البحر المديد ، ج 2 ، ص : 317
ثم صرفه عن نفسه إلى غيره ، يصدق عليه قوله تعالى : وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ وكان من شر الدواب التي أشار إليهم تعالى بقوله :
[سورة الأنفال (8) : الآيات 22 الى 23]
إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (22) وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23)
يقول الحق جل جلاله : إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ وهو كل من يدب على وجه الأرض ، الصُّمُّ عن سماع الحق ، الْبُكْمُ عن النطق به ، الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ الحق ولا يعرفونه ، عدهم من البهائم ثم جعلهم شرها لإبطالهم ما ميزوا به وفضلوا لأجله ، وهو استعمال العقل فيما ينفعهم من التفكر والاعتبار. قال ابن قتيبة : نزلت هذه الآية فى بنى عبد الدار ، فإنهم جدوا فى القتال مع المشركين ، يعنى يوم بدر ، وحكمها عام.
وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً سعادة كتبت لهم ، أو انتفاعا بالآيات ، لَأَسْمَعَهُمْ سماع تفهم ، وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ ، مع كونه قد علم الأخير فيهم ، لَتَوَلَّوْا عنه ، ولم ينتفعوا به ، وارتدوا بعد التصديق والقبول ، وَهُمْ مُعْرِضُونَ عنه ، لعنادهم ، وقيل : إنهم طلبوا من النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أن يحيي لهم قصى بن كلاب ، ويشهد له بالرسالة ، حتى يسمعوا منه ذلك ، فأنزل اللّه : وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ كلامه بعد إحيائه ، وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ ، لسبق الشقاوة فى حقهم.
الإشارة : اعلم أن الأمر الذي شرف به الآدمي وفضل غيره هو معرفة خالقه ، واستعمال العقل فيما يقربه إليه ، وسماع الوعظ الذي يزجره عن غيه ، فإذا فقد هذا كان كالبهائم أو أضل ، ولله در ابن البنا ، حيث يقول فى مباحثه :
واعلم أنّ عصبة الجهّال بهائم فى صور الرّجال
واعلم أيضا أن بعض القلوب لا تقبل علم الحقائق ، فأشغلها بعلم الشرائع ، ولو علم فيها خيرا لأسمعها تلك الأسرار ، ولو أسمعها ، مع علمه بعدم قبولها ، لتولت عنها وأعرضت لضيق صدرها وعدم التفرغ لها.
ثم دل على ما فيه حياة القلوب ، فقال :
[سورة الأنفال (8) : آية 24]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24)(2/317)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 318
يقول الحق جل جلاله : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ أي : أجيبوه فيما دعاكم إليه ، وَلِلرَّسُولِ فيما دلكم عليه من الطاعة والإحسان ، إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ من العلوم الدينية فإنها حياة القلب ، كما أن الجهل موته ، أو إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ الحياة الأبدية ، فى النعيم الدائم ، من العقائد والأعمال ، أو من الجهاد ، فإنه سبب بقائكم إذ لو تركتموه لغلبكم العدو وقتلكم ، أو الشهادة ، لقوله تعالى : أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ «1» ، ووحد الضمير فى قوله : إِذا دَعاكُمْ باعتبار ما ذكر ، أو لأن دعوة الله تسمع من الرسول.
وفى البخاري : أن الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم دعا أبىّ بن كعب ، وهو فى الصّلاة ، فلم يجب ، فلما فرغ أجاب ، فقال له صلّى اللّه عليه وسلّم :
«ما منعك أن تجيبنى؟ فقال : كنت أصلى ، فقال : ألم تسمع قوله : اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ.» «2» فاختلف فيه العلماء ، فقيل لأن إجابته صلّى اللّه عليه وسلّم لا تقطع الصلاة ، فيجيب ، ويبقى على صلاته ، وقيل : إن دعاءه كان لأمر لا يقبل التأخير ، وللمصلى أن يقطع الصلاة لمثله ، كإنقاذ أعمى وشبهه.
ثم قال تعالى : وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ فينقله من الإيمان إلى الكفر ، ومن الكفر إلى الإيمان ، ومن اليقين إلى الشك ، ومن الشك إلى اليقين ، ومن الصفاء إلى الكدر ، ومن الكدر إلى الصفاء. قال البيضاوي : هو تمثيل لغاية قربه من العبد كقوله تعالى : وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ «3» ، وتنبيه على أنه مطلع على مكنونات القلوب ، مما عسى أن يغفل عنها صاحبها ، أو حث على المبادرة إلى إخلاص القلوب وتصفيتها ، قبل أن يحول اللّه بينه وبين قلبه بالموت أو غيره ، أو تصوير وتخييل لتملكه على العبد قلبه فيفسخ عزائمه ، ويغير مقاصده ، ويحول بينه وبين الكفر ، إن أراد سعادته ، وبينه وبين الإيمان ، إن قضى شقاوته. ه. وَاعلموا أيضا أَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ فيجازيكم بأعمالكم وعقائدكم.
الإشارة : قد جعل اللّه ، من فضله ورحمته ، فى كل زمان وعصر ، دعاة يدعون الناس إلى ما تحيا به قلوبهم ، حتى تصلح لدخول حضرة محبوبهم ، فهم خلفاء عن اللّه ورسوله ، فمن استجاب لهم وصحبهم حيى قلبه ، وتطهر سره ولبه ، ومن تنكب عنهم ماتت روحه فى أودية الخواطر والأوهام.
___________
(1) من الآية 169 من سورة آل عمران.
(2) أخرجه البخاري فى (تفسير سورة الأنفال - باب قول اللّه تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ ..) وفيه أن المدعو هو «أبو سعيد المعلى» وليس «أبى» أما حديث أبى فأخرجه الترمذي فى : (فضائل القرآن - باب ما جاء فى فضل فاتحة الكتاب) وأحمد فى المسند 5/ 114 والدارمي فى (فضائل القرآن - باب فضل فاتحة الكتاب) والحاكم فى المستدرك (1/ 558) وصححه ووافقه الذهبي. وقال الحافظ ابن حجر : وجمع البيهقي بأن القصة وقعت لأبى بن كعب ولأبى سعيد بن المعلى. راجع الفتح 8/ 158.
(3) الآية 16 من سورة ق.(2/318)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 319
وقوله تعالى : وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ حيلولة الحق تعالى بين المرء وقلبه هو تغطيته وحجبه عن شهود أسرار ذاته وأنوار صفاته ، بالوقوف مع الحس ، وشهود الفرق بلا جمع ، ويعبر عنه أهل الفن بفقد القلب ، فإذا قال أحدهم : فقدت قلبى ، فمعناه : أنه رجع لشهود حسه ووجود نفسه ، ووجدان القلب هو احتضاره بشهود معانى أسرار الذات وأنوار الصفات ، فيغيب عن نفسه وحسه ، وعن سائر الأكوان الحسية ، وفقدان القلب يكون بسبب سوء الأدب ، وقد يكون بلا سبب اختبارا من الحق تعالى ، هل يفزع إليه فى فقده أو يبقى مع حاله.
وقد تكلم الغزالي على القلب فقال ، فى أول شرح عجائب القلب من الإحياء : إن المطيع بالحقيقة لله هو القلب ، وهو العالم بالله ، والعامل لله ، وهو الساعي إلى اللّه ، والمتقرب إليه ، المكاشف بما عند اللّه ولديه ، وإنما الجوارح أتباع ، والقلب هو المقبول عند اللّه ، إذا سلّم من غير اللّه ، وهو المحجوب عن اللّه إذا صار مستغرقا فى غير اللّه ، وهو المطالب والمخاطب ، وهو المعاتب والمعاقب ، وهو الذي يسعد بالقرب من اللّه ، فيفلح إذا زكاه ، ويخيب ويشقى إذا دنسه ودساه. ثم قال : وهو الذي إذا عرفه الإنسان فقد عرف نفسه ، وإذا عرف نفسه فقد عرف ربه ، وإذا جهله فقد جهل نفسه ، وإذا جهل نفسه ، جهل ربه ، ومن جهل قلبه فهو لغيره أجهل ، وأكثر الناس جاهلون بقلوبهم وأنفسهم وقد حيل بينهم وبين أنفسهم ، فإن اللّه يحول بين المرء وقلبه ، وحيلولته بأن يمنعه عن مشاهدته ومراقبته ، ومعرفة صفاته ، وكيفية تقلبه بين أصبعين من أصابع الرحمن ، إلى أعلى عليين ، ويرتقى إلى عالم الملائكة المقربين ، ومن لم يعرف قلبه ليراقبه ويراعيه ، ويترصد ما يلوح من خزائن الملكوت عليه وفيه ، فهو ممن قال اللّه تعالى فيهم :
نَسُوا اللَّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ «1» الآية. ه.
وقد أنشد من وجد قلبه ، وعرف ربه ، وغنى بما وجد ، فقال :
أنا القرآن والسّبع المثاني وروح الرّوح لا روح الأوانى
فؤادى عند معلوم مقيم تناجيه وعندكم لسانى
فلا تنظر بطرفك نحو جسمى وعد عن التنعم بالأوانى
فأسرارى تراءت مبهمات مستّرة بأنوار المعاني
فمن فهم الإشارة فليصنها وإلّا سوف يقتل بالسنان
كحلّاج المحبة إذ تبدّت له شمس الحقيقة بالتدانى
___________
(1) الآية 19 من سورة الحشر.(2/319)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 320
ومن أسباب تشتت القلب وفقده دخول الفتنة عليه ، الذي أشار إليه بقوله :
[سورة الأنفال (8) : آية 25]
وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (25)
قلت : دخلت النون فى (لا تصيبن) لأنه فى معنى النهى ، على حد قوله : لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ «1».
انظر البيضاوي.
يقول الحق جل جلاله : وَاتَّقُوا فِتْنَةً ، إن نزلت ، لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً ، بل تعم الظالم وغيره ، ثم يبعث الناس على نيتهم ، وذلك كإقرار المنكر بين أظهركم ، والمداهنة فى الأمر بالمعروف ، واقتراف الكبائر ، وظهور البدع ، والتكاسل فى الجهاد ، وعن الفرائض ، وغير ذلك من أنواع الذنوب ، وفى الحديث :
«لتأمرنّ بالمعروف ولتنهونّ عن المنكر ، أو ليعمّنّكم اللّه بعذابه» «2». أو كما قال صلّى اللّه عليه وسلّم. قالت عائشة رضى اللّه عنه : أنهلك وفينا الصالحون؟ قال : «نعم ، إذا كثر الخبث» «3».
قال القشيري ، فى معنى الآية : احذروا أن ترتكبوا زلّة توجب لكم عقوبة لا تخص مرتكبها ، بل يعمّ شؤمها من تعاطاها ومن لم يتعاطاها. وغير المجرم لا يؤخذ بجرم من أذنب ، ولكن قد ينفرد واحد بجرم فيحمل أقوام من المختصين بفاعل هذا الجرم ، كأن يتعصبوا له إذا أخذ بحكم ذلك الجرم ، فبعد ألا يكونوا ظالمين يصيرون ظالمين بمعاونتهم وتعصبهم لهذا الظالم فتكون فتنة لا تختص بمن كان ظالما فى الحال ، بل تصيب أيضا ظالما فى المستقبل بسبب تعصبه لهذا الظالم ، ورضاه به. ه. وسيأتى تمامه فى الإشارة.
وحكى الطبري أنها نزلت فى على بن أبى طالب وعمار بن ياسر وطلحة والزبير ، وأن الفتنة ما جرى لهم يوم الجمل. ه. قال تعالى : وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ لمن ارتكب معاصيه وتسبب فى فتنة غيره.
الإشارة : فى القشيري ، لما تكلم على تفسير الظاهر ، قال : وأما من جهة الإشارة فإن العبد إذا باشر زلّة بنفسه عادت إلى القلب منها الفتنة ، وهى العقوبة المعجلة ، ونصيب النفس من الفتنة العقوبة ، والقلب إذا حصلت
___________
(1) من الآية 18 من سورة النمل.
(2) أخرجه بلفظ مقارب الإمام أحمد فى المسند (5/ 388). والترمذي فى (الفتن - باب ما جاء فى الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر) وحسنه. من حديث حذيفة بن اليمان. ولفظ الترمذي : «والذي نفسى بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ، أو ليوشكن اللّه أن يبعث عليكم عقابا منه ، ثم تدعونه فلا يستجاب لكم».
(3) أخرجه البخاري فى (المناقب ، باب علامات النبوة فى الإسلام) عن أم المؤمنين زينب بنت جحش مطولا. وفيه السائلة :
زينب ، وليست عائشة - رضى اللّه عن أزواجه نبينا الطاهرات.(2/320)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 321
منه فتنة ، وهو همه بما لا يجوز ، تعدّت فتنته إلى السر وهى الحجبة. وكذلك المقدّم فى شأنه ، إذا فعل ما لا يجوز ، انقطعت البركات التي كانت تتعدى منه إلى متّبعيه وتلامذته ، فكان انقطاع تلك البركات عنهم نصيبهم من الفتنة ، وهم لم يعملوا ذنبا ، ويقال : إن الأكابر إذا سكتوا عن التنكير على الأصاغر أصابتهم فتنة بتركهم الإنكار عليهم فيما فعلوا من الإجرام.
ثم قال : ويقال : إنّ الزاهد إذا انحط إلى رخصة الشرع فى أخذ الزيادة من الدنيا بما فوق الكفاية - وإن كانت من وجه حلال - تعدت فتنته إلى من يتخرج على يديه من المبتدئين ، فيحمله على ما رأى منه على الرغبة فى الدنيا ، وترك التقلل ، فيؤديه إلى الانهماك فى أودية الغفلة فى الأشغال الدنيوية. والعابد إذا جنح إلى سوء ترك الأوراد تعدّى ذلك إلى ما كان ينشط فى المجاهدة به ، ويتوطّن الكسل ، ثم يحمله الفراغ وترك المجاهدة على متابعة الشهوات ، فيصير كما قيل :
إن الشباب والفراغ والجدة مفسدة للمرء أي مفسدة»
فهذا يكون نصيبهم من الفتنة ، والعارف إذا رجع إلى ما فيه حظ له ، نظر إليه المريد فتتداخله فتنة فترة فيما هو به من صدق المنازلة ، فيكون ذلك نصيبه من فتنة العارف. وبالجملة : إذا غفل الملك ، وتشاغل عن سياسة رعيته ، تعطّل الجند والرعية ، وعظم فيهم الخلل والبليّة ، وفى معناه أنشدوا :
رعاتك ضيّعوا - بالجهل منهم غنيمات فساستها ذئاب.
انتهى كلامه رضى اللّه عنه.
ثم ذكّرهم بالنعم ، فقال :
[سورة الأنفال (8) : آية 26]
وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآواكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (26)
يقول الحق جل جلاله : وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ أي : اذكروا هذه النعمة ، حيث كنتم بمكة وأنتم قليل عددكم مع كثرة عدوكم ، مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ أي : أرض مكة ، يستضعفكم قريش ويعذبونكم ويضيقون عليكم ، تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ أي : قريش ، أو من عداهم ، فَآواكُمْ إلى المدينة ، وجعلها لكم مأوى
___________
(1) البيت لأبى العتاهية .. انظر : (نهاية الأرب 3/ 80 ومعاهد التنصيص 2/ 83).(2/321)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 322
تتحصنون بها من أعدائكم ، وَأَيَّدَكُمْ أي : قواكم بِنَصْرِهِ على الكفار ، أو بمظاهرة الأنصار ، أو بإمداد الملائكة يوم بدر ، وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ من الغنائم ، لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ هذه النعم.
والخطاب للمهاجرين ، وقيل : للعرب كافة فإنهم كانوا أذلاء فى أيدي فارس والروم ، يخافون أن يتخطفهم الناس من كثرة الفتن ، فكان القوى يأكل الضعيف منهم ، فآواهم اللّه إلى الإسلام ، فحصل بينهم الأمن والأمان ، وأيدهم بنصره ، حيث نصرهم على جميع الأديان ، وأعزهم بمحمد صلّى اللّه عليه وسلّم ، ورزقهم من الطيبات ، حيث فتح عليهم البلاد ، وملكوا ملك فارس والروم ، فملكوا ديارهم وأموالهم ، ونكحوا نساءهم وبناتهم ، لعلهم يشكرون.
الإشارة : التذكير بهذه النعمة يتوجه إلى خصوص هذه الأمة ، وهم الفقراء المتوجهون إلى اللّه ، فهم قليل فى كل زمان ، مستضعفون فى كل أوان ، حتى إذا تمكنوا وتهذبوا ، وطهروا من البقايا ، منّ عليهم بالنصر والعز والتأييد ، كما وعدهم بقوله : وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ ... الآية «1» ، والغالب عليهم شكر هذه النعم ، لما خصهم به من كمال المعرفة. واللّه تعالى أعلم.
ثم نهاهم عن الخيانة ، فقال :
[سورة الأنفال (8) : الآيات 27 الى 28]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (27) وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (28)
يقول الحق جل جلاله : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ بتضييع أوامره وارتكاب نواهيه ، وَالرَّسُولَ بمخالفة أمره وترك سنته ، أو بالغلول فى الغنائم ، أو بأن تبطنوا خلاف ما تظهرون.
قيل : نزلت فى أبى لبابة فى قصة بنى قريظة. روى أنه صلّى اللّه عليه وسلّم حاصرهم إحدى وعشرين ليلة ، فسألوا الصلح كما صالح إخوانهم بنى النّضير ، على أن يصيروا إلى إخوانهم بأذرعات وأريحا من الشّام ، فأبى إلا أن ينزلوا على حكم سعد بن معاذ ، فأبوا وقالوا : أرسل لنا أبا لبابة ، وكان مناصحا لهم لأنّ عياله وماله فى أيديهم ، فبعثه إليهم ، فقالوا :
ما ترى؟ هل ننزل على حكم سعد؟ فأشار إلى حلقه ، أنه الذّبح ، فقال أبو لبابة : فما زالت قدماى حتّى علمت أنّى قد خنت اللّه ورسوله ، فنزل وشدّ نفسه إلى سارية فى المسجد ، وقال : واللّه لا أذوق طعاما ولا شرابا حتى أموت ، أو يتوب اللّه علىّ ، فمكث سبعة أيام حتى خرّ مغشيا عليه ، ثم تاب اللّه عليه ، فقيل له : قد تيب عليك فحلّ نفسك ، فقال :
___________
(1) الآية 5 من سورة القصص.(2/322)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 323
لا واللّه لا أحلها حتى يكون رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم هو الذي يحلنى ، فجاء رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فحلّه ، فقال : إنّ من تمام توبتى أن أهجر دار قومى الّتى أصبت فيها الذّنب ، وأن أنخلع من مالى ، فقال صلّى اللّه عليه وسلّم : «يجزيك الثّلث أن تتصدّق به» «1».
ثم قال تعالى : وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ فيما بينكم ، أو فيما أسر الرسول إليكم من السر فتفشوه ، وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أن الخيانة ليست من شأن الكرام ، بل هى من شأن اللئام ، كما قال الشاعر :
لا يكتم السرّ إلا كلّ ذى ثقة فالسرّ عند خيار النّاس مكتوم
أو : وأنتم علماء تميزون الحسن من القبيح.
وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ
لأنه سبب الوقوع فى الإثم والعقاب ، أو محنة من اللّه تعالى ليبلوكم فيهم ، فلا يحملنكم حبهم على الخيانة ، كما فعل أبو لبابة. وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ
لمن آثر رضا اللّه ومحبته عليهم ، وراعي حدود اللّه فيهم ، فعلّقوا هممكم بما يؤديكم إلى أجره العظيم ، ورضاه العميم ، حتى تفوزوا بالخير الجسيم.
الإشارة : خيانة اللّه ورسوله تكون بإظهار الموافقة وإبطان المخالفة ، بحيث يكون ظاهره حسن وباطنه قبيح ، وهذا من أقبح الخيانة ، وينخرط فيه إبطان الاعتراض على المشايخ وإظهار الوفاق ، وهو من أقبح العقوق لهم ، وأما خيانة الأمانة فهى إفشاء أسرار الربوبية لغير أهلها ، فمن فعل ذلك فسيف الشريعة فوق رأسه ، إذا كان سالكا غير مجذوب ، لأن من أفشى سر الملك استحق القتل ، وكان خائنا ، ومن كان خائنا لا يؤمن على السر ، فهو حقيق أن ينزع منه ، إن لم يقتل أو يتب ، ولله در القائل :
سأكتم علمى عن ذوى الجهل طاقتى «2» ولا أنثر الدّر النفيس على البهم
فإن قدّر اللّه الكريم بلطفه ولا قيت أهلا للعلوم وللحكم
بذلت علومى واستفدت علومهم وإلّا فمخزون لدىّ ومكتتم
___________
(1) أخرجه عن قتادة - مرسلا - ابن جرير فى التفسير ، وعزاه السيوطي فى الدر المنثور لسعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبى حاتم وأبى الشيخ وابن جرير. [.....]
(2) إذا لم يعلم الجاهل وكتمنا عنه العلم ، فما فائدة العلم إذن ..؟!(2/323)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 324
ثم دلهم على ما فيه دواء القلوب ومحو العيوب ، فقال :
[سورة الأنفال (8) : آية 29]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)
يقول الحق جل جلاله : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ ، كما أمركم ، يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً نورا فى قلوبكم ، تفرقون به بين الحق والباطل ، والحسن والقبيح. قال ابن جزى : وذلك دليل على أن التقوى تنور القلب ، وتشرح الصدر ، وتزيد فى العلم والمعرفة. ه. أو : نصرا يفرق بين المحق والمبطل بإعزاز المؤمنين وإذلال الكافرين ، أو مخرجا من الشبهات ، أو نجاة مما تحذرون فى الدارين من المكروهات ، أو ظهورا يشهر أمركم ويثبت صيتكم ، من قولهم : سطع فرقان الصبح ، أي : نوره ، وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ أي : يسترها ، فلا يفضحكم يوم القيامة ، وَيَغْفِرْ لَكُمْ يتجاوز عن مساوئكم ، أو يكفر صغائركم ويغفر كبائركم ، أو يكفر ما تقدم ويغفر ما تأخر ، وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ، ففضله أعظم من كل ذنب ، وفيه تنبيه على أن ما وعده لهم على التقوى تفضل منه وإحسان ، لا أن تقواهم أوجبت ذلك عليه ، كالسيد إذا وعد عبده أن يعطيه شيئا فى مقابلة عمل أمره به ، مع أنه واجب عليه لا محيد له عنه. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : الفرقان الذي يلقيه اللّه فى قلوب المتقين من المتوجهين هو نور الواردات الإلهية ، التي ترد على القلوب من حضرة الغيوب ، وهى ثلاثة أقسام : وارد الانتباه : وهو نور يفرق به بين الغفلة واليقظة ، وبين البطالة والنهوض إلى الطاعة ، فيترك غفلته وهواه ، وينهض إلى مولاه ، ووارد الإقبال : وهو نور يفرق به بين الوقوف مع ظلمة الحجاب وبين السير إلى شهود الأحباب ، ووارد الوصال : وهو نور يفرق به بين ظلمة الأكوان ، ونور الشهود ، أو بين ظلمة سحاب الأثر وشهود شمس العرفان.
وإلى هذه الواردات الثلاثة أشار فى الحكم بقوله : «إنما أورد عليك الوارد لتكون به عليه واردا ، أورد عليك الوارد ليسلمك من يد الأغيار ، ويحررك من رق الآثار ، أورد عليك الوارد ليخرجك من سجن وجودك إلى فضاء شهودك».
ثم ذكّر نبيه صلّى اللّه عليه وسلّم بما فعل معه من الحفظ والرعاية من أعدائه اللئام ، فقال :
[سورة الأنفال (8) : آية 30]
وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (30)(2/324)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 325
يقول الحق جل جلاله : وَاذكر ، يا محمد ، نعمة اللّه عليك بحفظه ورعايته لك إِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا من قريش ، حين اجتمعوا فى دار الندوة لِيُثْبِتُوكَ أي : يحبسوك فى الوثاق والسجن ، أَوْ يَقْتُلُوكَ بسيوفهم ، أَوْ يُخْرِجُوكَ من مكة.
وذلك أنهم لما سمعوا بإسلام الأنصار ومبايعتهم للنبى صلّى اللّه عليه وسلّم ، خافوا على أنفسهم ، واجتمعوا فى دار الندوة متشاورين فى أمره ، فدخل عليهم إبليس فى صورة شيخ ، وقال : أنا من نجد ، سمعت اجتماعكم فأردت أن أحضركم ، ولن تعدموا منى رأيا ونصحا ، فقال أبو البحتري : أرى أن تحبسوه فى بيت ، وتسدوا منافذه ، غير كوة تلقون إليه طعامه وشرابه فيها ، حتى يموت ، فقال الشيخ : بئس الرأى ، يأتيكم من يقاتلكم من قومه ، ويخلصه من أيديكم. فقال هشام بن عمرو : أرى أن تحملوه على جمل ، فتخرجوه من أرضكم ، فلا يضركم ما صنع ، فقال الشيخ :
بئس الرأى ، يفسد قوما غيركم ويقاتلكم بهم. فقال أبو جهل : أنا أرى أن تأخذوا من كل بطن غلاما ، وتعطوه سيفا ، فتضربوه ضربة واحدة ، فيتفرق دمه فى القبائل ، فلا يقوى بنو هاشم على حرب قريش كلهم ، فإن طلبوا العقل عقلناه. فقال الشيخ : صدق هذا الفتى ، فتفرقوا على رأيه ، فأتى جبريل النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وأخبره الخبر ، وأمره بالهجرة ، فبيت علّيا رضى اللّه عنه على مضجعه ، وخرج مع أبى بكر إلى الغار ، ثم سافر مهاجرا إلى المدينة «1».
قال تعالى : وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ برد مكرهم عليهم ، أو مجازاتهم عليه ، أو بمعاملة الماكرين معهم ، بأن أخرجهم إلى بدر ، وقلل المسلمين فى أعينهم ، حتى تجرءوا على قتالهم ، فقتلوا وأسروا ، وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ إذ لا يؤبه بمكرهم دون مكره ، وإسناد أمثال هذا مما يحسن ، للمزاوجة ، ولا يجوز إطلاقها ابتداء لما فيه من إيهام الذم. قاله البيضاوي.
الإشارة : وإذ يمكر بك أيها القلب الذين كفروا ، وهم القواطع من العلائق والحظوظ والشهوات ، ليحبسوك فى سجن الأكوان ، مسجونا بمحيطاتك ، محصورا فى هيكل ذاتك ، أو يقتلوك بالغفلة والجهل وتوارد الخواطر والأوهام ، أو يخرجوك من حضرة ربك إلى شهود نفسك ، أو من صحبة العارفين إلى مخالطة الغافلين ، أو من حصن طاعته إلى محل الهلاك من موطن معصيته ، أو من دائرة الإسلام إلى الزيغ والإلحاد ، عائذا بالله من المحن ، واللّه خير الماكرين ، فيرد كيد الماكرين ، وينصر أولياءه المتوجهين والواصلين. وبالله التوفيق.
___________
(1) أخرجه ابن جرير فى التفسير ، وأبو نعيم فى الدلائل (باب عصمة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم حين تعاهد المشركون على قتله) عن ابن عباس ، وأخرجه عبد الرزاق ، فى المصنف : (المغازي ، باب من هاجر إلى الحبشة) عن عروة بن الزبير. وأخرجه ابن سعد فى الطبقات (باب خروج رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وأبى بكر إلى المدينة) عن عائشة رضى اللّه عنها ..(2/325)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 326
ثم ذكر مساوئ أهل المكر ، فقال :
[سورة الأنفال (8) : آية 31]
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (31)
قلت : «إذا» : ظرفية شرطية ، خافضة لشرطها ، معمولة لجوابها ، أي : قالوا وقت تلاوة الآيات : لو نشاء ... إلخ.
يقول الحق جل جلاله : وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا القرآنية قالُوا قَدْ سَمِعْنا ما تتلوه علينا ، لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ أي : أخبارهم المسطورة أو أكاذيبهم المختلقة. قال البيضاوي : وهذا قول النّضر بن الحارث ، وإسناده إلى الجمع إسناد ما فعله رئيس القوم إليهم ، فإنه كان قاصهم ، أي : يقص عليهم أخبار فارس والروم ، فإذا سمع القرآن يقص أخبار الأنبياء قال : لو شئت لقلت مثل هذا ، أو قول الذين ائتمروا فى شأنه : وهذا غاية مكائدهم ، وفرط عنادهم ، إذ لو استطاعوا ذلك لسارعوا إليه ، فما منعهم أن يشاوءا وقد تحداهم وقرعهم بالعجز عشر سنين ، ثم قارعهم بالسيف ، فلم يعارضوا ، مع أنفتهم وفرط استنكافهم أن يغلبوا ، خصوصا فى باب البيان؟ ه. بالمعنى.
الإشارة : هذه المقالة بقيت سنة فى أهل الإنكار على أهل الخصوصية ، إذا سمعوا منهم علوما لدنية ، أو أسرارا ربانية ، أو حكما قدسية ، قالوا : لو نشاء لقلنا مثل هذا ، وهم لا يقدرون على كلمة واحدة من تلك الأسرار ، وهذا الغالب على المعاصرين لأهل الخصوصية ، دون من تأخر عنهم ، فإنهم مغرورون عنده ، وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا «1».
ثم ذكر استعجالهم للعذاب عنادا وعتوا ، فقال :
[سورة الأنفال (8) : آية 32]
وَإِذْ قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (32)
قلت : «الحق» : خبر كان.
___________
(1) من الآية 43 من سورة فاطر.(2/326)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 327
يقول الحق جل جلاله : وَاذكر إِذْ قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا الذي أتى به محمد هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ كأصحاب لوط ، أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ ، قيل : القائل هذا هو النّضر بن الحارث ، وهو أبلغ فى الجحود. روى أنه لما قال : «إن هذا إلا أساطير الأولين» ، قال له النبي صلّى اللّه عليه وسلّم : «ويلك إنه كلام اللّه» فقال هذه المقالة. والذي فى صحيحى البخاري ومسلم : أن القائل هو أبو جهل «1» ، وقيل : سائر قريش لمّا كذبوا النبي صلّى اللّه عليه وسلّم دعوا على أنفسهم ، زيادة فى تكذيبهم وعتوهم. وقال الزمخشري : ليس بدعاء ، وإنما هو جحود ، أي : إن كان هذا هو الحق فأمطر علينا ، لكنه ليس بحق فلا نستوجب عقابا. بالمعنى.
الإشارة : قد وقعت هذه المقالة لبعض المنكرين على الأولياء ، فعجلت عقوبته ، ولعل ذلك الولي لم تتسع دائرة حلمه ومعرفته ، وإلا لكان على قدم نبيه صلّى اللّه عليه وسلّم حيث قال اللّه تعالى فى شأنه :
[سورة الأنفال (8) : الآيات 33 الى 34]
وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33) وَما لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (34)
يقول الحق جل جلاله : وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ موجود فِيهِمْ ، ونازل بين أظهرهم ، وقد جعلتك رحمة للعالمين ، خصوصا عشيرتك الأقربين ، وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ قيل : كانوا يقولون : غفرانك اللهم ، فلما تركوه عذبوا يوم بدر ، وقيل : وفيهم من يستغفر ، وهو من بقي فيهم من المؤمنين ، فلما هاجروا كلهم عذبوا ، وقيل : على الفرض والتقدير ، أي : ما كان اللّه ليعذبهم لو آمنوا واستغفروا.
قال بعض السلف : كان لنا أمانان من العذاب : النبي صلّى اللّه عليه وسلّم والاستغفار ، فلما مات النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ذهب الأمان الواحد وبقي الآخر «2» ، والمقصود من الآية : بيان ما كان الموجب لإمهاله لهم والتوقف على إجابة دعائهم ، وهو وجوده صلّى اللّه عليه وسلّم أو من يستغفر فيهم.
ثم قال تعالى : وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ أي : وأىّ شىء يمنع من عذابهم؟ وكيف لا يعذبون وَهُمْ يَصُدُّونَ الناس عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ؟ أي : يمنعون المتقين من المسجد الحرام ، ويصدون رسوله عن
___________
(1) أخرجه البخاري فى (تفسير سورة الأنفال) ومسلم فى (صفات المنافقين ، باب فى قوله تعالى : وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ) من حديث أنس بن مالك رضى اللّه عنه.
