البحر المديد ، ج 3 ، ص : 130
وديارهم فى طلب معرفة اللّه ، كما فعل كثير من الصوفية ، فقلّ أن تجد وليا إلا وهاجر من بلده لإقامة دينه وجبر قلبه ، وإفراغ سره لربه ، من بعد ما ظلموا بإيذاء الخلق - كما هو سنة اللّه فى خواصه - لنبوئنهم فى الدنيا حسنة ، وهى معرفة الشهود والعيان فى الباطن ، واستقامة الدين والعافية فى الظاهر. هذا فى الدنيا ، ولأجر الآخرة أكبر وأكبر إذ فيه مالا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر. الذين صبروا على مجاهدة النفوس ، وحط الرءوس ، ودفع الفلوس ، أو على ضروب الفاقات ، ونزول البليات ، وركوب الأهوال والآفات ، إذ لا يأتى الجمال إلا بعد الجلال ، ولا تأتى الحلاوة إلا بعد المرارة.
لا تحسب المجد تمرا أنت آكله لن تبلغ المجد حتّى تلعق الصبرا «1»
وعلى ربهم يتوكلون ، أي : مفوضين فى أمورهم كلها للّه ، ليس لهم مع اللّه اختيار ، ولا لهم عن أنفسهم إخبار ، بل هم كالميت بين يدى الغاسل. حققنا الله من هذا المقام بالحظ الأوفر .. آمين.
ولا بد من الواسطة فى الوصول إلى هذا ، إما رسول أو خليفته ، كما قال تعالى :
[سورة النحل (16) : الآيات 43 الى 44]
وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (43) بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44)
قلت : (بِالْبَيِّناتِ) : يتعلق بأرسلنا الذي فى أول الآية ، على التقديم والتأخير ، أي : وما أرسلنا إلا رجالا بالبينات ، فاسألوا أهل الذكر ، أو بأرسلنا مضمرا ، وكأنه جواب سائل قال : بم أرسلوا به؟ فقال : بالبينات ، أو : صفة لرجال ، أي :
رجالا ملتبسين بالبينات ، أو : بيوحى. انظر البيضاوي.
يقول الحق جل جلاله ، فى الرد على قريش ، حيث قالوا : اللّه أعظم من أن يكون رسوله بشرا : وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ يا محمد إِلَّا رِجالًا بشرا ، نُوحِي إِلَيْهِمْ «2» كما يوحى إليك. فليس ببدع أن يكون الرسول بشرا ، بل جرت السنة الإلهية بأن لا يبعث للدعوة العامة إلا بشرا يوحى إليه على ألسنة الملائكة إذ لا يطيق كل البشر رؤية الملائكة ولا التلقي منهم. فإن شككتم فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ : أهل الكتاب ، أو علماءهم الأحبار ، أي :
الذين لم يسلموا ، لأنهم لا يتهمون فى شهادتهم ، من حيث إنهم مدافعون فى صدر ملة محمد صلى اللّه عليه وسلم ، وأنتم إلى
___________
(1) من قصيدة لأبى الطيب أحمد بن الحسين ، المعروف بالمتنبي.
(2) قرأ الجمهور : (يوحى) بالياء وفتح الحاء ، وقرأ حفص (نوحى) بالنون وكسر الحاء .. انظر الإتحاف (2/ 184). [.....](3/130)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 131
تصديق من لم يؤمن من أهل الكتاب أقرب من تصديقكم المؤمنين منهم ، فاسألوهم ليخبروكم : هل كانت الرسل ملائكة أو بشرا ، إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ذلك.
قال البيضاوي : وفى الآية دليل على أنه تعالى لم يرسل امرأة ولا ملكا للدعوة العامة. وأما قوله : جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا «1» فمعناه : رسلا إلى الأنبياء. وقيل : لم يبعثوا إلى الأنبياء إلا متمثلين بصورة الرجال. وردّ بما روى أنه عليه صلى اللّه عليه وسلم رأى جبريل عليه السّلام على صورته التي هو عليها مرتين. وعلى وجوب المراجعة إلى العلماء فيما لا يعلم. ه. ومفهوم قوله : «الدعوة العامة» : أن الدعوة الخاصة كالأنبياء - عليهم السلام - ، فإن اللّه يبعث إليهم الملك ليعلمهم أمر دينهم.
ثم قال تعالى : بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ أي : أرسلناهم بالمعجزات والكتب. وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ أي : القرآن لأنه تذكير ووعظ ، لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ من الأحكام ، مما أمروا به ونهوا عنه ، ومما تشابه عليهم منه.
والتبيين أعم من أن ينص على المقصود ، أو يرشد إلى ما يدل عليه ، كالقياس ودليل العقل. قاله البيضاوي. قال ابن جزى : يحتمل أن يريد : لتبين القرآن بسردك نصّه وتعليمه ، أو لتبين معانيه بتفسير مشكله ، فيدخل فى هذا ما سنته السنة من الشريعة. ه. وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ فى عجائبه وأسراره ، فيخوضون بسفن أفكارهم فى تيار بحر معانيه وأنواره ، فينتبهون للحقائق والشرائع.
الإشارة : كما لم يبعث اللّه فى الدعوة العامة - وهى دعوة الرسالة - إلا رجالا من البشر ، كذلك لم يبعث اللّه فى الدعوة الخاصة - وهى دعوة الولاية إلى سر الخصوصية - إلا رجالا من البشر أحياء ، يربون التربية النبوية العرفية ، فلا يصلح للتربية النساء لقلة عقلهن «2» ، ولا الجن لانحرافه عن الاعتدال الذي فى البشر ، ولا الميت لعدم وجود بشريته فإنّ بشرية الحي تمد البشرية ، والروحانية تمد الروحانية. فلا تتهذب البشرية إلا بشهود بشرية الشيخ ، ولا تصفى الروحانية إلا بالقرب من روحانية الشيخ. ولذلك قالوا : الثدي الميتة لا ترضع. وقولنا : «التربية العرفية» أعنى : بالصحبة العرفية ، وأما التربية الغيبية ، على وجه خرق العادة ، كطيران الشيخ إلى المريد ، أو المريد إلى الشيخ ، فلا تجد صاحب هذه التربية إلا منحرفا لإحدى الجهتين ، إما إلى الحقيقة أو إلى الشريعة ، بخلاف التربية العرفية ، فلا يكون صاحبها ، فى الغالب ، إلا معتدلا كاملا.
___________
(1) من الآية الأولى من سورة فاطر.
(2) هذا رأى الشيخ المفسر ، لكن تاريخ المسلمين لا يمنع من هذا ، وسير الصالحات الزاهدات تبرهن على عكس ذلك ، اقرأ مثلا كتاب ذكر النسوة التعبدات الصوفيات ، لأبى عبد الرحمن السلمى ، وتراجم الصالحات فى سير أعلام النبلاء ، وفى حلية الأولياء وفى صفة الصفوة. وعلى أية حال : من يقوم بتربية الأولاد فى بيوت المسلمين الصالحين؟ ورب امرأة صالحة تربى رجلا ، بل رجالا.(3/131)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 132
وقوله تعالى : (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ) هم العارفون باللّه ، فإذا أشكل علينا أمر من أمر القلوب كأسرار التوحيد ، وأمر الخواطر ، رجعنا إليهم لأنهم أهل الذوق والكشف ، يجيبون سائلهم بالهمة والحال ، حتى يقلعوا عروق ما أشكل على السائل ، إن أتاهم متعطشا لهفانا ، وكذا ما أشكل فى أمر الدنيا ، من فعل تريد أن تفعله أو تتركه ، فينبغى الرجوع إليهم لأنهم ينظرون بنور اللّه ، فلا ينطقهم اللّه إلا بما هو حق سبق به القدر. وأما أمور الدين ، فإن كان له علم بالشريعة الظاهرة فالرجوع إليه ، وإن لم يكن له علم بالظاهر ، فالعلماء قائمون بهذا الأمر.
وقوله تعالى : (إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) يفهم منه أن من كان من أهل الفهم عن اللّه ، يأخذ العلم عن اللّه بإلهام أو تجل حقيقى ، فلا يحتاج إلى سؤالهم ، حيث صفت مرآة قلبه ، وقد يكون الولي ذاكرا ، باعتبار قوم ، وغير ذاكر ، باعتبار آخرين ، الذين هم أنهض منه حالا ، وأصوب مقالا. واللّه تعالى أعلم.
ثم هدد أهل المكر بأهل الخصوصية ، فقال :
[سورة النحل (16) : الآيات 45 الى 47]
أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (45) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (46) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (47)
قلت : (مَكَرُوا السَّيِّئاتِ) : صفة لمحذوف ، أي : المكرات السيئات ، والتخوّف ، قيل : معناه : التنقص ، وهو أن تنقصهم شيئا فشيئا. روى أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب صلى اللّه عليه وسلم توقف فى معناها ، فقال على المنبر : ما تقولون فيها؟ فسكتوا ، فقام شيخ من هذيل ، فقال : هذه لغتنا ، التخوف : التنقص. فقال : هل تعرف العرب ذلك فى أشعارها؟
فقال : نعم. قال شاعرنا أبو كثير يصف ناقته :
تخوّف الرّحل منها تامكا قردا كما تخوّف عود النّبعة السفن «1»
فقال عمر : عليكم بديوانكم لا تضلوا ، قالوا : وما ديواننا؟ قال : شعر الجاهلية فإن فيه تفسير كتابكم ومعانى كلامكم. ه.
يقول الحق جل جلاله : أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا المكرات السيئات برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وبالمؤمنين ، حيث قصدوا ردّ دينه ، وصدوا الناس عن طريقه ، أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ كما خسف بقارون ، أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ أي : بغتة من حيث لا يظنون ، كما فعل بقوم لوط ، أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ
___________
(1) اختلف فى نسبة البيت ، فنسبه الزمخشرى فى تفسيره لزهير ، وأبو حيان لأبى كثير الهذلى ، ونسبه ابن منظور لابن مقبل ، مرة ، ولذى الرمة ، أخرى ، وقوله : تامكا قردا ، أى : سناما مرتفعا ، والنبعة : واحدة النبع ، وهو من شجر الجبال ، والسفن : المبرد.(3/132)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 133
فى متاجرهم ومسايرهم فى طلب معاشهم ، فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ بفائتين قدرتنا حتى نعجز عن أخذهم ، أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ : على تنقص ، بأن ينقص أموالهم وأنفسهم ، شيئا فشيئا ، حتى يهلكوا جميعا ، من غير أن يهلكهم جملة واحدة. وعليه يترتب قوله : فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ حيث لم يهلكهم دفعة واحدة ، أو : على تخوف : على مخافة بأن يهلك قوما قبلهم ، فيتخوفوا ، فيأتيهم العذاب وهم متخوفون.
وهو قسيم قوله : (وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ) ، وقوله : فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ أي : حيث لم يعاجلكم بالعقوبة. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : ما خوف به أهل المكر بالأنبياء والرسل ، يخوف به أهل المكر بالأولياء والمنتسبين ، وقد تقدم هذا مرارا.
ثم أمر بالتفكر والاعتبار لأنه سبب النجاة من الاغترار ، فقال :
[سورة النحل (16) : الآيات 48 الى 50]
أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ (48) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (49) يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (50)
قلت : الاستفهام للإنكار ، و(مِنْ شَيْ ءٍ) : بيان ل «ما». والضمير فى (ظِلالُهُ) يعود على (ما) ، أو على (شَيْ ءٍ).
و(سُجَّداً) : حال من الظلال ، وكذا جملة : (وَ هُمْ داخِرُونَ) ، وجمعه بالواو لأنه من صفة العقلاء. وقال الزمخشري :
هما حالان من الضمير فى (ظِلالُهُ) إذ هو بمعنى الجمع لأنه يعود على قوله : (مِنْ شَيْ ءٍ) ، فعلى الأول يكون السجود من صفة الضلال ، وعلى الثاني يكون من صفة الأجرام. و(مِنْ دابَّةٍ) : يحتمل أن يكون بيانا ل (ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) معا لأن كل حيوان يصح أن يوصف بأنه يدب ، ويحتمل أن يكون بيانا ل (ما فِي الْأَرْضِ) خاصة ، فعلى الأولى : يكون عطف الملائكة عليه ، من عطف الخاص على العام تشريفا لهم ، وعلى الثاني : من عطف المباين.
يقول الحق جل جلاله : أَوَلَمْ يَرَوْا أي : أهل المكر والخدع بالرسل والمؤمنين ، إِلى ما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ من الأجرام والأشكال كالجبال والأشجار والبحار ليظهر لهم كمال قدرته وقهره ، فيخافوا سطوته وبطشه ، حتى لا يمكروا بخواصه. حال كون ما خلق من الأجرام يَتَفَيَّؤُا أي : يميل ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ أي : يرجع الظل من جانب إلى جانب ، أي : يميل عن الأيمان والشمائل ، وذلك أن الظل من وقت(3/133)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 134
طلوع الشمس إلى الزوال يكون إلى جهة ، ومن الزوال إلى الغروب يكون إلى جهة أخرى. ثم يمتد الظل ويعم بالليل إلى طلوع الشمس. والتفيؤ : من الفيء ، وهو : الظل الذي يرجع بعكس ما كان غدوة. وقال رؤبة بن العجاج : يقال بعد الزوال : ظل وفىء ، ولا يقال قبله إلا ظل. ففى لفظ «يَتَفَيَّؤُا» ، هنا ، تجوز.
وقال فى سلوة الأحزان : فاء الظل : معناه : رجع بعكس ما كان من بكرة إلى الزوال وذلك أن الشمس من وقت طلوعها إلى الزوال ، إنما هى فى نسخ الظل العام قبل طلوعها ، فإذا زالت ، ابتدأ رجوع الظل العام ، ولا يزال ينمو حتى تغيب الشمس فيعم. والظل الممدود فى الجنة لم يذكر اللّه تعالى فيها فيئا لأنه لا مذهب له ، ولا تكون الفيئة إلا بعد ذهاب الظل ، ولا ذهاب لظل الجنة ، فلا يتعقل له فيأة. ه. واستعمال اليمين والشمال ، فى غير الإنسان ، تجوز فإنهما فى الحقيقة خاص بالإنسان. ه.
حال كون تلك الأجرام ، أو الظلال سُجَّداً لِلَّهِ ، قيل : حقيقة. قال الضحاك : إذا زالت الشمس سجد كل شىء قبل القبلة ، من نبات أو شجر ، ولذلك كان الصالحون يستحبون الصلاة فى ذلك الوقت. وقال مجاهد : إنما تسجد الظلال ، لا الأشخاص. وقيل : هو عبارة عن الخضوع والطاعة ، وميلان الظلال ودورانها بالسجود ، كما يقال للمشير برأسه نحو الأرض ، على جهة الخضوع : ساجدا ، ثم استشهد لذلك. ه. قال شيخ شيوخنا سيدى عبد الرحمن الفاسى : والمتّجه : أنه خضوع وطاعة للمشيئة وانقياد ، لا حقيقة لأنه لا يقال فيه ، كذلك : أو لم يروا ، وإنما يرى الانقياد. وخص الظل لأنه مشهود ذلك فيه ، ولو حاول صاحبه عدمه أو ضده ، لم يستطع ، بخلاف الأفعال الاختيارية ، فإن الجبر فيها غير محسوس ، فظهر سر الإشارة للظلال. واللّه أعلم. ه.
قال البيضاوي : المراد من السجود : الاستسلام ، سواء كان بالطبع أو الاختيار ، يقال : سجدت النخلة ، إذا مالت لكثرة الحمل ، وسجد البعير ، إذا طأطأ رأسه ليركب. أو سُجَّداً : حال من الظلال وَهُمْ داخِرُونَ : حال من الضمير ، والمعنى : ترجع الظلال ، بارتفاع الشمس وانحدارها ، بتقدير اللّه تعالى ، من جانب إلى جانب ، منقادة إلى ما قدّر لها من التفيؤ ، أو واقعة على الأرض ، ملتصقة بها ، على هيئة الساجد ، والأجرام فى أنفسها أيضا داخرة ، أي : صاغرة منقادة لأفعال اللّه. ه.
وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أي : ينقاد لإرادته ، وتأثير قدرته طبعا ، ولتكليفه وأمره طوعا ليصح إسناده إلى عامة أهل السموات والأرض. وقوله : مِنْ دابَّةٍ : بيان لهما لأن الدبيب هو الحركة الجسمانية ، سواء كان فى أرض أو سماء ، وَالْمَلائِكَةُ عطف على المبين به ، عطف خاص على عام ، (3/134)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 135
أو عطف المجردات على الجسمانيات ، وبه احتج من قال : إن الملائكة أرواح مجردة. قاله البيضاوي. قلت : وهو خلاف الجمهور. بل الملائكة : أجسام لطيفة نورانية متحيزة ، لها مادة نورانية وتشكيل مخصوص ، غير أن اللّه تعالى أعطاها قوة التشكيل لأنها قريبة من أسرار المعاني الأزلية. وعبّر الحق تعالى ب «ما» ليشمل العقلاء وغيرهم.
ثم قال تعالى فى وصف الملائكة : وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ عن عبادته ، يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ هو تقرير ، وبيان لنفى الاستكبار عنهم ، أي : يخافون عظمة ربهم من فوقهم إذ هم محاطون بأفلاك أسرار الجبروت ، مقهورون تحت القدرة والمشيئة ، أو : يخافون عذاب ربهم أن يرسل عليهم من فوقهم ، أو : يخافون ربهم وهو من فوقهم بالقهر والغلبة. والجملة : حال من الضمير فى (يَسْتَكْبِرُونَ) ، أو بيان له وتقرير لأن من خاف ربه لم يستكبر عن عبادته ، وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ من الطاعة وتدبير الأمور التي أمرهم بتدبيرها. وفيه دليل على أن الملائكة مكلفون مدارون بين الخوف والرجاء. قاله البيضاوي.
الإشارة : كل ما دخل تحت عالم التكوين لزمته العبودية ، وأحاطت به القهرية ، فلا بد من الخضوع لأحكام الواحد القهار ، تكليفية كانت أو تعريفية ، فمن لم ينقد لها بملاطفة الإحسان ، قيد بسلاسل الامتحان. وبهذا امتاز الخصوص من العموم ، فالخصوص علموا أن سلسلة الأقدار فى عنقهم ، تجرهم إلى مراد ربهم ، فاستسلموا لها ، وانقادوا ، وخضعوا ، وتأدبوا لها ، فاستحقوا التقريب والاصطفائية. والعموم جهلوا هذه السلسلة ، أو علموها ، ولم يقدروا على الاستسلام لها فاستحقوا البعد من حضرة الحق إذ لا يدخلها إلا أهل التهذيب والتأديب. وباللّه التوفيق.
ثم نهى عن الشرك الجلى والخفي ، فقال :
[سورة النحل (16) : الآيات 51 الى 55]
وَقالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (51) وَلَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ واصِباً أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ (52) وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ (53) ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (54) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (55)
قلت : (إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ) ، إلهين : مفعول أول ، واثنين : تأكيد ، والثاني : محذوف ، أي : معبودين لكم ، وفائدة التأكيد :
التنبيه على أن المقصود هو النهى عن الاثنينية تنبيها على أن الاثنينية تنافى الألوهية ، كما ذكر الواحد فى قوله :
إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ إثبات الوحدانية دون الإلهية. قاله البيضاوي. وعبارة صاحب المطول : لفظ إلهين حامل لمعنى الجنسية - أعنى : الإلهية - ومعنى العدد - أعنى : الاثنينية - وكذا لفظ «الله» حامل لمعنى الجنسية والوحدة ، (3/135)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 136
والغرض المسوق له الكلام فى الأول : النهى عن اتخاذ الاثنين من الإله لا إثبات جنسه ، فوصف الإلهين باثنين وإله بواحد إيضاحا لهذا الغرض وتفسيرا له. ه. ويحتمل أن يكون «اثْنَيْنِ» مفعولا أولا ، و«إِلهَيْنِ» مفعولا ثانيا.
وقوله : (فَإِيَّايَ) : مفعول بفعل محذوف ، أي : ارهبوا ، ولا يعمل فيه (ارهبون) لأنه أخذ مفعوله ، وهو : ياء المتكلم ، و(واصِباً) : حال من (الدِّينُ). و(ما بِكُمْ) : إما شرطية ، أو موصولة متضمنة معنى الشرط باعتبار الإخبار دون الحصول فإن استقرار النعمة بهم يكون سببا للإخبار بأنها من الله ، لا سببا لحصولها منه لأن جواب الشرط يكون مسببا عن فعله ، واستقرار النعمة بهم ليس سببا فى حصولها من الله ، وإنما هو سبب فى الإخبار بأنها من الله. فتأمله. وأصله للبيضاوى ، والجملة : يحتمل أن تكون استئنافية ، أو حالية ، فيتصل الكلام بما قبله ، أي : كيف تتقون غير الله ، والحال أن ما بكم من نعمة فمنه وحده؟ واللام فى (لِيَكْفُرُوا) : لام الأمر على وجه التهديد ، كقوله بعد : (فَتَمَتَّعُوا) ، فعلى هذا يبتدأ بها ، وقيل : هى لام العاقبة ، فعلى هذا توصل بما قبلها لأنها فى الأصل لام كى ، وهو بعيد.
يقول الحق جل جلاله : وَقالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ ، بأن تعبدوا الله تعالى ، وتعبدوا معه الأصنام ، إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ لا شريك له ولا ظهير ، ولا معين ولا وزير ، فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ ، عدل من الغيبة إلى التكلم مبالغة فى الترهيب ، وتصريحا بالمقصود ، كأنه قال : فأنا ذلك الإله الواحد ، فإياى فارهبون ، لا غيرى ، وَلَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ خلقا وملكا وعبيدا ، وَلَهُ الدِّينُ أي : الطاعة والانقياد واصِباً : لازما ، أو : واجبا وثابتا لما تقرر أنه الإله وحده ، والحقيق بأن يرهب منه ، فلا يدان لأحد إلا هو. وقيل : وَلَهُ الدِّينُ أي : الجزاء واصِباً أي : دائما ، فلا ينقطع ثوابه لمن آمن ، ولا عقابه لمن كفر.
أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ مع أنه ليس بيد غيره نفع ولا ضر؟! كما قال : وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ أي : وأىّ شىء اتصل بكم من نعمة فهو من الله وحده ، ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ أي : فلا تتضرعون عند الشدة إلا إليه ، ولا تستغيثون إلا به. والجؤار : رفع الصوت فى الدعاء والاستغاثة ، ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ وهم : كفاركم ، ففى وقت الشدة ينسون أصنامهم ، وفى الرخاء يرجعون إليها. فعلوا ذلك لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ من نعمة الكشف عنهم ، كأنهم قصدوا بشركهم كفران النعمة ، أو يكون تهديدا ، أي : ليكفروا ما شاءوا فسوف يعلمون ، كقوله : فَتَمَتَّعُوا بكفركم فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ عاقبة أمركم.(3/136)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 137
الإشارة : قال فى التنوير : أبى المحققون أن يشهدوا غير الله لما حققهم به من شهود القيومية ، وإحاطة الديمومية. ه. فمن فتح اللّه بصيرته ، لم يشهد مع الحق سواه إذ الأكوان ثابتة بإثباته ، ممحوة بأحدية ذاته ، فما حجبك عن الحق وجود موجود معه إذ لا شىء معه ، وإنما حجبك توهم موجود معه». فمن غاب عن ثنوية نفسه غاب عن ثنوية الأكوان ، ووقع على عين الشهود والعيان. فما ظهر فى الوجود إلا أسرار ذاته وأنوار صفاته. وبالله التوفيق.
ثم ذكر جهالة أهل الشرك وسفاهة رأيهم ، فقال :
[سورة النحل (16) : الآيات 56 الى 60]
وَيَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (56) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ (57) وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (59) لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (60)
قلت : الضمير فى (يَجْعَلُونَ) للكفار ، وفى (يَعْلَمُونَ) لهم ، أو للأصنام. و(لَهُمْ ما يَشْتَهُونَ) : يجوز أن يكون (ما يَشْتَهُونَ) مبتدأ ، وخبره : (لَهُمْ) ، وأن يكون مفعولا بفعل مضمر ، أي : ويجعلون لأنفسهم ما يشتهون ، وأن يكون معطوفا على البنات ، وهذا منعه البصريون لاتحاد الفاعل والمفعول ، وهو الواو ، وضمير لهم فى الغيبة ، فلا يقال :
زيد ضربه ، وإنما يقال : ضرب نفسه ، ولا يقال : أنا ضربتنى ، ويجوز ذلك فى أفعال القلوب. وقال البيضاوي :
ولا يبعد تجويزه فى المعطوف ، كما فى الآية.
يقول الحق جل جلاله : وَيَجْعَلُونَ أي : كفار العرب لِما لا يَعْلَمُونَ إلاهيتهم ببرهان ولا حجة ، وهم الأصنام. أو : لما لا علم لهم من الجمادات التي يعبدونها ، نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ من الزرع والأنعام ، بقولهم :
هذا لله وهذا لشركائنا ، تَاللَّهِ لَتُسْئَلُنَّ سؤال توبيخ وعتاب عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ من أنها آلهة بالتقرب إليها ، أو عما كنتم تفترون على الله من أنه أمركم بذلك.
وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ من قولهم : الملائكة بنات اللّه ، وكانت خزاعة وكنانة يقولون ذلك. سُبْحانَهُ تنزيها له عن ذلك ، وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ أي : ويجعلون لأنفسهم ما يشتهون ، وهم البنون ، والمعنى : أنهم يجعلون لله البنات التي يكرهونها - وهو منزه عن الولد - ، ويختارون لأنفسهم ما يشتهون من الذكور. وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى(3/137)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 138
أي : أخبر بولادتها عنده ، ظَلَّ أي : صار وَجْهُهُ مُسْوَدًّا : متغيرا تغير مغتم من الكآبة والحياء من الناس ، وَهُوَ كَظِيمٌ : ممتلئ غيظا ، يَتَوارى يختفى مِنَ الْقَوْمِ أي : من قومه حياء منهم ، مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ من قبح المبشر به ، متفكرا فى نفسه ، أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أي : يتركه ، عنده على ذل وهوان ، أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ أي : يخفيه فيه ويئده ، وهى : الموءودة ، وتذكير الضمير للفظ «ما» ، أَلا ساءَ : بئس ما يَحْكُمُونَ حكمهم هذا حيث نسبوا لله تعالى البنات ، التي هى عندهم بهذا المحل.
لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ أي : صفة السوء ، وهى : الحاجة إلى الولد المنادية بالموت ، واستبقاء الذكور استظهارا بهم ، وكراهة البنات ووأدهن خشية الإملاق ، وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى أي : الصفة العليا ، وهو الوجوب الذاتي والغنى المطلق ، والجود الفائق ، والنزاهة عن صفات المخلوقين ، والوحدانية فى الذات والصفات والأفعال. وقال الأزهرى : المثل الأعلى ، أي : التوحيد والخلق والأمر ، ونفى كل إله سواه. ويترجم عن هذا كله بقول : «لا إله إلا الله». ه. وَهُوَ الْعَزِيزُ فى ملكه ، الْحَكِيمُ فى صنعه ، أي : المنفرد بكمال القدرة والحكمة ، فالقدرة مظهرة للأشياء فى أوقاتها ، والحكمة تسترها برداء أسبابها وشروطها. والله تعالى أعلم.
الإشارة : ينبغى لأهل التوحيد الكامل أن يتنزهوا عن شبهة الشرك فى أعمالهم وأموالهم ، فلا يشركون فيما رزقهم الله ، من الأموال ، أحدا من المخلوقين ، يجعلون لهم نصيبا فى أموالهم ، على قصد الحفظ ، أو إصلاح النتاج ، كما تفعله العامة مع الصالحين ، فإن ذلك مما يقدح فى صفاء التوحيد إذ لا فاعل سواه. وقوله تعالى : وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ... الآية ، فيه ذم وتهديد لمن يكره البنات ، وينقبض من زيادتهن لأن فيه نزغة من فعل الجاهلية ، بل ينبغى إظهار البسط والبرور بهن أكثر من الذكور ، ولا شك أن النفقة عليهن أكثر ثوابا من الذكور ، وفى الحديث : «من ابتلى بهذه البنات ، فأحسن إليهنّ ، كنّ له حجابا من النّار». «1» إلى غير ذلك من أحاديث كثيرة ترغب فى الإحسان إليهن. والله تعالى أعلم.
ثم ذكر حكمة إمهاله تعالى للكفار ، فقال :
[سورة النحل (16) : آية 61]
وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (61)
___________
(1) أخرجه البخاري فى (الزكاة ، باب اتقوا النار ولو بشق تمرة) ، ومسلم فى (البر والصلة ، باب فضل الإحسان إلى البنات) عن السيدة عائشة - رضى اللّه عنها.(3/138)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 139
يقول الحق جل جلاله : وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ أي : بكفرهم ومعاصيهم الصادرة من بعضهم ، ما تَرَكَ عَلَيْها أي : على الأرض مِنْ دَابَّةٍ : نسمة تدب عليها ، بشؤم ظلمهم. وعن ابن مسعود : (كاد الجعل «1» يهلك فى جحره بذنب ابن آدم). وقيل : لو هلك الآباء بكفرهم لم يكن الأبناء ، وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى سماه لأعمارهم ، أو لعذابهم ، فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ عنه ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ عليه ، بل يهلكون ، أو يعذبون حينئذ لا محالة ، فالحكمة فى إمهال أهل الكفر والمعاصي لئلا يعم العذاب ، كقوله : وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً «2» ، و(لعل الله تعالى يخرج من أصلابهم من يوحد الله). والله تعالى أعلم.
الإشارة : إن الله يهم أن ينزل إلى أهل الأرض عذابا لما يرى فيهم من كثرة الظلم والفجور ، فإذا رأى حلق الذكر ومجالس العلم رفع عنهم العذاب. وفى بعض الأخبار : «لو لا شيوخ ركع ، وصبيان رضّع ، وبهائم رتّع ، لصبّ عليكم العذاب صبّا». «3».
ثم ذكر وعيد الكفار ، فقال :
[سورة النحل (16) : آية 62]
وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (62)
قلت : (أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى ) : بدل من (الْكَذِبَ) ، ومن قرأ (مُفْرَطُونَ) بالكسر ، فاسم فاعل من الإفراط ، وهو : تجاوز الحد ، ومن قرأها بالفتح فاسم مفعول ، من أفرط فى طلب الماء ، إذا قدمه. ومن قرأ بالتشديد فمن التفريط.
يقول الحق جل جلاله : وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ لأنفسهم من البنات ، والشركاء فى الرئاسة وأراذل الأموال ، وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ مع ذلك ، وهو أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى عند اللّه ، وهى الجنة. وهذا كقوله :
وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى «4». قال تعالى : لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ أي : لا شك ، أو حقا أن لهم النار ، وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ مقدّمون إليها ، أو متركون فيها ، أو مفرطون فى المعاصي والظلم ، متجاوزون الحد فى ذلك. أو مفرطون فى الطاعة من التفريط.
___________
(1) الجعل : حيوان كالخنفساء ... انظر : النهاية (جعل ، 1/ 277).
(2) من الآية 25 من سورة الأنفال.
(3) أخرجه البيهقي فى الكبرى (صلاة الاستسقاء ، باب استحباب الخروج بالضعفاء والصبيان 3/ 345) والطبراني فى الأوسط (ح 6539) ، وابن عدى فى الكامل (4/ 1622) عن مالك بن عبيدة الديلي ، عن أبيه ، عن جده.
(4) من الآية 50 من سورة فصلت.(3/139)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 140
الإشارة : الواجب فى حق الأدب أن ما كان من الكمالات ينسب إلى اللّه تعالى ، كائنا ما كان ، وما كان من النقائص ينسب إلى العبد ، وإن كان ، فى الإيجاد والاختراع ، كل من عند اللّه ، وهو بهذا الاعتبار فى غاية الحسن.
كما قال صاحب العينية رضي اللّه عنه :
وكلّ قبيح إن نسبت لحسنه أتتك معانى الحسن فيه تسارع
يكمّل نقصان القبيح جماله فما ثمّ نقصان ولا ثمّ باشع
ثم سلّى نبيه صلى اللّه عليه وسلم بقوله :
[سورة النحل (16) : الآيات 63 الى 64]
تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (63) وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (64)
قلت : (وَ هُدىً وَرَحْمَةً) : معطوفتان على «لِتُبَيِّنَ» ، وانتصبا على المفعولية من أجله ، أي : لأجل البيان والهدى والرحمة.
يقول الحق جل جلاله : تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا رسلا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ يا محمد ، فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ السوء ، فرأوها حسنة ، فأصروا على قبائحها ، وكذبوا الرسل ، فصبروا حتى نصروا. فاصبر كما صبروا ، حتى تنصر كما انتصروا. فكان عاقبة من اتبع الشيطان الهلاك والوقوع فى العذاب ، فَهُوَ وَلِيُّهُمُ أي :
متولى أمورهم الْيَوْمَ فى الدنيا ، وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فى الآخرة ، أو : فهو وليهم يوم القيامة ، على أنه حكاية حال آتية ، أي : لا ولى لهم غيره فى ذلك اليوم ، وهو عاجز عن نصر نفسه ، فكيف ينصر غيره؟
وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ : القرآن إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ : للناس الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ من التوحيد ، والقدر ، وأحوال المعاد ، وأحكام الأفعال ، وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ به ، فإنهم المنتفعون بإنزاله.
الإشارة : كل من وقف دون الوصول إلى مشاهدة الحق ، فهو مزين له فى عمله ، مستدرج به وهو لا يشعر ، وحظه يوم القيامة الندم والأسف. وفى ذلك يقول أبو المواهب «1» :
من فاته منك وصل حظّه النّدم ومن تكن همّه تسمو به الهمم
___________
(1) التونسى ، صاحب «قوانين حكم الإشراق».(3/140)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 141
وناظر فى سوى معناك حقّ له يقتصّ من جفنه بالدّمع وهو دم
والسّمع إن جال فيه من يحدّثه سوى حديثك أمسى وقره الصّمم
فهذه علامات الوصول إلى الحق ، بحيث ترتفع همته إلى حضرة الحق ، ويصرف نظره فى معانى أسرار التوحيد ، وسمعه فيما يقرب إلى صريح التفريد ، ومن لم يبلغ هذا المقام ، لم ينقطع عنه تزيين الشيطان ، فيزين له عمله ، فيقف معه. وباللّه التوفيق.
ثم ذكر دلائل توحيده وباهر قدرته ، وفى معرفتهما معرفة ذاته ، فقال :
[سورة النحل (16) : آية 65]
وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (65)
يقول الحق جل جلاله : وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً مطرا فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها أنبت فيها أنواع النبات بعد يبسها ، فكانت هامدة غبراء ، غير منبتة ، شبيهة بالميت ، فصارت ، بعد إنزال المطر ، مخضرة مهتزة رابية شبيهة بالحي. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ سماع تدبر وإنصاف فإن هذه الآية ظاهرة ، تدرك بأدنى تنبيه وسماع ، غير محتاجة إلى كثرة تفكر واعتبار.
الإشارة : واللّه أنزل من سماء الغيوب ماء العلوم النافعة ، فأحيا به أرض النفوس الميتة بالغفلة والجهل ، فصارت مبتهجة بأنوار التوحيد وأسرار التفريد ، وفى ذلك يقول الشاعر :
إنّ عرفان ذى الجلال لعزّ وضياء وبهجة وسرور
وعلى العارفين أيضا بهاء وعليهم من المحبّة نور
فهنيئا لمن عرفك ، إلهى هو ، واللّه ، دهره ، مسرور
ثم ذكر دليلا آخر ، فقال :
[سورة النحل (16) : الآيات 66 الى 67]
وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ (66) وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (67)
قلت : سقى وأسقى : لغتان ، على المشهور. والضمير فى (بُطُونِهِ) : للأنعام ، وذكّره باعتبار ما ذكر «1» ، كقوله :
كَلَّا إِنَّها تَذْكِرَةٌ ، فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ «2» ، أو : باعتبار الجنس ، وعدّه سيبويه فى المفردات المبنية على : أفعال ،
___________
(1) أي : مما فى بطون ما ذكرناه.
(2) الآيتان : 11 - 12 من سورة عبس.(3/141)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 142
كأخلاق وأكباش ، فهو ، عنده ، اسم جمع ، كقوم ورهط ، فلفظه مفرد ومعناه جمع ، فذكّره هنا مراعاة للفظه ، وأنثه ، فى سورة المؤمنين مراعاة لمعناه. ومن قال : إنه جمع «نعم» ، جعل الضمير للبعض فإن اللبن لبعضها دون جميعها.
و(من) فى قوله : «مِمَّا» للتبعيض ، و«مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ» لابتداء الغاية ، و(مِنْ ثَمَراتِ) : يتعلق بمحذوف ، أي :
ونسقيكم من ثمرات النخيل ، يدل عليه (نُسْقِيكُمْ) الأول. و(تَتَّخِذُونَ) : استئناف لبيان الإسقاء ، أو يكون (ثَمَراتِ) :
عطفا على (مِمَّا فِي بُطُونِهِ) ، أو يتعلق (مِنْ ثَمَراتِ) بتتخذون ، أي : تتخذون من ثمرات النخيل سكرا. وكرر (مِنْهُ) للتأكيد ، أو يكون (تَتَّخِذُونَ) : صفة لمحذوف ، أي : شىء تتخذون منه سكرا.
يقول الحق جل جلاله : وَإِنَّ لَكُمْ أيها الناس ، فِي الْأَنْعامِ وهى : الإبل والبقر والغنم ، لَعِبْرَةً ظاهرة تدل على كمال قدرته ، وعجائب حكمته ، وهى أنا نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ أي : بعض ما استقر فى بطونه من الغذاء ، مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وهو ما فى الكرش من القذر ، وَدَمٍ وهو ما تولد من لباب الغذاء ، لَبَناً خالِصاً من روائح الفرث ، صافيا من لون الدم. والمعنى : أن اللّه يخلق اللبن متوسطا بين الفرث والدم يكتنفانه ، ومع ذلك فلا يغير له لونا ولا طعما ولا رائحة. وعن ابن عباس : (إن البهيمة إذا اعتلفت ، وانطبخ العلف فى كرشها ، كان أسفله فرثا ، وأوسطه لبنا ، وأعلاه دما). ثم وصفه بقوله : سائِغاً لِلشَّارِبِينَ سهل المرور فى حلقهم ، حتى قيل : لم يغصّ أحد قط من اللبن. وروى ذلك عن النبي صلى اللّه عليه وسلم «1».
وَنسقيكم ، أيضا ، مِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ أي : من عصيرهما. ثم بيّن كيفية الإسقاء فقال :
تَتَّخِذُونَ مِنْهُ أي : مما ذكر سَكَراً يعنى : الخمر ، سميت بالمصدر ، ونزل قبل تحريم الخمر ، فهى منسوخة بالتحريم. وقيل : هى على وجه المنة بالمنفعة التي فى الخمر ، ولا تعرّض فيها لتحليل الخمر ولا تحريم ، وهذا هو الصحيح. وفى دعوى النسخ نظر لأن النسخ إنما يكون فى الأحكام المشروعة المقررة ، وهنا ليس كذلك ، إنما فيه امتنان واعتبار فقط. وَتتخذون من ثمراتها رِزْقاً حَسَناً كالتمر ، والزبيب ، والدبس - وهو ما يسيل من الرطب - ، والخلّ ، والربّ «2» ، وقيل : السّكر : المائع من هاتين الشجرتين كالخل ، والرّب ، والرزق الحسن : العنب والتمر. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً دالة على كمال قدرته تعالى ، لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ يستعملون عقولهم بالتأمل ، والنظر فى الآيات.
___________
(1) روى ذلك بلفظ : «ما شرب أحد لبنا فيشرق» ، عزاه السيوطي ، فى الدر (4/ 28) ، لابن مردويه عن يحيى بن أبى كبشة عن أبيه عن جده مرفوعا.
(2) الرّبّ : ما يطبخ من التمر ... انظر : النهاية (ربب 2/ 181).(3/142)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 143
الإشارة : كما استخرج الحق ، جل جلاله ، من بين فرث ودم لبنا خالصا سائغا للشاربين ، استخرج مذهب أهل السنة ، القائلين بالكسب ، من بين مذهب الجبرية ومذهب المعتزلة ، بين قوم أفرطوا ، وقوم فرطوا. واستخرج أيضا مذهب الصوفية - أعنى : المحققين منهم - من بين الواقفين مع ظاهر الشريعة والمتمسكين بمجرد الحقيقة ، بين قوم تفسقوا وقوم تزندقوا ، بين قوم وقفوا مع عالم الحكمة ، وقوم وقفوا مع شهود القدرة من غير حكمة ، وهو ، إن لم يكن عن غلبة سكر ، كفر. واستخرج ، أيضا ، مذهب أهل التربية من بين سلوك محض وجذب محض ، فأهل السلوك المحض محجوبون عن اللّه ، وأهل الجذب المحض غائبون عن طريق اللّه ، وأهل التربية برزخ بين بحرين ، الجذب فى بواطنهم ، والسلوك على ظواهرهم. ولا يعرف هذا إلا من شرب مشربهم ، قد أخذوا من ثمرات نخيل الشرائع وأعناب الحقائق ، سكرا فى قلوبهم ، بشهود محبوبهم ، ورزقا حسنا معرفة فى أسرارهم ، وعبودية فى ظواهرهم ، فصاروا جامعين بين جذب الحقائق وسلوك الشرائع ، كل واحد فى محله. وباللّه التوفيق.
ثم ذكر دليلا آخر ، فقال :
[سورة النحل (16) : الآيات 68 الى 69]
وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69)
قلت : (أَنِ اتَّخِذِي) : مفسرة للوحى الذي أوحى إلى النحل ، أو مصدرية ، أي : بأن اتخذي. و(مِنَ) : للتبعيض فى الثلاثة مواضع ، (ثُمَّ كُلِي) : عطف على (اتَّخِذِي). و(مِنْ) : للتبعيض لأنها لا تأكل من جميع الشجر ، وقيل :
من كل الثمرات التي تشتهيها ، فتكون للبيان. و(ذُلُلًا) : حال من السبل ، أو من الضمير فى (فَاسْلُكِي).
يقول الحق جل جلاله : وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أي : ألهمها ، وقذف فى قلوبها ذلك. والوحى على ثلاثة أقسام : وحي إلهام ، ووحي منام ، ووحي أحكام. وقال الراغب : أصل الوحى : الإشارة السريعة ، إما بالكلام رمزا ، وإما بصوت مجرد عن التركيب ، أو بإشارة ببعض الجوارح ، والكناية. ويقال للكلمة الإلهية التي تلقى إلى الأنبياء : وحي ، وذلك أضرب إما برسول مشاهد ، وإما بسماع كلام من غير معاينة ، كسماع موسى كلام اللّه ، وإما بإلقاء فى الروع ، وإما بإلهام ، نحو : وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى «1» ، وإما تسخير ، كقوله : وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ ، أو بمنام ، كقوله صلى اللّه عليه وسلم : «انقطع الوحى ، وبقي المبشرات رؤيا المؤمن» «2».
___________
(1) من الآية 7 من سورة القصص. [.....]
(2) أخرجه البخاري فى (التعبير ، باب المبشرات) ، بلفظ : «لم يبق من النبوة إلا المبشرات ، قالوا : وما المبشرات؟ قال الرؤيا الصالحة» من حديث أبى هريرة رضي اللّه عنه.(3/143)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 144
ثم بيّن ما أوحى إليها فقال : أَنِ اتَّخِذِي ، أو بأن اتخذي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً تأوين إليها ، كالكهوف ونحوها ، وَمِنَ الشَّجَرِ بيوتا ، كالأجباح «1» ونحوها ، وَمِمَّا يَعْرِشُونَ أي : يهيئون ، أو يبنون لك الناس من الأماكن ، وإلا لم تأو إليها. وذكرها بحرف التبعيض لأنها لا تبنى فى كل جبل ، وكل شجر ، وكل ما يعرش من كرم أو سقف ، ولا فى كل مكان منها. وإنما سمى ما تبنيه ، لتتعسل فيه ، بيتا تشبيها ببناء الإنسان لما فيه من حسن الصنعة وصحة القسمة ، التي لا يقوى عليها حذّاق المهندسين إلا بآلات وأنظار دقيقة. ولعل ذكره : للتنبيه على ذلك. قاله البيضاوي. قلت : وليس للنحل فعل فى الحقيقة ، وإنما هو صنع العليم الحكيم فى مظاهر النحل.
ثم قال لها : ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ التي تشتهيها ، حلوها ومرها. قيل : إنها ترعى من جميع النوار إلا الدفلة «2». فَاسْلُكِي أي : ادخلى سُبُلَ رَبِّكِ طرقه فى طلب المرعى ، أو : فاسلكى راجعة إلى بيوتك ، سبل ربك ، لا تتوعر عليك ولا تلتبس. وأضافها إليه لأنها خلقه وملكه. ذُلُلًا : مطيعة منقادة لما يراد منك ، أو اسلكى طرقه مذللة مسخرة لك ، فلا تعسر عليك وإن توعرت ، ولا تضل عن العود منها وإن بعدت. قال مجاهد : لم يتوعّر على النحل قط طريق.
يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ وهو العسل ، عدل عن خطاب النحل إلى خطاب الناس : لأنه محل الإنعام عليهم ، والمقصود من خلق النحل وإلهامه لأجلهم. وسماه شرابا لأنه مما يشرب. وظاهر الآية أن العسل يخرج من بطون النحل ، وهو ظاهر كلام سيدنا على بن أبى طالب رضي اللّه عنه فى تحقيره للدنيا ، قال : (أشرف لباس ابن آدم فيها نفثة دود ، وأشرف شراب فيهارجيع نحلة - أو قىء نحلة - ، وأشرف لذة فيها مبال فى مبال). وجمهور الناس على أن العسل يخرج من أفواه النحل. قاله ابن عطية. قلت : والذي ألفيناه ، ممن يتعاطاهم ، أنه يخرج من دبرهم.
وقوله : مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ أي : أبيض ، وأحمر ، وأسود ، وأصفر ، بحسب اختلاف سن النحل ، ومراعيها. وقد يختلف طعمه ورائحته باختلاف مرعاه. ومنه قول عائشة للنبى - عليه الصلاة والسلام : (جرست نحله العرفط) «3» وهو نبت منتن الرائحة ، شبهت رائحته برائحة المغافير «4».
ثم قال تعالى : فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ إما بنفسه ، كما فى الأمراض البلغمية ، أو مع غيره ، كما فى سائر الأمراض ، إذ قلما ما يكون معجون إلا والعسل جزء منه. قاله البيضاوي. قال السيوطي : قيل : لبعضها ، كما دل
___________
(1) الجبح : هى مواضع النحل فى الجبل ، وفيها تعسل ، وقيل : الأجباح : حجارة الجبل .. انظر اللسان - جبح.
(2) الدفلة : نبت مرّ ، أخضر ، حسن المنظر انظر .. اللسان (دخل ، 2/ 1397).
(3) جاء ذلك فى حديث شرب النبي صلى اللّه عليه وسلم العسل. وأخرجه البخاري فى (الطلاق ، باب لم تحرم ما أحل اللّه لك). والعرفط - بالضم - :
شجر الطّلح ، وله صمغ كريه الرائحة ، فإذا أكلته النحلة حصل فى عسلها من ريحه. انظر النهاية (عرفط).
(4) المغافير : جمع مغفور ومغفار ، وهو صمغ حلو ، له رائحة كريهة ، يسيل من شجر العرفط ، يؤكل ، أو يوضع فى ثوب ، ثم ينضح بالماء ، فيشرب. انظر اللسان (غفرة 5/ 3275).(3/144)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 145
عليه تنكير شفاء ، أو لكلها بضميمة إلى غيره - أقول : وبدونها ، بنية - وقد أمر به صلى اللّه عليه وسلم من استطلق بطنه ، رواه الشيخان. ه. قال ابن جزى : لأن أكثر الأدوية مستعملة من العسل كالمعاجن ، والأشربة النافعة من الأمراض.
وكان ابن عمر يتداوى به من كل شىء ، فكأنه أخذه من العموم. وعلى ذلك يدل الحديث عن النبي صلى اللّه عليه وسلم : «أن رجلا جاء إليه فقال : أخى يشتكى بطنه ، فقال : اسقه عسلا ، فذهب ثم رجع ، فقال : قد سقيته فما نفع ، قال : فاذهب فاسقه عسلا ، فقد صدق اللّه وكذب بطن أخيك ، فسقاه ، فشفاه اللّه عز وجل» «1».
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ فإن من تدبر اختصاص النحل بتلك العلوم الدقيقة والأفعال العجيبة حق التدبر ، علم ، قطعا ، أنه لا بد له من قادر مدبر حكيم ، يلهمها ذلك ويحملها عليه ، وهو الحق تعالى.
الإشارة : إنما كان العسل فيه شفاء للناس لأن النحل ترعى من جميع العشب ، فتأخذ خواص منافعها. وكذلك العارف الكامل يأخذ النصيب من كل شىء ، ويعرف اللّه فى كل شىء ، فإذا كان بهذه المنزلة ، كان فيه شفاء للقلوب ، كل من صحبه ، بصدق ومحبة ، شفاه اللّه ، وكل من رآه ، بتعظيم وصدق ، أحياه اللّه. وقد قالوا فى صفة العارف : هو الذي يأخذ النصيب من كل شىء ، ولا يأخذ النصيب منه شيئا ، يصفو به كدر كل شىء ، ولا يكدر صفوه شىء ، قد شغله واحد عن كل شىء ، ولم يشغله عن الواحد شىء .. إلى غير ذلك من نعوته. وقال الورتجبي :
قال أبو بكر الوراق : النحلة لمّا تبعت الأمر ، وسلكت سبيلها على ما أمرت به ، جعل لعابها شفاء للناس ، كذلك المؤمن ، إذا اتبع الأمر ، وحفظ السر ، وأقبل على مولاه ، جعل رؤيته وكلامه ومجالسته شفاء للخلق ، ومن نظر إليه اعتبر ، ومن سمع كلامه اتعظ ، ومن جالسه سعد. ه.
ثم ذكر دلالة أخرى على قدرته ، وهى الإحياء والإماتة ، فقال :
[سورة النحل (16) : آية 70]
وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (70)
يقول الحق جل جلاله : وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ : أظهركم إلى عالم الشهادة ، ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ : يردكم إلى عالم الغيب عند انتهاء آجالكم ، وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ أي : أخسه ، يعنى : الهرم والخرف ، الذي يشابه الطفولية فى نقصان القوة والعقل. وقيل : هو خمس وتسعون سنة ، وقيل : خمس وسبعون سنة ، والتحقيق : أن ذلك لا ينضبط بسن. لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً ليصير إلى حالة شبيهة بحالة الطفولية ، فى نقصان العقل والنسيان وسوء الفهم. وليس المراد نفى العلم بالكلية ، بل عبارة عن قلة العلم لغلبة النسيان. وقيل : المعنى : لئلا يعلم زيادة على علمه شيئا. قال عكرمة : (من قرأ القرآن لم يصر بهذه المنزلة).
___________
(1) أخرجه البخاري فى (الطب ، باب الدواء بالعسل) ، ومسلم فى (السلام ، باب التداوى بسقى العسل) عن أبى سعيد الخدري رضي اللّه عنه.(3/145)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 146
قلت : جاء فى بعض الأحاديث ما يقتضى تخصيص القارئ للقرآن بالمتبع له ، وأنه الذي يمتعه الله بعقله حتى يموت ، وهو الذي يشهد له الحس ، أي : الوجود فى الخارج ، بالصدق ، لوجود الخرف فى كثير ممن يحفظه.
قاله فى الحاشية.
إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ أي : عليم بمقادير الأشياء وأوقاتها ، قدير على إيجاد الأشياء وإعدامها ، عند انتهاء آجالها ، فيميت الشاب النشط عند تمام أجله ، ويبقى الهرم الفاني إلى انقضاء أجله. قال البيضاوي : وفيه تنبيه على أن تفاوت أعمار الناس ليس إلا بتقدير قادر حكيم ، ركب أبنيتهم ، وعدل أمزجتهم ، على قدر معلوم ، ولو كان ذلك بمقتضى الطبائع لم يقع التفاوت إلى هذا المبلغ. ه.
الإشارة : الخلق والتوفى هو من جملة الظهور والبطون ، عند أهل التوحيد الخاص ، والرد إلى أرذل العمر لا يلحق العارفين باللّه. وقد قيل ، فى استثناء قوله : إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ «1» من الرد إلى أسفل سافلين : إن الصالح لا يدركه الخرف وإن أدركه الهرم. وذلك دليل على سعادته ، وعدم تشويه صورته فى الآخرة ، والله تعالى قادر على وقاية أوليائه مما يشين به أعداءه عاجلا. وفى الحديث : «إذا قرأ الرجل القرآن ، واحتشى من أحاديث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم - أي : امتلأ - وكانت هناك غزيرة - يعنى : فقه نفس ومعرفة - ، كان خليفة من خلفاء الأنبياء» «2».
ثم سفه رأى من أشرك بعد هذه الدلائل ، فقال :
[سورة النحل (16) : آية 71]
وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلى ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (71)
يقول الحق جل جلاله : وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ ، فمنكم غنى ومنكم فقير ، ومنكم ملوك مستغنون عن غيرهم ، ومنكم مماليك محتاجون إلى غيرهم ، فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا وهم الموالي ، أي :
السادات ، بِرَادِّي رِزْقِهِمْ : بمعطى رزقهم عَلى ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ : على مماليكهم ، أي : ليس الموالي بجاعلى ما رزقناهم من الأموال وغيرها ، شركة بينهم وبين مماليكهم ، فَهُمْ أي : المماليك فِيهِ سَواءٌ مع
___________
(1) من الآية 6 من سورة البلد.
(2) عزاه السيوطي فى الجامع الصغير (794) للرافعى فى تاريخه ، عن أبى أمامة ، وضعّفه. وانظر : فيض القدير ، للمناوى (1/ 416).(3/146)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 147
ساداتهم. وهو احتجاج على وحدانيته تعالى ، وإنكار ورد على المشركين ، فكأنه يقول : أنتم لا تسوّون بين أنفسكم وبين مماليككم فى الرزق ، ولا تجعلونهم شركاء لكم ، بل تأنفون من ذلك ، فكيف تجعلون عبيدى شركاء لى فى ألوهيتى؟! وهذا كقوله : ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ «1». ويحتمل أن يكون ذما وعتابا لمن لا يحسن إلى مملوكه ، حتى يرد ما رزقه اللّه عليه ، كما فى الحديث : «أطعموهم مما تأكلون ، وألبسوهم مما تلبسون» «2».
أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ ، حيث يجعلون له شركاء ، فإنه يقتضى أن يضاف إليهم بعض ما أنعم اللّه عليهم ، ويجحدوا أنه من عند اللّه ، أو حيث أنكروا هذه الحجج ، بعد ما أنعم اللّه عليهم بإيضاحها ، أو حيث بخسوا مماليكهم مما يجب لهم من الإنفاق. على التفسير الثاني.
الإشارة : واللّه فضّل بعضكم على بعض فى أرزاق العلوم ، والأسرار والمواهب ، فمنكم غنى بالله ، ومنكم فقير منه فى قلبه ، ومنكم عالم به ومنكم جاهل ، ومنكم قوى اليقين ومنكم ضعيف ، فما الذين فضّلوا بالعلوم اللدنية والأسرار الربانية برادّى تلك العلوم على الجهلة وضعفاء اليقين ، بأن يطلعوهم على أسرار الربوبية قبل استحقاقها - فإن ذلك بخس بحقها - حتى يرونهم أهلا لها بأن يبذلوا لهم أنفسهم وأموالهم ، ويملكون لهم رقابهم يتصرفون فيها تصرف المالك فى مملوكه ، فحينئذ يشاركونهم فيما منحهم اللّه من أرزاق العلوم وأسرار الفهوم ، وقد قيل : لا تؤتوا الحكمة غير أهلها فتظلموها ، ولا تمنعوها أهلها فتظلموهم.
وفى هذا المعنى يقول الشاعر :
سأكتم علمى عن ذوى الجهل طاقتى ولا أنثر الدرّ النّفيس على البهم
فإن قدّر اللّه الكريم بلطفه ولا قيت أهلا للعلوم وللحكم
بذلت علومى واستفدت علومهم وإلّا فمخزون لدىّ ومكتتم
فمن منح الجهّال علما أضاعه ومن منع المستوجبين فقد ظلم
ثم ذكّرهم بالنعم التي لا قدرة لأحد عليها ، فقال :
[سورة النحل (16) : آية 72]
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (72)
___________
(1) من الآية 28 من سورة الروم.
(2) أخرجه مسلم فى (الزهد ، باب حديث جابر الطويل) ، من حديث أبى اليسر.(3/147)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 148
قلت : الحفدة : جمع حافد ، وهو الخديم المسرع فى الخدمة ، والحفد فى اللغة : الخدمة ، ومنه فى القنوت : «وإليك نسعى ونحفد» ، أي : نسرع فى خدمتك. وسموا أولاد الأولاد حفدة لأنهم يسرعون فى خدمة جدهم ، حين كبر ولزم الدار ، وقيل : هم البنات لأنهن يخدمن الدار.
يقول الحق جل جلاله : وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً حيث خلق حواء من ضلع آدم ، وسائر النساء من نطفة الرجال ، والنساء خلقهن لكم ، لتتأنسوا بهن ، ولتتمتعوا بهن فى الحلال ، وليكون أولادكم مثلكم.
وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ من صلبكم وَحَفَدَةً أولاد أولادكم أو بناتكم فإن البنات يخدمن فى البيوت أشد الخدمة ، أو الأصهار من قبل النساء ، أو الخدم ، وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ من اللذائذ والمشتهيات كأنواع الثمار والحبوب والفواكه ، والحيوان أكلا وركوبا وزينة ، أو الحلالات ، و«مِنْ» : للتبعيض فإن طيبات الدنيا أنموذج من نعيم الآخرة. أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وهو أن الأصنام تنفعهم لأن الأصنام باطلة لا حقيقة لوجودها ، وإضافة النفع لها : كفر بنعمة الله ، ولذلك قال : وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ حيث أضافوها إلى أصنامهم ، أو حيث حرّموا منها ما أحله الله لهم كالبحائر والسوائب. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : والله جعل لكم من أنفسكم المطهرة أصنافا من العلوم اللدنية. قال أبو سليمان الداراني : (إذا اعتقدت النفوس على ترك الآثام ، جالت فى الملكوت ، ثم عادت إلى ذلك العبد بطرائف الحكمة ، من غير أن يؤدى إليها عالم علما). وجعل لكم من تلك العلوم بنين روحانيين ، وهو التلامذة ، يحملون تلك العلوم ، وحفدة : من ينقل ذلك عنهم إلى يوم القيامة ، ورزقكم من الطيبات ، وهى حلاوة المعرفة عند العارفين ، وحلاوة الطاعات عند المجتهدين.
أفبالباطل - وهو ما سوى اللّه - يؤمنون ، فيقفون مع الوسائط والأسباب ، ويغيبون عن مسبب الأسباب ، وبنعمة اللّه - التي هى شهود الحق بلا وسائط - هم يكفرون.
ثم عاب على من وقف مع غير الله ، فقال :
[سورة النحل (16) : الآيات 73 الى 74]
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً وَلا يَسْتَطِيعُونَ (73) فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (74)
قلت : رِزْقاً : مفعول بيملك ، فيحتمل أن يكون مصدرا ، أو اسما لما يرزق ، فإن كان مصدرا ، فشيئا مفعول به لأن المصدر ينصب المفعول ، وإن كان اسما ، فشيئا بدل منه. وجمع الضمير فى يَسْتَطِيعُونَ ، وأفرده فى يَمْلِكُ لأن (ما) مفردة لفظا ، واقعة على الآلهة ، فراعى أولا اللفظ ، وفى الثاني المعنى.(3/148)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 149
يقول الحق جل جلاله : وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي : غيره ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ بالمطر وَالْأَرْضِ بالنبات ، فلا يرزقونهم من ذلك شَيْئاً وَلا يَسْتَطِيعُونَ : لا يقدرون على شىء من ذلك لعجزهم ، وهم الأصنام ، فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ لا تجعلوا له أشباها تشركونهم به ، أو تقيسونهم عليه ، فإنّ ضرب المثل تشبيه حال بحال ، إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ألّا مثل له ، أو فساد ما يقولون عليه من القياس ، وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ذلك ، ولو علمتموه لما تجرأتم عليه ، فهو تعليل للنهى ، أي : إنه يعلم كنه الأشياء ، وأنتم لا تعلمون ، فدعوا رأيكم ، وقفوا عند ما ما حد لكم.
الإشارة : كل من ركن إلى شىء دون الحق تعالى ، أو اعتمد عليه فى إيصال المنافع أو دفع المضار ، تصدق عليه الآية ، وتجر ذيلها عليه ، فلا تجعلوا لله أمثالا تعتمدون عليهم وتركنون إليهم ، فالله يعلم من هو أولى بالاعتماد عليه والركون إليه ، وأنتم لا تعلمون ذلك ، أو تعلمون ولا تعملون ، ولقد قال من علم ذلك وتحقق به :
حرام على من وحّد اللّه ربّه وأفرده أن يجتدى أحدا رفدا
فيا صاحبى ، قف بي على الحقّ وقفة أموت بها وجدا ، وأحيا بها وجدا
وقل لملوك الأرض تجهد فذا الملك ملك لا يباع ولا يهدى
قال سهل رضي اللّه عنه : «ما من قلب ولا نفس إلا واللّه مطلع عليه فى ساعات الليل والنهار ، فأيما نفس أو قلب رأى فيه حاجة إلى غيره ، سلط عليه إبليس». وقال الأستاذ أبو على الدقاق رضي اللّه عنه : من علامة المعرفة : ألا تسأل حوائجك ، قلّت أو كثرت ، إلا من اللّه سبحانه ، مثل موسى عليه السّلام اشتاق إلى الرؤية ، فقال : رب أرنى أنظر إليك ، واحتاج مرة إلى رغيف ، فقال : رب إنى لما أنزلت إلى من خير فقير. ه. وقال فى التنوير : اعلم ، رحمك الله ، أن رفع الهمة عن المخلوقين ، وعدم التعرض لهم ، أزين لهم من الحلي للعروس ، وهم أحوج إليه من الماء لحياة النفوس ... إلخ كلامه رضي اللّه عنه.
ثم ضرب مثلا لنفسه ، ولمن يعبد معه ، فقال :
[سورة النحل (16) : الآيات 75 الى 76]
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (75) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (76)(3/149)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 150
قلت : «عَبْداً» : بدل من «مَثَلًا» ، و«مَنْ» : نكرة موصوفة ، أي : عبدا مملوكا ، وحرا رزقناه منا رزقا حسنا ، وقيل :
موصولة. و«سِرًّا وَجَهْراً» : على إسقاط الخافض ، وجمع الضمير فى «يَسْتَوُونَ» لأنه للجنسين ، و«رَجُلَيْنِ» : بدل من :
«مَثَلًا».
يقول الحق جل جلاله : ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لضعف العبودية ، وعظمة الربوبية ، ثم بيّنه فقال : عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ ، وهذا مثال للعب ... بد ، وَمَنْ رَزَقْناهُ أي : وحرا رزقناه مِنَّا رِزْقاً حَسَناً ، فَهُوَ يتصرف فيه كيف يشاء ، يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْراً ، وهذا : مثال للرب تبارك وتعالى ، مثّل ما يشرك به من الأصنام بالمملوك العاجز عن التصرف رأسا ، ومثّل لنفسه بالحر المالك الذي له مال كثير ، فهو يتصرف فيه ، وينفق منه كيف شاء.
وقيل : هو تمثيل للكافر المخذول والمؤمن الموفق. وتقييد العبد بالمملوك للتمييز من الحر فإنه أيضا عبد للّه. وبسلب القدرة عن المكاتب والمأذون فى التصرف ، فإن الأصنام إنما تشبه العبد القنّ «1» الذي لا شوب حرية فيه ، بل هى أعجز منه بكثير ، فكيف تضاهى الواحد القهار ، الذي لا يعجزه مقدور؟ ولذلك قال : هَلْ يَسْتَوُونَ؟ أي : العبيد العجزة ، والمتصرف بالإطلاق. الْحَمْدُ لِلَّهِ على بيان الحق ووضوحه لأنها نعمة جليلة يجب الشكر عليها ، أو الحمد كله لله لا يستحقه غيره ، فضلا عن العبادة لأنه مولى النعم كلها. بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ أي : لا علم لهم :
فيضيفون النعم إلى غيره ويعبدونه لأجلها ، أو لا يعلمون ما يصيرون إليه من العذاب فيشركون به.
ثم ضرب الله مثلا آخر فقال : وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا ، ثم بيّنه بقوله : رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ ولد أخرس ، لا يفهم ولا يفهم ، لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ من الصنائع والتدابير لنقصان عقله ، وَهُوَ كَلٌّ أي : ثقيل عيال عَلى مَوْلاهُ الذي يلى أمره ، أَيْنَما يُوَجِّهْهُ : يرسله فى حاجة أو أمر لا يَأْتِ بِخَيْرٍ بنجح وكفاية مهم. وهذا مثال للأصنام. هَلْ يَسْتَوِي هُوَ أي : الأبكم المذكور ، وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ ومن هو منطيق متكلم بحوائجه ، ذو كفاية ورشد ، ينفع الناس ويحثهم على العدل الشامل لمجامع الفضائل ، وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ أي : وهو فى نفسه على طريق مستقيم ، لا يتوجه إلى مطلب إلا ويحصله بأقرب سعى؟
وهذا مثال للحق تعالى ، فضرب هذا المثل لإبطال المشاركة بينه وبين الأصنام ، وقيل : للكافر والمؤمن.
والأصوب : كون المثلين معا فى الله مع الأصنام لتكون الآية من معنى ما قبلها وما بعدها فى تبيين أمر الله ، والرد على أمر الأصنام. واللّه تعالى أعلم.
___________
(1) العبد القنّ : الذي ملك هو وأبواه ، ويقابله : عبد المملكة ، الذي ملك هو دون أبويه. انظر : النهاية (قنن).(3/150)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 151
الإشارة : الحق تعالى موصوف بكمالات الربوبية ، منعوت بعظمة الألوهية ، وعبيده موسومون بنقائص العبودية ، وقهرية الملكية. فمن أراد أن يمده الله فى باطنه بكمالات الربوبية من قوة وعلم ، وغنى وعز ، ونصر وملك ، فليتحقق فى ظاهره بنقائص العبودية من ذل ، وفقر ، وضعف ، وعجز ، وجهل. فبقدر ما تجعل فى ظاهرك من نقائص العبودية يمدك فى باطنك بكمالات الربوبية «تحقق بوصفك يمدك بوصفه» ، والتحقق بالوصف إنما يكون ظاهرا بين خلقه ، لا منفردا وحده إذ ليس فيه كبير مجاهدة إذ كل الناس يقدرون عليه ، وإنما التحقق بالوصف - الذي هو ضامن للمدد الإلهى - هو الذي يظهر بين الأقران. وباللّه التوفيق.
ثم بيّن كمال علمه وقدرته ، بعد أن ذكر كمالات ذاته ، فقال :
[سورة النحل (16) : الآيات 77 الى 78]
وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (77) وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78)
قلت : أمهات : جمع أم ، زيدت فيه الهاء فرقا بين من يعقل ومن لا يعقل ، قاله ابن جزى. والذي لغيره حتى ابن عطية : إنما زيدت للمبالغة والتأكيد. وقرئ بضم الهمزة ، وبكسرها اتباعا للكسرة قبلها.
يقول الحق جل جلاله : وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي : يعلم ما غاب فيهما ، كان محسوسا أو غير محسوس قد اختص به علمه ، لا يعلمه غيره. ثم برهن على كمال قدرته فقال : وَما أَمْرُ السَّاعَةِ أي : قيام القيامة ، فى سرعته وسهولته ، إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ كرد البصر من أعلى الحدقة إلى أسفلها ، أَوْ هُوَ أَقْرَبُ : أو أمرها أقرب منه بأن يكون فى زمان نصف تلك الحركة ، بل أقل لأن الحق تعالى يحيى الخلائق دفعة واحدة ، فى أقل من رمشة عين ، و«أَوْ» للتخيير ، أو بمعنى بل. إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فيقدر على أن يحيى الخلائق دفعة ، كما قدر أن يوجدهم بالتدريج.
ثم دلّ على قدرته فقال : وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً جهالا ، وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ أي : الأسماع وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ أي : القلوب ، فتكتسبون ، بما تدركون من المحسوسات ، العلوم البديهية ، ثم تتمكنون من العلوم النظرية بالتفكر والاعتبار ، ثم تدركون معرفة الخالق لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ نعمة الإيجاد ونعمة الإمداد ، أظهركم أولا من العدم ، ثم أمدكم ثانيا بضروب النعم ، طورا بعد طور ، حتى قدمتم عليه.(3/151)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 152
وقدّم فى جميع القرآن نعمة السمع على البصر لأنه أنفع للقلب من البصر ، وأشد تأثيرا فيه ، وأعم نفعا منه فى الدين إذ لو كانت الناس كلهم صما ، ثم بعثت الرسل ، فمن أين يدخل عليهم الإيمان والعلم؟ وكيف يدركون آداب العبودية وأحكام الشرائع؟ إذ الإشارة تتعذر فى كثير من الأحكام. وإنما أفرده ، وجمع الأبصار والأفئدة لأن متعلق السمع جنس واحد ، وهى الأصوات ، بخلاف متعلق البصر ، فإنه يتعلق بالأجرام والألوان ، والأنوار والظلمات ، وسائر المحسوسات ، وكذلك متعلق القلوب معانى ومحسوسات ، فكانت دائرة متعلقهما أوسع مع متعلق السمع.
والله تعالى أعلم.
الإشارة : ما غاب فى سماوات الأرواح من علوم أسرار الربوبية ، وفى أرض النفوس من علوم أحكام العبودية ، هو فى خزائن الله ، يفتح منهما ما شاء على من يشاء إذ أمره تعالى بين الكاف والنون. وما أمر الساعة ، التي يفتح الله فيها الفتح على عبده ، بأن يميته عن نفسه ، ثم يحييه بشهود طلعة ذاته ، إلا كلمح البصر أو هو أقرب. لكن حكمته اقتضت الترتيب والتدريج ، فيخرجه إلى هذا العالم جاهلا ، ثم يفتح سمعه للتعلم والوعظ ، وبصره للنظر والاعتبار ، وقلبه للشهود والاستبصار ، حتى يصير عالما عارفا بربه ، من الشاكرين الذين يعبدون الله ، شكرا وقياما برسم العبودية. وبالله التوفيق.
ثم حضّ على التفكير ، الذي هو سبب المعرفة وشبكة العلوم ، فقال :
[سورة النحل (16) : الآيات 79 الى 83]
أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اللَّهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (79) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها أَثاثاً وَمَتاعاً إِلى حِينٍ (80) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (81) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (82) يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ (83)
قلت : مُسَخَّراتٍ : حال من الطَّيْرِ ، وسَكَناً : مصدر وصف به ، أي : شيئا سكنا ، أو : فعل بمعنى مفعول.
وأَثاثاً : مفعول بمحذوف ، أي : وجعل من أوبارها أثاثا.(3/152)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 153
يقول الحق جل جلاله : أَلَمْ يَرَوْا ، وفى قراءة : ا لم تروا «1» بتوجيه الخطاب لعامة الناس ، إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ : مذللات للطيران بما خلق لها من الأجنحة والأسباب المواتية ، فِي جَوِّ السَّماءِ فى الهواء المتباعد من الأرض. ما يُمْسِكُهُنَّ فيه إِلَّا اللَّهُ فإن ثقل جسدها يقتضى سقوطها ، ولا علاقة فوقها ولا دعامة تحتها تمسكها ، إِنَّ فِي تسخيره ذلِكَ لها لَآياتٍ لعبرا ودلالة على قدرته تعالى إذ لا فاعل سواه فإنّ إمساك الطيران فى الهواء هو على خلاف طباعها ، لو لا أن القدرة تحملها ، ففيه آيات لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ لأنهم هم المنتفعون بها.
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً : موضعا تسكنون فيه وقت إقامتكم ، كالبيوت المتخذة من الحجر والمدر. و«مِنْ» للبيان ، أي : جعل لكم سكنا ، أي : موضعا تسكنونه ، وهو بيوتكم ، وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً ، هى القباب المتخذة من الأدم ، ويجوز أن يتناول المتخذة من الوبر والصوف والشعر ، فإنها ، من حيث إنها نابتة على جلودها ، كأنها من جلودها ، تَسْتَخِفُّونَها أي : تجدونها خفيفة ، يخف عليكم حملها وثقلها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ أي : سفركم ، وفيه لغتان : الفتح والسكون «2» ، وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ : حضوركم ، أو نزولكم ، وَجعل مِنْ أَصْوافِها أي : الغنم ، وَأَوْبارِها أي : الإبل ، وَأَشْعارِها أي : المعز ، أَثاثاً :
متاعا لبيوتكم كالبسط والأكسية ، وَمَتاعاً تمتعون به إِلى حِينٍ إلى مدة من الزمان ، فإنها ، لصلابتها ، تبقى مدة مديدة ، أو : إلى مماتكم ، أو : إلى أن تقضوا منها أوطاركم ، أو : إلى أن تبلى.
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ من الشجر والجبال والأبنية ، وغيرها ، ظِلالًا تتقون بها حر الشمس ، وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً جمع : كن ، ما تكنون ، أي : تستترون به من الحر والبرد ، كالكهوف والغيران والبيوت المجوفة فيها ، وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ جمع : سربال ثيابا من الصوف والكتان والقطن وغيرها ، تَقِيكُمُ الْحَرَّ والبرد ، وخص الحر بالذكر ، اكتفاء بأحد الضدين ، أو لأن وقاية الحر كانت أهم عندهم.
وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ : حربكم ، كالطعن والضرب. وهى : الدروع ، وتسمى : الجواشن ، جمع جوشن ، وهو الدرع ، كَذلِكَ كإتمام هذه النعم بخلق هذه الأشياء المتقدمة ، يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ فى الدنيا بخلق ما تحتاجون إليه ، لَعَلَّكُمْ يا أهل مكة تُسْلِمُونَ أي : تنظرون فى نعمه ، فتؤمنون به ، أو تنقادون لحكمه.
وفى قراءة : بفتح التاء ، أي : تسلمون من العذاب بالإيمان ، أو تنظرون فيها ، فتوحدون ، وتسلمون من الشرك ، أو من الجراح بلبس الدروع.
___________
(1) وهى قراءة ابن عامر وحمزة ويعقوب. وقرأ الباقون : (يَرَوْا) بالغيب لقوله «يَعْبُدُونَ». انظر الإتحاف (2/ 187).
(2) قرأ ابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي بإسكان العين ، والباقون بفتحها.(3/153)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 154
فَإِنْ تَوَلَّوْا : أعرضوا ، ولم يقبلوا منك ، أو لم يسلموا. فَإِنَّما عَلَيْكَ يا محمد الْبَلاغُ الْمُبِينُ أي :
الإبلاغ البين ، فلا يضرك إعراضهم حيث بلّغتهم.
يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ أي : يقرون بأنها من عنده ، ثُمَّ يُنْكِرُونَها بإشراكهم وعبادتهم غير المنعم بها ، وبقولهم : إنها بشفاعة آلهتنا ، أو بسبب كذا ، أو بإعراضهم عن حقوقها. وقيل : نعمة اللّه : نبوة نبينا محمد صلى اللّه عليه وسلم ، عرفوها بالمعجزات ، ثم أنكروها عنادا. وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ الجاحدون عنادا. وذكر الأكثر إمّا لأن بعضهم لم يعرف الحق لنقصان عقله ، أو لتفريطه فى النظر ، أو لم تقم عليه الحجة لأنه لم يبلغ حد التكليف ، أو كان فيهم من داخله الإسلام ، ومن أسلم بعد ذلك. وإما لأنه أقام الأكثر مقام الكل ، كقوله : بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ «1». قال بعضه البيضاوي.
الإشارة : قال الورتجبي : بيّن الحقّ تعالى قدرته فى إمساكه أطيار الأرواح فى هواء الملكوت وسماء الجبروت ، حتى ترفرفت بأجنحة العرفان والإيقان ، على سرادق مجده وبساط كبريائه ، مسخرات بأنوار جذبه ، ما يمسكهن إلا الله ، بكشف جماله لها ، أمسكها به عن قهر سلطانه وسبحات جلاله ، حتى لا تفنى - أي : تتلاشى - فى بهائه. ه.
والله جعل لكم من بيوتكم سكنا - وهى العبودية - ، تسكنون فيها وتأوون إليها ، بعد طيران الفكرة فى جو أنوار الملكوت ، وميادين أسرار الجبروت. أو الحضرة تسكن فيها قلوبكم ، فتصير معشّش أرواحكم ، إليها تأوون ، وفيها تسكنون. وجعل لكم منازل تنزلون فيها عند السير إلى حضرة ربكم ، وهى المقامات التي يقطعها المريد ، ينزل فيها ويرتحل عنها. وجعل لكم من أردية الأكوان وألوانها واختلاف أصنافها ، تمتعا بشهود أنوار مكونها فيها ، إلى انطوائها وظهور أضدادها بقيام الساعة ، فتظهر القدرة وتبطن الحكمة ، ويظهر المعنى ويبطن الحس.
واللّه جعل لكم مما خلق من الأكوان ظلالا ، والظلال لا وجود لها من ذاتها ، فكذلك الأكوان لا وجود لها مع الحق ، وإنما هى ظلال. والظلال ليست بموجودة ولا مفقودة. وجعل لكم من جبال العقل أكنانا ، تستترون بنوره من جذب الاصطلام بمواجهة أنوار الحضرة. وجعل لكم سرابيل الشرائع تقيكم حرّ الحقيقة ، وسرابيل الحقائق تقيكم بأس سهام الأقدار ، فإنّ من عرف اللّه حقيقة هان عليه ما يواجه به من المكاره. وفى هذا المعنى أنشد بعضهم :
نلبس عمام من الماء ونشدّها شدّ مائل
ونلبس من الثّلج برنس إذا حمت القوائل
ونشعل من الرّيح قنديل ومن الضّباب فتائل «2»
___________
(1) من الآية 75 من سورة النحل. [.....]
(2) هذا شعر عامى ، أو زجل ، وهو جيد المعنى ، ويعبر عن همة عالية عند قائله. وقوله : إذا حمت القوائل ، يعنى : إذا اشتد الحر فى أوقات الظهيرة. وبقية الزجل واضح المعنى.(3/154)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 155
والمراد بعمامة الماء : كناية عن الحقيقة لأنها كالماء لحياة النفوس. وميل شدها : كناية عن قوتها ، وتكبيرها على الشريعة. والمراد ببرنس الثلج : برد التشريع ، فإذا قويت الحقيقة ، وخاف من الاحتراق ، نزل إلى برد التشريع. والمراد بالريح : هبوب نسيم الواردات الإلهية ، يشعل منها قنديل الفكرة - التي هى سراج القلب - ، فإذا ذهبت فلا إضاءة له ، وهذه حالة السائر ، وأما الواصل فقد سكن النور فى قلبه ، فلا يحتاج إلى سراج غيره تعالى. وفى ذلك يقول الشاعر :
كلّ بيت أنت ساكنه غير محتاج إلى سرج
وجهك المحمود حجّتنا يوم يأتى الناس بالحجج
والمراد بالضباب : وجود السّوى ، فإنه يحترق عند اشتعال الفكرة. واللّه تعالى أعلم. وباقى الآية ظاهر إشارته.
ثم ذكر وعيد من أعرض عن هذه النعم ، التي هى دلائل قدرته ، فقال :
[سورة النحل (16) : الآيات 84 الى 89]
وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (84) وَإِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذابَ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (85) وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ (86) وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (87) الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ (88)
وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (89)
قلت : «تِبْياناً» : حال من الكتاب ، وهو مصدر ، قال فى القاموس : والتبيان : مصدر شاذ. وفى ابن عطية :
والتبيان : اسم ، لا مصدر. والمصادر فى مثله مفتوحه ، كالترداد والتكرار. ه. وقال فى الصحاح : لم يجئ على الكسر إلا هذا ، والتّلقاء. ه.
يقول الحق جل جلاله : وَاذكر يَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ من الأمم شَهِيداً أي : رسولا يشهد لها أو عليها ، بالإيمان أو بالكفر ، وهو يوم القيامة ، ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا فى الاعتذار إذ لا عذر لهم. «1»
___________
(1) فى باب أحوالهم عند الخروج من الدنيا ، حكى القشيري فى الرسالة ، عن أبى محمد الهروي «أنه قال : ومكثت عند الشبلي ، الليلة التي مات فيها ، فكان يقول - طول ليله - : هذين البيتين :
كل بيت أنت ساكنة غير محتاج إلى السرج
وجهك المأمول حجتنا يوم يأتى الناس بالحجج(3/155)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 156
أو : فى الرجوع إلى الدنيا. وعبّر بثم لزيادة ما يحيق بهم من شدة المنع من الاعتذار ، مع ما فيه من الإقناط الكلي. وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ : لا يطلب منهم العتبى ، أي : الرجوع إلى ما يرضى الله. والمعنى : أنهم لا يؤذن لهم فى الاعتذار عما فرطوا فيه مما يرضى اللّه ، ولا يطلب منهم الرجوع إلى تحصيله. وَإِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا :
كفروا الْعَذابَ : جهنم فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ العذاب وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ يمهلون عنه إذا رأوه.
وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ : أوثانهم التي دعوها شركاء للّه ، أو الشياطين الذين شاركوهم فى الكفر بالحمل عليه ، قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ أي : نعبدهم ونطيعهم من دونك. وهو اعتراف بأنهم كانوا مخطئين فى ذلك. فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ قالوا لهم : إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ أي :
أجابوا بالتكذيب فى أنهم شركاء اللّه ، أو أنهم عبدوهم حقيقة ، وإنما عبدوا أهواءهم كقوله : كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ «1» ، وقوله : ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ «2» ، أو لأنهم ، لما كانوا غير راضين بعبادتهم ، فكأن عبادتهم لم تكن لهم. وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ أي : الاستسلام ، أي : استسلموا لحكمه (يَوْمَئِذٍ) ، بعد أن تكبروا عنه فى الدنيا ، ولا ينفع يومئذ ، وَضَلَّ عَنْهُمْ أي : غاب وضاع وبطل ما كانُوا يَفْتَرُونَ من أن آلهتهم تنصرهم وتشفع لهم.
الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا الناس عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بالمنع من الإسلام ، والحمل على الكفر ، زِدْناهُمْ عَذاباً بصدهم ، فَوْقَ الْعَذابِ المستحق بكفرهم. قال ابن مسعود : «عقارب ، أنيابها كالنخل الطوال ، تلسعهم». وعن عبيد بن عمير : عقارب كالبغال الدّلم - أي : السود جدا ، والأدلم : الشديد السواد. وذلك العذاب بِما كانُوا يُفْسِدُونَ أي : بكونهم مفسدين بصدهم عما فيه صلاح العالم.
وَاذكر أيضا : يَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ يعنى : نبيهم فإنّ نبى كل أمة بعث منها. وَجِئْنا بِكَ يا محمد شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ على أمتك ، أو على هؤلاء الشهداء ، وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ : القرآن تِبْياناً بيانا بليغا لِكُلِّ شَيْءٍ من أمور الدين على التفصيل ، أو الإجمال بالإحالة على السنة أو القياس. وَهُدىً من الضلالة ، وَرَحْمَةً بنور الهداية لجميع الخلق. وإنما حرم المحروم لتفريطه ، وَبُشْرى بالجنة ، وغيرها ، لِلْمُسْلِمِينَ الموحدين خاصة. وباللّه التوفيق.
الإشارة : قد بعث اللّه فى كل دهر وعصر شهيدا يشهد على أهله ، ويكون حجة عليهم يوم القيامة ، وهم صنفان : صنف يشهد على من فرط فى أحكام الشريعة ، وهم : العلماء الأتقياء ، وصنف يشهد على من فرط فى
___________
(1) من الآية 82 من سورة مريم.
(2) من الآية 3 من سورة القصص.(3/156)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 157
أسرار الحقيقة ، وهم : الأولياء الكبراء ، أعنى : العارفين باللّه ، فمن فرط فى شىء منهما قامت عليه الحجة فإذا اعتذر لا ينفعه ، وإذا طلب الرجوع لا يجده ، وإذا أحاط به عذاب الحجاب لا ينفك عنه. وكل من أحب شيئا من دون اللّه ، تبرأ منه يوم القيامة ، وكل من أنكر الخصوصية على أولياء زمانه ، وصد الناس عنه تضاعف عذابه ، وكثف حجابه يوم القيامة. والله تعالى أعلم.
ولما ذكر أن القرآن فيه تبيان كل شىء ، ذكر آية تضمنت أصول الأحكام ، فيها تبيان كل شىء إجمالا ، فقال :
[سورة النحل (16) : آية 90]
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90)
يقول الحق جل جلاله : إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ أي : التوحيد ، أو الإنصاف ، أو فعل الفرائض ، وَالْإِحْسانِ ، وهو : فعل المندوبات. وذلك فى حقوق الله تعالى ، وفى حق عباده ، أو العدل فى الأحكام ، كل واحد فيما ولى فيه «كلكم راع». والإحسان إلى عباد الله برهم وفاجرهم. قال ابن عطية : العدل : هو فعل كل مفروض من عقائد وشرائع ، وسير مع الناس فى أداء الأمانات ، وترك الظلم ، والإنصاف ، وإعطاء الحق. والإحسان هو : فعل كل مندوب إليه.
وقال البيضاوي : إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ : بالتوسط فى الأمور اعتقادا ، كالتوحيد المتوسط بين التعطيل والتشريك ، والقول بالكسب ، المتوسط بين محض الجبر والقدر ، وعملا ، كالتعبد بأداء الواجبات ، المتوسط بين البطالة والترهب ، وخلقا ، كالجود المتوسط بين البخل والتبذير ، والإحسان : إحسان الطاعات ، وهو إما بحسب الكمية ، كالتطوع بالنوافل ، أو بحسب الكيفية ، كما قال - عليه الصلاة والسلام : «الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك». وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى : وإعطاء الأقارب ما يحتاجون إليه ، وهو تخصيص بعد تعميم للمبالغة.
وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ : عن الإفراط فى متابعة القوة الشهوية ، كالزنى فإنه أقبح أحوال الإنسان وأشنعها ، وَالْمُنْكَرِ : ما ينكر على متعاطيه فى إيثاره القوة الغضبية ، وَالْبَغْيِ : الاستعلاء والاستيلاء على الناس ، والتجبر عليهم ، فإنها الشيطنة التي هى مقتضى القوة الوهمية ، ولا يوجد من الإنسان شر إلا وهو مندرج فى هذه الأقسام ، صادر بتوسط إحدى هذه القوى الثلاث ، ولذلك قال ابن مسعود رضي اللّه عنه : «هى أجمع آية فى القرآن للخير والشر». وصارت سبب إسلام عثمان بن مظعون ، فلو لم يكن فى القرآن غير هذه الآية لصدق عليه أنه تبيان لكل شىء ، وهدى ورحمة للعالمين ، ولعل إيرادها عقب قوله : وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ للتنبيه عليه. ه.
وفى القوت : هى قطب القرآن. ه. وعن عثمان بن مظعون : أنه قال : لمّا نزلت هذه الآية قرأتها على أبى طالب ، فعجب ، وقال : آل غالب ، اتبعوه تفلحوا ، فو اللّه إن الله أرسله ليأمر بمكارم الأخلاق. ه. قال ابن عطية : (3/157)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 158
وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى : لفظ يقتضى صلة الرحم ، ويعم جميع إسداء الخير إلى القرابة ، وتركه مبهما أبلغ لأن كل من وصل فى ذلك إلى غاية - وإن علت - يرى أنه مقصر ، وهذا المعنى المأمور به فى جانب ذى القربى داخل تحت العدل والإحسان ، لكنه تعالى خصه بالذكر اهتماما به وحضا عليه. ه.
يَعِظُكُمْ بما ذكر من التمييز بين الأمر والنهى ، والخير والشر ، لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ : تتعظون فتنهضون إلى ما أمرتكم به وندبتكم إليه ، وتنكفوا عما نهيتكم عنه وحذرتكم منه.
الإشارة : (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ) بالتوسط فى الأمور كلها ، كالتوسط فى السير والمجاهدة فإن الإسراف يوقع فى الملل ، قال - عليه الصلاة والسلام - : «لا يكن أحدكم كالمنبت لا أرضا قطع ، ولا ظهرا أبقى». وقال صلى اللّه عليه وسلم أيضا : «إنّ اللّه لا يمل حتى تملوا». واللّه ما رأيت أحدا أسرف فى الأحوال فوصل إلى ما قصد ، إلا النادر ، وخير الأمور أوسطها. ويأمر بالإحسان ، وهو : مقام الشهود والعيان. (وَ إِيتاءِ ذِي الْقُرْبى ) قرابة الدين ، وهم : الإخوان فى الله ، ما يستحقونه من النصح والإرشاد ، (وَ يَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ) : الركون لغير الله ، (وَ الْمُنْكَرِ) : التكبر على عباد الله ، (وَ الْبَغْيِ) : ظلم أحد من خلق الله ، من الفيل إلى الذرة.
وقال فى الإحياء : بين التبذير والإقتار المذمومين وسط ، وهو المحمود المأمور به ، والواجب منه شيئان : واجب بالشرع ، وواجب بالمروءة. والسخي هو الذي لا يمنع واجب الشرع ولا واجب المروءة ، فإن منع واحدا منهما فهو بخيل ، كالذى يمنع أداء الزكاة ، ويمنع أهله وعياله النفقة ، أو يؤديها لا بطيب نفسه ، بل بتكلف ومشقة. وكالذى يتيمم الخبيث من ماله ، ولا يعطى من أطيبه وأوسطه ، فهذا كله بخل. وأما واجب المروءة فهو : ترك المضايفة والاستقصاء فى المحقرات ، وذلك يختلف فيستقبح من الغنى ما لا يستقبح من الفقير ، ويستقبح من الرجل مع أقاربه ما لا يستقبح مع الأجانب ، وكذلك الجار والمماليك والضيف. ه.
وقال الورتجبي : إن الله تعالى دعا عباده إلى الاتصاف بصفته ، منها : العدل والإحسان والشفقة والرحمة ، والقدس ، والطهارة عما لا يليق به. فهو العادل والمحسن ، والرحمن الرحيم ، غير ظالم جائر ، وهو منزه عن جميع العلل ، فمن كسى أنوار هذه الصفات ، بنعت الذوق والمباشرة ، واستحلى تربيتها يخرج عادلا محسنا ، رؤوفا رحيما ، طاهرا مطهرا ، صادقا مصدقا ، وليا ، حبيبا محبوبا ، مريدا مرادا ، مراعى محفوظا ، يعدل بنفسه فيدفعها عن الشك والشرك ، ورؤية الغير وطلب العوض فى العبودية ، ويأخذ منها الإنصاف بينها وبين عباد الله ، ويحسن إلى من أساء إليه ، ويعبد الله بوصف الرؤية وشهود غيبه ، ويراعى ذوى القرابة ، فى المعرفة والمحبة من المريدين والصادقين ، ويرحم الجهال من المسلمين ، وينهى نفسه عن مباشرة فواحش الأنانية ، ومباشرة الهوى والشهوة ، (3/158)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 159
ويدفعها عن الظلم باستكباره عن العبودية ، ويأمرها بإذعانها عند تراب أقدام أولياء الله لتكون مطمئنة فى عبودية الحق ، ذاكرة لسلطان ربوبيته ، وقهر جبروته وملكوته وإحاطته بكل ذرة ، وفناء الخليقة فى حقيقته. ه.
ومن مكارم الأخلاق الداخلة تحت العدل : الوفاء بالعهد ، كما قال تعالى :
[سورة النحل (16) : الآيات 91 الى 96]
وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ (91) وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (92) وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (93) وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (94) وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً إِنَّما عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (95)
ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (96)
قلت : وَقَدْ جَعَلْتُمُ : حال ، وأَنْكاثاً : حال من الغزل ، وهو : جمع نكث - بالكسر - بمعنى منكوث ، أي :
منقوض. وأَنْ تَكُونَ : مفعول من أجله ، وتَتَّخِذُونَ : جملة حالية من ضمير «تَكُونُوا».
يقول الحق جل جلاله : وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ كالبيعة للرسول - عليه الصلاة والسلام - وللأمراء ، والأيمان ، والنذور ، وغيرها ، إِذا عاهَدْتُمْ الله على شىء من ذلك ، وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ أيمان البيعة ، أو مطلق الأيمان ، بَعْدَ تَوْكِيدِها بعد توثيقها بذكر الله ، أو صفته ، أو أسمائه ، وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا شاهدا ورقيبا ، بتلك البيعة فإن الكفيل مراع لحال المكفول رقيب عليه ، إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ فى نقض الأيمان والعهود. وهو تهديد لمن ينقض العهد ، وهذا فى الأيمان التي فى الوفاء بها خير ، وأما ما كان تركه أولى فيكفّر عن يمينه ، وليفعل الذي هو خير ، كما فى الحديث.
وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها : أفسدته مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أي : إبرام وإحكام أَنْكاثاً أي :
طاقات ، أي : صيرته طاقات كما كان قبل الغزل ، بحيث حلت إحكامه وإبرامه ، حتى صار كما كان ، والمراد : (3/159)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 160
تشبيه الناقض بمن هذا شأنه ، وقيل : هى «ريطة بنت سعد القرشية» فإنها كانت خرقاء - أي : حمقاء - تغزل طول يومها ثم تنقضه ، فكانت العرب تضرب بها المثل لمن قال ولم يوف ، أو حلف ولم يبر فى يمينه. تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أي : لا تكونوا متشبهين بامرأة خرقاء ، متخذين أيمانكم مفسدة ودخلا بينكم. وأصل الدخل : ما يدخل الشيء ، ولم يكن منه ، يقال : فيه الدخل والدغل ، وهو قصد الخديعة.
تفعلون ذلك النقض لأجل أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ : بأن تكون جماعة أزيد عددا وأوفر مالا ، من جماعة أخرى ، فتنقضون عهد الأولى لأجل الثانية لكثرتها. نزلت فى العرب ، كانت القبيلة منهم تحالف الأخرى ، فإذا جاءها قبيلة أقوى منها ، غدرت الأولى ، وحالفت الثانية. وقيل : الإشارة بالأربى هنا إلى كفار قريش إذ كانوا حينئذ أكثر من المسلمين ، فحذر من بايع على الإسلام أن ينقضه لما يرى من قوة كفار قريش.
إِنَّما يَبْلُوكُمُ : يختبركم اللَّهُ بِهِ بما أمر من الوفاء بالعهد لينظر المطيع منكم والعاصي. أو : بكون أمة هى أربى ، لينظر أتتمسكون بحبل الوفاء بعهد الله وبيعة رسوله ، أم تغترّون بكثرة قريش وشوكتهم ، وقلة المؤمنين وضعفهم؟ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ فى الدنيا حين يجازيكم على أعمالكم بالثواب والعقاب. وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً أهل دين واحد متفقين على الإسلام ، وَلكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ بعدله ، وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ بفضله ، وَلَتُسْئَلُنَّ يوم القيامة سؤال تبكيت ومجازاة ، عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فى الدنيا لتجازوا عليه.
وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ ، كرره تأكيدا مبالغة فى قبح المنهي عنه من نقض العهود ، فَتَزِلَّ قَدَمٌ عن محجة الإسلام بَعْدَ ثُبُوتِها : استقامتها عليه ، والمراد : أقدامهم ، وإنما وحد ونكّر للدلالة على أن زلل قدم واحد عظيم ، فكيف بأقدام كثيرة؟ وَتَذُوقُوا السُّوءَ : العذاب فى الدنيا بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي : بصدكم عن الوفاء بعهد الله ، أو بصدكم غيركم عنه فإن من نقض البيعة ، وارتد ، جعل ذلك سنّة لغيره ، وَلَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ فى الآخرة.
وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ أي : لا تستبدلوا عهد الله وبيعة رسوله صلى اللّه عليه وسلم بأخذكم ثَمَناً قَلِيلًا : عرضا يسيرا من الدنيا ، بأن تنقضوا العهد لأجله. قيل : هو ما كانت قريش يعدونه لضعفاء المسلمين ، ويشترطون لهم على الارتداد ، إِنَّما عِنْدَ اللَّهِ من النصر والعز ، وأخذ الغنائم فى الدنيا ، والثواب الجزيل فى الآخرة ، هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ مما يعدونكم ، إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ذلك فلا تنقضوا ، أو إن كنتم من أهل العلم والتمييز.(3/160)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 161
ما عِنْدَكُمْ من أعراض الدنيا يَنْفَدُ ينقضى ويفنى ، وَما عِنْدَ اللَّهِ من خزائن رحمته ، وجزيل نعمته باقٍ لا يفنى ، وهو تعليل للنهى عن نقض العهد طمعا فى العرض الفاني ، وَلَنَجْزِيَنَّ «1» الَّذِينَ صَبَرُوا على الوفاء بالعهود ، أو على الفاقات وأذى الكفار ، أو مشاق التكاليف ، أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ بما يرجح فعله من أعمالهم ، كالواجبات والمندوبات ، أو بجزاء أحسن من أعمالهم. وبالله التوفيق.
الإشارة : الوفاء بالعهود ، والوقوف مع الحدود ، من شأن الصالحين الأبرار ، كالعباد والزهاد ، والعلماء الأخيار.
وأما أهل الفناء والبقاء من العارفين : فلا يقفون مع شىء ، ولا يعقدون على شىء ، هم مع ما يبرز من عند مولاهم فى كل وقت وحين ، ليس لهم عن أنفسهم إخبار ، ولا مع غير الله قرار. يتلونون مع المقادير كيفما تلونت ، وذلك من شدة قربهم وفنائهم فى ذات مولاهم. قال تعالى : كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ «2» ، فهم يتلونون مع الشئون البارزة من السر المكنون فمن عقد معهم عقدا ، أو أخذ منهم عهدا ، فلا يعول على شىء من ذلك إذ ليست أنفسهم بيدهم ، بل هى بيد مولاهم. وليس ذلك نقصا فى حقهم ، بل هو كمال «3» لأنه يدل على تغلغلهم فى التوحيد حتى هدم عزائمهم ، ونقض تدبيرهم واختيارهم. ولا يذوق هذا إلا من دخل معهم ، وإلّا فحسبه التسليم ، وطرح الميزان عنهم ، إن أراد الانتفاع بهم. والله تعالى أعلم.
وهذه الحالة التي أقامهم الحق تعالى فيها هى الحياة الطيبة ، التي أشار إليها الحق تعالى بقوله :
[سورة النحل (16) : آية 97]
مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (97)
يقول الحق جل جلاله : مَنْ عَمِلَ صالِحاً بأن صحبه الإخلاص ، وتوفرت فيه شروط القبول ، مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ إذ لا اعتداد بأعمال الكفرة في استحقاق الثواب ، وإنما المتوقع عليها تحقيق العقاب ، فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً فى الدنيا ، بالقناعة والكفاية مع التوفيق والهداية. قال البيضاوي : يعيش عيشا طيبا ، فإنه ، إن كان موسرا ، فظاهر ، وإن كان معسرا يطيب عيشه بالقناعة ، والرضا بالقسمة ، وتوقع الأجر العظيم ، بخلاف الكافر ، فإنه ، إن كان معسرا ، فظاهر ، وإن كان موسرا لم يدعه الحرص وخوف الفوات أن يهنأ بعيشه ، وقيل : فى الآخرة ، أي : فى الجنة. ه. وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ من الطاعة ، فيجازيهم على الحسن بجزاء الأحسن. وبالله التوفيق.
___________
(1) قرأ ابن كثير وعاصم وأبو جعفر : (و لنجزين) بالنون ، وقرأ الباقون بالياء على الغيب.
(2) من الآية 29 من سورة الرحمن.
(3) العارف الحق هو الذي يلتزم أمر الله ويجتنب مناهيه ، وهو شاهد بقلبه مولاه ، فان عما سواه.(3/161)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 162
الإشارة : الحياة الطيبة إنما تتحقق بكمالها عند أهل التجريد حيث انقطعت عنهم الشواغل فى الظاهر ، والعلائق فى الباطن ، فاطمأنت قلوبهم بالله ، وسكنت أرواحهم فى حضرة الله ، وتحققت أسرارهم بشهود الله ، فدام سرورهم ، واتصل حبورهم بحلاوة معرفة محبوبهم ، وهذه نتيجة شرب الخمرة الأزلية ، كما قال ابن الفارض فى مدحها :
وإن خطرت يوما على خاطر امرئ أقامت به الأفراح ، وارتحل الهمّ
هذا فى الخطور ، فما بالك بالسكون ودوام الحضور؟ وقال أيضا فى شأنها :
فما سكنت والهمّ ، يوما ، بموضع كذلك لا يسكن مع النّغم الغم
وإنما تحقق لهم هذا الأمر العظيم لرسوخ قدمهم فى مقام الإحسان ، وسكونهم فى جنة العرفان ، فهبّ عليهم نسيم الرضا والرضوان ، وترقت أرواحهم إلى مقام الروح والريحان ، فقلوبهم بحار زاخرة لا تكدرها الدلاء ، وأرواحهم أنوار ساطعة لا يؤثر فيها ليل القبض والابتلاء ، وأسرارهم بأنوار المواجهة مشرقة ، فدام سرورها بكل ما يبرز من عنصر القضاء. والحاصل : أن أهل هذا المقام عندهم من الإكسير والقوة ما يقلبون به الأعيان ، فيقلبون الشرّيات خيريات ، والمعاصي طاعات ، والإساءة إحسانا ، والجلال جمالا .. وهكذا ، فأنّى تغير قلوب هؤلاء الأكدار؟
وأنى تنزل بساحتهم الأغيار ، وهم فى حضرة الكريم الغفار؟ نفعنا اللّه بذكرهم ، وخرطنا فى سلكهم ، آمين.
ومن جملة الحياة الطيبة : التنعم بحلاوة القرآن ، ولا يتحقق ذلك إلا بالبعد والحفظ من خوض الشيطان ، ولذلك أمر بالتعوذ منه عند قراءته ، فقال :
[سورة النحل (16) : الآيات 98 الى 100]
فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (98) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100)
يقول الحق جل جلاله : فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ أردت قراءته ، كقوله : إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ «1» ، فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ أي : فسل اللّه أن يعيذك من وسواسه لئلا يوسوسك فى القراءة ، فيحرمك حلاوة التلاوة فإنه عدو لا يحب لابن آدم الربح أبدا ، والجمهور على أنه مستحب عند التلاوة ، وعن عطاء : أنه واجب. ومذهب مالك : أنه لا يتعوذ فى الصلاة. وعند الشافعي وأبى حنيفة : يتعوذ فى كل ركعة تمسكا بظاهر
___________
(1) من الآية 6 من سورة المائدة.(3/162)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 163
الآية لأن الحكم المرتب على شرط يتكرر بتكرره ، وأخذ مالك بعمل أهل المدينة فى ترك التعوذ فى الصلاة.
وهو تابع للقراءة فى السر والجهر ، وعن ابن مسعود : قرأت على النبي صلى اللّه عليه وسلم فقلت : أعوذ باللّه السميع العليم من الشيطان الرجيم ، فقال : «قل : أعوذ باللّه من الشيطان الرجيم» «1».
ثم قال تعالى : إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ أي : تسلط وولاية عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ أي :
لا تسلط له على أولياء اللّه المؤمنين به ، والمتوكلين عليه ، فإنهم لا يطيعون أوامره ، ولا يصغون إلى وساوسه ، إلا فيما يحتقر ، على ندور وغفلة. إِنَّما سُلْطانُهُ أي : تسلّطه عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ : يحبونه ويطيعونه ، وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ أي : باللّه ، أو : بسبب الشيطان ، مُشْرِكُونَ حيث حملهم على الشرك فأطاعوه.
الإشارة : الاستعاذة الحقيقية من الشيطان هى : الغيبة عنه فى ذكر اللّه أو شهوده ، فلا ينجح فى دفع الشيطان إلا الفرار منه إلى الرحمن. قال تعالى : فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ «2». فإن الشيطان كالكلب ، كلما اشتغلت بدفعه قوى نبحه عليك ، فإما أن يخرق الثياب ، أو يقطع الإهاب ، فإذا رفعت أمره إلى مولاه كفه عنك. وقد قال شيخ شيوخنا سيدى على الجمل رضي اللّه عنه : عداوة العدو حقا هو اشتغالك بمحبة الحبيب حقا ، وأما إذا اشتغلت بعداوة العدو ، فاتتك محبة الحبيب ، ونال مراده منك. ه.
فالعاقل هو الذي يشتغل بذكر اللّه باللسان ، ثم بالقلب ، ثم بالروح ، ثم بالسر ، فحينئذ يذوب الشيطان ولا يبقى له أثر قط ، أو يذعن له ويسلم شيطانه ، فإنما حركه عليك ليوحشك إليه. وفى الحكم : «إذا علمت أن الشيطان لا يغفل عنك ، فلا تغفل أنت عمن ناصيتك بيده». فإذا تعلقت بالقوى المتين ، هرب عنك الشيطان اللعين. وسيأتى مزيد كلام إن شاء اللّه عند قوله تعالى : إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ .. «3» الآية. وباللّه التوفيق.
ومن أقبح وسوسة الشيطان : الطعن فى القرآن ، كما أبان ذلك الحق تعالى بقوله :
[سورة النحل (16) : الآيات 101 الى 103]
وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (101) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (102) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103)
___________
(1) عزاه المناوى فى الفتح السماوي (2/ 758) للثعلبى.
(2) من الآية 50 من سورة الذاريات.
(3) من الآية 6 من سورة فاطر.(3/163)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 164
قلت : وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ : معترض بين الشرط ، وهو : إِذا وجوابه ، وهو : قالُوا لتوبيخ الكفار ، والتنبيه على فساد سندهم. وهُدىً وَبُشْرى : عطف على : «لِيُثَبِّتَ».
يقول الحق جل جلاله : وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ بأن نسخنا الأولى لفظا أو حكما ، وجعلنا الثانية مكانها ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ من المصالح ، فلعل ما يكون فى وقت ، يصير مفسدة بعده ، فينسخه ، وما لا يكون مصلحة حينئذ ، يكون مصلحة الآن ، فيثبته مكانه. فإذا نسخ ، لهذا المصلحة ، قالُوا أي : الكفرة :
إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ : كذاب متقوّل على اللّه ، تأمر بشىء ثم يبدو لك فتنهى عنه ، قال تعالى : بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ حكمة النسخ ولا حقيقة القرآن ، ولا يميزون الخطأ من الصواب.
قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ يعنى : جبريل. والقدس : الطهر والتنزيه لأنه روح منزه عن لوث البشرية. نزله مِنْ رَبِّكَ ملتبسا بِالْحَقِّ : بالحكمة الباهرة ، أو مع الحق فى أمره ونهيه وإخباره ، أو أنزله حقا ، لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا على الإيمان لأنه كلام اللّه ، ولأنهم إذا سمعوا الناسخ والمنسوخ ، وتدبروا ما فيه من رعاية المصالح ، رسخت عقائدهم ، واطمأنت قلوبهم. وَأنزله هُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ المنقادين لأحكامه ، أي : نزله تثبيتا وهداية وبشارة للمسلمين.
وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ يعنون : غلاما نصرانيا اسمه : جبر ، وقيل : يعيش. قيل : كانا غلامين ، اسم أحدهما : جبر ، والآخر يسار ، وكانا يصنعان السيوف ، ويقرآن التوراة والإنجيل ، فكان النبي صلى اللّه عليه وسلم يجلس إليهما ، ويدعوهما إلى الإسلام ، فقالت قريش : هذان هما اللذان يعلمان محمدا ما يقول. قال تعالى فى الرد عليهم : لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ أي : لغة الرجل الذي يميلون قولهم عن الاستقامة إليه ، وينسبون إليه تعليم القرآن ، أعجمى ، وَهذا القرآن لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ ذو بيان وفصاحة. قال البيضاوي :
والجملتان مستأنفتان لإبطال طعنهم ، وتقريره يحتمل وجهين أحدهما : أن ما سمعه منه كلام أعجمى لا يفهمه هو ولا أنتم ، والقرآن عربى تفهمونه بأدنى تأمل ، فكيف يكون ، - أي : القرآن - ما تلقفه منه؟ وثانيهما : هب أنه تلقف منه المعنى باستماع كلامه ، لكن لم يتلقف منه اللفظ لأن ذلك أعجمى وهذا عربى ، والقرآن ، كما هو معجز باعتبار المعنى ، معجز باعتبار اللفظ ، مع أن العلوم الكثيرة التي فى القرآن لا يمكن تعلمها إلا بملازمة معلم فائق فى تلك العلوم مدة متطاولة ، فكيف يعلم جميع ذلك من غلام سوقى ، سمع منه ، بعض أوقات ، كليمات عجمية ، لعله لم يعرف معناها؟! فطعنهم فى القرآن بأمثال هذه الكلمات الركيكة دليل على غاية عجزهم. ه.
الإشارة : كما وقع النسخ فى وحي أحكام ، يقع فى وحي إلهام فقد يتجلى فى قلب الولي شىء من الأخبار الغيبية ، أو يأمر بشىء يليق ، فى الوقت ، بالتربية ، ثم يخبر أو يأمر بخلافه لوقوع النسخ أو المحو ، فيظن من لا معرفة له بطريق الولاية أنه كذب ، فيطعن أو يشك ، فيكون ذلك قدحا فى بصيرته ، وإخمادا لنور سريرته ، إن كان داخلا تحت تربيته. واللّه تعالى أعلم.(3/164)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 165
ثم ذكر وبال من طعن فى كلام اللّه ، فقال :
[سورة النحل (16) : الآيات 104 الى 109]
إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ لا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (104) إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ (105) مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (106) ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (107) أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (108)
لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ (109)
قلت : «مَنْ كَفَرَ» : شرطية مبتدأ ، وكذلك مَنْ شَرَحَ. وفَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ : جواب عن الأولى والثانية لأنهما بمعنى واحد ، ويكون جوابا للثانية ، وجواب الأولى : محذوف يدل عليه جواب الثانية. وقيل : مَنْ كَفَرَ : بدل من الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ ، أو من المبتدأ فى قوله : أُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ ، أو من الخبر. وإِلَّا مَنْ أُكْرِهَ : استئناف من قوله : مَنْ كَفَرَ.
يقول الحق جل جلاله : إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ لا يصدّقون بِآياتِ اللَّهِ ، ويقولون : هى من عند غيره ، لا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ إلى سبيل النجاة ، أو إلى اتباع الحق ، أو إلى الجنة. وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فى الآخرة. وهذا فى قوم علم أنهم لا يؤمنون ، كقوله : إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ «1».
وقال ابن عطية : فى الآية تقديم وتأخير ، والمعنى : إن الذين لا يهديهم اللّه لا يؤمنون باللّه. ولكنه قدّم وأخر تهمما بتقبيح أفعالهم. ه.
قال البيضاوي : هددهم على كفرهم ، بعد ما أماط شبهتهم ، ورد طعنهم فيه ، ثم قلب الأمر عليهم ، فقال :
إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ لأنهم لا يخافون عذابا يردعهم عنه ، وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ على الحقيقة ، أو الكاملون فى الكذب لأن تكذيب آيات اللّه ، والطعن فيها ، بهذه الخرافات أعظم الكذب. وأولئك الذين عادتهم الكذب لا يصرفهم عنه دين ولا مروءة. أو الكاذبون فى قولهم : إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ ، إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ. ه. والكلام كله مع كفار قريش.
___________
(1) من الآية 96 من سورة يونس.(3/165)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 166
ثم ذكر حكم من ارتد عن الإيمان طوعا أو كرها ، فقال : مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ فعليهم غضب من اللّه ، إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ على التلفظ بالكفر ، أو على الافتراء على اللّه ، وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ لم تتغير عقيدته ، وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً أي : فتحه ووسعه ، فاعتقده ، وطابت به نفسه ، فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ إذ لا أعظم من جرمه.
روى أن قريشا أكرهوا عمّارا وأبويه - وهما ياسر وسمية - على الارتداد ، فربطوا سمية بين بعيرين ، وطعنوها بحربة فى قلبها ، وقالوا : إنك أسلمت من أجل الرجال ، فماتت - رحمة اللّه عليها - وقتلوا ياسرا زوجها ، وهما أول قتيلين فى الإسلام. وأعطاهم عمار بلسانه ما أرادوا مكرها ، فقيل : يا رسول اللّه إن عمارا كفر ، فقال : «كلا ، إن عمّارا ملئ إيمانا من قرنه إلى قدمه ، واختلط الإيمان بلحمه ودمه». فأتى عمّار رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهو يبكى ، فجعل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يمسح عينيه ، ويقول : «ما لك ، إن عادوا لك فعد لهم بما قلت» «1».
وهو دليل على جواز التكلم بالكفر عند الإكراه. وإن كان الأفضل أن يجتنب عنه ، إعزازا للدين ، كما فعل أبواه.
لما روى أنّ مسيلمة أخذ رجلين ، فقال لأحدهما : ما تقول فى محمد؟ فقال : رسول اللّه. وقال : ما تقول فىّ؟ فقال :
أنت أيضا ، فخلى سبيله ، وقال للآخر : ما تقول فى محمد؟ فقال : رسول اللّه ، فقال : ما تقول فىّ؟ فقال : أنا أصم ، فأعاد عليه ثلاثا ، فأعاد جوابه ، فقتله ، فبلغ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. فقال : أما الأول فقد أخذ برخصة اللّه ، وأما الآخر فقد صدع بالحق ، فهنيئا له «2». ه. قاله البيضاوي.
قال ابن جزى : وهذا الحكم فيمن أكره على النطق بالكفر ، وأما الإكراه على فعل وهو كفر ، كالسجود للصنم ، فاختلف هل يجوز الإجابة إليه أو لا؟ فأجازه الجمهور ، ومنعه قوم. وكذلك قال مالك : لا يلزم المكره يمين ، ولا طلاق ، ولا عتاق ، ولا شىء فيما بينه وبين اللّه ، ويلزمه ما كان من حقوق الناس ، ولا تجوز له الإجابة إليه كالإكراه على قتل أحد أو أخذ ماله. ه. وذكر ابن عطية أنواعا من الأمور المكره بها ، فذكر عن مالك : أن القيد إكراه ، والسجن إكراه ، والوعيد المخوف إكراه ، وإن لم يقع ، إذا تحقق ظلم ذلك المتعدى ، وإنفاذه فيما يتوعد به. ثم ذكر خلافا فى الحنث فى حق من حلف للدرء عن ماله ، لظالم ، بخلاف الدرء عن النفس والبدن ، فإنه لا يحنث ، قولا واحدا ، إلا إذا تبرع باليمين ، ففى لزومه خلاف. وانظر المختصر فى الطلاق.
___________
(1) ذكره الواحدي فى أسباب النزول (228) عن ابن عباس. وأخرجه بنحوه الحاكم فى المستدرك (2/ 357) من حديث محمد بن عمار بن ياسر ، وصححه ، ووافقه الذهبي. وانظر تفسير الطبري (14/ 180).
(2) عزاه السيوطي فى الدر (4/ 250) لابن أبى شيبة عن الحسن مرسلا. [.....](3/166)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 167
ثم علل نزول العذاب بهم ، فقال : ذلِكَ الوعيد بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ أي : بسبب أنهم آثروها عليها ، وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ ، الذين سبق لهم الشقاء ، فلا يهديهم إلى ما يوجب ثبات الإيمان فى قلوبهم ، ولا يعصمهم من الزيغ. أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ فغابت عن إدراك الحق والتدبر فيه ، وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ الكاملون فى الغفلة ، حتى أغفلتهم الحالة الزائفة عن التأمل فى العواقب. لا جَرَمَ : لا شك أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ حيث ضيعوا أعمارهم ، وصرفوها فيما أفضى بهم إلى العذاب المخلد. قاله البيضاوي.
الإشارة : من سبق له البعاد لا ينفعه الكد والاجتهاد ، ومن سبقت له العناية لا تضره الجناية. ففى التحقيق :
ماثمّ إلا سابقة التوفيق. فمن كان فى عداد المريدين السالكين ، ثم أكره على الرجوع إلى طريق الغافلين ، مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ ، أي : بالتصديق بطريق الخصوص ، وهو مصمم على الرجوع إليها فلا بأس عليه أن ينطق بلسانه ، ما يرى أنه رجع إليهم. فإذا وجد فسحة فرّ بدينه. وكذلك إذا أخذه ضعف أو فشل وقت القهرية ، ثم أنهضته العناية ، ففرّ إلى اللّه ، التحق بأولياء اللّه ، وأما من شرح صدره بالرجوع عن طريق القوم ، وطال مقامه مع العوام ، فلا يفلح أبدا فى طريق الخصوص ، والتحق بأقبح العوام ، إلا إن بقي فى قلبه شىء من محبة الشيوخ والفقراء ، فلعله يحشر معهم ، ودرجته مع العوام.
قال القشيري : إذا علم اللّه صدق عبده بقلبه ، وإخلاصه فى عقده ، ثم لحقته ضرورة فى حاله ، خفّف عنه حكمه ، ورفع عنه عناءه ، فإذا تلفظ بكلمة الكفر مكرها ، وهو بالتوحيد محقق ، عذر فيما بينه وبين ربه. وكذلك الذين عقدوا بقلوبهم ، وتجردوا لسلوك طريق اللّه ، ثم اعترضت لهم أسباب ، فاتفقت لهم أعذار ، فنفذ ما يوجبه الحال ، وكان لهم ببعض الأسباب اشتغال ، أو إلى شىء من العلوم رجوع ، لم يقدح ذلك فى حجة إرادتهم ، ولا يعدّ ذلك منهم شكا وفسخا لعهودهم ، ولا تنتفى عنهم سمة الفيئة إلى اللّه. ه. قلت : هذا إن بقوا فى صحبة الشيوخ ، ملازمين لهم ، أو واصلين إليهم ، وأما إن تركوا الصحبة ، أو الوصول ، فلا شك فى رجوعهم إلى العمومية.
ثم قال فى قوله : وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً : من رجع باختياره ، ووضع قدما فى غير طريق اللّه ، بحكم هواه ، فقد نقض عهد إرادته للّه ، وفسخ عقد قصده إلى اللّه ، وهو مستوجب الحجبة ، إلى أن تتداركه الرحمة. ه. قال شيخ شيوخنا ، سيدى عبد الرحمن الفاسى ، ما نصه : وفى مكاتبة لشيخنا العارف أبى المحاسن يوسف بن محمد : فإن اختلفت الأشكال ، وتراكمت الفتن والأهوال ، وتصدعت الأحوال ، ربما ظهر على العارف وصف لم يكن معهودا ، وأمر لم يكن بالذات مقصودا ، فيكون معه قصور فى جانب الحق ، لا فى جانب الحقيقة ، فلا يضر ، إن رجع فى ذلك لمولاه فرارا ، وإلى ربه اضطرارا. فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ. ه.(3/167)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 168
ثم رغب فى التوبة ، فقال :
[سورة النحل (16) : آية 110]
ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (110)
قلت : إِنَّ الثانية : تأكيد ، والخبر للأول.
يقول الحق جل جلاله : ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا من دار الكفر إلى المدينة مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا أي : عذبوا على الإسلام كعمار بن ياسر ، وأشباهه من المعذبين على الإسلام. هذا على قراءة الضم. وقرأ ابن عامر : «فُتِنُوا» بفتح التاء ، أي : فتنوا المسلمين وعذبوهم ، فتكون فيمن عذب المسلمين ، ثم أسلم وهاجر وجاهد ، كعامر ابن الحضرمي ، أكره مولاه جبرا حتى ارتد ، ثم أسلما وهاجرا ثم جاهدا ، وصبرا على الجهاد وما أصابهم من المشاق ، إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها من بعد الهجرة والجهاد والصبر ، لَغَفُورٌ رَحِيمٌ أي : لغفور لما مضى قبل ، رحيم يجازيهم على ما صنعوا بعد.
الإشارة : من نزلت به قهرية ، أو حصلت له فترة ، حتى رجع عن طريق القوم ، ثم تاب وهاجر من موطن حظوظه وهواه ، وجاهد نفسه فى ترك شواغل دنياه ، واستعمل السير إلى من كان يدله على الله إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ يغفر له ما مضى من فترته ، ويلحقه بأصحابه وأبناء جنسه. وبالله التوفيق.
ثم ذكر يوم الجزاء لمن صبر وهاجر ، أو الخسران لمن جحد وكفر ، فقال :
[سورة النحل (16) : آية 111]
يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (111)
قلت : يَوْمَ : منصوب باذكر ، أو بغفور رحيم.
يقول الحق جل جلاله : واذكر يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها عن ذاتها ، وتسعى فى خلاصها ، لا يهمها شأن غيرها يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ ، وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ ، وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ «1» ، وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ جزاء ما عَمِلَتْ على التمام ، وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ : لا ينقصون من أجورهم مثقال ذرة.
الإشارة : النفس التي تجادل عن نفسها ، وتوفى ما عملت من خير أو شر ، إنما هى النفس الأمارة أو اللوامة.
وأما النفس المطمئنة باللّه ، الفانية فى شهود ذات اللّه ، لا ترى وجودا مع اللّه فلا يتوجه عليها عتاب ، ولا يترتب عليها حساب إذ لم يبق لها فعل تحاسب عليه. وعلى تقدير وجوده فقد حاسبت قبل أن تحاسب ، بل هى فى عداد___________
(1) الآيات : 34 - 36 من سورة عبس.(3/168)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 169
السبعين ألفا ، الذين يدخلون الجنة بغير حساب ، وهم المتوكلون. أو تقول : هى فى عداد من يلقى اللّه باللّه ، فليس لها شىء سوى اللّه ، فحجته ، ايوم تجادل النفوس ، هو اللّه. كما قال الشاعر :
وجهك المحمود حجتنا يوم يأتى الناس بالحجج
وباللّه التوفيق.
ثم ضرب مثلا لمن كفر النعم ، فقال :
[سورة النحل (16) : الآيات 112 الى 113]
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (112) وَلَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ وَهُمْ ظالِمُونَ (113)
قلت : قَرْيَةً : بدل من : مَثَلًا.
يقول الحق جل جلاله : وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا ، ثم فسره بقوله : قَرْيَةً : مكة ، وقيل : غيرها.
كانَتْ آمِنَةً من الغارات ، لا تهاج ، مُطْمَئِنَّةً لا تحتاج إلى الانتقال عند الضيق أو الخوف ، يَأْتِيها رِزْقُها : أقواتها رَغَداً : واسعا مِنْ كُلِّ مَكانٍ من نواحيها ، فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ بطرت بها ، أو بنبي اللّه ، سيدنا محمد صلى اللّه عليه وسلم ، فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ ، استعار الذوق لإدراك أثر الضرر ، واللباس لما غشيهم واشتمل عليهم من الجوع والخوف ، أما الإذاقة فقد كثر استعمالها فى البلايا حتى صارت كالحقيقة ، وأما اللباس فقد يستعيرونه لما يشتمل على الشيء ويستره يقول الشاعر :
غمر الرّداء إذا تبسّم ضاحكا غلقت لضحكته رقاب المال
فقد استعار الرداء للمعروف ، فإنه يصون عرض صاحبه صون الرداء لما يلقى عليه ، والمعنى : أنهم لما كفروا النعم أنزل اللّه بهم النقم ، فأحاط بهم الخوف والجوع إحاطة الثوب بمن يستتر به ، فإن كانت مكة ، فالخوف من سرايا النبي صلى اللّه عليه وسلم وغاراته عليهم ، وإن كان غيرها ، فمن كل عدو ، وذلك بسبب ما كانوا يصنعون من الكفر والتكذيب.
وَلَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ ، يعنى : محمدا صلى اللّه عليه وسلم ، والضمير لأهل مكة. عاد إلى ذكرهم بعد ذكر مثلهم.
فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ : الجوع والقحط ، ووقعه بدر ، وَهُمْ ظالِمُونَ ملتبسون بالظلم ، غير تائبين منه. واللّه تعالى أعلم.(3/169)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 170
الإشارة : ضرب اللّه مثلا قلبا كان آمنا مطمئنا باللّه ، تأتيه أرزاق العلوم والمواهب من كل مكان ، فكفر نعمة الشيخ ، وخرج من يده قبل كماله ، فأذاقه اللّه لباس الفقر بعد الغنى باللّه ، والخوف من الخلق ، وفوات الرزق ، بعد اليقين بسبب ما صنع من سوء الأدب وإنكار الواسطة ، ولو خرج إلى من هو أعلى منه لأن من بان فضله عليك وجبت خدمته عليك ، ومن رزق من باب لزمه. وهذا أمر مجرب عند أهل الذوق بالعيان ، وليس الخبر كالعيان ، هذا إن كان أهلا للتربية ، مأذونا له فيها ، جامعا بين الحقيقة والشريعة ، وإلا انتقل عنه إلى من هو أهل لها. وباللّه التوفيق.
ثم أمر بالشكر ، الذي هو قيد النعم ، فقال :
[سورة النحل (16) : الآيات 114 الى 118]
فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (114) إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (115) وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ (116) مَتاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (117) وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (118)
قلت : الْكَذِبَ : مفعول بتقولوا ، وهذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ : بدل منه ، أي : لا تقولوا الكذب ، وهو قولكم : هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ ، ولِما فى قوله : لِما تَصِفُ موصولة ، ويجوز أن ينتصب الكذب ب تَصِفُ ، ويكون «ما» مصدرية. ويكون قوله : هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ معمولا لتقولوا ، أي : لا تقولوا : هذا كذا وهذا كذا لأجل وصف ألسنتكم الكذب.
يقول الحق جل جلاله : فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّباً ، أمرهم بأكل ما أحل لهم ، وشكر ما أنعم عليهم ، بعد ما زجرهم عن الكفر ، وهددهم عليه ، بما ذكر من التمثيل والعذاب الذي حل بهم صدا لهم عن صنيع الجاهلية ومذاهبها الفاسدة. قاله البيضاوي. وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ لتدوم لكم إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ فلا تنسبوا نعمه إلى غيره ، كشفاعة الأصنام وغيرها. إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ ، فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ، تقدم تفسيرها فى البقرة(3/170)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 171
والمائدة «1». قال البيضاوي : أمرهم بتناول ما أحل لهم ، وعدد عليهم محرماته ، ليعلم أن ما عداها حل لهم. ثم أكد ذلك بالنهى عن التحريم والتحليل بأهوائهم بقوله : وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لما لم يحله اللّه ولم يحرمه ، كما قالوا : ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا ... «2» الآية. ه.
تقولون ذلك لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ بنسبة ذلك إليه. إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ أبدا لأنهم تعجلوا فلاح الدنيا بتحصيل أهوائهم ، فحرموا فلاح الآخرة ، ولذلك قال : مَتاعٌ قَلِيلٌ أي : لهم تمتع فى الدنيا قليل ، يفنى ويزول. وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فى الآخرة.
وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ فى سورة الأنعام بقوله : وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ .. «3» الآية ، وَما ظَلَمْناهُمْ بالتحريم ، وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ حيث فعلوا ما عوقبوا به عليه. ذكر الحق تعالى ما حرم على المسلمين ، وما حرم على اليهود ليعلم أن تحريم ما عدا ذلك افتراء على اللّه. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : يقول الحق - جل جلاله - ، لمن بقي على العهد من شكر النعم بالإقرار بفضل الواسطة : فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ من قوت اليقين وفواكه العلوم ، وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إن كنتم تخصونه بالعبادة وإفراد الوجهة. إنما حرّم عليكم ما يشغلكم عنه ، كجيفة الدنيا والتهارج عليها ، ونجاسة الغفلة ، وما يورث القساوة والبلادة ، وقلة الغيرة على الحق ، وما قبض من غير يد اللّه ، أو ما قصد به غير وجه اللّه ، إلا وقت الضرورة فإنها تبيح المحذور. واللّه تعالى أعلم.
ثم حضّ على التوبة لمن وقع فى شىء من هذا ، فقال :
[سورة النحل (16) : آية 119]
ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (119)
يقول الحق جل جلاله : ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ كالشرك ، والافتراء على اللّه ، وغير ذلك ، بِجَهالَةٍ أي : ملتبسين فى حال العمل بجهالة ، كالجهل باللّه وبعقابه ، وعدم التدبر فى عواقبه لغلبة الشهوة عليه ، ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا عملهم ، إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها أي : التوبة ، أو الجهالة ، لَغَفُورٌ لذلك السوء ، رَحِيمٌ بهم يثيبهم على الإنابة.
___________
(1) راجع تفسير الآية 173 من سورة البقرة ، والآية 3 من سورة المائدة.
(2) من الآية 139 من سورة الأنعام.
(3) من الآية 136 من سورة الأنعام.(3/171)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 172
الإشارة : كل من أساء الأدب ، ثم تاب وأناب ، التحق بالأحباب. قال بعضهم : «كل سوء أدب يثمر أدبا فهو أدب». والتوبة تتبع المقامات فتوبة العوام : من الهفوات ، وتوبة الخواص : من الغفلات ، وتوبه خواص الخواص :
من الفترات عن شهود الحضرات. وباللّه التوفيق.
ولمّا رغّب فى الشكر ذكر أنه من ملة خليله إبراهيم عليه السّلام ، ودين حبيبه - عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم - تحريضا عليه ، فقال تعالى :
[سورة النحل (16) : الآيات 120 الى 123]
إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) شاكِراً لِأَنْعُمِهِ اجْتَباهُ وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (121) وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (122) ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (123)
يقول الحق جل جلاله : إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً أي : إماما قدوة قال تعالى : إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً «1» ، قال ابن مسعود : «الأمة : معلّم الناس الخير» ، أو أمة وحده ، اجتمع فيه ما افترق فى غيره ، فكان وحده أمة من الأمم لكماله واستجماعه لخصال الكمال التي لا تكاد تجتمع إلا فى أشخاص كثيرة ، كقول الشاعر :
وليس على اللّه بمستنكر أن يجمع العالم فى واحد «2»
وهو رئيس الموحدين ، وقدوة المحققين ، جادل فرق المشركين ، وأبطل مذاهبهم الزائفة بالحجج الدامغة.
ولذلك عقّب ذكره بتزييف مذاهب المشركين. أو : لأنه كان وحده مؤمنا وسائر الناس كفارا. قاله البيضاوي. وكان قانِتاً لِلَّهِ مطيعا قائما بأوامره ، حَنِيفاً مائلا عن الباطل ، وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ، وأنتم يا معشر قريش تزعمون أنكم على دينه ، وأنتم مشركون.
وكان شاكِراً لِأَنْعُمِهِ ، لا يخل بشكر قليل منها ولا كثير. ولذلك ذكرها بلفظ جمع القلة ، اجْتَباهُ :
اختاره للنبوة والرسالة والخلة. وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ التي توصل إلى حضرة النعيم ، ودعا إليها ، وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً بأن حببناه إلى كافة الخلق ، ورزقناه الثناء الحسن فى الملل كلها ، حتى إنّ أرباب
___________
(1) من الآية 124 من سورة البقرة.
(2) البيت للحسن بن هانئ ، هو لمعروف بأبى نواس.(3/172)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 173
الملك والجبابرة يتولونه ويثنون عليه. ورزقناه أولادا طيبة ، وعمرا طويلا فى الطاعة والمعرفة ، ومالا حلالا.
وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ لحضرتنا ، المقربين عندنا ، اللذين لهم الدرجات العلا كما سأله ذلك بقوله :
وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ «1».
ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ يا محمد أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ دينه ومنهاجه فى التوحيد ، والدعوة إليه بالرفق ، والمجادلة بالتي هى أحسن ، كل واحد بحسب فهمه. وكان حَنِيفاً مائلا عما سوى اللّه ، وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ، بل كان قدوة الموحدين. كرره ردا على اليهود والنصارى والمشركين فى زعمهم أنهم على دينه مع إشراكهم. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : كل من تمسك بطاعة اللّه ظاهرا ، أو مال عما سوى اللّه باطنا ، وشكر الله دائما ، ودعا الناس إلى هذا الأمر العظيم : كان وليا إبراهيميا ، محمديا ، خليلا حبيبا ، مقربا ، قد اجتباه الحق تعالى إلى حضرته ، وهداه إلى صراط مستقيم ، وعاش فى الدنيا سعيدا ، ومات شهيدا ، وألحق بالصالحين. جعلنا الله منهم بمنّه وكرمه.
ولما ادّعت اليهود أنها على ملة إبراهيم دون غيرها ، رد الله عليهم بأن السبت ليس من ملته ، فقال :
[سورة النحل (16) : آية 124]
إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (124)
يقول الحق جل جلاله : إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ أي : فرض تعظيمه وإفراده للعبادة ، عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ على نبيهم ، وهم : اليهود أمرهم موسى عليه السّلام أن يتفرغوا للعبادة يوم الجمعة ، فأبوا وقالوا : نريد يوم السبت لأنه تعالى فرغ فيه من خلق السموات والأرض ، فألزمهم الله السبت ، وشدّد عليهم فيه. وقيل : لما أمرهم بيوم الجمعة ، قبل بعضهم ، وأبى أكثرهم ، فاختلفوا فيه. وقيل : اختلافهم : هو أن منهم من حرّم الصيد فيه ، ومنهم من أحله ، فعاقبهم الله بالمسخ. والتقدير على هذا : إنما جعل وبال السبت - وهو المسخ ، (عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا) فأحلوا فيه الصيد تارة ، وحرموه أخرى ، أو أحله بعضهم ، وحرمه بعضهم ، وذكرهم هنا تهديدا للمشركين ، كذكر القرية التي كفرت بأنعم الله ، وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ فيجازى كل فريق بما يستحقه ، فيثيب المطيع ، ويعاقب العاصي.
الإشارة : الاختلاف على الأكابر كالشيوخ والعلماء ، والتقدم بين أيديهم بالرأى والكلام ، من أقبح المساويء ، وسو الأدب يوجب لصاحبه العطب كالقطع عن اللّه ، والبعد من ساحة حضرته. قال بعضهم : إذا جالست الكبراء فدع ما تعلم لما لا تعلم لتفوز بالسر المكنون. واللّه تعالى أعلم.
___________
(1) من الآية 83 من سورة الشعراء.(3/173)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 174
ثم أمر نبيه بالدعوة إلى اللّه ، فقال :
[سورة النحل (16) : آية 125]
ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125)
يقول الحق جل جلاله : ادْعُ يا محمد الناس إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ إلى طريقه الموصل إليه ، وهو :
الإسلام والإيمان ، والإحسان لمن قدر عليه ، بِالْحِكْمَةِ بسياسة النبوة ، أو بالمقالة المحكمة ، وهو الدليل الموضح للحق المزيح للشبهة ، وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ مواعظ القرآن ورقائقه ، أو الخطابات المقنعة والعبر النافعة ، وَجادِلْهُمْ أي : جادل معاندتهم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ بالطرق التي هى أحسن طرق المجادلة من الرفق واللين ، وإيثار الوجه الأيسر ، والمقدمات التي هى أشهر فإن ذلك أنفع فى تليين لهبهم ، وتبيين شغبهم ، فالأولى :
لدعوة خواص الأمة الطالبين للحق. والثانية : لدعوة عوامهم ، والثالثة : لدعوة معاندهم.
قال ابن جزى : الحكمة هى : الكلام الذي يظهر جوابه ، والموعظة : هى : الترغيب والترهيب. والجدال هو : الرد على الخصم. وهذه الأشياء الثلاثة يسميها أهل العلوم العقلية بالبرهان والخطابة والجدل ، وهذه الآية تقتضى مهادنة نسخت بالسيف. وقيل : إن الدعاء بهذه الطريقة ، من التلطف والرفق ، غير منسوخ ، وإنما السيف لمن لا تنفعه هذه الموعظة من الكفار ، وأما العصاة فهى فى حقهم محكمة إلى يوم القيامة باتفاق. ه.
إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ أي : إنما عليك البلاغ والدعوة. وأما حصول الهداية والضلال والمجازاة عليهما فليس من شأنك ، بل اللّه أعلم بالضالين والمهتدين ، وهو المجازى للجميع.
الإشارة : الدعاء بالحكمة هو الدعاء بالهمة والحال ، يكون من أهل الحق والتحقيق لأهل الصدق والتصديق.
والدعاء بالموعظة الحسنة هو الدعاء بالمقال من طريق الترغيب والتشويق ، يكون لأهل التردد فى سلوك الطريق.
والدعاء بالمجادلة الحسنة هو الدعاء بالوعظ والتذكير. وذكر بيان الطريق ، وفضيلة علم التحقيق ، يكون لأهل الإنكار إن وصلوا إلى أهل التحقيق. والحاصل : أن الدعاء بالحكمة : لأهل المحبة والتصديق. والدعاء بالموعظة :
لأهل التردد فى الطريق. والدعاء بالمجادلة : لأهل الإنكار حتى يعرفوا الحق من الباطل. وإن شئت قلت : الدعاء بالحكمة هو للعارفين الكبار ، والدعاء بالموعظة الحسنة هو لأهل الوعظ والتذكار من الصالحين الأبرار ، والدعاء بالمجادلة الحسنة هو للعلماء الأخيار. وقد تجتمع فى واحد إن جمع بين الظاهر والباطن. واللّه تعالى أعلم.(3/174)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 175
ولما أمره بالدعوة العامة أمره بالصبر العام لأن الدعوة لا تنفك عن الأذى ، فيحتاج صاحبها إلى صبر كبير ، فقال :
[سورة النحل (16) : الآيات 126 الى 128]
وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126) وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127) إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128)
يقول الحق جل جلاله : وَإِنْ عاقَبْتُمْ من آذاكم فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ أي : إن صنع بكم صنيع سوء فافعلوا مثله ، ولا تزيدوا عليه. والعقوبة ، فى الحقيقة ، إنما هى فى الثانية. وسميت الأولى عقوبة لمشاكلة اللفظ. وقال الجمهور : إن الآية نزلت فى شأن حمزة بن عبد المطلب ، لما بقر المشركون بطنه يوم أحد ، قال النبي صلى اللّه عليه وسلم : «لئن أظفرنى اللّه بهم لأمثّلنّ بسبعين منهم». فنزلت الآية «1» ، فكفّر النبي صلى اللّه عليه وسلم عن يمينه ، وترك ما أراد من المثلة. ولا خلاف أن المثلة حرام ، وقد وردت أحاديث بذلك. ومقتضى هذا : أن الآية مدنية. ويحتمل أن تكون الآية عامة ، ويكون ذكرهم حمزة على وجه المثال. وتكون ، على هذا ، مكية كسائر السورة.
واختلف العلماء فيمن ظلمه رجل فى مال ، ثم ائتمن عليه ، هل يجوز خيانته ، فى القدر الذي ظلمه فيه؟ فأجاز ذلك قوم لظاهر الآية ، ومنعه مالك لقوله صلى اللّه عليه وسلم : «أدّ الأمانة لمن ائتمنك ، ولا تخن من خانك» «2». قاله ابن جزى.
وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ ، ولم تعاقبوا من أساء إليكم ، لَهُوَ أي : الصبر خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ فإن العقوبة مباحة ، والصبر أفضل من الانتقام ، ويحتمل أن يريد بالصابرين هنا العموم ، أو يريد المخاطبين ، كأنه قال : فهو خير لكم.
ثم صرح بالأمر لرسوله به لأنه أولى الناس به لزيادة علمه باللّه ، فقال : وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ إلا بتوفيقه وتثبيته. روى أنه صلى اللّه عليه وسلم قال لأصحابه : «أما أنا فأصبر كما أمرت ، فماذا تصنعون؟» قالوا : نصبر كما ندبنا. وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ على الكافرين حيث لم يؤمنوا حرصا عليهم. أو على المؤمنين لأجل ما فعل بهم. وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ أي : لا يضيق صدرك بمكرهم ، ولا تهتم بشأنهم ، فأنا ناصرك عليهم.
والضيق - بفتح الضاد مخفّفا - من ضيّق كميت وميّت. وقرئ بالكسر ، وهو مصدر. ويجوز أن يكون الضيق والضيق مصدرين ، معا ، لضاق.
___________
(1) أخرجه الواحدي فى أسباب النزول (ص 291) عن ابن عباس. وأخرجه البزار (كشف الأستار ، 2/ 327) فى سياق أطول ، عن أبى هريرة ، وراجع طبقات ابن سعد (3/ 12 - 13) وتفسير ابن كثير (2/ 592).
(2) أخرجه أبو داود فى (البيوع والإجارات ، باب فى الرجل يأخذ حقه من تحت يده) ، والترمذي فى (البيوع ، ح 1264) عن أبى هريرة رضي اللّه عنه.(3/175)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 176
إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا الكفر والمعاصي ، وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ فى أعمالهم ، فهو معهم بالولاية والنصر والرعاية والحفظ. أو مع الذين اتقوا اللّه بتعظيم أمره. والذين هم محسنون بالشفقة على خلقه. أو مع الذين اتقوا ما يقطعهم عن الله ، والذين هم محسنون بشهود اللّه كما قال النبي صلى اللّه عليه وسلم : «الإحسان أن تعبد اللّه كأنك تراه».
فهو معهم بالمحبة والوداد «فإذا أحببته كنت له». واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : من شأن الصوفية : الأخذ بالعزائم ، والتمسك بالأحسن فى كل شىء ، ممتثلين لقوله تعالى : الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ «1». ولذلك قالوا : الصوفي : دمه هدر ، وماله مباح لأنه لا ينتصر لنفسه ، بل يدفع بالتي هى أحسن السيئة. فالصبر دأبهم ، والرضى والتسليم خلقهم.
وحقيقة الصبر هى : حبس القلب على حكم الرب ، من غير جزع ولا شكوى. ومواطنه أربعة : الطاعة ، والمعصية ، والنعمة ، والبلية. فالصبر على الطاعة : بالمبادرة إليها ، وعن المعصية : بتركها ، وعلى النعمة : بشكرها ، وأداء حق اللّه فيها ، وعلى البلية : بالرضى وعدم الشكوى بها.
وأقسام الصبر ستة : صبر فى اللّه ، وصبر للّه ، وصبر مع اللّه ، وصبر باللّه ، وصبر على اللّه ، وصبر عن اللّه.
أما الصبر فى اللّه : فهو الصبر فى طلب الوصول إلى اللّه ، بارتكاب مشاق المجاهدات والرياضات. وهو صبر الطالبين والسائرين. وأما الصبر للّه : فهو الصبر على مشاق الطاعات وترك المنهيات ونزول البليات ، يكون ذلك ابتغاء مرضاة اللّه ، لا لطلب أجر ولا نيل حظ. وهو صبر المخلصين. وأما الصبر مع اللّه : فهو الصبر على حضور القلب مع اللّه ، على سبيل الدوام مراقبة أو مشاهدة. فالأول : صبر المحبين ، والثاني : صبر المحبوبين.
وأما الصبر باللّه : فهو الصبر على ما ينزل به من المقادير ، لكنه باللّه لا بنفسه ، وهو صبر أهل الفناء من العارفين المجذوبين السالكين. وأما الصبر على اللّه : فهو الصبر على كتمان أسرار الربوبية عن غير أهلها ، أو الصبر على دوام شهود اللّه. وأما الصبر عن اللّه : فهو الصبر على الوقوف بالباب عند جفاء الأحباب ، فإذا كان العبد فى مقام القرب واجدا لحلاوة الأنس ، مشاهدا لأسرار المعاني ، ثم فقد ذلك من قلبه ، وأحس بالبعد والطرد - والعياذ باللّه - فليصبر ، وليلزم الباب حتى يمن الكريم الوهاب ، ولا يتزلزل ، ولا يتضعضع ، ولا يبرح عن مكانه ، مبتهلا ، داعيا إلى اللّه ، راجيا كرم مولاه ، فإذا استعمل هذا فقد استعمل الصبر قياما بأدب العبودية. وهو أشد الصبر وأصعبه ، لا يطيقه إلا العارفون المتمكنون ، الذين كملت عبوديتهم ، فكانوا عبيدا للّه فى جميع الحالات ، قرّبهم أو أبعدهم.
روى أن رجلا دخل على الشبلي رضي اللّه عنه ، فقال : أي صبر أشد على الصابر؟ فقال له الشبلي : الصبر فى اللّه ، قال :
___________
(1) من الآية 18 من سورة الزمر.(3/176)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 177
لا ، قال : الصبر للّه ، قال : لا ، قال : الصبر مع اللّه ، قال : لا ، فقال له : وأي شىء هو؟ فقال : الصبر عن اللّه. فصاح الشبلي صيحة عظيمة ، كادت تتلف فيها روحه. ه. لأن الحبيب لا يصبر عن حبيبه. لكن إذا جفا الحبيب لا يمكن إلا الصبر والوقوف بالباب ، كما قال الشاعر :
إن شكوت الهوى ، فما أنت منّا احمل الصّد والجفا ، يا معنا
وقال رجل لأبى محمد الحريري رضي اللّه عنه : كنت على بساط الأنس ، وفتح على طريق البسط ، فزللت زلة ، فحجبت عن مقامى ، فكيف السبيل إليه؟ دلنى على الوصول إلى ما كنت عليه. فبكى أبو محمد وقال : يا أخى ، الكل فى قهر هذه الخطة ، لكنى أنشدك أبياتا لبعضهم ، فأنشأ يقول :
قف بالديار فهذه آثارهم تبكى الأحبة حسرة وتشوقا
كم قد وقفت بربعها مستخبرا عن أهله ، أو سائلا ، أو مشفقا
فأجابنى داعى الهوى فى رسمها فارقت من تهوى فعز الملتقى
ومن هذا المعنى قضية الرجل الذي بقي فى الحرم أربعين سنة يقول : لبيك. فيقول له الهاتف : لا لبيك ولا سعديك ، وحجك مردود عليك. فقيل له فى ذلك ، فقال : هذه بابه ، وهل ثمّ باب أخرى أقصده منها؟ فقبله الحق تعالى ، ولبى دعوته. وكذلك قضية الرجل الذي قيل له ، من قبل الوحى : إنك من أهل النار فزاد فى العبادة والاجتهاد. فهذا كله يصدق عليه الصبر عن اللّه. لكن لا يفهم كماله إلا من كملت معرفته ، وتحقق بمقام الفناء ، فحينئذ قد يسهل عليه أمره لكمال عبوديته ، كما قال القائل :
وكنت قديما أطلب الوصل منهم فلمّا أتانى العلم وارتفع الجهل
تيقنت أنّ العبد لا طلب له فإن قربوا : فضل ، وإن بعدوا : عدل
وإن أظهروا لم يظهروا غير وصفهم وإن ستروا فالستر من أجلهم يحلو
وأما من لم تكمل معرفته ، فقد ينكره ويذمه ، كالعباد والزهاد والعشاق ، فإنهم لا يطيقونه ، فإما أن يختل عقلهم ، أو يرجعون إلى الانهماك فى البطالة. واللّه تعالى أعلم. وصلى اللّه على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.(3/177)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 178(3/178)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 179
سورة الإسراء
مكية ، إلا قوله : وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ ... الآيات الثمان. وهى : مائة وعشر آيات. وكأنّ وجه المناسبة لما قبله قوله : إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا «1» ، إشارة إلى أن من اتقى اللّه ، وحصّل مقام الإحسان ، أسرى بروحه إلى عالم الملكوت وأسرار الجبروت. وافتتح السورة بالتنزيه ، لئلا يتوهم الجهال أنه - عليه الصلاة والسلام - عرج به للقاء الحق تعالى فى جهة مخصوصة ، فنزه الحقّ تعالى نفسه ، فى افتتاح سورة الإسراء دفعا لهذا الإيهام ، فقال :
[سورة الإسراء (17) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1)
قلت : «سُبْحانَ» : مصدر غير متصرف ، منصوب بفعل واجب الحذف ، أي : أسبح سبحان. وهو بمعنى التسبيح ، أي : التنزيه ، وقد يستعمل علما له ، فيقطع عن الإضافة ويمنع الصرف ، كقول الشاعر :
قد أقول لمّا جاءنى فخره سبحان من علقمة الفاخر «2»
و«لَيْلًا» : منصوب على الظرفية لأسرى. وفائدة ذكره ، مع أن السرى هو السير بالليل ، ليفيد التقليل ، ولذلك نكّره ، كأنه قال : أسرى بعبده مسيرة أربعين ليلة فى بعض الليل ، وذلك أبلغ فى المعجزة. ويقال : أسرى وسرى ، رباعيا وثلاثيا.
يقول الحق جل جلاله : سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ وهو : نبينا محمد صلى اللّه عليه وسلم ، أي : تنزيها له عن الأماكن والحدود والجهات ، إذ هو أقرب من كل شىء إلى كل شىء. وإنما وقع الإسراء برسوله - عليه الصلاة والسلام - ليقتبس أهل العالم العلوي ، كما اقتبس منه أهل العالم السفلي ، فأسرى به لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ بعينه لما روى أنه - عليه الصلاة والسلام - قال : «بينما أنا فى المسجد الحرام فى الحجر ، عند البيت ، بين النّائم واليقظان ، إذ أتانى جبريل بالبراق» «3».
___________
(1) من الآية 128 من سورة النحل.
(2) البيت للأعشى. انظر ديوانه ، ص 93 ، ولسان العرب (سبح).
(3) أخرجه بطوله البخاري فى مواضع ، منها : (مناقب الأنصار ، باب المعراج) ، ومسلم فى (الإيمان ، باب الإسراء) ، من حديث أنس ابن مالك عن مالك بن صعصعة.(3/179)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 180
أو : من الحرم لما روى أنه كان نائما فى بيت أم هانئ بعد صلاة العشاء ، فأسري به ، وسماه مسجدا لأن الحرم كله مسجد. قاله البيضاوي. قلت : والظاهر أنه وقع مرتين : مرة بجسده من البيت ، ومرة بروحه من بيت أم هانئ. واللّه تعالى أعلم بما كان.
قال فى المستخرج من تفسير الغزنونى وغيره : قيل : كان رؤيا صادقة ، وقيل : أسرى بروحه ، وهو خلاف القرآن ، وإن أسند إلى عائشة - رضى اللّه عنها - ، والجمهور على ما رواه عامة الصحابة ، دخل كلام بعضهم فى بعض ، عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال : «أتانى جبريل عليه السّلام ، وإذا دابة فوق الحمار ودون البغل ، خطوها مد بصرها ، فمرّ بي بين السماء والأرض إلى بيت المقدس ، فنشر لى رهط من الأنبياء ، فصليت بهم. وإذا أنا بالمعراج ، وهو أحسن ما رأيت ، فعرج بي ، فرأيت فى سماء الدنيا رجلا أعظم الناس وجها وهيكلا ، فقيل : هذا أبوك آدم ، وفى السماء الثانية شابين ، فقيل : هما يحيى وعيسى ، وفى الثالثة رجلا أفضل الناس حسنا ، فقيل : أخوك يوسف ، وفى الرابعة إدريس ، وفى الخامسة هارون ، وفى السادسة موسى ، وفى السابعة إبراهيم - صلوات اللّه على جميعهم.
فانتهيت إلى سدرة المنتهى ، فغشيتها ملائكة ، كأنهم جراد من ذهب ، فرأيت جبريل عليه السّلام يتضاءل كأنه صعوة - أي : عصفور - فتخلف ، وقال : وما منا إلا له مقام معلوم ، فجاوزت سبعين حجابا ، ثم احتملنى الرفرف إلى العرش ، فنوديت : حيّ ربك. فقلت : لا أحصى ثناء عليك ، أنت كما أثنيت على نفسك» «1». فلما أخبر بما رأى كذّبه أهل مكة ، ولو كان فى النوم ما أنكره المشركون. وقيل : كانا معراجين ، بمكة والمدينة ، فى النوم واليقظة. ه.
قلت : وقوع المعراج بالمدينة غريب. قال المهدوى : مرتبة الإسراء بالجسم إلى تلك الحضرات العلية خاصة بنبينا ، لم يكن لغيره من الأنبياء. وعدّه السيوطي من الخصائص. قال ابن جزى : وحجة الجمهور : أنه لو كان مناما ، لم تنكره قريش ، ولم يكن فى ذلك ما يكذّب ، ألا ترى أن أم هانئ قالت له - عليه الصلاة والسلام :
(لا تخبر بذلك أحدا). وحجة من قال إنه كان مناما : قوله تعالى : وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ «2» ، وإنما يقال : الرؤيا ، فى المنام ، ويقال ، فيما يرى بالعين : رؤية ، وقوله ، فى آخر حديث الإسراء : «فاستيقظت وأنا فى المسجد الحرام» ، ثم قال : وقد يجمع بينهما بأنه وقع مرتين «3». ه.
وقوله تعالى : إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى هو : بيت المقدس لأنه لم يكن حينئذ وراءه مسجد ، الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ ببركات الدين والدنيا لأنه مهبط الوحى ومتعبد الأنبياء ، ومحفوف بالأنهار والأشجار والثمار. أسرينا
___________
(1) أخرج حديث الإسراء والمعراج ، برواياته المتعددة ، وطرقه البخاري فى (الصلاة ، باب كيف فرضت الصلاة فى الإسراء) ، و(بدء الخلق ، باب ذكر الملائكة) ، و(مناقب الأنصار ، باب المعراج). ومسلم فى (الإيمان ، باب الإسراء). [.....]
(2) من الآية 60 من سورة الإسراء.
(3) وهذا هو الصواب.(3/180)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 181
به لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا الدالة على عجائب قدرتنا ، ونكشف له عن أسرار ذاتنا ، فأطلعه اللّه على عجائب الملكوت ، وأراه سنا الجبروت. روى عكرمة عن ابن عباس : أنه قال : قد رأى محمد ربه ، قلت : أليس اللّه يقول : لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ «1» ، قال : ويحك ، ذلك إذا تجلى بنوره الذي هو نوره ، وقد رأى ربه مرتين. ه.
قلت : معنى كلامه : أنه إذا تجلى بنوره الأصلى ، من غير واسطة ، لا يمكن إدراكه ، وأما إذا تجلى بواسطة المظهر فإنه يمكن إدراكه ، والحاصل : أن الحق تعالى إنما يتجلى على قدر الرائي ، لا على قدره إذ لا يطيقه أحد. وسيأتى ، فى الإشارة ، بقية الكلام عليه ، إن شاء اللّه. إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ أي : السميع لأقوال حبيبه فى حال مناجاته ، البصير بأحواله ، فيكرمه ويقربه على حسب ذلك.
الإشارة : قال بعض الصوفية : إنما قال تعالى : بِعَبْدِهِ ، ولم يقل : بنبيه : ولا برسوله ليدل على أن كل من كملت عبوديته كان له نصيب من الإسراء. غير أن الإسراء بالجسد مخصوص به - عليه الصلاة والسلام - ، وأما الإسراء بالروح فيقع للأولياء على قدر تصفية الروح ، وغيبتها عن هذا العالم الحسى ، فتعرج أفكارهم وأرواحهم إلى ما وراء العرش ، وتخوض فى بحار الجبروت ، وأنوار الملكوت ، كلّ على قدر تخليته وتحليته. وإنما خص الإسراء بالليل لكونه محل فراغ المناجاة والمواصلات ، ولذلك رتب بعثه مقاما محمودا على التهجد بالليل فى هذه السورة. قاله المحشى.
وقوله تعالى : سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى ، قال الورتجبي : أي : تنزه عن إشارة الجهات والأماكن فى الفوقية ، وما يتوهم الخلق من أنه إذ أوصل عبده إلى وراء الوراء ، أنه كان فى مكان ، أي : لا تتوهموا برفع عبده إلى ملكوت السموات ، أنه رفع إلى مكان ، أو هو فى مكان ، فإن الأكوان والمكان أقل من خردلة فى وادي قدرته ، أي :
فى بحر عظمته ألا ترى إلى قوله عليه الصلاة والسلام : «الكون فى يمين الرحمن أقل من خردلة». والعندية والفوقية منه ، ونزّه نفسه عن أوهام المشبّهات ، حيث توهموا أنه أسرى به إلى المكان ، أي : سبحان من تنزه عن هذه التهمة. ه. وقال القشيري : أرسله الحق تعالى ليتعلم أهل الأرض منه العبادة ، ثم رقّاه إلى السماء ليتعلّم منه الملائكة - عليهم السلام - آداب العبادة ، قال تعالى : ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى «2» ، وما التفت يمينا ولا شمالا ، ما طمع فى مقام ، ولا فى إكرام ، تحرر عن كلّ طلب وأرب ، تلك الليلة. ه.
___________
(1) من الآية 103 من سورة الأنعام.
(2) من الآية 17 منسورة النجم.(3/181)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 182
قلت : ولذلك أكرمه اللّه تعالى بالرؤية ، التي منع منها نبيه موسى عليه السّلام ، حيث وقع منه الطلب «ربما دلهم الأدب على ترك الطلب» ، وقال الورتجبي : أسرى به عن رؤية فعله وآياته ، إلى رؤية صفاته ، ومن رؤية صفاته إلى رؤية ذاته ، وأشهده مشاهد جماله ، فرأى الحق بالحق ، وصار هنالك موصوفا بوصف الحق ، فكان صورته روحه ، وروحه عقله ، وعقله قلبه ، وقلبه سره ، فرأى الحق بجميع وجوده لأن وجوده فان بجميعه ، فصار عينا من عيون الحق ، فرأى الحق بجميع العيون ، وسمع خطابه بجميع الأسماع ، وعرف الحق بجميع القلوب. ه.
وقال ، فى قوله تعالى : إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى : سبب بداية المعراج بالذهاب إلى المسجد الأقصى ، لأن هناك الآية الكبرى من بركة أنوار تجليه لأرواح الأنبياء وأشباحهم ، وهناك بقربه طور سيناء ، وطور زيتا ، والمصيصة ، ومقام إبراهيم وموسى وعيسى ، وفى تلك الجبال مواضع كشوف الحق ، ولذلك قال : (بارَكْنا حَوْلَهُ) ، انظر تمامه.
ولمّا كان لسيدنا موسى عليه السّلام مزيد كلام ومراجعة مع نبينا - عليه الصلاة والسلام - فى قضية الإسراء ، ذكره بإثره ، فقال :
[سورة الإسراء (17) : الآيات 2 الى 3]
وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلاً (2) ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً (3)
قلت : (ذُرِّيَّةَ) : منادى ، أي : يا ذرية من حملنا مع نوح ، والمراد : بنى إسرائيل. وفى ندائهم بذلك : تلطف وتذكير بالنعم ، وقيل : مفعول أول بتتخذوا ، أي : لا تتخذوا ذرية من حملنا مع نوح من دونى وكيلا ، فتكون كقوله :
وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً «1».
يقول الحق جل جلاله : وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ التوراة وَجَعَلْناهُ أي : التوراة هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ ، وقلنا : أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا تفوضون إليه أموركم ، وتطيعونه فيما يأمركم. بل فوضوا أموركم إلى اللّه ، واقصدوا بطاعتكم وجه اللّه ، يا ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ ، فاذكروا نعمة الإنجاء من الغرق ، وحمل أسلافكم فى سفينة نوح ، إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً يحمد اللّه ويشكره فى جميع حالاته. وفيه إيماء بأن إنجاءه ومن معه كان ببركة شكره ، وحث للذرية على الاقتداء به. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : المقصود من إرسال الرسل وإنزال الكتب هو ، إفراد الوجهة إلى الحق ، ورفع الهمة عن الخلق ، حتى لا يبقى الركون إلا إليه ، ولا الاعتماد إلا عليه ، وهو مقتضى التوحيد. قال تعالى : لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا «2». وبالله التوفيق.
___________
(1) من الآية 80 من سورة آل عمران.
(2) من الآية 9 من سورة المزمل.(3/182)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 183
ثم ذكر ما أحدث بنو إسرائيل ، وما جرى عليهم فى القضاء السابق ، فقال : -
[سورة الإسراء (17) : الآيات 4 الى 8]
وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً (4) فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ وَكانَ وَعْداً مَفْعُولاً (5) ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً (6) إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً (7) عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً (8)
يقول الحق جل جلاله : وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أي : أخبرناهم وأوحينا إليهم فِي الْكِتابِ التوراة ، وقلنا : واللّه لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ إلخ. أو : قضينا عليهم فِي الْكِتابِ اللوح المحفوظ ، لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ أي : إفسادتين ، أولاهما : مخالفة أحكام التوراة وقتل أشعياء ، وقيل : أرمياء. وثانيتهما : قتل زكريا ويحيى ، وقصد قتل عيسى عليه السّلام ، وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً ولتستكبرن عن طاعة اللّه ، أو لتظلمن الناس وتستعلون عليهم علوا كبيرا.
فَإِذا جاءَ وَعْدُ عقاب أُولاهُما أي : أول مرتى الإفساد بأن أفسدوا فى الأرض المرة الأولى بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا بختنصر وجنوده أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ ذوى قوة وبطش فى الحرب شديد ، فَجاسُوا فترددوا لطلبكم خِلالَ الدِّيارِ وسطه ، للقتل أو الغارة ، فقتلوا كبارهم وسبوا صغارهم ، وحرقوا التوراة ، وخربوا المسجد. وفى التذكرة للقرطبى : أنه سلّط عليهم فى المرة الأولى بختنصر ، فسباهم ، ونقل ذخائر بيت المقدس على سبعين ألف عجلة ، وبقوا فى يده مائة سنة. ثم رحمهم اللّه تعالى وأنقذهم من يده ، على يد ملك من ملوك فارس ، ثم عصوا ، فسلط عليهم ملك الروم قيصر. ه. قال تعالى : وَكانَ وَعْداً مَفْعُولًا أي : وكان وعد عقابهم وعدا مقضيا لا بد أن يفعل.
ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ أي : الدولة والغلبة عَلَيْهِمْ أي : على الذين بعثوا عليكم ، فرجع الملك إلى بنى إسرائيل ، واستنقذوا أسراهم ، فقيل : على يد «بهمن بن إسفنديار» ملك فارس ، فاستنقذهم ، ورد أسراهم إلى الشام ، وملّك دانيال عليهم ، فاستولوا على من كان فيها من أتباع بختنصر ، وقيل : على يد داود عليه السّلام حين قتل جالوت.
قال تعالى : وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً أي : عددا مما كنتم. والنفير : من ينفر مع الرجل من قومه ، وقيل : جمع نفر ، وهم : المجتمعون للذهاب إلى الغزو.(3/183)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 184
ثم قال تعالى لهم : إِنْ أَحْسَنْتُمْ بفعل الطاعة والعمل الصالح ، أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ لأن ثوابه لها ، وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها فإنّ وبالها عليها. وذكر باللام للازدواج. فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ أي : وعد عقوبة المرة الأخيرة ، بأن أفسدوا فى المرة الآخرة ، بعثنا عليكم عبادا لنا آخرين ، أولى بأس شديد لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ ، يجعلوها تظهر فيها آثار السوء والشر ، كالكآبة والحزن ، كقوله : سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا «1» وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ بيت المقدس كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا وليهلكوا ما عَلَوْا عليه تَتْبِيراً إهلاكا ، أو مدة علوهم. قال البيضاوي : وذلك بأن اللّه سلّط عليهم الفرس مرة أخرى ، فغزاهم ملك بابل ، اسمه «حردون» ، وقيل : «حردوس» ، قيل : دخل صاحب الجيش مذبح قرابينهم ، فوجد دما يغلى ، فسأل عنه ، فقالوا : دم قربان لم يقبل منا. فقال : ما صدقتمونى ، فقتل عليه ألوفا منهم ، فلم يهدأ الدم. ثم قال : إن لم تصدقونى ما تركت منكم أحدا ، فقالوا : دم يحيى ، فقال : لمثل هذا ينتقم منكم ربكم ، ثم قال : يا يحيى ، قد علم ربى وربك ما أصاب قومك ، فاهدا بإذن اللّه ، قبل ألّا أبقى منهم أحدا ، فهدأ. ه.
وقال السهيلي فى كتاب «التعريف والإعلام» : المبعوث فى المرة الأولى هم أهل بابل ، وكان إذ ذاك عليهم «بختنصر» ، حين كذّبوا أرمياء وجرحوه وحبسوه. وأما فى المرة الأخيرة : فقد اختلف فيمن كان المبعوث عليهم ، وأن ذلك كان بسبب قتل يحيى بن زكريا. فقيل : بختنصر ، وهذا لا يصح لأن قتل يحيى كان بعد رفع عيسى ، وبختنصر كان قبل عيسى بزمان طويل. ه. وقول الجلال السيوطي : وقد أفسدوا فى الأولى بقتل زكريا ، فبعث عليهم جالوت وجنوده ، ولا يصح لأنه يقتضى أن داود تأخر عن زكريا ، وهو باطل.
ثم قال تعالى لبنى إسرائيل : عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ بعد المرة الأخرى ويجبر كسركم ، وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا إلى عقوبتكم ، وقد عادوا بتكذيب نبينا محمد صلى اللّه عليه وسلم ، وقصد قتله ، فعاد إليهم بتسليطه عليهم ، فقتل من بنى قريظة سبعمائة فى يوم واحد ، وسبى ذراريهم ، وباعهم فى الأسواق ، وأجلى بنى النضير ، وضرب الجزية على الباقين. هذا فى الدنيا ، وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ منهم ومن غيرهم حَصِيراً محبسا ، لا يقدرون على الخروج منها ، أبد الآباد. وقيل : بساطا كبسط الحصير ، كقوله : لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ «2». واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : قد قضى الحقّ جل جلاله ما كان وما يكون فى سابق علمه ، فما من نفس تبديه إلا وله قدر فيك يمضيه. فالواجب على العبد أن يكون ابن وقته ، إذا أصبح نظر ما يفعل اللّه به. فأسرار القدر قد استأثر الله بعلمها ،
___________
(1) من الآية 27 من سورة الملك.
(2) من الآية 411 من سورة الأعراف.(3/184)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 185
وأبهم على عباده أمرها ، فلو ظهرت لبطل سر التكليف. ولذلك لما سئل عنه سيدنا على - كرم اللّه وجهه - قال للسائل :
(بحر عميق لا تطيقه) ، فأعاد عليه السؤال ، فقال : (طريق مظلم لا تسلكه) لأنه لا يفهم سر القضاء والقدر ، إلا من دخل مقام الفناء والبقاء ، وفرّق بين القدرة والحكمة ، وبين العبودية والربوبية ، فإذا تحقق العارف بالوحدة ، علم أنّ الحق تعالى أظهر من خلقه مظاهر أعدهم للإكرام ، وأظهر خلقا أعدهم للانتقام ، وأبهم الأمر عليهم ، ثم خلق فيهم كسبا واختيارا فيما يظهر لهم ، وكلفهم لتقوم الحجة عليهم ، وتظهر صورة العدل فيهم. وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً. فالقدرة تبرز ما سبق فى الأزل ، والحكمة تستر أسرار القدر. لكن جعل للسعادة علامات كالتوفيق والهداية للإيمان ، وللشقاوة علامات كالخذلان والكفران. نعوذ باللّه من سوء القضاء وحرمان الرضا. آمين.
ومن علامة السعادة : التمسك بما جاء به القرآن العظيم ، كما قال تعالى :
[سورة الإسراء (17) : الآيات 9 الى 10]
إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً (9) وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (10)
قلت : «وَأَنَّ الَّذِينَ» : إما عطف على «إِنَّ» الأولى ، أو على «وَيُبَشِّرُ» بإضمار يخبر.
يقول الحق جل جلاله : إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي للطريق التي هِيَ أَقْوَمُ الطرق وأعدلها ، وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الأعمال الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً وهو : الخلود فى النعيم المقيم ، وزيادة النظر إلى وجهه الكريم. وَيخبر أَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا أي : أعددنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً ، أو : ويبشر المؤمنين ببشارتين : ثوابهم ، وعقاب أعدائهم.
الإشارة : لا شك أن القرآن يهدى إلى طريق الحق إما إلى طريق توصل إلى نعم جنانه ، أو إلى طريق توصل إلى شهوده ودوام رضوانه ، فالأولى طريق الشرائع والأحكام ، والثانية طريق الحقائق والإلهام ، لكن لا يدرك هذا من القرآن إلا من صفت مرآة قلبه بالمجاهدة والذكر الدائم ، ولذلك أمر شيوخ التربية المريد بالاشتغال بالذكر المجرد ، حتى يشرق قلبه بأنوار المعارف ، ويرجع من الفناء إلى البقاء ، ثم بعد ذلك يمر بالتلاوة ، ليذوق حلاوة القرآن ، ويتمتع بأنواره وأسراره ، وقد أنكر بعض من لا معرفة له بطريق التربية على الفقراء هذا الأمر - أعنى : ترك التلاوة فى بدايتهم - محتجا بهذه الآية ، ولا دليل فيها عليم لأن كون القرآن يهدى للتى هى أقوم يعنى : التمسك والتدبر فى معانيه ، ولا يصح ذلك على الكمال إلا بعد تصفية القلوب ، كما هو مجرب ، ولا ينكر هذا إلا من لا ذوق له فى علوم القوم ، وربما يذكر وجود التربية من أصلها ، ويسد الباب فى وجوه الناس ، ولا حول ولا قوة إلا باللّه.(3/185)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 186
فإذا اتصل العبد بأهل هذا الطريق ، ثم تأخر الفتح عنه ، فلا يقنط ولا يستعجل ، كما أبان ذلك الحق تعالى بقوله :
[سورة الإسراء (17) : الآيات 11 الى 14]
وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً (11) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلاً (12) وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً (13) اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً (14)
قلت : (دُعاءَهُ) : مفعول مطلق. والإضافة فى قوله : (آيَةَ اللَّيْلِ) و(آيَةَ النَّهارِ) : بيانية ، أي : فمحونا الآية التي هى الليل ، وجعلنا الآية التي هى النهار مبصرة. وإذا أريد بالآيتين الشمس والقمر تكون للتخصيص ، أي : وجعلنا نيرى الليل والنهار آيتين ، أو : وجعلنا الليل والنهار ذوى آيتين .. إلخ ، و(كُلَّ شَيْ ءٍ) : منصوب بفعل مضمر ، يفسره ما بعده ، وكذا : (وَ كُلَّ إِنسانٍ) و(يَلْقاهُ مَنْشُوراً) : صفتان لكتاب.
يقول الحق جل جلاله : وَيَدْعُ الْإِنْسانُ على نفسه وولده وماله بِالشَّرِّ عند الغضب والقنط.
دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ مثل دعائه بالخير. وهو ذم له يدل على عدم صبره ، وربما وافق وقت الإجابة فيهلك ، وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولًا يسارع إلى كل ما يخطر بباله ، لا ينظر عاقبته. ويجوز أن يريد بالإنسان الكافر ، وبالدعاء استعجاله بالعذاب استهزاء ، كقول النضر بن الحارث : اللهم انصر خير الحزبين اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ .. الآية «1». وقيل : المراد بالإنسان : آدم عليه السّلام ، فإنه لما انتهى الروح إلى سرّته ذهب ليقوم ، فسقط ، وهو بعيد. فإذا نزلت بالإنسان قهرية فلا يقنط ولا يستعجل ، فإنّ وقت الفرج محدود ، فالليل والنهار مطيتان ، يقربان كل بعيد ، ويبليان كل جديد ، ويأتيان بكل موعود.
ولذا قال تعالى إثره : وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ دالتين على كمال قدرتنا ، وباهر حكمتنا ، يتعاقبان على الإنسان ، يقربان له كل بعيد ، ويأتيان له بكل موعود. فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ أي : فمحونا الآية التي هى الليل بأن جعلناها مظلمة ، لتسكنوا فيه ، وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً أي : مضيئة مشرقة لتبتغوا من فضله ، أو : وجعلنا نيرى الليل والنهار آيتين ، وهما : الشمس والقمر ، فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ ، وهو القمر بأن جعلناه أطلس ، لا نور فيه من ذاته ، بل نوره مستمد من نور الشمس ، وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ ، وهى الشمس مُبْصِرَةً للناس ، أو مبصرا فيها بالضوء الذاتي ، لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ لتطلبوا فى بياض النهار أسباب معاشكم ، وَلِتَعْلَمُوا
___________
(1) الآية 32 من سورة الأنفال.(3/186)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 187
باختلافهما وبحركتهما ، عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ وحساب الأوقات من الأشهر والأيام ، فى معاملتكم وتصرفاتكم ، وَكُلَّ شَيْءٍ تفتقرون إليه فى أمر الدين والدنيا فَصَّلْناهُ تَفْصِيلًا بيّناه تبيينا لا لبس فيه ، أو : وكل شىء يظهر فى الوجود ، فصّلناه وقدّرناه فى اللوح المحفوظ تفصيلا ، فلا يظهر فى عالم الشهادة إلا ما فصل فى عالم الغيب.
وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ أي : حظه وما قدر له من خير وشر ، فهو لازم فِي عُنُقِهِ لا ينفك عنه.
ويقال لكل ما لزم الإنسان : قد لزم عنقه. وإنما قيل للحظ المقدر فى الأزل من الخير والشر : طائر لقول العرب :
جرى لفلان الطائر بكذا من الخير والشر ، على طريق الفأل والطيرة ، فخاطبهم اللّه بما يستعملون ، وأعلمهم أن ذلك الأمر الذي يجعلونه بالطائر هو ملزم لأعناقهم ، لا محيد لهم عنه ، كالسلسلة اللازمة للعنق ، يجر بها إلى ما يراد منه. ومثله : أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ «1» ، وقال مجاهد : «ما من مولود يولد إلا فى عنقه ورقة ، مكتوب فيها شقى أو سعيد». أو : وكل إنسان ألزمناه عمله يحمله فى عنقه ، وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً مكتوب فيه عمله ، وهو صحيفته. يَلْقاهُ مَنْشُوراً ، ويقال له : اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً محاسبا ، لا تحاسبك إلا نفسك ، أو : رقيبا وشهيدا على عملك ، أو : لا يعد عليك أعمالك إلا نفسك. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : ينبغى للإنسان أن يكون داعيا بلسانه ، مفوضا للّه فى قلبه ، لا يعقد على شىء من الحظوظ والمآرب ، فقد يدعو بالخير فى زعمه ، وهو شر فى نفس الأمر فى حقه ، وقد يدعو بالشر وهو خير. وقد تأتيه المضار من حيث يرتقب المسار ، وقد تأتيه المسار من حيث يخاف الضرر وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ. فالتأنى والسكون من علامة العقل ، والشّره والعجلة من علامة الحمق. فما كان من قسمتك لا بد يأتيك فى وقته المقدر له ، وما ليس من قسمتك لا يأتيك ، ولو حرصت كل الحرص. فكل شىء سبق تفصيله وتقديره ، فمن وجد خيرا فليحمد اللّه ، ومن وجد غير ذلك فلا يلوم إلا نفسه ، كما قال تعالى :
[سورة الإسراء (17) : الآيات 15 الى 17]
مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً (15) وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً (16) وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (17)
___________
(1) من الآية 131 من سورة الأعراف.(3/187)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 188
يقول الحق جل جلاله : مَنِ اهْتَدى وآمن باللّه وبما جاءت به الرسل فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ لأن ثواب اهتدائه له ، لا ينجى اهتداؤه غيره ، وَمَنْ ضَلَّ عن طريق اللّه فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها لأن إثم إضلاله على نفسه ، لا يضر به غيره فى الآخرة ، وَلا تَزِرُ أي : لا تحمل نفس وازِرَةٌ آثمة وِزْرَ نفس أُخْرى أي : ذنوب نفس أخرى ، بل إنما تحمل وزرها ، إلا من كان إماما فى الضلالة ، فيحمل وزره ووزر من تبعه ، على ما يأتى فى آية أخرى : وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ «1».
