البحر المديد ، ج 3 ، ص : 568
تغذيا وتفكها ، أو ترزقون وتحصّلون معايشكم ، من قولهم : فلان يأكل من حرفته ، وهذه الجنة وجوه أرزاقكم منها ترزقون وتتمعشون ، ويجوز أن يكون الضميران للنخيل والأعناب ، أي : لكم فى ثمرتها أنواع من الفواكه ، الرطب والعنب ، والتمر والزبيب ، والعصير والدّبس ، «1» وغير ذلك ، وطعاما تأكلونه ، وَأنبتنا به شَجَرَةً هى الزيتون تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ ، وهو جبل موسى عليه السّلام بين مصر وأيلة ، وقيل : بفلسطين ، ويقال : فيه طور سينين ، فإمّا أن يكون الطور اسم الجبل ، وسيناء اسم البقعة أضيف إليها ، أو المركب منهما علم له ، كامرىء القيس ، وتخصيصها بالخروج منه ، مع خروجها من سائر البقع ، إما لتعظيمها ، أو لأنه المنشأ الأصلى لها لأن أصل الزيتون من الشام ، وأول ما نبت فى الطور ، ومنه نقل إلى سائر البلاد ، تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ أي : متلبسة بالدهن ، أي : ما يدهن به ، وهو الزيت ، وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ أي : إدام لهم ، قال مقاتل : جعل اللّه فى هذه إداما ودهنا ، فالإدام : الزيتون ، والدهن : الزيت. وقيل : هى أول شجرة تنبت بعد الطوفان ، وخص هذه الأنواع الثلاثة لأنها أكرم الشجر وأفضلها وأنفعها.
وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ ، جمع نعم ، وهى الإبل والبقر والغنم ، لَعِبْرَةً تعتبرون بها ، وتستدلون بأحوالها على عظم قدرة اللّه تعالى ، وسابغ نعمته ، وتشكرونه عليه ، نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها من الألبان سائغة للشاربين ، أو مما استقر فى بطونها من العلف فإنّ اللبن يتكون منه ، وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ ، سوى الألبان ، وهى منافع الأصواف والأوبار والأشعار. وَمِنْها تَأْكُلُونَ أي : من لحومها ، عَلَيْها
أي : على الأنعام فى البر ، عَلَى الْفُلْكِ
فى البحرحْمَلُونَ
فى أسفاركم ومتاجركم ، والمراد بالأنعام فى الحمل الإبل لأنها هى المحمول عليها فى البر ، فهى سفائن العرب ، كما قال ذو الرمة :
سفينة برّ تحت خدّى زمامها يريد ناقته. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : ولقد خلقنا فوق قلوبكم سبعة حجب ، فمن خرقها أفضى إلى فضاء شهود ذاتنا وأنوار صفاتنا ، وهى حجاب المعاصي والذنوب ، وحجاب النقائص والعيوب ، وحجاب الغفلات ، وحجاب العوائد والشهوات ، وحجاب الوقوف مع حلاوة المعاملات ، وحجاب الوقوف مع الكرامات والمقامات ، وحجاب حس الكائنات ، فمن خرق هذه الحجب بالتوبة والتزكية واليقظة والعفة والرياضة ، والأنس باللّه والغيبة عما سواه ، ارتفعت عنه الحجب ، ووصل
___________
(1) الدّبس : عسل التمر وعصارته .. انظر اللسان (دبس 2/ 1323).(3/568)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 569
إلى المحبوب. قال الورتجبي : أوضح سبع طرائق لنا إلى أنوار صفاته السبعة. ه. وقال القشيري : الحق - سبحانه - لا يستتر من رؤيته مدرك ، ولا تخفى عليه من مخلوقاته خافية ، وإنما الحجب على أبصار الخلق وبصائرهم ، والعادة جارية أنه لا يخلق لنا الإدراك لما وراء الحجب ، ولذلك أدخلت الغفلة القلوب ، واستولى عليها الذهول ، سدّت بصائرها ، وغيبت فهومها ، ففوقها حجب ظاهرة وباطنة ، ففى الظاهر : السموات حجب تحول بيننا وبين المنازل العالية ، وعلى القلوب أغشية وأغطية ، كالشهوة والأمنية ، والإرادات الشاغلة والغفلة المتراكمة.
ثم ذكر أن طرائق المريدين الفترة ، وطرائق الزاهدين ترك عروق الرغبة. قال : وأما العارفون فربما تظلّهم فى بعض أحيانهم وقفة فى تضاعيف سيرهم إلى ساحات الحقائق ، فيصيرون موقوفين ريثما يتفضّل الحقّ - سبحانه - عليهم بكفاية ذلك ، فيجدون نفاذا ، ويدفع عنهم ما عاقهم من الطرائق ، وفى جميع ذلك فالحق - سبحانه - غير تارك للعبد ولا غافل عن الخلق. ه.
وقوله : وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ أي : وما كنا غافلين عن إرسال من يخرجهم من تلك الحجب القهرية ، بل بعثنا الرسل ، وفى أثرهم العارفين الربانيين ، يخرجون من تعلق بهم من تلك الطرائق ، ويوصلونهم إلى بحر الحقائق.
وأنزلنا من سماء الغيوب ماء العلم اللدني ، فأسكناه فى أرض النفوس والقلوب ، بقدر ما سبق لكل قلب منيب ، وإنا على ذهاب به من القلوب والصدور لقادرون. ولذلك كان العارفون لا يزول اضطرارهم ، ولا يكون مع غير اللّه قرارهم ، فأنشأنا بذلك العلم فى قلوب العارفين جنات المعارف من نخيل الأذواق والوجدان ، وأعناب خمرة العيان ، لكم فيها فواكه كثيرة ، أي : تمتع كثير بلذة الشهود ، ومنها تتقوت أرواحكم وأسراركم ، وشجرة المعرفة تخرج من القلوب الصافية ، التي هى محل المناجاة ، كطور موسى ، أي : تنبت فيها ويخرج أغصانها إلى ظاهر الجوارح ، تنبت فى القلب بدهن الذوق والوجد ، وصبغ للآكلين ، أي : المريدين الآكلين من تلك الشجرة ، فتصبغ قلوبهم بالمعرفة واليقين.
وقوله تعالى : وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً ، قال القشيري : الإشارة فيه : أنّ الكدورات الناجمة المتراكمة لا عبرة بها ولا مبالاة ، فإنّ اللّبن الخالص السائغ يخرج من أخلاف الإبل والأنعام ، من بين ما ينطوى حواياها عليها من الوحشة ، ولكنه صاف لم يؤثر فيها بحكم الجوار ، والصفا يوجد أكثره فى عين الكدورة إذ الحقيقة لا يتعلق بها حقّ ولا باطل. ومن أشرف على سرّ التوحيد تحقّق بأنّ ظهور جميع الحدثان من التقدير ، فتسقط عنه كلفة التمييز فالأسرار عند ذلك تصفو ، والوقت لصاحبه لا يجفو ، (وَ لَكُمْ فِيها مَنافِعُ) لازمة لكم ، ومتعدية منكم إلى كلّ متصل بكم. انتهى على لحن فيه ، فتأمله.
ولما دكّرهم بالنعم ، ذكر من قابلها بالكفران فهلك ، فقال :
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 23 الى 30]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (23) فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً ما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ (24) إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (25) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ (26) فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا فَإِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (27)
فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (28) وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (29) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (30)(3/569)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 570
قلت : ذكر فى الحاشية وجوها من المناسبة ، فقال : لمّا استطرد ذكر الفلك ناسب ذكر نوح إثره ، لقوله : (اصْنَعِ الْفُلْكَ) ، وأيضا : هو أبو البشر الثاني ، فذكر كما ذكر أولا آدم ، فى ذكر خلق الإنسان ، وأيضا فى ذكر نجاة المؤمنين وفلاحهم ، فناسب صدر السورة ، وهلاك الكافر وهو ضد المؤمن ، كما صرح بذلك فى قوله فى آخرها : (إنه لا يفلح الكافرون) ، وفى النجاة فى الفلك مناسبة للنعم المقررة قبل ذكره. ه. (وَ إِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ) : «إن» : مخففة ، واسمها :
ضمير الشأن ، واللام فارقة.
يقول الحق جل جلاله : وَلَقَدْ أَرْسَلْنا : وتالله لقد أرسلنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ ، وقد مرّ فى الأعراف نسبه وكيفية بعثته «1» ، فَقالَ لقومه حين أرسل إليهم ، متعطفا عليهم ، ومستميلا لهم إلى الحق : يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وحده إذ العبادة مع الإشراك لا عبرة بها ، فلذلك لم يقيدها هنا ، وقيدها فى هود ، بقوله : أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ «2» ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أي : مالكم فى الوجود إله يستحق أن يعبد غيره ، فالرفع على المحل ، والجر على اللفظ. أَفَلا تَتَّقُونَ أفلا تخافون عقوبة اللّه ، الذي هو ربكم وخالقكم ، إذا عبدتم غيره مما ليس من استحقاق العبادة فى شىء ، أو : أفلا تخافون عذابه الذي يستوجبه ما أنتم عليه ، كما يفصح عنه قوله تعالى : إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ «3».
___________
(1) راجع تفسير الآية 59 وما بعدها ، من سورة الأعراف.
(2) من الآية 26 من سورة هود.
(3) الآية 59 من سورة الأعراف.(3/570)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 571
فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ أي : أشرافهم لعوامهم : ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ فى الجنس والوصف ، يأكل ويشرب مثلكم ، من غير فرق بينكم وبينه ، يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ أي : يطلب الفضل عليكم ، ويتقدمكم بادعاء الرسالة مع كونه مثلكم ، والعجب منهم أنهم رضوا بالألوهية والخضوع للحجر ، ولم يرضوا بنبوة البشر. ثم قالوا : وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً أي : لو شاء اللّه إرسال الرسل لأرسل رسلا من الملائكة.
وإنما قال : لأنزل ولم يقل : لأرسل لأنّ إرسال الملائكة لا يكون إلا بطريق الإنزال ، فمفعول المشيئة مطلق الإنزال ، أي : لو شاء ربنا إنزال شىء من الوحى لأنزل ملائكة يرسلهم إلينا ، ما سَمِعْنا بِهذا أي : بمثل هذا الكلام ، الذي هو الأمر بعبادة اللّه وحده ، وترك عبادة ما سواه ، أو : ما سمعنا بأنّ البشر يكون رسولا ، أو بمثل نوح عليه السّلام فى دعوى النبوة ، فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ أي : الماضين قبل بعثة نوح عليه السّلام. وإنما قالوا ذلك إما من فرط عنادهم ، أو لأنهم كانوا فى فترة متطاولة ، وقيل : معناه : ما سمعنا به أنه نبى ، إِنْ هُوَ أي : ما هو إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ أي : جنون ، أو جن يخبلونه ، ولذلك يقول ما يقول. فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ أي : انتظروا واصبروا إلى زمان حتى ينجلى أمره ، فإن أفاق من جنونه ، وإلا قتلتموه.
قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ ، لمّا أيس من إيمانهم دعا اللّه بالانتقام منهم ، فالجملة استئناف نشأ عن سؤال ، كأنه قيل : فماذا قال عليه السّلام ، بعد ما سمع هذه الأباطيل؟ فقيل : قال ، لما رآهم قد أصروا على الكفر والتكذيب ، وتمادوا فى الغواية والضلال ، حتى أيس من إيمانهم بالكلية ، وقد أوحى إليه أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن :
رَبِّ انْصُرْنِي بإهلاكهم بالمرة ، فهو حكاية إجمالية لقوله : لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً «1». بِما كَذَّبُونِ بسبب تكذيبهم إياى ، أو بدل تكذيبهم ، كقولك : هذا بذلك ، أي : بدل ذاك ، والمعنى : أبدلنى من غم تكذيبهم سلوة النصر عليهم.
فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أجبنا دعاءه وأوحينا إليه عند ذلك أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا أي : ملتبسا بحفظنا وكلاءتنا ، كأنّ معك حفاظنا يكلؤونك بأعينهم ، لئلا يتعرض لك أحد ، يفسد عملك ، ومنه قولهم : عليه من اللّه عيون كالئة ، وَوَحْيِنا أي : أمرنا وتعليمنا إياك صنعتها. روى : أنه أوحى إليه أن يصنعها مثل جؤجؤ الطائر.
وفى القاموس جؤجؤ - كهدهد - : الصدر. فَإِذا جاءَ أَمْرُنا أي : عذابنا بأمرنا ، وَفارَ التَّنُّورُ أي : فار الماء من تنور الخبز ، فخرج سبب الغرق من موضع الحرق ليكون أبلغ فى الإنذار والاعتبار. روى أنه قيل لنوح : إذا رأيت الماء يفور من التنور فاركب أنت وأهلك السفينة ، فلما نبع الماء من التنور أخبرته امرأته ، فركب ، وكان
___________
(1) من الآية 26 من سورة نوح. [.....](3/571)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 572
التنور تنور آدم ، فصار إلى نوح ، وكان من حجارة. واختلف فى مكانه ، فقيل : فى مسجد الكوفة عن يمين الداخل ، وقيل : بالشام ، وقيل : بالهند.
فإذا فار فَاسْلُكْ فِيها : فأدخل فى السفينة مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ من كل أمة اثنين مزدوجين ، ذكر وأنثى. قال الحسن : لم يحمل نوح فى السفينة إلا ما يلد ويبيص ، فأما البق والدود والذباب ، فلم يحمل منه شيئا ، وإنما يخرج من الطير. ه. وَاحمل فى السفينة أَهْلَكَ نساءك وأولادك ، أو من آمن معك ، إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ أي : القول من اللّه بهلاكه ، وهو ابنه وإحدى زوجتيه ، وإنما جىء بعلى لكون السابق ضارا ، كما جىء باللام فى قوله : إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى ... «1» ، وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ «2» لكونه نافعا ، ونحوه : لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ «3» ، وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ أي : لا تسألنى نجاة الذين كفروا ، إنهم مقضى عليهم بالإغراق لا محالة لظلمهم بالإشراك والإصرار ، ومن هذا شأنه لا يشفع له ، وكأنه عليه السّلام ندم على الدعاء عليهم ، حين تحقق هلاكهم ، فهمّ بمراجعة الحق فيهم شفقة ورحمة ، فنهى عن ذلك.
ثم قال له : فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فإذا تمكنتم عليها راكبين فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ، أمر بالحمد على هلاكهم والنجاة منهم على طريق : فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ «4». ولم يقل : فقولوا ، وإن كان أهله ومن معه قد استووا معه لأنه نبيهم وإمامهم ، فكان قوله قولهم ، مع ما فيه من الإشعار بفضل النبوة.
وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي فى السفينة ، أو منها مُنْزَلًا مُبارَكاً أي : إنزالا مباركا ، أو موضع إنزال يستتبع خيرا كثيرا ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ خير من ينزل فى كل خير ، أمر عليه السّلام بأن يشفع دعاءه بما يطابقه من ثنائه عليه تعالى ، توسلا به إلى إجابة دعائه ، فالبركة فى السفينة : النجاة فيها ، وبعد الخروج منها : كثرة النسل وتتابع الخيرات ، إِنَّ فِي ذلِكَ فيما فعل بنوح وقومه لَآياتٍ : لعبرا ومواعظ ، وَإِنْ كُنَّا أي : وإن الشأن والقصة كنا لَمُبْتَلِينَ : مصيبين قوم نوح ببلاء عظيم وعقاب شديد ، أو : مختبرين بهذه الآيات عبادنا ، لننظر من يعتبر ويذّكر ، كقوله : وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ «5». واللّه تعالى أعلم.
___________
(1) من الآية 101 من سورة الأنبياء.
(2) الآية 171 من سورة الصافات.
(3) من الآية 286 من سورة البقرة.
(4) الآية 45 من سورة الأنعام.
(5) الآية 15 من سورة القمر.(3/572)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 573
الإشارة : تقدمت إشارة هذه القصة مرارا بتكررها ، وفيها تسلية لمن أوذى من الأولياء بقول قبيح أو فعل ذميم.
وقال القشيري فى قوله : وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبارَكاً : الإنزال المبارك : أن تكون باللّه وللّه على شهود اللّه ، من غير غفلة عن اللّه ، ولا مخالفة لأمر اللّه. ه.
ثم ذكر قصة هود أو صالح ، فقال :
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 31 الى 41]
ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (31) فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (32) وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْناهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ما هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (33) وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ (34) أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (35)
هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ (36) إِنْ هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (37) إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً وَما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ (38) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ (39) قالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ (40)
فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (41)
يقول الحق جل جلاله : ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ من بعد قوم نوح قَرْناً أي : قوما آخَرِينَ هم عاد قوم هود ، حسبما روى عن ابن عباس ، ويشهد له قوله تعالى : وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ «1» ، ومجىء قصة هود على إثر قصة نوح فى الأعراف وهود والشعراء ، ونقل ابن عطية عن الطبري : أن المراد بهم ثمود قوم صالح ، قال : والترتيب يقتضى قوم عاد ، إلّا أنهم لم يهلكوا بالصيحة ، بل بالريح. قال فى الحاشية : والظاهر أنهم صالح. كما قاله الطبري. وحمل الواحدي الصيحة على صيحة العذاب ، فيتجه لذلك أنهم عاد قوم هود ، وقد تقرر أن ثمود بعد عاد. ثم قال : وفى السيرة : عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح ، وثمود بن عابر بن أرم بن سام بن نوح. ه.
___________
(1) من الآية 69 من سورة الأعراف.(3/573)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 574
فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ ، الإرسال يعدّى بإلى ، ولم يعدّ بهاهنا وفى قوله : كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ «1» ، وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ «2» لأن الأمة والقرية جعلت موضعا للإرسال ، إيذانا بأن المرسل إليهم لم يأتيهم من غير مكانهم ، بل إنما نشأ بين أظهرهم ، كما ينبىء عنه قوله : رَسُولًا مِنْهُمْ أي : من جملتهم نسبا ، وهو : هود أو صالح ، فإنهما - عليهما السّلام - كانا منهم. قائلا لهم : أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ عذابه ، الذي يقتضيه ما أنتم عليه من الشرك والمعاصي.
وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ ، ذكر مقال قوم هود ، فى جوابه ، فى الأعراف وهود بغير «واو» لأنه على تقدير سؤال سائل ، قال : فما قال قومه؟ فقيل : قالوا : كيت وكيت ، وهنا مع الواو لأنه عطف لما قالوه على ما قاله الرسول ومعناه : حكاية قولهم الباطل إثر حكاية قول الرسول الحق ، وليس بجواب للنبى متصل بكلامه ، وجىء بالفاء فى قصة نوح عليه السّلام لأنه جواب لقوله ، واقع عقبه ، أي : وقال الأشراف من قومه الَّذِينَ كَفَرُوا ، وصفوا بالكفر ذمّا لهم ، وتنبيها على غلوّهم فيه ، وَكَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ أي : بلقاء ما فيها من الحساب والثواب والعقاب وغير ذلك ، أو بمعادهم إلى الحياة الثانية ، وَأَتْرَفْناهُمْ : نعّمناهم فِي الْحَياةِ الدُّنْيا بكثرة الأموال والأولاد ، أي :
قالوا لأتباعهم ، مضلين لهم : ما هذا النبي إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ فى الصفة والأحوال ، والاحتياج إلى القوام ، ولم يقولوا : مثلنا تهوينا لأمره عليه السّلام.
ثم فسر المثلية بقوله : يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ أي : منه ، فحذف لدلالة ما قبله عليه ، وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ فيما يأمركم به وينهاكم عنه ، إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ بالانقياد لمثلكم ، ومن حمقهم أنهم أبو اتّباع مثلهم وعبدوا أعجز منهم.
أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ - بالكسر والضم - من مات يمات ويموت ، وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً نخرة ، أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ ، فأنكم الثانية ، توكيد للأولى للفصل بينهما ، والتقدير : أيعدكم أنكم مخرجون بالبعث إذا متم وكنتم ترابا وعظاما؟ هَيْهاتَ هَيْهاتَ ، تكرير لتأكيد البعد ، وهو اسم فعل مبنى على الفتح ، واقع موقع بعد ، فاعلها مضمر ، أي : بعد التصديق أو الوقوع لِما تُوعَدُونَ من العذاب ، أو فاعلها : «ما توعدون» ، واللام زائدة ، أي : بعد ما تعدون من البعث ، وقيل : ما توعدون من البعث. وقيل : مبتدأ ، وهما اسم للبعد ، و(لِما تُوعَدُونَ) : خبر ، أي : بعد بعد لما توعدون ، إِنْ : ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا ، والضمير لا يعلم ما يعنى به إلا بما بعده من بيانه ، وأصله : إن الحياة إلا حياتنا ، وأتى بالضمير حذرا من التكرير ، أي : لا حياة إلا هذه الحياة التي نحن فيها ، ودنت منا ، نَمُوتُ وَنَحْيا أي : يموت بعضنا ويولد بعض ، إلى انقراض العصر ، وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ بعد
___________
(1) من الآية 30 من سورة الرعد.
(2) من الآية 94 من سورة الأعراف.(3/574)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 575
الموت ، إِنْ ماهُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً
فيما يدّعيه من الإرسال ، وفيما يعدنا من البعث ، وَما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ : بمصدّقين بما يقول.
قالَ هود ، أو صالح - عليهما السّلام - بعد ما سلك فى دعوتهم كل مسلك ، متضرعا إلى اللّه - عز وجل - :
رَبِّ انْصُرْنِي عليهم ، وانتقم منهم بِما كَذَّبُونِ أي : بسبب تكذيبهم إياى وإصرارهم عليه ، قالَ تعالى إجابة لدعائه : عَمَّا قَلِيلٍ أي : عن زمان قليل ، زيدت «ما» ، بين الجار والمجرور لتأكيد معنى القلة ، أو نكرة موصوفة ، أي : عن شىء قليل لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ عما فعلوا من التكذيب ، وذلك عند معاينتهم العذاب.
فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ ، لعلهم ، حين أصابتهم الريح العقيم ، أصيبوا فى تضاعيفها بصيحة هائلة من صوته. أو يراد بها : صرير الريح وصوته. وقد روى أن شدّادا حين أتم بناء إرم ، سار إليها بأهله ، فلما دنا منها بعث اللّه عليهم صيحة من السماء ، فهلكوا ، وقيل : الصيحة : العذاب المصطلم ، قال الشاعر :
صاح الزّمان بآل فدك صيحة خرّوا لشدّثها ، على الأذقان
وإذا قلنا : هم قوم صالح ، فالصيحة صيحة جبريل عليه السّلام ، صاح عليهم فدمرهم. وقوله : بِالْحَقِّ أي : بالعدل من اللّه ، يقال : فلان يقضى بالحق ، أي : بالعدل ، أو : أخذتهم بالحق ، أي : بالأمر الثابت الذي لا دفاع له ، فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً أي : كغثاء السيل ، وهو ما يحمله من الورق والحشيش ، شبههم فى دمارهم بالغثاء ، وهو ما يرميه السيل ، من حيث إنهم مرمىّ بهم فى كل جانب وسهب. فَبُعْداً : فهلاكا ، يقال بعد بعدا ، أي : هلك هلاكا ، وهو من المصادر المنصوبة بأفعال لا تظهر أفعالها ، أي : فسحقا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ، وهو إخبار ، أو دعاء ، واللام لبيان من دعى عليه بالبعد ، كقوله : هَيْتَ لَكَ «1». واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : من عادة الحق - سبحانه - ، إذا أكب الناس على دنياهم ، واتخذوا إلههم هواهم ، بعث من يذكرهم بالله ، فيقول لهم : اعبدوا اللّه ، ما لكم من إله غيره ، أي : أفردوه بالمحبة ، واقصدوه بالوجهة ، فما عبد اللّه من عبد هواه ، فيقول المترفون ، وهم المنهمكون فى الغفلة ، المحجوبون بالنعمة عن المنعم ، الذين اتسعت دائرة حسهم : ما هذا الذي يعظكم ، ويريد أن يخرجكم عن عوائدكم ، إلا بشر مثلكم ، يأكل مما تأكلون ، ويشرب مما تشربون ، ومادروا أنّ وصف البشرية لا ينافى وجود الخصوصية ، فإذا تمادوا فى غفلتهم ، وأيس من هدايتهم ، ربما دعا عليهم ، فأصبحوا نادمين ، حين لا ينفعهم الندم ، وذلك عند نزول هواجم الحمام. وباللّه التوفيق.
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 42 الى 44]
ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ (42) ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ (43) ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (44)
___________
(1) من الآية 23 من سورة يوسف.(3/575)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 576
قلت : القرن : أهل العصر ، سموا به لقران بعضهم البعض ، و(تَتْرا) : حال ، فمن قرأه بالألف فهو كسكرى ، وهو من الوتر ، واحدا بعد واحد ، فالتاء الأولى بدل من الواو ، وأصله : وترى ، كتراث وتقوى ، والألف للتأنيث ، باعتبار أن الرسل جماعة ، ومن نوّنه جعله كأرطى ومعزى ، فيقال : أرطى ومعزى ، وقيل : مصدر بمعنى فاعل ، أي : متتابعين.
يقول الحق جل جلاله : ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ أي : من بعد قوم هود ، قُرُوناً آخَرِينَ قوم صالح ولوط وشعيب وغيرهم ، ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ ، «من» : صلة ، أي : ما تتقدم أمة من الأمم المهلكة أَجَلَها الذي عيّن لهلاكها فى الأزل ، وَما يَسْتَأْخِرُونَ عنه ساعة. ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا ، عطف على «أنشأنا» ، على معنى أن إرسالهم متراخ عن إنشاء القرون المذكورة ، وما بينهما اعتراض ، والمعنى : ثم أنشأنا من بعدهم قرونا آخرين ، قد أرسلنا إلى كل قرن منهم رسولا خاصا به ، والفصل بين الجملتين بالجملة المتعرضة الناطقة بعدم تقدم الأمم أجلها المضروب لهلاكهم للمسارعة إلى بيان هلاكهم على وجه إجمالي.
وقوله : تَتْرا أي : متواترين واحدا بعد واحد ، أو متتابعين يتبع بعضهم بعضا ، كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ ، الرسول يلابس المرسل والمرسل إليه ، والإضافة تكون بالملابسة ، فأضافهم أولا إلى نون العظمة ، وهنا إلى المرسل إليهم للإشعار بكمال شناعتهم وضلالتهم ، حيث كذبت كلّ أمة رسولها المعين لها ، وعبّر عن التبليغ بالمجيء للإيذان بأنهم كذبوه فى الملاقاة الأولى ، فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً فى الهلاك ، كما تبع بعضهم بعضا فى الكفر والتكذيب ، الذي هو سبب الهلاك ، وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ أخبار ، يسمر بها ويتعجب منها ، أي : لم يبق منهم إلا حكايات يعتبر بها المعتبرون ، والأحاديث يكون اسم جمع للحديث ، ومنه : أحاديث النبي - عليه الصلاة السّلام - ويكون جمعا للأحدوثة ، وهى ما يتحدث به الناس تلهيا وتعجبا ، وهو المراد هنا ، فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ به وبرسله ، اقتصر هنا على عدم إيمانهم ، وأما القرون الأولى ، فحيث نقل عنهم ما مرّ من العتو وتجاوز الحد فى الكفر والعدوان ، وصفهم بالظلم. واللّه تعالى أعلم وأحكم.
الإشارة : كل ما حكى اللّه تعالى عن القرون الماضية والأمم السابقة ، فالمراد ترهيب هذه الأمة المحمدية ، وإزعاج لها عن أسباب الهلاك ، وإنهاض لها إلى العمل الصالح ، لتكون أحاديث حسانا بين الأمم ، فكل إنسان ينبغى له أن يجتهد فى تحصيل الكمالات العلمية والعملية ، ليكون حديثا حسنا لمن بعده ، كما قال القائل :
ما المرء إلا حديث من بعده فكن حديثا حسنا لمن وعا
وقال آخر : وما المرء إلا كالشّهاب وضوءه يحور رمادا بعد ما هو ساطع
وما المال والأهلون إلا وديعة ولا بدّ يوما «1» أن تردّ الودائع
وباللّه التوفيق ،
___________
(1) فى الأصول : ولا بد من يوم.(3/576)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 577
ثم ذكر رسالة موسى وهارون - عليهما السّلام - فقال :
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 45 الى 49]
ثُمَّ أَرْسَلْنا مُوسى وَأَخاهُ هارُونَ بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (45) إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً عالِينَ (46) فَقالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ (47) فَكَذَّبُوهُما فَكانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ (48) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (49)
قلت : «هارون» : بدل من «أخاه».
يقول الحق جل جلاله : ثُمَّ أَرْسَلْنا مُوسى وَأَخاهُ هارُونَ بِآياتِنا التسع من اليد ، والعصا ، والطوفان ، والجراد ، والقمّل ، والضفادع ، والدم ، ونقص الثمرات ، والطاعون. ولا مساغ لعدّ فلق البحر منها إذ المراد الآيات التي كذبوها واستكبروا عنها ، بدليل ما بعدها. وَسُلْطانٍ مُبِينٍ وحجة واضحة ملزمة للخصم الإقرار بما دعى إليه ، وهى إمّا العصا ، وإفرادها بالذكر مع اندراجها فى الآيات لأنها أبهر آياته عليه السّلام ، وقد تضمنت معجزات شتى من انقلابها ثعبانا ، وتلقفها ما أفكته السحرة ، كما تقدم. وأما التعرض لانفلاق البحر وانفجار العيون من الحجر بضربها ، وحراستها ، وصيرورتها شمعة ، وشجرة خضراء مثمرة ، ودلوا ورشاء ، وغير ذلك مما ظهر منها فى غير مشهد فرعون وقومه ، فغير ملائم لمقتضى المقام ، وإمّا ما أتى به من الحجج الباهرة ، فيشمل ما تقدم وغيره.
إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ أي : أشراف قومه ، خصهم بالذكر ليرتب عليه ما بعده من قوله : فَاسْتَكْبَرُوا عن الانقياد وتمردوا. تكبرا وترفعا ، وَكانُوا قَوْماً عالِينَ : متكبرين ، متمردين ، فَقالُوا ، فيما بينهم ، على طريق المناصحة : أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا ، «مثل» و«غير» يوصف بها الاثنان والجمع والمذكر والمؤنث ، والبشر يطلق على الواحد ، كقوله : بَشَراً سَوِيًّا
«1» ، وعلى الجمع ، كقوله : فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً «2» ، وأراد به هنا الواحد ، فثناه ، أي : كيف نؤمن لبشرين مثلنا فى العجز والافتقار ، وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ أي : خادمون منقادون لنا كالعبيد ، وكأنهم قصدوا بذلك التعريض بهما - عليهما السّلام - ، وحط رتبتهما العلية عن منصب الرسالة من وجه آخر غير البشرية ، بناء على زعمهم الفاسد ، من قياس الرئاسة الدينية على الرئاسات الدنيوية ، الدائرة على التقدم فى نيل الحظوظ الدنيوية ، من المال والجاه ، كدأب قريش ، حيث قالوا : لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ «3». وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ «4». وعلى جهلهم بأن مناط الاصطفاء
___________
(1) من الآية 17 من سورة مريم.
(2) من الآية 26 من سورة مريم.
(3) الآية 11 من سورة الأحقاف.
(4) الآية 31 من سورة الزخرف. [.....](3/577)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 578
للرسالة هو السبق فى حيازة النعوت العلية ، وإحراز الكمالات السنية ، جبلّة أو اكتسابا ، فَكَذَّبُوهُما أي : فتمادوا على تكذيبهما ، وأصروا ، واستكبروا استكبارا ، فَكانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ بالغرق فى بحر القلزم.
وَلَقَدْ آتَيْنا بعد إهلاكهم ، وإنجاء بنى إسرائيل من ملكهم واسترقاقهم ، مُوسَى الْكِتابَ : التوراة ، ولمّا نزلت لإرشاد قومه جعلوا كأنهم أوتوها ، فقيل : لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ إلى الحق بالعمل بما من الشرائع والأحكام ، وقيل : على حذف مضاف ، أي : آتينا قوم موسى ، كقوله : عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ «1» ، أي :
من آل فرعون وملئهم. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : كل من طرد وأبعد عن ساحة رحمة اللّه تعالى والوصول إليه ، فإنما سببه التكبر والعلو ، وكل من قرب ووصل إلى اللّه فإنما سببه التواضع والحنو ، ولذلك ورد : «لا يدخل الجنّة من كان فى قلبه مثقال ذرّة من كبر» «2». وحقيقة الكبر : بطر الحقّ وغمط النّاس ، أي : إنكار الحق واحتقار الناس ، وفى مدح التواضع والخمول مالا يخفى. فمن تواضع ، دون قدره ، رفعه اللّه فوق قدره ، فالتواضع مصيدة الشرف ، به يصطاد وينال ، ومن أوصاف أهل الجنة : «كل ضعيف مستضعف ، لو أقسم على اللّه لأبره فى قسمه» «3» ، إلى غير ذلك من الأخبار.
وكل من أنكر على أهل الخصوصية فسببه إما الحسد ، أو الجهل بأن الخصوصية لا تنافى أوصاف البشرية ، أو قياس الرئاسة الباطنية الدينية على الرئاسة الدنيوية ، فأسقط من لا رئاسة له فى الظاهر ولا جاه ، أو لعدم ظهور الكرامة ، وهى غير مطلوبة عند المحققين. واللّه تعالى أعلم.
ثم ذكر عيسى عليه السّلام ، فقال :
[سورة المؤمنون (23) : آية 50]
وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ (50)
يقول الحق جل جلاله : وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً دالة على كمال قدرتنا بولادته منها من غير مسيس بشر ، ووحّدها لأن الأعجوبة فيهما واحدة. أو المراد : وجعلنا ابن مريم آية وأمه آية ، فحذفت الأولى لدلالة الثانية عليها ، أي : وجعلنا ابن مريم وحده ، من غير أن يكون له أب ، آية ، وأمه ، من حيث إنها ولدت من غير ذكر ، آية ، وتقديمه عليه السّلام لأصالته فيما ذكر من كونه آية ، كما أن تقديم أمه فى قوله تعالى : وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ «4» ، لأصالتها فيما نسب إليها من الإحصان والنفخ.
___________
(1) من الآية 83 من سورة يونس.
(2) أخرجه مسلم فى (الإيمان ، باب تحريم الكبر وبيانه) عن عبد اللّه بن مسعود. رضى اللّه عنه.
(3) أخرجه أحمد فى المسند (3/ 145) من حديث أنس بن مالك. وأخرجه ابن ماجة فى (الزهد ، باب من لا يؤبه به) من حديث معاذ بن جبل ، بلفظ : «ألا أخبركم عن ملوك الجنة؟» قلت : بلى ، قال : رجل ضعيف مستضعف ، ذو طمرين ، لا يؤبه ، لو أقسم على اللّه لأبره».
(4) الآية 91 من سورة الأنبياء.(3/578)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 579
وَآوَيْناهُما أي : جعلنا مأويهما ومنزلهما إِلى رَبْوَةٍ أي : أرض مرتفعة ، وهو بيت المقدس فإنها كبد الأرض ، وأقرب الأرض إلى السماء ، بمعنى أنه يزيد علوها على علو الأرض ، فينتقص بعدها عن السماء عن بعد غيرها منها بثمانية عشر ميلا ، كما جاء ، ولعل ذلك سر كونها أرض الحشر ، وكون الإسراء وقع منها. قاله المحشى ، وقيل : دمشق ، وقيل : فلسطين ، والرملة. ذاتِ قَرارٍ مستقر من الأرض ، مستوية ، منبسطة ، سهلة ، أو ذات ثمار ، يستقر لأجل ثمارها ، ساكنوها فيها ، وَمَعِينٍ أي : ماء معين ، ظاهر ، جار ، فقيل : من معن ، إذا جرى ، أو مدرك بالعين لظهوره ، من عانه ، إذا أدركه بعينه ، أو من الماعون ، وهو النفع لأنه نفاع لظهوره وجريه. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : كان عيسى عليه السّلام منقطعا عن هذا العالم ، متبتلا زاهدا ، لم يتخذ فى هذه الدنيا قرارا ، ولم يبن فيها مسكنا ولا دارا ، فكان آية للعباد والزهاد من الرجال. كما أن أمه كانت آية للنساء العابدات ، فى التبتل والانقطاع ، فآواهما إلى ربوة التقريب والاصطفاء ، ذات قرار وتمكين ومصافاة ووفاء ، وجعل ، جل جلاله ، أولياءه على قدم أنبيائه ، فمنهم على قدم نوح عليه السّلام فى القوة ونفوذ الهمة ، مهما دعا على أحد هلك. ومنهم على قدم إبراهيم عليه السّلام فى الشفقة والرحمة وعلو الهمة ، وتحقيق التوحيد ، وإمام أهل التفريد ، ومنهم على قدم موسى عليه السّلام فى المناجاة والمكالمة والقوة والعزم ، ومنهم على قدم عيسى عليه السّلام فى الزهد والانقطاع ، ومنهم على قدم نبينا محمد - عليه الصلاة والسّلام - وهو الجامع لما افترق فى غيره ، وهو قطب الدائرة ، نفعنا اللّه بهم جميعا.
ولمّا كان جلّ الأنبياء بالشام ، التي هى ذات قرار وأنعام ، أمرهم بالأكل من تلك النعم ، والشكر بالعمل الصالح ، فقال :
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 51 الى 56]
يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51) وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52) فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (53) فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (54) أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ (55)
نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ (56)
قلت : (و إن هذه) : من كسره استأنف ، ومن فتحه حذف اللام ، أي : فاتقون لأنّ هذه ، أو معطوف على ما قبله :
(بما تعملون عليم) ، وبأن هذه ، أو بتقدير : واعلموا أن هذه. و(زُبُراً) : حال من : «أمرهم» ، أو من «واو» (تقطعوا) ، و(نسارع) : خبر «أن» ، و«ما» : موصولة.(3/579)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 580
يقول الحق جل جلاله : يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ ، هذا النداء والخطاب ليسا على ظاهرهما لأنهم أرسلوا متفرقين فى أزمنة مختلفة ، وإنما المعنى : الإعلام بأنّ كل رسول فى زمانه نودى بذلك ، ووصى به للإيذان بأن إباحة الطيبات شرع قديم ، جرى عليه جميع الرسل - عليهم الصلاة والسّلام - ووصّوا به ، أي : وقلنا لكل رسول : كل من الطيبات واعمل صالحا. فعبّر عن تلك الأوامر المتعددة المتعلقة بالرسل بصيغة الجمع للإيجاز ، وفيه من الدلالة على بطلان ما عليه الرهابنة من رفض الطيبات مالا يخفى. قاله أبو السعود. وقيل :
خطاب لعيسى عليه السّلام لا تصال الآية به ، وكان يأكل من غزل أمه ، وهو من أطيب الطيبات ، وقيل : لنبينا محمد صلى اللّه عليه وسلم لفضله وقيامه مقام الكل ، وكان يأكل من الغنائم ، وما رزقه اللّه من غير اختيار على اللّه ، والجمع : للتعظيم فيهما ، والطيبات : ما يستطاب ويستلذ من مباحات المآكل والفواكه ، حسبما ينبىء عنه سياق النظم الكريم.
وَاعْمَلُوا عملا صالِحاً ، فإنه المقصود منكم شكرا لما أسدى إليكم ، ولا تشتغلوا بالنعم عن طاعة المنعم وشهوده ، إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ من الأعمال الظاهرة والباطنة ، عَلِيمٌ ، فأجازيكم عليه ، وفيه تهديد للمذكورين ، فما بالك بغيرهم ممن ألهته النعم عن شهود المنعم وشكره؟! وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ «1» أي : ملتكم وشريعتكم التي أنتم عليها أُمَّةً واحِدَةً أي : ملة واحدة ، متحدة فى أصول الشرائع ، التي لا تبدل بتبدل الأعصار ، وهو التوحيد وما يتبعه من أصول العقائد. وَأَنَا رَبُّكُمْ من غير أن يكون لى شريك فى الربوبية ، فَاتَّقُونِ : فخافوا عتابى فى مخالفتكم أمرى ، أو فى شق العصا ، والمخالفة بالإخلال بمواجب ما ذكر من اختصاص الربوبية بي.
والخطاب للرسل والأمم جميعا ، على أن الأمر فى حق الرسل للتهييج ، وفى حق الأمم للتحذير. قيل : وجاء هنا :
«فاتقون» ، الذي هو أبلغ فى التخويف والتحذير من قوله فى الأنبياء : فَاعْبُدُونِ «2» لأن هذه جاءت عقب إهلاك طوائف كثيرين ، وفى الأنبياء ، وإن تقدمت أيضا قصة نوح وما قبلها ، فإنه جاء بعدها ما يدل على الإحسان واللطف التام ، فى قصة أيوب ويونس وزكريا ومريم ، فناسب الأمر بالعبادة لمن هذه صفته.
ثم قال تعالى : فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ أي : فتفرقوا فى أمر دينهم مع اتحاده ، وجعلوه قطعا متفرقة ، وأديانا مختلفة ، بَيْنَهُمْ زُبُراً أي : قطعا - جمع زبور ، بمعنى الفرقة ، ويؤيده قراءة من قرأ : (زُبُراً) بفتح الباء ، جمع زبرة كغرفة ، أي : قطعا مختلفة ، كلّ ينتحل كتابا ، وقيل : جمع زبور ، بمعنى كتاب ، أي : كل فريق يزعم أن له كتابا يتمسك به. وعن الحسن : قطعوا كتاب اللّه قطعا وحرّفوه ، والأول أقرب ، أي : تفرقوا فى أصل الدين فرقا ،
___________
(1) قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وأبو جعفر ويعقوب «وأن» بفتح الهمزة. وقرأ عاصم وحمزة والكسائي بكسر الهمزة على الاستئناف .. انظر الإتحاف (2/ 285).
(2) أي : فى قوله تعالى : «إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون». الآية 92 من سورة الأنبياء.(3/580)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 581
وتحزبوا أحزابا ، كُلُّ حِزْبٍ من أولئك المتحزبين بِما لَدَيْهِمْ من الدين الذي اختاروه ، أو من الهوى والرأى ، فَرِحُونَ : معجبون ، يعتقدون أنه الحق.
فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ فى جهالتهم وغفلتهم ، شبّه ما هم فيه من الجهالة بالماء الذي يغمر القامة لأنهم مغمورون فيها ، سابحون فى بحر الجهالة ، والخطاب للرسول صلى اللّه عليه وسلم إيذانا بأنهم مطبوع على قلوبهم ، أي : اتركهم على حالهم حَتَّى حِينٍ : حتى نأمرك فيهم بما شئت من الجهاد أو غيره ، أو : إلى أن يقتلوا أو يموتوا على الكفر ، أو : إلى وقت حلول العذاب بهم. فهو تهديد وتسلية لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، ونهى عن استعجال عذابهم ، وفى التنكير والإبهام مالا يخفى من التهويل.
أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ أي : نعطيهم إياه ونجعله مددا لهم ، مِنْ مالٍ وَبَنِينَ «من» : بيان ، أي :
أيظنون أن الذي نمدهم به من الأموال والبنين ، نُسارِعُ لَهُمْ بذلك فِي الْخَيْراتِ ، بَلْ لا يَشْعُرُونَ أنه استدراج ، قيل : استدراك لقوله : أَيَحْسَبُونَ أي : بل هم أشباه البهائم ، لا شعور لهم حتى يتأملوا فى ذلك ، هل هو استدراج أو مسارعة فى الخيرات؟ وحاصل المعنى : أن هذا الإمداد ليس إلا استدراجا لهم إلى المعاصي ، وهم يحسبونه مسارعة لهم فى الخيرات ، ومعاملة لهم بالثواب ، جزاء على حسن صنيعهم.
وهذه الآية حجة على المعتزلة فى مسألة الأصلح لأنهم يقولون : إن اللّه - تعالى - لا يفعل بأحد من الخلق إلا ما هو أصلح له فى الدين ، وقد أخبر أن ذلك لا خير لهم فيه ولا صلاح ، واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : تناول الطيبات وما تشتهيه النفس من أنواع الملذوذات ، مباح فى الشرع قديما وحديثا ، إن كان من وجه مباح وقارنه الشكر لأن الحق تعالى ما خلق ذلك إلا لعباده ليشكروه ويحمدوه ، ويتذكروا بذلك نعيم الجنان ، الذي لا يفنى ولا يزول ، وما هذا النعيم الدنيوي إلا أنموذج من نعيم الآخرة ، قال تعالى : فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ «1». هذا باعتبار عامة المسلمين ، وأما الخاصة من العبّاد والزهاد والمريدين السائرين ، فهم يجتنبون ما تجنح إليه النفس ، ويتعلق به القلب خوفا من الاشتغال بذلك عن العبادة أو السير لأن القلب إذا توجه لأمر أعرض عن الآخر ، فإذا توجه إلى طلب الشهوات أعرض عن اللّه ، وتفتّر عن السير ، وتكبّل عن النهوض إلى الحضرة. ولذلك قال فى الحكم : «كيف يشرق قلب : صور الأكوان منطبعة فى مرآته؟ أم كيف يرحل إلى اللّه وهو مكبّل بشهواته؟ أم كيف يدخل حضرة اللّه وهو لم يتطهر من جنابة غفلاته؟ أم كيف يرجو أن يفهم دقائق الأسرار وهو لم يتب من هفواته؟» وقال بعضهم : لدغ الزنابير على الأجسام المقرحة ، أيسر من لدغ الشهوات على القلوب المتوجهة. ه.
___________
(1) من الآية 38 من سورة التوبة.(3/581)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 582
وأما خاصة الخاصة وهم العارفون المتمكنون ، فهم مع مولاهم ، يأخذون من يده ما يعطيهم لأن قلوبهم قد استغرقتها الأنوار ، فلم يبق فيها متسع للأغيار ، قد تهذبت نفوسهم ، واطمأنت باللّه قلوبهم ، فلا تلتفت إلى غير مولاها. وباللّه التوفيق.
وقوله تعالى : فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ .. إلخ ، الاختلاف ، إن كان فى التوحيد وما يرجع إليه من أصول العقائد ، فهو مذموم ، وهو الذي نعاه اللّه على الكفرة المتحزبة ، وأمّا إن كان فى الفروع فهو مشروع ، كاختلاف الشرائع والمذاهب ، ولذلك قال - عليه الصلاة والسّلام - : «اختلاف أمتى رحمة» ، وقال بعض الصوفية : ما زالت الصوفية بخير ما تنافروا ، فإن توافقوا فلا خير فيهم. ه. والمراد بالتنافر - فى حقهم - التناصح ، وإنكار بعضهم على بعض إذا رأى من أحد عيبا ، فإن سكتوا عن بعضهم ، وتوافقوا على مساوئ بعضهم بعضا ، فلا خير فيهم ، وأما قلوبهم فهى متوافقة مؤتلفة.
وقوله تعالى : كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ، أما أهل الحق فهم فرحون لسلوكهم على المنهاج المستقيم ، المفضى إلى رضوان اللّه ورحمته ، وأما أهل الباطل فزين لهم الشيطان أعمالهم ليتمكنوا من التقرر عليه حتى ينفذ مراد اللّه فيهم ، ولو تحققوا أنهم على باطل لم يمكن قرارهم عليه ، فتبطل حكمته وقهريته ، وكل من أقامه الحق - تعالى - فى حرفة أو خطة ، زينها اللّه - تعالى - فى قلبه حتى يقوم بها ، وكذلك أهل الأسباب من أرباب الدليل والبرهان ، مع أهل التجريد من أهل الشهود والعيان ، لو علموا بمقام أهل العيان ما أقاموا فى الأسباب ، ولتجردوا كلهم ، فتبطل الحكمة الإلهية. وكان إبراهيم بن أدهم رضى اللّه عنه يقول : (لو يعلم الملوك ما نحن فيه لجالدونا عليه بالسيوف) : فسبحان من قرّب قوما وأبعد قوما ، (وَ هُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً). واللّه تعالى أعلم وأحكم.
ثم ذكر أهل القرب ، إثر بيان أهل البعد ، فقال :
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 57 الى 62]
إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ (59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ (60) أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ (61)
وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (62)(3/582)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 583
قال فى الحاشية : لمّا ذكر تعالى غفلة الكفار ووعيدهم ، عقّب ذلك بوصف المؤمنين بضد ذلك ويقينهم بالرّجعى ، وإشفاقهم من جلال الحق وقهره. ه.
يقول الحق جل جلاله : إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ أي : من عذابه خائفون حذرون ، وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ المنصوبة والمنزّلة ، (يؤمنون) بتصديق مدلولها ، وبكتب اللّه كلها ، لا يفرقون بين كتبه ، كالذين تقطعوا أمرهم بينهم - وهم أهل الكتاب وغيرهم ، وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ شركا جليا ولا خفيا ، بخلاف مشركى العرب والعجم.
وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا أي : يعطون ما أعطوا من الزكوات والصدقات. وقرئ : (يأتون ما أتوا) بالقصر ، أي : يفعلون من الطاعات ، وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ : خائفة ألّا تقبل منهم لتقصيرهم بأن لا يقع على الوجه اللائق ، فيؤخذوا به ويحرموا ثوابه لأنهم إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ فيعاتبهم ، أو من مرجعهم إليه ، وهو يعلم ما يحيق عليهم ، والموصولات الأربعة عبارة عن طائفة واحدة متصفة بما ذكر ، فى حيّز صلاتها من الأوصاف الأربعة ، لا عن طوائف ، كل واحدة منها متصفة بواحد من الأوصاف المذكورة ، كأنه قيل : إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون ، وبآيات ربهم يؤمنون ... إلخ.
وإنما كرر الموصول إيذانا باستقلال كل واحد من تلك الصفات بفضيلة باهرة على حيالها ، وتنزيلا لاستقلالها منزلة استقلال الموصوف بها ، وخبر «إنّ» : أُولئِكَ يُسارِعُونَ ، أشار إليهم بالجمع باعتبار اتصافهم بتلك النعوت ، مع أنّ الموصول واقع على الجمع.
ومعنى البعد للإشعار ببعد رتبتهم فى الفضل ، أي : أولئك المنعوتون بتلك النعوت الجليلة يسرعون فِي الْخَيْراتِ أي : يرغبون فى الطاعات أشد الرغبة ، فيبادرون إليها. أو يسارعون فى نيل الخيرات العاجلة والآجلة الموعودة على الأعمال الصالحات كما فى قوله ، تعالى : فَآتاهُمُ اللَّهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ «1» ، وقوله : وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ «2» ، فقد أثبت لهم ما نفى عن أضدادهم ، غير أنه غيّر الأسلوب ، حيث لم يقل : أولئك نسارع لهم فى الخيرات بل أسند المسارعة إليهم إيماءا إلى كمال استحقاقهم نيل الخيرات لمحاسن الأعمال. وإيثار كلمة «فى» ، عن كلمة «إلى» إيذانا بأنهم متقلّبون فى فنون الخيرات ، لا أنهم خارجون عنها متوجهون إليها ، كما فى قوله تعالى : سارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ الآية «3».
___________
(1) من الآية 148 من سورة آل عمران.
(2) الآية 122 من سورة النحل.
(3) الآية 133 من سورة آل عمران.(3/583)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 584
وَهُمْ لَها أي : لأجل نيل تلك الخيرات ، سابِقُونَ الناس إلى الطاعات ، أو : وهم إياها سابقون ، واللام زائدة لتقوية العامل ، كقوله : (هم لها عاملون) أي : ينالونها قبل الآخرة ، فتعجل لهم فى الدنيا ، وعن ابن عباس :
(هم لها سابقون) أي : سبقت لهم من اللّه السعادة ، فلذلك سارعوا فى الخيرات. ه. فهو إشارة إلى تيسير كلّ لما خلق له ، وأنه يسّرهم القدر لما وصفهم به من الخير ، كما أن الكفار أمدوا بما يدعوا للغفلة والإعجاب ، مما هو استدراج ومكر من حيث لا يشعرون.
قال تعالى : وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها أي : طاقتها ، فهو تحريض على تحصيل ما وصف به السابقون من فعل الطاعات المؤدى إلى نيل الخيرات ببيان سهولته ، وأنه غير خارج عن حد الوسع والطاقة ، أي : عادتنا جارية بأن لا نكلف نفسا من النفوس إلا ما فى طاقتها ، فإن لم يبلغوا فى فعل الطاعة مراتب السابقين ، فلا عليهم ، بعد أن يبذلوا طاقتهم ويستفرغوا وسعهم.
وَلَدَيْنا كِتابٌ أي : صحائف الأعمال التي يرونها عند الحساب ، حسبما يعرب عنه قوله : يَنْطِقُ بِالْحَقِّ ، كقوله : هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ «1» أي : عندنا كتاب أثبت فيه أعمال كل أحد على ما هو عليه ، أو أعمال السابقين والمقتصدين جميعا ، وقوله : (بالحق) : يتعلق بينطق ، أي : يظهر الحق المطابق للواقع على ما هو عليه ، أو يظهره للسامع ، فيظهر هناك جلائل أعمالهم ودقائقها ، ويرتب عليها أجزيتها ، إن خيرا فخير ، وإن شرّا فشر ، وقيل : المراد بالكتاب : اللوح المحفوظ ، وهو مناسب لتفسير ابن عباس بسبق السعادة ، وقوله : وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ، بيان لفضله تعالى وعدله فى الجزاء ، إثر بيان لطفه فى التكليف وكتب الأعمال ، أي : لا يظلمون فى الجزاء بنقص الثواب أو بزيادة عذاب ، بل يجزون بقدر أعمالهم التي كلّفوها ، ونطقت بها صحائف أعمالهم ، أو : لا يظلمون بتكليف ما لا وسع فيه ، أو : لا ينقصون مما سبق لهم فى اللوح المحفوظ شيئا ، واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : ذكر فى هذه الآية أربعة أوصاف من أوصاف المقربين ، أولها : الخوف والإشفاق من الطرد والإبعاد ، والثاني : الإيمان الذي لا يبقى معه شك ولا وهم ، بما تضمنته الآيات التنزيلية من الوعد والإيعاد ، والثالث : التوحيد الذي لا يبقى معه شرك جلى ولا خفى ، والرابع : السخاء والكرم ، مع رؤية التقصير فيما يعطى.
فمن جمع هذه الخصال كان من السابقين فى الخيرات ، ويسارع لهم فى تعجيل الخيرات ، وكل ذلك بقدر ما يطيق العبد ، مع بذل المجهود فى فعل الخيرات.
قال فى الحاشية : والمسارعة إلى الخيرات إنما هو بقطع الشرور ، وأول الشرور : حب الدنيا لأنها مزرعة الشيطان ، فمن طلبها وعمرها فهو حراثه وعبده ، وشر من الشيطان من يعين الشيطان على عمارة داره ، وما ذلك إلا أنه لم يهتم بأمر معاده ومنقلبه ، لما جرى عليه فى السابقة من الحكم ، ولا كذلك من وصفه بالإشفاق من المؤمنين إجلالا لربهم ، ورجوعا لحكمه فيهم غيبا ، فلا يأمنون مكره بحال ، ولا يركنون إلى أعمال ، بل عمدتهم
___________
(1) من الآية 29 من سورة الجاثية.(3/584)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 585
ربهم ورحمته فى كل حال. والله أعلم. والحاصل : أنهم مع كونهم يخشون ربهم ويؤمنون بآياته ، ولا يشركون به شيئا ، ويودون طاعته ، يخافون عدم قبوله لهم عند الرجوع إليه ، ولقائهم له لأنه يفعل ما يشاء ، ويحكم ما يريد ، وأحكامه لا تعلل ، ومن استغرق فيه لم يقف مع وعده. ه.
قوله : «ومن استغرق فيه لم يقف مع وعده» أي : لأنه قد يرتب ذلك على شروط أخفاها عنه ، ليدوم خوفه واضطراره ، ولذلك كان العارف لا يزول اضطراره ، وليس خوف العارف من السابقة ولا من الخاتمة لأنه شغله استغراقه فى الحق والغيبة فيه عن الشعور بالسابقة واللاحقة ، إنما خوفه من الإبعاد بعد التقريب ، أو الافتراق بعد الجمع ، وهذا أيضا قبل التمكين ، وإلا فالكريم إذا أعطى لا يرجع. والله تعالى أعلم.
ثم ذكر من اتصف بضد الأوصاف المتقدمة ، فقال :
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 63 الى 67]
بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هذا وَلَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ هُمْ لَها عامِلُونَ (63) حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ (64) لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ (65) قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ (66) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامِراً تَهْجُرُونَ (67)
قلت : «بل» : إضراب عما قبله من أوصاف المؤمنين ، وانتقال إلى أضدادهم من الكافرين ، والضمير للكفرة ، و«حتى» : ابتدائية مختصة بالدخول على الجمل.
يقول الحق جل جلاله : بَلْ قُلُوبُهُمْ أي : الكفرة المستدرج بهم ، وهم لا يشعرون ، فِي غَمْرَةٍ فى غفلة غامرة لها ، مما عليه هؤلاء الموصوفون بما تقدم من الخشية وما بعده ، أو مما بيّن فى القرآن من أن لديه كتابا ينطق بالحق ، ويظهر لهم أعمالهم السيئة على رؤوس الأشهاد ، فيفضحون بها ، كما ينبئ عنه ما بعده من قوله :
قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ ... وَلَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ أي : ولهم أعمال خبيثة كثيرة ، متجاوزة لذلك الذي وصف به المؤمنون ، من الأعمال الصالحات ، وهى فنون كفرهم ومعاصيهم ، هُمْ لَها عامِلُونَ ، وعليها مقيمون ، مستمرون عليها ، حتى يأخذهم الله بالعذاب ، كما قال : حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ أي : منعميهم بِالْعَذابِ أي : عذاب الدنيا ، وهو القحط سبع سنين ، حين دعا عليهم النبي صلى اللّه عليه وسلم بقوله : «اللهمّ اشدد وطأتك على مضر ، واجعلها عليهم سنين كسنىّ يوسف» «1» ، فقحطوا حتى أكلوا الكلاب والجيف والعظام. أو : القتل يوم
___________
(1) أخرجه البخاري فى (الأذان ، باب يهوى بالتكبير حين يسجد) ، ومسلم فى (المساجد ، باب استحباب القنوت فى جميع الصلاة) ، عن أبى هريرة رضى اللّه عنه.(3/585)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 586
بدر. والحق : أنه العذاب الأخروى إذ هو الذي يفاجأون عنده بالجؤار ، فيجابون بالرد والإقناط عن النصر ، وأما عذاب يوم بدر فلم يوجد لهم عنده جؤار ، حسبما ينبئ عنه قوله تعالى : وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَما يَتَضَرَّعُونَ «1» ، فإنّ المراد به ما جرى عليهم يوم بدر كما يأتى. وأما الجوع فإن أبا سفيان ، وإن تضرع إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فلم يرد عليه بالإقناط ، بل دعا لهم فكشف عنهم. وقوله تعالى : إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ أي : يصرخون استغاثة ، والجؤار : الصراخ باستغاثة. فيقال لهم : لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ فإن الجؤار غير نافع لكم ، إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ أي : لا يلحقكم من جهتنا نصرة تمنعكم مما دهمكم.
قَدْ كانَتْ آياتِي القرآنية تُتْلى عَلَيْكُمْ فى الدنيا ، فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ أي : ترجعون القهقرى ، وتعرضون عن سماعها أشد الإعراض ، فضلا عن تصديقها والعمل بها ، والنكوص : الرجوع القهقرى ، وهى أقبح المشية لأنه لا يرى ما وراءه ، مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ ، الظاهر أن الضمير للقرآن لتقدم ذكر آياته ، والباء بمعنى «عن» أي : متكبرين عن سماعه والإذعان له ، أو سببية ، أي : فكنتم بسبب سماعه مستكبرين عن قبوله ، وعمن جاء به ، أو ضمّن مستكبرين معنى مكذبين ، وقيل : يعود إلى البيت الحرام ، أو الحرم ، وأضمر ولم يذكر لأنه يفهم من السياق. والمعنى : أنهم يستكبرون بسبب المسجد الحرام لأنهم أهله وأهل ولايته ، وكانوا يقولون : لا يظهر علينا أحد لأنا أهل الحرم ، وقيل : تتعلق الباء بقوله : سامِراً أي : تسمرون بذكر القرآن والطعن فيه ، وكانوا يجتمعون حول البيت يسمرون ، وكان عامة سمرهم ذكر القرآن والطعن فيه ، وفى النبي صلى اللّه عليه وسلم الذي جاء به ، و«سامرا» : مفرد بمعنى الجمع ، وقرئ سمّارا ، تَهْجُرُونَ «2» ، إما من الهجر بالفتح ، بمعنى الهذيان ، أي :
تهذون فى شأن القرآن كما يهذو الحالم أو السكران. أو من الترك ، أي : تتركونه وتفرون منه ، أو تهجرون النبي صلى اللّه عليه وسلم والمؤمنين ، أو من «الهجر» بالضم ، وهو الفحش ، ويؤيده قراءة من قرأ : «تهجرون» ، من أهجر فى منطقه : إذا أفحش. والله تعالى أعلم.
الإشارة : من كان قلبه فى غمرة حظوظه وهواه ، عاكفا على جمع دنياه ، لا يطمع فى دخول حضرة مولاه ، ولو صلى وصام ألف سنة. قال القشيري : لا يصلح لهذا الشأن إلا من كان فارغا من الأعمال كلها ، لا شغل له فى شأن الدنيا والآخرة ، فأمّا من شغل بدنياه ، وعلى قلبه حديث من عقباه ، فليس له نصيب من حديث مولاه. ه.
وفى الحديث : «نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس : الصّحّة والفراغ» «3».
___________
(1) الآية 76 من سورة المؤمنون.
(2) قرأ نافع «تهجرون» بضم التاء وكسر الجيم ، وقرأ الباقون بفتح التاء وضم الجيم. انظر الإتحاف (2/ 286). [.....]
(3) أخرجه البخاري فى (الرقاق ، باب ما جاء فى الرقاق ، وأن لا عيش إلا عيش الآخرة) عن ابن عباس رضى اللّه عنه.(3/586)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 587
ثم أمر بالتدبر والنظر ، لعله يقع التيقظ ، فقال :
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 68 الى 74]
أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (68) أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (69) أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (70) وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (71) أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (72)
وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (73) وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ (74)
قلت : الهمزة للإنكار ، والفاء للعطف على محذوف ، أي : أفعلوا ما فعلوا من النكوص والاستكبار فلم يتدبروا القرآن ، و«أم» : منقطعة ، فيها معنى الإضراب والتوبيخ فى الجميع.
يقول الحق جل جلاله : أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ يتدبروا القرآن ليعرفوا ، بما فيه من إعجاز النظم وصحة المدلول ، والإخبار عن المغيبات الماضية والمستقبلة ، أنه الحق ، فيؤمنوا به ، ويذعنوا لمن جاء به ، أَمْ جاءَهُمْ بل أجاءهم من الكتاب ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ ، حتى استبعدوه واستبدعوه ، فوقعوا فيما وقعوا فيه من الكفر والضلال ، أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ أي : بل ألم يعرفوه - عليه الصلاة والسلام - بالأمانة والصدق ، وحسن الأخلاق ، وكمال العلم من غير تعلم ولا مدارسة ، وغير ذلك مما حازه من الكمالات اللائقة بالأنبياء قبله ، بل عرفوه بذلك فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ بغيا وحسدا.
أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ جنون ، وليس كذلك لأنهم يعلمون أنه أرجحهم عقلا ، وأثقبهم ذهنا ، وأتقنهم رأيا ، وأوفرهم رزانة ، ولقد شهد له بذلك كل من رآه من الأعداء والأحباب ، بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ أي : ليس الأمر كما زعموه فى حق الرسول - عليه الصلاة السلام - ، وما جاء به من القرآن ، بل جاءهم بالحق الأبلج والصراط المستقيم ، وبما خالف أهواءهم ، من التوحيد الخالص والدين القيم ، ولم يجدوا له مردا ولا مدفعا ، فلذلك نسبوه إلى الجنون ، وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ من حيث هو حق ، لا لهذا بعينه ، فلذلك أظهر فى موضع الإضمار ، كارِهُونَ 0 لما فى جبلّتهم من الزيغ والانحراف المناسب للباطل ولذلك كرهوا هذا الحق الأبلج ، وزاغوا عن الطريق الأبهج ، وفى التعبير بالأكثر دليل على أن أقلهم ما كان كارها للحق ، بل كان تاركا للإيمان به ، أنفة واستنكافا من توبيخ قومه ، أو لقلة فطنته وعدم تفكره ، كأبى طالب وأضرابه. قال أبو السعود : وأنت خبير بأن التعرض لعدم كراهة بعضهم للحق ، مع اتفاق الكل على الكفر به ، مما لا يساعده المقام أصلا. ه. فحمل الأكثر على الكل.(3/587)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 588
وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ بأن كان فى الواقع آلهة شتى لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ كما تقدم فى قوله : لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا «1» ، فالاتباع هنا مجاز ، أي : لو جاء الوحى على ما يشتهون لفسدت السموات ، فالحق هنا هو المذكور فى قوله : (بل جاءهم بالحق وأكثرهم للحق كارهون) ، والمعنى : لو كان ما كرهوه من الحق ، الذي من جملته ما جاء به صلى اللّه عليه وسلم ، موافقا لأهوائهم الباطلة لفسد نظام العالم ، وتخصيص العقلاء بالذكر حيث عبّر بمن لأنّ غيرهم تبع.
بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ : بشرفهم ، وهو القرآن الذي فيه فخرهم وشرفهم ، كما قال تعالى : وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ «2» لأن الرسول منهم ، والقرآن لغتهم ، أو بتذكيرهم ووعظهم ، أو بالذكر الذي كانوا يتمنونه ، ويقولون :
(لو أن عندنا ذكرا من الأولين) «3» ، فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ أي : فهم ، بما فعلوا من النكوص ، عن فخرهم وشرفهم معرضون ، وهذا مما جبلت عليه النفوس الأمّارة الإعراض عما فيه خيرها ، والرغبة فيما فيه هلاكها ، إلا من عصم الله ، وفى إسناد الإتيان إلى نون العظمة ، بعد إسناده إلى ضميره عليه الصلاة والسلام ، من التنويه بشأن النبي صلى اللّه عليه وسلم ما لا يخفى. انظر أبا السعود.
أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً ، هذا انتقال من توبيخهم بما ذكر من قولهم : (أم يقولون به جنّة) ، إلى التوبيخ بوجه آخر ، كأنه قال : أم يزعمون أنك تسألهم عن أداء الرسالة خَرْجاً أي : جعلا ، فيتهمونك ، أو يثقل عليهم فلذلك لا يؤمنون ، فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ أي : رزقه فى الدنيا ، وثوابه فى الآخرة ، خير لك من ذلك لدوامه وكثرته ، أي :
لا تسألهم ذلك فإن ما رزقك الله فى الدنيا والعقبى خير لك من ذلك ، وفى التعرض لعنوان الربوبية ، مع الإضافة إلى ضميره - عليه الصلاة والسلام - ، من تعليل الحكم وتشريفه صلى اللّه عليه وسلم ما لا يخفى.
والخرج والخراج واحد ، وهو : الأجر المأخوذ على العمل ، ويطلق على الغلة والضربية ، كخراج العبد والأرض ، وقال النضر بن شميل : سألت أبا عمرو بن العلاء عن الفرق بين الخراج والخرج ، فقال : الخراج مالزمك ، والخرج ما تبرّعت به ، وقيل : الخرج أخص من الخراج لأنّ الخراج يطلق على كل ما يستفيده المرء من غلة ، أو أجرة ، أو زكاة ، والخرج خاص بالأجرة ، وفى الخراج إشعار بالكثرة ، فلذلك عبّر به فى جانبه - تعالى - والمعنى : أم تسألهم ، على هدايتك لهم ، قليلا من عطاء الخلق ، فالكثير من عطاء الخالق خير ، وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ : أفضل المعطين.
وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ تشهد العقول السليمة باستقامته ، ليس فيه شائبة اعوجاج ، توجب اتهامهم لك بوجه من الوجوه ، ولقد ألزمهم الله - تعالى - الحجة ، وأزاح عللهم فى هذه الآيات ، حيث حصر أقسام ما يؤدى إلى الإنكار والاتهام من قوله : أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ ... إلى هنا ، وبيّن انتفاءها ، ولم يبق إلا كراهة الحق
___________
(1) من الآية 22 من سورة الأنبياء.
(2) من الآية 44 من سورة الزخرف.
(3) كما حكى القرآن عنهم فى الآية 168 من سورة الصافات.(3/588)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 589
وعدم الفطنة أو العناد والمكابرة ، وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ عن طريق الحق لَناكِبُونَ أي : لعادلون عن هذا الصراط المذكور ، وهو الصراط المستقيم ، وصفهم بعدم الإيمان بالآخرة ، تشنيعا لهم بما هم عليه من الانهماك فى الدنيا ، وزعمهم ألّا حياة إلّا حياة الدنيا ، وإشعارا بعلّيّة الحكم فإن الإيمان بالآخرة وخوف ما فيها من الدواهي من أمور الدعاوى إلى طلب الحق وسلوك سبيله. والله تعالى أعلم.
الإشارة : كل من أنكر على أهل الخصوصية ، ولم يعرف خصوصيتهم فسببه ثلاثة أمور : إما أنه لم يصحبهم ولم يتدبر ما يقولون ، ولا ما يأمرون به وينهون عنه ، وإنما يرميهم رجما بالغيب ، وإما أنه حسدهم وخاف على جاهه أن ينتقل لغيره ، وإما أنهم أتوا بخرق عوائد النفوس التي لم تكن لأبائهم الأولين ، فقالوا : (إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون) ، وإنما جاءهم بالحق ، وأكثرهم للحق كارهون ، وكيف تخرق للعبد العوائد ، وهو لم يخرق من نفسه العوائد؟. (و لو اتبع الحق أهواءهم) ، بأن كانت التربية على طريق العوائد ، والاستمرار معها ، لفسد النظام ، ولبقى الكون كله ظلمة لجميع الأنام إذ لا يمكن أن يصير الكون نورا ، بظهور الحق فيه ، إلا بخرق عوائد النفوس ، وإخراجها عن هواها ، فحينئذ تخرق له ظلمة الكون ، فيفضى إلى شهود المكوّن ، (بل أتيناهم بذكرهم) أي :
بشرفهم ، بمعرفة الحق على نعت العيان ، (و هم عن ذكرهم معرضون) حيث انهمكوا فى عوائدهم ، ولم يقبلوا من يخرجهم عنها ويعرفهم بالله لله ، من غير خراج ولا طمع.
قال تعالى لنبيه - عليه الصلاة والسلام - : (أم تسألهم خرجا فخراج ربك خير). قال القشيري : أي : إنّك لا تطالبهم على تبليغ الرسالة بأجرة ، ولا بإعطاء عوض ، حتى تكون فى موضع التهمة فيما تأتيهم به من الشريعة ، أم لعلك تريد أن يعقدوا لك الرئاسة ، ثم قال : والذي لك من الله - سبحانه - من جزيل الثواب ، وحسن المآب ، يغنيك عن التصدي لنيل ما يكون فى حصوله منهم مطمع. وهذه كانت سنّة الأنبياء والمرسلين - عليهم السلام - عملوا للّه فلم يطلبوا عليه أجرا من غير الله ، والعلماء ورثة الأنبياء فى التنزه من التّدنّس بالأطماع ، والأكل بالدين ، فإنه ربا مضرّ بالإيمان ، إن كان العمل لله فالأجر منتظر من اللّه ، وهو موعود من قبل الله. ه.
وراجع ما تقدم فى سورة هود فإنه أو فى من هذا «1».
وقوله تعالى : (و إنك لتدعوهم إلى صراط مستقيم) ، هو طريق الوصول إلى شهود الذات الأقدس ، من طريق التربية ، التي هى مخالفة الهوى والخروج عن العوائد. وقال القشيري : الصراط المستقيم : هو شهود الحقّ بنعت الانفراد فى جميع الأشياء ، والإيجاف «2» ، والاستسلام لقضايا الإلزام ، بمواطأة القلب من غير استكراه الحكم. ه.
وقال الورتجبي عن بعضهم : لو لا أن الله - تعالى - أمر بمخالفة النفوس ومباينتها ، لاتّبع الخلق أهواءهم فى شهوات
___________
(1) راجع إشارة الآية 29 من سورة هود.
(2) فى القشيري : وفى الإيجاد.(3/589)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 590
النفوس ، ولو فعلوا ذلك لضلوا عن طريق العبودية ، وتركوا أوامر الله ، وأعرضوا عن طاعته ، ولزموا المخالفة ، ألا ترى الله يقول : وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ.
ثم بيّن سبحانه أن حبيبه - عليه الصلاة والسلام - يدعوهم إلى تلك المشاهدة بقوله : (و إنك لتدعوهم إلى صراط مستقيم) أي : مما أوضحه أنوار جماله وشاهدته ، وهى طريق معرفته فى قلوب الصّدّيقين للأرواح القدسية. وتلك الطريقة منتهاها المحبة ، وبدايتها الأسوة والمتابعة لقوله : قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ «1». ه. قلت : المراد بالمحبة محبة الحق لعبده بدليل الآية التي ذكر. وقال ابن عطاء : إنك لتحملهم على مسالك الوصول ، وليس كل أحد يصلح لذلك السلوك ، ولا يوفق له إلا أهل الاستقامة ، وهم الذين استقاموا مع الله ولم يطلبوا معه سواه ، ولم يروا لأنفسهم درجة ولا مقاما. ه.
قوله تعالى : وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أي : لا يؤمنون بالحياة الآخرة ، وهى حياة النفوس بالمعرفة العيانية ، بعد موتها بالجهل والوقوف مع الحس والعوائد ، ممن لا يصدق بهذه الحياة ، وأنكر وجود من يوصل إليها عن طريق الحق الموصلة إليه ، لناكبون ، فهم فى الحيرة والتلف تائهون ، عائذا بالله من ذلك.
ثم ذكر انهماكهم فى الغفلة لسبق القضاء عليهم ، فقال :
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 75 الى 77]
وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (75) وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَما يَتَضَرَّعُونَ (76) حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً ذا عَذابٍ شَدِيدٍ إِذا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (77)
يقول الحق جل جلاله : وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ ، كقحط وجدب ، لَلَجُّوا : لتمادوا فِي طُغْيانِهِمْ : إفراطهم فى الكفر والعتو والاستكبار وعداوة الرسول - عليه الصلاة والسلام - والمؤمنين ، يَعْمَهُونَ : يترددون عامهين عن الهدى. قال ابن عباس : لما أسلم ثمامة بن أثال الحنفي ، ورجع إلى اليمامة ، منع الميرة عن أهل مكّة ، وأخذهم اللّه تعالى بالسنين حتّى أكلوا العلهز «2» ، جاء أبو سفيان إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال له : أنشدك الله والرّحم ، ألست تزعم أنّك بعثت رحمة للعالمين؟ قال : بلى ، قال : قتلت الآباء بالسّيف ، والأبناء بالجوع ، فنزلت «3». قال ابن جزى : وفيه نظر فإن الآية مكية باتفاق ، وإنما دعا النبي صلى اللّه عليه وسلم على قريش بعد الهجرة ، حسبما ورد فى الحديث. ه.
___________
(1) فالآية 31 من سورة آل عمران.
(2) قال فى النهاية : هى شىء يتخذونه فى سنى المجاعة ، يخلطون الدم بأوبار الإبل ، ثم يشوونه بالنار ويأكلونه. انظر النهاية (3/ 293). والقاموس المحيط (2/ 90).
(3) أخرجه البيهقي فى الدلائل (باب سرية نجد) ، والنسائي فى الكبرى (التفسير ، سورة المؤمنون) ، وابن جرير فى التفسير (18/ 45).(3/590)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 591
قلت : والتحقيق : أن القحط نزل بهم مرتين ، أحدهما قبل الهجرة ، حين دعا عليهم - صلى اللّه عليه وسلم - بقوله : «اللهم أعنّى عليهم بسبع كسبع يوسف» ، فأخذتهم سنة حصدت كل شىء ، حتى أكلوا الميتة والعظام ، وكانوا يرون كهيئة الدخان من الجوع ، فجاء أبو سفيان فقال : يا محمد ، جئت تأمر بصلة الرحم ، وإن قومك قد هلكوا ، فادع اللّه يغيثنا ، فدعا لهم .. الحديث. وفيه نزل تعالى : فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ «1» ، الآية ، وقوله هنا : وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا ... الآية. ومرة أخرى بالمدينة حين استغاثوا به عليه السّلام وهو يخطب ، ولعله هو الذي ذكره ابن عباس فى إسلام ثمامة ، ولعل قوله : «فنزلت الآية» سهو لأنها نزلت قبل الهجرة ، إلّا أن تكون الآية مدنية فى السورة المكية ، وقول ابن جزى : «دعا عليهم بعد الهجرة» ، التحقيق : أنه دعا عليهم قبل وبعد. والله أعلم.
والمعنى : لو رحمناهم ، وكشفنا ما بهم من القحط والهزال برحمتنا إياهم ، ووجدوا الخصب ، لا رتدوا إلى ما كانوا عليه من الكفر والاستكبار ، ولذهب عنهم هذا الخلق والتعلق بك ، وهذا كقوله تعالى فى الدخان : إِنَّكُمْ عائِدُونَ «2» ، قيل : المراد بالضر : العذاب الأخروى ، فيكون كقوله : وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ «3».
وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ ، وهو ما أصابهم يوم بدر من القتل والأسر ، وهو قوله - تعالى - فى الدخان :
يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى «4». فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ بذلك ، أي : لم يخضعوا ولم يتذللوا. و«استكانوا» :
افتعل من السكون ، والألف زائدة ، أو استفعل من الكون ، أي : انتقل من كون إلى كون ، كاستحال ، إذا انتقل من حال إلى حال لأن الخاضع ينتقل من كون إلى كون. وَما يَتَضَرَّعُونَ أي : وليس من حالهم التضرع إليه تعالى ، وعبّر بالمضارع ، ليدل على الاستمرار ، أي : ليس شأنهم التضرع فى هذه الحالة وغيرها ، أو : فما استكانوا فيما مضى ، وما يتضرعون فيما ينزل بهم فى المستقبل ، والمعنى : تالله لقد أخذناهم بالعذاب ، وقتلناهم بالسيوف ، وما جرى عليهم يوم بدر من قتل صناديدهم ، فما وجدت ، بعد ذلك ، منهم استكانة ولا تضرع.
حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً ذا عَذابٍ شَدِيدٍ ، وهو عذاب الآخرة ، إِذا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ : متحيرون آيسون من كل خير ، وهذا هو الصواب من حمل العذاب على عذاب الآخرة ، بدليل وصفه بالشدة والإياس. والله تعالى أعلم.
___________
(1) الآية 10 من سورة الدخان.
(2) من الآية 15 من سورة الدخان.
(3) من الآية 28 من سورة الأنعام.
(4) من الآية 16 من سورة الدخان.(3/591)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 592
الإشارة : أهل الغفلة والبعد لا يرجعون إلى الله فى السراء ولا فى الضراء لا نهماكهم فى الغفلة والقساوة ، وأهل اليقظة يرجعون إلى الله فى السراء والضراء ، فى السراء بالحمد والشكر ، وفى الضراء بالصبر والرضا والتسليم ، مع التضرع والابتهال عبودية ، والمقتصدون يرجعون إليه - تعالى - فى الضراء ، ويغفلون عن الشكر فى السراء ، والأول ظالم لنفسه ، والثاني سابق ، والثالث مقتصد. وبالله التوفيق.
ثم ذكر دلائل قدرته - تعالى - وفى ضمنه استدعاؤهم إلى الرجوع إليه تعالى بالشكر ، فقال :
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 78 الى 83]
وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (78) وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (79) وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (80) بَلْ قالُوا مِثْلَ ما قالَ الْأَوَّلُونَ (81) قالُوا أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (82)
لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَآباؤُنا هذا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (83)
يقول الحق جل جلاله : وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ : خلق لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ لتشاهدوا بها عجائب مصنوعاته ودلائل قدرته ، أو لتتوصلوا إلى شهود آياته الكونية والتنزيلية ، وَالْأَفْئِدَةَ لتتفكروا بها فيما تشاهدونه منها وتعتبروا ، وخصها بالذكر لأنه يتعلق بها من المنافع مالا يتعلق بغيرها ، وقدّم السمع لأنّ أكثر العلوم إنما تنال به ، قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ أي : شكرا قليلا غير معتد به تشكرون تلك النعم الجليلة لأن العمدة فى الشكر : صرف تلك القوى - التي هى فى أنفسها نعم باهرة - إلى ما خلقت له ، وأنتم تنتحلون بها ضلالا عظيما. وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ أي : خلقكم وبثكم فيها بالتناسل ، وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ أي : تجمعون يوم القيامة بعد تفرقكم ، فيجازيكم على إحسانكم وإساءتكم.
وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ ، من غير أن يشاركه فى ذلك أحد ولا شىء من الأشياء ، وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أي : المؤثر فى اختلافهما ، أَفَلا تَعْقِلُونَ فتعرفون بالنظر والتأمل أن الكل منا ، وأن قدرتنا تعم جميع الممكنات ، التي من جملتها البعث والحساب ، وقرئ «يعقلون» بالغيب ، على الالتفات لحكاية سوء حال المخاطبين ، بَلْ قالُوا عطف على مضمر يقتضيه المقام ، أي : فلم يعقلوا بَلْ قالُوا مِثْلَ ما قالَ الْأَوَّلُونَ أي : آباؤهم ومن دان دينهم ، قالُوا أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ ، هو تفسير لما أبهم قبله ، أي :
قالوا : أنبعث بعد هذه الحالة ، لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَآباؤُنا هذا البعث مِنْ قَبْلُ : متعلق بالفعل من حيث إسناده إلى آبائهم لا إليهم ، أي : وعد هذا آباؤنا من قبل ، أو حال من آبائنا ، أي : كائنين من قبل ، إِنْ هذا أي : (3/592)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 593
ما هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ أي : أكاذيبهم التي سطروها ، وهى جمع أسطورة ، كأحدوثة وأعجوبة ، أو جمع أسطار ، جمع سطر ، فيكون جمع الجمع. والله تعالى أعلم.
الإشارة : ذكر فى الآية خمس نعم ، يجب على العبد شكر كل واحدة منها ، فشكر نعمة السمع : أن تسمع به ما ينفع ، وتكفه عما لا ينفع ، وإذا سمعت خيرا أفشيته ، وإذا سمعت شرا دفنته. وشكر نعمة البصر : أن تنظر به فى ملكوت السموات والأرض وما بينهما ، فتعرف عظمة الصانع ، أو تشاهده وتوحده فيها. وشكر نعمة القلوب : أن تعرف بها علام الغيوب ، وتفرده بالوجود فى كل مرغوب ومرهوب. وشكر نعمة الإيجاد : أن تكون له عبدا فى كل حال. وشكر نعمة الإعادة : أن تتأهب للقائه فى كل لحظة وساعة. (و هو الذي يحيى ويميت) يحيى قلوبا بالمعرفة بعد الجهل ، ويميت قلوبا بالغفلة والجهل بعد العلم واليقظة ، وذلك بالسلب بعد العطاء ، والعياذ بالله. وله اختلاف ليل القبض ونهار البسط على العبد ، ثم يخرجه عنهما ليكون مع الله لا مع شىء سواه. وبالله التوفيق.
ثم ذكر دلائل ما أنكروه من البعث ، فقال :
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 84 الى 90]
قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (85) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (87) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88)
سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (89) بَلْ أَتَيْناهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (90)
يقول الحق جل جلاله : قُلْ يا محمد لمن أنكر البعث : لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها من المخلوقات عاقلا أو غيره ، أي : من أوجدها ، ودبر أمرها ، إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ شيئا؟ والجواب محذوف ، أي : فأخبرونى فإن ذلك كاف فى الجواب ، سَيَقُولُونَ لِلَّهِ لأنهم مقرّون بأنه الخالق ، فإن أقروا بذلك فقل أَفَلا تَذَكَّرُونَ فتعلمون أنّ من قدر على خلق السماوات والأرض وما فيهن ، كيف لا يقدر على إعادة الخلق بعد عدومها؟ فإن الإعادة أهون من البدء. قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ، أعيد الرب تنويها لشأن العرش ، ورفعا لمحله لئلا يكون تبعا للسماوات والأرض ، وجودا وذكرا ، ولقد روعى فى الأمر بالسؤال الترقي من الأدنى إلى الأعلى ، فإن سألتهم (سيقولون لله) أي : هى لله ، كقولك : من رب هذه الدار؟ فتقول : هى لفلان ، وقال الشاعر :
إذا قيل : من ربّ المزالف والقرى وربّ الجياد الجرد؟ قيل : لخالد(3/593)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 594
وقال الأخفش : اللام زائدة ، أي : هو الله ، وبعدمه قرأ أهل البصرة ، فيه وفيما بعده ، واتفقوا على إثباته فى الأول ، ليطابق السؤال ، فإن أجابوا بذلك فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ أي : أتعلمون ذلك ، ولا تتقون عذابه فى كفركم وجحودكم قدرته على البعث؟
قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ أي : التصرف التام فى كل شىء بقهره وسلطانه ، فالملكوت ، فى أصل اللغة ، مبالغة فى الملك ، زيدت الواو والتاء للمبالغة ، كالجبروت مبالغة فى الجبر ، وفى عرف الصوفية ، الملكوت :
ما بطن من أسرار المعاني القائمة بالأوانى ، أو نقول : ما غاب فى عالم الشهادة من أسرار الذات ، فحس الأوانى ملك ، ومعانيها ملكوت ، والجبروت : ما خرج عن دائرة الأكوان من بحر الأسرار ، الفائض بأنوار الملكوت ، وهذه أسماء لمسمى واحد ، وهو بحر الوحدة.
ثم قال تعالى : وَهُوَ يُجِيرُ أي : يغيث ، يقال : أجرت فلانا على فلان : إذا أغثته منه ، يعنى : وهو يغيث من شاء ممن شاء ، وَلا يُجارُ عَلَيْهِ : ولا يغيث أحد عليه ، أي : لا يمنع أحد أحدا بالنصر عليه. إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ شيئا ما ، أو تعلمون ذلك ، فأجيبونى؟ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ أي : لله ملكوت كل شىء ، وهو يجير ولا يجار عليه ، قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ أي : فمن أين تخدعون وتصرفون عن الرشد ، وعن توحيد الله وطاعته؟ فإنّ من لا يكون مسحورا مختل العقل لا يكون كذلك ، قال تعالى : بَلْ أَتَيْناهُمْ بِالْحَقِّ الذي لا محيد عنه من التوحيد والوعد بالبعث ، وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ فيما قالوا من الشرك وإنكار البعث. وبالله التوفيق.
الإشارة : قل : لمن أرض النفوس ، وما فيها من الأهوية والحظوظ والعلائق؟ سيقولون : هى لله يتصرف فيها كيف يشاء ، فتارة يملّكها لعبده ، فتكون تحت قهره وسلطانه ، فيكون حرا من رق الأشياء ، وتارة يملّكه لها بعدله ، فيكون تحت قهرها وسلطانها ، تتصرف فيه كيف تشاء ، ويكون مملوكا لها ، ينخرط فى سلك من اتخذ إلهه هواه ، قل : من رب سماوات الأرواح وعرش الأسرار والأنوار ، وهو القلب الذي هو بيت الرب ، قل : سيقولون : لله ، يظهرها متى شاء ، ويوصلها إلى أصلها كيف شاء ، قل : من بيده ملكوت كل شىء ، فيتصرف فى النفوس والأرواح بالتقريب والتبعيد ، وهو يجير من الحظوظ والأهوية من يشاء ، ويسلطها على من يشاء ، ولا يجار عليه ، لا يمتنع من قهره أحد ، فأنّى تسحرون.
قال القشيري : أولا قال : (أفلا تذكرون) ، ثم قال بعده : (أفلا تتقون) قدّم التذكر على التقوى لأن بتذكيرهم يصلون إلى المعرفة «1» ، وبعد أن عرفوه ، علموا أنه يجب عليهم اتقاء مخالفته ، ثم بعد ذلك قال : (فأنى تسحرون)؟
أي : بعد وضوح الحجة ، أىّ شكّ بقي حتى تنسبوه إلى السّحر؟. ه.
___________
(1) فى القشيري : المغفرة. [.....](3/594)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 595
ثم أبطل دعوى الولد والشريك عليه تعالى ، فقال :
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 91 الى 92]
مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91) عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (92)
يقول الحق جل جلاله : مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ ، خلاف ما يقوله النصارى ، والعرب التي قالت :
الملائكة بنات الله ، تعالى عن قولهم علوا كبيرا ، وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ يشاركه فى ألوهيته ، كما يقول عبدة الأوثان وغيرهم ، إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ أي : لو كان معه آلهة ، كما يزعمون ، لذهب كل واحد منهم بما خلقه واستبد به ليتميز ملكه من ملك الآخر ، ووقع بينهم التغالب والتحارب ، كما هو الجاري بين الملوك ، وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ : ولغلب بعضهم على بعض ، وارتفع عليه ، كما ترون حال ملوك الدنيا ممالكهم متمايزة وهم متغالبون ، وحين لم تروا أثرا لتمايز الممالك والتغالب فاعلموا أنما هو إله واحد.
قال ابن جزىّ : وليس هذا البرهان بدليل التمانع ، كما فهم ابن عطية وغيره ، بل بدليل آخر. وقال فى قوله : (لو كان فيها آلهة إلا الله لفسدتا) : قال كثير من الناس : إنه دليل التمانع الذي أورده المتكلمون ، والظاهر من اللفظ أنه استدلال آخر أصح منه. ه قال النسفي : ولا يقال : «إذا» لا تدخل إلا على كلام هو جزاء وجواب ، وهو هنا وقع لذهب جزاء وجوابا ، ولم يتقدمه شرط ولا سؤال سائل لأن الشرط هنا محذوف ، تقديره : لو كان معه آلهة كما يزعمون لذهب .. إلخ ، دل عليه : (و ما كان معه من إله) ، وهو جواب لمن حاجّه من المشركين. ه.
سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ من الأنداد والأولاد ، عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أي : السر والعلانية ، أو ما ظهر من حس الأكوان ، وما غاب فيها وعنها ، فمن جرّ «عالم» فبدل من الجلالة ، أو صفة له ، ومن رفعه فخبر عن مضمر ، أي : هو عالم. فَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ من الأصنام وغيرها ، والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها فإنّ تفرده تعالى بالألوهية والعلم المحيط ، موجب لتعاليه عن أن يكون له شريك. والله تعالى أعلم.
الإشارة : ثلاثة إذا تعددت فسد النظام : الإله ، والسلطان ، والطبيب فلو تعدد الإله لفسد نظام العالم ، ولو تعدد الملك لفسدت الرعية بالهرج والفتن ، ولو تعدد الطبيب لفسد العلاج. والطبيب على قسمين : طبيب الأبدان ، وطبيب القلوب ، وهو شيخ التربية ، فإذا تعدد على مريد واحد فسدت تربيته لانقسام محبته واختلاف علاجه ، فالمريد ، إذا علق قلبه بغير شيخه ، لا ينهض نهوض من جمع همته على شيخه ، بل لا يجىء منه شىء. والله تعالى أعلم.(3/595)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 596
قال القشيري : كل أمر نيط بين اثنين انتفى عنه النظام وصحة التربية. ه. وقال الورتجبي : نزه الحق - سبحانه - ذاته عن مخايل الزنادقة ، وكان منزها عن أباطيل إشارة المشبهة ، وذاته ممتنعة بكمال أحديته ، عن زعم الثنوية ، كيف يجوز أن يكون القدم محل الحوادث إذا القديم المنزه ، إذا تجلى بنعت القدم للحدثان ، صار معدوما كالعدم ، تعالى الله عن كل وهم وإشارة. ه.
ولما توعدهم بالعذاب على كفرهم ، أمر نبيه - عليه الصلاة والسلام - بالدعاء بالنجاة منه إذا نزل بهم ، فقال :
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 93 الى 100]
قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي ما يُوعَدُونَ (93) رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (94) وَإِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ ما نَعِدُهُمْ لَقادِرُونَ (95) ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ (96) وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ (97)
وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (98) حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100)
يقول الحق جل جلاله : قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي أي : إذا كان لا بد من أن ترينى ما يوعدون من العذاب المستأصل فى الدنيا أو عذاب الآخرة ، رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ أي : قريبا لهم فيما هم فيه من العذاب ، وفيه إيذان بفظاعة ما وعدوه من العذاب ، وأنه يجب أن يستعيذ منه من لا يكاد أن يحيق به ، وردّ لإنكارهم إياه واستعجالهم على طريقة الاستهزاء ، وقيل : أمر به صلى اللّه عليه وسلم هضما لنفسه ، وقيل : إن شؤم الكفرة قد يحيق بمن وراءهم كقوله تعالى : وَاتَّقُوا فِتْنَةً ... «1» إلخ ، وروى عن الحسن (أنه - تعالى - أخبر نبيه صلى اللّه عليه وسلم بأن فى أمته نقمة ، ولم يطلعه على وقتها ، فأمر بهذا الدعاء) ويجوز أن يسأل النبىّ المعصوم ربه ما علم أنه يفعله ، وأن يستعيذ به مما علم أنه لا يفعله إظهارا للعبودية وتواضعا لربه. والفاء : جواب «إما» الشرطية ، أي : إن نزلت بهم النقمة فاجعلنى خارجا عنهم ، وتكرير النداء ، وتصدير كل من الشرط والجزاء به - أي : بالدعاء - لإبراز كمال الضراعة والابتهال.
قال تعالى : وَإِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ ما نَعِدُهُمْ من العذاب لَقادِرُونَ ، ولكنا نؤخره لعلمنا بأن بعضهم ، أو بعض أعقابهم ، سيؤمنون ، أو : لأنا لا نعذبهم وأنت فيهم ، وقيل : قد أراهم ذلك ، وهو ما أصابهم يوم بدر وفتح مكة ،
___________
(1) من الآية 25 من سورة الأنفال.(3/596)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 597
وهو بعيد لأن المبادر أن يكون ما استحقوه من العذاب الموعود عذابا هائلا مستأصلا لا يظهر على يديه صلى اللّه عليه وسلم للحكمة الداعية إليه ، وكانوا يضحكون ، استهزاء بهذا الوعد ، وإنكارا له ، فقال لنبيه - عليه الصلاة والسلام - : ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ أي : ادفع الخصلة السيئة بالخصلة التي هى أحسن ، وهو الصفح عنها والإحسان فى مقابلتها ، لكن بحيث لا يؤدى إلى وهن فى الدين وإهانة له. وقيل : السيئة : الشرك ، والتي هى أحسن : كلمة التوحيد ، وقيل : السيئة : المنكر ، والتي هى أحسن : النهى عنه ، وقيل : هى منسوخة بآية السيف ، وقيل : محكمة إذ المداراة مأمور بها. قال ابن عطية : أمر بمكارم الأخلاق ، وما كان منها بهذا المعنى ، فهو محكم باق فى الأمة أبدا ، وما كان بمعنى المواعدة فمنسوخ بآية القتال. ه.
وهذا التركيب أبلغ من «ادفع بالحسنة السيئة» لما فيه من التنصيص على التفضيل ، وتقديم الجار والمجرور على المفعول للاهتمام. نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ من الشرك والولد ، أو بما يصفك به ، مما أنت على خلافه ، من السحر وغيره ، فسنجازيهم عليه ، وفيه وعيد لهم ، وتسلية لرسوله صلى اللّه عليه وسلم ، وإرشاد له إلى تفويض أمره إليه تعالى والاكتفاء بعلمه.
وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ أي : وساوسهم المغرية على خلاف ما أمرت من المحاسن ، التي من جملتها دفع السيئة بالحسنة ، وأصل الهمز : النخس ، ومنه : مهماز الرائض ، شبه حثهم للناس على المعاصي بهمز الرائض الدوابّ على الإسراع والوثب. وجمع همزات لتنوّع الوساوس وتعدد المضاف إليه ، وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ ، أمر بالتعوذ من نخساتهم بلفظ المبتهل إلى ربه ، والتعوذ من أن يحضروه أصلا فى حال من الأحوال مبالغة فى التحذير من ملابستهم ، أو أن يحضروه عند التلاوة أو الصلاة ، أو عند النزع تشريعا. وإعادة الفعل ، مع تكرير النداء لإظهار كمال الاعتناء بالمأمور به.
ولا تزال الكفرة تصف الحق بما لا يليق به من الشرك ، حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ أي : لا يزالون مشركين حتى يموتوا ، فحتى ، هنا ، ابتدائية ، دخلت على جملة الشرط ، وهى متعلقة بيصفون ، وما بينهما اعتراض مؤكد للإغضاء ، لكن لا بمعنى أنه العامل فيه لفساد المعنى ، بل بمعنى أنه معمول لمحذوف دل عليه ذلك ، أي :
تنزيها له تعالى عما يصفون ، ويستمرون على الوصف المذكور ، حتى إذا جاء أحدا منهم الموت الذي لا مرد له ، وظهرت له أحوال الآخرة ، قالَ تحسرا على ما فرّط فيه من الإيمان والطاعة : رَبِّ ارْجِعُونِ أي :
ردنى إلى الدنيا ، والواو لتعظيم المخاطب ، كخطاب الملوك ، لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ أي : فى الإيمان الذي تركته ، أو فى الموضع الذي تركت فيه الإيمان والطاعة وهو الدنيا لأنه ترك الدنيا وصار إلى العقبى.(3/597)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 598
قال قتاده : ما تمنى أن يرجع إلى أهل ولا عشيرة ، ولكن ليتدارك ما فرط. وعنه ، صلى اللّه عليه وسلم أنه قال : «إذا عاين المؤمن الملائكة قالوا له : نرجعك إلى الدّنيا؟ فيقول : إلى دار الهموم والأحزان؟ بل قدوما إلى اللّه تبارك ، وتعالى ، وأمّا الكافر فيقول : ارجعون لعلى أعمل صالحا ..» «1». وقال القرطبي : ليس سؤال الرجعة مختصا بالكافر ، فقد يسألها المؤمن ، كما فى آخر سورة المنافقين «2» ، ودلت الآية على أن أحدا لا يموت حتى يعرف : اهو من أولياء الله أم من أعداء الله ، ولو لا ذلك لما سأل الرجعة ، فيعلم ذلك قبل نزول الموت وذواقه. ه. قال المحشى الفاسى : ولعل محمل الحديث فى المؤمن الكامل غير المقصّر ، والآية فى غيره. والله أعلم. ه.
كَلَّا أي : لا رجوع له أصلا ، وهو ردع عن طلب الرجعة ، واستبعاد لها ، إِنَّها أي : قوله : (رَبِّ ارْجِعُونِ) ، كَلِمَةٌ ، والمراد : طائفة من الكلام ، وهو (رَبِّ ارْجِعُونِ ...) إلخ ، هُوَ قائِلُها ، ولا فائدة له فيها ، ولا حقيقة لها لعدم حصول مضمونها ، أو هو قائلها لا محالة لتسليط الحسرة والندم عليه ، فلا يقدر على السكوت عليها ، (وَ مِنْ وَرائِهِمْ) أي : أمامهم ، والضمير للجماعة لأن أحدهم بمعنى كلهم ، بَرْزَخٌ : حائل بينهم وبين الرجعة ، إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ : يوم القيامة ، وهو إقناط كلى عن الرجوع إلى الدنيا ، لما علم أنه لا رجعة يوم القيامة إلى الدنيا ، وإنما الرجوع فيه إلى الحياة الأخروية. والله تعالى أعلم.
الإشارة : ما قاله صلى اللّه عليه وسلم فى تضرعه إلى الله تعالى - كما أمره الحق تعالى - يقوله كل عارف ومتيقظ ، فيقول :
ربّ إما ترينى ما يوعده أهل الغفلة والبطالة من التحسر والندم ، عند انقراض الدنيا وإقبال الآخرة ، فلا تجعلنى فى القوم الظالمين ، أي : لا تسلك بي مسلكهم حتى أتحسر معهم ، فإذا أوذى فى الله - كما هو شأن أهل الخصوصية - يقال له : ادفع بالتي هى أحسن السيئة ، وقابل الإساءة بالإحسان ، وإياك والانتصار لنفسك ، وتعوذ بالله من همزات الشياطين ، إن قامت عليك نفسك وأرادت الانتصار ، كما هو شأن أهل الغفلة ، فى كونهم منهمكين فى الغفلة ، مملوكين فى أيدى أنفسهم ، مستمرين على ذلك ، حتى إذا حضر أجلهم طلبوا من الله الرجعة ، هيهات هيهات ، (كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) ، وفى الأثر : «ما منكم من أحد إلا وسيندم عند الموت ، إن كان محسنا أن لو زاد ، وإن كان مسيئا أن لو تاب». أو كما قال.
ولأجل هذا المعنى شد أهل اليقظة الحزم ، وشمروا عن ذراعهم فى طاعة مولاهم ، وعمروا أوقاتهم بما يقربهم إلى محبوبهم ، وتنافسوا فى ذلك أىّ تنافس ، وفى ذلك يقول القائل :
___________
(1) أخرجه ابن جرير (18/ 52) ، من حديث ابن جريج ، مرسلا.
(2) فى قوله تعالى «وأنفقوا مما رزقناكم من أن قبل أن يأتى أحدكم الموت فيقول رب لو لا أخرتنى إلى أجل قريب ...) الآية 10.(3/598)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 599
السّباق ، السّباق ، قولا وفعلا حذّر النّفس حسرة المسبوق
وكان بعض العباد حفر قبرا فى بيته ، فإذا صلى العشاء دخل فيه ، وقرأ : (قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً ....) الآية ، فيقول لنفسه : ستطلبين الرجعة ولا تمكنين منها ، وأنت اليوم متمكنة من الرجوع ، قومى إلى خدمة مولاك ، قبل أن يحال بينك وبينها ، فيبيت قائما يصلى. وهكذا شأن أهل اليقظة يقدمون الندم والجد قبل فوات إبّانه. أعاننا الله على اغتنام طاعته ، وما يقربنا إلى حضرته. آمين.
ثم ذكر أهوال ذلك اليوم الموعود ، فقال :
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 101 الى 105]
فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ (101) فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102) وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ (103) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيها كالِحُونَ (104) أَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (105)
يقول الحق جل جلاله : فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ لقيام الساعة ، وهى نفخة البعث والنشور ، وقيل : فإذا نفخ فى الأجساد أرواحها ، على أن الصور جمع صورة ، ويؤيده القراءة بفتح الواو مع الضم ، وبه مع كسر الصاد. فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ تنفعهم ، لزوال التراحم والتعاطف بينهم من فرط الحيرة واستيلاء الدهشة ، بحيث يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه. قال ابن عباس : (لا يفتخرون بالأنساب والأحساب فى الآخرة ، كما كانوا يفتخرون فى الدنيا» وَلا يَتَساءَلُونَ لا يسأل بعضهم بعضا لا شتغال كل منهم بنفسه ، ولا يناقضه قوله تعالى : وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ «1» لأن هذا - أي : سكوتهم - عند ابتداء النفخة الثانية ، وذلك بعدها لأن يوم القيامة ألوان ، تارة يبهتون ولا يتساءلون ، وتارة يفيقون ، فأقبل بعضهم على بعض يتساءلون.
وقال ابن عباس : إنما عنى النفخة الأولى ، حين يصعق الناس ، (فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون) ، ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ «2» ، وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ. نقله الثعلبي.
___________
(1) الآية 27 من سورة الصافات.
(2) الآية 68 من سورة الزمر.(3/599)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 600
فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ أي : موزونات حسناته من العقائد الصحيحة والأعمال الصالحة ، فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ الفائزون بكل مرغوب ، الناجون من كل مرهوب ، وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ أي : ومن لم يكن له من العقائد والأعمال ما يوزن - وهم الكفار - لقوله : فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً «1» ، وتقدم ما فيه. فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ : ضيعوها بتضييع زمان استكمالها ، وأبطلوا استعدادها لنيل كمالها ، فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ ، وهو خبر ثان لأولئك ، أو بدل من الصلة ، وعن ابن مسعود رضى اللّه عنه قال : (يؤخذ بيد العبد أو الأمة يوم القيامة ، فينصب على رؤوس الأولين والآخرين ، ثم ينادى مناد : هذا فلان بن فلان ، من كان له حق فليأت إلى حقه ، فتفرح المرأة أن يدور لها الحق على ابنها ، أو على زوجها ، أو على أبيها ، أو على أخيها ، ثم قرأ ابن مسعود :
فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ ، ثم يقول الرب تعالى : آت هؤلاء حقوقهم ، فيقول : ربّ ، فنيت الدنيا فمن أين آتيهم؟ فيقول للملائكة : خذوا من حسناته فأعطوا كل إنسان بقدر طلبته .....) إلخ الحديث «2» ، انظر النسفي.
قال تعالى : تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ تحرقها ، واللفح كالنفخ ، إلّا أنه أشد تأثيرا منه ، وتخصيص الوجوه بذلك لأنها أشرف الأعضاء. وَهُمْ فِيها كالِحُونَ : عابسون من شدة الإحراق ، والكلوح : تقلص الشفتين من الإنسان ، قال النبي صلى اللّه عليه وسلم فى كالحون : «تشويه النّار فتقلّص شفته العليا ، حتّى تبلغ وسط رأسه ، وتسترخى السّفلى حتّى تبلغ سرّته» «3». فيقال لهم - تعنيفا وتذكيرا لما به استحقوا ما ابتلوا به : أَلَمْ تَكُنْ آياتِي أي : القرآن تُتْلى عَلَيْكُمْ فى الدنيا فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ حينئذ ، فذوقوا وبال ما كنتم به تكذبون. نسأل الله التوفيق والهداية.
الإشارة : قال الترمذي الحكيم : الأنساب كلها منقطعة إلا من كانت نسبته صحيحة فى عبودية ربه ، فإن تلك نسبة لا تنقطع أبدا ، وتلك النسبة المفتخر بها ، لا نسبة الأجناس من الآباء والأمهات والأولاد. ه. وقال الورتجبي :
عند المعاينة والمشاهدة بوجوده ونشر جوده ، نسبهم هناك نسب المعرفة والمحبة الأزلية ، واصطفائيته القدسية ، لا يفتخرون بشىء دونه ، من العرش إلى الثرى ، ولا يتساءلون شغلا بما هم فيه. ه.
ومعنى كلام الشيخين : أن العبد ، إذا صحت نسبته إلى مولاه ، وانقطع بكليته إليه ، ورفض كل ما سواه ، اتصلت نسبته ، ودامت محبته وأنسه ، ومن تعلق بغيره ، وتودد إلى ما سواه ، انقطع ذلك وانفصل ، ومن النسب التي تتصل وتدوم ، النسبة إلى أولياء الله ، والتحبب إليهم وخدمتهم ، وهى فى الحقيقة من نسبة الله تعالى لأنها سبب معرفته
___________
(1) من الآية 105 من سورة الكهف.
(2) أخرج رواية ابن عباس ، وكذلك ، ورواية ابن مسعود ، الطبري فى تفسيره.
(3) أخرجه الإمام أحمد فى المسند (3/ 88) لترمذى فى (التفسير - تفسير سورة المؤمنون) ، وقال : حسن غريب صحيح ، والحاكم (2/ 395) وصححه ، ووافقه الذهبي) ، عن أبى سعيد الخدري رضى اللّه عنه.(3/600)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 601
والتحقق بعبوديته ، فهى عينها ، فمن انتسب إليهم فقد انتسب إلى الله ، ومن أحبهم فإنما أحب الله ، فمحبتهم ، والاجتماع معهم يؤدى إلى محبة الله ورضوانه ، وهم الذين يكونون عن يمين الرحمن ، يغشى نورهم الناس يوم القيامة ، يغبطهم النبيون والشهداء لمنزلتهم عند الله. قال عليه الصلاة والسلام : لما سئل عنهم : «هم رجال من قبائل شتى ، يجتمعون على ذكر الله ومحبته» أو كما قال صلى اللّه عليه وسلم كما فى الحديث «1». والله تعالى أعلم.
ثم ذكر جواب أهل النار ، فقال :
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 106 الى 114]
قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ (106) رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ (107) قالَ اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ (108) إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (110)
إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ (111) قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112) قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ الْعادِّينَ (113) قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (114)
يقول الحق جل جلاله : قالُوا أي : أهل النار : رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا أي : ملكتنا شِقْوَتُنا : شقاوتنا التي اقترفناها بسوء اختيارنا ، كما ينبئ عنه إضافتها إلى أنفسهم ، أي : شقينا بأعمالنا السيئة التي عملناها ، ولا يصح حمله على الشقاوة الأزلية لأنهم غير مكلفين بصرفها عنهم إذ ليس فى اختيارهم. وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ عن الحق ، ولذلك فعلنا ما فعلنا من التكذيب ، وهذا ، كما ترى ، اعتراف منهم بأن ما أصابهم إنما أصابهم بسوء صنعهم ، وأمّا ما قيل : من أنه اعتذار منهم بغلبة ما كتب عليهم من الشقاوة الأزلية ، فلا يصح لأن الله تعالى ما كتب عليهم الشقاء حتى علم أنهم يفعلونه باختيارهم ، بحسب الظاهر فى عالم الحكمة ، فيكون اعترافهم إنما هو بما كان فى اختيارهم ، لا بما كتب عليهم.
ثم قالوا : رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ أي : أخرجنا من النار ، وردنا إلى الدنيا ، فإن عدنا بعد ذلك إلى ما كنا عليه من الكفر والمعاصي ، فإنا متجاوزون الحد فى الظلم ، ولو كان اعتقادهم أنهم مجبورن على
___________
(1) عن أبى الدرداء قال : قال رسول الله صلى اللّه عليه وسلم : «ليبعثن الله أقواما يوم القيامة ، فى وجوههم النور ، على منابر اللؤلؤ ، يغبطهم الناس ، ليسوا بأنبياء ولا شهداء» قال : فجثا أعرابى على ركبتيه فقال : يا رسول الله ، حلّهم لنا نعرفهم؟ قال : «هم المتحابون فى الله من قبائل شتى ، وبلاد شتى ، يجتمعون على ذكر الله تعالى ، يذكرونه» قال الهيثمي فى مجمع الزوائد (10/ 77) رواه الطبراني وإسناده حسن.(3/601)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 602
ما صدر عنهم لما سألوا الرجعة إلى الدنيا ، ولما وعدوا بالطاعة والإيمان. قال القرطبي : طلبوا الرجعة إلى الدنيا كما طلبوها عند الموت.
ثم يجيبهم الحق تعالى ، بعد ألف سنة ، بقوله : قالَ اخْسَؤُا فِيها أي : اسكتوا فى النار سكوت ذل وهوان ، وانزجروا انزجار الكلاب ، يقال : خسأت الكلب ، إذا زجرته ، فخسأ ، أي : انزجر. وَلا تُكَلِّمُونِ باستدعاء الإخراج من النار والرجوع إلى الدنيا ، أو فى رفع العذاب عنكم فإنه لا يرفع ولا يخفف ، روى أنه آخر كلام يتكلمون به ، ثم لا كلام بعد ذلك إلّا الشهيق والزفير ، ويصير لهم عواء كعواء الكلاب لا يفهمون ولا يفهمون «1».
قيل : ويرده الخطابات الآتية ، وقد يجاب : بأنها قبل هذه الكلمة.
ثم علل استحقاقهم لذلك العذاب بقوله : إِنَّهُ أي : الأمر والشأن كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي وهم المؤمنون ، أو الصحابة ، أو أهل الصفة - رضوان الله تعالى عليهم أجمعين - يَقُولُونَ فى الدنيا : رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ. فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا أي : هزوا ، وهو مصدر سخر ، زيدت فيه ياء النسب للمبالغة ، وفيه الضم والكسر. وقال الكوفيون : المكسور بمعنى الهزء ، والمضموم من السخرة ، بمعنى الانقياد للخدمة ، ولذلك اتفق عليه فى الزخرف «2» ، أي : اتخذتموهم مهزوا بهم ، وتشاغلتم بهم حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي ، من فرط اشتغالكم بالاستهزاء بهم ، ولم تخافونى فى أوليائى ، وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ ، وذلك غاية الاستهزاء.
قال تعالى : إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ جزاء على صبرهم على أذاكم ، أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ بكل مطلوب دونكم ، فأنهم : مفعول «جزيتهم» لأنه يتعدى إلى مفعولين ، وقرأ حمزة بالكسر على الاستئناف تعليلا للجزاء ، وبيانا أنه فى غاية الحسن ، قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ ، القائل هو الله تعالى ، أو الملك ، وقرأ المكي وحمزة : «قل» التي بلفظ الأمر للملك ، يسألهم : كم لبثوا ، فِي الْأَرْضِ التي دعوا الله أن يردهم إليها ، عَدَدَ سِنِينَ ، وهو تمييز ، أي : كم لبثتم فى الأرض من عدد السنين ، قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ، استقصار لمدة لبثهم فيها بالنسبة إلى خلودهم ، ولما هم فيه من عذابها لأن الممتحن يستطيل أيام محنته ، ويستقصر ما مر عليه من أيام الدعة ، فَسْئَلِ الْعادِّينَ أي : المتمكنين من العد فإنا بما دهمنا من العذاب بمعزل من العد ، أو الملائكة العادين لأعمار العباد وأعمالهم.
قالَ الله تعالى ، أو الملك ، تصديقا لهم فى مقالهم : إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا : ما لبثتم إلا زمانا قليلا ، أو لبثا قليلا بالنسبة لما بعده ، لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ شيئا ، أو : لو كنتم من أهل العلم لعلمتم قلة لبثكم فيها ، فالجواب محذوف. والله تعالى أعلم.
___________
(1) ذكره البغوي فى تفسيره (5/ 431) عن الحسن.
(2) فى قوله تعالى : وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا ..) الآية 32 من سورة الزخرف.(3/602)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 603
الإشارة : إذا تميزالمتحابون فى الله ، المجتمعون على ذكر الله ومحبته وطلب معرفته ، وعرفوا بأنوارهم وأسرارهم ، وانحازوا إلى ظل العرش ، يوم لا ظل إلا ظله ، ورآهم البطالون المنكرون عليهم ، وهم فى حسرة الحساب ، يقولون بلسان الحال أو المقال : (رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا) حيث لم نصحب هؤلاء الأولياء ، وكنا قوما ضالين ، ربنا أخرجنا من هذه الحسرة ، وردنا إلى الدنيا ، فإن عدنا إلى البطالة والإنكار عليهم فإنا ظالمون ، فيقال لهم : اخسئوا فيها فقد فات الإبان ، إنه كان فريق من عبادى ، وهم المنتسبون من أهل التجريد ، المتزيون بزى الصوفية أهل التفريد ، يقولون : ربنا آمنا بطريق الحصوصية ودخلنا فيها ، فاغفر لنا ، أي : غط مساوئنا ، وارحمنا رحمة تضمنا إلى حضرتك ، وأنت خير الراحمين ، فاتخذتموهم سخريا ، وانشغلتم بالوقوع فيهم ، حتى أنسوكم ذكرى ، وكنتم منهم تضحكون ، إنى جزيتهم اليوم ، بما صبروا ، أنهم هم الفائزون بشهود ذاتى ، والقرب من أحبابى ، المتنزهون فى كمال جمالى ، فى درجات المقربين من النبيين والصديقين.
قال القشيري : الحق ينتقم من أعدائه بما يطيّب به قلوب أوليائه ، وتلك خصمة الحق ، فيقول لهم : كان فريق من أوليائى يفصحون بمدحى واطرائى ، فاتخذتموهم سخريا ، فأنا اليوم أجازيهم ، وأنتقم ممن كان يناويهم. ه.
قوله تعالى : قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ .... إلخ ، اعلم أن أيام الدنيا كلها تقصر عند انقضاء عمر العبد ، فتعود كيوم واحد ، أو بعض يوم ، فإن أفضى إلى الراحة بعد الموت نسى أيام التعب ، وغاب عنها ، فتصير كأضعاث أحلام ، وإن أفضى إلى التعب ، نسى أيام الراحة ، كأنها طيف منام. قال فى الحاشية : الأشياء ، وإن كانت كثيرة ، فقد تنقص وتقل بالإضافة إلى ما يرجّى عليها ، كذلك مدة مقامهم تحت الأرض ، إن كانوا فى الراحة فقد تقل ، بالإضافة إلى الراحات التي يلقونها فى القيامة ، وإن كانت شديدة فقد تتلاشى فى جنب رؤية ذلك اليوم لما فيه من أليم تلك العقوبات المتوالية. ه.
ثم تمم توبيخهم يوم القيامة بقوله :
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 115 الى 118]
أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ (115) فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116) وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (117) وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (118)
قلت : (أَ فَحَسِبْتُمْ) : المعطوف محذوف ، أي : ألم تعلموا شيئا فحسبتم ، و(عَبَثاً) : حال ، أو مفعول من أجله.(3/603)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 604
يقول الحق جل جلاله : أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً أي : عابثين ، أو للعبث من غير حكمة فى خلقكم وإظهاركم حتى أنكرتم البعث ، وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ للحساب والجزاء ، بل خلقناكم للتكليف ، ثم للرجوع إلينا ، فنثيب المحسن ، ونعاقب المسيء. فَتَعالَى اللَّهُ أن يخلق شيئا عبثا ، وهو استعظام له تعالى ولشئونه التي يصرّف عليها عباده من البدء والإعادة ، والإثابة والعقاب ، بموجب الحكمة ، أي : ارتفع بذاته ، وتنزه عن مماثلة المخلوقين فى ذاته وصفاته وأفعاله ، وعن خلو أفعاله عن الحكم والمصالح والغايات الحميدة.
الْمَلِكُ الْحَقُّ الذي يحق له الملك على الإطلاق ، إيجادا وإعداما ، وإحياء وإماتة ، عذابا وإثابة ، وكل ما سواه مملوك له ، مقهور تحت ملكوته ، لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ، فإنّ كل ما عداه عبيده ، رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ ، فكيف بما تحته من الموجودات ، كائنا ما كان ، ووصفه بالكرم : إمّا لأنه منه ينزل الوحى الذي منه القرآن الكريم ، والخير والبركة ، أو لنسبته إلى أكرم الأكرمين.
وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ ، يعبده فردا أو اشتراكا ، من صفته لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ على صحة عبادته.
وفيه تنبيه على أن التدين بما لا دليل عليه باطل ، فكيف بما شهدت بديهة العقول بخلافه؟ فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ ، فهو مجاز له على قدر ما يستحقه ، إِنَّهُ أي : الأمر والشأن لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ لا فوز لهم ولا نجاة.
بدئت السورة الكريمة بتقرير فلاح المؤمنين ، وختمت بنفي فلاح الكافرين تحريضا على الإيمان ، وعلى ما يوجب بقاءه وتنميته ، من التمسك بما جاء به التنزيل ، وبما جاء به النبي الجليل ، ليقع الفوز بالفلاح الجميل.
ثم علّمنا سؤال المغفرة والرحمة لأن شؤم المعاصي يؤدى إلى سوء الختام ، فقال : وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ ، وفيه إيذان بأنهما من أهم الأمور الدينية ، حيث أمر به من قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، فكيف بمن عداه؟ نسأل الله - تعالى - المغفرة الشاملة ، والرحمة الكاملة ، لنا ولإخواننا ولجميع المسلمين .. آمين.
روى عن عبد الله بن مسعود رضي اللّه عنه أنه مرّ بمصاب مبتلى ، فقرأ فى أذنه : (أَ فَحَسِبْتُمْ أَنَّما ...) إلخ السورة ، فبرئ من حينه. فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم : «ماذا قرأت فى أذنه؟» فأخبره ، فقال : «والذي نفسى بيده لو أن رجلا مؤمنا قرأها على جبل لزال» «1».
الإشارة : ما أظهر الله الكائنات إلا ليعرف بها ، ويظهر فيها أسرار ذاته وأنوار صفاته ، وفى الأثر القدسي : «كنت كنزا لم أعرف ، فأحببت أن أعرف ، فخلقت الخلق ، فتعرفت لهم ، فبى عرفونى». وفى إيجاد المخلوقات حكم بليغة وأسرار عجيبة ، لا يحصيها إلا من خلقها ودبّرها. فمن المخلوقات من خلقهم ليظهر فيهم أثر رحمته وكرمه وإحسانه ،
___________
(1) أخرجه البغوي فى تفسيره (5/ 432) ، وأبو نعيم فى الحلية (1/ 7) ، وابن السنى فى عمل اليوم والليلة (ص 298) قال الذهبي فى ميزان الاعتدال (2/ 175) قال العقيلي : حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل ، قال : .... وساق الحديث ، فقال أبى : هذا موضوع ، هذا حديث الكذابين.(3/604)
البحر المديد ج 3 ، ص : 605
وهم أهل الإيمان والطاعة ، ومنهم من خلقهم ليظهر فيهم حلمه وعفوه ، وهم أهل العصيان ، ومنهم من خلقهم ليظهر فيهم عدله وقهره ونقمته ، وهم أهل الكفر والطغيان. وقال الحكيم الترمذي رضي اللّه عنه : إن الله خلق الخلق عبيدا ليعبدوه ، فيثيبهم على العبادة ، ويعاقبهم على تركها ، فإن عبدوه فهم اليوم له عبيد ، أحرار كرام من رق الدنيا ، ملوك فى دار السلام ، وإن رفضوا العبودية فهم اليوم عبيد أبّاق ، سقاط ، لئام ، أعداء فى السجون بين أطباق النيران. ه.
وقال بعضهم : إنما أظهر الله الكون لأجل نبينا صلى اللّه عليه وسلم تشريفا له ، فهو من نوره. قال ابن عباس رضي اللّه عنه : أوحى الله تعالى إلى عيسى عليه السّلام : يا عيسى بن مريم آمن بمحمد ، ومر أمتك أن يؤمنوا به ، فلو لا محمد ما خلقت آدم ، ولو لا محمد ما خلقت الجنة والنار ... الحديث.
قال القشيري : حسابه على اللّه فى آجله ، وعذابه من اللّه له فى عاجله ، وهو ما أودع قلبه حتى رضى أن يعبد معه غيره ، لقوله : ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى «1» ، كلام حاصل عن غير دليل عقل ، ولا شهادة خبر ونقل ، فما هو إلا إفك وبهتان ، وقول ليس يساعده برهان. ه. وبالله التوفيق ، وهو الهادي إلى سواء الطريق - وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد ، وآله وصحبه وسلم تسليما ، والحمد لله رب العالمين «2».
___________
(1) من الآية 3 من سورة الزمر.
(2) فى خاتمة المجلد الثاني من النسخة الأم ما يلى : كمل السفر الثاني من (البحر المديد فى تفسير القرآن المجيد) ، ووافق الفراغ من تبيضه عشية يوم الثلاثاء ، سابع عشر صفر ، عام ثمانية ومائتين وألف ، على يد جامعه «أحمد بن محمد بن عجيبة الحسنى» لطف الله به فى الدارين ، بمنّه وكرمه - وبسيدنا ومولانا محمد ، نبيه وحبه صلى اللّه عليه وسلم وعلى آله. وآخر دعوانا : أن الحمد لله رب العالمين. يتلوه الثالث من أول سورة النور - إن شاء الله - .
انتهى استخراجه من نسخة من مبيضته بحمد الله - تعالى - على توفيقه لنا وتسديده ، عشية يوم الاثنين ، آخر يوم من الشهر المذكور ، من العام المذكور ، على يد كاتبه لشيخه ومؤلفه المذكور «عبد الغفور بن التهامي البناني» ، راجيا رضا مؤلفه ، والري من بحره ، بمحض الفضل والكرم ، والصلاة على النبي الأعظم ، والرسول الأفخم ، سيدنا محمد ، عليه أفضل الصلاة والسلام. [.....](3/605)
البحر المديد ج 3 ، ص : 606(3/606)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 607
فهرس المجلد الثالث
تفسير سورة الرعد 5 تفسير سورة إبراهيم 41 تفسير سورة الحجر 77 تفسير سورة النّحل 107 تفسير سورة الإسراء 179 تفسير سورة الكهف 245 تفسير سورة مريم 317 تفسير سورة طه 371 تفسير سورة الأنبياء 441 تفسير سورة الحج 509 تفسير سورة المؤمنون 561(3/607)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 5
[المجلد الرابع ]
سورة النّور «1»
مدنية. ووجه المناسبة لما قبلها : أن إقامة الحدود من أثر الرحمة التي ختم بها ما قبلها لأن بإقامة الحدود يقع الزجر عن المعاصي ، فتنزل الرحمة والعافية. قال أبو هريرة رضي اللّه عنه : (إقامة حدّ بأرض خير لأهلها من مطر أربعين ليلة) «2».
وقيل : لمّا ذكر تعالى فى مشركى قريش : وَلَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ أي : أعمال سيئة هُمْ لَها عامِلُونَ «3» ، ثم استطرد بعد ذلك فى أحوالهم ، كان من أعمالهم السيئة : الزنا ، وكان لهم جوار بغايا عليهن ، ويأكلون من كسبهن من الزنا ، فأنزل اللّه هذه السورة تغليظا فى أمر الزنا. ه. وعن عائشة - رضي اللّه عنها - قال النبي صلى اللّه عليه وسلم : «لا تنزلوا النساء الغرف ، ولا تعلموهنّ الكتابة ، وعلّموهنّ سورة النور والغزل» «4» أي : أحكام السورة لينزجرن عن الزنا.
وسميت سورة النور لقوله : اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ «5» ، وحقيقة النور : ما تنكشف به حقيقة الأشياء على ما هى عليه ، فالنور الظاهر الحسى تنكشف به الأشياء الحسية ، والنور الباطن تنكشف به الأشياء الباطنية ، كمعرفة الذات الأقدس ، وما يقرب إليها من آداب العبودية. ومرجعه إلى ثلاثة : نور معرفة أحكام المعاملة ، ونور اليقين ، ونور المكاشفة. فالأول : نور الإسلام ، وهو كنور النجوم ، والثاني : نور الإيمان ، وهو كنور القمر ، والثالث :
نور الإحسان ، وهو كنور الشمس. ويسمى الأولان : نور التوجه ، والثالث : نور المواجهة. وتتفاوت هذه الأنوار على قدر التوجهو التفرغ من شواغل الحس ، فإذا أشرقت شمس العرفان لم يبق لنور النجوم ولا للقمر أثر لمحو وجود الأكوان فى محل العيان ، فصار الغيب شهادة ، والتصديق معاينة ، فانطوى الإيمان فى وجود العيان.
ولمّا كانت التقوى أساس الطريق لهذا المقام ، الذي هو نور الإيمان ، تكلم الحق تعالى فى أول السورة على أهم ما يتقى ، وهو الزنا وما يؤدى إليه من النظر والاطلاع على عورات النساء ، فقال :
___________
(1) أول المجلد الثالث من النسخة الأم.
(2) أخرجه ابن حبان فى صحيحه (4381) وأخرجه بنحوه ، ابن ماجه فى (الحدود باب : اقامة الحدود ، 2/ 848 ، ح 2538) ، من حديث أبى هريرة رضي اللّه عنه ، وأخرجه ابن ماجه فى الموضع نفسه (ح 3537) والنسائي (8/ 76) من حديث ابن عمر رضي اللّه عنه.
(3) من الآية 63 من سورة «المؤمنون».
(4) أخرجه البغوي فى تفسيره (6/ 68) ، والحاكم فى المستدرك (2/ 396) وصححه ، وتعقبه الذهبي ، فقال : (بل موضوع ، وآفته :
عبد الوهاب ، قال أبو حاتم : كذاب) ، وقال الهيثمي فى المجمع (4/ 93) : رواه الطبراني فى الأوسط (ح 5713) ، وفيه محمد بن إبراهيم الشامي. قال الدارقطني : كذّاب.
(5) الآية 35 من السورة.(4/5)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 6
[سورة النور (24) : الآيات 1 الى 2]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (1) الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2)
قلت : «سورة» : خبر ، أي : هذه سورة ، وأشير لها ، مع عدم تقدم ذكره لأنها فى حكم الحاضر المشاهد. وقرئ بالنصب على الاشتغال ، وجملة : (أنزلناها) ، وما عطف عليه : صفة لسورة ، مؤكد لما أفاده التنكير من الفخامة.
و(الزانية) : مبتدأ ، والخبر : (فاجلدوا) ، ودخلت الفاء لتضمن المبتدأ معنى الشرط إذ اللام موصولة ، أي : والتي زنت والذي زنى فاجلدوا ، هذا مذهب المبرد وغيره ، والاختيار عند سيبويه : الرفع على الابتداء ، والخبر : محذوف ، أي : فيما فرض عليكم ، أو : مما يتلى عليكم : حكم الزانية والزاني ، وقدّم الزانية لأنها الأصل فى الفعل ، والداعية فيها أوفر ، ولو لا تمكينها منه لم يقع. وقيل : لمّا كان وجود الزنى فى النساء أكثر ، بخلاف السرقة ، ففى الرجال أكثر ، قدّم الحق تعالى الأكثر فيهما.
يقول الحق جل جلاله : هذه سُورَةٌ ، وهى الجامعة لآيات ، بفاتحة لها وخاتمة ، مشتقة من سور البلد.
من نعت تلك السورة : أَنْزَلْناها عليك ، وَفَرَضْناها أي : فرضنا الأحكام التي فيها. وأصل الفرض : القطع ، أي : جعلناها مقطوعا بها قطع إيجاب. وقرأ المكي وأبو عمرو : بالتشديد للمبالغة فى الإيجاب وتوكيده ، أو : لأن فيها فرائض شتى ، أو : لكثرة المفروض عليهم من السلف ومن بعدهم.
وَأَنْزَلْنا فِيها أي : فى تضاعيفها آياتٍ بَيِّناتٍ أي : دلائل واضحات لوضوح دلالتها على أحكامها لا على معانيها فإنها كسائر السور. وتكرير (أنزلنا) ، مع أن جميع الآيات عين السورة لاستقلالها بعنوان رائق داع إلى تخصيص إنزالها بالذكر إبانة لخطرها ، ورفعا لقدرها ، كقوله تعالى : وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ «1» ، بعد قوله : نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ. لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ أي : لكى تتعظوا فتعملوا بموجبها عند وقوع الحوادث الداعية إلى إجراء أحكامها. وفيه إيذان بأن حقها أن تكون على بال منهم ، بحيث متى مست الحاجة إليها استحضروها.
___________
(1) من الآية 58 من سورة هود.(4/6)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 7
ثم شرع فى تفصيل أحكامها ، فقال : الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ إذا كانا حرّين ، بالغين ، غير محصنين ، وألا تكون المرأة مكرهة. وظاهر الآية : عموم المحصن وغيره ، ثم نسخ بالسنة المشهورة. وقد رجم - عليه الصلاة والسلام - ماعزا وغيره. وعن على رضي اللّه عنه : جلدتهما بكتاب اللّه ، ورجمتهما بسنة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم. وقيل : نسخ بآية منسوخة التلاوة ، وهى : (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتّة نكالا من اللّه واللّه عزيز حكيم) ، ويأباه ما روى عن على رضي اللّه عنه. ه. قاله أبو السعود.
وشرط الإحصان : العقل ، والحرية ، والإسلام ، والبلوغ ، والتزوج بنكاح صحيح ، ودخول معتبر. وفى التعبير بالجلد ، دون الضرب إشارة إلى أنه لا يبالغ إلى أن يصل أثر الضرب إلى اللحم ، ولكن يخفف حتى يكون حد ألمه الجلد الظاهر. والخطاب للأئمة لأن إقامة الحدود من الدّين ، وهو على الكل ، إلا أنه لا يمكن الاجتماع ، فيقوم الإمام مقامهم ، وزاد مالك والشافعي مع الجلد : تغريب عام ، أخذا بالحديث الصحيح «1». وقال أبو حنيفة : إنه منسوخ بالآية.
وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ أي : رحمة ورقة. وفيها لغات : السكون ، والفتح مع القصر والمد ، كالنشأة والنشاءة ، وقيل : الرأفة فى دفع المكروه ، والرحمة فى إيصال المحبوب. فِي دِينِ اللَّهِ أي : فى طاعته وإقامة حدوده ، والمعنى : أن الواجب على المؤمنين أن يتصلبوا فى دين اللّه ، ولا يأخذهم اللين حتى يتركوا حدود اللّه.
إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ، هو من باب التهييج ، وإلهاب الغضب للّه ، ولدينه ، فإن الإيمان يقتضى الجد فى طاعته ، والاجتهاد فى إجراء أحكامه. وذكر اليوم الآخر لتذكير ما فيه العقاب فى مقابلة المسامحة.
وجواب الشرط : مضمر ، أي : إن كنتم تؤمنون باللّه فاجلدوا ولا تعطلوا الحد.
قيل لأبى مجلز فى هذه الآية : واللّه إنا لنرحمهم إن يجلد الرجل أو تقطع يده ، فقال : إنما ذلك فى السلطان ، ليس له أن يدعهم رحمة لهم. وجلد ابن عمر جارية ، فقال للجلاد : ظهرها ورجليها وأسفلها ، وخفّف ، فقيل له : أين قوله : وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ ..؟ فقال : أأقتلها؟ ، إنّ اللّه أمرنى أن أضربها وأأدبها ، ولم يأمرنى أن أقتلها. ه «2».
ويجرد للجلد إلا ما يستر العورة.
وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما أي : وليحضر موضع حدّهما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ زيادة فى التنكيل ، فإن التفضيح قد ينكل أكثر من التعذيب. قال بعض العلماء : ينبغى أن يقام بين يدى الحكام ، ولا يقيمه إلا فضلاء الناس وخيارهم لأنه قيام بقاعدة شرعية ، وقربة تعبدية ، يجب المحافظة على فعلها ، وقدرها ، ومحلها ، وحالها ، بحيث
___________
(1) أخرج البخاري فى (الشهادات ، باب شهادة القاذف والسارق والزاني ح 2649) عن زيد بن خالد : «أن النبي صلى اللّه عليه وسلم أمر فيمن زنى ولم يحصن بجلد مائة وتغريب عام».
(2) أخرجه الطبري (18/ 67).(4/7)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 8
لا يتعذر شىء من شروطها وحرمتها ، فإن دم المسلم وحرمته عظيمة ، فيجب مراعاته بكل ما أمكن ، فلا يقصر عن الحد ، ولا يزاد عليه. ويطلب الاعتدال فى السوط ، فلا يكون لينا جدا ، ولا يابسا جدا ، وكذلك فى الضرب ، فلا يرفع يده حت يرى إبطه ، ولا يخفف فيه جدا ، بل يتوسط بحيث يؤلمه ولا يضره.
وتسمية الحدّ عذابا دليل على أنه عقوبة وكفارة. و«الطائفة» : فرقة ، يمكن أن تكون حافة حول الشيء ، من الطوف ، وهو الإدارة ، وأقلها : ثلاثة ، وقيل : أربعة إلى أربعين. وعن الحسن : عشرة ، والمراد : جمع يحصل به التشهير. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : التقوى أساس الطريق ، وبها يقع السير إلى عين التحقيق. فمن لا تقوى له لا طريق له ، ومن لا طريق له لا سير له ، ومن لا سير له لا وصول له. وأعظم ما يتقى العبد شهوة الفروج ، فهى أعظم الفتن وأقبح المحن ، وقد قال عليه الصلاة والسلام : «ما تركت بعدي أضرّ على الرّجال من النّساء» «1» ، أو كما قال صلى اللّه عليه وسلم. وعن حذيفة رضي اللّه عنه قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : «يا معشر الناس اتقوا الزنا ، فإن فيه ستّ خصال : ثلاثا فى الدنيا ، وثلاثا فى الآخرة : فأما اللاتي فى الدنيا فيذهب البهاء ، ويورث الفقر ، وينقص العمر ، وأما اللاتي فى الآخرة فيوجب السخطة وسوء الحساب والخلود فى النار» «2». والمراد بنقص العمر : قلة بركته ، وبالخلود : طول المكث. وفى حديث آخر : «إن أهل النار ليتأذون من نتن فروج الزناة والزواني» «3» ، وعن أنس رضي اللّه عنه قال : قال النبي صلى اللّه عليه وسلم : «إن أعمال أمتى تعرض علىّ فى كل جمعة مرتين ، فاشتد غضب اللّه على الزناة» «4». وقال وهب بن منبه : (مكتوب فى التوراة : الزاني لا يموت حتى يفتقر ، والقواد لا يموت حتى يعمى).
وفى بعض الأخبار القدسية : «يقول اللّه عز وجل : أنا اللّه لا إله إلا أنا ، خلقت مكة بيدي ، أغنى الحاج ولو بعد حين ، وأفقر الزاني ولو بعد حين ، هذا وباله فى الدنيا والآخرة ، وأما فى عالم البرزخ فتجعل أرواحهم فى تنور من نار ، فإذا اشتعلت علوا مع النار ، وإذا خمدت سقطوا إلى أسفلها ، هكذا حتى تقوم الساعة ، كما فى حديث
___________
(1) أخرجه البخاري فى (النكاح ، باب ما يتقى من شؤم المرأة ح) ، ومسلم فى (الذكر ، باب أكثر أهل الجنة الفقراء ، 4/ 2097 ح 2740) عن أسامة بن زيد رضي اللّه عنه.
(2) عزاه فى كنز العمال (5/ 319 ح 13022) للخرائطى فى مساوئ الأخلاق. وأبى نعيم فى الحلية (4/ 111) ، والبيهقي فى شعب الإيمان (ح 5475) ، عن حذيفة. والحديث ضعفه البيهقي.
(3) أخرجه بنحوه البزار (كشف الأستار ح 1548) عن بريدة رضي اللّه عنه ، وضعّفه الهيثمي فى المجمع (6/ 255).
(4) أخرجه أبو نعيم فى الحلية (6/ 179) عن أنس رضي اللّه عنه.(4/8)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 9
البخاري «1». وقال ابن رشد : ليس بعد الشرك أقبح من الزنا لما فيه من هتك الأعراض واختلاط الأنساب ، ومن تاب فإن اللّه يتوب على من تاب. وباللّه التوفيق.
وقوله تعالى : وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ : قال فى الإحياء : فى الحديث : «خيار أمتى أحدّاؤها» «2» يعنى : فى الدين قال تعالى : وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ ، فالغيرة على الحرم ، والغضب للّه وعلى النفس ، بكفها عن شهوتها وهواها ، محمود ، وفقد ذلك : مذموم. ه. وباللّه التوفيق.
ثم نهى عن نكاح الزواني ، فقال :
[سورة النور (24) : آية 3]
الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلاَّ زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلاَّ زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3)
يقول الحق جل جلاله : من شأن الزَّانِي الخبيث : أنه لا يرغب إلا فى زانية خبيثة من شكله ، أو فى مشركة ، والخبيثة المسافحة لا يرغب فيها إلا من هو من شكلها ، من الفسقة أو المشركين. وهذا حكم جار على الغالب المعتاد ، جىء به لزجر المؤمنين عن نكاح الزواني ، بعد زجرهم عن الزنا بهن إذ الزنا عديل الشرك فى القبح ، كما أن الإيمان قرين العفاف والتحصن ، وهو نظير قوله : الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ «3».
روى أن المهاجرين لمّا قدموا المدينة ، وكان فيهم من ليس له مال ولا أهل ، وبالمدينة نساء بغايا مسافحات ، يكرين أنفسهن ، وهنّ أخصب أهل المدينة ، رغب بعض الفقراء فى نكاحهن لحسنهن ، ولينفقوا عليهم من كسبهنّ ، فاستأذنوا النبي صلى اللّه عليه وسلم فنزلت «4» ، فنفرهم اللّه تعالى عنه ، وبيّن أنه من أفعال الزناة وخصائص المشركين ، فلا تحوموا حوله لئلا تنتظموا فى سلكهم وتتّسموا بسمتهم.
قيل : كان نكاح الزانية محرما فى أول الإسلام ، ثم نسخ بقوله : وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ «5». وقيل : المراد بالنكاح : الوطء ، أي : الزاني لا يزنى إلا بزانية مثله ، وهو بعيد ، أو باطل.
___________
(1) أخرجه البخاري ، مطولا فى (الجنائز ، باب 93 ح 1386) من حديث سمرة بن جندب رضي اللّه عنه.
(2) أخرجه الطبراني فى الأوسط (ح 5793) والبيهقي فى الشعب (ح 8301) من حديث سيدنا علىّ ، بسند ضعيف ، وزادا : (و الذين إذا غضبوا رجعوا) .. [.....]
(3) الآية 26 من سورة النور.
(4) عزاه السيوطيفى الدر (5/ 38) لابن أبى حاتم ، عن مقاتل.
(5) من الآية 32 من سورة النور.(4/9)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 10
وسئل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عمن زنا بامرأة ثم تزوجها. فقال : «أوّله سفاح ، وآخره نكاح ، والحرام لا يحرم الحلال» «1».
ومعنى الجملة الأولى : وصف الزاني بكونه غير راغب فى العفائف ، ولكن فى الفواجر. ومعنى الثانية : وصف الزانية بكونها غير مرغوب فيها للأعفاء ، ولكن الزناة ، وهما معنيان مختلفان. وقدّم الزاني هنا ، بخلاف ما تقدم فى الجلد لأن تلك الآية سيقت لعقوبتهما على ماجنيا ، والمرأة هى المادة التي منها نشأت تلك الجناية ، كما تقدم ، وأما هنا فمسوقة لذكر النكاح ، والرجل أصل فيه.
ثم ذكر الحكم ، فقال : وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أي : نكاح الزواني بقصد التكسب ، أو : للجمال لما فى ذلك من التشبه بالفساق وحضور مواضع التهمة ، والتعرض لسوء المقالة والغيبة والطعن فى النسب ، وغير ذلك من المفاسد التي لا تكاد تليق بأحد من الأدانى والأراذل ، فكيف بالمؤمنين والأفاضل؟ ، ولذلك عبّر عن التنزيه بالتحريم ، مبالغة فى الزجر ، وقيل : النفي بمعنى النهى ، وقرئ به. والتحريم : إما على حقيقته ، ثم نسخ بقوله :
وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ ... «2» إلخ ، أو : مخصوص بسبب النزول. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : الصحبة لها تأثير فى الأصل والفرع ، فيحصل الشرف أو السقوط بصحبة أهل الشرف أو الأراذل ، وفى ذلك يقول القائل :
عليك بأرباب الصّدور ، فمن غدا مضافا لأرباب الصّدور تصدّرا
وإيّاك أن ترضى بصحبة ساقط فتنحط قدرا من علاك وتحقرا
فالمرء على دين خليله ، ومن تحقق بحالة لا يخلو حاضروه منها ، والحكم للغالب ، فإن كان النور قويا غلب الظلمة ، وإن كانت الظلمة قوية غلبت النور ، وصيرته ظلمة ، ولذلك نهى اللّه تعالى عن نكاح الزواني ، فإنه وإن كان
___________
(1) هذا حديثان ، الأول قوله «أوله : سفاح وآخره نكاح ، أخرجه عبد الرزاق فى مصنفه (7/ 202) وابن أبى شيبة فى مصنفه (4/ 248) والبيهقي فى الكبرى (7/ 168). موقوفا على ابن عباس رضي اللّه عنه.
والثاني : قوله : «الحرام لا يحرم الحلال ، أخرجه ابن ماجه فى (النكاح ، باب لا يحرم الحرام حلال ، 1/ 649 ح 2015) والدارقطني (7/ 169) عن ابن عمر رضي اللّه عنه.
(2) الآية 32 من سورة النور.(4/10)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 11
نور الزوج غالبا - إذا كان ذا نور - فإن العرق نزّاع ، فيسرى ذلك فى الفروع ، فلا تكاد تجد أولاد أهل الزنا إلا زناة ، ولا أولاد أهل العفة إلا أعفّاء ، وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً «1».
وفى الحديث : «إياكم وخضراء الدّمن ، قيل : وما خضراء الدمن يا رسول اللّه؟ قال : المرأة الحسناء فى المنبت السوء» «2». قال ابن السكيت : شبهها بالبقلة الخضراء فى دمنة أرض خبيثة لأن الأصل الخبيث يحن إلى أصله ، فتجىء أولادها لأصلها فى الغالب. فيجب على اللبيب - إن ساعفته الأقدار - أن يختار لزراعته الأرض الطيبة ، وهى الأصل الطيب ، لتكون الفروع طيبة. وفى الحديث : «تخيّروا لنطفكم ولا تضعوها إلّا فى الأكفاء» «3» ه وباللّه التوفيق.
ثم ذكر حدّ القذف ، فقال :
[سورة النور (24) : الآيات 4 الى 5]
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (4) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)
قلت : «ثمانين» : مفعول مطلق ، و«جلدة» : تمييز. «إلا الذين تابوا» : إما : استثناء من ضمير «لهم» ، فمحله :
الجر ، أو : من قوله : «الفاسقون» ، فمحله : النصب لأنه بعد موجب تام.
يقول الحق جل جلاله ، فى بيان شأن العفائف ، بعد بيان شأن الزواني : وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أي : يقذفون بالزنا الْمُحْصَناتِ الحرائر العفائف المسلمات المكلفات ، بأن يقول : يا زانية ، أو : يا محبة ، ولا فرق بين التصريح والتعريض ، ولا بين النساء والرجال ، قاذفا أو مقذوفا. والتعبير بالرمي ، المنبئ عن صلابة الآلة ، وإيلام المرمى ، وبعده عن الرامي إيذان بشدة تأثيره فيهن ، وكونه رجما بالغيب. والتعبير بالإحصان يدل على أن رميهن إنما كان بالزنا ، لا غير.
___________
(1) من الآية 58 من سورة الأعراف.
(2) أخرجه الشهاب القضاعي ، فى مسنده (957) ، والديلمي (الفردوس ح 1537) عن أبى سعيد الخدري. قال العجلونى ، فى كشف الخفاء (1/ 272) : قال ابن عدى : تفرد به الواقدي ، وذكره أبو عبيد فى الغريب. ورواه الدار قطنى فى الأفراد ، وقال : لا يصح من وجه.
(3) أخرجه بلفظ : «تخيروا لنطفكم وانكحوا الأكفاء» : ابن ماجة فى (النكاح ، باب الأكفاء ، 1/ 633 ، ح 1968) ، والبيهقي فى السنن (7/ 133) ، والدارقطني فى السنن (2/ 298) ، من حديث السيدة عائشة رضى اللّه عنها. وأخرجه بلفظ المفسر : ابن عدى فى الكامل (2/ 614) ، والبغدادي فى تاريخ بغداد (1/ 264) ، وانظر كشف الخفا (1/ 302).(4/11)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 12
ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ يشهدون عليهن بما رموهن به ، وفى كلمة «ثم» إشارة إلى جواز تأخير الإتيان بالشهود ، كما أن فى كلمة «لم» : تحقق الإتيان بهم. وشروط إحصان القذف : الحرية ، والعقل ، والبلوغ ، والإسلام ، والعفة عن الزنا ، فإن توفرت الشروط فَاجْلِدُوهُمْ أي : القاذفين ثَمانِينَ جَلْدَةً لظهور كذبهم وافترائهم لقوله تعالى : فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكاذِبُونَ «1» ، وتخصيص رميهن بهذا الحكم ، مع أن رمى المحصنين أيضا كذلك لخصوص الواقعة ، وشيوع الرمي فيهن. والحدود كلها تشطر بالرق ، فعلى العبد فى الزنا خمسون ، وفى القذف أربعون.
وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ بعد ذلك شَهادَةً أَبَداً زجرا لهم لأن رد شهادتهم مؤلم لقلبهم ، كما أن الجلد مؤلم لبدنهم. وقد آذى المقذوف بلسانه ، فعوقب بإهدار شهادته ، جزاء وفاقا. والمعنى : ولا تقبلوا منهم شهادة من الشهادات ، حال كونها حاصلة لهم عند الرمي ، أبدا ، مدة حياتهم ، فالرد من تتمة الحدّ ، كأنه قيل : فاجلدوهم وردوا شهادتهم ، أي : فاجمعوا لهم بين الجلد والرد. وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ ، كلام مستأنف غير داخل فى جزاء الشرط لأنه حكاية حال الرامي عند اللّه تعالى بعد انقضاء الجزاء ، وما فى اسم الإشارة من معنى البعد للإيذان ببعد منزلتهم فى الشر والفساد ، أي : أولئك هم المحكوم عليهم بالفسق ، والخروج عن الطاعة ، والتجاوز عن الحد ، فإنهم المستحقون لإطلاق اسم الفاسق عليهم ، دون غيرهم.
إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ القذف ، وَأَصْلَحُوا أحوالهم ، فهو استثناء من الفاسقين ، بدليل قوله :
فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ أي : يغفر ذنوبهم ويرحمهم ، ولا ينظمهم فى سلك الفاسقين. فعلى هذا لا تقبل شهادته مطلقا فيما حدّ فيه وفى غيره لأن رد شهادته وصلت بالأبد ، وأما توبته فإنما تنفعه فيما بينه وبين اللّه ، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه ، وهو قول ابن عباس وشريح والنخعي. وقيل : الاستثناء راجع لقوله : وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً ، فإذا تاب وأصلح قبلت شهادته مطلقا لأنه زال عنه اسم الفسق ، والأبد عبارة عن مدة كونه فاسقا ، فينتهى بالتوبة ، وبه قال الشافعي وأصحابه ، وهو قول الشعبي ومسروق وابن جبير وعطاء وسليمان بن يسار. وفصّل مالك ، فقال :
لا تجوز فيما حدّ فيه ، ولو تاب ، وتجوز فيما سواه ، وكأنه جمع بين القولين. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : الغض عن مساوئ الناس من أفضل القرب ، وهو من شيم ذوى الألباب ، وبه السلامة من الهلاك والعطب ، والتعرض لمساوئهم من أعظم الذنوب ، وأقبح العيوب ، وللّه در القائل :
___________
(1) من الآية 13 من سورة النور.(4/12)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 13
إذا شئت أن تحيا ودينك سالم وحظك موفور وعرضك صيّن
لسانك ، لا تذكر به عورة امرئ فعندك عورات وللنّاس ألسن
وإن أبصرت عيناك عيبا فقل لها : أيا عين لا تنظرى فللناس أعين
وعاشر بمعروف وجانب من اعتدي وفارق ولكن بالتي هى أحسن «1»
فالمتوجه إلى اللّه لا يشتغل بغير مولاه ، ولا يرى فى المملكة سواه ، يذكر اللّه على الأشياء ، فتنقلب نورا لحسن ظنه باللّه ، ويلتمس المعاذر لعباد اللّه لكمال حسن ظنه بهم. وباللّه التوفيق.
ثم تكلم على من رمى زوجته ، وبه يقع اللعان ، ، فقال :
[سورة النور (24) : الآيات 6 الى 10]
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلاَّ أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6) وَالْخامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ (7) وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (8) وَالْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْها إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (9) وَلَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (10)
قلت : (إلا أنفسهم) : بدل من (شهداء) ، أو صفة له ، على أن (إلا) بمعنى غير. و(فشهادة) : مبتدأ ، والخب محذوف ، أي : واجبة ، أو : تدرأ عنه العذاب ، أو : خبر عن محذوف ، أي : فالواجب شهادة أحدهم ، و(أنّ) ، فى الموضعين : مخففة ، ومن شدّد فعلى الأصل. و(الخامسة) : مبتدأ ، و(أنّ غضب) : خبر ، وقرأ حفص بالنصب ، أي :
ويشهد الشهادة الخامسة.
يقول الحق جل جلاله : وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ أي : يقذفون زوجاتهم بالزنا ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ أي : لم يكن لهم على تصديق قولهم من يشهد لهم به إِلَّا أَنْفُسُهُمْ ، جعلوا من جملة الشهداء إيذانا بعدم قبول قولهم بالمرة ، فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أي : فالواجب شهادة أحدهم أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللَّهِ يقول : أشهد باللّه إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ فيما رماها به من الزنا. وَالْخامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ أي : إنه لعنة اللّه عليه ، أي :
يقول فيها : لعنة اللّه عليه إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ فيما رماها به. فإذا حلف درئ عنه العذاب ، أي : دفع عنه الحد ، وإن نكل : حدّ لقذفها.
___________
(1) الأبيات بنحوها فى ديوان الشافعي ص/ 84 تعليق محمد عفيف الزعبى.(4/13)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 14
وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أي : يدفع عنها الحدّ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ أي : الزوج لَمِنَ الْكاذِبِينَ فيما رماها به من الزنا ، وَالْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْها إِنْ كانَ الزوج مِنَ الصَّادِقِينَ فيما رماها به من الزنا. وذكر الغضب فى حق النساء تغليظا لأن النساء يستعملن اللعن كثيرا ، كما ورد به الحديث :
«يكثرن اللعن» «1» ، فربما يجترئن على الإقدام ، لكثرة جرى اللعن على ألسنتهن ، وسقوط وقعه عن قلوبهن ، فذكر الغضب فى جانبهن ليكون ردعا لهن.
فإذا حلفا معا فرق بينهما بمجرد التلاعن ، عند مالك والشافعي ، على سبيل التأبيد ، وقال أبو حنيفة : حتى يحكم القاضي بطلقة بائنة فتحل له بنكاح جديد إذا أكذب نفسه وتاب.
روى أن آية القذف المتقدمة لمّا نزلت قرأها النبي صلى اللّه عليه وسلم على المنبر ، فقام عاصم بن عدى الأنصاري ، فقال :
جعلنى اللّه فداءك ، إن وجد رجل مع امرأته رجلا ، فأخبر بما رأى ، جلد ثمانين ، وسماه المسلمون فاسقا ، ولا تقبل شهادته أيضا ، فكيف لنا بالشهداء ، ونحن إذا التمسنا الشهداء فرغ الرجل من حاجته ، وإن ضربه بالسيف قتل؟ اللهم افتح ، وخرج فاستقبله هلال بن أمية - وقيل : عويمر «2» - فقال : ما وراءك؟ فقال : الشر ، وجدت على امرأتى خولة - وهى بنت عاصم - شريك بن سحماء - فقال عاصم : واللّه هذا سؤال ما أسرع ما ابتليت به ، فرجعا ، فأخبرا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فكلم خولة : فأنكرت ، فنزلت هذه الآية ، فتلاعنا فى المسجد ، وفرّق بينهما ، فقال صلى اللّه عليه وسلم : «ارقبوا الولد ، إن جاءت به على نعت كذا وكذا ، فما أراه إلا كذب عليها ، وإن جاءت به على نعت كذا ، فما أراه إلا صدق» فجاءت به على النعت المكروه.
قال تعالى : وَلَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ أي : تفضله عليكم وَرَحْمَتُهُ ونعمته وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ ، وجواب «لو لا» : محذوف لتهويله ، والإشعار بضيق العبارة عن حصره ، كأنه قيل : لو لا تفضله تعالى
___________
(1) جزء من حديث أخرجه البخاري فى (الحيض ، باب ترك الحائض الصوم ح 403) ، ومسلم فى (الإيمان ، باب بيان نقص الإيمان ، 1/ 86 - 87 ، ح 79) من حديث ابن عمر ، ولفظه : «يا معشر النساء تصدقن ، فإنى أريتكن أكثر أهل النار. فقلن : وبم يا رسول اللّه؟ قال : تكثرن اللعن وتكفرن العشير ...» الحديث
(2) كلاهما جاءت قصته فى الصحيح ، وأخرج قصة عويمر البخاري ، فى (التفسير ، سورة النور ، وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ .. ح 4745) ومسلم فى (أول كتاب اللعان ، 2/ 1129 ح 1492) من حديث سهل بن سعد الساعدي.
وأخرج قصة هلال بن أمية : البخاري أيضا ، فى : (التفسير - سورة النور ، باب : وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكاذِبِينَ ح 4747). عن ابن عباس. وأخرجها مسلم فى الموضع السابق ذكره (ح 1496) عن أنس بن مالك.
وقد جمع العلماء بين هذه الأحاديث : بأن أول من وقع له ذلك هلال ، وصادف مجىء عويمر أيضا ، فنزلت فى شأنهما معا ، فى وقت واحد. وقد جنح النووي وابن حجر الى هذا. انظر فتح الباري (8/ 304 - 305) وراجع أيضا : تفسير الطبري (18/ 82 - 84) والبغوي (6/ 12 - 15).(4/14)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 15
عليكم ورحمته وأنه تعالى مبالغ فى قبول التوبة ، حكيم فى جميع أفعاله وأحكامه ، التي من جملتها : ما شرع لكم من حكم اللعان ، لكان ما كان ، مما لا يحيط به نطاق العبارة ، من حد الزوج مع الفضيحة ، أو قتل المرأة ، أو غير ذلك من العقوبة. قال القشيري : لبقيتم فى هذه المعضلة ولم تهتدوا إلى الخروج من هذه الحالة المشكلة. ه.
الإشارة : النفس إذا تحقق فناؤها ، وكمل تهذيبها ، رجعت سرا من أسرار اللّه ، فلا يحل رميها بنقص لأن سر اللّه تعالى منزه عن النقائص ، فإن رماها بشىء فليبادر بالرجوع عنه. واللّه تعالى أعلم.
ثم ذكر وبال من رمى أزواج النبي - عليه الصلاة والسلام - فى قضية الإفك ، فقال :
[سورة النور (24) : آية 11]
إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ (11)
قلت : (عصبة) : خبر «إن» ، و(لا تحسبوه) : استئناف.
يقول الحق جل جلاله : إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ وهو أبلغ ما يكون من الكذب والافتراء ، وقيل : هو البهتان لا تشعر به حتى يفاجئك. والمراد : ما أفك على الصديقة عائشة - رضي اللّه عنها - ، وفى لفظ المجيء إشارة إلى أنهم أظهروه من عند أنفسهم من غير أن يكون له أصل.
وذلك أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه ، فأيتهنّ خرجت قرعتها استصحبها ، قالت عائشة - رضى اللّه عنها - : فأقرع بيننا فى غزوة غزاها - قيل : هى غزوة بنى المصطلق ، وتسمى أيضا : غزوة المريسيع ، وفيها أيضا نزل التيم - فخرج سهمى ، فخرجت معه صلى اللّه عليه وسلم بعد نزول آية الحجاب ، فحملت فى هودج ، فسرنا حتى إذا قفلنا ودنونا من المدينة نزلنا منزلا ، ثم نودى بالرحيل ، فقمت ومشيت حتى جاوزت الجيش ، فلما قضيت شأنى أقبلت إلى رحلى ، فلمست صدرى فإذا عقد لى من جزع أظفار «1» قد انقطع ، فرجعت فالتمسته ، فحبسنى التماسه. وأقبل الرّهط الذين كانوا يرحلونى ، فاحتملوا هودجى فرحلوه على بعيري ، وهم يحسبون أنّى فيه لخفتى ، فلم يستنكروا خفة الهودج ، وذهبوا بالبعير ، ووجدت عقدى بعد ما استمر الجيش ، فجئت منازلهم وليس فيه داع ولا مجيب ، فتيممت منزلى ، وظننت أن سيفقدوننى ويعودون فى طلبى ، فبينما أنا جالسة فى منزلى غلبتنى عينى ، فنمت ، وكان صفوان بن المعطّل قد عرّس «2» من وراء الجيش ، فأدلج فأصبح عند منزلى ، فلما رآنى
___________
(1) الجزع - بالفتح - : الخرز اليماني .. انظر النهاية (جزع 1/ 269).
(2) التعريس : نزول المسافر آخر الليل نزلة للنوم والاستراحة .. انظر النهاية (عرس 3/ 206). [.....](4/15)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 16
عرفنى ، وكان يرانى قبل الحجاب ، فاسترجع ، فاستيقظت باسترجاعه ، فخمّرت وجهى بجلبابي ، واللّه ما تكلمنا بكلمة ، ولا سمعت منه كلمة ، غير استرجاعه ، فأناخ راحلته ، فوطئ على يدها ، فقمت إليها فركبتها ، وانطلق يقود بي الراحلة ، حتى أتينا الجيش موغرين فى نحر الظهيرة ، وهم نزول ، وافتقدنى الناس حين نزلوا ، وماج الناس فى ذكرى ، فبينما الناس كذلك إذ هجمت عليهم ، فخاض الناس فى حديثى ، فهلك من هلك. والحديث بطوله مذكور فى الصحيحين «1» والسّير.
وقوله تعالى : عُصْبَةٌ مِنْكُمْ أي : جماعة من جلدتكم ، والعصبة : من العشرة إلى الأربعين ، وكذا العصابة ، يقال : اعصوصبوا : اجتمعوا. وهم عبد اللّه بن أبيّ رأس المنافقين ، وزيد بن رفاعة ، ومسطح بن أثاثة ، وحمنة بنت جحش ، ومن ساعدهم. واختلف فى حسان بن ثابت ، فمن قال : كان منهم ، أنشد البيت المروي فى شأنهم ممن جلدوا الحد :
لقد ذاق حسّان الذي هو أهله وحمنة إذا قالا هجيرا ، ومسطح
ومن برّأ حسان من الإفك قال : إنما الرواية فى البيت : (لقد ذاق عبد اللّه ما كان أهله) ، والمشهور أن النبي صلى اللّه عليه وسلم لم يحد عبد اللّه بن أبيّ ، حين حدّ الرامين لعائشة ، تأليفا له قال البرماوى فى حاشيته على البخاري فى فوائد حديث الإفك : وفيه ترك الحد لما يخشى من تفريق الكلمة ، كما ترك عليه الصلاة والسلام حدّ ابن سلول. ه. وقد روى ابن عبد البر أن عائشة برأت حسان من الفرية ، وقد أنكر حسان أن يكون قال فيها شيئا فى أبياته ، التي من جملتها :
حصان رزان ماتزن بريبة وتصبح غرثي من لحوم الغوافل «2»
إلى أن قال :
فإن كان ما بلّغت عنّى قلته فلا رفعت سوطي إلىّ أناملي
___________
(1) أخرجه البخاري فى مواضع كثيرة ، منها (المغازي ، باب حديث الإفك ح 4141) ، و(التفسير - سورة النور ، باب لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً ح 4750) ، وأخرجه مسلم فى (التوبة ، باب فى حديث الإفك ، 4/ 2129 - 2136 ، ح 770).
(2) الحصان : العفيفة ، والرزان : الرزينة الثابتة التي لا يستخفها الطيش. وتزن : ترمى وتتهم. وغرثى : جائعة ، والمعنى : لا تغتاب النساء. والغوافل : جمع غافلة ، وهى التي غفلت عن الشر. وانظر : ديوان حسان (190 - 191) والبحر المحيط (6/ 401).(4/16)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 17
ويجمع بين قوله هنا ذلك ، وبين قولها له عند قوله : وتصبح غرثى من لحوم الغوافل : «لكنك لست كذلك» بأنه لم يقل نصا وتصريحا ، ولكن عرّض وأومأ ، فنسب ذلك إليه. واللّه أعلم أىّ ذلك كان.
ثم قال تعالى : لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ ، والخطاب للرسول - عليه الصلاة والسلام - ، وأبى بكر ، وعائشة ، وصفوان تسلية لهم من أول الأمر ، بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لاكتسابكم به الثواب العظيم ، وظهور كرامتكم على اللّه عز وجل بإنزال القرآن الذي يتلى إلى يوم الدين فى نزاهة ساحتكم وتعظيم شأنكم ، وتشديد الوعيد فيمن تكلم فيكم ، والثناء على من ظن خيرا بكم ، مع ما فيه من صدق الرّجعى إلى اللّه ، والافتقار إليه ، والإياس مما سواه.
ثم ذكر وبال من وقع فيها بقوله : لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أي : من أولئك العصبة مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ أي : له من الجزاء بقدر ما خاض فيه ، وكان بعضهم ضحك ، وبعضهم تكلم ، وبعضهم سكت. وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ أي : معظمه وجله مِنْهُمْ أي : من العصبة ، وهو عبد اللّه بن أبيّ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ فى الآخرة ، إن كان كافرا ، كابن أبيّ ، وفى الدنيا إن كان مؤمنا ، وهو الحد وإبطال شهادتهم وتكذيبهم. وقد روى أن مسطح كف بصره ، وكذلك حسان ، إن ثبت عنه الخوض فيه ، واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : كلام الناس فى أهل الخصوصية مقاذف لسير سفينتهم ، ورياح لها ، فكلما قوى كلام الناس فى الولي قوى سيره إلى حضرة ربه ، حتى تمنى بعضهم أن يكون غابة والناس فيه حطّابة. وفى الحكم : «إنما أجرى الأذى عليكم كى لا تكون ساكنا إليهم ، أراد أن يزعجك عن كل شىء حتى لا يشغلك عنه شى ء».
والحق تعالى غيور على قلوب أصفيائه ، لا يحب أن تركن إلى غيره ، فمهما ركنت إلى شىء شوش ذلك عليه ، كقضية سيدنا إبراهيم الخليل عليه السّلام مع ابنه حين أمر بذبحه ، وكقضية سيدنا يعقوب عليه السّلام مع ابنه حين غيّبه عنه. وكانت عائشة - رضى اللّه عنها - قد استولى عليها حبه - عليه الصلاة والسلام - ، فكادت أن تحجب بالواسطة عن الموسوط ، فردها إليه تعالى بما أنزل بها ، تمحيصا وتخليصا وتخصيصا ، حتى أفردت الحق تعالى بالشهود ، فقالت : بحمد اللّه ، لا بحمد أحد. وكذا شأنه تعالى مع أحبائه يردهم إليه بما يوقع بهم من المحن والبلايا ، حتى لا يكونوا لغيره. وباللّه التوفيق «1».
___________
(1) هذه إشارة ممتازه تكتب بماء الرياحين على صفات القلوب.(4/17)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 18
ثم وبّخ الخائضين فى حديث الإفك ، فقال :
[سورة النور (24) : الآيات 12 الى 13]
لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ (12) لَوْ لا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكاذِبُونَ (13)
قلت : قال ابن هشام : وقد يلى حرف التخصيص اسم معلق بفعل ، إما بمضمر ، نحو : «فهلّا بكرا تلاعبها وتلاعبك» «1» أي : فهلا تزوجت ، أو مؤخرا نحو : (لو لا إذ سمعتموه قلتم ..) أي : فهلا قلتم إذ سمعتموه. ه. وإليه أشار فى الخلاصة بقوله :
وقد يليها اسم بفعل مضمر علّق أو بظاهر مؤخّر
يقول الحق جل جلاله : لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ أي : الإفك ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً بالذين هم منهم لأن المؤمنين كنفس واحدة ، كقوله : وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ «2» أي : هلا ظنوا بإخوانهم خيرا :
عفافا وصلاحا ، وذلك نحو ما يروى عن عمر رضي اللّه عنه قال لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : (أنا قاطع بكذب المنافقين لأن اللّه تعالى عصمك عن وقوع الذباب على جلدك ، لئلا يقع على النجاسات فتلطّخ بها ، فإذا عصمك من ذلك فكيف لا يعصمك من صحبة من تكون ملطخة بهذه الفاحشة)!. وقال عثمان رضي اللّه عنه : (ما أوقع ظلك على الأرض لئلا يضع إنسان قدمه عليه فلمّا لم يمكّن أحدا من وضع القدم على ظلك ، فكيف يمكّن أحدا من تلويث عرض زوجتك!). وكذا قال علىّ رضي اللّه عنه : إن جبريل أخبرك أنّ على نعلك قذرا ، وأمرك بإخراج النعل عن رجلك ، بسبب ما التصق به من القذر ، فكيف لا يأمرك بإخراجها ، على تقدير أن تكون متلطخة بشىء من الفواحش)؟ قاله النسفي.
وروى أن أبا أيوب الأنصاري قال لامرأته : ألا ترين ما يقال فى عائشة؟ فقالت : لو كنت بدل صفوان أكنت تخون رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم؟ فقال : لا ، قالت : ولو كنت أنا بدل عائشة ما خنت رسول اللّه ، فعائشة خير منى ، وصفوان خير منك. وفى رواية ابن إسحاق : قالت زوجة أبى يوب لأبى أيوب : ألا تسمع ما يقول الناس فى عائشة؟ قال :
بلى ، وذلك الكذب ، أكنت فاعلة ذلك يا أم أيوب؟ قالت : لا واللّه ، فقال : عائشة خير منك ، سبحان اللّه ، هذا بهتان عظيم ، فنزل : لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ .. الآية «3».
___________
(1) جاء ذلك فى حديث سيدنا جابر ، وأخرجه البخاري فى (النكاح ، باب تزويج الثيبات ح 5079) ، ومسلم فى (الرضاع ، باب استحباب نكاح البكر ، 2/ 1087 ، ح 56 فى الباب) ولفظ البخاري : (هلّا جارية ..).
(2) من الآية 11 من سورة الحجرات.
(3) انظر تفسير ابن جرير (18/ 96) ، والبغوي (6/ 25) ، وأسباب النزول للواحدى ، ص (333).(4/18)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 19
وإنما عدل عن الخطاب إلى الغيبة ، وعن الضمير إلى الظاهر ، ولم يقل : ظننتم بأنفسكم خيرا ، وقلتم ليبالغ فى التوبيخ بطريق الالتفات ، وليدل التصريح بلفظ الإيمان على أن المؤمن لا يسىء الظن بأحد من المؤمنين.
وَقالُوا عند سماع هذه الفرية : هذا إِفْكٌ مُبِينٌ كذب ظاهر لا يليق بمنصب الصدّيقة بنت الصدّيق. لَوْ لا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ هلّا جاء الخائضون بأربعة شهداء على ما قالوا فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ ، ولم يقل : «بهم» لزيادة التقرير ، فَأُولئِكَ الخائضون عِنْدَ اللَّهِ أي : فى حكمه وشرعه هُمُ الْكاذِبُونَ الكاملون فى الكذب ، المستحقون لإطلاق هذا الاسم عليهم دون غيرهم. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : حسن الظن بعباد اللّه من أفضل الخصال عند اللّه ، ولا سيما ما فيه حرمة من حرم اللّه. قال القشيري على الآية : عاتبهم على المبادرة إلى الاعتراض وترك الإعراض عن حرمة بيت نبيهم. ثم قال : وسبيل المؤمن ألا يستصغر فى الوفاق طاعة ، ولا فى الخلاف زلّة ، فإنّ تعظيم الأمر بتعظيم الآمر ، وإن اللّه لينتقم لأوليائه ما لا ينتقم لنفسه ، ولا سيما ما تعلق به حق الرسول - عليه الصلاة والسلام - فذلك أعظم عند اللّه ، ولذلك بالغ فى التوبيخ على ما أقدموا عليه ، مما تأذى به الرسول ، وقلوب آل الصدّيق ، وقلوب المخلصين من المؤمنين. ه ثم قال تعالى :
[سورة النور (24) : الآيات 14 الى 18]
وَلَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ (14) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15) وَلَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ (16) يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (17) وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (18)
قلت : (لو لا) هنا : امتناعية بخلاف المتقدمة فإنها تحضيضية ، و(إذ سمعتموه) : معمول لقلتم ، و(إذ تلقونه) :
ظرف لمسّكم.