(2) رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم باق فينا بهديه وسنته ، وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ.(2/327)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 328
الوصول إليه. وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ المستحقين لولايته مع شركهم وكفرهم ، وهو ردّ لما كانوا يقولون : نحن ولاة البيت الحرام فنصد من نشاء وندخل من نشاء. قال تعالى : إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ أي : ما المستحقون لولايته إلا المتقون ، الذين يتقون الشرك والمعاصي ، ولا يعبدون فيه إلا اللّه ، ويعظمونه ، حق تعظيمه. وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ أن لا ولاية لهم عليه ، وإنما الولاية لأهل الإيمان ، وكأنه نبه بالأكثر على أن منهم من يعلم ذلك ويعاند ، أو أراد به الكل ، كما يراد بالقلة العدم. قاله البيضاوي.
الإشارة : قد جعل اللّه رسوله صلّى اللّه عليه وسلّم أمانا لأمته ما دام حيّا ، فلما مات صلّى اللّه عليه وسلّم بقيت سنته أمانا لأمته ، فإذا أميتت سنته أتاهم ما يوعدون من البلاء والفتن ، وكذلك خواص خلفائه ، وهم العارفون الكبار ، فوجودهم أمان للناس ، فقد قالوا : إن الإقليم الذي يكون فيه القطب لا يصيبه قحط ولا بلاء ، ولا هرج ولا فتن لأنه أمان لذلك الإقليم ، خلافة عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم. واللّه تعالى أعلم.
ثم ذكر تلاعبهم بالدين ، فقال :
[سورة الأنفال (8) : آية 35]
وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (35)
يقول الحق جل جلاله : وَما كانَ صَلاتُهُمْ التي يصلونها فى بيت اللّه الحرام ، ويسمونها صلاة ، أو ما يضعون موضعها ، إِلَّا مُكاءً أي : تصفيرا بالفم ، كما يفعله الرعاة ، وَتَصْدِيَةً أي : تصفيقا باليد ، الذي هو من شأن النساء ، مأخوذ من الصدى ، وهو صوت الجبال والجدران. قال ابن جزى : كانوا يفعلون ذلك إذا صلى المسلمون ، ليخلطوا عليهم صلاتهم.
وقال البيضاوي : روى أنهم كانوا يطوفون بالبيت عراة ، الرجال والنساء ، مشبكين بين أصابعهم ، يصفرون فيها ويصفقون ، وقيل : كانوا يفعلون ذلك إذا أراد النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أن يصلى ، يخلطون عليه ، ويرون أنهم يصلون أيضا ، ومساق الآية : تقرير استحقاقهم العذاب المتقدم فى قوله : وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ ، أو عدم ولايتهم للمسجد ، فإنها لا تليق بمن هذه صلاته. ه.
قال تعالى : فَذُوقُوا الْعَذابَ الذي طلبتم ، وهو القتل والأسر يوم بدر ، فاللام للعهد ، والمعهود : (أو ائتنا بعذاب أليم) ، أو عذاب الآخرة ، بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ أي : بسبب كفركم اعتقادا وعملا.
الإشارة : وما كان صلاة أهل الغفلة عند بيت قلوبهم إلا ملعبة للخواطر والهواجس ، وتصفيقا للوسواس والشيطان ، وذلك لخراب بواطنهم من النور ، حتى سكنتها الشياطين واستحوذت عليها ، والعياذ بالله ، فيقال لهم :
ذوقوا عذاب الحجاب والقطيعة ، بما كنتم تكفرون بطريق الخصوص وتبعدون عنهم. واللّه تعالى أعلم.(2/328)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 329
ولما سلمت عير قريش من النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ، ووقعت غزوة بدر ، وكان مات فيها صناديدهم ، حبس أبو سفيان ذلك المال ، وأنفقه فى حرب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ، فأنزل اللّه فى ذلك وفى غيره ، ممن أنفق فى إعانة الكفار على حرب المسلمين قوله :
[سورة الأنفال (8) : الآيات 36 الى 37]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36) لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (37)
يقول الحق جل جلاله : إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا بذلك عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ، ويحاربون اللّه ورسوله. قيل : نزلت فى أصحاب العير فإنه لما أصيب قريش ببدر قيل لهم : أعينوا بهذا المال على حرب محمد ، لعلنا ندرك منه ثأرنا ، ففعلوا ، وقيل : فى المطعمين يوم بدر ، وكانوا اثنى عشر رجلا من قريش ، يطعم كل واحد منهم ، كل يوم ، عشر جزر ، وقيل : فى أبى سفيان ، استأجر ليوم أحد ألفين من العرب ، وأنفق عليهم أربعين أوقية.
قال تعالى : فَسَيُنْفِقُونَها بتمامها ، ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً يتأسفون على إنفاقها من غير فائدة ، فيصير إنفاقها ندما وغما ، لفواتها من غير حصول المقصود ، وجعل ذاتها تصير حسرة ، وهى عاقبة إنفاقها مبالغة.
قال البيضاوي : ولعل الأول إخبار عن إنفاقهم فى تلك الحال ، وهو إنفاق بدر ، والثاني عن إنفاقهم فيما يستقبل ، وهو إنفاق غزوة أحد ، ويحتمل أن يراد بهما واحد ، على أن مساق الأول لبيان غرض الإنفاق ، ومساق الثاني لبيان عاقبته ، وهو لم يقع بعد. ه. قلت : وهذا الأخير هو الأحسن.
ثم ذكر وعيدهم فقال : وَالَّذِينَ كَفَرُوا أي : الذين ثبتوا على الكفر منهم إذ أسلم بعضهم ، إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ يضمون ويساقون ، لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ الكافرين من المؤمنين ، أو الفساد من الصلاح ، أو ما أنفقه المشركون فى عداوة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ، وما أنفقه المسلمون فى نصرته ، أي : حشرهم إليه ليفرق بين الخبيث والطيب ، وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ أي : يجمعه ، أو يضم بعضه إلى بعض ، حتى يتراكموا من فرط ازدحامهم ، فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ كله ، أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ الكاملون فى الخسران ، لأنهم خسروا أنفسهم وأموالهم ، والإشارة تعود على الخبيث لأنه بمعنى الفريق الخبيث ، أو على المنفقين ليصدوا عن سبيل اللّه. واللّه تعالى أعلم.(2/329)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 330
الإشارة : كل من أنفق ماله فى لهو الدنيا وفرجتها ، من غير قصد حسن ، بل لمجرد الحظ والهوى ، تكون عليه حسرة وندامة ، تنقضى لذاته وتبقى تبعاته ، وهو من كفران نعمة المال ، فهو معرض للزوال ، وإن بقي فهو استدراج ، وعلامة إنفاقه فى الهوى : أنه إن أتاه فقير يسأله درهما منعه ، وينفق فى النزهة والفرجة الثلاثين والأربعين ، فهذا يكون إنفاقه حسرة عليه ، والعياذ بالله.
ثم ندب إلى التوبة ، فقال :
[سورة الأنفال (8) : آية 38]
قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ (38)
يقول الحق جل جلاله : قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا كقريش وغيرهم : إِنْ يَنْتَهُوا عن الكفر ومعاداة الرسول بالدخول فى الإسلام ، يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ من ذنوبهم ، ولو عظمت ، وَإِنْ يَعُودُوا إلى الكفر وقتاله فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ أي : مضت عادتى مع الذين تحزبوا على الأنبياء بالتدمير والهلاك ، كعاد وثمود وأضرابهم ، وكما فعل بهم يوم بدر ، فليتوقعوا مثل ذلك ، وهو تهديد وتخويف.
الإشارة : قل للمنهمكين فى الذنوب والمعاصي : لا تقنطوا من رحمتى ، فإنى لا يتعاظمنى ذنب أغفره ، فإن تنتهوا أغفر لكم ما قد سلف. وأنشدوا :
يستوجب العفو الفتى ، إذا اعترف بما جنى ، وما أتى ، وما اقترف
لقوله : (قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف)
وللشافعى رضى اللّه عنه :
فلمّا قسا قلبى وضاقت مذاهبى جعلت الرّجا منّى لعفوك سلّما
تعاظمنى ذنبى ، فلما قرنته بعفوك ربّى ، كان عفوك أعظما
فما زلت ذا جود وفضل ومنّة تجود وتعفو منّة وتكرّما
فإن لم ينته المنهمك فى الهوى فقد مضت سنة اللّه فيه بالطرد والإبعاد ، ويخاف عليه سوء الختام ، والعياذ بالله.(2/330)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 331
ثم أمر بجهاد من لم ينته عن كفره ، فقال :
[سورة الأنفال (8) : الآيات 39 الى 40]
وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (39) وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (40)
يقول الحق جل جلاله : وقاتلوا من لم ينته عن كفره حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ ، أي : حتى لا يوجد منهم شرك ، فهو كقوله عليه الصلاة السلام : «أمرت أن أقاتل النّاس حتّى يقولوا : لا إله إلّا اللّه» «1». وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ بحيث تضمحل الأديان الباطلة ويظهر الدين الحق ، فَإِنِ انْتَهَوْا عن الكفر وأسلموا ، فَإِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ فيجازيهم على انتهائهم ، وقرأ يعقوب بتاء الخطاب على معنى : فإن اللّه بما تعملون يا معشر المسلمين من الجهاد ، والدعوة إلى الإسلام ، والإخراج من ظلمة الكفر إلى نور الإيمان ، بَصِيرٌ فيجازيكم ، ويضاعف أجوركم بمن أسلم على أيديكم.
وَإِنْ تَوَلَّوْا ، ولم ينتهوا عن كفرهم ، فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ ناصركم ، فثقوا به ولا تبالوا بمعاداتهم ، نِعْمَ الْمَوْلى فلا يضيع من تولاه ، وَنِعْمَ النَّصِيرُ فلا يغلب من نصره.
الإشارة : يؤمر المريد بجهاد القواطع والعلائق والخواطر ، حتى لا يبقى فى قلبه فتنة بشىء من الحس ، ويكون القلب كله لله ، فإن انتهت القواطع فإن اللّه بصير به ، يجازيه على جهاده ، ومجازاته : إدخاله الحضرة المقدسة ، مع المقربين ، وإن لم ينته فليستمر على مجاهداته وانقطاعه إلى ربه ، وليستنصر به فى مجاهدته ، فإن اللّه مولاه وناصره ، وهو نعم المولى ونعم النصير.
ثم ذكر قسم الغنائم التي تنشأ عن القتال ، فقال :
[سورة الأنفال (8) : آية 41]
وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (41)
___________
(1) أخرجه البخاري فى (الاعتصام - باب الاقتداء بسنن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم) ومسلم فى (الإيمان - باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا :
لا إله إلا اللّه) من حديث أبى هريرة رضى اللّه عنه.(2/331)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 332
قلت : (فأن لله) : مبتدأ حذف خبره ، أي : فكون خمسه لله ثابت ، أو خبر ، أي : فالواجب كون خمسه لله.
يقول الحق جل جلاله : وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ مما أخذتموه من الكفار قهرا بالقتال ، لا الذي هربوا عنه بلا قتال ، فكله للإمام فىء ، يأخذ حاجته ويصرف باقيه فى مصالح المسلمين ، ولا الذي طرحه العدو خوف الغرق ، فلواجده ، بلا تخميس ، وكذا ما أخذه من كان ببلاد العرب على وجه التلصيص ، فأما ما أخذه بالقتال : فلله خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ الجمهور على أن ذكر اللّه للتعظيم كقوله : وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ «1» ، وإنما المراد : قسم الخمس على الخمسة الباقية.
واختلف العلماء فى الخمسة ، فقال مالك : الرأى للإمام ، يلحقه ببيت الفيء ، ويعطى من ذلك البيت لقرابة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ما رءاه ، كما يعطى منه اليتامى والمساكين وغيرهم ، وإنما ذكر من ذكر على جهة التنبيه عليهم ، لأنهم من أهم ما يدفع إليهم. وقال الشافعي : يعطى للخمسة المعطوفة على (اللّه) ، ولا يجعل لله سهما مختصا ، وإنما ذكر ابتداء تعظيما ، لأن الكل ملكه ، وسهم الرسول يأخذه الإمام ، يصرفه فى المصالح ، فيعطى للأربعة المعطوفة على الرسول ، ويفضل أهل الحاجة. وقال مالك : لا يجب التعميم ، فله أن يعطى الأحوج ، وإن حرم غيره ، ومبنى الخلاف : هل اللام لبيان المصرف أو للاستحقاق ، كما فى آية الزكاة.
وقال أبو حنيفة : على ثلاثة أسهم ، لليتامى والمساكين وابن السبيل ، قال : وسقط الرسول وذوو القربى بوفاته عليه الصلاة والسلام. وقال أبو العالية : يقسم على ستة ، أخذا بظاهر الآية ، ويصرف سهم اللّه إلى الكعبة ، وسهم الرسول فى مصالح المسلمين ، وسهم ذوى القربى لأهل البيت الذين لا تحل لهم الزكاة ، ثم يعطى سهم اليتامى والمساكين وابن السبيل.
قال البيضاوي : وذوو القربى : بنو هاشم ، وبنو المطلب ، لما روى : أنه صلّى اللّه عليه وسلّم قسم سهم ذوى القربى عليهما ، فقال عثمان وجبير بن مطعم : هؤلاء إخوانك بنو هاشم لا ننكر فضلهم لمكانك الذي جعلك اللّه منهم ، أرأيت إخواننا من بنى المطّلب ، أعطيتهم وحرمتنا ، وإنّما نحن وهم بمنزلة واحدة؟ فقال عليه الصلاة والسلام : «إنّهم لم يفارقونا فى جاهليّة ولا إسلام» وشبّك بين أصابعه «2». وقيل : بنو هاشم وحدهم. قلت : وهو مشهور مذهب مالك - وقيل : جميع قريش. ه.
___________
(1) من الآية 62 من سورة التوبة.
(2) أخرجه أبو داود فى (الخراج - باب فى بيان مواضع قسم الخمس) وابن ماجه فى (الجهاد - باب قسمة الخمس) من حديث جبير بن مطعم. وفى البخاري بعضه ، راجع صحيح البخاري (فرض الخمس - باب : ومن الدليل على أن الخمس للإمام).(2/332)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 333
ثم قال تعالى : إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ ، أي : إن كنتم آمنتم بالله فاعلموا أنه جعل الخمس لهؤلاء ، فسلموه إليه ، واقنعوا بالأخماس الأربعة ، وَما وكذا إن كنتم آمنتم بما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا محمد صلّى اللّه عليه وسلّم من القرآن ، فى شأن الأنفال ، ومن النصر والملائكة ، يَوْمَ الْفُرْقانِ يوم بدر ، فإنه فرّق فيه بين الحق والباطل ، يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ المسلمون والكفار ، وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فيقدر على نصر القليل على الكثير ، بالإمداد بالملائكة ، وبلا إمداد ، ولكن حكمته اقتضت وجود الأسباب والوسائط ، واللّه حكيم عليم.
الإشارة : واعلموا أنما غنمتم من شىء من العلوم اللدنية ، والمواهب القدسية ، والأسرار الربانية ، بعد مجاهدة العلائق والعوائق ، حتى صار دين القلب كله للّه ، فلله خمسه فناء ، وللرسول بقاء ، ولذى القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل تعظيما وآدابا. يعنى : أن العلم بالله يقتضى القيام بهذه الوظائف : الفناء فى اللّه ، بالغيبة عما سواه ، وشهود الداعي الأعظم ، وهو رسول اللّه ، والأدب مع عباد اللّه ، ليتحقق الأدب مع اللّه. واللّه تعالى أعلم بأسرار كتابه.
ثم بيّن يوم الفرقان ، فقال :
[سورة الأنفال (8) : الآيات 42 الى 44]
إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَواعَدْتُمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ وَلكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (42) إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (43) وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (44)
قلت : (إذ) : بدل من (يوم الفرقان) ، أو ظرف لالتقى ، أو لاذكر ، محذوفة ، والعدوة مثلث العين : شاطىء الوادي ، و(الدنيا) أي : القربى ، نعت له ، و(القصوى) : تأنيث الأقصى ، وكان قياسه : قلب الواو ياء ، كالدنيا والعليا تفرقة بين الاسم والصفة ، فجاء على الأصل ، كالقود ، وسمع فيه : «القصيا» على الأصل ، وهو شاذ. و(الركب) :
مبتدأ ، و(أسفل) : ظرف خبره.(2/333)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 334
يقول الحق جل جلاله : واذكروا إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا أي : بعدوة الوادي القريبة من المدينة ، وَهُمْ أي : كفار قريش ، بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى أي : البعيدة منها ، وَالرَّكْبُ أي : العير التي قصدتكم ، أَسْفَلَ مِنْكُمْ أي : فى مكان أسفل منكم ، يعنى الساحل ، ثم جمع اللّه بينكم على غير ميعاد ، وَلَوْ تَواعَدْتُمْ لهذا الجمع ، أنتم وهم للقتال ، ثم علمتم حالكم وحالهم لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ هيبة منهم لكثرتهم وقلتكم ، لتتحققوا أن ما اتفق لكم من الفتح والظفر ليس إلا صنيعا من اللّه تعالى خارقا للعادة ، فتزدادوا إيمانا وشكرا ، وَلكِنْ اللّه جمع بينكم من غير ميعاد لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا سابقا فى الأزل ، وهو نصر أوليائه وقهر أعدائه فى ذلك اليوم ، لا يتخلف عنه ساعة.
لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ ، أي : قدّر ذلك الأمر العجيب ليموت من يموت عن بينة عاينها ، ويعيش من يعيش عن حجة شاهدها ، لئلا يكون له حجة ومعذرة ، فإن وقعة بدر من الآيات الواضحة ، فكل من عاينها ولم يؤمن قامت الحجة عليه. أو ليهلك بالكفر من هلك عن بينة وحجة قائمة عليه ، ويحيى بالإيمان من حى به عن بينة من ربه ، وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ بكفر من كفر وإيمان من آمن ، فيجازى كلا على فعله. ولعل الجمع بين وصف السمع والعلم لاشتمال الأمرين على القول والاعتقاد.
واذكر أيضا إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلًا ، كان صلّى اللّه عليه وسلّم قد رأى الكفار فى نومه قليلا ، فأخبر بذلك أصحابه ، فقويت نفوسهم وتجرءوا على قتالهم ، وكانوا قليلا فى المعنى ، وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً فى الحس لَفَشِلْتُمْ لجبنتم ، وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ فى أمر القتال ، وتفرقت آراؤكم ، وَلكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ أي : أنعم بالسلامة من الفشل والتنازع إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ أي : يعلم ما يكون فيها من الخواطر وما يغير أحوالها.
وَاذكر أيضا إِذْ يُرِيكُمُوهُمْ أي : يريكم اللّه الكفار ، إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا ، حتى قال ابن مسعود لمن إلى جنبه : أتراهم سبعين؟ فقال : أراهم مائة ، تثبتا وتصديقا لرؤيا الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم ، وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ ، حتى قال أبو جهل : إن محمدا وأصحابه أكلة جزور - بفتح الهمزة والكاف - جمع آكل - ، أي : قدر ما يكفيهم جذور فى أكلهم.
قال البيضاوي : قللهم فى أعينهم قبل التحام القتال ليجترءوا عليهم ولا يستعدوا لهم ، ثم كثّرهم حين رأوهم مثليهم لتفجأهم الكثرة فتبهتهم وتكسر قلوبهم ، وهذا من عظائم آيات اللّه فى تلك الوقعة ، فإن البصر ، وإن كان قد يرى الكثير قليلا والقليل كثيرا ، لكن لا على هذا الوجه ولا إلى هذا الحد ، وإنما يتصور ذلك بصد اللّه الأبصار عن إبصار بعض دون بعض ، مع التساوي فى المرئي. ه.(2/334)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 335
وإنما فعل ذلك فى الجهتين لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا أي : ليظهر اللّه أمرا كان سبق به القضاء والقدر ، فكان مفعولا فى سابق العلم ، لا محيد عنه ، ومن شأن الحكمة إظهار الأسباب والعلل ، كما أن من شأن القدرة إبراز ما سبق فى الأزل ، وإنما كرره لاختلاف الفعل المعلل به لأن الأول علة لالتقائهم من غير ميعاد ، وهنا لتقليلهم فى أعين الكفرة ، أو للتنبيه على أن المطلوب من العبد هو النظر إلى سابق القدر ، ليخف عليه ما يبرز منه من الشدائد والأهوال ، ولذلك قال أثره : وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ ، وإذا كانت الأمور كلها راجعة إلى اللّه تعالى فلا يسع العبد إلا الرضا والتسليم لكل ما يبرز منها ، فكل ما يبرز من عند الحبيب حبيب. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : الأرواح والأسرار بالعدوة القريبة من بحر الحقائق ، ليس بينها وبينه إلا إظهار أدب العبودية ، وهو الذي بين بحر الحقيقة والشريعة ، والأنفس وسائر القواطع بالعدوة القصوى منه ، والقلب ، الذي هو الركب المتنازع فيه ، بينهما ، أسفل من الروح ، وفوق مقام النفس ، الروح تريد أن تجذبه إليها ليسكن الحضرة ، والنفس وجنودها تريد أن تميله إليها ليسكن وطن الغفلة معها ، والحرب بينهما سجال ، تارة ترد عليه الواردات الإلهية ، التي هى جند الروح ، فتنزل عليه بغتة من غير ميعاد ، فتجذبه إلى الحضرة.
وتارة ترد عليه الخواطر والهواجم الردية فتحطه إلى أرض الحظوظ بغتة ، ليقضى اللّه أمرا كان مفعولا فى سابق علمه ، فإذا أراد اللّه عناية عبد قلّل عنه مدد الأغيار ، حتى يراها كلا شىء ، وقواه بمدد الأنوار حتى يغيب عنه كل شىء ، فتذهب عنه ظلمة الأغيار ، وإذا أراد اللّه خذلان عبد قطع عنه مدد الأنوار ، وقوى عليه مدد الأغيار ، حتى ينحط إلى الدرك الأسفل من النار ، والعياذ بالله من سوء القضاء والقدر ، وإليه الإشارة بقوله : (ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حى عن بينة) الآية. واللّه تعالى أعلم.
ثم ذكر ما يقوى مدد الأنوار ، وهو الصبر والذكر ، فقال :
[سورة الأنفال (8) : الآيات 45 الى 47]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً وَرِئاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (47)(2/335)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 336
قلت : (بطرا ورئاء) : مصدران فى موضع الحال ، أي : بطرين ومراءين ، أو مفعول لأجله ، و(يصدّون) : عطف على (بطرا) على الوجهين ، أي : صادين ، أو للصد.
يقول الحق جل جلاله : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً جماعة من الكفار عند الحرب ، فَاثْبُتُوا للقائهم ، ولا تفروا ، وَاذْكُرُوا اللَّهَ فى تلك الحال سرا داعين له ، مستظهرين بذكره ، متوجهين لنصره ، معتمدين على حوله وقوته ، غير ذاهلين عنه بهجوم الأحوال وشدائد الأهوال إذ لا يذكر اللّه تعالى فى ذلك الحال إلا الأبطال من الرجال ، لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ بالظفر وعظيم النوال. قال البيضاوي : وفيه تنبيه على أن العبد ينبغى ألا يشغله شىء عن ذكر اللّه ، وأن يلتجىء إليه عند الشدائد ، ويقبل عليه بشراشره «1» ، فارغ البال ، واثقا بأن لطفه لا ينفك عنه فى جميع الأحوال. ه.
وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ فيما يأمركم به وينهاكم عنه فإن الطاعة مفتاح الخيرات ، وَلا تَنازَعُوا باختلاف الآراء ، كما فعلتم فى شأن الأنفال ، فَتَفْشَلُوا وتجبنوا ، وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ أي : ريح نصركم بانقطاع دولتكم ، شبه النصر والدولة بهبوب الريح من حيث إنها تمشى على مرادها ، لا يقدر أحد أن يردها ، وقيل : المراد بها الريح حقيقة ، فإن النصرة لا تكون إلا بريح يبعثه اللّه من ناحية المنصور تذهب إلى ناحية المخذول. وفى الحديث : «نصرت بالصّبا ، وأهلكت عاد بالدبور» «2». وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ بالمعونة والكلاءة والنصر.
وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ ، يعنى : أهل مكة ، خرجوا بَطَراً أي : فخرا وأشرا وَرِئاءَ النَّاسِ ليثنوا عليهم بالشجاعة والسماحة ، وذلك أنهم لما بلغوا الجحفة أتاهم رسول أبى سفيان ، يقول لهم : ارجعوا فقد سلمت عيركم ، فقال أبو جهل : لا واللّه حتى نأتى بدرا ، ونشرب بها الخمور ، وتغنى علينا القيان ، ونطعم بها من حضرنا من العرب ، فتسمع بنا سائر العرب ، فتهابنا ، فوافوها ، ولكن سقوا بها كأس المنايا ، وناحت عليهم النوائح مما نزل بهم من البلايا ، فنهى اللّه المؤمنين أن يكونوا أمثالهم بطرين مراءين ، وأمرهم أن يكونوا أهل تقوى وإخلاص ، لأن النهى عن الشيء أمر بضده. وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي : خرجوا ليصدوا الناس عن طريق اللّه ، باتباع طريقهم ، وَاللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ فيجازيهم عليه.
الإشارة : خاطب اللّه المتوجهين إليه ، السائرين إلى حضرته ، وأمرهم بالثبوت ودوام السير ، وبالصبر ولزوم الذكر عند ملاقاة القواطع والشواغب ، وكل ما يصدهم عن طريق الحضرة ، وذلك بالغيبة عنه والاشتغال بالله عنه ،
___________
(1) أي : بجملته ، واحده : شرشرة.
(2) أخرجه البخاري فى (الاستسقاء - باب قول النبي صلّى اللّه عليه وسلّم : «نصرت بالصبا») ومسلم فى (الاستسقاء - باب ريح الصباء والدبور).
عن ابن عباس رضى اللّه عنه.(2/336)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 337
وعدم الإصغاء إلى خوضه وتكديره ، فمن صبر ظفر ، ومن دام على السير وصل ، وأمرهم أيضا بطاعة اللّه ورسوله ، ومن يدلهم على الوصول إليه ، ممن هو خليفة عنه فى أرضه ، وأمرهم بعدم المنازعة والملاججة ، فإن التنازع يوجب تفرق القلوب والأبدان ، ويوجب الفشل والوهن ، ويذهب بريح النصر والإعزاز ، كما أن الوفاق يوجب النصر ودوام العز.
ونهاهم عن التشبه بأهل الخوض والتكدير ، ممن أولع بالطعن والتنكير ، بل يكونون على خلافهم مخلصين فى أعمالهم وأحوالهم ، دالين على اللّه ، داعين إلى طريق اللّه ، يحببون اللّه إلى عباده ، ويحببون عباد اللّه إلى اللّه ، وهذه صفة أهل اللّه. نفعنا اللّه بذكرهم. آمين.
ثم ذكر الباعث على خروج الكفار لغزوة بدر ، فقال :
[سورة الأنفال (8) : آية 48]
وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَقالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ وَقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (48)
يقول الحق جل جلاله : وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ السيئة ، ومن جملتها : خروجهم إلى حربك بأن وسوس لهم ، وَقالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ ، قيل : قال لهم ذلك مقالة نفسانية ، بأن ألقى فى روعهم ، وخيّل إليهم أنهم لا يغلبون ولا يطاقون ، لكثرة عددهم وعددهم ، وأوهمهم أن اتباعهم إياه فى ذلك قربة مجيرة لهم من المكاره.
فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ أي : تلاقى الفريقان ، ورأى بعضهم بعضا ، نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ رجع القهقهرى ، أي : بطل كيده ، وعاد ما خيل لهم أنه مجير لهم سبب هلاكهم ، وَقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ ، أي : تبرأ منهم وخاف عليهم ، وأيس من حالهم ، لمّا رأى إمداد المسلمين بالملائكة.
وقيل : إن هذه المقالة كانت حقيقة لسانية. روى أن قريشا ، لما اجتمعت على المسير إلى بدر ، ذكرت ما بينهم وبين بنى كنانة من العداوة ، فهموا بالرجوع عن المسير ، فمثل لهم إبليس فى صورة سراقة بن مالك الكناني ، وقال :
لا غالب لكم اليوم وإنى جار لكم ، وإنى مجيركم من بنى كنانة ، فلما رأى الملائكة تنزل نكص على عقبيه ، وكانت يده فى يد الحارث بن هشام ، فقال له : إلى أين؟ أتخذلنا فى هذه الحالة؟ فقال : إنى أرى ما لا ترون ، ودفع فى صدر الحارث ، فانطلق وانهزموا ، فلما بلغوا مكة ، قالوا : هزم النّاس سراقة ، فبلغه ذلك ، فقال : واللّه ما شعرت بسيركم حتى بلغني هزيمتكم! فلما أسلموا علموا أنه الشيطان.(2/337)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 338
وعلى هذا ، يحتمل أن يكون معنى قوله : إِنِّي أَخافُ اللَّهَ أي : أخاف أن يصيبنى مكروها من الملائكة ، أو يهلكنى ، ويكون هذا الوقت هو الوقت الموعود ، إذ رأى فيه ما لم ير قبله. والأول : ما قاله الحسن ، واختاره ابن حجر. وقال الورتجبي : أي : إنى أخاف عذاب اللّه ، وذلك بعد رؤية البأس ، ولا ينفع ذلك ، ولو كان متحققا فى خوفه ما عصى اللّه طرفة عين. ه.
وذكر ابن حجر عن البيهقي ، عن علىّ - كرم اللّه وجهه - ، قال : هبت ريح شديدة ، فلم أر مثلها ، ثم هبت ريح شديدة ، وأظنه ذكر ثالثة ، فكانت الأولى جبريل ، والثانية ميكائيل ، والثالثة إسرافيل ، وكان ميكائيل عن يمين النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ، وفيها أبو بكر ، وإسرافيل عن يساره ، وأنا فيها. وعن عليّ أيضا : قيل لىّ ولأبى بكر يوم بدر : مع أحدكما جبريل ، ومع الآخر ميكائيل ، وإسرافيل ملك عظيم يحضر الصف ويشهد القتال. انتهى.
وقوله تعالى : وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ ، يجوز أن يكون من كلام إبليس ، وأن يكون مستأنفا.
الإشارة : عادة الشيطان مع العوام أن يغريهم على الطعن والإنكار على أولياء اللّه ، وإيذائهم لهم ، فإذا رأى غيرة اللّه على أوليائه نكص على عقبيه ، وقال : إنى منكم برىء إنى أرى ما لا ترون ، إنى أخاف اللّه ، واللّه شديد العقاب.
ثم ذكر مقالة المنافقين فى شأن المسلمين ، حيث خرجوا لغزوة بدر ، فقال :
[سورة الأنفال (8) : آية 49]
إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (49)
يقول الحق جل جلاله : واذكروا إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ من أهل المدينة ، أو نفر من قريش كانوا أسلموا وبقوا بمكة ، فخرجوا يوم بدر مع الكفار ، منهم : قيس بن الوليد بن المغيرة ، وأبو القيس بن الفاكه بن المغيرة ، والحارث بن ربيعة بن الأسود ، وعلى بن أمية بن خلف ، وَهم الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أي : شك لم تطمئن قلوبهم ، بل بقي فيها شبهة ، قالوا : غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ أي : اغتر المسلمون بدينهم ، فأدخلوا أنفسهم فيما لا طاقة لهم به ، فخرجوا وهم ثلاثمائة وبضعة عشر إلى زهاء ألف. فأجابهم الحق تعالى بقوله : وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ أي : غالب لا يذل من استجار به ، وإن قلّ ، حَكِيمٌ يفعل بحكمته البالغة ما يستبعده العقل ، ويعجز عن دركه الفهم.
الإشارة : إذا عظم اليقين فى قلوب أهل التقى أقدموا على أمور عظام ، تستغرب العادة إدراكها ، أو يغلب العطب فيها ، فيقول المنافقون والذين فى قلوبهم مرض : غرّ هؤلاء طريقتهم ، ومن يتوكل على اللّه فإن اللّه عزيز(2/338)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 339
لا يغلب ، ولا يغلب من انتسب إليه ، وتوكل فى أموره عليه ، حكيم فلا يخرج عن حكمته وقدرته شيء ، أو عزيز لا يذل من استجار به ، ولا يضيع من لاذ به ، والتجأ إلى ذّماره «1» ، حكيم لا يقصر عن تدبير من توكل على تدبيره ، قاله فى الإحياء. ثم قال : وكل ما ذكر فى القرآن من التوحيد هو تنبيه على قطع الملاحظة عن الأغيار ، والتوكل على الواحد القهار. ه. وبالله التوفيق.