ومن كمال عدله تعالى : أنه لا يعذّب حتى ينذر ويعذر على ألسنة الرسل ، كما قال تعالى : وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ أحدا فى الدنيا ولا فى الآخرة حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا يبين الحجج ، ويمهد الشرائع ، ويلزمهم الحجة.
وفيه دليل على أن لا حكم قبل الشرع ، بل الأمر موقوف إلى وروده ، فمن بلغته دعوته ، وخالف أمره ، واستكبر عن اتباعه ، عذبناه بما يستحقه. وهذا أمر قد تحقق بإرسال آدم عليه السّلام ومن بعده من الأنبياء الكرام - عليهم السّلام - فى جميع الأمم ، قال تعالى : وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا «2» ، وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ «3» ، فإن دعوتهم إلى اللّه قد انتشرت ، وعمت الأقطار ، واشتهرت ، انظر إلى قول قريش الذين لم يأتهم نبى بعد إسماعيل عليه السّلام : ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ «4» فإنه يفهم منه أنهم سمعوه فى الملة الأولى ، فمن بلغته دعوة أحد منهم ، بوجه من الوجوه ، فقصّر ، فهو كافر مستحق للعذاب. فلا تغتر بقول كثير من الناس بنجاة أهل الفترة ، مع إخبار النبي صلى اللّه عليه وسلم أن آباءهم ، الذين مضوا فى الجاهلية ، فى النار ، وأن ما يدحرج من الجعل «5» خير منهم ، إلى غير ذلك من الأخبار. قاله البقاعي.
وقال الإمام أبو عبد اللّه الحليمي - أحد أجلاء الشافعية ، وعظماء أئمة الإسلام - فى أول منهاجه ، فى باب : «من لم تبلغه الدعوة» : وإنما قلنا : إن من كان منهم عاقلا مميزا إذا رأى ونظر ، إلا أنه لا يعتقد دينا فهو كافر لأنه ، وإن لم يكن سمع دعوة نبينا محمد صلى اللّه عليه وسلم ، فلا شك أنه سمع دعوة أحد من الأنبياء قبله ، على كثرتهم وتطاول أزمان دعوتهم ، ووفور مدد الذين آمنوا واتبعوهم ، والذين كفروا بهم وخالفوهم ، فإنّ الخبر قد يبلغ على لسان المخالف ، كما
___________
(1) من الآية 12 من سورة العنكبوت.
(2) من الآية 26 من سورة النحل.
(3) من الآية 24 من سورة فاطر.
(4) من الآية 7 من سورة ص. [.....]
(5) الجعل : حيوان معروف كالخنفساء ... انظر : النهاية فى غريب الحديث (جعل).(3/188)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 189
يبلغ على لسان الموافق ، وإذا سمع أيّة دعوة كانت إلى اللّه تعالى ، فترك أن يستدل بعقله ، كان معرضا عن الدعوة فكفر ، واللّه أعلم. وإن أمكن أن يكون لم يسمع قط بدين ، ولا بدعوة نبى ، ولا عرف أن فى العالم من يثبت إلها ، وما نرى أن ذلك يكون ، فأمره على الاختلاف ، يعنى : عند من يوجب الإيمان بمجرد العقل ، ومن لا يوجبه إلا بانضمام النقل. ه.
وقال الزركشي ، فى آخر باب النيات ، من شرحه على المنهاج : وقد أشار الشافعي إلى عسر تصور عدم بلوغ الدعوة ، حيث قال : وما أظن أحدا إلا بلغته الدعوة ، إلا أن يكون قوم من وراء النهر. وقال الدميري : وقال الشافعي :
ولم يبق أحد لم تبلغه الدعوة. انتهى على نقل شيخ شيوخنا سيدى عبد الرحمن الفاسى رضي اللّه عنه.
ثم قال تعالى : وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً
أي : تعلقت إرادتنا بإهلاكها لإنفاذ قضائنا السابق ، ودنا وقت إهلاكها ، أَمَرْنا مُتْرَفِيها
منعميها ، بمعنى رؤسائها بالطاعة على لسان رسول بعثناه إليهم ، ويدل على ذلك ما قبله وما بعده ، فإن الفسق هو الخروج عن الطاعة ، لقوله : فَفَسَقُوا فِيها
خرجوا عن أمرنا. وقيل : أمرناهم :
ألهمناهم الفسق وحملناهم عليه ، أو : جعلنا لهم أسباب حملهم على الفسق بأن صببنا عليهم من النعم ما أبطرهم ، وأفضى بهم إلى الفسوق ، فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ
وجب عليها كلمة العذاب السابق بحلوله ، أو بظهور معاصيهم.
فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً
أهلكناها بإهلاك أهلها وتخريبها. وَكَمْ أَهْلَكْنا أي : كثيرا أهلكنا مِنَ الْقُرُونِ أي : الأمم مِنْ بَعْدِ نُوحٍ كعاد وثمود وأصحاب الأيكة ، وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً عالما ببواطنها وظواهرها ، فيعاقب عليها أو يعفو. وباللّه التوفيق.
الإشارة : من اهتدى إلى حضرة قدسنا فإنما يهتدى لينعم نفسه بأسرار قدسنا ، ومن ضل عنها فإنما يضل عليها حيث حرمها لذيذ المعرفة. فإن كان فى رفقة السائرين ، ثم غلبه القضاء ، فلا يتعدى وبال رجوعه إلى غيره ، بل ما كان يصل إليه من المدد يرجع إلى أصحابه ، وما كنا معذبين أحدا بإسدال الحجاب بيننا وبينه ، حتى نبعث من يعرّف بنا ، ويكشف الحجاب بيننا وبين من يريد حضرتنا. والمراد بالحجاب : حجاب الوهم بإثبات حس الكائنات ، فلو انهتك حجاب الوهم لوقع العيان على فقد الأعيان ، ولو أشرق نور الإيقان لغطى وجود الأكوان.
وإذا أردنا أن نتلف قلوبا أمرنا أربابها بالتنعم بالحظوظ والشهوات ، فخرجوا عن طريق المجاهدة والرياضة ، فحق عليها القول بغم الحجاب ، فدمرناها تدميرا ، أي : تركناها تجول فى أودية الخواطر والشكوك ، فتلفت وهلكت ، نعوذ باللّه من شر الفتن ودرك المحن.(3/189)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 190
وسبب الهلاك هو حب الدنيا ، كما قال تعالى :
[سورة الإسراء (17) : الآيات 18 الى 22]
مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً (18) وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً (19) كُلاًّ نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً (20) انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً (21) لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً (22)
قلت : (لِمَنْ نُرِيدُ) : بدل من ضمير (لَهُ) بدل بعض من كل. و(كُلًّا) : مفعول (نُمِدُّ) ، و(هؤُلاءِ) : بدل منه.
و(كَيْفَ) : حال ، و(دَرَجاتٍ) و(تَفْضِيلًا) : تمييز.
يقول الحق جل جلاله : مَنْ كانَ يُرِيدُ بعمله الدنيا الْعاجِلَةَ ، مقصورا عليها همه ، عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ التعجيل له. قيّد المعجل والمعجل له بالمشيئة والإرادة لأنه لا يجد كل متمن ما يتمناه ، ولا كل واحد جميع ما يهواه. قاله البيضاوي. ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ فى الآخرة جَهَنَّمَ يَصْلاها يدخلها ويحترق بها ، حال كونه مَذْمُوماً مَدْحُوراً مطرودا من رحمة اللّه. والآية فى الكفار ، وقيل : فى المنافقين ، الذين يغزون مع المسلمين لقصد الغنائم. والأصح : أنها تعم كل من اتصف بهذا الوصف.
وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها عمل لها عملها اللائق بها ، وهو : الإتيان بما أمر به ، والانتهاء عما نهى عنه ، لا التقرب بما يخترعون بآرائهم. وفائدة اللام فى قوله : «لَها» : اعتبار النية والإخلاص. والحال أن العامل مُؤْمِنٌ إيمانا صحيحا لا شرك معه ولا تكذيب ، فإنه العمدة ، فَأُولئِكَ الجامعون للشروط الثلاثة كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً عند اللّه ، مقبولا مثابا عليه فإن شكر اللّه هو الثواب على الطاعة.
كُلًّا نُمِدُّ أي : كل واحد من الفريقين نمد بالعطاء مرة بعد أخرى ، هؤُلاءِ المريدين للدنيا ، وَهَؤُلاءِ المريدين للآخرة ، نمد كلا مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ فى الدنيا ، وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ فيها مَحْظُوراً ممنوعا من أحد ، لا يمنعه فى الدنيا مؤمن ولا كافر ، تفضلا منه تعالى. انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ فى الرزق والجاه ، وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا من الدنيا ، فينبغى الاعتناء بها دونها ، والتفاوت فى الآخرة حاصل للفريقين ، فكما تفاوتت الدرجات فى الجنة تفاوتت الدركات فى النار.(3/190)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 191
وسبب التفاوت : زيادة اليقين ، والترقي فى أسرار التوحيد لأهل الإيمان ، أو الانهماك فى الكفر والشرك لأهل الكفران. ولذلك قال تعالى : لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ تعبده. والخطاب لكل سامع ، أو للرسول صلى اللّه عليه وسلم ، والمراد أمته ، فَتَقْعُدَ فتصير حينئذ مَذْمُوماً مَخْذُولًا جامعا على نفسك الذم من الملائكة والمؤمنين ، والخذلان من اللّه. ومفهومه : أن الموحد يكون ممدوحا منصورا فى الدارين.
الإشارة : قال صلى اللّه عليه وسلم : «من كانت الدّنيا همّه ، فرّق اللّه عليه أمره ، وجعل فقره بين عينيه ، ولم يأته من الدّنيا إلّا ما قسم له. ومن كانت الآخرة نيّته ، جمع اللّه عليه أمره ، وجعل غناه فى قلبه ، وأتته الدّنيا وهى صاغرة» «1» ، واعلم أن الناس على قسمين قوم أقامهم الحق لخدمته ، وهم : العباد والزهاد ، وقوم اختصهم بمحبته ، وهم : العارفون باللّه أهل الفناء والبقاء ، قال تعالى : كُلًّا نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ ، وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً. انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ فى الكرامات والأنوار ، وفى المعارف والأسرار. وفضل العارفين على غيرهم كفضل الشمس على سائر الكواكب ، هذا فى الدنيا ، وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا ، يقع ذلك بالترقي فى معارج أسرار التوحيد ، وبتفاوت اليقين فى معرفة رب العالمين. وقال القشيري فى تفسير الآية : منهم من لا يغيب عن الحضرة لحظة ، ثم يجتمعون فى الرؤية ، ويتفاوتون فى النصيب لكلّ. وليس كلّ أحد يراه بالعين الذي يراه به صاحبه. وأنشدوا :
لو يسمعون - كما سمعت - حديثها خرّوا لعزّة ركّعا وسجودا «2»
وقال الورتجبي : فضّل العابدين بعضهم على بعض فى الدنيا بالطاعات ، وفضّل العارفين بعضهم على بعض بالمعارف والمشاهدات ، فالعباد فى الآخرة فى درجات الجنان متفاوتون ، والعارفون فى درجات وصال الرحمن متفاوتون. وقال القشيري أيضا : من كانت مشاهدته اليوم على الدوام ، كانت رؤيته غدا على الدوام ، ومن لا فلا. ه.
وقد تقدم تفاوت الناس فى الرؤية بأبسط من هذا ، عند قوله تعالى : لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ «3». واللّه تعالى أعلم.
ثم بيّن السعى للآخرة ، فقال :
[سورة الإسراء (17) : الآيات 23 الى 25]
وَقَضى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً (23) وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً (24) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً (25)
___________
(1) أخرجه الإمام أحمد فى المسند (5/ 183) ، وابن ماجة فى (كتاب الزهد ، باب الهم فى الدنيا) من حديث زيد بن ثابت ، وأخرجه الترمذي فى (القيامة ، باب 30) من حديث أنس بن مالك رضي اللّه عنه.
(2) البيت لكثير عزة. انظر ديوانه (442) ، وتزيين الأسواق (1/ 41).
(3) الآية 103 من سورة الأنعام.(3/191)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 192
قلت : (قَضى ) ، هنا ، بمعنى حكم وأوجب وأمر ، لا بمعنى القضاء إذ لو كان كذلك لما عبد غير اللّه. وفى مصحف ابن مسعود : «ووصى ربك ألا تعبدوا». و(أن) : مفسرة ، أو مصدرية ، أي : بأن لا تعبدوا ، و(إِمَّا) : إن الشرطية دخلت عليها «ما» المؤكدة. و(فَلا تَقُلْ) : جوابها. وتوحيد ضمير الخطاب فى (عِنْدَكَ) ، وفيما سبق - مع أن ما سبق ضمير الجمع - للاحتراز عن التباس المراد ، فإنّ المقصود نهى كل أحد عن تأفيف والديه ونهرهما.
ولو قوبل الجمع بالجمع ، أو بالتثنية ، لم يحصل هذا المرام.
و«أُفٍّ» : اسم فعل ، معناها : قول مكروه ، يقال عند الضجر ونحوه. قال الهروي : أي : لا تقل لهما ما يكون فيه أدنى تبرم ، ويقال لكل ما يضجر منه ويستثقل : أفّ له. وقال فى القاموس : أفّ ، يؤفّ ، ويئفّ : تأفف من كرب أو ضجر.
وأفّ : كلمة تكره ، وأفف تأفيفا ، وتأفّف ، قالها «1» ، ولغتها أربعون ، ثم ذكرها. وحركتها للبناء ، وتنوينها للتنكير.
يقول الحق جل جلاله : وَقَضى رَبُّكَ أمر أمرا مقطوعا به ، ب أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ لأن غاية التعظيم لا يكون إلا لمن له غاية العظمة ونهاية الإنعام ، وهو اللّه وحده ، وَأحسنوا بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً لأنهما السبب الظاهر فى وجود العبد ، وبهما قامت نعمة الإمداد من التربية والحفظ فى مظاهر الحكمة ، وإلّا فما ثمّ إلا تربية الحق تعالى ، ظهرت فى مظاهر الوالدين ، لكن أمر بشكر الواسطة «من لم يشكر الناس لم يشكر اللّه».
ثم أمر ببرهما ، فقال : إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما أي : مهما بلغ زمن الكبر ، وهما عندك فى كفالتك ، هما أو أحدهما ، فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ أي : فلا تضجر فيما يستقذر منهما ويستثقل من مؤنتهما ، ولا تنطق بأدنى كلمة توجعهما ، فأحرى ألا يقول لهما ما فوق ذلك. فالنهى عن ذلك يدل على المنع من سائر أنواع الإيذاء قياسا بطريق الأحرى. وقال فى الإحياء : الأفّ : وسخ الظفر ، والتف : وسخ الأذن ، أي : لا تصفهما بما تحت الظفر من الوسخ ، فأحرى غيره ، وقيل : لا تتأذّ بهما كما يتأذى بما تحت الظفر. ه.
وَلا تَنْهَرْهُما ولا تزجرهما عما لا يعجبك بإغلاظ ، فإن كان لإرشاد دينى فبرفق ولين. وَقُلْ لَهُما قَوْلًا كَرِيماً جميلا لينا لا غلظ فيه ، وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ ألن لهما جانبك الذليل ، وتذلل لهما وتواضع. استعار للذل جناحا ، وأضافه إليه مبالغة فإنّ الطير إذا تذلل أرخى جناحه إلى الأرض ، كذلك الولد ، ينبغى أن يخضع لأبويه ، ويلين جانبه ، ويتذلل لهما غاية جهده. وذلك مِنَ الرَّحْمَةِ أي : من إفراط الرحمة
___________
(1) أي : قال كلمة «أف».(3/192)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 193
لهما والرقة والشفقة عليهما. وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما أي : وادع اللّه أن يرحمهما برحمته الباقية ، ولا تكتف برحمتك الفانية ، وإن كانا كافرين لأن من الرحمة أن يهديهما للإسلام ، فقل : اللهم ارحمهما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً أي : رحمة مثل رحمتهما علىّ وتربيتهما وإرشادهما لى فى صغرى ، وفاء بعهدك للراحمين. فالكاف فى محل نصب على أنه نعت لمصدر محذوف ، أي : رحمة مثل تربيتهما ، أو مثل رحمتهما لى ، على أن التربية رحمة. ويجوز أن يكون لهما الرحمة والتربية معا ، وقد ذكر أحدهما فى أحد الجانبين والآخر فى الآخر ، كما يلوح له التعرض لعنوان الربوبية ، كأنه قيل : رب ارحمهما ، وربّهما كما ربيانى صغيرا. ويجوز أن يكون الكاف للتعليل ، كقوله : وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ «1».
ولقد بالغ الحق تعالى فى التوصية بالوالدين حيث شفع الإحسان إليهما بتوحيده سبحانه ، ونظمهما فى سلك القضاء بعبادته ، ثم ضيق فى برهما حتى لم يرخص فى أدنى كلمة تتفلت من المتضجر ، وختمها بأن جعل رحمته التي وسعت كلّ شىء مشبهة بتربيتهما. وعن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال : «رضا اللّه فى رضا الوالدين ، وسخطه فى سخطهما» «2». وروى : أن رجلا قال لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : إن أبوىّ بلغا من الكبر إلى أنّى ألى منهما ما وليا منّى فى الصغر ، فهل قضيتهما حقهما؟ قال : «لا فإنهما كانا يفعلان ذلك وهما يحبان بقاءك ، وأنت تفعل ذلك وأنت تريد موتهما». وروى أن شيخا أتى النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال : إن ابني هذا له مال كثير ، ولا ينفق علىّ من ماله شيئا ، فنزل جبريل وقال : إن هذا الشيخ أنشأ فى ابنه أبياتا ، ما قرع سمع بمثلها ، فاستنشدها ، فأنشدها الشيخ ، فقال :
غذوتك مولودا ، ومنتك يافعا ، تعلّ بما أجرى عليك ، وتنهل
إذا ليلة ضافتك بالسّقم لم أبت لسقمك ، إلا باكيا أتململ
كأن ّى أنا المطروق دونك بالذي طرقت به دونى ، وعينى تهمل
فلمّا بلغت السّنّ والغاية الّتى إليها مدى ما كنت فيك أؤمّل
جعلت جزائى غلظة وفظاظة كأنّك أنت المنعم المتفضّل
فليتك ، إذ لم ترع حقّ أبوّتى ، فعلت كما الجار المجاور يفعل «3»
___________
(1) من الآية 198 من سورة البقرة.
(2) أخرجه الترمذي فى (البر ، باب الفضل فى رضا الوالدين) ، وابن حبان (الإحسان - البر والصلة ح 430) ، وصححه الحاكم فى المستدرك (4/ 152) من حديث عبد الله بن عمرو.
(3) أخرجه بنحوه البيهقي فى الدلائل (6/ 304) ، والطبراني فى الأوسط عن جابر بن عبد الله. وفى آخره : فأخذ النبي صلى اللّه عليه وسلم بتلابيب ابنه وقال : «أنت ومالك لأبيك».(3/193)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 194
ومن تمام برهما : زيارتهما بعد موتهما ، والدعاء لهما ، والتصدق عليهما ، ففى الحديث : «إنما الميت فى قبره كالغريق ، ينتظر دعوة تلحقه من ابنه أو أخيه أو صديقه ، فإذا لحقته كانت أحب إليه من الدنيا وما فيها». وروى مالك فى الموطأ عن سعيد بن المسيب أنه قال : (كان يقال : إن الرجل ليرفع بدعاء ولده من بعده ، وأشار بيده نحو السماء) ، وهو مرفوع إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم : من طريق أبى هريرة قال : «إن اللّه ليرفع العبد الدرجة ، فيقول : يا رب ، أنّى لى بها؟! فيقول : باستغفار ابنك لك» «1» ، وسأل رجل النبي صلى اللّه عليه وسلم : هل بقي من بر أبوىّ شىء أبرهما به ، بعد موتهما؟ فقال : «نعم .. الصلاة عليهما - أي : الترحم والاستغفار لهما - ، وإنفاذ عهدهما من بعدهما ، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما ، وإكرام صديقهما» «2».
قال تعالى : رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ من قصد البر إليهما ، واعتقاد ما يجب لهما من التوقير. وكأنه تهديد على أن يضمر لهما كراهة واستثقالا ، إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ قاصدين للصلاح ، أو طائعين للّه ، فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ : التوابين ، أو الرجّاعين إلى طاعته ، غَفُوراً لما فرط منهم عند حرج الصدر من إذاية ظاهرة أو باطنة ، أو تقصير فى حقهما. ويجوز أن يكون عاما لكل تائب ، ويندرج فيه الجاني على أبويه اندراجا أوليا. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : كل ما أوحى اللّه تعالى به فى حق والدي البشرية ، يجرى مثله فى والد الروحانية ، وهو الشيخ ، ويزيد لأنه أوكد منه لأنّ أب البشرية كان السبب فى خروجه إلى دار الدنيا ، معرضا للعطب أو السلامة ، وأب الروحانية كان سببا فى خروجه من ظلمة الجهل إلى نور العلم والوصلة ، وهما السبب فى التخليد فى النعيم الذي لا يفنى ولا يبيد. وقد تقدم فى سورة النساء تمام هذه الإشارة «3». واللّه تعالى أعلم.
ثم أمر بالإحسان إلى القرابة لقربهما من الوالدين ، تعظيما لهما ، فقال :
[سورة الإسراء (17) : الآيات 26 الى 30]
وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً (27) وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً (28) وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً (29) إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (30)
___________
(1) أخرجه أحمد فى المسند (2/ 509) ، وابن ماجة فى (الأدب ، باب بر الوالدين) من حديث أبى هريرة رضي اللّه عنه.
(2) أخرجه أبو داود فى (الأدب ، باب فى بر الوالدين) وابن ماجة فى (الأدب ، باب صل من كان أبوك يصل) والحاكم فى المستدرك (2/ 3066) ، وصححه ووافقه الذهبي من حديث مالك بن ربيعة الساعدي الأنصاري.
(3) راجع إشارة الآية 36 من سورة النساء.(3/194)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 195
يقول الحق جل جلاله : وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ أي : أعط ذا القربة حقه من البر ، وصلة الرحم ، وحسن المعاشرة. وقال أبو حنيفة : إذا كانوا محاويج فقراء : أن ينفق عليهم. وقيل : الخطاب للرسول صلى اللّه عليه وسلم أن يؤتى قرابته من بيت المال ، وَآت الْمِسْكِينَ حقه وَابْنَ السَّبِيلِ الغريب ، من برهما والإحسان إليهما ، وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً بصرف المال فيما لا ينبغى ، وإنفاقه على وجه السرف. قال ابن عزيز : التبذير فى النفقة : الإسراف فيها ، وتفريقها فى غير ما أحل اللّه. ه. وأصل التبذير : التفريق. روى عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال لسعد ، وهو يتوضأ :
«ما هذا السّرف؟ فقال : أو فى الوضوء سرف؟ فقال : نعم ، وإن كنت على نهر جار» «1».
إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ أي : أمثالهم فى الشر فإن التضييع والإتلاف شر. أو : على طريقتهم ، أو : أصدقاؤهم وأتباعهم لأنهم يطيعونهم فى الإسراف ، روى أنهم كانوا ينحرون الإبل ويتياسرون عليها - أي : يتقامرون - من الميسر ، وهو القمار - ويبذرون أموالهم فى السمعة ، فنهاهم اللّه تعالى عن ذلك ، وأمرهم بالإنفاق فى القرابات. وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً مبالغا فى الكفر ، فينبغى ألا يطاع.
وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ أي : وإن أعرضت عما ذكر من ذوى القربى والمسكين وابن السبيل حياء من الرد ، حيث لم تجد ما تعطيهم ، ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها أي : لطلب رزق تنتظره يأتيك لتعطيهم منه ، فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُوراً فقل لهم قولا لينا سهلا ، بأن تعدهم بالعطاء عند مجئ الرزق ، وكان صلى اللّه عليه وسلم إذا سأله أحد ، ولم يجد ما يعطيه ، أعرض عنه ، حياء منه. فأمر بحسن القول مع ذلك ، مثل : رزقنا اللّه وإياكم ، واللّه يغنيكم من فضله ، وشبه ذلك.
ثم أمره بالتوسط فى العطاء ، فقال : وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ أي : لا تمسكها عن الإنفاق كل الإمساك ، وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ ، وهو استعارة لغاية الجود ، فنهى الحقّ تعالى عن الطرفين ، وأمر بالتوسط فيهما ، كقوله : إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا ... «2» الآية. فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً أي : فتصير ، إذا أسرفت ، ملوما عند اللّه وعند الناس بالإسراف وسوء التبذير ، محسورا : منقطعا بك ، لا شىء عندك. وهو من قولهم : حسر السفر بالبعير : إذا أتعبه ، ولم يبق له قوة. وعن جابر رضي اللّه عنه : بينا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم جالس ، أتاه صبى ،
___________
(1) أخرجه الإمام أحمد فى المسند (2/ 221) ، وابن ماجة فى (الطهارة ، باب ما جاء فى القصد فى الوضوء) من حديث عبد الله بن عمرو.
(2) من الآية 67 من سورة الفرقان.(3/195)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 196
فقال له : إن أمّى تستكسيك الدّرع الذي عليك ، فدخل داره ونزع قميصه وأعطاه ، وقعد عريانا ، وأذّن بلال ، وانتظره للصلاة ، فلم يخرج ، فأنزل اللّه : وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ ... الآية «1».
ثم سلّاه بقوله : إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ يوسعه لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ يضيقه على من يشاء. فكل ما يصيبك من الضيق فإنما هو لمصلحة باطنية ، إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً يعلم سرهم وعلانيتهم ، فيعلم من مصالحهم ما يخفى عليهم فيرزقهم على حسب مصالحهم ، ويضيق عليهم على قدر صبرهم. والحاصل : أنه يعطى كل واحد ما يصلح به ، واللّه أعلم.
الإشارة : أمر الحق - جل جلاله - رسوله صلى اللّه عليه وسلم ، وخلفاءه ممن كان على قدمه ، أن يعطوا حق الواردين عليهم من قرابة الدين والنسب ، والمساكين والغرباء ، من البر والإحسان حسا ومعنى كتعظيم ملاقاته ، م وإرشادهم إلى ما ينفع بواطنهم ، والإنفاق عليهم ، من أحسن ما يجد ، حسا ومعنى ، وخصوصا الإخوان فى اللّه. فكل ما ينفق عليهم فهو قليل فى حقهم ، ولا يعد سرفا ، ولو أنفق ملء الأرض ذهبا. قال فى القوت : دعا إبراهيم بن أدهم الثورىّ وأصحابه إلى طعام ، فأكثر منه ، فقال له سفيان : يا أبا إسحاق أما تخاف أن يكون هذا سرفا؟ فقال إبراهيم : ليس فى الطعام سرف. ه. قلت : هذا إن قدّمه إلى الإخوان الذاكرين اللّه قاصدا وجه اللّه ، وأما إن قدمه مفاخرة ومباهاة دخله السرف. قاله فى الحاشية الفاسية ، ومثله فى تفسير القشيري ، وأنه لا سرف فيما كان للّه ، ولو أنفق ما أنفق. بخلاف ما كان لدواعى النفس ولو فلسا. ه. وأما الخروج عن المال كله فمذموم ، إلا من قوى يقينه ، كالصدّيق ، ومن كان على قدمه. وكذلك الاستقراض على اللّه ، واشتراؤه بالدّين من غير مادة معلومة ، إن كان قوى اليقين ، وجرّب معاملته مع الحق ، فلا بأس بفعل ذلك وإلّا فليكف لئلا يتعرض لإتلاف أموال الناس فيتلفه اللّه. وباللّه التوفيق.
ولما أمر بما يقربنا إليه نهى عما يبعدنا عنه ، فقال :
[سورة الإسراء (17) : الآيات 31 الى 35]
وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً (31) وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلاً (32) وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً (33) وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً (34) وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (35)
___________
(1) ذكره البغوي فى تفسيره (5/ 90) ، والواحدي فى أسباب النزول ص 94). وقال الحافظ ابن حجر فى الكافي الشاف : لم أجده. [.....](3/196)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 197
قلت : (خَشْيَةَ) : مفعول من أجله لأن الخشية قلبية ، بخلاف الإملاق ، فإنه حسى فجرّ بمن فى سورة الأنعام. «1» وهذه الآية فى أغنياء العرب ، الذين كانوا يخشون وقوع الفقر ، وما فى «الأنعام» نزلت فى فقرائهم ، الذين كان الفقر واقعا بهم ، ولذلك قدّم هناك كاف الخطاب ، وأخّره هنا ، فتأمله. و«خِطْأً» يقال : خطئ خطأ ، كأثم إثما. وقرأ ابن عامر : «خِطْأً» ، بفتحتين ، فهو إما اسم مصدر أخطأ ، أو لغة فى خطئ ، كمثل ومثل ، وحذر وحذر. وقرأ ابن كثير :
«خطاء» بالمد ، إما لغة ، أو مصدر خاطأ. انظر البيضاوي.
يقول الحق جل جلاله : وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مخافة الفاقة المستقبلة ، وقد كانوا يقتلون البنات - وهو الوأد - مخافة الفقر ، فنهاهم عن ذلك ، وضمن لهم أرزاقهم ، فقال : نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ ، إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً إثما كَبِيراً لما فيه من قطع التناسل وانقطاع النوع وإيلام الروح. وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى ، نهى عن مقاربته بالمقدمات. كالعزم ، والنظر وشبهه ، فأحرى مباشرته ، إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً أي : فعلة ظاهرا فحشها وقبحها ، وَساءَ سَبِيلًا قبح طريقا طريقه ، وهو غصب الأبضاع لما فيه من اختلاط الأنساب وهتك محارم الناس ، وتهييج الفتن.
وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ إلا بإحدى ثلاث : كفر بعد إيمان ، وزنى بعد إحصان ، وقتل مؤمن معصوم عمدا ، كما فى الحديث «2». ويلحق بها أشياء فى معناها : كالحرابة ، وترك الصلاة ، ومنع الزكاة.
وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً أي : غير مستوجب للقتل فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ أي : الذي يلى أمره بعد وفاته ، وهو الوارث ، سُلْطاناً تسلطا بالمؤاخذة بمقتضى القتل بأخذ الدية ، أو القصاص ، وقوله : مَظْلُوماً : يدل على أن القتل عمد لأن الخطأ لا يسمى ظلما. أو : جعلنا له حجة غالبة ، فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ بأن يقتل من لا يحق قتله ، أو بالمثلة ، أو قتل غير القاتل ، إِنَّهُ أي : الولي كانَ مَنْصُوراً حيث وجب القصاص له ، وأمر الولاة بمعونته. أو : إنه ، أي : المقتول ، كان منصورا فى الدنيا بثبوت القصاص ممن قتله ، وفى الآخرة بالثواب.
وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ فضلا عن أن تتصرفوا فيه إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إلا بالطريقة التي هى أحسن ، كالحفظ والتنمية ، حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ حتى يتم رشده ، ثم يدفع له ، فإن دفعه لمن يتصرف فيه بالمصلحة فلا بأس ، وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إذا عاهدتم اللّه أو الناس ، إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلًا أي : مطلوبا الوفاء
___________
(1) فى قوله تعالى : قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ... الآية 151.
(2) أخرجه البخاري فى (الديات ، باب قول اللّه تعالى : «أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ» ... إلخ) ، ومسلم فى (القسامة ، باب ما يباح به دم المسلم) عن عبد اللّه بن مسعود ، قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : «لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأنى رسول اللّه ، إلا بإحدى ثلاث : الثيب الزاني ، والنفس بالنفس ، والتارك لدينه المفارق للجماعة».(3/197)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 198
به ، فيطلب من المعاهد ألا يضيعه ، أو : مسئولا عنه ، فيسأل عنه الناكث ويعاتب عليه ، أو : يسأل العهد نفسه لم نكثت ، تبكيتا للناكث ، وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ ولا تبخسوا فيه ، وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ بالميزان السوي. والقسطاس : لغة رومية ، ولا يقدح ذلك فى عربية القرآن لأن غير العربي ، إذا استعملته العرب ، فأجرته مجرى كلامهم فى الإعراب والتعريف والتنكير ، صار عربيا. قاله البيضاوي. ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا أي :
أحسن عاقبة ومآلا. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : ولا تقتلوا ما أنتجته الأفكار الصافية من العلوم بإهمال القلوب فى طلب رزق الأشباح ، خشية لحوق الفقر ، فإنّ اللّه ضامن لرزق الأشباح والأرواح. ولا تميلوا إلى الحظوظ ، التي تخرجكم عن حضرة الحق فإن ذلك من أقبح الفواحش. ولا تقتلوا النفس بتوالي الغفلة والجهل ، التي حرّم اللّه قتلها وإهمالها ، وأمر بإحيائها بالذكر والعلم ، ومن قتل بذلك مظلوما بحيث غلبته نفسه ، ولم تساعده الأقدار ، فقد جعلنا لعقله سلطانا ، أي : تسلطا عليها بمجاهدتها وقتلها وردها إلى مولاها ، فلا يسرف فى قتلها ، بل بسياسة وحيلة ، كما قال القائل :
واحتل على النّفس فربّ حيله أنفع فى النّصرة من قبيله
إنه كان منصورا ، إن انتصر بمولاه ، وآوى بها إلى شيخ كامل ، قد فرغ من تأديب نفسه وهواه. وقد تقدم باقى الإشارة فى سورة الأنعام «1» وغيرها. وباللّه التوفيق.
ثم قال تعالى :
[سورة الإسراء (17) : الآيات 36 الى 40]
وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً (36) وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولاً (37) كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً (38) ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً (39) أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً (40)
___________
(1) راجع إشارة الآيتين : 151 - 152 من سورة الأنعام.(3/198)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 199
قلت : قفا الشيء يقفوه : تبعه. والضمير فى «عَنْهُ» : يجوز أن يعود لمصدر «لا تَقْفُ» ، أو لصاحب السمع والبصر.
وقيل : إن «مَسْؤُلًا» مسند إلى «عَنْهُ» كقوله تعالى : غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ «1» ، والمعنى : يسأل صاحبه عنه ، وهو خطأ لأن الفاعل وما يقوم مقامه لا يتقدم. قاله البيضاوي.
قال ابن جزى : الإشارة فى «أُولئِكَ» : إلى السمع والبصر والفؤاد ، وإنما عاملها معاملة العقلاء فى الإشارة بأولئك لأنها حواس لها إدراك ، والضمير فى «عَنْهُ» : يعود على «كُلُّ» ، ويتعلق «عَنْهُ» بمسئولا. ه. وضمير الغائب يعود على المصدر المفهوم من «مَسْؤُلًا». و(مَرَحاً) : مصدر فى موضع الحال. و(مَكْرُوهاً) : نعت لسيئة ، أو بدل منها ، أو خبر ثان لكان.
يقول الحق جل جلاله : وَلا تَقْفُ تتبع ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ، فلا تقل ما لا تحقيق لك به من ذم الناس ورميهم بالغيب. فإذا قلت : سمعت كذا ، أو رأيت كذا ، أو تحقق عندى كذا ، مما فيه نقص لأحد ، فإنك تسأل يوم القيامة عن سند ذلك وتحقيقه. وهذا معنى قوله : إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا. قال البيضاوي : ولا تتبع ما لم يتعلق علمك به تقليدا ، أو رجما بالغيب. واحتج به من منع اتباع الظن ، وجوابه : أن المراد بالعلم هو الاعتقاد الراجح المستفاد من سند ، سواء كان قطعيا أو ظنيا إذ استعماله بهذا المعنى شائع. وقيل : إنه مخصوص بالعقائد. وقيل : بالرمي وشهادة الزور ، ويؤيده قوله صلى اللّه عليه وسلم : «من قفا مؤمنا بما ليس فيه ، حبسه اللّه فى ردغة الخبال «2» ، حتّى يأتى بالمخرج» «3». إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ أي : كل هذا الأعضاء الثلاثة كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا كل واحد منها مسئول عن نفسه ، يعنى : عما فعل به صاحبه. ه مختصرا.
وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً أي : ذا مرح ، وهو : التكبر والاختيال ، إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ لن تجعل فيها خرقا لشدة وطأتك وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولًا تتطاول عليها عزا وعلوا ، وهو تهكم بالمختال ، وتعليل للنهى ، أي : إذا كنت لا تقدر على هذا ، فلا يناسبك إلا التواضع والتذلل بين يدى خالقك ، كُلُّ ذلِكَ المذكور ، من قوله : لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ إلى هنا ، وهى : خمس وعشرون خصلة ، قال ابن عباس : (إنها المكتوبة فى ألواح موسى) ، فكل ما ذكر كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ «4» أي : خصلة قبيحة مَكْرُوهاً أي : مذموما مبغوضا.
والمراد بما ذكر : من المنهيات دون المأمورات.
___________
(1) من الآية 7 من سورة الفاتحة.
(2) قال ابن الأثير : وردغة الخبال ، جاء فى الحديث أنها عصارة أهل النار ... انظر النهاية (خبل - ردغ).
(3) أخرجه أحمد فى المسند (2/ 70) وأبو داود فى (الأقضية ، باب فيمن يعين على خصومة من غير أن يعلم أمرها) ، من حديث ابن عمر ، بلفظ : «من قال فى مؤمن ما ليس فيه أسكنه الله ردغة الخبال ، حتى يخرج مما قال».
(4) قرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي وخلف «سيئه» بضم الهمز والهاء مضافا لهاء المذكر الغائب. اسم كان ، وقرأ الباقون «سيئة» بفتح الهمزة ونصب تاء التأنيث مع التنوين على التوحيد خبر كان ... انظر الإتحاف (2/ 197) والبحر المحيط (6/ 35).(3/199)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 200
ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ التي هى علم الشرائع ، أو معرفة الحق لذاته ، والعلم للعمل به.
وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ ، كرره ، للتنبيه على أن التوحيد مبدأ الأمر ومنتهاه ، وأنه رأس الحكمة وملاكها ، ومن عدمه لم تنفعه علومه وحكمه ، ولو جمع أساطير الحكماء ، ولو بلغت عنان السماء. والخطاب للرسول صلى اللّه عليه وسلم ، والمراد : غيره ممن يتصور منه ذلك. ورتب عليه ، أولا : ما هو عاقبة الشرك فى الدنيا ، وهو : الذم والخذلان ، وثانيا :
ما هو نتيجته فى العقبى. فقال : فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً تلوم نفسك ، وتلومك الملائكة والناس ، مَدْحُوراً مطرودا من رحمة اللّه.
ثم قبّح رأيهم فى الشرك ، فقال : أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ ، وهو خطاب لمن قال : الملائكة بنات اللّه.
والهمزة للإنكار ، أي : أفخصّكم ربكم بأفضل الأولاد ، وهم البنون ، وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً بنات لنفسه ، إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيماً أي : عظيم النكر والشناعة ، لا يقدر قدره فى إيجاب العقوبة لخرمه لقضايا العقول ، بحيث لا يجترئ عليه أحد حيث تجعلونه تعالى من قبيل الأجسام المتجانسة السريعة الزوال ، ثم تضيفون إليه ما تكرهونه ، وتفضلون عليه أنفسكم بالبنين ، ثم جعلتم الملائكة ، الذين هم أشرف الخلق ، أدونهم ، تعالى اللّه عن قولكم علوا كبيرا.
الإشارة : ينبغى للإنسان الكامل أن يكون فى أموره كلها على بينة من ربه ، فيحكّم على ظاهره الشريعة المحمدية ، وعلى باطنه الحقيقة القدسية ، فإذا تجلى فى باطنه شىء من الواردات أو الخواطر فليعرضه على الكتاب والسنّة ، فإن قبلاه أظهره وفعله ، وإلّا رده وكتمه ، كان ذلك الأمر قوليا أو فعليا ، أو تركا أو عقدا فقد انعقد الإجماع على أنه لا يحل لامرئ مسلم أن يقدم على أمر حتى يعلم حكم اللّه فيه ، وإليه الإشارة بقوله : وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ، فإن لم يجد نصا فى الكتاب أو السنة فليستفت قلبه ، إن صفا من خوض الحس ، وإن لم يصف فليرجع إلى أهل الصفاء ، وهم أهل الذكر. قال تعالى : فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ «1» ، ولا يستفت أهل الظنون ، وهم أهل الظاهر ، قال تعالى : إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً «2».
وقال القشيري فى تفسير الآية هنا : وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ أي : جانب محاذاة الظنون ، وما لم يطلعك اللّه عليه ، فلا تتكلف الوقوف عليه من غير برهان. فإذا أشكل عليك شىء فى حكم الوقت ، فارجع إلى اللّه ،
___________
(1) من الآية 43 من سورة النحل ، ومن الآية 7 من سورة الأنبياء.
(2) من الآية 36 من سورة يونس.(3/200)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 201
فإن لاح لقلبك وجه من التحقيق فكن مع ما أريد ، وإن بقي الحال على حدّ الالتباس فكل علمه إلى اللّه ، وقف حيثما وقفت. ويقال : الفرق بين من قام بالعلم ، ومن قام بالحق : أنّ العلماء يعرفون الشيء أولا ، ثم يعملون بعلمهم ، وأصحاب الحقائق يجرى ، بحكم التصريف عليهم ، شىء ، ولا علم لهم به على التفصيل ، وبعد ذلك يكشف لهم وجهه ، فربما يجرى على لسانهم شىء لا يدرون وجهه ، ثم بعد فراغهم من النطق به يظهر لقلوبهم برهان ما قالوه من شواهد العلم إذ يتحقق ذلك بجريان الحال فى ثانى الوقت. انتهى. قلت : وإلى هذا المعنى أشار فى الحكم العطائية بقوله : الحقائق ترد فى حال التجلي مجملة ، وبعد الوعى يكون البيان ، فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ
.
قوله تعالى : وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً ، ورد فى بعض الأخبار ، فى صفة مشى الصوفية : أنهم يدبون على أقدامهم دبيب النمل ، متواضعين خاشعين ، ليس فيه إسراع مخل بالمروءة ، ولا اختيال مخل بالتواضع. واللّه تعالى أعلم.
ثم أمر بالرجوع إلى كتابه ، فقال :
[سورة الإسراء (17) : آية 41]
وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَما يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُوراً (41)
يقول الحق جل جلاله : وَلَقَدْ صَرَّفْنا بيّنا فِي هذَا الْقُرْآنِ من الأمثال والعبر ، والوعد والوعيد لِيَذَّكَّرُوا ليتعظوا به ، وَما يَزِيدُهُمْ ذلك إِلَّا نُفُوراً عن الحق وعنادا له.
الإشارة : من شأن القلوب الصافية : إذا سمعت كلام الحبيب فرحت واهتزت ، أو خشعت واقشعرت من هيبة المتكلم ، كلّ على ما يليق بمقامه ، ومن شأن القلوب الخبيثة المكدرة : نفورها من كلام الحق إذ الباطل لا يقاوم الحق ، ولا يطيق مواجهته. واللّه تعالى أعلم.
ثم أبطل مذاهب أهل الشرك ، فقال :
[سورة الإسراء (17) : الآيات 42 الى 44]
قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إِذاً لابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً (42) سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً (43) تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً (44)
يقول الحق جل جلاله : قُلْ يا محمد : لَوْ كانَ مَعَهُ فى الوجود آلِهَةٌ تستحق أن تعبد ، كَما يَقُولُونَ «1» أيها المشركون ، أو كما يقول المشركون أيها الرسول ، إِذاً لَابْتَغَوْا لطلبوا
___________
(1) قرأ حفص وابن كثير : (يقولون) بالياء ، وقرأ الآخرون بالتاء ، ، انظر الإتحاف (2/ 199).(3/201)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 202
إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا طريقا يقاتلونه. وهذا جواب عن مقالتهم الشنعاء. والمعنى : لطلبوا إلى من هو ملك الملك طريقا بالمعاداة ، كما تفعل الملوك بعضهم مع بعض. وهذا كقوله : إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ «1». وقيل : لابتغوا إليه سبيلا بالتقرب إليه والطاعة لعلمهم بقدرته ، وتحققهم بعجزهم ، كقوله : أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ «2». ثم نزه نفسه عن ذلك فقال : سُبْحانَهُ تنزيها له وَتَعالى ترافع عَمَّا يَقُولُونَ من الشركاء ، عُلُوًّا تعاليا كَبِيراً لا غاية وراءه. كيف لا وهو تعالى فى أقصى غاية الوجود! وهو الوجوب الذاتي ، وما يقولونه من أنّ له تعالى شركاء وأولادا ، فى أبعد مراتب العدم ، أعنى : الامتناع لأنه من خواص المحدثات الفانية.
تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ «3» أي : تنزهه ، وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ كلها تدل على تنزيهه عن الشريك والولد ، وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ينزهه عما هو من لوازم الإمكان ، وتوابع الحدوث ، بلسان الحال ، حيث تدل بإمكانها وحدوثها على الصانع القديم ، الواجب لذاته. قاله البيضاوي. وظاهره : أن تسبيح الأشياء حاليّ لا مقالى ، والراجح أنه مقالى. ثم مع كونه مقاليا لا يختص بقول مخصوص ، كما قال الجلال السيوطي ، أي :
تقول : سبحان اللّه وبحمده. بل كل أحد يسبح بما يناسب حاله. وإلى هذا يرشد كلام أهل الكشف ، حتى ذكر الحاتمي : أن من لم يسمعها مختلفة التسبيح لم يسمعها ، وإنما سمع الحالة الغالبة عليه. وورد فى الحديث :
«ما اصطيد حوت فى البحر ، ولا طائر يطير ، إلّا بما ضيع من تسبيح اللّه تعالى» «4». وفى الحديث أيضا : «ما تطلع الشمس فيبقى خلق من خلق اللّه ، إلا يسبح اللّه بحمده ، إلا ما كان من الشيطان وأعتى بنى آدم». «5»
ومذهب أهل السنة : عدم اشتراط البنية للعلم والحياة ، فيصح الخشوع من الجماد ، والخشية للّه والتسبيح منه له.
وقد قال ابن حجر على حديث حنين الجذع : فيه دلالة على أن الجمادات قد يخلق اللّه لها إدراكا كالحيوان ، بل كأشرف الحيوان ، وفيه تأييد لمن يحمل قوله : وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ على ظاهره. ه.
وقال ابن عطية : اختلف أهل العلم فى هذا التسبيح فقالت فرقة : هو تجوز ، ومعناه : أن كل شىء تبدو فيه صفة الصانع الدالة عليه ، فتدعو رؤية ذلك إلى التسبيح من المعتبر. وقالت فرقة : قوله : مِنْ شَيْءٍ : لفظه عموم ،
___________
(1) من الآية 91 من سورة المؤمنون.
(2) من الآية 57 من سورة الإسراء.
(3) قرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي وحفص ويعقوب : (تسبح) بالتاء ، وقرأ الآخرون بالياء ، انظر : الاتحاف 2/ 199.
(4) عزاه السيوطي فى الدر (4/ 333) لأبى الشيخ عن مرثد بن أبى مرثد. [.....]
(5) ذكره السيوطي بنحوه فى الدر (4/ 332) وعزاه لابن مردويه ، عن عمرو بن عبسة ، عن النبي صلى اللّه عليه وسلم.(3/202)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 203
ومعناه الخصوص فى كل حى ونام ، وليس ذلك فى الجمادات الميتة. فمن هذا قول عكرمة : الشجرة تسبح ، والاسطوانة لا تسبح. قال يزيد الرقاشي للحسن - وهما فى طعام ، وقد قدّم الخوان - : أيسبح هذا الخوان يا أبا سعيد؟
فقال : قد كان يسبح مدة. يريد أن الشجرة ، فى زمان نموها واغتذائها ، تسبح. وقد صارت خوانا أو نحوه ، أي : صارت جمادا. وقالت فرقة : هذا التسبيح حقيقة ، وكل شىء ، على العموم ، يسبح تسبيحا لا يسمعه البشر ولا يفقهه ، ولو كان التسبيح ما قاله الآخرون من أنه أثر الصنعة ، لكان أمرا مفهوما ، والآية تنطق بأنه لا يفقه ، وينفصل عنه بأن يريد بقوله : لا تَفْقَهُونَ : الكفار والغفلة ، أي : أنهم يعرضون عن الاعتبار فلا يفقهون حكمة اللّه فى الأشياء. ه.
قال شيخ شيوخنا سيدى عبد الرحمن العارف : وربما يدل للعموم تسبيح الحصى فى يده - عليه الصلاة والسلام - ، وكذا حنين الجذع ومحبة أحد ، وكذا تسبيح الطعام. وأما التخصيص بالناميات من نبات غير يابس ، وحجر متصل بموضعه ، فهو خصوص تسبيح بالاستمداد إلى الحياة ، ولا ينتفى مطلق الاستمداد لأن الجماد يستمد الوجود وبقاءه من الله ، فهو عام ، وقد قال تعالى : يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ «1» ، وتدبر حنين الجذع. ه. وسيأتى فى الإشارة بقية كلام عليه ، وقال البيضاوي أيضا فى قوله : وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ أيها المشركون لإخلالكم بالنظر الصحيح الذي به يفهم التسبيح. ويجوز أن يحمل التسبيح على المشترك من اللفظ والدلالة لإسناده إلى ما يتصور منه اللفظ ، وإلى ما لا يتصور منه ، وعليهما ، أي : ويحمل - عند من جوز إطلاق اللفظ على معنييه. ه.
إِنَّهُ كانَ حَلِيماً حيث لم يعاجلكم بالعقوبة ، مع ما أنتم عليه من موجباتها من الإعراض عن النظر فى الدلائل الواضحة ، الدالة على التوحيد ، والانهماك فى الكفر والإشراك ، غَفُوراً لمن تاب منكم. وباللّه التوفيق.
الإشارة : كل ما دخل عالم التكوين من العرش إلى الفرش ، أو ما قدر وجوده من غيرهما كله قائم بين حس ومعنى ، بين عبودية وربوبية ، بين قدرة وحكمة. فالحس محل العبودية ، فيه تظهر قهرية الربوبية ، والمعنى هو أسرار الربوبية القائمة بالأشياء ، فالأشياء كلها تنادى بلسان معناها ، وتقول : سبحانه ما أعظم شأنه ، ولكن لا يفقه هذا التسبيح إلا من خاض بحار التوحيد ، وغاص فى أسرار التفريد.
فالأشياء ثابتة بإثباته ، ممحوة بأحدية ذاته ، قائمة من حيث حسها ، ممحوة من حيث معناها ، ولا وجود للحس من ذاته ، وإنما هو رداء لكبرياء ذاته. وفى الحديث ، فى وصف أهل الجنة : «وليس بينهم وبين أن ينظروا إلى الرحمن إلا رداء الكبرياء على وجهه فى جنة عدن». فمن خرق حجاب الوهم ، وفنى عن دائرة الحس فى دار
___________
(1) من الآية 10 من سورة سبأ.(3/203)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 204
الدنيا ، لم يحتجب الحق تعالى عنه فى الدارين طرفة عين. فتحصل أن الأشياء كلها تسبح من جهة معناها بلسان المقال ، ومن جهة حسها بلسان الحال ، وتسبيحها كما ذكرنا. ولا يذوق هذا إلا من صحب العارفين الكبار ، حتى يخرجوه عن دائرة حس الأكوان إلى شهود المكون. وحسب من لم يصحبهم التسليم ، كما قال القائل :
إذا لم تر الهلال فسلّم لأناس رأوه بالأبصار
والله تعالى أعلم.
وسبب عدم فقه تسبيح الأشياء : غفلة القلوب ، وطبع الأكنّة عليها ، كما قال تعالى :
[سورة الإسراء (17) : الآيات 45 الى 49]
وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً (45) وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً (46) نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً (47) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً (48) وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (49)
قلت : (أَنْ يَفْقَهُوهُ) : مفعول من أجله ، أي : كراهة أن يفقهوه ، و(نُفُوراً) : مصدر فى موضع الحال. والضمير فى (بِهِ) : يعود على «ما» ، أي : نحن أعلم بالأمر الذي يستمعون به من الاستهزاء والسخرية.
يقول الحق جل جلاله : وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ الناطق بالتنزيه والتسبيح ، ودعوتهم إلى العمل بما فيه من التوحيد ، ورفض الشرك ، وغير ذلك من الشرائع ، جَعَلْنا بقدرتنا ومشيئتنا المبنية على دواعى الحكم الخفية بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ ، خصّ الآخرة بالذكر من بين سائر ما كفروا به دلالة على أنها معظم ما أمروا بالإيمان به ، وتمهيدا لما سينقل عنهم من إنكار البعث ، أي : جعلنا بينك وبينهم حِجاباً يمنعهم عن فهمه والتدبر فيه ، مَسْتُوراً عن الحس ، خفيا ، معنويا ، وهو الران الذي يسبح على قلوبهم من الكفر ، والانهماك فى الغفلة. أو : ذا ستر ، كقوله : وَعْدُهُ مَأْتِيًّا «1» ، أي : آتيا ، فهو ساتر لقلوبهم عن الفهم والتدبر.
___________
(1) من الآية 61 من سورة مريم.(3/204)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 205
نفى عنهم فقه الآيات ، بعد ما نفى عنهم فقه الدلالات المنصوبة فى الأشياء بيانا لكونهم مطبوعين على الضلالة ، كما صرح به فى قوله : وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أغطية تكنها ، وتحول بينها وبين إدراك الحق وقبوله. فعلنا ذلك بهم كراهة أَنْ يَفْقَهُوهُ ، وَجعلنا فِي آذانِهِمْ وَقْراً ثقلا وصمما يمنعهم من استماعه. ولمّا كان القرآن معجزا من حيث اللفظ والمعنى ، أثبت لمنكريه ما يمنع عن فهم المعنى وإدراك اللفظ. قاله البيضاوي.
وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ أي : واحدا غير مشفوع به آلهتهم ، وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً هربا من استماع التوحيد ، والمعنى : وإذا ذكرت فى القرآن وحدانية اللّه تعالى ، فرّ المشركون عن ذلك لما فى ذلك من رفض آلهتهم وذمها. قال تعالى : نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ أي : بالأمر الذي يستمعون به من الاستهزاء ، وكانوا يستمعون القرآن على وجه الاستهزاء ، وَإِذْ هُمْ نَجْوى أي : ونحن أعلم بغرضهم ، حين همّ جماعة ذات نجوى ، يتناجون بينهم ويخفون ذلك. ثم فسر نجواهم بقوله : إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ ، وضع الظالمين موضع الضمير للدلالة على أن تناجيهم بقولهم هذا محض ظلم ، أي : إذ يقولون : إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً مجنونا قد سحر حتى زال عقله.
انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ ، مثلوك بالساحر ، والشاعر ، والكاهن ، والمجنون ، فَضَلُّوا عن الحق فى جميع ذلك ، فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا إلى الهدى ، أو إلى الطعن فيما جئت به بوجه فهم يتهافتون ، ويخبطون ، كالمتحير فى أمره لا يدرى ما يفعل. ونزلت فى الوليد بن المغيرة وأصحابه من الكفار.
وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً ، أنكروا البعث ، واستبعدوا أن يجعلهم خلقا جديدا ، بعد فنائهم وجعلهم ترابا. والرفات : الذي بلي ، حتى صار غبارا وفتاتا. و«أَإِذا» : ظرف ، والعامل فيه : ما دل عليه قوله :
(لَمَبْعُوثُونَ) ، لا نفسه لأن ما بعد «إن» والهمزة ، لا يعمل فيما قبله ، أي : أنبعث إذا كنا عظاما .. إلخ. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : قد تقدم فى سورة «الأنعام» «1» تفسير الأكنة التي تمنع من فهم القرآن والتدبر فيه ، والتي تمنع من الشهود والعيان ، فراجعه ، إن شئت. وفى الآية تسلية لمن أوذى من الصوفية فرمى بالسحر أو غيره. وباللّه التوفيق.
ثم أمر نبيه بالجواب عما أنكروه من البعث ، فقال :
[سورة الإسراء (17) : الآيات 50 الى 52]
قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً (50) أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتى هُوَ قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً (51) يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً (52)
___________
(1) راجع إشارة الآية 25 من سورة الأنعام.(3/205)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 206
قلت : (قَرِيباً) : خبر كان ، أو ظرف له على أن «كان» تامة ، أي : عسى أن يقع فى زمن قريب. و(أَنْ يَكُونَ) :
إما : اسم «عَسى » وهى تامة ، أو خبرها ، والاسم مضمر ، أي : عسى أن يكون البعث قريبا ، أو : عسى أن يقع فى زمن قريب. (يَوْمَ يَدْعُوكُمْ) : منصوب بمحذوف اذكروا يوم يدعوكم. أو : بدل من «قريب» على أنه ظرف. انظر أبا السعود. و(بِحَمْدِهِ) : حال من ضمير (فَتَسْتَجِيبُونَ) ، أي : منقادين له ، حامدين له لما فعل بكم.
يقول الحق جل جلاله : قُلْ يا محمد لمن أنكر البعث : كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً ، أَوْ خَلْقاً آخر مِمَّا يَكْبُرُ أي : يعظم فِي صُدُورِكُمْ عن قبول الحياة ، فإنكم مبعوثون ومعادون لا محالة ، أي : لو كنتم حجارة أو حديدا ، أو شيئا أكبر عندكم من ذلك ، وأبعد من الحياة ، لقدرنا على بعثكم إذ القدرة صالحة لكل ممكن.
ومعنى الأمر هنا : التقدير ، وليس للتعجيز ، كما قال بعضهم. انظر ابن جزى ، فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا إلى الحياة مرة أخرى ، مع ما بيننا وبين الإعادة ، من مثل هذه المباعدة؟ قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ولم تكونوا شيئا لأن القادر على البدء قادر على الإعادة ، بل هى أهون ، فَسَيُنْغِضُونَ يحركون إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ تعجبا واستهزاء ، وَيَقُولُونَ استهزاء : مَتى هُوَ أي : البعث ، قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً ، فإنّ كل ما هو آت قريب.
واذكروا يَوْمَ يَدْعُوكُمْ يناديكم من القبور على لسان إسرافيل ، فَتَسْتَجِيبُونَ أي : فتبعثون من القبور بِحَمْدِهِ بأمره ، أو ملتبسين بحمده ، حامدين له على كمال قدرته ، عند مشاهدة آثارها ، ومعاينة أحكامها ، كما قيل : إنهم يقومون ينفضون التراب عن رؤوسهم ، ويقولون : سبحانك اللهم وبحمدك ، وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ ما لبثتم فى الدنيا إِلَّا قَلِيلًا لما ترون من الهول ، أو تستقصرون مدة لبثكم فى القبور ، كالذى مرّ على قرية.
واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : من كان قلبه أقسى من الحجارة والحديد ، واستغرب أن ينقذه اللّه من شهوته ، وأن يخرجه من وجود جهالته وغفلته ، فقل لهم : كونوا حجارة أو حديدا ، أو خلقا أكبر من ذلك ، فإن اللّه قادر على أن يحيى قلوبكم بمعرفته ، ويلينها بعد القساوة ، بسبب شرب خمرته. فسيقولون : من يعيدنا إلى هذه الحالة؟ قل : الذي فطركم على توحيده أول مرة ، حين أقررتم بربوبيته ، يوم أخذ الميثاق. فسينغضون إليك رؤوسهم تعجبا واستغرابا ، ويقولون :
متى هو هذا الفتح؟! قل : عسى أن يكون قريبا يوم يدعوكم إلى حضرته بشوق مقلق ، أو خوف مزعج ، بواسطة شيخ عارف ، أو بغير واسطة ، فتستجيبون بحمده ومنته ، وتظنون إن لبثتم فى أيام الغفلة إلا قليلا فتلين قلوبكم ، وتطمئن نفوسكم ، وتنشرح صدوركم ، وتحسن أخلاقكم ، فلا تخاطبون العباد إلا بالتي هى أحسن ، كما قال تعالى : (3/206)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 207
[سورة الإسراء (17) : الآيات 53 الى 55]
وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً (53) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (54) وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (55)
يقول الحق جل جلاله : وَقُلْ لِعِبادِي المؤمنين : يَقُولُوا للمشركين الكلمة الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ولا تخاشنوهم ، إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ يهيج بينهم الجدال والشر ، فلعل المخاشنة لهم تفضى إلى العناد وازدياد الفساد. وكان هذا بمكة ، قبل الأمر بالقتال ، ثم نسخ «1». وقيل : فى الخطاب من المؤمنين بعضهم لبعض ، أمرهم أن يقولوا ، فيما بينهم ، كلاما لينا حسنا. إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ العداوة والبغضاء إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً ظاهر العداوة.
يقولون لهم فى المخاطبة الحسنة : رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ بالتوبة والإيمان ، أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ بالموت على الكفر. وهذا تفسير للكلمة التي هى أحسن ، وما بينهما اعتراض ، أي : قولوا هذه الكلمة ونحوها ، ولا تصرحوا بأنهم من أهل النار فإنه يثير الشر ، مع أن ختام أمرهم غيب. وَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا موكولا إليك أمرهم ، فتجبرهم على الإيمان ، وإنما أرسلناك مبشرا ونذيرا ، فدارهم ، ومر أصحابك باحتمال الأذى منهم. روى أن المشركين أفرطوا فى إيذائهم فشكوا إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فنزلت ، وقيل : شتم رجل عمر رضي اللّه عنه ، فهمّ به ، فأمره اللّه بالعفو.
وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وبأحوالهم ، فيختار منهم لنبوته وولايته من يشاء. وهو رد لاستبعاد قريش أن يكون يتيم أبى طالب نبيا ، وأن يكون العراة الجياع أصحابه. وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ بالفضائل النفسانية ، والتفرغ من العلائق الجسمانية ، لا بكثرة الأموال والأتباع ، حتى يستبعدوا نبوة سيدنا محمد صلى اللّه عليه وسلم لقلة ماله ، وضعف أصحابه فإن سيدنا داود عليه السّلام كان مثله فى قلة ماله وأتباعه ، ثم قواه بالملك والنبوة. ولذا قال : وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً وقيل : هو إشارة إلى تفضيل نبينا محمد صلى اللّه عليه وسلم فإنه مذكور فى الزبور ، وهو أنه خاتم الأنبياء ، وأمته خير الأمم ، وأنهم يرثون الأرض بالفتح عليهم قال تعالى : وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ «2». واللّه تعالى أعلم.
___________
(1) دعوى النسخ هنا ، لا برهان عليها ، ولا مجال لها فالأخلاق لا تنسخ.
(2) الآية 105 من سورة الأنبياء.(3/207)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 208
الإشارة : من أوصاف الصوفية - رضى اللّه عنهم - أنهم هينون لينون كلفّة حرير ، لا ينطقون إلا بالكلام الحسن ، ولا يفعلون إلا ما هو حسن ، ويفرحون ولا يحزنون ، وينبسطون ولا ينقبضون. من رأوه مقبوضا بسطوه ، ومن رأوه حزينا فرّحوه ، ومن رأوه جاهلا أرشدوه بالتي هى أحسن. وهم متفاوتون فى هذا الأمر ، مفضل بعضهم على بعض فى الأخلاق والولاية ، فكل من زاد فى الأخلاق الحسنة زاد تفضيله عند الله. وفى الحديث : «إنّ الرّجل ليدرك بحسن الخلق ، درجة الصائم النهار ، القائم اللّيل» «1». وباللّه التوفيق.
ثم رجع إلى الكلام مع المشركين والرد عليهم ، فقال :
[سورة الإسراء (17) : الآيات 56 الى 57]
قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً (56) أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً (57)
قلت : (أُولئِكَ) : مبتدأ ، و(الَّذِينَ يَدْعُونَ) : صفته ، و(يَبْتَغُونَ) : خبره. وضمير «تَحْوِيلًا» : للكفار ، وفى «يَدْعُونَ» :
للآلهة المعبودين. وقيل : الضمير فى «يَدْعُونَ» و«يَبْتَغُونَ» : للأنبياء المذكورين قبل فى قوله : فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ ، والوسيلة : ما يتوسل به ويتقرب إلى اللّه ، و(أَيُّهُمْ) : بدل من فاعل (يَبْتَغُونَ) ، و«أيّ» : موصولة ، أي :
يبتغى من هو أقرب إليه تعالى - الوسيلة ، فكيف بمن دونه؟ أو ضمّن معنى يبتغون : يحرصون ، أي : يحرصون أيهم يكون إليه تعالى أقرب؟
يقول الحق جل جلاله : قُلِ لهم : ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أنهم آلهة تعبدونهم مِنْ دُونِهِ كالملائكة والمسيح وعزير ، أو كالأصنام والأوثان ، فَلا يَمْلِكُونَ لا يستطيعون كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ ، كالمرض والفقر والقحط ، وَلا تَحْوِيلًا لذلك عنكم إلى غيركم ، قال تعالى : أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ أنهم آلهة ، هم فى غاية الافتقار إلى اللّه والتوسل إليه ، كلهم يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أي : التقرب بالطاعة ، ويحرصون أَيُّهُمْ أَقْرَبُ إلى اللّه من غيره ، فكيف يكونون آلهة؟ أو : أولئك الذين يدعونهم آلهة ، يطلبون إلى ربهم الوسيلة
___________
(1) أخرجه ، بنحوه ، أحمد فى المسند (6/ 133) وأبو داود فى (الأدب ، باب فى حسن الخلق) عن عائشة رضي اللّه عنه ، وأخرجه الحاكم فى المستدرك (1/ 60) عن أبى هريرة ، وصححه ، ووافقه الذهبي.(3/208)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 209
بالطاعة ، يطلبها أيهم أقرب ، أي : الذي هو أقرب ، فكيف بغير الأقرب؟ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ كسائر العباد ، فكيف يزعمون أنهم آلهة؟ إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً مخوفا ، أي : حقيقا بأن يحذره كل أحد ، حتى الرسل والملائكة. أعاذنا اللّه من جميعه. آمين.
الإشارة : كل ما دخل عالم التكوين لزمته القهرية والعبودية ، فهو عاجز عن إصلاح نفسه ، فكيف يصلح غيره؟
ولا يستطيع أن يدفع عن نفسه ، فكيف يدفع عن غيره؟ فارفع همتك ، أيها العبد ، إلى مولاك ، وأنزل حوائجك كلها به دون أحد سواه ، فكل ما سواه مفتقر إليه ، والفقير المضطر لا ينفع نفسه ، فكيف ينفع غيره؟ واللّه يتولى هداك.
ثم بيّن قهريته تعالى ، فقال :
[سورة الإسراء (17) : آية 58]
وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوها قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوها عَذاباً شَدِيداً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً (58)
يقول الحق جل جلاله : وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ أي : أهلها ، إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوها قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ بالموت والاستئصال ، أَوْ مُعَذِّبُوها عَذاباً شَدِيداً بالقتل وغيره ، كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ فى اللوح المحفوظ مَسْطُوراً مكتوبا. وقال فى المستخرج : وإن من قرية إلا نحن مهلكوها الصالحة بالإفناء ، والطالحة بالبلاء ، أو معذبوها بالسيف إذا ظهر فيهم الزنى والربا. ه. قال ابن جزى : روى أن هلاك مكة بالحبشة ، والمدينة بالجوع ، والكوفة بالترك ، والأندلس بالخيل. ثم قال : وأما هلاك قرطبة وأشبيلية وطليطلة وغيرها ، فبأخذ الروم لها.
ه. قلت : قد استولى العدو على الأندلس كلها فهو خرابها. أعاد اللّه عمارتها بالإسلام. آمين.
وقال فى حسن المحاضرة : وأخرج الحاكم فى المستدرك عن كعب قال : الجزيرة آمنة من الخراب حتى تخرب أرمينية - والجزيرة أرض بالبصرة ، وموضع باليمامة ، لا جزيرة الأندلس - ثم قال : ومصر آمنة من الخراب حتى تخرب الجزيرة : والكوفة آمنة من الخراب حتى تخرب مصر ، ولا تكون الملحمة حتى تخرب الكوفة ، ولا تفتح مدينة الكفر حتى تكون الملحمة ، ولا يخرج الدجال حتى تفتح مدينة الكفر. قال : وأخرج الديلمي فى مسند الفردوس ، وأورده القرطبي فى التذكرة من حديث حذيفة مرفوعا : يبدو الخراب فى أطراف الأرض ، حتى تخرب مصر ، ومصر آمنة من الخراب حتى تخرب البصرة ، وخراب البصرة من العراق ، وخراب مصر من جفاف النيل ، وخراب مكة من الحبشة ، وخراب المدينة من الجوع ، وخراب اليمن من الجراد ، وخراب الأبلة من الحصار ، وخراب فارس من الصعاليك ، وخراب الترك من الديلم ، وخراب الديلم من الأرمن ، وخراب الأرمن من الخرز ، وخراب(3/209)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 210
الخرز من الترك ، وخراب الترك من الصواعق ، وخراب السند من الهند ، وخراب الهند من الصين ، وخراب الصين من الرمل ، وخراب الحبشة من الرجفة ، وخراب العراق من القحط. ه.
قلت : وسكت عن المغرب ، ولعله المعنىّ بقوله عليه الصلاة والسلام : «لا تزال طائفة من أمّتى ظاهرين على الحقّ حتّى يأتى أمر اللّه» «1». زاد فى رواية : وهم أهل المغرب ، ورجحه صاحب المدخل «2» ، قال : لأنهم متمسكون بالسنة أكثر من المشرق «3». واللّه تعالى أعلم بغيبه.
الإشارة : القرية محل تقرر السر ، وهو القلب ، فإما أن يهلكه اللّه بالتلف والضلال ، وإما أن يعذبه عذابا شديدا بالمجاهدات والمكابدات ، ثم ينعمه نعيما كبيرا بالمشاهدات والمناجاة. كان ذلك فى الكتاب مسطورا ، فريق فى الجنة وفريق فى السعير.
ثم أجاب عن تأخر الآيات بعد اقتراحها ، فقال :
[سورة الإسراء (17) : آية 59]
وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلاَّ أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلاَّ تَخْوِيفاً (59)
قلت : (أَنْ نُرْسِلَ) : مفعول «منعنا» ، و(إِلَّا أَنْ كَذَّبَ) : فاعل.
يقول الحق جل جلاله : وما صرفنا عن إرسال الآيات التي اقترحتها قريش بقولهم : اجعل لنا الصّفا ذهبا ، إلا تكذيب الأولين بها ، فهلكوا ، وهم أمثالهم فى الطبع ، كعاد وثمود ، وأنها لو أرسلت لكذبوها ، فيهلكوا أمثالهم ، كما مضت به سنتنا ، وقد قضينا فى أزلنا ألا نستأصلهم لأن فيهم من يؤمن ، أو يلد من يؤمن.
ثم ذكر بعض الأمم المهلكة بتكذيب الآيات المقترحة فقال : وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ بسبب سؤالهم ، مُبْصِرَةً بينة ذات إبصار ، أو بصائر واضحة الدلالة ، يدركها كلّ من يبصرها. فَظَلَمُوا بِها فكفروا بها ، أو : فظلموا أنفسهم بسبب عقرها ، فهلكوا ، وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ المقترحة إِلَّا تَخْوِيفاً من نزول العذاب المستأصل ، فإن لم يخافوا نزل بهم ، أو : وما نرسل بالآيات غير المقترحة ، كالمعجزات وآيات القرآن ، إلا تخويفا بعذاب الآخرة فإن أمر من بعث إليهم مؤخر إلى يوم القيامة. قاله البيضاوي.
___________
(1) أخرجه البخاري فى (المناقب. باب 28) ومسلم فى (الإمارة ، باب قوله صلى اللّه عليه وسلم : لا تزال طائفة من أمتى ظاهرين على الحق» من حديث معاوية رضي اللّه عنه.
(2) هو ابن الحاج العبدري صاحب «المدخل إلى الشرع الشريف».
(3) فى تعيين هذه الطائفة يقول الإمام النووي : يحتمل أن هذه الطائفة مفرقة بين أنواع المؤمنين ، منهم شجعان مقاتلون ، ومنهم فقهاء محدثون ، ومنهم زهاد ، وآمرون بالمعروف وناهون عن المنكر ، ومنهم أهل أنواع أخرى من الخير ، ولا يلزم أن يكونوا مجتمعين ، بل قد يكونون متفرقين فى أقطار الأرض. ه.(3/210)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 211
قال فى الحاشية : ومقتضى حديث الكسوف ، وقوله فيه : «ذلك يخوف بهما عباده» : أن التخويف لا يختص بالخوارق ، بل يعم غيرها ، مما هو معتاد نفيه ، ويأتى غبا. وفى الوجيز : (بِالْآياتِ) أي : العبر والدلالات. وفى الورتجبي : الآيات هى : الشباب والكهولة والشيبة ، وتقلب الأحوال بك ، لعلك تعتبر بحال ، أو تتعظ بوقت. ه.
الإشارة : إمساك الكرامات عن المريد السائر أو الولي : رحمة واعتناء به ، فلعله حين تظهر له ، يقف معها ويستحسن حاله ، أو يزكى نفسه ويرفع عنها عصا التأديب ، فيقف عن السير ، ويحرم الوصول إلى غاية الكمال ، وفى الحكم : «ما أرادت همة سالك أن تقف عند ما كشف لها ، إلا نادته هواتف الحقيقة : الذي تطلب أمامك». وقال الششترى رضي اللّه عنه :
ومهما ترى كلّ المراتب تجتلى عليك ، فحل عنها ، فعن مثلها حلنا
وقل : ليس لى فى غير ذاتك مطلب فلا صورة تجلى ، ولا طرفة تجنى
ولما نزّه تعالى نفسه فى أول السورة عن الجهة ، التي توهمها قضية الإسراء ، صرّح هنا بأنه محيط بكل مكان وزمان ، لا يختص بمكان دون مكان ، فقال :
[سورة الإسراء (17) : آية 60]
وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَما يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْياناً كَبِيراً (60)
يقول الحق جل جلاله : وَإِذْ قُلْنا لَكَ فيما أوحينا إليك إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ علما وقدرة ، وأسرار وأنوارا ، كما يليق بجلاله وتجليه ، فلا يختص بمكان ولا زمان ، بل هو مظهر الزمان والمكان ، وقد كان ولا زمان ولا مكان ، وهو الآن على ما عليه كان ، وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ فى قضية الإسراء ، قال ابن عباس : «هى رؤيا عين» حيث رأى أنوار جبروته فى أعلى عليين ، وشاهد أسرار ذاته أريناك ذلك فى ذلك المكان إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ اختبارا لهم ، من يصدق بذلك ولا يكيف ، ومن يجحده من الكفرة. ومن يقف مع ظاهره ، فيقع فى التجسيم والتحييز ، ومن تنهضه السابقة إلى التعشق فيجاهد نفسه حتى تعرج روحه إلى عالم الملكوت ، فتكاشف بإحاطة أسرار الذات بكل شىء.
وإنما خص الحق تعالى إحاطته بالناس ، مع أنه محيط بكل شىء ، كما فى الآية الأخرى : أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ «1» لأنهم المقصودون بالذات من هذا العالم ، وما خلق إلا لأجلهم. فاكتفى بالإحاطة بهم عن إحاطته بكل شىء.
___________
(1) من الآية 54 من سورة فصلت.(3/211)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 212
ثم قال تعالى : وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وهى : شجرة الزقوم ، أي : ما جعلناها إلا فتنة للناس. وذلك أن قريشا لما سمعوا أن فى جهنم شجرة الزقوم ، سخروا من ذلك ، فافتتنوا بها ، حيث أنكروها ، وكفروا بالقرآن ، وقالوا : كيف تكون شجرة فى النار ، والنار تحرق الشجر؟! وقفوا مع الإلف والعادة ، ولم ينفذوا إلى عموم تعلق القدرة. ومن قدر على حفظ وبر السّمندل «1» منها ، وهو يمشى فيها ، قدر على أن يخلق فى النار شجرة ، ولم تحرقها. وقال أبو جهل : ما أعرف الزقوم إلا التمر بالزبد. فإن قيل : أين لعنت شجرة الزقوم فى القرآن؟ فالجواب :
أن المراد لعنة آكلها ، وقيل : إن اللعنة هنا بمعنى الإبعاد ، وهى فى أصل الجحيم.
قال تعالى : وَنُخَوِّفُهُمْ بأنواع التخويف ، أو بالزقوم ، فَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْياناً كَبِيراً عتوا مجاوزا للحد.
الإشارة : الأكوان ثابتة بإثباته ، ممحوة بأحدية ذاته. فإذا انمحت الأكوان ثبتت وحدة المكون. «كان اللّه ولا شىء معه ، وهو الآن على ما كان عليه» ، من قامت به الأشياء ، وهو وجودها ونور ذاتها ، ومحيط بها ، كيف تحصره ، أو تحيزه ، أو تحول بينه وبين موجوداته؟ قيل لسيدنا على - كرم اللّه وجهه - : يا ابن عم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم :
أين كان ربنا قبل خلق الأشياء؟ فتغير وجهه ، وسكت ، ثم قال : قولكم : أين؟ يقتضى المكان ، وكان اللّه ولا زمان ولا مكان ، وهو الآن على ما عليه كان. ه.
وقال الشيخ الشاذلى : (قيل لى : يا على بي قل ، وعلى دل ، وأنا الكل). وفى الحديث : «لا تسبّوا الدهر ، فإنّ اللّه هو الدّهر ، بيده الليل والنّهار» ، ولا يفهم هذا على التحقيق إلا أهل الذوق ، بصحبة أهل الذوق. وإلا فسلّم تسلم ، واعتقد التنزيه وبطلان التشبيه. وباللّه التوفيق ، وهو الهادي إلى سواء الطريق.
ثم بيّن عداوة إبليس المتقدمة فى قوله : إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً ، فقال :
[سورة الإسراء (17) : الآيات 61 الى 64]
وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ قالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً (61) قالَ أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً (62) قالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً (63) وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاَّ غُرُوراً (64)
___________
(1) السّمندل : طائر ، إذا انقطع نسله ، وهرم ، ألقى نفسه فى الجمر ، فيعود إلى شبابه. وقيل : هو دابة ، يدخل النار فلا تحرقه .. انظر اللسان (سمندل 3/ 2105).(3/212)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 213
قلت : (طِيناً) : منصوب على إسقاط الخافض ، أو : حال من الراجع إلى الموصول ، و(أَ رَأَيْتَكَ) : الكاف للخطاب ، لا موضع لها. وتقدم الكلام عليه فى سورة الأنعام «1». و(هذَا) : مفعول «أرأيت» ، و(جزاء) : مصدر ، والعامل فيه :
«جَزاؤُكُمْ» ، فإنّ المصدر ينصب بمثله أو فعله أو وصفه ، وقيل : حال موطئة لقوله : «مَوْفُوراً».
يقول الحق جل جلاله : وَاذكر إِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ امتنع ، وقالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً أي : من طين فهو أصله من الطين ، وأنا أصلى من النار ، فكيف أسجد له وأنا خير منه؟! ثم قالَ إبليس : أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ أي : أخبرنى عن هذا الذي كرمته علىّ بأمرى بالسجود له ، لم كرمته علىّ؟ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ أي : واللّه لئن أخرتن إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ لأستأصلن من احتنكت السّنة أموالهم أي : استأصلتها. أي : لأهلكن ذُرِّيَّتَهُ بالإغواء والإضلال ، إِلَّا قَلِيلًا أو : لأميلنهم وأقودنّهم ، مأخوذ من تحنيك الدابة ، وهو أن يشد على حنكها بحبل فتنقاد. أي :
لأقودنهم إلى عصيانك ، إلا قليلا ، فلا أقدر أن أقاوم شكيمتهم لما سبق لهم من العناية.
قال ابن عطية : وحكم إبليس على ذرية آدم بهذا الحكم من حيث رأى الخلقة مجوفة مختلفة الأجزاء ، وما اقترن بها من الشهوات والعوارض كالغضب ونحوه ، ثم استثنى القليل لعلمه أنه لا بد أن يكون فى ذريته من يصلب فى طاعة اللّه. ه. قلت : إنما يحتاج إلى هذا : من وقف مع ظاهر الحكمة فى عالم الحس ، وأما من نفذ إلى شهود القدرة فى عالم المعاني : فلا.
قالَ تعالى : اذْهَبْ امض لما قصدته ، وهو : طرد وتخلية لما بينه وبين ما سولت له نفسه. فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ التفت إلى الخطاب ، وكان الأصل أن يقال : جزاؤهم ، بضمير الغيبة ليرجع إلى فَمَنْ تَبِعَكَ ، لكنه غلب المخاطب ليدخل إبليس معهم ، فتجازون على ما فعلتم جَزاءً مَوْفُوراً وافرا مكملا ، لا نقص فيه. وَاسْتَفْزِزْ استخفف ، أو اخدع مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ أن تستفز بِصَوْتِكَ بدعائك إلى الفساد ، وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ أي : صح عليهم ، من الجلبة ، وهى : الصياح ، بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ أي : بأعوانك من راكب وراجل ، قيل : هو مجاز ، أي : افعل بهم جهدك. وقيل : إن له من الشياطين خيلا ورجالا. وقيل : المراد : بيان الراكبين فى طلب المعاصي ، والماشين إليها بأرجلهم. وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ بحملهم على كسبها وجمعها من الحرام ، والتصرف فيها على ما لا ينبغى ، كإنفاقها فى المعاصي ، وَالْأَوْلادِ بالحث على التوصل إلى الولد بالسبب الحرام ، كالزنى وشبهه من فساد الأنكحة ، وكتسمية الولد عبد شمس وعبد الحارث وعبد العزى.
___________
(1) راجع تفسير الآية 40 من سورة الأنعام.(3/213)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 214
وقال فى الإحياء : قال يونس بن زيد : بلغنا أنه يولد مع أبناء الإنس من أبناء الجن ، ثم ينشأون معهم. قال ابن عطية : وما أدخله النقّاش من وطء الجن ، وأنه يحبل المرأة من الإنس ، فضعيف كله. ه. قال فى الحاشية :
وضعفه ظاهر ، والآية مشيرة لرده لأنها إنما أثبتت المشاركة فى الولد ، لا فى الإيلاء ، فإنه لم يرد ، ولو قيل به لكان ذريعة لفساد كبير ، ولكان شبهة يدرأ بها الحد ، ولا قائل بذلك. وانظر الثعالبي الجزائرى فقد ذكر حكاية فى المشاركة فى الوطء عمن اتفق له ذلك ، فاللّه أعلم. وأما عكس ذلك إيلاء الإنسى الجنية ، فأمر لا يحيله العقل ، وقد جاء الخبر به فى أمر بلقيس «1». قاله المحشى الفاسى.
وَعِدْهُمْ بأن لا بعث ولا حساب ، أو المواعد الباطلة كشفاعة الآلهة ، والاتكال على كرامة الآباء ، وتأخير التوبة ، وطول الأمل ، وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً وباطلا. والغرور : تزيين الخطأ بما يوهم أنه صواب. قاله البيضاوي.
الإشارة : ينبغى لك أيها الإنسان أن تكون مضادا للشيطان ، فإذا امتنع من الخضوع لآدم فاخضع أنت لأولاد آدم بالتواضع واللين ، وإذا كان هو مجتهدا فى إغواء بنى آدم بما يقدر عليه ، فاجتهد أنت فى نصحهم وإرشادهم ، وتعليمهم ووعظهم وتذكيرهم ، بقدر ما يمكنك ، واستعمل السير إليهم بخيلك ورجلك ، حتى تنقذهم من غروره وكيده. وإذا كان هو يدلهم على الشرك الجلى والخفي ، فى أموالهم وأولادهم ، فدلّهم أنت على التوحيد ، والإخلاص ، فى اعتقادهم وأعمالهم وأموالهم. وإذا كان يعدهم بالمواعد الكاذبة ، فعدهم أنت بالمواعد الصادقة كحسن الظن باللّه ، إن صحبه العمل بما يرضيه. فإن فعلت هذا كنت من عباد اللّه الذين ليس له عليهم سلطان ، كما أشار إليهم بقوله :
[سورة الإسراء (17) : الآيات 65 الى 69]
إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلاً (65) رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (66) وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً (67) أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً (68) أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تارَةً أُخْرى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قاصِفاً مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِما كَفَرْتُمْ ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعاً (69)
قلت : (أَ فَأَمِنْتُمْ) : الهمزة للتوبيخ ، والفاء للعطف على محذوف ، أي : أنجوتم من البحر فأمنتم.
___________
(1) قصة سيدنا سليمان من أكثر القصص امتلاء بالإسرائيليات ، فعليك بما هو فى القرآن ، وما صح من حديث رسولنا الكريم صلى اللّه عليه وسلم. [.....](3/214)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 215
يقول الحق جل جلاله : إِنَّ عِبادِي المخلصين ، الذين يتوكلون علىّ فى جميع أمورهم ، لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ أي : تسلط وقدرة على إغوائهم حيث التجئوا إلىّ ، واتخذوني وكيلا وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلًا حافظا لمن توكل عليه ، فيحفظهم منك ومن أتباعك.
ثم ذكر ما يحث على التعلق به ، والتوكل عليه فى جميع الأحوال الدينية والدنيوية ، فقال : رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي يجرى لَكُمُ الْفُلْكَ ويسيرها فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ بالتجارة والربح ، وجلب أنواع الأمتعة التي لا تكون عندكم ، إِنَّهُ كانَ بِكُمْ رَحِيماً فى تسخيرها لكم حيث هيأ لكم ما تحتاجون إليه فى سيرها ، وسهل عليكم ما يعسر من أسباب معاشكم ومعادكم.
وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ يعنى : خوف الغرق ، ضَلَّ غاب عنكم مَنْ تَدْعُونَ من تعبدون من الآلهة. أو : من تستغيثون به فى حوادثكم ، إِلَّا إِيَّاهُ وحده ، فإنكم حينئذ لا يخطر ببالكم سواه ، ولا تدعون ، لكشفه ، إلا إياه ، فكيف تعبدون غيره ، وأنتم لا تجدون فى تلك الشدة إلا إياه؟ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ من الغرق إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ عن التوحيد ، أو عن شكر النعمة ، وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً بالنعم ، جحودا لها ، إلا القليل ، وهو كالتعليل للإعراض.
أَفَأَمِنْتُمْ أي : أنجوتم من البحر ، وأمنتم أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ بأن يقلبه عليكم وأنتم عليه ، أو يخسف بكم فى جوفه ، كما فعل بقارون ، أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً أي : ريحا حاصبا ، يرميكم بحصباء كقوم لوط ، ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا حافظا لكم منه ، فإنه لا راد لفعله. أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تارَةً أُخْرى بأن يخلق فيكم دواعى تحملكم إلى أن ترجعوا لتركبوا فيه فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قاصِفاً مِنَ الرِّيحِ أي : ريحا شديدة ، لا تمر بشىء إلا قصفته ، أي : كسرته ، فَيُغْرِقَكُمْ ، وعن يعقوب : «فتغرقكم» على إسناده إلى ضمير الريح. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو : بنون التكلم فى الخمسة. يفعل ذلك بكم بِما كَفَرْتُمْ بكفركم ، أي : بسبب إشراككم ، أو كفرانكم نعمة الإنجاء ، ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعاً مطالبا يتبعنا بثأركم ، كقوله : وَلا يَخافُ عُقْباها «1» ، أو : لا تجدوا نصيرا ينصركم منه. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : العباد الذين ليس للشيطان عليهم سلطان ، هم الذين أضافهم إلى نفسه بأن اصطفاهم لحضرة قدسه ، وشغلهم بذكره وأنسه ، لم يركنوا إلى شىء سواه ، ولم يلتجئوا إلّا إلى حماه. فلا جرم أنه يحفظهم برعايته ، ويكلؤهم بسابق عنايته. فظواهرهم قائمة بآداب العبودية ، وبواطنهم مستغرقة فى شهود عظمة الربوبية. فلمّا قاموا بخدمة الرحمن ، حال بينهم وبين كيد الشيطان ، وقال لهم : ربكم الذي يزجى لكم فلك الفكرة فى بحر الوحدة لتبتغوا
___________
(1) الآية 15 من سورة الشمس.(3/215)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 216
الوصول إلى حضرة الأحدية ، إنه كان بكم رحيما. ثم إذا غلب عليكم بحر الحقيقة ، وغرقتم فى تيار الذات ، غاب عنكم كل ما سواه ، وطلبتم منه الرجوع إلى بر الشريعة ، فلما نجاكم إلى البر أعرضتم عن شهود السّوى ، وجحدتم وجوده ، لكن القلوب بيد الرحمن ، يقلبها كيف شاء فلا يأمن العارف من المكر ، ولو بلغ ما بلغ ، ولذلك قال : أفأمنتم أن يخسف بكم جانب البر فتغرقون فى الحس ، وتشتغلون بعبادة الحس ، أو يرسل عليكم حاصبا : واردا قهّاريّا ، يخرجكم عن حد الاعتدال ، أم أمنتم أن يعيدكم فى بحر الحقيقة ، تارة أخرى ، بعد الرجوع للبقاء ، فيرسل عليكم واردا قهاريا يخرجكم عن حد الاعتدال ، ويحطكم عن ذروة الكمال ، ثم لا تجدوا لكم علينا به تبيعا. واللّه تعالى أعلم.
ثم ذكر كرامة بنى آدم ، وتفضيلهم ردّا لقول الشيطان «أرأيتك هذا الذي كرمت عليّ» ، فقال :
[سورة الإسراء (17) : آية 70]
وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً (70)
يقول الحق جل جلاله : وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ قاطبة ، برهم وفاجرهم ، أي : كرمناهم بالصورة الحسنة ، والقامة المعتدلة ، والتمييز بالعقل ، والإفهام بالكلام ، والإشارة والخط ، والتهدى إلى أسباب المعاش والمعاد ، والتسلط على ما فى الأرض ، والتمتع به ، والتمكن من الصناعات ، وغير ذلك مما لا يكاد يحيط به نطاق العبارة. ومن جملته : ما ذكره ابن عباس رضي اللّه عنه من أن كل حيوان يتناول طعامه بفيه ، إلا الإنسان يرفعه إليه بيده ، وأما القرد فيده بمنزلة رجله لأنه يطأ بها القاذورات فسقطت حرمتها.
وَحَمَلْناهُمْ أي : بنى آدم ، فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ على الدواب والسفن فيمشون محمولين فى البر والبحر.
يقال : حملته حملا : إذا جعلت له ما يركب. وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ من فنون النعم ، وضروب المستلذات ممّا يحصل بصنعهم وبغير صنعهم ، وَفَضَّلْناهُمْ بالعلوم والإدراكات ، مما ركّبنا فيهم عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا وهم : من عدا الملائكة - عليهم السلام - . تَفْضِيلًا عظيما ، فحق عليهم أن يشكروا هذه النعم ولا يكفروها ، ويستعملوا قواهم فى تحصيل العقائد الحقّيّة ، ويرفضوا ما هم عليه من الشرك ، الذي لا يقبله أحد ممن له أدنى تمييز ، فضلا عمن فضّل على من عدا الملأ الأعلى ، والمستثنى جنس الملائكة ، أو الخواص منهم ، ولا يلزم من عدم تفضيل الجنس عدم تفضيل جنس بنى آدم على الملائكة ، عدم تفضيل بعض أجزائه كالأنبياء والرسل ، فإنهم أفضل من خواص الملائكة ، وخواص الملائكة - كالمقربين مثلا - أفضل من خواص بنى آدم ، كالأولياء ، والأولياء أفضل من عوام الملائكة. واللّه تعالى أعلم.(3/216)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 217
الإشارة : قد كرّم اللّه هذا الآدمي ، وشرفه على خلقه بخصائص جعلها فيه ، منها : أنه جعله نسخة من الوجود ، فيه ما فى الوجود ، وزيادة ، قد انطوت فيه العوالم بأسرها ، من عرشها إلى فرشها ، وإلى هذا المعنى أشار ابن البنا ، فى مباحثه ، حيث قال :
يا سابقا فى موكب الإبداع ولا حقا فى جيش الاختراع
اعقل فأنت نسخة الوجود للّه ما أعلاك من موجود
أليس فيك العرش والكرسىّ والعالم العلوىّ والسّفلىّ
ما الكون إلا رجل كبير وأنت كون مثله صغير
وقال آخر :
إذا كنت كرسيّا ، وعرشا ، وجنّة ، ونارا ، وأفلاكا تدور ، وأملاكا
وكنت من السّرّ المصون حقيقة وأدركت هذا بالحقيقة إدراكا
ففيم التّأنّى فى الحضيض تثبّطا مقيما مع الأسرى ، أما آن إسراكا؟!
ومنها : أنه جعله خليفة فى ملكه ، وجعل الوجود بأسره خادما له ، ومنتفعا به ، الأرض تقله ، والسماء تظله ، والجهات تكتنفه ، والحيوانات تخدمه ، والملائكة تستغفر له ، إلى غير ذلك مما لا يعلمه الخلق. قال تعالى : وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ «1».
ومنها : أن جعل ذاته مشتملة على الضدين : النور والظلمة ، الكثافة واللطافة ، الروحانية والبشرية ، الحس والمعنى ، القدرة والحكمة ، العبودية وأسرار الربوبية ، إلى غير ذلك. ولذلك خصه بحمل الأمانة.
ومنها : أنه جعله قلب الوجود ، هو المنظور إليه من هذا العالم ، وهو المقصود الأعظم من إيجاد هذا الكون ، فهو المنعّم دون غيره ، إن أطاع اللّه ، ألا ترى قوله تعالى : وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ «2» ، فنعيم الجنان خاص بهذا الإنسان ، أو : من التحق به من مؤمنى الجان. وقال الورتجبي : كرامة اللّه تعالى لبنى آدم سابقة
___________
(1) من الآية 13 من سورة الجاثية.
(2) من الآية 75 من سورة الزمر.(3/217)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 218
على كون الخلق جميعا لأنها من صفاته ، واختياره ، ومشيئته الأولية. أوجد الخلق برحمته ، وخلق آدم وذريته بكرامته ، الخلق كلهم فى حيز الرحمة ، وآدم وذريته فى حيز الكرامة. الرحمة للعموم ، والكرامة للخصوص. خلق الكلّ لآدم وذريته ، وخلق آدم وذريته لنفسه ، ولذلك قال : وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي «1» ، جعل آدم خليفته ، وجعل ذريته خلفاء أبيهم ، الملائكة والجن فى خدمتهم ، والأمر والنهى والخطاب معهم ، والكتاب أنزل إليهم ، والجنة والنار والسموات والأرض والشمس والقمر والنجوم ، وجميع الآيات ، خلق لهم. والخلق كلهم طفيل لهم ، ألا ترى اللّه يقول لحبيبه صلى اللّه عليه وسلم : «لولاك ما خلقت الكون»؟ ولهم كرامة الظاهر ، وهى : تسوية خلقهم ، وظرافة صورهم ، وحسن نظرتهم ، وجمال وجوههم ، حيث خلق فيها السمع والأبصار والألسنة ، واستواء القامة ، وحسن المشي ، والبطش ، وإسماع الكلام ، والتكلم باللسان ، والنظر بالبصر ، وجميع ذلك ميراث فطرة آدم ، التي صدرت من حسن اصطناع صورته. الذي قال : خَلَقْتُ بِيَدَيَّ «2» ، فنور وجوههم من معادن نور الصفة ، وأنوار الصفات نوّرت آدم وذريته ، فتكون نورا من حيث الصفات والهيئات ، والحسن والجمال ، متصفون متخلقون بالصفات الأزلية ، لذلك قال عليه الصلاة والسلام : «خلق آدم على صورته» من حيث التخلق لا من حيث التشبيه. انظر تمامه.
والحاصل أنه فضلهم بالخلق والخلق ، وذلك يجمع محاسن الصورة الظاهرة والباطنة. ه. قاله المحشى الفاسى.
ثم ذكر محل ظهور كرامة بنى آدم ، وهو يوم القيامة ، فقال :
[سورة الإسراء (17) : الآيات 71 الى 72]
يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (71) وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلاً (72)
قلت : يجوز فى (أَعْمى ) - الثاني - : أن يكون وصفا كالأول ، وأن يكون من أفعل التفضيل ، وهو أرجح لعطف «وَأَضَلُّ» عليه ، الذي هو للتفضيل. وقال سيبويه : لا يجوز أن يقال : هو أعمى من كذا ، وإنما يقال : هو أشد عمى ، لكن إنما يمتنع ذلك فى عمى البصر ، لا فى عمى القلب. قاله ابن جزى.
يقول الحق جل جلاله : واذكر يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ بنبيهم. فيقال : يا أمّة فلان ، يا أمة فلان ، احضروا للحساب. أو : بكتاب أعمالهم ، فيقال : يا صاحب الخير ويا صاحب الشر ، فهو مناسب لقوله : (فَمَنْ أُوتِيَ ...) إلخ.
___________
(1) من الآية 41 من سورة طه.
(2) من الآية 75 من سورة ص.(3/218)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 219
وقال محمد بن كعب القرظي : بأسماء أمهاتهم ، فيكون جمع «أم» ، كخف وخفاف ، لكن فى الحديث : «إنكم تدعون يوم القيامة بأسمائكم وأسماء آبائكم» «1» ، ولعل ما قاله القرظي مخصوص بأولاد الزنا. وفى البيضاوي :
قيل : بأمهاتهم ، والحكمة فى ذلك : إجلال عيسى وإظهار شرف الحسن والحسين ، وألا يفتضح أولاد الزنى. ه.
وقال أبو الحسن الصغير : قيل لأبى عمران : هل يدعى الناس بأمهاتهم يوم القيامة أو بآبائهم؟ قال : قد جاء فى ذلك شىء أنهم يدعون بأمهاتهم فلا يفتضحوا. وفى البخاري - باب يدعى الناس بآبائهم ، وساق حديث ابن عمر :
«ينصب لكلّ غادر لواء يوم القيامة. يقال : هذه غدرة فلان ابن فلان» «2» ، فظاهر الحديث أنهم يدعون بآبائهم ، وهو الراجح ، إلا فيمن لا أب له. واللّه تعالى أعلم.
ثم قال تعالى : فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ أي : فمن أوتى صحيفة أعماله ، يومئذ ، من أولئك المدعوين بيمينه إظهارا لخطر الكتاب ، وتشريفا لصاحبه ، وتبشيرا له من أول الأمر ، فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ المؤتى لهم. والإشارة إلى «من» : باعتبار معناها لأنها واقعة على الجمع إيذانا بأنهم حزب مجتمعون على شأن جليل ، وإشعارا بأن قراءتهم لكتبهم يكون على وجه الاجتماع ، لا على وجه الانفراد كما فى حال الدنيا. وأتى بإشارة البعيد إشعارا برفع درجاتهم ، أي : أولئك المختصون بتلك الكرامة ، التي يشعر بها الإيتاء المذكور ، يقرأون كتابهم وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا ولا ينقصون من أجور أعمالهم المرسومة فى صحيفتهم أدنى شىء ، فإن الفتيل - وهو :
قشر النواة - مثل فى القلة والحقارة.
ثم ذكر أهل الأخذ بالشمال فقال : وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ الدنيا ، التي فعل بهم ما فعل من فنون التكريم والتفضيل ، أَعْمى فاقد البصيرة ، لا يهتدى إلى رشده ، ولا يعرف ما أوليناه من نعمة التكرمة والتفضيل ، فضلا عن شكرها والقيام بحقوقها ، ولا يستعمل ما أودعنا فيه من العقل والقوى ، فيما خلق له من العلوم والمعارف ، فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى كذلك ، لا يهتدى إلى ما ينجيه مما يرديه لأن النجاة من العذاب والتنعم بأنواع النعم الأخروية مرتب على العمل فى الدنيا ، ومعرفة الحق ، ومن عمى عنه فى الدنيا فهو فى الآخرة أشد عمى عما ينجيه ، وَأَضَلُّ سَبِيلًا عنه لزوال الاستعداد الممكن لسلوك طريق النجاة. وهذا بعينه هو الذي أخذ كتابه
___________
(1) أخرجه أحمد فى المسند (5/ 194) ، وأبو داود فى (الأدب ، باب فى تغيير الأسماء) عن أبى الدرداء ، وصححه الهيثمي فى المجمع (3/ 69).
(2) أخرجه البخاري فى (كتاب الأدب ، باب يدعى الناس بآبائهم).(3/219)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 220
بشماله ، بدلالة ما سبق من القبيل المقابل ، ولعل العدول عن التصريح به إلى ذكره بهذا العنوان للإشعار بالعلة الموجبة له ، فإنّ العمى عن الحق والضلال هو السبب فى الأخذ بالشمال ، وهذا كقوله فى الواقعة : وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ «1» ، بعد قوله : وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ «2». واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : يدعو الحق تعالى ، يوم القيامة ، الأمم إلى الحساب بأنبيائها ورسلها ، ثم يدعوهم ، ثانيا ، للكرامة بأشياخها وأئمتها التي كانت تدعوهم إلى الحق على الهدى المحمدي. فيقال : يا أصحاب فلان ، ويا أصاحب فلان ، اذهبوا إلى الجنة ، لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون. وهذا فى حق أهل الحق والتحقيق ، الدالين على سلوك الشريعة ، والتمسك بأنوار الحقيقة ذوقا وكشفا ، فكل من تبعهم ، وسلك منهاجهم ، كان من السبعين ألفا الذين يدخلون الجنة بغير حساب ، وهم : أولياء اللّه الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون. وأما من لم يكن من حزبهم ، ولم يدخل تحت تربيتهم ، فإن استعمل عقله وقواه فيما ينجيه يوم القيامة كان من الذين يؤتون كتابهم بيمينهم ، ولا يظلمون فتيلا. ومن أهل عقله واستعمل قواه فى البطالة والهوى ، كان من القبيل الذي عاش فى الدنيا أعمى ، ويكون فى الآخرة أعمى وأضل سبيلا ، والعياذ باللّه.
ثم ذكر نوعا من هذا القبيل ، الذي أعمى اللّه بصيرته ، فقال :
[سورة الإسراء (17) : الآيات 73 الى 77]
وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَإِذاً لاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً (73) وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً (74) إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً (75) وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً (76) سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلاً (77)
قلت : «وَإِنْ» : مخففة من الثقيلة فى الموضعين ، واسمها : ضمير الشأن ، واللام هى الفارقة بينها وبين النافية ، أي : إن الشأن قاربوا أن يفتنوك. و(سُنَّةَ) : مفعول مطلق ، أي : سنّ اللّه ذلك سنة.
يقول الحق جل جلاله : وَإِنْ كادُوا أي : كفار العرب ، لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ من أمرنا ونهينا ، ووعدنا ووعيدنا ، لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ لتقول ما لم أقل لك ، مما اقترحوا عليك. نزلت فى ثقيف ،
___________
(1) الآية 92 من سورة الواقعة.
(2) الآية 90 من نفس السورة.(3/220)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 221
إذ قالوا للنّبى صلى اللّه عليه وسلم : لا ندخل فى أمرك حتى تعطينا خصالا نفتخر بها على العرب : لا نعشّر ، ولا نحشّر ، ولا نحنى فى صلاتنا ، وكلّ ربا لنا فهو لنا ، وكلّ ربا علينا فهو موضوع ، وأن تمتّعنا باللات سنة ، وأن تحّرم وادينا كما حرمت مكة ، فإذا قالت العرب : لم فعلت؟ فقل : اللّه أمرنى بذلك. فأبى عليهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم «1» ، وخّيب سعيهم. فالآية ، على هذا ، مدنية. وقيل : فى قريش ، قالوا للنبى صلى اللّه عليه وسلم : لا نمكنك من استلام الحجر ، حتى تلمّ بآلهتنا ، وتمسّها بيدك «2». وقيل : قالوا : اقبل بعض أمرنا ، نقبل بعض أمرك ، والآية ، حينئذ ، مكية كجميع السورة.
وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا أي : لو فعلت ما أرادوا منك لصرت لهم وليا وحبيبا ، ولخرجت من ولايتي ، وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ على ما أنت عليه من الحق بعصمتنا لك ، لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا من الركون ، الذي هو أدنى ميل ، أي : لو لا أن عصمناك ، لقاربت أن تميل إليهم لقوة خدعهم ، وشدة احتيالهم. لكن عصمتنا منعتك من المقاربة. وهو صريح فى أنه - عليه الصلاة والسلام - ما همّ بإجابتهم ، مع قوة الداعي إليها ، ولا قارب ذلك. وهو دليل على أن العصمة بتوفيق اللّه وحفظه. قاله البيضاوي. وفيه رد على ابن عطية ، حيث قال :
قيل : إنه همّ بموافقتهم ، لكن كان ذلك خطرة ، والصواب : عدم ذلك لأن التثبيت والعصمة مانع من ذلك.
وقد أجاد القشيري فى ذلك ، ونصه : ضربنا عليك سرادقات العصمة ، وآويناك فى كنف الرعاية ، وحفظناك عن خطر اتباع هواك ، فالزّلل منك محال ، والافتراء فى نعتك غير موهوم ، ولو جنحت لحظة إلى جانب الخلاف لتضاعفت عليك شدائد البلاء لكمال قدرك وعلوّ شأنك فإنّ كل من هو أعلى درجة فذنبه - لو حصل - أشدّ تأثيرا.
وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ ... الآية : لو وكلناك ونفسك ، ورفعنا عنك ظلّ العصمة ، لقاربت الإمام بشىء مما لا يجوز من مخالفة أمرنا ، ولكنّا أفردناك بالحفظ ، بما لا تتقاصر عنك آثاره ، ولا تغرب عن ساحتك أنواره. إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ ، هبوط الأكابر على قدر صعودهم. ه.
إِذاً أي : لو قاربت أن تركن إليهم أدنى ركون لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ عذاب الْحَياةِ ، وَضِعْفَ عذاب الْمَماتِ ، أي : مثلى ما يعذّب غيرك فى الدنيا والآخرة لأن خطأ الخطير أخطر. وكأن أصل الكلام : عذابا ضعفا فى الحياة ، وعذابا ضعفا فى الممات ، أي : مضاعفا ، ثم حذف الموصوف ، وأقيمت الصفة مقامه ، ثم أضيفت
___________
(1) قال الحافظ ابن حجر فى الكافي الشاف : «لم أجده ، وذكره الثعلبي عن ابن عباس من غير سند». وذكره الواحدي فى الأسباب (ص 297) بدون سند أيضا.
(2) أخرجه الطبري (15/ 130) عن سعيد بن جبير ، بسند ضعيف.(3/221)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 222
إضافة موصوفها. وقيل : الضعف من أسماء العذاب. وقيل : المراد بضعف الحياة : عذاب الآخرة لأن حياته دائمة ، وبضعف الممات : عذاب القبر. ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً يدفع عنك العذاب.
وَإِنْ كادُوا أي : كاد أهل مكة لَيَسْتَفِزُّونَكَ ليزعجونك بعداوتهم ومكرهم مِنَ الْأَرْضِ التي أنت فيها. وهى : أرض مكة ، لِيُخْرِجُوكَ مِنْها وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلَّا قَلِيلًا إلا زمنا قليلا. وقد كان كذلك ، فإنهم أهلكوا ببدر بعد هجرته صلى اللّه عليه وسلم ، وقيل : نزلت فى اليهود فإنهم حسدوا مقام النبي صلى اللّه عليه وسلم بالمدينة ، فقالوا :
الشام مقام الأنبياء ، فإن كنت نبيا فالحق بها حتى نؤمن بك. فوقع ذلك فى قلبه صلى اللّه عليه وسلم ، فخرج مرحلة ، فنزلت «1» ، فرجع صلى اللّه عليه وسلم ، ثم قتل منهم بنى قريظة ، وأجلى بنى النضير بقليل ، سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا أي :
عادته تعالى : أن يهلك من أخرجت رسلهم من بين أظهرهم ، فقد سنّ ذلك فى خلقه ، وأضافها إلى الرسل لأنها سنت لأجلهم. وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلًا أي : تغييرا وتبديلا.
الإشارة : من شأن العارف الكامل أن يأخذ بالعزائم ، ويأمر بما يقتل النفوس ، ويوصل إلى حضرة القدوس ، وهو كل ما يثقل على النفوس ، فإن أتاه من يفتنه ويرده إلى الهوى ، حفظته العناية ، واكتنفته الرعاية ، فيقال له :
وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك وحي إلهام ، لتفترى علينا غيره ، فتأمر بالنزول إلى الرخص والتأويلات ، وإذا لا تخذوك خليلا. ولو لا أن ثبتناك بالحفظ والرعاية ، لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا ، وهى :
خواطر تخطر ولا تثبت. إذا لأذقناك ضعف الحياة ، وهو : الذل والحرص والطمع. وضعف الممات ، وهو : السقوط عن مقام المقربين ، أهل الرّوح والريحان. وإن كادوا ليستفزونك من أرض العبودية ، ليخرجوك منها إلى إظهار الحرية ، من العز والجاه ، وإذا لا يلبثون خلافك ممن اتبعك إلا قليلا لأن من رجع إلى مباشرة الدنيا والحس قلّ مدده ، فيقل انتفاعه ، فلا يتبعه إلا القليل. هذه سنة اللّه فى أوليائه ، ولن تجد لسنة اللّه تحويلا.
ثم أمر بمراسم الشريعة ، التي هى عنوان العناية ، فقال :
[سورة الإسراء (17) : الآيات 78 الى 79]
أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً (78) وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً (79)
___________
(1) أخرجه ابن أبى حاتم فى تفسيره (7/ 2341) والبيهقي فى الدلائل (باب ماروى فى سبب خروج النبي صلى اللّه عليه وسلم) إلى تبوك عن عبد الرحمن بن غنم ، وضعف الحافظ ابن كثير فى تفسيره (3/ 53) هذا القول لأن هذه الآية مكية. وسكنى المدنية بعد ذلك.(3/222)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 223
قلت : الدلوك : الميل. واشتقاقه من الدّلك لأن من نظر إليها حينئذ يدلك عينه. واللام للتأقيت بمعنى : عند.
و(قُرْآنَ) : عطف على (الصَّلاةَ) ، أو منصوب بفعل مضمر ، أي : اقرأ قرآن الفجر ، أو على الإغراء.
يقول الحق جل جلاله : أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ أي : عند زوال الشَّمْسِ ، وهو إشارة إلى إقامة الصلوات الخمس ، فدلوك الشمس : زوالها وهو إشارة إلى الظهر والعصر ، وغسق الليل : ظلمته ، وهو إشارة إلى المغرب والعشاء ، وَقُرْآنَ الْفَجْرِ صلاة الصبح ، وإنما عبّر عن صلاة الصبح بقرآن الفجر لأن القرآن يقرأ فيها أكثر من غيرها لأنها تصلى بسورتين طويلتين ، ثم مدحها بقوله : إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار ، أو : يشهده الجم الغفير من المصلين ، أو فيه شواهد القدرة من تبدل الظلمة بالضياء ، والنوم ، الذي هو أخو الموت ، بالانتباه.
ثم أمر بقيام الليل فقال : وَمِنَ اللَّيْلِ أي : بعض الليل فَتَهَجَّدْ بِهِ أي : اترك الهجود ، الذي هو النوم فيه ، للصلاة بالقرآن ، نافِلَةً لَكَ أي : فريضة زائدة لك على الصلوات الخمس ، أو فريضة زائدة لك لاختصاص وجوبها بك ، أو نافلة زائدة لك على الفرائض غير واجبة. وكأنه ، لما أمر بالفرائض ، أمر بعدها بالنوافل. وتطوعه - عليه الصلاة والسلام لزيادة الدرجات ، لا لجبر خلل أو تكفير ذنب لأنه مغفور له ما تقدم وما تأخر. و«مِنَ» : للتبعيض ، والضمير فى «بِهِ» : للقرآن. والتهجد : السهر ، وهو : ترك الهجود ، أي : النوم. فالتفعل هنا للإزالة كالتأثم والتحرج ، لإزالة الإثم والحرج.
ثم ذكر ثوابه فى حقه - عليه الصلاة والسلام - فقال : عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً عندك وعند جميع الناس ، وهى : الشفاعة العظمى. وفيه تهوين لمشقة قيام الليل. روى أبو هريرة رضي اللّه عنه أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال :
«المقام المحمود هو المقام الّذى أشفع فيه لأمّتى «1»». وقال ابن عباس رضي اللّه عنه : مقاما محمودا يحمده فيه الأولون والآخرون ، ويشرف فيه على جميع الخلائق ، يسأل فيعطى ، ويشفع فيشفّع. وعن حذيفة : يجمع الناس فى صعيد واحد ، فلا تتكلم فيه نفس إلا بإذنه ، فأول مدعو محمد صلى اللّه عليه وسلم ، فيقول : «لبيك وسعديك. والشر ليس إليك ، والمهدى من هديت ، وعبدك بين يديك ، وبك وإليك ، لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك ، تباركت وتعاليت ، سبحانك رب البيت».
ثم يأذن له فى الشفاعة. واللّه تعالى أعلم.
وقال ابن العربي المعافري فى أحكامه : واختلف فى وجه كون قيام الليل سببا للمقام المحمود على قولين ، فقيل :
إن البارئ تعالى يجعل ما يشاء من فضله سببا لفضله ، من غير معرفة منا بوجه الحكمة. وقيل : إن قيام الليل فيه
___________
(1) أخرجه أحمد فى المسند (2/ 441) ، والترمذي وحسّنه فى (التفسير ، سورة الإسراء) ، والبيهقي فى الدلائل (5/ 484) ، وأصل الحديث عند البخاري ومسلم.(3/223)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 224
الخلوة به تعالى ، والمناجاة معه دون الناس ، فيعطى الخلوة به والمناجاة فى القيامة ، فيكون مقاما محمودا ، ويتفاضل فيه الخلق بحسب درجاتهم. وأجلّهم فيه درجة : نبينا محمد صلى اللّه عليه وسلم ، فيعطى من المحامد ما لم يعط قبل ، ويشفّع فيشفع. ه. قال شيخ شيوخنا سيدى عبد الرحمن الفاسى : وقد يقال : إن ذلك مرتب على قوله : (أَقِمِ الصَّلاةَ ..) الآية ، ولا يخص بقيام الليل ، والصلاة ، مطلقا مفاتحة للدخول على اللّه ومناجاة له ، ولذلك جاء فى حديث الشفاعة افتتاحه بأن «يخر ساجدا حامدا ، فيؤذن حينئذ بالشفاعة». ومن تواضع رفعه اللّه. ه.
الإشارة : قوم اعتنوا بإقامة صلاة الجوارح ، وهم : الصالحون الأبرار ، وقوم اعتنوا بإقامة صلاة القلوب ، التي هى الصلاة الدائمة ، وهم العارفون الكبار ، وقوم اعتنوا بسهر الليل فى الركوع والسجود ، وهم العباد والزهاد والصالحون ، أولوا الجد والاجتهاد. وقوم اعتنوا بسهره فى فكرة العيان والشهود ، وهم المقربون عند الملك الودود.
الأولون يوفّون أجرهم على التمام بالحور والولدان ، والآخرون يكشف لهم الحجاب ويتمتعون بالنظر على الدوام ، الأولون محبون ، والآخرون محبوبون ، الأولون يشفعون فى أقاربهم ومن تعلق بهم ، والآخرون قد يشفع واحد منهم فى أهل عصره. وما ذلك على اللّه بعزيز.
ولما أمره بالقيام بوظائف العبودية ، أمره بالتعلق فى أموره كلها بالربوبية ، فقال :
[سورة الإسراء (17) : الآيات 80 الى 81]
وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً (80) وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً (81)
يقول الحق جل جلاله : وَقُلْ يا محمد : رَبِّ أَدْخِلْنِي فى الأمور كلها مُدْخَلَ صِدْقٍ بأن أدخل فيها بك لا بنفسي ، وَأَخْرِجْنِي منها مُخْرَجَ صِدْقٍ كذلك ، مصحوبا بالفهم عنك ، والإذن منك فى إدخالى وإخراجى. وقيل : أدخلنى قبرى مدخل صدق راضيا مرضيا ، وأخرجنى منه عند البعث مخرج صدق ، أي : إخراجا مرضيا ملقى بالكرامة. فيكون تلقينا للدعاء بما وعده من البعث ، المقرون بالإقامة للمقام المحمود ، التي لا كرامة فوقها. وقيل : المراد : إدخال المدينة ، والإخراج من مكة. وقيل : إدخاله - عليه الصلاة والسلام - مكة ظاهرا عليها ، وإخراجه منها آمنا من المشركين. وقيل : إدخاله الغار ، وإخراجه منه سالما. وقيل : إدخاله فيما حمله من أعباء الرسالة ، وإخراجه منه مؤديا حقه. وقيل : إدخاله فى كل ما يلائمه من مكان أو أمر ، وإخراجه منه بالحفظ والرعاية ، بحيث يدخل باللّه ويخرج باللّه. وهو الراجح كما قدمناه.
وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ أي : من مستبطن أمورك ، سُلْطاناً نَصِيراً أي : حجة ظاهرة ، تنصرنى على من يخالفنى ويعادينى ، أو : عزا ناصرا للإسلام ، مظهرا له على الكفر. فأجيبت دعوته - عليه الصلاة والسلام - (3/224)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 225
بقوله : فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ «1» ، لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ «2» ، وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ ... «3» الآية ، وبقوله : وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ ... «4» الآية. وذلك حين يظهر الحق ، ويزهق الباطل ، كما قال : وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ أي : الإسلام أو الوحى ، وَزَهَقَ الْباطِلُ ذهب ، وهلك الكفر والشرك ، وتسويلات الشيطان إِنَّ الْباطِلَ كائنا ما كانَ زَهُوقاً أي : شأنه أن يكون مضمحلا غير ثابت. وعن ابن مسعود رضي اللّه عنه أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم دخل مكّة يوم الفتح ، وحول البيت ثلاثمائة وستّون صنما ، فجعل يطعن بمخصرة «5» كانت بيده فى عين كل واحد ، ويقول : جاء الحقّ وزهق الباطل ، فينكبّ لوجهه ، حتّى ألقى جميعها ، وبقي صنم خزاعة فوق الكعبة ، وكان من صفر ، «6» فقال :
يا علىّ ، ارم به فصعد إليه ، ورمى به ، فكسره «7». ه.
الإشارة : إذا تمكن العارفون من شهود حضرة القدس ومحل الأنس ، وصارت معشش قلوبهم كان نزولهم إلى سماء الحقوق وأرض الحظوظ بالإذن والتمكين ، والرسوخ فى اليقين. فلم ينزلوا إلى سماء الحقوق بسوء الأدب والغفلة ، ولا إلى أرض الحظوظ بالشهوة والمتعة ، بل دخلوا فى ذلك باللّه وللّه ، ومن اللّه وإلى اللّه ، كما فى الحكم. ثم قال : وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ ليكون نظرى إلى حولك وقوتك إذا أدخلتنى ، وانقيادي إليك إذا أخرجتنى. وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً ينصرنى ولا ينصر علىّ ، ينصرنى على شهود نفسى ، حتى أغيب عنها وعن متعتها وهواها ، ويفنينى عن دائرة حسى ، حتى تتسع علىّ دائرة المعاني عندى ، وأفضى إلى فضاء الشهود والعيان ، فحينئذ يزهق الباطل ، وهو ما سوى اللّه ، ويجىء الحق ، وهو وجود الحق وحده ، فأقول حينئذ : وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً ، وإنما أثبته الوهم والجهل ، وإلا فلا ثبوت له ابتداء وانتهاء.
وثبوت الوهم والجهل فى القلب : مرض من الأمراض ، وشفاؤه فى التمسك بما جاء به القرآن العظيم ، كما قال تعالى :
[سورة الإسراء (17) : آية 82]
وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَساراً (82)
___________
(1) من الآية 56 من سورة المائدة. [.....]
(2) من الآية 33 من سورة التوبة.
(3) من الآية 55 من سورة النور.
(4) الآيتان : 171 - 172 من سورة الصافات.
(5) المخصرة : ما يختصره الإنسان بيده ، فيمسكه من عصا ونحوها ... انظر : مختار الصحاح ، (خصر).
(6) أي : من نحاس.
(7) أخرجه البخاري فى (التفسير ، سورة الإسراء) ، ومسلم فى (الجهاد ، باب فتح مكة).(3/225)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 226
قلت : (مِنَ) : للبيان ، قدمت على المبيّن اعتناء ، فالقرآن كله شفاء. وقيل : للتبيعض ، والمعنى : أن منه ما يشفى من المرض الحسى ، كالفاتحة وآية الشفاء ، ومن المرض المعنوي ، كآيات كثيرة.
يقول الحق جل جلاله : وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ لما فى الصدور ، ومن سقام الريب والجهل ، وأدواء الأوهام والشكوك ، وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ به ، العالمين بما احتوى عليه من عجائب الأسرار وغرائب العلوم ، المستعملين أفكارهم وقرائحهم فى الغوص على درره ويواقيته ، أي : وننزل ما هو تقويم دينهم واستصلاح نفوسهم ، ورفع الأوهام والشكوك عنهم ، كالدواء الشافي للمرض ، وعن النبي صلى اللّه عليه وسلم : «من لم يستشف بالقرآن لا شفاه اللّه» «1». وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ الكافرين المكذبين ، الواضعين الأشياء فى غير محلها ، مع كونه فى نفسه شفاء من الأسقام ، إِلَّا خَساراً إلا هلاكا بكفرهم وتكذيبهم به. ولا يفسر الخسران هنا بالنقصان فإن ما بهم من داء الكفر والضلال حقيق بأن يعبّر عنه بالهلاك ، لا بالنقصان المنبئ عن حصول بعض مبادئ الإسلام ، فهم فى الزيادة فى مراتب الهلاك ، من حيث إنهم ، كلما جدّدوا الكفر والتكذيب بالآيات النازلة ازدادوا بذلك هلاكا.
وفيه إيماء إلى أن ما بالمؤمنين من الشّبه والشكوك المعترية لهم فى أثناء الاهتداء والاسترشاد ، بمنزلة الأمراض ، وما بالكفرة من الجهل والعناد بمنزلة الموت والهلاك ، وإسناد زيادة الخسران إلى القرآن ، مع أنهم هم المزدادون فى ذلك بسوء صنيعهم باعتبار كونه سببا لذلك ، حيث كذّبوا به ، وفيه تعجيب من أمره حيث جعله مدار الشفاء والهلاك. قاله أبو السعود.
الإشارة : لا يحصل الاستشفاء بالقرآن إلا بعد التصفية والتطهير للقلب ، بالتخلية والتحلية ، على يد شيخ كامل ، عارف بأدواء النفوس ، حتى يتفرغ القلب من الأغيار والأكدار ، ويذهب عنه وساوس النفوس وخواطر القلوب ليتفرغ لسماع القرآن والتدبر فى معانيه. وأما إن كان القلب محشوا بصور الأكوان ، مصروفا إلى الخواطر والأغيار ، لا يذوق له حلاوة ، ولا يدرى ما يقول ، فلا يهتدى لما فيه من الشفاء ، إذ لا يستشفى بالقرآن إلا من له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد. ولأجل ذلك كان من شأن شيوخ التربية أن يأمروا المريد بالذكر المجرد ، حتى تشرق عليه أنواره ، وتذهب به عنه أغياره. وحينئذ يأمره بتلاوة القرآن ليذوق حلاوته ، فإذا كمل تطهيره ، تمتع بحلاوة شهود المتكلم ، فيسمعه من الحق بلا واسطة ، وهو المراد بالرحمة المذكورة بعد الشفاء. واللّه تعالى أعلم.
وإذا أدرك العبد هذه النعمة العظمى ، وجب عليه دوام الشكر ، كما نبّه عليه تعالى بذكر ضدها ، فقال :
[سورة الإسراء (17) : الآيات 83 الى 84]
وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ كانَ يَؤُساً (83) قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلاً (84)
___________
(1) عزاه فى الكنز (281106) للدارقطني فى الأفراد ، عن أبى هريرة رضي اللّه عنه.(3/226)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 227
يقول الحق جل جلاله : وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ بالصحة والعافية والنعمة ، أَعْرَضَ عن ذكرنا ، فضلا عن القيام بالشكر ، وَنَأى أي : تباعد بِجانِبِهِ لوى عطفه وبعد بنفسه. فالنأى بالجانب : أن يلوى عن الشيء عطفه ويوليه عرض وجهه ، فهو تأكيد للإعراض. أو عبارة عن التكبر لأنه من ديدن المستكبرين ، وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ من فقر ، أو مرض ، أو نازلة من النوازل ، كانَ يَؤُساً شديد اليأس من روحنا وفرجنا. وفى إسناد المسّ إلى الشر ، بعد إسناد الإنعام إلى ضمير الجلالة إيذان بأن الخير مراد بالذات ، والشر ليس كذلك. وهذا الوصف المذكور هنا هو وصف للإنسان باعتبار بعض أفراده ممن هو على هذا الوصف ، ولا ينافيه قوله تعالى : وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ «1» ، ونظائره فإن ذلك فى نوع آخر من جنس الإنسان. وقيل : أريد به الوليد بن المغيرة.
قال تعالى : قُلْ كُلٌّ أي : كل واحد منكم وممن هو على خلافكم يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ على طريقته التي تشاكل حاله من الهدى والضلالة ، فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلًا أي : فربكم ، الذي يراكم على هذه الأحوال والطرق ، أعلم بمن هو أسدّ طريقا وأبين منهاجا. وقد فسرت الشاكلة أيضا بالطبيعة والعادة والدين والنية.
واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : ينبغى للمؤمن المشفق على نفسه أن يمعن النظر فى كلام سيده ، فإذا وجده مدح قوما بعمل ، بادر إلى فعله ، أو بوصف ، بادر إلى التخلق به ، وإذا وجده ذم قوما ، بسبب عمل ، تباعد عنه جهده ، أو بوصف تطهر منه بالكلية. وقد ذم الحق تعالى هنا من بطر بالنعمة وغفل عن القيام بشكرها ، ومن جزع عند المصيبة وأيس من ذهابها ، فليكن المؤمن على عكس هذا ، فإذا أصابته مصيبة أو بلية تضرع إلى مولاه ، ورجى فضله ونواله ، وإذا أصابته نعمة دنيوية أو دينية أكثر من شكرها ، وشهد المنعم بها فى أخذها وصرفها ، ولا سيما نعمة الإيمان والمعرفة ، وتصفية الروح من غبش الحس والوهم ، حتى ترجع لأصلها ، الذي هو سر من أسرار اللّه ، الذي أشار إليه بقوله تعالى :
[سورة الإسراء (17) : آية 85]
وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً (85)
يقول الحق جل جلاله : وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ أي : عن حقيقة الروح ، الذي هو مدبر البدن الإنسانى ، ومبدأ حياته. روى أن اليهود قالوا لقريش : سلوه عن أصحاب الكهف ، وعن ذى القرنين ، وعن الروح ،
___________
(1) من الآية 51 من سورة فصلت.(3/227)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 228
فإن أجاب عنها كلها أو سكت فليس بنبي ، وإن أجاب عن بعض وسكت عن بعض فهو نبى. فبيّن لهم القصتين وأبهم أمر الروح ، وهو مبهم فى التوراة ، فقال : قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي ، أظهر فى مقام الإضمار إظهارا لكمال الاعتناء بشرفه ، أي : هو من جنس ما استأثر اللّه بعلمه من الأسرار الخفية ، التي لا يكاد يحوم حولها عقول البشر. وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا لا يمكن تعلقه بأمثال هذه الأسرار.
روى أنه صلى اللّه عليه وسلم لما قال لهم ذلك ، قالوا : نحن مختصون بهذا الخطاب ، قال عليه الصلاة والسلام : «بل نحن وأنتم». فقالوا : ما أعجب شأنك ، ساعة تقول : وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً «1» ، وتارة تقول هذا ، فنزلت : قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي «2» الآية. وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ ... «3» الآية.
وهذا من ركاكة عقولهم فإن من الحكمة الإنسانية أن يعلم من الخير ما تسعه الطاقة البشرية ، بل ما نيط به المعاش والمعاد ، وذلك بالإضافة إلى ما لا نهاية له من متعلقات علمه سبحانه ، قليل ينال به خير : كثير فى نفسه.
وقال ابن حجر : أخرج الطبراني عن ابن عباس أنهم قالوا : أخبرنا عن الروح ، وكيف تعذب الروح فى الجسد وإنما الروح من اللّه؟. ه. قلت : يجاب بأنها لما برزت لعالم الشهادة لحقتها العبودية ، وأحاطت به القهرية. وقال القشيري : أرادوا أن يغالطوه فيما به يجيب ، فأمره أن ينطق بأمر يفصح عن أقسام الروح ، لأنّ ما يطلق عليه لفظ «الرُّوحِ» يدخل تحت قوله : قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي ، ثم قال : وفى الجملة : الروح مخلوقة ، والحق أجرى العادة بأن يخلق الحياة للعبد ، ما دام الروح فى جسده ، والروح لطيفة تقرب للكثافة فى طهارتها ولطافتها. وهى مخلوقة قبل الأجساد بألوف من السنين. وقيل : إن أدركها التكليف ، كان للروح صفاء التسبيح ، وضياء المواصلة ، ويمن التعريف بالحق. ه. وقيل : المراد بالروح : خلق عظيم روحانى من أعظم الملائكة ، وقيل : جبريل عليه السّلام ، وقيل :
القرآن. ومعنى (مِنْ أَمْرِ رَبِّي) من وحيه وكلامه ، لا من كلام البشر. واللّه تعالى أعلم بمراده.
الإشارة : قد أكثر الناس الكلام فى شأن الروح ، فرأى بعضهم أن الإمساك عنها أولى لأن الرسول - عليه الصلاة والسلام - لم يجب عنها. وبيّن الحق تعالى أنها من أمر اللّه وسر من أسراره. ورأى بعضهم أن النهى لم يرد عن الخوض فيها صريحا ، فتكلم على قدر فهمه. فقال بعضهم : حقيقة الروح : جسم لطيف مشتبك بالبدن اشتباك الماء بالعود الأرطب ، وقال صاحب (الرموز فى فتح الكنوز) على حديث : «من عرف نفسه عرف ربه» : قد ظهر
___________
(1) من الآية 269 من سورة البقرة.
(2) من الآية 109 من سورة الكهف.
(3) من الآية 27 من سورة لقمان ، وعزاه الحافظ ابن حجر فى الكافي الشاف للثعلبى فى التفسير ، بغير سند ولا راو.(3/228)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 229
لى من سر هذا الحديث ما يجب كشفه ويستحسن وصفه ، وهو : أن اللّه ، سبحانه ، وضع هذا الروح فى هذه الجثة الجثمانية ، لطيفة لاهوتية ، فى كثيفة ناسوتية ، دالة على وحدانيته تعالى وربانيته ، ووجه الاستدلال من عشرة أوجه : الأول : أن هذا الهيكل الإنسانى لمّا كان مفتقرا إلى محرك ومدبر ، وهذا الروح هو الذي يدبره ويحركه ، علمنا أن هذا العالم لا بد له من محرك ومدبر. الثاني : لمّا كان مدبر الجسد واحدا علمنا أن مدبر هذا العالم واحد لا شريك له فى تدبيره وتقديره. قال تعالى : لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا «1» ، الثالث : لمّا كان لا يتحرك هذا الجسم إلا بتحريك الروح وإرادته علمنا أنه لا يتحرك بخير أو شر إلا بتحريك اللّه وقدرته وإرادته.
الرابع : لمّا كان لا يتحرك فى الجسد شىء إلا بعلم الروح وشعورها ، لا يخفى على الروح من حركة الجسد شىء ، علمنا أنه تعالى لا يعزب عنه مثقال ذرة فى الأرض ولا فى السماء. الخامس : لمّا كان هذا الجسد لم يكن فيه شىء أقرب إلى الروح من شىء علمنا أنه تعالى قريب إلى كل شىء ، ليس شىء أقرب إليه من شىء ، ولا شىء أبعد إليه من شىء ، لا بمعنى قرب المسافة لأنه منزه عن ذلك. السادس : لمّا كان الروح موجودا قبل الجسد ، ويكون موجودا بعد عدمه علمنا أنه تعالى موجود قبل خلقه ، ويكون موجودا بعد عدمهم ، ما زال ، ولا يزال ، وتقدس عن الزوال. السابع : لمّا كان الروح فى الجسد لا تعرف له كيفية علمنا أنه تعالى مقدس عن الكيفية.
الثامن : لمّا كان الروح فى الجسد لا تعرف له كيفية ولا أينية ، بل الروح موجود فى سائر الجسد ، ما خلا منه شىء فى الجسد. كذلك الحق سبحانه موجود فى كل مكان ، وتنزه عن المكان والزمان. التاسع : لمّا كان الروح فى الجسد لا يحس ولا يجس ولا يمس ، علمنا أنه تعالى منزه عن الحس والجس والمس. العاشر : لمّا كان الروح فى الجسد لا يدرك بالبصر ، ولا يمثل بالصور ، علمنا أنه تعالى لا تدركه الأبصار ، ولا يمثل بالصور والآثار ، ولا يشبه بالشموس والأقمار ، لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ «2». ه. وحديث «من عرف نفسه ...»
إلخ ، قال النووي : غير ثابت ، وقال السمعاني : هو من كلام يحيى ابن معاذ الرازي. واللّه تعالى أعلم.
وسئل أبو سعيد الخراز عن الروح ، أمخلوقة هى؟ قال : نعم. ولولا ذلك لما أقرت بالربوبية حتى قالت : «بلى».
قلت : لما انفصلت عن الأصل كستها أردية العبودية ، فأقرت بالربوبية. وقال الورتجبي : الروح : شعاع الحقيقة ، يختلف آثارها فى الأجساد. قال : ومن خاصيتها أنها تميل إلى كل حسن ومستحسن ، وكل صوت طيب ، وكل رائحة طيبة لحسن جوهرها وروح وجودها ، ظاهرها غيب اللّه ، وباطنها سر اللّه ، مصورة بصورة آدم ، فإذا أراد اللّه ___________
(1) من الآية 22 من سورة الأنبياء.
(2) من الآية 11 من سورة الشورى.(3/229)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 230
خلق آدمي أحضر روحه ، فصور صورته بصورة الروح فلذلك قال عليه الصلاة والسلام إشارة وإبهاما : «خلق اللّه آدم على صورته». ه. قلت : يعنى : أن إظهار الروح من بحر الجبروت ، فى التجلي الأول ، كان على صورة آدم ، ثم خلق آدم على صورة الروح الأعظم ، وهو التجلي الأول من بحر المعاني ، فكانت أول التجليات من ذات الرحمن ، فقال فى حديث آخر : «إن اللّه خلق آدم على صورة الرحمن». واللّه تعالى أعلم. وقيل : الصوت الطيب روحانى ، ولتشاكله مع الروح ، صار يهيج الروح ويحثها للرجوع لأصلها ، إذا كان صاحبها له ذوق سليم ، يسمع من صوت طيب كريم. سمع أبو يزيد نغمة ، فقال : أجد النغم نداء منه تعالى. وقيل : إن الروح لم تدخل فى جسد آدم إلا بالسماع ، فصارت لا تخرج من سجنه إلا بالسماع. واللّه تعالى أعلم.
ثم بيّن قوله : وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا ، فقال :
[سورة الإسراء (17) : الآيات 86 الى 89]
وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلاً (86) إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً (87) قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (88) وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً (89)
قلت : قال ابن جزى : هذه الآية متصلة المعنى بقوله : وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا أي : فى قدرتنا أن نذهب بالذي أوحينا إليك ، فلا يبقى عندكم شىء من العلم. ه. (إلا رحمة) : يحتمل أن يكون متصلا ، أي : لا تجد من يتوكل برده إلا رحمة ربك. أو منقطعا ، أي : لو شئنا لذهبنا بالقرآن ، لكن رحمة من ربك تمسكه من الذهاب ، و(لا يأتون) : جواب القسم الدال عليه اللام الموطئة ، وسد مسد جواب الشرط. ولولا اللام لكان جوابا للشرط ، ولم يجزم لكون الشرط ماضيا ، كقول زهير :
فإن أتاه خليل يوم مسألة يقول لا غائب ما لى ولا حرم «1»
و(إلا كفورا) : استثناء مفرغ منصوب بأبى لأنه فى معنى النفي ، أي : ما رضى أكثرهم إلا الكفر به.
يقول الحق جل جلاله : وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أي : بالقرآن الذي هو منبع العلوم التي أوتيتموها ، ومقتبس الأنوار ، فلا يبقى عندكم من العلم إلا قليلا. والمراد بالإذهاب : المحو من المصاحف
___________
(1) انظر ديوانه/ 91. [.....](3/230)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 231
والصدور. وعن ابن مسعود رضي اللّه عنه : (أول ما تفقدون من دينكم : الأمانة ، وآخر ما تفقدون الصلاة ، وليصلين قوم ولا دين لهم. وإن هذا القرآن تصبحون يوما وما فيكم منه شىء. فقال رجل : كيف ذلك ، وقد أثبتناه فى قلوبنا ، ودونّاه فى مصاحفنا ، وعلمناه أبناءنا ، وأبناؤنا يعلمه أبناءهم؟! فقال : يسرى عليه ، ليلا ، فيصبح الناس منه فقراء ، ترفع المصاحف ، وينزع ما فى القلوب) «1». ثُمَّ إن رفعناه لا تَجِدُ لَكَ بِهِ أي : القرآن عَلَيْنا وَكِيلًا أي : من يتوكل علينا استرداده مسطورا محفوظا ، إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فإنها إن تأتك لعلها تسترده ، أو : لكن رحمة من ربك أمسكته فلم يذهب. إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً ، كإرسالك للناس كافة ، وإنزال الكتاب عليك ، وإنعامه فى حفظك ، وغير ذلك مما لا يحصى.
ثم نوّه بقدر الكتاب الذي أنزله فقال : قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ ، واتفقوا عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ المنعوت بما لا تدركه العقول من النعوت الجليلة فى البلاغة ، وحسن النظم ، وكمال المعنى ، لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ أبدا لما تضمنه من العلوم الإلهية ، والبراهين الواضحة ، والمعاني العجيبة ، التي لم يكن لأحد بها علم ، ثم جاءت فيه على الكمال ، ولذلك عجزوا عن معارضته. وقال أكثر الناس : إنما عجزوا عنه لفصاحته ، وبراعته ، وحسن نظمه. ووجوه إعجازه كثيرة. وإنما خص الثقلين بالذكر لأن المنكر كونه من عند اللّه منهما ، لا لأنّ غيرهما قادر على المعارضة. وإنما أظهر فى محل الإضمار ، ولم يقل : لا يأتون به لئلا يتوهم أن له مثلا معينا ، وإيذانا بأن المراد نفى الإتيان بمثل ما ، أي : لا يأتون بكلام مماثل له فيما ذكر من الصفات البديعة ، وفيهم العرب العاربة ، أرباب البراعة والبيان. فلا يقدرون على الإتيان بمثله وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً أي : ولو تظاهروا وتعاونوا على الإتيان بمثله ما قدروا. وهو عطف على مقدر ، أي : لا يأتون بمثله لو لم يكن بعضهم ظهيرا لبعض ، ولو كان .. إلخ. ومحله النصب على الحالية ، أي : لا يأتون بمثله على كل حال مفروض ، ولو على هذه الحالة.
ثم قال تعالى : وَلَقَدْ صَرَّفْنا أي : كررنا ورددنا على أنحاء مختلفة ، توجب زيادة تقرير وبيان ، ووكادة رسوخ واطمئنان ، لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ المنعوت بما ذكر من النعوت الفاضلة ، مِنْ كُلِّ مَثَلٍ من كل معنى بديع ، هو ، فى الحسن والغرابة واستجلاب الأنفس ، كالمثل ليتلقوه بالقبول ، أو بيّنّا لهم كل شىء محتاجون إليه من العلوم النافعة ، والبراهين القاطعة ، والحجج الواضحة. وهذا يدل على أن إعجاز القرآن هو بما فيه من
___________
(1) أخرجه البيهقي فى شعب الإيمان (باب فى الأمانات ../ 5273) ببعض الاختصار موقوفا.(3/231)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 232
المعاني والعلوم ، فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً إلا جحودا وامتناعا من قبوله. وفيه من المبالغة ما ليس فى نفى مطلق الإيمان لأنّ فيه دلالة على أنهم لم يرضوا بخصلة سوى الكفور والجحود ، وأنهم بالغوا فى عدم الرضا حتى بلغوا مرتبة الإباء. وباللّه التوفيق.
الإشارة : كما وقع التخويف بإذهاب خصوصية النبوة والرسالة ، يقع التخويف بإذهاب خصوصية الولاية والمعرفة العيانية ، فإن القلوب بيد اللّه ، يقلبها كيف يشاء. والخصوصية أمانة مودعة فى القلوب ، فإذا شاء رفعها رفعها ، ولذلك كان العارف لا يزول اضطراره. وما زالت الأكابر يخافون من السلب بعد العطاء ، ويشدون أيديهم على الأدب لأن سوء الأدب هو سبب رفع الخصوصية ، والعياذ باللّه.
قال القشيري : سنّة الحقّ مع خيار خواصه أن يديم هم شهود افتقارهم إليه ليكونوا فى جميع الأحوال منقادين بجريان حكمه ، ثم قال : والمراد والمقصود : إدامة تفرّد سرّ حبيبه به ، دون غيره. ه. وأما سلب الأولياء بعضهم لبعض فلا يكون فى خصوصية المعرفة بعد التمكين إذ لا مانع لما أعطى الكريم ، وإنما يكون فى خصوصية التصريف وسر الأسماء ، إذا كان أحدهما متمكنا فيه ، وقابل من لم يتمكن ، قد ينجذب إلى القوى بإذن اللّه ، وقد يزال منه إذا طغى به. واللّه تعالى أعلم.
ثم أظهر الحق تعالى جحودهم وعتوهم ، فقال :
[سورة الإسراء (17) : الآيات 90 الى 96]
وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلاَّ بَشَراً رَسُولاً (93) وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلاَّ أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولاً (94)
قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولاً (95) قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (96)(3/232)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 233
قلت : من قرأ «كِسَفاً» بالتحريك : فهو جمع. ومن قرأ بالسكون : فمفرد. و(قَبِيلًا) : حال من «الله». وحذف حال الملائكة لدلالة الأول عليه. و(أَنْ يُؤْمِنُوا) : مفعول ثان لمنع. و(إِلَّا أَنْ قالُوا) : فاعل «مَنَعَ».
يقول الحق جل جلاله : وَقالُوا أي : كفار قريش ، عند ظهور عجزهم ، ووضوح مغلوبيتهم بالإعجاز التنزيلى ، وغيره من المعجزات الباهرة ، معلّلين بما لا يمكن فى العادة وجوده ، ولا تقتضى الحكمة وقوعه ، من الأمور الخارقة للعادة ، كما هو ديدن المبهوت المحجوج ، قالوا للنبى - عليه الصلاة والسلام - فى جمع من أشرافهم :
إن مكة قليلة الماء ، ففجر لنا فيها عينا من ماء ، وهو معنى قوله تعالى : لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ أرض مكة يَنْبُوعاً عينا لا ينشف ماؤها. وينبوع : يفعول ، من نبع الماء إذا خرج.
أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ أي : بستان يستر أشجاره ما تحتها من العرصة ، مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ أي : تجريها بقوة ، خِلالَها فى وسطها تَفْجِيراً كثيرا ، والمراد : إما إجراء الأنهار خلالها عند سقيها ، أو إدامة إجرائها ، كما ينبىء عنه «الفاء» ، أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً «1» قطعا متعددة ، أو قطعا واحدا ، و(كَما زَعَمْتَ) : يعنون بذلك قوله تعالى : إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ «2» ، أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا أي : مقابلا نعاينه جهرا ، أو ضامنا وكفيلا يشهد بصحة ما تدعيه ، أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أي : ذهب. وقرئ به. وأصل الزخرفة : الزينة ، أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ أي : فى معارجها فحذف المضاف. وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ أي : لأجل رقيك فيها وحده حَتَّى تُنَزِّلَ منها عَلَيْنا كِتاباً فيه تصديقك ، نَقْرَؤُهُ نحن ، من غير أن يتلقى من قبلك. وعن ابن عباس رضي اللّه عنه : قال عبد اللّه بن أميّة لرسول صلى اللّه عليه وسلم - وكان ابن عمته - : لن أؤمن لك حتّى تتّخذ إلى السماء سلّما ، ثم ترقى فيه وأنا أنظر ، حتّى تأتيها ، وتأتى معك بصك منشور ، معه أربعة من الملائكة يشهدون أنك كما تقول. ه. ثم أسلم عبد اللّه بعد ذلك. ولم يقصدوا بتلك الاقتراحات الباطلة إلا العناد واللجاج. ولو أنهم أوتوا أضعاف ما اقترحوا من الآيات ، ما زادهم ذلك إلا مكابرة. وإلا فقد كان يكفيهم بعض ما شهدوا من المعجزات ، التي تخر لها صم الجبال.
قال تعالى لنبيه عليه الصلاة والسلام - : قُلْ تعجبا من شدة شكيمتهم. وفى رواية «قال» : سُبْحانَ رَبِّي تنزيها له من أن يتحكم عليه أو يشاركه أحد فى قدرته. أو تنزيها لساحته - سبحانه - عما لا يليق بها ، من مثل هذه الاقتراحات الشنيعة ، التي تكاد السموات يتفطرن منها ، أو عن طلب ذلك ، تنبيها على بطلان ما قالوه ، هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً لا ملكا ، حتى يتصور منى الرقى فى السماء ونحوه ، رَسُولًا مأمورا من قبل ربى
___________
(1) قرأ نافع وابن عامر وعاصم : (كسفا) بفتح السين ، أي : قطعا ، جمع كسفة ، وقرأ الباقون : بسكون السين على التوحيد ، جمع «كسفة» كسدرة وسدر. انظر : شرح الهداية (2/ 390) ، والإتحاف (2/ 205).
(2) من الآية 9 من سورة سبأ.(3/233)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 234
بتبيلغ الرسالة ، كسائر الرسل. وكانوا لا يأتون قومهم إلا بما يظهره اللّه على أيديهم ، حسبما يلائم حال قومهم ، ولم يكن أمر الآيات إليهم ، ولا لهم أن يتحكموا على ربهم بشىء منها.
وَما مَنَعَ النَّاسَ أي : الذين حكيت أباطيلهم ، أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى أي : الوحى ، وهو ظرف لمنع ، أو يؤمنوا ، أي : وما منعهم وقت مجيئ الوحى المقرون بالمعجزات المستدعية للإيمان ، أن يؤمنوا بالقرآن وبنبوتك ، إِلَّا أَنْ قالُوا أي : إلا قولهم : أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولًا ، منكرين أن يكون الرسول من جنس البشر. وليس المراد أن هذا القول صدر من بعضهم فمنع بعضا آخر منهم ، بل المانع هو الاعتقاد الشامل للكل ، المستتبع بهذا المقول منهم. وإنما عبّر عنه بالقول إيذانا بأنه مجرد قول يقولونه بأفواههم من غير روية ، ولا مصداق له فى الخارج. وقصر المانع من الإيمان فيما ذكر ، مع أن لهم موانع شتى ، إما لأنه معظمها ، أو لأنه المانع بحسب الحال ، أعنى : عند سماع الجواب بقوله تعالى : هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا إذ هو الذي يتشبثون به حينئذ ، من غير أن يخطر ببالهم شبهة أخرى من شبههم الواهية.
قُلْ لهم من قبلنا تثبيتا للحكمة ، وتحقيقا للحق المزيح للريب : لَوْ كانَ أي : لو وجد واستقر فِي الْأَرْضِ بدل البشر مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ قارين ساكنين فيها ، لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولًا يهديهم إلى الحق لتمكنهم من الاجتماع به والتلقي منه. وأما عامة البشر فهم بمعزل من استحقاق المفاوضة مع الملائكة لأنها منوطة بالتناسب والتجانس ، فبعث الملائكة إليهم مناقض للحكمة التي يدور عليها أمر التكوين والتشريع. وإنما يبعث الملك إلى الخواص ، المختصين بالنفوس الزكية ، المؤيدة بالقوة القدسية ، فيتلقون منهم ويبلغون إلى البشر.
قُلْ كَفى بِاللَّهِ وحده شَهِيداً على أنى أديت ما علىّ من مواجب الرسالة ، وأنكم فعلتم ما فعلتم من التكذيب والعناد. فهو شهيد بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ ، وكفى به شهيدا ، ولم يقل : بيننا تحقيقا للمفارقة ، وإبانة للمباينة ، إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ من الرسل والمرسل إليهم ، خَبِيراً بَصِيراً محيطا بظواهر أعمالهم وبواطنها ، فيجازيهم على ذلك. وهو تعليل للكفاية. وفيه تسلية للرسول - عليه الصلاة والسلام - وتهديد للكفار ، واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : طلب الكرامات من الأولياء جهل بطريق الولاية ، وسوء الظن بهم ، إذ لا يشترط فى تحقيق الولاية ظهور الكرامة ، وأىّ كرامة أعظم من كشف الحجاب بينهم وبين محبوبهم ، حتى عاينوه وشاهدوه حقا ، وارتفعت عنهم الشكوك والأوهام ، وصار شهود الحق عندهم ضروريا ، ووجود السّوى محالا ضروريا ، فلا كرامة أعظم من(3/234)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 235
هذه؟ وكلامنا مع العارفين ، وأما الصالحون والعباد والزهاد فهم محتاجون إلى الكرامة ليزداد إيقانهم ، وتطمئن نفوسهم إذ لم يرتفع عنهم الحجاب ، ولم تنقشع عنهم سحابة الأثر.
والهداية بيد اللّه ، كما قال تعالى :
[سورة الإسراء (17) : الآيات 97 الى 98]
وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً (97) ذلِكَ جَزاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآياتِنا وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (98)
قلت : (عَلى وُجُوهِهِمْ) : حال من ضمير «نحشرهم». و(عُمْياً ..) إلخ : حال أيضا من ضمير «وُجُوهِهِمْ».
و(مَأْواهُمْ) : استئناف ، وكذا : (كُلَّما ..) إلخ.
يقول الحق جل جلاله : وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ إلى الحق الذي جاء من قبله على أيدى الرسل ، فَهُوَ الْمُهْتَدِ إليه ، وإلى ما يؤدى إليه من الثواب ، أو فهو المهتدى إلى كل مطلوب ، وَمَنْ يُضْلِلْ أي : يخلق فيه الضلال ، كهؤلاء المعاندين ، فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِهِ ينصرونهم من عذابه ، أو يهدونهم إلى طريقه ، ويوصلونهم إلى مطالبهم الدنيوية والأخروية. ووحد الضمير أولا فى قوله : (فَهُوَ الْمُهْتَدِ) : مراعاة للفظ «من» ، وجمع ثانيا فى (لَهُمْ) مراعاة لمعناها تلويحا بوحدة طريق الحق ، وتعدد طرق الضلال.
وَنَحْشُرُهُمْ ، فيه التفات من الغيبة إلى التكلم إيذانا بكمال الاعتناء بأمر الحشر ، أي : ونسوقهم يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ أي : كابين عليها سحبا ، كقوله : يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ «1» ، أو : مشيا إلى المحشر بعد القيام ، فقد روى أنه قيل لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : كيف يمشون على وجوههم؟ قال : «الذي أمشاهم على أقدامهم قادر على أن يمشيهم على وجوههم» «2». حال كونهم عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا لا يبصرون ما يقر أعينهم ، ولا ينطقون بما يقبل منهم ، ولا يسمعون ما يلذ مسامعهم ، لمّا كانوا فى الدنيا لا يستبصرون بالآيات والعبر ، ولا ينطقون بالحق ولا يستمعونه. ويجوز أن يحشروا ، بعد الحساب ، من الموقف إلى النار ، مؤوفي «3» القوى والحواس. وأن يحشروا كذلك ، ثم تعاد إليهم قواهم وحواسهم ، فإنّ إدراكاتهم بهذه المشاعر فى بعض المواطن مما لا ريب فيه.
___________
(1) من الآية 48 من سورة القمر.
(2) أخرجه أحمد فى المسند (2/ 3554) ، والترمذي وحسنه فى (التفسير - سورة الإسراء) من حديث أبى هريرة رضي اللّه عنه.
(3) مؤوفى : صيغة جمع مضافة ، من الآفة ، وهى العاهة. وأيف الزرع : أصابته آفة ، فهو مؤوف على وزن : معوف. انظر مختار الصحاح (أوف).(3/235)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 236
مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ هى مسكنهم ، كُلَّما خَبَتْ خمدت زِدْناهُمْ سَعِيراً توقدا ، أي : كلما سكن لهبها ، وأكلت جلودهم ولحومهم ، ولم يبق فيهم ما تتعلق به النار وتحرقه ، زدناهم توقدا بأن بدلناهم جلودا غيرها فعادت ملتهبة ومسعرة. ولعل ذلك عقوبة على إنكارهم البعث مرة بعد مرة ، ليروها عيانا ، حيث لم يعلموها برهانا ، كما يفصح عنه قوله : ذلِكَ أي : ذلك العذاب جَزاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ بسبب أنهم كَفَرُوا بِآياتِنا العقلية والنقلية ، الدالة على وقوع الإعادة دلالة واضحة. وَقالُوا منكرين البعث أشد الإنكار : أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً أي : أنوجد خلقا جديدا بعد أن صرنا ترابا؟ و«خَلْقاً» : إما مصدر مؤكد من غير لفظه ، أي : لمبعوثون مبعثا جديدا ، أو حال ، أي : مخلوقين مستأنفين.
الإشارة : من يهده اللّه إلى صريح المعرفة وسر الخصوصية فهو المهتد إليها ، يهديه أولا إلى صحبة أهلها ، فإذا تربى وتهذب أشرقت عليه أنوارها. ومن يضلله عنها ، فلا ينظر ولا يهتدى إلى صحبة أهلها ، فيحشر يوم القيامة محجوبا عن اللّه ، كما عاش محجوبا. يموت المرء على ما عاش عليه ، ويبعث على ما مات عليه ، لا يبصر أسرار الذات فى مظاهر النعيم ، ولا ينطق بالمكالمة مع الرحمن الرحيم ، ولا يسمع مكالمة الحق مع المقربين وذلك بسبب إنكاره لأهل التربية فى زمانه ، وقال : لا يمكن أن يبعث اللّه من يحيى الأرواح الميتة بالجهل بالمعرفة الكاملة.
وفيه إنكار لعموم القدرة الأزلية ، وتحجير على الحق. واللّه تعالى أعلم.
ثم ذكر دلائل عموم قدرته ، فقال :
[سورة الإسراء (17) : الآيات 99 الى 100]
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلاَّ كُفُوراً (99) قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً (100)
قلت : (وَ جَعَلَ)
: عطف على «قادِرٌ» لأنه فى قوة قدر ، أو استئناف. و(لَوْ أَنْتُمْ) : الضمير : فاعل بفعل يفسره ما بعده ، كقول حاتم :
لو ذات سوار لطمتنى «1».
وفائدة ذلك الحذف والتفسير للدلالة على الاختصاص والمبالغة. وقيل فى إعرابه غير هذا.
___________
(1) مثل لحاتم الطائي ، انظر ديوانه (26).(3/236)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 237
يقول الحق جل جلاله : أَوَلَمْ يَرَوْا أي : أو لم يتفكروا ولم يعلموا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ من غير مادة ، مع عظمها ، قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ فى الصّغر والحقارة. على أن المثل مقحم ، أي : على أن يخلقهم خلقا جديدا فإنهم ليسوا أشد خلقا منهم ، ولا الإعادة بأصعب من الإبداء ، وَجَعَلَ لَهُمْ أي : لموتهم وبعثهم أَجَلًا محققا لا رَيْبَ فِيهِ وهو : القيامة. فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُوراً إلا جحودا ، وضع الظاهر موضع الضمير تسجيلا عليهم بالظلم وتجاوز الحد فيه.
قُلْ لهم : لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي خزائن رزقه وسائر نعمه التي أفاضها على كافة الموجودات ، إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ لبخلتم ، خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ مخافة النفاد بالإنفاق ، إذ ليس فى الدنيا أحد إلا وهو يختار النفع لنفسه ، ولو آثر غيره بشىء فإنما يؤثره لغرض يفوقه ، فهو إذا بخيل بالإضافة إلى جود اللّه سبحانه ، إلا من تخلق بخلق الرحمن من الأنبياء وأكابر الصوفية. وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً مبالغا فى البخل لأن مبنى أمره على الحاجة والضنة بما يحتاج إليه ، وملاحظة العوض فيما يبذل. يعنى : أن طبع الإنسان ومنتهى نظره : أن الأشياء تتناهى وتفنى ، وهو لو ملك خزائن رحمة اللّه لأمسك خشية الفقر ، وكذلك يظن أن قدرة اللّه تقف دون البعث ، والأمر ليس كذلك ، بل قدرته لا تتناهى ، فهو يخترع من الخلق ما يشاء ، ويخترع من الأرزاق ما يريد ، فلا يخاف نفاد خزائن رحمته. وبهذا النظر تتصل الآية بما قبلها. انظر ابن عطية.
قلت : ويمكن أن تتصل فى المعنى بقوله : (أَ بَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولًا) ، فكأنّ الحق تعالى يقول لهم : لو كانت بيدكم خزائن رحمته ، لخصصتم بالنبوة من تريدون ، لكن ليست بيدكم ، ولو كانت بيدكم تقديرا ، لأمسكتم خشية الإنفاق لأن طبع الإنسان البخل وخوف الفقر ، فهو كقوله تعالى : أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ «1» ، بعد قوله : وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ «2». واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : الحق تعالى قادر على أن يخلق ألف عالم فى لحظة ، وأن يفنى ألف عالم فى لحظة ، فلا يعجزه شىء من الممكنات. وكما قدر أن يحيى الإنسان بعد موته الحسى هو قادر على أن يحييه بعد موته المعنوي بالجهل والغفلة ، على حسب ما سبق له فى المشيئة ، وجعل لذلك أجلا لا ريب فيه ، فلا يجحد هذا إلا من كان ظالما كفورا.
قل لمن يخصص الولاية بنفسه ، أو بأسلافه ، وينكر أن يفتح اللّه على قوم كانوا جهالا : لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربى إذا لأمسكتم الخصوصية عندكم خشية أن ينفد ما عندكم ، وكان الإنسان قتورا ، لا يحب الخير إلا لنفسه.
___________
(1) الآية 9 من سورة ص.
(2) الآية 4 من سورة ص.(3/237)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 238
ثم سلّى رسوله صلى اللّه عليه وسلم عما اقترحوا عليه من الآيات تشغيبا وعنادا ، بما جرى لموسى عليه السّلام مع قومه ، بعد ظهور الآيات ، فلم تنفعهم شيئا ، فقال :
[سورة الإسراء (17) : الآيات 101 الى 104]
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ إِذْ جاءَهُمْ فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً (101) قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلاَّ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً (102) فَأَرادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْناهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعاً (103) وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً (104)
قلت : قال فى الأساس : ثبره اللّه : أهلكه هلاكا دائما ، لا ينتعش بعده ، ومن ثم يدعو أهل النار : وا ثبوراه. وما ثبرك عن حاجتك : ما ثبطك عنها. وهذا مثبر فلانة : لمكان ولادتها ، حيث يثبرها النفاس. وفى القاموس : الثبر :
الحبس والمنع ، كالتثبير والصرف عن الأمر وعن الحبيب ، واللعن والطرد. والثبور : الهلاك والويل والإهلاك. ه.
و(إِذا جاءَهُمْ) : إما متعلق بآياتنا ، أو بقلنا محذوف.
يقول الحق جل جلاله : وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ واضحات الدلالة على نبوته ، وصحة ما جاء به من عند اللّه. وهى : العصا ، واليد ، والجراد ، والقمل ، والضفادع ، والدم ، والطوفان ، والسنون ، ونقص الثمرات. وقيل : انفجار الماء من الحجر ، ونتق الطور ، وانفلاق البحر ، بدل الثلاث. وفيه نظر فإن هذه الثلاث لم تكن لفرعون ، وإنما كانت بعد خروج سيدنا موسى عليه السّلام. وعن صفوان بن عسال : أن يهوديا سأل النبي صلى اللّه عليه وسلم عنها فقال : «ألّا تشركوا به شيئا ، ولا تسرقوا ، ولا تزنوا ، ولا تقتلوا النّفس التي حرّم اللّه إلّا بالحقّ ، ولا تسحروا ، ولا تأكلوا الرّبا ، ولا تمشوا ببريء إلى ذى سلطان ليقتله ، ولا تقذفوا المحصنة ، ولا تفروّا من الزّحف ، وعليكم ، خاصّة اليهود ، ألّا تعدوا فى السّبت». فقبّل اليهودي يده ورجله - عليه الصلاة والسلام «1».
قلت : ولعل الحق تعالى أظهر لهم تسعا ، وكلفهم بتسع ، شكرا لما أظهر لهم ، فأخبر - عليه الصلاة والسلام - السائل عما كلفهم به لأنه أهم ، وسكت عما أظهر لهم لأنه معلوم. وإنما قبّل السائل يده لموافقته لما فى التوراة ، وقد علم أنه ما علمه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلا بالوحى ، وقوله عليه الصلاة والسلام : «وعليكم ، خاصة اليهود ، ألا تعدوا» ، حكم مستأنف زائد على الجواب ، ولذلك غيّر فيه سياق الكلام.
___________
(1) أخرجه الترمذي فى (الاستئذان ، باب ما جاء فى قبلة اليد والرجل) ، وقال : حسن صحيح. والنسائي فى (تحريم الدم ، باب السحر) ، والإمام أحمد (4/ 239) والحاكم وصححه فى (الإيمان 1/ 9).(3/238)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 239
قال تعالى : فَسْئَلْ «1» بَنِي إِسْرائِيلَ أي : سل ، يا محمد ، بنى إسرائيل المعاصرين لك عما ذكرنا من قصة موسى لتزداد يقينا وطمأنينة ، أو : ليظهر صدقك لعامة الناس ، أو : قلنا لموسى : سل بنى إسرائيل من فرعون ، أي : اطلبهم منه ليرسلهم معك ، أو سل بنى إسرائيل أن يعضدوك ويكونوا معك. ويؤيد هذا : قراءة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم «فسل» على صيغة الماضي ، بغير همز ، وهى لغة قريش. إِذْ جاءَهُمْ أي : آتينا موسى تسع آيات حين جاءهم بالرسالة ، أو قلنا له : سل بنى إسرائيل حين جاءهم بالوحى. فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ حين أظهر له ما آتيناه من الآيات ، وبلغة ما أرسل به : إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً أي : سحرت فتخبط عقلك.
قالَ له موسى : لَقَدْ عَلِمْتَ يا فرعون ، ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ الآيات التي ظهرت على يدى إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ خالقهما ومدبرهما ، ولا يقدر عليها غيره ، حال كونها بَصائِرَ بينات تبصرك صدقى ، ولكنك تعاند وتكابر ، وقد استيقنتها أنفسكم ، فجحدتم ظلما وعلوا ، وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً أي : مهلكا مقطوعا دابرك ، أو مغلوبا مقهورا ، أو مصروفا عن الخير. قابل موسى عليه السّلام قول فرعون :
إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً بقوله : وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً وشتان ما بين الظنين ظنّ فرعون إفك مبين ، وظن موسى حق اليقين لأنه بوحي من رب العالمين ، أو من تظاهر أماراته.
فَأَرادَ فرعون أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ أي : يستخفهم ويزعجهم مِنَ الْأَرْضِ أرض مصر ، فَأَغْرَقْناهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعاً فعكسنا عليه علمه ومكره ، فاستفززناه وقومه من بلده بالإغراق. وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ من بعد إغراقه لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ التي أراد أن يستفزكم هو منها. أو أرض الشام. وهو الأظهر ، إذ لم يصح أن بنى إسرائيل رجعوا إلى مصر بالسكنى. وانظر عند قوله : وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ «2» فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ أي : الحياة الآخرة ، أو الدار الآخرة ، أي : قيام الآخرة ، جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً مختلطين إياكم وإياهم ، ثم نحكم بينكم ونميز سعداءكم من أشقيائكم. واللفيف : الجماعات من قبائل شتى. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : لا ينفع فى أهل الحسد والعناد ظهور معجزة ولا آية ، ولا يتوقف عليها من سبقت له العناية ، لكنها تزيد تأييدا ، وطمأنينة لأهل اليقين ، وتزيد نفورا وعنادا ، لأهل الحسد من المعاندين. وباللّه التوفيق.
___________
(1) قرأ ابن كثير والكسائي : «فسل» بنقل حركة الهمزة إلى السين. وقرأ الباقون : (فَسْئَلْ). انظر الإتحاف 2/ 206.
(2) الآية 59 من سورة الشعراء.(3/239)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 240
ولما ذكر آية موسى عليه السّلام ذكر آية نبينا محمد صلى اللّه عليه وسلم وهو القرآن ، فقال :
[سورة الإسراء (17) : الآيات 105 الى 109]
وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً (105) وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً (106) قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً (107) وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولاً (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً (109)
قلت : تقديم المعمول ، وهو (بِالْحَقِّ) : يؤذن بالحصر. و(قُرْآناً) : مفعول بمحذوف يفسره ما بعده.
يقول الحق جل جلاله فى شأن القرآن : وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ أي : ما أنزلنا القرآن إلا ملتبسا بالحق ، المقتضى لإنزاله ، وما نزل إلا بالحق الذي اشتمل عليه من الأمر والنهى ، والمعنى : أنزلناه حقا مشتملا على الحق. أو : ما أنزلناه من السماء إلا محفوظا بالرصد من الملائكة ، وما نزل على الرسول إلا محفوظا من تخليط الشياطين. ولعل المراد : عدم اعتراء البطلان له أولا وآخرا. وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً للمطيعين بالثواب ، وَنَذِيراً للعاصين بالعقاب ، وهو تحقيق لحقية بعثه - عليه الصلاة والسلام - إثر تحقيق حقية إنزال القرآن.
وَقُرْآناً فَرَقْناهُ أي : أنزلناه مفرقا منجما فى عشرين سنة ، أو ثلاث وعشرين. قال القشيري : فرق القرآن ليهون حفظه ، ويكثر تردد الرسول عليه من ربه ، وليكون نزوله فى كل وقت ، وفى كل حادثة وواقعة دليلا على أنه ليس مما أعانه عليه غيره. ه. لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ على مهل وتؤدة وتثبت فإنه أيسر للحفظ ، وأعون على الفهم ، وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا على حسب ما تقتضيه الحكمة والمصلحة ، والحوادث الواقعة.
قُلْ للذين كفروا : آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا ، فإنّ إيمانكم لا يزيده كمالا ، وامتناعكم منه لا يزيده نقصانا. أو : أمر باحتقارهم وعدم الاكتراث بهم ، كأنه يقول : سواء آمنتم به أو لم تؤمنوا لأنكم لستم بحجة ، وإنما الحجة لأهل العلم ، وهم : المؤمنون من أهل الكتاب ، الذين أشار إليهم بقوله : إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ أي : العلماء الذين قرأوا الكتب السالفة من قبل تنزيله ، وعرفوا حقيقة الوحى وأمارات النبوة ، وتمكنوا من التمييز بين الحق والباطل ، والمحق والمبطل ، إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ القرآن يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ أي : يسقطون على وجوههم سُجَّداً تعظيما لأمر للّه ، أو شكرا لإنجازه ما وعد فى تلك الكتب من نعتك ، وإظهارك ، وإنزال القرآن عليك.
والأذقان : جمع ذقن ، وهو : أسفل الوجه حيث اللحية. وخصها بالذكر لأنها أول ما تلقى فى الأرض من وجه الساجد. والجملة : تعليل لما قبلها من قوله : آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا من عدم المبالاة. والمعنى : إن لم تؤمنوا(3/240)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 241
فقد آمن من هو أعلى منكم وأحسن إيمانا منكم. ويجوز أن يكون تعليلا لقل ، على سبيل التسلية للرسول - عليه الصلاة السلام ، كأنه يقول : تسلّ بإيمان العلماء عن إيمان الجهلة ، ولا تكثرت بإيمانهم وإعراضهم.
وَيَقُولُونَ فى سجودهم : سُبْحانَ رَبِّنا عن خلف وعده إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولًا أي : إن الأمر والشأن كان وعد ربنا مفعولا لا محالة ، وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ كرره لاختلاف السبب ، فإن الأول : لتعظيم اللّه وشكر إنجاز وعده. والثاني : لما أثر فيهم من مواعظ القرآن ، يَبْكُونَ : حال ، أي : حال كونهم باكين من خشية اللّه ، وَيَزِيدُهُمْ القرآن خُشُوعاً ، كما يزيدهم علما باللّه تعالى.
الإشارة : وبالحق أنزلناه ، أي بالتعريف بأسرار الربوبية ، وبالحق نزل لتعليم آداب العبودية. أو : بالحق أنزلناه ، يعنى : علم الحقيقة ، وبالحق نزل علم الشريعة والطريقة. وما أرسلناك إلا مبشرا لأهل الإخلاص بالوصول والاختصاص ، ونذيرا لأهل الخوض بالطرد والبعد. وقرآنا فرقناه ، لتقرأه نيابة عنا ، كى يسمعوه منا بلا واسطة ، عند فناء الرسوم والأشكال ، ونزّلناه ، للتعريف بنا تنزيلا ، قل آمنوا به لتدخلوا حضرتنا ، أو لا تؤمنوا ، فإن أهل العلم بنا قائمون بحقه ، خاشعون عند تلاوته ، متنعمون بشهودنا عند سماعه منا. وباللّه التوفيق.
ولما كان القرآن مشتملا على أسماء كثيرة من أسماء اللّه الحسنى ، وكان عليه الصلاة والسلام يقول فى دعائه :
«يا اللّه ، يا رحمن» ، قالوا : إنه ينهانا عن عبادة إلهين ، وهو يدعو إلها آخر. وقالت اليهود : إنك لتقل ذكر الرحمن ، وقد أكثر اللّه تعالى ذكره فى التوراة ، فأنزل اللّه ردا على الفريقين :
قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى ...
قلت : «أي» : شرطية ، و(ما) : زائدة تأكيدا لما فى «أيا» من الإبهام ، وتقدير المضاف : أىّ الأسماء تدعو به فأنت مصيب.
يقول الحق جل جلاله : قُلِ يا محمد للمؤمنين : ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ نادوه بأيهما شئتم ، أو سموه بأيهما أردتم. والمراد : إما التسوية بين اللفظين فإنهما عبارتان عن ذات واحد ، وإن اختلف الاعتبار ، والتوحيد إنما هو للذات ، الذي هو المعبود بالحق ، وإما أنهما سيان فى حسن الإطلاق والوصول إلى المقصود ، فلذلك قال : أَيًّا ما تَدْعُوا أىّ اسم تدعوا به تصب ، فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فيكون الجواب محذوفا ، دلّ عليه الكلام. وقيل : التقدير أياما تدعو به فهو حسن ، فوضع موضعه : فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى للمبالغة والدلالة على ما هو الدليل عليه إذ حسن جميع الأسماء يستدعى حسن ذينك الاسمين ، وكونها حسنى لدلاتها على صفات الكمال من الجلال والجمال إذ كلها راجعة إلى حسن ذاتها ، وكمالها جمالا وجلالا.(3/241)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 242
قال فى شرح المواقف : ورد فى الصحيحين : «إنّ للّه تسعة وتسعين اسما ، مائة إلّا واحدا ، من أحصاها دخل الجنّة» «1» ، وليس فيها تعيين تلك الأسماء. لكن الترمذي والبيهقي عيّناها. وهى الطريقة المشهورة ، ورواية الترمذي : «اللّه الذي لا إله إلا هو ، الرحمن ، الرحيم ، الملك ، القدوس ، السلام ، المؤمن ، المهيمن ، العزيز ، الجبار ، المتكبر ، الخالق ، البارئ المصور ، الغفار القهار ، الوهاب الرزاق ، الفتاح العليم ، القابض الباسط ، الخافض الرافع ، المعز المذل ، السميع البصير ، الحكم العدل ، اللطيف الخبير ، الحليم العظيم ، الغفور الشكور ، العلى الكبير ، الحفيظ المقيت ، الحسيب الجليل ، الكريم الرقيب ، المجيب ، الواسع الحكيم ، الودود المجيد ، الباعث الشهيد ، الحق الوكيل ، القوى المتين ، الولي الحميد ، المحصى المبدئ المعيد ، المحيي المميت ، الحي القيوم ، الواجد الماجد ، الواحد ، الأحد الصمد ، القادر المقتدر ، المقدم المؤخر ، الأول الآخر ، الظاهر الباطن ، الوالي المتعالي ، البر التواب ، المنتقم العفو الرؤوف ، مالك الملك ذو الجلال والإكرام ، المقسط الجامع ، الغنى المغني المانع ، الضار النافع ، النور الهادي ، البديع الباقي ، الوارث ، الرشيد ، الصبور» «2».
وقد ورد التوقيف بغيرها ، أمّا فى القرآن فكالمولى ، والنصير والغالب ، والقاهر والقريب ، والرب والأعلى ، والناصر والأكرم ، وأحسن الخالقين ، وأرحم الراحمين ، وذى الطول ، وذى القوة ، وذى المعارج ، وغير ذلك. وأما فى الحديث ، فكالمنان ، والحنان ، وقد ورد فى رواية ابن ماجة «3» أسماء ليست فى الرواية المشهورة كالقائم ، والقديم ، والوتر ، والشديد ، والكافي ، وغيرها.