يقول الحق جل جلاله : وَلَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ أيها السامعون وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا من فنون النعم ، التي من جملتها : الإمهال والتوبة ، وَفى الْآخِرَةِ من ضروب الآلاء ، التي من جملتها : العفو(4/19)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 20
والمغفرة ، لَمَسَّكُمْ عاجلا فِيما أَفَضْتُمْ أي : بسبب ما خضتم فِيهِ من حديث الإفك عَذابٌ عَظِيمٌ يستحقر دونه التوبيخ والجلد ، يقال أفاض فى الحديث ، وفاض ، واندفع : إذا خاض فيه.
إِذْ تَلَقَّوْنَهُ أي : لمسكم العذاب العظيم وقت تلقيه إياكم من المخترعين له ، يقال : تلقى القول ، وتلقنه ، وتلقفه ، بمعنى واحد ، غير أن التلقف : فيه معنى الخطف والأخذ بسرعة ، أي : إذ تأخذونه بِأَلْسِنَتِكُمْ بأن يقول بعضكم لبعض : هل بلغك حديث عائشة ، حتى شاع فيما بينكم وانتشر ، فلم يبق بيت ولا ناد إلا طار فيه. وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ أي : قولا لا حقيقة له ، وقيّده بالأفواه ، مع أن الكلام لا يكون إلا بالفم لأن الشيء المعلوم يكون فى القلب ، ثم يترجم عنه اللسان ، وهذا الإفك ليس إلا قولا يدور فى الأفواه ، من غير ترجمة عن علم به فى القلب. وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً أي : وتظنون أن خوضكم فى عائشة سهل لا تبعة فيه ، وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ أي : والحال أنه عند اللّه كبير ، لا يقادر قدره فى استجلاب العذاب. جزع بعض الصالحين عند الموت ، فقيل له فى ذلك ، فقال : أخاف ذنبا لم يكن منى على بال ، وهو عند اللّه عظيم.
وَلَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ من المخترعين والشائعين له قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا ما يمكننا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا ، وما ينبغى أن يصدر عنا ، وتوسيط الظروف بين «لو لا» و«قلتم» إشارة إلى أنه كان الواجب أن يبادروا بإنكار هذا الكلام فى أول وقت سمعوه ، فلما تأخر الإنكار وبّخهم عليه ، فكان ذكر الوقت أهمّ ، فقدّم ، والمعنى : هلّا قلتم إذ سمعتم الإفك : ما يصح لنا أن نتكلم بهذا ، سُبْحانَكَ تنزيها لك ، وهو تعجب من عظم ما فاهوا به.
ومعنى التعجب فى كلمة التسبيح : أن الأصل أن يسبح اللّه عند رؤية العجيب من صنائعه تعالى ، ثم كثر حتى استعمل فى كل متعجب منه. أو : تنزيها لك أن يكون فى حرم نبيك فاجرة ، هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ لعظمة المبهوت عليه ، واستحالة صدقه ، فإنّ حقارة الذنوب وعظمتها باعتبار متعلقاتها. وقال فيما تقدم : هذا إِفْكٌ مُبِينٌ «1». ويجوز أن يكونوا أمروا بهما معا ، مبالغة فى التبري.
يَعِظُكُمُ اللَّهُ أي : ينصحكم أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أي : كراهة أن تعودوا ، أو يزجركم أن تعودوا لمثل هذا الحديث أو القذف أو الاستماع ، أَبَداً مدة حياتكم ، إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فإن الإيمان وازع عنه لا محالة.
وفيه تهييج وتقريع وتذكير بما يوجب ترك العود ، وهو الإيمان الصادّ عن كل قبيح.
___________
(1) الآية 12 من سورة النور.(4/20)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 21
وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ الدالة على الشرائع ومحاسن الأدب ، دلالة واضحة لتتعظوا وتتأدبوا ، أي : ينزلها كذلك ظاهرة مبينة ، وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ عليم بأحوال مخلوقاته ، حكيم فى جميع تدابيره وأفعاله ، فأنّى يصحّ ما قيل فى حرمة من اصطفاه لرسالته ، وبعثه إلى كافة الخلق ، ليرشدهم إلى الحق ، ويزكيهم ويطهرهم تطهيرا؟
واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : الكلام فى الأولياء سم قاتل لأن اللّه ينتصر لأوليائه لا محالة ، فمنهم من ينتصر لهم فى الدنيا بإنزال البلايا والمحن فى بدنه أو ولده أو ماله ، ومنهم من يؤخر عقوبته إلى الآخرة ، وهو أقبح. ومنهم من تكون عقوبته دينية قلبية كقساوة القلب وجمود العين ، وتعويق عن الطاعة ، ووقوع فى ذنب ، أو فترة فى همة ، أو سلب لذاذة خدمة أو معرفة ، وهذه أقبح العقوبة ، والعياذ باللّه.
ثم أوعد من كان يشيع حديث الإفك ، فقال :
[سورة النور (24) : الآيات 19 الى 20]
إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (19) وَلَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (20)
يقول الحق جل جلاله : إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ يريدون أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ أي : تنتشر الخصلة المفرطة فى القبح ، وهو الرمي بالزنا ، أو نفس الزنا ، والمراد بشيوعها : شيوع خبرها ، أي : يحبون شيوعها ويتصدون مع ذلك لإشاعتها. وإنما لم يصرح به اكتفاء بذكر المحبة فإنها مستلزمة له لا محالة ، وهم : عبد اللّه بن أبىّ وأصحابه ومن تبعهم. لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا بالحدّ والفضيحة والتكذيب. ولقد ضرب صلى اللّه عليه وسلم الحدّ كل من رمى عائشة. وتقدم الخلاف فى ابن أبى ، فقيل : حدّه ، وقيل : تركه استئلافا له. وَلهم العذاب فى الْآخِرَةِ بالنار وغيرها ، إن لم يتوبوا. وَاللَّهُ يَعْلَمُ جميع الأمور ، التي من جملتها : المحبة المذكورة ، وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ما يعلمه تعالى ، بل إنما يعلمون ما ظهر من الأقوال والأفعال المحسوسة ، فابنوا أمركم على ما تعلمونه ، وعاقبوا فى الدنيا على ما تشاهدونه من الأحوال الظاهرة ، واللّه يتولى السرائر ، فيعاقب فى الآخرة على ما تكنه الصدور.(4/21)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 22
وَلَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ، التكرير لتعظيم المنّة بترك المعاجلة للتنبيه على كمال عظم الجريمة ، وَأَنَّ اللَّهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ عطف على (فضل اللّه) ، أي : لو لا فضله ورأفته لعاجلكم بالعقوبة ، وإظهار اسم الجليل لتربية المهابة ، والإشعار باستتباع صفة الألوهية للرأفة والرحمة ، وتصديره بحرف التأكيد لأن المراد بيان اتصافه تعالى فى ذاته بالرأفة ، التي هى كمال الرحمة ، وبالرحيمية التي هى المبالغة فيها على الدوام والاستمرار. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : من شأن أهل البعد والإنكار : أنهم إذا سمعوا بحدوث نقص أو عيب فى أهل النّسبة وأهل الخصوصية فرحوا ، وأحبوا أن تشيع الفاحشة فيهم قصدا لغض مرتبتهم حسدا وعنادا ، لهم عذاب أليم فى الدنيا والآخرة ، ولو لا فضل اللّه ورحمته لعاجلهم بالعقوبة. واللّه تعالى أعلم وأحلم.
ولما نزلت براءة عائشة - رضى اللّه عنها - حلف أبوها لا ينفق على مسطح شيئا غضبا لعائشة ، وكان ينفق عليه لقرابته ، فأنزل اللّه تعالى :
[سورة النور (24) : الآيات 21 الى 22]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (21) وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22)
يقول الحق جل جلاله : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ أي : لا تسلكوا مسالكه فى كل ما تأتون وتذرون من الأفاعيل ، والتي من جملتها : منع الإحسان إلى من أساء إليكم غضبا وحميّة ، وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ ، وضع الظاهر موضع المضمر ، حيث لم يقل : ومن يتبعها ، أو : ومن يتبع خطواته لزيادة التقرير والمبالغة فى التنفير ، فَإِنَّهُ أي : الشيطان يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ كالبخل والشح ، وكل ما عظم قبحه ، وَالْمُنْكَرِ كالغضب ، والحمية ، وكل ما ينكره الشرع لأن شأن الشيطان أن يأمر بهما. فمن اتبع خطواته فقد امتثل أمره.(4/22)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 23
وَلَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ بالهداية والتوفيق لأسباب التطهير والعصمة والحفظ ، ما زَكى مِنْكُمْ أي : ما طهر من أدناس العيوب ولوث الفواحش مِنْ أَحَدٍ أَبَداً إلى ما لا نهاية له ، وإذا كان التطهير والعصمة بيد اللّه فلا تروا لأنفسكم فضلا عمن لم يعصمه اللّه فإنه مقهور تحت مجارى الأقدار ، وَلكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ يطهر من يشاء من عباده بإفاضة آثار فضله ورحمته عليه بالحفظ والرعاية ، أو بالتوبة بعد الجناية ، وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ سميع لأقوالكم وإن خفيت ، ومن جملتها : الحلف على ترك فعل الخير ، عليم بنياتكم وإخلاصكم.
وهذا الكلام مقدمة لقوله : وَلا يَأْتَلِ ، من قولك : أليت : إذا حلفت ، أي : لا يحلف أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ أي : فى الدين ، وكفى به دليلا على فضل الصّديق رضي اللّه عنه ، وَالسَّعَةِ. أي : والسعة فى المال أَنْ يُؤْتُوا أي :
لا يحلف على ألا يعطوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كمسطح ، فإنه كان ابن خالته ، وكان من فقراء المهاجرين. وهذه الأوصاف هى لموصوف واحد ، جىء بها ، بطريق العطف تنبيها على أن كلّا منها علة مستقلة لاستحقاقه الإيتاء. وحذف المفعول الثاني لظهوره ، أي : على ألّا يؤتوهم شيئا ، وَلْيَعْفُوا عما فرط منهم وَلْيَصْفَحُوا بالإغضاء عنه ، فالعفو : التستر ، والصفح : الإعراض ، أي : وليتجاوزوا عن الجفاء ، وليعرضوا عن العقوبة.
أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ؟ فلتفعلوا ما تحبون أن يفعل بكم وبهم ، مع كثرة خطاياهم ، وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ مبالغ فى المغفرة والرحمة ، مع كثرة ذنوب العباد ، فتأدبوا بآداب اللّه ، واعفوا ، وارحموا. ولما قرأها النبي صلى اللّه عليه وسلم على أبى بكر رضي اللّه عنه قال : بل أحب أن يغفر اللّه لى. ورد إلى مسطح نفقته ، وقال : واللّه لا أنزعها منه أبدا «1».
وباللّه التوفيق.
الإشارة : كل ما يصد عن مكارم الأخلاق كالحلم ، والصبر ، والعفو ، والكرم ، والإغضاء ، وغير ذلك من الكمالات ، فهو من خطوات الشيطان ، تجب مجانبته ، فإن الشيطان لا يأمر إلا بالفحشاء والمنكر كالغضب ، والانتصار ، والحمية ، والحقد ، والشح ، والبخل ، وغير ذلك من المساوئ ، ولا طريق إلى الدواء من تلك المساوئ إلا بالرجوع إلى اللّه والاضطرار له ، والتعلق بأذيال فضله وكرمه.
___________
(1) أخرجه البخاري فى (تفسير سورة النور ، باب لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً ح 4750) وفى مواضع أخرى. وأخرجه مسلم فى (التوبة ، باب فى حديث الإفك 4/ 929 - 2136 ، ح 2770) ، كلاهما فى سياق حديث الإفك الطويل.(4/23)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 24
ولو لا فضل اللّه عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبدا ، فإذا تعلق باللّه ، واضطر إليه اضطرار الظمآن إلى الماء طهّره اللّه وزكاه ، إما بلا سبب ، أو بأن يلقيه إلى شيخ كامل ، يربيه ويهذبه بإذن اللّه ، وهذا هو الكثير ، والكل منه وإليه.
قال الورتجبي قوله تعالى : وَلَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ .. إلخ : بيّن أن تطهير العباد من الذنوب لا يكون إلا بفضله السابق وعنايته الأزلية ، كيف يزكى العلل ما يكون عللا ، فالمعلول لا يطهّر ، والمعلول أفعال الحدثان على كل صنف ، ولطف القديم له استحقاق ذهاب العلل بوصوله. قال السياري : قال اللّه : وَلَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ ، ولم يقل : لو لا عبادتكم وصلاتكم وجهادكم وحسن قيامكم بأمر اللّه ما نجا منكم أحد ليعلم أن العبادات ، وإن كثرت ، فإنها من نتائج الفضل. ه.
قال فى الحاشية : وظهر لى أن الآية مقدمة لما ندب إليه الصدّيق بقوله : وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ ، ففيه إشارة إلى أن فضله وزكاته فضل من اللّه عليه ، وعناية سابقة ، وهى سبب حفظه وتحليه بخلع كوامل الأوصاف ، فليشهد ذلك ، ولا يأتل على من لم يجد ذلك ، حتى وقع فيما وقع من القذف ، بل يعذره ، ويرى منّة اللّه عليه فى كونه نزّهه بعنايته من الوقوع فى مثل ذلك ، مع كون المحل قابلا ، ولكن اللّه خصّصه. ه.
قال الورتجبي على قوله : وَلا يَأْتَلِ .. إلخ : فى الآية بيان وتأديب اللّه للشيوخ والأكابر ألّا يهجروا صاحب العثرات والزلات ، من المريدين ، ويتخلقوا بخلق اللّه ، حيث يغفر الذنوب العظام ولا يبالى ، وأعلمهم ألّا يكفّوا أعطافهم عنهم. ثم قال : فإنّ من له استعداد لا يحتجب بعوارض البشريّة عن أحكام الطّريقة أبدا. ه.
ثم ذكر وبال القاذفين لعائشة - رضى اللّه عنها - أو لغيرها ، فقال :
[سورة النور (24) : الآيات 23 الى 25]
إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (23) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (24) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (25)
قلت : «يوم تشهد» : ظرف للاستقرار ، فى «لهم» ، أو : معمول لا ذكر.
يقول الحق جل جلاله : إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ يقذفون الْمُحْصَناتِ العفائف مما رمين به من الفاحشة ، الْغافِلاتِ عنها على الإطلاق ، بحيث لم يخطر ببالهن شىء منها ولا من مقدماتها ، أو السليمات(4/24)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 25
الصدور ، النقيات القلوب ، اللاتي ليس فيهن دهاء ولا مكر لأنهن لم يجربن الأمور ، الْمُؤْمِناتِ المتصفات بالإيمان بكل ما يجب الإيمان به ، إيمانا حقيقيا لا يخالجه شىء مما يكدره. عن ابن عباس : هنّ أزواج النبي صلى اللّه عليه وسلم ، وقيل : جميع المؤمنات إذ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. وقيل : أريدت عائشة وحدها ، وإنما جمع لأن من قذف واحدة من أزواج النبي صلى اللّه عليه وسلم فكأنه قذفهنّ.
ثم ذكر الوعيد ، فقال : لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ ، حيث يلعنهم اللاعنون من المؤمنين والملائكة أبدا ، وَلَهُمْ مع ذلك عَذابٌ عَظِيمٌ ، هائل لا يقادر قدره لعظم ما اقترفوه من الجناية ، إن لم يتوبوا ، فيعذبون.
يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ أي : بما أفكوا وبهتوا يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ أي : يوم تشهد جوارحهم بأعمالهم القبيحة يوفيهم اللّه جزاءهم الْحَقَّ أي : الثابت الذي يحق أن يثبت لهم لا محالة ، أو الذي هم أهله ، والحق : صفة لدينهم ، أو للّه ، ونصب على المدح. وَيَعْلَمُونَ عند ذلك أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الثابت الواجب الوجود الْمُبِينُ الظاهر البين لارتفاع الشكوك ، وحصول العلم الضروري لارتفاع الغطاء بظهور ما كان وعدا غيبا.
ولم يغلظ اللّه تعالى فى القرآن فى شىء من المعاصي تغليظه فى إفك عائشة - رضى اللّه عنها - فأوجز فى ذلك وأشبع ، وفصّل ، وأجمل ، وأكّد ، وكرّر ، وما ذلك إلا لأمر عظيم.
وعن ابن عباس رضي اللّه عنه : (من أذنب ذنبا وتاب قبلت توبته ، إلا من خاض فى أمر عائشة - رضى اللّه عنها) «1» ، وهذا منه مبالغةّ وتعظيم لأمر الإفك ، وقد برّأ اللّه تعالى أربعة برّأ يوسف بشاهد من أهلها ، وموسى عليه السّلام من قول اليهود فيه : أنه آدر ، بالحجر الذي ذهب بثوبه ، ومريم بنطق ولدها ، وعائشة بهذه الآي العظام فى كتابه المعجز ، المتلوّ على وجود الدهر ، بهذه المبالغات. فانظر : كم بينها وبين تبرئة أولئك؟! وما ذلك إلا لإظهار علوّ منزلة رسوله ، والتنبيه على إنافة محله «2» صلى اللّه عليه وسلم.
وقد رام بعض النصارى الطّعن على المسلمين بقضية الإفك ، فقال : كيف تبقى زوجة نبيكم مع رجل أجنبى؟
فقال له ، من كان يناظره من العلماء : قد برأها من برأ أمّ نبيكم ، فبهت الذي كفر. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : قد مدح اللّه تعالى أزواج النبي صلى اللّه عليه وسلم بثلاثة أوصاف ، هى من أكمل الأوصاف : العفة ، والتغافل ، وتحقيق الإيمان أما العفة : فهى حفظ القلب من دخول الهوى ، والجوارح من معاصى المولى ، وأما التغافل : فهو
___________
(1) عزاه الهيثمي فى المجمع (6/ 80) للطرانى بأسانيد.
(2) أي : علو مقامه وارتفاعه.(4/25)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 26
الغيبة عما سوى اللّه ، والتغافل عن مساوئ الناس. وفى الحديث : «المؤمن ثلثاه تغافل» ، وقال أيضا صلى اللّه عليه وسلم : «المؤمن غرّ كريم ، والمنافق خبّ لئيم» «1» وأما تحقيق الإيمان فيكون بالتفكر والاعتبار ، وبصحبة الصالحين الأبرار ، ثم يصير الإيمان ضروريا بصحبة العارفين الكبار.
قال القشيري : قوله تعالى : وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ : تصير المعارف ضرورية ، فيجدون المعافاة فى النظر والتذكر ، ويستريح القلب من وصفي تردّده وتغيّره ، باستغنائه ببصره عن تبصره. ويقال : لا يشهدون هذا إلا بالحق ، فهم قائمون بالحق للحق مع الحق ، يبدى لهم أسرار التوحيد وحقائقه ، فيكون القائم فيهم والآخذ لهم عنهم ، من غير أن يردهم عليهم. ه. وباللّه التوفيق.
ثم برهن على نزاهة أهل البيت النبوي بقوله :
[سورة النور (24) : آية 26]
الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (26)
يقول الحق جل جلاله : الْخَبِيثاتُ من النساء لِلْخَبِيثِينَ من الرجال ، وَالْخَبِيثُونَ من الرجال لِلْخَبِيثاتِ من النساء. وهذه قاعدة السنة الإلهية ، أن اللّه تعالى يسوق الأهل للأهل ، فمن كان خبيثا فاسقا يزوجه اللّه للخبيثة الفاسقة مثله ، ومن كان طيبا عفيفا رزقه اللّه طيبة مثله. وهو معنى قوله تعالى : وَالطَّيِّباتُ من النساء لِلطَّيِّبِينَ من الرجال وَالطَّيِّبُونَ من الرجال ، لِلطَّيِّباتِ من النساء فهذا هو الغالب.
وحيث كان - عليه الصلاة والسلام - أطيب الأطيبين ، وخيرة الأولين والآخرين ، تبين كون الصديقة - رضى اللّه عنها - من أطيب الطيبات ، واتضح بطلان ما قيل فيها من الخرافات ، حسبما نطق به قوله تعالى : أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ ، على أن الإشارة إلى أهل البيت ، المنتظمين فى سلك الصّدّيقيّة انتظاما أوليا ، وقيل : إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم والصدّيقة وصفوان ، وما فى اسم الإشارة من معنى البعد ، للإيذان بعلو رتبة المشار إليهم ، وبعد منزلتهم فى الفضل ، أي : أولئك الموصوفون بعلو الشأن : مبرؤون مما يقوله أهله الإفك فى حقهم من الأكاذيب الباطلة.
وقيل : (الخبيثات) من القول تقال (للخبيثين) من الرجال والنساء ، أي : لائقة بهم ، لا ينبغى أن تقال إلا لهم.
(و الخبيثون) من الفريقين أحقّاء بأن يقال فى حقهم خبائث القول. (و الطيبات) من الكلم (للطيبين) من الفريقين ،
___________
(1) أخرجه الترمذي فى (البر ، باب ما جاء فى البخيل ، ح 1965) ، وأبو داود فى (الأدب ، باب فى حسن العشرة ح 4790) ، والبيهقي فى السنن (10/ 95) من حديث أبى هريرة رضي اللّه عنه ، بلفظ : «الفاجر» ، بدل «المنافق».(4/26)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 27
مختصة بهم ، وهم أحقاء بأن يقال فى شأنهم طيبات الكلم. أُولئِكَ الطيبون مُبَرَّؤُنَ مما يقول الخبيثون فى حقهم. فمآله تنزيه الصديقة أيضا. وقيل : الخبيثات من القول لا تصدر إلا من الخبيثين ، والطيبات من الكلمات لا تصدر إلا من الطيبين ، وهم مبرؤون مما يقوله أهل الخبث ، لا يقع ذلك منهم البتّة ، لَهُمْ مَغْفِرَةٌ لما لا يخلو عنه البشر من الذنب ، وَرِزْقٌ كَرِيمٌ هو نعيم الجنان.
دخل ابن عباس رضي اللّه عنه على عائشة - رضى اللّه عنها - فى مرضها ، وهى خائفة من القدوم على اللّه عز وجل ، فقال : لا تخافي ، فإنك لا تقدمين إلا على مغفرة ورزق كريم ، وتلى الآية ، فغشى عليها : فرحا بما تلا.
وقالت رضى اللّه عنها - : (قد أعطيت تسعا ما أعطيتهنّ امرأة : نزل جبريل بصورتى فى راحته ، حين أمر - عليه الصلاة والسلام - أن يتزوجنى ، وتزوجنى بكرا ، وما تزوج بكرا غيرى ، وتوفى - عليه الصلاة والسلام - ورأسه فى حجرى ، وقبره فى بيتي ، وينزل عليه الوحى وأنا فى لحافه ، وأنا ابنة خليفته وصديقه ، ونزل عذرى من السماء ، وخلقت طيبة عند طيب ، ووعدت مغفرة ورزقا كريما) «1».
الإشارة : الأخلاق الخبيثة مثل الكبر ، والعجب ، والرياء ، والسمعة ، والحقد ، والحسد ، وحب الجاه والمال ، للخبيثين ، والخبيثون للخبيثات ، فهم متصفون بها ، وهى لازمة لهم ، إلا أن يصحبوا أهل الصفاء والتطهير ، فيتطهرون بإذن اللّه ، والأخلاق الطيبات كالتواضع ، والإخلاص ، وسلامة الصدور ، والزهد ، والورع ، والسخاء ، والكرم ، وغير ذلك من الأخلاق الطيبة ، للطيبين ، والرجال الطيبون للأخلاق الطيبات. أولئك مبرءون مما يقول أهل الإنكار فيهم ، لهم مغفرة ستر لعيوبهم ، ورزق كريم لأرواحهم من قوت اليقين ، وشهود رب العالمين. وباللّه التوفيق.
ولمّا كان سبب الإفك هو تهمة الخلوة ، أمر بالاستئذان ، فقال :
[سورة النور (24) : الآيات 27 الى 29]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27) فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكى لَكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (28) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيها مَتاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ (29)
___________
(1) هذه المناقب ثابتة بأحاديث صحيحة. انظرها فى جامع الأصول لابن الأثير (9/ 132 - 143) والدر المنثور للسيوطى (5/ 58).(4/27)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 28
يقول الحق جل جلاله : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ أي : بيوتا لستم تملكونها ولا تسكنونها ، حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا تستأذنوا ، وقرئ به ، والاستئناس : الاستعلام والاستكشاف ، استفعال ، من أنس الشيء : أبصره ، فإن المستأذن مستعلم للحال ، مستكشف له ، هل يؤذن له أم لا ، ويحصل بذكر اللّه جهرا ، كتسبيحة أو تكبيرة. أو تنحنح ، وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها ، بأن يقول : السلام عليكم ، أأدخل؟ ثلاث مرات ، فإذا أذن له ، وإلا رجع ، فإن تلاقيا ، قدّم التسليم ، وإلا ، فالاستئذان. ذلِكُمْ أي : التسليم خَيْرٌ لَكُمْ من أن تدخلوا بغتة ، أو من تحية الجاهلية.
كان الرجل منهم إذا أراد أن يدخل بيتا غير بيته يقول : حييتم صباحا ، حييتم مساء ، فربما أصاب الرجل مع امرأته فى لحاف. روى أن رجلا قال للنبى صلى اللّه عليه وسلّم : أأستأذن على أمي؟ قال : نعم ، قال : ليس لها خادم غيرى ، أأستاذن عليها كلما دخلت؟ قال صلى اللّه عليه وسلّم : «أتحبّ أن تراها عريانة ..؟» «1». لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ أي : أمرتكم به ، أو :
قيل لكم هذا لكى تتعظوا وتعملوا بموجبه.
فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها فى البيوت أَحَداً ممن يستحق الإذن ، من الرجال البالغين ، وأما النساء والولدان فوجودهم وعدمهم سواء «2» ، فَلا تَدْخُلُوها ، على أن مدلول الآية هو النهى عن دخول البيوت الخالية لما فيه من الاطلاع على ما يعتاد الناس إخفاءه ، وأما حرمة دخول ما فيه النساء والولدان فمن باب الأولى لما فيه من الاطلاع على الحريم وعورات النساء. فإن لم يؤذن لكم فلا تدخلوا ، واصبروا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ من جهة من يملك الإذن ، أو : فإن لم تجدوا فيها أحدا من أهلها ، ولكم فيها حاجة فلا تدخلوها إلا بإذن أهلها لأن التصرف فى ملك الغير لا بد أن يكون برضاه.
وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا أي : إذا كان فيها قوم ، وقالوا : ارجعوا فَارْجِعُوا ولا تلحّوا فى طلب الإذن ، ولا تقفوا بالأبواب ، ولا تخرقوا الحجاب لأن هذا مما يوجب الكراهية والعداوة ، وإذا نهى عن ذلك لأدائه إلى
___________
(1) الحديث أخرجه مالك فى الموطأ (الاستئذان ، باب الاستئذان) ، وأبو داود فى مراسيله (باب الاستئذان) وابن جرير فى التفسير (18/ 111) ، عن عطاء بن يسار ، مرسلا وأخرجه ابن أبى شيبة فى المصنف (النكاح 4/ 398) ، عن زيد بن أسلم مرسلا ، أيضا.
(2) هذا الرأى ، غير مسلم به ، فالنساء ، قطعا ، يدخلن تحت مفهوم «أحد» ، وكذلك الولدان المميزون ، فكيف نقول : وجودهم وعدمهم سواء؟ ثم إنه من الثابت فى السنة الصحيحة أنه يجوز الدخول على المغيبة [أي : التي زوجها غائب فى سفر أو غزو ، أو نحو ذلك ، ] فيجوز الدخول عليها بشرط وجود رجلين أو ثلاثة فما أكثر ، والدخول يحتاج إلى استئناس واستئذان .. إلخ. فدّل هذا على أن كلام المفسر ، هو رأى خاص به ، وليس حكما شرعيا. [.....](4/28)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 29
الكراهة وجب الانتهاء عن كل ما أدى إليها من قرع الباب بعنف ، والتصييح بصاحب الدار ، وغير ذلك. وعن أبى عبيد : «ما قرعت بابا على عالم قط». فالرجوع هُوَ أَزْكى لَكُمْ أي : أطيب لكم وأطهر لما فيه من سلامة الصدور والبعد عن الريبة ، والوقوف على الأبواب من دنس الدناءة والرذالة. وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ فيعلم ما تأتون وما تذرون مما كلفتموه ، فيجازيكم عليه. وهو وعيد للمخاطبين.
لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فى أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ أي : غير موضوعة لسكنى طائفة مخصوصة ، بل يتمتع بها من يضطر إليها ، من غير أن يتخذها مسكنا كالرّبط ، والخانات ، والحمامات ، وحوانيت التجار. فِيها مَتاعٌ لَكُمْ أي : منفعة كاستكنان من الحر والبرد ، وإيواء الرجال والسلع ، والشراء والبيع ، والاغتسال ، وغير ذلك ، فلا بأس بدخولها بغير استئذان. روى أن أبا بكر رضي اللّه عنه قال : يا رسول اللّه ، إن اللّه قد أنزل عليك آية فى الاستئذان ، وإنا لنختلف فى تجارتنا إلى هذه الخانات ، فلا ندخلها إلا بإذن؟ فنزلت «1». وقيل : هى الخرابات ، يتبرّز فيها ، ويقضون فيها حاجتهم من البول وغيره ، والظاهر : أنها من جملة ما ينتظم فى البيوت ، لا أنها المرادة فقط. وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ ، وعيد لمن يدخل مدخلا من هذه المداخل لفساد أو اطلاع على عورات. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : التصوف كله آداب ، حتى قال بعضهم : اجعل عملك ملحا وأدبك دقيقا. فيتأدبون بالسنّة فى حركاتهم وسكناتهم ، ودخولهم وخروجهم ، فهم أولى بالأدب ، فيستأذنون كما أمر اللّه عند دخول منزلهم برفع صوتهم بذكر اللّه ، أو بالتسبيح ، أو بالسلام قبل الدخول. وكذا عند دخول منزل غيرهم ، أو منزل بعضهم بعضا. وأما مع الشيخ : فالأدب هو الصبر حتى يخرج ، تأدبا بقوله تعالى : وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ «2» ، فلا يقرعون بابه ، ولا يطلبون خروجه إلا لضرورة فادحة.
ولمّا كان الاستئذان إنما شرع من أجل النظر ، أمر بغض البصر ، فقال :
[سورة النور (24) : آية 30]
قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ (30)
___________
(1) ذكره الواحدي فى أسباب النزول ، (ص 334) ، ونسبه للمفسرين. وعزاه الآلوسى فى تفسيره (9/ 137) لابن أبى حاتم عن مقاتل.
(2) الآية 5 من سورة الحجرات.(4/29)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 30
يقول الحق جل جلاله : قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ ، ويندرج فيهم المستأذنون بعد دخولهم البيوت اندراجا أوليّا ، أي : قل لهم : يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ ، و«من» : للتبعيض ، والمراد : غض البصر عما يحرم ، والاقتصار على ما يحل. ووجه المرأة وكفاها ليس بعورة ، إلا خوف الفتنة ، فيحل للرجل الصالح أن يرى وجه الأجنبية بغير شهوة. وفى الموطأ : هل تأكل المرأة مع غير ذى محرم ، أو مع غلامها؟ قال مالك : لا بأس بذلك ، على وجه ما يعرف للمرأة أن تأكل معه من الرجال ، وقد تأكل المرأة مع زوجها ومع غيره ممن يؤاكله. ه. وقال ابن القطان : فيه إباحة إبداء المرأة وجهها ويديها للأجنبى ، إذ لا يتصور الأكل إلا هكذا ، وقد أبقاه الباجى على ظاهره ، وقال عياض : ليس بواجب أن تستر المرأة وجهها ، وإنما ذلك استحباب أو سنّة لها ، وعلى الرجل غض بصره. ثم قال فى الإكمال : ولا خلاف أن فرض ستر الوجه مما اختص به أزواج النبي صلى اللّه عليه وسلم. ه.
وَقل لهم أيضا : يَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ، إلا على أزواجهم ، أو ما ملكت إيمانهم ، وتقييد الغض بمن التبعيضية ، دون حفظ الفروج لما فى النظر من السّعة ، فيجوز النظر إلى وجه الأجنبية وكفيها وقدميها ، وإلى رأس المحارم والصدور والساقين والعضدين. قاله النسفي. قلت : ومذهب مالك : حرمة نظر الساقين والعضدين من المحرم ، فإن تعذر التحرر منه ، كشغل البنات فى الدار ، باديات الأرجل ، فليتمسك بقول الحنفي ، إن لم يقدر على غض بصره. قاله شيخنا الجنوى.
ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ أي : أطهر لهم من دنس الإثم أو الريبة ، إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ ، وفيه ترغيب وترهيب ، يعنى : أنه خبير بأحوالهم وأفعالهم ، فكيف يجيلون أبصارهم ، وهو يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور؟! فعليهم ، إذا عرفوا ذلك ، أن يكونوا منه على حذر.(4/30)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 31
[سورة النور (24) : آية 31]
وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ ما ظَهَرَ مِنْها وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ أَوْ نِسائِهِنَّ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31)
وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ بالتستر والتصون عن الزنا ، فلا تنظر إلى ما لا يحل لهن النظر إليه من عورات الرجال والنساء ، وهى من الرجل : ما عدا الوجه والأطراف ، ومن النساء : ما بين السرة والركبة ، فلا يحل للمرأة أن تنظر الى الرجل ما سوى الوجه والأطراف ، أو بشهوة. وقيل : إن حصل الأمن من الشهوة جاز ، وعليه يحمل نظر عائشة إلى الحبشة.
وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ من الزنا والمساحقة. وإنما قدّم غض البصر على حفظ الفروج لأن النظر بريد الزنا ، ورائد الفجور ، فبذر الهوى طموح العين. وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ كالحلي ، والكحل ، والخضاب ، والمراد بالزينة : مواضعها ، فلا يحل للمرأة أن تظهر مواضع الزينة ، كانت متحلّيه بها أم لا ، وهي : الرأس ، والأذن ، والعنق ، والصدر ، والعضدان ، والذراع ، والساق. والزينة هى : الإكليل ، والقرط ، والقلادة ، والوشاح ، والدملج ، والسوار ، والخلخال. إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها إلا ما جرت العادة بإظهارها ، وهو الوجه والكفان ، إلا لخوف الفتنة ، زاد أبو حنيفة : والقدمين ، ففى ستر هذه حرج فإن المرأة لا تجد بدّا من مزاولة الأشياء بيديها ، ومن الحاجة إلى كشف وجهها ، خصوصا فى الشهادة والمحاكمة والنكاح ، وتضطر إلى المشي فى الطرقات ، وظهور قدميها ، ولا سيما الفقيرات منهن. قاله النسفي.
وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ أي : وليضعن خمرهنّ ، جمع خمار ، وهو ما يستر الرأس ، عَلى جُيُوبِهِنَّ ، وهو شقّ القميص من ناحية الصدر ، وكانت النساء على عادة الجاهلية يسدلن خمرهنّ من خلفهنّ ، فتبدو نحورهن وقلائدهن من جيوبهن ، وكانت واسعة ، يبدو منها صدورهن وما حواليها ، فأمرن بإسدال خمرهن على جيوبهن سترا لما يبدو منها. وقد ضمّن الضّرب معنى الإلقاء والوضع ، فعدّى بعلى.
وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ أي : مواضع الزينة الباطنة كالصدر ، والرأس ، ونحوهما ، كرره : ليستثنى منه ما رخص فيه ، وهو قوله : إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ لأزواجهن ، فإنهم المقصودون بالزينة. ولهم أن ينظروا إلى جميع بدنهن حتى الفرج ، أَوْ آبائِهِنَّ ، ويدخل فيهم الأجداد ، أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ فقد صاروا محارم ، أَوْ أَبْنائِهِنَّ ، ويدخل فيهم الأحفاد ، أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ لأنهم صاروا محارم أيضا ، أَوْ إِخْوانِهِنَّ الشقائق ، (4/31)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 32
أو لأب ، أو لأم ، أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ وإن سفلوا ، ويدخل سائر المحارم ، كالأعمام ، والأخوال ، وغيرهم لكثرة المخالطة وقلة توقع الفتنة من قبلهم ، فإن تحققت حيل بينهم ، وعدم ذكر الأعمام والأخوال ، لأن الأحوط أن يسترن عنهم حذرا من أن يصفوهنّ لأبنائهم ، أَوْ نِسائِهِنَّ يعنى جميع المؤمنات فكأنه قال : أو صنفهن ويخرج من ذلك نساء الكفار لئلا يصفنهنّ إلى الرجال ، أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ ، يعنى : الإماء المؤمنات أو الكتابيات ، وأما العبيد ففيهم ثلاثة أقوال : منع رؤيتهم لسيدتهم ، وهو قول الشافعي ، والجواز ، وهو قول ابن عباس وعائشة ، والجواز بشرط أن يكون العبد وغدا «1» ، وهو قول مالك.
قال البيضاوي : روى أنه - عليه الصلاة والسلام - أتى فاطمة بعبد ، وهبه لها ، وعليها ثوب إذا قنّعت به رأسها لم يبلغ رجليها ، وإذا غطّت رجليها لم يبلغ رأسها ، فقال - عليه الصلاة والسلام : «إنه ليس عليك بأس ، إنما هو أبوك وغلامك» ، فانظر من أخرجه «2». واختلف : هل يجوز أن يراها عبد زوجها ، وعبد الأجنبى ، أم لا؟
على قولين.
أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ أي : الذين يتبعونكم ليصيبوا من فضل طعامكم ، أو لخدمة ، أو لشىء يعطاه ، كالوكيل والمتصرف. وقال بعضهم : هو الذي يتبعك وهمّه بطنه ، ويشترط ألا تكون له إربة ، أي :
حاجة وشهوة إلى النساء كالخصيّ ، والمخنّث ، والشيخ الهرم ، والأحمق ، فلا تجوز رؤيتهم إلا باجتماع الشرطين :
أن يكونوا تابعين ، ولا إربة لهم فى النساء. أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ ، أراد بالطفل :
الجنس ، ولذلك وصفه بالجمع ، ويقال فيه : «طفل» ما لم يراهق الحلم. و(يظهروا) معناه : يطلعون بالوطء على عورات النساء من : ظهر على كذا : إذا قوى عليه ، فمعناه : الذين لم يطيقوا وطء النساء ، أو : لا يدرون ما عورات النساء؟
وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ ، كانت المرأة تضرب برجلها الأرض ليسمع قعقعة خلخالها ، فيعلم أنها ذات خلخال ، فنهين عن ذلك إذ سماع صوت الزينة كإظهارها ، فيورث ميل الرجال إليهن.
ويوهم أن لهن ميلا إليهم. قال الزجاج : سماع صوت الزينة أشد تحريكا للشهوة من إبدائها. ه.
___________
(1) الوغد : الصبي. وخادم القوم ، والجمع : أوغاد ، ووغدان ، ووغدان .. انظر اللسان (وغد).
(2) أخرجه أبو داود فى (اللباس ، باب فى العبد ينظر إلى شعر مولاته ، ح 4106) ، والبيهقي (7/ 95) من حديث أنس رضي اللّه عنه.(4/32)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 33
الإشارة : غض البصر عما تكره رؤيته : من أسباب جمع القلب على اللّه وتربية الإيمان. وفى الحديث : «من غض بصره عن محارم اللّه ، عوضه اللّه إيمانا يجد حلاوته فى قلبه» «1». وفى إرسال البصر : من تشتيت القلب ، وتفريق الهم ، ما لا يخفى ، وفى ذلك يقول الشاعر :
وإنّك ، إن أرسلت طرفك رائدا لقلبك ، يوما ، أتعبتك المناظر
ترى ، ما لا كلّه أنت قادر عليه ، ولا عن بعضه أنت صابر
فالعباد والزهاد يغضون بصرهم عن بهجة الدنيا ، والعارفون يغضون بصرهم عن رؤية السّوى ، فلا يرون إلا تجليات المولى. قال الشبلي : (قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم) أي : أبصار الرؤوس عن المحارم ، وأبصار القلوب عما سوى اللّه. ه.
وقوله تعالى : وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها ، قال بعضهم : لا يجوز كل ما يستدعى فتنة للغير من إظهار حال مع اللّه ، مما هو زينة السريرة ، فلا يظهر شيئا من ذلك إلا لأهله ، إلا إذا ظهر عليه شىء من غير إظهار منه ، ولا قصد غير صالح. ه. فلا يجوز إظهار العلوم التي يفتتن بها الناس من حقائق أسرار التوحيد ، ولا من الأحوال التي تنكرها الشريعة ، فيوقع النّاس فى غيبته. وأما قضيّة لصّ الحمّام «2» فحال غالبة لا يقتدى بها. واللّه تعالى أعلم.
ثم أمر بالتوبة لأن النظر لا يسلم منه أحد فى الغالب ، فقال :
وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ ...
يقول الحق جل جلاله : وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ إذ لا يكاد يخلو أحدكم من تفريط ، ولا سيما فى الكف عن الشهوات ، وقيل : توبوا مما كنتم تفعلونه فى الجاهلية ، فإنه ، وإن جبّ بالإسلام ، لكن يجب الندم عليه ، والعزم على الكف عنه ، كلما يتذكّر ، ويخطر بالبال. وفى تكرير الخطاب بقوله : أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ :
تأكيد للإيجاب ، وإيذان بأن وصف الإيمان موجب للامتثال ، حتما. قيل : أحوج الناس إلى التوبة من توهم أنه ليس
___________
(1) ورد «ما من مسلم ينظر إلى محاسن امرأة ثم يغض بصره إلا أحدث اللّه له عبادة يجد حلاوتها فى قلبه» أخرجه أحمد (5/ 264) عن أبى أمامة رضي اللّه عنه.
وأخرج الحاكم (4/ 314) عن ابن مسعود مرفوعا : «النظرة سهم مسموم من سهام إبليس ، من تركها من مخافتى أبدلته إيمانا يجد حلاوته فى قلبه».
(2) راجع قصة لص الحمّام عند التعليق على إشارة الآية 267 من سورة البقرة. (1/ 301)(4/33)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 34
له حاجة إلى التوبة. وظاهر الآية : أن العصيان لا ينافى الإيمان ، فبادروا بالتوبة لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ تفوزون بسعادة الدارين. وباللّه التوفيق.
الإشارة : التوبة أساس الطريق ، ومنها السير إلى عين التحقيق ، فمن لا توبة له لا سير له ، كمن يبنى على غير أساس. والتوبة يحتاج إليها المبتدئ والمتوسط والمنتهى ، فتوبة المبتدئ من المعاصي والذنوب ، وتوبة السائر :
من الغفلة ولوث العيوب ، وتوبة المنتهى : من النظر إلى سوى علام الغيوب.
قال ابن جزي : التوبة واجبة على كل مكلف ، بدليل الكتاب والسنة وإجماع الأمة. وفرائضها ثلاثة : الندم على الذنب من حيث عصي به ذو الجلال ، لا من حيث أضر ببدن أو مال. والإقلاع عن الذنب فى أول أوقات الإمكان ، من غير تأخير ولا توان ، والعزم ألا يعود إليها أبدا. ومهما قضى اللّه عليه بالعود ، أحدث عزما مجدّدا.
وآدابها ثلاث : الاعتراف بالذنب ، مقرونا بالانكسار ، والإكثار من التضرع والاستغفار ، والإكثار من الحسنات لمحو ما تقدم من الأوزار. ومراتبها سبع : فتوبة الكفار من الكفر ، وتوبة المخلّطين من الذنوب الكبائر ، وتوبة العدول من الصغائر ، وتوبة العابدين من الفترات ، وتوبة السالكين من علل القلوب والآفات ، وتوبة أهل الورع من الشبهات ، وتوبة أهل المشاهدة من الغفلات. والبواعث على التوبة سبعة : خوف العقاب ، ورجاء الثواب ، والخجل من الحساب ، ومحبة الحبيب ، ومراقبة الرقيب ، وتعظيم المقام ، وشكر الإنعام. ه.
ثم أمر بالنكاح لأنه أغض للبصر ، فقال :
[سورة النور (24) : آية 32]
وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (32)
قلت : الأيامى : جمع أيّم ، وأصله : أيايم ، فقلبت الياء لآخر الكلمة ، ثم قبلت ألفا ، فصارت أيامى. والأيم : من لا زوج له من الرجال والنساء.
يقول الحق جل جلاله : وَأَنْكِحُوا أي : زوّجوا الْأَيامى مِنْكُمْ أي : من لا زوج له من الرجال والنساء ، بكرا كان أو ثيبا. والمعنى : زوجوا من لا زوج له من الأحرار والحرائر. والخطاب للأولياء والحكام ، أمرهم بتزويج الأيامى ، فاقتضى ذلك النهى عن عضلهن. وفى الآية دليل عدم استقلال المرأة بالنكاح ، واشتراط الولي فيه ، وهو مذهب مالك والشافعي ، خلافا لأبى حنيفة.(4/34)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 35
وَالصَّالِحِينَ أي : الخيّرين ، أو : من يصلح للتزوج ، مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ أي : من غلمانكم وجواريكم ، والأمر : للندب إذ النكاح مندوب إليه ، والمخاطبون : ساداتهم. ومذهب الشافعي : أن السيد يجبر على تزويج عبيده ، لهذه الآية ، خلافا لمالك ، ومذهب مالك : أن السيد يجبر عبده على النكاح ، خلافا للشافعى. واعتبار الصلاح فى الأرقّاء لأن من لا صلاح له بمعزل من أن يكون خليقا بأن يعتنى مولاه بشأنه ، وأيضا : فالتزويج يحفظ عليه صلاحه الحاصل ، وأما عدم اعتبار الصلاح فى الأحرار والحرائر لأن الغالب فيهم الصلاح ، على أنهم مستبدون بالتصرف فى أنفسهم وأموالهم ، فإذا عزموا النكاح فلا بد من مساعدة الأولياء لهم.
وقيل : المراد بالصلاح : صلاحهم للتزوج ، والقيام بحقوقهم ، فإن ضعفوا لم يزوّجوا. ونفقة العبد على سيده إن زوّجه ، أو أذن له ، وإلا خيّر فيه.
ثم قال تعالى : إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ من المال يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ بالكفاية والقناعة ، أو باجتماع الرزقين. وفى الحديث : «التمسوا الرزق بالنكاح» «1» ، وقال ابن عجلان : إن رجلا أتى النبي صلى اللّه عليه وسلم فشكا إليه الحاجة ، فقال : «عليك بالباءة» ، أي : التزوج. وكذلك قال أبو بكر وعمر وعثمان لمن شكى إليهم العيلة ، متمسكين بقوله تعالى : إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ ، فبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ، حسبما تقتضيه المشيئة والحكمة والمصلحة. فالغنى ، للمتزوج ، مقيد بالمشيئة ، فلا يلزم الخلف بوجود من لم يستغن مع التزوج ، وقيل : مقيد بحسن القصد ، وهو مغيب. واللّه تعالى أعلم.
الترغيب فى النكاح : قال صلى اللّه عليه وسلم : «تناكحوا تكثروا ، فإنى أباهى بكم الأمم حتى بالسقط» «2». وقال صلى اللّه عليه وسلم : «من أحب فطرتى فليستن بسنتى ، وهى النكاح ، فإن الرجل يرفع بدعاء ولده من بعده» «3» ، وقال سمرة رضي اللّه عنه : (نهى النبي صلى اللّه عليه وسلم عن التبتل). وقال - عليه الصلاة والسلام : «من كان له ما يتزوج به ، فلم يتزوج ، فليس منا» «4» وقال عليه الصلاة والسلام : «من أدرك له ولد ، وعنده ما يزوجه به ، فلم يزوجه ، فأحدث ، فالإثم بينهما». وقال
___________
(1) أخرجه الديلمي (الفردوس ح 282) من حديث ابن عباس ، وعزاه المناوى فى الفتح السماوي (2/ 87) للثعلبى ، بسند فيه لين.
وانظر كشف الخفاء (1/ 177).
(2) أخرجه عبد الرزاق فى المصنف (6/ 173) عن سعيد بن أبى هلال ، مرسلا ، وانظر كشف الخفاء (1/ 380).
(3) أخرجه - دون العبارة الأخيرة - البيهقي فى الكبرى (7/ 78) وعبد الرزاق فى المصنف (6/ 169) وسعيد بن منصور فى السنن (1/ 138) عن عبيد بن سعد.
(4) أخرجه البيهقي فى الشعب (5481 - 5482) ، عن أبى نجيح مرسلا. بلفظ : «من كان موسرا لأن ينكح ، ثم لم ينكح ، فليس منى».(4/35)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 36
أبو هريرة : لو لم يبق من الدنيا إلا يوم واحد للقيت اللّه بزوجة ، سمعت النبي صلى اللّه عليه وسلم يقول : «شراركم عزّابكم ، إذا تزوج أحدكم عجّ شيطانه : يا ويله عصم ابن آدم ثلثى دينه». وقال صلى اللّه عليه وسلم : «مسكين ، مسكين ، رجل ليست له امرأة ، ومسكينة ، مسكينة امرأة ليست لها زوج ، قالوا : يا رسول اللّه! وإن كانت غنية من المال؟ قال : وإن».
وقال أبو أمامة : (أربعة لعنهم اللّه من فوق عرشه ، وأمّنت عليهم ملائكته : الذي يحصر نفسه عن النساء ، فلا يتزوج ولا يسترى لئلا يولد له ، والرجل يتشبه بالنساء ، والمرأة تتشبه بالرجال ، وقد خلقها اللّه أنثى ، ومضلل المساكين). وقال سهل بن عبد اللّه : لا يصح الزهد فى النساء لأنهن قد حببن إلى سيد الزاهدين. ووافقه ابن عيينة ، فقال : ليس فى كثرة النساء دنيا لأن أزهد الصحابة كان علىّ بن أبى طالب رضي اللّه عنه ، وكان له أربع نسوة وبضّع عشرة سرّيّة. ه. من القوت.
وقال عطية بن بسر المازني : أتى عكاف بن وداعة الهلالي النّبيّ صلى اللّه عليه وسلم ، فقال له : «يا عكاف ألك زوجة؟
قال : لا ، يا رسول اللّه ، ولا أمة؟ قال : لا. قال : وأنت صحيح موسر؟ قال : نعم ، والحمد لله. قال : فإنك ، إذا من إخوان الشياطين ، إما أن تكون من رهبان النصارى ، وإما أن تكون مؤمنا ، فاصنع ما بدا لك. فإن من سنتنا النكاح ، شراركم عزابكم ، وأرذال موتاكم عزابكم ، ما للشيطان ، فى سلاح ، أبلغ من محتمل العزبة ، ألا إن المتزوجين هم المطهرون المبرءون من الخنا» «1». انظر الثعلبي.
[سورة النور (24) : الآيات 33 الى 34]
وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (33) وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَمَثَلاً مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (34)
قال تعالى : وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً أي : ليجتهد فى العفة عن الزنا وقمع الشهوة من لم يجواد الاستطاعة على النكاح من المهر والنفقة ، حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ حتى يقدرهم اللّه على المهر والنفقة ، قال عليه الصلاة والسلام : «يا معشر الشباب ، من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغضّ للبصر ، وأحصن للفرج ، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء» «2» ، فانظر كيف رتّب الحق تعالى هذه الأمور أمر ،
___________
(1) أخرجه مطولا أحمد فى المسند (5/ 163 - 164) وعبد الرزاق فى المصنف (6/ 172 ، ح 10387) والطبراني فى الكبير (18/ 85 ح 185).
(2) أخرجه البخاري فى (النكاح ، باب قول النبي صلى اللّه عليه وسلم : من استطاع الباءة فليتزوج ح 5065) ، ومسلم فى (النكاح ، باب استحباب النكاح لمن تاقت نفسه 2/ 1018 ، ح 1400) ، عن عبد اللّه بن مسعود رضي اللّه عنه.(4/36)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 37
أولا ، بما يعصم من الفتنة ، ويبعد عن مواقعة المعصية ، وهو غض البصر ، ثم بالنكاح المحصّن للدين ، المغني عن الحرام ، ثم بعزف النفس الأمارة بالسوء عن الطموح إلى الشهوة ، عند العجز عن النكاح ، إلى أن يقدر عليه.
وباللّه التوفيق.
الإشارة : الأرواح والقلوب والنفوس لا يظهر نتاجها حتى ينعقد النكاح بينها وبين شيخ كامل ، فإذا انعقدت الصحبة بينها وبين الشيخ ، قذف نطفة المعرفة فى الروح أو القلب أو النفس ، ثم يربيها فى مشيمة الهمّة ، ثم فى حضانة الحفظ والرعاية ، فيظهر منها نتاج اليقين والعلوم والأسرار والمعارف ، وأما إن بقيت أيامى لازوح لها ، فلا مطمع فى نتاجها ، قال تعالى : وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ ، وهى الأرواح ، والصالحين من قلوبكم ، ونفوسكم ، إن يكونوا فقراء من اليقين ، والمعرفة باللّه ، يغنهم اللّه من فضله بمعرفته ، واللّه واسع عليم ، وليتعفف ، عن المناكر ، الذين لا يجدون من يأخذ بيدهم ، حتى يغنيهم اللّه من فضله بالسقوط على شيخ كامل فإنه من فضل اللّه ومنته ، لا يسقط عليه إلا من اضطرّ إليه ، وصدق الطلب فى الوصول إليه. وباللّه التوفيق.
ولما أمر بتزوج العبيد ، أمر بمكاتبتهم ، فقال :
... وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ ...
قلت : الكتاب هنا : مصدر ، بمعنى الكتابة. وهى : مقاطعة العبد على مال منجّم ، فإذا أداه خرج حرا ، وإن عجز ، ولو عن نصف درهم ، بقي رقيقا.
يقول الحق جل جلاله : وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ أي : والمماليك الذين يطلبون الكتابة مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ من عبيدكم فَكاتِبُوهُمْ ، والأمر للندب ، عند مالك والجمهور ، وقال الظاهرية وغيرهم : على الوجوب ، وهو ظاهر قول عمر رضي اللّه عنه لأنس بن مالك ، حين سأله مملوكه سيرين الكتابة ، فأبى عليه أنس ، فقال له عمر : لتكاتبنه ، أو لأوجعنّك بالدّرّة «1». وإنما حمله مالك على الندب لأن الكتابة كالبيع ، فكما لا يجبر على البيع لا يجبر عليها.
___________
(1) أخرجه عبد الرزّاق فى المصنف (8/ 372 ح 15578) ، والطبري (18/ 126).(4/37)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 38
واختلف : هل يجبر السيد عبده عليها ، أم لا؟ قولان في المذهب. ونزلت الآية بسبب حويطب بن عبد العزّى ، سأل مولاه أن يكاتبه ، فأبى عليه «1». وحكمها عام ، فأمر اللّه سادات العبيد أن يكاتبوهم إذا طلبوا الكتابة. والكتابة :
أن يقول لمملوكه : كاتبتك على كذا ، فإن أدى ذلك عتق ، ومعناه : كتبت لك على نفسى أن تعتق مني إذا وفّيت المال ، وكتبت لى على نفسك أن تفى بذلك. وتجوز حالّة ، وتسمى : القطاعة ، ومنجّمة وغير منجّمة.
وقوله تعالى : إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً ، أي : قدرة على الكسب ، وأمانة وديانة ، والنّدبية متعلقة بهذا الشرط ، فالخير هنا : القوة على الأداء بأي وجه كان ، وقيل : هو المال الذي يؤدي منه كتابته ، من غير أن يسأل أموال الناس ، وقيل : الصلاح في الدين.
وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ ، هذا أمر بإعانة المكاتب على كتابته ، واختلف : من المخاطب بذلك؟
فقيل : هو خطاب للناس أجمعين ، وقيل : للولاة ، والأمر على هذين القولين للندب ، وقيل : للسادات المكاتبين ، وهو على هذا القول ، ندب عند مالك ، ووجوب عند الشافعي. فإن كان الأمر للناس ، فالمعنى : أن يعطوهم صدقة من أموالهم ، وإن كان للولاة : فيعطوهم من الزكوات أو من بيت المال ، وإن كان للسادات فيحطّوا عنهم من كتابتهم ، وقيل : يعطوهم من أموالهم ، من غير الكتابة ، وعلي القول بالحط من الكتابة اختلف في مقدار ما يحطّ ، فقيل :
الربع ، وروي ذلك عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وقيل : الثلث ، وقال مالك : لا حد في ذلك ، بل أقل ما يطلق عليه شيء ، إلا أن الشافعي يجبره علي ذلك ، ولا بجيره مالك. وزمان الحط عنه في آخر الكتابة عند مالك ، وقيل : في أول نجم.
قاله ابن جزى.
الإشارة : العبيد على أربعة أقسام : عبد قن مقتنى للخدمة ، وعبد مأذون له فى التجارة ، وعبد مكاتب ، وعبد آبق. فمثال الأول ، وهو العبد القن : أهل الخدمة ، وهم العباد والزهاد ، أقامهم الحق تعالى لخدمته ، وقوّاهم على دوام معاملته ، أهل الصيام والقيام ، وأهل السياحة والهيام. ومثال الثاني ، وهو المأذون له : العارفون بالله ، يتصرفون فى ملك سيدهم بالله ، خلفاء رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، يحكمون بحكم اللّه ، ويأخذون من اللّه ويدفعون إلى اللّه ، يأخذون النصيب من كل شىء ، ولا يؤخذ من نصيبهم شىء ، قد سخّر لهم كل شىء ، ولم يسخّروا لشىء ، سلّطوا على كل شىء ، ولم
___________
(1) عزاه السيوطي فى الدر المنثور (5/ 81) لابن السكن فى معرفة الصحابة ، عن عبد اللّه بن صبيح ، عن أبيه. [.....](4/38)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 39
يسلّط عليهم شىء ، يخالطون الناس بجسمهم ، ويباينونهم بسرهم ، فالدنيا سوق تجارتهم ، والمعرفة رأس بضاعتهم ، والعدل فى الغضب والرضا ميزانهم ، والقصد فى الفقر والغنى عنوانهم ، والعلم باللّه مفزعهم ومنجاهم ، والقرآن كتاب الإذن من مولاهم ، والفهم عن اللّه مرجعهم ومأواهم.
ومثال الثالث ، وهو المكاتب : الصالحون من المؤمنين يعملون على فك رقبتهم من النار ، فإذا أدوا ما فرض عليهم حررهم بعد موتهم ، وأسكنهم فسيح جناته. ومثال الآبق : هم العصاة والفجار ، استمروا على عصيانهم ، حتى قدموا على الملك الجبار ، فهم تحت حكم المشيئة ، إن شاء عفا عنهم ، وإن شاء عاقبهم. واللّه تعالى أعلم.
ولما أمر بتزويج الإماء نهى عن إكراههن على الزنا ، فقال :
وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ ...
يقول الحق جل جلاله : وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ أي : إماءكم ، يقال للعبد : فتى ، وللأمة : فتاة. والجمع :
فتيات ، عَلَى الْبِغاءِ أي : الزنا ، وهو خاص بزنا النساء. كان لابن أبىّ ست جوار : معاذة ، ومسيكة ، وأميمة ، وعمرة ، وأروى ، وقتيلة ، وكان يكرههن ، ويضرب عليهن الضرائب لذلك ، فشكت ثنتان منهن إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فنزلت الآية «1».
وقوله تعالى : إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً أي : تعففا ، ليس قيدا فى النهي عن الإكراه ، بل جرى على سبب النزول ، فالإكراه : إنما يتصوّر مع إرادة التّحصّن لأن المطيعة لا تسمى مكرهة ، ثم خصوص السبب لا يوجب تخصيص الحكم على صورة السبب ، فلا يختص النهى عن الإكراه بإرادة التعفف ، وكذلك الأمر بالزنا ، والإذن فيه لا يباح ولا يجوز شىء من ذلك للسيد ، وما يقبض من تلك الناحية سحت وربا. وفيه توبيخ للموالى لأن الإماء إذا رغبن فى التحصن فأنتم أولى بذلك ، ثم علل الإكراه بقوله : لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا أي : لتبتغوا بإكراههن على الزنا أجورهن وأولادهن ، جىء به تشنيعا لهم على ما هم عليه من أحمال الوزر الكبير لأجل النزر الحقير ، أي :
لا تفعلوا ذلك لطلب المتاع السريع الزوال ، الوشيك الاضمحلال.
___________
(1) عزاه المناوى ، فى الفتح السماوي (2/ 874) للثعلبى عن مقاتل ، وأخرج مسلم فى (التفسير ، باب فى قول اللّه تعالى : وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ 3029) عن جابر ، قال : إن جارية لعبد اللّه بن أبى ، يقال لها : «مسيكة» ، وأخرى يقال لها : «أميمة» فكان :
يكرههما على الزنا ، فشكتا إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم ، فأنزل اللّه : لا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ).(4/39)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 40
وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ على ما ذكر من البغاء ، فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ لهن رَحِيمٌ بهن ، وفى مصحف ابن مسعود كذلك. وكان الحسن يقول : لهن واللّه. وقيل : للسيد إذا تاب. واحتياجهن إلى المغفرة المنبئة عن سابقة الإثم : إما باعتبار أنهن - وإن كن مكرهات - لا يخلون فى تضاعيف الزنا من شائبة مطاوعة ما ، بحكم الجبلّة البشرية ، وإما لغاية تهويل أمر الزنا ، وحث المكرهات على التثبت فى التجافي عنه ، والتشديد فى تحذير المكرهين ببيان أنهن حيث كنّ عرضة للعقوبة ، لو لا أن تداركهن المغفرة ، الرحمة ، مع قيام العذر فى حقهن ، فما بالك بحال من يكرههن فى استحقاق العقاب؟
وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ موضّحات ، أو : واضحات المعنى ، والمراد : الآيات التي بينت فى هذه السورة ، وأوضحت معانى الأحكام والحدود. وهو كلام مستأنف جىء به فى تضاعيف ما ورد من الآيات السابقة واللاحقة لبيان جلالة شأنها ، المقتضى للإقبال الكلى على العمل بمضمونها. وصدر بالقسم الذي تعرب عنه اللام لإبراز كمال العناية بشأنها. أي : واللّه ، لقد أنزلنا إليكم ، فى هذه السورة الكريمة ، آيات مبينات لكل ما لكم حاجة إلى بيانه من الحدود وسائر الأحكام ، وإسناد البيان إليها : مجازى ، أو : آيات واضحات تصدقها الكتب القدسية والعقول السليمة ، على أن «مبيّنات» من بيّن ، بمعنى تبين ، كقولهم فى المثل : «قد بيّن الصبح لذى عينين» أي :
تبين. ومن قرأها بالبناء للمفعول ، فمعناه : قد بيّن اللّه فيها الأحكام والحدود. وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ أي : وأنزلنا مثلا من أمثال من قبلكم ، من القصص العجيبة ، والأمثال المضروبة لهم فى الكتب السابقة ، والكلمات الجارية على ألسنة الأنبياء والحكماء ، فتنتظم قصة عائشة - رضي اللّه عنها - المحاكية لقصة يوسف عليه السّلام وقصة مريم ، وسائر الأمثال الواردة فى السورة الكريمة ، انتظاما واضحا.
وتخصيص الآيات البينات بالسوابق ، وحمل المثل على قصة عائشة المحاكية لقصة يوسف ومريم ، يأباه تعقيب الكلام بما سيأتى من التمثيلات.
وَأنزلنا مَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ يتعظون بها ، وينزجرون عما لا ينبغى من المحرمات والمكروهات وسائر ما يخل بمحاسن الآداب ، والمراد : ما وعظ به من الآيات والمثل ، مثل قوله : وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ «1» ، ولَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ .. «2» إلخ ، يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ «3».
وتخصيص المتقين لأنهم المنتفعون بها ، المغتنمون لآثارها ، المقتبسون لأنوارها ، ومدار العطف هو التّغاير العنواني المنزّل منزلة التغاير الذاتي. وقد خصّت الآيات بما بيّن الأحكام والحدود ، والموعظة بما وعظ به من
___________
(1) الآية : 2 من سورة النور.
(2) الآية : 12 من سورة النور.
(3) الآية : 17 من سورة النور.(4/40)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 41
قوله : (و لا تأخذكم ..) إلى آخر ما تقدم. وقيل : المراد بالآيات المبينات والمثل والموعظة : جميع ما فى القرآن المجيد من الأمثال والمواعظ. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : كل من أمر بالمعصية ودلّ عليها ، أو رضى فعلها ، فهو شريك الفاعل فى الوزر ، أو أعظم. وكل من أمر بالطاعة ودلّ عليها فهو شريك الفاعل فى الثواب ، أو أعظم. وفى الأثر : «الدّالّ على الخير كفاعله» «1».
قال القشيري : حامل العاصي على زلّته ، والداعي له إلى عثرته ، والمعين له على مخالفته ، تتضاعف عليه العقوبة ، وله من الوزر أكثر من غيره ، وعكسه لو كان الأمر فى الطاعة والإعانة على العبادة. ه. ومن هذا القبيل :
تعليم العلم لمن تحقق أنه يطلب به رئاسة أو جاها ، أو توصّلا إلى الدنيا المذمومة ، أو علم منه قصدا فاسدا ، فإن تحقق ذلك وعلمه ، فهو معين له على المعصية ، كمن يعطى سيفا لمن يقطع به الطريق على المسلمين. واللّه تعالى أعلم.
ثم إن أنوار الشريعة ، وهى أحكام المعاملة الظاهرة ، تهدى إلى أنوار الطريقة ، وهى أحكام المعاملة الباطنة ، وأنوار الطريقة تهدى إلى أنوار الحقيقة ، وأنوار الحقيقة تصيّر الكون كلّه نورا ، كما قال تعالى :
[سورة النور (24) : آية 35]
اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35)
يقول الحق جل جلاله : اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي : منور أهلهما [بنور الإسلام والإيمان لأهل الإيمان ] «2» ، وبنور الإحسان لأهل الإحسان ، فحقيقة النور : هو الذي تنكشف به الأشياء على ما هى عليه ، حسية أو معنوية ، والمراد هنا : المعنوية بدليل قوله : يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ ، فإن انكشف به أحكام العبودية ، باعتبار المعاملة الظاهرة ، يسمّى : نور الإسلام ، وإن انكشف به أوصاف الذات العلية وكمالاتها ، من طريق البرهان ، يسمى : نور الإيمان ، وإن انكشف به حقيقة الذات وأسرارها ، من طريق العيان ، يسمى : نور الإحسان. فالأول : يشبه نور النجوم ، والثاني :
نور القمر ، والثالث : نور الشمس ، ولذلك تقول الصوفية : نجوم الإسلام ، وقمر الإيمان ، وشمس العرفان.
___________
(1) أخرجه البزار (كشف الأستار ح 154) عن ابن مسعود ، و(ح 1951) عن أنس ، وأخرجه الطبراني فى الأوسط (ح 384) من حديث سهل بن سعد. وجاء فى صحيح مسلم : «من دلّ على خير فله مثل أجر فاعله». أخرجه مسلم فى (الإمارة ، باب فضل إعانة الغازي ، 3/ 1506 ح 1893) من حديث أبى مسعود البدري.
(2) أرى أن تكون العبارة هكذا [بنور الإسلام لأهل الإسلام ، وبنور الإيمان لأهل الإيمان ].(4/41)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 42
ثم ضرب المثل لذلك النور ، حين يقذفه فى قلب المؤمن ، فقال : مَثَلُ نُورِهِ أي : صفة نوره العجيبة فى قلب المؤمن - كما هى قراءة ابن مسعود - كَمِشْكاةٍ أي : كصفة مشكاة ، وهى الكوّة فى الجدار غير النافذة لأن المصباح فيها يكون نوره مجموعا ، فيكون أزهر وأنور ، فِيها مِصْباحٌ أي : سراج ضخم ثاقب ، الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ أي : فى قنديل من زجاج صاف أزهر ، الزُّجاجَةُ من شدة صفائها كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ بضم الدال وتشديد الراء ، منسوب إلى الدر لفرط ضيائه وصفائه ، وبالكسر والهمز : «أبو عمرو» على أنه يدرأ الظلام بضوئه. وبالضم والهمز : أبو بكر وحمزة ، شبهه بأحد الكواكب الدراري ، كالمشترى والزهرة ونحوهما.
توقد «1» بالتخفيف والتأنيث ، أي : الزجاجة ، أو يُوقَدُ بالتخفيف والغيب ، أو : توقد بالتشديد ، أي :
المصباح مِنْ شَجَرَةٍ أي : من زيت شجرة الزيتون ، أي : رويت فتيلته من زيت شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ كثيرة المنافع ، أو : لأنها تنبت فى الأرض التي بارك فيها للعالمين ، وهى الشام ، وقيل : بارك فيها سبعون نبيا ، منهم إبراهيم عليه السّلام.
زَيْتُونَةٍ : بدل من شَجَرَةٍ ، من نعتها لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ أي : ليست شرقية فقط ، لا تصيبها الشمس إلا فى حالة الشروق ، ولا غربية ، لا تصيبها إلا فى حال الغروب ، بل هى شرقية غربية ، تصيبها الشمس بالغداة والعشى ، فهو أنضر لها ، وأجود لزيتونها. وقيل : ليست من المشرق ولا من المغرب ، بل فى الوسط منه ، وهو الشام ، وأجود الزيتون زيتون الشام.
يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ هو فى الصفاء والإنارة بحيث يكاد يضىء بنفسه من غير مساس نار أصلا. نُورٌ عَلى نُورٍ أي : نور المصباح متضاعف على نور الزيت الصافي ، فهذا مثال النور الذي يقذفه اللّه فى قلب المؤمن فالمشكاة هو الصدر ، والمصباح نور الإيمان أو الإسلام أو الإحسان ، على ما تقدم ، والزجاجة هو القلب الصافي ، ولذلك شبهه بالكوكب الدرّىّ ، والزيت هو العلم النافع الذي يقوى اليقين. ولذلك وصفه بالصفاء والإنارة. يكاد صاحبه تشرق عليه أنوار الحقائق ، ولو لم يمسسه علمها. نُورٌ عَلى نُورٍ أي : نور الإيمان مضاف إلى نور الإسلام ، أو نور الإحسان مضاف إلى نور الإيمان والإسلام ،
___________
(1) قرأ نافع ، وابن عامر ، وحفص ، بياء من تحت مضمومة ، مع إسكان الواو ، وتخفيف القاف ، ورفع الدال ، على التذكير ، مبنيا للمفعول من «أوقد» أي : المصباح. وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وأبو جعفر ، ويعقوب ، بتاء من فوق ، وفتح الواو والدال ، وتشديد القاف ، على وزن «تفعل» فعلا ماضيا ، فيه ضمير يعود على المصباح. وقرأ أبو بكر ، وحمزة ، والكسائي ، بالتاء من فوق ، مضمومة ، وإسكان الواو ، وتخفيف القاف ، ورفع الدال ، على التأنيث ، مضارع «أوقد» مبنى على المفعول. ونائب الفاعل ضمير يعود على «زجاجة». انظر الإتحاف (2/ 298).(4/42)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 43
يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ أي : لهذا النور الباهر مَنْ يَشاءُ من عباده إما بإلهام أو بواسطة تعليم. وفيه إيذان بأن مناط هذه الهداية إنما هى بمشيئته تعالى ، وأن الأسباب لا تأثير لها. وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ تقريبا للفهم ، لأنه إبراز للمعقول فى هيئة المحسوس وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ، معقولا كان أو محسوسا ، فيبين الأشياء بما يمكن أن تعلم به. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : اعلم أن الكون كله من عرشه إلى فرشه قطعة من نور الحق ، وسر من أسرار ذاته ، ملك ، وباطنه ملكوت فائض من بحر الجبروت ، فالكائنات كلها : اللّه نورها وسرّها ، وهو القائم بها. ولا يفهم هذا إلا أهل الفناء من العارفين بالله ، وحسب من لم يبلغ مقامهم التسليم لما رمزوا إليه ، وتحققوه ذوقا وكشفا.
ثم ضرب الحقّ تعالى مثلا لنوره الفائض من بحر جبروته ، فقال : مَثَلُ نُورِهِ الظاهر ، الذي تجلى به فى عالم الشهادة ، كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ أي : كطاقة انفتحت من بحر اللّطافة الكنزيّة ، خرج منها نور كثيف كالمصباح ، فالكون كله مصباح نور ، انفجر من النور ، ومن ذلك المصباح تفرعت الكائنات ، فهى كلها نور فائض من بحر نوره اللطيف ، ثم جعل الحق تعالى يصف ذلك المصباح فى توقده وتوهجه بقوله : الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ ... .. إلخ. فالآية كلها من تتمة التمثيل.
وقوله تعالى : وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ قيل : الإشارة فيه إلى استغناء العبد فى تلك الحالة عن الاستمداد إلا من رب العزة ، فيستغنى عن الوسائط. وقوله تعالى : نُورٌ عَلى نُورٍ أي : نور ملكوته على نور جبروته ، يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ أي : لشهود نوره ، أو لمعرفة نوره ، مَنْ يَشاءُ من خواص أحبابه ، كأنبيائه وأوليائه ، فمن لم يشهد هذا النور ، ولم يعرفه ، لا خصوصية له يتميز بها عن العوام ، فهو من عامة أهل اليمين ، ولو كثر علمه وعمله إذ لا عبرة بالعلم والعمل مع الحجاب. وفى الحكم : «الكائن فى الكون ، ولم تفتح له ميادين الغيوب ، مسجون بمحيطاته ، محصور فى هيكل ذاته» ، والمحجوب برؤية الأكوان من جملة العوام عند أهل العيان ، ينسحب عليه معنى المثال الآتي فى ضد هذا بقوله : (أو كظلمات ..) إلخ.
وفى الحكم. «الكون كله ظلمة ، وإنما أناره ظهور الحقّ فيه ، فمن رأى الكون ولم يشهده فيه ، أو عنده ، أو قبله أو بعده ، فقد أعوزه وجود الأنوار ، وحجبت عنه شموس المعارف بسحب الآثار» «1». فالكون عند أهل العيان كله نور ، وعند أهل الحجاب كله ظلمة ، وهو محيط بهم ، فالظلمة محيطة بهم ، وقد ألف الغزالي فى هذه الآية كتابة :
___________
(1) انظر الحكم بتبويب المتقى الهندي (ص 32 حكمة 14).(4/43)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 44
(مشكاة الأنوار) ، وكلامه فيه يدور على أن معنى اسمه تعالى «النور» : يرجع إلى ما ثبتت به الأشياء وظهرت من العدم ، ولذلك قال قائلهم :
فالنّور يظهر ما ترى من صورة وبه ظهور الكائنات بلا امتراء
وفى لطائف المنن : اللّه نور السموات والأرض نور سموات الأرواح بمشاهدته ، ونور أرض النفوس بمطالعته وخدمته ، وجعل قلوب أوليائه مجلاة لذاته ولظهور صفاته ، أظهرهم ليظهر فيهم خصوصا ، وهو الظاهر فى كل شىء عموما ، ظهر فيهم بأنواره وأسراره ، كما ظهر فيهم ، وفيما عداهم بقدرته واقتداره. ه.
ثم ذكر محل ظهور ذلك المصباح ، فقال :
[سورة النور (24) : الآيات 36 الى 38]
فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (36) رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ وَإِيتاءِ الزَّكاةِ يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ (37) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (38)
قلت : (فى بيوت) : يتعلق بمشكاة ، أي : كائنة فى بيوت ، أو توقد ، أو بيسبح ، أي : يسبح له رجال فى بيوت ، وفيه تكرير لزيادة التأكيد ، نحو : زيد فى الدار جالس فيها ، أو بمحذوف ، أي : سبّحوا فى بيوت. و(أذن) : نعت له.
يقول الحق جل جلاله : وذلك النور الذي فى المشكاة يكون فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ ، وهى المساجد والزوايا المعدّة لذكر اللّه والصلاة وتلاوة القرآن. ورفعها : تعظيمها. أي : التي أمر اللّه بتعظيمها كتطهيرها من الخبث ، وتنقيتها من القذى ، وتعليق القناديل ونصب الشموع ، ويزاد التعظيم فى شهر رمضان. ومن تعظيمها :
غلقها فى غير أوقات الصلاة ، وقيل المراد برفعها : بناؤها ، كقوله تعالى : .. بَناها رَفَعَ سَمْكَها .. «1» ، وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ «2» ، والأول أصح.
وَأذن أيضا أن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ ، وهو عام فى جميع الذّكر ، مفردا أو جماعة ، ويدخل فيه تلاوة القرآن. يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ أي : يصلى له فيها بالغداة : صلاة الفجر ، والآصال : صلاة الظهر
___________
(1) من الآيتين : 27 - 28 من سورة النازعات.
(2) من الآية 127 من سورة البقرة.(4/44)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 45
والعصر والعشاءين. وإنما وحّد الغدو لأن صلاته صلاة واحدة ، وفى الآصال صلوات ، وهو جمع أصيل ، وفاعل «يسبّح» : رجال. ومن قرأ بفتح الباء «1» ، فأسنده إلى أحد الظروف الثلاثة ، أعنى : (له فيها بالغدو). و«رجال» :
مرفوع بمحذوف ، دل عليه يُسَبِّحُ أي : يسبحه رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ : لا تشغلهم تِجارَةً فى السفر ، وَلا بَيْعٌ فى الحضر ، عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ باللسان والقلب ، وقيل : التجارة : الشراء ، أي : لا يشغلهم شراء ولا بيع عن ذكر اللّه ، والجملة : صفة لرجال ، مؤكدة لما أفاده التنكير من الفخامة ، مفيدة لكمال تبتّلهم إلى اللّه تعالى ، واستغراقهم فيما حكى عنهم من التسبيح من غير صارف يلويهم ولا عاطف يثنيهم.
وتخصيص التّجارة بالذكر لكونها أقوى الصوارف عندهم وأشهرها ، أي : لا يشغلهم نوع من أنواع التجارة ، ولا فرد من أفراد البياعات ، وإن كان فى غاية الربح. وإفراده بالذكر ، مع اندراجه تحت التجارة لإنه ألهى لأن ربحه متيقن ناجز فى الغالب ، وما عداه متوقع فى ثانى الحال.
وَلا يشغلهم ذلك أيضا عن إِقامِ الصَّلاةِ أي : إقامتها لمواقيتها من غير تأخير ، وأصله : وإقامة ، فأسقطت التاء المعوضة عن العين الساقطة بالإعلال ، وعوض عنها الإضافة ، فأقيمت الإضافة مقام التاء ، وَإِيتاءِ الزَّكاةِ أي : وعن إيتاء الزكاة ، وذكرها ، وإن لم يكن مما تفعل فى البيوت ، لكونها قرينتها لا تفارق إقامة الصلاة فى عامة المواضع ، مع ما فيه من التنبيه على أن محاسن أعمالهم غير منحصرة فيما يقع فى المساجد.
والمعنى : لا تجارة لهم حتى تلهيهم ، أو يبيعون ويشترون ويذكرون اللّه مع ذلك ، لا يشغلهم عن ذكر اللّه شىء ، وإذا حضرت الصلاة قاموا إليها مسرعين. يَخافُونَ يَوْماً أي : يوم القيامة تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ أي : تضطرب وتتغير من الهول والفزع ، وتبلغ إلى الحناجر ، وَتتقلب الْأَبْصارُ بالشخوص أو الزرقة. أو تتقلب القلوب إلى الإيمان بعد الكفران ، والأبصار إلى العيان بعد النكران ، كقوله : فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ «2».
يفعلون ذلك الاستغراق فى التسبيح والذكر ، مع الخوف لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا أي : أحسن جزاء أعمالهم ، حسبما وعدهم بمقابلة حسنة بعشر أمثالها إلى سبع مائة ضعف ، وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ أي : يتفضل عليهم بأشياء وعدهم بها ، لم تخطر على بال كالنظر إلى وجهه ، وزيادة كشف ذاته ، فهو كقوله : لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ «3». وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ أي : يثيب من يشاء ثوابا لا يدخل تحت حساب الخلق ، و«من» : واقعة على من ذكرت أوصافهم الجميلة ، كأنه قيل : واللّه يرزقهم بغير حساب ، ووضعه موضع
___________
(1) وبها قراءة ابن عامر وأبو بكر.
(2) من الآية 22 من سورة ق.
(3) من الآية 26 من سورة يونس.(4/45)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 46
ضميرهم للتنبيه على أن مناط الرزق المذكور محض مشيئته تعالى ، لا أعمالهم المحكية ، ويحتمل أن يريد بالرزق ما يرزقهم فى الدنيا مما يقوم بأمرهم ، حين تبتّلوا إلى العبادة ، يرزقهم اللّه من حيث لا يحتسبون ، من غير حصر ولا عد. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : البيوت التي أذن اللّه أن ترفع هى القلوب ، التي هى معدن الأسرار ومحل مصابيح الأنوار ، ورفعها :
صونها من الأغيار ، وتطهيرها من لوث الأكدار ، وبعدها من جيفة الدنيا ، التي هى مجمع الخبائث والأشرار ، ليذكر فيها اسم اللّه ، كثيرا ، على نعت الحضور والاستهتار ، وإنما يمكن ذلك من أهل التجريد والانقطاع إلى اللّه ، الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر اللّه ، يخافون يوما تتقلب فيه القلوب عن حضرة اللّه ، والأبصار عن شهود اللّه ، وذلك بشؤم الغفلة فى الدنيا عن اللّه ، والقيام بحقوق اللّه ، ليجزيهم اللّه أحسن ما عملوا ، فى جنة الزخارف ، ويزيدهم من فضله التّنزّه فى جنة المعارف. واللّه يرزق من العلوم والمعارف من يشاء بغير حساب.
ثم ذكر ضد أهل النور ، وهم أهل الظلمة ، فقال :
[سورة النور (24) : الآيات 39 الى 40]
وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (39) أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ (40)
قلت : «كسراب» : خبر الثاني ، وهو : ما يروى فى الفلوات من لمعان الشمس وقت الظهيرة ، يسرب على وجه الأرض ، فيظنّ أنه ماء يجرى. و(بقيعة) : متعلق بمحذوف ، صفة لسراب ، أي : كائن بأرض قيعة ، أي : منبسطة ، و(سحاب ظلمات) : من جرّها : فبالإضافة «1» ، ومن رفعها : فخبر ، أي : هى ظلمات.
يقول الحق جل جلاله ، فى بيان أعمال الكفرة وظلمة قلوبهم ، بعد بيان حال المؤمنين وأنوار قلوبهم :
وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ التي هى من أبواب البر ، كصلة الرحم ، وفك العناة ، وسقاية الحاج ، وعمارة البيت ، وإغاثة الملهوف ، وقرى الأضياف ، ونحوها ، مما لو قارنه الإيمان لا ستوجب الثواب ، مثاله : كَسَرابٍ
___________
(1) قرأ البزي (سحاب ظلمات) بالإضافة ، وقرأ الجمهور : (سحاب ظلمات) بالتنوين والرفع فيهما. انظر الإتحاف (2/ 299). [.....](4/46)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 47
كفضاء (بقيعة) بأرض منبسطة ، يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ يظنه العطشان ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً أي : لم يجده كما ظنه ورجاه ، بل خاب مطمعه ومسعاه ، وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ أي : وجد جزاء اللّه ، أو حكمه ، عند عمله ، أو عند جزائه ، فَوَفَّاهُ حِسابَهُ أي : أعطاه جزاءه كله وافيا ، وإنما وحّد ، بعد تقديم الجمع ، حملا على كل واحد من الكفار.
وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ يحاسب العباد فى ساعة لأنه لا يحتاج إلى عد وعقد ، ولا يشغله حساب عن حساب ، أو قريب حسابه لأنّ كل آت قريب. شبه ما يعمله الكفرة من البر ، الذي يعتقد أنه ينفعه يوم القيامة وينجيه من عذاب اللّه ، ثم يخيب فى العاقبة أمله ، ويلقى خلاف ما قدّر ، بسراب يراه الكافر بالساهرة ، وقد غلبه عطش يوم القيامة ، فيحسبه ماء ، فيأتيه ، فلا يجد ما رجاه ، ويجد زبانية اللّه ، فيأخذونه إلى جهنم ، فيسقونه الحميم والغساق. قيل : هم الذين قال اللّه فيهم : عامِلَةٌ ناصِبَةٌ «1» ، ويَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً «2». قيل : نزلت فى عتبة بن ربيعة بن أمية ، كان ترهب فى الجاهلية ولبس المسوح ، والتمس الدين ، فلما جاء الإسلام كفر. ه.
ثم ضرب مثلا لأعمالهم فى الدنيا ، فقال : أَوْ كَظُلُماتٍ ، «أو» : للتنويع ، فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ عميق كثير الماء ، منسوب إلى اللج ، وهو معظم ماء البحر ، يَغْشاهُ أي : يغشى البحر ، أو من فيه ، أي : يعلوه ويغطيه بالكلية ، مَوْجٌ هو ما ارتفع من الماء ، مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ أي : من فوق الموج موج آخر ، مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ من فوق الموج الأعلى سحاب ، ظُلُماتٌ أي : هذه ظلمات ظلمة السحاب ، وظلمة الأمواج ، وظلمة البحر ، بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ ظلمة الموج على ظلمة البحر ، وظلمة الموج على ظلمة الموج الأسفل ، وظلمة السحاب على الموج ، وهذا أعظم للخوف وأقرب للعطب ، لأنه يغطى النجوم التي يهتدى بها ويشتد معه الريح والمطر ، وذلك يؤكد التلف ، إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ أي : الواقع فيه ، أو من ابتلى بها ، لَمْ يَكَدْ يَراها مبالغة فى «لم يرها» أي : لم يقرب أن يراها ، فضلا عن أن يراها. شبّه أعمالهم ، فى ظلمتها وسوادها لكونها باطلة ، وخلوها عن نور الحق ، بظلمات متراكمة من لج البحر والأمواج والسحاب.
قال ابن جزىّ : لما ذكر حال المؤمنين عقّب ذلك بمثالين لأعمال الكفار الأول : يقتضى حال أعمالهم فى الآخرة ، وأنها لا تنفعهم ، بل يضمحل ثوابها كما يضمحل السراب. والثاني : يقتضى حال أعمالهم فى الدنيا ، وأنها فى غاية الفساد والضلال ، كالظلمة التي بعضها فوق بعض. ثم قال : وفى وصف هذه الظلمات مبالغة ، كما أن فى
___________
(1) الآية 3 من سورة الغاشية.
(2) الآية 104 من سورة الكهف.(4/47)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 48
وصف النور المذكور قبلها مبالغة. ه. وقوله : لما ذكر حال المؤمنين ، يعنى بقوله : رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ .. إلخ ، اللّه بقوله : يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ ، وقيل : كلا المثالين فى الآخرة ، يخيبون من نفعها ، ويخوضون فى بحر ظلمتها.
وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فى قلبه ، من نور توحيده ومعرفته ، فَما لَهُ مِنْ نُورٍ أي : من لم يشأ اللّه أن يهديه لنوره : لم يهتد ، وفى الحديث : «خلق اللّه الخلق فى ظلمة ، ثم رش عليها من نوره ، فمن أصابه ذلك النور اهتدى ، ومن أخطأه ضل» ، وينبغى للقارىء عند هذه الآية أن يقول : (اللهمّ اجعل فى قلبى نورا ، وفى سمعى نورا ، وفى بصرى نورا ، وعن يمينى نورا ، وعن شمالى نورا ، ومن فوقى نورا ، ومن تحتى نورا ، واجعلنى نورا ، وأعظم لى نورا) «1» ، كما فى الحديث فى غير هذا المحل.
الإشارة : كل من لم يتحقق بمقام الإخلاص كانت أعماله كسراب بقيعة ، يحسبه الظمآن ماء ، حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ، ووجد اللّه عنده ، فوفاه حسابه ، أي : يناقشه فيما أراد بعمله ، وأهل التوحيد الخاص : الوجود كله ، عندهم ، كالسراب ، يحسبه الناظر إليه شيئا ، حتى إذا جاءه بفكرته لم يجده شيئا ، ووجد اللّه عنده وحده ، وفيه يقول الشاعر :
من أبصر الخلق كالسّراب فقد ترقّى عن الحجاب
إلى وجود تراه رتقا بلا ابتعاد ولا اقتراب
ولم تشاهد به سواه هناك يهدى إلى الصّواب
فلا خطاب به إليه ولا مشير إلى الخطاب
ومثال من عكف على دنياه ، واتخذ إلهه هواه ، كذى ظلمات فى بحر لجى ، وهو بحر الهوى ، يغشاه موج الجهل والمخالفات ، من فوقه موج الحظوظ والشهوات ، من فوقه سحاب أثر الكائنات ، أو : يغشاه موج الغفلات ، من فوقه موج العادات ، من فوقه سحاب الكائنات ، ظلمات بعضها فوق بعض من حب الدنيا ، وحب الجاه ، وحب الرئاسة ، إذا أخرج يد فكرته لم يكد يراها.
___________
(1) أخرجه البخاري فى (الدعوات ، باب الدعاء إذا انتبه من الليل ح 6316) ، ومسلم فى (صلاة المسافرين ، باب الدعاء فى صلاة الليل ، 1/ 525 - 526 ، ح 763) ، من حديث ابن عباس رضي اللّه عنه.(4/48)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 49
وقال بعضهم : الدنيا كلها بحر لّجّى ، والناس مغروقون فيه ، إلا من عصم اللّه ، وساحله الموت ، فمن لعبت به أمواج الهوى والحظوظ ، فليأوى إلى سفينة الزهد والورع ، وليتمسك برئيس عارف بأهوال البحر ، وهم العارفون باللّه ، فإنه ينجو من أهوالها ، ومن أخطأ هذا غرق فى تيارها ، ولعبت به أمواج حظوظها وشهواتها ، فكان من الهالكين ، نسأل اللّه الحفظ بمنّه وكرمه.
ثم ذكر علامات وجود ذلك النور المتقدم فى أهل السموات والأرض ، فقال :
[سورة النور (24) : الآيات 41 الى 42]
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ (41) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (42)
يقول الحق جل جلاله : أَلَمْ تَرَ يا محمد ، وخصّه بالخطاب إيذانا بأنه صلى اللّه عليه وسلم قد أفاض عليه أعلى مراتب النور وأجلاها ، وبيّن له من أسرار الملكوت أجلّها وأخفاها ، أي : ألم تنظر بعين بصيرتك ، فتعلم علم يقين ، أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ أي : ينزهه على الدّوام مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ من العقلاء وغيرهم ، تنزيها معنويا ، فإن كلا من الموجودات يدل على وجود صانع واجب الوجود ، متصف بصفات الكمال ، مقدس عن كل ما لا يليق بعلو شأنه. أو : تنزيها حسيا بلسان المقال ، ولكن لا تفقهون تسبيحهم. وتخصيص التنزيه بالذكر ، مع دلالة ما فيهما على اتصافه تعالى بنعوت الكمال أيضا لأن مساق الكلام تقبيح حال الكفرة فى إخلالهم بالتنزيه بجعلهم الجمادات شركاء له ودعوى اتخاذه الولد.
وَيسبحه الطَّيْرُ حال كونها صَافَّاتٍ أي : يصففن أجنحتهن فى الهواء ، وتخصيصها بالذكر ، مع اندراجها فى جملة ما فى الأرض لعدم استمرار قرارها فيها ، ولاختصاصها بصنع بارع ، وهو اصطفاف أجنحتها فى الجو ، وتمكينها من الحركة كيف تشاء ، وإرشادها إلى كيفية استعمالها بالقبض والبسط ، ففى ذلك دلالة واضحة على كمال قدرة الصانع المجيد ، وغاية حكمة المبدئ المعيد.
كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ أي : كل واحد من الأشياء المذكورة قد علم اللّه تعالى صلاته ، أي : دعاءه وخضوعه وتسبيحه. أو : كلّ قد علم فى نفسه ما يصدر عنه من صلاة وتسبيح ، فالضمير : ما إليه أو لكل. ولا يبعد أن يلهم اللّه الطير دعاءه وتسبيحه كما ألهمها سائر العلوم الدقيقة ، التي لا يكاد العقلاء يهتدون إليها. وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ لا يعزب عن علمه شىء.(4/49)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 50
وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا لغيره لأنه الخالق لهما ، ولما فيهما من الذوات ، وهو المتصرف فيهما إيجادا واعداما ، (و إلى اللّه المصير) أي : إليه ، خاصّة ، رجوع الكل بالفناء والبعث لا إلى غيره ، وإظهار اسم الجلالة فى وضع الإضمار ، لتربية المهابة ، والإشعار بعلّيّة الحكم. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : ما استقر فى السموات السبع والأرضين السبع كله من قبضة النّور الأوّليّة ، بين حس ومعنى ، حسه خاضع لأحكام الربوبية ، ومعناه قاهر بسطوات الألوهية ، حسه حكمة ، ومعناه قدرة ، حسه ملك ، ومعناه ملكوت ، وهذا معنى قوله : اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ، فافهم.
ثم ذكر جزئيات من تلك النور ، فقال :
[سورة النور (24) : الآيات 43 الى 44]
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ (43) يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (44)
يقول الحق جل جلاله : أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي أي : يسوق ، برفق وسهولة ، سَحاباً : جمع سحابة ، ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ أي : يضم بعضه إلى بعض ، ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً متراكما بعضه فوق بعض ، فَتَرَى الْوَدْقَ : المطر ، يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ من فتوقه ووسطه ، جمع خلل ، كجبال وجبل ، وقيل : مفرد ، كحجاب وحجاز.
قال القشيري : ترتفع بقدرته بخارات البحر ، فيتصعد ، بتسييره وتقديره ، إلى الهواء ، وهو السحاب ، ثم يديره إلى سمت يريد أن ينزل به المطر ، ثم ينزل ما فى السحاب من ماء البحر ، قطرة قطرة ، ويكون الماء ، حين حصوله فى بخارات البحر ، غير عذب ، فيقلبه عذبا ، ويسحّه السحاب سكبا ، فيوصل إلى كلّ موضع قدرا يكون له مرادا معلوما ، لا بالجهد من المخلوقين يمسك عن المواضع الذي عليه ينزله ، ولا بالحيلة يستنزل على المكان الذي لا يمطره. ه. قلت : وهذا أحد الأقوال فى حقيقة المطر ، والمشهور عند أهل السنة : أن اللّه تعالى ينشىء السحاب بقدرته ، ويخلق فيه الماء بحكمته ، وينزله حيث شاء.(4/50)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 51
ثم قال تعالى : وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ ، «من» الأولى : لابتداء الغاية ، والثانية : بدل من الأولى ، والثالثة : لبيان الجنس ، أي : ينزّل البرد ، وهو الثلج المكور ، من السماء ، أي : الغمام العلوي ، فكل ما علاك سماء ، من جبال فيها كائنة من البرد ، ولا غرابة فى أن اللّه يخلق فى السماء جبال برد كما خلق فى الأرض جبال حجر.
قال ابن جزى : قيل : إن الجبال هنا حقيقة ، وإن اللّه جعل فى السماء جبالا من برد ، وقيل : إنه مجاز ، كقولك :
عند فلان جبال من مال أو علم ، أي : هن فى الكثرة مثل الجبال. ه. وأصله لابن عطية. وقال الشيخ أبو زيد الثعالبي : حمل اللفظ على حقيقته أولى ، إن لم يمنع من ذلك مانع. ه. يعنى : ولا مانع هنا ، فيحمل على ظاهره ، وإن اللّه خلق جبال برد فى السماء. وقال الهروي عن ابن عرفة - يعنى اللغوي - : سمعت أحمد بن يحيى يقول : فيه قولان : أحدهما : وينزل من السماء بردا من جبال فى السماء من برد ، والآخر : وينزل من السماء أمثال الجبال من البرد. ويقال : إنما سمى بردا لأنه يبرد وجه الأرض أي : يقشره. ه.
قال البيضاوي : إن الأبخرة إذا تصاعدت ولم يتخللها حرارة ، فبلغت الطبقة الباردة من الهواء ، وقوى البرد هناك ، اجتمع وصار سحابا ، فإن لم يشتد البرد تقاطر مطرا ، وإن اشتد ، فإن وصل إلى الأجزاء البخارية قبل اجتماعها ، نزل ثلجا ، وإلّا نزل بردا ، وقد يبرد الهواء بردا مفرطا فينقبض ، وينعقد سحابا ، وينزل منه المطر أو الثلج. وكل ذلك لا بد وأن يسند إلى إرادة الواجب الحكيم لقيام الدليل على أنها الموجبة لاختصاص الحوادث بمحالّها وأوقاتها ، وإليه أشار بقوله : فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ والضمير للبرد. ه. أي :
فيصيب بذلك البرد من يشاء أن يصيبه به ، فيناله ما ناله من ضرره فى بدنه وماله من زرع أو غيره. وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ أن يصرفه عنه ، فينجو من غائلته.
يَكادُ سَنا بَرْقِهِ أي : ضوء برق السحاب ، الموصوف بما مر من الإزجاء والتآلف. وإضافة البرق إليه ، قبل الإخبار بوجوده ، فيه إيذان بظهور أمره واستغنائه عن التصريح به. وقيل : الضمير للسماء ، وهو أقرب ، أي : يكاد ضوء برق السماء ، ويحتمل أن يعود على «اللّه» تعالى لتقدم ذكره ، أي : يكاد ضوء برقه تعالى يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ ، أي : يخطفها من فرط الإضاءة ، وسرعة ورودها ، ولو عند إغماضها. يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ أي : يصرفهما بالتعاقب ، فيأتى هذا بعد هذا ، أو ينقص أحدهما وزيادة الآخر ، أو بتغيير أحوالهما بالحر والبرد وغيرهما.
إِنَّ فِي ذلِكَ ، الإشارة إلى ما فصل آنفا ، أي : إن فى إزجاء السحاب ، وإنزال الودق ، وتقليب الليل والنهار ، (4/51)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 52
لَعِبْرَةً لدلالة واضحة على وجود الصانع القديم ، القائم بالأشياء ، والمدبر لها بقدرته وحكمته ، لِأُولِي الْأَبْصارِ لذوى العقول الصافية. وهذا من تعدد الدلائل على ظهور نوره تعالى فى الكائنات ، حيث ذكر تسبيح من فى السموات والأرض وما يطير بينهما وخضوعهم له ، وتسخير السحاب وإنزال الأمطار ، وتقليب الليل والنهار ، إلى غير ذلك من لوامح الأنوار. واللّه تعالى أعلم وأحكم.
الإشارة : ألم تر أن اللّه يزجى سحاب الواردات الإلهية ، تحمل العلوم اللدنية ، ثم يؤلف بينه حتى يكون قويا ، يقتطع به صاحبه عن حسه ، ويغيبه عن أمسه ورسمه ، فترى أمطار العلوم اللدنية ، والأسرار الربانية ، والفتوحات العرفانية ، تخرج من خلاله ، أي : من قلب العارف ، وهى نتائج الواردات وثمراتها. وفى الحكم : «لا تزكين واردا لم تعلم ثمرته ، فليس المراد من السحابة الأمطار ، وإنما المراد منها وجود الأثمار».
وينزل من سماء الأرواح من جبال عقول ، فيها علم الرسوم الظاهرة ، فيصيب به من يشاء ، ممن أريد لحمل الشرائع والقيام بها ، ويصرفه عمن يشاء ، ممن أريد أن يكون من عامة الناس ، أو من خاصتهم. إن هبت عليه رياح الحقائق ، فأمطرت على قلبه العلوم الغيبية فأغنته عن العلوم الرسمية ، يكاد سنا برقه الساطع لقلوب أوليائه ، وهو سطوع أنوار الملكوت وأسرار الجبروت ، فإنها تكون أولا كالبرق ، تلمع وتخفى ، ثم يتصل ورودها وشروقها ، فتكون متصلة البروق دائمة الشروق ، نهار بلا ليل ، واتصال بلا انفصال ، ووصال بلا انقطاع. وفى ذلك يقول القائل :
طلعت شمس من أحبّ بليل واستنارت ، فما تلاها غروب
إنّ شمس النهار تغرب بالليل وشمس القلوب ليس لها مغيب
يقلب اللّه ليل القبض على نهر البسط ، ونهار البسط على ليل القبض ، حتى يتصل النهار بالخروج عنهما ، ليكون للّه ، لا لشىء دونه. وباللّه التوفيق.
ولمّا ذكر التجليات العلوية ذكر التجليات السفلية ، فقال :
[سورة النور (24) : آية 45]
وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ ما يَشاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (45)
يقول الحق جل جلاله : وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ أي : خلق كل حيوان يدب على وجه الأرض مِنْ ماءٍ من نوع من الماء مختص بتلك الدابة ، وهو جزء مادته عند الأطباء ، أو : من ماء مخصوص ، وهو النطفة ، (4/52)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 53
ثم خالف بين المخلوقات من تلك النطفة ، فمنها أناسى ، ومنها بهائم ، ومنها هوام وسباع ، وهو كقوله : يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ «1» وهذا دليل على أن لها خالقا مدبرا ، وإلّا لم تختلف لاتفاق الأصل ، وإنما عرّف الماء فى قوله : وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ «2» ونكّره هنا لأن المقصود ثمّة أن أجناس الحيوان مخلوقة من جنس الماء ، وأنه هو الأصل ، وإن تخللت بينه وبينها وسائط ، وأما هنا فالمراد نوع منه.
قالوا : إن أول ما خلق اللّه الماء ، فخلق منه النار والريح والطين ، فخلق من النار الجن ، ومن الريح الملائكة ، ومن الطين آدم ودواب الأرض. قال النسفي. وعلى الثاني : تكون الآية أغلبية لأن من الحيوانات من يتولد من غير نطفة ، كالدود والبعوض وغيرهما.
ثم فصّل أحوالهم بقوله : فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ كالحية والحوت ، وتسمية حركتها مشيا ، مع كونها زحفا ، استعارة ، كما يقال فى الشيء المستمر : قد مشى هذا الأمر على هذا النمط ، أو على طريق المشاكلة لذكر الزاحف مع الماشين. وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ كالإنسان والطير ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ كالبهائم والوحش. وعدم التعرض لما يمشى على أكثر من أربع كالعناكب ونحوها من الحشرات لعدم الاعتداد بها ، لقلتها. وتذكير الضمير فى (منهم) لتغليب العقلاء ، وكذلك التعبير بكلمة (من). وقدّم ما هو أغرق فى القدرة ، وهو الماشي بغير آلة ، ثم الماشي على رجلين ، ثم الماشي على أربع.
يَخْلُقُ اللَّهُ ما يَشاءُ مما ذكر ومما لم يذكر ، بسيطا أو مركبا ، على ما يشاء من الصور والأعضاء والهيئات والطبائع والقوى والأفاعيل ، مع اتحاد العنصر إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فيفعل ما يشاء كما يشاء. وإظهار الاسم الجليل فى الموضعين فى موضع الإضمار لتفخيم شأن الخلق المذكور ، والإيذان بأنه من أحكام الألوهية. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : أظهر الحق تعالى الأشياء من الماء ، وأظهر الماء من نور القبضة ، وأظهر القبضة من بحر سر الذات. أو تقول : أظهر الماء من نور الملكوت ، وأبرز نور الملكوت من بحر الجبروت ، وبحر الجبروت هو بحر أسرار
___________
(1) من الآية 4 من سورة الرعد.
(2) من الآية 30 من سورة الأنبياء.(4/53)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 54
الذات الأزلية ، فالكل منه وإليه ، ولا شىء معه ، فتنوعت أنوار التجليات ، وتعددت أسماؤها بتعدد فروعها ، والمتجلى واحد ، كما قال صاحب العينية :
تجلّى حبيبى فى مرائى جماله ففى كلّ مرئي للحبيب طلائع
فلمّا تبدّى حسنه متنوّعا تسمّى بأسماء فهن مطالع.
ولا يفهم هذا إلا من هداه اللّه لمعرفته ، كما قال :
[سورة النور (24) : آية 46]
لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (46)
يقول الحق جل جلاله : لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ لكل ما يليق بيانه من الأحكام الديني ، ة والأسرار التكوينية. أو : موضحات ، أوضحنا بها ما يحتاجون إليه من علم الشرائع والأحكام ، وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ توفيقه إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ أي : دين قيّم يوصل إلى رضوان اللّه ومعرفته.
الإشارة : لقد أنزلنا من بحر الجبروت أنوارا ساطعة لعالم الملكوت ، واللّه يهدى من يشاء إلى طريق شهود هذه الأنوار. فالطريق المستقيم هى التي توصل إلى حضرة العيان ، على نعت الكشف والوجدان ، وهى ثلاثة مدارج :
المدرج الأول : إتقان الشريعة الظاهرة ، وهى تهذيب الظواهر وتأديبها بالسنّة والمتابعة. والمدرج الثاني : إتقان الطريقة ، وهى تهذيب البواطن وتصفيتها من الرذائل ، فإذا تطهر الباطن ، وكمل تهذيبه ، أشرف على المدرج الثالث ، وهو كشف الحقائق العرفانية والأسرار الربانية ، فيفنى من لم يكن ، ويبقى من لم يزل ، فيقع العيان عل فقد الأعيان ، وتشرق شمس العرفان فتغطى وجود الأكوان. وباللّه التوفيق. «1»
ولما ذكر إنزال الآيات ذكر افتراق الناس إلى ثلاث فرق ، فرقة آمنت ظاهرا وكفرت باطنا ، وهم المنافقون ، وفرقة آمنت ظاهرا وباطنا ، وهم المخلصون ، وفرقة كفرت ظاهرا وباطنا وهم الكافرون ، وبدأ بالأولى ، فقال :
[سورة النور (24) : الآيات 47 الى 50]
وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47) وَإِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتابُوا أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50)
___________
(1) انظر النادرات العينية/ 69.(4/54)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 55
يقول الحق جل جلاله فى شأن من لم يشأ هدايته إلى صراط مستقيم : وَيَقُولُونَ أي : المنافقون آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ بألسنتهم ، وَأَطَعْنا اللّه والرسول فى الأمر والنهى ، ثُمَّ يَتَوَلَّى عن قبول حكمه فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ أي : من بعد ما صدر عنهم من ادعاء الإيمان باللّه وبالرسول والطاعة لهما.
قال الحسن : نزلت فى المنافقين ، الذين كانوا يظهرون الإيمان ويسرون الكفر. وقيل : نزلت فى «بشر» المنافق ، خاصم يهوديا ، فدعاه إلى كعب بن الأشرف ، ودعاه اليهودي إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم ، فقال بشر : لا ، إن محمدا يحيف علينا «1» - قبح اللّه سعيه. وقيل : فى المغيرة بن وائل ، خاصم عليّا رضي اللّه عنه فى أرض وماء ، فأبى أن يتحاكم إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. وأيا ما كان فصيغة الجمع تدل على أن للقائل طائفة يساعدونه ويشايعونه فى تلك المقالة.
ثم حكم عليهم بالكفر ، فقال : وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ أي : المخلصين ، والإشارة إلى القائلين : آمنا باللّه وبالرسول ، لا إلى الفريق المتولى منهم فقط ، لئلا يلزم نفى الإيمان عنهم فقط ، دون من قبلهم ، بخلاف العكس ، فإن نفى الإيمان عن القائلين يقتضى نفيه عنهم ، على أبلغ وجه وآكده ، وما فيه من معنى البعد للإشعار ببعد منزلتهم فى الكفر والفساد.
وَإِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ أي : إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لأن حكمه حكم اللّه ، لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أي :
ليحكم الرسول بينهم لأنه المباشر للحكم حقيقة ، وإن كان ذلك حكم اللّه فى الحقيقة لأنه خليفته. وذكر اللّه تعالى لتفخيم شأنه عليه ، والإيذان بجلالة قدره عنده. فإذا دعوا إلى التحاكم بينهم إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ أي :
فاجأ فريق منهم الإعراض عن المحاكمة إليه صلى اللّه عليه وسلم لكون الحق عليهم ، وقد علموا أنه صلى اللّه عليه وسلم يحكم بالحق على من كان.
وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ على غيرهم يَأْتُوا إِلَيْهِ إلى الرسول مُذْعِنِينَ مسرعين فى الطاعة ، طلبا لحقهم ، لا رضا بحكم رسولهم. قال الزجاج : والإذعان : الإسراع مع الطاعة. والمعنى : أنهم لمعرفتهم أنك لا تحكم إلا بالحق المر والعدل المحض ، يمتنعون من المحاكمة إليك ، إذا ركبهم الحق ، لئلا تنزعه منهم بقضائك عليهم لخصومهم ، وإن ثبت لهم حق على خصم أسرعوا إليك ، ولم يرضوا إلا بحكومتك ، لتأخذ لهم ما وجب لهم على خصمهم.
___________
(1) انظر تفسير البغوي (6/ 55) ، وأسباب النزول للواحدى (ص 337).(4/55)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 56
أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ كفر ونفاق ، أَمِ ارْتابُوا فى نبوته صلى اللّه عليه وسلم ، أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ أن يجور اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ فيحكم بينهم بغير الحق. قسّم الحق تعالى الأمر فى صدود المنافقين عن حكومته - عليه الصلاة والسلام - إذا كان الحق عليهم إلى ثلاث : بأن يكونوا مرضى القلوب منافقين ، أو مرتابين فى أمر نبوته ، أو خائفين الحيف فى قضائه ، ثم أبطل الكل بقوله : بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ، أما الأولان فلأنه لو كان شىء منهما لأعرضوا عنه ، عند كون الحق لهم لتحقق نفاقهم وارتيابهم ، وأما الثالث فلمعرفتهم بأحواله صلى اللّه عليه وسلم فى الأمان والثبات على الحق ، فهم لا يشكون أنه لا يحيف بل لأنهم هم الظالمون ، يريدون أن يظلموا من له الحق عليهم ، ويتم لهم جحودهم ، فيأبون المحاكمة إليه - عليه الصلاة والسلام - لأنه صلى اللّه عليه وسلم يقضى عليهم بالحق الصريح ، المؤيد بالوحى الصحيح.
الإشارة : ترى فريقا من الناس يدّعون الإيمان والطاعة والمحبة ، ونفوسهم غالبة عليهم ، فإذا دعوا إلى من يحكم بينهم وبينها ، بأن يأمرهم بمجاهدتها أو قتلها إذا فريق منهم معرضون ، وإن يكن لهم الحق ، بأن وجدوا من يدلهم على البقاء مع عوائدها وشهواتها ، يأتوا إليه مذعنين. أفي قلوبهم شك ووهم ، أم ارتابوا فى وجود الطبيب ، أم يخافون أن يحيف اللّه عليهم؟ بأن يدلهم على من يتعبهم ولا يبرئهم ، حيث حسّنوا الظن به والتجئوا إليه ، فلا يدلهم إلا على من يوصلهم إليه ، بل أولئك هم الظالمون لنفوسهم ، حيث حرموها الوصول ، وتركوها فى أودية الشكوك والخواطر تجول. قال الورتجبي : وَإِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ أي : دعوا إلى مشاهدة اللّه بنعت المحبة والمعرفة ، وعبودية بنعت الإخلاص ، ودعوا إلى رسوله بالمتابعة والموافقة فى الشريعة والطريقة. ه.
ثم ذكر الفريق الثاني ، وهم المخلصون ، فقال :
[سورة النور (24) : الآيات 51 الى 52]
إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ (52)
قلت : (قول) : خبر «كان» مقدّم ، و(أن يقولوا) : اسمها مؤخر ، وقرأ الحسن : بالرفع على الاسمية ، والأول :
أرجح صناعة ، والثاني : أظهر دلالة ، وأكثر إفادة. انظر أبا السعود.(4/56)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 57
يقول الحق جل جلاله : إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ الصادر عنهم إِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ الرسول صلى اللّه عليه وسلم بَيْنَهُمْ وبين خصومهم ، سواء كانوا منهم أو من غيرهم ، أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا قوله ، وَأَطَعْنا أمره ، وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ الفائزون بكل مطلب ، الناجون من كل مهرب. والإشارة إلى المؤمنين باعتبار صدور القول المذكور عنهم ، وما فيه من البعد ، للإشعار بعلو رتبتهم ، وبعد منزلتهم فى الفضل ، أي : أولئك المنعوتون بتلك النعوت الجميلة هم الفائزون بكل مطلوب.
وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ، هذا استئناف جىء به لتقرير ما قبله من حسن حال المؤمنين ، وترغيب من عداهم فى الانتظام فى سلكهم ، أي : ومن يطع اللّه ورسوله ، كائنا من كان ، فيما أمرا به من الأحكام الشرعية اللازمة والمتعدية ، وقيل : من يطع اللّه فى فرائضه ، ورسوله فى سننه. وَيَخْشَ اللَّهَ على ما مضى من ذنوبه ، وَيَتَّقْهِ فيما يستقبل من عمره ، فَأُولئِكَ الموصوفون بما ذك ر من الطاعة والخشية ، والاتقاء ، هُمُ الْفائِزُونَ بالنعيم المقيم ، لا من عداهم.
وعن بعض الملوك : أنه سأل عن آية كافية ، فتليت عليه هذه الآية. وهى جامعة لأسباب الفوز. قال القرطبي :
ذكر أسلم : أن عمر بينما هو قائم فى مسجده صلى اللّه عليه وسلم فإذا رجل من دهاقين الروم قائم على رأسه ، وهو يقول :
أشهد أن لا إله إلا اللّه ، وأشهد أن محمدا رسول اللّه ، فقال له عمر : ما شأنك؟ قال : أسلمت ، قال : ألهذا سبب؟ قال :
نعم إنى قرأت التوراة والزبور والإنجيل ، وكثيرا من كتب الأنبياء ، فسمعت أسيرا يقرأ آية من القرآن ، جمع فيها كل ما فى الكتب المتقدمة ، فعلمت أنه من عند اللّه ، فأسلمت. قال : ما هذه الآية؟ قال قوله تعالى : وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ فى الفرائض ، وَرَسُولَهُ فى السنن ، وَيَخْشَ اللَّهَ فيما مضى من عمره ، وَيَتَّقْهِ فيما بقي ، فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ والفائز : من نجا من النار وأدخل الجنة ، فقال عمر : قال النبي صلى اللّه عليه وسلم : «أعطيت جوامع الكلم «1»». ه «2». واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : إنما كان قول المؤمنين الكاملين ، الطالبين الوصول إلى حضرة رب العالمين ، إذا دعوا إلى حضرة اللّه ورسوله ليحكم بينهم وبين نفوسهم التي حجبتهم حتى يغيبوا عنها ، أن يقولوا : سمعنا وأطعنا ، ويدخلوا تحت تربية المشايخ ، فإذا أمروهم أو نهوهم ، قالوا : سمعنا وأطعنا ، وأولئك هم المفلحون الفائزون بالوصول إلى اللّه تعالى.
ومن يطع اللّه فى أمره ونهيه ، ورسوله فى سنّته ، وما رغّب فيه ، ويخش اللّه أن يعاتبه ، أو يؤدبه ، ويتقه ، أي : يجعل
___________
(1) بعض حديث ، أخرجه البخاري فى (التعبير ، باب رؤيا الليل ، ح 6998) ومسلم فى (المساجد ، 1/ 371 ، ح 523) عن أبى هريرة رضى اللّه عنه. ولفظ البخاري : «أعطيت مفاتيح الكلم».
(2) انظر تفسير القرطبي (5/ 4819).(4/57)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 58
وقاية بينه وبين ما يحجبه أو يبعده عنه ، فأولئك هم الفائزون الظافرون بمعرفة اللّه على نعت الشهود والعيان. وباللّه التوفيق.
ثم رجع إلى تتمة القسم الأول ، حاكيا بعض جنايتهم ، فقال :
[سورة النور (24) : الآيات 53 الى 54]
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لا تُقْسِمُوا طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (53) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (54)
قلت : (جهد) : مصدر مؤكد لفعله ، الذي هو فى حيز النصب على الحال ، من فاعل «أقسموا» ، ومعنى جهد اليمين : بلوغ غايتها بطريق الاستعارة ، من قولهم : جهد نفسه : إذا بلغ أقصى وسعها وطاقتها. وأصل أقسم جهد اليمين : أقسم بجهد اليمين جهدا ، فحذف الفعل وقدم المصدر ، فوضع موضعه مضافا إلى المفعول ، كقوله :
فَضَرْبَ الرِّقابِ «1» وحكم هذا المنصوب حكم الحال ، كأنه قال : أقسموا جاهدين أيمانهم. و(طاعة) : مبتدأ حذف خبره ، أي : طاعة معروفة أولى من تسويفكم ، أو : خبر عن محذوف ، أي : الذي يطلب منكم طاعة معروفة.
يقول الحق جل جلاله : وَأَقْسَمُوا
أي : المنافقون بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ
أي : بلغوا فيها غاية وسعهم ، بأن حلفوا باللّه. وعن ابن عباس رضي اللّه عنه : (من حلف باللّه فقد جهد يمينه) ، لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَ
أي :
قالوا : لئن أمرنا محمد بالخروج للغزو ، أو من ديارنا وأموالنا ، لخرجنا. وحيث كانت مقالتهم هذه كاذبة ويمينهم فاجرة أمر عليه الصلاة والسلام - بردها حيث قيل : قُلْ لا تُقْسِمُوا
أي : قل ردا عليهم ، وزجرا عن التفوه بها : لا تحلفوا وأنتم كاذبون ، طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ
،
تعليل للنهى ، أي : لا تقسموا على ما تدعون من الطاعة لأن طاعتكم طاعة نفاقية ، معروفة بالنفاق ، واقعة باللسان فقط من غير مواطأة للقلب. وإنما عبّر عنها بمعروفة للإيذان بأن كونها نفاقية مشهور معروف لكل أحد. وحملها على الطاعة الحقيقة ، على حذف المبتدأ أو الخبر ، مما لا يساعده المقام. أنظر أبا السعود.
قال القشيري : طاعة فى الوقت أولى من تسويف فى الوعد ، ولا تعدوا بما هو معلوم أنكم لا تفوا به. ه. وقال النسفي : طاعة معروفة أمثل وأولى بكم من هذه الأيمان الفاجرة. أو : الذي يطلب منكم طاعة معروفة معلومة لا يشك فيها ولا يرتاب ، كطاعة الخلص من المؤمنين ، لا أيمان تقسمونها بأفواهكم ، وقلوبكم على خلافها. ه.
___________
(1) من الآية 5 من سورة سيدنا محمد.(4/58)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 59
إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ
من الأعمال الظاهرة والباطنة ، التي من جملتها ما تظهرونه من الأكاذيب المؤكدة بالأيمان الفاجرة ، وما تضمرونه فى قلوبكم من الكفر والنفاق ، والعزيمة على مخادعة المؤمنين ، وغيرها من فنون الفساد.
قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ ، أمر - عليه الصلاة والسلام - بتبليغ ما خاطبهم اللّه به ، وصرف الكلام عن الغيبة إلى الخطاب ، وهو أبلغ فى تبكيتهم ، فَإِنْ تَوَلَّوْا - بحذف إحدى التاءين بدليل قوله :
وَعَلَيْكُمْ أي : فإن تعرضوا عن الطاعة إثر ما أمرتكم بها فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ من التبليغ وقد بلّغ ، وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ من التلقي بالقبول والإذعان. والمعنى : فإن تعرضوا عن الإيمان فما ضررتم إلا أنفسكم ، فإن الرسول ليس عليه إلا ما حمله اللّه تعالى من أداء الرسالة ، فإذا أدى فقد خرج عن عهدة تكليفه. وأما أنتم فعليكم ما كلفتم ، أي : ما أمرتم به من الطاعة والإذعان ، فإن لم تفعلوا وتوليتم فقد عرّضتم نفوسكم لسخط اللّه وعقوبته. قال القشيري : قل يا محمد : أطيعوا اللّه ، فإن أجابوا ، سعدوا فى الدارين ، وإنما أحسنوا لأنفسهم. وإن تولوا فما أضروا إلا بأنفسهم ، ويكون اللوم فى المستقبل عليهم ، وسوف يلقون سوء عواقبهم. ه.
وَإِنْ تُطِيعُوهُ فيما أمركم به من الهدى تَهْتَدُوا إلى الحق ، الذي هو المقصد الأصلى الموصل إلى كل خير ، والمنجى من كل شر ، وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ الموضح لكل ما يحتاج إلى الإيضاح ، أو :
البيّن الوضوح لكونه مقرونا بالآيات والمعجزات المتواترة. والجملة مقررة لما قبلها من أن غائلة التولي وفائدة الإطاعة مقصورتان عليهم. واللام : إما للجنس المنتظم فيه - عليه الصلاة والسلام - انتظاما أوليا ، أو للعهد ، أي :
ما على جنس الرسول كائنا من كان ، أو ما عليه - عليه الصلاة والسلام - إلا التبليغ الواضح. وباللّه التوفيق.
الإشارة : ترى بعض الناس يقسمون باللّه جهد أيمانهم : لئن ظهر شيخ التربية وأمرهم بالخروج عن أموالهم وأنفسهم ليخرجن ، فلما ظهر تولوا وأعرضوا ، فيقال لهم : فإن تولوا فإنما عليه ما حمّل من الدلالة على اللّه ، والتعريف به ، وعليكم ما حملتم من الدخول تحت تربيته ، وإن تطيعوه تهتدوا إلى معرفة اللّه بالعيان ، وما على الرسول إلا البلاغ المبين.(4/59)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 60
ثم وعد أهل الإخلاص بالنصر والتمكين ، فقال :
[سورة النور (24) : الآيات 55 الى 56]
وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (55) وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (56)
قلت : (ليستخلفنهم) : جواب لقسم مضمر ، أو تنزيل وعده تعالى منزلة القسم ، و(كما) : الكاف : محلها النصب على المصدر التشبيهى ، أي : استخلافا كائنا كاستخلافه من قبلهم. و(ما) : مصدرية. و(يعبدوننى) : حال من الموصول الأول ، مقيدة للوعد بالثبات على التوحيد ، أو استئناف ببيان مقتضى الاستخلاف ، و(لا يشركون) : حال من واو (يعبدوننى).
يقول الحق جل جلاله : وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ أي : كل من اتصف بالإيمان بعد الكفر من أي طائفة كان ، وفى أي وقت وجد ، لا من آمن من المنافقين فقط ، ولا من آمن بعد نزول الآية الكريمة ، بحسب ظهور الوعد الكريم. و(من) : للبيان. وقيل : للتبعيض ، ويراد المهاجرون فقط «1». وَعَمِلُوا مع الإيمان الأعمال الصَّالِحاتِ ، وتوسيط المجرور بين المعطوفين لإظهار أصالة الإيمان وعراقته فى استتباع الآثار والأحكام ، والإيذان بكونه أول ما يطلب منهم ، وأهم ما يجب عليهم.
وأما تأخيره فى قوله : وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً «2» فإن الضمير للذين آمنوا معه صلى اللّه عليه وسلّم فلا ريب أنهم جامعون بين الإيمان والأعمال الصالحة ، مثابون عليها ، فلا بد من ورود بيانهم بعد نعوتهم الجليلة بكمالها.
ثم ذكر الموعود به ، فقال : لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ أي : ليجعلنهم خلفاء متصرفين فيما تصرف الملوك فى مماليكهم ، والمراد بالأرض : أرض الكفار كلها ، لقوله عليه الصلاة والسلام : «ليدخلن هذا الدين ما دخل الليل والنهار» «3» ،
___________
(1) هذا التخصيص والقصر ، لا برهان عليه ، صحيح أن المقصود بالآية هم أولا ، المهاجرون والأنصار ، ولكن كل من تحققت فيه الآية ، فهو متحقق له التمكين - بإذن اللّه .. وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ ...
(2) من الآية 29 من سورة الفتح.
(3) أخرجه أحمد فى المسند (4/ 103) والبيهقي فى الكبرى (9/ 181) والحاكم (4/ 430) وصححه ، ووافقه الذهبي ، من حديث تميم الداري ، بلفظ : «ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار ، ولا يترك اللّه بيت مدر ولا وبر إلا أدخله هذا الدين ، بعز عزيز ، أو بذل ذليل ، يعز بعز اللّه فى الإسلام ، ويذل به فى الكفر».(4/60)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 61
كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كبنى إسرائيل ، استخلفهم اللّه فى مصر والشام ، بعد إهلاك فرعون والجبابرة ، ومن قبلهم من الأمم المؤمنة التي استخلفهم اللّه فى أرض من أهلكه اللّه بكفره. كما قال تعالى : فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ. وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ «1».
وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ : عطف على لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ ، داخل معه فى سلك الجواب ، وتأخيره عنه مع كونه أصل الرغائب الموعودة وأعظمها لأن النفوس إلى الحظوظ العاجلة أميل ، فتصدير المواعد بها فى الاستمالة أدخل ، والمعنى : ليجعل دينهم ثابتا متمكنا مقررا لا يتبدل ولا يتغير ، ولا تنسخ أحكامه إلى يوم القيامة. ثم وصفه بقوله : الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ ، وهو دين الإسلام ، وصفه بالارتضاء تأليفا ومزيد ترغيب فيه وفضل تثبيت عليه. وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ بالتشديد والتخفيف من الإبدال ، مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ من الأعداء أَمْناً.
نزلت حيث كان أصحاب رسول صلى اللّه عليه وسلّم قبل الهجرة عشر سنين ، أو أكثر ، خائفين ، ولمّا هاجروا كانوا بالمدينة يصبحون فى السلاح ويمسون فيه ، حتى قال رجل : ما يأتى علينا يوم نأمن فيه ، ونضع السلاح ، فلما نزلت ، قال عليه الصلاة والسلام : «لا تصبرون إلا يسيرا حتى يجلس الرجل منكم فى الملأ العظيم ، محتبيا ، ليس معه حديدة» «2» ، فأنجز اللّه وعده ، فأمنوا ، وأظهرهم على جزيرة العرب ، وفتح لهم بلاد المشرق والمغرب ، ومزقوا ملك الأكاسرة ، وملكوا خزائنهم ، واستولوا على الدنيا بحذافيرها. وفيه من الإخبار بالغيب ما لا يخفى. وقيل : الخوف والأمن فى الآخرة.
ثم مدحهم بالإخلاص فقال : يَعْبُدُونَنِي وحدي ، لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً أي : حال كونهم موحدين غير مشركين بي شيئا من الأشياء ، شركا جليا ولا خفيا لرسوخ محبتهم ، فلا يحبون معه غيره ، وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ أي : بعد الوعد الكريم ، كفران النعمة ، أو الرجوع عن الإيمان ، كما فعل أهل الردة ، فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ الكاملون فى الفسق ، حيث كفروا تلك النعمة بعد ظهور عزها وأنوارها ، قيل : أول من كفر هذه النعمة قتلة عثمان رضي اللّه عنه فاقتتلوا بعد ما كانوا إخوانا.
والآية أوضح دليل على صحة خلافة الخلفاء الراشدين لأن المستخلفين الذين آمنوا وعملوا الصالحات على ما ينبغى هم الخلفاء - رضي اللّه عنهم - .
___________
(1) من الآية 13 من سورة إبراهيم. [.....]
(2) أخرجه الطبري (18/ 159 - 160). وعزاه فى الدر المنثور (5/ 100) لعبد بن حميد ، وابن أبى حاتم ، عن أبى العالية. وانظر أسباب النزول للواحدى (338).(4/61)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 62
ولمّا كان كفر من كفر بعد الوعد إنما كان بمنع الزكاة ، قرنه مع الصلاة فى الأمر به فقال : وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ فمن فرّق بينهما فقد كفر ، وكان من الفاسقين. وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فيما دعاكم إليه وأمركم به ، ومن جملة ما أمر به : طاعة أمرائه وخلفائه لقوله : «عليكم بسنتى ، وسنّة الخلفاء الراشدين من بعدي ، عضّوا عليها بالنواجذ» «1» ، فمن امتنع من دفع الزكاة لخليفته - كما فعل أهل الردة - فقد كفر ، ومن أداها إليه كما أمره اللّه فقد استوجب الرحمة ، لقوله : لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ أي : لكى ترحموا ، فإنها من مستجلبات الرحمة. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : سنة اللّه تعالى فى خواصه : أن يسلط عليهم فى بدايتهم الخلق ، فينزل بهم الذل والفقر والخوف من الرجوع عن الطريق ، ثم يعزهم ، ويمكن لهم دينهم الذي ارتضى لهم ، ويبدلهم من بعد خوفهم أمنا ، كما قال الشاذلى رضي اللّه عنه : اللهم إن القوم قد حكمت عليهم بالذل حتى عزوا ... إلخ كلامه.
قال القشيري : وفى الآية إشارة إلى أئمة الدين ، الذين هم أركان السنّة «2» ودعائم الإسلام ، الناصحون لعباد اللّه ، الهادون من يسترشد فى اللّه. ثم قال : فأما حفاظ الدين فهم الأئمة والعلماء الناصحون لدين اللّه ، وهم أصناف : قوم هم حفّاظ أخبار الرسول صلى اللّه عليه وسلّم ، وحفّاظ القرآن ، وهم بمنزلة الخزنة ، وقوم هم علماء الأصول ، الرادّون على أهل العناد ، وأصحاب الابتداع ، بواضح الأدلة ، وهم بطارقة الإسلام وشجعانه ، وقوم هم الفقهاء المرجوع إليهم فى علوم الشريعة وفى العبادات وكيفية المعاملات ، وهم من الدين بمنزلة الوكلاء والمتصرفين فى الملك ، وآخرون هم أهل المعرفة وأصحاب الحقائق ، وهم فى الدّين كخواص الملك وأعيان مجلس السلطان وأرباب الأسرار ، الذين لا يبرحون فى عالى مجلس السلطان ، فالدين معمور بهؤلاء على اختلافهم إلى يوم القيامة. ه «3». وتقدم مثله فى قوله : فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ ... إلخ «4». واللّه تعالى أعلم.
ثم ذكر الفريق الثالث ، وهم الكفرة ظاهرا وباطنا ، فقال :
[سورة النور (24) : آية 57]
لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (57)
___________
(1) أخرجه - بطوله - أحمد فى المسند (4/ 127) وأبو داود فى (السنة ، باب فى لزوم السنة 5/ 13 - 14 ح 4607) والترمذي فى (العلم ، باب فى الأخذ بالسنة واجتناب البدع 5/ 43 ، ح 2676) وابن ماجه فى (المقدمة ، باب اتباع سنة الخلفاء الراشدين ، 1/ 16 ح 42) من حديث العرباض بن سارية.
قلت : والنواجذ آخر الأضراس ، واحدها : ناجذ. وأراد بذلك الجد فى لزوم السنة ، فعل من أمسك الشيء بين أضراسه ، وعضّ عليها ، منعا له أن ينتزع.
(2) فى القشيري : «الملّة».
(3) بتصرف.
(4) الآية 122 من سورة التوبة.(4/62)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 63
يقول الحق جل جلاله : لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ أي : فائتين اللّه عن إدراكهم وإهلاكهم ، فى قطر من أقطار الأرض ، بل لا بد من أخذهم ، عاجلا أو آجلا ، والخطاب للرسول صلى اللّه عليه وسلّم أو لكل سامع. والَّذِينَ :
مفعول أول ، و(معجزين) : مفعول ثان. وقرأ حمزة والشامي بالغيب ، و(الذين) : فاعل ، والأول : محذوف ، أي :
لا يحسبن الذين كفروا أنفسهم معجزين فِي الْأَرْضِ. ومَأْواهُمُ النَّارُ : معطوف على محذوف ، أي : بل هم مدركون ، وَمَأْواهُمُ النَّارُ أي : مسكنهم ومرجعهم ، وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ أي : واللّه لبئس المرجع هى. وفى إيراد النار ، بعنوان كونها مأوى ومصيرا لهم ، إثر نفى قوتهم بالهرب فى الأرض كل مهرب ، من الجزالة ما لا غاية وراءه. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : لا تحسبن أهل الانتقاد على أولياء اللّه أنهم فائتون ، بل لا بد من غيرة اللّه عليهم ، عاجلا أو آجلا ، فى الظاهر أو الباطن ، ومأواهم نار القطيعة ولبئس المصير. وقال القشيري على هذه الآية : الباطل قد تكون له صولة لكنه يختل ، وما لذلك بقاء ، ولعل لبثه من عارض الشتاء فى القيظ ، أي : الحر. ه «1». واللّه تعالى أعلم.
ثم تمم الكلام على الاستئذان المتقدم ، ووسط بينهما مواعظ تحث على الامتثال ، فقال :
[سورة النور (24) : الآيات 58 الى 59]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (58) وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (59)
يقول الحق جل جلاله : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ، ويدخل فيه النساء ، لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ من العبيد والإماء ، وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ أي : والأطفال الذين لم يحتلموا من الأحرار ،
___________
(1) العبارة فى لطائف الإشارات المطبوع : [إن الباطل قد تكون له دولة ، ولكنها تخييل ، ولذلك بقاء ، وأقل لبثا ، من عارض ينشأ عن القيظ].(4/63)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 64
ثَلاثَ مَرَّاتٍ فى اليوم والليلة ، وهى مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ لأنه وقت القيام من المضاجع ، وطرح ما ينام فيه من الثياب ، ولبس ثياب اليقظة ، وربما يجدهم فى هذا الوقت نائمين متجردين ، وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وهى نصف النهار فى القيظ لأنها وقت وضع الثياب للقيلولة ، وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ لأنه وقت التجرد من ثياب اليقظة ، والالتحاف بثياب النوم. هى ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ ، ومن نصبه فبدل من ثَلاثَ مَرَّاتٍ أي : أوقات ثلاث عورات ، وسمى كل واحد من هذه الأوقات عورة لأن الإنسان يختل تستره فيها «1» ، والعورة : الخلل ، ومنه سمى الأعور لاختلال عينه.
روى أن غلاما لأسماء بنت أبى مرثد دخل عليها فى وقت كرهته ، فنزلت «2». وقيل : أرسل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مدلج بن عمرو الأنصاري ، وكان غلاما ، وقت الظهيرة ، ليدعو عمر رضي اللّه عنه ، فدخل عليه وهو نائم قد انكشف عنه ثوبه ، فقال عمر رضي اللّه عنه : لوددت أن اللّه تعالى نهى عن الدخول فى هذه الساعات إلا بإذن ، فانطلق إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم ، فوجده وقد نزلت عليه هذه الآية «3». والأمر ، قيل : للوجوب ، وقيل : للندب.
ثم عذرهم فى ترك الاستئذان فى غير هذه الأوقات ، فقال : لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَّ أي :
لا إثم عليكم ولا على المذكورين من المماليك والغلمان فى الدخول بغير استئذان بعد كل واحدة من تلك العورات الثلاث ، أي : فى الأزمنة التي بين هذه العورات الثلاث.
ثم بيّن العلة فى ترك الاستئذان فى هذه الأوقات بقوله : طَوَّافُونَ أي : هم طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ لحاجة البيت والخدمة ، بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ أي : بعضكم طائف على بعض ، أو يطوف على بعض ، والجملة : إما بدل مما قبلها ، أو بيان ، يعنى : أنكم محتاجون إلى المخالطة والمداخلة ، يطوفون عليكم للخدمة وتطوفون عليهم للاستخدام ، فلو جزم الأمر بالاستئذان فى كل وقت لأفضى إلى الحرج ، وهو مدفوع بالنص ، كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ أي : كما بيّن الاستئذان ، يبين لكم غيره من الآيات التي تحتاجون إلى بيانها ، وَاللَّهُ عَلِيمٌ بمصالح عباده ، حَكِيمٌ فيما دبّر وحكم به.
وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ أي : الأحرار دون المماليك الْحُلُمَ أي : الاحتلام ، وهو البلوغ ، وأرادوا الدخول عليكم فَلْيَسْتَأْذِنُوا فى جميع الأوقات. قال القرطبي : لم يقل : فليستأذنوكم ، وقال فى الأولى :
___________
(1) فى الأصول : «ستره» ، والمثبت من تفسير النسفي.
(2 - 3) ذكره ابن كثير فى تفسيره (3/ 303) والواحدي فى أسباب النزول (ص 339) والبغوي فى التفسير (6/ 60) عن مقاتل ، بدون إسناد.(4/64)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 65
لِيَسْتَأْذِنْكُمُ لأن الأطفال غير مخاطبين ولا متعبدين. ه. قلت : فالمخاطبون فى الأولى هم الأولياء بتعليمهم الاستئذان وإيصائهم به ، وهنا صاروا بالغين ، فأمرهم بالاستئذان كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أي : الذين بلغوا الحلم من قبلهم ، وهم الرجال المذكورون فى قوله : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ ... «1»
الآية. والمعنى : أن الأطفال مأذون لهم فى الدخول بغير إذن ، إلا فى العورات الثلاث ، فإذا اعتاد الأطفال ذلك ثم بلغوا الحلم وجب أن يفطموا عن تلك العادة ، ويحملوا على أن يستأذنوا فى جميع الأوقات ، كالرجال الكبار الذين لم يعتادوا الدخول عليكم إلا بإذن.
والناس عن هذه غافلون. عن ابن عباس رضي اللّه عنه : ثلاث آيات جحدهن الناس : الإذن كله ، وقوله : إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ «2» ، وقوله : وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ .. «3». وعن سعيد بن جبير : (يقولون : إنها منسوخة ، واللّه ما هى بمنسوخة) «4». وعن ابن عباس أيضا قال : إنما أمروا بها حين لم يكن للبيوت الستر ، فلما وجدوا ذلك استغنوا عن الاستئذان. وعن أبى محمد مكى : هذا الأمر إنما كان من اللّه للمؤمنين إذ كانت البيوت بغير أبواب. قلت : أما باعتبار الأجانب فالأبواب تكفى ، وأما باعتبار المماليك والأطفال الذين يلجون الدار من غير حجر فلا تكفى الأبواب فى حقهم ، فلا بد من الاستئذان كما فى الآية.
كَذلِكَ أي : مثل ذلك البيان العجيب يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ. قال ابن عرفة : قال قبل هذه وبعدها :
الآيات ، وفى هذه : آياته لوجهين ، الأول : هذه خاصة بالأطفال ، وما قبلها عامة فى العبيد والأطفال ، فأطلقت الآية ، ولم تقيد بالإضافة ، وهذه خاصة ، فعبّر عنها بلفظ خاص. الثاني : أن الخطاب بما هنا للبالغين ، فأسند فيه الحكم إلى اللّه تعالى ، تخويفا لهم وتشديدا عليهم. ه. والمتبادر أنه تفنن. قاله المحشى الفاسى. وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ فيما أمر ودبر.
الإشارة : إنما أمر اللّه بالاستئذان لئلا يكشف السر إلى غير أهله غيرة منه تعالى على كشف أسرار عباده ، وإذا كان غار على كشف سر عبده ، فغيرته على كشف أسرار ذاته أولى وأحرى ، فيجب كتم أسرار الذات عن غير أهله ، وكل من خصه اللّه بسر وجب كتمه إلا على من هو أهل له ، وهو من أعطى نفسه وماله ، وباعهما للّه تعالى.
وكل من أطلع على سر من سرار اللّه أو قضاء من قضائه ، ثم استشرف أن يعلم الناس بذلك فهو كذاب. وفى الحكم :
«استشرافك أن يعلم الخلق بخصوصيّتك دليل على عدم صدقك فى عبوديتك». وباللّه التوفيق.
___________
(1) الآية 27 من سورة النور.
(2) الآية 13 من سورة الحجرات.
(3) الآية 8 من سورة النساء. والخبر عزاه ابن كثير فى التفسير (3/ 303) لابن أبى حاتم.
(4) أخرجه الطبري (18/ 163).(4/65)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 66
ثم رخّص للعجائز فى عدم التستر من الرجال ، فقال :
[سورة النور (24) : آية 60]
وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللاَّتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (60)
قلت : «القواعد» جمع قاعد ، بغير تاء لأنهما من الصفات المختصة بالنساء ، كالطالق والحائض ، فلا تحتاج إلى تمييز ، وهو مبتدأ ، و(اللاتي ..) إلخ : صفة له ، (فليس) : خبر ، وأدخلت الفاء لما فى المبتدأ من معنى الشرط من العموم الذي فى الألف واللام. و(يرجون) : مبنى لاتصاله بنون النسوة.
يقول الحق جل جلاله : وَالْقَواعِدُ أي : العجائز مِنَ النِّساءِ اللَّاتِي قعدن عن الحيض والولادة لكبرهنّ. قال ابن قتيبة : سمين بذلك لأنهن بعد الكبر يكثرن القعود. ويقرب منه من فسره بالقعود عن التصرف للكبر ، والظاهر أن قوله : لا يَرْجُونَ نِكاحاً : نعت مخصّص ، إن فسّر القعود فيها بالقعود عن الحيض والولد لأنه قد يكون فيها مع ذلك رغبة للرجال. وقد يجعل كاشفا إذا فسر القعود باستقذار الرجال لهن من عزوف النفس عنهن ، فقوله : لا يَرْجُونَ نِكاحاً أي : لا يطمعن فى رغبة الرجال فيهن ، فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ فى أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ أي : الثياب الظاهرة ، كالجلباب الذي فوق الخمار ونحوه.
قال ابن عطية : قرأ ابن مسعود وأبىّ : «أن يضعن من ثيابهن». والعرب تقول : امرأة واضع ، للتى كبرت فوضعت خمارها ، قال فى الحاشية : والآية صادقة بما إذا دخل أجنبى بعد الاستئذان ، وبخروجهن أيضا ، ومن التبرج : لبس ما يصف لكونه رقيقا ، أو : شفافا. ه.
ثم قيّد الرخصة بقوله : غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ أي : مظهرات زينة ، يريد الزينة الخفية ، كالشعر والنحر والساق ونحوه ، أي : لا يقصدن بوضعهن التبرج وإظهار محاسنها ، ولكن التخفيف. وحقيقة التبرج : تكلّف إظهار ما يجب إخفاؤه ، من قولهم : سفينة بارجة : لا غطاء عليها ، إلا أنه خص بكشف المرأة زينتها أو محل حسنها للرجال.
وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ أي : يطلبن العفة عن وضع الثياب ، فيتسترن خَيْرٌ لَهُنَّ من الانكشاف ، وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ أي : سميع ما يجرى بينهن وبين الرجال من المقاولة ، عليم ، فيعلم مقاصدهن وسرائرهن فى قصد التخفيف أو التبرج ، وفيه من الترهيب ما لا يخفى.
الإشارة : إذا كمل تهذيب الإنسان وإخلاصه ، وكمل استغناؤه بربه ، فلا بأس أن يظهر من أحواله وعلومه ما يقتدى به ويهتدى ، ليعم الانتفاع به. فإن خيف منه تهمة فالاستعفاف والاكتفاء بعلم اللّه خير له. واللّه سميع عليم.(4/66)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 67
ثم أسقط الحرج عن الأعمى فى الاستئذان ، واستطرد معه غيره ، ممن اشترك معه فى مطلق العذر ، وإن اختلف المرخّص فيه ، فقال :
[سورة النور (24) : آية 61]
لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (61)
يقول الحق جل جلاله : لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ فى الدخول من غير استئذان لأنه لا يتوقع منه نظر لما يكره. وكذلك لا حرج عليه فيما لا قدرة له عليه من الجهاد وغيره ، ثم استطرد من شاركه فى مطلق العذر فقال : وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ فيما لا يقدر عليه من الجهاد وغيره ، وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ فى ذلك.
وقال سعيد بن المسيّب : كان المسلمون إذا خرجوا إلى الغزو وضعوا مفاتيح بيوتهم عند الأعمى والأعرج والمريض وعند أقاربهم ، ويأذنونهم أن يأكلوا من بيوتهم ، فكانوا يتحرجون من ذلك ، ويقولون : نخشى أن تكون نفوسهم غير طيبة بذلك ، فنزلت الآية ، رخصة لهم «1». وقيل : كانوا يتحرجون من الأكل معهم لأن الأعمى لا يبصر الطيب من الطعام ، والأعرج لا يستطيع المزاحمة عليه ، والمريض لا يستطيع استيفاءه «2». ه.
وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أي : لا حرج عليكم أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أي : البيت الذي فيه أهل بيتكم أزواجكم وعيالكم ، فإذا كان للزوجة أو للولد هناك شىء منسوب إليهما فلا بأس للرجل بأكله لأن الزوجين صارا كنفس واحدة ، فصار بيت المرأة بيت الزوج. وقيل : المراد ببيوتكم : بيوت أولادكم ، فجعل بيوت أولادهم بيوتهم لأن ولد الرجل من كسبه ، وماله كماله ، لقوله عليه الصلاة والسلام : «أنت ومالك لأبيك» «3» ، ولذلك لم يذكر الأولاد فى الآية لاندراجهم فى بيوتكم.
___________
(1) أخرجه الواحدي فى أسباب النزول (ص 340) عن سعيد بن المسيب ، وعزاه فى مجمع الزوائد (7/ 83) للبزار ، وابن أبى حاتم وابن مردويه ، وابن النجار ، عن السيدة عائشة - رضى اللّه عنها. وقال الهيثمي : رجال البزار رجال الصحيح.
(2) أخرجه الطبري (18/ 168) وذكره الواحدي فى أسباب النزول (339) عن ابن عباس رضي اللّه عنه. [.....]
(3) أخرجه ، من حديث جابر ، ابن ماجة فى (التجارات ، باب ما للرجل من مال ولده ، ح 2291) ، وأخرجه من حديث ابن مسعود ، الطبراني فى الأوسط (1/ 22 ح 57) ، وأخرجه من حديث عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، الإمام أحمد فى المسند (2/ 204) ، وأبو داود فى (البيوع/ ح 3528 - 3529) ، وابن ماجه فى الموضع السابق ذكره (ح/ 2292).(4/67)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 68
ولا حرج عليكم أيضا أن تأكلوا من بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ الذكور أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ النساء ، أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ لأن الإذن من هؤلاء ثابت دلالة. واختلف العلماء فى إباحة الأكل من هذه البيوت المذكورة ، فقيل : إنه منسوخ وإنه لا يجوز الأكل من بيت أحد إلا بإذنه ، والناسخ : وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ «1» ، وقوله - عليه الصلاة والسلام - : «لا يحلّ مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس» «2». وقيل : محكمة ، ومعناها : إذا أذنوا فى ذلك ، وقيل : ولو بغير إذن ، والتحقيق : هو التفصيل : فمن علم منه طيب نفسه وفرحه بذلك بقرينة : حلّ أكل ماله ، ومن لا فلا.
أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ قال ابن عباس : هو وكيل الرجل وقيّمه فى ضيعته وماشيته ، له أن يأكل من ثمرة ضيعته ، ويشرب من لبن ماشيته. والمراد بملك المفاتح : كونها فى يده وتحت حوزه. وقيّده ابن العربي بما إذا لم تكن له أجرة ، وإن كانت له أجرة على فعله حرم ، يعنى : إلا إذا علم طيب نفس صاحبه فيدخل فى الصديق.
وقيل : أريد به بيت عبده لأن العبد وما فى يده لمولاه.
أَوْ صَدِيقِكُمْ أي : أو بيوت أصدقائكم ، والصديق يكون واحدا وجمعا ، وهو من يصدقك فى مودته وتصدقه فى مودتك ، يؤلمه ما يؤلمك ويؤلمك ما يؤلمه ، ويسرك ما يسره كذلك. وكان الرجل من السلف يدخل دار صديقه وهو غائب ، فيسأل جاريته كيسه فيأخذ ما شاء ، فإذا حضر مولاها أعتقها سرورا بذلك ، فأما الآن فقد غلب الشحّ فلا يأكل إلا بإذن. قاله النسفي «3».
لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً : مجتمعين أَوْ أَشْتاتاً : متفرقين ، جمع شتّ ، نزلت فى بنى ليث بن عمرو ، كانوا يتحرّجون أن يأكل الرجل وحده ، فربما قعد منتظرا نهاره إلى الليل ، فإذا لم يجد من يؤاكله من الضيفان أكل أكل ضرورة. وقيل : فى قوم من الأنصار كانوا إذا نزل بهم ضيف لا يأكلون إلا مع ضيفهم ، فرخص لهم أن يأكلوا كيف شاءوا. وقيل : فى قوم تحرجوا من الاجتماع على الطعام لاختلاف الناس فى الأكل ، وزيادة بعضهم على بعض ، فخيّرهم. وقيل : كان الغنى منهم إذا دخل على الفقير من ذوى قرابته وصداقته ، ودعاه إلى طعام ، فيقول : إنى أتحرج أن آكل معك ، وأنا غنى وأنت فقير ، فأباح لهم ذلك. واللّه تعالى أعلم.
___________
(1) الآية 188 من سورة البقرة.
(2) أخرجه أحمد فى المسند (5/ 72) فى حديث خطبة الوداع الطويل ، والبيهقي فى الكبرى (6/ 100) عن أبى حرة الرشاقى ، عن عمه. وأخرجه الديلمي (الفردوس ح 7635) والدار قطنى (3/ 26) ، من حديث أنس بن مالك رضي اللّه عنه.
(3) انظر تفسير النسفي (2/ 520).(4/68)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 69
الإشارة : ليس على من عميت بصيرته ، فلم ير إلا الكون حرج فى أن يقف مع رخص الشريعة ، ويتناول كل ما تشتهيه نفسه ، مما أباحته الشريعة ، من غير تورع ولا توقف ولا تبصر. وكذلك المريض القلب بالخواطر والأوهام ، ومن عرجت فكرته عن شهود الملكوت ، فلا بأس لهؤلاء الضعفاء أن يقفوا مع العوائد والأسباب ، ويتناولوا كل ما أباحته ظواهر الشريعة ، وأما الأقوياء فلا يأخذون إلا ما تحققوا حلّيّته ، وفهموا عن اللّه فى أخذه وتركه ، لفتح بصيرتهم وشدة تبصّرهم.
وقال الورتجبي فى قوله : لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ : عماه الحقيقي ألا يطيق أن ينظر بطون الأزل والغيب وغيب الغيب. وهذا من قوله - عليه الصلاة والسلام - فى وصف جمال الحق سبحانه : «حجابه النور ، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه». فجعله معذورا ألا يدرك فى الحقيقة وحقيقة الحق إذ يستحيل الحدث أن يحيط بالقدم أن كان واجبا معرفة الكل من حيث الحقوق لا من حيث التوحيد. ه. ومراده ببطون الأزل : تجلياته تعالى ، البارزة من وسط بحر جبروته الغيبى ، وهى المراد بالغيب وغيب الغيب ، فالأكوان كلها برزت من بحر الذات الأزلية والكنز الغيبى ، لكنها ، لما تجلت ، كستها رداء الكبرياء ، فمن فتحت بصيرته رأى الحق تعالى فيها ، أو قبلها ، أو معها ، ومن عميت بصيرته لم ير إلا حس الأكوان الظّلمانيّة. واللّه تعالى أعلم.
ومذهب الصوفية فى تناول متاع بعضهم بعضا هو ما قال القائل : «نحن : لا مال مقسوم ، ولا سرّ مكتوم ، فتركتهم لا تقسم أبدا». دخل الجنيد بيت بعض إخوانه ، فوجد زوجته ، فقال : هل عندك شىء نطعم به الفقراء؟
فأشارت إلى وعاء فيه تمر ، لا يملك غيره ، فأفرغه على رأسه ، فأكلوا ، وأخذوا ما بقي ، فلما جاء زوجها ذكرت له ذلك ، فقال : الآن علمت أنه يحبنى.
ثم أمر بالسلام بعد الاستئذان ، فقال :
فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ يقول الحق جل جلاله : فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً من البيوت المذكورة أو غيرها بعد الإذن ، فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ أي : فابدأوا بالسلام على أهلها ، الذين هم منكم ، الذين هم بمنزلة أنفسكم لما بينكم وبينهم من القرابة(4/69)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 70
الدينية أو النّسبيّة. أو بيوتا فارغة ، أو مسجدا ، بأن تقولوا : السلام عليكم ، أو السلام علينا وعلى عباد اللّه الصالحين ، إن كانت خاوية. تَحِيَّةً ، من نصب فعلى المصدر لسلّموا لأنها فى معنى تسليما ، مِنْ عِنْدِ اللَّهِ أي : بأمره مشروعة من لدنه ، أو لأنها طلب للسلامة ، وهى بيد اللّه ، مُبارَكَةً : مستتبعة لزيادة الخير والثواب ودوامهما ، طَيِّبَةً : تطيب بها نفس المستمع. وعن أنس رضي اللّه عنه أنه - عليه الصلاة والسلام - قال : «من لقيت أحدا من أمتى فسلم عليه ، يطل عمرك. وإذا دخلت بيتك فسلم عليهم يكثر خير بيتك ، وصل صلاة الضحى فإنها صلاة الأبرار الأوابين» «1».
كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ ، تكرير لتأكيد الأحكام المختتمة وتفخيمها ، لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ : لكى تعقلوا ما فى تضاعيفها من الشرائع والأحكام ، وتعملوا بموجبها ، فتفوزوا بسعادة الدارين. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : السلام على النفس : هو طلب الأمان لها ومنها ، فإذا سلمت النفس من موجبات الغضب من اللّه ، سلم صاحبها منها ، قال القشيري : السلام : الأمان ، فسبيل المؤمن إذا دخل بيتا أن يسلّم من اللّه على نفسه ، يعنى : بأن يقول السلام علينا وعلى عباد اللّه الصالحين ، وأن يطلب السلامة والأمان من اللّه تعالى ، لتسلم نفسه من الإقدام على ما لا يرضى اللّه ، إذ لا يحل لمسلم أن يفتر لحظة عن الاستجارة باللّه ، بأن لا يرفع عنه ظل عصمته بإدامة حفظه من الاتصاف بمكروه الشرع. ه.
ولمّا تكلم على الاستئذان فى الدخول ، تكلم على الاستئذان فى الخروج ، إذا كان مع كبير القوم ، فقال :
[سورة النور (24) : آية 62]
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (62)
يقول الحق جل جلاله : إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ، إنما ذكر الإيمان باللّه ورسوله فى حيز الصلة للموصول الواقع خبرا للمبتدأ ، مع تضمنه له تقريرا لما قبله ، وتمهيدا لما بعده ، وإيذانا بأن ما بعده حقيق بأن يجعل قرينا للإيمان بهما ومنتظما فى سلكه.
___________
(1) أخرجه مطولا ، البيهقي فى شعب الإيمان (ح 8758) ، وزاد المناوى عزوه فى الفتح السماوي (2/ 879) للثعلبى والجرجاني فى تاريخ جرجان ، وسنده ضعيف.(4/70)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 71
وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ : عطف على (آمنوا) ، داخل فى حيز الصلة ، أي : إنما الكاملون فى الإيمان : الذين آمنوا باللّه ورسوله عن صميم قلوبهم ، وأطاعوه فى جميع الأحكام والأحوال المطردة الوقوع ، والأحوال الواقعة بحسب الاتفاق ، كما إذا كانوا معه - عليه الصلاة والسلام - على أمر مهم يجب الاجتماع فى شأنه كالجمعة ، والأعياد ، والجهاد ، وتدريب الحروب ، وغيرها من الأمور الداعية إلى الاجتماع ، لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ ، ويأذن لهم ، ولو كان الأمر يقوم بدونهم ، ليتميز المخلص من المنافق ، فإن ديدنه التسلل للفرار ، ولتعظيم الجرم لما فى الذهاب بغير إذنه صلى اللّه عليه وسلّم من الخيانة.
ولمّا أراد الحقّ تعالى أن يريهم عظم الجناية فى ذهاب الذاهب عن مجلس رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم بغير إذنه ، إذا كانوا معه على أمر جامع ، جعل ترك ذهابهم والصبر معه ، حتى يأذن لهم : ثالث الإيمان ، وجعل الإيمان برسوله كالسبب له ، والبساط لذكره ، وذلك مع تصدير الجملة ب «إنما ، ثم عقبه بما يزيده توكيدا وتشديدا حيث أعاده على أسلوب آخر ، فقال : إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ، فقضى بأن المستأذنين هم المؤمنون خاصة. وفى «أولئك» : من تفخيم المستأذنين ، ما لا يخفى ، فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ فى الانصراف لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ أي : أمرهم المهم وخطبهم الملم. فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ لما علمت فى ذلك من مصلحة وحكمة.
وهذا بيان لما هو وظيفته صلى اللّه عليه وسلّم فى هذا الباب ، إثر بيان ما هو وظيفة المؤمنين ، وأن الإذن منه - عليه الصلاة والسلام - ليس بأمر محتوم ، بل هو مفوّض إلى رأيه عليه الصلاة والسلام ، وفيه من رفع شأنه صلى اللّه عليه وسلّم ما لا يخفى.
والفاء : لترتيب ما بعدها على ما قبلها ، أي : بعد ما تحقق أن الكاملين فى الإيمان هم المستأذنون.
فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ ، فإن الاستئذان ، وإن كان لعذر ، فقد لا يخلو من شائبة تقديم أمر الدنيا على أمر الآخرة ، ففيه دليل على أن الصبر وترك الاستئذان أفضل. إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ مبالغ فى غفران فرطات العباد ، وفى إفاضة آثار الرحمة عليهم.
وما ذكره الحق تعالى فى شأن الصحابة مع الرسول - عليه الصلاة والسلام - فى شأن الاستئذان ينبغى أن يكون كذلك مع أئمتهم ومقدّميهم فى العلم والدين ، لا يتفرقون عنهم إلا بإذن. والآية نزلت فى الخندق ، كان المنافقون يرجعون إلى منازلهم من غير استئذان ، فنزلت «1». وبقي حكمها عاما إلى يوم القيامة. واللّه تعالى أعلم.
___________
(1) عزاه السيوطي فى الدر المنثور (5/ 110) لابن إسحاق وابن المنذر ، والبيهقي فى الدلائل ، عن عروة ومحمد بن كعب القرظي.(4/71)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 72
الإشارة : من آداب الفقراء مع شيخهم ألا يتحركوا لأمر إلا بإذنه ، أما أهل البدايات فيستأذنون فى الجليل والحقير ، كقضية الفقير الذي وجد بعض الباقلاء - أي : الفول - فى الطريق ، فأتى بها إلى الشيخ ، فقال : يا سيدى ما نفعل به؟ فقال : اتركه ، حتى تفطر عليه ، فقال بعض الحاضرين : يستأذنك فى الباقلاء؟ فقال : لو خالفنى فى أمر لم يفلح أبدا. وأما أهل النهايات الذين عرفوا الطريق ، واستشرفوا على عين التحقيق ، وحصلوا على مقام الفهم عن اللّه ، فلا يستأذنون إلا فى الأمر المهم كالتزوج ، والحج ، ونحوهما. وصبره حتى يأمره الشيخ بذلك أولى ، فالمريد ، بقدر ما يترك تدبيره مع الشيخ ، ويتحقق بالتفويض معه قبل الوصول ، كذلك يتركه ويتحقق تفويضه مع اللّه بعد الوصول.
فالأدب مع الشيخ هو الأدب مع اللّه ، لكن لما كان من شأن العبد الجهل باللّه وسوء الأدب معه أمره بالتحكيم لغيره من جنسه ، فإذا حكم جنسه على نفسه قبل المعرفة حكم اللّه على نفسه بعد المعرفة. والتحكيم فى غاية الصعوبة على النفس ، لا يرضاها إلا من سبقت له الهداية ، وجذبته جواذب العناية ، أعنى الدخول تحت الشيخ وتحكيمه على نفسه ، حتى لا يتحرك إلا بإذنه ، فهذا سبب الوصول إلى مقام الشهود والعيان ، فإذا فعل المريد شيئا من غير استئذان فليتب وليطلب من الشيخ الاستغفار له. وينبغى للشيخ أن يقبل العذر ويسامح ويستغفر له ، لقوله تعالى : وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ، فالخليفة لرسول اللّه قائم مقامه ، ونائب عنه فى رتبة التربية. واللّه تعالى أعلم.
ثم نهاهم عن التساهل فى ترك الاستئذان ، فقال :
[سورة النور (24) : الآيات 63 الى 64]
لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (63) أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (64)
يقول الحق جل جلاله : لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً أي : إذا احتاج الرسول صلى اللّه عليه وسلّم إلى اجتماعكم لأمر جامع ، فدعاكم ، فلا تتفرقوا عنه إلا بإذنه ، ولا تقيسوا دعاءه إياكم على دعاء بعضكم(4/72)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 73
بعضا ، ورجوعكم عن المجمع بغير إذن الراعي لأن أمره - عليه الصلاة والسلام - وشأنه ليس كشأنكم. أو :
لا تجعلوا دعاء الرسول على أحد ، كدعاء بعضكم بعضا ، فإنّ غضبه عليه ليس كغضبكم لأن غضبه غضب اللّه ، ودعاؤه مستجاب. وهذا يناسب ما قبله من جهه التحذير عن ترك الاستئذان ، فإنّ من رجع بغير استئذان معرض لغضبه - عليه الصلاة والسلام - ودعائه عليه. أو : لا تجعلوا نداءه صلى اللّه عليه وسلم كنداء بعضكم بعضا كندائه باسمه ، ورفع الصوت عليه ، وندائه من وراء الحجرات ، ولكن بلقبه المعظم يا رسول اللّه ، يا نبى اللّه ، مع غاية التوقير والتفخيم والتواضع وخفض الصوت.
قال القشيري : أي : عظّموه فى الخطاب ، واحفظوا حرمته وخدمته بالأدب ، وعانقوا طاعته على مراعاة الهيبة والتوقير. ه. فالإضافة ، على الأولين : للفاعل ، وعلى الثالث للمفعول ، لكنه بعيد من المناسبة لما قبله ولما بعده فى قوله : قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ أي : يخرجون قليلا على خفية منكم ، لِواذاً أي : ملاوذين ، بأن يستتر بعضهم ببعض حتى يخرج ، أو يلوذ بمن يخرج بالإذن إراءة أنه من أتباعه. أو مصدر ، أي : يلوذون لواذا.
واللواذ : الملاوذة ، وهى التعلق بالغير ، وهو أن يلوذ هذا بهذا فى أمر ، أي : يتسللون عن الجماعة خفية ، على سبيل الملاوذة واستتار بعضهم ببعض.
ثم هددهم على المخالفة بقوله : فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أي : الذين يصدون عن أمره ، يقال :
خالفه إلى الأمر : إذا ذهب إليه دونه ، ومنه : وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ «1» ، وخالفه عن الأمر : إذا صد عنه. والضمير : إما لله سبحانه ، أو للرسول - عليه الصلاة والسلام - ، وهو أنسب لأنه المقصود بالذكر.
والمعنى : فليحذر الذين يخالفون عن طاعته ودينه وسنّته ، أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ محنة فى الدنيا كقتل أو زلازل وأهوال ، أو تسليط سلطان جائر ، أو عدو ، أو قسوة قلب ، أو كثرة دنيا استدراجا وفتنة.
قال القشيري : سعادة الدارين فى متابعة السّنّة ، وشقاوتهما فى مخالفتها ، ومما يصيب من خالفها : سقوط حشمة الدين عن القلب. ه.
أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فى الآخرة. والآية تدل على أن الأمر للإيجاب ، وكلمة «أو» : لمنع الخلو ، دون منع الجمع. وإعادة الفعل صريحا للاعتناء بالتهديد والتحذير.
___________
(1) من الآية 88 من سورة هود.(4/73)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 74
أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ من الموجودات ، خلقا وملكا وتصرفا ، وإيجادا وإعداما ، بدءا وإعادة ، و«ألا» : تنبيه على أن لا يخالفوا من له ما فى السموات والأرض. قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ أيها المكلّفون ، من الأحوال والأوضاع ، التي من جملتها الموافقة والمخالفة ، والإخلاص والنفاق. وأدخل «قد» ليؤكد علمه بما هم عليه ، ومرجع توكيد العلم إلى توكيد الوعيد. والمعنى : أن جميع ما استقر فى السموات تحت ملكه وسلطانه وإحاطة علمه ، فكيف يخفى عليه أحوال المنافقين ، وإن اجتهدوا فى سترها؟! وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ أي : ويعلم يوم يردون إلى جزائه ، وهو يوم القيامة. والخطاب والغيبة فى قوله : قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ يجوز أن يكون للمنافقين ، على طريق الالتفات ، ويجوز أن يكون ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ عاما ، ويُرْجَعُونَ للمنافقين. فَيُنَبِّئُهُمْ حينئذ بِما عَمِلُوا من الأعمال السيئة ، التي من جملتها : مخالفة الأمر ، ليرتب على ذلك الإنباء ما يليق به من التوبيخ والجزاء.
وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ، لا يعزب عنه مثقال ذرة فى الأرض ولا فى السماء. روى عن ابن عباس رضي اللّه عنه : أنه قرأ سورة النور على المنبر فى الموسم ، وفسرها على وجه لو سمعته الروم لأسلمت. ه. وأما ما ورد فى فضل السور فموضوع ، وقد غلط من ذكره من المفسرين. وباللّه التوفيق.
الإشارة : شيوخ التربية خلفاء الرسول صلى اللّه عليه وسلم فى القيام بالتربية النبوية ، فيجب امتثال كل ما أمروا به ، واجتناب كل ما نهوا عنه ، فهم معناه أو لم يفهم. فإذا كانوا مجموعين على أمر جامع لم يذهب أحد حتى يستأذن شيخه ، ولا يكفى إذن بعض الفقراء ، إلا إن وجّهه الشيخ لذلك ، فلا يكون دعاء الشيخ كدعاء بعضكم بعضا فى التساهل فى مخالفة أمره ، أو امتثال أمره. قد يعلم اللّه الذين يتسللون ، فيفرون عنه لواذا ، فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة كتسليط الدنيا عليه فتفتنه وتنسخ حلاوة الشهود من قلبه ، أو يصيبهم عذاب أليم ، وهو السلب بعد العطاء ، والعياذ باللّه من الزلل ومواقع الضلال. نسأل اللّه تعالى أن يثبت قدمنا على المنهاج الحق ، وأن يميتنا على المحبة والتعظيم ، ورسوخ القدم فى معرفة الرحمن الرحيم. آمين. وصلى اللّه على سيدنا ومولانا محمد ، النبي الكريم ، وعلى آله وصحبه ، وسلم.(4/74)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 75
سورة الفرقان
مكية. وهى سبع وسبعون آية. ومناسبتها لما قبلها : ما فى خاتمتها من تعظيم الرسول - عليه الصلاة والسلام - وما افتتحت به من تعظيمه أيضا لكونه نذيرا للعالمين. وناسب قوله فى هذه : الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ، قوله فيما قبلها : أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ «1».
[سورة الفرقان (25) : الآيات 1 الى 2]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً (1) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً (2)
يقول الحق جل جلاله : تَبارَكَ أي : تكاثر خيره وتزايد ، أو : دام واتصل. وهى كلمة تعظيم لم تستعمل إلا لله ، والمستعمل منها الماضي فقط ، والتفاعل فيها للمبالغة. ومعناها راجع إلى ما يفيض سبحانه على مخلوقاته من فنون الخيرات ، التي من جملتها : تنزيل القرآن ، المنطوى على جميع الخيرات الدينية والدنيوية ، أي :
تعاظم الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ أي : القرآن ، مصدر فرق بين اثنين ، إذا فصل بينهما. سمى به القرآن لفصله بين الحق والباطل ، والحلال والحرام ، أو : لأنه لم ينزل جملة ، ولكن مفروقا مفصولا بين أجزائه شيئا فشيئا ، ألا ترى إلى قوله : وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ «2»؟
أنزله عَلى عَبْدِهِ محمد صلى اللّه عليه وسلم ، وإيراده - عليه الصلاة والسلام - بذلك العنوان لتشريفه ، والإيذان بكونه فى أقصى مراتب العبودية ، والتنبيه على أن الرسول لا يكون إلا عبدا للمرسل ردا على النصارى. أنزله لِيَكُونَ العبد المنزل عليه ، أو الفرقان لِلْعالَمِينَ من الثقلين ، زاد بعضهم : والملائكة ، أرسل إليهم ليتأدبوا بأدبه ، حيث لم يقف مع مقام ولا حال ، ويقتبسوا من أنواره ، وهو حكمة الإسراء ، وقيل : حتى إلى الحيوانات والجمادات ، أمرت بطاعته فيما يأمرها به ، وبتعظيمه - عليه الصلاة والسلام - . وهذا كله داخل فى العالمين لأن ما سوى اللّه كله عالم كما تقدم فى الفاتحة. وعموم الرسالة من خصائصه - عليه الصلاة والسلام - . نَذِيراً أي : مخوّفا ، وعدم التعرض للتبشير لأن الكلام مسوق لأحوال الكفرة ، ولا بشارة لهم.
___________
(1) الآية الأخيرة من سورة النور.
(2) من الآية 106 من سورة الإسراء.(4/75)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 76
الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي : له ، خاصة ، دون غيره ، لا استقلالا ولا اشتراكا. فالقهرية لازمة لهما ، المستلزمة للقدرة التامة والتصرف الكلى ، إيجادا وإعداما ، وإحياء وإماتة ، وأمرا ونهيا ، وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً كما زعم اليهود والنصارى فى عزير والمسيح - عليهما السلام - ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ كما زعمت الثنوية القائلون بتعدد الآلهة ، والرد فى نحورهم.
وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ أي : أحدث كل شىء وحده ، لا كما تقول المجوس والثنوية من النور والظلمة. أي :
أظهر كل شىء فَقَدَّرَهُ أي : فهيأه لما أراد به من الخصائص والأفعال اللائقة به ، تَقْدِيراً بديعا ، لا يقادر قدره ، ولا يبلغ كنهه كتهيئة الإنسان للفهم والإدراك ، والنظر والتدبير فى أمور المعاش والمعاد ، واستنباط الصنائع المتنوعة ، والدلائل المختلفة ، على وجود الصانع. أو : فقدّره للبقاء إلى أبد معلوم. وأيّا ما كان ، فالجملة تعليل لما قبلها ، فإن خلقه تعالى لجميع الأشياء على ذلك الشكل البديع والنظام الرائق ، وكل ما سواه تحت قهره وسلطانه ، كيف يتوهم أنه ولد لله سبحانه ، أو شريك له فى ملكه. تعالى اللّه عن ذلك علوا كبيرا.