ثم ذكر عاقبة أهل النفاق والريب ، فقال :
[سورة الأنفال (8) : الآيات 50 الى 51]
وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (50) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (51)
قلت : جواب (لو) محذوف ، أي : لرأيت أمرا عظيما ، و(الملائكة) : فاعل (يتوفى) فلا يوقف على ما قبله ، ويرجحه قراءة ابن عامر بالتاء ، ويجوز أن يكون الفاعل ضمير (اللّه) ، و(الملائكة) : مبتدأ ، و(يضربون) : خبر ، والجملة : حال من (الذين كفروا) ، والرابط : ضمير الواو ، وعلى هذا فيوقف على ما قبله ، وعلى الأول (يضربون) :
حال من الملائكة ، و(ذوقوا) : عطف على (يضربون) على حذف القول ، أي : ويقولون ذوقوا. و(ذلك) : مبتدأ ، و(بما قدمت) : خبر ، و(أن اللّه) : عطف على «ما» للدلالة على أن مقيدة بانضمامه إليه. انظر البيضاوي.
يقول الحق جل جلاله : وَلَوْ تَرى يا محمد ، أو يا من تصح منكم الرؤية ، حال الَّذِينَ كَفَرُوا حين تتوفاهم الْمَلائِكَةُ ببدر ، أو مطلقا ، وهم يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ ، أو حين يتوفاهم اللّه ويقبض أرواحهم ، حال كونهم الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم ، أي : يضربون ما أقبل منهم وما أدبر ، فيعمونهم بالضرب ، أو يضربون وجوههم وظهورهم ، أو أستاههم ، لرأيت أمرا فظيعا. وَيقولون لهم : ذُوقُوا أي :
باشروا عَذابَ الْحَرِيقِ يوم القيامة بشارة لهم بما يلقون من العذاب فى الآخرة. وقيل : تكون معهم مقامع من حديد ، كلما ضربوا التهبت النار منها ، ذلِكَ العذاب إنما وقع بكم بِما بسبب قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ أي :
بما كسبتم من الكفر والمعاصي ، وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ حتى يعذب بلا سبب ، أو يهمل العباد بلا جزاء.
الإشارة : قد ذكر الحق جل جلاله حال الكاملين فى العصيان فى هذه الآية ، وذكر فى سورة النحل الكاملين فى الطاعة ، بقوله الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ ... الآية «2» وسكت عن المخلطين ، ولعلهم يرون طرفا من هذا أو طرفا من هذا. واللّه تعالى أعلم.
___________
(1) الذّمار : الحوزة والحرم والأهل .. انظر : اللسان (ذمر).
(2) الآية 32 من سورة النحل.(2/339)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 340
ثم ذكر حال المتقدمين من الجبابرة ، فقال :
[سورة الأنفال (8) : الآيات 52 الى 54]
كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ (52) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (53) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كانُوا ظالِمِينَ (54)
قلت : (كدأب) : خبر عن مضمر ، أي : دأب هؤلاء مثل دأب آل فرعون ، وهو عملهم وطريقتهم ، التي دأبوا فيها ، أي : داموا عليها ، (ذلك) : مبتدأ ، و(بأنّ اللّه) : خبر ، وقال سيبويه : خبر ، أي : الأمر ذلك ، والفاء سببية.
يقول الحق جل جلاله : عادة هؤلاء الكفرة العاصين المعاصرين لك ، فى استمرارهم على الكفر والمعاصي ، كعادة آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مضوا مِنْ قَبْلِهِمْ ، ثم فسر دأبهم فقال : كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ الدالة على توحيده ، المنزلة على رسله ، فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ كما أخذ هؤلاء ، إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ لا يغلبه فى دفعه شىء.
ذلِكَ العذاب الذي حل بهم ، بسبب ذنوبهم وكفرهم لأن اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ فيبدلها بالنقمة ، حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ أي : حتى يبدلوا ما بأنفسهم ، من حال الشكر إلى حال الكفر ، أو من حال الطاعة إلى حال المعصية ، كتغيير قريش حالهم : من صلة الرحم ، والكف عن التعرض لإيذاء الرسول ومن تبعه ، بمعاداة الرسول ، والسعي فى إراقة دم من تبعه ، والتكذيب بالآيات والاستهزاء بها ، إلى غير ذلك مما أحدثوه بعد البعثة ، وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ لما يقولون ، عَلِيمٌ بما يفعلون.
دأبهم فى ذلك التغيير كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ لمّا بدلوا وغيّروا ، ولم يشكروا ما بأيديهم من النعم ، وَكُلٌّ من الفرق المكذبة كانُوا ظالِمِينَ فأغرقنا آل فرعون ، وقتلنا صناديد قريش بظلمهم ، وما كنا ظالمين.
الإشارة : إذا أنعم اللّه على قوم بنعم ظاهرة أو باطنة ، ثم لم يشكروا اللّه عليها ، بل قابلوها بالكفران ، وبارزوا المنعم بالذنوب والعصيان ، فاعلم أن اللّه تعالى أراد أن يسلبهم تلك النعم ، ويبدلها بأضدادها من النقم ، فمن شكر النعم فقد قيدها بعقالها ، ومن لم يشكرها فقد تعرض لزوالها. فالشكر قيد الموجود وصيد المفقود ، فمن أعطى ولم(2/340)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 341
يشكر ، سلب منها ولم يشعر ، والشكر : ألا يعصى اللّه بنعمه ، كما قال الجنيد رضى اللّه عنه. واللّه تعالى أعلم ومن جملة كفران النعم ، نقض العهد ، كما أبان ذلك بقوله :
[سورة الأنفال (8) : الآيات 55 الى 59]
إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (55) الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ (56) فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (57) وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ (58) وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ (59)
قلت : (فهم لا يؤمنون) : جملة معطوفة على جملة الصلة ، والفاء للتنبيه على أن تحقق المعطوف عليه يستدعى تحقق المعطوف ، و(الذين عاهدت) : بدل بعض من (الذين كفروا) ، و(فشرد) : جواب (إما) ، والتشريد : تفريق على اضطراب.
يقول الحق جل جلاله : إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ منزلة الَّذِينَ كَفَرُوا ، تحقق كفرهم ، وسبق به القدر ، فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ أبدا لما سبق لهم من الشقاء. نزلت فى قوم مخصوصين ، وهم بنو قريظة ، الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ أي : أخذت عليهم العهد ألا يعاونوا عليك الكفار ، ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ أي : يخونون عهدك المرة بعد المرة ، فأعانوا المشركين بالسلاح يوم أحد ، وقالوا : نسينا ، ثم عاهدهم ، فنكثوا ومالؤوهم عليه يوم الخندق ، وركب كعب بن الأشرف فى ملأ منهم إلى مكة ، فحالفوا المشركين على حرب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ، فخرج إليهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ، فقتل مقاتلتهم وسبا ذراريهم ، وَهُمْ لا يَتَّقُونَ شؤم الغدر وتبعته ، أو : لا يتقون اللّه فى ذلك الغدر ونصرته للمؤمنين وتسليطه إياهم عليهم.
قال تعالى لنبيه عليه الصلاة السلام : فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ أي : مهما تصادفهم وتظفر بهم فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ أي : فرّق عنك من يناصبك بسبب تنكيلهم وقتلهم ، أو نكّل بهم مَنْ خَلْفَهُمْ بأن تفعل بهم من النقمة ما يزجر غيرهم لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ أي : لعل من خلفهم يتعظون فينزجروا عن حربك.
وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ معاهدين خِيانَةً أي : نقض عهد بأمارات تلوح لك ، فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ أي :
فاطرح إليهم عهدهم عَلى سَواءٍ أي : على عدل وطريق قصد فى العداوة ، ولا تناجزهم بالحرب قبل العلم بالنبذ ، فإنه يكون خيانة منك ، أو على سواء فى العلم بنقض العهد ، فتستوي معهم فى العلم بنقض العهد ، إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ أي : لا يرضى فعلهم ، وهو تعليل للأمر بالنبذ والنهي عن مناجزة القتال المدلول عليه بالحال.(2/341)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 342
وَلا يَحْسَبَنَّ ، يا محمد ، الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا قدرتنا ، ونجوا من نكالنا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ أي :
لا يفوتون فى الدنيا والآخرة ، فلا يعجزون قدرتنا ، أو لا يجدون طالبهم عاجزا عن إدراكهم ، بل اللّه محيط بهم أينما حلوا. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : شرف الإنسان وكماله فى خمسة أشياء : الإيمان باللّه ، وبسائر ما يتوقف الإيمان عليه ، والوفاء بالعهود ، والوقوف مع الحدود ، والرضى بالموجود ، والصبر على المفقود. وذله وخسته فى خمسة أشياء : الكفر والجحود ، ونقض العهود ، وتعدى الحدود ، وعدم الرضى بالموجود ، والجزع على المفقود.
وقال القشيري فى قوله تعالى : فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ ... الآية : أي : إن صادفت واحدا من هؤلاء الذين دأبهم نقض العهد ، فاجعلهم عبرة لمن يأتي بعدهم ، لئلا يسلكوا طريقهم ، فيستوجبوا عقوبتهم. كذلك من فسخ عقده مع اللّه بقلبه ، برجوعه إلى رخص التأويلات ، ونزوله إلى السكون مع العادات ، يجعله اللّه نكالا لمن بعده ، بحرمان ما كان خوّله وتنغيصه عليه. ثم قال عند قوله : وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً : يريد ، إذا تحقّقت خيانة قوم منهم ، فصرّح بأن لا عهد بينك وبينهم ، فإذا حصلت الخيانة زال سمت الأمانة ، وخيانة كل أحد على ما يليق بحاله. ه.
ثم أمر بالاستعداد للحرب لمن نقض العهد ، فقال :
[سورة الأنفال (8) : آية 60]
وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (60)
يقول الحق جل جلاله : وَأَعِدُّوا لَهُمْ ، أي : لناقضى العهد ، أو لمطلق الكفار ، مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ ، أي : ما قدرتم عليه من كل ما يتقوى به فى الحرب. وعن عقبة بن عامر ، قال : سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول على المنبر : «ألا إنّ القوة الرّمى» «1» قالها ثلاثا ، ولعله عليه الصلاة والسلام خصه بالذكر لأنه أعظم القوى ، وَأعدوا لهم أيضا مِنْ رِباطِ الْخَيْلِ أي : من الخيل المربوطة للجهاد ، وهو اسم للخيل التي تربط فى سبيل اللّه ، بمعنى مفعول ، أو مصدر ، أو جمع ربيط كفصيل وفصال.
___________
(1) أخرجه مسلم فى (الإمارة - باب فضل الرمي) عن عقبة بن عامر رضى اللّه عنه.(2/342)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 343
والمراد : الحث على استعداد الخيل العتاق التي تربط وتعلف بقصد الجهاد ، وهو من جملة القوة ، فهو من عطف الخاص على العام ، للاعتناء بأمر الخيل لما فيها من الإرهاب. ولذلك قال : تُرْهِبُونَ بِهِ أي : تخوفون بذلك الأعداء ، أو بما ذكر من الخيل المربوطة ، عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ ، يعنى : كفار مكة ، وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ أي : من غيرهم من الكفرة ، كفارس والروم وسائر الكفرة ، لا تَعْلَمُونَهُمُ أي : لا تعرفونهم اليوم ، اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ ، وسيمكنكم منهم ، فتقاتلونهم وتملكون ملكهم ، وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، فى شأن الاستعداد وغيره مما يستعان به على الجهاد ، يُوَفَّ إِلَيْكُمْ جزاؤه ، وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ بتضييع عمل أو نقص أجر ، بل يضاعفه لكم أضعافا كثيرة ، بسبعمائة أو أكثر. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : وأعدوا ، لجهاد القواطع والعلائق التي تعوقكم عن الحضرة ، ما استطعتم من قوة ، وهو العزم على السير من غير التفات ، ومن رباط القلوب فى حضرة الحق ، ترهبون به عدو اللّه ، وهو الشيطان ، وعدوكم ، وهى النفس ، وآخرين من دونهم : الحظوظ واللحوظ وخفايا خدع النفوس ، لا تعلمونهم ، اللّه يعلمهم كالرياء والشرك الخفي ، فإنه يدب دبيب النمل ، وما تنفقوا من شىء يوف إليكم أضعافا مضاعفة ، بالعز الدائم والغنى الأكبر ، وأنتم لا تظلمون.
وقال الورتجبي : أعلم اللّه المؤمنين والعارفين استعداد قتل أعداء اللّه ، وسمى آلة القتال بقوة ، وتلك القوة قوة الإلهية ، التي لا ينالها العارف من اللّه إلا بخضوعه بين يديه ، بنعت الفناء فى جلاله ، فإذا كان كذلك يلبسه اللّه لباس عظمته ونور كبريائه وهيبته ، ويغريه إلى الدعاء عليهم ، ويجعله منبسطا ، حتى يقول فى سره : إلهى خذهم ، فيأخذهم بلحظة ، ويسقطهم صرعى بين يديه بعونه وكرمه ، ويسلى قلب وليه بتفريجه من شرور معارضيه ومنكريه ، وذلك سهم رمى نفوس الهمة عن كنانة الغيرة ، كما رمى نبى اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إلى منكريه حين قال : «شاهت الوجوه» ، وهذا الرمي من اللّه بقوله : وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى .
سمعت أن ذا النون المصري رضى اللّه عنه كان فى غزو ، وغلب المشركون على المؤمنين ، فقيل له : لو دعوت اللّه ، فنزل عن دابته وسجد ، فهزم المشركون فى لحظة ، وأخذوا جميعا ، وأسروا ، وقتلوا.
وأيضا : وأعدوا : أي : اقتبسوا من اللّه قوة من قوى صفاته لنفوسكم حتى يقويكم فى محاربتها. قال أبو على الروذبارى ، فى قوله : وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ ، فقال : القوة هى الثقة بالله ، قيل ظاهر الآية : إنه الرمي بسهام القسي. وفى الحقيقة : رمى سهام الليالى فى الغيب بالخضوع والاستكانة ، ورمى القلب إلى الحق معتمدا عليه ، راجعا إليه عما سواه. ه.(2/343)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 344
ثم بيّن أن المعول على اللّه ونصرته ، لا على السلاح والآلات بقوله : هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ ، أي :
قواك بقوته الأزلية ، ونصرك بنصرته الأبدية ، ووفق المؤمنين بإعانتك على عدوك. ثم بيّن سبحانه أن نصرة المؤمنين لم تكن إلا بتأليفه بين قلوبهم ، وجمعها على محبة اللّه ومحبة رسوله ، بعد تباينها بتفرقة الهموم فى أودية الامتحان ، بقوله : وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ. وقال القشيري : الإشارة بقوله : تُرْهِبُونَ : إلى أنه لا يجاهد على رجاء غنيمة ينالها ، أو إشفاء صدر عن قضية حقد ، بل قصده أن تكون كلمة اللّه هى العليا. ه.
ثم دلّ على الصلح لمصلحة ، فقال :
[سورة الأنفال (8) : الآيات 61 الى 63]
وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (61) وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (63)
يقول الحق جل جلاله : وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ أي : وإن مالوا للصلح فَاجْنَحْ لَها أي : فصالحهم ، ومل إلى المعاهدة معهم ، وتوكل على اللّه فلا تخف منهم أن يكونوا أبطنوا خداعا فإن اللّه يعصمك من مكرهم وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ «1» ، إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ لأقوالهم ، الْعَلِيمُ بأحوالهم.
وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ بعد الصلح فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ أي : فحسبك اللّه وكافيك شرهم ، هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ أي : قواك ونصرك بِنَصْرِهِ تحقيقا ، وَبِالْمُؤْمِنِينَ تشريفا ، أو بِنَصْرِهِ قدرة وَبِالْمُؤْمِنِينَ حكمة ، والقدرة والحكمة منه وإليه ، فلا دليل عليه للمعتزلة حيث نسبوا الفعل للعبد ، وقالوا : العطف يقتضى المغايرة.
وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ مع ما كان فيها فى زمن الجاهلية من المعصية والضغائن والتهالك على الانتقام ، حتى لا يكاد يأتلف فيهم قلبان ، ثم صاروا كنفس واحدة ، وهذا من معجزاته صلّى اللّه عليه وسلّم. قال تعالى : لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ، فى إصلاح ما بينهم ، ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لتناهى عدواتهم إلى حد لو أنفق منفق فى إصلاح
___________
(1) من الآية 42 من سورة فاطر. [.....](2/344)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 345
ذات بينهم ما فى الأرض من الأموال لم يقدر على الألفة بينهم ، وَلكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ بقدرته البالغة فإنه المالك للقلوب يقلبها كيف يشاء. إِنَّهُ عَزِيزٌ تام القدرة ، لا يعصى عليه ما يريده ، حَكِيمٌ يعلم كيف ينبغى أن يفعل ما يريده.
قيل : إن الآية نزلت فى الأوس والخزرج ، كان بينهم إحن وضغائن لا أمد لها ، ووقائع هلكت فيها ساداتهم ، فأنساهم اللّه ذلك ، وألفّ بينهم بالإسلام ، حتى تصادقوا وصاروا أنصار الدين. وبالله التوفيق.
الإشارة : وإن مالت النفس وجنودها إلى الصلح مع صاحبها بأن ألقت السلاح ، ومالت إلى فعل كل ما فيه خير وصلاح ، وعقدت الرجوع عن هواها ، والدءوب على طاعة مولاها ، فالواجب عقد الصلح معها ، وتصديقها فيما تأمر به أو تنهى عنه ، مما يرد عليها ، مع التوكل على مولاها ، فإن خدعت بعد ذلك ، أو رجعت إلى مألوفها ، فالله يكفى أمرها ، ويقوى صاحبها على ردها ، إما بسبب شيخ كامل ، أو أخ صالح ، فإن الصحبة فيها سر كبير ، لا سيما مع أهل الصفاء ، الذين صفت قلوبهم ، وألف اللّه بينهم بالمحبة والوداد ، وحسن الظن والاعتقاد ، وإما بسابق عناية ربانية وقوة إلهية. وبالله التوفيق.
ثم أمر نبيه بالاكتفاء بالله وعدم الالتفات إلى ما سواه ، فقال :
[سورة الأنفال (8) : آية 64]
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (64)
قلت : (حسبك) : مبتدأ ، و(اللّه) : خبر ، ويصح العكس ، و(من اتبعك) : إما عطف على (اللّه) ، أي : كفاك اللّه والمؤمنون ، أو فى محل نصب على المفعول معه ، أو فى محل جر عطف على الضمير ، على مذهب الكوفيين ، أي : حسبك وحسب من اتبعك اللّه ، والأول : أصح.
يقول الحق جل جلاله : يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ أي : كافيك اللّه ، فلا تلتفت إلى شىء سواه ، أي : لمّا مننت عليك بائتلاف قلوب المؤمنين فى نصرتك ، فلا تلتفت إليهم فى محل التوحيد ، فإنى حسبك وحدي بغير معاونة الخلق ، فينبغى أن تفرد القدم عن الحدوث فى سيرك منى إلىّ ، وأنا حسب المؤمنين عن كل ما دونى ، وإن كان ملكا مقربا أو نبيا مرسلا ، ولا ينبغى فى حقيقة التوحيد النظر إلى غيرى ، وإنما أيدتك بواسطة المؤمنين ، وذكرتهم معى تشريفا لأمتك ، وسترا لقدرتى ، وإظهارا لكمال حكمتى ، وإلا فقدرتى لا يفوتها شىء ، ولا تتوقف على شىء «جل حكم الأزل أن يضاف إلى العلل».
قال البيضاوي : نزلت الآية تأييدا فى غزوة بدر ، وقيل : أسلم مع النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ثلاثة وثلاثون رجلا وست نسوة ، ثم أسلم عمر رضى اللّه عنه ، فنزلت. ولذلك قال ابن عباس - رضى اللّه عنهما - : نزلت فى إسلامه.(2/345)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 346
الإشارة : ما خوطب به النبي صلّى اللّه عليه وسلّم يخاطب به ورثته الكرام ، من الاكتفاء بالله وعدم الالتفات إلى ما سواه ، وتصحيح عقد التوحيد ، والاعتماد على الكريم المجيد. واللّه تعالى أعلم.
ثم أمره بالتحريض على الجهاد ، فقال :
[سورة الأنفال (8) : الآيات 65 الى 66]
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (65) الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (66)
قلت : التحريض : هو الحث على الشيء والمبالغة فى طلبه ، وهو من الحرض ، الذي هو الإشفاء على الهلاك.
يقول الحق جل جلاله : يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ أي : حثهم عَلَى الْقِتالِ أي : الجهاد. ثم أمرهم بالصبر والثبات للعدو بقوله : إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ ، وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا ، وهذا خبر بمعنى الأمر ، أي : يقاتل العشرون منكم المائتين ، والمائة الألف ، وليثبتوا لهم ، ولا يصح أن يكون خبرا محضا إذ لو كان خبرا محضا لما تخلف فى الواقع ، ولو فى جزئية إذ خبره تعالى لا يخلف.
قال الفخر الرازي : حسن هذا التكليف لما كان مسبوقا بقوله : حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ، فلما وعد المؤمنين بالكفاية والنصر كان هذا التكليف سهلا لأن من تكفل اللّه بنصره فإن أهل العالم لا يقدرون على إذايته. ه.
وإنما كان القليل من المؤمنين يقاوم الكثير من الكفار بِأَنَّهُمْ بسبب أنهم قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ ، أي : لأنهم جهلة بالله واليوم الآخر ، فلا يثبتون ثبات المؤمنين ، رجاء الثواب والترقي فى الدرجات ، قتلوا أو ماتوا ، بخلاف الكفار فلا يستحقون من اللّه إلا الهوان والخذلان.
ولمّا كلفهم بهذا فى أول الإسلام ، وشقّ ذلك عليهم ، خفف عنهم فقال : الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فلا يقاوم الواحد منكم العشرة ، ولا المائة الألف ، فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ ، (2/346)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 347
وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ
أمرهم بمقاومة الواحد لاثنين. وقيل : كان فيهم قلة ، فلما كثروا خفف عنهم ، وتكرير المعنى الواحد بذكر الأعداد المتناسبة للدلالة على أن حكم القليل والكثير واحد ، والضعف :
ضعف البدن ، لا ضعف القلب.
قال بعض الصحابة - رضي اللّه عنهم - : لما نزل التخفيف ذهب من الصبر تسعة أعشار ، وبقي العشر. ولذلك قال تعالى هنا : وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ، أي : بالنصر والمعونة ، فكيف لا يغلب من يقاومهم ولو كثر عدده؟.
الإشارة : ينبغى لأهل التذكير أن يحرضوا الناس على جهاد نفوسهم ، الذي هو الجهاد الأكبر ، وإنما كان أكبر لأن العدد الحسى يقابلك وتقابله ، بخلاف النفس فإنها جاء تحت الرماية خفية عدو حبيب ، فلا يتقدم لجهادها إلا الرجال ، فينبغى للشيوخ أن يحضوا المريدين على جهادها ، ويهونوا لهم شأنها فإنّ النفس لا يهول أمرها إلا قبل رمى اليد فيها ، فاذا رميت يدك فيها بالعزم على قتلها ضعفت ولانت ، وسهل علاجها ، وإذا خفت منها ، وسوّفت لها ، طالت عليك وملكتك. ولا بد فى جهادها من شيخ يريك مساوئها ، ويعينك بهمته على قتلها ، وإلّا بقيت فى العنت معها ، والشغل بمعاناتها حتى تموت بلا حصول نتيجة جهادها ، وهى المعرفة بسيدها وخالقها. واللّه تعالى أعلم.
ثم عاتبهم على أخذ الفداء من الأسارى ، فقال :
[سورة الأنفال (8) : الآيات 67 الى 69]
ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67) لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (68) فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (69)
يقول الحق جل جلاله : ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى يقبضها حَتَّى يُثْخِنَ أي : يبالغ فِي الْأَرْضِ بالقتل حتى يذل الكفر ويقل حزبه ، ويعز الإسلام ويستولى أهله. تُرِيدُونَ بقبض الأسارى عَرَضَ الدُّنْيا حطامها بأخذ الفداء منهم ، وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ أي : يريد لكم ثواب الآخرة ، الذي يدوم ويبقى ، أو يريد سبب نيل الآخرة من إعزاز دينه وقمع أعدائه ، وَاللَّهُ عَزِيزٌ يغلب أولياءه على أعدائه ، حَكِيمٌ يعلم ما يليق بكمال حالهم ويخصهم بها ، كما أمر بالإثخان ، ومنع من أخذ الفداء حين كانت الشوكة للمشركين ، وخيّر بينه وبين المنّ لما تحولت الحال ، وصارت الغلبة للمؤمنين.
روى أنه عليه الصلاة والسلام أتى يوم بدر بسبعين أسيرا ، فيهم العبّاس وعقيل بن أبى طالب. فاستأذن فيهم فقال أبو بكر رضى اللّه عنه : قومك وأهلك ، استبقهم ، لعلّ اللّه يتوب عليهم ، وخذ منهم فدية تقوّى بها أصحابك. وقال عمر(2/347)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 348
رضى اللّه عنه : اضرب أعناقهم ، فإنهم أئمّة الكفر ، وإنّ اللّه أغناك عن الفداء ، فمكّنى من فلان - لنسيب له - ومكّن عليّا وحمزة من أخويهما ، فلنضرب أعناقهم ، فلم يهو ذلك رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ، وقال : «إنّ اللّه ليلين قلوب رجال حتّى تكون ألين من كل لين ، وإنّ اللّه ليشدّد قلوب رجال حتّى تكون أشدّ من الحجارة ، وإن مثلك يا أبا بكر مثل إبراهيم ، قال :
فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ «1» ، ومثلك يا عمر مثل نوح ، قال : رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً» «2». فخيّر أصحابه ، فأخذوا الفداء ، فنزلت ، فدخل عمر رضى اللّه عنه على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ، فإذا هو وأبو بكر يبكيان ، فقال : يا رسول اللّه : أخبرنى ، فإن أجد بكاء بكيت ، وإلا تباكيت؟ فقال : «أبكى على أصحابك فى أخذهم الفداء ، ولقد عرض علىّ عذابهم أدنى من هذه الشجرة» «3» لشجرة قريبة.
والآية دليل على أن الأنبياء - عليهم السلام - يجتهدون ، وإنه قد يكون الخطأ ، ولكن لا يقرون عليه. قاله البيضاوي. قال القشيري : أخذ النبي صلّى اللّه عليه وسلّم يوم بدر منهم الفداء ، وكان ذلك جائزا لوجوب العصمة ، ولكن لو قتلهم كان أولى. ه. وقال ابن عطية : إنما توجه العتاب للصحابة على استبقاء الرجال دون قتلهم ، لا على الفداء لأن اللّه تعالى قد كان خيّرهم ، فاختاروا الفداء على أن يقتل منهم سبعين ، كما تقدم فى سورة آل عمران «4». ثم قال :
والنبي عليه الصلاة والسلام خارج عن ذلك الاستبقاء. انظر تمامه فى الحاشية.
فإن قلت : إذا كان الحق تعالى خيّرهم فكيف عاتبهم ، وهم لم يرتكبوا محظورا؟ فالجواب : أن العتاب تابع لعلو المقام ، فالخواص يعاتبون على المباح ، إن كان فعله مرجوحا ، والحق تعالى إنما عاتبهم على رغبتهم فى أمر دنيوى ، وهو الفداء ، حتى آثروا قتل أنفسهم على أخذه ، ويدل عليه قوله : تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا ، وهذا إنما كان فى بعضهم ، وجلهم إنما اختاروا الفداء استبقاء لقرابة الرسول عليه الصلاة والسلام. واللّه تعالى أعلم.
ثم قال تعالى فى تمام عتابهم : لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ أي : لو لا حكم اللّه سبق إثباته فى اللوح المحفوظ ، وهو ألا يعاقب المخطئ فى اجتهاده ، أو أنه سيحل لكم الغنائم ، أو ما سبق فى الأزل من العفو عنكم ، لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ من الفداء أو من الأسارى ، عَذابٌ عَظِيمٌ. روى أنه عليه الصلاة والسلام قال ، حين نزلت :
«لو نزل العذاب ما نجا منه غير عمر وسعد بن معاذ» وذلك لأنه أيضا أشار بالإثخان.
___________
(1) الآية 36 من سورة إبراهيم.
(2) الآية 26 من سورة نوح.
(3) أخرجه أحمد فى المسند (1/ 383) والترمذي ببعض الاختصار فى (تفسير سورة الأنفال) والحاكم وصححه ووافقه الذهبي فى (المغازي ، 3/ 21) وكذلك أخرجه البيهقي فى الدلائل (3/ 138) كلهم عن ابن مسعود. وأخرجه بنحوه مسلم فى (الجهاد - باب الإمداد بالملائكة) من حديث ابن عباس عن سيدنا عمر - رضى اللّه عن الجميع.
(4) عند تفسير قوله تعالى : (أ ولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا) الآية 165.(2/348)
البحر المديد ج 2 ، ص : 349
ثم أباح لهم الغنائم وأخذ الفداء فقال : فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ من الكفار ، ومن جملته : الفدية ، فإنها من الغنائم ، حَلالًا طَيِّباً أي : أكلا حلالا ، وفائدته : إزاحة ما وقع فى نفوسهم بسبب تلك المعاتبة ، أو حرمتها على المتقدمين. روى أنه لما عاتبهم أمسكوا عنها حتى نزلت : فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ ، ووصفه بالطيب تكسينا لقلوبهم ، وزيادة فى حليتها. وفي الحديث عنه صلّى اللّه عليه وسلّم : «أعطيت خمسا لم يعطهنّ أحد من الأنبياء قبلى : أحلّت لى الغنائم ، ونصرت بالرّعب مسيرة شهر ، وجعلت لى الأرض مسجدا وطهورا ، وأعطيت الشّفاعة ، وخصصت بجوامع الكلم» «1». أو كما قال عليه الصلاة والسلام.
ثم قال تعالى : وَاتَّقُوا اللَّهَ فى مخالفته إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ أي : يغفر لكم ما فرط ، ويرحمكم بإباحة ما حرم على غيركم توسعة عليكم. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : ما ينبغى للفقير المتوجه أن يكون له أتباع يتصرف فيهم ويستفيد منهم ، عوضا عن الدنيا ، حتى يبالغ فى قتل نفسه وتموت ، ويأمن عليها الرجوع إلى وطنها من حب الرئاسة والجاه ، أو جمع المال ، والتمتع بالحظوظ ، فإن تعاطي ذلك قبل موت نفسه كان ذلك سبب طرده ، وتعجيل العقوبة له ، حتى إذا تداركه اللّه بلطفه ، وسبقت له عناية من ربه ، فيقال له حينئذ : لو لا كتاب من اللّه سبق لمسك فيما أخذت عذاب عظيم.
ثم بشّر الأسارى بخلف ما أخذ منهم من الفداء بأكثر منه ، فقال :
[سورة الأنفال (8) : الآيات 70 الى 71]
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (70) وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ فَقَدْ خانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (71)
قلت : (أسرى) : جميع أسير ، ويجمع على أسارى. وقرىء بهما ، و(خيرا مما) : اسم تفضيل ، وأصله : أخير ، فاستغنى عنه بخير ، وكذلك شر أصله : أشر ، قال فى الكافية :
وغالبا أغناهم خير وشر عن قولهم : أخير منه وأشر.
يقول الحق جل جلاله : يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى الذين أخذتم منهم الفداء :
إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً أي : إيمانا وإخلاصا يكون فى المستقبل ، يُؤْتِكُمْ خَيْراً أي : أفضل وأكثر مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ من الفداء.
___________
(1) أخرجه البخاري فى (أول كتاب التيمم) ومسلم فى (المساجد) من حديث جابر بن عبد اللّه - بلفظ : «وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس كافة» بدل : «وخصصت بجوامع الكلم» ، وقد جاءت هذه العبارة بنحوها فى رواية عند مسلم عن أبى هريرة ، وفيها : (فضلت على الأنبياء بست) وساق الخمس السابقة.(2/349)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 350
روى أنها نزلت فى العباس رضى اللّه عنه كلّفه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أن يفدى نفسه ، وابني أخويه : عقيل بن أبى طالب ونوفل بن الحارث ، فقال : يا محمد تركتنى أتكفف قريشا ما بقيت ، فقال له عليه الصلاة والسلام : وأين الذهب الذي دفعته لأمّ الفضل وقت خروجك ، وقلت لها : لا أدرى ما يصيبنى فى وجهي هذا ، فإن حدث بي حدث فهو لك ، ولعبد اللّه ، وعبيد اللّه والفضل ، وقثم ، قال له وما يدريك؟ قال : أخبرنى به ربى تعالى ، قال : فأشهد أنك صادق ، وأن لا إله إلا اللّه ، وأنك رسول اللّه ، واللّه لم يطلع عليه أحد إلا اللّه ، ولقد دفعته إليها فى سواد اللّيل.