وإحصاؤها : إما حفظها لأنه إنما يحصل بتكرار مجموعها وتعدادها مرارا ، وإما ضبطها حصرا وعلما وإيمانا وقياما بحقوقها ، وإما تعلقا وتخلقا وتحققا. وقد ذكرنا فى شرح الفاتحة الكبير كيفية التعلق والتخلق والتحقق بها.
وفى ابن حجر : أن اسماء اللّه مائة ، استأثر اللّه بواحد ، وهو الاسم الأعظم ، فلم يطلع عليه أحدا ، فكأنه قيل : مائة لكن واحد منها عند اللّه. وقال غيره : ليس الاسم الذي يكمل المائة مخفيا ، بل هو الجلالة. وممن جزم بذلك البيهقي ، فقال : الأسماء الحسنى مائة ، على عدد درجات الجنة ، والذي يكمل المائة : «اللّه» ، ويؤيده قوله تعالى : وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى «4». فالتسعة والتسعون للّه فهى زائدة عليه وبه تكمل المائة. ه.
___________
(1) أخرجه البخاري (الدعوات ، باب للّه مائة اسم غير واحد) ، ومسلم فى (الذكر ، باب فى أسماء اللّه تعالى ...) من حديث أبى هريرة رضي اللّه عنه.
(2) أخرجه الترمذي فى (الدعوات ، باب 83). وأخرج البيهقي روايته فى (السنن الكبرى ، كتاب الإيمان ، باب أسماء الله عز وجل ثناؤه) من حديث أبى هريرة. [.....]
(3) أخرجها فى (الدعاء ، باب أسماء الله عز وجل).
(4) من الآية 180 من سورة الأعراف.(3/242)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 243
قلت : ولعله ذكر اسما آخر يكمل التسعة والتسعين. وإلا فهو مذكور فى الرواية المتقدمة من التسعة والتسعين.
واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : (قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ) ، قال الورتجبي : إن اللّه سبحانه دعا عباده إلى معرفة الاسمين الخاصين ، اللذين فيهما أسرار جميع الأسماء والصفات والذات ، والنعوت والأفعال فاللّه اسمه ، وهو اسم عين جمع الجمع ، والرحمن اسم عين الجمع فالرحمن مندرج تحت اسمه : «الله» لأنه عين الكل ، وإذا قلت : اللّه ذكرت عين الكل. ثم قال : وإذا قال «الله» يفنى الكل ، وإذا قال : «الرحمن» يبقى الكل ، من حيث الاتصاف والاتحاد ، فالاتصاف بالرحمانية يكون ، والاتحاد بالألوهية يكون. ثم قال : عن الأستاذ : من عظيم نعمه سبحانه على أوليائه : أنه ينزههم بأسرارهم فى رياض ذكره بتعداد أسمائه الحسنى ، فيتنقلون من روضة إلى روضة ، ومن مأنس إلى مأنس ، ويقال :
الأغنياء تنزههم فى بساتينهم ، وتنزههم فى منابت رياحينهم. والفقراء تنزههم فى مشاهد تسبيحهم ، ويستروحون إلى ما يلوح لأسرارهم من كشوفات جلاله وجماله. ه. قلت : والعارفون تنزههم فى مشاهدة أسرار محبوبهم ، وما يكشف لهم من روض جماله وجلاله. وباللّه التوفيق.
ثم أمره بإخفاء قراءته عن المشركين لئلا يسبوا القرآن ومن جاء به ، فقال :
[سورة الإسراء (17) : الآيات 110 الى 111]
قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (110) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً (111)
يقول الحق جل جلاله : وَلا تَجْهَرْ بقراءة صلاتك ، بحيث تسمع المشركين ، فإن ذلك يحملهم على السب واللغو فيها ، وَلا تُخافِتْ أي : تسر بِها حتى لا تسمع من خلفك من المؤمنين ، وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا واطلب بين المخافتة والإجهار طريقا قصدا ، فإنّ خير الأمور أوسطها. والتعبير عن ذلك بالسبيل باعتبار أنه طريق يتوجه إليه المتوجهون ، ويؤمه المقتدون ليوصلهم إلى المطلوب. روى أن أبا بكر رضي اللّه عنه كان يخفت ، ويقول : أناجى ربّى ، وقد علم حاجتى. وعمر رضي اللّه عنه كان يجهر ، ويقول : أطرد الشّيطان وأوقظ الوسنان. فلما نزلت ، أمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أبا بكر أن يجهر قليلا ، وعمر أن يخفض قليلا «1».
وقيل : المعنى : وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ كلها ، وَلا تُخافِتْ بِها بأسرها ، وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا بالمخافتة نهارا والجهر ليلا. وقيل : (بِصَلاتِكَ) بدعائك. وذهب قوم إلى أنها منسوخة لزوال علة السب واللغو
________
(1) أخرجه بنحوه أبو داود فى (التطوع ، باب فى رفع الصوت بالقراءة فى صلاة الليل) ، والترمذي فى (المواقيت ، باب ما جاء فى قراءة الليل) عن أبى قتادة.(3/243)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 244
بإظهار الدين وإخفاء الشرك وبطلانه فالحمد للّه على ذلك كما قال تعالى : وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً كما يزعم اليهود والنصارى وبنو مدلج حيث قالوا : عزيز ابن اللّه ، والمسيح ابن اللّه ، والملائكة بنات اللّه. تعالى اللّه عن قولهم علوا كبيرا ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ فى الألوهية كما تقول الثنوية القائلون بتعدد الآلهة.
وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ أي : لم يكن له ناصر ينصره (مِنَ الذُّلِّ) أي : لم يذل فيحتاج إلى ولي يواليه ليدفع ذلك عنه. وفى التعرض فى أثناء الحمد لهذه الصفات الجليلة إيذان بأن المستحق للحمد من هذه نعوته ، دون غيره إذ بذلك يتم الكمال ، وما عداه ناقص حقير ، ولذلك عطف عليه : وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً عظيما ، وفيه تنبيه على أن العبد وإن بالغ فى التنزيه والتمجيد ، واجتهد فى العبادة والتحميد ، ينبغى أن يعترف بالقصور عن حقه فى ذلك. روى أنه عليه الصلاة والسلام كان إذا أفصح الغلام من بنى عبد المطلب علّمه هذه الآية : (وَ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ ...) إلخ «1». واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : الإجهار بالذكر والقراءة والدعاء ، مباح لأهل البدايات ، لمن وجد قلبه فى ذلك ، وأما النهى الذي فى الآية فمنسوخ لأن الصحابة ، حين هاجروا من مكة ، رفعوا أصواتهم بالقراءة والتكبير. لكن المداومة عليه من شأن أهل البعد عن الحضرة ، وأما أهل القرب فالغالب عليهم السكوت أو المخافتة قال تعالى : وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً «2». وأما أمر الرسول عليه الصلاة والسلام لأبى بكر رضي اللّه عنه بالإجهار قليلا ، وعمر بالخفض قليلا فإخراج لهم عن مرادهم تربية لهم. وختم السورة بآية العز إشارة إلى أن من أسرى بروحه ، أو بجسده إلى الملأ الأعلى كان عاقبته العز والرفعة فى الدارين.
________
(1) أخرجه ابن السنى فى عمل اليوم والليلة (باب ما يلقن الصبى إذا أفصح بالكلام) ، من حديث عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده.
(2) من الآية 108 من سورة طه.(3/244)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 245
سورة الكهف
مكية. وهى مائة وإحدى عشرة آية ، أو خمس عشرة. ووجه المناسبة لما قبلها : أنه لمّا أمر نبيه صلى اللّه عليه وسلم بالحمد للّه على كمال تنزيهه ، أخبر أنه يستحق ذلك لإنعامه بأجلّ النعم ، وهو إنزال الكتاب العزيز ، الذي هو سبب الهداية الموصلة إلى النعيم المقيم. أو تكون تتميما لقوله : وَقُرْآناً فَرَقْناهُ ... «1» إلخ.
[سورة الكهف (18) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً (1) قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً (2) ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً (3) وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً (4)
ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً (5)
قلت : (قَيِّماً) : حال من الكتاب ، والعامل فيه : «أَنْزَلَ» ، ومنعه الزمخشري للفصل بين الحال وذى الحال ، واختار أن العامل فيه مضمر ، تقديره : جعله قيّما ، و«لِيُنْذِرَ» : يتعلق بأنزل ، أو بقيّما. والفاعل : ضمير الكتاب ، أو النبي صلى اللّه عليه وسلم ، و«بَأْساً» : مفعول ثان ، وحذف الأول ، أي : لينذر الناس بأسا ، كما حذف الثاني من قوله : (وَ يُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا ...) إلخ لدلالة هذا عليه ، و(مِنْ عِلْمٍ) : مبتدأ مجرور بحرف زائد ، أو فاعل بالمجرور لاعتماده على النفي ، و«كَلِمَةً» : تمييز.
يقول الحق جل جلاله : الْحَمْدُ لِلَّهِ أي : الثناء الجميل حاصل للّه ، والمراد : الإعلام بذلك للإيمان به ، أو الثناء على نفسه ، أو هما معا. ثم ذكر وجه استحقاقه له ، فقال : الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ أي : الكتاب الكامل المعروف بذلك من بين سائر الكتب ، الحقيق باختصاص اسم الكتاب ، وهو جميع القرآن. رتّب استحقاق الحمد على إنزاله تنبيها على أنه أعظم نعمائه ، وذلك لأنه الهادي إلى ما فيه كمال العباد ، والداعي إلى ما به ينتظم صلاح المعاش والمعاد.
وفى التعبير عن الرسول صلى اللّه عليه وسلم بالعبد ، مضافا إلى ضمير الجلالة تنبيه على بلوغه صلى اللّه عليه وسلم إلى معاريج العبادة وكمال العبودية أقصى غاية الكمال ، حيث كان فانيا عن حظوظه ، قائما بحقوقه ، خالصا فى عبوديته لربه.
________
(1) الآية 106 من سورة الإسراء.(3/245)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 246
وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ أي : للكتاب عِوَجاً شيئا من العوج ، باختلاف فى اللفظ ، وتناقض فى المعنى ، وانحراف فى الدعوة. قال القشيري : صانه عن التناقض والتعارض ، فهو كتاب عزيز من ربّ عزيز ، ينزل على عبد عزيز.
قَيِّماً : مستقيما متناهيا فى الاستقامة ، معتدلا لا إفراط فيه ولا تفريط ، فهو تأكيد لما دل عليه نفى العوج ، مع إفادته كون ذلك من صفاته الذاتية ، حسبما تنبئ عنه الصيغة. أو قيّما بالمصالح الدينية والدنيوية للعباد ، على ما ينبئ عنه ما بعده من الإنذار والتبشير ، فيكون وصفا له بالتكميل ، بعد وصفه بالكمال ، أو : قيّما على ما قبله من الكتب السماوية ، وشاهدا بصحتها ومهيمنا عليها. لِيُنْذِرَ : ليخوّف اللّه تعالى به ، أو الكتاب ، والأول أولى لتناسب المعطوفين بعده ، أي : أنزل الكتاب لينذر بما فيه الذين كفروا بَأْساً : عذابا شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ أي :
صادرا من عنده ، نازلا من قبله ، فى مقابلة كفرهم وتكذيبهم.
وَيُبَشِّرَ- بالتشديد والتخفيف ، الْمُؤْمِنِينَ : المصدقين به ، الَّذِينَ يَعْمَلُونَ أي : العمال الصَّالِحاتِ التي تنبثّ فى تضاعيفه أَنَّ لَهُمْ أي : بأن لهم فى مقابلة إيمانهم وأعمالهم أَجْراً حَسَناً ، هو الجنة وما فيها من المثوبات الحسنى ، ماكِثِينَ فِيهِ أي : فى ذلك الأجر أَبَداً على سبيل الخلود. والتعبير بالمضارع فى الصلة- أعنى : الذين يعملون- للإشعار بتجدد الأعمال الصالحات واستمرارها ، وإجراء الموصول على الموصوف بالإيمان إيماء بأن مدار قبول الأعمال هو الإيمان.
وتقديم الإنذار على التبشير لإظهار كمال العناية بزجر الكفار عما هم عليه ، مع مراعاة تقديم التخلية على التحلية. وتكرير الإنذار بقوله تعالى : وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً : متعلق بفرقة خاصة ، ممن عمّه الإنذار السابق ، من مستحقى البأس الشديد للإيذان بكمال فظاعة حالهم ، لغاية شناعة كفرهم وضلالهم ، أي :
وينذر ، من بين سائر الكفرة ، هؤلاء المتفوهين بمثل هذه القولة العظيمة ، وهم كفار العرب الذين قالوا : الملائكة بنات اللّه ، واليهود القائلون : عزير ابن اللّه ، والنصارى القائلون : المسيح ابن اللّه.
ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ أي : ما لهم باتخاذه الولد شىء من علم أصلا لضلالهم وإضلالهم ، وَلا لِآبائِهِمْ الذين قلدوهم ، فتاهوا جميعا فى تيه الجهالة والضلالة ، أو : ما لهم علم بما قالوا ، أصواب أم خطأ ، بل إنما قالوه رميا بقول عن عمى وجهالة ، من غير فكر ولا روية ، كقوله تعالى : خَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ «1». أو : ما لهم علم بحقيقة ما قالوا ، وبعظم رتبته فى الشناعة ، كقوله تعالى : وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً ، لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا ، تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ «2» ، وهو الأنسب لقوله كَبُرَتْ كَلِمَةً أي : عظمت مقالتهم هذه فى الكفر والافتراء لما فيها من نسبته سبحانه إلى ما لا يكاد يليق بجناب كبريائه لما فيه من التشبيه والتشريك ، وإيهام احتياجه تعالى إلى ولد يعينه ويخلفه. فما أقبحها مقالة تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ أي : يتفوهون
________
(1) الآية 100 من سورة الأنعام.
(2) الآيات : 88- 90 من سورة مريم.(3/246)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 247
بها من غير حقيقة ولا تحقيق لمعناها ، إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً : ما يقولون فى ذلك إلا قولا كذبا ، لا يكاد يدخل فيه إمكان الصدق أصلا.
الإشارة : من كملت عبوديته للّه ، وصار حرا مما سواه ، بحيث تحرر من رق الأكوان ، وأفضى إلى مقام الشهود والعيان ، أنزل اللّه على قلبه علم التحقيق ، وسلك به منهاج أهل التوفيق ، منهاجا قيما ، لا إفراط فيه ولا تفريط ، محفوظا فى باطنه من الزيغ والإلحاد ، وفى ظاهره من الفساد والعناد ، قد تولى اللّه أمره وأخذه عنه ، فهو على بينة من ربه فيما يأخذ ويذر. فإن أذن له فى التذكير وقع فى مسامع الخلق عبارته ، وجليت إليهم إشارته ، فبشّر وأنذر ، ورغّب وحذّر ، يبشر أهل التوحيد والتنزيه بنعيم الجنان ، وبالنظر إلى وجه الرحمن ، وينذر أهل الشرك بعذاب النيران ، وبالذل والهوان ، نعوذ باللّه من موارد الفتن.
ولمّا كانت قريش تتفوه بشىء من هذه الكلمات ، التي شنّع اللّه على من تفوه بها ، وكان عليه الصلاة والسلام يتأسف من ذلك ، خفف عنه ذلك ، وأمره بالتسلى عنهم ، فقال :
[سورة الكهف (18) : الآيات 6 الى 8]
فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً (6) إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً (7) وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً (8)
قلت : (أسفا) : مفعول من أجله لباخع ، أو حال ، أي : متأسفا ، وجواب «إن» : محذوف ، أي : إن لم يؤمنوا فلعلك باخع نفسك.
يقول الحق جل جلاله : فَلَعَلَّكَ يا محمد باخِعٌ : مهلك نَفْسَكَ وقاتلها بالغم والأسف على تخلف قومك عن الإيمان وفراقهم عنك ، عَلى آثارِهِمْ إذا تولوا عنك ، عند ما تدعوهم إلى اللّه. شبهه ، لأجل ما تداخله من الوجد على توليتهم ، بمن فارقته أعزته ، وهو يتحسر على آثارهم ، ويبخع نفسه وجدا عليهم. إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أي : القرآن الذي عبّر عنه فى صدر السورة بالكتاب ، صدر ذلك منك أَسَفاً أي :
بفرط الحزن والتأسف عليهم.
ثم علل وجه إدبارهم عن الإيمان ، وهو اغترارهم بزهرة الدنيا ، فقال : إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ من الأشجار والأزهار والثمار ، وما اشتملت عليه من المعادن ، وأنواع الملابس والمطاعم ، والمراكب والمناكح ، زِينَةً لَها أي : مبهجة لها ، يستمتع بها الناظرون ، وينتفعون بها مأكلا وملبسا ، ونظرا واعتبارا ، حتى إن الحيّات والعقارب من حيث تذكيرها بعذاب الآخرة ، من قبيل المنافع ، بل كل حادث داخل تحت الزينة من حيث دلالته على الصانع ، وكذلك الأزواج والأولاد ، بل هم من أعظم زينتها ، داخلون تحت الابتلاء. جعلنا ذلك لِنَبْلُوَهُمْ : (3/247)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 248
لنختبرهم ، حتى يظهر ذلك للعيان ، أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ، أيهم أزهد فيها ، وأقبلهم على اللّه بالعمل الصالح إذ لا عمل أحسن من الزهد فى الدنيا إذ هو سبب للتفرغ لأنواع العبادة ، بدنية وقلبية.
قال أبو السعود : وحسن العمل : الزهد فيها ، وعدم الاكتراث بها ، والقناعة باليسير منها ، وصرفها على ما ينبغى ، والتأمل فى شأنها ، وجعلها ذريعة إلى معرفة خالقها ، والتمتع بها حسبما أذن الشرع ، وأداء حقوقها ، والشكر على نعمها ، لا جعلها وسيلة إلى الشهوات ، والأغراض الفاسدة ، كما يفعله الكفرة وأهل الأهواء .. انظر بقية كلامه.
وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها عند تناهى الدنيا ، صَعِيداً جُرُزاً أي : ترابا يابسا ، لا نبات فيه ، بعد ما كان يتعجب من بهجته النظار ، ويتشرف بمشاهدته الأبصار ، فلا يغتر بما يذهب ويفنى إلا من لا عقل له ، فلا تستغرب إدبارهم ، إذ لا عقل لهم.
ويحتمل أن يكون تسلية للنبى صلى اللّه عليه وسلم من حيث إنه أرشده إلى شهود تدبير الحق ، فيسلو ، بذلك ، عن إعراضهم لغيبته فى المصور المدبر عن الصور ، وعن الزينة فى المزيّن ، فالكون مظهر الصفات ومرآتها ، ويغيب فى الذات- التي هى معدنها- بإفناء الظاهر ، وإفناء الأفعال ، كما نبّه عليه بقوله : وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ... إلخ.
الإشارة : الخصوصية- من حيث هى- لها بداية ونهاية ، فمن شأن أهل بدايتها : الحرص على الخير لهم ولعباد اللّه ، فيتمنون أن الناس كلهم خصوص أو صالحون ، فإذا رأوا الناس أعرضوا عنها تأسفوا عليهم ، وإذا أقبلوا عليهم فرحوا من أجلهم ، زيادة فى الهداية لعباد اللّه ، فإذا تمكنوا منها ورسخت أقدامهم فيها ، وحصل لهم الفناء الأكبر ، لم يحرصوا على شىء ، ولم يتأسفوا من فوات شىء ، لهم ولغيرهم. وقد يتوجه العتاب لهم على الحرص فى بدايتهم تكميلا لهم ، وترقية إلى المقام الأكمل.
وقوله تعالى : إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ ... إلخ ، هو حكمة تخلف الناس عن الخصوصية ، حتى يتميز الطالب لها من المعرض عنها ، فمن أقبل على زينة الدنيا وزهرتها ، فاتته الخصوصية ، وبقي من عوام الناس ، ومن أعرض عنها وعن بهجتها ، وتوجه بقلبه إلى اللّه ، كان من المخصوصين بها ، المقربين عند اللّه.
وهذا هو أحسن الأعمال التي اختبر اللّه به عباده بقوله : لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ، وفى الحديث : «الدنيا مال من لا مال له ، لها يجمع من لا عقل له. وعليها يعادى من لا علم عنده» «1». وفى الزهد والترغيب أحاديث كثيرة مفردة بالتأليف ، وباللّه التوفيق.
________
(1) أخرجه الإمام أحمد فى المسند (6/ 71) ، والبيهقي فى شعب الإيمان (باب فى الزهد/ 10637) عن السيدة عائشة.
رضى الله عنها ، بدون العبارة الأخيرة.(3/248)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 249
ثم شرع فى قصة أهل الكهف المقصودة بالذات ، فقال
[سورة الكهف (18) : الآيات 9 الى 12]
أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً (9) إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً (10) فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً (11) ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً (12)
قلت : (أَمْ) : منقطعة مقدرة ببل ، التي هى للانتقال من حديث إلى حديث ، لا للإبطال ، والهمزة : للاستفهام عند الجمهور ، وبمعنى «بل» ، فقط ، عند غيرهم ، و(عَجَباً) : خبر كان ، و(مِنْ آياتِنا) : حال منه ، و(إِذْ أَوَى) : ظرف لعجبا ، لا لحسبت ، أو مفعول اذكر ، أي : اذكر هذا الوقت العجيب ، وهو حين التجأ الفتية إلى الكهف ، و(لَنا) و(مِنْ أَمْرِنا) : يتعلق ب (هَيِّئْ) ، و(أَيُّ الْحِزْبَيْنِ) : معلق لنعلم عن المفعولين لما فيه من معنى الاستفهام ، وهو مبتدأ ، و«أَحْصى » : خبره ، وهو فعل ماض ، و(أَمَداً) : مفعوله.
و(لِما لَبِثُوا) : حال منه ، أو مفعول «أَحْصى » ، واللام زائدة ، و(لِما) : موصولة ، و(أَمَداً) : تمييز ، وقيل : (أَحْصى ) :
اسم تفضيل ، من الإحصاء بحذف الزوائد ، و(أَمَداً) : منصوب بفعل دل عليه أحصى ، أي : يحصى كقوله :
وأضرب منّا بالسّيوف القوانسا
«1» لأن اسم التفضيل لا ينصب المفعول به ، إجماعا ، ويجوز أن يكون تمييزا بعد اسم التفضيل.
يقول الحق جل جلاله : أَمْ حَسِبْتَ أي : ظننت يا محمد ، والمراد : حسبان أمته أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ ، وهو الغار الواسع فى الجبل. واختلف فى موضعه فقيل : بقرب فلسطين ، وقيل : بالأندلس بمقربة من لوشة فى جهة غرناطة. وذكر ابن عطية أنه دخل كهفهم ، وفيه موتى ، ومعهم كلبهم ، وعليهم مسجد ، وقريب منه بناء يقال له الرّقيم ، قد بقي موضع جدرانه ، وفى تلك الجهة آثار يقال لها : مدينة «دقيوس» ، واللّه أعلم. وقال ابن جزى : ومما يبعد ذلك ما روى أن معاوية مرّ عليهم ، وأراد الدخول إليهم ولم يدخل ، هيبة ، ومعاوية لم يدخل الأندلس قط ، وأيضا : فإن الموتى فى لوشة يراهم الناس ، ولا يدرك أحد الرعب الذي ذكر اللّه فى أهل الكهف. ه.
________
(1) هذا عجز : صدره :
أكرّ وأحمى للحقيقة منهم
... وهو للعباس بن مرداس ... وقوله : القوانسا : جمع قونس ، وهو أعلى بيضة الرأس.
انظر : اللسان (قنس 5/ 3751) ، والمغني لابن هشام (2/ 709).(3/249)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 250
والمشهور : أن الرقيم هو اللوح المكتوب فيه أسماؤهم وأنسابهم ، وكان جعل ذلك الكتاب فى خزانة الملك ، وهو لوح من رصاص أو حجر ، أمر بكتب أسمائهم فيه لما شكا قومهم فقدهم. وقيل : اسم كلبهم.
أي : أظننت أنهم كانُوا فى قصتهم مِنْ بين آياتِنا عَجَباً أي : كانوا عجبا دون باقى آياتنا ، ليس الأمر كذلك. والمعنى : أن قصتهم ، وإن كانت خارقة للعادة ، ليست بعجيبة ، بالنسبة إلى سائر الآيات التي من تعاجيبها ما ذكر من خلق اللّه تعالى على الأرض ، من الأجناس والأنواع الفائتة الحصر من مادة واحدة ، بل هى عندها كالنزر الحقير. وقال القشيري : أزال موضع الأعجوبة من أوصافهم ، بما أضاف إلى نفسه بقوله : (مِنْ آياتِنا) ، وقلب العادة من قبل اللّه غير مستنكر ولا مبتدع. ه.
ثم ذكر أول قصتهم ، فقال : إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ : جمع فتى ، وهو الشاب الكامل ، أي : اذكر حين التجأ الفتية إلى الكهف ، هاربين بدينهم ، خائفين على إيمانهم من كفار قومهم ، ورأسهم «دقيانوس» ، على ما يأتى فى قصتهم.
فَقالُوا حين دخلوا الغار : رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ من مستبطن أمورك وخزائن رحمتك الخاصة المكنونة عن أعين العادات ، رَحْمَةً خاصة تستوجب الرفق والأمن من الأعداء ، وَهَيِّئْ : أصلح لَنا مِنْ أَمْرِنا الذي نحن عليه من مفارقة الكفار ومهاجرتهم ، رَشَداً : هداية نصير بها راشدين مهتدين ، أو : اجعل أمرنا كله رشدا وصوابا ، كقولك : لقيت منك أسدا ، فتكون من باب التجريد ، أو : إصابة للطريق الموصل إلى المطلوب ، وأصل التهيئة : إحداث هيئة الشيء.
فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ أي : أنمناهم ، شبّه الإنامة الثقيلة المانعة من وصول الأصوات إلى الآذان بضرب الحجاب عليها ، وتخصيص الآذان بالذكر مع اشتراك سائر المشاعر لها فى الحجب عن الشعور عند النوم لأنها تحتاج إلى الحجب أكثر ، إذ هى الطريقة للتيقظ غالبا. والفاء فى (فَضَرَبْنا) : مثلها فى قوله : فَاسْتَجَبْنا لَهُ «1» ، بعد قوله : إِذْ نادى ، فإنّ الضرب المذكور ، وما ترتب عليه من التقليب ذات اليمين وذات الشمال ، والبعث ، وغير ذلك ، إيتاء رحمة لدنّيّة خفية عن أبصار المستمسكين بالأسباب العادية استجابة لدعوتهم ، أي : فاستجبنا لهم وأنمناهم ، فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً أي : ذوات عدد ، أو تعدّ عددا ، أو معدودة ، ووصف السنين بذلك : إمّا للتكثير ، وهو الأنسب بكمال القدرة ، أو التقليل ، وهو الأليق بمقام إنكار كون القصة عجبا من سائر الآيات العجيبة فإن مدة لبثهم كبعض يوم عنده تعالى.
___________
(1) من الآية 90 من سورة الأنبياء.(3/250)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 251
ثُمَّ بَعَثْناهُمْ أيقظناهم من تلك النومة الشبيهة بالموت ، لِنَعْلَمَ علم مشاهدة ، أي : ليتعلق علمنا تعلقا حاليا كتعلّقه أولا تعلقا استقباليا ، أَيُّ الْحِزْبَيْنِ : الفريقين المختلفين فى مدة لبثهم المذكور فى قوله : قالُوا لَبِثْنا يَوْماً ... إلخ ، أَحْصى أي : أضبط لِما لَبِثُوا : للبثهم ، أَمَداً أي : غاية ، فيظهر بذلك عجزهم ، ويفوضوا ذلك إلى العليم الخبير ، ويتعرفوا حالهم وما صنع اللّه بهم ، من حفظ أبدانهم وأديانهم ، فيزدادوا يقينا بكمال قدرته وعلمه ، وليتيقنوا به أمر البعث ، ويكون ذلك لطفا بمؤمنى زمانهم ، وآية بينة لكفارهم ، وعبرة لمن يأتى بعدهم ، فهذه حكم إيقاظهم بعد نومهم ، واللّه عليم حكيم.
الإشارة : عادته تعالى فيمن انقطع إليه بكليته ، وآوى إلى كهف رعايته ، وأيس من رفق مخلوقاته ، أن يكلأه بعين عنايته ، ويرعاه بحفظ رعايته ، ويغيّب سمع قلبه عن صوت الأكدار ، ويصون عين بصيرته عن رؤية الأغيار ، حين انحاشوا إلى حمى رحمته المانع ، وتظللوا تحت ظل رشده الواسع. وباللّه التوفيق.
ثم تمّم قصتهم ، فقال :
[سورة الكهف (18) : الآيات 13 الى 16]
نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً (13) وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً (14) هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْ لا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً (15) وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقاً (16)
قلت : (بِالْحَقِّ) : إما صفة لمصدر محذوف ، أو حال من ضمير «نَقُصُّ» ، أو من «نَبَأَهُمْ» ، أو صفة له ، على رأى من يرى حذف الموصول مع بعض صلته ، أي : نقصّ قصصا ملتبسا بالحق ، أو نقصه متلبسين بالحق ، أو نقص نبأهم ملتبسا بالحق ، أو نبأهم الذي هو ملتبس بالحق. وإِذْ قامُوا : ظرف لربطنا ، وشَطَطاً : صفة لمحذوف ، أي :
قولا شططا ، أي : ذا شطط ، وصف به للمبالغة. و(هؤُلاءِ) : مبتدأ ، وفى اسم الإشارة : تحقير لهم ، و(قَوْمُنَا) : عطف بيان له. و(اتَّخَذُوا) : خبر ، و(ما يَعْبُدُونَ) : موصول ، عطف على الضمير المنصوب ، أو مصدرية ، أي : وإذ(3/251)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 252
اعتزلتموهم ومعبوديهم إلا اللّه ، أو عبادتهم إلا عبادة اللّه ، وعلى التقديرين : فالاستثناء متصل على تقدير أنهم كانوا مشركين يعبدون اللّه والأصنام. ومنقطع على تقدير تمحضهم بعبادة الأوثان ، ويجوز أن تكون (ما) نافية على أنه إخبار من اللّه - تعالى - عن الفتية بالتوحيد ، معترض بين «إِذِ» وجوابه العامل فيها.
يقول الحق جل جلاله : نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ ، والنبأ : الخبر الذي له شأن وخطر ، قصصا ملتبسا بِالْحَقِّ : بالصدق الذي لا يطرقه كذب ولا ريبة.
وخبرهم ، حسبما ذكر محمد بن إسحاق : أنه قد مرج أهل الإنجيل ، وظهرت فيهم الخطايا ، وطغت ملوكهم ، فعبدوا الأصنام وذبحوا للطواغيت ، وكان من بالغ فى ذلك وعتا عتوا كبيرا : «دقيانوس» فإنه غلا فيه غلوا كبيرا ، فجاس خلال الديار والبلاد بالعبث والفساد ، وقتل من خالفه ممن تمسك بدين المسيح ، وكان يتتبع الناس فيخيرهم بين القتل وبين عبادة الأوثان ، فمن رغب فى الحياة الدنيا الدنية : تبعه وصنع ما يصنع ، ومن آثر عليها الحياة الأبدية : قتله وقطع آرابه «1» ، وعلّقها بسور المدينة وأبوابها. فلما رأى الفتية ذلك ، وكانوا عظماء مدينتهم ، وكانوا بنى الملوك ، قاموا فتضرعوا إلى اللّه تعالى ، واشتغلوا بالصلاة والدعاء ، فبينما هم كذلك إذ دخل عليهم أعوان الجبار ، فأحضروهم بين يديه ، فقال لهم ما قال ، فخيّرهم بين القتل وبين عبادة الأوثان ، فقالوا : إن لنا إلها ملأ السماوات والأرض عظمة وجبروتا ، لن ندعو من دونه أحدا ، ولن نقر بما تدعونا إليه أبدا ، فاقض ما أنت قاض ، فأمر بنزع ما عليهم من الثياب الفاخرة ، وأخرجهم من عنده. زاد فى رواية : وضمنهم أهلهم ، وخرج إلى مدينة (نينوى) لبعض شأنه ، وأمهلهم إلى رجوعه ليتأملوا فى أمرهم ، وإلّا فعل بهم ما فعل بسائر المسلمين.
فأجمعت الفتية على الفرار والالتجاء إلى الكهف الحصين ، فأخذ كلّ منهم من بيت أبيه شيئا ، فتصدقوا ببعضه ، وتزودوا بالباقي ، فأووا إلى الكهف. وفى رواية : أنهم مروا بكلب فتبعهم ، على ما يأتى فى شأنه ، فجعلوا يصلّون فى ذلك الكهف آناء الليل وأطراف النهار ، ويبتهلون إلى اللّه - سبحانه - بالأنين والجؤار ، ففوضوا أمر نفقتهم إلى «يمليخا» ، فكان إذا أصبح يضع عنه ثيابه الحسان ، ويلبس ثياب المساكين ، ويدخل المدينة ويشترى ما يهمهم ، ويتحسس ما فيها من الأخبار ، ويعود إلى أصحابه ، فلبثوا على ذلك إلى أن قدم الجبار المدينة فطلبهم ، وأحضر آباءهم ، فاعتذروا بأنهم عصوهم ونهبوا أموالهم ، وبذروها فى الأسواق ، وفروا إلى الجبل.
فلما رأى «يمليخا» ما رأى من الشر رجع إلى أصحابه وهو يبكى ، ومعه قليل من الزاد ، فأخبرهم بما شهد من الهول ، ففزعوا إلى اللّه - عز وجل - وخروا له سجدا ، ثم رفعوا رؤوسهم وجلسوا يتحدثون فى أمرهم ، فبينما هم كذلك
___________
(1) أي أعضاءه. واحده : إرب .. انظر اللسان (أرب 1/ 55).(3/252)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 253
إذ ضرب اللّه على آذانهم فناموا ، ونفقتهم عند رؤوسهم. فخرج «دقيانوس» فى طلبهم بخيله ورجله ، فوجدهم قد دخلوا الكهف ، فأمر بإخراجهم فلم يطق أحد منهم أن يدخله ، فلما ضاق بهم ذرعا ، قال قائل منهم : أليس لو كنت قدرت عليهم قتلتهم؟ قال : بلى. قال : فابن عليهم باب الكهف ودعهم يموتوا جوعا وعطشا ، ففعل فكان شأنهم ما قص اللّه تعالى ، إذ قال :
إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ ، استئناف بيانى ، كأن سائلا سأل عن حالهم ، فقال : إنهم فتية شبان كاملون فى الفتوة آمَنُوا بِرَبِّهِمْ ، فيه التفات إلى ذكر الربوبية التي اقتضت تربيتهم وحفظهم ، وَزِدْناهُمْ هُدىً بأن ثبّتناهم على ما كانوا عليه ، وأظهرنا لهم من مكنونات محاسننا ما آثروا به الفناء على البقاء. وفيه التفات إلى التكلم لزيادة الاعتناء بشأنهم ، وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أي : قويناهم ، حتى اقتحموا مضايق الصبر على هجر الأهل والأوطان ، والنعيم والإخوان ، واجترءوا على الصدع بالحق من غير خوف ولا حذر ، والرد على دقيانوس الجبار إِذْ قامُوا أي : انتصبوا لإظهار شعار الدين ، قال مجاهد : خرجوا من المدينة فاجتمعوا على غير ميعاد. فقال أكبرهم : إنى لأجد فى نفسى شيئا ، إن ربى هو رب السموات والأرض ، فقالوا : نحن أيضا كذلك ، فقاموا جميعا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ، وعزموا على التصميم بذلك. وقيل : قاموا بين يدى الجبار من غير مبالاة به ، حين عاتبهم على ترك عبادة الأصنام ، فحينئذ يكون ما سيأتى من قوله تعالى : (هؤُلاءِ ...) إلخ : منقطعا صادرا عنهم ، بعد خروجهم من عنده.
ثم قالوا : لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً ، لا استقلالا ولا اشتراكا ، ولم يقولوا : ربا للتصميم على الرد على المخالفين ، حيث كانوا يسمون أصنامهم آلهة ، وللإشعار بأن مدار العبودية على وصف الألوهية. لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً : قولا ذا شطط ، وهو الجور والتعدي ، أي : لقد جرنا وأفرطنا فى الكفر ، وقلنا قولا خارجا عن حد المعقول ، إن دعونا إلها غير اللّه جزما.
هؤُلاءِ قَوْمُنَا قد اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً ، فيه معنى الإنكار ، لَوْ لا : هلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ :
على ألوهيتهم بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ : بحجة ظاهرة ، فَمَنْ أَظْلَمُ أي : لا أحد أظلم مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً بنسبة الشريك إليه فإنه أظلم من كل ظالم.
وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ أي : فارقتموهم وَفارقتم ما يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ : فالتجئوا إليه ، والمعنى : وإذ اعتزلتموهم اعتزالا اعتقاديا فاعتزلوهم اعتزالا جسمانيا ، يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ : يبسط لكم ويوسع عليكم مِنْ رَحْمَتِهِ فى الدارين ، وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ الذي أنتم بصدده من الفرار بالدين ، مِرفَقاً : ما ترتفقون به ، أي : تنتفعون ، وجزمهم بذلك لنصوع يقينهم ، وقوة وثوقهم بفضل اللّه. واللّه تعالى أعلم.(3/253)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 254
الإشارة : قد وصف اللّه - تعالى - أهل الكهف بخمسة أوصاف هى من شعار الصوفية الإيمان ، الذي هو الأساس ، وزيادة الاهتداء بتربية الإيقان إلى الوصول الى صريح العرفان ، وربط القلب فى حضرة الرب ، والقيام فى إظهار الحق أو لداعى الوجد ، والصدع بالحق من غير مبالاة بأحد من الخلق.
وقال الورتجبي فى قوله تعالى : وَزِدْناهُمْ هُدىً : أي : زدناهم نورا من جمالى ، فاهتدوا به طرق معارف ذاتى وصفاتى ، وذلك النور لهم على مزيد الوضوح إلى الأبد لأن نورى لا نهاية له. وقال عند قوله : إِذْ قامُوا : قد استدل بهذه الآية بعض المشايخ على حركة الواجدين فى وقت السماع والذكر لأن القلوب إذا كانت مربوطة بالملكوت ومحل القدس حرّكها أنواع الأذكار وما يرد عليها من فنون السماع. والأصل قوله : وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا ، نعم هذا المعنى إذا كان القيام قياما بالصورة ، أي : الحسية فى القيام الحسى ، وإذا كان القيام من جهة الحفظ والرعاية ، والربط من جهة النقل من محل التلوين إلى محل التمكين ، فالاستدلال بها فى السكون فى الوجد أحسن ، إذا كان الربط بمعنى التسكين والقيام بمعنى الاستقامة. ه.
قلت : الحاصل : أنا إذا حملنا القيام على الحسى ففيه دليل لأهل البداية على القيام فى الذكر والسماع. وإذا حملناه على القيام المعنوي ، وهو النهوض فى الشيء ، أو الاستقامة عليه كان فيه دلالة لأهل النهاية على السكون وعدم التحرك ، وكأنه يشير إلى قضية الجنيد فى بدايته ونهايته. واللّه تعالى أعلم.
وقال ابن لب : قد اشتهر الخلاف بين العلماء فى القيام لذكر اللّه - تعالى - وقد أباحته الصوفية ، وفعلته ودامت عليه ، واستفادوه من كتاب اللّه تعالى من قوله - عز وجل - فى أصحاب الكهف : إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ، وإن كانت الآية لها محامل أخر سوى هذا. ه. قلت : وقوله تعالى : الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً «1» : صريح فى الجواز.
وقال فى القوت : وقد روينا أنه صلى اللّه عليه وسلم مرّ برجل يظهر التأوه والوجد ، فقال من كان معه : أتراه يا رسول اللّه مرائيا؟ فقال : «لا ، بل أَوَّاهٌ مُنِيبٌ» «2» ، وقال لآخر : أظهر صوته بالآية : «أسمع اللّه عز وجل ولا تسمّع» ، فأنكر عليه بما شهد فيه ، ولم ينكر على أبى موسى قوله : (لو علمت أنك تسمع لحبّرته لك تحبيرا) لأنه ذو نية فى الخير وحسن قصد به ، ولذا كل من كان له حسن قصد ، ونية خير ، فى إظهار عمل ، فليس من السمعة والرياء فى شىء لتجرده من الآفة الدنيوية ، وهى الطمع والمدح. ه.
___________
(1) من الآية 151 من سورة آل عمران.
(2) أخرجه بنحوه أحمد فى المسند (4/ 159) ، والطبراني فى الكبير (17/ 295) ، عن عقبة بن عامر ، وحسّنه الهيثمي فى المجمع (9/ 372). [.....](3/254)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 255
ثم ذكر حالهم فى الكهف ، فقال :
[سورة الكهف (18) : الآيات 17 الى 18]
وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَتَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً (17) وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً (18)
قلت : (تزاور) أصله : تتزاور ، فأدغمت التاء فى الزاى. وقرأ الكوفيون بحذفها ، وابن عامر ويعقوب : «تزوّر» كتمرد ، كلها من الزّور بمعنى الميل. و(ذات اليمين) : ظرف بمعنى الجهة. وجملة : (و هم فى فجوة) : حال ، و(ذراعيه) : مفعول «باسط» لأنه حكاية حال ، أي : يبسط ، و(فرارا) : مصدر لأنه عبارة عن معنى التولية ، أو حال ، أي : لوليت فارا ، ورُعْباً : مفعول ثان لملئت ، أو تمييز.
يقول الحق جل جلاله ، فى بيان حالهم بعد ما أووا الى الكهف : وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَتَزاوَرُ أي :
تنتحى وتميل عَنْ كَهْفِهِمْ الذي أووا إليه ، والخطاب للرسول صلى اللّه عليه وسلم ، أو لكل أحد ممن يصلح للخطاب. وليس المراد الإخبار بوقوع الرؤية تحقيقا ، بل الإنباء بكون الكهف بحيث لو رأيته ترى الشمس إذا طلعت تميل عن كهفهم ذاتَ الْيَمِينِ أي : جهة ذات يمين الكهف ، عند الداخل إلى قعره ، وَإِذا غَرَبَتْ أي : وتراها إذا غربت تَقْرِضُهُمْ أي : تقطعهم وتتعدى عنهم ذاتَ الشِّمالِ أي : جهته وجانبه الذي يلى المشرق. وكان ذلك بتصريف اللّه تعالى على منهاج خرق العادة كرامة لهم. وقيل : كان باب الكهف شماليا يستقبل بنات نعش «1» ، وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ : فى موضع واسع منه ، وذلك موقع لإصابة الشمس ، ومع ذلك ينحيها اللّه عنهم.
ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ أي : ما صنع اللّه بهم من ميل الشمس عنهم عند طلوعها وغروبها ، من آيات اللّه العجيبة الدالة على كمال علمه وقدرته ، وفضيلة التوحيد وكرامة أهله عنده سبحانه. قال بعضهم : هذا قبل سد دقيانوس باب الكهف ، قلت : كان قبل السد وبعد هدم السد لأنه هدم بعد ، فما قام أهل الكهف حتى وجدوه مهدوما. وظاهر الآية يرجح من قال : إنه من باب خرق العادة.
___________
(1) بنات نعش : سبعة كواكب تشاهد جهة القطب الشمالي .. انظر المعجم الوسيط (نعش).(3/255)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 256
مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ الذي أصاب الفلاح. والمراد : إما الثناء عليهم ، والشهادة بإصابة المطلوب ، والإخبار بتحقيق ما أمّلوه من نشر الرحمة وتهيئة المرافق ، أو التنبيه على أن أمثال هذه الآية كثيرة ، ولكن المنتفع بها هو من وفقه اللّه وهداه للاستبصار بها ، وَمَنْ يُضْلِلْ أي : يخلق فيه الضلال بصرف اختياره إليه ، فَلَنْ تَجِدَ لَهُ ، ولو بالغت فى التتبع والاستقصاء ، وَلِيًّا : ناصرا مُرْشِداً ، يهديه إلى ما ذكر من الفلاح.
والجملة معترضة بين أجزاء القصة.
ثم قال : وَتَحْسَبُهُمْ بالفتح والكسر ، أي : تظنهم أَيْقاظاً ، لانفتاح أعينهم ، أو لكثرة تقلبهم ، وهو جمع «يقظ» بضم القاف وكسرها ، وَهُمْ رُقُودٌ أي : نيام ، وَنُقَلِّبُهُمْ فى رقودهم ذاتَ الْيَمِينِ أي : جهة تلى أيمانهم ، وَذاتَ الشِّمالِ أي : جهة تلى شمائلهم لكى لا تأكل الأرض ما يليها من أبدانهم. قال ابن عباس رضي اللّه عنه : لو لم يتقلبوا لأكلتهم الأرض. قيل : كانوا يتقلبون مرتين فى السنة. وقيل : مرة يوم عاشوراء. وقيل : فى تسع سنين.
وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ ، حكاية حال ماضية أي : يبسط ذراعيه ، وهو من المرفق إلى رأس الأصابع.
بِالْوَصِيدِ أي : بموضع من الكهف ، وقيل : بالفناء من الكهف ، وقيل : العتبة. وهذا الكلب ، قيل : هو كلب مروا به فتبعهم ، فطردوه مرارا ، فلم يرجع ، فأنطقه اللّه ، فقال : يا أولياء اللّه لا تخشوا إصابتى فإنى أحب أحباء اللّه ، فناموا حتى أحرسكم. وقيل : هو كلب راع مروا به فتبعهم «1» على دينهم ، ومر معه كلبه ، ويؤيده قراءة : (و كالبهم) أي : وصاحب كلبهم ، وقيل : هو كلب صيد لهم أو زرع ، واختلف فى لونه قيل أحمر ، وقيل : أصفر ، وقيل : أصهب «2».
لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ أي : لو عاينتهم وشاهدتهم. والاطلاع : الإشراف على الشيء بالمعاينة والمشاهدة ، لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً : هربا بما شاهدت منهم ، وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً ، أي : خوفا يملأ الصدور برعبه ، لما ألبسهم اللّه من الرهبة ، أو لعظم أجرامهم وانفتاح أعينهم ، وكانت منفتحة كالمستيقظ الذي يريد أن يتكلم. وعن معاوية : أنه غزا الروم فمرّ بالكهف ، فقال : لو كشف لنا عن هؤلاء فنظرنا إليهم ، فقال ابن عباس رضي اللّه عنه : ليس لك ذلك قد منع اللّه تعالى منهو خير منك ، حيث قال : لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ ... الآية ، فلم يسمع ، وقال : ما أنتهي حتى أعلم علمهم ، فبعث ناسا ، وقال : اذهبوا فانظروا ، ففعلوا ، فلما دخلوا بعث اللّه ريحا فأحرقتهم. ه «3».
الإشارة : للصوفية - رضى اللّه عنهم - تشبه قوى بأهل الكهف ، فى الانقطاع إلى اللّه ، والتجرد عن كل ما سواه ، والانحياش إلى اللّه ، والفرار من كل ما يشغل عن اللّه ، والتماس الرحمة الخاصة من اللّه ، وطلب التهيئة لكل رشد
___________
(1) أي الراعي.
(2) الأصهب : الأشقر. وقال الحافظ ابن كثير فى تفسيره (3/ 76) : واختلفوا فى لونه على أقوال لا حاصل لها ولا طائل تحتها ، ولا دليل ولا حاجة إليها ، بل هى مما ينهى عنه ، فإن مستندها رجم بالغيب.
(3) عزاه المناوى فى الفتح السماوي (2/ 792) لابن أبى حاتم ، وعبد بن حميد ، وابن أبى شيبة ، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس.
وقال الحافظ ابن حجر فى الكافي الشاف : وإسناده صحيح.(3/256)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 257
وصواب ، ولهذا المعنى ختم الشيخ القطب ابن مشيش تصليته المشهورة بما دعوا به ، حين أووا إلى كهف الإيواء تشبّها بهم فى مطلق الانقطاع والفرار من مواطن الحس. ولذلك لمّا تشبهوا بهم حفظهم اللّه - أي : الصوفية - ممن رام أذاهم ، وغيّبهم عن حس أنفسهم ، وأشهدهم عجائب لطفه وقدرته ، ومن تمام التشبه بهم : أنك قلّ أن تجد فرقة تسافر منهم إلا ويتبعهم كلب يكون معهم ، حتى شهدت ذلك فى جل أسفارنا مع الفقراء تحقيقا لكمال التشبيه. واللّه تعالى أعلم.
ثم ذكر بعثهم من نومهم ، فقال :
[سورة الكهف (18) : الآيات 19 الى 20]
وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ لِيَتَسائَلُوا بَيْنَهُمْ قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً (19) إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً (20)
يقول الحق جل جلاله : وَكَذلِكَ أي : وكما أنمناهم وحفظنا أجسادهم من البلاء والتحلل ، وكان ذلك آية دالة على كمال قدرتنا ، بَعَثْناهُمْ من النوم لِيَتَسائَلُوا بَيْنَهُمْ أي : ليسأل بعضهم بعضا ، فيترتب عليه ما فصّل من الحكم البالغة ، أو : ليتعرفوا حالهم وما صنع اللّه بهم ، فيزدادوا يقينا على كمال قدرة اللّه ، ويستبصروا أمر البعث ، ويشكروا ما أنعم اللّه به عليهم.
قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ هو رئيسهم ، واسمه : «مكسليمنيا» : كَمْ لَبِثْتُمْ فى منامكم؟ لعله قال ذلك لما رأى من مخالفة حالهم ، لما هو المعتاد فى الجملة ، قالُوا أي : بعضهم : لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ، قيل : إنما قالوا ذلك لأنهم دخلوا الكهف غدوة ، وكان انتباههم آخر النهار ، فقالوا : لَبِثْنا يَوْماً ، فلما رأوا أن الشمس لم تغرب بعد قالوا : أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ، وكان ذلك إخبارا عن ظن غالب ، فلم يعزوا إلى الكذب.
قالُوا أي : بعض آخر منهم ، بما سنح له من الأدلة ، ولما رأى من طول أظافرهم وشعورهم : رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ أي : أنتم لا تعلمون مدة لبثكم ، وإنما يعلمها اللّه - سبحانه - ، وهذا رد منهم على الأولين بأجمل ما يكون من حسن الأدب ، فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ «1» هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ ، أعرضوا عن البحث عن المدة ، وأقبلوا على
___________
(1) قرأ أبو عمرو وحمزة وأبو بكر : بورقكم - ساكنة الراء - والباقون بكسرها. راجع الإتحاف 2/ 212.(3/257)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 258
ما يهم فى الوقت ، والورق : الفضة ، مضروبة أو غير مضروبة ، ووصفها باسم الإشارة يقتضى أنها كانت معينة ليشترى بها قوت ذلك اليوم ، وحملها دليل على أن التزود لا ينافى التوكل ، وقد كان نبينا صلى اللّه عليه وسلم يتزود لغار حراء ليتعبد فيه. ثم قالوا : فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أي : أىّ أهلها أَزْكى طَعاماً أي : أحل وأطيب ، أو أكثر وأرخص ، فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ أي : من ذلك الأزكى طعاما ، وَلْيَتَلَطَّفْ : وليتكلف اللطف فى دخول المدينة وشراء الطعام ، لئلا يعرف ، وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً ولا يخبر بكم ولا بمكانكم أحدا من أهل المدينة ، أو : لا يفعل ما يؤدى إلى ذلك.
ثم علل النهى بقوله : إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ : يطلعوا عليكم ، أو يظفروا بكم ، والضمير : للأهل المقدر فى «أيها» أي : إنّ أهل المدينة إن يظفروا بكم يَرْجُمُوكُمْ إن ثبتم على ما أنتم عليه ، أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ أي : يصيروكم إليها ويدخلوكم فيها كرها ، كقوله تعالى : أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا «1» ، وقيل : كانوا على ملتهم ثم خالفوهم للحق. وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً إن دخلتم فيها ، ولو بالكره والجبر ، أَبَداً ، لا فى الدنيا ولا فى الآخرة ، وفيه من التشديد والتحذير ما لا يخفى.
الإشارة : وكذلك بعثنا من توجه إلينا من نوم الغفلة والجهالة ليتساءلوا بينهم ليتعرفوا ما أنعم اللّه به عليهم من اليقظة والنجاة من البطالة ، فإذا انتبهوا من نوم الغفلة ، استصغروا أيام البطالة لأن أيام الغفلة قليلة أمدادها ، وإن كثرت آمادها ، وفى الحكم : «رب عمر اتسعت آماده ، وقلّت أمداده» ، بخلاف زمان اليقظة ، فإنه كثيرة أمداده ، وإن قلّت آماده ، فهو طويل معنى ، وإن قلّ حسا ، ولذلك قال فى الحكم أيضا : «ورب عمر قليلة آماده ، كثيرة أمداده». وقال أيضا : «من بورك له فى عمره : أدرك فى يسير من الزمان من منن اللّه تعالى ما لا يدخل تحت دوائر العبارة ولا تلحقه الإشارة».
فإن توقفوا على قوت أشباحهم التمسوا أطيبه وأزكاه وأحله ، فإنّ أكل الحلال ينور القلوب وينشط الأعضاء للطاعة ، وتلطفوا فى أخذه من غير مزاحمة ولا حرص ولا تعب ، فإن أطلعهم اللّه على سره المكنون من أسرار ذاته بالغوا فى إخفائه ، حتى لا يشعروا به أحدا من خلقه ، غير من هو أهل له لأنهم ، إن أظهروه لغيرهم ، رجموهم أو أعادوهم إلى ملتهم ، بأن يقهروهم إلى الرجوع عن طريق القوم ، ولن يفلحوا إذا أبدا. وباللّه التوفيق.
___________
(1) من الآية 13 من سورة إبراهيم.(3/258)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 259
ثم ذكر اطلاع قوم أهل الكهف عليهم ، فقال :
[سورة الكهف (18) : آية 21]
وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً (21)
قلت : إِذْ يَتَنازَعُونَ : ظرف لقوله : (أَعْثَرْنا) ، لا ليعلموا ، أي : أعثرناهم عليهم حين يتنازعون بينهم ... إلخ ، و(رَجْماً) : حال ، أي : راجمين بالغيب ، أو مفعول مطلق ، أي : يرجمون رجما.
يقول الحق جل جلاله : وَكَذلِكَ أي : وكما أنمناهم وبعثناهم لازدياد يقينهم أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ :
أطلعنا الناس عليهم لِيَعْلَمُوا أي : ليعلم القوم الذين كانوا فى ذلك الوقت أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ أي : وعده بالبعث والثواب والعقاب حَقٌّ صادق لا خلف فيه ، أو : ثابت لا مرد له لأن نومهم وانتباههم كحال من يموت ثم يبعث ، وَأَنَّ السَّاعَةَ أي : القيامة ، التي هى عبارة عن وقت بعث الخلائق جميعا للحساب والجزاء ، لا رَيْبَ فِيها : لا شك فى قيامها ، فإنّ من شاهد أنه جل وعلا توفّى نفوسهم وأمسكها ثلاثمائة سنة وأكثر ، حافظا لأبدانها من التحلل والفساد ، ثم أرسلها كما كانت ، لا يبقى معه ريب ، ولا يختلجه شك ، فى أن وعده تعالى حق ، وأنه يبعث من فى القبور ، ويجازيهم بأعمالهم.
وكان ذلك الإعثار إِذْ يَتَنازَعُونَ : حين كانوا يتنازعون بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ ، فى أمر البعث مختلفين فيه ففرقة أقرّت ، وفرقة جحدت ، وقائل يقول : تبعث الأرواح فقط ، وآخر يقول : تبعث جميع الأجسام بالأرواح ، قيل :
كان ملك المدينة حينئذ رجلا صالحا ، ملكها ثمانيا وعشرين سنة ، ثم اختلف أهل مملكته فى البعث كما تقدم ، فدخل الملك بيته وغلق الباب ، ولبس مسحا وجلس على رماد ، وسأل ربه أن يظهر الحق ، فألقى اللّه - عز وجل - فى نفس رجل من ذلك البلد الذي فيه الكهف ، أن يهدم بنيان فم الكهف ، فهدم ما سدّ به «دقيانوس» باب الكهف ليتخذه حظيرة لغنمه ، فعند ذلك بعثهم اللّه - تعالى - فجرى بينهم من التقاول ما جرى.
روى أنّ المبعوث لمّا دخل المدينة ليشترى الطعام ، أخرج دراهمه ، وكانت على ضرب (دقيانوس) ، فاتهموه أنه وجد كنزا ، فذهبوا به إلى الملك ، فقص عليه القصة ، فقال بعضهم : إن آباءنا أخبرونا أن فتية فروا بدينهم من(3/259)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 260
(دقيانوس) ، فلعلهم هؤلاء ، فانطلق الملك وأهل المدينة من مسلم وكافر ، فدخلوا عليهم وكلموهم ، ثم قالت الفتية للملك :
نودعك اللّه ونعيذك به من الإنس والجن ، ثم رجعوا إلى مضاجعهم ، فماتوا ، فألقى الملك عليهم ثيابه ، وجعل لكل منهم تابوتا من ذهب ، فرآهم فى المنام كارهين للذهب ، فجعلها من الساج ، وبنى على باب الكهف مسجدا. وقيل : لما انتهوا إلى الكهف قال لهم الفتى : مكانكم حتى أدخل أولا لئلا يفزعوا ، فدخل ، فعمّى عليهم المدخل ، فبنوا ثمّة مسجدا.
وقيل : المتنازع فيه : أمر الفتية قبل بعثهم ، أي : أعثرنا عليهم حين يتذاكرون بينهم أمرهم ، وما جرى بينهم وبين دقيانوس من الأحوال والأهوال ، ويتلقون ذلك من الأساطير وأفواه الرجال. وعلى التقديرين : فالفاء فى قوله :
فَقالُوا ابْنُوا فصيحة ، أي : أعثرنا عليهم فرأوا ما رأوا ، ثم ماتوا ، فقال بعضهم : ابْنُوا عَلَيْهِمْ : على باب كهفهم بُنْياناً لئلا يتطرق إليهم الناس ، ففعلوا ذلك ضنا بمقامهم ومحافظة عليهم.
ثم قالوا : رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ ، كأنهم لما عجزوا عن إدراك حقيقة حالهم من حيث النسبة ، ومن حيث العدد ، ومن حيث بعد اللبث فى الكهف ، قالوا ذلك تفويضا إلى علام الغيوب. أو : يكون من كلامه سبحانه ردا لقول الخائضين فى حديثهم من أولئك المتنازعين ، قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ ، وهو الملك والمسلمون ، وكانوا غالبين فى ذلك الوقت :
لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً ، فذكر فى القصة أنه جعل على باب الكهف مسجدا يصلى فيه.
[سورة الكهف (18) : الآيات 22 الى 26]
سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ما يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِراءً ظاهِراً وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً (22) وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً (23) إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً (24) وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً (25) قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً (26)
ثم وقع الخوض فى عهد نبينا - عليه الصلاة والسلام - بين نصارى نجران حين قدموا المدينة ، فجرى بينهم ذكر أهل الكهف وبين المسلمين فى عددهم ، كما قال تعالى : سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ ، وهو قول اليعقوبية من النصارى ، وكبيرهم السيد ، وقيل : قالته اليهود ، وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ ، هو قول النسطورية منهم ، وكبيرهم العاقب ، رَجْماً بِالْغَيْبِ : رميا بالخبر من غير اطلاع على حقيقة الأمر ، أو ظنا بالغيب من غير تحقيق ، وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ ، وهو ما يقوله المسلمون بطريق التلقي من هذا الوحى ، وعدم نظمه فى سلك الرجم بالغيب ، وتغيير سبكه بزيادة الواو المفيدة لزيادة تأكيد النسبة فيما بين طرفيها ، يقضى بصحته.
قال تعالى : قُلْ يا محمد تحقيقا للحق ، وردا على الأولين : رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ أي : ربى أقوى علما بعدتهم ، ما يَعْلَمُهُمْ أي : ما يعلم عددهم إِلَّا قَلِيلٌ من الناس ، قد وفقهم اللّه تعالى للاطلاع عليهم بالدلائل أو بالإلهام. قال ابن عباس رضي اللّه عنه : «أنا من ذلك القليل» ، قال : حين وقعت الواو انقطعت العدة ، وأيضا حين سكت عنه تعالى ولم يقل : رجما بالغيب ، علم أنه حق. وعن على - كرم اللّه وجهه - : أنهم سبعة ، أسماؤهم :
يمليخا ، وهو الذي ذهب بورقهم ، ومكسيلمينيا ، وهو أكبرهم والمتكلم عنهم ، ومشلينا ، وفى رواية الطبري : ومجسيسيا بدله ، وهؤلاء أصحاب يمين الملك ، وكان عن يساره : مرنوش ودبرنوش وجشاذنوس ، وكان يستشير هؤلاء الستة(3/260)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 261
فى أمره ، والسابع : الراعي الذي تبعهم حين هربوا من دقيانوس ، واسمه : كفشططيوش «1». وذكر ابن عطية عن الطبري غير هؤلاء ، وكلهم عجميون ، قال : والسند فى معرفتهم واه. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : عادة الحق تعالى فى أوليائه أن يخفيهم أولا عن أعين الناس ، رحمة بهم إذ لو أظهرهم فى البدايات لفتنوهم وردوهم إلى ما كانوا عليه ، حتى إذا تخلصوا من البقايا ، وتمكنوا من معرفة الحق وشهوده ، أعثر عليهم من أراد سعادته ووصوله إلى حضرته ليعلموا أن وعد اللّه بإبقاء العدد الذين يحفظ اللّه بهم نظام العالم فى كل زمان حق ، وأنّ خراب العالم بانقراضهم ، وقيام الساعة لا ريب فيه. وفى الآية تنبيه على ذم الخوض بما لا علم للعبد به ، ومدح من رد العلم إلى اللّه فى كل شىء. واللّه تعالى أعلم.
ثم نهى نبيه عن المجادلة بعد وضوح الحق ، فقال :
فَلا تُمارِ فِيهِمْ ...
قلت : (إِلَّا أَنْ يَشاءَ) : استثناء مفرغ من النهى ، أي : لا تقولن فى حال من الأحوال ، إلا حال ملابسة بمشيئته تعالى على الوجه المعتاد ، وهو أن تقول : إن شاء اللّه ، أو : فى وقت من الأوقات ، إلا وقت إن شاء اللّه.
يقول الحق جل جلاله : فَلا تُمارِ أي : لا تجادل فِيهِمْ فى شأن أهل الكهف إِلَّا مِراءً ظاهِراً قدر ما تعرض له الوحى من وصفهم ، من غير زيادة عليه ، مع تفويض العلم إلى اللّه ، فلا تصرح بجهلهم ، ولا تفضح خطأهم ، فإنه يخل بمكارم الأخلاق ، وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ : فى شأنهم مِنْهُمْ من الخائضين أَحَداً فإن فيما أوحى إليك لمندوحة عن ذلك ، مع أنهم لا علم لهم بذلك.
___________
(1) فى النطق بهذه الأسماء اختلاف كثير ، وقال الحافظ ابن كثير : فى تسميتهم بهذه الأسماء ، واسم كلبهم ، نظر فى صحته ، والله أعلم ، فإن غالب ذلك متلقى عن أهل الكتاب. وقد قال الله تعالى : فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلَّا مِراءً ظاهِراً أي : سهلا هينا ، فإن الأمر فى معرفة ذلك لا يترتب عليه كبير فائدة. انظر تفسير ابن كثير 3/ 78.(3/261)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 262
وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ أي : لأجل شىء تعزم عليه : إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ الشيء غَداً : فيما يستقبل من الزمان مطلقا ، فيصدق بالغد وما بعده لأنه نزل حين قالت اليهود لقريش : سلوه عن الروح ، وعن أصحاب الكهف ، وعن ذى القرنين. فسألوه صلى اللّه عليه وسلم فقال : «غدا أخبركم» ، ولم يستثن ، فأبطأ عليه الوحى ، حتى شقّ عليه ، وكذبته قريش ، ثم نزلت السورة بعد أربعة عشر يوما ، أو قريبا منها «1» ، على ما ذكره أهل السّير ، أي : لا تقل إنى فاعل شيئا فى حال من الأحوال إلا متلبسا بمشيئته على الوجه المعتاد ، وهو أن تقول : إن شاء اللّه ، أو فى وقت من الأوقات ، إن شاء اللّه أن تقوله ، بمعنى : أن يأذن لك فيه ، فإن النسيان بمشيئته تعالى.
وَاذْكُرْ رَبَّكَ بقولك : إلا أن يشاء اللّه مستدركا له ، إِذا نَسِيتَ : إذا فرط منك نسيان ثم ذكرته. وعن عبد اللّه بن عباس رضي اللّه عنه : ولو بعد سنة ما لم يحنث. ولذلك جوّز تأخير الاستثناء. وعامة الفقهاء على خلافه ، إذ لو صح ذلك لما تقرر طلاق ولا عتاق ، ولم يعلم صدق ولا كذب ، وقال القرطبي : هذا فى تدارك الترك والتخلص من الإثم ، وأما الاستثناء المغير للحكم فلا يكون إلا متصلا به ، ويجوز أن يكون المعنى : واذكر ربك بالتسبيح والاستغفار إذا نسيت الاستثناء مبالغة فى الحث عليه ، أو : اذكر ربك إذا اعتراك نسيان لتستدرك ما فات ، وحمل على أداء الصلاة المنسية عند ذكرها. وسيأتى فى الإشارة بقية الكلام عليها.
وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي : يوفقنى لِأَقْرَبَ مِنْ هذا أي : لنبأ أقرب وأظهر من نبأ أصحاب الكهف ، من الآيات والدلائل الدالة على نبوتى ، رَشَداً أي : إرشادا للناس ودلالة على ذلك. وقد فعل عز وجل ذلك حيث آتاه من البينات ما هو أعظم وأبين لقصص الأنبياء ، المتباعدة أيامهم ، والإخبار بالغيوب والحوادث النازلة فى الأعمار المستقبلة إلى قيام الساعة. أو : لأقرب رشدا وأدنى خيرا من المنسى ، أي : عسى أن يدلنى على ما هو أصلح لى من الذي نسيته إذ يجوز أن يكون نسيانه خيرا له من ذكره إذ فيه إظهار قهريته تعالى ، وغناه عن خلقه ، وعدم مبالاته بإدبار من أدبر وإقبال من أقبل ، أو : الطريق الأقرب من هذا الذي هدى إليه أهل الكهف رشدا وصوابا ، وقد فعل ذلك حيث هداه إلى الدين القيّم الذي أظهره على الأديان كلها ، ولو كره المشركون.
وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ أحياء ، مضروبا على آذانهم ، ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً ، روى عن على - كرم اللّه وجهه - أنه قال : عند أهل الكتاب أنهم لبثوا ثلاثمائة سنة شمسية ، واللّه تعالى ذكر السنة القمرية ، والتفاوت بينهما فى كل مائة ثلاث سنين ، فيكون ثلاث مائة سنة وتسع سنين. ه. قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا أي : الزمان
___________
(1) عزاه السيوطي فى الدر (4/ 394) لابن المنذر عن مجاهد ، فى سياق طويل ، وأخرج الطبري (15/ 191) نحوه فى سياق طويل ، عن ابن عباس.(3/262)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 263
الذي لبثوا فيه. لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي : ما غاب فيهما ، وخفى من أحوال أهلها ، أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ أي : ما أسمعه وما أبصره. دل بصيغة التعجب على أن سمعه تعالى وبصره خارج عما عليه إدراك المدركين لأنه تعالى لا يحجبه شىء ، ولا يحول دونه حائل ، ولا يتفاوت بالنسبة اليه اللطيف والكثيف ، والصغير والكبير ، والخفي والجلى. والتعجب فى حقه تعالى مجاز لأنه إنما يكون مما خفى سببه ، ولأنه دهشة وروعة تلحق المتعجب عند معاينة ما لم يعتده ، وهو تعالى منزّه عن ذلك ، فيؤوّل بأنه مبالغة فى إحاطة سمعه وبصره بكل شىء ، كما تقدم.
ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ أي : ما لأهل السموات والأرض من دونه تعالى من ولى يتولى أمورهم وينصرهم إلا هو سبحانه ، وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ : فى قضائه فى علم الغيب أَحَداً منهم ، ولا يجعل له فيه مدخلا ، وقرئ بالخطاب لكل أحد ، أي : ولا تشرك أيها السامع فى حكمه وتدبيره أحدا من خلقه ، فإنه لا فعل له ولا تدبير. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : قد تضمنت إشارة الآية خمس خصال من خصال الصوفية :
الأولى : ترك المراء والجدال ، إلا ما كان على وجه المذاكرة والمناظرة فى استخراج الحق أو تحقيقه ، من غير ملاججة ولا مخاصمة ، فى سهولة وليونة وسلامة القلوب.
الثانية : استفتاء القلوب فيما يعرض من الأمور قال صلى اللّه عليه وسلم : «استفت قلبك ، وإن أفتاك المفتون وأفتوك ، فالبر ما اطمأن القلب وسكن إليه ، والإثم ما حاك فى الصدر وتردد» «1» ، والمراد بالقلوب التي تستفتى. القلوب الصافية المنورة بذكر اللّه ، الزاهدة فيما سوى اللّه ، فإنها إذا كانت بهذه الصفة لا يتجلى فيها إلا الحق ، ولا تسكن إلا إلى الحق ، بخلاف القلوب المخوضة بحب الدنيا والهوى ، فلا تفتى إلا بما يوافق هواها.
الثالثة : التفويض إلى مشيئة اللّه وتدبيره ، والرضا بما يبرز به القضاء ، بحيث لا يعقد على شىء ، ولا يجزم بفعل شىء ، إلا ملتبسا بمشيئة اللّه ، فينظر ما يفعل اللّه ، فالعاقل إذا أصبح نظر ما يفعل اللّه به ، والجاهل إذا أصبح نظر ما يفعل بنفسه ، كما قال صاحب الحكم.
الرابعة : الاشتغال بالذكر والفكر ، حتى يغيب عما سوى المذكور قال تعالى : (وَ اذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ) أي : إذا نسيت ما سواه ، حينئذ تكون ذاكرا حقيقة ، فالذكر الحقيقي : هو الذي يغيب صاحبه عن شهود نفسه ورسمه وحسه ، حتى يكون الحق تعالى هو المتكلم على لسانه لشدة غيبته فيه ، وهذا أمر مشاهد لمن عثر على شيخ التربية والتزم صحبته.
___________
(1) أخرجه بنحوه الإمام أحمد فى المسند (4/ 224) ، وابن عساكر فى تاريخ دمشق (تهذيب 3/ 212) عن وابصة. وصححه محقق المسند. وزاد فى كشف الخفاء (2/ 124) عزو الحديث لأبى يعلى وأبى نعيم.(3/263)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 264
الخامسة : التماس الترقي والزيادة فى الاهتداء واليقين ، فكل مقام يدركه ينبغى أن يطلب مقاما أعلى منه ، ولا نهاية لعلمه تعالى ولا لعظمته ، (و قل عسى أن يهدينى ربى لأقرب من هذا رشدا) ، وباللّه التوفيق.
ثم أمره بتلاوة كتابه الذي هو أصل كل رشد وصواب ، وأقرب هداية لذوى الألباب ، فقال تعالى :
[سورة الكهف (18) : آية 27]
وَاتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (27)
يقول الحق جل جلاله : وَاتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ أي : اسرده على ما نزل ، ولا تسمع لقولهم : ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا «1» ، أو اتبع أحكامه ، لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ : لا قادر على تبديله غيره ، أو :
لا مغير لما وعد بكلماته للمخالفين له ، وَلَنْ تَجِدَ أبدا مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً أي : ملجأ ، تعدل إليه عند إلمام ملمة ، أو : لن تجد ، إن بدلت تقديرا ، وخالفت ما أنزل إليك ، ملتحدا : ملجأ تميل إليه. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : القرآن شفاء لكل داء فمن نزلت به شدة حسية أو معنوية ، دنيوية أو دينية ، ففزع إليه بالتلاوة أو الصلاة به ، رأى فرجا ، وقريبا ، فالالتجاء إلى كلام الله هو الالتجاء إلى الله ، فإنّ الحق تعالى يتجلى فى كلامه للقلوب على قدر صفائها ، وأما من التجأ إلى غير اللّه فقد خاب رجاؤه وبطل سعيه قال تعالى : (وَ لَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً) تميل إليه فيأويك. والله تعالى أعلم.
ثم أمر بصحبة الفقراء ، الذين يعينونه على تلاوة كتابه ونصر دينه والتمسك به ، فقال :
[سورة الكهف (18) : آية 28]
وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً (28)
قلت : (وَ لا تَعْدُ) : نهى مجزوم بحذف الواو ، و(عَيْناكَ) : فاعل ، و(تُرِيدُ) : حال من الكاف ، أو من فاعل (تَعْدُ).
يقول الحق جل جلاله : وَاصْبِرْ نَفْسَكَ أي : احبسها مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ أي : يعبدونه بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ ، قيل : الصلوات الخمس ، فالغداة : الصبح ، والعشىّ : الظهر وما بعده ، وقيل : الصبح والعصر ،
___________
(1) من الآية 15 من سورة يونس.(3/264)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 265
قلت : والأظهر أنها الصلاة التي كانوا يصلونها قبل فرض الصلاة ، وهى ركعتان بالغداة والعشى. قال ابن عطية :
ويدخل فى الآية من يدعو فى غير صلاة ، ومن يجمع لمذاكرة علم ، وقد روى عبد الله بن عمر عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال : «لذكر الله بالغداة والعشىّ أفضل من حطم السّيوف فى سبيل الله ، ومن إعطاء المال سحا» «1».
وقيل : (يَدْعُونَ رَبَّهُمْ) فى جميع الأوقات ، وفى طرفى النهار ، والمراد بهم فقراء المؤمنين كعمار وصهيب وخباب وبلال ، روى أن رؤساء الكفرة من قريش قالوا لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : لو أبعدت هؤلاء عن نفسك لجالسناك وصحبناك ، وقالوا : إن ريح جبابهم تؤذينا ، فنزلت الآية «2». روى أنه صلى اللّه عليه وسلم لما نزلت خرج إليهم وجلس بينهم ، وقال : «الحمد لله الذي جعل فى أمتى من أمرت أن أصبر نفسى معه» «3». وقيل : نزلت فى بيان أهل الصفّة ، وكانوا نحو سبعمائة ، فتكون الآية مدنية.
ثم وصفهم بالإخلاص ، فقال : يُرِيدُونَ وَجْهَهُ أي : معرفة ذاته ، لا جنة ولا نجاة من نار ، وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ أي : لا تجاوزهم بنظرك إلى غيرهم ، من عداه : إذا جاوزه ، وفى الوجيز : ولا تصرف بصرك عنهم إلى غيرهم من ذوى الهيئات والزينة ، تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا أي : تطلب مجالسة الأشراف والأغنياء وأصحاب الدنيا.
وَلا تُطِعْ فى تنحية الفقراء عن مجلسك مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا أي : جعلناه غافلا عن الذكر وعن الاستعداد له ، كأولئك الذين يدعونك إلى طرد الفقراء عن مجلسك ، فإنهم غافلون عن ذكرنا ، على خلاف ما عليه المؤمنون من الدعاء فى مجامع الأوقات ، وفيه تنبيه على أن الباعث على ذلك الدعاء غفلة قلبية عن جناب الله - سبحانه - حتى خفى عليه أن الشرف إنما هو بتحلية القلب بالفضائل ، لا بتحلية الجسد بالملابس والمآكل. وَاتَّبَعَ هَواهُ : ما تهواه نفسه ، وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً : ضياعا وهلاكا ، وهو من التفريط والتضييع ، أو من الإفراط والإسراف ، فإن الغفلة عن ذكر الله - تعالى - تؤدى إلى اتباع الهوى المؤدى إلى التجاوز والتباعد عن الحق والصواب. والله تعالى أعلم.
الإشارة : فى الآية حثّ على صحبة الفقراء والمكث معهم ، وفى صحبتهم أسرار كبيرة ومواهب غزيرة ، إذ بصحبتهم يكتسب الفقير آداب الطريق ، وبصحبتهم يقع التهذيب والتأديب ، حتى يتأهل لحضرة التقريب ،
___________
(1) عزاه فى كنز العمال (1/ 429 ح 1850) لابن شاهين فى الترغيب فى الذكر عن ابن عمر. وأخرجه ، بدون العبارة الأخيرة ، الديلمي فى الفردوس (3/ 454 ح 5402) عن أنس .. وحطم السيوف ، أي : كسرها.
(2) أخرجه البيهقي فى الشعب (باب فى الزهد وقصر الأمل) عن سلمان ، وزاد السيوطي عزوه فى الدر (4/ 396) لابن مردويه ، وأبى نعيم فى الحلية.
(3) أخرجه الطبري (15/ 235) عن قتادة ، وأخرجه البيهقي فى الموضع السابق ذكره ، ضمن الرواية ذاتها عن سلمان.(3/265)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 266
وبصحبتهم تدوم حياة الطريق ، ويصل العبد إلى معالم التحقيق ، وفى ذلك يقول الشيخ أبو مدين رضي اللّه عنه :
ما لذّة العيش إلا صحبة الفقرا هم السّلاطين والسّادات والأمرا
فاصحبهم وتأدّب فى مجالسهم وخلّ حظّك مهما خلّفوك ورا
إلى آخر كلامه.
وقوله تعالى : وَاصْبِرْ نَفْسَكَ قال القشيري : لم يقل : واصبر قلبك لأن قلبه كان مع الحق تعالى ، فأمره بصحبة الفقراء جهرا بجهر ، واستخلص قلبه لنفسه سرا بسرّ. ه. قال الورتجبي : اصبر نفسك مع هؤلاء الفقراء ، العاشقين لجمالى ، المشتاقين إلى جلالى ، الذين هم فى جميع الأوقات يسألون متى لقاء وجهى الكريم ، ويريدون أن يطيروا بجناح المحبة إلى عالم وصلي ، حتى يكونوا متسلين بصحبتك عن مقام الوصال ، وفى رؤيتهم لك رؤية ذلك الجمال. ه.
وقوله تعالى : يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ، بيّن أن دعاءهم وسؤالهم إنما هو رؤيته ولقاؤه ، شوقا إليه ومحبة فيه ، من غير تعلق بغيره ، أو شغل بسواه ، بل همتهم اللّه لا غيره ، وإلّا لما صدق قصر إرادتهم عليه. قال فى الإحياء : من يعمل اتقاء من النار خوفا ، أو رغبة فى الجنة رجاء ، فهو من جملة النيات الصحيحة لأنه ميل إلى الموعود فى الآخرة ، وإن كان نازلا بالإضافة إلى قصد طاعة اللّه وتعظيمه لذاته ولجلاله ، لا لأمر سواه. ثم قال : وقول رويم : الإخلاص : ألا يريد صاحبه عليه عوضا فى الدارين ، هو إشارة لإخلاص الصدّيقين ، وهو الإخلاص المطلق ، وغيره إخلاص بالإضافة إلى حظوظ العاجلة. ه. من الحاشية.
ثم أمره بالصدع بالحق ، فقال :
[سورة الكهف (18) : آية 29]
وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرابُ وَساءَتْ مُرْتَفَقاً (29)
قلت : «الْحَقُّ» : خبر ، أي : هذا الذي أوحى إلىّ الحقّ.
يقول الحق جل جلاله : وَقُلِ يا محمد لأولئك الغافلين المتبعين أهواءهم ، أو : لمن جاءك من الناس : هذا الذي جئتكم به من عند ربى هو الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ أي : من جهة ربكم ، لا من جهتى ، حتى يتصور فيه التبديل ، أو يمكن التردد فى اتباعه. فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ ، وهو تهديد ، أي : فمن شاء أن يؤمن فليؤمن كسائر المؤمنين ، ولا يتعلل بما لا يكاد يصلح للتعليل ، ومن شاء أن يكفر فليفعل ، وفيه مع التهديد الاستغناء عن متابعتهم ، وعدم المبالاة بهم وبإيمانهم.(3/266)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 267
ثم أوعدهم على الكفر ، فقال : إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ أي : هيأنا للكافرين بالحق ، بعد ما جاء من اللّه سبحانه ، والتعبير عنهم بالظالمين للتنبيه على أن اختيارهم الكفر ظلم وتجاوز عن الحد ، ووضع للشىء فى غير محله ، أي :
هيأنا لهم ناراً عظيمة أَحاطَ بِهِمْ أي : محيط بهم سُرادِقُها أي : سورها المحيط بها ، والتعبير بالماضي لتحقق وقوعه ، والسرادق : ما يحيط بالشيء ، كالجدار ونحوه. قيل : هو حائط من نار ، وقيل : دخانها.
وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا من العطش يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ : كمذاب الحديد والرصاص فى الحرارة. وقيل : كردىء الزيت فى اللون ، يَشْوِي الْوُجُوهَ إذا قدم ليشرب بحرارته. عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال : «هو كعكر الزّيت ، فإذا قرّب من الكافر سقطت فروة وجهه فيه ، فإذا شربه تقطّعت أمعاؤه» «1».
بِئْسَ الشَّرابُ ذلك ، وَساءَتْ النار مُرْتَفَقاً : متّكا ، وأصل الارتفاق : نصب المرفق تحت الخد ليتكئ عليه ، وأنى ذلك فى النار ، وإنما هو لمقابلة قوله فى المؤمنين : وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً.
الإشارة : ينبغى للواعظ ، أو المذكر ، أو العالم ، ألا يحرص على الناس ، بل يستغنى باللّه فى أموره كلها ، وإنما يبين الحق من الباطل ، ويقول : هذا الحق من ربكم ، فمن شاء فليؤمن ومن يشاء فليكفر. هذا إذا كان لعامة الناس ، وأما إن كان لخاصتهم كأهل الرئاسة والجاه ، فاختلف فيه فقال بعضهم : يسلك هذا المنهاج ، يبين الحق ولا يبالى ، محتجا بالآية ، قال : نحن أمة محمدية ، قال تعالى له : وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ ... الآية ، وقال بعضهم : ينبغى أن يلين لهم القول لقوله تعالى : فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى «2» ، وهو الأليق بطريق السياسة ، فمن أعرض عن الوعظ ، وبقي على ظلمه ، فالآية تجر ذيلها عليه. واللّه تعالى أعلم.
ثم ذكر ضدهم ، فقال :
[سورة الكهف (18) : الآيات 30 الى 31]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً (30) أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ نِعْمَ الثَّوابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً (31)
___________
(1) أخرجه ، دون العبارة الأخيرة ، أحمد فى المسند (3/ 70) ، والترمذي فى (صفة جهنم ، باب ما جاء فى صفة شراب أهل النار) ، والبغوي فى تفسيره (5/ 168) ، عن أبى سعيد الخدري رضى الله عنه. [.....]
(2) الآية 44 من سورة طه.(3/267)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 268
قلت : جملة : (إِنَّا لا نُضِيعُ) : خبر «إِنَّ» ، والعائد محذوف ، أي : أحسن عملا ، أو : وقع الظاهر موقعه فإن من أحسن عملا فى الحقيقة هو الذي آمن وعمل صالحا. وأُولئِكَ : استئناف لبيان الأجر ، أو : خبر «إِنَّ» ، وما بينهما اعتراض ، أو خبر بعد خبر. و(مِنْ أَساوِرَ) : ابتدائية ، و(مِنْ ذَهَبٍ) : بيانية ، و(أَساوِرَ) : جمع أسورة ، أو أسوار جمع سوار ، فهو جمع الجمع.
يقول الحق جل جلاله : إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا أي : اختاروا الإيمان ، من قوله : (فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ) ، وكأنه فى المعنى عطف على قوله : (أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ) ، أي : والذين آمنوا هيأنا لهم كذا وكذا ، ولعل تغيير سبكه : للإيذان بكمال تنافى مآلى الفريقين ، أي : إن الذين آمنوا بالحق الذي أوحى إليك وَعَمِلُوا الأعمال الصَّالِحاتِ ، حسبما بيّن فيما أوحى إليك ، إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا ، وأتقنه على ما تقتضيه الشريعة.
أُولئِكَ المنعوتون بهذه النعوت الجليلة لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي من تحت قصورهم الْأَنْهارُ من ماء ولبن وخمر وعسل ، يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ أي : كل واحد يحلّى بسوارين من ذهب.
وكانت الأساور عند العرب من زينة الملوك ، وَيَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً ، وخصت الخضرة بثيابهم لأنها أحسن الألوان وأكثرها طراوة. وتلك الثياب مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ ، السندس : ما رقّ من الديباج ، والإستبرق : ما غلظ منه ، جمع النوعين للدلالة على أن فيها ما تشتهى الأنفس وتلذ الأعين ، مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ جمع أريكة ، وهو السرير فى الحجال ، أي : متكئين على الأسرة المزينة بالستور الرفيعة ، كحال العرائس المتنعمين. نِعْمَ الثَّوابُ ذلك ، وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً : متّكأ. والآية عامة وإن نزلت فى خصوص الصحابة رضى الله عنهم ، وأماتنا على منهاجهم. آمين.
الإشارة : إن الذين آمنوا إيمان الخصوص ، وعملوا الأعمال التي تقرب إلى حضرة القدوس وهى تحمل ما يثقل على النفوس ، أولئك لهم جنات المعارف ، تجرى من تحت قلوبهم أنهار العلوم والمواهب ، يحلّون فيها بمقامات اليقين ، ويلبسون ثياب العز والنصر والتمكين ، متكئين على سرر الهنا والسرور ، قد انقضت عنهم أيام المحن والشرور ، جعلنا الله فيهم بمنّه وكرمه.
ثم ضرب مثلا لمن اغتر بدنياه ، ولمن زهد فيها وأقبل على مولاه ، فقال :
[سورة الكهف (18) : الآيات 32 الى 44]
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً (32) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً (33) وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقالَ لِصاحِبِهِ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً وَأَعَزُّ نَفَراً (34) وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً (35) وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً (36)
قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً (37) لكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً (38) وَلَوْ لا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالاً وَوَلَداً (39) فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً مِنَ السَّماءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً (40) أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً (41)
وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً (42) وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَما كانَ مُنْتَصِراً (43) هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَخَيْرٌ عُقْباً (44)(3/268)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 269
قلت : «رَجُلَيْنِ» : بدل من «مَثَلًا» ، وجملة جَعَلْنا ... بتمامها : بيان للتمثيل ، أو صفة لرجلين ، وما شاءَ اللَّهُ :
خبر ، أي : هذا ما شاء اللّه ، أو الأمر ما شاء اللّه ، أو مبتدأ حذف الخبر ، أي : الذي شاء اللّه كائن ، أو شرطية ، والجواب محذوف ، أي : أىّ شىء شاء اللّه كان ، و(هُنالِكَ) : ظرف مقدم ، و(الْوَلايَةُ) : مبتدأ ، والظرف : إشارة إلى الآخرة ، وهذا أحسن.
يقول الحق جل جلاله : وَاضْرِبْ لَهُمْ أي : للفريقين فريق المؤمنين والكافرين المتقدمين ، مَثَلًا من حيث عصيان الكافر ، مع تقلبه فى النعيم ، وطاعة المؤمن ، مع مكابدته مشاقّ الفقر ، وما كان مآلهما ، لا من حيث ما ذكر من أن للكافر فى الآخرة كذا وللمؤمن كذا ، أي : واضرب لهم حالى رَجُلَيْنِ مقدرين أو محققين ، هما أخوان من بنى إسرائيل ، أو شريكان : كافر ، واسمه قطروس ، ومؤمن ، اسمه يهوذا ، اقتسما ثمانية آلاف دينار ، أو ورثاها من أبيهما ، فاشترى الكافر بنصيبه ضياعا وعقارا ، وصرف المؤمن نصيبه إلى وجوه البر.
روى : أن الكافر اشترى أرضا بألف دينار ، فقال صاحبه المؤمن : اللهم إن فلانا اشترى أرضا بألف ، وإنى أشترى منك أرضا فى الجنة بألف ، فتصدق بألف دينار ، ثم إن صاحبه بنى دارا بألف دينار ، فقال المؤمن : اللهم إن صاحبى بنى دارا بألف ، وإنى أشترى منك دارا فى الجنة بألف ، فتصدق بألف دينار ، ثم إن صاحبه تزوج(3/269)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 270
امرأة بألف دينار ، فقال : اللهم ، إن فلانا تزوج بألف دينار ، وإنى أخطب منك من نساء الجنة بألف ، فتصدق بألف دينار ، ثم إن صاحبه اشترى خادما ومتاعا بألف دينار ، فقال : اللهم إن فلانا اشترى خادما ومتاعا بألف ، وإنى أشترى منك خادما ومتاعا من الجنة بألف ، فتصدق بألف دينار ، ثم أصابته حاجة ، فقال : لعل صاحبى يناولنى معروفه ، فأتاه ، فقال : ما فعل مالك؟ فأخبره قصته ، فقال : أو إنك لمن المصدقين بهذا؟ واللّه لا أعطيك شيئا ، فلما توفيا آل أمرهما إلى ما ذكر اللّه فى سورة الصافات بقوله : قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ ، يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ ... «1» الآية.
وبيّن حالهما فى الدنيا بقوله : جَعَلْنا لِأَحَدِهِما وهو الكافر ، جَنَّتَيْنِ : بستانين مِنْ أَعْنابٍ : من كروم متنوعة ، وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ أي : جعلنا النخل محيطة بهما محفوظا بها كرومهما ، وَجَعَلْنا بَيْنَهُما :
وسطهما زَرْعاً ليكون كل منهما جامعا للأقوات والفواكه ، متواصل العمارة ، على الهيئة الرائقة ، والوضع الأنيق. كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها : ثمرها وبلغ مبلغا صالحا للأكل ، وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً أي : لم تنقص من أكلها شيئا فى كل سنة ، بخلاف سائر البساتين ، فإن الثمار غالبا تكثر فى عام وتقل فى عام ، وَفَجَّرْنا خِلالَهُما : فيما بين كل من الجنتين نَهَراً على حدة ، وقرئ بالسكون. والنهر : الماء الكثير ، وكان لكل بستان نهر ليدوم شربها ويدوم بهاؤها.
ولعل تأخير تفجير النهر عن ذكر إيتاء الأكل ، مع أن الترتيب الخارجي العكس للإيذان باستقلال كل من إيتاء الأكل وتفجير النهر فى تكميل محاسن الجنتين ، كما فى قصة البقرة ونحوها ، ولو عكس لأوهم أن المجموع خصلة واحدة بعضها مرتب على بعض.
وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ أي : وكان لصاحب الجنتين أنواع من المال غير الجنتين ، من ثمر ماله : إذا كثر. قال ابن عباس : الثمر : جميع المال من الذهب ، والفضة ، والحيوان ، وغير ذلك. وقال مجاهد : هو الذهب والفضة خاصة. فَقالَ لِصاحِبِهِ المؤمن ، أخيه أو شريكه ، وَهُوَ يُحاوِرُهُ : يراجعه فى الكلام ، من حار إذا رجع ، وذلك أنه سأله عن ماله فيما أنفقه ، فقال : قدمته بين يدى ، لأقدم عليه ، فقال له : أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالًا وَأَعَزُّ نَفَراً : حشما وأعوانا وأولادا ذكورا لأنهم الذين ينفرون معه.
وَدَخَلَ جَنَّتَهُ : بستانه الذي تقدم وصفه ، وإنما وحّده إما لعدم تعلق الغرض بتعدده ، أو لاتصال أحدهما بالآخر ، أو لأن الدخول يكون فى واحد واحد. فدخله وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ ضارّ لها بعجبه وكفره ، قالَ حين دخوله : ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ الجنة ، أي : تفنى أَبَداً لطول أمده وتمادى غفلته ، وإنكارا لفناء الدنيا
___________
(1) الآيتان 50 - 51 من سورة الصافات. وانظر تفسير البغوي 5/ 170 ، وزاد المسير 5/ 138.(3/270)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 271
وقيام الساعة ، ولذلك قال : وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً أي : كائنة فيما سيأتى ، وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي بالبعث عند قيامها ، كما تقول ، لَأَجِدَنَّ حينئذ خَيْراً مِنْها : من الجنتين مُنْقَلَباً أي : مرجعا وعاقبة ، أي : كما أعطانى هذا فى الدنيا سيعطينى أفضل منه فى الآخرة ، ومدار هذا الطمع واليمين الفاجرة : اعتقاد أنه تعالى إنما أولاه ما أولاه فى الدنيا لاستحقاقه لذاته ، وكرامته عليه ، ولم يدر أن ذلك استدراج.
قالَ لَهُ صاحِبُهُ أخوه المسلم وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ أي : أصلك مِنْ تُرابٍ ، فإن خلق آدم عليه السّلام من تراب متضمن لخلق أولاده منه إذ لم تكن فطرته مقصورة على نفسه ، بل كانت أنموذجا منطويا على فطرة سائر أفراد الجنس ، انطواء مجانسا مستتبعا لجريان آثارها على الكل ، فكان خلقه عليه السّلام من تراب خلقا للكل منه ، ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ هى مادتك القريبة ، ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا أي : عدلك وكملك إنسانا ذكرا ، أو صيرك رجلا ، وفى التعبير بالموصول مع صلته : تلويح بدليل البعث ، الذي نطق به قوله تعالى : يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ «1».
قال البيضاوي : جعل كفره بالبعث كفرا باللّه لأنه منشأ الشك فى كمال قدرة اللّه ، ولذلك رتّب الإنكار على خلقه إياه من التراب ، فإن من قدر على إبداء خلقه منه قدر أن يعيده منه. ه.
ثم قال أخوه المسلم : لكِنَّا أصله : لكن أنا ، وقرئ به ، فحذفت الهمزة ، فالتقت النونان فوقع الإدغام ، هُوَ اللَّهُ رَبِّي ، «هُوَ» : ضمير الشأن ، مبتدأ ، خبره : «هُوَ اللَّهُ رَبِّي» ، وتلك الجملة : خبر «أَنَا» ، والعائد منها : الضمير ، وقرئ بإثبات «أنا» فى الوصل والوقف ، وفى الوقف خاصة ، ومدار الاستدراك قوله تعالى : أَكَفَرْتَ ، كأنه قال : أنت كافر ، لكنى مؤمن موحد ، وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً ، وفيه تنبيه على أن كفره كان بالإشراك. قاله أبو السعود.
قال شيخ شيوخنا سيدى عبد الرحمن الفاسى : والذي يظهر من قوله : وَلَوْ لا إِذْ دَخَلْتَ ... الآية ، ومن قوله :
يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ ... الآية ، أنه إشراك باللّه فى عدم صرف المشيئة إليه ، ودعوى الاستقلال بنفسه دونه ، وقد قال وهب بن منبه : (قرأت فى تسعين كتابا من كتب اللّه أن من وكل إلى نفسه شيئا من المشيئة فقد كفر) ، ثم شكه فى البعث تكذيب بوعد اللّه ، وهو كفر صراح. ه.
وَلَوْ لا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ : بستانك ، قُلْتَ ما شاءَ اللَّهُ أي : هلا قلت عند دخولها : ما شاءَ اللَّهُ أي :
الأمر ما شاء اللّه ، أو ما شاء اللّه يكون ، والمراد : تحضيضه على الاعتراف بأنها وما فيها بمشيئة اللّه تعالى ، إن شاء أبقاها ، وإن شاء أخفاها ، لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ أي : لا قوة لى على عمارتها وتدبير أمرها إلا بمعونة اللّه وإقداره.
___________
(1) من الآية 5 من سورة الحج.(3/271)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 272
قال النبي صلى اللّه عليه وسلم : «من رأى شيئا فأعجبه فقال : ما شاء اللّه لا قوّة إلّا باللّه ، لم يضرّه شى ء»»
. وقال لأبى هريرة : «ألا أدلك على كلمة من كنوز الجنّة؟ قال : بلى يا رسول اللّه ، قال : لا قوة إلّا باللّه ، إن قالها العبد قال اللّه عز وجل : أسلم عبدى واستسلم» «2». وقال لعبد اللّه بن قيس : «ألا أدلّك على كنز من كنوز الجنّة؟ قال : بلى ، يا رسول اللّه ، قال : لا حول ولا قوّة إلّا باللّه» «3».
ثم قال له أخوه المسلم : إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالًا وَوَلَداً فى الدنيا ، وفيه تقوية لمن فسر النفر بالولد ، فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ فى الآخرة أو فى الدنيا خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ والمعنى : إن ترنى أفقر منك فأنا أتوقع من صنع اللّه سبحانه أن يقلب ما بي وبك من الفقر والغنى ، فيرزقنى جنة خيرا من جنتك ، ويسلبك لكفرك نعمته ، ويخرب جنتك ، وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً : عذابا مِنَ السَّماءِ يذهبها ، من برد أو صاعقة ، وهو جمع : حسبانة ، وهى : المرامى من هذه الأنواع المذكورة ، وتطلق أيضا ، فى اللغة ، على سهام ترمى دفعة واحدة ، فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً أي : أرضا ملساء ، يزلق عليها لاستئصال ما عليها من النبات والشجر والبناء ، أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها أي : النهر الذي خلالها غَوْراً : غائرا ذاهبا فى الأرض ، و«زَلَقاً» و«غَوْراً» : مصدران ، عبّر بهما عن الوصف مبالغة. فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً أي : لن تستطيع أبدا للماء الغائر طلبا ، بحيث لا يبقى له أثر يطلبه به ، فضلا عن وجدانه ورده.
وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ أي : هلكت أشجاره المثمرة ، وأمواله المعهودة ، وأصله : من إحاطة العدو ، وهو عطف على مقدر ، كأنه قيل : فوقع بعض ما وقع من المحذور ، وأهلكت أمواله ، روى أن اللّه تعالى أرسل عليها نارا فأحرقتها وغار ماؤها. فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ ظهرا لبطن ، أو يضرب يديه واحدة على أخرى ، يصفق بهما ، وهو كناية عن الندم ، كأنه قال : فأصبح يندم عَلى ما أَنْفَقَ فِيها أي : فى عمارتها من الأموال. وجعل تخصيص الندم بها دون ما هلك الآن من الجنة لأنه إنما يكون على الأفعال الاختيارية. انظر أبا السعود.
وَهِيَ أي : الجنة خاوِيَةٌ : ساقطة عَلى عُرُوشِها أي : دعائمها المصنوعة للكروم ، فسقطت العروش أولا ثم سقطت الكروم عليها. وتخصيص حالها بالذكر ، دون الزرع والنخل ، إمّا لأنها العمدة وهما من متمماتها ، وإمّا لأن ذكر هلاكها مغن عن ذكر هلاك الباقي لأنها حيث هلكت ، وهى مشتدة بعروشها فهلاك
___________
(1) أخرجه ابن السني فى عمل اليوم والليلة (ح 206) من حديث أنس مرفوعا ، والبيهقي فى شعب الإيمان (باب فى تعديد نعم الله عز وجل ، ح 4370).
(2) أخرجه أحمد فى المسند (2/ 298) عن أبى هريرة رضي اللّه عنه.
(3) أخرجه البخاري فى (المغازي ، باب غزوة خيبر) ، ومسلم فى (الذكر ، باب استحباب خفض الصوت بالذكر) من حديث أبى موسى الأشعري.(3/272)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 273
ما عداها أولى ، وإما لأن الإنفاق فى عمارتها أكثر. وَيَقُولُ أي : يقلب وهو يقول : يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً ، كأنه تذكر موعظة أخيه ، وعلم أنه إنما أتى من قبل شركه ، فتمنى أن لم يكن مشركا فلم يصبه ما أصابه.
وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ : جماعة يَنْصُرُونَهُ : يقدرون على نصره بدفع الهلاك عن أمواله ، مِنْ دُونِ اللَّهِ ، فإنه القادر على ذلك وحده ، وَما كانَ مُنْتَصِراً أي : وما كان فى نفسه ممنوعا بقوته من انتقامه سبحانه منه.
هُنالِكَ فى ذلك المقام ، وفى تلك الحال الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ أي : النصرة له وحده ، لا يقدر عليها أحد غيره ، وقرئ : «الحق» بالكسر ، صفة للّه ، وبالرفع ، نعت للولاية. ويحتمل أن يكون : هُنالِكَ ظرفا لمنتصرا ، أي :
وما كان ممتنعا من انتقام اللّه منه فى ذلك الوقت ، ففيه تنبيه على أن قوله : يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ : كان عن اضطرار وجزع مما دهاه ، فلذلك لم ينفعه ، كقوله تعالى : فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا «1». وحينئذ استأنف تعالى الإخبار عن كمال حفظه لأوليائه فقال : الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ أي : الحفظ والرعاية والنصرة إنما هى من اللّه لأوليائه فى الدنيا والآخرة ، لا يخذلهم فى حال من الأحوال ، بل يتولى سياستهم ونصرهم وهدايتهم ، كما هو شأن من اعتز باللّه ، دون من اعتز بغيره ، فقوله : وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ : رد لقوله : وَأَعَزُّ نَفَراً أي : بل النصرة للّه لأوليائه ، دون من تولى غيره.
والحاصل : أن من تولى اللّه فعاقبته النصرة ، ومن تولى غيره فعاقبته الخذلان. والعياذ باللّه. ويحتمل أن يكون قد تم الكلام على القصة ، ثم أعاد الكلام إلى ما قبل القصة ، فقال : هُنالِكَ عند ذلك ، يعنى : يوم القيامة الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ يتولون اللّه ويؤمنون به ، ويتبرأون مما كانوا يعبدون ، هُوَ خَيْرٌ ثَواباً أي : خير من يرجى ثوابه ، وَخَيْرٌ عُقْباً أي : عاقبة لأوليائه. والعقب : العاقبة ، يقال : عاقبة كذا وعقباه وعقبه ، أي : آخره.
واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : قد ضرب اللّه مثلا لمن عكف على هواه ، وقصر همته على زخارف دنياه ، ولمن توجه بهمته إلى مولاه ، وقدّم دنياه لأخراه ، فكان عاقبة الأول : الندم والخسران ، وعاقبة الثاني : الهنا والرضوان ، أو لمن وقف مع علمه واعتمد عليه ، ولمن تبرأ من حوله وقوته فى طلب الوصول إليه.
قال فى لطائف المنن : لا تدخل جنة علمك وعملك ، وما أعطيت من نور وفتح فتقول كما قال من خذل ، فأخبر اللّه عنه بقوله : وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً ... الآية. ولكن أدخلها كما بيّن
___________
(1) من الآية 85 من سورة غافر.(3/273)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 274
لك ، وقل كما رضى لك : وَلَوْ لا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ ، وافهم هاهنا قوله صلى اللّه عليه وسلم :
«لا حول ولا قوّة إلّا باللّه كنز من كنوز الجنة» «1». وفى رواية أخرى : «كنز من كنوز تحت العرش».
فالترجمة : «2» ظاهر الكنز ، والمكنوز فيها : صدق التبري من الحول والقوة ، والرجوع إلى حول اللّه وقوته.
ثم ضرب مثلا فى سرعة ذهابها وفنائها ، فقال :
[سورة الكهف (18) : الآيات 45 الى 46]
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً (45) الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلاً (46)
قلت : كَماءٍ : خبر عن مضمر ، أي : هى كماء ، ويجوز أن يكون مفعولا ثانيا لا ضرب ، على أنه بمعنى «صيّر».
يقول الحق جل جلاله : وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا أي : واذكر لهم ما يشبهها فى زهرتها ونضارتها ، وسرعة انقراضها وفنائها لئلا يطمئنوا إليها ويغفلوا عن الآخرة ، هى كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ وهو المطر ، فَاخْتَلَطَ بِهِ أي : بسببه نَباتُ الْأَرْضِ بحيث التف وخالط بعضه بعضا من كثرته وتكاثفه ، ثم مرت مدة قليلة فَأَصْبَحَ هَشِيماً أي : مهشوما مكسورا ، تَذْرُوهُ الرِّياحُ أي : تفرقه وتطيره ، كأن لم يغن بالأمس ، وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً : قادرا ، ومن جملة الأشياء : الإفناء والإنشاء.
الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا أي : مما تذروه رياح الأقدار ، ويلحقه الفناء والبوار ، ويدخل فى الزينة :
الجاه ، وجميع ما فيه للنفس حظ فإنه يفنى ويبيد ، ثم ذكر ما لا يفنى فقال : وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ وهى أعمال الخير بأسرها ، أو : الصلوات الخمس ، أو : «سبحان اللّه ، والحمد للّه ، ولا اله الا اللّه ، واللّه أكبر» ، زاد بعضهم : «ولا حول ولا قوة إلا باللّه العلى العظيم». قال عليه الصلاة والسلام : «هى من كنز الجنة ، وصفايا الكلام ، وهن الباقيات الصالحات ، يأتين يوم القيامة مقدمات ومعقبات» «3».
___________
(1) أخرجه البخاري فى (الدعوات ، باب الدعاء إذا علا عقبة) ، ومسلم فى (الذكر والدعاء ، باب استحباب خفض الصوت بالذكر) ، من حديث أبى موسى الأشعري. بلفظ : «ألا أدلك على كنز من كنوز الجنة؟ فقلت : بلى يا رسول اللّه. قال : لا حول ولا قوة إلا بالله».
(2) أي : اللفظ والكلام المنطوق به.
(3) أخرجه الطبراني فى الأوسط (4/ 220 ح 4047) بلفظ : «قولوا : سبحان الله ، والحمد الله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر ، ولا حول ولا قوة إلا بالله فإنهن يأتين يوم القيامة مستقدمات ومنجيات ومجنبات ، وهن الباقيات الصالحات» ، من حديث أبى هريرة رضي اللّه عنه.(3/274)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 275
أو : الهمات العالية والنيات الصالحة إذ بها ترفع الأعمال وتقبل. أو : كل ما أريد به وجه اللّه ، وسميت باقية :
لبقاء ثوابها عند فناء كل ما تطمح إليه النفس من حظوظ الدنيا وزينتها الفانية.
قال في الإحياء : كل ما تذروه رياح الموت فهو زهرة الحياة الدنيا ، كالمال والجاه مما ينقضى على القرب ، وكل ما لا يقطعه الموت فهو الباقيات الصالحات ، كالعلم والحرية لبقائهما كمالا فيه ، ووسيلة إلى القرب من اللّه تعالى ، أما الحرية من الشهوات فتقطع عن غير اللّه ، وتجرده عن سواه ، وأما العلم الحقيقي فيفرده باللّه ويجمعه عليه. ه.
وهى ، أي : الباقيات الصالحات خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ أي : فى الآخرة ثَواباً أي : عائدة تعود على صاحبها ، بخلاف ما شأنه الفناء من المال والبنين فإنه يفنى ويبيد. وهذا كقوله تعالى : ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ «1». وقوله : عِنْدَ رَبِّكَ : بيان لما يظهر فيه خيريتها ، لا لأفضليتها من المال والبنين مع مشاركتها لها فى الخيرية إذ لا مشاركة لهما فى الخيرية فى الآخرة. ثم قال تعالى : وَخَيْرٌ أَمَلًا أي : ما يؤمله الإنسان ويرجوه عند اللّه تعالى ، حيث ينال صاحبها فى الآخرة كل ما كان يؤمله فى الدنيا ، وأما ما مرّ من المال والبنين فليس لصاحبه فيه أمل يناله. وتكرير «خَيْرٌ» للإشعار باختلاف حيثيتى الخيرية والمبالغة فيه.
الإشارة : قد تقدم ، مرارا ، التحذير من الوقوف مع بهجة الدنيا وزخارفها الغرارة لسرعة ذهابها وانقراضها.
روى أبو هريرة رضي اللّه عنه أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال : «يا أبا هريرة تريد أن أريك الدنيا؟ قلت : نعم ، فأخذ بيدي ، وانطلق ، حتى وقف بي على مزبلة ، رؤوس الآدميين ملقاة ، وبقايا عظام نخرة ، وخرق بالية قد تمزقت وتلوثت بنجاسات الآدميين ، فقال : يا أبا هريرة هذه رؤوس الآدميين التي تراها ، كانت مثل رؤوسكم ، مملوءة من الحرص والاجتهاد على جمع الدنيا ، وكانوا يرجون من طول الأعمار ما ترجون ، وكانوا يجدّون فى جمع المال وعمارة الدنيا كما تجدّون ، فاليوم قد تعرّت عظامهم ، وتلاشت أجسامهم كما ترى ، وهذه الخرق كانت أثوابهم التي كانوا يتزينون بها ، وقت التجمل ووقت الرعونة والتزين ، فاليوم قد ألقتها الرياح فى النجاسات ، وهذه عظام دوابهم التي كانوا يطوفون أقطار الأرض على ظهورها ، وهذه النجاسات كانت أطعمتهم اللذيذة التي كانوا يحتالون فى تحصيلها ، وينهبها بعضهم من بعض ، قد ألقوها عنهم بهذه الفضيحة التي لا يقربها أحد من نتنها ، فهذه جملة أحوال الدنيا كما تشاهد وترى ، فمن أراد أن يبكى على الدنيا فليبك ، فإنها موضع البكاء. قال أبو هريرة رضي اللّه عنه :
فبكى جماعة الحاضرين» «2».
___________
(1) من الآية 96 من سورة النحل.
(2) لم أقف على حديث بهذا السياق.(3/275)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 276
ثم ذكر ما يكون بعد فناء الدنيا التي تقدم مثالها من أهوال الحشر والحساب ، فقال :
[سورة الكهف (18) : الآيات 47 الى 49]
وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً (47) وَعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً (48) وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصاها وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً (49)
قلت : وَيَوْمَ : معمول لمحذوف ، أي : واذكر ، أو عطف على قوله : «عند ربك» ، أي : والباقيات الصالحات خير عند ربك ويوم القيامة ، و(حَشَرْناهُمْ) : عطف على (نُسَيِّرُ) للدلالة على تحقق الحشر المتفرع على البعث الذي ينكره المشركون ، وعليه يدور أمر الجزاء ، وكذا الكلام فيما عطف عليه منفيا وموجبا ، وقيل : هو للدلالة على أن حشرهم قبل التسيير والبروز ليعاينوا تلك الأهوال ، كأنه قيل : وحشرناهم قبل ذلك. و(نُغادِرْ) : نترك ، يقال : غادره وأغدره : إذا تركه ، ومنه : الغدير لما يتركه السيل فى الأرض من الماء ، وَفًّا)
: حال ، أي : مصطفين.
يقول الحق جل جلاله : وَاذكر يَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ أي : حين نقلعها من أماكنها ونسيرها فى الجو ، على هيئتها ، كما ينبئ عنه قوله تعالى : وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ «1» أو : نسير أجزاءها بعد أن نجعلها هباء منثورا ، والمراد من ذكره : تحذير الغافلين مما فيه من الأهوال ، وقرئ : «تسيّر» بالبناء للمفعول جريا على سنن الكبرياء ، وإيذانا بالاستغناء عن الإسناد إلى الفاعل لظهور تعينه ، ثم قال : وَتَرَى الْأَرْضَ أي :
جميع جوانبها ، والخطاب للرسول صلى اللّه عليه وسلم ، أو لكل من يسمع ، بارِزَةً : ظاهرة ، ليس عليها جبل ولا غيره. بل تكون قاعاً صَفْصَفاً ، لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً «2». وَحَشَرْناهُمْ : جمعناهم إلى الموقف من كل حدب ، مؤمنين وكافرين ، فَلَمْ نُغادِرْ أي : لم نترك مِنْهُمْ أَحَداً.
عُرِضُوا عَلى رَبِّكَ
، شبهت حالتهم بحال جند عرض على السلطان ، ليأمر فيهم بما يأمر. وفى الالتفات إلى الغيبة ، وبناء الفعل للمفعول ، مع التعرض لعنوان الربوبية ، والإضافة إلى ضميره - عليه الصلاة والسلام - من
___________
(1) الآية 88 من سورة النمل.
(2) الآيتان 107 - 108 من سورة طه. [.....](3/276)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 277
تربية المهابة ، والجري على سنن الكبراء ، وإظهار اللطف به صلى اللّه عليه وسلم ما لا يخفى. قاله أبو السعود.فًّا
أي :
مصطفّين غير متفرقين ولا مختلطين ، كل أمة صفّ ، وفى الحديث الصحيح : «يجمع اللّه الأولين والآخرين فى صعيد واحد ، صفوفا ، يسمعهم الدّاعى وينفذهم البصر ...» «1» الحديث بطوله. وفى حديث آخر : «أهل الجنة ، يوم القيامة ، مائة وعشرون صفا ، أنتم منها ثمانون صفا» «2».
يقال لهم - أي : للكفرة منهم : قَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ
، وتركتم ما خولناكم وما أعطيناكم من الأموال وراء ظهوركم. أو : حفاة عراة غرلا ، كما فى الحديث.
وهذه المخاطبة ، بهذا التقريع ، إنما هى للكفار المنكرين للبعث ، وأما المؤمنون المقرون بالبعث فلا تتوجه إليهم هذه المخاطبة ، ويدل عليه ما بعده من قوله : لْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً
أي : زعمتم فى الدنيا أنه ، أي : الأمر والشأن ، لن نجعل لكم وقتا يتنجّز فيه ما وعدته من البعث وما يتبعه. وهو إضراب وانتقال من كلام ، إلى كلام ، كلاهما للتوبيخ والتقريع.
وَوُضِعَ الْكِتابُ أي : كتاب كل أحد ، إما فى يمينه أو شماله ، وهو عطف على : ُرِضُوا)
، داخل تحت الأمور الهائلة التي أريد بذكرها تذكير وقتها ، وأورد فيه ما أورد فى أمثاله من صيغة الماضي لتحقق وقوعه ، وإيثار الإفراد للاكتفاء بالجنس ، والمراد : صحائف أعمال العباد. ووضعها إما فى أيدى أصحابها يمينا وشمالا ، أو فى الميزان. فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ قاطبة ، المنكرون للبعث وغيرهم ، مُشْفِقِينَ : خائفين مِمَّا فِيهِ من الجرائم والذنوب ، وَيَقُولُونَ ، عند وقوفهم على ما فى تضاعيفه نقيرا أو قطميرا : يا وَيْلَتَنا أي :
ينادون بتهلكتهم التي هلكوها من بين التهلكات ، ومستدعين لها ليهلكوا ، ولا يرون تلك الأهوال ، أي : يا ويلتنا احضرى فهذا أوان حضورك ، يقولون : ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ : لا يترك صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً من ذنوبنا إِلَّا أَحْصاها أي : حواها وضبطها ، وجملة لا يُغادِرُ : حال محققة لما فى الاستفهام من التعجب ، أو استئنافية مبنية على سؤال مقدر ، كأنه قيل : ما شأنه حتى يتعجب منه؟ فقال : لا يغادر سيئة صغيرة ولا كبيرة إلّا أحصاها ، وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا فى الدنيا من السيئات ، أو جزاء ما عملوا حاضِراً : مسطورا عتيدا ، وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً ، فيكتب مالم يعمل من السيئات ، أو يزيد فى عقابه المستحق له. واللّه تعالى أعلم.
___________
(1) أخرجه بطوله البخاري فى (تفسير سورة الإسراء ، باب قوله تعالى : ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ ...) ، ومسلم فى (الإيمان ، باب أدنى أهل الجنة منزلة فيها) ، عن أبى هريرة رضي اللّه عنه.
(2) أخرجه أحمد فى المسند (1/ 453) ، والبراز (كشف الأستار/ 3534) عن ابن مسعود.(3/277)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 278
الإشارة : ويوم نسير جبال الحس ، أو الوهم ، عن بساط المعاني ، وترى أرض العظمة بارزة ظاهرة لا تخفى على أحد ، إلا على أكمه لا يبصر القمر فى حال كماله ، وحشرناهم إلى الحضرة القدسية ، فلم نغادر منهم ، أي :
ممن ذهب عنه الحس والوهم ، أحدا ، وعرضوا على ربك لشهود أنوار جماله وجلاله ، صفا ، للقيام بين يديه ، فيقول لهم : لقد جئتمونا من باب التجريد ، كما خلقناكم أول مرة ، مطهّرين من الدنس الحسى ، غائبين عن العلائق والعوائق ، وكنتم تزعمون أن هذا اللقاء لا يكون فى الدنيا ، وإنما موعده الجنة ، ومن مات عن شهود حسه ، وعن حظوظه ، حصل له الشهود واللقاء قبل الموت الحسى ، ووضع الكتاب فى حق أهل الحجاب ، فترى المجرمين من أهل الذنوب مشفقين مما فيه ، ووجود العبد : ذنب لا يقاس به ذنب ، فنصب الموازين ، ومناقشة الحساب إنما هو لأهل الحجاب ، وأما العارفون الفانون عن أنفسهم ، الباقون بربهم ، لم يبق لهم ما يحاسبون عليه إذ لا يشهدون لهم فعلا ، ولا يرون لأحد قوة ولا حولا. واللّه تعالى أعلم.
ولمّا كان سبب العذاب ووجود الحجاب هو التكبر على رب الأرباب ، ذكر وباله بإثر الحشر والحساب ، أو تقول :
لمّا ذكر قصة الرجلين ذكر قبح صنيع من افتخر بنفسه ، وأنه شبيه بإبليس ، وكل من افتخر واستنكف عن الانتظام فى سلك فقراء المؤمنين كان داخلا فى حزبه. وقال الواحدي : ثم أمر اللّه تعالى نبيه أن يذكر لهؤلاء المتكبرين عن مجالسة الفقراء قصة إبليس وما ورّثه الكبر ، فقال :
[سورة الكهف (18) : الآيات 50 الى 51]
وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً (50) ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً (51)
قلت : (إِلَّا إِبْلِيسَ) : استثناء منقطع ، إذا قلنا : إن إبليس لم يكن من الملائكة ، وإذا قلنا : إنه منهم يكون متصلا ، ويكون معنى «كانَ» : صار ، أي : إلا إبليس صار من الجن لمّا امتنع من السجود ، أو بأن الملائكة كان منهم قوم يقال لهم الجن ، وهم الذين خلقوا من النار. وجملة (كانَ مِنَ الْجِنِّ) : استئنافية سيقت مساق التعليل ، كأنه قيل : ما له لم يسجد؟ فقيل : كان أصله جنّيا.
يقول الحق جل جلاله : وَاذكر إِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ أي : وقت قولنا لهم : اسْجُدُوا لِآدَمَ سجود تحية وتكريم ، فَسَجَدُوا جميعا امتثالا للأمر ، إِلَّا إِبْلِيسَ أبى واستكبر لأنه كانَ مِنَ الْجِنِّ ، (3/278)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 279
وكان رئيسهم فى الأرض ، فلما أفسدوا أرسل اللّه عليهم جندا من الملائكة ، فغزوهم ، فهربوا فى أقطار الأرض ، وأخذ إبليس أسيرا ، فعرجوا به إلى السماء ، فأسلم وتعبد فى أقطار السموات ، فلما أمرت الملائكة بالسجود امتنع ونزع لأصله ، فَفَسَقَ أي : خرج عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أي : عن طاعته ، أو صار فاسقا كافرا بسبب أمر اللّه تعالى إذ لو لا ذلك لما أبى ، والتعرض لوصف الربوبية المنافية للفسق لبيان كمال قبح ما فعله.
قال تعالى : أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أي : أولاده ، أو أتباعه ، وهم الشياطين ، جعلوا ذرية مجازا. وقال قتادة :
إنهم يتوالدون كما يتوالد بنو آدم. وقيل : يدخل ذنبه فى دبره فيبيض فتنفلق البيضة عن جماعة من الشياطين.
والهمزة للإنكار والتعجب ، والفاء للتعقيب ، أي : أعقب علمكم بصدور تلك القبائح منه ، تتخذونه وذريته أَوْلِياءَ أحباء مِنْ دُونِي فتستبدلونهم ، وتطيعونهم بدل طاعتى ، والحال أنهم ، أي : إبليس وذريته لَكُمْ عَدُوٌّ أي : أعداء. وأفرد تشبيها له بالمصدر ، كالقبول والولوع ، بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ : الواضعين للشىء فى غير محله ، بَدَلًا استبدلوه من اللّه تعالى ، وهو إبليس وذريته. وفى الالتفات إلى الغيبة ، مع وضع الظاهر موضع الضمير ، من الإيذان بكمال السخط ، والإشارة إلى أن ما فعلوه ظلم قبيح ، ما لا يخفى.
ما أَشْهَدْتُهُمْ أي : ما أحضرت إبليس وذريته ، أو : جميع الكفار خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ، حيث خلقتهما قبل خلقهم ، وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ : ولا أشهدت بعضهم خلق بعض ، كقوله : وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ «1». قاله البيضاوي.
قلت : الظاهر إبقاء الأنفس على ظاهرها ، أي : ما أحضرتهم خلق أنفسهم ، أي : ما كانوا حاضرين حين خلقت أنفسهم ، بل هم محدثون فى غاية العجز والجهل ، فكيف تتخذونهم أولياء من دونى؟ وفى الآية رد على المنجّمين الذين يخوضون فى أسرار غيب السموات بالتخمين ، وعلى الطبائعيين من الأطباء ومن سواهم ، من كل متخوض فى هذه الأشياء ، وعلى الكهّان وكل من يتطلع على الغيب بطريق الحدس ، والمصدقين لهم. انظر ابن عطية.
قال تعالى : وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ من الشياطين عَضُداً أي : أعوانا فى شأن الخلق ، أو فى شأن من شؤونى ، حتى تتخذوهم أولياء وتشركوهم فى عبادتى ، وكان الأصل أن يقول : وما كنت متخذهم ، فوقع المظهر موقع الضمير ذما لهم ، وتسجيلا عليهم بالإضلال ، وتأكيدا لما سبق من إنكار اتخاذهم أولياء ، وفيه تهكم بهم وإيذان بكمال ركاكة عقولهم وسخافة آرائهم حيث لا يفهمون هذا الأمر الجلى الذي لا يكاد يشتبه على أبلد الصبيان ، فيحتاجون إلى التصريح به. انظر أبا السعود.
___________
(1) من الآية 29 من سورة النساء.(3/279)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 280
الإشارة : فى الآية تنفير من الاستكبار والترفع على عباد اللّه تشبيها بإبليس ، وحث على التواضع والخضوع للّه فى خلقه وتجلياته كيفما كانت ، وفيها أيضا الحض على إفراد الوجهة والمحبة للّه ، والتبري من كل ما سواه مما يشغل عن اللّه ، وفيها أيضا : النهى عن التطلع إلى ما لم يرد به من أسرار القدر نص صريح فى كتاب الله ولا فى سنة رسول اللّه من أسرار القدر ، وفيها أيضا : النهى عن الاستعانة بأعداء اللّه فى أي شأن كان. وباللّه التوفيق.
ثم ذكر وبال من اتخذ وليّا غير اللّه ، فقال :
[سورة الكهف (18) : الآيات 52 الى 53]
وَيَوْمَ يَقُولُ نادُوا شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً (52) وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً (53)
قلت : «مَوْبِقاً» : اسم مكان ، أو مصدر ، من : وبق وبوقا ، كوثب وثوبا ، ووبق وبقا ، كفرح فرحا.
يقول الحق جل جلاله : وَاذكر يَوْمَ يَقُولُ الحق تعالى للكفار توبيخا وتعجيزا لهم : نادُوا شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أنهم شفعاؤكم ليشفعوا لكم ، والمراد بهم كل ما عبد من دون اللّه ، أو إبليس وذريته ، فَدَعَوْهُمْ أي : نادوهم للإغاثة ، فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ : فلم يغيثوهم ، وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ أي : بين الداعين والمدعوين مَوْبِقاً أي : مهلكا يهلكون فيه جميعا ، وهو النار ، وقيل : العداوة ، وهى نوع من الهلاك ، لقول عمر رضي اللّه عنه : «لا يكن حبك كلفا ، ولا بغضك تلفا» «1». وقيل : المراد بالبين : الوصل ، أي : وجعلنا وصلهم فى الدنيا هلاكا فى الآخرة ، كقوله : لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ «2» ، وقيل : المراد بالشركاء : الملائكة ، وعزير ، وعيسى - عليهم السّلام - ، ويراد حينئذ بالموبق : البرزخ البعيد ، أي : وجعلنا بينهم وبين من عبدوهم برزخا بعيدا لأنهم فى قعر جهنم ، وهم فى أعلى عليين.
وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ ، وضع المظهر موضع المضمر تصريحا بإجرامهم ، وذما لهم ، أي : ورأوا النار فَظَنُّوا أي : أيقنوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها مخالطوها وواقعون فيها ، وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً أي : انصرافا ومعدلا ينصرفون إليه ، نسأل اللّه السلامة من مواقع الهلاك.
___________
(1) قال المناوى فى الفتح السماوي 2/ 796 : «لم أقف عليه» ، ومعنى المثل : لا يكن حبك حبا مفرطا يؤدى إلى الولع والهيام ، وبغضك بغضا مفرطا يجر إلى التلف.
(2) من الآية 94 من سورة الأنعام.(3/280)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 281
الإشارة : من اتخذ اللّه وليا ، بموالاة طاعته وإفراد محبته ، كان اللّه له وليا ونصيرا عند احتياجه وفاقته ، ومجيبا له عند دعائه واستغاثته ، ومن اتخذ وليّا غير اللّه خاب ظنه ومناه ، فإذا استغاث به جعل بينه وبين المستغيث به موبقا وبرزخا بعيدا ، ومن والى أولياء اللّه فإنما والى اللّه ، إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ «1». وباللّه التوفيق.
ثم ذكر كفرهم بالقرآن ، مع كونه آية واضحة للعيان ، فقال :
[سورة الكهف (18) : الآيات 54 الى 59]
وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً (54) وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ قُبُلاً (55) وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آياتِي وَما أُنْذِرُوا هُزُواً (56) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْها وَنَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً (57) وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً (58)
وَتِلْكَ الْقُرى أَهْلَكْناهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً (59)
قلت : جَدَلًا : تمييز ، ورَبُّكَ : مبتدأ ، والْغَفُورُ : خبره ، وذُو الرَّحْمَةِ : خبر بعد خبر ، وقيل : الخبر : (لَوْ يُؤاخِذُهُمْ) ، والْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ : صفتان للمبتدأ ، ، وإيراد المغفرة على جهة المبالغة دون الرحمة للتنبيه على كثرة الذنوب ، وأيضا : المغفرة ترك المؤاخذة ، وهى غير متناهية ، والرحمة فعل ، وهو متناهى ، وتقديم الوصف الأول لأن التخلية قبل التحلية ، و(المهلك) بضم الميم وفتح اللام : اسم مصدر ، من أهلك ، فالمصدر ، على هذا ، مضاف للمفعول لأن الفعل متعد ، وقرئ بفتح الميم ، من هلك ، فالمصدر ، على هذا ، مضاف للفاعل.
يقول الحق جل جلاله : وَلَقَدْ صَرَّفْنا أي : كررنا وأوردنا على وجوه كثيرة من النظر العجيب ، فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ لمصلحتهم ومنفعتهم ، مِنْ كُلِّ مَثَلٍ من كل خبر يحتاجون إليه ، أو : من كل مثل
___________
(1) من الآية 10 من سورة الفتح.(3/281)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 282
مضروب يعتبرون به ، ومن جملته ما مر من مثل الرجلين ، ومثل الحياة الدنيا. أو : من كل نوع من أنواع المعاني البديعة الداعية إلى الإيمان ، التي هى ، فى الغرابة والحسن واستجلاب القلوب ، كالمثل المضروب ، ليتلقوه بالقبول ، فلم يفعلوا. وَكانَ الْإِنْسانُ بحسب جبلّته أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا أي : أكثر الأشياء ، التي يتأتى منها الجدل ، جدلا ، وهو هنا شدة الخصومة بالباطل ، والمعنى : أن جدله أكثر من جدل كل مجادل ، وفيها ذم الجدل. وسببها :
مجادلة النضر بن الحارث كما قيل ، وهى عامة.
وَما مَنَعَ النَّاسَ أي : أهل مكة الذين حكيت أباطيلهم ، من أَنْ يُؤْمِنُوا باللّه تعالى ، ويتركوا ما هم فيه من الإشراك ، إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى أي : حين جاءهم القرآن الهادي إلى الإيمان ، بسبب ما فيه من فنون العلوم وأنواع الإعجاز ، فيؤمنوا ، وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ عما فرط منهم من أنواع الذنوب ، التي من جملتها : مجادلتهم للحق بالباطل ، إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أي : ما منعهم إلا إتيان سنة الأولين ، وهو نزول العذاب المستأصل أو انتظاره ، فيكون على حذف مضاف ، أي : انتظار سنة الأولين ، وهو الهلاك. قال ابن جزى : معناها أن المانع للناس من الإيمان والاستغفار هو القضاء عليهم بأن تأتيهم سنّة الأمم المتقدمة ، وهى الإهلاك فى الدنيا ، أو يأتيهم العذاب أي : عذاب الآخرة. ه. قلت : والظاهر أن معنى الآية : ما منعهم من الإيمان إلا انتظار آية يرونها عيانا ، كعادة الأمم الماضية ، فيهلكوا كما هى سنّة اللّه فى خلقه ، أو : عذاب ينزل بهم جهرا ، وهو معنى قوله : أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ قُبُلًا أي : مقابلة وعيانا.
قال تعالى : وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إلى الأمم إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ أي : مبشرين للمؤمنين بالثواب ، ومنذرين للكافرين بالعقاب ، دون إظهار الآيات واقتراح المعجزات ، وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ باقتراح الآيات كالسؤال عن قصة أصحاب الكهف ونحوها. يفعلون ذلك لِيُدْحِضُوا بِهِ أي : بالجدال الْحَقَّ ، أي :
يزيلونه عن مركزه ويبطلونه ، من إدحاض القدم وهو إزلاقها. وجدالهم : قولهم لرسلهم عليهم السلام : ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا «1» ، وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً «2» ، ونحوها. وَاتَّخَذُوا آياتِي التي تخرّ لها صمّ الجبال ، وهو القرآن ، وَما أُنْذِرُوا أي : وإنذارى لهم ، أو : الذي أنذروا به من العذاب والعقاب ، هُزُواً مهزوءا به ، أو محل استهزاء.
___________
(1) الآية 15 من سورة يس.
(2) الآية 24 من سورة المؤمنون.(3/282)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 283
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ وهو القرآن العظيم ، فَأَعْرَضَ عَنْها فلم يتدبرها ولم يؤمن بها ، أي :
لا أحد أظلم منه لأنه أظلم من كل ظالم حيث ضم إلى المجادلة التكذيب والإعراض ، وَنَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ من الكفر والمعاصي ، ولم يتفكر فى عاقبتها ، إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً : أغطية كثيرة تمنعهم من التدبر فى الآيات ، وهو تعليل لإعراضهم ونسيانهم بأنهم مطبوع على قلوبهم ، فعل ذلك بهم كراهة أَنْ يَفْقَهُوهُ ، أو : منعناهم أن يقفوا على كنهه. وَجعلنا فِي آذانِهِمْ وَقْراً أي : ثقلا يمنعهم من استماعه ، وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً أي : فلن يكون منهم اهتداء البتة مدة التكليف للطبع المتقدم على قلوبهم ، وهذا فى قوم مخصوصين سبق لهم الشقاء.
و«إِذاً» : حرف جزاء وجواب ، وهو ، هنا ، عن سؤال من النبي صلى اللّه عليه وسلم المدلول عليه بكمال عنايته بإسلامهم ، كأنه قال صلى اللّه عليه وسلم : مالى لا أدعوهم؟ فقال : إن تدعهم ... إلخ. وجمع الضمير الراجع إلى الموصول فى هذه المواضع الخمسة باعتبار معناه ، كما أن إفراده فى المواطن الخمسة المتقدمة باعتبار اللفظ.
وَرَبُّكَ الْغَفُورُ : البليغ المغفرة ذُو الرَّحْمَةِ الموصوف بها ، لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا من المعاصي ، التي من جملتها : ما حكى عنهم من مجادلتهم بالباطل ، وإعراضهم عن آيات ربهم ، وعدم مبالاتهم بما اجترحوا من الموبقات ، لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ قبل يوم القيامة لاستجلاب أعمالهم لذلك ، والمراد : إمهال قريش ، مع إفراطهم فى عداوة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ وهو يوم القيامة ، أو يوم بدر ، والمعطوف عليه ببل : محذوف ، أي : لكنهم ليسوا بمؤاخذين ، بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا أي : ملجأ يلتجئون إليه ، أو منجى ينجون به ، يقال : وأل : أي : نجا ، ووأل إليه : أي : التجأ إليه.
وَتِلْكَ الْقُرى أي : قرى عاد وثمود وأضرابها ، أي : وأهل تلك القرى أَهْلَكْناهُمْ بالعذاب لَمَّا ظَلَمُوا أي : وقت ظلمهم ، كما فعلت قريش بما حكى عنهم ، وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ أي : عيّنّا لهلاكهم مَوْعِداً أي : وقتا معينا ، لا محيد لهم عن ذلك ، فلتعتبر قريش بذلك ولا تغتر. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : قد صرّف اللّه فى كتابة العزيز كل ما يحتاج إليه العباد ، من علم الظاهر والباطن ، لكن خوض القلوب فيما لا يعنى ، وكثرة مجادلتها بالباطل ، صرفتها عن فهم أسرار الكتاب واستخراج غوامضه. فمن صفت مرآة قلبه أدرك ذلك منه. وتصفيتها بصحبة أهل الصفاء ، وهم العارفون باللّه ، ولا تخلو الأرض منهم حتى يأتى أمر اللّه ، وما منع الناس من الإيمان بهم وتصديقهم إلا انتظارهم ظهور كرامتهم ، ونزول العذاب على من آذاهم ، وهو جهل بطريق الولاية لأنهم رحمة للعباد ، أرسلهم الحق تعالى فى كل زمان ، يذكّرون الناس بالتحذير والتبشير ، وبملاطفة الوعظ والتذكير ، فاتخذهم الناس وما ذكروا به هزوا ولعبا ، حيث حادوا عن تذكيرهم ، ونفروا عن(3/283)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 284
صحبتهم ، فلا أحد أظلم ممن ذكّر باللّه وبآياته ، فأعرض واستكبر ونسى ما قدمت يداه من المعاصي والأوزار ، سبب ذلك : جعل الأكنة على القلوب ، وسفح ران المعاصي والذنوب ، فلا يفقهون وعظا ولا تذكيرا ، ولا يستمعون تحذيرا ولا تبشيرا ، وإن تدعهم إلى الهدى والرجوع عن طريق الردى ، فلن يهتدوا إذا أبدا لما سبق لهم فى سابق القضاء ، فلو لا مغفرته العامة ، ورحمته التامة ، لعجل لهم العذاب ، لكن له وقت معلوم ، وأجل محتوم ، لا محيد عنه إذا جاء ، ولا ملجأ منه ولا منجا. نسأل اللّه العصمة بمنّه وكرمه.
ولمّا ذكر الحق جل جلاله قصة أهل الكهف ، وكان وقع فيها عتاب للرسول - عليه الصلاة والسلام - حيث لم يستثن بتأخير الوحى ، وبقوله : وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ ... إلخ ، ذكر هنا قصة موسى مع الخضر - عليهما السلام - وكان سببها عتاب الحق لموسى عليه السّلام حيث لم يردّ العلم إليه ، حين قال له القائل : هل تعلم أحدا أعلم منك؟ فقال : لا ، فذكر الحق تعالى قصتهما تسلية لنبينا عليه الصلاة والسلام بمشاركة العتاب ، فقال :
[سورة الكهف (18) : آية 60]
وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً (60)
قلت : لا أَبْرَحُ : ناقصة ، وخبرها : محذوف : اعتمادا على قرينة الحال إذ كان ذلك عن التوجه إلى السفر ، أي : لا أبرح أسير فى سفرى هذا ، ويجوز أن تكون تامة ، من زال يزول ، أي : لا أفارق ما أنا بصدده حتى أبلغ ... إلخ.
يقول الحق جل جلاله : وَاذكر إِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ يوشع بن نون بن إفرائيم بن يوسف عليه السّلام ، وكان ابن أخته ، سمى فتاه إذ كان يخدمه ويتبعه ويتعلم منه العلم. والفتى فى لغة العرب : الشاب ، ولمّا كانت الخدمة أكثر ما تكون من الفتيان ، قيل للخادم : فتى ، ويقال للتلميذ : فتى ، وإن كان شيخا ، إذا كان فى خدمة شيخه ، فقال موسى عليه السّلام : لا أَبْرَحُ : لا أزال أسير فى طلب هذا الرجل ، يعنى : الخضر عليه السّلام ، حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ ، وهو ملتقى بحر فارس والروم مما يلى المشرق ، وهذا مذهب الأكثر. وقال ابن جزى : مجمع البحرين :
عند «طنجة» حيث يتجمع البحر المحيط والبحر الخارج منه ، وهو بحر الأندلس. قلت : وهو قول كعب بن محمد القرظي. أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً أي : زمنا طويلا أتيقن معه فوات الطلب. والحقب : الدهر ، أو ثمانون سنة ، أو سبعون.
وسبب هذا السفر : أن موسى عليه السّلام لما ظهر على مصر ، بعد هلاك القبط ، أمره اللّه تعالى أن يذّكر قومه هذه النعمة ، فقام فيهم خطيبا بخطبة بليغة ، رقّت بها القلوب ، وذرفت منها العيون ، فقالوا له : من أعلم الناس؟ فقال : أنا.
وفى رواية : هل تعلم أحدا أعلم منك؟ فقال : لا. فعتب اللّه عليه إذ لم يردّ العلم إليه عز وجل ، فأوحى اللّه إليه : أعلم(3/284)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 285
منك عبد لى بمجمع البحرين ، وهو الخضر «1» ، وكان قبل موسى عليه السّلام ، وكان فى مقدّمة ذى القرنين ، فبقى إلى زمن موسى عليه السّلام ، وسيأتى ذكر التعريف به فى محله ، إن شاء اللّه.
وقال ابن عباس رضي اللّه عنه : إن موسى عليه السّلام سأل ربه : أىّ عبادك أحب إليك؟ قال : الذي يذكرنى ولا ينسانى ، قال :
فأى عبادك أقضي؟ قال : الذي يقضى بالحق ولا يتبع الهوى ، قال : فأى عبادك أعلم؟ قال : الذي يستقى علم الناس إلى علمه ، عسى أن يصيب كلمة تدله على هدى ، أو ترده عن ردى ، قال : يا رب إن كان فى عبادك من هو أعلم منى فدلنى عليه؟ قال : أعلم منك الخضر ، قال : أين أطلبه؟ قال : على ساحل البحر عند الصخرة «2». قال : يا رب ، كيف لى به؟ قال : خذ حوتا فى مكتل ، فحيثما فقدته فهو هناك ، فأخذ حوتا مشويا ، فجعله فى مكتل ، فقال لفتاه :
إذا فقدتّ الحوت فأخبرنى ، وذهبا يمشيان إلى أن اتصلا بالخضر ، على ما يأتى تمامه ، إن شاء اللّه تعالى. وحديث الخطبة هو الذي فى صحيح البخاري «3» وغيره. واللّه تعالى أعلم أىّ ذلك كان.
الإشارة : قصة سيدنا موسى مع الخضر - عليهما السلام - هى السبب فى ظهور التمييز بين أهل الظاهر وأهل الباطن ، فأهل الظاهر قائمون بإصلاح الظواهر ، وأهل الباطن قائمون بتحقيق البواطن. أهل الظاهر مغترفون من بحر الشرائع ، وأهل الباطن مغترفون من بحر الحقائق. وقيل : هو المراد بمجمع البحرين ، حيث اجتمع سيدنا موسى ، الذي هو بحر الشرائع ، والخضر عليه السّلام ، الذي هو بحر الحقائق ، ولا يفهم أن سيدنا موسى عليه السّلام خال من بحر الحقائق ، بل كان جامعا كاملا ، وإنما أراد الحق تعالى أن ينزله إلى كمال الشرف ، بالتواضع فى طلب زيادة العلم تأديبا له وتربية ، حيث ادعى القوة فى نسبته العلم إلى نفسه ، وفى الحكم : «منعك أن تدعى ما ليس لك مما للمخلوقين ، أفيبيح لك أن تدعى وصفه وهو رب العالمين!».
وهذه عادة اللّه تعالى مع خواصّ أحبائه ، إذا أظهروا شيئا من القوة ، أو خرجوا عن حد العبودية ، ولو أنملة ، أدبهم بأصغر منهم علما وحالا عناية بهم ، وتشريفا لهم لئلا يقفوا دون ذروة الكمال ، كقضية الشاذلى مع المرأة التي قالت له : تمنّ على ربك بجوع ثمانين يوما ، وأنا لى تسعة أشهر ماذقت شيئا. وكقضية الجنيد والسّري فى جماعة من الصوفية ، حيث تكلموا فى المحبة ، وفاض كل واحد على قدر اتساع بحره فيها ، فقامت امرأة بالباب ، عليها جبة صوف ، فردت على كل واحد ما قال ، حيث أظهروا قوة علمهم ، فأدبهم بامرأة.
ويؤخذ من طلب موسى الخضر - عليهما السلام - والسفر إليه : الترغيب فى العلم ، ولا سيما علم الباطن ، فطلبه أمر مؤكد. قال الغزالي رضي اللّه عنه : هو فرض عين إذ لا يخلو أحد من عيب أو اصرار على ذنب ، إلا الأنبياء - عليهم السلام - وقد قال الشاذلى رضي اللّه عنه : من لم يغلغل فى علمنا هذا مات مصرا على الكبائر وهو لا يشعر. وباللّه التوفيق.
___________
(1) أخرج حديث موسى والخضر ، البخاري فى مواضع منا : (العلم ، باب ما ذكر فى ذهاب موسى عليه السّلام فى البحر إلى خضر) ، و(أحاديث الأنبياء ، باب حديث الخضر) ، و(التفسير ، سورة الكهف) ، ومسلم فى (الفضائل ، باب من فضائل الخضر).
(2) أخرجه الطبري فى التفسير (15/ 277) وعزاه السيوطي فى الدر (4/ 423) لابن المنذر ، وابن أبى حاتم فى التفسير.
(3) أخرج البخاري حديث الخطبة فى (تفسير سورة الكهف ، باب «فلما بلغا مجمع بينهما نسيا حوتهما») ، عن أبىّ بن كعب.(3/285)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 286
ثم ذكر بقية القصة ، فقال :
[سورة الكهف (18) : الآيات 61 الى 65]
فَلَمَّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما نَسِيا حُوتَهُما فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً (61) فَلَمَّا جاوَزا قالَ لِفَتاهُ آتِنا غَداءَنا لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً (62) قالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَما أَنْسانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً (63) قالَ ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً (64) فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً (65)
قلت : بَيْنِهِما : ظرف مضاف إليه اتساعا ، أو بمعنى الوصل ، وسَرَباً : مفعول ثان لاتخذ ، وإِذْ أَوَيْنا :
متعلق بمحذوف ، أي : أخبرنى ما دهانى حين أويت إلى الصخرة حتى لم أخبرك بأمر الحوت ، فإنى نسيت أن أذكر لك أمره. وأَنْ أَذْكُرَهُ : بدل من الهاء فى (أَنْسانِيهُ) بدل اشتمال للمبالغة ، وعَجَباً : مفعول ثان لاتخذ ، وقيل : إن الكلام قد تم عند قوله : (فِي الْبَحْرِ) ، ثم ابتدأ التعجب فقال : (عَجَباً) أي : أعجب عجبا ، وهو بعيد. قاله ابن جزى. قلت : وهذا البعيد هو الذي ارتكب الهبطى. و(قَصَصاً) : مصدر ، أي : يقصان قصصا.
يقول الحق جل جلاله : ثم إن موسى ويوشع - عليهما السلام - حملا حوتا مشويا وخبزا ، وسارا يلتمسان الخضر ، فَلَمَّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما بين البحرين ، أو مجمع وصل بعضهما ببعض ، وجدا صخرة هناك ، وعندها عين الحياة ، لا يصيب ذلك الماء شيئا إلا حيي بإذن اللّه ، وكانا وصلا إليها ليلا ، فناما ، فلما أصاب السمكة روح الماء وبرده اضطرب فى المكتل ، ودخل البحر ، وقد كانا أكلا منه ، وكان ذلك بعد استيقاظ يوشع ، وقيل : توضأ عليه السّلام من تلك العين ، فانتضح الماء على الحوت ، فحيى ودخل البحر ، فاستيقظ موسى ، وذهبا ، ونَسِيا حُوتَهُما أي : نسيا تفقد أمره وما يكون منه ، أو نسى يوشع أن يعلمه ، وموسى عليه السّلام أن يأمر فيه بشىء ، فَاتَّخَذَ الحوت سَبِيلَهُ أي : طريقه فِي الْبَحْرِ سَرَباً مسلكا كالطّاق ، قيل : أمسك اللّه جرية الماء على الحوت فجمد ، حتى صار كالطاق فى الماء معجزة لموسى أو الخضر - عليهما السلام.
فَلَمَّا جاوَزا مجمع البحرين ، الذي جعل موعدا للملاقاة ، وسارا بقية ليلتهما ويومهما إلى الظهر ، وجد موسى عليه السّلام حرّ الجوع ، ف قالَ لِفَتاهُ آتِنا غَداءَنا أي : ما نتغدى به ، وهو الحوت ، كما ينبئ عنه الجواب ، لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً : تعبا وإعياء. قيل : لم ينصب موسى ولم يجع قبل ذلك ، ويدل عليه الإتيان بالإشارة ، وجملة (لَقَدْ لَقِينا) : تعليل للأمر بإيتاء الغذاء ، إما باعتبار أن النّصب إنما يعترى بسبب الضعف الناشئ عن الجوع ، وإمّا باعتبار ما فى أثناء التغذي من استراحة ما.(3/286)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 287
قالَ فتاه عليه السّلام : أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ أي : التجأنا إليها ونمنا عندها ، فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ أي : أخبرنى ما دهانى حتى لم أذكر لك أمر الحوت ، فإنى نسيت أن أذكر لك أمره ، ومراده بالاستفهام تعجيب موسى عليه السّلام مما اعتراه من النسيان ، مع كون ما شاهده من العظائم التي لا تكاد تنسى ، وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ بوسوسته الشاغلة له عن ذلك ، أَنْ أَذْكُرَهُ ، ونسبته للشيطان هضما لنفسه ، واستعمال الأدب فى نسبة النقائص إلى الشيطان ، وإن كان الكل من عند اللّه. وهذه الحالة ، وإن كانت غريبة لا يعهد نسيانها ، لكنه قد تعود بمشاهدة أمثالها من الخوارق مع موسى عليه السّلام ، وألفها قبل اهتمامه بالمحافظة عليها ، أو لاستغراقه وانجذاب سره إلى جناب القدس ، حتى غاب عن الإخبار بها.
قلت : والظاهر أن نسيانه كان أمرا إلهيا قهريا بلا سبب ، وحكمته ما لقى من النصب لتعظم حلاوة العلم الذي يأخذه عن الخضر عليه السّلام ، فإن المساق بعد التعب ألذ من المساق بغير تعب ، ولذلك : «حفت الجنة بالمكاره».
ثم قال : وَاتَّخَذَ الحوت سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً ، فيه حذف ، أي : فحيى الحوت ، واضطرب ، ووقع فى البحر ، واتخذ سبيله فيه سبيلا عجبا ، أو اتخاذا عجبا يتعجب منه ، وهو كون مسلكه كالطاق ، قالَ موسى عليه السّلام : ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ أي : ذلك الذي ذكرت من أمر الحوت هو الذي كنا نطلبه لكونه أمارة للفوز بالمرام ، فَارْتَدَّا أي : رجعا عَلى طريقهما الذي جاءا منه ، يقصّان. يتبعان آثارِهِما قَصَصاً ، حتى أتيا الصخرة فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا ، التنكير للتفخيم والإضافة للتعظيم ، وهو الخضر عليه السّلام عند الجمهور ، واسمه : بليا بن ملكان يعصوا ، والخضر لقب له لأنه جلس على فروة بيضاء فاهتزّت تحته خضراء ، كما فى حديث أبى هريرة عنه - صلى اللّه عليه وسلم «1».
وقال مجاهد : سمى خضرا لأنه كان إذا صلى اخضر ما حوله ، ثم قال : وهو ابن عابر بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح ، وكان أبوه ملكا. ه. وفى الحديث أن النبي صلى اللّه عليه وسلم ذكر قصة الخضر ، فقال : كان ابن ملك من الملوك ، فأراد أبوه أن يستخلفه من بعده ، فأبى وهرب ، ولحق بجزائر البحر ، فلم يقدر عليه. قيل : إنه شرب من عين الحياة فمتع بطول الحياة.
روى أن موسى عليه السّلام حين انتهى إلى الصخرة رأى الخضر عليه السّلام على طنفسة - أي : بساط - على وجه الماء ، فسلم عليه. وعنه - عليه الصلاة والسّلام - أنه قال : انتهى موسى إلى الخضر ، وهو نائم مسجى عليه ثوب ، فسلّم عليه فاستوى جالسا ، وقال : عليك السّلام يا نبى بنى إسرائيل ، فقال موسى : من أخبرك أنى نبى بنى إسرائيل؟ قال :
الذي أدراك بي ، وذلك علىّ.
___________
(1) أخرجه البخاري فى (أحاديث الأنبياء ، باب حديث الخضر مع موسى).(3/287)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 288
قال تعالى فى حق الخضر : آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا ، هى الوحى والنبوة ، كما يشعر به تنكير الرحمة ، وإضافتها إلى جناب الكبرياء ، وقيل : هى سر الخصوصية ، وهى الولاية. وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً خاصا ، لا يكتنه كنهه ، ولا يقدر قدره ، وهو علم الغيوب ، أو أسرار الحقيقة ، أو علم الذات والصفات ، علما حقيقيا. فالخضر عليه السّلام قيل : إنه نبى بدليل قوله فيما يأتى : وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ، وقيل : وليّ ، واختلف : هل مات ، أو هو حى؟
وجمهور الأولياء : أنه حي ، وقد لقيه كثير من الصلحاء والأولياء ، حتى تواتر عنهم حياته «1». واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : إنما صار الحوت دليلا لسيدنا موسى عليه السّلام بعد موته وخروجه عن إلفه ، ثم حيى حياة خصوصية لمّا أنفق عليه من عين الحياة ، كذلك العارف لا يكون دالا على اللّه ، وإماما يقتدى به حتى يموت عن شهود حسه ، ويخرق عوائد نفسه ، ويفنى عن بشريته ، ويبقى بربه ، حينئذ تحيا روحه بشهود عظمة ربه ، ويصير إماما ودليلا موصلا إليه ، ويظهر منه خرق العوائد ، كما ظهر من الحوت ، حيث أمسك عن الماء الجرية فصار كالطّاق ، وذلك اقتدار ، وإلى ذلك تشير أحوال الخضر ، فكان الحوت مظهرا لحاله فى تلك القصة. قاله فى الحاشية بمعناه.
وقال قبل ذلك فى قوله : وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً : أي اتخذ الحوت ، وجوّز كون فاعل (اتَّخَذَ) : موسى ، أي : اتخذ موسى سبيل الحوت فى البحر عجبا وخرق عادة بأن مشى على الماء فى طريق الحوت ، حتى وجد الخضر على كبد البحر. ثم قال : وعلى الجملة : فالقضية تشير من جهة الخضر : للاقتدار وإسقاط الأسباب ، ومن جهة موسى : لإثبات الأسباب حكمة ، وحالة الاقتدار أشرف ، وصاحب الحكمة أكمل ونفعه عام ، بخلاف الآخر ، فإن نفعه خاص. ه.
وقوله تعالى : وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً ، العلم اللدني : هو الذي يفيض على القلب من غير اكتساب ولا تعلم ، قال عليه الصلاة والسّلام : «من عمل بما علم أورثه اللّه علم ما لم يعلم». وذلك بعد تطهير القلب من النقائص والرذائل ، وتفرغه من العلائق والشواغل ، فإذا كمل تطهير القلب ، وانجذب إلى حضرة الرب ، فاضت عليه العلوم اللدنية ، والأسرار الربانية ، منها ما تفهمها العقول وتدخل تحت دائرة النقول ، ومنها ما لا تفهمها العقول ولا تحيط بها النقول ، بل تسلم لأربابها ، من غير أن يقتدى بهم فى أمرها ، ومنها ما تفيض عليهم فى جانب علم الغيوب كمواقع القدر وحدوث الكائنات المستقبلة ، ومنها ما تفيض عليهم فى علوم الشرائع وأسرار الأحكام ، ومنها فى أسرار الحروف وخواص الأشياء ، إلى غير ذلك من علوم اللّه تعالى. وباللّه التوفيق.
___________
(1) بين أهل العلم خلاف فى شأن الخضر ، هل هو نبى أم لا؟ وهل هو حى أم لا؟ ... راجع فى ذلك تفسير : ابن كثير (3/ 99) ، وفتح الباري (6/ 434) ، والمعالم الصوفية فى قصة سيدنا موسى والخضر ، للأستاذ الدكتور جودة المهدى ، فى حولية كلية أصول الدين بطنطا ، العدد الأول ، / 1987 م.(3/288)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 289
ثم تمم قصتهما بعد التقائهما ، فقال :
[سورة الكهف (18) : الآيات 66 الى 70]
قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً (66) قالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (67) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً (68) قالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ صابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً (69) قالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً (70)
قلت : «رُشْداً» : مفعول ثانى لعلمت ، أو : علة لأتبعك ، أو : مصدر بإضمار فعله ، أو : حال من كاف «أَتَّبِعُكَ» ، أو :
على إسقاط الخافض ، أي : من الرشد ، وفيه لغتان : ضم الراء وسكون الشين ، وفتحهما ، وهو : إصابة الخير ، وخُبْراً : تمييز محول عن الفاعل ، أي : لم يحط به خبرك. و«لا أَعْصِي» : عطف على : «صابِراً».
يقول الحق جل جلاله : ولما اتصل موسى بالخضر - عليهما السّلام - استأذنه فى صحبته ليتعلم منه ، ملاطفة وأدبا وتواضعا ، وكذلك ينبغى لمن يريد التعلم من المشايخ : أن يتأدب ويتواضع معهم. قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً أي : مما علمك اللّه من العلم الذي يدل على الرشد وإصابة الصواب ، لعلى أرشد به فى دينى. ولا ينافى كونه نبيا ذا شريعة أن يتعلم من غيره من أسرار العلوم الخفية إذ لا نهاية لعلمه تعالى ، وقد قال له تعالى فيما تقدم : أعلم الناس من يبتغى علم غيره إلى علمه. روى أنهما لما التقيا جلسا يتحدثان ، فجاءت خطافة أو عصفور فنقر فى البحر نقرة أو نقرتين ، فقال الخضر : يا موسى خطر ببالك أنك أعلم أهل الأرض؟ ما علمك وعلمى وعلم الأولين والآخرين فى جنب علم اللّه إلا أقل من الماء الذي حمله هذا العصفور.
ولمّا سأله صحبته قالَ له : إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً لأنك رسول مكلف بحفظ ظواهر الشرائع ، وأنا أطلعنى اللّه تعالى على أمور خفية ، لا تتمالك أن تصبر عنها لمخالفة ظاهرها للشريعة. وفى صحيح البخاري :
«قال له الخضر : يا موسى ، إنى على علم من علم اللّه علّمنيه ، لا تعلمه أنت ، وأنت على علم من علم اللّه علّمكه اللّه ، لا أعلمه» «1».
ثم علل عدم صبره بقوله : وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً؟ لأنى أتولى أمورا خفية لا خبر لك بها ، وصاحب الشريعة لا يسلم لصاحب الحقيقة العارية من الشريعة ، قالَ له موسى عليه السّلام : سَتَجِدُنِي إِنْ
___________
(1) جاء ذلك فى رواية البخاري ، التي أخرجها فى (العلم ، باب ما يستحب للعالم إذا سئل : أىّ الناس أعلم)؟ من حديث أبىّ بن كعب. [.....](3/289)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 290
شاءَ اللَّهُ صابِراً معك ، غير معترض عليك. وتوسيط الاستثناء بين مفعولى الوجدان لكمال الاعتناء بالتيمن ، ولئلا يتوهم تعلقه بالصبر ، وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً ، هو داخل فى الاستثناء ، أي : ستجدنى إن شاء اللّه صابرا وغير عاص.
وقال القشيري : وعد من نفسه شيئين : الصبر ، وألّا يعصيه فيما يأمره به. فأما الصبر فقرنه بالمشيئة ، حتى وجده صابرا ، فلم يقبض على يدى الخضر فيما كان منه من الفعل. والثاني قال : وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً ، فأطلق ولم يستثن ، فعصى ، حيث قال له الخضر : فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ ، فكان يسأله ، فبالاستثناء لم يخالف ، وبالإطلاق خالف. ه. قال شيخ شيوخنا سيدى عبد الرحمن الفاسى : وفيه نظر للحديث الصحيح : «يرحم اللّه موسى ، لو صبر ...» مع أن قوله : «ولا أعصى ...» إلخ ، غير خارج عن الاستثناء ، كما تقدم ، وإن احتمل خروجه ، والظاهر :
أن الاستثناء ، كالدعاء ، إنما ينفع إذا صادف القدر ، وهو هنا لم يصادف ، مع أنه هنا عارضه علم الخضر بكونه لم يصبر من قوله : لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً ، وقد أراد اللّه نفوذ علم الخضر. ه.
وقال ابن البنا : أن العهد إنما هو على قدر الاستطاعة ، وإن الوفاء بالملتزم إنما يكون فيما لا يخالف الشرع ، فلا طاعة لمخلوق فى معصية الخالق لأن موسى عليه السّلام لم يلتزم إلا ذلك. ولمّا رأى ما هو محرم تكلم .. فافهم. ه.
ثم شرط عليه التسليم لما يرى ، فقال : فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ تشاهده من أفعالى ، فهمته أم لا ، أي : لا تفاتحنى بالسؤال عن حكمته ، فضلا عن مناقشته واعتراضه ، حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً حتى أبتدى بيانه لك وحكمته ، وفيه إيذان بأن ما يصدر منه له حكمة خفية ، وعاقبة صالحة. وهذا من أدب المتعلم مع العالم ، والتابع مع المتبوع ، أنه لا يعترض على شيخه بل يسأل مسترشدا بملاطفة وأدب ، وهذا فى العلم الظاهر.
وسيأتى فى الإشارة ما يتعلق بعلم الباطن.
الإشارة : قد أخذ الصوفية - رضى اللّه عنهم - آداب المريد مع الشيخ من قضية الخضر مع موسى - عليهما السّلام - فطريقتهم مبنية على السكوت والتسليم ، حتى لو قال لشيخه : لم؟ لم يفلح أبدا ، سواء رأى من شيخه منكرا أو غيره ، ولعله اختبار له فى صدقه ، أو اطلع على باطن الأمر فيه ، فأحوالهم خضرية ، فالمريد الصادق يسلم لشيخه فى كل ما يرى ، ويمتثل أمره فى كل شىء ، فهم وجه الشريعة فيه أم لا ، هذا فى علم الباطن ، وأما علم الظاهر فمبنى على البحث والتفتيش ، مع ملاطفة وتعظيم.
قال الورتجبي : امتحن الحق تعالى موسى عليه السّلام بصحبة الخضر لاستقامة الطريقة ولتقويم السنة فى متابعة المشايخ ، ويكون أسوة للمريدين والقاصدين فى خدمتهم أشياخ الطريقة. ه. قال القشيري فى قوله : (فلا تسألن عن شى ء) : قال :
ليس للمريد أن يقول لشيخه : لم ، ولا للمتعلم أن يقول لأستاذه ، ولا للعامى أن يقول للمفتى فيما يفتى ويحكم : لم. ه.(3/290)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 291
وقال ابن البنا فى تفسيره : يؤخذ من هذه القصة : ترك الاعتراض على أولياء اللّه إذا ظهر منهم شىء مخالف للظاهر لأنهم فيه على دليل غير ظاهر لغيرهم ، اللهم إلا أن يدعوك إلى اتباعه ، فلا تتبعه إلا عن دليل ، ويسلم له فى حاله ، ولا تعترض عليه ، ولا يمنعك ذلك من طلب العلم والتعلم منه ، وإن كنت لا تعمل بعمله لأنه لا يجب عليك تقيده إلا عن دليل ، فلا تعمل مثل عمله ، وأنت ترى أنه مخالف لك فى ظنك ، ولا علم لك بحقيقة باطن الأمر ، فلا تقف ما ليس لك به علم. واللّه الموفق والمرشد. ه.
قلت : ما ذكره إنما هو فى حق من لم يدخل تحت تربيته ، فإنما هو طالب علم أو تبرك ، وأما من التزم صحبته على طريق التربية فلا يتأخر عن امتثال ما أمره به ، كيفما كان ، نعم ، إن لم ينبغ التوقف والتأنى فى الاقتداء به.
وقال فى القوت فى قوله : فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ : الشيء فى هذا الموضع وصف مخصوص من وصف الربوبية من العلم ، الذي علمه الخضر عليه السّلام من لدنه ، لا يصلح أن يسأل عنه ، من معنى صفات التوحيد ونعوت الوحدانية ، لا يوكل إلى العقول ، بل يخص به المراد المحمول. ه.
قال المحشى الفاسى : وهو - أي : المحمول - ما يرشق فيهم من وصف الحق وقدرته ، فيتصرفون ، وهم فى الحقيقة مصرّفون ، وهؤلاء هم أهل القبضة ، الذين علّمهم سرّ الحقيقة ، فلهم قدرة لنفوذ شعاعها فيهم ، فتتكوّن لهم الأشياء ، وتنفعل لحملهم سر الحقيقة وظهورها لهم وفيهم ، وهم كما قال : مرادون محمولون ، فما يجرى عليهم :
قدر وَما رَمَيْتَ ... الآية. ه.
ثم ذكر ما أراه من الخوارق ، فقال :
[سورة الكهف (18) : الآيات 71 الى 77]
فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها قالَ أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً (71) قالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (72) قالَ لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً (73) فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ قالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً (74) قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (75)
قالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً (76) فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ قالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً (77)(3/291)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 292
قلت : ضمّن ركوب السفينة معنى الدخول فيها ، فعداه بفي ، وقد تركه على أصله فى قوله : لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً «1».
يقول الحق جل جلاله : فَانْطَلَقا أي : موسى والخضر ، وسكت عن الخادم لكونه تبعا ، وقيل : إن يوشع لم يصحبهما ، بل رجع ، فصارا يمشيان على ساحل البحر ، فمرت بهم سفينة ، فكلموهم أن يحملوهم ، فعرفوا الخضر ، فحملوهم بغير نول ، فلما لجّجوا البحر أخذ الخضر فأسا فخرق السفينة ، فقلع لوحا أو لوحين مما يلى الماء ، فحشاها موسى بثوبه ، وقالَ أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها أو : ليغرق أهلها «2» ، لَقَدْ جِئْتَ أي : أتيت وفعلت ، شَيْئاً إِمْراً أي : عظيما هائلا ، يقال : أمر الأمر : عظم ، قالَ الخضر : أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً تذكيرا لما قاله له من قبل ، وإنكارا لعدم الوفاء بالعهد ، قالَ موسى عليه السّلام : لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ أي :
بنسياني ، أو بالذي نسيته ، وهو وصيته بأن لا يسأله عن حكمة ما صدر عنه من الأفعال الخفية الأسباب قبل بيانه ، أراد : نسى وصيته ، ولا مؤاخذة على الناسي ، وفى الحديث : «كانت الأولى من موسى نسيانا». أو : أراد بالنسيان الترك ، أي : لا تؤاخذني بما تركت من وصيتك أول مرة. وَلا تُرْهِقْنِي أي : لا تغشنى ولا تحمّلنى مِنْ أَمْرِي ، وهو اتباعك ، عُسْراً أي : لا تعسّر علىّ فى متابعتك ، بل يسرها علىّ بالإغضاء والمسامحة.
فَانْطَلَقا أي : فقبل عذره فخرجا من السفينة فانطلقا حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ قيل : كان يلعب مع الغلمان ففتل عنقه ، وقيل : ضرب رأسه بحجر ، وقيل : ذبحه ، والأول أصح لوروده فى الصحيح ، روى أن اسم الغلام «جيسور» بالجيم ، وقيل : بالحاء المهملة ، فإن قلت : لم قال خَرَقَها بغير فاء ، وقال فَقَتَلَهُ بالفاء؟ فالجواب :
أن «خرقها» : جواب الشرط ، وقتله : من جملة الشرط ، معطوفا عليه ، والجزاء هو قوله : (قالَ أَقَتَلْتَ) ، فإن قلت : لم خولف بينهما؟ فالجواب : أن خرق السفينة لم يتعقب الركوب ، وقد تعقب القتل لقاء الغلام. ه. وأصله للزمخشرى.
وقال البيضاوي : ولعل تغيير النظم بأن جعل خرقها جزاء ، واعتراض موسى عليه السّلام مستأنفا فى الأولى ، وفى الثانية فَقَتَلَهُ من جملة الشرط ، واعتراضه جزاء لأن القتل أقبح ، والاعتراض عليه أدخل ، فكان جديرا بأن يجعل عمدة الكلام ، ولذلك وصله بقوله : لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً أي : منكرا. ه. وناقشه أبو السعود بما يطول ذكره.
___________
(1) من الآية 8 من سورة النحل.
(2) بفتح الياء والراء ، على الغيب ، وأهلها : بالرفع على الفاعلية ، وهى قراءة حمزة والكسائي ، وقرأ الباقون بضم التاء وكسر الراء ، مخففة مع سكون الغين على الخطاب ، وأهلها بالنصب على المفعولية .. انظر الإتحاف (2/ 221).(3/292)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 293
قالَ موسى عليه السّلام فى اعتراضه : أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً «1» : طاهرة من الذنوب ، وقرئ بغير ألف مبالغة ، بِغَيْرِ نَفْسٍ أي : بغير قتل نفس محرمة ، فيكون قصاصا. وتخصيص نفى هذا القبيح بالذكر من بين سائر القبيحات من الكفر بعد الإيمان ، والزنا بعد إحصان لأنه أقرب إلى الوقوع نظرا لحال الغلام. لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً أي : منكرا ، قيل : أنكر من الأول ، إذ لا يمكن تداركه ، كما يمكن تدارك الأول بالسد ونحوه. وقيل :
«الإمر» أعظم لأن قتل نفس واحدة أهون من إغراق أهل السفينة.
قالَ له الخضر عليه السّلام : أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً ، زاد «لَكَ» لزيادة تأكيد المكافحة بالعتاب على رفض الوصية وقلة التثبت والصبر ، لما تكرر منه الإنكار ، ولم يرعو بالتذكير ، حتى زاد فى النكير فى المرة الثانية بذكر المنكر. قالَ موسى عليه السّلام : إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها بعد هذه المرة فَلا تُصاحِبْنِي إن سألت صحبتك ، وقرأ يعقوب : «فلا تصحبنى» رباعيا ، أي : لا تجعلنى صاحبا لك ، قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً أي : قد أعذرت ووجدت من قبلى عذرا فى مفارقتى ، حيث خالفتك ثلاث مرات.
وعن النبي صلى اللّه عليه وسلم : «يرحم اللّه أخى موسى ، استحيا ، فقال ذلك ، لو لبث مع صاحبه لأبصر أعجب الأعاجيب» «2».
وفى البخاري : «وددنا لو صبر موسى ، حتى يقص اللّه علينا من أمرهما» «3».
فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ ، هى أنطاكية ، وقيل : أيلة ، وقيل الأبلة ، وهى أبعد أرض اللّه من السماء ، وقيل : برقة ، وقال أبو هريرة وغيره : هى بالأندلس. ويذكر أنها الجزيرة الخضراء. قلت : وهى التي تسمى اليوم طريفة ، وأصلها بالظاء المشالة. وذلك على قول أن مجمع البحرين عند طنجة وسبتة. وعن النبي صلى اللّه عليه وسلم : «كانوا أهل قرية لئاما». وقال قتادة : شر القرى التي لا يضاف فيها الضيف ، ولا يعرف لابن السبيل حقه.
ثم وصف القرية بقوله : اسْتَطْعَما أَهْلَها أي : طلبا منهم طعاما ، ولم يقل : استطعماهم ، على أن يكون صفة لأهل لزيادة تشنيعهم على سوء صنيعهم ، فإن الإباء من الضيافة ، مع كونهم أهلها قاطنين بها ، أشنع وأقبح.
روى أنهما طافا بالقرية يطلبان الطعام ، فلم يطعموهما. واستضافاهم فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما بالتشديد ، وقرئ بالتخفيف. يقال : ضافه : إذا كان له ضيفا ، أضافه وضيّفه : أنزله ضيفا. وأصل الإضافة : الميل ، من : ضاف السهم
___________
(1) قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وأبو جعفر : «زاكية» بألف بعد الزاى ، وتخفيف الياء ، اسم فاعل من «زكا» ، وقرأ الباقون : «زكية» بتشديد الياء من غير ألف ... انظر الإتحاف 2/ 221.
(2) أخرجه ، بنحوه ، أبو داود فى (الحروف والقراءات ح 2984) ، وأصل الحديث فى صحيح مسلم فى (الفضائل ، باب من فضائل الخضر) .. فى سياق طويل.
(3) أخرجه البخاري فى (التفسير ، سورة الكهف).(3/293)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 294
عن الغرض : مال ، ونظيره : زاره ، من الازورار ، أي : الميل. فبينما هما يمشيان ، فَوَجَدا فِيها جِداراً ، قال وهب : كان طوله مائة ذراع ، يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ أي : يسقط ، استعار الإرادة للمشارفة للدلالة على المبالغة فى ذلك ، والانقضاض : الإسراع فى السقوط ، وهو انفعال ، من القض ، يقال : قضضته فانقض ، ومنه : انقضاض الطير والكوكب لسقوطه بسرعة. وقرئ : أن ينقاض ، من انقاضت السنّ : إذا سقطت طولا. فَأَقامَهُ قيل : مسحه بيده فقام ، وقيل : نقضه وبناه ، وهو بعيد. قالَ له موسى : لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً نتعشى به ، وهو تحريض له على أخذ الجعل ، أو تعريض بأنه فضول ، وكأنه لمّا رأى الحرمان ومساس الحاجة كان اشتغاله بذلك فى ذلك الوقت مما لا يعنى ، فلم يتمالك الصبر عليه.
قال ابن التين : إن الثالثة كانت نسيانا لأنه يبعد الإنكار لأمر مشروع ، وهو الإحسان لمن أساء. ه. وفيه نظر فقد قال القشيري فى تفسير الآية : لم يقل موسى : إنك ألممت بمحظور ، ولكن قال : لو شئت ، أي : فإن لم تأخذ بسببك فهلا أخذت بسببنا ، فكان أخذ الأجر خيرا من الترك ، ولئن وجب حقّهم فلم أخللت بحقنا؟ ويقال : إنّ سفره ذلك كان سفر تأديب ، فردّ إلى تحمّل المشقة ، وإلّا فهو نسى ، حيث سقى لبنات شعيب ، وكان ما أصابه من التعب والجوع أكثر ، ولكنه كان فى ذلك الوقت محمولا ، وفى هذا الوقت متحمّلا. ه.
قلت : لأن الحق تعالى أراد تأديبه فلم يحمل عنه ، فكان سالكا محضا ، وفى وقت السقي : كان مجذوبا محمولا عنه.
ثم قال القشيري : وكما أن موسى كان يحب صحبة الخضر لما له فيه من غرض استزادة من العلم ، كان الخضر يحب ترك صحبته إيثارا للخلوة باللّه عنه. ه. قاله فى الحاشية الفاسية.
الإشارة : يؤخذ من خرق السفينة أن المريد لا تفيض عليه العلوم اللدنية والأسرار الربانية حتى يخرق عوائد نفسه ، ويعيب سفينة وجوده ، بتخريب ظاهره ، حتى لا يقبله أحد «1» ، ولا يقبل عليه أحد ، فبذلك يخلو بقلبه ويستقيم على ذكر ربه ، وأما مادام ظاهره متزينا بلباس العوائد ، فلا يطمع فى ورود المواهب والفوائد.
ويؤخذ من قتل الغلام : أنه لا بد من قتل الهوى ، وكل ما فيه حظ للنفس والشيطان ، والطريق فى ذلك أن تنظر ما يثقل على النفس فتحمله لها ، وما يخف عليها فتحجزها عنه ، حتى لا يثقل عليها شىء من الحق.
ويؤخذ من إقامة الجدار رسم الشرائع قياما بآداب العبودية ، وصونا لكنز أسرار الربوبية. ويؤخذ منه أيضا :
الإحسان لمن أساء إليه ، فإن أهل القرية أساءوا بترك ضيافة الخضر ، فقابلهم بالإحسان حيث أقام جدارهم.
واللّه تعالى أعلم.
___________
(1) فى هذا الكلام نظر.(3/294)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 295
ثم ذكر افتراقهما ، وبيان الحكمة فى تلك الخوارق التي فعل ، فقال :
[سورة الكهف (18) : الآيات 78 الى 82]
قالَ هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً (78) أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً (79) وَأَمَّا الْغُلامُ فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً (80) فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً (81) وَأَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً (82)
قلت : هذا ، الإشارة إما إلى نفس الفراق ، كقولك : هذا أخوك ، أو إلى الوقت الحاضر ، أي : هذا وقت الفراق.
أو إلى السؤال الثالث. و(بَيْنِي) : ظرف مضاف إليه المصدر مجازا ، وقرئ بالنصب ، على الأصل ، وغَصْباً :
مصدر نوعي ليأخذ.
يقول الحق جل جلاله : قالَ الخضر عليه السّلام : هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ فلا تصحبنى بعد هذا ، سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً أي : سأخبرك بالخبر الباطن ، فيما لم تستطع عليه صبرا لكونه منكرا فى الظاهر ، فالتأويل : رجوع الشيء إلى مآله ، والمراد هنا : المآل والعاقبة ، وهو خلاص السفينة من اليد العادية ، وخلاص أبوى الغلام من شره ، مع الفوز بالبدل الأحسن ، واستخراج اليتيمين للكنز ، وفى جعل صلة الموصول عدم استطاعته ، ولم يقل : «بتأويل ما رأيت» نوع تعريض به ، وعتابه عليه السّلام.
