومن قرأ : ادخلوا «2» ، ثلاثيا ، فعلى حذف النّداء ، أي : ادخلوا يا آل فرعون أَشَدَّ الْعَذابِ أي : عذاب جهنم ، فإنه أشدّ مما كانوا فيه. أو : أشد عذاب النّار فإنّ عذابها ألوان ، بعضه أشد من بعض ، وهذه الآية دليل على عذاب القبر فى البرزخ ، وهو ثابت فى الأحاديث الصحاح.
الإشارة : النجاة التي دعاهم إليها : هى الزهد فى الدنيا ، وفى التمتع بها مع الاشتغال باللّه. والنّار التي دعوه إليها : هى الاشتغال بمتعة الدنيا مع الغفلة عن اللّه. لا جرم أنّ ما دعوه إليه لا منفعة له فى الدارين ، بل ضرره أقرب من نفعه. وقوله تعالى : وَأَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللَّهِ قال الورتجبي : [مرد المحبين ] «3» إلى مشاهدته ، ومرد العارفين إلى الوصلة ، ومرد الكلّ إلى قضيات الأزلية.
قال حمدون القصّار : لا أعلم فى القرآن أرجى من قوله : وَأَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللَّهِ ، فقد حكى عن بعض السلف أنه قال : الكريم إذا قدر عفا ، وإنما يكون مرد العبد إلى ربه إذا أتاه على أمد الإفلاس والفقر ، لا أن يرى لنفسه مقاما فى إحدى الدارين ، وهو أن يكون فى الدنيا خاشعا لمن يذله ، ولا يلتفت إليه ، هاربا ممن يكرمه ويبره ، ويكون فى الآخرة طالبا لفضل اللّه ، مشفقا من حسناته أكثر من إشفاق الكفار عن كفرهم. ه. قلت : هذا مقام العباد والزهاد ، وأما العارفون فلا يرون إلا اللّه ، فيلقون اللّه باللّه ، غائبون عن إحسانهم وإساءتهم.
وقوله تعالى : فَسَتَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لَكُمْ هكذا يقول الواعظ إن لم ينفع وعظه ، ويفوض أمره وأمرهم إلى اللّه فإنّ اللّه بصير بهم. وقال بعضهم : وأفوض أمرى فى الدنيا والآخرة إلى اللّه ، فهو بصير بعجزي وضعفى عن
___________
(1) عزاه السيوطي فى الدر (5/ 659) لعبد الرّزاق وابن أبى حاتم.
(2) قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وأبو بكر (ادخلوا) بهمزة وصل ، وضم الخاء ، وقرأ الباقون بقطع الهمزة المفتوحة ، وكسر الخاء ، أمر للخزنة. انظر الإتحاف (2/ 438).
(3) ما بين المعقوفتين غير موجود فى الأصول ، وأثبته من عرائس البيان للشيرازى.(5/138)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 139
رد القضاء والقدر ، والتفويض : ألا يرى لنفسه ، ولا للخلق جميعا ، قدرة على النّفع والضر ، فيرى اللّه بإيجاد الموجود فى جميع الأنفاس ، بنعت المشاهدة والحال ، لا بنعت العلم والعقل. وقال بعضهم : التفويض : قبل نزول القضاء ، والتسليم : بعد نزول القضاء. وقال ذو النّون حين سئل عنه : متى يكون العبد مفوضا؟ قال : إذا أيس من فعله ونفسه ، والتجأ إلى اللّه فى جميع أحواله ، ولم تكن له علاقة سوى ربه. ه. أي : لم يكن له تعلق إلا باللّه. فالمقامات ثلاث :
التفويض قبل النّزول ، والرّضا بعده بالمجاهدة ، والتسليم بلا مجاهدة.
وقوله تعالى : فَوَقاهُ اللَّهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا هذه نتيجة التفويض ، فكلّ من فوّض أمره إلى اللّه فيما ينزل به ، وقاه اللّه جميع المكاره ، وكلّ ما يخشى إن قطع عن قلبه التعلق بغير اللّه ، كما هو حقيقة التفويض. قال القشيري : أشدّ العذاب على الكفار : يأسهم عن الخروج ، وأما العصاة من المؤمنين فأشدّ عذابهم : إذا علموا أن هذا يوم لقاء المؤمنين. ه. أي : وهم قد حرموا ذلك.
ثم ذكر احتجاج الكفار فى النّار ، فقال :
[سورة غافر (40) : الآيات 47 الى 50]
وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ (47) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيها إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ (48) وَقالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ (49) قالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا بَلى قالُوا فَادْعُوا وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (50)
يقول الحق جل جلاله : وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ أي : واذكر لقومك وقت تخاصم الكفار فى النّار ، فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ منهم لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا وهم رؤساؤهم : إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً ، وهو جمع تابع ، كخادم وخدم ، أو : ذوى تبع ، على أنه مصدر ، أو : وصف به للمبالغة ، فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ أي : فهل أنتم دافعون ، أو : حاملون عنا جزءا من النّار؟ قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيها ، التنوين عوض عن المضاف ، أي : كلنا فيها ، لا يغنى أحد عن أحد. وقرىء (كلا) بالنصب «1» على التأكيد ، وهو ضعيف لخلوه من
___________
(1) قرأ بذلك ابن السميفع وعيسى بن عمر. انظر القرطبي (7/ 5937) والبحر المحيط (7/ 448).(5/139)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 140
الضمير. إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ قضى بينهم ، بأن أدخل أهل الجنة الجنة ، وأهل النّار النّار ، لا مرد له ، ولا معقب لحكمه ، فلا يغنى أحد عن أحد شيئا.
قال ابن عرفة : فى الآية لف ونشر ، فقوله تعالى : إِنَّا كُلٌّ فِيها راجع لقوله : إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً أي : إنا قد حصلنا جميعا فى النّار ، فجوزى كلّ على قدر علمه ، أنتم على ضلالكم ، ونحن على إضلالنا إياكم. وقوله : إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ راجع لقوله : فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا وبهذا المعنى يتقرر الجواب. ه.
وَقالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ للقوّام بتعذيب أهلها ، وإنما لم يقل : لخزنتها لأن فى ذكر جهنم تهويلا وتفظيعا ، ويحتمل أنّ جهنم هى أبعد النّار قعرا ، من قوله : بئر جهّنام ، أي : بعيدة القعر ، وفيها أعتى الكفرة وأطغاهم ، أو : لكون الملائكة الموكّلين بعذاب أهلها أقدر على الشفاعة لمزيد قربهم من اللّه ، فلهذا تعمدوهم بطلب الدعوة ، فقالوا لهم : ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً أي : مقدار يوم من الدنيا مِنَ الْعَذابِ واقتصارهم فى الاستدعاء على ما ذكر فى تخفيف قدر يسير من العذاب فى مقدار قصير من الزمان ، دون رفعه رأسا ، أو :
تخفيف منه فى زمان مديد لأن ذلك عندهم ليس فى حيز الإمكان ، أو لا يكاد يدخل تحت أمانيهم.
قالُوا أي : الخزنة ، توبيخا لهم ، بعد مدة طويلة : أَوَلَمْ تَكُ أي : القصة تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ بالمعجزات ، يتلون عليكم آيات ربكم وينذرونكم لقاء يومكم هذا؟ أرادوا بذلك إلزامهم الحجة ، وتوبيخهم على إضاعة أوقات الدعاء ، وتعطيل أسباب الإجابة ، قالُوا أي : إذا كان الأمر كذلك فادعوا أنتم ، فإنّ الدعاء لمن يفعل ذلك مما يستحيل صدوره منا. زاد البيضاوي : إذ لم يؤذن لنا فى الدعاء لأمثالكم ، وبحث معه أبو السعود بأنه يوهم أن المانع هو عدم الإذن ، وأنّ الإذن فى حيز الإمكان ، ولا تجوز الشفاعة فى كافر. انظره.
قال تعالى : وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ فى ضياع وبطلان ، لا يجابون فيه لأنهم دعوا فى غير وقته ، ويحتمل أن يكون من كلام الخزنة. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : الآية تجر ذيلها على كلّ من له جاه ، فدعا إلى سوء ، بمقاله أو حاله ، فتبعه العامة على ذلك ، فيتحاجون يوم القيامة ، فيقول المستضعفون : إنا كنا لكم تبعا. ف كل من أمر بسوء ، وفعل ، عوقب الآمر والمأمور ، وكلّ من فعل فعلا خارجا عن السنّة ، كالرغبة فى الدنيا ، والتكاثر منها ، فتبعه العامة على ذلك ، عوتب الجميع ، وباللّه التوفيق.(5/140)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 141
ثم وعد أهل الحق بالنصر ، فقال :
[سورة غافر (40) : الآيات 51 الى 52]
إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ (51) يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (52)
يقول الحق جل جلاله : إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا بالحجّة والظفر ، والانتقام لهم من الكفرة ، بالاستئصال ، والقتل ، والسبي ، وغير ذلك من العقوبات. ولا يقدح فى ذلك ما يتفق لهم من صورة الغلبة ، امتحانا إذ الحكم للغالب ، وهذا كقوله تعالى : وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا .. «1» الآية ، وقوله : كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي «2». والنّصر فى الدنيا إما بالسيف ، فى حق من أمر بالجهاد ، أو : بالحجة والإهلاك فيمن لم يؤمر به ، وبذلك يندفع قول من زعم تخصيص الآية أو تعميمها ، وإخراج زكريا ويحيى من الرّسالة ، وإن ثبت لهما النبوة لقتلهما ، وأن الآية ، إنما تضمنت نصر الرّسل دون الأنبياء ، فإنه خلاف لما صرّح به الجمهور من ثبوت الرسالة ليحيى ، ففى كلام ابن جزى هنا نظر. قاله المحشّى.
وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ أي : وننصرهم يوم القيامة ، عبّر عنه بذلك للإشعار بكيفية النّصرة ، وأنها تكون حين يجتمع الأولون والآخرون ، ويحضره الأشهاد من الملائكة وغيرهم ، فيشهدون للأنبياء بالتبليغ ، وعلى الكفرة بالتكذيب. قال النّسفى : الأشهاد جمع شاهد ، كصاحب وأصحاب ، يريد : الأنبياء والحفظة ، فالأنبياء يشهدون عند رب العزة على الكفرة بالتكذيب ، والحفظة يشهدون على بنى آدم. ه.
يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ : هو بدل من يَوْمَ يَقُومُ أي : لا يقبل عذرهم ، ومن قرأ بالتأنيث «3» فباعتبار لفظ المعذرة ، وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ أي : البعد من الرّحمة ، وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ أي : سوء دار الآخرة ، وهو عذابها.
الإشارة : كما نصرت الرّسل بعد الامتحان ، نصرت الأولياء بعد الامتحان والامتكان. قال الشاذلى رضي اللّه عنه :
اللهم إنّ القوم قد حكمت عليهم بالذلّ حتى عزوا .. إلخ. وهم داخلون فى قوله : وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ،
___________
(1) من الآية 171 من سورة الصفات.
(2) من الآية 21 من سورة المجادلة.
(3) قرأ يَوْمَ لا يَنْفَعُ بالتذكير نافع ، وعاصم ، وحمزة ، والكسائي ، وقرأ الباقون يوم لا تنفع بالتاء. انظر الحجة للفارسى (6/ 115).(5/141)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 142
ونصرتهم تكون أولا بالظفر بنفوسهم ، ثم بالغيبة عن حس الكائنات ، باتساع دائرة المعاني ، ثم بالتصرف فى الوجود بأسره بهمته. قال القشيري : ويقال : ينصرهم على أعدائهم بلطف خفىّ ، وكيد غير مرئىّ ، من حيث يحتسب أو لا يحتسب ، كما ينصرهم فى الدنيا على تحقيق المعرفة ، واليقين بأنّ الكائنات من اللّه. ثم قال : غاية النصرة أن يقتل النّاصر عدوّ من ينصره ، [فإذا رآه حقق له ] «1» أنه لا عدو له فى الحقيقة ، وأنّ الخلق أشباح ، وتجرى عليهم أحكام القدرة ، فالولىّ لا عدوّ له ولا صديق ، ليس له إلا اللّه. قال اللّه تعالى : اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا «2» ه. والنّصر فى الحقيقة هو التأييد عند التعرفات ، فإذا ابتلى الرّسول أو الولىّ أيّده اللّه باليقين ، ونصره بالمعرفة ، فيلقى ما ينزل عليه بالرضا والتسليم ، وتذكّر مالقى به الشاذلى حين دعا بالسلامة مما ابتلى به الرّسل ، متعللا بأنهم أقوى ، فقيل له : قل : وما أردت من شىء فأيّدنا كما أيدتهم. ه.
ثم وعد نبيه بالنصر ، كما نصر موسى وغيره ، فقال :
[سورة غافر (40) : الآيات 53 الى 56]
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ (53) هُدىً وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (54) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ (55) إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (56)
يقول الحق جل جلاله : وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى ما يهتدى به من المعجزات ، أو الشرائع والصحف. وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ أي : تركنا فيهم التوراة ، يرثه بعضهم من بعض ، أو : جنس الكتاب ، فيصدق بالتوراة والإنجيل والزبور لأنّ المنزّل عليه منهم. قال الطيبي : فيه إشارة إلى أن ميراث الأنبياء ليس إلا العلم والكتاب الهادي ، الناطق بالحكمة والموعظة. ه. حال كون الكتاب هُدىً وَذِكْرى أي : هاديا ومذكّرا ، أو : إرشادا وتذكرة لِأُولِي الْأَلْبابِ لأولى العقول الصافية ، العالمين بما فيه ، العاملين به.
___________
(1) عبارة القشيري : [فإذا أراد حتفه تحقق ].
(2) من الآية 257 من سورة البقرة.(5/142)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 143
فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ أي : فاصبر على ما يجرّعك قومك من الغصص إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ بنصرك وإعلاء دينك ، على ما نطق به قوله تعالى : وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ ، إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ. وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ «1» ، حَقٌّ لا يحتمل الاختلاف بحال. قال الطيبي : الآية تشير إلى نصره على أعدائه ، كموسى ، وأنه يظهر دينه على الدين كله ، ويورث كتابه ليعتصموا به ، فيكون لهم هدى وذكرى ، وعزا وشرفا. ه. أي :
ولذلك قدّم ذكر موسى على بشارته بالنصر ليتم التشبيه.
وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ ، تشريعا لأمتك فإنّ الاستغفار يمحو الذنوب التي تعوق عن النّصر ، أو : تداركا لما فرط منك من ترك الأولى فى بعض الأحايين ، فإنّ حسنات الأبرار سيئات المقربين. والحاصل : أن كلّ مقام له ذنب يليق به ، وهو التقصير فى القيام به على ما يليق به ، فالنبى صلّى اللّه عليه وسلم كلف بدوام الشهود ولو فى حال التعليم ، فإذا غاب عن الحق لحظة بشغل البال بالتعليم ، كان فى حقه نقصا يوجب الاستغفار. ثم قال : وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ أي : دم على التسبيح ملتبسا بحمده ، أي : قل : سبحان اللّه وبحمده ، أو : صلّ فى هذين الوقتين ، إذ كان الواجب بمكة ركعتين بكرة وعشيا ، وقيل : هما صلاة العصر والفجر ، خصصهما لشرفهما.
إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ ويجحدونها بِغَيْرِ سُلْطانٍ برهان أَتاهُمْ من جهته تعالى ، بل عنادا وحسدا. وتعليق المجادلة بذلك ، مع استحالة إتيانه للإيذان بأن التكلم فى أمر الدين لا بد من استناده إلى برهان ، وهذا عام لكلّ مجادل ، محق أو مبطل ، وإن نزل فى مشركى مكة. وقوله : إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ :
خبر «إنّ» ، أي : ما فى قلوبهم إلا تكبر عن الحق ، وتعاظم عنه ، وهو إرادة التقدم والرّئاسة ، وألا يكون أحد فوقهم ، فلذلك عادوك ، ودفعوا آياتك ، خيفة أن تتقدمهم ، ويكونوا تحت قهرك لأن النّبوة تحتها كلّ ملك ورئاسة ، أو : إرادة أن تكون لهم النّبوة دونك ، حسدا وبغيا ، كقولهم : لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ «2» ، لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ «3».
ثم وصف كبرهم بقوله : ما هُمْ بِبالِغِيهِ أي : ما هم ببالغي موجب ذلك الكبر ومقتضاه ، وهو ما أرادوه من التقدم والرّئاسة ، وقيل : نزلت فى اليهود ، وهم المجادلون ، كانوا يقولون : لست صاحبنا المذكور فى التوراة ، بل هو المسيح بن داود ، يعنون الدجال ، يخرج فى آخر الزمان ، فيبلغ سلطانه البر والبحر ، وتسير معه الأنهار ، وهو آية من
___________
(1) الآيات : 171 - 173 من سورة الصافات.
(2) الآية 31 من سورة الزخرف.
(3) من الآية 11 من سورة الأحقاف. [.....](5/143)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 144
آيات اللّه ، فيرجع إلينا الملك «1» فسمى اللّه تمنيهم بذلك كبرا ، ونفى أن يبلغوا متمناهم. فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ فالتجىء إليه من كيد من يحسدك ، ويبغى عليك ، إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ لما تقول ويقولون ، الْبَصِيرُ بما تعمل ويعملون ، فهو ناصرك عليهم ، وعاصمك من شرهم.
الإشارة : فاصبر أيها المتوجه إلى اللّه ، إنّ وعد اللّه بالفتح حق إن صبرت ، وكابدت ولم تملّ ، واستغفر لذنبك ، وتطهر من عيبك ، لتدخل حضرة ربك. قال الورتجبي : «واستغفر لذنبك» أي : لما جرى على قلبك من الأحكام البشرية ، وأيضا : استغفر لرؤية وجودك فى وجود الحق ، فإنّ كون الحادث فى وجود القديم ذنب فى إفراد القدم من الحدوث. انظر تمامه.
وقوله تعالى : وَسَبِّحْ .. إلخ ، فيه الحث على التوجه إلى اللّه فى هذين الوقتين ، فإن العبرة بالافتتاح والاختتام ، فمن فتح يومه بخير ، وختمه بخير ، حكم على بينهما. وقال فى أهل الإنكار : إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ ... الآية ، فاستعذ باللّه منهم ، وغب عنهم بإقبالك على مولاك. وباللّه التوفيق.
ولمّا كانت مجادلة الكفرة فى آيات اللّه مشتملة على إنكار البعث ، احتج عليهم بقوله :
[سورة غافر (40) : الآيات 57 الى 59]
لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (57) وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلا الْمُسِيءُ قَلِيلاً ما تَتَذَكَّرُونَ (58) إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (59)
يقول الحق جل جلاله : لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ ، فمن قدر على اختراع هذه الأجرام مع عظمها كان على اختراع الإنسان بعد موته وبعثه مع مهانته أقدر ، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ذلك لأنهم لا يتفكرون لغلبة الغفلة عليهم ، وعمى بصيرتهم.
وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أي : الغافل والمستبصر ، وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلَا الْمُسِيءُ ولا يستوى المحسن والمسيء ، فلا بد أن تكون لهم حال أخرى ، يظهر فيها ما بين الفريقين من التفاوت ، وهى فيما بعد البعث ، فيرتفع المستبصر المحسن فى أعلى عليين ، ويسقط الغافل المسيء فى أسفل سافلين. وزيادة
___________
(1) ذكره القرطبي (7/ 5941) وقيل فى المراد بالذين يجادلون فى آيات اللّه : هو كلّ من كفر بالنبي صلّى اللّه عليه وسلم وهذا حسن لأنه يعم.(5/144)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 145
«لا» فى المسيء لتأكيد النّفى لطول الكلام بالصلة. قَلِيلًا ما تَتَذَكَّرُونَ «1» أي : تذكرا قليلا يتذكرون.
وقرىء بالغيبة ، والخطاب ، على الالتفات. إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها لا شك فى مجيئها لوضوح دلائلها ، وإجماع الرّسل على الوعد بوقوعها ، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ لا يصدقون بوقوعها لقصور نظرهم على ظواهر ما يحسون.
الإشارة : التفكر فى العوالم العلوية والسفلية ، يوجب فى القلب عظمة الحق جل جلاله ، وباهر قدرته وحكمته ، وإتيان البعث لا محالة لنفوذ القدرة فى الجميع. وكون خلق السموات والأرض أكبر من خلق الإنسان ، إنما هو باعتبار الجرم الحسى ، وأما باعتبار المعنى فالإنسان أعظم لاشتماله على العوالم كلها ، كما قال فى المباحث :
اعقل فأنت نسخة الوجود للّه ما أعلاك من موجود
أليس فيك العرش والكرسىّ والعالم العلوىّ والسّفلىّ؟
ثم أمر بعبادته ، أو دعائه ، بعد بيان عظمة قدرته ، ليكون الداعي موقنا بالإجابة ، فقال :
[سورة غافر (40) : آية 60]
وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ (60)
يقول الحق جل جلاله : وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أي : اعبدوني أَسْتَجِبْ لَكُمْ أي : أثبكم ، ويدل على هذا قوله : إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ صاغرين أذلاء ، أو : اسألونى أعطكم ، على ما أريد ، فى الوقت الذي أريد. قال القشيري : والحكمة فى أنه أمر بالسؤال قبل الإجابة ، وبالاستغفار قبل المغفرة ، أنه حكم فى اللوح أن يعطيك ذلك الشيء الذي تسأله وإن لم تسأل ، ولكن أمر بالسؤال ، حتى إذا وجدته تظن أنك وجده بدعائك ، فتفرح به. قلت : السؤال سبب ، والأسباب غطى بها سر قدرته تعالى. ثم قال :
ويقال : إذا ثبت أن هذا الخطاب للمؤمنين فما من مؤمن يدعو اللّه ، ويسأله شيئا ، إلا أعطاه إياه ، إما فى الدنيا ، وإما فى الآخرة. حيث يقال له : هذا ما طلبته فى الدنيا ، وقد ادخرته لك إلى هذا اليوم ، حتى يتمنى العبد أنه لم يعط شيئا فى الدنيا. ه.
___________
(1) قرأ عاصم ، وحمزة ، والكسائي «تتذكرون» بتاءين من فوق ، على الخطاب ، وقرأ الباقون بالياء والتاء على الغيب .. انظر الإتحاف (2/ 439).(5/145)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 146
قلت : فالدعاء كله إذا مستجاب ، بوعد القرآن ، لكن منه ما يعجّل ، ومنه ما يؤجّل ، ومنه ما يصرف عنه به البلاء ، كما فى الأثر ، وإذا فسر الدعاء بالسؤال كان الاستكبار عنه منزلا منزلة الاستكبار عن العبادة للمبالغة فى الحث عليه. قال صلّى اللّه عليه وسلم : «الدعاء هو العبادة» وقرأ الآية «1» ، وفى رواية : «مخ العبادة» «2» ، وعن ابن عباس :
«وحّدونى أغفر لكم» ، فسّر الدعاء بالعبادة ، والعبادة بالتوحيد.
الإشارة : اختلف الصوفية أىّ الحالين أفضل؟ هل الدعاء والابتهال ، أو السكوت والرّضا؟ والمختار أن ينظر العبد ما يتجلى فى قلبه ، فإن انشرح للدعاء فهو فى حقه أفضل ، وإن انقبض عنه ، فالسكوت أولى ، والغالب على أهل التحقيق من العارفين ، الغنى باللّه ، والاكتفاء بعلمه ، كحال الخليل عليه السّلام ، فإنهم إبراهيميون.
قال الورتجبي : أي : ادعوني فى زمن الدعاء الذي جعلته خاصا لإجابة الدعوة ، فادعونى فى تلك الأوقات ، استجب لكم فإنّ وقوع الإجابة فيها حقيقة بلا شك ، ومن لم يعرف أوقات الدعاء ، فدعاؤه ترك أدب فإن الدعاء فى وقت الاستغفار من قلة معرفة المقامات ، فإن السلطان إذا كان غضبان لا يسأل منه ، وإذا كان مستبشرا فيكون زمانه زمن العطاء والكرم. - قلت : هذا فى حق الخصوص ، الفاهمين عن اللّه ، وأما العموم ، فما يناسبهم إلا دوام الدعاء فى الرّخاء والشدة ، قال تعالى : فَلَوْ لا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا «3» ثم قال عن الوراق : ادعوني على حد الاضطرار والالتجاء ، حيث لا يكون لكم مرجع إلى [سواى ] «4» ، استجب لكم. ه.
ثم برهن على توحيده ، وأنه لا يصح الرّجوع إلا إليه ، فقال :
[سورة غافر (40) : الآيات 61 الى 65]
اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (61) ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (62) كَذلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كانُوا بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (63) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً وَالسَّماءَ بِناءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (64) هُوَ الْحَيُّ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (65)
___________
(1) أخرجه أبو داود فى (الصلاة ، باب الدعاء 2/ 161 ، ح 1479) والترمذي فى (الدعوات ، باب ما جا فى فضل الدعاء 5/ 426 ، ح 3372) وقال «حسن صحيح» وابن ماجه فى (الدعاء ، باب فضل الدعاء 2/ 1258 ، ح 3828) والحاكم (1/ 490) وصححه ، ووافقه الذهبي ، من حديث النّعمان بن بشير رضي اللّه عنه.
(2) أخرج هذه الرّواية الترمذي فى (الموضع السابق حديث 3371) من حديث أنس بن مالك رضي اللّه عنه.
(3) من الآية 43 من سورة الأنعام.
(4) فى الأصول [سواه ] والمثبت هو الذي فى عرائس البيان.(5/146)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 147
يقول الحق جل جلاله : اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ بأن خلقه مظلما باردا ، تقلّ فيه الحركات فتستريح فيه الجوارح ، وَجعل النَّهارَ مُبْصِراً أي : مبصرا فيه. فأسند الإبصار إلى النّهار ، مجازا ، والأصل فى الحقيقة لأهل النّهار. وقرن الليل بالمفعول له ، والنّهار بالحال ، ولم يكونا حالين أو مفعولا لهما رعاية لحق المقابلة لأنهما متقابلان معنى لأن الليل مقابل النّهار ، فلما تقابلا معنى تقابلا لفظا ، مع أن كلّ واحد منهما يؤدى مؤدى الآخر ، ولأنه لو قيل : لتبصروا فيه فاتت الفصاحة التي فى الإسناد مجازى ، ولو قيل : «ساكنا» لم تتميز الحقيقة من المجاز ، إذ الليل يوصف بالسكون على الحقيقة ، ألا ترى إلى قولهم : ليل ساج ، أي : ساكن لا ريح فيه.
إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عظيم عَلَى النَّاسِ ، حيث تفضّل عليهم بهذه النّعم الجسيمة ، وإنما لم يقل :
المتفضل لأن المراد تكثير الفضل ، وأنه فضله لا يوازيه فضل ، فالتنكير للتعظيم. وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ لجهلهم بالمنعم ، وإغفالهم مواضع النّعم. وتكرير النّاس ، ولم يقل : أكثرهم لتخصيص الكفران بهم ، وأنهم هم الذين من شأنهم الكفران ، كقوله : إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ «1».
ذلِكُمُ اللَّهُ أي : ذلكم المنفرد بالأفعال المقتضية للألوهية ، من خلق الليل والنّهار هو اللّه رَبُّكُمْ لا ربّا غيره ، خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ أخبار مترادفة ، أي : الجامع لهذه الأوصاف من الإلهية والرّبوبية ، وإيجاد الأشياء ، والوحدانية ، فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ أي : فكيف ، ومن أىّ وجه تصرفون عن عبادته إلى عبادة الأوثان؟! كَذلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كانُوا بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ أي : مثل ذلك الإفك العجيب ، الذي لا وجه له ، ولا مصحح له أصلا ، يؤفك كلّ من جحد بآياته تعالى من غير تروّ ولا تأمل.
ثم ذكر فضله المتعلق بالمكان ، بعد بيان فضله المتعلق بالزمان ، فقال : اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً مستقرا تستقرون عليها بأقدامكم ومساكنكم ، وَالسَّماءَ بِناءً سقفا فوقكم ، كالدنيا بيت سقفه السماء ،
___________
(1) من الآية 66 من سورة الحج.(5/147)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 148
مزّينا بالمصابيح ، وبساطه الأرض ، مشتملة على ما يحتاج إليه أهل البيت. وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ ، هذا بيان لفضله المتعلق بالأجسام ، أي : صوّركم أحسن تصوير ، حيث جعلكم منتصب القامة ، بادى البشرة ، متناسب الأعضاء والتخطيطات ، متهيئا لمناولة الصنائع واكتساب الكمالات. قيل : لم يخلق اللّه حيوانا أحسن صورة من الإنسان. وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ أي : اللذائذ ، ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ أي : ذلكم المنعوت بتلك النّعوت الجليلة.
هو المستحق للربوبية ، فَتَبارَكَ اللَّهُ أي : تعالى بذاته وصفاته رَبُّ الْعالَمِينَ أي : مالكهم ومربيهم ، والكل تحت قدرته مفتقر إليه فى إيجاده وإمداده إذ لو انقطع إمداده لا نهدّ الوجود.
هُوَ الْحَيُّ المنفرد بالحياة الذاتية الحقيقية ، لا إِلهَ إِلَّا هُوَ إذ لا موجود يدانيه فى ذاته وصفاته وأفعاله ، فَادْعُوهُ فاعبدوه مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ أي : الطاعة من الشرك والرّياء ، وقولوا : الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ. عن ابن عباس رضي اللّه عنه : من قال «لا إله إلا اللّه» ، فليقل على إثرها : الحمد للّه رب العالمين «1».
الإشارة : اللّه هو الذي جعل ليل القبض لتسكنوا فيه عند اللّه ، ونهار البسط لتبصروا نعم اللّه ، فتشكروا لتبتغوا زيادة فضله ، وجعل أرض النّفوس قرارا لقيام وظائف العبودية ، وسماء الأرواح مرقى لشهود عظمة الرّبوبية. قال القشيري : سكون النّاس بالليل - أي : الحسى - على أقسام : فأهل الغفلة يسكنون مع غفلتهم ، وأهل المحبة يسكنون بحكم وصلتهم ، فشتان بين سكون غفلة ، وسكون وصلة ، وقوم يسكنون إلى أمثالهم وأشكالهم ، وقوم إلى حلاوة أعمالهم ، [وبسطهم ، واستقبالهم ] «2» ، وقوم يعدمون القرار فى ليلهم ونهارهم - أي : لا يسكنون إلى شىء - أولئك أصحاب الاشتياق ، أبدا فى الإحراق ه.
وقوله تعالى : وَصَوَّرَكُمْ أي : صوّر أشباحكم ، فأحسن صورتها ، حيث بهجها بأنوار معرفته. قال الورتجبي :
فأحسن صوركم بأن ألبستكم أنوار جلالى وجمالى ، واتخاذكم بنفسي ، ونفخت من روحى فيكم ، الذي أحسن الهياكل من حسنه ، ومن عكس جماله ، فإنه مرآة نورى الجلى للأشباح. ه. قال القشيري : خلق العرش والكرسي والسموات والأرض ، وجميع المخلوقات ، ولم يقل فى شىء منها : فأحسن صورها ، بل قاله لمّا خلق هذا الإنسان ، وليس الحسن ما يستحسنه النّاس ، ولكن الحسن ما يستحسنه الحبيب ، وأنشدوا :
ما حطّك الواشون عن رتبة عندى ، ولا ضرّك مغتاب
كأنّهم أثنوا ولم يعلموا عليك عندى بالّذى عابوا «3»
___________
(1) أخرجه الطبري (24/ 81) والحاكم وصححه (2/ 438) ، والبيهقي فى الأسماء والصفات (1/ 179) عن ابن عباس رضي اللّه عنه موقوفا.
(2) فى القشيري : [لبسطهم واستقلالهم ].
(3) البيتان لأبى نواس. انظر ديوانه (1/ 109) ونهاية الأرب (2/ 241) وينسبان أيضا إلى العباس بن الأحنف ، كما جاء فى ديوانه (ص 61).(5/148)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 149
لم يقل للشمس فى علاها ، ولا للأقمار فى ضيائها : فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ ولما انتهى إلينا قال : لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ «1». ثم قال : وكما أحسن صوركم محى من ديوانكم الزلّات ، وأثبت الحسنات ، قال اللّه تعالى : يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ. «2» ه.
قوله تعالى : وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ لذيذ المشاهدة ، وأنس الوصلة. وقوله تعالى : هُوَ الْحَيُّ الحياة عند المتكلمين لا تتعلق بشىء ، وعند الصوفية تتعلق بالأشياء إذ لا قيام لها إلا بأسرار معانى ذاته ، ومن تحققت حياته من الأولياء بحياة اللّه ، بحيث كان له نور يمشى به فى النّاس ، كان كلّ من لقيه حييت روحه بمعرفة اللّه ، ولذلك يضم الشيخ المريد إليه ، إن رآه لم ينهض حاله ، ليسرى حاله فيه ، يأخذون ذلك من ضم جبريل للنبى - عليهما السّلام. وباللّه التوفيق.
ولمّا كان صلّى اللّه عليه وسلم بين أظهر المشركين نهى عن أن يتصف بصفاتهم ، فقال :
[سورة غافر (40) : الآيات 66 الى 68]
قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جاءَنِي الْبَيِّناتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (66) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (67) هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (68)
يقول الحق جل جلاله : قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ أي : تعبدون مِنْ دُونِ اللَّهِ ولم يكن عبدها قط ، لَمَّا جاءَنِي الْبَيِّناتُ مِنْ رَبِّي من الحجج العقلية ، والآيات التنزيلية.
قال الطيبي : معرفة اللّه تعالى ووحدانيته معلومتان بالعقل ، وقد ترد الأدلة العقلية فى مضمون السمعية ، أما وجوب عبادة اللّه ، وتحريم عبادة الأصنام ، فحكم شرعى لقوله : قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أي : حرم علىّ ، وهذا إنما يتحقق بعد البعثة ، خلافا للمعتزلة فى الإيجاب قبل الشرع ، للتحسين والتقبيح ، والمعنى : أن قضية التقليد توجب ما أنتم
___________
(1) الآية 4 من سورة التين.
(2) من الآية 39 من سورة الرّعد.(5/149)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 150
عليه ، ولكنى خصصت بأمر دونكم ، كما قال إبراهيم : يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ ... «1» إلخ كلامه ، وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ أن أنقاد وأخلص دينى لِرَبِّ الْعالَمِينَ.
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ أي : أصلكم ، وأنتم فى ضمنه ، ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ أي : ثم خلقكم خلقا تفصيليا من نطفة تمنى ، ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ، ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا أي : أطفالا ، واقتصر على الواحدة لأن المراد الجنس ، ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ : متعلق بمحذوف ، أي : ثم يبقيكم لتبلغوا أشدّكم ، وكذلك ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً ، وقيل : عطف على محذوف ، علة ليخرجكم ، ف «يخرجكم» من عطف علة على أخرى ، كأنه قيل : ثم يخرجكم طفلا لتكبروا شيئا فشيئا ، ثم لتبلغوا كمالكم فى القوة والعقل ، ثم لتكونوا شيوخا ، بكسر الشين وضمها «2» جمع شيخ ، وقرىء «شيخا» كقوله : «طفلا».
وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ عبارة تجرى فى الأدراج المذكورة ، فمن النّاس من يموت قبل أن يخرج طفلا ، وآخرون قبل الأشدّ ، وآخرون قبل الشيخوخة. وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى أي : وفعل ذلك لتبلغوا أجلا مسمى ، أي : ليبلغ كلّ واحد منكم أجلا مسمى لا يتعداه ، وهو أجل موته ، وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ولكى تعقلوا ما فى ذلك من العبر ، والحجج ، وفنون الحكم فإنّ ذلك التدريج البديع يقضى بالقدر السابق ، ونفوذ القدرة القاهرة لبعد ذلك التفاوت ، والاختلاف العظيم ، عن الطبيعة والعلة ، وإنما موجب ذلك سبق الاختيار والمشيئة الأزلية ، ولذلك عقّبه بقوله :
هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ دفعا لما قد يتوهم - من كونه لم يذكر الفاعل فى قوله : وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ - أن ذلك من فساد مزاجه ، أو قتل غيره قبل أجله ، فرفع ذلك الإبهام بقوله : هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ لا غيره ، أي : يحيى الأموات ، ويميت الأحياء ، أو : يفعل الإحياء والإماتة ، فَإِذا قَضى أَمْراً أي : أراد أمرا من الأمور ، فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ من غير توقف على شىء من الأشياء أصلا ، وهو تمثيل لتأثير قدرته تعالى فى الأشياء عند تعلق إرادته بها ، وتصوير سرعة ترتب المكونات على تكوينه ، من غير أن يكون هناك أمر ولا مأمور.
الإشارة : إذا دخل المريد مقام التجريد ، طالبا لأسرار التوحيد والتفريد ، وطلبه العامة بالرجوع للأسباب قبل التمكين ، يقول : (إنى نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون اللّه ...) الآية. والبينات التي جاءته من ربه ، هو اليقين
___________
(1) الآية 43 من سورة مريم.
(2) ضم شين «شيوخا» نافع ، وأبو عمرو ، وهشام ، وحفص ، وأبو جعفر ، وقرأ الباقون بكسر الشين. انظر الإتحاف (2/ 439). [.....](5/150)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 151
الكبير بأن اللّه يرزق أهل التقوى بغير أسباب ، لقوله تعالى : وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً ، وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ «1». وفى هذا المعنى قال الغزالي رضي اللّه عنه :
تركت للنّاس دينهم ودنياهم شغلا بذكرك يا دينى ودنياى
قال القشيري : قل يا محمد : إنى نهيت وأمرت بالتبرّى مما عبدتم ، والإعراض عما به اشتغلتم ، والاستسلام للذى خلقنى ، وبالنبوة خصّنى. ه. وكما تتربى النّطفة الإنسانية فى الرّحم ، تتربى نطفة الإرادة - وهى المعرفة العيانية - فى القلب ، فإذا عقد المريد نكاح الصحبة مع الشيخ ، قذف فى قلبه نطفة الإرادة ، فما زال يربيها له حتى يخرج عن حس دائرة الأكوان ، فهى ولادته طفلا ، ثم لا يزال يحاذيه بهمته حتى يبلغ أشده ، وهو كماله ، ثم يكون شيخا مربيا إن أذن له. واللّه تعالى أعلم.
وفيما ذكر الحق تعالى من أطوار البشر ، شواهد ظاهرة ، دالة على إثبات البعث ، وإنكار ذلك والجدال فيه ، جهالة ، كما قال تعالى :
[سورة غافر (40) : الآيات 69 الى 76]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (69) الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ وَبِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (70) إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ (71) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (72) ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (73)
مِنْ دُونِ اللَّهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكافِرِينَ (74) ذلِكُمْ بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ (75) ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (76)
___________
(1) من الآيتين : 2 - 3 من سورة الطلاق.(5/151)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 152
قلت : (الذين يجادلون) : بدل من الموصول قبله المجرور ، أو : رفع ، أو : نصب على الذم.
يقول الحق جل جلاله : أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ ، كرر الحق تعالى الجدال فى هذه السورة ثلاث مرات ، فإما أن يكون فى ثلاث طوائف : الأول فى قوم فرعون ، والثاني فى اليهود ، والثالث فى المشركين ، وإما للتأكيد ، أي : انظر إلى هؤلاء المكابرين المجادلين فى آيات اللّه الواضحة ، الموجبة للإيمان بها ، الزاجرة عن الجدال فيها ، أَنَّى يُصْرَفُونَ أي : كيف يصرفون عنها ، مع تعاضد الدواعي إلى الإقبال عليها ، وانتفاء الصوارف عنها بالكلية.
وهذا تعجيب من أحوالهم الرّكيكة ، وتمهيد لما يعقبه من بيان تكذيبهم بكلّ القرآن ، أو بسائر الكتب والشرائع ، كما أبانه بقوله : الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ أي : بالقرآن ، أو : بجنس الكتب السماوية ، وَبِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا من سائر الكتب ، أو : لوحى ، أو : الشرائع ، فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ عاقبة ما فعلوا من الجدال والتكذيب ، عند مشاهدتهم لأنواع العقوبات.
إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ أي : سوف يعلمون حين تكون الأغلال فى أعناقهم. و«إذ» : ظرف للماضى ، والمراد به هنا : الاستقبال لأن الأمور المستقبلة لمّا كانت محققة الوقوع ، مقطوعا بها ، عبّر بما كان ووجد. وَفى أعناقهم أيضا السَّلاسِلُ. وفى تفسير ابن عرفة : ولا يجوز مثل ذلك فى العقوبات الدنيوية ، وقياسه على العقوبات الأخروية خطأ ، وفاعله مخطئ غاية الخطأ ، ولم يذكر الأئمة فى اعتقال المحبوس للقتل إلا أنه يجعل القيد من الحديد فى رجله ، خيفة أن يهرب ، وأما عنقه فلا يجعل فيه شىء. ه. يُسْحَبُونَ فِي الْحَمِيمِ أي :
يجرّون فى الماء الحارّ ، وهو استئناف بيانى ، كأن قائلا قال : فما ذا يكون حالهم بعد ذلك؟ فقال : يسحبون فى الحميم ، ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ ويحرقون ، من : سجر التنّور : إذا ملأه بالوقود ، والمراد : أنهم يعذبون بأنواع العذاب ، وينقلون من لون إلى لون.
ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا أي : غابوا ، وهذا قبل أن يقرن بهم آلهتهم ، أو : ضاعوا عنا فلم نجد ما كنا نتوقع منهم ، بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً أي : تبيّن لنا أنهم لم يكونوا شيئا. أو : يكون إنكارا منهم ، كقولهم : وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ «1». وهذا كله مستقبل عبّر عنه بالماضي
___________
(1) من الآية 23 من سورة الأنعام.(5/152)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 153
لتحققه. كَذلِكَ أي : مثل ذلك الضلال الفظيع يُضِلُّ اللَّهُ الْكافِرِينَ حيث لا يهتدون إلى شىء ينفعهم فى الآخرة ، أو : كما ضلّ عنهم آلهتهم يضلهم اللّه عن آلهتهم ، حتى لو تطالبوا لم يتصادفوا.