قال العباس : فأبدلني اللّه خيرا من ذلك ، أعطانى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم من المال الذي قدم من البحرين ما لم أقدر على حمله ، ولى الآن عشرون عبدا ، إن أدناهم يضرب - أي : يتجر - فى عشرين ألفا ، وأعطانى زمزم ، ما أحب أنّ لى بها جميع أموال أهل مكة ، وأنا أنتظر المغفرة من ربكم ، يعنى : الموعود بقوله تعالى : (يغفر لكم واللّه غفور رحيم) «1».
وَإِنْ يُرِيدُوا الأسارى خِيانَتَكَ بنقض ما عهدوك به ، فَقَدْ خانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ بالكفر والمعاصي فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وأمكنك من ناصيتهم ، فقبضوا وأسروا ببدر ، وَاللَّهُ عَلِيمٌ لا يخفى عليه شىء ، حَكِيمٌ فيما دبر وأمضى.
الإشارة : يقال للفقراء المتوجهين إلى اللّه ، الذين بذلوا أموالهم ومهجهم ، وقتلوا نفوسهم فى طلب محبوبهم :
إن يعلم اللّه فى قلوبكم خيرا ، كصدق وإخلاص ، يؤتكم أفضل مما أخذ منكم ، من ذبح النفوس وحط الرؤوس ودفع الفلوس. وهو الغناء الأكبر ، والسر الأشهر ، الذي هو الفناء فى اللّه ، والغيبة عما سواه ، وثمرته : المشاهدة التي تصحبها المكالمة ، وهذا هو الإكسير والغنا الكبير ، فكل من باع نفسه فى طلب هذا فقد ربحت صفقته وزكت تجارته ، مع غفران الذنوب ، وتغطية المساويء والعيوب. وبالله التوفيق.
ثم بيّن فضائل المهاجرين والأنصار ، ومنزلة من آمن ولم يهاجر ، والذين هاجروا بعد الحديبية ، تتميما للتحريض على الجهاد ، فبدأ أولا بالمهاجرين والأنصار ، فقال :
___________
(1) أخرجه الحاكم فى (المستدرك 3/ 324) وصححه على شرط مسلم وأقره الذهبي - والطبري فى تفسير الآية ، عن السيدة عائشة رضى اللّه عنها.(2/350)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 351
[سورة الأنفال (8) : الآيات 72 الى 73]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (72) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ (73)
يقول الحق جل جلاله : إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا أوطانهم فى الخروج مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ، لنصرة الدين بالجهاد ، وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ فصرفوها فى الإعداد للجهاد ، كالكراع والسلاح ، وأنفقوها على المجاريح ، وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بمباشرة القتال ، وَالَّذِينَ آوَوْا رسول اللّه ومن هاجر معه ، وواسوهم بأموالهم ، وَنَصَرُوا دين اللّه ورسوله ، أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ فى التعاون والتناصر ، أو فى الميراث.
وكان المهاجرون والأنصار يتوارثون بالهجرة والنصرة ، دون الأقارب ، حتى نسخ بقوله : وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ «1».
ثم ذكر من لم يهاجر فقال : وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ لا فى النصرة ، ولا فى الميراث ، حَتَّى يُهاجِرُوا إليكم ، وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ على المشركين فِي إظهار الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ أي : فواجب عليكم نصرهم وإعانتهم ، لئلا يستولى الكفر على الإيمان ، إِلَّا عَلى قَوْمٍ كان بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ عهد ومِيثاقٌ ، فلا تنقضوا عهدهم بنصرهم ، فإن الخيانة ليست من شأن أهل الإيمان. وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ لا يخفى عليه من أوفى ومن نقض.
وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ فى الميراث. ويدل بمفهومه ، على منع التوارث والمؤازرة بينهم وبين المسلمين. إِلَّا تَفْعَلُوهُ أي : إلا تفعلوا ما أمرتم به من موالاة المؤمنين ونصرتهم ، أو نصرة من استنصر بكم ممن لم يهاجر ، تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ باستيلاء المشركين على المؤمنين ، وَفَسادٌ كَبِيرٌ بإحلال المشركين أموال المؤمنين وفروجهم ، أو : إلّا تفعلوا ما أمرتم به من حفظ الميثاق ، تكن فتنة فى الأرض ، فلا يفى أحد بعهد أبدا ، وفساد كبير بنهب الأموال والأنفس.
الإشارة : أهل التجريد ، ظاهرا وباطنا ، هم الذين آمنوا وهاجروا حظوظهم ، وجاهدوا نفوسهم بسيوف المخالفة ، وآووا من نزل أو التجأ إليهم من إخوانهم أو غيرهم ، أو آووا أشياخهم وقاموا بأمورهم ، ونصروا الدين بالتذكير
___________
(1) الآية 6 من سورة الأحزاب.(2/351)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 352
والإرشاد والدلالة على اللّه ، أينما حلوا من البلاد ، أولئك بعضهم أولياء بعض فى العلوم والأسرار ، وكذلك فى الأموال. فقد قال بعض الصوفية : (الفقراء : لا رزق مقسوم ، ولا سر مكتوم). وهذا فى حق أهل الصفاء من المتحابين فى اللّه.
والذين آمنوا ولم يهاجروا هم أهل الأسباب من المنتسبين ، قد نهى اللّه عن موالاتهم فى علوم الأسرار وغوامض التوحيد لأنهم لا يطيقون ذلك لشغل فكرتهم بالأسباب أو بالعلوم الرسمية ، نعم ، إن وقعوا فى شبهة أو حيرة ، وجب نصرهم بما يزيل إشكالهم ، لئلا تقع بهم فتنة أو فساد كبير فى اعتقادهم. واللّه تعالى أعلم.
ثم أثنى على المهاجرين والأنصار ، فقال :
[سورة الأنفال (8) : آية 74]
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (74)
قال البيضاوي : لما قسم المؤمنين ثلاثة أقسام ، - أي : مهاجرين ، وأنصار ، ومن آمن ولم يهاجر - بيّن أن الكاملين فى الإيمان منهم هم الذين حققوا إيمانهم ، بتحصيل مقتضاه من الهجرة ، والجهاد ، وبذل المال ، ونصرة الحق ، ووعد لهم الوعد الكريم ، فقال : لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ لا تبعة له ، ولا فتنة فيه. ثم ألحق بهم فى الأمرين من يلتحق بهم ويتسم بسمتهم فقال :
[سورة الأنفال (8) : آية 75]
وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (75)
أي : من جملتكم أيها المهاجرون والأنصار. ه.
ثم نسخ الميراث المتقدم ، فقال :
وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ يقول الحق جل جلاله وَأُولُوا الْأَرْحامِ من قرابة النسب ، بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فى التوارث من الأجانب ، وظاهره : توريث ذوى الأرحام ، كالخال والعمة وسائر ذوى الأرحام ، وبه قال أبو حنيفة ، ومنعه مالك ، ورأى أن الآية منسوخة بآية المواريث التي فى النساء ، أو يراد بالأولية : غير الميراث ، كالنصرة وغيرها. وقوله :
فِي كِتابِ اللَّهِ أي : فى القرآن ، أو اللوح المحفوظ. إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ من أمر المواريث وغيرها ، أو عليم بحكمة إناطتها بنسبة الإسلام والمظاهرة أولا ، وبالقرابة ثانيا ، واللّه تعالى أعلم.(2/352)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 353
الإشارة : الناس ثلاثة : عوام ، وخواص ، وخواص الخواص. فالعوام : هم الذين لا شيخ لهم يصلح للتربية.
والخواص : هم الذين صحبوا شيخ التربية ، ولم ينهضوا إلى مقام التجريد. وخواص الخواص : هم الذين صحبوا شيخ التربية وتجردوا ظاهرا وباطنا ، خربوا ظواهرهم ، وعمّروا بواطنهم ، وهم الذين خاضوا بحار التوحيد ، وذاقوا أسرار التفريد. وهم الذين أشار المجذوب الى مقامهم بقوله :
يا قارئين علم التوحيد هنا البحور إلىّ تغبى
هذا مقام أهل التجريد الواقفين مع ربى
فأهل التجريد ، كالمهاجرين والأنصار ، وأهل الأسباب من أهل النسبة ، كمن لم يهاجر من الصحابة ، ومن تجرد بعد ودخل معهم ، التحق بهم. قال تعالى : وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ ، ومن لا نسبة له كمن لا صحبة له ، وبالله التوفيق ، وهو الهادي إلى سواء الطريق. وصلّى اللّه على سيدنا ومولانا محمد ، وآله وصحبه ، وسلّم تسليما ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين «1».
___________
(1) كتب فى آخر المجلد الأول من النسخة الأصلية : هذا آخر السفر الأول من (البحر المديد فى تفسير القرآن المجيد) ، ووافق الفراغ من تبييضه سادس عشر من جمادى الأولى ، سنة ست عشر ومائتين وألف ، يتلوه سورة التوبة بحول اللّه وقوته.
انتهى ، بحوله وقوته ، عشية يوم استخراجه من مبيضته الجمعة ثالث وعشرين من جمادى الأولى ، أيضا ، من تلك السنة المذكورة قبل. ونسأله الإعانة على التمام ، بجاه النبي - عليه السّلام - صلى اللّه عليه - على مر الليالى والأيام.(2/353)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 354(2/354)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 355
سورة التّوبة «1»
(مدنية). ولها أسماء أخر : سورة براءة لتبرئها من المنافقين ، والمقشقشة ، أي : المبرئة من النفاق ، والبحوث لبحثها عن أحوال المنافقين ، والمبعثرة والمنقرة والمثيرة ، والحافرة لأنها بعثرت ونقرت وأثارت وحفرت عن أحوال المنافقين ، والمخزية والفاضحة ، والمنكلة ، والمشردة ، والمدمدمة ، وسورة العذاب لأنها أخزت المنافقين ، وفضحتهم ، ونكلتهم ، وشردتهم ، ودمدمت عليهم ، وذكرت ما أعد اللّه لهم من العذاب.
وآياتها : مائة وثلاثون ، وقيل : وتسع وعشرون. ومناسبتها : قوله : إِلَّا عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ «2» ، فذكر فى هذه السورة نقض ذلك الميثاق.
واتفقت المصاحف والقراء على ترك البسملة فى أولها ، فقال عثمان رضى اللّه عنه : أشبهت معانيها معانى الأنفال ، أي : لأن فى الأنفال ذكر العهود وفى براءة نبذها. وكانتا تدعى القرينتين فى زمن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ، فلذلك قرنت بينهما ووضعتهما فى السبع الطوال «3» ، وكان الصحابة قد اختلفوا : هل هما سورة واحدة أو سورتان؟ فتركت البسملة بينهما لذلك. وقال على بن أبى طالب رضى اللّه عنه : البسملة أمان ، وبراءة نزلت بالسيف ، فلذلك لم تبدأ بالأمان.
وقال البيضاوي : لما اختلف الصحابة فى أنهما سورة واحدة ، وهى سابعة السبع الطوال ، أو سورتان ، تركت بينهما فرجة ، ولم تكتب بسم اللّه. ه.
ثم ابتدأ بنقض عهود المشركين ، فقال :
[سورة التوبة (9) : الآيات 1 الى 2]
بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (1) فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ (2)
قلت : (براءة) : خبر عن مضمر ، أي : هذه براءة ، و(من) : ابتدائية ، متعلقة بمحذوف ، أي : واصلة من اللّه ، و(إلى الذين) : متعلقة به أيضا ، أو مبتدأ لتخصيصها بالصفة ، و(إلى الذين) : خبر.
___________
(1) بداية المجلد الثاني فى النسخة الأصلية.
(2) من الآية 72 من سورة الأنفال.
(3) أخرجه أحمد فى المسند (1/ 57) وأبو داود فى (الصلاة ، باب من جهر ببسم اللّه الرحمن الرحيم) والترمذي فى (التفسير ، سورة التوبة) والحاكم فى (2/ 221) وصححه ووافقه الذهبي.(2/355)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 356
يقول الحق جل جلاله : هذه بَراءَةٌ أي : تبرئة مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ واصلة إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ، فقد تبرأ اللّه ورسوله من كل عهد كان بين المشركين والمسلمين ، لأنهم نكثوا أولا ، إلا أناسا منهم لم ينكثوا ، وهم بنو ضمرة وبنو كنانة ، وسيأتى استثناؤهم. قال البيضاوي : وإنما علقت البراءة بالله وبرسوله ، والمعاهدة بالمسلمين للدلالة على أنه يجب عليهم نبذ عهود المشركين إليهم ، وإن كانت صادرة بإذن اللّه واتفاق الرسول فإنهما برئا منها. ه.
وقال ابن جزى : وإنما أسند العهد إلى المسلمين لأن فعل الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم لازم للمسلمين ، وكأنهم هم الذين عاهدوا المشركين ، وكان النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قد عقد العهد مع المشركين إلى آجال محدودة ، فمنهم من وفّى ، فأمر اللّه أن يتم عهده إلى مدته ، ومنهم من نقض أو قارب النقض ، فجعل له أجل أربعة أشهر ، وبعدها لا يكون له عهد. ه. وإلى ذلك أشار بقوله : فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ آمنين لا يتعرض لكم أحد ، وبعدها لا عهد بينى وبينكم.
وذكر الطبري : أنهم أسلموا كلهم فى هذه المدة ولم يسح أحد. ه.
وهذه الأربعة الأشهر : شوال ، وذو القعدة ، وذو الحجة ، والمحرم ، لأنها نزلت فى شوال ، وقيل : هى عشرون من ذى الحجة ، والمحرم ، وصفر ، وربيع الأول ، وعشر من الآخر ، لأن التبليغ كان يوم النحر لما روى (أنها لمّا نزلت أرسل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عليا رضى اللّه عنه راكبا العضباء ليقرأها على أهل الموسم ، وكان قد بعث أبا بكر رضى اللّه عنه أميرا على الموسم ، فقيل : لو بعثت بها إلى أبى بكر؟ فقال : «لا يؤدّى عنّى إلا رجل منّى» فلمّا دنا علىّ رضى اللّه عنه سمع أبو بكر الرّغاء ، فوقف ، وقال : هذا رغاء ناقة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ، فوقف ، فلمّا لحقه قال : أمير أو مأمور؟ قال : مأمور ، فلما كان قبل التروية خطب أبو بكر رضى اللّه عنه ، وحدّثهم عن مناسكهم ، وقام علىّ - كرم اللّه وجهه - يوم النّحر ، عند جمرة العقبة ، فقال : يا أيها النّاس ، إنى رسول رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إليكم ، فقالوا : بماذا؟ فقرأ عليهم ثلاثين أو أربعين آية من أول السورة ، ثم قال : أمرت بأربع : ألا يقرب البيت بعد هذا مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان ، ولا يدخل الجنّة إلا نفس مؤمنة ، وأن يتمّ إلى كلّ ذى عهد عهده.) «1».
ولعل قوله صلّى اللّه عليه وسلّم : «ولا يؤدى عنى إلا رجل منى» خاص بنقض العهود لأنه قد بعث كثيرا من الصحابة ليؤدوا عنه ، وكانت عادة العرب ألّا يتولى العهد ونقضه على القبيلة إلا رجل منها. قاله البيضاوي مختصرا.
ثم قال تعالى لأهل الشرك : وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ أي : لا تفوتونه ، وإن أمهلكم ، وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ فى القتل والأسر فى الدنيا ، والعذاب المهين فى الآخرة.
___________
(1) أخرجه البخاري فى (الصلاة - باب ما يستر من العورة) ومسلم فى (الحج - باب لا يحج البيت مشرك) كلاهما من حديث أبى هريرة ، وليس فيه ذكر قوله صلّى اللّه عليه وسلّم : (لا يؤدى عنى إلا رجل منى) ، وقد جاءت فى رواية عند أحمد فى المسند (1/ 3) والترمذي فى (تفسير سورة التوبة).(2/356)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 357
الإشارة : قد وقع التبرؤ من أهل الشرك مطلقا ، أما الشرك الجلى فقد تبرأ منه الإسلام والإيمان ، وأما الشرك الخفي فقد تبرأ منه مقام الإحسان ، ولا يدخل أحد مقام الإحسان حتى لا يعتمد على شىء ، ولا يستند إلى شىء ، إلا على من بيده ملكوت كل شىء ، فيطرح الأسباب وينبذ الأرباب ، ويرفض النظر إلى العشائر والأصحاب ، حتى لا يبقى فى نظره إلا الكريم الوهاب ، فمن أصرّ على شركه الجلى أو الخفي فإن اللّه يمهل ولا يهمل ، فلا بد أن يلحقه وباله : إما خزى فى الدنيا ، أو عذاب فى الآخرة ، كلّ على ما يليق به.
وقال القشيري : إن قطع عنهم الوصلة فقد ضرب لهم مدة على وجه المهلة ، فأمّنهم فى الحال ليتأهبوا لتحمّل مقاساة البراءة فيما يستقبلونه فى المآل. والإشارة فيه : أنهم إن أقلعوا فى هذه المهلة عن الغىّ والضلال ، وجدوا فى المآل ما فقدوا من الوصال ، وإن أبوا إلا التمادي فى ترك الخدمة والحرمة ، انقطع ما بينه وبينهم من الوصلة. ه. واللّه تعالى أعلم.
ثم أمر بإظهار تلك البراءة للناس ، فقال :
[سورة التوبة (9) : الآيات 3 الى 4]
وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (3) إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (4)
قلت : (و أذان) : مبتدأ ، أو خبر ، على ما تقدم فى براءة ، وهو فعال بمعنى إفعال كالعطاء بمعنى الإعطاء ، أي :
وإعلام من اللّه ورسوله واصل إلى الناس ، ورفع «رسوله» إما عطف على ضمير برىء ، أو على محل «إن» واسمها ، أو مبتدأ حذف خبره ، أي : ورسوله كذلك.
يقول الحق جل جلاله : وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ واصل إلى الناس ، يكون يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ وهو يوم النحر لأن فيه تمام الحج ومعظم أفعاله ، ولأن الإعلام كان فيه. ولما روى أنه - عليه الصلاة والسلام - وقف يوم النحر ، عند الجمرات ، فى حجة الوداع ، فقال : «هذا يوم الحج الأكبر» «1» ، وقيل : يوم عرفه لقوله - عليه الصلاة والسلام - : «الحج عرفة» «2». ووصف الحج بالأكبر لأن العمرة تسمى الحج الأصغر.
___________
(1) أخرجه البخاري فى (الحج - باب الخطبة أيام منى) عن نافع عن ابن عمر.
(2) أخرجه أحمد فى المسند (4/ 309) وأبو داود فى (المناسك ، باب من لم يدرك عرفة) والترمذي فى (الحج ، باب ما جاء فيمن أدرك الإمام بجمع فقد أدرك الحج) ، كذلك أخرج الحديث النسائي وابن ماجه من حديث عبد الرحمن بن يعمر. [.....](2/357)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 358
وذلك الإعلام بأنّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ - عليه الصلاة والسلام - كذلك. قال البيضاوي : ولا تكرار فإن قوله : بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ : إخبار بثبوت البراءة ، وهذا إخبار بوجوب الإعلام بذلك ، ولذلك علقه بالناس ولم يخص بالمعاهدين. ه. فَإِنْ تُبْتُمْ يا معشر الكفار ورجعتم عن الشرك ، فَهُوَ أي : الرجوع خَيْرٌ لَكُمْ ، وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ أي : أعرضتم عن التوبة وأصررتم على الكفر فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ لا تفوتونه طلبا ، ولا تعجزونه هربا فى الدنيا ، وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ فى الآخرة.
ولما أمر بنقض عهود الناكثين استثنى من لم ينقض فقال : إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ أي : لكن الذين عاهدتم مِنَ الْمُشْرِكِينَ ، وهم بنو ضمرة وبنو كنانة ، ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً من شروط العهد ، ولم ينكثوا ، ولم يقتلوا منكم ، ولم يضروكم قط ، وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً أي : لم يعاونوا عليكم أحدا من أعدائكم ، فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى تمام مُدَّتِهِمْ ، وكانت بقيت لهم من عهدهم تسعة أشهر. ولا تجروهم مجرى الناكثين إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ، وهو تعليل وتنبيه على أن إتمام عهدهم من باب التقوى. قاله البيضاوي.
الإشارة : من أعظم شؤم الشرك : أن اللّه ورسوله تبرآ من أهله مرتين : خاصة وعامة ، فيجب على العبد التخلص منه خفيا أو جليا ، ويستعين على ذلك بصحبة أهل التوحيد الخاص ، حتى يخلصوه من أنواع الشرك كلها ، فإن صدر منه شىء من ذلك فليبادر بالتوبة ، فإن تولى وأصر على شركه ، كان ذلك سبب هوانه وخزيه ، وبالله التوفيق.
ثم أمر بجهاد المشركين ، بعد الأربعة الأشهر التي أمهلهم فيها ، فقال :
[سورة التوبة (9) : آية 5]
فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)
يقول الحق جل جلاله : فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ أي : انقضى الأشهر الْحُرُمُ وهى الأربعة التي أمهلهم فيها ، فمن قال : إنها شوال وذو القعدة وذو الحجة والمحرم ، فهى الحرم المعروفة ، زاد فيها شوال ، ونقص رجب ، وسميت حرما تغليبا للأكثر ، ومن قال : إنها ذو الحجة إلى ربيع الثاني ، فسميت حرما لحرمتها ومنع القتال فيها حينئذ. وغلط من قال : إنها الأشهر الحرم المعلومة لإخلاله بنظم الكلام ومخالفته للإجماع لأنه يقتضى بقاء حرمة الأشهر الحرم. انظر البيضاوي.(2/358)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 359
فإذا انقضت الأربعة التي أمهلتهم فيها فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ الناكثين حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ من حل أو حرم ، وَخُذُوهُمْ أسارى ، ويقال للأسير : أخيذ ، وَاحْصُرُوهُمْ واحبسوهم ، وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ كل ممر وطريق لئلا ينبسطوا فى البلاد ، فَإِنْ تابُوا عن الشرك وآمنوا ، وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ تصديقا لتوبتهم وإيمانهم فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ أي : فدعوهم ولا تتعرضوا لهم بشىء من ذلك.
وفيه دليل على أن تارك الصلاة ومانع الزكاة لا يخلى سبيله ، بل يقاتل كما فعل الصديق رضى اللّه عنه بأهل الردة.
والآية : فى معنى قوله صلّى اللّه عليه وسلّم : «أمرت أن أقاتل النّاس حتّى يقولوا لا إله إلّا اللّه ، ويقيموا الصّلاة ، ويؤتوا الزّكاة ...»
الحديث «1».
إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ، هو تعليل لعدم التعرض لمن تاب ، أي : فخلوهم لأن اللّه قد غفر لهم ، ورحمهم بسبب توبتهم.
الإشارة : فإذا انقضت أيام الغفلة والبطالة التي احترقت النفس فيها ، فاقتلوا النفوس والقواطع والعلائق حيث وجدتموهم ، وخذوا أعداءكم من النفس والشيطان والهوى ، واحصروهم ، واقعدوا لهم كل مرصد يتعرضون فيه لكم ، فإن أذعنوا ، وانقادوا ، وألقوا السلاح ، فخلوا سبيلهم ، إن اللّه غفور رحيم.
ولما أمر بقتال المشركين وأخذهم أينما ثقفوا ، استثنى من أتى يطلب الأمان ، فقال :
[سورة التوبة (9) : آية 6]
وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ (6)
قلت : «أحد» : فاعل بفعل يفسره : «استجارك».
يقول الحق جل جلاله : وَإِنْ أتاك أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ المأمورين بالتعرض لهم ، حيثما وجدوا ، اسْتَجارَكَ يطلب جوارك ، ويستأمنك ، فَأَجِرْهُ أي : فأمنه حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ويتدبره ، ويطلع على حقيقة الأمر ، لعله يسلم ، ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ أي : موضع أمنه إن لم يسلم ، ولا تترك أحدا يتعرض له حتى يبلغ محل أمنه ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ أي : ذلك الأمر الذي أمرتك به بسبب أنهم قوم لا علم لهم بحقيقة الإيمان ، ولا ما تدعوهم إليه ، فلا بد من إيجارهم ، لعلهم يسمعون ويتدبرون فيكون ذلك سبب إيمانهم.
___________
(1) أخرجه البخاري فى (الاعتصام - باب الاقتداء بسنن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم) ومسلم فى (الإيمان - باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا اللّه). من حديث أبى هريرة رضى اللّه عنه.(2/359)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 360
الإشارة : وإن استجارك - أيها العارف - أحد من عوام المسلمين ممن لم يدخل معكم بلاد الحقائق ، وأراد أن يسمع شيئا من علوم القوم ، فأجره حتى يسمع شيئا من علومهم وأسرارهم ، فلعل ذلك يكون سببا فى دخوله فى طريق القوم. ولا ينبغى للفقراء أن يطردوا من يأتيهم من العوام ، بل يتلطفوا معهم ، ويسمعوهم ما يليق بحالهم لأنّ العوام لا علم لهم بما للخواص ، فإنّ أطلعوا على ما خصهم اللّه به من العلوم دخلوا معهم ، إن سبق لهم شىء من الخصوصية.
وقال شيخ شيوخنا سيدى على الجمل رضى اللّه عنه : لا ينبغى لأهل الخصوصية أن يدخلوا بلد العموم إلا فى جوار أحد منهم ، وإلا أنكرته البلد لأن البلد أمّ تغير على غير أبنائها ، ولا ينبغى أيضا للعموم أن يدخلوا بلد الخصوص إلا فى جوار رجل منهم ، وإلا أنكرته البلد. ه. بالمعنى.
ثم استبعد الحق أن يكون للمشركين عهد مع المسلمين ، فقال :
[سورة التوبة (9) : الآيات 7 الى 11]
كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (7) كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ (8) اشْتَرَوْا بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (9) لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (10) فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (11)
قلت : (إلا الذين) : محله النصب على الاستثناء ، أو جر على البدل من «المشركين» ، أو رفع على الانقطاع ، أي :
لكن الذين عاهدتم فما استقاموا لكم ، و(الإل) : القرابة والحلف ، وحذف الفعل فى قوله : (كيف وإن يظهروا عليكم) للعلم به بما تقدم ، أي : كيف يكون لهم عهد والحال أنهم إن يظهروا عليكم .. إلخ يقول الحق جل جلاله ، فى استبعاد العهد من المشركين والوفاء به : كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ؟ مع شدة حقدهم وعداوتهم للرسول وللمسلمين ، مع ما تقدم لهم من النقض والخيانة فيه ، إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ قيل : هم المستثنون قبل. وقال ابن إسحاق : هى قبائل بنى بكر ، كانوا(2/360)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 361
دخلوا وقت الحديبية ، فى المدة التي كانت بين رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وبين قريش ، فلم يكن نقض إلا قريش وبنو الديل من بنى بكر ، فأمر المسلمون بإتمام العهد لمن لم يكن نقض. وقال ابن عباس : هم قريش ، وقال مجاهد : خزاعة ، وفى هذين القولين نظر لأن قريشا وخزاعة كانوا أسلموا وقت الأذان لأنهم أسلموا فى الفتح ، والأذان بعده بسنة.
قال تعالى فى شأن من استثنى : فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ على العهد ولم يغدروا ، فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ على الوفاء ، أي : تربصوا بهم وانتظروا أمرهم ، فإن استقاموا لكم فاستقيموا لهم ، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ الذين إذا عاهدوا وفوا ، وإذا قالوا صدقوا.
ثم كرر استبعاد وفائهم فقال : كَيْفَ يصح منهم الوفاء بعهدكم وَهم إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ ويظفروا بكم فى وقعة لا يَرْقُبُوا أي : لا يراعوا فِيكُمْ إِلًّا قرابة أو حلفا ، وقيل : ربوبية ، أي : لا يراعون فيكم عظمة الربوبية ولا يخافون عقابه ، وَلا ذِمَّةً أي : عهدا ، أو حقّا يعاب على إغفاله ، يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ بأن يعدوكم بالإيمان ، والطاعة ، والوفاء بالعهد ، فى الحال ، مع استبطان الكفر والغدر ، وَتَأْبى أي : تمنع قُلُوبُهُمْ ما تفوه به أفواههم ، وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ متمردون ، لا عقيدة تزجرهم ، ولا مروءة تردعهم ، وتخصيص الأكثر لما فى بعض الكفرة من التمادي على العهد ، والتعفف عما يجر إلى أحدوثة السوء.
قاله البيضاوي.
اشْتَرَوْا بِآياتِ اللَّهِ أي : استبدلوا بها ثَمَناً قَلِيلًا أي : عرضا يسيرا ، وهو اتباع الأهواء والشهوات ، فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ دينه الموصل إليه ، أو بيته بصد الحجاج عنه. إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ أي : قبح عملهم هذا ، أو ساء ما كانوا يعملون من كونهم لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً فيكون تفسيرا لعملهم السوء ، لا تكريرا. وقيل : الأول فى الناقضين العهد ، وهذا خاص بالذين اشتروا ، وهم اليهود ، أو الأعراب الذين جمعهم أبو سفيان وأطمعهم.
وقوله تعالى : فِي مُؤْمِنٍ : فيه إشارة إلى أن عداوتهم إنما هى لأجل الإيمان فقط ، وقوله أولا : فِيكُمْ ، كان يحتمل أن يظن ظان أن ذلك للإحن التي وقعت بينهم ، فزال هذا الاحتمال بقوله : فِي مُؤْمِنٍ. قاله ابن عطية.
وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ فى الشرارة والقبح. فَإِنْ تابُوا عن الكفر ، وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ لهم ما لكم وعليهم ما عليكم ، وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ، حث على تأمل ما فصل من أحكام المعاهدين وخصال التائبين. قاله البيضاوي.
الإشارة : لا ينبغى للخواص أن يثقوا بمحبة العوام ، ولا يغتروا بما يسمعون من عهودهم ، فإن محبتهم على الحروف ، مهما رأوا خلاف ما أملوا من حروفهم ، وأطماعهم ، نكثوا وأدبروا ، فللعارف غنى بالله عنهم. وفى ذلك(2/361)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 362
يقول سيدنا على - كرم اللّه وجهه - :
ما الفخر إلّا لأهل العلم ، إنّهم على الهدى لمن استهدى أدلّاء
وقدر كل امرئ ما كان يحسنه والجاهلون لأهل العلم أعداء
ثم ذكر حكم من نقض العهد ، فقال :
[سورة التوبة (9) : الآيات 12 الى 15]
وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (12) أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (13) قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (15)
يقول الحق جل جلاله : وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ أي : نقضوها مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ أي : من بعد ما أعطوكم من العهود على الوفاء بها ، وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ بصريح التكذيب وتقبيح الأحكام ، فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ أي : فقاتلوهم لأنهم أئمة الكفر ، فوضع أئمة الكفر موضع الضمير للدلالة على أنهم صاروا بذلك ذوي الرئاسة والتقدم فى الكفر ، فهم أحقاء بالقتل ، وقيل : المراد رؤساء المشركين ، والتخصيص : إما لأن قتلهم أهم ، وهم أحق به ، أو للمنع من مراقبتهم ، إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ على الحقيقة ، وإلّا لم يقدروا أن ينكثوها ، واستشهد به الحنفية على أن يمين الكافر لا تلزم ، وهو ضعيف لأن المراد نفى الوثوق عليها ، لا أنها ليست بأيمان. قاله البيضاوي. قلت : وما قالته الحنفيّة هو مذهب المالكية ، إذا حنث فى حال الكفر ، ثم أسلم ، فلا يلزمه شىء. وقرأ ابن عامر بكسر الهمزة ، أي : لا إيمان لهم صحيحا يعصم دماءهم.
لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ أي : ليكن غرضكم فى مقاتلتهم أن ينتهوا عما هم عليه ، كما هى طريقة أهل الإخلاص ، لا إيصال الإذاية لهم ، أو مقابلة عداوة.