ثم جعل يفسر له ، فقال : أَمَّا السَّفِينَةُ التي خرقتها ، فَكانَتْ لِمَساكِينَ : ضعفاء ، لا يقدرون على مدافعة الظلمة ، فسماهم مساكين لذلهم وضعفهم ، ومنه قوله صلى اللّه عليه وسلم : «اللّهمّ أحينى مسكينا ، وأمتنى مسكينا ، واحشرني فى زمرة المساكين» «1». فلم يرد مسكنة الفقر ، وإنما أراد التواضع والخضوع ، أي : احشرني مخبتا متواضعا ، غير جبار ولا متكبر ، وقيل : كانت السفينة لعشرة إخوة : خمسة زمنى»
، وخمسة يَعْمَلُونَ فِي
___________
(1) أخرجه الترمذي فى (الزهد ، باب ما جاء أن فقراء المهاجرين يدخلون الجنة قبل أغنيائهم) ، وابن ماجة (فى الزهد ، باب مجالسة الفقراء).
(2) أخرجه الترمذي فى (الزهد ، باب ما جاء أن فقراء المهاجرين يدخلون الجنة قبل أغنيائهم) ، وابن ماجة (فى الزهد ، باب مجالسة الفقراء).(3/295)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 296
الْبَحْرِ. وإسناد العمل إلى الكل ، حينئذ ، بطريق التغليب ، ولأن عمل الوكيل بمنزلة الموكل. فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها : أجعلها ذات عيب ، «1» وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ أي : أمامهم ، وقرئ به ، أو خلفهم ، وكان رجوعهم عليه لا محالة ، وكان اسمه : «جلندى بن كركر» وقيل : «هدد بن بدد» ، قال ابن عطية : وهذا كله غير ثابت ، يعنى : تسمية الملك. يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ صالحة ، وقرئ به ، غَصْباً من أصحابها.
وكان حق النظم أن يتأخر بيان إرادة التعيّب عن خوف الغصب ، فيقول : فكانت لمساكين ، وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة صالحة ، فأردت أن أعيبها لأن إرادة التعيب مسبّب عن خوف الغصب ، وإنما قدّم للاعتناء بشأنها إذ هى المحتاجة إلى التأويل ، ولأن فى التأخير فصلا بين السفينة وضميرها ، مع توهم رجوعه إلى الأقرب. قال البيضاوي : ومبنى ذلك - أي : التعيب وخوف الغصب - على أنه متى تعارض ضرران يجب حمل أهونهما بدفع أعظمهما ، وهو أصل ممهد ، غير أن الشرائع فى تفاصيله مختلفة. ه.
وَأَمَّا الْغُلامُ الذي قتلته ، فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ وقد طبع هو كافرا ، وإنما لم يصرح بكفره لعدم الحاجة إليه لظهوره من قوله : فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما : فخفنا أن يغشى الوالدين المؤمنين طُغْياناً عليهما وَكُفْراً بنعمتهما لعقوقه وسوء صنيعه ، فيلحقهما شرا ، أو لشدة محبتهما له فيحملهما على طاعته ، أو يقرن بإيمانهما طغيانه وكفره ، فيجتمع فى بيت واحد مؤمنان وطاغ كافر ، فلعله يميلهما إلى رأيه فيرتدا. وإنما خشى الخضر عليه السّلام منه ذلك لأن اللّه سبحانه أعلمه بحاله وأطلعه على عاقبة أمره ، وقرئ : «فخاف ربك» ، أي : كره سبحانه كراهية من خاف سوء عاقبة الأمر. ويجوز أن يكون القراءة المشهورة من قول اللّه سبحانه على الحكاية ، أي فكرهنا أن يرهقهما طغيانا وكفرا فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ بأن يرزقهما بدله ولدا خَيْراً مِنْهُ زَكاةً : طهارة من الذنوب والأخلاق الردية ، وَأَقْرَبَ رُحْماً أي : رحمة وعطفا ، وفى التعرض لعنوان الربوبية والإضافة إليهما ما لا يخفى من الدلالة على وصول الخير إليهما ، فلذلك قيل : ولدت لهما جارية ، تزوجها نبى من الأنبياء فولدت نبيا ، هدى اللّه تعالى على يديه أمة من الأمم ، وقيل : ولدت سبعين نبيا ، وقيل : أبدلهما ابنا مؤمنا مثلهما.
وَأَمَّا الْجِدارُ الذي أقمت فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ أي : القرية المذكورة فيما سبق ، ولعل التعبير عنها بالمدينة لإظهار نوع اعتداد بها ، باعتداد ما فيها من اليتيمين وأبيهما الصالح ، قيل : اسم اليتيمين :
أصرم وصريم. وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما من فضة وذهب ، كما فى الحديث «2» ، والذم على كنزهما إنما هو لمن لم يؤد زكاته ، مع أن هذه شريعة أخرى. قال ابن عباس : (كان لوحا من ذهب ، مكتوب فيه : عجبت لمن يؤمن
___________
(1) أي : مرضى بمرض مزمن.
(2) أخرجه الترمذي فى (تفسير سورة الكهف) ، والحاكم فى المستدرك (2/ 369) ، عن أبى الدرداء مرفوعا.(3/296)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 297
بالقدر كيف يحزن؟ وعجبت لمن يؤمن بالرزق كيف يتعب؟ وعجبت لمن يؤمن بالموت كيف يفرح؟ وعجبت لمن يؤمن بالحساب كيف يغفل؟ وعجبت لمن يعرف الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها؟ لا إله الا اللّه ، محمد رسول اللّه) «1». وقيل : كانت صحفا فيها علم مدفون.
وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً ، فيه تنبيه على أن سعيه فى ذلك كان لصلاح أبيهما ، وفيه دليل على أن اللّه تعالى يحفظ أولياءه فى ذريتهم ، قيل : كان بينهما وبين الأب الذي حفظا به سبعة أجداد. قال محمد بن المنكدر : (إن اللّه تعالى ليحفظ بالرجل الصالح ولده ، وولد ولده ، ومسربته التي هو فيها ، والدويرات التي حولها ، فلا يزالون فى حفظ اللّه وستره). وكان سعيد بن المسيب يقول لولده : إنى لأزيد فى صلاتى من أجلك ، رجاء أن أحفظ فيك ، ويتلو هذه الآية. وفى الحديث : «ما أحسن أحد الخلافة فى ماله إلا أحسن اللّه الخلافة فى تركته» «2». ويؤخذ من الآية :
القيام بحق أولاد الصالحين إذ قام الخضر عليه السّلام بذلك.
فَأَرادَ رَبُّكَ أي : مالكك ومدبر أمرك. وفى إضافة الرب إلى ضمير موسى عليه السّلام ، دون ضميرهما ، تنبيه له عليه السلام على تحتم كمال الانقياد ، والاستسلام لإرادته سبحانه ، ووجوب الاحتراز عن المناقشة فيما برز من القدرة فى الأمور المذكورة وغيرها. أراد أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما : حلمهما وكمال رأيهما ، وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما من تحت الجدار ، ولو لا أنى أقمته لا نقض ، وخرج الكنز من تحته ، قبل اقتدارهما على حفظ المال وتنميته ، وضاع بالكلية رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ مصدر فى موضع الحال ، أي : يستخرجا كنزهما مرحومين به من اللّه تعالى. أو : يتعلق بمضمر ، أي : فعلت ما فعلت من الأمور التي شاهدتها ، رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ بمن فعل له أو به.
وقد استعمل الخضر عليه السّلام غاية الأدب فى هذه المخاطبة فنسب ما كان عيبا لنفسه ، وما كان ممتزجا له وللّه تعالى فإن القتل بلا سبب ظاهره عيب ، وإبداله بخير منه خير ، فأتى بضمير المشاركة ، وما كان كمالا محضا ، وهو إقامة الجدار ، نسبه للّه تعالى.
ثم قال : وَما فَعَلْتُهُ أي : ما رأيت من الخوارق عَنْ أَمْرِي أي : عن رأيى واجتهادي ، بل بوحي إلهى ملكى ، أو إلهامي ، على اختلاف فى نبوته أو ولايته ، ذلِكَ أي : ما تقدم ذكره من التأويلات ، تَأْوِيلُ أي : مآل وعاقبة ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً أي : تفسير ما لم تستطع عليه صبرا ، فحذف التاء تخفيفا ، وهو فذلكة لما تقدم ، وفى جعل الصلة غير ما مرّ تكرير للتنكير عليه وتشديد للعتاب. قيل : كل ما أنكر سيدنا موسى
___________
(1) أخرجه الطبري فى تفسيره (16/ 6). وانظر تفسير ابن كثير (3/ 99).
(2) عزاه فى كنز العمال (16071) لابن المبارك ، عن ابن شهاب ، مرسلا. وذكره مرفوعا : ابن عدى فى الكامل (6/ 2291) عن ابن عمر ، وضعّفه.(3/297)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 298
عليه السّلام على الخضر قد جرى له مثله ، ففى هذه الأمثلة حجة عليه ، وذلك أنه لما أنكر خرق السفينة ، نودى : يا موسى أين كان تدبيرك هذا وأنت مطروح فى اليم؟ فلما أنكر قتل الغلام قيل له : أين إنكارك من وكزك القبطي وقضائك عليه؟ فلما أنكر إقامة الجدار ، نودى : أين هذا من رفعك الحجر لبنات شعيب دون أجر؟ واللّه تعالى أعلم.
روى أنه قال له : لو صبرت لأتيت بك على ألفى عجيبة ، كلها مما رأيت. ولما أراد موسى عليه السّلام أن يفارقه ، قال له : أوصنى ، قال : لا تطلب العلم لتحدث به ، واطلبه لتعمل به. ه.
وفى رواية : قال له : اجعل همتك فى معادك ، ولا تخض فيما لا يعنيك ، ولا تأمن الخوف ، ولا تيأس الأمن ، وتدبر الأمور فى علانيتك ، ولا تذر الإحسان فى قدرتك. فقال له : زدنى يا ولى اللّه ، فقال : يا موسى إياك واللجاجة ، ولا تمش فى غير حاجة ، ولا تضحك من غير عجب ، ولا تعير أحدا بخطيئة بعد الندم ، وابك على خطيئتك يا ابن عمران ، وإياك والإعجاب بنفسك ، والتفريط فيما بقي من عمرك ، فقال له موسى : قد أبلغت فى الوصية ، أتم اللّه عليك نعمته ، وغمرك فى رحمته ، وكلأك من عدوه. فقال الخضر : آمين. فأوصنى أنت يا نبى اللّه ، فقال له موسى : إياك والغضب إلا فى اللّه ، ولا ترضى عن أحد إلا فى اللّه ، ولا تحب لدنيا ولا تبغض لدنيا ، فإنك تخرج من الإيمان وتدخل فى الكفر ، فقال له الخضر : قد أبلغت فى الوصية يا ابن عمران ، أعانك اللّه على طاعته ، وأراك السرور فى أمرك ، وحببك إلى خلقه ، وأوسع عليك من فضله ، قال موسى : آمين.
تنبيه : قد تقدم أن الجمهور على حياة الخضر عليه السّلام. وسبب تعميره أنه كان على مقدمة ذى القرنين ، فلما دخل الظلمات أصاب الخضر عين الحياة ، فنزل فاغتسل منها ، وشرب من مائها ، فأخطأ ذو القرنين الطريق ، فعاد ، فلم يصادفها ، قالوا : وإلياس أيضا فى الحياة ، يلتقيان فى كل سنة بالموسم ، واحتج من قال بموت الخضر بقوله - عليه الصلاة والسلام ، كما فى اللصحيح ، بعد صلاة العشاء : «أرأيتكم ليلتكم هذه ، فإنّه على رأس مائة سنة ، لا يبقى ممن هو اليوم على ظهر الأرض أحد» «1» ، ويجاب بأن الخضر عليه السّلام كان فى ذلك الوقت فى السحاب ، أو يخصص الحديث به كما يخص بإبليس ومن عمّر من غيره. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : الاعتراض على المشايخ موجب للبعد عنهم ، والبعد عنهم موجب للبعد عن اللّه ، فلا وصول إلى اللّه إلا بالوصول إليهم مع التعظيم والاحترام «سبحان من لم يجعل الدليل على أوليائه إلا من حيث الدليل عليه ، ولم يصل إليهم إلا من أراد أن يوصله إليه» كما فى الحكم. فالواجب على المريد ، إذا كان بين يدى الشيخ ، السكوت
___________
(1) أخرجه البخاري فى (العلم ، باب السمر فى العلم) ، ومسلم فى (فضائل الصحابة ، باب قوله صلى اللّه عليه وسلم : لا تأتى مائة سنة وعلى الأرض نفس منفوسة اليوم) ، من حديث ابن عمر - رضى اللّه عنه.(3/298)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 299
والتسليم والاحترام والتعظيم ، إلا أن يأمره بالكلام ، فيتكلم بآداب ووقار وخفض صوت ، فإذا رأى منه شيئا يخالف ظاهر الشريعة فليسلم له ، ويطلب تأويله ، فإن الشريعة واسعة ، لها ظاهر وباطن ، فلعله على ما لم يفهمه المريد.
وكذلك الفقراء لا ينكر عليهم إلا ما كان محرّما مجمعا على تحريمه ، ولا تأويل فيه ، كالزنا بالمعينة أو اللواط ، وأما ما اختلف فيه ، ولو خارج المذهب ، فلا ينكر عليه ، وكذلك ما فيه تأويل. هذا إن صحت عدالته ، فقد قالوا : إن صحت عدالة المرء فليترك وما فعل. وتأمل قضية شيخ شيوخنا سيدى عبد الرحمن المجذوب فى مسألة الثور الذي أمر الفقراء بذبحه ، فلما ذبحوه تبين أنه كان صدقة عليه ، وكذلك غيره من أرباب الأحوال ، يلتمس لهم أحسن المخارج ، فإن أحوالهم خضرية ، وما رأينا أحدا أولع بالإنكار فأفلح أبدا. وباللّه التوفيق.
ثم ذكر قصة ذى القرنين ، الذي وقع السؤال عنه مع الروح وأهل الكهف ، فقال :
[سورة الكهف (18) : الآيات 83 الى 88]
وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً (83) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً (84) فَأَتْبَعَ سَبَباً (85) حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَها قَوْماً قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً (86) قالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً (87)
وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً (88)
يقول الحق جل جلاله : وَيَسْئَلُونَكَ أي : اليهود ، سألوه على وجه الامتحان ، أو قريش ، بتلقينهم.
والتعبير بالمضارع للدلالة على استمرارهم على ذلك إلى ورود الجواب ، والمراد : ذو القرنين الأكبر ، وكان على عهد إبراهيم عليه السّلام ، ويقال : إنه الذي قضى لإبراهيم حين تحاكم إليه فى بئر السبع بالشام ، واسمه تبرس ، وقيل :
هرديس «1» ، وأما ذو القرنين الأصغر ، بالقرب من زمن عيسى عليه السّلام ، واسمه الإسكندر ، وهو صاحب أرسطو الفيلسوف ، وقيل : المراد به هنا الأصغر ، واقتصر عليه المحلّى.
قال الإمام الرازي : والأول أظهر لأن من بلغ ملكه من السعة والقوة إلى الغاية التي نطق بها التنزيل إنما هو الأكبر ، كما شهدت به كتب التواريخ. قلت : كلاهما بلغا الغاية القصوى ، وملكا المشارق والمغارب ، أما ذو القرنين الأكبر ، فقيل : إنه كان ملكا عادلا صالحا ، ملك الأقاليم ، وقهر أهلها من الملوك ، ودانت له البلاد ، وإنه كان داعيا
___________
(1) ليس فى هذا الشأن خبر عن الرسول الأعظم صلى اللّه عليه وسلم. [.....](3/299)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 300
إلى اللّه تعالى ، سائرا فى الخلق بالمعونة التامة والسلطان المؤيد المنصور ، وكان الخضر على مقدمة جيشه ، بمنزلة المستشار الذي هو من الملك بمنزلة الوزير. وقيل : كان ابن خالته. وذكر الأزرقى وغيره أنه أسلم على يد إبراهيم عليه السّلام ، فطاف معه بالكعبة مع إسماعيل. وروى أنه حج ماشيا ، فلما سمع إبراهيم عليه السّلام بقدومه تلقاه ودعا له ، وأوصاه بوصايا. ويقال : إنه أتى بفرس ليركب ، فقال : لا أركب فى بلد فيه الخليل ، فعند ذلك سخّر له السحاب ، وطوى له الأسفار ، فكانت السحاب تحمله وعساكيره وجميع آلاتهم ، إذا أرادوا غزو قوم. وسئل عنه علىّ رضي اللّه عنه :
أكان نبيا أو ملكا - بالفتح؟ فقال : لم يكن نبيا ولا ملكا ، ولكن كان عبدا أحبّ اللّه فأحبه اللّه ، وناصح اللّه فناصحه ، فسخر له السحاب ، ومدّ له الأسباب «1».
وقال مجاهد : ملك الأرض أربعة : مؤمنان وكافران ، فالمؤمنان : سليمان وذو القرنين ، والكافران : نمرود وبختنصر. ه.
وأما ذو القرنين الأصغر ، وهو الإسكندر اليوناني ، فروى أنه لما مات أبوه جمع ملك الروم بعد أن كان طوائف ، ثم قصد ملوك العرب وقهرهم ، ثم مضى حتى أتى البحر الأخضر ، ثم عاد إلى مصر ، فبنى الإسكندرية وسماها باسمه ، ثم دخل الشام وقصد بنى إسرائيل ، وورد بيت المقدس وذبح فى مذبحة ، ثم انعطف الى أرمينية وباب الأبواب ، ودان له العراقيون والقبط والبربر ، واستولى على ملوك الفرس ، وقصد السند وفتحه ، وبنى مدينة سرنديب وغيرها ، ثم قصد الصين ، وغزا الأمم البعيدة ، ورجع إلى العراق ومرض ومات.
روى أن أهل النجوم : قالوا له : إنك تموت على أرض من حديد ، وتحت سماء من خشب ، فبلغ بابل ، ورعف ، وسقط عن دابته ، فبسطت له دروع من حديد ، فنام عليها ، فآذته الشمس ، فأظلوه بترس من خشب ، فنظر ، فقال : هذه أرض من حديد وسماء من خشب ، فمات ، وهو ابن ألف وستمائة سنة ، وقيل : ثلاثة آلاف ، قال ابن كثير : وهو غريب. قلت : والذي لابن عساكر : أنه عاش ستا وثلاثين سنة ، وأنه كان بعد داود وسليمان - عليهما السلام - ثم قال ابن عساكر بعد كلام : وإنما بيّنا هذا لأن كثيرا من الناس يعتقدون أنهما واحد ، وأن المذكور فى القرآن العظيم هو المتأخر ، فيقع بذلك خطأ كبير. كيف لا ، والأول كان عبدا صالحا مؤمنا ، ملكا عادلا ، وزيره الخضر عليه السّلام ، وقد قيل : إنه كان نبيا ، وأما الثاني فقد كان كافرا ، وزيره أرسطاطاليس الفيلسوف ، وقد كان بينهما من الزمان أكثر من ألفى سنة ، فأين هذا من ذلك؟!. ه فتأمله مع ما ذكر فى اللباب من تعزيته أمه ، مما يدل على إسلامه ، قال فيه : لما علم ذو القرنين أن الموت استعجله ، دعا بكاتبه ، فقال له : أكتب تعزيتى لأمى ، بسم اللّه
___________
(1) انظر تفسير الطبري 16/ 8 ، والبغوي 5/ 197.(3/300)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 301
الرحمن الرحيم ، من الإسكندر ابن قيصر ، رفيق أهل الأرض بجسده وأهل السماء بروحه ، إلى أمي رومية ذات الصفا ، التي لم تتمتع بثمرتها فى دار الفناء ، وعما قريب تجاوره فى دار البقاء ، يا أماه أسألك بودك لى وودى لك ، هل رأيت لحىّ قرارا فى الدار الدنيا؟ وانظري إلى الشجر والنبات يخضر ويبتهج ، ثم يهشم ويتناثر ، كأن لم يغن بالأمس ، وإنى قد قرأت فى بعض الكتب فيما أنزل اللّه : يا دنياى ارحلى بأهلك ، فإنك لست لهم بدار ، إنما الدنيا واهبة الموت ، موروثة الأحزان ، مفرقة الأحباب ، مخربة العمران ، وكل مخلوق فى دار الأغيار ليس له قرار. انظر بقية كلامه فيه. ولا يلزم من صحبته أرسطاطاليس أن يكون على دينه. واللّه تعالى أعلم.
واختلف فى ذى القرنين المذكور فى القرآن : هل كان نبيا أو ملكا - بفتح اللام - أو ملكا - بالكسر - وهو الصحيح ، واختلف فى وجه تسميته بذي القرنين فقيل : كان فى رأسه أو تاجه ما يشبه القرنين ، وقيل : لأنه كان له ذؤابتان ، وقيل : لأنه دعا الناس إلى اللّه عز وجل ، فضرب بقرنه الأيمن ، ثم دعا إلى اللّه فضرب بقرنه الأيسر ، وقيل : لأنه رأى فى منامه أنه صعد الفلك فأخذ بقرني الشمس ، وقيل : لأنه انقرض فى عهده قرنان ، وقيل : لأنه سخر له النور والظلمة ، فإذا سرى يهديه النور من أمامه ، وتحوطه الظلمة من ورائه. ه.
ثم ذكر الحق تعالى الجواب ، فقال : قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ أي : سأذكر لكم مِنْهُ ذِكْراً أي : خبرا مذكورا ، أو قرآنا يخبركم بشأنه ، والسين للتأكيد ، والدلالة على التحقق المناسب لمقام تأييده صلى اللّه عليه وسلم ، وتصديقه بإنجاز وعده ، لا للدلالة على أن التلاوة ستقع فى المستقبل لأن هذه الآية نزلت موصولة بما قبلها ، حين سألوه صلى اللّه عليه وسلم عنه ، وعن الروح ، وعن أهل الكهف ، فقال : غدا أخبركم ، فتأخر الوحى كما تقدم ، ثم نزلت السورة مفصلة.
ثم شرع فى تلاوة ذلك الذكر ، فقال : إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ أي : مكنا له فيها قوة يتصرف فيها كيف يشاء ، بتيسير الأسباب وقوة الاقتدار ، حيث سخر له السحاب ، ومدّ له فى الأسباب ، وبسط له النور ، فكان الليل والنهار عليه سواء ، وسهل له السير فى الأرض ، وذللت له طرقها ، وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ أراده من مهمات ملكه ومقاصده المتعلقة بسلطانه سَبَباً أي : طريقا يوصله إليه من علم ، أو قدرة ، أو آلة ، فأراد الوصول إلى الغرب فَأَتْبَعَ سَبَباً : طريقا يوصله إليه.
حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ أي : منتهى الأرض من جهة المغرب ، بحيث لا يتمكن أحد من مجاوزته ، ووقف على حافة البحر المحيط الغربي ، الذي فيه الجزاير المسماة بالخالدات ، التي هى مبدأ الأطوال على أحد القولين. وَجَدَها أي : الشمس ، تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ أي : ذات حما ، وهو الطين الأسود ، (3/301)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 302
وقرئ : حامية ، أي : حارة ، روى أن معاوية رضي اللّه عنه قرأ حامية ، وعنده ابن عباس ، فقال ابن عباس : حمئة ، فقال معاوية لعبد اللّه بن عمرو بن العاص : كيف تقرأ؟ قال : كما يقرأ أمير المؤمنين ، ثم وجه إلى كعب الأحبار كيف تجد الشمس تغرب؟ قال : فى ماء وطين ، كذا نجده فى التوراة ، فوافق قول ابن عباس رضي اللّه عنه.
وليس بينهما تناف ، لجواز كون العين جامعة بين الوصفين ، وأما رجوع معاوية إلى قول ابن عباس بما سمعه من كعب الأحبار ، مع أن قراءته أيضا متواترة ، فلكون قراءة ابن عباس قطعية فى مدلولها ، وقراءته محتملة ، ولعله لمّا بلغ ساحل البحر المحيط رآها كذلك ، إذ ليس فى مطمح نظره غير الماء ، كما يلوح به قوله تعالى : وَجَدَها تَغْرُبُ ، ولم يقل : كانت تغرب فإن الشمس فى السماء لا تغرب فى الأرض.
وَوَجَدَ عِنْدَها أي : تلك العين قَوْماً قيل : كان لباسهم جلود الوحش ، وطعامهم ما لفظه البحر ، وكانوا كفارا ، فخيّره اللّه تعالى بين أن يعذبهم بالقتل ، وأن يدعوهم إلى الإيمان ، فقال : قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ بالقتل من أول الأمر ، وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً أمرا ذا حسن ، وذلك بالدعوة إلى الإسلام والإرشاد إلى الشرائع ، واستدل بهذا على نبوته ، ومن لم يقل بها قال : كان بواسطة نبى كان معه فى ذلك العصر ، أو إلهاما ، بعد أن كان التخيير موافقا لشريعة ذلك النبي ، قالَ ذو القرنين ، لمن كان عنده : مختارا للشق الأخير ، وهو الدعاء إلى الإسلام : أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فى نفسه ، وأصرّ على الكفران ، ولم يقبل الإيمان فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ بالقتل. وعن قتادة : أنه كان يطبخ من كفر فى القدور «1» ، ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ فى الآخرة نُعَذِّبُهُ فيها عَذاباً نُكْراً منكرا فظيعا ، لم يعهد مثله ، وهو عذاب النار. وفيه دلالة ظاهرة على أن الخطاب لم يكن بطريق الوحى إليه ، أي : حيث لم يقل : «ثم يرد إليك» ، وأن مقاولته كانت مع النبي ، أو مع من عنده من أهل مشورته.
وَأَمَّا مَنْ آمَنَ بموجب دعوته وَعَمِلَ عملا صالِحاً حسبما يقتضيه الإيمان فَلَهُ فى الدارين جَزاءً الْحُسْنى «2» ، أي : المثوبة الحسنى ، أو الفعلة الحسنى جزاء ، على قراءة النصب ، على أنه مصدر مؤكد للجملة ، قدّم عليه المبتدأ اعتناء ، أو حال ، أو تمييز. وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا أي : مما نأمر به يُسْراً : سهلا ميسرا ، غير شاق عليه. واللّه تعالى أعلم.
___________
(1) لا يصح نسبة هذا - إطلاقا - لذى القرنين - رحمه اللّه.
(2) قرأ حفص وحمزة والكسائي وخلف ويعقوب : «جزاء» بفتح الهمزة منونة ، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر : بالرفع من غير تنوين ، على الابتداء ، والخبر : الظرف قبله ، والحسنى مضاف إليها ... انظر : شرح الهداية (2/ 402) ، والإتحاف (2/ 224).(3/302)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 303
الإشارة : ذو القرنين لمّا أقبل بكليته على مولاه ، ودعا إلى اللّه ، ونصح للّه ، مكّنه اللّه تعالى من الأرض ، ويسر له أموره ، حتى قطع مشارقها ومغاربها ، وكذلك من انقطع إلى اللّه ، ورفع همته إلى مولاه ، وأرشد الخلق إلى اللّه ، تكون همته قاطعة ، يقول للشىء كن فيكون ، بقدرة اللّه وقدره. وسخر له الكون بأسره ، يكون عند أمره ونهيه «أنت مع الأكوان مالم تشهد المكون ، فإذا شهدته كانت الأكوان معك» ، يقول اللّه تعالى ، فى بعض كلامه : «يا عبدى كن لى كما أريد ، أكن لك كما تريد».
قال القشيري : ذو القرنين مكّن له فى الأرض جهرا ، فكانت تطوى له إذا قطع أحوازها ، وسهل له أن يندرج فى مشارقها ومغاربها ، ويحظر أقطارها ومناكبها ، ومن كان فى محل الإعانة من الأولياء فالحق سبحانه يمكنه فى المملكة ، ليحصل عند همته ما أراد من حصول طعام أو شراب ، أو غيره من قطع مسافة ، أو استتار عن أبصار ، وتصديق مأمول ، وتحقيق سؤال ، وإجابة دعاء ، وكشف بلاء ، وفوق ذلك تمكينه من تحقيق همه له فى أمره ، ثم فوق ذلك فى التمكين فى أن يحضر بهمتهم قوما بما شاءوا ، ويمنع قوما عما شاءوا ، فلهم من الحق تحقيق أمل ، إذا تصرفوا فى المملكة بإرادات فى سوانح وحادثات ، وفوق هذا التمكين فى المملكة إيصال قوم إلى منازل ومحالّ ، فاللّه يحقق فيهم همتهم. ه. قلت : وفوق ذلك كله تمكينهم من شهود ذاته ، فى كل وقت وحين ، حتى لو طلبوا الحجاب لم يجابوا ، ولو كلفوا أن يروا غيره لم يستطيعوا ، وهؤلاء هم الذين لهم التمكين فى الإيصال إلى منازل السائرين ومحالّ الواصلين. واللّه تعالى أعلم.
ثم ذكر سير ذى القرنين إلى جهة المشرق ، فقال :
[سورة الكهف (18) : الآيات 89 الى 91]
ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (89) حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً (90) كَذلِكَ وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً (91)
قلت : مَطْلِعَ فيه لغتان : الكسر والفتح ، وكَذلِكَ : خبر عن مضمر ، أي : أمر ذى القرنين كما وصفنا لك ، أو صفة مصدر محذوف لوجد ، أو نَجْعَلْ أي : وجدا أو جعلا كذلك ، أو صفة لقوم ، أي : على قوم مثل ذلك القبيل ، الذي تغرب عليهم الشمس فى الكفر والحكم ، أو صفة لستر ، أي : سترا مثل ستركم.
يقول الحق جل جلاله : ثُمَّ أَتْبَعَ ذو القرنين سَبَباً : طريقا راجعا من مغرب الشمس ، موصلا إلى مشرقها ، حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ أي : الموضع الذي تطلع عليه الشمس أولا من معمورة الأرض ، قيل :
بلغه فى اثنتي عشرة سنة ، وقيل : فى أقل من ذلك.(3/303)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 304
وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ عراة لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً من اللباس والبنيان ، قيل : هم الزنج ، وفى اللباب : قيل : إنهم بنو كليب ، وقيل : إن بنى كليب طائفة منهم ، وهم قوم بآخر صين الصين ، على صور بنى آدم ، إلّا أنهم لهم أذناب كأذناب الكلاب ، ووجوه كوجوه الكلاب ، وأكثر قوتهم الحوت ، ومن مات منهم أكلوه ، وملأوا موضع دماغه مسكا وعنبرا ، وحبسوه عندهم تبركا بآبائهم وأبنائهم. ثم قال : وليس لهم لباس إلا الجلود على عورتهم. ه.
وعن كعب : أن أرضهم لا تمسك الأبنية ، وبها أسراب ، فإذا طلعت الشمس دخلوا الأسراب أو البحر ، فإذا ارتفع النهار خرجوا إلى معايشهم ، يتراعون فيها كما ترعى البهائم. قال رجل من سمرقند : خرجت حتى جاوزت الصين ، فقالوا لى : بينك وبينهم مسيرة يوم وليلة ، فاستأجرت رجلا حتى بلغتهم ، فإذا أحدهم يفرش أذنه ، ويلبس الأخرى ، وكان صاحبى يحسن لسانهم ، فسألهم فقالوا : جئتنا تنظر كيف تطلع الشمس. قال : فبينما نحن كذلك إذ سمعنا كهيئة الصلصلة ، فغشى علىّ ، ثم أفقت وهم يمسحوننى بالدهن ، فلما طلعت الشمس على الماء ، إذا هى فوق الماء كهيئة الزيت ، فأدخلونا سربا لهم ، فلما ارتفع النهار خرجوا إلى البحر يصطادون السمك فيطرحونه فى الشمس فينضج «1». ه. وعن مجاهد : من لا يلبس الثياب من السودان عند مطلع الشمس أكثر من جميع أهل الأرض. ه.
وقوله تعالى : كَذلِكَ أي : أمر ذى القرنين كما وصفنا ، فى رفعة المحل وبسط الملك ، أو أمره فيهم كأمره فى أهل مغرب الشمس ، من التخيير والاختيار ، أو وجد قوما عند مطلع الشمس كذلك ، وحكم فيهم ، بحكم أولئك.
أو : (لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ) سترا مثل ستركم من اللباس والأكنان والجبال. قال الحسن : كانت أرضهم لا جبل فيها ولا شجر ، ولا تحمل البناء ، فإذا طلعت الشمس هربوا إلى البحر. ه. قال تعالى : وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ من الأسباب والعدد ، وما صدر عنه وما لاقاه خُبْراً : علما تعلق بظواهره وخفايا أمره ، يعنى : أن ذلك بلغ من الكثرة بحيث لا يحيط به إلا علم اللطيف الخبير.
الإشارة : كان ذو القرنين فى الظاهر يلتمس مطلع الشمس الحسية ، وفى الباطن يلتمس مطلع الشمس المعنوية ، وهى شمس القلوب ، التي تكشف أستار الغيوب ، ثم أتبع سببا يوصل إلى شمس العيان ، فوجدها تطلع على قلوب أهل العرفان ، لم يجعل لهم من دونها سترا على الدوام ، لما أتحفهم به من غاية الوصال والإكرام ، حتى قال قائلهم :
لو حجب عنى الحق تعالى طرفة عين ما أعددت نفسى من المسلمين ، وكذلك رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، أو تقول : وجدها تطلع على أهل التجريد ، الخائضين فى بحار التوحيد ، وأسرار التفريد ، وفيهم قال المجذوب رضي اللّه عنه :
أقارئين علم التّوحيد هنا البحور إلىّ تنبى
هذا مقام أهل التّجريد الواقفين مع ربّى
___________
(1) قال الآلوسى معقبا : (و أنت تعلم أن مثل هذه الحكايات لا ينبغى أن يلتفت إليها ويعول عليها ، وما هى إلا أخبار عن هيان بن بيان ، تحكيها العجائز لصغار الصبيان). انظر روح المعاني (16/ 36).(3/304)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 305
قد تجردوا من لباس الزينة والافتخار ، ولبسوا لباس المسكنة والافتقار ، فعوضهم اللّه تعالى فى قلوبهم لباس الغنى والعز والاقتدار ، صبروا قليلا ، واستراحوا زمنا طويلا ، تذللوا قليلا ، وعزّوا عزا طويلا ، جعلنا اللّه منهم بمنّه وكرمه.
ثم أخذ ذو القرنين من الجنوب إلى الشمال ، كما قال تعالى :
[سورة الكهف (18) : الآيات 92 الى 101]
ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (92) حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِما قَوْماً لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً (93) قالُوا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94) قالَ ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً (95) آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذا جَعَلَهُ ناراً قالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً (96)
فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً (97) قالَ هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (98) وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً (99) وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكافِرِينَ عَرْضاً (100) الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً (101)
. قلت : بَيْنَ السَّدَّيْنِ : مفعول ، لا ظرف لأنه يستعمل متصرفا.
يقول الحق جل جلاله : ثُمَّ أَتْبَعَ ذو القرنين سَبَباً : طريقا ثالثا بين المشرق والمغرب ، سالكا من الجنوب إلى الشمال ، حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ : بين الجبلين ، اللذين سدّ ما بينهما ، وهو منقطع أرض الترك ، مما يلى المشرق ، لا جبال أرمينية وأذربيجان ، كما توهم ، وفيه لغتان : الضم والفتح ، وقيل : ما كان من فعل اللّه فهو مضموم ، وما كان من عمل الخلق فهو مفتوح. وَجَدَ مِنْ دُونِهِما أي : من ورائهما : مما يلى بر الترك ، قَوْماً : أمة من الناس لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ : يفهمون قَوْلًا لغرابة لغتهم ، وقلة فطنتهم ، وقرئ بالضم رباعيا ، أي : لا يفصحون بكلامهم ، واختلف فيهم ، قيل : هم جيل من الترك قال السدى : الترك سربة من يأجوج ومأجوج ، خرجت ، فضرب ذو القرنين السد ، فبقيت خارجة. قلت : ولعلهم طلبوا منه ذلك ، حين اعتزلوا قومهم ، ثم قال : فجميع الترك منهم. وعن قتادة : أنهم ، - أي : يأجوج ومأجوج - اثنتان وعشرون قبيلة ، (3/305)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 306
سد ذو القرنين على إحدى وعشرين ، وبقيت واحدة ، فسموا الترك لأنهم تركوا خارجين. قال أهل التاريخ : أولاد نوح عليه السّلام ثلاثة : سام وحام ويافث ، فسام أبو العرب والعجم والروم ، وحام أبو الحبشة والزنج والنوبة ، ويافث أبو الترك والخرز والصقالبة ويأجوج ومأجوج. ه.
وقرئ بالهمز فيهما لأنه من أجيج النار ، أي : ضوؤها وشررها ، شبهوا به فى كثرتهم وشدتهم ، وهو غير منصرف للعجمة والعلمية.
قالُوا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ ، إما أن يكون قالوه بواسطة ترجمان ، أو يكون فهم كلامهم ، فيكون من جملة ما آتاه اللّه تعالى من الأسباب ، فقالوا له : إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ «1» ، قد تقدم أنهم من أولاد يافث. وما يقال : إنهم من نطفة احتلام آدم لم يصح ، واختلف فى صفاتهم ، فقيل : فى غاية صغر الجثة وقصر القامة ، لا يزيد قدمهم على شبر ، وقيل : فى نهاية عظم الجسم وطول القامة ، تبلغ قدودهم نحو مائة وعشرين ذراعا ، وفيهم من عرضه كذلك.
قال عبد اللّه بن مسعود : سألت النبي صلى اللّه عليه وسلم عن يأجوج ومأجوج ، فقال : «هم أمم ، كل أمة أربع مائة ألف ، لا يموت الرجل منهم حتى ينظر إلى ألف ذكر من صلبه ، كلهم قد حمل السلاح» ، قيل : يا رسول اللّه صفهم لنا ، قال : «هم ثلاثة أصناف : صنف منهم أمثال الأرز - وهو شجر بالشام طول الشجرة عشرون ومائة ذراع - وصنف عرضه وطوله سواء ، عشرون ومائة ذراع ، وصنف يفرش أذنه ويلتحف بالأخرى ، لا يمرون بفيل ولا وحش ولا خنزير إلا أكلوه ، ومن مات منهم أكلوه ، مقدّمتهم بالشام ، وساقتهم بخراسان ، يشربون أنهار المشرق ، وبحيرة طبرية». «2».
فقالوا له : إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أي : فى أرضنا ، بالقتل ، والتخريب ، وإتلاف الزرع ، قيل : كانوا يخرجون أيام الربيع ، فلا يتركون أخضر إلا أكلوه ، ولا يابسا إلا احتملوه ، وكانوا يأكلون الناس أيضا.
فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً أي : جعلا من أموالنا عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا بالفتح وبالضم ، أي :
حاجزا يمنعهم منا؟
قالَ ما مَكَّنِّي - بالفك وبالإدغام - أي : ما مكننى فِيهِ رَبِّي ، وجعلنى فيه مكينا قادرا من الملك والمال وسائر الأسباب ، خَيْرٌ من جعلكم ، فلا حاجة لى به ، فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ الأبدان وعمل الأيدى ، كصنّاع يحسنون البناء والعمل ، وبآلات لا بد منها فى البناء ، أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً أي : حاجزا حصينا ، وبرزخا مكينا ، وهو أكبر من السد وأوثق ، يقال : ثوب مردم إذا كان ذا رقاع فوق رقاع ، وهذا إسعاف لهم فوق ما يرجون.
___________
(1) هذه قراءة الجماعة (بدون همز) ، وقرأ عاصم بالهمز .. انظر إتحاف فضلاء البشر (2/ 225).
(2) عزاه السيوطي فى الدر (4/ 450) لابن أبى حاتم ، وابن مردويه وابن عدى ، وابن عساكر ، وابن النجار ، وفيه أن السائل هو حذيفة.(3/306)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 307
آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ : جمع زبرة ، وهى القطعة الكبيرة ، وهذا لا ينافى رد خراجهم لأن المأمور الإيتاء بالثمن أو المناولة ، كما ينبئ عنه قراءة : «ائتوني» بوصل الهمزة ، أي : جيئونى بزبر الحديد ، على حذف الباء ، ولأن إيتاء الآلة من قبيل الإعانة بالقوة ، دون الخراج على العمل.
قال القشيري : استعان بهم فى الذي احتاج إليه منهم ، ولم يأخذ منهم عمالة لما رأى أن من الواجب عليه حق الحماية على حسب المكنة. ه.
ولعل تخصيص الأمر بالإتيان بها دون سائر الآلات من الفحم والحطب وغيرهما لأن الحاجة إليها أمس لأنها الركن فى السد ، ووجودها أعز. قيل : حفر الأساس حتى بلغ الماء ، وجعل الأساس من الصخر والنحاس المذاب ، والبنيان من زبر الحديد ، وجعل بينهما الفحم والحطب ، حتى سد ما بين الجبلين إلى أعلاهما ، وكان بينهما مائة فرسخ ، وذلك قوله تعالى : حَتَّى إِذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ ، وقرئ بضمهما «1» ، أي : مازال يبنى شيئا فشيئا حتى إذا جعل ما بين ناصيتى الجبلين من البنيان مساويا لهما فى السّمك. قيل : كان ارتفاعه : مائتى ذراع ، وعرضه : خمسون ذراعا. وقرئ (سوّى) بالتشديد ، من التسوية.
فلما سوّى بين الجبلين بالبناء ، قالَ للعملة : انْفُخُوا النيران فى الحديد المبنى ، ففعلوا حَتَّى إِذا جَعَلَهُ أي : المنفوخ فيه ناراً أي : كالنار فى الحرارة والهيئة. وإسناد الجعل إلى ذى القرنين ، مع أنه من فعل العملة للتنبيه على أنه العمدة فى ذلك ، وهم بمنزلة الآلة. قالَ للذين يتولون أمر النحاس من الإذابة وغيرها :
آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً أي : آتوني نحاسا مذابا أفرغه عليه ، وإسناد الإفراغ إلى نفسه ، لما تقدم.
فَمَا اسْطاعُوا أي : استطاعوا أَنْ يَظْهَرُوهُ أي : يعلوه بالصعود لارتفاعه ، والفاء فصيحة ، أي : ففعلوا ما أمرهم به من إيتاء القطر ، فأفرغوه عليه ، فاختلط والتصق بعضه ببعض ، فصار جبلا صلدا ، فجاء يأجوج ومأجوج فقصدوا أن يعلوه أو ينتقبوه فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ لارتفاعه وملاسته ، وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً لصلابته ، وهذه معجزة له لأن تلك الزبر الكبيرة إذا أثرت فيها حرارة النار لا يقدر أحد أن يجول حولها ، فضلا عن إفراغ القطر عليها ، فكأنه تعالى صرف النار عن أبدان المباشرين للأعمال. واللّه على كل شىء قدير.
قالَ ذو القرنين ، لمن عنده من أهل تلك الديار وغيرهم : هذا أي : السد ، أو تمكينه منه ، رَحْمَةٌ عظيمة مِنْ رَبِّي على كافة العباد ، لا سيما على مجاوريه ، وفيه إيذان بأنه ليس من قبيل الآثار الحاصلة بمباشرة الخلق ، بل هو إحسان إلهى محض ، وإن ظهر بمباشرتى. والتعرض لوصف الربوبية لتربية معنى الرحمة.
___________
(1) أي : الصاد والدال فى «الصدفين». وهى قراءة ابن كثير ، وأبى عمرو ، وابن عامر ، ويعقوب. وقرأ أبو بكر : بضم الصاد وإسكان الدال ، وقرأ الباقون بفتحهما .. انظر الإتحاف (2/ 227).(3/307)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 308
فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي : وقت وعده بخروج يأجوج ومأجوج ، أو بقيام الساعة بأن شارف قيامها ، جَعَلَهُ أي : السد المذكور ، مع متانته ورصانته ، دَكَّاءَ : مدكوكا مبسوطا مستويا بالأرض ، وفيه بيان عظمة قدرته تعالى ، بعد بيان سعة رحمته ، وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا : كائنا لا محالة.
روى عنه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال : «إنّ يأجوج ومأجوج يحفرون السد ، حتّى إذا كادوا يرون شعاع الشّمس ، قال الّذى عليهم : ارجعوا فستحفرونه غدا ، فيعيده اللّه كأشدّ ما كان ، حتّى إذا بلغت مدّتهم ، حفروا ، حتّى إذا كادوا يرون شعاع الشّمس ، قال الذي عليهم : ارجعوا فستحفرونه غدا إن شاء اللّه ، فيعودون إليه ، وهو على هيئته كما تركوه ، فيحفرونه فيخرجون على النّاس» «1». وسيأتى فى الأنبياء تمام قصة خروجهم ، إن شاء اللّه ، وهذا آخر كلام ذى القرنين.
قال تعالى : وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ : يوم مجىء الوعد ، ويخرجون ، يَمُوجُ فِي بَعْضٍ يزدحمون فى البلاد ، أو : يموج بعض الخلق فى بعض ، فيضطربون ويختلطون إنسهم وجنهم ، حيارى من شدة الهول. روى أنهم يأتون البحر فيشربونه ويأكلون دوابه ، ثم يأكلون الشجر وما ظفروا به ، ممن لم يتحصن منهم من الناس ، ولا يقدرون على دخول مكة والمدينة وبيت المقدس ، ثم يبعث اللّه عليهم مرضا فى رقابهم ، فيموتون مرة واحدة ، فيرسل اللّه طيرا فترميهم فى البحر ، ثم يرسل مطرا تغسل الأرض منهم ، ثم توضع فيها البركة ، وهذا بعد خروج الدجال ونزول عيسى عليه السّلام ، ثم تنقرض الدنيا ، كما قال تعالى :
وَنُفِخَ فِي الصُّورِ لقيام الساعة ، فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً ، وسكت الحق تعالى عن النفخة الأولى اكتفاء بذكرها فى موضع آخر ، أي : جمعنا الخلائق بعد ما تفرقت أوصالهم ، وتمزقت أجسادهم ، فى صعيد واحد للحساب والجزاء ، جمعا عجيبا لا يكتنه كنهه ، وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ أظهرناها وأبرزناها يَوْمَئِذٍ أي : يوم إذ جمعنا الخلائق كافة ، لِلْكافِرِينَ منهم ، بحيث يرونها ويسمعون لها تغيظا وزفيرا ، عَرْضاً فظيعا هائلا لا يقدر قدره ، وخص العرض بهم ، وإن كان بمرأى من أهل الموقف قاطبة لأن ذلك لأجلهم.
ثم ذكر وصفهم بقوله : الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ وهم فى الدنيا فِي غِطاءٍ كثيف وغشاوة غليظة عَنْ ذِكْرِي : عن سماع القرآن وتدبره ، أو : عن ذكرى بالتوحيد والتمجيد ، أو كانت أعين بصائرهم فى غطاء عن ذكرى على وجه يليق بشأنى ، وَكانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً أي : وكانوا مع ذلك لفرط تصاممهم عن الحق وكمال عداوتهم للرسول صلى اللّه عليه وسلم ، لا يستطيعون استماعا منه لذكرى وكلامى ، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، وهذا تمثيل لإعراضهم عن الأدلة السمعية ، كما أن الأول تصوير لتعاميهم عن الآيات المشاهدة بالأبصار.
___________
(1) أخرجه بنحوه ، مطولا ، أحمد فى المسند (2/ 510) ، والترمذي فى (التفسير) ، وابن ماجة فى (الفتن ، باب فتنة الرجال) ، من حديث أبى هريرة رضي اللّه عنه.(3/308)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 309
الإشارة : السياحة فى أقطار الأرض مطلوبة عند الصوفية فى بداية المريد ، أقلها سبع سنين ، وقال شيخ شيوخنا سيدى على الجمل رضي اللّه عنه : أقلها أربع عشرة سنة. وفيها فوائد ، منها : زيارة الإخوان ، والمذاكرة معهم ، وهى ركن فى الطريق ، ومنها : نفع عباد اللّه ، إن كان أهلا لتذكيرهم ، (فلأن يهدى اللّه به رجلا واحدا خير له مما طلعت عليه الشمس). ومنها : تأسيس باطنه وتشحيذ معرفته ، ففى كل يوم يلقى تجليا جديدا ، وتلوينا غريبا ، يحتاج معه إلى معرفة كبيرة وصبر جديد ، فالمريد كالماء ، إذا طال مكثه فى مكانه أنتن وتغيّر ، وإذا جرى عذب وصفي. ومنها :
أنه قد يلقى فى سياحته من يربح منه ، أو يزيد به إلى ربه.
روى أن ذا القرنين بينما هو يسير فى سياحته إذ رفع إلى أمة صالحة ، يهدون بالحق وبه يعدلون ، يقسمون بالسوية ، ويحكمون بالعدل ، وقبورهم بأبواب بيوتهم ، وليست لبيوتهم أبواب ، وليس عليهم أمراء ، وليس بينهم قضاة ، ولا يختلفون ولا يتنازعون ، ولا يقتتلون ، ولا يضحكون ولا يحزنون ، ولا تصيبهم الآفات التي تصيب الناس ، أطول الناس أعمارا ، وليس فيهم مسكين ولا فظ ولا غليظ ، فعجب منهم ، وقال : خبّرونى بأمركم ، فلم أر فى مشارق الأرض ومغاربها مثلكم ، فما بال قبوركم على أبواب بيوتكم؟ قالوا : لئلا ننسى الموت ليمنعنا ذلك من طلب الدنيا ، قال : فما بال بيوتكم لا أبواب لها؟ قالوا : ليس فيها متهم ، ولا فينا إلا أمين مؤتمن. قال : فما بالكم ليس فيكم حكّام؟ قالوا : لا نختصم ، قال : فما بالكم ليس فيكم أغنياء؟ قالوا : لا نتكاثر. قال : فما بالكم ليس فيكم ملوك؟
قالوا : لا نفتخر ، قال : فما بالكم لا تتنازعون ولا تختلفون؟ قالوا : من ألفة قلوبنا وصلاح ذات بيننا ، قال : فما بال طريقتكم واحدة وكلمتكم مستقيمة؟ قالوا : من أجل أننا لا نتكاذب ، ولا نتخادع ، ولا يغتاب بعضنا بعضا. قال :
أخبرونى من أين تشابهت قلوبكم واعتدلت سيرتكم؟ قالوا : صلحت صدورنا فنزع منها الغل والحسد ، قال : فما بالكم ليس فيكم فقير ولا مسكين؟ قالوا : من قبل أنّا نقسم بيننا بالسوية. قال : فما بالكم ليس فيكم فظ ولا غليظ؟ قالوا : من قبل الذلة والتواضع ، قال : فما جعلكم أطول الناس أعمارا؟ قالوا : من قبل أنّا لا نتعاطى إلا الحق ونحكم بالسوية.
قال : فما بالكم لا تضحكون؟ قالوا : لا نغفل عن الاستغفار. قال : فما بالكم لا تحزنون؟ قالوا : من قبل أنّا وطّنّا أنفسنا للبلاء. فقال : فما بالكم لا تصيبكم الآفات كما تصيب الناس؟ قالوا : لأنا لا نتوكل على غير اللّه ، قال : هل وجدتم آباءكم هكذا؟ قالوا : نعم ، وجدنا آباءنا يرحمون مساكينهم ، ويواسون فقراءهم ، ويعفون عمن ظلمهم ، ويحسنون إلى من أساء إليهم ، ويحلمون عمن جهل عليهم ، ويصلون أرحامهم ، ويؤدون أمانتهم ، ويحفظون وقت صلاتهم ، ويوفون بعهدهم ، ويصدقون فى مواعدهم ، فأصلح اللّه تعالى بذلك أمرهم وحفظهم ، ما كانوا أحياء ، وكان حقا علينا أن نخلفهم فى تركتهم. فقال ذو القرنين : لو كنت مقيما لأقمت فيكم ، ولكن لم أومر بالمقام. ه. ذكره الثعلبي.(3/309)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 310
وقال فى القوت : قوله تعالى ، فى صفة أعدائه المحجوبين : كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي : دليل الخطاب فى تدبر معناه أن أولياءه المستجيبين له سامعون منه مكاشفون بذكره ، ناظرون إلى غيبه ، قال تعالى فى ضده : ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ «1» ، وقال : مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ ... «2» الآية. ه.
وسبب غطاء القلوب عن الاستماع والاستبصار هو اتباع الهوى ومحبة غير المولى ، فلذلك أنكره الحق تعالى على الكفار بقوله :
[سورة الكهف (18) : آية 102]
أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي مِنْ دُونِي أَوْلِياءَ إِنَّا أَعْتَدْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ نُزُلاً (102)
قلت : أَنْ يَتَّخِذُوا : سد مسد المفعولين ، أو حذف الثاني ، أي : أحسبوا اتخاذهم نافعهم ونُزُلًا : حال من جهنم.
يقول الحق جل جلاله منكرا على الكفار المتقدمين : أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا حين أعرضوا عن ذكرى ، وكانت أعينهم فى غطاء عن رؤية دلائل توحيدى ، أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي كالملائكة والمسيح وعزير ، أو الشياطين لأنهم عباد ، مِنْ دُونِي أَوْلِياءَ أي : معبودين من دونى ، يوالونهم بالعبادة ، أن ذلك ينفعهم ، أو :
ألا نعذبهم على ذلك ، بل نعذبهم على ذلك ، إِنَّا أَعْتَدْنا يسّرنا وهيأنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ نُزُلًا أي : شيئا يتمتعون به أول ورودهم القيامة. والنزل : ما يقدم للنزيل أي : الضيف ، وعدل عن الإضمار ذما لهم على كفرهم ، وإشعارا بأن ذلك الاعتداد بسبب كفرهم ، وعبّر بالإعتاد تهكما بهم ، وتخطئة لهم ، حيث كان اتخاذهم أولياء من قبيل العتاد ، وإعداد الزاد ليوم المعاد ، فكأنه قيل : إنا أعتدنا لهم ، مكان ما أعدوا لأنفسهم من العدة والذّخر ، جهنم عدة لهم. وفى ذكر النزل : إيماء إلى أن لهم وراء جهنم من العذاب ما هو أنموذج له ، وتستحقر دونه ، وقيل :
النزل : موضع النزول ، أي : أعتدناها لهم منزلا يقيمون فيه. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : ما أحببت شيئا إلا وكنت له عبدا ، وهو لا يحب أن تكون لغيره عبدا ، فأفرد قلبك للّه ، وأخرج منه كلّ ما سواه ، فحينئذ تكون عبدا للّه ، حرا مما سواه ، فكل ما سوى اللّه باطل ، وظل آفل ، فكن إبراهيميا ، حيث قال :
لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ «3» ، فارفع أيها العبد همتك عن الخلق ، وعلقها بالملك الحق ، فلا تحب إلا اللّه ، ولا تطلب شيئا
___________
(1) من الآية 20 من سورة هود.
(2) الآية 24 من سورة هود.
(3) من الآية 76 من سورة الأنعام.(3/310)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 311
سواه ، كائنا ما كان ، من جنس الأشخاص ، أو من جنس الأحوال أو المقامات أو الكرامات لئلا تنخرط فى سلك من اتخذ من دون اللّه أولياء ، فتكون كاذبا فى العبودية.
روى عن الشيخ أبى الحسن الشاذلى رضي اللّه عنه أنه قال : قرأت الفاتحة ، فقلت : الحمد للّه رب العالمين. فقال لى الهاتف من قبل اللّه تعالى : صدقت ، فقلت : الرحمن الرحيم ، فقال : صدقت. فقلت : مالك يوم الدين ، فقال : صدقت.
فلما قلت : إياك نعبد ، قال كذبت لأنك تعبد الكرامات ، قال : ثم أدبنى ، وتبت لله تعالى. ذكره ابن الصباغ مطولا.
قلت : ولعله قبل ملاقاة الشيخ ، ولذلك عاتبه بقوله : يا أبا الحسن عوض ما تقول : «سخّر لى خلقك» ، قل : يا رب كن لى ، أرأيت إن كان لك أيفوتك شى ء؟ نفعنا الله بجميعهم.
وهذا الغلط يقع للمتوجهين ولغيرهم ، يظنون أنهم يحسنون صنعا ، وهم يسيئون ، كما قال تعالى :
[سورة الكهف (18) : الآيات 103 الى 106]
قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً (104) أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً (105) ذلِكَ جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِما كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آياتِي وَرُسُلِي هُزُواً (106)
. قلت : أَعْمالًا : تمييز ، وفِي الْحَياةِ : متعلق بسعيهم.
يقول الحق جل جلاله : قُلْ يا محمد : هَلْ نُنَبِّئُكُمْ يا معشر الكفرة بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا أي :
بالذين خسروا من جهة أعمالهم كصدقة ، وعتق ، وصلة رحم ، وإغاثة ملهوف ، حيث عملوها فى حال كفرهم فلم تقبل منهم ، وهم : الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ
أي : بطل بالكلية فِي الْحَياةِ الدُّنْيا أي : بطل ما سعوا فيه فى الحياة الدنيا وعملوه ، وَهُمْ يَحْسَبُونَ : يظنون أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً أي : يأتون بها على الوجه الأكمل ، وقد تركوا شرط صحتها وكمالها ، وهو الإيمان ، واختلف فى المراد بهم ، فقيل : مشركو العرب ، وقيل : أهل الكتابين ، ويدخل فى الأعمال ما عملوه فى الأحكام المنسوخة المتعلقة بالعبادات. وقيل : الرهبان الذين يحبسون أنفسهم فى الصوامع ويحملونها على الرياضات الشاقة.
والمختار : العموم فى كل من عمل عملا فاسدا ، يظن أنه صحيح من الكفرة ، بدليل قوله : أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ : بدلائل التوحيد ، عقلا ونقلا ، وَلِقائِهِ : البعث وما يتبعه من أمور الآخرة ، فَحَبِطَتْ لذلك أَعْمالُهُمْ المعهودة حبوطا كليا ، فَلا نُقِيمُ لَهُمْ أي : لأولئك الموصوفين بحبوط(3/311)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 312
الأعمال ، يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً أي : فنهينهم ، ولا نجعل لهم مقدارا واعتبارا لأن مدار التكريم : الأعمال الصالحة ، وقد حبطت بالمرة قال صلى اللّه عليه وسلم : «يؤتى بالرّجل السّمين العظيم يوم القيامة ، فلا يزن جناح بعوضة اقرأوا إن شئتم :
فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً «1». أو : لا نضع لأجل وزن أعمالهم ميزانا لأن الكفر أحبطها. أو : لا نقيم لهم وزنا نافعا. قال أبو سعيد الخدري رضي اللّه عنه : يأتى أناس بأعمالهم يوم القيامة ، هى عندهم فى العظم كجبال تهامة ، فإذا وزنوها لا تزن شيئا ، فذلك قوله : فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً.
ثم بيّن مآل كفرهم بعد أن بيّن مآل أعمالهم ، فقال : ذلِكَ الصنف الذين حبطت أعمالهم جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ ، أو الأمر ذلك ، ثم استأنف بقوله : جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِما كَفَرُوا أي : بسبب كفرهم المتضمن لسائر القبائح ، التي من جملتها ما تضمنه قوله : وَاتَّخَذُوا آياتِي الدالة على توحيدى أو كلامى ، أو معجزاتى ، وَرُسُلِي هُزُواً أي : مهزوا بهم ، فلم يقتنعوا بمجرد الكفر ، بل ارتكبوا ما هو أعظم ، وهو الاستهزاء بالآيات والرسل. عائذا بالله من ذلك.
الإشارة : كل آية فى الكفار تجر ذيلها على الغافلين ، فكل من قنع بدون عبادة فكرة الشهود والعيان ، ينسحب عليه من طريق الباطن أنه ضل سعيه ، وهو يحسب أنه يحسن صنعا ، فلا يقام له يوم القيامة وزن رفيع ، فتنسحب الآية على طوائف ، منها : من عبد اللّه لطلب المنزلة عند الناس ، وهذا عين الرياء روى عن عثمان أنه قال على المنبر : (الرياء سبعون بابا ، أهونها مثل نكاح الرجل أمه). ومنها : من عبد اللّه لطلب العوض والجزاء عند الخواصّ ، ومنها : من عبد اللّه لطلب الكرامات وظهور الآيات ، ومنها : من عبد اللّه بالجوارح الظاهرة ، وحجب عن الجوارح الباطنة ، وهى عبادة القلوب ، فإن الذرة منها تعدل أمثال الجبال من عبادة الجوارح ، ومنها : من وقف مع الاشتغال بعلم الرسوم ، وغفل عن علم القلوب ، وهو بطالة وغفلة عند المحققين ، ومنها : من قنع بعبادة القلوب ، كالتفكر والاعتبار ، وغفل عن عبادة الأسرار ، كفكرة الشهود والاستبصار ، والحاصل : أن كل من وقف دون الشهود والعيان فهو بطّال ، وإن كان لا يشعر ، وإنما ينكشف له هذا الأمر عند الموت وبعده ، وسيأتى عند قوله تعالى :
وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ «2» ، زيادة بيان على هذا إن شاء اللّه. فقد يكون الشيء عبادة عند قوم وبطالة عند آخرين حسنات الأبرار سيئات المقربين. ولا يفهم هذا إلا من ترقى عن عبادة الجوارح إلى عبادة القلوب والأسرار. وباللّه التوفيق.
___________
(1) أخرجه البخاري فى (تفسير سورة الكهف) ، ومسلم فى (صفات المنافقين وأحكامهم ، باب صفة القيامة والجنة والنار) ، عن أبى هريرة رضي اللّه عنه
(2) الآية 47 من سورة الزمر.(3/312)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 313
ثم ذكر ضد من تقدم من الكفرة ، فقال :
[سورة الكهف (18) : الآيات 107 الى 110]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً (107) خالِدِينَ فِيها لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلاً (108) قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً (109) قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً (110)
.
يقول الحق جل جلاله : إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا بآيات ربهم ولقائه ، وَعَمِلُوا الأعمال الصَّالِحاتِ ، كانَتْ لَهُمْ فيما سبق من حكم اللّه تعالى ووعده ، جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ ، وهى أعلى الجنان. وعن كعب : أنه ليس فى الجنة أعلى من جنة الفردوس ، وفيها الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر ، أي : أهل الوعظ والتذكير من العارفين. وعن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال : «فى الجنّة مائة درجة ، ما بين كل درجتين كما بين السّماء والأرض ، أعلاها الفردوس ، ومنها تفجّر أنهار الجنّة ، فوقها عرش الرحمن ، فإذا سألتم اللّه فسلوه الفردوس» «1».
وقال أيضا صلى اللّه عليه وسلم : «جنان الفردوس أربع : جنتان من فضّة ، أبنيتهما وآنيتهما ، وجنّتان من ذهب ، أبنيتهما وما فيهما ، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه» «2» ، وقال قتادة : الفردوس : ربوة الجنة. وقال أبو أمامة : هى سرة الجنة. وقال مجاهد : الفردوس : البستان بالرومية. وقال الضحاك : هى الجنة الملتفة الأشجار.
كانت لهم نُزُلًا أي : مقدمة لهم عند ورودهم عليه ، على حذف مضاف ، أي : كانت لهم ثمار جنة الفردوس نزلا ، أو جعلنا نفس الجنة نزلا مبالغة فى الإكرام ، وفيه إيذان بأن ما أعدّ اللّه لهم على ما نطق به الوحى على لسان النبوة بقوله : «أعددت لعبادى الصالحين ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر».
هو بمنزلة النزل بالنسبة إلى الضيافة وما بعدها ، وإن جعل النزل بمعنى المنزل فظاهر. خالِدِينَ فِيها لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلًا أي : لا يطلبون تحولا عنها إذ لا يتصور أن يكون شىء أعز عندهم ، وأرفع منها ، حتى تنزع إليه أنفسهم ، أو تطمح نحوه أبصارهم. ونعيمهم مجدد بتجدد أنفاسهم ، لا نفاد له ولا نهاية لأنه مكون بكلمة «كن» ، وهى لا تتناهى.
___________
(1) أخرجه ، بنحوه ، البخاري فى (كتاب التوحيد ، باب : وكان عرشه على الماء) من حديث أبى هريرة رضي اللّه عنه. [.....]
(2) أخرجه البخاري فى (تفسير سورة الرحمن ، باب ومن دونهما جنتان) ، ومسلم فى (الإيمان ، باب إثبات رؤية المؤمنين فى الآخرة ربهم سبحانه وتعالى) ، من حديث عبد الله بن قيس.(3/313)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 314
قال تعالى : قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ أي : جنس البحر مِداداً ، وهو ما تمد به الدواة من الحبر ، لِكَلِماتِ رَبِّي وهى ما يقوله سبحانه لأهل الجنة ، من اللطف والإكرام ، مما لا تكيفه الأوهام ، ولا تحيط به الأفكار ، فلو كانت البحار مدادا والأشجار أقلاما لنفدت ، ولم يبق منها شىء ، قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي لأن البحار متناهية ، وكلمات اللّه غير متناهية. ثم أكده بقوله : وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً أي : لنفد البحر من غير نفاد كلماته تعالى ، هذا لو لم يجئ بمثله مددا ، بل ولو جئنا بمثله مَدَداً عونا وزيادة لأن ما دخل عالم التكوين كله متناه.
قُلْ لهم : إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يتناهى كلامى ، وينقضى أجلى ، وإنما خصصت عنكم بالوحى والرسالة يُوحى إِلَيَّ من تلك الكلمات : أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا شريك له فى الخلق ، ولا فى سائر أحكام الألوهية ، فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ : يتوقعه وينتظره ، أو يخافه ، فالرجاء : توقع وصول الخير فى المستقبل ، فمن جعل الرجاء على بابه ، فالمعنى : يرجو حسن لقاء ربه وأن يلقاه لقاء رضى وقبول. ومن حمله على معنى الخوف ، فالمعنى : يخاف سوء لقائه. قال القشيري : حمله على ظاهره أولى لأن المؤمنين قاطبة يرجون لقاء اللّه ، فالعارفون باللّه يرجون لقاءه والنظر إليه ، والمؤمنون يرجون لقاءه وكرامته بالنعيم المقيم. ه بالمعنى.
والتعبير بالمضارع فى (يَرْجُوا) للدلالة على أن اللائق بحال المؤمنين : الاستمرار والاستدامة على رجاء اللقاء ، أي : فمن استمر على رجاء لقاء كرامة اللّه ورضوانه فَلْيَعْمَلْ لتحصيل تلك الطلبة العزيزة عَمَلًا صالِحاً ، وهو الذي توفرت شروط صحته وقبوله ، ومدارها على الإتقان ظاهرا ، والإخلاص باطنا. وقال سهل :
العمل الصالح : المقيد بالسنّة ، وقيل : هو اعتقاد جواز الرؤية وانتظار وقتها. وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً إشراكا جليا ، كما فعل الذين ضلّ سعيهم فى الحياة الدنيا حيث كفروا بآيات ربهم ولقائه ، أو إشراكا خفيا ، كما يفعله أهل الرياء ، ومن يطلب به عوضا أو ثناء حسنا.
قال شهر بن حوشب : جاء رجل إلى عبادة بن الصامت ، فقال : أرأيت رجلا يصلى يبتغى وجه اللّه ، ويحب أن يحمد عليه ، ويتصدق يبتغى وجه اللّه ويحب أن يحمد عليه ، ويحج كذلك؟ قال عبادة : ليس له شىء ، إن اللّه تعالى يقول : «أنا خير شريك ، فمن كان له شريك فهو له». وروى أن جندب بن زهير قال لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : إنّى لأعمل العمل للّه تعالى ، فإذا اطّلع عليه سرّنى ، فقال له عليه الصلاة والسلام : «لك أجران : أجر السّرّ ، وأجر العلانية» «1»
___________
(1) أخرجه الترمذي فى (الزهد ، باب عمل السر) ، وابن ماجة فى (الزهد ، باب الثناء الحسن) ، عن أبى هريرة بدون ذكر جندب ابن زهير.(3/314)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 315
وذلك إذا قصد أن يقتدى به ، وكان مخلصا فى عمله. وعنه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال : «اتقوا الشرك الأصغر ، قالوا : وما الشرك الأصغر؟ قال : الرياء» «1».
وقال صلى اللّه عليه وسلم - لما نزلت هذه الآية - : «إن أخوف ما أخاف على أمتى الشرك الخفي ، وإياكم وشرك السرائر ، فإنّ الشرك أخفى فى أمتى من دبيب النمل على الصفا فى الليلة الظلماء» ، فشق ذلك على القوم ، فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم : «ألا أدلكم على ما يذهب اللّه عنكم صغير الشرك وكبيره؟ قالوا : بلى ، قال : قولوا : «اللهم إنى أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم ، وأستغفرك من كل ما لا أعلم».
وعنه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال : «من قرأ آخر سورة الكهف - يعنى : إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ... إلى آخره - كانت له نورا من قرنه إلى قدمه ، ومن قرأها كلّها كانت له نورا من الأرض إلى السّماء» «2». وعنه صلى اللّه عليه وسلم : «من قرأ عند مضجعه :
قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ ... إلخ ، كان له من مضجعه نورا يتلألأ إلى مكّة ، حشو ذلك النّور ملائكة يصلّون حتّى يقوم ، وإن كان بمكة كان له نورا إلى البيت المعمور». قلت : ومما جرّب أن من قرأ هذه الآية (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ...)
إلخ ، ونوى أن يقوم فى أي ساعة شاء ، فإن اللّه تعالى يوقظه بقدرته. وانظر الثعلبي.
الإشارة : إن الذين آمنوا إيمان الخصوص ، وعملوا عمل الخصوص - وهو العمل الذي يقرب إلى الحضرة - كانت لهم جنة المعارف نزلا ، خالدين فيها لا يبغون عنها حولا لأنّ من تمكن من المعرفة لا يعزل عنها ، بفضل اللّه وكرمه ، كما قال القائل :
مذ تجمّعت ما خشيت افتراقا فأنا اليوم واصل مجموع
ثم يترقون فى معاريج التوحيد ، وأسرار التفريد ، أبدا سرمدا ، لا نهاية لأن ترقيتهم بكلمة القدرة الأزلية ، وهى كلمة التكوين ، التي لا تنفد (قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي ...) الآية. هذا مع كون وصف البشرية لا يزول عنهم ، فلا يلزم من ثبوت الخصوصية عدم وصف البشرية. قل : إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلىّ وحي إلهام ، ويلقى فى روعى أنما إلهكم إله واحد ، لا ثانى له فى ذاته ولا فى أفعاله ، فمن كان يرجو لقاء ربه فى الدنيا لقاء الشهود والعيان ، ولقاء الوصول إلى صريح العرفان فليعمل عملا صالحا ، الذي لا حظ فيه للنفس عاجلا ولا آجلا ، ولا يشرك بعبادة ربه أحدا ، فلا يقصد بعبادته إلا تعظيم الربوبية ، والقيام بوظائف العبودية ، واللّه تعالى أعلم ، وصلى اللّه على سيدنا محمد وآله وسلم تسليما ، ولا حول ولا قوة إلا باللّه العلى العظيم «3».
___________
(1) أخرجه أحمد فى المسند (5/ 428) ، والبغوي فى شرح السنة (14/ 324).
(2) أخرجه أحمد فى المسند (3/ 439) ، وابن السنى فى عمل اليوم والليلة (باب ما يستحب أن يقرأ فى اليوم والليلة) من حديث معاذ. قال الحافظ ابن حجر : وفى إسناده ابن لهيعة.
(3) فى آخر نسخة د. حسن عباس : انتهى الجزء الثاني من تفسير القرآن المجيد ، للعلامة الأديب ، فريد عصره ، ووحيد دهره ، سيدى أحمد بن عجيبة الشريف ، غفر الله له ، ولكاتبه ، وللمسلمين أجمعين ، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما .. أمين.(3/315)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 316(3/316)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 317
سورة مريم
مكية - وهى ثمان وتسعون آية. والمقصود من السورة الرد على النصارى فى إشراكهم عيسى عليه السّلام لله تعالى فى ألوهيته ، فهى كالتتميم لقوله : وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً «1».
قال تعالى :
[سورة مريم (19) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
كهيعص (1)
قيل : هى مختصرة من أسماء الله تعالى ، فالكاف من كاف ، والهاء من هاد ، والياء من يمين ، والعين من عليم أو عزيز ، والصاد من صادق. قاله الهروي عن ابن جبير.
قال أبو الهيثم : جعل الياء من يمين ، من قولك : يمن الله الإنسان ييمنه يمنا فهو ميمون. ه. ولذا ورد الدعاء بها ، فقد روى عن علىّ - كرم الله وجهه - أنه كان يقول : (يا كهيعص أعوذ بك من الذنوب التي توجب النقم ، وأعوذ بك من الذنوب التي تغير النعم ، وأعوذ بك من الذنوب التي تهتك العصم ، وأعوذ بك من الذنوب التي تحبس غيث السماء ، وأعوذ بك من الذنوب التي تديل الأعداء ، انصرنا على من ظلمنا) «2». كان يقدم هذه الكلمات بين يدى كل شدة. فيحتمل أن يكون توسل بالأسماء المختصرة من هذه الحروف ، أو تكون الجملة ، عنده ، اسما واحدا من أسماء الله تعالى ، وقيل : هو اسم الله الأعظم. ويحتمل أن يشير بهذه الرموز إلى معاملته تعالى مع أحبائه ، فالكاف كفايته لهم ، والهاء هدايته إياهم إلى طريق الوصول إلى حضرته ، والياء يمنه وبركته عليهم وعلى من تعلق بهم ، والعين عنايته بهم فى سابق علمه ، والصاد صدقه فيما وعدهم به من الإتحاف والإكرام. والله تعالى أعلم.
وقيل : هى مختصرة من أسماء الرسول - عليه الصلاة والسلام - أي : يا كافى ، يا هادى ، يا ميمون ، يا عين العيون ، أنت صادق مصدق. وعن ماضى بن سلطان تلميذ أبى الحسن الشاذلى - رضى الله عنهما - : [أنه رأى فى منامه أنه اختلف مع بعض الفقهاء فى تفسير قوله : (كهيعص. حم. عسق) ، فقلت : هى أسرار بين الله تعالى وبين رسوله صلى اللّه عليه وسلم ، وكأنه قال : «كاف» أنت كهف الوجود ، الذي يؤم إليه كلّ موجود ، «ها» هبنا لك الملك ، وهيأنا لك الملكوت ، «يع» يا عين العيون ، «ص» صفات الله (من يطع الرسول فقد أطاع الله) ، «حاء» حببناك ، «ميم»
___________
(1) من الآية 110 من سورة الكهف.
(2) أخرجه بنحوه الإمام أحمد فى المسند (1/ 112).(3/317)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 318
ملّكناك ، «عين» علمناك ، «سين» ساررناك ، «قاف» قربناك. فنازعونى فى ذلك ولم يقبلوه ، فقلت : نسير إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم ليفصل بيننا ، فسرنا إليه ، فلقينا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فقال لنا : الذي قال محمد بن سلطان هو الحق ]. وكأنه يشير إلى أنها صفات أفعال.
قال تعالى :
[سورة مريم (19) : الآيات 2 الى 6]
ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2) إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا (3) قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4) وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (6)
قلت : (ذِكْرُ) : خبر عن مضمر ، أي : هذا ذكر ، والإشارة للمتلو فى هذه السورة لأنه باعتبار كونه على جناح الذكر فى حكم الحاضر الشاهد. وقيل : مبتدأ حذف خبره ، أي : فيما يتلى عليك ذكر رحمت ربك. وقيل : خبر عن (كهيعص) ، إذا قلنا هى اسم للسورة ، أي : المسمى بهذه الحروف ذكر رحمة ربك ، و(عَبْدَهُ) : مفعول لرحمة ربك ، على أنها مفعول لما أضيف إليها ، أو لذكر ، على أنه مصدر أضيف إلى فاعله على الاتساع. ومعنى ذكر الرحمة : بلوغها إليه ، و(زَكَرِيَّا) : بدل منه ، أو عطف بيان ، و(إِذْ نادى ) : ظرف لرحمة ، وقيل : لذكر ، على أنه مضاف إلى فاعله ، وقيل : بدل اشتمال من زكريا ، كما فى قوله : وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ ...
«1» ، و(مِنِّي) : حال من العظم ، أي : كائنا منى ، و(شَيْئاً) : تمييز.
يقول الحق جل جلاله : هذا الذي نتلوه عليك فى هذه السورة هو ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا.
قال الثعلبي : [فيه تقديم وتأخير]. أي : ذكر ربك عبده زكريا برحمته ، إِذْ نادى رَبَّهُ وهو فى محرابه فى طلب الولد نِداءً خَفِيًّا : سرا من قومه ، أو فى جوف الليل ، أو مخلصا فيه لم يطلع عليه إلا الله. ولقد راعى عليه السّلام حسن الأدب فى إخفاء دعائه ، فإنه أدخل فى الإخلاص وأبعد من الرياء ، وأقرب إلى الخلاص من كلام الناس ، حيث طلب الولد فى غير إبّانه ومن غائلة مواليه الذين كان يخافهم.
قالَ فى دعائه : رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي أي : ضعف بدني وذهبت قوتى. وإسناد الوهن إلى العظم لأنه عماد البدن ودعامة الجسد ، فإذا أصابه الضعف والرخاوة أصاب كله ، وإفراده للقصد إلى الجنس المنبئ عن شمول الوهن إلى كل فرد من أفراده. ووهن بدنه عليه السّلام : لكبر سنه ، قيل : كان ابن سبعين ، أو خمسا وسبعين ، وقيل :
مائة ، وقيل : أكثر.
___________
(1) الآية16 من السورة نفسها.(3/318)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 319
وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً أي : ابيضّ شمطا. شبه عليه السّلام الشيب من جهة البياض والإنارة بشواظ النار ، وانتشاره فى الشعر وفشوّه فيه وأخذه منه كل مأخذ باشتعالها ، ثم أخرجه مخرج الاستعارة ، ثم أسند الاشتعال إلى محل الشعر ومنبته وهو الرأس ، وأخرجه مخرج التمييز ، ففيه من فنون البلاغة وكمال الجزالة ما لا يخفى ، حيث كان الأصل : واشتعل شيب رأسى ، فأسند الاشتعال إلى الرأس لإفادة شموله لكلها ، فإن وزانه : اشتعل بيته نارا بالنسبة إلى اشتعلت النار فى بيته ، ولزيادة تقريره بالإجمال أولا ، والتفصيل ثانيا ، ولمزيد تفخيمه بالتكثير من جهة التنكير.
ثم قال : وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا أي : لم أكن بدعائى إياك خائبا فى وقت من أوقات هذا العمر الطويل ، بل كنت كلما دعوتك استجبت لى. توسل إلى اللّه بسابق حسن عوائده فيه ، لعله يشفع له ذلك بمثله ، إثر تمهيد ما يستدعى ويستجلب الرأفة من كبر السن وضعف الحال. والتعرض فى الموضعين لوصف الربوبية لتحريك سلسلة الإجابة بالمبالغة فى التضرع ، ولذلك قيل : من أراد أن يستجاب له فليدع الله بما يناسبه من أسمائه وصفاته.
ثم قال : وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ أي : الأقارب ، وهم : بنو عمه ، وكانوا أشرار بنى إسرائيل ، فخاف ألا يحسنوا خلافته فى أمته ، فسأل الله تعالى ولدا صالحا يأمنه على أمته. وقوله : مِنْ وَرائِي : متعلق بمحذوف ، أي :
جور الموالي ، أو مما فى الموالي من معنى الولاية ، أي : خفت أن يلوا الأمر من ورائي ، وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً : لا تلد من حين شبابها ، فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ أي : أعطنى من محض فضلك الواسع ، وقدرتك الباهرة ، بطريق الاختراع ، لا بواسطة الأسباب العادية لأن التعبير بلدنّ يدل على شدة الاتصال والالتصاق ، وَلِيًّا : ولدا من صلبى ، يليى الأمر من بعدي.
والفاء : لترتيب ما بعدها على ما قبلها ، فإن ما ذكره عليه السّلام من كبر السن وعقر المرأة موجب لانقطاع رجائه عن الولد بتوسط الأسباب ، فاستوهبه على الوجه الخارق للعادة ، ولا يقدح فى ذلك أن يكون هناك داع آخر إلى الإقبال على الدعاء المذكور ، من مشاهدته للخوارق الظاهرة عند مريم ، كما يعرب عنه قوله تعالى : هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ «1». وعدم ذكره هنا اكتفاء بما تقدم ، فإن الاكتفاء بما ذكر فى موطن عما ترك فى موطن آخر من النكتة التنزيلية. وقوله : يَرِثُنِي : صفة لوليّا ، وقرئ بالجزم هو وما عطف عليه جوابا للدعاء ، أي : يرثنى من حيث العلم والدين والنبوة ، فإن الأنبياء - عليهم السلام - لا يورثون من جهة المال. قال : صلى اللّه عليه وسلم «نحن معاشر الأنبياء لا نورث» «2». وقيل : يرثنى فى الحبورة ، وكان عليه السّلام حبرا.
___________
(1) من الآية 38 من سورة آل عمران.
(2) أخرجه الإمام أحمد فى المسند (2/ 463).(3/319)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 320
وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ النبوة والملك والمال. قيل : هو يعقوب بن إسحاق. وقال الكلبي ومقاتل : هو يعقوب ابن ماثان ، أخو عمران بن ماثان ، أبى مريم ، وكانت زوجة زكريا أخت أم مريم ، وماثان من نسل سليمان عليه السّلام ، فكان آل يعقوب أخوال يحيى. قال الكلبي : كان بنو ماثان رؤوس بنى إسرائيل وملوكهم ، وكان زكريا رئيس الأحبار يومئذ ، فأراد أن يرث ولده حبورته ، ويرث من بنى ماثان ملكهم. ه.
وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا أي : مرضيا ، فعيل بمعنى مفعول ، أي : ترضى عنه فيكون مرضيا لك ، ويحتمل أن يكون مبالغة من الفاعل ، أي : راضيا بتقديرك وأحكامك التعريفية والتكليفية. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : طلب الوارث الروحاني - وهو وارث العلم والحال - جائز ليبقى الانتفاع به بعد موته. وقيل : السكوت والاكتفاء بالله أولى ، ففى الحديث : «يرحم اللّه أخانا زكريّا ، وما كان عليه من يرثه» «1». وقوله تعالى : نِداءً خَفِيًّا. الإخفاء عند الصوفية أولى فى الدعاء والذكر وسائر الأعمال ، إلا لأهل الاقتداء من الكملة ، فهم بحسب ما يبرز فى الوقت.
وقوله تعالى : وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا. فيه قياس الباقي على الماضي ، فالذى أحسن فى الماضي يحسن فى الباقي ، فهذا أحد الأسباب فى تقوية حسن الظن بالله وأعظم منه من حسّن الظن بالله لما هو متصف به تعالى من كمال القدرة والكرم ، والجود والرأفة والرحمة ، فإن الأول ملاحظ للتجربة ، والثاني ناظر لعين المنّة.
قال فى الحكم : «إن لم تحسن ظنك به لأجل وصفه ، حسّن ظنك به لوجود معاملته معك ، فهل عوّدك إلا حسنا؟
وهل أسدى إليك إلا مننا؟».
ثم ذكر إجابته لزكريا عليه السّلام ، فقال :
[سورة مريم (19) : الآيات 7 الى 11]
يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (7) قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (8) قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً (9) قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا (10) فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (11)
___________
(1) أخرجه عبد الرزاق فى تفسيره (2/ 3) ، وابن جرير (16/ 48) عن قتادة.(3/320)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 321
قلت : «عِتِيًّا» : مصدر ، من عتا يعتو ، وأصله : عتوو ، فاستثقل توالى الضمتين والواوين ، فكسرت التاء ، فقلبت الأولى ياء لسكونها وانكسار ما قبلها ، ثم قلبت الثانية أيضا لاجتماع الواو والياء ، وسبق إحداهما بالسكون. (قالَ كَذلِكَ) : خبر ، أي : الأمر كذلك ، فيوقف عليه ، ثم يقول : (قالَ رَبُّكَ) ، أو مصدر لقال الثانية ، أي : مثل ذاك القول قال ربك. و(سَوِيًّا) : حال من فاعل (تُكَلِّمَ).
يقول الحق جل جلاله : يا زَكَرِيَّا ، كلمه بواسطة الملك : إِنَّا نُبَشِّرُكَ ونجيب دعوتك بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى لأنه حيى به عقم أمه. أجاب نداءه فى الجملة ، لا من كل وجه ، بل على حسب المشيئة ، فإنه طلب ولدا يرثه ، فأجيب فى الولد دون الإرث فإن الجمهور على أن يحيى مات قبل موت أبيه - عليهما السلام - وقيل : بقي بعده برهة ، فلا إشكال حينئذ. وفى تعيين اسمه تأكيد للوعد وتشريف له ، وفى تخصيصه به - كما قال تعالى : لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا أي : شريكا فى الاسم ، حيث لم يتسم به أحد قبله - مزيد تشريف وتفخيم له عليه السّلام فإن التسمية بالأسماء البديعة الممتازة عن أسماء الناس تنويه بالمسمى لا محالة»
. وقيل : (سَمِيًّا) : شبيها فى الفضل والكمال ، كما قال تعالى : هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا «2» فإنه عليه السّلام لم يكن قبله أحد مثله فى بعض أوصافه ، لأنه لم يهم بمعصية قط ، وأنه ولد لشيخ فان ، وعجوز عاقر ، وأنه كان حصورا ، ولم تكن هذه الخصال لغيره.
قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ أي : من أين وكيف يحدث لى غلام ، وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً : عقيمة ، وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا : يبسا فى الأعضاء والمفاصل ، ونحولا فى البدن ، لكبره ، وكان سنّه إذ ذاك مائة وعشرين ، وامرأته ثمان وتسعين. وتقدم الخلاف فيه. وإنما قاله عليه السّلام مع سبق دعائه وقوة يقينه ، لا سيما بعد مشاهدته للشواهد المذكورة فى آل عمران استعظاما لقدرة الله تعالى ، وتعجيبا منها ، واعتدادا بنعمته تعالى عليه فى ذلك ، بإظهار أنه من محض فضل الله وكرمه ، مع كونه فى نفسه من الأمور المستحيلة عادة. وقيل : كان دهشا من ثمرة الفرح ، وقيل : كان ذلك منه استفهاما عن كيفية حدوثه. وقيل : بل كان ذلك بطريق الاستبعاد ، حيث كان بين الدعاء والبشارة ستّون سنة ، وكان قد نسى دعاءه ، وهو بعيد.
قالَ كَذلِكَ أي : الأمر كما ذكر من كبر السن وعقم المرأة ، لكن هو على قدرتنا هين ، ولذلك قال :
قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ ، أو مثل ذلك القول البديع قال ربك ، ثم فسره بقوله : هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ ، أو «مثل» مقحمة ، أي : ذلك قال ربك. والإشارة إلى مصدره ، الذي هو عبارة عن إيجاد الولد السابق ، أو كذلك قضى ربك.
___________
(1) وجه الفضيلة : أن اللّه تعالى تولى تسميته ، ولم يكل ذلك إلى أبويه ، فسمّاه باسم لم يسبق إليه ... راجع : زاد المسير (5/ 210).
(2) من الآية 65 من سورة مريم.(3/321)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 322
ثم قال : هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً أي : وقد أوجدت أصلك «آدم» من العدم ، ثم نشأت أنت من صلبه ، ولم تك شيئا ، فإن نشأة آدم عليه السّلام وتصويره منطوية على نشأة أولاده ، ولذلك قال فى آية أخرى :
وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ «1» الآية. انظر تفسير أبى السعود.
قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً أي : علامة تدلنى على تحقق المسئول ، وبلوغ المأمول ، وهو حمل المرأة بذلك الولد ، لأتلقى تلك النعمة العظيمة بالشكر حين حدوثها ، ولا أؤخر الشكر إلى وقت ظهورها ، وينبغى أن يكون سؤاله الآية بعد البشارة ببرهة من الزمان لما يروى أن (يحيى كان أكبر من عيسى - عليهما السلام - بستة أشهر ، أو بثلاث سنين) ، ولا ريب فى أن دعاء زكريا عليه السّلام كان فى صغر مريم ، لقوله تعالى : هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ «2» ، وهى إنما ولدت عيسى عليه السّلام وهى بنت عشر سنين ، أو ثلاث عشرة سنة ، أو يكون تأخر ظهور الآية إلى قرب بلوغ مريم - عليها السلام.
قالَ له تعالى : آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ أي : أن لا تقدر على أن تكلم الناس مع القدرة على الذكر ، ثَلاثَ لَيالٍ بأيامهن ، للتصريح بها فى آل عمران «3» ، حال كونك سَوِيًّا أي : سوىّ الخلق سليم الجوارح ، مابك شائبة بكم ولا خرس ، وإنما منعت بطريق الاضطرار مع كمال الأعضاء. وحكمة منعه لينحصر كلامه فى الشكر والذكر فى تلك الأيام.
فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ : من المصلّى ، وكان مغلقا عليه ، فالمحراب مكان التعبد ، أو من الغرفة ، وكانوا من وراء المحراب ينتظرونه أن يفتح لهم الباب ، ليدخلوا ويصلوا ، إذ خرج عليهم متغيرا لونه ، فأنكروه ، وقالوا له : مالك؟ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أي : أومأ إليهم ، وقيل : كتب فى الأرض : أَنْ سَبِّحُوا أي : صلوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا : صلاة الفجر وصلاة العصر ، ولعلها كانت صلاتهم. أو : نزهوا ربكم طرفى النهار ، ولعله أمر أن يسبح فيها شكرا ، ويأمر قومه بذلك. والله تعالى أعلم.
الإشارة : إجابة الدعاء مشروطة بالاضطرار ، قال تعالى : أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ «4» وفى الحكم :
«ما طلب لك شىء مثل الاضطرار ، ولا أسرع بالمواهب مثل الذلة والافتقار». فإذا اضطررت إلى مولاك ، فلا محالة يجيب دعاك ، لكن فيما يريد لا فيما تريد ، وفى الوقت الذي يريد ، لا فى الوقت الذي تريد. فلا تيأس ولا تستعجل (وَ اللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ). فإذا رأيت مولاك أجابك فيما سألته ، فاجعل كلامك كله فى شكره وذكره ، واستفرغ أوقاتك ، إلا من شهود إحسانه وبره. وبالله التوفيق.
___________
(1) الآية 11 من سورة الأعراف. [.....]
(2) من الآية 38 من سورة آل عمران.
(3) فى قوله تعالى : قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً الآية 41.
(4) من الآية 62 من سورة النمل.(3/322)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 323
ثم ذكر وصيته ليحيى عليه السّلام ونعوته ، فقال :
[سورة مريم (19) : الآيات 12 الى 15]
يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12) وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا وَزَكاةً وَكانَ تَقِيًّا (13) وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا (14) وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (15)
. قلت : «صَبِيًّا» : حال من مفعول «آتَيْناهُ» ، و«حَناناً» و«زَكاةً» : عطف على «الْحُكْمَ». و«مِنْ لَدُنَّا» : متعلق بمحذوف ، صفة له مؤكدة لما أفاده التنوين من الفخامة الذاتية ، أي : وآتيناه الحكم وتحنّنا عظيما واقعا من جنابنا ، أو شفقة فى قلبه ورحمة على أبويه وغيرهما. قال ابن عباس : (ما أدرى ما حنانا إلا أن يكون تعطف رحمة الله على عباده). ومنه قولهم : «حنانيك» ، مثل سعديك ، وأصله : من حنين الناقة على ولدها ، و(بَرًّا)
: عطف على «تَقِيًّا».
يقول الحق جل جلاله : يا يَحْيى أي : قلنا يا يحيى ، وهذا استئناف طوى قبله جمل كثيرة ، مما يدل على ولادته ونشأته ، حتى أوحى إليه ، ثم قال له : يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ أي : التوراة ، وقيل : كتاب خص به ، فدلت الآية على رسالته. وفى تفسير ابن عرفة : أن يحيى رسول كعيسى. ه. وقوله : بِقُوَّةٍ أي : بجد واجتهاد ، وقيل :
بالعمل به ، وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا ، قال ابن عباس : (الحكم هنا النبوة ، استنبأه وهو ابن ثلاث سنين) ، قلت : كون الصبى نبيا جائز عقلا ، واقع عند الجمهور ، وأما بعثه رسولا فجائز عقلا ، وظاهر كلام الفخر «1» هنا أنه واقع ، وأن يحيى وعيسى بعثا صغيرين. وقال ابن مرزوق فى شرح البخاري ما نصه : (الأعم : بعث الأنبياء بعد الأربعين) لأنه بلوغ الأشد ، وقيل : أرسل يحيى وعيسى - عليهما السلام - صبيين. وقال ابن العربي : يجوز ، ولم يقع.
وقول عيسى عليه السّلام : (إنى عبد اللّه) إخبار عما وجب فى المستقبل ، لا عما حصل. واستشكل جواز بعث الصبى بأنه تكليف ، وشرطه : البلوغ ، إن كانت الشرائع فيه سواء. انظر المحشى الفاسى. قلت : والذي يظهر أن يحيى وعيسى - عليهما السلام - تنبئا صغيرين ، وأرسلا بعد البلوغ. والله تعالى أعلم. وقيل : الحكم : الحكمة وفهم التوراة والفقه فى الدين. روى أنه دعاه الصبيان إلى اللعب ، فقال : ما للعب خلقت.
وَآتيناه حَناناً أي : تحنّنا عظيما مِنْ لَدُنَّا : من جناب قدسنا ، أو تحننا من الناس عليه. قال عوف : الحنان المحبّب ، وَزَكاةً : طهارة من العيوب والذنوب ، أو صدقة تصدقنا به على أبويه ، أو : وفّقناه للتصدق على الناس. وَكانَ تَقِيًّا مطيعا للّه ، متجنبا للمعاصى ، وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ
: لطيفا بهما محسنا إليهما ،
___________
(1) أي الفخر الرازي فى تفسيره.(3/323)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 324
وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا
متكبرا عاقا ، فالجبّار : هو المتكبر ، لأنه يجبر الناس على أخلاقه. وقيل : من لا يقبل النصيحة ، أو عاصيا اللّه تعالى. وَسَلامٌ عَلَيْهِ
أي : سلامة من اللّه تعالى عليه ، يَوْمَ وُلِدَ
من أن يناله الشيطان بما ينال بنى آدم ، وَيَوْمَ يَمُوتُ
من عذاب القبر ، وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا
من هول القيامة وعذاب النار.
روى أن يحيى وعيسى - عليهما السلام - التقيا ، فقال له يحيى : استغفر لى ، فأنت خير منى ، فقال له عيسى :
أنت خير منى ، أنا سلمت على نفسى وأنت سلم الله عليك.
الإشارة : أخذ الكتاب بالقوة - وهو الجد والاجتهاد فى قراءته - هو أن يكون متجردا لتلاوته ، منصرف الهمة إليه عن غيره ، فلا يصدق على العبد أن يأخذ كتاب ربه بقوة ، حتى يكون هكذا عند تلاوته. قال الورتجبي :
خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ أي : خذ كتابنا بنا لابك ، والكتاب كلام الحق الأزلى ، أي : خذ الكتاب الأزلى بالقوة الأزلية. ه. ومعناه أن يكون التالي فانيا عن نفسه ، متكلما بربه ، ويسمعه من ربه ، فهذا حال المقربين.
واللّه تعالى أعلم.
ثم ذكر قصة مريم - عليها السلام - فقال :
[سورة مريم (19) : الآيات 16 الى 21]
وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا (16) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا (17) قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18) قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا (19) قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20)
قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا (21)
قلت : (إِذِ انْتَبَذَتْ)
: بدل اشتمال من مريم ، على أن المراد بها نبؤها ، فإن الظرف مشتمل على ما فيها ، وقيل :
بدل الكل ، على أن المراد بالظرف ما وقع فيه. وقيل : «إِذِ»
ظرف لنبأ المقدر ، أي : اذكر نبأ مريم حين انتبذت لأن الذكر لا يتعلق بالأعيان ، لكن لا على أن يكون المأمور به ذكر نبأها عند انتباذها فقط ، بل كل ما عطف عليه وحكى بعده بطريق الاستثناء داخل فى حيز الظرف متمم للنبأ. و(مَكاناً)
: مفعول بانتبذت ، باعتبار ما فيه من معنى الإتيان ، أي : اعتزلت وأتت مكانا شرقيا ، أو ظرف له ، أي : اعتزلت فى مكان شرقى. و(بَشَراً)
: حال. وجواب (إِنْ كُنْتَ)
: محذوف ، أي : إن كنت تقيا فإنى عائذة بالرحمن منك. و(بَغِيًّا) أصله : بغوي ، على وزن فعول ، (3/324)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 325
فأدغمت الواو - بعد قلبها ياء - فى الياء ، وكسرت الغين للياء «1» ، و(لِنَجْعَلَهُ) : متعلق بمحذوف ، أي : ولنجعله آية فعلنا ذلك ، أو معطوف على محذوف ، أي : لنبين لهم كمال قدرتنا ولنجعله .. إلخ. أو على جملة : (هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ) لأنها فى معنى العلة ، أي : كذلك قال ربك لقدرتنا على ذلك ولنجعله .. إلخ.
يقول الحق جل جلاله : وَاذْكُرْ
يا محمد فِي الْكِتابِ
: القرآن ، والمراد هذه السورة الكريمة لأنها هى التي صدرت بذكر زكريا ، واستتبعت بذكر قصة مريم لما بينهما من الاشتباك. أي : اذكر فى الكتاب نبأ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ
حين اعتزلت مِنْ أَهْلِها
وأتت مَكاناً شَرْقِيًّا
من بيت المقدس ، أو من دارها لتتخلى فيه للعبادة ، ولذلك اتخذت النصارى المشرق قبلة. وقيل : قعدت فى مشربة لتغتسل من الحيض ، محتجبة بشىء يسترها ، وذلك قوله تعالى : فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً
، وكان موضعها المسجد ، فإذا حاضت تحولت إلى بيت خالتها ، وإذا طهرت عادت إلى المسجد. فبينما هى تغتسل من الحيض ، محتجبة دونهم ، أتاها جبريل عليه السّلام فى صورة آدمي ، شاب أمرد ، وضىء الوجه.
قال تعالى : فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا
:
جبريل عليه السّلام ، عبّر عنه بذلك توفية للمقام حقه. وقرىء بفتح الراء لكونه سببا لما فيه روح العباد ، يعنى اتباعه والاهتداء به ، الذي هو عدة المقربين فى قوله : فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ ، فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ «2». فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا
: سوىّ الخلق ، كامل البنية ، لم يفقد من حسان نعوت الآدمية شيئا ، وقيل : تمثل لها فى صورة شاب ترب «3» لها ، اسمه يوسف ، من خدم بيت المقدس ، وإنما تمثل لها فى تلك الصورة الجميلة لتستأنس به ، وتتلقى منه ما يلقى إليها من كلامه تعالى إذ لو ظهر لها على صورة الملكية ، لنفرت منه ولم تستطع مقاومته.
وأما ما قيل من أن ذلك لتهيج شهوتها ، فتنحدر نطفتها إلى رحمها ، فغلط فاحش ، ينحو إلى مذهب الفلاسفة ، ولعلها نزعة مسروقة من مطالعة كتبهم ، يكذبه قوله تعالى : قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا
، فإنه شاهد عدل بأنه لم يخطر ببالها ميل إليه ، فضلا عن ما ذكر من الحالة المترتبة على أقصى مراتب الميل والشهوة. نعم يمكن أن يكون ظهر على ذلك الحسن الفائق والجمال اللائق لابتلائها واختبار عفّتها ، ولقد ظهر منها من الورع والعفاف ما لا غاية وراءه. وذكر عنوان الرحمانية للمبالغة فى العياذ به تعالى ، واستجلاب آثار الرحمة الخاصة ، التي هى العصمة مما دهمها. قاله أبو السعود. وقولها : إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا
أي : تتقى الله فتبالى بالاستعاذة به.
___________
(1) أي لمناسة الياء.
(2) الآيتان 88 - 89 من سورة الواقعة.
(3) أي : فى مثل سنها : فالتّرب : اللّدة والسّنّ ... انظر : اللسان (ترب 1/ 425).(3/325)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 326
قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ
أي : لست ممن يتوقع منه ما توهمت من الشر ، وإنما أنا رسول من استعذت برحمانيته لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً
أي : لأكون سببا فى هبة الغلام ، أو : ليهب لك ربك غلاما - فى قراءة الياء - .
والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميرها لتشريفها وتسليتها ، والإشعار بعلية الحكم فإن هبة الغلام لها من أحكام تربيتها. وقوله : زَكِيًّا
أي : طاهرا من العيوب صالحا ، أو تزكو أحواله وتنمو فى الخير ، من سن الطفولية إلى الكبر.
قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ كما وصفت ، وَالحال أنه لَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ بالنكاح ، وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا زانية فاجرة تبتغى الرجال؟ قالَ لها الملك : كَذلِكِ أي : الأمر كما قلت لك قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ أي : هبة الغلام من غير أن يمسسك بشر هين سهل على قدرتنا ، وإن كان مستحيلا عادة لأنى لا أحتاج إلى الأسباب والوسائط ، بل أمرنا بين الكاف والنون ، وَإنما فعلنا ذلك لِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ يستدلون به على كمال قدرتنا. والالتفات إلى نون العظمة لإظهار كمال الجلالة ، وَلنجعله رَحْمَةً عظيمة كائنة مِنَّا عليهم ، ليهتدوا بهدايته ، ويرشدوا بإرشاده. وَكانَ ذلك أَمْراً مَقْضِيًّا فى الأزل ، قد تعلق به قضاء الله وقدره ، وسطّر فى اللوح المحفوظ ، فلا بدّ من جريانه عليك ، أو : كان أمرا حقيقا بأن يقضى ويفعل لتضمنه حكما بالغة وأسرارا عجيبة. والله تعالى أعلم.
الإشارة : لا تظهر النتائج والأسرار إلا بعد الانتباذ عن الفجار ، وعن كل ما يشغل القلب عن التذكار ، أو عن الشهود والاستبصار ، فإذا اعتزل مكانا شرقيا ، أي : قريبا من شروق الأنوار والأسرار ، بحيث يكون قريبا من أهل الأنوار ، أو بإذنهم ، أرسل الله إليه روحا قدسيا ، وهو وارد ربانى تحيا به روحه وسره وقلبه وقالبه ، فيهب له علما لدنيا ، وسرا ربانيا ، يكون آية لمن بعده ، ورحمة لمن اقتدى به وتبعه. وبالله التوفيق.
ثم ذكر حملها وولادتها وما كان من شأنها مع قومها ، فقال :
[سورة مريم (19) : الآيات 22 الى 33]
فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا (22) فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا (23) فَناداها مِنْ تَحْتِها أَلاَّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا (25) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (26)
فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا (27) يا أُخْتَ هارُونَ ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28) فَأَشارَتْ إِلَيْهِ قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29) قالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا (31)
وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا (32) وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33)(3/326)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 327
قلت : (رُطَباً) : تمييز ، فيمن أثبت التاءين «1» ، أو حذف إحداهما ، ومفعول به ، فيمن قرأ بتاء واحدة مع كسر القاف.
يقول الحق جل جلاله : فَحَمَلَتْهُ بأن نفخ جبريل فى درعها ، فدخلت النفخة فى جوفها. قيل : إن جبريل عليه السّلام رفع درعها فنفخ فى جيبه ، وقيل : نفخ عن بعد ، فوصل الريح إليها فحملت فى الحال ، وقيل : إن النفخة كانت فى فيها ، وكانت مدة حملها سبعة أشهر ، وقيل : ثمانية. ولم يعش ولد من ثمانية. وفى ابن عطية :
تظاهرت الروايات أنها ولدت لثمانية أشهر ، ولذلك لا يعيش ابن ثمانية أشهر حفظا لخاصية عيسى ، فتكون معجزة له. ه. وقيل : تسعة أشهر. وقيل : ثلاث ساعات ، حملته فى ساعة ، وصور فى ساعة ، ووضعته فى ساعة حين زالت الشمس. وقيل : ساعة ، ما هو إلا أن حملت فوضعت ، وسنها حينئذ ثلاث عشرة سنة ، وقيل : عشر سنين ، وقد حاضت حيضتين.
فَانْتَبَذَتْ بِهِ أي : فاعتزلت ملتبسة به حين أحست بقرب وضعها ، مَكاناً قَصِيًّا : بعيدا من أهلها وراء الجبل ، وقيل : أقصى الدار. فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ فألجأها المخاض. وقرئ بكسر الميم. وكلاهما مصدر ، محضت المرأة : إذا تحرك الولد فى بطنها للخروج ، إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ لتستتر به ، أو لتعتمد عليه عند الولادة ، وهو ما بين العرق والغصن. وكانت نخلة يابسة ، لا رأس لها ولا قعدة ، قد جيىء بها لبناء بيت ، وكان الوقت شتاء ، والتعريف فى النخلة إما للجنس أو للعهد ، إذ لم يكن ثمّ غيرها ، ولعله تعالى ألهمها ذلك ليريها من آياتها ما يسكن روعتها ، وليطعمها الرطب ، الذي هو من طعام النفساء الموافق لها.
قالَتْ حين أخذها وجع الطلق : يا لَيْتَنِي مِتُّ «2» بكسر الميم ، من مات يمات ، وبالضم ، من مات
___________
(1) فى قوله تعالى : (تُساقِطْ).
(2) قرأ نافع وحفص وحمزة والكسائي وخلف : «مت» بكسر الميم ، والباقون بالضم.(3/327)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 328
يموت ، قَبْلَ هذا الوقت الذي لقيت فيه ما لقيت ، وإنما قالته ، مع أنها كانت تعلم ما جرى لها مع جبريل عليه السّلام من الوعد الكريم استحياء من الناس ، وخوفا من لائمتهم ، أو جريا على سنن الصالحين عند اشتداد الأمر ، كما روى عن عمر رضي اللّه عنه أنه أخذ تبنة من الأرض ، فقال : «ليتني هذه التبنة ولم أكن شيئا». وقال بلال : (ليت بلالا لم تلده أمه). ثم قالت : وَكُنْتُ نَسْياً «1» أي : شيئا تافها شأنه أن ينسى ولا يعتد به ، مَنْسِيًّا لا يخطر ببال أحد من الناس. وقرئ بفتح النون ، وهما لغتان نسى ونسى ، كالوتر والوتر. وقيل : بالكسر : اسم ما ينسى ، وبالفتح : مصدر.
فَناداها أي : جبريل عليه السّلام مِنْ تَحْتِها ، قيل : إنه كان يقبل الولد من تحتها ، أي : من مكان أسفل منها ، .
وقيل : من تحت النخلة ، وقيل : ناداها عيسى عليه السّلام ، ويرجحه قراءة من قرأ بفتح الميم ، أي : فخاطبها الذي تحتها :
أَلَّا تَحْزَنِي ، أو : بألا تحزنى ، على أنّ «أن» مفسرة ، أو مصدرية ، حذف عنها الجار. قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ أي : بمكان أسفل منك سَرِيًّا أي : نهرا صغيرا ، حسبما روى مرفوعا. «2» قال ابن عباس رضى اللّه عنهما : (إن جبريل عليه السّلام ضرب برجله الأرض ، فظهرت عين ماء عذب ، فجرى جدولا). وقيل : فعله عيسى ، أي : ضرب برجله فجرى ، وقيل : كان هناك نهر يابس - أجرى اللّه تعالى فيه الماء ، كما فعل مثله بالنخلة ، فإنها كانت يابسة لا رأس لها ، فأخرج لها رأسا وخوصا وتمرا. وقيل : كان هناك نهر ماء. والأول أظهر لأنه الموافق لبيان إظهار الخوارق ، والمتبادر من النظم الكريم.
وقيل : (سَرِيًّا) أي : سيدا نبيلا رفيع الشأن جليلا ، وهو عيسى عليه السّلام ، والتنوين حينئذ للتفخيم. والجملة تعليل لانتفاء الحزن المفهوم من النهى. والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميرها لتشريفها وتأكيد التعليل وتكميل التسلية.
ثم قال : وَهُزِّي إِلَيْكِ أي : حركى النخلة إليك ، أي : جاذبة لها إلى جهتك. فهزّ الشيء : تحريكه إلى الجهات المتقابلة تحريكا عنيفا ، والمراد هنا ما كان بطريق الجذب والدفع. والباء فى قوله : بِجِذْعِ النَّخْلَةِ :
صلة للتأكيد ، لقول العرب : هزّ الشيء وهز به ، أو للإلصاق. فإذا هززت النخلة تُساقِطْ «3» أي : تتساقط.
وقرئ : تساقط ، وتسقط ، أي : النخلة عليك إسقاطا متواترا بحسب تواتر الهز رُطَباً جَنِيًّا أي : طريا ، وهو ما قطع قبل يبسه. فعيل بمعنى مفعول ، أي : مجنيا صالحا للاجتناء. فَكُلِي من ذلك الرطب
___________
(1) قرأ حفص وحمزة بفتح النون ، والباقون بكسرها .. انظر الإتحاف (2/ 235).
(2) أخرج المرفوع الطبراني فى المعجم الصغير (1/ 244) من حديث البراء بن عازب ، وأخرجه فى الكبير (12/ 346 ح 13303) من حديث ابن عمر.
(3) هذه قراءة نافع ، وابن كثير ، وأبى عمرو ، وابن عمرو ، والكسائي. وقرأ حفص «تساقط» بضم التاء وتخفيف السين وكسر القاف.
وقرأ حمزة «تساقط» بفتح التاء والقاف وتخفيف السين ، والأصل : تتساقط. انظر : التبصرة/ 256 ، والإتحاف (2/ 235).(3/328)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 329
وَاشْرَبِي من ذلك السرى ، وَقَرِّي عَيْناً وطيبى نفسا وارفضى عنك ما أحزنك وأهمك ، فإنه تعالى قد نزه ساحتك عن التهم ، بما يفصح به لسان ولدك من التبرئة. أو : وقرى عينا بحفظ اللّه ورعايته فى أمورك كلها.
وقرة العين : برودتها ، مأخوذ من القرّ ، وهو البرد لأن دمع الفرح بارد ، ودمع الحزن سخن ، ولذلك يقال : قرة العين للمحبوب ، وسخنة العين للمكروه.
فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً آدميا كائنا من كان فَقُولِي له إن استنطقك أو لامك : إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً أي : صمتا ، وقرىء كذلك ، وكان صيامهم السكوت ، فكانوا يصومون عن الكلام كما يصومون عن الطعام. وذكر ابن العربي فى الأحوذى : أن نبينا - عليه الصلاة والسلام - اختص بإباحة الكلام لأمته فى الصوم ، وكان محرما على من قبلنا ، عكس الصلاة. ه. قالت : فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا أي : بعد أن أخبرتكم بنذرى ، وإنما أكلم الملائكة أو أناجى ربى. وقيل : أمرت بأن تخبر عن نذرها بالإشارة. قال الفراء : العرب تسمى كل ما وصل إلى الإنسان كلاما ، ما لم يؤكّد بالمصدر ، فإذا أكد لم يكن إلا حقيقة الكلام. ه. وإنما أمرت بذلك ونذرته لكراهة مجادلة السفهاء ومقاولتهم ، وللاكتفاء بكلام عيسى عليه السّلام فإنه نص قاطع فى قطع الطعن.
فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها عند ما طهرت من نفاسها ، تَحْمِلُهُ أي : حاملة له. قال الكلبي : احتمل يوسف النجار - وكان ابن عمها - مريم وابنها عيسى ، فأدخلهما غارا أربعين يوما ، حتى تعلّت من نفاسها ، ثم جاءت به تحمله بعد أربعين يوما ، وكلمها عيسى فى الطريق ، فقال : يا أمه ، أبشرى ، فإنى عبد الله ومسيحه. فلما رآها أهلها ، بكوا وحزنوا ، وكانوا قوما صالحين. قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ أي : فعلت شَيْئاً فَرِيًّا : عظيما بديعا منكرا ، من فرى الجلد : قطعه. قال أبو عبيدة : (كل فائق من عجب أو عمل فهو فرىّ). قال النبي صلى اللّه عليه وسلم : فى حق عمر رضي اللّه عنه : «فلم أر عبقريا من النّاس يفرى فريّه» «1» أي : يعمل عمله.
يا أُخْتَ هارُونَ ، عنوا هارون أخا موسى لأنها كانت من نسله ، أي : كانت من أعقاب من كان معه فى طبقة الأخوة ، وكان بينها وبينه ألف سنة. أو يا أخت هارون فى الصلاح والنسك ، وكان رجلا صالحا فى زمانهم اسمه هارون ، فشبهوها به. ذكر لما مات تبع جنازته أربعون ألفا ، كلهم يسمى هارون من بنى إسرائيل. وقيل : إن هارون الذي شبهوها به كان أفسق بنى إسرائيل ، فشتموها بتشبيهها به. ما كانَ أَبُوكِ عمران امْرَأَ سَوْءٍ
___________
(1) أخرجه البخاري فى مواضع ، منها : (فضائل الصحابة ، باب مناقب عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه) عن عبد اللّه بن عمر ، وأخرجه مسلم فى (فضائل الصحابة ، باب من فضائل عمر رضي اللّه عنه) عن أبى هريرة ، ولفظ الحديث كاملا كما فى البخاري : قال صلى اللّه عليه وسلم :
«أريت فى المنام أنى أنزع بدلو على بكرة على قليب ، فجاء أبو بكر فنزع ذنوبا أو ذنوبين نزعا ضعيفا ، واللّه يغفر له ، ثم جاء عمر بن الخطاب ، فاستحالت غربا ، فلم أر عبقريا يفرى فريه ، حتى روى الناس وضربوا بعطن».(3/329)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 330
وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا ، فمن أين لك هذا الولد من غير زوج؟. هذا تقرير لكون ما جاءت به فريا منكرا ، أو تنبيه على أن ارتكاب الفواحش من أولاد الصالحين أفحش الفواحش.
فَأَشارَتْ إِلَيْهِ أي : إلى عيسى أن كلموه ، ولم تكلمهم وفاء بنذرها ، وإشارتها إليه من باب الإدلال ، رجوعا لقوله لها : (وَ قَرِّي عَيْناً) ، ولا تقر عينها إلا بالوفاء بما وعدت به من العناية بأمرها والكفاية لشأنها ، وذلك يقتضى انفرادها بالله وغناها به ، فتدل بالإشارة. وكان ذلك طوع يدها ، وتذكّر قضية جريج. قاله فى الحاشية.
قالُوا منكرين لجوابها : كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا ، ولم يعهد فيما سلف صبى يكلمه عاقل.
و«كانَ» هنا : تامة. و«صَبِيًّا» : حال. وقيل : زائدة ، أي : من هو فى المهد.
قالَ عيسى عليه السّلام : إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ ، أنطقه اللّه تعالى بذلك ، تحقيقا للحق ، وردا على من يزعم ربوبيته.
قيل كان المستنطق لعيسى زكريا - عليهما السلام - وعن السدى : (لما أشارت إليه ، غضبوا ، وقالوا : لسخريتها بنا أشدّ علينا مما فعلت). روى أنه عليه السّلام كان يرضع ، فلما سمع ذلك ترك الرضاع ، وأقبل عليهم بوجهه ، واتكأ على يساره ، وأشار بسبابته ، فقال ما قال. وقيل : كلمهم بذلك ، ثم لم يتكلم حتى بلغ مبلغا يتكلم فيه الصبيان.
ثم قال فى كلامه : آتانِيَ الْكِتابَ : الإنجيل : وَجَعَلَنِي مع ذلك نَبِيًّا ، وَجَعَلَنِي مُبارَكاً : نفّاعا للناس ، معلما للخير أَيْنَ ما كُنْتُ أي : حيثما كنت ، وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ : أمرنى بها أمرا مؤكدا ، وَالزَّكاةِ زكاة الأموال ، أو بتطهير النفس من الرذائل ما دُمْتُ حَيًّا فى الدنيا. وَجعلنى بَرًّا بِوالِدَتِي فهو عطف على مُبارَكاً. وقرئ بالكسر ، على أنه مصدر وصف به مبالغة ، وعبّر بالفعل الماضي فى الأفعال الثلاثة إما باعتبار ما سبق فى القضاء المحتوم ، أو بجعل ما سيقع واقعا لتحققه. ثم قال :
وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا عند اللّه تعالى ، بل متواضعا لينا ، سعيدا مقربا ، فكان يقول : سلونى ، فإن قلبى لين ، وإنى فى نفسى صغير ، لما أعطاه اللّه من التواضع.
ثم قال : وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا ، كما تقدم على يحيى. وفيه تعريض بمن خالفه ، فإن إثبات جنس السلام لنفسه تعريض بإثبات ضده لأضداده ، كما فى قوله تعالى : وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى «1» فإنه تعريض بأن العذاب على من كذّب وتولى.
فهذا آخر كلام عيسى عليه السّلام ، وهو أحد من تكلم فى المهد ، وقد تقدم ذكرهم فى سورة يوسف نظما ونثرا. وكلهم معروفون ، غير أن ماشطة ابنة فرعون لم تشتهر حكايتها. وسأذكرها كما ذكرها الثعلبي. قال : قال ابن عباس :
(لما أسرى بالنبي صلى اللّه عليه وسلم مرت به ريح طيبة فقال : يا جبريل ما هذه الرائحة؟ قال : رائحة ماشطة بنت فرعون ، كانت
___________
(1) الآية 47 من سورة طه. [.....](3/330)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 331
تمشطها ، فوقع المشط من يدها ، فقالت : بسم الله ، فقالت ابنته : أبى؟ فقالت : لا ، بل ربى وربك ورب أبيك. فقالت :
أخبر بذلك أبى؟ قالت : نعم ، فأخبرته فدعاها ، وقال : من ربك؟ قالت : ربى وربك فى السماء ، فأمر فرعون ببقرة - أي : آنية عظيمة من نحاس - فأحميت ، ودعاها بولدها ، فقالت : إن لى إليك لحاجة ، قال : وما حاجتك؟ قالت :
تجمع عظامى وعظام ولدي فتدفنها جميعا ، قال : وذلك لك علينا من الحقّ ، سأفعل ذلك لك ، فأمر بأولادها واحدا واحدا ، حتى إذا كان آخر ولدها ، وكان صبيا مرضعا ، قال : اصبري يا أمه .. فألقاها فى البقرة مع ولدها «1». ه.
الإشارة : يؤخذ من الآية أمور صوفية ، منها : أن الإنسان يباح له أن يستتر فى الأمور التي تهتك عرضه ، ويهرب إلى مكان يصان فيه عرضه ، إلا أن يكون فى مقام الرياضة والمجاهدة ، فإنه يتعاطى ما تموت به نفسه ، ومنها : أنه لا بأس أن يلجأ الإنسان إلى ما يخفف آلامه ويسهل شدته ، ولا ينافى توكله. ومنها : أن لا بأس أن يتمنى الموت إذا خاف ذهاب دينه أو عرضه ، أو فتنة تحول بينه وبين قلبه. ويؤخذ أيضا من الآية : أن فزع القلب عند الصدمة الأولى لا ينافى الصبر والرضا لأنه من طبع البشر ، وإنما ينافيه تماديه على الجزع.
ومنها : أن تحريك الأسباب الشرعية لا ينافى التوكل ، لقوله تعالى : (وَ هُزِّي إِلَيْكِ). لكن إذا كانت خفيفة مصحوبة بإقامة الدين ، غير معتمد عليها بقلبه ، فإن كان متجردا فلا يرجع إليها حتى يكمل يقينه ، ويتمكن فى معرفة الحق تعالى. وقد كانت فى بدايتها تأتى إليها الأرزاق بغير سبب كما فى سورة آل عمران «2» ، وفى نهايتها قال لها : (وَ هُزِّي إِلَيْكِ). قال الشيخ أبو العباس المرسى رضي اللّه عنه : كانت فى بدايتها متعرفا إليها بخرق العادات وسقوط الأسباب ، فلما تكمل يقينها رجعت إلى الأسباب ، والحالة الثانية أتم من الحالة الأولى ، وأما من قال : إن حبها أولا كان للّه وحده ، فلما ولدت انقسم حبها ، فهو تأويل لا يرضى ولا ينبغى أن يلتفت إليه ، لأنها صدّيقة ، والصدّيق والصدّيقة لا ينتقلان من حالة إلا إلى أكمل منها.
ومنها : أن الإنسان لا بأس أن يوجب على نفسه عبادة ، إذا كان يتحصن بها من الناس ، أو من نفسه ، كالصوم أو الصمت «3» أو غيرهما ، مما يحجزه عن العوام ، أو عن الانتصار للنفس.
وقوله تعالى : (وَ السَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ ...) الآية : قال : الورتجبي : سلام يحيى سلام تخصيص الربوبية على العبودية. ثم قال : وسلام عيسى من عين الجمع ، سلام فيه مزية ظهور الربوبية فى معدن العبودية. وأرفع المقامين سلام الحق على سيد المرسلين كفاحا فى وصاله وكشف جماله ، ولو سلّم عليه بلسانه كان بلسان الحدث ، ولا يبلغ رتبة سلامه بوصف قدمه. ه.
___________
(1) أخرجه أحمد فى المسند (1/ 309) مرفوعا. والحديث فى مجمع الزوائد (1/ 65) وعزاه لأحمد والبزار والطبراني فى الكبير والأوسط.
(2) فى قوله تعالى : كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ .. الآية 37.
(3) قلت : ما قاله جائز فى الصوم ، وغير جائز فى الصمت لما ورد فى الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الذي نذر الصوم والصمت أن يتم صومه ، وأن يتكلم. فتأمله فإنه دقيق.(3/331)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 332
ثم شرع فى الرد على النصارى ، وعلى من أشرك معه غيره ، فقال تعالى :
[سورة مريم (19) : الآيات 34 الى 40]
ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34) ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (35) وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (36) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (37) أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (38)
وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (39) إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها وَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ (40)
قلت : وَإِنَّ اللَّهَ : عطف على قوله : (إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ) فيمن كسر ، وعلى حذف اللام فيمن فتح ، أي : ولأن الله ربى وربكم. وقال الواحدي وأبو محمد مكى : عطف على قوله : (بِالصَّلاةِ) أي : أوصانى بالصلاة وبأن الله ... إلخ : وقال المحلى :
بالفتح ، بتقدير اذكر ، وبالكسر بتقدير «قل». و(قَوْلَ الْحَقِّ) : مصدر مؤكد لقال ، فيمن نصب ، وخبر عن مضمر ، فيمن رفع ، أي : هو ، أو هذا. و(إِذا قَضى ) : بدل من (يَوْمَ الْحَسْرَةِ) ، أو ظرف للحسرة. و(هُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) : جملتان حاليتان من الضمير المستقر فى الظرف فى قوله : (فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي : مستقرين فى الضلال وهم فى تينك الحالتين.
يقول الحق جل جلاله : ذلِكَ المنعوت بتلك النعوت الجليلة ، والأوصاف الحميدة هو عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ ، لا ما يصفه النصارى به من وصف الألوهية ، فهو تكذيب لهم على الوجه الأبلغ والمنهاج البرهاني ، حيث جعله موصوفا بأضداد ما يصفونه به. وأتى بإشارة البعيد للدلالة على علو رتبته وبعد منزلته ، وامتيازه بتلك المناقب الحميدة عن غيره ، ونزوله منزلة المشاهد المحسوس.
هذا قَوْلَ الْحَقِّ ، أو قال عيسى قَوْلَ الْحَقِّ الذي لا ريب فيه ، وأنه عبد الله ورسوله ، الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ أي : يشكون أو يتنازعون ، فيقول اليهود : ساحر كذاب ، ويقول النصارى : إله ، أو ابن اللّه. ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ أي : ما صح ، أو ما استقام له أن يتخذ ولدا ، سُبْحانَهُ وتعالى عما يقولون علوا كبيرا ، فهو تنزيه عما بهتوه ، ونطقوا به من البهتان ، وكيف يصح أن يتخذ الله ولدا ، وهو يحتاج إلى أسباب ومعالجة ، وأمره تعالى أسرع من لحظ العيون ، إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ.
ثم قال لهم عيسى عليه السّلام : وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ ، فهو من تمام ما نطق به فى المهد ، وما بينهما اعتراض ، للمبادرة للرد على من غلط فيه ، أي : فإنى عبد ، وإن الله ربى وربكم فاعبدوه وحده ولا تشركوا معه غيره ، هذا الذي ذكرت لكم من التوحيد صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ لا يضل سالكه ولا يزيغ متبعه.(3/332)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 333
قال تعالى : فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ ، الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها ، تنبيها على سوء صنيعهم ، بجعلهم ما يوجب الاتفاق منشا للاختلاف ، فإن ما حكى من مقالات عيسى عليه السّلام ، مع كونها نصوصا قاطعة فى كونه عبده تعالى ورسوله ، قد اختلفت اليهود والنصارى بالتفريط والإفراط ، وفرّق النصارى ، فقالت النسطورية : هو ابن الله ، وقالت اليعقوبية : هو الله هبط إلى الأرض ثم صعد إلى السماء ، وقالت الملكانية : هو ثالث ثلاثة. فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وهم : المختلفون فيه بأنواع الضلالات. وأظهر الموصول فى موضع الإضمار إيذانا بكفرهم جميعا ، وإشعارا بعلّيّة الحكم ، مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ أي : ويل لهم من شهود يوم عظيم الهول والحساب والجزاء ، وهو يوم القيامة ، أو : من وقت شهوده أو مكانه ، أو من شهادة اليوم عليهم ، وهو أن تشهد عليهم الملائكة والأنبياء - عليهم السلام - وألسنتهم وأيديهم وأرجلهم ، بالكفر والفسوق.
أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ أي : ما أسمعهم وما أبصرهم ، تعجب من حدة سمعهم وإبصارهم يومئذ. والمعنى : أن أسماعهم وأبصارهم يَوْمَ يَأْتُونَنا للحساب والجزاء جدير أن يتعجب منها ، بعد أن كانوا فى الدنيا صما عميا. أو :
ما أسمعهم وأطوعهم لما أبصروا من الهدى ، ولكن لا ينفعهم يومئذ مع ضلالهم عنه اليوم ، فقد سمعوا وأبصروا ، حين لم ينفعهم ذلك. قال الكلبي : لا أحد يوم القيامة أسمع منهم ولا أبصر ، حين يقول اللّه لعيسى : أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ «1». ه. ويحتمل أن يكون أمر تهديد لا تعجب ، أي : أسمعهم وأبصرهم مواعيد ذلك اليوم ، وما يحيق بهم فيه ، فالجار والمجرور ، على الأول ، فى موضع رفع ، وعلى الثاني : نصب. لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ أي : فى الدنيا ، فِي ضَلالٍ مُبِينٍ أي : لا يدرك غايته ، حيث غفلوا عن الاستماع والنظر بالكلية. ووضع الظالمين موضع الضمير للإيذان بأنهم فى ذلك ظالمون لأنفسهم حيث تركوا النظر.
وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ يوم يتحسر الناس قاطبة ، أما المسيء فعلى إساءته ، وأما المحسن فعلى قلة إحسانه ، إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ أي : فرغ من يوم الحساب ، وتميز الفريقان ، إلى الجنة وإلى النار.
روى أن النبي صلى اللّه عليه وسلم سئل عن ذلك ، فقال : «حين يجاء بالموت على صورة كبش أملح ، فيذبح ، والفريقان ينظرون ، فينادى يا أهل الجنة خلود فلا موت ، ويا أهل النار خلود فلا موت ، فيزداد أهل الجنة فرحا إلى فرحهم ، وأهل النار غما إلى غمهم ، ثم قرأ صلى اللّه عليه وسلم : وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ ، وأشار بيده إلى الدنيا» «2» قال مقاتل : (لو لا ما قضى اللّه من تعميرهم فيها ، وخلودهم لماتوا حسرة حين رأوا ذلك). وَهُمْ فى
___________
(1) الآية 116 من سورة المائدة.
(2) أخرجه البخاري فى (التفسير ، باب : وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ). ومسلم فى (الجنة وصفة نعيمها ، باب : النار يدخلها الجبارون) ، من حديث أبى سعيد الخدري - رضى اللّه عنه - .(3/333)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 334
هذا اليوم فِي غَفْلَةٍ عما يراد بهم فى الآخرة ، وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ بهذا لاغترارهم ببهجة الدنيا ، فلا بد أن تنهد دعائمها ، وتمحى بهجتها ، ويفنى كل ما عليها ، قال تعالى : إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها لا ينبغى لأحد غيرنا أن يكون له عليها وعليكم ملك ولا تصرف ، أو : إنا نحن نتوفى الأرض ومن عليها ، بالإفناء والإهلاك ، توفى الوارث لإرثه ، وَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ يردون إلى الجزاء ، لا إلى غيرنا ، استقلالا أو اشتراكا. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : ينبغى للعبد المعتنى بشأن نفسه أن يحصّن عقائده بالدلائل القاطعة ، والبراهين الساطعة ، على وفاق أهل السنّة ، ثم يجتهد فى صحبة أهل العرفان ، أهل الذوق والوجدان ، حتى يطلعوه على مقام الإحسان ، مقام أهل الشهود والعيان. فإذا فرط فى هذا ، لحقه الندم والحسرة ، فى يوم لا ينفع فيه ذلك. فكل من تخلف عن مقام الذوق والوجدان فهو ظالم لنفسه باخس لها ، يلحقه شىء من الخسران ، ولا بد أن تبقى فيه بقية من الضلال ، حيث فرط عن اللحوق بطريق الرجال ، قال تعالى : (لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ).
(وَ أَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ) أي : يوم يرفع المقربون ويسقط المدعون. فأهل الذوق والوجدان حصل لهم اللقاء فى هذه الدار ، ثم استمر لهم فى دار القرار. روى أن الشيخ أبا الحسن الشاذلى رضي اللّه عنه قال يوما بين يدى أستاذه :
(اللهم اغفر لى يوم لقائك). فقال له شيخه - القطب ابن مشيش - رضى اللّه عنهما : هو أقرب إليك من ليلك ونهارك ، ولكن الظلم أوجب الضلال ، وسبق القضاء حكم بالزوال عن درجة الأنس ومنازل الوصال ، وللظالم يوم لا يرتاب فيه ولا يخاتل ، والسابق قد وصل فى الحال ، «أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا لكن الظالمون اليوم فى ضلال مبين». ه. كلامه رضي اللّه عنه.
ثم استتبع بذكر قصص الأنبياء ، تتمة للرد على أهل الشرك ، بأن الملل كلها متفقة على إبطاله ، وقدّم الخليل لأنه إمام أهل التوحيد ، فقال :
[سورة مريم (19) : الآيات 41 الى 45]
وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (41) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً (42) يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا (43) يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا (44) يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا (45)(3/334)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 335
قلت : (إِذْ قالَ)
: بدل اشتمال من (إِبْراهِيمَ) ، وما بينهما : اعتراض ، أو متعلق بكان.
يقول الحق جل جلاله : وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ القرآن أو السورة ، إِبْراهِيمَ أي : أتل على الناس نبأه وبلغه إياهم ، كقوله : وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ «1» لأنهم ينتسبون إليه عليه السّلام ، فلعلهم باستماع قصته يقلعون عما هم عليه من الشرك والعصيان. إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً ملازما للصدق فى كل ما يأتى ويذر ، أو كثير التصديق لكثرة ما صدق به من غيوب اللّه تعالى وآياته وكتبه ورسله ، فالصدّيق مبالغة فى الصدق ، يقال : كل من صدق بتوحيد اللّه وأنبيائه وفرائضه ، وعمل بما صدق به فهو صدّيق ، وبذلك سمى أبو بكر الصدّيق ، وسيأتى فى الإشارة تحقيقه عند الصوفية ، إن شاء اللّه.
والجملة : استئناف مسوق لتعليل موجب الأمر فإن وصفه عليه السّلام بذلك من دواعى ذكره ، وكان أيضا نَبِيًّا ، أي : كان جامعا بين الصديقية والنبوة ، إذ كل نبى صدّيق ، ولا عكس. ولم يقل : نبيا صديقا لئلا يتوهم تخصيص الصديقية بالنبوة.
إِذْ قالَ لِأَبِيهِ
آزر ، متلطفا فى الدعوة مستميلا له : يا أَبَتِ
، التاء بدل من ياء الإضافة ، أي : يا أبى ، لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ
ثناءك عليه حين تعبده ، ولا جؤارك إليه حين تدعوه ، وَلا يُبْصِرُ
خضوعك وخشوعك بين يديه ، أو : لا يسمع ولا يبصر شيئا من المسموعات والمبصرات ، فيدخل فى ذلك ما ذكر دخولا أوليا ، وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً
أي : لا يقدر أن ينفعك بشىء فى طلب نفع أو دفع ضرر.
انظر لقد سلك عليه السّلام فى دعوته وموعظته أحسن منهاج وأقوم سبيل ، واحتج عليه بأبدع احتجاج ، بحسن أدب ، وخلق جميل ، لكن وقع ذلك لسائر ركب متن المكابرة والعناد ، وانتكب بالكلية عن محجة الصواب والرشاد ، أي :
فإنّ من كان بهذه النقائص يأبى من له عقل التمييز من الركون إليه ، فضلا عن عبادته التي هى أقصى غاية التعظيم ، فإنها لا تحق إلا لمن له الاستغناء التام والإنعام العام ، الخالق الرازق ، المحيي المميت ، المثيب المعاقب ، والشيء لو كان مميزا سميعا بصيرا قادرا على النفع والضر ، لكنه ممكن ، لاستنكف العقل السليم عن عبادته ، فما ظنك بجماد مصنوع من حجر أو شجر ، ليس له من أوصاف الأحياء عين ولا أثر.
ثم دعاه إلى اتباعه لأنه على المنهاج القويم ، مصدّرا للدعوة بما مرّ من الاستعطاف والاستمالة ، حيث قال :
يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ ، لم يسم أباه بالجهل المفرط ، وإن كان فى أقصاه ، ولا نفسه بالعلم الفائق ، وإن كان فى أعلاه ، بل أبرز نفسه فى صورة رفيق له ، أعرف بأحوال ما سلكاه من الطريق ،
___________
(1) من الآية 69 من سورة الشعراء.(3/335)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 336
فاستماله برفق ، حيث قال : فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا أي : مستقيما موصلا إلى أسمى المطالب ، منجيا من الضلال المؤدى إلى مهاوى الردى والمعاطب.
ثم ثبّطه عما كان عليه من عبادة الأصنام ، فقال : يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ ، فإن عبادتك للأصنام عبادة له ، إذ هو الذي يسولها لك ويغريك عليها ، ثم علل نهيه فقال : إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا ، فهو تعليل لموجب النهى ، وتأكيد له ببيان أنه مستعص على ربك ، الذي أنعم عليك بفنون النعم ، وسينتقم منه فكيف تعبده؟.
والإظهار فى موضع الإضمار لزيادة التقرير ، والاقتصار على ذكر عصيانه بترك السجود من بين سائر جناياته لأنه ملاكها ، أو لأنه نتيجة معاداته لآدم وذريته ، فتذكيره به داع لأبيه إلى الاحتراز عن موالاته وطاعته. والتعرض لعنوان الرحمانية لإظهار كمال شناعة عصيانه.
وقوله : يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ تحذير من سوء عاقبة ما كان عليه من عبادة الشيطان ، وهو اقترانه معه فى الهوان الفظيع. و(مِنَ الرَّحْمنِ) : صفة لعذاب ، أي : عذاب واقع من الرحمن ، وإظهار (الرَّحْمنِ) للإشعار بأن وصف الرحمانية لا يدفع حلول العذاب ، كما فى قوله تعالى : ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ «1» ، فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا أي : فإذا قرنت معه فى العذاب تكون قرينا له فى اللعن المخلد. فهذه موعظة الخليل لأبيه ، وقد استعمل معه الأدب من خمسة أوجه :
الأول : ندائه : بيا أبت ، ولم يقل يا آزر ، أو يا أبى.
الثاني : قوله : (ما لا يَسْمَعُ ...)
إلخ ، ولم يقل : لم تعبد الخشب والحجر.
الثالث : قوله : (إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ) ، ولم يقل له : أنك جاهل ضال.
الرابع : قوله : (إِنِّي أَخافُ) ، حيث عبّر له بالخوف ولم يجزم له بالعذاب.
الخامس : فى قوله : (أَنْ يَمَسَّكَ) ، حيث عبّر بالمس ولم يعبر باللحوق أو النزول. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : قد جمع الحق تبارك وتعالى لخليله مقام الصدّيقية والنبوة مع الرسالة والخلة ، وقدّم الصديقية لتقدمها فى الوجود فى حال الترقي ، فالصديقية تلى مرتبة النبوة ، كما تقدم فى سورة النساء. فالصدّيق عند الصوفية هو الذي يعظم صدقه وتصديقه ، فيصدّق بوجود الحق وبمواعده ، حتى يكون ذلك نصب عينيه ، من غير تردد ولا تلجلج ، ولا توقف على آية ولا دليل. ثم يبذل مهجته وماله فى مرضاة مولاه ، كما فعل الخليل ، حيث قدم
___________
(1) الآية 6 من سورة الانفطار.(3/336)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 337
بدنه للنيران وطعامه للضيفان وولده للقربان. وكما فعل الصدّيق ، حيث واسى النبي صلى اللّه عليه وسلم بنفسه فى الغار ، وخرج عن ماله خمس مرار. وكما فعل الغزالي حيث قدم نفسه للخراب ، حين اتصل بالشيخ وخرج عن ماله وجاهه فى طلب مولاه. ، ولذلك قال الشيخ أبو الحسن الشاذلى رضي اللّه عنه : فى حقه : «إنا لنشهد له بالصدّيقية العظمى» ، وناهيك بمن شهد له الشاذلى بالصدّيقية.
ومن أوصاف الصدّيق أنه لا يتعجب من شىء من خوارق العادة ، مما تبرزه القدرة الأزلية ، ولا يتعاظم شيئا ولا يستغربه ، ولذلك وصف الحق تعالى مريم بالصديقية دون سارة ، حيث تعجبت ، وقالت : أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ «1» وأما مريم فإنما سألت عن وجه ذلك ، هل يكون بنكاح أم لا ، واللّه تعالى أعلم.
وفى الآية إشارة إلى حسن الملاطفة فى الوعظ والتذكير ، لا سيما لمن كان معظما كالوالدين ، أو كبيرا فى نفسه.
فينبغى لمن يذكره أن يأخذه بملاطفة وسياسة ، فيقر له المقام الذي أقامه اللّه تعالى فيه ، ثم يذكره بما يناسبه فى ذلك المقام ، ويشوقه إلى مقام أحسن منه ، وأما إن أنكر له مقامه من أول مرة ، فإنه يفرّ عنه ولم يستمع إلى وعظه ، كما هو مجرب. وباللّه التوفيق.
ثم ذكر جواب أبيه له ، فقال :
[سورة مريم (19) : الآيات 46 الى 48]
قالَ أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46) قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا (47) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُوا رَبِّي عَسى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا (48)
قلت : هذا استئناف بيانى ، مبنى على سؤال نشأ عن صدر الكلام ، كأنه قيل : فماذا قال أبوه عند ما سمع هذه النصائح الواجبة القبول؟ فقال مصرا على عناده : أراغب ... إلخ.
يقول الحق جل جلاله : قالَ له أبوه فى جوابه : أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي أي : أمعرض ومنصرف أنت عنها فوجّه الإنكار إلى نفس الرغبة ، مع ضرب من التعجب ، كأن الرغبة عنها مما لا يصدر عن العاقل ، فضلا عن ترغيب الغير عنها ، ثم هدده فقال : لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ عن وعظك لَأَرْجُمَنَّكَ بالحجارة ، أي : واللّه لئن لم تنته عما أنت عليه من النهى عن عبادتها لأرجمنك بالحجر ، وقيل باللسان ، وَاهْجُرْنِي أي : واتركني مَلِيًّا أي : زمنا طويلا ، أو ما دام الأبد ، ويسمى الليل والنهار ملوان ، وهو عطف على محذوف ، أي : احذرنى واهجرني.
___________
(1) الآية 72 من سورة هود.(3/337)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 338
قالَ له إبراهيم عليه السّلام : سَلامٌ عَلَيْكَ منى ، لا أصيبك بمكروه ، وهو توديع ومتاركة على طريق مقابلة السيئة بالحسنة ، أي : لا أشافهك بما يؤذيك ، ولكن سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي أي : أستدعيه أن يغفر لك. وقد وفى عليه السّلام بقوله فى سورة الشعراء : وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ «1». أو : بأن يوفقك للتوبة ويهديك للإيمان. والاستغفار بهذا المعنى للكافر قبل تبين أنه يموت على الكفر مما لا ريب فى جوازه ، وإنما المحظور استدعاء المغفرة مع بيان شقائه بالوحى ، وأما الاستغفار له بعد موته فالعقل لا يحليه. ولذلك قال صلى اللّه عليه وسلم لعمه أبى طالب : «لا أزال أستغفر لك ما لم أنه عنك». ثم نهاه عنه كما تقدم فى التوبة. فالنهى من طريق السمع ، ولا اشتباه أن هذا الوعد من إبراهيم ، وكذا قوله : لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ «2» وقوله : وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ «3» إنما كان قبل انقطاع رجائه من إيمانه ، بدليل قوله : فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ «4».
وقوله تعالى : إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا أي : بليغا فى البر والألطاف ، رحيما بي فى أمورى ، قد عوّدنى الإجابة.
أو عالما بي يستجيب لى إن دعوته ، وفى القاموس : حفى كرضى ، حفاوة. ثم قال : واحتفا : بالغ فى إكرامه وأظهر السّرور والفرح به ، وأكثر السؤال عن أحواله ، فهو حاف وحفي. ه.
وَأَعْتَزِلُكُمْ أي : أتباعد عنك وعن قومك ، وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ بالمهاجرة بديني ، حيث لم تؤثر فيكم نصائحى ، وَأَدْعُوا رَبِّي : أعبده وحده ، أو أدعوه بطلب المغفرة لك - أي قبل النهى - أو : أدعوه بطلب الولد ، كقوله : رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ «5» ، عَسى أَلَّا أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا أي : عسى ألا أشقى بعبادته ، أو : لا أخيب فى طلبه ، كما شقيتم أنتم فى عبادة آلهتكم وخبتم. ففيه تعريض بهم ، وفى تصدير الكلام بعسى من إظهار التواضع وحسن الأدب ، والتنبيه على أن الإجابة من طريق الفضل والكرم ، لا من طريق الوجوب ، وأن العبرة بالخاتمة والسعادة ، وفى ذلك من الغيوب المختصة بالعليم الخبير ما لا يخفى.
الإشارة : انظر كيف رفض آزر من رغب عن آلهته ، وإن كان أقرب الناس إليه ، فكيف بك أيها المؤمن ألّا ترفض من يرغب عن إلهك ويعبد معه غيره ، أو يجحد نبيه ورسوله ، بل الواجب عليك أن ترفض كل ما يشغلك عنه ، غيرة منك على محبوبك ، وإذا نظرت بعين الحقيقة لم تجد الغيرة إلا على الحق ، إذ ليس فى الوجود إلا الحق ، وكل ما سواه باطل على التحقيق.
___________
(1) الآية 86 من سورة الشعراء.
(2) فى الآية 4 من سورة الممتحنة.
(3) من الآية 86 من سورة الشعراء.
(4) الآية 114 من سورة التوبة.
(5) الآية 100 من سورة الصافات.(3/338)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 339
فمن اعتزل كل ما سوى اللّه ، وأفرد وجهته إلى مولاه ، لم يشق فى مطلبه ومسعاه ، بل يطلعه اللّه على أسرار ذاته ، وأنوار صفاته ، حتى لا يرى فى الوجود إلا الواحد الأحد الفرد الصمد. وباللّه التوفيق.
ثم ذكر نتيجة الانفراد عمن يصد عن اللّه ، فقال :
[سورة مريم (19) : الآيات 49 الى 50]
فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاًّ جَعَلْنا نَبِيًّا (49) وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (50)
قلت : (وَ كُلًّا) : مفعول أول لجعلنا ، و(عَلِيًّا) : حال من اللسان.
يقول الحق جل جلاله : فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ أي : اعتزل إبراهيم قومه وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ بأن خرج من «كوثى» بأرض العراق ، مهاجرا إلى الشام واستقر بها ، وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ ولده وَيَعْقُوبَ حفيده ، بعد أن وهب له إسماعيل من أمته هاجر ، التي وهبت لزوجه سارة ، ثم وهبتها له ، فولد له منها إسماعيل ، ولما حملت هاجر بإسماعيل غارت منها سارة ، فخرج بها مع ولدها إسماعيل حتى أنزلهما مكة ، فكان سبب عمارتها. ثم حملت سارة بإسحاق ، ثم نشأ عنه يعقوب ، وإنما خصمها بالذكر لأنهما كانا معه فى بلده ، وإسحاق كان متصلا به يسعى معه فى مآربه ، فكانت النعمة بهما أعظم.
ولعل ترتيب هبتهما على اعتزاله هاهنا لبيان كمال عظم النعمة التي أعطاها اللّه تعالى إياه ، فى مقابلة من اعتزلهم من الأهل والأقارب ، فإنهما شجرة الأنبياء ، لهما أولاد وأحفاد ، لكل واحد منهم شأن خطير وعدد كثير.
وَكُلًّا جَعَلْنا نَبِيًّا أي : وكل واحد منهما أو منهم جعلناه نبيا ورسولا.
وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا هى النبوة ، وذكرها بعد ذكر جعلهم أنبياء للإيذان بأنها من باب الرحمة والفضل. وقيل : الرحمة : المال والأولاد ، وما بسط لهم من سعة الرزق ، وقيل : إنزال الكتاب ، والأظهر أنها عامة لكل خير دينى ودنيوى. وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا : رفيعا فى أهل الأديان ، فكل أهل دين يتلونهم ، ويثنون عليهم ، ويفتخرون بهم استجابة لدعوته بقوله : وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ «1».
والمراد باللسان : ما يوجد به الكلام فى لسان العرب ولغتهم ، وإضافته إلى الصدق ، ووصفه بالعلو للدلالة على أنهم أحقاء لما يثنون عليهم ، وأن محامدهم لا تخفى على تباعد الأعصار ، وتبدل الدول ، وتحول الملل والنحل. واللّه تعالى أعلم.
___________
(1) الآية 84 من سورة الشعراء. [.....](3/339)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 340
الإشارة : كل من اعتزل عن الخلق وانفرد بالملك الحق ، طلبا فى الوصول إلى مشاهدة الحق ، لا بد أن تفيض عليه المواهب القدسية والأسرار الوهبية والعلوم اللدنية ، وهى نتائج فكرة القلوب الصافية ، وفى الحكم : «ما نفع القلب شىء مثل عزلة يدخل بها ميدان فكرة». قال الجنيد رضي اللّه عنه : أشرف المجالس وأعلاها الجلوس مع الفكرة فى ميدان التوحيد. وقال الشيخ أبو الحسن الشاذلى رضي اللّه عنه : (ثمار العزلة : الظفر بمواهب المنة ، وهى أربعة : كشف الغطاء ، وتنزل الرحمة ، وتحقق المحبة ، ولسان الصدق فى الكلمة ، قال اللّه تعالى : فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنا لَهُ ... الآية). وقال بعض الحكماء : من خالط الناس داراهم ، ومن داراهم راءاهم ، ومن راءاهم وقع فيما وقعوا ، فهلك كما هلكوا.
وقال بعض الصوفية : قلت لبعض الأبدال المنقطعين إلى اللّه : كيف الطريق إلى التحقيق؟ قال : لا تنظر إلى الخلق ، فإن النظر إليهم ظلمة ، قلت : لا بد لى ، قال : لا تسمع كلامهم ، فإن كلامهم قسوة ، قلت : لا بد لى ، قال : لا تعاملهم ، فإن معاملتهم خسران ووحشة ، قلت : أنا بين أظهرهم ، لا بد لى من معاملتهم ، قال : لا تسكن إليهم ، فإن السكون إليهم هلكة ، قلت : هذا لعله يكون ، قال : يا هذا أتنظر إلى اللاعبين ، وتسمع كلام الجاهلين ، وتعامل البطالين ، وتسكن إلى الهلكى ، وتريد أن تجد حلاوة الطاعة وقلبك مع اللّه؟! هيهات .. هذا لا يكون أبدا ، ثم غاب عنى.
وقال القشيري رضي اللّه عنه : فأرباب المجاهدات ، إذا أرادوا صون قلوبهم عن الخواطر الردية لم ينظروا إلى المستحسنات - أي : من الدنيا - . قال : وهذا أصل كبير لهم فى المجاهدات فى أحوال الرياضة. ه. وقال فى «القوت» : ولا يكون المريد صادقا حتى يجد فى الخلوة من الحلاوة والنشاط والقوة ما لا يجده فى العلانية ، وحتى يكون أنسه فى الواحدة ، وروحه فى الخلوة ، وأحسن أعماله فى السر. ه.
قلت : العزلة عن الخلق والفرار منهم شرط فى بداية المريد ، فإذا تمكن من الشهود ، وأنس قلبه بالملك الودود ، واتصل بحلاوة المعاني ، ينبغى له أن يختلط بالخلق ويربى فكرته لأنهم حينئذ يزيدون فى معرفته ويتسع بهم لأنه يراهم حينئذ أنوارا من تجليات الحق ، ونوارا يرعى فيهم ، فيجتنى حلاوة الشهود ، وفى ذلك يقول شيخ شيوخنا المجذوب :
الخلق نوار وأنا رعيت فيهم هم الحجاب الأكبر والمدخل فيهم.
وفى مقطعات الششترى :
عين الزحام هم الوصول لحيّنا.
وباللّه التوفيق.(3/340)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 341
ثم ذكر قصة موسى عليه السّلام ، فقال :
[سورة مريم (19) : الآيات 51 الى 53]
وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا (51) وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا (52) وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا (53)
قلت : «نَجِيًّا» : حال من أحد الضميرين فى (نادَيْناهُ) أو (قَرَّبْناهُ) ، وهو أحسن. و«هارُونَ» : عطف بيان.
يقول الحق جل جلاله : وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى ، قدّم ذكره على ذكر إسماعيل لئلا ينفصل عن ذكر يعقوب لأنه من نسله ، إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً «1» : موحدا ، أخلص عبادته من الشرك والرياء ، وأسلم وجهه للّه تعالى ، وأخلص نفسه عما سواه. وقرئ بالفتح ، على أن اللّه تعالى أخلصه من الدنس. قال القشيري أي : خالصا للّه ، لم يكن لغيره بوجه. ثم قال : ولم يغض فى اللّه على شىء. ه.
وَكانَ رَسُولًا نَبِيًّا أرسله اللّه تعالى إلى الخلق فأنبأهم عنه ، ولذلك قدّم رسولا مع كونه أخص وأعلى ، وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ ، الطور : جبل بين مصر ومدين ، أي : ناديناه من ناحيته اليمنى ، وهى التي تلى يمين موسى عليه السّلام ، فكانت الشجرة فى جانب الجبل عن يمين موسى ، أو من أيمن ، أي : من جانبه الميمون ، ومعنى ندائه منه : أنه سمع الكلام من تلك الناحية ، وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا أي : مناجيا لنا نكلمه بلا واسطة ، فالتقريب :
تقريب تكرمة وتشريف ، مثّل حاله عليه السّلام بحال من قرّبه الملك لمناجاته واصطفاه لمصاحبته. وقيل : (نَجِيًّا) من النجو ، وهو العلو والارتفاع ، أي : رفعناه من سماء إلى سماء ، حتى سمع صريف القلم يكتب له فى الألواح.
وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أي : من أجل رحمتنا ورأفتنا به ، أو من بعض رحمتنا أَخاهُ هارُونَ ، أي : وهبنا له مؤازرة أخيه ومعاضدته ، إجابة لدعوته : وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي ، هارُونَ أَخِي «2» لا نفسه لأنه كان أكبر منه ، وجد قبله ، حال كونه نَبِيًّا : رسولا مشركا معه فى الرسالة. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : كما وصف الحق تعالى خليله بالصديقية وصف كليمه بالإخلاص ، وكلاهما شرط فى حصول سر الخصوصية ، سواء كانت خصوصية النبوة أو الولاية ، فمن لا تصديق عنده لا سير له ، ومن لا إخلاص له لا وصول له. وحقيقة الإخلاص : إخراج الخلق من معاملة الحق ، وهى ثلاث طبقات سفلى ، ووسطى ، وعليا.
___________
(1) قرأ عاصم وحمزة والكسائي وخلف (مخلصا) بفتح اللام.
(2) الآيتان 2 - 3 من سورة طه.(3/341)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 342
فالسفلى : أن يفعل العبادة للّه تعالى ، طالبا لعوض دنيوى ، كسعة الأرزاق ، وحفظ الأموال والبدن ، فهذا إخلاص العوام ، وإنما كان إخلاصا لأنهم لم يلاحظوا مخلوقا فى عملهم.
والوسطى : أن يعبد اللّه مخلصا ، طالبا لعوض أخروى ، كالحور والقصور.
والعليا : أن يفعل العبادة قياما برسم العبودية ، وأدبا مع عظمة الربوبية ، غير ملتفت لجنة ولا نار ، ولا دنيا ولا آخرة ، مع تعظيم نعيم الجنان ، لأنه محل اتصال الرؤية كما قال ابن الفارض رضي اللّه عنه :
ليس شوقى من الجنان نعيما غير أنى أريدها لأراك
فإذا تحقق للعبد مقام الإخلاص الكامل ، صار مقربا نجيا فى محل المشاهدة والمكالمة. وباللّه التوفيق.
ثم ذكر نبيه إسماعيل عليه السّلام فقال :
[سورة مريم (19) : الآيات 54 الى 55]
وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا (54) وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (55)
يقول الحق جل جلاله : وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ ، فصل ذكره عن أبيه وأخيه لإبراز كمال الاعتناء بأمره ، لإيراده مستقلا بترجمته ، إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ ، هذا تعليل لموجب الأمر بذكره. وإيراده عليه السّلام بهذا الوصف لكمال شهرته به.
روى أنه واعد رجلا أن يلقاه فى موضع ، فجاء إسماعيل ، وانتظر الرجل يومه وليلته - وقيل : ثلاثة أيام - فلما كان فى اليوم الآخر ، جاء الرجل ، فقال له إسماعيل : ما زلت هنا من أمس. وقال الكلبي : انتظره سنة ، وهو بعيد.
قال ابن عطية : وقد فعل مثل هذا نبينا صلى اللّه عليه وسلم قبل مبعثه ، ذكره النقاش وأخرجه الترمذي وغيره ، وذلك فى مبايعة وتجارة «1» ه. وقال القشيري : وعد من نفسه الصبر على ذبح أبيه ، فصبر على ذلك ، إلى أن ظهر الفداء ، وصدق الوعد دلالة حفظ العهد. ه.
وقال ابن عطاء : وعد لأبيه من نفسه الصبر ، فوفى به ، فى قوله : سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ «2». ه. وهذا مبنى على أنه الذبيح ، وسيأتى تحقيق المسألة إن شاء اللّه «3».
___________
(1) أخرج أبو داود فى (الأدب ، باب فى العدة) عن عبد اللّه بن أبى الحمساء ، قال : بايعت النبي صلى اللّه عليه وسلم ببيع قبل أن يبعث ، وبقيت له بقية ، فوعدته أن آتيه بها فى مكانه ، فنسيت ، ثم ذكرت بعد ثلاث ، فجئت فإذا هو فى مكانه ، فقال : «يافتى ، لقد شققت على ، أنا هاهنا منذ ثلاث أنتظرك».
(2) الآية 102 من سورة الصافات.
(3) سبق التعليق على هذه المسألة عند تفسير الآية 124 من سورة البقرة.(3/342)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 343
وَكانَ رَسُولًا نَبِيًّا أي : رسولا لجرهم ومن والاهم ، مخبرا لهم بغيب الوحى ، وكان أولاده على شريعته ، حتى غيرها عمرو بن لحى الخزاعي ، فأدخل الأصنام مكة. فمازالت تعبد حتى محاها نبينا محمد صلى اللّه عليه وسلم بشريعته المطهرة.
وَكانَ إسماعيل يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ، قدّم الأهل اشتغالا بالأهم ، وهو أن يقبل بالتكميل على نفسه ، ومن هو أقرب الناس إليه ، قال تعالى : وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ «1» ، وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ «2» ، قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً «3» ، وقصد إلى تكميل الكل بتكميلهم لأنهم قدوة يؤتسى بهم.
وقيل : أهله : أمته لأن الأنبياء - عليهم السلام - آباء الأمم. وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا لاتصافه بالنعوت الجليلة التي من جملتها ما ذكر من الخصال الحميدة. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : قد وصف الحق - جل جلاله - نبيه إسماعيل بثلاث خصال ، بها كان عند ريه مرضيا ، فمن اتصف بها كان مرضيا مقربا : الوفاء بالوعد ، والصدق فى الحديث لأنه مستلزم له ، وأمر الناس بالخير. أما الوفاء بالعهد فهو من شيم الأبرار ، قد مدح اللّه تعالى أهله ، ورغّب فيه وأمر به ، قال تعالى : وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا «4». وقال تعالى : وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ «5» فإخلاف الوعد من علامة النفاق ، قال صلى اللّه عليه وسلم :
«آية المنافق ثلاث : إذا حدّث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا ائتمن خان» وخلف الوعد إنما يضر إذا كان نيته ذلك عند عقده ، أو فرط فيه ، وأما إن كان نيته الوفاء ، ثم غلبته المقادير ، فلا يضر ، لا سيما فى حق أهل الفناء ، فإنهم لا حكم لهم على أنفسهم فى عقد ولا حل ، بل هم مفعول بهم ، زمامهم بيد غيرهم ، كل ساعة ينظرون ما يفعل اللّه بهم ، فمثل هؤلاء لا ميزان عليهم فى عقد ولا حل. فمثلهم مع الحق كمثل الأطفال المحجر عليهم فى التصرف ، ولذلك قالوا : (الصوفية أطفال فى تربية الحق تعالى). فإياك أن تطعن على أولياء اللّه إذا رأيت منهم شيئا من ذلك ، والتمس أحسن المخارج ، وهو ما ذكرته لك ، فإنه عن تجربة وذوق. واللّه تعالى أعلم.
ثم ذكر نبيه إدريس عليه السّلام ، فقال :
[سورة مريم (19) : الآيات 56 الى 57]
وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (56) وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا (57)
___________
(1) الآية 214 من سورة الشعراء.
(2) الآية 102 من سورة طه.
(3) الآية 6 من سورة التحريم.
(4) الآية 177 من سورة البقرة.
(5) الآية 91 من سورة النحل.(3/343)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 344
يقول الحق جل جلاله : وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ وهو سبط شيث ، وجدّ أبى نوح ، فإنه نوح بن لامك بن متوشلخ بن أخنوخ ، وهو إدريس عليه السّلام ، واشتقاقه من الدرس لكثرة دراسته لما أوحى إليه ، وكثرة ذكره للّه تعالى.
روى أنه كان خياطا فكان لا يدخل الإبرة ولا يخرجها إلا بذكر اللّه. وروى أنه جاء إليه الشيطان يفتنه بفستق ، فقال له : هل يقدر ربك أن يجعل الدنيا فى هذه الفستقة؟ فقال له عليه السّلام : (اللّه قادر على أن يدخل الدنيا كلها فى سم هذه الإبرة ، ونخس عينه) ذكره السنوسى فى شرح مقرأه. قال ابن وهب : إنه دعا قومه إلى لا إله إلا اللّه ، فامتنعوا فهلكوا. وفى حديث أبى ذر : أنه رسول ، وجمع بينه وبين حديث الشفاعة ، وقولهم لنوح : إنك أول رسول ، بأن تكون رسالته لقومه خاصة ، كهود وصالح ، وكذا آدم وشيث ، فإنه أرسل لبنيه لتعليم الشرائع والإيمان ، ولم يكونوا كفارا ، وخلفه فى ذلك شيث ، قال المحشى الفاسى : والأظهر عندى فى نوح أنه أول رسول من أهل العزم ، لا مطلقا.
قال ابن عطية : والأشهر أن إدريس عليه السّلام لم يرسل ، وإنما هو نبى فقط ، وذهب إلى ذلك ابن بطال ، ليسلم من المعارضة ، وهى مدفوعة بما ذكرنا. ه. فالمشهور أن إدريس رسول إلى قومه. روى أنه تعالى أنزل عليه ثلاثين صحيفة ، وأنه أول من خط بالقلم ، ونظر فى علم النجوم والحساب ، وخاط الثياب. قيل : وهو أول نبى بعث إلى أهل الأرض.
قال تعالى فى وصفه : إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا : خبران لكان ، والثاني مخصص للأول إذ ليس كل صدّيق نبى. وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا ، هو شرف النبوة والزلفى عند اللّه تعالى. وقيل : علو الرتبة بالذكر الجميل فى الدنيا ، كما قال تعالى فى حق نبينا : وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ «1» ، وقيل : الجنة ، وقيل : السماء الرابعة ، وهو الصحيح.
روى عن كعب وغيره فى سبب رفعه أنه مشى ذات يوم فى حاجته ، فأصابه وهج الشمس وحرها ، فقال : يا رب أنا مشيت يوما ، فكيف بمن يحملها مسيرة خمسمائة عام فى يوم واحد! ، اللهمّ خفّف عنه من ثقلها ، واحمل عنه حرها ، فلما أصبح الملك وجد من خفة الشمس وحرها ما لا يعرف ، فقال : يا رب كلفتنى بحمل الشمس ، فما الذي قضيت فيه؟ فقال : إن عبدى إدريس سألنى أن أخفف عنك حملها وحرّها فأجبته ، قال : يا رب اجعل بينى وبينه خلّة ، فأذن له ، حتى أتى إدريس ، فقال له إدريس : أخبرت أنك أكرم الملائكة عند ملك الموت ، فاشفع لى ليؤخر
___________
(1) الآية 4 من سورة الشرح.(3/344)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 345
أجلى ، لأزداد شكرا وعبادة ، فقال له الملك : لا يؤخر اللّه نفسا إذا جاء أجلها ، فقال : قد علمت ذلك ، ولكنه أطيب لنفسى ، قال : نعم ، ثم حمله ملك الشمس على جناحه فرفعه إلى السماء «1». روى أنه مات هناك وردت إليه روحه بعد ساعة ، فهو فى السماء الرابعة حى. وهذه قصص اللّه أعلم بصحتها. وباللّه التوفيق.
الإشارة : ارتفاع المكان والشأن يكون على قدر صفاء الجنان ، والإقبال على الكريم المنان ، فبقدر التوجه والإقبال يكون الارتفاع والوصال.
بقدر الكد تكسب المعالي ومن رام العلا سهر الليالى
أتبغي العز ثم تنام ليلا يغوص البحر من طلب اللآلى
قال بعضهم : من عامل اللّه على بساط الأنس : رفع ، لا محالة ، إلى حضرة القدس. وباللّه التوفيق.
ثم ذكر مدحهم فى الجملة ، فقال :
[سورة مريم (19) : آية 58]
أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَإِسْرائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا (58)
قلت : «أُولئِكَ» : مبتدأ ، و«الَّذِينَ» : خبره ، أو «الَّذِينَ» : صفته ، و«إِذا تُتْلى » : خبره. والإشارة إلى المذكورين فى السورة ، وما فيه من معنى البعد للإشعار بعلو رتبتهم وبعد منزلتهم فى الفضل ، و(مِنَ النَّبِيِّينَ) : بيان للموصول ، و(مِنْ ذُرِّيَّةِ) :
بدل منه بإعادة الجار ، و(سُجَّداً وَبُكِيًّا) : حالان من الواو ، و(بُكِيًّا) : جمع باك ، كمساجد وسجود ، وأصله : بكوى ، فاجتمع الواو والياء ، وسبق إحداهما بالسكون ، فقلبت الواو ياء ، وأدغمت فى الياء ، وحركت الكاف بالكسر المجانس للياء.
يقول الحق جل جلاله : أُولئِكَ المذكورون فى السورة الكريمة هم الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بفنون النعم الدينية والدنيوية ، مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ ، وهو إدريس عليه السّلام ونوح ، وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ أي :
ومن ذرية من حملناهم فى السفينة ، وهو إبراهيم لأنه من ذرية سام بن نوح ، وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ ، وهم إسماعيل وإسحاق ويعقوب ، وقوله : وَإِسْرائِيلَ أي : ومن ذرية إسرائيل ، وهو يعقوب ، وكان منهم موسى وهارون وزكريا ويحيى وعيسى ، وفيه دليل على أن أولاد البنات من الذرية. وَمِمَّنْ هَدَيْنا أي : ومن جملة من هديناهم إلى الحق واجتبيناهم إلى النبوة من غير هؤلاء.
___________
(1) عقّب ابن كثير على هذه الرواية وأمثالها بأن فيها غرابة ونكارة ، وهى من أخبار كعب الأحبار من الإسرائيليات.(3/345)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 346
إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا ، هذا استئناف لبيان خشيتهم من اللّه تعالى وإخباتهم له ، مع مالهم من علو الرتبة وسمو الطبقة فى شرف النسب ، وكمال النفس والزلفى من اللّه عز وجل ، أي :
إذا تتلى عليهم ، آيات الرحمن ، إما عند نزولها عليهم ، أو بسماعها من غيرهم ، لحديث : «أحب أن أسمعه من غيرى». ثم بكى صلى اللّه عليه وسلم عند قوله تعالى : فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً «1» فكان الأنبياء عليهم السلام مثله ، إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا ساجدين وباكين. عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال : «اتلوا القرآن وابكوا ، فإن لم تبكوا فتباكوا» «2». وعن عمر رضي اللّه عنه أنه قرأ سورة مريم ، فسجد فيها ، فقال : (هذا السجود ، فأين البكاء)؟
قال بعضهم : ينبغى أن يدعو الساجد فى سجوده بما يليق بآيتها ، فهاهنا يقول : اللهم اجعلنى من عبادك المنعم عليهم ، المهديين الساجدين لك ، الباكين عند تلاوة آياتك. وفى الإسراء يقول : اللهم اجعلنى من الخاضعين لوجهك ، المسبحين بحمدك ، وأعوذ بك أن أكون من المستكبرين عن أمرك ، وهكذا. والذي ورد فى الخبر : يقول :
«سجد وجهى للذى خلقه وصوّره ، وشقّ سمعه وبصره ، بحوله وقوته ، اللهم اكتب لى بها أجرا ، وضع عنى بها وزرا ، واجعلها لى عندك ذخرا ، وتقبلها منى كما تقبلتها من عبدك داود عليه السّلام». واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : قد أثنى اللّه تعالى على هؤلاء السادات المنعم عليهم بكونهم إذا سمعوا كلام الحبيب خضعوا ورقّت قلوبهم ، وهو أول درجة المحبة ، وفوقه الفرح بكلام الحبيب من مكان قريب ، وفوقه الفرح بشهود المتكلم ، وهنا ينقطع البكاء لدخول صاحب هذا المقام جنة المعارف ، وليس فى الجنة بكاء.
وأيضا : من شأن القلب فى أول أمره الرطوبة ، يتأثر بالواردات والأحوال ، فإذا استمر عليها اشتد وصلب بحيث لا يؤثر فيه شىء من الواردات الإلهية. وفى هذا المعنى قال أبو بكر رضي اللّه عنه ، حين رأى قوما يبكون عند سماع القرآن : (كذلك كنا ثم قست القلوب) «3» ، فعبّر عن تمكنه بالقسوة ، تواضعا واستتارا ، وإنما أثنى على هؤلاء السادات بهذه الخصلة لأنها سلّم لما فوقها. واللّه تعالى أعلم.
___________
(1) الآية 41 من سورة النساء ، والحديث : أخرجه البخاري فى (التفسير - سورة النساء) ، ومسلم فى (الصلاة ، باب : فضل استماع القرآن) من حديث ابن مسعود رضي اللّه عنه.
(2) الحديث أخرجه بنحوه ابن ماجة فى (إقامة الصلاة ، باب فى حسن الصوت بالقرآن) من حديث سعد بن أبى وقاص. [.....]
(3) قال الحافظ أبو نعيم : «.. عن أبى صالح : لما قدم أهل اليمن - زمان أبى بكر - وسمعوا القرآن ، جعلوا يبكون ، قال : فقال أبو بكر :
[هكذا كنا ، ثم قست القلوب ]. قال الشيخ أبو نعيم رحمه الله : «ومعنى قوله : قست القلوب : قويت ، واطمأنت بمعرفة الله تعالى.
أ. ه. الحلية ، ج 1 ، ص 33 - 34 ويحتمل أن يكون المعنى : أنهم كانوا أرقاء القلوب بمشاهدتهم لحضرة النبي صلى اللّه عليه وسلم .. ثم طال الأمد .. فقست القلوب .. وهذا منه تواضع ، رضي اللّه عنه.(3/346)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 347
ثم ذكر أضدادهم ، فقال :
[سورة مريم (19) : الآيات 59 الى 63]
فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59) إِلاَّ مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً (60) جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (61) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلاَّ سَلاماً وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا (62) تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا (63)
قلت : (جَنَّاتِ عَدْنٍ) : بدل من الجنة ، بدل بعض لاشتمالها عليها ، وما بينهما اعتراض ، أو نصب على المدح. و(إِلَّا سَلاماً) : منقطع ، أي : لكن يسمعون سلاما ، ويجوز اتصاله ، على أن المراد بالسلام الدعاء بالسلامة ، فإن أهل الجنة أغنياء عنه ، فهو داخل فى اللغو. و(بِالْغَيْبِ) : حال من عائد الموصول ، أي : وعدها ، أو من العباد ، و(مَأْتِيًّا) : أصله مأتوى ، فأبدل وأدغم كما تقدم.
يقول الحق جل جلاله : فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ أي : جاء بعد أولئك الأكابر ، خَلْفٌ أي : عقب سوء ، يقال لعقب الخير «خَلْفٌ» بفتح اللام ، ولعقب الشر «خَلْفٌ» بسكون اللام ، أي : فعقبهم وجاء بعدهم عقب سوء ، أَضاعُوا الصَّلاةَ أي : تركوها وأخروها عن وقتها ، وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ من شرب الخمر ، واستحلال نكاح الأخت ، من الأب ، والانهماك فى فنون المعاصي ، وعن على رضي اللّه عنه : هم من بنى المشيد ، وركب المنضود ، ولبس المشهور. قلت : ولعل المنضود : السرج المرصعة بالجواهر والذهب. وقال مجاهد : هذا عند اقتراب الساعة ، وذهاب صالح أمة محمد صلى اللّه عليه وسلم ، ينزو بعضهم على بعض فى السكك والأزقة. ه. فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا : شرا ، فكل شر عند العرب غى ، وكل خير رشاد. قال ابن عباس : الغىّ : واد فى جهنم ، وإن أودية جهنم لتستعيذ من حرّه ، أعد للزانى المصرّ ، ولشارب الخمر المدمن ، ولأهل الرياء والعقوق والزور ، ولمن أدخلت على زوجها ولدا من غيره. ه.
إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ، هذا يدل على أن الآية فى الكفار. فَأُولئِكَ المنعوتون بالتوبة والإيمان والعمل الصالح ، يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بموجب الوعد المحتوم ، أو يدخلهم الله الجنة ، وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً : لا ينقصون من جزاء أعمالهم شيئا ، وفيه تنبيه على أن كفرهم السابق لا يضرهم ، ولا ينقص أجورهم ، إذا صححوا المعاملة مع ربهم.(3/347)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 348
جَنَّاتِ عَدْنٍ أي : إقامة ، لإقامة داخلها فيها على الأبد ، الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ أي : ملتبسين بالغيب عنها لم يروها ، وإنما آمنوا بها بمجرد الإخبار ، أو ملتبسة بالغيب ، أي : غائبة عنهم غير حاضرة. والتعرض لعنوان الرحمانية للإيذان بأن وعده وإنجازه لكمال سعة رحمته تعالى ، إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا يأتيه من وعد به لا محالة ، وقيل : هو مفعول بمعنى فاعل ، أي : آتيا لا محالة ، وقيل : مأتيا : منجزا ، من أتى إليه إحسانا ، أي : فعله.
لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً أي : فضول كلام لا طائل تحته ، وهو كناية عن عدم صدور اللغو عن أهلها. وفيه تنبيه على أن اللغو ينبغى للعبد أن يجتنبه فى هذه الدار ما أمكنه. وفى الحديث : «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه» «1». وهو عامّ فى الكلام وغيره. إِلَّا سَلاماً ، أي : لا يسمعون لغوا ، لكن يسمعون تسليم الملائكة عليهم ، أو تسليم بعضهم على بعض ، وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا أي : على قدرهما فى الدنيا ، إذ ليس فى الجنة نهار ولا ليل ، بل ضوء ونور أبدا. قال القرطبي : ليلهم إرخاء الحجب وإغلاق الأبواب ، أي : ونهارهم رفع الحجب وفتح الأبواب.
قال القشيري : الآية ضرب مثل لما عهد فى الدنيا لأهل اليسار ، والقصد : أنهم أغنياء مياسير فى كل وقت. ه.
وسيأتى عند قوله : يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ «2» كيفية أرزاقهم.
قال تعالى : تِلْكَ الْجَنَّةُ : مبتدأ وخبر ، جىء بهذه الجملة لتعظيم شأن الجنة وتعيين أهلها ، وما فى اسم الإشارة من معنى البعد للإيذان ببعد منزلتها وعلو رتبتها ، أي : تلك الجنة التي وصفت بتلك الأوصاف العظيمة هى الَّتِي نُورِثُ أي : نورثها مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا للّه بطاعته واجتناب معاصيه ، أي : نديمها عليهم بتقواهم ، ونمتعهم بها ، كما يبقى عند الوارث مال مورثه يتمتع به ، والوراثة أقوى ما يستعمل فى التملك والاستحقاق من الألفاظ من حيث إنها لا يعقبها فسخ ولا استرجاع ولا إبطال. وقيل : يرث المتقون من الجنة المساكن التي كانت لأهل النار ، لو آمنوا وأطاعوا ، زيادة فى كرامتهم. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : قوله تعالى : فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ ... الآية تنسحب على من كان أسلافه صالحين ، فتنكب عن طريقهم ، فضيّع الدين ، وتكبر على ضعفاء المسلمين ، واتبع الحظوظ والشهوات ، وتعاطى الأمور العلويات ، فإن ضم إلى ذلك الافتخار بأسلافه ، أو بالجاه والمال ، كان أغرق فى الغى والضلال ، يصدق عليه قول القائل :
إن عاهدوك على الإحسان أو وعدوا خانوا العهود ولكن بعد ما حلفوا
بل يفخرون بأجداد لهم سلفت نعم الجدود ، ولكن بئس ما خلّفوا
___________
(1) أخرجه الترمذي فى (الزهد باب 11) ، وابن ماجة فى (الفتن ، باب : كف اللسان فى الفتنة) عن أبى هريرة رضي اللّه عنه.