ذلِكُمْ الإضلال بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ أي : تبطرون وتتكبرون بِغَيْرِ الْحَقِّ ، بل بالشرك والطغيان ، وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ تفخرون وتختالون ، أو : تتكبرون وتعجبون. والالتفات إلى الخطاب للمبالغة فى التوبيخ. فيقال لهم : ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ أي : أبوابها السبعة المقسومة عليكم خالِدِينَ فِيها مقدّرا خلودكم فيها ، فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ عن الحق ، والمخصوص محذوف ، أي : جهنّم.
الإشارة : الأولياء العارفون أهل التربية الكاملة ، آية من آيات اللّه فى كلّ زمان ، فيقال فى حق من يخاصم فى وجودهم ، ويتنكب عن صحبتهم : الذين يجادلون فى آيات اللّه أنّى يصرفون؟ وهم الذين كذّبوا بأسرار الكتاب ، وعلوم باطنه ، وبما أرسل به خلفاء الرّسل ، ممن يغوص على تلك الأسرار ، فسوف يعلمون حين تخاطبهم أغلال الوساوس والخواطر ، وسلاسل العلائق والشواغل ، فيقبضهم عن النّهوض إلى قضاء الشهود والعيان ، وجولان الفكرة فى أنوار الملكوت وأسرار الجبروت ، يسحبون فى حرّ التدبير والاختيار ، ثم فى نار القطيعة يسجرون ، ثم قيل لهم إذا ماتوا : أين ما كنتم تشركون فى المحبة والميل من دون اللّه؟ قالوا : ضلوا عنا ، وغاب عنهم كلّ ما تمتعوا به من الحظوظ والشهوات ، فيقال لهم : ذلكم بما كنتم تنبسطون فى الدنيا فى أنواع المآكل ، والمشارب ، والملابس ، والمناكح ، وبما كنتم تفتخرون على النّاس ، فيخلدون فى الحجاب ، إلا فى وقت مخصوص. وباللّه التوفيق.
ثم أمر بالصبر وانتظار الفتح ، فقال :
[سورة غافر (40) : الآيات 77 الى 78]
فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ (77) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ (78)(5/153)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 154
يقول الحق جل جلاله : فَاصْبِرْ يا محمد على أذى قومك ، وانتظر ما يلاقوا مما أعد لهم. إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ بإهلاكم وتعذيبهم حَقٌّ كائن لا محالة ، فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ من الهلاك ، كالقتل والأسر فى حياتك ، أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ قبل هلاكهم بعدك ، فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ لا محالة ، ف «ما» : صلة بعد «إن» ، لتأكيد الشرطية ، والجواب : محذوف ، أي : فإن نرينك بعض ما نعدهم فذاك ، أو نتوفينك قبل ذلك فإلينا يرجعون يوم القيامة ، فننتقم منهم أشد الانتقام.
ثم سلّاه بمن قبله ، فقال : وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ فأوذوا وصبروا حتى جاءهم نصرنا ، مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ فى القرآن ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ ، قيل : عدد الأنبياء - عليهم السّلام - مائة ألف وأربعمائة وعشرون ألفا ، والمذكور قصصهم فى القرآن أفراد معدودة. قال الطيبي : والصحيح ما روينا عن أحمد بن حنبل ، عن أبى ذر ، قلت : يا رسول اللّه ، كم عدد الأنبياء؟ قال : «مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا ، الرسل من ذلك ثلاثمائة وخمسة عشر جما غفيرا» «1». ه. وقد تكلم فى الحديث بالضعف والصحة والوضع ، وقيل : عدتهم ثمانية آلاف ، أربعة آلاف نبىّ من بنى إسرائيل ، وأربعة آلاف من سائر النّاس. وعن علىّ - كرم اللّه وجهه : «إن اللّه تعالى بعث نبيا أسود ، فهو ممن لم تذكر قصته فى القرآن» «2». فقوله تعالى : وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ أي : فى القرآن ، فلا ينافى إخباره بمطلق العدد على ما فى حديث أبى ذر.
وَما كانَ أي : ما صحّ ، ولما استقام لِرَسُولٍ منهم أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ مما اقترح عليه قومه ، إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ. فإنّ المعجزات على تشعب فنونها ، عطايا من اللّه تعالى ، قسمها بينهم على حسب المشيئة ، المبنية على الحكم البالغة ، وهذا جواب اقتراح قريش على رسول اللّه الآيات عنادا ، يعنى : إنّا قد أرسلنا كثيرا من الرّسل ، وما استقام لأحد منهم أن يأتى بآية إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ومشيئته ، فمن لى بأن آتى باية مما تقترحونه إلّا أن يشاء اللّه ، ويأذن فى الإتيان بها؟ فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللَّهِ بهلاكهم ، أو : بقيام الساعة ، قُضِيَ بِالْحَقِّ أي : بإنجاء المحق وإثابته ، وإهلاك المبطل وتعذيبه ، وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ أي : المعاندون المقترحون للآيات ، أو : المتمسكون بالباطل ، فيدخل المقترحون المعاندون دخولا أوليا.
___________
(1) أخرجه مطولا ، أحمد فى المسند (5/ 266) وابن حبان (موارد ، كاب العلم ، باب السؤال للفائدة ح 94).
(2) أخرجه الطبري (24/ 87) والطبراني فى الأوسط (ح/ 9319) ، زاد ابن حجر فى الكافي (رقم 344) عزوه لابن مردويه.(5/154)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 155
الإشارة : فاصبر أيها المتوجه إلى اللّه على الأذى وحمل الجفاء ، فإما أن ترى ما وعد أهل الإنكار على الأولياء ، من التدمير ، وقطع الدابر ، فى حياتك ، أو يلحقهم بعد موتك. ولقد أوذى من قبلك ، منهم من عرفت ومنهم من لم تعرف ، وما صحّ لأحد منهم أن يظهر كرامة إلا بإذن اللّه ، فإذا جاء أمر اللّه وقامت القيامة ، قضى بالحق ، فيرتفع أهل الصبر من المقربين ، فى أعلى عليين ، وينخفض أهل الإذاية فى أسفل سافلين.
ثم ذكّرهم بالنعم الحسية ، فقال :
[سورة غافر (40) : الآيات 79 الى 81]
اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ لِتَرْكَبُوا مِنْها وَمِنْها تَأْكُلُونَ (79) وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (80) وَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَأَيَّ آياتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ (81)
يقول الحق جل جلاله : اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ خلق لَكُمُ الْأَنْعامَ الإبل لِتَرْكَبُوا مِنْها ، وَمِنْها تَأْكُلُونَ أي : لتركبوا بعضها ، وتأكلوا بعضها ، وليس المراد : أن الرّكوب والأكل مختص ببعض معين منها ، بحيث لا يجوز تعلقه بالآخر ، بل على أن بعضا منها صالح لكلّ منهما. وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ أخر غير الرّكوب ، كألبانها وأوبارها وجلودها ، وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً أي : ما تحتاجون إليه من حمل أثقالكم من بلد إلى بلد ، فِي صُدُورِكُمْ فى قلوبكم ، وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ أي : وعليها فى البر ، وعلى الفلك فى البحر تحملون ، ولعل المراد به : حمل النّساء والولدان عليها بالهودج ، وهو السر فى فصله عن الرّكوب. والجمع بينها وبين الفلك فى الحمل لما بينهما من المناسبة ، حتى سميت الإبل : سفائن البر.
وقيل : المراد بالأنعام : الأزواج الثمانية ، على أن المعنى : لتركبوا بعضها ، وهى الإبل ، وتأكلوا بعضها ، وهى الغنم والبقر ، فذكر ما هو الأهم من كلّ ، والمنافع تعم الكل ، وبلوغ الحاجة تعم الإبل والبقر. وقال الثعلبي : التقدير :
لتركبوا منها بعضا ، ومنها تأكلون ، فحذف «بعضا» للعلم به.
يُرِيكُمْ آياتِهِ
دلائله الدالة على قدرته ووفور رحمته ، أَيَّ آياتِ اللَّهِ
أي : فأىّ آية من تلك الآيات الباهرةنْكِرُونَ
؟
فإن كلّا منها من الظهور بحيث لا يكاد يجترىء على إنكارها من له عقل فى الجملة. وإضافة آية إلى الاسم الجليل لتربية المهابة ، وتهويل إنكارها ، و«آيات» نصب بتنكرون ، وتذكير «أىّ» مع(5/155)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 156
تأنيث المضاف إليه ، هو الشائع المستفيض ، والتأنيث قليل لأن التفرقة بين المذكر والمؤنث فى الأسماء غير الصفات ، نحو : حمار وحمارة غريب ، وهى فى «أىّ» أغرب لإبهامه.
الإشارة : ما أعظم قدرك أيها الإنسان إن اتقيت اللّه ، وعرفت نعمه ، فقد سلطك على ما فى الكون بأسره ، الحيوانات تخدمك وتنتفع بها ، أكلا ، وركوبا ، وملبسا ، وحملا ، والبحر يحملك ، والأرض تقلك ، والسماء تظلك ، وما قنع لك بالدنيا حتى ادخر لك الآخرة ، التي هى دار الدوام ، فإن شكرت هذه النّعم فأنت أعز ما فى الوجود ، وإن كفرتها فأنت أهون ما فى الوجود. وباللّه التوفيق.
ولا تعرف حقائق النّعم إلا بالتفكر ، ولذلك أمر به إثر ذكرها ، فقال :
[سورة غافر (40) : الآيات 82 الى 85]
أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (82) فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (83) فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ (85)
يقول الحق جل جلاله : أَفَلَمْ يَسِيرُوا أي : أقعدوا فلم يسيروا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ من الأمم المهلكة ، كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ عددا وَأَشَدَّ قُوَّةً فى الأبدان والأموال ، وَأشد آثاراً فِي الْأَرْضِ أي : تركوا آثارا كثيرة بعدهم ، من الأبنية ، والقبور ، والمصانع ، فكانوا أشدّ منهم ، وقيل : هى آثار أقدامهم فى الأرض لعظم أجرامهم ، فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ أي : لم يغن عنهم ذلك شيئا حين نزل بهم العذاب ، أو : أي شىء أغنى عنهم مكسوبهم أو كسبهم؟ على أنّ «ما» استفهام.
فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ بالمعجزات الواضحة ، فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ يريد علمهم بأمور الدنيا ، ومعرفتهم بتدبيرها ، كما قال : يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ «1» ،
___________
(1) الآية 7 من سورة الرّوم.(5/156)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 157
فلما جاءتهم الرّسل بعلوم الديانة ، والتأهب ليوم القيامة ، وهى أبعد شىء من علمهم لبعثها على رفض الدنيا ، والتباعد عن تتبع ملاذها ، لم يلتفتوا إليها ، وصغّروها ، واستهزؤوا بها ، واعتقدوا أنه لا علم أنفع وأجلب للفؤاد من علمهم ، ففرحوا به. أو : علم التنجيم والفلسفة ، والدهريّين فإنهم كانوا إذا سمعوا بالوحى دفعوه ، وصغّروا علم الأنبياء إلى علمهم ، واعتقدوا عندهم علما يستغنون به عن علم الأنبياء - عليهم السّلام - ولما سمع بقراط بموسى عليه السّلام قيل له : لو هاجرت إليه! فقال : نحن قوم مهذّبون ، فلا حاجة إلى من يهذّبنا.
ورأى بعض الصالحين النّبىّ صلّى اللّه عليه وسلم فسأله عن ابن سيرين ، فقال له : «إنه أراد أن يصل إلى اللّه بلا واسطة ، فانقطع عن اللّه» وعلى فرض وقوفهم بالتجريد والرّياضة على انكشاف حضرة القدس ، فلا يظفرون بالعبودية ، ولا بالفناء فى توحيد الرّبوبية ، والتخلص من لوث وجودهم ، والشأن أن تكون عين الاسم ، لا أن تعرف الاسم والعين ، إنما تقتبس من مشكاة مهبط الوحى ، وانصباب أنوار الغيب إنما تفيض بواسطة درة الوجود ، نبينا صلّى اللّه عليه وسلم ، ومظهر سر العيان الأحدى الأحمدى ، فافهم. قاله شيخ شيوخنا ، سيدى عبد الرّحمن الفاسى.
قال تعالى : وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ أي : نزل بهم عقوبة استخفافهم بالحق ، وتعظيمهم واغتباطهم بالباطل. فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا شدة عذابنا ، ومنه : بِعَذابٍ بَئِيسٍ «1» ، قالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ يعنون الأصنام.
فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا أي : فلم يستقم ، ولم يصح أن ينفعهم إيمانهم عند مجىء العذاب لأن النّافع هو الإيمان الاختياري ، لا الاضطراري ، سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ أي : سنّ اللّه ذلك سنّة ماضية فى عباده ، ألّا يقبل الإيمان إلا قبل نزول العذاب. وهو من المصادر المؤكدة ، نحو : وعد اللّه ، ونحوه.
وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ أي : وقت رؤيتهم البأس. فهنالك : مكان استعير للزمان ، والكافرون خاسرون فى كل أوان ، ولكن يتبيّن خسرانهم إذا عاينوا العذاب.
وفائدة ترادف الفاءات فى هذه الآيات : أن فَما أَغْنى عَنْهُمْ نتيجة قوله : كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وفَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ كالبيان والتفسير لقوله : فَما أَغْنى عَنْهُمْ ، كقولك : رزق زيد المال ، فمنع المعروف ، فلم يحسن إلى الفقراء. وفَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا تابع لقوله : فَلَمَّا جاءَتْهُمْ ، كأنه قال : فكفروا فلما رأوا بأسنا آمنوا. وكذلك : فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ [تابع لإيمانهم ] «2» لمّا رأوا بأس اللّه ، واللّه تعالى أعلم.
___________
(1) من الآية 165 من سورة الأعراف.
(2) ما بين المعقوفتين ليس فى الأصول ، وأثبته من تفسير النّسفى.(5/157)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 158
الإشارة : قد تقدم مرارا الحث على عبادة التفكر. وقوله تعالى : فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ ... الآية ، كذلك من يظهر بعلم التجريد ، ويتكلم فى أسرار التوحيد ، سخر منه أهل زمانه ، ويقنعون بما عندهم من علم الرّسوم الظاهرة ، وهو علم لا يغنى ولا يفنى لأن جله يتعلق بمنافع النّاس ، لا بمنافع القلب ، فلا يغنى القلب ، ولا يفنى الحس ، إنما ينفع لطالب الأجور ، لا لطالب الحضور ورفع الستور ، وما مثال من ظفر بعلم القلوب - وهو أسرار التوحيد الخاص - إلا كمن عنده كنز من الفلوس ، ثم ظفر بالذهب الإبريز ، أو الإكسير ، فكيف يمكن أن يلتفت إلى الفلوس من ظفر بالإكسير؟! ولا يظهر هذا لأهل الظاهر إلا بعد موتهم ، فيؤمنوا به حيث لا ينفعهم.
وباللّه التوفيق ، وهو الهادي إلى سواء الطريق ، وصلّى اللّه على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.(5/158)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 159
سورة فصّلت «1»
وهى ثلاث وخمسون آية. ومناسبتها لما قبلها : قوله : وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ «2» مع قوله :
تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ، فكانت قريش من جملة المستهزئين بالقرآن ، وتقول : وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ «3» فبيّن أنه منزل من الرّحمن الرّحيم ، كما قال تعالى :
[سورة فصلت (41) : الآيات 1 الى 8]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (2) كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (4)
وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ (5) قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (7) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (8)
قلت : (تنزيل) : خبر عن مضمر ، أي : هذا تنزيل. و(كتاب) : بدل من «تنزيل» ، أو : خبر بعد خبر ، و(تنزيل) :
مبتدأ. و(من الرّحمن) : صفة ، و(كتاب) : خبره ، و(قرآنا) : منصوب على الاختصاص والمدح ، أو : حال ، أي :
فصّلت آياته فى حال كونه قرآنا. و(لقوم) : متعلق بفصّلت ، أو : صفة ، مثل ما قبله وما بعده ، أي : قرآنا عربيا كائنا لقوم يعلمون. و(بشيرا ونذيرا) : صفتان ل «قرآنا».
___________
(1) فى الأصول : [سورة حم السجدة] وهى سورة مكية.
(2) الآية 83 من سورة غافر.
(3) كما جاء فى الآية 26 من سورة فصلت.(5/159)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 160
يقول الحق جل جلاله : حم يا محمد هذا تَنْزِيلٌ ، قال القشيري : أي : بحقي وحياتى ومجدى فى ذاتى وصفاتى ، هذا تنزيل مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. ونسبة التنزيل إلى الرّحمن الرّحيم للإيذان بأنه نزل للمصالح الدينية والدنيوية ، واقع بمقتضى الرّحمة الرّبانية ، حسبما ينبئ عنه قوله تعالى : وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ «1» ، كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ ميزت وجعلت تفاصيل فى أساليب مختلفة ، ومعان متغايرة من أحكام ، وتوحيد ، وقصص ، ومواعظ ، ووعد ، ووعيد وغير ذلك ، قُرْآناً عَرَبِيًّا أي : أعنى قرآنا بلسان العرب كائنا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ معانيه ، ويتدبرون فى آياته لكونه على لسانهم ، أو : لأهل العلم والنّظر لأنهم المنتفعون به.
بَشِيراً وَنَذِيراً بشيرا لأهل الطاعة ، ونذيرا لأهل المعصية ، فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ عن الإيمان به والتدبير فى معاينه ، مع كونه على لغتهم ، فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ سماع تفكر وتأمل ، حتى يفهموا جلالة قدره فيؤمنوا به.
وَقالُوا للرسول - عليه الصلاة والسّلام - عند دعوته إياهم إلى الإيمان والعمل بما فى القرآن : قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ أي : أغطية متكاثفة ، وَفِي آذانِنا وَقْرٌ صمم وثقل يمنعنا من استماع قولك ، وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ غليظ ، وستر مانع يمنعنا من التواصل إليك. و(من) للدلالة على أن الحجاب مبتدى منهم ومنه بحيث استوعب ما بينهما من المسافة المتوسطة ، ولم يبق ثمّ فراغ أصلا. وهذه تمثيلات لنبو قلوبهم عن إدراك الحق وقبوله ، ومج أسماعهم له ، كأنّ بها صمما وثقلا منعهم من موافقتهم لرسول اللّه - صلّى اللّه عليه وسلم - ثم قالوا :
فَاعْمَلْ على دينك وإبطال ديننا ، إِنَّنا عامِلُونَ على ديننا ، لا نفارقه أبدا.
قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ ، هذا تلقين للجواب عنه ، أي : لست من جنس مباين لكم حتى يكون بينى وبينكم حجاب ، وتباين مصحح لتباين الأعمال والأديان ، كما ينبئ عنه قوله : فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ ، بل إنما أنا بشر مثلكم ، مأمور بما أمرتم به من التوحيد ، حيث أخبرنا جميعا بأن إلهنا واحد ، فالخطاب فى «إلهكم» محكى منتظم للكل ، لا أنه خطاب منه - عليه الصلاة والسّلام - للكفرة. وقيل : لمّا دعاهم إلى الإيمان ، قالوا :
إنا نراك مثلنا ، تأكل وتشرب ، فلو كنت رسولا لاستغنيت عن ذلك ، فأنزل : قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ ... الآية فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ بالتوحيد وإخلاص العبادة ، غير ذاهبين يمينا وشمالا ، ولا ملتفتين إلى ما يسوّل لكم الشيطان من عبادة الأصنام. ، قال تعالى : وَاسْتَغْفِرُوهُ مما كنتم عليه من سوء العقيدة. والفاء لترتيب ما قبلها من إيحاء التوحيد على ما بعدها من الاستقامة ، وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ ، وهو ترهيب وتنفير لهم عن الشرك إثر ترغيبهم فى التوحيد.
___________
(1) الآية 107 من سورة الأنبياء.(5/160)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 161
ووصفهم بقوله : الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ أي : لا يؤمنون بوجوب الزكاة ولا يعطونها ، وهو إخبار بما سيقع ، إذ لم تكن الزكاة حينئذ مفروضة ، أو : لا يفعلون ما يكونون به أزكياء ، وهو الإيمان. وفيه تحذير من منع الزكاة ، حيث جعله من أوصاف المشركين. وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ أي : وهم بالبعث والثواب والعقاب كافرون.
والجملة : عطف على (يؤتون) داخل فى الصلة. وإنما جعل منع الزكاة مقرونا بالكفر بالآخرة لأن أحب شىء إلى الإنسان ماله ، وهو شقيق روحه ، فإذا بذله فى سبيل اللّه فذلك أقوى دليل على استقامته ، وصدق نيته ، وخلوص طويته ، وما ارتدت العرب إلا بمنعها.
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ غير مقطوع ، من : مننت الحبل : قطعته ، أو : غير ممنون به عليهم. وقيل : نزلت فى المرضى والهرمى ، إذا عجزوا عن الطاعة كتب لهم الأجر كأصح ما كانوا يعملون «1».
الإشارة : كان الرّسول - عليه الصلاة والسّلام - يدعو إلى الإيمان بالقرآن والعمل به ، وخلفاؤه من مشايخ التربية يدعون إلى تصفية البواطن ، لتتهيأ لفهمه والغوص عن أسراره ، وحضور القلب عند تلاوته ، فأعرض أكثر الناس عن صحبتهم ، وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ .. إلى تمام الآية. فبقيت قلوبهم مغلفة بسبب الهوى ، ألسنتهم تتلوا وقلوبهم تجول فى أودية الدنيا ، فلا حضور ولا تدبر ، فلا حول ولا قوة إلا باللّه ، فإذا طلبوا من المشايخ - الذين هم أطبة القلوب - الكرامة ، يقولون ما قالت الرّسل : إنما نحن بشر يوحى إلينا وحي إلهام بوحدانية الحق ، وانفراده بالوجود ، فاستقيموا إليه بتصفية بواطنكم ، واستغفروه من سالف زلاتكم ، فإن بقيتم على ما أنتم عليه من الشرك ورؤية السّوى ، فويل للمشركين الذين لا يزكّون أنفسهم ، وهم بالآخرة - حيث لم يتأهبوا لها كلّ التأهب - هم الكافرون. إن الذين آمنوا إيمان الخصوص ، بصحبة الخصوص ، لهم أجر غير ممنون ، وهو شهود الحق على الدوام.
واللّه تعالى أعلم.
ثم وبّخهم على الكفر بعد بيان بطلانه ، فقال :
[سورة فصلت (41) : الآيات 9 الى 12]
قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ (10) ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ (11) فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12)
___________
(1) قاله السدى فيما ذكره القرطبي (7/ 5961).(5/161)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 162
قلت : (و تجعلون) : عطف على (تكفرون). و(جعل) : عطف على (خلق) داخل فى حيز الصلة ، و(سواء) :
من نصبه فمصدر ، أي : استوت سواء. ومن جرّه فصفة لأيام ، ومن رفعه فخبر هى سواء. و(للسائلين) : متعلق بقدّر ، أو : بمحذوف ، أي : هذا الحصر للسائلين عن مدة خلق الأرض.
يقول الحق جل جلاله : قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وهما الأحد والاثنين ، تعليما للتأنى ، ولو أراد أن يخلقها فى لحظة لفعل. وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً شركاء وأشباها. والحال أنه لا يمكن أن يكون له ند واحد ، فضلا عن التعدد ، وكيف يكون الحادث المعدوم ندا للقديم؟! ذلِكَ الذي خلق ما سبق.
وما فى الإشارة من معنى البعد مع قرب العهد بالمشار إليه لبعد منزلته فى العظمة ، أي : ذلك العظيم الشأن هو رَبُّ الْعالَمِينَ أي : خالق جمع الموجودات ومربّيها ، فكيف يتصور أن يكون أخس الخلق ندا له؟! وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ جبالا ثوابت كائنة مِنْ فَوْقِها ، وإنما اختار إرساءها من فوق الأرض لتكون منافع الجبال معرضة لأهلها ، ويظهر للناظرين ما فيها من مراصد الاعتبار ، ومطارح الأفكار ، فإن الأرض والجبال أثقال على أثقال ، كلها ممسكة بقدرة اللّه عز وجل. وَبارَكَ فِيها أي : قدّر بأن يكثر خيرها بما يخلق فيها من منافع ، ويجعل فيها من المصالح ، وما ينبت فيها من الطيبات والأطعمة وأصناف النّعم. وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها أي : حكم أن يوجد فيها لأهلها ما يحتاجون إليه من الأقوات المختلفة المناسبة لهم على مقدار معين ، تقتضيه الحكمة والمشيئة ، وما يصلح بمعايشهم من الثمار والأنهار والأشجار ، وجعل الأقوات مختلفة فى الطعم والصورة والمقدار ، وقيل : خصابها التي قسمها فى البلاد. جعل ذلك فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ أي : تتمة أربعة أيام ، يومين للخلق ، ويومين لتقدير الأقوات ، كما تقول : سرت إلى البصرة فى عشرة ، وإلى الكوفة فى خمسة عشر ، أي : فى تتمة خمسة عشر ، ولو أجرى الكلام على ظاهرة لكانت ثمانية أيام يومين للخلق ، وأربعة للتقدير ، ويومين لخلق السماء ، وهو مناقض لقوله : فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ «1».
___________
(1) كما جاء فى آيات ، منها : الآية 54 من سورة الأعراف.(5/162)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 163
وقوله : سَواءٌ راجع للأربعة ، أي : فى أربعة أيام مستويات تامات ، أو : استوت سواء لِلسَّائِلِينَ أي :
قدّر فيها الأقوات للطالبين لها والمحتاجين إليها ، لأن كلا يطلب القوت ويسأله ، أو هذا الحصر فى هذه الأيام لأجل من سأل : فى كم خلقت الأرض وما فيها؟
ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ ، الاستواء مجاز عن إيجاد اللّه تعالى السماء على ما أراد ، تقول العرب : فعل فلان كذا ثم استوى إلى عمل كذا ، يريدون أنه أكمل الأول وابتدأ الثاني ، أو قصد وانتهى. فالاستواء إذا عدى ب «إلى» فهو بمعنى الانتهاء إليه بالذات أو بالتدبير ، وإذا عدّى ب «على» فبمعنى الاستعلاء ، ويفهم منه أن خلق السماء بعد الأرض ، وهو كذلك ، وأما دحو الأرض وتقدير أقواتها فمؤخر عن السماء ، كما صرح فى قوله : وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها «1» ، والترتيب فى الخارج : أنه خلق الأرض ، ثم خلق السماء ، ثم دحا الأرض فى يومين. ف «ثم» للتفاوت بين الخلقين لا للترتيب ، أو : للتفاوت فى المرتبة ، ترقيا من الأدنى إلى الأعلى ، كقول القائل :
إنّ من ساد ثم ساد أبوه ثم ساد بعد ذلك جدّه
وفى بعض الأحاديث : «إن اللّه خلق الأرض يوم الأحد والاثنين ، وخلق الجبال يوم الثلاثاء ، وخلق يوم الأربعاء الشجر والماء والعمران والخراب ، فتلك أربعة أيام ، وخلق يوم الخميس السماء ، وخلق يوم الجمعة النّجوم والشمس والقمر والملائكة ، وخلق آدم عليه السّلام فى آخر ساعة من يوم الجمعة» «2» وهى الساعة التي تقوم فيها الساعة.
قاله النّسفى ، وفى حديث مسلم ما يخالفه «3».
قال ابن عباس رضي اللّه عنه : أول ما خلق اللّه - أي : بعد العرش - جوهرة طولها وعرضها ألف سنة ، فنظر إليها بالهيبة ، فذابت وصارت ماء ، فكان العرش على الماء ، فاضطرب الماء ، فثار منه دخان ، فارتفع إلى الجو ، واجتمع زيد ، فقام فوق الماء ، فجعل الزبد أرضا ، ثم فتقها سبعا ، والدخان سماء ، فسواهن سبع سموات «4».
ومعنى أمر السماء والأرض بالإتيان طوعا أو كرها وامتثالهما أنه أراد أن يكوّنهما ، فلم يمتنعا عليه ، ووجدتا كما أراد ، وكانتا فى ذلك كالمأمور والمطيع ، وإنما ذكر الأرض مع السماء فى الأمر بالإتيان ، مع أن الأرض
___________
(1) الآية 30 من سورة النازعات. [.....]
(2) أخرجه مطولا والطبري (24/ 94) والحاكم وصحّحه وتعقبه الذهبي (2/ 543) من حديث ابن عباس رضي اللّه عنه.
(3) أخرج مسلم فى صحيحه (كتاب صفات المنافقين وأحكامهم ، باب ابتداء الخلق ، 3/ 2149 ، ح 2789) عن أبى هريرة - رضي اللّه عنه - قال : أخذ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم بيدي ، فقال : «خلق اللّه عز وجل التربة يوم السبت ، وخلق فيها الجبال يوم الأحد ، وخلق الشجر يوم الاثنين ، وخلق المكروه يوم الثلاثاء ، وخلق النور يوم الأربعاء ، وبث فيها الدواب يوم الخميس ، وخلق آدم عليه السّلام بعد العصر من يوم الجمعة ، فى آخر الخلق ، فى آخر ساعة من ساعات الجمعة ، فيما بين العصر إلى الليل».
(4) ذكره النسفي فى تفسيره (3/ 228).(5/163)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 164
مخلوقة قبل السماء بيومين لأن المعنى : ائتيا على ما ينبغى أن تأتيا عليه من الشكل والوصف ، أي : ائتى يا أرض مدحوة قرارا ومهادا لأهلك ، وائتى يا سماء [مبنية] «1» سقفا لهم ، ومعنى الإتيان : الحصول والوقوع.
وقوله : طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لبيان تأثير قدرته فيهما ، وأن امتناعهما عن قدرته محال ، كما تقول لمن تحت يدك : لتفعلن هذا شئت أو أبيت ، طوعا أو كرها. وقال ابن عطية : الأمر بالإتيان بعد اختراعهما ، قال : وهنا حذف ، أي : ثم استوى إلى السماء فأوجدها ، وأتقنها ، وأكمل أمرها ، وحينئذ قال لها وللأرض : ائتيا لأمرى وإرادتى فيكما ، والمراد : تنجيزهما لما أراده منهما ، وما قدر من أعمالهما. ه. حكى أن بعض الأنبياء «2» قال : يا رب لو أن السماوات والأرض حين قلت لهما : ائتيا طوعا أو كرها عصتاك ، ما كنت صانعا بهما؟ قال : كنت آمر دابة من دوابى فتبتلعهما ، قال : وأين تلك الدابة؟ قال : فى مرج من مروجى ، قال : وأين ذلك المرج؟ قال : فى علم من علومى.
وانتصاب طَوْعاً أَوْ كَرْهاً على الحال ، أي : طائعين أو مكرهين. ولم يقل «طائعتين» لأن المراد الجنس ، أي : السموات والأرضين ، وجمع جمع العقلاء لوصفهما بالطوع والكره ، اللذين من وصف العقلاء ، وقال : طائعين فى موضع طائعات تغليبا للتذكير لشرفه ، كقوله : ساجِدِينَ «3».
فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ أي : فأحكم خلقهن ، وأتقن أمرهن سبعا ، حسبما تقتضيه الحكمة ، فالضمير راجع إلى السماء ، لأنه جنس ، يجوز أن يكون الضمير مبهما مفسرا بقوله : سَبْعَ سَماواتٍ ، فينتصب سبع على الأول حالا ، وعلى الثاني تمييزا. حصل ذلك القضاء فِي يَوْمَيْنِ الخميس والجمعة ، أي : فى وقتين قدر يومين ، فكان المجموع ستة أيام ، وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها أي : أوحى إلى ساكنها وعمّارها من الملائكة فى كلّ سماء ما شاء اللّه من الأمور ، التي تليق بهم ، كالخدمة وأنواع العبادة ، وإلى السماء فى نفسها ما شاء اللّه من الأمور التي بها قوامها وصلاحها.
وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ كالشمس والقمر والنجوم ، وهى زينة السماء الدنيا ، سواء كانت فيها أو فيما فوقها لأنها ترى متلألأة عليها كأنها فيها ، والالتفات إلى نون العظمة لإبراز مزيد العناية بأمرها ، وَحِفْظاً أي : حفظناها حفظا من المسترقة ، أو من الآفات ، فهو مصدر لمحذوف ، وقيل : مفعول لأجله على المعنى ، أي :
وجعلنا المصابيح للزينة والحفظ. ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ أي : ذلك الذي ذكر تفصيله تقدير البالغ فى القدرة والعلم ، أو : الغالب العليم بمواقع الأمور.
___________
(1) فى النسفي (مقبية).
(2) هو سيدنا موسى ، كما ذكره القرطبي فى تفسيره (7/ 5964).
(3) من الآية 4 من سورة يوسف.(5/164)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 165
الإشارة : خلق الحق - تعالى - أرض النفوس محلا للعبودية ، وأرساها بجبال العقل ، لئلا تميل إلى بحر الهوى ، وبارك فيها ، بأن جعل فيها صالحين وأبرارا ، وعبادا وزهادا ، وعلماء أتقياء ، وقدر لها أقواتها الحسية والمعنوية ، فجعل الحسية سواء للسائلين ، أي : مستوية لا يزيد بالطلب ولا بالتعب ، ولا ينقص ، ففيه تأديب لمن لم يرض بقسمته ، والأرزاق المعنوية : أرزاق القلوب من اليقين والمعرفة ، يزيد بالطلب والتعب ، وينقص بنقصانه ، حكمة من الحكيم العليم ، ثم استوى إلى سماء الأرواح ، أي : قصدها بالدعاء إليه ، وهى لطائف ، فقال لها ولأرض النفوس : ائتيا إلى حضرتى ، طوعا أو كرها ، قالتا : أتينا طائعين ، فقضاهن سبع طبقات ، وهى دوائر الأولياء ، دائرة الغوث ، ثم دائرة الأقطاب ، ثم الأوتاد ، ثم النّقباء ، ثم النجباء ، ثم الأبرار ، ثم الصالحين. وأوحى فى كلّ سماء ، أي :
فى كلّ دائرة ما يليق بها من العبادة ، فمنهم من عبادته الشهود والعيان ، ومنهم من عبادته الفكرة ، ومنهم الركوع والسجود ، ومنهم التلاوة والذكر ... إلى غير ذلك من أنواع الأعمال.
قال القشيري : وجعل نفوس العابدين ، أرضا لطاعته وعبادته ، وجعل قلوبهم فلكا لنجوم علمه ، وشموس معرفته ، فأوتاد النفوس الخوف والرجاء ، والرغبة والرهبة ، وفى قلوب ضياء العرفان ، وشموس التوحيد ، ونجوم العلوم والعقول ، والنفوس والقلوب ، بيده يصرّفها على ما أراد من أحكامه. وقال فى قوله : وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها : الجبال أوتاد الأرض ، فى الصورة ، والأولياء رواسى الأرض فى الحقيقة ، بهم تنزل البركة والأمطار ، وبهم يدفع البلاء. ثم قال : قوله تعالى : وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وزيّن وجه الأرض بمصابيح ، وهى قلوب الأحباب ، فأهل السماء إذا نظروا إلى قلوب أولياء اللّه بالليل ، فذلك متنزههم ، كما أن أهل الأرض إذا نظروا إلى السماء تأنسوا برؤية الكواكب. ه.
ثم هدد أهل الكفر ، فقال :
[سورة فصلت (41) : الآيات 13 الى 18]
فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ (13) إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (14) فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (15) فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ (16) وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (17)
وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (18)(5/165)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 166
قلت : (و أما ثمود) ، قراءة الجماعة بالرفع ، غير مصروف ، إرادة القبيلة ، وقراءة الأعمش ويحيى بن وثاب مصروفا ، إرادة الحي ، وقراءة ابن أبى إسحاق : بالنصب ، من باب الاشتغال ، وأصل الكلام : مهما يكن من شىء فثمود هديناهم ، فحذف الملزوم الذي هو الشرط ، وأقيم مقامه لازمه ، وهو الجزاء ، وأبقيت الفاء المؤذنة بأن ما بعدها لازم لما قبلها ، وإلا فليس هذا موضع الفاء لأن موضعه صدر الجزاء. انظر المطوّل.
يقول الحق جل جلاله : فَإِنْ أَعْرَضُوا عن الإيمان بعد هذا البيان فَقُلْ لهم : أَنْذَرْتُكُمْ خوّفتكم. وعبّر بالماضي للدلالة على تحقق الإنذار المنبئ عن تحقق الوقوع ، صاعِقَةً أي : عذابا شديدا لو وقع كان كأنه صاعقة ، وأصلها : رعد معه نار تحرق. تكون مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ وقد تقدم عذابهما «1».
إِذْ جاءَتْهُمُ : ظرف لمحذوف ، أي : أنزلناها بهم حين جاءتهم الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أي : أتوهم من كل جانب ، وعملوا فيهم كل حيلة ، فلم يروا منهم إلا الإعراض ، أو : جاءتهم الرسل قبلهم لأبائهم ، وبعدهم لمن خلفهم ، أي : تواردت عليهم الرسل قديما وحديثا ، والمعهود إنما هو هود وصالح - عليها السلام. وعن الحسن : أنذروهم من وقائع اللّه بمن قبلهم من الأمم وعذاب الآخرة ، أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ أي : بأن لا تعبدوا إلا اللّه ، على أنها مصدرية ، أو : لا تعبدوا ، على أنها مفسرة ، وقيل : مخففة ، أي : أنه لا تعبدوا إلا اللّه. قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً أي : لو شاء إرسال الرّسل لأرسل ملائكة ، ولمّا كان إرسالهم بطريق الإنزال عبّر به ، فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ أي : فحيث كنتم بشرا مثلنا ، ولم تكونوا ملائكة ، ولم يكن لكم فضل علينا ، فإنا لا نؤمن بكم ، ولا بما جئتم به ، وقولهم : أُرْسِلْتُمْ بِهِ ليس بإقرار بالإرسال ، وإنما هو على كلام الرسل ، وفيه تهكم ، كما قاله فرعون : إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ «2» وقولهم : بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ خطاب منهم لهود وصالح ولسائر الأنبياء ، الذين دعوا للإيمان.
___________
(1) راجع تفسير الآيات 65 - 79 من سورة الأعراف (2/ 230 - 234).
(2) الآية 27 من سورة الشعراء.(5/166)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 167
روى أن أبا جهل قال فى ملإ من قريش : قد التبس علينا أمر محمد ، فلو التمستم لنا رجلا عالما بالشعر والكهانة ، فكلّمه ، ثم أتانا بالبيان من أمره ، فقال عتبة بن ربيعة : واللّه لقد سمعت الشعر والكهانة والسحر ، وعلمت من ذلك علما ما يخفى علىّ ، فأتاه ، فقال : أنت يا محمد خير أم هاشم؟ أنت يا محمد خير أم عبد المطلب؟ أنت خير أم عبد اللّه؟ ، فبم تشتم آلهتنا وتضللنا؟ فإن كنت تريد الرياسة عقدنا لك اللواء ، فكنت رئيسنا ما بقيت ، وإن كان بك الباءة زوجناك عشر نسوة من أىّ بنات قريش شئت ، وإن كان بك المال ، جمعنا لك ما تستغنى به أنت وعقبك.
والنّبى صلّى اللّه عليه وسلّم ساكت ، فلما فرغ عتبة ، قال صلّى اللّه عليه وسلم : بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ .. إلى قوله تعالى : مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ ، فأمسك عتبة على فيه النبىّ صلّى اللّه عليه وسلّم وناشده بالرحم ، فرجع عتبة إلى أهله ، ولم يخرج إلى قريش ، فلما احتبس عنهم ، قالوا : ما نرى عتبة إلا صبأ ، فانطلقوا ، وقالوا : يا عتبة ما حبسك عنا إلا أنك صبأت إلى محمد ، أم أنك أعجبك طعامه؟ فغضب ، ثم قال لهم : لقد كلمته فأجابنى بشىء ، واللّه ما هو شعر ، ولا كهانة ، ولا سحر ، ثم تلى عليهم ما سمع منه إلى قوله : مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ فأمسكت بفيه ، وناشدته بالرحم أن يكف ، وقد علمتم أن محمدا إذا قال شيئا لم يكذب ، فخفت أن ينزل بكم العذاب. ه «1».
ثم بيّن ما ذكره من صاعقة عاد وثمود ، فقال : فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أي : تعاظموا فيها على أهلها بما لا يستحقون به التعظيم ، وهو القوة ، وعظم الأجرام ، واستولوا على الأرض بغير استحقاق للولاية ، وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً ، كانوا ذوى أجسام طوال ، وخلق عظيم ، بلغ من قوتهم أن الرجل كان يقلع الصخرة من الجبل بيده ، ويلوى الحديد بيده ، أَوَلَمْ يَرَوْا أي : أولم يعلموا علم عيان أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً؟ أوسع منهم قدرة لأنه قادر على كلّ شىء ، وهم قادرون على بعض الأشياء بإقداره ، وَكانُوا بِآياتِنا المنزلة على رسلهم يَجْحَدُونَ أي : ينكرونها وهم يعرفون حقيتها ، كما يجحد المودع الوديعة. و(هم) : عطف على (فاستكبروا) ، وما بينها اعتراض ، للرد على كلمتهم الشنعاء.
فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً أي : باردا تهلك وتحرق لشدة بردها ، من : الصر ، وهو البرد ، الذي يجمع ويقبض ، أو : عاصفة تصوّت فى هبوبها ، من الصرير ، فضوعف ، كما يقال : نهنهت وكفكفت. فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ مشؤومات عليهم ، من : نحس نحسا ، نقيض : سعد سعدا ، وكانت من الأربعاء آخر شوال إلى الأربعاء ،
___________
(1) أخرجه البغوي فى تفسيره (7/ 167) وعزاه السيوطي فى الدر المنثور (5/ 673 - 674) للبيهقى فى الدلائل وابن عساكر. عن جابر بن عبد اللّه رضي اللّه عنه.(5/167)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 168
وما عذّب قوم إلا فى الأربعاء. قيل : أمسك اللّه عنهم المطر ثلاث سنين ، ودامت الرّياح عليهم من غير مطر. قيل ، إذا أراد اللّه بقوم خيرا ، أرسل عليهم المطر ، وحبس عنهم كثرة الرّياح ، وإذا أراد اللّه بقوم شرا ، حبس عنهم المطر ، وأرسل عليهم كثرة الرّياح. ه.
لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ، أضاف العذاب إلى الخزي ، وهو الذل ، على أنه وصف للعذاب ، كأنه قال : عذاب خزى ، ويدل عليه قوله : وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى أي : أذل لصاحبه ، وهو فى الحقيقة وصف للمعذّب ، وصف به العذاب للمبالغة ، كقولك : له شعر شاعر. وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ برفع العذاب عنهم بوجه من الوجوه.
وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ دللناهم على الرّشد ، بنصب الآيات التكوينية ، وإرسال الرّسل ، وإنزال الآيات التشريعية ، فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى
أي : اختاروا الضلالة على الهداية ، فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ أي : داهية العذاب الذي يهين صاحبه ويخزيه ، وهى الصيحة والرّجفة ، والهون : الهوان ، وصف به للمبالغة ، بِما كانُوا يَكْسِبُونَ أي : بكسبهم الخبيث من الشرك والمعاصي.
قال الشيخ : أبو منصور : يحتمل قوله : فَهَدَيْناهُمْ : بيّنا لهم ، كما تقدم ، ويحتمل : خلق الهداية فى قلوبهم ، فصاروا مهتدين ، ثم كفروا بعد ذلك ، وعقروا النّاقة ، لأن الهدى المضاف إلى الخالق يكون بمعنى البيان ، ويكون بخلق فعل الاهتداء ، وأما الهدى المضاف إلى الخلق فيكون بمعنى البيان ، لا غير. ه.
وقال الطيبي : قوله تعالى : فَهَدَيْناهُمْ هو كقوله تعالى : إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ «1». وقوله : فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى هو كقوله : قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا ... الآية «2». وكذا فى قوله : فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ ، فإن الفاء فى «فاستكبروا» فصيحة ، تفصح عن محذوف ، أي : فهديناهم فاستكبروا بدلالة ما قيل فى ثمود. ه.
وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا أي : اختاروا الهدى على العمى ، من تلك الصاعقة ، وَكانُوا يَتَّقُونَ الضلالة والتقليد.
___________
(1) من الآية 14 من سورة فصلت.
(2) من الآية 14 من سورة فصلت(5/168)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 169
الإشارة : كل من أعرض عن الوعظ والتذكار ، ونأى عن صحبة الأبرار فالصعقة لاحقة به ، إما فى الدنيا أو فى الآخرة. وقوله تعالى : فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا ... الآية : أوصاف العبودية أربعة : الضعف ، والذل ، والفقر ، والعجز ، فمن خرج عن واحد منها ، فقد تعدى طوره ، واستحق الهلاك والهوان ، ورمته رياح الأقدار فى مهاوى النيران.
وقوله : وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ أي : بيّنا لهم طريق السير إلينا ، على ألسنة الوسائط ، فحادوا عنها ، واستحبوا العمى على الهدى حيث لم يسبق لهم الهداية فى الأزل ، فالسوابق تؤثر فى السوابق ، فكأن جبلة القوم الضلالة ، فمالوا إلى ما جبلوا عليه من قبول الضلالة.
وقوله تعالى : وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا أي : فى الدنيا من الصاعقة ، وفى الآخرة من السقوط فى الهاوية. قال القشيري : منهم من نجّاهم من غير أن رأوا النار ، عبروا القنطرة ولم يعلموا ، وقوم كالبرق الخاطف ، وهم أعلاهم - قلت : بل أعلاهم كالطرف - ثم قال : وقوم كالرواكض ، وهم أيضا الأكابر ، وقوم على الصراط يسقطون وتردّهم الملائكة على الصراط ، فبعدوا. ثم قال : وقوم بعد ما دخلوا النار ، فمنهم من تأخذه إلى كعبيه ، ثم إلى ركبتيه ، ثم إلى حقويه «1» ، فإذا بلغ القلب قال الحقّ للنار : لا تحرقى قلبه ، فإنه محترق بي. وقوم يخرجون من النار بعد ما امتحشوا «2» فصاروا حمما «3». ه منه.
ثم ذكر وعيد أهل الشرك ، فقال :
[سورة فصلت (41) : الآيات 19 الى 24]
وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (19) حَتَّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (20) وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21) وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ (22) وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (23)
فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ (24)
___________
(1) الحقو : الخصر
(2) امتحش الحر أو النار جلده ، أي : أحرقه وقشره عن اللحم.
(3) الحمم : الفحم وكل ما احترق من النار [.....](5/169)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 170
يقول الحق جل جلاله : وَاذكر يَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللَّهِ «1» من كفار المتقدمين والمتأخرين إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ يضمون ويساقون إلى النار ، ويحبس أولهم على آخرهم ، فيستوقف سوابقهم حتى تلحق بهم تواليهم ، وهى عبارة عن كثرة أهل النار ، وأصله : من وزعته ، أي : كففته. حَتَّى إِذا ما جاؤُها أي : حضروها ، و«حتى» : غاية للحشر ، أو : ليوزعون ، و«ما» : مزيدة لتأكيد اتصال الشهادة بالحضور ، فبمجرد حضورهم شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ أي : بشراتهم بِما كانُوا يَعْمَلُونَ فى الدنيا ، من فنون الكفر والمعاصي ، بأن ينطقها اللّه تعالى ، ويظهر عليها آثار ما اقترفوا بها. وعن ابن عباس رضي اللّه عنه : أن المراد بشهادة الجلود : شهادة الفروج ، كقول الشاعر :
أو سالم من قد تث نّى جلده وابيضّ رأسه «2»
فكنّى بجلده عن فرحه ، وهو الأنسب لتخصيص السؤال بها فى قوله تعالى : وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا ، فإن ما تشهد به من الزنا أعظم جناية وقبحا ، وأجلب للحزن والعقوبة ، مما تشهد به السمع والأبصار من الجنايات المكتسبة بتوسطها. روى : أن العبد يقول يوم القيامة : يا رب ، أليس قد وعدتني ألا تظلمنى؟ فيقول تعالى :
فإن لك ذلك ، قال : فإنى لا أقبل علىّ شاهدا إلا من نفسى ، قال تعالى : أو ليس كفى بي شهيدا ، وبالملائكة الكرام الكاتبين؟ قال : فيختم على فيه ، وتتكلم أركانه بما كان يعمل ، فيقول لهن : بعدا لكنّ وسحقا ، عنكنّ كنت أجادل» «3».
قالُوا فى جوابهم : أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ من الحيوانات ، وأقدرنا على بيان الواقع ، فشهدنا عليكم بما عملتم من القبائح ، وما كتمناها. أو : ما نطقنا باختيارنا ، بل انتقنا اللّه الذي أنطق كل شىء. وقيل :
سألوها سؤال تعجب ، فالمعنى حينئذ : وليس نطقنا بعجب من قدرة اللّه - تعالى - الذي أنطق كل شىء ، وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ فإنّ من قدر على خلقكم أول مرة ، وعلى إعادتكم ورجعكم إلى جزائه ،
___________
(1) قرأ نافع ويعقوب «نحشر» بنون العظمة. و«أعداء» بالنصب ، مفعول به. وقرأ الباقون بياء الغيب مضمومة ، و«أعداء» بالرفع على النيابة. انظر الإتحاف (2/ 443).
(2) جاء البيت فى تفسير القرطبي (7/ 5970) مسبوقا ببيت آخر هو :
المرء يسعى للسلا مة والسلامة حسبه
وعزاه القرطبي لعامر بن جؤية.
(3) أخرجه مسلم فى (الزهد والرقائق ، 4/ 2281 ، ح 2969) من حديث أنس بن مالك رضي اللّه عنه.(5/170)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 171
لا يتعجب من إنطاقه جوارحكم. ولعل صيغة المضارع ، مع أن هذه المحاورة بعد البعث والرجع ، كما أن المراد بالرجوع ليس مجرد الرد إلى الحياة بالبعث ، بل ما يعمه ، وما يترتب عليه من العذاب الخالد المترقب عند التخاطب ، على تغليب المتوقع على الواقع ، مع ما فيه من مراعاة الفواصل ، فهذا على أنه من تتمة كلام الجلود ، وقيل : هو من كلام الحق - تعالى - لهم ، فيوقف على «شى ء» وهو ضعيف. وكذا قوله :
وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ ، يحتمل أن يكون من كلام الجلود ، أو : من كلام اللّه - عز وجل - وهو الظاهر ، أي : وما كنتم تستترون فى الدنيا عند مباشرتكم الفواحش مخافة أن تشهد عليكم جوارحكم ، ولو خفتم من ذلك ما استترتم بها ، وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ من القبائح الخفية ، فلا يظهرها فى الآخرة.
وعن ابن مسعود رضي اللّه عنه : كنت مستترا بأستار الكعبة ، فدخل ثلاثة نفر وثقفيان وقرشى ، أو : قرشيان وثقفى ، فقال أحدهم : أترون أن اللّه يسمع ما نقول؟ قال الآخر : سمع جهرنا ولا يسمع ما أخفينا ، فذكر ذلك للنبى صلى اللّه عليه وسلم ، فأنزل اللّه تعالى : وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ ... الآية «1» ، فالحكم المحكي حينئذ يكون خاصا بمن كان على ذلك الاعتقاد من الكفرة. انظر أبا السعود.
وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ أهلككم ، ف «ذلك» : مبتدأ ، و«ظنكم» : خبر ، و«الذي ظننتم بربكم» : صفة ، و«أرادكم» : خبر ثان ، أو : ظنكم : بدل من «ذلك» و«أرداكم» : خبر ، فَأَصْبَحْتُمْ بسبب الظن السوء مِنَ الْخاسِرِينَ إذ صار ما منحوا لسعادة الدارين سببا لشقاء النشأتين.
فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً مقام لَهُمْ أي : فإن يصبروا لم ينفعهم الصبر ، ولم ينفكوا به من الثوى فى النار ، وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا أي : يسألوا العتبى وهو الاسترضاء فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ المجابين إليها ، أي : وإن يطلبوا الاسترضاء من اللّه - تعالى - ليرضى عنهم ، فما هم من المرضين لما تحتم عليهم واستوجبوه من السخط ، قال الجوهري : أعتبنى فلان : إذا عاد إلى مسرتى ، راجعا عن الإساءة ، والاسم منه : العتبى ، يقال : استعتبته فأعتبنى ، أي : استرضيته فأرضانى. وقال الهروي : إن يستقيلوا ربهم لم يقلهم ، أي : لم يردهم إلى الدنيا ، أو : إن أقالهم وردهم لم يعملوا بطاعته ، كقوله : وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ «2».
___________
(1) أخرجه البخاري فى (التفسير ، سورة حم السجدة ، باب : وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ .. ح 4816) ومسلم فى (صفات المنافقين وأحكامهم ، 4/ 2141 ح 2775).
(2) من الآية 28 من سورة الأنعام.(5/171)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 172
الإشارة : أعداء اللّه هم الجاحدون لوحدانيته ولرسالة رسله ، وهم الذين تشهد عليهم جوارحهم ، وأما المؤمن فلا ، نعم إن مات عاصيا شهدت عليه البقع أو الحفظة ، فإن تاب أنسى اللّه حفظته ومعالمه فى الأرض ذنوبه. قال فى التذكرة : إن العبد إذا صدق فى توبته أنسى اللّه ذنوبه لحافظيه ، وأوحى إلى بقع الأرض وإلى جميع جوارحه :
أن اكتموا مساوئ عبدى ، ولا تظهروها ، فإنه تاب إلىّ توبة صادقة ، بنية مخلصة ، فقبلته وتبت عليه ، وأنا التواب الرحيم.
وفى الآية حث على حسن الظن باللّه ، وفى الحديث : «لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن باللّه عز وجل» «1» وقال أيضا : «يقول اللّه - عز وجل : أنا عند ظنّ عبدى بي ...» الحديث «2» فمن ظن خيرا لقى خيرا ، ومن ظن شرا لقى شرا. وباللّه التوفيق.
ثم إن سبب الغواية أو الهداية هى الصحبة ، كما قال تعالى :
[سورة فصلت (41) : آية 25]
وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ (25)
يقول الحق جل جلاله : وَقَيَّضْنا أي : سيّرنا ، أو : قدّرنا ، لَهُمْ أي : كفار مكة فى الدنيا قُرَناءَ سوء من الجن والإنس ، أو : سلطنا عليهم نظراء لهم من الشياطين يستولون عليهم ، كقوله : وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ «3» ، فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ من أمور الدنيا ، واتباع الشهوات ، والتقليد لأسلافهم ، حتى حادوا عن الحق ، وَما خَلْفَهُمْ من أمور الآخرة ، حيث ألقوا إليهم : ألا بعث ولا حساب. أو : ما تقدم من أعمالهم وما هم عازمون عليها ، وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ أي : ثبت وتقرر عليهم كلمة العذاب ، أو : تحقق موجبها ومصداقها ، وهى قوله تعالى لإبليس : لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ «4» ، حال كونهم فِي جملة أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ أي : قبل أهل مكة مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ
___________
(1) أخرجه مسلم فى (كتاب الجنة وصفة نعيمها ، باب الأمر بحسن الظن باللّه ، 4/ 2205 ، ح 2877) عن جابر رضي اللّه عنه.
(2) جزء من حديث أخرجه البخاري فى (كتاب التوحيد ، باب قول اللّه تعالى : وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ ، ح 7405) ومسلم فى (كتاب الذكر والدعاء ، باب الحث على ذكر اللّه تعالى ، 4/ 2061 ح 2675) من حديث أبى هريرة رضي اللّه عنه.
(3) الآية 36 من سورة الزخرف.
(4) من الآية 85 من سورة «ص».(5/172)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 173
كانوا مصرّيين على الكفر العصيان ، إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ حيث آثروا الباطل على الحق ، وهو تعليل لاستحقاقهم العذاب. والضمير لهم وللأمم.
الإشارة : قال القشيري : إذا أراد اللّه بعبده سوء ، قيّض له إخوان سوء وقرناء شر ، هم الأضداد له فيما راموا ، وإذا أراد اللّه بعبد خيرا قيّض له قرناء خير ، يعينونه على الطاعة ، ويحملونه عليها ، ويدعونه إليها ، وإذا كانوا إخوان سوء يحملونه على المخالفات ، ويدعونه إليها ، ومن ذلك الشيطان. ثم قال : وشرّ قرين المرء نفسه ، ثم الشيطان ، ثم شياطين الإنس ، فزيّنوا لهم ما بين أيديهم من طول الأمل ، وما خلفهم من نسيان الزّلل ، والتسويف فى التوبة ، والتقصير فى الطاعة. ه.
قلت : واللّه ما رأينا الفلاح والخسران إلا من الخلطة. قال بعضهم : واللّه ما أفلح من أفلح إلا بصحبة من أفلح ، ولا سيما صحبة العارفين فساعة معهم تعدل عبادة سنين بالصيام والقيام وأنواع المجاهدة ، وللّه در الجيلاني «1» رضي اللّه عنه حيث قال :
فشمر ولذ بالأولياء فإنّهم لهم من كتاب اللّه تلك الوقائع
هم الذّخر للملهوف والكنز للرّجا ومنهم ينال الصّبّ ما هو طامع
بهم يهتدى للعين من ضلّ فى العمى بهم يجذب العشّاق والرّبع شاسع
هم الناس فالزم إن عرفت جنابهم ففيهم لضرّ العالمين منافع «2»
ثم ذكر بعض ما زيّنوا لهم ، فقال :
[سورة فصلت (41) : الآيات 26 الى 28]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26) فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذاباً شَدِيداً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (27) ذلِكَ جَزاءُ أَعْداءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ جَزاءً بِما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (28)
___________
(1) هو الشيخ عبد الكريم الجيلي.
(2) البيت الأخير جاء فى ديوان الجيلي ص 89 مسبوقا ببيت هو :
هم القصد والمطلوب السّؤل والمنى واسمهم للصب فى الحب شافع(5/173)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 174
يقول الحق جل جلاله : وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا من رؤساء المشركين لأتباعهم ، أو : بعضهم لبعض : لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ إذا قرئ ، أي : لا تنصتوا له لأنه يقلب القلوب ، ويسبى العقول ، وكل من استمع إليه صبا إليه ، وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ أي : عارضوه بكلام غير مفهوم ، أو : بالخرافات من الرّجز والشعر والتصدية ، وارفعوا أصواتكم بها لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ أي : تغلبونه على قراءته ، وشوّشوا عليه فيقع فى الغلط ، أو : لا يسمعه منه أحد.
واللغو : الساقط من الكلام الذي لا طائل تحته.
فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أي : فو اللّه لنذيقن هؤلاء اللاغين والقائلين ، أو : جميع الكفار ، وهم داخلون فيهم دخولا أولياء. عَذاباً شَدِيداً لا يقادر قدره ، وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ أي : أعظم عقوبة على أسوأ أعمالهم ، وهو الكفر ، وقيل : إنه لا يجازيهم بمحاسن أعمالهم ، كإغاثة الملهوفين ، وصلة الأرحام ، وقرى الضيق لأنها محبطة بالكفر ، وإنما يجازيهم على أسوئها. وعن ابن عباس : عَذاباً شَدِيداً : يوم بدر ، وأَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ : ما يجزون فى الآخرة.
ذلِكَ جَزاءُ أَعْداءِ اللَّهِ النَّارُ أي : ذلك الأسوأ من الجزاء هو جزاء أعداء اللّه ، وهو النار. فالنار : خبر عن مضمر ، أو : عطف بيان للجزاء ، والنار : مبتدأ. ولَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ : خبر ، أي : النار فى نفسها دار الخلد ، كما تقول : لك فى هذه الدار السرور ، وأنت تعنى الدار بعينها ، ويسمى فى علم البلاغة : التجريد ، وهو أن ينتزع من ذى صفة أمرا آخر مثله ، مبالغة ، لكمال فيه. تقول : لقيت من زيد أسدا. وقيل : هى على معناها ، والمراد : أن لهم فى النار المشتملة على الدركات دار مخصوصة ، هم فيها خالدون ، جَزاءً بِما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ أي : جوزوا بذلك جزاء بسبب ما كانوا يجحدون بآياتنا ويلغون فيها.
الإشارة : الآية تنسحب على من يرفع صوته بمحضر مجلس الوعظ والذكر ، أو العلم النافع ، أو صفوف الصلاة ، فهذه المجالس يجب صونها من اللغو والصخب ، ويجب الاستماع لها ، والإنصات ، والتوقير ، والتعظيم ، لأنها موروثة عن الرسول صلى اللّه عليه وسلم قال تعالى : إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى «1» ، ومن فعل شيئا من ذلك فالوعيد بقوله تعالى : فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا ... الآية - منه بالمرصاد. واللّه تعالى أعلم.
___________
(1) الآية 3 من سورة الحجرات.(5/174)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 175
ثم ذكر مقالتهم بعد دخول النار ، فقال :
[سورة فصلت (41) : آية 29]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلاَّنا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ (29)
يقول الحق جل جلاله : وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا وهم متقلبون فيما ذكر من العذاب : رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ ، يعنون الفريقين الحاملين على الضلال ، من شياطين الجن والإنس ، بالتسويل والتزيين ، وقيل : هما إبليس وقابيل ، فإنهما سنّا الكفر والقتل ، وقرىء بسكون الرّاء تخفيفا «1» ، كفخذ وفخذ ، وبالاختلاس «2» ، أي : أبصرناهما ، نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا أي : ندسهما تحت أرجلنا ، انتقاما منهما ، أو : نجعلهما فى الدرك الأسفل لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ ذلا ومهانة ، أو : مكانا ، جزاء إضلالهم إيانا.
الإشارة : كل من سقط عن درجة المقربين العارفين ، وتعوّق عن صحبتهم ، بسبب تعويق أحد ، تمنى يوم القيامة أن يكون تحت قدمه ، ليكون أسفل منه ، غيظا وندما ، ولا ينفع التمني والندم فى ذلك اليوم. وباللّه التوفيق.
ثم ذكر أهل القرب والعناية ، بعد ذكر أهل البعد والغواية ، فقال :
[سورة فصلت (41) : الآيات 30 الى 32]
إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ (31) نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32)
يقول الحق جل جلاله : إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ أي : نطقوا بالتوحيد واعتقدوا ، ثُمَّ اسْتَقامُوا أي :
ثبتوا على الإقرار ومقتضياته من حسن الأعمال ، وعن الصدّيق رضي اللّه عنه : استقاموا فعلا ، كما استقاموا قولا. وعنه : أنه تلاها ثم قال : ما تقولون فيها؟ قالوا : لم يذنبوا ، قال : حملتم الأمر على أشده ، قالوا : فما تقول؟ قال : لم يرجعوا إلى عبادة الأوثان. وعن عمر رضي اللّه عنه : لم يروغوا روعان الثعالب ، أي : لم ينافقوا. وعن عثمان رضي اللّه عنه : أحكموا العمل ،
___________
(1) وبها قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو بخلفه ، وأبو بكر ، ويعقوب ، وقرأ الباقون بالكسر. انظر الإتحاف (2/ 443).
(2) وهى الوجه الثاني لأبى عمرو. [.....](5/175)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 176
وعن علىّ رضي اللّه عنه : أدّوا الفرائض. وعن الفضيل : زهدوا فى الفانية ، ورغبوا فى الباقية «1». قلت : ويجمعها الإقرار بالربوبية ، والقيام بوصائف العبودية.
تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ عند الموت ، وفى القبر ، وعند البعث ، أو : فى الدنيا بإلهام الخير وشرح الصدر ، وإعانتهم على الأمور الدينية ، كما أن الكفرة تقويهم ما قيض لهم فى قرناء السوء. والأظهر : العموم. أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا ف «أن» مخففة ، أو : تفسيرية ، أي : لا تخافوا ما تقدمون عليه ، ولا تحزنوا على ما خلفتم ، فالخوف : غم يلحق لتوقع مكروه ، والحزن : غم يلحق لفوات نافع ، أو حضور ضار. والمعنى : أن اللّه تعالى كتب لكم الأمن من كلّ غم ، فلن تذوقوه أبدا. وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ فى الدنيا على ألسنة الرسل.
وقال محمد بن على الترمذي : تتنزل عليهم ملائكة الرحمة ، عند مفارقة الأرواح الأبدان ، ألا تخافوا سلب الإيمان ، ولا تحزنوا على ما كان من العصيان ، وأبشروا بدخول الجنان ، التي توعدون فى سالف الأزمان.
نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ
، كما أن الشياطين قرناء العصاة وإخوانهم ، فكذلك الملائكة أولياء المتقين وأحباؤهم فى الدارين. وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ
من فنون الطيبات ، وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ
ما تتمنون ، افتعال من الدعاء ، بمعنى الطلب ، نُزُلًا : حال من مفعول «تدّعون» المحذوف ، أو : من «ما» ، والنزل : ما يقدم للنزيل ، وفيه تنبيه على أن ما يتمنونه بالنسبة إلى ما يعطون من عظائم النعيم كالنزل للضيف. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : إن الذين أقروا بقهرية الربوبية ، وقاموا بوظائف العبودية ، تتنزل عليهم الملائكة بالبشارة الأبدية. قال القشيري : فأما الاستقامة فهى الثبات على شرائط الإيمان بجملتها ، من غير إخلال بشىء من أقسامها.
ثم قال : من كان له أصل الاستقامة ، وهى التوحيد ، أمن من الخلود فى النار ، ومن كان له كمال الاستقامة أمن من الوعيد ، من غير أن يلحقه سوء بحال. ويقال : استقاموا على دوام الشهود ، وانفراد القلب بالمعبود ، أو : استقاموا فى تصفية العقد ، ثم فى توفية العهد ، ثم فى صحّة القصد ، بدوام الوجد ، أو : استقاموا بأقوالهم ، ثم بأعمالهم ، ثم بصفاء أحوالهم ، فى وقتهم وفى مآلهم ، أو : داموا على طاعته ، واستقاموا فى معرفته ، وهاموا فى محبته ، وقاموا بشرائط خدمته. واستقامة العابد : ألا يعود إلى الفترة واتباع الشهوة ، ولا يدخله رياء ولا تصنع ، واستقامة العارف :
ألا يشوب معرفته حظ فى الدارين ، فيحجب به عن مولاه ، واستقامة المحبين : ألا يكون لهم أرب من غير محبوبهم يكتفون من عطائه ببقائه ، ومن مقتضى جوده بدوام عزّه ووجوده. ه.
___________
(1) انظر فى هذه الأقوال تفسير الطبري (24/ 115) والبغوي (7/ 172) والبحر المحيط (7/ 475).(5/176)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 177
وقوله تعالى : تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أي : تمدهم بالاهتداء والأنوار ، وتلهمهم العلوم والأسرار ، فى مقابلة تقييض الغافل بالقرناء الأشرار ، فكما أن الغافل يخذل بتسليط الغواة فى الدارين ، كذلك العارف يمد وينصر من قبل الملائكة فى الدارين.
وقوله تعالى : أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا أي : حيث وجدتم اللّه لا تخافوا من شىء ، ولا تحزنوا على فوات شىء ، إذ لم يفتكم شىء ، وما ذا فقد من وجده؟.
قال القشيري : لا تخاوفوا من عزلة الولاية ، ولا تحزنوا على ما أسلفتم من الجناية ، وأبشروا بحسن العناية ، أو : لا تخافوا مما أسلفتم ، ولا تحزنوا على ما خلّفتم ، وأبشروا بالجنة التي وعدتم. أو : لا تخافوا المذلة ، ولا تحزنوا على ما أسلفتم من الزلّة ، وأبشروا بدوام الوصلة. ه.
ثم قال فى قوله تعالى : نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ
:
الولاية من اللّه - تعالى - بمعنى المحبة ، وتكون بمعنى النّصرة ، وهذا الخطاب بقوله : نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ
، يحتمل أن يكون من قبل الملائكة ، الذين يتنزلون عليهم ، ويحتمل أن يكون ابتداء خطاب من اللّه. تعالى - والنّصرة تصدر من المحبة ، ولو لم تكن المحبة الأزلية لم تكن تحصل النصرة فى الحال. ه. وكونه من الملائكة أظهر ، كما تقدم. واللّه تعالى أعلم.
ولمّا ذكر حال أهل الاستقامة ، ذكر حال من دعا إليها ، أو : تقول : لمّا ذكر حال أهل الكمال فقط ، ذكر أهل الكمال والتكميل ، فقال :
[سورة فصلت (41) : الآيات 33 الى 36]
وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صالِحاً وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33) وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَما يُلَقَّاها إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36)
يقول الحق جل جلاله : وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ أي : إلى الإقرار بربوبيته ، والاستقامة على عبوديته ، وهو الرسول صلى اللّه عليه وسلم وخلفاؤه من أمته ، الدعاة إلى اللّه فى كلّ عصر ، أي : لا أحد أحسن قولا ممن دعا إلى(5/177)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 178
معرفة اللّه ، وَعَمِلَ صالِحاً فيما بينه وبين ربه ، بأن عمل أولا بما دعا إليه ، وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ تفاخرا بالإسلام ، وابتهاجا بأنه منهم ، واتخاذ الإسلام دينا ، من قولهم : هذا قول فلان ، أي : مذهبه لأنه يتكلم بذلك ، أو : يقوله تواضعا ، أي : من جملة عامة المسلمين وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ، هذا بيان محاسن الأعمال الجارية بين العباد ، إثر بيان محاسن الأعمال الجارية بين العبد وبين الرب - عز وجل - ترغيبا للدعاة إلى اللّه فى الصبر على إذاية الخلق ، لأن كلّ من يأمر بالحق يؤذى ، فأمروا بمقابلة الإساءة بالإحسان ، أي : لا تستوى الخصلة الحسنة والخصلة السيئة ، و(لا) : مزيدة ، لتأكيد النفي. ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ أي : ادفع السيئة التي اعترضتك من بعض أعدائك بالتي هى أحسن منها ، وهى : أن تحسن إليه فى مقابلة إساءته ، فالحسنة والسيئة متفاوتتان فى أنفسهما ، فخذ بالحسنة التي هى أحسن من أختها ، وادفع بها السيئة ، كما لو أساء إليك رجل ، فالحسنة : أن تعفو عنه ، والتي هى أحسن : أن تحسن إليه مكان إساءته ، مثل أن يذمك فتمدحه ، ويحرمك فتعطيه ، ويقطعك فتصله. وعن ابن عباس رضي اللّه عنه : التي هى أحسن :
الصبر عند الغضب ، والحلم عند الجهل ، والعفو عن الإساءة. «1» ه.
فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ أي : فإنك إن فعلت ذلك انقلب عدوك المشاقق مثل وليك الحميم الشفيق ، مصافاة لك ، وهذا صعب على النفوس ، ولذلك قال :
وَما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا أي : ما يلقى هذه الخصلة التي فى مقابلة الإساءة بالإحسان إلا أهل الصبر ، وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ من اللّه - تعالى - وسبق عنايته بكمال النفس وتهذيبها. وعن ابن عباس رضي اللّه عنه : الحظ العظيم : الثواب ، وعن الحسن : واللّه ما عظم حظ دون الجنة. وقيل : نزلت فى أبى سفيان بن حرب ، كان عدوا مؤذيا للنبى صلى اللّه عليه وسلم فصار وليا مصافيا له «2» ، وبقيت عامة.
وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ ، النزغ : شبه النخس ، والشيطان ينزغ الإنسان ، كأنه ينخسه ، ببعثه على ما لا ينبغى ، وجعل النزغ نازغا مجاز ، كجدّ جدّه ، والمعنى : وإن طرقك الشيطان على ترك ما وصّيت به من الدفع بالتي هى أحسن ، فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ من شرّه ، وامض على [حلمك ] «3» ولا تطعه ، إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ
___________
(1) ذكره البغوي فى تفسيره (7/ 174) وابن كثير (4/ 101).
(2) قاله مقاتل بن حيان ، فيما ذكره البغوي فى تفسيره. (7/ 174).
(3) فى الأصول (حكمه) والمثبت من النسفي.(5/178)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 179
لاستعاذتك ، الْعَلِيمُ بنيتك وتعلقك به ، أو : بنزغ الشيطان ووسوسته. وهو تعليم لأمته صلى اللّه عليه وسلم إذ كان شيطانه أسلم على يده.
الإشارة : قال القشيري : قيل : الداعي إلى اللّه هو الذي يدعو الناس إلى الاكتفاء باللّه ، وترك طلب العوض من اللّه ، بل يكل أمره إلى اللّه ، ويرضى من اللّه بقسمة اللّه. ثم قال : وَعَمِلَ صالِحاً كما يدعو الخلق إلى اللّه يأتى بما يدعوهم إليه ، ويقال : هم الذين عرفوا طريق اللّه ، ثم دعوا - بعد ما عرفوا الطريق إلى اللّه - الخلق إلى اللّه ، وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ لحكمه ، الراضين بقضائه وتدبيره. ه.
وقال الشاذلى رضي اللّه عنه : عليك برفض الناس جملة ، إلا من يدلك على اللّه ، بإشارة صادقة ، وأعمال ثابتة ، لا ينقضها كتاب ولا سنّة. ه. وشروط الداعي إلى اللّه على طريق المشيخة أربعة : علم صحيح ، وذوق صريح ، وهمة عالية ، وحالة مرضية ، كما قال زروق رضي اللّه عنه. وقال الشريشى «1» فى رائيته :
وللشيخ آيات إذا لن تكن له فما هو إلا فى ليالى الهوى يسرى
إذا لم يكن علم لديه بظاهر ولا باطن فاضرب به لجج البحر
أما العلم الظاهر فإنما يشترط منه ما يحتاج إليه فى خاصة نفسه ، ويحتاج إليه المريد فى حال سفره إلى ربه ، وهو القدر الذي لا بد منه ، من أحكام الطهارة والصلاة ونحو ذلك ، ولا يشترط التبحر فى علم الشريعة. قال الشيخ أبو يزيد ، رضي اللّه عنه : صحبت أبا على المسندى ، فكنت ألقنه ما يقيم به فرضه ، وكان يعلمنى التوحيد والحقائق صرفا.
ه. ومن المعلوم أن الشيخ ابن عباد لم يفتح عليه إلا على يد رجل عامى ، وقد تحققت تربية كثير من الأولياء ، كانوا أميين فى علم الظاهر «2». وأما علم الباطن فالمطلوب فيه التبحر التام إذ المقصود بالذات فى الشيخ المصطلح عليه عند القوم هو هذا العلم لأن المريد أنما يطلب الشيخ ليسلكه ويعلمه علم الطريقة والحقيقة فيكون عنده علم تام باللّه وصفاته وأسمائه ، ذوقا وكشفا ، وعلم بآفات الطريق ، ومكائد النفس ، والشيطان ، وطرق المواجيد ، وتحقيق المقامات ، كما هو مقرر فى فنه ، وهذا الداعي لا تخلو الأرض منه على الكمال ، خلافا لمن حكم بانقطاعه. واللّه تعالى أعلم.
___________
(1) هو أحمد بن محمد بن أحمد بن خلف ، القريشي ، تاج الدين ، الشريشى ، المالكي ، الصوفي. ولد فى سلا - بجوار الرباط سنة 581 ه ، ونشأ بمراكش ، وبرع فى علم الكلام وأصول الفقه. وتصوف على يد أبى حفص السهروردي عمر بن محمد ، واستقر بالفيوم بمصر ، وتوفى بها سنة 641 ه ، اشتهر بقصيدته الرائية المسماة «أنوار السرائر وسرائر الأنوار». انظر الأعلام للزركلى (1/ 219).
(2) انظر الفتوحات الإلهية للإمام المفسر (102 - 204) وراجع التعليق على إشارة الآيات : 47 - 49 من سورة العنكبوت.(5/179)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 180
وفى الإحياء : المقتدى به هو الذي استقام فى نفسه ، واستنار قلبه فانتشر نوره إلى غيره ، لا من يظهر خلاف ما هو عليه ليقتدى به ، فإنه ملبّس ، لم ينصح لنفسه ، فكيف بغيره؟. ه.
قال الورتجبي : ومن أحسن قولا ممن دعا إلى اللّه ، أي : ممن عرف اللّه بعد أن رآه وأحبه واشتاق إليه ، ودعا الخلق إليه ، من حيث هو فيه وصدقه فى حاله ، يدعو الخلق إلى اللّه بلسان الأفعال ، وصدق المقال ، وحلاوة الأحوال ، ويذكر لهم شمائل القدم وحق الربوبية ، ويعرفهم صفات الحق وجلال ذاته ، ويحبب اللّه فى قلوبهم ، وهذا عمله الصالح ، ثم يقول بعد كماله وتمكنه : إننى واحد من المسلمين ، من تواضعه ولطف حاله خلقا وظرافة ، وإن كان إسلامه من قصارى - أي : غاية - أحوال المستقيمين. قال سهل : أي : ممن دلّ على اللّه ، وعلى عبادة اللّه وسنّة رسوله ، واجتناب المناهي ، وإدامة الاستقامة مع اللّه ، ثم قال : وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ بيّن اللّه هنا أن الخلق الحسن ليس كالخلق السيئ ، وأمر بتبديل الأخلاق المذمومة بالأخلاق المحمودة ، وأحسن الأخلاق : الحلم إذ يكون به العدو صديقا ، والبعيد قريبا ، حين دفع غضبه بحلمه ، وظلمه بعفوه ، وسوء جانبه بكرمه ، وفى مظنة الخطاب : أن من كان متخلقا بخلقه ، متصفا بصفاته ، مستقيما فى خدمته ، صادقا فى محبته ، عارفا بذاته وصفاته ، ليس كالمدعى الذي ليس فى دعواه معنى.
ثم قال : وَما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا ، بيّن اللّه سبحانه ألا يبلغ أحد درجة الخلق الحسن ، وحسنات الأعمال وسنيّات الأفعال ، إلا من تصبّر فى بلاء اللّه ، وامتحانه ، بالوسائط وغير الوسائط ، ولا يتحمل هذه البليات إلا ذو حظ عظيم من مشاهدته ، وذو نصيب من قربه ووصاله ، صاحب معرفة كاملة ، ومحبة شاملة. وكمال هذا الصبر الاتصاف بصبر اللّه ، ثم الصبر فى مشاهدة الأزل ، فبالصبر الاتصافى ومشاهدة الأبدى ، والحظ الجمالي ، يوازى طوارق صدمات الألوهية ، وغلبات القهّارية. ثم قال : عن الجنيد : ما يوفق لهذا المقام إلا ذو حظ عظيم من عناية الحق فيه. ه.
ثم بيّن دلائل توحيده ، فقال :
[سورة فصلت (41) : الآيات 37 الى 39]
وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (37) فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ (38) وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39)(5/180)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 181
يقول الحق جل جلاله : وَمِنْ آياتِهِ الدالة على وحدانيته : اللَّيْلُ وَالنَّهارُ فى تعاقبهما على حدّ معلوم ، وتناوبهما على قدر مقسوم ، وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ فى اختصاصهما بسير مقدّر ، ونور مقرّر إذ لا يصدر ذلك إلا من واحد قهار. لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ فإنها مخلوقان مثلكم ، وإن كثرت منافعهما ، وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ أي : الليل والنهار والشمس والقمر. وحكم جماعة ما لا يعقل حكم الأنثى أو الإناث فى الضمير ، تقول : الأقلام بريتها وبريتهنّ. ولعلّ ناسا من المشركين كانوا يسجدون للشمس والقمر ، تبعا للصّابئين من المجوس فى عبادتهم الكواكب ، ويزعمون أنهم يقصدون بالسجود لها السجود للّه - تعالى - فنهوا عن هذه الواسطة ، وأمروا أن يقصدوا بسجودهم وجه اللّه وحده ، إن كانوا موحدين ، ولذلك قال : إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ فإن السجود أقصى مراتب العبادة ، فلابد من تخصيصه به سبحانه ، وهذا موضع السجدة عند مالك والشافعي ، وعند أبى حنيفة : (لا يسأمون).
فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا عن الامتثال ، فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ من الملائكة يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ أي :
دائما ، وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ لا يملّون ولا يفترون ، والمعنى : فإن استكبر هؤلاء وأبوا إلا الواسطة ، فدعهم وشأنهم ، فإن اللّه غنى عنهم ، وقد عمّر سماواته بمن يعبده ، وينزهه بالليل والنهار عن الأنداد. والعندية عبارة عن الزلفى والكرامة.
وَمِنْ آياتِهِ أيضا أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً يابسة مغبرة. والخشوع : التذلل ، فاستعير للأرض إذا كانت قحطة لا نبات فيها ، فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ المطر اهْتَزَّتْ أي : تحركت وَرَبَتْ انتفخت لأن النبات إذا دنا أن يظهر ارتفعت به وانتفخت ، ثم تصدعت عن النبات ، وقيل : تزخرفت وارتفعت بارتفاع نباتها ، إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى بالبعث ، إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ، ومن جملة الأشياء :
البعث والحساب.(5/181)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 182
الإشارة : الليل والنهار والشمس والقمر خلقهن من أجلك ، فعار عليك أن تخضع لما خلق لك ، وتترك المنعم بها عليك. قال القشيري : الحق - سبحانه - يأمرك بصيانة وجهك عن الشمس والقمر مع علوهما ، وأنت لأجل حظّ خسيس تنقل قدمك إلى كلّ أحد ، وتذل وجهك لكل أحد. ه. وأما الخضوع لمن أمر اللّه بالخضوع له من الدعاة إلى اللّه فهو من الخضوع للّه ، كأمر الملائكة بالسجود لآدم ، وكأمره بالخضوع للأنبياء والأولياء ، فكان مآل من سجد وخضع التقريب ، ومآل من استكبر وأنف الطرد والبعد ، واللّه تعالى غنى عن الكل ، ولذلك قال : فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا ... الآية.
قوله تعالى : وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً ... الآية ، وكذلك أرض النّفوس تراها يابسة بالغفلة والقسوة والجهل ، فإذا أنزل عليها ماء الحياة ، وهى خمرة المحبة ، هاجت وارتفعت ، وحييت بذكر اللّه ومعرفته ، إن الذي أحيا الأرض الحسية قادر على إحياء النفوس الميتة بالغفلة ، وانظر القشيري «1».
ثم ذكر حال من أعرض عن الآيات ، فقال :
[سورة فصلت (41) : الآيات 40 الى 42]
إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (40) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ (41) لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42)
يقول الحق جل جلاله : إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا أي : يميلون عن الحق فى أدلتنا التكوينية ، الدالة على وحدانيتنا ، فلا ينظرون فيها ، أو : يلحدون فى آياتنا التنزيلية ، بالطعن فيها ، وتحريفها ، بحملها على المحامل الباطلة ، لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا ، بل نجازيهم على ذلك. يقال : ألحد الكافر ولحد : إذا مال عن الاستقامة عن الحق.
ثم ذكر جزاءهم فقال : أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ. قيل : نزلت فى أبى جهل وعثمان «2» ، وهى عامة ، اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ من الأعمال المؤدية إلى ما ذكر من الإبقاء فى النار ، والإتيان آمنا ، وفيه تهديد وتنديد. إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ فيجازيكم بحسب أعمالكم.
___________
(1) راجع لطائف الإشارات (3/ 334).
(2) قاله مقاتل ، فيما ذكره أبو حيان ، فى البحر المحيط (7/ 478). وانظر تفسير القرطبي (7/ 5987).(5/182)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 183
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ القرآن لَمَّا حين جاءَهُمْ مخلدون فى النار ، أو : هالكون ، أو :
معاندون ، فخبر «إن» محذوف ، دلّ عليه ما قبله. وقيل : بدل من قوله : إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا فخبر «إن» هو الخبر السابق ، وقال عمرو بن العلاء : الخبر : أُولئِكَ يُنادَوْنَ «1» ، وردّ بكثرة الفصل.
ثم فسّر الذكر المذكور بقوله : وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ ، منيع ، محمىّ بحماية اللّه ، لا تتأتى معارضته بحال ، أو :
كثير المنافع ، عديم النّظير ، لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ أي : لا يتطرقه الباطل من جهة من الجهات ، أو : لا يأتيه التبديل والتحريف ، أو : التناقض بوجه من الوجوه ، وأما النّسخ فليس بمبطل للمنسوخ ، بل هو :
انتهاء حكم إلى مدة وابتداء حكم آخر ، خلافا لمن احتج بالآية على عدم النّسخ فى القرآن ، انظر ابن عرفه.
تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ أي : تنزيل من حكيم محمود ، ف «تنزيل» : خبر عن مضمر ، أو : صفة أخرى لكتاب ، مفيدة لفخامته الإضافية ، كما أن الصلتين السابقتين ، مفيدتان لفخامته الذاتية ، كل ذلك لتأكيد بطلان الكفر به وبشاعة قبحه.