الإشارة : عبّر بالعبودية فى التنزيل والإسراء إشارة إلى أن كل من تحقق بالعبودية الكاملة له حظ من تنزيل الفرقان على قلبه ، حتى يفرق بين الحق والباطل ، وحظ من الإسراء بروحه إلى عالم الملكوت والجبروت ، حتى يعاين عجائب أسرار ربه. وما منع الناس من تنزل العلوم اللدنية على قلوبهم ، ومن العروج بروحهم ، إلا عدم التحقق بالعبودية الكاملة لربهم ، حتى يكونوا مع مراده ، لا مع مرادهم ، لا يريدون إلا ما أراد ، ولا يشتهون إلا ما يقضى ، قد تحرروا من رقّ الأشياء ، واتحدت عبوديتهم للواحد الأعلى. فإذا كانوا كذلك صاروا خلفاء الأنبياء ، يعرج بأرواحهم ، ويوحى إلى قلوبهم ما يفرقون به بين الحق والباطل ، ليكونوا نذرا لعالمى زمانه قال تعالى : وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ «1». وبالله التوفيق.
ثم ردّ على أهل الشرك ، فقال :
[سورة الفرقان (25) : آية 3]
وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً (3)
___________
(1) الآية 24 من سورة فاطر.(4/76)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 77
يقول الحق جل جلاله : وَاتَّخَذُوا أي : الكفار المدرجون تحت العالمين المنذرين ، اتخذوا لأنفسهم مِنْ دُونِهِ تعالى آلِهَةً أصناما ، يعبدونها ويستعينون بها ، وهم لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً أي : لا يقدرون على خلق شىء من الأشياء ، وَهُمْ يُخْلَقُونَ كسائر المخلوقات. والمعنى : أنهم آثروا على عبادة من هو منفرد بالألوهية والخلق ، والملك والتقدير ، عبادا عجزة ، لا يقدرون على خلق شىء ، وهم مخلوقون ومصورون. وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً أي : لا يستطيعون لأنفسهم دفع ضر عنها ، ولا جلب نفع لها. وهذا بيان لغاية عجزهم وضعفهم فإن بعض المخلوقين ربما يملك دفع ضر وجلب نفع فى الجملة ، وهؤلاء لا يقدرون على شىء البتة ، فكيف يملكون نفع من عبدهم ، أو ضرر من لم يعبدهم؟! وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً أي : إماتة وَلا حَياةً أي : إحياء وَلا نُشُوراً بعثا بعد الموت ، أي : لا يقدرون على إماتة حى ، ولا نفخ الروح فى ميت ، ولا بعث للحساب والعقاب. والإله يجب أن يكون قادرا على جميع ذلك.
وفيه إيذان بغاية جهلهم ، وسخافة عقولهم ، كأنهم غير عارفين بانتفاء ما نفى عن آلهتهم مما ذكر ، مفتقرون إلى التصريح لهم بها. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : كل من ركن إلى غير اللّه ، أو مال بمحبته إلى شىء سواه ، فقد اتخذ من دونه إلها يعبده من دون اللّه. وكل من رفع حاجته إلى غير مولاه ، فقد خاب مطلبه ومسعاه لأنه تعلق بعاجز ضعيف ، لا يقدر على نفع نفسه ، فكيف ينفع غيره؟ وفى الحكم : «لا ترفعن إلى غيره حاجة هو موردها عليك ، فكيف ترفع إلى غيره ما كان هو له واضعا؟! من لا يستطيع أن يرفع حاجته عن نفسه ، فكيف يكون لها عن غيره رافعا؟».
قال بعض الحكماء : من اعتمد على غير اللّه فهو فى غرور لأن الغرور ما لا يدوم ، ولا يدوم شىء سواه ، وهو الدائم القديم ، لم يزل ولا يزال ، وعطاؤه وفضله دائمان ، فلا تعتمد إلا على من يدوم عليك منه الفضل والعطاء ، فى كل نفس وحين وأوان وزمان. ه. وقال وهب بن منبه : أوحى اللّه تعالى إلى داود : يا داود أما وعزتى وجلالى وعظمتى لا ينتصر بي عبد من عبادى دون خلقى ، أعلم ذلك من نيته ، فتكيده السموات السبع ومن فيهن ، والأرضون السبع ومن فيهن ، إلا جعلت له منهن فرجا ومخرجا. أما وعزتى وجلالى لا يعتصم عبد من عبادى بمخلوق دونى ، أعلم ذلك من نيته ، إلا قطعت أسباب السموات من يده ، وأسخت الأرض من تحته ، ولا أبالى فى أي واد هلك. ه. وبالله التوفيق.
ولما ذكر شأن الفرقان ، ذكر من طعن فيه وفيمن نزل عليه ، فقال :
[سورة الفرقان (25) : الآيات 4 الى 9]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً (4) وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (5) قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (6) وَقالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً (7) أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها وَقالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً (8)
انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً (9)(4/77)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 78
يقول الحق جل جلاله : وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أي : تمردوا فى الكفر والطغيان. قيل : هم النضر ابن الحارث ، وعبد اللّه بن أمية ، ونوفل بن خويلد ، ومن ضاهاهم. وقيل : النضر فقط ، والجمع لمشايعة الباقين له فى ذلك. قالوا : إِنْ هَذا ما هذا القرآن إِلَّا إِفْكٌ كذب مصروف عن وجهه افْتَراهُ اختلقه واخترعه محمد من عند نفسه ، وَأَعانَهُ عَلَيْهِ أي : على اختلاقه قَوْمٌ آخَرُونَ ، يعنون : اليهود ، بأن يلقوا إليه أخبار الأمم الدارسة ، وهو يعبر عنها بعبارته. وقيل : هم عدّاس ، ويسار «1» ، وأبو فكيهة الرومي ، كان لهم علم بالتوراة والإنجيل. ويحتمل : وأعانه على إظهاره وإشاعته قوم آخرون ، ممن أسلم معه صلى اللّه عليه وسلم.
قال تعالى : فَقَدْ جاؤُ ، وأتوا ظُلْماً أو : بظلم ، فقد تستعمل (جاء) بمعنى فعل ، فتتعدى تعديته ، أو بحرف الجر ، والتنوين للتفخيم ، أي : جاءوا ظلما هائلا عظيما حيث جعلوا الحق البيّن ، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، إفكا مفترى من قول البشر ، وجعلوا العربي الفصيح يتلقى من العجمي الرومي ، وهو من جهة نظمه الفائق وطرازه الرائق لو اجتمعت الإنس والجن على مباراته لعجزوا عن مثل آية من آياته. ومن جهة اشتماله على الحكم العجيبة ، المستتبعة للسعادات الدينية والدنيوية ، والأمور الغيبية ، بحيث لا يناله عقول البشر ، ولا تفى بفهمه الفهوم ، ولو استعملوا غاية القوى والقدر. وَأتوا أيضا زُوراً أي : كذبا كثيرا ، لا يبلغ غايته حيث نسبوا إليه صلى اللّه عليه وسلم ما هو برىء منه.
وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ أي : هو أحاديث المتقدمين ، وما سطروه من خرافاتهم كرستم وغيره. جمع أسطار ، أو : أسطورة ، اكْتَتَبَها كتبها لنفسه ، أو : استكتبتها فكتبت له ، فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ أي : تلقى عليه من كتابه بُكْرَةً : أول النهار وَأَصِيلًا آخره ، فيحفظ ما يتلى عليه ثم يتلوه علينا. انظر هذه الجرأة العظيمة ، قاتلهم اللّه ، أنى يؤفكون؟
___________
(1) فى الأصول : سيار.(4/78)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 79
قُلْ يا محمد : أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي : يعلم كل سر خفى فى السماوات والأرض ، يعنى : أن القرآن : لما اشتمل على علم الغيوب ، التي يستحيل عادة أن يعلمها محمد صلى اللّه عليه وسلم من غير تعلم إلهى ، دلّ على أنه من عند علام الغيوب ، أي : ليس ذلك مما يفترى ويختلق ، بإعانة قوم ، وكتابة آخرين من الأحاديث والأساطير المتقدمة ، بل هو أمر سماوى ، أنزله الذي لا يعزب عن علمه شىء ، أودع فيه فنون الحكم والأحكام ، على وجه بديع ، لا تحوم حوله الأفهام ، حيث أعجزكم قاطبة بفصاحته وبلاغته ، وأخبركم بأمور مغيبات ، وأسرار مكنونات ، لا يهتدى إليها ولا يوقف عليها إلا بتوقيف العليم الخبير ، ثم جعلتموه إفكا مفترى ، واستوجبتم بذلك أن يصبّ عليكم العذاب صبا ، لو لا حلمه ورحمته ، إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً فأمهلكم ، ولم يعاجلكم بالعقوبة. وهو تعليل لما هو المشاهد من تأخير العقوبة عنهم ، أي : كان أزلا وأبدا مستمرا على المغفرة والرحمة ، فلذلك لم يعاجلكم بالعقوبة على ما تقولون فى حقه وفى حق رسوله ، مع كمال اقتداره.
ثم ذكر طعنهم فيمن نزل عليه ، فقال : وَقالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ وقعت اللام فى المصحف مفصولة عن الهاء ، وخط المصحف سنّة لا يغير. وتسميتهم إياه بالرسول سخرية منهم ، كأنهم قالوا : أي شىء لهذا الزاعم أنه رسول يأكل الطعام كما تأكلون ، ويمشى فى الأسواق لابتغاء الأرزاق كما تمشون ، أي : إن صح ما يدعيه فما له لم يخالف حالنا؟! لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ على صورته فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً ، وهذا منهم تنزل عن اقتراح كونه صلى اللّه عليه وسلم ملكا مستغنيا عن المادة الحسية ، إلى اقتراح أن يكون معه ملك يصدقه ، ويكون ردءا له فى الإنذار ، ويعبر عنه ، ويفسر ما يقوله للعامة.
أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ من السماء ، يستغنى به عن طلب المعاش معنا ، أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ بستان يَأْكُلُ مِنْها كالأغنياء المياسير. والحاصل : أنهم أول مرة ادعوا أن الرسول لا يكون إلا كالملائكة ، مستغنيا عن الطعام والشراب ، وتعجبوا من كون الرسول بشرا ، ثم تنزلوا إلى اقتراح أن يكون إنسانا معه ملك يصدقه ويعينه على الإنذار ، ثم تنزلوا إلى اقتراح أن يكون معه كنز ، يستظهر به على نوائبه ، ثم تنزلوا إلى اقتراح أن يكون رجلا له يستان يأكل منه ، كالمياسير ، أو نأكل نحن منه ، على قراءة حمزة والكسائي.
قال تعالى : وَقالَ الظَّالِمُونَ وهم الكفرة القائلون ما تقدم ، غير أنه وضع الظاهر موضع المضمر ، تسجيلا عليهم بالظلم وتجاوز الحد فيه. وهم كفار قريش ، أي : قالوا للمؤمنين : إِنْ تَتَّبِعُونَ ما تتبعون إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً قد سحر فغلب على عقله ، انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ أي : انظر كيف قالوا فى حقك تلك الأقاويل العجيبة ، الخارجة عن العقول ، الجارية لغرابتها ، مجرى الأمثال ، واخترعوا لك تلك الصفات والأحوال الشاذة ، البعيدة عن الوقوع؟! فَضَلُّوا عن طريق الجادة فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا فلا يجدون طريقا إليه ، أو :
فلا يجدون سبيلا إلى القدح فى نبوتك ، بأن يجدوا قولا يستقرون عليه ، أو : فضلّوا عن الحق ضلالا مبينا ، فلا(4/79)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 80
يجدون طريقا موصلا إليه ، فإن من اعتاد استعمال هذه الأباطيل لا يكاد يهتدى إلى استعمال المقدمات الموصلة إلى الرشد والصواب. وبالله التوفيق.
الإشارة : تكذيب الصادقين سنّة ماضية ، فإن سمع أهل الإنكار منهم علوما وأسرارا قالوا : ليست من فيضه ، إنما نقلها عن غيره ، وأعانه على إظهارها قوم آخرون ، قل : أنزلها على قلوبهم الذي يعلم السر فى السماوات والأرض ، إنه كان غفورا رحيما ، حيث ستر وصفهم بوصفه ونعتهم بنعته ، فوصلهم بما منه إليهم ، لا بما منهم إليه. وقوله تعالى : ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ ، أنكروا وجود الخصوصية مع وصف البشرية ، ولا يلزم من وجود الخصوصية عدم وصف البشرية ، كما تقدم مرارا. واللّه تعالى أعلم.
ثم رد اللّه تعالى عليهم ، فقال :
[سورة الفرقان (25) : الآيات 10 الى 16]
تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً (10) بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً (11) إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً (12) وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً (13) لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً (14)
قُلْ أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كانَتْ لَهُمْ جَزاءً وَمَصِيراً (15) لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ خالِدِينَ كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلاً (16)
قلت : (جنات) : بدل من خيرا ، و(يجعل) ، من جزمه عطفه على محل جواب الشرط ، ومن رفعه فعلى الاستئناف ، أي : وهو يجعل لك قصورا ، ويجوز عطفه على الجواب لأن الشرط إذا كان ماضيا جاز فى الجواب الرفع والجزم ، كما هو مقرر فى محله.
يقول الحق جل جلاله : تَبارَكَ أي : تكاثر وتزايد خيره الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ فى الدنيا خَيْراً لك مِنْ ذلِكَ الذي اقترحوه من أن يكون لك جنة تأكل منها بأن يجعل لك مثل ما وعدك فى الجنة ، جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ، فإنه خير من جنة واحدة من غير أنهار ، كما اقترحوا ، وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً(4/80)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 81
وغرفا فى الدنيا ، كقصور الآخرة ، لكن لم يشأ ذلك لأن الدنيا لا تسع ما يعطيه تعالى لخواص أحبابه فى الآخرة لأنها ضيقة الزمان والمكان.
وعدم التعرض لجواب الاقتراحين الأولين ، وهو إنزال الملك وإلقاء الكنز لظهور بطلانهما ومنافاتهما للحكمة التشريعية ، وإنما الذي له وجه فى الجملة هو الاقتراح الأخير فإنه غير مناف للحكمة بالكلية ، فإن بعض الأنبياء - عليهم السلام - قد أوتوا مع النبوة ملكا عظيما ، لكنه نادر.
ثم أضرب عن توبيخهم بحكاية جناياتهم السابقة ، وانتقل إلى توبيخهم بحكاية جناية أخرى ، فقال :
بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ أي : بل أتوا بأعجب من ذلك كله ، وهو تكذيبهم بالساعة. ويحتمل أن يكون متصلا بما قبله ، كأنه قال : بل كذبوا بالساعة ، وكيف يلتفتون إلى هذا الجواب ، وكيف يصدقون بتعجيل مثل ما وعدك فى الآخرة ، وهم لا يؤمنون بها؟ ثم تخلص إلى وبال من كذّب بها ، فقال : وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً أي : وهيأنا للمكذبين بها نارا شديدة الإسعار ، أي : الاشتعال. وضع الموصول موضع ضمير «هم» ، أو : لكل من كذب بها كائنا من كان ، ويدخلون هم فى زمرتهم دخولا أوليا. ووضع الساعة موضع ضميرها للمبالغة فى التشنيع.
إِذا رَأَتْهُمْ أي : النار ، أي : قابلتهم مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ بأن كانت منهم بمرأى للناظرين فى البعد ، كقوله صلى اللّه عليه وسلم فى شأن المؤمن والكافر : «لا تترآءى نارهما» «1» ، أي : لا يتقاربان بحيث تكون إحداهما بمرأى من الأخرى. سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً أي : سمعوا صوت غليانها. شبه ذلك بصوت المتغيظ والزفير ، وهو صوت من جوفه. ولا يبعد أن يخلق اللّه فيها الإدراك فتتغيظ وتزفر. وقيل : إن ذلك من زبانيتها ، نسب إليها ، وهو بعيد.
وَإِذا أُلْقُوا مِنْها من النار مَكاناً ضَيِّقاً أي : فى مكان ضيق لأن الكرب يعظم مع الضيق ، كما أن الروح يعظم مع السعة ، وهو السر فى وصف الجنة بأن عرضها السماوات والأرض. وعن ابن عباس وابن عمر - رضى اللّه عنهما : (تضيق جهنم عليهم ، كما يضيق الزجّ «2» على الرمح). وسئل النبي صلى اللّه عليه وسلم عن ذلك فقال :
«والذي نفسى بيده إنهم ليستكرهون فى النار كما يستكره الوتد فى الحائط». حال كونهم مُقَرَّنِينَ أي :
مسلسلين ، أي : مقرونين فى السلاسل ، قرنت أيديهم إلى أعناقهم فى الأغلال. أو : يقرن مع كل كافر شيطانه فى سلسلة ، وفى أرجلهم الأصفاد. فإذا ألقوا فى الضيق ، على هذا الوصف ، دَعَوْا هُنالِكَ أي : فى ذلك المكان الهائل والحالة الفظيعة ، ثُبُوراً أي : هلاكا ، بأن يقولوا : وا ثبوراه هذا حينك فتعال ، فيتمنون الهلاك ليستريحوا ، فيقال لهم : لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً أي : لا تدعوا بالهلاك على أنفسكم مرة واحدة ،
___________
(1) سبق تخريجه عند تفسير الآية 52 من سورة المائدة.
(2) الزّجّ : الحديدة التي تركب فى أسفل الرمح ... اللسان (رجج ، 3/ 1811).(4/81)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 82
ودعاء واحدا ، بل ادعوا دعاء متعددا بأدعية كثيرة ، فإن ما أنتم عليه من العذاب ، لغاية شدته وطول مدته ، مستوجب لتكرر الدعاء فى كل أوان. وهو يدل على فظاعة العذاب وهو له.
وأما ما قيل من أن المعنى : إنكم وقعتم فيما ليس ثبوركم فيه واحدا ، وإنما هو ثبور كثير ، إما لأن العذاب أنواع وألوان ، كل نوع منها ثبور لشدته وفظاعته ، أو : لأنهم كلما نضجت جلودهم بدلوا غيرها ، فلا غاية لها ، فلا يلائم المقام. انظر أبا السعود. وعن أنس رضي اللّه عنه قال : قال النبي صلى اللّه عليه وسلم : «أول من يكسى حلّة من النار إبليس ، فيضعها على حاجبيه ، ويسحبها من خلفه ، وذريته من بعده ، وهو يقول : يا ثبوراه ، وهم يجاوبونه : يا ثبورهم ، حتى يقفوا على النار ، فيقال لهم : لا تدعوا ثبورا واحدا ..» «1».
قُلْ لهم يا محمد تقريعا لهم وتهكما بهم ، وتحسرا على ما فاتهم : أَذلِكَ خَيْرٌ ، والإشارة إلى السعير ، باعتبار اتصافها بما فصّل من الأحوال الهائلة ، وما فيه من معنى البعد لكونها فى الغاية القاصية من الهول والفظاعة. أي : قل لهم أذلك الذي ذكر من السعير ، التي أعدت لمن كذب بالساعة ، وشأنها كيت وكيت خير أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ أي : وعدها اللّه المتقين؟ وإنما قال : «أذلك خير» ، ولا خير فى النار تهكما بهم ، كما تقدم ، وإضافة الجنة إلى الخلد للمدح ، وقيل : للتمييز عن جنات الدنيا. والمراد بالمتقين : المتصفون بمطلق التقوى ، لا بغايتها. كانَتْ تلك الجنة لَهُمْ فى علم اللّه تعالى ، أو فى اللوح ، جَزاءً على أعمالهم ، وَمَصِيراً يصيرون إليه بعد الموت.
لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ من فنون الملاذ والمشتهيات ، وأنواع النعيم والخيرات ، كقوله تعالى :
وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ «2» ، ولعل كل فريق منهم يقنع بما أتيح له من درجات النعيم ، ولا تمتد أعناق همهم إلى ما فوق ذلك من المراتب العالية. فلا يلزم الحرمان ، ولا تساوى أهل الجنان. حال كونهم خالِدِينَ لا يفنون ، ولا يفنى ما هم فيه ، كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلًا أي : موعودا حقيقا بأن يسأل ويطلب لكونه مما يتنافس فيه المتنافسون ، أو : مسئولا لا يسأله الناس فى دعائهم ، بقولهم : رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ «3» أو : تسأله الملائكة بقولهم : رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ «4» ، وما فى «على» من معنى الوجوب ، لامتناع الخلف فى وعده تعالى ، فكأنه أوجبه على نفسه تفضلا وإحسانا. وفى التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره صلى اللّه عليه وسلم من تشريفه والإشعار بأنه صلى اللّه عليه وسلم هو أول الفائزين بمغانم هذا الوعد الكريم ما لا يخفى. قاله أبو السعود.
___________
(1) أخرجه الإمام أحمد فى المسند (3/ 152) ، والطبري (18/ 188) ، والحديث صححه الهيثمي فى المجمع (10/ 392). [.....]
(2) من الآية 71 من سورة الزخرف.
(3) من الآية 194 من سورة آل عمران.
(4) من الآية 8 من سورة غافر.(4/82)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 83
الإشارة : تبارك الذي إن شاء جعل ذلك خيرا من ذلك ، وهى جنة المعارف المعجلة ، تجرى من تحتها أنهار العلوم وفيض المواهب ، ويجعل لك قصورا تنزل فيها ، ثم ترحل عنها ، وهى منازل السائرين ومقامات المقربين ، إلى أن تسكن فى محل الشهود والعيان ، وهو العكوف فى حضرة الإحسان. بل كذّبوا بالساعة ، أي : من تنكب عن هذا الخير الجسيم ، إنما سببه أنه فعل فعل من يكذب بالساعة من الانهماك فى الدنيا ، والاشتغال بها عن زاد الآخرة. وأعتدنا لمن فعل ذلك سعيرا ، أي : إحراقا للقلب بالتعب ، والحرص ، والجزع ، والهلع ، والإقبال على الدنيا ، إذا قابلتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيّظا وزفيرا غيظا على طلابها ، حيث آثروها على ما فيه رضا مولاها ، وإذا ألقوا فى أشغالها ، وضاق عليهم الزمان فى إدراكها ، دعوا بالويل والثبور ، وذلك عند معاينة أعلام الموت ، والرحيل إلى القبور ، ولا ينفعهم ذلك. قل : أذلك خير أم جنة الخلد؟ ، وهى جنة المعارف ، التي وعد المتقون لكل ما سوى اللّه ، كانت لهم جزاء على مجاهدتهم وصبرهم ، ومصيرا يصيرون إليها بأرواحهم وأسرارهم. لهم فيها ما يشاؤون لكونهم حينئذ أمرهم بأمر اللّه ، كان على ربك وعدا مسئولا ، أي : مطلوبا للعارفين والسائرين. وبالله التوفيق.
ثم شرح ما يلقى أهل التكذيب من الهول والفظاعة ، فقال :
[سورة الفرقان (25) : الآيات 17 الى 19]
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (17) قالُوا سُبْحانَكَ ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكانُوا قَوْماً بُوراً (18) فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِما تَقُولُونَ فَما تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلا نَصْراً وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذاباً كَبِيراً (19)
قلت : «اتخذ» قد يتعدى إلى مفعول واحد ، كقوله : أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً «1» ، وقد يتعدى إلى مفعولين ، كقوله :
وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا «2» ، فقرأ الجمهور : (أن نتّخذ) بالبناء لفاعل. وقرأ الحسن وأبو جعفر بالبناء للمفعول «3». فالقراءة الأولى على تعديته لواحد ، والثانية على تعديته لاثنين. فالأول : الضمير فى (نتخذ) ، والثاني : (من أولياء). و(من) : للتبعيض ، أي : ما ينبغى لنا أن نتخذ بعض أولياء من دونك لأن «من» لا تزاد فى المفعول الثاني ، بل فى الأول ، تقول : ما اتخذت من أحد وليّا ، ولا تقول : ما اتخذت أحدا من ولى. وأنكر القراءة أبو عمرو بن العلاء وغيره ، وهو محجوج لأن قراءة أبى جعفر من المتواتر.
___________
(1) من الآية 8 من سورة الأنبياء
(2) من الآية 125 من سورة النساء.
(3) أي : (نتّخذ) بضم النون وفتح الخاء.(4/83)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 84
يقول الحق جل جلاله : وَاذكر يَوْمَ نَحْشُرُهُمْ «1» ، أو : يوم يحشرهم اللّه جميعا للبعث والحساب ، يكون ما لا تفى به العبارة من الأهوال الفظيعة والأحوال الغريبة ، فيحشرهم وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ من الملائكة والمسيح وعزير. وعن الكلبي : الأصنام ينطقها اللّه ، وقيل : عام فى الجميع. و(ما) : يتناول العقلاء وغيرهم لأنه أريد به الوصف ، كأنه قيل : ومعبودهم. فَيَقُولُ الحق جل جلاله للمعبودين ، إثر حشر الكل تقريعا للعبدة وتبكيتا : أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ ، بأن دعوتموهم إلى عبادتكم ، أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ أي : عن السبيل بأنفسهم بإخلالهم بالنظر الصحيح ، وإعراضهم عن الرشد.
وتقديم الضميرين على الفعلين بحيث لم يقل : أضللتم عبادى هؤلاء أم ضلوا السبيل لأن السؤال ليس عن نفس الفعل ، وإنما هو عن متوليه والمتصدي له ، فلابد من ذكره ، وإيلائه حرف الاستفهام. ليعلم أنه المسئول عنه. وفائدة سؤالهم ، مع علمه تعالى بالمسئول عنه لأن يجيبوا بما أجابوا به حتى يبكت عبدتهم بتكذيبهم إياهم ، فتزيد حسرتهم.
قالُوا فى الجواب : سُبْحانَكَ تعجيبا مما قيل ، لأنهم إما ملائكة معصومون ، أو جمادات لا تنطق ولا قدرة لها على شىء ، أو : قصدوا به تنزيه عن الأنداد ، ثم قالوا : ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أي : ما صح وما استقام لنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ أي : متجاوزين إياك ، مِنْ أَوْلِياءَ نعبدهم لما قام بنا من الحالة المنافية له ، فأنّى يتصوّر أن نحمل غيرنا على أن يتخذوا غيرك ، فضلا أن يتخذونا أولياء ، أو : ما كان يصح لنا أن نتولى أحدا دونك ، فكيف يصح لنا أن نحمل غيرنا أن يتولونا دونك حتى يتخذونا أربابا من دونك ، وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ بالأموال والأولاد وطول العمر ، فاستغرقوا فى الشهوات ، وانهمكوا فيها حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ أي :
غفلوا عن ذكرك ، وعن الإيمان بك ، واتباع شرائعك ، فجعلوا أسباب الهداية من النعم والعوافي ، ذريعة إلى الغواية. وَكانُوا ، فى قضائك وعلمك الأزلى ، قَوْماً بُوراً هالكين ، جمع : بائر ، كعائذ وعوذ.
ثم يقال للكفار بطريق الالتفات : فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِما تَقُولُونَ ، وهو احتجاج من اللّه تعالى على العبدة مبالغة فى تقريعهم وتبكيتهم على تقدير قول مرتب على الجواب ، أي : فقال اللّه جل جلاله عند ذلك للعبدة : فقد كذبكم المعبودون أيها الكفرة ، بِما تَقُولُونَ أي : فى قولكم : هؤلاء أضلونا. والباء بمعنى «فى» ، وعن قنبل :
بالياء ، والمعنى : فقد كذبوكم بقولهم : (سبحانك ما كان ينبغى لنا أن نتخذ من دونك من أولياء) ، والباء حينئذ كقولك : كتبت بالقلم.
___________
(1) قرأ ابن كثير وأبو جعفر ويعقوب وحفص : «يحشرهم» بالياء ، وقرأ الباقون بالنون .. انظر الإتحاف (2/ 306).(4/84)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 85
فما يستطيعون «1» فما يملكون صَرْفاً دفعا للعذاب عنكم وَلا نَصْراً أي : فردا من أفراد النصر. والمعنى : فما تستطيع آلهتكم أن يصرفوا عنكم العذاب أو ينصروكم. وعن حفص بالتاء ، أي : فما تستطيعون أنتم أيها الكفرة صرفا للعذاب عنكم ، ولا نصر أنفسكم.
ثم خاطب المكلّفين على العموم فقال : وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ يشرك بدليل قوله : إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ «2» لأن الظلم : وضع الشيء فى غير محله ، ومن جعل المخلوق شريكا لخالقه فقد ظلم ظلما عظيما.
أي : ومن يظلم منكم أيها المكلفون ، كدأب هؤلاء الكفرة ، حيث ركبوا متن المكابرة والعناد ، واستمروا على الملاججة والفساد ، نُذِقْهُ فى الآخرة عَذاباً كَبِيراً لا يقادر قدره ، وهو الخلود فى النار ، والعياذ بالله.
الإشارة : كل من عشق شيئا وأحبه من دون اللّه فهو عابد له ، فردا أو متعددا ، فيحشر معه يوم القيامة ، فيقال لهم : أأنتم أضللتم عبادى هؤلاء ، أم هم ضلوا السبيل؟ فيتبرؤون منهم ، ويقولون : بل متعتهم بالدنيا ، وألهيتهم عن الذكر والتفكر والاعتبار ، أو عن الشهود والاستبصار ، حتى نسوا ذكر اللّه ، وكانوا قوما بورا. وقد ورد : (أن الدنيا تبعث يوم القيامة على هيئة عجوز شمطاء زرقاء ، فتنادى : أين أولادى؟ فيجمعون لها كرها ، فتقدمهم ، فتوردهم النار). وقوله تعالى : وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ أي : يخرج عن حد الاستقامة فى العبودية ، وشهود عظمة الربوبية ، نذقه عذابا كبيرا ، وهو ضرب الحجاب على سبيل الدوام ، إلا وقتا مخصوصا مع العوام. وبالله التوفيق.
ثم أجاب الحق تعالى عن قول الكفرة : (مال هذا الرسول يأكل الطعام ...) إلخ ، فقال :
[سورة الفرقان (25) : آية 20]
وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً (20)
قلت : كسرت (إنّ) لأجل اللام فى الخبر. والجملة بعد (إلا) : صفة لمحذوف ، أي : وما أرسلنا قبلك أحدا من المرسلين إلا آكلين وماشين ، وإنما حذف اكتفاء بالجار والمجرور ، يعنى من المرسلين ، وهو كقوله تعالى : وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ «3» ، أي : وما منا أحد. وقيل : هى حال ، والتقدير : إلا وأنهم ليأكلون.
يقول الحق جل جلاله ، فى جواب المشركين عن قولهم : ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ «4» تسلية لنبيه صلى اللّه عليه وسلّم : وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا وصفتهم إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ بشر
___________
(1) قرأ حفص (فما تستطيعون) بالتاء من فوق ، على خطاب العابدين. وقرأ الباقون بالياء على الغيب ، على إسناده إلى المعبودين.
انظر الإتحاف (2/ 307).
(2) من الآية 13 من سورة لقمان.
(3) من الآية 164 من سورة الصافات.
(4) من الآية 7 من سورة الفرقان.(4/85)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 86
يأكلون الطَّعامَ ، مفتقرون إليه فى قيام بنيتهم ، وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ فى طلب حوائجهم ، فليس ببدع أن تكون أنت كذلك ، وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أي : محنة ، وهو كالتعليل لما قبله ، أي : إنما جعلت الرسل مفتقرين للمادة ، وفقراء من المال ، يمشون فى الأسواق لطلب المعاش ابتلاء ، وفتنة ، واختبارا لمن تبعهم ، من غير طمع ، ولم يعرض عنهم لأجل فقرهم ، فقد جعلت بعضكم لبعض فتنة. قال ابن عباس : أي : جعلت بعضكم بلاء لبعض لتصبروا على ما تسمعون منهم ، وترون من خلافهم ، وتتبعوا الهدى بغير أن أعطيكم عليه الدنيا ، ولو شئت أن أجعل الدنيا مع رسلى ، فلا يخالفون ، لفعلت ، ولكن قدرت أن أبتلى العباد بكم وأبتليكم بهم «1». ه.
فالحكمة فى فقر الرسل من المال : تحقيق الإخلاص لمن تبعهم ، وإظهار المزية لهم حيث تبعوهم بلا حرف.
قال النسفي : أو جعلناك فتنة لهم لأنك لو كنت صاحب كنوز وجنات لكانت طاعتهم لأجل الدنيا ، أو ممزوجة بالدنيا ، فإنما بعثناك فقيرا لتكون طاعة من يطيعك خالصة لنا. ه.
قال فى الحاشية : وقد قيل : إن الدنيا دار بلاء وامتحان ، فأراد تعالى أن يجعل بعض العبيد فتنة لبعض ، على العموم فى جميع الناس : مؤمن وكافر ، بمعنى : أن كل واحد مختبر بصاحبه ، فالغنى ممتحن بالفقير ، عليه أن يواسيه ولا يسخر منه. والفقير ممتحن بالغنى ، عليه ألا يحسده ، ولا يأخذ منه إلا ما أعطاه ، وأن يصبر كل واحد منهما على الحق الذي عليه ، وتوجه إليه من ذلك لأن الدار دار تكليف بموجبات الصبر ، وقد جعل تعالى إمهال الكفار والتوسعة عليهم فتنة للمؤمنين ، واختبارا لهم. ولمّا صبروا نزل فيهم : إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا «2».
والحاصل : أن اللّه تعالى دبّر خلقه ، وخص كلا بما شاء ، من غنى أو فقر ، أو علم أو جهل ، أو نبوة أو غيرها. وكذا سائر الخصوصيات ليظهر من يسلّم له حكمه وقسمته ، ومن ينازعه فى ذلك ، ومن يؤدى حق ما توجه عليه من ذلك فيكون شاكرا صابرا ، ومن لا ، وهو أعلم بحكمته فى ذلك ، ولذلك قال : وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً. ه.
وقال مقاتل : نزلت فى أبى جهل ، والوليد بن عتبة ، والعاص ، حين رأوا أبا ذر وعمارا وصهيبا ، وغيرهم من فقراء المسلمين ، قالوا : أنسلم فنكون مثل هؤلاء؟ فنزلت الآية ، تخاطب هؤلاء المؤمنين : أتصبرون على هذه الحالة من الشدة والفقر؟ ه.
قال النسفي : أتصبرون على هذه الفتنة فتؤجروا ، أم لا تصبرون فيزداد غمّكم؟ حكى أن بعض الصالحين تبرّم بضنك عيشه ، فخرج ضجرا ، فرأى [خصيا فى ] «3» مواكب ومراكب ، فخطر بباله شىء ، فإذا بقارئ يقرأ هذه الآية ، فقال : بل نصبر ، ربّنا. ه.
___________
(1) انظر تفسير البغوي 6/ 77.
(2) من الآية 111 من سورة المؤمنون.
(3) في الأصول المخطوطة [فى حصباء] ، والمثبت هو الذي فى تفسير النسفي. [.....](4/86)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 87
قال القشيري : هو استفهام بمعنى الأمر ، فمن قارنه التوفيق صبر وشكر ، ومن قارنه الخذلان أبى وكفر. ه.
وقيل : هو الأمر بالإعراض عما جعل فى نظره فتنة ، كما قال : وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ «1» ، فينبغى ألا ينظر بعض إلى بعض ، إلا لمن دونه ، كما ورد فى الخبر «2». ه.
وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً عالما بالحكمة فيما يبتلى به ، أو : بمن يصبر ويجزع. وقال أبو السعود : هو وعد كريم لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم بالأجر الجزيل لصبره الجميل ، مع مزيد تشريف له - عليه الصلاة والسلام - بالالتفات إلى اسم الرب مضافا إلى ضميره صلى اللّه عليه وسلم. ه.
الإشارة : الطريق الجادة التي درج عليها الأنبياء والأولياء هى سلوك طريق الفقر والتخفيف من الدنيا ، إلا قدر الحاجة ، بعد التوقف والاضطرار ، ابتداء وانتهاء ، حتى تحققوا بالله. ومنهم من أتته الدنيا بعد التمكين فلم تضره. والحالة الشريفة : ما سلكها نبينا صلى اللّه عليه وسلم وهو التخفيف منها وإخراجها من اليد ، حتى مات ودرعه مرهونة عند يهودى ، فى وسق من شعير. وعادته تعالى ، فيمن سلك هذا المسلك ، أن يديل الغنى فى عقبه ، فيكونون أغنياء فى الغالب. واللّه تعالى أعلم.
وما وصف به الحق تعالى رسله من كونهم يأكلون الطعام ، ويمشون فى الأسواق ، هو وصف للأولياء أيضا - رضى اللّه عنهم - فيمشون فى الأسواق للعبرة والاستبصار فى تجليات الواحد القهار ، فحيث يحصل الزحام يعظم الشهود للملك العلام ، وفى ذلك يقول الششترى رضي اللّه عنه : عين الزحام هو الوصول لحيّنا.
وكان شيخ أشياخنا - سيدى على العمراني - يقول لأصحابه : من أراد أن يذوق فليمش إلى السوق. ه.
فينبغى للمريد أن يربى فكرته فى العزلة والخلطة والخلوة والجلوة ، ولا يتقصر على تربيتها فى العزلة فقط لئلا يتغير حاله فى حال الخلطة فيبقى ضعيفا. فالعزلة تكون ابتداء ، قبل دخول بلاد المعاني ، فإذا دخل بلاد المعاني فليختر الخلطة على العزلة ، حتى يستوى قلبه فى الخلوة والجلوة ، فالعزلة عن الناس عزلة الضعفاء والعزلة بين الناس عزلة الأقوياء. فالمشى فى الأسواق والأكل فيها من سنة الفقراء ، أهل الأحوال مجاهدة لنفوسهم ، وترييضا لها على إسقاط مراقبة الخلق ، والخوف منهم. وقد ورد أن اللّه تعالى أمر بذلك نبيه صلى اللّه عليه وسلم تشريفا لأهل الأحوال ، كما ذكره صاحب اللباب عند قوله : ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ ...
___________
(1) من الآية 131 من سورة طه.
(2) قال صلى اللّه عليه وسلم : «إذا نظر أحدكم إلى من فضّل عليه فى المال والخلق ، فلينظر إلى من هو أسفل منه ممن فضّل عليه». أخرجه البخاري فى (الرقاق ، باب لينظر إلى من هو أسفل منه ، ح 4690) ، ومسلم فى (الزهد والرقائق ، 4/ 2275 ، ح 2963) من حديث أبى هريرة رضي اللّه عنه.(4/87)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 88
ومن آداب الداخل فى السوق : أن يكون ماشيا على رجليه ، لا راكبا ، كما وصف اللّه تعالى الرسل - عليهم السلام. وفى قوله تعالى : وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ : تسلية لمن يبتلى من الأولياء ، وتهوين له على ما يلقاه من شدائد الزمان ، وإذاية الإخوان ، وجفوة الناس. وبالله التوفيق.
ثم ذكر مقالة أخرى من أقاويل الكفرة ليبطلها كما أبطل ما قبلها ، فقال :
[سورة الفرقان (25) : الآيات 21 الى 24]
وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً (21) يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً (22) وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً (23) أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً (24)
قلت : (و قال) : عطف على : (و قالوا مال هذا الرسول ...) إلخ ، ووضع الموصول موضع الضمير للتنبيه بما فى حيز الصلة على أن ما حكى عنهم من الشناعة بحيث لا يصدر ممن يعتقد المصير إلى اللّه - عز وجل - .
يقول الحق جل جلاله : وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا أي : لا يتوقعون الرجوع إلينا بالبعث ، أو حسابنا المؤدى إلى سوء العذاب ، الذي تستوجبه مقالاتهم الشنيعة. والحاصل : أنهم ينكرون البعث بالكلية ، فأطلق الرجاء على التوقع. وقيل : لا يخافون لقاءنا لأن الرجاء فى لغة تهامة : الخوف ، قالوا : لَوْ لا هلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ رسلا دون البشر ، أو : يشهدون بنبوة محمد ودعوى رسالته ، أَوْ نَرى رَبَّنا جهرة ، فيخبرنا برسالته ، ويأمرنا باتباعه ، وإنما قالوا ذلك عنادا وعتوا.
قال تعالى : لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ أي : أضمروا الاستكبار ، وهو الكفر والعناد فى قلوبهم ، أو : عظموا فى أنفسهم حتى اجترءوا على التفوه بمثل هذه العظيمة الشنعاء ، وَعَتَوْا أي : تجاوزوا الحد فى الظلم والطغيان عُتُوًّا كَبِيراً بالغا أقصى غاياته ، أي : إنهم لم يجترءوا على هذا القول العظيم إلا لأنهم بلغوا غاية الاستكبار ، وأقصى العتو ، حتى أمّلوا نيل المشاهدة والمعاينة والمفاوضة التي اختص بها أكابر الرسل وخاصة الأولياء ، بعد تطهير النفوس وتصفية القلوب والأرواح. وهذا كقولهم : وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ ... إلى قوله : أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا «1». ولم يكتفوا بما رأوا من المعجزات القاهرة فذهبوا فى الاقتراح كل مذهب ، حتى منّتهم أنفسهم الخبيثة أمالى سدت دونها مطامع النفوس القدسية. واللام : جواب قسم محذوف ، أي : واللّه لقد استكبروا ..
الآية. وفيه من الدلالة على قبح ما هم عليه ، والإشعار بالتعجب من استكبارهم وعتوهم ، ما لا يخفى.
___________
(1) الآيات : 90 - 92 من سورة الإسراء.(4/88)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 89
يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ عند الموت أو البعث. ويَوْمَ : منصوب باذكر ، أو بما دل عليه : لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ فإنه بمعنى : يمنعون البشرى ، أو : لا يبشر المجرمون. انظر البيضاوي. والجملة : استئناف مسوق لبيان ما يلقونه عند مشاهدتهم لما اقترحوه من نزول الملائكة ، بعد استعظامه وبيان كونه فى غاية ما يكون من الشناعة. وإنما قيل : يوم يرون ، دون أن يقال : يوم تنزل إيذانا ، من أول الأمر ، بأن رؤيتهم لهم ليست على طريق الإجابة إلى ما اقترحوه ، بل على وجه آخر غير معهود. وتكرير (يومئذ) لتأكيد التهويل ، مع ما فيه من الإيذان بأن تقديم الظرف للاهتمام ، لا لقصر نفي البشرى على ذلك الوقت فقط فإن ذلك مخل بتفيظع حالهم. و(للمجرمين) :
تعيين على أنه مظهر ، وضع موضع الضمير تسجيلا عليهم بالإجرام ، مع ما هم عليه من الكفر والطغيان.
وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً على ما ذكر من الفعل المنفي ، أي : لا يبشرون ، ويقولون. وهو ينبئ عن كمال فظاعة ما يحيق بهم من الشر ، وغاية هول مطلعه ، أي : يقولون ، عند مشاهدة ملائكة العذاب : حجرا محجورا ، أي : منعا ممنوعا منكم ، وهى كلمة تقولها العرب عند لقاء عدو هائل ، أو هجوم نازلة هائلة ، يضعونها موضع الاستعاذة ، فكأن المعنى : نسأل اللّه تعالى أن يمنع ذلك عنّا منعا ، ويحجره عنا حجرا. والمعنى : أنهم يطلبون نزول الملائكة - عليهم السلام - ويقترحونه ، وهم إذا رأوهم كرهوا لقاءهم أشد كراهة ، وفزعوا منهم فزعا شديدا. وقالوا ، عند رؤيتهم ، ما كانوا يقولون عند نزول خطب شنيع وبأس فظيع.
وقيل : هو قول الملائكة ، أي : تقول الملائكة للمجرمين ، حين يرونهم : حجرا محجورا ، أي : حراما محرما عليكم البشرى ، أي : جعل اللّه ذلك حراما عليكم ، إنما البشرى للمؤمنين. و(الحجر) : مصدر ، يفتح ويكسر ، وقرئ بهما. من حجره إذا منعه. وهو من المصادر المنصوبة بأفعال متروك إظهارها. ومحجورا : لتأكيد معنى الحجر ، كما قالوا : موت مائت. وانظر ما وجّه به وقف الهبطى على «حجرا» فلعله الأوجه له.
ثم ذكر مآل أعمالهم ، فقال : وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً الهباء : شبه غبار يرى فى شعاع الشمس ، يطلع من كوّة. والقدوم هنا : مجاز. مثلت حال هؤلاء الكفرة وأعمالهم التي عملوها فى كفرهم من صلة رحم ، وإغاثة ملهوف ، وقرى ضيف ، وعتق ، ونحو ذلك ، بحال من خالف سلطانه ، فقدم إلى أشيائه ، وقصد إلى ما تحت يديه ، فأفسدها ، ومزقها كل ممزق ، ولم يترك لها عينا ولا أثرا ، أي : عمدنا إليها وأبطلناها ، أي : أظهرنا بطلانها بالكلية ، من غير أن يكون هناك قدوم. والمنثور : المفرّق ، وهو استعارة عن جعله لا يقبل الاجتماع ولا يقع به الانتفاع.(4/89)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 90
ثم ذكر ضدهم ، فقال : أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا أي : مكانا يستقرون فيه ، والمستقر : المكان الذي يستقر فيه فى أكثر الأوقات ، للتجالس والتحادث ، وَأَحْسَنُ مَقِيلًا : مكانا يأوون إليه للاسترواح إلى أزواجهم. ولا نوم فى الجنة ، ولكنه سمى مكان استرواحهم إلى أزواجهم الحور مقيلا على طريق التشبيه. وروى أنه يفرغ من الحساب فى نصف ذلك اليوم ، فيقيل أهل الجنة فى الجنة ، وأهل النار فى النار.
وقال سعيد الصواف : بلغني أن يوم القيامة يقصر على المؤمنين ، حتى يكون ما بين العصر إلى غروب الشمس ، إنهم ليقيلون فى رياض الجنة حتى يفرغ من حساب الناس. وقرأ هذه الآية. ه. وأما الكافر فيطول عليه ، كما قال تعالى : فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ «1».
قال أبو السعود : وفى وصفه بزيادة الحسن ، مع حصول الخيرية ، رمز إلى أنه مزين بفنون الزين والزخارف.
والتفضيل المعتبر فيهما : إما لإرادة الزيادة على الإطلاق ، أي : هم في أقصى ما يكون من خيرية المستقر وحسن المقيل ، وإما بالإضافة إلى ما للكفرة المتنعمين فى الدنيا ، أو إلى ما لهم فى الآخرة ، بطريق التهكم بهم ، كما مرّ فى قوله : أَذلِكَ خَيْرٌ .. الآية. ه.
الإشارة : هؤلاء طلبوا الرؤية قبل إبّانها وتحصيل شروطها ، وهى الإيمان بالله ، والإخلاص ، والخضوع لمن يدل على اللّه ، وذل النفس وتصغيرها فى طلب اللّه. ولذلك قال تعالى فى وصفهم - الذي منعهم من شهوده تعالى : لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً أي : ولو صغروا فى أنفسهم ، وخضعوا خضوعا كبيرا لحصل لهم ما طلبوا ، ولبشروا بما أملوا ، وفى ذلك يقول الشاعر :
تذلّل لمن تهوى فليس الهوى سهل إذا رضى المحبوب صحّ لك الوصل
تذلّل له تحظى برؤيا جماله ففى وجه من تهوى الفرائض والنّفل
وقيل لأبى يزيد رضي اللّه عنه ، حين قام يصلى بالليل : يا أبا يزيد ، خزائننا معمورة بالخدمة ، ائتنا من كوّة الذل والافتقار. وقال الشيخ عبد القادر الجيلاني رضي اللّه عنه : أتيت الأبواب كلها فوجدت عليها الزحام ، فأتيت باب الذل والفقر فوجدته خاليا ، فدخلت وقلت : هلموا إلى ربكم. أو كما قال.
وفى قوله تعالى : وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ .. إلخ ، الترغيب فى الإخلاص الموجب لقبول الأعمال ، والترهيب من الرياء والعجب ، الموجبان لإحباط الأعمال. وفى حديث معاذ عنه صلى اللّه عليه وسلم : «إن اللّه خلق سبعة أملاك قبل خلق السموات ، ووكل كل ملك بباب من أبواب السماء ، فتصعد الحفظة بعمل العبد إلى السماء الأولى ، فيقول الملك : ردوه ، واضربوا به وجهه إنّ صاحبه كان يغتاب الناس ، ثم تصعد الحفظة بعمل العبد إلى
___________
(1) من الآية 4 من سورة المعارج.(4/90)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 91
السماء الثانية ، فيقول الملك : ردوه إنه كان يفتخر على الناس فى مجالسهم ، ثم تصعد الحفظة بعمل العبد إلى السماء الثالثة ، فيقول الملك : ردوه إنه كان يتكبر على الناس فى مجالسهم ، ثم تصعد الحفظة بعمل العبد إلى السماء الخامسة ، فيقول الملك : ردوه إنه كان يحسد الناس ويقع فيهم ، ثم تصعد الحفظة إلى السماء السادسة ، فيقول الملك : ردوه إنه كان لا يرحم إنسانا قط ، بل كان يشمت بمن وقع فى بلاء ، أنا ملك الرحمة ، أمرنى ألا يجاوزنى عمله. ثم تصعد الحفظة إلى السماء السابعة ، فيقول الملك : ردوه إنه كان يحب الظهور والرفعة عند الناس ، ثم تصعد الحفظة بعمل العبد من صلاة ، وذكر ، وتفكر ، وحسن خلق ، فيقفون بين يدى اللّه ، ويشهدون له بالصلاح ، فيقول الرب جل جلاله : أنتم الحفظة على عمل عبدى ، وأنا الرقيب على قلبه ، إنه لم يردنى بهذا العمل ، أراد به غيرى ، فعليه لعنتى ، ثم تلعنه الملائكة والسموات. انتهى باختصار «1» ، وخرجه المنذرى. وتكلم فى وضعه. وبالله التوفيق.
ثم ذكر موطنا آخر لرؤية الملائكة ، على نمط ما تقدم ، فقال :
[سورة الفرقان (25) : الآيات 25 الى 29]
وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً (25) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً (26) وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً (27) يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولاً (29)
قلت : (الملك) : مبتدأ ، و(الحق) : صفته. و(للرحمن) : خبر ، و(يومئذ) : ظرف للاستقرار.
يقول الحق جل جلاله : وَاذكر يَوْمَ تَشَقَّقُ أي : تنفتح ، فمن قرأ بالتخفيف : حذف إحدى التاءين ، وأصله : تتشقق. ومن شد : أدغم التاء فى الشين ، أي : تنشق السَّماءُ بِالْغَمامِ أي : عن الغمام ، فتنزل ملائكة السموات فى تلك الغمام ليقع الفصل بين الخلائق ، وهو المراد بقوله تعالى : هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ ، وَالْمَلائِكَةُ «2». قيل : هو غمام أبيض رقيق مثل الضبابة ، ولم يكن إلا لبنى إسرائيل فى تيههم.
___________
(1) ذكره مطولا المنذرى فى الترغيب والترهيب (1/ 71 - 93) وقال : (رواه ابن المبارك فى الزهد عن رجل ، لم يسمه ، عن معاذ ، ورواه ابن حبان فى غير الصحيح ، والحاكم ، وغيرهما ، وروى عن على وغيره. وبالجملة فآثار الوضع ظاهرة عليه فى جميع طرقه وبجميع ألفاظه. واللّه أعلم) قلت : والحديث ذكره ابن الجوزي فى الموضوعات (3/ 154) بمعناه مطولا ، وعزاه للحاكم فى التاريخ.
(2) من الآية 65 من سورة البقرة.(4/91)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 92
وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلًا عجيبا غير معهود. روى أن السموات تنشق سماء سماء ، وتنزل ملائكة كل سماء فى ذلك الغمام ، وفى أيديها صحائف أعمال العباد ، فيفصل اللّه بين خلقه ، ولذلك قال : الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ أي : السلطنة القاهرة ، والاستيلاء العام ، الثابت الذي لا زوال له أصلا ، هو للرحمن وحده لأن كل ملك يزول يومئذ ، ولا يبقى إلا ملكه.
وفائدة التقييد ، مع أن الملك لله فى الدنيا والآخرة لأن فى الدنيا قد تظهر صورة الملك للمخلوق مجازا ، ويكون له تصرف صوري ، بخلاف يوم القيامة ، ينقطع فيه الدعاوى ، ويظهر الملك لله الواحد القهار ، وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً أي : وكان ذلك اليوم ، مع كون الملك للمبالغ فى الرحمة ، عَسِيراً أي : صعبا ، شديدا على النفوس بالنسبة للكافرين ، وأما على المؤمنين فيكون يسيرا ، بفضل اللّه تعالى. وقد جاء فى الحديث : أنه يهون يوم القيامة على المؤمنين ، حتى يكون أخف عليهم من صلاة مكتوبة ، صلّوها فى الدنيا. ففى حديث أبى سعيد الخدري حيث قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ، قلت : يا رسول اللّه ، ما أطول هذا اليوم؟ فقال صلى اللّه عليه وسلم : «والذي نفسى بيده إنّه ليخفّف على المؤمن حتى يكون أخفّ عليه من صلاة مكتوبة يصليها فى الدنيا» «1».
وَاذكر أيضا يَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ ندما وتحسرا ، فعض اليد والأنامل : كناية عن شدة الغيظ والحسرة لأنها من روادفها ، فتذكر المرادفة ويراد بها المردوف ، فيرتفع الكلام بذلك فى طبقة الفصاحة ، ويجد السامع فى نفسه من الروعة ما لا يجده عند اللفظ المكنى عنه.
والمراد بالظالم : إما عقبة بن أبى معيط ، وكان خليلا لأبىّ بن خلف ، وكان عقبة يكثر مجالسة النبي صلى اللّه عليه وسلم ، فقدم من سفر وصنع طعاما ، فدعا إليه أشراف قومه ، ودعا النبىّ صلى اللّه عليه وسلم ، فلما قرّب الطعام ، قال النبي صلى اللّه عليه وسلم : «ما أنا بآكل من طعام ، حتى تشهد أن لا إله إلا اللّه ، وأنى رسول اللّه». فقال عقبة : أشهد أن لا إله إلا اللّه ، وأن محمدا رسول اللّه. فأكل النبي صلى اللّه عليه وسلم طعامه ، وكان أبىّ بن خلف غائبا ، فلما أخبر ، قال له : صبأت يا عقبة؟ فقال : لا ، واللّه ما صبأت ، ولكن دخل علىّ رجل فأبى أن يأكل من طعامى إلا أن أشهد له ، فاستحييت أن يخرج من بيتي ولم يطعم ، فشهدت له ، فطعم ، فقال : ما أنا بالذي أرضى عنك أبدا ، حتى تأتيه فتبزق فى وجهه ، وتطأ عنقه ، فوجده صلى اللّه عليه وسلم ساجدا ، ففعل ذلك ، وأخذ رحم دابته فألقاها بين كتفيه ، فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم : «لا ألقاك خارجا من مكّة إلا علوت
___________
(1) أخرجه الإمام أحمد فى المسند (3/ 75) ، وابن حبان (الإحسان ، تحقيق الأرنؤوط 16/ 329 ح 7334) ، وأبو يعلى (2/ 527 ح 1390) ، وحسّنه الهيثمي فى المجمع (10/ 339).(4/92)
البحر المديد ج 4 ، ص : 93
رأسك بالسيف». فقتل عقبة يوم بدر صبرا. وأما أبىّ فقتله النبي صلى اللّه عليه وسلم بيده ، يوم أحد ، فى المبارزة ، طعنه فى عنقه ، فمات بمكة «1».
وعن الضحاك : لما بصق عقبة - بأمر أبىّ - فى وجه النبي صلى اللّه عليه وسلم ، رجع بصاقه فى وجهه ، وشوى وجهه وشفتيه ، حتى أثر فى وجهه وأحرق خديه ، فلم يزل فى وجهه حتى قتل ، وقتله علىّ ببدر بأمره صلى اللّه عليه وسلم بقتله. ه.
وقال الشعبي : كان عقبة بن أبى معيط خليلا لأبي بن خلف ، فأسلم عقبة ، فقال أبىّ : وجهى من وجهك حرام ، أن تابعت محمدا ، فارتدّ لرضا صاحبه ، فنزلت الآية «2». ه.
وإمّا جنس الظالم ، ويدخل عقبة فيه دخولا أوليا.
يَقُولُ يا لَيْتَنِي ، الياء لمجرد التنبيه ، من غير تعيين المنبّه ، أو : المنبه محذوف ، أي : يا هؤلاء لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ فى الدنيا مَعَ___________
(1) من الآية 48 من سورة القصص.
(2) من الآية 2 من سورة المائدة.(4/93)
البحر المديد ج 4 ، ص : 94(4/94)
البحر المديد ج 4 ، ص : 95(4/95)
البحر المديد ج 4 ، ص : 96(4/96)
البحر المديد ج 4 ، ص : 97(4/97)
البحر المديد ج 4 ، ص : 98(4/98)
البحر المديد ج 4 ، ص : 99(4/99)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 100
قلت : (و قوم) : منصوب بمضمر يدل عليه (دمرناهم) ، أي : ودمرنا قوم نوح ، و(عادا وثمودا) : عطف على (قوم نوح).
يقول الحق جل جلاله : وَدمرنا أيضا قَوْمَ نُوحٍ ، وذلك أنهم لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ نوحا ، ومن قبله شيثا وإدريس ، أو : لأن تكذيبهم لواحد تكذيب للجميع لاتّفاقهم على التوحيد والإسلام ، أَغْرَقْناهُمْ بالطوفان ، وَجَعَلْناهُمْ أي : وجعلنا إغراقهم أو قصتهم لِلنَّاسِ آيَةً : عبرة يعتبر بها كل من يشاهدها أو يسمعها. وَأَعْتَدْنا هيأنا لِلظَّالِمِينَ أي : لهم. وأظهر فى موضع الإضمار للإيذان بتجاوزهم الحد فى الظلم ، أو لكل ظالم ظلم شرك ، فيدخل كل من شاركهم ، كقريش وغيرهم ، أي : هيأنا عَذاباً أَلِيماً ، أي : النار المؤبدة عليهم.
وَدمرنا أيضا عاداً وَثَمُودَ ، وقد تقدم فى الأعراف «1» ، وهو كيفية تدميرهم. وَأَصْحابَ الرَّسِّ ، هم قوم شعيب قال ابن عباس : أصحاب الرسّ : أصحاب البئر. قال وهب : كانوا أهل بئر ، قعودا عليها ، وأصحاب مواشى ، وكانوا يعبدون الأصنام ، فأرسل اللّه إليهم شعيبا ، فآذوه ، وتمادوا فى طغيانهم ، فبينما هم حول البئر - والبئر فى وسط منازلهم - انهارت بهم وبديارهم ، فهلكوا جميعا. وقال قتادة : الرسّ : قرية بفلح اليمامة ، قتلوا نبيّهم فأهلكهم اللّه. وقيل : هم بقية قوم هود وقوم صالح ، وهم أصحاب البئر ، التي قال : وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ «2».
وقال سعيد بن جبير وغيره : قوم كان لهم نبى ، يقال له : حنظلة بن صفوان ، وكان بأرضهم جبل ، يقال له :
فتخ ، مصعده فى السماء ميل ، وكانت العنقاء تنتابه ، وهى كأعظم ما يكون من الطير ، وفيها من كل لون - وسموها العنقاء لطول عنقها - وكانت تنقض على الطير فتأكلها ، فجاعت ذات يوم ، فانقضت على صبى فذهبت به ، - وسميت عنقاء مغرب لأنها تغرّب ما تأكله عن أهله ، فتأكله - ثم انقضت على جارية قد ترعرعت ، فأخذتها فطارت بها ، فشكوا إلى نبيهم ، فقال : اللهم خذها واقطع نسلها ، فأصابتها صاعقة ، فاحترقت ، فلم ير لها أثر ، فصارت مثلا عند العرب. ثم إنهم قتلوا نبيهم فأهلكهم اللّه. وقال مقاتل والسدى : هم أصحاب بئر أنطاكية ، وتسمى الرس ، قتلوا فيها حبيبا النجار ، فنسبوا إليها ، وهم الذين ذكروا فى (يس). وقيل : هم أصحاب الأخدود الذين حفروه ، والرسّ فى كلام العرب : كل محفور مثل البئر ، والقبر ، والمعدن ، وغير ذلك ، وجمعها : رساس. وقال عكرمة : هم قوم رسّوا نبيهم فى بئر.
___________
(1) راجع تفسير الآيات : 65 - 78 من سورة الأعراف.
(2) من الآية 45 من سورة الحج.(4/100)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 101
قال النبي صلى اللّه عليه وسلم : «إن أول الناس ممّن يدخل الجنة عبد أسود ، وذلك أن اللّه تعالى بعث نبيا إلى قرية ، فلم يؤمن به إلا ذلك الأسود ، فحفر أهل القرية بئرا وألقوا فيها نبيهم ، وأطبقوا عليها بحجر ضخم ، فكان العبد يحتطب على ظهره ، ويبيعه ، ويأتيه بطعامه ، فيعينه اللّه تعالى على رفع تلك الصخرة حتى يدليه إليه. فبينما هو يحتطب ذات يوم إذ نام ، فضرب على أذنه سبع سنين ، ثم جاء بطعامه إلى البئر فلم يجده. وكان قومه قد بدا لهم فاستخرجوه وآمنوا به ، ومات ذلك النبي ، فقال - عليه الصلاة والسلام : «إنّ ذلك الأسود لأوّل من يدخل الجنّة» «1» ، يعنى : من قومه. ه. وهؤلاء آمنوا فلا يصح حمل الآية عليها ، إلا أن يكونوا أحدثوا شيئا بعد نبيهم ، فدمرهم اللّه.
وقال جعفر بن محمد عن أبيه : أن أصحاب الرسّ : السحّاقات ، قال أنس : قال النبي صلى اللّه عليه وسلم : «إنّ من أشراط السّاعة أن يستكفى الرجال بالرجال ، والنساء بالنساء» «2» ، وذلك السحاق ، ويقال له أيضا : المساحقة ، وهو حرام بالإجماع. وسبب ظهوره : أن قوما أحدثوا فاحشة اللواط ، حتى استغنوا عن النساء ، فبقيت النساء معطلة ، فجاءتهن شيطانة فى صورة امرأة ، وهى الولهات بنت إبليس ، فشهّت إلى النساء ركوب بعضهن بعضا ، وعلمتهن كيف يصنعن ذلك ، فسلط عليهم صاعقة من أول الليل ، وخسفا من آخر الليل ، وصيحة مع الشمس ، فلم يبق منهم بقية. ه.
وَقُرُوناً أي : دمرنا أهل قرون. والقرن : سبعون سنة ، وقيل : أقل ، وقيل : أكثر ، بَيْنَ ذلِكَ أي : بين ذلك المذكور من الأمم والطوائف ، كَثِيراً ، لا يعلم عددها إلا العليم الخبير ، وَكُلًّا من الأمم المذكورين قد ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ أي : بيّنا له القصص العجيبة ، الزاجرة عماهم عليه من الكفر والمعاصي ، بواسطة الرسل. وقيل : المراد : تبيين ما وقع لهم ، ووصف ما أدى إليه تكذيبهم لأنبيائهم ، من عذاب اللّه وتدميره إياهم ، ليكون عبرة لمن بعدهم ، وَكُلًّا أي : وكل واحد منهم تَبَّرْنا تَتْبِيراً أي : أهلكنا إهلاكا عجيبا. والتتبير :
التفتيت. قال الزجاج : كل شىء كسرته وفتته فقد تبرته.
ثم بيّن بعض آثار الأمم المتبّرة ، فقال : وَلَقَدْ أَتَوْا يعنى : أهل مكة عَلَى الْقَرْيَةِ ، وهى سدوم ، وهى أعظم قرى قوم لوط ، وكانت خمسا ، أهلك اللّه أربعا ، وبقيت واحدة ، كان أهلها لا يعملون الخبيث ، وأما البواقي فأهلكها بالحجارة ، وإليه أشار بقوله : الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أي : أمطر اللّه عليها الحجارة. والمعنى : واللّه لقد أتى قريش فى متاجرهم إلى الشام على القرية التي أهلكها اللّه ، وبقي آثارها خاربة ، أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَها
___________
(1) أخرجه الطبري فى التفسير (191/ 14) عن محمد بن كعب القرطبي ، وانظر تفسير ابن كثير (3/ 318).
(2) أخرجه الطبراني فى المعجم الكبير (10/ 282 ح 10556) مطولا من حديث ابن مسعود رضى اللّه عنه وفيه : «يا ابن مسعود إن أعلام الساعة وأشراطها ..» الحديث. قال فى مجمع الزوائد 7/ 323. رواه الطبراني فى الأوسط. وفيه : سيف بن مسكين ، وهو ضعيف.(4/101)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 102
فى مرورهم ورجوعهم ، فيتفكرون ويؤمنون ، بَلْ كانُوا لا يَرْجُونَ نُشُوراً أي : بل كانوا قوما كفرة بالبعث ، لا يخافون ولا يأملون بعثا ، كما يأمله المؤمنون لطمعهم فى الوصول إلى ثواب أعمالهم. أو : بل كانوا قوما كفرة بالبعث ، منهمكين فى الغفلة ، يرون ما نزل بالأمم أمرا اتفاقيا ، لا بقدرة الباقي ، فطابع الكفر منعهم من التفكر والاعتبار. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : ينبغى للمؤمن العاقل ، المشفق على نفسه ، أن ينظر فيمن هلك من الأمم السالفة ، ويتأمل فى سبب هلاكهم ، فيشديده على الاحتراز مما استوجبوا به الهلاك ، وهو مخالفة الرسل وترك الإيمان فيشديده على متابعة ما جاء به الرسول صلى اللّه عليه وسلم من الأوامر والنواهي ، ويرغب فيما رغّب فيه ، ويهتدى بهديه ، ويقتدى بسنته ، ويربى إيمانه ، ويجعل البعث والنشر والحشر بين عينيه ، فهذه طريق النجاة. وينبغى للمريد ، إذا رأى فقيرا سقط من درجة الإرادة ويبست أشجاره ، أن يحترز من تلك الزلاقة التي زلق فيها ، فيبحث عن سبب رجوعه ، ويجتنبه جهد استطاعته. ومرجعها إلى ثلاث : خروجه من يد شيخه إلى غيره ، وسقوط تعظيم شيخه من قلبه بسبب اعتراض أو غيره ، واستعمال كثرة الأحوال ، حتى يلحقه الملل. نسأل اللّه الحفظ من الجميع بمنّه وكرمه.
ثم ذكر وبال من لم يعظم الواسطة ، فقال :
[سورة الفرقان (25) : الآيات 41 الى 44]
وَإِذا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً (41) إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا لَوْ لا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً (42) أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً (43) أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً (44)
يقول الحق جل جلاله : وَإِذا رَأَوْكَ أي : مشركو مكة إِنْ ما يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً أي :
مهزوءا بك ، أو محل هزؤ ، حال كونهم قائلين : أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا ، ورسولا : حال من العائد المحذوف ، أي : هذا الذي بعثه اللّه رسولا ، والإشارة للاستحقار فى اعتقادهم وتسليمهم البعث والرسالة ، مع كونهم فى غاية الإنكار لهما على طريق الاستهزاء ، وإلا لقالوا : أبعث اللّه هذا رسولا.(4/102)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 103
إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا أي : ليصرفنا عن عبادتها صرفا كليا ، والعدول إلى الإضلال لغاية ضلالتهم بادعاء أن عبادتها طريق سوى. لَوْ لا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها لصرفنا عنها ، وهو دليل على مجاهدة الرسول صلى اللّه عليه وسلم فى دعوتهم ، وإظهار المعجزات لهم ، حتى شارفوا أن يتركوا دينهم إلى دين الإسلام ، لو لا فرط لجاجهم وتقليدهم.
قال تعالى : وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ الذي يستوجبه كفرهم وعنادهم ، مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا ، وأخطأ طريقا. وفيه ما لا يخفى من الوعيد والتنبيه على أنه تعالى يمهل ولا يهمل.
أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أي : أطاع هواه فيما يذر ويفعل ، فصار معبوده هواه ، يقول لرسوله صلى اللّه عليه وسلم : هذا الذي لا يرى معبوده إلا هواه ، كيف تستطيع أن تدعوه إلى الهدى وتهديه إليها؟ يروى أن الواحد من أهل الجاهلية كان يعبد الحجر ، فإذا مر بحجر أحسن منه تركه وعبد الثاني. وقال الحسن : هو فى كل متبع هواه. أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا حفيظا تحفظه عن متابعة هواه وعبادة ما يهواه. والفاء لترتيب الإنكار على ما قبله ، كأنه قيل : أبعد ما شاهدت من غلوه فى طاعة الهوى ، وعتوه عن اتباع الهدى ، تقهره على الإيمان ، شاء أو أبى ، وإنما عليك التبليغ فقط.
أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ ، «أم» : منقطعة ، بمعنى بل ، أي : بل أتظن أن أكثرهم يسمعون ما تتلو عليهم من الآيات حق السماع ، أو يعقلون ما فى تضاعيفها من المواعظ والأنكال؟ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ أي : ما هم ، فى عدم الانتفاع بما يقرع آذانهم من قوارع الآيات ، وانتفاء التأثير بما يشاهدونه من الدلائل والمعجزات ، إلّا كالبهائم ، التي هى غاية فى الغفلة ، ومثل فى الضلالة ، بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا لأن البهائم تنقاد لصاحبها الذي يعلفها ويتعاهدها ، وتعرف من يحسن إليها ممن يسىء إليها ، وتطلب ما ينفعها وتجتنب ما يضرها ، وتهتدى لمراعيها ومشاربها ، وتأوى إلى معاطنها ، وهؤلاء لا ينقادون لخالقهم ورازقهم ، ولا يعرفون إحسانه من إساءة الشيطان ، الذي هو أعدى عدوهم ، ولا يطلبون الثواب الذي هو أعظم المنافع ، ولا يتقون العقاب الذي هو أقبح المضار والمعاطب ، ولا يهتدون إلى الحق ، الذي هو الشرع الهنى ، والمورد العذب الروى ، ولأنها ، إن تعتقد حقا مستتبعا لاكتساب الخير ، لم تعتقد باطلا مستوجبا لاقتراب الشر ، بخلاف هؤلاء حيث مهّدوا قواعد الباطل ، وفرعوا أحكام الشرور ، ولأن أحكام جهالتها وضلالتها مقصورة عليها ، لا تتعدى إلى أحد ، وجهالة هؤلاء مؤدية إلى ثوران الفساد ، وصد الناس عن سنن السداد ، وهيجان الهرج والمرج فيما بين العباد ، ولأنها غير متمكنة من طلب الكمال ، لعدم القوى العقلية ، فلا تقصير من قبلها ، ولا ذم ، وهؤلاء متمكنون من القوى العقلية مضيعون الفطرة الأصلية ، مستحقون بذلك أعظم العقاب ، وأشد النكال. ه. وأصله للبيضاوى.(4/103)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 104
الإشارة : تعظيم الرسول صلى اللّه عليه وسلم وإجلاله وتوقيره من أعظم ما يقرب إلى اللّه ، ويوصل إلى رضوان اللّه ، ويدخل العبد على مولاه لأنه باب اللّه الأعظم ، والواسطة الكبرى بين اللّه وبين عباده ، فمن عظّمه صلى اللّه عليه وسلم وبجلّه وخدمه أتم الخدمة ، أدخله الحضرة ، على التوقير والتعظيم والهيبة والإجلال. ومن حاد عن متابعته فقد أتى البيت من غير بابه كمن دخل حضرة الملك بالتسور ، فيستحق القتل والطرد والبعد. وإدخاله على اللّه : دلالته على من يعرفه بالله ، وقد يوصله بلا واسطة ، لكنه نادر. ومن أهمل هذا الجانب واستصغره طرده اللّه وأبعده ، وانسحب عليه قوله : وَإِذا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً ، وكان ممن اتخذ إلهه هواه ، وكان كالبهائم ، أو أضل لأن من اتبع الواسطة كان هواه تابعا لما جاء من عند اللّه ، وقد قال صلى اللّه عليه وسلم : «لا يؤمن أحدكم حتّى يكون هواه تبعا لما جئت به».
وبالله التوفيق.
ثم ذكر دلائل توحيده ، بعد بيان من غفل عنها وضل ، فقال :
[سورة الفرقان (25) : الآيات 45 الى 50]
أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً (45) ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً (46) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً وَالنَّوْمَ سُباتاً وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً (47) وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً (48) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَأَناسِيَّ كَثِيراً (49)
وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً (50)
يقول الحق جل جلاله : أَلَمْ تَرَ يا محمد إِلى رَبِّكَ أي : ألم تنظر إلى بديع صنع ربك ودلائل قدرته وتوحيده. والتعرض لعنوان الربوبية ، مع الإضافة إلى ضميره - عليه الصلاة والسلام - ، لتشريفه وتبجيله ، وللإيذان بأن ما يعقبه من آثار قدرته ورحمته ، كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ أي : بسطه حتى عمّ الأرض ، وذلك من حين طلوع الفجر إلى وقت طلوع الشمس ، فى قول الجمهور لأنه ظل ممدود ، لا شمس معه ولا ظلمة ، فهو شبيه بظل الجنة. وقيل : مد ظل الأشياء الشاخصة أول النهار من شجر ، أو مدر ، أو إنسان ، ثم قبضها وردها إلى المشرق.
وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً أي : دائما لا يزول ولا تذهبه الشمس ، أو : لا ينتقص بسيرها. ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ(4/104)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 105
عَلَيْهِ
أي : على الظل دَلِيلًا ، لأنه بالشمس يعرف الظل ، فلو لا طلوعها وظهورها ما عرف الظل ، ولا ظهر له أثر ، فالأشياء تعرف بأضدادها.
ثُمَّ قَبَضْناهُ أي : أخذنا ذلك الظل الممدود إِلَيْنا إلى حيث إرادتنا قَبْضاً يَسِيراً أي : على مهل قليلا قليلا ، حسب ارتفاع دليله ، على حسب مصالح المخلوقات ومرافقها.
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً أي : جعل الظلام الساتر كاللباس وَالنَّوْمَ سُباتاً أي : راحة لأبدانكم ، وقطعا لأعمالكم. والسبت : القطع ، والنائم مسبوت لأنه انقطع عمله وحركته ، وقيل السبات : الموت ، والميت مسبوت لأنه مقطوع الحياة ، كقوله : وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ «1». ويعضده ذكر النشور فى مقابلته بقوله : وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً أي : ذا نشور ، أي : انبعاث من النوم ، كنشور الميت ، أو : ينشر فيه الخلق للمعاش.
وهذه الآية ، مع دلالتها على قدرته تعالى ، فيها إظهار لنعمته تعالى لأن فى الاحتجاب بستر الليل فوائد دينية ودنيوية ، وفى النوم واليقظة - المشبهين بالموت والبعث - عبرة للمعتبرين. قال لقمان لابنه : كما تنام فتوقظ ، كذلك تموت فتنشر.
وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ ، وعن المكي بالإفراد ، نَشْراً «2» : جمع نشور ، أي : أرسلها للسحاب حتى تسوقها إلى حيث أراد تعالى أن تمطر ، بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أي : أرسلها قدام المطر ، لأنه ريح ، ثم سحاب ، ثم مطر. وقرأ عاصم بالباء ، أي : مبشرات بالمطر. وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً أي : مطهرا بالغا فى التطهير ، كقوله : لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ «3» وهو اسم لما يتطهر به ، كالوضوء والوقود ، لما يتوضأ به ويوقد به. وقيل : طهور فى نفسه ، مبالغة فى الطاهرية ، فالطهور فى العربية يكون صفة ، كما تقول : ماء طهور ، واسما ، كما فى قوله صلى اللّه عليه وسلم :
«التراب طهور ، والمؤمن طهور» ، وقد يكون مصدرا بمعنى الطهارة ، كقولك : تطهرت طهورا حسنا ، ومنه قوله صلى اللّه عليه وسلم : «لا صلاة إلا بطهور» «4». ووصفه تعالى الماء بذلك ليكون أبلغ فى النعمة ، فإن الماء الطهور أنفع وأهنأ مما خالطه ما يزيل طهوريته ، أي : أنزلناه كذلك.
لِنُحْيِيَ بِهِ أي : بالمطر الطهور بَلْدَةً مَيْتاً بالجدب والقحط ، فحييت بالنبات والعشب. والتذكير لأن البلدة بمعنى البلد ، والمراد به : القطعة من الأرض عامرة أو غامرة. وَنُسْقِيَهُ أي : ذلك الماء الطهور ، عند
___________
(1) من الآية 60 من سورة الأنعام.
(2) قرأ عاصم : «بشرا» بالباء ، وقرأ الباقون «بالنون» .. انظر الإتحاف (2/ 309).
(3) من الآية 11 من سورة الأنفال.
(4) أخرجه بطوله مسلم فى (الطهارة ، باب وجوب الطهارة للصلاة ، 1/ 204 ، ح 224) من حديث ابن عمر. رضي اللّه عنه : (لا تقبل صلاة بغير طهور.) الحديث.(4/105)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 106
جريانه فى الأودية ، أو اجتماعه فى الآبار والحياض ، مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَأَناسِيَّ كَثِيراً أي : نسقى ذلك بهائم وناسا كثيرا. والأناسى : جمع أنسيّ ، ككرسى وكراسى. وقيل : جمع إنسان ، وأصله : أناسين ، وأبدلت النون ياء ، وأدغمت التي قبلها فيها. وقدّم إحياء الأرض على سقى الأنعام والأناسى لأن حياتها سبب لحياتهما. وتخصيص الأنعام من بين سائر الحيوان لأن عامة منافع الإنسان متعلقة بها.
وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ أي : هذا القول ، الذي هو إنشاء السحاب وإنزال المطر ، على الوجه الذي مرّ من الغايات الجميلة ، فى القرآن وغيره من الكتب السماوية ، أو : صرفنا المطر عاما بعد عام وفى بلدة دون أخرى. أو : صرفناه بينهم وابلا ، وطلّا ، ورذاذا وديمة. وقيل : التصريف راجع إلى الريح. وقيل : إلى القرآن المتقدم فى قوله : لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ .. «1» ويعضده : وَجاهِدْهُمْ بِهِ «2». وقوله : بَيْنَهُمْ أي : بين الناس جميعا متقدمين ومتأخرين ، لِيَذَّكَّرُوا ليتفكروا ويعرفوا قدر النعمة فيه ، أو : ليعرفوا بذلك كمال قدرته وسعة رحمته ، فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ ممن سلف وخلف إِلَّا كُفُوراً أي : جحودا لهذه النعمة وقلة اكتراث بها ، وربما نسبوها إلى غير خالقها ، فيقولون : مطرنا بنوء كذا.
وفى البخاري عنه صلى اللّه عليه وسلم يقول اللّه تعالى : «أصبح من عبادى مؤمن بي وكافر ، فأمّا من قال : مطرنا بفضل اللّه ورحمته فذلك مؤمن بي ، كافر بالكواكب. وأما من قال : مطرنا بنوء كذا ، فهو كافر بي ، مؤمن بالكواكب» «3». فمن نسب الأمطار إلى الأنواء ، وجحد أن تكون هى والأنواء من خلق اللّه ، فقد كفر ، ومن اعتقد أن اللّه خالقها ، وقد نصب الأنواء أمارات ودلالات عليها ، لم يكفر.
وعن ابن مسعود رضي اللّه عنه عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال : «ليس سنة بأمطر من الأخرى ، ولكن اللّه تعالى قسم هذه الأرزاق ، فجعلها فى سماء الدنيا ، فى هذا القطر ، ينزل منه كل سنة بكيل معلوم ووزن معلوم. ولكن إذا عمل قوم بالمعاصي حوّل اللّه ذلك إلى غيرهم ، فإذا عصوا جميعا صرف اللّه ذلك إلى الفيافي والبحار» «4». واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : الكون كله ، من جهة حسه الظاهر ، ظل آفل ، وضباب حائل ، لا وجود له من ذاته ، وإنما الوجود للمعانى القديمة الأزلية. فنسبة الكائنات ، من بحر المعاني الأزلية ، كنسبة ظلال الأشجار فى البحار ، فظلال
___________
(1) الآية 32 من هذه السورة.
(2) الآية 52.
(3) أخرجه البخاري فى (الاستسقاء ، باب قول اللّه تعالى : وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ ح 1038) ومسلم فى (الإيمان ، باب كفر من قال : مطرنا بالنوء ، 1/ 83 ، ح 125) ، عن زيد بن خالد الجهني.
(4) ذكره بلفظه البغوي فى تفسيره (6/ 89) وعزاه لابن إسحاق ، وابن جريج ، ومقاتل ، وبلغوا به ابن مسعود يرفعه. وأخرج الحاكم فى المستدرك (التفسير 2/ 403) ، عن ابن عباس : «ما من عام ، أمطر من عام ، ولكن اللّه قسم ذلك بين عباده على ما يشاء ، وتلا هذه الآية. يعنى : قوله : وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ وصححه الحاكم ، ووافقه الذهبي على شرط الشيخين. [.....](4/106)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 107
الأشجار فى البحار لا تمنع السفن من التسيار ، فكذلك ظلال الكائنات لا تمنع سفن الأفكار من الخوض فى بحار المعاني الأزلية الجبروتية ، بل تخرقها ، وتخوض فى بحار الأحدية الجبروتية ، الأولية والآخرية ، والظاهرية والباطنية ، والعلوية والسفلية ، ولا يحجبها عن اللّه ظل شىء من الكائنات ، وإليه الإشارة بقوله : ألم تر ، أيها العارف ، إلى ربك كيف مد الظل ، أي : مد ظل الكائنات ليعرف بها كنز ربوبيته وبطون غيبه ، ثم يرفع ذلك الظل عن عين البصيرة ، التي أراد فتحها ، فتشاهد بطون الأزل وغيب الغيب ، وتصير عارفة بالله. ولو شاء لجعله ساكنا ، فيقع به الحجاب ، فيحجب العبد بسحب الآثار عن شهود الأنوار. ثم جعلنا شمس العرفان عليه أي : على الأثر ، دليلا ، فيستدل بالله على غيره ، فلا يرى غيره ، ثم قبضناه ، أي : ذلك الظل ، عن قلب السائر أو العارف ، قبضا يسيرا ، فيغيب عنه شيئا فشيئا ، حتى يفنى عن حسه وحس غيره من الكائنات ، فلا يشهد إلا المكوّن لأن ذلك إنما يكون بالتدرج والتدريب ، فإذا تحقق فناؤه رجع إلى شهود الأثر بالله «1» قياما برسم الحكمة ، وأداء لحق العبودية.
وهو الذي جعل ليل القبض لباسا ، أي : سترا ورداء من الهفوات لأن القبض يغلب فيه السكون ، وجانبه مأمون ، والنوم - أي : الزوال - سباتا ، أي : راحد من كد التدبير والاختيار ، وجعل نهار البسط نشورا ، تنتشر فيه العلوم وتنبسط فيه المعارف ، إن قام صاحبه بآدابه ، ولا يقوم به إلا القليل لأنه مزلة أقدام ، ولذلك قال فى الحكم :
«ربما أفادك فى ليل القبض ما لم تستفده فى إشراق نهار البسط ، لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا».
وهو الذي أرسل رياح الواردات الإلهية نشرا بين يدى رحمته ، أي : معرفته إذ لا رحمة أعظم منها ، وأنزلنا من سماء الغيوب ماءا طهورا ، وهو العلم بالله ، الذي تحيا به الأرواح والأسرار ، وتطهر به قلوب الأحرار ، لنحيي به بلدة ميتا ، أي : روحا ميتة بالجهل والغفلة ، ونسقيه مما خلقنا أنعاما وأناسى كثيرا لأن ماء المعاني سار فى كل الأوانى فماء التوحيد سار فى الأشياء كلها ، جهل هذا من جهله ، وعرفه من عرفه. وأكثر الناس جاحدون لهذا.
ولذلك قال تعالى : وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ فكل شىء فيه سر من حياة هذا الماء ، فأبى أكثر الناس إلا كفورا وجحودا له ، ولم ينتفع به إلا خواص أوليائه. وبالله التوفيق.
ثم إن هذا الماء إنما يسقى على أيدى الوسائط. وكان القياس تعددهم كتعدد سحابات الأمطار بتعدد الأقطار ، لكن خولف ذلك فى حق نبينا صلى اللّه عليه وسلم تشريفا لقدره ، وتعظيما لأمره ، كما أشار إلى ذلك بقوله :
[سورة الفرقان (25) : الآيات 51 الى 52]
وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً (51) فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَجاهِدْهُمْ بِهِ جِهاداً كَبِيراً (52)
___________
(1) إذن فهو فناء شهود ، وليس فناء وجود. فتنبه ، أعزك اللّه.(4/107)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 108
يقول الحق جل جلاله : وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً أي : رسولا ينذر أهلها ، ولقسمنا النذر بينهم كما قسمنا المطر ، فيخف عليك أعباء النبوة ، ولكنا لم نشأ ذلك فحملناك ثقل نذارة جميع القرى ، حسبما نطق به قوله تعالى : لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً «1» لتستوجب بذلك الدرجة القصوى ، وتفضل على سائر الرسل والأنبياء ، فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ فيما يدعونك إليه من موافقتهم ومداهنتهم. وكما آثرتك على جميع الأنبياء فآثر رضاى على جميع الأهواء ، وكأنه نهى للرسول صلى اللّه عليه وسلم عن المداراة معهم ، والتقصير فى الدعوة لئلا تغلبه الشفقة عن مقابلتهم بصريح الحق.
قال القشيري : فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ أي : كن قائما بحقّنا ، من غير أن يكون منك جنوح إلى غيرنا ، أو مبالاة بسوانا ، فإنّا نعصمك بكل وجه ، ولا نرفع عنك ظلّ عنايتنا بحال. ه.
وَجاهِدْهُمْ بِهِ أي : بالقرآن بأن تقرأ عليهم ما فيه من الزواجر والقوارع والمواعظ ، وذكر أحوال الأمم الهالكة ، جِهاداً كَبِيراً عظيما موقعه عند اللّه لما يتحمل فيه من المشاق ، فإن دعوة كلّ العالمين ، على الوجه المذكور ، جهاد كبير ، أو : (جاهدهم به) بالشدة والعنف من غير مداداة ولا ملاينة ، فكبر الجهاد هو ملابسته بالشدة والعنف ، كقوله : جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ «2». واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : الإنذار والوعظ بالمقال مع الهمة والحال عزيز الوجود ، فقلّ أن يجتمع منهم ، فى العصر الواحد ، ثلاثة أو أربعة فى الإقليم الكبير لأن اللّه تعالى لم يشأ ذلك بحكمته ، قال تعالى : وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً ، وكلما قلّ عددهم ، وعظم الانتفاع بهم ، عظم قدرهم ، فينبغى للمذكّر أن يذكّر كلّا بما يليق به ، فأهل العصيان ينبغى له أن يشدد فى الإنذار ، ولا يداريهم ولا يداهنهم. وأهل الطاعة ينبغى له أن يبشّرهم ويسهل الأمر عليهم ، وقد قال صلى اللّه عليه وسلم : «يسّروا ولا تعسّروا ، ويشّروا ولا تنفّروا» «3» ، فيحتاج المذكّر إلى فطنة وفراسة ، حتى يعطى كل واحد ما يليق به ، ويخاطب كل واحد بما يطيقه. وبالله التوفيق.
ثم ذكر دليلا آخر على كمال قدرته ، فقال :
___________
(1) من الآية الأولى من سورة الفرقان.
(2) من الآية 73 من سورة التوبة ، والآية 9 من سورة التحريم.
(3) أخرجه البخاري فى (كتاب العلم ، باب : ما كان النبي صلى اللّه عليه وسلم يتخولهم بالموعظة ، ح 69) ومسلم فى (الجهاد والسير. باب الأمر بالتيسير وترك التنفير ، 3/ 1309 ، ح 1734) من حديث أنس بن مالك - رضى اللّه عنه.(4/108)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 109
[سورة الفرقان (25) : آية 53]
وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً (53)
قلت : أصل المرج : الخلط والإرسال ، ومنه قوله تعالى : فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ «1» ، وقوله صلى اللّه عليه وسلم : «كيف بك يا عبد اللّه إذا كنت فى حثالة من الناس ، قد مرجت عهودهم وأماناتهم ، وصاروا هكذا ، وشبّك بين أصابعه» «2».
يقال : مرجت دابته وأمرجتها : إذا أرسلتها فى المرعى. ومنه قيل للروضة : مرج.
يقول الحق جل جلاله : وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ أي : أرسلهما ، وخلّاهما متجاورين متلاصقين غير متمازجين. هذا عَذْبٌ فُراتٌ أي : شديد العذوبة ، قامع للعطش لعذوبته ، أي : برودته ، وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ : بليغ الملوحة ، أو : هذا عذب لا ملوحة فيه ، وهذا ملح لا عذوبة فيه ، مع اتحاد جنسهما ، وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً حائلا بقدرته ، يفصل بينهما ويمنعهما التمازج لئلا يختلطا ، وَحِجْراً مَحْجُوراً أي : وسترا ممنوعا عن الأعين ، كقوله : حِجاباً مَسْتُوراً «3» ، أي : جعل بينهما حاجزا خفيا لئلا يغلب أحدهما الآخر ، أو : سدا ممنوعا يمنعهما فلا يبغيان ، ولا يفسد الملح العذب ، ولو خلّا اللّه تعالى البحر الملح ، ولم يلجمه بقدرته ، لفاض على الدنيا ، واختلط مع العذب وأفسده.
[سورة الفرقان (25) : الآيات 54 الى 55]
وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً (54) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً (55)
ثم ذكر دليلا آخر ، فقال : وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ أي : النطفة بَشَراً إنسانا فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً.
قسم البشر قسمين : ذوى نسب ، أي : ذكورا ، ينسب إليهم ، فيقال : فلان ابن فلان. وذوات صهر ، أي : إناثا يصاهر بهن ، فهو كقوله : فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى «4». قال ابن جزى : والنسب : أن يجتمع إنسان مع آخر فى أب أو أمّ ، قرب ذلك أو بعد. والصهر : هو الاختلاط بالتناكح. ه. وعن على رضي اللّه عنه : النسب ما لا يحل نكاحه ، والصهر : ما يحل نكاحه.
وعن الضحاك ومقاتل : النسب سبعة ، والصهر خمسة ، ثم قرأ هذه الآية : حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ «5». فالسبعة الأولى :
نسب ، والباقي : صهر. ه. والأصح أن التسعة نسب ، والباقي صهر.
___________
(1) من الآية 5 من سورة ق.
(2) أخرجه ابن حبان (الإحسان 7/ 575 ح 5920) عن أبى هريرة ، وأخرجه أحمد فى المسند (2/ 162) ، وأبو داود فى (الملاحم ، باب الأمر والنهى ، 4/ 513 ، ح 4342) وابن ماجه فى (الفتن ، باب التثبت فى الفتنة ، 2/ 1307 ح 3957) ، عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص رضي اللّه عنه.
(3) من الآية 45 من سورة الإسراء.
(4) من الآية 39 من سورة القيامة.
(5) من الآية 23 من سورة النساء.(4/109)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 110
وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً حيث خلق من النطفة الواحدة بشرا ذا نوعين ، ذكرا وأنثى ، أو : حيث خلق من مادة واحدة بشرا ذا أعضاء مختلفة وطباع متباعدة ، وجعله قسمين متقابلين ذكرا وأنثى.
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ، بعد هذا البرهان الواضح على توحيده ، ما لا يَنْفَعُهُمْ إن عبدوه ، وَلا يَضُرُّهُمْ إن تركوه ، وهم الأصنام ، أو كل من عبد من دون اللّه إذ المخلوق كله عاجز ، وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ، الذي ذكر آثار قدرته ودلائل ربوبيته ، ظَهِيراً معينا ، يظاهر الشيطان ويعينه على الكفر والعصيان. والمعنى : أن الكافر بعبادة الصنم ، يتابع الشيطان ويعاونه على معصية الرحمن. وقال ابن عرفة : أي :
مظاهرا لأعداء اللّه على أولياء اللّه ، فتلك إعانته. ه.
الإشارة : مرج البحرين بحر الشريعة وبحر الحقيقة ، فبحر الشريعة عذب فرات لأنه سهل المدارك ، يناله الخاص والعام ، وبحر الحقيقة ملح أجاج لأنه لا يناله إلا من ذاق مرارة فطام النفس من هواها ، ومجاهدتها فى ترك مناها ، حتى تموت ثم تحيا ، فحينئذ تتلذذ بمشاهدة مولاها ، وتطيب حياتها فى أخراها ودنياها. فبحر الحقيقة صعب المرام ، لا يركبه إلا الشجعان ، وفى ذلك يقول صاحب العينية رضي اللّه عنه :
وإيّاك جزعا «1» لا يهولك أمرها فما نالها إلّا الشّجاع المقارع
والبرزخ الذي جعل بينهما : نور العقل ، يميز بين محل الشرائع ومحل الحقائق ، فيعطى كل ذى حق حقه ، ويوفى كل ذى قسط قسطه.
ثم ذكر شأن الواسطة ، التي هى سبب لركوب البحرين ، فقال :
وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً ...
[سورة الفرقان (25) : الآيات 56 الى 57]
وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً (56) قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاَّ مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (57)
يقول الحق جل جلاله : وَما أَرْسَلْناكَ يا محمد إِلَّا مُبَشِّراً للمؤمنين وَنَذِيراً للكافرين ، قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ على تبليغ الرسالة مِنْ أَجْرٍ من جهتكم ، فتقولون : إنما يطلب محمد جمع أموالنا ، إِلَّا مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا أي : لكن من شاء أن يتخذ إلى ربه طريقا توصله إليه ، بإنفاقه ماله فى سبيل اللّه ، فليفعل وليعطه لغيره. وقيل : الاستثناء متصل ، أي : لا أسألكم عليه أجرا ، إلا فعل من يريد أن يتقرب إليه
___________
(1) فى العينية : حزما. انظر الديوان (ص 78).(4/110)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 111
تعالى ، ويطلب الزلفى عنده بالإيمان والطاعة ، حسبما أدعوكم إليهما. فصوّر ذلك بصورة الأجر من حيث إنه مقصود الإتيان به ، واستثناه منه قطعا لشائبة الطمع ، وإظهارا لغاية الشفقة عليهم ، حيث جعل ذلك ، مع كون نفعه عائدا إليهم ، عائدا إليه صلى اللّه عليه وسلم. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : العلماء بالله خلفاء الرسل ، فما أظهرهم اللّه فى كل زمان إلا ليذكروا الناس ويعظوهم ، ويبشروهم وينذروهم ، من غير عوض ولا طمع ، فإن تعلقت همتهم بشىء من عرض الدنيا من أيدى الناس ، كسف ذلك نورهم ، وانتقص نفعهم ، وقلّ الاهتداء على أيديهم ، وقد تقدم هذا مرارا. وبالله التوفيق.
ثم أمر نبيه بالتوكل ، ليغيب عن خيرهم وشرهم ، وعن طلب الأجر منهم ، فقال :
[سورة الفرقان (25) : الآيات 58 الى 60]
وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً (58) الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمنُ فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً (59) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا وَزادَهُمْ نُفُوراً (60)
يقول الحق جل جلاله : وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ فى الاستكفاء عن شرورهم ، والاغتناء عن أجورهم ، أي : ثق به فإنه يكفيك عن الطمع فيمن يموت ، فلا تطلب على تبليغك من مخلوق أجرا ، فإن اللّه كافيك. قرأها بعض الصالحين فقال : لا يصح لذى عقل أن يثق بعدها بمخلوق. وَسَبِّحْ أي : ونزهه أن يكل إلى غيره من توكّل عليه ، بِحَمْدِهِ أي : بتوفيقه الذي يوجب الحمد ، أو : قل سبحان اللّه وبحمده ، أو : نزهه عن صفات النقصان ، مثنيا عليه بنعوت الكمال ، طالبا لمزيد الإنعام ، وَكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً أي : كفى اللّه خبيرا بذنوب عباده ، ما ظهر منها وما بطن ، يعنى : أنه خبير بأحوالهم ، كاف فى جزاء أعمالهم الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ أي : فى مدة مقدارها [ستة أيام ] «1» إذ لم يكن ليل ولا نهار. وعن مجاهد : أولها يوم الأحد ، وآخرها يوم الجمعة ، وإنما خلقها فى هذه المدة ، وهو قادر على خلقها فى لحظة ، تعليما لخلقه الرفق والتثبت. ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ استواء يليق به ، الرَّحْمنُ أي : هو الرحمن ، أو :
فاعل استوى ، أي : استوى الرحمن برحمانيته على العرش وما احتوى عليه. وراجع ما تقدم فى الأعراف. «2» فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً
___________
(1) زيادة ليست فى الأصول.
(2) راجع : تفسير الآية 54 من سورة الأعراف (2/ 223 - 225).(4/111)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 112
أي : سل عنه رجلا عارفا خبيرا به ، يخبرك برحمانيته. وكانوا ينكرون اسم الرحمن ، ويقولون : لا نعرف الرحمن إلا الذي باليمامة ، يعنون : مسليمة الكذاب ، وكان يقال له : رحمن اليمامة ، غلوّا فيه ، فأمر نبيه أن يسأل من له خبرة وعلم بالكتب المتقدمة عن اسم الرحمن ، فإنه مذكور فى الكتب المتقدمة.
قال شيخ شيوخنا سيدى عبد الرحمن العارف : والظاهر : أن الخبير هو اللّه ، أي : اسأل اللّه الخبير بالأشياء ، الأعلم بخفاياها ، والتقدير : فسل بسؤالك إياه خبيرا. وإنما استظهرنا هذا القول لأن المأمور بالسؤال الرسول صلى اللّه عليه وسلم ، وتجلّ رتبته عن سؤال غير ربه. والمراد : فسل اللّه الخبير بالرحمن ووصفه. انظر تمام كلامه.
وَإِذا قِيلَ لَهُمُ أي : إذا قال محمد للمشركين : اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ صلّوا له ، أو : اخضعوا ، قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ أي : لا نعرف الرحمن فنسجد له ، قالوا ذلك : إما لأنهم ما كانوا يطلقونه على اللّه تعالى ، أو لأنهم ظنوا أن المراد به غيره تعالى. أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا أي : للذى تأمرنا بالسجود له ، أو لأمرك بالسجود له من غير علم منا به. وهو منهم عناد لأن معناه فى اللغة : ذو الرحمة التي لا غاية لها لأن فعلان يدل على المبالغة ، وهم من أهل اللغة. وَزادَهُمْ نُفُوراً أي : زادهم الأمر بالسجود للرحمن تباعدا عن الإيمان ونفورا عنه. وباللّه التوفيق.
الإشارة : قد تقدم الكلام على التوكل فى مواضع. وللقشيرى هنا كلام ، وملخصه باختصار : أن التوكل :
تفويض الأمر إلى اللّه سبحانه ، وأصله : علم العبد بأنّ الحادثات كلّها حاصلة من اللّه ، ولا يقدر أحد على إيجاد شىء أو دفعه ، فإذا عرف العبد هذا ، وعلم أن المراد اللّه لا يرتفع ولا يدفع ، حصل له التوكل. وهذا القدر فرض ، وهو من شرائط الإيمان ، قال اللّه تعالى : وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ «1» ، وما زاد على هذا القدر من سكون القلب ، وطمأنيته ، وزوال الانزعاج والاضطراب ، فهو من أحوال التوكل ومقاماته.
فالناس فى الاكتفاء والسكون على أقسام ودرجات ، فأول رتبة فيه : أن يكتفى بما فى يده ، ولا يطلب الزيادة عليه ، ويستريح قلبه من طلب الزيادة. وتسمى هذه الحالة : القناعة ، فيقنع بالحاصل ، ولا يستزيد ما ليس بحاصل - يعنى : مع وجود الأسباب - ثم بعد هذا سكون القلب فى حال عدم الأسباب ، وهو مقام التجريد ، وهم متباينون فى الرتبة : واحد يكتفى بوعده لأنه صدّقه فى ضمانه ، فسكن قلبه عند فقد الأسباب ثقة منه بوعد ربه ، وقد قيل : إن التوكل : سكون القلب بضمان الربّ ، ويقال : سكون الجأش فى طلب المعاش ، ويقال : الاكتفاء بوعده عند عدم نقده.
___________
(1) من الآية 23 من سورة المائدة.(4/112)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 113
وألطف من هذا أن يكتفى بعلم اللّه ، فيشتغل بمولاه ، ولا يلتفت إلى إنجاز وعد ولا ضمان ، فيكل أمره إلى اللّه ، وهذه حالة التسليم. وفوق هذه : التفويض ، وهو أن يكل أمره إليه ، ولا يختار حالا على حال ، فيشتغل بمولاه ويغيب عن نفسه وعن كل ما سواه ، يعلم أنه مملوك لسيّده ، والسيّد أولى من العبد بنفسه. فإذا ارتقى عن هذه الحالة وجد الراحة فى المنع ، ويستعذب ما يستقبله من الرّدّ ، فهى رتبة الرضا ، ويحصل له فى هذه الحالة ، من فوائد الرضا ومطالعته ، ما لا يحصل لمن دونه من الحلاوة فى وجود المقصود.
وبعد هذا : الموافقة وهو ألا يجد الراحة فى المنع ولا فى العطاء ، وإنما يجد حلاوة نسيم القرب ، وزوائد الأنس بنسيان كل أرب. فكما أن حلاوة الطاعات تتصاغر عند برد الرضا - ويعدّون ذلك حجابا - كذلك أهل الأنس بالله يعدّون الوقوف مع حلاوة الرضا والاشتغال بلطائفه نقصانا وحجابا. ثم بعد هذا استيلاء سلطان الحقيقة ، بما يأخذ العبد عن جملته بالكلية ، فيعبر عن هذه الحالة بالخمود ، والاستهلاك ، والوجود ، والاصطلام ، والفناء ، - وهذا هو عين التوحيد الخاص - فعند ذلك لا أنس ، ولا هيبة ، ولا لذة ، ولا راحة ، ولا وحشة ، ولا آفة. يعنى : تغيب المقامات بلذاتها وراحتها ، عند تحقق الفناء ، ثم قال : هذا بيان ترتيبهم ، فأمّا ما دون ذلك فالإخبار عن أحوال المتوكلين ، على تباين شرفهم ، يختلف على حسب اختلاف حالهم. انتهى بالمعنى.
وقال أيضا : ويقال : التوكل فى الأسباب الدنيوية ينتهى إلى حدّ ، وأما التوكل على اللّه فى إصلاح آخرته : فهو أشدّ غموضا وأكثر خفاء ، فالواجب ، فى الأسباب الدنيوية ، أن يكون السكون عند طلبها غالبا ، والحركة تكون ضرورة ، وأما فى أمر الآخرة وما يتعلق بالطاعة ، فالواجب البدار والجدّ والانكماش ، والخروج عن أوطان الكسل ، وترك الجنوح إلى الفشل. والذي يوصف بالتواني فى العبادات والتباطؤ فى تلافى ما ضيّعه من إرضاء الخصوم ، والقيام بحقّ الواجبات ، ثم يعتقد فى نفسه أنه متوكّل على اللّه ، فهو متمن معلول الحال ، ممكور مستدرج ، بل يجب أن يبذل جهده ، ويستفرغ وسعه ، ثم بعد ذلك لا يعتمد على طاعته ، ولا يستند إلى سكونه وحركته ، ويتبّرأ من حوله وقوّته ، ثم يحسن الظنّ بربّه. ومع حسن ظنه بربّه لا ينبغى أن يخلو من مخافته ، اللهم إلا أن يغلب على قلبه ما يشغله فى الحال من كشوفات الحقائق عن الفكرة فى العواقب فإن ذلك - إذا حصل - فالوقت غالب ، وهو أحد ما قيل فى قولهم : الوقت سيف. ه.
ثم ذكر من أوصاف الرحمن ، الذي نفر المشركون عن الخضوع له ، ما يبين عظمته وكبرياءه ، ونفوذ قدرته المستوجبة للخضوع والانقياد له ردا على امتناع الكفرة منه ، فقال :
[سورة الفرقان (25) : الآيات 61 الى 62]
تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً (61) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً (62)(4/113)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 114
يقول الحق جل جلاله : تَبارَكَ أي : تعاظم الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً وهى البروج الإثنا عشر :
الحمل ، والثور ، والجوزاء ، والسرطان ، والأسد ، والسنبلة ، والميزان ، والعقرب ، والقوس ، والجدى ، والدلو ، والحوت.
وهى منازل الكواكب السبعة السيارة ، لكل كوكب بيتان ، يقوى حاله فيهما ، وللشمس بيت ، وللقمر بيت ، فالحمل والعقرب بيتا المريخ ، والثور والميزان بيتا الزهرة ، والجوزاء والسنبلة بيتا عطارد ، والسرطان بيت القمر ، والأسد بيت الشمس ، والقوس والحوت بيتا المشترى ، والجدى والدلو بيتا زحل. وهذه البروج مقسومة على الطبائع الأربع ليصيب كل واحدة منها ثلاثة بروج ، فالحمل والأسد والقوس مثلثة نارية ، والثور والسنبلة والجدى مثلثة أرضية ، والجوزاء والميزان والدلو مثلثة هوائية ، والسرطان والعقرب والحوت مثلثة مائية. سميت بالبروج التي هى القصور العالية لأنها ، لهذه الكواكب ، كالمنازل الرفيعة لسكانها. واعتبر بزيادة البحر عند زيادة القمر ونقصه عند نقصه ، فإن بيت القمر - وهو السرطان - مائى ، وذلك من إمداد الأسماء لا بالطبع. وتذكر : «وبالاسم الذي وضعته على الليل فأظلم ..» إلخ. قاله فى الحاشية.
واشتقاق البروج من التبرج ، الذي هو الظهور لظهورها ، ولذلك قال الحسن وقتادة ومجاهد : البروج : النجوم الكبار لظهورها.
وَجَعَلَ فِيها سِراجاً أي : الشمس ، لقوله تعالى : وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً «1». وقرأ الأخوان : «سرجا».
ويراد : النجوم الكبار والشمس ، وَقَمَراً مُنِيراً أي : مضيئا بالليل.
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً أي : ذو خلفة يخلف كل واحد منهما الآخر ، بأن يقوم مقامه ، فيما ينبغى أن يعمل فيه ، فمن فاته عمله فى أحدهما قضاه فى الآخر. قال قتادة : فأروا اللّه تعالى من أعمالكم خيرا فى هذا الليل والنهار ، فإنهما مطيتان تقحمان الناس إلى آجالهم ، تقربان كل بعيد ، وتبليان كل جديد ، وتجيئان بكل موعود. وقال رجل لعمر بن الخطاب رضي اللّه عنه : فاتتنى الصلاة الليلة ، فقال : أدرك ما فاتك من ليلتك فى نهارك ، فإن اللّه تعالى جعل الليل والنهار خلفة لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ. ه «2». أي : يتذكر آلاء اللّه - عز وجل - ، ويتفكر فى بدائع صنعه ، [فيعلم ] «3» أنه لا بد له من صانع حكيم. وقرأ حمزة وخلف : «يذكر» أي : يذكر اللّه فى قضاء ما فاته فى أحدهما ، أَوْ أَرادَ شُكُوراً أي : شكر نعمة ربه عليه فيهما ، فيجتهد فى عمارتها بالطاعة شكرا. وبالله التوفيق.
الإشارة : تبارك الذي جعل فى سماء القلوب أو الأرواح بروجا منازل ينزلها السائر ، ثم يرحل عنها ، وهى مقامات اليقين كالخوف ، والرجاء ، والورع ، والزهد ، والصبر ، والشكر ، والرضا ، والتسليم ، والمحبة ، والمراقبة ،
___________
(1) الآية 16 من سورة نوح. [.....]
(2) أخرج الطبري (19/ 30) عن شقيق.
(3) فى الأصول : [فيهم ]. والمثبت : من تفسير البيضاوي وأبى السعود.(4/114)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 115
والمشاهدة ، والمعاينة. وجعل فيها سراجا ، أي : شمس العرفان لأهل الإحسان ، وقمرا منيرا ، وهو توحيد البرهان لأهل الإيمان. وهو الذي جعل ليل القبض ونهار البسط خلفة ، يخلف أحدهما الآخر ، لمن أراد أن يذكر فى ليل القبض ، ويشكر فى نهار البسط. واللّه تعالى أعلم.
ثم ذكر أهل الذّكر والشكر ، فقال :
[سورة الفرقان (25) : الآيات 63 الى 67]
وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً (63) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً (64) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً (65) إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً (66) وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً (67)
قلت : و(عباد) : مبتدأ ، و(الذين) وما بعده : خبر. وقيل : (أولئك يجزون). و(هونا) : حال ، أو : صفة ، أي :
يمشون هينين ، أو : مشيا هونا.
يقول الحق جل جلاله : وَعِبادُ الرَّحْمنِ أي : خواصه الذين يسجدون ويخضعون للرحمن ، الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً أي : بسكينة وتواضع ووقار ، قال الحسن : يمشون حلماء علماء مثل الأنبياء ، لا يؤذون الذر ، فى سكون وتواضع وخشوع ، وهو ضد المختال الفخور المرح ، الذي يختال فى مشيه. وقال ابن الحنفية : أصحاب وقار وعفة ، لا يسفهون ، وإن سفه عليهم حلموا. و«الهون» فى اللغة : الرفق واللين. ومنه قوله صلى اللّه عليه وسلم : «أحبب حبيبك هونا ما ، عسى أن يكون بغيضك يوما ما. وأبغض بغيضك هونا ما ، عسى أن يكون حبيبك يوما ما» «1».
وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ أي : السفهاء بما يكرهون ، قالُوا سَلاماً سدادا من القول ، يسلمون فيه من الإيذاء والإثم والخنا. أو : سلمنا منكم سلاما ، أو : سلموا عليهم سلاما ، دليله قوله تعالى : وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ «2» ، ثم
___________
(1) أخرجه الترمذي فى (البر والصلة ، باب ما جاء فى الاقتصاد فى الحب والبغض 4/ 316 ، ح 1997) ، من حديث أبى هريرة ، وأخرجه البيهقي فى شعب الإيمان (باب الاقتصاد فى النفقة ، 5/ 260 ، ح/ 6593) عن سيدنا علىّ ، موقوفا.
(2) من الآية 55 من سورة القصص.(4/115)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 116
قالوا : سَلامٌ عَلَيْكُمْ. قيل : نسختها آية القتال ، وفيه نظر فإن الإغضاء عن السفهاء مستحسن شرعا ومروءة ، فلا ينسخ.
وكان الحسن إذا تلى الآيتين قال : هذا وصف نهارهم ، ثم قال تعالى : وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً : هذا وصف ليلهم. قال ابن عباس : من صلى لله تعالى ركعتين ، أو أكثر ، بعد العشاء ، فقد بات لله تعالى ساجدا وقائما. وقيل :
هما الركعتان بعد المغرب والركعتان بعد العشاء ، والظاهر : أنه وصف لهم بإحياء الليل أو أكثره.
وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً هلاكا لازما. ومنه : الغريم لملازمته غريمه ، وصفهم بإحياء الليل ساجدين وقائمين ، وعقّبه بذكر دعوتهم هنا إيذانا بأنهم ، مع اجتهادهم ، خائفين مبتهلين إلى اللّه فى صرف العذاب عنهم إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً ، أي : إن جهنم قبحت مستقرا ومقاما لهم. و«ساءت» : فى حكم «بئست» ، وفيها ضمير مبهم يفسره مُسْتَقَرًّا. والمخصوص بالذم : محذوف ، أي : ساءت مستقرا ومقاما هى. وهذا الضمير هو الذي ربط الجملة باسم «إن».
وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا لم يجاوزوا الحد فى النفقة. وعن ابن عباس : لم ينفقوا فى المعاصي.
فالإسراف : مجاوزة حد الأمر ، لا مجاوزة القدر. وسمع رجل جلا يقول : لا خير فى الإسراف ، فقال : لا إسراف فى الخير. وقال صلى اللّه عليه وسلم : «من منع حقا فقد قتر ، ومن أعطى فى غير حق فقد أسرف». وَلَمْ يَقْتُرُوا ، القتر والإقتار والتقتير : التضييق. وقرئ بالجميع «1» ، وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً أي : وكان إنفاقهم بين الإسراف والإقتار قواما عدلا بينهما. فالقوام : العدل بين الشيئين. قال أبو عبيدة : لم يزيدوا على المعروف ، ولم يخلوا به ، لقوله :
وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ ... «2» الآية. وقال يزيد بن أبى حبيب فى هذه الآية : أولئك أصحاب محمد صلى اللّه عليه وسلم ، كانوا لا يأكلون طعاما للتنعم واللذة ، ولا يلبسون ثوبا للجمال والزينة. ولكن كانوا يريدون من الطعام ما يسدّ عنهم الجوع ، ويقويهم على عبادة ربهم ، ومن الثياب ما يستر عوراتهم ، ويكنّهم من الحرّ والبرد.
وقال عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه : كفى بالمرء سرفا ألا يشتهى شيئا إلا اشتراه فأكله. ومثله فى سنن ابن ماجة مرفوعا «3». قال القشيري : الإسراف : أن ينفق فى الهوى ونصيب النفس ، ولو فلسا ، وأما ما كان لله فليس فيه إسراف ، ولو ألفا. والإقتار : ما كان ادخارا عن اللّه ، فأما التضييق على النّفس منعا لها عن اتباع الشهوات ، ولتتعود الاجتزاء باليسير ، فليس بالإقتار المذموم. ه.
[سورة الفرقان (25) : الآيات 68 الى 71]
وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً (68) يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً (69) إِلاَّ مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (70) وَمَنْ تابَ وَعَمِلَ صالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتاباً (71)
وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ أي : لا يشركون بالله شيئا ، وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ قتلها إِلَّا بِالْحَقِّ بقود ، أو رجم ، أو شرك ، أو سعي فى الأرض بالفساد ، وَلا يَزْنُونَ أي : لا يفعلون من
___________
(1) قرأ نافع وابن عامر وأبو جعفر : (يقتروا) بضم الياء وكسر التاء من أقتر. وقرأ ابن كثير وأبو عمر ويعقوب : بفتح الياء وكسر التاء ، كيحمل ، وقرأ الباقون بفتح الياء ، وضم التاء ، كيقتل ... انظر الإتحاف (2/ 311).
(2) من الآية 29 من سورة الإسراء.
(3) أخرجه ابن ماجة فى (الأطعمة ، باب من السرف أن تأكل كل ما اشتهيت ، 2/ 1112 ح 3352) من حديث أنس بن مالك ، بلفظ : «إن من السرف أن تأكل كل ما اشتهيت».(4/116)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 117
هذه العظائم القبيحة التي جمعهن الكفرة شيئا ، حيث كانوا مع إشراكهم به - سبحانه - مداومين على قتل النفوس المحرمة ، التي من جملتها الموؤدة ، منكبّين على الزنا ، لا يرعوون عنه أصلا ، فنفى هذه الكبائر عن عباده الصالحين تعريضا بما كان عليه أعداؤهم من قريش وغيره ، كأنه قيل : والذين طهرهم اللّه مما أنتم عليه. وعن ابن مسعود رضي اللّه عنه : «قلت : يا رسول اللّه أىّ الذّنب أعظم؟ قال : أن تجعل للّه ندّا وهو خلقك ، قلت : ثمّ أىّ؟ قال : أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك ، قلت : ثمّ اىّ؟ قال : أن تزاني بحليلة جارك». فنزلت الآية تصديقا لذلك «1».
الإشارة : قد تضمنت الآية أربعة أصناف من الناس على سبيل التدلي الأول : الأولياء العارفون بالله ، أهل التربية النبوية ، ومن تعلق بهم من أهل التهذيب والتأديب ، وإليهم أشار بقوله : وَعِبادُ الرَّحْمنِ ... إلخ ، وفيهم قال النبي صلى اللّه عليه وسلم : «رأيت أقواما من أمتى ، ما خلقوا بعد ، وسيكونون فيما بعد اليوم ، أحبهم ويحبوننى ، ويتناصحون ويتباذلون ، يمشون بنور اللّه فى الناس رويدا ، فى خفية وتقى ، يسلمون من الناس ، ويسلم الناس منهم بصبرهم وحملهم ، قلوبهم بذلك إليه يرجعون ، ومساجدهم بصلاتهم يعمرون ، يرحمون ضعيفهم ، ويجلون كبيرهم ، ويتواسون بينهم ، يعود غنيهم على فقيرهم ، وقويهم على ضعيفهم ، يعودون مرضاهم ، ويشهدون جنائزهم ، فقال رجل من القوم : يرفقون برقيقهم؟ فالتفت إليه النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال : كلا لا رقيق لهم ، وهم خدام أنفسهم ، هم أكرم على الله تعالى من أن يوسع عليهم لهوان الدنيا عند ربهم. ثم تلى النبي صلى اللّه عليه وسلم : وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً ... الآية. رواه أبو برزة الأسلمى ، عنه صلى اللّه عليه وسلم.
الثاني : العباد والزهاد ، أهل الجد والاجتهاد ، أهل الصيام والقيام ، الذين يبيتون لربهم سجدا وقياما ، أقامهم الحق تعالى لخدمته ، كما أقام الأولين لمحبته ومعرفته. الثالث : الصالحون والأبرار ، الذين يعبدون اللّه طمعا فى الجنة وخوفا من النار ، ومن كان منهم له مال أنفقه فى سبيل اللّه ، من غير سرف ولا إقتار. الرابع : عامة الموحّدين من أهل اليمين ، المجتنبون لكبائر الذنوب ، المسارعون بالتوبة إلى علام الغيوب. واللّه تعالى أعلم.
ثم أشار إلى وبال من فعل شيئا من ذلك ولم يتب ، فقال :
وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ ...
___________
(1) أخرجه البخاري فى (التفسير - سورة الفرقان ، باب «والذين لا يدعون مع اللّه إلها آخر» ح 4761) ، ومسلم فى (الإيمان ، باب كون الشرك أقبح الذنوب ، 1/ 90 ح 141).(4/117)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 118
قلت : (يضاعف) و(يخلد) : بدل من (يلق) بدل كل من كل ، عند الأزهرى لأن لقىّ الآثام هى مضاعفة العذاب ، وبدل اشتمال ، عند المرادي. ومن رفعهما : فعلى الاستئناف.
يقول الحق جل جلاله : وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ أي : ما ذكر ، كما هو دأب الكفرة المذكورين ، يَلْقَ فى الآخرة أَثاماً وهو جزاء الآثام ، كالوبال والنكال وزنا ومعنى ، يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أضعافا كثيرة ، كما يضاعف للمومنين جزاء أعمالهم كذلك ، وَيَخْلُدْ فِيهِ أي : فى ذلك العذاب المضاعف ، مُهاناً ذليلا حقيرا ، جامعا للعذاب الجسماني والروحاني.
إِلَّا مَنْ تابَ من الشرك ، وَآمَنَ بمحمد صلى اللّه عليه وسلم ، وَعَمِلَ عَمَلًا صالِحاً بعد توبته فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ أي : يوفقهم للمحاسن بعد القبائح ، فيوفقهم للإيمان بعد الشرك ، ولقتل الكافر بعد قتل المؤمن ، وللعفة بعد الزنا ، أو : يمحوها بالتوبة ، ويثبت مكانها الحسنات. ولم يرد أن السيئة بعينها تصير حسنة ، ولكن يمحوها ويعوض منها حسنة. وعنه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال : «ليتمنّينّ أقوام أنهم أكثروا من السيئات ، قيل : من؟ قال : الذين يبدل اللّه سيئاتهم حسنات» «1». وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً للسيئات ، رَحِيماً يبدّلها حسنات.
وَمَنْ تابَ وَعَمِلَ صالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتاباً أي : ومن تاب ، وحقق التوبة بالعمل الصالح ، فإنه بذلك تائب إلى اللّه متابا مرضيا مكفرا للخطايا. وسبب نزول الآية : أن ناسا من المشركين قتلوا فأكثروا ، وزنوا فأكثروا ، ثم أتوا النبي صلى اللّه عليه وسلم فقالوا : إن الذي تدعو إليه لحسن لو تخبرنا أنّ لما عملناه كفّارة. فنزلت : وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ ... إلى قوله : إِلَّا مَنْ تابَ .. إلخ «2». والظاهر أن توبة قاتل النفس بغير حق مقبولة لعموم قوله : إِلَّا مَنْ تابَ ، وهو قول الجمهور. وقيل : إن هذه منسوخة بآية النساء ، وهو ضعيف. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : من قنع من نفسه بمجرد الإسلام والإيمان ، ولم تنهضه نفسه إلى التشوف لمقام الإحسان ، لا بد أن يلحقه الندم وضرب من الهوان ، ولو دخل فسيح الجنان لتخلفه عن أهل القرب والوصال ، وفى ذلك يقول الشاعر :
من فاته منك وصل حظّه النّدم ومن تكن همّه تسمو به الهمم
ثم ذكر نوعا من الأبرار ، فقال :
[سورة الفرقان (25) : الآيات 72 الى 77]
وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً (72) وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً (73) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً (74) أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً (75) خالِدِينَ فِيها حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً (76)
قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْ لا دُعاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً (77)
___________
(1) أخرجه الحاكم فى المستدرك (4/ 252) عن أبى هريرة رضي اللّه عنه ، وصححه الحاكم ، ووافقه الذهبي.
(2) أخرجه بلفظه مسلم فى (الإيمان ، باب : كون الإسلام يهدم ما قبه ، 1/ 113 ح 193) ، وبنحوه أخرجه البخاري فى (تفسير سورة الفرقان) من حديث سيدنا عبد اللّه بن عباس رضي اللّه عنه.(4/118)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 119
يقول الحق جل جلاله : وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ أي : لا يقيمون شهادة الكذب ، أو : لا يحضرون محاضر الكذب فإنّ مشاهدة الباطل مشاركة فيه ، أي : يبعدون عن محاضر الكذابين ومجالس الخطّائين ، فلا يقربونها ، تنزّها عن مخالطة الشر وأهله. وفى مواعظ عيسى - عليه السّلام - : إياكم ومجالس الخطّائين. وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ أي : بالفحش وكل ما ينبغى أن يلغى ويطرح ، والمعنى : وإذا مروا بأهل اللغو المشتغلين به مَرُّوا كِراماً معرضين عنه ، مكرمين أنفسهم عن التلوث به ، كقوله : وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ «1» ، وعن الباقر : إذا ذكروا الفروج كفوا عنها ، وقال مقاتل : إذا سمعوا من الكفار الشتم والأذى أعرضوا عنه وصفحوا.
وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ أي : قرئ عليهم القرآن ، أو : وعظوا بالقرآن ، لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً ، بل أكبوا عليها سامعين بآذان واعية ، مجلتين لها بعيون راعية. وإنما عبّر عنها بنفي الضد تعريضا بما يفعله الكفرة والمنافقون.
وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا ، «من» : للبيان ، كأنه قيل : هب لنا قرة أعين ، ثم بينت القرة وفسرت بقوله : مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا والمعنى : أن يجعلهم اللّه لهم قرة أعين بأن يروا منهم من الطاعة والإحسان ما تقر به العين. أو : للابتداء ، أي : هب لنا من جهتهم ما تقر به العين ، من طاعة أو صلاح. وَهب لنا أيضا من ذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ بتوفيقهم للطاعة ، ومبادرتهم للفضائل والكمالات ، فإن المؤمن إذا ساعده أهله فى طاعة اللّه تعالى وشاركوه فيها يسر قلبه ، وتقر عينه بما شاهده من مقاربتهم له فى الدين ، ويكون ذلك سببا فى لحوقهم به فى الجنة ، حسبما وعد به قوله تعالى : أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ «2».
وإنما قال : «أعين» بلفظ القلة ، دون عيون لأن المراد أعين المتقين ، وهى قليلة بالإضافة إلى أعين غيرهم.
والمعنى : أنهم سألوا ربهم أن يرزقهم أزواجا وأعقابا ، عمّالا لله ، يسرون بمكانهم ، وتقر بهم عيونهم ، قيل : ليس شىء أقر لعين المؤمن من أن يرى زوجته وأولاده مطيعين لله. وعن ابن عباس : (هو الولد إذا رآه يكتب الفقه).
___________
(1) من الآية 55 من سورة القصص.
(2) من الآية 21 من سورة الطور.(4/119)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 120
وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً أي : أئمة يقتدى بنا فى الدين ، فاكتفى بالواحد لدلالته على الجنس ، أو : واجعل كل واحد منا إماما أي : من أولادنا إماما. والظاهر : أن صدور هذا الدعاء منهم كان بطريق الانفراد إذ يتعذر اجتماعهم فى دعاء واحد. وإنما كانت عبارة كل واحد منهم عند الدعاء : واجعلنى للمتقين إماما ، غير أنه حكيت عبارة الكل بصيغة المتكلم مع الغير قصدا إلى الإيجاز ، كقوله تعالى : يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ «1».
وأبقى إماما على حاله من الانفراد. قيل : وفى الآية دليل على أن الرئاسة فى الدين ينبغى أن تطلب ويرغب فيها ، إذا كان القصد نفع عباد اللّه دون حظ نفسانى.
أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ ، جنس ، أي : الغرفات ، وهي العلالي فى الجنة. ووحده بقصد الجنس. بِما صَبَرُوا بصبرهم على مشاق الطاعات ، وترك الشهوات ، وتحمل المجاهدات ، وعلى إذاية أهل الإنكار ، وارتكاب الذل والافتقار. وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً أي : تحييهم الملائكة ، ويدعون لهم بطول الحياة والسلامة من الآفات. أو : يحيى بعضهم بعضا ، ويسلمون عليهم ، خالِدِينَ فِيها لا يموتون ولا يخرجون ، حَسُنَتْ أي : الغرفة مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً موضع قرار وإقامة ، وهى فى مقابلة : ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً.
قُلْ يا محمد : ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْ لا دُعاؤُكُمْ أي : ما يصنع بكم ربّى ، وأي فائدة فى خلقكم ، لو لا دعاؤكم إلى الإسلام والتوحيد ، أو : لو لا عبادتكم له ، أي : إنما خلقكم لعبادته كقوله : وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ «2» فإنما خلق الإنسان لمعرفته وطاعته ، وإلا فهو وسائر البهائم سواء. قال المحشى : والظاهر : أنه خطاب لقريش القائلين : أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا أي : لا يحفل بكم ربى لو لا تضرعكم واستغاثتكم إياه فى الشدائد. ه.
وقيل : ما يعبأ : بمغفرة ذنوبكم ، ولا هو عنده عظيم ، لو لا دعاؤكم معه الآلهة والشركاء ، كقوله : ما يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ «3» ، قاله الضحاك. ثم قال : فظاهره : أن «ما» : استفهامية ، ويحتمل كونها نافية.
انظر بقية كلامه.
وفسّر البخاري الدعاء هنا بالإيمان «4» ، أي : ما يبالى بكم ربى لو لا إيمانكم المتوقع من بعضكم ، فَقَدْ كَذَّبْتُمْ بما جاء به الرسول فتستحقون العقاب ، فَسَوْفَ يَكُونُ العذاب الذي أنتجه تكذيبكم لِزاماً لازما لكم لا تنفكون عنه ، حتى يكبكم فى النار. فالفاء فى قوله : فَقَدْ كَذَّبْتُمْ استئناف وتعليل لكونهم لا يعبأ بهم ، وإنما أضمر العذاب من غير تقدم ذكر للإيذان بغاية ظهوره وتهويل أمره ، وأنه مما لا تفى العبارة به.
___________
(1) من الآية 51 من سورة المؤمنون.
(2) من الآية 56 من سورة الذاريات. [.....]
(3) من الآية 147 من سورة النساء.
(4) انظر فتح الباري (كتاب الإيمان ، باب دعاؤكم إيمانكم 1/ 64).(4/120)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 121
وعن مجاهد : هو القتل يوم بدر ، وأنه لوزم بين القتلى. وفى المشارق : اللزام : الفيصل ، وقد كان يوم بدر. ه.
واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : قوله تعالى : وَإِذا مَرُّوا بأهل اللغو ، وهم المتكلمون فى حس الأكوان ، مروا كراما مكرمين أنفسهم عن الالتفات إلى خوضهم. والذين إذا سمعوا الوعظ والتذكير أنصتوا بقلوبهم وأرواحهم ، خلاف ما عليه العامة من التصامم والعمى عنه. وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا .. إلخ ، قال القشيري : قرة الروح : حياتها ، وإنما تكون كذلك إذا كان بحق اللّه قائما. ويقال : قرة العين من كان لطاعة اللّه معانقا ، ولمخالفة أمره مفارقا. ه. قلت : قرة العين تكون فى الولد الروحاني ، كما تكون فى الولد البشرى فإن الشيخ إذا رأى تلميذه مجدّا صادقا فى الطلب ، حصل له بذلك غاية السرور والطرب ، كما هو معلوم عند أرباب الفن. وبالله التوفيق ، وهو الهادي إلى سواء الطريق ، وصلّى اللّه على سيدنا محمد صلى اللّه عليه وسلم وآله وصحبه وسلّم تسليما.(4/121)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 122(4/122)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 123
سورة الشّعراء
مكية ، إلا قوله : وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ فإنها مدنية. وهى مائتان وسبع وعشرون آية. وفى الحديث :
«أعطيت طه والطواسين والحواميم من ألواح موسى» «1» عليه السّلام أي : بدلها ، كما فى حديث آخر. ومناسبتها لما قبلها : أنه لما ذكر تكذيب قريش وأوعدهم بلزوم العذاب ، ذكر تلهف رسوله صلى اللّه عليه وسلم عليهم ، حيث لم يؤمنوا حتى استوجبوا ذلك بقوله : لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ ... الآية ، ثم سلاه بما ذكر من قصص الأنبياء وتكذيب قومهم وإهلاكهم بأنواع العذاب ، ثم افتتح السورة برموز بينه وبين حبيبه ، كما هو شأنه حين يريد أن يقص عليه قصص من قبله ، فقال :
[سورة الشعراء (26) : الآيات 1 الى 6]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
طسم (1) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (2) لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3) إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ (4)
وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلاَّ كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (5) فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (6)
يقول الحق جل جلاله : طسم أي : يا طاهر ، يا سيد ، يا محمد ، أو : أيها الطاهر السيد المجيد. وقال الواحدي : أقسم تعالى بطوله وسنائه وملكه ، والمقسم عليه : إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ ... إلخ. تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ أي : ما نسرده عليك فى هذه السورة وغيرها من الآيات ، هى آيات الكتاب ، أي : القرآن المبين ، أي : الظاهر إعجازه ، وأنه من عند اللّه ، على أنه من أبان ، بمعنى بان ، أو : المبين للأحكام الشرعية والحكم الربانية ، أو : الفاصل بين الحق والباطل. وما فى الإشارة من معنى البعد للتنبيه على بعد منزلة المشار إليه فى الفخامة ورفعة القدر.
ثم شرع فى تسليته بقوله : لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أي : قاتل نفسك. قال سهل : تهلك نفسك باتباع المراد فى هدايتهم وإيمانهم ، وقد سبق منى الحكم بإيمان المؤمنين وكفر الكافرين ، فلا تبديل ولا تغيير. و«لعل» : للإشفاق ،
___________
(1) أخرجه مطولا ، البيهقي فى السنن (10/ 9) ، والحاكم فى المستدرك (1/ 568) عن معقل بن يسار. وفيه «عبد اللّه بن أحمد». قال الذهبي : تركوا حديثه.(4/123)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 124
أي : أشفق على نفسك أن تقتلها حسرة على ما فاتك من إسلام قومك أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ أي : لعدم إيمانهم بذلك الكتاب المبين ، إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً ، هو تعليل لما قبله من النهى عن التحسر ببيان أن إيمانهم ليس مما تعلقت به المشيئة ، فلا وجه للطمع فيه والتألم من فواته ، والمفعول محذوف ، أي : إن نشأ إيمانهم ننزل عليهم من السماء آية ملجئة لهم إلى الإيمان ، قاهرة لهم عليه ، فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ منقادين.
والأصل : فظلوا لها خاضعين ، فأقمحت الأعناق لزيادة التقرير ببيان موضع الخضوع ، وترك الخبر على حاله من جمع العقلاء. وقيل : لمّا وصفت الأعناق بصفة العقلاء أجريت مجراهم ، كقوله تعالى : رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ «1». وقيل : المراد بالأعناق : الرؤساء ومقدمو الجماعة ، وقيل : الجماعة ، من قولهم : جاءنا عنق من الناس ، أي : فوج. وقرئ : خاضعة ، على الأصل.
وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ ، هذا بيان لشدة شكيمتهم وعدم ارعوائهم عما كانوا عليه من الكفر والتكذيب لصرف رسوله صلى اللّه عليه وسلم عن الحرص على إسلامهم ، وقطع رجائه فيهم على الجملة ، قال القشيري : أي : ما نجدّد لهم شرعا ، أو نرسل رسولا إلا أعرضوا عما دلّ برهانه عليه ، وقابلوه بالتكذيب ، فلو أنهم أنعموا النظر فى آياتهم ، لا تضح لهم صدقهم ، ولكن المقسوم من الخذلان فى سابق الحكم يمنعهم من الإيمان والتصديق. ه.
والتعرض لعنوان الرحمة لتغليظ شناعتهم ، وتهويل جنايتهم فإن الإعراض عما يأتيهم من جنابه عز وجل على الإطلاق شنيع قبيح ، وعمايأتيهم بموجب الرحمة ، لمحض منفعتهم ، أشنع وأقبح ، أي : ما يأتيهم من موعظة من المواعظ القرآنية ، أو من طائفة نازلة من القرآن تذكّرهم أكمل تذكير ، وتنبههم من الغفلة أتم تنبيه ، بمقتضى رحمته الواسعة ، إلا جددوا إعراضا عنه على وجه التكذيب والاستهزاء إصرارا على ما كانوا عليه من الكفر والضلال.
فَقَدْ كَذَّبُوا بالذكر الذي يأتيهم تكذيبا مقارنا للاستهزاء ، فَسَيَأْتِيهِمْ أي : فسيعلمون أَنْبؤُا أي :
أخبار ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ ، وأنباؤه : ما يحيق بهم من العقوبات العاجلة والآجلة ، عبّر عنها بالأنباء إما لكونها مما أنبأ بها القرآن الكريم ، وإما لأنهم ، بمشاهدتها ، يقفون على حقيقة القرآن الكريم ، كما يقفون على الأحوال الخافية عنهم ، باستماع الأنباء. وفيه تهويل : لأن الأنباء لا تطلق إلا على خبر خطير له وقع كبير ، أي : فسيأتيهم لا محالة مصداق ما كانوا يستهزؤون به ، إما فى الدنيا ، كيوم بدر وغيره من مواطن الحتوف ، أو يوم القيامة. واللّه تعالى أعلم.
___________
(1) من الآية 4 من سورة يوسف.(4/124)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 125
الإشارة : طسم ، الطاء تشير إلى طهارة سره - عليه الصلاة والسلام - ، والسين تشير إلى سيادة قدره ، والميم إلى مجادة أمره ، وهذا بداية الشرف ونهايته. أو : الطاء تشير إلى التنزيه للقلب ، من حيث هو ، والتطهير. والسين تشير إلى تحليته بالسر الكبير ، والميم تشير إلى تصرفه فى الملك والملكوت بإذن العلى الكبير. وهذه بداية السير ونهايتة ، فيكون حيئذ عارفا بالله ، خليفة رسول اللّه فى العودة إلى اللّه ، فإن حرص على هداية الخلق فيقال له :
لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ، فلو شاء ربك لهدى الناس جميعا ، ولا يزالون مختلفين ، وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ. وبالله التوفيق.
ثم ذكر دلائل قدرته على ما ذكر ، فقال :
[سورة الشعراء (26) : الآيات 7 الى 9]
أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (7) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (8) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (9)
قلت : الهمزة : للإنكار التوبيخي ، والواو : للعطف على مقدر يقتضيه المقام ، أي : أفعلوا ما فعلوا من الإعراض والتكذيب ، ولم ينظروا إلى عجائب الأرض .. إلخ. و(كم) : خبرية منصوبة بما بعدها على المفعولية.
يقول الحق جل جلاله : أَوَلَمْ يَرَوْا أي : ينظروا إِلَى عجائب الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ أي : من كل صنف محمود كثير المنفعة ، يأكل منه الناس والأنعام. وتخصيص النبات بالذكر ، دون ماعداه من الأصناف لاختصاصه بالدلالة على القدرة والنعمة معا. ويحتمل أن يراد به جميع أصناف النبات نافعها وضارها ، ويكون وصف الكل بالكرم للتنبيه على أنه تعالى ما أنبت شيئا إلا وفيه فائدة ، إما وحده ، أو بانضمامه إلى غيره ، كما نطق به قوله تعالى : هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً «1» فإن الحكيم لا يكاد يفعل فعلا إلا وفيه حكمة بالغة ، وإن غفل عنه الغافلون ، ولم يتوصل إلى معرفة كنهه العاقلون. وفائدة الجمع بين كلمتى الكثرة والإحاطة ، وهما «كم» و«كلّ» أنّ كلمة «كلّ» تدل على الإحاطة بأزواج النبات على سبيل التفصيل ، و«كم» تدل على أنّ هذا المحاط متكاثر ، مفرط الكثرة ، وبه نبّه على كمال قدرته.
إِنَّ فِي ذلِكَ الإنبات ، أو : كل صنف من تلك الأصناف لَآيَةً عظيمة دالة على كمال قدرته ، وسعة علمه وحكمته ، ونهاية رحمته الموجبة للإيمان ، الوازعة عن الكفر والطغيان. وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ أي : أكثر قومه - عليه الصلاة والسلام - مُؤْمِنِينَ فى علم اللّه تعالى وقضائه ، حيث علم أنهم سيصرفون عنه ، ولا يتدبرون فى هذه الآيات العظام. وقال سيبويه : «كان» : صلة ، والمعنى : وما أكثرهم مؤمنين ، وهو الأنسب بمقام
___________
(1) من الآية 29 من سورة البقرة.(4/125)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 126
عتوهم وغلوهم فى المكابرة والعناد ، مع تعاضد موجبات الإيمان من جهته تعالى. وأما نسبة كفرهم إلى علمه تعالى وقضائه فربما يتوهم أنهم معذرون فيه بحسب الظاهر لأن التفريق بين القدرة والحكمة ، اللتين هما محل التحقيق والتشريع ، قد خفى على مهرة العلماء ، فضلا عن غيرهم. فالحكم بزيادة «كان» أقرب كأنه قيل : إن فى ذلك لآية باهرة موجبة للإيمان ، وما أكثرهم مؤمنين مع ذلك لغاية عتوهم وعنادهم. ونسبة عدم الإيمان إلى أكثرهم لأن منهم من سبق له أنه يؤمن.
وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الغالب على كل ما يريد من الأمور ، التي من جملتها : الانتقام من هؤلاء ، الرَّحِيمُ المبالغ فى الرحمة ، ولذلك يمهلهم ، ولا يؤاخذهم بغتة بما اجترءوا عليه من العظائم الموجبة لفنون العقوبات. وفى التعرض لوصف الربوبية ، مع الإضافة إلى ضميره - عليه الصلاة والسلام - ، من تشريفه والعدة الحقيّة «1» بالانتقام من الكفرة ما لا يخفى. قاله أبو السعود.
الإشارة : أو لم يروا إلى أرض النفوس الطيبة ، كم أنبتنا فيها من كل صنف من أصناف العلوم الغريبة ، والحكم العجيبة ، بعد أن كانت ميتة بالجهل والغفلة ، إنّ فى ذلك لآية ظاهرة على وجود الخصوصية فيها ، وعلى كمال من عالجها حتى ظهرت عليها. أو : أولم يروا إلى أرض العبودية ، كم أنبتنا فيها من أصناف الآداب المرضية ، والمقامات اليقينية ، والمكاشفات الوهبية ، إن فى ذلك لأية ، وما كان أكثرهم مؤمنين بهذه الخصوصية عند أربابها ، وإن ربك لهو العزيز الرحيم ، يعز من يشاء ، ويرحم بها من يشاء. وبالله التوفيق.
ثم شرع فى قصص الأنبياء تسلية لرسوله صلى اللّه عليه وسلم ، وبدأ بموسى عليه السّلام لشدة معالجته لقومه ، فقال :
[سورة الشعراء (26) : الآيات 10 الى 17]
وَإِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ (11) قالَ رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (12) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ (13) وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (14)
قالَ كَلاَّ فَاذْهَبا بِآياتِنا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (15) فَأْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ (16) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ (17)
يقول الحق جل جلاله : وَاذكر يا محمد إِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى أي : وقت ندائه إياه ، وذكّر قومك بما جرى على قوم فرعون بسبب تكذيبهم زجرا لهم ، وتحذيرا من أن يحيق بهم مثل ما حاق بإخوانهم المكذبين.
___________
(1) فى تفسير أبى السعود : «الخفية».(4/126)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 127
أو : واذكر حاله لتتسلى به وبما عالج مع قومه ، حيث أرسله وقال له : أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ، أو : بأن ائت القوم الظالمين بالكفر والمعاصي ، أو : باستعباد بنى إسرائيل وذبح أبنائهم. قَوْمَ فِرْعَوْنَ : عطف بيان ، تسجيل عليهم بالظلم ، ثم فسرهم ، وقل لهم : أَلا يَتَّقُونَ اللّه ، ويتركون ما هم عليه من العتو والطغيان. وقرئ بتاء الخطاب على طريقة الالتفات ، المنبئ عن زيادة الغضب عليهم ، كأنّ ظلمهم أدى إلى مشافهتهم بذلك. وليس هذا نفس ما ناداه به ، بل ما فى سورة طه من قوله : إِنِّي أَنَا رَبُّكَ .. «1» إلخ ، واختصره هنا لمقتضى المقام.
قالَ موسى عليه السّلام متضرعا إلى اللّه عز وجل : رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ من أول الأمر ، وَيَضِيقُ صَدْرِي بتكذيبهم إياى ، وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي بأن تغلبنى الحمية على ما أرى من المحال ، وأسمع من الجدال ، أو : تغلبنى عقدة لسانى ، فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ أخى ، أي : أرسل جبريل إليه ، ليكون نبيا معى ، أتقوّى به على تبليغ الرسالة. وكان هارون بمصر حين بعث موسى بجبل الطور. وليس هذا من التعلل والتوقف فى الأمر ، وإنما هو استدعاء لما يعينه على الامتثال ، وتمهيد عذره.
ثم قال : وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ أي : تبعة ذنب بقتل القبطىّ ، فحذف المضاف ، أو : سمّى تبعة الذنب ذنبا ، كما يسمّى جزاء السيئة سيئة. وتسميته ذنبا بحسب زعمهم. فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ به قصاصا. وليس هذا تعللا أيضا ، بل استدفاع للبلية المتوقعة ، وخوف من أن يقتل قبل أداء الرسالة ، ولذلك وعده بالكلاءة ، والدفع عنه بكلمة الردع ، وجمع له الاستجابتين معا بقوله :
قالَ كَلَّا فَاذْهَبا لأنه استدفعه بلاءهم ، فوعده بالدفع بردعه عن الخوف ، والتمس منه رسالة أخيه ، فأجابه بقوله : فَاذْهَبا ، أي : جعلته رسولا معك فَاذْهَبا بِآياتِنا أي : مع آياتنا ، وهى اليد والعصا وغير ذلك ، فقوله : فَاذْهَبا : عطف على مضمر ، ينبئ عنه الردع ، كأنه قيل : ارتدع يا موسى عما تظن ، فاذهب أنت ومن استدعيته مصحوبا بآياتنا ، فإنها تدفع ما تخافه.
إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ أي : سامعون ما يقال لك ، وما يجرى بينكما وبينه ، فنظهر كما عليه. شبّه حاله تعالى بحال ذى شوكة قد حضر مجادلة ، فسمع ما يجرى بينهم ، فيمد أولياءه وينصرهم على أعدائهم مبالغة فى الوعد بالإعانة ، فاستعير الاستماع ، الذي هو الإصغاء للسمع ، الذي هو العلم بالحروف والأصوات ، وهو تعليل للردع عن الخوف ، ومزيد تسلية لهما ، بضمان كمال الحفظ والنصر ، كقوله تعالى : إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى «2».
ْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ
، ليس هذا مجرد تأكيد للأمر بالذهاب لأن معنى هذا :
الوصول إلى المرسل إليه ، والذهاب : مطلق التوجه ، ولم يثنّ الرسول هنا كما ثناه فى سورة طه «3» لأن الرسول
___________
(1) الآية 12 من سورة طه.
(2) الآية 46 من سورة طه.
(3) فى قوله : إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ ، الآية 47.(4/127)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 128
يكون بمعنى المرسل وبمعنى الرسالة ، فيكون مصدرا ، فجعل ثمّة بمعنى المرسل فثنى ، وجعل هنا بمعنى الرسالة ، فسوّى فى الوصف به الواحد والتثنية والجمع ، كما تقول : رجل عدل ، ورجلان عدل ، ورجال عدل لاتحادهما فى شريعة واحدة ، كأنهما رسول واحد. قلت : والنكتة فى إفراد هذا وتثنية الآخر أن الخطاب فى سورة طه توجه أول القصة إليهما معا بقوله : اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ فجرى فى آخر القصة على ما افتتحت به ، وهنا توجه الخطاب فى أولها إلى موسى وحده ، بقوله : وَإِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ، فجرى على ما افتتح به القصة من الإفراد. واللّه تعالى أعلم.
أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ ، «أن» مفسرة لتضمن الإرسال المفهوم من الرسول معنى القول ، أي : خلّ بنى إسرائيل تذهب معنا إلى الشام ، وكان مسكنهم بفلسطين منه ، قبل انتقالهم مع يعقوب عليه السّلام إلى مصر ، فى زمن يوسف عليه السّلام. والله تعالى أعلم.
الإشارة : من كان أهلا للوعظ والتذكير لا ينبغى أن يتأخر عنه خوف التكذيب ولا خوف الإذاية ، فإن اللّه معه بالحفظ والرعاية. نعم إن طلب المعين فلا بأس ، فإن أبهة الجماعة ، فى حال الإقبال على من يعظمهم ، أقوى فى إدخال الهيبة والروع فى قلوبهم ، ونور الجماعة أقوى من نور الواحد. واللّه تعالى أعلم.
ثم ذكر جواب فرعون ومجادلته ، فقال :
[سورة الشعراء (26) : الآيات 18 الى 29]
قالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (18) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (19) قالَ فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (20) فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (21) وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ (22)
قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ (23) قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24) قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ (25) قالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (26) قالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27)
قالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (28) قالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (29)(4/128)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 129
يقول الحق جل جلاله : لما أتى موسى وهارون فرعون وبلّغا الرسالة ، قالَ له : أَلَمْ نُرَبِّكَ .. إلخ ، روى أنهما أتيا بابه فلم يؤذن لهما سنة ، حتى قال البواب : إن هنا إنسانا يزعم أنه رسول رب العالمين ، فقال : ائذن له ، لعلنا نضحك منه ، فأذن ، فدخل ، فأدى الرسالة ، فعرفه فرعون «1» ، فقال له : أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا فى حجرنا ومنازلنا ، وَلِيداً أي : طفلا. عبّر عنه بذلك لقرب عهده بالولادة. وهذه من فرعون معارضة لقول موسى عليه السّلام : نَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ
، بنسبته تربيته إليه وليدا. ولذلك تجاهل بقوله : وَما رَبُّ الْعالَمِينَ ، وصرح بالجهل بعد ذلك بقوله : لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي ... إلخ ، وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ قيل : لبث فيهم ثلاثين سنة ، ثم خرج إلى مدين ، وأقام به عشر سنين ، ثم عاد يدعوهم إلى اللّه - عز وجل - ثلاثين سنة ، ثم بقي بعد الغرق خمسين ، وقيل : قتل القبطي وهو ابن ثنتى عشرة سنة ، وفرّ منهم على إثر ذلك. واللّه أعلم.
ثم قال له : وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ يعنى : قتل القبطي ، بعد ما عدد عليه نعمته من تربيته ، وتبليغه مبلغ الرجال ، وبّخه بما جرى عليه مع خبازه ، أي : قتلت صاحبى ، وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ بنعمتي ، حيث عمدت إلى قتل رجل من خواصى ، أو : أنت حينئذ ممن تكفر بهم الآن ، أي : كنت على ديننا الذي تسميه كفرا ، وهذا افتراء منه عليه لأنه معصوم ، وكان يعاشرهم بالتقية ، وإلا فأين هو عليه السّلام من مشاركتهم فى الدين.
قالَ فَعَلْتُها إِذاً أي : إذ ذاك وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ أي : من المخطئين لأنه لم يتعمد قتله ، بل أراد تأديبه ، أو :
الذاهلين عما يؤدى إليه الوكز. أو : من الضالين عن النبوة ، ولم يأت عن اللّه فى ذلك شىء ، فليس علىّ توبيخ فى تلك الحالة. والفرض أن المقتول كافر ، فالقتل للكافر لم يكن فيه شرع ، وهذا كله لا ينافى النبوة ، وكذلك التربية لا تنافى النبوة.
فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ إلى ربى ، متوجها إلى مدين لَمَّا خِفْتُكُمْ أن تصيبنى بمضرة ، أو تؤاخذني بما لا أستحقه. فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً أي : حكمة ، أو : نبوة وعلما ، فزال عنى الجهل والضلالة ، وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ من جملة رسله ، وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ أي : تلك التربية نعمة تمنّ بها علىّ ظاهرا ، وهى فى الحقيقة تعبيدك بنى إسرائيل ، وقهرك إياهم ، بذبح أبنائهم ، فإنه السبب فى وقوعي عندك وحصولى فى تربيتك ، ولو تركتهم لربانى أبواى. فكأن فرعون فى الحقيقة امتن على موسى بتعبيد قومه وإخراجه من حجر أبويه. فقال له موسى عليه السّلام : أو تلك نعمة تمنّها علىّ استعبادك لهم ، ليس ذلك بنعمة ، ولا لك فيها علىّ منة ، وتعبيده : تذليلهم واستخدامهم على الدوام. ووحد الضمير فى «تمنّها» و«عبّدت» ، وجمعها فى «منكم» و«خفتكم» لأن الفرار والخوف كان منه ومن ملائه المؤتمرين به ، وأما الامتنان فمنه وحده.
___________
(1) انظر البحر المحيط (7/ 10).(4/129)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 130
وحين انقطعت حجة فرعون وروغانه عن ذكر رب العالمين ، أخذ يستفهم موسى عن الذي ذكر أنه رسول من عنده مكابرة وتجاهلا وتعاميا ، طلبا للرئاسة ، كما قال تعالى : قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ ، أي : أىّ شىء رب العالمين ، الذي ادعيت أنك رسوله ، منكرا لأن يكون للعالمين رب غيره ، حسبما يعرب عنه قوله : أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى «1» ، وقوله : ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي «2». أو : فما صفته ، أو حقيقته؟ قالَ موسى : هو رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا أي : ما بين الجنسين ، إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ أي : إن كنتم موقنين بالأشياء ، محققين لها ، علمتم ذلك ، أو : إن كنتم موقنين شيئا من الأشياء ، فهذا أولى بالإيقان لظهور دليله وإنارة برهانه.
قالَ فرعون ، عند سماع جوابه عليه السّلام ، خوفا من تأثيره فى قلوبهم ، لِمَنْ حَوْلَهُ من أشراف قومه ، وكانوا خمسمائة مسورة بالأسورة : أَلا تَسْتَمِعُونَ ، أنا أسأله عن الماهية ، وهو يجيبنى بالخاصية. ولما كانت ماهية الربوبية لا تدرك ولا تنال حقيقتها ، أجابه بما يمكن إدراكه من خواص الماهية.
ثم قالَ عليه السّلام : رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ أي : هو خالقكم وخالق آبائكم الأولين ، أي : وفرعون من جملة المخلوقين فلا يصلح للربوبية ، وإنما قال : وَرَبُّ آبائِكُمُ لأن فرعون كان يدعى الربوبية على أهل عصره دون من تقدمهم.
قالَ فرعون : إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ حيث يزعم أن فى الوجود إلها غيرى ، أو :
حيث لا يطابق جوابه سؤالى لأنى أسأله عن الحقيقة وهو يجيبنى بالخاصية ، قالَ موسى عليه السّلام : رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ فتستدلون بما أقول حتى تعرفوا ربكم. وهذا غاية الإرشاد ، حيث عمم أولا بخلق السموات والأرض وما بينهما ، ثم خصص من العام أنفسهم وآباءهم لأنّ أقرب المنظور فيه من العاقل نفسه ، ومن ولد منه ، وما شاهد من أحواله ، من وقت ميلاده إلى وفاته ، ثم خصّص المشرق والمغرب لأن طلوع الشمس من أحد الخافقين وغروبها فى الآخر ، على تقدير مستقيم وحساب مستو ، من أقوى الدلائل على وحدانية الربوبية ، ووجوب وجودها. أو : تقول : لما سأله عن ماهية الربوبية جهلا فأجابه ، بالخاصية ، قال أَلا تَسْتَمِعُونَ؟ فعاد موسى إلى مثل قوله ، فجنّنه فرعون ، زاعما أنه حائد عن الجواب ، فعاد ثالثا مبينا أن الواجب الوجود ، الفرد الصمد ، لا يدرك بالكنه ، إنما يعرف بالصفات ، وما عرفه بالذات إلا خواص الخواص ، فالسؤال عن الذات من أمثاله جهل وحمق. ولذلك قال : إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ ، أي : إن كان لكم عقل علمتم أنه لا يمكن أن تعرفوه إلا بهذا الطريق.
___________
(1) من الآية 24 من سورة النازعات.
(2) من الآية 38 من سورة القصص.(4/130)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 131
قال ابن جزىّ : إن قيل : كيف قال أولا : إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ ، ثم قال آخرا : إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ؟ فالجواب : أنه لاين أولا طمعا فى إيمانهم ، فلما رأى منهم العناد والمغالطة وبخهم بقوله : «إن كنتم تعقلون» ، وجعل ذلك فى مقابلة قول فرعون : إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ. ه.
ولما تجبر فرعون وبهت قالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ ، أي : لأجعلنك واحدا ممن عرفت حالهم فى سجونى ، وكان من عادته أن يأخذ من يرى سجنه ، فيطرحه فى هوّة ذاهبة فى الأرض ، بعيدة العمق ، فردا ، لا ينظر فيها ولا يسمع ، وكان ذلك أشدّ من القتل. ولو قال : لأسجننك ، لم يؤد هذا المعنى ، وإن كان أخصر. قاله النسفي.
الإشارة : التربية لها حق يراعى ويجب شكرها ، ولا فرق بين تربية البشرية والروحانية. قال القشيري : لم يجحد موسى حقّ التربية والإحسان إليه فى الظاهر ، ولكن بيّن أنه إذا أمر اللّه بشىء وجب اتباع أمره ، وإذا كانت تربية المخلوقين توجب حقا ، فتربية اللّه أولى بأن يعظّم العبد قدرها. ه. فكل من أحسن إلى بشريتك بشىء وجب عليك شكره بالإحسان إليه ، ولو بالدعاء ، وكل من أحسن إلى روحانيتك بالعلم أو بالمعرفة ، وجب عليك خدمته وتعظيمه ، وإنكار ذلك سبب المقت والطرد ، والعياذ بالله.
وقول فرعون : وَما رَبُّ الْعالَمِينَ : سؤال عن حقيقة الذات ، ومعرفة الكنه متعذرة إذ ليس كمثله شىء ، وأقرب ما يجاب به قوله تعالى : هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ «1» فهذه الأسماء الأربعة أحاطت بالذات فى الجملة ، ولم تترك منها شيئا ، والإحاطة بالكنه متعذرة ، ولو وقعت الإحاطة لم يبق للعارفين ترق ، مع أن ترقيهم فى كشوفات الذات لا ينقطع أبدا ، فى هذه الدار الفانية ، وفى تلك الدار الباقية. وبالله التوفيق.
ثم ذكر معجزة العصا وما يتبعها ، فقال :
[سورة الشعراء (26) : الآيات 30 الى 33]
قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (30) قالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (31) فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (32) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ (33)
قلت : (لو) : هنا ، ليست امتناعية ، بل إغيائية ، فلا جواب لها ، أي : تفعل بي هذا على كل حال ولو جئتك بشىء مبين.
___________
(1) من الآية 3 من سورة الحديد.(4/131)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 132
يقول الحق جل جلاله : قالَ موسى عليه السّلام لفرعون ، لمّا هدده بالسجن : أَوَلَوْ أتفعل ما ذكرت من سجنى ولو جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ واضح الدلالة على صدقى ، وتوحيد رب العالمين. يريد به المعجزة فإنها جامعة بين الدلالة على وجود الصانع وحكمته ، وبين الدلالة على صدق دعوى من ظهرت على يده.
والتعبير عنه بالشيء للتهويل. قالَ فرعون : فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ فيما قلت من الإتيان بالشيء الواضح على صدق دعواك ، أو : من الصادقين فى دعوى الرسالة.
فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ أي : ظاهر ثعبانيته ، لا أنه تخيل بما يشبهه كشأن الشعوذة والسحر. روى أنها ارتفعت فى السماء قدر ميل ، ثم انحطت مقبلة على فرعون ، تقول : يا موسى مرنى بما شئت ، فيقول فرعون :
أسألك بالذي أرسلك إلا أخذتها ، فأخذها ، فعادت عصا. وَنَزَعَ يَدَهُ أي : أخرجها من تحت إبطه ، فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ أي : بياضا خارجا عن العادة ، بحيث يجتمع النظارة على النظر إليه لخروجه عن العادة.
روى أن فرعون لما أبصر الآية الأولى قال : هل لك غيرها؟ فأخرج يده ، وقال لفرعون : ما هذه؟ قال : يدك ، فأدخلها تحت إبطه ، ثم نزعها ، ولها شعاع يكاد يغشى الأبصار ويسدّ الأفق. فسبحان القادر على كل شىء.
الإشارة : النفوس الفرعونية هى التي تتوقف فى الصدق والإيمان على ظهور المعجزة أو الكرامة ، وأما النفوس الزكية فلا تحتاج إلى معجزة ولا كرامة ، بل يخلق اللّه فيها الهداية والتصديق بطريقة الخصوصية ، من غير توقف على شىء. وبالله التوفيق.
[سورة الشعراء (26) : الآيات 34 الى 37]
قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ (34) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَما ذا تَأْمُرُونَ (35) قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (36) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (37)
قلت : (حوله) : ظرف وقع موقع الحال ، أي : مستقرين حوله.
يقول الحق جل جلاله : قالَ فرعون ، لمّا رأى ما بهته وحيّره ، لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ ، وهم أشراف قومه : إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ فائق فى فن السحر. ثم أعدى قومه على موسى بقوله : يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ بما صنع مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَما ذا تَأْمُرُونَ تشيرون فى أمره من حبس أو قتل ، وهو من المؤامرة ، أي : المشاورة ، أو : ماذا تأمرون به ، من الأمر ، لما بهره سلطان المعجزة وحيّره ، حط نفسه عن ذروة ادعاء الربوبية إلى حضيض الخضوع لعبيده - فى زعمه - والامتثال لأمرهم ، وجعل نفسه مأمورة ، أو : إلى مقام مؤامرتهم ومشاورتهم ، بعد ما كان مستقلا فى الرأى والتدبير.(4/132)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 133
قالُوا له : أَرْجِهْ وَأَخاهُ أي : أخّر أمرهما ، ولا تعجل بقتلهما خوفا من الفتنة أو : احبسهما ، وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ أي : شرطا يحشرون السحرة ، يَأْتُوكَ أي : الحاشرون بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ فائق فى فن السحر. وأتوا بصيغة المبالغة ليسكّنوا بعض روعته. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : المشاورة فى الأمور المهمة من شأن أهل السياسة والرأى ، وفى الحديث : «ما خاب من استخار ، ولا ندم من استشار» «1» ، فالمشاورة من الأمر القديم ، وما زالت الأكابر من الأولياء والأمراء يتشاورون فى أمورهم اقتداء برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. وبالله التوفيق.
ثم ذكر جمع السحرة ، فقال :
[سورة الشعراء (26) : الآيات 38 الى 44]
فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (38) وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (39) لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (40) فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالُوا لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (41) قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (42)
قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ (43) فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ (44)
يقول الحق جل جلاله : فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ ، وهو ما عيّنه موسى عليه السّلام بقوله :
مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى «2». والميقات : ما وقت به ، أي : حدّ من زمان أو مكان. ومنه :
مواقيت الحج. وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ أي : اجتمعوا. وعبّر بالاستفهام حثا على الاجتماع.
واستبطاء لهم ، والمراد : استعجالهم إليه ، لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ فى دينهم إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ أي : إن غلبوا موسى ، ولا نتبع موسى فى دينه ، وليس غرضهم اتباع السحرة ، وإنما الغرض الكلى ألا يتبعوا موسى ، فساقوا كلامهم مساق الكناية حملا لهم على الاهتمام والجد فى المغالبة لأنهم إذا اتبعوا السحرة لم يكونوا متبعين لموسى ، وهو مرادهم ، ولأن السحرة إذا سمعوا ذلك حملهم التروس على الجد فى المغالبة.
فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالُوا لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنا لَأَجْراً أي : جزاء وافرا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ لموسى؟
قالَ نَعَمْ لكم ذلك ، وَإِنَّكُمْ مع ذلك ، إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ عندى فى المرتبة والحال ، فتكونون أول من
___________
(1) أخرجه الطبراني فى الأوسط (6627) ، والصغير (2/ 78) ، والشهاب القضاعي فى مسنده (774) ، من حديث أنس. وانظر كشف الخفاء (2/ 185). [.....]
(2) الآية 59 من سورة طه.(4/133)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 134
يدخل علىّ ، وآخر من يخرج عنى. ولما كان قوله : أَإِنَّ لَنا لَأَجْراً ، فى معنى جزاء الشرط لدلالته عليه ، وكان قوله : وَإِنَّكُمْ إِذاً : معطوفا عليه ، دخلت «إذا» قارة فى مكانها ، الذي تقتضيه من الجواب والجزاء.
قالَ لَهُمْ مُوسى بعد أن قالوا له : إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى «1» : أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ من السحر ، فسوف ترون عاقبته. ولم يرد به الأمر بالسحر والتمويه ، بل الإذن فى تقديم ما هم فاعلوه البتة توسلا به إلى إظهار الحق وإبطال الباطل ، فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ ، وكانوا سبعين ألف حبل وسبعين ألف عصا.
وقيل : كانت الحبال اثنين وسبعين ، وكذا العصىّ. وَقالُوا بعد الإلقاء ، لما رأوها تتحرك وتقبل وتدبر : بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ ، قالوا ذلك لفرط اعتقادهم فى أنفسهم ، وإتيانهم بأقصى ما يمكن أن يؤتى به من السحر ، أقسموا بعزته وقوته ، وهو من أيمان الجاهلية. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : السحر على قسمين : سحر القلوب إلى حضرة الحق ، وسحر النفوس إلى عالم الخلق ، أو : إلى عالم الخيال. فالأول : من شأن العارفين بالله ، الداعين إلى اللّه ، فهم يسحرون قلوب من أتى إليهم إلى حضرة القدس ، ومحل الأنس ، فيقال فى شأنهم : فجمع السحرة بقلوبهم ، إلى ميقات يوم معلوم ، وهو يوم الفتح والتمكين ، أو يوم النفحات ، عند اتفاق جمعهم فى مكان معلوم. وقيل للناس ، وهو عوام الناس : هل أنتم مجتمعون لتفيقوا من سكرتكم ، وتتيقظوا من نوم غفلتكم ، لعلنا نتبع السحرة إن كانوا هم الغالبين ، ولا شك فى غلبتهم ونصرهم لقوله تعالى : وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ «2».
ثم ذكر إبطال سحرهم ، وإسلامهم ، فقال :
[سورة الشعراء (26) : الآيات 45 الى 51]
فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ (45) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (46) قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (47) رَبِّ مُوسى وَهارُونَ (48) قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (49)
قالُوا لا ضَيْرَ إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (50) إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (51)
___________
(1) الآية 65 من سورة طه.
(2) من الآية 40 من سورة الحج.(4/134)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 135
يقول الحق جل جلاله : فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ من يده ، فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ أي : تبتلع بسرعة ما يَأْفِكُونَ : ما يقلبونه عن وجهه وحقيقته بسحرهم ، ويزورونه ، فيخيّلون فى حبالهم وعصيّهم أنها حيات تسعى ، فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ لما شاهدوا ذلك من غير تلعثم ولا تردد ، غير متمالكين لأنفسهم لعلمهم بأن ذلك خارج عن حدود السحر ، وأنه أمر إلهى ، يدل على تصديق موسى عليه السّلام. وعبّر عن الخرور بالإلقاء بطريق المشاكلة لقوله : أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ ، فألقى ، فلما خروا سجودا ، قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ ، قال عكرمة : أصبحوا سحرة وأمسوا شهداء. ه. رَبِّ مُوسى وَهارُونَ : عطف بيان ، أو : بدل من بِرَبِّ الْعالَمِينَ.
فدفع توهم إرادة فرعون لأنه كان يدعى الربوبية ، فأرادوا أن يعزلوه منها. وقيل : إن فرعون لما سمع منهم : آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ ، قال : إياى عنيتم؟ قالوا : رَبِّ مُوسى وَهارُونَ.
قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ أي : بغير إذن لكم ، كما فى قوله تعالى : قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي «1» ، لان أن الإذن منه ممكن أو متوقع ، إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فتواطأتم على ما فعلتم مكرا وحيلة.
أراد بذلك التلبيس على قومه لئلا يعتقدوا أنهم آمنوا على بصيرة وظهور حق. ثم هدّدهم بقوله : لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ، يدا من جهة ورجلا من أخرى ، أو : من أجل خلاف ظهر منكم ، وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ قيل : إنه فعل ذلك ، وروى عن ابن عباس وغيره ، وقيل : إنه لم يقدر على ذلك ، لقوله تعالى : أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ «2».
قالُوا أي : السحرة : لا ضَيْرَ أي : لا ضرر علينا فى ذلك ، فحذف خبر «لا» ، إِنَّا إِلى رَبِّنا الذي عرفناه وواليناه مُنْقَلِبُونَ لا إليك ، فيكرم مثوانا ويكفر خطايانا ، أو : لا ضرر علينا فيما توعدتنا به إذ لا بد لنا من الانقلاب إلى ربنا بالموت ، فلأن يكون فى ذاته وسبب دينه أولى ، قال الورتجبي : لمّا عاينوا مشاهدة الحق سهل عليهم البلاء ، لا سيما أنهم يطمعون أن يصلوا إليه ، بنعت الرضا والغفران. ه. ولذلك قالوا : إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا أَنْ كُنَّا أي : لأن كنا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ من أهل المشهد ، أو : من أتباع فرعون.
الإشارة : من شأن خواص الملك ألا يفعلوا شيئا إلا بإذن من ملكهم ، ولذلك أنكر فرعون على السحرة المبادرة إلى الإيمان قبل إذنه ، وبه أخذت الصوفية الكبار والفقراء مع أشياخهم ، فلا يفعلون فعلا حتى يستأذنوا فيه الحق تعالى والمشايخ ، وللإذن سر كبير ، لا يفهمه إلا من ذاق سره. وتقدم بقية الإشارة فى سورة الأعراف «3». واللّه تعالى أعلم.
___________
(1) من الآية 109 من سورة الكهف.
(2) الآية 35 من سورة القصص.
(3) راجع إشارة الآيات 117 - 126 من سورة الأعراف.(4/135)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 136
ثم ذكر خروج موسى عليه السّلام من مصر وتوجهه إلى البحر ، فقال :
[سورة الشعراء (26) : الآيات 52 الى 59]
وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (52) فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (53) إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54) وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ (55) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ (56)
فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57) وَكُنُوزٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (58) كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ (59)
قلت : أسرى وسرى : لغتان ، وقرئ بهما.
يقول الحق جل جلاله : وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بقطع الهمزة ووصلها ، أي : سر بِعِبادِي ليلا. وسماهم عباده لإيمانهم بنبيهم ، وذلك بعد إيمان السحرة بسنين ، أقام بين أظهرهم ، يدعوهم إلى الحق ويظهر لهم الآيات ، ثم أمره بالخروج ، وقال : إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ أي : يتبعكم فرعون وجنوده مصبحين ، فأسر بمن معك حتى لا يدركوكم قبل الوصول إلى البحر ، فيدخلوا مداخلكم ، فأطبقه عليهم فأغرقهم. روى أنه مات فى تلك الليلة فى كل بيت من بيوت القبط ولد ، فاشتغلوا بموتاهم حتى خرج موسى بقومه. وروى أن اللّه أوحى إلى موسى :
أن اجمع بنى إسرائيل ، كلّ أربعة أبيات فى بيت ، ثم اذبحوا أولاد الضأن ، فاضربوا بدمائها على أبوابكم ، فإنى سآمر الملائكة فلا تدخل بيتا فيه دم ، وسآمرها فتقتل أبكار القبط ، واخبزوا فطيرا فإنه أسرع لكم ، ثم أسر بعبادي حتى تنتهى إلى البحر فيأتيك أمرى. «1» ه. وحكمة لطخ الدم ليتميز بيوت بنى إسرائيل ، فلا تقتل الملائكة فيها أحدا. عاملهم على قدر عقولهم ، وإلا فالملك لا يخفى عليه ما أمر به.
فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ حين أخبر بمسيرهم فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ جامعين للعساكر ليتبعهم ، فلما اجتمعوا قال : إِنَّ هؤُلاءِ ، يريد بنى إسرائيل لَشِرْذِمَةٌ طائفة قليلة قَلِيلُونَ ، ذكرهم بالاسم الدالّ على القلة ، ثم جعلهم قليلا بالوصف ، ثم جمع القليل ، فيدل على أن كل حزب منهم قليل. أو : أراد بالقلة : الذلة ، لا قلة العدد ، أي : إنهم لذلتهم ، لا يبالى بهم ، ولا يتوقع غلبتهم. قال ابن عرفة : شرذمة : تقليل لهم باعتبار الكيفية ، وقليلون :
باعتبار الكمية ، وإنما استقلّ قوم موسى - وكانوا ستمائة ألف وسبعين ألفا - لكثرة من معه ، فعن الضحاك : كانوا سبعة آلاف ألف ، وروى أنه أرسل فى أثرهم ألف ألف وخمسمائة ألف ملك مسوّر ، مع كل ملك ألف ، وخرج فرعون فى جمع عظيم ، وكانت مقدمته سبعمائة ألف رجل على حصان ، وعلى رأسه بيضة. وعن ابن عباس رضي اللّه عنه : أنه خرج فرعون فى ألف ألف حصان ، من سوى الإناث. ه «2».