(2) الآية 71 من سورة الزخرف.(3/348)
البحر المديد ج 3 ، ص : 349
إلا من تاب ورجع إلى ما كان عليه أسلافه ، من العلم النافع والعمل الصالح ، والتواضع للصالح والطالح ، فيرافقهم فى جنة الزخارف أو المعارف ، التي وعد الرحمن عباده المخصوصين بالغيب ، ثم صارت عندهم شهادة ، إنه كان وعده مأتيا ، لا يسمعون فيها لغوا لأن الحضرة مقدسة عن اللغو ، (إِلَّا سَلاماً) لسلامة صدورهم ، ولهم رزقهم فيها من العلوم والأسرار والمواهب ، فى كل ساعة وحين ، لا يرث هذه الجنة إلا من اتقى ما سوى اللّه ، وانقطع بكليته إلى مولاه. وباللّه التوفيق.
ولما أبطأ الوحى عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال : «يا جبريل ما يمنعك أن تزورنا أكثر مما تزورنا؟» فنزل «1» :
[سورة مريم (19) : الآيات 64 الى 65]
وَما نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (64) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65)
قلت : وجه المناسبة لما قبله - واللّه أعلم - : أن الحق جل جلاله لما سرد قصص الأنبياء وما نشأ بعدهم ، وكان جبريل هو صاحب وحيهم الذي ينزل به عليهم ، ذكر هنا أن نزوله ليس باختياره ، فقال : وَما نَتَنَزَّلُ ... إلخ.
يقول الحق جل جلاله ، حاكيا لقول جبريل عليه السّلام : وَما نَتَنَزَّلُ عليك يا محمد إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ ، وذلك حين أبطأ الوحى عنه صلى اللّه عليه وسلم ، لما سئل عن أصحاب الكهف وذى القرنين والروح ، فلم يدر كيف يجيب ، ورجا أن يوحى إليه فيه ، فأبطا عليه أربعين يوما. قاله عكرمة. وقال مجاهد : ثنتى عشرة ليلة ، أو خمس عشرة. فشقّ على النبي صلى اللّه عليه وسلم مشقة شديدة. وقال : يا جبريل قد اشتقت إليك ، فقال جبريل : إنى كنت أشوق ، ولكنى عبد مأمور ، إذا بعثت نزلت ، وإذا حبست احتبست ، فأنزل الله هذه الآية وسورة الضحى «2» ، والتنزل : النزول على مهل ، وقد يطلق على مطلق النزول ، والمعنى : وما نتنزل وقتا غبّ وقت «3» إلا بأمر الله تعالى ، على ما تقتضيه حكمته.
وقيل : هو إخبار عن أهل الجنة أنهم يقولون عند دخولها مخاطبين بعضهم لبعض بطريق التبجح والابتهاج ، أي : ما نتنزل هذه الجنان إلا بأمر الله تعالى ولطفه ، وهو مالك الأمور كلها ، سالفها ومترقّبها وحاضرها ، فما وجدناه وما نجده هو من لطفه وفضله. ه. قلت : ولا يخفى حينئذ مناسبته.
ثم قال : لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ أي : وما نحن فيه من الأماكن والأزمنة ، فلا ننتقل من مكان إلى مكان ، ولا ننزل فى زمان دون زمان ، إلا بأمره ومشيئته ، وعن مقاتل : لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا من
___________
(1) أخرجه البخاري فى (التفسير - سورة مريم) وفى (التوحيد ، باب وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ) من حديث ابن عباس.
(2) أخرجه الطبري فى تفسيره (16/ 103) ، وعزاه ابن حجر فى الكافي الشافي لأبى نعيم فى الدلائل.
(3) غب بمعنى بعد ، ومنه قولهم : غب سلام.(3/349)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 350
أمر الدنيا ، وَما خَلْفَنا من أمر الآخرة ، وَما بَيْنَ ذلِكَ مما بين النفختين ، وهو أربعين سنة. أو ما بين أيدينا بعد الموت ، وما خلفنا قبل أن يخلقنا ، وما بين ذلك مدة حياتنا ، أي : له علم ذلك كله ، وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا : تاركا لك ومهملا شأنك ، أو : ذاهلا عنك حتى ينسى أمر الوحى إليك لأنه محال ، يعنى : أن عدم نزول جبريل لم يكن إلا لعدم الأمر به لحكمة بالغة فيه ، ولم يكن تركه تعالى لك إهمالا وتوديعا ، كما زعمت الكفرة.
وفى إعادة اسم الرب المضاف إلى ضميره صلى اللّه عليه وسلم من تشريفه والإشعار بعلية الحكم ما لا يخفى.
وقوله تعالى : رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما بيان لاستحالة النسيان عليه تعالى فإن من بيده ملكوت السموات والأرض وما بينهما كيف يتصور أن يحوم حول ساحته الغفلة والنسيان. والفاء فى قوله : فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ لترتيب ما بعدها على ما قبلها ، من كونه تعالى رب السموات والأرض وما بينهما. أو من كونه تعالى غير تارك له عليه السّلام ، أو غير ناس لأعمال العاملين ، والمعنى على الأول : فحين عرفته تعالى بما ذكر من الربوبية الكاملة فاعبده ، أو حين عرفته تعالى لا ينساك ، أو : ينسى أعمال العاملين فأقبل على عبادته واصطبر على مشاقها ، ولا تحزن بإبطاء الوحى وهزء الكفرة ، فإنه يراقبك ويلطف بك فى الدنيا والآخرة ، هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا أي : شبيها ونظيرا ، أو هل تعلم أحدا تسمى بهذا الاسم غير الله تعالى ، والتسمية تقتضى التسوية بين المتشابهين ، ولا مثل له ، لا موجودا ولا موهوما ، مع أن المشركين مع غلوهم فى المكابرة لم يسموا الصنم بالجلالة أصلا ، ولم يتجاسر أحد أن يسمى بهذا الاسم ، ولو تجاسر أحد لهلك.
وقيل : إن أحدا من الجبابرة أراد أن يسمى ولده بهذا الاسم ، فخسف به وبتلك البلدة. ذكره القشيري فى التحبير. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : ما قاله جبريل عليه السّلام من كونه لا ينزل إلا بأمر ربه ليس خاصا به بل كل أحد لا حركة له ولا سكون إلا بالله وبمشيئته ، فلا يصدر عن أحد من عبيده قول ولا فعل ، ولا حركة ولا سكون ، إلا وقد سبق فى علمه وقضائه كيف يكون ، فلا انتقال ولا نزول إلا بقدر سابق وتحريك لاحق «ما من نفس تبديه إلا وله قدر فيك يمضيه». وقال الشاعر :
مشيناها خطى كتبت علينا ومن كتبت عليه خطى مشاها
ومن قسمت منيته بأرض فليس يموت فى أرض سواها
فراحة الإنسان أن يكون ابن وقته ، كل وقت ينظر ما يفعل اللّه به ، فبهذا ينجو من التعب ، ويتحقق له الأدب.
وباللّه التوفيق.
ثم ردّ على من أنكر البعث ، بعد أن ردّ على من اعتقد الشرك ، وبهما كفرت العرب ، فقال : (3/350)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 351
[سورة مريم (19) : الآيات 66 الى 72]
وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (66) أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً (67) فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (68) ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا (69) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا (70)
وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا (71) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا (72)
قلت : (أَ إِذا) : ظرف ، والعامل فيه محذوف ، أي : أأخرج إذا مت ، لا المتأخر عن اللام لأنه لا يعمل ما بعدها فيما قبلها ، إلا أن يرخص فى الظروف. واللام فى «لَسَوْفَ» ليست للتأكيد ، فإنه منكر ، وكيف يحقق ما ينكر ، وإنما كلامه حكاية لكلام النبي صلى اللّه عليه وسلم ، كأنه الذي قال : واللّه إن الإنسان إذا مات لسوف يخرج حيا ، فأنكر الكافر ذلك وحكى قوله ، فنزلت الآية على ذلك ، قاله الجرجاني : و(الشَّياطِينَ) : عطف على ضمير المنصوب ، أو مفعول معه.
و(جِثِيًّا) : حال من ضمير (لَنُحْضِرَنَّهُمْ) البارز ، أي : لنحضرنهم جاثين ، جمع جاث ، من جثى إذا قعد على ركبتيه ، وأصله : «جثوو» بواوين ، فاستثقل اجتماعهما بعد ضمتين ، فكسرت الثاء تخفيفا ، وانقلبت الواو الأولى ياء لانكسار ما قبلها ، فاجتمعت واو وياء ، وسبقت إحداهما بسكون ، فقلبت الواو ياء ، وأدغمت الأولى فى الثانية ، ومن قرأ بكسر الجيم : فعلى الإتباع.
و«أَيُّهُمْ» : مبنى على الضم عند سيبوبه ، لأنه موصول ، فحقه البناء كسائر الموصولات ، لكنه أعرب فى بعض التراكيب للزوم الإضافة ، فإذا حذف صدر صلته زاد نقصه فقوى شبه الحرف فيه ، وهو منصوب المحل بلننزعن ، وقرئ منصوبا على الإعراب ، ومرفوعا عند الخليل وغيره بالابتداء ، وخبره : «أَشَدُّ» ، والجملة محكية ، والتقدير :
لننزعن من كل شيعة الذين يقال لهم أيهم أشد ... إلخ. وقال يونس : علق عنها الفعل وارتفعت بالابتداء ، و(عِتِيًّا) و(صِلِيًّا) أصلهما : عتوى وصلوى ، من عتى وصلى ، بالكسر والفتح ، فاعلا بما تقدم.
يقول الحق جل جلاله : وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أي : جنس الإنسان ، والمراد الكفرة ، وإسناد القول إلى الكل لوجود القول فيما بينهم ، وإن لم يقله الجميع ، كما يقال : بنو فلان قتلوا فلانا ، وإنما القاتل واحد ، وقيل : القائل : أبىّ بن خلف ، فإنه أخذ عظاما بالية ، ففتتها ، وقال : يزعم محمد أنا نبعث بعد ما نموت ونصير إلى هذا الحال ، فنزلت.
أي : يقول بطريق الإنكار والاستبعاد : أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا أي : أأبعث من الأرض بعد ما متّ وأخرج حيا؟ قال تعالى : أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ ، من الذّكر الذي يراد به التفكر ، ولذلك قرىء بالتشديد من(3/351)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 352
التذكير. والإظهار فى موضع الإضمار لزيادة التقرير والإشعار بأن الإنسانية من دواعى التفكر فيما جرى عليها من شؤون التكوين ، فإذا ترك التفكر التحق بالبهائم ، فهلّا يذكر أصله! ، وهو أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ أي : من قبل الحالة التي فيها ، وهى حالة حياته ، وَلَمْ يَكُ شَيْئاً أي : والحال أنه لم يك شيئا أصلا ، وحيث خلقناه وهو فى تلك الحال فلأن نبعث الجمع بتفرقاته أولى وأظهر لأن الإعادة أسهل من البدء.
قال تعالى : فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ أي : لنجمعنهم بالسّوق إلى المحشر بعد ما أخرجتهم من الأرض. وإقسامه سبحانه بربوبيته مضافة إلى ضميره - عليه الصلاة والسلام لتحقيق الأمر ، والإشعار بعلّيّته ، وتفخيم شأنه ، ورفع منزلته صلى اللّه عليه وسلم ، وفيه إثبات البعث بالطريق البرهاني على أبلغ وجه وآكده ، كأنه أمر واضح غنى عن التصريح به ، وإنما المحتاج إلى البيان ما بعد ذلك من الأهوال ، أي : حيث ذكر الحشر وما بعده. ولم يصرح بنفس البعث لتحقق وضوحه ، وإنما قال : فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ أي : نجمعهم وَالشَّياطِينَ المغوين لهم ، إلى المحشر ، وقيل : إن الكفرة يحشرون مع قرنائهم من الشياطين التي كانت تغويهم ، كل منهم مع شيطانه فى سلسلة ، ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا : باركين على ركبهم لما يدهمهم من هول المطلع ، والجثو : جلسة الذليل الخائف.
والآية كما ترى ، صريحة فى الكفرة ، فهم الذين يساقون من الموقف إلى شاطىء جهنم ، جثاة إهانة بهم ، أو لعجزهم عن القيام لما اعتراهم من شدة الخوف. وأما قوله تعالى : وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً «1» فهى عامة للناس فى حال الموقف قبل التواصل إلى الثواب والعقاب ، فإن أهل الموقف جاثون على الرّكب ، كما هو المعتاد فى مقام التفاؤل والخصام ، قلت : ولعل هذا فيمن يناقش الحساب ، وأما غيرهم فيلقى عليهم سحابة كنفه ، ثم يقررهم بذنوبهم ويسترهم ، كما فى الحديث.
ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أي : من كل أمة تشيعت دينا من الأديان ، أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا أي : من كان منهم أعصى وأعتى ، فيطرحهم فيها. قال ابن عباس : أي : أيهم أشد جرأة ، وقال مجاهد : فجورا وكذبا ، وقال مقاتل : علوا ، أو غلوا فى الكفر ، أو كبرا ، وقال الكلبي : قائدهم ورأسهم ، أي : فيبدأ بالأكابر فالأكابر بالعذاب ، ثم الذي يليهم جرما. وفى ذكر الأشدية تنبيه على أنه تعالى يعفو عن بعض أهل العصيان من غير الكفرة ، إذا قلنا بعموم الآية ، وأما إذا خصصناها بالكفرة ، فالأشدية باعتبار التقديم للعذاب.
قال تعالى : ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا أي : أولى بصليها وأحق بدخولها ، وهم المنتزعون الذين هم أشدهم عتوا ، أو رؤوسهم ، فإن عذابهم مضاعف لضلالهم وإضلالهم.
___________
(1) الآية 28 من سورة الجاثية.(3/352)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 353
وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها ، فيه التفات لإظهار مزيد الاعتناء ، وقرىء : «وَإِنَّ مِنْهُمْ». ويحتمل أن يكون الخطاب لجميع الخلق ، أي : وإن منكم أيها الناس إِلَّا وارِدُها أي : واصلها وحاضرها ، يمر بها المؤمنون وهى خامدة ، وتنهار بغيرهم. وعن جابر أنه صلى اللّه عليه وسلم سئل عن ذلك فقال : «إذا دخل أهل الجنّة الجنّة قال بعضهم لبعض :
أليس قد وعدنا ربّنا أن نرد النّار؟ فيقال لهم : قد وردتموها وهى خامدة». وأما قوله تعالى : أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ فالمراد به الإبعاد عن عذابها ، وقيل : ورودها : الجواز على الصراط بالمرور عليها.
وعن ابن مسعود : الضمير فى (وارِدُها) للقيامة ، وحينئذ فلا يعارض : لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها «1» ، ولا ما جاء فيمن يدخل الجنةبغير حساب ، ولا مرور على الصراط ، فضلا عن الدخول فيها ، على أنه اختلف فى الورود ، فقيل : الدخول وتكون بردا وسلاما على المؤمن. وقيل : المرور كما تقدم ، وقيل : الإشراف عليها والاطلاع.
قال القشيري : كلّ يرد النار ، ولكن لا ضير منها ولا إحساس لأحد إلا بمقدار ما عليه من السيئات ، والزلل ، فأشدّهم فيها انهماكا : أشدهم فيها بالنار اشتعالا واحتراقا ، وأما برىء الساحة ، نقى الجانب بعيد الذنوب ، فكما فى الخبر :
«إن النار عند مرورهم ربوة كربوة اللّبن - أي : جامدة كجمود اللبن حين يسخن - فيدخلونها ولا يحسون بها ، فإذا عبروها قالوا : أليس قد وعدنا جهنم على الطريق؟ فيقال لهم : عبرتم وما شعرتم». ه.
كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا أي : كان ورودهم إياها أمرا محتوما أوجبه اللّه تعالى على ذاته ، وقضى أنه لا بد من وقوعه. وقيل : أقسم عليه ، ويشهد له : «إلا تحلة القسم» «2».
ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا الكفر والمعاصي ، بأن تكون النار عليهم بردا وسلاما ، على تفسير الورود بالدخول ، وعن جابر أنه قال : سمعت النبي صلى اللّه عليه وسلم يقول : «الورود الدّخول ، لا يبقى برّ ولا فاجر إلّا دخلها ، فتكون على المؤمنين بردا وسلاما ، كما كانت على إبراهيم ، حتّى إنّ للنّار ضجيجا من بردهم» «3». وإن فسرنا الورود بالمرور ، فنجاتهم بالمرور عليها والسلامة من الوقوع فيها ، وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا : باركين على ركبهم ، قال ابن زيد : الجثى شر الجلوس ، لا يجلس الرجل جاثيا إلا عند كرب ينزل به. ه.
___________
(1) من الآية 101 من سورة الأنبياء.
(2) يقصد حديث : «لا يموت لمسلم ثلاثة من الولد فيلج النار ، إلا تحلة القسم» أخرجه البخاري فى (الأيمان والنذر ، باب قول الله تعالى : «وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ») ومسلم فى (البر والصلة ، باب : فضل من يموت له ولد فيحتسبه).
(3) أخرجه أحمد فى المسند (3/ 329) والحاكم فى المستدرك (الأهوال 4/ 587) ، والبيهقي فى الشعب (1/ 336) ، من حديث جابر ابن عبد اللّه. والحديث : صححه الحاكم ووافقه الذهبي ، وقال الهيثمي فى المجمع (7/ 55) : رواه أحمد ، ورجاله ثقات.(3/353)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 354
الإشارة : من أراد كرامة الآخرة فليربّ يقينه فيها ، حتى تكون نصب عينيه ، فإنه يرد على اللّه كريما. ومن أراد السلامة من أهوالها فليخفف من أوساخها وأشغالها ، ويلازم طاعة اللّه واتباع الرسول صلى اللّه عليه وسلم. ومن أراد سرعة المرور على الصراط فليلزم اليوم اتباع الصراط المستقيم ، فبقدر ما يستقيم عليها تستقيم أقدامه على الصراط ، وبقدر ما يزل عنها يزلّ عن الصراط.
قال فى الإحياء ، لما تكلم على العدل فى الكيل والوزن ، قال بعد كلامه : وكل مكلف فهو صاحب موازين فى أفعاله وأقواله وخطراته ، فالويل له إن عدل عن العدل ، ومال عن الاستقامة ، ولو لا تعذّر هذا واستحالته لما ورد قوله تعالى : (وَ إِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها ..) الآية ، فلا ينفك عبد ليس معصوما عن الميل عن الاستقامة ، إلا أن درجات الميل تتفاوت تفاوتا عظيما ، فبذلك تتفاوت مدة إقامتهم فى النار إلى أوان الخلاص ، حتى لا يبقى بعضهم إلا بقدر تحلة القسم ، ويبقى بعضهم ألفا وألوف سنين ، نسأل اللّه تعالى أن يقربنا من الاستقامة والعدل ، فإن الاستداد على متن الصراط المستقيم من غير ميل عنه غير مطموع فيه فإنه أدق من الشعرة ، وأحدّ من السيف ، ولولاه لكان المستقيم عليه لا يقدر على جواز الصراط الممدود على متن النار ، الذي من صفته أنه أدق من الشعر ، وأحدّ من السيف ، وبقدر الاستقامة على الصراط المستقيم يخف مرور العبد يوم القيامة على الصراط. ه.
وقال الترمذي الحكيم : يجوز الأولياء والصديقون وهم لا يشعرون بالنار ، قال اللّه تعالى : إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ «1» ، وإنما بعدوا عنها لأن النور احتملهم واحتوشهم ، فهم يمضون فى النار ، حتى إذا خرجوا منها قال بعضهم لبعض : أليس قد وعدنا النار ، فذكر ما تقدم. ثم قال : فأما ضجة النار فمن بردهم ، وذلك أن الرحمة باردة تطفئ غضب الرب ، فبالرحمة نالوا النور ، حتى أشرق فى قلوبهم وصدورهم ، فكان نوره فى قلوبهم ، والرحمة مظلة عليهم ، فخمدت النار من بردهم عند ما لقوها ، فضجت من أجل أنها خلقت منتقمة ، فخافت أن تضعف عن الانتقام. ولذلك روى أنها تقول : «جز يا مؤمن فقد أطفأ نورك لهبى». «2» ه.
وقال الورتجبي : إذا كان جمال الحق مصحوبهم ، فلا بأس بالوقوف فى النيران ، فإن هناك أهل الجنان.
إذا نزلت سلمى بواد فماؤها زلال وسلسال ، وسيحانها ورد. ه.
وقال جعفر الصادق : لو لا مقاربة النفوس ما دخل أحد النار ، فلما فارقتهم نفوسهم أوردهم النار بأجمعهم ، فمن كان أشد إعراضا عن خبث النفس كان أسرع نجاة من النار ، ألا ترى اللّه يقول : (ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا). ه. قلت.
___________
(1) من الآية 101 من سورة الأنبياء.
(2) رواه أبو نعيم فى الحلية (9/ 329) ، والخطيب فى تاريخ بغداد (5/ 194) ، والطبراني فى الكبير ، وابن عدى فى الكامل ، والحكيم الترمذي فى نوادر الأصول ، وفى سنده : سليم بن منصور بن عمار ، وهو ضعيف ، انظر : مجمع الزوائد (10/ 360) ، وكشف الخفاء (1/ 373 - 374).(3/354)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 355
وقد تقدم أن من لاحساب عليهم - وهم المقربون - يمرون على الصراط ولا يحسون به ، وهم الذين يمرون عليه كالطير أو كالبرق ، جعلنا اللّه منهم بمنّه وكرمه ، وبجاه خير الخلق مولانا محمد نبيه وحبه ، آمين.
ثم ذكر أحوال من سقط فى جهنم ويبقى فيها جثيّا ، فقال :
[سورة مريم (19) : الآيات 73 الى 74]
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (73) وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً وَرِءْياً (74)
قلت : «هم أحسن» : صفة لكم.
يقول الحق جل جلاله : وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ على الكفرة آياتُنا الناعية عليهم فظاعة حالهم ووخامة مآلهم ، والناطقة بحسن عاقبة المؤمنين ، حال كونها بَيِّناتٍ : واضحات فى نفسها ، أو بينات الإعجاز ، أو بينات المعاني ، قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أي : قالوا ، ووضع الموصول موضع الضمير للتنبيه على أنهم قالوا ما قالوا كافرين بما يتلى عليهم رادين له ، أو : قال الذين تمرّدوا فى الكفر والعتو وهم النضر بن الحارث وأتباعه ، قالوا لِلَّذِينَ آمَنُوا ، اللام للتبليغ ، أي : قالوا مبلغين الكلام لهم ، وقيل : لام الأجل ، كقوله تعالى : وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ «1» أي : لأجلهم وفى حقهم ، والأول أولى لأن الكلام هنا كان معهم بدليل قوله : أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أي : المؤمنين والكفار ، خَيْرٌ كأنهم قالوا : أينا خَيْرٌ مَقاماً أي : مكانا :
نحن أو أنتم ، وقرىء بالضم ، أي : موضع إقامة ومنزل ، وَأَحْسَنُ نَدِيًّا مجلسا ومجتمعا ، أو : أينا خير منزلا ومسكنا ، وأحسن مجلسا؟.
يروى أنهم كانوا يرجلون شعورهم ويدهنونها ، ويتزينون بالزينة الفاخرة ، ثم يقولون ذلك لفقراء المؤمنين ، يريدون بذلك أن خيريتهم ، حالا ، وأحسنيتهم ، مقالا ، مما لا يقبل الإنكار ، وأنّ ذلك لكرامتهم على اللّه سبحانه وزلفاهم عنده ، وأنّ الحال التي عليها المؤمنون ، من الضرورة والفاقة ورثاثة الحال لقصور حظهم عند اللّه. وما هذا القياس العقيم والرأى السقيم إلا لكونهم جهلة لا يعلمون إلا ظاهرا من الحياة الدنيا ، وذلك مبلغهم من العلم ، فردّ عليهم بقوله : وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً : مالا ومتاعا وَرِءْياً منظرا ، أي : كثيرا من القرون التي كانوا أفضل منهم ، فيما يفتخرون به من الحظوظ الدنيوية ، كعاد وثمود وأضرابهم العاتية قبل هؤلاء ،
___________
(1) الآية 11 من سورة الأحقاف.(3/355)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 356
أهلكناهم بفنون العذاب ، ولو كان ما آتيناهم لكرامتهم علينا ، لما فعلنا بهم ما فعلنا ، وفيه من التهديد والوعيد ما لا يخفى ، كأنه قيل : فلينتظر هؤلاء أيضا مثل ذلك.
و«أثاثا» : تمييز ، وهو متاع البيت ، أو ما جد منه ، و«رءيا» : كذلك ، فعل من الرؤية بمعنى المنظر ، قال ابن عزيز : «رءيا» بهمزة ساكنة : ما رأيت عليه من شارة حسنة وهيئة ، وبغير همز : يجوز أن يكون على معنى الأول «1» ، ويجوز أن يكون من الرىّ. أي : منظرهم مرتو من النعمة. وزيّا ، بالزاي المعجمة ، فى قراءة ابن عباس ، يعنى هيئة ومنظرا. ه.
الإشارة : رفعة القدر والمقام لا تكون بالتظاهر بمفاخر اللباس والطعام ، ولا بحسن الهيئة ومنظر الأجسام ، وأنما يكون باحتظاء القلوب بمعرفة اللّه ، وتمكين اليقين من القلوب ، واطلاعها على أسرار الغيوب ، مع القيام بوظائف العبودية ، أدبا مع عظمة الربوبية ، ونسيان النفوس والاشتغال عنها بالعكوف فى حضرة القدوس ، فأهل القلوب لا يعبأون بظواهر الأشباح ، وإنما يعتنون بحياة الأرواح.
كمل حقيقتك التي لم تكمل والجسم دعه فى الحضيض الأسفل
فقوت قلوبهم التواجد والأذكار ، وحياة أرواحهم العلوم والأسرار ، وأنشدوا :
بالقوت إحياء الجسوم ، وذكره تحيا به الألباب والأرواح
هو عيشهم ووجودهم وحياتهم حقا وروح نفوسهم والرّاح.
وأما من عظم جهله ، وكثف حجابه ، فإنما ينظر إلى بهجة الظواهر وتزيينها بأنواع المفاخر ، أو إلى من عظم جاهه وكثرت أتباعه ، وهذه نزعة جاهلية ، حيث قالوا حين يتلى عليهم الوعظ والتذكير : (أي الفريقين خير مقاما وأحسن نديا) ، يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ «2». وباللّه التوفيق.
ثم ذكر الحق تعالى مدد الفريقين أهل الضلال وأهل الإيمان ، فقال :
[سورة مريم (19) : الآيات 75 الى 76]
قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضْعَفُ جُنْداً (75) وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ مَرَدًّا (76)
___________
(1) أي : هو مهموز الأصل ، أي : منظرا ، من الرؤية ، سهلت همزته بإبدالها ياء ، ثم أدغمت الياء فى الياء. [.....]
(2) الآية 7 من سورة الروم.(3/356)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 357
قلت : «ويزيد» : عطف على «فليمدد» لأنه فى معنى الخبر ، أي : من كان فى الضلالة يمده اللّه فيها ، ويزيد فى هداية الذين اهتدوا مددا لهدايتهم ، أو عطف على «فسيعلمون» ، وجمع الضمير فى (رأوا) وما بعدها باعتبار معنى (من) ، وأفرد أولا باعتبار لفظها.
يقول الحق جل جلاله : قُلْ يا محمد : مَنْ كانَ مستقرا فِي الضَّلالَةِ مغمورا فى الجهل والغفلة عن عواقب الأمور ، مشتغلا بالحظوظ الفانية ، فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا أي : يمد له بطول العمر وتيسير الحظوظ ، إما استدراجا ، كما نطق به قوله تعالى : إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً «1» ، أو قطعا للمعاذير كما نطق به قوله تعالى : أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ «2» ، أو : (فَلْيَمْدُدْ لَهُ) : يدعه فى ضلاله ، ويمهله فى كفره وطغيانه ، كقوله تعالى : وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ «3». والتعرض لعنوان الرحمانية لبيان أن أفعالهم من مقتضيات الرحمة مع استحقاقهم تعجيل الهلاك.
وكأنه جل جلاله لما بيّن عاقبة الأمم المهلكة ، مع ما كان لهم من التمتع بفنون الحظوظ العاجلة ، أمر رسوله صلى اللّه عليه وسلم أن يجيب هؤلاء المفتخرين بما لهم من الحظوظ بمآل أمر الفريقين ، وهو استدراج أهل الضلالة ثم أخذهم ، وزيادة هداية أهل الإيمان ثم إكرامهم ، كما بيّن ذلك بقوله : حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ ، فهو غاية للحد الممتد ، أي : نمد لهم فى الحياة وفنون الحظوظ حتى ينزل بهم ما يوعدون إِمَّا الْعَذابَ الدنيوي بالقتل ، والأسر ، وغلبة أهل الإيمان عليهم ، وَإِمَّا السَّاعَةَ ، وهو يوم القيامة وما ينالهم فيه من الخزي والهوان ، و«إما» هنا : لمنع الخلو ، لا لمنع الجمع فإن العذاب الأخروى لا ينفك عنهم بحال.
فَسَيَعْلَمُونَ حينئذ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً من الفريقين ، بأن يشاهدوا الأمر على عكس ما كانوا يقدّرون ، فيعلمون أنهم شر مكانا ، لا خير مقاما ، وَيعلمون أنهم أَضْعَفُ جُنْداً أي : جماعة وأنصارا ، لا أحسن نديّا ، كما كانوا يدعونه ، وليس المراد أن لهم يوم القيامة جندا سيضعف ، وما كان له من فئة ينصرونه من دون اللّه ، وإنما ذكر ذلك ردا لما كانوا يزعمون أن لهم أعوانا وأنصارا ، يفتخرون بهم فى الأندية والمحافل ، فردّ ذلك بأنه باطل وظل آفل ، ليس تحته طائل.
ثم ذكر فريق أهل الإيمان فقال : وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً أي : كما يمد لأهل الضلالة زيادة فى ضلالهم ، كذلك يزاد فى هداية أهل الهداية ثوابا على طاعتهم لأن كلا يجزى بوصفه ، فلا تزال الهداية تنمو فى
___________
(1) من الآية 178 من سورة آل عمران.
(2) من الآية 37 من سورة فاطر.
(3) من الآية 110 من سورة الأنعام.(3/357)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 358
قلوبهم حتى يردوا موارد الكرم ، أمّا فى الدنيا فبكشف الحجاب وانقشاع السحاب حتى يشاهدوا رب الأرباب ، فما كانوا يؤمنون به غيبا صار عيانا ، وأمّا فى الآخرة فبنعيم الحور والقصور ، ورؤية الحليم الغفور.
فقد بيّن الحق تعالى حال المهتدين إثر بيان حال الضالين ، وأن إمهال الكافر وتمتيعه بالحظوظ ليس لفضله ، وأن منع المؤمن من تلك الحظوظ ليس لنقصه ، بل قوم عجلت لهم طيباتهم فى الحياة الدنيا الفانية ، وقوم ادخرت لهم طيباتهم للحياة الباقية ، قال تعالى : وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ كأنواع الطاعات ، خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ لبقاء فوائدها ودوام عوائدها .. وقد تقدم تفسيرها»
.
والتعرض لعنوان الربوبية والإضافة إلى ضميره صلى اللّه عليه وسلم لتشريفه ، أي : فهى أفضل ثَواباً أي : عائدة مما يتمتع به الكفرة من النعم الفانية ، التي يفتخرون بها لأن مآلها الحسرة السرمدية والعذاب الأليم ، ومآل الباقيات الصالحات النعيم المقيم فى دار الدوام ، كما أشير إليه بقوله : وَخَيْرٌ مَرَدًّا أي : مرجعا وعاقبة ، وتكرير الخير لمزيد الاعتناء بشأن الخيرية وتأكيد لها فى التفضيل ، مع أن ما للكفرة بمعزل من أن يكون له خيرية فى العاقبة ، ففيه نوع تهكم بهم. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : اعلم أن الحق - جل جلاله - يرزق العبد على قدر نيته ، ويمده على قدر همته ، فمن كانت همته فى الحظوظ العاجلة والشهوات الفانية ، أمده اللّه فيها ، ومتعه بها ما شاء ، على حسب القسمة ، ثم أعقبه الندم والحسرة ، ومن كانت همته الآخرة ، أمده سبحانه فى الأعمال التي توصله إلى نعيمها ، كصلاة وصيام وصدقة وتدريس علم ، وأذاقه من حلاوتها ما يهون عليه مرارتها ، ثم أعقبه النعيم الدائم من القصور والحور ، وأنواع الطيبات ، مما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين.
ومن كانت همته اللّه - أي : الوصول إلى حضرته دون شىء سواه - أمده اللّه فى الأعمال التي توصله إليه ، وهى أعمال القلوب من التخلية والتحلية ، كالتخلية من الرذائل والتحلية بالفضائل ، وكقطع المقامات بأنواع المجاهدات ، ورأس ذلك أن يوصله إلى شيخ كامل جامع بين الحقيقة والشريعة ، بين الجذب والسلوك ، قد سلك الطريق على شيخ كامل ، فإذا وصله إليه وكشف له عن سر خصوصيته فليستبشر بحصول المطلب وبلوغ الأمل. وباللّه التوفيق.
ثم ذكر بعض من مدّ له فى الضلالة وخصه بزيادة ضلالته ، فقال :
[سورة مريم (19) : الآيات 77 الى 80]
أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالاً وَوَلَداً (77) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (78) كَلاَّ سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا (79) وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ وَيَأْتِينا فَرْداً (80)
___________
(1) راجع تفسيرالآية 46 من سورة الكهف.(3/358)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 359
يقول الحق جل جلاله فى حق العاص بن وائل : أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا : القرآن المشتمل على البعث والحساب ، قال خبّاب بن الأرت : كان لى على العاص بن وائل دين ، فاقتضيته ، فقال : لا ، واللّه لا أقضيك حتى تكفر بمحمّد ، ، فقلت : لا واللّه لا أكفر بمحمّد حتّى تموت ثم تبعث ، قال العاص : فإذا متّ ثم بعثت ، جئتنى وسيكون لى ثمّ مال وولد ، فأعطيك ، لأنكم تزعمون أن فى الجنة ذهبا وفضة - استهزاء واستخفافا - وفى رواية البخاري : «كنت قينا «1» فى الجاهلية ، فصنعت للعاصى سيفا فجئت أتقاضاه ...» «2» فذكر الحديث. فالهمزة للتعجيب من حاله ، للإيذان بأنها من الغرابة والشناعة بحيث يقضى منها العجب ، والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقام ، أي : أنظرت فرأيت الذي كفر بآياتنا الباهرة التي من حقها أن يؤمن بها كل من شاهدها.
وَقالَ مستهزءا بها ، مصدّرا باليمين الفاجرة : واللّه لَأُوتَيَنَّ فى الآخرة مالًا وَوَلَداً أي : انظر إلى حاله فتعجب من حالته البديعة وجرأته الشنيعة ، أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أي : أبلغ من عظمة الشأن إلى أن يرتقى إلى علم الغيب ، الذي استأثر به العليم الخبير ، حتى ادعى أن يؤتى فى الآخرة مالا وولدا ، وأقسم عليه ، أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً بذلك ، فإنه لا يتوصل إلى العلم بذلك إلا بأحد هذين الطريقين ، وهذا رد لكلمته الشنعاء ، وإظهار لبطلانها إثر ما أشير إلى التعجب منها.
والتعرض لعنوان الرحمانية للإشعار بعلّية الرحمة للإيتاء ، فإن الرحمة تقتضى الإعطاء على الدوام. والعهد :
قيل : كلمة الشهادة ، أو العمل الصالح ، فإن وعده تعالى بالثواب عليها كالعهد ، قال القشيري : أَطَّلَعَ الْغَيْبَ فقال بتعريف له منا ، أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً أي : ليس الأمر كذلك. ثم قال : ودليل الخطاب يقتضى أن المؤمن إذا أمّل من الله شيئا جميلا ، فاللّه تعالى يحققه له لأنه على عهد مع اللّه تعالى ، واللّه لا يخلف الميعاد. ه.
ثم أبطل ما أمله الكافر فقال : كَلَّا أي : انزجر عن هذه المقالة الشنيعة ، فهو ردع له عن التفوه بتلك العظيمة ، وتنبيه على خطئه ، قال تعالى : سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ أي : سنظهر ما كتبنا عليه ، فهو كقول الشاعر :
إذا ما انتسبنا لم تلدنى لئيمة أي : تبين أنى لم تلدنى لئيمة ، أو : سنحفظ عليه ما يقول فنجازيه عليه فى الآخرة ، أو سننتقم منه انتقام من كتب جريمة فى الحال ويجازى عليها فى المآل ، فإن نفس الكتابة لم تتأخر عن القول لقوله تعالى : ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ «3» قال ابن جزى : إنما جعله مستقبلا لأنه إنما يظهر الجزاء والعقاب فى المستقبل. ه.
___________
(1) القين : الحدّاد والصانع ، والجمع أقيان وقيون. انظر اللسان (قين 5/ 3798).
(2) أخرجه البخاري فى (البيوع. باب ذكر القين والحدّاد) ، وفى (تفسير سورة مريم) ، ومسلم فى (صفات المنافقين وأحكامهم ، باب 4).
(3) الآية 18 من سورة ق.(3/359)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 360
قلت : والظاهر إنما أبرزه بصورة المستقبل ، تنبيها على عدم نسخه ، وأنه ماض نافذ. قاله فى الحاشية.
وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا ، مكان ما يدعيه لنفسه من الإمداد بالمال والأولاد ، أي : نطول له من العذاب ونمد له فيه ما يستحقه ، أو نزيد فى مضاعفة عذابه ، لكفره وافترائه على اللّه سبحانه ، واستهزائه بآياته العظام ، ولذلك أكده بالمصدر ، دلالة على فرط الغضب والسخط.
وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ ، قال مكى : حرف الجر محذوف ، أي : نرث منه ما يقول. ه. والظاهر أن (ما) : بدل من الضمير ، وهو الهاء ، أي : نرث ما يقول وما يدعيه لنفسه اليوم من المال والولد. وفيه إيذان بأنه ليس لما يقول مصداق موجود سوى القول ، أي : ننزع منه ما آتيناه ، وَيَأْتِينا يوم القيامة فَرْداً لا يصحبه مال ولا ولد كان له فى الدنيا ، فضلا أن يؤتى ثمّة مالا وولدا زائدا. وقال القشيري : فردا بلا حجة على قوله وقسمه : (لَأُوتَيَنَّ مالًا وَوَلَداً) ، وذلك منه استهزاء ومحض كفر. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : يفهم من الآية أن الإنسان إذا آمن بآيات اللّه وعمل بما أمره اللّه يكون له عهد عند اللّه ، فإذا تمنى شيئا أو منّاه غيره لا يخيبه اللّه ، ويتفاوت الناس فى العهد عند اللّه ، على قدر تفاوتهم فى طاعته ومعرفته ، وسيأتى فى قوله : لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً «1» زيادة بيانه. واللّه تعالى أعلم.
ثم رد على أهل الضلالة ما زعموا ، من نفع الأصنام لهم ، فقال :
[سورة مريم (19) : الآيات 81 الى 84]
وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81) كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (82) أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (83) فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (84)
يقول الحق جل جلاله : واتخذ المشركون الأصنام آلِهَةً يعبدونها من دون اللّه لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا يوم القيامة ، ووصلة عنده يشفعون لهم ، كَلَّا لا يكون ذلك أبدا ، فهو ردع لهم عن ذلك الاعتقاد الباطل ، وإنكار لوقوع ما علّقوا به أطماعهم ، سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ أي : تجحد الآلهة عبادتهم لها ، بأن ينطقهم اللّه تعالى وتقول ما عبدتمونا ، أو : سيكفر الكفرة عبادتهم لها حين شاهدوا سوء عاقبة عبادتهم لها ، كقوله : وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ «2» وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا أي : تكون الآلهة ، التي كانوا يرجون أن تكون لهم عزا ، ضدا للعز ،
___________
(1) الآية 87 من هذه السورة.
(2) من الآية 23 من سورة الأنعام.(3/360)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 361
أي : ذلا وهوانا لأنهم تعززوا بمخلوق بسخط الخالق ، وقد قال صلى اللّه عليه وسلم : «من طلب رضا المخلوق بمعصية الخالق عاد حامده من الناس ذاما» «1». وتكون عونا عليهم ، وآلة لعذابهم ، حيث تجعل وقود النار وحصب جهنم ، أو تكون الكفرة ضدا وأعداء للآلهة ، كافرين بها ، بعد أن كانوا يحبونها كحب اللّه ، ويعبدونها من دون اللّه ، وتوحيد الضد لتوحيد المعنى الذي عليه تدور مضادتهم ، فإنهم بذلك كشىء واحد ، كقوله عليه الصلاة والسلام : «وهم يد على من سواهم» «2».
وسبب عبادتهم للأصنام تزيين الشيطان ، وفاء بقوله : لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ «3» كما قال تعالى :
أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ أي : سلطهم عليهم ومكنهم من إغوائهم ، بقوله تعالى : وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ «4» الآية.
وهذا تعجيب لرسوله صلى اللّه عليه وسلم مما نطقت به الآيات الكريمة عن هؤلاء الكفرة ، العتاة المردة ، من فنون القبائح من الأقاويل والأفاعيل ، والتمادي فى الغى ، والانهماك فى الضلال ، والتصميم على الكفر ، من غير صارف يلويهم ، ولا عاطف يثنيهم ، وإجماعهم على مدافعة الحق بعد اتضاحه ، وتنبيه على أن جميع ذلك بإضلال الشياطين وإغوائهم ، لا أن له مسوغا فى الجملة ، أي : ألم تر ما فعلت الشياطين بالكفرة حتى صدر منهم ما صدر من تلك القبائح والعظائم ، وليس المراد تعجيبه عليه السّلام من مطلق إرسال الشياطين عليهم ، كما يوهمه تقليل الرؤية ، بل عما صدر عنهم من حيث إنها من آثار إغواء الشياطين ، كما ينبئ عنه قوله تعالى : تَؤُزُّهُمْ أَزًّا أي : تغريهم وتهيجهم على المعاصي تهييجا شديدا ، بأنواع الوساوس والتسويلات. فالأز والاستفزاز أخوان ، معناهما : شدة الانزعاج ، وجملة (تَؤُزُّهُمْ) : حال مقدرة من الشياطين ، أو استئناف وقع جوابا عن صدر الكلام ، كأنه قيل : ماذا تفعل بهم الشياطين؟ قال : (تَؤُزُّهُمْ أَزًّا).
فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ بأن يهلكوا حسبما تقتضى جناياتهم ويبيدوا عن آخرهم ، وتطهر الأرض من فسادهم ، إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا أي : لا تستعجل بهلاكهم ، فإنه لم يبق لهم إلا أيام وأنفاس قلائل نعدها عدا ، ثم نأخذهم أخذا. واللّه تعالى أعلم.
___________
(1) أخرجه البزار (كشف الأستار 4/ 218) من حديث السيدة عائشة. وقال الهيثمي فى المجمع : (10/ 228) : رواه البزار من طريق قطبة بن العلاء عن أبيه ، وكلاهما ضعيف. وورد معنى الحديث عند الترمذي ، ولفظه : «من التمس رضا الناس بسخط اللّه ، سخط اللّه عليه ، وأسخط الناس عليه».
(2) طرف من حديث أخرجه أحمد فى المسند (1/ 122) وأبو داود فى : (الديات ، باب إيقاد المسلم بالكافر) ، والنسائي فى (القسامة ، باب القود بين الأحرار والعبيد) من حديث سيدنا على.
(3) من الآية 39 من سورة الحجر.
(4) من الآية 64 من سورة الإسراء 43. [.....](3/361)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 362
الإشارة : كل من اتخذ شيئا يتعزز به من دون اللّه وطاعته انقلب عليه ذلا وهوانا ، ولذلك قيل : «من تعزز بمخلوق مات عزه». فإن أردت عزا لا يفنى فلا تتعزز بعز يفنى ، وهو التعزز بالمال أو الجاه ، أو غير ذلك مما يفنى ، وسيأتى عند قوله : مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً «1». وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ «2» زيادة بيان. وكما أرسل الحق تعالى الشياطين على الكافرين تزعجهم إلى المعاصي أرسل الملائكة والواردات الإلهية إلى المؤمنين تنهضهم إلى طاعة اللّه ، وتزعجهم إلى السير لمعرفة اللّه. فالملائكة تحرك العبد إلى الطاعة ، والواردات تزعجه إلى الحضرة ، تخرجه عن عوائده وتدمغ له من علائقه ، وعوائقه ، حتى ينفرد لحضرة الحق :
وفى الحكم : «الوارد يأتى من حضرة قهار ، لأجل ذلك لا يصادمه شىء إلا دمغه بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ». وقال أيضا : «متى وردت الواردات الإلهية عليك هدمت العوائد لديك «إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها».
وقال القشيري على قوله : (تَؤُزُّهُمْ أَزًّا) : أي : تزعجهم إزعاجا ، فخاطر الشيطان يكون بإزعاج وظلمة ، وخاطر الحقّ يكون بروح وسكون ، وهذه إحدى الفوارق بينهما. ه. قلت : ومن الفوارق أيضا : أن خاطر الحق لا يأمر إلا بالخير مع برودة وانشراح فى القلب وسكون وأناة .. وفى الحديث «العجلة من الشيطان ، والأناة من الرحمن» «3». ه. بخلاف خاطر الشيطان فإنه لا يأمر إلا بالشر ، وقد يأمر بالخير إذا كان يجرّ به إلى الشر ، وعلامته أن يكون فيه ظلمة ودخن وعجلة وبطش ، وقد استوفى الكلام عليهم فى النصيحة الكافية. وباللّه التوفيق.
ثم ذكر مآل فريق الإيمان وفريق الضلال ، فقال :
[سورة مريم (19) : الآيات 85 الى 87]
يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً (85) وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً (86) لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (87)
قلت : (يَوْمَ نَحْشُرُ) : إما ظرف لفعل مؤخر للإشعار بضيق العبارة عن حصره لكمال جماله أو فظاعته ، والتقدير : يوم نحشر المتقين إلى الرحمن ، ونسوق المجرمين ، نفعل بالفريقين ما لا يفى به نطاق المقال ، أو ظرف لا ذكر ، و(وَفْداً) و(وِرْداً) : حالان.
___________
(1) من الآية 10 من سورة فاطر.
(2) من الآية 8 من سورة المنافقون.
(3) أخرجه البيهقي فى السنن الكبرى (10/ 104) بتقديم وتأخير ، من حديث أنس بن مالك ، وعزاه فى مجمع الزوائد لأبى يعلى عن أنس ، وقال : ورجاله رجال الصحيح.(3/362)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 363
يقول الحق جل جلاله : يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ : نجمعهم إِلَى الرَّحْمنِ أي : إلى ربهم يغمرهم برحمته الواسعة ، وَفْداً : وافدين عليه ، كما يفد الوفود على الملوك ، منتظرين لكرامتهم وإنعامهم. وعن على كرم اللّه وجهه : (لما نزلت هذه الآية ، قلت : يا رسول اللّه ، إنى قد رأيت الملوك ووفودهم ، فلم أر وفدا إلا راكبا ، فما وفد اللّه؟ قال : «يا على إذا حان المنصرف من بين يدى اللّه ، تلقت الملائكة المؤمنين بنوق بيض ، رحالها وأزمّتها الذهب ، على كل مركب حلة لا تساويها الدنيا ، فيلبس كل مؤمن حلة ، ثم يستوون على مراكبهم ، فتهوى بهم النوق حتى تنتهى بهم إلى الجنة ، فتتلقاهم الملائكة سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ».
وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ كما تساق البهائم إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً : عطاشا ، فإن من يرد الماء لا يرده إلا للعطش ، أو كالدواب التي ترد الماء ، أي : يوم نحشر الفريقين نفعل ما نفعل مما لا يفى به نطاق العبارة ، لما يقع فيه من الدواهي الطامة ، أو الكرائم العامة ، أو : اذكر يوم نحشر الفريقين ، على طريق الترغيب والترهيب.
وقوله تعالى : لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ : استئناف مبين لما فيه من الأمور الدالة على هوله ، وضمير الواو : إما لجميع العباد المدلول عليهم بذكر الفريقين لانحصارهم فيها ، أو إلى المتقين فقط ، أو إلى المجرمين.
و(مَنِ اتَّخَذَ) : منصوب على الاستثناء ، أو بدل من الواو ، أي : لا يملك العباد أن يشفعوا لغيرهم إلا من استعد له بالتحلي بالإيمان والتقوى ، ففيه ترغيب للعباد فى تحصيل الإيمان والتقوى ، المؤدى إلى نيل هذه الرتبة العليا. أولا يملك المتقون الشفاعة إلا شفاعة من اتخذ العهد بالإسلام والعمل الصالح ، أو لا يملك المجرمون أن يشفع لهم إلا من كان منهم مسلما ، فيشفع فى مثله. فمن ، على هذا الثالث ، بدل من الواو فقط. والأول أحسن لعمومه.
قال ابن مسعود رضي اللّه عنه : سمعت النبي صلى اللّه عليه وسلم يقول : «أما يعجز أحدكم أن يتّخذ كلّ صباح ومساء عهدا عند اللّه ، يقول كلّ صباح ومساء : اللهمّ فاطر السموات والأرض ، عالم الغيب والشّهادة ، إنّى أعهد إليك فى هذه الحياة الدنيا ، بأنى أشهد أن لا إله إلّا أنت ، وحدك لا شريك لك ، وأنّ محمّدا عبدك ورسولك ، فلا تكلنى إلى نفسى ، فإنك إن تكلنى إلى نفسى تقرّبنى من الشرّ وتباعدني من الخير ، وإنّى لا أثق إلّا برحمتك ، فاجعل لى عندك عهدا توفّينيه يوم القيامة ، إنّك لا تخلف الميعاد. فإذا قال ذلك طبع عليه طابع ووضع تحت العرش ، فإذا كان يوم القيامة نادى مناد : أين الذين لهم عند اللّه عهد فيدخلون الجنّة». ه.
الإشارة : ورود العباد على اللّه يوم القيامة يكون على قدر ورودهم إليه اليوم فى الدنيا ، فبقدر التوجه إليه اليوم تعظم كرامة وروده فى الآخرة ، فمن ورد على اللّه تعالى من باب الطاعة الظاهرة حملته صور الطاعات إلى الآخرة ، ومن ورد من باب الطاعات القلبية حملته الأنوار إلى الفراديس العالية ، ومن ورد من باب الطاعات(3/363)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 364
السرية - كالفكرة والنظرة فى مقام المشاهدة - حمله الحق إلى الحضرة القدسية ، فيكون فى مقعد صدق عند مليك مقتدر. قال شيخ شيوخنا ، سيدى عبد الرحمن العارف فى قوله تعالى : (وَفْداً) : قيل : ركبانا على نجائب طاعتهم ، وهم مختلفون ، فمن راكب على صور الطاعات ، ومن راكب على نجائب الهمم ، ومن راكب على نجائب الأنوار ، ومن محمول يحمله الحق فى عقباه ، كما يحمله اليوم فى دنياه ، وليس محمول الحق كمحمول الخلق. ه.
وقوله تعالى : (لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ ...) الآية ، اعلم أن العهد الذي تكون به الشفاعة يوم القيامة هو الطاعة وتربية اليقين والمعرفة ، فتقع الشفاعة لأهل الطاعات على قدر طاعتهم وإخلاصهم ، وتقع لأهل اليقين على قدر يقينهم ، وهم أعظم من أهل المقام الأول ، وتقع لأهل المعرفة على قدر عرفانهم ، وهم أعظم من القسمين ، حتى إن منهم من يشفع فى أهل عصره كلهم ، وقد سمعت من شيخنا الفقيه ، شيخ الجماعة سيدى التاودى بن سودة ، أن بعض الأولياء قال عند موته : يا رب شفعنى فى أهل زمانى ، فقال له الحق تعالى - من جهة الهاتف - : لم يبلغ قدرك هذا ، فقال : يا رب إن كان ذلك من جهة عملى واجتهادي فلعمرى إنه لم يبلغ ذلك ، وإن كان من جهة كرمك وجودك فوعزتك وجلالك لهو أعظم من هذا ، فقال له : إنى شفعتك فى أهل عصرك. ه. بالمعنى. فمن رجع إلى كرم اللّه وجوده ، ودخل من هذا الباب ، وجد الإجابة أقرب إليه من كل شىء. وباللّه التوفيق.
ثم كرر الرد على أهل الشرك والضلال وشنّع عليهم ، فقال :
[سورة مريم (19) : الآيات 88 الى 95]
وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا (89) تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً (91) وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً (92)
إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً (93) لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً (95)
قلت : «هَدًّا» : مصدر مؤكد لمحذوف ، هو حال من الجبال ، أي : تهد هدّا. و«أَنْ دَعَوْا» : على حذف اللام ، أي :
لأن دعوا ، وفيه احتمالات أخر.
يقول الحق جل جلاله : وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً هذه المقالة صدرت من اليهود والنصارى ، ومن يزعم من العرب أن الملائكة بنات الله ، لعن اللّه جميعهم ، فسبحان اللّه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا ، فحكى جنايتهم إثر جناية عبدة الأصنام ، وعطف القصة على القصة لاشتراكهم فى الضلالة ، قال تعالى فى شأنهم : لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا أي : فعلتم أمرا منكرا شديدا ، لا يقادر قدره ، فهو رد لمقالتهم الباطلة ، وتهويل لأمرها بطريق الالتفات(3/364)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 365
المنبئ عن كمال السخط وشدة الغضب ، المفصح عن غاية التشنيع والتقبيح ، وتسجيل عليهم بغاية الوقاحة والجهل.
و(جاء) يستعمل بمعنى فعل ، فيتعدى تعديته ، والإد - بكسر الهمزة وفتحها ، وقرئ بهما فى الشاذ - : العظيم المنكر ، الإدّ : الشدة ، قيل : الأدّ : فى كلام العرب : أعظم الدواهي.
ثم وصفه وبيّن هوله فقال : تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ : يتشققن مرة بعد أخرى ، من عظم ذلك الأمر وشدة هوله ، وهو أبلغ من «ينفطرن» كما قرئ به ، وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ أي : وتكاد تنشق وتذهب ، وَتَخِرُّ الْجِبالُ أي : تسقط وتنهدم هَدًّا بحيث لا يبقى لها أثر. والمعنى : أن هول تلك الكلمة الشنعاء وعظمها ، بحيث لو تصورت بصورة محسوسة ، لم يطق سمعها تلك الأجرام العظام ، ولتفتتت من شدة قبحها ، أو : إن فظاعتها واستجلاب الغضب والسخط بها بحيث لو لا حلمه تعالى ، لخر العالم وتبددت قوائمه ، غضبا على من تفوه بها. قال محمد بن كعب : كاد أعداء اللّه أن يقيموا علينا الساعة ، يعنى : لأن ما ذكر أوصاف الساعة.
وذلك أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً أي : تكاد تنفطر السموات وتنشق الأرض ، وتنهدم الجبال لأجل أن دعوا ، أي : نسبوا أو سموا للرحمن ولدا ، وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً أي : قالوا اتخذ الرحمن ولدا ، أو دعوا له ولدا ، والحال أنه مما لا يليق به تعالى اتخاذ الولد لاستحالته عليه تعالى. ووضع الرحمن موضع الضمير للإشعار بعلية الحكم لأن كل ما سواه تعالى منعّم عليه برحمته ، أو نعمة من أثر الرحمة ، فكيف يتصور أن يجانس من هو مبدأ النعم ومولى أصولها وفروعها ، حتى يتوهم أن يتخذه ولدا ، وقد صرح به قوله عز قائلا : إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي : ما منهم من أحد من الملائكة أو الثقلين إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً مملوكا لله فى الحال بالانقياد وقهرية العبودية. لَقَدْ أَحْصاهُمْ أي : حصرهم وأحاط بهم ، بحيث لا يخرج أحد من حيطة علمه ، وقبضة قدرته وقهريته ، ما وجد منهم وما سيوجد ، وما يقدر وجوده لو وجد ، كل ذلك فى علمه وقضائه وقدره وتدبيره ، لا خروج لشىء عنه ، وفى ذلك تصوير لقيام ربوبيته على كل شىء ، وأنه عالم بكل شىء ، جملة وتفصيلا ، وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً أي : وكل واحد منهم يأتى يوم القيامة فردا من الأموال والأنصار والأتباع ، متفردا بعمله ، فإذا كان شأنه تعالى وشأنهم كذلك فأنى يتوهم احتمال أن يتخذ شيئا منهم ولدا؟!.
وفى الحديث القدسي : «قال اللّه تعالى : كذّبنى عبدى ، ولم يكن له ذلك ، وشتمنى عبدى ولم يكن له ذلك ، أما تكذيبه إياى فأن يقول : من يعيدنا كما بدأنا؟ وأما شتمه إياى فأن يقول : اتخذ اللّه ولدا ، وأنا الأحد الصمد ، لم ألد ولم أولد ، ولم يكن لى كفوا أحد» «1». وهو فى البخاري. وفى صيغة اسم الفاعل فى قوله : آتِيهِ من الدلالة على إتيانهم كذلك البتة ما ليس فى صيغة المضارع لو قيل يأتيه. واللّه تعالى أعلم.
___________
(1) الحديث أخرجه البخاري (فى تفسير سورة الإخلاص) من حديث أبى هريرة رضي اللّه عنه.(3/365)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 366
الإشارة : إذا علمت أيها المؤمن أن الحق جل جلاله يغضب هذا الغضب الكلى على من أشرك مع اللّه ، أو اعتقد فيه ما ليس هو عليه من التنزيه وكمال الكمال ، فينبغى لك أن تخلص مشرب توحيدك من الشرك الجلى والخفي ، علما وعقدا وحالا وذوقا ، حتى لا يبقى فى قلبك محبة لشىء من الأشياء ولا خوف من شىء ، ولا تعلق بشىء ، ولا ركون لشىء ، إلا لمولاك ، وحينئذ يصفى مشرب توحيدك ، وتكون عبدا لله خالصا حرا مما سواه ، ومهما بقي فيك شىء من محبة الهوى نقص توحيدك بقدره ، ولم تصل إليه مادمت تميل إلى شىء سواه. وفى ذلك يقول الششترى رضي اللّه عنه :
إن ترد وصلنا فموتك شرط لا ينال الوصال من فيه فضله
فكن عبدا لله حقيقة ، وانخرط فى سلك قوله : إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً.
فحينئذ تكون حرا مما سواه ، ويملك الوجود بأسره ، يكون عند أمرك ونهيك. وفى ذلك يقول القائل :
دعونى لملكهم فلما أجبتهم قالوا دعوناك للملك لا للملك
وإذا فتحت عين القدرة وعين الحكمة وضعت كل شىء فى محله ، فتتنزه بعين القدرة فى رياض الملكوت وبحار الجبروت ، وتتنزه بعين الحكمة فى بهجة الملك وأسرار الحكمة. فعين القدرة تقول : كل من فى السموات والأرض نور من أنوار الرحمن ، وسر من أسرار ذاته ، وعين الحكمة تقول : كل من فى السموات والأرض عبد مملوك تحت قهرية ذاته ، فاعرف الضدين ، وأنزل كل واحد فى محله ، تكن عارفا باللّه ، فإن أردت أن تعرفه بضد واحد بقيت جاهلا به.
فالحكمة تثبت العبودية صورة صونا لكنز الربوبية ، والقدرة تغيبك عنها بشهود أسرار الربوبية ، وفى الحكم : «سبحان من ستر سر الخصوصية بظهور وصف البشرية ، وظهر بعظمة الربوبية فى إظهار العبودية».
فالعبودية لازمة من حيث العبد ، والغيبة عنها واجبة من حيث الرب ، فإثبات العبودية ، حكمة ، فرق ، والغيبة عنها فى شهود أنوار الربوبية : جمع ، فالعارف مجموع فى فرقه ، مفروق فى جمعه.
ولما ذكر قبائح الكفرة أتبعه بذكر محاسن المؤمنين ، فقال :
[سورة مريم (19) : آية 96]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا (96)
قلت : لما استحقر الكفرة أحوال المؤمنين حتى قالوا : أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا ، أخبر اللّه تعالى المؤمنين وبشرهم أنهم سيعزهم ويلقى مودتهم فى قلوب عباده.
يقول الحق جل جلاله : إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ فى قلوب الناس مودة وعطفا ، حتى يحبهم كل من سمع بهم ، فيحبهم ويحببهم إلى عباده من أهل السموات والأرض ، أي : سيحدث(3/366)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 367
لهم فى القلوب مودة من غير تعرض لأسبابها ، سوى ما لهم من الإيمان والعمل الصالح ، أو وُدًّا فيما بينهم ، فيتحابون ويتواددون ويحبهم اللّه.
قال القشيري : يجعل فى قلوبهم ودّا للّه ، وهو نتيجة أعمالهم الخالصة ، وفى الخبر : «لا يزال العبد يتقرب إلىّ بالنوافل حتى يحبنى وأحبه». والتعرض لعنوان الرحمانية لما أنّ الموعود من آثارها ، وأن مودتهم رحمة بهم وبمن أحبهم. وعن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال لعلىّ رضي اللّه عنه : «قل اللّهمّ اجعل لى عندك عهدا ، واجعل لى فى صدور المؤمنين مودّة» فنزلت الآية «1». وفى حديث البخاري وغيره : «إذا أحبّ اللّه عبدا قال لجبريل : إنى أحب فلانا فأحبّه ، فيحبّه جبريل ، ثمّ ينادى فى أهل السّماء إنّ اللّه قد أحبّ فلانا فأحبّوه ، فيحبّه أهل السّماء ، ثمّ يضع له المحبة فى الأرض» «2».
وقال قتادة : (سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا) قال : أي واللّه ودا فى قلوب أهل الإيمان. وإن هرم بن حيان يقول :
ما أقبل عبد بقلبه على اللّه إلا أقبل اللّه بقلوب أهل الإيمان إليه ، حتى يرزقه مودتهم ورحمتهم. قلت : ولفظ الحديث : «ما أقبل عبد بقلبه إلى اللّه عز وجل إلا جعل اللّه قلوب المؤمنين تفد إليه بالودّ والرحمة ، وكان اللّه إليه بكل خير أسرع» «3». نقله فى الترغيب. وفى حديث آخر : «يعطى المؤمن ودّا فى صدور الأبرار ، ومهابة فى صدور الفجار». فتودّد الناس للعبد دليل على قبوله عند مولاه. أنتم شهداء اللّه فى أرضه. وفى بعض الأثر :
«لا يموت العبد الصالح حتى يملأ مسامعه مما يحب ، ولا يموت الفاجر حتى يملأ مسامعه مما يكره». بالمعنى.
وأتى الحق جل لجلاله بالسين لأن السورة مكية ، وكانوا إذ ذلك ممقوتين عند الكفرة ، فوعدهم ذلك ، ثم أنجزه لهم حين جاء الإسلام ، فعزوا وانتصروا ، وتعشقت إليهم قلوب الخلق من كل جانب ، كما هو مسطر فى تواريخهم. وقيل : الموعود فى القيامة ، حين تعرض حسناتهم على رؤوس الأشهاد كأنها أنوار الشمس الضاحية «4» ، ولعل إفراد هذا بالوعد من بين مالهم من الكرامات السنية لأن الكفرة سيقع بينهم يومئذ تقاطع وتباغض وتضاد. والله تعالى أعلم.
___________
(1) عزاه فى المنثور (4/ 512) لابن مردويه والديلمي ، عن البراء.
(2) أخرجه البخاري فى (بدء الخلق ، باب : ذكر الملائكة) ، ومسلم فى (البر والصلة ، باب إذا أحب الله عبدا) من حديث أبى هريرة.
(3) أخرجه الطبراني فى الأوسط (5/ 186 ح 5025) بزيادة فى أوله ، من حديث أبى الدرداء ، وقال الهيثمي فى المجمع :
(10/ 247) : رواه الطبراني فى الكبير والأوسط. وفيه محمد بن سعيد بن حسان المصلوب ، وهو كذاب.
(4) التعبير بالاستقبال بالنسبة إلى الله تحقيق ، كالماضى ، والحاضر ، فليس عند الله زمن كما هو عندنا. والأحسن فى تأويل الآية أن نجعل السين حرف توكيد. والله أعلم.(3/367)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 368
الإشارة : سنّة اللّه تعالى فى أوليائه ، فى حال بدايتهم ، أن يسلط عليهم الخلق ، وينزل عليهم الخمول والذل بين عباده ، حتى يمقتهم أقرب الناس إليهم ، رحمة بهم واعتناء بقلوبهم لئلا تسكن إلى غيره. قال الشيخ أبو الحسن الشاذلى رضي اللّه عنه : اللهم إن القوم قد حكمت عليهم بالذل حتى عزوا .. إلخ. فإذا تطهروا من البقايا وكملت فيهم المزايا ، وتمكنوا من معرفة الحق ، أعزهم وألقى مودتهم فى قلوب عباده ، هذا دأبه معهم فى الغالب ، وقد يحكم على بعضهم بالخمول حتى يلقاه على ذلك ، ولا يكون ذلك نقصا فى حقه بل كمالا ، وهم شهداء الملكوت ، لم يأخذوا من أجرهم شيئا. واللّه تعالى أعلم.
ولما ختم السورة الكريمة ، أمر نبيه صلى اللّه عليه وسلم بتبليغها ، فقال :
[سورة مريم (19) : الآيات 97 الى 98]
فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا (97) وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً (98)
قلت : الفاء لتعليل أمر ينساق إليه النظم الكريم ، كأنه قيل - بعد إيحاء السورة الكريمة : بلغ هذا المنزّل عليك ، وبشر به ، وأنذر فإنما يسرناه .. إلخ. قاله أبو السعود.
يقول الحق جل جلاله : فَإِنَّما يَسَّرْناهُ أي : القرآن بِلِسانِكَ بأن أنزلناه على لغتك ، والباء بمعنى «على» وقيل : ضمّن التيسير معنى الإنزال ، أي : يسرنا القرآن وأنزلناه بلغتك لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ أي : السائرين إلى التقوى بامتثال ما فيه من الأمر والنهى ، وَتُنْذِرَ بِهِ أي : تخوف به قَوْماً لُدًّا لا يؤمنون به ، لجاجا وعنادا ، واللّدّ : جمع ألد ، وهو الشديد الخصومة ، اللجوج المعاند.
وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ أي : كثيرا من القرون الماضية أهلكنا قبل هؤلاء المعاندين ، فهو وعد لرسول الله صلى اللّه عليه وسلم بالنصر على الكفرة ووعيد لهم بالهلاك ، وحث له صلى اللّه عليه وسلم على الإنذار ، أي : دم على إنذارك لهم ، فسيهلكون كما أهلكنا من قبلهم من القرون ، هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أي : هل تشعر بأحد منهم ، وترى له من باقية أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً أي : صوتا خفيا ، هيهات قد انقطع دابرهم وهدأت أصواتهم ، وخربت قصورهم وديارهم ، وكذلك نفعل بغيرهم ، والمعنى : أهلكناهم بالكلية ، واستأصلناهم بحيث لا يرى منهم أحد ، ولا يسمع لهم صوت خفى ولا جلى. وجملة : (هَلْ تُحِسُّ) : استئناف مقرر لمضمون ما قبله ، وأصل الّركز : الخفاء ، ومنه : ركز الرمح إذا غيب طرفه فى الأرض ، والرّكاز : المال المدفون المخفي. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : ما أنزل اللّه القرآن وسهله على عباده إلا ليقع به الوعظ والتذكير ، فأمر اللّه رسوله فى حياته بالبشارة والإنذار به ، وبقي الأمر لخلفائه ، فالواجب على العلماء والأولياء أن يتصدوا للوعظ والتذكير ، ولا يكفى عنه تعليم رسوم الشريعة ، فإن الوعظ إنما هو التخويف والتبشير ، كما قال تعالى : لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا.(3/368)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 369
لكن لا يتصدى للوعظ إلا من له نور يمشى به فى الناس ، فيسبقه نور قلبه إلى القلوب المستمعة ، فيقع كلامهم فى قلوب السامعين. قال فى الحكم : «تسبق أنوار الحكماء أقوالهم ، فحيثما صار التنوير وصل التعبير». هذا النور هو نور المعرفة الذي هى مقام الفناء ، ويشترط فيه أيضا : أن يكون مأذونا له فى الكلام من شيخ كامل ، أو وحي إلهامى حقيقى ، فحينئذ يقع كلامه فى مسامع الخلق. وفى الحكم : «من أذن له فى التعبير حسنت فى مسامع الخلق عبارته ، وجليت إليهم إشارته».
وقال أيضا : «ربما برزت الحقائق مكسوفة الأنوار ، إذا لم يؤذن لك فيها بالإظهار». وفى أمثال هؤلاء المتصدين للوعظ والتذكير ورد الخبر القدسي : «إنّ أودّ الأودّاء إلىّ من يحببنى إلى عبادى ، ويحبب عبادى إلىّ ، ويمشون فى الأرض بالنصيحة» .. جعلنا اللّه من خواصهم بمنّه وكرمه آمين. وصلّى اللّه على سيدنا محمد وآله وصحبه ، وسلّم تسليما.(3/369)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 370(3/370)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 371
سورة طه
مكية. وهى مائة وخمس وثلاثون آية. ووجه مناسبتها لما قبلها قوله : فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ «1» مع قوله :
ما أَنْزَلْنا عَلَيْك َ الْقُرْآنَ لِتَشْقى
، كأنه يقول : فإنما سهلناه عليك لترتاح به لا لتتعب. ثم افتتحها برموز بينه وبين حبيبه ، فقال :
[سورة طه (20) : الآيات 1 الى 8]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
طه (1) ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى (2) إِلاَّ تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى (3) تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى (4)
الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى (5) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَما تَحْتَ الثَّرى (6) وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى (7) اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى (8)
قلت : عن ابن عباس أن «طه» من أسماء الله تعالى ، وقيل : معناه : طوبى لمن هدى ، وقيل : يا طاهر يا هادى ، فالطاء تشير إلى طهارته صلى اللّه عليه وسلم وتطهيره من دنس الحس ، والهاء تشير إلى هدايته فى نفسه ، وهدايته غيره إلى حضرة القدس.
وروى عنه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال : «لى عشرة أسماء ..» فذكر أن منها «طه ويس» ، وقيل : معناه : طأ الأرض بقدمك لأنه كان يرفع رجلا فى الصلاة ويضع أخرى فى طول تهجده ، فأبدل الهمزة ألفا ، والضمير للأرض ، ورد بأنه لو كان كذلك لكتبت بالألف ، فإنّ الكتابة بصورة الحرف مع التلفظ بخلافه من خصائص حروف المعجم. وقيل :
معناه : يا رجل. وهو مروى عن ابن عباس والحسن ومجاهد وغيرهم ، وهو عندهم على اللغة النبطية ، أو السريانية «2». قيل : من جعل معنى «طه» يا رجل ، لم يقف على طه ، وكذا من جعله اسما للنبى صلى اللّه عليه وسلم لأن النداء تنبيه على ما بعده ، ومن جعلها افتتاحا ، أو على وجه من الوجوه المذكورة فى البقرة ، وقف عليها ، إلا فى قول من جعلها قسما ، فإنه لا يقف عليها لأن قوله : (ما أَنْزَلْنا ...) إلخ جواب قسم.
___________
(1) من الآية 97 من سورة مريم.
(2) انظر تفسير البغوي (5/ 262) ، وزاد المسير (5/ 269).(3/371)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 372
قلت : المتبادر من سبب نزولها ومن قوله : (ما أَنْزَلْنا) : إما القسم أو النداء ، فالقسم على أن ذلك من أسماء الله ، والنداء على كون ذلك بمعنى يا رجل ، أو من أسمائه صلى اللّه عليه وسلم. وأمّا غير ذلك فبعيد ، إلا أن يكون ما بعد ذلك استئنافا بعد الوقف على «طه». قاله فى الحاشية.
و(إِلَّا تَذْكِرَةً) : مفعول لأجله. والاستثناء منقطع ، أي : ما أنزلناه لتتعب به ، لكن أنزلناه للتذكرة والوعظ ، و(تَنْزِيلًا) :
مصدر مؤكد لمضمر مستأنف مقرر لما قبله ، أي : أنزل تنزيلا ، والأصح : أنه بدل من اللفظ بفعله الناصب له ، فلا يجمع بينه وبين المبدل منه ، وفيه معنى التأكيد لما قبله ، أو هو نص فى معناه ، وإنما تلون الكلام بالالتفات ، أو منصوب على المدح والاختصاص ، أو مفعول بيخشى ، أو حال من «الْقُرْآنَ» ، و(الرَّحْمنُ) : رفع على المدح ، وقد عرفت أن المرفوع مدحا ، فى حكم الصفة الجارية على ما قبلها ، وإن لم يكن تابعا له فى الإعراب ، ولذلك ألزموا حذف المبتدأ ليكون فى صورة متعلق من متعلقاته. وقرئ بالجر صفة للموصول ، وما قيل من أن الموصولات لا توصف إلا بالذي وحده فمذهب كوفى ، أو (الرَّحْمنُ) : مبتدأ ، و(عَلَى الْعَرْشِ) : خبره. و«عَلَى» : متعلقة باستوى ، قدمت للفواصل. و(إِنْ تَجْهَرْ) : شرط ، والجواب محذوف دل عليه (فَإِنَّهُ ...) إلخ ، أي : فالله غنى عن جهرك ، فإنه ... إلخ.
يقول الحق جل جلاله تسلية لرسوله صلى اللّه عليه وسلم ، أو ترويحا له من التعب : يا محمد ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى أي : لتتعب نفسك بالمجاهدة فى العبادة.
روى أنه صلى اللّه عليه وسلم كان يقوم باللّيل حتّى تورّمت قدماه ، فقال له جبريل عليه السّلام : «أبق على نفسك ، فانّ لها عليك حقا». أي : ما أنزلناه عليك لتتعب بنهك نفسك «1» وحملها على الرياضات الشاقة ، والشدائد الفادحة ، وما بعثت إلا بالحنيفية السمحة. أو : ما أنزلناه لتتعب نفسك فى تبليغه بمكابدة الشدائد فى مقاومة العتاة ومحاورة الطغاة ، وفرط التأسف على كفرهم والتحسر على إيمانهم ، كقوله : لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ «2» ، بل للتبليغ ، وقد فعلت. وإطلاق الشقاء فى هذا المعنى شائع ، ومنه قولهم : أشقى من رائض مهر ، وقيل : إن أبا جهل والنضر بن الحارث قالا لرسول صلى اللّه عليه وسلم : إنك شقى ، حيث تركت دين آباءك ، وما نزل عليك هذا القرآن إلا لتشقى ، فردّ اللّه ذلك عليهم. والأول أظهر ، والعموم أحسن ، فإنه نفى عنه جميع الشقاء فى الدنيا والآخرة.
إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى أي : ما أنزلناه لتتعب ، لكن أنزلناه تذكرة وموعظة لمن يخشى الله - عز وجل - ليتأثر بالإنذار ، لرقة قلبه ولين عريكته ، أو لمن علم الله أنه يخشى بالتخويف ، وتخصيصها بهم مع عموم التذكرة والتبليغ لأنهم المنتفعون بها.
___________
(1) أي : إجهاد نفسك.
(2) الآية 3 من سورة الشعراء.(3/372)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 373
تَنْزِيلًا أي : أنزل تنزيلا ، أو حال كون القرآن تنزيلا ، أي : منزلا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى ، ونسبة التنزيل إلى الموصول بعد نسبته إلى نون العظمة بقوله : (ما أَنْزَلْنا) لبيان فخامته تعالى بحسب الأفعال والصفات ، إثر بيانها بحسب الذات بطريق الإبهام ، ثم التفسير لزيادة تحقيق وتقرير. وتخصيص خلقهما بالذكر لتضادهما. وتقديم الأرض لكونه أقرب إلى الحس ، ووصف السموات بالعلى ، وهو جمع «عليا» لتأكيد الفخامة مع ما فيه من مراعاة الفواصل. وكل ذلك إلى قوله : (لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى ) ، مسوق لتعظيم المنزل - عز وجل - المستتبع بتعظيم المنزّل عليه ، الداعي إلى تربية المهابة وإدخال الروعة ، المؤدية إلى استنزال المتمردين عن رتبة العتو والطغيان ، واستمالتهم إلى الخشية ، المفضية إلى التذكير والإيمان.
ثم قال تعالى : الرَّحْمنُ أي : هو الرحمن ، ووصف تعالى بالرحمانية إثر وصفه بالخالقية للإيذان بأن ربوبيته تعالى ، وقيامه بالأشياء ، من طريق الرحمة والإحسان ، لا بالإيجاب ، وفيه إشارة إلى أن تنزيله القرآن أيضا من رحمته - تعالى - ، كما ينبئ عنه قوله عز من قائل : الرَّحْمنُ ، عَلَّمَ الْقُرْآنَ «1». أو : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى ) : مبتدأ وخبر ، وجعل الرحمة عنوان الموضوع الذي من شأنه أن يكون معلوم الثبوت للموضوع عند المخاطب للإيذان بأن ذلك أمر بيّن لا خفاء فيه ، غنى عن الإخبار صريحا. والاستواء على العرش مجاز عن الملك والسلطان ، يقال : استوى فلان على سرير الملك مرادا به ملك الملك والتصرف ، وإن لم يقعد على سرير أصلا ، والمراد : تعلق قدرته وقهريته فى جميع الكائنات بالتدبير والتصرف التام.
وسئل أحمد بن حنبل عن الاستواء ، فقال : استواء من غلب وقهر ، لا استواء كما يتوهم البشر. وسئل عنه مالك والشافعي - رضى الله عنهما - فقالا : الاستواء معلوم ، والكيفية مجهولة ، والإيمان به واجب ، والسؤال عن هذا بدعة وضلالة ، آمنوا بلا تشبيه ، وصدّقوا بلا تمثيل ، وأمسكوا عن الخوض فى هذا كل الإمساك.
وقال الجنيد رضي اللّه عنه : خلق الله العرش فوق سبع سموات ، وجعله قبلة لدعاء المخلوقات ، وقابله بقلب عبده المؤمن ، ليكون محلا للتجليات والتنزلات والمخاطبات. ه. وقد تقدم الكلام عليها فى الأعراف مستوفيا «2».
لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ، سواء كان ذلك بالجزئية منهما أو بالحلول فيهما ، وَما بَيْنَهُما من الموجودات الكائنة فى الجو دائما ، كالهواء والسحاب ، أو أكثريا كالطير ، أي : له ذلك وحده دون غيره ، لا شركة ولا استقلالا ، كل ما ذكر هو له ملكا وتصرفا ، وإحياء وإماتة ، وإيجادا واعداما ، وَما تَحْتَ الثَّرى :
وما وراء التراب المتصل بالهوى السفلى. وعن محمد بن كعب : أنه ما تحت الأرضين السبع. وعن السدى : أن
___________
(1) الآيتان : 1 - 2 من سورة الرحمن.
(2) راجع تفسير الآية 54 من سورة الأعراف. [.....](3/373)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 374
الثرى هو الصخرة التي عليها الأرض السابعة ، وذكره مع دخوله تحت ما فى الأرض لزيادة التقرير. وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ أي : وإن تجهر بذكره تعالى - أو دعائه ، فاعلم أنه تعالى غنى عن جهرك فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى أي : ما أسررته إلى غيرك ، وشيئا أخفى من ذلك ، وهو ما أخطرته ببالك ، من غير أن تتفوه به أصلا أو : السر : ما أسررته فى نفسك ، وأخفى منه : ما ستسره فى المستقبل. وهو إمّا نهى عن الحركة ، كقوله تعالى :
وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ «1» وإما إرشاد للعباد إلى أن الجهر ليس لإسماعه تعالى بل لغرض آخر من تأنيس النفس بالذكر وتثبيته فيها ، ومنعها من الاشتغال بغيره ، وقطع الوسوسة عنها ، وهضمها بالتضرع والجؤار. هذا والغرض من الآية : بيان إحاطة علمه تعالى بجميع الأشياء ، إثر بيان سعة سلطانه وشمول قدرته بجميع الكائنات.
ثم بيّن الموصوف بتلك الكمالات ، فقال : اللَّهُ أي : ما ذكر من صفات الكمال ، موصوفها الله المعبود بالحق ، لا إِلهَ إِلَّا هُوَ أي : لا معبود بحق إلا هو ، ولا مستحق للعبادة إلا هو. وهو تصريح بما تضمنه ما قبله من اختصاص الألوهية به سبحانه ، فإنّ ما أسند إليه تعالى من خلق جميع الموجودات ، ومن الرحمانية والمالكية للكل ، والعلم الشامل ، يقتضى اختصاصه تعالى بالألوهية والربوبية ، وقوله تعالى : لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى بيان لكون ما ذكر من الخالقية والرحمانية والمالكية والعالمية أسماءه تعالى وصفاته ، من غير تعدد فى ذاته تعالى فالأسماء والصفات كثيرة ، والمسمى والموصوف واحد. و(الْحُسْنى ) : تأنيث الأحسن ، فعلى ، يوصف به الواحد المؤنث ، والجمع المذكر والمؤنث ، ك مَآرِبُ أُخْرى «2» ، وآياتِنَا الْكُبْرى «3». والله تعالى أعلم.
الإشارة : من تأمل القرآن العظيم ، وما جاء به الرسول - عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم - وجده يدل على ما يفضى إلى الراحة دون التعب ، وإلى السعادة العظمى دون الشقاء ، لكن لا يتوصل إلى الراحة إلا بعد التعب ، ولا يفضى العبد إلى السعادة الكبرى إلا بعد الطلب ، فإذا اجتهد العبد فى طلب ربه ، وكله إلى شيخ ينقله من عمل الجوارح إلى عمل القلوب ، فإذا وصل العمل إلى القلب استراحت الجوارح ، وأفضى حينئذ إلى روح وريحان ، وجنة ورضوان ، أعنى جنة العرفان. ولذلك قال الشيخ أبو الحسن : «ليس شيخك من يدلك على تعبك ، إنما شيخك من يريحك من تعبك» ، كما فى لطائف المنن.
وقال شيخنا القطب ابن مشيش : وقد سئل عن قوله صلى اللّه عليه وسلم : «يسّروا ولا تعسّروا» فقال : دلوهم على الله ، ولا تدلوهم على غيره ، فإن من دلّك على الدنيا فقد غشك ، ومن دلّك على العمل فقد أتعبك ، ومن دلّك على الله فقد
___________
(1) من الآية 205 من سورة الأعراف.
(2) من الآية 18 من سورة طه.
(3) من الآية 23 من سورة طه.(3/374)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 375
نصحك. ه. فإذا دلك على الله غيّبك عن وجود نفسك بشهود ربك ، وهى السعادة العظمى ، كما تقدم فى سورة هود. فمن اتخذ شيخا ثم لم ينقله من مقام التعب ، ولم يرحله من مقام إلى مقام ، فاعلم أنه غير صالح للتربية.
وقوله تعالى : إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى ، قال شيخ شيوخنا سيدى عبد الرحمن العارف : قيل : أنزل الله القرآن لتذكير سابق الوصال لأن الأرواح لمّا دخلت الأشباح اكتسبت خشية ووحشة وفرقة عن معادنها ، فأنزل الله القرآن تأنيسا لأن المحب يأنس بكتاب حبيبه وكلامه. وقال جعفر الصادق : أنزل الله القرآن موعظة للخائفين ، ورحمة للمؤمنين ، وأنسا للمحبين. وأيضا : القرآن يذكّر عظمة الله الموجبة خشيته ، فهو مذهب للغفلة. ثم قال : وفى الشهود الحاصل بالتذكير رفع المشقة ، ووجدان الراحة بالطاعة ، لكونه يصير محمولا ، وقد قال : وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي «1» ، أي : لشهودى فيها ، وفى ذلك قرة عين ، وراحة ، وأنس ، وتشابه حال المصلى بحال موسى ، بجامع النجوى ، فلذلك ذكر فى سياقه. واللّه أعلم. ه.
وقوله تعالى : الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى ، تفسيرها هو الذي قصد ابن عطاء الله فى الحكم بقوله :
«يا من استوى برحمانيته على عرشه ، فصار العرش غيبا فى رحمانيته ، كما صارت العوالم غيبا فى عرشه ، محقت الآثار بالآثار ، ومحوت الأغيار بمحيطات أفلاك الأنوار». وأنت خبير بأن الرحمانية وصف لازم للذات ، والصفة لا تفارق الموصوف ، فإذا استوت الرحمانية على العرش وغمرته فقد استوت عليه أسرار الذات وغمرته ، وهى أفلاك الأنوار التي أحاطت بالعرش والآثار ، ومحت كل شىء ، حتى لم يبق إلا الذي ليس كمثله شىء ، وليس معه شىء ، وهو السميع البصير. وما نسبة حس الآثار بالنسبة إلى أفلاك الأسرار التي استوت عليه إلا كالهباء فى الهواء. والله تعالى أعلم وأعظم.
ثم ذكر قصص موسى عليه السّلام ، وتسليته لرسوله صلى اللّه عليه وسلم ، وعما لقى من التعب فى تبليغ الوحى ، فقال :
[سورة طه (20) : الآيات 9 الى 16]
وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (9) إِذْ رَأى ناراً فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً (10) فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ يا مُوسى (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً (12) وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى (13)
إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي (14) إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى (15) فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها وَاتَّبَعَ هَواهُ فَتَرْدى (16)
___________
(1) من الآية 14 من سورة طه.(3/375)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 376
قلت : قال القشيري : أجرى الله [سنته ] «1» فى كتابه أن يذكر قصة موسى فى أكثر المواضع التي يذكر فيها حديث نبينا - عليه الصلاة والسلام - يتبعه بذكر موسى ، تنبيها على علو شأنه ، لأنه كما أن التخصيص بالذكر يدل على شرف المذكور ، فالتكرير فى التفصيل يوجب التفضيل فى الوصف لأن القضية الواحدة إذا أعيدت مرارا كثيرة كانت فى باب البلاغة أتم ، ولا سيما فى كل مرة فائدة زائدة. ه.
قلت : ولعل وجه تناسقهما فى الذكر قرب المنزلة ، ومشاركة الصفة ، وذلك باعتبار المعالجة وهداية الأمة ، فإن أمة موسى عليه السّلام كانت انتشرت فلم يقع لنبى هداية على يديه لقومه مثله ، إلا لنبينا - عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم - فإن أمته انتشرت وشاعت مسير الشمس والقمر ، وفى حديث البخاري ما يدل على هذا ، حين عرضت عليه الأمم صلى اللّه عليه وسلم مرة ، فرأى أمة موسى عليه السّلام كثيرة ، ثم رأى أمته قد سدت الأفق. فانظر لفظه فيه «2».
وقال أبو السعود : المناسبة إنما هى تقرير أمر التوحيد الذي إليه انتهى مساق الحديث ، وبيان أنه مستمر فيما بين الأنبياء ، كابرا عن كابر ، وقد خوطب به موسى عليه السّلام ، حيث قيل له : إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي ، وبه ختم عليه السلام مقاله ، حيث قال : إِنَّما إِلهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ «3» ، ثم ردّ مناسبة التسلية بأن مساق النظم الكريم إنما هو لصرفه عليه السلام عن اقتحام المشاق. فانظره.
و(هَلْ) : لفظة استفهام ، والمراد به التشويق لما يخبره به ، أو التنبيه. و(إِذْ رَأى ) : ظرف للحديث لأن فيه معنى الفعل ، أو لمضمر مؤخر ، أي : حين رأى كان كيت وكيت ، أو : لاذكر ، أي : اذكر وقت رؤيته .. إلخ.
يقول الحق جل جلاله : وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى أي : قصته فى معالجة فرعون ، فإنا سنذكرها لك تسلية وتقريرا لأمر التوحيد ، إِذْ رَأى ناراً تلمع فى الوادي ، وذلك أنه عليه السلام استأذن شعيبا عليه السّلام فى ___________
(1) ما بين المعكوفتين زيادة ليست فى الأصول.
(2) قال ابن عباس رضي اللّه عنه : خرح علينا النبي صلى اللّه عليه وسلم يوما ، فقال : عرضت علىّ الأمم ، فجعل يمر النبي معه الرجلان ، والنبي معه الرهط ، والنبي ليس معه أحد ، ورأيت سوادا كثيرا سد الأفق ، فرجوت أن تكون أمتى. فقيل : هذا موسى وقومه. ثم قيل لى : انظر ، فرأيت سوادا كثيرا سد الأفق ، فقيل لى : انظر هكذا وهكذا ، فرأيت سوادا كثيرا سد الأفق ، فقيل : هؤلاء أمتك ، ومع هؤلاء سبعون ألفا يدخلون الجنة بغير حساب ...» الحديث أخرجه البخاري فى (الطب ، باب من لم يرق)
(3) من الآية 98 من سورة طه.(3/376)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 377
الخروج إلى أمه وأخيه ، فخرج بأهله ، وأخذ على غير الطريق ، مخافة من ملوك الشام ، فلما وافى وادي طوى ، وهو بالجانب الغربي من الطور ، ولد له ولد فى ليلة مظلمة شاتية مثلجة ، وكانت ليلة الجمعة ، وقد ضل عن الطريق ، وتفرقت ماشيته ، ولا ماء عنده ، فقدح النار فلم تور المقدحة.
فبينما هو فى ذلك إِذْ رَأى ناراً على يسار الطريق من جانب الطور ، فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا أي : أقيموا مكانكم. أمرهم عليه السّلام بذلك لئلا يتبعوه ، كما هو المعتاد من النساء. والخطاب للمرأة والخادم والولد ، وقيل : لها وحدها ، والجمع للتعظيم ، إِنِّي آنَسْتُ أي : أبصرت ناراً ، وقيل : الإيناس خاص بإبصار ما يؤنس به. لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ أي : بشعلة مقتبسة من معظم النار ، وهو المراد بالجذوة فى سورة القصص «1» ، وبالشهاب القبس ، «2» أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً هاديا يدلنى إلى الطريق ، فهو مصدر بمعنى الفاعل ، و(أَوْ) فى الموضعين : لمنع الخلو ، لا لمنع الجمع إذ يمكن أن يقتبس من النار ويجد هاديا. ومعنى الاستعلاء فى قوله : عَلَى النَّارِ لأن أهلها يستعلون عليها عند الاصطلاء ، ولما كان الإيتاء بها غير محقق ، صدّر الجملة بكلمة الترجي.
فَلَمَّا أَتاها أي : النار التي آنسها. قال ابن عباس رضي اللّه عنه : رأى شجرة خضراء ، حفت بها ، من أسفلها إلى أعلاها ، نار بيضاء ، تتقد كأضوء ما يكون ، فوقت متعجبا من شدة ضوئها ، روى أن الشجرة كانت عوسجة ، وقيل :
سمرة «3» .. بينما هو ينظر ، نُودِيَ فقيل : يا مُوسى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ ، أو بأنى أنا ربك ، وتكرير الضمير لتأكيد الدلالة ، وتحقيق المعرفة وإماطة الشبهة. يروى أنه لما نودى يا موسى ، قال عليه السّلام : من المتكلم؟ فقال الله عز وجل : (أَنَا رَبُّكَ) ، فوسوس إليه الخاطر : لعلك تسمع كلام شيطان ، قال : فلما قال : (إِنَّنِي أَنَا) ، عرفت أنه كلام الله عز وجل. قيل : إنه سمعه من جميع الجهات بجميع الأعضاء.
ثم قال له : فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ لأنه أليق بحسن الأدب ، ومنه أخذ الصوفية - رضى الله عنهم - خلع نعالهم بين يدى المشايخ والأكابر ، وقيل : ليباشر الوادي المقدس بقدميه ، ومنه يؤخذ تعظيم المساجد ، بخلعها ولو طاهرة ، وقيل : إن نعليه كانتا من جلد حمار غير مدبوغ. وقيل : النعلين : الكونين ، أي : فرغ قلبك من الكونين إن أردت دخول حضرتنا. وقوله تعالى : إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ : تعليل لوجوب الخلع ، وبيان لسبب ورود الأمر بذلك.
روى أنه عليه السّلام خلعهما وألقاهما وراء الوادي ، و«طُوىً» : بدل من الوادي ، وهو اسم له. وقرأ منونا لتأوله بالمكان ، وغير المنون لتأوله بالبقعة.
___________
(1) فى قوله : لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ ، من الآية 29 من سورة القصص.
(2) فى قوله : سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ ، من الآية 7 من سورة النمل.
(3) انظر تفسير الطبري (16/ 143) ، والبغوي (4/ 265).(3/377)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 378
وَأَنَا اخْتَرْتُكَ أي : اصطفيتك للنبوة والرسالة ، وقرأ حمزة : (و إنّا اخترناك) بنون العظمة ، فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى أي : للذى يوحى إليك ، أو لوحينا إليك ، وهو : إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا ، فالجملة بدل من «ما».
فَاعْبُدْنِي أفردنى بالعبادة والخضوع ، والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها ، فإن اختصاص الألوهية به سبحانه من موجبات تخصيص العبادة به تعالى. وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي : لتذكرنى فيها لاشتمالها على الأذكار ، وأفردت بالذكر ، مع اندراجها فى الأمر بالعبادة لفضلها على سائر العبادات لما نيطت به من ذكر المعبود ، وشغل القلب واللسان بذكره ، فإنّ الذكر كما ينبغى لا يتحقق إلا فى ضمن العبادة.
أو «لِذِكْرِي» : لإخلاص ذكرى وابتغاء وجهى ، بحيث لا ترائى بها غيرى. وقيل : لذكرى إياها ، وأمرى بها فى الكتب ، أو لأن أذكرك فيها بالمدح والثناء ، وقيل : لأوقات ذكرى ، وهى مواقيت الصلوات ، وقيل : لذكر صلاتى إذا نسيتها ، لما روى أنه عليه الصلاة والسلام قال : «من نام عن صلاة ، أو نسيها ، فليصلّها إذا ذكرها لأنّ اللّه تعالى يقول : وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي» «1».
قال بعضهم : [أصول العمل ثلاثة] «2» : أقوال وأفعال وأحوال ، فأفضل الأقوال : لا إله إلا الله ، وأفضل الأفعال :
الصلاة لله أو بالله ، وأفضل الأحوال : الطمأنينة بشهود الله.
إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ : كائنة لا محالة ، وهو تعليل لوجوب العبادة وإقامة الصلاة ، وإنما عبّر بالإتيان تحقيقا لحصولها ، بإبرازها فى معرض أمر محقق متوجه نحو المخاطبين. أَكادُ أُخْفِيها أي : لا أظهرها ، بأن أقول :
آتية فقط ، فلا تأتى إلا بغتة ، أو أكاد أظهرها بإيقاعها ، من أخفاه ، إذا أظهره ، فأخفى - على هذا - من الأضداد.
وردّه ابن عطية ، فإن الذي بمعنى الظهور هو : «خفى» الثلاثي ، لا «أخفى». وقال الزمخشري : قد جاء فى بعض اللغات : أخفى بمعنى خفى ، أي : ظهر ، فلا اعتراض.
ونقل الثعلبي عن ابن عباس وأكثر المفسرين أن المعنى : أكاد أخفيها عن نفسى ، فكيف عن غيرى؟ وكذلك هو فى مصحف أبى ، وفى مصحف عبد الله : فكيف يعلمها مخلوق ، وفى بعض القراءات : وكيف أظهرها لكم؟ قال قطرب : فإن قيل : كيف يخفى الله تعالى عن نفسه ، وهو خلق الأشياء؟ قلنا : إن الله تعالى كلم العرب بكلامهم الذي يعرفونه. انظر بقية كلامه.
___________
(1) أخرجه بنحوه : البخاري فى (مواقيت الصلاة ، باب من نسى صلاة فليصل إذا ذكرها) ، ومسلم فى (المساجد ، باب قضاء الصلاة الفائتة ، واستحباب تعجيل قضائها) ، من حديث أنس رضي اللّه عنه.
(2) ما بين المعكوفتين : مشتبه فى المخطوطة الأمّ ، وغير موجود فى غيرها.(3/378)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 379
وظهور علاماتها لا يزيل إخفاءها. قال ابن عرفة فى تفسيره : وإذا ظهرت عند وقوع الأشراط لم ينسلخ عنها معنى الخفاء المتقدم ، غاية الأمر أنها بذكر الأشراط وسط بين الإخفاء والإظهار ، فتكون مقاربة لكل واحد منهما. ه.
وقوله تعالى : لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى متعلق بآتية ، أو بأخفيها - على معنى : أظهرها ، لتجزى كل نفس بسعيها ، أي : بعملها خيرا كان أو شرا. فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها أي : عن ذكر الساعة ومراقبتها والاستعداد لها مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها حتى تكسل عن التزود لها. والنهى - وإن كان بحسب الظاهر متوجها للكافر عن صد موسى عليه السّلام - لكنه فى الحقيقة نهى له عليه السّلام عن الانصداد عنها ، على أبلغ وجه ، فإنّ النهى عن أسباب الشيء المؤدية إليه نهى عنه بالطريق البرهاني ، كقوله تعالى : لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي «1» ، أي : لا تتبع فى الصد عنها من لا يؤمن بها وَاتَّبَعَ هَواهُ أي : ما تهواه نفسه من اللذات الفانية ، فَتَرْدى : فتهلك فإنّ الإغفال عنها ، وعن تحصيل ما ينجى من أهوالها ، مستتبع للهلاك لا محالة. وبالله التوفيق.
الإشارة : وهل أتاك أيها العارف حديث موسى ، كيف سار إلى نور الحبيب ، ومناجاة القريب ، إذ رأى نارا فى مرأى العين ، وهو نور تجلّى الحبيب بلا بين ، فقال لأهله ومن تعلق به : امكثوا ، أقيموا فى مقام الطلب ، واصبروا وصابروا ورابطوا على قلوبكم ، فى نيل المطلب ، إنى آنست نارا ، وهو نور وجه الحبيب فى مرائى تجلياته ، وهذا مقام الفناء ، لعلى آتيكم منها بقبس ، تقتبسون منه أنوارا لقلوبكم واسراركم. أو أجد على النار هدى يهدينى إلى مقام البقاء والتمكين ، فلما أتاها ، وتمكن من شهودها ، نودى يا موسى : إنى أنا ربك ، فلا نار ولا أثر ، وإنما وجه الحبيب قد تجلى وظهر ، فى مرأى الأثر ، فاخلع نعليك ، أي : اخرج عن الكونين إن أردت شهود حضرة المكون ، كما قال القائل :
واخلع النعلين ، إن جئت إلى ذلك الحي ففيه قدسنا
وعن الكونين كن منخلعا وأزل ما بيننا من بيننا
إنك بالواد المقدس ، أي : بحر حضرة القدس ومحل الأنس ، قد طويت عنك الأكوان ، وأبصرت نور الشهود والعيان ، وأنا اخترتك لحضرتى ، واصطفيتك لمناجاتى ، فاستمع لما يوحى إليك منى ، فأنا الله لا إله إلا أنا وحدي ، فإذا تمكنت من شهودى ، فانزل لمقام العبودية شكرا ، وأقم الصلاة لذكرى ، إن الساعة آتية لا محالة ، فأكرم مثواك ، وأجل منصبك ، وأرفعك مع المقربين ، فلا يصدنك عن مقام الشهود أهل العناد والجحود ، فتسقط عن مقام القرب والأنس ، وتصير فى جوار أهل حجاب الحس ، ولعل هذا المنزع هو الذي انتحى ابن الفارض ، حيث قال فى كلام له :
___________
(1) من الآية 89 من سورة هود.(3/379)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 380
آنست فى الحىّ نارا ليلا فبشّرت أهلي
قلت : امكثوا ، فلعلّى أجد هداى ، لعلّى
دنوت منها فكانت نار التكلم قبلى
نوديت منها كفاحا : ردّوا ليالى وصلي
حتى إذا ما تدانى ال ميقات فى جمع شملى
صارت جبالىّ دكا من هيبة المتجلّى
ولاح سرّ خفي يدريه من كان مثلي
فالموت فيه حياتى وفى حياتى قتلى
وصرت موسى زمانى مذ صار بعضى كلى
قوله : «صارت جبالى دكا» ، أي : جبال وجوده ، فحصل الزوال من هيبة نور المتجلى ، وهو الكبير المتعال. وهذا إنما يكون بعد موت النفس وقهرها ، فإنها حينئذ تحيا بشهود ربها ، حياة لا موت بعدها. وقوله : «مذ صار بعضى كلى» يعنى : إنما حصلت له المناجاة والقرب الحقيقي حين فنيت دائرة حسه ، فاتصل جزء معناه بكل المعنى المحيط به ، وهو بحر المعاني المفنى للأوانى. وبالله التوفيق.
ثم ذكر مكالمته مع كليمه عليه السّلام ، فقال :
[سورة طه (20) : الآيات 17 الى 23]
وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى (17) قالَ هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى (18) قالَ أَلْقِها يا مُوسى (19) فَأَلْقاها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى (20) قالَ خُذْها وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى (21)
وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرى (22) لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى (23)
قلت : (وَ ما) : استفهامية ، مبتدأ ، و(تِلْكَ) : خبر ، أو بالعكس ، فما : خبر ، وتلك : مبتدأ ، وهو أوفق بالجواب.
و(بِيَمِينِكَ) : متعلق بالاستقرار حالا ، أي : وما تلك ، قارة أو مأخوذة بيمينك ، والعامل معنى الإشارة. وقيل : (تِلْكَ) :
موصولة ، أي : وما التي هى بيمينك ، والاستفهام هنا : إيقاظ وتنبيه له عليه السّلام على مما سيبدو له من العجائب ، وتكرير النداء لزيادة التأنيس والتنبيه.(3/380)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 381
يقول الحق جل جلاله : وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى ، إنما سأله ليريه عظيم ما يفعل بها من قلبها حية ، فمعنى السؤال : تقريره على أنها عصى ، ليتبين له الفرق بين حالها قبل قلبها وبعده ، وقيل : إنما سأله ليؤنسه وينبسط معه ، فأجابه بقوله : هِيَ عَصايَ ، نسبها لنفسه تحقيقا لوجه كونها بيمينه ، روى أنها كانت عصا آدم عليه السّلام ، فأعطاها له شعيب ، حين قدمه لرعى غنمه ، على ما يأتى فى سورة القصص. وكان فى رأسها شعبتان ، وفى أسفلها سنان ، واسمها نبعة ، فى قول مقاتل «1».
أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها أي : أعتمد عليها إذا مشيت ، وعند الإعياء ، والوقوف على رأس قطيع الغنم ، وَأَهُشُّ أي : أخبط بِها الورق من الشجر ليسقط عَلى غَنَمِي فتأكله. وقرئ بالسين ، وهو زجر الغنم ، تقول العرب : هس هس ، فى زجرها ، وعداه بعلى لتضمنه معنى الإقبال والتوجه. وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى أي :
حاجات أخرى من هذا الباب. قال ابن عباس : كان موسى عليه السّلام يحمل عليها زاده وسقاءه ، فجعلت تأتيه وتحرسه ، ويضرب بها الأرض فتخرج ما يأكل يومه ، ويركز بها فيخرج الماء ، فإذا رفعها ذهب ، وكان يرد بها عن غنمه ونعمه الهوام بإذن الله ، وإذا ظهر له عدو حاربت وناضلت عنه ، وإذا أراد الاستسقاء من البئر أدلاها ، فطالت على طول البئر وصارت شعبتاها كالدلو فيستقى بها ، وكان يظهر على شعبتيها كالشمعتين بالليل فيستضيئ بها ، وإذا اشتهى ثمرة ركزها فتغصّنت غصن تلك الشجرة وأورقت وأثمرت. فهذه المآرب «2».
وكأنه عليه السّلام فهم أن المقصود من السؤال بيان حقيقتها ، وتفصيل منافعها بطريق الاستقصاء ، فلذلك أطنب فى كلامه ، فلما بدت منها خوارق بديعة علم أنها آية باهرة ومعجزات قاهرة ، وأيضا : الإطناب فى مناجاة الأحباب محمود.
قالَ له تعالى : أَلْقِها يا مُوسى لترى من شأنها ما لم يخطر ببالك ، قيل : إنما أمر بإلقائها قطعا للسكون إليها ، لما كان فيها من المآرب ، وبالغ الحق تعالى فى ذلك بقلبها حية ، حتى خاف منها ، وحين قطعه عنها ، وأخرجها من قلبه ، بالفرار منها ردها إليه بقوله : خُذْها وَلا تَخَفْ فَأَلْقاها على الأرض فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى ، روى أنه عليه السّلام ألقاها فانقلبت حية صفراء ، فى غلظ العصا ، ثم انتفخت وعظمت ، فلذلك شبهت بالجان تارة ، وبالثعبان مرة أخرى ، وعبّر عنها هنا بالاسم العام للحالين ، وقيل : انقلبت من أول الأمر ثعبانا ، وهو أليق بالمقام ، كما يفصح عنه قوله عز وجل : فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ «3» ، وإنما سميت بالجان فى الجلادة وسرعة المشي ، لا فى صغر الجثة. وقيل : الجان عبارة عن ابتداء حالها ، والثعبان عن انتهائه.
___________
(1) انظر تفسير البغوي (5/ 268). [.....]
(2) قال الحافظ ابن كثير عن هذه المآرب : الظاهر أنها - أي : العصا - لم تكن كذلك ، ولو كانت كذلك لما استنكر موسى عليه السّلام صيرورتها ثعبانا ، فما كان يفرّ منها هاربا ، ولكن كل ذلك من الأخبار الإسرائيلية ، انظر : تفسير ابن كثير (3/ 145).
(3) من الآية 107 من سورة الأعراف(3/381)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 382
قالَ تعالى : خُذْها يا موسى ، وَلا تَخَفْ ، قال ابن عباس رضي اللّه عنه : انقلبت ثعبانا ذكرا ، يبتلع كل شىء من الصخر والشجر ، فلما رآه كذلك خاف ونفر ، ولحقه ما يلحق البشر عند مشاهدة الأهوال من الخوف والفزع ، إذ لا يلزم من ثبوت الخصوصية عدم وصف البشرية. سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى أي : سنعيدها ، بعد الأخذ ، إلى حالتها الأولى التي كانت عليها عصا ، قيل : بلغ عليه السّلام عند ذلك من الثقة وعدم الخوف إلى حيث كان يدخل يده فى فمها ، ويأخذ بلحييها. فلما أخذها عادت عصا ، وحكمة قلبها وأخذها هنا ليكون معها على ثقة عند مخاصمة فرعون ، وطمأنينة من أمره ، فلا يعتريه شائبة دهش ولا تزلزل. والسيرة : فعلة من السير ، يجوز بها إلى الطريقة والهيئة ، وانتصابها على نزع الخافض.
ثم أراه معجزة أخرى ، فقال : وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ أي : أدخلها تحت عضدك ، فجناح الإنسان :
جنباه ، مستعار من جناح الطير ، تَخْرُجْ بَيْضاءَ : جواب الأمر ، أي : إن أدخلتها تخرج بيضاء شعاعية ، مِنْ غَيْرِ سُوءٍ أي : حال كونها كائنة من غير عيب بها كبرص ونحوه. روى أنه عليه السّلام كان آدم اللون ، فأخرج يده من مدرعته بيضاء ، لها شعاع كشعاع الشمس ، تضىء حال كونها آيَةً أُخْرى أي : معجزة أخرى غير العصا ، لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى أي : فعلنا ما فعلنا ، لنريك بعض آياتنا العظمى ، أو : لنريك الكبرى من آياتنا. قال ابن عباس : «كانت يد موسى أكبر آياته». واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : يقال للفقير : وما تلك بيمينك أيها الفقير؟ فيقول : هى دنياى أعتمد عليها فى معاشى وقيام أمورى ، وأنفق منها على عيالى ، ولى فيها حوائج أخرى من الزينة والتصدق وفعل الخير ، فيقال له : ألقها من يدك أيها الفقير ، واخرج عنها ، أو أخرجها من قلبك إن تيسر ذلك مع الغيبة عنها ، فألقاها وخرج عنها ، فيلقيها ، فإذا هى حية كانت تلدغه وتسعى فى هلاكه وهو لا يشعر. فلما تمكن من اليقين ، وحصل على غاية التمكين ، قيل له : خذها ولا تخف منها ، حيث رفضت الأسباب ، وعرفت مسبب الأسباب ، فاستوى عندك وجودها وعدمها ، ومنعها وإعطاؤها ، سنعيدها سيرتها الأولى ، تأخذ منها مأربك ، وتخدمك ولا تخدمها. يقول الله تعالى : «يا دنياى ، اخدمي من خدمنى ، وأتبعى من خدمك» «1».
وأما قوله تعالى فى حديث آخر مرفوعا : «تمررى على أوليائى ولا تحلو لهم فتفتنهم عنى» «2» فالمراد بالمرارة : ما يصيبهم من الأهوال والأمراض وتعب الأسفار ، وإيذاء الفجار وغير ذلك. وقد يلحقهم الفقر الظاهر شرفا لهم ، لقوله صلى اللّه عليه وسلم : «الفقر فخرى وبه أفتخر» «3» ، أو كما قال عليه السّلام إن صح. وقال شيخنا البوزيدى رضي اللّه عنه :
___________
(1) أخرجه الخطيب البغدادي فى تاريخه (8/ 44) عن ابن مسعود مرفوعا. وقال الشوكانى فى الفوائد (ص/ 238) : «وفى إسناده الحسن بن داود والحديث موضوع». والحديث فى الإتحاف السنية (257) للديلمى مختصرا.
(2) أخرجه البيهقي فى الشعب (ح 9800) بنحوه ومطولا عن قتادة بن النعمان ، وقال البيهقي : لم نكتبه إلا بهذا الإسناد ، وفيه مجاهيل. والحديث فى الاتحافات (258) للديلمى.
(3) قال القاري فى الأسرار المرفوعة (ص 255 ، ح 320) «قال الحافظ ابن حجر : «موضوع لا أصل له».(3/382)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 383
الحديث الأول : فى الصالحين المتوجهين من أهل الظاهر ، والثاني - يعنى تمررى .. إلخ - فى الأولياء العارفين من أهل الباطن. ه. ويقال له أيضا - إن تجرد وألقى الدنيا من يده وقلبه : اضم يد فكرتك إلى قلبك ، تخرج بيضاء نورانية صافية ، لا تخليط فيها ولا نقص ، هى آية أخرى ، بعد آية التجريد والصبر على مشاقه.
وقال فى اللباب : اليد : يد الفكر ، والجيب : جيب الفهم ، وخروجها بيضاء بالعرفان. ه. قال الورتجبي : أرى اللّه موسى من يده أكبر آية ، وذلك أنه ألبس أنوار يد قدرته يد موسى ، فكان يد موسى يد قدرة اللّه ، من حيث التخلق والاتصاف ، كما فى حديث : «كنت له سمعا وبصرا ولسانا ويدا». ه. وباللّه التوفيق.
ثم ذكر ابتداء رسالة موسى عليه السّلام ، فقال :
[سورة طه (20) : الآيات 24 الى 35]
اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (24) قالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي (28)
وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي (29) هارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً (33)
وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً (34) إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً (35)
قلت : (هارُونَ) : مفعول أول ، و(وَزِيراً) : مفعول ثان ، قدّم اعتناء بشأن الوزارة ، و(لِي) : صلة ، لا جعل ، أو متعلق بمحذوف حال من (وَزِيراً) لأنه صفة له فى الأصل. و(مِنْ أَهْلِي) : إما صفة وزيرا ، أو صلة لا جعل ، وقيل : إن (لِي وَزِيراً) : مفعولا اجعل ، و(هارُونَ) : عطف بيان لوزير. و(أَخِي) فى الوجهين : بدل من هارون ، أو عطف بيان آخر.
يقول الحق جل جلاله ، لنبيه موسى عليه السّلام : اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ بما رأيته من الآيات الكبرى. وادعه إلى عبادتى وحدي ، وحذره من نقمتى ، إِنَّهُ طَغى أي : جاوز الحد فى التكبر والعتو والتجبر ، حتى تجاسر على دعوى الربوبية. قالَ موسى عليه السّلام مستعينا بربه عز وجل : رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي أي : وسعه حتى لا يضيق بحمل أعباء الرسالة ، وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي أي : سهّله حتى لا يصعب علىّ شىء أقصده. والجملة استئنافية بيانية ، كأن سائلا قال : فماذا قال عليه السّلام ، حين أمر بهذا الأمر الخطير والخطب العسير؟ فقيل : قال رب اشرح لى صدرى ... إلخ.
كأنه ، لما أمر بهذا الخطاب الجليل ، تضرع إلى ربه الجليل ، وأظهر عجزه وضعفه ، وسأل ربه تعالى أن يوسع صدره ، ويفسح قلبه ، ويجعله عليما بشؤون الناس وأحوالهم ، حليما صفوحا عنهم ، ليلتقى ما عسى أن يرد عليه من(3/383)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 384
الشدائد والمكاره ، بجميل الصبر وحسن الثبات ، فيلقاها بصدر فسيح ، وجأش رابط ، وأن يسهل عليه مع ذلك أمره ، الذي هو أجلّ الأمور وأعظمها ، وأصعب الخطوب وأهولها ، بتيسير الأسباب ورفع الموانع. وفى زيادة كلمة (لِي) ، مع انتظام الكلام بدونها ، تأكيد لطلب الشرح والتيسير بإبهام المشروح والميسّر أولا ، ثم تفسيرهما ثانيا ، وفى تقديمهما وتكريرهما : إظهار مزيد اعتناء بشأن كل من المطلوبين ، وفضل اهتمام باستدعاء حصولهما.
ثم قال : وَاحْلُلْ أي : امشط وافسح عُقْدَةً مِنْ لِسانِي ، روى أنه كان فى لسانه رتة من أثر جمرة أدخلها فاه فى صغره. وذلك أنه كان فى حجر فرعون ذات يوم ، فلطمه ونتف لحيته ، فقال فرعون لآسية امرأته : هذا عدو لى ، فقالت آسية : على رسلك ، إنه صبى لا يفرق بين الجمر والياقوت ، ثم جاءت بطستين فى أحدهما الجمر ، وفى الآخر الياقوت ، فأخذ جبريل بيد موسى فوضعها على النار ، حتى رفع جمرة ووضعها على لسانه ، فبقيت له رتة فى لسانه ، واختلف فى زوال العقدة بكمالها فمن قال به تمسك بقوله تعالى : قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى ، ومن لم يقل به احتج بقول : هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً «1» ، وقوله تعالى : وَلا يَكادُ يُبِينُ «2» وأجاب عن الأول : بأنه لم يسأل حلّ عقدة لسانه بالكلية ، بل حلّ عقدة تمنع الإفهام ، فخفف بعضها لدعائه ، لا جميعها ، ولذلك نكّرها ووصفها بقوله : مِنْ لِسانِي أي : عقدة كائنة من عقد لسانى ، يَفْقَهُوا قَوْلِي أي :
إن تحلل عقدة لسانى يفقهوا قولى.
وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً أي : معينا ومقويا مِنْ أَهْلِي هارُونَ أَخِي ليعيننى على تحمل ما كلفتنى به من أعباء التبليغ. اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي أي : قّ به ظهرى ، وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي واجعله شريكا لى فى أمر الرسالة ، حتى نتعاون على أدائها كما ينبغى ، كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً ، هو غاية للأدعية الثلاثة الأخيرة ، من قوله : (وَ اجْعَلْ لِي وَزِيراً ...) إلخ ، ولا شك أن الاجتماع على العبادة والذكر سبب فى دوامهما وتكثيرهما. وفى الحديث : «يد الله مع الجماعة» «3» ، ولذلك ورد الترغيب فى الاجتماع على الذكر : والجمع فى الصلاة ليقوى الضعيف بالقوى ، والكسلان بالنشيط ، وقيل : المراد بكثرة التسبيح والذكر ما يكون منها فى تضاعيف أداء الرسالة ودعوة المردة العتاة ، لأنه هو الذي يختلف فى حالتى التعدد والانفراد ، فإن كلّا منهما يصدر منه ، بتأييد الآخر ، من إظهار الحق ، ما لا يصدر منه حال الانفراد. والأول أظهر.
وكَثِيراً : وصف لمصدر أو زمن محذوف ، أي : ننزهك عما لا يليق بجلالك وجمالك ، تنزيها كثيرا ، أو زمنا كثيرا ، ومن جملة ذلك : ما يدعيه فرعون الطاغية ، وتقبله منه الفئة الباغية من ادعاء الشرك فى الألوهية.
___________
(1) من الآية 34 من سورة القصص.
(2) من الآية 52 من سورة الزخرف.
(3) أخرجه الترمذي فى (الفتن ، باب ما جاء فى لزوم الجماعة) ، من حديث ابن عباس رضي اللّه عنه ، وقال الترمذي : حديث حسن.(3/384)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 385
وَنَذْكُرَكَ بأن نصفك بما يليق بك من صفات الكمال ، ذكرا كَثِيراً ، إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً أي : عالما بأحوالنا ، وبأن ما دعوناك به مما يصلحنا ويقوينا على ما كلفتنا من أداء الرسالة ، و(بِنا) : متعلق ببصيرا.
والله تعالى أعلم.
الإشارة : فإذا انخلعت أيها الفقير عن الكونين ، وألقيت عصاك بوادي البين ، فاذهب إلى فرعون نفسك ووجود حسك ، إنه طغى عليك ، حيث حجبك عن شهود ربك ، فلا حجاب بينك وبين ربك ، إلا حجاب نفسك ، ووقوفك مع شهود حسك ، فهو أكبر الفراعين فى حقك ، فاهدم وجوده ، وأغرق فى بحر الحقيقة شهوده ، وذلك بالغيبة عنه فى شهود مولاه ، فإذا تعسر الأمر عليك فاستعن بمولاك ، وقل : اللهم اشرح لى صدرى ، ووسعه لمعرفتك ، ويسر لى أمرى فى السير إلى حضرة قدسك ، واحلل عقدة الكون من قلبى ولسانى ، حتى لا أعقد إلا على محبتك ، ولا أتكلم إلا بذكرك وشكرك ، كما قال الشاعر :
فإن تكلمت لم أنطق بغيركم وإن صمتّ فأنتم عقد إضمارى.
واجعل لى وزيرا من أهلى ، وهو شيخى ، أشدد به أزرى ، وأشركه فى أمرى ، حتى يتوجه بكلية همته إلى سرى ، كى ننزهك تنزيها كثيرا ، بحيث لا نرى معك غيرك ، ونذكرك كثيرا ، بحيث لا نفتر عن ذكرك بالقلب أو الروح أو السر ، إنك كنت بنا بصيرا. قال الورتجبي : قوله تعالى : (اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ ..) إلخ ، لما علم موسى مراد الحق منه بمكابدة الأعداء ، والرجوع من المشاهدة إلى المجاهدة ، سأل من الحق شرح الصدر ، وإطلاق اللسان ، وتيسير الأمر ، ليطيق احتمال صحبة الأضداد ومكابدتهم. ثم قال : فطلب قوة الإلهية وتمكينا قادريا بقوله : (رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي) ، عرف مكان مباشرة العبودية أنها حق الله ، وحق الله فى العبودية مقام امتحان ، وفى الامتحان حجاب عن مشاهدة الأصل ، فخاف من ذلك ، وسأل شرح الصدر ، أي : إذا كنت فى غين الشريعة عن مشاهدة غيب الحقيقة ، اشرح صدرى بنور وقائع المكاشفة ، حتى لا أكون محجوبا بها عنك. ألا ترى إلى سيد الأنبياء والأولياء صلوات الله عليه ، كيف أخبر عن ذلك الغين ، وشكى من صحبة الأضداد فى أداء الرسالة ، بقوله : «إنه ليغان على قلبى فاستغفر الله فى اليوم سبعين مرة» ه. وفيه مقال «1» ، إذ هو غين أنوار لا غين أغيار ، فتأمله. والله تعالى أعلم.
ثم أجاب الحق جل جلاله سؤاله ، فقال :
[سورة طه (20) : الآيات 36 الى 41]
قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى (36) وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى (37) إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ما يُوحى (38) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي (39) إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى (40)
وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41)
___________
(1) بل فيه مقالات ، فالشريعة يستحيل أن تكون غينا ، والله تعالى يقول فيها ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها ويقول :
وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ... ويقول : وكذلك جعلناه نورا فشريعته روح ونور.(3/385)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 386
قلت : (مَرَّةً) : منصوب على الظرفية الزمانية ، وأصله : فعلة ، من المرور ، اسم للمرور الواحد ، ثم شاع فى كل فرد واحد من أفراد أمثاله ، ويقرب منها الكرة والرجعة. و(إِذْ) : ظرف لمننا ، و(أَنِ اقْذِفِيهِ) : مفسرة ، أو مصدرية ، و(يَأْخُذْهُ) : جواب «أن اقذفيه». و(لِتُصْنَعَ) : متعلق بألقيت ، عطف على علة مضمرة ، أي : ليتعطف عليك ولتربى على حفظى ورعايتى. و(إِذْ تَمْشِي) : ظرف (لِتُصْنَعَ) على أن المراد وقت مشيها إلى بيت فرعون ، وما يترتب عليه من القول والرجع إلى أمه.
يقول الحق جل جلاله : قالَ اللّه تعالى لموسى عليه السّلام : قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ أي : أعطيت مسؤولك ، وبلغنا لك مأمولك فى كل ما طلبت منا. والإيتاء ، هنا ، عبارة عن تعلق الإرادة بوقوع تلك المطالب وحصولها ، وإن كان وقوع بعضها مستقبلا ، ولذلك قال : سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ «1» ، وإعادة النداء فى قوله : يا مُوسى تشريفا له بتوجيه الخطاب بعد تشريفه بإجابة المطلب.
ثم ذكّره بنعمة أخرى قد سلفت ، فقال : وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى قبل أن يكون منك لنا طلب ، فكيف لا نجيبك بعد الطلب؟ وتلك المنة : إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ حين تحيرت فى أمرك ، وخافت عليك من عدوك ، فأوحينا إليها وحي منام أو إلهام أو بملك كريم - عليهما السلام - فقلنا لها : أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ أي : ضعيه فيه ، وأغلقى عليه حتى لا يصل الماء إليه ، فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ أي : ألقيه فى البحر بتابوته ، فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ أي : فسيرميه البحر بالساحل ، ولمّا كان إلقاء البحر له بالساحل أمرا واجب الوقوع لتعلق الإرادة الربانية به ، جعل البحر كأنه مأمور بإلقائه ، ذو تمييز ، مطيع ، فإن يلقه يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وهو فرعون. ولا تخافي عليه إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ «2». وتكرير عداوته والتصريح بها للإشعار بأن عداوته له ، مع تحققها ، لا تضره ، بل تؤدى إلى محبته ، لأن الأمر بما فيه الهلاك من القذف فى البحر ، ووقوعه فى يد العدو ، مشعر بأن هناك ألطافا خفية ، ومننا كامنة مندرجة تحت قهر صورى.
___________
(1) من الآية 35 من سورة القصص.
(2) كما جاء فى الآية 7 من سورة القصص.(3/386)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 387
وليس المراد بالساحل نفس الشاطئ ، بل ما يقابل الوسط ، وهو ما يلى الساحل من البحر ، حيث يجرى ماؤه إلى نهر فرعون ، لما روى أنها جعلت فى التابوت قطنا محلوجا ، ووضعته فيه ، ثم قيّرته «1» وألقته فى اليم. وقيل : كان التابوت من البردي ، صنعته أمه. وقال مقاتل : صنعه لها رجل مؤمن اسمه «حزقيل» ، ثم طلته بالقار - أي : الزفت - وألقته فى اليم ، وكان يشرع منه إلى بستان فرعون نهر كبير ، فدفعه الماء إليه ، فأتى به إلى بركة فى البستان ، وكان فرعون جالسا ثمّ مع آسية بنت مزاحم ، فأمر به فأخرج ، فإذا فيه صبى أصبح الناس وجها ، فأحبه فرعون حبا شديدا لا يكاد يتمالك الصبر عنه ، وذلك قوله تعالى : وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي ، قال ابن عباس : «أحبه وحبّبه إلى خلقه». وقال قتادة : «ملاحة كانت فى عينى موسى ، ما رآه أحد إلّا عشقه» ، أي : وألقيت عليك محبة عظيمة كائنة منى ، قد زرعت فى القلوب ، بحيث لا يكاد يصبر عنك من رآك ، ولذلك أحبك عدو الله وأهله ، وذلك ليتعطف عليك.
وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي أي : ولتربّى بالحنو والشفقة ، وتغذى بمرأى منى ، مصحوبا برعايتى وحفظى ، فى أحسن تربية ونشأة. وكان ابتداء ذلك : إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ تتبع تابوتك ، فلما أخرجت التمسوا لك المراضع ، فَتَقُولُ لفرعون وآسية ، حين رأتهما يطلبان له مرضعة يقبل ثديها ، وكان لا يقبل ثديا. وصيغة المضارع فى الفعلين لحكاية الحال الماضية ، والأصل : إذ مشت فقالت : هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ؟ يضمه إلى نفسه ويربيه ، وذلك إنما يكون بقبول ثديها. روى أنه فشا الخبر بمصر أن آل فرعون أخذوا غلاما فى النيل لا يرتضى ثدى امرأة ، واضطروا إلى تتبع النساء ، فخرجت أخته مريم لتتعرف خبره ، فجاءت متنكرة ، فقالت ما قالت ، وقالوا :
نعم ، فجاءت بأمه فقبل ثديها.
قال تعالى : فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ وفاء بعهدنا ، كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها بلقائك ، وَلا تَحْزَنَ أي : ولا يطرأ عليها حزن بفراقك بعد ذلك ، وَقَتَلْتَ بعد ذلك نَفْساً ، وهى نفس القبطي الذي استغاثه الإسرائيلى عليه.
قال كعب : كان إذ ذاك ابن ثنتى عشرة سنة ، فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ أي : غم قتله ، خوفا من عقاب الله تعالى بالمغفرة ، ومن اقتصاص فرعون ، بوحينا إليك بالمهاجرة ، وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً أي : ابتليناك ابتلاء عظيما ، وخلصناك مرة بعد أخرى ، حتى صلحت للنبوة والرسالة ، وهو تحمل ما ناله فى سفره من الهجرة عن الوطن ، ومفارقة الأحباب ، والمشي راجلا ، وفقد الزاد ، بعد ما خلصه من الذبح ، ثم من البحر ، ثم من القصاص بالقتل.
وسئل عنها ابن عباس ، فقال : خلّصناك من محنة بعد محنة ، ولد فى عام كان يقتل فيه الغلمان ، فهذه فتنة ، وألقته
___________
(1) أي : دهنته بالقار.(3/387)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 388
أمه فى البحر ، وهمّ فرعون بقتله ، وقتل قبطيا ، وأجّر نفسه عشر سنين ، وضل الطريق ، وتفرقت غنمه فى ليلة مظلمة ، فكل واحدة من هذه فتنة. ه. لكن الذي يقتضيه النظم الكريم أن لا تعد إجارته نفسه وما بعدها من الفتون لأن المراد : ما وقع له قبل وصوله إلى مدين ، بدليل قوله تعالى : فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ، إذ لا ريب أن الإجارة وما بعدها كانت بعد وصوله إلى مدين ، أي : لبثت عشر سنين فى أهل مدين.
وقال وهب : لبث عند شعيب ثمانيا وعشرين سنة ، عشرا منها فى مهر امرأته صفراء بنت شعيب ، وثمانى عشرة أقام عنده حتى ولد له. وأشار باللبث فى مدين ، دون الوصول إليها ، إلى ما أصابه فى تضاعيفها ، من فنون الشدائد والمكاره ، التي كل واحدة منها فتنة. و«مَدْيَنَ» : بلدة شعيب عليه السّلام ، على ثمانى يمراحل من مصر ، ولم تبلغها مملكة فرعون ، خوفا على نفسه من هيبة النبوة أن يصيبه ما أصاب من خالفه.
ثُمَّ جِئْتَ إلى المكان الذي آنست فيه النار ، ورأيت فيه الخوارق ، وخصصت فيه بالرسالة ، عَلى قَدَرٍ قدرته لك فى الأزل ، ووقت عينته لك ، لأكلمك وأرسلك فيه إلى فرعون ، فما جئت إلا على ذلك القدر ، غير متقدم ولا متأخر ، وقيل : على مقدار من الزمان ، يوحى فيه إلى الأنبياء ، وهو رأس أربعين سنة. وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي أي : اختصصتك بالرسالة والمحبة والمناجاة ، وهو تذكير لقوله : وَأَنَا اخْتَرْتُكَ ، وتمهيد لإرساله عليه السّلام إلى فرعون مؤيّدا بأخيه ، حسبما طلب ، بعد تذكيره المنن السالفة ، زيادة فى وثوقه عليه السّلام بحصول نظائرهم اللاحقة ، والعدول عن نون العظمة الواقعة فى قوله تعالى : وَفَتَنَّاكَ إلى تاء المتكلم لمناسبتها للنفس فإنها أدخل فى تحقيق الاصطناع والاستخلاص. والله تعالى أعلم.
الإشارة : قال قد أوتيت سؤلك أيها الفقير ، حيث وصلناك إلى من يأخذ بيدك ، ويرشدك إلى ربك ويربيك. ولقد مننا عليك مرة أخرى ، حيث أنشأناك بين أبوين مسلمين ، فقذفناك فى تابوت الإسلام ، ثم فى نهر الإيمان ، ثم رميناك فى بحر العرفان ، وألقينا عليك محبة منا ، فأحببناك وأحببتنا ، وألقينا محبتك فى قلوب عبادنا ، فتربيت فى حفظنا ورعايتنا ، فلما فارقت الأوطان وهجرت الإخوان ، فى طلب تحقيق العرفان ، رددناك إليهم بعد التمكين ، لتنهضهم إلى الله ، فتقرّ أعينهم بطاعة رب العالمين ، وقتلت نفسا كانت تحجبك عن ربك ، فنجيناك من غم الحجاب ، وأخرجناك من سجن الأكوان ، إلى فضاء الشهود والعيان ، وفتناك بمجاهدة نفسك فتونا عظاما ، فتنة الفقر ، ثم فتنة الذل ، ثم فتنة هجر الأوطان ، حتى تخلصت من حبس الأكوان ، وجئت إلينا على قدر قدرناه لك ، ووقت عيناه لفتحك ، فاصطنعتك لنفسى ، واجتبيتك لحضرتى بسابق عنايتى ، من غير حول منك ولا قوة ، فعنايتنا فيك سابقة ، فأين كنت حين واجهتك عنايتنا ، وقابلتك رعايتنا؟ لم يكن فى أزلنا إخلاص أعمال ، ولا وجود أحوال ، بل لم يكن هناك إلا محض الإفضال ووجود النوال ، كما فى الحكم. وأنشدوا : (3/388)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 389
فلا عمل منّى إليك اكتسبته سوى محض فضل لا بشىء يعلّل
وقال آخر :
قد كنت أحسب أنّ وصلك يشترى بنفائس الأموال والأرباح
وظننت جهلا أنّ حبّك هيّن تفنى عليه كرائم الأرواح
حتّى رأيتك تجتبى وتخصّ من تختاره بلطائف الإمناح
فعلمت أنّك لا تنال بحيلة فلويت رأسى تحت طىّ جناح
وجعلت فى عشّ الغرام إقامتى أبدا وفيه توطنى ورواح
ثم أرسلهما الحق تعالى إلى فرعون ، فقال :
[سورة طه (20) : الآيات 42 الى 48]
اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي وَلا تَنِيا فِي ذِكْرِي (42) اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (43) فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى (44) قالا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ يَطْغى (45) قالَ لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى (46)
فَأْتِياهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى (47) إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (48)
يقول الحق جل جلاله لسيدنا موسى عليه السّلام : اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ أي : ليذهب معك أخوك بِآياتِي : بمعجزاتى التي أريتكها ، من اليد والعصا ، فإنهما وإن كانتا اثنتين ، لكن فى كل واحدة منهما آيات ، فإنّ فى انقلاب العصا حيوانا : آية ، وكونها ثعبانا عظيما : آية ، وسرعة حركته ، مع عظم جرمه : آية ، وكذلك اليد فإنّ بياضها فى نفسه آية ، وشعاعها آية ، ثم رجوعها إلى حالتها الأولى آية. والباء للمصاحبة ، أي : اذهبا مصحوبين بمعجزاتنا ، مستمسكين بها ، وَلا تَنِيا : لا تفترا ولا تقصرا فِي ذِكْرِي عند تبليغ رسالتى ، ولا يشغلكما معاناة التبليغ عن ذكرى ، بما يليق بحالكما من ذكر لسان أو تفكر أو شهود ، فلا تغيبا عن مشاهدتى باشتغالكما بأمرى ، حتى لا تكونا فاترين فى عينى.
اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى : تجبر وعلا. ولم يكن هارون حاضرا وقت هذا الوحى ، وإنما جمعهما تغليبا.
روى أنه أوحى إلى هارون وهو بمصر أن يتلقى موسى - عليهما السلام ، وقيل : سمع بإقباله فتلقاه.(3/389)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 390
فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً لأنّ تليين القول مما يكسر ثورة عناد العتاة ، ويلين عريكة الطغاة. قال ابن عباس :
أي : لا تعنفا فى قولكما. وقيل : القول اللين : هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى .. إلخ ، ويعارضه قوله بعد : فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ وقيل : كنّياه ، وكان له ثلاثة كنى : أبو العباس ، وأبو الوليد ، وأبو مرة. وقيل : عداه على قبول الإيمان شبابا لا يهرم ، وملكا لا ينزع منه إلا بالموت ، وتبقى عليه لذة المطعم والمشرب والمنكح إلى الموت ، . وقيل : اللطافة فى القول فإنه رباك وأحسن تربيتك ، وله عليك حق الأبوة ، لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ بما بلغتماه من ذكر ، ويرغب فيما رغبتماه فيه ، أَوْ يَخْشى عقابى.
ومحل الجملة : النصب على الحال من ضمير التثنية ، أي : فقولا له قولا لينا ، راجيين تذكرته ، أي : باشرا وعظه مباشرة من يرجو ويطمع أن يثمر علمه ولا يخيب سعيه. وفائدة هذا الإبهام : الحتّ على المبالغة فى وعظه. هذا جواب سيبويه عن الإشكال ، وهو أنه تعالى علم أنه لا يؤمن ، وقال : لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ ، فصرف الرجاء إلى موسى وهارون ، أي : اذهبا على رجائكما. وقال الوراق : قد تذكّر حين ألجمه الغرق. وقال الزجاج : خاطبهم بما يعقلون.
قلت : كونه تعالى علم أنه لا يؤمن هو من أسرار القدر الذي لا يكشف فى هذه الدار ، وهو من أسرار الحقيقة ، وإنما بعثت الرسل بإظهار الشرائع ، فخاطبهم الحق تعالى بما يناسب التبليغ فى عالم الحكمة ، والله تعالى أعلم. وجدوى إرسالهما إليه ، مع العلم بإحالته ، إلزام الحجة وقطع المعذرة.
قالا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أي : يعجل علينا بالعقوبة ، ولا يصبر إلى تمام الدعوة وإظهار المعجزة. وهو من «فرط» إذا تقدم ، ومنه : الفارط ، للوليد الذي مات صغيرا. وقرئ بضم الياء ، من «أفرط» إذا حمله على العجلة ، أي : نخاف أن يحمله حامل من الاستكبار والخوف على الملك أو غيرهما ، على المعاجلة والعقاب ، أَوْ أَنْ يَطْغى يزداد طغيانا ، كأن يقول فى شأنك مالا ينبغى ، لكمال جرأته وقساوته ، وإظهار «أَنْ» لإظهار كمال الاعتناء بالأمر ، والإشعار بتحقيق الخوف من كل منهما ، وهذا القول يحتمل أن يكون قاله موسى ودخل هارون بالتبع ، إيذانا بأصالة موسى عليه السّلام فى كل قول وفعل ، وتبعية هارون عليه السّلام ، أو يكون هارون قال ذلك بعد تلاقيهما ، فحكى الله قولهما عند نزول الآية ، كما فى قوله تعالى : يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ «1» ، فإن هذا الخطاب قد حكى لنا بصيغة الجمع ، مع أن كلا من المخاطبين لم يخاطب إلا بطريق الانفراد لاستحالة جمعهم فى الوجود ، فكيف باجتماعهم فى الخطاب؟.
___________
(1) من الآية 51 من سورة «المؤمنون».(3/390)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 391
قالَ تعالى لهما : لا تَخافا ، وهو استئناف بيانى ، كأن قائلا قال : فماذا قال لهما ربهما عند تضرعهما إليه؟ فقيل : قال : لا تخافا ما توهمتما من الأمرين ، إِنَّنِي مَعَكُما بحفظي ورعايتى ونصرى ومعونتى ، أَسْمَعُ وَأَرى ما يجرى بينكما وبينه من قول وفعل ، فأفعل فى كل حال ما يليق بها من دفع ضر وشر ، وجلب نفع وخير.
فَأْتِياهُ ، أمر بإتيانه ، الذي هو عبارة عن الوصول إليه ، بعد ما أمر بالذهاب إليه ، فلا تكرار ، فَقُولا له : إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ إليك ، أمر بذلك من أول الأمر ، ليعرف الطاغية شأنهما ، ويبنى جوابه على ذلك ، فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ أي : أطلقهم من الأسر والقهر ، وأخرجهم من تحت يدك العادية. وليس المراد إرسالهم معه إلى الشام ، بدليل قوله : وَلا تُعَذِّبْهُمْ بإبقائهم على ما كانوا عليه من العذاب ، فإنهم كانوا تحت مملكة القبط ، يستخدمونهم فى الأعمال الصعبة ، من الحفر ونقل الأحجار ، وضرب اللبن والطين ، وبناء المدائن ، وغير ذلك من الأعمال الشاقة ، ويقتلون ذكور أولادهم عاما دون عام ، فكانت رسالة موسى إلى فرعون بالإيمان بالله وحده ، وتسريح بنى إسرائيل. روى أنه لمّا رغبه فى الإيمان بذكر ما أعد الله لأهله من الخلود فى الجنة والملك الدائم ، أعجبه ، فقال : حتى أستشير هامان ، وكان غائبا ، فقدم ، فأخبره ، فقال هامان : قد كنت أرى لك عقلا ، بينما أنت رب تصير مربوبا ، وبينما أنت تعبد تصير تعبد غيرك ، فغلبه على رأيه.
فقال له موسى : قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ ، قال فرعون : وما هى؟ فأدخل يده فى جيب قميصه ثم أخرجها بيضاء ، لها شعاع كشعاع الشمس ، فعجب منها ، ولم يره العصا إلا بعد ذلك ، يوم الزينة. قاله الثعلبي. قلت : والذي يظهر من سورة الشعراء «1» - بل هو صريح فيها - أنه أراه العصا واليد. وإنما أفردت فى اللفظ ، هنا لأن المراد اثبات الحجة بصحة الرسالة ، لا تعدد الآية ، وكذلك قوله تعالى : قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ «2» ، أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ «3» ، وأما قوله تعالى : فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ «4» فالظاهر أن المراد بها آية من الآيات.
ثم قال له : وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى أي : وسلام الله وملائكته والمؤمنين المقتضى سلامة الدارين ، على من اتبع الهدى ، بتصديق آيات اللّه تعالى الهادية إلى الحق ، دون من اتبع الغى والهوى ، وفيه من الترغيب ،
___________
(1) فى قوله تعالى : قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ. قالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ. فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ. وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ. الشعراء : 30 - 33. [.....]
(2) من الآية 49 من سورة آل عمران.
(3) من الآية 30 من سورة الشعراء.
(4) من الآية 106 من سورة الأعراف.(3/391)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 392
فى اتباعها على ألطف وجه ، مالا يخفى. إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا من جهة ربنا ، أَنَّ الْعَذابَ الدنيوي والأخروى عَلى مَنْ كَذَّبَ بآيات اللّه وَتَوَلَّى أي : أعرض عن قبولها ، وفيه من التلطف فى الوعيد حيث لم يصرح بحلول العذاب به مالا مزيد عليه. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : ينبغى لأهل العلم ولأهل الوعظ والتذكير أن يتعاونوا على نشر العلم ووعظ العباد ، ويتوجهوا إليهم فى أقطار البلاد ، فإن ذلك فرض كفاية على أهل العلم ، ولا يشغلهم نشر العلم عن ذكر اللّه ، ولا تذكير العباد عن شهود الله ، كما قال الله تعالى : وَلا تَنِيا فِي ذِكْرِي أي : ولا تغفلا عن شهودى وقت إرشاد عبادى ، فإن توجهوا إلى الجبابرة والفراعنة فليلينوا لهم المقال ، وليدعوهم إلى أسهل الخلال ، فإن ذلك أدعى إلى الامتثال ، خلافا لمن قال هذه ملة موسوية ، وأما الملة المحمدية فقال تعالى فيها : وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ «1» فإنّ بيان الحق لا ينافى أن يكون بملاطفة وإحسان ، فإن خاف الواعظ من صولة المتجبر فإن الله معه ، يحفظه ويرعاه ، ويسمعه ويراه ، فإن لم يسمع لقوله ولم يتعظ لوعظه ، فقد بلغ ما عليه ، وليقل بلسان الحال أو المقال : (و السلام على من اتبع الهدى). وبالله التوفيق.
ثم ذكر جواب فرعون ، فقال :
[سورة طه (20) : الآيات 49 الى 55]
قالَ فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى (49) قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى (50) قالَ فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى (51) قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى (52) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى (53)
كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى (54) مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى (55)
قلت : (خَلْقَهُ) : يحتمل أن يكون اسما بمعنى المخلوق ، فيكون مفعولا أولا ، و(كُلَّ شَيْ ءٍ) : مفعولا ثانيا ، أو يكون مصدرا بمعنى الخلقة ، فيكون مفعولا ثانيا ، أي : أعطى كل شىء خلقته وصورته التي هو عليها.
يقول الحق جل جلاله : قالَ فرعون فى جواب موسى ، لما أتاه مع أخيه وبلغا الرسالة ، وقالا له ما أمرهما به ربهما ، وإنما حذفه للإيجاز ، وللإشعار بأنهما لما أمرا بذلك سارعا إلى الامتثال من غير تلعثم ، أو بأن
___________
(1) من الآية 29 من سورة الكهف.(3/392)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 393
ذلك من الظهور بحيث لا حاجة إلى التصريح به ، فقال لهما فرعون : فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى ؟ لم يضف الرب إلى نفسه لغاية عتوه وطغيانه ، بل أضافه إليهما ، وفى الشعراء : وَما رَبُّ الْعالَمِينَ «1» ، والجمع بينهما تعدد الدعوة ، ففى كل مرة حكى لنا ما قال. وتخصيص النداء بموسى ، مع توجيه الخطاب إليهما لأنه الأصل فى الرسالة ، وهارون وزيره.
قالَ موسى عليه السّلام مجيبا له : رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ أي : ربنا هو الذي أعطى كل شىء خلقه ، أي : مخلوقاته مما يحتاجون إليه ويرتفقون به فى قوام أبدانهم ومعايشهم ، أو اعطى كل شىء خلقته وصورته التي يختص بها ، ولم يجعل خلق الإنسان فى خلق البهائم ، ولا خلق البهائم فى خلق الإنسان. ولكن خلق كل شىء فقدره تقديرا. أو أعطى كل شىء فعله وتصرفه ، فاليد للبطش ، والرجل للمشى ، واللسان للنطق ، والعين للنظر ، والأذن للسمع ، أو أعطى كل شىء شكله من جنسه ، للإنسان زوجة ، وللبعير ناقة ، وللفرس رمكة ، وللحمار أتانا. ثُمَّ هَدى إلى طريق الانتفاع والارتقاء ، بما أعطاه وعرفه كيف يتوصل إلى بقائه وكماله ، فألهمه الرضاع والأكل والشرب والجماع ، وطلب الرعي وتوقى المهالك ، وكيف يأتى الذكر الأنثى.
ولمّا كان الخلق - الذي هو عبارة عن تركيب الأجزاء وتسوية الأجسام - مقدما على الهداية ، التي هى عبارة عن إيداع القوى المحركة والمدركة فى تلك الأجسام ، عطف بثم المفيدة للتراخى. ولقد ساق عليه السّلام جوابه على نمط رائق ، وأسلوب لائق حيث بيّن أنه تعالى عالم قادر بالذات ، خالق لجميع الكائنات ، منعم عليهم بجميع النعم السابغات ، هاد لهم إلى طرق المرتفقات.
قالَ فرعون : فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى أي : ما حالها بعد الموت ، وما فعل الله بها؟ فقال له موسى :
هذا غيب لا يعلمه إلا الله ، وهو معنى قوله : عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي ، أو ما حال القرون الماضية والأمم الخالية ، وماذا جرى عليهم من الحوادث المفصلة؟ فأجابه عليه السّلام بأن العلم بأحوالهم مفصلة مما لا ملامسة له بمنصب الرسالة ، وإنما علمها عند الله عز وجل. وكأنّ عدو الله ، لما خاف أن يبهت ، ويفتضح ، ويظهر للناس حجة موسى عليه السّلام ، أراد أن يصرفه عليه السّلام إلى مالا يعنى ، من ذكر الحكايات التي لا مسيس لها بمنصب الرسالة فلذلك أعرض عنه ، وقالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي ، وهذا أحسن من الأول لأنه لو كان سؤاله عن أحوالها بعد الموت لأمكن أن يقول له :
من اتبع الهدى منهم فقد سلم وتنعم ، ومن تولى فقد عذب وتألّم ، حسبما نطق به قوله تعالى : وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى . وقيل : فما بالها لم تبعث كما يزعم موسى ، أو : ما بالها لم تكن على دينك ، أو : ما بالها كذبت ولم يصبها عذاب ، وكلها بعيدة.
___________
(1) الآية 23 من سورة الشعراء.(3/393)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 394
قلت : والذي يظهر أن الطاغية فهم قوله تعالى : ثُمَّ هَدى أي : إلى الإيمان ، فاعترض بقوله : فما بال القرون الأولى لم تؤمن حتى هلكت؟ فأجابه موسى عليه السّلام بقوله : عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي ، فهو أعلم بمن ضل عن سبيله ، وهو أعلم بمن اهتدى. وقوله : فِي كِتابٍ أي : اللوح المحفوظ ، فقد أثبتت فيه بتفاصيلها ، ويجوز أن يكون ذلك عبارة عن تمكنه وتقريره فى علم الله - عز وجل - تمكن من استحفظ الشيء ، وقيده بالكتابة ، كما يلوح به قوله تعالى : لا يَضِلُّ رَبِّي أي : لا يخطئ ابتداء ، وَلا يَنْسى فيتذكر. وفيه تنبيه على أن كتابته فى اللوح المحفوظ ليس لحاجته إليه فى العلم به ابتداء أو بقاءا. وإظهار (رَبِّي) فى موضع الإضمار ، للتلذذ بذكره ، وللإشعار بعلّية الحكم فإن الربوبية مما تقتضى عدم الضلال والنسيان.
ولقد أجاب عليه السّلام عن السؤال بجواب عبقرى بديع ، حيث كشف عن حقيقة الحق حجابها ، مع أنه لم يخرج عما كان بصدده من بيان شئونه تعالى ، ووصف الحق تعالى بأوصاف لا يمكن عدو الله أن يتصف بشىء منها ، لا حقيقة ولا مجازا ، ولو قال له : هو الخالق الرازق ، وشبه ذلك ، لأمكن أن يغالط ويدعى ذلك لنفسه.
ثم تخلص إليه حيث قال ، بطريق الحكاية عن الله عز وجل ، أو من كلامه عليه السّلام : الذى جعل لكم الأرض مهادا «1» أي : كالمهد تتمهدونها بالسكن والقرار ، أي : جعل كل موضع منها مهدا لكل واحد منكم. وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلًا أي : طرقا تتوصلون بها من قطر إلى قطر ، لتقضوا منها مآربكم ، وتنتفعوا بمرافقها ومنافعها ، ووسطها بين الجبال والأودية لتعرف أمارات سبلها. وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً هو المطر ، فَأَخْرَجْنا بِهِ ، يحتمل أن يكون من كلام الله ، وما قبله من كلام موسى ، أو كله من كلام الله تعالى ، حكاه موسى عليه السّلام ، وإنما التفت إلى التكلم للتنبيه على ظهور ما فيه من الدلالة على كمال القدرة والحكمة ، والإيذان بأنه لا يتأتى إلا من قادر مطاع عظيم الشأن ، أي : فأخرجنا بذلك الماء أَزْواجاً : أصنافا ، سميت أزواجا لازدواجها ، واقتران بعضها ببعض ، كائنة مِنْ نَباتٍ شَتَّى : متفرقة ، جمع شتيت : أي : متفرق ، وهو ، فى الأصل ، مصدر ، يستوى فيه الواحد والجمع ، يعنى : أنها مختلفة فى الشكل واللون والطعم والرائحة والنفع ، وبعضها صالح للناس على اختلاف صلاحها لهم ، وبعضها للبهائم.
ومن تمام نعمته تعالى أن أرزاق عباده ، لمّا كان تحصيلها بعمل الأنعام ، جعل علفها مما يفضل عن حاجتهم ، ولا يليق بكونه طعاما لهم ، وهو معنى قوله : كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ ، والجملة : حال ، على إرادة القول ، أي : أخرجنا منها أصناف النبات ، قائلين : كلوا وارعوا أنعامكم ، آذنين فى ذلك لكم.
___________
(1) قرأ عاصم وحمزه والكسائي : (مهدا). وقرأ باقى السبعة : «مهادا» : انظر الإتحاف (2/ 247).(3/394)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 395
إِنَّ فِي ذلِكَ المذكور ، من شئونه تعالى ، وأفعاله وأنعامه ، لَآياتٍ جليلة واضحة الدلالة على عظيم شأنه تعالى ، فى ذاته وصفاته وأفعاله ، وعلى صحة نبوة موسى وهارون - عليهما السلام ، لِأُولِي النُّهى أي :
العقول الصافية ، جمع «نهية» ، سمى بها العقل ، لنهيه عن اتباع الباطل ، وارتكاب القبيح ، أي : لذوى العقول الناهية عن الأباطيل ، التي من جملتها ما يدعيه الطاغية وما يقبله منه الفئة الباغية. وتخصيص كونها آيات لهم ، مع أنها آية للعالمين لأنهم المنتفعون بها.
مِنْها خَلَقْناكُمْ أي : من الأرض الممهدة لكم ، خلقناكم بخلق أبيكم آدم عليه السّلام ، وأنتم فى ضمنه ، إذ لم تكن فطرته مقصورة على نفسه عليه السّلام ، بل كانت أنموذجا منطويا على فطرة سائر أفراد الجنس ، انطواء إجماليا ، فكان خلقه عليه السّلام منها خلقا لكل منها ، وقيل : خلقت أبدانكم من النطفة المتولدة من الأغذية المتولدة من الأرض. وقال عطاء : إن الملك الموكل بالرحم ينطلق ، فيأخذ من تراب المكان الذي يدفن فيه العبد ، فيذره على النطفة ، فتخلق من التراب ومن النطفة. ه.
وَفِيها نُعِيدُكُمْ بالإماتة وتفريق الأجزاء ، والكلام على الأشباح دون الأرواح ، فإنها ، بعد السؤال ، تصعد إلى السماء ، كما يأتى عند قوله تعالى : فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ ... «1» الآية. ولم يقل : وإليها نعيدكم إشارة إلى استقرار العبد فيها ، وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى بتأليف أجزائكم المتفتتة ، المختلطة بالتراب ، على الهيئة السابقة ، ورد الأرواح إليها. وكون هذا الإخراج تارة أخرى : باعتبار أن خلقهم من الأرض إخراج لهم منها ، وإن لم يكن على التارة الثانية. والتارة فى الأصل : اسم للتور ، وهو الجريان ، فالتارة واحدة منه ، ثم أطلق على كل فعلة واحدة من الفعلات المتحدة ، كما مر فى المرة. والله تعالى أعلم.
الإشارة : ربنا الذي أعطى كل شىء خلقه ، مما سبق لهم فى أزله ، ثم هدى إلى الأسباب الموصلة إليه ، فمنهم من كان حظه فى الأزل قوت الأشباح ، هداه إلى أسبابها ، وهم أهل مقام البعد ، ومنهم من كان حظه قوت القلوب ، فهداه إلى أسبابها من المجاهدة فى الطاعات وأنواع القربات ، وهم أنواع :
فمنهم من شغلهم بتدريس العلوم وتدقيق الفهوم ، وتحرير المسائل وتمهيد النوازل ، وهداهم إلى أسباب ذلك ، وهم حملة الشريعة ، إن صحت نيتهم وثبت إخلاصهم. ومنهم من شغلهم بتوالي الطاعات وتعمير الأوقات ، وهداهم إلى أسبابها ، وقواهم على مشاقها ، وهم العباد والزهاد. ومنهم من شغلهم بإطعام الطعام والرفق بالأنام ، وتعمير الزوايا وقبول الهدايا ، وهداهم إلى أسباب عمارتها والقيام بها ، وهم الصالحون. ومنهم : من كان حظه قوت الأرواح ، وهم المريدون السائرون ، أهل الرياضة والتصفية ، والتخلية والتحلية ، والتهذيب والتدريب ، وهداهم إلى أسبابها ، ووصلهم
___________
(1) الآية 88 من سورة الواقعة.(3/395)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 396
إلى شيخ كامل يبينها ويسلّكها ، وهم فى ذلك مقامات متفاوتة ، على حسب صدقهم وجدهم ، ومنهم من كان حظه قوت الأسرار ، وهم العارفون الكبار ، السابقون المقربون ، أهل الفناء والبقاء ، أهل الرسوخ والتمكين ، فهداهم إلى ما أمّلوا ، ووصلهم إلى ما طلبوا. نفعنا الله بهم ، وخرطنا فى سلكهم. آمين.
وقوله : فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى ... الآية ، فيه زجر للمريد عن الاشتغال بالحكايات الماضية ، لأن فى ذلك شغلا عن الله ، إلا ما كان فيه زيادة إلى الله ، فتلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم. وقوله تعالى :
أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً أي : جعل أرض النفوس مهادا للقيام برسم العبودية ، وسلك فيها سبلا توصل إلى مشاهدة الربوبية ، لمن سلكها بالرياضة والمجاهدة ، وأنزل من سماء الملكوت ماء الواردات الإلهية ، تحيا به الأرواح ، فتخرج أصنافا من العلوم والحكم شتى ، كلوا برعى القلوب فى نوار تجلياتها ، وارعوا لقوت أشباحكم من ثمار حسياتها ، إن فى ذلك لآيات لأولى النهى. (مِنْها خَلَقْناكُمْ) : من أرض نفوسكم أخرجناكم ، بشهود عظمة الربوبية ، وفيها نعيدكم للقيام برسم العبودية ، ومنها نخرجكم لتكونوا لله ، لا لشىء دونه. أو منها خلقناكم ، أي :
أخرجناكم من شهود ظلمتها إلى نور خالقها ، بالفناء عنها ، وفيها نعيدكم بالرجوع إلى الأثر فى مقام البقاء ، (و منها نخرجكم تارة أخرى) بعقد الحرية فى مقام البقاء ، فتكونوا عبيدا شكّرا. وبالله التوفيق.
ثم إن فرعون لم تنفعه هذه الموعظة ، ولا ما رأى من الآيات الباهرة ، حتى طلب المعارضة ، كما أبان ذلك الحق سبحانه بقوله :
[سورة طه (20) : الآيات 56 الى 59]
وَلَقَدْ أَرَيْناهُ آياتِنا كُلَّها فَكَذَّبَ وَأَبى (56) قالَ أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يا مُوسى (57) فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكاناً سُوىً (58) قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (59)
قلت : (مَوْعِداً) : مصدر ، مفعول أول ل (فَاجْعَلْ). و(مَكاناً) : مفعول بفعل محذوف ، أي : تعدنا مكانا سوى ، لا بموعد لأنه وصف ، ويجوز نصبه على إسقاط الخافض ، و(يَوْمُ الزِّينَةِ) : على حذف مضاف ، أي : مكان يوم الزينة ، و(أَنْ يُحْشَرَ) : عطف على يوم ، أو الزينة.
يقول الحق جل جلاله : وَلَقَدْ أَرَيْناهُ أي : فرعون ، آياتِنا ، حين قال له : فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ، فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ ، وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ «1» ، وعبّر بالجمع ، مع
___________
(1) الآيات : 31 - 33 من سورة الشعراء.(3/396)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 397
كونهما اثنتين ، باعتبار ما فى تضاعيفهما من الخوارق ، التي كل واحدة منها آية. وقد رأى فرعون من هاتين الآيتين أمورا دواهى ، فإنه روى أنه عليه السّلام ، لما ألقى العصا ، انقلبت ثعبانا أشعر ، فاغرافاه ، بين لحييه ثمانون ذراعا ، وضع لحيه الأسفل على الأرض ، والأعلى على سور القصر ، ثم توجه نحو فرعون ، فهرب وأحدث ، وانهزم الناس مزدحمين ، فمات منهم خمسة وعشرون ألفا من قومه ، فصاح فرعون : يا موسى أنشدك الذي أرسلك إلا أخذته ، فأخذه ، فعاد عصا. وروى أنها ، لما انقلبت حية ارتفعت فى السماء قدر ميل ، ثم انحطت مقبلة نحو فرعون ، وجعلت تقول : يا موسى مرنى بما شئت ، ويقول فرعون : أنشدك .. إلخ. ونزع يده من جيبه ، فإذا هى بيضاء بياضا نورانيا خارجا عن العادة. ففى تضاعيف كلّ من الآيتين آيات جمة ، لكنها لما كانت غير مذكورة بالصراحة ، أكدت بقوله تعالى : كُلَّها ، كأنه قيل : أريناه آياتنا بجميع مستتبعاتها وتفاصيلها ، قصدا إلى بيان أنه لم يبق له فى ذلك عذر.
وقيل : أريناه آياتنا التسع ، وهو بعيد لأنها إنما ظهرت على يده عليه السّلام بعد ما غلبت السحرة على مهل ، فى نحو من عشرين سنة ، والكلام هنا قبل المعارضة ، اللهم إلا أن يكون الحق تعالى أخبرنا أنه أراه الآيات التسع كلها ، فأبى عن الإيمان ، ثم رجع إلى إتمام القصة.
وأبعد منه : من عدّ فى الآيات ما جعل لإهلاكهم ، لا لإرشادهم إلى الإيمان من فلق البحر ، وما ظهر بعد مهلكه من الآيات الظاهرة لبنى إسرائيل من نتق الجبل والحجر ، وغير ذلك ، وكذلك من عدّ منها الآيات الظاهرة على يد الأنبياء - عليهم السلام - حيث حكاها موسى عليه السّلام لفرعون ، بناء على أن حكايته إياها له فى حكم إظهارها بين يديه لاستحالة الكذب عليه ، فإنّ حكايته إياها لفرعون مما لم يجر ذكره هنا ، فكل هذا بعيد من سياق النظم الكريم.
قال تعالى : فَكَذَّبَ فرعون موسى ، وَأَبى الإيمان والطاعة ، مع ما شاهد على يده من الشواهد الناطقة بصدقه. جحودا وعنادا لعتوه واستكباره ، وقيل : كذّب بالآيات جميعا ، وأبى أن يقبل شيئا منها.
قالَ أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يا مُوسى ، هذا استئناف مبين لكيفية تكذيبه وإبائه. والمجيء إما على حقيقته ، أو بمعنى الإقبال على الأمر والتصدي له ، أي : أجئتنا من مكانك الذي كنت فيه ترعى الغنم لتخرجنا من أرضنا؟ أو : أقبلت إلينا لتخرجنا من مصر بما أظهرت لنا من السحر ، فإن ذلك مما لا يصدر عن عاقل لكونه من باب محاولة المحال ، وإنما قاله تحريضا لقومه على مقت موسى والبعد عنه ، بإظهار أن مراده عليه السّلام إخراج القبط من وطنهم ، وحيازة أموالهم ، وإهلاكهم بالكلية ، حتى لا يميل أحد إليه ، (و الله غالب على أمره). وسمى ما أظهره عليه السّلام من المعجزة الباهرة سحرا ، ثم ادعى أنه يعارضه ، حيث قال : فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ أي : وإذا كان الأمر كذلك ، فوالله لنأتينك بسحر مثل سحرك ، فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً أي :
وعدا لا نُخْلِفُهُ أي : لا نخلف ذلك الوعد ، ولا نجاوزه نَحْنُ وَلا أَنْتَ ، بل نجتمع فيه وقت ذلك الموعد ، (3/397)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 398
وإنما فوض اللعين أمر الوعد إلى موسى عليه السّلام للاحتراز عن نسبته إلى ضعف القلب ودخول الرعب إليه ، وإظهار الجلادة ، بإظهار أنه متمكن من تهيئة أسباب المعارضة ، طال الأمر أو قصر ، كما أن تقديم ضميره على ضمير موسى عليه السّلام ، وتوسيط كلمة «النفي» بينهما للإيذان بمسارعته إلى عدم الاختلاف.
وقوله تعالى : مَكاناً سُوىً أي : يكون ذلك الوعد - أي : وعد الاجتماع - فى مكان مستو ، تستوى مسافته بيننا وبينك ، عدلا ، لا ظلم على أحد فى الإتيان إليه ، منا ومنك ، وفيه لغتان : ضم السين وكسرها.
قالَ لهم موسى عليه السّلام : مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ أي : مكان الزينة لأن يوم الزينة يدل على مكان مشتهر باجتماع الناس فيه فى ذلك اليوم ، وهو يوم عيد لهم ، فى كل عام يتزينون ويجتمعون فيه ، وقيل : يوم النيروز ، . وقيل : يوم عاشوراء ، وقيل : يوم سوق لهم. وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى أي : موعدكم يوم الزينة ، وحشر الناس ضحى ، أو يوم حشر الناس فى وقت الضحى ، يجتمعون نهارا جهارا ، أراد عليه السّلام أن يكون أبلغ فى إظهار الحجة وإدحاض الباطل ، بكونه على رؤوس الأشهاد. والله تعالى أعلم.
الإشارة : من سبق له البعد عن الرحمن ، لا ينفع فيه خوارق معجزات ، ولا قاطع برهان ودليل ، أبعده التكبر والطغيان ، ودفع الحق بالباطل. نعوذ بالله من موارد الخذلان.
ثم ذكر جمعهم ، وما كان من شأنهم ، فقال :
[سورة طه (20) : الآيات 60 الى 69]
فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتى (60) قالَ لَهُمْ مُوسى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى (61) فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوى (62) قالُوا إِنْ هذانِ لَساحِرانِ يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِما وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى (63) فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى (64)
قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى (65) قالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى (66) فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى (67) قُلْنا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى (68) وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ ما صَنَعُوا إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى (69)(3/398)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 399
قلت : (إِنْ هذانِ لَساحِرانِ) : من خفّف (إِنْ) : جعلها نافية ، أو مخففة ، واللام فارقة. ومن ثقّلها وقرأها :
(هذانِ) بالألف ، فقيل : على لغة بلحارث بن كعب وخثعم وكنانة ، فإنهم يلزمون الألف رفعا ونصبا وجرا ، ويعربونها تقديرا ، وقيل : اسمها : ضمير الشأن ، أي : إنه الأمر والشأن هاذان لهما ساحران. وقيل : «إن» بمعنى «نعم» ، لا تعمل ، وما بعدها : جملة من مبتدأ وخبر. وقالت عائشة - رضي اللّه عنها - : إنه خطأ من الكتاب ، مثل قوله :
وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ «1» ، وَالصَّابِئُونَ «2» ، فى المائدة ، ويرده تواتر القراءة.
يقول الحق جل جلاله : فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ أي : انصرف عن المجلس ، ورجع إلى وطنه ، فَجَمَعَ كَيْدَهُ أي : حيله وسحرته ليكيد به موسى عليه السّلام ، ثُمَّ أَتى الموعد ، ومعه ما جمعه من كيده وسحرته ، وسيأتى عددهم.
قالَ لَهُمْ مُوسى ، حيث اجتمعوا من طريق النصيحة : وَيْلَكُمْ أي : ألزمكم الله الويل ، إن افتريتم على الله الكذب ، لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً بإشراك أحد معه ، كما تعتقدون فى فرعون ، أو بأن تحيلوا الباطل حقا ، فَيُسْحِتَكُمْ أي : يستأصلكم ، بسببه ، بِعَذابٍ لا يقادر قدره ، وقرئ رباعيا وثلاثيا ، يقال : سحت وأسحت.
فالثلاثى : لغة أهل الحجاز ، والرباعي : لغة بنى تميم ونجد. وَقَدْ خابَ وخسر مَنِ افْتَرى على الله ، كائنا من كان ، بأى وجه كان ، فيدخل الافتراء المنهي عنه دخولا أوليا ، أو : قد خاب فرعون المفترى على الله ، فلا تكونوا مثله فى الخيبة.
فَتَنازَعُوا أي : السحرة ، حين سمعوا كلامه عليه السّلام ، أَمْرَهُمْ أي : فى أمرهم الذي أريد منهم من مغالبته عليه السّلام ، وتشاوروا وتناظروا بَيْنَهُمْ فى كيفية المعارضة ، وتشاجروا ، ورددوا القول فى ذلك ، وَأَسَرُّوا النَّجْوى أي : من موسى عليه السّلام لئلا يقف عليه فيدافعه ، ونجواهم على هذا هو قوله : قالُوا إِنْ هذانِ أي :
موسى وهارون ، لَساحِرانِ عظيمان يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ مصر ، بالاستيلاء عليها بِسِحْرِهِما الذي أظهره قبل ، وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى أي : بمذهبكم ، الذي هو أفضل المذاهب وأمثلها ، بإظهار مذهبهما وإعلاء دينهما.
قال ابن عطية : والأظهر ، فى الطريقة هنا ، أنه السيرة والمملكة. والمثلى : تأنيث الأمثل ، أي : الفاضلة الحسنة. ه. وقيل : الطريقة هنا : اسم لوجوه القوم وأشرافهم ، لأنهم قدوة لغيرهم ، والمعنى : يريدان أن يصرفا وجوه الناس وأشرافهم إليهما ، ويبطلان ما أنتم عليه. وقال قتادة : (طريقتهم المثلى يومئذ : بنو إسرائيل ، كانوا أكثر القوم
___________
(1) من الآية 162 من سورة النساء.
(2) من الآية 69 من سورة المائدة. وللألوسى - رحمه اللّه - كلام طيب فى هذه القضية ، راجعه فى تفسيره (16/ 224).(3/399)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 400
عددا وأموالا ، فقال فرعون : إنما يريدان أن يذهبا به لأنفسهما). ولا شك أن حمل الإخراج على إخراج بنى إسرائيل من بينهم ، مع بقاء قوم فرعون على حالهم آمنين فى ديارهم : بعيد ، مما يجب تنزيه التنزيل عن أمثاله.
وقوله تعالى : فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ : تصريح بالمطلوب ، أي : إذا كان الأمر كما ذكر ، من كونهما ساحرين يريدان إخراجكم من بلادكم ، فأجمعوا كيدكم ، أي : اجعلوه مجمعا عليه ، بحيث لا يتخلف عنه واحد منكم ، وارموه عن قوس واحدة. وقرأ أبو عمرو : (فاجمعوا) ، من الجمع ، أي : فاجمعوا أدوات سحركم ورتبوها كما ينبغى ، ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا أي : مصطفين ، أمروا بذلك لأنه أهيب فى صدور الرائين ، وأدخل فى استجلاب الرهبة من المشاهدين. قيل : كانوا سبعين ألفا ، مع كل واحد منهم حبل وعصا ، وأقبلوا عليه إقبالة واحدة ، وقيل : كانوا اثنين وسبعين ساحرا اثنان من القبط ، والباقي من بنى إسرائيل ، وقيل : تسعمائة ثلاثمائة من الفرس ، وثلاثمائة من الروم ، وثلاثمائة من الإسكندرية ، وقيل : خمسة عشر ألفا. والله تعالى أعلم. ولعل الموعد كان مكانا متسعا ، خاطبهم موسى عليه السّلام بما ذكر فى قطر من أقطاره ، وتنازعوا أمرهم فى قطر آخر ، ثم أمروا أن يأتوا وسطه على الوجه المذكور.
ثم قالوا فى آخر نجواهم : وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى فاز بالمطلوب من غلب ، يريدون بما وعدهم فرعون من الأجر والتقريب ، أو بالرئاسة والجاه والذكر الحسن فى الناس. وقيل : كان نجواهم أن قالوا - حين سمعوا مقاله موسى عليه السّلام : ما هذا بقول ساحر ، وقيل : كان ذلك أن قالوا : إن غلبنا موسى اتبعناه ، وقيل : قالوا فيها : إن كان ساحرا غلبناه ، وإن كان من السماء فله أمر. فيكون إسرارهم حينئذ من فرعون ، ويحمل قولهم : إِنْ هذانِ لَساحِرانِ ... إلخ ، على أنهم اختلفوا فيما بينهم على الأقاويل المذكورة ، ثم أعرضوا عن ذلك بعد التنازع والتناظر ، واستقرت آراؤهم على المغالبة والمعارضة. والله تعالى أعلم بما كان.
ثم طلبوا المعارضة ، فقالوا : يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ ما تلقيه أولا ، وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى ما نلقيه. خيروه عليه السّلام فيما ذكر مراعاة للأدب ، لما رأوا عليه من مخايل الخير ، وإظهارا للجلادة ، قالَ بَلْ أَلْقُوا أنتم أولا ، مقابلة لأدبهم بأحسن منه ، فبتّ القول بإلقائهم أولا ، وإظهارا لعدم المبالاة بسحرهم ، ومساعدة لما أوهموا من الميل إلى البدء ، وليستفرغوا أقصى جهدهم وسعيهم ، ثم يظهر الله سبحانه سلطانه ، فيقذف بالحق على الباطل فيدمغه ، كما تعود من ربه.
فألقوا ما عندهم ، فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى أي : ففوجىء موسى ، وتخيل سعى حبالهم وعصيهم من سحرهم ، وذلك أنهم كانوا لطخوها بالزئبق ، فلما ضربت عليها الشمس اضطربت واهتزت ، فخيل إليه أنها تتحرك. قلت : هكذا ذكر كثير من المفسرين. والذي يظهر أن تحريكها إنما كان(3/400)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 401
من تخييل السحر الذي يقلب الأعيان فى مرأى العين ، كما يفعله أهل الشعوذة ، وهو علم معروف من علوم السحر ، ويدل على ذلك ما ورد أنها انقلبت حيات تمشى على بطونها ، تقصد موسى عليه السّلام ، فكيف يفعل الزئبق هذا؟ قال ابن جزى : استدل بعضهم بهذه الآية أن السحر تخييل لا حقيقة له. ه.
فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً أي : خوفا ، مُوسى أي : أضمر فى نفسه بعض خوف ، من جهة الطبع البشرى المجبول على النفرة من الحيات ، والاحتراز من ضررها. وقال مقاتل : إنما خاف موسى ، إذ صنع القوم مثل صنيعه ، بأن يشكّوا فيه ، فلا يتبعوه ، ويشك فيه من تابعه. قُلْنا لا تَخَفْ ما توهمت ، إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى الغالب عليهم ، والجملة : تعليل لنهيه عن الخوف ، وتقرير لغلبته ، على أبلغ وجه ، كما يعرب عنه الاستئناف ، وحرف التحقيق ، وتأكيد الضمير ، وتعريف الخبر ، ولفظ العلو.
ثم قال له : وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ أي : عصاك ، وإنما أبهمت تفخيما لشأنها ، وإيذانا بأنها ليست من جنس العصا المعهودة ، بل خارجة عن حدود أفراد الجنس ، مبهمة الكنه ، مستتبعة لآثار غريبة ، وأما حمل الإبهام على التحقير ، بمعنى : لا تبال بكثرة حبالهم وعصيهم ، وألق العويد الذي فى يدك ، فإنه بقدرة الله تعالى يتلقفها مع وحدته وكثرتها ، وصغره وكبرها ، فيأباه ظهور حالها ، وما وقع منها فيما مر من تعظيم شأنها.
وقوله تعالى : تَلْقَفْ ما صَنَعُوا : جواب الأمر ، من لقفه ، إذا ابتلعه والتقمه بسرعة ، أي : تبتلع ، وتلتقم بسرعة ، ما صنعوا من الحبال والعصى ، التي تخيل إليك ، والجملة الأمرية معطوفة على النهى عن الخوف ، موجبة لبيان كيفية غلبته عليه السّلام وعلوه ، وإدحاض الخوف عنه ، فإن ابتلاع عصاه لأباطيلهم ، التي منها أوجس فى نفسه ما أوجس ، مما يقلع مادته بالكلية. وهذا ، كما ترى ، صريح فى أن خوفه عليه السّلام لم يكن - كما قال مقاتل - من خوف شك الناس وعدم اتباعه له عليه السّلام ، وإلا لعلله بما يزيله من الوعد بالنصر الذي يوجب اتباعه.
فتأمله. قاله أبو السعود. وفيه نظر بأن قوله : تَلْقَفْ ما صَنَعُوا صريح فى عدم الالتباس إذ لا ينبغى التباس مع ابتلاع عصاه لعصيهم ، فتأمله. إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ أي : إن الذي صنعوه كيد ساحر وحيله. وقرأ أهل الكوفة : (سحر) بكسر السين ، فالإضافة للبيان ، كما فى «علم فقه» ، أو : كيد ذى سحر ، أو يسمى الساحر سحرا مبالغة. والجملة تعليل لقوله : (تَلْقَفْ) أي : تبتلعه لأنه كيد ساحر ، وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى أي : حيث وجد ، وأين أقبل ، وهو من تمام التعليل. والله تعالى أعلم.