الإشارة : إن الذين يلحدون فى آياتنا ، فيطعنون فى أوليائنا ، الدالين علينا ، لا يخفون علينا ، وسيلقون فى نار القطيعة والبعد مع عموم الخوف من هول المطّلع ، أفمن يلقى فى النار خير أم من يأتى آمنا يوم القيامة؟ اعملوا ما شئتم من التسليم أو الانتقاد ، وكلّ من لا يصحب الرجال لا يخلو خاطره من شك أو وهم فى مواعيد القرآن ، كالرزق وغيره ، ينسحب عليه قوله : إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ ... الآية ، من طريق الإشارة. واللّه تعالى أعلم.
وقوله تعالى : وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ قال الشيخ عبد الرحمن اللجاى فى كتاب «قطب العارفين» : الكتاب عزيز ، وعلم الكتاب أعز ، والعلم عزيز ، والعمل به أعز ، والعمل عزيز ، والذوق أعز ، والذوق عزيز ، والمشاهدة فى الذوق أعز ، والمشاهدة عزيزة ، والموافقة فى المشاهدة أعز ، والموافقة عزيزة ، والأنس فى الموافقة أعز ، والأنس عزيز ، وآداب الأنس أعز. ثم قال : لكن لا يستنشق رائحة هذه المقامات من غلب جهله على علمه ، وهواه على عقله ، وسفهه على حلمه. ه.
ثم سلّى نبيه من تكذيب قومه ، فقال :
___________
(1) من الآية 44 من سورة فصلت.(5/183)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 184
[سورة فصلت (41) : الآيات 43 الى 44]
ما يُقالُ لَكَ إِلاَّ ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ (43) وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْ لا فُصِّلَتْ آياتُهُءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (44)
يقول الحق جل جلاله : ما يُقالُ لَكَ أي : ما يقول لك كفار قومك إِلَّا ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إلا مثل ما قال للرسل كفار قومهم ، من الكلمات المؤذية ، والمطاعن فى الكتب المنزلة ، فاصبر كما صبروا ، إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ ورحمة لأنبيائه وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ لأعدائهم ، وقد نصر من قبلك من الرسل ، وانتقم من أعدائهم ، وسيفعل مثل ذلك بك وبأعدائك ، أو : (ما يقال لك) من الوحى وتخاطب به من جهته تعالى ، (إلا ما قد قيل للرسل) وأوحى إليهم ، فلست ببدع منهم (إن ربك لذو مغفرة) لمن صدق وحيه ، (و ذو عقاب أليم) لمن كذب.
وَلَوْ جَعَلْناهُ أي : الذكر قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْ لا فُصِّلَتْ آياتُهُ أي : هلّا بيّنت بلسان العرب حتى نفهمها ، كانوا يقولون لتعنتهم : هلّا نزل القرآن بلغة العجم! فقيل لهم : لو كان كما تقترحون لقلتم : هلّا بيّنت آياته بلغتنا لنفهمه ، أأعجمى وعربىّ ، بهمزتين «1» ، الأولى للإنكار ، يعنى : لو نزل بلغة العجم لأنكروا وقالوا : أقرآن أعجمى ورسول عربى؟ والأعجمى : الذي لا يفصح ولا يفهم كلامه ، سواء كان من العجم أو من العرب ، والعجمي :
منسوب إلى أمة العجم ، فصيحا كان أو غير فصيح ، ومن قرأ بهمزة واحدة ، فالمعنى : هلّا فصّلت آياته فيجعل بعضها أعجميا لإفهام العجم ، وبعضها عربيا لإفهام العرب ، فيكون معنى «فصّلت» : نوّعت.
وقرئ «أعجمى» بفتح العين «2» ، ويتجه على كونهم طعنوا فيه من أجل ما فيه من الكلمة العجمية ، ك سِجِّينٍ «3» وإِسْتَبْرَقٍ «4» ، فقالوا : فيه أعجمى وعربى ، مخلط من كلام العرب وكلام العجم ، وأيّا ما كان فالمقصود : أن آيات اللّه - عز وجل - على أىّ طريق جاءتهم وجدوا متعنتا يتعللون به لأنهم غير طالبين للحقّ ، وإنما يتبعون أهواءهم. قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً يهديهم إلى الحق ، وَشِفاءٌ لما فى الصدور من شك وشبهة إذ الشك مرض.
___________
(1) قرأ حمزة والكسائي وخلف وأبو بكر (أ أعجمي) بهمزتين. وقرأ حفص عن عاصم (آعجمى) ممدودة. وقرأ هشام بهمزة واحدة من غير مد. راجع الغاية فى القراءات العشر (386) والإتحاف (2/ 444).
(2) وهى قراءة عمرو بن ميمون. وهى قراءة شاذة ، ذكرها فى البحر المحيط (7/ 480).
(3) كما جاء فى الآية السابعة والثامنة من سورة المطففين.
(4) كما جاء فى الآية 31 من سورة الكهف.(5/184)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 185
وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ به فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ أي : صمم ، فالموصول : مبتدأ ، والجار : خبره ، وقيل : فى موضع الجر ، بدل من (الذين آمنوا) أي : هو للذين آمنوا هدى وللذين لا يؤمنون فى آذانهم وقر ، إلا أن فيه عطفا على عاملين ، وهو جائز عند الأخفش. وَهُوَ أي : القرآن عَلَيْهِمْ عَمًى ظلمة وشبة ، أُولئِكَ البعداء الموصوفون بما ذكر من التعامي عن الحق الذي يسمعونه ، والتعامي عن الآيات الظاهرة التي يشاهدونها ، يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ يعنى : أنهم لعدم قبولهم وانتفاعهم ، كأنهم ينادون إلى الإيمان بالقرآن من حيث لا يسمعون ، لبعد المسافة ، وهو تمثيل لحالهم بحال من ينادى من مسافة بعيدة ، لا يكاد يسمع من مسافتها الأصوات ، وقيل : ينادون فى القيامة من مكان بعيد بأقبح الأسماء.
الإشارة : ما يقال لك أيها المتوجه أو الولىّ ، إلا ما قد قيل لمن قبلك من المنتسبين ، فقد أوذى من قبلك من أهل النسبة بأنواع الإذايات من ضرب وقتل وسجن ، وغير ذلك ، ففيهم أسوة لمن بعدهم ، (إن ربك لذو مغفرة وذو عقاب أليم). ومما جرت عادة اللّه فى خلقة ألا يسلّموا لأحياء عصرهم ما نطقوا به من حكم ، وأتوا به من علوم ، ولو بلغت من البلاغة ما بلغت ، كما وقع من طعن الكفرة فى القرآن ، على أىّ وجه جاء ، وهى نزعة جاهلية.
وقوله تعالى : قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ ، قال الورتحبى : هدى ، لقلوب العارفين إلى معدنه ، وهو الذات القديم ، وشفاء لقلوب العاشقين ، وأرواح مرضي المحبة وسقمى الصبابة ، فلأنه خطاب حبيبهم ، وكتاب مشوقهم ، يستلذونه من حيث العبارات ، ويعرفونه من حيث الإشارات. ه. وقوله تعالى : فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ قال ذو النّون : من وقر سمعه وأصم عن نداء الحق فى الأزل ، لا يسمع نداءه عند الإيجاد ، وإن سمعه كان ذلك عليه عمى ، ويكون عن دقائقه بعيدا ، وذلك أنهم نودوا عن بعد ، ولم يكونوا بالقرب. ه. ف كل من قرأه ذاهلا عن تدبره بوساوس نفسه ، فهو ممن نودى فى الأزل عن بعد. وباللّه التوفيق.
ولما ذكر بيان القرآن أتبعه بذكر التوراة ، تسلية أيضا ، فقال :
[سورة فصلت (41) : الآيات 45 الى 46]
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (45) مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَما رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (46)(5/185)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 186
يقول الحق جل جلاله : وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ التوراة فَاخْتُلِفَ فِيهِ فقال بعضهم : حق ، وقال بعضهم : كتبه بيده فى الجبل ، كما اختلف قومك فى كتابك القرآن ، فمن مؤمن به وكافر ، وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ فى حق أمتك بتأخير العذاب ، لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ لأهلكهم إهلاك استئصال. وقيل : الكلمة السابقة هو العدة بالقيامة لقوله : بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ «1» ، وأن الخصومات تفصل فى ذلك اليوم ، ولو لا ذلك لقضى بينهم فى الدنيا. وَإِنَّهُمْ أي : كفار قومك لَفِي شَكٍّ مِنْهُ من أجل القرآن مُرِيبٍ موقع الريبة ، وقيل : الضمير فى (بينهم) و(إنهم) لليهود ، وفى (منه) لموسى ، أو : لكتابه ، وهو ضعيف.
مَنْ عَمِلَ صالِحاً بأن آمن بالكتب وعمل بوحيها ، فَلِنَفْسِهِ نفع ، لا غيره ، وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها ضرره ، لا على غيره ، وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ، فيعذب غير المسيئ ، أو ينقص من إحسان المحسن.
الإشارة : الاختلاف على أهل الخصوصية سنّة ماضية ، (و لن تجد لسنة اللّه تبديلا) ، فمن رام الاتفاق على خصوصيته ، فهو كاذب فى دعوى الخصوصية ، وفى الحكم : «استشرافك أن يعلم الخلق بخصوصيتك دليل على عدم صدقك فى عبوديتك» «2».
ثم ذكر بيان الساعة الموعودة بها فى قوله : وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لأنها محل القضاء بين العباد ، فكأن قائلا قال : متى ذلك؟ فقال :
[سورة فصلت (41) : الآيات 47 الى 48]
إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكائِي قالُوا آذَنَّاكَ ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ (47) وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (48)
يقول الحق جل جلاله : إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ أي : إذا سئل عنها يجب أن يقال : اللّه أعلم بوقت مجيئها ، أو : لا يعلمها إلا اللّه ، وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها من أوعيتها ، جمع «كم» بكسر الكاف وهو وعاء الثمرة قبل أن تنشق ، أي : لا يعلم كيفية خروجها ومآلها إلا اللّه. وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى أي : تعلق النطفة فى رحمها ، وما ينشأ عنها من ذكورة وأنوثة وأوصاف الخلقة تامة أو ناقصة ، وَلا تَضَعُ حملها إِلَّا بِعِلْمِهِ
___________
(1) الآية 46 من سورة القمر. [.....]
(2) (حكمة 161) انظر الحكم بتبويب المتقى الهندى (ص 11).(5/186)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 187
استثناء مفرغ من أعم الأحوال ، أي : ما يحدث شىء من خروج ثمرة ، ولا حمل حامل ، ولا وضع واضع ، ملابسا بشىء من الأشياء ، إلا ملابسا بعلمه المحيط.
وَاذكر يَوْمَ يُنادِيهِمْ فيقول : أَيْنَ شُرَكائِي بزعمكم ، أضافهم إليه على زعمهم ، وفيه تهكم بهم وتقريع ، قالُوا آذَنَّاكَ ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ أي : من أحد يشهد لهم بالشركة ، إذ تبرأنا منهم ، لما عاينا حقيقة الحال ، وتفسير «آذن» هنا بالإخبار ، أحسن من تفسيره بالإعلام لأن اللّه - تعالى - كان عالما بذلك ، وإعلام العالم محال أما الإخبار للعالم بالشيء ليتحقق بما علم به فجائز ، إلا أن يكون المعنى : إنك علمت من قلوبنا الآن : أنّا لا نشهد تلك الشهادة الباطلة لأنه إذا علمه من نفوسهم ، فكأنهم أعلموه ، أي : أخبرناك بأنّا ما منا أحد اليوم يشهد بأنّ لك شريكا ، وما منا إلا من هو موحّد. أو : (ما منا من) أحد يشاهدهم ، لأنهم ضلوا عنهم فى ساعة التوبيخ ، وقيل :
هو من كلام الشركاء ، أي : ما منا شهيد يشهد بما أضافوا لنا من الشركة.
وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَدْعُونَ يعبدون مِنْ قَبْلُ فى الدنيا وَظَنُّوا وأيقنوا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ من مهرب ، والظن معلق عنهم بحرف النّفى عن المفعولين.
الإشارة : إليه تعالى يردّ علم الساعة ، التي يقع الفتح فيها على المتوجه ، بكشف الحجاب بينه وبين حبيبه ، وما تخرج من ثمرات العلوم والحكم من أكمام قلبه ، وما تحمل نفس من اليقين والمعرفة ، إلا بعلمه. ثم ذمّ من مال إلى غيره بالركون والمحبة ، وذكر أنه يتبرأ منه فى حال ضيقه ، فلا ينبغى التعلق إلا به ، ولا ميل القصد والمحبة إلا له - سبحانه - وباللّه التوفيق.
ثم ذكر ما جبل عليه طبع الإنسان من الجزع والهلع ، فقال :
[سورة فصلت (41) : الآيات 49 الى 51]
لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ (49) وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هذا لِي وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (50) وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ (51)(5/187)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 188
يقول الحق جل جلاله : لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ أي : جنسه ، أو : الكافر ، بدليل قوله : وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً «1» ، أي : لا يملّ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ من طلب السعة فى المال والنّعمة ، ولا يملّ عن إرادة النّفع والسلامة ، والتقدير : من دعائه الخير ، فحذف الفاعل وأضيف إلى المفعول ، وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ الفقر والضيق ، فَيَؤُسٌ من الخير قَنُوطٌ من الرّحمة ، أي : لا يرجو زواله لعدم علمه بربه ، وانسداد الطريق على قلبه فى الرّجوع إلى ربه ، بولغ فيه من طريقين : من طريق بناء فعول ، ومن طريق التكرير لأن اليأس هو القنط ، والقنوط : أن يظهر أثر اليأس فيتضاءل وينكسر ، ويظهر الجزع ، وهذا صفة الكافر لقوله : إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ «2». وقال الإمام الفخر : اليأس على أمر الدنيا من صفة القلب ، والقنوط : إظهار آثاره على الظاهر. ه.
وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هذا لِي أي : وإذا فرجنا عنه بصّحة بعد مرض ، أو : سعه بعد ضيق ، قال : هذا لِي أي : هذا قد وصل إلىّ لأنى استوجبته بما عندى من خير ، وفضل ، وأعمال برّ ، أو : هذا لى لا يزول عنى أبدا ، وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً أي : ما أظنها تقوم فيما سيأتى ، وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي كما يقول المسلمون ، إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى أي : الحالة الحسنى من الكرامة والنّعمة ، أو : الجنة. قاس أمر الآخرة على أمر الدنيا لأن ما أصابه من نعم الدنيا ، زعم أنه لاستحقاقه إياها ، وأن نعم الآخرة كذلك. وهذا غرور وحمق ، الرجاء ما قارنه عمل ، وإلا فهو أمنية ، «الجاهل من أتبع نفسه هواها ، وتمنى على اللّه ، والكيّس من دان نفسه ، وعمل لما بعد الموت» «3».
فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا أي : فلنخبرنهم بحقيقة ما عملوا من الأعمال الموجبة للعذاب ، وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ شديد ، لا يفتر عنهم.
وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ ، هذا ضرب آخر من طغيان الإنسان إذا أصابه اللّه بنعمته أبطرته النعمة ، وأعجب بنفسه ، فنسى المنعم ، وأعرض عن شكره ، وَنَأى بِجانِبِهِ وتباعد عن ذكر اللّه ودعائه
___________
(1) من الآية 36 من سورة الكهف.
(2) من الآية 87 من سورة يوسف.
(3) هذا حديث نبوى شريف. أخرجه ابن ماجه فى (الزهد ، باب ذكر الموت والاستعداد له ، 2/ 1423 ، ح 4260) والترمذي فى (صفة القيامة ، باب 25 ، 4/ 550 ح 2459) والحاكم (4/ 251) عن شداد بن أوس رضي اللّه عنه. بلفظ : «الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من أتبع نفسه هواها ، وتمنى على اللّه ، قال الترمذي : حديث حسن.(5/188)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 189
وطاعته ، أو : ذهب بنفسه وتكبر وتعاظم ، والتحقيق : أن المراد بالجانب النّفس ، فكأنه قال : وتباعد بنفسه عن شكر ربه ، وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ الفقر والضر ، فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ أي : تضرع كثير ، أي : أقبل على دوام الدعاء والابتهال. ولا منافاة بين قوله : فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ وبين قوله : فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ لأن الأول فى قوم ، والثاني فى قوم ، أو : قنوط فى البر ، وذو دعاء عريض فى البحر ، أو : قنوط بالقلب ، وذو دعاء باللسان ، أو : قنوط من الصنم ، وذو دعاء لله تعالى.
الإشارة : اللائق بالأدب أن يكون العبد عند الشدة داعيا بلسانه ، راضيا بقلبه ، إن أجابه شكر ، وإن منعه انتظر وصبر ، ولا ييأس ولا يقنط ، فإنه ضمن الإجابة فيما يريد ، لا فيما تريد ، وفى الوقت الذي يريد ، لا فى الوقت الذي تريد ، وإن فرّج عنك نسبت النّعمة إليه ، دون شىء من الوسائط العادية ، هذا ما يفهم من الآية ، وتقدم الكلام عليها فى سورة هود «1». واللّه التوفيق.
ثم وبّخ من أعرض عن النّظر ، فقال :
[سورة فصلت (41) : الآيات 52 الى 54]
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (52) سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53) أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ (54)
يقول الحق جل جلاله : قُلْ أَرَأَيْتُمْ أخبرونى إِنْ كانَ القرآن مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ جحدتم أنه من عند اللّه ، مع تعاضد موجبات الإيمان به ، مَنْ أَضَلُّ منكم؟ فوضع قوله : مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ موضعه ، شرحا لحالهم ، وتعليلا لمزيد ضلالهم.
سَنُرِيهِمْ آياتِنا الدالة على حقيّته وكونه من عند اللّه ، فِي الْآفاقِ من فتح البلاد ، وما أخبر به النّبى صلّى اللّه عليه وسلم من الحوادث الآتية ، وآثار النّوازل الماضية ، وما يسّر اللّه تعالى له ولخلفائه من الفتوحات ، والظهور على آفاق الدنيا ، والاستيلاء على بلاد المشارق والمغارب ، على وجه خرق العادة ، وَنريهم فِي أَنْفُسِهِمْ ما ظهر من فتح مكة وما حلّ بهم.
___________
(1) راجع تفسير الآيات : 9 - 11 من سورة هود. (2/ 514 - 515).(5/189)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 190
وقال ابن عباس : فى الآفاق : منازل الأمم الخالية وآثارهم ، وفى أنفسهم : يوم بدر. وقال مجاهد وغيره : فى الآفاق : ما يفتح اللّه من القرى على نبيه صلّى اللّه عليه وسلم والمسلمين ، وفى أنفسهم : فتح مكة. وقيل : الآفاق : فى أقطار السموات والأرض ، من الشمس ، والقمر ، والنّجوم ، وما يترتب عليها من الليل ، والنّهار ، والأضواء ، والظلال ، والظلمات ، ومن النبات ، والأشجار ، والأنهار ، وَفِي أَنْفُسِهِمْ : من لطيف الصنعة وبديع الحكمة ، من تكوين النّطفة فى ظلمات الأرحام ، وحدوث الأعضاء العجيبة ، والتركيبات الغريبة ، كقوله تعالى : وَفِي أَنْفُسِكُمْ ... «1».
وعبّر بالسين مع أن إراءة تلك الآيات قد حصلت قبل ذلك ، بمعنى أن اللّه - تعالى - سيطلعهم على تلك الآيات زمانا فزمانا ، ويزيدهم وقوفا على حقائقها يوما فيوما ، حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ بذلك أَنَّهُ الْحَقُّ أي : القرآن ، أو :
الإسلام ، أو : التوحيد ، أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ، توبيخ على ترددهم فى شأن القرآن ، وعنادهم المحوج إلى إراءة الآيات ، وعدم اكتفائهم بإخباره تعالى. والهمزة للإنكار ، والواو للعطف على مقدر يقتضيه المقام ، أي : ألم يغن ولم يكف ربك. والباء : مزيدة للتأكيد ، ولا تكاد تزاد إلا مع «كفى».
و(أنه ...) إلخ : بدل منه ، أي : ألم يغنهم عن إراءة الآيات المبنية لحقيّة القرآن ولم يكفهم فى ذلك أنه تعالى - شهيد على كلّ شىء ، وقد أخبر أنه من عنده. وقيل : معناه : إن هذا الموعود من إظهار آيات اللّه فى الآفاق وفى أنفسهم سيرونه ويشاهدونه فيتيقنون عند ذلك أن القرآن تنزيل من عالم الغيب الذي هو على كلّ شىء شهيد.
أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ شك عظيم مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ فلذلك أنكروا القرآن ، أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ عالم بجميع الأشياء وتفاصيلها ، وظواهرها ، وبواطنها ، فلا يخفى عليه خافية منهم ، وهو مجازيهم على كفرهم وشكهم ، لا محالة.
الإشارة : قد اشتملت الآية على مقام الاستدلال فى مقام الإيمان ، وعلى مقام العيان فى مقام الإحسان ، أي :
سنريهم آياتنا الدالة على وجودنا فى الآفاق ، وفى أنفسهم ، أي : فى العوالم المنفصلة والمتصلة ، حتى يتبين لهم أنه الحق ، أي : وجوده حق ، لأن الصنعة قطعا تحتاج إلى صانع ، ثم رقّاهم إلى مقام المراقبة بقوله : أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ، ثم زاد إلى المشاهدة بقوله : أَلا إِنَّهُمْ أي : أهل الجهل باللّه ، فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ فى الدنيا ، بحصول الفناء ، فيفنى وجود العبد فى وجود الحق ، ألا إنه بكلّ شىء محيط ، فبحر العظمة أحاط بكلّ شىء ، وأفنى كلّ شىء ، ولم يبق مع وجوده شىء.
___________
(1) من الآية 21 من سورة الذاريات. وانظر تفسير البغوي (7/ 179) وابن كثير (4/ 105).(5/190)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 191
وفى الحكم : «ما حجبك عن اللّه وجود موجود معه إذ لا شىء معه ، وإنما حجبك توهم موجود معه» «1» وقال أيضا : «الأكوان ثابتة بإثباته ، ممحوة بأحدية ذاته» فأحدية الذات محت وجود الأشياء كلها ، ولم يبق إلا القديم الأزلى.
وقال القطب ابن مشيش لأبى الحسن رضي اللّه عنه : يا أبا الحسن ، حدد بصر الإيمان تجد اللّه فى كلّ شىء ، وعند كل شىء ، ومع كلّ شىء ، وقبل كلّ شىء ، وبعد كلّ شىء ، وفوق كلّ شىء ، وتحت كلّ شىء ، وقريبا من كلّ شىء ، ومحيطا بكلّ شىء ، بقرب هو وصفه ، وبحيطة هى نعته ، وعد عن الظرفية والحدود ، وعن الأماكن والجهات ، وعن الصحبة والقرب فى المسافات ، وعن الدور بالمخلوقات ، وأمحق الكلّ بوصفه الأول والآخر والظاهر والباطن ، وهو هو هو ، كان اللّه ولا شىء معه ، وهو الآن على ما عليه كان. ه.
وقوله : وعد عن الجهات : جاوز عن اعتقادها إذ لا ظرف ، ولا حد ، ولا مكان ، ولا جهة ، إذ الكلّ عظمة ذاته ، وأنوار وصفاته ، والحد إنما يتصور فى المحدود ، ولا حد لعظمة ذاته ولا نهاية ، ولا يحصرها مكان ، ولا جهة إذ الكلّ منه وإليه وباللّه التوفيق ، وهو الهادي إلى سواء الطريق ، وصلّى اللّه على سيدنا ومولانا محمد ، عين بحر التحقيق ، وعلى آله وصحبه ، وسلم تسليما «2».
___________
(1) (حكمة 137) انظر الحكم بترتيب المتقى الهندي (ص 34).
(2) فى آخر المجلد الثالث فى المخطوطة الأم ، والمحفوظة بمكتبة السيد الفريق حسن التهامي مايلى :
كمل الجزء الثالث بحول اللّه وقوته ، ووافق الفراغ من تبييضه يوم الأربعاء ، تاسع رمضان ، عام تسعة عشر ومائتين وألف ، والحمد للّه رب العالمين. انتهى استخراجه من مبيضته بحمد اللّه وتوفيقه عشية الأربعاء ، السادس عشر من رمضان المعظم ، موافقا لتاريخ التبييض من هاك العام ، وعلى نبينا محمد أزكى الصلاة والسّلام.(5/191)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 192(5/192)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 193
سورة الشّورى «1»
مكية. وهى خمس وثلاثون آية ، ومناسبتها لما قبلها قوله : سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ إلى قوله :
حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ «2» أي : إن القرآن حق ، أي : وحي من اللّه ، مع قوله : كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ ، فهى كالتتمة لما قبلها. قال تعالى :
[سورة الشورى (42) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
حم (1) عسق (2) كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (4)
تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (5)
يقول الحق جل جلاله : حم. عسق يشير - واللّه أعلم - بكلّ حرف إلى وصف يدلّ على تعظيم قدر حبيبه صلّى اللّه عليه وسلم ، فالحاء : أحببناك ، أو : حبيناك ، أي : أعطيناك الملك والملكوت ، والميم : ملكناك ، والعين : علّمناك ما لم تكن تعلم ، أو : عيّناك للرسالة ، والسين : سيّدناك ، والقاف : قرّبناك. كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ أي : كما خصصناك بهذه الخصائص العظام أوحينا إليك وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ ، فقد خصصناهم ببعض ذلك ، وأوحينا إليهم ، وفى ابن عطية : عن ابن عباس : أن هذه الحروف بأعيانها نزلت فى كلّ كتب اللّه ، المنزلة على كلّ نبىّ أنزل عليه كتاب ، ولذلك قال تعالى : كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ «3». وقال القشيري : الحاء : مفتاح اسمه حكيم وحفيظ ، والميم : مفتاح اسمه مالك وماجد ومؤمن ومهيمن ، والعين : مفتاح اسمه عليم وعلىّ ، والسين : مفتاح اسمه سيد وسميع وسريع الحساب ، والقاف : مفتاح اسمه قادر وقاهر وقريب وقدوس ، أقسم اللّه تعالى بهذه الحروف أنه كذلك يوحى إليك يا محمد. ه.
___________
(1) أول المجلد الرّابع فى النّسخة الأم.
(2) من الآية 53 من سورة فصلت.
(3) ذكره ابن عطية (5/ 25) وعزاه للثعلبى ، وانظر : تفسير البغوي (7/ 184).(5/193)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 194
وقال ابن عطية : وإنما فصلت «حم عسق» ، ولم يفعل ذلك ب «كهيعص» لتجرى هذه مجرى الحواميم أخواتها.
ه. زاد النّسفى : وأيضا : هذه آيتان ، و«كهيعص» آية واحدة. ه. فانظره.
اللَّهُ أي : يوحى اللّه الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ : فاعل «يوحى» ، وقرأ ابن كثير بالبناء للمفعول «1». و«اللّه» : فاعل بمحذوف ، كأن قائلا قال : من الموحى؟ فقال : اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ أي : الغالب بقهره ، الحكيم فى صنعه وتدبيره.
لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ملكا وملكا ، وَهُوَ الْعَلِيُّ شأنه الْعَظِيمُ سلطانه وبرهانه.
ثم بيّن عظمته ، فقال : تَكادُ «2» السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ تتشققن من عظمة اللّه تعالى وعلو شأنه ، يدلّ عليه مجيئه بعد قوله : وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ. وقيل : من دعائهم له ولدا ، كقوله : تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ «3» إلخ ، ويؤيده : مجىء قوله : وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ «4». وقرأ البصرىّ وشعبة :
«ينفطرن» ، والأول أبلغ. ومعنى : مِنْ فَوْقِهِنَّ أي : يبتدين بالانفطار من جهتهنّ الفوقانية. وتخصيصها على التفسير الأول لأن أعظم الآيات وأدلها على العظمة والجلال من تلك الجهة ، وأيضا : استقرار الملائكة إنما هو من فوق ، فكادت تنشق من كثرة الثقل ، كما فى الحديث : «أطّت السماء ، وحقّ لها أن تئطّ ، ما فيها موضع قدم إلا وفيها ملك راكع أو ساجد» «5».
وعلى الثاني للدلالة على التفطر من تحتهن بالطريق الأولى لأن تلك الكلمة الشنعاء ، الواقعة فى الأرض حين أثرت فى جهة الفوق فلأن تؤثر فى جهة التحت أولى. وقيل : «من فوقهن» : من فوق الأرض ، فالكناية راجعة إلى الأرض ، من قوله : لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لأنه بمعنى الأرضين.
وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ خضوعا لما يرون من عظمته ، وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أي :
للمؤمنين منهم ، خوفا عليهم من سطواته ، ويوحدون اللّه وينزهونه عما لا يليق به من الصفات ، حامدين له على ما أولاهم من ألطافه ، متعجبين لما رأوا من تعرض الكفرة لسخط اللّه تعالى ، ويستغفرون لمؤمنى أهل الأرض ،
___________
(1) قرأ ابن كثير - وحده : «يوحى» بفتح الحاء. والنّائب إما «إليك» وإما ضمير يعود إلى «ذلك» أي : مثل ذلك الإيحاء يوحى إليك.
انظر الإتحاف (2/ 448).
(2) أثبت المفسر - رحمه اللّه - قراءة «يكاد» بالياء ، وهى قراءة نافع والكسائي ، وقرأ الباقون «تكاد» بتاء التأنيث. انظر : الإتحاف 2/ 448.
(3) من الآية 90 من سورة مريم. [.....]
(4) من الآية 6 من السورة نفسها.
(5) أخرجه بنحوه أحمد فى المسند (5/ 173) والترمذي فى (الزهد ، باب فى قول النّبى صلّى اللّه عليه وسلم : «لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ، 4/ 481 ، ح 2312) وابن ماجة فى (الزهد ، باب الحزن والبكاء 2/ 1402 ح 4190) ، وصحّحه الحاكم (2/ 510) وأقره الذهبي ، من حديث أبى ذر ، رضي اللّه عنه. وقوله (أطت) : الأطيط : صوت الأقتاب ، وأطيط الإبل : أصواتها وحنينها ، أي : إن كثرة ما فيها من الملائكة قد أثقلها حتى أطت ، وهذا مثل وإيذان بكثرة الملائكة ، وإن لم يكن ثمّ أطيط ، وإنما هو كلام تقريب ، أريد به تقرير عظمة اللّه تعالى.
انظر النّهاية (أطط ، 1/ 54).(5/194)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 195
الذين تبرءوا من تلك الكلمات ، أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ حيث لا يعاجلهم بالعقوبة على ما وصفوه به مما لا يجوز عليه.
الإشارة : حم عسق ، الحاء تشير إلى حمده لأوليائه ، وتنويهه بقدرهم ، والميم إلى تمليكهم التصرف فى حس الملك ، وأسرار الملكوت ، والعين إلى علو رتبتهم ، أو إلى علومهم اللدنية ، والسين إلى سيادتهم وسنا نورهم وسرهم ، والقاف إلى قربهم وتقريبهم حتى يمتحق وجودهم فى وجود محبوبهم ، فيمتحى القرب من شدة القرب ، وبذلك صاروا مقربين. والوحى ينقسم إلى أربعة أقسام وحى أحكام ، ووحي منام ، ووحي إلهام ، ووحي إعلام ، فاختصت الأنبياء بالأول ، وشاركتهم الأولياء فى الثلاثة. ووحي إعلام هو اطلاعهم على بعض المغيبات.
وقوله تعالى : تَكادُ «1» السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ أي : يتشققن من هيبته تعالى وكبريائه. وذلك لما لطف حسها أدركت هيبة معانى أسرار الذات ، وكذلك الأرواح إذا لطفت ورقّ حس بشريتها أدركت عظمة الحق وجلاله وجماله ، وإذا كثفت بشريتها ، بمباشرة الحس واتباع الهوى ، غلظ حجابها ، فبعدت عن حضرة الحق فى حال قربها.
وقوله تعالى : وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ ، انظر جلالة قدر هذا الآدمي ، حتى سخّر اللّه له الملائكة الكرام يستغفرون له ، ويسعون فى مصالحه ، فاستحى من اللّه أيها العبد ، إن كان لك عقل وتمييز.
ثم ردّ على أهل الشرك ، فقال :
[سورة الشورى (42) : الآيات 6 الى 9]
وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (6) وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (7) وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (8) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (9)
قلت : وَكَذلِكَ : الكاف فى محل النّصب على المصدر ، وقُرْآناً : مفعول «أوحينا».
___________
(1) راجع الهامش رقم 2 فى الصفحة السابقة.(5/195)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 196
يقول الحق جل جلاله : وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ شركاء ، يوالونهم بالعبادة والمحبة اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ : رقيب على أحوالهم وأعمالهم ، فيجازيهم بها ، وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ بموكّل عليهم ، تجبرهم على الإيمان ، ثم نسخ بالجهاد. أو : ما أنت بموكول إليك أمرهم ، وإنما وظيفتك الإنذار بما أوحينا إليك.
وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا أي : ومثل ذلك الإيحاء البديع الواضح أوحينا إليك قرآنا عربيا ، لا لبس فيه عليك ولا على قومك ، لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى أي : أهلها ، وهى مكة لأن الأرض دحيت من تحتها ، أو : لأنها أشرف البقع ، وَتنذر مَنْ حَوْلَها من العرب أو من سائر البلاد. قال القشيري : وجميع العالم محدق بالكعبة لأنها سرّة الأرض. ه.
وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ يوم القيامة لأنه تجمع فيه الخلائق ، وفيه تجمع الأرواح والأشباح. وحذف المفعول الثاني من «تنذر» الأول للتهويل ، أي : لتنذر النّاس أمرا فظيعا تضيق عنه العبارة ، لا رَيْبَ فِيهِ لا شك فى وقوع ذلك اليوم ، فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ أي : بعد جمعهم فى الموقف يفترقون ، فريق يصرف إلى الجنة ، وفريق إلى السعير بعد الحساب ، والتقدير : فريق منهم فى الجنة. والجملة : حال ، أي : وتنذر يوم الجمع متفرقين.
وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ فى الدنيا أُمَّةً واحِدَةً إما مهتدين كلّهم ، أو ضالين ، وَلكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ أي : ويدخل من يشاء فى عذابه ، يدلّ عليه ما بعده ، ومن ضرورة اختلاف الرّحمة والعذاب :
اختلاف الداخلين فيهما ، فلم يشأ جعل الكلّ أمة واحدة ، بل جعلهم فريقين ، فيسّر كلّا لمن خلق له. وَالظَّالِمُونَ ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ والكافرون ما لهم من شافع ولا دافع.
قال أبو السعود : والذي يقتضيه سياق النّظم أن يراد بقوله : أُمَّةً واحِدَةً الاتحاد فى الكفر ، كما فى قوله تعالى :
كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً ... الآية «1» ، على أحد الوجهين ، بأن يراد بهم الذين هم فى فترة إدريس ، أو فترة نوح. ولو شاء لجعلهم أمة واحدة متفقة على الكفر ، بأن لا يرسل إليهم رسولا لينذرهم ما ذكر من يوم الجمع ، وما فيه من ألوان الأهوال ، فيبقوا على ما هم عليه من الكفر ، ولكن يدخل من يشاء فى رحمته إن شاء ذلك ، فيرسل إلى الكلّ من ينذرهم ، فيتأثر بعضهم بالإنذار فيعرفون الحق فيوفقهم اللّه تعالى للإيمان والطاعة ،
___________
(1) الآية 213 من سورة البقرة.(5/196)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 197
ويدخلهم فى رحمته ، ولا يتأثر به الآخرون ، ويتمادون فى غيهم ، وهم الظالمون ، فيبقون فى الدنيا على ما هم عليه ، ويصيرون فى الآخرة إلى السعير ، من غير ولىّ يلى أمرهم ، ولا نصير يخلصهم من العذاب. ه.
أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ، هذه جملة مقررة لما قبلها ، من انتفاء أن يكون للظالمين ولىّ ولا نصير.
و«أم» : منقطعة ، وما فيها من الإضراب للانتقال من بيان ما قبلها إلى بيان ما بعدها. والهمزة لإنكار الوقوع ونفيه على أبلغ وجه ، أي : ليس المتخذون أولياء ، ولا ينبغى اتخاذ ولىّ سواه. وقوله : فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ : جواب عن شرط مقدر ، كأنه قيل بعد إبطال ما اتخذوه أولياء من الأصنام : إن أرادوا وليا فى الحقيقة فاللّه هو الولىّ ، لا ولىّ سواه. وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتى أي : ومن شأنه إحياء الأموات ، وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فهو الحقيق بأن يتخذ وليا ، فليخصّوه بالاتخاذ ، دون من لا يقدر على شىء. وباللّه التوفيق.
الإشارة : قال القشيري : كل من تبع هواه ، وترك للّه حدا ، أو نقض له عهدا فهو ممن اتخذ الشيطان وليا ، فاللّه يعلمه ، لا يخفى عليه أمره ، وعلى اللّه حسابه ، ثم إن شاء عذّبه ، وإن شاء غفر له. ه. فيقال للواعظ أو الداعي إلى اللّه : لا تأس عليهم إن أدبروا ، اللّه حفيظ عليهم ، وما أنت عليهم بوكيل. وكان الرّسول صلّى اللّه عليه وسلم داعيا إلى اللّه ، ينذر الناس بالقرآن ، فمن تبعه كان من أهل الجنة ، ومن خالفه كان من أهل السعير ، وبقي خلفاؤه من بعده ، العلماء باللّه ، الذين يذكّرون النّاس ، ويدلونهم على اللّه ، فمن صحبهم وتبعهم كان من أهل الجنة جنة المعارف ، أو الزخارف ، أو هما ، ومن انحرف عنهم كان من أهل السعير ، نار القطيعة أو الهاوية.
قال القشيري : كما أنهم اليوم فريقان فريق فى [درجات ] «1» الطاعات وحلاوة العبادات [أو المشاهدات ] «2» ، وفريق فى ظلمات الشّرك وعقوبات الجحد ، فكذلك غدا ، فريق هم أهل اللقاء ، وفريق هم أهل الشقاء. وَلَوْ شاءَ اللَّهُ أي : أراد أن يجمعهم كلهم على الرّشاد لم يكن مانع. ه.
وقوله تعالى : فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ تحويش إلى التوجه إلى اللّه ، ورفض كلّ ما سواه ، كما قال بعضهم : اتخذ اللّه صاحبا ، ودع النّاس جانبا ، ف كل من والى غير اللّه تعالى خذله ، ومن حبه أبعده.
___________
(1) فى القشيري [راحة].
(2) ما بين المعقوفتين من تدخل المفسر فى النّقل عن القشيري.(5/197)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 198
ثم أمر بالرجوع إليه عند الاختلاف ، فقال :
[سورة الشورى (42) : الآيات 10 الى 12]
وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (10) فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11) لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (12)
يقول الحق جل جلاله : وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ، حكاية لقول رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم للمؤمنين ، بدليل قوله : ذلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي أي : ما خالفكم الكفار فيه من أهل الكتاب والمشركين ، من أمور الدين ، واختلفتم أنتم وهم ، فحكم ذلك المختلف [فيه ] «1» راجع إلى اللّه ، ومفوض إليه ، وهو إثابة المحقّين فيه ، ومعاقبة المبطلين. والمختار العموم ، أي : وما اختلفتم فيه أيها النّاس من أمور الدين ، سواء رجع ذلك الاختلاف إلى الأصول أو الفروع ، فحكم ذلك إلى اللّه ، وقد قال فى آية أخرى : فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ «2».
ف كل ما اختلف فيه يردّ إلى كتاب اللّه ، ثم إلى سنة رسول اللّه ، ثم إلى الإجماع ، ثم القياس ، فهذه هى قواعد الشريعة ، وعليها بنيت الأحكام ، فمن خرج عنها فهو مبطل ، ففى كتاب اللّه ، وسنة رسوله صلّى اللّه عليه وسلم من علم الأصول والفروع ما فيه غنية ، فإن لم يوجد نص فالإجماع أو القياس.
وقيل : وما اختلفتم فيه من العلوم ، التي لا تتصل بتكليفكم ، ولا طريق لكم إلى علمه ، فقولوا : اللّه أعلم.
ثم قال : ذلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي أي : ذلكم العظيم الشأن اللّه مالكى ومدبر أمرى ، عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ فى جميع أمورى ، لا على غيره ، وَإِلَيْهِ أُنِيبُ أرجع فى كلّ ما يعرض لى ، لا إلى أحد سواه. وحيث كان التوكّل أمرا واحدا مستمرا ، والإنابة متعددة ، متجددة بحسب تجدد مؤداها ، أوثر فى الأول صيغة الماضي ، والثاني صيغة المضارع.
___________
(1) زيادة ليست فى الأصول.
(2) من الآية 59 من سورة النّساء.(5/198)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 199
فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ خالقهما ومظهرهما ، وهو خبر ثان لذلكم ، أو عن مضمر ، جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ من جنسكم أَزْواجاً نساء وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً أي : وجعل للأنعام من جنسها أزواجا ، أو :
خلق لكم من الأنعام أصنافا ذكورا وإناثا ، يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ أي : يكثّركم فيما ذكر من التدبير البديع ، من : الذرء ، وهو البث ، فجعل النّاس والأنعام أزواجا ، حتى كان بين ذكورهم وإناثهم التوالد والتناسل ، واختير لفظ «فيه» على «به» لأنه جعل هذا التدبير كالمنبع والمعدن للبث والتكثير. والضمير فى «يذرؤكم» يرجع إلى المخاطبين والأنعام ، مغلبا فيه المخاطبون العقلاء على غيرهم.
وقال الهروي : يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ أي : يكّثركم بالتزويج ، كأنه قال : يذرؤكم به. ه. وقال ابن عطية : لفظة «ذرأ» تزيد على لفظة «خلق» معنى آخر ، ليس فى خلق ، وهو توالى طبقاته على مرّ الزمان ، وقوله : «فيه» الضمير عائد على الجعل. وقال القتبى : الضمير للتزويج. ه.
لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ أي : ليس مثله شىء [فى شأن ] «1» من الشئون ، التي من جملتها هذا التدبير البديع. قيل :
إن كلمة التشبيه كررت لتأكيد نفى التماثل لأن زيادة الحرف بمنزلة إعادة الجملة. قال ابن عطية : الكاف مؤكدة للتشبيه ، فنفى التشبيه أوكد ما يكون ، وذلك أنك تقول : زيد كعمرو ، وزيد مثل عمر ، فإذا أردت المبالغة التامة قلت :
زيد كمثل عمرو ، وجرت الآية فى هذا الموضع على عرف كلام العرب ، وعل هذا المعنى شواهد كثيرة. ه.
قال النّسفى : وقيل : المثل زائد ، والتقدير : ليس كهو شىء ، كقوله تعالى : فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ «2» ، وهذا لأن المراد نفى المثليّة ، وإذا لم نجعل الكاف أو المثل زيادة كان إثبات المثل. ه. والجواب ما تقدم لابن عطية.
وقيل : الآية جرت على طريق الكناية ، كقولهم : مثلك لا يبخل ، وغيرك لا يجود ، أي : أنت لا تبخل لأنه إذا نفى البخل عمن هو مثله كان نفيه عنه أولى.
ثم قال تعالى : وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ سميع لجميع المسموعات بلا آذان ، بصير بجميع المبصرات بلا أجفان. وذكرهما لئلا يتوهم أنه لا صفة له ، كما لا مثل له ، وقدّم تنزيهه عن المماثلة على وصفه بالسمع والبصر ليعلمنا أن سمعه وبصره ليس كسمعنا وبصرنا.
___________
(1) ما بين المعقوفتين ليس فى الأصول الخطية ، وأثبته من تفسير أبى السعود - رحمه اللّه.
(2) الآية 137 من سورة البقرة.(5/199)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 200
لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مفاتيح خزائنها ، يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ أي : يوسعه وَيَقْدِرُ أي :
يضيق على ما تقتضيه المناسبة المبنية على الحكم البالغة. إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ لا يخفى عليه شىء ، فيفعل كل ما يفعل على ما ينبغى أن يفعل ، على ما تقتضيه مشيئته وحكمته البالغة.
قال ابن عرفة : تضمنت هذه الآية وصفه تعالى بجميع صفات الكمال ، فالقدرة فى قوله : فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ والوحدانية فى قوله : لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ والإرادة فى قوله : يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ لأن تخصيص البعض بالبسط إنما هو بالإرادة. والعلم فى قوله : إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ، والكلام فى قوله : شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ لأن المراد به الحكم الشرعي ، وهو خطاب اللّه تعالى المعلق بأفعال المكلفين ، وخطابه كلامه. ه. زاد فى الحاشية الفاسية :
يعنى وكلّ وصف من هذه الأوصاف يستلزم الحياة ، مع أنه قال : يُحْيِ الْمَوْتى والإحياء إنما يكون من الحي. ه.
الإشارة : قوله تعالى : وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ قال القشيري : ويقال إذا لم تهتدوا إلى شىء وتعرضت منهم الخواطر فدعوا تدبيركم والتجئوا إلى ظلّ شهود تقديره ، [وانتظروا] «1» ما الذي ينبغى لكم أن تفعلوا بحكم تيسيره. ويقال : إذا اشتغلت قلوبكم بحديث أنفسكم ، فلا تدرون أبالسعادة جرى حكمكم ، أو بالشقاوة جرى اسمكم ، فكلوا الأمر فيه إلى اللّه ، واشتغلوا فى الوقت بأمر اللّه ، دون التفكّر فيما ليس له سبيل إلى علمه من عواقبكم. ه.
وقوله : فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي : شققهما من أسرار الغيب ، ومتجلّ بهما وسائر الكائنات. جعل لكم فى عالم الحكمة من أنفسكم أزواجا ليقع التناسل ، بعضكم من بعض ، ومن الأنعام أزواجا ليقع التناسل فيها وأما بحر الجبروت فليس كمثله شىء. وقال بعض العارفين : ليت شعرى هل معه شىء حتى يشبهه أو لا يشبهه ، كان اللّه ولا شىء معه ، وهو الآن على ما عليه كان. فقوله تعالى : لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ أي : ليس معه شىء حتى يشبهه.
وقال الورتجبي عن الواسطي : [أمور] «2» التوحيد كلها خرجت من هذه الآية لأنه ما عبر عن الحقيقة بشىء إلا والعلة مصحوبة ، والعبارة منقوضة لأن الحق لا ينعت على أقداره لأن كلّ ناعت مشرف على المنعوت ، وجلّ أن يشرف عليه مخلوق. وقال الشبلي : كل ما ميزتموه بأوهامكم ، وأدركتموه بعقولكم فى أتم معانيكم ، فهو مصروف إليكم ، ومردود عليكم ، محدث مصنوع مثلكم لأن حقيقته عالية عن أن تلحقها عبارة ، أو يدركها وهم ،
___________
(1) ما بين المعقوفتين أثبته من القشيري.
(2) فى عرائس البيان : (رموز).(5/200)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 201
أو يحيط بها علم ، كلا ، كيف يحيط به علم ، وقد اتفق فيه الأضداد ، بقوله : هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ «1»؟ ، أىّ عبارة تخبر عن حقيقة هذه الألفاظ؟ كلّا ، قصرت عنه العبارة ، وخرست الألسن لقوله :
لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ ءٌ. ه.
ولما عرّف بذاته وصفاته ، ذكر شرائعه لعباده ، فقال :
[سورة الشورى (42) : الآيات 13 الى 14]
شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13) وَما تَفَرَّقُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (14)
يقول الحق جل جلاله : شَرَعَ أي : بيّن وأظهر لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً ومن بعده من أرباب الشرائع ، وأولى العزم من مشاهير الأنبياء - عليهم السّلام - وأمرهم به أمرا مؤكدا. وفى بيان نسبته إلى المذكورين تنبيه على كونه دينا قديما ، أجمع عليه الرّسل ، على أن تخصيصهم بالذكر لما ذكر من علو شأنهم ، ولاستمالة قلوب الكفرة إليه لاتفاق الكلّ على نبوة جلهم. قيل : خص نوحا وإبراهيم بالوصية ، ونبينا محمدا صلّى اللّه عليه وسلم بالوحى لأن متعلق الوصية غير الموصى ، بل الموصى [إليه ] «2» به ، ومتعلق الوحى : الموحى إليه بذاته ، ولمّا كان - صلّى اللّه عليه وسلم - آخر الأنبياء جعل الملقى إليه وحيا ، ولمّا كان ما قبله من الأنبياء متبعين له ، ومنذرين بشريعته ، أنه سيظهر آخر الزمان نبى اسمه «محمد» ، كان ذلك وصية منهم لقومهم على الإيمان به. انظر ابن عرفة.
___________
(1) من الآية 3 من سورة الحديد.
(2) ما بين المعقوفتين غير موجود فى النّسخة الأم. [.....](5/201)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 202
قلت : والظاهر أنه تفنن «1» ، وفرار من تكرار لفظ الوحى إذ الموحى به هو قوله : أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وهو الذي أوحى إلى نبينا - عليه الصلاة والسّلام. وقال أبو السعود : والتعبير عن ذلك عند نسبته صلّى اللّه عليه وسلم ب «الذي» لتفخيم شأنه من تلك الحيثية ، وإيثار الإيحاء على ما قبله وما بعده من التوصية لمراعاة ما وقع [فى ] «2» الآيات المذكورة - يعنى فى صدر السورة ، من قوله : كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ ... وفى آخرها من قوله : وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ، ولما فى الإيحاء من التصريح برسالته - صلّى اللّه عليه وسلم - القامع لإنكار الكفرة. والالتفات إلى نون العظمة إظهارا لكمال الاعتناء بإيحائه ، وهو السر فى تقديمه [على ما قبله ] «3» مع تقدمه عليه زمانا. وتقديم وصية نوح - عليه السّلام - للمسارعة إلى بيان كون المشروع لهم دينا قديما - أي : فلا ينبغى إنكاره - وتوجيه الخطاب إليه - عليه الصلاة والسّلام - بطريق التلوين للتشريف ، والتنبيه على أنه تعالى شرع لهم على لسانه عليه الصلاة والسّلام. ه.
ثم فسّر ما وصاهم به فقال : أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ أي : دين الإسلام ، الذي هو توحيد اللّه تعالى ، وطاعته ، والإيمان بكتبه ورسله ، وبيوم الجزاء ، وسائر أركان الإيمان. والمراد بإقامته : تعديل أركانه ، وحفظه من أن يقع فيه زيغ ، والمواظبة عليه ، والتشمير فى القيام به. وموضع «أن أقيموا» إما : نصب ، بدل من مفعول «شرع» ، أو : رفع ، خبر جواب عن سؤال مقدر ، كأن قائلا قال : وما ذاك؟ فقال : هو إقامة الدين. وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ولا تختلفوا فى الدين ، فالجماعة رحمة ، والفرقة عذاب ، والمراد : الاختلاف فى الأصول ، دون الفروع المختلفة حسب اختلاف الأمم باختلاف الأعصار ، كما ينطق به قوله تعالى : لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً «4».
كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ أي : عظم وشقّ عليهم ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ من التوحيد ، ورفض عبادة الأصنام ، الذي هو إقامة الدين ، اللَّهُ يَجْتَبِي أي : يجلب ويجمع إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ بالتوفيق والتسديد ، وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ يقبل على طاعته. فالاجتباء يرجع إلى تصديق القلب ، والإنابة إلى توفيق الطاعة فى الظاهر.
___________
(1) كتب على هامش النّسخة الأم مايلى : لا يا أستاذ ما هو بتفنن ، بل هو مقصود لحكمة ، ولو كان للتفنن لما كرر الوصية مرتين ، وخص لفظ الوحى بسيد البشر صلّى اللّه عليه وسلم ، ولا بدل «وصينا» الثانية بلفظ الأمر ، كأمرنا وأوجبنا وفرضنا ونحو ذلك. فالحق أنه عبّر فى حق الأنبياء بالوصية دون الوحى للإشارة إلى أنهم مجرد نواب عنه صلّى اللّه عليه وسلم. ه.
(2) فى الأصول [من ].
(3) فى تفسير أبى السعود [على ما بعده ].
(4) فى الآية 48 من سورة المائدة.(5/202)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 203
وَما تَفَرَّقُوا أي : أهل الكتاب من بعد أنبيائهم إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ إلا بعد أن علموا أن الفرقة ضلال ، وأمر متوعّد عليه على ألسنة الرّسل ، بَغْياً بَيْنَهُمْ حسدا ، وطلبا للرئاسة ، والاستطالة بغير حق ، أو : ما تفرقوا فى الدين الذي دعوا إليه ، وهو الإسلام ، ولم يؤمنوا كما آمن بعضهم إلا من بعد ما جاءهم العلم بحقيقته لما يشهدونه فى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم والقرآن من دلائل الحقيّة ، حسبما وجدوه فى كتتبهم ، أو : العلم بمبعثه صلّى اللّه عليه وسلم.
وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ ، وهى العدة بتأخير العقوبة إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى هو يوم القيامة لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ أي : لوقع القضاء بينهم ، وأهلكوا حين افترقوا لعظم ما اقترفوا. وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ وهم المشركون لَفِي شَكٍّ مِنْهُ أي : القرآن مُرِيبٍ موقع فى الرّيبة. وهو بيان لكيفية كفر المشركين ، بعد بيان كيفية كفر أهل الكتاب ، أي : وإن المشركين الذين أوتوا القرآن من بعدهم ، أي : من بعد ما أورث أهل الكتاب كتابهم ، لفى شك من القرآن مريب. والظاهر : أن التفرق المذكور هنا إنما هو فى شأن الرّسول صلّى اللّه عليه وسلم لأن سياق النّظم إنما هو لبيان أحوال هذه الأمة ، وإنما ذكر من ذكر من الأنبياء - عليهم السّلام - لتحقيق أن ما شرع لهؤلاء دين قديم ، أجمع عليه أولئك الأعلام - عليهم الصلاة والسّلام - تأكيدا لوجوب إقامته ، وتشديدا للزجر عن التفرق والاختلاف. فالتعرض لبيان تفرق أممهم عنه ربما يوهم الإخلال بذلك المرام. قاله أبو السعود.
الإشارة : الذي شرع اللّه من الدين لأقوياء عباده ، ووصى به خواص أنبيائه : أن يشاهدوه وحده فى الباطن ، ويقوموا برسم العبودية فى الظاهر ، وهذا هو إقامة الدين ، الذي يجب الاتفاق عليه ، لكن لا ينال هذا إلا بعد موت النفوس ، وحط الرّؤوس ، وبذل الفلوس. ولذلك كبر على أهل الفرق ، قال تعالى : كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ ، فإذا وفق العبد لفعل ما تقدم ، وسلك طريقه اجتباه ربه لحضرته ، بعد أن هداه لسلوك طريقته. قال تعالى :
اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ ، وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ فالاجتباء جذب ، والإنابة سلوك ، الاجتباء للحقيقة ، والإنابة للشريعة والطريقة. وقدّم الاجتباء على الاهتداء اهتماما بأمره لأن الجذب عناية يختص به أهل الولاية ، والإنابة هداية ينالها كلّ من تمسك بالشريعة. وحقيقة الجذب : شهود الخلق بلا خلق ، وحقيقة السلوك المحض : شهود الخلق بلا حق ، وحقيقة الجذب فى السلوك : شهود الحق فى قوالب الخلق ، أو : شهود الخلق فى مظهر الحق.
فالناس ثلاثة : مجذوبون فقط ، سالكون فقط ، مجذبون سالكون ، فالأولان لا يصلحان للتربية ، والثالث هو الذي يصلح للتربية ، وهو الذي يتقدمه السلوك ، ثم يختطف إلى الحضرة فى مقام الفناء ، ثم يرجع إلى السلوك فى مقام البقاء. وما وقع من التفرق والاختلاف فى جانب النّبوة ، يقع فى جانب الولاية ، سنّه ماضية ، فيجب على الداعي إلى اللّه أن يجهد نفسه فى الدعاء إليه ، ولا يبالى باختلافهم ، كما قال تعالى : (5/203)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 204
[سورة الشورى (42) : الآيات 15 الى 16]
فَلِذلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (15) وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ (16)
يقول الحق جل جلاله : فَلِذلِكَ فَادْعُ
أي : فلأجل ذلك التفرّق ، ولما حدث بسببه من تشعّب الكفر شعبا ، فادع إلى الاتفاق والائتلاف على الملة الحنيفيّة القيمة ، وَاسْتَقِمْ عليها ، وعلى الدعوة إليها كَما أُمِرْتَ كما أمرك اللّه. أو : لأجل ما شرع لكم من الدين القويم القديم ، الحقيق بأن يتنافس فيه المتنافسون ، فادع الناس كافة إلى إقامته ، والعمل بموجبه فإن كلا من تفرقهم وشكّهم ، سبب للدعوة إليه والأمر بها ، أو : فإلى ذلك الدين المشروع فادع ، واستقم عليه ، وعلى الدعوة إليه ، كما أمرت وأوحى إليك.
وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ الباطلة ، وعقائدهم الزائغة ، وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتابٍ أىّ كتاب كان من الكتب المنزلة ، لا كالذين آمنوا ببعض وكفروا ببعض ، وهم أهل الكتاب ، أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا «1» ، وفيه تحقيق للحق ، وبيان لاتفاق الكتب فى الأصول ، وتأليف لقلوب أهل الكتابين ، وتعريض بهم. وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ فى الحكم إذا تخاصمتم فتحاكمتم إلىّ ، أو : في تبليغ الشرائع والأحكام ، لا أخص بعضا دون بعض ، أو :
لأسوى بينى وبينكم ، ولا آمركم بما لا أعمل به ، ولا أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه. أو : لا أفرق بين أكابركم وأصاغركم. واللام : إما على حقيقتها ، أي : أمرت بذلك لأعدل ، أو : زائدة ، أي : أمرت أن أعدل بينكم.
اللَّهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ خالقنا جميعا ، ومتولى أمورنا ، كلنا عبيده ، لَنا أَعْمالُنا لا يتخطانا ثوابها أو عقابها ، وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ لا يجاوزكم وبالها إلى غيركم ، أو : لنا ديننا التوحيد ، ولكم دينكم الشرك. لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ أي : لا خصومة لأن الحق قد وضح ، ولم يبق للمحاجّاة حاجة ، ولا للفصاحة محل ، سوى المكابرة.
___________
(1) من الآية 151 من سورة النّساء.(5/204)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 205
اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا يوم القيامة وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ المرجع ، فيظهر هناك حالنا وحالكم. وهذه محاججة ، لا متاركة ، فلا نسخ فيها.
وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ يخاصمون فى دينه مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ من بعد ما استجاب له الناس ، ودخلوا فيه ، ليردّوهم إلى دين الجاهلية ، كقوله : وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً ... «1» ، والتعبير عن ذلك بالاستجابة باعتبار دعوتهم إليه ، أو : من بعد ما استجاب اللّه لرسوله صلّى اللّه عليه وسلم وأيده بنصره ، كيوم بدر ، أو : من بعد ما استجاب له أهل الكتاب ، بأن أقروا بنعوته صلّى اللّه عليه وسلم ، واستفتحوا به قبل مبعثه. وذلك أن اليهود والنّصارى كانوا يقولون للمؤمنين : كتابنا قبل كتابكم ، ونبينا قبل نبيكم ، فنحن خير منكم ، فنزلت :
وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ ... الآية. «2» حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ باطلة ، عِنْدَ رَبِّهِمْ ، وإذا كانت داحضة من حيث كونه ربّا رءوفا فأحرى من حيث كونه قاهرا منتقما. وسمّاها حجة ، وإن كانت شبهة لزعمهم أنها حجة.
وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ عظيم ، لمكابرتهم الحق بعد ظهوره وَلَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ لا يقادر قدره.
الإشارة : إذا استولت الغفلة على النّاس ، وتفرقت القلوب ، يجب على أهل البصيرة النّافذة أن يتحركوا لوعظ الناس وتذكيرهم ، ولا يلتفتون إلى أهوائهم ، وما هو مشغوفون به من حظوظهم. قال تعالى : فَلِذلِكَ فَادْعُ ، وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ ، وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ فتدعون النّاس إلى التوحيد ، وإقامة الشرائع ، بامتثال الأوامر ، واجتناب المناكر ، ثم يدسونهم إلى حضرة الحق ، إن رأوا منهم من هو أهله ، فمن فعل هذا كان قدره عند اللّه عظيما ، وجاهه كبيرا. وفى الحديث عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم أنه قال : «والذي نفس محمد بيده إن شئتم لأقسمنّ لكم : إنّ أحب عباد اللّه إلى اللّه الذين يحببون اللّه إلى عباده ، ويحببون عباد اللّه إلى اللّه ، ويمشون فى الأرض بالنصيحة».
ومن وظيفته أن يقول : آمنت بما أنزل اللّه من كتاب ، وما بعث من نبى وولىّ ، وأمرت لأعدل بينكم فى الوعظ ، والنّصيحة ، وإمداد المدد ، لكن يأخذ كلّ واحد على قدر صدقه وتعظيمه ، ثم يقول : (اللّه ربنا وربكم) ، يخص برحمته من يشاء ، لنا أعمالنا : ما يليق بنا من عبادة القلوب ، ولكم أعمالكم : ما تطيقونه من عبادة الجوارح ، لا خصومة بيننا وبينكم لأن قلوبنا سالمة لكم. اللّه يجمع بيننا وبينكم فى الدنيا بجمع متصل ، وإليه مصير الكل بالموت والفناء. والذين يحاجون فى اللّه ، أي : يخاصمون فى طريق اللّه ، ويقولون : انقطعت التربية ، حجتهم داحضة ، وعليهم غضب البعد ، ولهم عذاب الكدّ والتعب.
___________
(1) الآية 109 من سورة البقرة.
(2) انظر : تفسير البغوي (7/ 188).(5/205)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 206
ثم حضّ على التمسك بكتابه لأنه جامع لما أنزل اللّه من كتاب ، فقال
[سورة الشورى (42) : الآيات 17 الى 19]
اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزانَ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (17) يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (18) اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (19)
يقول الحق جل جلاله : اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ القرآن ، أو : جنس الكتاب ، بِالْحَقِّ ملتبسا بالحق فى أحكامه وأخباره ، أو : بما يحق إنزاله من العقائد والأحكام ، وَالْمِيزانَ وأنزل العدل والتسوية بين الناس ، أي : أنزله فى كتبه المنزلة ، وأمر به ، أو : الشرع الذي يوزن به الحقوق ، ويساوى بين النّاس. وقيل : هو عين الميزان ، أي : الآلة ، أنزله فى زمن نوح عليه السّلام. وَما يُدْرِيكَ أىّ شىء يجعلك عالما لَعَلَّ السَّاعَةَ التي أخبر بها الكتاب النّاطق بالحق قَرِيبٌ مجيئها. وضمّن الساعة معنى البعث فذكر الخبر ، وقيل : وجه المناسبة فى ذكر الساعة مع إنزال الكتاب : أن الساعة يقع فيها الحساب ووضع الموازين بالقسط ، فكأنه قيل : أمركم اللّه بالعدل والتسوية ، والعمل بالشرائع ، فاعملوا بالكتاب والعدل قبل أن يفاجئكم يوم حسابكم ، ووزن أعمالكم.
يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها استعجال إنكار واستهزاء ، وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ خائفون مِنْها وجلون لهولها ، وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ الكائن لا محالة ، أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ يجادلون فيها ، من : المرية ، أو : المماراة والملاحاة ، أو : من : مريت النّاقة : إذا مسحت ضرعها بشدة للحلب لأن كلّا من المتجادلين يخرج ما عند صاحبه بكلام فيه شدة. لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ عن الحق لأن قيام الساعة أظهر من كلّ ظاهر ، وقد تواترت الشرائع على وقوعها ، والعقول تشهد أنه لا بد من دار الجزاء ، وإلا كان وجود هذا العالم عبثا.
اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ أي : برّبهم فى إيصال المنافع ودفع المضار ، أوصل لهم من فنون الألطاف ما لا تكاد تناله أيدى الأفكار والظنون. وقيل : هو من لطف بالغوامض علمه ، وعظم عن الجرائم حلمه ، أو : من ينشر المناقب(5/206)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 207
ويستر المثالب «1» ، أو : يعفو عمّن يهفو ، أو : من يعطى العبد فوق الكفاية ، ويكلّفه من الطاعة دون الطاقة. وقال شيخ شيوخنا ، سيدى عبد الرّحمن الفاسى رضي اللّه عنه : الظاهر حمل العباد على من اصطفاه ، بدليل الإضافة المفيدة للتشريف ، وأنه تعالى لطيف بهم رفيق ، ومن ذلك : حمايتهم من الدنيا ، ومما يطغى من الرّزق ، وعليه ينزل قوله : يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ. ه. أي : يرزق على حسب مشيئته ، المبنية على الحكم البالغة. وفى الحديث : «إن من عبادى من لا يصلح إيمانه إلا الغنى ، ولو أفقرته لأفسده ذلك ، وإنّ من عبادى المؤمنين من لا يصلح إيمانه إلا الفقر ، ولو أغنيته لأفسده ذلك» «2».
وأما قوله تعالى : وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها «3» فهو وعد لجميع الخلق ، وهو مبنى على المشيئة المذكورة هنا ، فلا منافاة بينهما ، خلافا لابن جزى «4» لأن المشيئة قاضية على ظاهر الوعد ، ولا يقضى ظاهر الوعد عليها «5». انظر الحاشية.
وَهُوَ الْقَوِيُّ الباهر القدرة ، الغالب على كلّ شىء ، الْعَزِيزُ المنيع الذي لا يغلب.
الإشارة : الميزان هو العقل إذ به تعرف الأشياء ومقاديرها ، نافعها وضارها. فالعقول متفاوتة كالموازين ، فبعض الموازين لرقته لا يوزن فيها إلا الشيء الرّفيع ، كالذهب ، والإكسير ، والفضة ، والطيب الرّفيع ، وبعضها يصلح لوزن الأشياء اللطيفة ، دون الخشينة ، كميزان العطار وشبهه ، وبعضها يصلح للأشياء الخشينة المتوسطة ، كميزان الغزالين والحاكة ، وبعضها لا يصلح إلا للخشين ، كالفحم وشبه ، وبعضها لا يصلح إلا للخشين الكثير ، كالذى يوزن به القناطير من الشيء الخشين ، فالأول عقول العارفين ، لا يوزن فيها إلا أنوار التوحيد وأسرار التفريد ، لا يصلح لغيرها ، والثاني للعباد ، والزهاد ، والعلماء الصالحين ، والثالث للمتجمدين من العلماء ، والرّابع لعامة المؤمنين ، والخامس للفجار والكفار ، وفيهم نزل : يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها ... الآية ، وما قبله هو قوله :
وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها.
___________
(1) فى الأصول [المثاقب ] والمثبت من تفسير النّسفى - رحمه اللّه تعالى - .
(2) أخرجه الديلمي (الفردوس 5/ 250 ح 8100) والبيهقي فى الأسماء والصفات (ص 121) ، وأخرجه مطولا البغوي فى التفسير (7/ 194 - 195). وعزاه السيوطي فى الدر (5/ 704 - 705) لابن أبى الدنيا فى كتاب الأولياء ، والحكيم الترمذي فى نوادر الأصول ، وابن مردويه ، وأبى نعيم فى الحلية (8/ 318) ، وابن عساكر فى تاريخه ، عن أنس بن مالك ، رضي اللّه عنه. وانظر كشف الخفاء (1737).
(3) من الآية 6 من سورة هود.
(4) قال ابن جزى - رحمه اللّه تعالى : يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ يعنى الرّزق الزائد على المضمون لكلّ حيوان فى قوله : وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها أي : ما تقوم به الحياة ، فإن هذا على العموم لكلّ حيوان طول عمره ، ولزائد خاص بمن شاء اللّه.
(5) وجدت على هامش النّسخة الأساسية مايلى : «الحق ما قاله ابن جزى ، وأن المشيئة متعلقة بالتوسعة المسماة فى العرف رزقا أيضا ، لا بأصل الرّزق ، ويدل على ذلك قوله تعالى عقب هذا مباشرة : مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ ... الآية ، ولا مجملة فهى بمعنى قوله تعالى : اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ ... ... فهذا قوله تعالى : وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ فالجمع لا بد منه ، والمشيئة متعلقة بوقت الجمع. انتهى.(5/207)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 208
وقوله تعالى : اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ ، اعلم أن لطفه سبحانه بعباده لا ينحصر ولا ينفك عنه مخلوق ، من ظن انفكاك لطف اللّه عن قدره فذلك لقصور نظره ، فمن لطفه سبحانه بخلقه : أنه أعطاهم فوق الكفاية ، وكلّفهم دون الطاقة. ومن لطفه سبحانه : تسهيله الأرزاق ، وتيسير الارتفاق ، فلو تفكر الإنسان فى اللقمة التي توضع بين يديه ، ما ذا عمل فيها من العوالم العلوية والسفلية لتحقق بغاية عجزه ، وتيقن بوجود لطفه ، وكذا ما يحتاج إليه من مشروب ، وملبوس ، ومطعوم. ومن لطفه سبحانه : توفيق الطاعات ، وتسهيل العبادات ، وتيسير الموافقات. ومن لطفه سبحانه : حفظ التوحيد فى القلوب ، واطلاعها على مكاشفة الغيوب ، وصيانة العقائد عن الارتياب ، وسلامة القلوب عن الاضطراب. ومن لطفه سبحانه : إبهام العاقبة لئلا يتكلوا أو ييأسوا. ومن لطفه سبحانه بالعبد : إخفاء أجله عليه لئلا يستوحش إن كان قد دنا أجله. ومن لطفه سبحانه بخواصه : ستر عيوبهم ، ومحو ذنوبهم ، حتى وصلهم بما منه إليهم ، لا بما منهم إليه ، فكشف لهم عن أسرار ذاته ، وأنوار صفاته ، فشاهدوه جهرا ، وعبدوه شكرا.
وقوله تعالى : يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ إما رزق الأرواح ، أو رزق الأشباح ، وإلى هذا القسمين أشار قوله :
[سورة الشورى (42) : آية 20]
مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (20)
يقول الحق جل جلاله : مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ ، سمّى ما يعمله العامل مما يبتغى به الفائدة المستقبلة حرثا ، مجازا لأن الحرث : إلقاء البذر فى الأرض لننظر نتاجه ، فأطلقه على العمل ، لجامع حصول النتاج ، أي : من كان يريد بأعماله ثواب الآخرة نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ نضاعف له ثوابه ، الواحدة بعشر إلى سبعمائة فما فوقها ، أو : نزد له فى توفيقه وإعانته ، وتسهيل سبيل الخيرات والطاعات عليه. وَمَنْ كانَ يُرِيدُ بأعماله حَرْثَ الدُّنْيا وهو متاعها وطيباتها نُؤْتِهِ مِنْها أي : شيئا منها ، حسبما قسمناه له ، لا ما يريده ويبتغيه ، وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ إذا كانت همته مقصورة على الدنيا. ولم يذكر فى عامل الآخرة أن رزقه المقسوم يصل إليه ، للاستهانة بذلك إلى جنب ما هو بصدده ، من زكاء أعماله ، وفوزه فى المآب لأن ما يعطى فى الآخرة يستحقر أن يذكر معه غيره من الدنيا.
الإشارة : قد مرّ مرارا ذم الدنيا وصرف الهمة إليها ، وفى الحديث عن أبى سعيد الخدري : أنه سمع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يقول فى بعض خطبه : «أيها النّاس ، أقبلوا على ما كلفتموه من صالح آخرتكم ، وأعرضوا عما ضمن لكم من أمر(5/208)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 209
دنياكم ، ولا تشغلوا «1» جوارحكم جوارح غذيت بنعمته فى التعرض لخطأ بمعصيته ، واجعلوا شغلكم بالتماس معرفته ، واصرفوا هممكم إلى التقرب بطاعته ، إنه من بدأ بنصيبه من الدنيا فاته نصيبه من الآخرة ، ولم يدرك منها ما يريد ، ومن بدأ بنصيبه من الآخرة وصل إليه نصيبه من الدنيا ، وأدرك من الآخرة ما يريد» «2».
قال الورتجبي : حرث الآخرة : مشاهدته ووصاله وقربه ، وهذا للعارفين ، وحرث الدنيا : كرامات الظاهر ، ومن شغلته الكرامات احتجب بها عن الحق. ثم قال : عن بعضهم : من عمل للّه محبة له ، لا طلبا للجزاء ، صغر عنده كل شىء دون اللّه ، فلا يطلب حرث الدنيا ، ولا حرث الآخرة ، بل يطلب اللّه من الدنيا والآخرة. ثم قال : حرث الدنيا : قضاء الوطر منها ، والجمع منها ، والافتخار بها ، ومن كان بهذه الصفة فما له فى الآخرة من نصيب. ه.
وقال بعض الشعراء فى هذا المعنى :
يا موثر الدنيا على دينه ومشتر دنياه بالآخرة
بعت الذي يبقى بما ينقضى تبّا لها من صفقة خاسره.
ثم ذكر مقابل قوله : شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ، كأنه تعالى لمّا ذكر أنه شرع ما وصى به ، أخذ ينكر ما شرع غيره ، فقال :
أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ ...
[سورة الشورى (42) : آية 21]
أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْ لا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (21)
يقول الحق جل جلاله : أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ، «أم» : منقطعة ، أي : بل ألهم شركاء ، أو : معادلة لمحذوف ، تقديره : أقبلوا ما شرعت لهم من الدين ، أم لهم آلهة شرعوا من الدين ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ أي : لم يأمر به ، وَلَوْ لا كَلِمَةُ الْفَصْلِ أي : القضاء السابق بتأخير الجزاء ، أي : ولو لا العدة بأن الفصل يكون يوم
___________
(1) هكذا فى جميع الأصول.
(2) لم أقف عليه ، رغم كثرة البحث. [.....](5/209)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 210
القيامة لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بين الكفار والمؤمنين. أو : لعجلت لهم العقوبة. وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وإن المشركين لهم عذاب أليم فى الآخرة ، وإن أخّر عنهم فى دار الدنيا.
[سورة الشورى (42) : آية 22]
تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ واقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (22)
تَرَى الظَّالِمِينَ المشركين فى الآخرة مُشْفِقِينَ خائفين مِمَّا كَسَبُوا من جزاء كفرهم ، وَهُوَ واقِعٌ نازل بِهِمْ لا محالة ، أشفقوا أم لم يشفقوا. وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ كأنّ روضة جنة المؤمن أطيب بقعة فيها وأنزهها ، فالروضات : المواضع المونقة النّضرة ، فهم مستقرون فى أطيب بقعها وأنزهها. لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ أي : ما يشتهون من فنون المستلذات حاصل لهم عند ربهم ، ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ الذي لا يقادر قدره ، ولا يبلغ غايته على العمل القليل ، فضلا من الكبير الجليل.
[سورة الشورى (42) : آية 23]
ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (23)
ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ تعالى ، عِبادَهُ فحذف عائد الموصول. ويقال : بشّر وبشر ، بالتشديد والتخفيف ، وقرئ بهما «1». ثم وصف المبشرين بقوله : الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ دون غيرهم.
الإشارة : كل من ابتدع عملا خارجا عن الكتاب والسنة فقد شرع من الدين ما لم يأذن به اللّه ، فينسحب عليه الوعيد ، لقوله صلّى اللّه عليه وسلم : «من سنّ سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة» «2».
وقوله تعالى : وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ قال القشيري : فى الدنيا جنة الوصلة ، ولذاذة الطاعة والعبادة ، وطيب الأنس فى أوقات الخلوة ، وفى الآخرة فى روضات الجنات ، إن أرادوا دوام اللطف دام لهم ، وإن أرادوا تمام الكشف كان لهم. ه.
ولمّا كان من شأن المبشر بالخير أن يلتمس الأجر ، نزّه نبيه عن ذلك ، فقال :
[سورة الشورى (42) : آية 23]
ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (23)
___________
(1) قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وحمزة ، والكسائي «يبشر» بفتح الياء ، وسكون الموحدة ، وضم الشين مخففة ، من «بشر» الثلاثي. وقرأ الباقون بضم الياء وفتح الباء وكسر السين مشددة للتكثير. انظر الإتحاف (2/ 449).
(2) أخرجه بتمامه مسلم ، فى (الزكاة ، باب الحث على الصدقة ، 2/ 705 ، ح 1017) من حديث جرير بن عبد اللّه رضي اللّه عنه.(5/210)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 211
يقول الحق جل جلاله : قُلْ يا محمد لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ على التبليغ أَجْراً. روى أنه اجتمع المشركون فى مجمع لهم ، فقال بعضهم لبعض : أترون أن محمدا يسأل على ما يتعاطاه أجرا؟ فنزلت. أي :
لا أسألكم على التبليغ والبشارة أجرا ، أي : نفعا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى إلا أن تودوا أهل قرابتى ، ويجوز أن يكون الاستثناء منقطعا ، أي : لا أسألكم أجرا قط ، ولكن أسألكم أن تودّوا قرابتى الذي هم قرابتكم ، ولا تؤذوهم. ولم يقل : إلا مودّة القربى ، أو : المودة للقربى لأنهم جعلوا مكانا للمودة ، ومقرا لها ، مبالغة ، كقولك : لى فى مال فلان مودة ، ولى فيهم حبّ شديد ، تريد : أحبهم ، وهم مكان حبى ومحله. وليست «فى» بصلة للمودة كاللام ، إذا قلت :
إلا المودة للقربى ، وإنما هى متعلقة بمحذوف ، تعلق الظرف. به والتقدير : إلا المودة ثابتة فى القربى ، ومتمكنة فيها. والقربى : مصدر ، كالزلفى والبشرى ، بمعنى القرابة. والمراد : فى أهل القربى.
روى أنه لما نزلت قيل : يا رسول اللّه! من أهل قرابتك هؤلاء ، الذين وجبت علينا مودتهم؟ قال : «علىّ وفاطمة وابناهما» «1». وقيل : معناه : إلا أن تودّونى لقرابتى فيكم ، ولا تؤذوني ، إذ لم يكن بطن من بطون قريش إلا وبين رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم وبينهم قرابة. وقيل : القربى : التقرب إلى اللّه تعالى ، أي : إلا أن تحبوا اللّه ورسوله فى تقربكم إليه بالطاعة والعمل الصالح.
وَمَنْ يَقْتَرِفْ أي : يكتسب حَسَنَةً أىّ حسنة كانت ، فيتناول مودة ذى القربى تناولا أوليا. وعن السدى : أنها المرادة ، قيل : نزلت فى الصدّيق رضي اللّه عنه ومودته فيهم ، والظاهر : العموم ، نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً أي :
نضاعفها له فى الجنة. إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ لمن أذنب [بطوله ] «2» شَكُورٌ لمن أطاع بفضله ، بتوفية الثواب والزيادة ، أو : غفور : قابل التوبة ، شكور : حامل عليها.
الإشارة : محبة أهل البيت واجبة على البشر ، حرمة وتعظيما لسيد البشر ، وقد قال : «من أحبهم فبحبى أحبهم ، ومن أبغضهم فببغضى أبغضهم» «3» فمحبة الرّسول صلّى اللّه عليه وسلم ركن من أركان الإيمان ، وعقد من عقوده ، لا يتم الإيمان إلا بها ، وكذلك محبة أهل بيته. وفى الحديث صلّى اللّه عليه وسلم : «لا يؤمن أحدكم حتى يحبنى ، ولا يحبنى حتى يحب ذوى قرابتى ، أنا حرب لمن حاربهم ، وسلم لمن سالمهم ، وعدو لمن عاداهم ، ألا من آذى قرابتى فقد آذاني ، ومن آذاني
___________
(1) أخرجه الطبراني فى الكبير (11/ 444 ، ح 12259) وعزاه السيوطي فى الدر (5/ 701) لابن المنذر وابن أبى حاتم والطبراني وابن مردويه ، بسند ضعيف ، من طريق سعيد بن جبير ، عن ابن عباس رضي اللّه عنه.
(2) فى الأصول : [بعدله ] والمناسب ما أثبته ، وهو الذي فى تفسير النّسفى. والطّول : الفضل والغنى والسعة. انظر اللسان (طول 4/ 728).
(3) ورد «من أحب هؤلاء ، فقد أحبنى ، ومن أبغضهم فقد أبغضنى» يعنى الحسن والحسين وفاطمة وعليا - رضي اللّه عنهم أجمعين.
والحديث ذكره فى كنز العمال ح (103) وعزاه لابن عساكر عن زيد بن أرقم.
والأحاديث فى محبة أهل البيت كثيرة. اللهم صلّى على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.(5/211)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 212
فقد آذى اللّه تعالى» «1». وقال أيضا - عليه الصلاة والسّلام : «إنى تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا ، كتاب اللّه تعالى وعترتى» «2» ، فانظر كيف قرنهم بالقرآن فى كون التمسك بهم يمنع الضلال.
وقال صلّى اللّه عليه وسلم : «من مات على حب آل محمد مات شهيدا ، ألا ومن مات على حب آل محمد بدل اللّه له زوار قبره ملائكة الرّحمة ، ألا ومن مات على حب آل محمد مات على السنة والجماعة ، ألا ومن مات على بغض آل محمد جاء يوم القيامة مكتوب «3» بين عينيه : آيس من رحمة اللّه» «4». انظر الثعلبي. زاد بعضهم : ولو عصوا وغيّروا فى المذهب فنكره فعلهم ونحب ذاتهم. قال الشيخ زروق فى نصيحته : وما ينزل بنا من ناحيتهم نعدّه من القضاء النازل. ه.
وفى همزية البوصيرى - رحمه اللّه :
آل بيت النّبىّ إنّ فؤادى ليس يسليه عنكم التأساء «5».
وقال آخر :
آل بيت رسول اللّه حبّكم فرض من اللّه فى القرآن أنزله
يكفيكم من عظيم المجد أنّكم من لم يصلّ عليكم لا صلاة له «6».
وقوله تعالى : وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً ، الزيادة فى الدنيا بالهداية والتوفيق ، وفى الآخرة بتضعيف الثواب وحسن الرّفيق. قال القشيري : إذا أتانا بالمجاهدة زدناه بفضلنا تحقيق المشاهدة. ويقال : من يقترف حسنة الوظائف نزد له حسن اللطائف. ويقال : الزيادة ما لا يصل إليه العبد بوسيلة ، مما لا يدخل تحت طوق البشر. ه.
ثم ردّ على من طعن فى الوحى ، الذي نفى الأجر على تبليغه ، فقال :
___________
(1) أخرج أحمد فى المسند (ح 9659) وابن حبان (موارد ح 2244) وابن أبى شيبة (2/ 96) والطبراني فى الكبير (3/ 31) عن أبى هريرة ، قال : نظر النّبى صلّى اللّه عليه وسلم إلى على والحسن والحسين وفاطمة فقال : «أنا حرب لمن حاربكم وسلم لمن سالمكم». وأخرجه الترمذي فى المناقب ، باب فضل فاطمة ، ح 3875) عن زيد بن أرقم ، بلفظ «أنا حرب لمن حاربتم ، وسلم لمن سالمتم».
(2) أخرجه الترمذي وحسّنه فى (المناقب ، باب مناقب أهل بيت النّبى صلّى اللّه عليه وسلم 5/ 621 ، ح 3786) من حديث جابر بن عبد اللّه ، و(ح 3788) من حديث أبى سعيد وزيد بن أرقم - رضي اللّه عنهما.
(3) هكذا فى الأصول.
(4) ذكره بنحوه القرطبي (7/ 6022) ، وذكره الزمخشري فى تفسيره (4/ 220) بأطول من هذا ، وعزاه الحافظ ابن حجر فى الكافي للثعلبى ، وقال : «وآثار الوضع عليه لائحة» ..
(5) انظر ديوان البوصيرى/ 70.