___________
(1) انظر تفسير الطبري (19/ 76) ، والدر المنثور (5/ 158) والبغوي (6/ 113).
(2) قال الحافظ ابن كثير فى تفسيره (3/ 336) بعد ذكره لبعض الأقوال فى تعيين عدد الذين خرجوا مع فرعون : والظاهر أن ذلك من مجازفات بنى إسرائيل ، واللّه أعلم. والذي أخبر به القرآن هو النافع ، ولم يعين عدتهم إذ لا فائدة تحته ، لأنهم خرجوا بأجمعهم.(4/136)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 137
وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ أي : فاعلون ما يغيظنا ، وتضيق به صدورنا ، وهو خروجهم من مصر ، وحملهم حلينا ، وقتلهم أبكارنا ، وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ أي : ونحن قوم عادتنا التيقظ والحذر واستعمال الحزم فى الأمور ، فإذا خرج علينا خارج سارعنا إلى إطفاء ثائرته وحسم فساده ، وهذه معاذير اعتذر بها إلى أهل المدائن لئلا يظن العجز. وقرئ : (حذرون) «1» بالمد والقصر ، فالأول دال على تجد الحذر ، والثاني على ثبوته.
قال تعالى : فَأَخْرَجْناهُمْ أي : خلقنا فيهم داعية الخروج وحملناهم عليه ، مِنْ جَنَّاتٍ بساتين وَعُيُونٍ وأنهار جارية ، وَكُنُوزٍ أموال وافرة من ذهب وفضة ، وسماها كنوزا لأنهم لم ينفقوا منها فى طاعة اللّه تعالى شيئا. وَمَقامٍ كَرِيمٍ أي : منزل رفيع بهيّ ، وعن ابن عباس : المنابر.
كَذلِكَ أي : الأمر كذلك ، أو : أخرجناهم مثل ذلك الإخراج العجيب ، فهو خبر ، أو : مصدر تشبيهى لأخرجنا. وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ أي : ملكناها إياهم ، على طريقة تمليك مال الموروث للوارث لأنهم ملكوها من حين خروج أربابها عنها قبل أن يقبضوها. وعن الحسن : لما عبروا النهر رجعوا ، وأخذوا ديارهم وأموالهم. ه. قال ابن جزى : لم يذكر فى التواريخ ملك بنى إسرائيل لمصر ، وإنما المعروف أنهم ملكوا الشام ، فتأويله على هذا : أورثناهم مثل ذلك بالشام. ه. قلت : بل التحقيق أنهم ملكوا التصرف فى مصر ، ووصلت حكومتهم إليها ، ولم يرجعوا إليها. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : لا ينتصر نبىّ ولا ولىّ إلا بعد أن يهاجر من وطنه سنّة اللّه التي قد خلت من قبل ، ولن تجد لسنّة اللّه تبديلا ، والنصرة مقرونة مع الذلة والقلة وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ. وبالله التوفيق.
ثم ذكر معجزة فلق البحر وغرق فرعون ، فقال :
[سورة الشعراء (26) : الآيات 60 الى 68]
فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (60) فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ (62) فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63) وَأَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ (64)
وَأَنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (65) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (66) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (67) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (68)
___________
(1) قرأ عاصم ، وحمزة ، والكسائي (حاذرون) بألف بعد الحاء. وقرأ الباقون بحذفها. انظر الإتحاف (2/ 316).(4/137)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 138
يقول الحق جل جلاله : فَأَتْبَعُوهُمْ أي : فأتبع فرعون وقومه بنى إسرائيل ، أي : لحقوا بهم ، وقرئ بشد التاء ، على الأصل ، مُشْرِقِينَ داخلين فى وقت شروق الشمس ، أي : طلوعها ، فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ أي :
تقابلا ، بحيث يرى كلّ فريق صاحبه ، أي : بنو إسرائيل والقبط ، قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ أي : قرب أن يلحقنا عدونا ، وأمامنا البحر ، قالَ موسى عليه السّلام ثقة بوعد ربه : كَلَّا ارتدعوا عن سوء الظن بالله ، فلن يدرككم أبدا ، إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ أي : سيهدينى طريق النجاة منهم.
روى أن موسى عليه السّلام لما انتهى إلى البحر هاجت الريح ، والبحر يرمى بموج مثل الجبال ، فقال يوشع عليه السّلام : يا كليم اللّه ، أين أمرت ، فقد غشينا فرعون ، والبحر أمامنا؟ قال عليه السّلام : هاهنا ، فخاض يوشع الماء ، وضرب موسى بعصاه البحر ، فكان ما كان ، وقال الذي كان يكتم إيمانه : يا مكلم اللّه أين أمرت؟ قال : هاهنا. فكبح فرسه بلجامه ، ثم أقحمه البحر ، فرسب فى الماء ، وذهب القوم يصنعون مثل ذلك ، فلم يقدروا ، فجعل موسى لا يدرى كيف يصنع؟ فأوحى اللّه إليه : أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ ، فضربه ، فانفلق ، فإذا الرجل واقف على فرسه ، لم يبتلّ لبده ولا سرجه «1».
وقال محمد بن حمزة : لما انتهى موسى إلى البحر ، دعا ، فقال : يا من كان قبل كل شىء ، والمكوّن لكلّ شىء ، والكائن بعد كلّ شىء ، اجعل لنا مخرجا ، فأوحى اللّه إليه : أن اضرب بعصاك البحر «2» ، وذلك قوله تعالى :
فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ أي : القلزم ، أو النيل ، فَانْفَلَقَ أي : فضرب فانفلق وانشقّ ، فصار اثنى عشر فرقا ، على عدد الأسباط. فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ أي : جزء من الماء كَالطَّوْدِ : كالجبل المنطاد فى السماء الْعَظِيمِ ، وبين تلك الجبال من الماء مسالك ، بأن صار الماء مكفوفا كالجامد ، وما بينها يبس ، فدخل كل سبط فى شعب منها.
وَأَزْلَفْنا أي : قرّبنا ثَمَّ الْآخَرِينَ أي : فرعون وقومه ، حتى دخلوا على أثرهم مداخلهم ، وَأَنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ من الغرق بحفظ البحر على تلك الهيئة ، حتى عبروه ، ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ بإطباقه عليهم. قال النسفي : وفيه إبطال القول بتأثير الكواكب فى الآجال وغيرها من الحوادث ، فإنهم اجتمعوا فى الهلاك ، على اختلاف طوالعهم. روى أن جبريل عليه السّلام كان بين بنى إسرائيل وبين آل فرعون ، فكان يقول لبنى إسرائيل : ليلحق آخركم بأولكم ، ويستقبل القبط فيقول : رويدكم ، ليلحق آخركم «3». ه.
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً أي : فى جميع ما فصّل مما صدر عن موسى عليه السّلام ، وما ظهر على يديه من المعجزات القاهرة ، وفيما فعل فرعون وقومه من الأفعال والأقوال ، وما فعل بهم من العذاب والنكال ، لعبرة عظيمة ، لا تكاد توصف ، موجبة لأن يعتبر المعتبرون ، ويقيسوا شأن النبي صلى اللّه عليه وسلم بشأن موسى عليه السّلام ، وحال أنفسهم
___________
(1) أخرجه الطبري (19/ 80) عن ابن جريج. وذكره البغوي فى تفسيره (6/ 115).
(2) عزاه ابن كثير فى تفسيره (3/ 336) لابن أبى حاتم ، عن عبد اللّه بن سلام.
(3) عزاه فى الدر المنثور (5/ 163 - 964) لابن عبد الحكم وعبد بن حميد ، عن مجاهد.(4/138)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 139
بحال أولئك المهلكين ، ويجتنبوا تعاطى ما كانوا يتعاطونه من الكفر والمعاصي ومخالفة الرسول ، فيؤمنوا بالله تعالى ويطيعوا رسوله ، كى لا يحل بهم ما حلّ بأولئك ، أو : إن فيما فصل من القصة من حيث حكايته عليه السّلام إياها على ما هى عليه ، من غير أن يسمعها من أحد ، لآية عظيمة دالة على أن ذلك بطريق الوحى الصادق ، موجبة للإيمان بالله تعالى ، وتصديق من جاء بها وطاعته.
وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ أي : وما كان أكثر هؤلاء المكذبين الذين سمعوا قصصهم منه - عليه الصلاة والسلام - مؤمنين ، فلم يقيسوا حاله صلى اللّه عليه وسلم بحال موسى ، وحال أنفسهم بحال أولئك المهلكين ، ولم يتدبروا فى حكايته صلى اللّه عليه وسلم لقصتهم من غير أن يسمعها من أحد ، مع كونه أميا لا يقرأ ، وكل من الطريقين مما يؤدى إلى الإيمان ، قطعا لانهماكهم فى الغفلة ، فكان على هذا ، زائدة ، كما هو رأى سيبويه ، فيكون كقوله تعالى : وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ «1» وهو إخبار منه تعالى بعدم إيمانهم فى المستقبل ، أو : وما كان أكثر أهل مصر مؤمنين بموسى عليه السّلام ، قال مقاتل : لم يؤمن من أهل مصر غير رجل وامرأتين حزقيل المؤمن من آل فرعون ، وآسية امرأة فرعون ، ومريم بنت ياموشى ، التي دلّت على عظام يوسف. ه.
وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الغالب على كل ما يريد من الأمور ، التي من جملتها : الانتقام من المكذبين ، الرَّحِيمُ البالغ فى الرحمة ، ولذلك أمهلهم ولم يعاجل عقوبتهم ، أو : العزيز بالانتقام من أعدائه ، الرحيم بالانتصار لأوليائه. جعلنا اللّه من خاصتهم بمنّه وكرمه ، آمين.
الإشارة : قوله تعالى : إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ : اعلم أن المعية تختلف باختلاف المقام ، فالمعية ، باعتبار عامة الخلق ، تكون بالإحاطة والقهرية والعلم والاقتدار ، وباعتبار الخاصة تكون بالحفظ والرعاية والنصر والمعونة. فمن تحقق أن اللّه معه بعلمه وحفظه ورعايته اكتفى بعلمه ، وفوض الأمر إلى سيده ، وكلما قوى التفويض والتسليم دلّ على رفع المقام ، ولذلك فضّل ما حكاه الحق تعالى عن حبيبه بقوله : إِنَّ اللَّهَ مَعَنا «2» ، على ما حكى عن كليمه بزيادة قوله : سَيَهْدِينِ فتأمل. واللّه تعالى أعلم.
ثم ذكر قصة إبراهيم عليه السّلام لما فيها من الرد على أهل الشرك تقبيحا لما عليه قريش والعرب ، مع كونهم من ذريته ، فقال :
[سورة الشعراء (26) : الآيات 69 الى 82]
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ (69) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما تَعْبُدُونَ (70) قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ (71) قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73)
قالُوا بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ (74) قالَ أَفَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلاَّ رَبَّ الْعالَمِينَ (77) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78)
وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82)
___________
(1) من الآية 103 من سورة يوسف.
(2) كما جاء فى الآية 40 من سورة التوبة. [.....](4/139)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 140
يقول الحق جل جلاله : وَاتْلُ عَلَيْهِمْ أي : على المشركين نَبَأَ إِبْراهِيمَ أي : خبره العظيم الشأن ، ولم يأمر فى قصص هذه السورة بتلاوة قصّة إلا فى هذه تفخيما لشأنه ، وتعظيما لأمر التوحيد ، الذي دلت عليه. إِذْ قالَ أي : وقت قوله لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما تَعْبُدُونَ أي : أىّ شىء تعبدون؟ وإبراهيم عليه السّلام يعلم أنهم عبدة الأصنام ، لكنه سألهم ليعلمهم أن ما يعبدونه لا يستحق العبادة ، قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً ، وجواب ما تَعْبُدُونَ : هو قولهم : أَصْناماً لأن السؤال وقع عن المعبود لا عن العبادة ، فكان حق الجواب أن يقولوا : أصناما ، كقوله تعالى : وَيَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ «1» ، وكقوله تعالى : ما ذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ «2». لكنهم أطنبوا فيه بإظهار العامل قصدا إلى إبراز ما فى نفوسهم الخبيثة من الابتهاج والافتخار بعبادتها ، فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ أي : فنقيم على عبادتها طول النهار. وإنما قالوا : فَنَظَلُّ لأنهم كانوا يعبدونها بالنهار دون الليل. أو :
يراد به الدوام.
قالَ إبراهيم عليه السّلام : هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أي : هل يسمعون دعاءكم حين تدعونهم ، على حذف مضاف ، أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ إن عبدتموها ، أَوْ يَضُرُّونَ أو يضرونكم إن تركتم عبادتها إذ لا بد للعبادة من جلب نفع أو دفع ضر؟ قالُوا بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ فاقتدينا بهم. اعترفوا بأن أصنامهم بمعزل عما ذكر من السمع ، والمنفعة ، والمضرة بالمرة. واضطروا إلى إظهار أنهم لا سند لهم سوى التقليد الرديء.
قالَ إبراهيم : أَفَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أي : أنظرتم وأبصرتم وتأملتم فعلمتم ما كنتم تعبدون أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ حق الإبصار ، أو حق العلم ، فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي أي : فاعلموا أنهم أعداء لى ، لا أحبهم ولا يحبوننى ، أو : لو عبدتموهم لكانوا أعداء لى يوم القيامة ، كقوله : سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا «3» ، وقال الفراء : هو من المقلوب ، أي : فإنى عدو لهم ، والعدو يجىء بمعنى الواحد والجماعة لأنه فعول ، كصبور. وفى قوله : عَدُوٌّ لِي ، دون «لكم» زيادة نصح ، لكونه أدعى لهم إلى القبول ، ولو قال : فإنهم عدو لكم ، لم يكن بتلك المثابة ، ولم يقبلوه ، إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ : استثناء منقطع ، أي : لكن رب العالمين ليس كذلك ، بل هو
___________
(1) من الآية 219 من سورة البقرة.
(2) من الآية 23 من سورة سبأ.
(3) من الآية 82 من سورة مريم.(4/140)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 141
حبيب لى. وأجاز الزّجّاج أن يكون متصلا ، على أن الضمير لكل معبود ، وكان من آبائهم من عبد اللّه تعالى ، وهم أيضا كانوا يعبدون اللّه مع أصنامهم.
ثم وصف الربّ تعالى بقوله : الَّذِي خَلَقَنِي بالتكوين فى القرار المكين ، فَهُوَ يَهْدِينِ وحده إلى كل ما يهمنى ويصلحنى من أمور الدين والدنيا ، هداية متصلة بحين الخلق ونفخ الروح ، متجددة على الاستمرار ، كما ينبئ عنه صيغة المضارع. وعبّر بالاستقبال ، مع سبق الهداية فى الأزل لأن المراد ما ينشأ عنها ، وهو الاهتداء لما هو الأهم والأفضل والأتم الأكمل ، أو : والذي خلقنى لأسباب خدمته فهو يهدين إلى آداب خلّته. ولما كان الخلق لا يمكن أن يدعيه أحد لم يؤكد فيه بهو ، بخلاف الهداية والإطعام والسقي ، فإنه يكون على سبيل المجاز من المخلوقين ، ولذلك أكده بهو ليخصه به تعالى.
وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي لا غيره ، أضاف الإطعام إلى مولى الإنعام لأن الركون إلى الأسباب عادة الأنعام.
وَهو أيضا الذي يَسْقِينِ أي : يروينى بمائه. وتكرير الموصول فى المواضع الثلاثة للإيذان بأن كل واحدة من تلك الصلات نعت جليل له تعالى ، مستقل فى استيجاب الحكم. وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ : عطف على يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ ، ونظم معهما فى سلك الصلة بموصول واحد لأن الصحة والمرض من متبوعات الأكل والشرب فى العادة ، غالبا.
وقال فى الحاشية : ثم ذكر بعد نعمة الخلق والهداية ما تدوم به الحياة وتستمر ، وهو الغذاء والشراب ، ولمّا كان ذلك مبنيا على غلبة إحدى الكيفيات على الأخر ، بزيادة الغذاء أو نقصانه ، فيحدث بعد ذلك مرض ، ذكر نعمته بإزالة ما حدث من السقم. ه. ونسبة المرض إلى نفسه والشفاء إلى اللّه تعالى ، مع أنهما منه تعالى لمراعاة حسن الأدب ، كما قال الخضر عليه السّلام : فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها «1» ، فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما «2».
وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ ، ولم يقل : وإذا مت لأن الإماتة والإحياء من خصائصه تعالى. وأيضا : الموت والإحياء من كمال الكمال لأنه الخروج من سجن الدنيا إلى السرور والهناء ، أو : الخروج من دار البلاء والفناء إلى دار الهناء والبقاء. وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي أي : فى مغفرته لى خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ ، ذكره عليه السّلام هضما لنفسه ، وتعليما للأمة أن يجتنبوا المعاصي ، ويكونوا على حذر منها ، وطلب مغفرته لما يفرط منهم. وقال أبو عثمان : أخرج سؤاله على حد الأدب ، لم يحكم على ربه بالمغفرة ، ولكنه طمع طمع العبيد فى مواليهم ، وإن لم يكونوا يستحقون عليهم شيئا إذ العبد لا يستحق على مولاه شيئا ، وما يأتيه يأتيه من فضل مولاه. ه.
___________
(1) من الآية 79 من سورة الكهف.
(2) من الآية 82 من سورة الكهف.(4/141)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 142
وقيل : أشار إلى قوله : إِنِّي سَقِيمٌ «1» فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا «2» وقوله فى سارّة : «هى أختى» حذرا من الجبار.
وفيه نظر لأنها مع كونها معاريض ، لا من قبيل الخطايا المفتقرة إلى الاستغفار ، إنما صدرت عنه عليه السّلام بعد هذه المقالة الجارية بينه وبين قومه فى أول أمره. وتعليق مغفرة الخطيئة بيوم الدين ، مع كونها إنما تغفر فى الدنيا لأن أثرها إنما يظهر يومئذ ، ولأن فى ذلك تهويلا له ، وإشارة إلى وقوع الجزاء فيه ، إن لم يغفر. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : ينبغى لك أيها العبد أن تكون إبراهيميا حنيفيا ، فتنبذ جميع الأرباب ، وتعادى كل من يشغلك عن محبة الحبيب ، من العشائر والأصحاب ، وتقول لمن عكف على متابعة هواه ، ولزم الحرص على جمع دنياه ، هو ومن تقدمه : أفرأيتم ما كنتم تعبدون ، أنتم وآباؤكم الأقدمون ، فإنهم عدو لى إلا رب العالمين ، الذي خلقنى لعبوديته ، فهو يهدين إلى معرفته ، والذي هو يطعمنى طعم الإيمان واليقين والإحسان ، ويسقينى من شراب خمرة العيان ، وإذا مرضت بالذنوب فهو يشفين بالتوبة ، أو : وإذا مرضت بشىء من العيوب فهو يشفين بالتطهير منها. أو :
إذا مرضت برؤية السّوى ، فهو يشفين بالغيبة عنه ، والذي أطمع أن يطهرنى من البقايا ، ويجعلنى من المقربين يوم الدين. وقال ذو النون رضي اللّه عنه : يطعمنى طعام المعرفة ، ويسقينى شراب المحبة ، ثم قال :
شراب المحبّة خير الشّراب وكلّ شراب سواه سراب
وقال الشيخ أبو يزيد البسطامي رضي اللّه عنه : إن للّه شرابا ، يقال له : شراب المحبة ، ادخره لأفاضل عباده ، فإذا شربوا سكروا ، وإذا سكروا طاشوا ، وإذا طاشوا طاروا ، وإذا طاروا وصلوا ، وإذا وصلوا اتصلوا ، فهم فى مقعد صدق عند مليك مقتدر. ه. قلت : شراب المحبة هو خمرة الفناء والغيبة فى اللّه ، بدليل قول ابن الفارض رضي اللّه عنه :
فلم تهونى ما لم تكن فىّ فانيا ولم تفن ما لم تجتل فيك صورتى.
وقال الجنيد رضي اللّه عنه : يحشر الناس يوم القيامة عراة ، إلا من لبس ثياب التقوى ، وجياعا إلا من أكل طعام المعرفة ، وعطاشا إلا من شرب شراب المحبة. ه. وقد يستغنى صاحب طعام المعرفة وشراب المحبة عن الطعام والشراب الحسيين ، كما قال صلى اللّه عليه وسلم ، حين كان يواصل : «إنى أبيت عند ربى يطعمنى ويسقين» «3».
قال أبو بكر الوراق فى قوله تعالى : الَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ أي : يطعمنى بلا طعام ، ويسقينى بلا شراب. قال : ويدل عليه حديث السّقّاء فى عهد النبي صلى اللّه عليه وسلم حيث سمع النبي صلى اللّه عليه وسلم يقرأ ثلاثة أيام : وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها ، فرمى بقربته ، فأتاه آت فى منامه بقدح من شراب الجنة ، فسقاه ، قال أنس :
فعاش بعد ذلك نيفا وعشرين سنة ، لم يأكل ولم يشرب على شهوة. ه.
___________
(1) من الآية 89 من سورة الصافات.
(2) من الآية 63 من سورة الأنبياء.
(3) أخرجه البخاري فى (الصوم ، باب التنكيل لمن أكثر الوصال ، ح 1965) ومسلم فى (الصيام ، باب النهى عن الوصال فى الصوم ، 2/ 774 ، ح 1103) من حديث أبى هريرة ، بدون لفظ «عند ربى» وجاء هذا اللفظ فى رواية عند الإمام أحمد فى المسند (2/ 253).(4/142)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 143
وكان عبد الرحمن بن أبى نعيم لا يأكل فى الشهر إلا مرة ، فأدخله الحجاج بيتا ، وأغلق عليه بابه ، ثم فتحه بعد خمسة عشر يوما ، ولم يشك أنه مات ، فوجده قائما يصلى ، فقال : يا فاسق ، تصلى بغير وضوء؟ فقال : إنما يحتاج الوضوء من يأكل ويشرب ، وأنا على الطهارة التي أدخلتنى عليها. ه. ومكث سفيان الثوري بمكة دهرا ، وكان يسفّ من السبت إلى السبت كفا من الرمل. ه. وهذا من باب الكرامة ، فلا يجب طردها ، وقد تكون بالرياضة ، وطريق المعرفة لا تتوقف على هذا. واللّه تعالى أعلم.
ثم ذكر دعاء إبراهيم عليه السّلام ، فقال :
[سورة الشعراء (26) : الآيات 83 الى 89]
رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83) وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (84) وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (85) وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ (86) وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87)
يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ (88) إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89)
يقول الحق جل جلاله ، حاكيا عن خليله إبراهيم عليه السّلام : رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً أي : حكمة ، أو حكما بين الناس ، أو نبوة لأن النبي ذو حكم بين عباد اللّه. وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ أي : الأنبياء ، الذين صلحوا لحمل أعباء النبوة والرسالة ، وصلحت سرائرهم للحضرة ، ولقد أجابه بقوله : وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ. وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ أي : ثناء حسنا ، وذكرا جميلا فى الأمم التي تجىء بعدي ، فأعطى ذلك ، فكل أهل دين يتولونه ويثنون عليه ، ووضع اللسان موضع القول لأن القول يكون به. أو : واجعلنى على طريق قويم ، وحال مرضى ، يقتدى بي فيهما ، ويحمد أثرى بعد موتى ، كما قيل :
موت التقىّ حياة لا فناء لها قد مات قوم وهم فى الناس أحياء.
وقد تحقق له جميع ذلك ، وخصوصا فى هذه الأمة ، حتى إنه مذكور ومقرون فى كل صلاة على النبي صلى اللّه عليه وسلم ، وقال بعضهم : سأل أن يجعله صالحا ، بحيث إذا أثنى عليه من بعده لم يكن كاذبا. وقيل : سأل الإمامة فى التوحيد والدين ، وقد أجيب بقوله : إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً «1» ه وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ أي : اجعلنى وارثا من ورثة جنة النعيم ، أي : الباقين فيها ، وَاغْفِرْ لِأَبِي ، أي : اجعله أهلا للمغفرة ، بإعطاء الإسلام إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ : الكافرين ، أو : اغفر له على حاله.
___________
(1) من الآية 124 من سورة البقرة.(4/143)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 144
وكان قبل النهى. وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ أي : لا تهنّى يوم يبعثون. الضمير للعباد لأنه معلوم ، أو : للضالين ، أي : لا تخزنى فى أبى يوم البعث ، وهذا من جملة الاستغفار لأبيه ، وكان قبل النهى عنه ، أي : لا تهنّى ، يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ ، أي : لا ينفع فيه مال ، وإن كان مصروفا فى وجوه البر ، ولا بنون ، وإن كانوا صلحاء متأهلين للشفاعة ، إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ من الكفر والنفاق فإنه ينفعه ماله المصروف فى طاعة اللّه ، ويشفع فيه بنوه ، إن تأهلوا للشفاعة ، بأن أدّبهم ودرّجهم إلى اكتساب الكمالات والفضائل.
وقال ابن المسيب : القلب السليم هو قلب المؤمن فإن قلب الكافر والمنافق مريض قال اللّه تعالى : فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ «1». وقال أبو عثمان : هو القلب الخالي من البدعة ، المطمئن على السنة. وقال الحسن بن الفضل : سليم من آفات المال والبنين ، واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : قد استعمل إبراهيم عليه السّلام الأدب ، الذي هو عمدة الصوفية ، حيث قدّم الثناء قبل الطلب ، وهو مأخوذ من ترتيب فاتحة الكتاب. وقوله تعالى : رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً : قال القشيري : أي : على نفسى أولا ، فإن من لا حكم له على نفسه لا حكم له على غيره ، وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ بالقيام بحقك ، دون الرجوع إلى طلب الاستقلال لنفسى دون حقك. ه.
ومما اصطلحت عليه الصوفية أن الصالحين : من صلحت ظواهرهم ، وتطهرت قلوبهم من الأمراض. وفوقهم الأولياء ، وهم من كشف عنهم الحجاب ، وأفضوا إلى الشهود والعيان ، وفوقهم درجة النبوة والرسالة ، فقول الخليل وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ، وكذلك قال الصدّيق ، هو تنزل وتواضع ليعرف جلالة قدر الصالحين ، فما بالك بمن فوقهم! فهو كقول نبينا صلى اللّه عليه وسلم : «اللهمّ أحينى مسكينا ، وأمتنى مسكينا ، واحشرني فى زمرة المساكين» «2». أي :
اجعل المساكين هم قرابتى ، المحدقون بي فى المحشر ، فقد عرّف صلى اللّه عليه وسلم بفضيلة المساكين ، وعظّم جاههم ، بطلبه أن يكونوا فى كفالته ، لا أنه فى كفالتهم ، وكذلك الخليل والصدّيق ، عرّفا بفضيلة الصالحين من أهل الإسلام ، لأ أنهما طلبا اللحوق بهم.
وقوله تعالى : وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ كل من أخلص وجهه لله ، وتخلصت سريرته مما سوى اللّه ، وكان إبراهيميا حنيفيا ، جعل اللّه له لسان صدق فيمن يأتى بعده ، وحسن الثناء عليه فى حياته وبعد مماته ، لقوله صلى اللّه عليه وسلم : «إذا أحب اللّه عبدا نادى جبريل : إن اللّه يحب فلانا فأحبّه ، فيحبّه جبريل ، ثم ينادى جبريل
___________
(1) من الآية 10 من سورة البقرة.
(2) أخرجه الترمذي فى (الزهد ، باب ما جاء أن فقراء المهاجرين يدخلون الجنة قبل أغنيائهم ، 4/ 499 ، ح 2352) ، والبيهقي فى الكبرى (7/ 12) من حديث أنس بن مالك ، وأخرجه ابن ماجة فى (الزهد ، باب مجالسة الفقراء ، 2/ 1381 - 1382 ، ح 4126) والحاكم فى المستدرك (4/ 322) ، وصححه ، ووافقه الذهبي ، من حديث أبى سعيد الخدري.(4/144)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 145
فى أهل السموات : إن اللّه يحب فلانا فأحبّوه ، فيحبّه أهل السماء ، ثم يوضع له القبول فى الأرض» «1». أو كما قال صلى اللّه عليه وسلم.
وقوله تعالى : وَاغْفِرْ لِأَبِي .. إلخ. قال القشيري : هذا عند العلماء : إنما قاله قبل يأسه من إيمانه ، وعن أهل الإشارة : ذكر فى وقت غلبة البسط ، وتجاوز ذلك عنه ، وليس إجابة العبد واجبة عليه فى كل شىء ، وأكثر ما فيه :
أنه لا يجيبه فى ذلك ، ثم لهم أسوة فى ذكر أمثال هذا الخطاب ، وهذا لا يهتدى إليه كلّ أحد. ه.
قال المحشى : وينظر لما قاله العلماء ، وبه الفتوى ، قوله : فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ «2» ، وينظر للسان الإشارة شفاعته له يوم القيامة ، وتكلمه فيه بقوله : (و أىّ خزى أعظم من كون أبى فى النار ..) الحديث ، وكذا قوله : وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ «3» ، وجاء ذلك من استغراقه فى بحر الرحمة ، على سعة العلم ، ومثله استغفار نبينا صلى اللّه عليه وسلم لابن أبىّ ، وصلاته عليه ، وانظر الطيبي فى آية : وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً «4». ه.
وقوله تعالى : إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ، أظهر ما قيل فى القلب السليم : أنه السالم من الشكوك والأوهام ، والخواطر الردية ، ومن الأمراض القلبية ، ولا يتحقق له هذا إلا بصحبة شيخ كامل ، يخرجه من الأوصاف البشرية ، إلى الأوصاف الروحانية ، ويحققه بالحضرة القدسية ، وإلا بقي مريضا ، حتى يلقى اللّه بقلب سقيم. وفى الإحياء : السعادة منوطة بسلامة القلب من عوارض الدنيا ، والجود بالمال من عوارض الدنيا ، فشرط القلب أن يكون سليما بينهما ، أي : لا يكون ملتفتا إلى المال ، ولا يكون حريصا على إمساكه ، ولا حريصا على إنفاقه فإن الحريص على الإنفاق مصروف القلب إلى الإنفاق ، كما أن الحريص على الإمساك مصروف القلب إلى الإمساك. وكان كمال القلب أن يصفو من الوصفين جميعا. وقال الداراني : القلب السليم هو الذي ليس فيه غير اللّه تعالى. ه. وقال الجنيد رضي اللّه عنه : السليم فى اللغة : اللديغ ، فمعناه : كاللديغ من خوف اللّه تعالى. ه. وبالله التوفيق.
ثم ذكر هول ذلك اليوم ، فقال :
[سورة الشعراء (26) : الآيات 90 الى 104]
وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (90) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ (91) وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (92) مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (93) فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَالْغاوُونَ (94)
وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (95) قالُوا وَهُمْ فِيها يَخْتَصِمُونَ (96) تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (98) وَما أَضَلَّنا إِلاَّ الْمُجْرِمُونَ (99)
فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ (100) وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (101) فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (102) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (103) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (104)
___________
(1) أخرجه البخاري فى (الأدب ، باب المقة «المحبة» من اللّه ح 6640) ومسلم فى (البر والصلة ، باب إذا أحب اللّه عبدا حبّبه إلى عباده ، 4/ 2030 ، ح 2637) من حديث أبى هريرة رضي اللّه عنه.
(2) من الآية 114 من سورة التوبة.
(3) من الآية 36 من سورة إبراهيم. [.....]
(4) من الآية 7 من سورة غافر.(4/145)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 146
قلت : (و أزلفت) : عطف على (ينفع) ، وصيغة الماضي فيها وفيما بعدها لتحقق الوقوع.
يقول الحق جل جلاله ، فى شأن اليوم الذي لا ينفع فيه مال ولا بنون : وَأُزْلِفَتِ أي : قربت الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ ، أي : تزلف من موقف السعداء ، فينظرون إليها ، وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ : أظهرت ، حتى يكاد يأخذهم لهبها ، لِلْغاوِينَ : للكافرين ، وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ بدفع العذاب عنكم ، أَوْ يَنْتَصِرُونَ بدفعه عن أنفسهم ، يوبّخون على إشراكهم ، فيقال لهم : أين آلهتكم التي عبدتموها ، هل ينفعونكم اليوم بنصرتهم لكم؟ أو : هل ينفعون أنفسهم بانتصارهم لها؟ كلا ، بل هم وآلهتهم وقود النار ، كما قال تعالى :
فَكُبْكِبُوا فِيها أي : ألقوا فى الجحيم على وجوههم ، مرة بعد أخرى ، إلى أن يستقروا فى قعرها. وفى القاموس : كبّه : قلبه وصرعه ، كأكبه وكبكبه. ه. أي : صرعوا منكبين فى الجحيم على وجوههم ، هُمْ أي :
آلهتهم وَالْغاوُونَ أي : الذين كانوا يعبدونهم.
وفى تأخير ذكرهم عن ذكر آلهتهم رمز إلى أنهم مؤخّرون عنها فى الكبكبة ليشاهدوا سوء حالها ، فيزدادوا غما على غم ، وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أي : يكبكبون معهم أَجْمَعُونَ ، وهم شياطينه الذين كانوا يقوونهم ويوسوسونهم ، ويسوّلون لهم ما هم عليه من عبادة الأصنام ، وسائر فنون الكفر والمعاصي ، أو : متبعوه من عصاة الجن والإنس ليجتمعوا فى العذاب ، حسبما كانوا مجتمعين فيما يوجبه.
قالُوا أي : العبدة وَهُمْ فِيها يَخْتَصِمُونَ أي : قالوا معترفين بخطائهم فى انهماكهم فى الضلالة متحسرين ، والحال : أنهم فى الجحيم بصدد الاختصام مع من معهم من المذكورين ، فيجوز أن ينطق اللّه الأصنام ، حتى يصح منها التخاصم والتقاول ، ويجوز أن يجرى ذلك بين العصاة والشياطين.
قالوا : تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ أي : إن الشأن كنا فى ضلال واضح ، لا خفاء فيه ، إِذْ نُسَوِّيكُمْ نعدلكم بِرَبِّ الْعالَمِينَ فنعبدكم معه ، أي : تاللّه لقد كنا فى ضلال فاحش وقت تسويتنا إياكم أيها الأصنام ، فى استحقاق العبادة ، برب العالمين ، الذي أنتم أدنى مخلوقاته ، وأذلهم وأعجزهم ، وَما أَضَلَّنا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ أي : (4/146)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 147
رؤساؤهم ، الذين أضلوهم ، وإبليس وجنوده ، ومن سنّ الشرك. وليس المراد قصر الإضلال على المجرمين دون من عداهم ، بل قصر ضلالهم على كونه بسبب إضلالهم ، من غير أن يستقلوا به ، وهذا كقولهم : رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا «1». وعن السّدّى : هم الأولون الذين اقتدوا بهم. وأيّا ما كان ففيه التعريض للذين قالوا : بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ.
ثم قالوا : فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ كما للمؤمنين من الملائكة والأنبياء - عليهم السلام - وغيرهم ممن أهّل للشفاعة. وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ كما لهم أصدقاء إذ لا يتصادق فى الآخرة إلا المؤمنون ، وأما الكفار فبينهم التعادي كما يأتى فى الآية. أو : ما لنا من شافعين ، ولا صديق من الذين كنا نعدهم شفعاء وأصدقاء لأنهم كانوا يعتقدون أن أصنامهم تشفع لهم عند اللّه ، وكان لهم أصدقاء من شياطين الإنس ، فلم ينفعهم شىء من ذلك. وجمع الشفعاء ووحّد الصديق لكثرة الشفعاء. وأما الصديق ، وهو الصادق فى ودادك ، الذي يهمه ما أهمك ، ويسره ما أسرك ، فقليل ، وسئل حكيم عن الصديق ، فقال : (اسم لا معنى له) ، أي : لا وجود له ، والبركة لا تنقطع.
قال القشيري : فى الخبر : يجىء يوم القيامة عبد فيحاسب ، فتستوى حسناته وسيئاته ، ويحتاج إلى حسنة واحدة يرضى عنه خصومه ، فيقول اللّه سبحانه له : عبدى بقيت لك حسنة ، إن كانت أدخلناك الجنة ، انظر ، وتطلّب من الناس لعلّ أحدا يهبها لك. فيأتى الصفين ، فيطلب من أبيه ، ثم من أمه ، ثم من أصحابه ، فلا يجيبه أحد إلا بقوله :
أنا اليوم فقير إلى حسنة واحدة ، فيرجع إلى مكانه ، فيسأله الحقّ - سبحانه : ما جئت به؟ فيقول : يا ربّ لم يعطنى أحد حسنة ، فيقول اللّه تعالى : عبدى .. ألم يكن لك صديق؟ فيتذكر العبد ، ويقول : فلان كان صديقا لى فيك ، فيأتيه ويدله الحق عليه ، فيكلّمه ، فيقول : بل لى عبادات كثيرة ، فإن قبلها اللّه منى فقد وهبتها لك ، فيسرّ ويجىء إلى موضعه ، فيخبر بذلك ربّه تعالى ، فيقول : قد قبلتها منه ، ولم أنقص من حقّه شيئا ، وقد غفرت لك وله - فهذا معناه. ه. ونقل القرطبي عن الحسن قال : ما اجتمع ملأ على ذكر اللّه ، فيهم عبد من أهل الجنة ، إلا شفّعه اللّه فيهم ، وإن أهل الإيمان ليشفع بعضهم فى بعض ، وهم عند اللّه شافعون مشفعون. ه.
ثم قالوا : فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً أي : رجعة إلى الدنيا فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ، وجواب لو التّمنية : محذوف ، أي : لفعلنا كيت وكيت إذ «لو» ، فى مثل هذا ، للتمنى ، أي : فليت لنا كرة فنكون من المؤمنين.
إِنَّ فِي ذلِكَ أي : فيما ذكر من الأنباء العجيبة كقصة إبراهيم مع قومه ، وما ترتب على ذلك من الوعد والوعيد ، لَآيَةً عظيمة ، موجبة للزجر عن عبادة الأصنام ، لا سيما لأهل مكة ، الذين يدّعون أنهم على ملة
___________
(1) من الآية 67 من سورة الأحزاب.(4/147)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 148
إبراهيم عليه السّلام ، أو : إن فى ذكر نبأه ، وتلاوته عليهم ، على ما هو عليه ، من غير أن تسمعه من أحد ، لآية عظيمة دالة على أن مانتلوه عليهم وحي صادق ، نازل من جهته تعالى ، موجبة للإيمان به ، وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ أي : وما أكثر هؤلاء ، الذين تتلو عليهم هذه الأنباء ، مؤمنين ، بل هم مصرّون على ما كانوا عليه من الكفر والضلال. ولا يحسن رجوعه لقوم إبراهيم ، على أن كانَ أصلية لأنه لم يؤمن من قومه إلا لوط فقط.
وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ أي : هو القادر على تعجيل العقوبة لقومك ، ولكنه يمهلهم بحلمه ورحمته ليؤمن بعض منهم أو من ذريتهم. وبالله التوفيق.
الإشارة : وأزلفت جنة المعارف للمتقين السّوى ، وبرزت جحيم القطيعة للغاوين ، المتبعين الهوى. وفى الحكم :
«لا يخاف أن تلتبس الطرق عليك ، إنما يخاف من غلبة الهوى عليك» وقيل لأهل الهوى : أين ما كنتم تعبدون من دون اللّه ، من الحاملين لكم على البقاء مع الحظوظ والشهوات ، هل ينصروكم أو ينتصرون؟ فكبكبوا فى الحضيض الأسفل ، هم والغاوون لهم ، الذين منعوهم من الدخول فى حضرة الأولياء ، وجنود إبليس أجمعون. قالوا - وهم فى غم الحجاب ونار القطيعة يختصمون - : تالله إن كنا لفى ضلال مبين ، إذ نسويكم برب العالمين فى المحبة والميل ، وما أضلنا إلا المجرمون ، الذين حكموا بقطع التربية على الدوام ، وسدوا الباب فى وجوه الرجال ، فما لنا من شافعين ، ولا صديق حميم ، يشفع لنا حتى نلتحق بالمقربين. هيهات لا يكون اللحوق بهم إلا بالدخول معهم ، فى مقام المجاهدة فى دار الدنيا ، ثم يتمنون الرجوع ليصدّقوا بهم ، وينخرطوا فى سلكهم ، فلا يجدون له سبيلا. وباللّه التوفيق.
ثم ذكر قصة نوح عليه السّلام ، فقال :
[سورة الشعراء (26) : الآيات 105 الى 122]
كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (105) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ (106) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (107) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (108) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (109)
فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (110) قالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (111) قالَ وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (112) إِنْ حِسابُهُمْ إِلاَّ عَلى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (113) وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (114)
إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (115) قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (116) قالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (117) فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (118) فَأَنْجَيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (119)
ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ الْباقِينَ (120) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (121) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (122)(4/148)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 149
قلت : اسم الجمع واسم الجنس يذكر ويؤنث ، كقوم ، ورهط ، وشجر.
يقول الحق جل جلاله : كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ ، وهو نوح بن لامك. قيل : ولد فى زمن آدم عليه السّلام ، قاله النسفي ، وإنما قال : الْمُرْسَلِينَ ، والمراد : نوح فقط لأن من كذّب واحدا من الرسل فقد كذب الجميع ، لاتفاقهم فى الدعوة إلى الإيمان لأن كل رسول يدعو الناس إلى الإيمان بجميع الرسل. وقد يراد بالجمع : الواحد كقولك : فلان يركب الخيل ، ويلبس البرود ، وما له إلا فرس واحد وبرد واحد.
إِذْ قالَ لَهُمْ : ظرف للتكذيب ، أي : كذبوه وقت قوله لهم أَخُوهُمْ نُوحٌ نسبا ، لا دينا ، وقيل : أخوة المجانسة ، كما فى آية : بِلِسانِ قَوْمِهِ «1» : أَلا تَتَّقُونَ خالق الأنام ، فتتركوا عبادة الأصنام ، إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ، كان مشهورا بالأمانة عندهم ، كحال نبينا صلى اللّه عليه وسلم فى قريش ، ما كانوا يسمونه إلا محمدا الأمين. فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ فيما آمركم به وأدعوكم إليه من الإيمان.
وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أي : على ما أنا متصد له من الدعاء والنصح ، مِنْ أَجْرٍ أصلا إِنْ أَجْرِيَ فيما أتولاه إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ لا أطمع فى غيره ، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ، الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها من تنزيهه عليه السّلام عن الطمع ، كما أن نظيرتها السابقة لترتيب ما بعدها على أمانته. والتكرير للتأكيد ، والتنبيه على أن كلا منهما مستقل فى إيجاب التقوى والطاعة ، فكيف إذا اجتمعا؟ كأنه قال : إذا عرفتم رسالتى وأمانتى فاتقوا اللّه وأطيعون.
قالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ والحالة أنه قد تبعك الْأَرْذَلُونَ أي : الأرذلون جاها ومالا ، والرذالة : الدناءة والخسة ، وإنما استرذلوهم لاتضاع نسبهم ، وقلة نصيبهم من الدنيا ، وقيل : كانوا من أهل الصناعة الدنيئة ، قيل :
كانوا حاكة وأساكفة - جمع إسكاف - وهو الخفّاف - أي : الخراز ، وقيل : النجار. والصناعة لا تزرى بالديانة ، فالغنى غنى القلوب ، والنسب نسب التقوى ، والعز عز العلم بالله لا غير ، ومرادهم بذلك : أنه لا مزية لك فى اتباعهم إذ
___________
(1) الآية 4 من سورة إبراهيم.(4/149)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 150
ليس لهم رزانة عقل ، ولا إصابة رأى ، وقد كان ذلك منهم فى بادى الرأى. وهذا من كمال سخافة عقولهم ، وقصر نظرهم على حطام الدنيا حتى اعتقدوا أن الأشرف من جمعها ، والأرذل من حرمها. وقد جهلوا بأنها لا تزن عند اللّه جناح بعوضة ، وأن النعيم هو نعيم الآخرة ، والأشرف من فاز به ، وسكن فى جوار اللّه ، والأرذل من حرم ذلك.
قال القشيري : ذكر ما لقى من قومه ، وقوله : وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ ، وكذلك أتباع الرسل ، إنما هم الأضعفون ، لكنهم - فى حكم اللّه - هم المقدّمون الأكرمون ، قال صلى اللّه عليه وسلم : «نصرت بضعفائكم» «1» ، إلخ كلامه.
قالَ وَما عِلْمِي أي : وأىّ شىء علمى بِما كانُوا يَعْمَلُونَ من الصناعات ، إنما أطلب منهم الإيمان.
وقيل : إنهم طعنوا فى إيمانهم ، وقالوا : لم يؤمنوا عن نظر وبصيرة ، وإنما اتبعوك طمعا فى العدة والمال ، أي : وما وظيفتي إلا اعتبار الظواهر ، دون التنقير على بواطنهم ، والشق عن قلوبهم ، إِنْ حِسابُهُمْ إِلَّا عَلى رَبِّي أي :
ما محاسبة أعمالهم والتنقير عن كيفياتها إلا على ربى فإنه المطلع على السرائر ، لَوْ تَشْعُرُونَ بشىء من الأشياء ، أو : لو كنتم من أهل الشعور لعلمتم ذلك ، ولكنكم كالبهائم أو أضل.
وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ أي : ليس من شأنى أن أتبع شهواتكم ، فأطرد المؤمنين طمعا فى إيمانكم ، وهو جواب عما أوهمه كلامهم من استدعاء طردهم وتعليق إيمانهم بذلك ، حيث جعلوا اتباعهم له مانعا عنه ، إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ وما على إلا أن أنذركم إنذارا بيّنا بالبرهان القاطع ، وأنتم أعلم بشأنكم ، أي : وما أنا إلا رسول مبعوث لإنذار المكلفين ، سواء كانوا أعزاء أو أراذل ، فكيف يمكننى طرد الفقراء لاستتباع الأغنياء؟. قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ عما تقول لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ من المقتولين بالحجارة. قالوه فى آخر أمره.
قالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ تمادوا على تكذيبى ، وأصروا عليه ، بعد ما دعوتهم هذه الأزمنة المتطاولة ، فلم يزدهم دعائى إلا فرارا ، وليس هذا من قبيل الإخبار لأن اللّه لا يخفى عليه شىء ، وإنما هو تضرع وابتهال ، بدليل قوله : فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً أي : احكم بينى وبينهم بما يستحقه كل واحد منا ، وهذه حكاية إجمالية ، قد فصلت فى سورة نوح وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ من شرهم ، أو من شؤم عملهم.
___________
(1) أخرجه البخاري فى (الجهاد ، باب من استعان بالضعفاء والصالحين فى الحرب ح 2896) ، عن مصعب بن سعد بن أبى وقاص ، بلفظ : «هل تنصرون إلا بضعفائكم» ، وأخرجه أحمد فى المسند (5/ 198) ، والترمذي فى (الجهاد ، باب الاستفتاح بصعاليك المسلمين ، 4/ 179 ، ح 1702) ، وأبو داود فى (الجهاد ، باب فى الانتصار برذل الخيل والضعفة 3/ 73 ، ح 2594) ، من حديث أبى الدرداء ، بلفظ : «ابغوني فى الضعفاء ، فإنما ترزقون وتنصرون بضعفائكم».
قال المنذرى : ومعناه : أن عبادة الضعفاء ودعاءهم أشد إخلاصا لخلو قلوبهم من التعلق بزخرف الدنيا ، وجعلوا همهم واحدا ، فأجيب دعاؤهم ، وربحت أعمالهم.(4/150)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 151
فَأَنْجَيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ حسب دعائه فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ المملوء بهم وبما لا بد لهم منه. ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ أي : بعد إنجائهم الْباقِينَ من قومه ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ، وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ الممتنع القاهر بإهانة من جحد وأصر. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : قال القشيري : أخبر عن كل واحد من الأنبياء بقوله : وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ ليعلم الكافة أنه من عمل له فلا ينبغى أن يطلب الأجر من غيره ، ففى هذا تنبيه للعلماء - الذين هم ورثة الأنبياء - أن يتأدبوا بآدابهم ، وألّا يطلبوا من الناس شيئا فى بثّ علومهم ، ولا يرتفقون منهم بتعليمهم ، والتذكير لهم ، ومن ارتفق من المستمعين فى بث فائدة يذكرها من الدين ، يعظ بها المسلمين ، فلا بارك اللّه للمسلمين فيما يسمعون منه ، ولا للعلماء أيضا بركة فيما منهم يأخذون ، فيبيعون دينهم بعرض يسير ، ثم لا برضكة لهم فيه ، إذ لا يتقربون به إلى اللّه ، ولا ينتفعون به ، ويحصلون على سخط من اللّه. ه.
قلت : أما ما يأخذه العالم من الأحباس فلا يدخل فى هذا إذ ليس فيه تكلف من أحد ، وكذلك ما يأخذه الواعظ على وجه الزيارة والهدية ، من غير استشراف نفس ولا طمع ولا تكلف. واللّه تعالى أعلم.
ثم ذكر قصة هود عليه السّلام ، فقال :
[سورة الشعراء (26) : الآيات 123 الى 140]
كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ (124) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (125) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (126) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (127)
أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (128) وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129) وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (130) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (131) وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ (132)
أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ (133) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (134) إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (135) قالُوا سَواءٌ عَلَيْنا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ (136) إِنْ هذا إِلاَّ خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (137)
وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (138) فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْناهُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (139) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (140)(4/151)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 152
يقول الحق جل جلاله : كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ ، وهى قبيلة ، ولذلك أنّث الفعل ، وفى الأصل : اسم رجل ، هو أبو القبيلة. إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نسبا ، هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ ، إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ، وقد مر تفسيره ، فَاتَّقُوا اللَّهَ فى تكذيب الرسول الأمين ، وَأَطِيعُونِ فيما آمركم به وأنهاكم عنه ، وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ ، وتصدير القصص بتكذيب الرسل والأمر بالطاعة للدلالة على أن مبنى البعثة هو الدعاء إلى معرفة الحق ، والطاعة فيما يقرب المدعو إلى الثواب ، ويبعده من العقاب ، وأنّ الأنبياء - عليهم السلام - مجمعون على ذلك ، وإن اختلفوا فى فروع الشرائع ، المختلفة باختلاف الأزمنة والأعصار ، وأنهم منزهون عن المطامع الدنيئة ، والأغراض الدنيوية بالكلية.
ثم وبّخهم بقوله : أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ : مكان مرتفع ، ومنه : ريع الأرض لارتفاعها ، وفيه لغتان : كسر الراء وفتحها. آيَةً علما للمارة ، كانوا يصعدونه ويسخرون بمن يمر بهم. وقيل : كانوا يسافرون ولا يهتدون إلا بالنجوم ، فبنوا على الطريق أعلاما ليهتدوا بها عبثا ، وقيل : برج حمام ، دليله : تَعْبَثُونَ أي : تلعبون ببنائها ، أو : بمن يمر بهم على الأول ، وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ ، مآخذ الماء ، أو قصورا مشيدة ، أو حصونا ، وهو جمع مصنع ، والمصنع : كل ما صنع وأتقن فى بنيانه ، لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ أي : راجين الخلود فى الدنيا ، عاملين عمل من يرجو ذلك ، أو كأنكم تخلدون.
وَإِذا بَطَشْتُمْ بسوط أو سيف ، أو أخذتم أحدا لعقوبة بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ مسلطين ، قاسية قلوبكم ، بلا رأفة ولا رقة ، ولا قصد تأديب ، ولا نظرا للعواقب. والجبار الذي يضرب أو يقتل على الغضب. فَاتَّقُوا اللَّهَ فى البطش ، وَأَطِيعُونِ فيما أدعوكم إليه فإنه أنفع لكم ، وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ من ألوان النعماء وأصناف الآلاء. ثم فصّلها بقوله : أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ فإن التفصيل بعد الإجمال أدخل فى القلب. وقرن البنين بالأنعام لأنهم يعينونهم على حفظها والقيام بها.
وَجَنَّاتٍ بساتين وَعُيُونٍ : أنهار خلال الجنات ، إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ إن عصيتمونى ، أو : إن لم تقوموا بشكرها فإن كفران النعم مستتبع للعذاب ، كما أن شكرها مستلزم لزيادتها ، قال تعالى : لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ «1».
___________
(1) من الآية 7 من سورة إبراهيم.(4/152)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 153
قالُوا سَواءٌ عَلَيْنا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ فإنّا لن نرعوى عما نحن عليه ، ولا نقبل كلامك ودعوتك ، وعظت أو سكت. ولم يقل : أم لم تعظ لرؤوس الآي. إِنْ هذا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ بضم اللام «1» ، أي :
ما هذا الذي نحن عليه من ألّا بعث ولا حساب ، إلا عادة الأولين وطبيعتهم واعتقادهم ، أو : ما هذا الذي نحن عليه من الموت والحياة إلا عادة قديمة ، لم يزل الناس عليها ، ولا شىء بعدها ، أو : ما هذا الذي أنكرت علينا من البنيان والبطش ، إلا عادة من قبلنا ، فنحن نقتدى بهم ، وما نعذّب على ذلك. وبسكون اللام ، أي : ما هذا الذي خوفتنا به إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ أي : اختلاقهم وكذبهم ، أو : ما خلقنا هذا إلا كخلقهم ، نحيا كما حيوا ، ونموت كما ماتوا ، ولا بعث ولا حساب ، وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ على ما نحن عليه من الأعمال.
فَكَذَّبُوهُ أي : أصروا على تكذيبه ، فَأَهْلَكْناهُمْ بسبب ذلك بريح صرصر ، تقدم فى الأعراف كيفيته «2» ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ أي : قوم هود مُؤْمِنِينَ ما أسلم معه ثلاثمائة ألف ...
وأهلك باقيهم. قاله المحشى الفاسى. وقيل : وما أكثر قومك بمؤمنين بهذا ، على أن كانَ : صلة. وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ العزيز بالانتقام من أعدائه ، الرحيم بالانتصار لأوليائه.
الإشارة : أنكر. هود عليه السّلام على قومه أمرين مذمومين ، وهما من صفة أهل البعد عن اللّه الأول : التطاول فى البنيان ، والزيادة على الحاجة ، وهى ما يكن من البرد ، ويقى من الحر ، من غير تمويه ولا تزويق ، والزيادة على الحاجة فى البنيان من علامة الرغبة فى الدنيا ، وهو من شأن الجهال رعاء الشاه ، كما فى الحديث ، وفى خبر آخر :
«إذا علا العبد البناء فوق ستة أذرع ناداه ملك : إلى أين يا أفسق الفاسقين؟» «3».
والثاني : التجبر على عباد اللّه ، والعنف معهم ، من غير رحمة ولا رقة ، وهو من قساوة القلب ، والقلب القاسي بعيد من اللّه ، وفى الخبر عن عيسى عليه السّلام : (لا تكثروا الكلام بغير ذكر اللّه ، فتقسو قلوبكم فإن القلب القاسي بعيد من اللّه ، ولكن لا تشعرون). وفى الحديث عن نبينا صلى اللّه عليه وسلم : «لا تنظروا إلى عيوب الناس كأنكم أرباب ، وانظروا إلى عيوبكم كأنكم عبيد ، فإنما الناس مبتلى ومعافى ، فارحموا أهل البلاء وسلوا اللّه العافية» «4». وبالله التوفيق ،
___________
(1) قرأ بالضّمّ : نافع ، وابن عامر ، وعاصم ، وحمزة ، وقرأ «خلق» بفتح الخاء وسكون اللام ، ابن كثير وأبو جعفر وأبو عمرو ، والكسائي.
راجع إتحاف فضلاء البشر (2/ 318).
(2) راجع تفسير الآية 72 من سورة الأعراف.
(3) ذكره المنذرى فى الترغيب والترهيب (ح 2803) بلفظ : «إذا رفع الرجل بناء فوق سبعة أذرع ، نودى يا أفسق الفاسقين إلى أين»؟
وعزاه لابن أبى الدنيا موقوفا على عمارة بن عامر. وقال المنذرى : ورفعه بعضهم ، ولا يصح. وانظر فتح الباري (11/ 92).
(4) هذا بقية الخبر السابق عن سيدنا عيسى عليه السّلام. وأخرجه مالك فى الموطأ (2/ 986) بلاغا. ولم أقف عليه حديثا عن سيدنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم.(4/153)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 154
ثم ذكر قصة صالح عليه السّلام ، فقال :
[سورة الشعراء (26) : الآيات 141 الى 159]
كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (141) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ (142) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (143) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (144) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (145)
أَتُتْرَكُونَ فِي ما هاهُنا آمِنِينَ (146) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (147) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ (148) وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ (149) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (150)
وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (151) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ (152) قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (153) ما أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (154) قالَ هذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (155)
وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (156) فَعَقَرُوها فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ (157) فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (158) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (159)
يقول الحق جل جلاله : كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ ، إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نسبا ، صالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ اللّه تعالى ، فتوحدونه ، إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ : مشهور فيكم بالأمانة ، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ، وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ ، أَتُتْرَكُونَ فِي ما هاهُنا آمِنِينَ أي : أتطمعون أن تتركوا فيما هاهنا من النعمة والتّرفّه ، آمنين من عقاب اللّه وعذابه ، وأنتم على كفركم وشرككم ، كلا ، واللّه لنختبرنكم ببعث الرسول ، فإن كفرتم عاجلتكم بالعقوبة.
ثم فسّر ما هم فيه من النعمة بقوله : فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ هو داخل فيما قبله ، وخصه بالذكر شرفا له. أو : فى جنات بلا نخل ، طَلْعُها هَضِيمٌ ، والطلع : عنقود التمر فى أول نباته ، باقيا فى غلافه.
والهضيم : اللطيف اللين للطف الثمر ، أو : لأن النخل أنثى وطلع الأنثى ألطف ، أو : لنضجه ، كأنه : قيل : ونخل قد(4/154)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 155
أرطب ثمره. قال ابن عباس : إذا أينع فهو هضيم. وقال أيضا : هضيم : طيب ، وقال الزجاج : هو الذي رطبه بغير نوى ، أو : دان من الأرض ، قريب التناول.
وَتَنْحِتُونَ أي : تنقبون مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ حال من الواو ، أي : حاذقين ، أو : ناشطين ، أو : أقوياء ، وقيل : أشرين بطرين. قيل : كانوا فى زمن الشتاء يسكنون الجبال ، وفى زمن الربيع والصيف ينزلون بمواشيهم إلى الريف ومكان الخصب. فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ، وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ الكافرين المجاوزين الحد فى الكفر والطغيان ، أي : لا تنقادوا لأمرهم ، ولا تتبعوا رأيهم ، وهم الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ بالإسراف فى الكفر والمعاصي ، وَلا يُصْلِحُونَ بالإيمان والطاعة. والمعنى : أن فسادهم خالص ، لا يشوبه شىء من الصلاح ، كما تكون حال بعض المفسدين مخلوطة ببعض الصلاح.
قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ الذين سحروا ، حتى غلب على عقلهم السحر ، ما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ فى دعوى الرسالة ، قالَ هذِهِ ناقَةٌ ، قالها بعد ما أخرجها اللّه تعالى من الصخرة بدعائه عليه السّلام ، لَها شِرْبٌ نصيب من الماء ، فلا تزاحموها فيه ، وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ لا تزاحمكم فيه. روى أنهم قالوا : نريد ناقة عشراء ، تخرج من هذه الصخرة ، فتلد سقبا - والسقب : ولد الناقة - فقعد صالح يتفكر ، فقال له جبريل عليه السّلام : صلّ ركعتين ، وسل ربّك الناقة ، ففعل ، فخرجت الناقة ، ونتجت سقبا مثلها فى العظم ، وصدرها ستون ذراعا - أي : طولها - وإذا كان يوم شربها شربت ماءهم كله ، وإذا كان يوم شربهم لا تشرب فيه.
وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ بضرب ، أو عقر ، أو غير ذلك ، فَيَأْخُذَكُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ ، وصف اليوم بالعظم لعظم ما يحل فيه ، وهو أبلغ من تعظيم العذاب ، فَعَقَرُوها عقرها «قدّار» ، وأسند العقر إلى جميعهم لأنهم راضون به. روى أن عاقرها قال : لا أعقرها حتى ترضوا أجمعين. وكانوا يدخلون على المرأة فى خدرها ، فيقولون : أترضين بعقر الناقة؟ فتقول : نعم ، وكذلك صبيانهم ، فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ على عقرها خوفا من نزول العذاب بهم ، لا ندم توبة لأنهم طلبوا صالحا ليقتلوه لمّا أيقنوا بالعذاب ، وندموا حين لا ينفع الندم ، وذلك حين معاينة العذاب.
فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ أي : صيحة جبريل ، فتقطعت قلوبهم ، فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ : ميتين ، صغيرهم وكبيرهم ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ. روى أنه أسلم منهم ألفان وثلاثمائة رجل وامرأة. وقيل : كانوا أربعة آلاف ، وقال كعب : كان قوم صالح اثنى عشر ألفا ، من سوى النساء والذرية. ولقد كان قوم عاد مثلهم ست مرات. قاله القرطبي. قيل : فى نفى الإيمان عن أكثرهم إيماء إلى أنه لو آمن أكثرهم أو : (4/155)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 156
شطرهم لما أخذوا بالعذاب ، وأن قريشا إنما عصموا من تعجيل العذاب ببركة من آمن منهم. وعلى أن (كان) زائدة يكون الضمير لقريش ، كما تقدم. وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ.
الإشارة : قوله : أَتُتْرَكُونَ فِي ما هاهُنا آمِنِينَ أنكر عليهم ركونهم إلى الدنيا وزخارفها الغرارة ، واطمئنانهم إليها ، وهو غرور وحمق إذ الدنيا كسحابة الصيف ، تظل ساعة ثم ترتحل ، فالدنيا عرض حائل ، وظل آفل ، فالكيّس من أعرض عنها ، وتوجه بكليته إلى مولاه ، صبر قليلا وربح كثيرا ، والأحمق من وقع فى شبكتها ، حتى اختطفته منيته ، وفى الحديث :
«الدّنيا دار من لا دار له ، ومال من لا مال له ، لها يجمع من لا عقل له ، وعليها يعادى من لا علم عنده» «1».
ثم ذكر قصة لوط عليه السّلام فقال :
[سورة الشعراء (26) : الآيات 160 الى 175]
كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (160) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ (161) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (162) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (163) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (164)
أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ (165) وَتَذَرُونَ ما خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ (166) قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ (167) قالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ (168) رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ (169)
فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (170) إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ (171) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (172) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (173) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (174)
وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (175)
يقول الحق جل جلاله : كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ ... إلخ ، وهو ظاهر ، ثم قال : أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ ، أراد بالعالمين : الناس ، أي : أتطؤون الناس مع كثرة الإناث ، أو : أتطؤون أنتم من بين سائر العالمين الذكران ، وتختصون بهذه الفاحشة وَتَذَرُونَ ما خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ من الإناث. أو : ما خلق لكم لأجل
___________
(1) تقدم تخريجه عند إشارة الآية 7 من سورة الكهف.(4/156)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 157
استمتاعكم من الفروج ، مِنْ أَزْواجِكُمْ ، فمن للبيان ، إن أريد ب «ما» : جنس الإناث ، وهو الظاهر ، وللتبعيض ، إن أريد بها العضو المباح منهن ، تعريضا بأنهم يفعلون ذلك بنسائهم أيضا ، وفيه دليل تحريم أدبار الزوجات والمملوكات ، ومن أجاز ذلك قد أخطأ خطأ عظيما. بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ أي : متعدون ، والعادي : المتعدى فى ظلمه ، المتجاوز فيه الحد ، أي : أنتم قوم أحقاء بأن توصفوا بالعدوان حيث ارتكبتم مثل هذه العظيمة ، التي لم يرتكبها أحد قبلكم ، ولو من الحيوانات البهيمية.
قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا لُوطُ عن إنكارك علينا وتقبيح أمرنا لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ من بلدنا ، أي : من جملة من أخرجناه من بين أظهرنا ، وطردناه من بلدنا. ولعلهم كانوا يخرجون من أخرجوه على أسوأ حال.
قالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ من المبغضين غاية البغض ، كأنه يقلى الفؤاد والكبد من شدته. والقلى : أشدّ البغض ، وهو أبلغ من أن يقول : لعملكم قال ، فقولك : فلان من العلماء ، أبلغ من قولك : فلان عالم لأنك تشهد بأنه مساهم لهم فى العلم. وفى الآية دليل على قبح معصية اللواط ولذلك أفتى مالك بقتل فاعلها.
ثم قال : رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ من عقوبة عملهم ، فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ يعنى : بناته ، ومن آمن معه ، إِلَّا عَجُوزاً هى امرأته ، وكانت راضية بذلك ، والراضي بالمعصية فى حكم العاصي ، ولو لم يحضر. واستثناؤها من الأهل لأنها داخلة فيه - ولو لم تكن مؤمنة - لاشتراكها فى الأهلية بحق الزواج. بقيت فِي الْغابِرِينَ فى الباقين فى العذاب ، وهى صفة لها. والغابر فى اللغة : الباقي ، كأنه قيل : إلا عجوزا غابرة ، أي : مقدّرا غبورها إذ الغبور لم يكن صفتها وقت نجاتهم.
ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ أي : أهلكناهم أشد إهلاك وأفظعه ، وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً أي : مطرا غير معهود.
وعن قتادة : أمطر اللّه على شذّاذ القوم ، أي : الخارجين عن البلد - حجارة من السماء فأهلكهم ، وقلب المدينة بمن فيها. وقيل : لم يرض بالقلب فقط حتى أتبعهم مطرا من حجارة ، فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ أي : قبح مطر المنذرين مطرهم ، فالمخصوص محذوف. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ، بل لم يؤمن به إلا بناته وناس قليلون. أو : ما كان أكثر قريش بمؤمنين بهذا ، وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الغالب ، الرَّحِيمُ حيث لم يعاجل بالعقوبة لمن استحقها.
الإشارة : من شناعة هذه المعصية حذّر الصوفية من مخالطة الشبان ، وكذلك النساء. وما أولع فقير بمخالطتهما فأفلح أبدا ، إن سلم من الفاحشة اتّهم بها ، ولا يحل لا مرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يقف مواقف التهم. والنظر إلى محاسن النساء والشبان فتنة ، وهى كالعقارب ، الصغيرة تلدغ ، والكبيرة تلدغ ، فالسلامة البعد عن ساحتهن ، إلا على وجه أباحته الشريعة ، كالتعليم أو التذكير ، مع غضّ البصر ، أو حجاب بينه وبينهن ، وبالله التوفيق.(4/157)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 158
ثم ذكر قصة شعيب - عليه السّلام - فقال :
[سورة الشعراء (26) : الآيات 176 الى 191]
كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (176) إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ (177) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (178) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (179) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (180)
أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (181) وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ (182) وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (183) وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ (184) قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (185)
وَما أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (186) فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (187) قالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ (188) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (189) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (190)
وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (191)
يقول الحق جل جلاله : كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ وهى : الغيضة التي تنبت الشجر ، والمراد بها : غيضة بقرب مدين ، يسكنها طائفة منهم ، وكانوا ممن بعث إليهم شعيب عليه السّلام ، وكان أجنبيا منهم ، ولذلك قيل :
إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ ولم يقل : أخوهم ، بخلاف مدين فإنه منهم ، ولذلك قال : أَخاهُمْ شُعَيْباً «1» ، وقيل :
الأيكة : الشجر الملتف ، وكان شجرهم المقل ، وهو الدوم. قال قتادة : بعث اللّه شعيبا إلى أمتين أصحاب الأيكة وأصحاب مدين. فأهلك اللّه أصحاب الأيكة بالظلة ، وأما أهل مدين فصاح بهم جبريل صيحة فهلكوا. وقرئ :
«ليكة» «2» بحذف الهمزة ، وإلقاء حركتها على اللام ، وإنما كتبت هنا وفى «ص» «3» باللام اتباعا للفظ.
___________
(1) كما جاء فى الآية 85 من سورة الأعراف ، والآية 84 من سورة هود ، والآية 36 من سورة العنكبوت.
(2) قرأ نافع ، وابن كثير وابن عامر ، وأبو جعفر (ليكة) بلام مفتوحة ، بلا ألف وصل قبلها ، ولا همزة بعدها ، وفتح تاء التأنيث. وقرأ الباقون بهمزة وصل وسكون اللام وبعدها همزة مفتوحة. انظر الإتحاف (2/ 314).
(3) فى قوله تعالى : وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ .. الآية 13 من سورة «ص».(4/158)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 159
إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ اللّه ، فتوحدوه ولا تطففوا ، إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أي : التبليغ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ ، أَوْفُوا الْكَيْلَ أي : أتموه وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ أي : حقوق الناس بالتطفيف ، وَزِنُوا أشياءكم التي تبيعونها بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ السوي. والقسطاس - بضم القاف وكسرها : الميزان ، فإن كان من القسط - وهو العدل ، وجعلت العين مكررة - فوزنه : فعلاس ، وإلا فهو رباعى ، ووزنه : فعلال. وقيل : عجمى.
وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ أي : لا تنقصوا شيئا من حقوقهم ، أىّ حق كان ، يقال : بخسه حقه : إذا انتقصه. وقيل : نهاهم عن نقص الدراهم والدنانير بقطع أطرافها. فالكيل على ثلاثة أقسام : واف ، وزائد وناقص.
فأمر الحق تعالى بالوافي ، ونهى عن الناقص ، وسكت عن الزائد ، فتركه دليل على أنه إن فعله كان أحسن ، وإن تركه فلا عليه. وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ولا تبالغوا فيها بالإفساد ، وذلك نحو قطع الطريق ، والغارة ، وإهلاك الزروع. وكانوا يفعلون ذلك فنهوا عنه ، يقال : عثى كفرح ، وعثا يعثو ، كنصر.
وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ ، وَخلق الْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ أي : الخلق الماضين ، وهم من تقدمهم من الأمم ، قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ ، وَما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا ، أدخل الواو بين الجملتين هنا لدلالة على أن كلا من التسحير والبشرية مناف للرسالة مبالغة فى التكذيب ، فتكذيبهم أقبح من ثمود ، حيث تركه فدل على معنى واحد ، وهو كونه مسحورا ، وقرره بكونه بشرا. ثم قالوا : وَإِنْ نَظُنُّكَ «إن» : مخففة ، أي : وإنه ، أي : الأمر والشأن لنظنك لَمِنَ الْكاذِبِينَ فيما تدعيه من النبوة.
ثم استعجلوا العذاب بقولهم : فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ أي : قطعا ، جمع كسفة ، وقرئ بالسكون. أي جزأ منه ، والمراد بالسماء : إما السحاب ، أو : السماء المظلة ، إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ فى دعواك الرسالة ، ولم يكن طلبهم ذلك إلا لتصميمهم على الجحود والتكذيب ، وإلا لما أخطروه ببالهم فضلا عن أن يطلبوه.
قالَ شعيب عليه السّلام : رَبِّي أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ من الكفر والمعاصي ، وبما تستحقونه من العذاب ، فينزله عليكم فى وقته المقدر له لا محالة ، فَكَذَّبُوهُ أي : فتمادوا على تكذيبه ، وأصروا عليه فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ حسبما اقترحوه. وذلك بأن سلطعليهم الحر سبعة أيام بلياليها ، فأخذ بأنفاسهم ، فلم ينفعهم ظل ولا ماء ولا شرب ، فاضطروا إلى أن خرجوا إلى البرية ، فأظلتهم سحابة ، وجدوا بها بردا ونسيما ، فاجتمعوا تحتها ، فأمطرت عليهم نارا فاحترقوا جميعا «1». وقيل : رفع لهم جبل ، فاجتمعوا تحته ، فوقع عليهم ، وهو الظلة. وقيل : لما ساروا إلى
___________
(1) أخرجه الطبري فى تفسيره (19/ 110) عن ابن عباس رضي اللّه عنه. وانظر تفسير ابن كثير (3/ 346 - 347). [.....](4/159)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 160
السحابة صيح بهم فهلكوا. إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ أي : فى الشدة والهول ، وفظاعة ما وقع فيه من الطامة والداهية التامة.
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ قيل : آمن بشعيب من القسمين - مدين والأيكة - تسعمائة إنسان ، أو : وما أكثر قريش بمؤمنين بهذا ، وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ.
هذا آخر القصص السبع التي أوحيت إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لصرفه - عليه الصلاة والسلام - عن الحرص على إسلام قومه ودفع تحسر فواته ، تحقيقا لمضمون ما مر فى مطلع السورة الكريمة من قوله : لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ .. «1» ، إلخ ، وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ فَقَدْ كَذَّبُوا ... «2»
الآية ، فإن كل واحدة من هذه القصص ذكر متجدد النزول ، قد أتاهم من جهته تعالى ، بموجب رحمته الواسعة.
وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ بعد ما سمعوها على التفصيل ، قصّة بعد قصة ، ليتدبروا فيها ، ويعتبروا بما فى كل واحدة من الدواعي إلى الإيمان ، والزجر عن الكفر والطغيان ، وبأن يتأملوا فى شأن الآيات الكريمة ، الناطقة بتلك القصص ، على ما هى عليه ، مع علمهم بأنه - عليه الصلاة والسلام - لم يسمع شيئا من ذلك من أحد أصلا ، فلم يفعلوا شيئا من ذلك ، واستمروا على ما كانوا عليه من الكفر والضلال. وباللّه التوفيق.
الإشارة : كما أمر اللّه تعالى بوفاء المكيال ، أمر بالوفاء فى الأعمال ، ووفاؤها : إتقانها وإخلاصها ، وتخليصها من شوائب النقص ، فى الظاهر والباطن. وكما أمر بالعدل فى الميزان الحسى بقوله : وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ ، أمر بالعدل فى الميزان المعنوي ، وهو وزن الخواطر بالقسطاس الشرعي ، فكل خاطر يخطر بالقلب يريد أن يفعله أو يتكلم به ، لا يخرجه حتى يزنه بميزان الشرع ، فإن كان فيه نفع أخرجه كما كان ، أو غيّره ، وإن كان فيه ضرر بادر إلى محوه من قلبه ، قبل أن يصيرهما أو عزما. فيعسر رده. وبالله التوفيق.
ثم ذكر شواهد حقيّة القرآن ، فقال :
[سورة الشعراء (26) : الآيات 192 الى 203]
وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195) وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (196)
أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ (197) وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (198) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (199) كَذلِكَ سَلَكْناهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (200) لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (201)
فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (202) فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ (203)
___________
(1) الآية 3 من هذه السورة.
(2) الآيتان 5 - 6.(4/160)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 161
قلت : «آية» : خبر «كان» ، و«أن يعلمه» : اسمها ، ومن قرأ «آية» بالرفع فآية اسمها ، وإِنَّ ... إلخ : خبر. أو :
«كان» : تامة ، و«آية» : فاعل ، و«أن يعلمه» : بدل منه.
يقول الحق جل جلاله : وَإِنَّهُ أي : القرآن المشتمل على القصص المتقدمة ، وكأنه تعالى عاد إلى ما افتتح به السورة من إعراض المشركين عما يأتيهم من الذكر ، ليتناسب المفتتح والمختتم ، أي : وإن القرآن الكريم لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ أي : منزل من جهته. ووصفه تعالى بربوبية العالمين للإيذان بأن تنزيله من أحكام ربوبيته للعالمين ورأفته للكل.
نَزَلَ بِهِ أي : أنزله الرُّوحُ الْأَمِينُ أي : جبريل عليه السّلام ، لأنه أمين على الوحى الذي فيه روح القلوب ، ومن قرأ بالتشديد : فالفاعل هو اللّه ، والروح : مفعول به ، أي : جعل اللّه تعالى الروح الأمين نازلا به. والباء للتعدية ، نزل به عَلى قَلْبِكَ ، أي : حفظك وفهمك إياه ، وأثبته فى قلبك إثبات ما لا ينسى ، كقوله : سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى «1».
لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بما فيه من العقوبات الهائلة والمواعظ الزاجرة ، بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ بلغة قريش وجرهم ، فصيح بليغ ، والباء : إما متعلق بمنذرين ، أي : لتكون من الذين أنذروا بهذا اللسان وهم هود وصالح وشعيب وإسماعيل - عليهم السلام - أو : بنزل ، أي : نزله بلسان عربى لتنذر به ، لأنه لو نزل بلسان أعجمى لتجافوا عنه ، ولقالوا : ما نصنع بما لا نفهمه؟ فيتعذر الإنذار به. وهذا أحسن لعمومه أي : لتكون من جملة من أنذر قبلك ، كنوح وإبراهيم وموسى ، وغيرهم من الرسل ، عربيين أو عجمين ، وأشد الزواجر تأثيرا فى قلوب المشركين : ما أنذره إبراهيم لانتمائهم إليه ، وادعائهم أنهم على ملته.
وَإِنَّهُ أي : القرآن لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ يعنى : أنه مذكور فى سائر الكتب السماوية. وقيل : ثبت فيها معناه ، فإن أحكامه التي لا تحتمل النسخ والتبديل ، بحسب تبدل الأعصار ، من التوحيد وسائر ما يتعلق بالذات
___________
(1) من الآية 6 من سورة الأعلى.(4/161)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 162
والصفات مسطورة فيها ، وكذا ما فى تضاعيفه من المواعظ والقصص. قال النسفي : وفيه دليل على أن القرآن إذا ترجم عنه بغير العربية بقي قرآنا ، ففيه دليل على جواز قراءة القرآن بالفارسية فى الصلاة. ه. وهو حنفى المذهب ، وأما مذهب مالك : فلا.
أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أي : أغفلوا ولم يكن لهم آية دالة على أنه تنزيل رب العالمين حقا ، أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ ، كعبد اللّه بن سلام ، وغيره ، لوجود ذكره فى التوراة. قال تعالى : وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ «1». والمعنى : أو لم يكفهم دليلا على كون القرآن من عند اللّه علم أحبار بنى إسرائيل به ، ومعرفتهم له ، كما يعرفون أبناءهم لموافقته لما عندهم فى كثير من القصص والأخبار ، حتى إن سورة يوسف مذكورة فى التوراة بمعنى واحد ، وترتيب واحد ، وما اختلف مع القرآن فيها إلا فى كلمة واحدة :
«وجاءوا على قميصه بدم كذب» عندهم فى التوراة : وجاءوا على قميصه بدم جدى. وكذا سورة طه : جلّها فى التوراة. وقد تقدم الحديث : «أوتيت طه والطواسين والحواميم من ألواح موسى» «2». وقد فسر بعض علماء هذه الأمة القرآن العظيم كله بالكتب المتقدمة ، ينقل فى كل آية ما يوافقها من الكتب السماوية.
ثم قال تعالى : وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ أي : ولو نزلناه كما هو بنظمه الرائق على بعض من لا يفهم العربية ، ولا يقدر على التكلم بها ، فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ قراءة صحيحة ، خارقد للعادة ، ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ مع انضمام إعجاز القراءة إلى إعجاز المقروء لفرط عنادهم ، وشدة شكيمتهم ، قال النسفي : والمعنى : إنّا أنزلنا هذا القرآن على رجل عربىّ مبين ، ففهموه ، وعرفوا فصاحته وأنّه معجز ، وانضم إلى ذلك اتفاق علماء أهل الكتاب قبله على البشارة بإنزاله ، وصفته فى كتبهم ، وقد تضمّنت معانيه وقصصه ، وصح بذلك أنها من عند اللّه ، وليست بأساطير كما زعموا ، فلم يؤمنوا به ، وسمّوه شعرا تارة ، وسحرا أخرى. ولو نزلناه على بعض الأعاجم ، الذي لا يحسن العربية ، فضلا أن يقدر على نظم مثله ، فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ هكذا معجزا ، لكفروا به ، ولتمحّلوا لجحودهم عذرا ، ولسموه : سحرا. ه.
والأعجمين : جمع الأعجمى ، فإن أفعل ، إذا كان للتفضيل ، يجمع جمع سلامة إذا لم يكن معناه للتفضيل كأحمر. وأصل الأعجمين : الأعجميين ، فحذفت ياؤه ، وقيل : جمع أعجم ، فلا حذف.
كَذلِكَ سَلَكْناهُ أي : أدخلنا التكذيب والكفر ، وهو مدلول قوله : ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ ، فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ : الكافرين الذين علمنا منهم اختيار الكفر والإصرار عليه. يعنى : مثل هذا السّلك الغريب سلكناه فى
___________
(1) من الآية 53 من سورة القصص.
(2) راجع صدر تفسير هذه السورة.(4/162)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 163
قلوبهم وقررناه فيها ، فلا سبيل إلى أن يتغيروا عما هم عليه ، من التكذيب والإصرار عليه ، وهو حجتنا على المعتزلة فى خلق أفعال العباد خيرها وشرها.
وقوله : لا يُؤْمِنُونَ : توضيح وتقرير لما قبله. ويجوز أن يكون حالا ، أي : سلكناه فيها غير مؤمنين به ، أو :
مثل ذلك السلك البديع سلكناه ، أي : أدخلنا القرآن فى قلوب المجرمين ، ففهموا معانيه ، وعرفوا فصاحته وبلاغته ، وأنه خارج عن القوة البشرية ، من حيث النّظم المعجز والأخبار الغيبية. وقد انضم إليه اتفاق علماء أهل الكتاب على اتفاقه لما فى أيديهم من الكتب السماوية. ومع ذلك لا يُؤْمِنُونَ بِهِ ، ولا يتأثرون بأمثال تلك الأمور الداعية إلى الإيمان ، بل يستمرون على ما هم عليه ، حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ الملجئ إلى الإيمان ، حين لا ينفعهم الإيمان ، فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فجأة فى الدنيا والآخرة وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ بإتيانه ، فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ مؤخّرون ساعة. قالوه تحسّرا على ما فات من الإيمان ، وتمنيا للإمهال لتلافى ما فرضوه.
واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : إذا تطهر القلب من الأكدار والأغيار ، وملئ بالمعارف والأسرار ، كان مهبطا لوحى الإلهام ووحي الإعلام ، ومحلا لتنزل الملائكة الكرام ، إذ كل ما أعطى للرسول كان لوارثه الحقيق منه شرب ونصيب ليكون من الواعظين بلسان عربى مبين ، يفصح عن جواهر الحقائق ، ويواقيت العلوم ، وما ينطق به من العلوم يكون موافقا لما فى زبر الأولين ، وإن كان أميا لأن علوم الأذواق لا تختلف. أو لم يكن لهم آية على ولايته أن يعلمه علماء أهل فنه من المحققين.
وقال الورتجبي على هذه الآية : أخبر اللّه سبحانه أن قلب محمد صلى اللّه عليه وسلّم محل نزول كلامه الأزلى لأنه مصفى من جميع الحدثان ، بتجلى مشاهدة الرحمن ، فكان قلبه - عليه الصلاة والسلام - صدف لالئ خطاب الحق ، يسبح فى بحار الكرم ، فيتلقف كلام الحق من الحق بلا واسطة ، وذلك سر عجيب وعلم غريب لأنه يجمع كلام الحق وما اتصل به ، وكلامه لم ينفصل عنه ، وكيف تفارق الصفات الذات ، لكن أبقى فى قلبه ظاهره وعلمه وسره ، فجبريل - عليه السّلام - فى البين : واسطة لجهة الحرمة ، وذكر ذلك بقوله : نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ ... لأن القلب معدن الإلهام والوحى والكلام والرؤية والعرفان ، به يحفظ الكلام. وفائدة ذلك : الإعلام بسر وجود الإنسان ، وأنه ليس شىء يليق بالخطاب ونزول الأنباء إلا قلبه ، وكل قلب مسدود بعوارض البشرية لا يسمع خطاب الحق ، ولا يرى جمال الحق. قال أبو بكر بن طاهر : ما أنزله على جبريل جعله محلا للإنذار ، لا التحقيق ، والحقيقة هو ما تلقفه من الحق ، فلم يخبر عنه ، ولم يشرف عليه خلق من الجن والإنس والملائكة لأنه ما أطاق ذلك أحد سواه. وما أنزله جبريل جعله للخلق ، فقال : لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بما نزل به جبريل على قلبك المتحقق ، (4/163)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 164
فإنك متحقق بما كافحناك به ، وخاطبناك على مقام لو شاهدك فيه جبريل لاحترق. ه. على تصحيف فى النسخة.
وبالله التوفيق.
ثم هددهم بنزول العذاب ، فقال :
[سورة الشعراء (26) : الآيات 204 الى 209]
أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ (204) أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ (205) ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ (206) ما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتَّعُونَ (207) وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ لَها مُنْذِرُونَ (208)
ذِكْرى وَما كُنَّا ظالِمِينَ (209)
يقول الحق جل جلاله توبيخا لمن اقترح نزول العذاب ، كقولهم : فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ «1» : أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ مع كونهم لا يطيقونه إذا نزل بهم؟ وتقديم الجار للإيذان بأن مصب الإنكار والتوبيخ هو كون المستعجل به عذابه ، مع ما فيه من رعاية الفواصل.
أَفَرَأَيْتَ أي : أخبرنى. ولما كانت الرؤية من أقوى أسباب الإخبار بالشيء وأشهرها شاع استعمال «أرأيت» فى معنى أخبرنى. والخطاب لكل من يسمع ، أي : أخبرنى أيها السامع : إِنْ مَتَّعْناهُمْ إن متعنا هؤلاء الكفرة سِنِينَ متطاولة بطول الأعمار وطيب المعاش ، ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ من العذاب ، ما أَغْنى عَنْهُمْ أي : أىّ شىء ، أو أىّ إغناء أغنى عنهم ما كانُوا يُمَتَّعُونَ أي : كونهم متمتعين ذلك التمتع المديد ، أىّ شىء أغنى فى دفع العذاب ، و(ما) : مصدرية ، أو : ما كانوا يتمتعون به من متاع الحياة الدنيا ، على أنها موصولة ، حذف عائدها ، وأيا ما كان فالاستفهام للإنكار والنفي. وقيل : (ما) : نافية ، أي : لم يغن عنهم تمتعهم المتطاول فى دفع العذاب. والأول أرجح.
وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ من القرى المهلكة ، إِلَّا لَها مُنْذِرُونَ قد أنذروا أهلها لتقوم الحجة عليهم ، ذِكْرى أي : تذكرة ، وهو مصدر منذرون لأن أنذر وذكر متقاربان ، كأنه قيل : لها مذكرون تذكرة. أو مفعول له ، أي : ينذرونهم لأجل التذكرة والموعظة ، أو خبر ، أي : هذه ذكرى ، أو يكون ذكرى متعلقة بأهلكنا مفعولا له ، والمعنى : وما أهلكنا من أهل قرية ظالمين إلا بعد ما ألزمناهم الحجة ، بإرسال المنذرين إليهم ليكون إهلاكهم تذكرة وعبرة لغيرهم ، فلا يعصون مثل عصيانهم ، وَما كُنَّا ظالِمِينَ فنهلك قوما غير ظالمين ، أو قبل
___________
(1) من الآية 32 من سورة الأنفال.(4/164)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 165
إنذارهم. والتعبير عن ذلك بنفي الظالمية مع أن إهلاكهم قبل الإنذار ليس بظلم إذ لا يجب عليه تعالى شىء - كما تقرر من قاعدة أهل السنة - لبيان كمال نزاهته تعالى عن ذلك ، وتحقيقا لكمال عدله. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : يقول الحق جل جلاله ، فى جانب أهل البطالة والغفلة : أفرأيت إن متعناهم سنين بالأموال والنساء والبنين ، فاشتغلوا بجمع الأموال والدثور ، وبناء الغرف وتشييد القصور ، ثم جاءهم ما كانوا يوعدون من الموت ، والرحيل من الأوطان ، ومفارقة الأحباب والعشائر والإخوان ، أىّ شىء أغنى عنهم ما كانوا يتمتعون به ، من لذيذ المآكل والمشارب ، ومفاخر الملابس والمراكب ، هيهات هيهات ، قد انقطعت اللذات ، وفنيت الشهوات ، وما بقي إلا الحسرات ، فتأمل أيها العبد فيما مضى من عمرك ، فما بقي فى يدك منه إلا ما كان فى طاعة مولاك ، من ذكر ، أو تلاوة ، أو صلاة ، أو صيام ، أو علم نافع ، أو تعليم ، أو فكرة ، أو شهود ، وما سوى ذلك بطالة وخسران ، فالوقت الذي تصرفه فى طاعة مولاك ذخائره موجودة ، وكنوز مذخورة ، والوقت الذي تصرفه فى هوى نفسك ضائع ، تجد حسرته يوم القيامة ، ففى الحديث : «ليس يتحسر أهل الجنة إلا على ساعة مضت لهم ، لم يذكروا اللّه تعالى فيها» «1» قال يحيى بن معاذ : أشد الناس عذابا يوم القيامة من اغتر بحياته والتذّ بمراداته ، وسكن إلى مألوفاته ، واللّه تعالى يقول : أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ ... الآية. وعن ميمون بن مهران : أنه لقى الحسن فى الطواف ، وكان يتمنى لقاءه ، فقال له : عظنى ، فلم يزده على تلاوة هذه الآية ، فقال : لقد وعظت فأبلغت. وعن عمر ابن عبد العزيز رضي اللّه عنه : أنه كان يقرؤها عند جلوسه ليحكم بين الناس. ه. وبالله التوفيق.
ثم تمم قوله : وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ ، بقوله :
[سورة الشعراء (26) : الآيات 210 الى 213]
وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ (210) وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ (211) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (212) فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (213)
يقول الحق جل جلاله : وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ بالقرآن ، الشَّياطِينُ ، ردا لما يزعمه الكفرة من أنه من قبيل ما تلقيه الشياطين على الكهنة ، بعد تحقيق الحق فيه ، ببيان أنه نزل به الروح الأمين. وَما يَنْبَغِي لَهُمْ أي : وما يصح وما يستقيم لهم ذلك ، وَما يَسْتَطِيعُونَ إنزاله أصلا ، إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ أي : عن استراقة السمع من الملائكة لَمَعْزُولُونَ لممنوعون بالشهب ، أو : لانتفاء المشاركة بينهم وبين الملائكة فى قبول الاستعداد لفيضان أنوار الحق ، والانتعاش بأنوار العلوم الربانية والمعارفالقدسية لأن نفوس الشياطين خبيثة
___________
(1) أخرجه البيهقي فى الشعب (513) عن معاذ بن جبل ، وعزاه السيوطي فى الجامع الصغير (ح 7701) للطبرانى والبيهقي عن معاذ ، وحسّنه.(4/165)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 166
ظلمانية شريرة ، ليست مستعدة إلا لقبول ما لا خير فيه ، من فنون الشرور ، فمن أين لهم أن يحوموا حول القرآن الكريم ، المنطوى على الحقائق الرائقة الغيبية ، التي لا يمكن تلقيها إلا من الملائكة الكرام - عليهم السلام؟.
فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ كما هو شأن الأنفس الخبيثة الشيطانية ، فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ ، تهديد لغيره على سبيل التعريض ، وتحريك له على زيادة الإخلاص ، وتنبيه لسائر المكلفين على أن الإشراك بلغ من القبح والسوء ، بحيث ينهى عنه من لا يمكن صدوره منه ، فكيف بمن عداه. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : وحي الإلهام الذي يتنزل على القلوب الصافية من الأغيار ، كوحى الأحكام ، ما تتنزل به الشياطين ، وما ينبغى لهم وما يستطيعون لأنه ممنوعون من قلوب العارفين لما احتفت به من الأنوار ، وما صانها من الأسرار ، أعنى أنوار التوحيد وأسرار التفريد. وقال فى لطائف المنن : إذا كان الحق تعالى حرس السماء من الشياطين بالشهب ، فقلوب أوليائه أولى بأن يحرسها من الأغيار. ه. بالمعنى. فلا تدع مع اللّه إلها آخر ، وهو ما سوى اللّه ، فتكون من المعذبين بوساوس الشياطين والخواطر والشكوك لأن القلب إذا مال إلى غير اللّه سلط اللّه عليه الشيطان ، فيكون ذلك القلب جرابا للشيطان ، يحشو فيه ما يشاء. والعياذ بالله.
ثم أمر نبيه بالإنذار والتذكير ، فقال :
[سورة الشعراء (26) : الآيات 214 الى 220]
وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214) وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (216) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (217) الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ (218)
وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (220)
يقول الحق جل جلاله : وَأَنْذِرْ يا محمد عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ، إنما خصهم بالذكر لئلا يتكلوا على النسب ، فيدعوا ما يجب عليهم ، لأن من الواجبات ما لا يشفع فيها ، بقوله فى تارك الزكاة وقد استغاث به : «لا أملك لك من اللّه شيئا» ، وفى الغالّ كذلك. وقيل : إنما خصهم لنفى التهمة إذ الإنسان يساهل قرابته ، وليعلموا أنه لا يغنى عنهم من اللّه شيئا إذ النجاة فى اتباعه ، لا فى قربه منهم.
ولما نزلت صعد النبي صلى اللّه عليه وسلم الصّفا ، ونادى الأقرب فالأقرب ، وقال : «يا بنى عبد المطلب ، يا بنى هاشم ، يا بنى عبد مناف ، يا عباس - عم النبي صلى اللّه عليه وسلم - يا صفيّة - عمّة النبي صلى اللّه عليه وسلم لا أملك لكم من اللّه شيئا» «1». وقال ابن عباس
___________
(1) أخرجه بنحوه البخاري (تفسير سورة الشعراء ، باب : وأنذر عشريتك الأقربين ح 4771) ، ومسلم فى (الإيمان ، باب قوله تعالى :
وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ، 1/ 192 ، ح 348) من حديث أبى هريرة رضي اللّه عنه.(4/166)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 167
رضي اللّه عنه : صعد النبي صلى اللّه عليه وسلم الصّفا ، ونادى : «يا صباحاه» : فاجتمع الناس ، فقال صلى اللّه عليه وسلم : «يا بنى عبد المطلب ، يا بنى فهر ، إن أخبرتكم أن خيلا بسفح هذا الجبل ، تريد أن تغير عليكم ، صدقتمونى؟ قالوا : نعم. قال : فإنى نذير لكم بين يدى عذاب شديد. فقال أبو لهب : تبّا لك سائر اليوم ، ما جمعتنا إلا لهذا»؟ فنزلت : تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ «1».
ثم قال : وَاخْفِضْ جَناحَكَ أي : وألن جانبك وتواضع ، وأصله : أن الطائر إذا أراد أن ينحط للوقوع كسر جناحه وخفضه ، وإذا أراد أن ينهض للطيران رفع جناحه ، فجعل خفض الجناح مثلا فى التواضع ولين الجانب.
ويكون ذلك التواضع لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ من قرابتك وغيرهم. فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ أي : أنذر قومك فإن اتبعوك وأطاعوك فاخفض لهم جناحك ، وإن عصوك ولم يتبعوك فتبرأ منهم ، ومن أعمالهم من الشرك وغيره.
وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ أي : على الذي يقهر أعداءك بعزته ، وينصرك عليهم برحمته ، فإنه يكفيك شر من يعاديك. الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ
للتهجد ، وَيرى تَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ فى المصلين.
أتبع كونه رحيما برسوله ما هو من أسباب الرحمة ، وهو ذكر ما كان يفعله فى جوف الليل ، من قيامه للتهجد ، وتقلبه فى تصفح أحوال المتهجّدين ، ليطلع عليهم من حيث لا يشعرون. وقيل : معناه : ويراك حين تقوم للصلاة بالناس جماعة ، وتقلبك فى الساجدين : تصرفه فيما بينهم ، بقيامه وركوعه وسجوده وقعوده إذا أمهم. وعن مقاتل :
أنه سأل أبا حنيفة : هل تجد الصلاة بالجماعة فى القرآن؟ فقال : لا يحضرنى ، فتلا له هذه الآية. وقيل : تقلبه فى أصلاب الرجال. وروى عنه صلى اللّه عليه وسلم فى الآية أنه قال : «من نبى إلى نبى حتى أخرجتك نبيا» «2».
إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ لما تقول ، الْعَلِيمُ بما تنويه وتعمله. هوّن عليه مشاقّ العبادة ، حيث أخبره برؤيته له ، إذ لا مشقّة على من يعلم أنه يعمل بمرأى من مولاه ، وهو كقوله فى الحديث القدسي : «بعيني ما يتحمل المتحملون من أجلى». واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : ينبغى لمن أهّل للوعظ والتذكير أن يبدأ بالأقرب فالأقرب ، ولو علم أنه لا ينتفع به إلا النزر القليل.
فمن تبعه على مذهبه فليلن له جانبه وليتواضع له ، ومن أعرض عنه واشتغل بهواه فليتبرأ من فعله ، ولا ينساه من نصحه ، ولذلك قال تعالى : فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ ، ولم يقل : «منكم» ، وهذا مذهب الجمهور ،
___________
(1) أخرجه البخاري فى الموضع السابق ذكره (ح 4770) و(تفسير سورة «تبت يدا أبى لهب وتب») ، ومسلم فى الموضع السابق ذكره (1/ 193 - 194 ح 355).
(2) انظر تفسير الطبري (190/ 123 - 124) وتفسير البغوي (6/ 134).(4/167)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 168
وأن الأخ إذا زلّ إنما يبغض عمله فقط. وعن بعض الصحابة - وقد قيل له فى أخيه ، فقال : إنما أبغض عمله ، وإلا فهو أخى ، وذكر مثل ذلك عن أبى الدرداء. وأن الأخ فى اللّه لا يبغض لزلته ، ولا يترك لشىء من الأشياء ، وإنما يبغض عمله ، ووافقه على ذلك سلمان ، وتابعهما عمر ، وخالف فى ذلك أبو ذر ، فقال : إذا وقعت المخالفة ، وانقلب عما كان عليه ، فأبغضه من حيث أحببته.
قال صاحب القوت : وأبو ذر صاحب شدائد وعزائم ، وهذا من عزائمه وشدائده. ه. وهذا فى المؤمن بدليل قول أبى الدرداء : الأخ فى اللّه لا يبغض لزلة. وأما الكافر فصريح آياته : إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ «1» ، ونحوها. وحديث ابن عمر وتبرئه من نفاة القدر - كما فى مسلم - موجب للبراءة ، وليس لكون حكم الأصول أشد من الفروع. وذكر فى الإحياء تأكيد الإعراض عمن يتعدى أذاه لغيره بظلم ، أو غصب ، أو غيبة ، أو نميمة ، أو شهادة زور لأن المعصية شديدة فيما يرجع لأذى الخلق. ه من الحاشية.
قوله تعالى : وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ ، قيل : التوكل : تفويض الرجل أمره إلى من يملك أمره ، ويقدر على نفعه وضره ، وهو اللّه وحده ، والمتوكل من إذا دهمه أمر لم يحاول دفعه عن نفسه بما هو معصية. وقال الجنيد رضي اللّه عنه : التوكل أن تقبل بالكلية على ربك ، وتعرض بالكلية عمن دونه فإنّ حاجتك إنما هى إليه فى الدارين. ه.
قال القشيري : وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ من أصحابك ، ويقال : تقلبك فى أصلاب آبائك من المسلمين ، الذين عرفوا اللّه ، فسجدوا له ، دون من لم يعرفه. ه. وفى القوت : قيل : وتقلبك فى أصلاب الأنبياء - عليهم السلام ، يقلبك فى صلب نبى بعد نبى ، حتى أخرجك من ذرية إسماعيل ، وروينا معنى ذلك عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، والحاصل : أنه من ذرية الأنبياء والمؤمنين الساجدين فى الجملة ، ولا يقتضى كل فرد من الأفراد. ه.
ثم كمل قوله : وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ ، فقال :
[سورة الشعراء (26) : الآيات 221 الى 227]
هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ (223) وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ (225)
وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ (226) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (227)
___________
(1) من الآية 4 من سورة الممتحنة.(4/168)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 169
قلت : «أىّ منقلب» : مفعول مطلق لينقلبون ، والأصل : ينقلبون أىّ انقلاب ، وليست «أيا» : مفعول «يعلم» لأن الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله. وجملة : «ينقلبون» : معلّق عنها العامل ، فهى فى محل نصب على قاعدة التعليق ، فإنه فى اللفظ دون المحل.
يقول الحق جل جلاله : هَلْ أُنَبِّئُكُمْ أي : أخبركم أيها المشركون عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ ، ودخل حرف الجار على «من» الاستفهامية لأنها ليست للاستفهام بالأصالة. ثم أخبرهم ، فقال : تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ : كثير الإفك ، وهو الكذب ، أَثِيمٍ كثير الإثم ، وهم الكهنة والمتنبئة ، كشق وسطيح ومسيلمة.
وحيث كانت حالة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم منزهة أن يحوم حولها شىء من ذلك ، اتضح استحالة تنزلهم عليه صلى اللّه عليه وسلم.
يُلْقُونَ السَّمْعَ وهم الشياطين ، كانوا ، قبل أن يحجبوا بالرجم ، يلقون أسماعهم إلى الملأ الأعلى ، فيختطفون بعض ما يتكلمون به ، مما اطلعوا عليه من الغيوب ، ثم يوحون به إلى أوليائهم. وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ فيما يوحون به إليهم لأنهم يسمعونهم ما لم يسمعوا. وفى الحديث : «إنهم يخلطون مع ما سمعوا مائة كذبة» «1» ، فلذلك يخطئون ويصيبون ، وقيل : يلقون إلى أوليائهم السمع ، أي : المسموع من الملائكة. وقيل : الأفاكون يلقون السمع إلى الشياطين ، ثم يبلغون ما يسمعون منهم إلى الناس ، وَأَكْثَرُهُمْ أي : الأفّاكون كاذِبُونَ :
مفترون على الشياطين ما لم يوحوا إليهم. والأفّاك : الذي يكثر الإفك ، ولا يدلّ على أنهم لا ينطقون إلا بالإفك ، فأراد أن هؤلاء الأفاكين قلّ من يصدق منهم فيما يحكيه عن الجنّة.
ولما ذكر الكهنة ذكر الشعراء وحالهم لينبه على بعد كلامهم من كلام القرآن ، فينتفى كونه كهانة وشعرا ، كما قيل فيه ، فقال : وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ : مبتدأ وخبر ، أي : لا يتبعهم على باطلهم إلا الغاوون ، فإنهم يصغون إلى باطلهم وكذبهم ، وتمزيق الأعراض والقدح فى الأنساب ، ومدح من لا يستحق المدح ، وهجاء من لا يستحق الهجو ، ولا يستحسن ذلك منهم إلا الْغاوُونَ ، أي : السفهاء ، أو الضالون عن طريق الرشد ، الحائرون فيما يفعلون ويذرون ، لا يستمرون على وتيرة واحدة فيما يقولون ويفعلون ، بخلاف غيرهم من أهل الرشد ، المهتدون إلى طريق الحق ، الثابتين عليه.
___________
(1) أخرجه البخاري فى (الطب ، باب الكهانة ، ح 5762) وفى (التوحيد ، باب قراءة الفاجر والمنافق ، ح 7561) ، ومسلم فى (السلام ، باب تحريم الكهانة ، 4/ 1750 ، ح 2228) ، عن السيدة عائشة ، ولفظه : «... تلك الكلمة من الحق يخطفها الجنىّ ، فيقرها فى أذن وليّه ، فيخلطون معها مائة كذبة».(4/169)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 170
أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ أي : الشعراء فِي كُلِّ وادٍ من الكلام يَهِيمُونَ ، أو : فى كل فن من الإفك يتحدثون ، أو : فى كل لغو وباطل يخوضون. والهائم : الذاهب على وجهه لا مقصد له ، وهو تمثيل لذهابهم فى كل شعب من القول ، وهو استشهاد على أن الشعراء إنما يتبعهم الغاوون وتقرير له ، والخطاب لكل من تتأتى منه الرؤية ، للقصد إلى أن حالهم من الجلاء والظهور بحيث لا تختص به رؤية راء دون الآخر ، أي : ألم تر أن الشعراء فى كل واد من أودية القيل والقال ، وفى كل شعب من الوهم والخيال وفى كل مسلك من مسالك الغى والضلال ، يهيمون.
وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ من الأفاعيل ، غير مبالين بما يستتبعه من اللوم ، فكيف يتوهم أن ينتظم فى سلكهم من تنزهت ساحته عن أن تحوم حوله شائبة الاتصاف بشىء من الأمور المذكورة ، واتصف بمحاسن الصفات الجليلة ، والأخلاق الحميدة ، مستقرا على المنهاج القويم ، مستمرا على الصراط المستقيم ، ناطقا بكل أمر رشيد ، داعيا إلى صراط العزيز الحميد ، مؤيدا بمعجزة قاهرة ، وآيات ظاهرة ، مشحونة بفنون من الحكم الباهرة ، وصنوف المعارف الزاخرة ، مستقل بنظم رائق ، أعجز كل منطيق ماهر ، وبكت كل مفلق ساحر.
هذا وقد قيل فى تنزيهه صلى اللّه عليه وسلم عن أن يكون من الشعراء : أن أتباع الشعراء الغاوون ، وأتباع محمد صلى اللّه عليه وسلم ليسوا كذلك ، ولا ريب فى أن تعليل عدم كونه صلى اللّه عليه وسلم منهم بكون أتباعه صلى اللّه عليه وسلم غير غاوين مما لا يليق بشأنه العلى. ه.
قاله أبو السعود.
ثم استثنى الشعراء المؤمنين ، فقال : إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كعبد اللّه بن رواحة ، وحسّان ، وكعب بن زهير ، وكعب بن مالك. وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً أي : كان ذكر اللّه وتلاوة القرآن أغلب عليهم من الشعر ، وإذا قالوا الشعر قالوا فى توحيد اللّه والثناء عليه ، والحكمة والموعظة ، والزهد والأدب ، ومدح الرسول صلى اللّه عليه وسلم والأولياء.
وأحق الخلق بالهجاء من كذّب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهجاه. وعن كعب بن مالك : أن رسول صلى اللّه عليه وسلم قال : «اهجهم ، فو الذي نفسى بيده لهو أشدّ عليهم من رشق النّبل» «1» ، وكان يقول لحسّان : «قل ، وروح القدس معك» «2».
___________
(1) أخرجه الإمام أحمد فىالمسند (3/ 456 ، 460) ، والبيهقي فى السنن (10/ 239) ، وعبد الرزاق فى المصنف (كتاب الجامع ، باب الشعر والرجز 11/ 263) ، وصححه ابن حبّان (موارد الظمآن/ 494) ولفظه : أنه قال للنبى صلى اللّه عليه وسلم : إن اللّه قد أنزل فى الشعر ما أنزل ، فقال صلى اللّه عليه وسلم : «إن المؤمن يجاهد بسيفه ولسانه ، والذي نفسى بيده لكأن ما ترمونهم به نضح النبل» ، وأخرج مسلم فى (فضائل الصحابة ، باب فضل حسان بن ثابت ، 4/ 1935 ، ح 2490) ، من حديث السيدة عائشة : «اهجوا قريشا فإنه أشد عليهم من رشق النبال».
(2) أخرجه البخاري فى (المغازي ، مرجع النبي محمد من الأحزاب ، ح 123 4 ، 4124). ومسلم فى (فضائل الصحابة ، باب فضائل حسان ابن ثابت رضي اللّه عنه ، 4/ 1933 ، ح 2486). من حديث البراء بن عازب. ولفظه : «اهجهم ، أو هاجهم ، وجبريل معك». [.....](4/170)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 171
وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا أي : ردوا على المشركين ، الذين هجوا النبي صلى اللّه عليه وسلم والمؤمنين. وروى أنه لما نزلت الآية : جاء حسان ، وكعب بن مالك ، وعبد اللّه بن رواحة ، يبكون ، فقالوا : يا رسول اللّه : أنزل اللّه تعالى هذه الآية ، وهو يعلم أنا شعراء؟ فقال : «اقرءوا ما بعدها : إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا .. هم أنتم وانتصروا ، هم أنتم»».
ومرّ عمر رضي اللّه عنه وحسان رضي اللّه عنه ينشد الشعر فى المسجد ، فلحظ إليه ، فقال : كنت أنشد فيه ، وفيه من هو خير منك ، ثم التفت إلى أبى هريرة ، فقال : أنشدك بالله ، أسمعت النبي صلى اللّه عليه وسلم يقول : «أجب عنى ، اللهم أيّده بروح القدس» قال :
اللهم نعم «1».
وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ أىّ مرجع يرجعون إليه ، وهو تهديد شديد ، ووعيد أكيد لما فى سَيَعْلَمُ من تهويل متعلّقه ، وفى الَّذِينَ ظَلَمُوا من الإطلاق والتعميم. وفى أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ من الإيهام والتهويل. وتلاها أبو بكر لعمر رضي اللّه عنه حين عهد إليه ، وكان السلف يتواعظون بها. والمعنى : سيعلم أهل الظلم ما تكون عاقبتهم ، حين يقدمون علىّ ، وأىّ منقلب ينقلبون ، حين يفدون إلىّ. اللهم ثبت أقدامنا على المنهاج القويم ، حتى نلقاك يا أرحم الراحمين.
الإشارة : هل أنبئكم على قلب من تنزّلت الشياطين ، وسكنت فيه ، تنزل على قلب كل أفاك أثيم ، خارب من النور ، محشو بالوسواس والخواطر ، يلقون السمع إلى هرج الدنيا وأخبارها ، وهو سبب فتنتها فإن القلب إذا غاب عن أخبار الدنيا وأهلها ، سكن فيه النور وتأنّس بالله ، وإذا سكن إلى أخبار الدنيا وأهلها سكنت فيه الظلمة ، وتأنس بالخلق ، وغاب عن الحق. ولذلك قيل : ينبغى للمؤمن أن يكون كالفكرون إذا كان وحده انبسط ، وإذا رأى أحدا أدخل رأسه معه. وأكثر ما يسمع من هرج الدنيا كذب ، وإليه الإشارة بقوله : وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ ، ومن جملة ما يفسد القلب : تولهه بالشعر ، وفى الحديث : «لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحا خير له من أن يمتلئ شعرا» «2». أو كما قال صلى اللّه عليه وسلم ، إلا من كان شعره فى توحيد اللّه ، أو فى الطريق ، كالزهد فى الدنيا ، والترهيب من الركون إليها ، والزجر عن الاغترار بزخارفها الغرارة ، والافتنان بملاذها الفانية ، وغير ذلك ، أو فى مدح النبي صلى اللّه عليه وسلم ، والمشايخ الموصلين إليه تعالى ، بشرط أن يكون الغالب عليه ذكر اللّه.
___________
(1) أخرجه البخاري فى (الصلاة ، باب الشعر فى المسجد ح 453) ومسلم فى (فضائل الصحابة ، باب فضائل حسان 4/ 1932 - 1933 ح 2485) من حديث أبى هريرة رضي اللّه عنه.
(2) أخرجه البخاري فى (الأدب ، باب ما يكره أن يكون الغالب على الإنسان الشعر حتى يصدّه عن ذكر اللّه ، والعلم ، والقرآن ح 6155) ، ومسلم فى (كتاب الشعر ، 4/ 1769 ، ح 2257) ، من حديث أبى هريرة.(4/171)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 172
وقوله تعالى : وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا ، أي : جاروا على نفوسهم بعد ما جارت عليهم ، وقهروها بعد ما قهرتهم. وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ قال ابن عطاء : سيعلم المعرض عنا ما فاته منا. ه.
وفى الحكم : «ماذا فقد من وجدك ، وما الذي وجد من فقدك؟ لقد خاب من رضى دونك بدلا ، ولقد خسر من بغى عنك متحوّلا ، كيف يرجى سواك وأنت ما قطعت الإحسان ، أم كيف يطلب من غيرك وأنت ما بدلت عادة الامتنان؟» «1» وباللّه التوفيق ، وهو الهادي إلى سواء الطريق ، وصلى اللّه على سيدنا محمد وآله.
___________
(1) انظر الحكم بتبويب المتقى الهندي (المناجاة/ 42).(4/172)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 173
سورة النّمل
مكية. وهى ثلاث وتسعون آية. وقيل : أقل. ومناسبتها لما قبلها : قوله : وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ «1» إلى ما قرره من نفى تنزل الشياطين به ، مع ما افتتح به السورة ، من الإشارة إليه بقوله : تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ. ثم افتتح السورة برموز بينه وبين حبيبه ، على عادته ، فقال :
[سورة النمل (27) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
طس تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ (1) هُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (3) إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (4)
أُوْلئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (5)
يقول الحق جل جلاله : طس أي : يا طاهر يا سيد. قال ابن عباس : «هو اسم من أسماء اللّه تعالى» «2» ، أقسم به أن هذه السورة آياتها القرآن وكتاب مبين. قلت : ولعلها مختصرة من اسمه «اللطيف والسميع». وقيل : إشارة إلى طهارة سر حبيبه. تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ ، الإشارة إلى نفس السورة ، وما فى معنى الإشارة من معنى البعد ، مع قرب العهد بالمشار إليه ، للإيذان ببعد منزلته فى الفضل والشرف ، أي : تلك السورة الكريمة التي نتلوها عليك هى آيات القرآن ، المعروف بعلو الشأن. وَآيات كِتابٍ عظيم الشأن مُبِينٍ مظهر بما فى تضاعيفه من الحكم ، والأحكام ، وأحوال الآخرة ، أو : مبين : مفرق بين الرشد والغى ، والحلال والحرام ، أو : ظاهر الإعجاز ، على أنه من :
أبان ، بمعنى بان ، وعطفه على القرآن كعطف إحدى الصفتين على الأخرى ، نحو : هذا فعل السخي والجواد.
ونكّر الكتاب ليكون أفخم له. وقيل : إنما نكّر الكتاب وعرّفه فى الحجر «3» ، وعرّف القرآن ونكره فى الحجر لأن القرآن والكتاب اسمان علمان على المنزّل على محمد صلى اللّه عليه وسلم ، ووصفان له لأنه يقرأ ويكتب ، فحيث جاء بلفظ التعريف فهو العلم ، وحيث جاء بلفظ التنكير فهو الوصف. قاله النسفي.
___________
(1) الآية 192 من سورة الشعراء.
(2) ذكره البغوي فى تفسيره (6/ 143).
(3) فى قوله تعالى : الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ الآية الأولى.(4/173)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 174
وما قيل من أن الكتاب هو اللوح المحفوظ ، وإبانته أنه خطّ فيه ما هو كائن ، لا يساعده إضافة الآيات إليه.
والوصف بالهداية والبشارة فى قوله : هُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ أي : حال كون تلك الآيات هادية ومبشرة للمؤمنين ، فهما منصوبان على الحال ، من الآيات ، على أنهما مصدران بمعنى الفاعل للمبالغة ، كأنهما نفس الهداية والبشارة ، والعامل فيها ما فى «تلك» من معنى الإشارة ، أو : خبر ، أي : هى هدى وبشرى للمؤمنين خاصة إذ لا هداية لغيرهم بها.
الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ يديمون على إقامة فرائضها وسننها ، ويحافظون على خشوعها وإتقانها ، وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ أي : يؤدون زكاة أموالهم ، وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ حق الإيقان. إما من جملة الموصول ، وإما استئناف ، كأنه قيل : هؤلاء الذين يؤمنون ويعملون الصالحات هم الموقنون بالآخرة حق الإيقان ، لا من عداهم لأن من تحمل مشاق العبادات ، إنما يكون لخوف العقاب ، ورجاء الثواب ، أولا ، ثم عبودية آخرا ، لمن كمل إخلاصه.
ثم ذكر ضدهم ، فقال : إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أي : لا يصدّقون بها ، وبما فيها من الثواب والعقاب ، زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ الخبيثة ، حيث جعلناها مشتهية للطبع ، محبوبة للنفس ، حتى رأوها حسنة ، كقوله : أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً «1» ، فَهُمْ يَعْمَهُونَ يترددون فى ضلالتهم. كما يكون حال الضال عن الطريق.
أُوْلئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ فى الدنيا بالقتل والأسر يوم بدر ، وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ أشدّ الناس خسرانا لأنهم لو آمنوا لكانوا من أكرم الناس ، شهداء على جميع الأمم يوم القيامة ، فخسروا ذلك مع خسران ثواب اللّه والنظر إليه. عائذا باللّه من جميع ذلك.
الإشارة : طس : طهر سرك أيها الإنسان ، لتكون من أهل العيان ، طهر سرك من الأغيار لتشاهد سر الأسرار ، وحينئذ تذوق أسرار القرآن والكتاب المبين ، وتصير هداية وبشارة للمؤمنين. فإنّ من قرأ القرآن وعمل به فقد أدرج النبوة بين كتفيه ، كما فى الخبر «2». ثم ذكر من امتلأ قلبه بالأكدار فقال : إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ .. إلخ ، قال القشيري : أغشيناهم فهم لا يبصرون ، وعمّينا عليهم المسالك ، فهم عن الطريقة المثلى يصدون. أولئك الذين فى ضلالتهم يعمهون ، وفى حيرتهم يترددون. أُوْلئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ هو أن يجد الألم ولا يجد شهود المبتلى «3» ، ولو وجدوه تحمل عنهم ثقله ، بخلاف المؤمنين. ه.
___________
(1) من الآية 8 من سورة فاطر.
(2) جاء ذلك فيما أخرجه الحاكم ، وصححه ، ووافقه الذهبي (1/ 552) عن عبد اللّه بن عمرو - رضى اللّه عنهما - أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال : «من قرأ القرآن فقد استدرج النبوة بين جنبيه ، غير أنه لا يوحى إليه ..» الحديث.
(3) فى القشيري : يجد الآلام ولا يجد التسلّى.(4/174)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 175
ثم ذكر الحق تعالى كيفية نزول القرآن ، الذي تقدم ذكره ، فقال :
[سورة النمل (27) : آية 6]
وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (6)
قلت : (تلقّى) : مبنى للمفعول. والفاعل هو اللّه لدلالة ما تقدم عليه ، من قوله : وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ.
و(لقى) : يتعدى إلى واحد ، وبالتضعيف إلى اثنين. وكأنه كان غائبا فلقيه ، فالمفعول الأول صار نائبا. و«القرآن» :
مفعول ثان ، أي : وإنك ليلقيك اللّه القرآن.
يقول الحق جل جلاله : وَإِنَّكَ يا محمد لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ أي : لتؤتاه بطريق التلقية والتلقين مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ أي : من عند أىّ حكيم وأىّ عليم ، فالتنكير للتفخيم. وفى تفخيمه تفخيم لشأن القرآن.
وتنصيص على علو طبقته - عليه الصلاة والسلام - فى معرفته ، والإحاطة بما فيه من العلوم والحكم والأسرار ، فإن من تلقى العلوم والحكم من الحكيم العليم يكون علما فى إتقان العلوم والحكم. والجمع بينهما مع دخول العلم فى الحكمة لعموم العلم ، ودلالة الحكمة على إتقان الفعل ، والإشعار بأن ما فى القرآن من العلوم ، منها ما هو حكمة ، كالعقائد والشرائع ، ومنها ما ليس كذلك ، كالقصص والأخبار الغيبية. قاله أبو السعود.
قال ابن عطية : فى الآية رد على كفار قريش فى قولهم : القرآن من تلقاء محمد. وقال القرطبي : الآية تمهيد لما يريد أن يسوق من الأقاصيص ، وما فى ذلك من لطائف حكمته ودقائق علمه ، ومن آثار ذلك : قصة موسى إذ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ ... إلخ. ه.
الإشارة : قال أبو بكر بن طاهر : وإنك لتلقّى القرآن من الحق حقيقية ، وإن كنت تأخذه فى الظاهر عن واسطة جبريل عليه السّلام. قال تعالى : الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ «1» ه. قلت : العارفون باللّه لا يسمعون القرآن إلا من لدن حكيم عليم ، بلا واسطة ، الواسطة محذوفة فى نظرهم ، فهم يسمعون من اللّه إلى اللّه ، ويقرأون باللّه على اللّه ، كما قال القائل : أنا باللّه أنطق ، ومن اللّه أسمع. ومما يحقق لك حذف الواسطة : قوله تعالى : فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ
«2» وسمعت شيخى البوزيدى رضي اللّه عنه ، يقول : لا يكون الإنسان من الراسخين فى العلم حتى يقرأ كله وهو مجموع فيه ، أي : يقرأ باللّه ويسمعه من اللّه. واللّه تعالى أعلم.
___________
(1) الآيتان : 1 - 2 من سورة الرحمن.
(2) الآية 28 من سورة القيامة.(4/175)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 176
ثم شرع فى قصص الأنبياء ، تسلية لرسوله صلى اللّه عليه وسلم ، فقال :
[سورة النمل (27) : الآيات 7 الى 11]
إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ ناراً سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (7) فَلَمَّا جاءَها نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها وَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (8) يا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9) وَأَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (10) إِلاَّ مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (11)
يقول الحق جل جلاله : واذكر إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ زوجته ومن معه ، عند مسيره من مدين إلى مصر : إِنِّي آنَسْتُ أي : أبصرت ناراً ، سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ عن حال الطريق التي ضل عنها. والسين للدلالة على نوع بعد فى المسافة ، وتأكيد الوعد. أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ «1» قَبَسٍ أي : شعلة نار مقبوسة ، أي :
مأخوذة. ومن نوّن فبدل ، أو صفة ، وعلى القراءتين فالمراد : تعيين المقصود الذي هو القبس ، الجامع لمنفعتى الضياء والاصطلاء لأن من النار ما ليس بقبس ، كالجمرة. وكلتا العدتين منه عليه السّلام بطريق الظن ، كما يفصح عن ذلك ما فى سورة طه ، من صيغتى الترجي والترديد «2» لأن الراجي إذا قوى رجاؤه يقول : سأفعل كذا ، وسيكون كذا ، مع تجويزه التخلف. وأتى بأو لأنه بنى الرجاء على أنه إن لم يظفر بحاجتيه معا لم يعدم واحدة منهما ، إما هداية الطريق ، وإما اقتباس النار ، ولم يدر أنه ظافر بحاجته الكبرى ، وهى عزّ الدنيا والآخرة.
واختلاف الألفاظ فى هاتين السورتين ، والقصة واحدة ، دليل على نقل الحديث بالمعنى ، وجواز النكاح بغير لفظ النكاح والتزويج. قاله النسفي.
لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ تستدفئون بالنار من البرد إذا أصابكم.
فَلَمَّا جاءَها أي : النار التي أبصرها نُودِيَ من جانب الطور أَنْ بُورِكَ ، على أنّ «أن» مفسرة لما فى النداء من معنى القول. أو : بأن بورك ، على أنها مصدرية ، وقيل : مخففة ، ولا ضرر فى فقدان الفصل ب «لا» ،
___________
(1) قرأ عاصم ، وحمزة ، والكسائي ، ويعقوب ، وخلف (بشهاب) بالتدوين ، على القطع عن الإضافة ، و«قبس» بدل منه ، أو : صفة له ، بمعنى مقتبس ، أو مقبوس. وقرأ الباقون بغير تنوين ، لبيان النوع. أي من قبس ، كخاتم فضة. انظر الإتحاف (2/ 323).
(2) فى قوله تعالى : .. لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً الآية 10 من سورة طه.(4/176)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 177
أو قد ، أو السين ، أو سوف لأن الدعاء يخالف غيره فى كثير من الأحكام ، أي : أنه ، أي : الأمر والشأن بُورِكَ أي : قدّس ، أو : جعل فيه البركة والخير ، مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها أي : من فى مكان النار ، وهم الملائكة ، وَمَنْ حَوْلَها أي : موسى عليه السّلام ، بإنزال الوحى عليه ، الذي فيه خير الدنيا والآخرة.
وقال ابن عباس والحسن : (بورك من فى النار أي : قدّس من فى النار ، وهو اللّه تعالى) «1» أي : نوره وسره ، الذي قامت به الأشياء ، من باب قيام المعاني بالأوانى ، أو : من قيام أسرار الذات بالأشياء ، بمعنى أنه نادى موسى منها وسمع كلامه من جهتها ، ثم نزّه - سبحانه - ذاته المقدسة عن الحلول والاتحاد ، فقال : وَسُبْحانَ اللَّهِ أي :
تنزيها له عن الحلول فى شىء ، وهو رَبِّ الْعالَمِينَ.
ثم فسر نداءه ، فقال : يا مُوسى إِنَّهُ أي : الأمر والشأن أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ أو : إنه ، أي : مكلمك ، اللّه العزيز الحكيم ، وهو تمهيد لما أراد أن يظهر على يديه من المعجزات. وَأَلْقِ عَصاكَ لتعلم معجزتها ، فتأنس بها ، وهو عطف على (بورك) أي : نودى أن بورك وأن ألق عصاك. والمعنى : قيل له : بورك من فى النار ، وقيل له : ألق عصاك ، فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ تتحرك يمينا وشمالا ، كَأَنَّها جَانٌّ حية صغيرة وَلَّى موسى مُدْبِراً أي : أدبر عنها ، وجعلها تلى ظهره ، خوفا من وثوب الحية عليه ، وَلَمْ يُعَقِّبْ لم يرجع على عقبيه ، من : عقّب المقاتل : إذا كرّ بعد الفر. والخوف من الشيء المكروه أمر طبيعى ، لا يتخلف ، وليس فى طوق البشر.
قال له تعالى : يا مُوسى لا تَخَفْ من غيرى ، ثقة بي ، أو : لا تخف مطلقا إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ أي : لا يخاف المرسلون عند خطابى إياهم ، فإنهم مستغرقون فى شهود الحق ، لا يخطر ببالهم خوف ولا غيره. وأما فى غير أحوال الوحى فهم أشد الناس خوفا منه سبحانه ، أو : لا يخافون من غيرى ، لأنهم لدىّ فى حفظى ورعايتى. إِلَّا مَنْ ظَلَمَ أي : لكن من ظلم من غيرهم لأن الأنبياء لا يظلمون قط ، فهو استثناء منقطع ، استدرك به ما عسى يختلج فى العقل ، من نفى الخوف عن كلهم ، مع أن منهم من فرطت منه صغيرة مما يجوز صدوره عن الأنبياء - عليهم السلام - كما فرط من آدم ، وموسى ، وداود ، وسليمان - عليهم السلام - فحسنات الأبرار سيئات المقربين. وقد قصد به التعريض بما وقع من موسى - عليه السّلام - من وكزه القبطىّ.
وسماها ظلما ، كقوله عليه السّلام فى سورة القصص : رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ «2».
___________
(1) أخرجه الطبري فى تفسيره (19/ 133). [.....]
(2) من الآية 16 من سورة القصص.(4/177)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 178
قال فى الحاشية الفاسية : والظاهر فى الاستثناء كونه متصلا ، وأطلق الظلم باعتبار منصب النبوة ، وإشفاقهم مما لا يشفق منه غيرهم ، كما اتفق لموسى فى مدافعة القبطي عن الإسرائيلى ، مع أن إغاثة المظلوم مشروعة عموما ، ولكن لمّا لم يؤذن له خصوصا عد ذلك ظلما وذنبا. وأما ما سرى من القتل فلم يقصده ، وإنما اتفق من غير قصد. ه.
قوله : ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ أي : أتبع زلته حسنة محلها ، كالتوبة وشبهها ، فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ أقبل توبته ، وأغفر حوبته ، وأرحمه ، فأحقق أمنيّة. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : تقدم بعض إشارة الآية فى سورة طه «1». وقوله تعالى : أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ ... تقدم قول ابن عباس وغيره : أن المراد بمن فى النار : نور الحق تعالى. قال بعض العلماء : كانت النار نوره تعالى ، وإنما ذكره بلفظ النار لأن موسى حسبه نارا ، والعرب تضع أحدهما موضع الآخر. ه. ومنه حديث : «حجابه النار ، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه كلّ شىء أدركه بصره» «2» ، أي : حجابه النور الذي تجلى به فى مظاهر خلقه ، فالأوانى حجب للمعانى ، والمعاني هى أنوار الملكوت ، الساترة لأسرار الجبروت ، السارية فى الأشياء.
وقال سعيد بن جبير : (هى النار بعينها) «3» ، وهى إحدى حجب اللّه تعالى. ثم استدل بالحديث : «حجابه النار» ومعنى كلامه : أن اللّه تعالى احتجت فى مظاهر تجلياته ، وهى كثيرة ، ومن جملتها النار ، فهى إحدى الحجب التي احتجب الحق تعالى بها ، وإليه أشار ابن وفا بقوله :
هو النور المحيط بكل كون ولا يفهم هذا إلا أهل الفناء فى الذات ، العارفون باللّه ، وحسب من لم يبلغ مقامهم التسليم لما رمزوا إليه ، وإلا وقع الإنكار على أولياء اللّه بالجهل ، والعياذ باللّه.
___________
(1) راجع المجلد الثالث ، ص/ 379 - 380.
(2) بعض حديث رواه أبو موسى الأشعري رضي اللّه عنه وأخرجه مسلم فى (الإيمان ، باب فى قوله صلى اللّه عليه وسلم : «إن اللّه لا ينام» ، 1/ 161 ، ح 179) ، وأحمد فى المسند (4/ 410) بلفظ «حجابه النار ، وجاء فى رواية عند مسلم ، فى الموضع السابق ، وأحمد فى المسند (4/ 405) وابن ماجه فى (المقدمة ، باب فى ما أنكرت الجهمية 1/ 70 - 71 ح 195 - 196) بلفظ «حجابه النور» (انظر شرح الحديث فى مسلم بشرح النووي 3/ 14 - 16)
(3) ذكره البغوي فى تفسيره (6/ 145).(4/178)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 179
ثم ذكر معجزة اليد ، فقال :
[سورة النمل (27) : الآيات 12 الى 14]
وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (12) فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (13) وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14)
يقول الحق جل جلاله : وَأَدْخِلْ يَدَكَ يا موسى فِي جَيْبِكَ فى جيب قميصك. والجيب : الفتح فى الثوب لرأس الإنسان. قال الثعلبي : إنما أمره بذلك لأنه كان عليه مدرعة صوف ، لا كم لها. تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ من غير آفة ، كبرص ونحوه ، فِي تِسْعِ آياتٍ أي : هاتان الآيتان فى جملة تسع آيات ، وهى الفلق ، والطوفان ، والجراد ، والقمل ، والضفادع ، والدم ، والطمس ، والجدب فى بواديهم ، والنقصان فى مزارعهم.
ومن عدّ اليد والعصا من التسع عدّ الأخيرين واحدا ، ولم يعد الفلق لأنه لم يبعث به إلى فرعون. وقوله : إِلى فِرْعَوْنَ متعلق بمحذوف ، أي : مرسلا ، أو : ذاهبا إلى فرعون وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ خارجين عن أمر اللّه ، كافرين به.
فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا معجزاتنا ، وظهرت على يد موسى ، حال كونها مُبْصِرَةً بيّنة واضحة ، وهى اسم فاعل ، أطلق على المفعول ، إشعارا بأنها لفرط ظهورها كأنها تبصر نفسها مبالغة فى وضوحها ، وإلا فهى مبصرة لمن ينظر ويتفكر فيها. أو : ذات تبصر لأنها تهدى من يتبصر بها. فلما جاءتهم قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ واضح سحريته.
وَجَحَدُوا بِها أي : كذّبوا بها وَقد اسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ أي : علمتها علما يقينا ، فالاستيقان : أبلغ من الإيقان. يعنى : أنهم جحدوا بألسنتهم واستيقنوها فى قلوبهم. ظُلْماً : حال من ضمير (جحدوا) أي : ظالمين فى ذلك ، ولا ظلم أفحش ممن تيقن أنها آيات من عند اللّه ، وسماها سحرا بيّنا ، وَعُلُوًّا تكبرا وترفعا عن الإيمان بموسى عليه السّلام ، وهو أيضا حال ، أو : علة ، فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ وهو الإغراق فى الدنيا ، والإحراق فى الآخرة. نسأل اللّه العافية.
الإشارة : وأدخل يد فكرتك فى جيب قلبك ، تخرج بيضاء شعشعانية ، يستولى شعاعها على وجود بشريتك ، فتنخنس البشرية تحت أنوار المعاني ، ثم يستولى على الوجود بأسره ، فيصير كله نورا ملكوتيا جبروتيا ، متصلا(4/179)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 180
بالنور الأعظم ، والبحر الطام ، بعد قطع مقامات التوبة ، والتقوى ، والاستقامة ، والإخلاص ، والصدق ، والطمأنينة ، والمراقبة والمحبة ، والمشاهدة ، فيكون حينئذ آية مبصرة واضحة ، من آيات اللّه ، يدلّ على اللّه ، ويدعوا إليه على بصيرة منه. فمن جحدها انخرط فى سلك من قال تعالى فى حقه : وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا ... الآية.
ثم ذكر قصة داود وسليمان - عليهما السلام - فقال :
[سورة النمل (27) : الآيات 15 الى 16]
وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (15) وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ وَقالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (16)
يقول الحق جل جلاله : وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً أي : أعطينا كل واحد منهما طائفة خاصة به من علم الشرائع والأحكام ، وغير ذلك مما يختص به كل واحد منهما ، كصنعة الدروع ، ومنطق الطير. أو : علما لدنيا. وَقالا أي : كل واحد منهما ، شكرا لما أوتيه من العلم : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا بما آتانا من العلم عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ. قال النسفي : وهنا محذوف ، ليصلح عطف الواو عليه ، ولو لا تقدير المحذوف لكان الوجه : الفاء ، كقولك : أعطيته فشكر ، وتقديره : آتيناهما علما ، فعملا به ، وعرفنا حق النعمة فيه ، وقالا :
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ. والكثير المفضّل عليه : من لم يؤت علما ، أو : من لم يؤت مثل علمهما.
وفيه : أنهما فضلا على كثير ، وفضل عليهما كثير.
وفى الآية دليل على شرف العلم ، وتقدم حملته وأهله ، وأن نعمة العلم من أجلّ النعم ، وأن من أوتيه فقد أوتى فضلا على كثير من عباده ، وما سماهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ورثة الأنبياء إلا لمداناتهم فى الشرف والمنزلة لأنهم القوّام بما بعثوا من أجله. وفيها : أنه يلزمهم لهذه النعمة الفاضلة أن يحمدوا اللّه تعالى على ما أوتوه ، وأن يعتقد العالم أنه إذا فضّل على كثير فقد فضّل عليه مثلهم. وما أحسن قول عمر رضي اللّه عنه : (كلّ الناس أفقه من عمر). ه.
والعلماء على قسمين : علماء باللّه وعلماء بأحكام اللّه. فالعلماء باللّه هم العارفون به ، أهل الشهود والعيان. وهم أهل علم الباطن ، أعنى : علم القلوب ، والعلماء بأحكام اللّه هم علماء الشرائع والنوازل. وحيث انتهت درجة العلماء بأحكام اللّه ابتدئت درجة العلماء باللّه. فنهاية علماء الظاهر بداية علماء الباطن لأن علم أهل الظاهر جله ظنى ، (4/180)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 181
وعلم أهل الباطن عيانى ، ذوقى ، وليس الخبر كالعيان ، مع ما فاقوهم به من المجاهدة ، والمكابدة ، ومقاساة مخالفة النفوس ، وقطع المقامات ، حتى ماتوا موتات ، ثم حييت أرواحهم ، فشاهدوا من الأنوار والأسرار ما تعجز عنه العقول ، وتكلّ عنه النقول.
ثم قال تعالى : وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ ، ورث منه النبوة والملك دون سائر بنيه ، وكانوا تسعة عشر.
ووراثته للنبوة : انتقالها إليه بعد أبيه ، وإلا فالنبوة لا تورث. وَقالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ تشهيرا لنعمة اللّه ، واعترافا بمكانها ، ودعاء للناس إلى تصديقه بذكر المعجزة التي هى علم منطق الطير.
والمنطق : كل ما يصوّت به من المفرد والمؤلّف ، والمفيد وغير المفيد. وكان سليمان عليه السّلام يفهم عنها كما يفهم بعضها بعضا. يحكى أنه مرّ على بلبل على شجرة ، يحرك رأسه ، ويميل ذنبه ، فقال لأصحابه : أتدرون ما يقول؟ قالوا : اللّه ونبيه أعلم ، قال يقول : إذا أكلت نصف تمرة فعلى الدنيا العفاء. وصاحت فاخته «1» ، فأخبر أنها تقول : ليت ذا الخلق لم يخلقوا ، وصاح طاووس ، فقال : يقول : كما تدين تدان ، وصاح هدهد ، فقال : يقول : من لا يرحم لا يرحم ، وصاح صّرد «2» - وهو طائر ضخم الرأس - فقال : يقول : استغفروا اللّه يا مذنبين ، وصاح طيطوى «3» ، فقال : يقول : كل حى ميت ، وكل جديد بال. وصاح خطّاف «4» ، فقال : يقول : قدّموا خيرا تجدوه.
وصاح قمرىّ «5» ، فأخبر أنه يقول : سبحان ربى الأعلى. وصاحت رخمة «6» ، فقال : إنها تقول سبحان ربى الأعلى ملء أرضه وسمائه.
وفى رواية : هدرت حمامة ، فقال : إنها تقول : سبحان ربى الأعلى - مثل الرخمة - وقال : الغراب يدعو على العشّار. والحدأة تقول : كل شىء هالك إلا وجهه. والقطاة «7» تقول : من سكت سلم ، والببغاء تقول : ويل لمن الدنيا همه ، والديك يقول : اذكروا اللّه يا غافلين ، والنسر يقول : يا ابن آدم عش ما شئت ، آخرك الموت. والعقاب «8» يقول :
___________
(1) الفاختة : نوع من الحمام المطوّق ، إذا مشى توسع فى مشيه ، وباعد بين جناحيه وإبطيه ، وتمايل. انظر اللسان (5/ 3360 ، مادة/ فخت).
(2) الصّرد : طائر أبقع ، نصفه أبيض ، ونصفه أسود ، ضخم الرأس والمنقار ، له مخلب يصطاد به العصافير. انظر النهاية (3/ 21 مادة صرد).
(3) الطيطوى : ضرب القطا ، وقيل : هو طائر لا يفارق الآجام وكثرة المياه.
(4) الخطاف : العصفور ، وهو الذي تدعوه العامة : عصفور الجنة. وجمعه : خطاطيف. انظر اللسان (2/ 1201).
(5) القمرىّ : نوع من الحمام ، مطوّق ، حسن الصوت.
(6) الرّخمة : طائر غزير الريش ، أبيض اللون ، مبقّع بسواد ، له منقار طويل. موصوف بالغدر ، والجمع : رخم ورخم. انظر اللسان (3/ 1617 ، مادة رخم).
(7) القطاة : نوع من اليمام ، يؤثر الحياة فى الصحراء.
(8) العقاب : طائر من الجوارح ، تسميها العرب بالكاسر ، وقيل : العقاب : سيد الطيور ، والنسر عريفها ، ويكلى الذكر : أبا الهيثم. والأنثى : أم الحوار ، وهى حادة البصر.(4/181)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 182
فى البعد من الناس أنس. والضفدع تقول : سبحان ربى القدوس. والبازي «1» يقول : سبحان ربى وبحمده ، المذكور فى كل مكان. والدراج «2» يقول : الرحمن على العرش استوى. والقنب «3» يقول : إلهى العن مبغض آل محمد ، عليه الصلاة والسلام «4».
وقيل : إن سليمان كان يفهم صوت الحيوانات كلها ، وإنما خصّ الطير لأنه معظم جنده.
ثم قال : وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ أي : ما نحتاج إليه. والمراد به كثرة ما أوتى ، كما تقول : فلان يقصده كل أحد ، ويعلم كل شىء ، كناية عن كثرة علمه. إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ والإحسان من اللّه تعالى الْمُبِينُ أي :
الواضح ، الذي لا يخفى على أحد ، أو : إن هذا الفضل الذي أوتيته هو الفضل المبين. على أنه عليه السّلام قاله على سبيل الشكر والمحمدة. كما قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم «أنا سيّد ولد آدم ولا فخر» أي : أقول هذا القول شكرا ، لا فخرا ، والنون فى (علمنا) و(أوتينا) نون الواحد المطاع ، وكان حينئذ ملكا ، فكلم أهل طاعته على الحالة التي كان عليها ، وليس فيه تكبر ولا فخر لعصمة الأنبياء من ذلك. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : أشرف العلوم وأعظمها وأعزها العلم باللّه ، على سبيل الذوق والكشف والوجدان ، ولا يكون إلا من طريق التربية على يد شيخ كامل لأنه إذا حصل هذا العلم أغنى عن العلوم كلها ، وصغرت فى جانبه ، حتى إن صاحب العلم باللّه يعد الاشتغال بطلب علم الرسوم بطالة وانحطاطا ، ومثله كمن عنده قناطير من الفضة ، ثم وجد جبلا من الإكسير ، فهل يلتفت صاحب الإكسير إلى الفضة أو الفلوس؟ لأن من كانت أوقاته كلها مشاهدة ونظرا لوجه الملك ، كيف يلتفت إلى شىء سواه. ولذلك قال الجنيد رضي اللّه عنه : لو نعلم تحت أديم السماء أشرف من هذا العلم ، الذي نتكلم فيه مع أصحابنا ، لسعيت إليه. ه. وقال شيخ شيوخنا ، سيدى عبد الرحمن العارف : كنت أعرف أربعة عشر علما ، فلما أدركت علم الحقيقة ، سرطت ذلك كله ، ولم يبق إلا التفسير والحديث ، نتكلم فيه مع أصحابنا. أو قريبا من هذا الكلام. وقال شيخ شيوخنا ، سيدى عبد الرحمن المجذوب رضي اللّه عنه :
أقارئين علم التوحيد هنا البحور إلىّ تنبى
هذا مقام أهل التجريد الواقفين مع ربى
وهذا أمر بيّن عند أهل هذا الفن ، وقال الورتجبي : العلم علمان : علم البيان وعلم العيان. علم البيان ما يكون بالوسائط الشرعية ، وعلم العيان مستفاد من الكشوفات الغيبية. ثم قال : فالعلم البياني معروف بين العموم ، والعلم
___________
(1) البازي : ضرب من الصقور ، وهو أشد الجوارح تكبرا ، وأضيقها خلقا ، ويؤخذ للصيد.
(2) الدرّاج : طائر جميل المنظر ملون الريش. [.....]
(3) القنبر : صرب من الطبر. انظر اللسان (5/ 3510 ، مادة : قبر).
(4) ذكر نحوه البغوي فى تفسيره (6/ 148) عن كعب. وقال محققه ، فى الحاشية : وهذه التفصيلات فى كلام الطير متلقاة من أهل الكتاب ، كرواية كعب هذه ، ولا يتوقف فهم الآية عليها ، وليس فيها نص صحيح ، مرفوع إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم.(4/182)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 183
العيانى مشهور بين الخصوص ، لم يطلع عليه إلا نبى أو ولىّ ، لأنه صدر من الحق لأهل شهوده ، من المحبين العارفين ، والموحدين والصديقين ، والأنبياء والمرسلين. انظر بقية كلامه.
وقال أيضا فى قوله : عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ : أفهم أن أصوات الطيور والوحوش وحركات الأكوان جميعا هى خطابات من اللّه عز وجل للأنبياء والمرسلين ، والعارفين والصديقين ، يفهمونها من حيث أحوالهم ومقاماتهم.
فللأنبياء والمرسلين علم بمناطقها قطعيا. ويمكن أن يقع ذلك بوحي ، ولكن أكثر فهوم الأنبياء «1» أنهم يفهمون من أصواتها ما يتعلق بحالهم ، بما يقع فى قلوبهم من إلهام اللّه ، لا بأنهم يعرفون لغاتهم بعينها. ه. قلت : وكذلك الأولياء يفهمون عنها ما يليق بمقاماتهم ، من ألفاظ ، أو أنس ، أو إعلام ، أو غير ذلك. واللّه تعالى أعلم.
ولما أراد سليمان الغزو ، جمع جنوده ، كما قال تعالى :
[سورة النمل (27) : الآيات 17 الى 19]
وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (17) حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (18) فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها وَقالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ (19)
قلت : قالَتْ نَمْلَةٌ : التاء للوحدة ، لا للتأنيث. قال الرضى : تكون التاء للفرق بين المذكور والمؤنث ، وتكون لآحاد الجنس ، كنحلة ونحل ، وثمرة وثمر ، وبطة وبط ، ونملة ونمل ، فيجوز أن تكون النملة مذكرا ، والتاء للوحدة ، وأنث الفعل باعتبار تأنيث اللفظ. ه. مختصرا. و(لا يحطمنكم) : يحتمل أن يكون جوابا للأمر ، أو : نهيا بدلا من الأمر لتقارب المعنى لأن الأمر بالشيء نهى عن ضده. والضد ينشأ عنه الحطم ، فلا : ناهية ، ومثله الحديث :
«فليمسك بنصالها ، لا يعقر مسلما» «2». ه.
___________
(1) عبارة الورتجبي ، كما فى عرائس البيان : (و يمكن أن يقع ذلك لولى ، ولكن أكثر فهوم الأولياء بها ...).
(2) أخرجه بنحوه البخاري فى (الفتن ، باب قول النبي صلى اللّه عليه وسلم «من حمل علينا السلاح فليس منا» ح 7074) ومسلم فى (البر والصلة ، باب أمر من مرّ بسلاح ، فى مسجد أو سوق أو غيرهما من المواضع الجامعة للناس أن يمسك بنصالها 4/ 2018 - 2019 ، ح 2614 - 2615) من حديث سيدنا جابر رضي اللّه عنه.(4/183)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 184
يقول الحق جل جلاله : وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ أي : جمع له جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ بمباشرة مخاطبيه ، فإنهم رؤساء مملكته ، وعظماء دولته ، من الثقلين وغيرهم. وتقديم الجن على الإنس للإيذان بكمال قوه ملكه وعزة سلطانه لأن الجن طائفة عاتية ، وقبيلة طاغية ، ماردة ، بعيدة من الحشر والتسخير ، فَهُمْ يُوزَعُونَ أي : يحبس أوائلهم على أواخرهم ، أي : يوقف سلاف العسكر «1» حتى يلحقهم الثواني ، فيكونوا مجتمعين ، لا يختلف منهم أحد ، وذلك لكثرة العظمة والقهرية.
قال قتادة : فكان لكل صنف منهم وزعة «2». أو : لترتيب الصفوف ، كما هو المعتاد فى العساكر. والوزع :
المنع ، ومنه قول الحسن البصري ، حين ولى القضاء : (لا بد للحاكم من وزعة) أي : شرط يمنعون الناس من الظلم.
وتخصيص حبس أوائلهم بالذكر ، دون سوق أواخرهم ، مع أن التلاحق يحصل بذلك أيضا لأن أواخرهم غير قادرين على ما يقدر عليه أوائلهم من السير السريع ، وهذا إن لم يكن سيرهم بتسيير الريح فى الجو. قال محمد بن كعب : كان عسكر سليمان مائة فرسخ ، خمسة وعشرون للجن ، وخمسة وعشرون للإنس ، وخمسة وعشرون للطير ، وخمسة وعشرون للوحش. وكان له ألف بيت من قوارير على الخشب ، فيها ثلاثمائة منكوحة ، وسبعمائة سرية. وقد نسجت له الجن بساطا من ذهب وإبريسم ، فرسخا فى فرسخ ، وكان يوضع منبره فى وسطه ، وهو من ذهب ، فيقعد عليه ، وحوله ستمائة ألف كرسى من ذهب وفضة ، فتقعد الأنبياء - عليهم السلام - على كراسى الذهب ، والعلماء على كراسى الفضة ، وحولهم الناس ، وحول الناس الجن والشياطين ، وتظله الطير بأجنحتها ، حتى لا تقع عليه الشمس ، وترفع ريح الصبا البساط ، فتسير به مسيرة شهر ، من الصباح إلى الرواح.
وروى أنه كان يأمر الريح العاصف تحمله ، ويأمر الرخاء تسيّره ، فأوحى اللّه تعالى إليه ، وهو يسير بين السماء والأرض : إنى زدت فى ملكك أنه لا يتكلم أحد بشىء إلا ألقته الريح فى سمعك. قال وهب : حدثنى أبى : أن سليمان مرّ بحرّاث ، فقال : لقد أوتى آل داود ملكا عظيما ، فالتفت ونزل إلى الحرّاث ، فقال : إنى سمعت قولك ، وإنما مشيت إليك لئلا تتمنى ما لا تقدر عليه ، لتسبيحة واحدة يقبلها اللّه منك خير لك مما أوتى آل داود. ه.
حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ أي : فساروا حتى بلغوا وادي النمل ، وهو واد بالشام ، كثير النمل ، قاله مقاتل. أو : بالطائف ، قاله كعب. وقيل : هو واد يسكنه الجن ، والنمل مراكبهم «3». وعدى الفعل ب «على» لأن إتيانهم كان من فوق ، فأتى بحرف الاستعلاء. ولعلهم أرادوا أن ينزلوا بأعلى الوادي إذ حينئذ يخافهم من فى
___________
(1) سلاف العسكر : متقدموهم.
(2) ذكره البغوي فى التفسير (6/ 149).
(3) انظر التعليق التالي.(4/184)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 185
الأرض ، لا عند سيرهم فى الهواء. وجواب (إذ) قوله : قالَتْ نَمْلَةٌ ، وكأنها لما رأتهم متوجهين إلى الوادي فرّت منهم ، فصاحت صيحة ، فنبهت بها ما بحضرتها من النمل.
قال كعب : مرّ سليمان عليه السّلام بوادي السدير ، من أودية الطائف ، فأتى على واد النمل ، فقالت نملة ، وهى تمشى ، وكانت عرجاء تتكاوس ، مثل الذئب فى العظم. قال الضحاك : كان اسم تلك النملة طاحية ، وقيل : منذرة ، وقيل :
جرمى. وقال نوف الحميرى : كان نمل وادي سليمان أمثال الذباب «1». وعن قتادة : أنه دخل الكوفة ، فالتف عليه الناس ، فقال : سلونى عما شئتم ، فسأله أبو حنيفة ، وهو شاب ، عن نملة سليمان ، أكان ذكرا أو أنثى؟ فأفحم ، فقال أبو حنيفة : كانت أنثى ، فقيل له : بم عرفت؟ فقال : قوله تعالى : قالَتْ نَمْلَةٌ ولو كان ذكرا لقال : قال نملة. ه.
قلت : وهو غير صحيح لما تقدم عن الرضى «2».
قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لم يقل : ادخلن لأنه لمّا جعلها قائلة ، والنمل مقولا لهم ، كما يكون من العقلاء ، أجرى خطابهن مجرى ذوى العقل ، لا يَحْطِمَنَّكُمْ لا يكسرنّكم. والحطم : الكسر ، وهو فى الظاهر نهى لسليمان عن الحطم ، وفى الحقيقة نهى لهم عن البروز والوقوف على طريقة ، نحو : لا أرينك هاهنا ، أي : لا تتعرضوا فيكسرنكم سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ ، وقيل : أراد : لا يحطمنكم جنود سليمان ، فجاء بما هو أبلغ. وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ لا يعلمون بمكانكم ، أي : لو شعروا ما فعلوا. قالت ذلك على وجه العذر ، واصفة سليمان وجنوده بالعدل ، فحمل الريح قولها إلى سليمان على ثلاثة أميال.
روى أن سليمان قال لها : لم حذرت النمل ، أخفت ظلمى؟ أما علمت أنى نبى عدل ، فلم قلت : لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ؟ فقالت : أما سمعت قولى : وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ، مع أنى لم أرد حطم النفوس ، وإنما أردت حطم القلوب ، خشيت أن يتمنينّ ما أعطيت ، ويشغلن بالنظر إليك عن التسبيح ، فقال لها سليمان : عظينى ، فقالت : هل علمت لم سمى أبوك داود؟ قال : لا ، قالت : لأنه داوى حرجه. هل تدرى لم سميت سليمان؟ قال : لا ، قالت : لأنك سليم ، ما ركنت إلى ما أوتيت ، لسلامة صدرك ، وأنى لك أن تلحق أباك. ثم قالت : أتدري لم سخر اللّه لك الريح؟
قال : لا ، قالت : أخبرك اللّه أن الدنيا كلها ريح. قال ابن عباس : ومن هنا «نهى النبي صلى اللّه عليه وسلم عن قتل أربعة من الدواب : الهدهد ، والصّرد ، والنحلة ، والنملة «3»».
___________
(1) قال الحافظ ابن كثير فى تفسيره (3/ 359) : من قال من المفسرين : إن هذا الوادي كان بأرض الشام ، أو بغيره ، وإن هذه النملة كانت ذات جناحين ، كالذباب ، أو غير ذلك من الأقاويل ، فلا حاصل لها. ثم قال : والغرض : أن سليمان عليه السّلام فهم قولها ، وتبسم ضاحكا من ذلك ، وهذا أمر عظيم جدا.
(2) راجع الصفحة قبل السابقة.
(3) أخرجه أحمد فى المسند (1/ 332) وأبو داود فى (الأدب ، باب فى قتل الذر ، 5/ 418 ح 5267) وابن ماجه فى (الصيد ، باب ما ينهى عن قتله 2/ 1074 ح 3224) والدارمي فى (الأضاحى ، باب النهى عن قتل الضفادع والنحلة 2/ 121 ، ح 1999) من حديث سيدنا عبد اللّه بن عباس رضي اللّه عنه.(4/185)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 186
فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً ، معجبا مِنْ قَوْلِها ومن حذرها ، واهتدائها لمصالحها ، ونصحها للنمل ، وفرحا بظهور عدله. والتبسم : ابتداء الضحك ، وأكثر ضحك الأنبياء التبسّم ، أي : فتبسم ابتداء ، ضاحكا انتهاء. وَقالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي ، الإيزاع فى الأصل : الكف ، أي : كفّنى عن كل شىء إلا عن شكر نعمتك ، ويطلق على الإلهام ، أي : ألهمنى أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ من النبوة والملك والعلم ، وَعَلى والِدَيَّ لأن الإنعام على الوالدين إنعام على الولد ، وَألهمنى أَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ فى بقية عمرى ، وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ أي : وأدخلنى الجنة برحمتك ، لا بصالح عملى إذ لا يدخل الجنة إلا برحمتك ، كما فى الحديث.
فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ أي : فى جملة أنبيائك المرسلين ، الذين صلحوا لحضرتك. أو : مع عبادك الصالحين.
روى أن النملة أحست بصوت الجنود ، ولم تعلم أنهم فى الهواء ، فأمر سليمان عليه السّلام الريح ، فوقفت لئلا يذعرن ، حتى دخلن مساكنهن ، ثم دعا بالدعوة. قاله النسفي.
الإشارة : من أقبل بكليته على مولاه ، وأطاعه فى كل شىء ، سخرت له الأكوان ، وأطاعته فى كل شىء.
ومن أعرض عن مولاه أعرض عنه كلّ شىء ، وصعب عليه كلّ شىء. «أنت مع الأكون ما لم تشهد المكون ، فإذا شهدته كانت الأكوان معك». فإذا سخرت له الأشياء ، وزهد فيها ، وأعرض عنها ، واختار مقام العبودية ، ارتفع قدره ، ولم ينقص منه شيئا ، كحال نبينا - عليه الصلاة والسلام - . ومن سخرت له الأشياء ، ونظر إليها ، انتقص قدره ، وإن كان كريما على اللّه ، ولذلك ورد فى الخبر أن سليمان عليه السّلام : هو آخر من يدخل الجنة من الأنبياء. ذكره فى القوت.
وذكر فيه أيضا : أن سليمان عليه السّلام لبس ذات يوم ثيابا رفيعة ، ثم ركب على سريره ، فحملته الريح ، وسارت به ، فنظر إلى عطفيه نظرة ، فأنزلته إلى الأرض ، فقال لها : لم أنزلتنى ولم آمرك؟ فقالت له : نطيعك إذا أطعت اللّه ، ونعصيك إذا عصيته. فاستغفر وتاب ، فحملته. وهذا مما يعتب على المقربين لكبر مقامهم ، فكل نعيم فى الدنيا ينقض فى الآخرة. واللّه تعالى أعلم.
ثم قال تعالى :
[سورة النمل (27) : الآيات 20 الى 26]
وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ (20) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (21) فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22) إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ (23) وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ (24)
أَلاَّ يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ (25) اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (26)(4/186)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 187
يقول الحق جل جلاله : وَتَفَقَّدَ سليمان الطَّيْرَ أي : تعرف أحوال الطير تعرف الملك لمملكته ، حسبما تقتضيه عناية الملك بمملكته ، والاهتمام بكل جزء منها ، أو : تفقده لمعرفته بالماء ، أو : لغير ذلك على ما يأتى. فلما تفقده لم ير الهدهد فيما بينها. والتفقد : طلب ما غاب عنك. فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أساتر ستره؟ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ ، و«أم» : بمعنى «بل» ، كأنه قال : مالى لا أراه؟ ثم بدا له أنه غائب ، فأضرب عنه ، وقال : بل هو من الغائبين.
لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً ، قيل : كان عذابه للطير : نتفه ريشه وتشميسه ، أو : يجعله مع أضداده فى قفص ، أو : بالتفريق بينه وبين إلفه. وعن بعضهم : أضيق السجون معاشرة الأضداد ، ومفارقة الأحباب. أو : نتفه ، وطرحه بين يدى النحل تلدغه ، أو : النمل تأكله. وحلّ له تعذيب الهدهد لينزجر غيره ، ولما سخرت له الحيوانات - ولا يتم التسخير إلا بالتأديب - حلّ له التأديب.
أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ ليعتبر به أبناء جنسه ، أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ بحجة تبين عذره ، والحلف فى الحقيقة على أحد الأمرين ، على تقدير عدم الثالث. قال بعضهم : وسبب طلبته للهدهد ، لإخلاله بالنوبة التي كان ينوبها. وقيل : كانت الطير تظله ، فأصابته لمعة من الشمس ، فنظر ، فرأى موضع الهدهد خاليا ، فتفقده ، وقيل :
احتاج إلى الماء ، وكان علم ذلك إلى الهدهد ، فتفقده ، فلم يجده ، فتوعده.
والسبب فيه : أن سليمان عليه السّلام لمّا فرغ من بناء بيت المقدس ، عزم على الخروج إلى أرض الحرم ، للحج ، فتجهز للمسير ، وخرج بجنوده - كما تقدم - فبلغ الحرم ، وأقام به ، وكان ينحر كل يوم بمكة خمسة آلاف ناقة ، ويذبح خمسة آلاف ثور ، وعشرين ألف شاة ، قربانا. وقال : إن هذا مكان يخرج منه نبى عزيز ، صفته كذا وكذا ، يعطى النصر على جميع من ناوأه ، وتبلغ هيبته مسيرة شهر ، القريب والبعيد فى الحق عنده سواء ، لا تأخذه فى اللّه(4/187)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 188
لومة لائم ، دينه دين الحنيفية ، فطوبى لمن أدركه وآمن به ، وبيننا وبين خروجه زهاء ألف عام. ثم قضى نسكه ، وخرج نحو اليمن صباحا ، يؤم سهيلا ، فوافى صنعاء وقت الزوال ، وذلك مسيرة شهر ، فرأى أرضا حسناء ، تزهو خضرتها ، فأحب النزول بها ليصلى ، ويتغذى ، فطلبوا الماء فلم يجدوه ، وكان الهدهد دليله على الماء ، كان يرى الماء من تحت الأرض ، كما نرى الماء فى الزجاجة ، فينقر الأرض فتجىء الشياطين يستخرجونه. وبحث فيه القشيري بأن الهدهد متعدد فى عسكره ، إذا فقدوا واحدا بقي آخر ، قال : اللهم إلا أن يكون ذلك الواحد مخصوصا بمعرفة ذلك ، واللّه أعلم. ه.
قال سعيد بن جبير : لما ذكر ابن عباس هذا الحديث : قال له نافع بن الأزرق : كيف ينظر الماء تحت الأرض ، ولا يبصر الفخ حتى يقع فيه؟ قال ابن عباس : ويحك إذا جاء القدر حال دون البصر. ه. قلت : ونافع هذا هو رأس الخوارج والمعتزلة.
فلما نزل سليمان ، قال الهدهد : إن سليمان قد اشتغل بالنزول ، فارتفع نحو السماء ، ونظر طول الدنيا وعرضها ، ونظر يمينا وشمالا ، فرأى بستانا لبلقيس فيه هدهد. وكان اسم هدهد سليمان «يعفور» واسم هدهد اليمن «عنفير».
فقال هدهد اليمن لهدهد سليمان : من أين أقبلت وأين تريد؟ قال : أقبلت من الشام ، مع صاحبى سليمان بن داود ، قال :
ومن سليمان؟ قال : ملك الجن والإنس والشياطين والطير والوحوش والرياح ، فمن أين أنت؟ قال من هذه البلد ، ملكها امرأة ، يقال لها «بلقيس» تحت يديها اثنا عشر ألف قائد ، تحت يد كل قائد مائة ألف مقاتل. فانطلق معه ، ونظر إلى بلقيس وملكها ، ورجع إلى سليمان وقت العصر. وكان سليمان قد فقده وقت الصلاة ، فلم يجده ، وكان على غير ماء.
قال ابن عباس : فدعا عريف الطير - وهو النسر - فسأله؟ ، فقال : ما أدرى أين هو ، فغضب سليمان وقال :
(لأعذبنه ...) إلخ ، ثم دعا بالعقاب ، سيد الطير ، فقال : علىّ بالهدهد الساعة ، فرفع العقاب نفسه نحو السماء ، حتى التزق بالهواء ، فنظر إلى الدنيا كالقصعة بين يدى أحدكم ، فإذا هو بالهدهد مقبلا من نحو اليمن ، فانقضّ نحوه ، فقال له الهدهد : بحق الحق الذي قوّاك إلا ما رحمتنى ، فقال : ويلك ، إن نبى اللّه حلف أن يعذبك ويذبحك. ثم تلقته النسور والطير فى العسكر ، وقالوا له : لقد توعدك نبىّ اللّه. قال : أو ما استثنى؟ قالت : بلى ، قال : أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ. ثم دخل على سليمان ، فرفع رأسه ، وأرخى ذنبه وجناحيه يجرهما على الأرض ، تواضعا للّه ولسليمان ، فقال سليمان : أين كنت؟ لأعذبنّك ... فلما دنا منه أخذ سليمان برأسه ، فمده إليه ، فقال له الهدهد : يا نبى اللّه اذكر وقوفك بين يدى اللّه تعالى ، بمنزلة وقوفى بين يديك ، فارتعد سليمان وعفا عنه «1». وقال عكرمة : إنما صرف سليمان عن ذبح الهدهد لبره بوالديه ، كان يلتقط الطعام ثم يزقه لهما.
___________
(1) هذه الأخبار ذكرها البغوي فى تفسيره (6/ 154) وغيره من المفسرين. وهى من الأخبار التي لا سند لها.(4/188)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 189
قال تعالى : فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ أي : تفقد مكث سليمان حين تفقد الهدهد ، وأرسل من ورائه غير زمان بعيد ، وهو من الظهر إلى العصر - كما تقدم - أو : فمكث الهدهد فى غيبته غير بعيد ، خوفا من سليمان ، فالضمير إما لسليمان ، أو : للهدهد ، وهو الظاهر ، ويرجحه قراءة : (فتمكث). وفى «مكث» لغتان : الضم والفتح.
ولما قدم من غيبته ، أحضر بين يديه ، على الهيئة المتقدمة ، ثم سأله عن غيبته ، فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ أي : أدركت علما لم تحط به أنت ، ألهم اللّه الهدهد فكافح «1» سليمان بهذا الكلام ، مع ما أوتى من فضل النبوة والعلوم الجمة ، ابتلاء له عليه السّلام فى علمه ، وتنبيها على أن فى أدنى خلقه وأضعفهم من أحاطه اللّه علما بما لم يحط به لتتصاغر إليه نفسه ، ويصغر فى عينه علمه ، فى جانب علم اللّه ، رحمة به ولطفا فى ترك الإعجاب ، الذي هو فتنة العلماء.
ثم قال : وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ - بالصرف - اسما للحىّ ، أو : للأب الأكبر ، وبعدمه اسما للقبيلة. بِنَبَإٍ يَقِينٍ ، والنبأ : الخبر الذي له شأن. وقوله : مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ من محاسن الكلام ، ويسمى البديع. وقد حسن وبرع لفظا ومعنى ، حيث فسر إبهامه بأبدع تفسير ، وأراه أنه كان بصدد إقامة خدمة مهمة. وعبّر عما جاء به بالنبإ ، الذي هو الخبر الخطير والشأن الكبير ، ووصفه بما وصفه به. إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ هو استئناف لبيان ما جاء به من النبأ ، وتفسير له إثر الإجمال. وهى بلقيس بنت شراحيل بن مالك بن ريان. وكان أبوها ملك أرض اليمن كلها ، ورث الملك من أربعين أبا. وقيل : كان أبوها - اسمه الهدهاد - ملكا عظيم الشأن ، ملك أرض اليمن كلها ، وأبى أن يتزوج منهم ، فزوجوه امرأة من الجن ، يقال لها «ريحانة» فولدت له بلقيس ، ولم يكن له ولد غيرها.
قال أبو هريرة : قال النبي صلى اللّه عليه وسلم «كان أحد أبوى بلقيس جنيا» «2» فمات أبوها ، فاختلف قومه فرقتين ، وملّكوا أمرهم رجلا قائما بسيرته ، حتى فجر بحرم رعيته ، فأدركت بلقيس الغيرة ، فعرضت عليه نفسها ، فتزوجته ، فسقته الخمر ، فسكر ، فجزت رأسه ، ونصبته على باب دارها فملكوها «3».
وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ تحتاج إليه الملوك ، من العدة والآلة ، وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ : كبير ، قيل : كان ثلاثين ذراعا فى ثلاثين عرضا ، وقيل : كان ثمانين ذراعا فى ثمانين ، وطوله فى الهواء : ثمانون. وكان من ذهب وفضة ، مرصعا بأنواع الجواهر ، وقوائمه من ياقوت أحمر وأخضر ، ودرّ ، وزبرجد ، وعليه سبعة أبيات ، فى كل بيت
___________
(1) كافحه مكافحة وكفاحا : واجهه. انظر اللسان (مادة كفح 5/ 3897)
(2) أخرجه الطبري فى التفسير (19/ 169) وزاد السيوطي عزوه فى الدر (5/ 198) لأبى الشيخ فى العظمة ، وابن عساكر ، وقال ابن كثير فى البداية والنهاية (20/ 21) : هذا حيث غريب ، وفى سنده ضعف.
(3) ذكره البغوي فى تفسيره (6/ 156). [.....](4/189)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 190
باب مغلق. واستصغر الهدهد حالها إلى حال سليمان ، فلذلك عظّم عرشها. وقد أخفى اللّه تعالى ذلك على سليمان لحكمة ، كما أخفى مكان يوسف على يعقوب ، ليتحقق ضعف العبودية فى جانب علم الربوبية.
وكانت بلقيس مجوسية ، فلذلك قال : وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي : يعبدونها متجاوزين عبادة اللّه. وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ التي هى عبادة الشمس ، ونظائرها من أصناف الكفر والمعاصي ، فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ عن سبيل الرشد والصواب ، وهو التوحيد فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ إليه.
ولا يبعد من الهدهد التهدّى إلى معرفة اللّه ، ووجوب السجود له ، وحرمة السجود للشمس ، إلهاما من اللّه له ، كما ألهمه وغيره من الطيور وسائر الحيوانات المعارف اللطيفة ، التي لا يكاد العقلاء ، الراجحة العقول ، يهتدون إليها.
وهذا من أسرار الربوبية ، التي سرت فى الأشياء ، فوحّدت اللّه تعالى ، ولهجت بحمده.
أَلَّا يَسْجُدُوا بالتشديد ، أي : فصدّهم عن السبيل لئلا ، فحذف الجار ، أي : لأجل ألا يسجدوا للّه. ويجوز أن تكون «لا» مزيدة ، أي : فهم لا يهتدون إلى أن يسجدوا. وقرئ : هلا يسجدون. ومن قرأ بالتخفيف «1». فالتقدير عنده : ألا يا هؤلاء اسجدوا ، فألا للتنبيه ، والمنادى محذوف ، فمن شدّد لم يقف على يَهْتَدُونَ ، ومن خفف وقف ثم استأنف : ألا يا هؤلاء اسجدوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ الشيء المخبوء المستور فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ، قال قتادة : خبء السموات : المطر ، وخبء الأرض : النبات. واللفظ أعم من ذلك ، وَيَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ «2» عطف على «يخرج» إشارة إلى أنه تعالى يخرج ما فى العالم الإنسانى من الخفايا ، كما يخرج ما فى العالم الكبير من الخبايا.
اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ الذي هو أول الأجرام وأعظمهما. ووصف الهدهد عرش اللّه بالعظم تعظيم له بالنسبة إلى سائر ما خلق من السموات والأرض. وفى الخبر : «إن السموات والأرض فى جانب العرش كحلقة فى فلاة» ووصفه عرش بلقيس تعظيم له بالنسبة إلى عروش أبناء جنسها من الملوك. هذا آخر كلام الهدهد. ثم دلهم على الماء فحفروا وشربوا ، وملأوا الركايا ، واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : هدهد كل إنسان نفسه ، فإذا تفقدها فوجدها غائبة عن اللّه ، فى أودية الغفلة ، هدهد بالعذاب الشديد ، وبذبحها بأنواع المخالفة ، حتى تأتيه بحجة واضحة ، تعذر بها ، فإن لم تأت بحجة عذّبها وذبحها ، بإدخالها فى كل ما تكره ويثقل عليها ، فتمكث غير بعيد ، فتأتيه بالعلوم اللدنية ، والأسرار الربانية ، التي لم يحط بها علما قبل ذلك ، وتجيئه بالخبر اليقين ، فى العلم باللّه ، من عين اليقين ، أو حق اليقين ، فتخبره عن أحوال عامة أهل الحجاب ،
___________
(1) قرأ أبو جعفر ، والكسائي : (ألا يسجدوا) بالتخفيف. وقرأ الباقون (ألّا) بالتشديد.
(2) قرأ حفص ، والكسائي : (ما تخفون وما تعلنون) بالتاء على الخطاب ، وقرأ الآخرون بالياء. انظر الإتحاف (2/ 326).(4/190)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 191
فتقول : إنى وجدت امرأة تملكهم ، وهى نفسهم الأمارة ، وأوتيت من كل شىء تشتهيه وتهواه ، من غير وازع ولا قامع ، ولها عرش عظيم ، وهو سرير الغفلة والانهماك فى حب الدنيا والشهوات. أو : لها تسلط كبير على من ملكته ، وجدتها وقومها يسجدون للسّوى ، ويخضعون للهوى من دون اللّه ، وزيّن لهم الشيطان ذلك ، فصدهم عن طريق الوصول ، فهم لا يهتدون إلى الوصول إلى الحضرة أبدا ما داموا كذلك لأن حضرة ملك الملوك محرمة على من هو لنفسه مملوك. ألا يسجدوا بقلوبهم للّه وحده ، فإنه مطلع على خبايا القلوب والأسرار ، وعلى ما يسرون من الإخلاص ، وما يعلنون من الأعمال ، التي توجب الاختصاص. وباللّه التوفيق.