الإشارة : يقال للفقير ، المتوجه إلى الله تعالى ، من قبل الحق : إمّا أن تلقى الدنيا من يدك ، وإمّا أن نكون أول من ألقاها عنك ، أي : إما أن تتركها اختيارا ، أو تزول عنك اضطرارا لأن عادته تعالى ، مع المتوجه الصادق ، أن يدفع عنه كل ما يشغله من أمور الدنيا. فيقول - إن كان صادق القلب - : بل ألقها ، ولا حاجة لى بها ، فألقاها الحق تعالى ، (3/401)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 402
وأخرجها من يده ، عناية به ، فإذا أشغالها وعلائقها كانت تسعى فى هلاكه وخراب قلبه وتضييع عمره ، فأوجس فى نفسه خيفة من العيلة ولحوق الفاقة ، قلنا : لا تخف ، حيث توجهت إلى مولاك ، فإن الله يرزق بغير حساب وبلا أسباب ، وألق ما فى يمين قلبك من اليقين ، تلقف ما صنعوا ، أي : ما صنعت بك خواطر السوء والشيطان ، لأنه يعد بالفقر ويأمر بالفحشاء ، وإنما صنعوا ذلك تخويفا وتمويها ، لا حقيقة له ، كما يفعل الساحر ، (و لا يفلح الساحر حيث أتى).
ثم ذكر إسلام السحرة ، وما كان من شأنهم ، فقال :
[سورة طه (20) : الآيات 70 الى 71]
فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى (70) قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى (71)
قلت : (فِي جُذُوعِ النَّخْلِ) ، قال المحلى : أي : عليها ، وهو مذهب كوفى ، وأما مذهب البصريين فيقولون : ليست «فِي» بمعنى «على» ، ولكن شبه المصلوب ، لتمكنه فى الجذع ، بالحالّ فى الشيء ، وهو من الاستعارة التعبيرية.
و(مِنْ خِلافٍ) : فى موضع الحال ، أي : مختلفات.
يقول الحق جل جلاله : فلما ألقى موسى عصاه انقلبت حية عظيمة ، فابتلعت تلك الحبال والعصى ، فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً لما تيقنوا أن ذلك ليس من باب السحر ، وإنما هى آية من آيات الله. روى أن رئيسهم قال : كنا نغلب أعين الناس ، وكانت الآلات تبقى علينا ، فلو كان هذا سحرا ، فأين ما ألقينا من الآلات؟ فاستدلوا بما رأوا على صحة رسالة موسى. فألقاهم ما شاهدوه على وجوههم ، فتابوا وآمنوا ، وأتوا بما هو غاية الخضوع ، قيل : لم يرفعوا رؤوسهم حتى رأوا الجنة والنار ، والثواب والعقاب. وعن عكرمة : لما خروا سجدا ، أراهم الله تعالى ، فى سجودهم ، منازلهم فى الجنة. ولا ينافيه قولهم : إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا ، لأن كون تلك المنازل منازلهم هو السبب فى صدور هذا القول منهم.
قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى ، قدّموا هارون إما لكبر سنه ، أو للمبالغة فى الاحتراز عن التوهم الباطل من جهة فرعون ، حيث كان ربّى موسى عليه السّلام فى صغره ، فلو قدّموا موسى لربما توهم اللعين وقومه ، من أول الأمر ، أن مرادهم فرعون ، فأزاحوا تلك الخطرة من أول مرة. قالَ آمَنْتُمْ لَهُ أي : لموسى ، واللام لتضمن الفعل معنى الانقياد والخضوع ، أي : أذعنتم له قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ أي : من غير أن آذن لكم ، إِنَّهُ أي :
موسى لَكَبِيرُكُمُ أي : أستاذكم وأعلمكم فى فنكم ، الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ ، فتواطأتم على ما فعلتم. وهذه منه شبهة واهية أين كان موسى عليه السّلام ، وأين كان السحرة ، حتى علمهم؟ ولكن صدر منه هذا خوفا على الناس أن يتبعوا موسى عليه السّلام ، ويقتدوا بالسحرة ، فأوهم عليهم ، مع ما سبق فى علم الله من ضلالتهم.(3/402)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 403
ثم أقبل على السحرة بالوعيد ، فقال : فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ أي : فو الله لأقطعن أيديكم وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ أي : اليد اليمنى والرجل اليسرى. وتعيين تلك الحال للإيذان بتحقيق هذا الأمر وإيقاعه لا محالة ، فتعيين تلك الحالة المعهودة من باب السياسة ، أو لأنها معهودة لمن خرج عن حكم طاعته. وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ أي : عليها ، وإتيان كلمة «فِي» للدلالة على إبقائهم عليها زمنا مديدا ، تشبيها فى استمرارهم عليها باستقرار الظرف فى المظروف المشتمل عليه ، وقيل : هو أول من صلب. وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا ، يريد نفسه أو موسى عليه السّلام ، حيث خافوا من عصاه فأسلموا ، فهم اللعين أن إيمانهم لم يكن للمعجزة ، إنما كان خوفا ، حيث رأوا عصاه ابتلعت حبالهم وعصيهم ، أو يريد (أَيُّنا) أي : أنا أو رب موسى وهارون ، الذي آمنتم به ، أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى أي : أدوم. قالوا : لم يثبت فى القرآن أن فرعون فعل بأولئك المؤمنين ما أوعدهم به ، ولم يثبت فى الأخبار ، لكن روى عن ابن عباس ، وغيره ، أنه أنفذه. وروى أن امرأة فرعون كانت تسأل : من غلب؟ فيقال لها : موسى ، فقالت :
آمنت برب موسى وهارون ، فأرسل إليها فرعون يهددها ، وقال : انظروا أعظم صخرة ، فإن استقرت على قولها فألقوها عليها ، فلما ألقوها رفعت بصرها إلى السماء فأريت بيتها فى الجنة ، فمضت على قولها ، وانتزعت روحها منها ، وألقيت الصخرة على جسد لا روح فيه. قاله الثعلبي. والله تعالى أعلم.
الإشارة : من سبقت له العناية ، لا تضره الجناية. هؤلاء السحرة جاءوا يحادون الله ورسوله ، فأضحوا أولياء الله. روى أن موسى عليه السّلام لما قال لهم : أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ ، سمع هاتفا يقول : ألقوا يا أولياء الله ، فتحير موسى عليه السّلام ، وأوجس فى نفسه خيفة ، وقال : كيف أعارض أولياء الله ، فلما ألقى عصاه ظهرت ولايتهم. فكم من لصوص خرج منهم الخصوص. ففى أمثال هؤلاء تقوية لرجاء أهل الجناية ، إذا طلبوا من الله سرّ العناية ، وإدراك مقام الولاية ، ولذلك ابتدأ القشيري فى رسالته بذكر من تقدم له جنايات من الأولياء ، كالفضيل ، وابن أدهم ، وأضرابهم - رضى الله عن جميعهم - .
ثم ذكر ثبوت السحرة على الإيمان ، وعدم مبالاتهم بتهديد فرعون ، فقال :
[سورة طه (20) : الآيات 72 الى 76]
قالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالَّذِي فَطَرَنا فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا (72) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقى (73) إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى (74) وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى (75) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ مَنْ تَزَكَّى (76)(3/403)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 404
قلت : (هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا) : نصب على إسقاط الخافض ، اتساعا ، لا نصب على الظرفية لأن الظرف المختص لا ينتصب على الظرفية ، على المشهور ، و(الَّذِي فَطَرَنا) : عطف على (ما جاءَنا) ، أو قسم حذف جوابه ، أي : وحق الذي فطرنا لا نؤثرك .. إلخ.
يقول الحق جل جلاله ، حاكيا عن السحرة ، لمّا خوفهم فرعون : قالُوا غير مكترثين بوعيده : لَنْ نُؤْثِرَكَ أي : لن نختارك ، باتباعك عَلى ما جاءَنا من الله تعالى على يد موسى عليه السّلام مِنَ الْبَيِّناتِ أي :
المعجزات الظاهرة لأن ما ظهر من العصا كان مشتملا على معجزات جمة ، كما تقدم. وَالَّذِي فَطَرَنا : خلقنا وخلق سائر المخلوقات ، أي : لن نختارك على ما ظهر لنا من دلائل صحة نبوة موسى ، ولا على الذي خلقنا ، حتى نتبعك ونترك الحق ، وكان ما شاهدوه آية حسية ، وهذه آية عقلية. وإيراده بعنوان فاطريته تعالى للإشعار بعلّية الحكم ، فإن خالقيته تعالى لهم ولفرعون - وهو من جملة مخلوقاته - مما يوجب عدم إيثارهم له عليه سبحانه ، أو : وحق الذي فطرنا لا نؤثرك على ما جاءنا ، فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ أي : فاصنع ما أنت صانعه ، أو : فاحكم ما أنت حاكمه. وهو جواب لقوله : (فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ ..) إلخ. إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا أي : إنما تصنع ما تهواه ، أو تحكم ما تراه فى هذه الحياة الدنيا الفانية ، ولا رغبة لنا فى البقاء فيها ، رغبة فى سكنى الدار الدائمة ، بسبب موتنا على الإيمان.
إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا التي اقترفنا ، من الكفر والمعاصي ، ولا يؤاخذنا بها فى الآخرة ، فلا نغتر بتلك الحياة الفانية ، حتى نتأثر بما أوعدتنا به من القطع والصلب ، وَيغفر لنا أيضا ما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ الذي عملناه فى معارضة موسى عليه السّلام ، بإكراهك وحشرك لنا من المدائن القاصية ، وخصوه بالذكر ، مع اندراجه فى خطاياهم إظهارا لغاية نفرتهم عنه ، ورغبة فى مغفرته ، وفى ذكره الإكراه : نوع اعتذار لاستجلاب المغفرة ، وقيل : أرادوا الإكراه على تعلم السحر ، لما روى أن رؤساءهم كانوا اثنين وسبعين اثنان منهم من القبط ، والباقي من بنى إسرائيل ، وكان فرعون أكرههم على تعلم السحر ، وقيل : إنه أكرههم على المعارضة ، حيث روى أنهم قالوا لفرعون : أرنا موسى نائما ، ففعل ، فوجدوه تحرسه عصاه ، فقالوا : ما هذا بسحر ، فإن الساحر إذا نام بطل سحره ، فأبى إلا أن يعارضوه. لكن يأباه تصديهم للمعارضة بالرغبة والنشاط ، كما يعرب عنه قولهم :
إِنَّ لَنا لَأَجْراً .. «1» إلخ ، وقولهم : بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ «2» ، إلا أن يقال : لما رأوا جدّه طمعوا وطلبوا الأجر. وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقى أي : وثواب الله خير من إيثار الدنيا الفانية ، وأبقى فى الدار الباقية ، أو : والله فى ذاته خير ، وجزاؤه أبقى ، نعيما كان أو عذابا.
___________
(1) من الآية 113 من سورة الأعراف.
(2) من الآية 44 من سورة الشعراء.(3/404)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 405
ثم عللوا خيريته وبقاءه فقالوا : إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً بأن يموت على الكفر والمعاصي ، فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها فيستريح وينتهى عذابه ، وهذا تحقيق لقوله : (وَ أَبْقى ) ، وَلا يَحْيى حياة ينتفع بها ، وضمير (إِنَّهُ) : للشأن ، وفيه تنبيه على فخامة مضمون الجملة لأن مناط وضع الضمير موضعه ادعاء شهرته المغنية عن ذكره ، مع ما فيه من زيادة التقرير ، فإن الضمير لا يفهم منه أول الأمر إلا شأن مبهم له خطر ، فيبقى الذهن مترقبا لما يعقبه ، فيتمكن ، عند وروده ، فضل تمكن ، كأنه قيل الشأن الخطير هذا.
وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً به تعالى ، وما جاء من عنده من المعجزات ، التي من جملتها ما شهدناه ، حال كونه قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ أي : الأعمال الصالحات ، وهى كل ما استقام شرعا وخلص عقدا ، فَأُولئِكَ أي : من يأت مؤمنا .. إلخ. وجمع الإشارة باعتبار معنى «من» ، كما أن الإفراد فى الفعلين السابقين باعتبار لفظها ، وما فيه من معنى البعد للإشعار بعلو درجتهم وبعد منزلتهم ، أي : فأولئك المؤمنون العاملون للصالحات ، لَهُمُ بسبب إيمانهم وأعمالهم الصالحات الدَّرَجاتُ الْعُلى أي : المنازل الرفيعة ، وليس فيه ما يدل على عدم اعتبار الإيمان المجرد عن العمل فى استتباع الثواب ، لأن ما نيط بالإيمان المقرون بالأعمال الصالحة هو الفوز بالدرجات العلى ، لا بالثواب مطلقا.
ثم فسر تلك الدرجات ، فقال : جَنَّاتُ عَدْنٍ أي : إقامة على الخلود ، حال كونها تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ مَنْ تَزَكَّى ، الإشارة إلى ما أنتج لهم من الفوز بالدرجات العلى. والبعد فى الإشارة للتفخيم ، أي : ما تقدم من الفوز بالدرجات العلى هو جزاء من تطهر من دنس الكفر والمعاصي ، بما ذكر من الإيمان والأعمال الصالحة ، وهذا تحقيق لكون ثوابه تعالى أبقى. وتقدم ذكر حال المجرم ، للمسارعة إلى بيان أشدية عذابه ودوامه ، ردا على ما ادعاه فرعون بقوله : أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى ، هذا وقد قيل : إن قوله : إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ .... إلخ ، ابتداء كلام من الله عز وجل. والله تعالى أعلم.
الإشارة : فى الآية تحريض للفقراء أهل النسبة وأرباب الأحوال ، على الثبوت فى طريق السلوك ، وعدم الرجوع عنها ، حين يكثر عليهم الإنكار والتهديد ، والتخويف بأنواع العذاب ، فلا يكترثون بذلك ولا يتضعضعون ، وليقولوا كما قال سحرة فرعون : (لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات والذي فطرنا ، فاقض ما أنت قاض ، إنما تقضى هذه الحياة الدنيا ...) الآية. وقد جرى هذا على كثير من الصوفية ، أوذوا على النسبة ، فمنهم من قتل ، ومنهم من طوف ، ومنهم من أجلى عن وطنه ، إلى غير ذلك مما جرى عليهم ، ومع ذلك لم يرجعوا عما هم عليه ، حتى وصلوا إلى حضرته تعالى وذاقوا. وما رجع من رجع إلا من الطريق ، وأما من وصل فلا يرجع أبدا ، ولو قطع إربا إربا. والله ولي المتقين.(3/405)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 406
ثم ذكر خروج بنى إسرائيل إلى الشام وغرق فرعون ، فقال :
[سورة طه (20) : الآيات 77 الى 79]
وَلَقَدْ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لا تَخافُ دَرَكاً وَلا تَخْشى (77) فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ (78) وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى (79)
يقول الحق جل جلاله : وَلَقَدْ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي بعد ما لبث يدعو فرعون إلى الله تعالى ويريه الآيات المفصلات ، بعد غلبة السحرة ، نحوا من عشرين سنة ، كما فصّل ذلك فى الأعراف ، فلما أيس من إيمانهم أوحى الله بالخروج عنهم ، أي : والله لقد أوحينا إلى موسى أن أسر ، أو بأن أسر بعبادي الذين أرسلتك لإنقاذهم من يد فرعون ، أي : سر بهم من مصر ليلا إلى بحر القلزم. والتصدير بالقسم لإبراز كمال العناية بمضمونها ، والتعبير عنهم بعبادي لإظهار الرحمة والاعتناء بهم ، والتنبيه على غاية قبح صنيع فرعون ، حيث استعبدهم ، وهم عباده عز وجل ، وفعل بهم من فنون العذاب ما فعل. فَاضْرِبْ لَهُمْ أي : اجعل لهم ، أو اتخذ لهم طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً أي : يابسا لا ماء فيه ، لا تَخافُ دَرَكاً أي : حال كونك آمنا من أن يدرككم العدو ، وَلا تَخْشى الغرق. وقرأ حمزة : «لا تخف» بالجزم ، جوابا للأمر ، فيكون (و لا تخشى) : إما استئناف ، أي : وأنت لا تخشى ، أو عطف عليه ، والألف للإطلاق ، أو يقدر الجزم ، كقوله :
ألم يأتيك والأنباء تنمى «1» ... إلخ.
وتقديم نفى خوف الدرك ، للمسارعة إلى إزاحة ما كانوا عليه من الخوف ، حيث قالوا : إِنَّا لَمُدْرَكُونَ «2».
فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ أي : تبعهم ومعه جنوده حتى لحقهم ، يقال : اتبعتهم ، أي : تبعتهم ، إذا كانوا سبقوك ولحقتهم ، ويؤيده قراءة : (فاتّبعهم) بالشد. وقيل : الباء زائدة ، والمعنى : فأتبعهم فرعون جنوده ، أي : ساقهم خلفهم ، وأيا ما كان ، فالفاء فصيحة معربة عن مضمر قد طوى ذكره ، ثقة بظهوره ، وإيذانا بكمال مسارعة موسى إلى الامتثال ، أي : ففعل ما أمر به من الإسراء بهم ، وضرب الطريق فى البحر وسلكوه ، فأتبعهم بجنوده برا وبحرا.
روى أن موسى عليه السّلام خرج بهم أول الليل ، وكانوا ستمائة وسبعين ألفا ، فأخبر فرعون بذلك ، فأتبعهم بعساكره ، وكانت مقدمته سبعمائة ألف ، فقص أثرهم فلحقهم ، بحيث تراءى الجمعان ، فلما أبصروا رهج «3» الخيل ، قالوا : إِنَّا لَمُدْرَكُونَ ، قالَ كَلَّا إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ «4». فلما قربوا ، قالوا : يا موسى أين نمضى ، البحر أمامنا ، وخيل فرعون خلفنا ، فعند ذلك ضرب موسى عصاه البحر فانفلق على ثنتى عشرة فرقة ،
___________
(1) هذا صدر بيت عجزه : بما لاقت لبون بنى زياد. وهو لقيس بن زهير العبسي .. انظر تفسير القرطبي.
(2) الآية 61 من سورة الشعراء. [.....]
(3) الرّهج : الغبار.
(4) الآيتان 61 - 62 من سورة الشعراء.(3/406)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 407
كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ «1» أي : كالجبل العظيم من الماء ، وكانوا يمرون به ، وكلهم بنو أعمام ، لا يرى بعضهم بعضا ، فقالوا : قد غرق إخواننا ، فأوحى الله إلى أطواد الماء : أن اشتبكى ، وصارت شبابك ، يرى بعضهم بعضا ، ويسمع بعضهم كلام بعض ، فلما أتى فرعون الساحل ، وجد البحر منفلقا ، فقال : سحر موسى البحر ، فقالوا :
إن كنت ربا فادخل كما دخل ، فجاء جبريل على رمكة وديق ، أي : تحب الفحل ، وكان فرعون على حصان ، فاقتحم جبريل بالرمكة الماء ، فلم يتمالك حصان فرعون ، فاقتحم البحر على إثره ، ودخل القبط كلهم ، فلما لجّجوا ، أوحى الله تعالى إلى البحر أن أغرقهم ، فعلاهم البحر وأغرقهم.
فعبر موسى عليه السّلام بمن معه من الأسباط سالمين ، وأما فرعون وجنوده فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ أي :
علاهم منه وغمرهم من الأمر الهائل ، الذي لا يقادر قدره ولا يبلغ كنهه. قال القشيري : فغرقوا بجملتهم ، وآمن فرعون لما ظهر له البأس ، فلم ينفعه إقراره ، وكان ينفعه لو لم يكن إصراره ، وقد أدركته الشقاوة التي سبقت له من التقدير. ه. وقال الكواشي : (و غشيهم) من الغضب والغرق ، وغير ذلك ، مالا يعلم حقيقته إلا الله تعالى. ه. فإبهام الصلة للتهويل والتفخيم ، وقيل : (غشيهم من اليم) ما سمعت قصته فى غير هذه السورة ، وليس بشىء فإن مدار الإبهام على التهويل والتفخيم ، بحيث يخرج عن حدود الفهم والوصف ، لا سماع قصته فقط.
وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ أي : أتلفهم وسلك بهم مسلكا أدى بهم إلى الخيبة والخسران ، حيث ماتوا على الكفر ، وأوصلهم إلى العذاب الهائل الدنيوي ، المتصل بالعذاب الدائم الأخرى ، وَما هَدى أي : ما أرشدهم قط إلى طريق توصلهم إلى مطلب من المطالب الدينية والدنيوية. وهو تقرير لإضلاله وتأكيد له ، وفيه نوع تهكم به فى قوله : وَما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ «2» ، فإن نفى الهداية عن شخص مشعر بكونه ممن يتصور منه الهداية فى الجملة ، وذلك إنما يتصور فى حقه بطريق التهكم. والله تعالى أعلم.
الإشارة : انظر عاقبة من شدّ يده على دينه ، وصبر على شدائد زمانه ، كيف خرقت له العوائد ، وجاءه العز والنصر فأنساه تلك الشدائد ، وأهلك الله من كان يؤذيه من الأعداء ، وسلك به سبيل النجاة والهدى ، وهذه عادة الله مع أوليائه ، يشدد عليهم أولا بضروب البلايا والمحن ، ثم يعقبهم العز والنصر وضروب المنن ، ولذلك ذكّر الله بنى إسرائيل بما أنعم عليهم بعد البحر ، فقال :
[سورة طه (20) : الآيات 80 الى 82]
يا بَنِي إِسْرائِيلَ قَدْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى (80) كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى (81) وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى (82)
___________
(1) من الآية 63 من سورة الشعراء.
(2) من الآية 29 من سورة غافر.(3/407)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 408
يقول الحق جل جلاله لبنى إسرائيل ، بعد ما أنجاهم من الغرق ، وأفاض عليهم من فنون النعم الدينية والدنيوية : يا بَنِي إِسْرائِيلَ قَدْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ فرعون وقومه ، حيث كانوا يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ «1» ، وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ أي : واعدناكم بواسطة نبيكم ، إتيان جانب الطور ، الجانب الأيمن منه للمناجاة وإنزال التوراة. وهل هو الطور الذي أبصر فيه النار ووقعت فيه الرسالة ، أو غيره؟ خلاف. ونسبة المواعدة إليهم مع كونه لموسى عليه السّلام خاصة ، أو له وللسبعين المختارين ، نظر إلى ملابستها إياهم ، وسراية منفعتها إليهم ، وإعطاء لمقام الامتنان حقه. كما فى قوله تعالى :
وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ «2» حيث نسب الخلق والتصوير للمخاطبين ، مع أن المخلوق كذلك هو آدم عليه السّلام.
ثم قال تعالى : وَنَزَّلْنا عَلَيْكُمُ حين تهتم ، الْمَنَّ وَالسَّلْوى أي : الترنجبين والطير السّمانى ، حيث كان ينزل عليهم المنّ وهم فى التيه ، مثل الثلج ، من الفجر إلى الطلوع ، لكل إنسان صالح ، ويبعث الجنوب عليهم السّمانى ، فيذبح الرجل منه ما يكفيه. وقلنا لهم : كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ أي : من لذائذه ، أو حلاله. وفى البدء بنعمة الإنجاء ثم بالنعمة الدينية ثم بالنعمة الدنيوية من حسن الترتيب ما لا يخفى. وَلا تَطْغَوْا فِيهِ أي :
فيما رزقناكم بالإخلال بشكره ، والتعدي لما حدّ لكم فيه ، كالترفه والبطر والمنع من المستحق. وقال القشيري :
مجاوزة الحلال إلى الحرام ، أو بالزيادة على الكفاف وما لا بدّ منه ، فأزاد على سدّ الرمق ، أو بالأكل على الغفلة والنسيان. ه. وقيل : لا تدخروا ، فادّخروا فتعودوا ، وقيل : لا تنفقوه فى المعصية ، فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي بفعل شىء من ذلك ، أي : ينزل ويجب ، من حلّ الدين إذا وجب. وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى أي : تردّى وهلك ، أو وقع فى المهاوى.
وَإِنِّي لَغَفَّارٌ أي : كثير الغفران لِمَنْ تابَ عن الشرك والمعاصي ، التي من جملتها الطغيان فيما ذكر ، وَآمَنَ بما يجب الإيمان به ، وَعَمِلَ صالِحاً أي : عملا صالحا مستقيما عند الشرع ، وفيه ترغيب وحث لمن وقع فى زلّة أو طغيان على التوبة والإيمان ، ثُمَّ اهْتَدى أي : استقام على الهدى ودام عليها حتى مات.
وفيه إشارة إلى أن من لم يستمر عليها بمعزل عن الغفران. قال الكواشي : (ثُمَّ اهْتَدى ) أي : علم أن ذلك بتوفيق من الله تعالى. ه.
الإشارة : إذا ذهبت عن العبد أيام المحن ، وجاءت له أيام المنن ، فينبغى له أن يتذكر ما سلف له من المحن ، وينظر ما هو فيه الآن من المنن ، ليزداد شكرا وتواضعا ، فتزداد نعمه ، وتتواتر عليه الخيرات. وأما إن نسى أيام
___________
(1) من الآية 49 من سورة البقرة.
(2) من الآية 11 من سورة الأعراف.(3/408)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 409
المحن ، ولم يشكر ما هو فيه من المنن ، فحقيق أن تزول عنه ، ويرجع إلى ما كان عليه. وتذكّر حديث الأبرص والأقرع والأعمى ، حسبما فى الصحيح «1». فإن الأبرص والأقرع ، حين شفاهما الله وأغناهما ، أنكرا ما كانا عليه ، فرجعا إلى ما كانا عليه ، والأعمى حين أقر بما كان عليه ، وشكر الحال الذي حال إليه ، دامت نعمته وكثر خيره.
فالشكر قيد الموجود وصيد المفقود. فيقال لأهل النعم ، إن قاموا بشكرها : كلوا من طيبات ما رزقناكم ، ولا تطغوا فيه ، بأن تصرفوه فى غير محله ، أو تمنعوه عن مستحقه ، فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي ... الآية.
وقوله تعالى : وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ .. إلخ ، قال القشيري : وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ من الزّلّة وَآمَنَ فلم ير أعماله من نفسه ، بل جميع الحوادث من الحقّ ، وَعَمِلَ صالِحاً فلم يخلّ بالفرائض ، ثُمَّ اهْتَدى للسّنة والجماعة.
وقال أيضا : ثم اهتدى بنا إلينا. ه.
قال الورتجبي : التائب : المنقطع إلى الله ، والمؤمن : العارف بالله ، والعمل الصالح : تركه ما دون الله ، فإذا كان كذلك ، فاهتدى بالله إلى الله ، ويكون مغمورا برحمة الله ، ومعصوما بعصمة الله. ه.
ثم ذكر فتنة بنى إسرائيل بالعجل ، بعد ذهاب موسى إلى المناجاة ، فقال :
[سورة طه (20) : الآيات 83 الى 88]
وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى (83) قالَ هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى (84) قالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (85) فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ يا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (86) قالُوا ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا وَلكِنَّا حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْناها فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (87)
فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ فَقالُوا هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى فَنَسِيَ (88)
يقول الحق جل جلاله لموسى عليه السّلام ، لما ذهب إلى الطور ، لموافاة الميقات ، للعهد الذي عهد إليه ، واختار سبعين من بنى إسرائيل ، يحضرون معه لأخذ التوراة بأمره تعالى ، فلما دنا من الجبل حمله الشوق ، فاستعجل إلى الجبل ، وترك قومه أسفله ، فقال له الحق جل جلاله : وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى أي : ما حملك على
___________
(1) أخرج حديث الثلاثة البخارىّ فى (أحاديث الأنبياء ، باب حديث أبرص وأعمى وأقرع بنى إسرائيل) ، ومسلم فى (الزهد ، ح 2964) من حديث أبى هريرة رضي اللّه عنه.(3/409)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 410
العجلة ، وأىّ شىء أعجلك منفردا عن قومك ، وقد أمرتك باستصحابهم ، ولعل فى إفرادك عنهم عدم اعتناء بهم؟
فأجاب عليه السّلام بقوله : هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي أي : هم هؤلاء قريبا منى ، فهم معى ، وإنما سبقتهم بخطإ يسيرة ، ظننت أنها لا تخلّ بالمعية ، ولا تقدح فى الاستصحاب ، فإن ذلك مما لا يعتد به فيما بين الرفقة.
قال الكواشي : ولما كان سؤال الرب تعالى لموسى يقتضى شيئين : أحدهما : إنكار العجلة ، والثاني : السؤال عن السبب والحامل عليها ، كان أهم الأمرين إلى موسى بسط العذر وتمهيد العلة فى نفس ما أنكر عليه ، فاعتل أن قال :
إن ما وجد منى تقدم يسير ، لا يعتد بمثله فى العادة لقربه ، كما يتقدم الوفد رئيسهم ومتقدمهم ، ثم عقبه بجواب السؤال فقال : عَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى لتزادد عنى رضا لمسارعتى إلى الامتثال لأمرك ، واعتنائى بالوفاء بعهدك لأنه ظن أن إسراعه إليه أبلغ فى رضاه. وفى هذا دليل على جواز الاجتهاد للأنبياء - عليهم السّلام - والمعنى : لتعلم أنى أحبك ولا قرار لى مع غيرك. ه.
وقال القشيري : (هم أولاء على أثرى) ما خلّفتهم لتضييعى إياهم ، ولكن عجلت إليك ربّ لترضى. قال :
يا موسى ، رضائى فى أن تكون معهم ، ولا تتقدمهم ولا تسبقهم ، وكونك مع الضعفاء ، الذين استصحبتهم فى حصول رضاى ، أبلغ من تقدّمك عليهم. ه.
قالَ له تعالى : فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ أي : ابتليناهم بعبادة العجل من بعد ذهابك من بينهم.
روى أنهم أقاموا على ما وصاهم به موسى عليه السّلام عشرين ليلة ، بعد ذهابه ، فحسبوها مع أيامها أربعين ، وقالوا : قد أكملنا العدة ، وليس من موسى عين ولا أثر ، وكان وعدهم أن يغيب عنهم أربعين يوما ، واستخلف هارون على من بقي منهم ، وكانوا ستمائة ألف ، فافتتنوا بعبادة العجل كلهم ، ما نجا منهم إلا اثنا عشر ألفا. وهذا معنى قوله تعالى :
وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ ، حيث كان هو السبب فى فتنتهم ، فقال لهم : إنما أخلف موسى عليه السّلام ميعادكم لما معكم من حلى القوم ، فهو حرام عليكم ، فكان من أمر العجل ما يأتى تفسيره إن شاء الله. فإخباره تعالى بهذه الفتنة عند قدومه عليه السّلام ، قبل وقوعها ، إما باعتبار تحققها فى علمه تعالى ، وإما باعتبار التعبير عن المتوقع بالواقع ، كما فى قوله تعالى : وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ «1» ، أو لأن السامري كان قد عزم على إيقاع الفتنة عند ذهاب موسى عليه السّلام ، وتصدى لها بترتيب مبادئها ، فكانت الفتنة واقعة عند الإخبار بها.
والسامري منسوب إلى قبيلة من بنى إسرائيل ، يقال لها : سامرة ، وقيل : كان رجلا من كرمان. وقال ابن عباس :
كان من قرية يعبدون البقر ، فدخل فى بنى إسرائيل وأظهر الإسلام ، وفى قلبه ما فيه من حب عبادة البقر ، فابتلى الله به بنى إسرائيل ، واسمه : موسى بن ظفر.
___________
(1) من الآية 44 من سورة الأعراف.(3/410)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 411
فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ بعد ما استوفى الأربعين وأخذ التوراة ، لا عقب الإخبار بالفتنة ، كما يتوهم من قوله تعالى : غَضْبانَ أَسِفاً ، فإن كون الرجوع بعد الأربعين أمر مقرر مشهور ، يرفع كون الرجوع عقب الفتنة. والأسف : أشد الغضب ، وقيل : أسفا : حزينا جزعا على ضلال قومه. قالَ يا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً بأن يعطيكم التوراة فيها ما فيها من النور والهدى ، أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أي : مدة مفارقتى إياكم.
والهمزة للإنكار ، والمعطوف محذوف ، أي : أوعدكم ذلك فطال زمان الإنجاز ، فأخطأتم بسببه ، أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ شديد كائن مِنْ رَبِّكُمْ أي : من مالك أمركم ، فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي أي : وعدي إياكم بالثبات على ما أمرتكم به إلى أن أرجع من الميقات ، أو وعدكم إياى بأن تثبتوا على ما أمرتكم به ، على إضافة المصدر إلى فاعله أو مفعوله ، والفاء ، لترتيب ما بعدها ، كأنه قيل : أنسيتم الوعد بطول العهد فأخلفتمونى خطأ أَمْ أَرَدْتُمْ حلول الغضب عليكم فأخلفتموه عمدا.؟
قالُوا ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ أي : وعدنا إياك بالثبات على ما أمرتنا به ، بِمَلْكِنا أي : بسلطاننا وقدرتنا ، ونحن نملك أمرنا. وفيه لغتان : فتح الميم وكسرها. يعنون : لو خلينا وأمورنا ، ولم يسوّل لنا السامرىّ ما سوله ، ما أخلفنا ، ولكن غلبنا على أمرنا ، واستغوانا السامري مع مساعدة الأحوال.
وقال القشيري : أي : لم نكن فى ابتداء حالنا قاصدين إلى ما حصل منّا ، ولا عالمين بما آلت إليه عاقبة أمرنا ، وإنّ الذي حملنا عليه حلىّ القبط ، صاغ السامرىّ منه العجل ، فآل الأمر إلى ما بلغ من الشر ، وكذلك الحرام لا يخلو شؤمه من الفتنة والشر. ه.
وقوله تعالى : وَلكِنَّا حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ ، استدراك عما سبق ، واعتذار ببيان منشأ الخطأ ، أي :
حملنا أحمالا من حلى القبط ، التي استعرناها منهم ، حين هممنا بالخروج من مصر باسم العرس. وقيل : كانوا استعاروها لعيد كان لهم ، ثم لم يردوها إليهم ، مخافة أن يقفوا على أمرهم. وقيل : لما رمى البحر أجساد القبط ، وكان غالب ثيابهم الذهب والفضة ، التقطها بنو إسرائيل ، فهى زينة القوم التي صيغ منها العجل ، ولعل تسميتها أوزارا لأنها تبعات وآثام ، حيث لم تحل الغنائم لهم.
فَقَذَفْناها أي : فى النار رجاء الخلاص من عقوبتها ، أو قذفناها إلى السامري وألقاها فى النار ، فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ ما كان معه منها كما ألقيناه ، أو ألقى ما كان معه من تراب حافر فرس جبريل ، كان قد صرّه فى عمامته ، وكان ألقى إليه الشيطان : أنه ما خالط شيئا إلا حيى ، فألقاه فى فمه فصار يخور.
روى : أنه قال لهم : إنما تأخر موسى عنكم ، لما معكم من الأوزار ، فالرأى أن نحفر حفرة ويسجر فيها نار ، ونقذف فيها كل ما معنا ، ففعلوا ، فَأَخْرَجَ لَهُمْ من ذلك الحلي المذاب عِجْلًا أي : صورة عجل(3/411)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 412
جَسَداً أي : جثة ذات لحم ودم ، أو جسدا من ذهب لا روح فيه ، لَهُ خُوارٌ أي : صوت عجل ، فَقالُوا أي : السامري ومن افتتن به : هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى فَنَسِيَ أي : غفل عنه وذهب يطلبه فى الطور. فقوله تعالى : (فَأَخْرَجَ لَهُمْ ...) إلخ .. هو من كلام الله تعالى ، حكاية لنتيجة فتنة السامري ، قولا وفعلا ، قصدا إلى زيادة تقريرها ، وتمهيدا للإنكار عليهم ، وليس من كلام المعتذرين ، وإلا لقال : فأخرج لنا .. والله تعالى أعلم.
الإشارة : ينبغى لرئيس القوم ، إذا كان فى سفر ، أن يكون وسطهم ، أو سائقا لهم ، ولا يتقدمهم أو يستعجل لأمر عنهم ، فإن التأنى كله من الله ، والعجلة كلها من الشيطان ، والخير كله فى الاجتماع مع الضعفاء والمساكين ، حتى يكون كأحدهم ، فإن فارقهم ، لأمر مهم ، فليستخلف عليهم من يثق به فى دينه ، وليكن اعتماده فى ذلك على ربه ، ونظره كله إلى رعايته وحفظه. قال الكواشي : عن ابن عطاء : أوحى الله تعالى إلى موسى عليه السّلام : أتدري من أين أتيت؟ - يعنى فى فتنة قومه - قال : لا يا رب ، قال : حين قلت لهارون : اخلفني فى قومى ، أين كنت أنا حين اعتمدت على هارون؟. ه.
فكل فتنة أو ضلال يصيب الفقراء ، فإنما ذلك من عدم الاجتماع مع أهل الفن ، أو قلة الاستماع لهم ، فإن أصابتهم فتنة الأسباب ، والركون إلى شىء من الدنيا فى غيبة الشيخ ، فليرجع إليهم غضبان أسفا ، وليقل لهم : ألم يعدكم ربكم وعدا حسنا ، وهو الفتح الكبير لو صبرتم على السير والتجريد ، أفطال عليكم العهد ، فقد كانت الرجال تمكث فى خدمة الأشياخ العشرين والثلاثين سنة ، أم أردتم أن يحل عليكم غضب من ربكم ، بالإبعاد وإسدال الحجاب ، حيث خالفتم عهود أشياخكم ، فإن اعتذروا فليقبل عذرهم ، وإن ركنوا إلى عبادة شىء من عجل الدنيا فليخرجه من أيديهم ، وليقل : وانظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفا ، لنحرقنه ثم لننسفنه فى اليم نسفا. وباللّه التوفيق.
ثم ذكر الإنكار على عبدة العجل ، فقال :
[سورة طه (20) : الآيات 89 الى 94]
أَفَلا يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً (89) وَلَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (90) قالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى (91) قالَ يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلاَّ تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (93)
قالَ يَا بْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (94)(3/412)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 413
قلت : (أَلَّا يَرْجِعُ) : «أن» محففة ، لأنّ الناصبة لا تقع بعد أفعال اليقين ، ومن قرأ بالنصب جعل الرؤية بصرية.
يقول الحق جل جلاله ، منكرا على عبدة العجل ومقبحا لرأيهم : أَفَلا يَرَوْنَ أي : أفلا يتفكر هؤلاء الضالون المضلون فيعلمون أن الأمر والشأن : أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ العجل كلاما ، ولا يرد عليها جوابا ، وإنما هو جماد لا روح فيه؟ فكيف يتوهمونه أنه إله؟ وتعليق الإبصار بما ذكر مع كونه عدميا للتنبيه على كمال ظهوره ، المستدعى لمزيد تشنيعهم وتركيك عقولهم. وَهو أيضا لا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً أي : أفلا يرون أيضا أن العجل لا يقدر أن يدفع عنهم ضرا ، أو يجلب لهم نفعا؟ أو لا يقدر على أن يضرهم إن لم يعبدوه ، أو ينفعهم إن عبدوه.
وَلَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ أي : والله لقد نصحهم هارون ونبههم على الحق ، من قبل رجوع موسى عليه السّلام إليهم ، وقال لهم : يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ أي : وقعتم فى الفتنة بالعجل أو ضللتم به ، والمعنى : إنما فعل بكم الفتنة ، لا الإرشاد إلى الحق ، وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ وحده ، لا العجل ، أرشدهم إلى الحق بعد أن زجرهم عن الباطل. والتعرض لعنوان الرحمانية للاعتناء باستمالتهم إلى الحق المفضى إلى الرحمة الشاملة ، أي : إن ربكم الذي يستحق أن يعبد هو الرحمن لا غير. فَاتَّبِعُونِي على الثبات على الدين ، وَأَطِيعُوا أَمْرِي من ترك عبادة ما علمتم شأنه.
قالُوا فى جواب هارون عليه السّلام : لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ أي : لن نزال على عبادة العجل مقيمين حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى ، جعلوا رجوعه عليه السّلام غاية لعكوفهم على عبادة العجل ، لكن لا على طريق الوعد بتركها عند رجوعه ، بل بطريق التعلل والتسويف ، وقد دسّوا تحت ذلك أنه عليه السّلام لا يرجع بشىء مبين لإبطالها ، تعويلا على مقالة السامري.
روى أنهم ، لما قالوا ذلك ، اعتزلهم هارون عليه السّلام فى اثنى عشر ألفا ممن لم يعبد العجل ، فلما رجع موسى وسمع الصياح والجلبة «1» ، وكانوا يرقصون حول العجل ، قال للسبعين الذين كانوا معه : هذا صوت الفتنة ، فلما وصل إليهم قال لهم ما قال من قوله : (أَ لَمْ يَعِدْكُمْ ....) إلخ. وسمع منهم ما قالوا من قولهم : (ما أَخْلَفْنا ...) إلخ. فلما رأى هارون أخذ شعره بيمينه ، ولحيته بشماله ، غضبا ، قالَ يا هارُونُ ، وإنما جرده من الواو لأنه استئناف بيانى ، كأنه قيل : ماذا قال موسى لهارون حين سمع جوابهم له؟ وهل رضى بسكوته بعد ما شهد منهم ما شهد؟ فقيل :
قالَ يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا بعبادة العجل ، وبلغوا من المكابرة إلى أن شافهوك بتلك المقالة الشنعاء ، أَلَّا تَتَّبِعَنِ أي : أن تتبعنى. على أن «لا» مزيدة ، أي : أىّ شىء منعك ، حين رأيت ضلالتهم ، من أن
___________
(1) فى الأصول : والجبلة.(3/413)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 414
تتبعنى فيما أمرتك ، وتعمل بوصيتي فتقاتلهم بمن معك؟. قال ابن عطية : والتحقيق : أن «لا» غير مزيدة ، ويقدر فعل ، أي : ما منعك مجانبتهم وسوّل لك ألا تتبعن. ه. قلت : وفيه نظر لأن مجانبة هارون عليه السّلام للقوم كانت حاصلة ، وإنما أنكر عليه عدم مقاتلتهم ، أو عدم لحوقه ليخبره ، فتأمله. وقيل : المعنى : ما حملك على ألا تتبعن ، فإن المنع من الشيء مستلزم للحمل على مقابله ، وقيل : ما منعك أن تلحقنى وتخبرني بضلالهم ، فتكون مفارقتك زجرا لهم ، وهذا أظهر.
أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي بالصلابة فى الدين والمحاماة عليه ، فإن قوله : (اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي) متضمن للأمر بهما حتما ، فإن الخلافة لا تتحقق إلا بمباشرة الخليفة ما كان يباشره المستخلف لو كان حاضرا ، والهمزة للإنكار ، والفاء للعطف ، أي : أخالفتني فعصيت أمرى.
لَ يَا بْنَ أُمَ
،
خص الأم بالذكر استعطافا لحقها ، وترقيقا لقلبه ، لا لما قيل من أنه كان أخاه لأمه ، فإن الجمهور على أنهما شقيقان. قال له : تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي
أي : بشعر رأسى. وقد كان عليه السّلام أخذ بهما كما تقدم ، من شدة غيظه وفرط غضبه لله ، وكان حديدا متصلبا فى كل شىء ، فلم يتمالك حين رآهم يعبدون العجل ، حتى فعل ما فعل. ثم اعتذر له أخوه بقوله : نِّي خَشِيتُ
إن قاتلت بعضهم ببعض وتفرقوا ، نْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ
برأيك ، مع كونهم أبناء رجل واحد ، كما ينبئ عنه ذكرهم بذلك العنوان دون القوم ونحوه. وأراد عليه السّلام بالتفريق ما يستتبعه القتال من التفريق : الذي لا يرى بعده اجتماع ، فخشيت أن تقول :
فرقت بينهم ، لَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي
أي : قوله : (اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ ..) إلخ ، يعنى : إنى رأيت أن الأصلح هو فى حفظ الدماء والمداراة معهم ، إلى أن ترجع إليهم ، فلذلك استأنيتك لتكون أنت المتدارك للأمر بما رأيت ، لا سيما وقد كانوا فى غاية القوة ، ونحن على القلة والضعف ، كما يعرب عنه قوله : إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي «1». والله تعالى أعلم.
الإشارة : كل من اعتمد على غير الله ، أو مال بمحبته إلى ما سوى الله ، فهو فى حقه عجل بنى إسرائيل ، فيقال له : كيف تركن إليه وهو لا يملك لك ضرا ولا نفعا ، وإنما فتنت به عن السير إلى ربك ، وانطمست به حضرة قدسك ، فربك الرحمن الكريم المنان ، فاتبع ما أمرك به من الطاعات ، وكن عبدا له فى جميع الحالات ، تكن خالصا لله ، حرا مما سواه. وبالله التوفيق.
___________
(1) من الآية 150 من سورة الأعراف.(3/414)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 415
ثم وجّه العتاب إلى السامري ، فقال :
[سورة طه (20) : الآيات 95 الى 98]
قالَ فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُّ (95) قالَ بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُها وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (96) قالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً (97) إِنَّما إِلهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً (98)
يقول الحق جل جلاله : قالَ موسى عليه السّلام فى توبيخ السامري : فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُّ أي :
ما شأنك ، وما مطلوبك فيما فعلت من فتنة القوم؟ خاطبه بذلك ليظهر للناس بطلان كيده باعترافه ، وليفعل به وبما صنع من العقاب ما يكون نكالا للمفتونين به ، ولمن خلفهم من الأمم من بعده ، قالَ السامري فى جوابه :
بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ أي : علمت مالم يعلمه القوم ، وفطنت لما لم يفطنوا به ، أو رأيت مالم يروه ، وهذا أنسب ، وقد كان رأى جبريل عليه السّلام ، جاء راكبا فرسا ، وكان كلما رفع الفرس يده أو رجله عن الطريق اليبس ، اخضر ما تحت قدمه بالنبات ، فعرف أن له شأنا ، فأخذ من موطئه شيئا من التراب. وذلك قوله تعالى : فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ أي : أثر فرس الرسول ، وهو جبريل ، الذي أرسل إليك ليذهب بك إلى الطور.
وقال فى اللباب : كان السامري من المقربين لموسى عليه السّلام ، فرأى جبريل راكبا على فرس ، وقد دخل البحر فانفلق ، فأخذ من أثره ، ولم ير ذلك إلا من كان مع موسى. ه. وقال قتادة : كان السامري عظيما فى بنى إسرائيل ، من قبيلة يقال لها : سامرة ، ولكن عدو الله نافق ، بعد ما قطع البحر مع بنى إسرائيل ، فلما مرت بنو إسرائيل بالعمالقة ، وهم يعكفون على أصنام لهم ، وكانوا يعبدون البقر ، قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ «1». فاغتنمها السامري فاتخذ العجل. ه.
وقال الكواشي : وإنما عرف السامرىّ جبريل من بين سائر الناس لأن أمه ولدته فى السنة التي يقتل فيها الغلمان ، فوضعته فى كهف حذرا عليه ، فبعث الله تعالى جبريل ليربيه لما قضى على يديه من الفتنة. ه.
وضعّفه ابن عطية. قلت : ولعل تضعيفه من جهة النقل ، وأما القدرة فهى صالحة ليقضى الله أمرا كان مفعولا.
___________
(1) من الآية 138 من سورة الأعراف.(3/415)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 416
ثم قال : فأخذت تلك القبضة فَنَبَذْتُها فى فم تلك الصورة المذابة من الحلي ، فصارت تخور ، وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي أي : زينت. والإشارة : نعت لمصدر محذوف ، أي : سوّلت لى نفسى تسويلا كائنا مثل ذلك التسويل البديع.
وحاصل جوابه : أن ما فعله إنما صدر منه بمحض اتباع هوى النفس الأمارة وإغوائها ، لا لشىء آخر من البرهان العقلي أو الإلهام الإلهى ، فعند ذلك قالَ له موسى عليه السّلام : فَاذْهَبْ أي : اخرج من بين الناس ، فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أي : فى مدة حياتك ، أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ والمعنى : أن لك فى مدة حياتك أن تفارقهم مفارقة كلية ، لا بحسب الاختيار ، بل بحسب الاضطرار الملجئ إليه ، وذلك أنه تعالى رماه بداء عقام «1» ، لا يكاد يمسّه أحد ، أو يمسّ أحدا ، إلا حمّ من ساعته حمى شديدة ، فتحامى الناس وتحاموه ، وكان يصيح بأقصى طوقه : لا مساس. وقيل : إن موسى عليه السّلام نفاه من قومه ، وأمر بنى إسرائيل ألا يخالطوه ولا يقربوه. قال الحسن : (جعل الله عقوبة السامري ألا يماس الناس ولا يماسوه. جعل ذلك له ولمن كان منه إلى يوم القيامة).
فكأن الله تعالى شدّد عليه المحنة ، وجعل ذلك عقوبة له فى الدنيا. ويقال : ابتلى بالوسواس ، وأصل الوسواس من ذلك الوقت. وقال قتادة : بقاياه اليوم يقولون ذلك : لا مساس. ويقال : إن موسى همّ بقتل السامري ، فقال الله تعالى له : لا تقتله فإنه سخى. ولعل الحكمة فى عقابه بهذه العقوبة : أن مخالطته للناس نشأت من هذه الفتنة ، فعوقب بالطرد والبعد عنهم.
ثم قال له الله : وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً أي : فى الآخرة ، لَنْ تُخْلَفَهُ أي : لن يخلفك الله ذلك الوعد ، بل ينجزه لك البتة ، بعد ما عاقبك فى الدنيا. أو لن تجاوزه ولن تخطئه ، بل لا بد لك من ملاقاته. وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ العجل ، الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً مقيما على عبادته ، لَنُحَرِّقَنَّهُ أي : والله لنحرقنه بالنار ، وقيل بالمبرد ، مبالغة فى الحرق ، ويعضده قراءة : «لَنُحَرِّقَنَّهُ» ، ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ أي : لنذرينه بالريح فِي الْيَمِّ فى البحر ، رمادا ، أو مبرودا كأنه هباء ، نَسْفاً بحيث لا يبقى منه عين ولا أثر ، وقد فعل عليه السّلام ذلك كله حينئذ ، كما يشهد بذلك الأمر بالنظر ، وإنما لم يصرح به تنبيها على كمال ظهوره ، واستحالة الخلف فى وعده المؤكد باليمين.
ثم نبّه على الحق فقال : إِنَّما إِلهُكُمُ اللَّهُ أي : إنما معبودكم المستحق للعبادة هو الله. والجملة : استئنافية مسوقة لتحقيق الحق ، إثر إبطال الباطل ، بتلوين الخطاب وتوجيهه إلى الكل ، ثم وصفه بقوله : الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وحده ، من غير أن يشاركه فى الألوهية شىء من الأشياء ، وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أي : وسع علمه كل ما من شأنه أن يعلم. وجملة : (وَسِعَ) : بدل من الصلة ، أي : إنما إلهكم : الذي وسع كل شىء علما لا غيره كائنا
___________
(1) العقام : الداء الذي لا يبرأ منه.(3/416)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 417
ما كان ، فيدخل فيه العجل دخولا أولياء. وهذا ختم كلام موسى عليه السّلام ، بتقرير أمر التوحيد ، كما كان افتتاح الوحى إليه به بقوله : إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا. والله تعالى أعلم.
الإشارة : انظر أثر حافر فرس جبريل : كيف حييت به الأشباح ، فكيف لا تحيا بتقبيل أثر وطء العارفين بالله ، أو بتقبيل أقدامهم ، بل كان من خضع لهم وقبّل أقدامهم حييت روحه ، وشعشعت أنواره ، وتحقق عرفانه ، كما هو معلوم لأن الخضوع لأولياء الله إنما هو خضوع لله لأنهم يدلون على الله ، ويبعدون عن كل ما سواه. وانظر السامري حين خضع لغير الله بمجرد هواه كيف طرد وأبعد ، حتى صار مثلا فى الناس. فقالت الصوفية : ينبغى للفقير أن يفر من أبناء جنسه ، ويكون كالسامرى ، إذا رأى أحدا قال : لا مساس ، وأنشدوا :
وخف أبناء جنسك ، واخش منهم كما تخشى الضراغم والسّنبتا
وخالطهم ، وزايلهم حذارا وكن كالسامرى إذا لمست
والسنبتاء : كل حيوان جرىء ، وقيل : اسم للنمر ويقال ، لمن ركن إلى شىء دون الله تعالى من علم ، أو عمل ، أو حال ، أو مقام ، أو فنى فى مخلوق : (و انظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفا لنحرقنه ثم لننسفنه فى اليم نسفا). وفى بعض الأثر : يقول الله : «يا عبدى ، لا تركن لشىء دونى ، فإن ركنت إلى علم جهّلناك فيه ، وإن ركنت إلى عمل رددناه عليك ، وإن ركنت إلى حال وقفناك معه ، وإن ركنت إلى معرفة نكرناها عليك. فأى حيلة لك أيها العبد ، فكن لنا عبدا أكن لك ربا». أو كما قال. وإليه الإشارة بقوله : (إِنَّما إِلهُكُمُ اللَّهُ ...) الآية.
ثم ذكّر نبيه صلى اللّه عليه وسلم بنعمة اطلاعه على هذه القصص البديعة ، فقال :
[سورة طه (20) : الآيات 99 الى 110]
كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً (99) مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً (100) خالِدِينَ فِيهِ وَساءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ حِمْلاً (101) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً (102) يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً (103)
نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً (104) وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً (105) فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً (106) لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً (107) يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً (108)
يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً (109) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً (110)
قلت : محل الكاف : نصب على أنه نعت لمصدر محذوف ، أي : نقص عليك قصا مثل ذلك القص المارّ. وما فى الإشارة من معنى البعد للإيذان بعلو درجته - عليه الصلاة والسلام - وبعد منزلته فى الفضل. و(مِنْ أَنْباءِ) :
فى محل النصب ، إما على أنه مفعول (نَقُصُّ) باعتبار معناه ، أي : نقص عليك بعض أنباء ، وإما على أنه متعلق بمحذوف صفة للمفعول ، أي : نقص عليك خبرا كائنا من أخبار ما قد سبق.
يقول الحق جل جلاله : كَذلِكَ أي : مثل ذلك القصص البديع الذي سمعته نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ أي : من أخبار الأمم الماضية والقرون الخالية ليكون تبصرة لك ، وزيادة فى علمك ، وتذكيرا لغيرك ، وعبرة لمن يقف عليه ممن يأتى بعدك. والله تعالى أعلم.(3/417)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 418
الإشارة : حكايات الصالحين وسير العارفين جند من جنود القلب ، فيها تنشيط لمن يريد اللحوق بهم ، وتشويق لمقاماتهم ، وتسلية لمن يصاب فى ذات الله بمثل ما أصابهم. وبالله التوفيق.
ثم ذكر وعيد من أعرض عن القرآن المشتمل على هذه الأنباء الحسان ، فقال :
وَقَدْ آتَيْناكَ ...
قلت : (مَنْ أَعْرَضَ) : شرطية أو موصولة ، وعلى كلّ فهى صفة لذكرا ، و(خالِدِينَ) : حال من فاعل (يَحْمِلُ) ، أو الجمع ، باعتبار معنى «من» ، و(حِمْلًا) : تمييز ، تفسير لضمير (ساءَ) ، والمخصوص محذوف ، أي : ساء حملا وزرهم ، و(يَوْمَ يُنْفَخُ) : بدل من (يَوْمَ الْقِيامَةِ) ، أو منصوب باذكر. و(يَتَخافَتُونَ) : استئناف مبين لحالهم يومئذ ، أو حال أخرى من (الْمُجْرِمِينَ). و(قاعاً) : حال من ضمير (فَيَذَرُها) ، أو مفعول ثان ليذر. و(صَفْصَفاً) : حال ثانية ، أو بدل من المفعول الثاني ، وجملة : (لا تَرى ) : استئناف مبين لما سبق من القاع الصفصف ، أو حال أخرى ، و(يَوْمَئِذٍ) : ظرف ليتبعون ، أو بدل من (يَوْمَ الْقِيامَةِ).
يقول الحق جل جلاله : وَقَدْ آتَيْناكَ يا محمد مِنْ لَدُنَّا خصوص عنديتنا ذِكْراً عظيما وقرآنا كريما ، جامعا لكل كمال ، مخبرا بعجائب القصص والأمثال. مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ أي : عن ذلك الذكر العظيم الشأن ، المستتبع لسعادة الدارين ، بأن لم يؤمن به ، فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً أي : عقوبة ثقيلة فادحة على كفره وسائر ذنونه. وتسميتها وزرا لتشبيهها فى ثقلها على المعاقب ، وصعوبة احتمالها ، بالحمل الذي يثقل الحامل وينقض ظهره ، وقيل : يجسّم ، ويجعل على ظهره فى طريق الحشر ، والأول أنسب لقوله : (3/418)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 419
خالِدِينَ فِيهِ أي : فى ذلك الوزر ، وهو العذاب ، أو فى ذلك الحمل الثقيل لاستمراره فيه بعد دخول النار ، وَساءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ حِمْلًا أي : بئس حملهم هذا يوم القيامة ، وإعادة يوم القيامة لزيادة التهويل.
يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ أي : ذلك اليوم هو يوم ينفخ فى الصور ، أو : اذكر يوم ينفخ فى الصور نفخة البعث ، وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ أي : المشركين يَوْمَئِذٍ أي : يوم ينفخ فى الصور ، وأعاده ، تهويلا ، حال كونهم زُرْقاً أي : زرق العيون. وإنما جعلوا كذلك لأن الزرقة أسوأ ألوان العين وأبغضها إلى العرب ، وكانت تتشاءم بزرقة العين ، كما قال الشاعر :
لقد زرقت عيناك يا ابن مكعبر ألا كلّ ضّبيّ من اللؤم أزرق.
وقيل زرقا ، أي : عميا لأن حدقة العين تزرق من شدة العمى. وقيل : عطاشا لأن سواد العين يتغير من شدة العطش ويزرق.
يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ أي : يخفضون أصواتهم ويخفونها لما علا صدورهم من الرعب والهول. يقول فى تلك المخافتة بعضهم لبعض : إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً أي : ما لبثتم فى الدنيا إلا عشر ليال استقصارا لمدة لبثهم فيها ، لزوالها ، أو لتأسفهم عليها ، لما شهدوا الشدائد والأهوال ، أو فى القبر ، وهو الأنسب بحالهم ، فإنهم ، حيث يشاهدون البعث الذي كانوا ينكرونه فى الدنيا ويعدونه من قبيل المحال لا يتمالكون من أن يقولوا ذلك اعترافا به ، وتحقيقا لسرعة وقوعه ، كأنهم قالوا : قد بعثتم وما لبثتم فى القبر إلا مدة يسيرة. وقيل : ما بين النفختين ، وهو أربعون سنة.
روى أنه يرفع العذاب عن الكفار فى تلك المدة ، فيستقصرون تلك المدة إذا عاينوا أهوال يوم القيامة ، لأنهم فى طول مدتهم فى عذاب القبر لا يعقلون.
قال تعالى : نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ ، وهو مدة لبثهم ، أو نحن عالمون اليوم بما يقولون فى ذلك الوقت قبل وقوعه ، إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً أي : أعدلهم رأيا وأوفاهم عقلا : إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً ، ونسبة هذا القول إلى أمثلهم : استرجاع منه تعالى ، لكن لا لكونه أقرب إلى الصدق ، بل لكونه أدل على شدة الهول.
وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ أي : عن مآل أمرها ، وقد سأل عنها رجل من ثقيف ، وقيل : مشركو مكة ، على طريق الاستهزاء ، فَقُلْ لهم : يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً أي : يجعلها كالرمل ، ثم يرسل عليها الرياح فتفرقها ، أو يقلعها ويطرحها فى البحار كالهباء المنثور ، فَيَذَرُها أي : يترك ما كان تحتها من الأرض قاعاً(3/419)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 420
صَفْصَفاً أي : أرضا مستوية لأن الجبال إذا سويت ، وجعل سطحها مساويا لسائر أجزاء الأرض ، فقد جعل الكل سطحا واحدا. فالضمير فى (فَيَذَرُها) إما للجبال ، باعتبار أجزائها السافلة ، الباقية بعد النسف ، وهى مقارها ومراكزها ، وإما للأرض ، المدلول عليها بقرينة الحال لأنها الباقية بعد نسف الجبال.
والقاع والقيعة : ما استوى من الأرض وصلب ، وقيل : السهل ، وقيل : ما لا نبات فيه. والصفصف : الأرض المستوية الملساء ، فإن أجزاءها صف واحد من كل جهة ، لا تَرى فِيها أي : فى الأرض الذي نسفت جبالها عِوَجاً أي : اعوجاجا وانخفاضا ، وَلا أَمْتاً نتوءا وارتفاعا. قال ابن عباس : العوج : الأودية ، والأمت :
الروابي. وقال مجاهد : العوج : الانخفاض ، والأمت : الارتفاع والمعنى : أنك ، إن تأملت بالمقاييس الهندسية ، وجدتها مستوية الجهات. والخطاب لكل من يتأتى منه الرؤية.
يَوْمَئِذٍ أي : يوم إذ نسفت الجبال ، يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ أي : يتبع الناس داعى الله تعالى إلى المحشر ، وهو إسرافيل عليه السّلام ، يدعو الناس بعد النفخة الثانية ، قائما على صخرة بيت المقدس : أيها الناس هلموا إلى ربكم ، بعد أن يدعوهم إلى الخروج من قبورهم ، قائلا : أيتها العظام النخرة ، والأوصال المتمزقة ، واللحوم المتفرقة قوموا إلى العرض والحساب ، فيقبلون من كل جانب منتشرين ، كأنهم جراد منتشر ، لا يدرون أين يذهبون ، فينادى حينئذ من الصخرة للجمع للحساب. هذا ما تدل عليه الأحاديث والأخبار.
وقوله تعالى : لا عِوَجَ لَهُ أي : لا يعوج له مدعو ولا يعدل عنه ، فلا يزيغ عنه ، بل كلهم يقصدون صوته ، من مشارق الأرض ومغاربها وجوانبها. والتقدير : لا عوج للصوت عن أحد ، بل يصل إليه أينما كان ، ويتوجه إليه حيث كان ، وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ أي : خضعت وسكنت لهيبته فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً أي : صوتا خفيا. والهمس : صوت وطء الأقدام فى نقلها إلى المحشر ، أي : انقطعت أصوات اللسان ، فلا تسمع إلا همس الأقدام فى مشيها إلى المحشر ، من شدة الهيبة والخوف.
يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ أي : يوم إذ يقع ما ذكر من الأمور الهائلة لا تنفع شفاعة أحد ، إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ فى الشفاعة ، كالأنبياء والأولياء والعلماء الأتقياء ، وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا أي : ورضى قوله فى المشفوع له بحيث يقبل شفاعته. وقيل : (وَ رَضِيَ لَهُ قَوْلًا) فى الدنيا ، وهو : لا إله إلا الله ، مخلصا من قلبه .. أو : إلا من أذن له الرحمن أن يشفع فيه ، ورضى لأجله قولا من الشافع. وهذا أليق بمقام التهويل. وأما من عداه فلا تنفع ، وإن وقعت لقوله تعالى : فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ «1».
___________
(1) الآية 48 من سورة المدثر.(3/420)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 421
يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ أي : ما تقدمهم من الأحوال ، أو من أمر الدنيا ، وَما خَلْفَهُمْ : وما بعدهم مما يستقبلونه ، أو من أمر الآخرة ، وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً أي : لا تحيط علومهم بذاته المقدسة ، بحيث يدركون كنه الربوبية ، أو : لا تحيط علومهم بمعلوماته تعالى. قال القشيري : الكناية «1» فى قوله : (بِهِ) ، يحتمل أن تعود إلى (ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ) ، ويحتمل أن تعود إلى الحقّ - سبحانه - وهو طريقة السّلف ، يقولون : يعلم الحق ولا يحيط به العلم ، كما قالوا : إنه يرى ولا يدرك. ه.
الإشارة : وقد آتيناك من لدنّا ذكرا ، أي : قرآنا يجمع القلوب على الله ، ويدل على مشاهدة الله. من أعرض عنه - أي : عن الله - ولم يتوجه إليه بكليته ، فإنه يحمل وزرا ، يثقله عن الترقي إلى مقام العارفين ، فيبقى مخلدا فى حضيض الغافلين ، وذلك فى يوم يجمع اللّه فيه الأولين والآخرين ، فيكرم المتقين ، ويهين المجرمين ، حيث يزول عنهم ما كانوا فيه من الدعة والسعة ، كأنهم ما لبثوا فيه غير ساعة.
ويسألونك ، أيها العارف ، عن جبال العقل ، حين تطلع على نور قمره شمس العرفان ، فقل ينسفها ربى نسفا ، فيذر أرض النفس ، حين استولت عليها أسرار المعاني ، قاعا صفصفا ، لاتصالها بفضاء المعاني ، حين ذهبت أغيار الأوانى ، لا ترى فيها انخفاضا ولا ارتفاعا. وإنما ترى وجودا متصلا ، وبحرا طامسا ، ليس فيه بعد ولا قرب ، ولا علو ولا سفل ، وفى ذلك يقول الشاعر :
من أبصر الخلق كالسراب فقد ترقى عن الحجاب
إلى وجود تراه رتقا بلا ابتعاد ولا اقتراب
ولم يشاهد به سواه هناك يهدى إلى الصواب
فلا خطاب به إليه ولا مشير إلى الخطاب
والمراد بالخلق : جميع الكائنات ، فلا خطاب من العبد إلى ربه ، لمحو العبد من شدة القرب ، ولم تبق له إشارة ولا عبارة. وفى الحكم : «ما العارف من إذا أشار وجد الحق أقرب إليه من إشارته ، بل العارف من لا إشارة له لفنائه فى وجوده ، وانطوائه فى شهوده». وقالوا : من عرف الله كلّ لسانه ، وإليه الإشارة بقوله : وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً. وهذا بعد اتباع الداعي إلى الله وصحبته ، من غير عوج عنه ، ولا خروج عن رأيه ، حتى يقول له : ها أنت وربك. فحيئذ تحصل الهيبة والتعظيم ، فلا يقدر أحد أن يرفع صوته ، وهو فى حضرة الملك الكريم ، وهذا شأن الصوفية ، كلامهم كله تخافت وتسارر لغلبة الهيبة عليهم.
___________
(1) أي : الضمير. [.....](3/421)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 422
قوله تعالى : يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ أي : فى دخول الحضرة ، (إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ) فى التربية والترقية ، (وَ رَضِيَ لَهُ قَوْلًا) ، وهو ذكر الله ، يأمر به من أراد شفاعته فيه ، حتى تستولى عليه أنوار الذكر ، فيدخل مع الأحباب ، ويجلس على بساط الاقتراب ، فحيئذ يحصل له العلم بالله ، على نعت الذوق والوجدان ، وشهود العيان ، لا على نعت الدليل والبرهان.
وقوله تعالى : وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً إشارة إلى عدم الإحاطة بكنه الربوبية لمن دخل الحضرة ، فلو حصل لهم الإحاطة بالكنه لم يبق ترقّ ، وكيف؟ وهم يترقون فى أسرار الذات وأنوار الصفات دائما سرمدا ، فى هذه الدار وفى تلك الدار! ، ففى كل ساعة يتجدد لهم من لذيذ المشاهدات وأنوار المكاشفات ، ما تعجز عنه العقول ، وتكلّ عنه طروس النقول. نعم يحصل لهم العلم الضروري بالذات العلية ، ويشاهدون ما تجلى من أسرارها وأنوارها ، وتسرح فكرتهم فى بحر الأولية والآخرية ، والظاهرية والباطنية ، والعظمة الفوقية وما تحت الثرى ، ويخوضون فى بحار الأحدية ، ويتفكرون فى قاموس كنه الربوبية ، فلا خوف ولا ملل ، من غير إحاطة ، كما تقدم. والله تعالى أعلم.
فإذا رجعوا إلى مشاهدة الرسوم خضعت وجوههم للحى القيوم ، كما قال تعالى :
[سورة طه (20) : الآيات 111 الى 112]
وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً (111) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً (112)
قلت : (وَ قَدْ خابَ ..) إلخ : استئناف ، تعليل ما لأجله عنت وجوههم ، أو اعتراض ، كأنه قيل : خابوا وخسروا ، أو حال من الوجوه ، و(مَنْ) : عبارة عنها ، مغنية عن ضميرها ، أي : خضعت الوجوه ، والحال أنها خابت حين حملت ظلما. وقيل : (الْوُجُوهُ) على العموم ، فالمعنى حينئذ : وقد خاب من حمل منهم ظلما ، ومن قرأ : «فلا يخف» : فعلى النهى ، وهو جواب ، ومن قرأ بالرفع : فعلى الخبر ، أي : فهو لا يخاف.
يقول الحق جل جلاله : وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ أي : ذلت وخضعت خضوع العناة ، أي :
الأسارى فى يد الملك القهار ، ومنه قيل للأسير : «عان» ، أي : خاضع ذليل ، وفى ذلك يقول أمية بن أبى الصلت :
مليك على عرش السّماء مهيمن لعزّته تعنو الوجوه وتسجد
ولعلها وجوه المجرمين ، كقوله تعالى : سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا «1» ، ويؤيده وصله بقوله : وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً أي : وعنت الوجوه لأنها قد خابت وخسرت حين حملت ظلما.
___________
(1) من الآية 27 من سورة الملك.(3/422)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 423
قال ابن عباس رضي اللّه عنه : (خسر من أشرك بالله ولم يتب) ، فإنما تذل وجوه من أشرك بالله ، وأما أهل التوحيد فأشار إليهم بقوله : (وَ مَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ ...) إلخ ، فهو قسيم لقوله : (وَ قَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً) ، لا لقوله :
(وَ عَنَتِ الْوُجُوهُ).
وإذا حملنا (عَنَتِ) على مطلق الخضوع أو السجود كان عاما لأن الخلائق كلها تخضع لله فى ذلك الوقت. ثم فصلهم : فمن حمل ظلما فقد خاب وخسر ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ أي : بعضها ، وَهُوَ مُؤْمِنٌ ، فالإيمان شرط فى صحة الطاعات وقبول الحسنات ، فَلا يَخافُ ظُلْماً أي : منع ثواب قد استحقه بموجب الوعد ، أو زيادة عقاب على موجب سيئاته ، وَلا هَضْماً أي : كسرا ونقصا من ثواب حسناته ، وأصل الهضم :
النقص والكسر يقال : هضمت لك من حقك ، أي : حططت ، وهضمت الطعام : حططته إلى أسفل المعدة ، وامرأة هضيمة الكشح : أي : ضامرة البطن ، فالحق تعالى إنما تعرض لنفى الظلم والهضم عن عامل الصالحات لأن نفى ذلك إنما يكون مع العمل ، ففيه يتوهم الهضم والنقص ، وأما بدونه فلا .. نعم ، الإيمان المجرد نافع على مذهب أهل السنة ، لكن صاحبه على خطر فى نفوذ الوعيد ، ولو غفر له ، فإنه ناقص عن درجة عامل الصالحات ، كما علم شرعا. والله تعالى أعلم.
الإشارة : إذا سرحت الفكرة وجالت فى أقطار الملكوت وأسرار الجبروت ، وتحققت بعدم الإحاطة ، رجعت إلى عش العبودية ، وخضعت للحى القيوم ، وقد خاب وخسر من لم يبلغ إلى هذا المقام ، حين حمل ظلما بالميل إلى الشيء من السّوى ، بغلبة الطبع والهوى ، وأما من نهض إلى مولاه ، واشتغل بالأعمال التي تقربه إلى حضرته ، فلا يخاف ظلما ولا هضما فإن الله يرفع العبد على قدر همته ، وينعمه على قدر طاعته. وبهذا جاء الوحى والتنزيل ، كما قال تعالى :
[سورة طه (20) : الآيات 113 الى 114]
وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّاوَ صَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً (113) فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً (114)
قلت : (وَ كَذلِكَ) : عطف على قوله : (كَذلِكَ نَقُصُّ) ، و«ذلك» : إشارة إلى إنزال ما سبق من الآيات المتضمنة للوعيد ، المنبئة عما سيقع من أهوال يوم القيامة.(3/423)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 424
يقول الحق جل جلاله : وَكَذلِكَ أي : ومثل ذلك الإنزال المتقدم ، أَنْزَلْناهُ أي : القرآن كله ، وإضماره ، من غير سبقية ذكره للإيذان بنباهة شأنه ، وكونه مركوزا فى العقول ، حاضرا فى الأذهان ، حال كونه : قُرْآناً عَرَبِيًّا ليفهمه العرب ، ويقفوا على ما فيه من النظم المعجز ، الدال على كونه خارجا عن طوق البشر ، نازلا من عند خلّاق القوى والقدر. وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ أي : كررنا فيه بعض الوعيد ، أو من جنس الوعيد ، لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أي : كى يتقوا الكفر والمعاصي بالفعل ، أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً اتعاظا واعتبارا يؤديهم إلى الاتقاء ، فَتَعالَى اللَّهُ أي : تعاظم شأنه عما يصفه الكفرة ، وتهاون العصاة ، الذين لم يحدث فيهم القرآن زجرا ولا وعظا ، أي : ارتفع بذاته وتنزه عن مماثلة المخلوقين فى ذاته وصفاته وأفعاله ، الْمَلِكُ لها ، النافذ أمره ونهيه ، الحقيق بأن يرجى وعده ، ويخشى وعيده ، الْحَقُّ فى ألوهيته لذاته ، أو الثابت الذي لا يمكن عدمه ، أزلا وأبدا.
وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ أي : وإذا كنا أنزلنا عليك قرآنا عربيا ، وصرفنا فيه من الوعيد ، فأمهل عند نزوله ، حتى يقرأه عليك الملك ، ولا تعجل به قبل أن يتم وحيه ، ويفرغ من قراءته عليك.
كان صلى اللّه عليه وسلم ، إذا ألقى جبريل عليه الوحى ، يتبعه عند تلفظ كل حرف وكل كلمة ، لكمال اعتنائه بالتلقى والحفظ ، فنهى عن ذلك لأنه ربما يشغله التلفظ بكلمة عن سماع ما بعدها ، ولأنّ المراد من الألفاظ فهم المعاني المتضمنة للعلوم التي لا حصر لها ، ولذلك أمره باستفاضة العلم واستزادته منه فقال : وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً أي : وقل فى نفسك ، أو بلسانك : رب زدنى علما ، والمراد : سل الله عز وجل زيادة العلم به وبأحكامه إذ لا نهاية لعلمه كما لا نهاية لذاته ، فإنه الموصل إلى مطلبك دون الاستعجال. والله تعالى أعلم.
الإشارة : وكذلك أنزلناه قرآنا عربيا ، يعرب عن كمال ظهور ذاته وأنوار صفاته ، وصرفنا فيه من الوعيد ، لمن تخلف عن شهوده ، بعد كمال ظهوره ، لعلهم يتقون ما يحجبهم عن رؤيته ، أو يحدث لهم ذكرا ، أي : شوقا يزعجهم إلى النهوض إلى حضرته ، والوصول إليه ، فتعالى الله الملك الحق أن يتصل بشىء ، أو يتصل به شىء «1» ، وإنما الوصول إليه : العلم بإحاطته ووحدة ذاته.
ولا تعجل ، أيها العارف ، بالقرآن الذي ينزل على قلبك من وحي الإلهام ، من قبل أن يقضى إليك وحيه ، فإنّ الواردات الإلهية تأتى مجملة ، وبعد الوعى يكون البيان ، (فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ)
، ولكن استزد من ربك العلوم اللدنية والكشوفات الإلهية ، أي : لا يكن همك استعجال الواردات أو بقاءها ، وليكن همك استزادة العلوم ومعرفة واهبها ، فإن العلوم وسائل لمعرفة المعلوم ، والوصول للحى القيوم. وبالله التوفيق.
___________
(1) رحم الله الشيخ ابن عجيبة ، وأثابه على هذه الكلمة العظيمة. ولنا أن نفهم منها نفى الحلول والاتحاد ، الذي هو مذهب أهل الزيغ والإلحاد.(3/424)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 425
ثم بيّن تصريف الوعيد على ارتكاب العصيان وبيان منشئه ، وهو عداوة الشيطان فقال : (وَ لَقَدْ ..) إلخ .. أو تقول :
لما نهاه عن العجلة لأجل خوف النسيان ، قال له : قد نسى أبوك آدم ، فالنسيان من طبع الإنسان ، فقال :
[سورة طه (20) : الآيات 115 الى 121]
وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً (115) وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى (116) فَقُلْنا يا آدَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى (117) إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى (118) وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى (119)
فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى (120) فَأَكَلا مِنْها فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى (121)
قلت : يقال : عهد إليه الملك ، وأوعد إليه ، وتقدم إليه : إذا أمره ووصاه.
يقول الحق جل جلاله : وَالله لَقَدْ عَهِدْنا وتقدمنا إِلى آدَمَ من غرور الشيطان وعداوته ، ووصيناه ألا يغتر به ، فَقُلْنا يا آدَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ ، فلا تغتر بنصحه ، فَنَسِيَ ذلك العهد ولم يحتفل به ، حتى غفل عنه ، واغتر بإظهار نصحه ، حتى أكل من الشجرة ، متأولا أن النهى للتنزيه ، أو عن عين الشجرة ، لا عن جنسها ، فأكل من غيرها ، وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً أي : ثبات قدم ، وحزما فى الأمور ، إذ لو كان كذلك لما غرّه الشيطان بوسوسته ، وقد كان ذلك منه عليه السّلام فى بدء أمره ، قبل أن يجرب الأمور ويتولى حارها وقارها ، ويذوق شرّيها وأريها «1». وعن النبي صلى اللّه عليه وسلم : «لو وزنت أحلام بنى آدم - أي : عقولهم - بحلم آدم ، لرجح حلمه» «2».
وقيل : (وَ لَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً) على الذنب ، فإنه أخطأ ، أو تأول ، ولم يتعمد ، وأما قوله : (وَ عَصى ...) فلعلو شأنه وقربه عد عصيانا فى حقه ، «حسنات الأبرار سيئات المقربين».
ثم شرع فى بيان المعهود ، وكيفية ظهور نسيانه وفقدان عزمه ، فقال : وَإِذْ قُلْنا أي : واذكر وقت قولنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ ، وتعليق الذكر بالوقت ، مع أن المقصود تذكير ما وقع فيه من الحوادث للمبالغة فى إيجاب ذكرها ، فإن الوقت مشتمل على تفاصيل الأمور الواقعة فيه ، فالأمر بذكره أمر بذكر تفاصيل ما وقع فيه
___________
(1) الشّرى : الحنظل ، والأرى : العسل.
(2) أخرجه ابن جرير فى التفسير (16/ 221) ، وسعيد بن منصور ، وابن عساكر ، وابن المنذر ، كما عزاه لهم السيوطي فى الدر المنثور (4/ 553) عن أبى أمامة الباهلي ، موقوفا.(3/425)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 426
بالطريق البرهاني ، أي : اذكر ما وقع فى ذلك الوقت منا ومنه ، حتى يتبين لك نسيانه وفقدان عزمه ، فقد أمرنا الملائكة بالسجود فَسَجَدُوا كلهم إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى السجود واستكبر ، أو فعل الإباء وأظهره.
فَقُلْنا عقب ذلك ، اعتناء بنصحه ، وهو العهد الذي عهدناه إليه : يا آدَمُ إِنَّ هذا الذي رأيته فعل ما فعل عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ حيث لم يرض بالسجود لك ، فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ أي : لا يكونن سببا لإخراجكما من الجنة ، والمراد : نهيهما عن الاغترار به ، فَتَشْقى : جواب النهى ، أي : فتتعب بما ينالكما من شدائد الدنيا ، من الجوع والعطش ، والفقر والضر ، وتعب الأبدان فى تحصيل المعاش واللباس ، فيكون عيشك من كد يمينك. قال ابن جبير : (أهبط إلى آدم ثور أحمر ، فكان يحرث عليه ، ويمسح العرق عن جبينه ، فهو شقاؤه). ولم يقل : فتشقيا لأنه غلّب الذّكر لأن تعبه أكثر ، مع مراعاة الفواصل.
قال تعالى له : إِنَّ لَكَ يا آدم أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى من فقد اللباس ، وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا :
لا تعطش فِيها ، وَلا تَضْحى تبرز للشمس فيؤذيك حرها ، إذ ليس فى الجنة شمس ولا زمهرير. والعدول عن التصريح له بما فى الجنة من فنون النعم من المآكل والمشارب ، والتمتع بأصناف الملابس البهية والمساكن المرضية - مع أن فيها من الترغيب فى البقاء فيها ما لا يخفى - إلى ما ذكر من نفى نقائضها ، التي هى الجوع والعطش والعرى والضحو لتنفير تلك الأمور المنكرة ليبالغ فى التحامى عن السبب المؤدى إليها ، على أن الترغيب قد حصل له بما أباح له من التمتع بجميع ما فيها ، سوى ما استثنى من الشجرة ، حسبما نطق به قوله تعالى : يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما «1» ، وقد طوى ذكرها هنا اكتفاء بما فى موضع آخر ، واقتصر هناك على ما ذكر من الترغيب المتضمن للترهيب ، ونفى الجوع وما بعده عن أهل الجنة لأنهم لا يعوزون طعاما ولا شرابا ولا كنّا ، بل كلما تمتعوا بشىء مما ذكر ، أتبعهم بأمثاله أو أفضل منه ، من غير أن ينتهوا إلى حد الضرورة.
قال تعالى : فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ أي : أنهى إليه وسوسته ، أو أسرها إليه ، قالَ فيها : يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ؟ أي : شجرة من أكل منها خلد ، ولم يمت أصلا ، سواء كان على حاله ، أو بأن يكون ملكا ، وَأدلك على مُلْكٍ لا يَبْلى أي : لا يفنى ولا يزول ، ولا يختلّ بوجه من الوجوه ، فَأَكَلا مِنْها فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما قال ابن عباس رضي اللّه عنه : عريا عن النور الذي كان الله تعالى ألبسهما ، حتى بدت فروجهما.
وَطَفِقا يَخْصِفانِ يرقعان عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ ، وقد تقدم فى الأعراف «2».
___________
(1) من الآية 35 من سورة البقرة.
(2) راجع تفسير الآية 22 من سورة الأعراف.(3/426)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 427
الإشارة : ولقد عهدنا إلى آدم ألا ينسانا ، وألا يغيب عن شهودنا بمتعة جنتنا ، فنسى شهودنا ، ومال إلى زخارف جنتنا ، فأنزلناه إلى أرض العبودية ، حتى يتطهر من البقايا ، وتكمل فيه المزايا ، فحينئذ نسكنه فى جوارنا ، ونكشف له عن حضرة جمالنا ، على سبيل الخلود فى دارنا.
قال جعفر الصادق : عهدنا إلى آدم ألا ينسانا ، فنسى واشتغل بالجنة ، فابتلى بارتكاب النهى ، وذلك أنه ألهاه النعيم عن المنعم ، فوقع من النعمة فى البلية ، فأخرج من النعيم والجنة ليعلم أن النعيم هو مجاورة المنعم ، لا الالتذاذ بالأكل والشرب. فلا ينبغى لأحد أن ينظر إلى ما سواه ، نسأل الله تعالى أن يمدنا وإياك بالتوفيق والعناية. ه. قال بعض الحكماء : إنما نسى آدم العهد لأنه لما خلقت له زوجته أوقع الله فى قلبه الأنس بها ، وابتلاه بشهوات النفس فيها ، فرأى فى وجهها شجرة الحسن بادية ، وشهوة الوقاع عليه غالبة. ه. أي : فترك النظر إلى جمال المعاني ، واشتغل بحس الأوانى ، فأفضى به إلى ترك الأدب ، ولزمه التعب ، فليحذر المريد جهده من الميل إلى الحظوظ ، وليكن على حذر من الغفلة حين تناولها ، والعصمة من الله.
وقوله تعالى : وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً ، قال الحاتمي : أي : على انتهاك الحرمة ، بل وقع بمطالعة قدر سابق ، أنساه ما توجه على التركيب من خطاب الحجر. ه. قال شيخ شيوخنا سيدى عبد الرحمن الفاسى : وبما أشار إليه من مطالعة القدر يتضح لك قوله عليه السّلام : «فحج آدم موسى» «1» ، وليس ذلك لغيره إن لم يكن مجبورا ومأخوذا عنه ، وهذا القدر هو الفارق بين ما يجرى من المخالفة على الولي وغيره. وقد نبه على ذلك الجنيد بقوله : (و كان أمر الله قدرا مقدورا) ، فأشار لغلبة القدر وقهره ، من غير وجود عزم من العبد. ه. قلت : احتجاج آدم وموسى - عليهما السلام - لم يكن فى عالم الأشباح ، الذي هو محل التشريع ، إنما كان فى عالم الأرواح ، الذي هو محل التحقيق ، فالنظر فى ذلك العالم الروحاني ، إنما هو لسر الحقيقة ، وهو ألا نسبة لأحد فى فعل ولا ترك ، فمن احتج بهذا غلب ، بخلاف عالم الأشباح ، لا يصح الاحتجاج بالقدر لأن فيه خرق رداء الشريعة. فتأمله.
وقال فى التنوير : اعلم أن أكل آدم من الشجرة لم يكن عنادا ولا خلافا ، فإما أن يكون نسى الأمر ، فتعاطى الأكل وهو غير ذاكر ، وهو قول بعضهم ، ونحمل عليه قوله سبحانه : (فَنَسِيَ) ، وإن كان تناوله ، ذاكرا للأمر ، فهو إنما تناول لأنه قيل له : ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ ... «2» الآية ، فلحبه فى الله ، وشغفه به ، أحب ما يؤديه إلى الخلود فى جواره والبقاء عنده ، أو ما يؤديه إلى الملكية لأن آدم عليه السّلام عاين قرب الملائكة من الله ،
___________
(1) أخرجه البخاري فى (القدر ، باب تحاج آدم وموسى عند اللّه) ، ومسلم فى (القدر ، باب حجاج آدم وموسى عليهما السلام) عن أبى هريرة. واللفظ : «حاج موسى آدم ، فقال له : أنت الذي أخرجت الناس من الجنة بذنبك وأشقيتهم؟ قال آدم : يا موسى أنت الذي اصطفاك اللّه برسالاته وبكلامه ، أتلومني على أمر كتبه اللّه علىّ قبل أن يخلقنى؟ فحج آدم موسى».
(2) من الآية 20 من سورة الأعراف.(3/427)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 428
فأحب أن يأكل من الشجرة ليتناول الملكية ، التي هى فى ظنه أفضل ، لا سيما وقد قال سبحانه : وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ «1» ، قال آدم عليه السّلام : (ما ظننت أن أحدا يحلف بالله كاذبا) ، فكان كما قال الله سبحانه :
فَدَلَّاهُما بِغُرُورٍ. ه.
وسئل ابن عطاء عن قوله تعالى : هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ؟ فقال : قال آدم عليه السّلام : يا رب لم أدّبتنى ، وإنما أكلت من الشجرة طمعا فى الخلود فى جوارك؟ فقال الله : يا آدم طلبت الخلود من الشجرة لا منى ، والخلود بيدي وملكى ، فأشركت بي ، وأنت لا تعلم ، ولكن نبهتك بالخروج من الجنة حتى لا تنسانى فى وقت من الأوقات. ه.
والحاصل : أنه إمّا أن يحمل النسيان على حقيقته ، ويكون معه وقوع الأكل بمطالعة القدر وقبضة الجبر ، ولا يعارضه : ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ لأنه اتفق ذلك صورة وظاهرا ، مع شهود الجبر باطنا ، وإمّا أن يحمل النسيان على الترك ، بتأويل أن النهى ليس على التحتم ، فتركه لما أمل من جوار الحق وقربه فى الأكل ، فقدمه لأنه أرجح عنده. قاله المحشى.
وقوله تعالى : فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ ... الآية ، يؤخذ منه سد باب التأويلات والرخص فى الأمر الممنوع شرعا ، فإن أبيح بعضه ومنع البعض فلا توسعة ، فلأن تترك مباحا خير من أن تقع فى محرم ، وقد كان السلف يتركون مائة جزء من المباح ، خوفا من الوقوع فى المحرم. والله الهادي إلى سواء الطريق.
ثم قال تعالى :
[سورة طه (20) : الآيات 122 الى 127]
ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى (122) قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى (124) قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً (125) قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى (126)
وَكَذلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقى (127)
___________
(1) الآية 21 من سورة الأعراف.(3/428)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 429
يقول الحق جل جلاله : وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ بما ذكر من أكل الشجرة فَغَوى أي : ضل عن مطلوبه ، الذي هو الخلود ، بل ترتب عليه نقيضه ، فكان تأميل ذلك باطلا فاسدا لأنه خلاف القدر ، أو عن الرشد ، حيث اغتر بقول العدو. وقال الكواشي : فعل فعلا لم يكن له فعله ، أو أخطأ طريق الحق ، حيث طلب الخلد بأكل المنهي عنه ، فخاب ولم ينل مراده. ه. وفى وصفه عليه السّلام بالعصيان والغواية ، مع صغر زلته ، تعظيم لها ، وزجر بليغ لأولاده عن أمثالها.
ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ ، أي : اصطفاه وقرّبه إليه ، بالحمل على التوبة والتوفيق لها. وفى التعرض لعنوان الربوبية ، مع الإضافة إلى ضميره ، مزيد تشريف له عليه السّلام ، يعنى : آدم. فَتابَ عَلَيْهِ أي : قبل توبته حين تاب هو وزوجته ، قائلين : رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا ... «1» الآية. وَهَدى أي : هداه إلى الثبات على التوبة والتمسك بأسباب العصمة. وإفراد آدم عليه السّلام بقبول توبته واجتبائه لأصالته فى الأمور ، واستلزام قبول توبته لقبول توبتها. الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ «2».
قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً ، وهو استئناف بيانى ، كأنّ سائلا قال : فما قال تعالى بعد قبول توبته؟ فقيل : قال له ولزوجته : (اهْبِطا مِنْها) أي : انزلا من الجنة إلى الأرض ، حال كونكم بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ أي : متعادين فى أمر المعاش ، كما عليه الناس من التجاذب والتحارب والاختلاف فى الدين. والجمع لأنهما أصل الذرية ومنشأ الأولاد. وفى اللباب : ولما أهبطوا إلى الأرض ألقى آدم يده تحت خده ، وبكى مائة سنة ، وألقت حواء يدها على رأسها ، وجعلت تصيح وتصرخ ، فبقيت سنة فى النساء. ولم يزل آدم يبكى حتى صار بخديه أخاديد من كثرة الدموع ، وجرى من عينيه على الأرض جدولان ، يجريان إلى قيام الساعة. وأهبط آدم على ورقة من ورق الجنة ، كان يتستر بها ، وفى يده قبضة من ريحان الجنة ، فلما اشتغل بالبكاء أدارتها الرياح فى أرض الهند ، فصار أكثر نباتها طيبا. انظر بقية كلامه.
فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً أي : هداية من رسول وكتاب يهدى إلى الوصول إلىّ ، أي : سيأتيكم منى رسل وكتاب. والخطاب لهما بما اشتملا عليه من ذريتهما. فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ بأن آمن بالرسل وبما جاءوا به من عند الله فَلا يَضِلُّ فى الدنيا وَلا يَشْقى فى الآخرة. ووضع الظاهر موضع المضمر يعنى : من اتبع هداى ، مع الإضافة إلى ضميره تعالى لتشريفه والمبالغة فى إيجاب اتباعه. وعن ابن عباس رضي اللّه عنه : (من قرأ الفرقان ، واتبع ما فيه ، هداه الله من الضلالة ، ووقاه يوم القيامة سوء الحساب ، وذلك لأن الله تعالى يقول : فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ «3» أي : كتابى ورسولى ، فَلا يَضِلُّ فى الدنيا ، وَلا يَشْقى فى الآخرة.) وفى لفظ آخر : (أجار الله
___________
(1) من الآية 23 من سورة الأعراف.
(2) من الآية 34 من سورة النساء.
(3) أخرجه الطبري فى التفسير (16/ 255) موقوفا ، وعزاه السيوطي فى الدر (4/ 556) لابن أبى شيبة والطبراني وأبى نعيم فى الحلية وابن مردويه ، مرفوعا.(3/429)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 430
تابع القرآن أن يضل فى الدنيا ويشقى فى الآخرة). قال ابن عرفة : والعطف بالفاء فى قوله : (فَإِمَّا ..) إلخ ، إشارة إلى أن العداوة سبب فى أن يبعث لهم الرسل يهدونهم إلى طريق الحق ، فضلا منه تعالى ، ولذلك أتى «بإن» ، دون «إذا» المقتضية للتحقيق الموهم للوجوب. فانظره.
وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي عن القرآن ، أو عن الهدى الذاكر لى والداعي إلىّ ، فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً :
ضيقا ، مصدر وصف به ، ولذلك يستوى فيه المذكر والمؤنث ، يقال : منزل ضنك وعيشة ضنك. وقرئ : «ضنكى» كسكرى. وإنما كان عيشه ضيقا لأن مجامع همته ، ومطامح نظره مقصورة على أغراض الدنيا ، وهو متهالك على ازديادها ، وخائف من انتقاصها ، بخلاف المؤمن الطالب للآخرة ، فإنّ نور الإيمان يوجب له القناعة ، التي هى رأس الغنى وسبب الراحة ، فيحيى حياة طيبة. وقيل : هو عذاب القبر. وروى ذلك عن النبي صلى اللّه عليه وسلم. قال أبو سعيد الخدري : «يضيق عليه قبره ، حتى تختلف أضلاعه ، ويسلط عليه تسعة وتسعون تنينا ...» الحديث ، وقيل : الصبر على الزقوم والضريع والغسلين.
وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى : فاقد البصر كقوله : وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً «1».
لا أعمى عن الحجة كما قيل. قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً فى الدنيا؟ قالَ كَذلِكَ أي : مثل ذلك فعلت أنت أَتَتْكَ آياتُنا أي : حجتنا النيرة على أيدى رسلنا فَنَسِيتَها أي : عميت عنها ، وتركتها ترك المنسى الذي لا يذكر قط ، وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى : تترك فى العمى والعذاب ، جزاء وفاقا. وحشره أعمى لا يدل على دوامه ، بل يزيله عنه فيرى أهوال الموقف ومقعده ، وكذلك الصمم والبكم يزيلهما الله تعالى عنهم. أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا «2» ، فيوم القيامة ألوان. ثم قال تعالى : وَكَذلِكَ أي : مثل ذلك الجزاء الموافق للجنايات. نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وتعدى بالانهماك فى الشهوات ، وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ ، بل كذّب بها وأعرض عنها ، وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ على الإطلاق ، أو عذاب النار ، أَشَدُّ وَأَبْقى من ضنك العيش ، أو منه ومن الحشر أعمى ، عائذا بالله من جميع ذلك.
الإشارة : قوله تعالى : وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ ، اعلم أن العصيان الحقيقي هو عصيان القلوب ، كالتكبر على عباد الله وتحقير شىء من خلق الله ، وكالاعتراض على مقادير الله ، وعدم الرضا بأحكام الله. قال بعض الصوفية : (أذنبت ذنبا فأنا أبكى منه أربعين سنة ، قيل : وما هو؟ قال : قلت لشىء كان : ليته لم يكن). وأما معصية
___________
(1) من الآية 97 من سورة الإسراء.
(2) من الآية 38 من سورة مريم. [.....](3/430)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 431
الجوارح ، إن لم يكن معها إصرار ، فقد توجب القرب من الكريم الغفار «معصية أورثت ذلا وافتقارا خير من طاعة أورثت عزا واستكبارا» ، وربما قضى عليك بالذنب فكان سبب الوصول. وتأمل معصية إبليس حيث كانت من القلب أورثت طردا وإبعادا ، ومخالفة آدم حيث كانت بالجوارح أورثت قربا واجتباء.
والحاصل : أن كل ما يردّ العبد إلى مولاه ، ويحقق له العبودية والانكسار ، فهو شرف له وكمال ، وكل ما يقوى وجود النفس ورفعتها فهو نقص وإبعاد ، كائنا ما كان ، فالعصمة والحفظة إنما هى من المعاصي القلبية ، أو من الإصرار ، وأما معاصى الجوارح فيجرى على العبد ما كتب ، ولا تنقصه ، بل تكمله ، كما تقدم. فالتنزيه إنما يكون من النقائص ، وهى التي توجب البعد عن الحق ، لا مما يؤدى إلى الكمال ، وبهذا تفهم أن ما وقع من الأنبياء - عليهم السلام - مما صورته المعصية ، ليس بنقص ، إنما هو كمال. وكذا ما يصدر من الأولياء ، على سبيل الهفوة ، فتأمله ، ولا تبادر بالاعتراض ، حتى تصحب الرجال ، فيعلموك النقص من الكمال.
قال الواسطي : العصيان لا يؤثر فى الاجتبائية ، وقوله : وَعَصى أي : أظهر خلافا ، ثم أدركته الاجتبائية ، فأزالت عنه مذمة العصيان ، ألا ترى كيف أظهر عذره بقوله : فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً. ه. وقال الشيخ أبو الحسن الشاذلى رضي اللّه عنه : (نعمت المعصية أورثت الخلافة).
واعلم أن آدم عليه السّلام قد أهبط إلى الأرض قبل أن يخلق ، قال تعالى : إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً «1» فقد استخلفه قبل أن يخلفه ، لكن حكمته اقتضت وجود الأسباب ، فكان أكله سببا فى نزوله للخلافة والرسالة وعمارة الأرض ، فهو نزول حسا ، ورفعة معنى ، وكذلك زلة العارف تنزله لشرف العبودية ، فيرتفع قدره عند الله.
وقوله تعالى : (بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) ، هذا فيمن غلبت عليه الطينية الإمشاجية ، وأما من غلبت عليه الروحانية فهم إخوان متحابون ، أخلاء متقون ، قال تعالى : الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ «2».
وقوله تعالى : (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً) أي : داع يدعو إلىّ ، ويهدى إلى معرفتى ودخول حضرتى ، فمن تبعهم دخل تحت تربيتهم ، فلا يضل ولا يشقى ، بل يهتدى ويسعد السعادة العظمى. ومن أعرض عن ذكرهم ووعظهم ، وتنكب عن صحبتهم ، فإن له معيشة ضنكا ، مصحوبة بالحرص والطمع ، والجزع والهلع ، ونحشره يوم القيامة أعمى عن شهود ذاتنا ، فلا يرى إلا الأكوان الحسية ، والزخارف الحسية دون أسرار الذات القدسية. قال ربّ لم حشرتنى أعمى عن شهود أسرار المعاني ، عند رؤية الأوانى ، وقد كنت بصيرا فى الدنيا ببصر الحس؟ قال : كذلك أتتك آياتنا ، وهم الأولياء العارفون ، فنسيتها ، ولم تحتفل بشأنها ، وكذلك اليوم تنسى لأن المرء يموت على ما عاش عليه ، ويبعث على ما مات عليه.
___________
(1) من الآية 30 من سورة البقرة.
(2) الآية 67 من سورة الزخرف.(3/431)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 432
قال الورتجبي : ونحشره يوم القيامة أعمى ، يعنى : جاهلا بوجود الحق ، كما كان جاهلا فى الدنيا ، كما قال علىّ - كرم الله وجهه - : من لم يعرف الله فى الدنيا لا يعرفه فى الآخرة. وقيل : عن رؤية أوليائه وأصفيائه. ه.
وقال القشيري : فى الخبر : «من كان بحالة لقى اللّه بها» «1». فمن كان فى الدنيا أعمى القلب ، يحشر على حالته ، يعيش على ما جهل ، ويحشر على ما جهل ، ولذلك يقولون : (من بعثنا من مرقدنا)؟ إلى أن تصير معارفهم ضرورية ، كما يتركون التدبّر فى آياته يتركون غدا فى العقوبة من غير رحمة على ضعف حالاتهم. ه.
وكذلك نجزى من أسرف بالعكوف على شهواته ، واغتنام أوقات لذاته ، حتى انقضت أيام عمره فى البطالة ، نجزيه غم الحجاب والبعد عن حضرة الأحباب ، حيث لم يصدق بوجود آيات ربه وهم الدعاة إلى الله. ولعذاب حجاب الآخرة أشد وأبقى لدوامه واتصاله ، نعوذ بالله من غم الحجاب وسوء الحساب ، والتخلف عن حضرة الأحباب. وبالله التوفيق.
ثم حضّ على الاعتبار فى هذه الدار ، فقال :
[سورة طه (20) : الآيات 128 الى 130]
أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى (128) وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً وَأَجَلٌ مُسَمًّى (129) فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرافَ النَّهارِ لَعَلَّكَ تَرْضى (130)
قلت : (أَ فَلَمْ) : الهمزة للإنكار التوبيخي ، والفاء للعطف على محذوف ، أي : أغفلوا فلم يهد لهم. وعدي الهداية باللام لتضمنها معنى التبيين ، والفاعل مضمون (كَمْ أَهْلَكْنا) ، أي : أفلم يبين لهم مآل أمرهم كثرة إهلاكنا للقرون الأولى؟ وقيل : الفاعل ضمير عائد إلى الله. و(كَمْ ..) إلخ : معلق للفعل سد مسد مفعوله. أي : أفلم يبين الله لهم كثرة إهلاك القرون من قبلهم؟ والأوجه : أن لا يلاحظ له مفعول ، كأنه قيل : أفلم يفعل الله لهم الهداية ، ثم قيل بطريق الالتفات : كم أهلكنا .. إلخ بيانا لتلك الهداية. و(مِنَ الْقُرُونِ) : فى محل نصب ، نعت لمفعول محذوف ، أي : قرنا كائنا من القرون.
___________
(1) يؤيد هذا قوله - صلى اللّه عليه وسلم : «من مات على شىء بعثه الله عليه». أخرجه أحمد فى المسند (3/ 314) ، والحاكم فى المستدرك (4/ 312) من حديث جابر رضي اللّه عنه.(3/432)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 433
وجملة (يَمْشُونَ) : حال من القرون ، أي : أهلكناهم وهم فى حال أمن وتقلب فى ديارهم ، أو من الضمير فى «لَهُمْ» ، مؤكد للإنكار ، والعامل : «يَهْدِ» ، والمعنى : أفلم يهد لهم إهلاكنا للقرون السالفة ، كقوم نوح ولوط وأصحاب الأيكة ، حال كونهم ، أي : قريش - ماشين فى مساكنهم إذا سافروا إلى الشام ، و(أَجَلٌ مُسَمًّى) : عطف على (كَلِمَةٌ) ، أو استئناف ، أي : وأجل مسمى حاصل لهم.
يقول الحق جل جلاله : أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ أي : أو لم يبين لهم عاقبة أمرهم كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أي : كثرة إهلاكنا للقرون السالفة قبلهم ، وهم يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إذا سافروا إلى الشام ، كأصحاب الحجر ، وثمود ، وفرعون ، وقوم لوط ، مشاهدين لآثار ديارهم خاربة ، مع علمهم بما جرى عليهم ، بسبب تكذيبهم ، فإنّ ذلك مما يوجب أن يهتدوا إلى الحق ، فيعتبروا ، لئلا يحل بهم مثل ما حلّ بأولئك ، أو : أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كثرة إهلاكنا للقرون السالفة قبلهم ، حال كونهم آمنين ، يَمْشُونَ فى ديارهم ويتقلبون فى رباعهم فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ «1».
إِنَّ فِي ذلِكَ الإهلاك الفظيع لَآياتٍ كثيرة عظيمة واضحة الهداية ، دالة على الحق لِأُولِي النُّهى لذوى العقول الناهية عن القبائح ، التي من أقبحها ما يتعاطاه كفار مكة من الكفر بآيات الله ، والتعامي عنها ، وغير ذلك من فنون المعاصي.
وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ ، وهو تأخير العذاب عن هذه الأمة إلى الآخرة لحكمة ، لعجلنا لهم الهلاك كما عجلنا لتلك القرون المهلكة ، التي يمرون عليها ولا يعتبرون ، فأصروا على الكفر والعصيان ، فلو لا تلك العدة بتأخير العذاب لَكانَ لِزاماً أي : لكان عقاب جناياتهم لازما لهؤلاء الكفرة ، بحيث لا يتأخرون عن جناياتهم ساعة ، لزوم ما أنزل بأولئك الغابرين ، وفى التعرض لعنوان الربوبية ، مع الإضافة إلى ضميره - عليه الصلاة والسلام - تلويح بأن ذلك التأخير تشريف له صلى اللّه عليه وسلم ، كما ينبىء عنه قوله تعالى : وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ «2» واللزام : مصدر لازم ، وصف به للمبالغة ، وَأَجَلٌ مُسَمًّى أي : لو لا كلمة سبقت بتأخيرهم ، وأجل مسمى لأعمارهم أو عذابهم ، وهو يوم القيامة ، أو يوم بدر ، لما تأخر عذابهم أصلا. وإنما فصله عما عطف عليه ، للمسارعة إلى بيان جواب «لَوْ لا» ، وللإشعار باستقلال كل منهما بنفي لزوم العذاب المعجل ، ومراعاة فواصل الآية الكريمة.
___________
(1) كما جاء فى الآية 78 من سورة الأعراف.
(2) من الآية 33 من سورة الأنفال.(3/433)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 434
فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ أي : إذا كان الأمر على ما ذكرنا من أن تأخير عذابهم ليس بإهمال ، بل إمهال ، وأنه لازم لهم البتة. فاصبر على ما يقولون من كلمات الكفر فإن علمه صلى اللّه عليه وسلم بأنهم هالكون لا محالة مما يسليه ويحمله على الصبر ، أو اصبر على ما يقولون ، واشتغل بالله عنهم ، ولا تلتفت إلى هلاكهم ولا بقائهم ، فالله أدرى بهم. وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ أي : نزّهه عما ينسبون إليه ، ما لا يليق بشأنه الرفيع ، حامدا له على ما خصك به من الهدى ، معترفا بأنه مولى النعم كلها.
قال الورتجبي : سماع الأذى يوجب المشقة ، فأزال عنه ما كان قد لحقه من سماع ما يقولونه بقوله : (وَ سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ) أي : إن كان سماع ما يقولون يوحشك ، فتسبيحنا يروحك. ه. أو : صلّ وأنت حامد لربك ، الذي يبلغك إلى كمال هدايتك ، ويرجح هذا قوله : قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها ، فإن توقيت التنزيه غير معهود ، فإنّ المراد بقبل طلوع الشمس : صلاة الفجر ، وقبل غروبها : صلاة الظهر والعصر ، وقيل : العصر فقط.
وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ أي : ساعاته فَسَبِّحْ أي : صلّ ، والمراد به المغرب والعشاء ، وآناء : جمع «إنى» ، بالكسر والقصر ، أو «أناء» بالفتح والمد. وتقديم المجرور فى قوله تعالى : وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ لاختصاصها بمزيد الفضل ، فإن القلب فيها أجمع ، والنفس إلى الاستراحة أميل ، فتكون العبادة فيها أشق ، ولذلك قال تعالى : إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلًا «1». وَسبح أيضا ، أَطْرافَ النَّهارِ وهو تكرير لصلاتى الفجر والمغرب إيذانا باختصاصهما بمزيد مزية. وجمع (أَطْرافَ) بحسب اللفظ مع أمن اللبس ، أو يراد بأطراف النهار : الفجر والمغرب والظهر لأنها «2» نهاية النصف الأول من النهار وبداية النصف الثاني ، أو يريد التطوع فى أجزاء النهار.
قلت : وإذا حملناه على التنزيه - وهو أن يقول : سبحان الله ، أو : لا إله إلا الله ، أو كل ما يدل على تنزيه الحق - يكون تخصيص هذه الأوقات بالذكر لشرفها. فقد وردت أحاديث فى الترغيب فى ذكر الله أول النهار وآخره ، وآناء الليل حين ينتبه من نومه ، بحيث يكون كلما تيقظ من نومه سبّح الله وهلّله وكبّره ، قبل أن يعود إلى نومه.
وهكذا كان أهل اليقظة من السلف الصالح. وقوله تعالى : لَعَلَّكَ تَرْضى أي : بما يعطيك من الثواب الجزيل ، بالتسبيح فى هذه الأوقات. أو ترضى بالشفاعة فى جميع الخلائق ، فتقر عينك حينئذ. وفى صحيح البخاري :
«إنّكم ترون ربّكم كما ترون الشمس ليس دونها سحاب ، فإن استطعتم ألا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشّمس وقبل
___________
(1) الآية 6 من سورة المزمل.
(2) أي : صلاة الظهر.(3/434)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 435
غروبها فافعلوا ، ثم تلا هذه الآية : «وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها» «1» ففيه ترجيح من فسرها بالصلاة ، وفيه إشارة إلى أن الصلاة ذكر وإقبال على الله وانقطاع إليه ، وذلك مزرعة المشاهدة والرؤية فى الآخرة. وقد جاء فى أهل الجنة : «أنهم يرون ربهم بكرة وعشيا» ، هذا فى حق العموم ، وأما خصوص الخصوص ، ففى كل ساعة ولحظة. والله تعالى أعلم.
الإشارة : أفلم يهد لأهل الإيمان والاعتبار ، وأهل الشهود والاستبصار ، كم أهلكنا قبلهم من القرون الخالية ، والأمم الماضية ، فهم يمشون فى مساكنهم الدارسة ، ويشاهدون آثارهم الداثرة ، كيف رحلوا عنها وتركوها ، واستبدلوا ما كانوا فيه من سعة القصور بضيق القبور ، وما كانوا عليه من الفرش الممهدة بافتراش التراب وتغطية اللحود الممددة ، فيعتبروا ويتأهبوا للحوق بهم ، فقد كانوا مثلهم أو أشد منهم ، قد نما ذكرهم ، وعلا قدرهم ، وخسف بعد الكمال بدرهم. فكأنهم ما كانوا ، وعن قريب مضوا وبانوا ، وأفضوا إلى ما قدموا ، وانقادوا قهرا ، إلى القضاء وسلموا ، ففى ذلك عبر وآيات لأولى النهى. لكن القلوب القاسية لا ينفع فيها وعظ ولا تذكير ، فلو لا كلمة الرحمة والحلم بتأخير العذاب ، وأجل مسمى لأعمارهم لعجل لهم العقاب.
فاصبر ، أيها المتوجه إلى الله ، المنفرد بطاعة مولاه ، على ما يقولون ، مما يكدر القلوب ، واشتغل بذكر ربك وتنزيهه ، مع الطلوع والغروب وآناء الليل والنهار ، حتى تغيب فى حضرة علام الغيوب ، لعلك ترضى بمشاهدة المحبوب. وبالله التوفيق.
ولمّا كان محصل الاعتبار هو صرف الهمة عن هذه الدار ، أمر به نبيه صلى اللّه عليه وسلم ومن كان على قدمه ، فقال :
[سورة طه (20) : الآيات 131 الى 132]
وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى (131) وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى (132)
قلت : (زَهْرَةَ) : مفعول بمحذوف ، يدل عليه (مَتَّعْنا) أي : أعطينا ، أو على الذم ، وفيه لغتان : سكون الهاء وفتحها.
___________
(1) أخرجه بنحوه البخاري (كتاب مواقيت الصلاة ، باب فضل صلاة العصر) ، ومسلم (كتاب المساجد ، باب فضل صلاتى الصبح والعصر) من حديث جرير بن عبد الله. ووقع عند مسلم أن الذي قرأ الآية هو جرير ، راوى الحديث.(3/435)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 436
يقول الحق جل جلاله لنبيه صلى اللّه عليه وسلم : وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ أي : لا تطل نظرهما ، بطريق الرغبة والميل إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ من زخارف الدنيا أَزْواجاً مِنْهُمْ أي : أصنافا من الكفرة ، والمعنى : لا تنظر إلى ما أعطيناه أصناف الكفرة من زخارف الدنيا الغرارة ، ولا تستحسن ذلك ، فإنه فان ، وهو من زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا أي : بهجتها ، ثم يفنى ويبيد ، كشأن الزهر ، فإنه فائق المنظر ، سريع الذبول والذهاب.
متعناهم بذلك ، وأعطيناهم الأموال والعز فى الدنيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ أي : لنعاملهم معاملة من يبتليهم ويختبرهم ، هل يقومون بشكره فيؤمنوا بك ، ويصرفوه فى الجهاد معك ، وينفقوه على من آمن معك .. أم لا؟ أو لنعذبهم فى الآخرة بسببه ، فلا تهتم بذلك. وَرِزْقُ رَبِّكَ أي : ما ادخر لك فى الآخرة خَيْرٌ ، أو : ورزقك فى الدنيا من الكفاف مع الهدى ، خير مما منحهم فى الدنيا ، لأنه مأمون الغائلة بخلاف ما منحوه ، فعاقبته الحساب والعقاب. وَأَبْقى فإنه لا ينقطع نفسه أو أثره ، بخلاف زهرة الدنيا ، فإنها فانية منقطعة.
فالواجب : الاشتغال بما يدوم ثوابه ، ولذلك قال له صلى اللّه عليه وسلم : وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ ، أمره بأن يأمر أهل بيته ، أو التابعين له من أمته ، بالصلاة ، بعد ما أمر هو بقوله : (وَ سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ) على ما مر ليتعاونوا على الاستعانة على الخصاصة ، ولا يهتموا بأمر المعيشة ، ولا يلتفتوا لغنى أرباب الثروة. وَاصْطَبِرْ عَلَيْها وتكلف الصبر على مداومتها ، غير ملتفت لأمر المعاش ، لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً أي : لا نكلفك أن ترزق نفسك ولا أهلك ، نَحْنُ نَرْزُقُكَ وإياهم ، ففرغ قلبك لمشاهدة أسرارنا ، وَالْعاقِبَةُ المحمودة لِلتَّقْوى أي : لأهل التقوى.
روى أنه صلى اللّه عليه وسلم كان إذا أصاب أهله ضر أو خصاصة أمرهم بالصّلاة ، وتلا هذه الآية «1». والله تعالى أعلم.
الإشارة : ما خوطب به نبينا صلى اللّه عليه وسلم خوطب به خاصة أمته ، فلا تمدن عينيك ، أيها الفقير ، إلى ما متع به أهل الدنيا ، من زهرتها وبهجتها ، بل ارفع همتك عن النظر إليها ، واستنكف عن استحسان ما شيدوا وزخرفوا ، فإن ذلك حمق وغرور. كان عروة بن الزبير رضي اللّه عنه إذا رأى أبناء السلاطين وشاراتهم دخل داره وتلا : (وَ لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ) ...
الآية. وكان يحيى بن معاذ الرازي يقول لعلماء زمانه : يا علماء السوء دياركم هامانية ، ومراكبكم قارونية ، وملابسكم فرعونية ، فأين السنة المحمدية؟.
ولا تشتغل بطلب رزق ، فرزق ربك - وهو ما يبرز لك فى وقتك من عين المنة ، من غير سبب ولا خدمة - خير وأبقى ، أما كونه خيرا فلما يصحبه من اليقين والفرح بالله وزيادة المعرفة ، وأما كونه أبقى لأن خزائنه لا تنفد ،
___________
(1) أخرجه البيهقي فى شعب الإيمان (باب فى الصبر ، ح 9705) ، وأبو نعيم فى الحلية (8/ 176) من حديث عبد الله بن سلام.
وعزاه الهيثمي فى مجمع الزوائد (7/ 67) للطبرانى فى الأوسط ، من حديث ابن سلام ، وقال : رجاله ثقات.(3/436)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 437
مع بقاء أثره فى القلب من ازدياد اليقين ، والتعلق برب العالمين. (وَ أْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ) واصطبر أنت عليها ، فإن رزقنا يأتيك لا محالة ، فى الوقت الذي نريده ، (لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً) لك ولا لأهلك ، (نَحْنُ نَرْزُقُكَ) ، لكن رزق المتقين ، لا رزق المترفين ، (وَ الْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى ). وبالله التوفيق.
ثم ذكر بعض أقاويل الكفرة ، التي أمر عليه الصلاة والسلام بالصبر عليها. أو تقول : ثم رد على من طلب المعجزة ، بعد هذا البيان التام ، فقال :
[سورة طه (20) : الآيات 133 الى 135]
وَقالُوا لَوْ لا يَأْتِينا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى (133) وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى (134) قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدى (135)
يقول الحق جل جلاله : وَقالُوا أي : كفار مكة : لَوْ لا : هلا يَأْتِينا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ تدل على صدقه ، أو بآية مما اقترحوها من تفجير الأرض وتسيير الجبال ، ولم يعدوا ما شهدوا من المعجزات التي تخر لها الجبال من قبيل الآيات مكابرة وعنادا. قال تعالى : أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى أي : أو لم يأتهم القرآن الذي فيه بيان ما فى الصحف الأولى التوراة والإنجيل والزبور ، وسائر الكتب السماوية لاشتماله على ما فيها ، وزيادة علوم وأسرار. وهذا رد من جهته تعالى لمقالتهم ، وتكذيب لهم فيما دسوا تحتها ، من إنكار إتيان الآية ، بإتيان القرآن الكريم ، الذي هو أبهر الآيات ، وأسنى المعجزات ، وأعظمها ، وأبقاها لأن حقيقة المعجزة : اختصاص مدعى النبوة بنوع من الأمور الخارقة للعادة ، أىّ أمر كان ، ولا ريب فى أن العلم أجلّ الأمور وأعلاها إذ هو أصل الأعمال ، ولقد ظهر ، مع حيازته لعلوم الأولين والآخرين ، على يد أمي ، لم يمارس شيئا من العلوم ، ولم يدارس أحدا من أهلها أصلا ، فأىّ معجزة تراد بعد وروده؟ وأىّ آية ترام مع وجوده؟! وفى إيراده بعنوان كونه بينة لما فى الصحف الأولى ، أي : شاهدا بحقية ما فيها من العقائد والأحكام ، التي أجمعت عليها كافة الرسل ، ما لا يخفى من تنويه شأنه وإنارة برهانه ، ومزيد تقرير وتحقيق لإتيانه. وقال بعض أهل المعاني : أو لم يأتهم بيان ما فى الكتب الأولى ، من أنباء الأمم الذين أهلكناهم ، لما سألوا الآيات ، فأتتهم ، فكفروا بها ، كيف عجلنا لهم الهلاك؟ فما يؤمن هؤلاء ، إن أتتهم البينة ، أن يكون حالهم كأولئك.(3/437)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 438
وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ فى الدنيا بِعَذابٍ مستأصل ، مِنْ قَبْلِهِ أي : من قبل إتيان البينة ، وهو نزول القرآن ومجىء محمد صلى اللّه عليه وسلم ، لَقالُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا يدعونا مع كتاب يهدينا ، فَنَتَّبِعَ آياتِكَ التي جاءنا بها ، مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ بالعذاب فى الدنيا ، وَنَخْزى بدخول النار يوم القيامة ، ولكنا لم نهلكهم قبل إتيانها ، فانقطعت حجتهم ، فإذا كان يوم القيامة قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَقُلْنا ما نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ «1».
قُلْ لأولئك الكفرة المتمردين : كُلٌّ أي : كل واحد منكم ومنا ، مُتَرَبِّصٌ : منتظر ما يؤول إليه أمرنا وأمركم ، (فَتَرَبَّصُوا) فانتظروا. أو كلّ منتظر دوائر الزمان ، ولمن يكون النصر ، فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ عن قريب مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ أي : المستقيم ، أو السواء ، أي : الوسط الجيد ، وَمَنِ اهْتَدى من الضلالة ، هل نحن أو أنتم. والله تعالى أعلم.
الإشارة : لا يشترط فى الولي العارف بالله ، الداعي إلى الله ، إظهار الآيات ، ويكفى ، برهانا عليهم ، كونهم على بينة من ربهم ، وهداية الخلق على أيديهم ، وما أظهروه من علم أسرار التوحيد ، ومن فنون علم الطريق ، مع كون بعضهم أميين ، لم يتقدم له مدارسة علم قط ، كما شهدناهم ، بعثهم الله فى كل عصر ، يعرفون بالله ، ويدلون على أسرار ذاته وأنوار صفاته ، على سبيل العيان ، لتقوم الحجة على العباد ، فإذا بعثوا يوم القيامة جاهلين بالله محجوبين عن شهود ذاته ، متخلفين عن مقام المقربين ، يقولون : لو لا أرسلت إلينا رسولا يعرفنا بك ، فنتبع آياتك حتى نصل إليك ، من قبل أن نذل بالانحطاط عن درجة المقربين ، أو نخزى بإسدال الحجاب. يقول الحق تعالى :
قد بعثتهم ، فأنكرتموهم ، فإذا اغتروا اليوم ، واحتجوا بقول من قال : انقطعت التربية ، فقل : كلّ متربص فتربصوا ، فستعلمون من أصحاب الصراط السّوى ومن اهتدى. وبالله التوفيق ، وهو الهادي إلى سواء الطريق ، وصلّى اللّه على سيدنا ومولانا محمد ، وعلى آله وصحبه ، وسلّم تسليما.
___________
(1) من الآية 9 من سورة الملك.(3/438)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 439(3/439)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 440(3/440)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 441
سورة الأنبياء
مكية. وهى مائة واثنتا عشرة آية. ومناسبتها لما قبلها : قوله تعالى : فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ «1» لأن علم ذلك إنما يظهر ، حقيقة ، يوم الحساب الذي صدّر به السورة ، فقال تعالى :
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 1 الى 2]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1) ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2)
قلت : (وَ هُمْ) : مبتدأ ، و(فِي غَفْلَةٍ) : خبر ، و(مُعْرِضُونَ) : خبر بعد خبر ، والجملة : حال من الناس. و(مِنْ ذِكْرٍ) :
فاعل بيأتي. و(مِنْ) : صلة ، و(مِنْ رَبِّهِمْ) : صفة لذكر ، أي : حاصل من ربهم ، أو متعلق بيأتيهم ، أو صفة لذكر ، وجملة (اسْتَمَعُوهُ) : حال من مفعول «يَأْتِيهِمْ» ، بإضمار (قد) أو بدونه ، والاستثناء مفرغ من أعم الأحوال. و(هُمْ يَلْعَبُونَ) : حال أيضا من فاعل «اسْتَمَعُوهُ» ، و(لاهِيَةً) : حال من واو «يَلْعَبُونَ» ، و(قُلُوبُهُمْ) : فاعل بلاهية.
يقول الحق جل جلاله : اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ أي : قرب قيام الساعة التي هى محل حسابهم. قال ابن عباس : «المراد بالناس : المشركون» وهو الذي يفصح عنه ما بعده ، ولم يقل تعالى : «اقترب حساب الناس» ، بل قدّم لام الجر على الفاعل للمسارعة إلى إدخال الروعة ، فإن نسبة الاقتراب إليهم من أول الأمر مما يسوؤهم ويورثهم رهبة وانزعاجا ، كما أن تقديم اللام فى قوله تعالى : خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً «2» لتعجيل المسرة لأن كون الخلق لأجل المخاطبين مما يسرهم ويزيدهم رغبة وشوقا إليه تعالى.
وفى إسناد الاقتراب إلى الحساب المنبئ عن التوجه نحوهم ، مع صحة إسناد الاقتراب إليهم بأن يتوجهوا نحوه ، من تفخيم شأنه ، وتهويل أمره ، مالا يخفى ، لما فيه من تصويره بشىء مقبل عليهم ، لا يزال يطلبهم حتى يصيبهم لا محالة. ومعنى اقترابه : دنوه منهم شيئا فشيئا حتى يلحقهم لأن كل آت قريب ، أي : دنا حساب أعمالهم السيئة الموجبة للعقاب.
وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ تامة منه ، ساهون بالمرة عنه ، غير ذاكرين له ، لا أنهم غير مبالين به ، مع اعترافهم بإتيانه ، بل هم منكرون له ، كافرون به ، مُعْرِضُونَ عن الآيات والنذر المنبهة لهم عن سنة الغفلة. ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ
___________
(1) من الآية 135 من سورة طه.
(2) من الآية 29 من سورة البقرة.(3/441)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 442
أي : من طائفة نازلة من القرآن ، تذكر ذلك الحساب ، وتنبههم عن الغفلة عنه ، كائن أو نازل مِنْ رَبِّهِمْ ، أو ذاكر ومذكر من ناحية ربهم. وفى إضافته إليه سبحانه دلالة على شرفه ، وكمال شناعة ما فعلوه من الإعراض عنه ، وفى التعبير بعنوان الربوبية تشنيع لكمال عتوهم ، ومن صفة ذلك الذكر مُحْدَثٍ تنزيله بحسب اقتضاء الحكمة ، بمعنى أنه نزل شيئا فشيئا ، أو قريب عهد بالنزول ، فمعانى القرآن قديمة ، وإظهاره بهذه الحروف والأصوات حادث. وقال ابن راهويه : قديم من رب العزة ، محدث إلى أهل الأرض.
فما ينزل عليهم شىء من القرآن يذكرهم ويعظهم إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ لا يتعظون به ، ولا يتدبرون فى معانيه ،
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 3 الى 6]
لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (3) قالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (4) بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (5) ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (6)
لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ ساهية ، معرضة عن التفكر والتدبر فى معانيه. وتقدير الآية : ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث ، فى حال من الأحوال ، إلا حال استماعهم إياه كانوا لاعبين مستهزءين به ، لاهين عنه ، حال كون قلوبهم لاهية عنه لتناهى غفلتهم وفرط إعراضهم عن النظر والتفكر فى عواقب الأمور. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : حمل الآية على العموم هو الظاهر عند الصوفية. وقد ورد عن رجل من الصحابة أنه كان يبنى ، فلقى بعض الصحابة فقال : ماذا نزل اليوم من القرآن؟ فقال له : اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ ، فنفض التراب ، وقال :
واللّه لا بنيت. ه. أي : اقترب للناس حسابهم على النقير والقطمير ، وهم فى غفله عن التأهب والاستعداد ، معرضون عن اتخاذ الزاد ، ما يأتيهم من ذكر من ربهم ، يعظهم ويوقظهم ، إلا استمعوه بآذانهم ، وهم يلعبون ساهون عنه بقلوبهم لحشوها بالوساوس الشيطانية والعلائق النفسانية. لاهية قلوبهم عن التفكر والاعتبار والتدبر والاستبصار.
قال القشيري : ويقال : الغفلة على قسمين غافل عن حسابه لاستغراقه فى دنياه ، وغافل عن حسابه لاستهلاكه فى مولاه ، فالغفلة الأولى سمة الهجر ، والثانية صفة الوصل ، فالأولون لا يستفيقون من غفلتهم إلا فى عسكر الموتى ، وهؤلاء لا يرجعون عن غيبتهم أبد الأبد لفنائهم فى وجود الحق. ه. قلت : القسمة ثلاثية : قوم غفلوا عن حسابهم لاشتغالهم بحظوظهم وهواهم ، وهم : الغافلون الجاهلون ، وقوم ذكروا حسابهم ، وجعلوه نصب أعينهم ، وتأهبوا له ، وهم : الصالحون والعباد والزهاد ، وقوم غفلوا عنه ، وغابوا عنه لاستغراقهم فى شهود مولاهم ، وهم : العارفون المقربون. جعلنا اللّه منهم بمنّه وكرمه.
ثم ذكر المنهمكين فى الغفلة ، فقال :
وَأَسَرُّوا النَّجْوَى ...(3/442)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 443
قلت : «الَّذِينَ ظَلَمُوا» : بدل من الواو ، منبئ عن كونهم موصوفين بالظلم فيما أسروا به. وقال الكلبي : فيه تقديم وتأخير ، أراد الذين ظلموا أسروا النجوى. فيكون «الَّذِينَ» : مبتداء و«أَسَرُّوا» : خبر مقدم.
وقال قطرب : على لغة بعض العرب ، يقولون : أكلونى البراغيث ، وهى بلغة بلحارث وغيرهم. وقال الفراء : بدل من الناس ، أي : اقترب للناس وهم الذين ظلموا. و(هَلْ هذا ..) إلخ : بدل من النجوى ، أو مفعول بقول مضمر ، كأنه قيل : ماذا قالوا فى نجواهم؟ فقيل : قالوا : هل هذا .. إلخ و(أَنْتُمْ تُبْصِرُونَ) : حال من واو «تأتون» مقررة للإنكار ، مؤكدة للاستبعاد. و(مِنْ قَرْيَةٍ) : فاعل آمنت ، و«مِنْ» : صلة للعموم. و(أَهْلَكْناها) : صفة لقرية.
يقول الحق جل جلاله : وَأَسَرُّوا النَّجْوَى : أخفوا تناجيهم بحيث لم يشعر أحد بما قالوا ، وهم الَّذِينَ ظَلَمُوا بالكفر والطغيان ، قائلين فى تلك النجوى الشنيعة : هَلْ هذا أي : ما هذا الرجل الذي يزعم أنه رسول إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أي : من جنسكم ، وما أتى به سحر ، أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ أي : تعلمون ذلك فتأتونه ، وتحضرونه على وجه الإذعان والقبول ، وأنتم تعاينون أنه سحر؟. قالوا ذلك ، بناء على ما ارتكز فى اعتقادهم الزائغ ، أن الرسول لا يكون إلا ملكا ، وأنّ كل ما يظهر على يد البشر من الخوارق هو من قبيل السحر ، وغاب عنهم أن إرسال البشر إلى البشر هو الذي تقتضيه الحكمة التشريعية. قاتلهم اللّه أنى يؤفكون. وإذا أسروا ذلك ولم يعلنوه لأنه كان على طريق توثيق العهد خفية ، وتمهيدا لمقدمات المكر والكيد فى هدم أمر النبوة ، وإطفاء نور الدين. وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ.
ثم فضح اللّه سرهم ونجواهم بقوله : قالَ «1» رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ أي : قل يا محمد : ربى يعلم القول ، سرا كان أو جهرا ، سواء كان فى السماء أو الأرض ، فلا يخفى عليه ما تناجيتم به ، فيفضحكم به ويجازيكم عليه. وقرأ أكثر أهل الكوفة : (قالَ) على الخبر ، وهو حكاية من جهته تعالى لما قاله - صلى اللّه عليه وسلم - بعد ما أوحى إليه أحوالهم وأقوالهم بيانا لظهور أمرهم وانكشاف سرهم ، وإيثار القول المشتمل على السر والجهر للإيذان بأن علمه تعالى بالسر والجهر على وتيرة واحدة ، لا تفاوت بينهما بالجلاء والخفاء ، كما فى علوم الخلق.
وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ أي : المبالغ فى العلم بالمسموعات والمعلومات ، التي من جملة ما أسروه من النجوى ، فيجازيهم بأقوالهم وأفعالهم. بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ ، هو إضراب من جهته تعالى ، وانتقال من حكاية قولهم السابق إلى حكاية قول آخر مضطرب فى مضارب البطلان ، أي : لم يقتصروا على أن يقولوا فى حقه - عليه الصلاة والسلام - : هل هذا إلا بشر ، وفى حق ما ظهر على يديه من القرآن الكريم : إنه السحر ، بل قالوا : هو تخاليط
___________
(1) قرأ حمزة والكسائي وحفص : «قال ربى». وقرأ الباقون : «قل» على الأمر. انظر الإتحاف (2/ 261).(3/443)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 444
أحلام وأباطيلها ، فهو أشبه شىء بالهذيان ، ثم أضربوا عنه ، وقالوا : بَلِ افْتَراهُ من تلقاء نفسه ، من غير أن يكون له أصل أو شبهة أصل. ثم قالوا : بَلْ هُوَ شاعِرٌ ، وما أتى به شعر يخيل إلى السامع ، لا حقيقة لها.
وهكذا شأن المبطل المحجوج ، متحير ، لا يزال يتردد بين باطل وأبطل ، ويتذبذب بين فاسد وأفسد.
فالإضراب الأول ، كما ترى ، من جهته تعالى ، والثاني والثالث من قبلهم. وقد قيل : الكل من قبلهم ، حيث أضربوا عن قولهم : هو سحر ، إلى أنه تخاليط أحلام ، ثم إلى أنه كلام مفترى ، ثم إلى أنه قول شاعر ، وهو بعيد لأنه لو كان كذلك لقال : قالوا : بل أضغاث أحلام ... إلخ.
ثم قالوا : فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ وهو جواب عن شرط محذوف ، يفصح عنه السياق ، كأنه قيل : وإن لم يكن كما قلنا ، بل كان رسولا من اللّه تعالى ، فليأتنا بمعجزة ظاهرة كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ أي : مثل الآية التي أرسل بها الأولون كاليد ، والعصا ، والناقة وشبه ذلك. فالكاف : صفة لمصدر محذوف ، أي : إتيانا مثل إتيان الأولين.
قال تعالى : ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أي : أهلكنا أهلها ، أَفَهُمْ أي : هؤلاء المقترحون عليك الآيات ، يُؤْمِنُونَ أي : قد اقترحت الأمم السالفة الآيات على رسلها ، فأعطوا ما اقترحوا ، فلم يؤمنوا ، فأهلكناهم ، فكيف يؤمن هؤلاء ، وهم أعتى منهم؟ فالهمزة : لإنكار الوقوع ، والفاء : للعطف على مقدر ، فأفادت إنكار وقوع إيمانهم. والمعنى : لم تؤمن أمة من الأمم المهلكة عند إعطاء ما اقترحوه من الآيات ، أهم لم يؤمنوا ، فهؤلاء يؤمنون ، لو أجيبوا إلى ما سألوا وأعطوا ما اقترحوه ، مع كونهم أعتى منهم وأطغى؟ فهم فى اقتراح الآيات كالباحث على حتفه فطلبه ، وفى ترك إجابتهم إبقاء عليهم ، كيف لا ، ولو أعطوا ما اقترحوا ، مع عدم إيمانهم قطعا ، لوجب استئصالهم ، بجريان سنّة اللّه تعالى فى الأمم السالفة أن المقترحين ، إذا أعطوا ما اقترحوا ، فلم يؤمنوا ، نزل بهم عذاب الاستئصال لا محالة ، وقد سبقت كلمة الحق منه تعالى أن هؤلاء لا يعذبون بعذاب الاستئصال ، فلذلك لم يظهر لهم ما اقترحوا من الآيات. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : العلماء باللّه ، الداعون إلى اللّه ، هم ورثة الأنبياء والرسل ، فما قيل فى الأصل قد قيل فى الفرع ، فكل عصر يوجد من ينكر على خواص ذلك العصر ، ويرميهم بالسحر والجنون. والافتراء على اللّه سنة ماضية. غير أن أولياء هذه الأمة على قدم نبيهم ، رحمة للعالمين ، فمن آذاهم لا يعاجل بالعقوبة فى الغالب ، وقد تكون باطنية ، كقسوة القلوب ، والخذلان ، والشكوك ، والأوهام. وهذا الوصف فى العارفين الكلمة ، وأما الزهاد والعباد والصالحون :
فمن آذاهم عوجل بالعقوبة فى الغالب لنقص كمالهم ، وعدم اتساع دائرة معرفتهم. وباللّه التوفيق.(3/444)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 445
ثم ردّ على من أنكر رسالة البشر ، فقال :
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 7 الى 10]
وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (7) وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَما كانُوا خالِدِينَ (8) ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْناهُمْ وَمَنْ نَشاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (9) لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (10)
يقول الحق جل جلاله فى جواب قول الكفرة : هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ «1» بعد تقديم الجواب عن قولهم : فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ لأنهم قالوه بطريق التعجيز ، فلابد من المسارعة إلى رده ، كما تقدم مرارا فى الكتاب العزيز ، كقوله إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ .. «2» الآية ، ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ الآية «3». إلى غير ذلك ، فقال جل جلاله : وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ فى الأمم السالفة إِلَّا رِجالًا بشرا من جنس القوم الذين أرسلوا إليهم لأن مقتضى الحكمة أن يرسل البشر إلى البشر ، والملك إلى الملك ، حسبما نطق به قوله تعالى : قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولًا «4» فإن عامة البشر لا تطيق المفاوضة مع الملك لتوقفها على التناسب بين المفاوض والمستفيض فبعث لكل جنس ما يناسبه للحكمة التي يدور عليها فلك التكوين والتشريع ، والذي تقتضيه الحكمة الإلهية أن يبعث الملك إلى خواص البشر المختصين بالنفوس الزكية ، المؤيدين بالقوة القدسية ، المتعلقين بالعالم الروحاني والجسماني ، ليتلقوا من جانب العالم الروحاني ، ويلقوا إلى العالم الجسماني ، فبعث رجالا من البشر يوحى إليهم على أيدى الملائكة أو بلا واسطة.
والمعنى : وما أرسلنا إلى الأمم ، قبل إرسالك إلى أمتك ، إلا رجالا مخصوصين من أفراد الجنس ، متأهلين للاصطفاء والإرسال ، نُوحِي إِلَيْهِمْ ، بواسطة الملك ، ما يوحى من الشرائع والأحكام ، وغيرهما من القصص والأخبار ، كما يوحى إليك من غير فرق بينهما ، فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ أي : فاسألوا ، أيها الجهلة ، أهل العلم كأهل الكتب الواقفين على أحوال الرسل السالفة - عليهم الصلاة والسلام - لتزول شبهتكم إن كنتم لا علم لكم بذلك. أمروا بذلك لأن إخبار الجم الغفير يوجب العلم الضروري ، لا سيما وهم كانوا يشايعون المشركين عداوته صلى اللّه عليه وسلم ، ويشاورونهم فى أمورهم ، فإذا أخبروهم أن الرسل إنما كانوا بشرا ، ولم يكونوا ملائكة ، حصل لهم العلم بالحق ، وقامت الحجة عليهم.
___________
(1) من الآية 3 من سورة الأنبياء. [.....]
(2) من الآية 33 من سورة هود.
(3) الآية 8 من سورة الحجر.
(4) الآية 95 من سورة الإسراء.(3/445)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 446
وتوجيه الخطاب إلى الكفرة فى السؤال ، بعد توجيهه إلى الرسول - عليه الصلاة والسلام - فى الإرسال لأنه الحقيق بالخطاب فى أمثال تلك العلوم والحقائق الأنيقة ، وأما الوقوف عليها باستخبار من الغير فهو من وظائف العوام.
ثم بيّن كون الرسل - عليهم الصلاة والسلام - أسوة لأفراد الجنس فى أحكام البشرية ، فقال : وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً أي : أجسادا ، فالإفراد لإرادة الجنس ، أو ذوى جسد ، لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ أي : وما جعلناهم أجسادا صمدانيين ، أغنياء عن الطعام والشراب ، بل محتاجين إلى ذلك لتحقيق العبودية التي اقتضت شرفهم. وَما كانُوا خالِدِينَ لأن كل من يفتقر إلى الغذاء لا بد يتحلل بدنه بسرعة ، حسبما جرت العادة الإلهية ، والمراد بالخلود : المكث المديد ، كما هو شأن الملائكة أو الأبدية. وهم معتقدون أنهم كانوا يموتون. والمعنى : بل جعلناهم أجسادا مفتقرة صائرة إلى الموت عند انقضاء آجالهم ، لا ملائكة ولا أجسادا صمدانية.
ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ بالنصر وإهلاك أعدائهم ، وهو عطف على ما يفهم من وحيه تعالى إليهم ، كأنه قيل :
أوحينا إليهم ما أوحينا ، ثم صدقناهم فى الوعد ، الذي وعدناهم فى تضاعيف الوحى ، بإهلاك أعدائهم ، فَأَنْجَيْناهُمْ وَمَنْ نَشاءُ من المؤمنين وغيرهم ، ممن تستدعى الحكمة إبقاءه ، كمن سيؤمن هو أو بعض فروعه ، وهو السر فى حماية العرب من عذاب الاستئصال. أو يخص هذا العموم بغير نبى الرحمة صلى اللّه عليه وسلم فإن أمته لا تستأصل ، وإن بقي فيها من يكفر باللّه لعل اللّه يخرج من أصلابهم من يوحد اللّه تعالى. وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ أي : المجاوزين الحد فى الكفر والمعاصي.
ولمّا ذكر برهان حقّيّة الرسول - عليه الصلاة والسلام - ذكر حقية القرآن المنزل عليه ، الذي ذكر فى صدر السورة إعراض الناس عما يأتيهم من آياته ، فقال : لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ ، صدّره بالقسم إظهارا لمزيد الاعتناء بمضمونه ، وإيذانا بكون المخاطبين فى أقصى مراتب التنكير ، أي : واللّه لقد أنزلنا إليكم ، يا معشر قريش ، كِتاباً عظيم الشأن نيّر البرهان. فالتنكير للتفخيم ، أي : كتابا جليل القدر فِيهِ ذِكْرُكُمْ أي : شرفكم وحسن صيتكم ، كقوله تعالى : وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ «1» ، أو فيه تذكيركم وموعظتكم ، أو ما تحتاجون إليه فى أمر دينكم ودنياكم ، أو ما تطلبون به حسن الذكر والثناء من مكارم الأخلاق ، أَفَلا تَعْقِلُونَ فتتدبروا فى معانيه حتى تدركوا حقيته. فالهمزة للإنكار التوبيخي. وفيه حث لهم على التدبر فى أمر الكتاب ، والتأمل فى تضاعيفه من فنون المواعظ والزواجر ، التي من جملتها القوارع السابقة واللاحقة ، والمعطوف : محذوف ، أي : أعميت بصائركم فلا تعقلون؟ واللّه تعالى أعلم.
___________
(1) من الآية 44 من سورة الزخرف.(3/446)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 447
الإشارة : ثبوت الخصوصية لا ينافى وصف البشرية ، فنسبة أهل الخصوصية من البشر كاليواقيت بين الحجر.
ولا فرق بين خصوصية النبوة والولاية فى الاتصاف بأوصاف البشرية ، التي لا تؤدى إلى نقص فى مراتبهم العلية. وتتميز خصوصية النبوة من الولاية بوحي الأحكام ، وتتميز خصوصية الولاية من العمومية بالتطهير من الرذائل والتحلي بالفضائل ، وبالغيبة عن رؤية الأكوان ، بإشراق شمس العرفان ، وذلك بالفناء عن الأثر بشهود المؤثر ، ثم بالبقاء بشهود الأثر حكمة ، مع الغيبة عنه ، قدرة ، ولا يعرف هذا إلا أهل الذكر الحقيقي ، فلا يعرف مقام الأولياء إلا من دخل معهم ، ولا يسأل عنهم إلا أمثالهم (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ). فلا يشترط فى الولي استغناؤه عن الطعام والشراب إذ لم يكن للأنبياء ، فكيف بالأولياء؟ ولا استغناؤه عن النساء ، قال تعالى :
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً «1» ، نعم صاحب الخصوصية مالك لنفسه من غلبة الشهوة عليه ، ينزل إلى أرض الحظوظ بالإذن والتمكين ، والرسوخ فى اليقين. جعلنا اللّه منهم بمنّه وكرمه. وتقدم الكلام على قوله تعالى : فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ فى سورة النحل «2». وباللّه التوفيق.
ثم بيّن ما أجمل فى قوله : (وَ أَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ) ، فقال :
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 11 الى 15]
وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ (11) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ (12) لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَساكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ (13) قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (14) فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً خامِدِينَ (15)
قلت : كم : خبرية مفيدة للتكثير ، ومحلها نصب ، مفعول بقصمنا ، و(مِنْ قَرْيَةٍ) : تمييز ، و(كانَتْ ..) إلخ : صفة لقرية.
يقول الحق جل جلاله : وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ أي : كثيرا أهلكنا من أهل قرية كانَتْ ظالِمَةً بآيات اللّه تعالى ، كافرين بها. وفى لفظ القصم - الذي هو عبارة عن الكسر بإبانة أجزاء المكسور وإزالتها بالكلية - من الدلالة على قوة الغضب والسخط ما لا يخفى. وَأَنْشَأْنا أي : أحدثنا بَعْدَها أي : بعد إهلاكها قَوْماً آخَرِينَ ليسوا منهم نسبا ولا دينا ، ففيه تنبيه على استئصالهم وقطع دابرهم بالكلية. فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا أي : أدركوا عذابنا الشديد إدراك المشاهد المحسوس إِذا هُمْ مِنْها أي : من القرية يَرْكُضُونَ :
يهربون مدبرين راكضين دوابهم. فقيل لهم ، بلسان الحال أو المقال من الملك ، أو ممن حضرهم من المؤمنين ،
___________
(1) من الآية 38 من سورة الرعد.
(2) الآية 43 من سورة النحل.(3/447)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 448
بطريق الاستهزاء والتوبيخ : لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ من النعم والتلذذ وَإلى مَساكِنِكُمْ التي كنتم تفتخرون بها ، لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ تقصدون للسؤال ، إذ كانوا أغنياء ، أو للتشاور والتدبر فى المهمات والنوازل ، أو تسألون الفداء فتفتدوا من العذاب ، أو تسألون عن قتل نبيكم وفيم قتلتموه.
قيل : نزلت فى أهل حاضورا ، قرية باليمن ، وكان أهلها العرب ، فبعث اللّه إليهم نبيا فكذبوه وقتلوه ، فسلط اللّه تعالى عليهم بختنصّر ، فقتلهم وسباهم ، فلما انهزموا وهربوا قالت لهم الملائكة : لا تركضوا ، وارجعوا إلى مساكنكم وأموالكم استهزاء بهم ، وأتبعهم بختنصر ، فأخذتهم السيوف ، ونادى مناد من السماء : يا لثارات الأنبياء ، فلما رأوا ذلك أقروا بالذنوب حين لم ينفعهم ، فقالوا : يا وَيْلَنا يا هلاكنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ مستوجبين العذاب. وهذا اعتراف منهم وندم حين لم ينفعهم ذلك.
فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ أي : فما زالوا يرددون تلك الكلمة ، ويدعون بها ، ويقولون : يا ويلنا ، حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً أي : مثل الحصيد ، وهو المحصود من الزرع والنبات ، فهو فعيل بمعنى مفعول ، فلذلك لم يجمع ، كجريح وقتيل. وجعلناهم خامِدِينَ ميتين ، من خمدت النار إذا طفئت. وهو ، مع «حَصِيداً» ، فى حيز المفعول الثاني لجعل ، كقولك : جعلته حلوا حامضا ، والمعنى : جعلناهم جامعين لمماثلة الحصيد والخمود ، أو حال من الضمير المنصوب فى «جَعَلْناهُمْ» ، ولفظ الآية يقتضى العموم. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : وكم من قرية من قرى القلوب قصمنا أهلها ، أي : ما فيها من الشكوك والأوهام ، كانت ظالمة بتلك الخواطر ، فأخرجناهم منها ، وأنشأنا بعدها أنوارا وأسرارا وعلوما آخرين. فلما أحسوا بأسنا بورود الواردات الإلهية عليها ، التي تأتى من حضرة القهار ، إذا هم منها يركضون لأن الواردات الإلهية تأتى من حضرة القهار ، لأجل ذلك لا تصادم شيئا من الظلمات إلا دمغته ، فيقال لتلك الظلمات ، التي هى الشكوك والأوهام : لا تركضوا ، ولكن ارجعوا أنوارا ، وانقلبوا واردات وأسرارا ، وتنعموا فى محلكم بشهود الحق ، لعلكم تسألون ، أي : تستفتون فى الأمور ، لأن القلب إذا صفا من الأكدار استفتى فى العلوم ، وفى الأمور التي تعرض ، قالوا بلسان الحال - أي تلك الظلمات - :
يا ويلنا إنا كنا ظالمين بحجب صاحبنا عن اللّه ، فما زالت تلك دعواهم حتى صاروا خامدين ، هامدين ، ساكنين تحت مجارى الأقدار ، مطمئنين باللّه الواحد القهار ، وهذه إشارة دقيقة ، لا يفهمها إلا دقيق الفهم غزير العلم. وباللّه التوفيق.
ثم بيّن أن إهلاك تلك القرى الظالمة كان لحكمة بليغة ومصلحة بديعة ، ولم يكن عبثا لأنه تعالى منزه عن اللعب فى خلقه ، فقال : (3/448)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 449
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 16 الى 18]
وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (16) لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ (17) بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (18)
قلت : (لاعِبِينَ) : حال من فاعل خلق ، و«إِنْ كُنَّا» : شرط حذف جوابه ، أي : إن كنا فاعلين اتخذناه من لّدنا ، وقيل : نافية.
يقول الحق جل جلاله : وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما من المخلوقات التي لا تحصى أجناسها ، ولا تعد أفرادها ، ولا تحصر أنواعها وآحادها ، على هذا النمط البديع والأسلوب الغريب ، لاعِبِينَ خالية عن الحكم والمصالح ، بل لحكم بديعة ومصالح عديدة ، دينية تقضى بسعادة الأبد أو بشقاوته ، ودنيوية لا تعد ولا تحصى ، وهذا كقوله : وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلًا «1» ، فالمراد من الآية : إشارة إجمالية إلى أن تكوين العالم ، وإبداع بنى آدم ، مؤسس على قواعد الحكم البالغة ، المستتبعة للغايات الجليلة ، وتنبيه على أن ما حكى من العذاب الهائل ، والعقاب النازل بأهل القرى ، من مقتضيات تلك الحكم ، ومتفرع عليها حسبما اقتضته أعمالهم. وإنما فعل ذلك عدلا منه ، ومجازاة على أعمالهم ، وأن المخاطبين المتقدمين - وهو قريش - على آثارهم لأن لهم ذنوبا مثل ذنوبهم. وإنما عبّر عن نفى الحكمة باللعب ، حيث قال : لاعِبِينَ لبيان كمال تنزهه تعالى عن الخلق الخالي عن الحكمة ، بتصويره بصورة ما لا يرتاب أحد فى استحالة صدوره منه سبحانه ، وهو اللهو واللعب ، بل إنما خلقناهما ، وما بينهما لتكون مبدأ الوجود الإنسانى وسببا لمعاشه ، ودليلا يقوده إلى تحصيل معرفتنا ، التي هى الغاية القصوى والسعادة العظمى.
ثم قرر انتفاء اللعب واللهو عنه ، فقال : لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً أي : ما يلهى به ويلعب ، لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا أي : من أنفسنا لعلمنا بحقائق الأشياء ، واستغنائنا عن جلب المصالح ودرء المفاسد. والمعنى : لو أردنا أن نخلق شيئا ، لا لتحصيل مصلحة لكم ، ولا لدرء مفسدة عنكم ، لفعلنا ذلك فى أنفسنا بأن نخلق عوالم ومظاهر عارية عن الحكمة والمصلحة لأنا أحق منكم بالاستغناء عما يجلب المصلحة ويدرأ المفسدة ، لكن من عادتنا ربط الأسباب بمسبباتها ، وأنا لم نخلق شيئا عبثا ، بل خلقنا كل نوع من النبات والحيوانات والجمادات لمصلحة ومنفعة ، علمها ، من علمها وجهلها من جهلها ، فحصل من هذا نفى التحسين والتقبيح عقلا ، بهذه الشرطية ، وإثباته سمعا.
___________
(1) من الآية 27 من سورة ص.(3/449)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 450
أو : لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا مما يليق بشأننا من المجردات ، لا من الأجسام المرفوعة والأجرام الموضوعة ، كعادة الجبابرة من رفع العروش وتحسينها ، وتمهيد الفرش وتزيينها ، لأغراض عراض ، لكن يستحيل إرادتنا لذلك لمنافاته للحكمة الإلهية المنزهة عن الأغراض. ه. من أبى السعود ، وأصله للزمخشرى. وفيه تكلف.
وسأل طاوس ومجاهد الحسن عن هذه الآية؟ فقال : اللهو : المرأة. وقال ابن عباس : «الولد». ومعنى (لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا) : بحيث لا يطلعون عليه ، وما اتخذنا نساء وولدا من أهل الأرض. نزلت فى الذين قالوا : اتخذ اللّه ولدا.
وتكون الآية ، حينئذ تتميما لما قبلها ، أي : ليس اللعب واللهو من شأننا ، إذ لو أردنا أن نتخذ لهوا لاتخذناه من لدنا.
قال شيخ شيوخنا ، سيدى عبد الرحمن الفاسى : حمل الآية على الزوجة غير مفيد ، إلا أن يراد بذلك مجرد الرحمة والشفقة ، مما يمكن عقلا ، فيصح دخول النفي الشرعي عليه. انظر ابن عرفة ، فقد جوّز ، عقلا ، اتخاذه على معنى الرحمة. وكذا ابن عطية فى آية الزمر «1». ومنع ذلك القشيري. قلت : وكأنه لما يشير إليه قوله تعالى : هُوَ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ «2» فإن القهر لا يناسب التبني بوجه ، وقد يقال : إنه مانع سمعى شرعى ، لا عقلى ، فلا يخالف ما قاله ابن عرفة ولا ابن عطية. وفيه نظر لأنه يؤدى إلى تعطيل اسمه القهار ونحوه ، وهو محال ، واللّه أعلم ه.
قلت : قد حمل النسفي الآية على الولد ، فقال : لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً أي : ولدا ، أو امرأة ، رد على من قال عيسى ابنه ، ومريم صاحبته ، لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا من الولدان أو الحور ، إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ أي : إن كنا ممن يفعل ذلك ، ولسنا ممن يفعله لاستحالته فى حقنا. ه. قلت : والذي تكلف الحمل الأول رأى أن حمله على الولد يقتضى جواز الاتخاذ عقلا وإنما منعه عدم الإرادة. وأجاب ابن عرفة : بأن يحمل الاتخاذ على معنى الرحمة ، لا على حقيقة البنوة. قلت : من خاض بحار التوحيد الخاص وحاز مقام الجمع ، لا يتوقف فى مثل هذا إذ تجليات الحق لا تنحصر ، لكن لم يوجد منها ، ولم تتعلق إرادته إلا بما هو كمال فى حقه تعالى فى باب القدرة ، وأما باب الحكمة ، فهى رداء لمحل النقائص ، فافهم ، واصحب أهل الجمع حتى يفهموك ما ذكرت لك ، والسلام.
ثم قال تعالى : بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ أي : نرمى بالحق ، الذي هو الجد ، على الباطل ، الذي من جملته اللهو ، وهو إضراب عن اتخاذ الولد ، بل عن إرادته ، كأنه قيل : لكنا لا نريده ، بل شأننا أن نقذف بالحق على الباطل فَيَدْمَغُهُ : فيمحقه بالكلية ، كما فعلنا بأهل القرى المحكية وأمثالهم. وقد استعير ، لإيراد الحق على الباطل ، القذف ، الذي هو الرمي الشديد ، وللباطل الدمغ ، الذي هو تشتيت الدماغ وتزهيق الروح ، فكأنّ الباطل حيوان له دماغ ، فإذا تشتت دماغه مات واضمحل ، فَإِذا هُوَ زاهِقٌ أي : فإذا الباطل ذاهب بالكلية ، متلاش عن أصله. وفى (إذا) الفجائية والجملة الاسمية من الدلالة على كمال السرعة فى الذهاب والبطلان ما لا يخفى.
___________
(1) فى قوله تعالى : لَوْ أَرادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لَاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ ... الآية.
(2) من الآية 4 من سورة الزمر.(3/450)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 451
ثم ردّ على أهل الباطل فقال : وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ أي : وقد استقر لكم الويل والهلاك من أجل ما تصفونه ، سبحانه ، بما لا يليق بشأنه الجليل ، من الولد والزوجة ، وغير ذلك مما هو باطل. وهو وعيد لقريش ومن دان دينهم ، بأنّ لهم أيضا مثل ما لأولئك القرى المتقدمة من الهلاك ، إن لم ينزجروا. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : ما نصبت لك الكائنات لتراها كائنات ، بل لتراها أنوارا وتجليات ، الأكوان ثابتة بإثباته ، ممحوة بأحدية ذاته ، فالغير والسّوى عند أهل الحق باطل ، والباطل لا يثبت مع الحق. قال تعالى (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ). قال القشيري : ندخل نهار التحقيق على ليالى الأوهام ، أي : فتمحى ، وتبقى شمس الأحدية ساطعة. ه. وباللّه التوفيق.
ثم قرر وحدانيته تعالى فى ملكه وملكوته ، فقال :
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 19 الى 25]
وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ (19) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ (20) أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (21) لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتا فَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22) لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ (23)
أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (24) وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ (25)
يقول الحق جل جلاله : وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي : له جميع المخلوقات ، خلقا وملكا ، وتدبيرا وتصرفا ، وإحياء وإماتة ، وتعذيبا وإثابة ، من غير أن يكون لأحد فى ذلك دخل ، لا استقلالا ولا استتباعا ، ولا فرق بين أهل العالم العلوي والسفلى ، وَمَنْ عِنْدَهُ وهم الملائكة - عليهم السلام - عبّر عنهم بذلك إثر ما عبّر عنهم بمن فى السموات تنزيلا لهم - لكرامتهم عليه ، وزلفاهم عنده - منزلة المقربين عند الملك ، وهو مبتدأ وخبره :
لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ أي : لا يتعاظمون عنها ، ولا يعدون أنفسهم كبراء ، وَلا يَسْتَحْسِرُونَ أي : لا يكلّون ولا يعيون ، يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ أي : ينزهونه فى جميع الأوقات ، ويعظمونه ويمجدونه دائما. وهو استئناف بيانى ، كأنه قيل : ماذا يصنعون فى عبادتهم ، أو كيف يعبدون؟ فقال : يسبحون ... إلخ.
لا يَفْتُرُونَ أي : لا يتخلل تسبيحهم فترة أصلا ، ولا شغل آخر.(3/451)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 452
ولمّا برهن على وحدانيته تعالى فى ملكه بأنه تعالى خلق جميع المخلوقات على منهاج الحكمة ، وأنهم قاطبة تحت ملكه وقهره ، وأنّ عباده مذعنون لطاعته ، ومثابرون على عبادته ، ومنزهون له عن كل ما لا يليق بشأنه ، أنكر على من أشرك معه بعد هذا البيان ، فقال : أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً يعبدونها مِنَ الْأَرْضِ أي : اتخذوها من جنس الأرض ، أحجارا وخشبا ، هُمْ يُنْشِرُونَ أي : يبعثون الموتى. وهذا هو الذي يدور عليه الإنكار والتجهيل والتشنيع ، لا نفس الاتخاذ ، فإنه واقع لا محالة ، أي : بل اتخذوا آلهة من الأرض ، هم مع حقارتهم ، ينشرون الموتى ، كلا .. فإن ما اتخذوها آلهة بمعزل من ذلك ، وهم ، وإن لم يقولوا بذلك صريحا ، لكنهم حيث ادعوا لها الألوهية ، فكأنهم ادعوا لها الإنشار ، ضرورة لأنه من خصائص الإلهية ، ومعنى التخصيص فى تقديم الضمير فى :
هُمْ يُنْشِرُونَ : التنبيه على كمال مباينة حالهم للإنشار ، الموجبة لمزيد الإنكار ، كما فى قوله تعالى : أَفِي اللَّهِ شَكٌّ «1». وفى قوله تعالى : أَبِاللَّهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ «2» ، فإنّ تقديم الجار والمجرور للتنبيه على كمال مباينة أمره تعالى لأن يشك فيه ويستهزأ به.
ثم أبطل الاشتراك فى الألوهية ، فقال : لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ أي : لو كان فى السماوات والأرض آلهة غير اللّه ، كما هو اعتقادهم الباطل ، لَفَسَدَتا أي : لفسد نظامهما بما فيهما ، لوجود التمانع ، كعادة الملوك ، أو لبطلتا بما فيهما ، ولم يوجد شىء منهما للزوم العجز لهما ، بيان ذلك : أن الألوهية مستلزمة للقدرة على الاستبداد بالتصرف فيهما على الإطلاق ، تغييرا وبديلا ، وإيجادا وإعداما ، وإحياء وإماتة ، فبقاؤهما على ما هما عليه من غير فساد ، إما بتأثير كل منها ، وهو محال لاستحالة وقوع الأثر الواحد بين مؤثرين ، وإما بتأثير واحد منها ، فالباقى بمعزل عن الإلهية ، والمسألة مقررة فى علم الكلام.
و(إِلَّا) : صفة لآلهة ، كما يوصف بغير ، ولمّا كانت حرفا ، ظهر إعرابها فى اسم الجلالة ، ولا يصح رفعه على البدل لعدم وجود النفي. ثم قال تعالى : فَسُبْحانَ اللَّهِ أي : فسبحوا سبحان اللّه اللائق به ، ونزهوه عما لا يليق به من الأمور ، التي من جملتها : أن يكون له شريك فى الألوهية. وإيراد الجلالة فى موضع الإضمار ، حيث لم يقل فسبحانه للإشعار بعلية الحكم ، فإنّ الألوهية مناط لجميع صفات كماله ، التي من جملتها : تنزهه تعالى عما لا يليق به ، ولتربية المهابة وإدخال الروعة. ثم وصفه بقوله : رَبِّ الْعَرْشِ ، وخصه بالذكر ، مع كونه رب كل شىء لعظم شأنه لأنّ الأكوان فى جوفه كلا شىء ، أي : تنزيها له عما يصفونه عن أن يكون من دونه آلهة.
ثم بيّن قوة عظمته وعز سلطانه القاهر ، فقال : لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ أي : لا يمكن لأحد من مخلوقاته أن يناقشه أو يسأله عما يفعل هيبة وإجلالا ، وَهُمْ يُسْئَلُونَ أي : وعباده يسألون عما يفعلون ، نقيرا وقطميرا لأنهم مملوكون له تعالى ، مستعبدون ، ففيه وعيد للكفرة ، فالآية تتميم لقوله : (لاعِبِينَ) ، بل خلقنا الأشياء كلها
___________
(1) من الآية 10 من سورة إبراهيم.
(2) من الآية 65 من سورة التوبة.(3/452)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 453
لحكمة ، فمنها ما أدركتم حكمته ، ومنها ما غاب عنكم ، فكلوا أمره إلى اللّه ، ولا تسألوه عما يفعل ، فإنه لا يسأل عن فعله ، وأنتم تسألون.
ثم قال تعالى : أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً ، هو إضراب وانتقال من إظهار بطلان كون ما اتخذوه آلهة بإظهار خلوها من خصائص الألوهية ، التي من جملتها إنشار الموتى ، وإقامة البرهان القاطع على استحالة تعدد الإله ، إلى إظهار بطلان اتخاذهم تلك الآلهة ، مع عرائها عن تلك الخصائص ، وتبكيتهم بإلجائهم إلى إقامة البرهان على دعواهم الباطلة. والهمزة : لإنكار ما اتخذوه واستقباحه ، أي : بل اتخذوا من دونه - أي : متجاوزين إياه تعالى ، مع ظهور شؤونه الجليلة الموجبة لتفرده بالألوهية - آلهة ، مع ظهور خلوهم عن خصوص الإلهية بالكلية.
قُلْ لهم ، بطريق التبكيت : هاتُوا بُرْهانَكُمْ على ما تدّعونه ، من جهة العقل والنقل فإنه لا صحة لقول لا دليل عليه فى الأمور الدينية ، لا سيما فى هذا الأمر الخطير ، فإن بهتوا فقل لهم : هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي أي : بهذا نطقت الكتب السماوية قاطبة ، وشهدت به سنّة الرسل المتقدمة كافة. فهذا الوحى الوارد فى شأن التوحيد المتضمن للبرهان القاطع ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ من أمتى ، أي : عظتهم ، وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي من الأمم السالفة ، أي : بهذا أمرنا ربنا ووعظنا ، وبه أمر من قبلنا ، يعنى : انفراده سبحانه بالألوهية واختصاصه بها.
وقيل : المعنى : هذا كتاب أنزل على أمتى ، وهذا كتاب أنزل على أمم الأنبياء - عليهم السلام - قبلى ، فانظروا :
هل فى واحد منها غير الأمر بالتوحيد والنهى عن الإشراك ، ففيه تبكيت لهم. بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ أي : لا يفهمونه ، ولا يميزون بينه وبين الباطل ، فهو إضراب وانتقال من تبكيتهم بمطالبة البرهان ، إلى بيان أنه لا ينجع فيهم المحاججة لجهلهم وعنادهم ، ولذلك قال : فَهُمْ مُعْرِضُونَ أي : فهم لأجل جهلهم وعتوهم مستمرون على الإعراض عن التوحيد واتباع الرسول ، لا يرعوون عما هم عليه من الغى والضلال ، وإن كررت عليهم البينات والحجج. أو معرضون عما ألقى عليهم من البراهين العقلية والنقلية لانهماكهم.
وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي «1» إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ ، هذا مقرر لما قبله من كون التوحيد مما نطقت به الكتب الإلهية ، وأجمعت عليه الرسل - عليهم السلام - قاطبة. وصيغة المضارع فى (يوحى) لحكاية الحال الماضية استحضارا لصورة الوحى العجيبة. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : قوله تعالى : (وَ مَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ) ، العندية ، هنا ، عندية اصطفاء وتقريب ، وهذه صفة العارفين المقربين ، لا يستكبرون عن عبادته ، بل خاضعون لجلاله وقهريته على الدوام ، ولا يستحسرون :
___________
(1) قرأ حمزة والكسائي وحفص : (نُوحِي) بالنون وكسر الحاء ، على التعظيم ، وقرأ الآخرون - بالياء وفتح الحاء ، (انظر : الإتحاف 2/ 262).(3/453)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 454
لا يملّون منها ولا يشبعون ، غير أنهم يتلونون فيها من عبادة الجوارح إلى عبادة القلوب كالتفكر والاعتبار ، إلى عبادة الأرواح كالشهود والاستبصار ، إلى عبادة الأسرار كالعكوف فى حضرة الكريم الغفار ، ينزهون اللّه تعالى فى جميع الأوقات ، لا يفترون عن تسبيحه بالمقال أو الحال.
وقوله تعالى : أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً ... إلخ ، تصدق على من مال بقلبه إلى محبة الأكوان ، أو ركن إلى الحظوظ والشهوات ، وقوله تعالى : لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا ، اعلم أن ثلاثة أشياء إذا تعدد مدبرها فسد نظامها أولها : الألوهية ، فلو تعددت لفسد نظام العالم ، وثانيها : السلطنة ، إذا تعددت فى قطر واحد فسدت الرعية ، وثالثها :
الشيخوخة ، إذا تعددت على مريد واحد فسدت تربيته ، كالطبيب إذا تعدد على مريض واحد فسد علاجه. واللّه تعالى أعلم.
وقوله تعالى : لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ قال الكواشي : يعنى : لا يسأل عن فعله وحكمه لأنه الرب ، وهم يسألون لأنهم عبيده. وبعض الناس يقول : هذه آية الدبوس «1». قلت : وقد تقلب السين زايا ، ومعناها : أن كل ما تحكم به القدرة : يجب حنو الرأس له ، من غير تردد ولا سؤال. ثم قال : ولو نظر النظر الصحيح لرآها أنصف آية فى كتاب اللّه تعالى وذلك لأنه جمع فيها بين صفة الربوبية وصفة العبودية. ه.
وقوله : وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا يعنى : أن التوحيد مما أجمعت عليه الرسل والكتب السماوية. والفناء فيه على ثلاثة أقسام : فناء فى توحيد الأفعال ، وهو ألا يرى الفعل إلا من اللّه ، ويغيب عن الوسائط والأسباب ، وفناء فى توحيد الصفات ، وهو أن يرى ألا قادر ولا سميع ولا بصير ولا متكلم إلا اللّه ، وفناء فى توحيد الذات ، وهو أن يرى ألا موجود إلا اللّه ، ذوقا ووجدا وعقدا. كما قال صاحب العينية :
هو الموجد الأشياء ، وهو وجودها وعين ذوات الكلّ ، وهو الجوامع «2»
وقد أشار بعضهم إلى هذه الفناءات ، فقال :
فيفنى ، ثم يفنى ، ثم يفنى ، فكان فناؤه عين البقاء
وهنا - أي : فى مقام الفناء والبقاء - انتهت أقدام السائرين ، ورسخت أسرار العارفين ، مع ترقيات وكشوفات أبد الآبدين ، جعلنا اللّه من حزبهم. آمين.
___________
(1) هكذا فى الأصول.
(2) المراد : أن الحق تعالى قيوم الأشياء ومفيضها من العدم ، والمتجلى عليها بمراده منها ، إذ أنها فى ذاتها فانية من قبل ومن بعد لأنه لا قيومية لها من ذاتها. هذا هو المعنى الذي ينبغى أن يفهم من خلال هذا البيت وأشباهه. [.....](3/454)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 455
ثم أنكر على من ادعى الولد له ، فقال :
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 26 الى 29]
وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ (26) لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28) وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (29)
يقول الحق جل جلاله : وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً ، حكى اللّه تعالى جناية أخرى لبعض المشركين ، جىء بها لبيان بطلانها. والقائل بهذه المقالة حى من خزاعة ، وقيل : قريش وجهينة وبنو سلمة وبنو مليح ، يقولون : الملائكة بنات اللّه ، وأمهاتهم سروات الجن ، تعالى اللّه عن قولهم علوا كبيرا. والتعرض لعنوان الرحمانية المنبئة عن كون جميع ما سواه مربوبا له تعالى ، نعمة أو منعما عليه لإبراز كمال شناعة مقالتهم الباطلة ، سُبْحانَهُ أي : تنزه تنزيها يليق بكمال ذاته ، وتقدّس عن الصاحبة والولد ، بَلْ هم عِبادٌ للّه تعالى ، و«بَلْ» إبطال لما قالوا ، أي : ليست الملائكة كما قالوا ، بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ مقربون عنده ، لا يَسْبِقُونَهُ أي : لا يتقدمونه بِالْقَوْلِ ، ولا يتكلمون إلا بما يأمرهم به. وهذه صفة أخرى لهم ، منبهة على كمال طاعتهم وانقيادهم لأمره تعالى ، أي : لا يقولون شيئا حتى يقوله تعالى أو يأمرهم به. وأصله : لا يسبق قولهم قوله ، ثم أسند السبق إليهم لمزيد تنزههم عن ذلك ، وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ أي : لا يعملون إلا ما أمرهم به ، وهو بيان لتبعيتهم له تعالى فى الأفعال ، إثر بيان تبعيتهم له فى الأقوال ، فإن نفى سبقيتهم له تعالى بالقول : عبارة عن تبعيتهم له تعالى فيه ، كأنه قيل : هم بأمره يقولون وبأمره يعملون ، لا بغير أمره أصلا.
يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ أي : ما عملوا وما هم عاملون ، وقيل : ما كان قبل خلقهم وما يكون بعد خلقهم. وهو تقرير لتحقق عبوديتهم لأنهم إذا كانوا مقهورين تحت علمه تعالى وإحاطته انتفت عنهم أوصاف الربوبية المكتسبة من مجانسة البنوة ، وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى أن يشفع له ، مهابة منه تعالى. قال ابن عباس : «هم أهل لا إله الا اللّه» ، وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ عز وجل مُشْفِقُونَ : خائفون مرتعدون. قال بعضهم : أصل الخشية : الخوف مع التعظيم ، ولذلك خص بها العلماء ، وأصل الإشفاق : الخوف مع الاعتناء ، فعند تعديته بمن : يكون معنى الخوف فيه أظهر ، وعند تعديته بعلى : ينعكس الأمر فيكون معنى الإشفاق فيه أظهر.
وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ أي : من الملائكة إذ الكلام فيهم ، إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ أي : متجاوزا إياه تعالى ، فَذلِكَ الذي فرض أنه قال ذلك فرض المحال ، نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كسائر المجرمين ، ولا ينفى هذا عنهم(3/455)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 456
ما ذكر قبل من صفاتهم السنية وأفعالهم المرضية لأنه فرض تقدير ، وفيه من الدلالة على قوة ملكوته تعالى ، وعزة جبروته ، واستحالة كون الملائكة بحيث يتوهم فى حقهم ما توهمه أولئك الكفرة ، ما لا يخفى ، كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ أي : مثل ذلك الجزاء الفظيع نجزى الظالمين ، الذين يضعون الأشياء فى غير مواضعها ، ويتعدون أطوارهم.
قال الكواشي : هذا القول وارد على سبيل التهديد والوعيد الشديد على ارتكاب الشرك ، كقوله : وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ «1». ه. فالقصد : تفظيع أمر الشرك ، وأنه لو صدر ممن صدر لأحبط عمله ، وكان جزاء صاحبه جهنم ، ومثل ذلك الجزاء نجزى الظالمين ، وهم الكافرون ، والحاصل : أنه على سبيل الفرض ، مع علمه تعالى أنه لا يكون من الملائكة ، فهو من إخباره عما لا يكون كيف يكون لعلمه بما لا يكون ، مما جاز أن يكون ، كيف يكون. ه. من الحاشية الفاسية ببعض اختصار.
فالكاف من «كَذلِكَ» : فى محل مصدر تشبيهى ، مؤكد لمضمون ما قبله. والقصر ، المستفاد من التقديم للمصدر ، معتبر بالنسبة إلى النقصان دون الزيادة ، أي : لا جزاء أنقص منه. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : أنوار الملكوت متدفقة من بحر أسرار الجبروت ، من غير تفريع ، ولا تولد ، ولا علاج ، ولا امتزاج ، بل :
كن فيكون ، لكن حكمته تعالى اقتضت ترتيب الأشياء وتفريع بعضها من بعض ، ليبقى السر مصونا والكنز مدفونا.
فأسرار الذات العلية منزهة عن اتخاذ الصاحبة والولد ، بل القدرة تبرز الأشياء بلا علاج ولا أسباب ، والحكمة تسترها بوجود العلاج والأسباب. فكل ما ظهر فى عالم التكوين قد عمّته قهرية العبودية ، وانتفت عنه نسبة البنوة لأسرار الربوبية ، فأهل الملأ الأعلى عباد مكرمون ، مقدّسون من دنس الحس ، مستغرقون فى هيمان القرب والأنس ، وأهل الملأ الأسفل مختلفون ، فمن غلب عقله على شهوته ، ومعناه على حسه ، وروحانيته على بشريته ، فهو كالملائكة أو أفضل. ومن غلبت شهوته على عقله ، وحسه على معناه ، وبشريته على روحانيته ، كان كالبهائم أو أضل. ومن التحق بالملأ الأعلى ، من الأولياء المقربين ، انسحب عليه ما مدحهم به تعالى من قوله : (يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ) ، ومن قوله : (لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ) ، بأن يدبروا معه شيئا قبل ظهور تدبيره ، وهم بطاعته يعملون ، ولا يشفعون إلا لمن ارتضى ، وهم من خشية هيبته مشفقون ، (وَ مَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ) بأن يدعى شيئا من أوصاف الربوبية ، كالكبرياء ، والعظمة على عباده ، فذلك نجزيه جهنم ، وهى نار القطيعة ، كذلك نجزى الظالمين. وفى الحكم : «منعك أن تدعى ما ليس لك مما للمخلوقين ، أفيبيح لك أن تدعى وصفه وهو رب العالمين»؟.