(6) الأبيات للإمام الشافعي. انظر ديوانه/ 72 ، وفيه : [يكفيكم من عظيم الفخر أنكم ].(5/212)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 213
[سورة الشورى (42) : الآيات 24 الى 26]
أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْباطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (24) وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ (25) وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكافِرُونَ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ (26)
يقول الحق جل جلاله : أَمْ يَقُولُونَ أي : بل أيقولون افْتَرى محمد عَلَى اللَّهِ كَذِباً فى دعوة النّبوة ، أو القرآن؟. والهمزة للإنكار التوبيخي ، كأنه قيل : أيمكن أن ينسبوا مثله - عليه الصلاة والسّلام - للافتراء ، لا سيما لعظم الافتراء ، وهو الافتراء على اللّه ، فإن الافتراء إنما يسام به أبعد خلق اللّه ، ومن هو عرضة للختم والطبع ، فالعجب ممن يفوه به فى جانب أكرم الخلق على اللّه.
فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ ، هذا استبعاد للافتراء على مثله لأنه إنما يجترئ على اللّه من كان مختوما على قلبه ، جاهلا بربه ، أمّا من كان على بصيرة ومعرفة بربه ، فلا ، وكأنه قال : إن يشأ اللّه خذلانك يختم على قلبك لتجترئ بالافتراء عليه ، لكنه لم يفعل فلم تفتر. أو : فإن يشأ اللّه عدم صدور القرآن عنك يختم على قلبك ، فلم تقدر أن تنطق بحرف واحد منه ، وحيث لم يكن كذلك ، بل تواتر الوحى عليك حينا فحينا تبين أنه من عند اللّه تعالى. وهذا أظهر.
وقال مجاهد : إن يشأ يربط على قلبك بالصبر على أذاهم ، وعلى قولهم : افترى على اللّه كذبا لئلا تدخله مشقة بتكذيبهم. ه.
وَيَمْحُ اللَّهُ الْباطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ ، استئناف مقرر لنفى الافتراء ، غير معطوف على «يختم» كما ينبئ عنه إظهار الاسم الجليل ، وإنما سقطت الواو - كما فى بعض المصاحف - لا تباع اللفظ ، كقوله تعالى : وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ ... «1» مع أنها ثابتة فى مصحف نافع. قاله النّسفى. أي : ومن شأنه تعالى أنه يمحق الباطل ، ويثبت الحق بوحيه ، أو بقضائه ، كقوله تعالى : بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ «2» ، فلو كان افتراء كما زعموا لمحقه ودمغه. أو : يكون عدة لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم بأنه تعالى يمحو الباطل الذي هم عليه ، ويثبت الحق الذي هو عليه صلّى اللّه عليه وسلم بالقرآن ، أو بقضائه الذي لا مرد له بنصره عليهم ، وقد فعل ذلك ، فمحا باطلهم ، وأظهر
___________
(1) من الآية 11 من سورة الإسراء.
(2) من الآية 18 من سورة الأنبياء.(5/213)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 214
الإسلام. إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ أي : عليم بما فى صدرك وصدورهم ، فيجرى الأمر على حسب ذلك من المحو والإثبات.
وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ. يقال : قبلت الشيء منه : إذا أخذته منه ، وجعلته مبدأ قبولك ، وقبلته عنه ، أي : عزلته وأبنته عنه. والتوبة : الرجوع عن القبيح بالندم ، والعزم ألا يعود ، ورد المظالم واجب غير شرط.
قال ابن عباس : لما نزل. قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً .... الآية. قال قوم فى نفوسهم : ما يريد إلا أن يحثنا على أقاربه من بعده ، فأخبر جبريل النّبىّ صلّى اللّه عليه وسلم أنهم قد اتهموه ، وأنزل : أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً .. الآية ، فقال القوم يا رسول اللّه فإنا نشهد أنك صادق. فنزل : وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ .... ه.
قال أبو هريرة ، قال النّبى صلّى اللّه عليه وسلم : «اللّه أفرح بتوبة عبده المؤمن من الضال الواجد ، ومن العقيم الوالد ، ومن الظمآن الوارد ، فمن تاب إلى اللّه توبة نصوحا أنسى اللّه حافظيه ، ولو كانت بقاع الأرض خطاياه وذنوبه» «1».
واختلف العلماء فى حقيقة التوبة وشرائطها ، فقال جابر بن عبد اللّه : دخل أعرابى مسجد النّبى صلّى اللّه عليه وسلم ، فقال : اللهم إنى أستعيذك وأتوب إليك ، سريعا ، وكبّر ، فلما فرغ من صلاته ، قال له علىّ : ما هذا؟ إن سرعة الاستغفار باللسان توبة الكذابين ، وتوبتك تحتاج إلى توبة ، فقال : يا أمير المؤمنين ، وما التوبة؟ قال : اسم يقع على ستة معان : على الماضي من الذنوب النّدامة ، ولتضييع الفرائض الإعادة ، ورد المظالم ، وإذابة النّفس فى الطاعة ، كما أذبتها فى المعصية ، وإذاقة النّفس مرارة الطاعة ، كما أذقتها حلاوة المعصية ، والبكاء بدل كلّ ضحك ضحكته.
وعن السدى : هى صدق العزيمة على ترك الذنوب ، والإنابة بالقلب إلى علّام الغيوب. وعن سهل : هى الانتقال من الأحوال المذمومة إلى الأحوال المحمودة. وعن الجنيد : هى الإعراض عما سوى اللّه.
قال اللّه تعالى : وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ وهو ما دون الشرك ، يعفو لمن يشاء بلا توبة ، وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ كائنا ما كان ، من خير أو شر ، حسبما تقتضيه مشيئته.
وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أي : يستجيب لهم فحذف اللام كما فى قوله : وَإِذا كالُوهُمْ»
أي : يجيب دعوتهم ، ويثيبهم على طاعتهم ، أو : يستجيبون له بالطاعة إذا دعاهم إليها. قيل لإبراهيم
___________
(1) لم أقف عليه بهذا اللفظ ، وفى الصحيح : «اللّه أفرح بتوبة العبد من رجل نزل منزلا وبه مهلكة ، ومعه راحلته ، عليها طعامه وشرابه ، فوضع رأسه فنام نومة ، فاستيقظ وقد ذهبت راحلته ، حتى اشتد عليه الحر والعطش أو ما شاء اللّه ، قال : أرجع إلى مكانى ، فرجع فنام نومة ، ثم رفع رأسه ، فإذا راحلته عنده ، أخرجه البخاري فى (الدعوات ، باب التوبة ، ح 6308) ومسلم فى (التوبة ، باب فى الحض على التوبة ، ح 2744) من حديث ابن مسعود رضي اللّه عنه. [.....]
(2) من الآية 3 من سورة المطففين.(5/214)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 215
ابن أدهم : مالنا ندعو فلا نجاب؟ قال : «لأنه دعاكم فلم تجيبوا». وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ على ما سألوه ، واستحقوه بموجب الوعد. وَالْكافِرُونَ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بدل ما للمؤمنين من الفضل العظيم والمزيد.
الإشارة : قال الورتجبي : أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً فيه تقديس كلامه ، وطهارة نبيه صلّى اللّه عليه وسلم عن الافتراء ، وكيف يفترى وهو مصون من طريان الشك والرّيب والوساوس والهواجس على قلبه؟. وقال أيضا : عن الواسطي : إن يشأ اللّه يختم على قلبك [لكن ما يشاء] «1» ، ويمح اللّه الباطل بنفسه ونعته ، حتى يعلم أنه لا حاجة له إلى أحد من خلقه ، ثم يحقق الحق فى قلوب أنشأها للحقيقة.
قلت : فى الآية تهديد لأهل الدعوى لأنهم إن داموا على دعواهم الخصوصية بلا خصوصية ختم اللّه على قلوبهم بالنفاق ، ثم يمحو اللّه الباطل بأهل الحق والتحقيق ، فتشرق حقائقهم على ما يقابلها من البال فتدمغه بإذن اللّه وقضائه وكلماته.
وقوله تعالى : وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ ... إلخ ، لكلّ مقام توبة ، ولكلّ رجال سيئات ، فتوبة العوام من الذنوب ، وتوبة الخواص من العيوب ، وتوبه خواص الخواص من الغيبة عن شهود علام الغيوب. وقوله تعالى :
وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ يشير إلى الحلم بعد العلم.
وقوله تعالى : وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أي : فى كلّ ما يتمنون ، وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ النظر إلى وجهه ، ويتفاوتون فيه على قدر توجههم ، ومعرفتهم فى الدنيا. وذكر فى القوت حديثا عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم فى تفسير قوله تعالى : وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ قال : «يشفعهم فى إخوانهم ، فيدخلهم الجنة» «2». ه. قال القشيري : ويقال :
لمّا ذكر أن التائبين يقبل توبتهم ، ومن لم يتب يعفو عن زلّته ، والمطيع يدخله الجنة ، فلعله خطر ببال أحد : فهذه النار لمن هى؟ فقال وَالْكافِرُونَ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ ، ولعله يخطر بالبال أن العصاة لا عذاب لهم ، فقال : (شديد) بدليل الخطاب أنه ليس بشديد «3» ه.
ولمّا ذكر أن أهل الإيمان يستجيب لهم ، ويزيدهم من فضله ، يعنى فى الآخرة ، وأما فى الدنيا فإنما يعطيهم الكفاف ، ذكر حكمة ذلك ، فقال :
___________
(1) فى الورتجبي [بما يشاء].
(2) أخرجه ابن جرير ، من طريق قتادة عن أبى إبراهيم اللخمي ، موقوفا.
(3) اختصر المفسر عبارة القشيري ، وهذا نصها حتى يتضح المراد : فالعصاة من المؤمنين لهم عذاب ، أما الكافرون فلهم عذاب شديد ، لأن دليل الخطاب يقتضى هذا ، وذاك يقتضى أن المؤمنين لهم عذاب ، ولكن ليس بشديد ، وأما عذاب الكافرين فشديد. ه.(5/215)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 216
[سورة الشورى (42) : الآيات 27 الى 28]
وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (27) وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (28)
يقول الحق جل جلاله : وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ أي : لو أغناهم جميعا لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ أي :
لتكبروا وأفسدوا فيها ، بطرا ، ولعلا بعضهم على بعض بالاستعلاء والاستيلاء ، لأن الغنى مبطرة مفسدة ، وكفى بحال قارون وفرعون عبرة. وأصل البغي : تجاوز الاقتصاد [عما يجزى ] «1» من حيث الكمية أو الكيفية.
وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ أي : بتقدير ما يَشاءُ أن ينزله ، مما تقضيه مشيئته. يقال : قدره وقدّره قدرا وتقديرا إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ محيط بخفايا أمورهم وجلاياها ، فيقدر لكلّ واحد منهم ما يليق بشأنه ، فيفقر ويغنى ، ويعطى ويمنع ، ويقبض ويبسط ، حسبما تقتضيه الحكمة الرّبانية ، ولو أغناهم جميعا لبغوا فى الأرض ، ولو أفقرهم لهلكوا ، وما ترى من البسط على من يبغى ، ومن البغي بدون البسط ، فهو قليل ، ولكن البغي مع الفقر أقلّ ، ومع البسط أكثر وأغلب ، فالحكمة لا تنافى بغى البعض بدفعه بالبعض الآخر ، بخلاف بغى الجميع. وَلَوْ لا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ ... «2» الآية.
وقال شقيق بن إبراهيم : لَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ أي : لو رزق اللّه العباد من غير كسب لَبَغَوْا طغوا وسعوا فى الأرض بالفساد ، ولكن شغلهم بالكسب والمعاش ، رحمة منه. ه. أي : لئلا يتفرغوا للفساد ، ومثله فى التنوير.
وقال شيخ شيوخنا الفاسى العارف : والظاهر حمل العباد على الخصوص المصطفين من المؤمنين ، فإنهم يحمون من الطغيان وبسط الرّزق لئلا يبغوا. ه.
وقال قتادة : كان يقال : خير الرّزق : ما لا يطغيك ، ولا يلهيك ، فذكر لنا أن النّبى صلّى اللّه عليه وسلم قال : «أخوف ما أخاف على أمتى زهرة الدنيا وكثرتها» «3». ه.
___________
(1) هكذا فى الأصول ، وفى تفسير أبى السعود [فيما يتحرى ].
(2) من الآية : 40 من سورة الحج.
(3) أخرجه الطبري (25/ 19).(5/216)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 217
روى : أن أهل الصّفة تمنوا الغنى ، فنزلت «1». وقيل : نزلت فى العرب ، كانوا إذا أخصبوا تحاربوا ، وإذا جدبوا انتجعوا. ه.
وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ أي : المطر الذي يغيثهم من الجدب ، ولذا خص بالنافع منه ، فلا يقال للمطر الكثير :
غيث ، مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا : يئسوا منه. وتقييد تنزيله بذلك ، مع نزوله بدونه أيضا لمزيد تذكر كمال النّعمة.
وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ أي : بركات الغيث ومنافعه ، وما يحصل به من الخصب فى كلّ مكان ، من السهل ، والجبل ، والنّبات ، والحيوان. أو : رحمته الواسعة المنتظمة لما ذكر وغيره. وَهُوَ الْوَلِيُّ الذي يتولى عباده بالإحسان ونشر الرحمة ، الْحَمِيدُ المستحق للحمد على ذلك ، لا غيره.
الإشارة : عادته تعالى مع أوليائه أن يعطيهم ما يكفيهم بعد الاضطرار ، ويمنعهم منه فوق الكفاية لئلا يشغلهم بذلك عن حضرته ، وفى الحديث : «إن اللّه يحمى عبده المؤمن - أي : مما يضره الدنيا وغيرها - كما يحمى الرّاعى الشفيق غنمه من مراتع الهلكة» «2» وفى حديث آخر : «إذا أحب اللّه عبدا حماه الدنيا كما يحمى أحدكم سقيمه الماء» «3». وروى ابن المبارك ، عن سعيد بن المسيب قال : جاء رجل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم فقال : أخبرنى يا رسول اللّه بجلساء اللّه يوم القيامة؟ فقال : «هم الخائفون ، الخاضعون ، المتواضعون ، الذاكرون كثيرا» فقال : يا رسول اللّه فهم أول النّاس يدخلون الجنة؟ قال : «لا» قال : فمن أول النّاس دخولا الجنة؟ قال «الفقراء يسبقون النّاس إلى الجنة ، فيخرج إليهم ملائكة ، فيقولون : ارجعوا إلى الحساب ، فيقولون : علام نحاسب؟ واللّه ما أفيضت علينا الأموال فنفيض فيها ، وما كنا أمراء نعدل ونجور ، ولكنا جاءنا أمره فعبدنا حتى أتانا اليقين». ه.
قوله : وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ ... الآية ، كما ينزل غيث المطر على الأرض الميتة ، ينزل أمطار الواردات الإلهية على القلوب الميتة ، فتحيا بالذكر والمعرفة ، بعد أن أيست من الخصوصية.
قال القشيري ، بعد كلام : وكذلك العبد إذا ذبل غصن وقته ، وتكدّر صفو ودّه وكسفت شمس أنسه ، وبعد عن الحضرة وساحات القرب عهده ، فربما ينظر إليه الحقّ نظر رحمة ، فينزل على سرّه أمطار الرّحمة ، ويعود عوده طريّا ، وينبت فى مشاهد أنسه وردا جنيا ، وأنشدوا فى المعنى :
___________
(1) أخرجه الواحدي فى أسباب النّزول (ص 390) عن عمرو بن حريث ، وذكره الهيثمي فى المجمع (7/ 104) وعزاه للطبرانى ، ورجاله رجال الصحيح.
(2) أخرجه البيهقي فى شعب الإيمان (ح 10451) من حديث حذيفة رضي اللّه عنه ، والحديث ضعّفه السيوطي فى الجامع الصغير (ح 1901).
(3) أخرجه الترمذي فى (الطب ، باب ما جاء فى الحمية ، ح 3036) والبيهقي فى الشعب (ح 1450) من حديث قتادة بن النّعمان رضي اللّه عنه.(5/217)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 218
إن راعنى منك الصدود فلعلّ أيامى تعود
ولعل عهدك باللّوى يحيا فقد تحيا العهود
والغصن ييبس تارة وتراه مخضرّا يميد.
وقوله تعالى : وَهُوَ الْوَلِيُّ قال القشيري فى شرح الأسماء : الولي هو المتولى لأحوال عباده ، وقيل معناه :
المناصر ، فأولياء اللّه أنصار دينه ، وأشياع طاعته ، والولىّ فى صفة العبد : هو من يواظب على طاعة ربه. ومن علامات من يكون الحق سبحانه وليّه : أن يصونه ويكفيه فى جميع الأحوال ، ويؤمنه ، فيغار على قلبه أن يتعلق بمخلوق فى دفع شر أو جلب نفع ، بل يكون سبحانه هو القائم على قلبه فى كلّ نفس ، فيحقق آماله عند إشارته ، ويجعل مآربه عند خطراته. ومن أمارات ولايته لعبده : أن يديم توفيقه ، حتى لو أراد سوءا ، أو قصد محظورا ، عصمه من ارتكابه. ثم قال : ومن أمارات ولايته : أن يرزقه مودة فى قلوب أوليائه. ه. قلت : «جعل مآربه عند خطراته» ليس شرطا لأن هذا من باب الكرامة ، ولا يشترط ظهورها عند المحققين. وروى أنس عن النّبى صلّى اللّه عليه وسلم عن جبريل ، عن ربه - عز وجل - قال : «من أهان لى وليّا فقد بارزني بالمحاربة ، وإنى لأسرع شىء إلى نصرة أوليائى ، وإنى لأغضب لهم ، كما يغضب الليث الحرد» «1» انظر بقية الحديث فى الثعلبي.
ثم ذكر شواهد قدرته ، فقال :
[سورة الشورى (42) : آية 29]
وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ (29)
يقول الحق جل جلاله : وَمِنْ آياتِهِ الدالة على باهر قدرته ووحدانيته خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ على ما هما عليه من تعاجيب الصنعة ، فإنها بذاتها وصفاتها تدل على شؤونه العظيمة ، وَما بَثَّ أي : فرّق فِيهِما مِنْ دابَّةٍ من حى على الإطلاق ، فأطلق الدابة على مطلق الحيوان ، ليدخل الملائكة. أو : ما يدب على الأرض ،
___________
(1) أخرجه مطولا ، البغوي فى التفسير (7/ 194 - 195) وعزاه السيوطي فى الدر المنثور (5/ 704) لابن أبى الدنيا فى كتاب الأولياء ، والحكيم الترمذي فى نوادر الأصول ، وأبى نعيم فى الحلية (8/ 315) وابن عساكر فى تاريخه.
وقوله : «الحرد» الحرد : الغيظ والغضب. وحرد الرّجل فهو حرد. انظر اللسان (مادة حرد 2/ 824 - 825).(5/218)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 219
فإن ما يختص أحد الشيئين المجاورين يصح نسبته إليهما ، كقوله تعالى : يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ «1» وإنما يخرج المرجان من الملح ، ولا يبعد أن يخلق اللّه فى السموات حيوانا يمشون مشى الأناسىّ على الأرض ، أو :
يكون للملائكة مشى مع الطيران ، فوصفوا بالدّبيب لذلك. وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ أي : حشرهم بعد البعث للحساب إِذا يَشاءُ أي : فى الوقت الذي يشاء قَدِيرٌ لا يعجزه شىء الإشارة : من تعرفاته : إظهار السموات والأرض ، وهذه رسوم المعاني ، وما بثّ فيهما من دابة ، وهذه أشكال توضح أسرار المعاني ، فإذا قبضت المعاني محيت الرسوم والأشكال. وقوله تعالى : وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ ، قال القشيري : الإشارة فى هذا : أنّ الحقّ تعالى يغار على أوليائه أن يسكن بعضهم بقلبه إلى بعض ، فأبدا يبدّد شملهم ، ولا يكاد تتفق الجماعة من أهل القلوب إلا نادرا ، وذلك أيضا مدة يسيرة ، كما أنشدوا :
رمى الدهر بالفتيان حتى كأنّهم بأكناف أطراف السماء نجوم «2»
وقد يتفضّل تعالى باجتماعهم فى الظاهر ، وذلك وقت نظر الحقّ بفضله إلى العالم ، وفى بركات اجتماعهم حياة العالم ، وإذ كان قادرا فهو على جمعهم إذا يشاء قدير. «3» ه.
قلت : مما جرت به عادة اللّه تعالى فى أوليائه : أنه لا يجتمع فى موضع واحد منهم اثنان فأكثر إلا قام أحدهما بالآخر ، ويفقد نظامهما ، فلا تكاد تحد أهل النّور القوى إلا متباعدى الأوطان ، لئلا يطفى نور أحداهما نور الآخر ، وقد يجتمعون نادرا فى وقت مخصوص ، وذلك وقت النّفحات. كما تقدم للقشيرى.
ثم ذكر سبب نزول المصائب بعباده ، فقال :
[سورة الشورى (42) : الآيات 30 الى 31]
وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ (30) وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (31)
___________
(1) الآية 22 من سورة الرّحمن.
(2) البيت منسوب للقشيرى كما فى تبيين كذب المفترى للدمشقى/ 356.
(3) بتصرف. [.....](5/219)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 220
يقول الحق جل جلاله : وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ غمّ ، أو ألم ، أو مكروه فَبِما «1» كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ أي : بجناية كسبتموها ، عقوبة لكم. ومن قرأ بالفاء ف «ما» شرطية. ومن قرأ بغيرها فموصلة. وتعلق بهذه الآية من يقول بالتناسخ ، ومعناه عندهم : أن أرواح المتقدمين حين تموت أشباحها تنتقل إلى أشباح أخر ، فإن كانت صالحة انتقلت إلى جسم صالح وإن كانت خبيثة انتقلت إلى جسم خبيث ، وهو باطل وكفر. ووجه التعلق : أنه لو لم يكن للأطفال حالة كانوا عليها قبل هذه الحالة لما تألّموا. ويجاب : بأن تألم الأطفال إما زيارة فى درجات آبائهم إن عاشوا ، أو فى درجاتهم إن ماتوا لأنهم يلحقون بآبائهم فى الدرجة ، ولا عمل لهم إلا هذا التألم. واللّه أعلم.
والآية مخصوصة بالمكلّفين بدليل السياق ، وهو قوله : وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ أي : من الذنوب فلا يعاقب عليها ، أو : عن كثير من النّاس ، فلا يعاجلهم بالعقوبة. وفى الحديث عنه صلّى اللّه عليه وسلم : «واللّه أكرم من أن يثنّى عليكم العقوبة فى الآخرة ، وما عفا عنه فاللّه أحلم من أن يعود فيه بعد عفوه» «2» وقال ابن عطاء : من لم يعلم أنّ ما وصل إليه من الفتن والمصائب باكتسابه ، وأن ما عفا عنه مولاه أكثر ، كان قليل النّظر فى إحسان ربه إليه. وقال محمد بن حامد : العبد ملازم للجنايات فى كلّ أوان ، وجناياته فى طاعته أكثر من جناياته فى معاصيه لأن جناية المعصية من وجه ، وجناية الطاعة من وجوه ، واللّه يطهّر العبد من جناياته بأنواع من المصائب ليخفّف عنه أثقاله فى القيامة ، ولو لا عفوه ورحمته لهلك فى أول خطوة.
وعن علىّ - كرم اللّه وجهه - : هذه أرجى آية للمؤمنين فى القرآن لأنّ الكريم إذا عاقب مرة لا يعاقب ثانيا ، وإذا عفا لا يعود. ه. وقد تقدم حديثا. قال فى الحاشية الفاسية : قلت : وإنما يعفو فى الدنيا عما يشاء ، ويؤخر عقوبة من شاء إلى الآخرة ، فلا يلزم إبطال وعيد الآخرة. ثم الآية إما خاصة بالحدود ، أو بالمجرم المذنب ، وأما من لا ذنب له فما يصيبه من البلاء اجتباء وتخصيص ، لا تمحيص. ه.
قلت : لكلّ مقام ذنب ، حسنات الأبرار سيئات المقربين ، فالتمحيص جار فى كلّ مقام ، وراجع ما تقدم عند قوله : لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ ... «3» وسيأتى عند قوله : وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ .. «4» ما يبين هذا. واللّه أعلم
___________
(1) قرأ نافع ، وابن عامر ، وأبو جعفر (بما) بغير فاء ، على جعل (ما) فى ما أَصابَكُمْ موصولة ، مبتدأ ، و(بما كسبت) خبر ، وعلى جعلها شرطية ، تكون الفاء محذوفة ، نحو قوله تعالى : وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ ... - الآية 121 من سورة الأنعام. وقرأ الباقون (فبما كسبت). ف (ما) شرطية ، أي : فهى بما كسبت ، أو موصولة ، والفاء تدخل فى حيز الموصول إذا أجرى مجرى الشرط. انظر :
الحجة للفارسى ، (6/ 129) والإتحاف (2/ 450).
(2) أخرجه الإمام أحمد فى المسند (1/ 85) والحاكم (4/ 388) وزاد السيوطي عزوه فى الدر المنثور (5/ 705) لابن راهويه ، وابن منيع ، وعبد بن حميد ، والحكيم الترمذي ، وأبى يعلى ، وابن المنذر ، وابن أبى حاتم ، وابن مردويه ، عن سيدنا علىّ - كرم اللّه وجهه - .
(3) من الآية 117 من سورة التوبة.
(4) من الآية 19 من سورة سيدنا محمد.(5/220)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 221
وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ أي : ما أنتم بفائتين ما قضى عليكم من المصائب ، وإن هجرتم فى أقطارها كل مهرب ، وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ متول يحميكم منها وَلا نَصِيرٍ يدفعها عنكم ، أو يدفع عذابه إن حلّ.
الإشارة : إذا كان العبد عند اللّه فى عين العناية أدّبه فى الدنيا ، ويبقى فى حال قربه ، وإذا كان عنده فى عين الإهمال أمهل عقوبته إلى دار البقاء ، وربما استدرجه بالنعم فى حال إساءته ، والعياذ باللّه من مكره. وإذا علم العبد أن ما يصيبه فى هذه الدار من الأكدار كلها تخليص وتمحيص لم يستوحش منها ، بل يفرح بها إذ هى علامة العناية ، وإذا كانت على أيدى النّاس ، لم يقابلهم بالانتصار ، بل يعفو ويصفح لعلمه أن ذلك زيارة وترقية. وقوله تعالى : وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ. هذا - واللّه أعلم - فى حق العامة ، وأما الخاصة فيشدد عليهم المحاسبة والتأديب ليرفع مقامهم ، ويكرم مثواهم.
ثم ذكر برهانا آخر على قدرته تعالى ، فقال :
[سورة الشورى (42) : الآيات 32 الى 35]
وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (32) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (33) أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (34) وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (35)
يقول الحق جل جلاله : وَمِنْ آياتِهِ للدلالة على قدرته ووحدانيته الْجَوارِ «1» السفن الجارية فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ كالجبال إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ «2» التي تجريها. وقرئ بالإفراد. فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ فيبقين ثوابت على ظهر البحر ، أي : غير جاريات لا غير متحركات أصلا ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ عظيمة فى أنفسها ، كثيرة فى العدد ، دلالة على باهر قدرته لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ لكلّ من حبس نفسه عن الهوى ، وصرف همته إلى النّظر فى آلائه ، أو : لكلّ صبّار على بلائه ، شكور لنعمائه ، أي : لكلّ مؤمن كامل فإن الإيمان نصفان : نصف شكر ، ونصف صبر لأن الإنسان لا يخلو من ضر يمسه ، أو نفع يناله ، فآداب
___________
(1) هكذا فى الأصول ، وقد أثبت الياء فى (الجوار) وصلا نافع ، وأبو عمرو ، وأبو جعفر ، وفى الحالين ابن كثير ويعقوب. وقرأ الباقون بغير ياء. انظر الإتحاف (2/ 450)
(2) قرأ نافع وأبو جعفر «الرياح» بالجمع. وقرأ الجمهور (الريح) إفرادا.(5/221)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 222
الضر : الصبر ، وآداب النّفع : الشكر ، وأيضا : راكب السفن ملزوم ، إما للمشقة أو السلامة ، فالصبر والشكر لا زمان له.
ولم يعطف إحدى الصفتين على الأخرى لأنهما لموصوف واحد.
أَوْ يُوبِقْهُنَّ أي : يهلكهن ، عطف على قوله : يُسْكِنِ أي : إن يشأ يسكن الرّيح فيركدن ، أو يعصفها فيغرقن [بعصفها] «1» بِما كَسَبُوا من الذنوب. وإيقاع الإيباق عليهن مع أنه حال [أهلهن ] «2» للمبالغة والتّهويل ، وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ منها ، فلا يجازى عليها ، وإنما أدخل العفو فى حكم الإيباق ، حيث جزم جزمه لأن المعنى : أو إن يشأ يهلك ناسا وينج ناسا ، على طريق العفو عنهم. وقرئ : «ويعفو» «3» على الاستئناف. وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا أي : فى إبطالها وردها ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ من مهرب من العذاب. والجملة معلقة بالنفي ، ومن نصب «يعلم» عطفه على علة محذوفة ، أي : لينتقم منهم وليعلم ، كما فى قوله : وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ «4». وقيل غير ذلك. ومن رفعه «5» فعلى الاستئناف. وقرئ بالجزم ، عطفا على : «يعف» ، فيكون المعنى :
أو إن يشأ يجمع بين إهلاك قوم وإنجاء آخرين وتحذير قوم.
الإشارة : ومن آياته الأفكار الجارية فى بحر التوحيد ، كالأعلام ، أي : أصحابها كالجبال الرّواسى ، لا يهزهم شىء من الواردات ولا غيرها ، إن يشأ يسكن رياح الواردات عن أسرارهم ، فيبقين رواكد على ظهر بحر الأحدية ، مستغرقين فى شهود الذات العلية ، أو يوبقهن بما كسبوا من سوء الأدب ، فيغرقن فى الزندقة أو الحلول والاتحاد ، ويعف عن كثير ، ويعلم الذين يطعنون فى آياتنا الدالة علينا ما لهم من مهرب.
ثم زهّد فى الدنيا لأنها العائقة للأفكار ، عن الجري فى بحار الأسرار ، فقال :
[سورة الشورى (42) : الآيات 36 الى 43]
فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (36) وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37) وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (38) وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39) وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40)
وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (42) وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43)
___________
(1) فى الأصول [بعضها] والمناسب ما أثبته ، وهو الذي فى تفسير النّسفى وأبى السعود.
(2) فى الأصول [أهلها].
(3) قرأ بها الأعمش ، انظر البحر المحيط 7/ 497.
(4) من الآية 21 من سورة مريم.
(5) وهى قراءة نافع وابن عامر ، وأبى جعفر. وقرأ الجمهور (و يعلم) بالنصب. انظر الإتحاف (2/ 450).(5/222)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 223
يقول الحق جل جلاله : فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ مما ترجون وتتنافسون فيه فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا أي : فهو متاعها ، تتمتعون به مدة حياتكم ، ثم يفنى ، وَما عِنْدَ اللَّهِ من ثواب الآخرة خَيْرٌ ذاتا لخلوص نفعه ، وَأَبْقى زمانا لدوام بقائه. لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ، و«ما» الأولى ضمّنت معنى الشرط ، فدخلت فى جوابها الفاء ، بخلاف الثانية. وعن علىّ رضي اللّه عنه : أن أبا بكر - رضي اللّه عنه - تصدّق بماله كله ، فلامه النّاس ، فنزلت الآية.
ثم قال تعالى : وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ أي : الكبائر من هذا الجنس. وقرأ الأخوان : (كبير الإثم).
قال ابن عباس : هو الشرك ، وَيجتنبون الْفَواحِشَ وهى ما عظم قبحها ، كالزنى ونحوه ، وَإِذا ما غَضِبُوا من أمر دنياهم هُمْ يَغْفِرُونَ أي : هم الأخصّاء بالغفران فى حال الغضب ، فيحلمون ، ويتجاوزون.
وفى الحديث : «من كظم غيظه فى الدنيا ردّ اللّه عنه غضبه يوم القيامة» «1».
وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ أتقنوا الصلوات الخمس ، وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ أي : ذو شورى ، يعنى : لا ينفردون برأيهم حتى يجتمعون عليه. وعن الحسن : ما تشاور قوم إلا هدوا لأرشد أمورهم.
والشورى : مصدر ، كالفتيا ، بمعنى التشاور. وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ يتصدقون.
وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ الظلم هُمْ يَنْتَصِرُونَ ينتقمون ممن ظلمهم ، أي : يقتصرون فى الانتصار على ما حدّ لهم ، ولا يعتدون ، وكانوا يكرهون أن يذلّوا أنفسهم فيجترئ عليهم الفسّاق ، فإذا قدروا عفوا ، وإنما حمدوا على الانتصار لأن من انتصر ، وأخذ حقه ، ولم يجاوز فى ذلك حدّ اللّه ، فلم يسرف فى القتل ، إن كان ولىّ دم ، فهو مطيع للّه. وقال ابن العربي : قوله : وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ ... الآية ، ذكر الانتصار فى معرض
___________
(1) أخرج الطبراني فى الأوسط (ح 1320) عن أنس رضي اللّه عنه قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم : «من دفع غضبه دفع اللّه عنه عذابه» قال الهيثمي فى مجمع الزوائد (8/ 70) : فيه عبد السّلام بن هلال ، وهو ضعيف».
وأخرج أبو داود فى (الأدب ، باب فى كظم الغيظ ح 4777) والترمذي وحسّنه فى (البر والصلة ، باب فى كظم الغيظ ، ح 2021) وابن ماجه فى (الزهد ، باب الحلم ، ح 4186) عن معاذ بن أنس الجهني رضي اللّه عنه عن النّبى صلّى اللّه عليه وسلم قال : «من كظم غيظا هو قادر على أن ينفذه ، دعاه اللّه على رؤوس الخلائق يوم القيامة ، حتى يخيره فى أىّ الحور شاء».(5/223)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 224
المدح ، ثم ذكر العفو فى معرض المدح ، فاحتمل أن يكون أحدهما رافعا للآخر ، واحتمل أن يكون ذلك راجعا إلى حالين ، أحدهما : أن يكون الباغي معلنا بالفجور وقحا فى الجمهور ، ومؤذيا للصغير والكبير ، فيكون الانتقام منه أفضل ، وفى مثله قال إبراهيم النّخعى : يكره للمؤمنين أن يذلّوا أنفسهم ، فيجترئ عليهم الفسّاق. وإما أن تكون الفلتة ، أو يقع ذلك ممن يعترف بالزلة ، ويسأل المغفرة ، فالعفو هاهنا أفضل ، وفى مثله نزل : وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى «1» ، وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا الآية «2». ه.
ثم بيّن حدّ الانتصار ، فقال : وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها ، فالأولى سيئة حقيقة ، والثانية مجازا للمشاكلة ، وفى تسميتها سيئة نكتة ، وهى الإشارة إلى أن العفو أولى ، والأخذ بالقصاص سيئة بالنسبة إلى العفو ، ولذلك عقبه بقوله :
فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ بينه وبين خصمه بالتجاوز والإغضاء فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ، وهى عدة مبهمة لا يقادر قدرها ، إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ الذين يبدؤون بالظلم ، أو : يتجاوزون حدّ الانتصار. وفى الحديث : «ينادى مناد يوم القيامة : من كان له أجر على اللّه فليقم ، فلا يقوم إلا من عفا» «3».
وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ أي : أخذ حقه بعد ما ظلم - على إضافة المصدر إلى المفعول - فَأُولئِكَ جمع الإشارة مراعاة لمعنى «من» ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ للمعاقب ولا للمعاتب إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ يبتدئونهم بالظلم ، وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ يتكبرون فيها ، ويعلون ، ويفسدون بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بسبب بغيهم وظلمهم. وفسّر السبيل بالتبعة والحجة.
وَلَمَنْ صَبَرَ على الظلم والأذى ، وَغَفَرَ ولم ينتصر ، أو : ولمن صبر على البلاء من غير شكوى ، وغفر بالتجاوز عن الخصم ، ولا يبقى لنفسه عليه دعوى ، بل يبرى خصمه من جهته من كلّ دعوى فى الدنيا والعقبى ، إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ أي : إن ذلك الصبر والغفران منه لمن عزم الأمور ، أي : من الأمور التي ندب إليها ، وعزم على فعلها ، أو : مما ينبغى للعاقل أن يوجبه على نفسه ، ولا يترخّص فى تركه. وحذف الرّاجع - أي : منه - كما حذف فى قولهم : السمن منوان بدرهم. وقال أبو سعيد القرشي : الصبر على المكاره من علامات الانتباه ، فمن صبر على مكروه أصابه ، ولم يجزع ، أورثه اللّه تعالى حال الرّضا ، وهو أصل الأحوال ومن جزع من المصيبات ، وشكى ، وكله إلى نفسه ، ثم لم تنفعه شكواه. ه. وانظر تحصيل الآية فى الإشارة ، إن شاء اللّه.
قال ابن جزى : ويظهر لى أن هذه الآية إشارة إلى ذكر الخلفاء الرّاشدين - رضي اللّه عنهم - لأنه بدأ أولا بصفات أبى بكر الصدّيق ، ثم صفات عمر ، ثم صفات عثمان ، ثم صفات علىّ بن أبى طالب ، فأما صفات
___________
(1) من الآية 277 من سورة البقرة.
(2) من الآية 22 من سورة النّور. [.....]
(3) عزاه فى اتحاف السادة المتقين 7/ 561 لابن عساكر فى التاريخ ، من حديث علىّ رضي اللّه عنه.(5/224)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 225
أبى بكر ، فقوله : الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ وإنما جعلنا هذه صفات أبى بكر ، وإن كان جميعهم متصفا بها ، لأن أبا بكر كانت له مزية فيها لم تكن لغيره ، قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم : «لو وزن إيمان أبى بكر بإيمان الأمة لرجح» «1» وقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم : «أنا مدينة الإيمان ، وأبو بكر بابها». وقال أبو بكر : «لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا». والتوكّل إنما يقوى بقوة الإيمان.
وأما صفات عمر : فقوله وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ لأن ذلك هو التقوى ، وقد قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم :
«أنا مدينة التقوى وعمر بابها» وقوله : وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ ، وقوله : قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ نزلت فى عمر. وأما صفات عثمان فقوله : وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ لأن عثمان لمّا دعاه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم إلى الإسلام بادر إليه ، وقوله : وَأَقامُوا الصَّلاةَ لأن عثمان كان كثير الصلاة بالليل ، وفيه نزلت :
أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ... الآية. «2» وروى أنه كان يحيى الليل بركعة ، يقرأ فيها القرآن كله. وقوله : وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ لأن عثمان ولى الخلافة بالشورى ، وقوله : وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ لأن عثمان كان كثير النّفقة فى سبيل اللّه ، ويكفيك أنه جهز جيش العسرة.
وأما صفات علىّ فقوله : وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ لأنه لمّا قاتلته الفئة الباغية قاتلها ، انتصارا للحق ، وانظر كيف سمى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم المقاتلين لعلىّ الفئة الباغية ، حسبما ورد فى الحديث الصحيح ، أنه قال لعمّار : «ويح عمّار ، تقتله الفئة الباغية» «3» وذلك هو البغي الذي أصابه. وقوله : فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إشارة إلى فعل الحسن بن علىّ ، حين بايع معاوية ، وأسقط حق نفسه ، ليصلح أحوال المسلمين ، ويحقن دماءهم. قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم فى الحسن : «إنّ ابني هذا سيّد ، وسيصلح اللّه به بين فئتين عظيمتين من المسلمين» «4». وقوله : وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ إشارة إلى انتصار الحسين بعد موت
___________
(1) أخرجه البيهقي فى الشعب (ح 36) وابن أبى شيبة فى الإيمان (108) عن سيدنا عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه موقوفا.
وقال فى كشف الخفاء (2/ 234) : (أخرجه ابن عدى والديلمي ، كلاهما عن ابن عمر ، مرفوعا ، بلفظ : «لو وضع إيمان أبى بكر على إيمان هذه الأمة لرجح بها». وفى سنده «عيسى بن عبد اللّه» ضعيف ، لكن يقويه ما أخرجه ابن عدى أيضا من طريق أخرى بلفظ : «لوزن إيمان أبى بكر بإيمان أهل الأرض لرجحهم» وله شاهد أيضا فى السنن عن أبى بكرة ، مرفوعا : أن رجلا قال : رأيت يا رسول اللّه! كأنّ ميزانا نزل من السماء فوزنت أنت وأبو بكر ، فرجحت أنت ، ثم وزن أبو بكر بمن بقي فرجح ..» الحديث.
قلت : حديث أبى بكرة ، أخرجه أبو داود فى (السنة ، باب فى الخلفاء ، ح 4634) والترمذي فى (الرؤيا ، باب ما جاء فى رؤيا النبي صلّى اللّه عليه وسلم الميزان والدلو ، ح 2287) وقال : «حسن صحيح» وعندهما : «ووزن عمر وأبو بكر ، فرجح أبو بكر ...».
(2) الآية 9 من سورة الزمر.
(3) أخرج البخاري فى (الصلاة ، باب التعاون فى بناء المسجد ، ح 447) عن أبى سعيد ، قال - وهو يحدث عن بناء المسجد - : كنا نحمل لبنة لبنة ، وعمار لبنتين لبنتين ، فرآه النّبى صلّى اللّه عليه وسلم ، فينفض التراب عنه ، ويقول : «ويح عمار ، تقتله الفئة الباغية ، يدعوهم إلى الجنة ، ويدعونه إلى النّار» قال : يقول عمار : أعوذ باللّه من الفتن.
(4) أخرجه البخاري فى (الصلح ، باب قول النّبى صلّى اللّه عليه وسلم للحسن بن علىّ رضي اللّه عنهما : إن هذا سيد ، ح 2704) من حديث أبى بكرة رضي اللّه عنه.(5/225)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 226
أخيه ، وطلبه للخلافة ، وانتصاره من بنى أمية. وقوله : إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ إشارة إلى بنى أمية ، فإنهم استطالوا على النّاس ، كما فى الحديث : «إنهم جعلوا عباد اللّه خولا ، ومال اللّه دولا ، فيكفيك من ظلمهم أنهم كانوا يلعنون علىّ بن أبى طالب على منابرهم. وقوله : وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إشارة إلى صبر أهل بيت النّبى صلّى اللّه عليه وسلم على ما نالهم من الضر والذل ، طول مدة بنى أمية. «1» ه.