ثم حضّ على قتالهم فقال : أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ التي حلفوها للرسول صلّى اللّه عليه وسلّم وللمؤمنين على ألا يعاونوا عليهم ، فعاونوا بنى بكر على خزاعة ، وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ حين تشاوروا فى أمره بدار الندوة(2/362)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 363
على ما مرّ ، وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بالمعاداة والمقاتلة لأنه - عليه الصلاة والسلام - بدأهم بالدعوة ، وإلزام الحجة بالكتاب والتحدي به ، فعدلوا عن معارضته إلى المعاداة والمقاتلة ، فما يمنعكم أن تعارضوهم وتصادموهم ، أَتَخْشَوْنَهُمْ أي : أتهابون قتالهم حتى تتركوا أمرى ، فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فإن قضية الإيمان ألا يخاف إلا منه.
ثم وعدهم بالنصر فقال : قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ يهنهم بالقتل والأسر ، وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ ، فيمكنكم من رقابهم ، ويملككم أموالهم ونساءهم ، وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ ، يعني : بنى خزاعة شفوا صدورهم من بنى بكر لأنهم كانوا أغاروا عليهم وقتلوا فيهم. وقيل : بطونا من اليمن قدموا مكة وأسلموا ، فلقوا من أهلها أذى شديدا ، فشكوا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ، فقال : أبشروا ، فإن الفرج قريب. وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ بما لقوا منهم حين أغاروا عليهم ، وقد أوفى اللّه بما وعدهم بفتح مكة وهوازن.
والآية من المعجزات. قاله البيضاوي. وهذا يقتضي أن هذا التخصيص كان قبل الفتح ، فيلتئم مع ما بعده ، ويبعد اتسامه مع ما قبله من البراءة ، ونبذ العهد والإعلام بذلك لكونه بعد الفتح ، واللّه أعلم. قاله المحشي. ويمكن الجواب بأن يكون صدر السورة نزل بعد الفتح ، وبعضها من قوله : (و إن أحد من المشركين ..) إلخ نزل قبل الفتح ، فإن الآيات كانت تنزل متفرقة فيقول صلّى اللّه عليه وسلّم : «اجعلوا هذه الآية فى محل كذا». واللّه تعالى أعلم.
ثم أخبر تعالى بأن بعض المشركين يتوب من كفره بقوله : وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلى مَنْ يَشاءُ هدايته ، فيهديه للإيمان ، ثم يتوب عليه ، وقد كان ذلك فى كثير منهم. وَاللَّهُ عَلِيمٌ بما كان ويكون ، حَكِيمٌ لا يفعل ولا يحكم إلا على وفق حكمته.
الإشارة : من رجع عن طريق القوم ، ونقض عهد الأشياخ ، ثم طعن فى طريقهم ، لا يرجى فلاحه ، لا فى الدنيا ولا فى الآخرة ، أعني فى طريق الخصوص لأنه جمع بين نقض العهد والطعن على الأولياء ، وقد قال تعالى : «من آذى لى وليا فقد آذنني بالحرب». ومن رجع عنها لضعف ووهن ، مع بقاء الاعتقاد والتسليم ، فربما تقع الشفاعة منهم فيلحق بهم ، بخلاف الأول ، فقد تقدم عن القشيري ، فى سورة آل عمران ، أنهم يريدون الشفاعة فيه ، فيخلق اللّه صورة على مثله ، فإذا رأوها تركوا الشفاعة فيه ، فيبقى مع عوام أهل اليمين. فانظره «1». وبالله التوفيق.
___________
(1) راجع إشارة الآية 90 من سورة آل عمران.(2/363)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 364
ثم عاتبهم على تأخر بعضهم عن الجهاد ، فقال :
[سورة التوبة (9) : آية 16]
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (16)
قلت : «أم» : منقطعة ، بمعنى الهمزة للإنكار والتوبيخ على الحسبان ، والخطاب للمؤمنين أو المنافقين ، والوليجة : البطانة والصحبة.
يقول الحق جل جلاله : أَمْ حَسِبْتُمْ أي : أظننتم أَنْ تُتْرَكُوا من غير اختبار ، وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ أي : ولم يتبين الخلّص منكم ، وهم الذين جاهدوا ، من غيرهم ، والمراد : علم ظهور ، أي :
أظننتم أن تتركوا ولم يظهر منكم المجاهد من غيره. قال البيضاوي : نفى العلم ، وأراد نفى المعلوم للمبالغة ، فإنه كالبرهان عليه من حيث أن تعلق العلم به مستلزم لوقوعه. ه. بل يختبركم حتى يظهر الذين جاهدوا منكم.
وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً بطانة ، أي : جاهدوا ، وأفردوا محبتهم لله ولرسوله وللمؤمنين ، ولم يتخذوا من دونهم بطانة ، أي : أصحاب سر يوالونهم ويبثون إليهم أسرارهم ، بل اكتفوا بمحبة اللّه ومودة رسول اللّه والمؤمنين ، دون موالاة من عاداهم ، والتعبير ب (لما) : يقتضي أن ظهور ذلك متوقع ، وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ : تهديد لمن يفعل ذلك.
الإشارة : إفراد المحبة لله ولأولياء اللّه من أعظم القربات إلى اللّه ، وأقرب الأمور الموصلة إلى حضرة اللّه ، والالتفات إلى أهل الغفلة بالصحبة والمودة ، من أعظم الآفات والأسباب المبعدة عن اللّه ، والعياذ بالله. وفى الحديث : «المرء على دين خليله». و«المرء مع من أحبّ» ، و«من أحبّ قوما حشر معهم.» إلى غير ذلك من الآثار فى هذا المعنى.
ثم نهى عن دخول المشركين المساجد ، فقال :
[سورة التوبة (9) : الآيات 17 الى 18]
ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ (17) إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18)(2/364)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 365
يقول الحق جل جلاله : ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أي : ما صح لهم أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ أي : شيئا من المساجد ، فضلا عن المسجد الحرام ، وقيل : هو المراد ، وإنما جمع لأنه قبلة المساجد وإمامها ، فأمره كأمرها ، ويدل عليه قراءة من قرأ بالتوحيد ، أي : ليس لهم ذلك ، وإن كانوا قد عمروه تغلبا وظلما ، حال كونهم شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ بإظهار الشرك وتكذيب الرسول ، أي : ما استقام لهم أن يجمعوا بين أمرين متباينين :
عمارة بيت اللّه ، وعبادة غير اللّه ، أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فى الدنيا والآخرة لما قارنها من الشرك والافتخار بها ، وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ لأجل كفرهم.
إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ ، أي : إنما تستقيم عمارتها بهؤلاء الجامعين للكمالات العلمية والعملية ، ومن عمارتها : تزيينها بالفرش ، وتنويرها بالسرج ، وإدامة العبادة والذكر ودروس العلم فيها ، وصيانتها مما لم تبن له كحديث الدنيا.
وعن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال : قال اللّه تعالى : «إنّ بيوتى فى أرضى المساجد ، وإنّ زوّارى فيها عمّارها ، فطوبى لعبد تطهر فى بيته ، ثم زارنى فى بيتي ، فحقّ على المزور أن يكرم زائره». ووقف عبد اللّه بن مسعود على جماعة فى المسجد يتذاكرون العلم فقال : بأبى وأمي العلماء ، بروح اللّه ائتلفتم ، وكتاب اللّه تلوتم ، ومسجد اللّه عمرتم ، ورحمة اللّه انتظرتم ، أحبكم اللّه وأحب من أحبكم. ه.
وإنما لم يذكر الإيمان بالرسول صلّى اللّه عليه وسلّم لما علم أن الإيمان بالله قرينه وتمامه الإيمان به ، ولدلالة قوله : وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ عليه. قاله البيضاوي.
وَلَمْ يَخْشَ فى أموره كلها إِلَّا اللَّهَ ، فهذا الذي يصلح لعمارة بيت اللّه ، فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ ، وعبّر بعسى ، قطعا لأطماع المشركين فى الاهتداء والانتفاع بأعمالهم ، وتوبيخا لهم على القطع بأنهم مهتدون فإن كان اهتداء هؤلاء ، مع كمالهم ، دائرا بين عسى ولعل ، فما ظنك بأضدادهم؟ ، ومنعا للمؤمنين أن يغتروا بأحوالهم فيتكلوا عليها. وفى الحديث عنه صلّى اللّه عليه وسلّم : «من رأيتموه يتعاهد المسجد فاشهدوا له بالإيمان» ، ثم تلا الآية «1».
الإشارة : مساجد الحضرة محرمة على أهل الشرك الخفي والجلي ، لا يدخل الحضرة إلا قلب مفرد ، فيه توحيد مجرد ، لا يعمر مساجد الحضرة إلا قلب مطمئن بالله ، غائب عما سواه ، قد رفض الركون إلى الأسباب ، وأفرد
___________
(1) أخرجه الترمذي فى (التفسير - سورة التوبة) وابن ماجه فى (المساجد - باب لزوم المساجد وانتظار الصلاة) والدارمي فى (الصلاة - باب المحافظة على الصلوات) من حديث أبى سعيد الخدري.(2/365)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 366
الوجهة لمسبب الأسباب ، قطع الشواغل والعلائق حتى أشرقت أنوار الحقائق. إنما يعمر مساجد حضرة القدوس من آمن باللّه واليوم الآخر ، وأقام صلاة القلوب ، وآتى زكاة النفوس ، ولم يراقب أحدا من المخلوقين ، فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين إلى حضرة رب العالمين.
ولما افتخر قوم من قريش بسقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام ، بيّن اللّه تعالى أن الجهاد أفضل من ذلك ، فقال :
[سورة التوبة (9) : الآيات 19 الى 22]
أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19) الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ (20) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ (21) خالِدِينَ فِيها أَبَداً إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (22)
قلت : السقاية والعمارة : مصدران ، فلا يشبهان بالجثة ، فلا بد من حذف ، أي : أجعلتم أهل سقاية الحاج كمن آمن ، أو أجعلتم سقاية الحاج كإيمان من آمن.
يقول الحق جل جلاله : أَجَعَلْتُمْ أهل سِقايَةَ الْحاجِّ ، وَأهل عِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ من أهل الشرك المحبطة أعمالهم ، كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ من أهل الإيمان ، وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لإعلاء كلمة اللّه ، المثبتة أعمالهم ، بل لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ أبدا لأن أهل الشرك الذين حبطت أعمالهم فى أسفل سافلين ، إن لم يتوبوا ، وأهل الإيمان والجهاد فى أعلى عليين.
ونزلت الآية فى على - كرم اللّه وجهه - والعباس وطلحة بن شيبة ، افتخروا ، فقال طلحة : أنا صاحب البيت ، وعندى مفاتحه ، وقال العباس : أنا صاحب السقاية ، وقال على رضى اللّه عنه : لقد أسلمت وجاهدت مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ، فبيّن اللّه تعالى أن الإيمان والجهاد أفضل ، ووبخ من افتخر بغير ذلك فقال : وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ أي : الكفرة الذين ظلموا أنفسهم بالشرك ومعاداة الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم ، وداموا على ذلك ، وقيل : المراد بالظالمين : الذين يسوون بينهم وبين المؤمنين.
ثم أكد ذلك بقوله : الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً ، وأعلى رتبة ، وأكثر كرامة ، عِنْدَ اللَّهِ ، ممن لم يستجمع هذه الصفات ، أو من أهل السقاية والعمارة عندكم ، (2/366)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 367
وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ بكل خير ، الظافرون بنيل الحسنى والزلفى عند اللّه ، دون من عداهم ممن لم يفعل ذلك.
ثم زاد فى كرامتهم فقال : يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ أي : تقريب وعطف منه وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها أي : فى الجنان نَعِيمٌ مُقِيمٌ دائم ، لانفاد له ولا انقطاع. وتنكير المبشر به إشعار بأنه وراء التعيين والتعريف ، حال كونهم خالِدِينَ فِيها أَبَداً ، أكد الخلود بالتأبيد لأنه قد يطلق على طول المكث ، إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ يستحقر دونه مشاق الأعمال المستوجبة له ، أو نعيم الدنيا إذ لا قدر له فى جانب نعم الآخرة.
الإشارة : لا يستوي من قعد فى وطنه مع عوائده وأسبابه ، راكنا إلى عشائره وأحبابه ، واقفا مع هواه ، غافلا عن السير إلى مولاه ، مع من هاجر وطنه وأحبابه ، وخرق عوائده وأسبابه ، وجاهد نفسه وهواه ، سائرا إلى حضرة مولاه ، لا يستوون أبدا عند اللّه لأن هؤلاء مقربون عند لله ، والآخرون فى محل البعد عن اللّه ، ولو كثر علمهم وعملهم عند اللّه ، شتان بين من همته القصور والحور ، وبين من همته الحضور ورفع الستور ، يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان ، وجنات المعارف لهم فيها نعيم لأرواحهم ، وهو الشهود والعيان ، لا يحجب عنهم طرفة عين ، إن اللّه عنده أجر عظيم ، لا يخطر على قلب بشر. لا حرمنا اللّه من ذلك.
ثم نهى عن موالاة أهل الغفلة وإن قربوا نسبا ، فقال :
[سورة التوبة (9) : الآيات 23 الى 24]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (23) قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (24)
يقول الحق جل جلاله : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ الذين بقوا على كفرهم أَوْلِياءَ توالونهم بالمحبة والطاعة ، إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ واختاروه على الإيمان. نزلت فى شأن المهاجرين فإنهم لما أمروا بالهجرة قالوا : إن هاجرنا قطعنا آباءنا وأبناءنا وعشائرنا ، وذهبت تجارتنا ، وبقينا ضائعين. وقيل : نزلت فيمن ارتد ولحق بمكة ، فنهى اللّه عن موالاتهم. وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ بوضعهم الموالاة فى غير موضعها.(2/367)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 368
قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ أي : أصحابكم ، أو أقرباؤكم ، وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها اكتسبتموها ، وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها أي : فوات وقت إنفاقها ، وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها لحسنها وسعتها ، فإن كان ذلك أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ أي : من الإيمان بالله وصحبة رسوله ، وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ ، فآثرتم ذلك ، وتخلفتم عن الإيمان والهجرة ، فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ أي : بعقوبة عاجلة أو آجلة ، أو بنصر وفتح على المؤمنين ، كفتح مكة وغيرها ، والمراد بالمحبة : الاختيارية دون الطبيعة فإنها لا تدخل تحت التكليف ، والتحفظ عنها لأن حب الأوطان والعشائر طبيعى ، والحب المكلف به اختياري ، بحيث يجاهد نفسه فى إبدال الطبيعي بالاختيارى.
ثم هدد من وقف مع حب الأوطان بقوله : وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ لا يرشدهم ولا يوفقهم. وفى الآية تهديد عظيم ، وقلّ من تحفظ عنه. قاله البيضاوي.
الإشارة : الهجرة من أوطان الغفلة واجبة ، ومفارقة الأصحاب والعشائر الذين لا يوافقون العبد على النهوض إلى اللّه فريضة ، فيجب على المريد أن يهاجر من البلد التي لا يجد فيها قلبه ، ولا يجد فيها من يتعاون به على ربه ، كائنة ما كانت ، وما رأينا وليّا قط أنتج فى بلده ، إلا القليل ، فلما هاجر صلّى اللّه عليه وسلّم من وطنه إلى المدينة. وحينئذ نصر الدين ، بقيت سنة فى الأولياء ، لا تجد وليا يعمر سوقه إلا فى غير بلده ، ويجب عليه أيضا أن يعتزل من يشغله عن اللّه من الآباء والأبناء والأزواج والعشائر ، وكذلك الأموال والتجارات التي تشغل قلبه عن اللّه ، بعد أن يقيم فى أولاده حقوق الشريعة ، فاللبيب هو الذي يجمع بين الحقيقة والشريعة ، فلا يضيع من يعول ، ولا يترك حق من يتعلق به من الزوجة أو غيرها ، ويذكر اللّه مع ذلك ، فيخالطهم بحسه ، ويفارقهم بقلبه ، فإن لم يستطع وأراد دواء قلبه فليخير الزوجة ، ويوكل من ينوب عنه فى القيام بحقوق العيال ، حتى يقوى قلبه ويتمكن مع ربه ، وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً ، وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ «1».
ولإبراهيم بن أدهم رضى اللّه عنه :
هجرت الخلق طرا فى رضاكا وأيتمت البنين لكى أراكا
فلو قطعتنى إربا فإربا لما حنّ الفؤاد إلى سواكا
وبالله التوفيق
___________
(1) الآيتان : 2 - 3 من سورة الطلاق.(2/368)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 369
ثم ذكّرهم بالنعم ، فقال :
[سورة التوبة (9) : الآيات 25 الى 27]
لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25) ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (26) ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (27)
قلت : (و يوم حنين) : عطف على (مواطن) ، أو منصوب بفعل مضمر ، وهذا أحسن لأن قوله : (إذ أعجبتكم كثرتكم) خاص بيوم حنين. انظر : ابن جزى.
يقول الحق جل جلاله ، فى تذكيرهم بالنعم : لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ أي : فى مواقف الحرب ومداحضها فى مواضع كثيرة ، وَنصركم أيضا يَوْمَ حُنَيْنٍ ، وهى غزوة كانت بعد فتح مكة ، متصلة بها ، فى موضع يقال له : حنين ، سمى باسم رجل كان يسكنه ، وهو واد بين مكة والطائف ، حارب فيه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم والمسلمون ، وكانوا اثنى عشر ألفا : عشرة آلاف من الذين حضروا فتح مكة ، وألفان انضموا إليهم من الطلقاء ، قاتلوا هوازن وثقيف ومن انضم إليهم من قبائل العرب. وكانوا ثلاثين ألفا ، فلما التقوا مع بعض المشركين قال بعض المسلمين : لن نغلب اليوم من قلة ، إعجابا بكثرتهم ، واقتتلوا قتالا شديدا ، فأدرك المسلمين إعجابهم ، واعتمادهم على كثرتهم ، فانهزموا حتى وصل جلهم إلى مكة ، وبقي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فى مركزه ، ليس معه إلا عمه العباس ، آخذا بلجامه ، وابن عمه أبو سفيان بن الحارث ، وناهيك شهادة على تناهى شجاعته صلّى اللّه عليه وسلّم ، فقال للعباس - وكان صيّتا - : صح بالناس ، فنادى : يا عباد اللّه ، يا أصحاب الشجرة ، يا أصحاب سورة البقرة ، فكروا عنقا واحدا ، يقولون : لبيك لبيك ، ونزلت الملائكة ، فالتقوا مع المشركين ، فقال - عليه الصلاة والسلام - : هذا حين حمى الوطيس «1» ، ثم أخذ كفا من تراب فرماهم ، وقال : شاهت الوجوه ، ثم قال : انهزموا وربّ الكعبة ، فانهزموا «2».
___________
(1) الوطيس : حفرة تحتقر تحت الأرض ، فتوقد فيها النار ويصغّر رأسها ، ويخرق فيها خرق للدخان. ثم يوضع فيها اللحم ، ويسد ، ثم يؤتى من الغد واللحم غاب لم يحترق ، ولحمها شواء ، وهى مجاز فى شدة الحرب.
(2) أخرجه بنحوه مسلم فى (الجهاد - باب غزوة حنين) من حديث سيدنا العباس رضى اللّه عنه.(2/369)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 370
فأشار تعالى إلى مقالتهم معاتبا لهم عليها بقوله : إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً أي : فلم تغن تلك الكثرة عنكم شيئا من الإغناء ، أو من أمر العدو. وهذه المقالة صدرت من غير النبي صلّى اللّه عليه وسلّم كما تقدم لأنه معصوم من الإعجاب ، وإن ثبت أنه قال ذلك فليس على وجه الإعجاب ، بل على وجه الإخبار ، وعلى ذلك جرى الحكم فى المذهب : من حرمة الفرار عند بلوغ اثنى عشر ألفا ، وكان المسلمون يومئذ اثنى عشر ألفا بالطلقاء وهم مسلمة الفتح : وكانوا الفين ، وسموا بالطلقاء لمنّ النبي صلّى اللّه عليه وسلّم عليهم ، يقال لمن أطلق من أسر : طليق ، وجمعه على طلقاء نادر لأنه يشترط فى فعيل ، الذي يجمع على فعلاء ، أن يكون بمعنى فاعل ، كظريف وشريف ، لا بمعنى مفعول ، كدفين ودفنى ، وسخين وسخنى ، ومنه. طليق.
ثم قال تعالى : وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ برحبها ، أي : ضاقت على كثرة اتساعها ، فلم تجدوا فيها مكانا تطمئن إليه نفوسكم من الدهش ، ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ هاربين عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ، ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ أي : طمأنينته عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ بعد انهزامهم ، فرجعوا وقاتلوا ، أو على من بقي مع الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم ، ولم يفروا. وإعادة الجار للتنبيه على اختلاف حالهما.
وَأَنْزَلَ جُنُوداً من الملائكة لَمْ تَرَوْها بأعينكم ، وكانوا خمسة آلاف ، أو ثمانية ، أو ستة عشر ، على اختلاف الأقوال. وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا بالقتل والأسر والسبي ، وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ أي : ما فعل بهم هو جزاء كفرهم فى الدنيا ، ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ منهم ، بالتوفيق للإسلام ، وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ يتجاوز عنهم ويتفضل عليهم بالتوفيق والهداية.
روى أن أناسا منهم جاؤوا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وأسلموا ، وقالوا : يا رسول اللّه ، أنت خير الناس وأبرهم ، وقد سبى أهلونا وأولادنا ، وأخذت أموالنا - وقد سبى يومئذ ستة آلاف نفس ، وأخذ من الإبل والغنم ما لا يحصى ، فقال :
«اختاروا ، إما سبيكم ، وإما أموالكم». فقالوا : ما كنّا نعدل بالأحساب شيئا. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : «إنّ هؤلاء جاءونا تائبين ، وأنا خيّرتهم بين الذّرارى والأموال ، فلم يعدلوا بالأحساب شيئا ، فمن كان بيده سبى فطابت نفسه أن يرده فشأنه ، ومن لا ، فليعطنا ، وليكن قرضا علينا حتّى نصيب شيئا فنعطيه مثله» ، فقالوا : رضينا وسلّمنا ، فقال : «إنّى لا أدرى ، لعلّ فيكم من لا يرضى ، فارجعوا حتى يرفع إلىّ عرفاؤكم أمركم» فرفعوا إليه أمرهم ، وقالوا : قد رضوا ، فردّ السبي إليهم ، وقسم الأموال فى المؤلفة قلوبهم «1» ، ترغيبا فى تسكين قلوبهم للإسلام. والغزوة مطولة فى كتب السيرة ، واللّه تعالى أعلم.
___________
(1) القصة أخرجها البخاري فى (المغازي باب قول اللّه تعالى : ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم) عن عروة عن المسور ومروان.(2/370)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 371
الإشارة : لقد نصركم اللّه ، يا معشر المريدين ، على جهاد نفوسكم وتيسير أموركم ، فى مواطن كثيرة ، إذا رجعتم إلى ربكم ، واعتزلتم من حولكم وقوتكم فى جميع أموركم ، فمن علامة النجاح فى النهاية الرجوع إلى اللّه فى البداية ، ما تعذر مطلب أنت طالبه بربك ، ولا تيسر مطلب أنت طالبه بنفسك. فمن رجع إلى نفسه ، أو استند إلى عقله وحدسه ، لم تغن عنه شيئا ، وضاقت عليه الأرض بما رحبت ، ورجع من حيث جاء ، فإن انتبه ، ورجع إلى ربه ، أنزل سكينة عليه ، وأيده باليقين ، ورجا أن يدرك أمله من رب العالمين.
قال الورتجبي : قوله تعالى : (ثم أنزل اللّه سكينته على رسوله) ، سكينته - عليه الصلاة والسلام - زيادة أنوار كشف مشاهدة اللّه ، له ، حين خاف من مكر الأزل ، فأراه اللّه اصطفائيته الأزلية ، وأمنه من مكره ، لا أنه ينظر من الحق إلى نفسه طرفة عين ، لكن إذا غاب فى بحر القدم لم ير للحدث أثرا ، ورأى الحدثان متلاشية فى فيض العظمة ، ففزع منه به ، فآواه اللّه منه إليه ، حتى سكن به عنه. ه.
ثم أمر بمنع المشركين من دخول البيت الحرام ، فقال :
[سورة التوبة (9) : آية 28]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (28)
يقول الحق جل جلاله : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ أي : عين الخبث ، مبالغة فى خبثهم ، إما لخبث باطنهم بالكفر ، أو لأنهم لا يتطهرون من النجاسات ، ولا يتوقون منها ، فهم ملابسون لها غالبا.
وعن ابن عباس رضى اللّه عنه : أن أعيانهم نجسة كالكلاب. قاله البيضاوي. فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ ، وهو نص على منع المشركين - وهم عبدة الأوثان - من المسجد الحرام ، وهو مجمع عليه ، وقاس مالك على المشركين جميع الكفار من أهل الكتاب وغيرهم ، وقاس على المسجد الحرام سائر المساجد ، ومنع جميع الكفار من جميع المساجد.
وجعلها الشافعي عامة فى الكفار ، خاصة بالمسجد الحرام ، فمنع جميع الكفار من دخول المسجد الحرام خاصة ، وأباح دخول غيره ، وقصرها أبو حنيفة على موضع النهى ، فمنع المشركين خاصة من دخول المسجد الحرام وأباح لهم دخول سائر المساجد ، وأباح دخول أهل الكتاب فى المسجد الحرام وغيره. قاله ابن جزى.
قوله تعالى : بَعْدَ عامِهِمْ هذا يعنى : سنة تسع من الهجرة ، حين حج أبو بكر بالناس ، وقرأ علىّ رضى اللّه عنه عليهم سورة براءة.(2/371)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 372
وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً أي : فقرا بسبب منع المشركين من الحرم ، وكانوا يجلبون لها الطعام ، فخاف الناس قلة القوت منها ، إذا انقطع المشركون عنهم ، فوعدهم اللّه بالغنى بقوله : فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ من عطائه وتفضله بوجه آخر ، وقد أنجز وعده بأن أرسل السماء عليهم مدرارا ، وأسلمت العرب كلها ، وتمادى جلب الطعام إلى مكة ، ثم فتح عليهم البلاد ، وجلبت لهم الغنائم ، وتوجه الناس إليهم من أقطار الأرض ، وما زال كذلك إلى الآن.
وقيده بالمشيئة لتنقطع الآمال إلى اللّه ، ولينبه على أنه متفضل فى ذلك ، وإن الغنى الموعود يكون لبعض دون بعض ، وفى عام دون عام ، إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بأحوالكم ، حَكِيمٌ فيما يعطى ويمنع.
الإشارة : بيوت الحضرة - وهى القلوب المقدسة - لا ينبغى أن يدخلها شىء من شرك الأسباب ، أو الوقوف مع رفق الأصحاب ، أو الركون إلى معلوم حتى يفرد التعلق بالحي القيوم ، ولا ينبغى أيضا أن يدخلها شىء من نجاسة حس الدنيا وأكدارها وأغيارها ، فيجب على أربابها الفرار من مواطن الكدر ، والعزلة عن أربابها لئلا يدخل فيها شىء من نجاستها ، فتموت بعد حياتها ، وكان عيسى - عليه الصلاة والسلام - يقول لأصحابه : (لا تجالسوا الموتى فتموت قلوبكم ، قالوا : من الموتى يا روح اللّه؟ قال : المحبون للدنيا الراغبون فيها). فإن خفتم عيلة بالفرار منهم واعتزال نجاستهم ، فسوف يغنيكم اللّه من فضل غيبه إن شاء ، فى الوقت الذي يشاء ، إذ لا يخفى عليه شىء فى الأرض ولا فى السماء. واللّه تعالى أعلم.
قال القشيري : إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ أي : لأنهم فقدوا طهارة الأسرار ، فبقوا فى مزابل الظنون والأوهام ، فمنعوا قربان المساجد التي هى مساجد القرب ، وأمّا المؤمنون فطهّرهم عن التدنّس بشهود الأغيار ، فطالعوا الحقّ فردا فيما ينشيه من الأمر ويمضيه من الحكم. ه.
ثم أمر بجهاد أهل الكتاب ، فقال :
[سورة التوبة (9) : آية 29]
قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ (29)
يقول الحق جل جلاله للمؤمنين : قاتِلُوا أهل الكتاب من اليهود والنصارى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ على ما يجب له ، لإشراكهم عزير وعيسى ، ولتجسيمهم ، وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ لأنهم ينكرون المعاد الجسماني ، (2/372)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 373
فإيمانهم فى الجانبين كلا إيمان ، وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ محمد صلّى اللّه عليه وسلّم لأنهم يحلون الخمر والميتة والدم ولحم الخنزير ، وغير ذلك مما حرمته الشريعة المحمدية ، وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ أي : لا يدخلون فى الإسلام ، الذي هو الدين الحق ، الناسخ لسائر الأديان ومبطلها.
ثم بيّن الذين أمر اللّه بقتالهم بقوله : مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وهم اليهود والنصارى. وحين نزلت خرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم لغزوة تبوك لقتال النصارى ، ووصل إلى أوائل بلد العدو ، فصالح أهل أدرج وأيلة ، وغيرهما ، على الجزية وانصرف ، وذلك امتثال للآية.
قال تعالى : فقاتلوهم حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ أي : ما تقرر عليهم أن يعطوه ، وقدرها عند مالك : أربعة دنانير على أهل الذهب ، وأربعون درهما على أهل الورق ، يؤخذ ذلك من كل رأس ، واتفق العلماء على قبول الجزية من اليهود والنصارى ، ويلحق بهم المجوس لقوله صلّى اللّه عليه وسلّم : «سنّوا بهم سنّة أهل الكتاب» «1» لأن لهم شبهة كتاب ، فألحقوا بهم. واختلفوا فى قبولها من عبدة الأوثان قال مالك : تؤخذ من كل كافر إلا المرتد ، ولا تؤخذ من النساء والصبيان والمجانين.
وقوله تعالى : عَنْ يَدٍ أي : يباشر إعطاءها بيده ، لا يبعثها مع أحد ، أو لا يمطل بها ، كقولك : يدا بيد ، أو عن استسلام وانقياد ، كقولك : ألقى فلان بيده. وَهُمْ صاغِرُونَ أذلاء محقورون. وعن ابن عباس رضى اللّه عنه : تؤخذ الجزية من الذمي ، وتوجأ عنقه ، أي : تصفع.
الإشارة : يؤمر المريد بقتل نفسه وحظوظه وهواه ، وأعظمها : حب الدنيا والرئاسة والجاه ، ولا يزال يخالف هواها ، ويعكس مراداتها ، ويحملها ما يثقل عليها ، حتى تنقاد إليه بالكلية ، بحيث لا يثقل عليه شىء ، ويستوى عندها العز والذل ، والفقر والغنى ، والمدح والذم ، والمنع والعطاء ، والفقد والوجد ، فإن استوت عندها هذه الأحوال فقد أسلمت وأعطت ما يجب عليها ، فيجب حفظها ورعايتها ، وتصديقها فيما يرد عليها. وبالله التوفيق.
ثم ذكر الباعث على جهاد أهل الكتاب ، وهو فساد اعتقادهم ، فقال :
___________
(1) أخرجه مالك فى الموطأ (الزكاة ، باب جزية أهل الكتاب والمجوس) والشافعي فى مسنده (الجزية) والبيهقي فى السنن الكبرى (9/ 189) ، والبغوي فى شرح السنة (11/ 169) عن عبد الرحمن بن عوف.(2/373)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 374
[سورة التوبة (9) : الآيات 30 الى 33]
وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30) اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31) يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (32) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33)
قلت : (عزيز) : (مبتدأ) ، و(ابن اللّه) : خبر ، فمن نونه جعله مصروفا لأنه عنده عربى ، ومن حذف تنوينه :
إما لمنعه من الصرف للعلمية والعجمة عنده ، وإما لالتقاء الساكنين تشبيها للنون بحروف اللين ، وهو ضعيف ، والأول أحسن.