___________
(1) من الآية 88 من سورة الأنعام.(3/456)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 457
ثم برهن على وحدانيته ، فقال :
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 30 الى 33]
أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ (30) وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنا فِيها فِجاجاً سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (31) وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ (32) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (33)
قلت : «فِجاجاً» : حال من «سبل» ، وأصله : وصف له ، فلما تقدم أعرب حالا. وقيل «سُبُلًا» : بدل من «فِجاجاً».
وفى إتيانه : إيذان أن تلك الفجاج نافذة لأن الفج قد يكون نافذا وقد لا. قاله المحشى.
يقول الحق جل جلاله : أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا رؤية اعتبار أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أي : جماعة السموات وجماعة الأرض كانَتا ، ولذلك لم يقل كنّ ، رَتْقاً أي : ملتصقة بعضها ببعض. والرتق : الضم والالتصاق. وهو مصدر بمعنى المفعول ، أي : كانتا مرتوقتين ، أي : ملتصقتين ، فَفَتَقْناهُما فشققناهما ، فالفتق ضد الرتق. قال ابن عباس رضي اللّه عنه : «كانتا شيئا واحدا متصلتين ، ففصل اللّه بينهما ، فرفع السماء إلى حيث هى ، وأقرّ الأرض». وفى رواية عنه : أرسل ريحا فتوسطتهما ففتقتهما. وقال السدى : (كانت السموات مؤتلفة طبقة واحدة ، ففتقها ، فجعلها سبع سموات ، وكذلك الأرض ، كانت طبقة واحدة ، ففتقها ، فجعلها سبع أرضين).
فإن قيل : متى رأوهما رتقا حتى جاء تقريرهم بذلك؟ قلنا : مصب الكلام والتقرير هو فتق السماوات ورفعها ، وهو مشاهد بالأبصار ، وهم متمكنون من النظر والاعتبار ، فيعلمون أن لها مدبرا حكيما ، فتقها ورفعها ، وهو الحق جل جلاله ، وذكر الرتق زيادة إخبار ، فكأنه قال : ألم يروا إلى فتق السماوات ورفعها؟ وقال الكواشي : لمّا كان القرآن معجزا ، كان وروده برتقهما كالمشاهد المرئي ، أو : لمّا كان تلاصق السماوات والأرضين ، وما بينهما ، وتباينهما ، جائزا عقلا ، وجب تخصيص التلاصق من التباين ، وليس ذلك إلا للّه تعالى. ه.
وقيل : كانت السماوات صلبة لا تمطر ، والأرض رتقا لا تنبت ، ففتق السماء بالأمطار ، والأرض بالنبات. وروى هذا عن ابن عباس أيضا ، وعليه أكثر المفسرين ، وعلم الكفرة الرتق والفتق ، بهذا المعنى ، مما لا خفاء فيه. والرؤية على الأول رؤية علم ، وعلى الثاني رؤية عين.
وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أي : خلقنا من الماء كل حيوان ، كقوله تعالى : وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ «1» ، وذلك لأنه من أعظم مواده ، أو لفرط احتياجه إليه ، وحبه له ، وعدم صبره عنه ، وانتفاعه به ، ويدخل
___________
(1) من الآية 45 من سورة النور.(3/457)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 458
فى ذلك : النبات مجازا دون الملائكة ، فأل فيه للحقيقة والماهية ، إلا أنه صرفه عن ذلك إلى العهد الذهني قرينة الجعل ، كما فى آية : فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ «1» ، فإن القرينة تخلص ذلك للبعضية وإرادة الأشخاص. وقيل : المراد به :
المنىّ. فأل فيه ، حينئذ ، للعهد الذهني فقط. قال القشيري : كلّ مخلوق حىّ فمن الماء خلقه ، فإنّ أصل الحيوان الذي يحصل بالتناسل النطفة ، وهى من جملة الماء. ه. وتقدم أن الملائكة لا تناسل فيها. أَفَلا يُؤْمِنُونَ باللّه وحده ، وهو إنكار لعدم إيمانهم ، مع ظهور ما يوجبه حتما من الآيات الآفاقية والأنفسية ، الدالة على تفرده تعالى بالألوهية.
وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أي : جبالا ثوابت ، من رسا الشيء إذا ثبت ورسخ ، أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ أي :
كراهية أن تتحرك وتضطرب بهم ، أو لئلا تميد بهم - بحذف اللام ، و«لا» لعدم الإلباس. وَجَعَلْنا فِيها أي :
فى الأرض ، وتكرير الجعل لاختلاف المجعولين ، ولتوفية مقام الامتنان حقه ، أو فى الرواسي لأنها المحتاجة إلى الطرق ، فِجاجاً : جمع فج ، وهو الطريق الواسع ، نفذ أم لا ، أي : جعلنا فى الأرض مسالك واسعة ، وسُبُلًا نافذة. فالسبل هى الفجاج مع قيد النفوذ. فإن قيل : أىّ فرق بين هذا وبين قوله : لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلًا فِجاجاً «2»؟ فالجواب : أنه هنا بيّن أنه خلقها على هذه الصفة ، وهناك بيّن أنه جعل فيها طرقا واسعة ، وليس فيه بيان أنه خلقها كذلك ، فما هنا تفسير لما هناك. انظر النسفي.
وقوله تعالى : لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ أي : إلى البلاد المقصودة بتلك السبل ، أو إلى مصالحهم ومهماتهم. وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً من السقوط ، كقوله : وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ «3» ، أو من الفساد والانحلال إلى الوقت المعلوم ، أو من استراق السمع بالشهب ، كما قال : وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ «4». وَهُمْ أي : الكفار عَنْ آياتِها أي : عن الأدلة التي فيها ، كالشمس والقمر والنجوم ، وغير ذلك مما فيها من العجائب الدالة على وحدانيته تعالى وقدرته وحكمته ، التي بعضها محسوس ، وبعضها معلوم بالبحث فى علمى الطبيعة والهيئة ، مُعْرِضُونَ لا يتدبرون فيها ، فيقفون على ما هم عليه من الكفر والضلال ، فيؤمنون.
وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ لتسكنوا فيه ، وَالنَّهارَ لتتصرفوا فيه ، وَالشَّمْسَ لتكون سراج النهار ، وَالْقَمَرَ ليكون سراج الليل ، وهذا بيان لبعض تلك الآيات التي هم عنها معرضون. وقوله : كُلٌّ أي :
كلهم ، والمراد : جنس الطوالع ، فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ أي : يسيرون سير العائم فى الماء. عن ابن عباس رضي اللّه عنه :
الفلك السماء ، وقيل : موج مكفوف تحت السماء ، يجرى فيه الشمس والقمر والنجوم. وجمهور أهل الهيئة أن الفلك :
___________
(1) من الآية 17 من سورة يوسف.
(2) من الآية 20 من سورة نوح.
(3) من الآية 65 من سورة الحج.
(4) الآية 7 من سورة الصافات.(3/458)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 459
جسم مستدير ، وأنهن تسعة ، وهل هى السموات السبع ، فيكون الكرسي ثامنا ، والعرش تاسعا ، أو غيرهن ، فتكون تحت السموات أو فوقها؟ قولان لهم. والمراد هنا : الجنس ، كقولك : كساهم الأمير حلة ، أي : حلة حلة ، وجعل الضمير واو العقلاء لأن السباحة حالهم.
قال فى المستخرج من كتاب الغزنونى : «كُلٌّ» أي : كل واحد من الشمس والقمر وسائر السيارة ، وإن لم تذكرن لأنه جمع قوله : (يُسَبِّحُونَ) والمعنى : يجرون كالسابح ، أو يدورون ، والسيارة تجرى فى الفلك على عكس جرى الفلك ، ولها تسعة أفلاك ، فالقمر فى الفلك الأدنى ، ثم عطارد ، ثم الزهرة ، ثم الشمس ، ثم المريخ ، ثم المشترى ، ثم زحل ، والثامن : فلك البروج ، والتاسع : الفلك الأعظم. ه. وقال فى سورة يس : خص الشمس والقمر هنا ، وفى سورة الأنبياء لأن سيرهما أبدا على عكس دور الفلك ، وسير الخمسة قد يكون موافقا لسيره عند رجوعها. ه. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : أو لم ير الذين كفروا بوجود التربية أن سموات الأرواح وأرض النفوس كانتا رتقا صلبة ، ميتة بالجهل ، ففتقناهما بالعلوم وأسرار التوحيد؟ والمعنى : أن بعض الأرواح والنفوس تكون ميتة صلبة ، فإذا صحبت أهل التربية ، انفتقت بالعلوم والأسرار ، فهذا شاهد بوجود أهل التربية ، ومن قال بانقطاعها فقوله مردود بالمشاهدة.
وجعلنا من ماء الغيب - وهى الخمرة الأزلية - كلّ شىء حى ، أفلا يؤمنون بوجود هذا الماء عند أربابه؟ وجعلنا فى أرض النفوس جبالا من العقول لئلا تميل إلى الهوى فتموت ، وجعلنا فيها طرقا يسلك منها إلى الحضرة ، وهى كيفية الرياضة وأنواع المجاهدة ، وهى طرق كثيرة ، والمقصد واحد ، وهو الوصول إلى الفناء والبقاء ، التي هى معرفة الحق بالعيان ، وهو قوله تعالى : (لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ) إلى الوصول إلى حضرتنا.
وجعلنا السماء ، أي : سماء القلوب الصافية ، سقفا محفوظا من الخواطر والوساوس والشكوك والأوهام والشياطين ، قال بعضهم : (إذا كان الحق تعالى قد حفظ السماء بالشهب من الشياطين ، فقلوب أوليائه أولى بالحفظ). وهم عن آياتها ، أي : عن دلائل حفظها وصيانتها معرضون لانهماكهم فى الغفلة. وهو الذي خلق ليل القبض ونهار البسط وشمس العرفان وقمر توحيد الدليل والبرهان ، كلّ فى موضعه ، لا يتعدى أحد على صاحبه ، ولكل واحد سير معلوم وأدب محتوم. وباللّه التوفيق.
ولمّا قامت الحجة على الكفرة بما ذكر من الآيات والدلائل القاطعة ، وانقطعوا ، قالوا : ننتظر به ريب المنون ، فنستريح منه ، فأنزل اللّه تعالى :
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 34 الى 35]
وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ (34) كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ (35)(3/459)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 460
يقول الحق جل جلاله لنبيه - عليه الصلاة والسلام - : وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أي : البقاء الدائم لكونه مخالفا للحكمة التكوينية والتشريعية ، أَفَإِنْ مِتَّ بمقتضى حكمتنا فَهُمُ الْخالِدُونَ بعدك؟
نزلت حين قالوا : نتربص به رب المنون ، فنفى عنه الشماتة بموته ، فإن الشماتة بالموت مما لا ينبغى أن يصدر من عاقل ، أي : قضى اللّه ألا يخلد فى الدنيا بشرا ، فإن متّ - يا محمد - أيبقى هؤلاء الكفرة؟ كلا كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ أي : ذائقة مرارة مفارقتها جسدها ، فتستوى أنت وهم فيها ، فلا تتصور الشماتة بأمر عام.
وَنَبْلُوكُمْ ، الخطاب : إما للناس كافة بطريق التلوين ، أو للكفرة بطريق الالتفات ، وسمى ابتلاء ، وإن كان عالما بما سيكون من أعمال العاملين قبل وجودهم لأنه فى صورة الاختبار ، أي : نختبركم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ ، أي : بالفقر والغنى ، أو بالضر والنفع ، أو بالعطاء والمنع ، أو بالذل والعز ، أو بالبلاء والعافية ، فِتْنَةً اختبارا ، هل تصبرون وتشكرون ، أو تجزعون وتكفرون. و«فِتْنَةً» : مصدر مؤكد «ل نَبْلُوكُمْ» ، من غير لفظه. وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ لا إلى غيرنا ، فنجازيكم على حسب ما يؤخذ منكم من الصبر والشكر ، أو الجزع والكفران. وفيه إيماء إلى أن المقصود من هذه الدنيا : الابتلاء والتعرض للثواب والعقاب. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : لا بد لهذا الوجود بما فيه أن تنهد دعائمه ، وتسلب كرائمه ، ولا بد من الانتقال من دار الفناء إلى دار البقاء ، ومن دار التعب إلى دار الهناء ، ومن دار العمل إلى دار الجزاء. فالعاقل من أعرض بكليته عن هذه الدار ، وصرف وجهته إلى دار القرار ، فاشتغل بالتزود للرحيل ، وبالتأهب للمسير ، فلا مطمع للخلود فى هذه الدار ، وقد رحل منها الأنبياء والصالحون والأبرار ، وتأمل قول الشاعر :
صبرا فى مجال الموت صبرا فما نيل الخلود بمستطاع
وقوله تعالى : وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً ، اعلم أن تخالف الآثار وتنقلات الأطوار على العبد من أفضل المنن عليه ، إن صحبته اليقظة ، فيرجع إلى اللّه تعالى فى كل حال تنزل به ، إن أصابته ضراء رجع إلى اللّه بالصبر والرضا ، وإن أصابته سواء رجع إليه بالحمد والشكر ، فيكون دائما فى السير والترقي ، وهذا معنى قوله تعالى :
وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ أي : بهما. فالرجوع إلى اللّه فى السراء والضراء من أركان الطريق ، والرجوع إلى اللّه فى الضراء بالصبر والرضا ، وفى السراء بالحمد والشكر ، ورؤية ذلك من اللّه بلا واسطة. وفى الحديث عنه صلى اللّه عليه وسلم : «من ابتلى فصبر ، وأعطى فشكر ، وظلم فغفر أو ظلم فاستغفر» ، ثم سكت - عليه الصلاة والسلام - فقالوا :
ماله يا رسول اللّه؟ قال : «أولئك لهم الأمن وهم مهتدون» «1». وقال صلى اللّه عليه وسلم : «عجبا لأمر المؤمن ، إنّ أمره كلّه خير ، وليس ذلك لأحد إلّا للمؤمن ، إن أصابته سرّاء شكر ، فكان خيرا له ، وإن أصابته ضرّاء صبر ، فكان خيرا له» «2».
___________
(1) عزاه فى الجامع الصغير (ح 8281) ، للطبرانى والبيهقي ، عن سخبرة ، وحسّنه.
(2) أخرجه مسلم فى (الزهد ، باب : المؤمن أمره كله خير) ، عن صهيب رضي اللّه عنه.(3/460)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 461
والرجوع إلى اللّه فى الضراء أصعب ، والسير به أقوى لما فيه من التصفية والتطهير من أوصاف البشرية ، ولذلك قدّمه الحق تعالى. وفى الحديث : «إذا أحبّ اللّه عبدا ابتلاه ، فإن صبر اجتباه ، وإن رضى اصطفاه» ، وفى الخبر عن اللّه تعالى : «الفقر سجنى ، والمرض قيدى ، أحبس بذلك من أحببت من عبادى». وبه يحصل على عمل القلوب الذي هو الصبر والرضا والزهد والتوكل ، وغير ذلك من المقامات ، وذرة من أعمال القلوب أفضل من أمثال الجبال من أعمال الجوارح ، ومن أعمال القلوب يفضى إلى أعمال الأرواح والأسرار ، كفكرة الشهود والاستبصار.
وفكرة ساعة أفضل من عبادة سبعين سنة ، بل من ألف سنة ، كما قال الشاعر :
كلّ وقت من حبيبى قدره كألف حجّه
لأن المقصود من الطاعات وأنواع العبادات : هو الوصول إلى مشاهدة الحق ومعرفته ، فالفكرة والنظرة لا جزاء لها إلا زيادة كشف الذات وأنوار الصفات ، منحنا اللّه من ذلك ، الحظ الأوفر. آمين.
ومن جملة الشر الذي ابتلى اللّه به عباده : إذاية الخلق ، كما قال لنبيه - عليه الصلاة والسلام - :
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 36 الى 41]
وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ (36) خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ (37) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (38) لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (39) بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (40)
وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (41)
قلت : (أَ هذَا الَّذِي) : مقول لحال محذوفة ، أي : قائلين : أهذا الذي ، وحذف الحال ، إذا كان قولا ، مطرد. (وَ هُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ) : حال ، و(بَلْ تَأْتِيهِمْ) : عطف على (لا يَكُفُّونَ) أي : لا يكفونها ، بل تأتيهم.
يقول الحق جل جلاله : وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا أي : المشركون إِنْ يَتَّخِذُونَكَ ما يتخذونك إِلَّا هُزُواً مهزوءا بك على معنى قصر معاملتهم معه - عليه الصلاة والسلام - على اتخاذهم إياه هزوا ، كأنه قيل : ما يفعلون بك إلا اتخاذك هزوا. نزلت فى أبى جهل - لعنه اللّه - ، مرّ به النبي صلى اللّه عليه وسلم ، فضحك وقال : هذا نبىّ بنى عبد مناف «1». قال القشيري : (لو شاهدوه على ما هو عليه من أوصاف التخصيص ، وما رقّاه اللّه من المنزلة ،
___________
(1) عزاه السيوطي فى الدر (4/ 573) لابن أبى حاتم عن السدى.(3/461)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 462
لظلوا له خاضعين ، ولكنهم حجبوا عن معانيه وسريرته ، وعاينوا فيه جسمه وصورته). فاستهزءوا بما لم يحيطوا بعلمه ، حال كونهم يقولون : أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ أي : يعيب آلِهَتَكُمْ ، فالذكر يكون بخير وبضده ، فإن كان الذاكر صديقا للمذكور فهو ثناء. وإن كان عدوا فهو ذم. وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ أي : بذكر اللّه وما يجب أن يذكر به من الوحدانية ، هُمْ كافِرُونَ لا يصدقون به أصلا ، فهم أحق بالهزء والسخرية منك لأنك محق وهم مبطلون. والمعنى أنهم يعيبون - عليه الصلاة والسلام - أن يذكر آلهتهم ، التي لا تضر ولا تنفع ، بالسوء ، والحال :
أنهم بذكر الرحمن ، المنعم عليهم بأنواع النعم ، التي هى من مقتضيات رحمانيته ، كافرون ، لا يذكرونه بما يليق به من التوحيد وأوصاف الكمال ، أو : بما أنزل من القرآن لأنه ذكر الرحمن ، هُمْ كافِرُونَ جاحدون ، فهم أحقاء بالعيب والإنكار. وكرر لفظ «هُمْ» للتأكيد ، أو لأن الصلة حالت بينه وبين الخبر ، فأعيد المبتدأ.
ثم قال تعالى : خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ ، العجل والعجلة مصدران ، وهو تقديم الشيء على وقته. والمراد بالإنسان : الجنس ، جعل لفرط استعجاله ، وقلة صبره ، كأنه خلق من العجلة ، والعرب تقول لمن يكثر منه الشيء :
خلق منه ، تقول لمن يكثر منه الكرم : خلق من الكرم. ومن عجلته : مبادرته إلى الكفر واستعجاله بالوعيد. روى أنها نزلت فى النضر بن الحارث ، حين استعجل العذاب بقوله : اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا .. الآية «1» ، كأنه قال : ليس ببدع منه أن يستعجل ، فإنه مجبول على ذلك ، وطبعه ، وسجيته.
وعن ابن عباس رضي اللّه عنه : أن المراد بالإنسان آدم عليه السّلام ، فإنه حين بلغ الروح صدره أراد أن يقوم. وروى : أنه لما دخل الروح فى عينيه نظر إلى ثمار الجنة ، ولمّا وصل جوفه اشتهى الطعام ، فكانت العجلة من سجيته ، وسرت فى أولاده. وإنما منع الإنسان من الاستعجال وهو مطبوع عليه ، ليتكمل بعد النقص ، كما أمره بقطع الشهوة وقد ركّبها فيه لأنه أعطاه القدرة التي يستطيع بها قمع الشهوة وترك العجلة. قال القشيري : العجلة مذمومة ، والمسارعة محمودة. والفرق بينهما : أن المسارعة : البدار إلى الشيء فى أول وقته ، والعجلة : استقباله قبل وقته ، والعجلة سمة وسوسة الشيطان ، والمسارعة قضية التوفيق. ه.
وقال الورتجبي : خلقهم من العجلة ، وزجرهم عن التعجيل إظهارا لقهاريته على كل مخلوق ، وعجزهم عن الخروج عن ملكه وسلطانه. وحقيقة العجلة متولدة من الجهل بالمقادير السابقة. ه. قلت : مازالت الطمأنينة والرّزانة من شأن العارفين ، وبها عرفوا ، والعجل والقلق من شأن الجاهلين ، وبها وصفوا.
___________
(1) الآية 32 من سورة الأنفال.(3/462)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 463
وقيل : العجل الطين ، بلغة حمير ، ولا مناسبة له هنا.
قال تعالى ، صارفا للخطاب عن الرسول إلى المستعجلين : سَأُرِيكُمْ آياتِي : نقماتى ، كعذاب النار وغيره ، فَلا تَسْتَعْجِلُونِ بالإتيان بها ، وهو نهى عما جبلت عليه نفوسهم ليقهروها عن مرادها من الاستعجال.
وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ : إتيان العذاب ، أو القيامة ، إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ فى وعدكم بأنه يأتينا ، قالوه استعجالا بطريق الاستهزاء والإنكار ، لا طلبا لتعيين وقته ، والخطاب للنبى صلّى اللّه عليه وسلم والمؤمنين الذين يتلون الآيات الكريمة المنبئة عن مجىء الساعة. قال تعالى : لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا ، هذا استئناف مسوق لبيان شدة هول ما يستعجلونه ، وفظاعة ما فيه من العذاب ، وأنهم يستعجلونه لجهلهم بشأنه. وقوله تعالى : حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ : مفعول «يعلم» ، وهو عبارة عن الوقت الموعود ، الذي كانوا يستعجلونه. وقوله : لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا أي : حين يرون ويعلمون حقيقة الحال ، وهو معاينة العذاب. وجواب «لو» : محذوف ، أي : لو يعلمون الوقت الذي يستعجلونه بقولهم : متى هذا الوعد؟ وهو الوقت الذي تحيط بهم النار من ورائهم وقدامهم ، فلا يقدرون على دفعها ومنعها من أنفسهم ، ولا يجدون ناصرا ينصرهم ، لما كانوا بهذه الصفة من الكفر والاستهزاء والاستعجال ، ولكن جهلهم به هو الذي هوّنه عندهم.
بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً أي : بل تأتيهم النار أو الساعة فجأة ، فَتَبْهَتُهُمْ : فتحيّرهم أو تغلبهم ، فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها فلا يقدرون على دفعها عنهم ، أي : النار أو الساعة ، وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ : يمهلون ليستريحوا طرفة عين.
ثم سلّى رسوله عن استهزائهم ، فقال : وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ : نزل أو أحاط أو حلّ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ أي : من أولئك الرسل - عليهم السلام - جزاء ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ ، وهو العذاب الدائم. نسأل اللّه العافية.
الإشارة : كل من خرق عوائد نفسه ، وخرج عن عوائد الناس ، أو أمر بالخروج عن العوائد ، رفضه الناس واتخذوه هزوا ، سنة اللّه التي قد خلت من قبل ، لم يأت أحد بذلك إلا عودى ، فإن ظهر عليه أثر الخصوصية من علم لدنى ، أو هداية خلق على يده ، استعجلوه بإظهار الكرامة ، كما هو شأن الإنسان ، خلق من عجل ، فيقول :
سأوريكم آياتي ، فإن الأمر إذا كان مؤسسا على الحق لا بد أن تظهر أنواره وأسراره ، فلو يعلم الذين كفروا بطريق الخصوص ، حين ترهقهم الحسرة ، وتحيط بهم الندامة ، إذا رأوا أهل الصفاء يسرحون فى أعلى عليين حيث شاءوا ، وجوههم كالشموس الضاحية ، لبادروا إلى الانقياد لهم ، وتقبيل التراب تحت أقدامهم ، ولكنهم اليوم فى غفلة ساهون.(3/463)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 464
ويقال لمن أنكر عليه أهل زمانه طريق التجريد وخرق العوائد : ولقد استهزئ بمن كان قبلك ممن سلك هذه الطريق ، فأوذوا ، وضربوا ، وأخرجوا من بلادهم ، فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزؤون ، إما فى الدنيا أو فى الآخرة.
فإذا نزل بأسه فلا حافظ منه إلا الرحمن ، كما قال تعالى :
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 42 الى 44]
قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ مِنَ الرَّحْمنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (42) أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ (43) بَلْ مَتَّعْنا هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى طالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها أَفَهُمُ الْغالِبُونَ (44)
يقول الحق جل جلاله : قُلْ لهم يا محمد : مَنْ يَكْلَؤُكُمْ : يحفظكم بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ مِنَ بأس الرَّحْمنِ الذي تستحقونه ، إذا نزل بكم ليلا أو نهارا. قال الواسطي : من يحفظكم بالليل والنهار من الرحمن أن يظهر عليكم ما سبق فيكم؟ وقال ابن عطاء : من يكلؤكم من أمر الرحمن سوى الرحمن ، وهل يقدر أحد على الكلاءة سواه؟. وتقديم الليل لأن الدواهي فيه أكثر وقوعا وأشد وقعا. وفى التعرض لعنوان الرحمانية إيذان بأن كلاءتهم ليس إلا برحمته العامة. بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ أي : بل هم معرضون عن ذكره ، ولا يخطرونه ببالهم ، فضلا أن يخافوا بأسه ، حتى إذا رزقوا الكلاءة عرفوا من الكالئ ، وصلحوا للسؤال عنه.
والمعنى : أنه أمر رسوله - عليه الصلاة والسلام - بسؤالهم عن الكالئ ، ثم أضرب عنه ، وبيّن أنهم لا يصلحون لذلك ، لإعراضهم عن ذكر من يكلؤهم. هكذا للزمخشرى ومن تبعه. وقال ابن جزى : والمعنى : أنه تهديد وإقامة حجة عليهم لأنهم لو أجابوا عن هذا السؤال لاعترفوا بأنه ليس لهم مانع ولا حافظ غيره تعالى - يعنى لما جربوه فى أحوال محنتهم - ثم قال : وجاء قوله : (بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ) ، بمعنى أنهم ، إذا سئلوا ذلك السؤال ، لم يجيبوا عنه ، لأنهم تقوم عليهم الحجة إن أجابوا ، ولكنهم يعرضون عن ذكر اللّه. ه. أي : يعرضون عن أن يقولوا : كالئنا اللّه عتوا وعنادا. وهو معنى قوله : (بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ) ، كأنه قال : لو سئلوا ، لم يجدوا جوابا ، إلا أن يقولوا :
هو اللّه ، لكنهم يعرضون عن ذكره مكابرة. قلت : وما قاله ابن جزى أحسن مما قاله الزمخشري ومن تبعه ، وأقرب.
ثم قال تعالى : أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا ، هذا انتقال من بيان جهلهم بحفظه تعالى ، أو إعراضهم عن ذكره ، إلى توبيخهم باعتمادهم على آلهتهم. والمعنى : ألهم آلهة تمنعهم من العذاب تجاوز منعنا وحفظنا ، فهم يعولون عليها واثقون بحفظها؟ وفى توجيه الإنكار والنفي إلى وجود الآلهة بما ذكر من المنع ، لا إلى نفس الصفة ، (3/464)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 465
بأن يقال : أم تمنعهم آلهتهم .. إلخ ، من الدلالة على سقوطها عن مرتبة الوجود ، فضلا عن رتبة المنع ، مالا يخفى.
ثم قال تعالى : لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ أي : يجارون. والصاحب : المجير الوافي ، يعنى : أن الأصنام لا تجير نفسها ، ولا نجيرهم نحن ، أو لا يصحبهم نصر من جهتنا ، فهم لا يستطيعون أن ينصروا أنفسهم ، ولا يصحبون بالنصر والتأييد من جهتنا ، فكيف يتوهم أن ينصروا غيرهم؟.
بَلْ مَتَّعْنا هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى طالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ ، إضراب عما توهموه من منع آلهتهم وحفظها لهم ، أي : ما هم فيه من الحفظ والكلاءة إنما هو منا ، لا من مانع يمنعهم من إهلاكنا ، وما كلأناهم وآباءهم الماضين إلا تمتيعا لهم بالحياة الدنيا وإمهالا ، كما متعنا غيرهم من الكفار وأمهلناهم حتى طال عليهم الأمد فقست قلوبهم ، وظنوا أنهم دائمون على ذلك ، وهو أمل كاذب. أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها أي :
ألا ينظرون فيرون أنّا نأتى أرض الكفرة فننقصها من أطرافها بإدخالها فى أيدى المسلمين ، فكيف يتوهمون أنهم ناجون من بأسنا. وهو تمثيل وتصوير لما يخربه اللّه من ديارهم على أيدى المسلمين ، ويضيفها إلى دار الإسلام.
وفى التعبير بنأتى : إشارة إلى أن اللّه تعالى يجريه على أيدى المسلمين ، وأن عساكرهم كانت تأتيهم لغزوهم غالبة عليهم ، ناقصة من أطراف أرضهم. أَفَهُمُ الْغالِبُونَ على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم والمؤمنين ، أي : أفكفار مكة يغلبون بعد أن نقصنا من أطراف أرضهم؟ أي : ليس كذلك ، بل يغلبهم الرسول - عليه الصلاة والسلام - وأصحابه الكرام ، وقد تحقق ذلك وأنجز اللّه وعده ، واللّه غالب على أمره.
الإشارة : قل من يكلؤ قلوبكم وأسراركم من الرحمن ، أن يذهب بما أودع فيها من المعارف وأنوار الإحسان؟
فلا أحد يحفظها إلا من رحمها بما أودع فيها ، ولهذا كان العارفون لا يزول اضطرارهم ، ولا يكون مع غير اللّه قرارهم ، لا يعتمدون على عمل ولا حال ، ولا على علم ولا مقال ، وفى الحكم : «إلهى ، حكمك النافذ ، ومشيئتك القاهرة ، لم يتركا لذى حال حالا ، ولا لذى مقال مقالا». وقال أيضا : «إلهى كم من طاعة بنيتها وحالة شيدتها ، هدم اعتمادي عليها عدلك ، بل أقالنى منها فضلك». وكثير من الناس غافلون عن هذا المعنى ، بل هم عن ذكر ربهم معرضون.
قال الورتجبي : قوله تعالى : (قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ ...) الآية ، أخبر عن كمال إحاطته بكل مخلوق ، وتنزيهه عن العجلة بمؤاخذتهم ، كأنه يقول : أنا بذاتى تعاليت ، أدفع بلطفي القديم عنكم قهرى القديم ، ولو لا فضلى السابق وعنايتى القديمة بالرحمة عليكم ، من يدفعه بالعلة الحدثانية؟ وهذا من كمال لطفى عليكم ، وأنتم بعد معرضون عنى يا أهل الجفا ، وذلك قوله : (بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ). ه بلفظه مع تصحيف فى النسخة.(3/465)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 466
وقوله تعالى : (بَلْ مَتَّعْنا هؤُلاءِ ...) الآية ، تمتيع العبد بطول الحياة ، إن كان ذلك فى طاعة اللّه ، وازدياد فى معرفته ، فهو من النعم العظيمة. وفى الحديث : «خيركم من طال عمره وحسن عمله» «1». لكن عند الصوفية :
أنه لا ينبغى للمريد أن ينظر إلى ما مضى من عمره فى طريق القوم ، فقد كان بعض الشيوخ يقول : لا يكن أحدكم عبد الدهور وعبد العدد. قال الشيخ أبو العباس المرسى رضى اللّه عنه : معنى كلامه : أنه لا ينبغى للفقير أن يعد كم له فى طريق القوم ، ليقول : أنا لى كذا وكذا من السنين فى طريق القوم. ه بالمعنى. ولعل علة النهى لئلا يرى للأيام تأثيرا فى الفتح ، فقد قالوا : هى لمن صدق لا لمن سبق.
وقوله تعالى : (أَ فَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها) قال القشيري : فيه إشارة إلى سقوط قوى العبد بمرور السنين ، وتطاول العمر ، فإن آخر الأمر «2» كما قيل :
آخر الأمر ما ترى : القبر واللّحد والثرى
وكما قيل :
طوى العصران «3» ما نشراه منى فأبلى جدّتى نشر وطيّ
أرانى كلّ يوم فى انتقاص ولا يبقى مع النقصان شيّ «4»
وكأنه فسر الأرض بأرض النفوس من باب الإشارة. واللّه تعالى أعلم.
ولمّا بيّن الحق تعالى غاية هول ما يستعجله المستعجلون ، ونهاية سوء حالهم ، عند إتيانه ، ونعى عليهم جهلهم بذلك ، وإعراضهم عند ذكر ربهم ، الذي يكلؤهم من طوارق الليل والنهار ، أمر نبيه - عليه الصلاة والسلام - بأن يخبرهم أن ما ينذرهم به ، مما يستعجلونه ، إنما هو بالوحى ، لا من عنده ، فقال :
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 45 الى 47]
قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ إِذا ما يُنْذَرُونَ (45) وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (46) وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ (47)
___________
(1) أخرجه الترمذي (ح 2329) عن عبد اللّه بن بسر ، وحسّنه ، بلفظ : «خير الناس من طال عمره وحسن عمله».
(2) فى الأصول : إلى آخر الأمد.
(3) فى الأصول : «العمران ما نشاه» ، والمثبت : من لطائف الإشارات ... والعصران : الغداة والعشى ، أو الليل والنهار. انظر : اللسان (عصر 4/ 2968).
(4) نسب البيتان إلى محمد بن يعقوب بن إسماعيل ، انظر : الوافي بالوفيات (5/ 222) ، كما نسبا إلى أبى بكر بن أبى الدنيا ، كما فى تاريخ بغداد (14/ 311). [.....](3/466)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 467
قلت : من قرأ : «يسمع» بفتح الياء ، فالصّم : فاعل ، والدعاء : مفعول ، ومن قرأ بضم التاء ، رباعى فالصم : مفعول أول ، والدعاء : مفعول ثان. ومن قرأ : «مثقال» بضم اللام ، فكان تامة ، وبالنصب : خبر كان ، أي : وإن كان العمل المدلول عليه بوضع الموازين.
يقول الحق جل جلاله : قُلْ لهم يا محمد : إِنَّما أُنْذِرُكُمْ وأخوفكم من العذاب الذي تستعجلونه ، أو بالساعة الموعودة ، بِالْوَحْيِ القرآنى الصادق ، الناطق بإتيانه ، وفظاعة شأنه ، أي : إنما شأنى أن أنذركم بالإخبار به ، لا بإتيانه فإنه مخالف للحكمة الإلهية إذ الإيمان برهانى لا عيانى ، فإذا أنذرتهم فلا يسمع إنذارك إلا من سبقت له العناية ، دون من سبق له الشقاء ، ولذلك قال تعالى : وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ أي :
الإنذار ، أو لا تسمع أنت الصمّ الدعاء إِذا ما يُنْذَرُونَ يخوّفون ، واللام فى الصُّمُّ للعهد ، وهو إشارة إلى هؤلاء المنذرين ، والأصل : ولا يسمعون إنذارك إذا ينذرون ، فوضع الظاهر موضع المضمر إشارة إلى تصاممهم وسد أسماعهم إذا أنذروا ، وتسجيلا عليهم بذلك. وفى التعبير بالدعاء ، دون الكلام فى الإنذار ، إشارة إلى تناهى صممهم فى حال الإنذار ، فإن الدعاء من شأنه أن يكون بأصوات عالية مكررة مقارنة لهيئة دالة عليه ، فإذا لم يسمعوا ، مع هذه الحالة ، يكون صممهم فى غاية لا غاية وراءها.
وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ أي : دفعة يسيرة مِنْ عَذابِ رَبِّكَ أي : كائنة منه ، لَيَقُولُنَّ يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ ، وهذا بيان لسرعة تأثيرهم من مجىء نفس العذاب ، إثر بيان عدم تأثرهم من مجرد الإخبار به ، لانهماكهم فى الغفلة ، أي : واللّه لئن أصابهم أدنى شىء من هذا العذاب الذي ينذرون به ، لذلوا ، ودعوا بالويل على أنفسهم ، وأقروا بأنهم ظلموا أنفسهم حين تصامموا وأعرضوا. وقد بولغ فى الكلام ، حيث عبّر بالمس والنفح لأن النفح يدل على القلة ، فأصل النفح : هبوب رائحة الشيء ، يقال : نفحه بعطية ، إذا أعطاه شيئا يسيرا ، مع أن بناءها للمرة مؤكد لقلتها.
ثم بيّن ما يقع عند إتيان ما أنذروه ، فقال : وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ أي : نقيم الموازين العادلة التي توزن بها الأعمال ، وهو جمع ميزان ، وهو ما يوزن به الشيء ليعرف كمّيته. وعن الحسن : «هو ميزان له كفتان ولسان» ، وإنما جمع الموازين لتعظيم شأنها ، والوزن لصحائف الأعمال فى قول ، وقيل : وضع الميزان كناية عن تحقيق العدل ، والجزاء على حسب الأعمال. وإفراد القسط لأنه مصدر وصف به للمبالغة ، كأنها فى نفسها قسط ، أو على حذف مضاف ، أي : ذوات القسط. وقوله : لِيَوْمِ الْقِيامَةِ أي : لأهل يوم القيامة ، أي : لأجلهم ، أو فى يوم القيامة ، فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً من الظلم ، ولا تنقص حقا من حقوقها ، بل يؤتى كل ذى حق حقه ، إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر.(3/467)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 468
وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أي : وإن كان الشيء أو العمل مثقال حبة من خردل ، أَتَيْنا بِها :
أحضرناها وجازينا عليها ، وأنث ضمير المثقال لإضافته إلى حبة ، وَكَفى بِنا حاسِبِينَ ، إذ لا مزيد على علمنا وعدلنا ، أو عالمين حافظين ، لأن من حسب شيئا علمه وحفظه ، قاله ابن عباس - رضى اللّه عنهما.
الإشارة : كان صلى اللّه عليه وسلم ينذر الناس ويذكّرهم بالوحى التنزيلى ، وبقي خلفاؤه يذكرون بالوحى الإلهامى ، موافقا للتنزيلى ، ولا يسمع وعظهم ويحضر مجالسهم إلا من سبقت له سابقة العناية ، وأما من انتكبت عنه العناية تنكب مجالسهم ، وتصامم عن وعظهم وتذكيرهم ، ولا يسمع الصمّ الدعاء إذا ما ينذرون ، ولا يندمون إلا حين تنزل بهم الأهوال ، ولا ينفع الندم وقد جف القلم ، وذلك حين توضع موازين الأعمال ، فتثقل أعمال المخلصين ، وتخف أعمال المخلّصين ، ولا توضع الموازين إلا لأهل النفوس الموجودة ، وأما من غاب عن نفسه فى شهود محبوبه ، لفنائه فى شهوده ، وانطوائه فى وجوده ، فلا ينصب له ميزان إذ لا يشهد لنفسه حسا ولا فعلا ولا تركا ، وإنما الفعل كله للواحد القهار. ويكون من السبعين ألفا الذين يدخلون الجنة بغير حساب ، جعلنا اللّه من خواصهم بمنّه وكرمه. آمين.
ثم شرع فى تفصيل ما أجمل فى قوله : وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ ، إلى قوله : وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ «1» ، فقال :
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 48 الى 50]
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ (48) الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (49) وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (50)
يقول الحق جل جلاله : وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ
،
هذه الأوصاف كلها للتوراة ، فهى فرقان بين الحق والباطل ، وضياء يستضاء به ، ويتوصل به إلى سبيل النجاة ، وذكرا ، أي : شرفا ، أو وعظا وتذكيرا. وتوكيده بالقسم لإظهار كمال الاعتناء به ، أي : واللّه لقد آتيناهما وحيا ساطعا وكتابا جامعا بين كونه فارقا بين الحق والباطل ، وضياء يستضاء به فى ظلمات الجهل والغواية ، وذكرا ينتفع به الناس ، أو شرفا لمن عمل به ، وتخصيص المتقين بالذكر لأنهم المستضيئون بأنواره ، المغتنمون لمغانم آثاره ، أو ذكر ما يحتاجون إليه من الشرائع والأحكام ، ودخلت الواو فى الصفات ، كقوله تعالى : وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيًّا «2» ، وتقول : مررت بزيد الكريم والعالم والصالح.
___________
(1) الآيات : 7 - 9.
(2) من الآية 39 من سورة آل عمران.(3/468)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 469
ثم وصف المتقين أو مدحهم بقوله : الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ، حال كونهم بِالْغَيْبِ أي : يخافون عذابه تعالى ، وهو غائب عنهم غير مشاهد لهم ، ففيه تعريض بالكفرة ، حيث لا يتأثرون بالإنذار ما لم يشاهدوا ما أنذروه. أو يخافون اللّه فى الخلاء كما يخافونه بين الناس ، أو يخافونه بمجرد الإيمان به غير مشاهدين له ، وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ أي : خائفون معتنون بالتأهب لها. وتخصيص إشفاقهم منها بالذكر ، بعد وصفهم بالخشية على الإطلاق للإيذان بكونها أعظم المخلوقات ، وللتنصيص على الاتصاف بضد ما اتصف به الكفرة الغافلون عنها ، وإيثار الجملة الاسمية للدلالة على ثبات الإشفاق ودوامه لهم.
وَهذا أي : القرآن الكريم ، أشير إليه بهذا إيذانا بغاية وضوح أمره ، ذِكْرٌ يتذكر به من تذكر ، وصفه ببعض أوصاف التوراة لموافقته له فى الإنزال ، ولما مرّ فى صدر السورة من قوله : ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ ... «1» إلخ ، مُبارَكٌ كثير الخير ، غزير النفع ، يتبرك به على الدوام. قال القشيري : وصفه بالبركة هو إخبار عن ثباته ، من قولهم : برك البعير ، وبرك الطائر على الماء ، أي : داوم. وهذا الكتاب دائم ، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، وهو دال على كلامه القديم ، فلا انتهاء له ، كما لا ابتداء له ولا انتهاء لكلامه. ه.
أَنْزَلْناهُ على محمد صلى اللّه عليه وسلم ، وهو صفة ثانية للكتاب أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ استفهام توبيخى ، أي : جاحدون أنه منزل من عند اللّه ، والمعنى : أبعد أن علمتم أن شأنه كشأن التوراة ، فى الإنزال والإيحاء ، أنتم منكرون لكونه منزلا من عندنا فإن ذلك ، بعد ملاحظة التوراة ، مما لا مساغ له أصلا. وباللّه التوفيق.
الإشارة : كل ما وصف به التوراة وصف به كتابنا العزيز ، قال تعالى تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ «2» وقال : وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً «3» ، وقال هنا : وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ ، فزاده البركة لعموم خيره ودوام نفعه ، وخصوصا للمتقين الذين يخشون ربهم بالغيب : قال القشيري : والخشية بالغيب : إطراق السريرة فى أول الحضور ، باستشعار الوجل من جريان سوء الأدب ، والحذر من أن يبدو من الغيب بغتات التقدير ، مما يوجب حجبة العبد. ه.
ثم ذكر بقية المشاهير من الرسل ، وبدأ بإبراهيم لموافقة شريعتنا له ، ولكونه أصل الجلّ منهم ، فقال :
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 51 الى 56]
وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ (51) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ (52) قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ (53) قالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (54) قالُوا أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللاَّعِبِينَ (55)
قالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (56)
___________
(1) الآية : 2.
(2) من الآية الأولى من سورة الفرقان.
(3) من الآية 174 من سورة النساء.(3/469)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 470
قلت : «إذ قال» : ظرف لآتينا ، أو لرشده.
يقول الحق جل جلاله : وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ أي : الرشد اللائق به وبأمثاله من كبراء الرسل ، وهو الاهتداء الكامل ، المستند إلى الهداية الخاصة الحاصلة بالوحى ، مع الاقتدار على إصلاح الأمة وإرشادها بسياسة النبوة والوحى الإلهى ، مِنْ قَبْلُ أي : من قبل إيتاء موسى وهارون التوراة ، وتقديم ذكرهما ، لما بين التوراة والقرآن من الشبه التام. وقيل : من قبل إنزال القرآن ، أو من قبل استنبائه ، أو من قبل بلوغه ، وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ أي : بأنه أهل لما آتيناه ، أو عالمين برشده ، وما خصصناه به من الهداية الخاصة. إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ أي :
آتيناه ذلك حين قال لأبيه ، أو اذكر وقت قوله لهم : ما هذِهِ التَّماثِيلُ أي : الأصنام المصورة على صورة السباع والطيور والإنسان ، وفيه تجاهل بهم تحقيرا لها ، مع علمه بتعظيمهم لها توبيخا لهم على إجلالها مع كونها خشبا وأحجارا لا تضر ولا تنفع ، الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ أي : لأجل عبادتها مقيمون ، فلما عجزوا عن الدليل قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ فقلدناهم ، فأبطله عليه السّلام ، على طريقة التوكيد بالقسم ، فقال : لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ الذين سنّوا لكم هذه السّنّة الباطلة ، فِي ضَلالٍ مُبِينٍ : ظاهر بيّن ، بحيث لا يخفى على أحد من العقلاء ، أي : واللّه لقد كنتم مستقرين فى ضلال عظيم ظاهر لعدم استناده إلى دليل ، فالتقليد إنما يجوز فيما يحتمل الحقّية فى الجملة ، لا فيما اتضح بطلانه ، سيما فى أمر التوحيد.
قالُوا أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ أي : بالجد ، أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ ، فتقول ما تقول على الملاعبة والمزاح.
والمعنى : أجاد أنت ، أم لاعب فيما تقول؟ قالوا ذلك استعظاما منهم لإنكاره ، واستبعادا لكون ما هم عليه ضلال ، وتعجيبا من تضليله إياهم.
ثم أضرب عنهم مخبرا بأنه جاد فيما قال ، غير لاعب ، بإقامة البرهان على بطلان ما ادعوه فقال : بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ ، لا التماثيل التي صورتم. وقيل : هو إضراب عما بنوا عليه مقالتهم من اعتقاد كونها أربابا لهم ، كما يفصح عنه قولهم : نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ «1» ، كأنه قال :
ليس الأمر كذلك ، بل ربكم رب السموات والأرض الذي خلقهن وأنشأهن ، فالضمير للسماوات والأرض ، وصفه تعالى بإيجادهن ، إثر وصفه تعالى بربوبيته لهن تحقيقا للحق ، وتنبيها على أن ما لا يكون كذلك بمعزل من
___________
(1) من الآية 71 من سورة الشعراء.(3/470)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 471
الربوبية ، أي : أنشأهن بما فيهن من المخلوقات ، التي من جملتها أنتم وآباؤكم وما تعبدونه ، من غير مثال يحتذيه ، ولا قانون ينتحيه. وقيل : الضمير للتماثيل ، وهو أدخل فى تضليلهم ، وأظهر فى إلزام الحجة عليهم لما فيه من التصريح المغني عن التأمل فى كون ما يعبدونه من المخلوقات ، والأول أقرب.
ثم قال عليه السّلام : وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ الذي ذكرت : من كون ربكم ربّ السماوات والأرض ، دون ما عداه ، كائنا ما كان ، مِنَ الشَّاهِدِينَ أي : العالمين به على سبيل الحقيقة ، المبرهنين عليه ، فإن الشاهد على الشيء : من تحققه وبرهن عليه ، كأنه قال : وأنا أعلم ذلك ، وأتحققه ، وأبرهن عليه ، واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : زخارف الدنيا وبهجتها ، من تشييد بناء ، وتزويق سقف وحيطان ، وإنشاء غروس وبساتين ، وجمع أموال ، وتربية جاه ، كلها تماثيل لا حقيقة لها ، فانية لا دوام لها. فمن عكف عليها ، وأولع بخدمتها وجمعها وتحصيلها ، كان عابدا لها ، فينبغى لذى الرشد والعقل الوافر ، الذي تحرر منها ، أن ينكر عليهم ، ويقول لهم : ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون ، فإن قالوا : وجدنا آباءنا يفعلون هذا ، وعلماءنا مثلنا ، فليقل لهم : لقد كنتم وآباؤكم وعلماؤكم فى ضلال مبين ، عما كان عليه الأنبياء والأولياء والسلف الصالح. فإن قالوا : أجادّ أنت أم لا؟ فليقل : بل ربكم الذي ينبغى أن يفرد بالمحبة والخدمة ، هو رب السماوات والأرض ، لا ما أنتم عليه من محبة الدنيا وبهجتها ، وأنا على ذلكم من الشاهدين.
ثم ذكر كسره للأصنام ، وما ترتب عليه ، فقال :
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 57 الى 67]
وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57) فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً إِلاَّ كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (58) قالُوا مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59) قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ (60) قالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (61)
قالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ (62) قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ (63) فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (64) ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ (65) قالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ (66)
أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (67)
قلت : (مَنْ فَعَلَ) : استفهام ، وقيل : موصولة ، و(إِنَّهُ) : خبرها ، أي : الذي فعل هذا معدود من الظلمة ، و(يَذْكُرُهُمْ) : إما مفعول ثان لسمع لتعلقه بالذات ، على قول ، أو صفة لفتى. و(يُقالُ) : صفة أخرى لفتى.
و«إبراهيم» : نائب فاعل يقال.(3/471)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 472
يقول الحق جل جلاله حاكيا عن خليله عليه السّلام : وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ أي : لأمكرنّ بها ، وأجتهد فى كسرها ، وفيه إيذان بصعوبة الانتهاز ، وتوقفه على الحيل والسياسة ، وذلك الكيد بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ بعد ذهابكم عنها إلى عيدكم. قال مجاهد : إنما قاله سرا ، ولم يسمعه إلا رجل فأفشاه عليه ، وقال : سمعت فتى يذكرهم. وقال السدى : كان لهم فى كل سنة مجمع وعيد ، فإذا رجعوا من عيدهم دخلوا على أصنامهم فسجدوا لها ، وقال أبو إبراهيم : يا إبراهيم ، لو خرجت معنا إلى عيدنا لأعجبك ، فخرج إلى بعض الطريق ، وقال : إنى سقيم ، أشتكى رجلى. فلما مضوا نادى فى آخرهم - وقد بقي ضعفاء الناس - : تَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ فسمعوه ، ثم دخل بيت الأصنام ، فوجد طعاما كانوا يضعونه عندها للبركة ، فإذا رجعوا أكلوه ، فَقالَ أَلا تَأْكُلُونَ؟ استهزاء بها ، فلم يجبه أحد ، فقال : ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ فَراغَ مال عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ «1».
فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً أي : قطعا ، جمع جذيذ. وفيه لغتان : الكسر ، كخفيف وخفاف ، والضم كحطيم وحطام.
روى أنها كانت سبعين صنما مصطفة. وثمّ صنم عظيم مستقبل الباب ، وكان من ذهب ، وفى عينيه جوهرتان تضيئان بالليل ، فكسر الكل بفأس كان بيده ، ولم يبق إلا الكبير ، علّق الفأس فى عنقه ، وذلك قوله تعالى :
إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ أي : للأصنام لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ أي : إلى إبراهيم عليه السّلام يَرْجِعُونَ فيحاجهم بما سيأتى فيغلبهم ، أو إلى دينه إذا قامت الحجة عليهم. وقيل : إلى الكبير يسألونه عن الكاسر لأن من شأن الكبير أن يرجع إليه فى الملمات. وقيل : إلى اللّه تعالى وتوحيده ، عند تحققهم بعجز آلهتهم عن دفع ما يصيبهم وعن الإضرار بمن كسرهم.
فلما رجعوا من عيدهم ، ورأوا ما صنع بآلهتهم ، قالُوا مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا ، على طريق الإنكار والتوبيخ ، إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ أي : لشديد الظلم لجرأته على الآلهة ، التي هى عندهم فى غاية التوقير والتعظيم. أو لمن الظالمين حيث عرّض نفسه للهلكة ، قالُوا أي : بعض منهم ، وهو من سمع مقالته : سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ أي : يعيبهم ، فلعله فعل ذلك بها ، يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ أي : يقال له هذا الاسم. قالُوا أي : السائلون : فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ أي : بمرأى منهم ، بحيث يكون نصب أعينهم ، لا يكاد يخفى على أحد ، لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ عليه بما سمع منه ، أو بما فعله ، كأنهم كرهوا عقابه بلا بينة ، أو يحضرون عقوبتنا له.
فلما أحضروه قالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ؟ واختصر إحضاره للتنبيه على أن إتيانهم به ، ومسارعتهم إلى ذلك ، أمر محقق غنى عن البيان قالَ إبراهيم عليه السّلام : بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا ، غار أن
___________
(1) كما جاء فى الآية 93 من سورة الصافات.(3/472)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 473
يعبدوا معه ، مشيرا إلى الذي لم يكسره. وعن الكسائي : أنه يقف على (بَلْ فَعَلَهُ) أي : فعله من فعله ، ثم ابتدأ :
كبيرهم هذا يخبركم فسلوه ... إلخ ، والأكثر : أنه لا وقف ، والفاعل : كبيرهم. و«هذا» : بدل ، أو وصف ، ونسب الفعل إلى كبيرهم ، وقصده تقريره لنفسه وإسناده لها ، على أسلوب تعريضى تبكيتا لهم ، وإلزاما للحجة عليهم ، لأنهم إذا نظروا النظر الصحيح علموا عجز كبيرهم ، وأنه لا يصلح للألوهية ، وهذا كما لو كتبت كتابا بخط أنيق ، وأنت شهير بحسن الخط ، ومعك صاحب أمي ، فقال لك قائل : أأنت كتبت هذا؟ فتقول : بل كتبه هذا ، وهو يعلم أنه أمي لا يحسن الكتابة ، فهو تقرير لإثبات الكتابة لك على أبلغ وجه.
قال الكواشي : ومن الجائز أن يكون أذن اللّه تعالى له فى ذلك كما أذن ليوسف حين نادى على إخوته : إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ «1» ، ولم يكونوا سارقين لما فى ذلك من المصلحة لأنهم إذا نظروا النظر الصحيح ، وسألوا ، علموا أن كبيرهم لم يفعل شيئا ، وأنه عاجز عن النطق ، فضلا عن الفعل ، فلا يجوز أن يعبد ، ولا يستحق العبادة إلا القادر الفعال. ه.
وقيل : أسند الفعل إلى كبيرهم لأنه الحامل له على كسرها ، حيث رآه يعظّم أكثر منها ، ويعبد من دون اللّه ، فاشتد غضبه حتى كسرها ، وهو بعيد إذ لو كان كذلك لكسره أولا ، فتحصل أنه عليه السّلام إنما قصد التعريض بعبادتهم ، لا الإخبار المحض ، حتى يكون كذبا. فإن قلت : قد ورد فى الحديث أن إبراهيم كذب ثلاث كذبات «2»؟
فالجواب : أن معنى ذلك : أنه قال قولا ظاهره الكذب ، وإن كان القصد به معنى آخر. قاله ابن جزى.
ثم قال لهم : فَسْئَلُوهُمْ عن حالهم ، إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ فتجيبكم بمن كسرهم ، وأنتم تعلمون عجزهم عنه ، فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ أي : رجعوا إلى عقولهم ، وتفكروا بقلوبهم ، وتذكروا أنّ ما لا يقدر على دفع المضرة عن نفسه ولا على الإخبار بمن كسره ، فكيف يستحق أن يكون معبودا؟ فَقالُوا أي : قال بعضهم لبعض : إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ على الحقيقة ، حيث عبدتم من لا ينطق ولا يضر ولا ينفع لأنّ من لا يدفع عن رأسه الفأس ، فكيف يدفع عن عابده البأس! فأنتم الظالمون بعبادتها لا من ظلمتموه بقولكم : (إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ). أو : أنتم الظالمون لا من كسرها ، ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ ، وردّوا إلى أسفل سافلين ، أجرى الحقّ على لسانهم فى القول الأول ، ثم أدركتهم الشقاوة ، أي : انقلبوا إلى المجادلة ، بعد ما استقاموا بالمراجعة ، شبّه عودهم
___________
(1) من الآية 70 من سورة يوسف.
(2) الحديث أخرجه البخاري فى (أحاديث الأنبياء ، باب قول اللّه تعالى : وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا.) ومسلم فى «الفضائل ، باب من فضائل إبراهيم» من حديث أبى هريرة رضى اللّه عنه.(3/473)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 474
إلى الباطل بصيرورة أسفل الشيء أعلاه ، قائلين : لَقَدْ عَلِمْتَ يا إبراهيم ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ ، فكيف تأمرنا بسؤالها؟.
قالَ مبكتا لهم وتوبيخا : أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي : متجاوزين عبادته تعالى إلى ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً من النفع ، وَلا يَضُرُّكُمْ إن لم تعبدوه ، فإنّ العلم بالحالة المنافية للألوهية مما يوجب اجتناب عبادته ، أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ، أفّ : اسم صوت تدل على التضجر ، تضجر عليه السّلام من إصرارهم على الباطل ، بعد انقطاع عذرهم ووضوح الحق ، فأفّف بهم وبأصنامهم ، أي : لكم ولأصناكم هذا التأفف ، أَفَلا تَعْقِلُونَ أن من هذا وصفه لا يستحق أن يكون إلها. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : من أراد أن يكون إبراهيميا حنيفيا فليكسر أصنام نفسه ، وهى ما كانت تهواه وتميل إليه من الحظوظ النفسانية والشهوات الجسمانية ، حتى تنقلب حقوقا ربانية ، فحينئذ يريه الحق ملكوت السموات والأرض ، ويكون من الموقنين. وأمّ الشهوات : حب الدنيا ، ورأسها : حب الرئاسة والجاه ، وأكبر الأصنام : وجودك الحسى ، فلا حجاب أعظم منه ، ولذلك قيل :
وجودك ذنب لا يقاس به ذنب فإن غبت عنه ، وكسرته ، غابت عنك جميع العوالم الحسية ، وشهدت أسرار المعاني القدسية ، فشهدت أسرار الذات وأنوار الصفات ، وإلى هذا المعنى أشار ابن العريف رضى اللّه عنه بقوله :
بدا لك سرّ طال عنك اكتتامه ولاح صباح كنت أنت ظلامه
فأنت حجاب القلب عن سرّ غيبه ولولاك لم يطبع عليه ختامه
فإن غبت عنه حلّ فيه ، وطنّبت على موكب الكشف المصون خيامه
وجاء حديث لا يمل سماعه شهىّ إلينا نثره ونظامه
إذا سمعته النّفس طاب نعيمها وزال عن القلب المعنّى غرامه
فالغيبة عن وجود العبد فناء ، والرجوع إليه لوظائف العبودية بقاء ، وإليه الإشارة بقوله تعالى : (إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ) أي : إلا كبير الأصنام ، وهو وجودك الوهمي ، فلا ينبغى الغيبة عنه بالكلية حتى يترك وظائف العبودية والقيام بحقوق البشرية ، فإنّ هذا اصطلام ، بل ينبغى ملاحظته ، لعله يقع الرجوع إليه فى مقام البقاء ، واللّه تعالى أعلم.(3/474)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 475
ثم ذكر قصة تحريقه وإنجائه ، فقال :
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 68 الى 70]
قالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (68) قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ (69) وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ (70)
يقول الحق جل جلاله : قالُوا حَرِّقُوهُ أي : قال بعضهم لبعض ، لمّا عجزوا عن المحاججة ، وضاقت عليهم الحيل ، وعييت بهم العلل ، وهذا ديدن المبطل المحجوج ، إذا قرعت شبهه بالحجة القاطعة وافتضح ، لم يبق له حينئذ إلا المناصبة والمعاداة ، فناصبوا إبراهيم عليه السّلام ، وقالوا حرّقوه بالنار لأنه أشد العقوبات ، وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ بالانتقام لها إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ للنصر ، أي : إن كنتم ناصرين آلهتكم نصرا مؤزرا ، فاختاروا له أهول المعاقبات ، وهو الإحراق ، وإلّا فقد فرطتم فى نصرتها ، والذي أشار بالإحراق نمرود ، أو رجل من أكراد فارس ، اسمه «هيزن» ، وقيل : «هدير» ، خسفت به الأرض ، فهو يتجلجل إلى يوم القيامة «1».
روى أنهم ، لما أجمعوا على حرقه عليه السّلام ، بنوا له حظيرة بكوثى - قرية من قرى الأنباط بالعراق - فجمعوا صلاب الحطب من أصناف الخشب ، مدة أربعين يوما ، وقيل : شهرا ، حتى إن المرأة تنذر : لئن أصابت حاجتها لتحطبنّ فى نار إبراهيم. ثم أوقدوا نارا عظيمة ، لا يكاد يحوم حولها أحد ، حتى إن كانت الطير لتمر بها ، وهى فى أقصى الجو فتحترق من شدة وهجها ، ولم يقدر أحد أن يقربها ، فلم يعلموا كيف يلقونه عليه السّلام فيها ، فأتى إبليس وعلمهم علم المنجنيق ، فعملوه. وقيل : صنعه لهم رجل من الأكراد ، فخسف اللّه تعالى به فى الأرض مثل الآخر ، ثم عمدوا إلى إبراهيم عليه السّلام ، فوضعوه فيه مغلولا مقيدا مجردا ، فصاحت السماء والأرض ومن فيها من الملائكة : يا ربنا ، إبراهيم ، ليس فى الأرض أحد يعبدك غيره ، يحرق فيك ، فأذن لنا فى نصرته ، فقال لهم : إن استغاث بواحد منكم فأغيثوه ، فرموا به فيها من مكان شاسع ، فقال له جبريل عليه السّلام ، وهو فى الهواء : ألك حاجة؟ فقال : أما إليك فلا.
قال : فسل ربك. فقال : حسبى من سؤالى علمه بحالي «2» ، فرفع همته عن الخلق ، واكتفى بالواحد الحق ، فجعل اللّه الخطيرة روضة. وهذا معنى قوله : قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ أي : كونى ذات برد وسلام ، أي : ابردى بردا غير ضار.
___________
(1) أخرجه الطبري (17/ 43) عن شعيب الجبائي.
(2) انظر تفسير الطبري (17/ 44) والبغوي (5/ 327) وابن كثير (3/ 184). والوارد فى ابن كثير : «أما إليك : فلا ، وأما إلى اللّه ، فبلى».(3/475)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 476
قال ابن عباس : لو لم يقل «وسلاما» لمات إبراهيم من بردها ، ولم تبق يومئذ نار إلا طفئت ، ظنت أن الخطاب توجه لها ، فما انتفع أحد من أهل الأرض يومئذ بنار ، ولم تبق دابة إلا أتت تطفئ عنه النار ، إلا الوزغ «1». فلذلك أمر نبينا صلى اللّه عليه وسلم. بقتلها «2» ، وسماها فويسقا «3». قال السدى : فأخذت الملائكة بضبعي إبراهيم وأقعدوه على الأرض ، فإذا عين ماء عذب وورد أحمر ونرجس. قال كعب : ما أحرقت النار من إبراهيم إلا وثاقه «4». وروى أنه عليه السّلام مكث فيها سبعة أيام ، وقيل : أربعين ، وقيل : خمسين ، والأول أقرب.
قال إبراهيم عليه السّلام : ما كنت أياما قط أنعم منى من الأيام التي كنت فيها. قال ابن بسار : وبعث اللّه تعالى ملك الظل فقعد إلى جنبه يؤنسه ، قالوا : وبعث اللّه بقميص من حرير الجنة. قلت : وقد تقدم ذكره فى سورة يوسف «5».
وأتاه جبريل فقال : إن ربك يقول : أما علمت أن النار لا تضر أحبائى. فنظر نمرود من صرحه ، فأشرف عليه ، فرآه جالسا فى روضة مونقة ، ومعه جليس على أحسن ما يكون من الهيئة ، والنار محيطة به ، فنادى : يا إبراهيم هل تستطيع أن تخرج منها؟ قال : نعم ، قال : فاخرج ، فقام يمشى فخرج منها ، فاستقبله نمرود وعظّمه. وقال : من الرجل الذي رأيته معك؟ قال ذلك ملك الظل ، أرسله ربى ليؤنسنى ، فقال : إنى مقرب إلى إلهك قربانا لما رأيته من قدرته وعزته فيما صنع بك. فقال عليه السّلام : لا يقبل اللّه منك ما دمت على دينك هذا ، حتى تفارقه إلى دينى ، قال :
لا أستطيع ترك ملكى ، ولكن سأذبح له أربعة آلاف بقرة ، فذبحها ، وكف عن إبراهيم «6» عليه السّلام.
قال شعيب الجبائي : ألقى إبراهيم فى النار وهو ابن ست عشرة سنة ، وذبح إسحاق «7» وهو ابن سبع سنين ، وولدته سارة وهى بنت تسعين سنة ، ولمّا علمت ما أراد من ذبحه بقيت يومين وماتت فى الثالث «8» .. ه. وهذا كما ترى من أكبر المعجزات ، فإنّ انقلاب النار هواء طيبا ، وإن لم يكن بدعا من قدرة اللّه ، لكنه من أكبر الخوارق ، واختلف فى كيفية برودتها فقيل : إن اللّه تعالى أزال ما فيها من الحر والإحراق ، وقيل : دفع اللّه عن جسم إبراهيم حرها وإحراقها مع ترك ذلك فيها ، واللّه على كل شىء قدير.
___________
(1) قال فى النهاية : الوزغ : جمع وزغة وهى التي يقال لها : سامّ أبرص ، انظر النهاية (وزغ) ، والأثر أخرجه الطبري.
(2) جاء فيما أخرجه البخاري فى (أحاديث الأنبياء ، باب قول اللّه تعالى : وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا ، ومسلم فى (السلام ، باب استحباب قتل الوزغ) عن أم شريك.
(3) أخرجه مسلم فى الموضع السابق ذكره ، عن السيدة عائشة وابن عامر بن سعد عن أبيه. [.....]
(4) أخرجه الطبري (17/ 44) عن كعب.
(5) راجع تفسير الآية 96 من سورة يوسف.
(6) ذكره البغوي فى تفسيره (5/ 329) وصاحب زاد المسير (5/ 367).
(7) راجع : التعليق على تفسير الآية 124 من سورة البقرة.
(8) أخرجه الطبري (17/ 45).(3/476)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 477
قال تعالى : وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً مكرا عظيما فى الإضرار ، فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ أي : أخسر من كل خاسر ، حيث جاء سعيهم فى إطفاء نور الحق برهانا قاطعا على أنه عليه السّلام على الحق ، وهم على الباطل ، وموجبا لارتفاع درجته واستحقاقهم للهلاك ، فأرسل اللّه على نمرود وقومه البعوض ، فأكلت لحومهم وشربت دماءهم ، ودخلت بعوضة فى دماغ نمرود فأهلكته بعد المحنة الشديدة ، وباللّه التوفيق.
الإشارة : أجرى اللّه تعالى عادته فى المتوجه الصادق ، إذا أراد الوصول إلى حضرته ، أن يبتليه قبل أن يمكنه ، ويمتحنه قبل أن يصافيه لأنّ محبته تعالى مقرونة بالبلاء ، والداخل على اللّه منكور ، والراجع إلى الناس مبرور. فإذا رمى الولي فى منجنيق الابتلاء ، وألقى فى نار الجلال ، وتعرضت له الأكوان : ألك حاجة؟ فيقول - إن كان مؤيدا - : أمّا إليك فلا ، وأما إلى اللّه فبلى ، فإذا قيل له : سله ، فيقول : علمه بحالي يغنى عن سؤالى. فلا جرم أن اللّه تعالى يقول لنار الجلال : كونى بردا وسلاما على وليي ، فينقلب حرها بردا وسلاما ، فلا يرى أياما أحلى من تلك الأيام التي ابتلى فيها. وهذا أمر مجرب مذوق ، وأما إن التفت إلى التعلق بغير اللّه تعالى ، فإنّ البلاء يشدد عليه ، أو يخرج من دائرة الولاية ، والعياذ باللّه. فالولى هو الذي يقلب الأعيان بهمته ، وبالنور الذي فى قلبه ، حسية كانت أو معنوية ، فيقلب الخوف أمنا ، والحزن سرورا ، والقبض بسطا ، والفاقة غنى ، وهكذا .. فحينئذ تنفعل له الأشياء وتطيعه ، وتخرق له العوائد ، حتى لو ألقى فى النار الحسية لبردت. قال الورتجبي : كان الخليل منورا بنور اللّه ، وكان فعل النار من فعل اللّه ، فغلب نور الصفة على نور الفعل ، ولو بقيت النار حتى وصل إليها الخليل لصارت مضمحلة ، فعلم الحق ذلك ، فقال لها : (كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ) حتى تبقى لظهور معجزته وبيان كرامته. ه.
ومصداق ما ذكره : قول النار يوم للقيامة للمؤمن : جز فقد أطفأ نورك لهبى «1» ، كما ورد. واللّه أعلم.
ثم ذكر هجرة إبراهيم إلى الشام ، فقال :
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 71 الى 72]
وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ (71) وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً وَكُلاًّ جَعَلْنا صالِحِينَ (72)
قلت : «إلى الأرض» : يتعلق بحال محذوفة ، ينساق إليها الكلام ، أي : ذاهبا بهما إلى الأرض.
يقول الحق جل جلاله : وَنَجَّيْناهُ أي : إبراهيم وَلُوطاً ابن أخيه هاران ، ذاهبا بهما من العراق إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ ، وهى أرض الشام. وبركاته العامة : أنّ أكثر الأنبياء بعثوا فيها ، فانتشرت فى العالمين شرائعهم ، التي هى مبادئ الخيرات الدينية والدنيوية ، وهى أرض المحشر ، فيها يجمع الناس ،
___________
(1) أخرجه الخطيب فى تاريخ بغداد (5/ 194) وأبو نعيم فى الحلية (9/ 329) ، عن يعلى بن منبه ، وقال فى مجمع الزوائد (10/ 360) : رواه الطبراني ، وفيه سليم بن منصور بن عمار ، وهو ضعيف.(3/477)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 478
وفيها ينزل عيسى عليه السّلام ، وقال أبى بن كعب : ما من ماء عذب إلّا وأصله من تحت صخرة بيت المقدس ، وهى أرض خصب ، يعيش فيها الفقير والغنى.
قال ابن إسحاق : خرج إبراهيم من كوثى من أرض العراق ، وخرج معه لوط وسارة ، فنزل حرّان ، ثم خرج منها إلى مصر ، ثم خرج منها إلى الشام ، فنزل السّبع من أرض فلسطين بزوجه سارة ، بنت عمه هاران الأكبر ، ونزل لوط عليه السّلام بالمؤتفكة ، وبينهما مسيرة يوم وليلة ، وكلاهما من الشام.
وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً أي : وهبنا له إسحاق ولدا من صلبه ، وزاد يعقوب ، ولد ولده ، نافلة لأنه سأل ولدا بقوله : رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ «1» فأعطيه ، وأعطى يعقوب نافلة ، زائدا على ما سأل لأنه أعطى من غير سؤال ، فكأنه تبرعا. قال ابن جزى : واختار بعضهم - على هذا - الوقف على «إسحاق» لبيان المعنى ، وهذا ضعيف لأنه معطوف على كل قول. ه. وقيل : (نافِلَةً) يرجع لهما معا ، أي : أعطيناه ولدا وولد ولد ، عطية ، فيكون حالا منهما معا ، قيل : هو مصدر ، كالعاقبة من غير لفظ الفعل ، الذي هو (وَهَبْنا) وقيل : اسم ، وَكُلًّا أي :
كل واحد من هؤلاء الأربعة ، جَعَلْنا صالِحِينَ بأن وفقناهم لصلاح الظاهر والباطن ، حتى استحقوا الخصوصية. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : الهجرة سنّة من سنن الأنبياء والأولياء ، فكل من لم يجد فى بلده من يعينه على دينه ، يجب عليه الانتقال إلى بلد يجد فيها ذلك. وكذلك المريد إذا لم يجد قلبه فى محل لكثرة عوائده وشواغله ، بحيث يشوش عليه قلبه ، فلينتقل إلى بلد تقل فيها العلائق والشواغل ، إن وجد فيها من يحرك معهم فنّه ، كان بادية أو حاضرة.
والغالب أن الحاضرة تكثر فيها العوائد والحظوظ والشهوات ، فلا يدخلها المريد حتى يتقوى ويملك نفسه ، يأخذ النصيب من كل شىء ، ولا ينقص من نصيبه شىء ، وقد تقدم هذا مرارا. وباللّه التوفيق.
ثم مدحهم بالإمامة والاهتداء ، فقال :
[سورة الأنبياء (21) : آية 73]
وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ وَكانُوا لَنا عابِدِينَ (73)
يقول الحق جل جلاله : وَجَعَلْناهُمْ أي : إبراهيم وإسحاق ويعقوب ، أَئِمَّةً يقتدى بهم فى أمور الدين إجابة لدعوته بقوله : وَمِنْ ذُرِّيَّتِي «2» أي : فاجعل أئمة ، يَهْدُونَ الخلق إلى الحق ، بِأَمْرِنا
___________
(1) الآية 100 من سورة الصافات.
(2) كما جاء فى الآية 124 من سورة البقرة.(3/478)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 479
لهم بذلك ، وإرسالنا إياهم حتى صاروا مكملين ، أو يهدون الخلق بإرادتنا ومشيئتنا. وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وهى جميع الأعمال الصالحة ، أي : أمرناهم أن يفعلوا جميع الخيرات ، ليتم كمالهم بانضمام العمل الصالح إلى العلم ، وأصله : أن يفعلوا الخيرات ، ثم فعل الخيرات ، وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ ، وهو من عطف الخاص على العام دلالة على فضله وشرفه ، وأصله : وإقامة الصلاة ، فحذفت التاء المعوضة من إحدى الألفين لقيام المضاف إليه مقامها. وَكانُوا لَنا عابِدِينَ : قانتين مطيعين ، لا يخطر ببالهم غير عبادتنا ومشاهدتنا.
وأنتم يا معشر العرب والعجم من ذريتهم ، فاتبعوهم فى ذلك. وباللّه التوفيق.
الإشارة : إنما يعظم جاه العبد عند اللّه بثلاثة أمور : انحياشه بقلبه إلى اللّه ، ومسارعته إلى ما فيه رضا اللّه ، وإرشاد العباد إلى اللّه ، بدعائهم إلى اللّه بالحال والمقال ، فبقدر ما يقع من هداية الخلق على يديه يعلو مقامه عند اللّه ، إن حصلت المعرفة باللّه ، وبهذا تعرف شرف مرتبة مشيخة الصوفية ، الدالين على اللّه ، الداعين إلى حضرة اللّه ، إن تكلموا وقع كلامهم فى قلوب الخلق ، فيرجعون إلى اللّه من ساعتهم ، مجالسهم كلها وعظ وتذكير ، حالهم ينهض إلى اللّه ، ومقالهم يدل على اللّه ، ففى ساعة واحدة يتوب على يديهم من الخلق ما لا يتوب على يد العالم فى سنين وذلك لإنهاض الحال والمقال ، فلا جرم أنهم أعز الخلق إلى اللّه ، وأعظمهم قدرا عند اللّه.
قال السهروردي فى العوارف : ورد فى الخبر عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال : «والذي نفس محمد بيده لئن شئتم لأقسمن لكم ، إن أحب عباد اللّه إلى اللّه الذين يحبّبون اللّه إلى عباده ، ويحبّبون عباد اللّه إلى اللّه ، ويمشون فى الأرض بالنصيحة». وهذا الذي ذكر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم هو رتبة المشيخة والدعوة فإن الشيخ يحبب اللّه إلى عباده حقيقة ، ويحبب عباد اللّه إلى اللّه.
فأما كونه يحبب عباد اللّه إلى اللّه لأن الشيخ يسلك بالمريد طريق الاقتداء برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فى أفعاله وأخلاقه.
ومن صح اقتداؤه واتباعه أحبه اللّه ، قال تعالى : قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ «1» ، ووجه كونه يحبب اللّه إلى عباده لأنه يسلك بالمريد طريق التزكية ، وإذا تزكت النفس انجلت مرآة القلب ، ودخل فيها نور العظمة الإلهية ، ولاح فيها جمال التوحيد ، وذلك ميراث التزكية ، قال اللّه تعالى : قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها «2» ، وفلاحها : الظفر بمعرفة اللّه ، فإذا عرفه ، قطعا ، أحبه وفنى فيه. فرتبة المشيخة من أعلى الرتب لأنها خلافة النبوة فى الدعوة إلى اللّه.
___________
(1) من الآية 31 من سورة آل عمران.
(2) من الآية 9 من سورة الشمس.(3/479)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 480
ثم قال : فعلى المشايخ وقار اللّه ، وبهم يتأدب المريد ظاهرا وباطنا ، قال اللّه تعالى : أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ «1» ، فالمشايخ ، لمّا اهتدوا ، أهلّوا للاقتداء بهم ، وجعلوا أئمة للمتقين ، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، حاكيا عن اللّه عز وجل : «إذا كان الغالب على عبدى الاشتغال بي ، جعلت همته ولذّته فى ذكرى ، فإذا جعلت همته ولذته فى ذكرى ، أحبنى وأحببته ، ورفعت الحجاب فيما بينى وبينه ، لا يسهو إذا سها الناس ، أولئك كلامهم كلام الأنبياء ، أولئك الأبطال حقا ، أولئك الذين إذا أردت بأهل الأرض عقوبة أو عذابا ، ذكرتهم فصرفته بهم عنهم» «2».
انتهى كلامه رضى اللّه عنه.
ومن كلام ذى النون المصري - لمّا تكلم على الأبدال - قال : فهممهم إليه ثائرة ، وأعينهم إليه بالغيب ناظرة ، قد أقامهم على باب النظر من رؤيته ، وأجلسهم على كراسى أطباء أهل معرفته ، ثم قال لهم : إن أتاكم عليل من فقدى فداووه ، أو مريض من فراقى فعالجوه ، أو خائف منى فانصروه ، أو آمن منى فحذّروه ، أو راغب فى مواصلتى فمنوه ، أو راحل نحوى فزودوه ، أو جبان فى متاجرتى فشجعوه ، أو آيس من فضلى فرجّوه ، أو راج لإحسانى فبشروه ، أو حسن الظن بي فباسطوه ، أو معظّم لقدرى فعظموه ، أو مسىء بعد إحسانى فعاتبوه ، أو مسترشد فأرشدوه. ه. وهذه صفة مشايخ التربية على ما شهدناهم ، وما شهدنا إلا بما علمنا. وباللّه التوفيق.
ثم ذكر نبيه لوطا ونوحا - عليهما السّلام - فقال :
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 74 الى 77]
وَلُوطاً آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ (74) وَأَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) وَنُوحاً إِذْ نادى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ (77)
قلت : «ولوطا» : إما مفعول بمحذوف يفسره قوله : «آتيناه» أي : وآتينا لوطا ، أو : باذكر. و«نوحا» : مفعول باذكر.
يقول الحق جل جلاله : وَلُوطاً آتَيْناهُ حُكْماً أي : حكمة ، أو نبوة أو فصلا بين الخصوم بالحق ، وَعِلْماً بنا وبما ينبغى علمه للأنبياء - عليهم السّلام - من علم السياسة ، وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ اللواطة ، وقذف المارة بالحصى ، وغيرها ، وصفت بصفة أهلها ، وأسندت إليها على حذف
___________
(1) من الآية 90 من سورة الأنعام.
(2) عزاه فى كنز العمال (1/ 1872) لأبى نعيم فى الحلية ، عن الحسن ، مرسلا.(3/480)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 481
مضاف ، أي : من أهل القرية ، بدليل قوله : إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ : خارجين عن طاعة اللّه ورسوله.
وَأَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا أي : فى أهل رحمتنا ، أو جنتنا ، إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ الذين صلحت ظواهرهم وبواطنهم ، فنجيناه جزاء على صلاحه ، كما أهلكنا قريته عقابا على فسادهم.
وَاذكر نُوحاً ، وقدّم هؤلاء عليه لتعلقهم بإبراهيم ، أي : خبره ، إِذْ نادى أي : دعا اللّه تعالى على قومه بالهلاك ، أي : اذكر نبأه الواقع وقت دعائه ، مِنْ قَبْلُ هؤلاء المذكورين ، فَاسْتَجَبْنا لَهُ دعاءه الذي من جملته قوله : أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ «1» ، فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ المؤمنين به ، من ولده وقومه ، مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ ، وهو الطوفان وتكذيب أهل الطغيان. وأصل الكرب : الغم الشديد ، وَنَصَرْناهُ نصرا مستتبعا للانتقام ، مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا أي : منعناه من إذايتهم ، إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ ، تعليل لما قبله ، فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ ، صغيرهم وكبيرهم ، ذكرهم وأنثاهم لأن الإصرار على تكذيب الحق ، والانهماك فى الشر والفساد ، مما يوجب الإهلاك العام. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : نبى اللّه لوط عليه السّلام لمّا هاجر من أرض الظلمة إلى الأرض المقدسة ، أعطاه اللّه العلم والحكمة. فكل من هاجر من وطن الغفلة إلى محل الذكر واليقظة ، وهجر ما نهى اللّه عنه عوّضه اللّه علما بلا تعلم ، وأجرى على لسانه ينابيع الحكمة. قال أبو سليمان الداراني رضى اللّه عنه : إذا اعتقدت النفس على ترك الآثام ، جالت فى الملكوت ، وعادت إلى ذلك العبد بطرائف الحكمة ، من غير أن يؤدّي إليها عالم علما. ومصداقه الحديث : «من عمل بما يعلم ، ورثه اللّه علم ما لم يعلم».
ولمّا أجهد نفسه فى تغيير المنكر نجّاه اللّه من أذاهم وما لحق بهم ، وكذلك نبيه نوح عليه السّلام لما دعا قومه إلى اللّه ، وأجهد نفسه فى نصحهم ، نجاه اللّه من شرهم ، وجعل النسل من ذريته ، فكان آدم الأصغر. وهذه عادة اللّه تعالى فى خواصه ، يكثر فروعهم ، ويجعل البركة فى تركتهم. وباللّه التوفيق.
ثم ذكر داود وسليمان - عليهما السّلام - فقال :
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 78 الى 82]
وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَكُلاًّ آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فاعِلِينَ (79) وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ (80) وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ (81) وَمِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ (82)
___________
(1) من الآية 10 من سورة القمر.(3/481)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 482
قلت : (وَ داوُدَ) : عطف على (نُوحاً) ، أو معمول لاذكر ، و(إِذْ يَحْكُمانِ) : ظرف للمضاف المقدر ، أي : اذكر خبرهما ، و(إِذْ نَفَشَتْ) : ظرف للحكم. (فَفَهَّمْناها) : عطف على (يَحْكُمانِ) فإنه فى حكم الماضي.
يقول الحق جل جلاله : وَاذكر خبر داوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ أي : وقت حكمهما فِي الْحَرْثِ أي : فى الزرع ، أو فى الكرم المتدلى عناقيده ، والحرث يطلق عليهما ، إِذْ نَفَشَتْ : دخلت فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ فأفسدته ليلا ، فالنفش : الرعي بالليل ، والهمل بالنهار ، وهما الرعي بلا راع. وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ أي : لهما وللمتحاكمين إليهما ، أو على أنّ أقل الجمع اثنان ، شاهِدِينَ ، كان ذلك بعلمنا ومرأى منا ، لم يغب عنا شىء منه ، فَفَهَّمْناها أي : الحكومة ، أو الفتوى ، سُلَيْمانَ ، وفيه دليل على أن الصواب كان مع سليمان.
وقصتهما على ما قال ابن عباس وغيره : أن رجلين دخلا على داود عليه السّلام ، أحدهما : صاحب حرث ، والآخر صاحب غنم ، فقال صاحب الزرع : إنّ هذا نفشت غنمه ليلا ، فوقعت فى حرثى ، فلم تبق منه شيئا ، فقال له داود :
اذهب فإن الغنم لك ، ولعله استوت قيمتاهما - أي : قيمة الغنم كانت على قدر النقصان فى الحرث - فخرج الرجلان على سليمان ، وهو بالباب ، وكان ابن إحدى عشرة سنة ، فأخبراه بما حكم به أبوه ، فدخل عليه ، فقال : يا نبى اللّه لو حكمت بغير هذا لكان أرفق بالفريقين ، قال : وما هو؟ قال : يأخذ صاحب الغنم الأرض ليصلحها ، حتى يعود زرعها كما كان ، ويأخذ صاحب الزرع الغنم ينتفع بألبانها وصوفها ونسلها ، فإذا كمل الزرع ، ردت الغنم إلى صاحبها ، والأرض بزرعها إلى ربها ، فقال داود : وفقت يا بنى ، وقضى بينهما بذلك.
والذي يظهر : أن حكمهما - عليه السّلام - كان باجتهاد ، ففيه دليل على أن الأنبياء يجتهدون فيما لم ينزل فيه وحي ، فإنّ قول سليمان عليه السّلام : «هذا أرفق» ، وقوله : «أرى أن تدفع ..» إلخ ، صريح فى أنه ليس بطريق الوحى ، وإلا لبت القول بذلك ، ولعله وجه حكم داود عليه السّلام قياس ذلك على جناية العبد ، فإنّ العبد فيما جنى. وإذا قلنا : كان بوحي ، يكون حكم سليمان ناسخا لحكم داود عليه السّلام.(3/482)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 483
وأما حكم إفساد المواشي للزرع فى شرعنا : فقال مالك والشافعي : يضمن أرباب المواشي ما أفسدت بالليل دون النهار للحديث الوارد فى ذلك «1» ، على تفصيل فى مذهب مالك فيما أفسدت بالنهار. وقال أبو حنيفة :
لا يضمن ما أفسدت بالليل ولا بالنهار لقوله عليه الصلاة والسلام : - «العجماء جرحها جبار» «2» ، ما لم يكن معها سائق أو قائد ، فيضمن عنده.
قال تعالى : وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً أي : كل واحد منهما آتيناه حكما ، أي : نبوة ، وعلما : معرفة بمواجب الحكم ، لا سليمان وحده. وفيه دليل على أن خطأ المجتهد لا يقدح فى علمه ولا يرفع عنه صفة الاجتهاد.
ثم بيّن ما اختص به كل واحد منهما من المعجزات ، فقال : وَسَخَّرْنا أي : ذللنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ ، حال كونها يُسَبِّحْنَ أي : مسبحات ينزهن اللّه تعالى بلسان المقال ، كما سبّح الحصا فى كف نبينا عليه الصلاة والسلام. وَسخرنا له الطَّيْرَ كانت تسبح معه. وقدّم الجبال على الطير لأن تسخيرها وتسبيحها أغرب وأدخل فى الإعجاز لأنها جماد. قال الكواشي : كان داود إذا سبّح سبّح معه الجبال والطير ، وكان يفهم تسبيح الحجر والشجر ، وكان إذا فتر من التسبيح ، يسمعه اللّه تعالى تسبيح الجبال والطير لينشط فى التسبيح ويشتاق إليه. وروى أنه كان إذا سار سارت الجبال معه مسبحة ، قال قتادة : «يسبحن» ، أي : يصلين معه إذا صلى ، وهذا غير ممتنع فى قدرة اللّه تعالى. وفى الأثر : «كان داود يمرّ ، وصفاح الروحاء تجاوبه ، والطير تساعده».
وَكُنَّا فاعِلِينَ بالأنبياء أمثال هذا وأكثر ، فليس ذلك ببدع منا ولا صعب على قدرتنا.
وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ أي : صنعة الدروع. واللبوس لغة فى اللباس ، والمراد : الدرع ، لَكُمْ أي : نافع لكم ، لِتُحْصِنَكُمْ «3» أي : اللبوس ، أو داود. وقرئ بالتأنيث ، أي : الصنعة ، أو اللبوس بتأويل الدرع. وقرئ بنون العظمة ، أي : اللّه تعالى ، وهو بدل اشتمال من «لكم». وقوله : مِنْ بَأْسِكُمْ أي : من حرب عدوكم ، أو من وقع السلاح فيكم ، فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ اللّه على ذلك؟ وهو استفهام بمعنى الأمر للمبالغة والتقريع.
ثم ذكر ما اختص به سليمان عليه السّلام فقال : وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ أي : وسخرنا له الريح. وإيراد اللام هنا ، دون الأولى للدلالة على ما بين التسخيرين من التفاوت ، فإن تسخير ما سخر لسليمان عليه السّلام كان بطريق الانقياد الكلى والامتثال لأمره ونهيه ، بخلاف تسخير الجبال ، لم يكن بهذه المثابة ، بل بطريق التبعية والاقتداء. حال كون الريح
___________
(1) عن البراء بن عازب : «كانت له ناقة ضارية ، فدخلت حائطا ، فأفسدت فيه ، فكلّم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فقضى بأن حفظ الحوائط بالنهار على أهلها ، وأن حفظ الماشية بالليل على أهلها ، وأن على أهل الماشية ما أصابت ماشيتهم بالليل» أخرجه أبو داود فى (البيوع ، باب المواشي تفسد زرع القوم) وابن ماجه فى (الأحكام ، باب الحكم فيما أفسدت المواشي). [.....]
(2) أخرجه البخاري فى (الزكاة : باب فى الركاز الخمس) ، ومسلم فى (الحدود ، باب جرح العجماء) من حديث أبى هريرة رضى اللّه عنه.
(3) قرأ أبو جعفر وابن عامر وحفص «لتحصنكم» بالتاء ، وقرأ أبو بكر عن عاصم بالنون ، وقرأ الآخرون (ليحصنكم) بالياء. انظر الإتحاف (2/ 266).(3/483)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 484
عاصِفَةً شديدة الهبوب ، من حيث إنها كانت تقطع مسافة بعيدة فى مدة يسيرة ، وكانت رخاء فى نفسها ، طيبة ، وقيل : كانت رخاء تارة ، وعاصفة أخرى ، على حسب ما أراد منها. أو رخاء فى ذهابه وعاصفة فى رجوعه لأن عادة المسافرين : الإسراع فى الرجوع ، أو عاصفة إذا رفعت البساط ورخاء إذا جرت به.
تَجْرِي بِأَمْرِهِ بمشيئة سليمان ، إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها بكثرة الأنهار والأشجار والثمار ، وهى الشام. وكان منزله بها ، وتحمله إلى نواحيها. قال وهب : كان سليمان إذا خرج من منزله عكفت عليه الطير ، وقام له الجن والإنس حتى يجلس على سريره ، وكان غزّاء لا يقصر عن الغزو ، فإذا أراد غزوا أمر فضرب له بخشب ، ثم ينصب له على الخشب ، ثم حمل عليه الناس والدواب وآلة الحرب ، فإذا حمل معه ما يريد أمر العاصف فدخلت تحت الخشب فاحتملته ، فإذا استقلت ، أمر الرخاء فمرت به شهرا فى روحته وشهرا فى غدوته ، إلى حيث أراد. ه.
وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ أي : أحاط علمنا بكل شىء ، فنجرى الأشياء على ما سبق به علمنا ، واقتضته حكمتنا.
وَمِنَ الشَّياطِينِ ، قيل : لمّا ذكر تسخير الريح - وهى شفافة لا تعقل - ذكر ما هو شفاف يعقل ، وهم الشياطين ، مع سرعة الحركة فى الكل ، أي : وسخرنا له من الشياطين مَنْ يَغُوصُونَ فى البحار ، ويستخرجون لَهُ من نفائسه ، كالدر والياقوت ، وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذلِكَ أي : غير ما ذكر من بناء المدن والقصور والمحاريب والتماثيل والقدور الراسيات ، وقيل : الحمام ، والنورة ، والطاحون ، والقوارير ، والصابون ، مما استخرجوه له ، وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ أن يزيغوا عن أمره ، أو يبدلوا ، أو يوجد منهم فساد فيما هم مسخرون فيه ، على ما هو مقتضى جبلتهم. وقال الزجاج : كان يحفظهم من أن يفسدوا ما عملوا ، وكان دأبهم أن يفسدوا بالليل ما عملوه بالنهار. وقيل : وكّل بهم جمعا من الملائكة ، وجمعا من مؤمنى الجن. روى أن المسخّر له عليه السّلام : كفارهم ، لا مؤمنهم لقوله تعالى : (وَ مِنَ الشَّياطِينِ). واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : قوله تعالى : (فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ) ، قال الورتجبي : بيّن ، سبحانه ، أن الفضل متعلق بفضله ، لا يتعلق بالصغر والكبر والشيخوخة والاكتساب والتعلم ، إنما الفهم تعريف اللّه أحكام ربوبيته بنور هدايته ، وإبراز لطائف علومه الغيبية ، فحيث يظهر ذلك فهناك مواضع الفهوم من العلوم ، فهو سبحانه منّ على سليمان بعلمه ، ولم يمنّ عليه بشىء خارج عن نفسه من الملك ، والحدثان أفضل من العلم فإنّ العلم صفة من صفاته تعالى ، فلمّا جعله متصفا بصفاته منّ عليه بجلال كبريائه. ه. وقال فى قوله : وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً : حكما معرفة بالربوبية ، وعلما بالعبودية. ه.(3/484)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 485
وقوله تعالى : (وَ سَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ ....) إلخ. (وَ لِسُلَيْمانَ الرِّيحَ ...) الآية ، لمّا كانا - عليهما السّلام - مع المكوّن كانت الأكوان معهما ، «أنت مع الأكوان ما لم تشهد المكون ، فإذا شهدته كانت الأكوان معك» ، وذكر فى القوت : أن سليمان عليه السّلام لبس ذات يوم قميصا رفيعا جديدا ، ثم ركب البساط ، وحملته الريح ، فبينما هو يسير إذ نظر إلى عطفه نظرة ، فأنزلته الريح ، فقال : لم أنزلتنى ولم آمرك؟! فقالت : نطيعك إذا أطعت اللّه ، ونعصيك إذا عصيته. فاستغفر وحملته. ه بالمعنى. واللّه تعالى أعلم.
ثم ذكر أيوب عليه السّلام ، فقال :
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 83 الى 84]
وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ (84)
يقول الحق جل جلاله : وَاذكر خبر أَيُّوبَ عليه السّلام إِذْ نادى رَبَّهُ : دعاه : أَنِّي أي : بأنى مَسَّنِيَ الضُّرُّ وهو بالضم : ما يصيب النفس من مرض وهزال ، وبالفتح : الضرر فى كل شىء ، وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ، تلطف فى السؤال حيث ذكر نفسه بما يوجب الرحمة ، وذكر ربه بغاية الرحمة ، ولم يصرح بالمطلوب من كمال أدبه ، فكأنه قال : أنت أهل أن ترحم ، وأيوب أهل أن يرحم ، فارحمه ، واكشف عنه ضره الذي مسه. عن أنس : أنه أخبر عن ضعفه حين لم يقدر على النهوض إلى الصلاة ، ولم يشتك ، وكيف يشكو ، واللّه تعالى يقول : إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ «1».
وقيل : إنما اشتكى إليه تلذذا بالنجوى ، لا تضررا بالشكوى ، والشكاية إليه غاية فى القرب ، كما أن الشكاية منه غاية فى البعد ، وسيأتى فى الإشارة تكميله ، إن شاء اللّه. روى أن أيوب عليه السّلام ، كان من الروم ، وهو أيوب بن أموص ابن تارح بن رعويل بن عيص بن إسحاق. وكانت أمه من ولد لوط عليه السّلام اصطفاه اللّه للنبوة والرسالة ، وبسط عليه الدنيا فكان له ثلاثة آلاف بعير ، وسبعة آلاف شاة ، وخمسمائة فدان ، يتبعها خمسمائة عبد ، لكل عبد امرأة وولد ، وكان له سبعة بنين ، وسبع بنات. قاله النسفي.
زاد الثعلبي : وكانت له المشيئة من أرض الشام كلها ، وكان له فيها من صنوف المال ما لم يكن لأحد من الخيل والبقر والغنم والحمر وغيره ، وكان برا تقيا رحيما بالمساكين ، يكفل الأرامل والأيتام ، ويكرم الضيف ، ويبلغ
___________
(1) من الآية 44 من سورة ص.(3/485)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 486
ابن السبيل ، شاكرا لأنعم اللّه ، لا يصيب منه إبليس ما يصيب من أهل الغنى من الغفلة والغرّة ، وكان معه ثلاثة قد آمنوا به : رجل من اليمن واثنان من بلده ، كهولا. قال وهب : فسمع إبليس تجاوب الملائكة بالصلاة عليه فى السماء فحسده ، فقال : إلهى ، عبدك أيوب أنعمت عليه فشكرك ، وعافيته فحمدك ، ولم تجرّبه بشدّة ولا بلاء ، فلو جربته بالبلاء ليكفرنّ بك وبنعمتك ، فقال له تعالى : انطلق ، فقد سلطتك على ماله ، فجمع عفاريته وأخبرهم ، فقال عفريت من الجن : أعطيت من القوة ما إذا تحوّلت إعصارا من نار أحرقت كل شىء آتى عليه ، فقال له إبليس :
دونك الإبل ورعاتها ، فجاءها حتى وثبت فى مراعيها ، فأثار من تحت الأرض إعصارا من نار فأحرقها وأحرق رعاءها. فلما فرغ منها تمثل إبليس براعيها ، وجلس على قعود منها ، فأتاه ، وقال : يا أيوب ، إن ربك الذي عبدته قد أحرق إبلك ورعاءها ، فقال أيوب : هو ماله ، أعارنيه ، يفعل فيه ما يشاء ، فرجع إبليس خاسئا ، حين حمد أيوب ربه ، فقال عفريت آخر : عندى من القوة ما إذا صحت لم يسمع صوتى ذو روح إلا خرجت روحه ، قال له إبليس : ائت الغنم ورعاءها ، فأتى ، فصاح ، فصارت أمواتا ورعاتها ، ثم خرج إبليس متمثلا بقهرمان «1» الرعاة ، فقال له كمقالته فى الإبل ، فأجابه أيوب بمثل ما أجابه فيها ، فرجع خاسئا ، فقال عفريت آخر : عندى من القوة ما إذا تحولت ريحا عاصفا نسفت كل شىء أتيت عليه ، قال إبليس : فأت الفدادين والحرث ، فجاءها ، فهبّت ريح عاصفة فنسفت كل شىء ، حتى كأنه لم يكن ثمّ شىء ، فخرج إبليس متمثلا بقهرمان الحرث ، فقال له مثل قوله الأول ، وردّ عليه مثل رده ، حتى أتى على جميع ماله ، وأيوب يحمد اللّه تعالى.
فقال إبليس : إلهى إن أيوب يقول : إنك ما متعته إلا بنفسه وولده ، فهل تسلطنى على ولده ، فإنها الفتنة؟ قال اللّه تعالى : قد سلطتك على ولده ، فجاء إبليس فقلب عليهم القصر منكسين ، وانطلق إلى أيوب متمثلا بالمعلم الذي يعلمهم الحكمة ، وهو جريح ، فقال : يا أيوب لو رأيت بنيك كيف عذبوا؟ ونكّسوا على رؤوسهم ، وسال دماغهم من أنوفهم ، فلم يزل من قوله حتى رقّ أيوب وبكى ، وقبض قبضة من التراب فوضعها على رأسه ، فصعد إبليس مسرورا ، ثم ذهب أيوب ، فلما أبصر ذلك استغفر ، وصعد قرناؤه من الملائكة ، بتوبته فبادروا إلى اللّه تعالى ، وهو أعلم ، فوقف إبليس خاسئا ، فقال : إلهى إنما هوّن أيوب خطر المال والولد ، فهل أنت مسلطى على جسده؟ فإنى لك زعيم إن سلّطنى على جسده ليكفرنّ بك ، قال اللّه تعالى : قد سلطتك على جسده ، ولكن ليس لك سلطان على لسانه وقلبه وعقله ، فجاءه إبليس فوجده ساجدا ، فجاء من قبل الأرض ، فنفخ فى منخره نفخة اشتعل منها جسده ، فوهل ، وخرج من قرنه إلى قدمه تآليل مثل آليات الغنم ، ووقعت به حكة لا يملكها ، فحك بأظفاره ، ثم بالمسوح الخشنة ، ثم بالحجارة ، حتى نغل لحمه ، وتغير ، ونش ، وتدود ، فأخرجه أهل القرية ، وجعلوه على كناسة ، وجعلوا له عريشا ، ورفضه الخلق كلهم ، إلا «رحمة» امرأته بنت إفرائيم بن يوسف عليه السّلام ، فقامت عليه بما يصلحه.
___________
(1) القهرمان : هو المسيطر الحفيظ على من تحت يديه ، وهو فارسى معرب .. انظر اللسان (قهرم).(3/486)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 487
روى أنس أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال : «إنّ أيّوب نبى اللّه لبث به بلاؤه ثمانى عشرة سنة ، فرفضه القريب والبعيد «1»». الحديث ، وقال كعب : سبع سنين ، وقيل : ثلاث عشرة سنة ، وما قاله - عليه الصلاة والسّلام - إن ثبت ، هو الصحيح. وقال الحسن : مكث أيوب مطرودا على كناسة ، فى مزبلة بنى إسرائيل سبع سنين وشهرا ، يختلف فيه الدود. ويمكن الجمع بين الأقوال بأن الشدة كانت سبعا والباقي مقدمات لها.
روى أن امرأته قالت له يوما : لو دعوت اللّه عز وجل؟ فقال لها : كم كانت مدة الرخاء؟ قالت : ثمانين سنة. فقال :
إنى أستحيى من اللّه أن أدعوه وما بلغت مدة بلائي مدة رخائى. ه. وروى أن الدود أكل جميع جسده حتى بقي عظاما نخرة ، وهو مع ذلك لا يفتر عن ذكر اللّه وحمده وشكره ، فصرخ إبليس صرخة ، وقال : أعيانى هذا العبد الذي سألت ربى أن يسلطنى عليه ، فقالت له العفاريت : أرأيت آدم حين أخرجته من الجنة ، ما أتيته إلا من قبل امرأته ، فتمثل لها بصورة رجل طيب ، وفى رواية الحسن : فى هيئة ليست كهيئة بنى آدم ، فى أحسن صورة ، فقال لها : أين بعلك يا أمة اللّه؟ فقالت : هو ذاك ، يحك قروحه ، ويتردد الدود فى جسده ، فقال لها : أنا إله الأرض الذي صنعت بصاحبك ما صنعت لأنه عبد إله السماء وتركنى ، فلو سجد لى سجدة واحدة لرددت لكما ما كان لكما.
وقال وهب : قال لها : لو أكل طعاما ولم يسمّ عليه لعوفى من البلاء ، فأخبرت أيوب ، فقال : أتاك عدو اللّه ليفتنك عن دينك ، ثم أقسم ، إن عافاه اللّه ، ليضربنها مائة ضربة. ثم حلف لا يأكل لها طعاما ، فبقى مهملا لا يأتى إليه أحد ، وقال عند ذلك : (مَسَّنِيَ الضُّرُّ) من طمع إبليس فى سجودى له ، (وَ أَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) ، فقيل له : (ارْكُضْ بِرِجْلِكَ) فركض ، فنبعت عين ماء ، فاغتسل منها ، فلم يبق من دائه شىء ، وسقطت الدود من جسده ، وعاد شبابه وجماله. ثم ضرب برجله فنبعت عين أخرى ، فشرب منها ، فلم يبق فى جوفه داء إلا خرج ، وكانت امرأته «رحمة» حين حلف ، تركته مدة ، ثم ندمت وعادت ، فوجدته فى أحسن هيئة ، فلم تعرفه ، فقالت له : أين الرجل المبتلى الذي كان هنا؟ قال : أنا هو ، شفانى اللّه ، ثم عرفته بضحكه ، فتعانقا ، ثم أمره اللّه تعالى أن يأخذ جماعة من القضبان فيضربها ضربة واحدة ليبرّ فى يمينه. ه. «2».
___________
(1) أخرجه فى حديث طويل ابن حبان (بترتيب ابن بلبان 7/ 2898) ، وابن أبى حاتم فى التفسير (8/ 2459) ، والبزار (كشف الأستار/ 2357) ، وقال الهيثمي (8/ 208) : رواه أبو يعلى ، والبزار ، ورجال البزار رجال الصحيح.
(2) جل ما ذكره الشيخ المفسر من روايات فى قصة أيوب أخرجه الطبري فى تفسيره (17/ 65) وما بعدها ، وذكره البغوي وغيره فى تفاسيرهم. وهذا مما يجب تنزيه الأنبياء عنه. وقد ردّ العلماء المحققون هذه الأخبار ، وقال الدكتور أبو شهبة فى كتابه (الإسرائيليات والموضوعات) : والذي يجب أن نعتقده أن أيوب عليه السّلام ابتلى ، ولكن بلاءه لم يصل إلى حد هذه الأكاذيب. فأيوب عليه السّلام أكرم على اللّه من أن يلقى على مزبلة ، وأن يصاب بمرض ينفر الناس من دعوته ويقززهم منه .. إلخ كلامه. انظر :
كتاب الإسرائيليات والموضوعات. فهو كتاب نفيس.(3/487)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 488
قلت : تسليط الشيطان على بشرية الأنبياء الظاهرة : جائز وواقع. وأما الأمراض المنفرة ، فإن كانت بعد التبليغ وتقرير الشرائع ، فجائز عند بعضهم ، وهو الصواب ، جمعا بين ما ثبت فى الأخبار عن السلف وبين الدلائل العقلية فى تنزيه الأنبياء - عليهم السّلام - ، لأن العلة هى تنفير الخلق عنهم ، وبعد التبليغ فلا يضر ، وقد ورد أن شعيبا عليه السّلام عمى فى آخر عمره ، وكذلك يعقوب ، وكان بعد تبليغ الرسالة ، فلم يضر.
ثم قال تعالى فى حق أيوب عليه السّلام : فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ إنعاما عليه ، فلمّا قام من مرضه جعل يلتفت فلا يرى شيئا مما كان له من الأهل ، والمال ، ثم أحيا اللّه أولاده بأعيانهم ، ورزقه مثلهم ، ورد عليه ماله ، بأن أخلف له مثله ، وذلك قوله تعالى : وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ وقيل : كان ذلك بأن ولد له ضعف ما كان له. وقال عكرمة : آتيناه أهله فى الآخرة ، ومثلهم معهم فى الدنيا ، والأول هو ظاهر الآية ، ردهم اللّه تعالى بأعيانهم إظهارا لكمال قدرته تعالى.
ثم قال رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا : مفعول من أجله ، أي : آتينا ما ذكر لرحمتنا أيوب ، وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ أي :
وتذكرة لغيره من العابدين ليصبروا كما صبر ، ويثابوا كما أثيب ، أو لرحمتنا العابدين ، الذين من جملتهم أيوب ، وذكرنا إياهم بالإحسان ، وعدم نسياننا لهم. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : ما ينزل بالمؤمن من الأوجاع والأسقام والشدائد والنوائب ، فى النفس ، أو فى الأهل ، كله رحمة ، عظيمة ، ومنّة جسمية ، ويقاس عليه : مفارقة الأحباب والأوطان ومشاق الأسفار والمتاعب البدنية ، ويسمى عند الصوفية :
التعرفات الجلالية لأن اللّه تعالى يتعرف إليهم بها ليعرفوه عيانا ، ولذلك تجدهم يفرحون بها ، وينبسطون عند ورودها لما يتنسمون فيها ، ويجدون بعدها ، من مزيد الاقتراب وكشف الحجاب ، وطى مسافة البعد بينهم وبين رب الأرباب ، فهم يؤثرونها على الأعمال الظاهرة لما يتحققون بها من وجود الأعمال الباطنية كالصبر والزهد والرضا والتسليم ، وما ينشأ عنها ، عند ترقيق البشرية ، من تشحيذ الفكرة والنظرة ، وغير ذلك من أعمال القلوب.
وفى الحكم : «إذا فتح لك وجهة من التعرف ، فلا تبالي معها إن قلّ عملك فإنه ما فتحها لك إلّا وهو يريد أن يتعرف إليك منها ، ألم تعلم أن التعرف هو مورده عليك ، والأعمال أنت مهديها إليه ، وأين ما تهديه إليه مما هو مورده عليك؟». قال الشيخ ابن عباد رضى اللّه عنه : معرفة اللّه تعالى هى غاية المطالب ، ونهاية الأمانى والمآرب ، فإذا واجه اللّه عبده ببعض أسبابها ، وفتح له باب التعرّف له منها ، فذلك من النعم الجزيلة عليه ، فينبغى ألا يكترث بما يفوته بسبب ذلك من أعمال البر ، وما يترتب عليها من جزيل الأجر ، وليعلم أنه سلك به مسلك الخاصة المقرّبين ، (3/488)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 489
المؤدّى إلى حقائق التوحيد واليقين ، من غير اكتساب من العبد ولا تعمّل ، والأعمال التي من شأنها أن يتلبس بها هى باكتسابه وتعمله ، وقد لا يسلم من دخول الآفات عليها ، والمطالبة بوجود الإخلاص فيها ، وقد لا يحصل له ما أمّله من الثواب عند مناقشة الحساب ، وأين أحدهما من الآخر؟.
ومثاله : ما يصاب به الإنسان من البلايا والشدائد التي تنغّص عليه لذات الدنيا ، وتمنعه من كثير من أعمال البر ، فإنّ مراد العبد أن يستمر بقاؤه فى الدنيا ، طيّب العيش ناعم البال ، ويكون حاله فى طلب سعادة الآخرة حال المترفين فلا تسخو نفسه إلا بالأعمال الظاهرة ، التي لا كثير مؤنة عليه فيها ولا مشقة ، ولا تقطع عنه لذة ، ولا يفوته شهوة ، ومراد اللّه منه أن يطهره من أخلاقه اللئيمة ، ويحول بينه وبين صفاته الذميمة ، ويخرجه من أسر وجوده إلى متسع شهوده ، ولا سبيل إلى الوصول إلى هذا المقام على غاية الكمال والتمام ، إلا بما يضاد مراده ، ويشوش عليه معتاده ، وتكون حاله حينئذ المعاملة بالباطن ، ولا مناسبة بينها وبين الأعمال الظاهرة ، فإذا فهم هذا علم أن اختيار اللّه له ، ومراده منه ، خير من اختياره لنفسه ومراده لها.
وقد روى أن اللّه تعالى أوحى إلى بعض أنبيائه : «إنى إذا أنزلت بعبدي بلائي ، فدعانى ، فماطلته بالإجابة ، فشكانى ، قلت : عبدى كيف أرحمك من شىء به أرحمك»؟ وفى حديث أبى هريرة رضى اللّه عنه أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال :
«قال اللّه تعالى : إذا ابتليت عبدى المؤمن فلم يشكنى إلى عوّاده ، أنشطته من عقالى ، وبدّلته لحما خيرا من لحمه ، ودما خيرا من دمه ، ويستأنف العمل» «1».
ثم نقل عن أبى العباس ابن العريف رضى اللّه عنه قال : كان رجل بالمغرب يدعى أبا الخيّار ، وقد عمّ جسده الجذام ، ورائحة المسك توجد منه على مسافة بعيدة ، لقيه بعض الناس ، فقال له : يا سيدى كأن اللّه تعالى لم يجد للبلاء محلا من أعدائه حتى أنزله بكم ، وأنتم خاصة أوليائه!! فقال لى : اسكت ، لا تقل ذلك لأنا لمّا أشرفنا على خزائن العطاء ، لم نجد عند اللّه أشرف ولا أقرب من البلاء ، فسألناه إيّاه «2» ، وكيف بك لو رأيت سيّد الزهّاد ، وقطب العباد ، وإمام الأولياء والأوتاد ، فى غار بأرض طرطوس وجبالها ، ولحمه يتناثر ، وجلده يسيل قيحا وصديدا ، وقد أحاط به الذباب والنمل ، فإذا كان الليل لم يقنع بذكر اللّه وشكره على ما أعطاه من الرحمة ، حتى يشدّ نفسه بالحديد ، ويستقبل القبلة عامّة ليله حتى يطلع الفجر. ه.
___________
(1) أخرجه البيهقي فى السنن الكبرى (الجنائز ، بال ما ينبغى لكل مسلم أن يستشعره من الصبر ..) ، والحاكم فى المستدرك (الجنائز 1/ 349) عن أبى هريرة ، وصححه الحاكم ، وأقره الذهبي.
(2) أمرنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بالتداوى. وقال : «اسألوا اللّه العافية».(3/489)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 490
وقد تكلم الصوفية فى قول أيوب عليه السّلام : مَسَّنِيَ الضُّرُّ هل شكى ضرر جسمه ، أو ضرر قلبه من جهة دينه؟
قال بعضهم : قيل : إنه أراد النهوض إلى الصلاة فلم يستطع ، فقال : (مَسَّنِيَ الضُّرُّ) ، وقيل : إنه أكل الدود جميع جسده ، حتى بقي عظاما ، فلما قصد الدود قلبه ولسانه غار على قلبه لأنه موضع المعرفة والتوحيد ، والنبوة والولاية ، وأسرار اللّه تعالى ، وخاف انقطاع الذكر ، فقال : (مَسَّنِيَ الضُّرُّ) ، وقيل : خاف تبدد همه وتفرق قلبه ، وليس فى العقوبة شىء أشد من تبدد الهم ، فتارة يقول : لعلى ببلائى معاقب ، وتارة يقول : بضرى مستدرج ، فلما خاف تشتيت خاطره عليه ، قال : (مَسَّنِيَ الضُّرُّ). ه.
قلت : هذا المقام لا يليق بالأنبياء ، وإنما يجوز على غيرهم إذ الأولياء يترقون عن هذا المقام فكيف بالأنبياء! وقال بعضهم : قال : مسنى الضر من شماتة الأعداء ، واقتصر عليه ابن جزى ، وفيه شىء إذ كثير من الأولياء سقط الناس من عينهم ، فلا يبالون بخيرهم ولا شرهم ، ولا مدحهم ولا ذمهم ، فكيف بالأنبياء - عليهم السّلام - ؟! وقال القشيري : كان ذلك منه إظهارا للعجز ، لا اعتراضا ، فلا ينافى الصبر ، مع ما فيه من التنفيس عن الضعفاء من الأمة ، ليكون أسوة. ويقال : إن جبريل أمره بذلك ، وقال له : إن اللّه يغضب إن لم يسأل ، وسيان عنده البلاء والعافية ، فسله العافية. ويقال : إن أيوب كان مكاشفا بالحقيقة ، مأخوذا عنه ، وكان لا يحس بالبلاء ، فستر عليه ، فردّه إليه ، فقال : مسنى الضّرّ ، وقيل : أدخل على أيوب تلك الحالة ، فاستخرج منه تلك المقالة ليظهر عليه سمة العبودية «1». ه.
وقال الورتجبي : سئل الجنيد عن قوله : (مَسَّنِيَ الضُّرُّ) ، فقال عرّفه فاقة السؤال ، ليمنّ عليه بكرم النوال ، وفى الحديث المروي عن النبي صلى اللّه عليه وسلم : أنه جاء إليه رجل فسأله عن قول أيوب «مسنى الضر» ، فبكى - عليه الصلاة والسّلام - وقال : والذي بعثني بالحق نبيا ما شكى فقرا نزل من ربه ، ولكن كان فى بلائه سبع سنين وسبعة أشهر وسبعة أيام وسبع ساعات ، فلما كان فى بعض الساعات وثب ليصلى ، فلم يستطع النهوض ، فقال : (مَسَّنِيَ الضُّرُّ) إلخ. ثم قال عليه الصلاة والسّلام - : أكل الدود عامة جسد حتى بقي عظاما نخرة «2» ، فكادت الشمس تطلع من قبله وتخرج من دبره ، وما بقي إلا قلبه ولسانه ، وكان قلبه لا يخلو من ذكر اللّه ، ولسانه لا يخلو من ثنائه على ربه ، فلما أحب اللّه له الفرج ، بعث إليه الدودتين إحداهما إلى لسانه والأخرى إلى قلبه ، فقال : يا رب ما بقي إلا هاتان الجارحتان ، أذكرك بهما ، فأقبلت هاتان الدودتان إليهما ليشغلانى عنك ويطلعان على سرى ، مسنى الضر وأنت أرحم الراحمين. ه.
وفى قوله تعالى : (رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ) : تسلية لمن أصيب بشىء من هذه التعرفات الجلالية ، وقد تقدم فى أول الإشارة الكلام على هذا. واللّه تعالى أعلم.
___________
(1) باختصار.
(2) لم أقف عليه.(3/490)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 491
ثم ذكر ما بقي من مشاهير الأنبياء ، فقال :
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 85 الى 86]
وَإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (85) وَأَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ (86)
يقول الحق جل جلاله : وَاذكر إِسْماعِيلَ بن إبراهيم ، وكان أكبر من إسحاق ، وَإِدْرِيسَ واسمه : أخنوخ بن شيث بن آدم. قاله النسفي وَذَا الْكِفْلِ وهو إلياس ، أو زكريا ، أو يوشع بن نون ، قلت : كونه زكريا بعيد لأنه سيذكره بخصوصه بعد. وسمى ذا الكفل لأنه ذو حظ من اللّه ، والكفل : الحظ. أو تكفل بضعف عمل أنبياء زمانه ، أو بصيام النهار وقيام الليل. وقال أبو موسى الأشعري : إنّ ذا الكفل لم يكن نبيا ، ولكنه كان عبدا صالحا ، تكفل بعمل رجل صالح عند موته ، وكان يصلى للّه تعالى ، فى كل يوم ، مائة صلاة ، فأحسن اللّه عليه الثناء. ه. وقال عمر بن عبد اللّه بن الحارث : إن نبيا من الأنبياء قال : من تكفل لى أن يصوم النهار ويقوم الليل ولا يغضب؟ فقال شاب : أنا ، فمات ذلك النبي ، فجلس ذلك الشاب يقضى بين الناس ، فجاءه الشيطان فى صورة إنسان ليغضبه وهو صائم ، فضرب الباب ضربا شديدا ، فقال : من هذا؟ فقال : رجل له حاجة ، فأرسل له رجلا ، فلم يرض ، ثم أرسل معه آخر ، فلم يرض ، فخرج إليه فأخذ بيده فانطلق معه إلى السوق ، ثم خلاه وذهب ، فسمى ذا الكفل. ه.
كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ أي : كل واحد من هؤلاء موصوف بالصبر التام على مشاق التكليف وشدائد النوب ، وَأَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا فى النبوة ، أو فى الآخرة ، إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ أي : الكاملين فى الصلاح الذي لا تحوم حوله شائبة الفساد ، وهم الأنبياء ، فإن صلاحهم معصوم من كدر الفساد. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : قد مدح اللّه هؤلاء السادات بخصلتين ، من تحقق بهما : التحق بهم ، وانخرط فى سلكهم : الصبر على مشاق الطاعة ، وعلى ترك المعصية ، وفى حال البلية. والصلاح ، وهو : إصلاح الظاهر بالشريعة ، وإصلاح الباطن بنور الحقيقة. فمن تحقق بهاتين الخصلتين كان من المقربين مع النبيين والصديقين. وباللّه التوفيق.
ثم ذكر يونس عليه السّلام ، فقال :
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 87 الى 88]
وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88)(3/491)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 492
يقول الحق جل جلاله : وَاذكر ذَا النُّونِ أي : صاحب الحوت ، وهو يونس عليه السّلام ، إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً أي : مراغما لقومه ، فارا عنهم ، وغضب من طول دعوته إياهم ، وشدة شكيمتهم ، وتمادى إصرارهم ، فخرج مهاجرا عنهم ، قبل أن يؤمر ، وقيل : وعدهم بالعذاب فلم يأتهم لميعادهم لأجل توبتهم ، ولم يشعر بها ، فظن أنه كذبهم ، فغضب من ذلك ، فهو من باب المغالبة للمبالغة أو لأنه غضب لما رأى منهم من الإصرار ، وغضبوا لمفارقته إياهم ، وكان من حقه عليه السّلام أن يصبر وينتظر الإذن الخاص من اللّه تعالى ، فلما استعجل ابتلى ببطن الحوت ، وقال ابن عباس : قال جبريل ليونس عليه السّلام : انطلق إلى أهل نينوى فأنذرهم أن العذاب قد حضرهم ، قال :
ألتمس دابة ، قال : الأمر أعجل من ذلك ، فانطلق إلى السفينة فركبها ، فاحتبست السفينة فساهموا فسهم ، فجاءه الحوت يبصبص بذنبه ، فنودى الحوت : إنا لم نجعل يونس لك رزقا ، إنما جعلناه لك حرزا ، فالتقمه ، ومرّ به على الأبلة ، ثم على دجلة ، ثم مرّ به حتى ألقاه بنينوى. ه.
وقال وهب بن منبه رضى اللّه عنه : إنّ يونس كان عبدا صالحا ضيّق الخلق ، «2» فلما حمل أثقال النبوة تفسخ منها تفسّخ الرّبع «1» تحت الحمل الثقيل ، فقذفها وخرج هاربا عنها ، ولذلك أخرجه اللّه من أولى العزم ، قال لنبيه صلى اللّه عليه وسلم :
فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ «3» وقال : وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ «4» أي : لا تلق أمرى كما ألقاه. ه. وأما قول الحسن : مغاضبا لربه ، فلا يليق بمقام الأنبياء - عليهم السلام - إلا أن يحمل على أن خروجه بلا إذن كأنه مغاضب. واللّه تعالى أعلم.
ثم قال تعالى : فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ أي : لن نضيق عليه ، أو لن نقدر عليه بالعقوبة ، فهو من القدر ، ويؤيده قراءة من شدّد ، وعن ابن عباس رضى اللّه عنه قال : دخلت يوما على معاوية ، فقال : لقد ضربتنى أمواج القرآن البارحة ، فغرقت فيها ، فلا أرى لنفسى خلاصا إلا بك ، قال : وما هى؟ فقرأ الآية ... فقال : أو يظن نبى اللّه ألا يقدر عليه؟ قال : هذا من القدر لا من القدرة. ه.
وقيل : إنه على حذف الاستفهام. أي : أيظن أن لن نقدر عليه ، وقيل : هو تمثيل لحاله بحال من ظن أن لن يقدر عليه ، أي : تعامل معاملة من ظن أن لن نقدر عليه حيث استعجل الفرار. قلت : لإعلاء مقامه كثرت مطالبته بالأدب ، فحين خرج من غير إذن خاص عدّ خروجه كأنه ظن ألا تنفذ فيه القدرة ، وتمسك عليه السّلام بالإذن العام ، وهو الهجرة من دار الكفر ، وهو لا يكفى فى حق أمثاله ، فعوقب بالسجن فى بطن الحوت.
___________
(1) الربع : ولد الناقة أول ما يحمل عليه.
(2) هذا لا يصح أن يوصف به سيدنا يونس ، الذي قال فيه سيدنا محمد : «لا ينبغى لأحد أن يقول أنا خير من يونس بن متى».
(3) من الآية 35 من سورة الأحقاف.
(4) من الآية 48 من سورة القلم. وانظر تفسير الطبري (17/ 77) ، والبغوي (5/ 350). [.....](3/492)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 493
فَنادى فِي الظُّلُماتِ أي : فى الظلمة الشديدة المتكاثفة كقوله : ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ ... «1» ،
أو فى ظلمة بطن الحوت والبحر والليل : أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أي : بأنه لا إله إلا أنت ، أو تفسيرية ، أي : قال لا إله إلا أنت ، سُبْحانَكَ أي : أنزهك تنزيها لائقا بك من أن يعجزك شىء ، أو : تنزيها لك عما ظننت فيك ، إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ لنفسى بخروجي عن قومى قبل أن تأذن لى ، أو من الظالمين لأنفسهم بتعريضها للهلكة ، وعن الحسن : ما نجاه ، واللّه ، إلا إقراره على نفسه بالظلم.
فَاسْتَجَبْنا لَهُ أي : أجبنا دعاءه الذي دعا فى ضمن الاعتراف بالذنب على ألطف وجه وأحسنه. عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : «ما من مكروب يدعو بهذا الدّعاء إلّا استجيب له» «2». وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ : الذلة والوحشة والوحدة ، وذلك بأن قذفه الحوت إلى الساحل بعد أربع ساعات ، وقيل : بعد ثلاثة أيام ، وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ أي : مثل ذلك الإنجاء الكامل ننجى المؤمنين من غمومهم ، إذا دعوا اللّه ، مخلصين فى دعائهم. وعنه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال :
«اسم اللّه الذي إذا دعى به أجاب ، وإذا سئل به أعطى : دعوة يونس بن متى ، قيل : يا رسول اللّه ، أليونس خاصة؟
قال : بل هى عامة لكل مؤمن ، ألم تسمع قول اللّه تعالى : وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ». وهنا قراءات فى نُنْجِي ، مذكورة فى كتب القراءات ، تركتها لطول الكلام فيها.
الإشارة : من تحققت له سابقة العناية لا تبعده الجناية ، ولا تخرجه عن دائرة الولاية ، بل يؤدب فى الدنيا بالابتلاء فى بدنه أو ماله ، على قدر الجناية وعلو المقام ، ثم يرد إلى مقامه. وهاهنا حكايات للصوفية - رضى اللّه عنهم - من هذا النوع ، منها : حكاية خير النساج رضى اللّه عنه ، قيل له : أكان النسج صنعتك؟ قال : لا ، ولكن كنت عاهدت اللّه واعتقدت ألا آكل الرطب ، فغلبتنى نفسى واشتريت رطلا منه ، فجلست لآكله ، فإذا رجل وقف علىّ ، وخنقنى ، وقال : يا عبد السوء ، أتهرب من مولاك - وكان له عبد اسمه : «خير» أبق منه ، ألقى اللّه شبهه علىّ - فحملنى إلى حانوته ، وقال : اعمل عملك ، أمرنى بعمل الكرباس - وهو القطن - فدليت رجلى لأنسجه ، فكأنى كنت أعمله سنين ، فبقيت معه أشهرا ، فقمت ليلة إلى صلاة الغداة ، وقلت : إلهى لا أعود ، فأصبحت ، فإذا الشبه قد زال عنى ، وعدت إلى صورتى التي كنت عليها ، فأطلقت ، فثبت علىّ هذا الاسم ، فكان سببه اتباع شهوتى.
ومنها قضية أبى الخير العسقلاني رضى اللّه عنه قال : اشتهيت السمك سنين ، ثم ظهر له من وجه حلال ، فلما مد يده ليأكل ، أخذت شوكة من عظامه إصبعه ، فذهبت فى ذلك ، فقال : إلهى هذا لمن مد يده لشهوة من حلال ، فكيف
___________
(1) من الآية 17 من سورة البقرة.
(2) أخرجه الترمذي فى (الداعوة باب 82) ، وأبو يعلى (2/ 65) ، والحاكم فى المستدرك (1/ 505) ، وصححه ووافقه الذهبي ، من حديث سعد بن أبى وقاص. وأخرجه أحمد فى قصة (1/ 170).(3/493)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 494
بمن مد يده لشهوة من حرام. ومنها : قضية إبراهيم الخواص رضى اللّه عنه قال : كنت جائعا فى الطريق ، فوافيت الرّى - اسم بلدة - فخطر ببالي أن لى بها معارف ، فإذا دخلتها أضافونى وأطعمونى ، فلمّا دخلت البلد رأيت فيها منكرا احتجت أن آمر فيه بالمعروف ، فأخذونى وضربونى ، فقلت فى نفسى : من أين أصابنى هذا ، على جوعى؟ فنوديت فى سرى : إنك سكنت إلى معارفك بقلبك ، ولم تسكن إلى خالقك.
وأمثال هذا كثير بأهل الخصوصية ، يؤدبون على أقل شىء من سوء الأدب لشدة قربهم ، ثم يردون إلى مقامهم. ومن هذا النوع قصة سيدنا يونس عليه السّلام حيث خرج من غير إذن خاص ، فأدّبه ، ثم رده إلى النبوة والرسالة ، وقد كنت سمعت من بعض الأشياخ أن أيوب عليه السّلام إنما أصيب فى ماله ، لأنه كان بجوار ماله كافر ، فكان يداريه لأجل ماله ، فأصيب فيه وفى بدنه تأديبا وتكميلا له. واللّه تعالى أعلم.
ثم ذكر زكريا عليه السّلام فقال :
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 89 الى 90]
وَزَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ (89) فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ (90)
يقول الحق جل جلاله : وَاذكر خبر زَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ فى طلب الولد ، وقال : رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وحيدا بلا ولد يرثنى ، ثم ردّ أمره إليه مستسلما ، فقال : وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ ، فحسبى أنت ، وإن لم ترزقنى وارثا فلا أبالى فإنك خير وارث ، فَاسْتَجَبْنا لَهُ دعاءه ، وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى ولدا وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ أي : أصلحناها للولادة بعد عقمها ، أو أصلحناها للمعاشرة بتحسين خلقها. وكانت قبل سيئة الخلق ، إِنَّهُمْ أي : ما تقدم من الأنبياء ، كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ أي : إنما استحقوا الإجابة إلى مطالبهم ، وأسعفناهم فيما أمّلوا لمبادرتهم أبواب الخير ، ومسارعتهم إلى تحصيلها ، مع ثباتهم واستقرارهم فى أصل الخير كله ، وهو السر فى إتيان : «فى» ، دون «إلى» ، المشعرة بخلاف المقصود من كونهم خارجين عن أصل الخيرات ، متوجهين إليها ، كما فى قوله تعالى : وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ «1».
وَكانوا يَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً طمعا وخوفا ، وهما مصدران فى موضع الحال ، أو المفعول له ، أي :
راغبين فى الثواب أو الإجابة ، وراهبين من العقاب أو الخيبة ، أو للرغبة والرهبة ، وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ :
___________
(1) من الآية 133 من سورة آل عمران.(3/494)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 495
متواضعين خائفين ، أي : إنما نالوا هذه المراتب العلية ، واستحقوا هذه الخصوصية لاتصافهم بهذه الأوصاف الحميدة. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : الغالب فى وراثة الخصوصية الحقيقية أن تكون لغير ورثة النسب ، وأما الخصوصية المجازية ، التي هى مقام الصلاح أو العلم ، فقد تكون لورثة النسب ، وتكون لغيرهم. والخصوصية الحقيقية هى مقام الفناء والبقاء ، والتأهل للتربية النبوية ، ولا بأس بطلب وارث هذه الخصوصية ، لئلا ينقطع النفع بها. وقد قيل ، فى قول الشيخ ابن مشيش رضى اللّه عنه : اسمع نداءى بما سمعت به نداء عبدك زكريا ، إنه أشار إلى طلب الوارث الروحاني. واللّه تعالى أعلم.
وقوله تعالى : إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ ، فيه إشارة إلى بيان سبب حصول الخصوصية لأن بابها هو المسارعة إلى عمل الخيرات وأنواع الطاعات ، وأوكدها ثلاثة : دوام ذكر اللّه ، وحسن الظن باللّه ، وبعباد اللّه. وفى الحديث : «خصلتان ليس فوقهما شىء من الخير : حسن الظن باللّه ، وحسن الظن بعباد اللّه». وقوله : وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً ، هذه حالة الطالبين المسترشدين المتعطشين إلى اللّه ، يدعونه رغبا فى الوصول ، ورهبا من الانقطاع والرجوع ، وقد تكون للواصلين رغبا فى زيادة الترقي ، ورهبا من الوقوف أو الإبعاد. وقال بعضهم : الرغب والرهب حاصلتان لكل مؤمن ، إذ لو لم تكن رغبة لكان قنوطا ، وهو كفر ، ولو لم تكن رهبة لكان أمنا ، والأمن كفر.
واللّه تعالى أعلم.
ثم ذكر مريم وابنها - عليهما السلام - فقال :
[سورة الأنبياء (21) : آية 91]
وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ (91)
يقول الحق جل جلاله : وَاذكر الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها على الإطلاق من الحلال والحرام ، والتعبير عنها بالموصول لتفخيم شأنها ، وتنزيهها عما زعموه فى حقها. فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا أي : أجرينا روح عيسى فيه وهو فى بطنها ، أو نفخنا فى درع جيبها من ناحية روحنا ، وهو جبريل عليه السّلام ، فأحدثنا بذلك النفخ عيسى عليه السّلام ، وإضافة الروح إليه تعالى لتشريف عيسى عليه السّلام ، وَجَعَلْناها وَابْنَها أي :
قضيتهما ، أو حالهما ، آيَةً لِلْعالَمِينَ ، فإن من تأمل حالهما تحقق بكمال قدرته تعالى. وإنما لم يقل آيتين ، كما قال : وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ «1» لأن مجموعهما آية واحدة ، وهى ولادتها إياه من غير فحل. وقيل :
التقدير : وجعلناها آية وابنها كذلك ، فآية مفعول المعطوف عليه ، فحذف أحدهما لدلالة الآخر عليه. واللّه تعالى أعلم.
___________
(1) من الآية 12 من سورة الإسراء.(3/495)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 496
الإشارة : من حصّل التقوى فى صغره ، كان آية فى كبره. تقول العامة : الثور الحراث فى الربك يبان ، وتقول الصوفية : البداية مجلاة النهاية. وقالت الحكماء : الصغر يخدم على الكبر. وباللّه التوفيق.
ثم ذكر اتفاقهم فى التوحيد ، فقال :
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 92 الى 94]
إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92) وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ (93) فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كاتِبُونَ (94)
قلت : «أمة» : حال من «أمتكم» أي : متحدة أو متفقة ، والعامل فيه ومعنى الإشارة ، والإشارة إلى طريق الأنبياء المذكورين قبل.
يقول الحق جل جلاله : إِنَّ هذِهِ الطريق والسيرة التي سلكها الأنبياء المذكورون ، واتفقوا عليها ، وهو التوحيد ، هى أُمَّتُكُمْ أي : ملتكم التي يجب أن تكونوا عليها ، ولا تخرجوا عنها ، حال كونها أُمَّةً واحِدَةً ، غير مختلفة فيما بين الأنبياء - عليهم السّلام - وإن اختلفت شرائعهم. وفى الحديث : «الأنبياء أبناء علّات ، أمهاتهم شتّى ، وأبوهم واحد» والعلات : الضرائر ، أي : شرائعهم مختلفة ، وأبوهم واحد ، وهو التوحيد. قال القشيري : وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ أي : ربيتكم اختيارا ، فاعبدونى شكرا وافتخارا. ه. والخطاب للناس كافة.
وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ ، أصل الكلام : وتقطعتم فى أمر دينكم وتفرقتم. إلّا أن الكلام صرف إلى الغيبة ، على طريقة الالتفات لينعى عليهم ما أفسدوه فى الدين. والمعنى : فجعلوا أمر دينهم فيما بَيْنَهُمْ قطعا ، وصاروا أحزابا متفرقة ، كأنه ينهى إلى أهل التوحيد قبائح أفعالهم ، ويقول : ألا ترون إلى عظيم ما ارتكب هؤلاء فى دين اللّه ، الذي أجمعت عليه كافة الأديان؟ ثم توعدهم بقوله : كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ أي : كل واحد ، من الفرق المتقطعة ، راجع إلينا بالبعث ، فنجازيهم حينئذ بحسب أعمالهم.
ثم فصّل الجزاء فقال : فَمَنْ يَعْمَلْ شيئا مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ باللّه ورسله وبما يجب الإيمان به.
قال القشيري : (و هو مؤمن ، أي : فى المآل بأن يختم له به) ، وكأنه يشير إلى الخاتمة لأن من لم يختم له بالإيمان لا ثواب لأعماله ، والعياذ باللّه ، فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ أي : لا حرمان لثواب عمله ، بل سعيه مشكور مقبول ، فالكفران مثل فى حرمان الثواب ، كما أن الشكر مثل فى إعطائه ، وعبّر عن ذلك بالكفران ، الذي هو ستر النعمة(3/496)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 497
وجحدها لبيان كمال تنزهه تعالى عنه. وعبّر عن العمل بالسعي لإظهار الاعتداد به ، وَإِنَّا لَهُ أي : لسعيه كاتِبُونَ مثبتون فى صحائف أعمالهم ، نأمر الحفظة بذلك ، لا نغادر من ذلك شيئا. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : الصوفية - رضى اللّه عنهم - ، فى حال سيرهم إلى الحضرة وسلوكهم فى طريق التربية ، مختلفون بحسب الأزمنة والأمكنة والأشخاص. وفى حال نهايتهم - وهو الوصول إلى حضرة الشهود والعيان ، وإشراق شمس العرفان ، الذي هو مقام الإحسان ، ويعبّرون عنه بالفناء والبقاء ، وهو التوحيد الخاص - متفقون ، وفى ذلك يقول القائل :
عباراتنا شتى ، وحسنك واحد وكلّ إلى ذاك الجمال يشير
لأن ما كان ذوقا ووجدا لا يختلف ، بل يجده كل من له ذوق سليم. نعم تتفاوت أذواقهم على حسب مشاربهم ، ومشاربهم على حسب إعطائهم نفوسهم وبيعها للّه ، وتتفاوت أيضا بحسب التخلية والتفرغ ، وبحسب الجد والاجتهاد ، وكلهم على بصيرة من اللّه وبينة من ربهم. نفعنا اللّه بذكرهم ، وخرطنا فى سلكهم ، آمين.
ثم تمم قوله : كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ ، فقال :
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 95 الى 97]
وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ (95) حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (96) وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يا وَيْلَنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ (97)
قلت : «حرام» : مبتدأ ، وفيه لغتان : حرام وحرم ، كحلال وحلّ. و«أنهم ..» إلخ : خبر ، أو فاعل سد مسده ، على مذهب الكوفيين والأخفش. والجملة : تقرير لقوله : (كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ) ، و«لا» نافية ، أي : ممتنع على قرية أهلكناها عدم رجوعهم إلينا بالبعث ، بل كل إلينا راجعون. وقيل : «لا» زائدة ، والتقدير : ممتنع رجوع قرية أردنا إهلاكها عن غيهم ، «فإنهم» : على هذا : فاعل بحرام. قاله القصار. و«حتى» : ابتدائية ، غاية لما يدل عليه ما قبلها ، أي : يستمرون على ما هم عليه من الهلاك ، حتى إذا قامت القيامة يرجعون إلينا ، ويقولون : يا ويلنا. وقال أبو البقاء : «حتى» :
متعلقة فى المعنى بحرام ، أي : يستقر الامتناع ، أي : هذا الوقت. و«فإذا هى» : جواب «إذا». وفى الأزهرى : وقد يجمع بين الفاء وإذا الفجائية تأكيدا ، خلافا لمن منع ذلك. قال تعالى : (فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ) ، فإنه لو قيل : إذا هى ، أو فهى شاخصة لصح. ه. وقيل : «يا ويلنا» : على حذف القول ، أي : إذا فتحت قالوا : يا ويلهم. و«اقترب» : عطف على «فتحت».(3/497)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 498
يقول الحق جل جلاله : وَحَرامٌ أي : ممتنع عَلى أهل قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها قدرنا هلاكها ، أو حكمنا بإهلاكها لعتوهم ، أَنَّهُمْ إِلَيْنا لا يُرْجَعُونَ بالبعث والحشر ، بل لا بد من بعثهم وحشرهم وجزائهم على أعمالهم. وتخصيص امتناع عدم رجوعهم بالذكر مع شمول الامتناع للكل لقوله : كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ لأنهم المنكرون للبعث والرجوع دون غيرهم. وقيل : المعنى : وممتنع على قرية ، أردنا إهلاكها ، رجوعهم إلى التوبة ، أو ممتنع على قرية ، أهلكناها بالفعل ، رجوعهم إلى الدنيا. وفيه رد على مذهب القائلين بالرجعة من الروافض وأهل التناسخ ، على أن «لا» صلة. وقرىء بالكسر «1» ، على أنه تعليل لما قبله ، فحرام ، على هذا ، خبر عن مبتدأ محذوف ، أي : ذلك العمل الصالح حرام على قرية أردنا إهلاكها لأنهم لا يرجعون عن غيهم.
وقال الزجاج : المعنى : وحرام على قرية ، أردنا إهلاكها ، أن يتقبّل منهم عمل لأنهم لا يرجعون ، أي : لا يتوبون ، ويجوز حمل المفتوحة على هذا بحذف اللام ، ويستمرون على ما هم عليه من الهلاك ، أو : فليستمر امتناعهم من الرجوع.
حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ ونفخ فى الصور ، وقامت القيامة ، فيرجعون ، ولا ينفعهم الرجوع.
ويأجوج ومأجوج قبيلتان ، يقال : الناس عشرة أجزاء ، تسعة منها يأجوج ومأجوج. والمراد بفتحها : فتح سدها ، على حذف مضاف أي : حتى إذا فتح سد يأجوج ومأجوج ، وَهُمْ أي : يأجوج ومأجوج ، وقيل : الناس بعد البعث ، مِنْ كُلِّ حَدَبٍ أي : نشز ومرتفع من الأرض ، يَنْسِلُونَ : يسرعون ، وأصل النسل : مقاربة الخطو مع الإسراع. ويدل على عود الضمير ليأجوج ومأجوج : قوله - عليه الصلاة والسّلام - : «ويفتح ردم يأجوج ومأجوج ، فيخرجون على الناس ، كما قال اللّه تعالى : مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ ...» الحديث «2» ، ويؤيد إعادته على الناس قراءة مجاهد : «من كل جدث» بالجيم ، وهو القبر.
ثم قال تعالى : وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ أي : ما بعد النفخة الثانية من البعث والحساب ، فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أي : فإذا القصة أو الشأن ، وهو أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا شاخصة ، أي : مرتفعة الأجفان ، لا تكاد تطرق من شدة الهول ، حال كونهم يقولون : يا وَيْلَنا يا هلكتنا ، هذا أوانك ، فاحضرى ، قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ تامة مِنْ هذا الذي دهمنا من البعث ، والرجوع إليه تعالى ، للجزاء ، ولم نعلم ، حيث نبّهنا عليه بالآيات والنذر ، أنه حق ، بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ بتلك الآيات والنذر ، مكذبين بها ، أو ظالمين أنفسنا بتعريضها للعذاب
___________
(1) فى قوله : «إنهم».
(2) أخرجه ، مطولا ، مسلم ، فى (الفتن ، وأشراط الساعة ، باب ذكر الدجال) ، من حديث النواس بن سمعان.(3/498)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 499
المخلد. وهو إضراب عما قبله ، من وصف أنفسهم بالغفلة ، أي : لم نكن غافلين عنه ، حيث نبّهنا عليه بالآيات والنذر ، بل كنا ظالمين بتكذيبهم ، واللّه تعالى أعلم.
تذييل : روى حذيفة أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال : «أول الآية : الدّجال ، ونزول عيسى ، ونار تخرج من قرن عدن ، تسوق الناس إلى المحشر - أي الشام - تقيل معهم إذا قالوا ، والدّخان ، والدّابة ، ثم يأجوج ومأجوج» «1». قلت : وبعد موت يأجوج ومأجوج ، تبقى مدة عيسى عليه السّلام ، فى أمنة ورغد عيش. قيل : سبع سنين ، وقيل : أربعون. ثم يقبض عيسى ، ويدفن فى روضته صلى اللّه عليه وسلم ، ثم تهب ريح تقبض المؤمنين ، فلا يبقى من يقول اللّه اللّه ، قيل : مائة سنة ، وقيل :
أقل ، ثم تخرب الكعبة ، ثم ينفخ فى الصور للصعق ، واقترب الوعد الحق. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : الحضرة محرمة على قلب خراب ، أهلكه اللّه بالوساوس والخواطر ، وفتحت عليه من الشواغل والشواغب والخواطر يأجوج ومأجوج ، فأفسدته وخربته وجعلته مزبلة للشياطين. فحرام عليه رجوعه إلى الحضرة حتى يتطهر من هذه الوساوس والخواطر ، ومن الشواغل والعلائق. قال بعض الصوفية : (حضرة القدوس محرمة على أهل النفوس). فإذا اقترب وعد الحق ، وهو أجل موته ، قال : يا ويلنا إنا كنا عن هذا غافلين ، لم نتأهب للقاء رب العالمين ، حتى لقيته بقلب سقيم. والعياذ باللّه.
ثم ذكر مآل الكفرة إذا وقع الوعد الحق ، فقال :
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 98 الى 100]
إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ (98) لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ (99) لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَهُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ (100)
يقول الحق جل جلاله : إِنَّكُمْ ، يا كفار قريش ومن دان دينكم ، وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ من الأصنام والشياطين لأنهم ، لطاعتهم لهم واتباعهم خطواتهم ، فى حكم عبادتهم ، ويدخل فيه الشمس والقمر والنجوم ، وكل ما عبد من دون اللّه ممن لا يعقل ، للحديث الوارد فى دخولهم النار ، تبكيتا لمن عبدهم لأنهم لا
___________
(1) أخرجه مسلم فى (الفتن ، باب الآيات التي تكون قبل قيام الساعة). من حديث حذيفة بن أسيد. ولفظه كاملا : «إن الساعة لا تكون حتى تكون عشر آيات : خسف بالمشرق وخسف بالمغرب ، وخسف فى جزيرة العرب ، والدخان ، والدجال ، ودابة الأرض ، ويأجوج ومأجوج ، وطلوع الشمس من مغربها ، ونار تخرج من قعر عدن ترحل الناس».(3/499)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 500
يتضررون بالنار. وأما من يعقل فلا يدخل حيث عبّر بما. وقيل : يدخل ، ثم استثناه بقوله : إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى ... ، فكل من عبد شيئا من دون اللّه فهو معه ، حَصَبُ جَهَنَّمَ أي : حطبها ، وقرئ بالطاء ، أي : وقودها أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ أي : فيها داخلون.
لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً كما زعمتم ما وَرَدُوها ما دخلوا النار ، وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ أي : وكل من العابد والمعبود فى النار خالدون. لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ أي : للكفار فى النار أنين وبكاء وعويل ، وَهُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ شيئا لأن فى سماع بعضهم بعضا نوع أنس. قال ابن مسعود رضى اللّه عنه : يجعلون فى توابيت من نار ، ثم جعلت التوابيت فى توابيت أخر لها مسامير من نار ، فلا يسمعون شيئا.
روى أن النبي صلى اللّه عليه وسلم دخل المسجد الحرام ، وصناديد قريش فى الحطيم ، وحول الكعبة ثلاثمائة وستون صنما ، فجلس إليهم ، فعرض له النّضر بن الحارث ، فكلّمه النبي صلى اللّه عليه وسلم حتّى أفحمه ، ثمّ تلا عليه وعليهم : إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ ... الآيات الثلاث. ثم أقبل عبد اللّه بن الزبعرى فرآهم يتساهمون ، فقال : فيم خوضكم؟ فأخفى الوليد ما قاله النبي صلى اللّه عليه وسلم ، ثم أخبره بعضهم بما قاله ، عليه الصلاة والسّلام ، فقال ابن الزبعرى للنبى صلى اللّه عليه وسلم : أأنت قلت : إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ؟ قال : نعم ، قال : قد خصمتك ، ورب الكعبة ، أليست اليهود تعبد عزيرا ، والنّصارى تعبد المسيح ، وبنو مليح يعبدون الملائكة؟ فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم :
«بل هم يعبدون الشّياطين الّتى أمرتهم بهذا ، فأنزل اللّه تعالى : إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى ..» «1».
قلت : كل من عبد شيئا من دون اللّه فإنما عبد فى الحقيقة الشيطان لأنه أمر به وزينه له ، ويدل على ذلك أنهم يتبرؤون يوم القيامة ، حين تتحقق الحقائق ، من عبادتهم ، كما قال تعالى : وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ ، قالُوا سُبْحانَكَ ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ «2» مع قوله تعالى : وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ «3». واللّه تعالى أعلم.
___________
(1) أخرجه بنحوه الواحدي فى الأسباب (413). والطبراني فى الكبير (12/ 153 ح 12739) ، عن ابن عباس وأخرجه ، مختصرا ، الطبري (17/ 97) ، والحاكم فى (التفسير 2/ 385) وصححه ، ووافقه الذهبي.
(2) الآيتان : 17 - 18 من سورة الفرقان.
(3) من الآية 38 من سورة العنكبوت.(3/500)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 501
الإشارة : من أحب شيئا حشر معه ، من أحب أولياء اللّه حشر معهم ، ومن أحب الصالحين حشر معهم ، ومن أحب الفجار حشر معهم ، ومن أحب الدنيا بعث معها ، ثم بعث إلى النار ، وهكذا .. المرء مع من أحب.
ثم استثنى بذكر حال أهل السعادة ، فقال :
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 101 الى 103]
إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ (101) لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ (102) لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (103)
يقول الحق جل جلاله : إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أي : الخصلة الحسنى ، أو المشيئة الحسنى ، وهى السعادة ، أو التوفيق للطاعة ، أو البشرى بالثواب ، أُولئِكَ عَنْها : عن جهنم مُبْعَدُونَ لأنهم فى الجنة ، وشتان ما بينهما. قال القشيري : لم يقل متباعدون ليعلم العابدون أن المدار على التقدير وسبق الحكم من اللّه ، لا على تباعد العبد وتقرّبه. ه. وكأنه يشير لقوله : «هؤلاء إلى الجنّة ولا أبالى» «1» ، أي : بأعمالهم.
لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها أي : صوتها الذي يحس ، وحركة تلهبها ، وهذه مبالغة فى الإبعاد ، أي : لا يقربوها حتى لا يسمعوا صوتها أو صوت من فيها. قال الكواشي : لا يسمعون صوت النار وحركة تلهبها إذا نزلوا منازلهم من الجنة. ه. وقال ابن عطية : وذلك بعد دخولهم الجنة لأن الحديث يقتضى أن فى الموقف تزفر جهنم زفرة لا يبقى نبى ولا ملك إلا خرّ على ركبتيه. ه. قال شيخ شيوخنا سيدى عبد الرحمن الفاسى : محمل الحديث ، إن صح فى حق الأنبياء والأكابر ، على شهود الجلال والإجلال للّه تعالى ، ولذلك يقولون : «نفسى نفسى» ، لا من خوف النار. ه.
قلت : أما كون الناس يصعقون يوم القيامة ، فيكون المصطفى أول من يفيق ، فثابت فى الصحيح ، أما سبب الصعقة فقد ورد فى غير البخاري : «أنه يؤتى بجهنم ، ولها سبعون ألف زمام ، مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها ، ثم تزفر زفرة ، فلا يبقى نبى ولا ملك إلا خرّ» «2» ... الحديث ، ويؤيده
___________
(1) بعض حديث ، أخرجه الإمام أحمد فى المسند (4/ 186) والحاكم فى المستدرك (1/ 31) ، وابن حبان (1806 موارد) ، عن عبد الرحمن بن قتادة السلمى. والحديث ، صححه الحاكم ، ووافقه الذهبي.
(2) أخرجه ، بدون العبارة الأخيرة ، مسلم فى (الجنة وصفه نعيمها ، باب فى شدة حر نار جهنم ..) من حديث ابن مسعود رضى اللّه عنه.(3/501)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 502
قوله تعالى : وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ «1» والأنبياء - عليهم السلام - بشر عبيد ، قد تعمهم القهرية ، ولا تقدح فى منصبهم ، وليس صعقهم خوفا ، لكن غلبة ودهشا ، كما صعق موسى - عليه السّلام عند الرؤية ، ونبينا - عليه الصلاة والسلام - حين تجلى له جبريل على صورته. واللّه أعلم. وقال جعفر الصادق : وكيف يسمعون حسيسها ، والنار تخمد بمطالعتهم ، وتتلاشى برؤيتهم؟ ثم ذكر حديث قول النار للمؤمن : جز .. إلخ.
ويدل على أن هذه الحالة إنما هى بعد دخولهم الجنة ، قوله تعالى : وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ من النعيم خالِدُونَ : دائمون ، والشهوة : طلب النفس للذة. وهو بيان لفوزهم بالمطالب ، إثر بيان خلاصهم من المهالك والمعاطب ، أي : دائمون فى غاية التنعم ، لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ ، وهو القيام من القبور عند صيحة البعث ، بدليل قوله : وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ. قال ابن عباس : «تتلقاهم الملائكة بالرحمة ، عند خروجهم من القبور» ، قائلين : هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ بالكرامة والثواب ، والنعيم المقيم فيه ، أي : بعد دخولكم الجنة.
وقال الحسن : الفزع الأكبر : الانصراف إلى النار. وعن الضحاك : حين يطبق على أهل النار. وقيل : حين نفخة الصعق ، وقيل : حين يذبح الموت. قلت : من سبقت له الحسنى ينجو من جميعها. وقيل : تتلقاهم الملائكة على أبواب الجنة ، مهنئين لهم قائلين : (هذا يومكم الذي كنتم توعدون) فى الدنيا ، ويبشرون بما فيه من فنون المثوبات على الإيمان والطاعات. وهذا ، كما ترى ، صريح فى أن المراد بالذين سبقت لهم الحسنى : كافة المؤمنين الموصوفين بالإيمان والأعمال الصالحة ، لا من ذكر من المسيح ، وعزير ، والملائكة ، كما قيل. قاله أبو السعود ، قلت : وقد يجاب بأنها نزلت فى شأنهم وتعم غيرهم لأن سبب النزول لا يخصص. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : قال الجنيد رضى اللّه عنه : إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أي : سبقت لهم منا العناية فى البداية ، فظهرت لهم الولاية فى النهاية. ه. (أُولئِكَ عَنْها) أي : عن نار القطيعة ، وهى أغيار الدنيا ، مبعدون ، لا يسمعون حسيسها ، ولا ما يقع فيها من الهرج والفتن ، لغيبتهم عنها بالكلية فى الشغل باللّه تعالى ، فهم فيما اشتهت أنفسهم من لذة الشهود ، والقرب من الملك الودود ، خالدون دائمون ، لا يحزنهم الفزع الأكبر فى الدنيا والآخرة ، وتتلقاهم الملائكة بالبشرى بالوصول ، هذا يومكم الذي كنتم توعدون ، وهو يوم ملاقاة الحبيب والعكوف فى حضرة القريب ، عند مليك مقتدر. منحنا اللّه من ذلك الحظ الأوفر بمنّه وكرمه.
___________
(1) من الآية 23 من سورة الفجر.(3/502)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 503
ثم ذكر أوصاف ذلك اليوم ، فقال :
[سورة الأنبياء (21) : آية 104]
يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ (104)
قلت : «يوم» : ظرف لاذكر ، أو لقوله : «لا يحزنهم الفزع» ، أو لتتلقاهم. والسجل : الصحيفة ، والكتاب : مصدر ، و«كما بدأنا» : منصوب بمضمر ، يفسره ما بعده ، و«ما» : موصولة.
يقول الحق جل جلاله : واذكر يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ وذلك يوم الحشر والناس فى الموقف ، فتجمع وتكوّر وتطوى كَطَيِّ السِّجِلِّ الصحيفة لكتاب أي : لأجل الكتابة فيها لأن الكاتب يطوى الصحيفة على اثنين ليكتب فيها. فاللام للتعليل ، أو بمعنى «على» ، أي : كطى الصحيفة على الكتابة التي فيها ، لتصان ، وقرأ أبو جعفر : «تطوى» بالبناء للمفعول. وذلك بمحو رسومها وتكوير نجومها وشمسها وقمرها. وأصل الطى : الدرج ، الذي هو ضد النشر. وقرأ الأخوان وحفص : (لِلْكُتُبِ) بالجمع ، أي : للمكتوبات ، أي : كطى الصحيفة لأجل المعاني الكثيرة التي تكتب فيها ، أو كطيها عليها لتصان. فالكتاب أصله مصدر ، كالبناء ، ثم يوقع على المكتوب. وقيل :
السجل : ملك يطوى كتب ابن آدم ، إذا رفعت إليه ، فالكتاب ، على هذا ، اسم للصحيفة المكتوب فيها ، والطى مضاف إلى الفاعل ، وعلى الأول : إلى المفعول.
كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ أي : نعيد ما خلقنا حين نبعثهم ، كما بدأناهم أول مرة ، فالتنوين فى «خلق» مثله فى قولك : أول رجل جاءنى ، تريد أول الرجال. والتقدير : كما بدأنا أول الخلائق ، نعيدهم حفاة عراة غرلا.
قال صلى اللّه عليه وسلم : «إنّكم تحشرون يوم القيامة حفاة عراة غرلا. وأول من يكسى إبراهيم خليل اللّه»»
، أي : لأنه جرد فى ذات اللّه ، فقالت عائشة - رضى اللّه عنها - : واسوءتاه! فلا يحتشم الناس بعضهم من بعض؟ فقال : «لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه» «2». ثم قرأ - عليه الصلاة والسلام - : كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ.
___________
(1) أخرجه البخاري فى (أحاديث الأنبياء ، باب قول اللّه تعالى : «واتخذ اللّه إبراهيم خليلا») ومسلم فى (الجنة وصفه نعيمها ، باب فناء الدنيا) ، عن ابن عباس رضي اللّه عنه. ، [.....]
(2) هذا ليس من الحديث السابق. بل هو حديث آخر ، أخرجه مسلم فى الموضع السابق ، عن السيدة عائشة ، بلفظ : «يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلا ، قلت : يا رسول اللّه النساء والرجال جميعا ، ينظر بعضهم إلى بعض؟ قال : «يا عائشة الأمر أشد من أن ينظر بعضهم إلى بعض».(3/503)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 504
كما بدأناه من الماء نعيده كيوم ولدته أمه. قلت : قد استدل بعضهم ، بظاهر الآية والحديث ، أن أهل الجنة ليس لهم أسنان ، ولا دليل فيه لأن المقصود من الآية : الاستدلال على كمال قدرته تعالى ، وعلى البعث الذي تنكره الكفرة ، لا بيان الهيئة ، وعدم وجودها نقصان ، ولا نقص فى الجنة.
ثم أكد الإعادة بقوله : وَعْداً عَلَيْنا أي : نعيده وعدا ، فهو مصدر مؤكد لغير فعله بل لما فى «نعيده» من معنى العدة ، أي : وعدنا ذلك وعدا واجبا علينا إنجازه لأنا لا نخلف الميعاد ، إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ لما ذكرنا لا محالة ، فاستعدوا له ، وقدّموا صالح الأعمال للخلاص من هذه الأهوال. وباللّه التوفيق.
الإشارة : إذا أشرقت على القلب شموس العرفان ، انطوت عن مشهده وجود الأكوان ، وأفضى إلى فضاء العيان ، فلا سماء تظله ولا أرض تحمله ، وفى ذلك يقول الششترى رضى اللّه عنه :
لقد تجلى ما كان مخبى والكون كلّ طويت طى
وهذا غاية من سبقت له من اللّه الحسنى ، فأشرقت عليه أنوار التوجه فى البداية ، وأنوار المواجهة فى النهاية ، فزاحت عنه الأكوان ، وفاضت عليه بحار أسرار العرفان ، فصار يتصرف بهمته فى الوجود بأسره ، كما قال تعالى :
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 105 الى 106]
وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ (105) إِنَّ فِي هذا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ (106)
يقول الحق جل جلاله : وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ كتاب داود عليه السّلام ، مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ : التوراة ، أو اللوح المحفوظ ، أَنَّ الْأَرْضَ أي : جنس الأرض ، يعنى : مشارقها ومغاربها ، يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ وهم أمة نبينا محمد صلى اللّه عليه وسلم ، ففى الآية ثناء عليهم وبشارة لهم ، وإخبار بظهور غيب تحقق ظهوره فى الوجود من فتح اللّه على هذه الأمة مشارق الأرض ومغاربها ، كقوله : وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ «1». وقال القشيري : على قوله : عِبادِيَ الصَّالِحُونَ : هم أمة محمد - عليه الصلاة والسلام - وهم بجملتهم قوم صالحون لنعمته ، وهم المطيعون ، وآخرون صالحون لرحمته وهم العاصون. ه.
قال فى الحاشية الفاسية : والظاهر أن حديث : «لا تزال طائفة من أمتى ظاهرين على الحق ، لا يضرهم من خالفهم حتى يأتى أمر اللّه» ، مفسر للآية ، وموافق لوعدها. قيل : وهذه الطائفة مفترقة من أنواع المؤمنين ، ممن فيه عائدة على الدين ونفع له من شجعان مقاتلين ، وفقهاء ومحدّثين ، وزهاد وصالحين ، وناهين وآمرين
___________
(1) من الآية 55 من سورة النور.(3/504)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 505
بالمعروف. ه. قلت : وعارفين متمكنين ، علماء باللّه ربانيين. ثم قال : وغير ذلك من أنواع أهل الحسنى ، ولا يلزم اجتماعهم ، بل يكونون متفرقين فى أقطار. ه. قلت : وفيه نظر لأن مراد الآية الأمة كلها ، كما قال القشيري ، ومراد الحديث بعضها ، فلا يليق أن يكون تفسيرا لها ، وهى أعم منه. وقيل : المراد بالأرض : أرض الشام ، وقيل :
أرض الجنة.
ثم قال تعالى : إِنَّ فِي هذا أي : ما ذكر فى السورة الكريمة من الأخبار والمواعظ البالغة ، والوعد والوعيد ، والبراهين القاطعة الدالة على التوحيد وصحة النبوة ، لَبَلاغاً أي : كفاية ، أو سبب بلوغ إلى البغية ، من رضوان اللّه تعالى ، ومحبته ، وجزيل ثوابه ، فمن تبع القرآن وعمل به ، وصل إلى ما يرجو من الثواب العظيم ، فالقرآن زاد الجنة كبلاغ المسافر ، فهو بلاغ وزاد لِقَوْمٍ عابِدِينَ أي : لقوم همتهم العبادة دون العادة. وباللّه التوفيق.
الإشارة : قد أورث اللّه أرضه وبلاده لأهل التوجه إلى اللّه ، والإقبال عليه. فوراثة كل أحد على قدر توجهه وإقباله على مولاه. والمراد بالوراثة : التصرف بالهمة ونفوذ الكلمة فى صلاح الدين وهداية المخلوقين ، وهم على قسمين :
قسم يتصرف فى ظواهر الخلق بإصلاح ظواهرهم ، وهم العلماء الأتقياء ، فهم يبلغون الشرائع والأحكام ، لإصلاح نظام الإسلام ، وقد تقدم تفصيلهم فى سورة التوبة عند قوله تعالى : فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ ... «1» إلخ ، وقسم يتصرفون فى بواطنهم وهم أهل التصرف العارفون باللّه ، على اختلاف مراتبهم من غوث وأقطاب وأوتاد ، وأبدال ، ونجباء ، ونقباء ، وصالحين ، وشيوخ مربين ، فهم يعالجون بواطن الناس بالتربية بالهمة والحال والمقال ، حتى يتطهر من يصحبهم من الرذائل ، ويتحلي بأنواع الفضائل ، فيتأهل لحضرة القدس ومحل الأنس. وهؤلاء حازوا الوراثة النبوية كلها ، كما قال ابن البنا فى مباحثه :
تبعه العالم فى الأقوال والعابد الزاهد فى الأفعال
وبهما الصوفي فى السباق لكنه قد زاد بالأخلاق.
ثم ختم ذكر الأنبياء - عليهم السلام - بذكر سيد الوجود ، وعين الرحمة ، ومنبع الكرم والجود ، وهو نبينا - عليه الصلاة والسلام - فقال :
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 107 الى 112]
وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ (107) قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (108) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ (109) إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ ما تَكْتُمُونَ (110) وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (111)
قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ (112)
___________
(1) الآية 122 من سورة التوبة.(3/505)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 506
قلت : رَحْمَةً : مفعول لأجله ، أو حال.
يقول الحق جل جلاله : وَما أَرْسَلْناكَ يا محمد إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ أي : ما أرسلناك بما ذكر من الشرائع والأحكام ، وغير ذلك مما هو مناط سعادة الدارين ، لعلة من العلل ، إلا لرحمتنا الواسعة للعالمين قاطبة. أو ما أرسلناك فى حال من الأحوال ، إلا حال كونك رحمة لهم ، فإن ما بعثت به سبب لسعادة الدارين ، ومنشأ لانتظام مصالحهم فى النشأتين ، ومن لم يضرب له فى هذه المغانم بسهم فإنما أوتى من قبل نفسه ، حيث فرط فى اتباعه ، وقيل : إنه رحمة حتى فى حق الكفار فى الدنيا بتأخير عذاب الاستئصال ، والأمن من المسخ والخسف والغرق ، حسبما نطق به قوله تعالى : وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ «1».
قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ أي : ما يوحى إلىّ إلا أنه لا إله لكم إلا إله واحد لأنه المقصود الأصلى من البعثة ، وأما ما عداه فإنما هو من الأحكام المتفرعة عليه ، لا يصح بدونه. و«إنما» الأولى : لقصر الحكم على الشيء ، كقولك : إنما يقوم زيد ، والثانية : لقصر الشيء على الحكم ، كقولك : إنما زيد قائم ، أي : إنما يوحى إلىّ وحدي أنما إلهكم واحد. فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ أي : مخلصون العبادة للّه وحده ، أو منقادون لما أمركم به من الإسلام؟ والاستفهام بمعنى الأمر ، أي : أسلموا. فَإِنْ تَوَلَّوْا عن الإسلام ، ولم يلتفتوا إلى ما يوجبه من استماع الوحى ، فَقُلْ آذَنْتُكُمْ أي : أعلمتكم ما أمرت به ، أو بمحاربتى لكم ومخالفتى لدينكم ، لتكونوا عَلى سَواءٍ ، أو كائنين على سواء فى الإعلام به ، لم أطوه عن أحد منكم ، أو مستوين أنا وأنتم فى العلم بما أعلمتكم به من الشرائع ، لم أظهر بعضكم على شىء كتمته عن غيره. وفيه دليل بطلان مذهب الباطنية. قيل : وهذه من فصاحة القرآن وبلاغته.
وَإِنْ أَدْرِي أي : ما أدرى أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ من البعث والحساب متى يكون لأن اللّه تعالى لم يطلعنى عليه ، ولكن أنبأنى أنه آت لا محالة ، وكل آت قريب. ولذلك قال : وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ «2» ، أو : لا أدرى متى يحل بكم العذاب ، أو ما توعدون من إظهار المسلمين وظهور الدين ، إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ ما تَكْتُمُونَ أي : إنه عالم بكل شىء ، يعلم ما تجهرون به من الطعن فى الإسلام وتكذيب الآيات ، وما تكتمونه فى صدوركم من الأحقاد للمسلمين ، فيجازيكم عليه نقيرا وقطميرا. وَإِنْ أَدْرِي
___________
(1) الآية 33 من سورة الأنفال.
(2) من الآية 97 من سورة الأنبياء.(3/506)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 507
لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ أي : ما أدرى لعل تأخير العذاب عنكم فى الدنيا امتحان لكم لينظر كيف تعملون ، أو استدراج لكم ، وزيادة فى افتتانكم ، وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ أي : تمتع لكم إلى حين موتكم ليكون حجة عليكم ، أو إلى أجل مقدر تقتضيه المشيئة المبنية على الحكم البالغة.
قالَ «1» رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ أي : اقض بيننا وبين كفار مكة بالعدل ، المقتضى لتعجيل العذاب. فهو كقول شعيب عليه السّلام : رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ «2» ، أو بما يحق عليهم من العذاب ، واشدد عليهم ، كقوله صلى اللّه عليه وسلم :
«اللّهمّ اشدد وطأتك على مضر» «3» ، وقد استجيب دعاؤه - عليه الصلاة والسلام - ، حيث عذبوا ببدر أىّ تعذيب. وقرأ الكسائي وحفص : قالَ حكاية لدعائه صلى اللّه عليه وسلم. ثم استعان باللّه على إبطال ما كانوا يؤملون من النصرة لهم ، وتكذيبهم فى ذلك ، فقال : وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ كثير الرحمة على عباده ، الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ من كون الغلبة لكم. كانوا يصفون الحال على خلاف ما جرت عليه ، وكانوا يطمعون أن تكون الشوكة والغلبة لهم ، فكذب اللّه ظنونهم ، وخيّب آمالهم ، وغيّر أحوالهم ، ونصر رسوله صلى اللّه عليه وسلم عليهم ، وخذلهم لكفرهم. وباللّه التوفيق.
الإشارة : قال الشيخ أبو العباس المرسى رضى اللّه عنه : الأنبياء - عليهم السلام - خلقوا من الرحمة ، ونبينا صلى اللّه عليه وسلم هو عين الرحمة ، قال تعالى : وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ. ه. وقال أيضا : الأنبياء - عليهم السلام - لأممهم صدقة ، ونبينا صلى اللّه عليه وسلم لنا هدية. قال صلى اللّه عليه وسلم : «وأنا النعمة المهداة» ، فالصدقة للفقراء ، والهدية للكبراء. ثم إن غاية الرحمة :
الوصول إلى التوحيد الخاص لأنه سبب الزلفى من اللّه والاختصاص ، ولذلك أمره به ، بعد أن جعله رحمة ، فقال :
قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ ... إلخ. فمن أعرض عنه فقد أوذن بالبعد والطرد. ولعل تأخير العقوبة عنه ، فى الدنيا ، استدراج ومتاع إلى حين.
ثم إن الصارف عن الدخول إلى التوحيد الخاص - وهو توحيد العيان - : القواطع الأربع : النفس ، والشيطان ، والدنيا ، والهوى. زاد بعضهم : الناس - أي : عوام الناس ، فإذا حكم اللّه بين العبد وبين هذه القواطع ، وصل إلى صريح المعرفة. قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ أي : احكم بينى وبين عدوى بحكمك الحق ، حتى تدفعه عنى وتدمغه ، وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ به عَلى ما تَصِفُونَ من التعويق والتشغيب. واللّه المستعان ، وعليه أتوكل ، ولا حول ولا قوة إلا باللّه العلى العظيم. وصلى اللّه على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
___________
(1) قرأ حفص (قال) بصيغة الماضي - وقرأ الباقون (قل) ، انظر الإتحاف (2/ 268).
(2) من الآية 89 من سورة الأعراف.
(3) جزء من حديث أخرجه البخاري فى (الدعوات ، باب الدعاء على المشركين بالهزيمة) ، ومسلم فى (المساجد ، باب استحباب القنوت فى جميع الصلاة) عن أبى هريرة رضى اللّه عنه.(3/507)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 508(3/508)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 509
سورة الحجّ
مكية إلا ست آيات نزلت بالمدينة ، وهى : هذانِ خَصْمانِ ... إلى : صِراطِ الْحَمِيدِ. وهى ثمان وسبعون آية.
ومناسبتها لما قبلها : قوله : وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ «1» من قيام الساعة ، وهى التي خوّف بها فى قوله :
[سورة الحج (22) : الآيات 1 الى 2]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2)
قلت : زلزلة : مصدر مضاف إلى فاعله على المجاز ، أو إلى الظرف ، وهى الساعة. و(يَوْمَ)
: منصوب بتذهل.
يقول الحق جل جلاله : يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ ، الخطاب عام لجميع المكلفين ممن وجد عند النزول ، وينخرط فى سلكهم من سيوجد إلى يوم القيامة. ولفظ «الناس» يشمل الذكور والإناث. والمأمور به مطلق التقوى ، الذي هو امتثال الأوامر واجتناب النواهي ظاهرا وباطنا ، والتعرض لعنوان الربوبية ، مع إضافتها لضمير المخاطبين لتأكيد الأمر ، وتأكيد إيجاب الامتثال به لأن الربوبية دائمة ، والعبودية واجبة بدوامها ، أي : احذروا عقوبة مالك أموركم ومربيكم.
ثم علل وجوب التقوى بذكر بعض عقوبته الهائلة عند قيام الساعة ، فقال : إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ ، فإن ملاحظة عظمها وهولها وفظاعة ما هى من مبادئه ومقدماته ، مما يوجب مزيد اعتناء بملابسة التقوى والتدرع بها. والزلزلة : التحرك الشديد والإزعاج العنيف ، بطريق التكرير ، بحيث تزيل الأشياء من مقارها ، وتخرجها عن مراكزها ، وهى الزلزلة المذكورة فى قوله تعالى : إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها الآية «2».
واختلف فى هذه الزلزلة وما ذكر بعدها ، هل هى قيام الساعة عند نفخة الصعق ، أو بعدها عند الحشر؟ فقال الحسن رضى اللّه عنه : إنها تكون يوم القيامة. وعن ابن عباس رضى اللّه عنه : زلزلة الساعة : قيامها. وعن علقمة والشعبي : أنها قبل طلوع الشمس من مغربها ، فإضافتها إلى الساعة لكونها من أشراطها. قال الكواشي : وهذه الزلزلة تكون قبل قيام الساعة
___________
(1) من الآية 109 من سورة الأنبياء.
(2) الآية الأولى من سورة الزلزلة.(3/509)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 510
من أشراطها. قالوا : ومن أشراط الساعة ، قبل قيامها ، ست آيات : بينما الناس فى أسواقهم ، إذ ذهب ضوء الشمس ، ثم تناثرت النجوم ، ثم وقعت الجبال على وجه الأرض ، فتحركت واضطربت الأرض ، ففزع الإنس والجن ، وماج بعض فى بعض خوفا ودهشا ، فقالت الجن للإنس : نحن نأتيكم بالخبر ، فذهبوا ، فرأوا البحار تأجّج نارا ، فبينما هم كذلك إذ تصدعت الأرض إلى الأرض السابعة ، ثم جاءتهم الريح فماتوا. ه. وانظر ابن عطية. قاله المحشى.
والتحقيق : ما قدمناه عند قوله : وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ «1» ، وأنّ الريح إنما تقبض أرواح المؤمنين ، وهذه الزلزلة إنما تقع عند نفخة الصعق. والله تعالى أعلم. وفى التعبير ب (شىء عظيم) إيذان بأن العقول قاصرة عن إدراك كنهها ، والعبارة ضيقة ، لا تحيط بها إلا على وجه الإبهام.
ثم هوّل شأنها ، فقال : يَوْمَ تَرَوْنَها
أي : الزلزلة ، وتشاهدون هول مطلعها ، تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ
أي :
مباشرة للإرضاع ، عَمَّا أَرْضَعَتْ
أي : تغفل وتغيب ، من شدة الدهش عما هى بصدد إرضاعه من طفلها ، الذي ألقمته ثديها. فالمرضعة ، بالتاء ، هى المباشرة الإرضاع بالفعل ، والمرضع - بلا تاء - لمن شأنها ترضع ، ولو لم تباشر الإرضاع. والتعبير عنه «بما» ، دون «من» لتأكيد الذهول ، كأنها من شدة الهول لا تدرى من هو بخصوصه ، وقيل : «ما» مصدرية ، أي : تذهل عن إرضاعها. والأول أدل على شدة الهول وكمال الانزعاج.
وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها
أي : تلقى جنينها من غير تمام ، كما أن المرضعة تذهل عن ولدها قبل الفطام. وهذا على قول من يقول : إنها قبل نفخة الصعق ظاهر ، وأما على من يقول ، إنها بعد قيام الساعة ، فقد قيل :
إنه تمثيل لتهويل الأمر وشدته. وَتَرَى النَّاسَ سُكارى
أي : وترى أيها الناظر الناس سكارى ، على التشبيه ، من شدة الهول ، كأنهم سكارى لمّا شاهدوا بساط العزة وسلطنة القهرية ، حتى قال كلّ نبى : نفسى نفسى. وَما هُمْ بِسُكارى
على التحقيق ، وَلكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ
، فخوف عذابه هو الذي أذهل عقولهم ، وطيّر تمييزهم ، وردهم فى حال من يذهب السكر بعقله وتمييزه. وعن الحسن : وترى الناس سكارى من الخوف ، وما هم بسكارى من الشراب. وقرئ : (سُكارى )
كعطشى. والمعنى واحد ، غير أن فعلى يختص بما فيه آفة ، كجرحى وقتلى ومرضى. والله تعالى أعلم.
الإشارة : يا أيها الناس اتقوا ربكم وتوجهوا إليه بكليتكم ، حتى تشرق على قلوبكم أنوار ربكم ، فتزلزل أرض نفوسكم ، وتدك جبال عقولكم ، عند سطوع شمس العرفان ، والاستشراف على مقام الإحسان. إن زلزلة الساعة ، التي تشرف فيها على أسرار الذات ، شىء عظيم. يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت ، لو كانت أنثى ،
___________
(1) الآية 97 من سورة الأنبياء.(3/510)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 511
وتضع كل ذات حمل حملها كذلك ، أو تضع كل ذات حمل أثقالها بالغيبة فى ربها ، وترى الناس سكارى من خمر المحبة ، وما هم بسكارى من شراب الدّوالى «1» ، لكن من خمر الكبير المتعالي ، كما قال الششترى فى الخمرة الأزلية - بعد كلام :
لا شراب الدّوالى إنّها أرضيّة خمرها دون خمرى ، خمرتى أزليّة.
ولكن عذاب اللّه - الذي قدمه قبل دخول جنته المعنوية وحفت به ، وهى جنه المعارف - شديد ، ولكنه يحلو فى جانب ما ينال بعده ، كما قال الشاعر :
والنّفس عزّت ، ولكن فيك أبذلها والذّل مرّ ، ولكن فى رضاك حلا
يا من عذابى عذب فى محبته لا أشتكى منك لا صدا ولا مللا.
ثم ذكر حال من أنكرها ، «2» ولم يتأهب للقائها ، فقال :
[سورة الحج (22) : الآيات 3 الى 4]
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ (3) كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (4)
قلت : (وَ مِنَ النَّاسِ) : خبر ، و(من يجادل) : مبتدأ ، و(بِغَيْرِ عِلْمٍ) : حال من ضمير «يجادل» ، و(أَنَّهُ) : نائب فاعل (كُتِبَ) ، أي : كتب عليه إضلال من تولاه ، و(فأنه) : من فتح : عنده خبر عن مبتدأ مضمر ، أي : فشأنه أن يضله ، والجملة جواب «من» ، إن جعلتها شرطية ، وخبر ، إن جعلتها موصولة متضمنة لمعنى الشرط ، ومن كسر : فخبر ، أو جواب «من».
يقول الحق جل جلاله : وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ ويخاصم فِي اللَّهِ أي : فى شأنه ، ويقول مالا يليق بجلال كبريائه وكمال قدرته ، ملابسا بِغَيْرِ عِلْمٍ ، بل بجهل عظيم حمله على ما فعل. نزلت فى النضر ابن الحارث ، وكان جدلا ، يقول : الملائكة بنات اللّه ، والقرآن أساطير الأولين ، ولا بعث بعد الموت ، واللّه غير قادر على إحياء من بلى وصار رميما «3». وهى عامة له ولأضرابه من العتاة المتمردين ، وكل من يخاصم فى الدين بالهوى. وَيَتَّبِعُ فى ذلك كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ عات متمرد ، مستمر فى الشر. قال الزجاج : المريد والمارد : المرتفع الأملس ، أي : الذي لا يتعلق به شىء من الخير ، والمراد : إما رؤساء الكفرة الذين يدعونهم إلى الكفر ، وإما إبليس وجنوده.
___________
(1) أي : العنب. وراجع التعليق على إشارة الآية 219 من سورة البقرة.
(2) أي : الساعة.
(3) ذكره البغوي فى تفسيره (5/ 365). [.....](3/511)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 512
ثم وصف الشيطان المريد بقوله : كُتِبَ عَلَيْهِ أي : قضى على ذلك الشيطان أَنَّهُ أي : الأمر والشأن مَنْ تَوَلَّاهُ أي : اتخذه وليّا وتبعه ، فَأَنَّهُ أي : الشيطان يُضِلُّهُ عن سواء السبيل ، وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ أي : النار. والعياذ بالله.
الإشارة : ومن الناس من تنكبت عنه سابقة الخصوصية ، فجعل يجادل فى طريق اللّه ، وينكر على المتوجهين إلى الله ، إذا خرقوا عوائد أنفسهم ، وسدّ الباب فى وجوه عباد اللّه ، فيقول : انقطعت التربية النبوية ، وذلك منه بلا علم تحقيق ولا حجة ولا برهان ، وإنما يتبع فى ذلك كلّ شيطان مريد ، سوّل له ذلك وتبعه فيه. كتب عليه أنه من تولاه ، وتبعه فى ذلك ، فأنه يضله عن طريق الخصوص ، الذين فازوا بمشاهدة المحبوب ، ويهديه إلى عذاب السعير ، وهو غم الحجاب والحصر فى سجن الأكوان ، وفى أسر نفسه وهيكل ذاته ، عائذا بالله من ذلك.
ثم برهن على قيام الساعة ، التي خوّف منها ، ورد من يجادل فيها ، فقال :
[سورة الحج (22) : الآيات 5 الى 7]
يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (7)
يقول الحق جل جلاله : يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ أي : إن شككتم فى أمر البعث ، فمزيل ريبكم أن تنظروا فى بدء خلقكم ، وقد كنتم فى الابتداء ترابا وماء ، وليس سبب إنكاركم البعث إلا هذا ، وهو صيرورة الخلق ترابا وماء ، فكما بدأكم منه يعيدكم منه ، كما قال تعالى : فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ أي : أباكم مِنْ تُرابٍ ، ثُمَّ خلقناكم مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ أي : قطعة دم جامدة ، ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ أي : لحمة صغيرة ، بقدر ما يمضغ ، مُخَلَّقَةٍ أي : مصورة الخلقة ، وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ أي : لم يتبين خلقها وصورتها بعد.(3/512)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 513
والمراد : تفصيل حال المضغة من كونها أولا مضغة ، لم يظهر فيها شىء من الأعضاء ، ثم ظهرت بعد ذلك شيئا فشيئا. وكان مقتضى الترتيب أن يقدم غير المخلقة على المخلقة ، وإنما أخرت عنها لأنها عدم الملكة ، والملكة أشرف من العدم.
وإنما فعلنا ذلك لِنُبَيِّنَ لَكُمْ ، بهذا التدريج ، كمال قدرتنا وحكمتنا لأن من قدر على خلق البشر من تراب أولا ، ثم من نطفة ثانيا ، وقدر على أن يجعل النطفة علقة ، والعلقة مضغة ، والمضغة عظاما ، قدر على إعادة ما بدأ ، بل هو أهون فى القياس وَنُقِرُّ أي : نثبت فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ ثبوته إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى : وقت الولادة ، ومالم نشأ ثبوته أسقطته الأرحام. ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ من الرحم طِفْلًا ، أي : حال كونكم أطفالا.
والإفراد باعتبار كل واحد منهم ، أو بإرادة الجنس ، ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ أي : ثم نربيكم لتبلغوا كمال عقلكم وقوتكم. والأشد : من ألفاظ الجموع التي لم يستعمل له واحد. ووقته : قيل : ثلاثون سنة ، وقيل : أربعون.
وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى قبل بلوغ الأشد أو بعده ، وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ أي : أخسه ، وهو الهرم والخرف ، لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً أي : لكيلا يعلم شيئا من بعد ما كان يعلمه من العلوم ، مبالغة فى انتقاص علمه ، وانتكاس حاله ، أي : ليعود إلى : ما كان عليه فى أوان الطفولية ، من ضعف البنية ، وسخافة العقل ، وقلة الفهم ، فينسى ما علمه ، وينكر ما عرفه ، ويعجز عما قدر عليه. قال ابن عباس : من قرأ القرآن ، وعمل به ، لا يلحقه أرذل العمر. ثم ذكر دليلا آخر على البعث ، فقال : وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً : ميته يابسة ، فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ تحركت بالنبات وَرَبَتْ انتفخت وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ : صنف بَهِيجٍ : حسن رائق يسر ناظره.
ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ أي : ذلك الذي ذكرنا من خلق بنى آدم ، وإحياء الأرض ، مع ما فى تضاعيف ذلك من أصناف الحكم ، حاصل بهذا ، وهو أن اللّه هو الحق ، أي : الثابت الوجود. هكذا للزمخشرى ومن تبعه ، وقال ابن جزى : والظاهر : أن الباء ليسست سببية ، كما قال الزمخشري ، وهو أيضا مقتضى تفسير ابن عطية ، وإنما يقدر لها فعل يتعلق به ويقتضيه المعنى ، وذلك أن يكون التقدير : ذلك الذي تقدم من خلق الإنسان والنبات ، شاهد بأن الله هو الحق ، وبأنه يحيى الموتى ، وبأن الساعة آتية ، فيصح عطف وَأَنَّ السَّاعَةَ على ما قبله ، بهذا التقدير ، وتكون هذه الأشياء المذكورة ، بعد قوله : (ذلك) ، مما استدل عليه بخلقة الإنسان والنبات. ه.
قال المحشى الفاسى : ويرد عليه : أن تقديره عاملا خاصا يمنع حذفه ، وإنما يحذف إذا كان كونا مطلقا ، فلا يقال : زيد فى الدار ، وتريد ضاحك مثلا ، إلا أن يقال فى الآية : دل عليه السياق ، فكأنه مذكور. وعند الكواشي : (3/513)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 514
ليعلموا بأن الله هو الحق. وقال القرطبي : قوله : ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ ، لمّا ذكر افتقار الموجودات إليه ، وتسخيرها على وفق اقتداره واختياره ، قال بعد ذلك : ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ ، نبه بهذا على أن كل ما سواه ، وإن كان موجودا فإنه لا حقيقة له من نفسه لأنه مسخر ومصرف ، والحق الحقيقي هو الموجود المطلق ، الغنى المطلق ، وإنّ وجود كل موجود من وجوب وجوده ، ولهذا قال فى آخر السورة : وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ «1» ، والحق هو الوجود الثابت ، الذي لا يزول ولا يتغير ، وهو اللّه تعالى. ثم قال عن الزجاج : (ذلك) فى موضع رفع ، أي : الأمر ما وصف لكم وبيّن لأن اللّه تعالى هو الحق ، ويجوز كونه فى موضع نصب ، أي : فعل ذلك بأن اللّه هو الحق ، قادر على ما أراد. ه.
وذلك أيضا شاهد بأنه يُحْيِيَ الْمَوْتى كما أحيا الأرض ، مرة بعد أخرى ، وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أي : مبالغ فى القدرة ، وإلّا لما أوجد هذه الموجودات الفائتة الحصر. وتخصيص إحياء الموتى بالذكر ، مع كونه من جملة الأشياء المقدور عليها للتصريح بما فيه النزاع ، وللطعن فى نحور المنكرين. وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ : قادمة عليكم ، لا رَيْبَ فِيها ، وإيثار اسم الفاعل على الفعل للدلالة على تحقق إتيانها وتقريره البتّة. ومعنى نفى الريب عنها : أنها ، فى ظهور أمرها ووضوح دلائلها ، بحيث ليس فيها مظنة الريب ، وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ لأنه تعالى حكم بذلك ووعد به ، وهو لا يخلف الميعاد ، والتعبير ب «من فى القبور» : خرج مخرج الغالب ، وإلّا فهو يبعث كل من يموت. واللّه تعالى أعلم وأحكم.
الإشارة : يا أيها الناس المنكرون لوجود التربية النبوية ، وظهور أهل الخصوصية فى زمانهم ، الذين يحيى اللّه الأرواح الميتة ، بالجهل والغفلة ، على أيديهم إن كنتم فى ريب من هذا البعث فانظروا إلى أصل نشأتكم وتنقلات أطواركم ، فمن فعل ذلك وقدر عليه ، قدر أن يحيى النفوس الميتة بالغفلة فى كل زمان. وفى الحكم : «من استغرب أن ينقذه اللّه من شهوته ، وأن يخرجه من وجود غفلته ، فقد استعجز القدرة الإلهية ، وكان اللّه على كل شىء مقتدرا». وجرت عادته أنه لا يحييها فى الغالب إلا على أيدى أهل الخصوصية. وترى أرض النفوس هامدة ميتة بالغفلة ، فإذا أنزلنا عليها ماء الحياة ، وهى الواردات الإلهية ، وأسقيناها الخمرة القدسية ، اهتزت فرحا بالله ، وربت ، وارتفعت بالعلم بالله ، وأنبتت من أصناف العلوم والحكم ، ما تبهج منه العقول ، ذلك شاهد بوحدانية الحق ، وأن ما سواه باطل. وبالله التوفيق.
___________
(1) من الآية 62 من سورة الحج.(3/514)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 515
ثم ذكر نوعا آخر من أهل الإنكار والجدل ، فقال :
[سورة الحج (22) : الآيات 8 الى 10]
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (8) ثانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ (9) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (10)
يقول الحق جل جلاله : وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ أي : فى شأنه ، فيصفه بغير ما هو أهله ، وهو أبو جهل ، كما قال ابن عباس رضى اللّه عنه ، وقيل : هو من يتصدى لإضلال الناس ، كائنا من كان. حال كونه بِغَيْرِ عِلْمٍ ، بل بجهل وهوىّ. والمراد بالعلم : الضروري ، كما أن المراد بالهدى فى قوله : وَلا هُدىً : هو الاستدلال والنظر الصحيح ، الهادي إلى المعرفة. وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ أي : وحي يستند إليه ، والحجة إنما تقوم بأحد هذه الثلاثة ، أي : يجادل فى شأنه تعالى ، من غير تمسك بمقدمة ضرورية ، ولا بحجة نظرية ، ولا ببرهان سمعى.
حال كونه ثانِيَ عِطْفِهِ أي : لاويا عنقه عن طاعة اللّه كبرا وعتوا ، أو عاطفا بجانبه ، وطاويا كشحه «1» ، معرضا متكبرا ، فثنى العطف كناية عن التكبر. وقرأ الحسن بفتح العين ، أي : مانعا تعطفه على المساكين قسوة. فعل ذلك الجدال لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي : ليضل الناس عن سبيل اللّه فإنّ غرضه بالمجادلة إضلال المؤمنين ، أو جميع الناس ، وقرأ الملكي وأبو عمر : بفتح الياء ، أي : ليصير ضالا عن سبيل اللّه. وجعل ضلاله غاية لجداله ، من حيث إن المراد به الضلال المبين ، الذي لا هداية بعده ، مع تمكنه منها قبل ذلك ، أي : ليرسخ فى الضلالة أىّ رسوخ ، لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ : هوان وذل ، وهو القتل يوم بدر ، وهو بيان نتيجة ما سلكه من الطريقة ، أي : يثبت له ، بسبب ما فعل ، خزى وصغار ، وهو ما أصابه ببدر ، وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ أي : النار المحرقة.
ذلِكَ أي : ما ذكر من العذاب الدنيوي والأخروى. وما فى الإشارة من البعد للإيذان بكونه فى الغاية القاصية من الهول والفظاعة ، أي : ذلك العذاب الهائل بِما قَدَّمَتْ يَداكَ أي : بسبب ما اقترفته من الكفر والمعاصي. وإسناده إلى يديه لأن الاكتساب فى الغالب بهما. والالتفات لتأكيد الوعيد وتشديد التهديد. أو يقال له يوم القيامة : ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ، فلا يأخذ أحدا بغير ذنب ولا بذنب غيره. وهو خبر عن مضمر ، أي : والأمر أنّ اللّه ليس بمعذب لعبيده بغير ذنب ، وأما عطفه على «بما» فغير سديد ، ولفظ المبالغة لاقترانه بلفظ الجمع فى العبيد ، ولأن قليل الظلم منه ، مع علمه بقبحه واستغنائه عنه ، كالكثير منا. قاله النسفي.
___________
(1) الكشح : الخصر.(3/515)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 516
وقيل : «ظلام» : بمعنى : ذى ظلم ، فتكون الصيغة للنّسب. والتعبير عن ذلك بنفي الظلم ، مع أن تعذيبهم بغير ذنب ، ليس بظلم قطعا ، على ما تقرر فى مذهب أهل السنة ، فضلا عن كونه ظلما بالغا لأن الحق تعالى إنما يظهر لنا كمال العدل ، وغاية التنزيه ، وإن كان فى نفس الأمر جائز أن يعذب عباده بلا ذنب ، ولا يسمى ظلما لأنه تصرف فى ملكه ، لكنه تعالى لم يظهر لنا فى عالم الشهادة إلا كمال العدل. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : من يخاصم فى طريق القوم ، وينفيها عن أهلها ، إما أن يكون تقليدا ، وهو ما تقدم ، أو يكون تكبرا وعتوا ، بحيث لم يرض أن يحط رأسه لهم ، وهو ما أشير إليه هنا. ولا شك أن المتكبر لا بد أن يلحقه ذل ، ولو عند الموت. ويوم القيامة يحشر صاغرا كالذر ، كما فى الحديث. واللّه تعالى أعلم.
ثم ذكر حال المذبذبين ، بعد ذكر حال المجادلين المصمّمين ، فقال :
[سورة الحج (22) : الآيات 11 الى 13]
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (11) يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُ وَما لا يَنْفَعُهُ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (12) يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (13)
قلت : (لَمَنْ ضَرُّهُ) : قال ابن عطية : جرى فيه إشكال وهو دخول اللام على «من» ، وهو فى الظاهر مفعول ، واللام لا تدخل على المفعول. وأجيب بثلاثة أوجه أحدها : أن اللام متقدمة على موضعها ، والأصل أن يقال :
يدعو من لضرّه أقرب ، فموضعها الدخول على المبتدأ ، وثانيها : أنّ «يدعو» تأكيد ليدعو الأول ، وتم الكلام عنده ، ثم ابتدأ قوله : (لَمَنْ ضَرُّهُ) ، فمن مبتدأ ، وخبره : (لَبِئْسَ الْمَوْلى ) - قلت : وإياه اعتمد الهبطى فى وقفه ، وثالثها : أن معنى «يدعو» : يقول يوم القيامة هذا الكلام ، إذا رأى مضرة الأصنام ، فدخلت اللام على مبتدأ فى أول الكلام. ه.
قلت : والأقرب ما قاله الزجاج ، وهو : أن مفعول (يدعو) محذوف ، ويكون ضميرا يعود على الضلال ، وجملة :
(يَدْعُوا) : حال ، والمعنى : ذلك هو الضلال البعيد يدعوه ، أي : حال كونه مدعوا له ، ويكون قوله : (لَمَنْ ضَرُّهُ) مستأنفا مبتدأ ، خبره : «لبئس المولى». نقله المحشى. وحكم المحلى بزيادة اللام.
يقول الحق جل جلاله : وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ أي : على طرف من الدين لاثبات له فيه ، كالذى ينحرف إلى طرف الجيش ، فإن أحس بظفر قرّ ، وإلا فر. وفى البخاري عن ابن عباس : «كان الرجل(3/516)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 517
يقدم المدينة ، فإن ولدت امرأته غلاما ونتجت خيله ، قال : هذا دين صالح ، وإن لم تلد امرأته ، ولم تنتج خيله ، قال :
هذا الدين سوء» «1». وكأن الحق تعالى سلك فى الآية مسلك التدلي ، بدأ بالكافر المصمم ، يجادل جدالا مجملا ، يتبع فيه كل شيطان مريد. والثاني : مقلد مجادل ، من غير دليل ولا برهان ، والثالث : كافر أسلم إسلاما ضعيفا. ثم قابل الأقسام الثلاثة بضدهم ، بقوله : إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا ... الآية.
ثم كمّل حال المذبذب بقوله : فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ أي : دنيوى من الصحة فى البدن ، والسعة فى المعيشة ، اطْمَأَنَّ بِهِ أي : ثبت على ما كان عليه ظاهرا ، لا أنه اطمأن به اطمئنان المؤمنين ، الذين لا يلويهم عنه صارف ، ولا يثنيهم عنه عاطف. وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ : بلاء فى جسده ، وضيق فى معيشته ، أو شىء يفتتن به ، من مكروه يعتريه فى بدنه أو أهله أو ماله ، انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ أي : ارتد ورجع إلى الكفر ، كأنه تنكس بوجهه إلى أسفل. أو انقلب على جهته التي كان عليها. وتقدم عن ابن عباس أنها نزلت فى أعاريب قدموا المدينة ، مهاجرين ، فكان أحدهم إذا صحّ بدنه ونتجت فرسه مهرا سريا ، وولدت امرأته غلاما سويا ، وكثر ماله وماشيته ، قال : ما أصبت ، مذ دخلت فى دينى هذا ، إلا خيرا ، واطمأن ، وإن كان الأمر خلافه ، قال : ما أصبت إلا شرّا ، وانقلب عن دينه. وعن أبى سعيد رضى اللّه عنه : أنّ يهوديا أسلم فأصابته مصائب ، وتشاءم بالإسلام ، فأتى النّبى صلى اللّه عليه وسلم فقال : أقلنى ، فقال : «إنّ الإسلام لا يقال» ، فنزلت «2».
خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ : فقدهما ، وضيعهما بذهاب عصمته ، وحبوط عمله بالارتداد. وقرأ يعقوب : خاسر ، على الحال. ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ الواضح ، الذي لا يخفى على أحد أنه لا خسران مثله.
ثم بيّن وجه خسرانه بقوله : يَدْعُوا أي : يعبد مِنْ دُونِ اللَّهِ أي : متجاوزا عنه تعالى ، ما لا يَضُرُّهُ إذا لم يعبده ، وَما لا يَنْفَعُهُ إذا عبده. ذلِكَ الدعاء هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ أي : التلف البعيد عن الحق.
يَدْعُوا أي : يعبد لَمَنْ ضَرُّهُ أي : الصنم الجامد الذي ضرره أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ. وقرأ ابن مسعود :
«يدعو من ضره» ، بحذف اللام. أو : ذلك هو الضلال البعيد يدعوه هذا المذبذب المنقلب على وجهه. قال ابن جزى : وهنا إشكال : وهو أنه تعالى وصف الأصنام بأنها لا تضر ولا تنفع ، ثم وصفها بأن ضررها أكثر من نفعها ، فنفى الضر ثم أثبته؟ والجواب : أن الضر المنفي أولا يراد به ما يكون من فعلها ، وهى لا تفعل شيئا ، والضر الثاني ، الذي أثبته لها ، يراد به ما يكون بسببها من العذاب وغيره. ه. لَبِئْسَ الْمَوْلى أي : الناصر ، وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ أي : الصاحب. أو : يدعو ويصرخ يوم القيامة ، حين يرى استضراره بالأصنام ، ولا يرى لها أثر الشفاعة ، ويقول لمن ضره أقرب من نفعه : لبئس المولى هو ولبئس العشير. واللّه تعالى أعلم.
___________
(1) أخرجه البخاري فى (التفسير ، سورة الحج) عن ابن عباس رضى اللّه عنه.
(2) ذكره الواحدي فى الأسباب (317) ، بدون إسناد ، عن عطية العوفى عن أبى سعيد الخدري.(3/517)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 518
الإشارة : ومن الناس من يعبد اللّه على حرف على طرف من الدين ، غير متمكن فيه ، فإنه أصابه خير ، وهو ما تسر به النفس من أنواع الجمال ، اطمأن به ، وإن أصابته فتنة ، وهو ما يؤلم النفس وينغص عليها مرادها وشهوتها من أنواع الجلال ، انقلب على وجهه. أو : ومن الناس من يعبد اللّه على طمع فى الجزاء الدنيوي أو الأخروى ، فإن أصابه خير فرح واطمأن به ، وإن أصابته فتنة سخط وقنط وانقلب على وجهه. أو : ومن الناس من يعبد اللّه ويسير إليه على حرف ، أي : حالة واحدة ، فإن أصابه خير كقوة ونشاط وورود حال اطمأن به وفرح ، وإن أصابته فتنة كضعف وكسل وذهاب حال ، انقلب على وجهه ، ورجع إلى العمومية ، أو وقف عن السير ، خسر الدنيا والآخرة. خسران الدنيا : ما يفوته من عز اللّه ونصره لأوليائه ، وحلاوة برد الرضا والتسليم ، ولذيذ مشاهدته. وخسران الآخرة : ما يفوته من درجة المقربين ، ودوام شهود رب العالمين. فالواجب على العبد أن يكون عبدا لله فى جميع الحالات ، لا يختار لنفسه حالا على حال ، ولا يقف مع مقام ولا حال ، بل يتبع رياح القضاء ، ويدور معها حيث دارت ، ويسير إلى اللّه فى الضعف والقوة.
قال بعضهم : سيروا إلى اللّه عرجى ومكاسير. وفى الحكم : «إلهى قد علمت ، باختلاف الآثار وتنقلات الأطوار ، أن مرادك منى أن تتعرف إلىّ فى كل شىء ، حتى لا أجهلك فى شى ء». وقال أيضا : «لا تطلبن بقاء الواردات ، بعد أن بسطت أنوارها ، وأودعت أسرارها ، فلك فى اللّه غنى عن كل شىء ، وليس يغنيك عنه شى ء».
فكن عبد المحوّل ، ولا تكن عبد الحال ، فالحال تحول وتتغير ، واللّه تعالى لا يحول ولا يزول ، فكن عبدا للّه ، ولا تكن عبدا لغيره.
لكلّ شىء ، إن فارقته ، عوض وليس للّه ، إن فارقت من عوض
ثم شفع الحق تعالى بضد ما ذكره قبل ، فقال :
[سورة الحج (22) : آية 14]
إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ (14)
يقول الحق جل جلاله : إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا ، وتمكنوا من الإيمان ، وعبدوا اللّه وحده فى جميع الحالات ، ولم يعبدوه على حرف ، وَعَمِلُوا الأعمال الصَّالِحاتِ ، جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا أي : من تحت قصورها الْأَنْهارُ الأربعة. وهذا بيان حال المؤمنين العابدين له تعالى فى جميع الحالات ، وأنّ اللّه تفضل عليهم ، بما لا غاية وراءه ، إثر بيان سوء حال الكفرة ، من المجاهرين والمذبذبين ، وأنّ معبودهم لا ينفعهم ، (3/518)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 519
بل يضرهم مضرة عظيمة. ثم قال تعالى : إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ من الأفعال المتقنة ، المبنية على الحكم البالغة الرائقة ، التي من جملتها : إثابة من آمن به ، وصدّق رسوله ، وعبده على كل حال ، وعقاب من أشرك به ، وكذب رسول اللّه ، أو عبده على حرف. وباللّه التوفيق.
الإشارة : إن اللّه يدخل الذين آمنوا ، واطمأنوا به ، وعبدوه فى جميع الحالات ، وقاموا بعمل العبودية فى كل الأوقات ، جنات المعارف ، تجرى من تحتها أنهار العلوم والحكم ، إن اللّه يفعل ما يريد فيقرب هذا ، ويبعد هذا ، بلا سبب «جلّ حكم الأزل أن يضاف إلى العلل». وباللّه التوفيق.
ولمّا كان نفوذ هذا الوعيد فى المشركين ، وإنجاز وعد المؤمنين تصديقا لرسوله صلى اللّه عليه وسلم ، ونصرة له ، ذكر حال من غاظه ذلك وكرهه ، فقال :
[سورة الحج (22) : الآيات 15 الى 16]
مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ ما يَغِيظُ (15) وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ آياتٍ بَيِّناتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ (16)
يقول الحق جل جلاله : لا تظنوا أن اللّه غير ناصر لرسوله صلى اللّه عليه وسلم بل هو ناصر له فى الدنيا والآخرة لا محالة ، فمن كان يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ ، ويغيظه ذلك من أعاديه وحساده ، ويفعل ما يدفع ذلك من الخدع والمكائد ، فليبالغ فى استفراغ المجهود ، وليجاوز كل حد معهود ، فعاقبة أمره أن يختنق خنقا من ضلال مساعيه ، وعدم إنتاج مقدماته ومبادئه. فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ أي : فليمدد حبلا إلى سقف بيته ، ثُمَّ لْيَقْطَعْ أي : ليختنق ، من قطع : إذا اختنق لأنه يقطع نفسه بحبس مجاريه. أو : ليقطع من الأرض ، بعد ربط الحبل فى العنق وربطه فى السقف.
فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ أي : فليصور فى نفسه أنه إن فعل ذلك هل يذهب نصر اللّه الذي يغيظه بسبب فعله ، وسمى فعله كيدا ، على سبيل الاستهزاء لأنه لم يكد به محسوده ، إنما كاد به نفسه. والمراد : ليس فى يده إلا ما ليس بمذهب لما يغيظه ، فتحصّل أن الضمير فى (ينصره) يعود على النبي صلى اللّه عليه وسلم ، وإن لم يتقدم ذكره صراحة ، لكنه معهود إذ الوحى إنما ينزل عليه. وقيل : يعود على «من» ، والمعنى على هذا : من ظن - بسبب ضيق صدره ، وكثرة غمه - أن لن ينصره اللّه ، فليختنق وليمت بغيظه ، فإنه لا يقدر على غير ذلك ، فموجب الاختناق ، على هذا ، القنوط والسخط من القضاء ، وسوء الظن باللّه تعالى ، حتى يئس من نصره.(3/519)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 520
قال ابن جزى : وهذا القول أرجح من الأول لوجهين : أحدهما : أن هذا القول مناسب لمن يعبد اللّه على حرف لأنه ، إذا أصابته فتنة ، انقلب وقنط ، حتى ظنّ أن لن ينصره اللّه. ويؤيده من فسّر (أن لن ينصره اللّه) أي : لن يرزقه إذ لا خير فى حياة تخلو من عون اللّه عز وجل ، فيكون الكلام ، على هذا ، متصلا بما قبله.
ويؤيده أيضا : قوله تعالى ، قبله : إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ أي : الأمور بيد اللّه ، فلا ينبغى لأحد أن يسخط من قضاء اللّه ، ولا ينقلب إذا أصابته فتنة ، والوجه الثاني : أن الضمير فى «ينصره» ، على هذا ، يعود على ما تقدّمه ذكر ، دون الأول. ه. وانظر ابن عطية والكواشي ، ففيهما ما يدفع درك ابن جزى ، ورده للأول ، بما فى سبب الآية ونزولها من المناسبة.
ثم قال تعالى : وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ آياتٍ أي : ومثل ذلك الإنزال البديع ، المنطوى على الحكم البالغة ، أنزلناه ، أي : القرآن الكريم كله ، حال كونه آياتٍ بَيِّناتٍ : واضحات الدلالة على معانيها الرائقة ، وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي به مَنْ يُرِيدُ هدايته ابتداء ، أو يثبته على الهدى دواما ، ومحل «أن» : إما الجار ، أي : ولأن اللّه يهدى ، أو الرفع ، أي : والأمر أن اللّه يهدى من يريد.
الإشارة : من غلبته نفسه ، وملكته وأسرته فى يدها فدواؤه : الفزع إلى اللّه ، والاضطرار إليه آناء الليل والنهار ، والمنهاج الواضح فى علاجها وقهرها : هو الفزع إلى أولياء اللّه ، العارفين به ، الذين سلكوا طريق التربية على يد شيخ كامل ، فإذا ظفر بهم ، فليلزم صحبتهم ، وليتبع طريقهم ، وليسارع إلى فعل كل ما يشيرون به إليه ، من غير تردد ولا توقف ، فهم معناه ، شرعا ، أم لا ، فلا شك أن اللّه ينصره ويؤيده ، ويظفر بنفسه فى أسرع مدة. وليس الخبر كالعيان ، وجرّب .. ففى التجريب علم الحقائق ، وكذلك من ابتلى بالوسواس وخواطر السوء فى أمر التوحيد ، فليفزع إليهم ، حتى يقلعوا من قلبه عروق الشكوك والأوهام ، وتذهب عنه الأمراض والأسقام ، بإشراق شمس العرفان على قلبه ، ويفضى إلى طريق الذوق والوجدان ، وغير هذا عناء وتعب ، ولو فرض أنه يسكن عنه ذلك ، فلا يذهب عنه بالكلية ، فربما يهيج عليه فى وقت الضعف عند الموت ، فلا يستطيع دفعه ، فيلقى اللّه بقلب سقيم. والعياذ باللّه.
فإن قلت : هذا الذي دللتنى عليه عزيز غريب ، فقد دللتنى على عنقاء مغرب؟ قلت : واللّه ، إن حسنت الظن باللّه وبعباد اللّه ، واضطررت إليه اضطرار الظمآن إلى الماء ، لوجدته أقرب إليك من كل شىء. واللّه ، لقد وجدناهم وظفرنا بهم ، على مناهج الجنيد وأضرابه ، يغنون بالنظر ، ويسيرون بالمريد حتى يقول له : ها أنت وربك. والمنة لله.
فمن ترك ما قلنا له ، وآيس من الدواء ، وظن أن لن ينصره اللّه فى الدنيا والآخرة ، فليمت غيظا وقنطا ، فلا يضر إلا نفسه لأن اللّه يهدى من يريد ، فيوفقه للدواء ، ومن يرد اللّه فتنته فلن تملك له من اللّه شيئا. وباللّه التوفيق.
ثم ذكر مآل من آمن بالقرآن ، الذي هو آيات بينات ، ومآل من أعرض عنه ، فقال :
[سورة الحج (22) : آية 17]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (17)(3/520)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 521
قلت : إنّ اللَّهَ يَفْصِلُ : خبر «إنّ» الأولى.
يقول الحق جل جلاله : إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا بما ذكر من الآيات البينات ، أو بكل ما يجب الإيمان به - فيدخل ما ذكر دخولا أوليا - أي : آمنوا بذلك ، بهداية اللّه وإرادته ، وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ ، وهم قوم من النصارى ، اعتزلوهم ، ولبسوا المسوح ، وقيل : أخذوا من دين النصارى شيئا ، ومن دين اليهود شيئا ، وهم القائلون بأن للعالم أصلين : نورا وظلمة ، ويعتقدون تأثير النجوم. وَالْمَجُوسَ وهم الذين يعبدون النار ، ويقولون : إن الخير من النور ، والشر من الظلمة ، وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا ، وهم عبدة الأصنام من العرب وغيرهم ، فهذه ستة أديان ، خمسة للشيطان ، وواحد للرحمن. إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فى الأحوال والأماكن ، فلا يجازيهم جزاء واحدا ، ولا يجمعهم فى موطن واحد. أو يحكم بين المؤمنين ، وبين الفرق الخمسة المتفقة على ملة الكفر ، بإظهار المحق من المبطل ، فيكرم المحق ويهين المبطل ، إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ أي : عالم بكل شىء ، مراقب لأحواله ، حافظ له ، مطلع على سره وعقده. ومن قضية الإحاطة بتفاصيل كل فرد من أفراد الفرق المذكورة :
إجراء جزائه اللائق عليه ، وهو أبلغ وعيد. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : كما يفصل اللّه يوم القيامة بين الملل المستقيمة والفاسدة يفصل أيضا بين أرباب القلوب المستقيمة الصحيحة المعمورة بنور اللّه ، وبين أرباب القلوب السقيمة الخاربة من النور ، المعمورة بالظلمة من الوساوس والخواطر ، فيرفع الأولين مع المقربين الصديقين ، ويسقط الآخرين فى أسفل سافلين ، أو مع عامة أهل اليمين.
وباللّه التوفيق ، ثم برهن على كونه شهيدا على الأشياء بسجودها له ، وخضوعها من هيبته ، فقال :
[سورة الحج (22) : آية 18]
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ (18)
يقول الحق جل جلاله : أَلَمْ تَرَ ، أيها السامع ، أو من يتأتى منه الرؤية ، أي : رؤية علم واستبصار ، أو :
يا محمد ، علما يقوم مقام العيان ، أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ أي : ينقاد إليه انقيادا تامّا مَنْ فِي السَّماواتِ من الملائكة ، وَمَنْ فِي الْأَرْضِ من الإنس والجن والملائكة. ويحتمل أن تكون «من» : عامة للعاقل وغيره ، (3/521)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 522
فيدخل كل ما فى السموات من عجائب المصنوعات ، وكل ما فى الأرض من أنواع المخلوقات. ويكون قوله :
وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ ، من عطف الخاص على العام لاستبعاد ذلك منها عادة. ويحتمل أن يكون السجود على حقيقته ، ولكن لا نفقه ذلك ، كما لا نفقه تسبيحهم.
ونقل الكواشي عن أبى العالية : (ما فى السماء نجم ، ولا شمس ، ولا قمر ، إلا يقع ساجدا حين تغيب ، ثم لا ينصرف حتى يؤذن له). وذكر فى صحيح البخاري : «أن الشمس لا تطلع حتى تسجد وتستأذن» «1». وقال مجاهد : (سجود الجبال والشجر والدواب : تحوّل ظلالها). أو سجودها : طاعتها فإنه ما من جماد إلا وهو مطيع لله تعالى ، خاشع ، يسبح له. شبّه طاعتها له وانقيادها لأمره بسجود المكلف الذي كلّ خضوع دونه.
وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ يسجد للّه تعالى سجود طاعة وعبادة ، وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ حيث امتنع من هذا السجود ، الذي هو سجود عبادة لكفره وعتوه. قال ابن عرفة : قوله : «وكثير» : يحتمل كونه مبتدأ ، ويكون فى الآية حذف المقابل ، أي : وكثير من الناس مثاب ، وكثير حق عليه العذاب. فلا يرد سؤال الزمخشري. ه. وقدّره غيره : وكثير من الناس يسجدون ، وكثير يأبى السجود فحق عليه العذاب. وقيل : وكثير حق عليه العذاب بإنكاره النبوة ، وإن سجد للصانع كالفلاسفة واليهود والنصارى. ه.
وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ بأن صرفته الشقاوة عن الانقياد لأمره الشرعي ، فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ بالسعادة ، أو يوم القيامة ، بل يذل ويهان ، إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ فى ملكه يكرم من يشاء بفضله ، ويهين من يشاء بعدله ، لا معقب لحكمه. اللهم أكرمنا بطاعتك ومحبتك ، واجعلنا منقادين لأمرك وحكمك ، ونعّمنا بحلاوة شهودك ومعرفتك ، إنك على كل شىء قدير. هكذا يدعى فى هذه السجدة. وباللّه التوفيق.
الإشارة : قد تجلى الحق جل جلاله بأسرار ذاته لباطن الأشياء ، وبأنوار صفاته لظاهرها ، فتعرف لكل شىء بأسرار ذاته وأنوار صفاته ، فعرفه كلّ شىء ، ولذلك سجد له وسبح بحمده. وفى الحكم : «أنت الذي تعرّفت لكل شىء ، فما جهلك شى ء». فظواهر الأوانى ساجدة لأسرار المعاني ، وخاضعة للكبير المتعالي ، ولا يفقه هذا إلا من خاض بحر المعاني ، ولم يقف مع حس الأوانى ، ولم يمتنع من الانقياد والخضوع لجلال الحق وكبريائه فى الظاهر والباطن ، إلا من أهانه اللّه من عصاة بنى آدم. ومن يهن اللّه فماله من مكرم ، إن اللّه يفعل ما يشاء.
___________
(1) أخرج البخاري فى (التوحيد باب : وكان عرشه على الماء) ، ومسلم فى (الإيمان ، باب : الزمن الذي لا يقبل فيه الإيمان) ، عن أبى ذر قال : دخلت المسجد ، ورسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم جالس ، فلما غابت الشمس قال : «يا أبا ذر تدرى أين تذهب هذه؟» قال : قلت : اللّه ورسوله أعلم ، قال : فإنها تذهب ، وتستأذن فى السجود ، فيؤذن لها ...» الحديث.(3/522)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 523
ثم بيّن الفصل ، الذي يفصل به يوم القيامة بين المؤمنين والكفرة بفرقها الخمس ، فقال :
[سورة الحج (22) : الآيات 19 الى 24]
هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ (19) يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20) وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21) كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (22) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (23)
وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ (24)
قلت : خَصْمانِ : صفة لمحذوف ، أي : فريقان خصمان ، والمراد : فريق المؤمنين ، وفريق الكفرة بأقسامه الخمسة. وقيل : اسم يقع على الواحد والاثنين والجماعة ، والمراد هنا : الجماعة ، بدليل قوله : (اختصموا) بالجمع.
يقول الحق جل جلاله : هذانِ خَصْمانِ أي : مختصمان اخْتَصَمُوا أي : فريق المؤمنين والكافرين. وقال ابن عباس رضى اللّه عنه : (راجع إلى أهل الأديان المذكورة) فالمؤمنون خصم ، وسائر الخمسة خصم ، تخاصموا فِي رَبِّهِمْ أي : فى شأنه تعالى ، أو فى دينه ، أو فى ذاته وصفاته. والكل من شؤونه تعالى ، فكل فريق يصحح اعتقاده ، ويبطل اعتقاد خصمه. وقيل : تخاصمت اليهود والمؤمنون فقالت اليهود : نحن أحق باللّه وأقدم منكم كتابا ، ونبيّنا قبل نبيّكم. وقال المؤمنون : نحن أحق باللّه منكم ، آمنا بنبينا ونبيكم ، وبما أنزل اللّه من كتاب ، وأنتم تعرفون كتابنا ونبينا ، ثم كفرتم به حسدا «1». وكان أبو ذر يقسم أنها نزلت فى ستة نفر من قريش ، تبارزوا يوم بدر حمزة وعليّ ، وعبيدة بن الحارث ، مع عتبة ، وشيبه ابني ربيعة ، والوليد «2»
. وقال علىّ رضى اللّه عنه :
إنى لأوّل من يجثو بين يدى اللّه يوم القيامة للخصومة «3»
. ه.
___________
(1) أخرجه الطبري فى التفسير (17/ 132) عن ابن عباس رضى اللّه عنه.
(2) أخرجه البخاري فى (المغازي باب قتل أبى جهل) ، وفى (تفسير سورة الحج. ، باب هذان خصمان اختصموا فى ربهم) ، ومسلم فى (التفسير ، باب فى قوله تعالى : هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ).
(3) أخرجه البخاري فى الموضعين السابق ذكرهما ، وفى التفسير ، عن قيس بن عبادة ، عن سيدنا علىّ - كرم اللّه وجهه - .(3/523)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 524
ثم بيّن الفصل بينهم ، المذكور فى قوله : إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ، فقال : فَالَّذِينَ كَفَرُوا بما أنزل على محمد صلى اللّه عليه وسلم ، قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ أي : فصّلت وقدرت على مقادير جثثهم ، تشتمل عليهم ، كما تقطع الثياب للبوس. وعبّر بالماضي لتحقق وقوعه. يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ أي : الماء الحار. عن ابن عباس رضى اللّه عنه : «لو سقطت منه نقطة على الجبال الدنيا لأذابتها». يُصْهَرُ : يذاب بِهِ أي : بالحميم ، ما فِي بُطُونِهِمْ من الأمعاء والأحشاء ، وَالْجُلُودُ تذاب أيضا ، فيؤثر فى الظاهر والباطن ، كلما نضجت جلودهم بدلت.
وتقديم ما فى الباطن للإيذان بأن تأثيرها فى الباطن أقوى من تأثيرها فى الظاهر ، مع أن ملابستها على العكس.
وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ أي : ولتعذيب الكفرة ، أو لأجلهم ، مقامع : جمع مقمعة ، وهى آلة القمع ، أي : سياط من حديد ، يضربون بها. كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أي : أشرفوا على الخروج من النار ، ودنوا منه ، حسبما روى : أنها تضربهم بلهبها فترفعهم ، حتى إذا كانوا بأعلاها ضربوا بالمقامع ، فهووا فيها سبعين خريفا. وقوله :
مِنْ غَمٍّ : بدل اشتمال من ضمير (منها) بإعادة الجار ، والعائد : محذوف ، أي : كلما أرادوا أن يخرجوا من غم شديد من غمومها أُعِيدُوا فِيها أي : فى قعرها ، بأن ردوا من أعاليها إلى أسافلها ، من غير أن يخرجوا منها ، وَقيل لهم : ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ أي : الغليظ من النار ، العظيم الإحراق.
ثم ذكر جزاء الخصم الآخر ، وهم أهل الحق ، فقال : إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ، وغيّر الأسلوب فيه ، بإسناد الإدخال إلى اللّه عز وجل ، وتصدير الجملة بحرف التأكيد إيذانا بكمال مباينة حالهم لحال الكفرة ، وإظهارا لمزيد العناية بحال المؤمنين ، يُحَلَّوْنَ فِيها من التحلية ، وهو التزين ، أي : تحليهم الملائكة بأمره تعالى مِنْ أَساوِرَ أي : بعض أساور : جمع سوار ، مِنْ ذَهَبٍ للبيان ، أي : يلبسون أساور مصنوعة من ذهب ، وَلُؤْلُؤاً ، من جرّه : عطفه على «ذهب» ، أو «أساور» ، ومن نصبه :
فعلى محل «من أساور» ، أي : ويحلّون لؤلؤا ، أو بفعل محذوف ، أي : ويؤتون لؤلؤا. وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ :
أبريسم ، وغيّر الأسلوب ، فلم يقل : ويلبسون حريرا لأن ثبوت اللباس لهم أمر محقق غنيّ عن البيان ، إذ لا يمكن عراؤهم عنه ، وإنما المحتاج للبيان : أىّ لباس هو ، بخلاف الأساور واللؤلؤ ، فإنها ليست من اللوازم الضرورية ، فجعل بيان حليتهم بها مقصودا بالذات. انظر أبا السعود.
وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ ، وهو كلمة التوحيد : لا إله إلا اللّه أو : الحمد للّه ، ولا إله إلا اللّه ، واللّه أكبر ، بدليل قوله : إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ «1»
. وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ أي : المحمود ، وهو الإسلام. أو :
___________
(1) من الآية 10 من سورة فاطر.(3/524)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 525
ألهمهم اللّه فى الآخرة أن يقولوا : الحمد للّه الذي صدقنا وعده ، وهداهم فيها إلى طريق الجنة. وقيل : إلى طريق الوصول إلى اللّه العزيز الحميد ، واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : قد اختصم أهل الظاهر مع أهل الباطن فى شأن الربوبية ، فقال أهل الظاهر : الحق تعالى لا يرى فى دار الدنيا ، ولا تمكن معرفته ، إلا من جهة الدليل والبرهان ، على طريق الإيمان بالغيب. وقال أهل الباطن من أكابر الصوفية : الحق تعالى يرى فى هذه الدار ، كما يرى فى تلك الدار ، من طريق العرفان ، على نعت الشهود والعيان ، لكن ذلك بعد موت النفوس وحط الرؤوس لأهل التربية النبوية ، فلا يزال يحاذيه ويسير به ، حتى يقول : ها أنت وربك ، فحينئذ تشرق عليه شموس العرفان ، فتغطى عنه وجود حس الأكوان ، فلا يرى حينئذ إلا المكون ، حتى لو كلف أن يرى غيره لم يستطع إذ لا غير معه حتى يشهده.
وقال بعضهم : (محال أن تشهده ، وتشهد معه سواه). وفى مناجاة الحكم العطائية : «إلهى ، كيف يستدلّ عليك بما هو فى وجوده مفتقر إليك؟ أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك ، حتى يكون هو المظهر لك؟ متى غبت ، حتى تحتاج إلى دليل يدل عليك؟! ومتى بعدت حتى تكون الآثار هى التي توصل إليك؟!». وقال الشيخ أبو الحسن رضى اللّه عنه : (أهل الدليل والبرهان عموم عند أهل الشهود والعيان). وهذه الطريق هى طريق التربية ، لا تنقطع أبدا ، فمن كفر بها وجحدها قطعت له ثياب من نار القطيعة ، فيبقى مسجونا بسرادقات محيطاته ، محصورا فى هيكل ذاته ، لا يرى إلا ظلمة الأكوان ، يصب من فوق رأسه ، إلى قلبه ، حرّ التدبير والاختيار ، وكلما أراد أن يخرج من سجن الأكوان وغم الحجاب ردته حيرة الدّهش ، وهيبة الكبرياء والعظمة والإجلال لأن فكرته مسجونة تحت أطباق الكائنات ، مقيدة بعلائق العوائد والشواغل والشهوات. ويقال له : ذق عذاب الحريق ، وهو حرمانك من شهود التحقيق.
إن اللّه يدخل الذين آمنوا بطريق الخصوص ، جنات المعارف ، تجرى من تحتها أنهار العلوم ، يحلون فيها بأنواع المحاسن والفضائل ، ويتطهرون من جميع المساوئ والرذائل ، وهدوا إلى الطيب من القول ، وهو الذكر الدائم بالقلب الهائم ، والمخاطبة اللينة من القلوب الصافية ، وهدوا إلى طريق التربية والترقية ، حتى وصلوا إلى شهود الحبيب ، الحامد المحمود ، القريب المجيب. حققنا اللّه بمقامهم بمنّه وكرمه.
ثم شرع فى المقصود من السورة ، وهو أحكام الحج ، وبدأ بتعظيم البيت تشويقا وترغيبا فى حجه ، فقال :
[سورة الحج (22) : الآيات 25 الى 26]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (25) وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26)(3/525)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 526
قلت : خبر «إن» : محذوف ، يدل عليه ما بعده ، أي : الذين كفروا نذيقهم من عذاب أليم لأنه إذا كان الملحد فى الحرم معذّبا فالجامع بين الكفر والصد أولى. ومن رفع «سواء» جعله خبرا مقدما. و«العاكف» :
مبتدأ. ومن نصبه : جعله مفعول «جعل» ، و«العاكف» فاعل به.
يقول الحق جل جلاله : إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ الناس عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ، أي : واستمروا على الصد ، ولذلك حسن عطفه على الماضي ، وَيصدون أيضا عن الْمَسْجِدِ الْحَرامِ والدخول فيه ، كأهل مكة مع المسلمين ، الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ أي : مقاما ومسكنا للناس ، كائنا من كان ، لا فرق فيه بين مكى وآفاقى ، وضعيف وقوى ، حاضر وباد. فإن أريد بالمسجد الحرام «مكة» ، ففيه دليل على أن دور مكة لا تباع ، وأن الناس فيها سواء ، فيجوز للقادم أن ينزل منها حيث شاء ، وليس لأحد فيها ملك. وبه قال أبو حنيفة. وقال مالك وغيره : ليست الدور فيها كالمسجد ، بل هى متملّكة. وإن أريد به البيت كان نصا فى إباحته لجميع المؤمنين. وهو مجمع عليه.
سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ أي : مستو المقيم فيه وَالْبادِ ، أي : المسافر من أهل البادية ، وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ أي : فى المسجد ، إحداث شىء بِإِلْحادٍ أي : بسبب ميل عن القصد ، بِظُلْمٍ ، وهما حالان مترادفان ، أي : ومن يرد فيه إحداث شىء مائلا عن الحق ، ظالما فيه ، نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ فى الآخرة.
وكل من ارتكب فيه ذنبا فهو كذلك.
وَاذكر يا محمد إِذْ بَوَّأْنا : حين هيأنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ وعيناه له ، حتى بناه فى مكانه مسامتا للبيت المعمور ، حيث كان بناه آدم عليه السّلام ، وقد كان رفع إلى السماء الرابعة ، أيام الطوفان ، وكان من ياقوتة حمراء ، فأعلم اللّه إبراهيم مكانه ، بريح أرسلها ، يقال لها : الخجوح ، فكنست مكان البيت ، وقيل : سحابة على قدر البيت ، وقيل : كلمته ، وقالت له : ابن على قدرى. ه. فبناه على أساسه القديم «1»
، وفى ابن حجر : أنه جعل طوله فى السماء تسعة أذرع ، ودوره فى الأرض ثلاثين ذراعا بذراعه. وأدخل الحجر فى البيت ، وكان قبل ذلك لغنم
___________
(1) راجع هذه الأقوال فى تفسير الطبري (17/ 143) ، والبغوي (5/ 378).(3/526)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 527
إسماعيل. وبنى الحجارة بعضها على بعض ، أي : بلا تراب ، ولم يجعل له سقفا ، وحفر له بئرا ، عند بابه خزانة للبيت ، يلقى ما يهدى له. ه.
روى أن الكعبة الشريفة بنيت خمس مرات ، إحداها : بنتها الملائكة ، وكانت من ياقوتة حمراء ، ثم رفعت أيام الطوفان. والثانية : بناها إبراهيم عليه السّلام ، وقيل : إن جرهم كانت بنتها قبله ، ثم هدمت ، ويدل عليه : التجاء عاد إليها ، حين نزل بهم القحط. فأرسل اللّه عليهم الريح ، وكان ذلك قبل إبراهيم عليه السّلام ، والثالثة : بنتها قريش ، وقد حضرها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قبل النبوة. والرابعة : بناها ابن الزبير ، والخامسة : الحجاج.
ثم قال تعالى : أَنْ لا تُشْرِكْ أي : وقلنا له : ألا تشرك بِي شَيْئاً ، بل خلص عملك فى بنائها وغيره ، من شوائب حظ النفس ، عاجلا وآجلا ، لا طمعا فى جزاء ، ولا خوفا من عقوبة ، بل محبة وشكرا وعبودية. قال القشيري : أي : لا تلاحظ البيت ولا بنيانك. ه. وقيل : فى الآية طعن على من أشرك من قطّان البيت ، أي : هذا الشرط كان على أبيكم فمن بعده وأنتم ، فلم تقبلوه ، بل أشركتم وصددتم وألحدتم ، فاستحققتم التوبيخ والذم على سلوككم على غير طريق أبيكم.
وَطَهِّرْ بَيْتِيَ من الأصنام والأقذار ، لِلطَّائِفِينَ به وَالْقائِمِينَ للصلاة فيه ، أو المقيمين فيه ، وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ أي : المصلين ، جمعا من راكع وساجد. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : إن الذين كفروا بطريق الخصوصية ، ويصدون الناس عن الدخول فيها ، ويعوقونهم عن مسجد الحضرة ، الذي جعله للناس محلا تسكن فيه قلوبهم ، وتعشش فيه أرواحهم. فكل من قصده وباع نفسه وقلبه للّه ، وصله ودخله ، وهو محل المشاهدة والمكالمة ، والمساررة والمناجاة ، محل شهود الحبيب والمساررة مع القريب ، محل نزهة الأفكار فى فضاء الشهود والاستبصار ، فمن عاق عنها نذقه من عذاب أليم. وقوله تعالى : سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ ، قال القشيري : فيه إشارة إلى أن التفاوت إنما يكون فى الطريق ، وأما بعد الوصول ، فلا تفاوت. ثم إذا اجتمعت النفوس ، فالموضع الواحد مجمعها ، ولكن لكلّ حال يعرف به «1»
. ه. قلت : مقام التوحيد الخاص ، وهو الفناء ، هو محل الاجتماع ، وتتفاوت بعد ذلك أذواقهم ومواجيدهم ، وازدياد كشوفاتهم وترقياتهم ، تفاوتا بعيدا ، على حسب التفرغ والانقطاع ، والتأهب والاتباع ، حسبما سبقت به القسمة الأزلية.
وقال الورتجبي ، على قوله تعالى : (و إذ بوأنا ...) الآية : هيأ لخليله وجميع أحبائه بيته ، ودلّه إلى ما فيه من الكرامات والآيات ، وما ألبسه من أنوار حضرته ليكون وسيلة لعبادته ، ومرآة لأنوار آياته. ه. قلت : الإشارة بالبيت
___________
(1) بالمعنى.(3/527)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 528
إلى القلب لأنه بيت الرب ، أي : هيأنا لإبراهيم مكان قلبه لمشاهدة أسرار جبروتنا وأنوار ملكوتنا ، ليكون من الموقنين بشهود ذاتنا ، وقلنا له : لا تشرك بنا شيئا من السّوى ، ولا ترى معنا غيرنا ، وطهّر بيتي ، الذي هو القلب ، من الأغيار والأكدار ، ليكون محلا للطائفين به من الواردات والأنوار ، والعاكفين فيه من المشاهدات والأسرار ، والركع السجود من القلوب التي تواجهك بالتعظيم والانكسار ، فإنّ قلب العارف كعبة للواردات والأسرار ، ومحل حج قلوب الصالحين والأبرار. وفى بعض الأثر : «يا داود طهر لى بيتا أسكنه ، فقال : يا رب .. وأىّ بيت يسعك؟ فقال :
لم يسعنى أرضى ولا سمائى ، ووسعني قلب عبدى المؤمن». وفيه عند أهل الحديث كلام. ووسعه للربوبية بالعلم والمعرفة الخاصة. واللّه تعالى أعلم.
ولمّا فرغ إبراهيم عليه السّلام من بناء البيت ، أمره ربه أن يؤذن فى الناس بالحج ، كما قال :
[سورة الحج (22) : الآيات 27 الى 29]
وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ (28) ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29)
قلت : وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ : حال معطوفة على حال ، أي : يأتوك حال كونهم رجالا وركبانا. و(يأتين) : صفة لكل ضامر لأنه فى معنى الجمع. وقرأ عبد اللّه : «يأتون» ، صفة لرجال. و(رجال) : جمع راجل كقائم وقيام.
يقول الحق جل جلاله لإبراهيم عليه السّلام : وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ أي : ناد فيهم ليحجوا. روى : أنه عليه السّلام صعد أبا قبيس ، فقال : يا أيها الناس ، حجوا بيت ربكم ، فأسمعه اللّه تعالى الأرواح ، فأجاب من قدّر له أن يحج من الأصلاب والأرحام بلبيك اللهم لبيك. يَأْتُوكَ إن أذنت رِجالًا أي : مشاة وَركبانا عَلى كُلِّ ضامِرٍ أي : بعير مهزول ، أتعبه بعد الشقة ، فهزّله ، أو زاد هزاله. وقدّم الرجال على الركبان لفضيلة المشاة ، كما ورد فى الحديث يَأْتِينَ تلك الضوامر بركبانها ، مِنْ كُلِّ فَجٍّ طريق عَمِيقٍ بعيد. قال محمد بن(3/528)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 529
ياسين : قال لى شيخ فى الطواف : من أين أنت؟ فقلت : من خراسان. فقال : كم بينك وبين البيت؟ فقلت : مسيرة شهرين أو ثلاثة. قال : فأنتم جيران البيت. فقلت : وأنت من أين سعيت؟ فقال : من مسيرة خمس سنوات ، وخرجت وأنا شاب ، فاكتهلت. فقلت : هذه واللّه هى الطاعة الجميلة ، والمحبة الصادقة ، فضحك. وقال :
زر من هويت ، وإن شطت بك الدار وحال من دونه حجب وأستار
لا يمنعنك بعد عن زيارته إنّ المحب لمن يهواه زوّار
لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ أي : يأتوك ليحضروا منافع لهم ، دنيوية ودينية ، لا توجد فى غير هذه العبادة كالطواف ونظر الكعبة ، وتضعيف أمر الصلاة لأن العبادة شرعت للابتلاء بالنفس كالصلاة والصوم ، أو بالمال ، وقد اشتمل الحج عليهما ، مع ما فيه من تحمل الأثقال وركوب الأهوال ، وقطع الأسباب وقطيعة الأصحاب ، وهجرة البلاد والأوطان ، ومفارقة الأهل والولدان. ولذلك ورد أنه يكفر الذنوب كلها ، كما فى الحديث : «من حجّ هذا البيت فلم يرفث ، ولم يفسق ، رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمّه» «1»
.
وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عند ذبح الضحايا والهدايا فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ ، وهى أيام النحر عند مالك ، وعند الشافعي : اليوم الأول والثاني والثالث لأن هذه هى أيام الضحايا عنده. ولم يجز ذبحها بالليل لقوله : فِي أَيَّامٍ.
وقال أبو حنيفة : الأيام المعلومات : عشر ذى الحجة ويوم النحر ، وهو قول ابن عباس رضى اللّه عنه ، وأما الأيام المعدودات ، فهى : الثلاثة بعد يوم النحر - فيوم النحر معلوم لا معدود ، ورابعه : معدود لا معلوم ، واليومان بعده : معلومان ومعدودان. فيذكروا اسم اللّه عَلى ما رَزَقَهُمْ أي : على ذبح ما رزقهم مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ ، وهى الإبل والبقر والغنم ، فَكُلُوا مِنْها من لحومها ، والأمر : للإباحة ، ولإزاحة ما كانت عليه الجاهلية من التحرج.
قال ابن جزى : ويستحب أن يأكل الأقل من الضحايا ، ويتصدق بالأكثر. ه. وقال النسفي : ويجوز الأكل من هدى التطوع والمتعة والقران لأنه دم نسك لأنه أشبه الأضحية ، ولا يجوز الأكل من بقية الهدايا. ه. وهو حنفى ، وفى مذهب مالك تفصيل يطول ذكره.
وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ ، وهو الذي أصابه البؤس ، أي : ضرر الحاجة ، وقيل : المتعفف ، وقيل : الذي يظهر عليه أثر الجوع ، الْفَقِيرَ : المحتاج الذي أضعفه الإعسار.
___________
(1) أخرجه البخاري فى (الحج ، باب فضل الحج المبرور) ، ومسلم فى (الحج ، باب فى فضل الحج والعمرة ويوم عرفة) ، عن أبى هريرة.(3/529)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 530
ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ أي : ليزيلوا عنهم أدرانهم ، قاله نفطويه. وقيل : قضاء التفث : قص الشارب والأظافر ، ونتف الإبط ، والاستحداد ، وسائر خصال الفطرة. وهذا بعد أن يحلوا من الحج التحلل الأصغر بالنحر. وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ أي : ما ينذرونه من البر فى الحج وغيره ، وقيل : مواجب حجهم من فعل أركانه ، وَلْيَطَّوَّفُوا طواف الإفاضة ، الذي هو ركن لا يجبر بالدم ، وبه يتم الحج ، ويكون بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ : القديم لأنه أول بيت وضع للناس ، بناه آدم ثم جدّده إبراهيم ، أو الكريم ، ومنه : عتاق الخيل لكرائمها ، أو : لأنه عتق من الغرق ، أو من أيدى الجبابرة ، فكم من جبار رام هدمه فمنعه اللّه منه. وقيل : عتيق لم يملكه أحد قطّ ، وهو مطاف أهل الغبراء ، كما أن البيت المعمور مطاف أهل السماء.
[سورة الحج (22) : الآيات 30 الى 31]
ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ إِلاَّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30) حُنَفاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ (31)
ذلِكَ أي : الأمر ذلك ، وهذا من فضل الكلام ، كما يقدم الكاتب جملة من الكلام ، ثم يقول : هذا ، وقد كان كذا وكذا وكذا ، إذا أراد أن يخرج من كلام إلى كلام آخر ، وإن كان له تعلق بما قبله. والكلام هنا متصل بتعظيم حرمات البيت ، فقال : وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللَّهِ ، جمع حرمة ، وهو ما لا يحل هتكه من الشريعة ، فيدخل ما يتعلق بالحج دخولا أوليا ، وقيل : حرمات اللّه : البيت الحرام ، والمشعر الحرام ، والبلد الحرام ، والشهر الحرام. وقيل : المحافظة على الفرائض والسنن واجتناب المعاصي ، فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ أي : فالتعظيم خير له ثوابا عِنْدَ رَبِّهِ ، ومعنى التعظيم : العلم بوجوب مراعاتها ، والعمل بموجبه ، والاهتمام بشأنه ، والتأديب معه. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : قوله تعالى : ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ ، قال القشيري : أي : حوائجهم ، ويحققوا عهودهم ، ويوفوا نذورهم فيما عقدوه مع اللّه بقلوبهم ، فمن كان عقده التوبة فوفاؤه ألّا يرجع إلى العصيان ، ومن كان عهده اعتناق الطاعة ، فشرط وفائه ترك تقصيره ، ومن كان عهده ألّا يرجع إلى طلب مقام وتطلع إكرام ، فوفاؤه استقامته على الجملة ، التي دخل عليها فى هذه الطريق ، بألا يرجع إلى استعجال نصيب واقتضاء حظ. ه. قلت : ومن كان عقده الوصول إلى حضرة القدس ومحل الأنس ، فوفاؤه ألا يرجع عن صحبة من سقاه خمرة المحبة ، وحمله إلى درجة المعرفة. ثم قال : ومن عاهد اللّه بقلبه ، ثم لا يفى بذلك ، فهو من جملة قول الزور. ه. وهو أيضا ليس بمعظّم لحرمات اللّه ، حيث طلبها ثم تهاون وتركها. واللّه تعالى أعلم.(3/530)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 531
ولمّا كان الإحرام يحرم لحوم الصيد ، فربما يتوهم أن اللحوم كلها تجتنب ، رفع ذلك الإيهام ، فقال :
وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ ...
يقول الحق جل جلاله : وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ أي : أكلها ، إِلَّا ما يُتْلى أي : سيتلى عَلَيْكُمْ منها فى آية المائدة «1»
، كالميتة والموقوذة وأخواتهما. والمعنى : إن اللّه قد أحل لكم الأنعام إلّا ما بيّن فى كتابه ، فحافظوا على حدوده ، ولا تحرّموا شيئا مما أحلّ لكم ، كتحريم البحيرة وما معها ، ولا تحلوا ما حرّم ، كإحلال المشركين الميتة والموقوذة وغيرهما.
ثم نهى عن الأوثان التي كانوا يذبحون لها ، فقال : فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ لأن ذلك من تعظيم حرمات اللّه ، و«من» : للبيان ، أي : فاجتنبوا الرجس الذي هو الأوثان. والرجس : كل ما يستقذر من الخبث ، وسمى الأوثان رجسا على طريقة التشبيه ، أي : فكما تنفرون بطباعكم من الرجس ، فعليكم أن تنفروا عنها. والمراد : النهى عن عبادتها ، أو عن الذبح تقربا لها. وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ ، وهو تعميم بعد تخصيص ، فإنّ عبادة الأوثان رأس الزور ، ويدخل فيه الكذب والبهتان وشهادة الزور. وقيل : المراد شهادة الزور فقط ، لما روى أنه - عليه الصلاة والسلام - قال : «عدلت شهادة الزّور الإشراك باللّه تعالى» ثلاثا ، وتلى هذه الآية «2»
. والزور من الزّور ، وهو الانحراف والميل لأن صاحبه ينحرف عن الحق ، ولا شك أن الشرك داخل فى الزور لأن المشرك يزعم أن الوثن تحق له العبادة ، وهو باطل وزور.
ثم قال تعالى : حُنَفاءَ لِلَّهِ : مائلين عن كل دين زائغ إلى دين الحق ، مخلصين لله ، غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ شيئا من الأشياء ، وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ ، أظهر الاسم الجليل لإظهار كمال قبح الشرك ، فَكَأَنَّما خَرَّ : سقط
___________
(1) الآية الثالثة.
(2) أخرجه أحمد فى المسند (4/ 321) ، وأبو داود فى (الأقضية : باب فى شهادة الزور) ، والترمذي فى (الشهادات ، باب ما جاء فى شهادات الزور) ، وابن ماجة فى (الأحكام ، باب شهادة الزور) ، عن خريم بن فاتك. [.....](3/531)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 532
مِنَ السَّماءِ إلى الأرض لأنه يسقط من أوج الإيمان إلى حضيض الكفر. وقيل : هو إشارة إلى ما يكون له حين يصعد بروحه عند الموت ، فتطرح من السماء إلى الأرض. قاله ابن البنا. فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أي : تتناوله بسرعة ، فالخطف والاختطاف : تناول الشيء بسرعة لأن الأهواء المردية كانت توزع أفكاره ، أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ أي : تسقطه وتقذفه. والهوى : السقوط. فِي مَكانٍ سَحِيقٍ : بعيد لأن الشيطان قد طرحه فى الضلال والتحير الكبير. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : جعل الحقّ تعالى شكر النعم أمرين : طهارة الباطن من شرك الميل إلى السّوى ، ولسانه من زور الدعوى ، وهو الترامي على مراتب الرجال قبل التحقق بها ، حنيفا موحدا ، شاكرا لأنعمة يجتبيه ربه ، ويهديه إلى صراط مستقيم. ومن يشرك باللّه بأن يحب معه غيره ، فقد سقط عن درجة القرب والتحقيق ، فتخطفه طيور الحظوظ والشهوات ، وتهوى به ريح الهوى ، فى مكان سحيق. والعياذ باللّه.
ثم حضّ على الاعتناء بشأن الهدايا ، فقال :
[سورة الحج (22) : الآيات 32 الى 37]
ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32) لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (33) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34) الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (35) وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيها خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْها صَوافَّ فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36)
لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (37)
يقول الحق جل جلاله : ذلِكَ أي : الأمر ذلك ، أو امتثلوا ذلك ، وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ أي :
الهدايا ، فإنها معالم الدين وشعائره تعالى ، كما ينبىء عنه : وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ وتعظيمها : اعتقاد التقرب بها ، وأن يختارها سمانا حسانا غالية الأثمان ، روى «أنه صلى اللّه عليه وسلم أهدى مائة بدنة ، فيها جمل لأبى جهل ، فى(3/532)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 533
أنفه برة من ذهب «1»
». وأن عمر رضى اللّه عنه - أهدى نجيبة طلبت منه بثلاثمائة دينار «2»
.
وقيل : شعائر اللّه : مواضع الحج ، كعرفة ومنى والمزدلفة. وتعظيمها : إجلالها وتوقيرها ، والتقصد إليها. وقيل : الشعائر : أمور الدين على الإطلاق ، وتعظيمها : القيام بها ومراعاة آدابها ، فَإِنَّها أي : فإن تعظيمها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ أي : من أفعال ذوى تقوى القلوب ، فحذفت هذه المضافات. أو فإن تعظيمها ناشىء من تقوى القلوب لأنها مراكز التقوى.
لَكُمْ فِيها مَنافِعُ من الركوب عند الحاجة ، ولبنها عند الضرورة ، إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إلى أن تنحر. ومن قال : شعائر اللّه : مواضع الحج ، فالمنافع : التجارة فيها والأجر ، والأجل المسمى : الرجوع إلى مكة لطواف الإفاضة.
ثُمَّ مَحِلُّها منتهية إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ ، قال ابن جزى : من قال : إن الشعائر الهدايا ، فمحلها موضع نحرها ، وهى منى ومكة. وخصّ البيت بالذكر لأنه أشرف الحرم ، وهو المقصود بالهدى. و«ثم» ، على هذا ، ليست للترتيب فى الزمان لأن محلها قبل نحرها ، وإنما هى لترتيب الجمل. ومن قال : إن الشعائر مواضع الحج ، فمحلها مأخوذ من إحلال المحرم ، أي : آخر ذلك كله : الطواف بالبيت ، أي : طواف الإفاضة إذ به يحل المحرم. ه. أي :
محل شعائر الحج كلها تنتهى إلى الطواف بالبيت ، طواف الإفاضة. ومثله فى الموطأ.
وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جماعة مؤمنة قبلكم ، جَعَلْنا مَنْسَكاً أي : متعبّدا وقربانا يتقربون به إلى اللّه - عز وجل - والمنسك - بالفتح : مصدر ، وبالكسر : اسم موضع النسك ، أي : لكلّ جعلنا عبادة يتعبدون بها ، أو موضع قربان ، يذبحون فيه مناسكهم ، لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ دون غيره ، عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ أي : عند نحرها وذبحها ، فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ أي : اذكروا على الذبائح اسم اللّه وحده فإن إلهكم إله واحد ، فَلَهُ أَسْلِمُوا أي :
فإذا كان إلهكم إلها واحدا فأخلصوا له التقرب ، أو الذكر خاصة ، واجعلوه له سالما ، لا تشوبوه بإشراك.
وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ المطمئنين بذكر اللّه ، أو المتواضعين ، أو المخلصين ، فإن الإخبات من الوظائف الخاصة بهم.
والخبت : المطمئن من الأرض. وعن ابن عباس رضى اللّه عنه : هم الذين لا يظلمون ، وإذا ظلموا لم ينتصروا. وقيل :
تفسيره ما بعده ، وهو قوله : الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ : خافت منه هيبة لإشراق أشعة جلاله عليها. وَالصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ من مشاق التكاليف ومصائب الزمان والنوائب ، وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ فى أوقاتها ، وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ فى وجوه الخيرات.
___________
(1) البرة - بضم الموحدة - : الحلقة تجعل فى أنف الجمل ، وكانوا يتخذونها من نحاس أو غيره ، انظر اللسان (برى 1/ 272) ، والحديث : أخرجه البيهقي فى دلائل النبوة (باب عدد حجات النبي صلى اللّه عليه وسلم 5/ 454) عن جابر رضى اللّه عنه. وفيه : «من فضة» ، بدلا من ذهب».
(2) أخرجه أبو داود فى (المناسك ، باب تبديل الهدى) عن سالم عن أبيه.(3/533)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 534
وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ أي : من أعلام دينه ، وأضافها إلى نفسه تعظيما لها ، وهى : جمع بدنة ، سميت به لعظم بدنها ، ويتناول الإبل والبقر والغنم. لَكُمْ فِيها خَيْرٌ أي : منافع دينية ودنيوية ، النفع فى الدنيا ، والأجر فى العقبى. فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْها بأن تقولوا عند ذبحها : بسم اللّه ، اللهم منك وإليك. حال كونها صَوافَّ أي : قائمات ، قد صففن أيديهن وأرجهلن. فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها : سقطت على الأرض ، وسكنت حركتها ، من وجب الحائط وجبة : سقط ، وهى كناية عن الموت. فَكُلُوا مِنْها إن شئتم وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ : السائل ، من : قنع إليه قنوعا : إذا خضع ، وَالْمُعْتَرَّ الذي يعرّض ولا يسأل. وقيل : القانع : الراضي بما عنده وبما يعطى من غير سؤال ، والمعترّ : المتعرض للسؤال. كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ أي : كما أمرناكم بنحرها سخرناها لكم ، أي : ذللناها لكم ، مع قوتها وعظم أجرامها لتتمكنوا من نحرها ، لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ أي :
لكى تشكروا إنعام اللّه عليكم.
لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها المتصدّق بها ، وَلا دِماؤُها المهراقة بالنحر ، أي : لن يصل إلى اللّه اللحم والدم ، وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ فإنه هو الذي طلب منكم ، وعليه يحصل الثواب. والمراد : لن تصلوا إلى رضا اللّه باللحوم ولا بالدماء ، وإنما تصلون إليه بالتقوى ، أي : الإخلاص للّه ، وقصد وجه اللّه ، بما تذبحون وتنحرون من الهدايا. فعبر عن هذا المعنى بلفظ (ينال) مبالغّة وتأكيدا ، كأنه قال : لن تصل لحومها ولا دماؤها إلى اللّه ، وإنما يصل إليه التقوى منكم ، وقيل : كان أهل الجاهلية يلطخون الكعبة بدماء قربانهم ، فهمّ المسلمون أن يفعلوا مثل ذلك ، فنزلت الآية.
كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ أي : البدن ، وهو تكرير للتذكير والتعليل ، لقوله : لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ أي : لتعرفوا عظمة اللّه ، باقتداره على ما لا يقدر عليه غيره ، فتوحدوه بالكبرياء شكرا على هدايته لكم. وقيل : هو التكبير عند الذبح. وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ : المخلصين فى كل ما يأتون ويذرون فى أمور دينهم. وباللّه التوفيق.
الإشارة : أعظم شعائر اللّه التي يجب تعظيمها أولياء اللّه ، الدالين على اللّه ، ثم الفقراء المتوجهون إلى اللّه ، ثم العلماء المعلمون أحكام اللّه ، ثم الصالحون المنتسبون إلى اللّه ، ثم عامة المؤمنين الذين هم من جملة عباد اللّه.
ويجب تعظيم من نصبه اللّه لقيام خطة من الخطط لإصلاح العباد كالسلاطين ، ولو لم يعدلوا ، والقضاة والقواد ، والمقدمين لأمور العامة ، فتعظيم هؤلاء كله من تقوى القلوب. ويدخل فى ذلك : الأماكن المعظمة كالمساجد والزوايا ، وأما الفقير فيعظّم كل ما خلق اللّه حتى الكلاب ، ويتأدب مع كل مخلوق.(3/534)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 535
وقوله تعالى : لَكُمْ فِيها مَنافِعُ أي : لكم فى هذه التجليات ، إن عظمتموها وعرفتم اللّه فيها ، منافع ، ترعون من أنوارها وتشربون من خمرة أسرارها ، فتزدادوا معرفة وتكميلا ، إلى أجل مسمى ، وهو مقام التمكين ، فحينئذ تواجهه أنوار المواجهة ، فتكون الأنوار له ، لا هو للأنوار ، لأنه للّه لا لشىء دونه ، قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ «1»
.
ثم محل هذه الأنوار إلى بيت الحضرة ، فحيئنذ يستغنى باللّه عن كل ما سواه. وقوله تعالى : وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً أي : لكل عصر جعلنا تربية مخصوصة ، والوصول واحد ولذلك قال : (فإلهكم إله واحد). وقال القشيري : الشرائع مختلفة فيما كان من المعاملات ، متفقة فيما كان من جملة المعارف. ثم قال : ذكّرهم اللّه بأنه هو الذي أمرهم ويثيبهم ، (فله أسلموا) : استسلموا لحكمه ، من غير استكراه من داخل القلب ولا من اللفظ. ه.
وقوله تعالى : (وَ الْبُدْنَ ...) الآية. قال الورتجبي : فيه إشارة إلى ذبح النفس بالمجاهدات ، وزمها بالرياضات عن المخالفات ، وفناء الوجود للمشاهدات ، حتى لا يبقى للعارف فى طريقة حظ من حظوظه ، ويبقى للّه مفردا من جميع الخلائق. ه.
وفى قوله تعالى : فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْها صَوافَّ ، إشارة إلى أن النفس لا تموت إلا بصحبة من ماتت نفسه ، فلا تموت النفس مع صحبة أهل النفوس الحية أبدا. فإذا ماتت وسقطت جنوبها ، وظفرتم بها فكلوا من أنوار أسرارها وعلومها لأن النفس ، إذا ماتت ، حييت الروح ، وفاضت عليها العلوم اللدنية ، فكلوا منها ، وأطعموا السائل والمتعرض لنفحاتكم. وقوله تعالى : لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها .. الآية ، قال الورتجبي : الإشارة فيه إلى جميع الأعمال الصالحة من العرش إلى الثرى ، لا يلحق الحق بحق المراد منه ، ولكن يصل إليه قلب جريح من محبته ، ذبح بسيف شوقه ، مطروح على باب عشقه. قال سهل فى قوله : (وَ لكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى ) : هو التبري والإخلاص. ه.
قال القشيري : لا عبرة بإظهار الأفعال ، سواء كانت بدنية أو مالية صرفا ، أو مما يتعلق بالوجهين ، ولكن العبرة بقرائنها من الإخلاص ، فاذا انضاف إلى الجوارح إخلاص القصود ، وتجرّدت عن ملاحظة أصحابها الأغيار ، صلحت للقبول ، وينال صاحبها القرب ، بشهود الحق بنعت التفرد. ثم قال : (لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ) وأرشدكم إلى القيام بحقّ العبودية على قضية الشرع ، (وَ بَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ) ، الإحسان ، كما فى الخبر : «أن تعبد اللّه كأنك تراه». وأمارة صحته : سقوط تعب القلب عن صاحبه ، فلا يستثقل شيئا ولا يتبرم بشىء. ه. قلت : خواطر الاستثقال والتبرم لا تضر لأنه طبع بشرى ، وإنما يضر ما سكن فى القلب.
___________
(1) من الآية 91 من سورة الأنعام.(3/535)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 536
وقال فى الإحياء : ليس المقصود من إراقة دم القربان الدم واللحم ، بل ميل القلب عن حب الدنيا ، وبذلها إيثارا لوجه اللّه تعالى ، وهذه الصفة قد حصلت عند جزم النية والهمة ، وإن عاق عن العمل عائق. فلن ينال اللّه لحومها ولا دماؤها ، ولكن يناله التقوى منكم ، والتقوى هاهنا عمل القلب ، من نية القربة ، وإرادة الخير ، وإخلاص القصد لله ، وهو المقصود ، وعمل الظاهر مؤكد له ، ولذلك كانت نية المؤمن أبلغ من عمله فإنّ الطاعات غذاء القلوب ، والمقصود : لذة السعادة بلقاء اللّه تعالى ، والتنعم بها ، وذلك فرع محبته والأنس به ، ولا يكون إلّا بذكره ، ولا يفرغ إلا بالزهد فى الدنيا ، وترك شواغلها ، والانقطاع عنها. ه.
ومن كانت هذه صفته كان من المحسنين ، الذين يدفع اللّه عنهم المكارة والعوائق ، كما قال تعالى :
[سورة الحج (22) : آية 38]
إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38)
يقول الحق جل جلاله : إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ يدفع غائلة المشركين عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا فلا يقدرون أن يعوقوهم عن شىء من عبادة اللّه ، بل ينصرهم ويؤيدهم كما قال تعالى : إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا»
، وصيغة المفاعلة : إمّا للمبالغة ، أو للدلالة على تكرير الدفع ، فإنها قد تجرد عن وقوع الفعل المتكرر من الجانبين ، فيبقى تكرره من جانب واحد ، كما فى المحارسة ، أي : يبالغ فى دفع ضرر المشركين وشوكتهم ، التي من جملتها صدهم عن سبيل اللّه ، مبالغة من يغالب فيه ، أو يدفعها عنهم مرة بعد أخرى ، بحسب تجرد قصد الإضرار بالمسلمين ، كما فى قوله : كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ «2»
. وقرأ المكي والبصري : «يُدافِعُ».
ثم علل ذلك الدفع بقوله : إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ أي : لأنّ اللّه يبغض كل خوان فى أمانة اللّه تعالى ، وهى : أوامره ونواهيه ، ومن أعظمها : الإيمان باللّه ورسوله. أو فى جميع الأمانات ، كفور لنعم اللّه. والمعنى : إن اللّه يدافع عنهم لأنه يبغض أعداءهم ، وهم : الخونة الكفرة ، الذين يخونون اللّه والرسول ، ويخونون أماناتهم. وصيغة المبالغة فيها لبيان أنهم كذلك فيهما ، لا لتقييد البعض بغاية الجناية فإن الخائن ممقوت مطلقا. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : إن اللّه يدفع عن أوليائه ، والمتوجهين إليه ، كل عائق وشاغل ، وغائلة كل غائل ، الذين حازوا ذروة الإيمان ، وقصدوا تحقيق مقام الإحسان. فمن رام صدّهم عن ذلك فهو خائن كفور ، (إن اللّه لا يحب كل خوّان كفور).
___________
(1) من الآية 51 من سورة غافر.
(2) من الآية 64 من سورة المائدة.(3/536)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 537
ثم أمر بجهاد من صدهم وعاقهم عن سبيل اللّه ، فقال :
[سورة الحج (22) : الآيات 39 الى 41]
أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْ لا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ (41)
قلت : (إلا أن يقولوا) ، قيل : منقطع. وقال الزمخشري : فى محل الجر ، بدل من حق. ه. وهو على طريق قول الشاعر :
لا عيب فيهم غير أنّ سيوفهم بهنّ فلول من قراع الكتائب
يقول الحق جل جلاله : أُذِنَ أي : رخص وشرع ، أو أذن اللّه لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ أي : يقاتلهم الكفار المشركون ، وحذف المأذون فيه لدلالة «يقاتلون» عليه ، أي : فى قتالهم ، بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا أي : بسبب كونهم مظلومين ، وهم أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، كان مشركو مكة يؤذونهم أذى شديدا ، وكانوا يأتون رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من بين مضروب ومشجوج ، فيتظلمون إليه ، فيقول لهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : «اصبروا فإنى لم أومر بالقتال». حتى هاجر ، فنزلت هذه الآية «1»
. وهى أول آية نزلت فى الجهاد ، بعد ما نهى عنه فى نيف وسبعين آية.
وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ. وعد لهم بالنصر ، وتأكيد لما مرّ من العدة الكريمة بالدفع ، وتصريح بأن المراد ليس مجرد تخليصهم من يد المشركين ، بل بغلبتهم وإظهارهم عليهم. وتأكيده بكلمة التحقيق. واللام لمزيد تحقيق مضمونه ، وزيادة توطين نفوس المؤمنين.
ثم وصف الذين أذن لهم ، أو فسرهم ، أو مدحهم بقوله : الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ ، يعنى مكة : بِغَيْرِ حَقٍّ بغير ما يوجب إخراجهم إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ أي : بغير موجب سوى التوحيد ، الذي ينبغى أن يكون موجبا للإقرار لا للإخراج. ومثله : هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ «2»
.
وَلَوْ لا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ : لو لا أن يدفع اللّه الناس بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ بتسليط المؤمنين على الكافرين فى كل عصر وزمان ، وإقامة الحدود وكف الظالم ، لَهُدِّمَتْ أي : لخربت باستيلاء الكفرة على الملل ، صَوامِعُ :
___________
(1) عزاه الواحدي فى الأسباب (318) والبغوي فى التفسير (5/ 388) للمفسرين.
(2) من الآية 59 من سورة المائدة.(3/537)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 538
جمع صومعة - بفتح الميم ، وهى : متعبد النصارى والصابئين منهم ، ويسمى أيضا الدير. وسمى بها موضع الأذان فى الإسلام : وَبِيَعٌ : جمع بيعة - بكسر الباء - : كنائس النصارى ، وَصَلَواتٌ : كنائس اليهود ، سميت بما يقع فيها ، . وأصلها : صلوتا بالعبرانية ، ثم عربت ، وَمَساجِدُ للمسلمين ، يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً أي : ذكرا كثيرا ، أو وقتا كثيرا ، صفة مادحة للمساجد ، خصت بها دلالة على فضلها وفضل أهلها. وقيل يرجع للأربع ، وفيه نظر فإنّ ذكر اللّه تعالى فى الصوامع والبيع والكنائس قد انقطع بظهور الإسلام ، فقصد بيانه ، بعد نسخ شرائعها مما لا يقتضيه المقام ، ولا ترتضيه الأفهام. وقدمت الثلاثة على المساجد لتقدمها وجودا ، أو لقربها من التهديم.
وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ أي : وتالله ، لينصرن اللّه من ينصر دينه ونبيه - عليه الصلاة والسلام - وأولياءه. ومن نصره : إشهاره وإظهاره ، وتعليمه لمن لا يعلمه ، وإعزاز حامل لوائه من العلماء والأولياء. وقد أنجز اللّه وعده ، حيث سلط المهاجرين والأنصار على صناديد العرب وأكاسرة العجم وقياصرة الروم ، وأورثهم أرضهم وديارهم ، إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ : غالب على كل ما يريد ، ومن جملته : نصرهم وإعلاؤهم.
ثم وصف الذين أخرجوا من ديارهم بقوله : الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ قلت : الصواب ما قاله مكى : أنه بدل من : «من ينصره» ، فى محل نصب.
قيل : المراد بهم : الصحابة - رضى اللّه عنهم - ، وقيل : الأمة كلها. وقيل : الخلفاء الأربعة لأنهم هم الذين مكّنوا فى الأرض بالخلافة ، وفعلوا ما وصفهم اللّه به. وفيه دليل صحة أمر الخلفاء الراشدين لأن اللّه - عز وجل - أعطاهم التمكين ، ونفاذ الأمر مع السيرة العادلة. وعن عثمان رضى اللّه عنه : (هذا ، واللّه ، ثناء قبل بلاء) ، يعنى : أن اللّه تعالى أثنى عليهم قبل ظهور الشر من الهرج والفتن فيهم. وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ فإنّ مرجعها إلى حكمه وتقديره فقط.
وفيه تأكيد للوعد بإظهار أوليائه وإعلاء كلمته.
الإشارة : إذا اتصل الإنسان بشيخ التربية فقد أذن له فى جهاد نفسه ، إن أراد الوصول إلى حضرة ربه لأنها ظالمة تحول بينه وبين سعادته الأبدية. وإن اللّه على نصرهم لقدير لأن همّة الشيخ تحمله وتنصره بإذن اللّه. وأما إن لم يتصل بشيخ التربية ، فإن مجاهدته لنفسه لا تصيب مقاتلها لدخولها تحت الرماية ، فلا يصيبها ضربه ، وأما الشيخ فلأنه يريه مساوئها ويعينه على قتلها.
وقوله تعالى : الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ هم الذين أمروا بقتل نفوسهم ، فإنهم إذا خرقوا عوائد نفوسهم ، وخرجوا عن عوائد الناس ، رفضوهم وأنكروهم ، وربما أخرجوهم من ديارهم ، فقلّ أن تجد وليا بقي فى وطنه الأول ، وما نقموا منهم وأخرجوهم إلا لقصدهم مولاهم ، وقولهم : ربّنا اللّه دون شىء سواه ، فحيث خرجوا عن(3/538)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 539
عوائدهم وقصدوا مولاهم ، أنكروهم وأخرجوهم من أوطانهم ، ولو لا دفع الناس بعضهم ببعض بأن شفع خيارهم فى شرارهم ، لهدمت دعائم الوجود لأنّ من آذى وليا فقد آذن بالحرب.
قال القشيري : (وَ لَوْ لا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ) ، أي : يتجاوز عن الأصاغر لقدر الأكابر استبقاء لمنازل العبادة ، تلك سنّة أجراها. ثم قال : (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ) ، أي : لم يشتغلوا فى ذلك بحظوظ ، ولكن قاموا لأداء حقوقنا. ه.
ولمّا بشّر نبيّه - عليه الصلاة والسلام - مع المؤمنين ، بالدفع والنصر على سائر الملل ، سلّاه عن تكذيب قومه بقوله :
[سورة الحج (22) : الآيات 42 الى 45]
وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَثَمُودُ (42) وَقَوْمُ إِبْراهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (43) وَأَصْحابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسى فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (44) فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَهِيَ ظالِمَةٌ فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (45)
يقول الحق جل جلاله : وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ يا محمد ، أي : أهل مكة ، فلا تحزن فلست بأول من كذب ، فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ أي : قبل قومك قَوْمُ نُوحٍ نوحا ، وَعادٌ هودا ، وَثَمُودُ صالحا ، وَقَوْمُ إِبْراهِيمَ إبراهيم ، وَقَوْمُ لُوطٍ لوطا ، وَأَصْحابُ مَدْيَنَ شعيبا ، وَكُذِّبَ مُوسى كذّبه فرعون والقبط. ولم يقل : وقوم موسى لأن موسى ما كذبه قومه بنو إسرائيل ، وإنما كذبه القبط. أو : كأنه لمّا ذكر تكذيب كلّ قوم رسولهم ، قال : وكذّب موسى ، مع وضوح آياته وظهور معجزاته ، فما ظنك بغيره؟ فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ :
أمهلتهم وأخرت عقوبتهم ، ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ : عاقبتهم على كفرهم ، أي : أخذت كل فريق من فرق المكذبين ، بعد انقضاء مدة إملائه وإمهاله ، فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ أي : إنكارى وتغييرى حيث أبدلتهم بالنعم نقما ، وبالحياة هلاكا ، وبالعمارة خرابا ، فكان ذلك فى غاية ما يكون من الهول والفظاعة.
فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أي : كثيرا من القرى أهلكناها وخربناها بإهلاك أهلها ، وَهِيَ ظالِمَةٌ أي : والحال أنها ظالمة بالكفر والمعاصي ، فَهِيَ خاوِيَةٌ : ساقطة على عُرُوشِها ، من خوى النجم : سقط. والمعنى أنها ساقطة على سقوفها ، أي : خربت سقوفها على الأرض ، ثم تهدمت حيطانها فسقطت فوق السقوف. ويجوز أن يكون «على عروشها» : خبرا بعد خبر ، أي : فهى خالية من السكان ، وهى على عروشها ، أي : قائمة مشرفة على السقوف الساقطة. وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ أي : وكم من بئر متروكة مهملة فى البوادي والحواضر ، لا يستسقى منها(3/539)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 540
لهلاك أهلها مع توفير مائها ، وَقَصْرٍ مَشِيدٍ : مرفوع البنيان ، من شاد البنيان : إذا رفعه ، أو مجصّص بالشيد ، أي : الجص ، أي : مبنيا بالشيد والجندل.
وقال الضحاك : كانت هذه البئر المعطلة بحضر موت ، فى بلدة يقال لها : حاضوراء ، وذلك أن أربعة آلاف ممن آمن بصالح ، ونجوا من العذاب ، أتوا حضر موت ، ومعهم صالح ، فلما حضروا ذلك الموضع ، مات صالح ، فسمى حضر موت لأن صالحا لما حضره مات ، فبنوا حاضوراء ، وقعدوا على هذه البئر ، فأقاموا دهرا طويلا ، وتناسلوا حتى كثروا ، ثم عبدوا الأصنام وكفروا ، فأرسل اللّه إليهم نبيا يقال له : «حنظلة بن صفوان» ، فقتلوه فأهلكهم اللّه ، وعطلت بئرهم وخربت قصورهم «1»
. ه.
وحاصل المعنى : وكم قرية أهلكناها ، وكم بئر عطلناها عن سقاتها ، وقصر مشيد أخليناه عن ساكنه ، أي ، أهلكنا البادية والحاضرة جميعا ، فخلت القصور عن أربابها ، والآبار عن روادها. فالأظهر أن البئر والقصر على العموم.
الإشارة : ما سلّى به الرسل - عليهم السلام - تسلى به الأولياء - رضوان اللّه عليهم - فتكذيب أهل الخصوصية سنّة ماضية ، غير أن مكذبى الرسل يعاجلون بالعقوبة ، ومكذبى الأولياء يعاقبون بالبعد والحجاب. وقال القشيري :
(و بئر معطلة) ، الإشارة إلى العيون المفجرة من بواطنهم ، (و قصر مشيد) الإشارة إلى تعطيل أسرارهم عن ساكنيها ، من الهيبة والأنس وسائر المواجيد. ه. قلت : وكأنه فسر القرية بالقلب ، وهلاكه : خلاؤه من نور التوحيد ، فقلوب الغافلين خاوية على عروش عقولهم ، المطموس نورها ، وعيون بواطنهم معطلة من الفكرة ، وأسرارهم خاربة من نور النظرة. واللّه تعالى أعلم.
ثم أمر بالاعتبار بمن سلف من القرون المهلكة والآبار المعطلة ، فقال :
[سورة الحج (22) : الآيات 46 الى 48]
أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (47) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَهِيَ ظالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُها وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (48)
___________
(1) ذكر البغوي فى التفسير (5/ 390).(3/540)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 541
قلت : (أ فلم) : الفاء عطف على مقدر أي أغفلوا فلم يسيروا فيعتبروا ، (فإنها) : ضمير القصة ، أو مبهم يفسره ما بعده. و(لن يخلف اللّه وعده) : حالية ، أي : ينكرون مجىء العذاب الموعود ، والحال : أنه تعالى لا يخلف وعده ، أو اعتراضية مبينة لما ذكر ، و(إنّ يوما) : استئنافية ، إن كانت الأولى حالية ، ومعطوفة ، إن كانت اعتراضية سيقت لبيان خطأهم.
يقول الحق جل جلاله : أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فيروا مصارع من أهلكهم اللّه بكفرهم ، ويشاهدوا آثارهم الدارسة وقصورهم الخالية ، وديارهم الخربة ، فيعتبروا. وهو حث لهم على السفر ليشاهدوا ذلك. فَتَكُونَ لَهُمْ بسبب ما شاهدوه من مظان الاعتبار ومواطن الاستبصار قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها ما يجب أن يعقل من التوحيد ونحوه ، أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها ما يجب أن يسمع من الوحى أو من أخبار الأمم المهلكة ممن يجاورهم من الناس فإنهم أعرف بحالهم. قال ابن عرفة : لما تضمن الكلام السابق إهلاك الأمم السالفة ، وبقيت آثارهم خرابا ، عقبه بذم هؤلاء فى عدم اتعاظهم بذلك. والسير فى الأرض : إمّا حسى ، أو معنوى باعتبار سماع أخبارها من الغير ، أو قراءتها فى الكتب. فقوله : (فتكون لهم قلوب) : راجع للسير الحسى ، وقوله : (أو آذان) للسير المعنوي. ه.
فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ الحسية ، وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ عن التفكر والاعتبار ، أي : ليس الخلل فى مشاعرهم ، ولكن الخلل فى عقولهم ، باتباع الهوى والانهماك فى الغفلة. وذكر الصدور للتأكيد ، ونفى توهم التجوز لأن قلب الشيء : لبه ، فربما يقال : إن القلب يراد به غير هذا العضو ، ولكل إنسان أربع أعين : عينان فى رأسه ، وعينان فى قلبه ، وتسمى البصيرة ، فإن انفتح ما فى القلب ، وعمى ما فى الرأس فلا يضر ، وإن انفتح ما فى الرأس وانطمس ما فى القلب لم ينفع ، والتحق بالبهائم ، بل هو أضل.
ثم ذكر علامة عمى القلوب ، وهو الاستهزاء بالوعد الحق ، فقال : وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ المتوعد به استهزاء وإنكارا وتعجيزا ، وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ أي : يستعجلون به ، والحال أنه تعالى لا يخلف وعده أبدا ، وقد سبق الوعد به ، فمن لا يخلف وعده فلا بد من مجيئه ، ولو بعد حين. وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ أي : كيف يستعجلونك بعذاب من يوم واحد من أيام عذابه فى طول ألف سنة من سنيكم لأن أيام الشدة طوال. وقيل : تطول حقيقة ، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام : «يدخل الفقراء الجنّة قبل الأغنياء بنصف يوم ، وذلك خمسمائة سنة» «1»
.
___________
(1) أخرجه الترمذي فى (الزهد ، باب ما جاء أن فقراء المهاجرين يدخلون الجنة قيل أغنيائهم) ، وابن ماجة فى (الزهد ، باب منزلة الفقراء) ، من حديث أبى هريرة ، وأبى سعيد الخدري رضى اللّه عنهما. وبنحوه أخرجه أبو داود فى (العلم ، باب فى القصص) من حديث أبى سعيد الخدري.(3/541)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 542
وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَهِيَ ظالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُها أي : كثيرا من أهل قرية كانوا ظالمين مثلكم ، قد أمهلتهم حينا وأمليت لهم ، كما أمليت لكم ، ثم أخذتهم بالعذاب والنكال بعد طول الإملاء والإمهال. والإملاء هو الإمهال مع إرادة المعاقبة. وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ أي : المرجع إلىّ ، فلا يفوتنى شىء من أمر المستعجلين وغيرهم ، أو : إلى حكمى مرجع الكل ، لا إلى غيرى ، لا استقلالا ولا شركة ، فأفعل بهم ما يليق بأعمالهم. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : عمى القلوب هو انطماس البصيرة ، وعلامة انطماسها أمور : إرسال الجوارح فى معاصى اللّه ، والانهماك فى الغفلة عن اللّه ، والوقيعة فى أولياء اللّه ، والاجتهاد فى طلب الدنيا مع التقصير فيما طلبه منه اللّه.
وفى الحكم : «اجتهادك فيما ضمن لك ، وتقصيرك فيما طلب منك ، دليل على انطماس البصيرة منك». وعلامة فتحها أمور : المسارعة إلى طاعة اللّه ، واستعمال المجهود فى معرفة اللّه ، بصحبة أولياء اللّه ، والإعراض عن الدنيا وأهلها ، والأنس باللّه ، والغيبة عن كل ما سواه. واعلم أن البصر والبصيرة متقابلان فى أصل نشأتهما ، فالبصر لا يبصر إلا الأشياء الحسية الحادثة ، والبصيرة لا تبصر إلا المعاني القديمة الأزلية ، فإذا انطمست البصيرة كان العبد مفروقا عن اللّه ، لا يرى إلا الأكوان الظلمانية الحادثة. وفى ذلك يقول المجذوب رضى اللّه عنه :
من نظر الكون بالكون غرّه : فى عمى البصيرة. ومن نظر الكون بالمكون : صادق ، علاج السريرة
وإذا انفتحت البصيرة بالكلية استولى نورها على نور البصر ، فانعكس نور البصر إلى البصيرة ، فلا يرى العبد إلا أسرار المعاني الأزلية ، المفنية للأوانى الحادثة ، فيغيب عن رؤية الأكوان بشهود المكون. وعلاج انفتاحها يكون على يد طبيب ماهر عارف باللّه ، يقدحها له بمرود التوحيد ، فلا يزال يعالجها بإثمد توحيد الأفعال ، ثم توحيد الصفات ، ثم توحيد الذات ، حتى تنفتح. فتوحيد الأفعال والصفات يشهد قرب الحق من العبد ، وتوحيد الذات يشهد عدمه لوجود الحق ، وهو الذي أشار إليه فى الحكم بقوله : «شعاع البصيرة يشهدك قرب الحق منك ، وعين البصيرة يشهدك عدمك لوجوده ، وحق البصيرة يشهدك وجود الحق ، لا عدمك ولا وجودك. كان اللّه ولا شىء معه ، وهو الآن على ما عليه كان». فيرى حينئذ من أسرار الذات وأنوار الصفات ما لا يراه الناظرون ، ويشاهد ما لا يشاهده الجاهلون. وفى ذلك يقول الحلاج :
قلوب العارفين لها عيون ترى ما لا يرى للنّاظرينا
وأجنحة تطير بغير ريش إلى ملكوت ربّ العالمينا
وألسنة بأسرار تناجى تغيب عن الكرام الكاتبينا(3/542)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 543
وقال الورتجبي : الجهال يرون الأشياء بأبصار الظواهر ، وقلوبهم محجوبة عن رؤية حقائق الأشياء ، التي هى تلمع منها أنوار الذات والصفات ، وأعماهم اللّه بغشاوة الغفلة وغطاء الشهوة. ه.
ثم أمر نبيه بالجواب عن استعجالهم العذاب ، فقال :
[سورة الحج (22) : الآيات 49 الى 51]
قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (49) فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (50) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (51)
يقول الحق جل جلاله : قُلْ يا محمد : يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ أي : أنذركم إنذارا مبينا بما أوحى إلىّ من أخبار الأمم المهلكة ، من غير أن يكون لى دخل فى الإتيان بما توعدونه من العذاب الذي تستعجلونه .. وإنما لم يقل : نذير وبشير ، مع ذكر الفريقين بعده لأن الحديث مسوق إلى المشركين فقط. والمراد بالناس : الذين قيل فيهم : (أَ فَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ) ، ووصفوا بالاستعجال ، وإنما ذكر المؤمنين وثوابهم زيادة فى غيظهم. فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ لذنوبهم ، وَرِزْقٌ كَرِيمٌ أي : حسن ، وهى الجنة.
والكريم من كل نعيم : ما يجمع فضائله ويحوز كمالاته.
وَالَّذِينَ سَعَوْا ، يقال : سعى فى أمر فلان : إذا أفسده بسعيه ، أي : أفسدوا فِي آياتِنا أي : القرآن بسعيهم فى إبطاله ، مُعاجِزِينَ أي : مسابقين. وقرأ المكي والبصري : «معجّزين». بالشد ، أي : مثبّطين الناس عن الإيمان. يقال : عاجزه : سابقه لأنّ كل واحد منهما يطلب عجز الآخر ، واللحوق به ، فإذا غلبه ، قيل : أعجزه وعجزه. والمعنى : سعوا فى معناها بالفساد من الطعن فيها ، حيث سمّوها سحرا وشعرا وأساطير الأولين ، مسابقين فى زعمهم وتقديرهم ، طامعين أن كيدهم للإسلام يتم لهم. أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ أي : ملازموا النار الموقودة. وقيل : هو اسم دركة من دركاتها.
الإشارة : الدعاة إلى اللّه تعالى إنما شأنهم التحذير والتبشير ، ثم ينظرون ما يفعل اللّه فى ملكه وخلقه ، من هداية أو إضلال ، وليس من شأنهم طلب ظهور المعجزات ، أو الكرامات ، ولا الحرص على هداية الخلق بالكد والاجتهاد ، إنما شأنهم التذكير ، ويردون الأمر إلى الملك القدير ، فلا يتأسفون على من تخلف عنهم.
وكان عليه الصلاة والسلام - يحرص على هداية قومه ، فلما نهاه الحق تعالى عن ذلك ، رجع وتأدب بكمال العبودية ، وبه اقتدى خلفاؤه من بعده ، فكان صلى اللّه عليه وسلم فى أول أمره يتمنى أن ينزل عليه ما يقارب بينه وبين قومه ، لعلهم يتدبرون فيما ينزل عليه فيسلموا ، فقرأ يوما سورة النّجم ، فألقى فى مسامعهم ما يدل على مدح آلهتهم ، فحزن(3/543)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 544
- عليه الصلاة والسلام - حين نسبوا ذلك له ، فسلّاه اللّه تعالى بقوله :
[سورة الحج (22) : الآيات 52 الى 54]
وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلاَّ إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52) لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (53) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (54)
قال ابن عباس وغيره من المفسرين الأولين - رضى اللّه عنهم - : لما رأى النبي صلى اللّه عليه وسلم مباعدة قومه وتوليهم ، وشق عليه ذلك تمنى أن يأتيه من اللّه تعالى ما يقارب بينه وبين قومه ، فجلس يوما فى جمع لهم ، فنزلت سوة النجم ، فقرأها عليهم ، فلما بلغ : أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى «1»
، ألقى الشيطان على لسانه «2»
:
تلك الغرانيق العلى وإنّ شفاعتهم لترجى ه. قلت : بلى ، ألقى ذلك فى مسامعهم فقط ، ولم ينطق بذلك - عليه الصلاة والسلام - فلما سمعت ذلك قريش فرحوا ، ثم سجد النبي صلى اللّه عليه وسلم فى آخر السورة ، وسجد المسلمون والمشركون ، إلا الوليد بن المغيرة ، رفع حفنة من التراب وسجد عليه ، فقالت قريش : ذكر محمد آلهتنا بأحسن الذكر ، وقالوا : قد عرفنا أن اللّه يحيى ويميت ، ويخلق ويرزق ، ولكن آلهتنا هذه تشفع لنا عنده ، فإذا جعل محمد لها نصيبا فنحن معه ، فلما أمسى أتاه جبريل. فقال يا محمد ما صنعت فقد تلوت على الناس ما لم آتك به؟ فحزن النبي صلى اللّه عليه وسلم حزنا شديدا ، فنزلت الآية تسلية له عليه الصلاة والسلام.
فقال جل جلاله : وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ ، يوحى إليه بشرع ، ويؤمر بالتبليغ ، وَلا نَبِيٍّ يوحى إليه ، ولم يؤمر بالتبليغ ، فالرسول مكلف بغيره ، والنبي مقتصر على نفسه ، أو الرسول : من بعث بشرع جديد ، والنبي : من قرر شريعة سابقة ، ولذلك شبه صلى اللّه عليه وسلم علماء أمته بهم ، فالنبى أعم من الرسول ، وقد سئل - عليه
___________
(1) الآيتان : 19 - 20 من سورة النجم.
(2) النبي صلى اللّه عليه وسلم معصوم من مثل ما جاء فى قصة الغرانيق ، ونسبة هذا إلى سيدنا ابن عباس وغيره - رضى اللّه عنهما - لا يصح. وقد رد المحققون من المحدثين والمفسرين ، القصة أصلا ، وبينوا زيفها ، ونقدوها سندا ومتنا. يقول القاضي عياض فى الشفاء (2/ 750) : يكفيك فى توهين هذا الحديث أنه لم يخرجه أحد من أهل الصحة ، ولا رواه ثقة بسند صحيح سليم متصل. وإنما أولع به وبمثله المفسرون.
للمزيد راجع : تفسير القرطبي (12/ 79) الآلوسى (17/ 175 - 184) وكتاب الشفاء للقاضى عياض (2/ 750) والإسرائيليات والموضوعات فى كتب التفسير : ص 314 وما بعدها.(3/544)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 545
الصلاة والسلام - عن الأنبياء ، فقال : «مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا ، قيل : فكم الرّسل منهم؟ قال : ثلاثمائة وثلاثة عشر ، جمّا غفيرا» «1»
.
إِلَّا إِذا تَمَنَّى هيأ فى نفسه ما يهواه كهداية قومه ومقاربتهم له ، أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فى تشهيه ما يوجب حصول ما تمناه ، أو مقاربته ، كما ألقى فى مسامع قريش ما يوجب مقاربتهم له - عليه الصلاة والسلام - ثم ينسخ اللّه ذلك. أو (إذا تمنى) : قرأ ، كما قال الشاعر :
تمنّى كتاب اللّه أوّل ليلة تمنّى داود الزّبور على رسل
أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ : فى قراءته ، حين قرأ سورة النجم بعد قوله : (وَ مَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى ) ، تلك الغرانيق العلى ، كما تقدم.
قال القشيري : كانت لنبينا صلى اللّه عليه وسلم سكتات ، فى خلال قراءته عند قراءة القرآن ، عند انقضاء كل آية ، فتلفظ الشيطان ببعض الألفاظ ، فمن لم يكن له تحصيل توهم أنه من ألفاظ الرسول. ه. وقال ابن البنا : التمني هو التلاوة التي يتمنى فيها ، فيتلو النبي وهو يريد أن يفهم عنه معناها ، فيلقى الشيطان فى فهوم السامعين غير المعنى المراد ، وما قال الزمخشري : قرأ تلك الغرانيق العلى ، على جهة السهو والغلط ، فباطل ، لقول اللّه العظيم : وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى «2»
، فهو معصوم من السهو والغلط فى تبليغ الوحى ه.
قلت : فتحصل أنه - عليه الصلاة والسلام - لم ينطق بتلك الكلمات قط ، لا سهوا ولا عمدا ، وإنما ألقيت فى مسامع الكفار ليحصل ما تمناه - عليه الصلاة والسلام - من المقاربة. ويدل على هذا أن من حضر من المسلمين لم يسمعوا من ذلك شيئا ، فإذا تقرر هذا علمت أن ما حكاه السلف الصالح من المفسرين وأهل السّير من أصل القصة فى سبب نزول الآية صحيح ، لكنه يحتاج إلى نظر دقيق وتأويل قريب ، فلا تحسن المبادرة بالإنكار والرد عليهم ، وهم عدول ، لا سيما حبر هذه الأمة ، وإنما يحتاج اللبيب إلى التطبيق بين المنقول والمعقول ، فإن لم يمكن ، قدّم المنقول ، إن ثبتت صحته ، وحكم على العقل بالعجز. هذا مذهب المحققين من الصوفية - رضى اللّه عنهم - ونسبة الإلقاء إلى الشيطان أدب وتشريع إذ لا فاعل فى الحقيقة سواه تعالى.
فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ أي : يذهب به ويبطله ، أو يرشد إلى ما يزيحه ، ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ أي :
يثبتها ويحفظها عن لحوق الزيادة من الشيطان ، وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ أي : عليم بما يوحى إلى نبيه ، حكيم فى وحيه ، لا يدع الباطل يأتيه من بين يديه ولا من خلفه.
___________
(1) أخرجه أحمد فى المسند (5/ 265) ، والطبراني فى الكبير (8/ 259) ، عن أبى أمامة ، أن أبا ذر سأل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ... الحديث ، وفيه : «وخمسة عشر» ، وأخرجه ، بلفظ المفسر ، ابن حبان فى (العلم ، باب السؤال للفائدة ، ح 94 موارد) ، والبيهقي فى السنن الكبرى (9/ 4) عن أبى ذر.
(2) الآيتان : 3 - 4 فى سورة النجم.(3/545)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 546
ثم ذكر حكمة ذلك الإلقاء ، فقال : لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً أي : محنة وابتلاء لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ : شك وشرك ، وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ البعيدة من الخير ، الخاربة من النور ، واليابسة الصلبة ، لا رحمة فيها ولا شفقة وهم المشركون المكذبون ، فيزدادون به شكا وظلمة. وَإِنَّ الظَّالِمِينَ وهم الكفرة المتقدمة ، ووضع الظاهر موضع المضمر تسجيلا عليهم بالظلم ، لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ أي : عداوة شديدة ومخالفة تامة بعيدة عن الحق.
وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ باللّه أَنَّهُ أي : القرآن الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ أي : النازل من عنده فَيُؤْمِنُوا بِهِ أي : بالقرآن فَتُخْبِتَ : تطمئن ، أو تخشع لَهُ قُلُوبُهُمْ بالانقياد إليه والإذعان لما فيه ، وَإِنَّ اللَّهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ بالنظر الموصل إلى الحق الصريح ، فيتأولوا ما تشابه فى الدين بالتأويلات الصحيحة ، ويطلبوا ، لما أشكل منه ، المحمل الذي تقتضيه الأصول المحكمة ، حتى لا يلحقهم حيرة ولا تعتريهم شبهة. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : إذا وقع التعبير من جانب الحق فكل واحد من المستمعين يسمع ما يليق بمقامه ويقويه فيه. فأهل الباطل يسمعون ما يليق بباطلهم ويمدهم فيه ، وأهل الحق يسمعون ما يليق بحقهم ويرقيهم ، فأهل الإيمان يسمعون ما يقوى إيمانهم ويزيدهم يقينا ، وأهل الوصول يسمعون ما يليق بمقامهم ويرقيهم فيه ، وهكذا. وتأمل قضية الثلاثة الذين سمعوا قائلا يقول : يا سعترا برى. فسمع أحدهم : اسع تر برى ، وسمع الآخر : الساعة ترى برى ... وسمع الثالث : ما أوسع برى ، فالأول : طالب للوصول ، فقال له : اسع تر برى ، والثاني : سائر مستشرف على الوصول ، فقال له : الساعة ترى برى ، والثالث : واصل قد اتسع عليه ميدان النعم ، فقال له : ما أوسع برى. وكل من قدم على الأولياء فإنما يسمع بحسب ما عنده فمن قدم عليهم بالميزان لا يسمع إلا ما يبعده ، ومن قدم بالتصديق والتعظيم لا يسمع ولا يرى إلا ما يقربه من الكمالات والأنوار. واللّه تعالى أعلم.
ثم ذكر ضد الذين أوتوا العلم الذين تحققوا بحقية القرآن ، فقال :
[سورة الحج (22) : الآيات 55 الى 59]
وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (55) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (56) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (57) وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (58) لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (59)(3/546)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 547
يقول الحق جل جلاله : وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ : شك مِنْهُ من القرآن ، أو الصراط المستقيم ، حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً : فجأة ، أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ ، وهو عذاب يوم القيامة ، كأنه قيل : حتى تأتيهم الساعة أو عذابها ، فزاد «اليوم العقيم» لمزيد التهويل. واليوم العقيم : الذي لا يوم بعده ، كأنّ كل يوم يلد ما بعده من الأيام ، فما لا يوم بعده يكون عقيما. وقيل : اليوم العقيم : يوم بدر ، فهو عقيم عن أن يكون للكافرين فيه فرح أو راحة ، كالريح العقيم لا تأتى بخير ، أو لأنه لا مثل له فى عظم أمره لقتال الملائكة فيه ، ولكن لا يساعده ما بعده ، من قوله : الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ أي : السلطان القاهر ، والتصرف التام ، يومئذ لله وحده ، ولا منازع له فيه ، ولا تصرف لأحد معه ، لا حقيقة ولا مجازا ، ولا صورة ولا معنى ، كما فى الدنيا ، فإنّ للبعض فيه تصرفا مجازيا صوريا. يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ أي : بين فريق أهل المرية وأهل الإيمان.
ثم بيّن حكمه فيهم ، فقال : فَالَّذِينَ آمَنُوا بالقرآن الكريم ولم يماروا فيه ، وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ امتثالا لما أمر به فى تضاعيفه فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ، وَالَّذِينَ كَفَرُوا بالقرآن وشكوا فيه ، أو بالبعث والجزاء ، وَكَذَّبُوا بِآياتِنا الدالة على كمال قدرتنا أو القرآن ، فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ ، يهينهم ويخزيهم.
ثم خص قوما من الفريق الأول بفضيلة ، فقال : وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ : خرجوا من أوطانهم مجاهدين ، ثُمَّ قُتِلُوا فى الجهاد ، أَوْ ماتُوا حتف أنفهم ، لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً ، وهو ما لا ينقطع من نعيم الجنان. ومراتب الحسن متفاوته ، فيجوز تفاوت حال المرزوقين ، حسب تفاوت أرزاق الجنة.
روى أن بعض أصحاب النبي صلى اللّه عليه وسلم قالوا : يا نبى اللّه هؤلاء الّذين قتلوا فى سبيل اللّه قد علمنا ما أعطاهم اللّه من الخير ، ونحن نجاهد معك كما جاهدوا ، فما لنا معك؟ فنزلت : (وَ الَّذِينَ هاجَرُوا ...) الآيتين. وقيل : نزلت فى طوائف خرجوا من مكة إلى المدينة ، فتبعهم المشركون فقتلوهم.
ثم قال تعالى : وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ، فإنه يرزق بغير حساب ، مع أنّ ما يرزقه لا يقدر عليه غيره ، لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ ، وهو الجنة لأنّ فيه ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين ، قيل : لمّا ذكر الرزق ذكر المسكن ، وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ ، عليم بأحوال من قضى نحبه مجاهدا ، وآمال من مات وهو ينتظره معاهدا ، حليم بإمهال من قاتلهم معاندا.
الإشارة : من لم يصحب العارفين أهل الرسوخ واليقين ، لا يمكن أن تنقطع عنه خواطر الشكوك والأوهام ، حتى يلقى اللّه بقلب سقيم ، فيفضى إلى الهوان المقيم. والذين هاجروا فى طلب محبوبهم لتكميل يقينهم ، ثم قتلوا قبل الوصول ، أو ماتوا بعد الوصول ، ليرزقنهم اللّه جميعا رزقا حسنا ، وهو لذة الشهود والعيان ، فى مقعد صدق مع(3/547)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 548
المقربين ، (وَ إِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ). والمدخل الذي يرضونه : هو القرب الدائم ، والشهود المتصل. جعلنا اللّه من خواصهم بمنّه وكرمه.
ولمّا ذكر ثواب من هاجر وقتل فى سبيل اللّه ، أو مات ، أخبر أنه لا يدع نصرتهم فى الدنيا على من بغى عليهم ، فقال :
[سورة الحج (22) : الآيات 60 الى 62]
ذلِكَ وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (60) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (61) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (62)
قلت : (ذلك) : خبر ، أي : الأمر ذلك. و(من عاقب) : شرط سدّ مسد جوابه ، أي : من عاقب بمثل ما عوقب به ينصره اللّه.
يقول الحق جل جلاله : ذلِكَ أي : الأمر ذلك ، كما أخبرتك فى بيان الفريقين ، ثم استأنف فقال :
وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ أي : لم يزد فى القصاص على ما فعل به ، وسمى الابتداء عقابا للمشاكلة ولملابسته له ، من حيث إنه سبب له وهو مسبب عنه. ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ أي : من جازى بمثل ما فعل به من الظلم ، ثم ظلم ، بعد ذلك ، وبغى عليه بعد ذلك ، فحق على اللّه أن ينصره إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ يمحو آثار الذنوب ، غَفُورٌ يستر أنواع العيوب.
ومناسبة الوصفين لما قبلهما : أن المعاقب مأمور بالعفو من عند اللّه ، بقوله : فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ «1»
، وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ «2»
، فحين لم يفعل ذلك ، وانتصر لنفسه ، فكأنه مذنب ، فمعنى العفو فى حقه أنه لا يلزمه على ترك الفضل شىء ، وأنه ضامن لنصره فى الكرة الثانية ، إذا ترك العفو وانتقم من الباغي عليه ، وعرّض ، مع ذلك ، بما كان أولى به من العفو بذكر هاتين الصفتين.
___________
(1) من الآية 40 من سورة الشورى. [.....]
(2) الآية 43 من سورة الشورى.(3/548)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 549
ثم ذكر دلائل قدرته على النصر وغيره بقوله : ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ أي : ذلك النصر للمظلوم بسبب أنه قادر على ما يشاء. ومن آيات قدرته أنه (يولج الليل فى النهار ويولج النهار فى الليل) أي : يدخل أحدهما فى الآخر ، فيدخل الليل فى النهار إذا طال النهار ، ويدخل النهار فى الليل إذا طال الليل ، فيزيد فى أحدهما ما ينقص من الآخر. أو بسبب أنه خالق الليل والنهار ومصرفهما ، بإدخال أحدهما على الآخر ، فلا يخفى عليه ما يجرى فيهما على أيدى عباده من الخير والشر ، والبغي والإنصاف. وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ لما يقولون ، لا يشغله سمع عن سمع ، وإن اختلفت فى النهار الأصوات بفنون اللغات ، بَصِيرٌ بما يفعلون ، فلا يستتر عنه شىء بشىء فى الليالى ، وإن توالت الظلمات.
ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الواجب لذاته ، الثابت فى نفسه ، الواحد فى صفاته وأفعاله ، فإن وجوب وجوده ووحدته يقتضيان كونه مبديا لكل ما يوجد من الموجودات ، عالما بكل المعلومات. وإذا ثبت أنه الحق فدينه حق ، وعبادته حق ، وَأَنَّ ما يَدْعُونَ «1»
مِنْ دُونِهِ إلها هُوَ الْباطِلُ أي : المعدوم فى حد ذاته. أو الباطل ألوهيته ، وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ أي : المتعالي عن مدارك العقول ، وعن سمات الحدوث ، أو المرتفع على كل شىء بقهريته ، أو المتعالي عن الأنداد والأشباه ، الكبير شأنا وعظمة وكبرياء إذ كل شىء يصغر دون كبريائه ، فلا شىء أعلى منه شأنا وأكبر سلطانا لأن له الوجود المطلق. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : ومن عاقب نفسه وجاهدها وأدّبها فى أيام اليقظة ، بمثل ما عاقبته وجنت عليه وطغت فى أيام الغفلة ، ثم صرعته بعد ذلك وغلبته لينصرنه اللّه عليها ، حتى يغلبها ويملكها ، فكلما هاجت عليه هجم عليها ، حتى يملكها ذلك بأن اللّه يولج ليل المعصية فى نهار الطاعة ، ويولج نهار الطاعة فى ليل المعصية ، أي : يدخل أحدهما على الآخر ، فلا يزال العبد يعصى ويطيع حتى يمنّ عليه بالتوبة النصوح. أو يولج ليل المعصية فى نفس الطاعة ، فتنقلب الطاعة معصية ، إذا صحبها علو واستكبار. ويولج نهار الطاعة فى عين المعصية ، فتنقلب طاعة إذا صحبها ذل وافتقار. ذلك بأن اللّه هو الحق ، وأن ما دونه باطل.
___________
(1) قرأ أبو عمرو ، وحمزة والكسائي وحفص ويعقوب ، بالياء ، على الغيب. وقرأ الباقون بالتاء ، على الخطاب .. انظر الإتحاف (2/ 279).(3/549)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 550
ثم ذكر دليلا آخر على قدرته ، فقال :
[سورة الحج (22) : الآيات 63 الى 65]
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (63) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (64) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (65)
قلت : (فتصبح) : عطف على «أنزل» ، والعطف بالفاء أغنى عن الضمير ، وإيثار صيغة الاستقبال للإشعار بتجدد أثر الإنزال ، وهو الاخضرار واستمراره ، أو لاستحضار صورة الاخضرار ، وإنما لم ينصب جوابا للاستفهام لأنه لو نصب لبطل الغرض لأن معناه فى الرفع إثبات الاخضرار ، فينقلب فى النصب إلى نفيه ، كما تقول لصاحبك : ألم تر أنى أنعمت عليك فتشكر ، إن نصبته نفيت شكره ، وشكوت من تفريطه ، وإن رفعته أثبت شكره.
يقول الحق جل جلاله : أَلَمْ تَرَ يا محمد ، أو يا من يسمع ، أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً مطرا فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً بالنبات ، بعد ما كانت مسودة يابسة ، إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ بعباده ، أو فى ذاته لا يدرك ، خَبِيرٌ بمصالح خلقه ومنافعهم ، أو اللطيف المختص بدقائق التدبير ، الخبير بكل جليل وحقير ، قليل وكثير. لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ملكا وملكا ، قد أحاط بهم قدرة وعلما ، وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ عن كل شىء ، المفتقر إليه كل شىء ، الْحَمِيدُ : المحمود بنعمته ، قبل ثناء من فى السموات والأرض عليه ، أو المستحق للحمد ، أعطى أو لم يعط.
ثم ذكر موجب الحمد من عباده ، فقال : أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ من الأنعام لتأكلوا منها ، ومن البهائم لتركبوها فى البر ، وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ : بقدرته وإذنه ، أي : وسخر لكم المراكب حال كونها جارية فى البحر بإذنه ، وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ أي : يحفظها من السقوط ، بأن خلقها على هيئة متداعية إلى الاستمساك ، إِلَّا بِإِذْنِهِ : إلا بمشيئته ، وذلك يوم القيامة ، وفيه رد لا ستمساكها بذاتها فإنها مساوية لسائر الأجسام فى الجسمية ، فتكون قابلة للميل الهابط قبول غيرها. إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ حيث هيأ لهم هذه الأسباب لقيام معاشهم ، وفتح لهم أبواب المنافع ، ودفع عنهم أنواع المضار ، فأوضح لهم مناهج الاستدلال بالآيات التكوينية والتنزيلية ، فله الحمد وله الشكر.(3/550)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 551
الإشارة : ألم تر أن اللّه أنزل من سماء المعاني ماء علم الغيوب ، وهو علم أسرار الذات وأنوار الصفات ، أعنى :
التوحيد الخاص ، فإذا نزل على أرض النفوس ، اهتزت وربت ، واخضرت بالعلوم والمعارف ، إن اللّه لطيف خبير ، لطيف لسريان معانيه اللطيفة فى كل شىء ، خبير ببواطن كل شىء ، فمن كوشف بلطيف معانيه وإحاطة علمه فى كل شىء ، وبكل شىء ، حيى قلبه بمعرفة اللّه ، واخضرت أرض نفسه بأنواع العلوم والمعارف ، ألم تر أن اللّه سخر لكم ما فى الأرض ، يكون عند أمركم ونهيكم ، وفلك الفكرة تجرى فى بحر التوحيد بأمره ، ويمسك سماء الأرواح أن تقع على أرض الحظوظ إلا بإذنه ، بعد الرسوخ فى معرفته ، والتمكين من الفهم عنه ، إن اللّه بالناس لرؤوف رحيم حيث فتح لهم باب العلوم ، وهيأ لهم أسباب الفهوم ، وهى الرياضة والتأديب.
ثم ذكر دليلا آخر على قدرته ، فقال :
[سورة الحج (22) : آية 66]
وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ (66)
يقول الحق جل جلاله : وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ بعد أن كنتم جمادا ، عناصر ونطفا فى الأصلاب والأرحام ، حسبما فصل فى صدر السورة ، ثُمَّ يُمِيتُكُمْ عند مجىء آجالكم ، ثُمَّ يُحْيِيكُمْ عند البعث ، لإيصال جزائكم ، إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ : لجحود لما أفاض عليه من ضروب النعم ، ودفع عنه من صنوف النقم ، أو لا يعرف نعمة الإيجاد المظهرة للوجود ، ولا نعمة الإمداد الممدة بعد الوجود ، ولا نعمة الإفناء المقربة إلى الموعود ، ولا نعمة الإحياء الموصلة إلى المقصود ، وهو التنعم فى جوار الملك الودود ، فله الحمد دائما وله الشكر.
الإشارة : وهو الذي أحياكم باليقظة بعد الغفلة ، وبالعلم بعد الجهل ، ثم يميتكم عن حظوظ نفوسكم وهواها ، ثم يحييكم بالمعرفة به ، حياة لا موت بعدها ، فمن لم يعرف هذا فهو كنود.
ولا يمكن الوقوف على هذه النعم والقيام بشكرها ، إلا بالتمسك بالشرع والوحي الإلهى ، الذي أنزل اللّه على كل أمة ، كما أبان ذلك بقوله :
[سورة الحج (22) : الآيات 67 الى 71]
لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ (67) وَإِنْ جادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ (68) اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (69) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذلِكَ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (70) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (71)(3/551)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 552
يقول الحق جل جلاله : لِكُلِّ أُمَّةٍ من الأمم الخالية والباقية جَعَلْنا أي : وضعنا ، وعيّنا مَنْسَكاً : شريعة خاصة يتمسكون بها ، أي : عيّنا كل شريعة لأمة معينة من الأمم ، بحيث لا تتخطى أمة منهم شريعتها المعينة لها إلى شريعة أخرى ، لا استقلالا ولا اشتراكا ، فكل جيل لهم شرع مخصوص ، هُمْ ناسِكُوهُ : عاملون به ، فالأمة التي كانت من مبعث موسى إلى مبعث عيسى - عليهما السلام - منسكهم التوراة ، هم عاملون به لا غيرهم. والتي كانت من مبعث عيسى عليه السّلام إلى مبعث النبي صلى اللّه عليه وسلم منسكهم الإنجيل ، هم ناسكوه وعاملون به. وأما الأمة الموجودة عند مبعث النبي - عليه الصلاة والسلام - ومن بعدهم إلى يوم القيامة فهم أمة واحدة ، منسكهم القرآن ، ليس إلا.
والفاء فى قوله : فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ لترتيب ما بعدها على ما قبلها فإن تعيين كل أمة بشرع مخصوص ، يجب اتباعه ، يوجب اتباع هؤلا الموجودين لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وعدم منازعتهم له فى أمر الدين ، أي : فلا يجادلنك فى أمر الدين ، بل يجب عليهم الاستسلام والانقياد لكل أمر ونهى. أو : فلا تلتفت إلى قولهم ، ولا تمكنهم من أن ينازعوك فى الأمر ، أي : أمر الدين أو أمر الذبائح. قيل : نزلت حين قال المشركون للمسلمين : ما لكم تأكلون ما قتلتم ، ولا تأكلون ما قتله اللّه؟ يعنى : الميتة ، فأمر اللّه بالغيبة عنهم ، وعدم الالتفات إلى قولهم. وَادْعُ إِلى رَبِّكَ أي : دم على الدعاء إلى اللّه ، والتمسك بدينه القويم إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ : طريق قويم موصل إلى الحق.
وَإِنْ جادَلُوكَ بعد ظهور الحق مراء وتعنتا ، كما يفعله السفهاء ، بعد اجتهادك ألّا يكون بينك وبينهم تنازع وجدال ، فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ أي : فلا تجادلهم ، وادفعهم بهذا القول ، والمعنى : إن اللّه عالم بأعمالكم وما تستحقون عليها من الجزاء ، فهو يجازيكم به. وهذا وعيد وإنذار ، ولكن برفق ولين ، يجيب به العاقل كلّ متعنت سفيه. قال تعالى : اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ من أمر الدين ، وهو خطاب من اللّه تعالى للمؤمنين والكافرين ، تسلية لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مما كان يلقى منهم.
أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ ، الاستفهام للتقرير ، أي : قد علمت أن اللّه يعلم كل ما يحدث فى السماء والأرض ، ولا يخفى عليه شىء من الأشياء ، ومن جملتها : ما تقوله الكفرة وما يعملونه ، إِنَّ ذلِكَ فِي كِتابٍ فى اللوح المحفوظ ، إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ أي : علمه بجميع ذلك عليه يسير ، فلا يخفى عليه(3/552)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 553
معلوم ، ولا يعسر عليه مقدور. وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي : متجاوزين إياه ، مع ظهور دلائل عظمته وقدرته وتوحيده ، ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً : حجة وبرهانا ، وَما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ أي : وما ليس لهم بجواز عبادته علم من ضرورة أو استدلال ، أي : لم يتمسكوا فى عبادتهم لها ببرهان سماوى من جهة الوحى ، ولا حملهم عليها دليل عقلى ، بل لمجرد التقليد الرديء ، وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ أي : وما للذين ارتكبوا مثل هذا الظلم العظيم من أحد ينصرهم ، أو يصوب مذهبهم ، أو يدفع العذاب عنهم ، حين يعتريهم بسبب ظلمهم. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : كما اختلفت الشرائع باختلاف الملل ، اختلفت التربية باختلاف الأشخاص والأعصار ، وقد تقدم عند قوله : لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً «1»
. وجملتها ترجع إلى الهمة والحال ، وبهما كانت التربية فى الصدر الأول ، فكانت الملاقاة والصحبة تكفى ، ويحصل التهذيب والتصفية وكمال المعرفة. وذلك فى زمان الصحابة والتابعين إلى القرن الثالث لقربهم من النور النبوي. فلما بعد الأمر ، وأظلمت القلوب ، أحدثوا تربية الاصطلاح ، وهو التزيي بزى مخصوص ، كالمرقعة وحمل السبحة فى العنق ، والركوة ، وغير ذلك من مسائل التجريد ، وترتيب أمور تموت بها النفوس وتعالج بها القلوب ، واستعمال أوراد مخصوصة ، فكانت التربية حينئذ بالهمة والحال والاصطلاح. وقد تحصل التربية لمن له الهمة والحال بغير اصطلاح ، إذا رآه ينجع فيه ذلك ، فبقى الأمر كذلك إلى القرن التاسع ، فتصدى للتربية بالاصطلاح قوم مدّعون ، لا همة لهم ولا حال ، فقال الحضرمي حسما لهذه الدعوى : قد انقطعت التربية بالاصطلاح ، وما بقي إلا الهمة والحال ، فعليكم بالكتاب والسنة ، أي :
بظاهر الكتاب والسنة من غير زيادة ولا نقصان ، يعنى طريق الأحوال والاصطلاح. ومراده بذلك : قطع التربية بالاصطلاح من غير همة ولا حال. وأما من له الهمة والحال فلا يقصد الحضرمي قطع تربيته بالاصطلاح.
والحاصل : أن الحضرمي ما حكم إلا على وقته لما رأى من الفساد الذي دخل فى التربية. وقد وجد بعده رجال مربون بالاصطلاح مع الهمة والحال. والمراد بالهمة : العلم باللّه على نعت الشهود والعيان ، وبالحال : إنهاض القلوب عند رؤيته لذكر اللّه لقوله - عليه الصلاة والسلام - «خيركم من إذا رؤوا ذكر اللّه». ولا بد من إذن خاص من الشيخ ، أو من يقوم مقامه ، وإلا فلا تنجح تربيته ، ولا ينهض حاله. واللّه تعالى أعلم.
فإن تأهلت للتربية بإذن خاص ، فلا ينازعنك فى الأمر ، أي : لا تلفت إلى من ينازعك ويحتج عليك بانقطاع التربية تعنتا وعنادا. وادع إلى ربك ، إنك لعلى هدى مستقيم. قال القشيري : قوله : (وَ إِنْ جادَلُوكَ ...) إلخ ، أي :
___________
(1) من الآية 48 من سورة المائدة.(3/553)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 554
كلهم إلينا ، عند ما راموا أمر الجدال ، ولا تتكل على ما تختاره من الاحتيال ، واحذر جنوح قلبك إلى الاستغاثة بالأمثال والأشكال فإنهم قوالب خاوية. وأشباح من رؤية المعاني خالية. ه. ويوم القيامة يظهر المحق من المبطل ، ويقال فى شأن من يعبد هواه : (وَ يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ...) الآية.
ثم ذكر وصفا آخر لأهل الإنكار ، فقال :
[سورة الحج (22) : آية 72]
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (72)
قلت : (وَ إِذا تُتْلى ) : عطف على «يعبدون» ، وصيغة المضارع للدلالة على الاستمرار التجددي.
يقول الحق جل جلاله : وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ أي : على المشركين آياتُنا القرآنية ، حال كونها بَيِّناتٍ : واضحات الدلالة على العقائد الحقية ، والأحكام الصادقة ، تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ أي : الإنكار بالعبوس والكراهة ، فالمنكر : مصدر بمعنى الإنكار. يَكادُونَ يَسْطُونَ : يبطشون ، والسطو : الوثب والبطش ، أي. يثبون على الذين يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا من فرط الغيظ والغضب ، والتالون هم : النبي صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه. قُلْ لهم : أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ من غيظكم على التالين وسطوكم عليهم ، أو مما أصابكم من الكراهة والضجر ، بسبب ما يتلى عليكم ، هو النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا مثلكم ، وَبِئْسَ الْمَصِيرُ النار ، التي ترجعون إليها مخلدين.
الإشارة : من شأن أهل العتو والتكبر أنهم إذا وعظهم الفقراء عنفوا واستنكفوا ، ويكادون يسطون عليهم من شدة الغضب ، فما قيل لكبراء الكفار يجر ذيله على من تشبه بهم من المؤمنين.
ولمّا كان دعواهم الشريك لله تعالى جارية فى الغرابة والشهرة مجرى الأمثال السائرة ، ضرب لها الحق تعالى مثلا ، فقال : (3/554)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 555
[سورة الحج (22) : الآيات 73 الى 74]
يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73) ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (74)
يقول الحق جل جلاله : يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ أي : يبين لكم حال مستغربة ، أو قصة بديعة رائقة حقيقة بأن تسمى مثلا ، وتنشر فى الأمصار والأعصار ، فَاسْتَمِعُوا لَهُ لضرب هذا المثل استماع تدبر وتفكر ، وهو : إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ ، وعن يعقوب : بياء الغيبة ، أي : إن الذين تدعونهم آلهة وتعبدونهم مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً أي : لن يقدروا على خلقه أبدا ، مع صغره وحقارته. و«لن» : لتأبيد النفي ، فتدل على استحالته ، وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ أي : الذباب. ومحله : نصب على الحال ، كأنه قال : لا يقدرون على خلقه مجتمعين له ، متعاونين عليه ، فكيف إذا كانوا منفردين؟! وهذا أبلغ ما أنزل فى تجهيل قريش ، حيث وصفوا بالألوهية - التي من شأنها الاقتدار على جميع المقدورات ، والإحاطة بكل المعلومات - صورا وتماثيل ، يستحيل منها أن تقدر على أضعف ما خلقه اللّه تعالى وأذله ، ولو اجتمعوا له.
وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً من الطيب وغيره ، لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ أي : هذا الخلق الأرذل الأضعف ، لو اختطف منهم شيئا فاجتمعوا على أن يستخلصوه منه ، لم يقدروا ، وعن ابن عباس رضى اللّه عنه : أنهم كانوا يطلونها بالعسل والطيب ، ويغلقون عليها الأبواب ، فيدخل الذباب من الكوى «1»
فيأكله ، فتعجز الأصنام عن أخذه. ضَعُفَ الطَّالِبُ : الصنم بطلب ما سلب منه ، وَالْمَطْلُوبُ : الذباب بما سلب. وهذا كالتسوية بينهم وبين الذباب فى الضعف ، ولو حققت لوجدت الطالب أضعف وأضعف فإنّ الذباب حيوان والصنم جماد.
ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ : ما عرفوه حق معرفته ، حيث جعلوا هذا الصنم الضعيف شريكا له ، إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ أي : قادر غالب ، فكيف يتجه أن يكون العاجز المغلوب شبيها له! أو : لقوى ينصر أولياءه ، عزيز ينتقم من أعدائه. بعد أن ذكر تعالى أنهم لم يقدروا له قدرا حيث عبدوا معه من هو منسلخ من صفاته ، وسموه باسمه مع عجزه. ختم بصفتين منافيتين لصفات آلهتهم وهى القوة والغلبة. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : كل من تعلق فى حوائجه بغير اللّه أو ركن بالمحبة إلى شىء سواه ، فقد أشرك مع اللّه أضعف شىء وأقله. فماذا يجدى تعلق العاجز بالعاجز ، والضعيف بالضعيف ، ضعف الطالب والمطلوب. فما قدر اللّه حق قدره من تعلق فى أموره بغيره. قال الورتجبي : بيّن سبحانه - بعد ذكر عجز الخلق والخليقة - جلال قدره الذي لا يعرفه غيره ، بقوله : (ما قدروا اللّه حق قدره) ، قال : وهذه شكاية عن إشارة الخلق إليه بما هو غير موصوف به ، فذكر
___________
(1) الكوى : جمع كوّة ، ويجمع أيضا على كواء. وهى الخرق فى الحائط. انظر : اللسان (كوى 5/ 3964). والخبر : ذكره البغوي فى تفسيره (5/ 400).(3/555)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 556
غيرته إذا أقبلوا إلى غير من هو موصوف بالقوة الأزلية والعزة السرمدية. ألا ترى كيف قال : (إن اللّه لقوى عزيز) ، ثم بيّن أنه تعالى اصطفى من الملائكة رسلا ، يخبرون عنه ما يتعلق بعجز الخلق عن إدراكه من وصف ذاته وصفاته ، بقوله :
[سورة الحج (22) : الآيات 75 الى 76]
اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (75) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (76)
يقول الحق جل جلاله : اللَّهُ يَصْطَفِي : يختار مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا يرسلهم إلى صفوة خلقه ، كجبريل وميكائيل وإسرافيل وغيرهم ، وَمِنَ النَّاسِ ، كإبراهيم وموسى وعيسى ونبينا محمد صلى اللّه عليه وسلم ، يعرّفون بجلال اللّه ومعرفة قدره ، حتى يقدروه حق قدره باعتبارهم لا باعتباره فإنّ اللّه تعالى لا يمكن لأحد أن يقدره حق قدره. قال سيد العارفين : «لا أحصى ثناء عليك ، أنت كما أثنيت على نفسك». وقيل : نزلت ردا لما أنكروه من أن يكون الرسول من البشر ، وبيانا أن رسل اللّه على ضربين : ملك وبشر. وقيل : نزلت فى قولهم : أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا «1»
. إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ أي : سميع لقولهم ، بصير بمن يختاره للرسالة. أو سميع لأقوال الرسل ، بصير بأحوال الأمم فى الردّ والقبول. يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ : ما مضى ، وَما خَلْفَهُمْ : ما يأتى ، أو ما عملوا وما سيعملونه ، أو أمر الدنيا وأمر الآخرة ، وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ أي : إليه مرجع الأمور كلها ، ليس لأحد أن يعترض عليه فى حكمه وتدبيره واختياره من شاء من رسله. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : شرب الخمرة ، وهى المحبة الحقيقية والمعرفة الكاملة ، لا تكون إلّا على أيدى الوسائط ، والنادر لا حكم له ، فالأنبياء وسائطهم الملائكة ، والأولياء وسائطهم خلفاء الأنبياء ، وهم أهل العلم بالله الذوقى العيانى. وقال الورتجبي - إثر ما تقدم عنه - : فالملائكة وسائط الأنبياء ، والأنبياء وسائط العموم ، والأولياء للأولياء خاصة. ه.
وتوسيط الأنبياء للعموم فى مطلق المحبة ، وتعليم ما يقرب إليها ، وأما المحبة الحقيقية فهى خاصة بالأولياء للأولياء ، كما قال. وباللّه التوفيق.
ثم ذكر سببها ، وما يقرب إليها ، فقال :
___________
(1) من الآية 8 من سورة ص.(3/556)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 557
[سورة الحج (22) : الآيات 77 الى 78]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77) وَجاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هذا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78)
قلت : (ملة أبيكم) : منصوب بمحذوف ، أي : اتبعوا ملة إبراهيم.
يقول الحق جل جلاله : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا فى صلاتكم ، وكانوا أول ما أسلموا يصلون بلا ركوع وسجود ، فأمروا أن تكون صلاتهم بركوع وسجود ، وفيه دليل على أن الأعمال ليست من الإيمان ، وأن هذه السجدة للصلاة لا للتلاوة ، قاله النسفي. وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ أي : واقصدوا بعبادتكم وجه اللّه ، وأخلصوا فيها ، أو هو عطف عام على خاص فإن العبادة أعم. وَافْعَلُوا الْخَيْرَ كله. قيل : لما كان للذكر مزية على غيره دعا المؤمنين أولا للصلاة التي هى ذكر خالص لقوله : وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي «1»
،
ثم إلى العبادة بغير الصلاة ، كالصوم والحج ، ثم عم بالحث على سائر الخيرات. وقال ابن عرفه : وافعلوا الخير : راجع للعبادة المتعدية ، وما قبله يختص بالقاصرة. قال المحشى : وفيه نظر لشمول العبادة لما هو متعدى النفع ، كتعليم العلم ، والصدقة ، ونحو ذلك ، بل أمر أولا بالصلاة ، وهى نوع من العبادة ، وثانيا بالعبادة ، وهى نوع من فعل الخير ، وثالثا بفعل الخير ، وهو أعم من العبادة. فبدأ بخاص ثم عام ثم بأعم. ه. لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ : كى تفوزوا ، أي : افعلوا هذا كله ، وأنتم راجون للفلاح غير مستيقنين ، فلا تتكلوا على أعمالكم.
وَجاهِدُوا فِي اللَّهِ أي : فى ذات اللّه ومن أجله حَقَّ جِهادِهِ ، أمر بالغزو وبمجاهدة النفس والهوى ، وهو الجهاد الأكبر ، ومنه : كلمة حق عند أمير جائر. قال - عليه الصلاة السلام - : «أعمال البر كلها ، إلى جنب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ، كنفثة إلى جنب البحر ، والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر إلى جنب الجهاد فى سبيل اللّه عز وجل كنفثة فى بحر ، والجهاد فى سبيل اللّه عز وجل إلى جنب مجاهدة النفس عن هواها فى اجتناب النهى ، كنفثة فى جنب بحر لجى». وهذا على معنى الخبر الذي جاء : «جئتم من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر» «2»
. يعنى : مجاهدة النفس. قاله فى القوت.
___________
(1) من الآية 14 من سورة طه.
(2) أخرجه الديلمي فى مسند الفردوس (تسديد القوس ، باب القاف ، قدمت من الجهاد الأصغر) ، والخطيب البغدادي فى تاريخ بغداد (13/ 523) من حديث جابر ، بألفاظ مقاربة ، وآخره : «وما الجهاد الأكبر؟ قال : مجاهدة العبد هواه». وإسناده ضعيف. راجع الفتح السماوي (2/ 851) ، وكشف الخفاء (1/ 511).(3/557)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 558
قال القشيري : حق الجهاد ما يوافق الأمر فى القدر والوقت والنوع ، فإذا حصل فى شىء منه مخالفة فليس حقّ جهاده. ه. قلت : موافقة القدر ، فى جهاد النفس ، أن يكون بغير إفراط ولا تفريط ، فالإفراط يمل ، والتفريط يخل ، وموافقة الوقت أن يكون قبل حصول المشاهدة إذ لا تجتمع مجاهدة ومشاهدة فى وقت واحد. والنوع أن يجاهدها بما يباح فى الشرع ، لا بمحرم ولا مكروه. وقال فى الحاشية : هو الوفاء بالمشروع مع رفع الحرج ، بدليل ما بعده ، فهو موافق لقوله تعالى : فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ «1»
، ومما هو ظاهر فى الآية : الذب عن دينه وتغيير المناكر. ه.
هُوَ اجْتَباكُمْ : اختاركم لدينه بإظهاره والذب عنه ، وهو تأكيد للأمر بالجهاد ، أي : وجب عليكم أن تجاهدوا لأنّ اللّه اختاركم لإظهار دينه ، وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ : ضيق ، بل وسع عليكم فى جميع ما كلفكم به ، من الطهارة ، والصلاة والصوم والحج ، بالتيمم والإيماء ، وبالقصر فى السفر ، والإفطار لعذر ، وعدم الاستطاعة فى الحج. فاتبعوا مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ فإن ما جاءكم به رسولكم موافق لملته فى الجملة ، لقوله صلى اللّه عليه وسلم : «جئتكم بالحنيفية السمحة» «2»
، وسماه أبا ، وإن لم يكن أبا للأمة كلها لأنه أبو رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فكان أبا لأمته لأن أمة الرسول فى حكم أولاده.
قال صلى اللّه عليه وسلم : «إنّما أنا لكم مثل الوالد» «3»
.
هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ أي : اللّه ، بدليل قراءة أبى : «اللّه سماكم» أو إبراهيم لقوله : وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ «4» مِنْ قَبْلُ أي : سماكم من قبل ظهورهم فى الكتب السالفة ، وَفِي هذا أي : القرآن ، فقد فضلكم على سائر الأمم ، وسماكم بهذا الاسم الأكرم ، لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ أنه قد بلغكم رسالة ربكم ، وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ بتبليغ الرسل رسالات اللّه إليهم. وإذا خصكم بهذه الكرامة والأثرة فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ بواجباتها ، وَآتُوا الزَّكاةَ لشرائطها ، وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ أي ثقوا به وتوكلوا عليه ، لا بالصلاة والزكاة. أو : ثقوا به فى جميع أموركم ، ولا تطلبوا الإعانة والنصر إلا منه. هُوَ مَوْلاكُمْ : مالككم وناصركم ومتولى أموركم ، فَنِعْمَ الْمَوْلى حيث لم يمنعكم رزقكم بعصيانكم ، وَنِعْمَ النَّصِيرُ أي : الناصر حيث أعانكم على طاعتكم ومجاهدة نفوسكم وأعدائكم.
___________
(1) من الآية 16 من سورة التغابن.
(2) أخرجه الإمام أحمد فى المسند (5/ 266) ، والطبراني فى الكبير (8/ 257 رقم 7868) من حديث أبى أمامة بلفظ : «إنى لم أبعث باليهودية ولا النصرانية ، ولكنى بعثت بالحنيفية السمحة».
(3) بعض حديث أخرجه أبو داود فى (الطهارة ، باب كراهية استقبال القبلة عند قضاء الحاجة) ، والنسائي فى (الطهارة ، باب النهى عن الاستطابة بالروث) ، وابن ماجة فى (الطهارة ، باب الاستنجاء بالحجارة) ، والدارمي فى (الطهارة ، باب الاستنجاء بالأحجار) عن أبى هريرة رضى اللّه عنه.
(4) من الآية 128 من سورة البقرة.(3/558)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 559
الإشارة : يا أيها الذين آمنوا تقربوا إلىّ بأنواع الطاعات وبالمسارعة إلى الخيرات ، لعلكم تفوزون بمعرفة أسرار الذات وأنوار الصفات ، وجاهدوا نفوسكم بأنواع المجاهدات ، كى أجتبيكم وأنزهكم فى أسرار ذاتى ، فإنى قد اجتبيتكم قبل كونكم فى أزل أزلى. وكأنه يشير إلى قوله : «لا يزال عبدى يتقرب إلىّ بالنوافل حتى أحبه ، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ...» الحديث.
والمأمور به من التقرب والمجاهدة قدر الاستطاعة ، من غير تشديد ولا تعقيد ، لقوله : (و ما جعل عليكم فى الدين من حرج) لأن مبنى الشرع الكريم على السهولة ، فالذى يتوصل إلى رضوانه أو صريح معرفته ، لا يشترط أن يستغرق كنه إمكان العبد فيه. «لو كنت لا تصل إليه إلا بعد فناء مساوئك ومحو دعاويك ، لم تصل إليه أبدا ، ولكن إذا أراد أن يوصلك إليه غطى وصفك بوصفه ، ونعتك بنعته ، فوصلك بما منه إليك ، لا بما منك إليه». كما فى الحكم.
وقال الورتجبي : (وَ ما جَعَلَ ..) الآية ، أي : إذا شاهدتم مشاهد جمالى سهل عليكم فناؤكم فى جلالى ، وسهل عليكم بذل مهجكم إليه. ألا ترى كيف قال : (ملة أبيكم إبراهيم) ، ومن ملته : الاستسلام والانقياد ، وبذل الوجوه بنعت السخاء والكرم ، يا أسباط خليلى ، رأى أبوكم استعداد هذه المراتب الشريفة فيكم ، قبل وجودكم بنور النبوة ، فسماكم المسلمين ، أي : منقادين بين يدىّ ، عارفين بوحدانيتى. وفيما ذكرنا من أوصافكم ، حبيبى شاهد عليكم ، يعرف هذه الفضائل منكم ، وهو بلغكم نشر فضائلى عليكم. ثم قال : اطلبوا الاعتصام منى ، استعينوا لأقويكم فى طاعتى. ثم قال : (فنعم المولى) حيث لا مولى غيره ، (و نعم النصير) حيث لا يخذل من نصره فإن اللّه عزيز ممتنع من نقائص النقص. قال جعفر فى قوله : (حق جهاده) : ألّا تختار عليه شيئا ، كما لم يختر عليك لقوله : (هو اجتباكم). ه.
وقوله تعالى : (وَ تَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ ...) الآية : أي : اجتباكم واختاركم وسماكم مسلمين ، لتكونوا مرضيين عدولا ، تشهدون على الأمم ، كما يشهد محمد صلى اللّه عليه وسلم عليكم ويزكيكم ، فهو كقوله تعالى : جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ ... «1» إلخ. وإذ قد خصكم بهذه الكرامة والأثرة فاعبدوه وثقوا به ، ولا تطلبوا الولاية والنصرة إلا منه ، فهو خير ولى وناصر ، ومن كان اللّه تعالى مولاه وناصره فقد أفلح وفاز ، ولذلك افتتح السورة التي تليها به. وباللّه التوفيق. وهو الهادي إلى سواء الطريق.
___________
(1) من الآية 143 من سورة البقرة.(3/559)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 560(3/560)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 561
سورة المؤمنون
مكية. وهى مائة وثمانى عشرة آية ، قيل : مناسبة افتتاح السورة بالفلاح أنه قال فيما قبلها : لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ «1» على سبيل الرجاء ، وحققه هنا بشرطه فى الجملة ، ثم لمّا ذكر وراثة المتصف بتلك الأوصاف للفردوس ، وذلك يتضمن المعاد ، ذكر النشأة الأولى دلالة على صحته ، أي : المعاد ، ثم لمّا ذكر ابتداء خلق الإنسان وانتهاء أمره ذكّره بنعمه ، فقال : لَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ ، وَأَنْزَلْنا ، فَأَنْشَأْنا .. الآيات ، ولمّا كانت هذه النعم على الإنسان تقتضى منه الشكر بالطاعة والتوحيد للكريم المنّان ، ثم إن أصنافا من الكفرة قابلوها بالكفران ، فلذلك ذكر قصصهم بعد ذكرها ، بقوله : وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً ... إلخ. فهذا ما تضمنته السورة من الترتيب ، قال تعالى :
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 1 الى 11]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ (4)
وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (5) إِلاَّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (7) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ (8) وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ (9)
أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ (11)
يقول الحق جل جلاله : قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ أي : فازوا بكل مطلوب ، ونالوا كل مرغوب ، فالفلاح : الفوز بالمرام والنجاة من المكاره والآلام ، وقيل : البقاء فى الخير على الأبد ، وقد تقتضى ثبوت أمر متوقع ، فهى هنا لإفادة ثبوت ما كان متوقع الثبوت من قبل ، وكان المؤمنون يتوقعون مثل هذه البشارة وهى الإخبار بثبوت الفلاح لهم ، فخوطبوا بما دل على ثبات ما توقعوه. والإيمان فى اللغة : التصديق بالقلب ، والمؤمن : المصدّق لما جاء به الشرع ، مع الإذعان بالقلب ، وإلا .. فكم من كافر صدّق بالحق ولم يذعن ، تكبّرا وعنادا ، فكل من نطق بالشهادتين ،
___________
(1) من الآية 77 من سورة الحج.(3/561)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 562
مواطئا لسانه قلبه فهو مؤمن شرعا ، قال عليه الصلاة السلام : «لمّا خلق اللّه الجنّة ، قال لها : تكلّمي ، فقالت : قد أفلح المؤمنون - ثلاثا - أنا حرام على كلّ بخيل مرائى» «1» لأنه بالرياء أبطل العبادات الدينية ، وليسر له أعمال صافية.
ثم وصف أهل الإيمان بست صفات ، فقال : الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ : خاضعون بالقلب ساكنون بالجوارح ، وقيل : الخشوع فى الصلاة : جمع الهمة ، والإعراض عما سواها ، وعلامته : ألا يجاوز بصره مصلاه ، وألّا يلتفت ولا يعبث. وعن أبى الدرداء : (هو إخلاص المقال ، وإعظام المقام ، واليقين التام ، وجمع الاهتمام).
وأضيفت الصلاة إلى المصلين لانتفاع المصلّى بها وحده ، وهى عدّته وذخيرته ، وأما المصلّى له فغنىّ عنها.
وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ ، اللغو : كل كلام ساقط ، حقه أن يلغى ، كالكذب والشتم ونحوهما. والحق أن اللغو : كل ما لا يعنى من الأقوال والأفعال ، وصفهم بالحزم والاشتغال بما يعنيهم وما يقربهم إلى مولاهم فى عامة أوقاتهم ، كما ينبىء عنه التعبير بالاسم الدال على الثبوت والاستمرار ، بعد وصفه لهم بالخشوع ليجمع لهم بين الفعل والترك ، الشاقّين على النفس ، الّذين هما قاعدتا التكليف. وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ : مؤدون ، والمراد بالزكاة : المصدر ، الذي هو الإخراج ، لا المخرج. ويجوز أن يراد به العين ، وهو الشيء المخرج ، على حذف مضاف ، أي : لأداء الزكاة فاعلون. وصفهم بذلك ، بعد وصفهم بالخشوع فى الصلاة للدلالة على أنهم بلغوا الغاية القصوى من القيام بالطاعة البدنية والمالية ، والتجنب عن النقائص ، وتوسيط الإعراض عن اللغو بينهما لكمال ملابسته بالخشوع فى الصلاة لأن من لزم الصمت والاشتغال بما يعنى عظم خشوعه وأنسه بالله.
وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ : ممسكون لها ، ويشمل فرج الرجل والمرأة ، إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ ، الظاهر أن «على» بمعنى «عن» أي : إلا عن أزواجهم ، فلا يجب حفظها عنهن ، ويمكن أن تبقى على بابها ، تقول العرب : احفظ علىّ عنان فرسى ، أي : أمسكه ، ويجوز أن يكون ما بعد الاستثناء حالا ، أي : إلا والين على أزواجهم ، من قولك : كان زياد على البصرة ، أي : واليا عليها ، والمعنى : أنهم لفروجهم حافظون فى كافة الأحوال ، إلا فى حالة تزوجهم أو تسريهم. أو يتعلق «على» بمحذوف يدل عليه : (غير ملومين) ، كأنه قيل : يلامون إلا على أزواجهم ، أي : يلامون على كل مباشرة إلا على ما أبيح لهم ، فإنهم غير ملومين عليه ، أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ أي : سراريهم ، وعبّر عنهن بما لأن المملوك يجرى مجرى غير العقلاء ، لأنه يباع كما تباع البهائم. وقال فى الكشاف : وإنما قال «ما» ، ولم يقل «من» لأن الإناث يجرين مجرى غير العقلاء «2». ه. يعنى : لكونهن ناقصات عقل ، كما فى الحديث. وفيه احتراس من الذكور بالملك ، فلا يباح إتيانهم والتمتع بهم للمالك ولا للمالكة ، بإجماع.
___________
(1) ذكره بنحوه الهيثمي فى المجمع (10/ 397) من حديث ابن عباس - رضى اللّه عنهما ، وقال : رواه الطبراني فى الأوسط والكبير ، وأحد إسنادى الطبراني فى الأوسط جيد. [.....]
(2) فى هذا الكلام نظر.(3/562)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 563
وقوله تعالى : فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ أي : لا لوم عليهم فى عدم حفظ فروجهم عن نسائهم وإمائهم. فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ طلب قضاء شهوته فى غير هذين ، فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ : الكاملون فى العدوان ، وفيه دليل على تحريم المتعة والاستمتاع بالكف لإرادة الشهوة لأن نكاح المتعة فاسد ، والمعدوم شرعا كالمعدوم حسا ، ويدل على فساده عدم التوارث فيه بالإجماع ، وكان فى أول الإسلام ثم نسخ.
وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ أي : لما يؤتمنون عليه ، ويعاهدون عليه من جهة الحق أو الخلق ، راعُونَ : حافظون عليها قائمون بها ، والراعي : القائم على الشيء بحفظ وإصلاح ، كراعى الغنم. وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ المفروضة عليهم يُحافِظُونَ : يداومون عليها فى أوقاتها. وأعاد الصلاة لأنها أهم ، ولأن الخشوع فيها زائد على المحافظة عليها ، ووحّدت أولا ليفاد أن الخشوع فى جنس الصلاة أيّة صلاة كانت ، وجمعت ثانيا ليفاد المحافظة على أنواعها من الفرائض والواجبات والسنن والنوافل. قاله النسفي.
أُولئِكَ الجامعون لهذه الأوصاف هُمُ الْوارِثُونَ الأحقاء بأن يسمّوا وارثين ، دون غيرهم ممن ورث رغائب الأموال والذخائر وكرائمها ، وقيل : إنهم يرثون من الكفار منازلهم فى الجنة ، حيث فوّتوها على أنفسهم ، لأنه تعالى خلق لكل إنسان منزلا فى الجنة ومنزلا فى النار ، ففى الحديث : «ما منكم من أحد إلّا وله منزلان :
منزل فى الجنّة ومنزل فى النّار ، فإن مات ودخل الجنّة ، ورث أهل النّار منزله ، وإن مات ودخل النّار ، ورث أهل الجنّة منزله» «1».
ثم ترجم الوارثين بقوله : الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ ، هو فى لغة الروم والحبشة : البستان الواسع ، الجامع لأصناف الثمر ، والمراد : أعلى الجنان ، استحقوا ذلك بأعمالهم المتقدمة حسبما يقتضيه الوعد الكريم ، هُمْ فِيها خالِدُونَ ، أنث الفردوس بتأويل الجنة ، أو لأنه طبقة من طبقاتها ، وهى العليا. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : قال القشيري : الفلاح : الفوز بالمطلوب ، والظّفر بالمقصود. والإيمان : انتسام الحقّ فى السريرة ، ومخامرة التصديق بخلاصة القلب ، واستكمال التحقيق من تامور الفؤاد «2». والخشوع فى الصلاة : إطراق السّرّ على بساط النّجوى ، باستكمال نعت الهيبة ، والذوبان تحت سلطان الكشف ، والانمحاء عند غلبات التّجلّي. ه.
قلت : كأنه فسر الفلاح والإيمان والخشوع بغايتهن ، فأول الفلاح : الدخول فى حوز الإسلام بحصول الإيمان ، وغايته : إشراق شمس العرفان ، وأول الإيمان : تصديق القلب بوجود الرب ، من طرق الاستدلال والبرهان ، وغايته :
___________
(1) أخرجه ابن ماجة فى (الزهد ، باب : صفة الجنة) ، عن أبى هريرة - رضى اللّه عنه.
(2) أي : داخل القلب.(3/563)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 564
إشراق أسرار الذات على السريرة ، فيصير الدليل محل العيان ، فتبتهج السريرة بمخامرة الذوق والوجدان ، وأول الخشوع : تدبر القلب فيما يقول ، وحضوره عند ما يفعل ، وغايته : غيبته عن فعله فى شهود معبوده ، فينمحى وجود العبد عند تجلى أنوار الرب ، فتكون صلاته شكرا لا قهرا ، كما قال سيد العارفين صلى اللّه عليه وسلم : «أفلا أكون عبدا شكورا».
ولا تتحقق هذه المقامات إلا بالإعراض عن اللغو ، وهو كل ما يشغل عن اللّه ، وتزكية النفوس ببذلها فى مرضاة اللّه ، وإمساك الجوارح عن محارم اللّه ، وحفظ الأنفاس والساعات ، التي هى أمانات عند العبد من اللّه.
قال فى القوت : قال بعض العارفين : إن للّه - عز وجل - إلى عبده سرّين يسرهما إليه ، يوجده ذلك بإلهام يلهمه ، أحدهما : إذا ولد وخرج من بطن أمه ، يقول له : عبدى ، قد أخرجتك إلى الدنيا طاهرا نظيفا ، واستودعتك عمرك ، ائتمنتك عليه ، فانظر كيف تحفظ الأمانة ، وانظر كيف تلقانى كما أخرجتك ، وسرّ عند خروج روحه ، يقول له : عبدى ، ما ذا صنعت فى أمانتى عندك؟ هل حفظتها حتى تلقانى على العهد والرعاية ، فألقاك بالوفاء والجزاء؟
أو أضعتها فألقاك بالمطالبة والعقاب؟ فهذا داخل فى قوله عز وجل : (وَ الَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ) ، وفى قوله عز وجل : وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ «1» ، فعمر العبد أمانة عنده ، إن حفظه فقد أدى الأمانة ، وإن ضيّعه فقد خان ، إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ «2». ه.
ثم ذكر ابتداء خلق الإنسان وأطواره وانتهاء أمره ، فقال :
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 12 الى 16]
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ (14) ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ (15) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ (16)
قلت : «خلق» : إن كان بمعنى اخترع وأحدث تعدى إلى واحد ، وإن كان بمعنى صيّر تعدى إلى مفعولين ، ومنه : (ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً) ، وما بعده.
يقول الحق جل جلاله : وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ جنس الإنسان ، أو آدم ، مِنْ سُلالَةٍ «من» :
للابتداء ، والسلالة : الخلاصة لأنها تسل من بين الكدر ، وهو ما سلّ من الشيء واستخرج منه ، فإن (فعالة) اسم لما
___________
(1) من الآية 40 من سورة البقرة.
(2) من الآية 58 من سورة الأنفال.(3/564)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 565
يحصل من الفعل ، فتارة يكون مقصودا منه ، كالخلاصة ، وتارة غير مقصود ، كالقلامة والكناسة ، والسلالة من قبيل الأول فإنها مقصودة بالسّل ، وقيل : إنما سمى التراب الذي خلق منه آدم سلالة ، لأنه سلّ من كل تربة. وقوله :
(مِنْ طِينٍ) ، بيان ، متعلقة بمحذوف ، صفة للسلالة ، أي : خلقناه من سلالة كائنة من طين.
ثُمَّ جَعَلْناهُ أي : الجنس ، باعتبار أفراده المتغايرة لآدم عليه السّلام ، وجعلنا نسله ، على حذف مضاف ، إن أريد بالإنسان آدم ، فيكون كقوله تعالى : وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ ، ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ «1» أي : جعلنا نسله نُطْفَةً : ماء قليلا فِي قَرارٍ مَكِينٍ أي : فى مستقر - وهو الرحم - (مَكِينٍ) : حصين ، أو متمكن فيه ، وصف الرحم بصفة ما استقر فيه ، مثل طريق سائر ، أي : مسير فيه.
ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً أي : دما جامدا ، بأن جعلنا النطفة البيضاء علقة حمراء ، (فخلقنا العلقة مضغة) أي : قطعة لحم لا استبانة ولا تمايز فيها ، فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ أي : غالبها ومعظمها ، أو كلها عِظاماً ، بأن صلبناها ، وجعلناها عمودا على هيئة وأوضاع مخصوصة ، تقتضيها الحكمة ، فَكَسَوْنَا الْعِظامَ المعهودة لَحْماً بأن أنبتنا عليها اللحم ، فصار لها كاللباس ، أو كسونا كل عظم من تلك العظام ما يليق به من اللحم ، على مقدار لائق به ، وهيئة مناسبة. وقرىء بالإفراد فيهما ، اكتفاء بالجنس ، وبتوحيد الأول فقط ، وبتوحيد الثاني فحسب.
ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ أي : خلقا مباينا للخلق الأول ، حيث جعله حيوانا ، وكان جمادا ، وناطقا وسميعا وبصيرا ، وكان بضد هذه الصفات ، ولذلك قال الفقهاء : من غصب بيضة فأفرخت عنده ضمّن البيضة ، ولم يردّ الفرخ لأنه خلق آخر سوى البيضة.
فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ أي : فتعالى أمره فى قدرته الباهرة ، وعلمه الشامل. والالتفات إلى الاسم الجليل لتربية المهابة ، وإدخال الروعة ، والإشعار بأنّ ما ذكر من الأفاعيل العجيبة من أحكام الألوهية ، وللإيذان بأنّ من حق كل من سمع ما فصّل من آثار قدرته تعالى أو لا حظه ، أن يسارع إلى التكلم به ، إجلالا وإعظاما لشؤونه تعالى ، وقوله : (أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) : بدل من اسم الجلالة ، أو نعت ، على أنّ الإضافة محضة ليطابقه فى التعريف ، أو خبر ، أي : هو أحسن الخالقين خلقا ، أي : أحسن المقدرين تقديرا ، فحذف التمييز لدلالة الخالقين عليه.
قيل : إنّ عبد اللّه بن أبى سرح كان يكتب الوحى للنبى صلى اللّه عليه وسلم ، فلمّا انتهى - عليه الصلاة والسّلام - إلى قوله :
خَلْقاً آخَرَ ، سارع عبد اللّه إلى النطق بذلك ، فنطق بذلك ، قبل إملائه ، فقال له رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : «اكتب ، هكذا
___________
(1) الآيتان 7 - 8 من سورة السجدة.(3/565)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 566
أنزلت» ، فشكّ عبد اللّه ، فقال : إن كان محمد يوحى إليه ، فأنا يوحى إلىّ ، فارتدّ ولحق بمكة كافرا ، ثم أسلم يوم الفتح. وقيل : الحكاية غير صحيحة لأن ارتداده كان بالمدينة ، والسورة مكية «1».
ثم قال تعالى : ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ أي : بعد ما ذكر من الأمور العجيبة ، حسبما ينبىء عنه ما فى اسم الإشارة من البعد ، المشعر بعلوّ مرتبة المشار إليه وبعد منزلته فى الفضل ، لَمَيِّتُونَ : لصائرون إلى الموت لا محالة ، كما يؤذن به صيغة الصفة ، وقرىء «لمائتون» ، ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أي : عند النفخة ، تُبْعَثُونَ فى قبوركم للحساب والمجازاة ، فإن قلت : لم أكدّ الأول بإنّ واللام ، وعبّر بالاسم دون الثاني ، الذي هو البعث ، والمتبادر للفهم العكس لأن الموت لم ينكره أحد ، والبعث أنكره الكفار والحكماء؟ فالجواب كما قال ابن عرفة : إنه من حمل اللفظ على غير ظاهره ، مثل :
جاء شقيق عارضا رمحه إنّ بنى عمّك فيهم رماح
فهم ، لعصيانهم ومخالفتهم ، لم يعملوا للموت ، فحالهم كحال المنكر لها ، ولمّا كانت دلائل البعث ظاهرة صار كالأمر الثابت الذي لا يرتاب فيه. ه.
الإشارة : اعلم أن الروح لها أطوار كأطوار البشرية ، من الضعف والقوة شيئا فشيئا ، باعتبار قوة اليقين والترقي إلى العلم باللّه ومشاهدته ، فتكون أولا صغيرة العلم ، ضعيفة اليقين ، تم تتربى بقوت القلوب وغذاء الأرواح فقوت القلوب : العمل الظاهر ، وقوت الأرواح : العمل الباطن ، فلا تزال تتقوت بالعمل الظاهر شيئا فشيئا حتى تقوى على كمال غايته ، ثم تنتقل إلى قوت العمل الباطن كالذكر القلبي ، والتفكر والاعتبار ، وجولان القلب فى ميادين الأغيار ، ثم دوام حضور القلب مع الحق على سبيل الاستهتار ، ثم يفتح لها ميادين الغيوب ، ويوسع عليها فضاء الشهود ، فيكون قوتها حينئذ رؤية المحبوب ، وهو غاية المطلوب ، فتبلغ مبلغ الرجال ، وتحوز مراتب الكمال ، ومن لم يبلغ هذا بقي فى مرتبة الأطفال ، ولا يمكن حصول هذا إلا بصحبة طبيب ماهر ، يعالجها ويربيها ، وينقلها من طور إلى طور ، وإلّا بقيت الروح مريضة لا تتقوت إلا بالمحسوسات ، وهى لا تشبع ولا تغنى من جوع. وباللّه التوفيق.
ولمّا ذكر ابتداء الإنسان وانتهاءه ، ذكّره بنعمه ، أو تقول : لما ذكر نعمة الإيجاد ذكر نعمة الإمداد ، فقال :
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 17 الى 22]
وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ (17) وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ (18) فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ لَكُمْ فِيها فَواكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (19) وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ (20) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (21)
وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (22)
___________
(1) انظر روح المعاني (18/ 16).(3/566)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 567
قلت : «سيناء» ، من فتحها : جعل همزتها للتأنيث ، فلم يصرفه للتأنيث والوصف ، كحمراء ، أو لألف التأنيث ، لقيامه مقام علتين ، ومن كسرها : لم يصرفه للتعريف والعجمة ، وهذا البناء ليس من أبنية التأنيث ، وإنما ألفه ألف الإلحاق ، كعلباء وجرباء. ونبت وأنبت : لغتان بمعنى واحد ، وكذلك سقى وأسقى.
يقول الحق جل جلاله : وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ ، وهى السموات السبع ، جمع طريقة لأنها طرق الملائكة وتقلباتها ، وطرق الكواكب ، فيها مسيرها ، وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ ، أراد بالخلق السموات ، كأنه قال : خلقناها وما غفلنا عن حفظها وإمساكها ، أو الناس ، أي : خلقناها فوقكم لنفتح عليكم منها الأرزاق والبركات ، وما كنا غافلين عنكم وعما يصلحكم ، أو : خلقناها فوقكم ، وما حالت بيننا وبينكم ، بل نحن أقرب إليكم من كل شىء ، فلا نغفل عن شىء من أمركم ، قلّ أو جلّ.
وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً هو المطر ، وقيل : الأنهار النازلة من الجنة ، وهى خمسة : سيحون نهر الهند ، وجيحون نهر بلخ ، ودجلة والفرات نهرا العراق ، والنيل نهر مصر ، أنزلها اللّه تعالى من عين واحدة من عيون الجنة. ه. وقوله تعالى : بِقَدَرٍ أي : بتقدير ، يسلمون معه من المضرة ، ويصلون إلى المنفعة ، أو بمقدار ما علمنا بهم من الحاجة ، أو : بقدر سابق لا يزيد عليه ولا ينقص ، فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ أي : جعلناه ثابتا قارا فيها ، كقوله : فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ «1» ، فماء الأرض كله من السماء ، وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ أي :
إزالته بالإفساد والتغوير ، بحيث يتعذر استنباطه ، لَقادِرُونَ كما كنا قادرين على إنزاله ، وفى تنكير «ذهاب» :
إيماء إلى كثرة طرقه ، ومبالغة فى الإيعاد به ، ولذلك كان أبلغ من قوله : قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ «2».
ثم ذكر نتائجه ، فقال : فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ أي : بذلك الماء جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ ، لَكُمْ فِيها أي :
فى الجنات ، فَواكِهُ كَثِيرَةٌ تتفكهون بها سوى النخيل والأعناب ، وَمِنْها تَأْكُلُونَ أي : من الجنات تأكلون
___________
(1) من الآية 21 من سورة الزمر.
(2) الآية 30 من سورة الملك.(3/567)