ولما سمع سليمان كلام الهدهد أرسله بكتابه إلى بلقيس ، كما قال تعالى :
[سورة النمل (27) : الآيات 27 الى 34]
قالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ (27) اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ ما ذا يَرْجِعُونَ (28) قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ (29) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (30) أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31)
قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ (32) قالُوا نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي ما ذا تَأْمُرِينَ (33) قالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ (34)
يقول الحق جل جلاله : قالَ سليمان للهدهد : سَنَنْظُرُ أي : نتأمل فيما أخبرت ، فنعلم أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ ، وهو أبلغ من : أكذبت لأنه إذا كان معروفا بالانخراط فى سلك الكاذبين كان كاذبا ، لا محالة ، وإذا كان كاذبا اتّهم فيما أخبر به ، فلا يوثق به ، ثم كتب : من عبد اللّه ، سليمان بن داود ، إلى بلقيس ملكة سبأ بسم اللّه الرحمن الرحيم ، السلام على من اتبع الهدى ، أما بعد : فلا تعلوا علىّ وأتونى مسلمين. قال منصور : كان سليمان أبلغ الناس فى كتابه ، وأقلهم كلاما فيه. ثم قرأ : إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ ... إلخ ، والأنبياء كلهم كذلك ، كانت تكتب جملا ، لا يطيلون ولا يكثرون. وقال ابن جريج : لم يزد سليمان على ما قال اللّه تعالى : إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ ... إلخ. ثم طيّبه بالمسك ، وختمه بخاتمه «1» ، وقال للهدهد : اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ
___________
(1) ذكره البغوي فى التفسير (6/ 158).(4/191)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 192
أي : إلى بلقيس وقومها لأنه ذكرهم معها فى قوله : وَجَدْتُها وَقَوْمَها ، وبنى الخطاب على لفظ الجمع لذلك.
ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ أي : تنح عنهم إلى مكان قريب ، بحيث تراهم ولا يرونك ، ليكون ما يقولون بمسمع منك ، فَانْظُرْ ما ذا يَرْجِعُونَ أي : ما الذي يردّونه من الجواب ، أو : ماذا يرجع بعضهم إلى بعض من القول.
فأخذ الهدهد الكتاب بمنقاره ، ودخل عليها من كوّة ، فطرح الكتاب على نحرها ، وهى راقدة ، وتوارى فى الكوة. وقيل : نقرها ، فانتبهت فزعة ، أو : أتاها والجنود حولها ، فوقف ساعة يرفرف فوق رؤوسهم ، ثم طرح الكتاب فى حجرها ، وكانت قارئة ، فلما رأت الخاتم قالَتْ لأشراف قومها وهى خائفة : يا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ ، وصفته بالكرم لكرم مضمونه إذ هو حق ، أو : لأنه من ملك كريم ، أو : لكونه مختوما. قال - عليه الصلاة والسلام - : «كرم الكتاب ختمه» «1» أو : لكونه مصدرا بالتسمية ، أو : لغرابة شأنه ، ووصوله إليها على وجه خرق العادة.
ومضمونه والمكتوب فيه : إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ، وهذا تبيين لما ألقى إليها ، كأنها لما قالت : أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ قيل لها : ممن هو وما هو؟ فقالت : إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ ، «إن» : مفسرة ، أي : لا تترفعوا علىّ ولا تتكبروا ، كما يفعل جبابرة الملوك ، وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ : مؤمنين ، أو : منقادين ، وليس فيه الأمر بالإسلام. وقيل : إقامة الحجة على رسالته لأن إلقاء الكتاب على تلك الصفة معجزة باهرة.
قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ، كررت حكاية قولها إيذانا بغاية اعتنائها بما فى حيزه : أَفْتُونِي فِي أَمْرِي أي :
أجيبونى فى أمرى ، الذي حزبنى وذكرته لكم ، وعبّرت عن الجواب بالفتوى ، الذي هو الجواب عن الحوادث المشكلة غالبا تهويلا للأمر ، ورفعا لمحلهم ، بالإشعار بأنهم قادرون على حل المشكلات الملمة. ثم قالت :
ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً من الأمور المتعلقة بالمملكة حَتَّى تَشْهَدُونِ بكسر النون ، ولا يصح الفتح لأنه يحذف للناصب. وأصله : تشهدوننى ، فحذفت الأولى للناصب وبقي نون الوقاية ، أي : تحضروني ، وتشهدوا أنه على صواب ، أي : لا أقطع أمرا إلا بمحضركم. وقيل : كان أهل مشورتها ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا ، كل واحد على عشرة آلاف.
قالُوا فى جوابها : نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ أي : نجدة وشجاعة ، فأرادوا بالقوة : قوة الأجساد والآلات ، وبالبأس : النجدة والبلاء فى الحرب. وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ أي : هو موكل إليك فَانْظُرِي ما ذا تَأْمُرِينَ ،
___________
(1) رواه الطبراني فى الأوسط (ح 3872) والشهاب القضاعي فى مسنده (ح 39) عن ابن عباس رضي اللّه عنه. وفى سنده السدى الصغير ، متروك. انظر مجمع الزوائد (8/ 99).(4/192)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 193
فنحن مطيعون إليك ، فمرينا بأمرك ، نمتثل أمرك ، ولا نخالفك. كأنهم أشاروا عليها بالقتال ، أو أرادوا : نحن من أبناء الحرب ، لا من أبناء الرأى والمشورة ، وأنت ذات الرأى والتدبير ، فانظرى ماذا تأمرين نتبع رأيك.
فلما أحست منهم الميل إلى المحاربة مالت إلى المصالحة ، فزيفت رأيهم ، حيث قالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً على منهاج المقاتلة والحرب ، أو عنوة وقهرا أَفْسَدُوها بتخريب عمارتها ، وإتلاف ما فيها من الأموال ، وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً بالقتل والأسر والإجلاء ، وغير ذلك من فنون الإهانة ليستقيم لهم ملكهم وحدهم. ثم قالت : وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ أي : وهذه عادتهم المستمرة التي لا تتغير ، لأنها كانت فى بيت المملكة قديما ، أبا عن أب ، فجربت الأمور ، أو : يكون من قول اللّه تعالى ، تصديقا لقولها ، أي : قال اللّه تعالى : وكذلك شأن الملوك إذا غلبوا وقهروا أفسدوا. وأنشدوا فى هذا المعنى :
إنّ الملوك بلاء حيثما حلّوا فلا يكن بك فى أكنافهم ظلّ
ماذا يؤمّل من قوم إذا غضبوا جاروا عليك وإن أرضيتهم ملوا
وإن صدقتهم خالوك تخدعهم واستثقلوك كما يستثقل الكلّ
فاستغن باللّه عن أبوابهم أبدا إنّ الوقوف على أبوابهم ذلّ
ففى صحبة الملوك خطر كبير ، وتعب عظيم ، فمن قوى نوره ، حتى يغلب على ظلمتهم ، بحيث يتصرف فيهم ، ولا يتصرفون فيه ، فلا بأس بمعرفتهم ، إن كان فيه نفع للناس بالشفاعة والنصيحة ، وقد أقيم فى هذا المقام الشيخ أبو الحسن الشاذلى ، وشيخ شيخنا مولاى العربي الدرقاوى - رضى اللّه عنهما - وكان تلميذاهما الشيخ أبو العباس المرسى ، وشيخنا سيدى محمد البوزيدى الحسنى - رضى اللّه عنهما - يفران من صحبتهم ، أشد الفرار ، وهو أسلم. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : قال صاحب الخصوصية لنفسه : سننظر أصدقت فى الخصوصية أم أنت من الكاذبين ، اذهب بما معك من العلم ، وذكّر به عباد اللّه ، وألقه إليهم ، ثم تولّ عنهم ، وانظر ماذا يرجعون ، فإن تأثروا بوعظك ، وانتقش فيهم قولك ، فأنت صادقة فى ثبوت الخصوصية لديك لأن أهل العلم باللّه إذا تكلموا وقع كلامهم فى قلوب العباد ، فحييت به قلوبهم وأرواحهم. ومن لا خصوصية له صدت كلامه الآذان. قالت حين أراد التذكير : يا أيها الملأ إنى ألقى إلىّ فى قلبى كتاب كريم ، وعلم عظيم ، فلا تعلو علىّ وأتونى مسلمين ، منقادين لما آمركم به ، وقالت - لمّا تطهرت من الأكدار ، وتحررت من الأغيار ، وأحدقت بها جنود الأنوار : يا أيها الملأ - تعنى جنود الأنوار - أفتونى فى(4/193)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 194
أمرى الذي أريد أن أفعله ، ما كنت قاطعة أمرا من الأمور ، التي تتجلى فى القلب ، حتى تشهدون ، وتشهدوا أنه رشد وحق ، قالوا : نحن أولوا قوة وأولوا بأس شديد ، والأمر إليك ، حيث تطهرت ، فانظرى ماذا تأمرين لأن النفس إذا تزكت وتخلصت وجب تصديقها فيما تهتم به ، قالت : إن الملوك - أي : الواردات الإلهية التي تأتى من حضرة القهار ، إذا دخلوا قرية ، أي : قلب نفس ، أفسدوا ظاهرها بالتخريب والتعذيب ، وجعلوا أعزة أهلها أذلة ، أي : أبدلوا عزها ذلا ، وجاهها خمولا ، وغناها من الدنيا فقرا ، وكذلك يفعلون.
وفى الحكم العطائية : «متى وردت الواردات الإلهية عليك هدمت العوائد لديك ، إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها ، وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون». فكل وارد نزل بالإنسان ولم يغير عليه عوائده فهو كاذب ، قال فى الحكم : «لا تزكين واردا لم تعلم ثمرته ، فليس المراد من السحابة الأمطار ، وإنما المراد منها وجود الأثمار».
وباللّه التوفيق.
ثم أشارت عليهم بإرسال الهدية لسليمان ، كما قال تعالى :
[سورة النمل (27) : الآيات 35 الى 37]
وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (35) فَلَمَّا جاءَ سُلَيْمانَ قالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ فَما آتانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (36) ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها أَذِلَّةً وَهُمْ صاغِرُونَ (37)
يقول الحق جل جلاله فى حكاية بلقيس - وكانت سيسة ، قد سيست وساست ، فقالت لقومها : وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ سليمان وقومه ، بِهَدِيَّةٍ أصانعه بذلك عن ملكى ، وأختبره ، أملك هو أم نبى؟ فَناظِرَةٌ فمنتظرة بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ بأى شىء يرجعون ، بقبولها أم بردها لأنها عرفت عادة الملوك ، وحسن موقع الهدايا عندهم ، فإن كان ملكا قبلها وانصرف. وإن كان نبيا ردها ، ولم يقبل منا إلا أن نتبعه على دينه ، فبعثت خمسمائة غلام ، عليهم ثياب الجواري وحليهن ، راكبين خيلا ، مغشاة بالديباج ، محلّاة اللجم والسروج بالذهب المرصع بالجوهر ، وخمسمائة جارية على رماك «1» فى زى الغلمان ، وألف لبنة من ذهب وفضة ، وتاجا مكللا بالدر والياقوت ، وحقا فيه دره عذراء ، وخرزة جزعية مثقوبة ، معوجّة الثقب ، وأرسلت رسلا ، وأمّرت عليهم المنذر ابن عمرو ، وكتبت كتابا فيه نسخة الهدية. وقالت فيه : إذ كنت نبيا فميّز بين الوصفاء والوصائف ، وأخبر بما فى
___________
(1) الرماك : جمع رمكة ، وهى أنثى البغال. راجع اللسان (رمك 3/ 1733).(4/194)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 195
الحقّ ، واثقب الدرّة ثقبا مستويا ، واسلك فى الخرزة خيطا. ثم قالت للمنذر : إن نظر إليك نظر غضب فهو ملك ، فلا يهولنك منظره ، وإن رأيته لينا لطيفا فهو نبىّ «1».
فأقبل الهدهد ، فأخبر سليمان الخبر كله ، فأمر سليمان الجن فضربوا لبنات الذهب والفضة ، وفرشوها فى الميدان بين يديه ، طوله سبعة فراسخ ، وجعلوا حول الميدان حائطا ، شرفه من الذهب والفضة ، وأمر بأحسن الدواب فى البر والبحر ، فربطوها عن يمين الميدان ويساره ، على اللبنات. وأمر بأولاد الجن - وهم خلق كثير - فأقيموا عن اليمين واليسار ، ثم قعد على سريره ، والكراسي من جانبيه ، واصطفت الشياطين صفوفا فراسخ ، والإنس صفوفا فراسخ ، والوحش والسباع والطيور والهوام كذلك ، فلما دنا القوم ، ونظروا ، بهتوا ، ورأوا الدواب تروث على اللبن ، فتقاصرت إليهم أنفسهم ، ورموا بما معهم من الهدايا.
ولما وقفوا بين يديه ، نظر إليهم سليمان بوجه طلق ، فأعطوه كتاب الملكة ، فنظر فيه ، فقال : أين الحق؟ فأتى به ، فحرّكه ، وأخبره جبريل عليه السّلام بما فيه. فقال لهم : إن فيه كذا وكذا. ثم أمر بالأرضة فأخذت شعرة ، ونفذت فى الدرّة ، فجعل رزقها فى الشجر. وأخذت دودة بيضاء الخيط بفيها ، ونفذت فى ثقب الجزعة ، فجعل رزقها فى الفواكه. ودعا بالماء ، وأمرهم أن يغسلوا وجوههم وأيديهم ، فكانت الجارية تأخذ الماء بيدها فتجعله فى الأخرى ، ثم تضرب به وجهها ، والغلام كما يأخذ الماء يضرب به وجهه فميزهم بذلك. ثم ردّ الهدية.
ذلك قوله تعالى : فَلَمَّا جاءَ سُلَيْمانَ أي : جاء رسولها المنذر بن عمرو إليه قالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ ، توبيخ وإنكار لإمدادهم إياه بالمال ، مع علو شأنه وسعة سلطانه. والتنكير للتحقير ، والخطاب للرسول ومن معه ، أو للرسول والمرسل تغليب للحاضر. فَما آتانِيَ اللَّهُ من النبوة والملك الذي لا غاية وراءه خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ أي : من المال الذي من جملته ما جئتم به ، فلا حاجة لى إلى هديتكم ، ولا وقع لها عندى ، ولعله عليه السّلام إنما قال لهم هذه المقالة .. إلخ بعد ما جرى بينه وبينهم ما حكى من قصة الحقّ وغيرها ، لا أنه عليه السّلام خاطبهم بها أول ما جاءوه.
ثم قال لهم : بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ. الهدية : اسم للمهدى ، كما أن العطية اسم للمعطى ، فتضاف إلى المهدى والمهدى له. والمعنى : أن ما عندى خير مما عندكم ، وذلك أن اللّه تعالى آتاني الدين والمعرفة به ، التي هى الغنى الأكبر ، والحظ الأوفر ، وأتانى من الدنيا ما لا يستزاد عليه ، فكيف يرضى مثلى بأن يمد بمال من قبلكم؟ بل أنتم قوم لا تعلمون إلا ظاهرا من الحياة الدنيا ، فلذلك تفرحون بما تزدادون ويهدى إليكم لأنّ ذلك مبلغ همتكم ، وحالى خلاف ذلكم ، فلا أرضى منكم بشىء ، ولا أفرح إلا بالإيمان منكم ، وترك ما أنتم عليه من المجوسية.
والإضراب راجع إلى معنى ما تقدم ، كأنه قيل : أنا لا أفرح بما تمدوننى به بل أنتم.
___________
(1) قال العلامة ابن كثير ، بعد ذكره لهذه الروايات : واللّه أعلم أكان ذلك أم لا ، وأكثره مأخوذ من الإسرائيليات. انظر تفسير ابن كثير (3/ 363).(4/195)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 196
ثم قال للرسول : ارْجِعْ إِلَيْهِمْ إلى بلقيس وقومها ، وقل لهم : فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ : لا طاقة لَهُمْ بِها. وحقيقة القبل : المقابلة والمقاومة ، أي : لا يقدرون أن يقابلوهم ، وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها أي : من سبأ أَذِلَّةً وَهُمْ صاغِرُونَ : أسارى مهانون. فالذل : أن يذهب عنهم ما كانوا فيه من العز والملك ، والصغار :
أن يبقوا فى أسر واستعباد. فلما رجع إليها رسولها بالهدايا ، وقصّ عليها القصة ، قالت : هو نبى ، ومالنا به طاقة. ثم تجهزت للقائه ، على ما يأتى إن شاء اللّه.
الإشارة : إذا توجه المريد إلى مولاه ، توجهت إليه نفسه بأجنادها ، وهى الدنيا ، والجاه ، والرئاسة ، والحظوظ ، والشهوات ، فتمده أولا بمال وجاه ، تختبره ، فإن علت همته ، وقويت عزيمته ، أعرض عن ذلك وأنكره ، وقال :
أتمدوننى بمال حقير ، وجاه صغير ، فما آتاني اللّه من معرفته والغنى به خير مما آتاكم. ثم يقول للوارد بذلك : ارجع إليهم - أي : للنفس وجنودها - فلنأتينهم بجنود من الأنوار لا قبل لهم بها ، ولنخرجنهم منها - أي : قرية القلب - أذلة وهم صاغرون. واللّه تعالى أعلم بأسرار كتابه.
ثم ذكر إتيان عرشها قبل إتيانها ، فقال :
[سورة النمل (27) : الآيات 38 الى 44]
قالَ يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (38) قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (39) قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40) قالَ نَكِّرُوا لَها عَرْشَها نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ (41) فَلَمَّا جاءَتْ قِيلَ أَهكَذا عَرْشُكِ قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (42)
وَصَدَّها ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ (43) قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها قالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ قالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (44)(4/196)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 197
ولما أرادت بلقيس الخروج إلى سليمان ، جعلت عرشها فى آخر سبعة أبيات ، وغلّقت الأبواب ، وجعلت عليه حراسا يحفظونه ، وبعثت إلى سليمان : إنى قادمة إليك لأنظر ما الذي تدعو إليه ، وشخصت إليه فى اثنى عشر ألف قيل «1» ، تحت كل قيل ألوف ، فلما بلغت على رأس فرسخ من سليمان ، قالَ يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ ، أراد أن يريها بذلك بعض ما خصه اللّه تعالى به ، من إجراء العجائب على يده ، مع اطلاعها على عظيم قدرة اللّه تعالى ، وعلى ما يشهد لنبوة سليمان. أو : أراد أن يأخذه قبل أن تتحصن بالإسلام ، فلا يحل له ، والأول أليق بمنصب النبوة ، أو : أراد أن يختبرها فى عقلها ، بتغييره ، هل تعرفه أو تنكره.
قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ ، وهو المارد الخبيث ، واسمه «ذكوان» ، أو : «صخر» : أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ أي : من مجلسك إلى الحكومة ، وكان يجلس إلى تسع النهار ، وقيل : إلى نصفه. وَإِنِّي عَلَيْهِ على حمله لَقَوِيٌّ أَمِينٌ ، آتى به على ما هو عليه ، لا أغيّر منه شيئا ولا أبدله ، فقال سليمان عليه السّلام ، أريد أعجل من هذا ، قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ. قيل هو : آصف بن برخيا - وزير سليمان عليه السّلام ، كان عنده اسم اللّه الأعظم ، الذي إذا سئل به أجاب. قيل هو : يا حىّ يا قيوم ، أو : يا ذا الجلال والإكرام ، أو : يا إلهنا وإله كل شىء ، إلها واحدا ، لا إله إلا أنت. وليس الشأن معرفة الاسم ، إنما الشأن أن يكون عين الاسم ، أي : عين مسمى الاسم ، حتى يكون أمره بأمر اللّه. وقيل : هو الخضر ، أو : جبريل ، أو : ملك بيده كتاب المقادير ، أرسله تعالى عند قول العفريت. والأول أشهر «2». قال : أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ أي : ترسل طرفك إلى شىء ، فقبل أن ترده تبصر العرش بين يديك.
روى : أن آصف قال لسليمان : مدّ عينيك حتى ينتهى طرفك ، فمدّ عينيه ، فنظر نحو اليمن ، فدعا آصف ، فغار العرش فى مكانه ، ثم نبع عند مجلس سليمان ، بقدرة اللّه تعالى ، قبل أن يرجع إليه طرفه. فَلَمَّا رَآهُ أي :
العرش مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ ثابتا لديه غير مضطرب ، قالَ هذا أي : حصول مرادى ، وهو حضور العرش فى مدة قليلة ، مِنْ فَضْلِ رَبِّي علىّ ، وإحسانه إلىّ ، بلا استحقاق منى ، بل هو فضل خال من العوض ، لِيَبْلُوَنِي : ليختبرنى أَأَشْكُرُ نعمه أَمْ أَكْفُرُ ، وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ لأنه يقيد به محصولها ، ويستجلب به مفقودها ، ويحط عن ذمته عناء الواجب ، ويتخلص من وصمة الكفران. وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ أي : ومن كفر بترك الشكر ، فإن ربى غنى عن شكره ، كريم بترك تعجيل العقوبة إليه. وفى الخبر : «من شكر النعم فقد قيّدها بعقالها ، ومن لم يشكر فقد تعرض لزوالها».
___________
(1) القيل : الملك من ملوك اليمن فى الجاهلية ، دون الملك الأعظم. وجمعه : أقيال وقيول. انظر اللسان (5/ 3798 ، مادة قيل).
(2) انظر هذه الأقوال فى تفسير الطبري (19/ 162 - 163) وتفسير البغوي (6/ 164).(4/197)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 198
وقال الواسطي : ما كان منّا من الشكر فهو لنا ، وما كان منه من النعمة فهو إلينا ، وله المنة والفضل علينا. ه.
قالَ سليمان عليه السّلام لأصحابه : نَكِّرُوا لَها عَرْشَها أي : غيّروا هيئته بوجه من الوجوه ، نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي لمعرفته ، أو : للجواب الصواب إذا سئلت عنه ، أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ إلى معرفة عرشها.
أو إلى الجواب الصواب.
فَلَمَّا جاءَتْ بلقيس سليمان عليه السّلام ، وقد كان العرش بين يديه ، قِيلَ من جهة سليمان ، أو بواسطة :
أَهكَذا عَرْشُكِ؟ ولم يقل : أهذا عرشك لئلا يكون تلقينا ، فيفوت ما هو المقصود من اختبار عقلها ، وقد قيل لسليمان - لما أراد تزوجها - : إن فى عقلها شيئا ، فاختبرها بذلك. قالَتْ - لما رأته - : كَأَنَّهُ هُوَ فأجابت أحسن جواب ، فلم تقل : هو هو ، ولا : ليس به ، وذلك من رجاحة عقلها ، حيث لم تقل : هو هو ، مع علمها بحقيقة الحال ، ولما شبّهوا عليها بقولهم : أهكذا عرشك شبهت عليهم بقولها : كَأَنَّهُ هُوَ مع أنها علمت بعرشها حقيقة ، تلويحا بما اعتراه بالتنكير من نوع مغايرة فى الصفات مع اتحاد الذات ، ومراعاة لحسن الأدب فى محاورته عليه السّلام.
ولو قالوا : أهذا عرشك؟ لقالت : هو.
ثم قالت : وَأُوتِينَا الْعِلْمَ بقدرة اللّه تعالى ، وبصحة نبوتك مِنْ قَبْلِها من قبل هذا الأمر ، أي : من قبل هذه المعجزة التي شاهدنا الآن ، من أمر الهدهد ، وبما سمعناه من المنذر من الآيات الدالة على ذلك ، وَكُنَّا مُسْلِمِينَ منقادين لك من ذلك الوقت ، وكأنها ظنت أنه أراد عليه السّلام اختبار عقلها ، وإظهار المعجزة ، لتؤمن به ، فأظهرت أنها آمنت به قيل وصولها إليه. أو قال سليمان : وَأُوتِينَا الْعِلْمَ باللّه تعالى وبكمال قدرته من قبل هذه الآية ، وَكُنَّا مُسْلِمِينَ موحدين ، أو : وَأُوتِينَا الْعِلْمَ بإسلامها ومجيئها طائعة مِنْ قَبْلِها مجيئها ، وَكُنَّا مُسْلِمِينَ موحّدين.
وَصَدَّها ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ ، هو من كلام سليمان ، أي : وصدها عن العلم بما علمناه - أو : عن التقدم إلى الإسلام - عبادة الشمس وإقامتها بين ظهرانىّ الكفرة ، أو : من كلام تعالى ، بيانا لما كان يمنعها من إظهار ما ادعته من الإسلام الآن ، أي : صدّها عن ذلك عبادتها القديمة للشمس ، إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ أي : كانت من قوم راسخين فى الكفر ، ولذلك لم تكن قادرة على إظهار إسلامها ، وهى بين ظهرانيهم ، حتى دخلت تحت ملكة سليمان عليه السّلام ، أو : وصدها اللّه تعالى ، أو : سليمان ، عما كانت تعبد من دون اللّه ، فحذف الجار وأوصل الفعل.
لَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ
أي : القصر ، أو : صحن الدار ، لَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً
: ماء عظيما ، كَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها
. روى أن سليمان عليه السّلام أمر قبل قدومها ، فبنى له على طريقها قصر من زجاج(4/198)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 199
أبيض ، وأجرى من تحته الماء ، وألقى فيه السمك وغيره ، ووضع سريره فى صدره ، فجلس عليه ، وعكف عليه الطير والجن والإنس. وإنما فعل ليزيدها استعظاما لأمره ، وتحقيقا لنبوته. وقيل : إن الجن كرهوا أن يتزوجها ، فتفضى إليه بأسرارهم لأنها كانت بنت جنّية. وقيل : خافوا أن يولد له منها ولد ، فيجتمع له فطنة الجن والإنس ، فيخرجون من ملك سليمان إلى ملك أشدّ منه ، فقالوا له : إن فى عقلها شيئا ، وهى شعراء الساقين ، ورجلها كحافر الحمار ، فاحتبر عقلها بتنكير العرش ، واتخذ الصرح ليتعرف ساقيها ورجلها «1» فكشفت عنهما ، فإذا هى أحسن الناس ساقا وقدما ، إلا أنها شعراء ، وصرف بصره. ثم الَ
لها : نَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ
مملس مستو. ومنه :
الأمرد ، للذى لا شعر فى وجهه ، نْ قَوارِيرَ
من الزجاج ، وأراد سليمان تزوجها ، فكره شعرها ، فعملت له الشياطين النورة ، فنكحها سليمان ، وأحبها ، وأقرها على ملكها ، وكان يزورها فى الشهر مرة ، فيقيم عندها ثلاثة أيام ، وولدت له ، وانقضى ملكها بانقضاء ملك سليمان عليه السّلام ، فسبحان من لا انقضاء لملكه.
روى أنه ملك وهو ابن ثلاث عشرة سنة ، ومات وهو ابن ثلاث وخمسين سنة. ه.
ثم ذكر إسلامها ، فقال : الَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي
بعبادة الشمس ، أَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ
تابعة له ، مقتدية به ، لَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ
. وفيه الالتفات إلى الاسم الجليل ، ووصفه بربوبيته للعالمين لإظهار معرفتها بألوهيته تعالى ، وتفرده باستحقاق العبادة ، وربوبيته لجميع الموجودين ، التي من جملتها : ما كانت تعبد قبل ذلك من الشمس. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : عرش النفس الذي تستقر عليه هو الدنيا ، فمن أحب الدنيا وركن إلى أهلها ، فقد أجلس نفسه على عرشها ، وصيّرها مالكة له ، متصرفة فيه بما تحب ، ومن أبغض الدنيا وزهد فى أهلها ، فقد هدم لها عرشها ، وصارت خادمة مملوكة له ، يتصرف فيها كيف يشاء. فيقول الداعي إلى اللّه - وهو من أهّله اللّه للتربية - للمريدين :
أيكم يأتينى بعرشها ، ويخرج عنها للّه فى أول بدايته؟ فمنهم من يأتى بها بعد مدة ، ومنهم من يأتى بها أسرع من طرفة ، على قدر القوة والعزم والصدق فى الطلب ، ومن أتى بعرش نفسه ، وخرج عنها للّه ، فهو الذي آتاه اللّه علما
___________
(1) الواضح أن سليمان ، عليه السّلام أراد ببناء الصرح : أن يريها عظمة ملكه وسلطانه ، وأن اللّه أعطاه من الملك ما لم يعطها ، فضلا عن النبوة ، التي هى فوق الملك ، وحاشا لسليمان - وهو الذي سأل اللّه أن يعطيه حكما ، يوافق حكمه ، فأوتيه ، أن يحتال لينظر إلى ساقيها ، وهى أجنبية. وما نقل من روايات إنما هو من الإسرائيليات المكذوبة ، لا يصح القول بها.
قال الحافظ ابن كثير فى تفسيره : (3/ 366) معقبا على رواية لابن أبى شيبة ، فى هذا الشأن : والأقرب فى مثل هذه السياقات أنها متلقاة عن أهل الكتاب ، مما وجد فى صحفهم - كروايات كعب ووهب - سامحهما اللّه تعالى ، فيما نقلاه إلى هذه الأمة ، من أخبار بنى إسرائيل ، من الأوابد ، والغرائب ، والعجائب ، مما كان ، ومما لم يكن ، ومما حرّف ، وبدل ، ونسخ ، وقد أغنانا اللّه سبحانه عن ذلك ، بما هو أصح منه وأنفع وأوضح ، وللّه الحمد والمنة.(4/199)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 200
من الكتاب ، وعرف مدلوله ومقصوده ، لكن من السياسة أن يتدرج المريد فى تركها شيئا فشيئا ، حتى يخرج عنها ، أو يغيب عن شغلها بالكلية ، وإن كانت بيده. فلما خرجوا عن عرش نفوسهم للّه ، وتوجهوا إليه ، ورأى ذلك منهم ، قال : هذا من فضل ربى ، حيث وقعت الهداية على يدى ، ليبلونى ، أشكر أم أكفر .. الآية. قال نكّروا لها عرشها ، أي :
اعرضوا عليها الدنيا ، وأروها عرشها التي كانت عليه ، متغيرا عن حاله الأولى - لأنه كان معشوقا لها ، والآن صار ممقوتا لغناها باللّه - ننظر أتهتدي إليه ، وترجع إلى محبته ، فيكون علامة على عدم وصولها ، أم تكون من الذين لا يهتدون إليه أبدا ، فتكون قد تمكنت من الأنس باللّه ، فلما جاءت وأظهر لها عرشها اختبارا ، قيل : أهكذا عرشك؟ قالت : كأنه هو ، وأوتينا العلم باللّه من قبل هذه الساعة ، وكنا منقادين لمراده ، فلن نرجع إلى ما خرجنا عنه للّه أبدا. وصدّها عن الحضرة ما كانت تعبد من الهوى ، من دون محبة اللّه ، إنها كانت من قوم كافرين ، منكرين للحضرة ، غير عارفين بها. قيل لها حين رحلت عن عرشها : ادخلى دار الحضرة ، فلما رأت بحر الوحدة ، يتموج بتيار الصفات ، دهشت ، وحسبته لجة ، يغرق صاحبه فى بحر الزندقة ، قال لها رئيس البحرية - وهو شيخ التربية : إنه بحر منزه متصل ، لا أول له ، ولا آخر له. ليس مثله شىء ، ولا معه شىء ، محيط بكل شىء ، وماح لكل شىء. ثم اعترفت أنها ظالمة لنفسها ، مشغولة بهواها ، قبل أن تعرف هواه ، فلما عرفته غابت عن غيره ، واستسلمت وانقادت له. واللّه تعالى أعلم.
ثم ذكر قصة صالح عليه السّلام فقال :
[سورة النمل (27) : الآيات 45 الى 47]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ (45) قالَ يا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْ لا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (46) قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قالَ طائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (47)
قلت : (و لقد أرسلنا) : عطف على (و لقد آتينا داود ...) إلخ.
يقول الحق جل جلاله : وَاللّه لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ نسبا صالِحاً ، أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ أي : بأن اعبدوه وحده ، فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ أي : ففاجئوا التفرق والاختصام ، ففريق مؤمن به ، (4/200)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 201
وفريق كافر ، أو : يختصمون فيه ، فكل فريق يقول : الحق معى. وقد فسر هذا الاختصام قوله تعالى فى الأعراف :
قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ ، قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ «1». قالَ عليه السّلام للفريق الكافر ، بعد ما شاهد منهم ما شاهد من نهاية العتو والعناد ، حتى استعجلوا العذاب : يا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ بالعقوبة السيئة قَبْلَ الْحَسَنَةِ أي : التوبة الصالحة ، فتؤخرونها إلى حين نزولها ، حيث كانوا - من جهلهم وغوايتهم يقولون : إن وقع العذاب تبنا حينئذ ، وإلا فنحن على ما كنا عليه. أو : لم تستعجلون بالعذاب قبل الرحمة ، أو : بالمعصية قبل الطاعة ، لَوْ لا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ : هلا تطلبون المغفرة من كفركم بالتوبة والإيمان قبل نزوله ، لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ بالإجابة قبل النزول ، إذ لا قبول بعده ، قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ تشاء منا بك وَبِمَنْ مَعَكَ من المؤمنين لأنهم قحطوا عند مبعثه لكفرهم ، فنسبوه إلى مجيئه. والأصل : تطيرنا. وقرئ به ، فأدغمت التاء فى الطاء ، وزيدت ألف وصل ، للسكون.
قالَ صالح عليه السّلام : طائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أي : سببكم الذي به ينالكم ما ينالكم من الخير والشر عند اللّه ، وهو قدره وقضاؤه ، أو : عملكم مكتوب عند اللّه ، فمنه نزل بكم ما نزل ، عقوبة لكم وفتنة. ومنه : وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ «2» أي : ألزمناه جزاء عمله ، أو : ما قدر له فى عنقه ، وأصله : أن المسافر كان إذا مرّ بطائر يزجره ، فإن مر إلى جهة اليمين تيمن ، وإن مر إلى ناحية الشمال تشاءم ، فلما نسبوا الخير والشر إلى الطائر استعير لما كان سببهما من قدر اللّه وقسمته ، أو : من عمل العبد الذي هو السبب فى الرحمة والنقمة ، بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ : تختبرون بتعاقب السراء والضراء ، أو : تعذبون ، أو : يفتنكم الشيطان بوسوسته إليكم الطيرة. قال - عليه الصلاة والسلام - : «لا عدوى ولا طيرة» «3» وقال أيضا : «إذا تطيرت فلا ترجع» «4». واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : سير أهل التربية مع أهل زمانهم كسير الأنبياء مع أممهم ، إذا بعثهم اللّه إلى أهل زمانهم اختصموا فيهم ، ففريق يصدق وفريق يكذب ، فيطلبون الكرامة والبرهان ، ويتطيرون بهم وبمن تبعهم ، إن ظهرت بهم قهرية من عند اللّه ، كما رأينا ذلك كله. وباللّه التوفيق.
___________
(1) الآيتان : 75 - 76 من سورة الأعراف.
(2) من الآية 13 من سورة الإسراء.
(3) أخرجه البخاري فى (الطب ، باب الطيرة ، ح 5753) ومسلم فى (السلام ، باب الطيرة والفأل 4/ 1747 ، ح 2225) من حديث عبد اللّه بن عمر رضي اللّه عنه.
(4) قال ابن حجر فى الفتح (10/ 224) : أخرج عبد الرزاق عن معمر عن إسماعيل بن أمية عن النبي صلى اللّه عليه وسلم : «ثلاثة لا يسلم منهن أحد :
الطيرة ، والظن ، والحسد ، فإذا تطيرت فلا ترجع ، وإذا حسدت فلا تبغ ، وإذا ظننت فلا تحقق ، وهذا مرسل أو معضل ، لكن له شاهد من حديث أبى هريرة ، أخرجه البيهقي فى الشعب. ه.(4/201)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 202
ثم ذكر اهتمامهم بقتل صالح وهلاكهم ، فقال :
[سورة النمل (27) : الآيات 48 الى 53]
وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ (48) قالُوا تَقاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ ما شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (49) وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (50) فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (51) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (52)
وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (53)
يقول الحق جل جلاله : وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ مدينة ثمود ، وهى الحجر ، تِسْعَةُ رَهْطٍ أي :
أشخاص ، وهو جمع لا واحد له ، فلذا جاز تمييز التسعة به ، فكأنه قيل : تسعة أنفس ، وهو من الثلاثة إلى العشرة ، وكان رئيسهم «قدار بن سالف» وهم الذين سعوا فى عقر الناقة ، وكانوا أبناء أشرافهم ومن عتاتهم ، يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أي : فى المدينة ، إفسادا لا يخالطه شىء من الصلاح أصلا ، وَلا يُصْلِحُونَ يعنى : إن شأنهم الإفساد المحض ، الذي لا صلاح معه. وعن الحسن : يظلمون الناس ، ولا يمنعون الظالمين عن الظلم. وعن ابن عطاء : يتبعون معايب الناس ، ولا يسترون عوراتهم.
قالُوا تَقاسَمُوا بِاللَّهِ : استئناف لبيان بعض فسادهم. و(تقاسموا) : إما أمر مقول لقالوا ، أي : تحالفوا أمر بعضهم بعضا بالقسم على قتله. وإما خبر حال ، أي : قالوا متقاسمين. لَنُبَيِّتَنَّهُ : لنقتلنه بياتا ، أي : ليلا ، وَأَهْلَهُ : ولده ونساءه ، ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ أي : لولىّ دمه : ما شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ أي : ما حضرنا هلاكهم ، أو : وقت هلاكهم. أو : مكانه فضلا أن نتولى إهلاكهم ، وَإِنَّا لَصادِقُونَ فيما ذكرناه. وهو إما من تمام المقول ، أو : حال ، أي : نقول ما نقول والحال أنا صادقون فى ذلك لأن الشاهد للشىء غير المباشر له عرفا. ولأنا ما شهدنا مهلك أهله وحده ، بل مهلكه ومهلككم جميعا ، كقولك : ما رأيت ثمّ رجلا ، أي : بل رجلين. ولعل تحرجهم من الكذب فى الأيمان مع كفرهم لما تعودوا من تعجيل العقوبة للكاذب فى القسامة ، كما كان أهل الشرك مع البيت الحرام فى الجاهلية. وكان تقاسمهم بعد أن أنذرهم بالعذاب ، وبعد قوله : تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ «1».
___________
(1) من الآية 65 من سورة هود. [.....](4/202)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 203
قال تعالى : وَمَكَرُوا مَكْراً بهذه المواضع ، وَمَكَرْنا مَكْراً أهلكناهم إهلاكا غير معهود ، وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ أي : من حيث لا يحتسبون ، فمكرهم : هو ما أخفوه من تدبير الفتك بصالح عليه السّلام وأهله.
ومكر اللّه : إهلاكهم من حيث لا يشعرون. فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أي : فتفكر فى أنه كيف كان عاقبة مكرهم. فسره بقوله : أَنَّا دَمَّرْناهُمْ : أهلكناهم بالصيحة وَقَوْمَهُمْ الذين لم يكونوا معهم فى التبييت أَجْمَعِينَ. روى أنه كان لصالح مسجد فى شعب يصلّى فيه. فقالوا : زعم صالح يفرع منا إلى ثلاث ، وقد رأى علامة ذلك ، فنحن نفرغ منه ومن أهله قبل الثلاث ، فخرجوا إلى الشعب ، وقالوا : إذا جاء يصلى قتلناه ، ثم رجعنا إلى أهله فقتلناهم ، فبعث اللّه تعالى صخرة من الهضب التي حيالهم «1» ، فبادروا ، فأطبقت الصخرة عليهم فم الشعب ، فلم يدر قومهم أين هم ، ولم يدروا ما فعل بقومهم ، وعذّب اللّه كلّا فى مكانه ونجى صالحا ومن معه.
وقال ابن عباس : أرسل اللّه الملائكة ليلا ، فامتلأت بهم دار صالح ، فأتى التسعة إلى دار صالح ، شاهرين السيوف ، فقتلتهم الملائكة بالحجارة يرون الحجارة ، ولا يرون راميا «2» .. ه. ويمكن الجمع بأن بعضهم مات تحت الصخرة ، وبعضهم أتى إلى دار صالح فقتل.
قال تعالى : فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً ساقطة متهدمة ، من : خوى النجم : إذا سقط. أو : خالية من السكان ، بِما ظَلَمُوا بسبب ظلمهم. إِنَّ فِي ذلِكَ أي : فيما ذكر من التدمير العجيب لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ قدرتنا ، فيتعظون.
وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا أي : صالحا ومن معه من المؤمنين ، وَكانُوا يَتَّقُونَ الكفر والمعاصي ، اتقاء مستمرا ، ولذلك نجوا مع صالح. قال مقاتل : لما وقت لهم صالح العذاب إلى ثلاث ، خرج أول يوم على أبدانهم مثل الحمّص أحمر ، ثم اصفر من الغد ، ثم اسود من اليوم الثالث. ثم تفقأت ، وصاح جبريل فى خلال ذلك ، فخمدوا ، وكانت القرية المؤمنة الناجية أربعة آلاف ، خرج بهم صالح إلى حضرموت ، فلما دخلها مات صالح ، فسميت حضرموت. ه. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : وكان فى مدينة القلب تسع علل ، يفسدون فيها ولا يصلحون ، وهى حب الدنيا ، وحب الرئاسة ، والحسد. والكبر ، والحقد ، والعجب ، والرياء ، والمداهنة ، والبخل ، هم أفسدوا قلوب الناس ، وتقاسموا على هلاكها ، ومكروا بهم حتى زيّنوا لهم سوء عملهم ، ومكر اللّه بهم ، فدفعهم ودمّرهم عن قلوب الصالحين ، فتلك بيوتهم خاوية منها ، أخرجهم منها ، بسبب ظلمهم لها.
___________
(1) حياله : إزاءه.
(2) انظر تفسير البغوي (6/ 170).(4/203)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 204
وقال القشيري على قوله : وَمَكَرُوا مَكْراً ... الآية : مكر اللّه : جزاؤهم على مكرهم ، بإخفاء ما أراد منهم من العقوبة ، ثم إحلالها بهم بغتة. ه. وقال الورتجبي : حقيقة المكر : امتناع سر الأزلية عن مطالعة الخليفة ، فإذا كان كذلك من ينجو من مكره ، والحدث لا يطلع على سوابق علمه فى القدم ، فمكره وقهره صفتان من صفاته ، لا تفارقان ذاته ، وذاته أبدية ، انظر تمامه. قلت : ومعنى كلامه : أن مكر اللّه فى الجملة : هو إخفاء السر الأزلى - وهو القضاء والقدر - عن مطالعة الخلق ، فلا يدرى أحد ما سبق له فى العلم القديم ، وإذا كان كذلك فلا ينجوا أحد من مكره إذ الحدث لا يطلع على سوابق العلم القديم ، إلا من اطلع عليه بوحي ، كالأنبياء ، أو بنص صريح منهم ، كالمبشرين بالجنة ، ومع ذلك : العارف لا يقف مع وعد ولا وعيد إذ قد يتوقف على شرط وأسباب خفية ، ولذلك قيل : العارف لا يسكن إلى اللّه. قاله فى لطائف المنن ، أىّ : لا يسكن إلى وعد اللّه ولا وعيده ، فلا يزول اضطراره ، ولا يكون مع غير اللّه قراره.
وقال القشيري - على قوله : فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً .. ، فى الخبر : «لو كان الظلم بيتا فى الجنة لسلط اللّه عليه الخراب». ه. قلت : فكل من اشتغل بظلم العباد ، فعن قريب ترى دياره بلاقع «1» ، كما هو مجرب. واللّه تعالى أعلم.
ثم ذكر قصة لوط - عليه السّلام - فقال :
[سورة النمل (27) : الآيات 54 الى 58]
وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (54) أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (55) فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ (56) فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ (57) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (58)
قلت : (و لوطا) : عطف على (صالحا) داخل معه فى القسم ، أي : ولقد أرسلنا صالحا ولوطا. و(إذ قال) : ظرف للإرسال ، أو : منصوب باذكر ، و(إذ قال) : بدل من (لوط).
___________
(1) البلقع : الأرض القفر ، التي لا شىء فيها ، والخالي من البرية. انظر اللسان (1/ 348 ، مادة : بلقع).(4/204)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 205
يقول الحق جل جلاله : وَلقد أرسلنا لُوطاً ، أو : واذكر لوطا إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أي : وقت قوله لهم : أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ أي : الفعلة المتناهية فى الفحش والسماجة ، وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ أي : والحالة أنكم تعلمون علما يقينيا أنها فاحشة ، لم تسبقوا إليها. والجملة الحالية تفيد تأكيد الإنكار ، فإنّ تعاطى القبيح من العالم بقبحه أقبح وأشنع ، ولذلك ورد فى الخبر : «أشدّ الناس عذابا يوم القيامة عالم لم ينفعه اللّه بعلمه» «1». وقال الفخر :
لا تصدر المعصية من العالم قط وهو عالم ، وحين صدورها منه هو جاهل لأنه رجح المرجوح ، وترجيح المرجوح جهل ، ولذلك قال : بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ. ه. وفى الحديث : «لا يزنى الزاني حين يزنى وهو مؤمن» «2». إذ لو صدّق باطلاع الحق عليه ما قدر على الزنى ، لكنه جهل ذلك. وتُبْصِرُونَ ، من : بصر القلب. وقيل : يبصر بعضكم بعضا لأنهم كانوا يرتكبونها فى ناديهم ، معلنين بها ، لا يستتر بعضهم من بعض ، مجانة وانهماكا فى المعصية ، أو : تبصرون آثار العصاة قبلكم ، وما نزل بهم.
أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً أي : للشهوة مِنْ دُونِ النِّساءِ أي : إن اللّه تعالى إنما خلق الأنثى للذكر ، ولم يخلق الذكر للذكر ، ولا الأنثى للأنثى ، فهى مضادة للّه تعالى فى حكمته ، فلذلك كانت أشنع المعاصي ، بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ تفعلون فعل الجاهلين بقبحها ، أو : تجهلون العاقبة. أو : بمعنى السفاهة والمجون ، أي : بل أنتم سفهاء ماجنون. والتاء فيه - مع كونه صفة لقوم لكونهم فى حيز الخطاب. وكذا قوله : بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ «3» ، غلّب الخطاب على الغيبة. قال ابن عرفة : «بل» : للانتقال ، والانتقال فى باب الذم إنما يكون عن أمر خفيف إلى ما هو أشد منه ، وتقرير الأشدّية هنا : أن المضروب عنه راجع للقوة الحسية العملية ، وهى منقطعة تنقضى بانقضاء ذلك الفعل ، والثاني راجع للقوة العلمية ، وهى دائمة لأن العلم بالشيء دائم ، والعمل به منقطع غير دائم. ه.
فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ حين نهاهم عن تلك الفاحشة ودعاهم إلى اللّه ، إِلَّا أَنْ قالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ أي : لوطا ومتبعيه مِنْ قَرْيَتِكُمْ ، إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ يتنزهون عن أفعالنا ، أو : عن القاذورات ، ويعدون فعلنا قذرا. وعن ابن عباس : إنه استهزاء ، كقوله : إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ «4».
___________
(1) رواه الطبراني فى المعجم الصغير (1/ 182 - 183) والبيهقي فى الشعب (ح 7778) ، من حديث أبى هريرة - رضي اللّه عنه. والحديث ضعّفه السيوطي فى الجامع الصغير (ح 1053).
(2) جزء من حديث أخرجه البخاري فى (المظالم ، باب النّهبى بغير إذن صاحبها ، ح 2475) ومسلم فى (الإيمان ، باب بيان نقصان الإيمان بالمعاصي 1/ 76 ح 100) من حديث أبى هريرة رضي اللّه عنه.
(3) من الآية 47 من سورة النمل.
(4) الآية 87 من سورة هود.(4/205)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 206
فَأَنْجَيْناهُ : فخلّصناه من العذاب الواقع بالقوم ، وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْناها بالتشديد والتخفيف ، أي :
قدرنا أنها مِنَ الْغابِرِينَ الباقين فى العذاب. وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً غير معهود حجارة مكتوب عليها اسم صاحبها ، فَساءَ : قبح مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ الذين لم يقبلوا الإنذار. وقد مرّ كيفية ما جرى بهم غير مرة.
واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : ما أنكر لوط على قومه إلا غلبة الشهوة على قلوبهم ، والانهماك فى غفلتهم ، فرجعت إلى معصية القلوب ، وهى أشد من معصية الجوارح لأن معصية الجوارح إذا صحبتها التوبة والانكسار ، عادت طاعة ، بخلاف معصية القلوب فإنها تنطمس بها أنوار الغيوب ، فلا يزيد صاحبها إلا البعد والطرد ، والعياذ باللّه.
ثم أمر رسوله محمدا صلى اللّه عليه وسلم بالتحميد ، ثم بالسلام على عباده المرسلين توطئة لما يتلوه من الدلالة على وحدانيته تعالى ، وقدرته على كل شىء ، وهو تعليم لكل متكلم فى كل أمر ذى بال ، بأن يبتدئ فى خطبته بحمد اللّه ، والثناء على رسله ، فقال :
[سورة النمل (27) : الآيات 59 الى 60]
قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59) أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60)
يقول الحق جل جلاله لنبيه - عليه الصلاة والسلام - : قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ على ما أنعم به عليك من فنون النعم ، ومن جملتها : اطلاعك على أسرار علم غيوبه ، وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى لرسالته. وقال ابن عباس وسفيان : هم أصحاب محمد صلى اللّه عليه وسلم ، اصطفاهم بصحبته - عليه الصلاة والسلام - وقال الكلبي : هم أمة محمد صلى اللّه عليه وسلم ، اصطفاهم اللّه لمعرفته وطاعته. ثم قل لهم إلزاما للحجة : آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ «1» أي : آللّه الذي ذكرت شئونه العظيمة خير ، أم ما تشركونه معه تعالى من الأصنام؟ ومرجع الترديد إلى التعرض بتبكيت الكفرة ، وتسفيه آرائهم الركيكة ، والتهكم بهم إذ من البيّن أن ليس فيما أشركوه به تعالى شائبة خير ، حتى يمكن أن يوازن بينه وبين من لا خير إلا خيره ، ولا إله غيره.
وكان عليه الصلاة والسلام إذا قرأها قال : «بل اللّه خير ، وأبقى ، وأجلّ ، وأكرم» «2».
___________
(1) قرأ عاصم ، وأبو عمرو ، ويعقوب : «يشركون» بالياء. وقرأ الباقون : «تشركون» بالخطاب ... انظر الإتحاف (2/ 332).
(2) قال الحافظ ابن حجر : كذا ذكره الثعلبي بغير إسناد. انظر الكافي الشاف على هامش الكشاف (3/ 375).(4/206)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 207
ثم عدّد سبحانه الخيرات والمنافع ، الدالة على انفراده بالخيرية ، فقال : أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ ، «أم» هنا : منقطعة ، بخلاف أَمَّا يُشْرِكُونَ أي : بل أمّن خلق العالم العلوي والسفلى ، وأفاض من كل واحد ما يليق به من الخيرات ، خير ، أم جماد لا يقدر على شى ء؟ فمن : مبتدأ ، وخبرها : محذوف مع «أم» المعادلة للهمزة ، كما قررنا.
وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً. مطرا فَأَنْبَتْنا ، التفت من الغيبة إلى التكلم تأكيدا لمعنى اختصاص الفعل به تعالى ، وإيذانا بأن إنبات الحدائق المختلفة الأصناف والألوان ، والطعوم والأشكال ، مع بهجتها ، بماء واحد ، لا يقدر عليه غيره ، أي : فأخرجنا بِهِ حَدائِقَ : بساتين ، فالحديقة : بستان عليه حائط ، من : الإحداق ، وهو الإحاطة ، ذاتَ بَهْجَةٍ أي : ذات حسن ورونق ، تبتهج به النظار ، ولم يقل : ذوات لأن المعنى : جماعة حدائق ، كما تقول : النساء ذهبت. ما كانَ لَكُمْ ما صح وما أمكن لكم أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها فضلا عن ثمارها وسائر صفاتها البديعة المبهجة ، أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ؟ أي : أإله كائن مع اللّه ، الذي ذكرت أفعاله ، التي لا يقدر عليها غيره ، حتى يتوهم جعله شريكا له تعالى فى العبادة؟ أو : أإله مع اللّه يفعل ذلك؟ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ :
بل هم قوم عادتهم العدول عن طريق الحق بالكلية ، والانحراف عن الاستقامة فى كل أمر من الأمور ، فلذلك يفعلون ما يفعلون من الإشراك والجرائم ، أو : يعدلون به غيره فيشركونه معه. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : قل الحمد للّه ، الذي كشف الحجب عن قلوب أوليائه ، وسلام على عباده الذين اصطفاهم لحضرته ، آللّه خير ، أي : أشهود اللّه وحده فى الوجود خير ، أم شهود الغير معه؟ ، فتشركون فى توحيدكم. أمن خلق سموات أرواحكم ، وهيأها لشهود الربوبية ، وخلق أرض نفوسكم ، وهيأها لآداب العبودية ، وأنزل لكم من سماء الغيوب ماء الواردات الإلهية ، فأنبتنا به فى قلوب العارفين بساتين المعرفة ، ذات بهجة ونزهة؟ ما كان لكم ، وفى طوقكم ، أن تنبتوا فى قلوبكم شجر المعرفة ، ولا ثمار المحبة ، أإله مع اللّه يمنّ عليكم بذلك؟ ، بل هم قوم يعدلون عن طريق الوصول إلى هذه البساتين البهية لأنها محفوفة بالمكاره النفسية ، لا يقدر على سلوكها إلا الشجعان ، أهل الهمم العلية. وباللّه التوفيق.
ثم ذكر نوعا آخر من دلائل توحيده ، فقال :
[سورة النمل (27) : آية 61]
أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (61)(4/207)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 208
يقول الحق جل جلاله : أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً أي : قارة ثابتة ، ليستقر عليها الإنسان والدواب ، بإظهار بعضها من الماء ، ودحوها وتسويتها ، حسبما يدور عليه منافعهم. وَجَعَلَ خِلالَها أواسطها أَنْهاراً جارية ينتفعون بها ، وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ أي : جبالا ثوابت ، تمنعها أن تميد بأهلها ، ولتتكون فيها المعادن ، وينبع من حضيضها المنابع. وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ أي : العذب والمالح ، أو : خليجى فارس والروم حاجِزاً برزخا مانعا من المعارجة والمخالطة ، أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ فى الوجود ، أو : فى إبداع هذه البدائع؟
بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شيئا من الأشياء ، ولذلك لا يفهمون بطلان ما هم عليه من الشرك مع كمال ظهوره.
الإشارة : أم من جعل أرض النفوس قرارا ، لتستقر عليها أحكام العبودية ، وتتصرف فيها أقدار الربوبية ، وجعل خلالها أنهارا من علوم الشرائع ، وما يتعلق بعالم الحكمة من الحكم والأحكام ، وجعل لها جبالا من العقل لتعرف صانعها ومدبرها ، وجعل بين بحر الحقيقة والشريعة حاجزا وبرزخا ، وهو نور العقل؟ فما دام العقل صاحيا ميّز بين الحقيقة والشريعة ، فيلزمه التكليف ، ويعطى كل ذى حق حقه. فإذا سكر وغاب نوره سقط التكليف. وقد تشرق على نور قمر العقل شمس العرفان ، فتغطيه مع وجود صحوه ، فيميز بين الحقائق والشرائع ، وتكون عباداته أدبا وشكرا.
وباللّه التوفيق.
ثم ذكر نوعا آخر ، فقال :
[سورة النمل (27) : آية 62]
أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (62)
قلت : الاضطرار : الافتعال من الضرورة ، وهى الحاجة المحوجة إلى اللجأ ، يقال : اضطره إلى كذا ، واسم الفاعل والمفعول : مضطر ، ويختلف التقدير.
يقول الحق جل جلاله : أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ ، وهو من نزلت به شدة من شدائد الزمان ، ألجأته إلى الدعاء والتضرع ، كمرض ، أو فقر ، أو نازلة من نوازل الدهر ونوائبه ، أو : المذنب إذا استغفر مبتهلا ، أو :
المظلوم إذا دعا ، أو : من رفع يديه ، ولم ير لنفسه حسنة يرجو بها القبول غير التوحيد ، وهو منه على خطر ، فهذه أنواع المضطر. وإجابة دعوته مقيدة بالحديث : «الدّاعى على ثلاث مراتب ، إما أن يعجل له ما طلب ، وإما أن(4/208)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 209
يدخر له أفضل منه ، وإما أن يدفع عنه من السوء مثله» «1». وأيضا : إذا حصل الاضطرار الحقيقي حصلت الإجابة قطعا ، إما بعين المطلوب ، أو بما هو أتم منه ، وهو الرضا والتأييد. وَيَكْشِفُ السُّوءَ وهو الذي يعترى الإنسان مما يسوؤه ، كضرر أو جور ، وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ أي : خلفاء فيها ، تتصرفون فيها كيف شئتم ، بالسكنى وغيره ، وراثة عمن كان قبلكم من الأمم ، قرنا بعد قرن. أو : أراد بالخلافة : الملك والتسلط. أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ الذي يفيض على الخلق هذه النعم الجسام ، يمكن أن يعطيكم مثلها؟ قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ «2» أي : تذكرا قليلا ، أو :
زمانا قليلا تتذكرون فيه. و«ما» : مزيدة ، لتأكيد معنى القلة ، التي أريد بها العدم ، أو : ما يجرى مجراه فى الحقارة وعدم الجدوى. وتذييل الكلام بنفي عدم التذكر منهم إيذان بأن وجود التذكر مركوز فى ذهن كل ذكى ، وأنه من الوضوح بحيث لا يتوقف إلا على التوجه إليه وتذكره. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : الاضطرار الحقيقي الذي لا تتخلف الإجابة عنه فى الغالب : هو أن يكون العبد فى حال شدته كالغريق فى البحر وحده ، لا يرى لغياثه غير سيده. وقال ذو النون : هو الذي قطع العلائق عما دون اللّه. وقال سهل بن عبد اللّه : هو الذي رفع يديه إلى اللّه تعالى داعيا ، ولم تكن له وسيلة من طاعة قدّمها. ه. بل يقدم إساءته بين يديه ، ليكون دعاؤه بلا شىء يستحق عليه الإجابة ، إلا من محض الكرم.
قال القشيري : يقال للجناية : سراية ، فمن كان فى الجناية مختارا ، فليس يسلم له دعوى الاضطرار عند سراية جرمه الذي سلف ، وهو فى فى ذلك مختار ، فأكثر الناس أنهم مضطرون ، وذلك الاضطرار سراية ما برز منهم فى حال اختيارهم ، ومادام العبد يتوهم من نفسه شيئا من الحول والحيل ، ويرى لنفسه شيئا من الأسباب يعتمد عليه ، ويستند إليه ، فليس بمضطر ، إلا أن يرى نفسه كالغريق فى البحر ، والضّالّ فى المتاهة. والمضطر يرى غياثه بيد سيّده ، وزمامه فى قبضته ، كالميت فى يد غاسله ، ولا يرى لنفسه استحقاقا فى أن يجاب ، بل اعتقاده فى نفسه أنه من أهل السخط ، ولا يقرأ اسمه فى ديوان السعادة ، ولا ينبغى للمضطر أن يستعين بأحد فى أن يدعو له لأن اللّه وعد الإجابة له لا من يدعو له. ه. وبحث معه المحشى الفاسى فى بعض ألفاظه ، فانظره.
قوله تعالى : وَيَكْشِفُ السُّوءَ. أي : ما يسوء القلب ويحجبه عن مولاه ، من أكدار وأغيار ، وقوله : (و يجعلكم خلفاء الأرض) أي : تتصرفون فى الوجود بأسره ، بهمتكم ، إن زال غم الحجاب عنكم ، وشاهدتم ربكم بعين
___________
(1) جاء بلفظ : «ما من مسلم يدعو بدعوة ليس فيها إثم ، ولا قطيعة رحم ، إلا أعطاه اللّه بها إحدى ثلاث إما أن يجعل له دعوته ، وإما أن يدخرها له فى الآخرة ، وإما أن يصرف عنه من السوء مثلها ..» الحديث ، أخرجه أحمد فى المسند (3/ 18) والحاكم (1/ 493) وصححه ، ووافقه الذهبي ، والبزار (كشف الأستار ، ح 3143 ، 3144) من حديث أبى سعيد الخدري رضي اللّه عنه.
(2) قرأ حفص ، وحمزة ، والكسائي «تذكرون» بتخفيف الذال. انظر الإتحاف (2/ 332).(4/209)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 210
بصيرتكم وبصركم لأن نور البصيرة إذا استولى على البصر ، بعد فتح البصيرة ، غطى نوره ، فلا يرى البصر إلا ما تراه البصيرة من أسرار الذات الأزلية القديمة. فمن بلغ هذا المقام كان خليفة اللّه فى أرضه ، يملكه الوجود بأسره ، وما ذلك على اللّه بعزيز.
ثم ذكر نوعا آخر من دلائل توحيده ، فقال :
[سورة النمل (27) : آية 63]
أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ تَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (63)
يقول الحق جل جلاله : أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ليلا ، وبعلامات فى الأرض نهارا؟.
أو : أمّن يهديكم إلى سلوك الطريق التي توصلكم إلى مقصدكم ، وأنتم فى ظلمات الليل ، سواء كنتم فى البر أو البحر؟ فلا هادى إلى ذلك إلا اللّه تعالى. وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ ، أو بالإفراد. نَشْراً «1» بالنون - أي : تنشر السحاب إلى الموضع الذي أمر اللّه بإنزال المطر فيه ، أو بُشْراً - بالباء - أي : مبشرة بالمطر ، بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ قدّام المطر ، علامة عليه ، أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ يفعل ذلك؟ تَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ. وإظهار الاسم الجليل فى موضع الإضمار للإشعار بعلّية الحكم ، أي : تعالى اللّه وتنزّه بذاته المنفردة بالألوهية ، المقتضية لكون كل المخلوقات مقهورا تحت قدرته ، عن وجود ما يشركونه به تعالى.
الإشارة : أمّن يهديكم إلى حل ما أشكل عليكم ، وأظلمت منه قلوبكم ، من علم بر الشرائع. وبحر الحقائق ، فيهديكم فى الأول إلى كشف الحق والصواب ، وفى الثاني إلى كشف الغطاء ورفع الحجاب ، أو : فى الأول إلى علم البيان ، وفى الثاني إلى عين العيان بالذوق والوجدان. أو : فى الأول إلى علم اليقين ، وفى الثاني إلى عين اليقين وحق اليقين. ومن يرسل رياح الواردات الإلهية ، بشارة بين يدى رحمته بالوصول إلى حضرته ، وهو التوحيد الخاص. ولذلك ختمه بقوله : تَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ من رؤية وجود السّوى.
___________
(1) قرأ عاصم «الرياح» بالجمع و«بشرا» بالباء المضمومة مع إسكان الشين ، وقرأ نافع ، وأبو عمرو ، وأبو جعفر ، ويعقوب ، بالجمع ، و«نشرا» بضم النون والشين. وقرأ ابن كثير بإفراد الريح ، وضم النون والشين من «نشرا». راجع الإتحاف (2/ 332).(4/210)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 211
ثم ذكر نوعا آخر ، فقال :
[سورة النمل (27) : الآيات 64 الى 65]
أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (64) قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (65)
قلت : «من» إما فاعل بيعلم ، و«الغيب» : بدل منه ، و«اللّه» : مفعول ، و«إلا اللّه» : بدل ، على لغة تميم ، أي : إبدال المنقطع ، وإما مفعول بيعلم ، و«الغيب» بدل منه و(اللّه) : فاعل ، والاستثناء : مفرغ.
يقول الحق جل جلاله : أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ أي : ينشىء الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ بعد الموت بالبعث. وإنما قيل لهم : ثُمَّ يُعِيدُهُ وهم منكرون للإعادة لأنهم أزيحت شبهتهم بالتمكن من المعرفة ، والإقرار ، فلم يبق لهم عذر فى الإنكار. وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ بالمطر وَالْأَرْضِ أي : ومن الأرض بالنبات ، أي : يرزقكم بأسباب سماوية وأرضية ، قد رتبها على ترتيب بديع ، تقضيه الحكمة التي عليها بنى أمر التكوين ، أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ يفعل بذلك؟ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ أي : حجتكم ، عقلية أو نقلية ، على إشراككم ، إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ فى دعواكم أن مع اللّه إلها آخر.
قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ ، بعد ما حقق سبحانه انفراده بالألوهية ، ببيان اختصاصه بالقدرة الكاملة والرحمة الشاملة ، عقّب بذكر ما هو من لوازمه ، وهو اختصاصه بعلم الغيب ، تكميلا لما قبله ، وتمهيدا لما بعده من أمر البعث. قالت عائشة - رضى اللّه عنها - : (من زعم أنّه يعلم ما فى غد ، فقد أعظم على اللّه الفرية ، واللّه تعالى يقول : قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ.
دخل على الحجاج منجّم ، فأخذ الحجاج حصيات ، قد عدّها ، فقال للمنجّم : كم فى يدى؟ فحسب ، فأصاب ، ثم اغتفله الحجاج ، فأخذ حصيات لم يعدها ، فقال للمنجم : كم فى يدى؟ فحسب ، فأخطأ ، فقال : أيها الأمير أظنك لا تعرف عددها فى يدك ، فقال : ما الفرق بينهما؟ فقال : إن ذلك أحصيته فخرج من حد الغيب ، فحسبت فأصبت ، وإن هذا لم تعرف عدته ، فصار غيبا ، ولا يعلم الغيب إلا اللّه تعالى.
ومن جملة الغيب : قيام الساعة ، ولذلك قال : وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ أي : متى ينتشرون من القبور ، مع كونه مما لا بد لهم منه ، ومن أهم الأمور عندهم. واللّه تعالى أعلم.(4/211)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 212
الإشارة : الرزق ثلاثة : رزق الأشباح ، ورزق القلوب ، ورزق الأرواح ، فرزق الأشباح معلوم ، ورزق القلوب :
اليقين والطمأنينة ، ورزق الأرواح : المشاهدة والمكالمة. قل من يرزق قلوبكم وأرواحكم من سماء غيب القدرة وأرض الحكمة؟ فلا رازق سواه ، ولا برهان على وجود ما سواه ، ولا يعلم الغيب إلا اللّه. أو : من كان وجوده باللّه قد غاب فى نور اللّه ، فشهد الغيب باللّه. واللّه تعالى أعلم.
ولمّا نفى عنهم علم الغيب ، والشعور بمآلهم ، أضرب عنه ، وبيّن أن ما تناهى فيه أسباب العلم به ، وهو مجىء القيامة ، لم يحصل لهم به يقين ، فضلا عن غيره ، فقال :
[سورة النمل (27) : الآيات 66 الى 68]
بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ (66) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ (67) لَقَدْ وُعِدْنا هذا نَحْنُ وَآباؤُنا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (68)
قلت : قرأ الجمهور : «ادّارك» بالمد ، وأصله : تدارك ، فأدغمت التاء فى الدال ، ودخلت همزة وصل. وقرأ عاصم فى رواية أبى بكر : «ادّرك» ، وأصله : افتعل ، بمعنى تفاعل. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو : «أدرك» أفعل.
يقول الحق جل جلاله : بَلِ ادَّارَكَ أي : تدارك وتناهى وتتابع أسباب عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ أي :
بالآخرة ، أو : فى شأنها ، بما ذكرنا لهم من البراهين القطعية ، والحجج العقلية ، على كمال قدرتنا. ومع ذلك لم يحصل لهم بها يقين ، بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها ، والمعنى : أن أسباب استحكام العلم وتكامله بأن القيامة لا ريب فيها قد حصلت لهم ، ومكّنوا من معرفته ، بما تتابع لهم من الدلائل. ومع ذلك لم يحصل لهم شىء من علمها ، بل شكّوا. أو : أدرك علمهم ، بمعنى : يدركهم فى الآخرة حين يرون الأمر عيانا ، ولا ينفعهم ذلك. قاله ابن عباس وغيره. بَلْ هُمْ اليوم فِي شَكٍّ مِنْها بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ لا يبصرون دلائلها ، ولا يلتفتون إلى العمل لها.
والإضرابات الثلاثة تنزيل لأحوالهم ، وتأكيد لجهلهم. وصفهم أولا بأنهم لا يشعرون بوقت البعث ، ثم بأنهم لا يعلمون أن القيامة كائنة مع تتابع أسباب علمها ، ثم بأنهم يخبطون فى شك ومرية ، ثم بما هو أسوأ حالا ، وهو العمى ، وجعل الآخرة مبدأ عماهم ومنشأه ، فلذا عداه ب «من» دون «عن» لأن الكفر بالعاقبة والجزاء هو الذي منعهم عن التفكر والتدبر.
ووجه اتصال مضمون هذه الآية - وهو وصف المشركين - بإنكارهم البعث مع استحكام أسباب العلم والتمكن من المعرفة بما قبله ، وهو اختصاصه تعالى بعلم الغيب ، وأن العباد لا علم لهم بشىء بذلك : هو أنه لما ذكر أن(4/212)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 213
العباد لا يعلمون الغيب ، وكان هذا بيانا لعجزهم ، ووصفا لقصور علمهم ، وصل به أن عندهم عجزا أبلغ منه ، وهو أنهم يقولون للكائن الذي لا بد من كونه - وهو وقت بعثهم ، ومجازاتهم على أعمالهم : لا يكون ، مع أن عندهم أسباب معرفة كونه ، لا محالة. ه. قاله النسفي.
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ أي : أنخرج من القبور أحياء إذا صرنا ترابا وآباؤنا. وتكرير الاستفهام فى «أئذا» و«أإنا» فى قراءة عاصم ، وحمزة وخلف ، إنكار بعد انكار ، وجحود بعد جحود ، ودليل على كفر مؤكد مبالغ فيه. والعامل فى (إذا) : ما دلّ عليه لَمُخْرَجُونَ وهو : نخرج ، لا مخرجون ، لموانع كثيرة. والضمير فى «أإنا» لهم ولآبائهم.
لَقَدْ وُعِدْنا هذا البعث نَحْنُ وَآباؤُنا مِنْ قَبْلُ من قبل محمد صلى اللّه عليه وسلم ، قدّم هنا «هذا» على «نحن» وفى المؤمنون «1» قدّم «نحن» ليدل هنا أن المقصود بالذكر هو البعث وثمّ المبعوث لأن هنا تكررت أدلة البعث قبل هذا القول كثيرا ، فاعتنى به ، بخلاف «ثم». ثم قالوا : إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ : ما هذا إلا أحاديثهم وأكاذيبهم. وقد كذبوا ، ورب الكعبة.
الإشارة : العلم بالآخرة يقوى بقوة العلم باللّه ، فكلما قوى اليقين فى جانب اللّه قوى اليقين فى جانب ما وعد اللّه به من الأمور الغيبية ، فأهل العلم باللّه الحقيقي أمور الآخرة عندهم نصب أعينهم ، واقعة فى نظرهم لقوة يقينهم. وانظر إلى قول حارثة رضي اللّهعنه حين قال له النبي صلى اللّه عليه وسلم : «ما حقيقة إيمانك؟» فقال : يا رسول اللّه عزفت الدنيا من قلبى ، فاستوى عندى ذهبها ومدرها. ثم قال : وكأنى أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها ، وأهل النار يتعاوون فيها ، فقال له صلى اللّه عليه وسلم : «قد عرفت فالزم ، عبد نوّر اللّه قلبه». اللهم نوّر قلوبنا بأنوار معرفتك الكاملة ، حتى نلقاك على عين اليقين وحق اليقين. آمين.
ثم أمرهم بالاعتبار بمن قبلهم ، فقال :
قُلْ سِيرُوا ...
___________
(1) فى قوله تعالى ، حكاية لقول الذين لا يؤمنون بالآخرة : لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَآباؤُنا هذا مِنْ قَبْلُ .. الآية 83.(4/213)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 214
[سورة النمل (27) : الآيات 69 الى 70]
قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (69) وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (70)
يقول الحق جل جلاله : قُلْ لهم : سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ بسبب تكذيبهم للرسل - عليهم السلام - فيما دعوهم إليه من الإيمان باللّه - عز وجل - وحده ، واليوم الآخر ، الذي ينكرونه ، فإن فى مشاهدة عاقبتهم ما فيه كفاية لأولى البصائر. وفى التعبير عن المكذبين بالمجرمين ، لطف بالمسلمين ، بترك الجرائم ، وحث لهم على الفرار منها ، كقوله : فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ «1» ومِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا «2».
ثم قال لنبيه صلى اللّه عليه وسلم : وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ أي : لأجل أنهم لم يتبعوك ، ولم يسلموا فيسلموا. وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ فى حرج صدر مِمَّا يَمْكُرُونَ من مكرهم وكيدهم ، أي : فإن اللّه يعصمك من الناس. يقال : ضاق ضيقا - بالفتح والكسر.
[سورة النمل (27) : الآيات 71 الى 73]
وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (71) قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (72) وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ (73)
وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ أي : وعد العذاب التي تعدنا ، إن كنت من الصادقين فى إخبارك بإتيانه على من كذّب. والجملة باعتبار شركة المؤمنين فى الإخبار بذلك. قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ أي : تبعكم ولحقكم. استعجلوا العذاب ، فقيل لهم : عسى أن يكون ردف ، أي : قرب لكم بعضه. وهو عذاب يوم بدر ، واللام زائدة للتأكيد. أو : ضمّن الفعل معنى يتعدّى باللام ، نحو : دنا لكم ، أو : أزف لكم. وعسى ولعل وسوف ، فى وعد الملوك ووعيدهم ، يدل على صدق الأمر ، وجدّه ، وعلى ذلك جرى وعد اللّه ، ووعيده.
وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ أي : إفضال وإنعام على كافة الناس. ومن جملة إنعامه : تأخير العقوبة عن هؤلاء ، بعد استعجالهم لها ، وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ أي : أكثرهم لا يعرفون حق النعمة ، ولا يشكرونها ، فيستعجلون بجهلهم وقوع العذاب ، كدأب هؤلاء. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : التفكر والاعتبار من أفضل عبادة الأبرار ، ساعة منه أفضل من عبادة سبعين سنة. ومن أجلّ ما يتفكر فيه الإنسان : ما جرى على أهل الغفلة والبطالة والعصيان ، من تجرع كأس الحمام ، قبل النزوع والإقلاع عن الإجرام ، فندموا حيث لم ينفع الندم ، وقد زلّت بهم القدم ، فلا ما كانوا أمّلوا أدركوا ، ولا إلى ما فاتهم من الأعمال الصالحات رجعوا. فليعتبر الإنسان بحالتهم ، لئلا يجرى عليه ما جرى عليهم ، وليبادر بالتوبة إلى ربه ، وليشديده على أوقات عمره ، قبل أن تنقضى فى البطالة والتقصير ، فيمضى عمره سبهللا. وللّه در القائل :
___________
(1) من الآية 14 من سورة الشمس. [.....]
(2) من الآية 25 من سورة نوح.(4/214)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 215
السّباق السّباق قولا وفعلا حذّر النّفس حسرة المسبوق
قال أبو على الدقاق رضي اللّه عنه : رؤى بعضهم مجتهدا ، فقيل له فى ذلك ، فقال : ومن أولى منى بالجهد ، وأنا أطمع أن ألحق الأبرار الكبار من السلف. ه. ويقال للواعظ أو للعارف ، إذا رأى إدبار الناس عن اللّه ، وإقبالهم على الهوى :
وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ .. الآية.
ثم ذكر سعة علمه وحلمه ، فقال :
[سورة النمل (27) : الآيات 74 الى 75]
وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ (74) وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (75)
قول الحق جل جلاله : وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ أي : تخفى صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ أي : يظهرون من القول. وليس تأخير العذاب عنهم لخفاء حالهم عليه ، ولكن له وقت مقدر ، فيمهلهم إليه. أو : إن ربك ليعلم ما يخفون وما يعلنون من عداوتك ومكايدهم لك ، وهو معاقبهم على ذلك بما يستحقونه ، وقرئ بفتح [التاء] «1» ، من : كننت الشيء : سترته.
وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ أي : من خافية فيهما إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ فى اللوح المحفوظ.
يسمى الشيء الذي يخفى ويغيب غائبة وخافية. والتاء فيهما كالتاء فى العاقبة والعافية. ونظائرهما ، وهى أسماء غير صفات. ويجوز أن يكونا صفتين ، وتاؤهما للمبالغة ، كالرواية. كأنه قال : وما من شىء شديد الغيوبة إلا وقد علمه اللّه ، وأحاط به ، وأثبته فى اللوح المحفوظ. ومن جملة ذلك : تعجيل عقوبتهم ، ولكن لكل شىء أجل معلوم ، لا يتأخر عنه ولا يتقدم. ولو لا ذلك لعجّل لهم ما استعجلوه. والمبين : الظاهر البين لمن ينظر فيه من الملائكة. أو :
مبين لما فيه من تفاصيل المقدورات. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : فى الآية حث على مراقبة العبد لمولاه ، فى سره وعلانيته ، فلا يفعل ما يخل بالأدب مع العليم الخبير ، ولا يجول بقلبه فيما يستحيى أن يظهره لغيره ، إلا أن يكون خاطرا مارا ، لا ثبات له ، فلا قدرة للعبد على دفعه. وباللّه التوفيق.
___________
(1) فى الأصول [الكاف ]. قلت : قرأ الجمهور (ما تكن) بضم التاء من : أكن الشيء : أخفاه. وقرأ ابن محيصن وحميد : بفتح التاء وضم الكاف ، من : كن الشيء : ستره. انظر الإتحاف (2/ 334) والبحر المحيط (7/ 90).(4/215)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 216
ثم مدح كتابه المشتمل على جلّ العلوم الغيبية ، فقال :
[سورة النمل (27) : الآيات 76 الى 81]
إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (76) وَإِنَّهُ لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (77) إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (78) فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (79) إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (80)
وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (81)
يقول الحق جل جلاله : إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ يبين لهم أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ من أمر الدين الذي اشتبه عليهم. ومن جملة ما اختلفوا فيه : المسيح ، وتحزّبوا فيه أحزابا ، وركبوا متن العند والغلو فى الإفراط والتفريط ، ووقع بينهم المناكرة فى أشياء ، حتى لعن بعضهم بعضا. وقد نزل القرآن ببيان ما اختلفوا فيه ، لو أنصفوا وأخذوا به ، وأسلموا. يريد اليهود والنصارى ، وإن كانت الآية خاصة باليهود. وَإِنَّهُ - أي : القرآن لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ على الإطلاق ، فيدخل فيهم من آمن من بنى إسرائيل دخولا أوليا.
إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ أي : بين بنى إسرائيل ، أو : بين من آمن بالقرآن ومن كفر به ، بِحُكْمِهِ أي :
بعدله لأنه لا يحكم إلا بالعدل ، فسمى المحكوم به حكما. أو : بحكمته ، ويدل عليه قراءة من قرأ «بحكمه» : جمع :
حكمة «1» لأن أحكامه تعالى كلها حكم بديعة. وَهُوَ الْعَزِيزُ ، فلا يردّ حكمه وقضاؤه ، الْعَلِيمُ بجميع الأشياء ، ومن جملتها : من يقضى له ومن يقضى عليه. أو : العزيز فى انتقامه من المبطلين ، العليم بالفصل بين المختلفين.
فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ، الفاء لترتيب ما قبله من ذكر شئونه - عز وجل - فإنها موجبة للتوكل عليه ، داعية إلى الأمر به ، أي : فتوكل على اللّه الذي هذا شأنه. وهذه أوصافه ، فإنه موجب لكل أحد أن يتوكل عليه ، ويفوض جميع أموره إليه. أو : فتوكل على اللّه ولا تبالي بأعداء الدين. إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ ، تعليل للأمر بالتوكل بأنه الحق الأبلج ، وهو الدين الواضح الذي لا يتطرقه شك ولا ريب.
___________
(1) وهى قراءة جناح بن حبيش ، كما ذكر صاحب البحر المحيط (7/ 91).(4/216)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 217
وفيه تنبيه على أن صاحب الحق حقيق بالوثوق باللّه فى نصرته. وقد تضمنت الآية من أولها ثناء على القرآن ، بنفي ما رموه من كونه أساطير الأولين. ثم وصفه بكونه هدى ورحمة للمؤمنين. ثم توعد الرامين له بحكمه عليهم بما يستحقونه ، ثم أمره بالتوكل عليه فى كفايته أمرهم ومكرهم.
ثم بيّن سبب طعنهم فى القرآن ، بأنهم ليس فيهم قابلية الإدراك لكونهم موتى صما ، لا حياة لهم ولا سمع استبصار ، قال تعالى : إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى ، شبّهوا بالموتى لعدم تأثرهم بما يتلى عليهم من القوارع والزواجر ، وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ أي : الدعوة إلى أمر من الأمور إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ عنك. وتقييد النفي بالإدبار لتكميل التنبيه وتأكيد النفي ، فإنهم مع صممهم عن الدعاء إلى الحق معرضون عن الداعي ، مولون على أدبارهم. ولا ريب أن الأصم لا يسمع الدعاء ، مع كون الداعي بمقابلة صماخه ، قريبا منه ، فكيف إذا كان خلفه بعيدا منه؟.
وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ هداية موصلة إلى المطلوب ، كما فى قوله تعالى : إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ «1» فإن الاهتداء منوط بالبصر فى الحس ، وبالبصيرة فى المعنى. ومن فقد هما لا يتصور منه اهتداء ، و«عن» متعلق بهادي باعتبار تضمنه معنى الصرف ، وإيراد الجملة الاسمية للمبالغة فى نفى الهداية.
إِنْ تُسْمِعُ أي : ما تسمع سماعا يجدى السامع وينفعه إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا أي : من علم اللّه أنهم يؤمنون بآياته. فَهُمْ مُسْلِمُونَ مخلصون ، من قوله : بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ «2» أي : جعله سالما للّه خالصا. جعلنا اللّه ممن أسلم بكليته إليه. آمين.
الإشارة : إذا وقع الاختلاف فى الأحكام الظاهرة ، وهى ما يتعلق بالجوارح الظاهرة ، رجع فيه إلى الكتاب العزيز ، أو السنّة المحمدية ، أو الإجماع ، أو القياس ، وإن وقع الاختلاف فى الأمور القلبية ، وهى ما يتعلق بالعقائد التوحيدية ، من طريق الأذواق أو العلوم ، يرجع فيه إلى أرباب القلوب الصافية ، فإنه لا يتجلى فيها إلا ما هو حق وصواب. فلا يمكن قلع عروق الشكوك والأوهام ، والوساوس من القلوب المسوسة ، إلا بالرجوع إليهم وصحبتهم ، ومن جمع بين الظاهر والباطن ، رجع إليه فى الأمرين معا.
ذكر ابن الصباغ أن الشيخ أبا الحسن الشاذلى رضي اللّه عنه كان يناظر جماعة من المعتزلة ، ليردهم إلى الحق ، فدخل عليه رجل من القراء ، يقال له : أبو مروان ، فسلّم عليه ، فقال له الشيخ : اقرأ علينا آية من كتاب اللّه ، فأجرى اللّه على
___________
(1) من الآية 56 من سورة القصص.
(2) من الآية 112 من سورة البقرة.(4/217)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 218
لسانه ، من غير قصد ، قوله تعالى : فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ إلى قوله : وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِما ظَلَمُوا فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ فتهلل وجه الشيخ ، وقال : ما بعد بيان اللّه من بيان ، فتابوا واهتدوا إلى الحق ، ورجعوا عن مذهبهم ، وشفا اللّه قلوبهم من مرض الاعتزال. فهذا شأن العارفين باللّه ، جعلهم اللّه شفاء من كل داء ، لكن الأعمى والأصم لا يبصر الداعي ، ولا يسمع المنادى. ولذلك قال تعالى : فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى .. إلخ : قال الورتجبي : الميت : من ليس له استعداد لقبول المعرفة الحقيقية بغير الدلائل ، والأصم : من كان أذن قلبه مسدودة بغواشى القهر ، ومن كان بهذه الصفة لا يقبل إلا ما يليق بطبعه وشهواته. ه.
ثم ذكر بعض مقدمات الساعة ، التي كانوا يستعجلونها ، فقال :
[سورة النمل (27) : آية 82]
وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ (82)
يقول الحق جل جلاله : وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أي : وقع مصداق القول الناطق بمجىء الساعة ، بأن قرب إتيانها ، وظهرت أشراطها ، فأراد بالوقوع : دنوه واقترابه ، كقوله : أَتى أَمْرُ اللَّهِ ... «1» روى أن ذلك حين ينقطع الخير ، ولا يؤمر بمعروف ولا ينهى عن منكر ، ولا يبقى منيب ولا تائب. و«وقع» : عبارة عن الثبوت واللزوم ، وهذا بمنزلة : حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ «2» أي : وإذا انتجز وعد عذابهم الذي تضمنه القول الأزلى ، وأراد أن ينفذ فى الكافرين سابق علمه لهم من العذاب ، أخرج لهم دابة من الأرض. وفى الحديث : «إن الدابة ، وطلوع الشمس من المغرب ، من أول الأشراط» «3».
فلا ينبغى لهؤلاء الكفرة ترك الإيمان حيث ينفعهم ، ويتطلبون وقوع الساعة الموعود بها ، التي لا ينفع الإيمان لمن لم يكن آمن ، مع ظهور مقدماتها ، فضلا عنها. فإذا وقع الوعد وسمت الدابة من لم يؤمن بسمة الكفر ، وكان ذلك طبعا وختما ، فلا يقبل منه إيمان ، ويقال له : أيها الكافر لم تؤمن بالآيات غيبا ، فلا يقبل منك بعد رؤيتها عينا.
___________
(1) الآية الأولى من سورة النحل.
(2) من الآية 19 من سورة الزمر.
(3) أخرج مسلم فى (الفتن ، باب خروج الدجال ، 4/ 2260 ، ح 2941) عن عبد اللّه بن عمرو ، قال : سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول : «إن أول الآيات خروجا : طلوع الشمس من مغربها ، وخروج الدابة على الناس ضحى ، وأيهما كانت قبل صاحبتها فالأخرى على إثرها قريبا».(4/218)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 219
وهذا معنى قوله : أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ ، وهى الجساسة ، طولها ستون ذراعا ، لا يدركها طالب ، ولا يفوتها هارب ، لها أربع قوائم ، وزغب ، وريش ، وجناحان «1». وقيل : لها رأس ثور ، وعين خنزير ، وأذن فيل ، وقرن أيّل ، وعنق نعامة ، وصدر أسد ، ولون نمر ، وخاصرة هرّة ، وذنب كبش ، وخف بعير ، وما بين المفصلين اثنا عشر ذراعا ، تخرج من الصفا فتكلّمهم بالعربية ، فتقول : أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ أي : بخروجي لأن خروجها من الآيات ، وتقول : ألا لعنة اللّه على الظالمين.
وفى حديث حذيفة رضي اللّه عنه : «تأتى الدابة المؤمن ، فتسلم عليه ، وتأتى الكافر فتخطه - أي تسمه - فى وجهه».
وعن أبى هريرة رضي اللّه عنه أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال : «تخرج الدّابة معها خاتم سليمان ، وعصا موسى ، فتجلوا وجه المؤمن ، وتختم أنف الكافر بالخاتم ، حتّى أنّ أهل الحواء «2» مجتمعون ، فيقول : هاها يا مؤمن ، ويقول : هاها يا كافر» «3».
وهى بعد نزول عيسى وطلوع الشمس من مغربها. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : وإذا وقع القول على قوم بإسدال الحجاب ، وإدامة غلق الباب ، أخرج لهم جاهل باللّه ، يكلمهم بادعاء التربية ، فيأخذون عنه ، ويقتدون به. قال فى المباحث :
واعلم بأن عصبة الجهال بهائم فى صور الرجال
فالجاهل باللّه دابة فى الأرض : أنّ الناس كانوا بآياتنا الدالة علينا - وهم العلماء باللّه ، أهل الشهود والعيان - لا يوقنون بوجودهم ، ولا يعرفون وجود الخصوصية عندهم. فإذا أراد اللّه تعب عبد ، وإبقاءه فى غم الحجاب ، ألقاه إلى شيخ جاهل باللّه ، أو : إلى ميت يتخذه شيخا ، ويفنى فى محبته ، فلا يرجى فلاحه فى طريق الخصوصية ، مادام مقيدا به ، فإن تركه واقتدى بالعارف الحي ، فقد هيأه لرفع الحجاب. وباللّه التوفيق.
ثم ذكر قيام الساعة ، بعد ذكر بعض أشراطها ، فقال :
[سورة النمل (27) : الآيات 83 الى 86]
وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُمْ يُوزَعُونَ (83) حَتَّى إِذا جاؤُ قالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (84) وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِما ظَلَمُوا فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ (85) أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (86)
___________
(1) عزاه المناوى فى الفتح السماوي (2/ 891) للثعلبى ، من حديث حذيفة.
(2) الحواء : جماعة بيوت الناس إذا تدانت ، والجمع : أحوية. انظر اللسان (2/ 1063 ، مادة : حوا).
(3) أخرجه الإمام أحمد فى المسند (2/ 295) والترمذي وحسنه فى (التفسير ، سورة النمل ، 5/ 318 ، ح 3187) بلفظ [الخوان ] بدل [الحواء]. وأخرجه ابن ماجة فى (الفتن ، باب دابة الأرض 2/ 1351 ح 4066). من حديث أبى هريرة رضي اللّه عنه.(4/219)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 220
قلت : «ماذا» تأتى على أوجه أحدها : أن تكون «ما» : استفهاما ، و«ذا» : إشارة ، نحو : ماذا التواني.
الثاني : أن تكون «ما» : استفهاما ، و«ذا» : موصولة ، كقول لبيد :
ألا تسألان المرء ماذا يحاول؟ أنحب فيقضى ، أم ضلال وباطل؟
الثالث : «ماذا» كله : استفهام على التركيب ، كقولك : لما ذا جئت؟. الرابع : أن تكون «ماذا» كله : اسم جنس بمعنى شىء ، أو : بمعنى «الذي» كقوله : دعنى ماذا علمت؟ ، وتكون «ذا» زائدة. انظر القاموس.
يقول الحق جل جلاله : وَاذكر يَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً ، الفوج : الجماعة الكثيرة.
و«من» : للتبعيض ، أي : واذكر يوم نجمع من كل أمة من أمم الأنبياء جماعة كثيرة مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا ، «من» : لبيان الفوج ، أي : فوجا مكذبين بآياتنا ، المنزلة على أنبيائنا ، فَهُمْ يُوزَعُونَ : يحبس أولهم على آخرهم ، حتى يجتمعوا ، حين يساقون إلى موضع الحساب. وهذه عبارة عن كثرة العدد ، وتباعد أطرافهم ، والمراد بهذا الحشر : الحشر للعذاب ، والتوبيخ والمناقشة ، بعد الحشر الكلى ، الشامل لكافة الخلق. وعن ابن عباس : (المراد بهذا الفوج : أبو جهل ، والوليد بن المغيرة ، وشيبة بن ربيعة ، يساقون بين يدى أهل مكة) وهكذا يحشر قادة سائر الأمم بين أيديهم إلى النار.
حَتَّى إِذا جاؤُ إلى موقف السؤال والجواب ، والمناقشة والحساب ، قالَ أي : اللّه عز وجل ، موبخا لهم على التكذيب : أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي المنزلة على رسلى ، الناطقة بلقاء يومكم ، وَالحال أنكم لَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً أي : أكذبتم بها فى بادئ الرأى ، من غير فكر ، ولا نظر ، يؤدى إلى إحاطة العلم بكنهها ، وأنها حقيقة بالتصديق حتما. وهذا نص فى أن المراد بالآيات فى الموضعين هى الآيات القرآنية. وقيل : هو عطف على «كذبتم» ، أي : أجمعتم بين التكذيب وعدم التدبر فيها. أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ؟ حيث لم تتفكروا فيها ، فإنكم لم تخلقوا عبثا. أو : أىّ شىء كنتم تعملون ، استفهام ، على معنى استبعاد الحجج ، أي : إن كانت لكم حجة وعمل فهاتوا ذلك. وخطابهم بهذا تبكيت لهم. ثم يكبون فى النار ، وذلك قوله تعالى : وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أي : حلّ بهم العذاب ، الذي هو مدلول القول الناطق بحلوله ونزوله ، بِما ظَلَمُوا : بسبب ظلمهم ، الذي هو تكذيبهم بآيات(4/220)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 221
اللّه فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ لانقطاعهم عن الجواب بالكلية ، وابتلائهم بشغل شاغل من العذاب الأليم ، يشغلهم العذاب عن النطق والاعتذار.
ثم ذكر دلائل قدرته على البعث ، وما ينشأ بعد ذلك ، بقوله : أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ ، الرؤية هنا قلبية ، أي : ألم يعلموا أنا جعلنا الليل بما فيه من الإظلام ليستريحوا فيه بالنوم والقرار. وَالنَّهارَ مُبْصِراً أي : يبصروا ، بما فيه من الإضاءة ، طرق التقلب فى أمور المعاش. وبولغ فيه ، حيث جعل الإبصار الذي هو حال الناس ، حالا له ، ووصفا من أوصافه ، بحيث لا ينفك عنها ، ولم يسلك فى الليل هذا المسلك لأن تأثير ظلام الليل فى السكون ليس بمثابة تأثير النهار فى الإبصار. قاله أبو السعود .. قلت : وقد جعله كذلك فى قوله :
وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً «1» فانظره.
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ كثيرة لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ يصدّقون ، فيعتبرون ، فإنّ من تأمل فى تعاقب الليل والنهار ، واختلافهما على وجوه بديعة ، مبنية على حكم رائقة ، تحار فى فهمها العقول ، وشاهد فى الآفاق تبدل ظلمة الليل ، المحاكية للموت ، بضياء النهار ، المضاهي للحياة ، وعاين فى نفسه غلبة النوم ، الذي هو يضاهى الموت ، وانتباهه منه ، الذي هو يضاهى البعث ، قضى بأن الساعة آتيه لا ريب فيها ، وأن اللّه يبعث من فى القبور.
قال لقمان لابنه : يا بنى إن كنت تشك فى الموت فلا تنم ، فكما أنك تنام قهرا كذلك تموت ، وإن كنت تشك فى البعث فلا تنتبه ، فكما أنك تنتبه بعد نومك كذلك تبعث بعد موتك ه. وباللّه التوفيق.
الإشارة : يوم نحشر من كل أمة فوجا ينكر على أهل الخصوصية ، ممن يكذب بآياتنا ، وهم العارفون بنا ، الدالون علينا ، المعرّفون بنا ، فهم يوزعون : يجمعون للعتاب ، حتى إذا جاءوا إلينا بقلب سقيم ، قال : أكذّبتم بأوليائى ، الدالين على حضرتى ، بعد التطهير والتهذيب ، ولم تحيطوا بهم علما ، منعكم من ذلك حب الرئاسة والجاه ، أم ماذا كنتم تعملون؟. ووقع القول عليهم بالبقاء مع عامة أهل الحجاب ، فهم لا ينطقون ، ولا يجدون اعتذارا يقبل منهم.
ألم يعلموا أنهم يموتون على ما عاشوا عليه ، ويبعثون على ما ماتوا عليه ، فهلّا صحبوا أهل اليقين الكبير ، - وهو عين اليقين أو حق اليقين ، المستفاد من شهود الذات الأقدس - فيكتسبوا منهم اليقين ، حتى يموتوا على اليقين ويبعثوا على اليقين. وباللّه التوفيق.
___________
(1) من الآية 96 من سورة الأنعام. وقد سار المفسر على قراءة «جاعل».(4/221)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 222
ثم ذكر النفخ فى الصور ، وما يكون بعده من الأهوال ، فقال :
[سورة النمل (27) : الآيات 87 الى 90]
وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ (87) وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ (88) مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (89) وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (90)
يقول الحق جل جلاله : وَاذكر يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ ، وهو القرن الذي ينفخ فيه إسرافيل - عليه السّلام - عن أبى هريرة رضي اللّه عنه أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال : «لما فرغ اللّه تعالى من خلق السموات والأرض ، خلق الصور ، فأعطاه إسرافيل ، فهو واضعه على فيه ، شاخص بصره إلى العرش ، حتى يؤمر ، قال : قلت : كيف هو؟ قال :
عظيم ، والذي نفسى بيده إن عظم دارة فيه كعرض السموات والأرض» وفى حديث آخر : «فيه ثقب بعدد كل روح مخلوقة ، فيؤمر بالنفخ فيه ، فينفخ نفخة ، لا يبقى عندها فى الحياة أحد ، غير من شاء اللّه تعالى وذلك قوله تعالى : وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ «1» ، ثم يؤمر بأخرى ، فينفخ نفخة لا يبقى معها ميت إلا بعث». وفى رواية : «فينفخ نفخة البعث ، فتخرج الأرواح ، كأنها النحل ، فتملأ ما بين السماء والأرض ، وتأتى كل روح إلى جسدها ، كما تأتى النحل إلى وكرها. وذلك قوله تعالى : ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ «2».
قال أبو السعود : والذي يستدعيه النظم الكريم أن المراد بالنفخ هاهنا : النفخة الثانية ، وفى الفزع فى قوله تعالى :
فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ ما يعترى الكل عند البعث والنشور ، بمشاهدة الأمور الهائلة ، الخارقة للعادات فى الأنفس والآفاق ، من الرعب والتهيب ، الضروريين ، الجبلين فى كل نفس. وإيراد صيغة الماضي مع كون المعطوف عليه مضارعا للدلالة على تحقق وقوعه. ه. وظاهره أن النفخ مرتان فقط ، واعتمده القرطبي وغيره ، وصحح ابن عطية أنها ثلاث ، وروى ذلك عن أبى هريرة : نفخة الفزع وهى فزع حياة الدنيا ، وليس بالفزع الأكبر ، ونفخة الصعق ، ونفخة القيام من القبور.
___________
(1) ، (2) من الآية 68 من سورة الزمر.(4/222)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 223
وقوله : إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ أي : ألا يفزع ، وهو من ثبّت اللّه قلبه ، فإن قلنا : المراد بها النفخة الثانية ، فالمستثنى : هم من سبقت لهم الحسنى ، بدليل قوله : لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ «1» وإن قلنا : هى نفخة الصعق ، فالمستثنى : قيل : هم جبريل ، وميكائيل ، وإسرافيل ، وعزرائيل ، لكن يموتون بعد صعق الخلق. وقيل : الحور وحملة العرش ، وإن قلنا : المراد نفخة الفزع فى الدنيا ، فالمستثنى : أرواح الأنبياء والأولياء والشهداء والملائكة.
ثم قال تعالى : وَكُلٌّ أَتَوْهُ «2» بصيغة الماضي ، أي : وكل واحد من المبعوثين عند النفخة حضروه فى موقف الحساب ، بين يدى اللّه جل جلاله ، والسؤال والجواب. أو : وكل حاضروه ، على قراءة اسم الفاعل ، وأصله :
آتيوه ، حال كونهم داخِرِينَ : صاغرين أذلاء.
وَتَرَى الْجِبالَ حال الدنيا تَحْسَبُها جامِدَةً واقفة ممسّكّة عن الحركة ، من : جمد فى مكانه : إذا لم يبرح. وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ أي : مرا مثل مر السحاب ، التي تسيرها الرياح ، سيرا حثيثا ، والمعنى : أنك إذا رأيت الجبال وقت النفخة ظننتها ثابتة فى مكان واحد لعظمها ، وهى تسير سيرا سريعا ، كالسحاب إذا ضربته الرياح ، وهكذا الأجرام العظام ، إذا تحركت لا تكاد تتبين حركتها. ومثال ذلك : الشمس لعظم جرمها وبعدها لا تتبين حركتها ، مع كونها أسرع من الريح.
والذي فى حديث أبى هريرة : أنّ تسيير الجبال يكون بعد نفخة الفزع وقبل الصعق. ونص الحديث - بعد كلام تقدم : «فيأمر إسرافيل بالنفخة الأولى ، فيقول : انفخ نفخة الفزع ، فيفزع أهل السموات والأرض ، إلا من شاء اللّه ، فيأمره فيمدها - أي : النفخة - ويطيلها ، فيسير اللّه الجبال ، فتمر مر السحاب ، فتكون سرابا ، وترتج الأرض بأهلها رجا ، فتكون كالسفينة تضربها الأمواج ، وتقلبها الرياح ، وهو قوله : يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ «3» الآية ، فتميد الأرض بالناس على ظهرها فتذهل المراضع ، وتضع الحوامل ، وتشيب الولدان ، وتطير الشياطين ، هاربة من الفزع ، حتى تأتى الأقطار هاربة ، فتلقاها الملائكة تضرب وجهها وأدبارها ، فترجع ، ويولى الناس مدبرين ، ينادى بعضهم بعضا ، وهو قوله : يَوْمَ التَّنادِ يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ .. الآية «4» فبينما هم كذلك إذ تصدعت الأرض ، من قطر إلى قطر ، فرأوا أمرا عظيما ، لم يروا مثله. ثم قال : قال النبي صلى اللّه عليه وسلم : «والأموات يومئذ لا يعلمون بشىء من ذلك».
قال أبو هريرة : قلت : يا رسول اللّه فمن استثنى اللّه من الفزع؟ قال : «أولئك الشهداء».
___________
(1) من الآية 103 من سورة الأنبياء. [.....]
(2) قرأ حفص ، وحمزة ، وخلف : «أتوه» بقصر الهمزة ، وفتح التاء ، فعلا ماضيا ، وقرأ الباقون بالمد وضم التاء «آتوه» اسم فاعل ، مضافا للضمير .. انظر الإتحاف (2/ 335).
(3) الآية السادسة من سورة النازعات.
(4) من الآية 33 من سورة غافر.(4/223)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 224
قلت : ومثلهم الأنبياء والأولياء إذ هم أعظم منهم ، وأحياء مثلهم. ثم قال عليه الصلاة والسلام : «وإنما يصل الفزع إلى الأحياء ، وهم أحياء عند ربهم يرزقون ، وقاهم اللّه فزع ذلك اليوم ، وهو عذاب يبعثه اللّه على شرار خلقه». وهو قوله تعالى : يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ إلى قوله : وَلكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ
«1» فيمكثون طويلا ، ثم يأمر اللّه تعالى إسرافيل ، فينفخ نفخة الصعق ، فيصعق من فى السموات ، ومن فى الأرض ، إلا من شاء اللّه ، فإذا اجتمعوا فى البرزخ ، جاء ملك الموت إلى الجبار ، فيقول : قد مات أهل السموات والأرض ، إلا من شئت ، فيقول اللّه تعالى ، وهو أعلم : من بقي؟ فيقول : بقيت أنت الحي القيوم ، الذي لا تموت ، وبقيت حملة العرش ، وبقي جبريل وميكائيل ، وإسرافيل ، وبقيت أنا ، فيقول تعالى : فليمت جبريل وميكائيل ، فينطق اللّه العرش ، فيقول : أىّ رب يموت جبريل ، وميكائيل! فيقول : اسكت ، إنى كتبت الموت على كل من تحت عرشى ، فيموتان. ثم يأتى ملك الموت الجبار ، فيقول : أي رب قد مات جبريل وميكائيل ، فيقول - وهو أعلم : من بقي؟ بقيت أنت الحي الذي لا تموت ، وبقيت حملة العرش ، وبقي إسرافيل ، وبقيت أنا. فيقول : ليمت حملة العرش ، فيموتون ، فيأمر اللّه العرش فيقبض الصور من إسرافيل ، ثم يقول : ليمت إسرافيل ، فيموت ، ثم يأتى ملك الموت فيقول : يا رب قد مات حملة عرشك ، فيقول ، وهو أعلم : من بقي؟ فيقول : بقيت أنت الحي الذي لا تموت ، وبقيت أنا ، فيقول : أنت خلق من خلقى ، خلقتك لما رأيت ، فمت ، فيموت. فإذا لم يبق إلا اللّه الواحد الأحد الصمد ، الذي لم يلد ولم يولد ، ولم يكن له كفوا أحد ، فكان آخرا ، كما كان أولا ، طوى السماء طى السجل للكتاب ، فيقول : أنا الجبار ، لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ؟ فلا يجيبه أحد ، ثم يقول تعالى : لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ ثم تبدل الأرض غير الأرض ، والسموات يبسطها بسطا ، ثم يمدها مدّ الأديم العكاظي ، لا ترى فيها عوجا ولا أمتا.
ثم قال : ثم ينزل ماء من تحت العرش ، كمنى الرجل ، ثم يأمر اللّه السحاب أن تمطر أربعين يوما ، حتى يكون فوقهم اثنى عشر ذراعا ، ويأمر اللّه تعالى الأجساد أن تنبت كنبات البقل ، حتى إذا تكاملت أجسادهم ، كما كانت ، قال اللّه تعالى : ليحيى حملة العرش ، فيحيون ، ثم يقول اللّه تعالى : ليحيى جبريل وميكائيل وإسرافيل ، فيحيون ، ثم يأمر اللّه تعالى إسرافيل ، فيأخذ الصور فيضعه على فيه ، ثم يدعو اللّه تعالى الأرواح ، فيؤتى بها تتوهج أرواح المؤمنين نورا ، والأخرى ظلمة ، فيقبضها ، ثم يلقيها فى الصور ، ثم يأمر اللّه تعالى إسرافيل أن ينفخ نفخة البعث ، فتخرج الأرواح ، كأنها النحل ، وقد ملأت ما بين السماء والأرض ، فيقول تعالى : لترجعن كل روح إلى جسدها ، فتدخل الأرواح الخياشيم ، ثم تمشى فى الأجساد ، مشى السم فى اللديغ ، ثم تنشق الأرض عنهم سراعا ، فأنا أول من
___________
(1) الآيتان : 1 - 2 من سورة الحج(4/224)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 225
تنشق عنه ، فتخرجون منها إلى ربكم تنسلون ، عراة ، حفاة ، غرلا ، مهطعين إلى الداعي ، فيقول الكافر : هذا يوم عسير. نقله الثعلبي «1».
ثم قال تعالى : صُنْعَ اللَّهِ ، هو مصدر مؤكد لمضمون ما قبله ، أي : صنع اللّه ذلك صنعا ، على أنه عبارة عما ذكر من النفخ فى الصور ، وما ترتب عليه جميعا. قصد به التنبيه على عظم شأن تلك الأفاعيل ، وتهويل أمرها ، والإيذان بأنها ليست بطريق الإخلال بنظم العالم ، وإفساد أحوال الكائنات ، من غير أن تدعو إليه داعية ، بل هى من بدائع صنع اللّه تعالى ، المبنية على أساس الحكمة ، المستتبعة للغايات الجليلة ، التي لأجلها رتبت مقدمات الخلق ومبادئ الإبداع ، على الوجه المتين ، والنهج الرصين ، كما يعرب عنه قوله : الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ أي : أحكم خلقه وسوّاه ، على ما تقتضيه الحكمة.
وقوله تعالى : إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ : تعليل لكون ما ذكر صنعا محكما له تعالى لبيان أن علمه بظواهر أفعال المكلفين وبواطنها ، مما يدعو إلى إظهارها وبيان كيفياتها ، على ما هى عليه من الحسن والسوء ، وترتيب أجزيتها عليها بعد بعثهم وحشرهم.
وقوله تعالى : مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها : بيان لما أشير إليه بإحاطة علمه تعالى بأفعالهم من ترتيب أجزيتها عليها ، أي : من جاء من أولئك الذين أوتوه بالحسنة فله خير منها ، باعتبار أنه أضعفها بعشر ، أو : باعتبار دوامه وانقضائها ، وعن ابن عباس رضي اللّه عنه : «الحسنة : كلمة الشهادة» «2» وَهُمْ أي : الذين جاءوا بالحسنات مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ أي : من فزع هائل ، وهو الفزع الحاصل من مشاهدة العذاب ، بعد تمام المحاسبة ، وظهور الحسنات والسيئات. وهو المراد فى قوله تعالى : لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ «3».
وقال ابن جريج : حين يذبح الموت وينادى : يا أهل الجنة خلود لا موت ، ويا أهل النار خلود لا موت.
فيكون هؤلاء مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ ، أي : يوم إذ ينفخ فى الصور وما بعده آمِنُونَ لا يعتريهم ذلك الفزع الهائل ، ولا يلحقهم ضرره أصلا. وأما الفزع الذي يعترى كل من السموات ومن فى الأرض ، غير ما استثناه اللّه تعالى ، فإنما هو التهيب والرعب الحاصل فى ابتداء النفخة ، من معاينة فنون الدواهي والأهوال ، ولا يكاد يخلو منه أحد بحكم الجبلة ، وإن كان آمنا من لحوق الضرر. قال جميعه أبو السعود.
___________
(1) انظر تفسير البغوي (6/ 182).
(2) انظر تفسير الطبري (20/ 22).
(3) من الآية 103 من سورة الأنبياء.(4/225)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 226
وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ قيل : هو الشرك. فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ ، أي : كبوا فيها على وجوههم منكوسين. ويقال لهم : هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فى الدنيا من الشرك والمعاصي. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : من أراد أن يكون ممن استثنى اللّه من الفزع والهول ، فليكن قلبه معمورا باللّه ، ليس فيه غير مولاه ، ولا مقصود له فى الدارين إلا اللّه ، وظاهره معمورا بطاعة اللّه ، متمسكا بسنة رسول اللّه ، هواه تابع لما جاء به من عند اللّه ، لا شهوة له إلا ما يقضى عليه مولاه ، فبهذا ينخرط فى سلك أولياء اللّه ، الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ، والذين سبقت لهم الحسنى ، لا يحزنهم الفزع الأكبر ، وهم فيما اشتهت أنفسهم خالدون. جعلنا اللّه من خواصهم ، بمنّه وكرمه ، آمين.
وقوله تعالى : وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً ... الآية. كذلك قلوب الراسخين فى العلم باللّه ، لا تؤثر فيهم هواجم الأحوال والواردات الإلهية ، بل تهزهم فى الباطن ، وظواهرهم ساكنة ، كالجبال الراسية ، قيل للجنيد : قد كنت تتواجد عند السماع ، والآن لا يتحرك فيك شى ء؟ فتلى : وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ.
وقوله تعالى : مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ أي : بالخصلة الحسنة ، وهى المعرفة فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وهو دوام النظرة والحبرة ، فى مقعد صدق عند مليك مقتدر ، وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ هى الجهل باللّه ، فينكس وجهه عن مواجهة المقربين. والعياذ باللّه.
ولما بلّغ الرسول صلى اللّه عليه وسلم ما أمره اللّه من بيان عواقب الأمور ، تبرأ منهم ، فقال :
[سورة النمل (27) : الآيات 91 الى 93]
إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (91) وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (92) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (93)
يقول الحق جل جلاله : قل لكفار قريش ، بعد تبيين أحوال المبعث ، وشرح أحوال القيامة ، بما لا مزيد عليه : إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ أي : مكة ، أي : إنما أمرنى ربى أن أعبده ، واستغرق أوقاتى فى مراقبته ومشاهدته ، غير مبال بكم ، ضللتم أم رشدتم ، وما علىّ إلا البلاغ ، وقد بلغتكم وأنذرتكم. وتخصيص مكة(4/226)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 227
بالإضافة لتفخيم شأنها وإجلال مكانها ، الَّذِي حَرَّمَها أي : جعلها حرما آمنا ، يأمن الملتجأ إليها ، ولا يختلى خلاها ، ولا يعضد شوكها ، ولا ينفّر صيدها. والتعرض لبيان تحريمه إياها تشريف لها بعد تشريف ، وتعظيم إثر تعظيم ، مع ما فيه من الإشعار بعلة الأمر بعبادة ربها ، وأنهم مكلّفون بذلك ، كما فى قوله تعالى : فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ ، الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ «1». ومن الإشارة إلى غاية شناعة ما فعلوا فيها ، ألا يرى أنهم مع كونها محرمة من أن تنتهك حرمتها ، ويلحد فيها بإثم ، قد استمروا فيها على تعاطى أفجر الفجور ، وأشنع الإلحاد ، حيث تركوا عبادة ربها ، ونصبوا الأوثان ، وعكفوا على عبادتها ، قاتلهم اللّه أنّى يؤفكون. قاله أبو السعود.
ثم قال تعالى : وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ خلقا وملكا وتصرفا ، من غير أن يشاركه أحد فى شىء من ذلك ، تحقيقا للحق ، وتنبيها على أن إفراد مكة بالإضافة لما ذكر من التفخيم والتشريف ، مع عموم الربوبية لجميع الموجودات.
وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ المنقادين له ، الثابتين على ما كنا عليه ، من ملة الإسلام والتوحيد. الذين أسلموا وجوههم له تعالى ، وانقادوا إليه بالكلية.
وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ أي : أواظب على تلاوته ، لتنكشف حقائقه الرائقة ، المخزونة فى تضاغيفه ، شيئا فشيئا.
أو : على تلاوته على الناس بطريق تكرير الدعوة ، وتثنية الإرشاد ، فيكون ذلك تنبيها على كفايته فى الهداية والإرشاد ، من غير حاجة إلى إظهار معجزة أخرى.
فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ أي : فمن اهتدى بالإيمان به ، والعمل بما فيه من الشرائع والأحكام ، فإنما منافع هدايته عائدة إليه ، لا إلى غيره. وَمَنْ ضَلَّ بالكفر به ، والإعراض عن العمل بما فيه فَقُلْ فى حقه : إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ وقد خرجت من عهدة الإنذار ، فليس علىّ من وبال ضلالته شىء. قال الصفاقسى : جواب «من» : محذوف ، يدل عليه ما قبله ، أي : فوبال ضلاله عليه ، أو : يكون الجواب : «فقل» ، ويقدر ضمير عائد من الجواب إلى الشرط لأنه اسم غير ظرف ، أي : من المنذرين له. ه.
وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ على ما أفاض علىّ من نعمائه ، التي أجلها نعمة النبوة ، المستتبعة لفنون النعم الدينية والدنيوية ، ووفقني لتحمل أعبائها ، وتبليغ أحكامها إلى كافة الورى ، بالآيات البينة والبراهين النيرة ، سَيُرِيكُمْ آياتِهِ قطعا فى الدنيا ، التي وعدكم بها ، كخروج الدابة وسائر الأشراط ، فَتَعْرِفُونَها أي : فتعرفون أنها آيات
___________
(1) الآيتان : 3 - 4 من سورة قريش.(4/227)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 228
اللّه ، حين لا تنفعكم المعرفة ، أو : سيضطركم إلى معرفة آياته ، والإقرار بأنها آيات اللّه حين ظهورها ، وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ، بل محيط بعمل المهتدى والضال ، غير غافل ، فيجازى كلا بما يستحقه.
وتخصيص الخطاب أولا به - عليه الصلاة والسلام - وتعميمه ثانيا للكفرة تغليبا ، أي : وما ربك بغافل عما تعمل أنت من الحسنات وما تعملون أنتم - أيها الكفرة - من السيئات ، فيجازى كلا بعمله. ومن قرأ بالغيب «1» فهو وعيد محض ، أي : وما ربك بغافل عن أعمالهم ، فسيعذبهم البتة ، فلا يحسبوا أن تأخير عذابهم لغفلته تعالى عن أعمالهم ، بل يمهل ولا يهمل. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : إذا فرغ الواعظ من وعظه وتذكيره ، أو : العالم من تدريسه وتعليمه ، أقبل على عبادة ربه ، إما عبادة الجوارح الظاهرة ، من صلاة وذكر وتلاوة ، أو عبادة القلوب ، كتفكر واعتبار ، أو استخراج علوم وحكم ودرر.
وإما عبادة الأرواح ، كنظرة وفكرة وشهود واستبصار. وهذه عبادة الفحول من الرجال ، فمن اهتدى إليها فلنفسه ، ومن ضل عنها فقل إنما أنا من المنذرين. والحمد للّه رب العالمين - وصلى اللّه على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما.
___________
(1) قرأ حفص ، ونافع ، وابن عامر ، وأبو جعفر ، ويعقوب (تعملون) بتاء الخطاب. وقرأ الباقون بالغيب. انظر الإتحاف (2/ 337).(4/228)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 229
سورة القصص
مكية إلا قوله : إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ .. الآية «1». وهى ثمان وثمانون آية. ومناسبتها لما قبلها :
قوله : وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ «2» ، مع قوله : تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ فإنه عين القرآن المتلو. وقيل : وجه المناسبة :
قوله : سَيُرِيكُمْ آياتِهِ «3» ، مع قوله : تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ فإن تنزيل الكتاب من أعظم الآيات. وافتتح بالرموز التي يستعملها بينه وبين حبيبه ، فقال :
[سورة القصص (28) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
طسم (1) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (2) نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (3)
يقول الحق جل جلاله : طسم ، إما مختصرة من أسماء اللّه تعالى ، أقسم على حقّية كتابه ، وما يتلى فيه ، كأنها مختصرة من طهارته - أي : تنزيهه - وسيادته ، ومجده ، أو : من أسماء رسوله - وهو الأظهر - أي : أيها الطاهر السيد المجيد تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ ، إما من بان ، أو : أبان ، أي : بيّن خيره وبركته ، أو : مبين للحلال والحرام ، والوعد والوعيد ، والإخلاص والتوحيد ، نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ أي : بعض خبرهما العجيب. قال القشيري : كرّر الحقّ قصة موسى تعجيبا بشأنه ، وتعظيما لأمره ، ثم زيادة فى البيان لبلاغة القرآن ، ثم أفاد زوائد من الذكر فى كل موضع يكرره. ه.
هذا مع الإشارة إلى نصر المستضعفين ، والامتنان عليهم بالظفر والتمكين ، ففيه تسلية لنبينا محمد صلى اللّه عليه وسلم ، ووعد جميل له ولأمته. وقوله : بِالْحَقِّ : حال من فاعل نَتْلُوا ، أو : من مفعوله ، أو : صفة لمصدر محذوف ، أي :
ملتبسين ، أو : ملتبسا بالحق ، أو : تلاوة ملتبسة بالحق. لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ لمن سبق فى علمنا أنه يؤمن لأن التلاوة إنما تنفع هؤلاء دون غيرهم ، فهو متعلق بنتلوا. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : تقديم هذه الرموز ، قبل سرد القصص ، إشارة إلى أنه لا ينتفع بها كل الانتفاع حتى يتطهر سره ، ويلقى سمعه ، وهو شهيد ، فحينئذ يكون طاهرا سيدا مجيدا ، ينتفع بكل شىء ، ويزيد إلى اللّه بكل شىء. ولذلك خص تلاوة قصص موسى بأهل الإيمان الحقيقي لأنهم هم أهل الاعتبار والاستبصار. واللّه تعالى أعلم.
___________
(1) الآية 8 ونزلت بالجحفة بين مكة والمدينة. انظر تفسير ابن كثير (3/ 402 - 403).
(2) الآية 92 من سورة النمل.
(3) من الآية الأخيرة من سورة النمل.(4/229)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 230
ثم شرع فى بيان شأنهما ، فقال :
[سورة القصص (28) : الآيات 4 الى 6]
إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4) وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ (6)
يقول الحق جل جلاله : إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ ، وهو استئناف بيانى ، وكأن قائلا قال : وكيف كان نبأهما؟ فقال : إنه علا فى الأرض ، أي : تجبّر وطغى فى أرض مصر ، وجاوز الحد فى الظلم والعدوان. أو : علا عن عبادة ربه ، وافتخر بنفسه ، ونسى العبودية. وفى التعبير بالأرض تبكيت عليه ، أي : علا فى محل التذلل والانخفاض ، وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً أي : فرقا وأصنافا فى الخدمة والتسخير ، كلّ قوم من بنى إسرائيل فى شغل مفرد. وقيل : ملك القبط واستعبد بنى إسرائيل. أو : فرقا مختلفة ، يكرم طائفة ويهين أخرى ، فأكرم القبط ، وأهان بنى إسرائيل. يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ وهم بنو إسرائيل ، وهو يرشد إلى كون المراد بقوله : وَجَعَلَ أَهْلَها لا يخصّ ببني إسرائيل. يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ الذكور ، وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ أي : البنات ، يتركهم لخدمته.
وسبب ذبحه للأبناء أن كاهنا قال له : يولد مولود فى بنى إسرائيل ، يذهب ملكك على يده ، وفيه دليل على حمق فرعون ، فإنه إن صدق الكاهن لم ينفعه القتل إذ لا ينفع حذر من قدر ، وإن كذب فلا معنى للقتل. وجملة :
يَسْتَضْعِفُ : حال من الضمير فى جَعَلَ ، أو صفة لشيع ، أو استئناف. إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ، أي : الراسخين فى الإفساد ، ولذلك اجترأ على تلك العزيمة العظيمة ، من قتل المعصومين من أولاد الأنبياء - عليهم السلام.
وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ أي : نتفضل عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ على الوجه المذكور بالقتل والتسخير. وهذه الجملة معطوفة على : إِنَّ فِرْعَوْنَ ، أو : حال من يَسْتَضْعِفُ ، أي : يستضعفهم فرعون ونحن نريد أن نمنّ عليهم ، وإرادة اللّه تعالى كائنة لا محالة ، فجعلت كالمقارنة لاستضعافهم ، وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً أي :
قادة يقتدى بهم فى الخير ، أو : دعاة إلى الخير ، أو : ولاة وملوكا ، وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ أي : يرثون فرعون وقومه ، ملكهم وكل ما كان لهم.
وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ أرض مصر والشام ، يتصرفون فيها كيف شاءوا ، وتكون تحت ملكهم وسلطانهم. وأصل التمكن : أن يجعل له مكانا يقعد عليه ، ثم استعير للتسليط والتصرف فى الأمر. وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ(4/230)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 231
وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ
من بنى إسرائيل ، ما كانُوا يَحْذَرُونَ يخافون من ذهاب ملكهم ، وهلاكهم على يد مولود منهم. والحذر : التوقي من الضرر. ومن قرأ (يرى) بالياء «1» ، ففرعون وما بعده فاعل. وباللّه التوفيق.
الإشارة : العلو فى الأرض يورث الذل والهوان. والتواضع والاستضعاف يورث العز والسلطان ، والعيش فى العافية والأمان من تواضع رفعه اللّه ، ومن تكبر قصمه اللّه. وهذه عادة اللّه فى خلقه ، بقدر ما يذلّ فى جانب اللّه يعزه اللّه ، وبقدر ما يفتقر يغنيه اللّه ، وبقدر ما يفقد يجد اللّه. قال الشيخ أبو الحسن رضي اللّه عنه : اللهم إن القوم قد حكمت عليهم بالذل حتى عزوا ، وحكمت عليهم بالفقد حتى وجدوا. وباللّه التوفيق.
ثم ذكر أول نشأة موسى عليه السّلام وما جرى فى تربيته ، فقال :
[سورة القصص (28) : الآيات 7 الى 9]
وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7) فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ (8) وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (9)
يقول الحق جل جلاله : وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى بالإلهام ، أو بالرؤيا ، أو بإخبار ملك كما كان لمريم ، وليس هذا وحي رسالة ، فلا يلزم أن تكون رسولا ، واسمها : يوحانة ، وقيل : يوخابذ بنت يصهر بن لاوى بن يعقوب. وقيل : يارخا. ذكره فى الإتقان. وقلنا : أَنْ أَرْضِعِيهِ «أن» : مفسرة ، أي : أرضعيه ، أو : مصدرية ، بأن أرضعيه ما أمكنك إخفاؤه ، فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ من القتل فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ. البحر ، وهو نيل مصر ، وَلا تَخافِي عليه من الغرق والضياع ، وَلا تَحْزَنِي لفراقه ، إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ بوجه لطيف لتربيه ، وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ. وفى هذه الآية : أمران ، ونهيان ، وخبران ، وبشارتان.
والفرق بين الخوف والحزن أن الخوف : غم يلحق الإنسان لتوقّع مكروه ، والحزن : غم يلحق الإنسان لواقع أو ماضى ، وهو الآن فراقه والإخطار به. فنهيت عنهما ، وبشرت برده وجعله من المرسلين. روى أنه ذبح ، فى طلب موسى ، تسعون ألف وليد. وروى أنها حين ضربها الطلق - وكانت بعض القوابل من الموكلات بحبالى بنى إسرائيل مصافية لها ، فعالجتها ، فلما وقع إلى الأرض هالها نور بين عينيه ، ودخل حبه قلبها ، فقالت : ما جئت إلا لأقتل ولدك وأخبر فرعون ، ولكن وجدت لابنك حبا ما وجدت مثله ، فاحفظيه ، فلما خرجت القابلة ، جاءت عيون فرعون
___________
(1) قرأ حمزة والكسائي (يرى) بياء مفتوحة ، و«فرعون» بالرفع فاعله ، و«هامان وجنودهما» بالرفع عطفا عليه ، وقرأ الباقون «نرى» بالنون مضمومة ، و«فرعون» بالنصب مفعوله. انظر الإتحاف (2/ 340).(4/231)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 232
فلفّته فى خرقة ، ووضعته فى تنور مسجور ، ولم تعلم ما تصنع لما طاش من عقلها ، فطلبوا فلم يجدوا شيئا ، فخرجوا ، وهى لا تدرى مكانه ، فسمعت بكاءه من التنور ، فانطلقت إليه ، وقد جعل اللّه النار عليه بردا وسلاما. فلما ألح فرعون فى طلب الولدان ، أوحى اللّه إليها بإلقائه فى اليمّ ، فألقته فى اليم بعد أن أرضعته ثلاثة أشهر.
روى أنها لفته فى ثيابه ، وجعلت له تابوتا من خشب ، وقيل : من بردى ، وسدت عليه بقفل ، وأسلمته ثقة بالله وانتظارا لوعده سبحانه. قال ابن مخلص : ألقته فى البحر بالغداة ، فرده إليها قبل الظهر. حكى أن فرعون كانت له بنت برصاء ، أعيت الأطباء ، فقال الأطباء والسحرة : لا تبرأ إلا من قبل البحر ، يؤخذ منه شبه الإنسان ، فيؤخذ من ريقه وتلطخ به برصها ، فتبرأ ، فقعد فرعون على شفير النيل ، ومعه آسية امرأته ، فإذا بالتابوت يلعب به الموج ، فأخذ له ، ففتحوه ، فلم يطيقوا ، فدنت آسية ، فرأت فى وجه التابوت نورا لم يره غيرها ، للذى أراد اللّه أن يكرمها ، ففتحه ، فإذا الصبى بين عينيه نور ، وقد جعل اللّه رزقه فى إبهامه ، يمصه لبنا ، فأحبته آسية وفرعون ، فلطخت بنت فرعون برصها فبرئت ، فقبّلته وضمته إلى صدرها. فقال بعض القواد من قوم فرعون : نظن هذا المولود الذي نحذر منه ، فهمّ فرعون بقتله - واللّه غالب على أمره - فقالت : آسية : قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ .. الآية «1».
وهذا معنى قوله : فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ أخذه. قال الزجّاج : وكان فرعون من أهل فارس ، من إصطخر.
والالتقاط : وجدان الشيء من غير طلب ولا إرادة ، ومنه : اللّقطة ، لما وجد ضالا. وقوله : لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً أي : ليصير الأمر إلى ذلك ، لا أنهم أخذوه لهذا ، فاللام للصيرورة كقولهم : لدوا للموت وابنوا للخراب.
وقال صاحب الكشاف : هى لام «كى» التي معناها التعليل ، كقولك : جئت لتكرمنى. ولكن معنى التعليل فيها وارد على طريق المجاز لأن ذلك لما كان نتيجة التقاطهم له ، شبه بالداعي الذي يفعل الفاعل الفعل لأجله. ه. وتسمى بالاستعارة التبعية.
وفى «الحزن» لغتان الفتح والضم ، كالعدم والعدم.
إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ ، أي : مذنبين ، فعاقبهم اللّه تعالى بأن ربّى عدوهم ، ومن هو سبب هلاكهم على يديهم. أو : كانوا خاطئين فى كل شىء ، فليس خطؤهم فى تربية عدوهم ببدع منهم.
وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ ، لمّا هم فرعون بقتله - لقول القواد : هو الذي نحذر : هو قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ ، فقال فرعون : لك ، لا لى. قال صلى اللّه عليه وسلم : «لو قال مثل ما قالت لهداه اللّه مثل ما هداها» «2» ، وهذا على سبيل الفرض ، أي : لو كان غير مطبوع عليه الكفر لقال مثل قولها. ثم قالت : لا تَقْتُلُوهُ ، خاطبته خطاب الملوك ، أو خاطبت
___________
(1) انظر تفسير الطبري (20/ 32) والبغوي (6/ 192). [.....]
(2) عزاه المناوى فى الفتح السماوي (2/ 897) للنسائى - فى الكبرى فى التفسير - من حديث ابن عباس - رضى اللّه عنه.(4/232)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 233
القواد. عَسى أَنْ يَنْفَعَنا فإن فيه مخايل اليمن ودلائل النفع ، وذلك لما عاينت من النور وبرء البرصاء.
أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً أو : نتبناه فإنه أهل لأن يكون ولد الملوك. قال تعالى : وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ما يكون من أمره وأمرهم ، أو : لا يشعرون أن هلاكهم على يديه ، أو : لا يشعرون أنهم على خطأ عظيم فى التقاطه ورجاء النفع منه. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : يقال لمن يعالج تربية مريد : أرضعه من لبن علم الغيوب ، فإذا خفت عليه الوقوف مع الشرائع «1» ، فألقه فى اليم فى بحر الحقائق ، ولا تخف ولا تحزن ، إنا رادوه إلى بر الشرائع ، ليكون من الكاملين ، لأن من غرق فى بحر الحقيقة ، على يد شيخ كامل ، لا بد أن يخرجه إلى بر الشريعة ، ويسمى البقاء ، وهو القيام برسم الشرائع ، فالبقاء يطلب الفناء ، فمن تحقق بمقام الفناء فلا بد أن يخرج إلى البقاء ، كما يخرج من فصل الشتاء إلى الربيع.
واللّه تعالى أعلم.
وقوله تعالى : لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً ، ما كان التقاط فرعون لموسى إلا للمحبة والفرح ، فخرج له عكسه. ومن هذا كان العارفون لا يسكنون إلى شىء ، ولا يعتمدون على شىء لأن العبد قد يخرج له الضرر من حيث النفع ، وقد يخرج له النفع من حيث يعتقد الضرر ، وقد ينتفع على أيدى الأعداء ، ويضرّ على أيدى الأحبّاء ، فليكن العبد سلما بين يدى سيده ، ينظر ما يفعل به. وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ.
ثم قال تعالى :
[سورة القصص (28) : الآيات 10 الى 11]
وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْ لا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (10) وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (11)
يقول الحق جل جلاله : وَأَصْبَحَ أي : صار فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً من كل شىء إلا من ذكر موسى وهمه ، أو : فارغا : خاليا من العقل لما دهمها من الجزع والحيرة ، حين سمعت بوقوعه فى يد فرعون ، ويؤيده قراءة ابن محيصن : «فزعا» بالزاي بلا ألف ، أو : فارغا من الوحى الذي أوحى إليها أن تلقيه فى اليم ، ناسيا
___________
(1) أي : الوقوف الظاهري ، الشكلانى ، دون تحقق القلب والنفس بحقائق الإيمان ولوازمه. فهذا هو الذي يخاف منه ، مثل وقوف الخوارج ، الذين وصفهم الرسول صلى اللّه عليه وسلم بأن إيمانهم لا يجاوز حناجرهم ، وأن قراءتهم لا تجاوز تراقيهم ، وأن صلاتهم لا تجاوز تراقيهم ، أي : أن تعبدهم وتدينهم هو تدين برّانى ، شكلانى ، لا ينبثق من الأعماق ، من الكيان الجواني للإنسان.(4/233)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 234
للعهد أن يرده إليها ، لما دهمهما من الوجد ، وقال لها الشيطان : يا أم موسى كرهت أن يقتل فرعون موسى وأغرقته أنت. وبلغها أنه وقع فى يد فرعون ، فعظم البلاء ، إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ : لتبوح به وتظهر شأنه وأنه ولدها.
قيل : لما رأت الأمواج تلعب بالتابوت كادت تصيح وتقول : يا ابناه ، وقيل : لما سمعت أن فرعون أخذ التابوت لم تشك أنه يقتله ، فكادت تقول : يا ابناه شفقة عليه. و«أن» مخففة ، أي : إنها كادت لتظهره لَوْ لا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها. والربط : تقويته بإلهام الصبر والتثبيت ، لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ : من المصدقين بوعدنا ، وهو : إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ. وجواب «لو لا» : محذوف ، أي : لأبدته ، أو : فارغا من الهم ، حين سمعت أن فرعون تبناه ، إن كادت لتبدى بأنه ولدها لأنها لم تملك نفسها فرحا وسرورا مما سمعت ، لو لا أنا ربطنا على قلبها وثبتناه لتكون من المؤمنين الواثقين بعهد اللّه ، لا بتبني فرعون. قال يوسف بن الحسن : أمرت أم موسى بشيئين ، ونهيت عن شيئين ، وبشرت ببشارتين ، فلم ينفعها الكل ، حتى تولى اللّه حياطتها ، فربط على قلبها.
وَقالَتْ لِأُخْتِهِ مريم : قُصِّيهِ : اتبعى أثره لتعلمى خبره ، فَبَصُرَتْ بِهِ أي : أبصرته عَنْ جُنُبٍ عن بعد. قال قتادة : جعلت تنظر إليه كأنها لا تريده ، وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ أنها أخته ، وأنها تقصه.
واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : ينبغى للعبد ، الطالب لمولاه ، أن يصبح فارغا من كل ما سواه ، ليس فى قلبه سوى حبيبه ، فحينئذ يرفع عنه الحجاب ، ويدخله مع الأحباب ، فعلامة المحبة : جمع الهموم فى هم واحد ، وهو حب الحبيب ، ومشاهدة القريب المجيب ، كما قال الشاعر :
كانت لقلبى أهواء مفرّقة فاستجمعت ، مذ رأتك العين ، أهوائى
فصار يحسدنى من كنت أحسده وصرت مولى الورى مذ صرت مولائى
تركت للنّاس دنياهم ودينهم شغلا بذكرك يا دينى ودنيائى
فرّغ قلبك من الأغيار تملأه بالمعارف والأسرار. والأغيار : جمع غير ، وهو ما سوى اللّه ، فإن تلاشى الغير عن عين العبد شاهد مولاه فى غيب ملكوته ، وأسرار جبروته ، وفى ذلك يقول القائل :
إن تلاشى الكون عن عين قلبى شاهد السّرّ غيبه فى بيان
فاطرح الكون عن عيانك ، وامح نقطة الغين إن أردت ترانى(4/234)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 235
فمن شاهد حبيبه كاد أن يبدى به ، ويبوح بسره فرحا واغتباطا به ، لو لا أن اللّه يربط على قلبه ، ليكون من الثابتين الراسخين فى العلم به ، وإن أبدى سر الحبيب سلط عليه سيف الشريعة ، وبالله التوفيق.
ثم ذكر رجوع موسى إلى أمه ، فقال :
[سورة القصص (28) : الآيات 12 الى 13]
وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ (12) فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (13)
قلت : المراضع : جمع مرضع ، وهى المرأة التي ترضع ، أو : مرضع - بالفتح - : موضع الرضاع ، وهو الثدي.
و(لا تحزن) : معطوف على (تقر).
يقول الحق جل جلاله : وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ أي : تحريم منع ، لا تحريم شرع ، أي : منعناه أن يرضع ثديا غير ثدي أمه. وكان لا يقبل ثدى مرضع حتى أهمهم ذلك. مِنْ قَبْلُ أي : من قبل قصصها أثره ، أو : من قبل أن نرده إلى أمه. فَقالَتْ أخته. وقد دخلت داره بين المراضع ، ورأته لا يقبل ثديا : هَلْ أَدُلُّكُمْ أرشدكم عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ يحفظون موسى لَكُمْ ، وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ لا يقصرون فى إرضاعه وتربيته. والنصح : إخلاص العمل من شائبة الفساد. روى أنها لما قالت : وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ قال هامان : إنها لتعرفه وتعرف أهله ، فخذوها حتى تخبر بقصة هذا الغلام ، فهو الذي نحذر ، فقالت : إنما أردت : وهم للملك ناصحون.
فانطلقت إلى أمها بأمرهم ، فجاءت بها ، والصبى على يد فرعون يعلله شفقة عليه ، وهو يبكى يطلب الرضاع ، فحين وجد ريحها استأنس والتقم ثديها ، فقال لها فرعون : ومن أنت منه ، فقد أبى كل ثدى إلا ثديك؟
فقالت : إنى امرأة طيبة الريح ، لا أوتى بصبى إلا قبلنى. فدفعه إليها ، وأجرى عليها مؤنة الرضاع. قيل : دينارا فى اليوم ، وذهبت به إلى بيتها ، وأنجز اللّه لها وعده فى الرد ، فعندها ثبت واستقر فى علمها أنه سيكون نبيا. وذلك قوله تعالى : فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها بولدها ، وَلا تَحْزَنَ لفراقه ، وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ ، أي :
وليثبت علمها مشاهدة ، كما ثبت علما.(4/235)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 236
وأما جزعها وحيرتها فذلك من الطبع البشرى الجبلّىّ ، اللازم لضعف البشرية ، لا ينجو منه إلا خواص الخواص ، وإنما حل لها ما تأخذه من الدينار فى اليوم ، كما قال السدى : لأنه مال حربى ، لا أنه أجرة إرضاع ولدها.
وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ أي : القبط ، أو الناس جملة ، لا يَعْلَمُونَ أن ما وعد اللّه لا بد من إنجازه ، ولو بعد حين ، وهو داخل تحت علمها ، أي : لتعلم أن وعد اللّه حق ، ولتعلم أن أكثر الناس لا يعلمون فيرتابون فيه. وفيه التعريض بما فرط منها حين سمعت بوقوع موسى فى يد فرعون ، فجزعت ، وهذا من الطبع البشرى كما تقدم.
وأيضا يجوز أن يكون الوعد منوطا بشروط وأسباب ، قد لا تعرفها ، فلذلك لم ينفك خوفها. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : وحرمنا على الإنسان المراضع ، من لبان الخمرة الأزلية ، من قبل أن نلقيه بأهلها ، فقالت له العناية السابقة : هل أدلك على أهل بيت الحضرة يكفلونك من رعونات البشرية ، والهفوات القلبية ، وهى الإصرار على المساوئ والذنوب ، ويرضعونك من لبن الخمرة الأزلية. وهم لك ناصحون ، يدلونك على اللّه ولا يدلونك على غيره. فإن من دلّك على اللّه فقد نصحك ، ومن دلّك على العمل فقد أتعبك ، ومن دلك على الدنيا فقد غشك.
فرددناه إلى أمه ، وهى الحضرة القدسية ، التي خرج منها ، بمتابعة شهوته وغفلته ، كى تقر عين روحه بمشاهدة حبيبها ، ولا تحزن على فوات شىء ، إذ لم تفقد شيئا ، حيث وجدت اللّه تعالى «ماذا فقد من وجدك؟ وما الذي وجد من فقدك؟» «1» ولتعلم أن وعد اللّه بالفتح على من توجه إليه بالواسطة حق ، ولكن أكثر أهل الغفلة لا يعلمون.
ثم ذكر سبب خروج موسى من مصر ، فقال :
[سورة القصص (28) : الآيات 14 الى 17]
وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (14) وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (15) قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (16) قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ (17)
قلت : عَلى حِينِ غَفْلَةٍ : حال ، أي : دخل مخفيا.
يقول الحق جل جلاله : وَلَمَّا بَلَغَ موسى أَشُدَّهُ أي : نهاية القوة وتمام العقل ، جمع شدّة كنعمة وأنعم. وأول ما قيل فى الأشد : بلوغ النكاح ، وذلك أوله ، وأقصاه : أربع وثلاثون سنة. وَاسْتَوى أي : اعتدل
___________
(1) من مناجاة سيدى ابن عطاء اللّه السكنندرى. انظر الحكم بتبويب المتقى الهندي/ ص 42.(4/236)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 237
عقله وقوته ، وهو أربعون سنة ، ويروى أنه لم يبعث نبى إلا على رأس أربعين سنة. آتَيْناهُ حُكْماً : نبوة ، أو :
حكمة وَعِلْماً : فقها فى الدين ، أو : علما بمصالح الدارين. والحاصل : لما تكامل عقله وبصيرته آتيناه حكما على عبادنا وعلما بنا. وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ أي : كما فعلنا بموسى وأمه لمّا استسلمت لأمر اللّه ، وألقت ولدها فى البحر ، وصدقت بوعد اللّه ، فرددنا لها ولدها ، ووهبنا له الحكمة والنبوة ، فكذلك نجزى المحسنين فى كل أوان وحين.
قال الزجاج : جعل اللّه تعالى إيتاء العلم والحكمة مجازاة على الإحسان لأنهما يؤديان إلى الجنة ، التي هى جزاء المحسنين ، والعالم الحكيم من يعمل بعلمه لأنه تعالى قال : وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ «1» ، فجعلهم جهالا ، إذ لم يعملوا بالعلم. ه.
وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ أي : مصر ، آتيا من قصر ، فرعون ، وكان خارجا ، وقال السّدّى : مدينة منف من أرض مصر ، وقال مقاتل : قرية «حابين» ، على فرسخين من مصر. عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها ، وهو ما بين العشاءين ، أو : وقت القائلة ، يعنى : انتصاف النهار. قال السدى : لما كبر موسى ركب مراكب فرعون ، ولبس ملابسه ، فكان يدعى موسى بن فرعون ، فركب فرعون يوما وركب موسى خلفه ، فأدركه المقيل بقرب مدينة منف ، فدخلها نصف النهار ، وقد غلقت أسواقها ، وليس فى طرقها أحد ، فوجد موسى رجلين .. إلخ.
قال ابن إسحاق : كان يجتمع إلى موسى طائفة من بنى إسرائيل ويقتدون به ، فرأى مفارقة فرعون ، وتكلم فى ذلك حتى ظهر أمره ، فأخافوه ، فكان لا يدخل قرية إلا مستخفيا ، فدخلها على حين غفلة. وقيل : إن موسى لما شبّ علا فرعون بالعصى ، فقال : هذا عدو لى ، فأخرجه من مصر ، ولم يدخل عليهم إلى أن كبر وبلغ أشده ، فدخل المدينة على حين غفلة من أهلها بخبر موسى ، أي : من بعد نسيانهم خبره «2» ، فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ يتضاربان ، هذا مِنْ شِيعَتِهِ ممن على دينه من بنى إسرائيل ، وقيل : هو السامري. وشيعة الرجل : أتباعه وأنصاره ، وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ من مخالفيه من القبط ، وهو طباخ فرعون. واسمه : «فليثور» ، وقيل فيهما : «هذا وهذا» ، وإن كانا غائبين على جهة الحكاية ، أي : إذا نظر إليهما الناظر قال : هذا وهذا.
وقال ابن عباس : لما بلغ موسى أشده كان يحمى بنى إسرائيل من الظلم والسخرة ، فبينما هو يمشى نظر رجلين يقتتلان ، أحدهما من القبط والآخر من بنى إسرائيل.
___________
(1) من الآية 102 من سورة البقرة.
(2) أخرج هذه الأقوال الطبري فى تفسيره (20/ 43 - 44).(4/237)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 238
فَاسْتَغاثَهُ فاستنصره الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ أي : فسأله أن يغيثه الإعانة. ضمّن استغاث أعان ، فعداه ب «على». روى أنه لما استغاث به ، غضب موسى ، وقال للفرعونى : خله عنك؟ فقال : إنما آخذه ليحمل الحطب إلى مطبخ أبيك ، ثم قال الفرعون لموسى : لقد هممت أن أحمله عليك ، فَوَكَزَهُ مُوسى ضربه بجمع كفه ، أو : بأطراف أصابعه. قال الفراء الوكز : الدفع بأطراف الأصابع. فَقَضى عَلَيْهِ أي : قتله ، ولم يتعمد قتله ، وكان موسى عليه السّلام ذا قوة وبطش ، وإنما فعل ذلك الوكز لأن إغاثة المظلوم والدفع عنه دين فى الملل كلها ، وفرض فى جميع الشرائع. وإنما عدّه ذنبا لأن الأنبياء لا يكفى فى حقهم الإذن العام ، فلذلك قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ أي : القتل الحاصل ، بغير قصد ، من عمل الشيطان ، واستغفر ، وإنما جعل قتل الكافر من عمل الشيطان ، وسماه ظلما لنفسه ، واستغفر منه لأنه كان مستأمنا فيهم ، أو : لأنه قتله قبل أن يؤذن له فى القتل.
وعن ابن جريح : ليس لنبى أن يقتل ما لم يؤمر ، ولأن الخصوص يعظمون محقرات ما فرط منهم. إِنَّهُ أي :
الشيطان عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ ظاهر العداوة.
قالَ رَبِّ أي : يا رب إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي بفعل صار قتلا فَاغْفِرْ لِي زلتى ، فَغَفَرَ لَهُ زلته ، إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ بإقالة الزلل ، الرَّحِيمُ بإزالة الخجل ، قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ أي : بحق إنعامك علىّ بالمغفرة ولم تعاقبنى فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ أي : لا تجعلنى أعين على خطيئة ، توسل للعصمة بإنعامه عليه. وقيل : إنه قسم حذف جوابه ، أي : أقسم بإنعامك علىّ بالمغفرة ، إن عصمتنى ، فلن أكون ظهيرا للمجرمين ، وأراد بمظاهرة المجرمين صحبة فرعون ، وانتظامه فى جملته ، وتكثير سواده ، حيث كان يركب معه كالولد مع الوالد.
قال ابن عطية : واحتج أهل الفضل والعلم بهذه الآية فى منع خدمة أهل الجور ، ومعونتهم فى شىء من أمورهم ، ورأوا أنها تتناول ذلك. ه. قال الوصافي لعطاء بن أبى رباح : إن لى أخا يأخذ بقلمه ، وإنما يكتب ما يدخل ويخرج ، وله عيال ، ولو ترك لاحتاج وادّان. فقال : من الرأس؟ فقال : خالد بن عبد اللّه ، قال : أما تقرأ قول العبد الصالح : رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ ، فإن اللّه عز وجل سيعينه. ه.
الإشارة : خصوصية الولاية كخصوصية النبوة ، لا تعطى ، غالبا ، إلا بعد بلوغ الأشد وكمال قوة العقل ، وحصول الاستواء ، وهو أن يستوى عنده المدح والذم ، والعز والذل ، والمنع والعطاء ، والفقر والغنى ، وتستوى حاله فى القبض والبسط ، والغضب والرضا ، فإذا استوى فى هذه الأمور آتاه اللّه حكما وعلما ، وجزاه جزاء المحسنين ، وكتب شيخ شيخنا إلى بعض تلامذته : أمّا بعد ، فإن تورعت فى أقوالك وأفعالك ، وتوسعت فى أخلاقك ، حتى(4/238)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 239
يستوى عندك من يمدحك ويذمك ، ويعطيك ويمنعك ، ومن يؤذيك وينفعك ، ومن يشدد عليك ويوسع ، فلا أشك فى كمالك. ه.
فإن قلت : لم ذكر الحق ، جلّ جلاله ، الاستواء فى حق سيدنا موسى ، ولم يذكره فى حق نبيه يوسف - عليهما السلام؟ فالجواب : أن سيدنا يوسف عليه السّلام تربى فى السجن وفى نار الجلال ، وكل محنة تزيد تهذيبا وتدريبا ، فما بلغ الأشد حتى وقع له كمال الاستواء ، بخلاف سيدنا موسى عليه السّلام فإنه تربى فى العز والجمال ، فاحتاج إلى تربية وتهذيب ، بعد كمال الأشد ، فلم يحصل له كمال الأدب إلا بعد الاستواء الذي يليق به ، فلذلك ذكره فى حقه. واللّه تعالى أعلم.
ثم قال تعالى :
[سورة القصص (28) : الآيات 18 الى 21]
فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قالَ لَهُ مُوسى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (18) فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما قالَ يا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (19) وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى قالَ يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (20) فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (21)
قلت : جملة (يسعى) : حال من (رجل) لأنه وصف بالجار.
يقول الحق جل جلاله : فَأَصْبَحَ موسى فِي الْمَدِينَةِ أي : مصر خائِفاً على نفسه من قتله قودا بالقبطي ، وهذا الخوف أمر طبيعى لا ينافى الخصوصية ، يَتَرَقَّبُ : ينتظر الأخبار عنه ، أو ما يقال فيه ، أو يترصد الاستفادة منه. وقال ابن عطاء : خائفا على نفسه ، يترقب نصرة ربه ، فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ : يستغيثه ، مشتق من الصراخ لأنه يقع فى الغالب عند الاستغاثة. والمعنى : أن الإسرائيلى الذي خلصه موسى استغاث به ثانيا من قبطى آخر ، قالَ لَهُ مُوسى أي : للإسرائيلى : إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ أي :
خال عن الرشد ، ظاهر الغى ، فقد قاتلت بالأمس رجلا فقتلته بسببك. قال ابن عباس : أتى فرعون ، فقيل له : إن بنى إسرائيل قد قتلوا منا رجلا ، فالقصاص ، فقال : ابغوني القاتل والشهود ، فبينما هم يطلبون إذ مر موسى من الغد ، (4/239)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 240
فرأى ذلك الإسرائيلى يقاتل فرعونيا آخر ، يريد أن يسخره ، فاستغاث به الإسرائيلى على الفرعوني ، فوافق موسى نادما على القتل ، فقال للإسرائيلى : إنك لغوى مبين «1».
فَلَمَّا أَنْ أَرادَ موسى أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي بالقبطي الذي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما لموسى وللإسرائيلى لأنه ليس على دينهما ، أو : لأن القبط كانوا أعداء بنى إسرائيل ، أي : فلما مدّ موسى يده ليبطش بالفرعوني ، خشى الإسرائيلى أن يريده ، حين قال : إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ ، فقال : يا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ ، يعنى : القبطي ، أَنْ ما تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً قتالا بالغضب ، فِي الْأَرْضِ أرض مصر ، وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ فى كظم الغيظ.
وقيل : القائل : يا مُوسى أَتُرِيدُ ... إلخ ، هو القبطي ، ولم يعلم أن موسى هو الذي قتل الرجل بالأمس ، ولكن لما قصد أن يمنعه من الإسرائيلى استدل على أن الذي قتل صاحب هذا الرجل بالأمس هو موسى ، فلما ذكر ذلك شاع فى أفواه الناس أن موسى هو الذي قتل القبطي بالأمس ، فأمسك موسى عنه ، ثم أخبر فرعون بذلك فأمر بقتل موسى.
وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ من آخرها ، واسمه : «حزقيل بن حبورا» ، مؤمن آل فرعون ، وكان ابن عم فرعون ، يَسْعى : يسرع فى مشيه ، أو : يمشى على رجله ، قالَ يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ ، أي :
يتشاورون فى قتلك ، ويأمر بعضهم بعضا بذلك. والائتمار : التشاور ، فَاخْرُجْ من المدينة ، إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ ، فاللام فى (لك) : للبيان ، وليس بصلة لأن الصلة لا تتقدم على الموصول ، إلا أن يتسامح فى المجرور ، فَخَرَجَ مِنْها من مصر خائِفاً يَتَرَقَّبُ : ينتظر الطلب ويتوقعه ، قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ قوم فرعون. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : فى الآية دليل على أن الخوف عند الدواهي الكبار لا ينافى الخصوصية لأنه أمر جبلّى ، لكنه يخف ويهون أمره ، وفيها دليل على جواز الفرار من مواطن الهلاك ، يفرّ من اللّه إلى اللّه ، ولا ينافى التوكل ، وقد اختفى صلى اللّه عليه وسلم من الكفار بغار ثور ، واختفى الحسن البصري من الحجّاج ، عند تلميذه حبيب العجمي. وفيها أيضا دليل على أن المعصية قد تكون سببا فى نيل الخصوصية ، كأكل آدم من الشجرة ، كان سببا فى نيل الخلافة ، وعمرة الأرض ، وما نشأ من صلبه من الأنبياء والأولياء وجهابذة العلماء ، وكقتل موسى عليه السّلام نفسا لم يؤمر بقتلها ، كان سببا فى خروجه للتربية عند شعيب عليه السّلام ، وتهيئته للنبوة والرسالة والاصطفائية ، فكل ما يوجب التواضع والانكسار يورث التقريب عند الملك الغفار ، والحاصل : أن من سبقت له العناية ، ونال فى الأزل مقام المحبوبية
___________
(1) ذكره البغوي فى تفسيره (6/ 198).(4/240)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 241
صارت مساوئه محاسن ، ومن سبق له العكس صارت محاسنه مساوئ. اللهم اجعل سيئاتنا سيئات من أحببت ، ولا تجعل حسناتنا حسنات من أبغضت. وفى الحديث : «إذا أحب اللّه عبدا لم يضره ذنب» «1».
قال فى القوت : واعلم أن مسامحة ، اللّه عز وجل لأوليائه - يعنى : فى هفواتهم - فى ثلاث مقامات : أن يقيمه مقام حبيب صديق ، لما سبق من قدم صدق ، فلا تنقصه الذنوب لأنه حبيب. المقام الثاني : أن يقيمه مقام الحياء منه ، بإجلال وتعظيم ، فيسمح له ، وتصغر ذنوبه للإجلال والمنزلة ، ولا يمكن كشف هذا المقام ، إلا أنّا روينا عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : أنه ذكر طائفة فقال : «يدفع عنهم مساوئ أعمالهم بمحاسن أعمالهم». المقام الثالث : أن يقيمه مقام الحزن والانكسار ، والاعتراف بالذنب والإكثار ، فإذا نظر حزنه وهمه ، ورأى اعترافه وغمه ، غفر له حياء منه ورحمة. ه. وباللّه التوفيق.
ثم ذكر توجه موسى إلى مدين ، واتصاله بشعيب - عليهما السلام - فقال :
[سورة القصص (28) : الآيات 22 الى 24]
وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ (22) وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ قالَ ما خَطْبُكُما قالَتا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23) فَسَقى لَهُما ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24)
يقول الحق جل جلاله : وَلَمَّا تَوَجَّهَ موسى تِلْقاءَ مَدْيَنَ نحوها وجهتها. ومدين : قرية شعيب ، سميت بمدين بن إبراهيم ، كما سميت المدائن باسم أخيه مدائن ، ويقال له أيضا : «مدان بن إبراهيم» ، ولم تكن مدين فى سلطان فرعون ، وبينها وبين مصر مسيرة ثمانية أيام ، ولعله إنما لم يتسلط عليها لما وصله من خبر إهلاك أهلها لما طغوا على أنبيائهم ، فخاف على نفسه. قال ابن عباس : خرج موسى ، ولم يكن له علم بالطريق إلا حسن الظن بربه.
قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ أي : وسطه ونهجه. فلما خرج ، عرض له ثلاث طرق ، فأخذ فى أوسطها ، وجاء الطلاب عقبه ، فأخذوا فى الآخرين. روى أن ملكا جاءه على فرس بيده عنزة ، فانطلق به إلى
___________
(1) أخرجه الديلمي (مسند الفردوس 2/ 77 ح 4232) من حديث أنس. ولفظه : «التائب من الذنب كمن لا ذنب له ، وإذا أحب اللّه عبدا لم يضره ذنب» وزاد الزبيدي عزوه فى إتحاف السادة المتقين (9/ 609) لابن النجار فى تاريخه.(4/241)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 242
مدين. وروى أنه خرج بلا زاد ولا درهم ، ولا ظهر ، ولا حذاء - أي : نعل - ، ولم يكن له طعام إلا ورق الشجر ، فما بلغ مدين حتى وقع خفّ قدمه ، وخضرة البقل ترى على بطنه «1».
وَلَمَّا وَرَدَ وصل ماءَ مَدْيَنَ بئرا لهم ، وَجَدَ عَلَيْهِ على جانب البئر أُمَّةً جماعة كثيرة مِنَ النَّاسِ من أناس مختلفين يَسْقُونَ مواشيهم ، وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ فى مكان أسفل من مكانهم امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ : تطردان غنمهما عن الماء ، حتى تصدر مواشى الناس ثم تسقيان لأن على الماء من هو أقوى منهما ، فلا يتمكنان من السقي. أو : لئلا تختلط أغنامهما بأغنامهم. والذود : الطرد والدفع.
قالَ لهما موسى : ما خَطْبُكُما : ما شأنكما لا تسقيان؟ والأصل : ما مخطوبكما ، أي : مطلوبكما ، فسمى المطلوب خطبا ، قالَتا لا نَسْقِي غنمنا حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ ، أي : يصرفوا مواشيهم ، يقال : أصدر عن الماء وصدر ، والمضارع : يصدر ويصدر ، والرعاء : جمع راع ، كقائم وقيام ، والمعنى : لا نستطيع مزاحمة الرجال ، فإذا صدروا سقينا مواشينا ، وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ السن ، لا يمكنه سقى الأغنام ، وهو شعيب بن نويب بن مدين بن إبراهيم - عليهما السلام - وقيل : هو «يثرون» بن أخى شعيب «2» ، وكان شعيب قد مات بعد ما كفّ بصره ، ودفن بين المقام وزمزم. والأول أصح وأشهر.
فَسَقى لَهُما أي : فسقى غنمهما لأجلهما رغبة فى المعروف وإغاثة الملهوف ، روى أنه نحى القوم عن رأس البئر ، وسألهم دلوا ، فأعطوه دلوهم ، وقالوا : استق به ، وكانت لا ينزعها إلا أربعون ، فاستقى بها ، وصبها فى الحوض ، ودعا بالبركة. وقيل : كانت آبارهم مغطاة بحجارة كبار ، فعمد إلى بئر ، وكان حجرها لا يرفعه إلا جماعة ، فرفعه وسقى للمرأتين. ووجه مطابقة جوابهما سؤاله : أنه سألهما عن سبب الذود ، فقالتا : السبب فى ذلك أنا امرأتان مستورتان ضعيفتان ، لا نقدر على مزاحمة الرجال ، ونستحى من الاختلاط بهم ، فلابد لنا من تأخير السقي إلى أن يفرغوا. وإنما رضى شعيب عليه السّلام لابنتيه بسقى الماشية لأن الأمر فى نفسه مباح مع حصول الأمن ، وأما المروءة فعادات الناس فيها متباينة ، وأحوال العرب فيها خلاف أحوال العجم ، ومذهب أهل البدو فيه غير مذهب أهل الحضر ، خصوصا إذا كانت الضرورة. قاله النسفي. قلت : وقد كنت أعترض على أهل الجبل رعي النّساء المواشي حتى تذكرت قضية ابنتي شعيب ، لكن السلامة فى زماننا هذا حبس النساء فى الديار لكثرة أهل الفساد.
___________
(1) انظر تفسير ابن كثير (3/ 383 - 384).
(2) ذكره فى تفسيره (6/ 200) عن وهب بن منبه.(4/242)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 243
ثُمَّ لما سقى لهما تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ ظل شجرة. عن عمرو بن ميمون ، عن عبد اللّه قال : أحييت ليلتين على جمل لى ، حتى صبّحت مدين ، فسألت عن الشجرة التي أوى إليها موسى ، فإذا هى شجرة خضراء ، فأخذ جملى يأكل منها ثم لفظها. ه «1». وفى الآية دليل على جواز الاستراحة والاستظلال فى الدنيا ، بخلاف ما يقوله بعض المتقشفة ، وسيأتى فى الإشارة تمامه إن شاء اللّه.
ثم بث شكواه لمولاه فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ قليل أو كثير فَقِيرٌ محتاج. قال ابن عباس : لقد قال ذلك وإن خضراء البقل لتتراءى فى بطنه ، من الهزال. قيل : لم يذق طعاما منذ سبعة أيام ، وقد لصق بظهره بطنه ، وما سأل اللّه تعالى الأكلة. وفى هذا تنبيه على هوان الدنيا على اللّه تعالى. وقال ابن عطاء :
نظر من العبودية إلى الربوبية ، وتكلم بلسان الافتقار ، لما ورد على سره من الأنوار. ه.
الإشارة : ولما توجه القلب تلقاء مدين المآرب ، ومنتهى الرغائب - وهى الحضرة القدسية - قال : عسى ربى أن يهدينى سواء السبيل ، أي : وسط الطريق التي توصل إليها ، وهو شيخ التربية. ولمّا ورد مناهله ، ومحل شربه وجد عليه أمة من الناس يسقون قلوبهم من شراب تلك الخمرة ، ويطلبون مثل ما يطلب ، فإن كان قويا فى حاله وصل من كان ضعيفا وسقى له ، ثم نزل إلى ظل المعرفة ، فى نسيم برد الرضا والتسليم ، قائلا ، بلسان التضرع ، سائلا من اللّه المزيد : ربّ إنى لما أنزلت إلىّ من خير الدارين ، وغنى الأبد ، فقير محتاج إلى مزيد الفضل والكرم.
وقال فى لطائف المنن : ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ قصدا لشكر اللّه تعالى على ما ناله من النعمة - يعنى : نعمة الظل الحسى - وجعله أصلا فى استعمال الطيبات ، وتناولها بقصد الشكر ، ومثله فى التنوير. وفى سنن أبى داود عن عائشة - رضى اللّه عنها - قالت : «كان صلى اللّه عليه وسلم يستعذب له الماء من بيوت السّقيا» «2» ، قال ابن قتيبة : هى عين ، بينها وبين المدينة يومان. ه. وكان الشيخ ابن مشيش يقول لأبى الحسن رضي اللّه عنه : (يا أبا الحسن ، برّد الماء فإن النفس إذا شربت الماد البارد حمدت اللّه بجميع الجوارح ، وإذا شربت الماء السخن حمدت اللّه بكزازة).
ثم ذكر اتصاله بشعيب ، فقال :
[سورة القصص (28) : الآيات 25 الى 28]
فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا فَلَمَّا جاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (25) قالَتْ إِحْداهُما يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (26) قالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (27) قالَ ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ (28)
___________
(1) أخرجه ابن جرير (20/ 58) وذكره ابن كثير (3/ 384).
(2) أخرجه أبو داود فى (الأشربة ، باب فى إيكاء الآنية ، ح 3735 ، 4/ 119) والحاكم (4/ 138) وبنحوه ، أحمد فى المسند (6/ 100).
والسقيا : منزل بين مكة والمدينة ، على يومين من المدينة. انظر : النهاية فى غريب الحديث (سقا ، 2/ 382).(4/243)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 244
قلت : (تمشى) : حال من (إحداهما) ، و(على استحياء) : حال من ضمير (تمشى) ، أي : تمشى مستحيية.
و(القصص) : مصدر ، سمّي به المقصوص.
يقول الحق جل جلاله : فَجاءَتْهُ إِحْداهُما وهى التي تزوجها ، وذلك أنه لما سقى لهما رجعا إلى أبيهما بغنمهما بطانا حفّلا ، فقال لهما : ما أعجلكما؟ فقالتا له : وجدنا رجلا صالحا رحمنا فسقى لنا أغنامنا ، فقال لإحداهما : أدعيه ، فجاءته تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ قد سترت وجهها بكفها ، واستترت بكمّ درعها. وهذا دليل على كمال إيمانها وشرف عنصرها لأنها كانت تدعوه إلى ضيافتها ، ولم تعلم أيجيبه أم لا؟ فقالت : إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا ، «ما» مصدرية ، أي : أجر سقياك لنا ، فتبعها موسى ، فألزقت الريح ثوبها بجسدها ، فوصفته ، فقال لها : امشى خلفى ، وانعتى الطريق ، فإننا بنى «1» يعقوب ، لا ننظر إلى أعجاز النساء.
فَلَمَّا جاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ ، أي : قصته وأحواله مع فرعون ، وكيف أراد قتله ، قالَ له :
لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْم ِ الظَّالِمِينَ
فرعون وقومه إذ لا سلطان له على أرضنا - مدين - ، أو : قبل اللّه دعاءك فى قولك : رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ. وفيه دليل على العمل بخبر الواحد ، ولو أنثى ، والمشي مع أجنبية على ذلك الاحتياط والتورع. قاله النسفي. وفيه نظر لعصمة الأنبياء - عليهم السلام - ، وأما أخذ الأجر على البر والمعروف فقيل : لا بأس به عند الحاجة ، كما كان لموسى عليه السّلام ، على أنه روى أنه لمّا قالت له : لِيَجْزِيَكَ كره ذلك. وإنما أجابها لئلا يخيب قصدها لأن للقاصد حرمة.
ولما وضع شعيب الطعام بين يديه امتنع ، فقال شعيب : ألست جائعا؟ فقال : بلى ، ولكن أخاف أن يكون عوضا مما سقيت لهما ، وإنا أهل بيت لا نبيع ديننا بالدنيا ، ولا نأخذ على المعروف شيئا ، فقال شعيب : هذه عادتنا مع كل من ينزل بنا ، فأكل «2».
___________
(1) فى الأصول [بنو].
(2) عزاه السيوطي فى الدر (5/ 238) لابن عساكر ، عن أبى حازم.(4/244)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 245
قالَتْ إِحْداهُما يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ ، أي : اتخذه أجيرا لرعى الغنم. روى أن كبراهما كانت تسمى :
«صفراء» ، والصغرى : «صفيراء» ، وقيل : «صابورة» و«ليا». وصفراء هى التي ذهبت به ، وطلبت إلى أبيها أن يستأجره ، وهى التي تزوجها. قاله وهب بن منبه وغيره ، فانظره مع ما فى الحديث ، قال صلى اللّه عليه وسلم : «تزوج صغراهما ، وقضى أوفاهما» «1». ويمكن الجمع بأن يكون زوّجه إحداهما ثم نقله إلى الأخرى.
ثم قالت التي طلبت استئجاره : إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ ، فقال : ما أعلمك بقوته وأمانته؟
فذكرت نزع الدلو ، أو رفع الحجر عن البئر ، وأمرها بالمشي خلفه. وفى رواية عند الثعلبي : أما قوته : فإنه عمد إلى صخرة لا يرفعها إلا أربعون رجلا ، فرفعها عن فم البئر. ثم ذكرت أمر الطريق. وقولها : إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ .. إلخ : كلام جامع لأنه إذا اجتمعت هاتان الخصلتان الكفاية والأمانة ، فى القائم بأمرك ، فقد فرغ بالك وتم مرادك. وقيل : القوى فى دينه ، الأمين فى جوارحه. وقد استغنت بهذا الكلام ، الجاري مجرى المثل ، عن أن تقول : استأجره لقوته وأمانته.
وعن ابن مسعود رضي اللّه عنه : أفرس الناس ثلاثة : بنت شعيب ، وصاحب يوسف فى قوله : عَسى أَنْ يَنْفَعَنا «2» ، وأبو بكر فى استخلافه عمر.
قالَ شعيب لموسى - عليهما السلام - : إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ : أزوجك إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ ، وقوله : هاتَيْنِ يدل على أن له غيرهما. وهذه مواعدة منه ، لا عقد ، وإلا لقال : أنكحتك. عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي أي : تكون أجيرا لى ، من أجرته : إذا كنت له أجيرا ثَمانِيَ حِجَجٍ سنين ، والحجة : السنة. والتزوج على رعى الغنم جائز فى شرعنا ، على خلاف فى مذهبنا. فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً أي : عشر حجج فَمِنْ عِنْدِكَ أي :
فذلك تفضل منك ، ليس بواجب عليك ، أو : فإتمامه من عندك ، ولا أحتمه عليك. وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ بإلزام أتم الأجلين. من المشقة ، سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ فى حسن المعاملة ، والوفاء بالعهد ، أو مطلقا. وعلق بالمشيئة ، مراعاة لحسن الأدب مع الربوبية.
قالَ موسى عليه السّلام : ذلِكَ العهد وعقد الأجرة بَيْنِي وَبَيْنَكَ أي : ذلك الذي قلته ، وشارطتنى عليه ، قائم بيننا جميعا ، لا يخرج واحد منا عنه. ثم قال : أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ أي : أىّ الأجلين قضيت من
___________
(1) أي : تزوج صغرى البنتين ، وقضى أوفى الأجلين ، وهو عشر سنوات. وأما الحديث فقد أخرجه الخطيب فى تاريخ بغداد (2/ 128).
عن أبى ذر. والجزء الثاني من الحديث أخرجه البخاري بلفظ : «قضى أكثرهما وأطيبهما» وانظر تخريجه فى الصفحة بعد التالية. [.....]
(2) كما فى الآية 21 من سورة يوسف.(4/245)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 246
الأجلين : العشر أو الثماني ، فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ أي : لا يتعدى علىّ فى طلب الزيادة عليه ، قال المبرد : قد علم أنه لا عدوان عليه فى إتمامهما ، ولكن جمعهما ليجعل الأقل كالأتم فى الوفاء ، وكما أن طلب الزيادة على الأتم عدوان فكذلك طلب الزيادة على الأقل. وَاللَّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ أي : رقيب وشهيد.
واختلف العلماء فى وجوب الإشهاد فى النكاح على قولين ، أحدهما : أنه لا ينعقد إلا بشاهدين ، وبه قال أبو حنيفة والشافعي ، وقال مالك : ينعقد بدون شهود لأنه عقد معاوضة ، فلا يشترط فيه الإشهاد ، وإنما يشترط فيه الإعلان ، والإظهار بالدف والدخان ليتميز من السفاح ، ويجب عند الدخول.