يقول الحق جل جلاله : وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ ، قال ابن عباس : هذه المقالة قالها أربعة منهم ، وهم : سلام بن مشكم ، ونعمان أو لقمان بن أوفى ، وشاس بن قيس ، ومالك بن الصّيف «1». وقيل : لم يقلها إلا فنحاص ، ونسب ذلك لجميعهم لسكوتهم عنه. قال البيضاوي : إنما قال ذلك بعضهم من متقدميهم ، أو ممن كانوا بالمدينة ، وإنما قالوا ذلك لأنه لم يبق فيهم بعد وقعة بختنصر من يحفظ التوراة ، وهو - أي عزير - لما أحياه اللّه بعد مائة عام ، أملى عليهم التوراة حفظا ، فتعجبوا من ذلك ، وقالوا : ما هذا إلا أنه ابن اللّه ، والدليل على أن هذا القول كان فيهم أن الآية قرئت عليهم فلم يكذبوا مع تهالكهم على التكذيب. ه.
وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ، هو أيضا قول بعضهم ، وإنما قالوه استحالة أن يكون الولد بلا أب ، أو لما كان يفعل من إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى ، وتقدم الرد عليهم ، وسبب إدخال هذه الشبهة عليهم ، فى سورة المائدة. «2»
قال تعالى : ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ من غير دليل ولا برهان ، بل قالوا به من عندهم يُضاهِؤُنَ أي : يشابهون فى هذه المقالة قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ ، يعنى : قدماءهم ، على معنى أن الكفر قديم فيهم.
قال ابن جزى : فإن كان الضمير لليهود والنصارى ، أي : المتقدمين ، فالإشارة بقوله : (الذين كفروا من قبل) للمشركين من العرب ، إذ قالوا : الملائكة بنات اللّه ، وهم أول كافر ، أو للصابئين ، أو لأمم تقدمت ، وإن كان الضمير للمعاصرين للنبى صلّى اللّه عليه وسلّم من اليهود والنصارى ، فالذين كفروا من قبل هم أسلافهم المتقدمون. ه.
___________
(1) انظر تفسير البغوي (4/ 36).
(2) عند تفسير قوله تعالى : لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ ... الآية 72.(2/374)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 375
قاتَلَهُمُ اللَّهُ أي : أهلكهم ودمرهم لأن من قاتله اللّه هلك ، فيكون دعاء ، أو تعجبا من شناعة قولهم ، أَنَّى يُؤْفَكُونَ أي : كيف يصرفون عن الحق إلى الباطل.
اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ أي : علماءهم وَرُهْبانَهُمْ عبّادهم أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ بأن أطاعوهم فى تحريم ما أحل اللّه ، وتحليل ما حرم اللّه ، وفى السجود لهم ، وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ بأن جعلوه ابن اللّه ، وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً وهو اللّه الواحد الحق ، وأما طاعة الرسول - عليه الصلاة والسلام - وسائر من أمر بطاعته ، فهو فى الحقيقة طاعة لله ، لا إِلهَ إِلَّا هُوَ تقرير للتوحيد ، سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ تنزيها له عن أن يكون معه شريك.
يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا أي : يخمدوا نُورَ اللَّهِ القرآن أو الإسلام بجملته ، بِأَفْواهِهِمْ كقولهم فيه :
سحر ، وشعر ، وغير ذلك ، وفيه إشارة إلى ضعف حيلتهم فيما أرادوا ، وَيَأْبَى اللَّهُ لا يرضى إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ بإعلاء التوحيد ، وإظهار الإسلام ، وإعزاز القرآن وأهله ، وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ ذلك ، فإن اللّه لا محالة يتم نوره ، ويظهر دينه.
هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ محمدا صلّى اللّه عليه وسلّم بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ ، الضمير فى «يظهره» : للدين الحق ، أو للرسول صلّى اللّه عليه وسلّم ، واللام فى «الدين» : للجنس ، أي : على سائر الأديان فينسخها ، أو على أهلها فيخذلهم ، وقد أنجز وعده ، وأظهر دينه ورسوله على الأديان كلها ، حتى عم المشارق والمغارب ، وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ذلك الإظهار ، فيظهره اللّه رغما عن أنفهم. وقيل : يتحقق ذلك عند نزول عيسى عليه السّلام ، حتى لا يبقى دين إلا دين الإسلام ، واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : من انطمس نور بصيرته نسب لله ما لا يليق بكمالاته ، ومن لم تنهضه سوابق العناية وقف مع الوسائط ، ولم ينفذ إلى شهود الموسوط ، وقد عيّر اللّه قوما وقفوا مع الوسائط فقال : اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ ، وقال ، فى شأن الواسطة العظمى غيرة على القلوب أن تقف مع غيره : لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ «1» ، إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ «2» ، ودخل بعض العارفين على إنسان وهو يبكى ، فقال : وما يبكيك؟ فقال له : مات أستاذى ، فقال له ذلك العارف : ولم جعلت أستاذك من يموت؟.
فالوسائط كالأنبياء والأولياء ، إنما هم موصّلون إلى اللّه ، دالون عليه ، فمن وقف معهم ولم ينفذ إلى اللّه فقد اتخذه ربا عند الخواص.
___________
(1) من الآية 128 من سورة آل عمران.
(2) من الآية 12 من سورة هود.(2/375)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 376
وقال الورتجبي على هذه الآية : عيّر الحق تعالى من بقي فى رؤية المقتدى به دون رؤية الحق ، وإن كان وسيلة منه ، فإن فى إفراد القدم من الحدوث ، النظر إلى الوسائط ، وهو شرك ، وتصديق ذلك تمام الآية وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً. غيرة الوحدانية ما أبقت فى البين غيرا من الشواهد والآيات وجميع الخلق. قال اللّه تعالى :
قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ «1». ولما رأى صلّى اللّه عليه وسلّم غيرة القدم على شأن استهلاك الغير زجر من مدحه وتجاوز فى المدح فقال : «لا تطرونى كما أطرت النصارى المسيح».
ثم قال الورتجبي : قال بعضهم فى هذه الآية : سكنوا إلى أمثالهم ، فطلبوا الحق من غير مظانه ، وطرق الحق واضحة لمن كحل بنور التوفيق ، وبصر سبل التحقيق ، ومن أعمى عن ذلك كان مردودا عن طريق الحق إلى طرق الضالين من الخلق ، وقد وقع أنهم معيرون وموبخون بقلة عرفانهم أهل الحقائق ، وركونهم إلى أهل التقليد ، وسقطوا عن منازل أهل التوحيد فى التفريد ، وهكذا شأن من اقتدى بالزوّاقين من أهل السالوس المتزينين بزى المشايخ والعارفين المتحققين ، وتخلف خلف الجامعين للدنيا ، الذين يقولون : نحن أبناء المشايخ ونحن رؤساء الطريقة ، يضحك اللّه الدهر من جهلهم حيث علموا أن الولاية بالنسب ، حاشا أن من لم يذق طعم وصال اللّه ، وقلبه معلق بغير اللّه ، هو من أولياء اللّه.
قال الجنيد : إذا أراد اللّه بالمريد خيرا هداه إلى صحبة الصوفية ، ووقاه من صحبة القراء. ولو اشتغلوا بشأنهم وجمع دنياهم ، ولم يتعرضوا لأولياء اللّه ، ولم يقصدوا إسقاط جاههم ، لكفيهم شقاوتهم ، لا سيما ويطعنون على الصديقين العارفين. قال اللّه فى شأنهم : يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ ، كيف تطفأ بتراب حسبانهم أنوار شموس الصفات ، التي تبرز من جباه وجوههم ، ولئالىء خدودهم ، وأصلها ثابت فى أفلاك الوحدانية وسموات القيومية ، ويزيد نورهم على نور لأنه تعالى بلا نهاية ولا منتهى لصفاته.
قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ) : إن اللّه سبحانه سن سنة أزلية : ألا يجد أحد سبيله إلا من يقيض له أستاذا عارفا بالله ، وبسرّ دينه وربوبيته ، فيدله إلى منهاج عبوديته ، ومعارج روحه وقلبه ، إلى مشاهدة ربوبيته ، ويكون هو واسطة بينه وبين اللّه ، وإن كان الفضل بيد اللّه ، يؤتيه من يشاء بغير علة ولا سبب ، جعله واسطة للتأديب لا للتقريب ، وصيره شفيعا للجنايات ، لا شريكا فى الهدايات ، هداه نور القرآن ، وبيّنه حقيقة البيان ، مع إظهار البرهان. قيل : جعل اللّه الوسائط طريقا لعباده إليه ، وبعثهم أعلاما على الطرق ونورا يهتدى بهم ، وعرفهم سبل الحق وحقيقة الدين ، قال اللّه تعالى : (أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ). انتهى كلامه.
___________
(1) من الآية 91 من سورة الأنعام.(2/376)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 377
ثم ذكر مساوئ الأحبار والرهبان ، تنفيرا من طاعتهم ، وذما لمن اتخذهم أربابا ، فقال :
[سورة التوبة (9) : الآيات 34 الى 35]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (35)
قلت : (يحمى عليها) : الجار والمجرور : نائب الفاعل ، وأصله : يوم تحمى النار الشديدة الحمى عليها ، فجعل الإحماء للنار مبالغة ، ثم حذفت النار ، وأسند الفعل إلى الجار والمجرور تنبيها على المقصود ، فانتقل من صيغة التأنيث إلى صيغة التذكير.
يقول الحق جل جلاله : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ يأخذونها بالرشا فى الأحكام ، وسمى أخذ المال أكلا لأنه الغرض الأعظم منه ، وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي : يعوقون الناس عن الدخول فى دينه ، وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ أي : يدخرونها وَلا يُنْفِقُونَها أي : الأموال المفهومة من الذهب والفضة ، أو الكنوز ، أو الفضة ، واكتفى بذكرها عن الذهب إذ الحكم واحد ، فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ وهو الكي بها ، وهذا الحكم يحتمل أن يرجع لكثير من الأحبار والرهبان ، فيكون مبالغة فى وصفهم ، بالحرص على المال وجمعه ، وأن يراد به المسلمون الذين يجمعون الأموال ، ويقتنونها ولا يؤدون حقها ، ويكون اقترانه بأكلة الرشا من أهل الكتب للتغليظ. ويدل عليه : أنه لما نزلت على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ، ذكر ذلك عمر لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ، فقال : «إنّ اللّه لم يفرض الزكاة إلا ليطيّب بها ما بقي من أموالكم.» «1»
وقوله - عليه الصلاة والسلام - : «ما أدى زكاته فليس بكنز» «2». وقال أبو ذر وجماعة من الزهاد : كل ما فضل عن حاجة الإنسان فهو كنز ، وحمل الآية عليه.
___________
(1) أخرجه أبو داود فى (الزكاة ، باب فى حقوق المال) والحاكم فى المستدرك (1/ 409) من حديث ابن عباس ، والحديث صححه الحاكم ووافقه الذهبي. [.....]
(2) أخرجه البيهقي فى الكبرى (كتاب الزكاة 4/ 83) وابن عدى فى الكامل فى (ترجمة سويد بن عبد العزيز 3/ 1362) من حديث ابن عمر مرفوعا وأخرجه موقوفا البخاري (2/ 271).(2/377)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 378
ثم ذكر وعيدهم فقال : يَوْم َ يُحْمى عَلَيْها
أي : على الأموال المكنوزة فِي نارِ جَهَنَّمَ أي : يوم توقد النار ذات الحمى الشديد عليها ، حتى تكون صفيحة واحدة ، فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ ، خصهم بالعذاب ، لأنهم كانوا يعرضون عن السائل ، ويولون ظهره ، فيعرضون عنه بجباههم وجنوبهم. أو لأنها أشرف الأعضاء ، لاشتمالها على الدماغ والقلب والكبد. أو لأنها أصول الجهات الأربع ، التي هى مقادم الإنسان مؤخره وجنبتاه.
يقال لهم : هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ أي : لمنفعتها ، وكان عين مضرتها وسبب تعذيبها ، فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ أي : وبال كنزكم ، أو ما كنتم تكنزونه. وعن أبى هريرة رضى اللّه عنه قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : «ما من صاحب ذهب ولا فضّة لا يؤدى منها حقّها إلّا إذا كان يوم القيامة صفّحت له صفائح من نار ، فأحمى عليها فى نار جهنم ، فيكوى بها جبينه وجنبه وظهره ، كلما بردت أعيدت له ، فى يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ، حتى يقضى بين العباد ، فيرى سبيله : إما إلى الجنة وإما إلى النار». رواه مسلم بطوله «1».
قال ابن عطية : روى أن أصحاب النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قالوا : قد ذم اللّه تعالى كسب الذهب والفضة ، فلو علمنا أىّ المال خير حتى نكسبه؟ فقال عمر : أنا أسأل لكم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ، فسأله ، فقال : «لسان ذاكر ، وقلب شاكر ، وزوجة تعين المرء على دينه» «2». وروي أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال ، لما نزلت الآية : «تبّا للذّهب والفضّة» «3». فحينئذ أشفق أصحابه ، وقالوا ما تقدم. ه. ولابن حجر :
من خير ما يتخذ الإنسان فى دنياه كيما يستقيم دينه.
قلب شكور ، ولسان ذاكر ، وزوجة صالحة تعينه.
وهو نظم لهذا الحديث ، وقد تكلم عليه فى الجامع وشرحه. قاله المحشى.
الإشارة : هذه الآية تغبر فى وجوه علماء السوء ، الذين يتساهلون فى أكل الدنيا بالعلم ، كقبض الرشا ، وقبض ما فوق أجرته فى الأحكام ، فترى بعض قضاة الجور يقبضون المثاقيل على إنزال يده على الحكم ، مع أنه واجب عليه ، حيث تعين عليه بنصب الإمام له ، وتجر ذيلها على أغنياء الدنيا ، الذين يجمعون الأموال ويكنزونها ، فترى
___________
(1) أخرجه مسلم فى (الزكاة ، باب إثم مانع الزكاة) من حديث أبى هريرة رضى اللّه عنه.
(2) أخرجه أحمد فى المسند (5/ 278 - 282) والترمذي فى (التفسير - سورة التوبة) وابن ماجه فى (الكفاح باب أفضل النساء) عن ثوبان.
(3) أخرج هذه الرواية الإمام أحمد فى المسند (5/ 366) عن عبد اللّه بن أبى الهذيل.(2/378)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 379
أحدهم ينفق فى نزهته وشهوة نفسه الأموال العريضة ، وإذا أتاه فقير يسأله درهما أو درهمين ، تمعر «1» وجهه ، وتغير لونه ، فبشرهم بعذاب أليم. وبالله التوفيق.
ولمّا ذكر وعيد من لم يزك كنزه ، ذكر الحول التي تجب به الزكاة ، فقال :
[سورة التوبة (9) : آية 36]
إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (36)
قلت : (عند اللّه) : معمول لعدة لأنها مصدر ، و(فى كتاب اللّه) : صفة لاثنى عشر ، و(يوم) : متعلق بالثبوت المقدر فى الخبر ، أي : ثابتة فى كتاب اللّه يوم خلق الأكوان والزمان ، وقوله : (منها) : أي : الأشهر ، ثم قال : (فيهن).
وضابط الضمير إن عاد على الجماعة المؤنثة ، حقيقة أو مجازا ، إن كانت أكثر من عشرة ، قلت : منها وفيها ، وإن كانت أقل من عشرة ، قلت : منهن وفيهن ، قال تعالى : يَأْكُلُهُنَّ «2» وقال هنا : (فيهن). انظر الإتقان. و(كافة) :
حال من الفاعل أو المفعول.
يقول الحق جل جلاله : إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ فى كل سنة عِنْدَ اللَّهِ فى علم تقديره ، اثْنا عَشَرَ شَهْراً : أولها المحرم ، وآخرها ذو الحجة. وأول من جعل أولها المحرم : عمر بن الخطاب رضى اللّه عنه.
وهذه العدة ثابتة فِي كِتابِ اللَّهِ اللوح المحفوظ ، أو فى حكمه ، أو القرآن ، يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ ، أي : هذا أمر ثابت فى نفس الأمر منذ خلق اللّه الأجرام والأزمنة ، مِنْها أي : الأشهر أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ واحد فرد ، وهو رجب ، وثلاثة سرد : ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ، ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ أي : تحريم الأشهر الحرم هو الدين القويم ، دين إبراهيم وإسماعيل - عليهما السلام - وتمسكت به العرب حتى غيّره بعضهم بالنسيء ، فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ بهتك حرمتها والقتال فيها ، ثم نسخ بقوله : وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً أي : فى الأزمنة كلها كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً لأنهم ، إن قاتلتموهم فيها قاتلوكم فهذا نسخ لتحريم القتال فى الأشهر الحرم.
___________
(1) أي يتغير ، وأصله : قلة النضارة وعدم إشراق اللون ، من قولهم : مكان أمعر ، وهو الجدب الذي لا خصب فيه ... انظر النهاية فى غريب الحديث (معر) ، واللسان (معر).
(2) من الآية 46 من سورة يوسف.(2/379)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 380
وقال عطاء : لا يحل للناس أن يغزوا فى الأشهر الحرم ، ولا فى الحرم ، إلا أن يبدأوا بالقتال ، ويرده غزوه صلّى اللّه عليه وسلّم حنينا والطائف فى شوال وذى القعدة. وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ بالنصر والمعونة ، وفيه بشارة وضمان لهم بالنصر بسبب تقواهم.
الإشارة : أهل الفهم عن اللّه : الأزمنة كلها عندهم حرم ، والأمكنة كلها عندهم حرام ، فهم يحترمون أوقاتهم ، ويغتنمون ساعاتهم لئلا تضيع. قال الحسن البصري : أدركت أقواما كانوا على ساعاتهم أشفق منكم على دنانيركم ودراهيمكم ، يقول : كما لا يخرج أحدكم دينارا ولا درهما إلا فيما يعود عليه نفعه ، كذلك لا يحبون أن يخرجوا ساعة من أعمارهم إلا فيما يعود عليهم نفعه وقال الجنيد رضى اللّه عنه : الوقت إذا فات لا يستدرك ، وليس شىء أعز من الوقت. ه.
وكل جزء يحصل له من العمر غير خال من عمل صالح ، يتوصل به إلى ملك كبير لا يفنى ، ولا قيمة لما يوصل إلى ذلك لأنه فى غاية الشرف والنفاسة ، ولأجل هذا عظمت مراعاة السلف الصالح لأنفاسهم ولحظاتهم ، وبادروا إلى اغتنام ساعاتهم وأوقاتهم ، ولم يضيعوا أعمارهم فى البطالة والتقصير ، ولم يقنعوا من أنفسهم لمولاهم إلا بالجد والتشمير ، وإلى هذا الإشارة بقوله : (فلا تظلموا فيهن أنفسكم) بتضييعها فى غير ما يقرب إلى اللّه. ثم أمر بجهاد القواطع ، التي تترك العبد فى مقام الشرك الخفي ، وبشّرهم بكونه معهم بالنصر والتأييد ، والمعونة والتسديد.
ثم عاب على المشركين ما أحدثوا من النسيء ، فقال :
[سورة التوبة (9) : آية 37]
إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (37)
قلت : (النسي ء) : التأخير ، يقال بالهمزة وبقلبها ياء.
يقول الحق جل جلاله : إِنَّمَا النَّسِيءُ ، وهو تأخير حرمة الشهر الحرام إلى شهر آخر ، وذلك أن العرب كانوا أصحاب حروب وإغارات ، وكانت محرمة عليهم فى الأشهر الحرم ، فيشق عليهم تركها ، فيجعلونها فى شهر حرام ، ويحرمون شهرا آخر بدلا منه ، وربما أحلوا المحرم وحرموا صفر ، حتى يكملوا فى العام أربعة أشهر محرمة ، وإنما ذلك زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ لأنه تحريم ما أحل اللّه ، وتحليل ما حرم اللّه ، وهو كفر آخر ضموه إلى كفرهم ، يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا عن الحق ، ضلالا زائدا على ضلالا زائدا على ضلالهم ، أو يضلهم اللّه بذلك ، يُحِلُّونَهُ عاماً أي :
يحلون الشهر الحرام عاما ، ويحعلون مكانه آخر ، وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً ، فيتركونه على حرمته ، فكانوا تارة ينسئون وتارة يتركون.(2/380)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 381
قيل : أول من أحدث ذلك : جنادة بن عوف الكناني كان يقوم على جمل فى الموسم فينادى : إن آلهتكم قد أحلت لكم المحرم فأحلوه ، ثم ينادى من قابل : إن آلهتكم قد حرمت عليكم المحرم فحرموه ، فتتبعه العرب.
ثم حرّموا شهرا آخر مكان المحرم لِيُواطِؤُا ليوافقوا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللَّهُ ، وهى الأربعة الحرم ، فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللَّهُ عليهم من القتال فى الأشهر الحرم ، زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ أي : خذلهم وأضلهم ، والمزين حقيقة : اللّه ، أو الشيطان حكمة وأدبا. وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ إلى طريق الرشد ، ما داموا على غيهم ، حتى يسلكوا سبيل نبيه صلّى اللّه عليه وسلّم.
الإشارة : إنما تأخير التوبة واليقظة وترك السير إلى مقام التصفية والترقية ، زيادة فى البعد والقسوة ، يضل به الذين هجروا طريق التربية والتصفية ، عن مقام أهل الإحسان والمعرفة ، فتارة يحلون المقام مع النفس الأمارة ، ويقولون : قد انقطعت التربية ، وعدم الطبيب الذي يداويها ويخرجها عن وصفها ، وتارة يحرمون المقام معها والاشتغال بحظوظها وهواها ، ويقولون : البركة لا تنقطع ، والمدد لا ينعدم ، ليوافقوا بين الأمر بمجاهدتها فى قوله :
وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا ، وبين من قال : قد انقطعت التربية ، زين لهم سوء أعمالهم ، واللّه لا يهدى القوم الكافرين إلى السير والوصول إلى ربهم.
ثم عاتبهم على التأخر عن الجهاد فى غزوة تبوك ، فقال :
[سورة التوبة (9) : الآيات 38 الى 39]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ (38) إِلاَّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39)
قلت : (اثاقلتم) : أصله : تثاقلتم ، أدغمت التاء فى الثاء ، وجلبت الهمزة للساكن ، وقرىء على الأصل ، وضمن معنى الإخلاد ، فعدّى بإلى.
يقول الحق جل جلاله : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ للجهاد مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ، اثَّاقَلْتُمْ أي : تباطأتم وأخلدتم إِلَى الْأَرْضِ كسلا وفشلا ، وكان ذلك فى غزوة تبوك ، أمروا بها بعد رجوعهم من الطائف ، فى وقت عسر ، وحر ، وبعد الشقة ، وكثرة العدو ، فشق عليهم ذلك ، (2/381)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 382
أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا وكدرها ، مِنَ الْآخِرَةِ ، بدل الآخرة ونعيمها ، فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا أي : التمتع بها فى جانب الآخرة ، إِلَّا قَلِيلٌ مستحقر ، لسرعة فنائه ومزجه بالكدر.
إِلَّا تَنْفِرُوا مع رسوله إلى ما استنفرتم إليه ، يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً فى الدنيا والآخرة فى الدنيا :
بالإهلاك بأمر فظيع ، كقحط وظهور عدو ، وغير ذلك من المهلكات ، وفى الآخرة : بعذاب النار. وَيَسْتَبْدِلْ مكانكم قَوْماً غَيْرَكُمْ فى الدنيا ، يكونون مطيعين لله ورسوله ، كأهل اليمن وأمثالهم ، وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً إذ لا يقدح تثاقلكم فى نصر دينه شيئا ، فإنه الغنى عن كل شىء ، فى كل وقت. وقيل : الضمير للرسول صلّى اللّه عليه وسلّم فإن اللّه وعده بالعصمة والنصرة ، ووعده حق ، وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ لا يعجزه شىء ، فيقدر على التبديل وتغيير الأسباب والنصرة بلا مدد ، كما فعل معه فى الغار والهجرة ، على ما يأتى.
الإشارة : ما لكم إذا قيل لكم : انفروا إلى من يعرفكم بالله ، ويعلمكم كيف تجاهدون نفوسكم فى طلب مرضاة اللّه ، اثاقلتم وأخلدتم إلى أرض الحظوظ والشهوات ، أرضيتم بالحياة الدنيا الدنية ، بدل الحياة الأبدية ، فى الحضرة القدسية؟ أرضيتم بحياة الأشباح بدل حياة الأرواح؟ فما متاع الحياة الدنيا الفانية فى جانب الحياة الأبدية فى الحضرة العلية ، إلا نزر قليل حقير ذليل ، إلا تنفروا لجهاد نفوسكم ، يعذبكم عذابا أليما ، بغم الحجاب ، وشدة التعب والنصب ، وتوارد الخواطر والهموم ، وترادف الأكدار والغموم ، ويستبدل قوما غيركم يكونون عارفين بالله ، مرضيين عند اللّه ، راضين عن اللّه ، واللّه على كل شىء قدير.
ثم ذكر نصرته لرسوله بلا سبب ، فقال :
[سورة التوبة (9) : آية 40]
إِلاَّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40)
قلت : «إن» : شرط ، وجوابه محذوف ، دلّ عليه قوله : فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ أي : إن لم تنصروه فسينصره اللّه ، الذي نصره حين أخرجه الذين كفروا ، حال كونه ثانى اثنين ، فدل بنصره فى الماضي على نصره فى المستقبل ، وإسناد الإخراج إلى الكفرة لأن همهم بإخراجه أو قتله كان سببا لإذن اللّه له فى الخروج ، و(إذ هما) : بدل من (أخرجه) بدل البعض ، و(إذ يقول) : بدل ثان ، و(كلمة اللّه) : مبتدأ ، و(العليا) : خبر. وقرأ يعقوب : بالنصب عطفا على كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا ، والأول : أحسن للإشعار بأن كلمة اللّه عالية فى نفسها ، فاقت غيرها أم لا.(2/382)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 383
يقول الحق جل جلاله : إِلَّا تَنْصُرُوهُ تنصروا محمدا ، وتثاقلتم عن الجهاد معه ، فسينصره اللّه ، كما نصره حين أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا من مكة ، حال كونه ثانِيَ اثْنَيْنِ أي : لم يكن معه إلا رجل واحد ، وهو الصدّيق ، إِذْ هُما فِي الْغارِ نقب فى أعلى غار ثور ، وثور جبل عن يمين مكة ، على مسيرة ساعة. إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ : أبى بكر رضى اللّه عنه : لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا بالعصمة والنصرة.
روى أن المشركين طلعوا فوق الغار يطلبون رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ، حين فقدوه من مكة ، فأشفق أبو بكر على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ، فقال عليه الصلاة والسلام : «ما ظنّك باثنين اللّه ثالثهما» «1» فأعماهم اللّه عن الغار ، فجعلوا يترددون حوله فلم يروه. وقيل : لما دخل الغار بعث اللّه حمامتين ، فباضتا فى أسفله ، والعنكبوت نسجت عليه.
فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ أي : أمنه الذي تسكن إليه القلوب ، عَلَيْهِ أي : على رسوله صلّى اللّه عليه وسلّم ، أو على صاحبه ، وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها ، يعنى الملائكة ، أنزلهم ليحرسوه فى الغار ، أو يوم بدر وأحد وغيرهما ، فتكون على هذا : الجملة معطوفة على : (فقد نصره اللّه). وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا وهى الشرك ، أو دعوى الكفر ، السُّفْلى . وَكَلِمَةُ اللَّهِ التي هى التوحيد ، أو دعوة الإسلام ، هِيَ الْعُلْيا حيث خلص رسوله صلّى اللّه عليه وسلّم من بين الكفار ، ونقله إلى المدينة ، ولم يزل ينصره حتى ظهر التوحيد وبطل الكفر ، وَاللَّهُ عَزِيزٌ غالب على أمره ، حَكِيمٌ فى أمره وتدبيره.
الإشارة : ما قيل فى حق الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم يقال فى حق ورثته ، الداعين إلى اللّه بعده من العارفين بالله ، فيقال لمن تخلف عن صحبة ولىّ عصره وشيخ تربية زمانه : إلا تنصروه فقد نصره اللّه وأعزه ، وأغناه عن غيره ، فمن صحبه فإنما ينفع نفسه ، فقد نصره اللّه حين أنكره أهله وأبناء جنسه ، كما هى سنة اللّه فى أوليائه ، لأن الداخل على اللّه منكور ، والراجع إلى الناس مبرور ، فمن دخل مع الخصوص قطعا أنكرته العموم ، فنخرجه ثانى اثنين هو وقلبه ، فيأوى إلى كهف الأنس بالله ، والوحشة مما سواه ، فيقول لقلبه : لا تحزن إن اللّه معنا ، فينزل اللّه عليه سكينة الطمأنينة والتأييد ، وينصره بأجناد أنوار التوحيد والتفريد ، فيجعل كلمة أهل الإنكار السفلى ، وكلمة الداعين إلى اللّه هى العليا ، واللّه عزيز حكيم.
___________
(1) أخرجه البخاري فى (فضائل أصحاب النبي ، باب مناقب المهاجرين) ومسلم فى : (فضائل الصحابة ، باب فضائل أبى بكر رضى اللّه عنه).(2/383)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 384
ثم نهضهم إلى الجهاد ، فقال :
[سورة التوبة (9) : الآيات 41 الى 42]
انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (41) لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قاصِداً لاتَّبَعُوكَ وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (42)
قلت : (يهلكون) : حال من فاعل (يحلفون) ، أو بدل منه. قال فى القاموس : (الشقة) - بالضم والكسر : البعد والناحية يقصدها المسافر ، والسفر البعيد والمشقة. ه.
يقول الحق جل جلاله : انْفِرُوا للجهاد مع الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم ، حال كونكم خِفافاً نشاطا ، وَثِقالًا كسالى لمشقته ، أو (خفافا) لمن قلّ عياله ، (و ثقالا) لمن كثر عياله ، أو خفافا لمن كان فقيرا ، وثقالا لمن كان غنيا ، أو خفافا ركبانا ، وثقالا مشاة ، أو خفافا بلا سلاح ، وثقالا بالسلاح ، أو خفافا شبابا ، وثقالا شيوخا ، أو خفافا أصحاء ، وثقالا مرضى. ولذللك قال ابن أمّ مكتوم لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : أعليّ الغزو يا رسول اللّه؟ قال : «نعم» ، حتى نزل : لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ «1». وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي : بما أمكن إمّا بهما أو بأحدهما ، ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ من تركه ، إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ما فى ذلك من الأجر العظيم والخير الجسيم ، أي : لو علمتم ذلك ما قعدتم خلف سرية.
ثم عاتب من أراد التخلف ، فقال : لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً من الدنيا ، وَسَفَراً قاصِداً متوسطا أو قريبا ، لَاتَّبَعُوكَ أي : لو كان ما دعوا إليه أمرا دنيويا ، كغنيمة كبيرة ، أو سفرا متوسطا ، لا تبعوك ولوافقوك على الخروج ، وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ أي : المسافة التي تقطع بمشقة ، وذلك أن الغزوة - أي : تبوك - كانت إلى أرض بعيدة ، وكانت فى شدة الحر ، وطيب الثمار ، فشقت عليهم. وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ أي : المتخلفون إذا رجعت من تبوك ، معتذرين ، يقولون : لَوِ اسْتَطَعْنا الخروج لَخَرَجْنا مَعَكُمْ ، لكن لم تكن لنا استطاعة من جهة العدة والبدن وهذا إخبار بالغيب قبل وقوعه. يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ بوقوعها فى العذاب ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ فى ذلك لأنهم كانوا مستطيعين الخروج ، وإنما قعدوا كسلا وجبنا ، واللّه تعالى أعلم.
___________
(1) الآية 61 من سورة النور.(2/384)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 385
الإشارة : انفروا إلى جهاد أنفسكم وقطع علائقكم وعوائقكم ، لكى تستأهلوا لدخول حضرة ربكم ، وسافروا إلى من يعينكم ويقوى مدد أجناد أنواركم ، وهم المشايخ العارفون ، فسيروا إليهم خفافا وثقالا ، نشّاطا وكسّالا ، والغالب أن النفس يشق عليها ما يكون سببا فى قتلها ، فلا ينفر إليها خفافا أول مرة إلا النادر.
ثم أمر ببذل الأموال والمهج فى طريق الوصول إلى حضرة اللّه ، وعاتب من تخلف عن ذلك وطلب الراحة والبقاء فى وطن نفسه. قال القشيري : أمرهم بالقيام بحقه ، والبدار إلى أداء أمره على جميع أحوالهم ، خِفافاً أي : فى حال حضور قلوبكم ، فلا يمسّكم نصب المجاهدات ، وَثِقالًا أي : إذا رددتم إليكم فى مقاساة نصب المكابدات. فإنّ البيعة أخذت عليكم فى المنشط والمكره. ه. ومثله عند الورتجبي عن أبى عثمان قال : خفافا وثقالا فى وقت النشاط والكراهية ، فإن البيعة على هذا وقعت ، كما روى عن جرير بن عبد اللّه أنه قال : بايعنا رسول اللّه على المنشط والمكره. ه.