الإشارة : قوله تعالى : فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا أي : وينقص من درجاتكم فى الآخرة بقدر ما تمتعتم به ، كما فى الخبر ، ولذلك زهّد فيه بقوله : وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقى .. الآية ، أي : وما عند اللّه من الثواب الموعود خير من هذا القليل الموجود. وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ هى أمراض القلوب ، كالحسد والكبر والرّياء وغيرها ، وَالْفَواحِشَ هى معاصى الجوارح كالزنا وغيره. وقوله تعالى : وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ لم يقل الحق تعالى : والذين لم يغضبوا لأن الغضب وصف بشرى ، لا ينفك عنه مخلوق ، فالمطلوب المجاهدة فى دفعه ، وردّ ما ينشأ عنه ، لا زواله من أصله ، فعدم وجوده فى البشر أصلا نقص ، ولذلك قال الشافعي رضي اللّه عنه : «من استغضب ولم يغضب فهو حمار» فالشرف هو كظمه بعد ظهوره ، لا زواله بالكلية.
وقوله تعالى : وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ قال القشيري : المستجيب لربه هو الذي لا يبقى له نفس إلا على موافقة رضاه ، ولا يبقى لهم منه بقية ، وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ أي : لا يستبدّ [أحدهم ] «2» برأى ، ويتّهم رأيه وأمره ، ثم إذا أراد القطع توكّل على اللّه. ه.
وحاصل ما اشتملت عليه الآية فى رد الغضب : أربع مقامات الأول : قوم من شأنهم الغفران مطلقا ، قدروا أو عجزوا ، لا يتحركون فى الانتصار قط ، وهو قوله تعالى : وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ والثاني : قوم قادرون على إنفاذ الغضب ، فتحركوا فى الانتصار ، ثم عفوا بعد الاقتدار ، وهذا قوله : وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ ، ثم قال : فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ. والثالث : قوم قدروا وانتصروا ، وأخذوا حقهم ، لكن وقفوا عند ما حدّ لهم ، وهو قوله : وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ .. الآية. والرّابع : قوم ظلموا ، فعفوا ، وزادوا الإحسان إلى من أساء إليهم ، والدعاء له بالمغفرة ، حتى يصير مرحوما بهم ، وهى رتبة الصدّيقية ، أن ينتفع بهم أعداؤهم ، وهو قوله تعالى :
وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ، ولذلك جعل اللّه هذا القسم من عزم الأمور.
___________
(1) على هامش النّسخة الأم مايلى : قلت : هذا التفسير الذي نقله عن ابن جزى باطل ، يجل كلام اللّه تعالى عنه ، والأحاديث التي ذكرها كلها موضوعة ، ما عدا : «لو وزن إيمان أبى بكر ..» وما عدا حديث : أنا مدينة العلم ، وعلىّ بابها.
(2) ما بين المعقوفتين مستدرك من لطائف الإشارات.(5/226)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 227
وعند الصوفية : ثلاث طبقات : العامة ينتصرون ، والخاصة لا ينتصرون ، لكن يرفعون أمرهم إلى اللّه فى أخذ حقهم من ظالمهم ، وخاصة الخاصة يحسنون لمن أساء إليهم ، كما تقدم. وقال القشيري : وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ وهو الظلم ، ينتصرون لعلمهم أن الظلم أصابهم من قبل أنفسهم ، فينتصرون من الظالم ، وهو النّفس ، ويكبحون عنانها من الرّكض فى ميدان المخالفة. ثم قال : قوله : وَلَمَنِ انْتَصَرَ .. الآية ، علم اللّه أنّ من عباده من لا يجد الحرية من أحكام النّفس ، ولا يستمكن من محاسن الخلق ، فرخّص لهم فى المكافأة على سبيل العدل والقسط ، وإن كان الأولى بهم الصفح والعفو. ه.
ثم ذكر وبال الظلم وعقوبته ، فقال :
[سورة الشورى (42) : الآيات 44 الى 48]
وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (44) وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ (45) وَما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ (46) اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ ما لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (47) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاغُ وَإِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ (48)
يقول الحق جل جلاله : وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ أي : فما له من أحد يلى هدايته من بعد إضلال اللّه إياه ، ويمنعه من عذابه. وَتَرَى الظَّالِمِينَ يوم القيامة ، وهم الذين أضلهم اللّه ، لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ حين يرون العذاب ، وأتى بصيغة الماضي للدلالة على تحقيق الوقوع ، يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ رجعة إلى الدنيا مِنْ سَبِيلٍ حتى نؤمن ونعمل صالحا.(5/227)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 228
وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها على النّار ، يدلّ عليها ذكر العذاب. والخطاب لكلّ من يتأتى منه الرّؤية خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ متذللين متضائلين مما دهاهم ، فالخشوع : خفض البصر وإظهار الذل ، يَنْظُرُونَ إلى النار مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ ضعيف بمسارقة ، كما ترى المصبور ينظر إلى السيف عند إرادة قتله. وَقالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ بالتعرض للعذاب الخالد يَوْمَ الْقِيامَةِ ، و«يوم» : متعلق بخسروا. وقول المؤمنين واقع فى الدنيا. ويقال ، أي : يقولونه يوم القيامة ، إذا رأوهم على تلك الصفة : أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ دائم ، وَما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ يَنْصُرُونَهُمْ برفع العذاب عنهم مِنْ دُونِ اللَّهِ حسبما كانوا يرجون ذلك فى الدنيا ، وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ إلى النّجاة.
اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ إلى ما دعاكم إليه على لسان نبيه ، مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ أي : يوم القيامة لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ أي : لا يرده اللّه بعد ما حكم بمجيئه ، ف «من» متعلق ب «لا مرد» ، أو : ب «يأتى» أي : من قبل أن يأتى من اللّه يوم لا يقدر أحد على رده ، ما لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ أي : مفر تلتجئون إليه ، وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ أي : وليس لكم إنكار لما اقترفتموه لأنه مدون فى صحائف أعمالكم ، وتشهد عليكم جوارحكم.
فَإِنْ أَعْرَضُوا عن الإيمان فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً رقيبا ، تحفظ أعمالهم ، وتحاسبهم ، إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ ما عليك إلا تبليغ الرّسالة ، وقد بلغت ، وليس المانع لهم من الإيمان عدم التبليغ ، وإنما المانع :
الطغيان وبطر النّعمة ، كما قال تعالى : وَإِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً أي : نعمة من الصحة ، والغنى ، والأمن ، فَرِحَ بِها وقابلها بالبطر ، وتوصل بها إلى المخالفة والعصيان. وأريد بالإنسان الجنس ، لقوله تعالى :
وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ ، بلاء ، من مرض ، وفقر ، وخوف ، بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ بليغ الكفر ، ينسى النّعمة رأسا ، ويذكر البلية ، ويستعظمها ، بل يزعم أنها أصابته من غير استحقاق.
وأفرد الضمير فى (فرح) مراعاة للفظ ، وجمعه فى «تصبهم» مراعاة للمعنى. وإسناد هذه الخصلة إلى الجنس مع كونها من خواص الجنس ، لغلبتها فيهم. وتصدير الشرطية الأولى بإذا ، مع إسناد الإذاقة إلى نون العظمة للتنبيه على أن إيصال الرّحمة محقق الوجود ، كثير الوقوع ، وأنه مراد بالذات ، كما أن تصدير الثانية بأن ، وإسناد الإصابة إلى السيئة ، وتعليلها بأعمالهم للإيذان بندرة وقوعها ، وأنها غير مرادة بالذات ، «إن رحمتى سبقت غضبى». ووضع الظاهر موضع الضمير للتسجيل على أن هذا الجنس موسوم بكفران النّعم. قاله أبو السعود.
الإشارة : من تنكبته العناية السابقة ، وأدركته الغواية اللاحقة ، لم ينفع فيه وعظ ولا تذكير ، وليس له من عذاب اللّه ولىّ ولا نصير ، فإذا تحققت الحقائق ، وطلب الرّجوع ، لم يجد له سبيلا ، وبقي فى الهوان خاشعا ذليلا ، فيعيرهم(5/228)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 229
من سبقت لهم العناية ، من أهل الجد والتشمير ، ويقولون : هؤلاء الذين خسروا أنفسهم ، حيث لم يتعبوها فى مرضاة اللّه ، وأهليهم ، حيث لم يذكّروهم اللّه.
قال القشيري : قوله تعالى : اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ بالوفاء بعهده ، والقيام بحقّه ، والرّجوع من مخالفته إلى موافقته ، والاستسلام فى كلّ وقت لحكمه والطريق اليوم إلى الاستجابة مفتوح ، وعن قريب سيغلق الباب على القلب بغتة ، ويؤخذ فلتة. ه. ويقال لكلّ واعظ وداع : فَإِنْ أَعْرَضُوا فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً ... الآية.
ثم بيّن وجه ما تقدم ، من أن الأمور كلها بيده ، هداية وإضلالا ، وإنعاما وابتلاء ، فقال :
[سورة الشورى (42) : الآيات 49 الى 50]
لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ ما يَشاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (50)
يقول الحق جل جلاله : لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي : يملك التصرف فيهما ، وفى كلّ ما فيهما ، كيف يشاء ، ومن جملته : أن يقسم النّعمة والبلية ، حسبما يريده. يَخْلُقُ ما يَشاءُ مما يعلمه الخلق ومما لا يعلمونه ، يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً من الأولاد وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ منهم ، من غير أن يكون لأحد فى ذلك مدخل ، أَوْ يُزَوِّجُهُمْ أي : يقرن بين الصنفين ، ويهبهما جميعا ذُكْراناً وَإِناثاً ، بأن تلد غلاما ثم جارية ، أو تلدهما معا. وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً لا نسل له. والعقيم : الذي لا يولد له ، رجل أو امرأة.
وقدّم الإناث أولا على الذكور لأن سياق الكلام أنه فاعل ما يشاء ، لا ما يشاؤه الإنسان ، فكان ذكر الإناث اللاتي من جملة ما لا يشاؤه الإنسان أهمّ ، أو : لأن الكلام فى البلاء ، والعرب تعدهن عظيم البلايا ، أو : تطييب قلوب آبائهم ، ولمّا أخّر الذكور - وهم أحقاء بالتقديم - تدارك ذلك بتعريفهم لأن التعريف تنويه وتشريف ، ثم أعطى بعد ذلك كلا الجنسين ما يستحقه من التقديم والتأخير ، فقال : ذُكْراناً وَإِناثاً. وقيل المراد : أحوال الأنبياء - عليهم السّلام - حيث وهب لشعيب ولوط إناثا ، ولإبراهيم ذكورا ، وللنبى صلّى اللّه عليه وسلم ذكورا وإناثا ، وجعل يحيى وعيسى عقيمين.
إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ مبالغ فى العلم والقدرة ، فيفعل ما فيه حكمة ومصلحة.
الإشارة : يهب لمن يشاء إناثا ، علوما وحسنات ، ويهب لمن يشاء الذكور ، أذواقا وواردات ، ويجعل من يشاء عقيما ، لا علم ولا ذوق ، وانظر لطائف المنن «1». أو تقول : يهب لمن يشاء إناثا من ورّث علم الرّسوم الظاهر ،
___________
(1) للشيخ أحمد بن عطاء السكندرى. باب تبيان معنى آيات كتاب اللّه تعالى ص 166.(5/229)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 230
وأقيمت بعده ، ويهب لمن يشاء الذكور من ورّث علم الأذواق والوجدان ، وعمّر رجالا ، أو يزوجهم من ورثهما ، ويجعل من يشاء عقيما لم يترك وارثا ، لا من الظاهر ، ولا من الباطن ، وقد يكون كاملا وهو عقيم ، وقد يكون غير كامل وله أولاد كثيرة ، لكن الغالب على من له أولاد أن يتسع بهم ، بخلاف العقيم. واللّه تعالى أعلم.
ثم قرر عظمة ملكه ، فقال :
[سورة الشورى (42) : الآيات 51 الى 53]
وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51) وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِراطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (53)
يقول الحق جل جلاله : وَما كانَ لِبَشَرٍ أي : ما صحّ لأحد من البشر أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ بوجه من الوجوه إِلَّا وَحْياً إلهاما ، كقوله عليه الصلاة والسّلام : «ألقى فى روعى» «1» أو : رؤيا فى المنام لقوله صلّى اللّه عليه وسلم :
«رؤيا الأنبياء وحي» «2» كأمر إبراهيم عليه السّلام بذبح الولد ، وكما أوحى إلى أم موسى ، روى عن مجاهد : «أوحى اللّه الزبور إلى داود عليه السّلام - فى صدره». أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ بأن يسمع كلاما من اللّه ، من غير رؤية السامع من يكلّمه ، كما سمع موسى عليه السّلام من الشجرة ، ومن الفضاء فى جبل الطور ، وليس المراد به حجاب اللّه تعالى على عبده حسا إذ لا حجاب بينه وبين خلقه حسا ، وإنما المراد : المنع من رؤية الذات بلا واسطة.
أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا أو : بأن يرسل ملكا فَيُوحِيَ الملك بِإِذْنِهِ بإذن اللّه تعالى وتيسيره ما يَشاءُ من الوحى. وهذا هو الذي يجرى بينه تعالى وبين أنبيائه فى عامة الأوقات. روى : أن اليهود قالت للنبى صلّى اللّه عليه وسلم : ألا تلكم اللّه ، وتنظر إليه إن كنت نبيا ، كما كلمه موسى ، ونظر إليه؟ فقال صلّى اللّه عليه وسلم : «لم ينظر موسى إلى اللّه تعالى» فنزلت «3».
___________
(1) ورد : «إن روح القدس نفث فى روعى أنّ نفسا لن تموت حتى تستكمل أجلها ، وتستوعب رزقها ...» الحديث. أخرجه أبو نعيم فى الحلية (10/ 27) من حديث أبى أمامة رضي اللّه عنه. وجاءت كلمة «ألقى فى روعى» بنصها عن أبى سعيد الخدري فى حديث الرّقية بالفاتحة ، ذلك عند ما قال الرّسول صلّى اللّه عليه وسلم : «وما يدريك أنها رقية»؟ فقال أبو سعيد : ألقى فى روعى». الحديث أخرجه أحمد (3/ 50).
(2) أخرجه البخاري فى (الوضوء ، باب التخفيف فى الوضوء ، 138) عن عبيد بن عمير (تابعي) موقوفا ، وقال الحافظ ابن حجر فى فتح الباري (1/ 289) : «رواه مسلم مرفوعا».
(3) قال الحافظ ابن حجر فى الكافي الشاف (ص 146) : «لم أجده».(5/230)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 231
والذي عليه جمهور المحققين أن نبينا عليه الصلاة والسّلام رأى ربه ليلة المعراج ، وكلّمه مشافهة ، وعليه حمل البيضاوي قوله تعالى : إِلَّا وَحْياً لأن الوحى هو : الكلام الخفي ، المدرك بسرعة ، أعم من أن يكون مشافهة أو غيرها.
قال الطيبي : وإذا حمل الوحى على ما قاله البيضاوي ، وأنه المشافهة ، المعنى بقوله : فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى
«1» اتجه ترتيب الآية ، وأنه ذكر أولا الكلام بلا واسطة ، بل مشافهة ، وهو حال نبينا صلّى اللّه عليه وسلم ، ثم ذكر ما كان بغير واسطة ، ولكن لا بمشافهة ، بل من وراء الغيب ، ثم ذكر الكلام بواسطة الإرسال «2». ه. بالمعنى.
إِنَّهُ عَلِيٌّ متعال عن صفات المخلوقين ، لا يتأتى جريان المفاوضة بينه تعالى وبينهم إلا بأحد الوجوه المذكورة ، ولا تكون المكافحة إلا بالغيبة عن حس البشرية ، حَكِيمٌ يجرى أفعاله على سنن الحكمة ، فيكلم تارة بواسطة ، وأخرى بدونها ، مكافحة ، أو غيرها.
وَكَذلِكَ أي : ومثل ذلك الإيحاء البديع - كما وصفنا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا وهو القرآن ، الذي هو للقلوب بمنزلة الرّوح للأبدان ، فحييت الحياة الأبدية. ما كُنْتَ تَدْرِي قبل الوحى مَا الْكِتابُ أىّ شىء هو ، وَلَا الْإِيمانُ بما فى تضاعيف الكتاب من الأمور التي لا تهتدى إليها العقول ، لا الإيمان بما يستقل به العقل والنّظر ، فإنّ درايته صلّى اللّه عليه وسلم مما لا ريب فيه قطعا. قال القشيري : ما كنت تدرى قبل هذا ما القرآن ولا الإيمان بتفصيل هذه الشرائع. وقال الشيخ البكري : أي الإيمان على الوجه الأخص ، المرتب على تنزلات الآيات ، وتلاوة البينات ، واستكشاف وجه الحق بأنوار العلم المنزل على قلبه من حضرة ربه. ه.
وقال ابن المنير : الإيمان برسالة نفسه ، وهو المنفي عنه قبل الوحى لأن حقيقة الإيمان التصديق باللّه وبرسوله. ه.
وَلكِنْ جَعَلْناهُ أي : الروح الذي أوحيناه إليك نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ هدايته مِنْ عِبادِنا ، وهو الذي يصرف اختياره نحو الاهتداء به. وَإِنَّكَ لَتَهْدِي بذلك النّور من نشاء هدايته ، أو : وإنك لتدعو إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ
___________
(1) الآية : 10 من سورة النّجم.
(2) على هامش النّسخة الأساسية مايلى :
وعلى كلام البيضاوى يختل نظام القرآن المعجز ببلاغته ، إذ معناه : وما كان لبشر أن يكلمه اللّه إلا كلاما مواجهة أو من وراء حجاب .. إلخ ، وهذا غير معقول صدوره من بلغاء البشر ، فضلا عن كلام اللّه ، فأعجب للطيبى وللمؤلف ، ولكلّ من أمره على هذا المعنى المختل. ه.(5/231)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 232
هو الإسلام وسائر الشرائع والأحكام ، صِراطِ اللَّهِ بدل من الأول ، وإضافته إلى الاسم الجليل ، ثم وصفه بقوله تعالى : الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لتفخيم شأنه ، وتقرير استقامته ، وتأكيد وجوب سلوكه فإن كون جميع ما فيهما من الموجودات له تعالى ، خلقا ، وملكا ، وتصرفا ، مما يوجب ذلك أتم الإيجاب. أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ أي : الأمور قاطبة راجعة إليه ، لا إلى غيره ، فيتصرف فيها على وفق حكمته ومشيئته.
الإشارة : قد تحصل للأولياء المكالمة مع الحق تعالى بواسطة تجلياته ، فيسمعون خطابه تعالى من البشر والحجر ، أو بلا واسطة ، بحيث يسمعون الكلام من الفضاء ، وإليه أشار الشيخ أبو الحسن رضي اللّه عنه بقوله : «وهب لنا مشاهدة تصحبها مكالمة» ، ولا تكون هذه الحالة إلا للأكابر من أهل الفناء والبقاء. وأما مكالمة الحق من النّور الأقدس ، بلا واسطة ، فهو خاص نبينا صلّى اللّه عليه وسلم ليلة الإسراء. قال شيخ شيوخنا ، سيدى عبد الرّحمن الفاسى رضي اللّه عنه :
والذي عندى أن التكلم على المكافحة والمشافهة إنما يكون بالانخلاع عن البشرية ، ومحوها ، والبقاء بصفات الربوبية ، وذلك إشارة إلى أنه - عليه السّلام - إنما شوفه وكلّم بعد العروج عن أرض الطبيعة إلى سماء الحقيقة ، وكان بالأرض يكلم بالواسطة ، وموسى كلّم بغير واسطة ، ولكن بغير مشافهة ، ولذلك كان كلامه بالأرض ، ولم يعط الرؤية لأنها لا تكون فى الأرض ، أي : فى أرض البشرية بل لا بد من الغيبة عنها. وذهب الورتجبي إلى أن الحصر فيما ذكر فى الآية إنما هو لمن كان فى حجاب البشرية ، فأما من خرج عنها إلى الغيب ، وألبس نور القرب وكحّل عينه بنوره تعالى ، ومدّ سمعه بقوة الرّبوبية ، فإنه يخاطب كفاحا وعيانا. ونقل مثل ذلك عن الواسطي ، فراجع بسطه فيه. والفرق بينه وبين ما ذكرنا : أن خطاب المكافحة عنده خارجة من الثلاثة المذكورة فى الآية ، وعندنا داخلة فى قوله : إِلَّا وَحْياً لأنه أعم من المشافهة ، واللّه أعلم.
وقوله تعالى : وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ أي : طريق الوصول والترقي أبدا ، فيؤخذ منه : أن وساطته صلّى اللّه عليه وسلم لا تنقطع عن المريد أبدا لأن الترقي يكون باستعمال أدب العبودية ، وهى مأخوذه عنه صلّى اللّه عليه وسلم ، وكما أن الترقي لا ينقطع فالأدب - الذي هو سلوك طريقته صلّى اللّه عليه وسلم لا ينقطع. واللّه تعالى أعلم ، وصلّى اللّه على سيدنا محمد وآله وسلم.(5/232)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 233
سورة الزّخرف
مكية. وهى تسع وثمانون آية. ومناسبتها لما قبلها قوله : ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ ... «1» إلخ ، مع قوله :
وَالْكِتابِ الْمُبِينِ إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا ، فإنه تتميم له.
[سورة الزخرف (43) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
حم (1) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (4)
أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ (5)
يقول الحق جل جلاله : حم يا محمد ، وَحق الْكِتابِ الْمُبِينِ أي : المبين لما أنزل عليهم ، لكونه بلغتهم ، وعلى أساليبهم ، أو : الموضّح لطريق الهدى من الضلالة ، أو : المبيّن لكلّ ما تحتاج إليه الأمة فى أبواب الديانة. وجواب القسم : إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا بلغتكم لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ أي : جعلنا ذلك الكتاب قرآنا عربيا لكى تفهموه ، وتحيطوا بما فيه من النّظم الرّائق ، والمعنى الفائق ، وتقفوا على ما تضمنه من الشواهد القاطعة بخروجه عن طوق البشر ، وتعرفوا حق النّعمة فى ذلك ، فتنقطع أعذاركم بالكلية.
وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا أي : وإن القرآن العظيم مثبت عند اللّه فى اللوح المحفوظ ، دليله قوله تعالى :
بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ. فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ «2». وسمّى أمّ الكتاب لأنه أصل الكتب السماوية ، منه تنقل وتنسخ. وقوله تعالى : لَعَلِيٌّ خبر" إن" أي : إنه رفيع القدر بين الكتب ، شريف المنزلة لكونه معجزا من بينها. أو : فى أعلى طبقات البلاغة. حَكِيمٌ ذو حكمة بالغة ، . أو : محكم ، لا ينسخه كتاب.
وبعد ما بيّن علو شأنه ، وبيّن أنه أنزله بلغتهم ليعلموه ، ويؤمنوا به ، ويعملوا بما فيه ، عقّب ذلك بإنكار أن يكون الأمر بخلافه ، فقال : أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ أي : ننحيه ونبعده. والضرب : مجاز ، من قولهم : ضرب الغرائب
___________
(1) الآية 52 من سورة الشورى. [.....]
(2) الآيتان : 21 - 22 من سورة البروج.(5/233)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 234
عن الحوض «1». وفيه إشعار باقتضاء الحكمة توجيه الذكر إليهم ، وملازمته لهم ، كأنه يتهافت عليهم ثم يضربه عنهم. والفاء : للعطف على محذوف ، أي : أنهملكم فنضرب عنكم الذكر صَفْحاً أي : إعراضا ، مصدر ، من :
صفح عنه : إذا أعرض ، منصوب على أنه مفعول له ، على معنى : أفنعزل عنكم إنزال القرآن ، وإلزام الحجة به إعراضا عنكم. ويجوز أن يكون مصدرا مؤكدا لما دلّ عليه «نضرب» لأنه فى معنى الصفح ، كأنه قيل : أفنفصح صفحا أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ ، أي : لأن كنتم منهمكين فى الإسراف ، مصرّين عليه لأن حالكم اقتضى تخيلتكم وشأنكم ، حتى تموتوا على الكفر والضلالة ، فتبقوا فى العذاب الخالد ، لكن بسعة رحمتنا لا نفعل ذلك ، بل نهديكم إلى الحق ، بإرسال الرّسول الأمين ، وإنزال الكتاب المبين.
ومن قرأ بالكسر «2» فشرط حذف جوابه لدلالة ما قبله عليه ، وهو من الشرط الذي يصدر عن الجازم بصحة الأمر ، كما يقول الأجير : إن كنت عملت لك فوفّنى حقى ، وهو عالم بذلك. وعبّر ب «أن» إخراجا للمحقق مخرج المشكوك لاستهجالهم «3» ، كأن الإسراف من حقه ألا يقع.
الإشارة : (حم) أي : حببناك ، ومجدناك ، وملكناك ، وحق الكتاب المبين. ثم استأنف فقال : (إنا جعلناه) أي :
ما شرفناك به أنت وقومك (قرآنا عربيا) يفهمه من يسمعه (لعلكم تعقلون) عن اللّه ، فتشكروا نعمه. (و إنه فى أمّ الكتاب) أي : وإن الذي شرفناكم به فى أمّ الكتاب. قال الورتجبي : أي : إنه صفتى ، كان فى ذاته «4» منزها عن النقائص والافتراق - أي : منزها عن الحروف والأصوات ، التي من شأنها التغير ، وعن التقديم والتأخير ، وهو افتراق كلماته. إذ هما من صفات الحدث. وأم الكتاب عبارة عن [ذاته القديم ، لأنها] «5» أصل جميع الصفات ، (لدينا) معناه : ما ذكرنا أنه فى أمّ الكتاب عندنا (لعلىّ) علا عن أن يدركه أحد بالحقيقة ، ممتنع من انتحال المبطلين ، وتأويل الجاهلين ، (حكيم) محكم مبين. وقال جعفر : علىّ عن درك العباد وتوهمهم ، حكيم فيما دبّر وأنشأ وقدّر. ه.
فانظره ، فإنّ هذه من صفات الحق ، والكلام فى أوصاف القرآن.
وقوله تعالى : أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً ... الآية ، قال القشيري : وفى هذه إشارة لطيفة ، وهو : ألا يقطع الكلام عمّن تمادى فى عصيانه ، وأسرف فى أكثر شأنه ، [فأحرى ] «6» أن من لم يقصّر فى إيمانه ، أو تلطّخ
___________
(1) الغرائب : جمع غريبة ، وهى الإبل الغريبة عن إبل صاحب الحوض.
(2) قرأ نافع ، وحمزة ، والكسائي ، وأبو جعفر «إن كنتم» بكسر الهمزة ، على أنها شرطية. وقرأ الباقون بالفتح على العلة. انظر الإتحاف (2/ 453).
(3) فى الأصول (لاستهجانهم) والمثبت من تفسير أبى السعود.
(4) فى الورتجبي [ذاتى ].
(5) فى الورتجبي : [ذات القدم لأنه ].
(6) فى الأصول [أرجو].(5/234)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 235
بعصيانه ، ولم يدخل خلل فى عرفانه ، فإنه لا يمنع عنه رؤية لطائف غفرانه. ه. يعنى : أن الحق جل جلاله لم يقطع كلامه عمن تمادى فى ضلاله ، فكيف يقطع إحسانه عمن تمسك بإيمانه ، ولو أكثر من عصيانه. وكذلك أهل النّسبة التصوفية ، إذا اعوجّ أخوهم ، لا يقطعون عنه كلامهم وإحسانهم ، بل يلاطفونه ، حتى يرجع ، وهذا مذهب الجمهور.
ثم سلّى نبيه بمن قبله ، فقال :
[سورة الزخرف (43) : الآيات 6 الى 8]
وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (6) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (7) فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ (8)
يقول الحق جل جلاله : وَكَمْ أَرْسَلْنا أي : كثيرا أرسلنا قبلك مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ فى الأمم الماضية فكذّبوهم واستهزءوا بهم. وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ ، فاصبر كما صبروا. ويحتمل أن يكون تقريرا لما قبله لبيان أن إسراف الأمم السابقة لم يمنعه تعالى من إرسال الرّسل إليهم ، وكونها تسلية للرسول صلّى اللّه عليه وسلم أظهر. فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً أي : فأهلكنا من الأمم السالفة من كان أكثر منهم طغيانا وإسرافا ، وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ أي : سلف فى القرآن غير مرة ذكر قصة الأولين ، وهى عدة له صلّى اللّه عليه وسلم ، ووعيد لقومه ، بطريق الأولوية. فمثل ما جرى على الأولين يجرى على هؤلاء لاشتراكهم فى الوصف. وظاهر الآية : أن النبي والرّسول واحد ، والمشهور : أن النّبى أعم ، ف كل رسول نبى ، ولا عكس ، فالنبى مقصور فى الحكم على نفسه ، والرّسول نبىّ مكلف بالتبليغ.
الإشارة : ما سليت به الأنبياء والرّسل يسلّى به الأولياء لأنهم خلفاؤهم ، ف كل من أوذى واستهزئ به يتذكر ما جرى على من كان أفضل منه من الأنبياء وأكابر الأولياء ، فيخف عليه الأذى. وباللّه التوفيق.
ثم ذكر إقرارهم بوجود الصانع ، فقال :
[سورة الزخرف (43) : الآيات 9 الى 14]
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (9) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (10) وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ تُخْرَجُونَ (11) وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ (12) لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13)
وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ (14)(5/235)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 236
يقول الحق جل جلاله : وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ أي : المشركين مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ أي : ينسبون خلقها إلى من هذا وصفه فى نفس الأمر لا أنهم يعبّرون عنه بهذا العنوان. واختار هذين الوصفين للإيذان بانفراده بالإبداع والاختراع والتدبير لأن العزة تؤذن بالغلبة والاقتدار ، والعلم يؤذن بالتدبر والاختيار ، وليرتب عليه ما يناسبه من الأوصاف ، وهو قوله : الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً «1» أي :
موضع قرار كالمهد المعلق فى الهواء ، وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلًا تسلكونها فى أسفاركم لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ أي : لكى تهتدوا بسلوكها إلى مقاصدكم ، أو : بالتدبر فيها إلى توحيد ربكم ، الذي هو المقصد الأصلى.
وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ بمقدار يسلم معه العباد ، وتحتاج إليه البلاد ، على ما تقتضيه مشيئته المبنية على الحكم والمصالح ، فَأَنْشَرْنا بِهِ أي : أحيينا بذلك الماء بَلْدَةً مَيْتاً خاليا عنه الماء والنّبات.
وقرئ : «ميّتا» بالتشديد «2». وتذكيره لأن البلدة بمعنى البلد. والالتفات إلى نون العظمة لإظهار كمال العناية بأمر الإحياء والإشعار بعظيم خطره ، كَذلِكَ تُخْرَجُونَ أي : مثل ذلك الإحياء ، الذي هو فى الحقيقة : إخراج النّبات من الأرض ، تخرجون من قبوركم أحياء. وفى التعبير عن إخراج النّبات بالإنشاء ، الذي هو إحياء الموتى ، وعن إحيائهم بالإخراج تفخيم لشأن الإنبات ، وتهوين لأمر البعث ، لتقويم سنن الاستدلال ، وتوضيح منهاج القياس.
وهذه الجمل ، من قوله الَّذِي جَعَلَ ... : استئناف منه تعالى ، وليست من مقول الكفار لأنهم ينكرون الإخراج من القبور ، بل الآية حجة عليهم فى إنكار البعث ، وكذا قوله : وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها ، أي :
أصناف المخلوقات بحذافيرها ، على اختلاف أنواعها وألوانها. وقيل : الأزواج : ما كان مزدوجا ، كالذكر والأنثى ، والفوق والتحت ، والأبيض والأسود ، والحلو والحامض ، وقيل : كل ما ظهر من الغيب فهو مزدوج. والفرد هو اللّه.
___________
(1) أثبت المفسر قراءة : «مهادا» بكسر الميم وفتح الهاء ، وألف بعدها ، وهى قراءة نافع وابن كثير وأبى عمرو ، وابن عامر. وقرأ عاصم ، وحمزة ، والكسائي : «مهدا» بفتح الميم وسكون الهاء ، مع القصر.
(2) وبذلك قرأ أبو جعفر .. انظر الإتحاف (2/ 454).(5/236)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 237
وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ أي : ما تركبونه ، يقال : ركبوا فى الفلك ، وركبوا الأنعام ، فغلب المتعدّى بغير واسطة لقوته [على ] «1» المتعدى بواسطة ، فقيل : تركبونه.
لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ : ولتستعلوا على ظهور ما تركبونه من الفلك والأنعام ، ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ تذكروها بقلوبكم ، معترفين بها بألسنتكم ، مستعظمين لها ، ثم تحمدوا عليها بألسنتكم ، وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا أي : ذلّل لنا هذا المركوب ، متعجبين من ذلك وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ مطيقين. يقال : أقرن الشيء : إذا أطاقه ، وأصله : وجده قرينه لأن الصعب لا يكون قرينا للضعيف إلا إذا ذللّه اللّه وسهّله ، وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ أي : راجعون. وفيه إيذان بأن حق الرّاكب أن يذكر عند ركوبه مركب الدنيا ، آخر مركبه منها ، وهو : الجنازة فيبنى أموره فى مسيره على تلك الملاحظة ، حتى لا يخطر بباله شىء من زينة الدنيا ، وملاهيها وأشغالها.
وعن النّبى صلّى اللّه عليه وسلم «أنه كان إذا وضع رجله فى الرّكاب ، قال : «بسم اللّه» فإذا استوى على الدابة قال : الحمد للّه الذى سخر لنا هذا ... إلى : لَمُنْقَلِبُونَ ، ثم كبّر «ثلاثا ، وهلل ثلاثا ، ثم قال : «اللهم اغفر لى ..» «2» ، وحكى أن قوما ركبوا ، وقالوا : «سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا ... الآية ، وفيهم رجل على ناقة لا تتحرك هزالا ، فقال : إنى مقرن لهذه - أي مطيق - فسقط منها لوثبتها ، واندقت عنقه «3». وينبغى ألا يكون ركوب العاقل للشهرة والتلذذ ، بل للاعتبار ، فيحمد اللّه ويشكره على ما أولاه من نعمه ، وسخّر له من أنعامه.
الإشارة : قد اتفقت الملل كلها على وجود الصانع ، إلا من لا عبرة به من الفلاسفة ، وإنما كفر من كفر بالإشراك ، أو : بوصف الحق على غير ما هو عليه ، أو : بجحد الرّسول. وقد تواطأت الأدلة العقلية والسمعية على وجود الحق وظهوره ، بظهور آثار قدرته ، والصفة لا تفارق الموصوف ، فدلّ بوجود آثاره على وجود أسمائه ، وبوجود أسمائه ، على وجود أوصافه ، وبثبوت أوصافه على وجود ذاته. فأهل السلوك يكشف لهم أولا عن وجود آثاره ، ثم عن أسمائه ، ثم عن صفاته ، ثم عن شهود ذاته. وأهل الجذب يكشف لهم أولا عن ذاته ، ثم عن أوصافه ، ثم عن أسمائه ، ثم عن آثاره ، فربما التقيا فى الطريق ، هذا فى ترقيه ، وهذا فى تدليه ، كما فى الحكم.
___________
(1) فى الأصول (فى) والمثبت من تفسير النّسفى.
(2) أخرجه ، مطولا ، أبو داود فى (الجهاد ، باب ما يقول الرّجل إذا ركب 3/ 77 ، ح 2602) والترمذي فى (الدعوات ، باب ما يقول إذا ركب دابة 5/ 467 ح 3446). وقال : [حديث حسن صحيح ]. وابن حبان (الأذكار ، باب ما يقول إذا ركب الدابة ح 2370 - 2381. ص 591 موارد) والحاكم (2/ 91) وصحّحه على شرط مسلم. من حديث سيدنا على رضي اللّه عنه وكرم وجهه.
(3) عزاه السيوطي فى الدر المنثور (5/ 717) لعبد بن حميد ، وابن المنذر ، عن سليمان بن يسار.(5/237)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 238
وقوله تعالى : الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً ... «1» إلخ ، قال القشيري : كما جعلها قرارا لأشباحهم ، جعل الأشباح قرارا لأرواحهم فهى سكّان النّفوس ، كما أن الخلق سكّان الأرض ، فإذا انتهت مدة كون النّفوس ، حكم اللّه بخرابها .. كذلك إذا فارقت الأرواح الأشباح بالكليّة ، قضى اللّه بخرابها.
ثم قال فى قوله : فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً : وكما يحيى الأرض بالمطر يحيى القلوب بحسن النّظر. والذي خلق من الأزواج أصناف الخلق ، كذلك حبس عليكم الأحوال كلها ، فمن رغبة فى الخيرات ، وخوف يحملكم على ترك الزلات ، ورجاء يبعثكم على فعل الطاعات ، طمعا فى المثوبات ، وغير ذلك من فنون الصفات ، وكما سخّر الأنعام ، وأعظم المنّة بذلك ، سخّر للمؤمنين مركب التوفيق ، يحملهم عليه إلى بساط الطاعة ، وسهّل للمريدين مركب الإرادة ، وحملهم عليه إلى عرصات الجود ، وفضاء الشهود ، وسهّل للعارفين مركب الهمّة ، فأناخوا بالحضرة القدسية ، وعند ذلك محط الكافة ثم لا تخرق سرادقات العزة همّة مخلوق ، سواء كان ملكا مقرّبا ، أو نبيّا مرسلا ، أو وليّا مكرّما.
فعند سطوات العزّ يتلاشى كلّ مخلوق ، ويقف وراءها كلّ محدث مسبوق. ه. ببعض المعنى. وسرادقات العز :
حجاب الكبرياء ، فلا تحصل الإحاطة بكنه الرّبوبية لأحد من الخلق. ولهذا يبقى الترقي أبدا للعارفين ، فى هذه الدار ، وفى تلك الدار ، ولا يحصل على غاية أسرار الرّبوبية أحد ، ولو بقي يترقى أبدا سرمدا. واللّه تعالى أعلم.
ثم أبطل مذهب أهل الشرك ، فقال :
[سورة الزخرف (43) : الآيات 15 الى 19]
وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (15) أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ (16) وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (17) أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ (18) وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ (19)
يقول الحق جل جلاله : وَجَعَلُوا أي : المشركين لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً حيث قالوا : الملائكة بنات اللّه ، فجعلوهم جزءا له ، وبعضا منه ، كما يكون الولد لوالده جزءا. وهذا متصل بقوله : وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ ... إلخ ، أي :
___________
(1) راجع التعليق على هذه القراءة فى موضعها أثناء التفسير.(5/238)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 239
ولئن سألتهم عن خالق السموات والأرض ليعترفن به ، وقد جعلوا له سبحانه بألسنتهم ، واعتقادهم مع ذلك الاعتراف ، من عباده جزءا. وعبّر بالجزء لمزيد استحالته فى حق الواحد الأحد ، من جميع الجهات. وقرأ أبو بكر وحمد بضمتين. إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ لجحود للنعمة ، ظاهر الكفران ، مبالغ فيه لأن نسبة الولد إليه أشنع الكفر. والكفر أصل الكفران كله.
ثم ردّ عليهم بقوله : أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ ، الهمزة للإنكار ، تجهيلا [وتعجيبا] «1» من شأنهم ، حيث ادّعوا أنه اختار لنفسه أخس الأشياء ، ولهم الأعلى ، أي : بل أتخذ لنفسه أخس الصنفين ، واختار لكم أفضلهما؟ على معنى : هبوا أنكم اجترأتم إضافة جنس الولد إليه سبحانه ، مع استحالته وامتناعه ، أما كان لكم شىء من العقل ، ونبذة من الحياء ، حتى اجترأتم على التفوّه بهذه العظيمة ، الخارقة للمعقول ، من ادعاء أنه تعالى آثركم على نفسه بخير الصنفين وأعلاهما ، وترك له شرهما وأدناهما؟. وتنكير «بنات» ، وتعريف «البنين» لما اعتبر فيهما من الحقارة والفخامة.
وجملة : وَأَصْفاكُمْ : إما عطف على اتَّخَذَ ، داخل فى حكم [التعجيب ] «2» والإنكار ، أو : حال من فاعله ، بإضمار قد ، أو : بدونه ، على الخلاف. والالتفات إلى الخطاب لتأكيد الإجرام وتشديد التوبيخ.
ثم قرره بقوله : وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلًا أي : وإذا أخبر أحدهم بولادة ما جعل مثلا له سبحانه ، وهى الأنثى ، لأنهم جعلوا الملائكة بنات اللّه ، وجزءا منه إذ الولد لا بد أن يجانس الوالد ويشابهه. ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ يعنى : أنهم نسبوا إليه هذا الجنس ، ومن حالهم : أن أحدهم إذا قيل له : قد ولدت لك بنت ، اغتم ، واربدّ وجهه غيظا وتأسفا ، وهو مملوء من الكرب. والظلول : بمعنى الصيرورة ، أي : صار أسود فى الغاية من سوء ما بشر به.
أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا «3» فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ أي : أو يجعل للرحمن من الولد من هذه الصفة المذمومة صفته ، وهو أنه ينشأ فى الحلية ، أي : يتربّى فى الزينة والتخنث ، وإذا احتاج إلى مجاثاة الخصوم ، ومجاراة الرّجال ، كان غير مبين ، ليس عنده بيان ، ولا يأتى ببرهان لضعف عقولهن. قال مقاتل : لا تتكلم المرأة إلا وتأتى بالحجة عليها - أي : فى الغالب - وفيه : أنه جعل النّشأ فى الزينة من المعايب. فعلى الرّجل أن يجتنب ذلك ، له ولأولاده ، ويتزين بلباس التقوى. و«من» منصوب المحل ، أي : أو جعلوا من يربى فى الحلية - يعنى البنات - للّه - عز وجل. وقرأ الأخوان وحفص «ينشأ» ، أي : يربّى.
___________
(1) فى الأصول [وتعجبا]. [.....]
(2) فى الأصول [التعجب ].
(3) قرأ حفص وحمزة والكسائي : «ينشأ» بضم الياء ، وفتح النّون ، وتشديد الشين ، مضارع «نشّأ» معدّى بالتضعيف ، مبنيا للمفعول.