روى أن شعيبا كانت عنده عصىّ الأنبياء - عليهم السلام - ، فقال لموسى بالليل : أدخل ذلك البيت فخذ عصا من تلك العصى ، فأخذ عصا هبط بها آدم من الجنة ، ولم يزل الأنبياء - عليهم السلام - يتوارثونها ، حتى وقعت إلى شعيب ، فلما أخذها ، قال له شعيب : ردها وخذ غيرها ، فما وقع فى يده إلا هى سبع مرات. - وفى رواية السدى : أمر ابنته أن تأتيه بعصا فجاءته بها ، فلما رأها الشيخ قال : آتيه بغيرها ، فألقتها لتأخذ غيرها ، فلا تصير فى يدها إلا هى ، مرارا ، فرفعتها إليه ، فعلم أن له شأنا. ولما أصبح قال له شعيب : إذا بلغت مفرق الطريق فلا تأخذ على يمينك ، فإن الكلأ ، وإن كان بها أكثر ، إلا أن فيها تنينا ، أخشاه عليك وعلى الغنم ، فأخذت الغنم ذات اليمين ولم يقدر على كفها ، فمشى على أثرها ، فإذا عشب وريف لم ير مثله ، فنام ، فإذا التنين قد أقبل ، فحاربته العصا حتى قتلته ، وعادت إلى جنب موسى دامى ، فلما أبصرها دامية ، والتنين مقتولا ارتاح لذلك. ولما رجع إلى شعيب بالغنم فوجدها ملأى البطون غزيرة اللبن ، وأخبره موسى ، فرح ، وعلم أن لموسى شأنا ، وقال له : إنى وهبت لك من نتاج غنمى ، هذا العام ، كلّ أدرع ودرعاء - أي : كل جدى أبلق ، وأنثى بلقاء - فأوحى اللّه تعالى إلى موسى فى المنام : أن اضرب بعصاك الماء الذي تسقى منه الغنم ، فضرب ، ثم سقى الأغنام ، فوضعت كلها بلقاء ، فسلمها شعيب إليه.
وذكر الإمام اللجائى فى كتابه (قطب العارفين) : أن موسى عليه السّلام انتهى ، ذات يوم ، بأغنامه إلى واد كثير الذئاب ، وكان قد بلغ به التعب ، فبقى متحيرا ، إن اشتغل بحفظ الغنم عجز عن ذلك لغلبة النوم عليه والتعب ، وإن هو طلب الراحة ، وثبت الذئاب على الغنم ، فرمى السماء بطرفه ، وقال : إلهى إنه أحاط علمك ، ونفذت إرادتك ، وسبق تقديرك ، ثم وضع رأسه ونام. فلما استيقظ وجد ذئبا واضعا عصاه على عاتقه ، وهو يرعى الغنم ، فتعجب موسى من ذلك ، فأوحى اللّه إليه : يا موسى كن لى كما أريد ، أكن لك كما تريد. قال : فهذه إشارة تدل على أن :
من هرب من اللّه إلى اللّه كفاه اللّه ، عز وجل ، من دونه. ه. واللّه تعالى أعلم.(4/246)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 247
الإشارة : فجاءته - أي : القلب - إحدى الخصلتين الفناء والبقاء ، تمشى على مهل وقدر فإن الوصول إلى المقامات إنما يكون بتدريج ، على حسب القدر السابق. قالت إحدى الخصلتين : إن ربى يدعوك إلى حضرته ليجزيك أجر ما سقيت ، واستعملت فى جانب الوصول إلينا. فلما جاءه ، أي : وصل إليه ، وتمكن منه ، وقص عليه القصص ، وهو ما جرى له مع نفسه وجنودها من المجاهدات والمكابدات ، قال : لا تخف اليوم ، حين وصلت إلينا ، نجوت من القوم الظالمين ، قالت إحداهما : يا رب استأجره فى العبودية شكرا ، إن خير من استأجرت القوى الأمين لأن عمله باللّه ، محفوفا برعاية اللّه ، قال : إنى أريد أن أعطيك إحدى الخصلتين ، إما الإقامة فى الفناء المستغرق ، أو الرجوع إلى البقاء المستفيق ، لتقوم بالأدب ، على أن تخدم ثمانى حجج ، فإن أتممت عشرا ، لزيادة التمكين ، فمن عندك ، فأقل خدمة المريد للشيخ ثمانى سنين ، ونهايتها نهاية التمكين. قال الورتجبي : لأن شعيبا ، عليه السّلام رأى بنور النبوة أن موسى عليه السّلام يبلغ درجة الكمال فى ثمانى حجج ، ولا يحتاج إلى التربية بعد ذلك ، ورأى أن كمال الكمال فى عشر حجج لأنه رأى أن بعد العشرة لا يبقى مقام الإرادة ، ويكون بعد ذلك حرا ، ولذلك قال : وما أريد أن أشق عليك. ه.
ثم ذكر رجوع موسى إلى مصر ، فقال :
[سورة القصص (28) : الآيات 29 الى 32]
فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ وَسارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (29) فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (30) وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ (31) اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (32)
يقول الحق جل جلاله : فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ ، قال صلى اللّه عليه وسلم : «قضى أبعدهما وأطيبهما» «1» ، وفى رواية : «أبرهما وأوفاهما» ، وَسارَ بِأَهْلِهِ أي : امرأته ، نحو مصر ، قال مجاهد : ثم استأذن موسى أن يزور
___________
(1) أخرجه البخاري فى (الشهادات ، باب من أمر بإنجاز الوعد ح 2684) ، عن ابن عباس ، موقوفا. وأخرجه البزّار (كشف الأستار 3/ 63) ، والحاكم فى (التفسير 2/ 407) ، والطبري (20/ 68) ، عن عكرمة ، عن ابن عباس مرفوعا. وانظر : الفتح السماوي (2/ 893 - 894).(4/247)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 248
أهله بمصر ، فأذن له ، فسار بأهله فى البرّيّة ، فأوى إلى جانب الطور الغربي الأيمن ، فى ليلة مظلمة شديدة البرد ، وكان أخذ على غير طريق ، يخاف ملوك الشام - قلت : ولعلهم كانوا من تحت يد فرعون - فأخذ امرأته الطّلق ، فقدح زنده ، فلم يور ، فآنس من جانب الطور نارا. ه.
وقال ابن عطاء : لما تم أجل المحنة ، [ودنت ] «1» أيام الزلفة ، وظهرت أنوار النبوة ، سار بأهله ليشتركوا معه فى لطائف صنع ربه. ه. آنَسَ أي : أبصر مِنْ جانِبِ الطُّورِ أي : من الجهة التي تلو الطور ناراً ، قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ عن الطريق لأنه كان ضل عنها ، أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ أي : قطعة وشعلة منها ، والجذوة - مثلثة الجيم : العود الذي احترق بعضه ، وجمعه : «جذى». لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ تستدفئون بها. والاصطلاء على النار سنّة المتواضعين. وفى بعض الأخبار : «اصطلوا» فإن الجبابرة لا يصطلون».
فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ بالنسبة إلى موسى ، أي : عن يمين موسى ، فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ بتكليم اللّه تعالى فيها ، مِنَ الشَّجَرَةِ بدل من «شاطئ» بدل اشتمال ، أي : من ناحية الشجرة ، وهى العنّاب ، أو العوسج «2» ، أو : سمرة «3». وقال وهب : عليقا «4». أَنْ يا مُوسى . أي : يا موسى ، أو : إنه يا موسى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ ، قال البيضاوي : هذا ، وإن خالف ما فى «طه» و«النمل» لفظا ، فهو طبقه فى المقصود. ه.
قال جعفر الصادق : أبصر نارا ، دلته على الأنوار لأنه رأى النور على هيئة النار ، فلما دنا منها شملته أنوار القدس ، وأحاطت به جلابيب الأنس ، فخاطبه اللّه بألطف خطاب ، واستدعى منه أحسن جواب ، فصار بذلك مكلّما شريفا ، أعطي ما سأل ، وأمن ممن خاف. ه.
قال القشيري : فكان موسى عند الشجرة ، والنداء من اللّه لا منها ، وقد حصل الإجماع أن موسى ، تلك الليلة ، سمع كلام اللّه ، ولو كان النداء من الشجرة لكانت المتكلمة هى ، فلأجل الإجماع قلنا : لم يكن النداء منها ، وإلا فنحن نجوز أن يخلق اللّه نداء فى الشجرة. ه. قلت : وسيأتى فى الإشارة ما لأهل التوحيد الخاص ، وما قاله - هو مذهب أهل الظاهر.
___________
(1) فى الأصول [ودنا].
(2) شجر من فصيلة الباذنجيات ، شائك الأغصان واحدته : عوسجة. انظر اللسان (4/ 2937. مادة عسج).
(3) السمرة : شجرة من العضاه ، وهى من جيد الخشب ، والجمع سمر وسمرات. انظر اللسان (3/ 2092. مادة سمر).
(4) العليق. شجر من شجر الشوك لا يعظم. وإذا نشب فيه شىء لم يكن يتخلص منه من كثرة شوكه. ولذلك سمى عليقا. انظر اللسان (4/ 3074. مادة علق).(4/248)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 249
ثم قال تعالى : وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ ، أي : نودى : أن ألق عصاك ، فألقاها ، فقلبها اللّه ثعبانا ، فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ تتحرك كَأَنَّها جَانٌّ حية رقيقة. فإن قيل : كيف قال فى موضع : (كأنها جان) ، وفى أخرى : فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ «1»؟ قلت : هى فى أول أمرها جان ، وفى آخر أمرها ثعبان لأنها كانت تصير حية على قدر العصا ، ثم لا تزال تنتفخ حتى تصير كالثعبان ، أو : يريد فى سرعة الجان وخفته ، وفى قوة الثعبان. فلما رآها كذلك وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ ولم يرجع عقبه. فقيل له : يا مُوسى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ ، أي :
أمنت من أن ينالك مكروه من الحية.
واسْلُكْ : أدخل يَدَكَ فِي جَيْبِكَ جيب قميصك تَخْرُجْ بَيْضاءَ لها شعاع كشعاع الشمس مِنْ غَيْرِ سُوءٍ برص. وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ ، أي : الخوف ، فيه لغات : «الرّهب» ، بفتحتين ، وبالفتح والسكون ، وبالضم معه ، وبضمتين. والمعنى : واضمم يدك إلى صدرك يذهب ما لحقك من الخوف لأجل الحية ، وعن ابن عباس رضي اللّه عنه : (كل خائف ، إذا وضع يده على صدره ، ذهب خوفه) «2». وقيل :
المراد بضم يده إلى جناحه تجلده ، وضبطه نفسه عند انقلاب العصا حية ، حتى لا يضطرب ولا يرهب ، استعارة من فعل الطائر لأنه إذا خاف نشر جناحيه وأرخاهما.
فَذانِكَ أي : اليد والعصا ، ومن شدد فإحدى النونين عوض من المحذوف ، بُرْهانانِ أي : حجتان نيرتان. وسميت الحجة برهانا لإنارتها ، من قولهم : بره الشيء : إذا ابيض ، والمرأة برهاء وبرهرهة : أي : بيضاء.
مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ أي : أرسلناك إلى فرعون وقومه بهاتين الحجتين ، إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ : خارجين عن الحق ، كافرين باللّه ورسوله.
الإشارة : قد تقدم فى سورة «طه» «3» بعض إشارتها. ويؤخذ من الآية أن تزوج المريد ، بعد كمال تربيته ، كمال ، وأما قبل كماله : فإن كان بإذن شيخه فلا يضره. وربما يتربى له اليقين أكثر من غيره. قوله تعالى : وَسارَ بِأَهْلِهِ قال الورتجبي : افهم أن مواقيت الأنبياء والأولياء وقت سير الأسرار من بدء الإرادة إلى عالم الأنوار. ه.
وقوله تعالى : آنَسْتُ ناراً قال الورتجبي : الحكمة فى ذلك : أن طبع الإنسانية يميل إلى الأشياء المعهودة ، لذلك تجلى النور فى النار لاستئناسه بلباس [الاستئناس ] «4» ، ولا تخلو النار من الاستئناس ، خاصة فى الشتاء ، وكان شتاء ، فتجلى الحق بالنور فى لباس النار لأنه كان فى طلب النار ، فأخذ الحق مراده ، وتجلى من حيث إرادته ، وهو سنة اللّه تعالى. ه.
___________
(1) من الآية 143 من سورة الأعراف.
(2) ذكره البغوي فى تفسيره (6/ 207).
(3) راجع المجلد الثالث ، ص : 382 - 383.
(4) فى الورتجبي : «الالتباس».(4/249)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 250
وقوله تعالى : مِنَ الشَّجَرَةِ أي : نودى منها حقيقة إذ ليس فى الوجود إلا تجليات الحق ومظاهره ، فيكلم عباده من حيث شاء منها. قال فى العوارف : الصوفي لتجرده ، يشهد التالي كشجرة موسى ، حيث أسمعه اللّه خطابه منها ، بأني أنا اللّه لا إله إلا أنا. ه. فأهل التوحيد الخاص لا يسمعون إلا من اللّه ، بلا واسطة ، قد سقطت الوسائط فى حقهم ، حين غرقوا فى بحر شهود الذات ، فافهم. وقال فى القوت : كانت الشجرة وجهة موسى عليه السّلام ، كلمه اللّه عز وجل منها ، كما قال بعضهم : إن قوله تعالى : فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ «1» ، أي : بالجبل ، كان الجبل من جهة الحس حجابا لموسى ، كشفه اللّه عنه ، فتجلى به ، كما قال : مِنَ الشَّجَرَةِ فكانت الشجرة وجهة له عليه السّلام ه ، بإيضاح. واللّه تعالى أعلم.
ثم ذكر اعتذار موسى ، وطلبه الإعانة بأخيه ، فقال :
[سورة القصص (28) : الآيات 33 الى 35]
قالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (33) وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (34) قالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما بِآياتِنا أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ (35)
يقول الحق جل جلاله : قالَ موسى - لما كلف بالرسالة إلى فرعون : رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ بها ، وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً أي : عونا. يقال : ردأته :
أعنته. وقرأ نافع : بالتخفيف ، يُصَدِّقُنِي : جواب الأمر ، ومن رفعه جعله صفة لردء ، أي : ردءا مصدقا لى.
ومعنى تصديقه : إعانته بزيادة البيان ، فى مظان الجدال ، إن احتاج إليه ليثبت دعواه ، لا أن يقول له : صدقت ، ففضل اللسان إنما يحتاج إليه لتقرير البرهان ، وأما قوله : صدقت فسحبان وباقل فيه مستويان. إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ فى دعوى الرسالة.
قالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ أي : سنقويك به إذ اليد تشد بشدة العضد لأنه قوام اليد ، فشد العضد كناية عن التقوية لأن العضد ، إذا اشتد ، قوي على محاولة الأمور ، أي : سنعينك بأخيك ، وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً غلبة وتسلطا وهيبة فى قلوب الأعداء ، فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما ، بِآياتِنا بسبب آياتنا ، القاهرة لهم عن التسلط
___________
(1) من الآية 107 من سورة الأعراف ، ومن الآية 32 من سورة الشعراء.(4/250)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 251
عليكم ، فالباء تتعلق بيصلون ، أو : بنجعل لكما سلطانا ، أي : تسلطا بآياتنا ، أو : بمحذوف ، أي : اذهبا بآياتنا ، أو : هو بيان لغالبون ، أي : أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ ، أي : المنصورون.
الإشارة : إذا اجتمع فى زمان نبيان ، أو : وليان ، لا تجدهما إلا متخالفين فى القوة والليونة ، أو فى السكر والصحو ، فكان موسى فى غاية القوة ، وأخوه فى غاية الليونة ، وكان موسى عليه السّلام فى أول الرسالة غالبا عليه الجذب ، وأخوه غالبا عليه الصحو ، فلذلك استعان به. قال الورتجبي : افهم أن مقام الفصاحة هو مقام الصحو والتمكين ، الذي يقدر صاحبه أن يخبر عن الحق [وأسراره ، بعبارة لا تكون بشيعة] «1» فى موازين العلم. وهذا حال نبينا محمد صلى اللّه عليه وسلم ، حيث قال : «أن أفصح العرب» «2» ، و«بعثت بجوامع الكلم» «3». وهذه قدرة قادرية اتصف بها العارف المتمكن ، الذي بلغ مشاهدة الخاص ، ومخاطبة الخاص ، وكان موسى عليه السّلام فى محل السكر فى ذلك الوقت ، ولم يطق أن يعبر عن حاله كما كان لأن كلامه ، لو خرج على وزان حاله ، يكون على نعوت الشطح ، عظيما فى آذان الخلق ، وكلام السكران ربما يفتتن به الخلق ، لذلك سأل مقام الصحو والتمكين بقوله : وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي لأن كلامه من بحر المكافحة والمواجهة الخاصة ، التي كان مخصوصا بها عن أخيه. ه.
ثم ذكر عناد فرعون وتجبره ، قال :
[سورة القصص (28) : الآيات 36 الى 39]
فَلَمَّا جاءَهُمْ مُوسى بِآياتِنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُفْتَرىً وَما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ (36) وَقالَ مُوسى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (37) وَقالَ فِرْعَوْنُ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ (38) وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لا يُرْجَعُونَ (39)
يقول الحق جل جلاله : فَلَمَّا جاءَهُمْ مُوسى بِآياتِنا معجزاتنا التسع بَيِّناتٍ واضحات قالُوا ما هذا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرىً سحر تعمله أنت ، ثم تفتريه على اللّه ، أو : سحر موصوف بالافتراء ، كسائر أنواع
___________
(1) عبارة الورتجبي [وأسراره بعباده لا يكون شفيعة].
(2) قال فى اللآلئ : معناه صحيح ، ولكن لا أصل له. انظر : كشف الخفاء (1/ 232 ، ح 609).
(3) بعض حديث أخرجه البخاري فى (الجهاد ، باب قول النبي/ صلى اللّه عليه وسلم : نصرت بالرعب مسيرة شهر ، ح 2977). [.....](4/251)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 252
السحر ، وليس بمعجزة من عند اللّه ، وَما سَمِعْنا بِهذا ، يعنى : السحر ، أو : ادعاء النبوة ، فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ ، الجار : حال منصوبة بهذا ، أي : ما سمعنا بهذا كائنا فى آبائنا ، أي : ما حدّثنا بكونه فيهم ، ولا موجودا فى آبائهم.
وَقالَ مُوسى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ ، فيعلم أنى محق ، وأنتم مبطلون. وقرأ ابن كثير :
«قال» بغير واو جوابا لمقالتهم. وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ أي : العاقبة المحمودة ، فإن المراد بالدار : الدنيا ، وعاقبتها الأصلية هى الجنة لأن الدنيا خلقت معبرا ومجازا إلى الآخرة ، والمقصود منها ، بالذات ، هو المجازاة على الأعمال فيها من الثواب الدائم ، أو العقاب الأليم ، إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ لا يفوزون بالهدى فى الدنيا ، وحسن العاقبة فى العقبى.
قال النسفي : قل ربى أعلم منكم بحال من أهّله اللّه للفلاح الأعظم حيث جعله نبيا ، وبعثه بالهدى ، ووعده حسن العقبى ، يعنى نفسه ، ولو كان كما تزعمون ، ساحرا ، مفتريا ، لما أهله لذلك لأنه غنى حكيم ، لا يرسل الكاذبين ، ولا ينبّئ الساحرين ، ولا يفلح عنده الظالمون ، وعاقبة الدار هى العاقبة المحمودة لقوله تعالى : أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ جَنَّاتُ عَدْنٍ «1». والمراد بالدار : الدنيا ، وعاقبتها : أن تختم للعبد بالرحمة والرضوان ، ويلقى الملائكة بالبشرى والغفران. ه.
وَقالَ فِرْعَوْنُ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي ، قصد بنفي علمه بإله غيره نفي وجوده ، أي :
مالكم إله غيرى. قاله تجبرا ومكابرة ، وإلا فهو مقر بالربوبية لقوله تعالى حاكيا عن موسى عليه السّلام : لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ «2» ، وروى أنه كان إذا جن الليل ، لبس المسوح وتمرغ فى الرماد.
وقال : يا رب إنى كذاب فلا تفضحنى «3».
ثم أمر ببنيان الصرح زيادة فى الطغيان ، بقوله : فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ أي : اطبخ لى الآجر واتخذه. وإنما لم يقل مكان الطين : آجرّ لأنه أول من عمله ، فهو معلمه الصنعة بهذه العبارة ، فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً أي : قصرا عاليا ، لَعَلِّي أَطَّلِعُ أي : أصعد. فالطلوع والاطلاع : الصعود ، إِلى إِلهِ مُوسى ، حسب
___________
(1) من الآية 22 من سورة الرعد.
(2) من الآية 102 من سورة الإسراء.
(3) هذا رواية باطلة ، فأولا : لا سند لها ، فهى لا تصح ، وثانيا : لأنها تناقض سلوك فرعون إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ ومِنَ الْمُفْسِدِينَ وطبع اللّه على قلبه وانظر إلى السطر التالي من كلام الشيخ ابن عجيبة رحمه اللّه.(4/252)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 253
الجاهل أنه فى مكان مخصوص ، كما كان هو فى مكان ، وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ أي : موسى مِنَ الْكاذِبِينَ فى دعواه أن له إلها ، وأنه أرسله إلينا رسولا.
وهذا تناقض من المخذول ، فإنه قال أولا : ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي ، ثم أظهر حاجته إلى هامان ، وأثبت لموسى إلها ، وأخبر أنه غير متيقن بكذبه ، وهذا كله تهافت. وكأنه تحصن من عصا موسى فلبّس وقال : لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى . روى أنه لما أمر وزيره هامان ببناء الصرح ، جمع هامان العمال ، خمسين ألف بنّاء ، سوى الأتباع والأجراء - فبنوا ، ورفعوه بحيث لم يبلغه بنيان قط ، منذ خلق اللّه السموات والأرض. أراد اللّه أن يفتنهم فيه ، فصعده فرعون وقومه ، ورموا بنشّابة نحو السماء ، فرجعت ملطّخة بالدم ، فقال : قد قتلنا إله السماء ، فضرب جبريل الصرح بجناحه ، فقطعه ثلاث قطع ، وقعت قطعة على عسكر فرعون ، فقتلت ألف ألف رجل ، وقطعة على البحر ، وقطعة فى الغرب ، ولم يبق أحد من عماله إلا هلك «1». ه.
وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ تعاظم فِي الْأَرْضِ أرض موسى بِغَيْرِ الْحَقِّ بغير استحقاق ، بل بالباطل ، فالاستكبار بالحق هو للّه تعالى ، وهو المتكبر المتعالي ، المبالغ فى كبرياء الشأن ، كما فى الحديث القدسي :
«الكبرياء ردائى ، والعظمة إزارى ، فمن نازعنى واحدا منهما قصمته» «2» ، أو : ألقيته فى النار ، وكل مستكبر سواه فاستكباره بغير الحق. وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لا يُرْجَعُونَ بالبعث والنشور. وقرأ نافع وحمزة والكسائي : بالبناء للفاعل. والباقي : للمفعول. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : الأرواح كلها برزت من عالم العز والكبرياء ، وهو عالم الجبروت ، فلما هبطت إلى عالم الأشباح ، وكلفت بالعبودية ، وبالخضوع لقهرية الربوبية ، شق عليها ، ونفرت من التواضع والذل ، وبطشت إلى أصلها لأنها من عالم العز ، فبعث اللّه الرسل ومشايخ التربية يدلونها على ما فيه سعادتها ، من الذل والتواضع والخضوع للحق ، حتى تصل إلى الحق ، فمن سبق له الشقاء أنف ، وقال : ما هذا إلا سحر مفترى ، وما سمعنا بهذا فى آبائنا الأولين ، واستكبر وطغى ، فغرق فى بحر الردى. ومن سبقت له السعادة تواضع ، وذل لعظمة مولاه ، فوصله إلى العز الدائم ، فى حضرة جماله وسناه. ولذلك قيل : للنفس خاصية ما ظهرت إلا على فرعون ، حيث قال : أنا ربكم الأعلى.
وهذه الخاصية هى أصل نشأتها وبروزها ، حيث برزت من عالم الجبروت قال تعالى : (و نفخت فيه من روحى) ، ولكن لم يفتح لها الباب إلا من جهة العبودية والذل والافتقار ، كما قال الشاعر :
___________
(1) ذكره البغوي فى تفسيره (6/ 208 - 209). وقال القرطبي (6/ 5149) : واللّه أعلم بصحة ذلك.
(2) أخرجه أبو داود فى (اللباس ، باب ما جاء فى الكبر ، 4/ 350 ، ح 4090) وابن ماجه فى (الزهد ، باب البراءة من الكبر ، 2/ 1397 ، ح 4174) من حديث أبى هريرة رضي اللّه عنه ، بلفظ : «ألقيته فى النار» وأخرجه مسلم - من حديث أبى سعيد الخدري ، وأبى هريرة فى (البر والصلة ، باب تحريم الكبر ، 4/ 2023 ، ح 2620) بلفظ : «العز إزاره ، والكبرياء رداؤه - فمن ينازعنى عذبته».(4/253)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 254
تذلّل لمن تهوى لتكسب عزّة فكم عزّة قد نالها المرء بالذّلّ
إذا كان من تهوى عزيزا ، ولم تكن ذليلا له ، فاقر السّلام على الوصل
ولا يرضى المحبوب من المحب إلا الأدب ، وهو التذلل والخضوع ، كما قال القائل :
أدب العبد تذلّل والعبد لا يدع الأدب
فإذا تكامل ذلّه نال المودّة ، واقترب.
ثم ذكر وبال من تكبر على اللّه ، فقال :
[سورة القصص (28) : الآيات 40 الى 42]
فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (40) وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ (41) وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (42)
يقول الحق جل جلاله : فَأَخَذْناهُ فأخذنا فرعون وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ طرحناهم فِي الْيَمِّ فى بحر القلزم ، كما بيّناه غير مرة. وفى الكلام فخامة تدل على عظمة شأن الأخذ ، شبههم استحقارا لحالهم ، واستقلالا لعددهم ، وإن كانوا الجم الغفير بحصيات أخذهن آخذ بكفه ، فطرحهن فى البحر. فَانْظُرْ يا محمد كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ ، وحذّر قومك أن يصيبهم مثل ما أصابهم ، فإنهم ظالمون ، حيث كفروا وأشركوا ، وتحقّق أنك منصور عليهم ، كما نصر موسى على فرعون.
وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً قادة يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ ، أي : إلى عمل أهل النار من الكفر ، والمعاصي ، قال ابن عطاء : نزع عن أسرارهم التوفيق ، وأنوار التحقيق ، فهم فى ظلمات أنفسهم ، لا يدلون على سبيل الرشاد. وفيه دلالة على خلق أفعال العباد. ه. وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ بدفع العذاب عنهم ، كما يتناصرون اليوم ، فى دفع الظلم عنهم ، وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً ألزمناهم طردا وإبعادا عن الرحمة. وقيل : هو ما يلحقهم من لعن الناس إياهم بعدهم. وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ المطرودين المعذبين ، أو المهلكين المشوهين بسواد الوجوه وزرقة العيون. ويَوْمَ : ظرف للمقبوحين. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : عاقبة من تكبر فى دار العبودية : الذل والهوان ، وعاقبة من تواضع ، وذل فيها : العز والأمان ، وعاقبة من كان إماما فى المساوئ والعيوب : البعد والحجاب ، ومن كان إماما فى محاسن الخلال وكشف الغيوب : (4/254)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 255
العزّ والاقتراب. قال القشيري على قوله : وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً إلخ : كانوا فى الدنيا مبعدين عن معرفته ، وفى الآخرة مبعدين عن مغفرته ، فانقلبوا من طرد إلى طرد ، ومن هجر إلى بعد ، ومن فراق إلى احتراق. ه.
ولما أغرق أهل الظلم والعناد ، أنزل الهداية على أهل العناية والوداد ، كما قال تعالى :
[سورة القصص (28) : آية 43]
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى بَصائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (43)
يقول الحق جل جلاله : وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ : التوراة مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى قوم نوح وهود وصالح ولوط - عليهم السلام - ، حال كون الكتاب بَصائِرَ لِلنَّاسِ أنوارا لقلوبهم ، يتبصرون الحقائق ، ويميزون بين الحق والباطل. فالبصيرة : عين القلب ، الذي يبصر بها الحق ، ويهتدى بها إلى الرشد والسعادة. كما أن البصر عين الرأس التي يبصر بها الحسيات ، أي : آتيناه التوراة ، أنوارا للقلوب التي كانت عميا لا تستبصر ولا تعرف حقا من باطل ، وَهُدىً وإرشادا إلى الشرائع لأنهم كانوا يخبطون فى الضلال.
وَرَحْمَةً لمن اتبعها لأنهم ، إذا عملوا بها ، وصلوا إلى نيل الرحمة ، لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ، أي : ليكونوا على حال يرجى منهم التذكر والاتعاظ. وباللّه التوفيق.
الإشارة : إنما تطيب المنازل إذا خلت من الأجانب والأراذل. وأطيب عيش الأحباب إذا غابت عنهم الرقباء وأهل العتاب ، فلما أهلك اللّه فرعون وجنوده ، وأورث بنى إسرائيل ديارهم ، ومحى عن جميعها آثارهم ، طاب عيشهم ، وظهرت سعادتهم ، وتمكنوا من إقامة الدين. وكذلك أهل التوجه إلى يوم الدين.
ثم ذكر دلائل نبوته صلى اللّه عليه وسلم ، بعد ذكر قصة موسى لاشتراكهما فى شدة المعالجة ، فقال :
[سورة القصص (28) : الآيات 44 الى 46]
وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (44) وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (45) وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (46)
يقول الحق جل جلاله : وَما كُنْتَ يا محمد بِجانِبِ المكان الْغَرْبِيِّ من الطور ، وهو الذي كلم اللّه فيه موسى ، وهو الجانب الأيمن. قال السهيلي : إذا استقبلت القبلة ، وأنت بالشام ، كان الجبل يمينا منك ، (4/255)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 256
غريبا ، غير أنه قال فى قصة موسى : جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ «1» ، وصفه بالصفة المشتقة من اليمن والبركة ، لتكليمه إياه فيه ، وحين نفى عن محمد صلى اللّه عليه وسلم أن يكون بذلك الجانب ، قال : وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ ، والغربي هو الأيمن. والعدول عنه ، فى حالة النفي للاحتراس من توهم نفى اليمن عنه صلى اللّه عليه وسلم ، وكيف ، وهو صلى اللّه عليه وسلم لم يزل بصفة اليمن وآدم بين الماء والطين! فحسن اللفظ أصل فى البلاغة ، ومجانبة الاشتراك الموهم : من فصيح بديع الفصاحة. ه.
أي : وما كنت حاضرا بذلك الموضع ، إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ ، أي : كلمناه ، وقربناه نجيا ، وأوحينا إليه بالرسالة إلى فرعون ، وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ ، أي : من جملة الشاهدين فتخبر بذلك ، ولكن أعلمناك من طريق الوحى ، بعد أن لم يكن لك بذلك شعور ، والمراد : الدلالة على أن إخباره بذلك من قبل الإخبار بالمغيبات التي لا تعرف إلا بالوحى ، ولذلك استدرك عنه بقوله :
وَلكِنَّا أَنْشَأْنا بعد موسى قُرُوناً فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ
، أي : طالت أعمارهم ، وفترت النبوة ، وانقطعت الأخبار ، واندرست العلوم ، ووقع التحريف فى كثير منها ، فأرسلناك مجدّدا لتلك الأخبار ، مبينا ما وقع فيها من التحريف ، وأعطيناك العلم بقصص الأنبياء ، وأوقفناك على قصة موسى بتمامها ، فكأنه قال : وما كنت شاهدا لموسى وما جرى عليه ، ولكنا أوحيناه إليك ، فأخبرت به ، بعد اندراسه.
وَما كُنْتَ ثاوِياً مقيما فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ، وهم شعيب والمؤمنون به ، تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا تقرؤها عليهم ، تعلما منهم ، أو : رسولا إليهم تتلوها عليهم بوحينا ، كما تلوتها على هؤلاء ، يريد : الآيات التي فيها قصة شعيب وقومه ، وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ لك ، فأخبرناك بها ، وعلّمناك إياها ، فأخبرت هؤلاء بها ، وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا موسى ، أن خذ الكتاب بقوة ، أو ناجيناه فى أيام الميقات ، وَلكِنْ علمناك وأرسلناك رَحْمَةً أي : للرحمة مِنْ رَبِّكَ ، لِتُنْذِرَ قَوْماً جاهلية ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ فى زمان الفترة التي بينك وبين عيسى ، وهى خمسمائة وخمسون سنة ، أو : بينك وبين إسماعيل ، على أن دعوة موسى وعيسى كانت مختصة ببني إسرائيل وما حواليهم ، لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ لعل من أرسلت إليه يتعظ ويتذكر ما هو فيه من الضلال ، فينزع ويرجع. وبالله التوفيق.
الإشارة : المراد من هذه الآيات : تحقيق نبوته صلى اللّه عليه وسلم ومعرفته الخاصة ، وهى سلّم ، ومعراج إلى معرفة اللّه تعالى لأنه الواسطة العظمى ، فمهما عرفته المعرفة الخاصة عرفت اللّه تعالى ، فمنه صلى اللّه عليه وسلم استمدت العلوم كلها علم
___________
(1) من الآية 52 من سورة مريم ، والآية 80 من سورة طه.(4/256)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 257
الربوبية ، من طريق البرهان ، وعلمها من طريق العيان ، وعلم المعاملة الموصلة إلى الرضا والرضوان ، ومعرفة نبوته صلى اللّه عليه وسلم ضرورية لا تحتاج إلى برهان ، ويرحم اللّه القائل :
لو لم تكن فيه آيات مبيّنة «1» لكان منظره ينبيك بالخبر.
وقد تقدم فى الأعراف «2» التنويه به ، وذكر شرفه ، وشرف أمته ، قبل ظهوره ، وإليه الإشارة هنا بقوله :
وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا ، أي : إذ نادينا بأمرك ، وأخبرنا بنبوتك ، روى عن أبى هريرة أنه نودى يومئذ من السماء : يا أمّة محمّد ، استجبت لكم قبل أن تدعونى ، وغفرت لكم قبل أن تسألونى ، فحينئذ قال موسى - عليه السّلام : اللهم اجعلنى من أمة محمد. ه «3».
وقال القشيري : أي : لم تكن حاضرا تتعلم ذلك مشاهدة ، فليس إلا تعريفنا إياك ، واطلاعنا لك على ذلك.
ويقال : إذ نادينا موسى ، وخاطبناه ، وكلمناه فى بابك وباب أمّتك ، وما طلب موسى لأمته جعلناه لأمتك ، فكونى لكم : خير لكم من كونكم لكم ، فلم تقدح فيكم غيبتكم فى الحال ، كما أنشدوا :
كن لى كما كنت لى فى حين لم أكن. ه.
ويقال : لما خاطب موسى وكلمه ، سأله موسى ، إنه رأى فى التوراة أمة صفتهم كذا وكذا ، من هم؟ فقال : هم أمة محمد. وذكر لموسى أوصافا كثيرة ، فاشتاق إلى لقائهم ، فقال له : ليس اليوم وقت حضورهم ، فإن شئت أسمعناك كلامهم ، فأراد ذلك ، فنادى : يا أمة محمد فأجاب الكل من أصلاب آبائهم ، فسمع موسى كلامهم ، ثم لم يتركهم كذلك ، بل زادهم من الفضائل لأن الغنى إذا دعا فقيرا فأجابه لم يرض أن يذكره من غير إحسانه. ه.
وقال الطبري : معنى قوله : إِذْ نادَيْنا أي : بقوله : فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ ... الآية. ه. واللّه تعالى أعلم.
ثم ذكر حكمة إرساله. فقال :
[سورة القصص (28) : الآيات 47 الى 50]
وَلَوْ لا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (47) فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا لَوْ لا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ قالُوا سِحْرانِ تَظاهَرا وَقالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ (48) قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (49) فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50)
___________
(1) فى الأصول [لو لم تكن له آية مبينة].
(2) عند تفسير الآيتين : 156 - 157.
(3) أخرجه ابن جرير فى التفسير (20/ 81).(4/257)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 258
قلت : (لو لا) الأولى : امتناعية ، وجوابها محذوف ، أي : ولو لا أنهم قائلون إذا عوقبوا على ما قدّموا من الشرك ، محتجين علينا : (هلا أرسلت إلينا رسولا ..) إلخ لما أرسلناك.
يقول الحق جل جلاله : وَلَوْ لا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ ، أي : عقوبة فى الدنيا والآخرة ، بِما بسبب ما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ من الكفر والظلم ، ولمّا كانت أكثر الأعمال إنما تناول بالأيدى ، نسب الأعمال إلى الأيدى ، وإن كانت من أعمال القلوب تغليبا للأكثر على الأقل ، فَيَقُولُوا عند نزول العذاب : رَبَّنا لَوْ لا هلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا ينذرنا فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ، فلو لا احتجاجهم بذلك علينا لما أرسلناك ، فسبب الإرسال هو قولهم : هلا أرسلت .. إلخ.
ولما كانت العقوبة سببا للقول جعلت العقوبة كأنها سبب الإرسال ، فدخلت «لو لا» الامتناعية عليها ، فرجع المعنى إلى قولك : ولو لا قولهم هذا ، إذا أصابتهم مصيبة ، لما أرسلناك.
فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا القرآن المعجز ، أو الرسول صلى اللّه عليه وسلم ، قالُوا أي : كفار مكة اقتراحا وتعنتا : لَوْ لا : هلا أُوتِيَ من المعجزات مِثْلَ ما أُوتِيَ أعطى مُوسى من اليد والعصا ، ومن الكتاب المنزل جملة. قال تعالى : أَوَلَمْ يَكْفُرُوا أي : أبناء جنسهم ، ومن مذهبهم على مذهبهم ، وعنادهم مثل عنادهم ، وهم الكفرة فى زمن موسى عليه السّلام ، قد كفروا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ من قبل القرآن ، قالُوا فى موسى وهارون : سِحْرانِ «1» تَظاهَرا : تعاونا ، أو : فى موسى ومحمد - عليهما السلام - بإظهار تلك الخوارق ، أو بتوافق الكتابين. وقرأ الكوفيون : «سحران» بتقدير مضاف ، أي : ذوا سحر ، أو : جعلوهما سحرين مبالغة فى وصفهما بالسحر. وَقالُوا أي : كفرة موسى وكفرة محمد صلى اللّه عليه وسلم : إِنَّا بِكُلٍّ بكل واحد منهما كافِرُونَ.
وقيل : إن أهل مكة ، لمّا كفروا بمحمد صلى اللّه عليه وسلم وبالقرآن فقد كفروا بموسى وبالتوراة ، وقالوا فى محمد صلى اللّه عليه وسلم وموسى : ساحران تظاهرا ، أو فى التوراة والقرآن : سحران تظاهرا ، أو : ذلك حين بعثوا الرهط إلى رؤساء اليهود
___________
(1) قرأ عاصم وحمزة والكسائي : «سحران» بكسر السين وسكون الحاء ، بلا ألف ، وقرأ الباقون : «ساحران» بفتح السين وألف بعدها وكسر الحاء ... انظر : الإتحاف (2/ 344).(4/258)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 259
يسألونهم عن محمد ، فأخبروهم أنه فى كتابهم ، فرجع الرهط إلى قريش ، فأخبروهم بقول اليهود ، فقالوا عند ذلك : «1» سِحْرانِ تَظاهَرا وَقالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ.
قُلْ لهم : فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما مما أنزل على موسى ، ومما أنزل علىّ ، أَتَّبِعْهُ : جواب : فأتوا ، إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ فى أنهما ساحران ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ دعاءك إلى الإتيان بالكتاب الأهدى ، فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ الزائغة ، ولم تبق لهم حجة إلا اتباع الهوى ، وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ أي : لا أحد أضل ممن اتبع فى الدين هواه بغير هدى ، أي : بغير اتباع شريعة من عند اللّه. وبِغَيْرِ هُدىً : حال ، أي : مخذولا ، مخلّا بينه وبين هواه ، إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ الذين ظلموا أنفسهم بالانهماك فى اتباع الهوى والتقليد. وباللّه التوفيق.
الإشارة : لو لا احتجاج الناس على اللّه يوم القيامة ، حين تصيبهم نقائص عيوبهم ، ما بعث اللّه فى كل زمان نذيرا طبيبا ، فإذا ظهر وتوجه لتربية الناس ، قالوا : لو لا أوتى مثل ما أوتى فلان وفلان من كرامات المتقدمين ، فيقال لهم : قد كان من قبلكم من الأولياء لهم كرامات ، فكذّبوهم ، وأنكروا عليهم ، ورموهم بالسحر والتبدع وغير ذلك ، وبقوا مع هوى أنفسهم. ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من اللّه ، أي : بغير تمسك بمن يهديه إلى حضرة اللّه ، إن اللّه لا يهدى القوم الظالمين إلى معرفته الخاصة.
ثم ذكر حكمة تفريق القرآن ، ردا على من قال : لَوْ لا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى من إنزاله جملة ، فقال :
[سورة القصص (28) : آية 51]
وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (51)
قلت : يقال : وصلت الشيء : جعلته موصولا بعضه ببعض ، ويقال : وصلت إليه الكتاب : أبلغته.
يقول الحق جل جلاله : وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ أي : لقريش ولغيرهم ، الْقَوْلَ القرآن ، أي : تابعناه موصولا بعضه ببعض فى المواعظ والزواجر ، والدعاء إلى الإسلام. قاله ابن عطية. وقال ابن عرفة الّلغوي : أي :
أنزلناه شيئا بعد شىء ، ليصل بعضه ببعض ، ليكونوا له أوعى. ه. وتنزيله كذلك ليكون أبلغ فى التذكير ولذلك قال : لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ، يعنى : أن القرآن أتاهم متتابعا متواصلا وعدا ، ووعيدا ، وقصصا ، وعبرا ، ومواعظ ليتذكروا فيفلحوا. وقيل : معنى وصلنا : أبلغنا. وهو أقرب لتبادر الفهم ، وفى البخاري : أي : «بيّنا وأتممنا» «2». وهو عن ابن عباس.
وقال مجاهد : فصّلنا. وقال ابن زيد : وصلنا خير الدنيا بخير الآخرة ، حتى كأنهم عاينوا الآخرة فى الدنيا.
___________
(1) ذكره البغوي فى تفسيره (6/ 212).
(2) ذكره البخاري فى (التفسير - سورة القصص ، 8/ 365 فتح).(4/259)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 260
الإشارة : تفريق المواعظ فى الأيام ، شيئا فشيئا ، أبلغ وأنفع من سردها كلها فى يوم واحد. وفى الحديث :
«كان صلى اللّه عليه وسلم يتخوّلنا بالموعظة ، مخافة السآمة علينا» «1» ، والتخول : التعاهد شيئا فشيئا. واللّه تعالى أعلم.
ثم ذكر من آمن به وعرف قدره ، فقال :
[سورة القصص (28) : الآيات 52 الى 55]
الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52) وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (53) أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (54) وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ (55)
قلت : (الذين) : مبتدأ ، (و هم به) : خبر.
يقول الحق جل جلاله : الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ من قبل القرآن هُمْ بِهِ أي : القرآن يُؤْمِنُونَ ، وهم مؤمنو أهل الكتاب ، أو : النجاشي وقومه ، أو : نصارى نجران ، الذين قدموا على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بمكة ، وهم عشرون رجلا ، فآمنوا به. قال ابن عطية : ذكر هؤلاء مباهيا بهم قريشا. ه. أي : فهم الذين يقدرون قدر هذا الكتاب المنزل لما معهم من العلم الذي ميزوا به الحق ، ولذلك قال : وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا لما عرفوا فى كتابهم من نعت النبي صلى اللّه عليه وسلم وكتابه ، إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ من قبل القرآن ، أو : من قبل محمد صلى اللّه عليه وسلم ، مُسْلِمِينَ كائنين على دين الإسلام ، مومنين بمحمد صلى اللّه عليه وسلم. فقوله : إِنَّهُ : تعليل للإيمان به لأن كونه حقا من عند اللّه حقيق بأن يؤمن به. وقوله : إِنَّا : بيان لقوله : آمَنَّا لأنه يحتمل أن يكون إيمانا قريب العهد أو بعيده ، فأخبروه بأن إيمانهم به متقادم.
أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا بصبرهم على الإيمان بالتوراة ، والإيمان بالقرآن ، أو : بصبرهم على الإيمان بالقرآن ، قبل نزوله وبعده ، أو : بصبرهم على أذى المشركين وأهل الكتاب. وفى الحديث : «ثلاثة
___________
(1) أخرجه البخاري فى (العلم ، باب ما كان النبي صلى اللّه عليه وسلم يتخولهم بالموعظة .. ح 68) ، ومسلم فى (صفات المنافقين ، باب الاقتصاد فى الموعظة ، 4/ 2172 ، ح 2821) من حديث سيدنا عبد اللّه بن مسعود رضي اللّه عنه.(4/260)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 261
يؤتون أجرهم مرتين : رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه ، ثم آمن بمحمد صلى اللّه عليه وسلم ، ورجل مملوك أدى حق اللّه وحق مواليه ، ورجل كانت عنده أمة فأعتقها وتزوجها» «1».
وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ يدفعون الخصلة القبيحة بالخصلة الحسنة ، يدفعون الأذى بالسلم ، والمعصية بالطاعة. وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ يتصدقون ، أو يزكون ، وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ الباطل ، أو الشتم من المشركين ، أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقالُوا للاغين : لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ أمان منا عليكم ، لا نقابل لغوكم بمثله ، لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ لا نريد مخالطتهم وصحبتهم ، أو : لا نبتغى دين الجاهلين ، أو محاورة الجاهلين وجدالهم ، أو : لا نريد أن نكون جهالا.
وفى السير : أن أصحاب النجاشي لمّا كلمهم جعفر رضي اللّه عنه فى مجمع النجاشي ، بكوا ، ووقر الإسلام فى قلوبهم ، فقدموا على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بمكة ، فقرأ عليهم القرآن ، فأسلموا ، وقالوا : آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا .. الآية. فلما خرجوا من عنده صلى اللّه عليه وسلم استقبلتهم قريش فسبوهم ، وقالوا : ما رأينا قوما أحمق منكم ، تركتم دينكم لمجلس ساعة مع هذا الرجل ، فقالوا لهم : سَلامٌ عَلَيْكُمْ .. إلخ «2».
الإشارة : من تحمّل من العلماء مشقة تحمّل العلم الظاهر ، ثم ركب أهوال النفس ومحاربتها فى تحصيل العلم الباطن ، فهو ممن يؤتى أجره مرتين ، وينال عز الدارين ضعفين بسبب صبره على العلمين ، وارتكاب الذل مرتين ، إذا اتصف بما اتصف به أولئك ، بحيث يدرأ بالحسنة السيئة ، وينفق مما رزقه اللّه من الحس والمعنى ، كالعلوم والمواهب ، ويعرض عن اللغو - وهو كل ما يشغل عن شهود اللّه - ويحلم عن الجاهل ، ويرفق بالسائل. وباللّه التوفيق.
ولما حرص صلى اللّه عليه وسلم على إسلام عمه ، نزل :
[سورة القصص (28) : آية 56]
إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56)
___________
(1) أخرجه البخاري فى (العلم ، باب تعليم الرجل أمته وأهله ح 97) ، ومسلم فى (الإيمان ، باب وجوب الإيمان برسالة محمد صلى اللّه عليه وسلم إلى جميع الناس ، 1/ 134 ، ح 241) من حديث أبى موسى الأشعري رضي اللّه عنه. [.....]
(2) عزاه ابن كثير فى تفسيره (3/ 394) لمحمد بن إسحاق فى السيرة.(4/261)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 262
يقول الحق جل جلاله : إِنَّكَ يا محمد لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ ، أي : لا تقدر أن تدخل فى الإسلام كل من أحببت أن يدخل من قومك وغيرهم ، يعنى : أن خاصية الهداية خاصة بالربوبية ، وخاصية الربوبية لا تكون لمخلوق ، ولو كان أكمل الخلق. وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ يخلق الهداية فى قلب من يشاء ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ بمن يختار هدايته ويقبلها.
قال الزجاج : أجمع المفسرون أنها نزلت فى أبى طالب ، وذلك أنه قال عند موته : يا معشر بنى هاشم صدقوا محمدا تفلحوا ، فقال صلى اللّه عليه وسلم : «يا عمّ تأمرهم بالنّصيحة لأنفسهم ، وتدعها لنفسك!» فقال : ما تريد يا ابن أخى؟
فقال : «أريد منك أن تقول : لا إله إلا اللّه ، أشهد لك بها عند اللّه». فقال : يا ابن أخى أنا قد علمت أنك صادق ، ولكن أكره أن يقال جزع عند الموت. ه. وفى رواية قال : (لو لا أن تعيرنى نساء قريش ، ويقلن : إنه حملنى على ذلك الجزع ، لأقررت بها عينك) «1». وفى لفظ آخر عند البخاري : قال له : «يا عم ، قل : لا إله إلا اللّه ، أحاجّ لك بها عند اللّه». فقال أبو جهل وعبد اللّه بن أمية : يا أبا طالب ، أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فقال : بل على ملّة عبد المطلب ، فنزلت الآية «2».
وفيها دليل على المعتزلة لأنهم يقولون : الهدى هو البيان ، وقد هدى اللّه الناس أجمع ، ولكنهم لم يهتدوا بسوء اختيارهم ، فدلت الآية على أن وراء البيان ما يسمى هداية وهو خلق الاهتداء ، وإعطاء التوفيق والقدرة على الاهتداء. وباللّه التوفيق.
الإشارة : الآية ليست خاصة بالنبي صلى اللّه عليه وسلم ، بل هى عامة لكل من يريد الهداية لأحد من خاصته ، كتب شيخ أشياخنا ، سيدى «أحمد بن عبد اللّه» ، إلى شيخه ، سيدى «أحمد بن سعيد الهبرى» يشكو له ابنه حيث لم ير منه ما تقر به عينه ، فكتب إليه : أخبرنى : ما الذي بنيت فيه؟ دع الدار لبانيها ، إن شاء هدمها وإن شاء بناها. ه. وفى اللباب - بعد كلام - : قد رضى اللّه على أقوام فى الأزل ، فاستعملهم فى أسباب الرضا من غير سبب ، وسخط على أقوام فى الأزل ، فاستعملهم فى أسباب السّخط بلا سبب. فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ «3» الآية.
___________
(1) أخرجه مسلم فى (الإيمان ، باب الدليل على صحة إسلام من حضره الموت ، 1/ 55 ، ح 42) من حديث أبى هريرة رضي اللّه عنه.
(2) أخرجه البخاري فى (التفسير - سورة القصص ، ح 4772) ، ومسلم فى الموضع السابق ذكره (1 ، 54 ، ح 39) ، من حديث سعيد ابن المسيب رضي اللّه عنه.
(3) الآية 125 من سورة الأنعام.(4/262)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 263
وهذه الآية تخاطب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بقولها : إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ ، والحكم عام فى كل أحد ، وقد خص رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بأتم الفضائل وأعلى الوسائل ، حتى لم يسبق لفضيلة ، ولم يحتج لوسيلة ، وليس له فى ذلك نظر ، بل سابقة السعادة أيدته ، والخصوصية قرّبته ، ولو كان له فى التقدير نظر ما منع من الشفاعة فى عمه أبى طالب ، ومن الاستغفار لأبيه. ولو كانت الهداية بيد آدم لهدى قابيل ، ولو كانت بيد نوح لهدى ولده كنعان ، أو بيد إبراهيم لهدى أباه آرز ، أو بيد محمد صلى اللّه عليه وسلم لأنقذ عمه أبا طالب ، جذبت العناية سلمان من فارس ، وصاحت على بلال من الحبشة ، وأبو طالب على الباب ممنوع من الدخول. سبحان من أعطى ومنع ، وضر ونفع. ه.
ولما دعى صلى اللّه عليه وسلم قومه إلى الإسلام ، تعللوا بعلل واهية ، كما قال تعالى :
[سورة القصص (28) : آية 57]
وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (57)
قلت : (رزقا) : حال من (الثمرات) لتخصيصه بالإضافة ، أو مصدر لتجبى لأن معناه : نرزق ، أو :
مفعول له.
يقول الحق جل جلاله : وَقالُوا أي : كفار قريش إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى وندخل مَعَكَ فى هذا الدين نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا أي : تخطفنا العرب وتخرجنا من أرضنا. نزلت فى الحارث بن عثمان بن نوفل ، أتى النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال : نحن نعلم أنك على الحق ، ولكنا نخاف ، إن اتبعناك وخالفنا العرب ، وإنما نحن أكلة رأس ، أن يتخطفونا من أرضنا ، فردّ اللّه عليهم بقوله : أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً أو لم نجعل مكانهم حرما ذا أمن بحرمة البيت ، يأمن فيه قطانه ، ومن التجأ إليه من غيرهم؟ فأنّى يستقيم أن نعرضهم للتخطف ، ونسلبهم الأمن ، إذا ضموا إلى حرمة البيت حرمة الإسلام؟
يُجْبى «1» إِلَيْهِ ، أي : تجمع وتجلب إليه من كل أوب ، ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ أي : كل صنف ونوع. ومعنى الكلّيّة : الكثرة كقوله : وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ «2» ، رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا ، ونعمة من عندنا ، وإذا كان هذا حالهم ، وهم عبدة الأصنام ، فكيف إذا أووا إلى كهف الإسلام ، وتدرعوا بلباس التوحيد؟
___________
(1) قرأ نافع وأبو جعفر : «تجبى» بالتاء من فوق ، وقرأ الباقون : «يجبى». بالياء من تحت. انظر الإتحاف (2/ 345).
(2) من الآية 23 من سورة النمل.(4/263)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 264
وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ أي : جهلة ، لا ينفطنون ولا يتفكرون حتى يعلموا أنه لا يهملهم من حفظه ورعايته ، إن أسلموا. وقيل : يتعلق بقوله : مِنْ لَدُنَّا ، أي : قليل منهم يتدبرون ، فيعلمون أن ذلك رزق من عند اللّه ، وأكثرهم جهلة لا يعلمون ذلك ، ولو علموا أنه من عند اللّه لعلموا أن الخوف والأمن من عند اللّه ، ولما خافوا التخطف إذا آمنوا به. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : ترى كثيرا من الناس ، ممن أراد اللّه حرمانه من الخصوصية ، يتعلل بهذه العلل الواهية ، يقول : إن دخلنا فى طريق القوم رفضنا الناس ، وأنكر علينا أقاربنا ، ونخاف الضيعة على أولادنا. يقول تعالى لهم : أو لم أمكّن لأوليائى ، المتوجهين إلى حضرة القدس ، حرما آمنا تجبى لأهلها الأرزاق من كل جانب ، بلا حرص ولا طمع ولا سبب ، ولكن أكثر الناس جهالا بهذا ، وقفوا مع العوائد ، فحرموا الفوائد ، ولا حول ولا قوة إلا باللّه.
ثم خوفهم بقوله :
[سورة القصص (28) : الآيات 58 الى 59]
وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ (58) وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلاَّ وَأَهْلُها ظالِمُونَ (59)
قلت : «كم» : منصوب بأهلكنا. والبطر : الطغيان عند النعمة. قال فى القاموس : البطر - محركة : النشاط ، والأشر ، وقلة احتمال النعمة ، والدهش ، والحيرة ، والطغيان بالنعمة ، وكراهة الشيء من غير أن يستحق الكراهية ، فعلى الكل : كفرح. ه. و(معيشتها) : نصب بحذف الجار واتصال الفعل ، أي : فى معيشتها. وجملة (لم تسكن) :
حال ، والعامل فيها : الإشارة.
يقول الحق جل جلاله : وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ ، أي : كثيرا أهلكنا من أهل قرية ، كانت حالهم كحالهم فى الأمن والدعة ، وخصب العيش ، من وصفها بَطِرَتْ في مَعِيشَتَها ، أي : طغت وتجبرت ولم تشكر ، بل قابلتها بالبطر والطغيان. قال القشيري : لم يعرفوا قدر نعمتهم ، ولم يشكروا سلامة أموالهم ، وانتظام أمورهم ، فهاموا فى أودية الكفران على وجوههم ، وخرّوا فى وهدة الطغيان على أذقانهم ، فدمر اللّه عليهم وخرب ديارهم.
فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ خاوية ، أو : فتلك منازلهم باقية الآثار ، يشاهدونها فى الأسفار كبلاد ثمود ، وقرى لوط ، وقوم شعيب ، وغيرهم ، لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا من السكنى ، أي : لم يسكنها إلا المسافر ، أو مار(4/264)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 265
بالطريق يوما أو ساعة ، وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ لتلك المساكن من سكانها ، أي : لا يملك التصرف فيها غيرنا.
وفيه إشارة لوعد النصر لمتبع الهدى ، وأن الوراثة له ، لا أنه يتخطف كما قد قيل ، بل يقع الهلاك على من لم يشكر نعمة اللّه ، ويتبع هواه ، فكيف يخاف من تكون عاقبته الظفر ممن يكون عاقبته الدمار والتبار؟ والحاصل : إنما يلحق الخوف من لم يتبع الهدى ، فإنه الذي جرت سنة اللّه فيه بالهلاك ، وأما متبع الهدى فهو آمن والعاقبة له.
وَما كانَ رَبُّكَ وما كانت عادته مُهْلِكَ الْقُرى بذنب حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها ، أي : القرية التي هى أصلها ومعظمها لأن أهلها يكونون أفطن وأقبل. رَسُولًا لإلزام الحجة وقطع المعذرة ، أو : ما كان فى حكم اللّه وسابق قضائه أن يهلك القرى فى الأرض حتى يبعث فى أمها ، وهى مكة لأن الأرض دحيت من تحتها. رَسُولًا يعنى : محمدا صلى اللّه عليه وسلم ، يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا القرآن ، وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلَّا وَأَهْلُها ظالِمُونَ ، أي : وما أهلكناهم للانتقام ، إلا وأهلها مستحقون العذاب بظلمهم ، وهو إصرارهم على الكفر والمعاصي ، والعناد ، بعد الإعذار إليهم. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : وكم خرّبنا من قلوب وأخليناها من النور ، حيث طغت وتجبرت فى معيشتها ، وانشغلت بحظوظها وشهواتها ، فتلك أماكنها خاوية من النور ، لم تسكن بالنور إلا قليلا ، وكنا نحن الوارثين لها ، فأعطينا ذلك النور غيرها ، وما فعلنا ذلك حتى بعثنا من يذكرها وينذرها ، وما كنا مهلكى قلوب ومتلفيها إلا وأهلها ظالمون ، بإيثار الغفلة والشهوة على اليقظة والعفة. واللّه تعالى أعلم.
وسبب الهلاك هو حب الدنيا ، ولذلك حقّر اللّه تعالى شأنها ، حيث قال :
[سورة القصص (28) : الآيات 60 الى 62]
وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَزِينَتُها وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقى أَفَلا تَعْقِلُونَ (60) أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (61) وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (62)
قلت : «ما» : شرطية ، وجملة : (فمتاع ..) إلخ : جوابه.
يقول الحق جل جلاله : وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ من زهرة الدنيا فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَزِينَتُها أي :
أىّ شىء أحببتموه من أسباب الدنيا وملاذها فما هو إلا تمتع وزينة ، أياما قلائل ، وهى مدة الحياة الفانية ، وَما عِنْدَ اللَّهِ من النعيم الدائم فى الدار الباقية ثوابا لأعمالكم خَيْرٌ من ذلك لأنه لذة خالصة فى بهجة كاملة.(4/265)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 266
وَأَبْقى لأنه دائم لا يفنى ، أَفَلا تَعْقِلُونَ أن الباقي خير من الفاني ، فتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير؟.
وعن ابن عباس رضي اللّه عنه : (إن اللّه خلق الدنيا ، وجعل أهلها ثلاثة أصناف المؤمن والمنافق والكافر ، فالمؤمن يتزود ، والمنافق يتربى ، والكافر يتمتع. ثم قرأ هذه الآية). وفى الحديث عنه صلى اللّه عليه وسلم : «لو كانت الدنيا تزن عند اللّه جناح بعوضة لما سقى الكافر منها شربة ماء» «1». رواه الترمذي.
ثم قرر ذلك بقوله : أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً ، وهو الجنة إذ لا شىء أحسن منها ، حيث اشتملت على النظر لوجه اللّه العظيم ، ولأنها دائمة ، ولذا سميت الحسنى ، فَهُوَ أي : الوعد الحسن لاقِيهِ ومدركه ، لا محالة ، لامتناع الخلف فى وعده تعالى ، كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا الذي هو مشوب بالكدر والمتاعب ، مستعقب بالفناء والانقطاع ، ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ للحساب والعقاب ، أو : من الذين أحضروا النار.
والآية نزلت فى المؤمن والكافر ، أو : فى رسول صلى اللّه عليه وسلم وأبى جهل «2» - لعنه اللّه - ، ومعنى الفاء الأولى : أنه لمّا ذكر التفاوت بين متاع الحياة الدنيا وما عند اللّه عقّبه بقوله : أَفَمَنْ وَعَدْناهُ أي : أبعد هذا التفاوت الجلى نسوى بين أبناء الدنيا وأبناء الآخرة؟ والفاء الثانية للتسبيب لأن لقاء الموعود مسبب عن الوعد. و«ثم» : لتراخى حال الإحضار عن حال التمتع. ومن قرأ : «ثم هو» بالسكون ، شبّه المنفصل بالمتصل ، كما قيل فى عضد - بسكون الضاد - .
وَاذكر يَوْمَ يُنادِيهِمْ يوم ينادى اللّه الكفار ، نداء توبيخ ، فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ فى زعمهم الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ أنهم شركائى ، فحذف المفعول لدلالة الكلام عليه. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : فى الآية تحقير لشأن الدنيا الفانية ، وتعظيم لشأن الآخرة الباقية. وقد اتفق على هذا جميع الأنبياء والرسل والحكماء ، قديما وحديثا ، وقد تقدم آنفا أنها لا تزن عند اللّه جناح بعوضة ، وفى حديث آخر : «ما الدنيا فى جانب الآخرة ، إلا كما يدخل أحدكم يده فى البحر ثم يخرجه ، فانظر ماذا يعلق به» «3». بالمعنى. فنعيم الدنيا كله ، بالنسبة إلى نعيم الجنان ، كبلل الأصبع ، الذي دخل فى الماء ثم خرج. مع أن نعيمها مكدر ، ممزوج بالأهوال
___________
(1) أخرجه الترمذي فى (الزهد ، باب ما جاء فى هوان الدنيا على اللّه ، 4/ 485 ح 2320) ، وابن ماجه فى (الزهد ، باب مثل الدنيا ، 2/ 1376 ، ح 4110) من حديث سهل بن سعد رضي اللّه عنه.
(2) أخرجه الطبري (20/ 97) عن مجاهد.
(3) أخرجه مسلم بنحوه فى (الجنة وصفة نعيمها وأهلها ، باب فناء الدنيا ، وبيان الحشر يوم القيامة ، 4/ 2193 ، ح 2858) من حديث المستورد أخى بن فهر رضي اللّه عنه.(4/266)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 267
والأحزان والمتاعب. وقد كتب على بن أبى طالب إلى سلمان - رضي اللّه عنهما - : «إنما مثل الدنيا كمثل الحية ، لين مسها ، قاتل سمها ، فأعرض عنها ، وعما يعجبك منها ، لقلة ما يصحبك منها ، ودع عنك همومها لما تيقنت من فراقها ، وكن أسرّ ما تكون منها ، أحذر ما تكون منها ، فإن صاحبها ، كلما اطمأن فيها إلى سرور ، أشخص منها إلى مكروه».
وعن عبد اللّه بن عمرو رضي اللّه عنه أنه قال : سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول : «إن هذه الدار دار الثوى ، لا دار استواء ، ومنزل ترح ، لا منزل فرح ، فمن عرفها لم يفرح لرخائها ، ولم يحزن لشقائها - أي : لأنهما لا يدومان - ألا وإن اللّه خلق الدنيا دار بلوى ، والآخرة دار عقبى ، فجعل بلوى الدنيا لثواب الآخرة سببا ، وثواب الآخرة من بلوى الدنيا عوضا ، فيأخذ ليعطى ، ويبتلى ليجزى ، وإنها سريعة الثوى - أي : الهلاك - وشيكة الانقلاب ، فاحذروا حلاوة رضاعها ، لمرارة فطامها ، واهجروا لذيذ عاجلها لكريه آجلها ، ولا تسعوا فى عمران دار قد قضى اللّه خرابها ، ولا تواصلوها وقد أراد اللّه منكم اجتنابها ، فتكونوا لسخطه متعرضين ، ولعقوبته مستحقين. ه. ذكره ابن وداعة الموصلي.
وذكر أيضا عن ابن عباس رضي اللّه عنه قال : سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول : «ما سكن حب الدنيا قلب عبد إلا التاط منها بثلاث : شغل لا ينفد عناؤه ، وفقر لا يدرك غناه ، وأمل لا ينال منتهاه ، إن الدنيا والآخرة طالبتان ومطلوبتان ، فطالب الآخرة تطلبه الدنيا ، حتى يستكمل رزقه ، وطالب الدنيا تطلبه الآخرة حتى يأخذ الموت بعنقه ، ألا وإن السعيد من اختار باقية يدوم نعيمها ، على فانية لا ينفك عذابها ، وقدّم لما يقدم عليه مما هو الآن فى يده ، قبل أن يخلفه لمن يسعد بإنفاقه ، وقد شقى هو بجمعه واحتكاره».
ثم ذكر مآل من اغتر فيها ، قال :
[سورة القصص (28) : الآيات 63 الى 67]
قالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ (63) وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذابَ لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ (64) وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ ما ذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (65) فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ (66) فَأَمَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَعَسى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ (67)(4/267)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 268
قلت : «هؤلاء» : مبتدأ. و«الذين» : صفته ، والعائد : محذوف ، و«أغويناهم» : خبر. والكاف فى «كما» : صفة لمصدر محذوف ، أي : أغويناهم غيا مثل ما غوينا ، و«لو أنهم» : جوابه محذوف ، أي : لما رأوا العذاب.
يقول الحق جل جلاله : قالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ بالعذاب ، وثبت مقتضاه ، وهو قوله تعالى :
لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ «1» ، وهم الشياطين ، أو : أئمة الكفر : ورؤساء الكفرة : رَبَّنا هؤُلاءِ الكفرة الَّذِينَ أَغْوَيْنا أَغْوَيْناهُمْ أي : دعوناهم إلى الشرك وسوّلناه لهم ، قد غووا غيا كَما مثل ما غَوَيْنا يقولون : إنا لم نغو إلا باختيارنا ، فهؤلاء كذلك غووا باختيارهم لأن إغواءنا لم يكن إلا وسوسة وتسويلا ، فلا فرق إذن بين غينا وغيهم ، وإن كان تسويلنا داعيا لهم إلى الكفر فقد كان فى مقابلته دعاء اللّه لهم إلى الإيمان ، بما وضع فيهم من أدلة العقل ، وما بعث إليهم من الرسل ، وأنزل إليهم من الكتب ، وهذا كقوله : وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ ... إلى قوله : وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ... «2».
ثم قالوا : تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ منهم فيما اختاروه من الكفر ، ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ ، بل كانوا يعبدون أهواءهم ، ويطيعون شهواتهم. فتحصّل من كلام هؤلاء الرؤساء أنهم اعترفوا أنهم غرّوا الضعفاء ، وتبرءوا من أن يكونوا آلهتهم ، فلا تناقض. انظر ابن جزى. وإخلاء الجملتين من العاطف لكونهما مقررتين للجملة الأولى.
وَقِيلَ للمشركين : ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ أي : الأصنام «3» لتخلصكم من العذاب ، فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ ، فلم يجيبوهم لعجزهم عن الإجابة والنصرة. وَرَأَوُا الْعَذابَ لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ لمّا رأوا ذلك العذاب ، وقيل : «لو» للتمنى ، أي : تمنوا أنهم كانوا يهتدون.
وَاذكر يَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ ما ذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ الذي أرسلوا إليكم؟ أي : بماذا أجبتموهم؟ وهو أعلم بهم. حكى ، أولا ، ما يوبخهم به من اتخاذهم له شركاء ، ثم ما تقوله الشياطين ، أو : أئمة الكفر عند توبيخهم لأنهم إذا وبخوا بعبادة الآلهة اعتذروا بأن الشياطين ، أو الرؤساء ، استغووهم ، ثم ما يشبه الشماتة بهم لاستغاثتهم بآلهتهم وعجزهم عن نصرتهم. ، ثم ما يبكّتون به من الاحتجاج عليهم بإرسال الرسل وإزاحة العلل. قال تعالى :
فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ يَوْمَئِذٍ خفيت عليهم الحجج أو الأخبار. وقيل : خفى عليهم الجواب ، فلم يدروا بماذا يجيبون إذ لم يكن عندهم جواب.
___________
(1) الآية 119 من سورة هود.
(2) من الآية 22 من سورة إبراهيم.
(3) وكذلك كل ما أشرك مع اللّه.(4/268)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 269
قال البيضاوي : وأصله : فعموا عن الأنباء ، لكنه عكس مبالغة ودلالة على أن ما يحضر الذهن إنما يفيض ويرد عليه من خارج ، فإن أخطأه لم يكن له حيلة إلى استحضاره ، والمراد بالأنباء : ما أجابوا به الرسل ، أو : ما يعمها وغيرها ، فإذا كانت الرسل يتلعثمون فى الجواب عن مثل ذلك من الهول ، ويفوضون إلى علم اللّه تعالى فما ظنك بالضلال من البهم؟. ه.
فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ لا يسأل بعضهم بعضا عن الجواب لفرط الدهشة ، أو : عن العذر والحجة ، عسى أن يكون عندهم عذر أو حجة. فَأَمَّا مَنْ تابَ من الشرك وَآمَنَ بربه وبمن جاء من عنده ، وَعَمِلَ صالِحاً أي : جمع بين الإيمان والعمل ، فَعَسى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ من الفائزين عند اللّه بالنعيم المقيم.
و«عسى» ، من الكرام ، تحقيق. وفيه بشارة للمسلمين على الإسلام ، وترغيب للكافرين فى الإيمان. وباللّه التوفيق.
الإشارة : قال الذين حق عليهم القول بالانحطاط عن درجة المقربين ، والبقاء مع عامة أهل اليمين ، وهم الصادّون الناس عن الدخول فى طريق القوم : ربنا هؤلاء الذين أغوينا زينا لهم البقاء مع الأسباب ، والوقوف مع العوائد ، أغويناهم كما غوينا ، فحيث لم نقو على مقام أهل التجريد ، قوينا سوادنا بهم ، تبرأنا إليك لأنا لم نقهرهم ، ولكن وسوسنا لهم ذلك ، ما كانوا إيانا يعبدون ، ولكن عبدوا هوى أنفسهم. ثم يقال لهم : ادعوا ما كنتم تعبدونه من حظوظ الدنيا وشهواتها ، فدعوهم فلم يستجيبوا لهم ، ورأوا عذاب القطيعة ، لو أنهم كانوا يهتدون إلى اتباع أهل التربية ما وقعوا فى ذلك. ويوم يناديهم فيقول : ماذا أجبتم الداعين ، الذين أرسلتهم فى كل زمان ، يدعون إلى اللّه ، ويرفعون الحجاب بينهم وبين ربهم ، فعميت عليهم الأنباء يومئذ ، فهم لا يتساءلون عن أحوال المقربين ، لغيبتهم عنهم. واللّه تعالى أعلم.
ثم بيّن اللّه تعالى بعض صفاته الحسنى ، فقال :
[سورة القصص (28) : الآيات 68 الى 70]
وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحانَ اللَّهِ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (68) وَرَبُّكَ يَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ (69) وَهُوَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (70)
يقول الحق جل جلاله : وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ ، لا موجب عليه ، ولا مانع له ، وفيه دلالة على خلق الأفعال. وَيَخْتارُ ما يشاء ، لا اختيار لأحد مع اختياره. قال البيضاوي : وظاهره : نفى الاختيار عنهم رأسا ، (4/269)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 270
والأمر كذلك عند التحقيق فإنّ اختيار العبد مخلوق للّه ، منوط بدواع لا اختيار لهم فيها ، وقيل : المراد أنه ليس لأحد أن يختار عليه ، فلذلك خلا عن العاطف ، يعنى قوله : ما كانَ .. إلخ ، ويؤيده : ما روى أنه نزل فى قولهم : لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ «1» ه. ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ أي : ليس لهم أن يختاروا مع اللّه شيئا ما ، وله الخيرة عليهم. والخيرة : من التخير ، تستعمل مصدرا بمعنى التخير ، وبمعنى المتخيّر ، ومنه : محمد خيرة اللّه من خلقه ، ولم يدخل العاطف فى ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ لأنه مقرر لما قبله ، وقيل : «ما» :
موصولة ، مفعول بيختار ، والراجع إليه : محذوف ، أي : ويختار الذي كان لهم منه الخيرة والصلاح. ه. وبحث فيه النسفي بأن فيه ميلا إلى الاعتزال ، ويجاب : بأن المعتزلة يقولون ذلك على سبيل الإيجاب ، ونحن نقوله على سبيل التفضل والإحسان.
سُبْحانَ اللَّهِ ، أي : تنزيها له عن أن ينازعه أحد ، أو يزاحم اختياره اختيار. وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ ، أي : تعاظم عن إشراكهم ، أو : عن مشاركة ما يشركون به.
وَرَبُّكَ يَعْلَمُ ما تُكِنُّ : تضمر صُدُورُهُمْ من عداوة الرسول - عليه الصلاة والسلام - وحسده ، وَما يُعْلِنُونَ من مطاعنهم فيه ، وقولهم : هلّا اختير عليه غيره فى النبوة. وَهُوَ اللَّهُ المستأثر بالألوهية المختص بها ، لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ، تقرير له ، كقولك : الكعبة قبلة ، لا قبلة إلا هى. لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى أي :
فى الدنيا ، وَالْآخِرَةِ لأنه المولى للنعم كلها ، عاجلها وآجلها ، يحمده المؤمنون فى الدنيا ، ويحمدونه فى الآخرة بقولهم : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ «2» ، الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ «3» ، وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ «4» ، والتحميد تم على وجه التلذذ لا الكلفة. وَلَهُ الْحُكْمُ القضاء بين عباده ، وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ بالبعث والنشور. وباللّه التوفيق.
الإشارة : فى الآية تحضيض على ترك التدبير والاختيار ، مع تدبير الواحد القهار ، وهو أصل كبير عند أهل التصوف ، أفرد بالتأليف ، وفى الحكم : «أرح نفسك من التدبير ، فما قام به غيرك عنك لا تقم به أنت عن نفسك».
وقال سهل رضي اللّه عنه : ذروا التدبير والاختيار ، فإنهما يكدران على الناس عيشهم. وقال الشيخ أبو الحسن الشاذلى رضي اللّه عنه : ذروا التدبير ، وإن كان ولا بد من التدبير ، فدبروا ألا تدبروا. ه.
والتدبير المذموم : هو ما فيه للنفس حظ ، كتدبير أسباب الدنيا ، وما تحصل بها من شهواتها ، إذا صحبه عزم أو تكرير ، وأمّا ما كان فيما يقرب إلى اللّه تعالى فهو النية الصالحة ، أو لم يصحبه تصميم بأن كان عزمه محلولا ،
___________
(1) الآية 31 من سورة الزخرف ، وانظر تفسير البغوي (6/ 218)
(2) من الآية 34 من سورة فاطر. [.....]
(3) من الآية 74 من سورة الزمر.
(4) الآية 75 من سورة الزمر.(4/270)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 271
أو علقه بمشيئة اللّه ، أو كان خاطرا غير ساكن ، فلا بأس به. قال القشيري - بعد كلام فى وجه اختصاص التدبير بالحق تعالى : لأنه لو لم تنفذ مشيئته واختياره لم يكن بوصف العزّ لأن من نفى عن مراده لا يكون إلا ذليلا ، والاختيار للحق نعت عز ، والاختيار للخلق صفة نقص ، ونعت ملام وقصور ، فاختيار العبد عليه غير مبارك له لأنه صفة غير مستحقّ لها ، ومن اتصف بما لا يليق به افتضح ، قال قائلهم :
ومعان إذا ادّعاها سواهم «1» لزمته جناية السّرّاق
والطينة إذا ادّعت صفة للحقّ أظهرت رعونتها ، فما للمختار «2» والاختيار؟! وما للملموك والملك؟! وما للعبيد فى دست الملوك؟! قال تعالى : ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ. ه. وقال آخر فى هذا المعنى :
العبد ذو ضجر ، والربّ ذو قدر والدهر ذو دول ، والرزق مقسوم
والخير أجمع : فيما اختار خالقنا وفى اختيار سواه : اللوم والشّوم.
فإذا علمت ، أيها العبد ، أن الحق تعالى هو الذي يخلق ما يشاء ويختار ، لم يبق لك مع اللّه اختيار ، فالحالة التي أقامك فيها هى التي تليق بك ، ولذلك قيل : العارف لا يعارض ما حلّ به ، فقرا كان أو غنى «3». قال اللجائى فى
___________
(1) فى القشيري : ومعان إذا ادعاها سواه ...
(2) أي : الذي اختاره اللّه ..
(3) قلت : هذه منزلة ، وهناك منزلة أعلى وأحلى ، نفهمها إذا قررنا أصلا ، وهو : أن حكم اللّه واختياره ، ثلاثة أنواع :
الأول : حكم اللّه الديني ، الشرعي ، واختياره ، ومراده الديني .. وهذا موقفنا منه الخضوع والتسليم ، والرضا والقبول ، والعمل.
الثاني : حكم اللّه الكونى ، القدري ، الذي لا اختيار لنا فيه ، كمصيبة الموت ، وجائحة فى مال ، وإذاية ظالم لا نقدر عليه ، وما أشبه ذلك ، وهذا موقفنا منه التسليم ، والصبر ، وفوقه : الرضا بهذا القضاء ، الذي لا اختيار لنا فيه.
الثالث : حكم اللّه الكونى القدري ، واختياره الكونى القدري - الذي لنا فيه قدرة واختيار ، كمرض يمكن دفعه بالدواء ، وفقر يمكن دفعه بالتكسب وطلب الغنى ، وهزيمة يمكن دفعها بالجهاد والكفاح .. إلخ ، وهذا موقفنا منه : هو المنازعة ، والمبالغة ، والمدافعة ، وانتبه معى لقول سيدنا عبد القادر الجيلاني - الشيخ القدوة ، العارف ، قال ما ملخصه : (الناس إذا ذكر القدر أمسكوا ، إلا أنا ، فقد انفتحت لى فيه روزنة [طاقة - نافذة] فنازعت أقدار الحق ، بالحق ، للحق). فهذا فى النوع الثالث من حكم اللّه واختياره ، ننازعه ، بالحق ، للحق ، والشيخ القدوة ، لم يبتدع ذلك ، وحاشاه ، رحمه اللّه وقدس روحه - بل هو انتزعه من حديث نبوى شريف ، أخرجه أحمد فى المسند (2/ 421) والترمذي فى (الظب ، باب 21 ، 4/ 349 ، ح 2065) وابن ماجه فى (الطب ، باب 1 ، 2/ 1137 ، ح 3437) من حديث أبى خزامة قال : سئل النبي صلى اللّه عليه وسلم : أرأيت [يعنى : أخبرنا عن ] - رقىّ نسترقيها ، وأدوية نتداوى بها : أترد من قدر اللّه؟ قال : «هي من قدر اللّه» اللّه أكبر : فقدر المرض ، ننازعه بقدر العلاج والدواء ، وقدر الفقر المالى ننازعه بقدر الكسب وإصلاح المال ، وقدر الهزيمة ننازعه بقدر الجهاد والاستعداد ، وقدر التخلف الحضارى ننازعه بقدر الفعالية الحضارية ، وقدر انتشار الوباء كالطاعون ، والكوليرا - ننازعه بقدر الاحتماء ، والتطعيم العام .. إلخ ، كما فعل سيدنا عمر : مع طاعون الشام ، فلم يدخل الشام - عند ما سمع بانتشار الطاعون فيها ، وكان ذاهبا إليها ، فقيل له : أتفر من قدر اللّه؟! قال : (نعم ، نفر من قدر اللّه إلى قدر اللّه) فالمؤمن العارف يصول بالحق للحق.(4/271)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 272
كتاب قطب العارفين : الراضي شبه ميت ، لا نفس له ، يختار لها ، فالفقر والغنى حكمان من حكيم واحد ، وهو أعلم سبحانه بعبيده ، وما يصلحون به ، فمنهم من يصلح للفقر ولا يصلح للغنى ، ومنهم من يصلح للغنى ولا يصلح للفقر ، ومنهم من يصلح بالمنع ولا يصلح بالعطاء ، ومنهم من يصلح بالعطاء ولا يصلح بالمنع ، ومنهم من يصلح بالبلاء ولا يصلح بالصحة ، ومنهم من يصلح بالصحة ولا يصلح بالبلاء ، ومنهم من يصلح بالوجهين جميعا ، وهى أعلى رتبة يشار إليها فى غاية هذا الشأن ، وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ .. الآية ، ففى هذه الآية كفاية وتعزية لكل سالك راض عن اللّه تعالى ، لكن لا يعقلها ولا يتلذذ بها إلا مشايخ العارفين. ه. وباللّه التوفيق.
ثم برهن على انفراده بالخلق والاختيار ، فقال :
[سورة القصص (28) : الآيات 71 الى 75]
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ (71) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ (72) وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (73) وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (74) وَنَزَعْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً فَقُلْنا هاتُوا بُرْهانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (75)
قلت : (سرمدا) : مفعول ثان لجعل ، وهو من السرد ، أي : التتابع ، ومنه قولهم فى الأشهر الحرم : ثلاثة سرد وواحد فرد ، والميم زائدة ، فوزنه : فعمل.
يقول الحق جل جلاله : قُلْ أَرَأَيْتُمْ أخبرونى إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً دائما بإسكان الشمس تحت الأرض ، أو : بتحريكها حول الأفق الخارج عن كورة الأرض ، أو بإخفاء نورها ، مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ ، وحقه : هل إله غير اللّه ، وعبّر ب «من» على زعمهم أن غيره آلهة ، أي : هل يقدر أحد على هذا؟ أَفَلا تَسْمَعُونَ سماع تدبر واستبصار؟
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ بإسكانها فى وسط السماء ، أو : بتحريكها فوق الأفق فقط ، مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ استراحة من متاعب الأشغال؟ ولم يقل : بنهار(4/272)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 273
تتصرفون فيه ، كما قال : بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ ، بل ذكر الضياء ، وهو ضوء الشمس لأن المنافع التي تتعلق به متكاثرة ، وليس هو التصرف فى المعاش وحده ، والظلام ليس هو بتلك المنزلة ، ومن ثم قرن بالضياء.
أَفَلا تَسْمَعُونَ لأن السمع يدرك ما لا يدركه البصر ، من ذكر منافعه ، ووصف فوائده ، وقرن بالليل أَفَلا تُبْصِرُونَ لأن غيرك يبصر من منفعة الظلام ما تبصره أنت من السكون ونحوه.
وَمِنْ رَحْمَتِهِ تعالى جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ فى الليل وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ بالنهار بأنواع المكاسب. وهو من باب اللف والنشر. وقال الزجاج : يجوز أن يكون معناه : لتسكنوا فيهما ولتبتغوا من اللّه فيهما ، ويكون المعنى : جعل لكم الزمان ليلا ونهارا لتسكنوا فيه ، ولتبتغوا من فضله ، وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ أي : ولكى تعرفوا نعمة اللّه فى ذلك فتشركوه عليها.
ثم قرّعهم على الإشراك ، بعد هذا البيان التام ، بقوله : وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ ، وكرر التوبيخ على الشرك ليؤذن ألّا شىء أجلب لغضب اللّه تعالى من الإشراك به ، كما لا شىء أدخل فى مرضاته من توحيده. وقال القرطبي : أعاد هذا لاختلاف الحالين ، ينادون مرة ، فيدعون الأصنام فلا تستجيب لهم ، فيظهر كذبهم. ثم ينادون مرة أخرى فيسكنون ، وهو توبيخ وزيادة خزى. ثم طرق كون المناداة من اللّه ، أو ممن يأمره بذلك ، لقوله : وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ «1» ، ويحتمل : ولا يكلمهم بعد قوله : اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ «2» أو : ولا يكلمهم كلام رضا. ه «3».
وَنَزَعْنا وأخرجنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ، وهو نبيهم ، يشهد عليهم بما كانوا عليه لأن الأنبياء شهداء على أممهم ، فَقُلْنا للأمم : هاتُوا بُرْهانَكُمْ على صحة ما كنتم عليه من الشرك ومخالفة الرسول ، فَعَلِمُوا حينئذ أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ فى الألوهية ، لا يشاركه فيها غيره ، وَضَلَّ عَنْهُمْ غاب غيبة الشيء الضائع ما كانُوا يَفْتَرُونَ من ألوهية غير اللّه وشفاعة أصنامهم. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : دوام ليل القبض يمحق البشرية ، ودوام نهر البسط يطغى النفس ، وتخالفهما على المريد رحمة ، وإخراجه عنهما عناية ، وفى الحكم : «بسطك كى لا يتركك مع القبض ، وقبضك كى لا يتركك مع البسط ، وأخرجك عنهما كى لا تكون لشىء دونه». وقال فارس رضي اللّه عنه : القبض أولا ، ثم البسط ، ثم لا قبض ولا بسط لأن القبض والبسط يقعان فى الوجود ، وأما مع الفناء والبقاء فلا. ه.
___________
(1) من الآية 174 من سورة البقرة.
(2) من الآية 108 من سورة المؤمنون.
(3) بتصرف.(4/273)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 274
ولما قال تعالى : وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا ذكر من متّعه بها وغرته ، فقال :
[سورة القصص (28) : الآيات 76 الى 77]
إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى فَبَغى عَلَيْهِمْ وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76) وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77)
قلت : «قارون» : غير مصروف للعجمة والتعريف ، ولو كان «فاعولا» من قرنت الشيء ، لا نصرف لخروجه عن العجمة. إِذْ قالَ : ظرف لبغى ، أي : طغى حين وعظ ، ولم يقبل ما وعظ به ، أو : يتعلق بمقدر ، أي : أظهر التفاخر بالمال حين قال له قومه : لا تفرح. و«ما» : موصولة ، و«إنّ مفاتحه» : صلته ، ولذلك كسرت.
يقول الحق جل جلاله : إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى كان إسرائيليا ، ابن عم لموسى وابن خالته ، فهو قارون بن يصهر بن قاهث بن لاوى بن يعقوب ، وموسى بن عمران بن قاهث. وكان يسمى «المنور» لحسن صورته «1» ، وكان آمن بموسى ، وكان أحفظ الناس للتوراة ، ولكنه نافق كما نافق السامري. فَبَغى عَلَيْهِمْ ، من البغي ، أي : الظلم : قيل : ملّكه فرعون على بنى إسرائيل فظلمهم. أو : من البغي ، أي : الكبر ، أي : تكبر عليهم بكثرة ماله وولده ، وزاد عليهم فى الثياب شبرا ، فطلب الفضل عليهم وأن يكونوا تحت يده.
وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما الذي إِنَّ مَفاتِحَهُ جمع مفتح ، بمعنى المقلد ، أي : إن مقاليده لَتَنُوأُ أي : تثقل بِالْعُصْبَةِ ، الباء للتعدية ، يقال : ناء به الحمل : أثقله حتى أماله. والعصبة : الجماعة الكثيرة ، وكانت مفاتح خزائنه وقر ستين بغلا ، لكل خزانة مفتاح ، ولا يزيد المفتاح على إصبع. وكانت من جلود ، أي : مغاليقها.
وقيل : معنى تنوء : تنهض بتكلّف ، ويكون حينئذ فى الكلام قلب إذ العصبة هى التي تنوء بالمفاتح ، لا العكس ، قيل : وسميت أمواله كنوزا لأنه كان لا يؤدى زكاتها ، وبسبب ذلك عادى موسى أول عداوته.
إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ لا تبطر بكثرة المال فرح إعجاب لأنه يقود إلى الطغيان. أو : لا تفرح بالدنيا إذ لا يفرح بها إلا من لا عقل له ، إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ : البطرين المفتخرين بالمال ، أو : الفرحين بزخارف الدنيا ، من حيث حصول حظوظهم وشهواتهم فيها. قال البيضاوي : الفرح بالدنيا مذموم مطلقا لأنه نتيجة حبها
___________
(1) انظر تفسير ابن كثير (3/ 398 - 399).(4/274)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 275
والرضا بها ، والذهول عن ذهابها ، فإن العلم بأن ما فيها من اللذة مفارق لا محالة ، يوجب التوخي «1» لا محالة ، كما قيل :
أشدّ الغمّ عندى فى سرور تيقّن عنه صاحبه انتقالا
وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللَّهُ من المال والثروة الدَّارَ الْآخِرَةَ بأن تتصدق على الفقراء وتصل الرحم ، وتصرفه فى أنواع الخير ، وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا ، وهو أن تأخذ ما يكفيك ويصلحك. وقيل : معناه :
واطلب بدنياك آخرتك فإن ذلك حظ المؤمن منها لأنها مزرعة الآخرة ، فيها تكتسب الحسنات وترفع الدرجات ، أي : لا تنس نصيبك منها أن تقدمه للآخرة ، وَأَحْسِنْ إلى عباد اللّه كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ فيما أنعم به عليك ، أو : أحسن بشكرك وطاعتك لخالق الأنام ، كما أحسن إليك بسوابغ الإنعام. وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ بالظلم والبغي وإنفاق المال فى المعاصي إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ لا يرضى فعلهم. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : فى الآية زجر عن الفرح بالدنيا والافتخار بها ، بل الفرح بكل ما يفّنى : كلّه مذموم. قال فى الإحياء : الفرح بالدنيا والتنعم بها سمّ قاتل ، يسرى فى العروق ، فيخّرج من القلب الخوف والحزن ، وذكر الموت وأهوال يوم القيامة ، وهذا هو موت القلب ، والعياذ باللّه ، فأولو العزم من أرباب القلوب حزنوا لمواتاة الدنيا ، وعلموا أن النجاة فى الحزن الدائم ، والتباعد من أسباب الفرح والبطر ، فقطعوا النفس عن ملاذها ، وعودوا الصبر عن شهواتها ، حلالها وحرامها ، وعلموا أن حلالها حساب ، وهو نوع عذاب ، ومن نوقش الحساب عذّب ، فخلّصوا أنفسهم من عذابها ، وتوصلوا إلى الحرية والملك فى الدنيا والآخرة ، بالخلاص من أسر الشهوات ورقها ، والأنس بذكر اللّه تعالى والاشتغال بطاعته. ه.
وقال يمن بن رزق : اعلم أنى لم أجد شيئا أبلغ فى الزهد فى الدنيا من ثبات حزن الآخرة فى القلب ، وعلامة ثبات حزن الآخرة فى القلب : أنس القلب بالوحدة. ه. قلت : وهذا مذهب العباد والزهاد ، وأما العارفون فقد دخلوا جنة المعارف ، فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ، جعلنا اللّه من خواصهم ، بمنّه وكرمه.
ثم ذكر جواب قارون ، فقال :
[سورة القصص (28) : آية 78]
قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78)
___________
(1) فى البيضاوي : [الترح ] وهو أنسب بالسياق ، . ولعل ما فى أعلى تصحيفا عن : التوقي ، أي : الحذر والتحوط.(4/275)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 276
يقول الحق جل جلاله : قالَ قارون : إِنَّما أُوتِيتُهُ أي : المال عَلى عِلْمٍ عِنْدِي أي : على استحقاق منى ، لما فىّ من العلم الذي فضلت به الناس ، وهو علم التوراة ، وكان أعلم الناس به بعد ، موسى وهارون ، وكان من العباد ، ثم كفر بعد ذلك. وذكر القشيري أنه كان منقطعا فى صومعة للعبادة ، فصحبه إبليس على العبادة ، واستمر معه على ذلك ، وهو لا يشعر ، إلى أن ألقى إليه : إن ما هما عليه ، من الانقطاع عن التكسب ، وكون أمرهما على أيدى الناس ، ليس بشىء ، فرده إلى الكسب بتدريج ، إلى أن استحكم فيه حب الدنيا والجمع والمنع ، ثم تركه. ه. وقيل : المراد به علم الكيمياء ، وكان يأخذ الرصاص والنحاس فيجعلهما ذهبا. أو : العلم بوجوه المكاسب من التجارة والزراعة ، أو : العلم بكنوز يوسف «1».
قال تعالى : أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً ، أي : أو لم يكن فى علمه ، من جملة العلم الذي عنده ، أن اللّه قد أهلك من قبله من القرون من هو أشد منه وأقوى وأغنى ، وأكثر جمعا للمال ، أو أكثر جماعة وعددا ، وهو توبيخ على اغتراره بقوته وكثرة ماله ، مع علمه بذلك لأنه قرأه فى التوراة ، وسمعه من حفاظ التواريخ. أو : نفى لعلمه بذلك لأنه لمّا قال : أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي قيل له :
أعنده مثل ذلك العلم الذي ادعاه ، ورأى نفسه به مستوجبة لكل نعمة ، ولم يعلم هذا العلم النافع ، الذي هو الاعتبار بمن هلك قبله ، حتى يقى نفسه مصارع الهالكين.
وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ ، لعلمه تعالى بعملهم ، بل يدخلهم النار بغتة. أو : يعترفون بها بغير سؤال ، أو : يعرفون بسيماهم فلا يسألون ، أو : لا يسألون سؤال توبيخ ، أو لا يسأل المجرمون من هذه الأمة عن ذنوب الماضين. قال محمد بن كعب : هو كلام متصل بما قبله ، والضمير فى (ذنوبهم) عائد على من أهلك من القرون ، أي : أهلكوا ، ولم يسأل غيرهم بعدهم عن ذنوبهم ، بل كل أحد إنما يعاتب على ما يخصه. ه. وإذا قلنا هو فى القيامة فقد ورد فى آيات أخر أنهم يسألون ، ويوم القيامة مواطن وطوائف. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : إذا خص اللّه عبدا بخصوصية فلا ينسبها لنفسه ، أو لحوله وقوته ، أو لكسبه ومجاهدته ، بل يشهدها منّة من اللّه عليه ، وسابق عناية منه إليه ، قال سهل رضي اللّه عنه : ما نظر أحد إلى نفسه فأفلح ، والسعيد من صرف بصره عن أفعاله وأقواله ، وفتح له سبيل رؤية منّة اللّه عليه ، فى جميع الأفعال والأقوال. والشقي منّ زيّن له فى عينه أفعاله وأقواله وأحواله ، ولأفتح له سبيل رؤية منّة اللّه عليه ، فافتخر بها وادعاها لنفسه ، فشؤمه أن يهلكه كما خسف بقارون ، لمّا أدعى لنفسه فضلا. ه.
___________
(1) انظر تفسير ابن كثير (3/ 399 - 400) وتفسير البغوي (6/ 222).(4/276)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 277
ثم قال تعالى :
[سورة القصص (28) : الآيات 79 الى 82]
فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79) وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً وَلا يُلَقَّاها إِلاَّ الصَّابِرُونَ (80) فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ (81) وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْ لا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا لَخَسَفَ بِنا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (82)
قلت : (فى زينته) : حال ، (ويكأنه) : مذهب الخليل وسيبويه : أن «وى» : حرف تنبيه منفصلة عن كأن ، لكن أضيفت لكثرة الاستعمال. وقال أبو حاتم وجماعة : «ويك» هى «ويلك» حذفت اللام منها لكثرة الاستعمال. وقالت فرقة : «ويكأن» بجملتها : كلمة. قاله الثعلبي ، وقال البيضاوي : ويكأن ، عند البصريين ، مركب من : «وى» للتعجب ، و«كأن» ، للتشبيه. ه. وقال سيبويه : «وى» : كلمة تنبيه على الخطأ وتندّم ، يستعملها النادم لإظهار ندامته.
يقول الحق جل جلاله : فَخَرَجَ قارون عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ ، قال جابر : كانت زينته القرمز ، وهو صبغ أحمر معروف. قيل : إنه خرج فى الحمرة والصفرة ، وقيل : خرج يوم السبت على بغلة شهباء ، عليها الأرجوان ، وعليها سرج من ذهب ، ومعه أربعة آلاف على زيه ، وقيل : عليهم وعلى خيولهم الديباج الأحمر ، وعن يمينه ثلاثمائة غلام ، وعن يساره ثلاثمائة جارية بيض ، عليهن الحلىّ والديباج.
قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا ، قيل : كانوا مسلمين ، وإنما تمنوا ، على سبيل الرغبة فى اليسار ، كعادة البشر ، وقيل : كانوا كفارا ، ويرده قوله : لَوْ لا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا .. إلخ. يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ من المال والجاه ، قالوه غبطة. والغابط هو الذي يتمنى مثل نعمة صاحبه ، من غير أن تزول عنه ، والحاسد هو الذي يتمنى أن تكون نعمة صاحبه له ، دونه. وهو كقوله تعالى : وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ «1» ، وقيل لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : هل تضر الغبطة؟ فقال : «لا ..» الحديث «2». إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ من الدنيا ، والحظ : الجدّ ، وهو البخت والدولة.
___________
(1) من الآية 32 من سورة النساء.
(2) لفظ الحديث : سأل صلى اللّه عليه وسلم : هل يضر الغبط؟ قال : «لا ، إلا كما يضر العضاة الخبط ، قال ابن حجر فى الكافي : ذكره ثابت السرقسطي فى الغريب ، هكذا بغير إسناد. انظر الكافي الشاف على هامش الكشاف (3/ 432).(4/277)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 278
وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ بالثواب والعقاب وفناء الدنيا ، أو : أوتوا العلم باللّه ، فيؤخذ منه : أن متمنى الدنيا جاهل ولو كان أعلم الناس إذ لا يتمناها إلا المحب لها ، وهى رأس الفتنة. فأىّ علم يبقى مع فتنة الدنيا؟! قالوا فى وعظهم لغابطى قارون : وَيْلَكُمْ هلاكا لكم ، فأصل ويلك : الدعاء بالهلاك ، ثم استعمل فى الزجر والردع على ترك ما لا يرضى. وقال فى التبيان فى إعراب القرآن : هو مفعول بفعل محذوف ، أي : ألزمتكم اللّه ويلكم ، ثَوابُ اللَّهِ فى الآخرة ، خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً مما أوتى قارون ، بل من الدنيا وما فيها ، وَلا يُلَقَّاها أي : لا يلقى هذه الكلمة التي تكلم بها العلماء ، وهى ثواب اللّه خير ، إِلَّا الصَّابِرُونَ. أو : لا يلقى هذه القوة والعزيمة فى الدين إلا الصابرون على الطاعات وعن الشهوات وزينة الدنيا.
وفى حديث الترمذي : أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال : «من ترك اللباس - أي : الفاخر - تواضعا للّه تعالى ، وهو يقدر عليه ، دعاه اللّه على رؤوس الخلائق ، حتى يخيّره من أي حلل الإيمان شاء يلبسها» «1». وفيه أيضا عنه عليه الصلاة والسلام : «ليس لابن آدم حقّ فى سوى هذه الخصال بيت يسكنه ، وثوب يوارى عورته ، وجلف الخبز والماء» «2». أي : ليس معه إدام.
قال تعالى : فَخَسَفْنا بِهِ بقارون وَبِدارِهِ الْأَرْضَ ، كان قارون يؤذى موسى عليه السّلام كل وقت ، وهو يداريه للقرابة التي بينهما ، حتى نزلت الزكاة ، فصالحه : على كل ألف دينار دينار ، وعلى كل ألف درهم درهم ، فحاسبه فاستكثره ، فشحت به نفسه ، فجمع بنى إسرائيل ، وقال له : قد أطعتم موسى فى كل شىء ، وهو الآن يريد أن يأخذ أموالكم ، فقالوا : أنت كبيرنا فمرنا بما شئت ، قال : نجعل لفلانة البغي جعلا حتى تقذف موسى بنفسها ، فيرفضه بنو إسرائيل ، فجعل لها ألف دينار ، أو : طستا من ذهب ، فلما كان يوم عيد قام موسى خطيبا ، فقال : من سرق قطعنا يده ، ومن افترى جلدناه ثمانين ، ومن زنى وليس له امرأة جلدناه مائة ، ومن زنى وله امرأة رجمناه ، فقال قارون : وإن كنت أنت؟ قال : وإن كنت أنا ، قال : فإن بنى إسرائيل يزعمون أنك فجرت بفلانة ، فأحضرت ، فناشدها بالذي خلق البحر وأنزل التوراة أن تصدق ، فقالت : جعل لى قارون جعلا على أن أقذفك بنفسي ، فخرّ موسى ساجدا يبكى ، وقال : اللهم إن كنت رسولك فاغضب لى ، فأوحى اللّه تعالى إليه : مر الأرض بما شئت فيه ، فإنها مطيعة لك ، فقال : يا بنى إسرائيل : إن اللّه بعثني إلى قارون كما بعثني إلى فرعون ، فمن كان معه فليلزم
___________
(1) أخرجه الترمذي فى (صفة القيامة ، باب 39 ، 4/ 561 ح 2481) ، والحاكم فى المستدرك (1/ 61) وصححه ، ووافقه الذهبي ، من حديث معاذ بن أنس. [.....]
(2) أخرجه أحمد فى المسند (1/ 62) ، والترمذي وصححه فى (الزهد ، باب 30 ، 4/ 494 ، ح 2341) من حديث سيدنا عثمان بن عفان رضي اللّه عنه وقوله صلى اللّه عليه وسلم : «وجلف الخبز» أي : ليس معه إدام. انظر : النهاية فى غريب الحديث (1/ 87).(4/278)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 279
مكانه ، ومن كان معى فليعتزل ، فاعتزلوا جميعا غير رجلين. ثم قال : يا أرض خذيهم ، فأخذتهم إلى الأوساط ، ثم قال : خذيهم ، فأخذتهم إلى الأعناق ، وقارون وأصحابه يتضرعون إلى موسى ، ويناشدونه باللّه وبالرحم ، وموسى لا يلتفت إليهم لشدة غضبه ، ثم قال : خذيهم ، فانطبقت عليهم. فقال اللّه تعالى : يا موسى استغاث بك مرارا فلم ترحمه ، فوعزتى لو استرحمنى مرة لرحمته «1».
روى أنه يخسف كل يوم قامة ، فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة ، فقال بعض بنى إسرائيل : إنما أهلكه ليرث داره وكنوزه ، فدعى اللّه تعالى فخسف بداره وكنوزه ، وأوحى اللّه تعالى إلى موسى : إنى لا أعبّد الأرض أحدا بعدك أبدا ، أي : لا آمرها تطيع أحدا بعدك.
فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ جماعة يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ يمنعونه من عذاب اللّه ، وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ من عذاب اللّه ، أو : من المنتقمين من موسى.
وَأَصْبَحَ أي : وصار الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ أي : منزلته من الدنيا بِالْأَمْسِ : متعلق بتمنوا. ولم يرد به اليوم الذي قبل يومك ، ولكن الوقت القريب ، استعارة. يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ أي : اعجب مما صنع بقارون ، لأن اللّه يبسط الرزق لمن يشاء ، وهو عنده ممقوت ، وَيَقْدِرُ أي :
يضيقه على من يشاء ، وهو عنده محبوب. لَوْ لا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا بصرف ما كنا نتمناه بالأمس ، لَخَسَفَ بِنا معه ، كما فعل بالرجلين ، وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ أي : اعجب لعدم فلاح الكافرين. قال الرضى : كأن المخاطب كان يدعى أنهم يفلحون ، فقال له : عجبا منك ، فسئل : لم تتعجب منه؟ فقال : إنه لا يفلح الكافرون ، فحذف حرف الجار. وقال ابن عزيز : ويكأن اللّه معناه : ألم تر أن اللّه. واقتصر عليه البخاري «2». واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : فى الآية ترهيب من التعمق فى زينة الدنيا ، والتكاثر بها. ومن تمنى ما لأربابها من غرور زخرفها ، وترغيب فى الزهد فيها ، وإيثار الفقر على الغنى ، والتبذل والتخشن على ملاذ ملابسها ومطاعمها. قال الشيخ العارف سيدى عبد الرحمن بن يوسف اللجائى فى كتابه : اعلم أن الدنيا إذا عظمت وجلّت فى قلب عبد ، فإن ذلك العبد يعظم قدر من أقبلت عليه الدنيا ، ويتمنى أن ينال منها ما نال ، فإن كل انسان يعظم ما اشتهت نفسه.
___________
(1) ذكره البغوي فى تفسيره (6/ 224) وانظر تفسير ابن كثير (3/ 401).
قلت : وهذه الرواية تجعل سبب الخسف بقارون هو غضب سيدنا موسى لنفسه ، لكن القرآن الكريم ، والأحاديث الصحيحة تبرهن على أن سبب الخسف به هو التكبر على اللّه تعالى ، والتكبر على الناس.
(2) انظر فتح الباري (كتاب التفسير ، سورة القصص ، باب. إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ 8/ 369).(4/279)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 280
وهذه صفة عبيد الدنيا ، وعبيد أهوائهم. وهى صفة من أسكرته الغفلة ، وخرجت عظمة اللّه عز وجل من قلبه ، وإلى هذه الإشارة بقوله تعالى : قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا .. الآية. فكل محب للدنيا ، مستغرق فى حبها ، فهو لا حق بالذين تمنوا زينة قارون. واعلم أن الدنيا إذا رسخت فى القلب ، واستوطنت ، ظهر ذلك على جوارح العبد ، بتكالبه عليها ، وشدة رغبته فيها ، فيسلبه اللّه تعالى لذة القناعة ، ويمنعه سياسة الزاهدين ، ويبعده عن روح العارفين فإن القلب إذا لم يقنع - لو ملك الدنيا بحذافيرها - لم يشبع. وقال بعض الحكماء : القناعة هى الغنى الأكبر ، ولن تخفى صفة القانعين. ه. ومآل الراغبين فى الدنيا هو مآل قارون ، من الفناء والذهاب تحت التراب ، وأنشدوا :
إن كنت تسّموا إلى الدّنيا وزينتها فانظر إلى مالك الأملاك قارون
رمّ الأمور فأعطته مقادتها وسخّر النّاس بالتّشديد واللّين
حتّى إذا ظنّ ألّا شىء غالبه ومكّنت قدماه أىّ تمكين
راحت عليه المنايا روحة تركت ذا الملك والعزّ تحت الماء والطّين
ثم ذكر عاقبة المتواضعين ، فقال :
[سورة القصص (28) : الآيات 83 الى 84]
تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83) مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (84)
قلت : (تلك) : مبتدأ ، و(نجعلها) : خبر.
يقول الحق جل جلاله : تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ أي : تلك الدار التي سمعت بذكرها ، وبلغك خبرها.
ومعنى البعد فى الإشارة ، لبعد منزلتها وعلو قدرها ، نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ أي : تكبرا وقهرا كحال فرعون ، وَلا فَساداً عملا بالمعاصي ، أو : ظلما على الناس ، كحال قارون ، أو : قتل النفس ، أو :
دعاء إلى عبادة غير اللّه ، ولم يعلق الوعد بترك العلو والفساد ، ولكن بترك إرادتهما وميل القلب إليهما ، أدرك ذلك(4/280)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 281
بالفعل أم لا. وعن على رضي اللّه عنه : إن الرجل ليعجبه أن يكون شراك نعله أجود من شراك نعل صاحبه ، فيدخل تحتها.
وعن الفضيل : أنه قرأها ، ثم قال : ذهبت الأمانى هاهنا. وعن عمر بن عبد العزيز رضي اللّه عنه أنه كان يرددها حتى قبض. وَالْعاقِبَةُ المحمودة لِلْمُتَّقِينَ ما لا يرضاه اللّه من العلو والفساد وغير ذلك.
مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها ذاتا وقدرا ووصفا ، وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ ما لا يرضاه اللّه تعالى ، فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ، أصله : فلا يجزون ، وضع الظاهر موضع المضمر لما فى إسناد السيئات إليهم من تقبيح رأيهم وتسفيه أحلامهم ، وزيادة تبغيض السيئات إلى قلوب السامعين ، إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ إلا جزاء عملهم فقط ، ومن فضله العظيم ألا يجزى السيئة إلا مثلها ، ويجزى الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة.
الإشارة : جعل اللّه الدار الآخرة للمتواضعين ، أهل الذل والانكسار ، والعاقبة المحمودة - وهى الوصول إلى الحضرة - للمتقين الشهرة والاستكبار ، وفى الحكم : «ادفن نفسك فى أرض الخمول فما نبت ممّا لم يدفن لا يتمّ نتاجه». قال فى التنبيه : لا شىء أضر على المريد من الشهرة وانتشار الصيت لأن ذلك من أعظم حظوظه ، التي هو مأمور بتركها ، ومجاهدة النفس فيها ، وقد تسمح نفس المريد بترك ما سوى هذا من الحظوظ. ه.
وكان شيخ شيخنا يقول : نحب المريد أن يكون قدمه أعظم من صيته ، ولا يكون صيته أعظم من قدمه. ه.
وقال إبراهيم بن أدهم رضي اللّه عنه : ما صدق اللّه من أحب الشهرة. وقال بعضهم : طريقتنا هذه لا تصلح إلا بأقوام كنست بأرواحهم المزابل. وقال أيوب رضي اللّه عنه : ما صدق عبد إلا سرّه ألا يشعر بمكانه. وقال فى القوت : ومتى ذل العبد نفسه ، واتضع عندها ، فلم يجد لذلته طعما ، ولا لضعته حسما ، فقد صار الذل والتواضع كونه ، فهذا لا يكره الذم من الخلق لوجود النقص فى نفسه ، ولا يحب المدح منهم لفقد القدر والمنزلة فى نفسه. فصارت الذلة والضعة صفة لا تفارقه ، لازمة لزوم الزبالة للزبال ، والكساحة للكساح ، هما صنعتان له كسائر الصنائع. وربما فخروا بهما لعدم النظر إلى نقصهما. فهذه ولاية عظيمة له من ربه ، قد ولّاه على نفسه ، وملّكه عليها ، فقفرها بعزه ، وهذا مقام محبوب ، وبعده المكاشفات بسرائر الغيوب. ثم قال : ومن كان حاله مع اللّه تعالى الذل طلبه واستحلاه ، كما يطلب المتكبر العز ، ويستحليه إذا وجده ، فإن فارق ذلك الذل ساعة تغير قلبه لفراق حاله ، كما أن المتعزز إن فارق العز ساعة تكدر عليه عيشه لأن ذلك عيش نفسه. ه.
قلت : وهذا مقام من المقامات ، والعارف الكامل لا يتغير قلبه على فقد شىء إذ لم يفقد شيئا بعد أن وجد اللّه ، (ماذا فقد من وجدك). والذي ذكره فى القوت هو حال السائرين الصادقين. وباللّه التوفيق. «1»
___________
(1) من مناجاة سيدى ابن عطاه اللّه السكندرى ، انظر الحكم بتويب المتقى الهندي/ 42.(4/281)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 282
ثم ذكر عاقبة سيد المتقين ، فقال :
[سورة القصص (28) : الآيات 85 الى 88]
إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (85) وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ (86) وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (87) وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (88)
قلت : (و لا يصدنك) : مجزوم بحذف النون ، وحذفت الواو لالتقاء الساكنين ، حين دخلت نون التوكيد.
يقول الحق جل جلاله ، لرسوله صلى اللّه عليه وسلم : إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ أي : أوجب عليك تلاوته وتبليغه ، والعمل بما فيه ، لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ عظيم ، وهو المعاد الجسماني لتقوم المقام المحمود ، الذي لا يقوم فيه أحد غيرك ، مع حضور الأكابر من الرسل وغيرهم. أو : لرادك إلى معادك الأول ، وهو مكة ، وكان عليه الصلاة والسلام اشتاق إليها لأنها مولده ومولد آبائه ، وقد ردّه إليها يوم الفتح ، وإنما نكّره لأنه كان فى ذلك اليوم معاد له شأن ، ومرجع له اعتداد لغلبته - عليه الصلاة والسلام - ونصره ، وقهره لأعدائه ، ولظهور عز الإسلام وأهله ، وذل الشرك وحزبه.
والسورة مكية ، ولكن هذه الآية نزلت بالجحفة ، لا بمكة ولا بالمدينة «1» ، وفى الآية وعد بالنصر ، وأن العاقبة الحسنة والخير الجسيم للنبى صلى اللّه عليه وسلم لا يختص بالآخرة ، بل يكون فى الدنيا له ولمتّبعيه ، ولكن بعد الابتلاء والامتحان ، كما فى صدر السورة الآتية بعدها ، وبهذا يقع التناسب بينهما ، فإنها كالتعليل لما قبلها.
ولما وعده بالنصر قال له : قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى أي : يعلم من جاء بالحق ، يعنى : نفسه صلى اللّه عليه وسلم مع ما يستحقه من النصر والثواب ، فى معاده ، وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ وهم المشركون ، مع ما يستحقونه من العقاب فى معادهم.
وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى يوحى إِلَيْكَ الْكِتابُ أي : القرآن ، فكما ألقى إليك الكتاب ، وما كنت ترجوه كذلك يردك إلى معادك الأول ، من غير أن ترجوه ، إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ ، لكن ألقاه إليك رحمة منه
___________
(1) انظر تفسير ابن كثير (3/ 402 - 403).(4/282)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 283
إليك ، ويجوز أن يكون استثناء محمولا على المعنى ، كأنه قال : وما ألقى إليك الكتاب إلا رحمة من ربك ، فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً معينا لِلْكافِرِينَ على دينهم بمداراتهم والتحمل عنهم ، والإجابة إلى طلبتهم.
وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللَّهِ أي : لا يمنعك هؤلاء عن العمل بآيات اللّه وتبليغها وإظهارها ، بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ أي : بعد وقت إنزالها ، وإِذْ : مضاف إليه أسماء الزمان ، كقولك : حينئذ ويومئذ. وَادْعُ إِلى رَبِّكَ إلى توحيده وعبادته ، وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ، نهاه تنفيرا لغيره من الشرك.
وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ ، قال ابن عباس رضي اللّه عنه : الخطاب للنبى صلى اللّه عليه وسلم ، والمراد به أهل دينه. قال البيضاوي : وهذا وما قبله تهييج ، وقطع أطماع المشركين عن مساعدته لهم ، لا إِلهَ إِلَّا هُوَ : استئناف ، مقرر لما قبله ، كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ أي : ذاته ، فالوجه يعبّر به عن الذات ، أي : كل شىء فان مستهلك معدوم ، إلا ذاته المقدسة ، فإنها موجودة باقية. وقال أبو العالية : إلا ما أريد به وجه اللّه ، من علم وعمل ، فإنه لا يفنى. قال عبادة بن الصامت رضي اللّه عنه : يجاء بالدنيا يوم القيامة ، فيقال : ميزوا ما كان للّه تعالى منها ، فيميز ، ثم يؤمر بسائرها فيلقى فى النار. ه. وقال الضحاك : كل شىء هالك إلا اللّه والجنة والنار والعرش.
لَهُ الْحُكْمُ القضاء النافذ فى خلقه ، وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ للجزاء والفصل. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : أهل الاشتياق يروّحون أرواحهم بهذه الآية ، فيقولون لها : إن الذي فرض عليك القرآن ، أن تعمل به فى الدنيا ، لرادك إلى معاد جسمانى روحانى ، فتتصل نضرتك ونظرتك إلى وجه الحبيب ، من غير عذول ولا رقيب ، على سبيل الاتصال ، من غير تكدر ولا انفصال ، فإن وقع الإنكار على أهل الخصوصية فيقولون :
رَبِّي أَعْلَمُ الآية .. وما كنت ترجو أن تلقى إليك الخصوصية إلا رحمة من ربك ، فلا تكونن ظهيرا للكافرين المنكرين لها ، معينا لهم على إذاية من انتسب إليها ، ولا يصدنك عن معرفة آيات اللّه الدالة عليه ، بعد إذ أنزلت إليك ، أي : لا يمنعك الناس عن صحبة أولياء اللّه ، الدالين عليه ، وادع إلى ربك ، أي : إلى معرفة ذاته ووحدانيته ، ولا تكونن من المشركين بشهود شىء من السّوى ، فإن كل شىء هالك ، أي : معدم فى الماضي والحال والاستقبال ، إلا وجهه : إلا ذاته ، فلا موجود معها ، وفى ذلك يقول الشاعر :
اللّه قل ، وذر الوجود وما حوى إن كنت مرتادا بلوغ كمال
فالكلّ ، دون اللّه ، إن حقّقته ، عدم على التّفصيل والإجمال
واعلم بأنّك ، والعوالم كلّها ، لولاه ، فى محو وفى اضمحلال(4/283)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 284
من لا وجود لذاته من ذاته فوجوده ، لولاه ، عين
محال فالعارفون فنوا ، ولم يشهدوا شيئا سوى المتكبّر الم
تعال ورأوا سواه على الحقيقة هالكا فى الحال والماضي والاستقبال.
وبالله التوفيق ، ولا حول ولا قوة إلا باللّه العلى العظيم ، وصلّى اللّه على سيدنا محمد وآله وصحبه ، وسلّم.(4/284)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 285
سورة العنكبوت
مكية ، إلا صدرها العشر الآيات ، فإنها نزلت بالمدينة فى شأن من كان من المسلمين بمكة ، وإلا قوله : وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا إلى : الْمُنافِقِينَ «1» فإنها نزلت فى المتخلفين عن الهجرة. وهى كالتعليل لخاتمة ما قبلها من البشارة بالنصر لأنه لا يكون فى الغالب إلا بعد الامتحان ، كما قال تعالى :
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ (3)
قلت : الحسبان : قوة أحد النقيضين على الآخر ، كالظن ، بخلاف الشك ، فهو الوقوف بينهما. والعلم : هو القطع بأحدهما ، ولا يصح تعلقهما بمعاني المفردات ، ولكن بمضامين الجمل ، فلا أقول : حسبت زيدا ، وظننت الفرس ، بل حسبت زيدا قائما ، والفرس جوادا. والكلام الدال على المضمون ، الذي يقتضيه الحسبان هنا أن يتركوا مع قوله :
وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ أي : أحسبوا تركهم غير مفتونين لأن يقولوا : آمنا.
يقول الحق جل جلاله : الم الألف : لوحدة أسرار الجبروت ، واللام : لفيضان أنوار الملكوت ، والميم : لاتصال المادة بعالم الملك. فكأنه تعالى أقسم بوحدة جبروته وأنوار ملكوته واتصال مادته بملكه وخليقته ، أنه لا يدع دعوة مدع إلا ويختبره ليظهر صدقه أو كذبه ، وهذا معنى قوله : أَحَسِبَ النَّاسُ أي : أظن الناس أَنْ يُتْرَكُوا غير - مفتونين ومختبرين ، أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ أظنوا أن يدّعوا الإيمان ولا يختبرون عليه ليظهر الصادق من الكاذب ، بل يمتحنهم اللّه بمشاق التكليف من مفارقة الأوطان ، ومجاهدة الأعداء ، ورفض الشهوات ، ووظائف الطاعات ، وبالفقر ، والقحط ، وأنواع المصائب فى الأموال والأنفس ، وإذاية الخلق ليتميز المخلص من المنافق ، والثابت فى الدين من المضطرب فيه ، ولينالوا بالصبر على ذلك عوالى الدرجات ، فإن مجرد الإيمان ، وإن كان عن خلوص قلب ، لا يقتضى غير الخلاص من الخلود فى العذاب ، وما
___________
(1) الآيات : 9 - 11.(4/285)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 286
ينال العبد من المكاره يسمو به إلى أعلى الدرجات وأعظم المقامات ، مع ما فى ذلك من تصفية النفس وتهذيبها ، لتتهيأ لإشراق أنوار مقام الإحسان.
روى أنها نزلت فى ناس من أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، قد جزعوا من أذى المشركين ، وضاقت صدورهم من ذلك ، وربما استنكر بعضهم أن يمكّن اللّه الكفرة من المؤمنين. فنزلت مسلّية ومعلمة أن هذه هى سيرة اللّه فى عباده اختبارا لهم.
قال تعالى : وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ بأنواع المحن فمنهم من كان يوضع المنشار على رأسه ، فيفرق فرقتين ، وما يصرفه ذلك عن دينه ، ومنهم من كان يمشط بأمشاط الحديد ، ومنهم من كان يطرح فى النار ، وما يصده ذلك عن دينه. فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ بذلك الامتحان الَّذِينَ صَدَقُوا فى الإيمان بالثبات ، وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ بالرجوع عنه.
ومعنى علمه تعالى به ، أي : علم ظهور وتمييز. والمعنى : وليميّزنّ الصادق منهم من الكاذب ، فى الدنيا والآخرة. قال ابن عطاء : يتبيّن صدق العبد من كذبه فى أوقات الرخاء والبلاء ، فمن شكر فى أيام الرخاء ، وصبر فى أيام البلاء ، فهو من الصادقين ، ومن بطر فى أيام الدنيا ، وجزع فى أيام البلاء ، فهو من الكاذبين. ه.
الإشارة : سنّة اللّه تعالى فى أوليائه : أن يمتحنهم فى البدايات ، فإذا تمكنوا من معرفة اللّه ، وكمل تهذيبهم ، أعزهم ونصرهم ، وأظهرهم لعباده. ومنهم من يتركهم تحت أستار الخمول ، حتى يلقوه على ذلك وهم عرائس الملكوت ، ضنّ بهم أن يظهرهم لخلقه. والامتحان يكون على قدر المقام ، وفى الحديث : «أشدّ الناس بلاء : الأنبياء ، ثم الأمثل فالأمثل ، يبتلى الرجل على قدر دينه ، فإن كان فى دينه صلبا ، اشتد بلاؤه ، وإن كان فى دينه رقّة ، ابتلى على قدر دينه ، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشى على الأرض وما عليه من خطيئة» «1».
وقال صلى اللّه عليه وسلم : «أشدّ الناس بلاء فى الدنيا : نبى أو صفى». وقال صلى اللّه عليه وسلم : «أشدّ الناس بلاء : الأنبياء ، ثم الصالحون. لقد كان أحدهم يبتلى بالفقر ، حتى ما يجد إلا العباءة يحوّيها فيلبسها ، ويبتلى بالقمل حتى يقتله ، ولأحدهم كان أشدّ فرحا بالبلاء من أحدكم بالعطاء» «2». من الجامع. واللّه تعالى أعلم.
___________
(1) أخرجه الترمذي فى (الزهد ، باب ما جاء فى الصبر على البلاء ، 4/ 520 ، ح 398) ، وابن ماجه فى (الفتن ، باب الصبر على البلاء ، 2/ 1334 ، ح 4023) ، والإمام أحمد فى المسند (1/ 174) من حديث مصعب بن سعد ، بن أبى وقاص رضي اللّه عنه.
(2) أخرجه بنحوه ابن ماجه فى الموضع السابق ذكره. (4/ 1335 ، ح 4024) وابن أبى الدنيا فى (المرض والكفارات/ 1) ، والحاكم (4/ 307) وصححه ، من حديث أبى سعيد الخدري رضي اللّه عنه. وقوله صلى اللّه عليه وسلم : «يحوّيها» فى النهاية : التحوية : أن يدير كساء حول سنام البعير ، ثم يركبه ، والاسم : الحويّة.
انظر النهاية (حوا 1/ 465).(4/286)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 287
ثم ذكر المؤذين لهم ، فقال :
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 4 الى 7]
أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (4) مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (5) وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (6) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (7)
يقول الحق جل جلاله : أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أي : الشرك والمعاصي وإذاية المسلمين ، أَنْ يَسْبِقُونا أي : يفوتونا ، بل يلحقهم الجزاء لا محالة. و«أم» : منقطعة ، ومعنى الإضراب فيها : أن هذا الحسبان أبطل من الحسبان الأول لأن ذلك يظن أنه لا يمتحن لإيمانه ، وهذا يظن أنه لا يجازى بمساوئه ، وشبهته أضعف ، ولذلك عقّبه بقوله : ساءَ ما يَحْكُمُونَ ، أي : بئس ما يحكمون به حكمهم فى صفات اللّه أنه مسبوق ، وهو القادر على كل شىء ، فالمخصوص محذوف.
ثم ذكر الحامل على الصبر عند الامتحان ، وهو رجاء لقاء الحبيب ، فقال : مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللَّهِ أي :
يأمل ثوابه ، أو يخاف حسابه ، أو ينتظر رؤيته ، فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ المضروب للغاية لَآتٍ لا محالة. وفيه تبشير بأن اللقاء حاصل لأنه لأجل آت ، وكل آت قريب. وكل غاية لها انقضاء ، فليبادر للعمل الصالح الذي يصدق رجاءه ويحقق أمله. وَهُوَ السَّمِيعُ لما يقوله عباده ، الْعَلِيمُ بما يفعلونه ، فلا يفوته شىء.
وَمَنْ جاهَدَ نفسه ، بالصبر على مشاق الطاعات ، ورفض الشهوات ، وإذاية المخلوقات ، وحبس النفس على مراقبة الحق فى الأنفاس واللحظات ، فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ لأن منفعة ذلك لها ، إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ وعن طاعتهم ومجاهدتهم. وإنما أمر ونهى رحمة لهم ، ومراعاة لصلاحهم.
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ أي : الشرك والمعاصي بالإيمان والتوبة ، وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ مع غنانا عنهم ، أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ أي : أحسن جزاء أعمالهم بالفضل والكرم. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : أم حسب الذين ينكرون على أوليائى ، المنتسبين إلىّ ، أن يسبقونا؟ بل لا بد أن نعاقبهم فى الدنيا والآخرة ، إما فى الظاهر بمصيبة تنزل بهم ، أو فى الباطن ، وهو أقبح ، كقساوة فى قلوبهم ، أو : كسل فى بدنهم ، أو :
شك فى يقينهم ، أو : بعد من ربهم ، فإن من عادى لى وليا فقد آذنته بالحرب. ثم بشّر المتوجهين الذين يؤذون فى جانبه ، بأن لقاءه حاصل لهم إن صبروا ، وهو الوصول إلى حضرته ، والتنعم بقربه ومشاهدته ، جزاء على صبرهم ومجاهدتهم ، وهو الغنى بالإطلاق.(4/287)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 288
ثم حذّر من طاعة من يرد عن التوحيد والإخلاص ، فقال :
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 8 الى 9]
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (9)
قلت : «وصى» : حكمه حكم «أمر» ، يقال : وصيت زيدا بأن يفعل خيرا ، كما تقول : أمرته بأن يفعل خيرا ، ومنه :
وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ «1» ، أي : أمرهم بكلمة التوحيد ووصاهم عليها.
يقول الحق جل جلاله : وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ أمرناه بإيتاء والديه حُسْناً أي : فعلا ذا حسن ، أو : ما هو فى ذاته حسن لفرط حسنه ، كقوله : وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً «2» أو : وصينا الإنسان بتعاهد والديه ، وقلنا له : أحسن بهما حسنا ، أو : أولهما حسنا. وَإِنْ جاهَداكَ أي : حملاك بالمجاهدة والجد لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ أي : لا علم لك بالإلهية ، والمراد نفي العلم نفى المعلوم ، وكأنه قيل : لتشرك بي شيئا لا يصح أن يكون إلها ، وقيل : ما ليس لك به حجة لأنها طريق العلم ، فهو قوله : لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ «3» ، بل هو باطل عقلا ونقلا ، فَلا تُطِعْهُما فى ذلك إذ لا طاعة لمخلوق فى معصية الخالق.
إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ ، من آمن منكم ومن أشرك ، فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فأجازيكم حق جزائكم. وفى ذكر المرجع والوعيد تحذير من متابعتهما على الشرك ، وحث على الثبات والاستقامة فى الدين. روى أن سعد بن أبى وقاص لما أسلم ، نذرت أمه ألا تأكل ولا تشرب حتى يرتد ، فشكى إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فنزلت هذه الآية والتي فى لقمان «4».
وَالَّذِينَ آمَنُوا ثبتوا على الإيمان وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ أي : فى جملتهم ، والصلاح من أبلغ صفة المؤمنين ، وهو متمنى الأنبياء ، فقال سليمان عليه السّلام : وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ «5». وقال يوسف عليه السّلام : تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ «6» أو : فى مدخل الصالحين ، وهو الجنة.
___________
(1) من الآية 132 من سورة البقرة.
(2) من الآية 83 من سورة البقرة.
(3) من الآية 117 من سورة المؤمنون.
(4) أي : قوله تعالى : وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما الآية «15» ونزول الآية فى شأن سعد بن أبى وقاص رضي اللّه عنه ، أخرجه مسلم فى (فضائل الصحابة ، باب فى فضل سعد بن أبى وقاص ، 4/ 1877 ح 1748) وانظر أسباب النزول للواحدى (ص 350 - 351).
(5) من الآية 19 من سورة النمل.
(6) من الآية 101 من سورة يوسف. [.....](4/288)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 289
الإشارة : قد وصى اللّه تعالى بطاعة الوالدين فى كل شىء ، إلا فى شأن التوحيد والتخلص من الشرك الجلى والخفي ، فإن ظهر شيخ التربية ومنع الوالدان ولدهما من صحبته ، ليتطهر من شركه ، فلا يطعهما ، وسيأتى فى لقمان دليل ذلك ، إن شاء اللّه. وباللّه التوفيق.
ثم ذكر شأن من امتحن فافتضح ، فقال :
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 10 الى 11]
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ (10) وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ (11)
يقول الحق جل جلاله : وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ ، فيدخل فى جملة المسلمين ، فَإِذا أُوذِيَ فِي اللَّهِ أي : مسّه أذى من الكفرة بأن عذبوه على الإيمان ، جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللَّهِ أي : جزع من ذلك كما يجزع من عذاب اللّه ، فيصرف عن الإيمان. وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ فتح أو غنيمة ، لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أي : متابعين لكم فى دينكم ، ثابتين عليه بثباتكم ، فأعطونا نصيبا من المغنم. والمراد بهم : المنافقون ، أو : قوم ضعف إيمانهم فارتدوا. قال تعالى : أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ أي : هو أعلم بما فى صدور العالمين. ومن ذلك ما فى صدور هؤلاء من النفاق ، وما فى صدور المؤمنين من الإخلاص.
الإشارة : منافق أهل الإيمان هو الذي يظهر الإيمان فى الرخاء ويرجع عنه فى الشدة ، ومنافق الصوفية هو الذي يظهر الانتساب فى السعة والجمال ، فإذا وقع البلاء والاختبار بأهل النسبة خرج عنهم ، فإذا أوذى فى اللّه جعل فتنة الناس كعذاب اللّه بالقطيعة والحجاب ، ولئن جاء لأهل النسبة نصر وعز ، ليقولن : إنا كنا معكم. وقد رأينا كثيرا من هذا النوع ، دخلوا فى طريق القوم ، فلما قابلتهم نيران التعرف والامتحان رجعوا القهقرى ، فعند الامتحان يعز المرء أو يهان ، وعند الحملة يتميز الجبان من الشجاع.
قال القشيري : المحن تظهر جواهر الرجال ، وتدلّ على قيمتهم وأقدارهم. ثم من كانت محنته من فوات الدنيا ، أو نقص نصيبه فيها ، أو بموت قريب أو فقد حبيب ، فحقير قدره ، وكثير فى الناس مثله. ومن كانت محنته فى اللّه وللّه ، فعظيم قدره ، وقليل مثله ، فى العدد قليل ، ولكن فى القدر والخطر جليل. ه. قلت : معنى كلامه : أن(4/289)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 290
العامة يمتحنهم اللّه ويختبرهم بذهاب حظوظهم وأحبابهم ، فإن جزعوا فقدرهم حقير ، وإن صبروا فأجرهم كبير ، وأما الخاصة فيمتحنهم اللّه بسبب نسبتهم إلى اللّه ، وإقبالهم عليه ، أو الأمر بمعروف أو نهى عن منكر ، فيؤذون فى جانب اللّه ، فمنهم من يسجن ، ومنهم من يضرب ، ومنهم من يجلى من بلده ، فهؤلاء قدرهم عند اللّه كبير. ثم قال :
والمؤمن من يكفّ الأذى ، والولي من يتحمل من الناس الأذى ، من غير شكوى ، ولا إظهار دعوى. ه.
ولما وقعت الإذاية من الكفار للمسلمين طمعوا فيهم ، كما قال تعالى :
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 12 الى 13]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (12) وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ (13)
يقول الحق جل جلاله : وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا من صناديد قريش ، لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا الذي نسلكه ، وهو الدخول فى ديننا ، وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ إن كان ذلك خطيئة فى زعمكم. أمروهم باتباع سبيلهم ، وهى طريقتهم التي كانوا عليها ، وأمروا أنفسهم بحمل خطاياهم ، فعطف الأمر على الأمر ، وأرادوا ليجتمع هذان الأمران فى الحصول. والمعنى : تعليق الحمل بالاتباع ، أي : إن تتبعوا سبيلنا حملنا خطاياكم. وهذا قول صناديد قريش ، كانوا يقولون لمن آمن منهم : لا نبعث نحن ولا أنتم ، فإن كان ذلك فإنا نحمل عنكم الإثم.
قال تعالى : وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ أي : ما هم حاملين شيئا من أوزارهم ، إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ فيما ادعوا لأنهم قالوا ذلك وقلوبهم على خلافه ، كالكاذبين الذين يعدون الشيء وفى قلوبهم نية الخلف. وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ أي : أثقال أنفسهم بسبب كفرهم ، وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ أي : أثقالا أخر غير التي ضمنوا للمؤمنين حملها ، وهى أثقال الذين كانوا سببا فى ضلالهم ، كقولهم : لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ «1» ، وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ من الأكاذيب والأباطيل التي أضلوا بها.
الإشارة : كل من عاق الناس عن الدخول فى طريق التصفية والتخليص : تصدق عليه هذه الآية ، فيتقلد بحمل نقائصهم ومساوئهم التي بقيت فيهم ، فيحاسب عليها وعلى مساوئ نفسه. واللّه تعالى أعلم.
___________
(1) الآية 25 من سورة النحل.(4/290)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 291
ثم سلّى رسوله - عليه الصلاة والسلام - ومن أوذى معه ، بما جرى للأنبياء قبله ، فقال :
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 14 الى 15]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ وَهُمْ ظالِمُونَ (14) فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ (15)
يقول الحق جل جلاله : وَاللّه لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً يدعوهم إلى اللّه ، وهم يؤذونه بالشتم والضرب حتى نصر ، فاصبر كما صبر ، فإن العاقبة للمتقين.
روى أنه عاش ألفا وخمسين سنة ، وقيل : إنه ولد فى حياة آدم ، وآدم يومئذ ابن ألف سنة إلا ستين عاما. وقيل :
إلا أربعين. ذكره الفاسى فى الحاشية. والمشهور : أن بينه وبين آدم نحو العشرة آباء. وروى أنه بعث على رأس أربعين ، ولبث فى قومه تسعمائة وخمسين. وعاش بعد الطوفان ستين «1». وعن وهب : أنه عاش فى عمره ألفا وأربعمائة ، وقيل : وستمائة ، فقال له ملك الموت : يا أطول الأنبياء عمرا كيف وجدت الدنيا؟ قال : كدار لها بابان ، دخلت من أحدهما وخرجت من الآخر. ولم يقل : تسعمائة وخمسين سنة لأنه ، لو قيل ذلك ، لجاز أن يتوهم إطلاق هذا العدد على أكثره ، وهذا التوهم زائل هنا ، وكأنه قيل : تسعمائة وخمسين كاملة وافية العدد. مع أن ما ذكره الحق أسلس وأعذب لفظا ، ولأن القصة سيقت لذكر ما ابتلى به نوح عليه السّلام من أمته ، وما كابده من طول المصابرة تسلية لنبينا - عليه الصلاة والسلام - فكان ذكر الألف أفخم وأوصل إلى الغرض. وجيء ، أولا : بالسّنة ثم بالعام لأن تكرار لفظ واحد فى كلام واحد حقيق بالاجتناب فى البلاغة.
فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ طوفان الماء ، وهو ما طاف وأحاط ، بكثرة وغلبة ، من سيل ، أو ظلام ليل ، أو نحوها ، وَهُمْ ظالِمُونَ أنفسهم بالكفر والشرك ، فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ ، وكانوا ثمانية وسبعين نفسا ، نصفهم ذكور ، ونصفهم إناث ، أولاد نوح : سام ، وحام ، ويافث ، ونساؤهم ، ومن آمن من غيرهم ، وَجَعَلْناها أي :
السفينة ، أو الحادثة ، أو القصة ، آيَةً عبرة وعظة لِلْعالَمِينَ يتعظون بها.
الإشارة : كل ما سلّى به الأنبياء يسلّى به الأولياء ، فكل من أوذى فى اللّه ، أو لحقته شدة من شدائد الزمان ، فليعتبر بمن سلف قبله من الأكابر ، ويتسلى بهم ، ولينظر إلى لطف اللّه وبره وإحسانه ، فإن لطفه لا ينفعك عن قدره. قال الشيخ أبو الحسن الشاذلى رضي اللّه عنه : العارف هو الذي يغرق «2» إساءته فى إحسان اللّه إليه ، ويغرق «3» شدائد الزمان فى الألطاف الجارية من اللّه عليه فاذكروا آلاء اللّه لعلكم تفلحون.
___________
(1) انظر تفسير ابن كثير (3/ 407).
(2 ، 3) فى نسخة (يعرف) والمثبت من النسخة الأم.(4/291)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 292
ثم ذكر قصة إبراهيم ، فقال :
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 16 الى 18]
وَإِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (16) إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (17) وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (18)
قلت : (إبراهيم) : عطف على (نوح) ، أو متعلق باذكر ، و(و إذ قال) : ظرف زمان لأرسلنا ، أو : بدل اشتمال من (إبراهيم) إن نصب باذكر لأن الأحيان تشتمل على ما فيها.
يقول الحق جل جلاله : وَإِبْراهِيمَ أي : وأرسلنا إبراهيم إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أي : أرسلناه حين كمل عقله وتم نظره ، وبلغ من السن والعلم مبلغا صلح فيه لأن يعظ قومه ، ويأمرهم بالعبادة والتقوى. وقرأ النخعي وأبو حنيفة : بالرفع. أي : ومن المرسلين إبراهيم ، قال فى وعظه : اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ، ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ مما أنتم عليه من الكفر ، إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ إن كان فيكم علم بما هو خير لكم مما هو شر لكم.
إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً أصناما وَتَخْلُقُونَ : تختلقون وتكذبون ، أو تصنعون أصناما بأيديكم تسمونها آلهة. وقرأ أبو حنيفة والسّلمى : «وتخلّقون» بالكسر والشد. من خلّق للمبالغة. إِفْكاً : وقرئ «أفكا» بفتح الهمزة «1» ، وهو مصدر ، نحو كذب ولعب. واختلاقهم الإفك : تسميتهم الأوثان آلهة وشركاء للّه.
إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً : لا يستطيعون أن يرزقوكم شيئا من الرزق ، فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ كلّه فإنه هو الرزاق وحده ، لا يرزق غيره. وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ أي :
متوسلين إلى مطالبكم بعبادته ، مقيدين لما خصكم به من النعم بشكره ، إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ، فاستعدوا للقائه بعبادته والشكر له على أنعمه ، وَإِنْ تُكَذِّبُوا أي : تكذبونى فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ رسلهم ، وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ الذي يزول معه الشك. والمعنى : وإن تكذبونى فلا تضروننى بتكذيبكم فإن الرسل قبلى قد كذبتهم أممهم ، وما ضروهم ، وإنما ضروا أنفسهم ، حيث حلّ بهم العذاب. وأما الرسول فقد أدى ما
___________
(1) فى الأصول [بفتح الفاء]. وانظر : البحر المحيط (7/ 141). فقد قال أبو حيان : «قرأ ابن الزبير وفضيل بن زرقان. (أفكا) بفتح الهمزة وكسر الفاء ، وهو مصدر مثل الكذب».(4/292)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 293
عليه حين بلغ البلاغ المبين ، الذي لم يبق معه شك ، حيث اقترن بآيات اللّه ومعجزاته. أو : وإن كنت مكذّبا فيما بينكم ، فلى فى سائر الأنبياء أسوة ، حيث كذّبوا ، وعلى الرسول أن يبلّغ ، وما عليه أن يصدّق ولا يكذّب.
وهذه الآية من قوله : وَإِنْ تُكَذِّبُوا إلى قوله : فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ : يحتمل أن تكون من جملة قول إبراهيم عليه السّلام لقومه ، والمراد بالأمم قبله : قوم شيث وإدريس ونوح وغيرهم ، وأن تكون من كلام اللّه فى شأن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وشأن قريش ، معترضة بين أول قصة إبراهيم وآخرها. فإن قلت : الجمل الاعتراضية لا بد لها من اتصال بما وقعت معترضة فيه ، فلا تقول : مكة ، وزيد قائم ، خير بلاد اللّه؟ قلت : قد وقع الاتصال ، وبيانه : أن إيراد قصة إبراهيم عليه السّلام إنما هو تسلية لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بأن أباه إبراهيم كان مبتلى بنحو ما ابتلى به من شرك قومه ، وعبادتهم الأوثان ، فاعترض بقوله : وَإِنْ تُكَذِّبُوا يا معشر قريش محمدا ، فقد كذب إبراهيم قومه ، وكل أمة كذبت نبيها لأن قوله : فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ لا بد من تناوله لأمة إبراهيم ، وهو كما ترى اعتراض متصل ، ثم سائر الآيات بعدها من توابعها لكونها ناطقة بالتوحيد ودلائله ، وهدم الشرك ، وتوهين قواعده ، وصفة قدرة اللّه وسلطانه ، ووضوح صحته وبرهانه. قاله النسفي.
قال ابن جزى : وَإِنْ تُكَذِّبُوا يحتمل أن يكون وعيدا للكفار وتهديدا لهم ، أو يراد به تسلية النبي عن تكذيب قومه ، بالتأسى بغيره من الأنبياء الذين كذّبهم قومهم. ه.
الإشارة : قوله تعالى : فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ : قال سهل رضي اللّه عنه : معناه : اطلبوا الرزق فى التوكل ، لا فى الكسب ، فإن طلبه بالكسب سبيل العوام. وقال ابن عطاء اللّه : اطلبوا الرزق فى الطاعة والإقبال على العبادة. وقال القشيري : وقدّم ابتغاء الرزق لتوقف القيام بالعبادة عليه ، ثم أمر بالشكر على الكفاية. ه.
ثم أمرهم بالاعتبار ، فقال :
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 19 الى 23]
أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (19) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20) يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (21) وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (22) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ وَلِقائِهِ أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (23)(4/293)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 294
قلت : يقال : بدأ اللّه الخلق ، وأبداه : بمعنى واحد ، وقد جاءت اللغتان فى هذه السورة. وقوله : (يعيده) : عطف على الجملة ، لا على (يبدئ) لأن رؤية البداءة بالمشاهدة بخلاف الإعادة ، فإنها تعلم بالنظر والاستدلال ، وهم لا يقرونها لعدم النظر. وقد قيل : إنه يريد إعادة النبات وإبداءه ، وعلى هذا تكون (ثم يعيده) : عطفا على (يبدئ).
يقول الحق جل جلاله : أَوَلَمْ يَرَوْا أي : كفار قريش كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ أي : يظهره من العدم ، أي : قد رأوا ذلك وعلموه ، ثُمَّ يُعِيدُهُ بالبعث للجزاء بالعذاب والثواب.
قال القشيري : الذي داخلهم فيه الشكّ هو بعث الخلق ، فاحتجّ عليهم بما أراهم من فصول السنة بعد نقضها ، وإعادتها على الوجه الذي كان فى العام الماضي. وكما أن ذلك سائغ فى قدرته ، كذلك بعث الخلق. ه. ونحوه لابن عطية وغيره. كما هو مشهود فى الثمار ، من كونها تبدأ ، فتجنى ، ثم تفنى ، ثم تعيدها مرة أخرى. وكذلك يبدئ خلق الإنسان ، ثم يهلكه بعد أن خلق منه ولدا ، وخلق من الولد ولدا آخر ، وكذا سائر الحيوان. وهذا يرشح صحة عطف «يعيد» على «يبدئ». إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ أي : الإعادة بعد الإفناء يسيرة على قدرة اللّه تعالى.
قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ أي : قل يا محمد ، وإن كان من كلام إبراهيم فتقديره : وأوحينا إليه أن قل : سيروا فى الأرض ، فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ على كثرتهم ، واختلاف أحوالهم وألسنتهم وألوانهم وطبائعهم ، وتفاوت هيئاتهم ، لتعرفوا عجائب قدرة اللّه بالمشاهدة ، ويقوى إيمانكم بالبعث ، وهو قوله : ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ أي : البعث ، وهذا دليل على أنهما نشأتان : نشأة الاختراع ونشأة الإعادة ، غير أن الآخرة إنشاء بعد إنشاء ، والأولى ليست كذلك. والقياس أن يقال : كيف بدأ اللّه الخلق ثم ينشئ النشأة الآخرة ، وإنما عدل عنه لأن الكلام معهم وقع فى الإعادة ، فلما قررهم فى الإبداء ، بأنه من اللّه ، احتج بأن الإعادة إنشاء مثل الإبداء ، فإذا لم يعجزه الإبداء وجب ألا يعجزه الإعادة ، فكأنه قال : ثم ذلك الذي أنشأ النشأة الأولى هو الذي ينشئ النشأة الآخرة ، فللتنبيه على هذا أبرز اسمه وأوقعه مبتدأ. قاله النسفي.
إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فلا يعجزه شىء. يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ بعدله ، وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ بفضله ، أو : يعذب من يشاء بالخذلان ، ويرحم بالهداية للإيمان ، أو : يعذب من يشاء بالحرص ، ويرحم من يشاء بالقناعة ، أو : يعذب بالتدبير والاختيار ، ويرحم بالرضا والتسليم لمجارى الأقدار ، أو : يعذب بالإعراض عنه ، ويرحم(4/294)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 295
بالإقبال عليه ، أو : بالاستتار والتجلي ، أو : بالقبض والبسط ، أو : بالمجاهدة والمشاهدة ، إلى غير ذلك. وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ تردون للحساب والعقاب.
وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ أي : بفائتين ربكم إن هربتم من حكمه وقضائه ، فِي الْأَرْضِ الفسيحة ، وَلا فِي السَّماءِ التي هى أفسح منها وأبسط ، لو كنتم فيها. وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ يتولى أموركم ، وَلا نَصِيرٍ ولا ناصر يمنعكم من عذابه. وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ بدلائله على وحدانيته ، أو كتبه ، أو معجزاته ، وَلِقائِهِ وكفروا بلقائه ، أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي جنتى ، وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ موجع. وباللّه التوفيق.
الإشارة : أو لم ير أهل فكرة الاستبصار كيف يظهر الحقّ تجلياته من عالم الغيب إلى عالم الشهادة ، ثم يبطنها ، فيردها لأصلها من اللطافة ، ثم ينشئها النشأة الثانية ، تكون معانيها أظهر من حسها ، وقدرتها أظهر من حكمتها ، فليس عند أهل التوحيد الخاص شىء يفنى ، وإنما يبطن ما ظهر ، ويظهر ما بطن ، ولا زائد على أسرار الذات وأنوار الصفات. وهذا أمر لا يدركه إلا أفراد الرجال بصحبة أكابر الرجال ، وهو لب العلم ، وخالصة طريقة ذكر اللّه ، والتفرغ عن كل ما يشغل عن اللّه ، بعد قتل النفوس وحط الرؤوس وبذل الفلوس.
وباللّه التوفيق.
ثم ذكر جواب قوم إبراهيم ، فقال :
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 24 الى 25]
فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (24) وَقالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ (25)
قلت : مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ : من نصبها : فله وجهان أحدهما : على التعليل ، أي : لتوادوا بينكم ، والمفعول الثاني محذوف ، أي : اتخذتم أوثانا آلهة. والثاني : على المفعول الثاني لاتخذتم ، كقوله : اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ «1». و(ما) :
كافة ، أي : اتخذتم الأوثان سبب المودّة ، على حذف مضاف ، أو : اتخذتموها مودودة بينكم. و(بينكم) : نصب على
___________
(1) من الآية 43 من سورة الفرقان.(4/295)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 296
الظرفية نعت لمودة ، أي : حاصلة بينكم. ومن رفع : فله وجهان إما خبر إن ، و(ما) موصولة ، أو : عن مبتدأ محذوف ، أي : هى مودة بينكم ، و(بينكم) : مضاف إليه ما قبله.
يقول الحق جل جلاله : فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ قوم إبراهيم حين دعاهم إلى اللّه إِلَّا أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ ، قاله بعضهم لبعض ، أو : قاله واحد منهم ، وكان الباقون راضين ، فكانوا جميعا فى حكم القائلين. فاتفقوا على تحريقه ، فَأَنْجاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ حين قذفوه فيها بأن جعلها بردا وسلاما. وتقدم فى الأنبياء تمام القصة.
إِنَّ فِي ذلِكَ فيما فعلوه به وفعلناه لَآياتٍ دالة على عظم قدرته لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ لأنهم المنتفعون بالفحص عنها والتأمل فيها. روى أنه لم ينتفع بها فى تلك الأيام أحد لذهاب حرها لأن كل نار سمعت الخطاب فامتثلت.
وَقالَ إبراهيم لقومه : إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً أصناما آلهة مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا أي : لتوادوا بينكم فى الحياة الدنيا ، وتواصلوا لاجتماعكم على عبادتها ، واتفاقكم عليها ، كما تنفق الناس على مذهب أو طريق ، فيكون ذلك سبب تحابهم. أو : إنما اتخذتم الأوثان سبب المودة ، أو اتخذتموها مودودة ومحبوبة بينكم ، أو : إن التي اتخذتموها أوثانا تعبدونها هى مودة بينكم فى الدنيا ، ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ أي : تتبرأ الأصنام من عابديها كقوله : يَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا «1» ، أو : ينكر بعضكم بعضا ، ويقع بينكم التباغض كقوله : الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ «2». وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً ، فتلعن الأتباع الرؤساء وَمَأْواكُمُ النَّارُ أي : مأوى العابد والمعبود والتابع والمتبوع. وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ يحصنونكم منها.
الإشارة : الإنكار على أهل الخصوصية سنّة اللّه فى خلقه ، فلا يأنف منها إلا جاهل ، والاجتماع على التودد على غير ذكر اللّه ومحبته وما يقرب إليه ، كله يؤدى إلى التباغض والتلاعن يوم القيامة الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ ، وهم المتحابون فى اللّه ، المجتمعون على ذكر اللّه والعلم به. واللّه تعالى أعلم.
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 26 الى 27]
فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (26) وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (27)
___________
(1) من الآية 82 من سورة مريم.
(2) الآية 67 من سورة الزخرف.(4/296)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 297
يقول الحق جل جلاله : فَآمَنَ لإبراهيم ، أي : انقاد لَهُ لُوطٌ ، وكان ابن أخيه ، وأول من آمن به حين رأى النار لم تحرقه. وَقالَ إبراهيم : إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي إلى حيث أمرنى ربى بالهجرة ، وهو الشام ، فخرج من «كوثى» ، وهى من سواد الكوفة ، إلى حرّان ، ثم منها إلى فلسطين «1» ، وهى من برية الشام ، ونزل لوط بسدوم ، ومن ثمّ قالوا : لكل نبى هجرة ، ولإبراهيم هجرتان. وكان معه ، فى هجرته ، لوط وسارة زوجته.
وقيل : القائل : إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي هو لوط ، فأول من هاجر من الأنبياء إبراهيم ولوط. وذكر البيهقي : أن أول من هاجر منا فى الإسلام بأهله : عثمان. ورفع الحديث إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وأنه قال : إن عثمان لأول من هاجر بأهله بعد لوط. ه. يعنى : الهجرة إلى الحبشة. وكانت - فيما ذكر الواقدي - سنة خمس من البعثة ، وأما الهجرة إلى المدينة ففى البخاري عن البراء : أول من قدم المدينة من الصحابة مهاجرا ، مصعب بن عمير ، وابن أم مكتوم ، ثم جاء عمّار ، وبلال ، وسعد ، ثم جاء عمر بن الخطاب فى عشرين ، ثم جاء النبي صلى اللّه عليه وسلم «2» ، .
إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الذي يمنعنى من أعدائى ، الْحَكِيمُ الذي لا يأمرنى إلا بما هو خير لى.
وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ ولدا ، وَيَعْقُوبَ ولد ولد ، ولم يذكر إسماعيل لشهرته ، أو : لأن إسحاق ولد بعد اليأس من عجوز عاقر ، فعظمت المنة به. وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ أي : فى ذرية إبراهيم ، فإنه شجرة الأنبياء ، وَالْكِتابَ يريد به الجنس ليتناول التوراة والإنجيل والزبور والفرقان. وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا أي : الثناء الحسن ، والصلاة عليه آخر الدهر ، ومحبة أهل الملل له ، أو : هو بقاء ضيافته عند قبره ، وليس ذلك لغيره ، أو : المال الحلال ، واللفظ عام. وفيه دليل على أن اللّه تعالى قد يعجل لأوليائه بعض الأجر فى الدنيا ، ولا يخل بعلو منصبهم. وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ لحضرتنا ، والسكنى فى جوارنا. أسكننا اللّه معهم فى فسيح الجنان. آمين.
الإشارة : الهجرة سنّة الخواص ، وهى على قسمين : هجرة حسية ، وهجرة معنوية ، فالحسية هى هجرة العبد من وطن تكثر فيه الغفلة والعوائق عن اللّه ، أو الإذاية والإنكار ، إلى وطن يجد فيه اليقظة وقلة العوائق. والهجرة المعنوية : هى هجرة القلب من وطن المعصية إلى وطن التوبة ، ومن وطن الغفلة إلى وطن اليقظة ، ومن وطن الحرص إلى وطن الزهد والقناعة ، ومن وطن الحظوظ والشهوات إلى وطن العفة والحرية ، ومن وطن الشواغل إلى وطن التفرغ ، ومن وطن رؤية الحس إلى رؤية المعاني ، وهذه نهاية الهجرة.
___________
(1) انظر تفسير البغوي (6/ 238).
(2) أخرجه البخاري فى (مناقب الأنصار ، باب مقدم النبي صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه المدينة ، ح 3925) من حديث البراء بن عازب - رضي اللّه عنه.(4/297)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 298
قال القشيري : لا تصحّ الهجرة إلى اللّه إلا بالتبرّى بالقلب عن غير اللّه ، والهجرة بالنفس يسيرة بالنسبة إلى الهجرة بالقلب ، وهى هجرة الخواص ، وهى الهجرة عن أوطان التفرقة إلى ساحة الجمع ، والجمع بين التعريج فى أوطان التفرقة والكون فى مشاهدة الجمع متناف. ه. وقال فى قوله تعالى : وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ أي :
للدنوّ والقربة والتخصيص بالزلفة. ه.
ثم ذكر قصة لوط ، فقال :
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 28 الى 35]
وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ (28) أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا ائْتِنا بِعَذابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (29) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (30) وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ (31) قالَ إِنَّ فِيها لُوطاً قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (32)
وَلَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالُوا لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلاَّ امْرَأَتَكَ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (33) إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (34) وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (35)
يقول الحق جل جلاله : وَاذكر لُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ أي : الفعلة البالغة فى القبح ، وهى اللواطة ، ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ : جملة مستأنفة مقررة لفحش تلك الفعلة ، كأن قائلا قال : لم كانت فاحشة؟ فقال : لأن أحدا ممن قبلهم لم يقدم عليها ، قالوا : لم ينز ذكر على ذكر قبل قوم لوط.
أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ أي : تتعرضون للسابلة بالقتل وأخذ المال ، كما هو شأن قطاع الطريق ، وقيل : اعتراضهم السابلة لقصد الفاحشة ، وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ فى مجالسكم الغاصة بأهلها ، ولا يقال(4/298)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 299
للمجلس : ناد ، إلا مادام فيه أهله ، الْمُنْكَرَ فعلهم الفاحشة بالرجال ، أو : المضارطة ، أو : السباب والفحش فى المزاح ، أو : الحذف بالحصى ، أو : مضغ العلك ، أو الفرقعة.
وعن أم هانئ - رضى اللّه عنها - أنها سألت النبي صلى اللّه عليه وسلم عن قوله : وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ؟ فقال : «كانوا يحذفون من يمّر بهم الطريق ، ويسخرون منهم»»
. وقال معاوية : قال النبي صلى اللّه عليه وسلم : «إن قوم لوط كانوا يجلسون فى مجالسهم ، وعند كل رجل قصعة من الحصى ، فإذا مر بهم عابر قذفوه ، فأيهم أصابه كان أولى به» «2».
فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا ائْتِنا بِعَذابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ فيما تعدنا من نزول العذاب ، أو فى دعوى النبوة ، المفهومة من التوبيخ ، قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بإنزال العذاب عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ بابتداع الفاحشة وحمل الناس عليها ، وسنّها لمن بعدهم. وصفهم بذلك مبالغة فى استنزال العذاب ، وإشعارا بأنهم أحقاء بأن يعجل لهم العذاب.
وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى ، جاءت الملائكة بالبشارة لإبراهيم بالولد ، والنافلة إسحاق ، ويعقوب ، أي : مروا عليه ، حين كانوا قاصدين قوم لوط ، قالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ سدوم ، والإشارة بهذه القرية تشعر بأنها قريبة من موضع إبراهيم عليه السّلام ، قالوا : إنها كانت على مسيرة يوم وليلة من موضع إبراهيم ، قاله النسفي. إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ ، تعليل للإهلاك ، أي : إن الظلم قد استمر منهم فى الأيام السالفة ، وهم عليه مصرّون ، وهو كفرهم وأنواع معاصيهم. قالَ إبراهيم : إِنَّ فِيها لُوطاً أي : أتهلكونهم وفيهم من هو برىء من الظلم ، أو : وفيهم نبى بين أظهرهم؟ قالُوا أي : الملائكة : نَحْنُ أَعْلَمُ منك بِمَنْ فِيها ، لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ الباقين فى العذاب.
ثم أخبر عن مسير الملائكة إلى لوط بعد مفارقتهم إبراهيم ، فقال : وَلَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ أي : ساءه مجيئهم وغمه ، مخافة أن يقصدهم قومه بسوء. و«أن» : صلة لتأكيد الفعلين ، وترتيب أحدهما على الآخر ، كأنهما وجدا فى جزء واحد من الزمان ، كأنه قيل : لمّا أحس بمجيئهم فاجأته المساءة من غير ترتيب.
وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً أي : ضاق بشأنهم وتدبير أمرهم ذرعه وطاقته ، وقد جعلوا ضيق الذرع والذراع عبارة عن
___________
(1) أخرجه أحمد فى المسند (6/ 341) ، والترمذي وحسّنه فى (التفسير ، سورة العنكبوت ، 5/ 319 ، ح 3190) ، وصححه الحاكم (2/ 409) ، ووافقه الذهبي. وأخرجه الطبري (20/ 145) ، والبغوي فى التفسير (6/ 239).
(2) انظر تفسير البغوي (6/ 240).(4/299)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 300
فقد الطاقة ، كما قالوا : رحب الذراع ، إذا كان مطيقا للأمور ، والأصل فيه : أن الرجل إذا طالت ذراعه نال ما لا يناله القصير ، فاستعير للطاقة والقوة وعدمها.
وَقالُوا ، لمّا رأوا فيه أثر الضجر والخوف : لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ على تمكنهم منا ، إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ أي : وننجى أهلك ، فالكاف فى محل الجر ، و«أهلك» : نصب بفعل محذوف ، إِلَّا امْرَأَتَكَ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ. فى الكلام حذف يدل عليه ما فى هود «1» ، أي : لا تخف ولا تحزن من أجلنا ، إنهم لن يصلوا إليك ونحن عندك ، بل يهلكون جميعا ، وأما أنت فإنا منجوك .. إلخ لأن خوفه إنما كان عليهم لا على نفسه. أو يقدر : إنا منجوك وأهلك بعد هلاكهم. ثم قالوا : إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً عذابا مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ بسبب فسقهم.
وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها من القرية آيَةً بَيِّنَةً ، هى حكايتها الشائعة ، أو آثار منازلهم الخربة ، وقيل : الماء الأسود على وجه الأرض ، حيث بقيت أنهارهم مسودة ، وقيل : الحجارة المسطورة ، فإنها بقيت بعدهم آية لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ يستعملون عقولهم فى الاعتبار والاستبصار. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : قوله تعالى : وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ قال القشيري : من جملة المنكر : تخلية الفسّاق مع فسقهم ، وترك القبض على أيديهم ، ومن ذلك : ترك الاحتشام للشيوخ والأكابر. ه. وقال فى قوله تعالى : إِنَّ فِيها لُوطاً ، لما أخبروه بمقصدهم من إهلاك قوم لوط ، تكلم فى شأن لوط ، إلى أن قالوا : لَنُنَجِّيَنَّهُ .. إلخ ، فدلّ ذلك على أن اللّه تعالى لو أراد إهلاك لوط ، ولو كان بريئا ، لم يكن ظلما ، لو كان ذلك قبيحا لما كان إبراهيم - مع وفر علمه - يشكل عليه ، حتى كان يجادل عنه ، بل للّه أن يعذّب من يعذّب ويعافى ، من يعافى بلا حجر ه.
قال شيخ شيوخنا الفاسى فى حاشيته : وما ذكره واضح من حيث العقيدة ، وإن كانت الآية ، وقول إبراهيم يحتمل أن يكون من نوع قوله تعالى : وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ «2». والمعنى الأول معلوم من قوله تعالى :
قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ «3» الآية. ه. قلت : ظاهر قوله تعالى : يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ «4» أن مجادلته كانت عن قومه فقط لغلبة الشفقة عليه ، كما هو شأنه ، ولذلك
___________
(1) فى قوله تعالى : قالُوا يا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ .. الآية 81.
(2) من الآية 33 من سورة الأنفال.
(3) الآية 17 من سورة المائدة. [.....]
(4) من الآية 74 من سورة هود.(4/300)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 301
قال تعالى : إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ ... حتى قال له تعالى : يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا «1» لمّا تحتّم عليهم العذاب ، فتأمله.
ثم ذكر قصة شعيب ، فقال
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 36 الى 37]
وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (36) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (37)
يقول الحق جل جلاله : وَأرسلنا إِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً ، فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وحده ، وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ أي : خافوه ، واعملوا ما ترجون به الثواب فيه ، وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ قاصدين الفساد ، فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ الزلزلة الشديدة ، أو : الصيحة من جبريل عليه السّلام لأن القلوب رجفت بها ، فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ بلدهم وأرضهم ، جاثِمِينَ باركين على الركب ميتين.
الإشارة : العبادة مع الغفلة عن العواقب الغيبية المستقبلة ، لا جدوى لها ، كأنها عادة ، وخوف العواقب ، من غير استعداد لها ، خذلان ، والاجتهاد فى العمل ، مع ارتقاب العواقب الغيبية ، فلاح ، من شأن أهل البصائر ، كما قال تعالى فى حق من مدحهم من أكابر الرسل : أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ «2».
ثم ذكر قوم هود وصالح وموسى - عليهم السلام - فقال :
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 38 الى 40]
وَعاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (38) وَقارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهامانَ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَما كانُوا سابِقِينَ (39) فَكُلاًّ أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا وَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (40)
___________
(1) الآيتان : 75 - 76 من سورة هود.
(2) الآيتان : 45 - 46 من سورة «ص».(4/301)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 302
يقول الحق جل جلاله : وَعاداً وَثَمُودَ أي : اذكر عادا وثمودا ، أو أهلكنا عادا ، وثمودا ، يدل عليه فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ لأنه فى معنى الإهلاك ، وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ ما وصفنا من إهلاكهم مِنْ مَساكِنِهِمْ الدارسة. أو تبين لكم بعض مساكنهم الخربة إذا مررتم بها خالية. وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ من الكفر والمعاصي ، فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ عن الطريق الذي أمروا بسلوكه ، وهو الإيمان باللّه ورسوله. وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ متمكنين من النظر والاستبصار وتمييز الحق من الباطل ، ولكنهم لم يفعلوا. أو عارفين الحق من الباطل بظهور دلائله ، لكنهم عاندوا ، حسدا. يقال : استبصر : إذا عرف الشيء على حقيقته. أو : متيقنين أن العذاب لا حق بهم بإخبار الرسول ، لكنهم لجّوا. أو : مستبصرين فى ضلالتهم معجبين بها.
وقال الفراء : عقلاء ذوو بصائر ، يعنى : علماء فى أمور الدنيا ، كقوله : يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا ... «1»
الآية. وقال مجاهد : حسبوا أنهم على الحق ، وهم على الباطل. ه.
وَقارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهامانَ ، أي : أهلكناهم ، وَلَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَما كانُوا سابِقِينَ فائتين ، بل أدركهم أمر اللّه فلم يفوتوه. يقال : سبق طالبه : فاته ، فَكُلًّا أَخَذْنا عاقبناه بِذَنْبِهِ ، فيه رد على من يجوز العقوبة بغير ذنب. قاله النسفي ، وهو جائز عقلا فى حقه تعالى ، لكنه لم يقع لإظهار عدله. فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً أي : ريحا عاصفة فيها حصباء أو : ملكا رماهم بها.
قال ابن جزى : فيحتمل عندى أنه أراد به المعنيين لأن قوم لوط هلكوا بالحجارة ، وعادا هلكوا بالريح. وإن حملناه على المعنى الواحد نقض ذكر الآخر ، وقد أجاز كثير من الناس استعمال اللفظ الواحد فى معنيين ، ويقوى ذلك أن المقصود عموم أصناف الكفار. ه.
وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ كمدين وثمود ، وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ كقارون ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا كقوم نوح ، وفرعون وقومه ، وَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ فيعاقبهم بغير ذنب إذ ليس ذلك من عادته - عز وجل - ، وإن جاز فى حقه ، وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ بالتعرض للعذاب بالكفر والطغيان ، وباللّه التوفيق.
___________
(1) الآية 7 من سورة الروم.(4/302)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 303
الإشارة : الاستبصار فى أمور الدنيا ، والتحديق فى تدبير شؤونها ، حمق وبطالة «1» ، وقد وسم به الحق تعالى الكفرة بقوله : وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ ، والاستبصار فى أمور اللّه تعالى وما يقرب إليه وما يبعد عنه ، والفحص عن ذلك ، والتفكر فى عواقب الأمور من شأن العقلاء الأكياس ، قال صلى اللّه عليه وسلم «ألا وإن من علامات العقل :
التجافي عن دار الغرور ، والإنابة إلى دار الخلود ، والتزود لسكنى القبور ، والتأهب ليوم النشور» ، وقال أيضا صلى اللّه عليه وسلم :
«الكيّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والأحمق من أتبع نفسه هواها ، وتمنّى على اللّه الأمانى» «2» ، وقيل للجنيد رضي اللّه عنه : متى يكون الرجل موصوفا بالعقل؟ فقال : إذا كان للأمور متميزا ، ولها متصفحا ، وعما يوجبه عليه العقل باحثا ، فيتخير بذلك طلب الذي هو أولى ليعمل به ، ويؤثره على ما سواه. ثم قال : فمن كانت هذه صفته ترك العمل بما يفنى وينقضى ، وذلك صفة كل ما حوت عليه الدنيا ، وكذلك لا يرضى أن يشغل نفسه بقليل زائل ، ويسير حائل ، يصده التشاغل به ، والعمل له ، عن أمور الآخرة ، التي يدوم نعيمها ونفعها ، ويتأبد سرورها ، ويتصل بقاؤها .. إلخ كلامه.
وقد ضرب اللّه مثلا لمن ركن إلى غير اللّه ، فقال :
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 41 الى 44]
مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (41) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (42) وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلاَّ الْعالِمُونَ (43) خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (44)
___________
(1) الاستبصار فى أمور الدنيا فرض لازم للأمة .. ينبغى أن تتعاون الأمة لإقامته فى كل أمر من أمور الدنيا ، وشأن من شئونها ، وعلى العاقل - ما لم يكن مغلوبا على عقله - أن يكون بصيرا بزمانه ، مقبلا على شأنه.
(2) أخرجه بنحوه الترمذي وحسّنه فى (صفة القيامة والرقائق ، باب 25 ح 2/ 1423 ح 4260) ، وابن ماجة فى (الزهد ، باب ذكر الموت والاستعداد له ، 2/ 1423 ح 4260) من حديث شداد بن أوس.(4/303)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 304
يقول الحق جل جلاله : مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ أصناما يعبدونها ، أي : مثل من أشرك باللّه الأوثان فى الضعف ، وسوء الاختيار ، كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً ، أي : كمثل العنكبوت فيما تتخذه لنفسها من بيت فإنه لا يدفع الحر والبرد ، ولا يقى ما تقى البيوت ، فكذلك الأوثان ، لا تنفعهم فى الدنيا والآخرة ، بل هى أو هى وأضعف ، فإن لبيت العنكبوت حقيقة وانتفاعا عاما ، وأما الأوثان فتضر ولا تنفع ، وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ أي : أضعفها لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لا بيت أوهن من بيته إذ أضعف شىء يسقطها. عن عليّ رضي اللّه عنه : «طهروا بيوتكم من نسج العنكبوت ، فإن تركه يورث الفقر».
والعنكبوت يقع على الواحد والجمع ، والمذكر والمؤنث ، ويجمع على عناكيب وعناكب وعكاب وعكبة وأعكب.
لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ لعلموا أن هذا مثلهم ، وأنّ ما تمسكوا به من الدين أرق من بيت العنكبوت. وقال الزجاج :
تقدير الآية : مثل الدين اتخذوا من دون اللّه أولياء ، لو كانوا يعلمون ، كمثل العنكبوت. وقيل : معنى الآية : مثل المشرك يعبد الوثن ، بالقياس إلى المؤمن الذي يعبد اللّه ، مثل عنكبوت تتخذ بيتا بالإضافة إلى رجل بنى بيتا بآجرّ وجص ، أو جص وصخور ، فكما أن أوهن البيوت ، إذا استقرأتها بيتا بيتا ، بيت العنكبوت ، كذلك أضعف الأديان ، إذا تتبعتها دينا دينا ، عبادة الأوثان.
وقال الضحاك : ضرب مثلا لضعف آلهتهم ووهنها ، فلو علموا أن عبادة الأوثان ، فى عدم الغنى ، كما ذكرنا فى المثل ، لما عبدوها ، ولكنهم لا يعلمون ، بل اللّه يعلم ضعف ما تعبدون من دونه وعجزه ، ولذلك قال : إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ «1» مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ ، أي : يعلم حاله ، وصفته ، وحقيقته ، وعدم صلاحيته لما تؤملونه منه ، فما :
موصولة ، مفعول «يعلم» ، وهى تامة ، أي : يتعلق علمه بجميع ما يعبدونه من دونه ، أىّ شىء كان. أو ناقصة ، والثاني محذوف ، أي : يعلمه وهيا وباطلا. وقيل : استفهامية معلقة ، وأما كونها نافية فضعيف ، و«من» ، الثانية للبيان ، ومن قرأ بالخطاب فعلى حذف القول ، أي : ويقال للكفرة : إن اللّه يعلم ما تعبدونه من دونه من جميع الأشياء ، أو : أىّ شىء كان.