ثم عاتب رسوله صلّى اللّه عليه وسلّم لشدة قربه ، وعظيم منزلته ، وتلطّف له على إذنه للمنافقين فى التخلف ، فقال :
[سورة التوبة (9) : الآيات 43 الى 45]
عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ (43) لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (44) إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (45)
يقول الحق جل جلاله ، لنبيه - عليه الصلاة والسلام - ملاطفا له فى الكلام : عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ ، لم بادرت إلى الإذن إلى المنافقين فى التخلف ، واستكفيت بالإذن العام فى قولنا : فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ «1» ، فإن الخواص من المقربين لا يكتفون بالإذن العام ، بل يتوقفون إلى الإذن الخاص. ولذلك عوتب يونس عليه السّلام. والمعنى : لأى شىء أذنت لهم فى القعود حين استأذنوك واعتذروا لك بأكاذيب؟ وهلا توقفت حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا فى الاعتذار ، وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ فيه.
قال ابن عطية : قوله : الَّذِينَ صَدَقُوا يريد : فى استئذانك ، وأنك لو لم تأذن لهم لخرجوا معك ، وقوله :
وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ يريد : أنهم استأذنوك يظهرون لك أنهم يقفون عند حدّك ، وهم كذبة ، قد عزموا على
___________
(1) من الآية 62 من سورة النور.(2/385)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 386
العصيان ، أذنت أو لم تأذن. ه. قال ابن جزى : كانوا قد قالوا : استأذنوه فى القعود ، فإن أذن لنا قعدنا ، وإن لم يأذن قعدنا ، وإنما كان يظهر الصادق من الكاذب لو لم يأذن لهم ، فحيئنذ كان يقعد العاصي والمنافق ، ويسافر المطيع الصادق. ه.
لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أي : ليس من عادة المؤمنين أن يستأذنوك فى أن يجاهدوا ، بل الخلّص منهم يبادرون إليه ، ولا يوقفونه على الإذن فيه ، فضلا عن أن يستأذنوا فى التخلف عنه ، وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ فيثيبهم ويقربهم ، وهى شهادة لهم بالتقوى وعدة لهم بثوابه.
إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ فى التخلف الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ، وخصص ذكر الإيمان بالله واليوم الآخر إشعارا بأن الباعث على الجهاد والوازع عنه : الإيمان وعدم الإيمان بهما ، وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ أي : شكّت فى الإيمان والبعث ، فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ : يتحيرون. ونزلت الآية فى عبد اللّه بن أبىّ والجدّ بن قيس ، وأمثالهما من المنافقين.
الإشارة : لا ينبغى للعارفين بالله الداعين إلى اللّه ، أن يأذنوا لمن استأذنهم فى التخلف عن الجهاد الأكبر ، ويرخصون له فى البقاء مع النفس والهوى ، وجمع حطام الدنيا ، شفقة ورحمة لأن الشفقة فى هذا المعنى لا تليق بأهل التربية ، فقد قالوا : الشفقة والرطوبة لا تليق بشيوخ التربية ، بل لا يليق بهم إلا الأمر بما تموت به النفوس ، وتحيا به الأرواح ، وإن كان فيه حتفهم. وقد قالوا أيضا : إذا كان الشيخ يحرش على المريد «1» ، ويقدمه للمهالك فى نفسه أو ماله أو جاهه ، فهو دليل على أنه يحبه وينصحه ، وإذا كان يرخص له فى أمور نفسه ، ويأمره بالمقام معها ، فهو غير ناصح له.
وأما الإذن فى التجريد وعدمه : فإن رآه أهلا له لنفوذ عزمه ، فيجب عليه أن يأمره به ، وإن رآه لا يليق به لعوارض قامت به ، منعه منه ، حتى ينظر ما يفعل اللّه به ، وسأل رجل القطب ابن مشيش ، فقال له : يا سيدى أستأذنك فى مجاهدة نفسى؟ فقال له : لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ ، وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ. إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ.
___________
(1) أي : يدفعه.(2/386)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 387
ثم ذكر سبب تخلفهم ، وهو عدم الإرادة ، فقال :
[سورة التوبة (9) : الآيات 46 الى 48]
وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ (46) لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلاَّ خَبالاً وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (47) لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كارِهُونَ (48)
قلت : (ما زادوكم إلا خبالا) قال بعضهم : هو استثناء منقطع ، أي : مازادوكم شيئا ، لكن خبالا يحدثونه فى عسكركم بخروجهم. قال ذلك لئلا يلزم أن الخبال واقع فى عسكر المسلمين ، لكن خروجهم يزيد فيه. وفيه نظر لأن الاستثناء المفرغ لا يكون منقطعا ، ويمكن هنا أن يكون متصلا لأن غزوة تبوك خرج فيها كثير من المنافقين ، قحصل الخبال ، فلو خرج هؤلاء المستأذنون فى التخلف ، القاعدون ، لزاد الخبال بهم.
وقوله : (و لأوضعوا) أي : أسرعوا ، والإيضاع : الإسراع ، و(خلالكم) : ظرف ، أي : لأسرعوا بينكم بالمشي بالنميمة ، وجملة : (يبغونكم) : حال من فاعل «أوضعوا».
يقول الحق جل جلاله : وَلَوْ أَرادُوا أراد المنافقون الْخُرُوجَ إلى الغزو معكم ، وكانت لهم نية فى ذلك لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً أي : لاستعدوا له أهبته قبل أوانه. فما فعلوا ، وَلكِنْ تثبطوا لأنه تعالى كره انْبِعاثَهُمْ ، أي : نهوضهم للخروج ، فَثَبَّطَهُمْ أي : حبسهم وكسر عزمهم ، كسلا وجبنا ، وَقِيلَ لهم :
اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ من النساء والصبيان وذوى الأعذار ، وهو ذم لهم وتوبيخ. والقائل فى الحقيقة هو اللّه تعالى ، وهو عبارة عن قضائه عليهم بالقعود ، وبناه للمجهول تعليما للأدب. قال البيضاوي : هو تمثيل لإلقاء اللّه كراهة الخروج فى قلوبهم ، أو وسوسة الشيطان بالأمر بالقعود ، أو حكاية قول بعضهم لبعض ، أو إذن الرسول لهم. ه.
لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مازادكم خروجهم شيئا إِلَّا خَبالًا فسادا وشرا. والاستثناء من أعم الأحوال ، فلا يلزم أن يكون الخبال موجودا ، وزاد بخروجهم ، أو إذا وقع خبال بحضور بعضهم معكم مازادكم هؤلاء القاعدون بخروجهم إلا خبالا زائدا على ما وقع. وَلَأَوْضَعُوا أي : لأسرعوا خِلالَكُمْ أي : فيما بينكم ، فيسرعون فى المشي بالنميمة والتخليط والهزيمة والتخذيل ، يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ أي : حال كونهم طالبين لكم الفتنة ، بإيقاع(2/387)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 388
الخلل بينكم ، حتى تختلف قلوبكم ورأيكم ، فيذهب ريح نصركم ، وَفِيكُمْ قوم سَمَّاعُونَ لَهُمْ فيقبلون قولهم ، إما بحسن الظن بهم ، أو لنفاق بهم ، فيقع الخلل بسبب قبول قولهم ، أو فيكم سماعون لأخباركم فينقلونه إلى غيركم ، وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ فيعلم ضمائرهم ، وما ينشأ عنهم ، وسيجازيهم على فعلهم.
لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ أي : تشتيت أمرك وتفريق أصحابك مِنْ قَبْلُ أي : من قبل هذا الوقت ، كرجوعهم عنك يوم أحد ، ليوقعوا الفشل فى الناس ، وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ أي : دبروها من كل وجه ، فدبروا الحيل ، ودوروا الآراء فى إبطال أمرك ، فأبطل اللّه سعيهم ، حَتَّى جاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ أي : علا دينه ، وَهُمْ كارِهُونَ أي : على رغم أنفهم ، والآيتان تسلية للرسول صلّى اللّه عليه وسلّم والمؤمنين على تخلفهم ، وبيان ما ثبطهم اللّه لأجله وكره انبعاثهم له ، وهتك أستارهم ، وكشف أسرارهم ، وإزاحة اعتذارهم. انظر البيضاوي.
الإشارة : الناس على ثلاثة أقسام : قسم أقامهم الحق تعالى لخدمة أنفسهم وحظوظهم عدلا. وقسم أقامهم الحق تعالى لخدمة معبودهم فضلا. وقسم اختصهم بالتوجه إلى محبوبهم رحمة وفضلا.
فالأولون : أثقلهم بكثرة الشواغل والعلائق ، ولو أرادوا الخروج منها لأعدوا له عدة بالتخفيف والزهد ، ولكن كره اللّه انبعاثهم فثبطهم ، وقيل : اقعدوا مع القاعدين ، أقامهم لإصلاح عالم الحكمة ، وأما أهل الخدمة : فرآهم لم يصلحوا لصريح معرفته ، فشغلهم بخدمته ، ولو أرادوا الخروج من سجن الخدمة إلى فضاء المعرفة لأعدوا له عدة بصحبة أهل المعرفة الكاملة. وأما أهل التوجه إلى محبته وصريح معرفته فلم يشغلهم بشىء ، ولم يتركهم مع شىء ، بل اختصهم بمحبته ، وقام لهم بوجود قسمته ، يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ «1». وكل قسم لو دخل مع من فوقه على ما هو عليه ، لأفسده ، وما زاده إلا خبالا وشرا. واللّه تعالى أعلم.
ولما دعا النبي صلّى اللّه عليه وسلّم الناس إلى غزوة تبوك ، قال له الجدّ بن قيس - من كبار المنافقين - : ائذن لى فى القعود ، ولا تفتنى برؤية بنات بنى الأصفر ، فإنى لا أصبر على النساء ، فأنزل اللّه فى شأنه «2» :
[سورة التوبة (9) : الآيات 49 الى 50]
وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ (49) إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ (50)
___________
(1) الآية 74 من سورة آل عمران.
(2) أخرجه مطولا ابن جرير فى التفسير (10/ 104) وذكره الواحدي فى الأسباب (252) ، من طريق على بن أبى طلحة ، عن ابن عباس رضى اللّه عنه.(2/388)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 389
يقول الحق جل جلاله : وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي فى القعود ، وَلا تَفْتِنِّي ولا توقعنى فى الفتنة ، أي : فى العصيان والمخالفة ، بأن تأذن لى ، وفيه إشعار بأنه لا محالة متخلف ، أذن أو لم يأذن ، أو فى الفتنة بسبب ضياع المال والعيال إذ لا كافل لهم بعدي ، أو فى الفتنة بنساء الروم ، كما قال الجدّ بن قيس : قد علمت الأنصار أنى مولع بالنساء ، فلا تفتنى ببنات بنى الأصفر ، ولكنى أعينك بمال ، واتركني.
قال تعالى : أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا أي : إن الفتنة هى التي سقطوا فيها ، وهى فتنة الكفر والنفاق ، لا ما احترزوا عنه ، وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ ، أي : دائرة بهم يوم القيامة ، أو الآن لأن إحاطة أسبابها بهم كوجودها ، ومن أعظم أسبابها : بغضك وانتظارهم الدوائر بك.
إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ كنصر أو غنيمة فى بعض غزواتك ، تَسُؤْهُمْ لفرط حسدهم وبغضهم ، وَإِنْ تُصِبْكَ فى بعضها مُصِيبَةٌ ككسر أو شدة كيوم أحد ، يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا مِنْ قَبْلُ أي : يتبجحوا بتخلفهم أو انصرافهم ، واستحمدوا رأيهم فى ذلك ، وَيَتَوَلَّوْا عن متحدّثهم ومجمعهم ، أو عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ، وَهُمْ فَرِحُونَ مسرورون بما صنعوا من التخلف عن الجهاد.
الإشارة : ومن ضعفاء اليقين من يستأذن المشايخ فى البقاء مع الأسباب وفتنة الأموال ، ويقول : لا تفتنى بالأمر بالتجريد ، فإنى لا أقدر عليه ، ويرضى بالسقوط فى فتنة الأسباب والشواغل ، فإن ضم إلى ذلك الإنكار على أهل التجريد ، بحيث إذا رأى منهم نكبة أو كسرة من أجل التجريد ، والخروج عن عوائد الناس وما هم عليه ، فرح ، وإذا رأى منهم نصرا وعزا انقبض ، ففيه خصلة من النفاق ، والعياذ بالله.
ثم رد عليهم ، بقوله :
[سورة التوبة (9) : الآيات 51 الى 53]
قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلاَّ ما كَتَبَ اللَّهُ لَنا هُوَ مَوْلانا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51) قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (52) قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فاسِقِينَ (53)(2/389)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 390
يقول الحق جل جلاله : قُلْ لهم يا محمد : لَنْ يُصِيبَنا من حسنة أو مصيبة ، إِلَّا ما كَتَبَ اللَّهُ لَنا فى اللوح المحفوظ ، لا يتغير بموافقتكم ولا بمخالفتكم ، هُوَ مَوْلانا متولى أمرنا وناصرنا ، وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ أي : وإليه فليفوض المؤمنون أمورهم رضا بتدبيره لأن مقتضى الإيمان ألا يتوكل إلا على اللّه إذ لا فاعل سواه ، قُلْ لهم : هَلْ تَرَبَّصُونَ أي : تنتظرون بِنا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ أي : إلا إحدى العاقبتين اللتين كل منهما حسنى : إما النصر وإما الشهادة ، وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أيضا إحدى العاقبتين السوأتين : إما أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ بقارعة من السماء ، أَوْ بِأَيْدِينا أي : أو بعذاب بأيدينا ، وهو القتل على الكفر ، فَتَرَبَّصُوا ما هو عاقبتنا ، إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ ما هو عاقبتكم.
الإشارة : ثلاثة أمور توجب للعبد الراحة من التعب ، والسكون إلى رب الأرباب ، وتذهب عنه حرارة التدبير والاختيار ، وظلمة الأكدار والأغيار : أحدها : تحقيق العلم بسبقية القضاء والقدر ، حتى يتحقق بأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه ، وما أصابه لم يكن ليخطئه. قال تعالى : قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلَّا ما كَتَبَ اللَّهُ لَنا ، وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ «1» ، وليتأمل قول الشاعر :
ما لا يقدّر لا يكون بحيلة أبدا ، وما هو كائن سيكون
سيكون ما هو كائن فى وقته وأخو الجهالة متعب محزون
وقد ورد عن سيدنا على - كرم اللّه وجهه - أنه قال : سبع آيات : من قرأها أو حملها معه لو انطبقت السماء على الأرض لجعل اللّه له فرجا ومخرجا من أمره ، فذكر هذه الآية : قُلْ لَنْ يُصِيبَنا ، وآية فى سورة يونس :
وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ ... الآية «2» ، وآيتان فى سورة هود : وَما مِنْ دَابَّةٍ .. ، الآية «3» ، إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ... الآية «4» ، وقوله تعالى : وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ «5» ، ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ «6» ووَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ ... فى الزمر إلى قوله : عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ «7» ، ونظمها بعضهم فقال :
___________
(1) من الآية 17 من سورة الأنعام.
(2) الآية 107 من سورة يونس. [.....]
(3) الآية 6 من سوة هود.
(4) الآية 56 من سورة هود.
(5) الآية 60 من سورة العنكبوت.
(6) الآية 2 من سورة فاطر
(7) الآية 38 من سورة الزمر.(2/390)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 391
عليك بقل ، وإن ، وما ، إنى ، فى هود وكأين ، ما يفتح ، ولئن مكملا
وإنما أشار رضى اللّه عنه إلى معنى الآيات لا إلى لفظها لأنها كلها تدل على النظر لسابق القدر ، والتوكل على الواحد القهار.
الأمر الثاني : تحقق العبد برأفته - تعالى - ورحمته ، وأنه لا يفعل به إلا ما هو فى غاية الكمال فى حقه ، إن كان جمالا فيقتضى منه الشكر ، وإن كان جلالا فيقتضى منه الصبر ، وفيه غاية التقريب والتطهير وطى المسافة بينك وبين الحبيب. وفى الحكم : «خير أوقاتك وقت تشهد فيه وجود فاقتك ، وتردّ فيه إلى وجود ذلتك ، إن أردت بسط المواهب عليك فصحح الفقر والفاقة لديك ، الفاقة أعياد المريدين». إلى غير ذلك من كلامه فى هذا المعنى.
الأمر الثالث : تحققه بخالص التوحيد فإذا علم أن الفاعل هو اللّه ولا فاعل سواه رضى بفعل حبيبه ، كيفما كان ، كما قال ابن الفارض رضى اللّه عنه :
أحبّاى أنتم ، أحسن الدّهر أم أسا فكونوا كما شئتم أنا ذلك الخلّ
وكما قال صاحب العينية :
تلدّ لى الآلام إذ كنت مسقمى وإن تختبرني فهى عندى صنائع
تحكّم بما تهواه فىّ فإنّنى فقير لسلطان المحبّة طائع
فهذه الأمور الثلاثة ، إذا تفكر فيها العبد دام حبوره وسروره ، وسهلت عليه شئونه وأموره.
وقوله تعالى : (قل هل تربصون بنا ...) الآية ، مثله يقول أهل النسبة لأهل الإنكار : هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنين ، إما حسن الخدام بالموت على غاية الإسلام ، يموت المرء على ما عاش عليه ، وإما الظفر بمعرفة الملك العلام على غاية الكمال والتمام ، ونحن نتربص بكم أن يصيبكم اللّه بعقوبة من عنده بسبب إذايتكم ، أو بدعوة من عندنا إذا أذن لنا. وبالله التوفيق.
ثمّ «1» ذكر سبب إبطال عملهم وصدقاتهم ، فقال :
[سورة التوبة (9) : آية 54]
وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسالى وَلا يُنْفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كارِهُونَ (54)
___________
(1) تفسير قوله تعالى : قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً .. الآية 53 ، لا يوجد فى النسخ الخطية التي بين أيدينا.(2/391)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 392
قلت : (أن تقبل) : بدل من ضمير (منعهم) ، أو على حذف الجار ، و(إلا أنهم كفروا) : فاعل ، أي : وما منع قبول نفقاتهم ، أو من قبول نفقاتهم ، إلا كفرهم بالله وبرسوله ، ويحتمل أن يكون الفاعل ضميرا يعود على اللّه تعالى و(أنهم) مفعول من أجله.
يقول الحق جل جلاله : وَما مَنَعَهُمْ وما منع المنافقين من قبول نفقاتهم وأعمالهم إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ إلا كفرهم بالله وبرسوله ، أو : ما منعهم اللّه من قبول نفقاتهم إلا لأجل كفرهم بالله وبرسوله ، وكونهم لا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسالى متثاقلين ، وَلا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كارِهُونَ أي : لا يعطون المال إلا فى حال كراهيتهم للإعطاء لأنهم لا يرجون ثوابا ولا يخافون بتركها عقابا ، فهم يعطون ذلك رياء ونفاقا.
الإشارة : لا يتقبل اللّه إلا عمل المخلصين ، إما إخلاص العوام لقصد الثواب وخوف العقاب ، أو إخلاص الخواص لإظهار العبودية وإجلال الربوبية ، وعلامة الإخلاص : وجود النشاط والخفة حال المباشرة للعمل ، أو قبلها ، والغيبة عنه بعد الوقوع ، واللّه تعالى أعلم.
ثم نهى عن الاغترار بحال المنافقين ، فقال :
[سورة التوبة (9) : آية 55]
فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ (55)
يقول الحق جل جلاله : فَلا تُعْجِبْكَ ، أيها الناظر إلى المنافقين ، كثرة أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ فإن ذلك استدراج ووبال لهم إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا بسبب ما يكابدون فى جمعها وحفظها من المتاعب ، وما يرون فيها من الأمراض والمصائب ، أو ما ألزموا به من أداء زكاتها ، مع كونهم لا يرجون خلفها وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ فلا يستوفون التمتع بها فى الدنيا لقصر مدتها ، ولا يجدون ثواب ما أعطوا منها لعدم إيمانهم. وأصل الزهوق : الخروج بصعوبة ، لصعوبة خروج أرواحهم ، والعياذ بالله.
الإشارة : ينبغى لمريد الآخرة ألا يستحسن شيئا من الدنيا ، التي هى مدرجة الاغترار ، بل ينبغى له أن ينظر إليها وإلى أهلها بعين الغض والاحتقار ، حتى ترتفع همته إلى دار القرار ، وينبغى لمريد الحق - تعالى - ألا يحقر(2/392)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 393
شيئا من مصنوعاته ، ولا يصغر شيئا من تجلياته ، إذ ما فى الوجود إلا تجليات العلى الكبير ، إما من مظاهر اسمه الحكيم ، أو اسمه القدير ، فيعطى الحكمة حقها والقدرة حقها ، ويتلون مع كل واحدة بلونها ، وبالله التوفيق.
ثم ذكر وصف نفاق المنافقين ، فقال :
[سورة التوبة (9) : الآيات 56 الى 57]
وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَما هُمْ مِنْكُمْ وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (56) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغاراتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (57)
قلت : الفرق : الخوف ، و(مدخلا) : أصله : متدخلا ، مفتعل من الدخول ، قلبت التاء دالا وأدغمت.
يقول الحق جل جلاله : وَيَحْلِفُونَ لكم بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ أي : من جملة المسلمين ، وَما هُمْ مِنْكُمْ لكفر قلوبهم ، وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ : يخافون منكم أن تفعلوا بهم ما تفعلون بالمشركين ، فيظهرون الإسلام تقية وخوفا لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أي : حصنا يلتجئون إليه ، أَوْ مَغاراتٍ غيرانا ، أَوْ مُدَّخَلًا ثقبا أو جحرا ينجحرون فيه. وقرأ يعقوب : «مدخلا» بضم الميم وسكون الدال ، أي : دخولا ، أو مكانا يدخلون فيه ، لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ أي : يسرعون إسراعا لا يردهم شيء كالفرس الجموح.
الإشارة : قد يتطفل على القوم من ليس منهم ، فيظهر الوفاق ويبطن النفاق ، كحال أهل النفاق ، فينبغى أن يستر ويحلم عليه ، كما فعل عليه الصلاة والسلام - بالمنافقين ، تلطف معهم فى حياتهم ، واللّه يتولى سرائرهم ، وبالله التوفيق.
ثم شرع يتكلم فى مساوئ المنافقين ، فقال :
[سورة التوبة (9) : الآيات 58 الى 59]
وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ (58) وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ راغِبُونَ (59)
قلت : (لو) : شرطية ، و(أنهم) : قال سيبويه : مبتدأ ، والخبر محذوف : ولو رضاهم ثابت أو موجود .. إلخ. وقال غيره : فاعل بفعل محذوف ولو ثبت رضاهم ، وجواب (لو) : محذوف ، أي : ولو أنهم رضوا لكان خيرا لهم.(2/393)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 394
يقول الحق جل جلاله : وَمِنْهُمْ ومن المنافقين مَنْ يَلْمِزُكَ أي : يعيبك ، ويعترض عليك فِي قسم الصَّدَقاتِ ، فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا وفرحوا ، وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها شيئا إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ. والآية نزلت فى ابن أبي رأس المنافقين ، قال : ألا ترون إلى صاحبكم إنّما يقسم صدقاتكم فى رعاة الغنم ، ويزعم أنّه يعدل. وقيل : فى ذى الخويصرة رأس الخوارج ، كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقسم غنائم حنين ، فاستعطف قلوب أهل مكة ، فآثرهم بالعطاء ، فقال : اعدل يا رسول اللّه ، فقال : «ويلك ، إن لم أعدل فمن يعدل؟» «1».
قال تعالى : وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أي : بما أعطاهم الرسول من الغنيمة ، وذكر اللّه للتعظيم وللتنبيه على أن ما فعله الرسول - عليه الصلاة والسلام - كان بأمر اللّه ووحيه ، فكأنه فعله هو. وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ أي : كفانا فضله ، سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ صدقة أو غنيمة أخرى ، فيؤتينا أكثر مما أتانا ، إِنَّا إِلَى اللَّهِ راغِبُونَ فى أن يغنينا من فضله وجوده. فلو فعلوا هذا لكان خيرا لهم من اعتراضهم عليك ، الموجب لهم المقت والعذاب.
الإشارة : لا يكون المؤمن كاملا حتى يستوى عنده المنع والعطا ، والفقد والوجد ، والفقر والغنى ، والعز والذل.
وأما إن كان فى حالة العطاء والوجد يفرح ، وفى حالة المنع والفقد يسخط ، فلا فرق بينه وبين أهل النفاق ، إلا من حيث التوسم بالإيمان ، ولو أنه رضى بما قسم اللّه له ، واكتفى بعلمه ، ورغب اللّه فى زيادته من فضله ، لكان خيرا له وأسلم. واللّه تعالى أعلم وأحكم.
ثم بيّن مصرف الصدقات الواجبة قطعا لأطماع من لا يستحقها ، فقال :
[سورة التوبة (9) : آية 60]
إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60)
يقول الحق جل جلاله : إِنَّمَا تدفع الصَّدَقاتُ الواجبة - أي : الزكاة - لهؤلاء الثمانية ، وهذا يرجّح أن لمزهم كان فى قسم الزكاة لا فى الغنائم ، واختصاص دفع الزكاة بهؤلاء الثمانية مجمع عليه ، واختلف :
هل يجب تعميمهم؟ فقال مالك : ذلك إلى الإمام ، إن شاء عمم وإن شاء خصص ، وإن لم يلها الإمام فصاحب المال
___________
(1) أخرجه البخاري فى (المناقب ، باب علامات النبوة) ومسلم فى (الزكاة ، باب ذكر الخوارج وصفاتهم) من حديث أبى سعيد الخدري - رضى اللّه عنه - .(2/394)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 395
مخير ، وبه قال أبو حنيفة وأحمد ، وأفتى به بعض الشافعية ، وقال الشافعي : يجب أن تقسم على هذه الأصناف بالسواء ، إن وجدت.
أولها : الفقير : وهو من لا شىء له ، وثانيها : المسكين : وهو من له شىء لا يكفيه. فالفقير أحوج ، وهو مشتق من فقار الظهر ، كأنه أصيب فقاره ، والمسكين من السكون ، كأن العجز أسكنه. ويدل على هذا قوله تعالى : أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ «1» ، فسماهم مساكين مع ملكهم السفينة ، وأنه صلّى اللّه عليه وسلّم سأل المسكنة وقيل بالعكس ، لقوله تعالى : أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ «2». وقيل : هما سواء. وَالْعامِلِينَ عَلَيْها أي : الساعين فى تحصيلها وجمعها ، ويدخل فيهم الحاشر والكاتب والمفرق ، ولا بأس أن يعلف خيلهم منها ، ويضافون منها بلا سرف. وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ قال مالك : هم كفار ظهر ميلهم للإسلام ، فيعطون ترغيبا فى الإسلام. وقيل : قوم أسلموا ونيتهم ضعيفة ، فيعطون ليتمكن الإسلام فى قلبهم ، وحكمهم باق ، وقيل : أشراف يترقب بإعطائهم إسلام نظائرهم.
وَفِي الرِّقابِ أي : فى فك الرقاب ، يشترون ويعتقون. وَالْغارِمِينَ ، أي : من عليهم دين ، فيعطى ليقضى دينه ، ويشرط أن يكون استدانه فى غير فساد ولا سرف ، وليس له ما يبيع فى قضائه. وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ يعنى : الجهاد ، فيعطى منها المجاهدون وإن كانوا أغنياء ، ويشترى منها آلة الحرب ، ولا يبنى منها سور ولا مركب. وَابْنِ السَّبِيلِ وهو الغريب المحتاج لما يوصله لبلده ، ولم يجد مسلفا ، إن كان مليّا ببلده ، وإلا أعطى مطلقا.
فرض اللّه ذلك فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ أي : حقّا محدودا عند اللّه. قال ابن جزى : ونصبه على المصدر- يعنى : لفعل محذوف كما تقدم- فإن قيل : لم ذكر مصرف الزكاة فى تضاعيف ذكر المنافقين؟ فالجواب : أنه خص مصرف الزكاة فى تلك الأصناف ليقطع طمع المنافقين فيها ، فاتصلت هذه الآية فى المعنى بقوله : (و منهم من يلمزك فى الصدقات ..). ه. (وَ اللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) يضع الأشياء فى مواضعها.
الإشارة : إنما النفحات والمواهب للفقراء والمساكين ، الذين افتقروا من السّوى ، وسكنوا فى حضرة شهود المولى. وفى الحكم : «ورود الفاقات أعياد المريدين ، ربما وجدت من المزيد فى الفاقة ما لا تجده فى الصوم والصلاة ، الفاقات بسط المواهب. إن أردت بسط المواهب عليك فصحح الفقر والفاقة لديك. إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ».
________
(1) من الآية 79 من سورة الكهف.
(2) الآية 16 من سورة البلد.(2/395)
البحر المديد في تفسير القرآن المجيد ، ج 2 ، ص : 396
وقال الهروي : الفقر صفة مهجورة ، وهو ألدّ ما يناله العارف ، لكونها تدخله على اللّه ، وتجلسه بين يدى اللّه ، وهو أعلم المقامات حكما لقطع العوائق ، والتجرد من العلائق ، واشتغال القلب بالله. قيل : الفقير الصادق لا يملك ولا يملك. وقال الشبلي : الفقير لا يستغنى بشىء دون اللّه. وقال الشيخ ابن سبعين رضى اللّه عنه : الفقير هو الذي لا يحصره الكون. ه. يعنى : لخروج فكرته عن دائرة الأكوان. وقال القشيري : الفقير الصادق عندهم : من لا سماء تظله ، ولا أرض تقلّه ، ولا سهم يتناوله ، ولا معلوم يشغله ، فهو عبد اللّه بالله. ه.
وقال السهروردي فى عوارفه : الفقر أساس التصوف ، وبه قوامه ، ويلزم من وجود التصوف وجود الفقر لأن التصوف اسم جامع لمعانى الفقر والزهد ، مع زيادة أحوال لا بد منها للصوفي ، وإن كان فقيرا زاهدا.
وقال بعضهم : نهاية الفقر بداية التصوف لأن التصوف اسم جامع لكل خلق سني ، والخروج من كل خلق دنى ، لكنهم اتفقوا ألّا دخول على اللّه إلا من باب الفقر ، ومن لم يتحقق بالفقر لم يتحقق بشىء مما أشار إليه القوم.
وقال أبو إسحاق الهروي أيضا : من أراد أن يبلغ الشرف كل الشرف فليختر سبعا على سبع ، فإن الصالحين اختاروها حتى بلغوا سنام الخير. اختاروا الفقر على الغنى ، والجوع على الشبع والدّون على المرتفع ، والذلّ على العز ، والتواضع على الكبر ، والحزن على الفرح ، والموت على الحياة. ه. وقال بعضهم :
إن الفقير الصادق ليحترز من الغنى حذرا أن يدخله فيفسد عليه فقره ، كما يحترز الغنى من الفقر حذرا أن يفسد عليه غناه.
قال بعض الصالحين : كان لى مال ، فرأيت فقيرا فى الحرم جالسا منذ أيام ، ولا يأكل ولا يشرب وعليه أطمار رثة ، فقلت : أعينه بهذا المال فألقيته فى حجره ، وقلت : استعن بهذا على دنياك ، فنفض بها فى الحصباء ، وقال لى :
اشتريت هذه الجلسة مع ربى بما ملكت ، وأنت تفسدها علىّ؟ ثم انصرف وتركنى ألقطها. فو اللّه ما رأيت أعز منه لمّا بدّدها ، ولا أذل منى لما كنت ألقطها. ه.