وقرأ الباقون : بفتح الياء ، وسكون النّون : وتخفيف الشين من «نشأ» لازم ، مبنى للفاعل. انظر الإتحاف (2/ 454).(5/239)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 240
وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ «1» الرَّحْمنِ إِناثاً أي : اعتقدوا الملائكة وسموهم إناثا. وهو بيان لتضمن كفرهم كفرا آخر ، وتقريع لهم بذلك وهو جعلهم أكمل العباد وأكرمهم على اللّه - عز وجل - أنقصهم رأيا. والعندية عندية منزلة ومكانة ، لا مكان. ومن قرأ «عباد» فجمع «عبد» ، وهو ألزم فى الاحتجاج مع أهل العناد لتضاد العبودية والولادة. أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ أي : أحضروا خلقهم ، فشاهدوا اللّه حين خلقهم إناثا حتى يحكموا بأنوثتهم ، فإنّ ذلك لا يعلم إلا بالمشاهدة ، وهو تجهيل لهم ، وتهكم بهم. وقرأ نافع بهمزتين ، أي : أحضروا خلقهم. سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ التي شهدوا بها على الملائكة من أنهم إناث ، فى ديوان أعمالهم. وَيُسْئَلُونَ عنها يوم القيامة ، وقرئ : شهاداتهم وهى قولهم : إن للّه جزءا من خلقه ، وإن للّه بنات ، وأنها الملائكة.
الإشارة : وجعلوا له من عباده جزءا ، أشركوا فى المحبة معه غيره ، والمطلوب : إفراد المحبة للمحبوب ، فلا يجب معه شيئا. إن الإنسان لكفور مبين ، حيث علم أن الحبيب الذي أنعم عليه واحد ، وأنه غيور ، لا يرضى لعبده أن يحب معه غيره.
قال القشيري : جعلوا الملائكة جزءا على التخصيص من جملة مخلوقاته. ه. أي : جعلوا له جزءا من عين الفرق ، ولو نظروا بعين الجمع لرأوا الأشياء كلها متدفقة من بحر الجبروت. وفى الآية تحذير من كراهية البنات ، حيث جعله من نعت أهل الكفر.
ثم أبطل شبهتهم ، فقال :
[سورة الزخرف (43) : الآيات 20 الى 25]
وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (20) أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (21) بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22) وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23) قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (24)
فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (25)
___________
(1) أثبت المفسر قراءة «عند» بالنون الساكنة وفتح الدال بلا ألف ، ظرفا ، وتصديقه إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ .... الأعراف/ 206. وهى قراءة ابن كثير ونافع ، وقرأ أبو عمرو ، وعاصم ، وحمزة ، والكسائي «عباد» بالألف. انظر الإتحاف (2/ 454 - 455).(5/240)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 241
يقول الحق جل جلاله : وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ عدم عبادتنا للملائكة ما عَبَدْناهُمْ ، أرادوا بذلك بيان أن ما فعلوه مرضى عنده تعالى ، ولو لا ذلك ما خلّى بينهم وبينها ، ويجاب : بأنه تعالى قد يخلى بين العبد ومعصيته ، لينفذ فيه ما سبق من درك الوعيد. وتعلقت المعتزلة بظاهر الآية فى أن اللّه تعالى لم يشأ الكفر من الكافر ، وإنما شاء الإيمان ، فإنّ الكفار ادّعوا أن اللّه شاء منهم الكفر ، وما شاء منهم ترك عبادة الأصنام ، حيث قالوا :
لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ أي : لو شاء بنا أن نترك عبادة الأصنام لمنعنا عن عبادتها ، لكنه لم يشأ ذلك. واللّه تعالى ردّ عليهم قولهم ، واعتقادهم ، بقوله : ما لَهُمْ بِذلِكَ القول مِنْ عِلْمٍ ، إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ :
يكذبون ، ومعنى الآية عندنا : أنهم أرادوا بالمشيئة : الرضا ، وقالوا : لو لم يرض بذلك لعجّل عقوبتنا ، ولمنعنا من عبادتها مع قهر واضطرار ، وإذ لم يفعل ذلك فقد رضى بذلك ، فردّ اللّه عليهم بقوله : ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ ... الآية. أو : قالوا هذا القول استهزاء ، لا جدا واعتقادا ، فأكذبهم وجهّلهم حيث لم يقولوه اعتقادا ، كما قالوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ «1». وهذا كلام حق أرادوا به باطلا. انظر النّسفى.
قلت : ما تمسكوا به من قوله : لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ من الاحتجاج بالقدر ، وهو لا ينفع فى هذه الدار ، لأنه من التمسك بالحقيقة الخالية عن الشريعة ، وهى بطالة وزندقة ، ولذلك ردّهم اللّه تعالى إلى التمسك بالشريعة بقوله : أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ من قبل القرآن ، أو : من قبل ادعائهم ذلك ، ينطق بصحة ما يدّعونه ، فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ آخذون.
بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ على دين وقلدناهم. والأمّة فى الأصل : الطريقة التي تؤمّ وتقصد وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ أي : لم يأتوا بحجة نقلية ولا عقلية ، ولا سند لهم سوى تقليد آبائهم الجهلة مثلهم.
والظرف : صلة لمهتدون ، أو : هما خبران.
وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ من نبىّ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها أي : منعّموها ، وهم الذين أترفتهم النّعمة ، أي : أبطرتهم ، فلا يحبون إلا الشهوات والملاهي ، ويعافون مشاقّ الدين وتكاليفه ، قالوا : إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ ، وفيه تسلية للنبى صلّى اللّه عليه وسلم ، وبيان أن التقليد فيهم ضلال قديم.
وتخصيص المترفين بتلك المقالة للإيذان بأن التنعم بالشهوات ، وحب البطالة ، هو الذي صرفهم عن النظر إلى التقليد.
" قل" «2» ، هو حكاية لما جرى بين المنذرين وبين أممهم ، عند تعللهم بتقليد آبائهم ، أي : قيل لكلّ نذير وأوحى إليه : أن قل ، وليس خطابا لنبينا - عليه الصلاة والسّلام - بدليل ما بعده من قوله : قالُوا .. إلخ. وقيل :
___________
(1) من الآية 47 من سورة يس.
(2) قرأ ابن عامر ، وحفص «قال» على الخبر ، والباقون «قل» بغير ألف على الأمر. انظر الإتحاف (2/ 455).(5/241)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 242
خطاب له عليه الصلاة والسّلام ، فتكون الجملة معترضة بين قصة المتقدمين لأن قوله : «قالوا» راجع للمتقدمين.
وقرأ الشامي وحفص : قالَ أي : النذير : أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ أي : أتقتدون بآبائكم ولو جئتكم بِأَهْدى بدين أهدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ من الضلالة التي ليست من الهداية فى شى ء؟ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ أي : قالت كلّ أمة لنذيرها : إنا ثابتون على ديننا ، وإن جئتمونا بما هو أهدى وأهدى. وقد أجمل عند الحكاية للإيجاز ، كقوله : يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ «1».
فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فعاقبناهم بما استحقوه على إصرارهم ، فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ من الأمم المذكورين ، فلا تكترث بتكذيب قومك. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : وقالوا : لو شاء الرّحمن ما عبدناهم ، تمسكوا بالحقيقة الظلمانية ، الخالية عن التشريع ، وهو كفر وزندقة ، ولذلك ردّ اللّه عليهم بقوله : أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً ... إلخ ، وترى كثيرا ممن خذله اللّه يقول : لو أراد اللّه هدايتى لهدانى ، ولا ينفع ذلك فى هذه الدار ، التي هى التكليف ، بل يجب عليه النّهوض ، والقصد إلى ما أمر اللّه به ، من حقوق العبودية ، فإن منعته الأقدار فلينظر إلى الواحد القهار ، وإلا فالشقاء لازم له. وقد قالوا : من تحقق ولم يتشرع فقد تزندق ، ومن تشرع ولم يتحقق فقد تفسق ، ومن جمع بينهما فقد تحقق. فالواجب : النظر إلى تصريف الحقيقة فى الباطن ، والتمسك بالشريعة فى الظاهر. وباللّه التوفيق.
وقوله تعالى : بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ ... الآية ، فيه توبيخ لمن تجمّد على تقليد أسلافه ، وقد ظهر من هو أهدى منهم ، ففيه نزعة جاهلية ، وحمية من حميتهم.
ثم برهن على بطلان التقليد الرّديء ، فقال :
[سورة الزخرف (43) : الآيات 26 الى 30]
وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27) وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (28) بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ (29) وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ قالُوا هذا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كافِرُونَ (30)
___________
(1) من الآية 51 من سورة المؤمنون.(5/242)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 243
يقول الحق جل جلاله : وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ أي : واذكر وقت قوله عليه السّلام لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ المنكّبين على التقليد ، كيف تبرأ مما هم فيه بقوله : إِنَّنِي بَراءٌ أي : برىء مِمَّا تَعْبُدُونَ ، وتمسك بالبرهان. وذكر قصته ليسلكوا مسلكه فى الاستدلال ، أو : ليقلدوه ، إن لم يكن لهم بد من التقليد فإنه أشرف آبائهم. «وبراء» : مصدر ، يستوى فيه الواحد والاثنان والجمع ، والمذكر والمؤنث ، كرجل عدل ، وامرأة عدل ، وقوم عدل. و«ما» : إما مصدرية ، أو : موصولة ، أي : برىء من عبادتكم ومن معبودكم إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي استثناء متصل ، أو : منقطع ، على أن «ما» تعم أولى العلم وغيرهم ، وأنهم كانوا يعبدون اللّه تعالى والأصنام ، أو : صفة ، على أن «ما» موصوفة ، أي : إننى براء من آلهة تعبدونها غير الذي فَطَرَنِي خلقنى فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ يثبتنى على الهداية ، أو : سيهدين إلى ما وراء الذي هدانى إليه الآن. والأوجه : أن السين للتأكيد دون التسويف ، وصيغة المضارع للدلالة على الاستمرار.
وَجَعَلَها أي : وجعل إبراهيم عليه السّلام كلمة التوحيد التي تكلم بها ، وهى قوله : إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي ، كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ أي : فى ذريته ، حيث وصّاهم بها ، كما نطق به قوله تعالى : وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ ... «1» ، فلا يزال فيهم من يوحّد اللّه تعالى ، ويدعوهم إلى توحيده. لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ أي : جعلها باقية فى ذريته رجاء أن يرجع إليها من أشرك منهم بدعاء الموحّد.
بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ ، إضراب عن محذوف ، ينساق إليه الكلام ، كأنه قيل : جعلها كلمة باقية فى عقبه رجاء أن يرجع إليها من أشرك منهم ، فلم يحصل ما رجاه ، بل متعت هؤلاء المعاصرين من أهل مكة. وَآباءَهُمْ بالمد فى العمر ، والنّعمة ، والمهلة ، فاغتّروا بالمهلة ، وانهمكوا فى الشهوات ، وشغلوا بها عن كلمة التوحيد ، حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ القرآن وَرَسُولٌ مُبِينٌ ظاهر الرّسالة ، واضحها بالمعجزات الباهرة ، أو : مبين التوحيد بالآيات والحجج القاطعة.
وفى الآية توبيخ لهم فإن التمتع بزيادة النّعم يوجب أن يجعلوه سببا لزيادة الشكر ، والثبات على التوحيد والإيمان ، فجعلوه سببا لزيادة أقصى مراتب الكفر والضلال.
وحاصل معنى الآية : أنه تعالى جعل كلمة التوحيد باقية فى عقب إبراهيم عليه السّلام ليدعو الموحّد المشرك ، نسلا بعد نسل ، فيرجع المشرك عن شركه ، فلم يرجعوا ، بل اغتروا بما متّعوا به ، فاستمروا على الشرك حتى جاءهم
___________
(1) من الآية 132 من سورة البقرة.(5/243)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 244
الحق ، فكفروا وأصروا ، وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ أي : القرآن ينبههم على ما هم عليه من الغفلة ، ويرشدهم إلى التوحيد ، ازدادوا كفرا وعتوا ، وضموا إلى كفرهم السابق معاندة الحق والاستهانة به ، حيث قالُوا هذا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كافِرُونَ فسمّوا القرآن سحرا ، وجحدوه ومن جاء به. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : كان إبراهيم عليه السّلام إمام أهل التوحيد ، لقوله تعالى : إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً «1» ، وجعل الدعوة إليه فى عقبه إلى يوم القيامة ، وهو على قسمين توحيد البرهان ، وتوحيد العيان. وقد جاءت بعده الرّسل بالأمرين معا ، وقام بها خلفاؤهم بعدهم ، فقام بالأول العلماء ، وقام بالثاني خواص الأولياء ، أهل التربية الحقيقية ، ولا ينال من توحيد العيان شيئا من علق قلبه بالشهوات الجسمانية ، والحظوظ الفانية ، كما قال الششترى رضي اللّه عنه :
تركنا حظوظا من حضيض لحوظنا مع المقصد الأقصى إلى المطلب الأسنى
وكلّ من تمتع بذلك ، وانهمك فيه حرم بركة صحبة العارفين إذ يمنعه ذلك من حط رأسه ، ودفع فلسه ، فينخرط فى سلك قوله تعالى : بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ ... الآية. وكلّ زمان له رسول ، خليفة عن الرّسول صلّى اللّه عليه وسلم يدعو إلى الحق ومعرفته. وباللّه التوفيق.
ثم ذكر تحكمهم على اللّه ، واستحقارهم لرسوله صلّى اللّه عليه وسلم ، فقال :
[سورة الزخرف (43) : الآيات 31 الى 32]
وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32)
يقول الحق جل جلاله : وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ أي : من إحدى القريتين مكة والطائف ، على نهج قوله تعالى : يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ «2» وعنوا بعظيم مكة : الوليد بن المغيرة ، وبعظيم الطائف : عروة بن مسعود الثقفي. وعن مجاهد : عظيم مكة : [عتبة] «3» بن ربيعة ، وعظيم الطائف : ابن عبد ياليل «4». ولم يتفوهوا بهذه العظيمة حسدا ، بل استدلالا على عدم نزوله ، بمعنى : لو كان قرآنا
___________
(1) من الآية 124 من سورة البقرة.
(2) الآية 22 من سورة الرّحمن.
(3) فى الأصول [عقبة].
(4) انظر تفسير الطبري (25/ 65). والدر المنثور للسيوطى (5/ 721).(5/244)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 245
لأنزل على أحد هؤلاء ، بناء على ما زعموا من أن الرّسالة منصب جليل ، لا يليق له إلا من له جلالة من جهة المال والجاه ، ولم يدروا أنها رتبة روحانية ، لا يترقى إليها إلا همم الخواص ، المختصين بالنفوس الزكية ، المؤيّدين بالقوة القدسية ، المتحلين بالفضائل الإنسية ، وأما المتزخرفون بالزخارف الدنيوية ، المتمتعون بالحظوظ الدنية ، فهم من استحقاق تلك الرّتبة بألف معزل.
قال ابن عطية : وإنما قصدوا إلى من عظم ذكره بالسن ، وإلا فرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم كان أعظم هؤلاء إذ كان المسمى عندهم الأمين. ه. ومرادهم : الشرف الدنيوي ، بحيث يتعرض للأمور ليذكر ويشار إليه ، ورسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم كان منزها عن ذلك من أول النّشأة ، كما هو حال أهل الآخرة ، والنّفوس فى مهماتها إليهم أميل ، وعليهم تعول ، ولذلك كان أمينا عندهم ، ولا ترضى جل النّفوس أهل الفضول لأماناتها ، ولا تسكن إليها وتطمئن بها ، وإنما تعظمها ظاهرا ، لا حقيقة. وهذا كاف فى الرّد عليهم فى أنهم لا يرضونهم لأماناتهم ، فكيف يرضون لأمانات الوحى.
اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ «1». قاله فى الحاشية.
وقوله تعالى : أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ ، إنكار عليهم ، وفيه تجهيل لهم وتعجيب من تحكمهم فى اختيار من يصلح للنبوة. والمراد بالرحمة : النبوة.
نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ ما يعيشون به ، وهو أرزاقهم الحسية فِي الْحَياةِ الدُّنْيا أي : لم نجعل قسمة الأدون إليهم ، وهو رزق الأشباح ، فكيف بالنبوة ، والعلم ، الذي هو رزق الأرواح؟ وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ أي : جعلنا البعض أقوياء وأغنياء وموالى ، والبعض ضعفاء وفقراء وخدماء ، لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا أي : ليصرف بعضهم بعضا فى حوائجهم ، ويستخدموهم فى مهماتهم ، ويسخروهم فى أشغالهم ، حتى يتعايشوا ، ويصلوا إلى أعمالهم ، هذا بماله ، وهذا ببدنه ، ولو استووا فى الغنى والفقر لبطل جل المصالح ، فسبحان المدبر الحكيم.
قال القشيري : لو كانت المقادير متساوية لتعطلت المعايش ، ولبقى كلّ عند حاله ، فجعل بعضهم مخصوصا بالترفه والمال ، وآخرين بالفقر ورقة الحال ، حتى احتاج الفقير فى حين حاجته أن يعمل للغنىّ ، ليترفق من جهته بأجرته ، فيصلح بذلك أمر الفقير والغنىّ معا. ه. ولو فوضنا ذلك إلى تدبيرهم لهلكوا. وإذا كانوا فى تدبير خويصة أمرهم ، وما يصلحهم من متاع الدنيا الدنية ، فى غاية العجز ، فما ظنهم فى تدبير أمر الدين والنّبوة؟!.
___________
(1) من الآية 124 من سورة الأنعام.(5/245)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 246
وقيل : «سخريا» أي : يسخر بعضهم من بعض.
وَرَحْمَتُ رَبِّكَ أي : النبوة ، أو : الدين وما يتبعه من الفوز فى المآب ، خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ أي : مما يجمع هؤلاء من حطام الدنيا الدنية الفانية.
الإشارة : مما جرى فى طبع النّاس أنهم لا يقرون الولاية إلا فيمن عظم جاهه ، وكثر طعامه ، أو كثرت صلاته ، أو كان مجذوبا مصطلما ، أو : سبقت فى أسلافه ، وهذا خطأ ، فإن الولاية سر من أسرار اللّه ، أودعها قلوب أصفيائه ، لا تظهر على جوارحهم ، ولا تكون فى الغالب إلا فى أهل التجريد ، وأهل الخمول ، أخفاها اللّه فى عباده ، فمن ادعاها من غير تجريد ولا تخريب ، فهو مدع ، ولذلك قال أبو المواهب رضي اللّه عنه : من ادعى شهود الجمال ، قبل تأدبه بالجلال ، فارفضه فإنه دجال.
ويقال لمن أنكر على أهلها من أهل التجريد : أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ ... الآية ، ورحمة ربك - هى سر الخصوصية - خير مما يجمعون.
وقال القشيري على قوله تعالى : نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ ... إلخ ، بعد كلام : ثم إنه تعالى قسم [لبعض لعباده ] «1» النعمة والغنى ، ولقوم الفقر والقلّة ، وجعل لكلّ واحد منهم مسكنا يسكنون إليه ، ويستقلون به ، فللأغنياء وجود الإنعام ، وجزيل الأقسام ، فشكروا واستبشروا ، وللفقراء شهود القسّام ، فحمدوا وافتخروا ، فالأغنياء وجدوا النّعمة فاستغنوا وانشغلوا ، والفقراء سمعوا قوله : «نحن» فاشتغلوا ، وفى الخبر : أنه صلّى اللّه عليه وسلم قال للأنصار : «أما ترضون أن يرجع الناس بالشاء والبعير ، وترجعوا برسول اللّه إلى أهليكم؟ واللّه ما تنقلبون به خير مما ينقلبون» «2» ه.
قوله تعالى : نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ ... إلخ ، قد سبقت أقسام الرّزق قبل ظهور الخلق ، فالواجب انتظار القسمة ، والرّضا بما قسم ، كما قال الشاعر :
اقنع بما قسم الرّزّاق من قسم وسلّم الأمر فالرزاق مختار
لا تجزعن ولا تبطر على محن أو منح ، فإنما هى أحكام وأقدار
واقنع بكلّ الذي يجرى الزمان به ولا يكن منك للمغرور انكسار.
___________
(1) فى الأصول [لعباده ] والمثبت من القشيري ، وهو الأنسب.
(2) أخرجه مسلم فى (الزكاة ، باب إعطاء المؤلفة قلوبهم ... ، 2/ 734 ، ح 1059) وبنحوه البخاري فى (مناقب الأنصار باب مناقب الأنصار ح 3778) من حديث أنس رضي اللّه عنه. [.....](5/246)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 247
ثم ذكر إهانة الدنيا ، وخساستها عنده ، فقال :
[سورة الزخرف (43) : الآيات 33 الى 35]
وَلَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ (33) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً وَسُرُراً عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ (34) وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (35)
يقول الحق جل جلاله : وَلَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً أي : ولو لا كراهة أن يجتمع النّاس على الكفر ، ويطبقوا عليه ، لَجَعَلْنا لأجل حقارة الدنيا عندنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ : بدل «من» سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ أي : متخذة منها ، وَمَعارِجَ أي : ولجعلنا لهم مصاعد ، أي : سلالم من فضة أيضا ، يصعدون عليها إلى السطوح ، عَلَيْها يَظْهَرُونَ أي : يعلون السطوح والعلالي عليها. وَلِبُيُوتِهِمْ أي : وجعلنا لبيوتهم أَبْواباً وَسُرُراً من فضة أيضا ، عَلَيْها أي : السرر يَتَّكِؤُنَ ، ولعل تكرير «بيوتهم» لزيادة التقرير. وَزُخْرُفاً أي : وجعلنا لهم زخرفا ، أي : زينة من كلّ شىء. والزخرف : الذهب والزينة. ويجوز أن يكون الأصل : سقفا من فضة وزخرف ، أي : بعضها من فضة ، وبعضها من ذهب ، فنصب عطفا على محل «من فضة».
وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا أي : وما كلّ ما ذكر من البيوت الموصوفة بما ذكر من الزخارف الغرارة ، إلا شىء يتمتع به فى الحياة الدنيا ، ثم يفنى وتبقى تبعته. وَالْآخِرَةُ أي : ونعيم الآخرة الذي يقصر عنه البيان ، خير عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ الكفر والمعاصي. وبهذا يتبين أن العظيم إنما هو العظيم فى الآخرة ، لا فى الدنيا ، ولذلك لم يجعل للمؤمنين فيها حظا وافرا لأنه تمتع قليل بالنسبة إلى ما لهم فى الآخرة ، ولأنه ربما يشغلهم عن ذكر الرحمن ، كما أشار إليه بقوله : وَمَنْ يَعْشُ ... إلخ.
الإشارة : فى الآية ذم للدنيا ولمن اشتغل بها. وفى الحديث : «لو كانت الدنيا تزن عند اللّه جناح بعوضة ما سقى كافرا منها شربة ماء» «1». وعن علقمة عن ابن مسعود رضي اللّه عنه قال : اضطجع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم على حصير ، فأثّر الحصير فى جنبه ، فلما استيقظ ، جعلت أمسح عنه ، وأقول : يا رسول اللّه ألا آذنتني قبل أن تنام على هذه الحصير ، فأبسط لك عليه شيئا ، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم : «مالى وللدنيا ، وما للدنيا ومالى ، ما أنا والدنيا إلا كراكب استظلّ فى فىء ، أو ظل
___________
(1) أخرجه الترمذي فى (الزهد ، باب ما جاء فى هوان الدنيا على اللّه ، ح 2320) وقال : «حديث صحيح غريب» ، وابن ماجه فى (الزهد ، باب مثل الدنيا ، ح 4110) من حديث سهل بن سعد رضي اللّه عنه.(5/247)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 248
شجرة ، ثم راح وتركها» «1». وروى أن عيسى عليه السّلام أخذ لبنة من طوب ، فجعلها تحت رأسه ، فجاءه جبريل عليه السّلام ، فوكز الطوبة من تحت رأسه ، ونزعها ، وقال : «اترك هذه مع ما تركت». وأنشدوا فى هذا المعنى :
رضيت من الدنيا بقوت وخرقة وأشرب من كوز حوافيه تكسر
فقل لبنى الدنيا : اعزلوا من أردتم وولوا ، وخلونى على البعد أنظر
وقال صلّى اللّه عليه وسلم : «الدنيا خراب ، وأخرب منها قلب مشتغل بها» «2». ومن اشتغل بها غفل عن ذكر الرّحمن ، وسلط عليه الشيطان ، كما قال تعالى :
[سورة الزخرف (43) : الآيات 36 الى 42]
وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37) حَتَّى إِذا جاءَنا قالَ يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (38) وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (39) أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (40)
فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (41) أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ (42)
قلت : «من يعش» : شرط وجواب. وحكى أن أبا عبد اللّه بن مرزوق دخل على ابن عرفة ، فحضر مجلسه ، ولم يعرفه أحد ، فوجده يفسر هذه الآية : وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ ، فكان أول ما افتتح به - يعنى ابن مرزوق - أن قال : وهل يصح أن تكون «من» هنا موصولة؟ فقال ابن عرفة : وكيف ، وقد جزمت؟ فقال ابن مرزوق : جزمت تشبيها بالشرطية ، فقال ابن عرفة : إنما يقدم على هذا بنص من إمام ، أو شاهد من كلام العرب ، فقال : أما النّص فقال ابن مالك فى التسهيل : وقد يحزم مسبب عن صلة الذي ، تشبيها بجواب الشرط ، وأما الشاهد فقوله :
فلا تحفرن بئرا تريد أخا بها فإنك فيها أنت من دونه تقع
كذاك الذي يبغى على النّاس ظالما تصبه على رغم عواقب ماصنع
___________
(1) أخرجه ابن ماجه فى الموضع السابق (ح 4109) والترمذي فى الموضع السابق (باب 44 ، ح 2377) وقال : «هذا حديث حسن صحيح».
(2) لم أقف عليه.(5/248)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 249
فقال ابن عرفه : فأنت إذا أبو عبد اللّه بن مرزوق؟ فقال : نعم ، فرحّب به. وقال : واللّه ما ظلمناك. ه.
وقرأ ابن عباس : «يعش» - بفتح الشين ، أي : يعم ، من : عشى يعشى «1». وقرئ : «يعشو» على أن «من» موصولة غير مضمنة معنى الشرط ، وإلا جزمت كما تقدم. قلت : والذي يظهر من كلام التسهيل أن الموصول المضمن معنى الشرط إنما يجزم الجواب لا الشرط ، فتأمله ، مع كلام ابن مرزوق. والشاهد الذي أتى به إنما فيه جزم الجواب لا الشرط ، فلا يصح ما قاله ابن مرزوق باعتبار جزم لفظ الشرط. واللّه تعالى أعلم.
يقول الحق جل جلاله : وَمَنْ يَعْشُ أي : يتعام ، أو : يعم. والفرق بين القراءتين «2» أنه إذا حصلت الآفة فى بصره قيل : عشى يعشى ، وإذا ضعف بصره بلا آفة قيل : عشى يعشو. والمعنى : ومن يعرض عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ وهو القرآن ، لفرط اشتغاله بزهرة الدنيا ، وانهماكه فى الحظوظ الفانية ، فلم يلتفت إليه ، ولم يعرف أنه حق - على قراءة الفتح - أو : عرف أنه حق وتعامى عنه ، تجاهلا ، على قراءة الضم ، نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ ، قال ابن عباس : نسلطه عليه فهو معه فى الدنيا والآخرة ، لا يفارقه ، ولا يزال يوسوسه ويغويه. وفيه إشارة إلى أن من دام عليه لم يغوه الشيطان. وإضافته إلى «الرحمن» للإيذان بأن نزوله رحمة للعالمين ، وهو من إضافة المصدر إلى فاعله ، أي : ما ذكره الرّحمن وأوحى به فى كتابه. وقال ابن عطية : ما ذكّر اللّه به عباده من المواعظ. ويحتمل أن يريد مطلق الذكر ، أي : ومن يغفل عن ذكر اللّه نسلط عليه شيطانا ، عقوبة على الغفلة ، فإذا ذكر اللّه تباعد عنه.
وَإِنَّهُمْ أي : الشياطين ، الذي قيض كلّ واحد منهم لكلّ واحد ممن يعشو ، لَيَصُدُّونَهُمْ ليمنعون العاشين عَنِ السَّبِيلِ عن سبيل الهدى الذي جاء به القرآن ، وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ أي : أنفسهم مهتدون ، أو : ويحسب العاشون أن الشياطين مهتدون ، فلذلك قلّدوهم ، فمدار جمع الضمير اعتبار معنى «من» كما أن مدار إفراده فيما سبق اعتبار لفظها. وصيغة المضارع فى الأفعال الأربعة للدلالة على الاستمرار التجديدى ، لقوله : حَتَّى إِذا جاءَنا فإن «حتى» تقتضى أن تكون غاية لأمر ممتد ، أي : يستمر العاشون على ما ذكر من مقارنة الشياطين والصد والحسبان الباطل ، حتى إذا جاءنا كلّ واحد منهم مع قرينه يوم القيامة. ومن قرأ بالتثنية «3» ، فالمراد العاشى وقرينه. قال مخاطبا لقرينه : يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ فى الدنيا بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ
___________
(1) فهو أعشى ، وامرأة عشواء.
(2) أي : قراءة «يعش» بضم الشين و«يعش» بفتحها.
(3) قرأ نافع ، وابن كثير ، وابن عامر ، وأبو بكر ، وأبو جعفر (جاءانا) بألف بعد الهمزة على التثنية وهما العاشى وقرينه. وقرأ الباقون بغير ألف بعد الهمزة. والضمير يعود على العاشى. انظر شرح الهداية (2/ 508) والإتحاف (2/ 456).(5/249)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 250
أي : بعد المشرق والمغرب ، أي : تباعد كلّ منهما من صاحبه ، فغلب المشرق على المغرب ، كما قيل : القمران والعمران ، وأضيف البعد إليهما ، فَبِئْسَ الْقَرِينُ أنت.
قال تعالى : وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ أي : يوم القيامة إِذْ ظَلَمْتُمْ أي : حين صحّ وتبيّن ظلمكم وكفركم ، ولم تبق لكم ولا لأحد شبهة فى أنكم كنتم ظالمين. و«إذ» : بدل من اليوم. وقوله : أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ :
فاعل ينفع ، أي : لن ينفعكم يوم القيامة اشتراككم فى العذاب ، كما كان فى الدنيا يهون عليكم المصيبة اشتراككم فيها ، لتعاونكم فى تحمل أعبائها وتقسيمكم لعنائها ، ولذلك قيل : المصيبة إذا عمّت هانت ، وإذا خصت هالت ، وفى ذلك تقول الخنساء :
ولو لا كثرة الباكين حولى على إخوانهم لقتلت نفسى
ولا يبكون مثل أخى ولكن أعزّى النّفس عنه بالتأسّى «1»
أما هؤلاء فلا يؤسّيهم اشتراكهم ، ولا يروّحهم ، لأن بكلّ منهم ما لا تبلغه طاقة ، وقد ورد أنهم يكونون فى توابيت من نار ، لا يرى أحد صاحبه ، بل يظن أنه وحده فيها. وقيل : الفاعل مضمر ، أي : ولن ينفعكم هذا التمني ، أو هذا الاعتذار لأنكم فى العذاب مشتركون لاشتراككم فى سببه ، وهو الكفر ، ويؤيده : قراءة من قرأ : «إنكم» بالكسر.
وكان صلّى اللّه عليه وسلم يبالغ فى المجاهدة فى دعاء قومه ، وهم لا يزيدون إلا غيا وتعاميا عما يشهدونه من شواهد النّبوة ، وتصامما عما يسمعونه من القرآن ، فأنزل اللّه تعالى : أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ ، وهو إنكار وتعجيب من أن يكون هو الذي يقدر على هدايتهم ، وقد تمرنوا فى الكفر ، واستغرقوا فى الضلال ، حيث صار ما بهم من العشى عما مقرونا بالصمم ، أي : أفأنت تقدر أن تسمع من فقد سمع القبول ، أو تهدى من فقد بصر الاستبصار. وَمَنْ كانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ أي : ومن كان فى علم اللّه أنه يموت على الضلال. ومدار الإنكار هو التمكن والاستقرار فى الضلال المفرط ، بحيث لا ارعواء له منه ، لا توهم القصور من قبل الهادي ، ففيه رمز فى أنه لا يقدر على ذلك إلا اللّه.
فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ أي : فإن قبضناك قبل أن ننصرك على أعدائك ، ونشفى صدور لمؤمنين منهم ، فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ أشد الانتقام فى الآخرة. أَوْ نُرِيَنَّكَ العذاب الَّذِي وَعَدْناهُمْ بل أن نتوفينك ، كما وقع بهم يوم بدر ، فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ بحيث لا ناصر لهم من حلول نقمتنا وقهرنا. و«إما» : شرط دخلت «ما» على «إن» توكيدا للشرط ، وزاد التوكيد نون الثقيلة.
___________
(1) انظر البحر المحيط (8/ 17) تفسير القرطبي (7/ 6094).(5/250)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 251
الإشارة : كل من غفل عن ذكر اللّه تسلط الشيطان على قلبه بالوسوسة والخواطر الردية ، وقد ورد فى الحديث :
إن قلب ابن آدم بين ملك وشيطان ، فإذا ذكر اللّه قرب الملك منه وانخنس الشيطان «1» ، وإذا غفل عن ذكر الشيطان قرب منه ، فلا يزال يوسوسه ويمنيه حتى يغفله عن اللّه. ولا شك أن الذكر الذي يصرف الشيطان عن القلب إنما هو الذكر القلبي لا اللساني ، فكم من ذاكر بلسانه وقلبه مشغول بهواه ، فذكر اللسان نتائجه الأجور ، وذكر القلوب نتائجه الحضور ورفع الستور ، وشتان بين من همه الحور والقصور ، ومن همه الحضور ورفع الستور ، هذا من عامة أهل اليمين ، وهذا من خاصة المقربين ، فإن أردت يا أخى ذكر القلوب ، ولمعان أسرار الغيوب ، فاصحب الرجال ، حتى ينقلوك من عالم الطبيعة إلى عالم الروحانية ، وإلا بقيت فى عالم الأشباح.
قال القشيري : من لم يعرف قدر الخلوة مع اللّه ، فحاد عن ذكره ، وأخلد إلى الخواطر الرديّة ، قيّض اللّه له من يشغله عن اللّه - وهذا جزاء من ترك الأدب فى الخلوة. وإذا اشتغل العبد فى خلوته مع ربّه ، وتعرّض له من يشغله عن ربه ، صرفه الحق عنه بأى وجه كان .. ويقال : أصعب الشياطين نفسك ، والعبد إذا لم يعرف قدر فراغ قلبه ، واتّبع شهوته ، وفتح ذلك الباب على نفسه ، بقي فى يد هواه أسيرا ، لا يكاد يتخلص منه إلا بعد مدة. ه.
[وقال فى الإحياء : للشيطان جندان جند يطير ، وجند يسير ، والوسواس عبارة عن حركة جنده الطيار ، والشهوة عبارة عن حركة جنده السيار. ثم قال : فتحقق أن الشيطان من المنظرين ، فلا يتواضع لك بالكف عن الوسواس إلى يوم الدين إلا أن تصبح وهمومك هم واحد ، وهو اللّه ، فيشتغل قلبك باللّه وحده ، فلا يجد الملعون مجالا فيك ، فعند ذلك تكون من عباد اللّه المخلصين ، الداخلين فى الاستثناء من سلطنته. ولا تظن أن يفرغ منه قلب فارغ من ذكر اللّه ، بل هو سيال يجرى من ابن آدم مجرى الدم ، وسيلانه مثل الهواء فى القدح ، إن أردت أن يخلو عن الهواء من غير أن تشغله بالماء أو غيره ، فقد طمعت فى غير مطمع ، بل بقدر ما يخلو من الماء يدخل فيه من الهواء لا محالة ، فكذلك القلب المشغول بتفكر مهم فى الدين ، يخلو عن جولان الشيطان ، وإلا فمن غفل عن اللّه ، ولو لحظة ، فليس له فى تلك اللحظة قرين إلا الشيطان ، ولذلك سبحانه : وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ. ه. المرا منه ] «2».
___________
(1) هذا معنى حديث ، ولفظه : «إن الشيطان واضع حطمه على قلب ابن آدم ، فإن ذكر اللّه خنس ، وإن نسى التقم قلبه» رواه أبو يعلى فى مسنده (17/ 430) والبيهقي فى الشعب (540) ، قال الهيثمي فى مجمع الزوائد (7/ 149) : رواه أبو يعلى : وفيه عدى بن أبى عمارة ، وهو ضعيف.
(2) ما بين المعكوفتين من هامش النسخة الأم ، وليس فى غيرها.(5/251)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 252
وكلّ من عوّق النّاس عن طريق الحق يصدق عليه قوله : وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ ، فإذا تحققت الحقائق ، وارتفع الغطاء ، وظهر الصواب من الخطأ ، قال للذى صده عن طريق القوم :
يا ليت بينى وبينك بعد المشرقين فبئس القرين ، فيقول الحق جل جلاله : وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ حيث حرمتموها من الوصول إلىّ أنكم فى عذاب الحجاب مشتركون. ويقال لمن وعظ ودعا إلى اللّه ، فلم يقبل منه :
أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ ... الآية. فإما نذهبنّ بك بالموت ، فيقع النّدم عليك ، أو نرينك الذي وعدناهم من العز لك والنّصر ، والانتقام ممن آذى أولياء اللّه ، فإنا عليهم مقتدرون.
ثم أمر بالثبوت فى طريق الحق ، فقال :
[سورة الزخرف (43) : الآيات 43 الى 45]
فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (43) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ (44) وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (45)
يقول الحق جل جلاله : فَاسْتَمْسِكْ أي : تمسك بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ من الآيات والشرائع ، واعمل بذلك ، سواء عجلنا لك الموعود أو أخرناه ، إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ على دين قيم لا عوج فيه ، وهو تعليل للأمر بالاستمساك. وَإِنَّهُ أي : ما أوحى إليك لَذِكْرٌ لشرف عظيم لَكَ وَلِقَوْمِكَ ولأمتك ، أو : لقومك من قريش ، فمازال العز فيهم ، والشرف لهم ، من زمانه صلّى اللّه عليه وسلم إلى قرب الساعة. قال صلّى اللّه عليه وسلم : «لا يزال هذا الشأن فى قريش ما بقي منهم اثنان» «1». وفى رواية : «لا يزال هذا الأمر فى قريش ، لا يعاديهم أحد إلا كبّ على وجهه ما أقاموا الدّين» «2». قال ابن عباس : كان صلّى اللّه عليه وسلم يعرض نفسه على القبائل بمكة ، ويعدهم الظهور ، فإذا قالوا :
لمن الملك بعدك؟ أمسك فلم يجبهم ، حتى نزلت : وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ فكان بعد تلك إذا سئل قال : «لقريش» فلا يجيبونه ، فقبلته الأنصار على ذلك «3».
___________
(1) أخرجه البخاري فى (المناقب ، باب مناقب قريش ح 3501) ومسلم فى (الإمارة ، باب النّاس تبع لقريش والخلافة لقريش 3/ 1452 ح 1820) من حديث ابن عمر رضي اللّه عنه.
(2) جزء من حديث أخرجه البخاري ، فى الموضع السابق (ح 3500) ، من حديث معاوية رضي اللّه عنه.
(3) عزاه فى الدر المنثور (5/ 725) لابن عدى وابن مردويه ، عن علىّ وابن عباس - رضي اللّه عنهما - قلت : على هامش النّسخة الأم مايلى : هذا غريب جدا ، والمعروف أنه كان يقول : «الملك للّه يضعه حيث يشاء». ه.(5/252)
البحر المديد ، ج 5 ، ص : 253
أو : وإنه لموعظة لك ولأمتك بأجمعها. وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ يوم القيامة عن شكركم هذه النّعمة ، أو : عما أوحى إليه ، وعن قيامكم بحقوقه ، وعن تعظيمكم له.
وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ ، فليس المراد سؤال الرّسل حقيقة ، ولكنه مجاز عن النّظر فى أديانهم والفحص عن مللهم ، هل جاءت عبادة الأوثان قط فى ملة من ملل الأنبياء؟ وكفاه نظرا وفحصا نظره فى كتاب اللّه المعجز ، المصدق لما بين يديه. وإخبار اللّه فيه بأنهم إنما يعبدون من دون اللّه ما لم ينزل به سلطانا. وهذه الآية فى نفسها كافية ، لا حاجة إلى غيرها.
وقيل إنه صلّى اللّه عليه وسلم جمع له الأنبياء - عليهم السّلام - وقيل له : سلهم «1» ، وهو ضعيف. وقيل معناه : سل أمم من أرسلنا ، وهم أهل الكتابين التوراة والإنجيل ، وإنما يخبرونه عن كتب الرّسل ، فإذا سألهم فكأنما سأل الأنبياء ، ومعنى هذا السؤال : التنبيه على بطلان عبادة الأوثان ، والاستشهاد بإجماع الأنبياء على التوحيد ، وأنه ليس ببدع ابتدعه حتى ينكر ويعادى. وقيل : الخطاب له ، والمراد غيره ممن يرتاب. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : الاستمساك بالوحى كان حاصلا له صلّى اللّه عليه وسلم ، وإنما المراد الثبوت على ما هو حاصل ، والاسترشاد إلى ما ليس بحاصل ، فالمراد الترقي فى زيادة العلم ، والكشف إلى غير نهاية ، كقوله : اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ ، فالترقى لا ينقطع لمن تمسك بالوحى التمسك الحقيقي ، بحيث كشف له عن غوامض أسرار القرآن ، وزال الحجاب بينه وبين اللّه تعالى ، فهو دائما فى زيادة العلم والكشف ، إلى ما لا نهاية له. وهذا هو الشرف العظيم فى الدارين. فمن لم يشكره سئل عنه ، أو سلب منه فى الدنيا. ثم إن التوحيد فى الذات والصفات والأفعال مما أجمعت عليه الملل ، وكل داع إنما يدعو إليه ، وكلّ شيخ مربى إنما يوصل إليه ، ومن لم يوصل إليه أصحابه فهو دجّال. وباللّه التوفيق.
ثم سلّى رسوله بقوله :
[سورة الزخرف (43) : الآيات 46 الى 50]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَقالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ (46) فَلَمَّا جاءَهُمْ بِآياتِنا إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ (47) وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلاَّ هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها وَأَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (48) وَقالُوا يا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ (49) فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ (50)
___________
(1) ذكره البغوي (7/ 216) والقرطبي (7/ 6097) عن ابن عباس ، وفيه : قال صلّى اللّه عليه وسلم : «لا أسأل فقد اكتفيت».(5/253)