وَهُوَ الْعَزِيزُ الغالب الذي لا شريك له ، الْحَكِيمُ فى ترك المعاجلة بالعقوبة ، وفيه تجهيل لهم ، حيث عبدوا جمادا لا علم له ولا قدرة ، وتركوا عبادة القادر القاهر على كل شىء ، الحكيم الذي لا يفعل إلا لحكمة وتدبير.
وَتِلْكَ الْأَمْثالُ الغربية ، أي : هذا المثل ونظائره نَضْرِبُها لِلنَّاسِ نبيّنها لم تقريبا لما بعد عن أفهامهم. كان سفهاء قريش وجهلتهم يقولون : إن رب محمد يضرب المثل بالذباب والعنكبوت ، ويضحكون من
___________
(1) قرأ أبو عمرو وعاصم ويعقوب : يدعون بياء الغيب. وقرأ الباقون بالخطاب. انظر : الإتحاف 2/ 351.(4/304)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 305
ذلك ، فلذلك قال تعالى : وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ ، أي : باللّه وصفاته وأسمائه ، وبمواقع كلامه وحكمه ، أي :
لا يعقل صحتها وحسنها ، ولا يفهم حكمتها ، إلا هم لأن الأمثال والتشبيهات إنما هى طرق إلى المعاني المستورة ، حتى يبرزها ويصورها للأفهام ، كما صور هذا التشبيه الذي بيّن فيه حال المشرك وحال المؤمن. وعن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه تلا هذه الآية ، وقال : «العالم : من عقل عن اللّه ، فعمل بطاعته ، واجتنب سخطه» «1» ، ودلّت هذه الآية على فضل العلم وأهله.
خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ أي : محقا ، لم يخلقها عبثا ، كما لم يضرب الأمثال عبثا ، بل خلقها لحكمة ، وهى أن تكون مساكن عباده ، وعبرة للمعتبرين منهم ، ودلائل على عظم قدرته ، بدليل قوله : إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ لأنهم هم المنتفعون بها. وقيل : بالحق : العدل ، وقيل : بكلامه وقدرته ، وذلك هو الحق الذي خلق به الأشياء. وخص السموات والأرض لأنها المشهودات. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : من اعتمد على غير اللّه ، أو مال بالمحبة إلى شىء سواه ، كان كمن اعتمد على خيط العنكبوت ، فعن قريب يذهب ويفوت ، يا من تعلق بمن يموت قد تمسّكت بأضعف من خيط العنكبوت.
تنبيه : الأشياء الحسية جعل اللّه فيها القوى والضعيف ، والعزيز والذليل ، والفقير والغنى لحكمة ، وأما أسرار المعاني القائمة بها فكلها قوية عزيزة غنية ، فالأشياء ، بهذا الاعتبار - أعنى : النظر لحسها ومعناها - كلها قوية فى ضعفها ، عزيزة فى ذلها ، غنية فى فقرها. ولذلك تجد الحق تعالى يدفع بأضعف شىء أقوى شىء ، وينصر بأذل شىء على أقوى شىء. روى أنه لما نزل قوله تعالى : وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ شكى العنكبوت إلى اللّه تعالى ، وقال : ربّ خلقتنى ضعيفا ، ووصفتني بالإهانة والضعف ، فأوحى اللّه تعالى إليه : انكسر قلبك من قولنا ، ونحن عند المنكسرة قلوبهم من أجلنا ، وقد صددنا بنسجك الضعيف صناديد قريش ، وأغنينا محمدا عن كل ركن كثيف ، فقال : يا رب حسبى أن خلقت فى ذلى عزتى ، وفى إهانتي قوتى. ه. ذكره فى اللباب.
ثم أمره بالاشتغال بالتلاوة والصلاة تسلية وغيبة عمن آذاه ، فقال :
[سورة العنكبوت (29) : آية 45]
اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ (45)
___________
(1) قال المناوى فى الفتح السماوي (2/ 896) : «رواه داود بن المحبر فى كتاب العقل ، ومن طريقه الحارث بن أبى أسامة فى مسنده ، والثعلبي ، والواحدي ، والبغوي - فى التفسير (6/ 243) - من حديث جابر. وأورده ابن الجوزي فى الموضوعات ، وكتاب العقل ، لداود ، كله موضوع ، وانظر أيضا : تنزيه الشريعة ، لابن عراق (1/ 214).(4/305)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 306
يقول الحق جل جلاله : اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ تنعّما بشهود أسرار معانيه ، وبشهود المتكلم به ، فتغيب عن كل ما سواه ، واستكشافا لحقائقه ، فإن القارئ المتأمل قد ينكشف له بالتكرار ما لم ينكشف له أول ما قرع سمعه. وقد كان من السلف من يبقى فى السورة يكررها أياما ، وفى الآية يرددها ليلة وأكثر ، كلما رددها ظهر له معان أخر.
وَأَقِمِ الصَّلاةَ أي : دم على إقامتها ، بإتقانها فعلا وحضورا وخشوعا ، إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ الفعلة القبيحة كالزنى ، والشرب ، ونحوهما ، وَالْمُنْكَرِ ، وهو ما ينكره الشرع والعقل. ولا شك أن الصلاة ، إذا صحبها الخشوع والهيبة فى الباطن ، والإتقان فى الظاهر ، نهت صاحبها عن المنكر ، لا محالة ، وإلا فلا.
روى أن فتى من الأنصار كان يصلى مع رسول اللّه الصلوات ، ولا يدع شيئا من الفواحش إلا ركبه ، فوصف حاله له صلى اللّه عليه وسلم فقال : «إن صلاته تنهاه» ، فلم يلبث أن تاب. ه «1».
وأما من كان يصليها فلم تنهه فهو دليل عدم قبولها ، ففى الحديث : «من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من اللّه إلا بعدا» «2» رواه الطبراني. وقال الحسن : من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فليست بصلاة ، وهى وبال عليه. وقال ابن عوف : إن الصلاة تنهى إذا كنت فيها فأنت فى معروف وطاعة ، وقد حجزتك عن الفحشاء والمنكر. ه. فخص النهى بكونه مادام فيها ، وعليه حمله المحلّى.
قال المحشى : يعنى : أن من شأنها ذلك ، وإن لم يحصل ذلك فلا تخرج عن كونها صلاة ، كما أن من شأن الإيمان التوكل ، وإن قدر أن أحدا من المؤمنين لا يتوكل فلا يخرج ذلك عن الإيمان. وقيل : الصلاة الحقيقة : ما تكون لصاحبها ناهية عن ذلك ، وإن لم ينته فالصلاة ناهية على معنى : ورود الزواجر على قلبه ، ولكنه أصر ولم يطع. [ويقال : بل الصلاة الحقيقة ما تنهى صاحبها عن الفحشاء والمنكر ، فإن كان ] «3» ، وإلا فصورة الصلاة ، لا حقيقتها. انظر القشيري.
___________
(1) قال الحافظ ابن حجر فى الكافي الشاف (ص 128) : «لم أجده» ، وأخرج الإمام أحمد فى المسند (2/ 447) ، والبزار (كشف الأستار 1/ 346) عن أبى هريرة : (جاء رجل إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال : إن فلانا يصلى بالليل ، فإذا أصبح سرق ، فقال : «إن صلاته ستنهاه».
(2) أخرجه الطبري فى التفسير (20/ 155) عن ابن عباس وابن مسعود موقوفا ، وعزاه فى الدر المنثور (5/ 279) للطبرانى ، وابن أبى حاتم ، عن ابن عباس مرفوعا. وانظر : الكافي الشاف (ص 127).
(3) المثبت بين المعكوفتين من لطائف الإشارات للقشيرى (3/ 99). وهو ضرورى.(4/306)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 307
وقال ابن عطية : إذا وقعت على ما ينبغى من الخشوع ، والإخبات لذكر عظمة اللّه ، والوقوف بين يديه ، انتهى عن الفحشاء والمنكر ، وأما من كانت صلاته لا ذكر فيها ولا خشوع ، فتلك تترك صاحبها بمنزلته حيث كان. ه.
فائدة : ذكر فى اللباب أن أول من صلى الصبح آدم عليه السّلام ، لأنه لم يكن رأى ظلمة قط ، فلما نزل ، وجنّه الليل خرّ مغشيا ، فلما أصبح ورأى النور صلى ركعتين ، شكرا. وأول من صلى الظهر إبراهيم ، لما فدى ولده ، وقد كان نزل به أربعة أهوال ، هم الذبح ، وهم الولد ، وهم والدته ، وهم مرضاة الرب ، فصلى أربع ركعات شكرا للّه تعالى.
وأول من صلى العصر سليمان عليه السّلام ، لمّا رد اللّه عليه ملكه. وأول من صلى المغرب عيسى عليه السّلام ، كفارة عما اعتقد فيه من أنه ثالث ثلاثة. وأول من صلى العشاء يونس عليه السّلام ، ولعله هذا الوقت الذي نبذ فيه بالعراء. وأول من توضأ آدم كفارة لأكله. ه. مختصرا بزيادة بيان. وجمعها الحق تعالى لهذه الأمة المحمدية لتحوز فضائل تلك الشرائع لأنه صلى اللّه عليه وسلم جامع لما افترق فى غيره.
ثم قال تعالى : وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ ، أي : ولذكر اللّه ، على الدوام ، أكبر ، فى النهى عن الفحشاء والمنكر ، من الصلاة لأنها فى بعض الأوقات. فالجزء الذي فى الصلاة ينهى عن الفحشاء الظاهرة ، والباقي ينهى عن الفحشاء الباطنة ، وهو أعظم ، ولأن الانتهاء لا يكون إلا من ذاكر للّه ، مراقب له ، وثواب ذلك الذكر أن يذكره اللّه تعالى لقوله : فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ «1». ومن ذكره حفظه ورعاه. أو : لذكر اللّه أكبر أجرا ، من الصلاة ، ومن سائر الطاعات ، كما فى الحديث : «ألا أنبئكم بخير أعمالكم ، وأزكاها عند مليككم ، وأرفعها فى درجاتكم ، وخير لكم من إنفاق الذهب والورق ، وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟ قالوا : وما ذلك يا رسول اللّه؟ قال : ذكر اللّه» «2». وسئل : أىّ الأعمال أفضل؟ قال : «أن تموت ولسانك رطب من ذكر اللّه» «3».
قيل : المراد بذكر اللّه هو الصلاة نفسها ، أي : وللصلوات أكبر من سائر الطاعات ، وإنما عبّر عنها بذكر اللّه ليشعر بالتعليل ، كأنه قال : والصلاة أكبر لأنها ذكر اللّه. وعن ابن عباس : ولذكر اللّه لكم إياكم ، برحمته ، أكبر من ذكركم إياه بطاعته. وقال ابن عطاء : ذكر اللّه لكم أكبر من ذكركم له لأن ذكره بلا علة ، وذكركم مشوب بالعلل والأمانى ، ولأن ذكره لا يفنى ، وذكركم يفنى. أو : لذكر اللّه أكبر من أن تفهمه أفهامكم وعقولكم. أو : ذكر اللّه أكبر
___________
(1) الآية 152 من سورة البقرة.
(2) أخرجه الترمذي فى (الدعوات ، باب 6 ، 5/ 428 ، ح 3377) ، وابن ماجة فى (الأدب ، باب فضل الذك ، 2/ 1245 ، ح 3790) ، والبيهقي فى الشعب (519) ، والحاكم وصححه فى المستدرك (1/ 496) ، وصححه ووافقه الذهبي ، من حديث أبى الدرداء.
(3) رواه ابن حبان فى صحيحه (815) ، والبراز (كشف الأستار ح 3059) ، من حديث معاذ بن جبل ، وقال الهيثمي فى المجمع :
(10/ 74) : وإسناده حسن. [.....](4/307)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 308
من أن تبقى معه معصية. وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ من الخير والطاعة ، فيثيبكم أحسن الثواب. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر المتعلّقين بالجوارح الظاهرة ، والذكر ينهى عن الفحشاء والمنكر المتعلقين بالعوالم الباطنة ، وهى المساوئ التي تحجب العبد عن حضرة الغيوب ، فإذا أكثر العبد من ذكر اللّه ، على نعت الحضور والتفرغ من الشواغل ، تنور قلبه ، وتطهر سره ولبه ، فاتصف بأوصاف الكمال ، وزالت عنه جميع العلل ، ولذلك جعلته الصوفية معتمدا أعمالهم ، والتزموه مع مرور أوقاتهم وأنفاسهم ، ولم يقتنعوا منه بقليل ولا كثير ، بل قاموا فيه بالجد والتشمير ، فيذكرون أولا بلسانهم وقلوبهم ، ثم بقلوبهم فقط ، ثم بأرواحهم وأسرارهم ، فيغيبون حينئذ فى شهود المذكور عن وجودهم وعن ذكرهم ، وفى هذا المقام ينقطع ذكر اللسان ، ويصير العبد محوا فى وجود العيان ، فتكون عبادتهم كلها فكرة وعبرة ، وشهودا ونظرة ، وهو مقام العيان فى منزل الإحسان ، فيكون ذكر اللسان عندهم بطالة «1» ، وفى ذلك يقول الشاعر :
ما إن ذكرتك إلّا همّ يلعننى سرّى وقلبى وروحى ، عند ذكراك
حتّى كأنّ رقيبا منك يهتف بي : إيّاك ، ويحك ، والتّذكار ، إيّاك
أما ترى الحقّ قد لاحت شواهده؟ وواصل الكلّ ، من معناه ، معناك؟!
قال القشيري : ويقال : ذكر اللّه أكبر من أن يبقى معه ذكر مخلوق أو معلوم للعبد ، فضلا أن يبقى معه للفحشاء والمنكر سلطان. ه. وقال فى القوت على هذه الآية : الذكر عند الذاكرين : المشاهدة ، فمشاهدة المذكور فى الصلاة أكبر من الصلاة. هذا أحد الوجهين فى الآية. ثم قال : وروى فى معنى الآية عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال : إنما فرضت الصلاة ، وأمر بالحج والطواف ، وأشعرت المناسك ، لإقامة ذكر اللّه - عز وجل - » قال تعالى : وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي «2» ، أي : لتذكرنى فيها. ثم قال : فإذا لم يكن فى قلبك للمذكور ، الذي هو المقصود والمبتغى ، عظمة ولا هيبة ، ولا إجلال مقام ، ولا حلاوة فهم ، فما قيمة ذكرك فإنما صلاتك كعمل من أعمال دنياك. وقد جعل الرسول صلى اللّه عليه وسلم الصلاة قسما من أقسام الدنيا ، إذا كان المصلى على مقام من الهوى ، فقال : «حبب إلىّ من
___________
(1) لا يكون ذكر اللسان بطالة. والنبي صلى اللّه عليه وسلم وقال : «لا يزال لسانك رطبا بذكر اللّه ..» واللّه عز وجل يقول : «أنا مع عبدى المؤمن ما ذكرنى وتحركت بي شفتاه» فكيف يكون هذا بطالة!! مع تحقق السر بالذكر؟.
(2) من الآية 14 من سورة طه.(4/308)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 309
دنياكم ..» «1» ذكر منها الصلاة ، فهى دنيا لمن كان همه الدنيا ، وهى آخرة لأبناء الآخرة ، وهى صلة ومواصلة لأهل اللّه - عز وجل - ، وإنما سميت الصلاة لأنها صلة بين اللّه وعبده ، ولا تكون المواصلة إلا لتقى ، ولا يكون التقى إلا خاشعا ، فعند هذا لا يعظم عليه طول القيام ، ولا يكبر عليه الانتهاء عن المنكر ، كما قال اللّه : إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ. ه.
ثم ذكر ما ينتج عن الصلاة الكاملة والذكر الدائم ، وهو الخلق الجميل ، فوصّى به ، حيث قال :
[سورة العنكبوت (29) : آية 46]
وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (46)
يقول الحق جل جلاله : وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إلا بالخصلة التي هى أحسن ، أي : ألطف وأرفق ، وهى مقابلة الخشونة باللين ، والغضب بالكظم ، والمشاغبة بالنصح ، بأن تدعوه إلى اللّه تعالى برفق ولين ، وتبين له الحجج والآيات ، من غير مغالبة ولا قهر. وأصل المجادلة : فتل الخصم عن مذهبه بطريق الحجج ، وأصله : شدة الفتل ، ومنه قيل للصقر : أجدل لشدة فتل بدنه وقوة خلقه. والآية قيل : منسوخة بآية السيف «2» ، وقيل : نزلت فى أهل الذمة.
إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ ، فأفرطوا فى الاعتداء والعناد ، ولم يقبلوا النصح ، ولم ينفع فيهم الرفق ، فاستعملوا معهم الغلظة. وقيل : إلا الذين آذوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، أو : إلا الذين أثبتوا الولد والشريك ، وقالوا : يد اللّه مغلولة. أو معناه : ولا تجادلوا الذين دخلوا فى الذمة ، المؤدين للجزية ، إلا بالتي هى أحسن ، إلا الذين ظلموا : فنبذوا الذمة ، ومنعوا الجزية ، فمجادلتهم بالسيف. والآية تدل على جواز مناظرة الكفرة فى الدين ، وعلى جواز تعلم علم الكلام ،
___________
(1) أخرج أحمد فى المسند (3/ 128 ، 285) والنسائي فى سننه (كتاب عشرة النساء 7/ 161) والحاكم فى المستدرك (النكاح 2/ 160) وصححه على شرط مسلم ، وأقره الذهبي ، وكذلك أخرج أبو يعلى فى مسنده (6/ 199 - 200 ح 3482) كلهم من حديث أنس بن مالك قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم «حبب إلىّ من الدنيا : الطيب والنساء ، وجعلت قرة عينى فى الصلاة» قال الحافظ ابن حجر : وليس فى شىء من طرقه : لفظ «ثلاث». انظر الفتح السماوي 1/ 378 وعليه فالرسول لم يجعل الصلاة من أقسام الدنيا بل هى قرة عينه صلى اللّه عليه وسلم وهذه درجة رفيعة فوق الشيئين اللذين حببا إليه من الدنيا ، وهما الطيب والنساء ، فهذا الشيئان ليس قرة عين له صلى اللّه عليه وسلم ، لأنهما من الدنيا
(2) قلت : كل ما هو من مكارم الأخلاق ، لا يجرى عليه النسخ ، فتمسك بهذا الأصل ، فحتى لو قاتلنا أهل الكتاب فى جهاد شرعى صحيح ، بشروطه. فتحن مأمورون بالعمل بهذه الآية حين نجادلهم ، إلا من ظلم .. فنعامله بما يستحق حتى يزول ظلمه ، فإن جادلناهم فبالتى هى أحسن أيضا.(4/309)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 310
الذي به تتحقق المجادلة. قاله النسفي. وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ هذا من حسن المجادلة. قال صلى اللّه عليه وسلم : «إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم ، وقولوا : آمنا باللّه وكتبه ورسله ، فإن كان باطلا لم تصدقوهم ، وإن كان حقا لم تكذبوهم» «1». وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ مطيعون له خاصة ، وفيه تعريض باتخاذهم أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون اللّه.
الإشارة : المناظرة بين العلماء ، والمذاكرة بين الفقراء ، ينبغى أن تكون برفق ولين عن قلب سليم ، بقصد إظهار الحق وتبيين الصواب ، أو تنبيه عن الغفلة ، أو ترقية فى المنزلة ، من غير ملاححة ، أو مخاصمة ، ولا قصد مغالبة لأن العلم النافع ، وذكر اللّه الحقيقي ، يهذب الطبع ، ويحسن الأخلاق.
قال فى الحاشية : ثم تذكّر حسن رده صلى اللّه عليه وسلم للقائلين له : السام عليكم ، ورفقه ، وقوله لعائشة : «متى عهدتنى فاحشا»؟ يتبين لك مناسبة الوصية بحسن المجادلة فى الآية مع ما قبلها ، وأن ذلك حال المقيمين للصلاة ، الذاكرين اللّه حقيقة ، وأنهم على خلق جميل وحلم وسمت ، لا يستفزهم شىء من العوارض لما رسخ فى قلوبهم من نور القرب الذي محى الطبع وفحشه. واللّه تعالى أعلم. ه.
ثم ذكر برهان حقيّة القرآن الذي أنزل إلينا ، فقال :
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 47 الى 49]
وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ الْكافِرُونَ (47) وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتابَ الْمُبْطِلُونَ (48) بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ الظَّالِمُونَ (49)
يقول الحق جل جلاله : وَكَذلِكَ أي : ومثل ذلك الإنزال البديع أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ مصدقا لسائر الكتب السماوية وشاهدا عليها ، فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ التوراة والإنجيل ، يُؤْمِنُونَ بِهِ ، وهم عبد اللّه بن سلام ومن آمن معه ، وأصحاب النجاشي ، أو : من تقدم عهد الرسول صلى اللّه عليه وسلم من أهل الكتاب ، وَمِنْ هؤُلاءِ من أهل مكة ، مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ ، أو : فالذين آتيناهم الكتب قبلك يؤمنون به قبل ظهوره ، ومن هؤلاء
___________
(1) أخرجه بنحوه الإمام أحمد فى المسند (4/ 136) ، وأبو داود فى (العلم ، باب رواية حديث أهل الكتاب 4/ 59 - 60 ح 3644) ، وابن حبان فى صحيحه (موارد ح 110 ص 58) ، والطبراني فى الكبير (22/ 349) ، والبيهقي فى الكبرى (2/ 10) ، عن أبى نملة الأنصاري. وأصل الحديث فى صحيح البخاري ، فى (كتاب الاعتصام ، باب قول النبي : لا تسألوا أهل الكتاب عن شىء ح 7361). من حديث أبى هريرةرضي اللّه عنه.(4/310)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 311
الذين أدركوا زمانك من يؤمن به. وإذا قلنا : إنّ السورة كلها مكية ، يكون إخبارا بغيب تحقق وقوعه ، وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا ، مع ظهورها وزوال الشبهة عنها ، إِلَّا الْكافِرُونَ إلا المتوغلون فى الكفر ، المصممون عليه ، ككعب بن الأشرف وأضرابه ، أو كفار قريش ، إذا قلنا : الآية مكية.
وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ من قبل القرآن مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ ، بل كنت أميا ، لم تقرأ ولم تكتب ، فظهور هذا الكتاب ، الجامع لأنواع العلوم الشريفة والأخبار السالفة ، على يد أمي لم يعرف بالقراءة والتعلم ، خرق عادة ، قاطعة لبغيته. وذكر اليمين لأن الكتابة ، غالبا ، تكون به ، أي : ما كنت قارئا كتابا من الكتب ، ولا كاتبا إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ أي : لو كنت ممن يخط ويقرأ لقالوا : تعلمه ، والتقطه من كتب الأقدمين ، وكتبه بيده. أو : يقول أهل الكتاب : الذي نجده فى كتابنا أمي لا يكتب ولا يقرأ ، وليس به. وسماهم مبطلين ، لإنكارهم النبوة ، أو : لارتيابهم فيها ، مع تواتر حججها ودلائلها.
هذا ، وكونه صلى اللّه عليه وسلم أميا كمال فى حقه صلى اللّه عليه وسلم ، مع كونه أميا أحاط بعلوم الأولين والآخرين ، وأخبر بقصص القرون الخالية والأمم الماضية ، من غير مدارسة ولا مطالعة ، وهو ، مع ذلك ، يخبر بما مضى ، وبما يأتى إلى قيام الساعة ، وسرد علم الأولين والآخرين مما لا يعلم القصة الواحدة منها إلا الفاذ من أحبارهم ، الذي يقطع عمره فى مدارسته وتعلمه ، وهذا كله فى جاهلية جهلاء ، بعد فيها العهد بالأنبياء ، وبدّل الناس ، وغيّروا فى كتب اللّه تعالى بالزيادة والنقصان ، ففضحهم صلى اللّه عليه وسلم وقرر الشرائع الماضية ، فهذا كله كاف فى صحة نبوته ، فكانت أميته صلى اللّه عليه وسلم وصف كمال فى حقه ، ومعجزة دالة على نبوته لأنه صلى اللّه عليه وسلم ، مع كونه أميا ، ظهر عليه من العلوم اللدنية ، والأسرار الربانية ، ما يعجز عنه العقول ، ولا تحيط به النقول ، مع إحكامه لسياسة الخلق ، ومعالجتهم مع تنوعهم ، وتدبير أمر الحروب ، وإمامته فى كل علم وحكمة.
وأيضا : المقصود من القراءة والكتابة : ما ينتج عنهما من العلم لأنهما آلة ، فإذا حصلت الثمرة استغنى عنهما.
والمشهور أنه صلى اللّه عليه وسلم لم يكتب قط. وقال الباجى وغيره : إنه كتب ، لظاهر حديث الحديبية. وقال مجاهد والشعبي :
مامات النبي صلى اللّه عليه وسلم حتى كتب وقرأ. وهذا كله ضعيف.
قال تعالى : بَلْ هُوَ أي : القرآن آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أي : فى صدور العلماء وحفاظه ، وهما من خصائص القرآن كون آياته بينات الإعجاز ، وكونه محفوظا فى الصدور ، بخلاف سائر الكتب ، فإنها لم تكن معجزات ، ولم تكن تقرأ إلا بالمصاحف. قال ابن عباس : بَلْ هُوَ أي : محمد ، والعلم بأنه أمي ، آياتٌ بَيِّناتٌ فى صدور أهل العلم من أهل الكتاب ، يجدونه فى كتبهم. ه «1». و(بل) : للإضراب عن
___________
(1) ذكر الطبري القولين (21/ 5 - 6) ورجح القول الثاني لأن قوله تعالى : بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ بين خبرين من إخبار اللّه عن رسول اللّه سيدنا محمد صلى اللّه عليه وسلم. فهو بأن يكون خبرا عنه أولى من أن يكون خبرا عن الكتاب.(4/311)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 312
محذوف ، ينساق إليه الكلام ، أي : ليس الأمر مما يمكن الارتياب فيه ، بل هو آيات واضحات. و(فى صدور) : متعلق ببينات ، أو : خبر ثان لهو. وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا الواضحة إِلَّا الظَّالِمُونَ المتوغلون فى الظلم. قال ابن عطية :
الظالمون والمبطلون هم كل مكذب للنبى صلى اللّه عليه وسلم ، ولكن عظم الإشارة بهما إلى قريش لأنهم الأهم. قاله مجاهد. ه.
الإشارة : كم من ولىّ يكون أميا ، وتجد عنده من العلوم والحكم والتوحيد ما لا يوجد عند نحارير العلماء.
ما اتخذه اللّه وليا جاهلا إلا علّمه. ولقد سمعت من شيخنا البوزيدى رضي اللّه عنه علوما وأسرارا ، ما رأيتها فى كتاب ، وكان يتكلم فى تفسير آيات من كتاب اللّه على طريق أهل الإشارة ، قلّ أن تجدها عند غيره ، وسمعته يقول : واللّه ما جلست بين يدى عالم قط ، ولا قرأت شيئا من العلم الظاهر. قال القشيري : قلوب الخواص من العلماء باللّه خزائن الغيب ، فيها أودع براهين حقه ، وبينات سرّه ، ودلائل توحيده ، وشواهد ربوبيته ، فقانون الحقائق فى قلوبهم ، وكلّ شىء يطلب من موطنه ومحله ، فالدر يطلب من الصدف لأنه مسكنه ، كذلك المعرفة ، ووصف الحق يطلب من قلوب خواصه «1» لأن ذلك قانون معرفته ، ومنها ترفع نسخة توحيده. ه.
ثم رد اقتراحهم للآيات ، فقال :
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 50 الى 52]
وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51) قُلْ كَفى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (52)
___________
(1) إنما يرجع إلى وصف اللّه فى قلوب خواصه ، لأنهم عرفوا اللّه بالرجوع إلى وحيه ، (الكتاب والسنة) فلا طريق لمعرفة اللّه ، إلا ما أوحاه اللّه ، ابتداء ، وانتهاء.
ثم اعلم رحمك اللّه : أن معرفة القراءة والكتابة ليست شرطا فى الولاية ، وحفظ كلام اللّه تعالى ، ومعرفة أسرار التوحيد والإيمان ، ، والإسلام .. وهاك مثلا واحدا : وهو سيدنا «حماد بن مسلم الدباس» ، أستاذ الشيخ القدوة ، عارف زمانه ، الإمام عبد القادر الجيلاني ، وهو حماد بن مسلم بن ددّوه ، الشيخ القدم ، علم السالكين ، أبو عبد اللّه الدباس ، الرحبي - نسبة إلى رحبة مالك بن طوق ، «نشأ ببغداد ، وكان من أولياء اللّه ، أولى الكرامات ، انتفع بصحبته خلق ، وكان يتكلم على الأحوال ، وكتبوا من كلامه نحوا من مئة جزء ، وكان أميا ، وكان يتكلم على آفات الأعمال ، والإخلاص ، والورع ، قد جاهد نفسه بأنواع المجاهدات ، وزوال أكثر المهن والصنائع ، فى طلب الحلال ، وكان مكاشفا. فعنه قال : إذا أحب اللّه عبدا أكثر همه فيما فرّط ، وإذا أبغض عبدا أكثر همه فيما قسمه له. وقال : العلم محجة ، فإذا طلبته لغير اللّه ، صار حجة .. مات سنة 525 ه. وكان الشيخ عبد القادر من تلامذته :
«انظر : شمس الدين الذهبي : سير أعلام النبلاء : (19/ 594 - 596) تحقيق وتعليق : شعيب الأرنؤوط ، ط 11 ، مؤسسة الرسالة ، بيروت ، 1417 ه ، 1996 م. وراجع أيضا فى هذه القضية : الفتوحات الإلهية للشيخ المفسر/ 201 - 204.(4/312)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 313
يقول الحق جل جلاله : وَقالُوا أي : كفار قريش : لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ «1» مِنْ رَبِّهِ تدل على صدقه ، مثل ناقة صالح ، وعصا موسى ، ومائدة عيسى ، ونحو ذلك. وقرأ نافع وابن عامر وحفص : بالجمع «آيات» ، كثيرة ، قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ ، ينزل منها ما شاء متى شاء ، ولست أملك منها شيئا ، وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ إنما كلفت بالإنذار وإبانته بما أعطيت من الآيات ، وليس من شأنى أن أقول : أنزل على آية كذا دون آية كذا ، مع علمى أن المراد من الآيات ثبوت الدلالة على نبوتى ، والآيات كلها فى حكم آية واحدة فى ذلك.
أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ ، أي : أو لم يكفهم إنزال آية مغنية عن سائر الآيات ، إن كانوا طالبين للحق ، غير متعنتين ، وهو هذا القرآن الذي تدوم تلاوته عليهم فى كل زمان ومكان ، فلا يزال معهم آية ثابتة ، لا تزول ولا تنقطع ، كما انقطع غيره من الآيات ، وفى ذلك يقول البوصيرى :
دامت لدينا ففاقت كلّ معجزة من النّبيّين إذ جاءت ولم تدم
إِنَّ فِي ذلِكَ أي : فى هذه الآية الموجودة فى كل زمان إلى آخر الدهر ، لَرَحْمَةً لنعمة عظيمة ، وَذِكْرى وتذكرة لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ دون المتعنتين. قال يحيى بن جعدة : إن ناسا من المسلمين أتوا النبي صلى اللّه عليه وسلم بكتب قد كتبوها ، فيها بعض ما يقول اليهود ، فألقاها ، وقال : كفى بها حماقة ، أو ضلالة قوم ، أن يرغبوا عما جاء به نبيهم ، فنزل : أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ ... إلخ «2».
قُلْ كَفى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً أي : شاهدا بصدق ما أدعيه من الرسالة وإنزال القرآن علىّ ، وتكذيبكم ، يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ، فهو مطلع على أمرى وأمركم ، وعالم بحقي وباطلكم ، فلا يخفى عليه شىء. وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ ، وهو ما يعبد من دون اللّه ، وَكَفَرُوا بِاللَّهِ وبآياته منكم أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ المغبونون فى صفقتهم ، حيث اشتروا الكفر المؤدى إلى النيران ، بالإيمان المؤدى إلى الخلود فى الجنان. روى أن كعب بن الأشرف وأصحابه من اليهود قالوا : من يشهد لك بأنك رسول اللّه؟ فنزل : قُلْ كَفى ... إلخ.
الإشارة : اقتراح الآيات والكرامات كله جهل وحمق إذ ليس بيد النبي أو الولي شىء من ذلك ، وإنما هو مأمور بالوعظ والدلالة على اللّه ، والدعاء إليه ، والكرامة لا تدلّ على كمال صاحبها ، «ربما رزق الكرامة من لم تكمل له
___________
(1) قرأ ابن كثير ، وأبو بكر ، وهمزة ، والكسائي «آية» بالتوحيد على إرادة الجنس ، وقرأ الباقون بالجمع. انظر الإتحاف (2/ 351).
(2) أخرجه الدارمي فى (المقدمة ، باب من لم ير كتابة الحديث 1/ 134 ، ح 478) ، وأبو داود فى المراسيل (باب ما جاء فى العلم) ، وابن جرير فى التفسير (21/ 7) من حديث يحيى بن جعدة ، مرسلا.(4/313)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 314
الاستقامة» «1» ، ليس كل من ثبت تخصيصه كمل تخليصه «2». وقد تظهر الكرامات فى البدايات وتخفى فى النهايات ، والكرامة العظمى هى الاستقامة وكشف الحجاب بين اللّه وعبده حتى يشاهده عيانا ، ويذهب عنه الأوهام والشكوك ، وأما غير هذا فقد يكون استدراجا لمن يقف معه. واللّه تعالى أعلم.
ولمّا لم تظهر آية كما اقترحوا ، استعجلوا العذاب ، استهزاء ، كما قال تعالى :
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 53 الى 55]
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَوْ لا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (53) يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ (54) يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (55)
يقول الحق جل جلاله : وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ ، كقولهم : أمطر علينا حجارة من السماء ، وَلَوْ لا أَجَلٌ مُسَمًّى المضروب لعذاب كل قوم ، أو : القيامة ، أو : يوم بدر ، أو : وقت فنائهم بأجلهم. والمعنى : ولو لا أجل قد سمّاه اللّه وعيّنه فى اللوح المحفوظ ، لَجاءَهُمُ الْعَذابُ عاجلا. والحكمة تقتضى تأخيره إلى ذلك الأجل المسمى ، وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ العذاب فى الأجل المسمى بَغْتَةً : فجأة وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ بإتيانه.
يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ أي : لتحيط بهم ، أو : هى كالمحيطة بهم ، لإحاطة أسبابها بهم من الكفر والمعاصي. واللام للعهد ، على وضع الظاهر موضع المضمر للدلالة على موجب الإحاطة ، وهو الكفر ، أو الجنس ، فيدخل المخاطبون دخولا أوليا. وتكرير استعجالهم لاختلاف ما يترتب على كل واحد ، فرتب على الأول حكمة تأخيره ، وعلى الثاني تهديدهم وزجرهم عنه.
ثم قال تعالى : يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ ، هذا وقت إحاطتها بهم ، أي : تحيط من جميع جوانبهم ، كقوله : لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ «3». وَيَقُولُ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي : باشروا جزاء أعمالكم.
الإشارة : ما قيل فى حق من استعجل العذاب من الأنبياء ، يقال فى حق من استعجله من الأولياء ، بحيث يؤذيهم ويقول : ليظهروا ما عندهم ، فهذا حمق كبير ، ولا بد أن يلحقه وبال ذلك ، عاجلا ، أو آجلا ، إما ظاهرا
___________
(1) حكمة عطائية. انظر الحكم بتبويب المتقى الهندي (ص 27 ، حكمة 178).
(2) انظر الحكم (ص 26 حكمة 111).
(3) من الآية 16 من سورة الزمر.(4/314)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 315
أو باطنا ، وقد لا يشعر ، وقد يسرى ذلك إلى عقبه فيصيبه ذلك الوبال ، كما أصاب أباه ، والعياذ باللّه من التعرض لأوليائه.
ثم أمر بالهجرة من الأرض التي تكثر فيها الإذاية فى الدين ، فقال :
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 56 الى 59]
يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (56) كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ (57) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (58) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (59)
يقول الحق جل جلاله : يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ
، فإذا لم يتيسر لكم إقامة دينكم فى بلد ، فاخرجوا منها إلى أرض يتهيأ لكم فيها استقامة دينكم ، والبقاع تتفاوت فى ذلك تفاوتا كبيرا ، والناس مختلفون ، فأهل الشرائع يطلبون البقاع التي يتيسر لهم فيها استقامة ظواهرهم ، كالمدن والقرى الكبار ، التي يكثر فيها العلم وأهله. وأهل الحقائق من الصوفية يطلبون البقاع التي تسلم فيها قلوبهم من العلائق والشواغل ، أينما وجدوها عمروها ، إن تهيأ لهم الاجتماع على ربهم. وعن سهل رضي اللّه عنه : إذا ظهرت المعاصي والبدع فى أرض ، فاخرجوا منها إلى أرض المطيعين. وعن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : «من فرّ بدينه من أرض ، إلى أرض ، وإن كان شبرا ، استوجب الجنة ، وكان رفيق إبراهيم ومحمد عليهما السلام» «1».
فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ
أي : فخصونى بالعبادة. وإياى : مفعول لمحذوف ، ومفعول «اعبدوني» : الياء المحذوفة ، أي : فاعبدوا إياى ، فاعبدونى. والفاء : جواب الشرط ، محذوف ، إذ المعنى : إن أرضى واسعة ، فإن لم تخلصوا العبادة لى فى أرض ، فاخلصوا لى فى غيرها.
ثم شجّع المهاجرين بقوله : كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ، أي : واجدة مرارته وكربه لأنها إذا تيقنت بالموت سهل عليها مفارقة وطنها. ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ بالموت ، فتجازون على ما أسلفتم. ومن علم أن هذا عاقبته ينبغى أن يجتهد فى الاستعداد له ، فإن لم يتهيأ فى أرض فليهاجر منها.
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ لننزلنهم مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً علالى ، عالية ، وقرأ حمزة والكسائي : لنثوينهم لنقيمنهم ، من الثّوى ، وهو الإقامة ، وثوى : غير متعد ، فإذا تعدى بزيادة الهمزة ، لم
___________
(1) قال الحافظ ابن حجر فى الكافي الشاف : أخرجه الثعلبي من مرسل الحسن. انظر الكافي الشاف (3/ 461).(4/315)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 316
يجاوز مفعولا واحدا. والوجه فى تعديته إلى ضمير المؤمنين وإلى الغرف : إما إجراؤه مجرى «لننزلنهم» ، أو :
بحذف الجار ، وإيصال الفعل ، أو : شبه الظرف المؤقت ، بالمبهم ، أي : لنقيمنهم فى غرف تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ أجرهم هذا. وهم الَّذِينَ صَبَرُوا على مفارقة الأوطان وأذى المشركين ، وعلى المحن والمصائب ، ومشاق الطاعات ، وترك المحرمات ، وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ، أي : لم يتوكلوا فى جميع ذلك إلا على اللّه ، فكفاهم شأنهم. وباللّه التوفيق.
الإشارة : كل من لم يتأتّ له جمع قلبه فى بلده فليهاجر منها إلى غيره ، وليسمع قول سيده : يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ
،
فإن شق عليه مفارقة الأوطان ، فليذكر مفارقته للدنيا فى أقرب زمان. وكان الصدّيق رضي اللّه عنه لمّا هاجر إلى المدينة ، وأصابته الحمى ، يتسلى بذكر الموت ، وينشد :
كلّ امرئ مصبّح فى أهله والموت أدنى من شراك نعله
وقد أكثر الناس فى الوعظ بالموت وهجومه ، نظما ونثرا ، فمن ذلك قول الشاعر :
الموت كأس ، وكلّ الناس شاربه والقبر باب ، وكلّ الناس داخله
وقال آخر :
اعلم بأنّ سهام الموت قاطعة بكلّ مدّرع فيها ومتّرس
ركوبك النعش ينسيك الرّكوب إلى ما كنت تركب من نعل ومن فرس
ترجو النّجاة ، ولم تسلك طريقتها إنّ السّفينة لا تجرى على يبس
إلى غير ذلك مما يطول.
ولما أمر بالهجرة خافوا العيلة ، فأنزل اللّه تعالى :
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 60 الى 63]
وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (60) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (61) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (62) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (63)(4/316)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 317
يقول الحق جل جلاله : وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ أي : وكم من دابة من دواب الأرض ، عاقلة وغير عاقلة ، لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا لا تطيق أن تحمله لضعفها عن حمله ، اللَّهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ أي : لا يرزق تلك الدواب الضعاف إلا اللّه ، ولا يرزقكم أنتم أيها الأقوياء إلا اللّه ، وإن كنتم مطيقين لحمل أرزاقكم وكسبها لأنه لو لم يخلق فيكم قدرة على كسبها لكنتم أعجز من الدواب. وعن الحسن : لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا : لا تدخره ، إنما تصبح خماصا «1» ، فيرزقها اللّه. وقيل : لا يدخر من الحيوان قوتا إلا ابن آدم والفأرة والنملة «2». وَهُوَ السَّمِيعُ لقولكم : نخشى الفقر والعيلة إن هاجرنا ، الْعَلِيمُ بما فى ضمائركم من خوف فوات الرزق.
ثم ذكر دلائل قدرته على الرزق وغيره فقال : وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ أي : المشركين وغيرهم مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ على كبرهما وسعتهما ، وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ يجريان فى فلكهما ، لَيَقُولُنَّ اللَّهُ لا يجدون جوابا إلا هذا ، لإقرارهم بوجود الصانع ، فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ فكيف يصرفون عن توحيد اللّه؟
مع إقرارهم بهذا كله ، إذ لو تعدد الإله لفسد نظام العالم.
اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ هاجر أو أقام فى بلده ، وَيَقْدِرُ لَهُ ويضيق عليه ، أقام أو هاجر ، فالضمير فى لَهُ لمن يشاء لأنه مبهم غير معين ، إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ يعلم ما يصلح العباد وما يفسدهم ، فمنهم من يصلحه الفقر ، ومنهم من يفسده ، ففى الحديث القدسي : «إن من عبادى من لا يصلح إيمانه إلا الغنى ، ولو أفقرته لأفسده ذلك ، وإن من عبادى من لا يصلح إيمانه إلا الفقر ، ولو أغنيته لأفسده ذلك» «3». ذكره النسفي.
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللَّهُ معترفين بأنه الموجد للكائنات بأسرها ، أصولها وفروعها ، ثم إنهم يشركون به بعض مخلوقاته الذي هو أضعف الأشياء. قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ على إظهار قدرته ، حتى ظهرت لجميع الخلق ، حتى أقرت بها الجاهلية الجهلاء. أو : على ما عصمك مما هم عليه ، أو : على تصديقك وإظهار حجتك ، أو : على إنزاله الماء لإحياء الأرض ، بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ لا عقول لهم ، فلا يتدبرون فيما يريهم من الآيات ويقيم عليهم من الدلالات. واللّه تعالى أعلم.
___________
(1) «خماصا» جياعا ، جمع خميص. [.....]
(2) قاله سفيان فيما ذكره البغوي فى تفسيره (6/ 53).
(3) أخرجه الديلمي (مسند الفردوس ح 8098 ، 8100) من حديث عمر ، وأنس - رضى اللّه عنهما.(4/317)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 318
الإشارة : الرزق مضمون بيد من أمره بين الكاف والنون ، لا يزيد بحرص قوى ، ولا ينقص بعجز ضعيف ، بل قد ينعكس الأمر ، كما قال الشاعر :
كم قوىّ قوىّ فى تقلبه [ترى عنه أمر الرّزق ينحرف ] «1»
وكم ضعيف ضعيف فى تصرفه كأنه من خليج البحر يغترف
وقد يبسطه اللّه لأهل الغفلة والبعد ، ويقدره لأهل الولاية والقرب ، كما قال القائل :
اللّه يرزق قوما لا خلاق لهم مثل البهائم فى خلق التّصاوير
لو كان عن قوّة أو عن مغالبة طار البزاة بأرزاق العصافير
وقال عليه الصلاة والسلام - فى بعض خطبه - : «أيها الناس ، إن الرزق مقسوم ، لن يعدو امرؤ ما كتب له ، فاتقوا اللّه ، وأجملوا فى الطلب. وإن الأمر محدود ، لن يجاوز أحد ما قدر له ، فبادروا قبل نفود الأجل ، وإن الأعمال محصاة ، لن يهمل منها صغيرة ولا كبيرة ، فأكثروا من صالح الأعمال ...» الحديث. وقال صلى اللّه عليه وسلم : «لو توكلتم على اللّه حقّ توكله لرزقتم كما ترزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا» «2».
ثم حقّر الدنيا وعظّم الآخرة ، فقال :
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 64 الى 66]
وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (64) فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ (65) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (66)
يقول الحق جل جلاله : وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ أي : وما هى لسرعة زوالها عن أهلها وموتهم عنها ، إلا كما يلعب الصبيان ساعة ، ثم يتفرقون متعبين بلا فائدة. وفيه ازدراء بالدنيا وتحقير لشأنها ، وكيف لا يحقرها وهى لا تزن عنده جناح بعوضة؟ واللهو : ما يتلذذ به الإنسان ، فيلهيه ساعة ، ثم ينقضى. وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ ، أي : الحياة الحقيقية لأنها دائمة. والحيوان : مصدر ، وقياسه : حييان ، فقلب الياء
___________
(1) فى الأصول الخطية [ترى أمر الرزق عنه ينحرف ].
(2) أخرجه أحمد فى المسند (1/ 30 - 52) والترمذي فى (الزهد ، باب ما جاء فى التوكل على اللّه ، 4/ 495 ، ح 2344) وقال : حديث حسن صحيح وابن ماجه فى (الزهد ، باب التوكل واليقين ، 2/ 1394 ، ح 4164) والحاكم وصححه (4/ 318) من حديث سيدنا عمر رضي اللّه عنه.(4/318)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 319
الثانية واوا. ولم يقل : لهى الحياة لما فى بناء فعلان من معنى الحركة والاضطراب. وفى المصباح : الحيوان :
مبالغة فى الحياة ، كما قيل : للموت الكثير : موتان. ه. لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ حقيقة الدارين لما اختاروا اللهو الفاني على الحيوان الباقي.
فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ ، هو مرتب على محذوف ، دل عليه ما وصفهم به قبل ، والتقدير : هم على ما هم عليه من الشرك والعناد ، وإذا ركبوا فى الفلك دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ، أي : كائنين فى صورة من يخلص الدين للّه من المؤمنين ، حيث لا يذكرون إلا اللّه ، ولا يدعون معه إلها آخر ، فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ ، وأمنوا من الغرق ، إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ ، أي : عادوا إلى حال الشرك ، لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ من النعمة ، وَلِيَتَمَتَّعُوا باجتماعهم على عبادة الأصنام وتوادهم عليها. واللام فيهما : إما لام كى ، أي : يعودون إلى شركهم ليكونوا به كافرين بنعمة النجاة ، قاصدين التمتع بها والتلذذ ، لا غير ، على خلاف عادة المؤمنين المخلصين ، فإنهم يشكرون نعمة اللّه إذا أنجاهم ، ويجعلون نعمة النجاة ذريعة إلى توحيده وطاعته ، لا إلى التلذذ والتمتع. أو : لام الأمر ، على وجه التهديد ، كقوله : فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ «1» ، ويقويه : قراءة من سكّن الثانية «2» ، أي : ليكفروا وليتمتعوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ تدبيرهم عند تدميرهم.
الإشارة : الدنيا عند أهل الجد والاجتهاد جد ، يتوصلون فيها إلى معرفة الحق ، ويترقون منها إلى أسرار ومعارف لا يحصرها عقل ولا يحيط بها نقل ، لأن فى هذه الدار : عرفه من عرفه ، وجهله من جهله. والترقي عند العارفين فيها أكثر لأنه يسير بين جلاله وجماله ، وهناك ليس إلا الجمال ، والترقي بين الضدين أعظم ، فإذا مات بقي يترقى فى أنوار الجمال على قدر ما أدرك هنا. واللّه أعلم.
فتحصل أن الدنيا فى حق أهل الغفلة لعب ولهو لأنها شغلتهم وغرتهم بزخارفها عن معرفة اللّه والوصول إليه ، ولذلك حذّر منها صلى اللّه عليه وسلم ، فقد قال فى بعض خطبه : «أيها الناس ، لا تكونوا ممن خدعته العاجلة ، وغرته الأمنية ، واستهوته الخدعة ، فركن إلى دار سريعة الزوال ، وشيكة الانتقال إذ لن يبقى من دنياكم هذه فى جنب ما مضى إلا كإناخة راكب ، أو درّ حالب ، فعلام تعرجون؟ وما تنتظرون؟ فكأنكم ، واللّه ، بما قد أصبحتم فيه من الدنيا ، كأن لم يكن ، وما تصيرون إليه من الآخرة ، لم يزل ، فخذوا فى الأهبة لأزوف النقلة ، وأعدوا الزاد لقرب الرحلة ، واعلموا أن كل امرئ على ما قدّم قادم ، وعلى ما خلّف نادم». وفى حق أهل الجد جد وحق لأنها مزرعة للآخرة ، ومتجر من أسواق اللّه ، فيها ربحهم وغنيمتهم. وباللّه التوفيق.
___________
(1) من الآية 29 من سورة الكهف.
(2) قرأ قالون وابن كثير وحمزة والكسائي (و ليتمتعوا) بسكون اللام ، على أنها للأمر ، وقرأ الباقون بكسرها ، إما للأمر ، أو لام كى ، والأصل فى كل الكسر. انظر الإتحاف (2/ 353) والبحر المحيط (7/ 155).(4/319)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 320
ثم ذكّرهم بما أنعم عليهم ، ليشكروا ، فقال :
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 67 الى 68]
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ (67) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ (68)
يقول الحق جل جلاله : أَوَلَمْ يَرَوْا أي : أهل مكة أَنَّا جَعَلْنا بلدهم حَرَماً أي : ممنوعا مصونا من الهبب ، آمِناً يأمن كل من دخله ، أو آمنا أهله من القتل والسبي ، وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أي :
يخطف بعضهم بعضا ، قتلا وسبيا ، إذ كانت العرب حوله فى تغاور وتناهب ، أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ أبعد هذه النعمة العظمى يؤمنون بالأصنام ويعبدونها ، أو : الشيطان ، وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ حيث أشركوا به غيره ، أو بمحمد صلى اللّه عليه وسلم إذ هو النعمة المهداة ، أو : الإسلام. وتقديم المعمولين للاهتمام ، أو للاختصاص.
وَمَنْ أَظْلَمُ أي : لا أحد أظلم مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً بأن جعل له شريكا ، أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ الرسول صلى اللّه عليه وسلم ، أو : الكتاب ، لَمَّا جاءَهُ أي : لم يتلعثموا فى تكذيبه لمّا سمعوه ، وفى «لمّا» المقتضية للاتصال ، تسفيه لرأيهم ، حيث لم يتوقفوا ولم يتأملوا قط حين جاءهم ، بل سارعوا إلى التكذيب أول ما سمعوه. أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً مقاما لِلْكافِرِينَ ، وهو تقرير لمثواهم فى جهنم ، لأن همزة الإنكار ، إذا دخلت على النفي ، صار إثباتا ، كقوله :
ألستم خير من ركب المطايا «1» أي : أنتم خير من ركب المطايا ، والتقدير : ألا يستوجبون الثوى فيها؟ وقد افتروا مثل هذه العظيمة ، كذبوا على اللّه وكذّبوا بالحق الذي جاء من عنده ، أو : ألم يصح عندهم أن فى جهنم مثوى للكافرين؟ حين اجترءوا مثل هذه الجرأة ، بل لهم فيها مثوى وإقامة. وهذه الآية فى مقابلة قوله : لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً «2». لا سيما فى قراءة الثاء. واللّه تعالى أعلم.
___________
(1) هذا شطر بيت .. وبقيته : وأندى العالمين بطون راح؟
(2) من الآية 58 من سورة العنكبوت.(4/320)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 321
الإشارة : الحرم الآمن ، فى هذه الدار ، هو التبتل والانقطاع عن الدنيا وأبنائها ، والتجريد من أسبابها ، فمن دخله أمن ظاهرا وباطنا ، ومن هجرها ، وترك الناس حوله يتخطفون ويتهارجون عليها ، وهو يتفرج عليهم ، فالدنيا جيفة والناس كلابها ، فإن خالطتهم ناهشوك ، وإن تركت لهم جيفتهم سلمت منهم ، فمن كذّب بهذا فقد كذّب بالحق وآمن بالباطل ، فلا أحد أظلم منه. وباللّه التوفيق.
ثم ذكر مآل أهل الجد والاجتهاد ممن تبتل وانقطع إلى اللّه فقال :
[سورة العنكبوت (29) : آية 69]
وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)
يقول الحق جل جلاله : وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا ، أطلق المجاهدة ولم يقيدها بمفعول ليتناول من تجب مجاهدته من النفس والشيطان وأعداء الدين ، أي : جاهدوا نفوسهم فى طلبنا ، أو فى حقنا ، ومن أجلنا ، ولوجهنا ، خالصا ، لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا أي : طرق السير إلينا ، والوصول إلى حضرتنا ، أو لنسهلنهم فعل الخير حتى يصلوا إلى جنابنا.
وعن الداراني : والذين جاهدوا بأن عملوا بما علموا ، لنهدينهم إلى علم ما لم يعلموا. وقال الفضيل : والذين جاهدوا فى طلب العلم ، أي : للّه ، لنهدينهم سبل العمل. وقال سهل : والذين جاهدوا فى إقامة السنّة ، لنهدينهم سبل الجنة. وقال ابن عطاء : جاهدوا فى إرضائنا لنهدينهم سبل الوصول إلى محل الرضوان. وقال ابن عباس : جاهدوا فى طاعتنا لنهدينهم سبل ثوابنا.
وقال الجنيد : جاهدوا فى التوبة ، لنهدينهم سبل الإخلاص ، أو : جاهدوا فى خدمتنا لنمنحنهم سبل المناجاة معنا والأنس بنا ، وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ بالنصر والمعونة فى الدنيا ، وبالثواب والمغفرة فى العقبى. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : المجاهدة ، على قدرها تكون المشاهدة ، فمن لا مجاهدة له لا مشاهدة له. وبالمجاهدة تميزت الخصوص من العموم ، وبها تحقق سير السائرين ، فالعموم وقفوا مع موافقة حظوظهم من الجاه والغنى وغيره ، والخصوص خالفوا نفوسهم ، ورفضوا حظوظهم ، وخرقوا عوائدهم ، فخرقت لهم العوائد ، وانكشفت عنهم الحجب ، وشاهدوا المحبوب. فجاهدوا أولا فى ترك الدنيا ، وتحملوا مرارة الفقر ، حتى تحققوا بمقام التوكل ، ثم جاهدوا فى ترك الجاه والرئاسة ، فتحققوا بالخمول ، وهو أساس الإخلاص ، ثم جاهدوا فى مخالفة النفس ، فحمّلوها كل ما يثقل(4/321)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 322
عليها ، وأخرجوها من كل ما تهواه ويخف عليها ، وارتكبوا فى ذلك أهوالا وأحوالا صعابا ، حتى ماتت نفوسهم موتات ، فتحقق بذلك حياة أرواحهم ، وأشرفت على البحر الزاخر ، بحر التوحيد الخاص ، فغابت ظلال الأكوان حين أشرقت شمس العيان ، ففنى من لم يكن ، وبقي من لم يزل ، فدخلوا جنة المعارف ، ولم يشتاقوا قط إلى جنة الزخارف لأنها منطوية فيها. ولا بد من صحبة شيخ كامل ، قد سلك هذه المسالك ، يلقيه زمام نفسه ، حتى يوصله إلى ربه ، وإلا أتعب نفسه بلا فائدة.
وقوله تعالى : وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ تهوين وتسهيل على السائرين أمر نفوسهم ومجاهدتها ، إذا علموا أن اللّه معهم ، هان عليهم كل صعب ، وقرب كل بعيد. وباللّه التوفيق. ولا حول ولا قوة إلا باللّه العلى العظيم. وصلى اللّه على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.(4/322)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 323
سورة الرّوم
مكية اتفاقا ، وقيل : إلى قوله : فَسُبْحانَ اللَّهِ .. «1» إلخ. وهى تسع وخمسون ، أو ستون ، آية. ومناسبتها لما قبلها : أن نتيجة المعية التي ذكرها بقوله : وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ هى النصر والعز الذي بشر به المؤمنين فى صدر السورة بقوله : وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ .. إلخ. قال تعالى :
[سورة الروم (30) : الآيات 1 الى 7]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4)
بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5) وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (6) يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ (7)
يقول الحق جل جلاله : بعد التسمية : الم أي : أيها المصطفى ، أو : المرسل ، غُلِبَتِ الرُّومُ أي :
غلبت فارس الروم فِي أَدْنَى الْأَرْضِ أي : فى أقرب أرض العرب لأن الأرض المعهودة عند العرب أرضهم ، أي : غلبوا فى أدنى أرض العرب منهم ، وهى أطراف الشام. أو : أراد أرضهم ، على إنابة اللام مناب المضاف إليه ، أي : فى أدنى أرضهم إلى عدوّهم. قال ابن عطية : قرأ الجمهور : «غلبت» بضم الغين. وقالوا : معنى الآية : أنه بلغ أهل مكة أن الملك كسرى هزم جيش الروم بأذرعات ، وهى أدنى أرض الروم إلى مكة ، فسر لذلك كفار قريش ، فبشر المؤمنين بأن الروم سيغلبون. ه. وهذا معنى قوله : وَهُمْ أي : الروم مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ ، وقرئ : بسكون اللام كالحلب والحلب ، وهو من إضافة المصدر إلى المفعول ، أي : وهم من بعد غلبة فارس إياهم سَيَغْلِبُونَ فارس ، وتكون الدولة لهم.
___________
(1) الآية 17 من السورة.(4/323)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 324
وذلك فِي بِضْعِ سِنِينَ ، وهو ما بين الثلاث إلى العشر. قال النسفي : قيل : احتربت الروم [وفارس ] «1» ، بين أذرعات وبصرى ، فغلبت فارس الروم ، والملك بفارس ، يومئذ ، كسرى «أبرويز» ، فبلغ الخبر مكة ، فشقّ ذلك على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم والمؤمنين لأنّ فارس مجوس لا كتاب لهم ، والروم أهل كتاب ، وفرح المشركون [وشمتوا] «2» ، وقالوا : أنتم والنصارى أهل الكتاب ، ونحن وفارس أمّيّون ، وقد ظهر إخواننا على إخوانكم ، ولنظهرنّ نحن عليكم ، فنزلت الآية. فقال أبو بكر : واللّه ليظهرنّ الروم على فارس بعد بضع سنين ، فقال له أبىّ بن خلف :
كذبت ، فناحبه - أي : قامره - على عشر قلائص من كل واحد منهما ، وجعل ثلاث سنين ، فأخبر أبو بكر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فقال - عليه الصلاة والسلام - : «زد فى الخطر وأبعد فى الأجل» ، فجعلاها مائة قلوص إلى تسع سنين ، ومات أبىّ من جرح رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يوم أحد ، وظهرت الروم على فارس يوم الحديبية ، أو : يوم بدر ، فأخذ أبو بكر الخطر من ذرية أبىّ ، فقال عليه الصلاة والسلام - : «تصدّق به» «3».
وهذه آية بينة على صحة نبوته ، وأن القرآن من عند اللّه لأنها إنباء عن علم الغيب. وكان ذلك قبل تحريم القمار ، [عن ] «4» قتادة. ومذهب أبى حنيفة ومحمد - رضى اللّه عنهما - : أن العقود الفاسدة كعقد الربا وغيره ، جائز فى دار الحرب بين المسلمين والكفار ، واحتجا بهذه القصة. ه. زاد البيضاوي : وأجيب بأنه كان قبل تحريم القمار. ه. وقرئ : «غلبت» بالفتح ، و«سيغلبون» بالضم ، ومعناه : أن الروم غلبوا على ريف الشام ، وسيغلبهم المسلمون ، وقد غزاهم المسلمون فى السنة التاسعة من نزولها ، وفتحوا بعض بلادهم ، وعلى هذا يكون إضافة الغلب إلى الفاعل.
لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ أي : من قبل كل شىء ، ومن بعد كل شىء. أو : من قبل الغلبة وبعدها ، كأنه قيل : من قبل كونهم غالبين - وقبله : هو وقت كونهم مغلوبين - ومن بعد كونهم مغلوبين - وهو وقت كونهم غالبين ، يعنى : أن كونهم مغلوبين أولا ، وغالبين آخرا ، ليس إلا بأمر اللّه وقضائه. وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ «5». وَيَوْمَئِذٍ أي : ويوم تغلب الروم فارس ، ويحل ما وعده اللّه من غلبتهم ، يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ ، وتغلب من له كتاب على من لا كتاب له ، وغيظ من شمت بهم من أهل مكة.
___________
(1) ما بين المعقوفتين ليس فى الأصول ، وأثبته من تفسير النسفي.
(2) فى الأصول : [شتموا].
(3) أخرجه بنحوه ابن جرير (21/ 17 - 18) عن عكرمة ، وجاءت القصة بسياقات وروايات متعددة. أخرجها أحمد (1/ 276 - 304) ، والترمذي فى (تفسير سورة الروم ، 5/ 321 ح 3193 - 3194) ، وابن جرير (21/ 16 - 18) ، والطبراني فى الكبير (12/ 29 ح 12377) والحاكم (2/ 410) ، وانظر الدر المنثور (5/ 289 - 292).
(4) فى الأصول [قال ] ، والمثبت من تفسير النسفي.
(5) من الآية 140 من سورة آل عمران. [.....](4/324)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 325
وقيل : نصر اللّه : هو إظهار صدق المؤمنين ، بما أخبروا به المشركين من غلبة الروم. يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ فينصر هؤلاء تارة وهؤلاء أخرى ، وَهُوَ الْعَزِيزُ : الغالب على أعدائه الرَّحِيمُ : العاطف على أوليائه.
وَعْدَ اللَّهِ أي : وعد ذلك وعدا ، فسينجزه لا محالة ، فهو مصدر مؤكّد لما قبله لأن قوله : سَيَغْلِبُونَ وعد ، لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ لامتناع الكذب عليه تعالى ، فلا بد من نصر الروم على فارس. وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ صحة وعده ، وأنه لا يخلف ، أو : لا يعلمون أن الأمور كلها بيد اللّه لجهلهم وعدم تفكرهم. وإنما يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا ما يشاهدونه منها ومن التمتع بزخارفها. وفيه دليل أن للدنيا ظاهرا وباطنا ، فظاهرها : ما يعرفه الجهّال من التمتع بزخارفها. قال بعض الحكماء : إن كنت من أهل الاستبصار فألق ناظرك عن زخارف هذه الدار ، فإنها مجمع الأكدار ، ومنبع المضار ، وسجن الإبرار ، ومجلس الأشرار ، الدنيا كالحية ، تجمع سموم نوائبها ، وتفرغه فى صميم قلوب أبنائها. ه. وباطنها : أنها مجاز إلى الآخرة ، يتزودون منها إليها بالأعمال الصالحة وتحقيق المعرفة. وتنكير (ظاهرا) : مفيد أنهم لا يعلمون إلا ظاهرا واحدا من جملة ظواهرها. وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ لا تخطر ببالهم ، ولا يتفكرون فى أهوالها وتوائبها. فهم ، الثانية : مبتدأ ، و(غافلون) : خبره ، والجملة : خبر الأولى ، وفيه تنبيه أنهم معدن الغفلة ومقرّها. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : كما تقع الدولة بين الأشباح ، تقع بين النفوس والأرواح. فتارة تغلب النفوس بظلماتها على الأرواح ، فتحجبها عن اللّه ، وتارة تغلب الأرواح بأنوارها على النفوس ، فتستر ظلمة حظوظها ، ويرتفع الحجاب بين اللّه وعبده. الم ، غلبت أنوار الأرواح بظلمة كثائف النفوس ، فى أدنى أرض العبودية ، وهم من بعد غلبهم سيغلبون ، فتغلب أنوار الأرواح المطهرة ، على ظلمة النفوس الظلمانية ، وذلك فى بضع سنين ، مدة المجاهدة ، والبضع : من ثلاث إلى عشر ، على قدر الجد والاجتهاد ، وعلى قدر تفاوت النفوس والطبع ، فمنهم من يظفر بنفسه فى مدة يسيره ، ومنهم من يظفر بعد مدة طويلة. للّه الأمر من قبل ومن بعد ، ويومئذ يفرح المؤمنون السائرون بنصر اللّه ، حيث نصرهم على نفوسهم ، فظفروا بها. ينصر من شاء حيث يشاء ، وهو العزيز الرحيم. قال بعضهم : انتهى سير السائرين إلى الظفر بنفوسهم ، فإن ظفروا بها وصلوا. ه.
وقال الورتجبي : قوله : غُلِبَتِ الرُّومُ .. الآية ، إشارة إلى أن الأرواح ، وإن كانت مغلوبة من النفوس الأمارة ، والشياطين الكافرة امتحانا من اللّه ، وتربية لها بمباشرة القهريات ، فإنها تغلب على النفوس ، من حين تخرج من مقام الاختيار. انظر تمامه. وقال القشيري : قوله تعالى : يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا : استغراقهم فى الاشتغال بالدنيا ، وانهماكهم بما منعهم عن العلم بالآخرة. وقيمة كل امرئ علمه كما فى الأثر عن علىّ رضي اللّه عنه. قال :
وقيمة كلّ امرئ ما كان يتقنه والجاهلون لأهل العلم أعداء(4/325)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 326
فأهل الدنيا فى غفلة عن الآخرة ، والمشتغلون بعلم الآخرة ، هم بوجودها ، فى غفلة عن اللّه. ه. قلت : وأهل المعرفة باللّه لم يشغلهم عنه دنيا ولا آخرة. واللّه تعالى أعلم.
ثم أمر بالتفكر ، فقال :
[سورة الروم (30) : آية 8]
أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ما خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ (8)
قلت : «فى أنفسهم» : يحتمل أن يكون ظرفا ، أي : أولم يحدثوا التفكر فيها ، وأن تكون صلة للتفكر ، نحو : تفكر فى الأمر : أجال فيه فكره. والأول أظهر.
يقول الحق جل جلاله : أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ أي : أولم يثبتوا التفكر فى أنفسهم ، أي : فى قلوبهم الفارغة ، فيتفكروا بها فى مصنوعات اللّه ، حتى يعلموا أنها ما خلقت عبثا ، والتفكر لا يكون إلا فى القلوب ، ولكن زيادة تصوير لحال المتفكرين ، كقوله : اعتقده فى قلبك. أو : أو لم يتفكروا فى أنفسهم ، التي هى أقرب إليهم من غيرها ، وهم أعلم بأحوالها ، فيتدبروا ما أودعها اللّه تعالى ، ظاهرا وباطنا ، من غرائب الحكمة الدالة على التدبير من الحكيم القديم ، وأنه لا بد لها من الانتهاء إلى وقت تجازى فيه ، على الإحسان إحسانا ، وعلى الإساءة مثلها ، حتى يعلموا ، عند ذلك ، أن سائر الخلائق مثلها ، وأنه لا بدّ لهم من الانتهاء إلى ذلك الوقت ، فيعلموا أن ما خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى أي : ما خلقها باطلا وعبثا من غير حكمة ، ولا لتبقى خالدة ، وإنما خلقها مقرونة بالحق ، مصحوبة بالحكمة البالغة ، وتنتهى إلى أجل مسمى ، وهو قيام الساعة ، ووقت الحساب ، بالثواب والعقاب ، فيخرب هذا العالم ، ويقوم عالم آخر ، لا انتهاء لوجوده.
قال فى الحاشية الفاسية : وبالجملة : فخلق السموات والأرض للدلالة على التوحيد بوجودهما ، وعلى الآخرة بفنائهما ، وانقضاء أجلهما. ثم قال : والحاصل أن خلقه بمقتضى الحكمة يقتضى جزاء أوليائه ، وتعذيب أعدائه. وقد نصب تعالى القلب شاهدا ومنزلا منزلة الآخرة ، والقالب منزلة الدنيا ، وكما أن عمل القالب يعود نفعه ، إذا فعل الطاعة ، على القلب بالتنوير والتقريب لحضرة الربوبية ، ويعود ضرره عليه ، إذا فعل ضد ذلك ، كما يعرفه أهل القلوب ، وأنه مزرعة للقلب ، ولا بقاء له ، وإنما خلق لقضاء ذلك ، فكذلك الدنيا مزرعة للآخرة ، وإنما خلقت لذلك ، كما يعرفه أهل القلوب والبصائر الصافية السالمة ، فاعتبر ذلك. ه.(4/326)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 327
وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ بالبعث والجزاء لَكافِرُونَ : لجاحدون.
الإشارة : قد تقدم الكلام على فضل التفكر فى آل عمران «1». وقوله تعالى : إِلَّا بِالْحَقِّ أي : ما خلق الكائنات إلا بالحق ، من الحق إلى الحق ، فهى من تجليات الحق ، ثابتة بإثباته ، ممحوة بأحدية ذاته ، فالحق عبارة عن عين الذات عند أهل الحق ، فافهم.
ثم قال زيادة فى الأمر بالاعتبار ، أو : تقول : لمّا ذكر علمهم بظاهر الحياة الدنيا ، ذكر أن من قبلهم كانوا أعلم بها ، ولم ينفعهم مع التكذيب ، فقال :
[سورة الروم (30) : الآيات 9 الى 10]
أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (9) ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ (10)
قلت : من رفع «عاقبة الذين أساءوا» فالسوأى : منصوب خبر كان ، ومن نصب «عاقبة» فالسّوأى : مرفوع اسمها ، أو : مصدر لأساءوا. انظر البيضاوي. والسّوأى : تأنيث أسوأ. و(أن كذبوا) : مفعول من أجله ، أو : بدل ، على أن معنى (أساءوا) : كفروا.
يقول الحق جل جلاله : أَوَلَمْ يَسِيرُوا أي : أعموا ولم يسيروا فِي الْأَرْضِ ، ثم قرره بقوله :
فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أي : فينظروا إلى آثار الذين من قبلهم كيف دمرهم اللّه ، وأخلا بلادهم ، وبقيت دراسة بعدهم ، كعاد وثمود ، وغيرهم من الأمم العاتية ، والجبابرة الطاغية ، كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً حتى كان منهم من يفتل الحديد بيده ، وَأَثارُوا الْأَرْضَ قلبوا وجهها بالحراثة ، واستنباط المياه ، واستخراج المعادن ، وغير ذلك. وَعَمَرُوها أي : عمر المدمّرون الأرض أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها أي : أهل مكة ، فأكثر : صفة لمصدر محذوف. و(ما) : مصدرية ، أي : عمارة هؤلاء ، فإنهم أهل واد غير ذى زرع ، ولا تبسط لهم فى غيرها. وفيه تهكم بهم من حيث إنهم عمروا الأرض ، مغترون بالدنيا ، مفتخرون بها ، وهم أضعف حالا فيها
___________
(1) راجع تفسير الآيات : 191 - 194 من سورة آل عمران ، ص 451 - 452 من المجلد الأول.(4/327)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 328
إذ مدار أمرها على التبسّط فى البلاد ، والتسلط على العباد ، والتصرف فى أقطار الأرض بأنواع العمارة ، وهم ضعفاء ملجأون إلى واد لا نفع فيه. قال البيضاوي.
وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ بالمعجزات الواضحات ، فلم يؤمنوا فأهلكوا ، فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ بأن دمرهم بلا سبب ، أو : من غير إعذار ، وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ حيث ارتكبوا ما أدى إلى تدميرهم.
ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا بالكفر والمعاصي السُّواى أي : العقوبة السوأى ، والأصل : ثم كان عاقبتهم ، فوضع الظاهر موضع المضمر للدلالة على ما اقتضى أن تكون تلك عاقبتهم ، وهو إساءتهم. والمعنى :
أنهم عوقبوا فى الدنيا بالدمار ، ثم كان عاقبتهم فى الآخرة العقوبة التي هى أسوأ العقوبات ، وهى النار التي أعدت للكافرين. لأجل أَنْ كَذَّبُوا أو : بأن كذّبوا بِآياتِ اللَّهِ الدالة على صدق رسله ، أو : على وحدانيته.
وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ حيث قابلوها بالتكذيب ، أو : غفلوا عن التفكر فيها. أو : ثم كان عاقبة الذين اقترفوا الخطيئة السّوآء أن طبع اللّه على قلوبهم ، حتى كذّبوا بالآيات ، واستهزءوا بها. أو : ثم كان عاقبة الذين فعلوا الفعلة السوأى ، وهو أن كذّبوا واستهزءوا ، أن يلحقهم ما تعجز عنه نطاق العبارة ، فخبر كان ، على هذا : محذوف للتهويل.
و(أن كذبوا) : بيان ، أو : بدل من السوأى. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : السير إلى اللّه على أقسام : سير النفوس : بإقامة عبادة الجوارح لطلب الأجور ، وسير القلوب :
بجولانها فى ميادين الأغيار ، للتبصر والاعتبار طلبا للحضور ، وسير الأرواح : بجولان الفكرة فى ميادين الأنوار طلبا لرفع الستور ودوام الحضور ، وسير الأسرار : الترقي فى أسرار الجبروت ، بعد التمكن من شهود أنوار الملكوت على سبيل الدوام. قال القشيري : سير النفوس فى أوطان الأرض ومناكبها لأداء العبادات ، وسير القلوب بجولان الفكر فى جميع المخلوقات ، وغايته : الظّفر بحقائق العلوم التي توجب ثلج الصدور - ثم تلك العلوم على درجات - وسير الأرواح فى ميادين الغيب : بنعت خرق سرادقات الملكوت. وقصاراه : الوصول إلى ساحل الشهود ، واستيلاء سلطان الحقيقة. وسير الأسرار : بالترقي - أي : الغيبة - عن الحدثان بأسرها ، والتحقق ، أولا ، بالصفات ، ثم بالخمود ، بالكلية ، عمّا سوى الحق. ه.
وقال فى قوله : ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى : من زرع الشوك لم يحصد الورد ، ومن استنبت الحشيش لم يقطف البهار ، ومن سلك سبيل الغىّ لم يحلل بساحة الرشد. ه.
ثم ذكر شأن البعث الذي هو عاقبة المسيء والمحسن : فقال :
[سورة الروم (30) : الآيات 11 الى 16]
اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (11) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (12) وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ شُفَعاءُ وَكانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ (13) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (51)
وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ (16)(4/328)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 329
يقول الحق جل جلاله : اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ينشئهم ، ثُمَّ يُعِيدُهُ يحييهم بعد الموت ، ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ للجزاء بالثواب والعقاب. والالتفات إلى الخطاب للمبالغة فى إثباته. وقرأ أبو عمرو وسهل وروح :
بالغيب ، على الأصل. وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ : ييأس ويتحير الْمُجْرِمُونَ المشركون يقال : ناظرته فأبلس ، أي : أفحم وأيس من الحجة ، أو : يسكتون متحيرين ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ التي عبدوها من دون اللّه شُفَعاءُ يشفعون لهم ويجيرونهم من النار ، وَكانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ جاحدين لها ، متبرئين من عبادتها ، حين أيسوا من نفعها. أو : كانوا فى الدنيا كافرين بسبب عبادتها.
وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ أي : المسلمون والكافرون ، بدليل قوله : فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ ، أي : بستان ذى أزهار وأنهار ، وهى الجنة. والتنكير لإبهام أمرها وتفخيمه ، يُحْبَرُونَ : يسرّون ، يقال : حبره ، إذا سرّه سرورا تهلّل به وجهه ، وظهر فيه أثره.
ووجوه المسار كثيرة ، فقيل : يكرمون ، وقيل : يحلّون. وقيل : هو السماع فى الجنة. قاله غير واحد. قال أبو الدرداء : كان عليه الصلاة والسلام يذكّر الناس بنعيم الجنان فقيل : يا رسول اللّه هل فى الجنة من سماع؟ قال :
«نعم ، إنّ فى الجنة لنهرا حافتاه الأبكار من كل بيضاء خمصانة ، يتغنين بأصوات لم تسمع الخلائق بمثلها قط ، فذلك أفضل نعيم أهل الجنّة.» قال الراوي : فسألت أبا الدرداء : بم يتغنين؟ قال : بالتسبيح إن شاء اللّه «1».
والخمصانة : المرهفة الأعلى ، الضخمة الأسفل. ه. انظر الثعلبي. وذكر غيره أن هذا السماع يكون فى نزهة تكون لأهل الجنة على شاطئ هذا النهر ، وقد ذكرناها فى شرحنا الكبير على الفاتحة.
وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ بالبعث فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ :
مقيمون ، لا يغيبون عنه. عائذا باللّه من غضبه.
___________
(1) ذكره القرطبي فى التفسير (6/ 5243) ، وعزاه للثعلبى ، من حديث أبى الدرداء ، وأخرجه ، بنحوه ، البيهقي فى البعث والنشور (425) من حديث أبى هريرة موقوفا.(4/329)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 330
الإشارة : من اعتمد على غير اللّه ، أو ركن إلى شىء سواه ، فهو مجرم عند الخصوص ، وذلك الشيء الذي ركن إليه صنم فى حقه ، يتبرأ منه يوم القيامة ، ويبلس من نفعه ، وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ : الآية.
وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ فريق هم أهل الوصلة ، وفريق هم أهل القطعة ، فريق فى المنة ، وفريق فى المحنة ، فريق فى السرور ، وفريق فى الثبور ، فريق فى الثواب ، وفريق فى العقاب ، فريق فى الفراق ، وفريق فى التلاق. قاله القشيري. وإذا كان الأمر هكذا ، فجدّ ، أيها المؤمن ، فى طاعة مولاك ، وأكثر من ذكره ، صباحا ومساء ، وليلا ونهارا لتنال ذلك الوعد ، وتنجو من الوعيد ، كما أبان ذلك بقوله :
[سورة الروم (30) : الآيات 17 الى 19]
فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (18) يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ (19)
قلت : «فسبحان» : مصدر لمحذوف ، أي : سبحوا سبحان. و(حين) : متعلق بذلك المحذوف ، وجملة : (و له الحمد) : معترضة بين معطوفات الظروف. و(فى السموات) : حال من الحمد ، أي : وله ، على عباده ، الحمد كائنا فى السموات .. إلخ.
يقول الحق جل جلاله : فَسُبْحانَ اللَّهِ أي : فسبّحوا اللّه ونزّهوه تنزيها يليق به فى هذه الأوقات التي تظهر فيها قدرته ، وتجدد فيها نعمه ، وهى حِينَ تُمْسُونَ تدخلون فى السماء ، وَحِينَ تُصْبِحُونَ تدخلون فى الصباح. وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي : وله ، على المميّزين كلّهم ، من أهل السموات والأرض ، أن يحمدوه ، وَعَشِيًّا أي : وسبحوه عشيا آخر النهار ، وَحِينَ تُظْهِرُونَ تدخلون فى وقت الظهيرة.
قال البيضاوي : وتخصيص التسبيح بالمساء والصباح لأن آثار العظمة والقدرة فيهما أظهر ، وتخصيص الحمد بالعشي - الذي هو آخر النهار ، من عشى العين إذا نقص نورها - والظهيرة - التي هى وسطه لأن تجدد النعم فيها أكثر. ويجوز أن يكون عَشِيًّا معطوفا على حِينَ تُمْسُونَ ، وقوله : وَلَهُ الْحَمْدُ .. إلخ - اعتراضا. وعن ابن عباس : الآية جامعة للصلوات الخمس ، (تمسون) : صلاتا المغرب والعشاء ، (تصبحون) : صلاة الفجر ، (و عشيا) : صلاة العصر ، (و تظهرون) : صلاة الظهر «1». ولذلك زعم الحسن أنها مدنيّة لأنه كان يقول :
___________
(1) أخرجه ابن جرير فى التفسير (21/ 29) ، والطبراني فى الكبير (10/ 304 ح 10596) ، والحاكم فى المستدرك (2/ 401) ، وصححه ، ووافقه الذهبي.(4/330)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 331
كان الواجب عليه بمكة ركعتين ، فى أي وقت اتفقت ، وإنما فرضت الخمس بالمدينة. والأكثر على أنها فرضت بمكة. ه.
ثم ذكر وجه استحقاقه للحمد والتنزيه بقوله : يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ ، الطائر من البيضة ، والإنسان من النطفة ، أو : المؤمن من الكافر ، والعالم من الجاهل. وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ ، البيضة من الطائر ، والنطفة من الإنسان ، أو : الكافر من المؤمن ، والجاهل من العالم. وَيُحْيِ الْأَرْضَ بالنبات بَعْدَ مَوْتِها بيبسها ، وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ ، والمعنى : أن الإبداء والإعادة متساويان فى قدرة من هو قادر على إخراج الحي من الميت ، وعكسه.
روى عن ابن عباس رضي اللّه عنه أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال : «من قرأ فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ .. إلى الثلاث آيات ، وآخر سورة الصافات : سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ .. إلخ .. دبر كلّ صلاة ، كتب له من الحسنات عدد نجوم السماء ، وقطر الأمطار ، وورق الأشجار ، وتراب الأرض. فإذا مات أجرى له بكل لفظ عشر حسنات فى قبره» «1» نقله الثعلبي والنسفي. وعنه - عليه الصلاة والسلام : «من قال حين يصبح : فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ .. إلى قوله :
وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ أدرك ما فاته فى يومه ، ومن قاله حين يمسى أدرك ما فاته فى ليلته» «2». رواه أبو داود.
وقال الضحاك : من قال : فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ .. إلخ كان له كعدل مائتى رقبة من ولد إسماعيل. ه.
زاد كعب : ولم يفته خير كان فى يومه ، ولا يدركه شر كان فيه. وإن قالها فى المساء فكذلك. وكان إبراهيم الخليل عليه السّلام يقرأها ست مرات فى كل يوم وليلة. ه.
الإشارة : أما وجه الأمر بالتنزيه حين المساء والصباح فلأنّ المجوس كانوا يسجدون للشمس فى هذين الوقتين تسليما وتوديعا ، فأمر الحق تعالى المؤمنين أن ينزهوه عمن يستحق العبادة معه ، وأما العشى فلأنه وقت غفلة الناس فى جمع حوائجهم ، وأما وقت الظهيرة فلأن جهنم تشتعل فيه كما فى الحديث ، وأمر بحمده والثناء عليه فى كل وقت لما غمره من النعم الظاهرة والباطنة.
قال القشيري : فمن كان صباحه باللّه بورك له فى يومه ، ومن كان مساؤه باللّه بورك له فى ليلته ، وأنشدوا :
وإنّ صباحا نلتقى فى مسائه صباح على قلب الغريب حبيب «3»
___________
(1) انظر : تفسير النسفي (2/ 695).
(2) أخرجه أبو داود فى (الأدب ، باب ما يقول إذا أصبح ، 5/ 316 ، ح 5076) ، والطبراني فى الكبير (12/ 239 ح 12991) ، وابن السّنّي فى عمل اليوم والليلة (ح 55) من حديث ابن عباس رضي اللّه عنه. قال الحافظ ابن كثير فى تفسيره (3/ 428) : إسناده جيد.
(3) البيت : لإبراهيم بن المهدى ، يذكر ابنه. انظر الكامل للمبرد (2/ 314) ، وفيه : صباح إلى قلبى ، الغداة ، حبيب.(4/331)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 332
شتّان بين عبد : صباحه مفتتح بعبادته ، ومساؤه مختتم بطاعته ، وبين عبد : صباحه مفتتح بمشاهدته ، ورواحه مختتم بعزيز رؤيته. قلت : الأول من عامة الأبرار ، والثاني من خاصة العارفين الكبار ، وبقي مقام الغافلين ، وهو :
من كان صباحه مفتتح بهم نفسه ، ومساؤه مختتم برؤية حسه ، ثم ذكر احتمال الصلوات الخمس فى الآية ، كما تقدم - ثم قال : وأراد الحق من أوليائه أن يجددوا العبودية فى اليوم والليلة خمس مرات ، فيقف على بساط المناجاة ، ويستدرك مافاته بين الصلاتين من صوارف الزلات. ه.
وقوله تعالى : يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ يخرج الذاكر من الغافل ، والغافل من الذاكر ، والعارف من الجاهل ، والجاهل من العارف ، ويحيى أرض النفوس باليقظة والمعرفة ، بعد موتها بالغفلة والجهل ، وكذلك تخرجون من قبوركم على مامتم عليه ، من معرفة أو جهل ، من يقظة أو غفلة ، يموت المرء على ما عاش عليه ، ويبعث على ما مات عليه. واللّه تعالى أعلم.
ثم ذكر دلائل البعث والخروج ، فقال :
[سورة الروم (30) : الآيات 20 الى 21]
وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (20) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21)
يقول الحق جل جلاله : وَمِنْ آياتِهِ الدالة على قدرته ، الشاملة للبعث وغيره ، أو : ومن علامات ربوبيته : أَنْ خَلَقَكُمْ أي : أباكم مِنْ تُرابٍ لأن أصل الإنشاء منه ، ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ أي : ثم فاجأتم وقت كونكم بشرا منتشرين فى الأرض ، آدم وذريته. وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها لأن حواء خلقت من ضلع آدم ، والنساء بعدها خلقن من أصلاب الرجال. أو : من شكل أنفسكم وجنسها ، لا من جنس آخر ، وذلك لما بين الاثنين - إذ كانا من جنس واحد - من الألفة والمودة والسكون ، وما بين الجنسين المختلفين من التنافر. ويقال سكن إليه : إذا مال إليه. وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً أي : جعل بينكم التوادد والتراحم بسبب الزواج.
وعن الحسن : المودة كناية عن الجماع ، والرحمة هى الولد. وقيل : المودّة للشابة الجميلة ، والرحمة للعجوز ، وقيل : المودة والرحمة من اللّه ، والفرك من الشيطان - أي : البغض من الجانبين. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ فيعلمون ما فى ذلك من الحكم ، وأن قوام الدنيا بوجود التناسل.(4/332)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 333
الإشارة : أصل نشأة البشرية من الطين ، وأصل الروح من نور رب العالين. فإذا غلبت الطينة على الروح جذبتها إلى عالم الطين ، فكان همها الطين ، وهوت إلى أسفل سافلين ، فلا تجد فكرتها وحديثها ، فى الغالب ، إلا فى عالم الحس ، ويكون عملها كله عمل الجوارح ، يفنى بفنائها. وإذا غلبت الروح على الطينة وذلك بدخول مقام الفناء ، حتى تستولى المعاني على الحسيات. وتنخنس البشرية تحت سلطان أنوار الحقيقة ، جذبتها إلى عالم الأنوار والأسرار ، فلا تجد فكرتها إلا فى أنوار التوحيد وأسرار التفريد ، وعملها كله قلبى وسرى ، بين فكرة واعتبار ، وشهود واستبصار ، يبقى مع الروح ببقائها ، يجرى عليها بعد موت البشرية ، ويبعث معها ، كما تقدم فى الحديث : (يموت المرء ...) إلخ.
قال القشيري : يقال : الأصل تربة ، ولكن العبرة بالتربية لا بالتربة. ه. قلت : إذ بالتربية تغلب الروح على البشرية ، ثم قال : اصطفى الكعبة ، فهى خير من الجنة ، مع أن الجنة جواهر ويواقيت ، والكعبة حجر ومدر ، أي :
كذلك المؤمن الكامل ، وإن كان أصله من الطين ، فهو أفضل من كثير من العوالم اللطيفة. ثم قال فى قوله تعالى :
وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً .. الآية : ردّ المثل إلى المثل ، وربط الشكل بالشكل ، وجعل سكون البعض إلى البعض ، وذلك للأشباح والصّور ، والأرواح صحبت الأشباح كرها لا طوعا ، وأما الأسرار فمعتقة ، لا تساكن الأطلال ، ولا تتدنس بالأغيار. ه.
قلت : وكأنه يشير إلى أن المودة التي انعقدت بين الزوجين إنما هى نفسية ، لا روحانية ، ولا سرية إذ الروح والسر لا يتصور منهما ميل إلى غير أسرار الذات العلية إذ محبة الحق جذبتها عن الميل إلى شىء من السّوى.
واختلف الصوفية : هل تخلّ هذه المودة التي بين الزوجين بمحبة الحق ، أم لا؟ فقال سهل رضي اللّه عنه : لا تضر الروح لقوله صلى اللّه عليه وسلم : «حبب إلىّ من دنياكم ثلاث ..» «1» فذكر النساء ، إذا كان على وجه الشفقة والرحمة ، لا على غلبة الشهوة. وعلامة محبة الشفقة : أنه لا يتغير عند فقدها ، ولا يحزن بفواتها. وهذا هو الصحيح. واللّه تعالى أعلم. «2»
[سورة الروم (30) : الآيات 22 الى 25]
وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ (22) وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (23) وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (24) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (25)
___________
(1) لفظ «ثلاث» لم يرد - مطلقا فى روايات الحديث الصحيحة. قال الحافظ ابن حجر : وليس فى شىء من طرقه «لفظ ثلاث» وراجع تخريج هذا الحديث الشريف عند إشارة الآية 45 من سورة العنكبوت.
(2) انظر : مجمع الأمثال للميدانى 1/ 129.(4/333)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 334
قلت : (يريكم البرق) : فيه وجهان ، أحدهما : إضمار «أن» كما فى حرف ابن مسعود ، والثاني : تنزيل الفعل منزلة المصدر ، كما قيل فى قولهم ، فى المثل : «تسمع بالمعيدىّ خير من أن تراه». أي : إن تسمع ، أو : سماعك.
و(خوفا وطعما) : مفعولان له على حذف مضاف ، أي : إرادة خوف ، وإرادة طمع ، أو : على الحال ، أي : خائفين وطامعين. و(إذا دعاكم) : شرطية ، و(إذا) ، الثانية فجائية ، نابت عن الفاء. و(من الأرض) : يتعلق بدعاكم.
يقول الحق جل جلاله : وَمِنْ آياتِهِ الدالة على باهر قدرته خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ. قال القشيري : السموات فى علّوها ، والأرض فى دنوّها ، هذه بنجومها وكواكبها ، وهذه بأقطارها ومناكبها ، هذه بشمسها وقمرها ، وهذه بمائها ومدرها ، واختلاف لغات أهلها فى الأرض ، واختلاف تسبيح الملائكة - عليهم السلام - الذين هم سكان السماء. ه. وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ باختلاف اللغات ، وبأجناس النطق وأشكاله ، وَأَلْوانِكُمْ ، كالسواد والبياض وغيرهما ، حتى لا تكاد تجد شخصين متوافقين إلا وبينهما نوع تخالف فى اللسان واللون ، وباختلاف ذلك وقع التعارف والتمايز ، فلو توافقت وتشاكلت لوقع التجاهل والالتباس ، ولتعطلت المصالح. وفى ذلك آية بينة ، حيث ولدوا من أب واحد ، وهم على كثرتهم متفاوتون. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ بفتح اللام وكسره «1». ويشهد للكسر قوله تعالى : وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ «2».
قال القشيري : واختصاص كلّ شىء من هذه ببعض جائزات حكمها شاهد عدل ، ودليل صدق ، يناجى أفكار المستيقظين ، وتنادى على أنفسها : أنها ، بأجمعها ، بتقدير العزيز العليم. ه.
وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ ، أي : منامكم بالليل ، وابتغاؤكم من فضله بالنهار ، أو : منامكم فى الزمانين ، وابتغاؤكم من فضله فيهما ، وهو حسن لأنه إذا طال النهار يقع النوم فيه ، وإذا طال الليل يقع الابتغاء فيه. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ سماع تدبر ، بآذان واعية. قال القشيري :
غلبة النوم لصاحبه من غير اختيار ، وانتباهه بلا اكتساب ، يدلّ على موته ثم بعثه ، ثم فى حال منامه يرى ما يسرّه وما يضرّه يدل على حاله فى قبره. اللّه أعلم كيف حاله ، فى أمره ، فيما يلقاه من خيره وشره. ه. «3»
___________
(1) قرأ حفص : بكسر اللام قبل الميم ، جمع «عالم» ، ضد الجاهل ، وقرأ الباقون : بفتح اللام جمع «عالم». انظر الإتحاف (2/ 356).
(2) من الآية 43 من سورة العنكبوت.
(3) بالمعنى.(4/334)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 335
وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً
، أي : خوفا من الصواعق ، وطمعا فى الغيث ، أو : خوفا للمسافر وطمعا للحاضر ، وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً مطرا فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ : يتفكرون بعقولهم.
وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ بغير عمد وَالْأَرْضُ على ماء جماد بِأَمْرِهِ أي : بإقامته ، أو : تدبيره وقدرته. ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ للبعث دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ من قبوركم. وسبك الآية : ومن آياته قيام السماوات والأرض ، واستمساكها بغير عمد ، ثم إذا دعاكم دعوة واحدة ، يا أهل القبور ، خرجتم بسرعة.
وإنما عطف هذا بثم بيانا لعظم ما يكون من ذلك الأمر ، وإظهار اقتداره على مثله ، وهو أن يقول : يا أهل القبور ، قوموا ، فلا تبقى نسمة من الأولين والآخرين إلا قامت تنظر ، كقوله : ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ «1».
تنبيه : عبّر عن مودة الزوجين بيتفكرون لأن المودة قلبية ، لا تدرك إلا بتفكر القلب ، وعبّر عن خلق السموات والأرض واختلاف الألسن والألوان بالعالمين لأن أمر ذلك يدركه كل أحد ، ممن له عقل أو علم ، وعبّر عن النوم واليقظة بيسمعون لأن من كان فى الغفلة لا يسمع أمثال هذه المواعظ ، وإنما يسمعها من كان متيقظا ، وعبّر عن إظهار البرق ، وإنزال المطر ، وإحياء الأرض ، بيعقلون لأن أمر البرق وما معه يبصره كل من له مسكة من عقل سليم ، ويعلم أنه من اللّه بلا واسطة. واللّه تعالى علم.
الإشارة : ما نصبت هذه الكائنات لتراها ، بل لترى فيها مولاها ، فما هذه الأكوان الحسية إلا تجليات من تجليات الحق ، ومظاهر من مظاهره ، وأنوار من أنوار ملكوته ، متدفقة من بحر جبروته. كان اللّه ولا شىء معه ، وهو الآن على ما عليه كان. لكن لا يعرف هذا إلا العارفون باللّه ، وأما غيرهم فحسبهم أن يستدلوا على عظمة خالقها ، وباهر قدرته وحكمته ، فيقوى إيمانهم ويشتد إيقانهم.
قال فى الإحياء : وبحر المعرفة لا ساحل له ، والإحاطة بكنه جلال اللّه محال ، وكلما كثرت المعرفة باللّه سبحانه ، وبأفعال مملكته ، وأسرار مملكته ، وقويت ، كثر النعيم فى الآخرة وعظم ، كما أنه كلما كثر البذر وحسن كثر الزرع وحسن. وقال أيضا ، فى كتاب شرح عجائب القلب : ويكون سعة ملك العبد فى الجنة بحسب سعة معرفته باللّه ، وبحسب ما يتجلى له من عظمة اللّه سبحانه ، ومن صفاته وأفعاله. ه.
ومن آياته خلق سماوت أرواحكم ، وأرض نفوسكم ، لتقوم الأرواح بشهود عظمة الربوبية ، والنفوس بآداب العبودية ، واختلاف ألسنتكم فبعضها لا تتكلم إلا فى الفرق ، وبعضها إلا فى الجمع. وألوانكم بعضها ظهر فيها
___________
(1) من الآية 68 من سورة الزمر.(4/335)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 336
سيما العارفين ، وبهجة المحبين ، وبعضها لم يظهر عليها شىء من ذلك. ومن آياته منامكم فى ليل الغفلة والبطالة ، وقت غفلتكم ، وابتغاؤكم من فضله بزيادة معرفته ، وقت يقظتكم. ومن آياته يريكم البرق ، أي : يلمع عليكم أسرار المعاني ، ثم تخفى عند الاستشراف على بحر الحقيقة ، خوفا من الاصطلام والرجوع ، وطمعا فى الوصول والتمكين. ومن آياته أن تقوم الأشياء به وبأسرار ذاته ، ثم إذا دعاكم دعوة من أرض القطيعة إذا أنتم تخرجون ، فتعرجون بأرواحكم إلى سماء وصلته وتمكن معرفته. واللّه تعالى أعلم.
ثم برهن على كمال ملكه وعظمته ، فقال :
[سورة الروم (30) : الآيات 26 الى 27]
وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (26) وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27)
يقول الحق جل جلاله : وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ملكا وملكا ، كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ أي :
مطيعون ، كلّ لما أراد ، لا يستطيع التغير عن ذلك. أو : مقرّون بالعبودية ، أو : قائمون بالشهادة على وحدانيته.
وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ أي : ينشئهم ثم يعيدهم للبعث ، وَهُوَ أي : البعث أَهْوَنُ أيسر عَلَيْهِ عندكم لأن الإعادة عندكم أسهل من الإنشاء ، فلم أنكرتم الإعادة ، مع إقراركم بأن الإنشاء منه تعالى؟
وقال الزجاج وغيره : أهون بمعنى «هيّن» كقوله : وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً «1» ، كما قالوا : أكبر ، بمعنى كبير. والإعادة فى نفسها عظيمة ، ولكنها هوّنت بالقياس إلى الإنشاء إذ هو أهون عند الخلق من الإنشاء لأن قيامهم بصيحة واحدة أسهل من كونهم نطفا ، ثم علقا ، ثم مضغا ، إلى تكميل خلقهم. قاله النسفي.
وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي : الوصف الأعلى ، الذي ليس لغيره ، وقد عرف به ، ووصف فى السموات والأرض ، على ألسنة الخلائق وألسنة الدلائل ، وهو أنه القادر الذي لا يعجز عن شىء من إنشاء وإعادة ، وغيرهما من المقدورات ، وَهُوَ الْعَزِيزُ أي : القاهر لكل مقدور ، الْحَكِيمُ الذي يجرى كل فعل على قضايا حكمته وعلمه. وعن ابن عباس : المثل الأعلى هو : لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ «2».
وعن مجاهد : هو قول : «لا إله إلا اللّه». ومعناه : وله الوصف الأرفع ، وهو اختصاصه بالألوهية فى العالم العلوي والسفلى ، ويعضده : ما بعده من ضرب المثل. واللّه تعالى أعلم.
___________
(1) من الآية 30 من سورة النساء.
(2) من الآية 11 من سورة الشورى. [.....](4/336)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 337
الإشارة : الأشياء كلها ، من عرشها إلى فرشها ، حيها وجامدها ، قانتة وساجدة للّه تعالى ، من حيث حسّها الذي هو مقر العبودية ، وغنية عن السجود من حيث معناها لأنها من أسرار الربوبية. فالعبد ، من حيث فرقه ، عبد خاضع ، ومن حيث جمعه : حر مطاع.
قال القشيري : قوله : وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ أي : فى ظنّكم وتقديركم. وفى الحقيقة السهولة والوعورة على الحق لا تجوز. وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى والصفات العلى فى الوجود بحقّ القدم ، وفى وجوده - أي : للأشياء - بنعت الكرم ، وفى القدرة بوصف الشمول ، وفى النظرة بوصف الكمال ، وفى العلم بعموم التعلق ، وفى الحكم بوجود التحقق ، وفى المشيئة بوصف البلوغ ، وفى القضية بحكم النفوذ ، وفى الجبروت بعين العز والجلال ، وفى الملكوت بنعت الجد والكمال. ه. قلت : والحاصل أن المثل الأعلى يرجع إلى كمال ذاته ، تعالى ، وصفاته وأفعاله.
ثم ضرب مثلا لقبح الشرك ، بعد بيان علو شأنه ، فقال :
[سورة الروم (30) : الآيات 28 الى 29]
ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (28) بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْواءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (29)
يقول الحق جل جلاله : ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا لقبح الشرك وبشاعته ، منتزعا مِنْ أَنْفُسِكُمْ التي هى أقرب شىء إليكم ، وهو : هَلْ لَكُمْ ، معاشر الأحرار ، مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ أي : من عبيدكم مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ من الأموال وغيرها. فمن ، الأولى : للابتداء ، والثانية : للتبعيض ، والثالثة : مزيدة لتأكيد الاستفهام الجاري مجرى النفي. والمعنى : هل لكم ، من بعض عبيدكم ، شرك فيما رزقناكم ، أي : هل ترضون أن يكون عبيدكم شركاء لكم فيما رزقناكم؟ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ فتكونون أنتم وهم ، فيما رزقناكم من الأموال ، سواء يتصرفون فيه كتصرفكم ، ويحكمون فيه كحكمكم ، مع أنهم بشر مثلكم ، حال كونكم تَخافُونَهُمْ أن يستبدوا بالتصرف فيه ، كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ أي : كما يخاف الأحرار بعضهم من بعض - فيما هو مشترك بينهم - أن يستبد فيه بالتصرف دونه. أو : تخافونهم أن يقاسموكم تلك الأموال ، أو : يرثونها بعدكم ، كما تخافون ذلك من بعضكم ، فإذا لم ترضوا ذلك لأنفسكم ، فكيف ترضونه لرب الأرباب ومالك الأحرار والعبيد ، أن تجعلوا بعض عبيده له شركاء فى استحقاق العبادة؟!(4/337)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 338
كَذلِكَ ، أي : مثل هذا التفصيل البديع ، نُفَصِّلُ الْآياتِ نبينها لأن التمثيل مما يكشف المعاني ويوضحها لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ يتدبرون فى ضرب الأمثال ، ويعرفون حكمها وأسرارها ، فلما لم ينزجروا أضرب عنهم ، فقال : بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أنفسهم بالشرك أَهْواءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ ، أي : تبعوا أهواءهم ، جاهلين ، ولو كان لهم علم لرجى أن يزجرهم ، فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ؟ أي : لا هادى له قط ، وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ يمنعونهم من العذاب ، أو : يحفظونهم من الضلالة ، أو : من الإقامة فيها.
الإشارة : ما قيل فى الشرك الجلى يجرى مثله فى الشرك الخفي فإن الحق تعالى غيور ، لا يحب العمل المشترك ، ولا القلب المشترك. العمل المشترك لا يقبله ، والقلب المشترك لا يقبل عليه ، وأنشدوا «1» :
لى محبوب إنما هو غيور يطلّ فى القلب كطير حذور ذا رأى شيئا امتنع أن يزور فكما أنك لا ترضى من عبدك أن يحب غيرك ، ويخضع له ، كذلك الحق تعالى لا يرضى منك أن تميل لغيره. قال القشيري : قوله : بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْواءَهُمْ : أشدّ الظلم متابعة الهوى لأنه قريب من الشّرك.
قال اللّه تعالى : أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ «2» ، ومن اتّبع هواه خالف رضا مولاه ، فهو ، بوضع الشيء فى غير موضعه ، صار ظالما ، كما أن العاصي ، بوضع المعصية فى موضع الطاعة ، صار ظالما ، كذلك بمتابعة هواه ، بدلا عن موافقة ومتابعة رضا مولاه ، صار فى الظلم متماديا. ه.
ثم أمر بالتوحيد الخالص ، المقصود من ضرب المثل ، فقال :
[سورة الروم (30) : الآيات 30 الى 32]
فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (30) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32)
___________
(1) وهو الششترى ، كما ذكر الشيخ المفسر فى إيقاظ الهمم/ 437.
(2) من الآية 23 من سورة الجاثية.(4/338)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 339
قلت : (حنيفا) : حال من (الدين) ، أو : من الأمور ، وهو ضمير (أقم) ، و(فطرة) : منصوب على الإغراء.
يقول الحق جل جلاله ، لنبيه صلى اللّه عليه وسلم ، أو : لكل سامع : فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ أي : قوّم وجهك له ، غير ملتفت عنه يمينا ولا شمالا. وهو تمثيل لإقباله على الدين بكلّيته ، واستقامته عليه ، واهتمامه بأسبابه فإنّ من اهتم بالشيء توجه إليه بوجهه ، وسدّد إليه نظره ، حَنِيفاً أي : مائلا عن كل ما سواه من الأديان ، فِطْرَتَ اللَّهِ أي : الزموا فطرة اللّه. والفطرة : الخلقة : ألا ترى إلى قوله : لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ؟ فالأرواح ، حين تركيبها فى الأشباح ، كانت قابلة للتوحيد ، مهيّأة له ، بل عالمة به بدليل إقرارها به فى عالم الذر ، حتى لو تركوا لما اختاروا عليه دينا آخر ، ومن غوى فإنما غوى منهم بإغواء شياطين الإنس والجن. وفى حديث قدسى : «كلّ عبادى خلقت حنيفا ، فاجتالتهم الشّياطين عن دينهم ، وأمروهم أن يشركوا بي غيرى» «1» ، وفى الصحيح : «كل مولود يولد على الفطرة ، فأبواه يهوّدانه أو ينصرّانه أو يمجّسانه» «2» قال الزجّاج : معناه : أن اللّه تعالى فطر الخلق على الإيمان به ، على ما جاء فى الحديث : «إن اللّه عز وجل أخرج من صلب آدم ذريته كالذرّ ، وأشهدهم على أنفسهم بأنه خالقهم ، فقالوا : بلى» «3» ، وكل مولود فهو من تلك الذرية التي شهدت بأن اللّه تعالى ربّها وخالقها. ه. قال ابن عطية : الذي يعتمد عليه فى تفسير هذه اللفظة : أنها الخلقة والهيئة فى نفس الطفل ، التي هى مهيئة لمعرفة اللّه والإيمان به ، الذي على الإعداد له فطر البشر ، لكن تعرض لهم العوارض على حسب ما جرى به القدر ، ولا يلزم من الإعداد وجعله على حالة قابلة للتوحيد ألا يساعده القدر ، كما فى قوله تعالى : وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ «4» ، أي : خلقهم معدين لذلك ، فأمر من ساعده القدر ، وصرف عن ذلك من لم يوفّق لما خلق له. ه.
فقوله فى الحديث : «كلّ مولود يولد على الفطرة» أي : على القابلية والصلاحية للتوحيد ، ثم منهم من يتمحض لذلك ، كما سبق فى القدر ، ومنهم من لم يوفق لذلك ، بل يخذل ويصرف عنه لما سبق عليه من الشقاء.
وقال فى المشارق : أي : يخلق سالما من الكفر ، متهيئا لقبول الصلاح والهدى ، ثم أبواه يحملانه ، بعد ، على ما سبق له فى الكتاب. ه. قال ابن عطية : وذكر الأبوين إنما هو مثال للعوارض التي هى كثيرة. ثم قال : وقد فطر اللّه
___________
(1) أخرجه بنحوه ، مطولا ، مسلم فى (الجنة وصفه نعيمها ، باب الصفات التي يعرف بها ، فى الدنيا ، أهل الجنة وأهل النار 4/ 2197 ، ح 2865) من حديث عياض المجاشعي. ولفظه : «إنى خلقت عبادى حنفاء كلهم ، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم. الحديث.
(2) أخرجه البخاري فى (القدر ، باب اللّه أعلم بما كانوا عاملين ح 6599) ، ومسلم فى (القدر ، باب معنى كل مولود يولد على الفطرة ، 4/ 2047 ، ح 2658) بزيادة فى آخره ، من حديث أبى هريرة - رضى اللّه عنه.
(3) أخرجه أحمد فى المسند (1/ 272) وقال فى مجمع الزوائد (7/ 25) : رواه أحمد ، ورجاله رجال الصحيح.
(4) الآية 56 من سورة الذاريات.(4/339)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 340
الخلق على الاعتراف بربوبيته ، ومن لازم ذلك توحيده ، وإن لم يوفّقوا لذلك كلّهم ، بل وحّده بعضهم ، وأشرك بعضهم ، مع اتفاق الكل على ربوبيته ضرورة أن الكلّ يشعر بقاهر له مدبر. قال فى الحاشية : والحاصل : أنه تعالى فطر الكل فى ابتداء النشأة ، على الاعتراف بربوبيته ، ولكن كتب منهم السعداء موحدين ، وكتب الأشقياء مشركين ، مع اعتراف الجميع بربوبيته ، ولم يوفق الأشقياء لكون الربوبية تستلزم الوحدانية ، فأشركوا ، فناقضوا لازم قولهم. ه.
وهذا معنى قوله تعالى : الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها ، أي : خلقهم فى أصل نشأتهم عليها ، لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ أي : ما ينبغى أن تبدل تلك الفطرة أو تغير. وقال الزجاج : معناه : لا تبديل لدين اللّه ، ويدل عليه قوله : ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ أي : المستقيم ، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ حقيقة ذلك. حال كونكم.
مُنِيبِينَ إِلَيْهِ أي : راجعين إليه ، فهو حال من ضمير : الزموا. وقوله : وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ : عطف على الزموا. أو : على (فأقم) لأن الأمر له - عليه الصلاة والسلام - أمر لأمته ، فكأنه قال : فأقيموا وجوهكم ، منيبين إليه ، وَاتَّقُوهُ أي : خافوا عقوبته ، وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ أي : أتقنوها وأدّوها فى وقتها ، وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ممن يشرك به غيره فى العبادة.
مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ : بدل من «المشركين» بإعادة الجار ، أي : لا تكونوا من الذين جعلوا دينهم أديانا مختلفة باختلاف ما يعبدونه لاختلاف أهوائهم. وقرأ الأخوان : (فارقوا) أي : تركوا دين الإسلام الذي أمروا به ، وَكانُوا شِيَعاً أي : فرقا ، كل فرقة تشايع إمامها الذي أضلها ، أي : تشيعه ، وتقوى سواده ، كُلُّ حِزْبٍ منهم بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ مسرورون ، ظنا بأنه الحق ، ثم يبدو لهم من اللّه ما لم يكونوا يحتسبون. والعياذ باللّه.
الإشارة : الفطرة التي فطر اللّه الأرواح عليها هى معرفة العيان لأنها كلها كانت عارفة باللّه لصفائها ولطافتها ، فما عاقها عن تلك المعرفة إلا كثافة الأبدان ، والاشتغال بحظوظها وهواها ، حتى نسيت تلك المعرفة. وفى ذلك يقول ابن البنا فى مباحثه «1» :
ولم تزل كلّ نفوس الأحيا لامة درّاكة للأشيا
وإنّما تعوقها الأبدان والأنفس النّزّع والشّيطان
فكل من أذاقهم جهاده أظهر للقاعد خرق العادة
___________
(1) انظر الفتوحات الإلهية فى شرح المباحث الأصلية ص 111.(4/340)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 341
قال بعضهم : إنما حجب اللّه عنها تلك العلوم غيرة أن تكشف سر الربوبية فيظهر لغير أهله ، قال القشيري :
فَأَقِمْ وَجْهَكَ أي : أخلص قصدك إلى اللّه ، واحفظ عهدك معه ، وأفرد عملك ، فى سكناتك وحركاتك وجميع تصرفاتك ، له. حَنِيفاً أي : مستقيما فى دينه ، مائلا عن غيره ، معرضا عن سواه. والزم (فطرة اللّه التي فطر الناس عليها) ، ثم ذكر ما تقدم لنا. ثم قال : مُنِيبِينَ إِلَيْهِ راجعين إلى اللّه بالكلية ، من غير أن تبقى بقية ، متصفين بوفائه ، منحرفين بكل وجه عن خلافه ، متّقين صغير الإثم وكبيره ، وقليله وكثيره ، مقيمين الصلاة بأركانها وسننها وآدابها جهرا ، متحققين بمرعاة فضلها سرا.
وقال فى قوله تعالى : مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ : أقاموا فى دنياهم فى دار الغفلة ، وعناد الجهل والفترة ، فركنوا إلى ظنونهم ، واستوطنوا مركب أوهامهم ، وثملوا بسكر غيّهم ، وظنوا أنهم على شىء ، فإذا انكشف ضباب وقتهم ، وانقشع سحاب هجرهم ، انقلب فرحهم ترحا ، واستيقنوا أنهم كانوا فى ضلالة ، ولم يعرّجوا إلا فى أوطان الجهالة. ه.
ثم ذكر حال أهل الغفلة ، فقال :
[سورة الروم (30) : الآيات 33 الى 36]
وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (33) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (34) أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (35) وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ (36)
قلت : (إذا هم) : جواب (إن). و(إذا) الفجائية ، تخلّف الفاء ، لتآخيهما فى التعقيب.
يقول الحق جل جلاله : وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ كمرض ، وفقر ، وشدة ، أو غير ذلك ، دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ راجعين إِلَيْهِ من دعاء غيره. ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً خلاصا من الشدة إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ شركا جليا أو خفيا ، أي : فاجأ بعضهم الإشراك بربهم الذي عافاهم ، لِيَكْفُرُوا إما : لام كى ، أو : لام الأمر للوعيد والتهديد ، أي : أشركوا كى يكفروا بِما آتَيْناهُمْ من النعم ، التي من جملتها : نجاتهم وخلاصهم من كل شدة ، فَتَمَتَّعُوا بكفركم قليلا أمر تهديد ، فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ وبال تمتعكم.(4/341)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 342
أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً حجّة على عبادة أصنامهم ، فَهُوَ يَتَكَلَّمُ ، وتكلمه مجاز ، كما تقول : كتابه ناطق بكذا ، وهذا مما نطق به القرآن ، ومعناه : الشهادة ، كأنه قال : يشهد بصحة ما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ ، فما :
مصدرية ، أي : بصحة كونهم باللّه يشركون ، أو : موصولة ، أي : بالأمر الذي بسببه يشركون.
وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً أي : نعمة من مطر ، أو : سعة رزق ، أو : صحة ، فَرِحُوا بِها فرح بطر وافتخار وغفلة. وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بلاء من جدب ، أو ضيق ، أو مرض ، بِما بسبب ما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ من المعاصي ، أي : بشؤمها ، إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ ييأسون من رحمة اللّه ، وفرجه بعد عسره. يقال :
قنط يقنط ، كفرح يفرح ، وكعلم.
الإشارة : الواجب على المؤمنين أن يتخلقوا بضد ما تخلق به الكافرون فإذا مسهم ضر أو شدة ، توجهوا إلى اللّه ، إما بالتضرع والابتهال عبودية ، منتظرين ما يفعل اللّه ، وإما بالصبر ، والرضا ، والسكون تحت مجارى الاقدار.
فإذا جاء الفرج والنعمة شكروا اللّه وحمدوه ، ونسبوا الفرج إليه وحده ، فإن كان وقع منهم سبب شرعى لم يلتفتوا إليه قط إذ لا تأثير له أصلا ، وإنما الفرج عنده لا به ، فلا يقولوا : فلان ولا فلانة ، وإنما الفاعل هو اللّه الواحد القهار.
وهذا الشرك الخفي مما ابتلى به كثير من الناس ، علماء وصالحين ، وخصوصا منهم من يتعاطى كتب الفلسفة ، كالأطباء وغيرهم ، إذا أصابهم شىء فزعوا ، فإذا فرّج عنهم قالوا : فلان داوانا ، وفلان فرّج عنا ، والدواء الفلاني هو شفانى ، فتعالى اللّه عما يشركون. فليشدّ العبد يده على التوحيد ، ولا يرى فى الوجود إلا الفرد الصمد ، الفعّال لما يريد.
ومن أوصاف أهل الغفلة : أنهم ، إذا أصابتهم نعمة ، فرحوا وافتخروا بها ، وإذا أصابتهم شدة قنطوا وأيسوا من روح اللّه ، والواجب : ألا يفرح بما هو عارض فإن ، ولا ييأس من روح اللّه عند الشدة ، بل ينتظر من اللّه الفرج ، فإنّ مع العسر يسرا ، إن مع العسر يسرا. قال تعالى : ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ، لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ .. «1» الآية.
وباللّه التوفيق.
ثم برهن على توالى النعم والمحن على العبد ، مادام فى دار الدنيا ، فقال :
___________
(1) الآيتان : 22 - 23 من سورة الحديد.(4/342)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 343
[سورة الروم (30) : الآيات 37 الى 39]
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (37) فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (38) وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (39)
يقول الحق جل جلاله : أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ أي : يضيق على من يشاء ، فينبغى للعبد أن يكون راجيا ما عند اللّه ، غير آيس من روح اللّه إذ دوام حال من قضايا المحال ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ فيستدلون بها على كمال قدرته وحكمته ، ولا يقفون مع شىء دونه. قال النسفي : أنكر عليهم بأنهم قد علموا أنه القابض الباسط ، فما لهم يقنطون من رحمته؟ وما لهم لا يرجعون إليه ، تائبين من معاصيهم ، التي عوقبوا بالشدّة من أجلها ، حتى يعيد عليهم رحمته؟
ولما ذكر أنّ السيئة أصابتهم بما قدمت أيديهم ، أتبعه ذكر ما يحب أن يفعل وما يجب أن يترك ، يعنى : عند البسط فقال : فَآتِ ذَا الْقُرْبى أعط قريبك حَقَّهُ من البر والصلة مما بسط عليك. وَأعط الْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ حقهما من الصدقة الواجبة أو التطوعية ، حسبما تقتضيه مكارم الأخلاق. والخطاب لمن بسط عليه ، أو : للنبى - عليه الصلاة والسلام ، وغيره تبع. ذلِكَ أي : إيتاء حقوقهم الواجبة ، والتطوعية ، خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ أي : ذاته المقدسة ، أي : يقصدون ، بمعروفهم ، إياه ، خالصا. وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ الفائزون بكل خير ، قد حصّلوا ، بما بسط لهم ، النعيم المقيم.
وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ أي : وما أعطيتم من مال لتأخذوا من أموال الناس أكثر منه ، كيفيّة أو كمّيّة ، فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ ولا يبارك فيه ، بل يسحته ويمحقه ، ولو بعد حين. وهذه صورة الربا المحرمة إجماعا ، وقيل : وما أعطيتم من هدية لتأخذوا أكثر منها ، فلا يربو عند اللّه ، لأنكم لم تقصدوا به وجه اللّه.
وهذه هدية الثواب ، جائزة ، إلا فى حقه - عليه الصلاة والسلام لقوله تعالى : وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ «1». وقرأ ابن كثير : «أتيتم» بالقصر ، بمعنى ما جئتم به من إعطاء ربا. وقرأ نافع «3» : «لتربوا» بالخطاب ، أي : لتصيروا [ذوى ] «2» ربا ، فتزيدوا فى أموالكم.
___________
(1) الآية 6 من سورة المدثر.
(2) فى الأصول [ذا].
(3) وكذا قرأ أبو جعفر ويعقوب. وقرأ الباقون بياء الغيب وفتحها. انظر الإتحاف (2/ 357).(4/343)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 344
وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ صدقة ، تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ تبتغون به وجهه خالصا ، لا تطلبون به زيادة ، ولا مكافأة ، ولا سمعة ، فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ أي : ذوو الأضعاف من الحسنات ، من سبعمائة فأكثر. ونظير المضعف : المقوي ، والموسر ، لذى القوة واليسار. والالتفات إلى الخطاب فى (أولئك ...) إلخ فى غاية الحسن لما فيه من التعظيم ، كأنه خاطب الملائكة وخواص الخلق تعريفا بحالهم ، وتنويها بقدرهم ، ولأنه يفيد التعميم ، كأنه قيل : من فعل هذا فسبيله سبيل المخاطبين المقبول عليهم. ولا بد من ضمير يعود إلى «ما» الموصولة ، أي :
المضعفون به. أو : فمؤتوه أولئك هم المضعفون. وقال الزجاج : أي : فأهلها هم المضعفون ، أي : يضاعف لهم الثواب ، من عشر إلى سبعمائة. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : البسط والقبض يتعاقبان على العبد تعاقب الليل والنهار. فالواجب على العبد : الرجوع إلى اللّه فى السراء والضراء ، فالبسط يشهد فيه المنّة من اللّه ، ومقتضى الحق منك الحمد والشكر. والقبض يشهده من اللّه امتحانا وتصفية ، ومقتضى الحق منك الصبر والرضا ، وانتظار الفرج من اللّه فإن انتظار الفرج ، مع الصبر ، عبادة. قال القشيري : الإشارة إلى ألا يعلّق العبد قلبه إلا بالله لأنّ ما يسوءهم ليس زواله إلا من اللّه ، وما يسرهم ليس وجوده إلا من اللّه. فالبسط ، الذي يسرهم ويؤنسهم منه ، وجوده ، والقبض ، الذي يسوءهم ويوحشهم منه ، حصوله. فالواجب : لزوم [عهوده بالإسرار] «1» ، وقطع الأفكار عن الأغيار. ه.
وقال فى قوله : فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ : القرابة على قسمين قرابة النسب وقرابة الدين ، وهى أمسّ ، وبالمواساة أحقّ. وإذا كان الرجل مشتغلا بالعبادة ، غير متفرغ لطلب المعيشة ، فالذى له إيمان بحاله ، وإشراف على وقته ، يجب عليه أن يقوم بشأنه ، بقدر ما يمكنه ، مما يكون له عون على طاعته ، مما يشوش قلبه ، من حديث عياله ، فإن كان اشتغال الرجل بشىء من مراعاة القلب فحقّه آكد ، وتفقّده أوجب ، ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ ، والمريد هو الذي يؤثر حقّ اللّه على حظّ نفسه. فإيثار الإخوان ، لمن يريد وجه اللّه ، أتمّ من مراعاة حال نفسه ، فهمّه بالإحسان لذوى القربى والمساكين يتقدم على نظره لنفسه وعيلته ، وما يهمه من نصيبه. ه.
وقال فى قوله : يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ : لا تستخدم الفقير بما تريده به من رفق ، بل أفضل الصدقة على ذى رحم كاشح ، أي : قاطع حتى يكون إعطاؤه للّه مجردا عن كل نصيب لك. فهؤلاء هم الذين يتضاعف أجرهم بمجاهدتهم [لنفوسهم ] «2» ، حيث يخالفونها ، وفوزهم بالعوض من قبل اللّه. ثم الزكاة هى التطهير ، فتطهير المال
___________
(1) فى القشيري [عقوة الأسرار].
(2) فى الأصول [لنفسهم ].(4/344)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 345
معلوم ببيان الشريعة ، وزكاة البدن وزكاة القلب ، وزكاة السرّ ، كلّ ذلك يجب القيام به. ه. قلت : فزكاة البدن :
إتعابه فى القيام بوظائف العبودية الظاهرة ، وزكاة القلب : تطهيره من الرذائل وتحليته بالفضائل ، وزكاة السر :
صيانته من الميل إلى شىء من السّوى. واللّه تعالى أعلم.
ثم برهن على وحدانيته ، فقال :
[سورة الروم (30) : آية 40]
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (40)
قلت : (اللّه) : مبتدأ ، و(الذي خلقكم) : خبر.
يقول الحق جل جلاله : اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ أظهركم ثُمَّ رَزَقَكُمْ ما تقوم به أبدانكم ، ثُمَّ يُمِيتُكُمْ عند انقضاء آجالكم ، ثُمَّ يُحْيِيكُمْ عند بعثكم ليجازيكم على فعلكم ، أي : هو المختص بالخلق ، والرزق ، والإماتة ، والإحياء. هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ أصنامكم مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ أي : من الخلق ، والرزق ، والإماتة ، والإحياء ، مِنْ شَيْءٍ أي : شيئا من تلك الأفعال؟ فلم يجيبوا ، عجزا ، فقال استبعادا وتنزيها : سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ. و«من» الأولى ، والثانية ، والثالثة : زوائد لتأكيد عجز شركائهم ، وتجهيل عبدتهم.
الإشارة : ذكر الحق تعالى أربعة أشياء متناسقة أنه هو فاعلها ، فأقر الناس بثلاثة ، وشكّوا فى الرزق ، وقالوا :
لا يكون إلا بالسبب ، والسبب إنما هو ستر لسر الربوبية. فإذا تحقق وجوده فى حق العامة ارتفع فى حق الخاصة ، فيرزقهم بلا سبب ، لقوله تعالى : وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً ، وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ «1».
قال القشيري : حين قذفك فى بطن أمّك قد كنت غنيا عن الأكل والشراب بقدرته ، أو مفتقرا إليه ، فأجرى رزقه عليك مع الطمث ، على ما قالوا ، وإذا أخرجك من بطن أمك رزقك على الوجه المعهود فى الوقت المعلوم ، فيسر لك أسباب الشرب والأكل من لبن الأم ، ثم من فنون الطعام ، ثم أرزاق القلوب والسرائر من الإيمان والعرفان ، وأرزاق التوفيق من الطاعات والعبادات ، وأرزاق اللسان من الأذكار ، وغير ذلك مما جرى ذكره. ثُمَّ يُمِيتُكُمْ
___________
(1) الآيتان : 2 - 3 من سورة الطلاق. [.....](4/345)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 346
بسقوط شهواتكم ، ويميتكم عن شواهدكم ، ثُمَّ يُحْيِيكُمْ بحياة قلوبكم ، ثم بأن يحييكم بربكم. ويقال : من الأرزاق ما هو وجود الأرفاق ، ومنها ما هو شهود الرزاق. ويقال : لا مكنة لك فى تبديل خلقك ، فكذلك لا قدرة لك على تغيير رزقك. فالموسّع عليه : رزقه بفضل ربه ، لا [بمناقب ] «1» نفسه. والمقترّ عليه رزقه بحكم ربه ، لا بمعايب نفسه. ه. وبعضه بالمعنى.
وقد يضيق رزقه على العباد لما يظهر فيهم من الفساد ، كما قال تعالى :
[سورة الروم (30) : الآيات 41 الى 42]
ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (42)
يقول الحق جل جلاله : ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ، أما الفساد فى البر فالقحط ، وقلة الأمطار ، وعدم الريع فى الزراعات والربح فى التجارات ، ووقوع الموتان فى الناس والدوابّ ، ومحق البركات من كل شىء.
وأما فى البحر فبكثرة الغرق ، وانقطاع صيده. بِما وذلك بسبب ما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ من الكفر والمعاصي ، ولو استقاموا على الطاعة لدفع اللّه عنهم هذه الآفات. أظهر فيهم ذلك لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا أي : ليذيقهم وبال بعض أعمالهم فى الدنيا ، قبل أن يعاقبهم بجميعها فى الآخرة ، عن «قنبل ويعقوب» :
بنون التكلم. لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَعما هم عليه من المعاصي.
قُلْ لكفار قومك : سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ لتعاينوا ما فعلنا بهم بسبب كفرهم ومعاصيهم لأنه كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ فدمرناهم ، وخربنا ديارهم ، فانظروا : كيف كان عاقبتهم ، لعلكم ترجعون عن غيكم.
الإشارة : قال القشيري : الإشارة فى البر إلى النّفس ، وفى البحر إلى القلب ، وفساد البرّ بأكل الحرام وارتكاب المحظورات ، وفساد البحر من الغفلة والأوصاف الذميمة ، مثل سوء العزم ، والحسد والحقد ، وإرادة الفسوق ، وغير ذلك. وعقد الإصرار على المخالفات من أعظم فساد القلب ، كما أنّ العزم على الخيرات ، قبل فعلها ، من أعظم الخيرات. ومن جملة الفساد : التأويلات بغير حقّ ، والانحطاط إلى الرّخص من غير قيام بحق ، والإغراق فى الدعاوى من غير استحياء. ه.
___________
(1) فى الأصول [بمثاقبة] والمثبت من القشيري(4/346)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 347
قال الورتجبي : إن اللّه غلب الإنسانية على الكون طاعة ومعصية ، فإذا رزق الإنسان الطاعة صلح الأكوان ببركتها ، وإذا رزق المعصية فسد الحدثان بشؤم معصيته لأن طاعته ومعصيته من تواثير «1» لطفه وقهره ، علا بنعت الاستيلاء على الوجود ، فإذا فسادها يؤثر فى برّ النفوس وبحار القلوب ، ففساد برّ النفوس : فترتها عن العبودية ، وفساد بحر القلب : احتجابه عن مشاهدة أنوار الربوبية. ه.
قلت : وقد يقال : ظهر الفساد فى بر الشريعة بذهاب حملتها ، ومن يحفظها ، ويذب عنها ، وفى بحر الحقيقة بقلة صدق من يطلبها ، وغربة أهلها ، واختفائها حتى اندرست أعلامها ، وخفى آثارها ، والبركة لا تنقطع. وذلك بسبب ما كسبت أيدى الناس من إيثار الدنيا على اللّه ليذيقهم وبال القطيعة لعلهم يرجعون إليه ، إما بملاطفة الإحسان ، أو بسلاسل الامتحان.
قال فى لطائف المنن : سأل بعض العارفين عن أولياء العدد ، هل ينقصون؟ فقال : لو نقص منهم واحد ما أرسلت السماء قطرها ، ولا أنبتت الأرض نباتها ، وفساد الوقت لا يكون بذهاب أعدادهم ، ولا بنقص أمدادهم ، ولكن إذا فسد الوقت كان مراد اللّه وقوع اختفائهم ، مع وجود بقائهم. فإذا كان أهل الزمان معرضين عن اللّه ، مؤثرين لما سوى اللّه لا تنجح فيهم الموعظة ، ولا تميلهم التذكرة ، لم يكونوا أهلا لظهور أولياء اللّه تعالى فيهم ، ولذلك قالوا :
أولياء اللّه عرائس ، ولا يرى العرائس المجرمون. ه.
قال القشيري : (قل سيروا) بالاعتبار ، واطلبوا الحقّ بنعت الافتكار ، وانظروا : كيف كان حال من تقدمكم من الأشكال والأمثال؟ وقيسوا عليها حكمكم فى جميع الأحوال ، (كان أكثرهم مشركين) : كان أكثرهم عددا ، ولكن أقل فى التحقيق وزنا وقدرا. ه.
ثم أمر بالتأهب ليوم المعاد ، وبه يندفع عن الخلق الفساد ، فقال :
[سورة الروم (30) : الآيات 43 الى 45]
فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (43) مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ (45)
___________
(1) هكذا فى الأصول ، وكذا فى الورتجبي. ولعلها : تآثير ، جمع تأثير.(4/347)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 348
يقول الحق جل جلاله : فَأَقِمْ وَجْهَكَ أي : قوّمه ووجّهه لِلدِّينِ الْقَيِّمِ البليغ فى الاستقامة ، الذي لا يتأتى فيه عوج ولا خلل. وفيه ، من البديع ، جناس الاشتقاق. والخطاب للنبى صلى اللّه عليه وسلم ، وأمته تبع ، أو : لكل سامع.
مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ وهو البعث ، لا مَرَدَّ لَهُ أي : لا يقدر أحد على رده ، ومِنَ اللَّهِ : متعلّق بيأتي ، أي :
من قبل أن يأتى من اللّه يوم لا يردّه أحد ، أو بمرد لأنه مصدر ، أي : لا مرد له من جهة اللّه ، بعد أن يجىء لتعلق الإرادة به حينئذ. يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ يتصدّعون ، فأدغم التاء فى الصاد. وفى الصحاح : الصدع : الشق ، يقال صدعته فانصدع ، أي : انشق. وتصدّع القوم : تفرقوا. ه. أي : يتفرقون فريق فى الجنة وفريق فى السعير.
ثم أشار إلى غناه عنهم ، فقال : مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وبال كفره ، لا يحمله عنه غيره. وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ أي : يسوون لأنفسهم فى قبورهم ، أو : فى الجنة ما يسوى لنفسه الذي يمهد فراشه ويوطئه لئلا يصيبه فى مضجعه ما ينغص عليه مضجعه. وتقديم الظرف فى الموضعين للاختصاص ، أي : فلا يجاوز عمل أحد لغيره.
ثم علل ما أمر به من التأهب ، فقال : لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ، أظهر فى موضع الإضمار ، أي : ليجزيهم ليدل على أنه لا ينال هذا الجزاء الجميل إلا المؤمن لصلاح عمله. أثابه ذلك مِنْ فَضْلِهِ أي : بمحض تفضله إذ لا يجب عليه شىء ، إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ ، بل يبغضهم ويمقتهم ، وفيه إيماء إلى أنه يحب المؤمنين ، وهو كذلك ، ولا سيما المتوجهين.
الإشارة : أمر الحق تعالى بالتوجه إليه ، والتمسك بالطريق التي توصل إليه ، قبل قيام الساعة لأن هذه الدار هى مزرعة لتك الدار ، فمن سار إليه هنا وعرفه عرفه فى الآخرة ، ومن قعد هنا مع هواه ، حتى مات جاهلا به بعث كذلك ، كما هو معلوم. ولا يمكن التوجه والظفر بالطريق الموصلة إليه تعالى إلا بشيخ كامل ، سلك الطريق وعرفها. ومن رام الوصول بنفسه ، أو بعلمه ، أو بعقله انقطع لا محالة. قال القشيري : فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ : أخلص قصدك ، وصدق عزمك ، بالموافقة للدين القيّم ، بالاتباع دون الاستبداد بالأمر على وجه الابتداع.
ومن لم يتأدب [بمن ] «1» هو إمام وقته ، ولم يتلقف الأذكار ممن هو لسان وقته كان خسرانه أتمّ من ربحه ، ونقصانه أعمّ من نفعه. ه.
___________
(1) فى الأصول الخطية [ممن ].(4/348)
البحر المديد ج 4 ، ص : 349
ثم ذكر دلائل القدرة على البعث وغيره ، فقال :
[سورة الروم (30) : آية 46]
وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (46)
قلت : (و ليذيقكم) : عطف على (مبشرات) على المعنى ، كأنه قيل : لتبشركم وليذيقكم ، أو : على محذوف ، أي : ليغيثكم وليذيقكم.
يقول الحق جل جلاله : وَمِنْ آياتِهِ الدالة على كمال قدرته : أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ ، وهى الجنوب ، والصّبا ، والشمال ، والدّبور ، فالثلاث : رياح الرحمة ، والدبور : ريح العذاب ، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام : «اللهم اجعلها رياحا ، ولا تجعلها ريحا» «1». وقال : «نصرت بالصّبا ، وأهلكت عاد بالدّبور» «2» ، وهى الريح العقيم. وقرأ ابن كثير والأخوان : بالإفراد ، على إرادة الجنس.
ثم ذكر فوائد إرسالها بقوله : مُبَشِّراتٍ أي : أرسلها بالبشارة بالغيب وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ ولإذاقة الرحمة ، وهى نزول المطر ، وحصول الخصب الذي يتبعه ، والرّوح الذي مع هبوب الريح ، وزكاء الأرض ، أي :
ربوها وزيادتها بالنبات ، وغير ذلك من منافع الرياح والأمطار. قال الحسن : لو أمسك اللّه عن أهل الأرض الريح ساعة لماتوا غمّا.
وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فى البحر عند هبوبها بِأَمْرِهِ بتدبيره ، أو بتكوينه ، لقوله إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً ... «3» الآية. قيل : إنما زاد بأمره لأنها قد تهب غير مواتية ، فتغرق ، وهى عند أمره أيضا ، فهى على حسب أمره ، ولأن الإسناد وقع للفلك مجازا ، فأخبر أنه بأمره ، وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ ، يريد به تجارة البحر ، وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ هذه النعم فيزيدكم من فضله.
الإشارة : ومن آيات فتحه على أوليائه : أن يرسل رياح الهداية أولا ، ثم رياح التأييد ، ثم رياح الواردات ، تحمل هدايا التّعرّفات ، مبشرات بالفتح الكبير ، والتمكين فى شهود العلى الكبير ، وليذيقكم من رحمته ، وهى حلاوة معرفته ، ولتجري سفن الأفكار فى ميادين بحار توحيده ، ولتبتغوا من فضله هو الترقي فى الكشوفات والعلوم والأسرار ، أبدا سرمدا ، ولعلكم تشكرون بالقيام برسوم الشريعة وآداب العبودية.
___________
(1) أخرجه الشافعي فى مسنده (ح 502) ، وأبو يعلى فى مسنده (4/ 341) ، والطبراني فى الكبير (11/ 213 - 214 ح 11532) ، وابن عدى فى الكامل (2/ 763) من حديث ابن عباس. وانظر : مجمع الزوائد (10/ 135 - 136).
(2) أخرجه البخاري فى (الاستسقاء ، باب : قول النبي صلى اللّه عليه وسلم «نصرت بالصبا» ح 1035) ومسلم فى (الاستسقاء باب فى ريح الصبا والدبور ، 2/ 617 ، ح 900) من حديث ابن عباس رضى اللّه عنه. والصبا : ريح ، ومهبها المستوي أن تهب من مطلع الشمس إذا استوى الليل والنهار. والدّبور : الريح التي تقابل الصبا ، وقال النووي : هى الريح الغربية.
(3) الآية 82 من سورة يس.(4/349)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 350
قال القشيري : يرسل رياح الرجاء على قلوب العبّاد ، فتكنس قلوبهم من غبار الحسد وغثاء النفس ، ثم يرسل عليها أمطار التوفيق ، فتحملهم إلى بساط الجهد ، وتكرمهم بقوى النشاط. ويرسل رياح البسط على أرواح الأولياء فتطهرها من وحشة القبض ، وتنشر فيه لذاذات الوصال ، ويرسل رياح التوحيد فتهب على أسرار الأصفياء ، فتطهرها من آثار الأغيار ، وتبشرها بدوام الوصال. فذلك ارتياح به ، ولكن بعد اجتناح عنك. ه. أي : بعد ذهاب عنك وزوال. واللّه تعالى أعلم.
ثم سلّى نبيه بمن قبله ، فقال :
[سورة الروم (30) : آية 47]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47)
قلت : (حقا) : خبر «كان» ، و(نصر) : اسمها. أو : (حقا) : خبر «كان» ، واسمها : ضمير الانتقام ، فيوقف عليه ، و(علينا نصر) : مبتدأ وخبر.
يقول الحق جل جلاله : لَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ
بالمعجزات البينات الواضحات ، فكذبوهم انْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا
بالتدمير ، كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ
أي :
وكان نصر المؤمنين ، بإنجائهم من العذاب ، حقا واجبا علينا بإنجاز وعدنا إحسانا. أو : وكان الانتقام من المجرمين حقا لا شك فيه ، ثم علينا ، من جهة الإحسان ، نصر المؤمنين. قال البيضاوي : فيه إشعار بأن الانتقام لهم - أي : من عدوهم - إظهار لكرامتهم ، حيث جعلهم مستحقين على اللّه أن ينصرهم. وعنه صلى اللّه عليه وسلم : «ما من امرئ مسلم يردّ عن عرض أخيه ، إلا كان حقا على اللّه أن يردّ عنه نار جهنم» ، ثم تلا الآية «1». أي : كانَ حَقًّا عَلَيْنا ..
إلخ.
الإشارة : هكذا جرت سنّة اللّه تعالى ، مع خواصه ، أن ينتقم ممن آذاهم ، ولو بعد حين. وقد يكون الانتقام باطنا بنقص الإيمان وقساوة القلب ، وهو أقبح. قال القشيري : فانتقمنا من الذين أجرموا ، وأخذناهم من حيث لم يحتسبوا ، وشوّشنا عليهم ما أمّلوا ، ونقصنا عليهم ما استطابوا وتنعّموا. كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ
، وطئهم
___________
(1) أخرجه البغوي فى تفسيره (6/ 276) وأخرجه بنحوه أحمد فى المسند (6/ 450) ، والترمذي فى (البر والصلة ، باب ما جاء فى الذّب عن عرض المسلم ، 4/ 288 ح 1931) ، وحسنه من حديث أبى الدرداء رضي اللّه عنه. وأخرجه الطبراني فى الكبير (24/ 175 - 176 ، ح 442) من حديث أسماء بنت يزيد الأنصارية. وانظر الفتح السماوي (2/ 905 - 908).(4/350)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 351
أعداؤهم بأعقابهم ، فلم يلبثوا إلا يسيرا حتى رقّيناهم فوق رقابهم ، وخرّبنا أوطانهم ، وهدّمنا بنيانهم ، وأخمدنا نيرانهم ، وعطّلنا عليهم ديارهم ، ومحونا ، بقهر التدمير ، آثارهم ، فظّلت شموسهم كاسفة ، ومكيدة قهرنا لهم ، بأجمعهم ، خاسفة. ه.
ثم برهن على ذلك ، فقال :
[سورة الروم (30) : الآيات 48 الى 50]
اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (48) وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (49) فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (50)
يقول الحق جل جلاله : اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ الأربع. وقرأ المكي : بالإفراد. فَتُثِيرُ أي : تزعج سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ أي : يجعله منبسطا ، متصلا بعضه ببعض فى سمت السماء ، كقوله : وَفَرْعُها فِي السَّماءِ «1» ، أي : جهته. فيبسطها فى الجو كَيْفَ يَشاءُ سائرا أو واقفا ، مطبقا وغير مطبق ، من ناحية الشمال ، أو الجنوب ، أو الدّبور ، أو الصّبا ، وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً أي : قطعا متفرقة. والحاصل : أنه تارة يبسطه متصلا مطبقا ، وتارة يجعله قطعا متفرقة ، على مشيئته وحكمته. فَتَرَى الْوَدْقَ المطر يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وسطه.
فَإِذا أَصابَ بِهِ بالودق مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ ، يريد إصابة بلادهم وأراضيهم ، إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ يفرحون بالخصب ، وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ المطر مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ آيسين ، وكرر «من قبله» للتوكيد ، وفائدته : الإعلام بسرعة تقلب قلوب الناس من القنوط إلى الاستبشار ، أو : على أن عهدهم بالمطر قد تطاول فاستحكم يأسهم ، فكان الاستبشار على قدر اغتمامهم بذلك.
فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللَّهِ أي : المطر كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بالنبات وأنواع الثمار بَعْدَ مَوْتِها يبسها ، إِنَّ ذلِكَ أي : القادر عليه لَمُحْيِ الْمَوْتى فكما أحيا الأرض بعد يبسها ، يحيى الأجساد بعد رميمها ، وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ، وهذا من جملة مقدوراته تعالى.
___________
(1) من الآية 24 من سورة إبراهيم.(4/351)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 352
الإشارة : اللّه الذي يرسل رياح الواردات الإلهية ، فتنزعج سحاب الآثار عن عين الذات العلية ، فتبقى شمس العرفان ، ليس دونها سحاب ، فيبسطه فى سماء القلوب كيف يشاء ، فيقع الاحتجاب لبعضها ، ويصرفه عمن يشاء فيقع التجلي والظهور ، ويجعله كسفا لأهل الاستشراف ، فتارة ينجلى عنهم سحب الآثار ، فيشاهدون الأنوار ، وتارة تغطيهم سحب الآثار ، فيشاهدون الأغيار ، فترى مطر خمرة الفناء تخرج من خلاله ، فإذا أصاب به من يشاء من عباده ، إذا هم يستبشرون بأنوار معرفته وأسرار ذاته. وقد كانوا قبل ذلك مبلسين ، آيسين حين كانت نفوسهم غالبة عليهم. فانظر كيف أحيا أرض قلوبهم بعد موتها بالجهل والغفلة. وهذا مثال من كان منهمكا ثم سقط على شيخ ذى خمرة أزلية ، فسقاه حتى حيي بمعرفة اللّه.
قال القشيري : اللّه الذي يرسل رياح عطفه وجوده ، مبشرات بجوده ووصله ، ثم يمطر جود غيثه على أسرارهم ، ويطوى بساط الحشمة عن مناجاة قربه ، ويضرب قباب الهيبة بمشاهد كشفه ، وينشر عليهم أزهار أنسه ، ثم يتجلّى لهم بحقائق قدسه ، ويسقيهم بيده شراب حبّه. وبعد ما محاهم عن أوصافهم أصحاهم ، لا بهم ، ولكن بنفسه. والعبارات عن ذلك خرس ، والإشارات ، دونه ، طمس.
وقال فى قوله تعالى : فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللَّهِ .. الآية : يحيى الأرض بأزهارها وأنوارها عند مجىء أمطارها ، ليخرج زرعها وثمارها ، ويحيى النفوس بعد تفريقها ، ويوفقها للخيرات بعد فترتها ، فتعمر أوطان الوفاق بصدق إقدامهم ، وتندفع البلايا عن الأنام ببركات أيامهم ، وتحيى القلوب ، بعد غفلتها ، بأنواع المحاضرات ، فتعود إلى استدامة الذكر بحسن المراعاة ، ويهتدى بأنوار أهلها أهل العصر من أهل الإرادات ، ويحيى الأرواح بعد حجبتها بأنوار المشاهدات ، فتطلع شموسها من برج السعادة ، ويتصل ، بمشامّ أسرار الكافة نسيم ما يفيض عليهم من الزيادات ، فلا يبقى صاحب نفس إلا حظى منه بنصيب ، ويحيى الأسرار بأنوار المواجهات. وما كان لها إلا وقفة فى بعض الحالات ، فتنتفى ، بالكلية ، آثار الغيريّة ، ولا يبقى فى الديار ديّار ، ولا من سكانها آثار ، وسطوات الحقائق لا تثبت لها ذرّة من صفات الخلائق هنالك الولاية للّه الحق .. انتهى المراد منه ، مع زيادة بيان.
ثم ذكر الجوائح ، وما ينشأ من أهل الغفلة عند ظهورها ، فقال :
[سورة الروم (30) : الآيات 51 الى 53]
وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (51) فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (52) وَما أَنْتَ بِهادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (53)(4/352)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 353
قلت : اجتمع القسم والشرط ، فذكر جواب القسم وأغنى عن جواب الشرط. والضمير فى (رأوه) : يعود على النبات المفهوم مما تقدم من إحياء الأرض ، أو : على السحاب.
يقول الحق جل جلاله : وَاللّه لَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً عاصفة على ما نبت فى الأرض من الزروع وسائر الأشجار ، الذي هو أثر رحمة اللّه ، فَرَأَوْهُ أي : ما نبت فى الأرض ، مُصْفَرًّا يابسا لَظَلُّوا أي :
ليظلون مِنْ بَعْدِهِ أي : من بعد اصفراره يَكْفُرُونَ ، ويقولون : ما رأينا خيرا قط ، فينسون النعم السابقة بالنقم اللاحقة. وهذه صفة أهل الغفلة ، وأما أهل اليقظة فيشكرون فى أوقات النعم ، ويصبرون ويرضون فى أوقات النقم ، وينتظرون الفرح بعد الشدة ، واليسر بعد العسر ، غير [قانطين ] «1» ولا ضجرين. أو : ولئن أرسلنا ريحا لتعذيبهم ، فرأوا سحابة صفراء ، لأنّ اصفراره علامة على أنه لا مطر فيه ، لظلوا ، أي : للجوا من بعد ذلك على كفرهم وطغيانهم لانهماكم.
قال البيضاوي : وهذه الآية ناعية على الكفار ، لقلة تثبتهم ، وعدم تدبرهم ، وسرعة تزلزلهم لعدم تفكرهم ، وسوء رأيهم ، فإن النظر السوي يقتضى أن يتوكلوا على اللّه ، ويلتجئوا إليه بالاستغفار ، إذا احتبس القطر عنهم ، ولا ييأسوا من رحمته ، وأن يبادروا إلى الشكر واستدامة الطاعة ، إذا أصابهم برحمته ، ولم يبطروا بالاستبشار ، وأن يصبروا على بلائه إذا ضرب زروعهم بالاصفرار ، ولم يكفروا نعمه. ه.
قال النسفي : ذمّهم اللّه تعالى بأنهم ، إذا حبس عنهم المطر ، قنطوا من رحمته ، وضربوا أذقانهم على صدورهم ، مبلسين ، فإذا أصابهم برحمته ، ورزقهم المطر ، استبشروا ، فإذا أرسل اللّه ريحا فضرب زروعهم بالصفار ضجّوا ، وكفروا بنعمه ، وهم فى جميع هذه الأحوال على صفة مذمومة ، وكان عليهم أن يتوكلوا على اللّه ، فقنطوا ، وأن يشكروا نعمته ويحمدوه عليها ، ففرحوا وبطروا ، وأن يصبروا على بلائه ، فكفروا. ه.
وهذه حال من مات قلبه ، قال تعالى : فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى أي : موتى القلوب ، وهؤلاء فى حكم الموتى فلا تطمع أن يقبلوا منك ، وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ أي : لا تقدر أن تسمع من كان كالأصم دعاءك إلى اللّه ، أو : لا يقدرون أن يسمعوا منك ، إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ ، فإن قلت : الأصم لا يسمع مقبلا أو مدبرا ، فما فائدة التخصيص؟ قلت : هو إذا كان مقبلا يفهم بالرمز والإشارة ، فإذا ولّى فلا يفهم ، ولا يسمع ، فيتعذر إسماعه بالكلية. قاله النسفي.
___________
(1) فى الأصول المخطوطة [قانتين ] والمناسب ما أثبته.(4/353)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 354
وَما أَنْتَ بِهادِ الْعُمْيِ أي : عمي القلوب. وقرأ حمزة : «وما أنت تهدى العمى» ، عَنْ ضَلالَتِهِمْ أي :
لا تقدر أن تهدى الأعمى عن طريقه إذا ضلّ عنه ، بالإشارة إليه ، إِنْ ما تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ منقادون لأوامر اللّه ونواهيه.
الإشارة : من أصول طريقة التصوف : الرجوع إلى اللّه فى السراء والضراء ، فالرجوع فى السراء : بالحمد والشكر ، وفى الضراء : بالرضا والصبر. قال القشيري : فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى .. إلخ : من فقد الحياة الأصلية لم يعش بالرّقى والتمائم ، وإذا كان فى السريرة طرش عن سماء الحقائق ، فسمع الظواهر لا يفيد إلا تأكيد الحجّة ، وكما لم يسمع الصّم الدعاء ، فكذلك لا يمكنه أن يهدى العمى عن ضلالتهم. ه.
ولما ذكر شيئا من دلائل الأكوان ، ذكر شيئا من دلائل الأنفس ، فقال :
[سورة الروم (30) : آية 54]
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (54)
قلت : «اللّه» : مبتدأ ، والموصول : خبره.
يقول الحق جل جلاله : اللَّهُ الذي يستحق أن يعبد وحده هو الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ أي :
ابتدأكم ضعفاء ، وجعل الضعف أساس أمركم ، أو : خلقكم من أصل ضعيف ، وهو النطفة كقوله : أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ «1» ، ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ، يعنى : حال الشباب إلى بلوغ الأشد ، ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً ، يعنى : حال الشيخوخة والهرم.
وقد ورد فى الشيب ما يسلى عن روعة هجومه ، فمن ذلك قوله صلى اللّه عليه وسلم : «من شاب شيبة فى الإسلام كانت له نورا يوم القيامة» «2» ، ولما رأى إبراهيم عليه السّلام الشيب فى لحيته قال : يا رب ، ما هذا؟ قال : هذا وقار. وأوحى اللّه تعالى إلى داود عليه السّلام : «يا داود ، إنى لأنظر الشيخ الكبير ، مساء وصباحا ، فأقول له : عبدى ، كبر سنّك ، ورق جلدك ، ووهن عظمك ، وحان قدومك علىّ ، فاستحي منى ، فإنى أستحيى أن أعذب شيبة بالنار». ومن المستلحات ،
___________
(1) الآية 20 من سورة المرسلات.
(2) أخرجه الترمذي فى (فضائل الجهاد ، باب ما جاء فى فضل من شاب شيبة فى سبيل اللّه ، ح 1635) وأخرجه ، مطولا ، النسائي فى (الجهاد ، باب من رمى بسهم فى سبيل اله عز وجل 6/ 26) من حديث عمرو بن عبسة.(4/354)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 355
مما يسلى عن روع الشيب ، ما أنشد القائل :
لا يروعك الشّيب يا بنت عبد اللّه ، فالشّيب حلة ووقار
إنّما تحسن الرّياض إذا م ا ضحكت فى خلالها الأزهار
ثم قال تعالى : يَخْلُقُ ما يَشاءُ من ضعف ، وقوة ، وشباب ، وشيبة ، وَهُوَ الْعَلِيمُ بأحوالهم ، الْقَدِيرُ على تدبيرهم فيصيرهم إلى ذلك. والترديد فى الأحوال أبين دليل على وجود الصانع العليم القدير.
وفى «الضعف» : لغتان الفتح والضم «1». وهو أقوى سندا فى القراءة ، كما روى ابن عمر. قال : قرأتها على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : «من ضعف» ، فأقرأنى : «من ضعف» «2».
الإشارة : إذا كثف الحجاب على الروح ، وكثرت همومها ، أسرع لها الضعف والهرم ، وإذا رقّ حجابها ، وقلّت همومها قويت ونشطت بعد هرمها ، ولا شك أن توالى الهموم والأحزان يهرم ، وتوالى البسط والفرح ينشط ، ويرد الشباب فى غير إبّانه ، والعارفون : فرحهم باللّه دائم ، وبسطهم لازم إذ لا تنزل بساحتهم الهموم والأحزان ، وإنما تنزل بمن فقد الشهود والعيان كما قال فى الحكم.
قال القشيري «3» : خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ، أي : ضعف عن حال الخاصة ، ثم جعل من بعد ضعف قوة بالوصول إلى شهود الوجود القديم ، ثم من بعد قوة ضعفا بالرجوع إلى المسكنة ، أي : فى حال البقاء ، قال صلى اللّه عليه وسلم : «اللهم أحينى مسكينا ، وأمتنى مسكينا ، واحشرني فى زمرة المساكين» «4» ه «5».
ثم ذكر أهوال البعث ، فقال :
[سورة الروم (30) : الآيات 55 الى 57]
وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ (55) وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللَّهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (56) فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (57)
___________
(1) قرأ حفص : بالفتح ، عن عاصم. وقرأ الباقون : بضمها ، وهو الذي اختاره حفص ، لحديث ابن عمر. وعن حفص أنه قال : (ما خالفت عاصما إلا فى هذا الحرف). وقد صح عنه الفتح والضم. وقال فى النشر : وبالوجهين قرأت له ، وبهما آخذ. انظر الإتحاف (2/ 359).
(2) أخرجه أحمد (2/ 58 - 59) ، وأبو داود فى كتاب (الحروف والقراءات ، باب 1 ، 4/ 283 ، ح 3978) ، والترمذي فى (القراءات - سورة الروم ، 5/ 174 ، ح 2936) وحسنّه من حديث ابن عمر رضي اللّه عنه.
(3) النقل بالمعنى. [.....]
(4) سبق تخريحه.
(5) المسكين هو المتواضع لله باطنا وظاهرا ، والخاضع له ، الساكن لأمره ، المطمئن بربه ، وهو المخبت الخاشع لله ، وهذا حال قوة الإيمان ، فاللهم اجعلنا مساكين لك ، أعزة على عدوك.(4/355)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 356
قلت : «لبثوا» : جواب القسم على المعنى ، وإلا لقيل : ما لبثنا.
يقول الحق جل جلاله : وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ ، أي : القيامة. وسميت بذلك لأنها تقوم آخر ساعة من ساعات الدنيا ، ولأنها تقوم فى ساعة واحدة ، وصارت علما لها بالغلبة ، كالنجم للثريا ، فإذا قامت يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ يحلف الكافرون : ما لَبِثُوا فى قبورهم ، أو : فى الدنيا ، غَيْرَ ساعَةٍ ، استقلّوا مدّة لبثهم فى القبور ، أو : الدنيا ، لشدة هول المطلع ، أو : لطول مقامهم فى أهوالها ، أو : ينسون ما لبثوا ، أو : يكذبون. كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ ، أي : مثل ذلك الصرف كانوا يصرفون فى الدنيا عن الصدق والتصديق ، أو : عن الحق حتى يروا الأشياء على غير ما هى عليه ، ويقولون : ما هى إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين.
وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ ، أي : حّصلّوا العلم باللّه والإيمان بالبعث ، وهم الملائكة والأنبياء ، والمؤمنون : لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللَّهِ فى علم اللّه المثبت فى اللوح ، أو : فى حكم اللّه وقضائه ، أو : القرآن ، وهو قوله تعالى : «ومن ورائهم برزخ ..» إلخ ، أي : لقد مكثتم مدّة البرزخ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ ، ردّوا عليهم ما قالوه ، وحلّفوهم عليه ، وأطلعوهم على حقيقة الأمر ، ثم وبّخوهم على إنكار البعث بقولهم : فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ الذي كنتم تنكرونه ، وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ فى الدنيا أنه حق لتفريطكم فى طلب الحق ، واتباعه. والفاء جواب شرط «1» مقدر ، ينساق إليه الكلام ، أي : إن كنتم منكرين للبعث فهذا يومه.
فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ «2» الَّذِينَ ظَلَمُوا كفروا ، مَعْذِرَتُهُمْ : اعتذارهم ، والمعذرة : تأنيثها مجازى ، فيجوز التذكير والتأنيث ، وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ أي : لا يقال لهم : أرضوا ربّكم بالتوبة ، ولا يدعون إلى استرضائه ، يقال :
استعتبني فلان فأعتبته ، أي : استرضانى فأرضيته.
الإشارة : كل من قصر فى هذه الدار ، وصرف أيام عمره فى البطالة ، يقصر عليه الزمان عند موته ، ويرجع عنده كأنه يوم واحد ، فحينئذ يستعتب فلا يعتب ، ويطلب الرجعى فلا يجاب ، فلا تسأل عن حسرته وخسارته ، والعياذ باللّه ، وهذا كله مبين فى القرآن ، كما قال تعالى :
___________
(1) الفاء ، بذاتها ، ليست جواب شرط مقدر ، وإنما هى واقعة فى جواب شرط مقدر.
(2) قرأ عاصم وحمزة والكسائي : «ينفع» بالياء. والباقون : بالتاء .. انظر : الإتحاف (2/ 306)(4/356)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 357
[سورة الروم (30) : الآيات 58 الى 60]
وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ (58) كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (59) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ (60)
يقول الحق جل جلاله : وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ أي : بيّنا لهم فيه من كل مثل ، ينبؤهم عن التوحيد والمعاد ، وصدق الرسل ، وغير ذلك ، مما يحتاجون إلى بيانه ، وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ من الآيات الدالة على صدقك ، أو : القرآن. لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ مزورون. وإسناد الإبطال إلى الجميع ، مع أن المجيء بالحق واحد مراعاة لمن شايعه معه من المؤمنين ، أو : ولقد وصفنا كلّ صفة ، كأنها مثل فى غرابتها ، وقصصنا عليهم كل قصة عجيبة الشأن ، كقصة المبعوثين يوم القيامة ، وما يقولون ، وما يقال لهم ، وما لا ينفع من اعتذارهم ، ولا يسمع من استعتابهم ، ولكنهم لقسوة قلوبهم ، إذا جئتهم بآية من آيات القرآن ، قالوا : جئتنا بزور باطل. كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ، أي : مثل ذلك الطبع - وهو الختم - يطبع اللّه على قلوب الجهلة الذين علم اللّه منهم اختيار الضلال ، حتى سمّوا المحققين مبطلين ، وهم أغرق خلق اللّه فى تلك الصفة.
فَاصْبِرْ على أذاهم وعداوتهم ، إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ بنصرتك ، وإظهار دين الإسلام على كل دى ، ن حَقٌّ لا بد من إنجازه والوفاء به ، وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ لا يحملنّك هؤلاء الذين لا يوقنون بالآخرة على الخفّة والعجلة فى الرد عليهم ، أو : لا يحملنّك على الخفة والقلق فزعا مما يقولون فإنهم ضلّال ، شاكّون ، لا يستغرب منهم ذلك. وقرأ يعقوب : بسكون النون على أنه نون التوكيد الخفيفة.
الإشارة : قد بيّن اللّه فى القرآن ما يحتاج السائرون إليه ، من علم الشريعة والطريقة والحقيقة ، لمن خاض بحر معانيه وأسراره. ولئن جئتهم بآية ، من غوامض أسراره ليقول أهل الجمود : هذا إلحاد وباطل. فاصبر إن وعد اللّه بالنصر لأوليائه حق ، ولا يحملنك على العجلة من لا يقين عنده. وباللّه التوفيق ، ولا حول ولا قوة إلا باللّه العلى العظيم. وصلّى اللّه على سيدنا محمد وآله وصحبه ، وسلّم.(4/357)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 358(4/358)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 359
سورة لقمان
مكية ، وقيل : إلا قوله : يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ لأن الزكاة فرضت بالمدينة ، وهو ضعيف لأن الحق تعالى يخبر بالشيء قبل وقوعه كما تحقق وقوعه. وآياها : أربع وثلاثون ، أو ثلاث وثلاثون. ومناسبتها لما قبلها قوله : وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ .. «1» مع قوله : تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ إذ هو القرآن العظيم. وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ «2» وهنا : وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا «3». قيل : وسبب نزولها أن قريشا سألت عن قصة لقمان مع ابنه ، وعن بر والديه ، فنزلت. قال تعالى :
[سورة لقمان (31) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الم (1) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (2) هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (3) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4)
أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)
قلت : هُدىً وَرَحْمَةً : حالان من الآيات ، والعامل : معنى الإشارة. ورفعهما حمزة على الخبر لتلك بعد خبر ، أو : خبر عن محذوف ، أي : هو ، أو : هى هدى. والموصول : نعت للمحسنين تفسير لإحسانهم ، و(هم) : مبتدأ ، و(يوقنون) : خبر. وتكرير الضمير للتوكيد ، ولما حيل بينه وبين خبره.
يقول الحق جل جلاله : الم أيها المصطفى المقرب ، تِلْكَ الآيات التي تتلوها هى آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ أي : ذى الحكمة البالغة ، أو : الذي أحكمت آياته وأتقنت ، أو : المحكم الذي لا ينسخه كتاب. أو :
المصون من التغيير والتبديل. حال كونه هُدىً وَرَحْمَةً هاديا لظواهرهم بتبين الشرائع ، ورحمة لقلوبهم بتبين حقائق الإيمان ، ولأرواحهم بإظهار حقائق الإحسان. وقد تقدم هذا البيان فى قوله : إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا «4» الآية. ولذلك خصه بقوله : لِلْمُحْسِنِينَ ، فإنما يكون هدى ورحمة لأهل الإحسان لأنهم هم الذي
___________
(1) من الآية 58 من سورة الروم.
(2) من الآية 58 من سورة الروم.
(3) من الآية السابعة من سورة لقمان.
(4) من الآية 93 من سورة المائدة.(4/359)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 360
يغوصون على أسراره ومعانيه. وهم الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ يتقنونها ، وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ على الوجه المشروع ، ويدفعونها لمن يستحقها ، لا جزاء ولا شكورا ، ولا لجلب نفع أو دفع شر ، وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ، كأنها نصب أعينهم. وخص بالذكر هذه الثلاثة لفضلها فإن الصلاة عماد الدين ، والزكاة قرينتها لأن الأولى عبادة بدنية ، والثانية مالية ، والآخرة هى دار الجزاء ، فلو لا وقوعها لكان وجود هذا الخلق عبثا ، وتعالى اللّه عنه علوا كبيرا.
ثم مدح المتصف بتلك الخصال فقال : أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ أي : راكبون على متن الهداية ، متمكنون منها ، وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ، الفائزون بكل مطلوب.
الإشارة : قال القشيري : الم ، الألف إشارة إلى آلائه ، واللام إلى لطفه ، والميم إلى مجده وسنائه ، فبآلائه دفع الجحد عن قلوب أوليائه ، وبلطف عطائه أثبت المحبة فى أسرار أصفيائه ، وبمجده وسنائه هو مستغن عن جميع خلقه بوصف كبريائه. ه.
ثم وصف كتابه بأنه هاد للسائرين ، رحمة للواصلين إذ لا تكمل الرحمة إلا بشهود الحبيب ، يكلمك ويناجيك ، وهذه حالة أهل مقام الإحسان. قال القشيري : وشرط المحسن أن يكون محسنا إلى عباد اللّه : دانيهم وقاصيهم ، مطيعهم وعاصيهم. ثم قال : الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ يأتون بشرائطها فى الظاهر - ثم ذكرها - ، وفى الباطن يأتون بشروطها من طهارة السّرّ عن العلائق ، وستر عورة الباطن ، بتنقيته من العيوب لأن ما كان فيه فاللّه يراه.
فإذا أردت ألا يرى اللّه عيوبك فاحذرها حتى لا تكون. والوقوف على مكان طاهر : هو وقوف القلب على الحدّ الذي أذن فيه ، مما لا يكون فيه دعوى بلا تحقيق ، بل رحم اللّه من وقف عند حدّه بالمعرفة بالوقت ، فيعلم وقت التذلّل والاستكانة ، ويميز بينه وبين وقت السرور والبسط ، ويستقبل القبلة بنفسه ، ويعلق قلبه باللّه ، من غير تخصيص بقطر أو مكان أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وهم الذين اهتدوا فى الدنيا ، وسلموا ونجوا فى العقبى. ه.
ثم شفع بضدهم ، فقال :
[سورة لقمان (31) : الآيات 6 الى 7]
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (6) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (7)(4/360)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 361
يقول الحق جل جلاله : وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ أي : ما يلهى به عما يقرب إلى اللّه كالأحاديث التي لا أصل لها ، والخرافات التي لا حقيقة لها ، والمضاحك ، وفضول الكلام. قيل : نزلت فى النّضر بن الحارث ، كان يخرج إلى فارس للتجارة ، فيشترى أخبار الأعاجم ، ثم يحدث قريشا بها ، ويقول : إن محمدا يحدثكم بأخبار عاد وثمود ، وأنا أحدثكم بحديث رستم ، وأخبار الأكاسرة ، فيستملحون حديثه ولا يسمعون القرآن «1». وقيل :
كان يشترى القيان ، ويحملهن على معاشرة من أراد الإسلام ليصده عنه.
والاشتراء من الشراء ، كما تقدم عن النضر ، ومن البدل ، كقوله : اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ «2». استبدلوه واختاروه ، أي : يختار حديث الباطل على حديث الحق. وإضافة اللهو إلى الحديث للتبيين بمعنى «من» لأن اللهو يكون من الحديث ومن غيره ، فيبين بالحديث ، والمراد بالحديث : الحديث المكروه ، كما جاء فى الحديث : «الحديث فى المسجد يأكل الحسنات ، كما تأكل البهيمة الحشيش» «3» ، أو : للتبعيض ، كأنه قيل : ومن الناس من يشترى بعض الحديث الذي فيه اللهو. وقال مجاهد : يعنى : شراء المغنيات والمغنين ، أي : يشترى ذات لهو ، أو : ذا لهو الحديث.
وقال أبو أمامة : قال عليه الصلاة والسلام : «لا يحل تعليم المغنيات ، ولا بيعهن ، وأثمانهنّ حرام». وفى مثل هذا نزلت هذه الآية ، ثم قال : «وما من رجل يرفع صوته بالغناء إلا بعث اللّه عليه شيطانين : أحدهما على هذا المنكب ، والآخر على هذا المنكب ، فلا يزالان يضربان بأرجلهما حتى يسكت» «4».
قلت : هذا مقيد بشعر الهوى لأهل الهوى ، وأما أهل الحق الذين يسمعون من الحق ، فلا يتوجه الحديث لهم ، وسيأتى فى الإشارة تحقيقه إن شاء اللّه. ثم قال أبو أمامة رضي اللّه عنه عنه صلى اللّه عليه وسلم : «إن اللّه تعالى بعثني هدى ورحمة للعالمين ، وأمرنى ربى بمحو المعازف والمزامير والأوثان ، والصلب وأمر الجاهلية ، وحلف ربى بعزته لا يشرب عبد من عبيدى جرعة خمر متعمدا إلا سقيته مثلها من الصديد يوم القيامة ، مغفورا له أو معذبا ، ولا سقاها غيره إلا فعلت به مثل ذلك ، ولا يتركها عبد من مخافتى إلا سقيته من حياض القدس يوم القيامة». انظر الثعلبي.
ثم قال تعالى : لِيُضِلَّ «5» عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي : فعل ذلك ليضل هو عن طريق اللّه ودينه ، أو ليضل غيره عنه ، أو عن القرآن ، بِغَيْرِ عِلْمٍ أي : جهلا منه بما عليه من الوزر. وَيَتَّخِذَها أي : السبيل هُزُواً وسخرية. فمن رفع : استأنف ، ومن نصب ، عطفها على (ليضل) «6» ، أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ يمينهم ويخزيهم ، و«من» ، لإبهامه ، يقع على الواحد والجمع ، والمراد : النضر ومن تبعه.
___________
(1) ذكره الواحدي فى أسباب النزول (2 356) ، والبغوي فى التفسير (6/ 283) عن الكلبي ومقاتل.
(2) من الآية 177 من سورة آل عمران.
(3) قال العراقي فى المغني عن حمل الأسفار (1/ 18) : لم أقف له على أصل.
(4) أخرجه الإمام أحمد فى المسند (5/ 252) ، والطبري فى التفسير (21/ 60) ، والطبراني فى الكبير (8/ 212 ، 251) ، والبيهقي فى السنن (6/ 15) ، والبغوي فى التفسير (6/ 284) ، والواحدي فى أسباب النزول (ص 357) وذكره ابن الجوزي فى العلل المتناهية (2/ 198) وأخرجه مختصرا الترمذي وضعفه فى (التفسير - سورة لقمان 5/ 322 ، ح 3195).
(5) قرأ ابن كثير وأبو عمرو (ليضل) بفتح الياء. والباقون بالضم. انظر الإتحاف (2/ 361).
(6) قرأ حفص وحمزة والكسائي : «ويتخذها» بالنّصب. وقرأ الباقون : «ويتخذها» بالرفع. انظر الإتحاف (2/ 362). [.....](4/361)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 362
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً أعرض عن تدبرها متكبرا رافعا نفسه عن الإصغاء إلى القرآن ، كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كأنه لم يسمعها ، ولا ذكرت على سمعه. شبّه حاله بحال من لم يسمعها قط ، كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً ثقلا وصمما ، فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ أخبره بأن العذاب يوجعه لا محالة. وذكر البشارة على سبيل التهكم. وهذا فى مقابلة مدح المحسنين المقيمين المزكين. فكما قال فى المحسنين : أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ، قال فى هؤلاء : أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ ، بعد أن وصفهم بالضلال والإضلال ، فى مقابلة المحسنين بالهداية والفلاح. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : لهو الحديث هو كل ما يشغل عن اللّه ، ويصد عن حضرة اللّه ، كائنا ما كان ، سواء كان غناء أو غيره ، وإذا كان الغناء يهيج لذكر اللّه ، ويحرك الروح إلى حضرة اللّه ، كان حقا ، وإذا كان يحرك إلى الهوى النفساني كان باطلا. والحاصل : أن السماع عند الصوفية ركن من أركان الطريقة ، بشروطه الثلاثة : الزمان والمكان والإخوان.
وقد ألف الغزالي تأليفا فى تكفير من أطلق تحريم السماع. وقال فى الإحياء ، فى جملة من احتج به المحرّم للسماع :
احتج بقوله تعالى : وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ ، وقد قال ابن مسعود والنخعي والحسن : إنه الغناء.
وأجاب ما حاصله : أنه إنما يحرم إذا كان استبدالا بالدين ، وليس كل غناء بدلا عن الدين ، مشترى به ، ومضلا عن سبيل اللّه ، ولو قرأ القرآن ليضل عن سبيل اللّه كان حراما. كما حكى عن بعض المنافقين أنه كان يؤم الناس ولا يقرأ إلا بسورة عبس ، لما فيها من العتاب مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فهمّ عمر بقتله. فالإضلال بالشعر والغناء أولى بالتحريم. ه. وأما إن لم يكن شىء من ذلك ، فلا يحرم.
وقال فى القوت ، فى كتاب المحبة : ولم يزل الحجازيون ، عندنا بمكة ، يسمعون السماع فى أفضل أيام السنة ، وهى الأيام المعدودات ، التي أمر اللّه عز وجل عباده فيها بذكره ، أيام التشريق ، من وقت عطاء بن أبى رباح ، إلى وقتنا هذا ، ما أنكره عالم ، وكان لعطاء جاريتان تلحّنان ، فكان إخوانه يستمعون إليهما ، ولم يزل أهل المدينة مواطئين لأهل مكة على السماع إلى زماننا هذا. وأدركنا أبا مروان القاضي ، له جوار يسمعن التلحين ، قد أعدهن للطوافين. فكان يجمعهن لهم ، ويأمرهن بالإنشاد ، وكان فاضلا. وسئل شيخنا أبو الحسن بن سالم ، فقيل له : إنك تنكر السماع ، وقد كان الجنيد وسرى السقطي وذو النون يسمعون؟ فقال : كيف أنكر السماع وقد أجازه وسمعه من هو خير منى. ه.
وقال ابن ليون التجيبى فى الإنالة : روى عن مصعب بن الزبير ، قال : حضرت مجلس مالك ، فسأله أبو مصعب عن السماع ، فقال : ما أدرى ، إلا أن أهل العلم ببلدنا لا ينكرون ذلك ، ولا يقعدون عنه ، ولا ينكره إلا غبى(4/362)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 363
جاهل ، أو ناسك عراقى غليظ الطبع. قال التجيبى : وعن أنس كنا عند النبي صلى اللّه عليه وسلم ، إذ نزل عليه جبريل ، فقال :
يا رسول اللّه فقراء أمتك يدخلون الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة عام ، وهو نصف يوم ، ففرح فقال : أفيكم من ينشدنا؟
فقال بدوي : نعم ، يا رسول اللّه ، فقال : هات ، هات ، فأنشد البدوي يقول :
قد لسعت حيّة الهوى كبدى فلا طبيب له ولا راقى
إلّا الحبيب الّذى شغفت به فعنده رقيتى وترياقى
فتواجد عليه السّلام ، وتواجد أصحابه معه ، حتى سقط رداؤه عن منكبيه ، فلما خرجوا ، أوى كل واحد إلى مكانه ، فقال معاوية : ما أحسن لعبكم يا رسول اللّه! فقال : مه ، مه ، يا معاوية ، ليس بكريم من لم يهتز عند ذكر الحبيب ، ثم اقتسم رداءه من حضرهم بأربعمائة قطعة. وذكره المقدسي هكذا ، والسهروردي فى عوارفه ، وتكلم الناس فى هذا الحديث «1».
وقد تخلف الحسن البصري ذات يوم عن أصحابه ، وسئل عن تخلفه ، فقال : كان فى جيراننا سماع. وقال الشبلي : السماع ظاهرة فتنة ، وباطنة عبرة. فمن عرف الإشارة حلّ له سماع العبرة ، وإلا فقد استدعى الفتنة «2».
ه. واللّه تعالى أعلم.
قوله تعالى : وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ .. إلخ ، هذا مثال لمن لم يقبل الوعظ لقسوة قلبه ، وحكم المشيئة يبعده ، فلا يزيده كثرة الوعظ إلا نفورا ، فسماعه كلا سماع ، ومعالجته عنى وضياع ، كما قال القائل :
إذا أنا عاتبت الملول فإنّما أخط بأفلك على الماء أحرفا
ثم بيّن فلاح المحسنين ، فقال :
___________
(1) هذا الكلام كذب صريح ، وإفك قبيح. قال العلامة الآلوسى : لا أصل له بإجماع محدثى أهل السنة ، وما أراه إلا من وضع الزنادقة. راجع تفسير الآلوسى (11/ 72) ففيه ما يكفى للرد على هذا الافتراء. وقال السيوطي فى الحاوي (1/ 336) ما معناه :
إن الحديث باطل ، موضوع ، باتفاق أهل الحديث.
(2) اختلفت الآراء حول السماع ، فأباحه البعض ، وكرهه البعض ، وحرّمه البعض. راجع فى هذه المسألة : الاعتصام للإمام الشاطبي (1/ 220) اللمع للسّراج الطوسي (338 - 374) - حقائق عن التصوف ، للشيخ عبد القادر عيسى 197 - 209.(4/363)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 364
[سورة لقمان (31) : الآيات 8 الى 9]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (8) خالِدِينَ فِيها وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9)
يقول الحق جل جلاله : إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ ، قيل : معكوس ، أي :
لهم نعيم الجنات ، أو : لهم بساتين ، أو : ديار النعيم. خالِدِينَ فِيها : حال من ضمير «لهم». والعامل : الاستقرار.
وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا أي : وعدهم ذلك وعدا ، وثبت لهم حقا مهما ، مصدران مؤكدان ، الأول لنفسه ، والثاني لغيره ، إذ قوله : لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ فى معنى : وعدهم اللّه جنات النعيم. وحَقًّا : يدل على معنى الثبات المفهوم من انجاز الوعد. وَهُوَ الْعَزِيزُ الغالب ، الذي لا يعارض فى حكمه ، فينفذ وعده لا محالة. الْحَكِيمُ الذي لا يفعل إلا ما استدعته حكمته.
الإشارة : إن الذين آمنوا فى البواطن ، وحققوا ذلك بالعمل الصالح فى الظواهر ، لهم جنات المعارف معجلة ، وجنات الزخارف مؤجلة ، وعدا حقا وقولا صدقا ، فما كمن فى السرائر ظهر فى شهادة الظواهر ، وإلا كان دعوى ونفاقا ، والعياذ باللّه.
ثم ذكر شواهد قدرته على إنجاز وعده ، فقال :
[سورة لقمان (31) : الآيات 10 الى 11]
خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (10) هذا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي ما ذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (11)
قلت : «بغير عمد» : يتعلق بحال محذوفه ، أي : ممسكة أو مرفوعة بغير عمد ، و(عمد) : اسم جمع على المشهور ، وقيل : جمع عماد أو عامد. وجملة (ترونها) : إما استئنافية ، لا محل لها ، أو صفة لعمد.
يقول الحق جل جلاله : خَلَقَ السَّماواتِ ورفعها بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ، الضمير : إما للسموات ، أي : خلقها ، ظاهرة ، ترونها ، أو لعمد ، أي : بغير عمد مرئية ، بل بعمد خفية ، وهى إمساكها بقدرته تعالى. وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أي : جبالا ثوابت ، كراهة أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ أي : لئلا تضطرب بكم ، وَبَثَّ : نشر فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ ، وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ صنف من أصناف النبات ، (4/364)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 365
كَرِيمٍ : حسن بهيج ، أو كثير المنفعة. وكأنه استدل بذلك على عزته ، التي هى كمال القدرة ، وحكمته التي هى كمال العلم ، فهى مقررة لقوله : (العزيز الحكيم) ثم أمر بالتفكر فى هذه المصنوعات استدلالا على توحيده بقوله : هذا خَلْقُ اللَّهِ أي : هذا الذي تعاينونه من جملة مخلوقاته ، فَأَرُونِي ما ذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ ، يعنى : آلهتهم. بكّتهم بأن هذه الأشياء العظيمة مما خلق اللّه ، فأرونى ماذا خلق آلهتكم حتى استوجبوا عندكم العبادة؟ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ، أضرب عن تبكيتهم إلى التسجيل عليهم بالظلم والتورط فى ضلال ليس بعده ضلال.
الإشارة : خلق سموات الأرواح - وهو عالم الملكوت - مرفوعا غنيا عن الاحتياج إلى شىء ، وألقى فى أرض النفوس - وهو عالم الأشباح - من العقول الراسخة ، لئلا تميل إلى جهة الانحراف ، إما إلى الحقيقة المحصنة ، أو الشريعة. ونشر فى أرض النفوس دواب الخواطر والوساوس ، وأنبتنا فيها من علوم الحكمة والقدرة ، من كل صنف بهيج. قال القشيري : وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ فى الظاهر : الجبال ، وفى الحقيقة : الأبدال ، الذين هم أوتاد ، بهم يقيهم ، وبهم يصرف عن قريبهم وقاصيهم ، وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً .. المطر من سماء الظاهر فى رياض الخضرة ، ومن سماء الباطن فى رياض أهل الدنوّ والحضرة. هذا خلق اللّه العزيز فى كبريائه ، فأرونى ماذا خلق الذين عبدتم من دونه فى أرضه وسمائه؟. ه.
ثم ذكر قصة لقمان ، الذي وقع السؤال عنه فنزلت السورة ، فقال :
[سورة لقمان (31) : الآيات 12 الى 13]
وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (12) وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13)
قلت : (يا بنى) فيه ثلاث قراءات كسر الياء ، وفتحها مشدّدة ، وإسكانها «1». وقد تتبعنا توجيهاتها فى كتابنا «الدرر الناثرة فى توجيه القراءات المتواترة».
يقول الحق جل جلاله : وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ ، وهو لقمان بن باعوراء بن أخت أيوب ، أو ابن خالته ، وقيل : كان من أولاد آزر ، وقيل : أخو شداد بن عاد ، أعطى شداد القوة ، وأعطى لقمان الحكمة ، وعاش ألف
___________
(1) قرأ حفص : بفتح الياء.(4/365)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 366
سنة ، وقيل : أكثر ، وسيأتى. وأدرك داود عليه السّلام ، وأخذ منه العلم. وكان يفتى قبل مبعث داود ، فلما بعث قطع الفتوى ، فقيل له فى ذلك؟ فقال : ألا أكتفى إذا كفيت. وقيل : كان خياطا ، وقيل : نجارا ، وقيل : راعيا. وقيل : كان قاضيا فى بنى إسرائيل. وقال عكرمة والشعبي : كان نبيا ، والجمهور على أنه كان حكيما فقط. وقد خير بين النبوة والحكمة فاختار الحكمة ، وهى الإصابة فى القول والعمل. وقيل : تتلمذ لألف نبى وتتلمذ له ألف نبى. قاله النسفي.
قال ابن عمر : سمعت النبي صلى اللّه عليه وسلم يقول : «لم يكن لقمان نبيا ، ولكن كان عبدا كثير التفكر ، حسن اليقين ، أحب اللّه فأحبه ، فمنّ عليه بالحكمة. كان قائما فجاءه نداء : يا لقمان ، هل لك أن يجعلك اللّه خليفة فى الأرض ، تحكم بين الناس بالحق؟ فأجاب الصوت ، فقال : إن خيرنى ربى قبلت العافية ، وإن عزم علىّ فسمعا وطاعة ، فإنى أعلم إن فعل ذلك بي عصمنى وأعاننى. قالت الملائكة بصوت ولا يراهم : لم يا لقمان؟ فقال : لأن الحاكم بأشد المنازل وأكدرها ، يغشاه الظلم من كل مكان ، إن يعن ، فالبحرى أن ينجو ، وإن أخطأ أخطأ طريق الجنة ، ومن يكن فى الدنيا ذليلا ، خير من أن يكون شريفا ، ومن يختر الدنيا على الآخرة تفته الدنيا ، ولا يصيب الآخرة. فعجبت الملائكة من حسن منطقه ، فنام نومة فأعطى الحكمة ، فانتبه وتكلم بها «1». ه.
قال مجاهد : كان لقمان عبدا أسود ، عظيم الشفتين ، مشققّ القدمين «2». زاد فى اللباب : وكانت زوجته من أجمل أهل زمانها. قيل : لم يزل لقمان ، من زمن داود ، مظهرا للحكمة والزهد ، إلى أيام يونس بن متى. وكان قد عمّر عمر سبعة أنس ، فكان آخر نسوره «لبذ». روى أنه أخذ نسرا صغيرا فربّاه ، وكان يصرفه فى حوائجه ، فعاش ذلك النسر ألف سنة ومات ، ثم أخذ نسرا آخر ، فعاش خمسمائة سنة ، ثم أخذ آخر ، فعاش مثل ذلك ، إلى السابع ، عاش خمسمائة سنة ، واسمه لبذ ، فقال له لقمان يوما : يا لبذ انهض إلى كذا ، فأراد النهوض فلم يستطع ، وإذا بوتر لقمان قد اختلج ، وكان لم يألم قط ، فنادى بأهله وعشيرته ، وعلم أن أجله قد قرب ، وقال : إن أجلى قد حضر بموت هذا النسر ، كما أعلمنى ربى ، فإذا مت فلا تدفنونى فى الكهوف والمقابر ، كما [تدفنون ] «3» الجبابرة ، ولكن ادفنوني فى ضريح الأرض ، فدفنوه كما أوصاهم ، فقال ابن ثعلبة :
رأيت الفتى ينسى من الموت حتفه حذورا لريب الدّهر ، والدّهر آكله
فلو عاش ما عاشت بلقمان أنسر لصرف المنايا ، بعد ذلك ، حافله
___________
(1) عزاه السيوطي فى الدر (5/ 311) للحكيم الترمذي فى نوادر الأصول ، عن أبى مسلم الخولاني مرفوعا.
(2) أخرجه الطبري (21/ 67).
(3) فى الأصول (تدفنوا).(4/366)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 367
قال البيضاوي : والحكمة ، فى عرف العلماء : استكمال النفس الإنسانية باقتباس العلوم النظرية ، واكتساب الملكة التامة على الأفعال الفاضلة على قدر طاقتها. ومن حكمته أنه صحب داود شهورا ، وكان يسرد الدرع ، فلم يسأله عنها ، فلما أتمها لبسها ، فقال : نعم لبوس الحرب أنت ، فقال : الصمت حكمة وقليل فاعله ، وأن داود قال له يوما : كيف أصبحت؟ فقال : أصبحت فى يدى غيرى. وأنه أمر لقمان بأن يذبح شاة ويأتيه بأطيب مضغتين منها ، فأتى باللسان والقلب ، ثم بعد أيام أمر بأن يأتى بأخبث مضغتين منها ، فأتى بهما أيضا ، فسأله عن ذلك ، فقال : هما أطيب شىء إذا طابا ، وأخبث شىء إذا خبثا. والذي عند الثعلبي : أن الآمر له بإتيان المضغتين سيده ، لا داود عليه السّلام قيل له : بم نلت هذه الحكم ، وقد كنت راعيا؟ فقال : بصدق الحديث ، وأداء الأمانة ، وترك ما لا يعنينى «1». ه.
قال صلى اللّه عليه وسلم : «أول ما رؤى من حكمة لقمان : أن مولاه أطال الجلوس فى المخرج ، فناداه لقمان : إن الجلوس على الحاجة ينخلع منه الكبد ، ويورث الباسور ، ويصعد الحرارة إلى الرأس ، فاجلس هوينا ، وقم هوينا.» «2» وروى أنه قدم من سفر ، فقيل له : مات أبوك ، فقال : الحمد للّه ، ملكت أمرى ، فقيل له : ماتت امرأتك ، فقال : الحمد للّه جدّد فراشى ، فقيل له : ماتت أختك ، فقال : سترت عورتى ، فقيل له : مات أخوك ، فقال : انقطع ظهرى. «3» ه.
و«أن» - فى قوله : أَنِ اشْكُرْ : مفسرة لأن إيتاء الحكمة فى معنى القول ، أي : وقلنا له : اشكر للّه على ما أعطاك من الحكمة ، وفيه تنبيه على أن الحكمة الأصلية والعلم الحقيقي هو العمل بهما ، وعبادة اللّه والشكر له ، حيث فسر الحكمة بالحث على الشكر. وقيل : لا يكون الرجل حكيما حتى يكون حليما فى قوله وفعله ومعاشرته وصحبته.
وقال الجنيد : الشكر : ألا يعصى اللّه بنعمه. وقال أيضا : ألا ترى مع اللّه شريكا فى نعمه. وقيل : هو الإقرار بالعجز عن الشكر. والحاصل : أن شكر القلب : المعرفة ، وشكر اللسان : الحمد ، وشكر الأركان : الطاعة. ورؤية العجز فى الكل دليل القبول. وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ لأن منفعته تعود عليه ، لأنه بريد المزيد ، وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ غير محتاج إلى شكر أحد ، حَمِيدٌ حقيق بأن يحمد ، وإن لم يحمده أحد. وَاذكر إِذْ قالَ لُقْمانُ لِابْنِهِ ، واسمه : أنعم ، أو أشكم ، أو ناران ، وَهُوَ يَعِظُهُ يا بُنَيَّ ، تصغير ابن ، لا تشرك باللّه إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ لأنه تسوية بين من لا نعمة إلا منه ، ومن لا نعمة منه أصلا. وباللّه التوفيق.
___________
(1) أخرجه الإمام أحمد فى الزهد (ص 49) ، والطبري فى التفسير (21/ 67) ، وابن أبى شيبة (13/ 214).
(2) عزاه السيوطي فى الدر (5/ 311) لابن المنذر ، عن عكرمة ، بدون رفع إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم.
(3) عزاه فى الدر (5/ 317) لعبد اللّه فى زوائده ، عن عبد اللّه بن دينار.(4/367)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 368
الإشارة : قال القشيري : الحكمة : الإصابة فى [الفعل ] «1» والعقد والنطق. ويقال : الحكمة : متابعة الطريق ، من حيث توفيق الحق ، لا من حيث همة النفس. ويقال : الحكمة : ألا يكون تحت سلطان الهوى. ويقال : هى معرفة قدر نفسك حتى لا تمدّ رجليك خارجا عن كسائك. ويقال : ألا تستعصى على من تعلم أنك لا تقاومه. وحقيقة الشكر :
انفتاح عين القلب لشهود ملاطفات الحق. ويقال : الشكر : تحقّقك بعجزك عن شكره. ويقال : ما به يحصل كمال استلذاذ النعمة. ويقال : هو فضلة تظهر على اللسان من امتلاء القلب من السرور ، فينطق بمدح المشكور. ويقال :
الشكر : نعت كلّ غنيّ ، كما أن الكفران وصف كلّ لئيم. ويقال : الشكر : قرع باب الزيادة. ه. قلت : والأحسن : أنه فرح القلب بإقبال المنعم ، فيسرى ذلك فى الجوارح.
ثم قال فى قوله : لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ : الشرك على ضربين : جلىّ وخفىّ ، فالجلىّ عبادة الأصنام ، والخفىّ :
حسبان شىء من الحدثان من الأنام - أي : أن تظن شيئا مما يحدث فى الوجود أنه من الأنام - ويقال : الشرك :
إثبات غين مع شهود العين ، ويقال : الشرك ظلم على القلب ، والمعاصي ظلم على النفس ، فظلم النفس معرّض للغفران ، وظلم القلب لا سبيل للغفران إليه. ه.
ثم أمر ببر الوالدين ، الذي تقدم السؤال عنه فى سبب نزول السورة ، فقال :
[سورة لقمان (31) : الآيات 14 الى 15]
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14) وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15)
قلت : الجملتان معترضتان بين أجزاء توصية لقمان لابنه. و(وهنا) : حال من (أمه) ، أي : حملته حال كونها ذات وهن ، أو من الضمير المنصوب ، أي : حملته نطفة ، ثم علقة .. إلخ ، أو مصدر ، أي : تهن وهنا.
يقول الحق جل جلاله : وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ أن يبرّهما ويطيعهما ، ثم ذكر الحامل على البر فقال : حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ أي : تضعف ضعفا فوق ضعف ، أي : يتزايد ضعفها ويتضاعف لأن الحمل ، كلما ازداد وعظم ، ازدادت ثقلا. وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ أي : فطامه لتمام عامين. وهذا أيضا مما يهيج
___________
(1) فى القشيري [العقل ].(4/368)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 369
الولد على بر والديه ، فيتذكر مرقده فى بطن أمه ، وتعبها معه فى مدة حملة ، ثم ما قاست من وجع الطلق عند خروجه ، ثم ما عالجته فى أيام رضاعه من تربيته ، وغسل ثيابه ، وسهر الليل فى بكائه ، إلى غير ذلك.
أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ ، هو تفسير لوصّينا ، أو على حذف الجار ، أي : وصيناه بشكرنا وبشكر والديه. وقوله :
حَمَلَتْهُ أُمُّهُ .. إلخ : اعتراض بين المفسّر والمفسّر لأنه ، لمّا وصى بالوالدين ، ذكر ما تكابده وتعاينه من المشاق فى حمله وفصاله ، هذه المدة الطويلة تذكيرا لحقها ، مفردا.
وعن ابن عيينة : من صلى الصلوات الخمس فقد شكر اللّه ، ومن دعا للوالدين ، فى أدبار الصلوات الخمس ، فقد شكرهما. ه. وقال القشيري : والإجماع على أن شكر الوالدين بدوام طاعتهما. ثم قال : فشكر الحقّ بالتعظيم والتكبير ، وشكر الوالدين بالإشفاق والتوقير. ه.
ثم قال تعالى : إِلَيَّ الْمَصِيرُ فأحاسبك على شكرك ، أو كفرك. وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ، أراد بنفي العلم به نفيه من أصله ، أي : أن تشرك بي ما ليس بشىء ، أو : ما ليس لك به علم باستحقاقه الإشراك مع اللّه ، بل تقليدا لهما ، فَلا تُطِعْهُما فى ذلك الشرك. وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً أي : صحابا معروفا يرتضيه الشرع ويقتضيه الكرم ، وهو الخلق الجميل ، بحلم ، واحتفال ، وبر ، وصلة. وقد تقدم تفسيره فى الإسراء «1».
وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ أي : اتبع طريق من رجع إلىّ بالتوحيد والإخلاص ، وهو الرسول صلى اللّه عليه وسلم والمؤمنون ، ولا تتبع سبيلهما ، وإن كنت مأمورا بحسن مصاحبتهما فى الدنيا. وقال ابن عطاء : اتبع سبيل من ترى عليه أنوار خدمتى. ه. ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ أي : مرجعك ومرجعهما ، فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فأجازيك على إيمانك وبرّك ، وأجازيهما على كفرهما. واعترض بهاتين الآيتين ، على سبيل الاستطراد تأكيدا لما فى وصية لقمان من النهى عن الشرك ، يعنى : إنما وصيناه بوالديه ، وأمرناه ألا يطيعهما فى الشرك ، وإن جاهدا كل الجهد لقبح الشرك.
وتقدم أن الآية نزلت فى سعد بن أبى وقاص ، وأنه مضت لأمه ثلاث ليال لم تطعم فيها شيئا ، فشكى لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فنزلت «2» ، وقيل : من أناب : أبو بكر لأن سعدا أسلم بدعوته «3». واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : بر الوالدين واجب ، لا سيما فى حق الخصوص ، فيطيعهما فى كل شىء ، إلا إذا منعاه من صحبة شيح التربية ، الذي يطهر من الشرك الخفي ، الذي لا ينجو منه أحد ، فإن الآية تشمله بطريق العموم والإشارة ، أي :
وإن جاهداك على أن تشرك بي متابعة هواك وحظوظك ومحبتهن ، فلا تطعهما ، وصاحبهما فى الدنيا معروفا ،
___________
(1) راجع تفسير الآيتين : 23 - 24 من سورة الإسراء.
(2) راجع تفسير الآية (8) من سورة العنكبوت مع حاشية التحقيق.
(3) انظر سيرة ابن هشام (1/ 250 - 252) وأسباب النزول للواحدى (ص 358). وتفسير البغوي (6/ 288).(4/369)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 370
واتبع سبيل من أناب إلىّ ، هو شيخ التربية فى علم الإشارة. وقد تقدم قول الجنيد : أمرنى أبى بشىء ، وأمرنى السّرى بشىء ، فقدمت أمر السّرى ، فرأيت سرا كبيرا. وكان شيخ شيوخنا الولي الشهير ، سيدى يوسف الفاسى ، يأتيه شاب من أولاد كبراء فاس ، وكان أبوه ينهاه ويزجره عن صحبته ، وربما بلغ لمجلس الشيخ فيؤذيه ، فكان الشيخ يقول للشاب : أطع أباك فى كل شىء إلا فى الإتيان إلينا. ه. وكان بعض المشايخ يقول : ائتوني ولو بسخط الوالدين إذ لا يضره ذلك ، حيث قصد إصلاح نفسه ودواءها.
وقال الشيخ السنوسى ، فى شرح عقائد الجزائرى ، ما نصه : وحاصل الأمر فى النفس : أنها شبيهة ، فى حالها ، بحال الكافر الحربىّ ، الذي يريد أن تكون كلمة الكفر هى العليا ، وكلمة التوحيد السفلى ، وكذلك النفس تريد أن تكون كلمة باطلها من الدعاوى للحظوظ العاجلة ، المشغلة عن إخلاص العبودية لمولانا جل وعلا ، وعن القيام بوظائف تكاليفه ، على الوجه الذي أمر به ، هى العليا ، النافذ أمرها ونهيها فى مدن الأجسام وما تعلق بها ، بعد أن نزلت ساحة الأبدان ، واتصلت اتصالا عظيما لا انفكاك له إلا بالموت ، فوجب ، لذلك ، على كل مؤمن يعظّم حرمات اللّه تعالى أن ينهض كل النهوض ، بغاية قواه العلمية والعملية ، لجهادها وقتالها. وفى مثل هذا القتال الذي نزل العدو فيه بساحة الأبدان ، وهو فرض عين على كل مؤمن ، يسقط فيه استئذان الأبوين وغيرهما. ه. فأنت ترى كيف جعل قيام النفس على العبد ، وحجابها له عن ربه ، كعدو يجب جهاده ولو خالف الوالدين ، وهو كذلك إذ طاعة الوالدين لا تكون فى ترك فرض ، ولا فى ارتكاب معصية ، ومن جملة المعاصي ، عند الخواص ، رؤية النفس والوقوف معها ، وفى ذلك يقول الشاعر :
فقلت : وما ذنبى؟ فقالت مجيبة : وجودك ذنب لا يقاس به ذنب
وتطهير النفس فرض عين ، ولا طاعة للوالدين فى فرض العين. وقوله تعالى : (و صاحبهما فى الدنيا معروفا) قال الورتجبي : المعروف ، هاهنا ، أن تعرفهما مكان الخطأ والغلط فى الدين عند جهالتهما باللّه. وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ ، نهاه عن متابعة المخلّطين ، وحثه على متابعة المنيبين. ه. وباللّه التوفيق.
ثم قال لقمان فى وصيته :
[سورة لقمان (31) : الآيات 16 الى 19]
يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16) يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17) وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (18) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19)(4/370)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 371
قلت : الضمير فى (إنها) : للقصة ، ومن قرأ «مثقال» : بالرفع ففاعل كان التامة ، ومن قرأ بالنصب فخبرها ، والضمير : للخطيئة أو الهيئة. وأنث «المثقال» لإضافته إلى الحبة.
يقول الحق جل جلاله : وقال لقمان لابنه ، حين قال له : يا أبت : إن عملت بالخطيئة ، حين لا يرانى أحد ، كيف يعلمها اللّه؟ فقال : يا بُنَيَّ إِنَّها ، أي : القصة أو الخطيئة إِنْ تَكُ مِثْقالَ «1» حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أي : إن تك المعصية فى الصغر والحقارة ، مثقال حبّة من خردل ، أو : إن تقع مثال حبّه من المعاصي فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ ، أي : فتكن ، مع صغرها ، فى أخفى مكان ، أو فى جبل. وقال ابن عباس : هى صخرة تحت الأرضين السبع ، وهى التي يكتب فيها أعمال الفجار ، وخضرة الماء منها. ه. قال السدى : خلق اللّه تعالى الأرض على حوت ، والحوت فى الماء ، والماء على ظهر صفاة - أي : صخرة - والصفاة على ظهر ملك ، والملك على صخرة.
وهى الصخرة التي ذكر لقمان. ليست فى السماء ولا فى الأرض ، والصخرة على الريح «2». ه.
أي : إن تقع المعصية فى أخفى مكان يَأْتِ بِهَا اللَّهُ يوم القيامة فيحاسب عليها عاملها. إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ : يتوصل علمه إلى كل خفى ، خَبِيرٌ : عالم بكنهه ، أو : لطيف باستخراجها خبير بمستقرها.
يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ : أتقنها ، وحافظ عليها تكميلا لنفسك ، وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ تكميلا لغيرك ، وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ فى ذات اللّه تعالى ، إذا أمرت بالمعروف ، ونهيت عن المنكر فإن من فعل ذلك تعرض للأذى ، أو : على ما أصابك من الشدائد والمحن فإنها تورث المنح والمنن. إِنَّ ذلِكَ الذي وصيتك به ، مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ أي : مما عزمه اللّه من الأمور ، أي : قطعه قطع إيجاب وإلزام ، أي : أمر به أمرا حتما. وهو مصدر بمعنى المفعول ، أي : من معزومات الأمور ، أي : مقطوعاتها ومفروضاتها. وفيه دليل على أن هذه الطاعات كانت مأمورا بها فى سائر الأمم.
وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ أي : تمله عنهم ، ولا تولهم صفحة خدك ، كما يفعله المتكبرون. والتصعير : داء يصيب العير ، فيلوى عنقه منه. والمعنى : أقبل على الناس بوجهك تواضعا ، ولا تولهم شق وجهك وصفحته تكبرا. ___________
(1) قرأ نافع : «مثقال» بالرفع ، على أن «تك» تامة. وقرأ الباقون : بالنصب على أن «تك» ناقصة ، واسمها ضمير يفهم من سياق الكلام ، وتقديره : «هى». انظر : البحر المحيط (7/ 182). [.....]
(2) انظر : تفسير البغوي (6/ 288 - 289) ، والبحر المحيط (7/ 187). قلت : كل هذه أقوال لا علاقة لها بالآية ، ولا يصح تفسير الآية بها. وعلم الفلك الحديث ، وعلم الفضاء ، وجميع حقائقه القطعية تبرهن على أن الأرض جرم ، وكوكب يسبح فى الفضاء ، وليس على حوت ولا على صخرة. والذي نرجحه : أن هذه الأوهام غير صحيحة السند إلى هؤلاء السادة العلماء.(4/371)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 372
وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً خيلاء متبخترا ، فهو مصدر فى موضع الحال ، أي : مرحا ، أو : تمرح مرحا ، أو : لأجل المرح ، إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ ، علة النهى. والمختال هو المرح الذي يمشى خيلاء ، والفخور هو المصعّر خدّه تكبرا. وتأخير الفخور ، مع تقدمه لرؤوس الآي.
وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ توسط فيه بين الدبيب والإسراع ، فلا تدب دبيب المتماوتين ، ولا تثب وثوب الشطارين ، قال عليه الصلاة والسلام : «إنّ سرعة المشي تذهب ببهاء المؤمن» «1». وأما قول عائشة - رضى اللّه عنها : (كان إذا مشى أسرع) فإنما أرادت السرعة المرتفعة عن دبيب التماوت. وعن ابن مسعود رضي اللّه عنه : كانوا ينهون عن خبب «2» اليهود ودبيب النصارى ، ولكن مشيا بين ذلك. وقيل : وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ : انظر موضع قدميك ، أو : اقصد : توسّط بين العلو والتقصير.
وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ وانقص منه ، أي : اخفض صوتك. كانت العرب تفخر بمجاهرة الصوت ، فنهى اللّه عن خلق الجاهلية ، فذكره لوصية لقمان ، وأنه لو كان شىء يهاب ، لرفع صوته لكان الحمار ، فجعلهم فى المثل سواء. وهو قوله : إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ أوحشها وأقبحها لَصَوْتُ الْحَمِيرِ لأن أوله زفير ، وآخره شهيق ، كصوت أهل النار. وعن الثوري : صياح كل شىء تسبيح إلا الحمار ، فإنه يصيح لرؤية الشيطان ، وقد سماه اللّه منكرا ، وفى تشبيه الرافعين أصواتهم بالحمير تنبيه على أن رفع الصوت فى غاية البشاعة ، ويؤيده : ما روى أنه :
عليه الصلاة والسلام - كان يعجبه أن يكون الرجل خفيض الصوت ، ويكره أن يكون مجهور الصوت.
وقال بعضهم : رفع الصوت محمود فى مواطن منها : الأذان والتلبية. وقال فى الحاشية الفاسية : بل ينبغى الاقتصاد فى ذلك ، كما قال عمر بن عبد العزيز : أذّن أذانا سنّيّا ، وإلا اعتزلنا. ه. وقال عليه الصلاة والسلام :
«اربعوا على أنفسكم ، فإنكم لا تدعون أصمّ ولا غائبا» «3». وإنما وحّد صوت الحمير ولم يجمع لأنه لم يرد أن يذكر صوت كل واحد من هذا الجنس حتى يجمع ، بل المراد أن كل جنس من الحيوان له صوت ، وأنكر أصوات هذه الأجناس صوت هذا الجنس ، فوجب توحيده.
الإشارة : قد اشتملت وصية لقمان على خصال صوفية ، تدل على كمال صاحبها ، منها : استحضار مراقبة الحق ومشاهدته ، فى السر والعلانية ، فى الجلاء والخفاء. وهو قوله : يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ .. إلخ. ومنها :
القيام بوظائف العبودية ، بدنية ولسانية ، وهو قوله : يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ .. إلخ ، ويقاس على الأمر بالمعروف والنهى
___________
(1) أخرجه ابن عدى فى الكامل (5/ 8) ، وأبو نعيم فى الحلية (10/ 290) ، من حديث أبى هريرة. وانظر : الفتح السماوي (2/ 913 - 915).
(2) الخبب : ضرب من العدو. وقيل : الخبب : السرعة. انظر : «اللسان» (خبب 2/ 1085).
(3) بعض حديث أخرجه البخاري فى (الدعوات ، باب الدعاء إذا علا عقبة ، ح 6384) ، ومسلم فى (الذكر والدعاء ، باب استجاب خفض الصوت بالذكر 4/ 2076 ح 2074) من حديث أبى موسى الأشعري رضى اللّه عنه. وقوله «اربعوا» أي : ارفقوا بأنفسكم واخفضوا أصواتكم.(4/372)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 373
عن المنكر سائر عبادات اللسان ، ومنها : الصبر على النوائب ، سواء كانت من جهة الخلق ، أو من قهرية الحق ، وهو ركن فى الطريق. وتقدم تفصيله فى آخر النحل «1». ومنها : التواضع والليونة ، وهما مصيدة الشرف ، ومن شأن أهل السياسة. ومن تواضع دون قدره رفعه اللّه فوق قدره. وهو قوله : وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً. ومنها : السكينة والوقار والرزانة ، وهى نتيجة عمارة القلب بالهيبة والإجلال. وهو قوله : وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ. ومنها : خفض الصوت فى سائر الكلام ، وهو من علامة وجدان هيبة الحضرة ، والقرب من الحق ، قال تعالى : وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً «2» ، وهو من آكد الآداب مع الأشياخ والفقراء.
قال القشيري : قوله تعالى : وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ .. ، الأمر بالمعروف يكون بالقول ، وأبلغه : أن تمنع نفسك عما تنهى عنه ، واشتغالك ، واتصاف نفسك ، بما تأمر به غيرك ، ومن لا حكم له على نفسه لا حكم له على غيره.
والمعروف الذي يجب الأمر به : ما يوصّل العبد إلى مولاه ، والمنكر الذي يجب النهى عنه : ما يشغل العبد عن اللّه.
ثم قال : وقوله تعالى : وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ : تنبيه على أنّ من قام للّه بحقّ امتحن فى اللّه ، فسبيله أن يصبر فى اللّه ، فإنّ من صبر للّه لم يخسر على اللّه.
ثم قال : قوله تعالى : وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ لا تتكبر عليهم ، وطالعهم من حيث النسبة ، وتحقق بأنك بمشهد من مولاك. ومن علم أن مولاه ينظر إليه لا يتكبر ولا يتطاول ، بل يتخاضع ويتضاءل. قوله تعالى : وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ .. الآية ، أي : كن فانيا عن شواهدك ، مصطلما عن صولتك ، مأخوذا عن حولك وقوتك ، متشبها بما استولى عليك من كشوفات سرّك. وانظر من الذي يسمع صوتك حتى تستفيق من خمار غفلتك ، إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ : فى الإشارة : أنه الذي يتكلم بلسان المعرفة بغير إذن من الحق. وقالوا : هو الصوفي يتكلم قبل أوانه. ه. أي : يتكلم على الناس ، قبل أن يأذن له شيخه فى التذكير. وباللّه التوفيق.
ثم ذكّر بالنعم ، فقال :
[سورة لقمان (31) : الآيات 20 الى 21]
أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (20) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (21)
___________
(1) راجع إشارة الآيات : 126 - 128 من سورة النحل.
(2) الآية 108 من سورة طه.(4/373)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 374
يقول الحق جل جلاله : أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ ، يعنى : الشمس ، والقمر ، والنجوم ، والسحاب ، والمطر ، وغير ذلك ، وَما فِي الْأَرْضِ ، يعنى : البحار ، والأنهار ، والأشجار ، والثمار ، والدواب ، والمعادن ، وغير ذلك ، وَأَسْبَغَ : أتم عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ، بالجمع ، والإفراد إرادة الجنس. والنعمة : ما يسر به الإنسان ويتلذذ به ، حال كونها ظاهِرَةً ما تدرك بالحس ، وَباطِنَةً ما تدرك بالعلم والوجدان.
فقيل : الظاهرة : السمع ، والبصر ، واللسان ، وسائر الجوارح الظاهرة ، والباطنة : القلب ، والعقل ، والفهم ، وما أشبه ذلك.
أو : الظاهرة : الصحة ، والعافية ، والكفاية والباطنة : الإيمان ، واليقين ، والعلم ، والمعرفة باللّه ، وسيأتى فى الإشارة بقيتها.
روى أن موسى عليه السّلام قال : دلنى على أخفى نعمتك على عبادك ، فقال : أخفى نعمتى عليهم : النّفس. ه.
قلت : إذ بمجاهدتها تحصل السعادة العظمى ، ولا وصول إليه إلا بمجاهدتها والغيبة عنها. وفى هذا المعنى كان شيخ شيخنا يقول : جزاها اللّه عنا خيرا ما ربحنا إلا منها. ه. وقيل : الظاهرة : تحسين الخلق ، والباطنة : حسن الخلق.
وقال ابن عباس : الظاهرة : ما سوّى من خلقك ، والباطنة : ما ستر من عيوبك.
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بعد هذه النعم المتواترة ، أي : فى توحيده وصفاته ودينه ، بِغَيْرِ عِلْمٍ مستفاد من دليل ولا برهان ، وَلا هُدىً أي : هداية رسول ، وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ أنزله اللّه ، بل بمجرد التقليد الردي. نزلت فى النضر بن الحارث. وقد تقدمت فى الحج «1».
وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ على رسوله من التوحيد ، والشرائع ، قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا من عبادة الأصنام. وهو دليل منع التقليد فى الأصول. قاله البيضاوي قلت : والمشهور أن إيمان المقلّد صحيح. وأما من قلّد الرسول عليه الصلاة والسلام ، ولم ينظر ، فهو مؤمن ، اتفاقا. قال تعالى : أَوَلَوْ أيتبعونهم ، ولو كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ ، يحتمل أن يكون الضمير لهم ، أي : أيقلدونهم ، ولو كان يدعوهم بذلك التقليد إلى العذاب ، أو : لآبائهم ، أي : أيتبعون آباءهم ، ولو كان الشيطان فى زمانهم يدعوهم إلى عذاب السعير.
الإشارة : الأكوان كلها خلقت لك أيها الإنسان ، وأنت خلقت للحضرة ، فاعرف قدرك ، ولا تتعدّ طورك ، واشكر النعم التي أسبغ عليك ظاهرة وباطنة. الظاهرة : استقامة الظواهر فى عمل الشرائع ، والباطنة : تصفية البواطن لتتهيأ لأنوار الحقائق ، أو : الظاهرة : المنن ، والباطنة : المحن. قال القشيري : قد تكلموا فى الظاهرة والباطنة وأكثروا.
___________
(1) راجع تفسير الآية 8 من سورة الحج (3/ 515).(4/374)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 375
فالظاهرة : وجود النعمة ، والباطنة : شهود المنعم ، أو : الظاهرة : الدنيوية ، والباطنة : الدينية. أو : الخلق والخلق ، أو :
نفس بلا زلّة ، وقلب بلا غفلة ، أو : عطاء ورضى. أو : الظاهرة : فى الأموال ونمائها ، والباطنة : فى الأحوال وصفائها ، أو : الظاهرة : النعمة ، والباطنة : العصمة ، أو : الظاهرة : توفيق الطاعات ، والباطنة : قبولها ، أو : الظاهرة :
صحبة العارفين ، والباطنة : حفظ حرمتهم وتعظيمهم. أو : الظاهرة : الزهد فى الدنيا ، والباطنة : الاكتفاء باللّه من الدنيا والعقبى. أو : الظاهرة : الزهد ، والباطنة : الوجد. أو : الظاهرة : توفيق المجاهدة ، والباطنة : تحقيق المشاهدة ، أو :
الظاهرة : وظائف النّفس ، والباطنة : لطائف القلب ، أو : الظاهرة : اشتغالك بنفسك عن الخلق ، والباطنة : اشتغالك بربّك عن نفسك ، أو : الظاهرة : طلبه ، والباطنة : وجوده ، أو : الظاهرة : أن تصل إليه ، والباطنة : أن تبقى معه. ه. ببعض المعنى.
ثم قال القشيري : وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ .. الآية : لم يتخطوا أمثالهم ، ولم يهتدوا إلى تحوّل أحوالهم ه. يعنى : قلدوا أسلافهم فى الإقامة مع الرسوم والأشكال ، والانهماك فى الحظوظ ، فعاقهم ذلك عن السير والوصول. ولا حول ولا قوة إلا باللّه.
وأما من خالف أمثاله وأشكاله ، وانقاد بكليته إلى مولاه ، فقد استمسك بالعروة الوثقى ، كما قال تعالى :
[سورة لقمان (31) : الآيات 22 الى 24]
وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى وَإِلَى اللَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ (22) وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (23) نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ (24)
قلت : قال فى الحاشية : لمّا ذكر حال الكافر المجادل ذكر حال المسلم ، وعدّاه هنا بإلى ، وفى قوله : بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ «1» ، باللام لأنه لمّا كان المجادل غير معين ، ولم يخص له واحدا بعينه ، عقّبه بحال من حصل منه مطلق الاستسلام ، ومدحه يتناول مدح من اتصف بأخص الاستسلام. أو : فى الآية الأخرى أتى به خاصا ، لما رتب عليه من الثواب الجزيل بقوله : فَلَهُ أَجْرُهُ ... إلخ ، الذي لم يذكر هنا إلا بعضه ، فإن اللام تقتضى الاختصاص والقصد إلى الشيء. و«إلى» : لا تقتضى ذلك. انظر ابن عرفة.
وقال النسفي : عدّاه هنا بإلى وهناك باللام لأن معناه ، مع اللام : أنه جعل وجهه - وهو ذاته ونفسه - سالما للّه ، أي : خالصا له ، ومعناه ، مع «إلى» : أنه سلّم نفسه كما يسلم المتاع إلى الرجل ، إذا دفع إليه. والمراد : التوكل عليه والتفويض إليه. ه. أي : فهو أبلغ من اللام ، ومثله البيضاوي.
___________
(1) الآية 112 من سورة البقرة.(4/375)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 376
يقول الحق جل جلاله : وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ أي : ينقد إليه بكليته ، وينقطع إليه بجميع شراشره ، بأن فوض أمره إليه ، وأقبل بكلّيّته عليه ، وَهُوَ مُحْسِنٌ فى أعماله. قال القشيري : من أسلم نفسه ، وأخلص فى اللّه قصده ، فقد استمسك بالعروة الوثقى. ه. فالاستسلام قد يكون بغير إخلاص ، فلذلك قال : وَهُوَ مُحْسِنٌ. قاله المحشى. وقلت : وفيه نظر فإن الحق تعالى إنما عبّر بالإسلام لا بالاستسلام ، وإنما المعنى : أسلم وجهه فى الباطن ، وهو محسن بالعمل فى الظاهر ، فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى ، أي : تعلق بأوثق ما يتعلق به فالعروة :
ما يستمسك به. والوثقى : تأنيث الأوثق. مثّل حال المسلم المتوكل بحال من أراد أن يتدلّى من شاهق جبل ، فاحتاط لنفسه ، بأن استمسك بأوثق عروة من حبل متين ، مأمون انقطاعه. قال الهروي : أي : تمسك بالعقد الوثيق. وقال الأزهرى : أصله : من عروة الكلأ ، وهو : ما له أصل ثابت فى الأرض ، من الشيح وغيره من الشجر المستأصل فى الأرض. ضربت مثلا لكل ما يعتصم به ، ويلجأ اليه. ه.
وهو إشارة لكون التوحيد سببا وأصلا ، والآخذ به ، متصلا باللّه ، لا يخشى انقطاعا ولا هلاكا ، بخلاف الشرك ، فإنه على الضد ، كما يرشد إليه قوله تعالى : وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ .. «1» الآية. وقوله تعالى :
وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ ... الآية «2».
وَإِلَى اللَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ أي : صائرة إليه ، فيجازى عليها.
وَمَنْ كَفَرَ ولم يسلم وجهه للّه ، فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ فلا يهمك شأنه ، فسيقدم علينا ونجازيه ، إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا ، أي : فنعاقبهم على أعمالهم ، إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ ، أي : عالم بحقائق الصدور ، وما فيها ، فيجازى على حسبها ، فضلا عما فى الظواهر ، نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ، أي : نمتعهم زمانا قليلا بدنياهم ، ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ نلجئهم إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ شديد. شبّه إلزامهم التعذيب ، وإرهاقهم إليه ، باضطرار المضطر إلى الشيء. والغلظ : مستعار من الأجرام الغليظة ، والمراد : الشدة والثّقل على المعذّب. عائذا باللّه من موجبات غضبه.
الإشارة : ومن ينقد بكليته إلى مولاه ، وغاب عن كل ما سواه ، وهو من أهل مقام الإحسان ، بأن أشرقت عليه شمس العيان ، فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها أبدا. ومن أمارات الانقياد : ترك التدبير والاختيار ، والرضا والتسليم لكل ما يبرز من عنصر الاقتدار ، وترك الشكوى بأحكام الواحد القهار. وَإِلَى اللَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ فيوصل من يشاء برحمته ، ويقطع من يشاء بعدله. ومن يجحد طريق الخصوص من أهل زمانه فلا يحزنك ، أيها العارف ،
___________
(1) الآية 26 من سورة إبراهيم.
(2) الآية 31 من سورة الحج.(4/376)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 377
فعله ، إلينا إيابهم ، وعلينا حسابهم ، فسنمتّعهم بحظوظهم ، والوقوف مع عوائدهم ، زمانا قليلا ، ثم نضطرهم إلى غم الحجاب وسوء الحساب. والعياذ باللّه.
ثم برهن على توحيد من يجب الاستسلام له ، فقال :
[سورة لقمان (31) : الآيات 25 الى 26]
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (25) لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (26)
يقول الحق جل جلاله : وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ لوضوح الدليل المانع من إسناد الخلق إلى غيره ، فيضطرون إلى الإقرار بذلك ، قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ على إلزامهم وإلجائهم إلى الاعتراف بما يوجب بطلان معتقدهم من شرك الأصنام ، بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ أن ذلك يلزمهم إذا نبهوا عليه ، ولم ينتبهوا ، فالإضراب عن كلام محذوف ، أي : فيجب عليهم أن يعبدوا اللّه وحده ، لمّا اعترفوا ، ولكنهم لا يعلمون ، لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ملكا وعبيدا ، إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ، أي : الغنى عن حمد الحامدين ، المستحق للحمد وإن لم يحمدوه.
الإشارة : قد اتفقت الملل على وجود الصانع. ثم وقفت العقول فى مقام الحيرة والاستدلال ، وامتدت الأرواح والأسرار بأعناقها إلى معرفة الذات وشهودها ، فمن وجدت عارفا كاملا سلك بها الطريق ، حتى أوقعها على عين التحقيق ، فأشرفت على البحر الزاخر ، فغرقت فى بحر الذات وتيار الصفات ، ثم رجعت إلى بر الشريعة لتدل غيرها على الوصول. وقل الحمد للّه أن وجدت من يعرفك باللّه ، وأكثر الخلق حائدون عن العلم باللّه.
ثم إن العلم باللّه وبصفاته وأسمائه لا نهاية له ، كما قال تعالى :
[سورة لقمان (31) : الآيات 27 الى 28]
وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (27) ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ واحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (28)
قلت : (و لو أنما فى الأرض) : مذهب الكوفيين وجماعة : أن ما بعد «لو» : فاعل بفعل محذوف ، أي : ولو ثبت كون ما فى الأرض .. إلخ. ومذهب سيبويه : أنه مبتدأ ، أي : ولو كون ما فى الأرض واقع ، و(البحر) : مبتدأ ، و(يمده) : خبره ، أي : يمد ما ذكر من الأقلام. و(من بعده سبعة أبحر) : مبتدأ وخبر. وحذف التمييز ، أي : (مدادا) ، (4/377)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 378
يدل عليه (يمده) ، أو (سبعة) : فاعل (يمده) ، أي : يصب فيه سبعة أبحر ، والجملة : حال ، أي : ولو أن الأشجار أقلام ، فى حال كون البحر ممدودا ، ما نفدت .. إلخ. وجملة (يمده) : خبر (البحر). ومن قرأ بالنصب فعطف على اسم «إن» ، وهو (ما).
يقول الحق جل جلاله : وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ من الأشجار أَقْلامٌ ، والبحر يمد تلك الأقلام ، يصب فى ذلك البحر سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ، وتلك الأقلام كلها تكتب كلمات اللّه الدالة على عظمته وكمالاته ، ما نَفِدَتْ كلماته ، ونفدت الأقلام ، وجفت تلك الأبحر ، وهذا كقوله : قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي»
مع زيادة المبالغة بذكر السبعة أبحر ، يقال : مد الدواة وأمدها : جعل فيها مدادا ، فجعل البحر الأعظم بمنزلة الدواة ، والأبحر السبعة مدادها ، وفروع الأشجار كلها أقلام تكتب كلماته تعالى ، فلو قدر ذلك لتكسرت الأقلام وجفت الأبحر ، قبل أن تنفد كلماته تعالى لأنها تابعة لعلمه ، وعلمه لا نهاية له.
وإنما وحّد الشجرة لأن المراد تفصيل الشجر وتقصيها شجرة شجرة ، حتى ما يبقى من جنس الشجر ، ولا واحدة إلا وقد بريت أقلاما. وأوثر الكلمات ، وهى من حيز جمع القلة ، على الكلم ، الذي هو جمع الكثرة لأن المعنى : أن كلماته لا يفى بها الأقلام فكيف بكلامه الكثير؟
إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ لا يعجزه شىء ، حَكِيمٌ لا يخرج عن علمه وحكمته شىء ، فلا تنفد كلماته وحكمته.
والآية جواب اليهود ، سألوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، إن قلنا : الآية مدنية ، أو : أمروا وفد قريش أن يسألوه عن قوله : وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا «2» ، فقالوا : هل عنيتنا أم قومك؟ فقال صلى اللّه عليه وسلم : «كلّا قد عنيت» ، فقالوا : أليس فيما قد أوتيت أنّا قد أوتينا التوراة ، فيها علم كل شى ء؟ فقال صلى اللّه عليه وسلم : «هى فى علم اللّه قليل» ، فأنزل اللّه : وَلَوْ أَنَّ ما ...
إلخ «3».
ولما ذكر شأن كلامه وعلمه ذكر شأن قدرته ، فقال : ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ ، أي : إلا كخلق نفس واحدة ، وبعث نفس واحدة. فحذف ، للعلم به ، أي : القليل والكثير فى قدرة اللّه تعالى سواء ، فلا يشغله شأن عن شأن ، وقدرته عامة التعلق ، تنفذ أسرع من لمح البصر. قال الغزالي فى الإحياء : ومن غريب حكم الآخرة أن الرجل يدعى به إلى اللّه تعالى ، فيحاسب ويوبخ ، وتوزن له حسناته وسيئاته ، وهو فى ذلك كله يظن أن اللّه لم
___________
(1) الآية 109 من سورة الكهف.
(2) الآية 85 من سورة الإسراء.
(3) أخرجه الطبري فى التفسير (21/ 81) عن ابن عباس. وذكره الواحدي فى أسباب النزول (ص 358) بدون إسناد.(4/378)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 379
يحاسب إلا هو ، ولعل آلاف آلاف ألف مثله فى لحظة واحدة. وكل منهم يظن ظنه ، لا يرى بعضهم بعضا ، ولا يسمعه ، وهو قوله تعالى : ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ. ه.
إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ لقول من ينكر البعث من المشركين ، بَصِيرٌ بأعمالهم ، فيجازيهم.
الإشارة : أوصاف الباري سبحانه كلها كاملة ، غير محصورة ولا متناهية من علم ، وقدرة ، وإرادة ، وكلام ، وغيرها. وأوصاف العبد كلها قصيرة متناهية ، وقد يمد الحقّ عبده بصفة من صفاته التي لا تتناهى «1» ، فإذا أمده بصفة الكلام تكلم بكلام تعجز عنه العقول ، لا يقدر على إمساكه ، فلو بقي يتكلم عمره كله ما نفد كلامه ، حتى يسكته الحق تعالى. وقد كان بعض السادات يقول لأصحابه ، حين يتكلم عليهم : إنى لأستفيد من نفسى كما تستفيدون أنتم منى ، وذلك حين الفيض الإلهى. وإذا أمده بصفة القدرة ، قدر على كل شىء ، وإذا أمده بصفة السمع سمع كل شىء ، وإذا أمده بصفة البصر ، أبصر كل موجود .. وهكذا. وهذه الأوصاف كامنة فى العبد من حيث معناه ، احتجبت بظهور أضدادها صونا لسّر الربوبية. واللّه تعالى أعلم.
ثم برهن على كمال أوصافه ، فقال :
[سورة لقمان (31) : الآيات 29 الى 32]
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (29) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (30) أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (31) وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (32)
يقول الحق جل جلاله : أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ يدخل ظلمة الليل فى ضوء النهار ، إذا أقبل الليل ، وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ يدخل ضوء النهار فى ظلمة الليل ، إذا أقبل النهار. أو : بإدخال جزء
___________
(1) أي : يمد اللّه عبده المخلص ببعض أنوار صفة من صفاته ، فقد يمده بنور من صفة العلم ، أو بنور من صفة القدرة ، أو بنور من صفة العزة ، أو بنور من صفة الكلام .. إلخ. أما أن يمده بصفة لا متناهية من صفاته اللامتناهية .. فهو أمر غير منصور ، فالرب رب ، والعبد عبد ، واللّه ليس كمثله شىء. [.....](4/379)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 380
أحدهما فى الآخر بزيادة الليل أو النهار. وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لمنافع العباد ، كُلٌّ ، أي : كل واحد من الشمس والقمر يَجْرِي فى فلكه ، ويقطعه ، إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إلى يوم القيامة ، أو : إلى وقت معلوم للشمس ، وهو تمام السنة ، والقمر إلى آخر الشهر. وَأَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ عالم بكنهه ، لا يخفى عليه شىء.
فدل ، بتعاقب الليل والنهار ، أو بزيادتهما ونقصانهما ، وجري النيرين فى فلكهما ، على تقدير وحساب معلوم ، وبإحاطته بجميع أعمال الخلق ، على عظيم قدرته ، وكمال علمه وحكمته.
ذلِكَ شاهد بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ ، وما سواه باطل ، وَأَنَّ ما يَدْعُونَ «1» مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ المعدوم فى حد ذاته ، لا حقيقة لوجوده. أو : ذلك الذي وصف بما وصف به ، من عجائب قدرته وباهر حكمته ، التي يعجز عنها الأحياء القادرون العالمون ، فكيف بالجماد الذي يدعونه من دون اللّه؟ إنما هو بسبب أنه الحق الثابت الإلهية ، وأن من دونه باطل ألوهيته ، وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ، أي : العلى الشأن ، الكبير السلطان.
أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ السفن تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ بإحسانه ورحمته ، أو : بالريح ، لأن الريح من نعم اللّه. أو : ما تحمله السفن من الطعام والأرزاق والمتاع ، فالباء ، حينئذ ، للأرزاق ، وهو استشهاد آخر على باهر قدرته ، وكمال حكمته ، وشمول إنعامه. لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ من عجائب قدرته فى البحر إذا ركبتموه ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ دالة على وحدانيته وكمال صفاته لِكُلِّ صَبَّارٍ فى بلائه ، شَكُورٍ لنعمائه. وهما من صفة المؤمن. فالإيمان نصفان نصف شكر ونصف صبر ، فلا يعتبر بعجائب قدرته إلا من كان هكذا.
وَإِذا غَشِيَهُمْ ، أي : الكفار ، أي : علاهم وغطاهم مَوْجٌ كَالظُّلَلِ ، أي : كشىء يظل من جبل ، أو سحاب ، أو غيرهما ، فالموج الكبير يرتفع فيعود كالظلل جمع ظلة ، وهو ما أظلك من جبل أو سقف. فإذا غشيهم ذلك دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ، لا يدعون معه غيره ، لزوال ما ينازع الفطرة بالقهرية. فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ مقيم على الطريق القصد ، باق على الإيمان ، الذي هو التوحيد ، الذي كان منه فى حال الشدة ، لم يعد إلى الكفر ، أو : متوسط فى الظلم والكفر ، انزجر بعض الانزجار. ، ولم يغل فى الكفر والعدوان.
أو : مقتصد فى الإخلاص الذي كان عليه فى البحر ، يعنى : أن ذلك الإخلاص الحادث عند الخوف لا يبقى لأحد قط ، إلا النادر ، وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا أي : بحقيقتها إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ غدّار. والختر : أقبح الغدر ، كَفُورٍ لنعم ربه. وهذه الكلمات متقابلة لفظا ومعنى ، فختّار : مقابل صبّار ، وكفور : مقابل شكور لأن من غدر لم يصبر ، ومن كفر لم يشكر. واللّه تعالى أعلم.
___________
(1) قرأ أبو عمرو وحفص والكسائي ويعقوب : «ما يدعون» بالغيب .. انظر : الإتحاف (2/ 364).(4/380)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 381
الإشارة : ألم تر أن اللّه يولج ليل القبض فى نهار البسط ، ونهار البسط فى ليل القبض ، فهما يتعاقبان على العبد تعاقب الليل والنهار ، فإذا تأدب مع كل واحد منهما زاد بهما معا ، وإلا نقص بهما ، أو بأحدهما. فآداب القبض : الصبر ، والرضا ، والسكون تحت مجارى الأقدار. وآداب البسط : الحمد ، والشكر ، والإمساك عن الفضول فى كل شىء. وسخّر شمس العيان وقمر الإيمان ، كلّ يجرى إلى أجل مسمى فقمر الإيمان يجرى إلى طلوع شمس العرفان ، وشمس العرفان إلى ما لا نهاية له من الأزمان. ذلك بأن اللّه هو الحق ، وما سواه باطل. فإذا جاء الحق ، بطلوع شمس العيان ، زهق الباطل ، إن الباطل كان زهوقا. وإنما أثبته الوهم والجهل. ألم تر أن سفن الأفكار تجرى فى بحار التوحيد ، لترى عجائب الأنوار وغرائب الأسرار ، من أنوار الملكوت وأسرار الجبروت؟ إن فى ذلك لآيات لكل صبّار على مجاهدة النفس ، شكور على نعمة الظّفر بحضرة القدّوس.
وإذا غشيهم ، فى حال استشرافهم على بحر الحقيقة ، موج من أنوار ملكوته ، فكادت تدهشهم ، تضرعوا والتجئوا إلى سفينة الشريعة ، حتى يتمكنوا ، فلما نجاهم إلى بر الشريعة ، فمنهم مقتصد معتدل بين جذب وسلوك ، بين حقيقة وشريعة ، ومنهم : غالب عليه السكر والجذب ، ومنهم : غالب عليه الصحو والسلوك. وكلهم أولياء اللّه ، ما ينكرهم ويجحدهم إلا كل ختّار جاحد. قال القشيري : وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ إذا تلاطمت عليهم أمواج بحار التقدير تمنوا أن تلفظهم تلك البحار إلى سواحل السلامة ، فإذا جاء الحقّ بتحقيق مناهم عادوا إلى رأس خطاياهم.
فكم قد جهلتم ، ثم عدنا بحلمنا ، أحبّاءنا : كم تجهلون ونحلم!
ثم ختم بالوعظ والتذكير ، فقال :
[سورة لقمان (31) : الآيات 33 الى 34]
يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (33) إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34)
قلت : (بأى أرض) قال فى المصباح : الأفصح : استعمال «أي» فى الشرط والاستفهام بلفظ واحد ، للمذكر والمؤنث ، وعليه قوله تعالى : أَيَّ آياتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ
«1» ، وقد تطابق فى التذكير والتأنيث ، نحو : أي رجل ، وأي وأية امرأة. وفى الشاذ : بأية أرض تموت. ه.
___________
(1) من الآية 81 من سورة غافر.(4/381)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 382
يقول الحق جل جلاله : يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ اجعلوا بينكم وبين غضبه وقاية ، بطاعته وترك معصيته. وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ شيئا ، لا يقضى عنه شيئا ، ولا يدفع عنه شيئا. والأصل :
لا يجزى فيه ، فحذف. وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً ، وتغيير النظم فى حق الولد ، بأن أكده بالجملة الاسمية ، وبزيادة لفظ (هو) ، وبالتعبير بالمولود للدلالة على حسم أطماعهم فى أن ينفعوا آباءهم الذين ماتوا على الكفر بالشفاعة فى الآخرة. ومعنى التأكيد فى لفظ المولود : أن الواحد منهم لو شفع للأب الأدنى الذي ولد منه لم تقبل منه ، فضلا عن أن يشفع لأجداده لأن الولد يقع على الولد وولد الولد ، بخلاف المولود لإنه لما ولد منك.
كذا فى الكشاف ، قلت : وهذا فى حق الكفار ، وأما المؤمنون فينفع الولد والده ، والوالد ولده بالشفاعة ، كما ورد فى قارئ القرآن والعالم ، وكل من له جاه عند اللّه ، كما تقدم فى سورة مريم «1».
ثم قال تعالى : إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ بالبعث والحساب والجزاء ، حَقٌّ لا يمكن خلفه ، فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا بزخارفها الغرارة فإنّ نعمها دانية ، ولذاتها فانية ، فلا تشغلكم عن التأهب للقاء ، بالزهد فيها ، والتفرغ لما يرضى اللّه ، من توحيده وطاعته ، وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ ، أي : لا يعرضنكم لخطر الغرة باللّه وبحمله ، أو : لا يوقعنكم فى الجهل باللّه والغرة به ، الْغَرُورُ أي : الشيطان ، أو : الدنيا ، أو : الأمل. وفى الحديث : «الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والأحمق من أتبع نفسه هواها ، وتمنّى على اللّه الأمانى» «2». وفى الحديث أيضا : «كفى بخشية اللّه علما ، وبالاغترار به جهلا».
إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ أي : وقت قيامها ، فلا يعلمه غيره ، فتأهبوا لها ، قبل أن تأتيكم بغتة. وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ : عطف على ما يقتضيه الظرف من الفعل ، أي : إن اللّه يثبت عنده علم الساعة ، وينزل الغيث فى وقته ، من غير تقديم ولا تأخير ، وفى محله ، على ما سبق فى التقدير ، ويعلم كم قطرة ينزلها ، وفى أي بقعة يمطرها.
وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ أذكر أم أنثى ، أتام أم ناقص ، وشقى أو سعيد ، وحسن أو قبيح. وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً من خير أو شر ، ووفاق وشقاق ، فربما كانت عازمة على الخير فعملت شرا ، أو على شر فعملت خيرا. وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ أي : أين تموت ، فربما أقامت بأرض ، وضربت أوتادها ، وقالت :
لا أبرحها ، فترمى بها مرامى القدر حتى تموت بمكان لم يخطر ببالها.
روى أن ملك الموت مرّ على سليمان عليه السّلام فجعل ينظر إلى رجل من جلسائه ، فقال الرجل : من هذا؟ فقال :
ملك الموت ، فقال : كأنه يريدنى ، فسأل سليمان أن يحمله الريح ويلقيه ببلاد الهند ، ففعل ، ثم قال ملك الموت لسليمان : كان دوام نظرى إليه تعجبا منه ، لأنى أمرت أن أقبض روحه بالهند ، وهو عندك. ه.
___________
(1) راجع إشارة الآية 87 من سورة مريم.
(2) سبق تخريج الحديث عند إشارة الآيات : 38 - 40 من سورة العنكبوت.(4/382)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 383
وجعل العلم للّه والدراية للعبد ، لما فى الدراية من معنى التكسب والحيلة ، فهذه الأمور الخمسة قد اختص اللّه بعلمها. وأما المنجم الذي يخبر بوقت الغيث والموت فإنه يقول بالقياس والنظر فى المطالع ، وما يدرك بالدليل لا يكون غيبا ، على أنه مجرد الظن ، والظن غير العلم. وعن ابن عباس : من ادعى علم هذه الخمسة فقد كذب.
وجاءه يهودى منجم ، فقال : إن شئت أنبأتك أنه يحم ابنك ويموت بعد عشرة أيام ، وأنت لا تموت حتى تعمى ، وأنا لا يحول علىّ الحول حتى أموت. قال له : أين موتك؟ قال : لا أدرى ، فقال ابن عباس : صدق اللّه : ما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ. ورأى المنصور فى منامه ملك الموت ، وسأله عن مدة عمره ، فأشار بأصابعه الخمس ، فعبرها المعبرون بخمس سنين ، وبخمسة أشهر ، وبخمسة أيام. فقال أبو حنيفة رضي اللّه عنه : هو إشارة إلى هذه الآية ، فإن هذه العلوم الخمسة لا يعلمها إلا اللّه. ه.
وقال شيخ شيوخنا ، سيدى عبد الرحمن الفاسى فى حاشيته : قيل : إن اللّه تعالى يعلم الأشياء بالوسم والرسم ، والرسم يتغير ، والوسم لا يتغير ، فقد أخفى اللّه تعالى الساعة ، ولم يخف أمارتها ، كما جاء عن صاحب الشرع. وكذا قد يطلع أولياءه على بعض غيبه ، ولكن لا من كل وجوهه ، فقد يعلم نزول المطر من غير تعين وقته واللحظة التي ينزل فيها ومقداره ، وبالجملة فعلم ما يكون من الخواص ، جملة لا تفصيلى ، وجزئى لا كلى ، ومقيد لا مطلق ، وعرضى لا ذاتى ، بخلاف علمه تعالى. ه.
قال المحلى : روى البخاري عن ابن عمر حديث مفاتح الغيب خمس : إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ .. «1»
إلى آخر السورة .. ونقل ابن حجر عن ابن أبى جمرة ، بعد كلام ، ما نصه : والحكمة فى جعلها خمسة : الإشارة إلى حصر العوالم فيها ، ففى قوله : ما تَغِيضُ الْأَرْحامُ : الإشارة إلى ما يزيد فى الإنسان وما ينقص. وخص الرحم بالذكر ، لكون الأكثر يعرفونها بالعادة ، ومع ذلك فنفى أن يعرفها أحد بحقيقتها ، فغيرها بطريق الأولى. وفى قوله :
لا يعلم متى يأتى المطر : إشارة إلى أمور العالم العلوي ، وخص المطر مع أن له أسبابا قد تدل بجرى العادة على وقوعه ، لكنه من غير تحقيق. وفى قوله : «لا تدرى نفس بأى أرض تموت» : إشارة إلى أمور العالم السفلى ، مع أن عادة أكثر الناس أن يموت ببلده ، ولكن ليس ذلك حقيقة ، وإن مات ببلده لا يعلم بأى بقعة يدفن فيها ، ولو كان هناك مقبرة لأسلافه ، بل قبر أعده هو له.
وفى قوله : «ولا يعلم ما فى غد إلا اللّه» : إشارة إلى أنواع الزمان ، وما فيها من الحوادث ، وعبّر بلفظ (غد) لكون حقيقته أقرب الأزمنة إليه ، وإذا كان مع قربه لا يعلم حقيقة ما يقع فيه ، مع إمكان الأمارة والعلامة ، فما بعد
___________
(1) أخرج حديث مفاتيح الغيب ، البخاري فى (الاستسقاء ، باب لا يدرى متى يجىء المطر إلا اللّه ح 1039).(4/383)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 384
عنه أولى. وفى قوله : «متى تقوم الساعة إلا اللّه» إشارة إلى علوم الآخرة ، فإن يوم القيامة أولها ، وإذا نفى علم الأقرب انتقى علم ما بعد ، فجمعت الآية أنواع الغيوب ، وأزالت جميع الدعاوى الفاسدة. وقد بيّن فى قوله تعالى :
فى الآية الأخرى ، وهى قوله : فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى .. «1» الآية ، أن الاطلاع على شىء من هذه الأمور لا يكون إلا بتوقيف. ه ملخصا.
والحاصل : أن العوالم التي اختص اللّه بها خمسة : عالم القيامة وما يقع فيه ، والعالم العلوي وما ينشأ منه ، وعالم الأرض وما يقع فيه ، وعالم الإنسان وما يجرى عليه ، وعالم الزمان وما يقع فيه. إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ عليم بالغيوب ، خبير بما كان وبما يكون. وعن الزهري : أكثروا من قراءة سورة لقمان فإن فيها أعاجيب ه.
الإشارة : يا أيها الناس المتوجهون إلى اللّه ، إنّ وعد اللّه بالفتح ، لمن أنهض همته إليه ، حق ، فلا تغرنكم الحياة الدنيا بأشغالها ، عن النهوض إليها ، ولا يغرنكم بكرم اللّه الشيطان الغرور ، فيغركم بكرم اللّه ، ويصرفكم عن المجاهدة والمكابدة إذ لا طريق إلى الوصول إلا منهما ، إن اللّه عنده علم الساعة التي يفتح على العبد فيها ، وينزل غيث المواهب والواردات ، ويعلم ما فى أرحام الإرادة ، من تربية المعرفة واليقين ، وما تدرى نفس ماذا تكسب غدا من زيادة الإيمان ونقصانه ، وما تلقاه من المقادير الغيبية ، فيجب عليها التفويض والاستسلام ، وانتظار ما يفعل اللّه بها فى كل غد ، وما تدرى نفس بأى أرض من العبودية تموت فيها ، إن اللّه عليم خبير.
قال القشيري : فى قوله : يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ : خوّفهم ، تارة ، بأفعاله ، فيقول : اتَّقُوا يَوْماً «2» ، وتارة بصفاته ، فيقول : أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى «3» ، وتارة بذاته ، فيقول : وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ «4». ه. وباللّه التوفيق ، ولا حول ولا قوة إلا باللّه العلى العظيم ، وصلى اللّه على سيدنا محمد وآله.
___________
(1) الآيتان 26 - 27 من سورة الجن.
(2) جاء فى آيات كثيرة ، منها الآية 48 من سورة البقرة.
(3) من الآية 14 من سورة العلق.
(4) من الآية 28 من سورة آل عمران.(4/384)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 385
سورة السّجدة
مكية ، وقيل : إلا قوله : أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً «1» ، نزلت بالمدينة ، وهى ثلاثون آية ، أو : تسع وعشرون. ومناسبتها لما قبلها : قوله : اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ ... إلى آخر الآيات ، فإنها كالاستدلال على قيام الساعة ، التي خوّف بها فى ختم السورة بعد تقرير الرسالة. وقيل : المناسبة : هى ما بعد هذه من تبيين الرسالة ، التي هى مستند ما ذكر قبلها من المعاد ودلائل التوحيد. وعن جابر أنه صلى اللّه عليه وسلم كان لا ينام حتى يقرأ : الم السجدة. وتَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ ، ويقول : «هما مفضلتان على كل سورة من القرآن بسبعين حسنة ، ومن قرأهما كتبت له سبعون حسنة ، ومحى عنه سبعون سيئة».
[سورة السجده (32) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (2) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (3)
قلت : (تنزيل) : إما خبر عن (الم) ، إن جعل اسما للسورة ، أو : خبر عن محذوف ، أي : هذا تنزيل. أو : مبتدأ ، خبره : (لا ريب فيه). وعلى الأول (لا ريب) : خبر بعد خبر ، و(من رب العالمين) : خبر ثالث. أو : خبر عن «تنزيل» ، و(لا ريب فيه) : معترض. والضمير فى (فيه) : راجع إلى مضمون الجملة ، كأنه قيل : لا ريب فى ذلك ، أي : كونه منزلا من رب العالمين ، و«أم» : منقطعة بمعنى : «بل».
يقول الحق جل جلاله : الم أيها المصطفى المقرب ، هذا الذي تتلوه هو تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ ، لأنه معجز للبشر ، ومثله أبعد شىء عن الريب ، وهو مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ لا محالة. أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ ، أي : اختلقه محمد من عنده ، وهو إنكار لقولهم ، وتعجيب منه لظهور أمره فى عجزهم عن الإتيان بسورة منه. قال تعالى : بَلْ هُوَ الْحَقُّ الثابت مِنْ رَبِّكَ ، ولم تفتره ، كما زعموا تعنتا وجهلا ، أنزله عليك لِتُنْذِرَ قَوْماً أي : العرب ، ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ ، بل طالت عليهم الفترة من زمن إسماعيل وعيسى - عليهما السلام - لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ إلى الصواب من الدين. والترجي مصروف إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، كما كان لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ «2» مصروفا إلى موسى وهارون.
___________
(1) الآية 18.
(2) من الآية 44 من سورة طه.(4/385)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 386
الإشارة : (الم) الألف : ألف المحبون قربى ، فلا يصبرون عنى. اللام : لمع نورى لقلوب السائرين ، فزاد شوقهم إلىّ. الميم : ملك الواصلون ملكى وملكوتى ، فلا يغيبون عنى. تنزيل الكتاب ، إذا طال أمد لقاء الأحباب ، فأعزّ شىء على المحبين كتاب الأحباب. أنزلت على أحبابى كتابى ، وحملت إليهم بالرسل خطابى ، ولا عليهم إن قرع أسماعهم عتابى ، فإنهم منى فى أمان من عذابى. أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ ، إنكار الأعداء على المحبين سنّة لازمة. فإن ألبس الحق على الأعداء فلا يضركم ، ولا عليكم ، فإنّ [صحبة] «1» الحبيب للحبيب ألذّ ما تكون عند فقد الرقيب. قاله القشيري.
ثم ذكر المقصود بالذات ، وهو الاستدلال على البعث ، فقال :
[سورة السجده (32) : الآيات 4 الى 6]
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (4) يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (5) ذلِكَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (6)
يقول الحق جل جلاله : اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي مقدار سِتَّةِ أَيَّامٍ ، ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ أي : استولى بقهرية ذاته. وسئل مالك عنه ، فقال : الاستواء معلوم ، والكيفية مجهولة ، والسؤال عن هذا بدعة. ه. ولم تتكلم الصحابة على الاستواء ، بل أمسكوا عنه ، ولذلك قال مالك : السؤال عنه بدعة. وسيأتى شىء فى الإشارة. ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ من دون اللّه مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أي : إذا جاوزتم رضاه لم تجدوا لأنفسكم وليا ، أي : ناصرا ينصركم ، ولا شفيعا يشفع لكم ، أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ تتعظون بمواعظ اللّه.
يُدَبِّرُ الْأَمْرَ أي : أمر الدنيا. وما يكون من شؤونه تعالى فى ملكه ، فهو كقوله : كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ «2» ، أي : يبديه لا يبتديه. وهو إشارة إلى القضاء التفصيلي ، الجزئى ، لا الكلى ، فإنه كان دفعة. يكون ذلك التدبير مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ، فيدبر أمر الدنيا بأسباب سماوية ، نازلة آثارها إلى الأرض. فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ من أيام الدنيا.
___________
(1) فى الأصول : محبة ، والمثبت هو الذي فى القشيري ، وهو المناسب للسياق.
(2) من الآية 29 من سورة الرحمن.(4/386)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 387
قال الأقليشى : جاء فى حديث : «إن بعد ما بين السماء والأرض ، وما بين سماء إلى سماء ، مسيرة خمسمائة سنة». وفى حديث آخر : «إن بين ذلك نيّفا وسبعين سنة» ، وإنما وقع الاختلاف فى ذلك بالنسبة إلى سير الملائكة.
وان سرعة بعضها أكثر من سرعة بعض. كما يقول القائل : من موضع كذا إلى كذا مسيرة شهر للفارس وشهرين للراجل. وعليه يخرج قوله تعالى : يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ. وقال فى آية أخرى : خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ «1». وهكذا الوجود من علوه إلى سفله ، من الملائكة من يقطعه فى مدة ما ، ويقطعه غيره فى أكثر منها أو أقل. ه. وقيل : المعنى : أنه يدبر أمر الدنيا إلى أن تقوم الساعة ، ثم يعرج إليه ذلك الأمر ، فيحكم فيه فى يوم كان مقداره ألف سنة ، أو خمسين ألف سنة. فقد قيل : إن مواقف يوم القيامة خمسون موقفا ، كل موقف ألف سنة. وقد حكى هذا ابن عطية ، فقال : يدبر الأمر فى مدة الدنيا ، ثم يعرج إليه يوم القيامة. ويوم القيامة : مقداره ألف سنة من عدّنا. وهو على الكفار قدر خمسين ألف سنة لهوله ، حسبما فى سورة المعارج. ه.
قلت : والتحقيق ، فى الفرق بين الآيتين ، أن الحق تعالى ، حيث لم يختص بمكان دون مكان ، وكانت الأمكنة فى حقه تعالى كلها واحدة ، وهو موجود معها وفيها بعلمه وأسرار ذاته ، كان العروج إنما هو إليه على كل حال ، بعدت المسافة أو قربت. لكن لما علق العروج بتدبير الأمور وتنفيذها ، قرّب المسافة ليعلم العبد أن القضاء نافذ فيه بسرعة. ولمّا علّق عروج الملائكة والروح إلى مطلق الذات المقدسة بعّد المسافة زيادة فى علو شأنه ورفعة قدره.
وكل هذا العروج فى دار الدنيا. على قول من علّق (فى يوم) بتعرج فى سورة المعارج. فتأمله.
ذلِكَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ ، أي : ذلك الموصوف بتلك الصفات العظام هو عالم ما غاب عن الأبصار من عجائب أسرار عالم الملكوت ، وما شوهد فى عالم الحس من عجائب عالم الملك. الْعَزِيزُ الغالب أمره وتدبيره ، الرَّحِيمُ البالغ لطفه وتيسيره.
الإشارة : اعلم أن الحق تعالى تجلى بهذه الكائنات ، قطعة من نور ذاته ، على ترتيب وتمهيل. فتجلى بالعرش ، ثم بالماء ، فكان عرشه على الماء ، ثم بالكرسي ، ثم بالأرض ، ثم بالسماوات ، ولما أكمل أمر مملكته تجلى بنور صمدانى رحمانى من بحر جبروته ، استوى به على عرشه لتدبير ملكه ، ثم تجلى بآدم على صورة ذلك التجلي. ولذلك قال صلى اللّه عليه وسلم : «إن اللّه خلق آدم على صورته». وفى رواية : «على صورة الرحمن». وبذلك التجلي يتجلى يوم القيامة لفصل عباده ، ولرؤيته - باعتبار العامة - ، وهذا التجلي كله ، من جهة معناه ، متصل بسائر التجليات ،
___________
(1) الآية 4 من سورة المعارج. [.....](4/387)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 388
جزئى من جهة تشكيله للمعنى الكلى ، والفرق بينه وبين التجليات الظاهرة للحس : أن التجلي المستولى غير مرتد برداء الحس إذ لا عبودية فيه ، ولا قهرية تلحقه. ولأنه لم يظهر للعيان حتى يحتاج إلى رداء ، لأن كنزه ما زال مدفونا ، حيث ارتفع فوق تجليات الأكوان. فتأمل ، وسلّم ، إن لم تفهم ، ولا تبادر بالإنكار حتى تصحب الرجال ، فيخوضون بك بحر الأحدية الحقيقة ، فتفهم أسرار التوحيد. وباللّه التوفيق.
ثم كمل ما بقي من أوصافه ، فقال :
[سورة السجده (32) : الآيات 7 الى 10]
الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (9) وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ (10)
قلت : (الذي) : صفة للعزيز ، أو : خبر عن مضمر. ومن قرأ خَلَقَهُ بالفتح «1» فصفة لكل ، ومن سكّنه فبدل منه ، أي : أحسن خلق كل شىء.
يقول الحق جل جلاله فى وصف ذاته : الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ أي : أبدع خلق كل شىء ، أتقنه على وفق حكمته. أو : أتقن كل شىء من مخلوقاته ، فجعلهم فى أحسن صورة. ثم بَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ آدم مِنْ طِينٍ ، ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ ذريته مِنْ سُلالَةٍ أي : نطفة مسلولة من سائر البدن ، مِنْ ماءٍ أي :
منّى ، وهو بدل من سلالة ، مَهِينٍ ضعيف حقير. ثُمَّ سَوَّاهُ أي : سوّى صورته فى أحسن تقويم ، وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ ، أضافه إلى نفسه ، تشريفا ، إشارة إلى أنه خلق عجيب ، وأن له شأنا ومناسبة إلى حضرة الربوبية ، ولذلك قيل : من عرف نفسه عرف ربه. وقد تقدم فى سورة الإسراء ، فى الكلام على الروح ، وجه المعرفة منه «2». وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ لتسمعوا كلامه ، وتبصروا آثار قدرته وعجائب حكمته ، وتعقلوا ، فتعرفوا صانعكم ومدبر أمركم. قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ أي : تشكرون شكرا قليلا على هذه النعم لقلة التدبر فيها.
___________
(1) قرأ نافع وعاصم وحمزة والكسائي : «خلقه» بفتح اللام ، فعلا ماضيا ، وقرأ الباقون : بسكونها بدل من «كل» بدل اشتمال. انظر :
الإتحاف (2/ 366).
(2) راجع إشارة الآية 85 من سورة الإسراء. (3/ 228 - 230).(4/388)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 389
وَقالُوا منكرين للبعث : أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ ، أي : صرنا ترابا ، وذهبنا مختلطين بتراب الأرض ، لا نتميز منه ، كما يضل الماء فى اللبن. أو : غبنا فى الأرض بالدفن فيها ، يقال : ضلل كضرب ، وضلل كفرح. وانتصب الظرف فى (أ إذا) بقوله : أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ. أي : أنبعث ، ونجدد ، إذا ضللنا فى الأرض؟. والقائل لهذه المقالة أبىّ بن خلف ، وأسند إليهم لرضاهم بذلك ، بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ جاحدون. لمّا ذكر كفرهم بالبعث أضرب عنه إلى ما هو أبلغ ، وهو أنهم كافرون بجميع ما يكون فى العاقبة ، لا بالبعث وحده. وقال المحشى : أي : ليس لهم جحود قدرته تعالى على الإعادة لأنهم يعترفون بقدرته ، ولكنهم اعتقدوا ألّا حساب عليهم ، وأنهم لا يلقون اللّه تعالى ، ولا يصيرون إلى جزائه. ه. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : كل ما أظهر الحق تعالى : من تجلياته الكونية فهى فى غاية الإبداع والاتفاق فى أصل نشأتها ، كما قال صاحب العينية :
وكلّ قبيح ، إن نسبت لحسنه أتتك معانى الحسن فيه تسارع
يكمّل نقصان القبيح جماله فما ثمّ نقصان ، ولا ثمّ باشع «1»
وأكملها وأعظمها : خلقة الإنسان ، الذي خلق على صورة الرحمن ، حيث جعل فيه أوصافه من قدرة ، وإرادة ، وعلم ، وحياة ، وسمع ، وبصر ، وكلام ، وهيأه لحضرة القدس ومحل الأنس ، وسخّر له جميع الكائنات ، وهيأه لحمل الأمانة ، إلى غير ذلك مما خص به عبده المؤمن. وأما الكافر فهو فى أسفل سافلين. قال الورتجبي : ذكر حسن الأشياء ، ولم يذكر هنا حسن الإنسان غيرة ، لأنه موضع محبته ، واختياره الأزلى ، كقول القائل :
وكم أبصرت من حسن ، ولكن عليك ، من الورى ، وقع اختياري
قال الواسطي : الجسم يستحسن المستحسنات ، والروح واحدية فردانية ، لا تستحسن شيئا. وقال ابن عطاء فى قوله : ثُمَّ سَوَّاهُ ... : قوّمه بفنون الآداب ، ونفخ فيه من روحه الخاص ، الذي ، به ، فضّله على سائر الأرواح ، لما كان له عنده من محل التمكين ، وما كان فيه من تدبير الخلافة ، ومشافهة الخطاب - بعد أن قال الورتجبي - : أخص الخصائص هو ما سقط من حسن تجلّى ذاته فى صورته ، كما ذكر بقوله : وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ. ه.
ثم ذكر أمر اللقاء الذي أنكروه ، فقال :
[سورة السجده (32) : الآيات 11 الى 15]
قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (11) وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ (12) وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (13) فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا إِنَّا نَسِيناكُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (14) إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (15)
___________
(1) انظر النادرات العينية (76 - 77).(4/389)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 390
يقول الحق جل جلاله : قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ بقبض أرواحكم فتموتون ، ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ بالبعث للحساب والعقاب. وهذا معنى لقاء اللّه الذي أنكروه. والتوفى : استيفاء الروح ، أي : أخذها ، من قولك : توفيت حقى من فلان ، إذا أخذته وافيا من غير نقصان. وعن مجاهد : زويت الأرض لملك الموت ، وجعلت مثل الطست ، يتناول منها حيث يشاء «1». وعن مقاتل والكلبي : بلغنا أن اسم ملك الموت «عزرائيل» ، وله أربعة أجنحة : جناح بالمشرق وجناح بالمغرب ، والخلق بين رجليه ، ورأسه وجسده كما بين السماء والأرض ، وله الدنيا مثل راحة اليد ، فهو يقبض أنفس الخلائق بمشارق الأرض ومغاربها ، وله أعوان من ملائكة الرحمة وملائكة العذاب. وعن معاذ بن جبل : أن لملك الموت حربة ، تبلغ ما بين المشرق والمغرب ، وهو يتصفح وجوه الموتى ، فما من أهل بيت إلا وهو يتصفحهم كل يوم مرتين - وفى حديث آخر ، خمس مرات - فإذا رأى إنسانا قد انقضى أجله ضربه بتلك الحربة. وقال : الآن يزار بك عسكر الأموات «2».
فإن قيل : ما الجمع بين قوله : تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا «3» وتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ «4» وقُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ وقوله : اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ «5»؟ فالجواب : أن توفى الملائكة : القبض والنزع ، وتوفى ملك الموت الدعاء والأمر ، يدعو الأرواح فتجيبه ، ثم يأمر أعوانه بقبضها ، ثم يذهبون بها إلى عليين. وقبض الحق تعالى : خلق الموت فيه. والحاصل : أنّ قبض الملك : المباشرة ، وقبض الحق : الإخراج حقيقة.
قال الورتجبي : قال الحسن : ملك الموت هو الموكل بأرواح بنى آدم ، وملك الفناء موكل بأرواح البهائم. فانظر فيه. وأما حديث ملكى الموت والحياة ، فقال العراقي : لم أجد له أصلا. ويعنى بملك الحياة : كون الأرواح ، أنفاس ملك الحياة كما فى الإحياء. ومذهب أهل السّنة قاطبة : أن ملك الموت هو الذي يقبض جميع الأرواح ، من بني آدم
___________
(1) أخرجه الطبري (21/ 98).
(2) ذكره البغوي فى تفسيره (6/ 302).
(3) من الآية 61 من سورة الأنعام.
(4) من الآية 97 من سورة النساء.
(5) من الآية 42 من سورة الزمر.(4/390)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 391
والبهائم وسائر الحيوانات. وبه قال مالك وأشهب. وذهب قوم إلى أن أرواح البهائم وسائر الحيوانات إنما تقبض أرواحها أعوان ملك الموت. وذهب قوم إلى أن الموت في حق غير بنى آدم ، إنما هو عدم محض ، كيبس الشجر وجفاف الثياب ، فلا قبض لأرواحها ، وهو أعلم من كونها تبعث ، أو : لا بأن تعاد عن عدم ، بخلاف المكلف ، فإن روحه لا تعدم ، خلافا للملاحدة ، فإنهم جعلوا الموت كله عدما محضا ، كجفاف العود الأخضر ، وهو كفر.
هذا وقد اختلف فى كون الموت ضد الحياة ، فيكون معنى وجوديا ، أو هو عدم الحياة ، فيكون عدما ، وعلى كلا القولين فالأرواح باقية بعد مفارقة الأبدان ، منعّمة أو معذبة.
وَلَوْ تَرى يا محمد إِذِ الْمُجْرِمُونَ وهم الذين قالوا : أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ ... إلخ ، و«لو» و«إذ» للماضى ، وإنما جاز هنا لأن المترقّب محقق الوقوع. و(ترى) ، هنا ، تامة ، لا مفعول لها ، أي : لو وقعت منك رؤية إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ أي : وقت كون المجرمين ناكسى رؤوسهم من الذل والحياء والندم ، عِنْدَ رَبِّهِمْ عند حساب ربهم ، قائلين : رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا أي : صدّقنا الآن وعدك ووعيدك ، وأبصرنا ما حدّثتنا به الرسل ، وسمعنا منك تصديق رسلك ، فَارْجِعْنا إلى الدنيا نَعْمَلْ صالِحاً من الإيمان والطاعة ، إِنَّا مُوقِنُونَ بالبعث والحساب الآن. وجواب «لو» : محذوف ، أي : لرأيت أمرا فظيعا.
وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها أي : ما تهتدى به إلى الإيمان والطاعة ، أي : لو شئنا لأعطيناء فى الدنيا ، كل نفس ما عندنا من اللطف الذي ، لو كان منهم اختيار ذلك ، لاهتدوا. لكن لم نعطهم ذلك اللطف لما علمنا منهم اختيار الكفر وإيثاره. وهو حجة على المعتزلة فإن عندهم : قد شاء اللّه أن يعطى كل نفس ما به اهتدت ، وقد أعطاها ، لكنها لم تهتد ، وأوّلوا الآية بمشيئة الجبر ، وهو فاسد. قال تعالى : وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ، أي : ولكن وجب القول منى لأعمرنّ جهنم من الجنّة والناس ، الذين علمت منهم أنهم يختارون الكفر والتكذيب. وفى تخصيص الجن والإنس : إشارة إلى أنه عصم الملائكة من عمل يستوجبون به جهنم. وفى الآية ما يقتضى تخصيص أهل النار بالجن والإنس ، فيرد ما يذكر أنه كان قبل آدم أمم كفروا ، ولا يصح ذلك ، إلا أن يكونوا من الجن.
فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا أي : باشروا وبال ترككم العمل للقاء يومكم هذا ، وهو الإيمان به. إِنَّا نَسِيناكُمْ : تركناكم فى العذاب ، وَذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ أي : العذاب الدائم الذي لا انقطاع له بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ من الكفر والمعاصي.(4/391)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 392
ثم ذكر ضدهم بقوله : إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا القرآن الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً سجدوا للّه تواضعا وخشوعا ، وشكروا على ما رزقهم من الإسلام ، وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ أي : نزّهوا اللّه عما لا يليق به ، وأثنوا عليه حامدين له ، وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ عن الإيمان والسجود له. جعلنا اللّه منهم بمنّه ، آمين.
الإشارة : أهل الفرق من أهل الحجاب ، يتوفاهم ملك الموت ، وأهل الجمع مع اللّه من أهل العيان يتولى قبض أرواحهم ذو الجلال الإكرام كما قيل في الأخفياء من الأولياء الذين اختص اللّه تعالى بعلمهم - أنه يتولى قبض أرواحهم بيده ، فتطيب أجسادهم به ، فلا يعدوا عليها الثرى ، حتى يبعثوا بها ، مشرقة بنور البقاء المجعول فيهم ، بالرجوع إليه من الفناء ، فيكون بقلوبهم بقاء الأبد مع الباقي الأحد عز وجل. وقد ورد فى الخبر : «من واظب على قراءة آية الكرسي ، دبر كل صلاة ، كان الذي يتولى قبض روحه ذو الجلال الإكرام». يعنى : من تدبر معناها.
والمراد بذلك خطفتها بالتجلى ، واستغراقها فى الشهود ، وغيبتها عن الغير فى ذلك الوقت الهائل ، فيغيب عن الواسطة فى شهود الموسوط ، مع وجود الواسطة لعموم الآية. واللّه تعالى أعلم.
قال القشيري : لو لا غفلة القلوب لما أحال قبض أرواحهم على ملك الموت لأنّ ملك الموت لا أثر منه فى أحد ، وما يحصل فى التوفّى فمن خصائص قدرة الحق ، ولكنهم غفلوا عن شهود حقائق الربّ ، فخاطبهم على قدر أفهامهم ، وعلّق بالأغيار قلوبهم. وكلّ يخاطبه بما يحتمل على قدر قوته وضعفه. ه. وقال فى قوله : وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ .. الآية : ملكتهم الدهشة وغلبتهم الحجة ، فاعترفوا ، حين لا عذر ، واعترفوا ، حين لا اعتراف. ه.
قوله تعالى : وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها ... قال القشيري : لو شاء سهّل سبيل الاستدلال ، وأدام التوفيق لكلّ أحد ، ولكن تعلّقت المشيئة بإغواء قوم ، وأردنا أن يكون للنار قطان ، كما يكون للجنة سكان ، لما علمنا يوم خلقناهما أنه ينزلهما قوم وقوم. فمن المحال أن نريد ارتفاع معلومنا ، إذ لو لم يقع ، ولم يحصل لم يكن علما. فإذا لا أكون إلها. ومن المحال أن أريد ذلك. ويقال : من يتسلّط عليه من يحبه لم يجد فى ملكه ما يكرهه. يا مسكين أفنيت عمرك فى النكد والعناء ، وأمضيت أيامك فى الجهد والرجاء ، غيّرت صفتك ، وأكثرت مجاهدتك ، فما تفعل فيما مضى ، كيف تبدله؟ وما تصنع فى مشيئتى ، وبأى وسع تردّها؟ وأنشدوا :
شكا إليك ما وجد من خانه فيك الجلد
حيران ، لو شئت ، اهتدى ظمآن ، لو شئت ، ورد. «1». ه.
___________
(1) البيتان لأبى هبة اللّه بن المنجم ، كما فى يتيمة الدهر (3/ 389).(4/392)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 393
قوله تعالى : إِنَّما يُؤْمِنُ .... الآية ، خروا سجدا بظواهرهم فى التراب ، وبسرائرهم بالخضوع لهيبة الكريم الوهاب ، فسجود الجبهة وسيلة لسجود القلب ، فإذا سجدت الجبهة وتكبر القلب على عباد اللّه ، كانت وسيلة بلا غاية. وباللّه التوفيق.
ثم وصف أهل الخضوع ، وما أكرمهم به ، فقال :
[سورة السجده (32) : الآيات 16 الى 17]
تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (16) فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (17)
يقول الحق جل جلاله : تَتَجافى أي : ترتفع وتتنحى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ عن الفرش ومواضع النوم للصلاة والذكر. قال سهل : وهب لقوم هبة ، وهو أن أذن لهم فى مناجاته ، وجعلهم من أهل وسيلته ، ثم مدحهم عليه فقال : (تتجافى جنوبهم عن المضاجع) ، يَدْعُونَ أي : داعين رَبَّهُمْ خَوْفاً ، أي : لأجل خوفهم من سخطه ، وَطَمَعاً فى رحمته ، وهم المجتهدون أو المتفكرون فى الليل. وسيأتى فى الإشارة. وعن النبي صلى اللّه عليه وسلم فى تفسيرها : «هو قيام العبد من الليل» «1». وعن ابن عطاء : أبت جنوبهم أن تسكن على بساط الغفلة ، وطلبت بساط القربة ، وعن أنس : كان أناس من أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يصلّون من صلاة المغرب إلى صلاة العشاء الأخيرة ، فنزلت فيهم «2». وقال ابن عمر رضي اللّه عنه : قال صلى اللّه عليه وسلم : «من عقب - أي : أحيا - ما بين المغرب والعشاء بنى له فى الجنة قصران مسيرة عام ، وفيهما من الشجر ما لو نزلهما أهل المشرق والمغرب لأوسعهم فاكهة. وهى صلاة الأوابين ، وغفلة الغافلين. وإن من الدعاء المستجاب الذي لا يرد : الدعاء ما بين المغرب والعشاء» «3». ه.
وقيل : هم الذين يصلّون العتمة ، ولا ينامون عنها.
وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ فى طاعة اللّه ، يعنى : أنهم جمعوا بين قيام الليل وسخاوة النفس. فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ أي : لا يعلم أحد ما أعد اللّه لهم من الكرامة ، مما تقرّ به العين من نعيم الأشباح ونعيم الأرواح. وقرأ حمزة ويعقوب : «أخفى» على المضارع. جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ ، وعن الحسن : أخفى القوم أعمالهم فى الدنيا فأخفى اللّه لهم ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر. وفيه دليل على أن المراد الصلاة في جوف الليل ليكون الجزاء وفاقا. قاله النسفي.
___________
(1) أخرجه أحمد فى المسند (5/ 348) ، والحاكم فى المستدرك (2/ 412) ، والطبري فى تفسيره (21/ 103) ، من حديث معاذ بن جبل رضي اللّه عنه.
(2) أخرجه الطبري (21/ 100).
(3) عزاه فى كنز العمال (ح 19450) لابن مردويه ، عن ابن عمر.(4/393)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 394
وفى حديث أسماء ، عنه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال : «إذا جمع اللّه الأوّلين والآخرين ، يوم القيامة ، جاء مناد ينادى بصوت يسمعه الخلائق كلهم : سيعلم أهل الجمع ، اليوم ، من أولى بالكرم ، ثم يرجع فينادى : ليقم الذين كانت لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر اللّه ، فيقومون ، وهم قليل. ثم يرجع فينادى : ليقم الذين كانوا يحمدون اللّه فى السراء والضراء ، فيقومون ، وهم قليل ، يسرحون جميعا إلى الجنة. ثم يحاسب سائر الناس» «1». وفى البخاري عن أبى هريرة رضي اللّه عنه قال صلى اللّه عليه وسلم : «يقول اللّه - عز وجل - : أعددت لعبادى الصالحين ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر» ، قال أبو هريرة : واقرأوا ، إن شئتم : فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ» «2».
وقال فى «البدور السافرة» : أخرج الترمذي ، عن أبى سعيد الخدري عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال : «إنّ فى الجنّة مائة درجة ، لو أنّ العالمين اجتمعوا فى إحداهنّ لو سعتهم». «3». ه. وقال ابن وهب : أخبرنى عبد الرحمن بن زياد أنه سمع عتبة بن عبيد ، الضبي ، يذكر عمن حدّثه عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال : «إن فى الجنة مائة درجة ، بين كل درجتين ما بين السماء والأرض ، أول درجة منها دورها وبيوتها وأبوابها وسررها ومغاليقها ، من فضة ، والدرجة الثانية :
دورها وبيوتها وسررها ومغاليقها من ذهب ، والدرجة الثالثة : دورها وبيوتها وأبوابها وسررها ومغاليقها من ياقوت ولؤلؤ وزبرجد. وسبع وتسعون درجة ، لا يعلم ما هى إلا اللّه تعالى» «4». ه.
وقيل : المراد بقرة الأعين : النظر إلى وجه اللّه العظيم. قلت : قرة عين كل واحد : ما كان بغيته وهمّته فى الدنيا ، فمن كانت همته القصور والحور ، أعطاه ما تقر به عينه من ذلك ، ومن كانت بغيته وهمته النظرة ، أعطاه ما تقر به عينه من ذلك ، على الدوام. قال أبو سليمان : شتان بين من همّه القصور والحور ، ومن همه الحضور ورفع الستور. جعلنا اللّه من خواصهم. آمين.
الإشارة : قوم تتجافى جنوبهم عن المضاجع الحسية إلى العبادة الحسية ، وهم العبّاد والزهاد من الصالحين ، فلا تعلم نفس ما أخفى لهم من نعيم القصور ، والحور ، والولدان ، وغير ذلك. وقوم تتجافى قلوبهم عن مضاجع نوم الغفلة إلى حال الانتباه واليقظة ، وعن مضاجع الرغبة إلى حال العفة والحرية ، ثم عن مضاجع الفرق ، إلى حال
___________
(1) أخرجه البيهقي فى شعب الإيمان (3/ 169 ح 3244).
(2) أخرجه البخاري فى (بدء الخلق ، باب ما جاء فى صفة الجنة ح 3244) ، ومسلم فى (الجنة وصفة نعيمها ، 4/ 2174 ، ح 2824). [.....]
(3) أخرجه الترمذي فى (صفة الجنة ، باب فى صفة درجات الجنة ، 4/ 583 ، ح 2532).
(4) أخرج الطبري نحوه فى التفسير (21/ 105) عن أبى اليمان الهذلي ، والجزء الأول من الحديث أخرجه البخاري فى (الجهاد ، باب درجات المجاهدين فى سبيل اللّه ح 2790) من حديث أبى هريرة رضي اللّه عنه بلفظ : «إن فى الجنة مائة درجة أعدها اللّه للمجاهد فى سبيل اللّه ، ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض ...» الحديث.(4/394)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 395
الجمع ، ثم من الجمع إلى جمع الجمع. فهولاء على صلاتهم دائمون ، وفى حال نومهم عابدون ، وعلى كل حال إلى ربهم سائرون ، وفى معاريج بحر عرفانهم سائحون ، فلا تعلم نفس ما أخفى لهؤلاء من دوام النظرة ، والعكوف فى الحضرة ، واتصال الحبرة. فعبادة هؤلاء قلبية ، سرية خفية عن الكرام الكاتبين ، بين فكرة وشهود وعبرة واستبصار ، الذرة منها تعدل أمثال الجبال من أعمال الجوارح ، وقد ورد : (تفكر ساعة أفضل من عبادة سبعين سنة). هذا تفكر الاعتبار ، وأما تفكر الشهود والاستبصار ، فكل ساعة ، أفضل من ألف سنة ، كما قال الشاعر :
كلّ وقت من حبيبى قدره كألف حجّه
أي : سنة ، ومع هذا لا يخلون أوقاتهم من العبادة الحسية ، شكرا ، وقياما بآداب العبودية ، وهى فى حقهم كمال ، كما قال الجنيد : عبادة العارفين تاج على الرؤوس. ه. وفى مثل هولاء ورد الخبر : «إن أهل الجنة بينما هم فى نعيمهم ، إذ سطع عليهم نور من فوق ، أضاءت منه منازلهم ، كما تضىء الشمس لأهل الدنيا ، فنظروا إلى رجال من فوقهم ، أهل عليين يرونهم كما يرى الكوكب الدري فى أفق السماء ، وقد فضّلوا عليهم فى الأنوار والنعم ، كما فضل القمر على سائر النجم ، فينظرون إليهم ، يطيرون على نجب ، تسرح بهم فى الهواء ، يزورون ذا الجلال الإكرام ، فينادون هؤلاء : يا إخواننا ، ما أنصفتمونا ، كنا نصلى كما تصلون ، ونصوم كما تصومون ، فما هذا الذي فضلتمونا به؟ فإذا النداء من قبل اللّه تعالى : كانوا يجوعون حين تشبعون ، ويعطشون حين تروون ، ويعرون حين تكسون ، ويذكرون حين تسكتون ، ويبكون حين تضحكون ، ويقومون حين تنامون ، ويخافون حين تأمنون ، فلذلك فضّلوا عليكم اليوم.
فذلك قوله تعالى : «فلا تعلم نفس ما أخفى لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون». ه.
قال القشيري : (تتجافى جنوبهم عن المضاجع) ، فى الظاهر ، عن الفراش ، قياما بحقّ العبادة والجهد والتهجد ، وفى الباطن : بتباعد قلوبهم عن مضاجعات الأحوال ، ورؤية قدر النفس ، وتوهم المقام لأن ذلك بجملته ، حجاب عن الحقيقة ، وهو للعبد سمّ قاتل ، فلا يساكنون أعمالهم ، ولا يلاحظون أحوالهم ، ويفارقون مآلفهم ، ويهجرون معارفهم. والليل زمان الأحباب ، قال اللّه تعالى : لِتَسْكُنُوا فِيهِ «1» يعنى : عن كلّ شغل وحديث سوى حديث معبودكم ومحبوبكم ، والنهار زمان أهل الدنيا. قال اللّه تعالى : وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً «2» .. انظر بقية كلامه.
___________
(1) من الآية (73) من سورة القصص.
(2) من الآية (11) من سورة النبأ.(4/395)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 396
ثم بيّن أن من كان فى نور الطاعة والإحسان ، ليس كمن كان فى ظلمة الكفر والعصيان ، فقال.
[سورة السجده (32) : الآيات 18 الى 20]
أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ (18) أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى نُزُلاً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (19) وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (20)
يقول الحق جل جلاله : أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً باللّه ورسله كَمَنْ كانَ فاسِقاً خارجا عن الإيمان ، لا يَسْتَوُونَ أبدا عند اللّه تعالى. وأفرد ، أولا مراعاة للفظ «من» ، وجمع ثانيا مراعاة لمعناها. ثم فصّل حالهم بقوله : أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى أي : المسكن الحقيقي ، وأما الدنيا ، فإنها منزل انتقال وارتحال ، لا محالة ، وقيل : المأوى : جنة من الجنان. قال ابن عطية : سميت جنة المأوى لأن أرواح المؤمنين تأوى إليها. ه. أي : فى الدنيا لأنها فى حواصل طير خضر ، كما ورد فى الشهداء ، وأما الصدّيقون فإنها تشكل على صور أجسادها ، تسرح حيث شاءت. نُزُلًا بِما كانُوا يَعْمَلُونَ أي : عطاء معجلا بأعمالهم. والنزل :
ما يقدم للنازل ، ثم صار عاما.
وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ أي : هى ملجأهم ومنزلهم ، كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها ، فلا خروج منها ، ولا موت ، وَقِيلَ لهم : ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ ، هذا دليل على أن المراد بالفاسق : الكافر إذ التكذيب يقابل الإيمان. قال ابن جزى : فإن قيل : لم وصف ، هنا ، العذاب ، وأعاد عليه الضمير ، ووصف ، فى سبأ ، النار وأعاد عليها الضمير ، فقال : عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ «1»؟
فالجواب من ثلاثة أوجه : الأول : أنه خص العذاب فى السجدة بالوصف اعتناء به لمّا تكرر ذكره فى قوله :
لَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ .. ، الثاني : أنه تقدم فى السجدة ذكر النار ، فكان الأصل أن يذكرها بعد ذلك بلفظ المضمر ، لكنه جعل الظاهر مكان المضمر ، فكما لا يوصف المضمر لم يوصف ما قام مقامه ، وهو النار ، فوصف العذاب ، ولم يصف النار ، الثالث - وهو الأقوى : أنه امتنع فى السجدة وصف النار ، فوصف
___________
(1) من الآية 42 من سورة سبأ.(4/396)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 397
العذاب ، وإنما امتنع وصفها لتقدم ذكرها ، فإنك إذا ذكرت شيئا ثم كررت ذكره لم يجز وصفه ، كقولك : رأيت رجلا فأكرمت الرجل. فلا يجوز وصفه لما يوهم أنه غيره. ه.
الإشارة : أفمن كان مصدقا بطريق الخصوص ، داخلا فيها ، شاربا من خمرتها ، كمن كان فاسقا خارجا عنها ، مشتغلا بنفسه ، غريقا فى هواه ، لا يستوون أبدا. أما الذين آمنوا بها ، وصدقوا أهلها ، ودخلوا فى تربيتهم ، فلهم جنات المعارف ، هى مأواهم ومعشش قلوبهم ، إليها يأوون ، وفيها يسكنون ، وأما الذين فسقوا وخرجوا عن تربيتهم ، فمأواهم نار القطيعة ، وعذاب الحرص ، وغم الحجاب ، كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها إذ لا خروج منها إلا بصحبة أهلها. وقيل لهم : ذوقوا وبال الإنكار ، وحرمان الخصوصية ، التي كنتم بها تكذبون.
قال القشيري : هذا ما يلقون يوم القيامة ، ثم ذكر ما يعجل لهم فى الدنيا ، فقال :
[سورة السجده (32) : الآيات 21 الى 22]
وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (22)
يقول الحق جل جلاله : وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى أي : عذاب الدنيا من القتل ، والأسر فى بدر ، أو ما محنوا به من السّنة ، سبع سنين. دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ أي : قبل عذاب الآخرة ، الذي هو أكبر ، وهو الخلود فى النار. وعن الداراني : العذاب الأدنى : الخذلان ، والعذاب الأكبر : الخلود فى النيران. وقيل : الأدنى : عذاب القبر ، والأكبر : النار. لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ يتوبون عن الكفر.
وَمَنْ أَظْلَمُ أي : لا أحد أظلم مِمَّنْ ذُكِّرَ أي : وعظ بِآياتِ رَبِّهِ القرآن ، ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها أي : تولى عنها ، ولم يتدبر فى معناها. و«ثم» للاستبعاد فإن الإعراض عن مثل هذه فى ظهورها ، وإنارتها ، وإرشادها إلى سواء السبيل ، والفوز بالسعادة العظمى ، بعد التذكر بها ، مستبعد فى العقل ، كما تقول لصاحبك : وجدت تلك الفرصة ثم لم تنتهزها - استبعادا لتركه الانتهاز. إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ ، ولم يقل :
«منه» ، تسجيلا عليه بإعراضه بالإجرام ، ولأنه إذا جعله أظلم من كل ظالم ، ثم توعد المجرمين ، عامة ، بالانتقام ، دلّ على إصابة الأظلم أوفر نصيب من الانتقام ، ولو قال بالضمير لم يفد هذه الفائدة.
الإشارة : ولنذيقن أهل الغفلة والحجاب ، من العذاب الأدنى ، وهو الحرص والطمع والجزع والهلع ، قبل العذاب الأكبر ، وهو غم الحجاب وسوء الحساب. قال القشيري : قوم : الأدنى لهم : محن الدنيا ، والأكبر : عقوبة العقبى.(4/397)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 398
وقوم : الأدنى لهم : فترة تداخلهم فى عبادتهم ، والأكبر : قسوة تصيبهم فى قلوبهم. وقوم : الأدنى لهم : وقفة مع سلوكهم تمسهم ، والأكبر : حجبة عن مشاهدتهم بسرهم - قلت : الأول فى حق العوام ، والثاني : فى حق الخواص ، وهم العباد والزهاد. والثالث : فى حق أهل التربية من الواصلين - ثم قال : ويقال : الأدنى : الخذلان فى الزلة ، والأكبر : الهجران فى الوصلة. ويقال : الأدنى : تكدّر مشاربهم ، بعد صفوها ، والأكبر : تطاول أيام الحجب ، من غير تبيين آخرها. وأنشدوا :
تطاول بعدنا ، يا قوم ، حتى لقد نسجت عليه العنكبوت «1»
ه. ببعض المعنى.
أذقناهم ذلك لعلهم يرجعون إلى اللّه ، فى الدنيا بالتوبة واليقظة. فإن جاء من يذكّرهم باللّه من الداعين إلى اللّه ، ثم أعرضوا عنه ، فلا أحد أظلم منهم ، ولا أعظم جرما. إنا من المجرمين منتقمون.
ولمّا قرر الأصول الثلاثة الرسالة ، وبدء الخلق ، والمعاد ، عاد إلى الأصل الذي بدأ به ، وهو الرسالة ، فقال :
[سورة السجده (32) : الآيات 23 الى 25]
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ (23) وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ (24) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (25)
يقول الحق جل جلاله : وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ التوراة فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ شك مِنْ لِقائِهِ من لقاء موسى الكتاب ، أو : من لقائك موسى ليلة المعراج ، أو : يوم القيامة ، أو : من لقاء موسى ربّه فى الآخرة ، كذا عن النبي صلى اللّه عليه وسلم ، وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ وجعلنا الكتاب المنزّل على موسى عليه السّلام هدى لقومه ، وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ الناس ، ويدعون إلى اللّه وإلى ما فى التوراة من دين اللّه وشرائعه ، بِأَمْرِنا إياهم بذلك ، أو بتوفيقنا وهدايتنا لمن أردنا هدايته على أيديهم ، لَمَّا صَبَرُوا على مشاق تعليم العلم والعمل به. أو : على طاعة اللّه وترك معصيته. وقرأ الأخوان : بكسر اللام ، أي : لصبرهم عن الدنيا والزهد فيها.
وفيه دليل على أن الصبر ثمرته إمامة الناس والتقدم فى الخير. وَكانُوا بِآياتِنا التوراة يُوقِنُونَ
___________
(1) فى القشيري :
تطاول نأينا يا نور حتى كأن نسجت عليه العنكبوت(4/398)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 399
يعلمون علما لا يخالجه شك ولا وهم لإمعانهم النظر فيها ، أو : هبة من اللّه تعالى. إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ يقضى بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أي : بين الأنبياء وأممهم ، أو : بين المؤمنين والمشركين ، فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ من الدين ، فيظه المحقّ من المبطل.
الإشارة : أئمة الهدى على قسمين : أئمة يهدون إلى شرائع الدين ، وأئمة يهدون إلى التعرف بذات رب العالمين ، أئمة يهدون إلى معرفة البرهان ، وأئمة يهدون إلى معرفة العيان. الأولون : من عامة أهل اليمين ، والآخرون : من خاصة المقربين. الأولون صبروا على حبس النفس على ذل التعلم ، والآخرون صبروا على حبس النفس على الحضور مع الحق على الدوام. صبروا على مجاهدة النفوس ، حتى وردوا حضرة القدّوس. قال القشيري ، فى شأن القسم الثاني : لمّا صبروا على طلبنا سعدوا بوجودنا ، وتعدّى ما نالوا من أفضالنا إلى متّبعيهم ، وانبسط شعاع شموسهم على جميع أهليهم ، فهم للخلق هداة ، وفى الدين عيون ، وللمسترشدين نجوم. ه.
وفى الإحياء : للإيمان ركنان : أحدهما : اليقين ، والآخر : الصبر. والمراد باليقين : المعارف القطيعة ، الحاصلة بهداية اللّه عبده إلى أصول الدين ، والمراد بالصبر ، العمل بمقتضى اليقين إذ النفس تعرف أن المعصية ضارة والطاعة نافعة. ولا يمكن ترك المعصية والمواظبة على الطاعة إلا بالصبر. فيكون الصبر نصف الإيمان لهذا الاعتبار. ه. وقوله تعالى : إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ .. ، قال القشيري : يحكم بينهم ، فيبين المقبول من المردود ، والمهجور من الموصول ، والرّضى من الغوىّ ، والعدو من الولىّ. فكم من بهجة دامت هناك! وكم من مهجة ذابت كذلك. ه.
ثم ذكّرهم بمن سلف قبلهم ، فقال :
[سورة السجده (32) : آية 26]
أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ (26)
قلت : فاعل «يهد» : هو اللّه ، بدليل قراءة زيد عن يعقوب «نهد» بالنون ، ولا يجوز أن يكون الفاعل «كم» لأن الاستفهام له صدر الكلام ، فلا يعمل فيه ما قبله.
يقول الحق جل جلاله : أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ أي : يبين لهم اللّه تعالى ما يعتبرون به ، فينظروا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ كعاد ، وثمود ، وقوم لوط ، يَمْشُونَ يعنى : قريشا ، فِي مَساكِنِهِمْ حين(4/399)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 400
يمرون على ديارهم ، ومنازلهم ، خاوية ، فى متاجرهم إلى الشام ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ دالة على قدرتنا ، وقهريتنا أَفَلا يَسْمَعُونَ المواعظ ، فيتعظون بها؟.
الإشارة : قال القشيري : لم يعتبروا بمنازل أقوام كانوا فى حبرة ، فصاروا فى عبرة ، كانوا فى سرور ، فآلوا إلى ثبور ، فجميع ديارهم وتراثهم صارت لأغيارهم ، وصنوف أموالهم عادت إلى أشكالهم ، سكنوا فى ظلالهم ، ولم يعتبروا بمن مضى من أمثالهم ، وفى مثلهم قيل :
نعم ، كانت على قو م زمانا ، ثم فاتت ،
هكذا النعمة والإح سان قد كانت وكانت. ه. «1»
ثم ذكّرهم بآثار قدرته ، فقال :
[سورة السجده (32) : الآيات 27 الى 30]
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ (27) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (28) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (29) فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (30)
يقول الحق جل جلاله : أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ : المطر إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ أي : التي جرز نباتها ، أي : قطع ، ولم يبق منه شىء إما لعدم الماء ، أو لأنه رعى. يقال : جرزت الجراد الزرع إذا استأصلته ، وفى القاموس : وأرض جرز : لا تنبت ، أو أكل نباتها ، أو لم يصبها مطر. ثم قال : وأرض جارزة : يابسة غليظة ، وفيه أربع لغات : جرز وجرز وجرز وجرز. ولا يقال للتى لا تنبت كالسباخ : جرز ، بدليل قوله : فَنُخْرِجُ بِهِ أي : بالماء ، زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أي : الزرع ، أَنْعامُهُمْ كالتبن والورق ، وَأَنْفُسُهُمْ كالحب والتمر ، والمراد بالزرع :
كل ما يزرع ويستنبت ، أَفَلا يُبْصِرُونَ ، فيستدلون به على قدرته على إحياء الموتى؟.
___________
(1) ورد البيتان :
نعم ، كانت على قو م زمانا ، ثم بانت ،
هكذا النعمة والإنسان مذ كان وكانت.
وانظر : محاضرات الأدباء ص 259.(4/400)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 401
وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ أي : النصر ، أو الفصل بالحكومة من قوله : رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا «1». وكان المسلمون يقولون : إن اللّه سيفتح لنا على المشركين ، أو يفتح بيننا وبينهم ، فإذا سمع المشركون ، قالوا : متى هذا الفتح؟ أي : فى أي وقت يكون إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ فى أنه كائن؟.
قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ أي : يوم القيامة هو يوم الفصل بين المؤمنين وأعدائهم. أو : يوم نصرهم عليهم. أو : يوم بدر ، أو يوم فتح مكة ، لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ لفوات محله ، الذي هو الإيمان بالغيب ، وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ يمهلون ، وهذا الكلام لم ينطبق جوابا عن سؤالهم ظاهرا ، ولكن لمّا كان غرضهم فى السؤال عن وقت الفتح استعجالا منهم ، على وجه التكذيب والاستهزاء ، أجيبوا على حسب ما عرف من غرضهم من سؤالهم ، فقيل لهم : لا تستعجلوا به ولا تستهزئوا ، فكأنى بكم وقد حصلتم فى ذلك اليوم وآمنتم ، فلم ينفعكم الإيمان ، واستنظرتم عند درك العذاب فلم تمهلوا. ومن فسره بيوم بدر أو بيوم الفتح ، فهو يريد المقتولين منهم فإنهم لا ينفعهم إيمانهم فى حال الفعل ، كما لم ينفع فرعون إيمانه عند درك الغرق. فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ النصر وهلاكهم ، إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ الغلبة عليكم وهلاككم.
قال عليه الصلاة والسلام : «من قرأ الم تَنْزِيلُ فى بيته ، لم يدخل الشيطان به ثلاثة أيام» «2».
الإشارة : أو لم يروا أنا نسوق الماء الذي تحيا به القلوب على يد المشايخ ، إلى القلوب الميتة بالجهل والغفلة ، فنخرج به ثمار الهداية إلى الجوارح ، تأكل منه ، من لذة حلاوته ، جوارحهم وقلوبهم ، أفلا يبصرون؟. ويقول أهل الإنكار لوجود هذا الماء : متى هذا الفتح ، إن كنتم صادقين فى أنه موجود؟ قال : يوم الفتح الكبير - وهو يوم يرفع اللّه أولياءه فى أعلى عليين - لا ينفع الذين كفروا بالخصوصية ، فى دار الدنيا ، إيمانهم فى الالتحاق بهم ، ولا هم يمهلون حتى يعملوا مثل عملهم ، فأعرض عنهم اليوم ، واشتغل باللّه ، وانتظر هذا اليوم ، إنهم منتظرون لذلك.
قال القشيري : «أولم يروا ..» الآية. الإشارة فيه : نسقى حدائق [وصلهم ] «3» ، بعد جفاف عودها ، فيعود عودها مورقا بعد ذبوله ، حاكيا حاله حال حصوله ، (و يقولون متى هذا الفتح ..) استبعدوا يوم التلاق ، وجحدوه ، فأخبرهم
___________
(1) من الآية 89 من سورة الأعراف.
(2) قال ابن حجر فى الكافي الشاف (ح 196) : «لم أجده». وانظر : الفتح السماوي (2/ 926).
(3) فى الأصول المخطوطة (وصفهم) والمثبت هو الذي فى لطائف الإشارات.(4/401)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 402
أنه ليس لهم إلا الحسرة والمحنة إذا شهدوه. قوله تعالى : فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ .. أي : باشتغالك بنا ، وإقبالك علينا ، وانقطاعك إلينا ، وانتظر زوائد وصلنا وعوائد لطفنا ، إنهم منتظرون هواجم مقتنا وخفايا مكرنا. وعن قريب وجد كلّ منتظره محتضرا ه. وباللّه التوفيق ، وصلى اللّه على سيدنا محمد ، عين الوصول إلى التحقيق ، وعلى آله المبينين سواء الطريق ، وسلم.(4/402)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 403
سورة الأحزاب
مدنية. وهى ثلاث وسبعون - بتقديم السين - آية. وعن أبىّ أنه قال : كم تعدون سورة الأحزاب؟ قالوا : ثلاثا وسبعين ، قال : فوالذى يحلف به أبىّ إن كانت لتعدل سورة البقرة ، أو أطول ، ولقد قرأنا منها آية الرجم : الشيخ والشيخة ، إذا زنيا ، فارجموهما البتّة نكالا من اللّه ، واللّه عزيز حكيم «1». أراد أبىّ أن ذلك من جملة ما نسخ من القرآن. انظر النسفي. ومناسبتها لما قبلها : أن الفتح إنما يكون مع التقوى ، فأمره بها ، بعد أمره بانتظار نصره ، كأنه قيل : يا أيها النبي اتق اللّه تر الفتح طوع يدك.
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (1) وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (2) وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (3)
يقول الحق جل جلاله : يا أَيُّهَا النَّبِيُّ أي : المشرّف حالا ، المفخم قدرا ، العلى رتبة لأن النبوة مشتقة من النّبوة ، وهو الارتفاع. أو : يا أيها المخبر عنا ، المأمون على وحينا ، المبلغ خطابنا إلى أحبابنا. وإنما لم يقل : يا محمد ، كما قال : «يا آدم ، يا موسى» تشريفا وتنويها بفضله ، وتصريحه باسمه فى قوله : مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ «2» ، ونحوه ، ليعلم الناس بأنه رسول اللّه. اتَّقِ اللَّهَ أي : اثبت على تقوى اللّه ، وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ لا تساعدهم على شىء ، واحترس منهم فإنهم أعداء للّه وللمؤمنين.
روى أن أبا سفيان بن حرب ، وعكرمة بن أبى جهل ، وأبا الأعور السّلمى ، نزلوا المدينة على ابن أبىّ ، رأس المنافقين ، بعد أحد ، وقد أعطاهم النبىّ صلى اللّه عليه وسلم الأمان على أن يكلموه ، فقام معهم عبد اللّه بن أبى سرح ، وطعمة بن
___________
(1) أخرجه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي (2/ 415) وأخرجه الطبراني فى الأوسط (ح 4352) ، وعزاه السيوطي فى الدر المنثور (5/ 345) لعبد الرزاق فى المصنف ، والطيالسي ، وسعيد بن منصور ، وعبد اللّه بن أحمد فى زوائد المسند ، وابن منيع ، والنسائي ، وابن المنذر ، وابن الأنبارى فى المصاحف ، والدارقطني فى الأفراد ، وابن مردويه ، عن زر ، عن أبىّ.
(2) كما جاء فى الآية 29 من سورة الفتح.(4/403)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 404
أبيرق ، فقالوا للنبى صلى اللّه عليه وسلم ، وعنده عمر بن الخطاب : ارفض ذكر آلهتنا اللات ، والعزى ، ومناة ، وقل : إن لها شفاعة ومنفعة لمن عبدها ، وندعك وربّك. فشق على النبي صلى اللّه عليه وسلم قولهم ، فقال عمر : ائذن لنا ، يا رسول اللّه ، فى قتلهم ، فقال صلى اللّه عليه وسلم : «إنى قد أعطيتهم الأمان». فقال عمر : اخرجوا فى لعنة اللّه وغضبه ، فخرجوا من المدينة ، فنزلت «1».
أي : اتق اللّه فى نقض العهد ، ولا تطع الكافرين من أهل مكة ، كأبى سفيان وأصحابه ، والمنافقين من أهل المدينة ، فيما طلبوا ، إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً بخبث أعمالهم ، حَكِيماً بتأخير الأمر بقتالهم.
وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ فى الثبات على التقوى ، وترك طاعة الكافرين والمنافقين. أو : كل ما يوحى إليك من ربك ، إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً أي : لم يزل عالما بأعمالهم وأعمالكم. وقيل : إنما جمع لأن المراد بقوله : «اتبع» : هو وأصحابه ، وقرأ بالغيب : أبو عمرو ، أي : بما يعمل الكافرون والمنافقون ، من كيدهم لكم ومكرهم. وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ أسند أمرك إليه ، وكله إلى تدبيره. وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا حافظا موكولا إليه كل أمر. وقال الزجاج : لفظه ، وإن كان لفظ الخبر فالمعنى : اكتف باللّه وكيلا.
الإشارة : أمر بتقوى اللّه ، وبالغيبة عما يشغل عن اللّه ، وبالتوكل على اللّه ، فالتقوى أساس الطريق ، والغيبة عن الشاغل : سبب الوصول إلى عين التحقيق ، والتوكل زاد رفيق. قال القشيري بعد كلام : يا أيها المرقّى إلى أعلى المراتب ، المتلقّى بأسنى القرب والمناقب اتق اللّه أن تلاحظ غيرا معنا ، أو تساكن شيئا دوننا ، أو تثبت شيئا سوانا ، وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ إشفاقا منك عليهم ، وطمعا فى إيمانهم ، بموافقتهم فى شىء مما أرادوه منك. والتقوى رقيب على الأولياء ، تمنعهم ، فى أنفاسهم وسكناتهم وحركاتهم ، أن ينظروا إلى غيره ، أو يثبتوا معه سواه ، إلا منصوبا بقدرته ، مصرّفا بمشيئته ، نافذا فيه حكم قضيته.
التقوى لجام يمنعك عمّا لا يجوز ، زمام يقودك إلى ما تحب ، سوط يسوقك إلى ما أمر به ، حرز يعصمك من توصل عقابه إليك ، عوذة تشفيك من داء الخطايا. التقوى وسيلة إلى ساحة كرمه ، ذريعة يتوصّل بها إلى عفوه وجوده. وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ ... لا تبتدع ، واقتد بما نأمرك ، ولا تقتد ، باختيارك ، غير ما نختار لك ، ولا تعرّج - أي : تقم - فى أوطان الكسل ، ولا تجنح إلى ناحية التواني ، وكن لنا لا لك ، وقم بنا لا بك. «وتوكل» انسلخ عن إهابك لنا ، واصدق فى إيابك إلينا ، وتشاغلك عن حسبانك معنا ، واحذر ذهابك عنا ، ولا تقصّر فى خطابك معنا. ويقال : التوكل : تخلّق ، ثم تخلّق ، ثم توثّق ، ثم تملّق تحقق فى العقيدة ، وتخلق بإقامة الشريعة ، وتوثّق بالمقسوم من القضية ، وتملق بين يديه بحسن العبودية. ويقال : التوكل : استواء القلب فى العدم والوجود. ه.
___________
(1) ذكره الواحدي فى أسباب النزول (ص 364) ، والبغوي فى تفسيره (6/ 315) ، بدون إسناد.(4/404)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 405
والتقوى محلها القلب ، ولا يحصل منتهاها إلا بانفراد القلب إلى مولاه ، كما أبان ذلك بقوله :
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 4 الى 5]
ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللاَّئِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (4) ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (5)
يقول الحق جل جلاله : ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ فيؤمن بأحدهما ويكفر بالآخر ، أو :
يتقى بأحدهما ويعصى بالآخر ، أو : يقبل على اللّه بأحدهما ويقبل على الدنيا بالآخر ، بل ما للعبد إلا قلب واحد ، إن أقبل به على اللّه أدبر عمن سواه ، وإن أقبل به على الدنيا أدبر عن اللّه. قيل : الآية مثل للمنافقين ، أي : إنه لا يجتمع الكفر والإيمان ، وقيل : لا تستقر التقوى ونقض العهد فى قلب واحد. وقال ابن عطية : يظهر من الآية ، بجملتها ، أنها نفى لأشياء كانت العرب تعتقدها فى ذلك الوقت ، وإعلام بحقيقة الأمر فيها ، فمنها : أن العرب كانت تقول : الإنسان له قلب يأمره وقلب ينهاه ، وكان تضادّ الخواطر يحملها على ذلك .. إلخ كلامه.
قال النسفي : والمعنى : أنه تعالى لم يجعل للإنسان قلبين لأنه لا يخلو : إما أن يفعل بأحدهما مثل ما يفعل بالآخر من أفعال القلوب ، فأحدهما فضلة غير محتاج إليه ، وإما أن يفعل بهذا غير ما يفعل بذلك ، فيؤدى إلى اتصاف الجملة بكونه مريدا كارها ، عالما ظانا ، موقنا شاكا ، فى حالة واحدة. ه.
وكانت العرب تعتقد أيضا أن المرأة المظاهر منها : أمّا ، فردّ ذلك بقوله : وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللَّائِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ أي : ما جمع الزوجية والأمومة فى امرأة واحدة لتضاد أحكامهما لأن الأم مخدومة ، والمرأة خادمة.
وكانت تعتقد أن الدّعى ابن ، فرّد عليهم بقوله : وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ أي : لم يجعل المتبنّى من أولاد الناس ابنا لمن تبناه لأن البنوة أصالة فى النسب ، والدعوة إلصاق عارض بالتسمية ، لا غير ، ولا يجتمع فى شىء واحد أن يكون أصيلا [و] «1» غير أصيل.
___________
(1) زيادة ، ليست فى الأصول. [.....](4/405)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 406
ونزل هذا فى «زيد بن حارثة» ، وهو رجل من كلب ، سبى صغيرا ، فاشتراه حكيم بن حزام ، لعمته خديجة ، فلما تزوجها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهبته له ، فطلبه أبوه وعمه ، وجاءا بفدائه ، فخيّر ، فاختار رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فأعتقه وتبناه. وكانوا يقولون : زيد بن محمد ، فلما تزوج النبىّ صلى اللّه عليه وسلم زينب وكانت تحت زيد - على ما يأتى - قال المنافقون : تزوج محمد امرأة ابنه وهو ينهى عنه ، فأنزل اللّه هذه الآية.
وقيل : كان المنافقون يقولون : لمحمد قلبان ، قلب معكم ، وقلب مع أصحابه «1». وقيل : كان «أبو معمر» أحفظ العرب ، فقيل له : ذو القلبين «2» ، فأكذب اللّه قولهم. والتنكير فى رجل ، وإدخال «من» الاستغراقية على (قلبين) ، وذكر الجوف للتأكيد. و(اللائي) : جمع «التي». وفيها أربع قراءات : «اللاء» بالهمزة مع المد والقصر ، وبالتسهيل ، وبالياء ، بدلا من الهمز. وأصل تُظاهِرُونَ : تتظاهرون ، فأدغم. وقرأ عاصم بالتخفيف من : ظاهر. ومعنى الظهار : أن يقول للزوجة : أنت علىّ كظهر أمي. مأخوذ من الظهر ، وتعديته بمن لتضمنه معنى التجنب لأنه كان طلاقا فى الجاهلية. وهو فى الإسلام يقتضى الحرمة حتى يكفّر ، كما يأتى فى المجادلة. والأدعياء : جمع دعى ، فقيل : بمعنى مفعول ، وهو الذي يدعى ولدا ، وجمعه على أفعلاء : شاذ لأن بابه ما كان منه بمعنى فاعل كتقى وأتقياء ، وشقى وأشقياء. ولا يكون فى ذلك فى نحو رميّ وسمى ، على الشذوذ. وكأنه شبهه بفعيل بمعنى فاعل ، فجمع جمعه.
ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ إذ أن قولكم للزوجة : أما ، والدعىّ : هو ابن ، قول تقولونه بألسنتكم لا حقيقة له إذ الابن يكون بالولادة ، وكذا الأم. وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ ما له حقيقة عينية ، مطابقة له ظاهرا وباطنا.
وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ سبيل الحق.
ثم بيّن ذلك الحقّ ، وهدى إلى سبيله ، فقال : ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ انسبوهم إليهم. هُوَ ، أي : الدعاء ، أَقْسَطُ أعدل عِنْدَ اللَّهِ. بيّن أن دعاءهم لآبائهم هو أدخل الأمرين فى العدل. وقيل : كان الرجل فى الجاهلية إذا أعجبه ولد الرجل ضمّه إليه ، وجعل له مثل نصيب الذكر من أولاده ، من ميراثه. وكان ينسب إليه ، فيقال : فلان بن فلان. فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ أي : فإن لم تعلموا لهم آباء تنسبونهم إليهم ،
___________
(1) هذا معنى ما أخرجه الإمام أحمد (1/ 268) والترمذى ، وحسنه ، فى (التفسير ، باب : ومن سورة الأحزاب ، 5/ 324 - 325 ، ح 3199) والطبرى (21/ 118) والحاكم (2/ 415) عن ابن عباس رضي الله عنه. وصححه الحاكم ، وفيه «قابوس بن أبى ظبيان» قال الذهبى : قابوس ، ضعيف.
(2) ذكره الواحدى فى أسباب النزول/ 365. بدون إسناد.(4/406)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 407
فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ أي : فهم إخوانكم فى الدين ، وأولياؤكم فيه. فقولوا : هذا أخى ، وهذا مولاى ، ويا أخى ، ويا مولاى ، يريد الأخوة فى الدين والولاية فيه ، وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ أي : لا إثم عليكم فيما فعلتموه من ذلك ، مخطئين جاهلين ، قبل ورود النهى ، أو بعده ، نسيانا. وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ أي : ولكن الإثم فيما تعمّدتموه بعد النهى. أو : لا إثم عليكم إذا قلتم لولد غيركم : يا بنىّ ، على سبيل الخطأ ، أو : الشفقة ولكن إذا قلتموه متعمدين على وجه الانتساب. وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً لا يؤاخذكم بالخطأ ، ويقبل التوبة من المتعمّد.
الإشارة : العبد إنما له قلب واحد ، إذا أقبل به على مولاه أدبر عن ما سواه ، وملأه اللّه تعالى بأنواع المعارف والأسرار ، وأشرقت عليه الأنوار ، ودخل حضرة الحليم الغفار ، وإذا أقبل به على الدنيا أدبر عن اللّه ، وحشى بالأغيار والأكدار ، وأظلمت عليه الأسرار ، وطبع فيه صور الكائنات ، فحجب عن المكوّن ، وكان مأوى للخواطر والوساوس ، فلم يسو عند اللّه جناح بعوضة. قال القشيري : القلب إذا اشتغل بشىء اشتغل عما سواه ، فالمشتغل بما من العدم منفصل عمن له القدم ، والمتصل بقلبه بمن نعته القدم مشتغل عمّا من العدم ، والليل والنهار لا يجتمعان ، والغيب والغير لا يلتقيان. ه.
وقوله تعالى : وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ ... الآية ، يمكن أن تكون الإشارة فيها إلى أنّ من ظاهر الدنيا ، وتباعد عنها لا يحل له أن يرجع ، ويتخذها أما فى المحبة والخدمة. وقوله تعالى : وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ .. :
تشير إلى أنه لا يحل أن يدّعى الفقير حالا ، أو مقاما ، ما لم يتحقق به ، وليس هو له ، أو : ينسب حكمة أو علما رفيعا لنفسه ، وهو لغيره ، ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ. وقوله : فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ .. :
إخوان الدين أولى ، وإخوان الطريق أحب وأصفى. قال القشيري : وقرابة الدين ، فى الشكلية ، أولى من قرابة النّسب ، وأنشدوا :
وقالوا : قريب من أب وعمومة فقلت : وإخوان الصّفاء الأقارب
مناسبهم شكلا وعلما وألفة وإن باعدتنا فى الأصول التّناسب «1»
___________
(1) فى القشيري : (و إن باعدتهم فى الأصول المناسب) والبيتان لأبى تمام ، يرثى غالب بن السعدي. انظر ديوانه (4/ 41) ونهاية الأرب (5/ 202).(4/407)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 408
ثم ذكر أبوة النبي صلى اللّه عليه وسلم ، وأمومة أزواجه لجميع أمته ، فقال :
[سورة الأحزاب (33) : آية 6]
النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ إِلاَّ أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً (6)
يقول الحق جل جلاله : النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ أي : أحق بهم فى كل شىء من أمور الدين والدنيا ، وحكمه أنفذ عليهم مِنْ أَنْفُسِهِمْ ، فإنه لا يأمرهم ، ولا يرضى منهم إلا بما فيه صلاحهم ونجاحهم ، فيجب عليهم أن يبذلوها دونه. ويجعلوها فداء منه. وقال ابن عباس وعطاء : يعنى : (إذا دعاهم النبي صلى اللّه عليه وسلم إلى شىء ، ودعتهم أنفسهم إلى شىء ، كانت طاعة النبي صلى اللّه عليه وسلم أولى) «1». أو : هو أولى بهم ، أي : أرأف ، وأعطف عليهم ، وأنفع لهم ، كقوله : بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ «2» وفى الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام : «ما من مؤمن إلا وأنا أولى الناس به فى الدنيا والآخرة ، اقرءوا إن شئتم : النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ، فأيّما مؤمن هلك ، وترك مالا فلورثته ما كانوا ، ومن ترك دينا أو ضياعا فليأتنى ، فإنى أنا مولاه». «3».
وفى قراءة ابن مسعود «النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وهو أب لهم». وقال مجاهد : كل نبى أبو أمته ، ولذلك صار المؤمنون إخوة لأن النبي صلى اللّه عليه وسلم أبوهم فى الدين ، وأزواجه أمهاتهم ، فى تحريم نكاحهن ووجوب تعظيمهن ، وهن فيما وراء ذلك - كالإرث وغيره - كالأجنبيات ، ولهذا لم يتعد التحريم إلى بناتهن.
وَأُولُوا الْأَرْحامِ أي : ذوو الق رابات بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فى المواريث. وكان المسلمون فى صدر الإسلام يتوارثون بالولاية فى الدين وبالهجرة ، لا بالقرابة ، ثم نسخ ، وجعل التوارث بالقرابة. وذلك فِي كِتابِ اللَّهِ أي : فى حكم اللّه وقضائه ، أو : فى اللوح المحفوظ ، أو : فيما فرض اللّه ، فهم أولى بالميراث ، مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بحق الولاية فى الدين ، وَمن الْمُهاجِرِينَ بحق الهجرة. وهذا هو الناسخ. قال قتادة : كان المسلمون
___________
(1) انظر تفسير البغوي (6/ 318).
(2) الآية 128 من سورة التوبة.
(3) أخرجه البخاري فى (الاستقراض ، باب الصلاة على ترك دينا ، ح 2399) ، ومسلم فى (الفرائض ، باب من ترك مالا فلورثته ، 3/ 1238 ، ح 1619) ، من حديث أبى هريرة رضي اللّه عنه.(4/408)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 409
يتوارثون بالهجرة ، ولا يرث الأعرابى المسلم من المهاجر شيئا ، فنزلت. وقال الكلبي : آخى النبىّ صلى اللّه عليه وسلم بين الناس ، فكان يواخى بين الرجلين ، فإذا مات أحدهما ورثه الآخر ، دون عصبته ، حتى نزلت : وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ «1» فى حكمه ، مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ. ويجوز أن يكون مِنَ الْمُؤْمِنِينَ : بيانا لأولى الأرحام ، أي : وأولو الأرحام ، من هؤلاء ، بعضهم أولى بأن يرث بعضا من الأجانب ، إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً أي : لكن فعلكم إلى أوليائكم معروفا ، وهو أن توصوا لمن أحببتم من هؤلاء بشىء ، فيكون له ذلك بالوصية ، لا بالميراث فالاستثناء منقطع. وعدّى (تفعلوا) بإلى لأنه فى معنى تسندوا ، والمراد بالأولياء :
المؤمنون ، والمهاجرون : المتقدمون الذين نسخ ميراثهم. كانَ ذلِكَ أي : التوارث بالأرحام فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً أي : اللوح المحفوظ ، أو : القرآن. وقيل : فى التوراة.
الإشارة : متابعته - عليه الصلاة والسلام ، والاقتباس من أنواره ، والاهتداء بهديه ، وإيثار محبته ، وأمره على غيره لا ينقطع عن المريد أبدا ، بداية ونهاية إذ هو الواسطة العظمى ، وهو أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأرواحهم وأسرارهم. فكل مدد واصل إلى العبد فهو منه صلى اللّه عليه وسلم ، وعلى يده ، وكل ما تأمر به الأشياخ من فعل وترك فى تربية المريدين ، فهو جزء من الذي جاء به. وهم فى ذلك بحسب النيابة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم لأنهم خلفاء عنه. وكل كرامة تظهر فهى معجزة له صلى اللّه عليه وسلم ، وكل كشف ومشاهدة فمن نوره صلى اللّه عليه وسلم ، قال ابن العربي الحاتمي رضي اللّه عنه : اعلم أن كل ولىّ للّه تعالى إنما يأخذ ما يأخذ بواسطة روحانية النبي صلى اللّه عليه وسلم ، فمنهم من يعرف ذلك ، ومنهم من لا يعرفه ، ويقول : قال لى اللّه ، وليس إلا تلك الروحانية. ه. وهو موافق لما أشار إليه الشيخ أبو العباس المرسى رضي اللّه عنه ، حيث قال : الولىّ إنما يكاشف بالمثال ، كما يرى مثلا البدر فى الماء بواسطته ، وكذلك الحقائق الغيبية ، والأمور الإشهادية مجلوة وظاهرة فى بصيرة النبي صلى اللّه عليه وسلم ، وله عيانا لا مثالا. والولىّ لقربه منه ومناسبته له لهديه بهديه ، ومتابعته له يكاشف بمثال ذلك فيه ، فظهر الفرق وثبتت مزية النبي صلى اللّه عليه وسلم ، وانتفى اللبس بين النبوة والولاية. قاله شيخ شيوخنا سيدى «عبد الرحمن العارف».
قال القشيري : النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ الإشارة : تقديم سنّته على هواك ، والوقوف عند إشارته دون ما يتعلق به مناك ، وإيثار من تتوسل به نسبا وسببا على أعزّتك ومن والاك ، وَأُولُوا الْأَرْحامِ .. الآية. ليكن
___________
(1) انظر تفسير ابن كثير (3/ 468).(4/409)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 410
الأجانب منك على جانب ، ولتكن صلتك للأقارب وصلة الرحم ليس لمقاربة الدار وتعاقب المزار ، وليكن بموافقة القلوب ، والمساعدة فى حالتى المكروه والمحبوب.
أرواحنا فى مكان واحد ، وإن كانت أشباحنا بشآم أو خراسان «1». ه.
ولمّا كان كل نبى أبا لأمته ، أخذ عليهم العهد فى إرشادهم ، ونصحهم ، كما ينصح الأب ابنه ، فقال :
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 7 الى 8]
وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (7) لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً أَلِيماً (8)
يقول الحق جل جلاله : وَاذكر إِذْ أَخَذْنا حين أخذنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ بتبليغ الرسالة ، والدعاء إلى الدين القيم ، وإرشاد العباد ونصحهم. قيل : أخذه عليهم فى عالم الذر. قال أبىّ بن كعب : لما أخرج اللّه الذرية ، كانت الأنبياء فيهم مثل السرج ، عليهم النور ، فخصوا بميثاق وأخذ الرسالة والنبوة. وقال القشيري : أخذ الميثاق الأول وقت استخراج الذرية من صلب آدم ، عوند بعثة كل رسول ، ونبوّة كل نبىّ ، أخذ ميثاقه ، وذلك على لسان جبريل عليه السّلام ، ومن اختصه بإسماعه كلامه بلا واسطة ملك - كنبينا ليلة المعراج ، وموسى - عليهما السلام - فأخذ الميثاق منهم بلا واسطة ، وكان لنبينا - عليه الصلاة السلام - زيادة حال بأن كان مع سماع الخطاب كشف الرؤية. ثم أخذ المواثيق من العباد بقلوبهم وأسرارهم. ه.
قال فى الحاشية : والذي يظهر : أن أخذ الميثاق منهم مباشرة لا بوحي ، وذلك فى الغيب ، ولذلك قدّم نبينا محمد صلى اللّه عليه وسلم لأنه النور الأول قبل آدم ، ثم انتقل إلى ظهره ، وحينئذ ، فأخذ الميثاق هنا غيبى ، ولذلك قدّمه. وفى قوله : شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ... «2» فى عالم الظهور ، فلذلك قدّم نوحا ، وثنّى بنبينا لأن نوحا أول أولى العزم ، ونبينا خاتمهم. واللّه أعلم. ه. والحاصل : أن أخذ الميثاق كان مرتين فى عالم الغيب وفى عالم الشهادة. وهل المراد به هنا الأول أو الثاني؟ قولان.
___________
(1) البيت لأبى تمام ، يمدح سليمان بن وهب. انظر ديوان أبى تمام (3/ 335) ، وتاريخ بغداد (10/ 97) وفيهما :
أرواحنا فى مكان واحد ، وغدت ... إلخ.
(2) الآية 13 من سورة الشورى.(4/410)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 411
وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ، قال النسفي : وقدّم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على نوح ومن بعده لأن هذا العطف لبيان فضيلة هؤلاء لأنهم أولو العزم ، وأصحاب الشرائع ، فلمّا كان نبينا محمد صلى اللّه عليه وسلم أفضل هؤلاء قدّم عليهم ، ولو لا ذلك لقدّم من قدّمه زمانه. ه. وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً وثيقا. وأعاد ذكر الميثاق لانضمام الوصف إليه.
وإنما فعلنا ذلك لِيَسْئَلَ اللّه الصَّادِقِينَ أي : الأنبياء عَنْ صِدْقِهِمْ عما قالوه لقومهم ، وهل بلغوا ما كلفهم به. وفيه تبكيت للكفار ، كقوله : فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ «1» ، أو : ليسأل المصدّقين للأنبياء عن تصديقهم : هل كان بإخلاص أم لا؟ لأن من قال للصادق : صدقت كان صادقا فى قوله. أو : ليسأل الأنبياء : ما الذي أجابتهم أممهم؟ وهو كقوله : يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ما ذا أُجِبْتُمْ «2» ، وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ بالرسل عَذاباً أَلِيماً ، وهو عطف على «أخذنا» لأن المعنى : أن اللّه تعالى أخذ على الأنبياء العهد بالدعوة إلى دينه لأجل إثابة المؤمنين ، وأعدّ للكافرين عذابا أليما. أو : على ما دلّ عليه : لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ ، كأنه قال : فأثاب المؤمنين ، وأعدّ للكافرين عذابا أليما.
الإشارة : كما أخذ اللّه الميثاق على الأنبياء والرسل أخذ الميثاق على العلماء والأولياء. أما العلماء فعلى تبيين الشرائع وتغيير المناكر ، وألا تأخذهم فى اللّه لومة لائم ، وأما أخذه على الأولياء فعلى تذكير العباد وإرشادهم إلى معرفة اللّه ، وتربية من تعلق بهم ، وسياسة الخلق ، ودلالتهم على الحق ، فمن قصر من الفريقين استحق العتاب.
قال القشيري : فلكلّ من الأولياء والأكابر حال ، على ما يؤهلهم له قال صلى اللّه عليه وسلم : «لقد كان فى الأمم محدّثون ، وإن يكن فى أمتى فعمر» ، وغير عمر مشارك لعمر فى خواص كثيرة ، وذلك سر بينهم وبين ربّهم.
ثم قال : قوله تعالى : لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ سؤال تشريف لا تعنيف ، وإيجاب لا عتاب.
والصدق : ألا يكون فى أحوالك شوب ، ولا فى اعتقادك ريب ، ولا فى عملك عيب ، ويقال : من أمارات الصدق فى المعاملة : وجود الإخلاص من غير ملاحظة ، وفى الأحوال : تصفيتها [من غير مداخلة الحجاب ] «3» ، وفى القول :
سلامته من المعاريض ، [فيما بينك وبين نفسك ] «4». وفيما بينك وبين الناس : تباعد من التلبيس والتدليس ، وفيما
___________
(1) الآية 6 من سورة الأعراف.
(2) متفق عليه ، أخرجه البخاري فى (فضائل الصحابة ، باب : مناقب عمر ، ح 3689) ومسلم فى (فضائل الصحابة ، باب : من فضائل عمر 4/ 8164 ، ح 2398).
(3) فى القشيري [من غير مداخلة إعجاب ].
(4) ما بين المعقوفتين ليس فى الأصول ، وأثبته من القشيري ، وهو ضرورى يقتضيه السياق.(4/411)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 412
بينك وبين اللّه : إدامة التبرّى من الحول والقوة ، ومواصلة الاستقامة ، وحفظ العهود معه على الدوام. وفى التوكل :
عدم الانزعاج عند الفقد ، وزوال البشر [بالوجد] «1» ، وفى الأمر بالمعروف : التحرّز من تخلل المداهنة ، قليلها وكثيرها ، وألّا يترك ذلك لفزع ولا طمع ، ولكن تشرب مما تسقى ، وتتصف بما تأمر ، وتنتهى عما تزجر. ويقال :
الصدق : أن يهتدى إليك كلّ أحد ، ويكون عليك ، فيما تقول وتضمر ، اعتماد. ويقال : الصدق : ألا تجنح إلى التأويلات. انتهى كلام القشيري.
ثم شرع فى غزوة الأحزاب ، التي هى المقصودة من السورة ، فقال :
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 9 الى 11]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً (9) إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً (11)
يقول الحق جل جلاله : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ ، أي : ما أنعم اللّه به عليكم يوم الأحزاب ، وهو يوم الخندق ، وكان بعد حرب أحد بسنة. إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ أي : الأحزاب ، وهم : قريش ، وغطفان ، ويهود قريظة والنضير ، وهم السبب فى إتيانهم ، فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً أي : الصّبا ، قال عليه الصلاة والسلام : «نصرت بالصّبا ، وأهلكت عاد بالدّبور» «2». قيل : كانت هذه الريح معجزة لأن النبي صلى اللّه عليه وسلم والمسلمين كانوا قريبا منها ، ولم يكن بينهم وبينها إلا عرض الخندق ، وكانوا فى عافية منها. وَلا شعور لهم بها.
وأرسلنا عليهم جُنُوداً لَمْ تَرَوْها وهم الملائكة ، وكانوا ألفا ، فقلعت الأوتاد ، وقطعت الأطناب ، وأطفأت النيران ، وأكفأت القدور.
وكان سبب غزوة الأحزاب : أن نفرا من اليهود ، منهم ابن أبى الحقيق ، وحيى بن أخطب ، فى نفر من بنى النضير ، لمّا أجلاهم النبىّ صلى اللّه عليه وسلم من بلدهم ، قدموا مكة فحرّضوا قريشا على حرب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، ثم خرجوا إلى غطفان ، وأشجع ، وفزارة ، وقبائل من العرب ، يحرضونهم على ذلك ، على أن يعطوهم نصف تمر خيبر كل
___________
(1) فى القشيري [بالوجود]. [.....]
(2) سبق تخريج الحديث عن تفسير الآية 46 من سورة الروم. فراجعه إن شئت ، أكرمك اللّه.(4/412)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 413
سنة. فخرجت قريش ، وقائدها أبو سفيان ، وخرجت غطفان ، وقائدها عيينة بن حصن ، والحارث بن عوف فى مرة ، وسعد بن رخيلة «1» فى أشجع ، وعامر بن الطفيل فى هوازن.
فلما سمع النبي صلى اللّه عليه وسلم بهم ، ضرب الخندق على المدينة ، برأى سلمان. وكان أول مشهد شهده مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وهو يومئذ حر. وقال : يا رسول اللّه : إنا كنّا بفارس إذا حوصرنا : خندقنا علينا ، فحفر الخندق ، وباشر الحفر معهم بيده صلى اللّه عليه وسلم. فنزلت قريش بمجتمع الأسيال من الجرف والغابة ، فى عشرة آلاف من أحابيشهم. ونزلت غطفان وأهل نجد بذنب نقمى ، إلى جانب أحد. فخرج النبي صلى اللّه عليه وسلم والمسلمون حتى جعلوا ظهورهم إلى سلع ، فى ثلاثة آلاف من المسلمين ، فضرب هناك عسكره ، والخندق بينه وبين القوم ، وأمر بالذراري والنساء فرفعوا فى الآطام «2».
واشتد الخوف ، فأقام النبي صلى اللّه عليه وسلم ، وأقام المشركون ، بضعا وعشرين ليلة ، ولم يكن حرب غير الرمي بالنبل والحصى. فلما اشتد البلاء بعث النبي صلى اللّه عليه وسلم إلى عيينة بن حصن ، والحارث بن عوف ، وأعطاهما ثلث ثمار المدينة ، على أن يرجعا بمن معهما ، وكتبوا الكتاب ولم يقع الإشهاد ، فاستشار النبي صلى اللّه عليه وسلم سعد بن معاذ ، وسعد بن عبادة ، فقال سعد بن معاذ : أشيء أمرك اللّه به ، لا بدّ لنا من العمل به ، أم شىء تحبه فنصنعه ، أم شىء تصنعه لنا؟
قال : «لا ، بل شىء أصنعه لكم ، أردت أن أكسر عنكم شوكتهم». فقال سعد : يا رسول اللّه لقد كنا مع القوم على شرك وعبادة الأوثان ، لا نعبد اللّه ولا نعرفه ، وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها تمرة ، إلا قرى ، أو شراء ، أفحين أكرمنا اللّه بالإسلام ، وأعزّنا بك ، نعطيهم أموالنا! لا نعطيهم إلا السيف. فقال - عليه الصلاة والسلام : «فأنت وذاك» ، فمحا سعد ما فى الكتاب ، وقال : ليجهدوا علينا»
.
ثم إن اللّه تعالى بعث عليهم ريحا باردة ، فى ليلة شاتية ، فأحصرتهم ، وأحثت التراب فى وجوههم ، وأمر الملائكة فقلعت الأوتاد ، وقطعت الأطناب ، وأكفأت القدور ، وأطفأت النيران ، وجالت الخيل بعضها فى بعض.
وأرسل اللّه تعالى عليهم الرعب ، وكثر تكبير الملائكة فى جوانب عسكرهم ، حتى كان سيد كل خباء يقول : يا بنى فلان ، هلمّوا ، فإذا اجتمعوا إليه قال : النّجا ، أوتيتم. فانهزموا من غير قتال.
وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً ، أي : بصيرا بعملكم ، من حفر الخندق ، ومعاونة النبي صلى اللّه عليه وسلم ، والثبات معه ، فيجازيكم عليه. وقرأ أبو عمرو : بالغيب ، أي : بما يعمل الكفار من البغي ، والسعى فى إطفاء نور اللّه ،
___________
(1) فى تفسير البغوى [مسعود بن رخيلة].
(2) الآطام : الحصون. جمع أطم. انظر اللسان (أطم 1/ 93).
(3) انظر : السيرة لابن هشام (3/ 225).(4/413)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 414
إِذْ جاؤُكُمْ هو بدل من : (إذ جاءتكم) ، مِنْ فَوْقِكُمْ من أعلى الوادي ، من قبل المشرق. وهم بنو غطفان.
وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ من أسفل الوادي من قبل المغرب ، وهم قريش. وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ مالت عن مستوى نظرها حيرة وشخوصا. أو : مالت إلى عدوها لشدة الخوف ، وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ رعبا.
والحنجرة : رأس الغلصمة ، وهى منتهى الحلقوم ، الذي هو مدخل الطعام والشراب. قالوا : إذا انتفخت الرئة ، من شدة الفزع والغضب ، ربت ، وارتفع القلب بارتفاعها إلى رأس الحنجرة. وقيل : هو مثل فى اضطراب القلوب ، وإن لم تبلغ الحناجر حقيقة.
روى أن المسلمين قالوا لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : هل من شىء نقوله ، فقد بلغت القلوب الحناجر؟ قال : «نعم ، قولوا :
اللهم استر عوراتنا ، وآمن روعاتنا» «1».
وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا الأنواع من الظن. والمؤمنون أصناف منهم الأقوياء ، ومنهم الضعفاء ، ومنهم المنافقون. فظن الأقوياء ، المخلصون ، الثبت القلوب أن ينجز اللّه وعده فى إعلاء دينه ، ويمتحنهم ، فخافوا الزلل وضعف الاحتمال ، وأما الآخرون فظنوا ما حكى عنهم ، وهم الذين زاغت أبصارهم ، وبلغت قلوبهم الحناجر ، دون الأقوياء رضى اللّه عنهم ، وقرأ أبو عمرو وحمزة : الظنون بغير ألف ، وهو القياس. وبالألف فيهما : نافع ، والشامي ، وشعبة إجراء للوصل مجرى الوقف. والمكىّ ، وعلىّ ، وحفص : بالألف فى الوقف. ومثله : الرَّسُولَا «2» و(السبيلا) «3» ، زادوها فى الفاصلة ، كما زادوها فى القافية ، كقوله :
«أقلّى اللّوم ، عاذل والعتابا» «4» وهو فى الإمام : بالألف.
هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ أي : اختبروا ، فظهر المخلص من المنافق ، والثابت من المزلزل ، وَزُلْزِلُوا زِلْزالًا شَدِيداً وحركوا ، بالخوف ، تحريكا شديدا.
الإشارة : يا أيها الذين آمنوا إيمان الخصوص اذكروا نعمة اللّه عليكم بالتأييد والنصر ، فحين توجّهتم إلىّ ، ودخلتم فى طريق ولايتي ، رفضتكم الناس ، ونكرتكم ، ورمتكم عن قوس واحدة ، فجاءتكم جنود الخواطر والوساوس
___________
(1) أخرجه أحمد (3/ 3) عن أبى سعيد الخدري رضي اللّه عنه.
(2) من الآية 66 من سورة الأحزاب.
(3) من الآية 67 من سورة الأحزاب. وانظر الحجة لأبى على الفارسي (5/ 468 - 469).
(4) صدر بيت لجرير ، وعجزه : وقولى - إن أصبت - لقد أصابا. انظر : معانى القرآن للزجاج (4/ 218).(4/414)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 415
من كل جانب ، حتى هممتم بالرجوع أو الوقوف. وإذ زاغت الأبصار : مالت عن قصدها بالاهتمام بالرجوع ، وبلغت القلوب الحناجر ، ممن كان ضعيف الإرادة واليقين ، وتظنون باللّه الظنونا ، فمنهم من يظن الامتكان بعد الامتحان ، فيفرحون بالبلاء ، ومنهم من يظن أنه عقوبة ... إلى غير ذلك ، هنالك ابتلى المؤمنون المتوجهون ليظهر الصادق ، فى الطلب ، من الكاذب فيه ، فعند الامتحان يعز المرء أو يهان ، ويظهر الخوّافون من الشجعان ، وزلزلوا زلزالا شديدا ليتخلصوا ويتمحصوا ، كما يتخلص الذهب والفضة من النحاس ، ومن عرف ما قصد هان عليه ما ترك.
قال القشيري : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ .. يعنى : بمقابلتها بالشكر ، وتذكّر ما سلف من الذي دفع عنك ، يهون عليك مقاساة البلاء فى الحال. وبذكرك لما أولاك فى الماضي يقرب من الثقة بوصول ما تؤمّله فى الاستقبال. فمن جملة ما ذكّرهم قوله : إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ ... الآية : كم بلاء صرفه عن العبد وهو لا يشعر ، وكم شغل كنت بصدده ، فصده عنك ولم تعلم ، وكم أمر صرفه ، والعبد يضج ، وهو - سبحانه - يعلم أن فى تيسيره هلاكه ، فيمنعه منه رحمة عليه ، والعبد يتهمه ويضيق به صدره!. ه.
ثم ذكر سبحانه نتيجة الابتلاء ، فقال :
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 12 الى 14]
وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً (12) وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِراراً (13) وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْها وَما تَلَبَّثُوا بِها إِلاَّ يَسِيراً (14)
يقول الحق جل جلاله : وَاذكر إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ : عطف تفسير إذ هو وصف المنافقين ، كقول الشاعر :
إلى الملك القرم ، وابن الهمام وليث الكتيبة فى المزدحم
فابن الهمام هو القرم ، والقرم - بالراء - : السيد. وقيل : الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ، هم الذين لا بصيرة بهم فى الدين من المسلمين ، كان المنافقون يستميلونهم بإدخال الشّبه عليهم ، قالوا ، عند شدة الخوف : ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً.(4/415)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 416
روى أن معتّب بن قشير ، المنافق ، حين رأى الأحزاب قال : إن محمدا يعدنا فتح فارس والروم ، وأحدنا لا يقدر أن يتبرز ، خوفا ، ما هذا إلا وعد غرور. ه.
وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ من المنافقين ، وهم عبد اللّه بن أبىّ وأصحابه : يا أَهْلَ يَثْرِبَ ، وهم أهل المدينة ، لا مُقامَ لَكُمْ «1» أي : لا قرار لكم هنا ، ولا مكان تقيمون فيه - وقرأ حفص : بضم الميم - اسم مكان ، أو مصدر ، فَارْجِعُوا من عسكر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى المدينة هاربين ، أو : إلى الكفر ، فيمكنكم المقام بها ، أو :
لا مقام لكم على دين محمد ، فارجعوا إلى الشرك وأظهروا الإسلام لتسلموا ، وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ أي : بنو حارثة ، يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ : ذات عورة ، أي : خالية غير حصينة ، وهى مما يلى العدو. وأصلها :
الخلل. وقرأ ابن عباس بكسر الواو : (عورة) ، يعنى : قصيرة الجدران ، فيها خلل. تقول العرب : دار فلان عورة إذا لم تكن حصينة ، وعور المكان : إذا بدا فيه خلل يخاف منه العدو والسارق ، ويجوز أن يكون عورة : تخفيف عورة.
اعتذروا أن بيوتهم عرضة للعدو والسارق لأنها غير محصنة ، فاستأذنوا ليحصنوها ثم يرجعوا إليه ، فأكذبهم اللّه تعالى بقوله : وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ ، بل هى حصينة ، إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِراراً من القتل.
وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مدينتهم ، أو : بيوتهم. من قولك : دخلت على فلان داره. مِنْ أَقْطارِها من جوانبها ، أي : ولو دخلت هذه العساكر المتحزبة - التي يفرون خوفا منها - مدينتهم ، أو بيوتهم ، من نواحيها كلها ناهبين سارقين ، ثُمَّ سُئِلُوا عند ذلك الفزع ، الْفِتْنَةَ أي : الردة والرجعة إلى الكفر ومقاتلة المسلمين ، أو : القتال فى العصبية ، وهو أحسن لأنهم مسلمون ، لَآتَوْها «2» لجاءوها وفعلوا. ومن قرأ بالمد فمعناه : لأعطوها من أنفسهم ، وَما تَلَبَّثُوا بِها بإجابتها وإعطائها ، أي : ما احتبسوا عنها إِلَّا يَسِيراً ، أو :
ما لبثوا بالمدينة ، بعد ارتدادهم ، إلا زمانا يسيرا ، ثم يهلكهم اللّه لأن المدينة كالكير تنفى خبثها ، وينصع طيبها ، والمعنى أنهم يتعللون بإعوار بيوتهم ليفروا عن نصرة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم والمؤمنين ، وعن مصافة الأحزاب الذين ملأوهم رعبا ، وهؤلاء الأحزاب كما هم لو سألوهم أن يقاتلوا فتنة وعصبية لأجابوهم ، وما تعللوا بشىء ، وما ذلك إلا لضعف إيمانهم ، والعياذ باللّه.
الإشارة : وإذ قالت طائفة من شيوخ التربية لأهل الفناء : لا مقام تقفون معه إذ قد قطعتم المقامات ، حين تحققتم بمقام الفناء ، فارجعوا إلى البقاء لتقوموا بآداب العبودية ، وتنزلون فى المقامات ثم ترحلون عنها ، كما
___________
(1) أثبت المفسر - رحمة اللّه - قراءة (مقام) بفتح الميم ، وهى قراءة الجمهور. وقرأ حفص (مقام) بضم الميم. انظر : الحجة للفارسى (5/ 471).
(2) قرأ نافع وابن كثير : (لأتوها) بالقصر ، وقرأ الباقون : بالمد .. انظر : الإتحاف (2/ 372).(4/416)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 417
تنزل الشمس فى بروجها ، فكل وقت يبرز فيه ما يقتضى النزول إلى مقامه. فتارة يبرز ما يقتضى التوبة ، وتارة ما يقتضى الخوف والهيبة ، أي : خوف القطيعة ، وتارة ما يقتضى الرجاء والبسط ، وتارة ما يقتضى الشكر ، وتارة الصبر ، وتارة ما يقتضى الرضا والتسليم ، وتارة ما يهيج المحبة أو المراقبة أو المشاهدة. وهكذا ينزل فى المقامات ويرحل عنها ، ولا يقيم فى شىء منها. ويستأذن بعض المريدين فى الرجوع إلى مقامات الإيمان أو الإسلام ، أو شىء من أمور البدايات ، يقولون : إن بيوت تلك المقامات لم نتقنها ، بل فيها عورة وخلل ، وما هى بعورة ، ما يريدون إلا فرارا من ثقل أعباء الحضرة. ولو دخلت بيوت قلوبهم من أقطارها ، ثم سئلوا الرجوع إلى الدنيا لأتوها لأنها قريبة عهد بتركها ، وما تلبثوا بها إلا زمانا يسيرا ، بل يبغتهم الموت ، ويندمون ، قل متاع الدنيا قليل ، والآخرة خير لمن اتقى.
وقد كانوا عاهدوا اللّه ألّا يرجعوا إليها ، كما قال تعالى :
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 15 الى 17]
وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ وَكانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُلاً (15) قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (16) قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (17)
يقول الحق جل جلاله : وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ أي : قبل غزوة الخندق ، وهو يوم أحد.
والضمير فى «كانوا» : لبنى حارثة ، عاهدوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يوم أحد ، حين فشلوا ، ثم تابوا ألا يعودوا لمثله ، وقالوا : لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ منهزمين أبدا ، وَكانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُلًا عن الوفاء به ، مجازى عليه ، أو :
مطلوبا مقتضى حتى يوفى به. قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ ، فإنه لا بد لكل شخص من حتف أنفه ، أو : قتل فى وقت معين سبق القضاء وجرى به القلم ، وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا أي : إن حضر أجلكم له ينفعكم الفرار ، وإن لم يحضر ، وفررتم ، لن تمتعوا فى الدنيا إلا زمانا قليلا ، وهو مدة أعماركم ، وهو قليل بالنسبة إلى ما بعد الموت الذي لا انقضاء له.
قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ أي : يمنعكم مما أراد اللّه إنزاله بكم إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً فى أنفسكم من قتل أو غيره ، أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً أي : أراد بكم إطالة عمر فى عافية وسلامة. أو : من يمنع اللّه(4/417)
البحر المديد ، ج 4 ، ص : 418
من أن يرحمكم ، إن أراد بكم رحمة ، فحذف بعدا واختصارا ، لما فى العصمة من معنى المنع ، أو : من ذا الذي يعصمكم إن أراد بكم سوءا ، أو يصيبكم بسوء ، إن أراد بكم رحمة ، فاختصر الكلام. وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا ينفعهم ، وَلا نَصِيراً يدفع العذاب عنهم.
الإشارة : ولقد كان عاهد اللّه من دخل فى طريق القوم ، ألّا يولى الأدبار ، ويرجع إلى الدنيا والاشتغال بها حتى يتفتر عن السير ، وكان عهد اللّه مسئولا ، فيسأله الحق تعالى عن سبب رجوعه عن الإرادة ، ولما ذا حرم نفسه من لذيذ المشاهدة؟ قل - لمن رجع ، ولم يقدر على مجاهدة نفسه : لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت لنفوسكم ، أو القتل بمجاهدتها وتجميلها بعكس مرادها ، وتحميلها ما يثقل عليها ، وإذا لا تمتعون إلا قليلا ، ثم ترحلون إلى اللّه ، فى غم الحجاب وسوء الحساب. قل : من ذا الذي يعصمكم من اللّه ، إن أراد بكم سوءا؟ ، وهو البعد والطرد ، أو : من يمنعكم من رحمته ، إن أراد بكم رحمة؟ ، وهى التقريب إلى حضرته ، فلا أحد يعصمكم من إبعاده ، ولا أحد يمنعكم من إحسانه إذ لا ولىّ ولا ناصر سواه. اللهم انصرنا بنصرك المبين ، وارحمنا برحمتك الخاصة ، حتى تقرّبنا إلى حضرتك ، بفضل منك وجودك ، يا أرحم الراحمين.
ثم ذكر نعوت أهل البعد ، فقال :
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 18 الى 19]
قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً (18) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (19)
يقول الحق جل جلاله : قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ أي : يعلم من يعوّق عن نصرة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ويمنع ، وهم المنافقون والمثبطون للناس عن الخروج إلى الغزو ، وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ فى الظاهر من ساكنى المدينة من المسلمين : هَلُمَّ إِلَيْنا تعالوا إلينا ، ودعوا محمدا. ولغة أهل الحجاز فى «هلم» : أنهم يسوون فيه بين الواحد والجماعة. وأما بنو تميم فيقولون : هلم يا رجل ، وهلموا يا رجال .. وهكذا. وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ الحرب(4/418)