وكان بعضهم إذا أصبح عنده شيىء أصبح حزينا ، وإذا لم يصبح عنده شيىء أصبح فرحا مسرورا ، فقيل له :
إنما الناس بعكس هذا ، فقال : إنى إذا لم يصبح عندى شىء فلى برسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أسوة ، وإذا أصبح لى شىء لم يكن لى برسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أسوة حسنة. ه. وجمهور الصوفية : يفضلون الفقير الصابر على الغنى الشاكر ، ويفضلون الفقر فى الجملة على الغنى لأنه- عليه الصلاة والسلام- اختاره ، وما كان ليختار المفضول. وشذ منهم يحيى بن معاذ الواعظ وأحمد بن عطاء.(2/396)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 397
قال القشيري : كان ابن عطاء يفضل الغنى على الفقر ، فدعا عليه الجنيد فأصيب عقله ثلاثين سنة ، فلما رجع إليه عقله قال : إنما أصابنى ما أصابنى بدعاء الجنيد. وتكلم يحيى بن معاذ ، ففضل الغنى على الفقر ، فأعطاه بعض الأغنياء ثلاثين ألف درهم ، فدعا بعض المشايخ عليه ، فقال : لا بارك اللّه له فيها ، فخرج عليه اللص فنهبه إياها.
ه. وحكى عن أبى يزيد البسطامي : أنه قال : أسرى بروحى ، فرأيت كأنى واقف بين يدى اللّه ، فسمعت قائلا يقول : يا أبا يزيد ، إن أردت القرب منا فأتنا بما ليس عندنا ، فقلت : يا مولاى وأي شيىء ليس عندك ، ولك خزائن السماوات والأرض؟ فسمعت : يا أبا يزيد ، ليس عندي ذل ولا فقر ، فمن أتانى بهما بلّغته. ه.
وقال فى الإحياء : الفقر المستعاذ منه : فقر المضطر ، والمسئول هو : الاعتراف بالمسكنة والذلة والافتقار إلى اللّه عز وجل. ه. قلت : والأحسن أن المستعاذ منه هو : فقر القلوب من اليقين ، فيسكنها الجزع والهلع ، والفقر المسئول هو : التخفيف من الشواغل والعلائق ، واللّه تعالى أعلم.
وقد تكلم القشيري هنا على أخذ الزكاة وتركها ، فقال : من أهل المعرفة من رأى أنّ أخذ الزكاة المفروضة أولى ، قالوا : لأن اللّه- سبحانه- جعل ذلك ملكا للفقير ، فهو أحل له من المتطوع به. ومنهم من قال : الزكاة المفروضة لأقوام مستحقة ، ورأوا الإيثار على الإخوان أولى ، فلم يزاحموا أرباب السهمان ، وتحرجوا من أخذ الزكاة ، ومنهم من قال : إن ذلك وسخ الأموال ، وهو لأصحاب الضرورات. وقالوا : نحن آثرنا الفقر اختيارا .. فلم يأخذوا الزكاة المفروضة. ه.
وقوله تعالى : (و العاملين عليها) : هم : المستعدون للمواهب بالتفرغ والتجريد ، (و المؤلفة قلوبهم) على حضرة محبوبهم ، والجادّون فى فك الرقاب من الجهل والغفلة وهم أهل التذكير ، الداعون إلى اللّه ، (و الغارمين) أي :
الدافعون أموالهم ومهجهم فى رضى محبوبهم ، فافتقروا فاستحقوا حظهم من المواهب والأسرار ، و(فى سبيل اللّه) أي : والمجاهدون أنفسهم فى مرضاة اللّه ، (و ابن السبيل) : السائحين فى طلب معرفة اللّه. واللّه تعالى أعلم.
ثم ذكر نوعا آخر من مساوئ المنافقين ، فقال :
[سورة التوبة (9) : آية 61]
وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (61)(2/397)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 398
قلت : (قل أذن خير) : من قرأ بالإضافة ف (لكم) : متعلق بالاستقرار ، أي : هو أذن خير كائن لكم. ومن قرأ بالتنوين ف (خير) : خبر عن «أذن» خبر ثان ، ومن قرأ : «ورحمة» بالرفع فعطف على (أذن خير) ، ومن قرأ بالجر ، فعطف على «خير» ، المجرور.
يقول الحق جل جلاله : وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ فيه : هُوَ أُذُنٌ يسمع كل ما يقال له ويصدقه حقا كان أو باطلا ، فإذا حلفنا له أنا لم نقل شيئا صدقنا. والقائل لهذه المقالة : قيل : هو نبتل بن الحارث ، وكان من مردة المنافقين. وقيل : عتاب بن قشير ، فى جماعة ، قالوا : محمد أذن سامعه ، نقول ما شئنا ، ثم نأتيه فيصدقنا فيما نقول. قال البيضاوي : سمى بالجارحة للمبالغة كأنه من فرط استماعه صار جملته آلة السماع ، كما سمى الجاسوس عينا. ه.
قال تعالى فى الرد عليهم : قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ أي : هو لكم سماع خير وحق ، فيسمع الخير والحق ويبلغه لكم ، أو قل : هو أذن خير لكم من كونه غير أذن لأن كونه أذنا يقبل معاذيركم ولو كان غير أذن لكذبكم وفضحكم. وفى (الوجيز) أي : مستمع خير وصلاح ، لا مستمع شر وفساد.
قال البيضاوي : وهو تصديق لهم بأنه أذن ، لكن لا على الوجه الذي ذموا به- يعنى من تنقصه بقلة الحزم والانخداع- بل من حيث إنه يسمع الخير ويقبله. ثم فسر ذلك بقوله : يُؤْمِنُ بِاللَّهِ يصدق بالله وبما له من الكمالات ، وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ ويصدقهم لما يعلم من خلوصهم ، واللام مزيدة للتفرقة بين إيمان التصديق وإيمان الإذعان والأمان ، وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ أي : هو رحمة لمن أظهر الإيمان منكم ، بحيث يقبله ولا يكشف سره. وفيه تنبيه على أنه ليس يقبل قولكم جهلا بكم ، بل رفقا بكم وترحما عليكم. قاله البيضاوي.
وفى ابن عطية : وخص الرحمة بالذين آمنوا إذ هم الذين نجوا بالرسول وفازوا. وفى الوجيز : وهو رحمة لهم ، لأنه كان سبب إيمانهم. ه. فظاهره أن الإيمان الصادر منهم كان حقيقيا ، وهو حسن خلاف ظاهر. قال البيضاوي : أي : هو رحمة لمن وفقه اللّه للإيمان منكم.
وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ بأى نوع من الإيذاء ، لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ موجع بسبب إيذايته.(2/398)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 399
الإشارة : تعظيم الرسول عليه السّلام ومدحه وذكر محاسنه ، من أجل القربات وأعظم الطاعات لأن تعظيمه ناشىء عن محبته ، ومحبته عقد من عقود الإيمان ، لا يتم الإيمان إلا بها ، والإخلال بهذا الجانب من أعظم المعاصي عند اللّه ، ولذلك قبح كفر المنافقين واليهود ، الذين كانوا يؤذون جانب النبوة ، وما عابه به المنافقون في هذه الآية هو عين الكمال عند أهل الكمال.
قال القشيري : عابوه بما هو أمارة كرمه ، ودلالة فضله ، فقالوا : إنه لحسن خلقه ، يسمع ما يقال له ، وقد قال صلّى اللّه عليه وسلّم : «المؤمن غرّ كريم ، والمنافق خبّ لئيم» «1». قالوا : من الفاضل؟ قالوا : الفطن المتغافل ، وأنشدوا :
وإذا الكريم أتيته بخديعة فرأيته فيما تروم يسارع
فاعلم بأنّك لم تخادع جاهلا إنّ الكريم- بفضله- يتخادع «2». ه.
وكل ولى يتخلق بهذا الخلق السني الذي هو التغافل والانخداع فى اللّه ، وكان عبد اللّه بن عمر يقول : (من خدعنا فى اللّه انخدعنا له). ورأى سيدنا عيسى عليه السّلام رجلا يسرق ، فقال له : سرقت يا فلان؟ فقال : واللّه ما سرقت ، فقال عليه السّلام : (آمنت بالله وكذبت عينى). فمن أخلاق الصوفي أن يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين ، كيفا كانوا ، ورحمة للذين آمنوا ، فمن آذى من هذا وصفه فله عذاب أليم. وبالله التوفيق.
ومن مساوئ المنافقين أيضا : أنهم يرضون الناس بسخط اللّه ، كما أبان ذلك الحق تعالى بقوله :
[سورة التوبة (9) : الآيات 62 الى 63]
يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ (62) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِداً فِيها ذلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (63)
قلت : إنما وحدّ الضمير فى (يرضوه) إما لأن رضى أحدهما رضى الآخر ، فكأنهما شىء واحد ، أو لأن الكلام إنما هو فى إيذاء الرسول- عليه الصلاة والسلام- وإرضائه ، فذكر اللّه تعظيما لجانب الرسول ، أو لأن التقدير : واللّه أحق أن يرضوه ، ورسوله كذلك فهما جملتان. والضمير فى (أنه من يحادد) : ضمير الشأن ، و(فأن) : إما تأكيد
________
(1) أخرجه أبو داود فى (الأدب ، باب فى حسن العشرة) والترمذي فى (البر والصلة ، باب ما جاء فى البخيل) عن أبى هريرة ، بلفظ : «الفاجر» بدل المنافق.
(2) البيتان منسوبان إلى عبد المجيد بن إسماعيل الرومي ، راجع النجوم الزاهرة 5/ 272.(2/399)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 400
لأن الأولى ، وجملة (فله) : جواب ، أو تكون بدلا منها ، أو فى موضع خبر عن مبتدأ محذوف ، أي : فحقّ ، أو واجب له نار جهنم.
يقول الحق جل جلاله : يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ أي : المنافقون ، لَكُمْ أيها المؤمنون ، حين يعتذرون فى التخلف عن الجهاد وغيره ، لِيُرْضُوكُمْ أي : لترضوا عنهم وتقبلوا عذرهم ، وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ بالطاعة والوفاق ، واتباع ما جاء به ، إِنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ صادقين فى إيمانهم. أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ أي : الأمر والشأن ، مَنْ يُحادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يعاديهما ، ويخالف أمرهما فَأَنَّ لَهُ ، فواجب أن له نارَ جَهَنَّمَ خالِداً فِيها ، ذلِكَ الْخِزْيُ أي : الهول الْعَظِيمُ ، والهلاك الدائم ، والعياذ بالله.
الإشارة : من أرضى الناس بسخط اللّه أسخطهم عليه وسخط عليه ، ومن أسخط الناس فى رضى اللّه أرضاهم عليه ، ورضى عنه ، فمن أقر منكرا حياء أو خوفا من الناس ، فقد أسخط مولاه ، ومن أنكر منكرا ، ولم يراقب أحدا ، فقد أرضى مولاه ، ومن راقب الناس لم يراقب اللّه ، ومن راقب اللّه لم يراقب الناس ، (و اللّه ورسوله أحق أن يرضوه إن كانوا مؤمنين). وتأمل قول الشاعر :
من راقب النّاس مات غمّا وفاز باللذات الجسور
وبالله التوفيق.
ومن أخلاقهم أيضا : الخوف من الفضيحة ، والاستهزاء بالدين ، كما أبان ذلك بقوله :
[سورة التوبة (9) : الآيات 64 الى 66]
يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِؤُا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ (64) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ (65) لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طائِفَةً بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ (66)
قلت : الضمائر فى «عليهم» ، و«تنبئهم» و«قلوبهم» ، تعود على المنافقين خلافا للزمخشرى فى الأولين ، فقال : يعود على المؤمنين ، وتبعه البيضاوي.
يقول الحق جل جلاله : يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ أي : فى شأنهم ، سُورَةٌ من القرآن على النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ، تُنَبِّئُهُمْ أي : تخبرهم ، أي : المنافقين ، بِما فِي قُلُوبِهِمْ من الشك والنفاق ، وتهتك أستارهم ،(2/400)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 401
وكانوا يستهزؤون بأمر الوحى والدين ، فقال تعالى لنبيه- عليه الصلاة والسلام : قُلِ لهم : اسْتَهْزِؤُا تهديدا لهم ، إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ من إنزال السورة فيكم ، أو ما تحذرون من إظهار مساوئكم وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ عن استهزائهم ، لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ فيما بيننا. روى أن ركبا من المنافقين مروا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ، فى غزوة تبوك ، فقالوا : انظروا إلى هذا الرجل ، يريد أن يفتح قصور الشام وحصونه ، هيهات هيهات!! فأخبر اللّه نبيه ، فدعاهم فقال : «قلتم : كذا وكذا؟» فقالوا : لا ، واللّه ، ما كنا فى شىء من أمرك ، ولا من أمر أصحابك ، ولكنا كنا فى شىء مما يخوض فيه الركب ، ليقصر بعضنا على بعض السفر «1».
قال تعالى : قُلْ أَبِاللَّهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ ، توبيخا لهم على استهزائهم بما لا يصح الاستهزاء به ، لا تَعْتَذِرُوا أي : لا تشتغلوا باعتذاراتكم الكاذبة قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ أي : قد أظهرتم الكفر بإيذاء الرسول والطعن عليه ، بعد إظهار إيمانكم الكاذب. إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ بتوبتهم وإخلاصهم ، حيث سبق لهم ذلك كان منهم رجل اسمه مخشىّ ، تاب ومات شهيدا. أو لكفهم عن الإيذاء ، نُعَذِّبْ طائِفَةً بِأَنَّهُمْ كانُوا فى علم اللّه مُجْرِمِينَ مصرين على النفاق ، أو مستمرين على الإيذاء والاستهزاء. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : الاستهزاء بالأولياء والطعن عليهم من أسباب المقت والبعد من اللّه ، والإصرار على ذلك شؤمه سوء الخاتمة ، وترى بعض الطاعنين عليهم يحذر منهم أن يكاشفوا بأسرارهم ، وقد يطلع اللّه أولياءه على ذلك ، وقد لا يطلعهم ، وبعد أن يطلعهم على ذلك لا يواجهوهم بكشف أسرارهم لتخلقهم بالرحمة الإلهية. واللّه تعالى أعلم.
ومن مساوئ المنافقين أيضا : أمرهم بالمنكر ونهيهم عن المعروف ، كما قال تعالى :
[سورة التوبة (9) : الآيات 67 الى 69]
الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ (67) وَعَدَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْكُفَّارَ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ (68) كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوالاً وَأَوْلاداً فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (69)
________
(1) أخرجه ابن جرير فى تفسيره (10/ 173) عن قتادة.(2/401)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 402
قلت : قال فى الأساس : ومن المجاز : نسيت الشيء : تركته ، (نسوا اللّه فنسيهم). قال فى المشارق : ونسى بمعنى ترك ، معناه مشهور فى اللغة ، ومنه : (نسوا اللّه فنسيهم) أي : تركوا أمره فتركهم. وقوله : (كالذين من قبلكم) : خبر ، أي : أنتم كالذين ، أو مفعول بمحذوف ، أي : فعلتم مثل فعل من قبلكم.
يقول الحق جل جلاله : الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ أي : متشابهة فى الكفر والبعد عن الإيمان ، لا فرق بين ذكورهم وإناثهم فى النفاق والكفر ، وهو نفى لأن يكونوا مؤمنين. وقيل : إنه تكذيب لهم فى حلفهم بالله : إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وتقرير لقوله : وَما هُمْ مِنْكُمْ ، وما بعده كالدليل عليه ، فإنه يدل على مضادة حالهم لحال المؤمنين. وهو قوله : يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ كالكفر والمعاصي ، وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ كالإيمان والطاعة ، وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ عن الإعطاء والمبار ، وهو كناية عن البخل والشح. نَسُوا اللَّهَ أي : غفلوا ، أي : أغفلوا ذكره ، وتركوا طاعته ، فَنَسِيَهُمْ فتركهم من لطفه ورحمته وفضله ، إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ الكاملون فى التمرد والفسوق عن دائرة الخير.
وَعَدَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْكُفَّارَ أي : المجاهرين بالكفر ، نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أي : مقدرين الخلود. قال ابن جزى : الأصل فى الشر أن يقال : أوعد ، وإنما يقال فيه : «وعد» إذا صرح بالشر. ه. هِيَ حَسْبُهُمْ أي : جزاؤهم عقابا وعذابا ، وفيه دليل على عظم عذابها ، وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ أبعدهم من رحمته ، وأهانهم ، وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ لا ينقطع ، وهو العذاب الذي وعدوه ، أو ما يقاسونه من تعب النفاق ، والخوف من المؤمنين.
كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ أي : أنتم كالذين من قبلكم ، أو فعلتم مثل فعل الذين من قبلكم ، كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوالًا وَأَوْلاداً ، وهو بيان لتشبيههم بهم ، وتمثيل حالهم بحالهم ، فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ أي :
نصيبهم من ملاذ الدنيا وحظوظها ، فأمّلوا بعيدا وبنوا مشيدا ، فرحلوا عنه وتركوه ، فلا ما كانوا أملوا أدركوا ، ولا إلى ما فاتهم رجعوا ، فَاسْتَمْتَعْتُمْ أنتم بِخَلاقِكُمْ أي : بنصيبكم مما خلق اللّه لكم وقدره لكم فى الأزل ، كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ ، ثم تركوا ذلك ورحلوا عنه ، كذلك ترحلون أنتم عنه وتتركونه.
قال البيضاوي : ذمّ الأولين باستمتاعهم بحظوظهم المخدّجة من الشهوات الفانية ، والتهائهم بها عن النظر فى العاقبة ، والسعى فى تحصيل اللذائذ الحقيرة تمهيدا لذم المخاطبين بمشابهتهم واقتفاء آثارهم. ه.(2/402)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 403
وَخُضْتُمْ فى الباطل كَالَّذِي خاضُوا أي : أو كخوضهم ، أو كالخوض الذي خاضوه ، وقيل : كالذين خاضوا فيه ، فأوقع الذم على الجمع. أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ أي : لم يستحقوا عليها ثوابا فى الدارين ، وَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ الكاملون فى الخسران ، خسروا الدنيا والآخرة.
الإشارة : ينبغى لأهل الإيمان الكامل أن يتباعدوا عن أوصاف المنافقين فيأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ، ويمدّون أيديهم بالعطاء والإيثار ، ويذكرون اللّه على سبيل الاستهتار ، حتى يذكرهم برحمته. ويتشبهون بمن قبلهم من الصالحين الأبرار ، فقد استمتعوا بلذيذ المناجاة ، وحلاوة المشاهدات ، وبلطائف العلوم والمكاشفات ، أولئك الذين ثبتت لهم الكرامة من اللّه فى الدنيا والآخرة ، وأولئك هم الفائزون.
ثم هدد المنافقين بإهلاك من قبلهم ، فقال :
[سورة التوبة (9) : آية 70]
أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْراهِيمَ وَأَصْحابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (70)
يقول الحق جل جلاله ، فى شأن المنافقين : أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ : خبر الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ، كيف دمرهم اللّه وأهلكهم ، حيث خالفوا رسلهم ، قَوْمِ نُوحٍ أغرقهم بالطوفان ، وَقوم عادٍ أهلكهم بالريح ، وَثَمُودَ أهلكهم بالصيحة ، وَقَوْمِ إِبْراهِيمَ أهلك نمرود ببعوض ، وأهلك أصحابه به ، أرسل عليهم سحابة من البعوض فخرطتهم ، ودخلت بعوضة فى دماغه فأكلت دماغه ، حتى هلك ، وَأَصْحابِ مَدْيَنَ ، وهم قوم شعيب ، أهلكوا بالنار يوم الظلة ، وَالْمُؤْتَفِكاتِ مدائن قوم لوط ، ائتفكت بهم ، أي : انقلبت ، فصار عاليها سافلها ، وأمطروا حجارات من سجيل. أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ أي : كل واحدة منهن أتاها رسول بِالْبَيِّناتِ بالمعجزات الواضحة ، فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ أي : لم يكن من عادته ما يشابه ظلم الناس ، كالعقاب بلا جرم.
وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ حيث عرضوها للعقاب بالكفر والتكذيب.
الإشارة : ينبغى للمؤمن المشفق على نفسه أن يتحرى مواطن الهلكة ، فيجتنبها بقدر الإمكان فينظر ما فعل اللّه بأهل المخالفة والمعاصي ، فيهرب منها بقدر إمكانه ، وينظر ما فعل بأهل طاعته وطاعة رسوله من النصر والعز فى الدارين ، فيبادر إليها فوق ما يطيق ، ويعظم الرسل ، ومن كان على قدمهم ممن حمل الأمانة بعدهم ، ويشد يده على صحبتهم وخدمتهم فهذا يسعد سعادة الدارين. وبالله التوفيق.(2/403)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 404
ثم ذكر أضداد المنافقين ، فقال :
[سورة التوبة (9) : الآيات 71 الى 72]
وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71) وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72)
يقول الحق جل جلاله : وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ أي : أصدقاء بَعْضٍ ، وهذا فى مقابلة قوله : الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ ، وخص المؤمنين بالوصف بالولاية ، يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ضد ما فعله المنافقون ، وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ ضد قوله : وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ ، وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فى سائر الأمور ، ضد قوله : نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ ، أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ لا محالة لأن السين مؤكدة للوقوع ، إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غالب على كل شىء ، لا يمتنع عليه ما يريده ، حَكِيمٌ يضع الأشياء مواضعها.
ثم ذكر ما أعد لهم فقال : وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً أي : تستطيبها النفس ، أو يطيب فيها العيش. وفى الحديث : «إنها قصور من اللؤلؤ والزبرجد والياقوت الأحمر» «1». وفى حديث آخر : «إنّ فى الجنّة غرفا يرى ظاهرها من باطنها ، وباطنها من ظاهرها ، أعدّها اللّه لمن أطعم الطعام ، وألان الكلام ، وبذل السلام ، وتابع الصّيام ، وصلّى باللّيل والنّاس نيام» «2».
وذلك فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ، أي : إقامة وخلود. وعنه- عليه الصلاة والسلام- : «جنات عدن : دار اللّه ، التي لم ترها عين ، ولا تخطر على قلب بشر ، لا يسكنها غير ثلاثة : النبيون ، والصديقون ، والشهداء. يقول اللّه تعالى :
طوبى لمن دخلك.» «3» قاله البيضاوي. ثم قال : ومرجع العطف فيها- أي : فى قوله : وَمَساكِنَ طَيِّبَةً- يحتمل
________
(1) أخرجه بسياق أخر مطولا ، البزار كما فى كشف الأستار (3/ 51) ، وعزاه فى الفتح السماوي (2/ 686) لابن أبى حاتم وابن مردويه كلهم عن الحسن عن عمران بن حصين وأبى هريرة.
(2) أخرجه الامام أحمد فى المسند (5/ 343) والطبراني فى الكبير (3/ 342) وعبد الرزاق فى المصنف (11/ 418) والبغوي فى التفسير (6/ 306) عن أبى مالك الأشعري. [.....]
(3) أخرجه البزار ، (كشف الأستار 4/ 192) وابن جرير فى التفسير (10/ 180) ، من حديث أبى الدرداء.(2/404)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 405
أن يكون لتعدد الموعود لكل واحد له ، أي : فكل مؤمن ومؤمنة له جنات ومساكن أو للجميع على سبيل التوزيع ، أي : فالجنات والمساكن معدة للجميع ، ثم يقسمونها على حسب سعيهم فى الدنيا ، أو إلى تغاير وصفه- أي : الموعود- فكأنه وصفه أولا بأنه جنس ما هو أبهى الأماكن التي يعرفونها لتميل إليه طبائعهم أول ما يقرع أسماعهم. ثم وصفه بأنه محفوف بطيب العيش ، معرى عن شوائب الكدرات التي لا تخلو عن شىء منها أماكن الدنيا ، وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين. ثم وصفه بأنه دار إقامة وثبات فى جوار رب العالمين ، لا يعتريهم فيها فناء ولا تغيير.
ثم وعدهم بما هو أكبر من ذلك فقال : وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ لأنه المبدأ لكل سعادة وكرامة ، والمؤدى إلى نيل الوصول والفوز باللقاء. وعنه صلّى اللّه عليه وسلّم : «إن اللّه تعالى يقول لأهل الجنّة : هل رضيتم؟ فيقولون : ومالنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك ، فيقول : أنا أعطيكم أفضل من ذلك. قالوا : وأيّ شىء أفضل من ذلك؟ قال : أحل عليكم رضوانى فلا أسخط عليكم أبدا» «1». ذلِكَ أي : الرضوان ، أو جميع ما تقدم ، هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ الذي تستحقر دونه الدنيا وما فيها. ه.
الإشارة : قد أعد اللّه لأهل الإيمان الحقيقي الذين بذلوا مهجهم وأموالهم فى مرضاته ، جنات المعارف ، تجرى من تحت أفكارهم أنهار العلوم والحكم ، ومساكن طيبة ، هى : عكوف أرواحهم فى الحضرة ، متلذذين بحلاوة الفكرة والنظرة ، فى محل المشاهدة والمكالمة ، والمساررة والمناجاة ، ورضوان من اللّه ، الذي هو نعيم الأرواح ، أكبر من كل شيىء لأن نعيم الأرواح أجلّ وأعظم من نعيم الأشباح ، حتى إن المقربين ليضحكون على أهل اليمين ، حين يرونهم يلعبون مع الولدان والحور ، كما ذكر الغزالي. وأما المقربون فيشاركونهم فى ذلك ، ويزيدون عليهم بلذة الشهود.
قال القشيري ، عند قوله تعالى : إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ «2» : إنه لا تنافى بين اشتغالهم بلذاتهم مع أهليهم وبين شهود مولاهم ، كما أنهم اليوم مستلذون بمعرفته بأى حالة هم فيها ، ولا يقدح اشتغالهم بحظوظهم فى معارفهم. انتهى لفظه ، وهو حسن. واللّه تعالى أعلم.
________
(1) أخرجه البخاري فى (الرقاق ، باب صفة الجنة والنار) وفى مواضع أخرى ، ومسلم فى (الجنة ، باب : إحلال الرضوان على أهل الجنة) من حديث أبى سعيد الخدري- رضى اللّه عنه-.
(2) الآية 55 من سورة «يسن».(2/405)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 406
ثم أمر نبيه بالإغلاظ على المنافقين ، فقال :
[سورة التوبة (9) : الآيات 73 الى 74]
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (73) يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا وَما نَقَمُوا إِلاَّ أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (74)
يقول الحق جل جلاله : يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ بالسيف ، وَالْمُنافِقِينَ باللسان بإلزام الحجة وبإقامة الحدود ما لم يظهر عليهم ما يدل على كفرهم ، فإن ظهر عليهم ذلك فحكمهم كحكم الزنديق ، فيقتل على المشهور. وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ بالقول والفعل ، إن استوجبوا ذلك ، ولا تراقبهم ، وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ أي : المرجع ، مصيرهم.
يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا ، روى : أنه صلّى اللّه عليه وسلّم أقام فى غزوة تبوك شهرين ، ينزل عليه القرآن ، ويعيب المتخلفين ، فقال الجلاس بن سويد : لئن كان ما يقول محمد فى إخواننا حقا لنحن شرّ من الحمير ، فبلغ النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فاستحضره ، فحلف بالله ما قال ، فنزلت ، فتاب الجلاس وحسنت توبته «1».
قال تعالى : وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ ، يعنى : ما تقدم من قول الجلاس ، أو قول ابن أبىّ : سمن كلبك يأكلك ، أو : لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ ... الآية. وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وأظهروا الكفر بعد إظهار الإسلام ، ولم يقل :
بعد إيمانهم لأنهم يقولون بألسنتهم : آمنا ، ولم يدخل فى قلوبهم ، وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا من قتل النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وهو :
أن خمسة عشر منهم توافقوا ، عند مرجعه من تبوك ، أن يدفعوه عن راحلته إلى الوادي ، إذا وصل إلى العقبة بالليل ، فأخذ عمّار بن ياسر بخطام راحلته يقودها ، وحذيفة خلفها يسوقها ، فبينما هم كذلك إذ سمع حذيفة تقعقع أخفاف الإبل وقعقعة السلاح ، فقال : إليكم إليكم إليكم يا أعداء اللّه ، فهربوا «2». أو : هموا بإخراجه من المدينة ، أو إخراج المؤمنين ، أو هموا بأن يتوّجوا عبد اللّه بن أبىّ ، وإن لم يرض رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ، فلم ينالوا شيئا من ذلك.
________
(1) أخرجه البيهقي فى الدلائل (باب مرجع النبي صلّى اللّه عليه وسلّم من تبوك) عن عروة بن الزبير.
(2) أخرجه بنحوه أحمد فى المسند 5/ 453 عن أبى الطفيل. والبيهقي فى الدلائل (باب رجوع النبي صلّى اللّه عليه وسلّم من تبوك) عن عروة.(2/406)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 407
وَما نَقَمُوا أي : وما عابوا وكرهوا إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ الذي حقهم أن يشكروا عليه ، وذلك أن أكثر أهل المدينة كانوا محاويج ، فى ضنك من العيش ، فلما قدمهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم استغنوا بالغنائم ، وقتل للجلاس مولى ، فأمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بديته اثنى عشر ألفا ، فأعطيت له ، فاستغنى.
فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ ، وهذا حمل الجلاس على التوبة ، والضمير يعود على الرجوع المفهوم من التوبة ، وَإِنْ يَتَوَلَّوْا عنك بالإصرار على النفاق ، يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ بالقتل والنار ، وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ ينجيهم من العذاب.
الإشارة : كفار الخصوصية على قسمين : قسم أظهروا الإنكار على أهلها ، وقسم أبطنوه وأظهروا الوفاق ، ففيهم شبه بأهل النفاق ، فينبغى الإعراض عن الجميع ، والاشتغال بالله عنهم ، وهو جهادهم والإغلاظ عليهم ، فعداوة العدو حقا هو اشتغالك بمحبة الحبيب حقا. وقد تصدر عنهم فى جانب أهل الخصوصية مقالات ثم ينكرونها ، وقد يهمّوا بما لم ينالوا من إذايتهم وقتلهم ، لو قدروا. واللّه يتولى الصالحين.
ونزل فى ثعلبة بن حاطب ، قوله تعالى :
[سورة التوبة (9) : الآيات 75 الى 78]
وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِما أَخْلَفُوا اللَّهَ ما وَعَدُوهُ وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ (77) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (78)
يقول الحق جل جلاله : وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ وقال : لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ ، وهو ثعلبة بن حاطب ، أتى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وقال : ادع اللّه أن يرزقنى مالا. فقال له النبي صلّى اللّه عليه وسلّم : «يا ثعلبة ، قليل تؤدى شكره خير من كثير لا تطيقه». فراجعه ، وقال : والذي بعثك بالحق ، لئن رزقنى اللّه مالا لأعطين كلّ ذى حقّ حقّه ، فدعا له ، فاتخذ غنما ، فنمت كما تنمو الدود ، حتى ضاقت بها المدينة ، فنزل واديا ، وانقطع عن الجماعة والجمعة ، فسأل عنه النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ، فقيل : كثر ماله حتى لا يسعه واد ، فقال : «يا ويح ثعلبة». فبعث له مصدقين لأخذ الصدقات فاستقبلهما الناس بصدقاتهم ، ومروا بثعلبة فسألاه الصدقة ، وأقرآه الكتاب الذي فيه الفرائض ، فقال : ما هذه صدقة ، ما هذه إلا أخت الجزية ، فارجعا حتى أرى رأيى ، فنزلت فيه الآية ، فجاء ثعلبة بالصدقة ، فقال : إن اللّه منعنى أن أقبل منك ، فجعل يحثو التراب على رأسه ، فقال له صلّى اللّه عليه وسلّم : «هذا منك فقد أمرتك فلم(2/407)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 408
تطعنى» ، فقبض الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم ، فجاء بها إلى أبى بكر ، فلم يقبلها ، ثم جاء بها إلى عمر فى خلافته ، فلم يقبلها منه ، وهلك فى زمن عثمان ، بعد أن لم يقبلها منه «1».
وهذا معنى قوله : فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ أي : منعوا حق اللّه منه ، وَتَوَلَّوْا عن طاعة اللّه ، وَهُمْ مُعْرِضُونَ أي : وهم قوم عادتهم الإعراض عنها ، فَأَعْقَبَهُمْ أي : فأردفهم نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ عقوبة على العصيان بما هو أشد منه ، أو فجعل اللّه عاقبة فعلهم ذلك نفاقا متمكنا فى قلوبهم وسوء اعتقاد. قال البيضاوي : ويجوز أن يكون الضمير للبخل ، والمعنى : فأورثهم البخل نفاقا متمكنا فى قلوبهم إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ ، أي : يلقون اللّه بالموت ، والمراد : يلقون جزاءه أو عقابه. وذلك بِما أَخْلَفُوا اللَّهَ ما وَعَدُوهُ أي : بسبب إخلافهم ما وعدوه من التصدق والصلاح ، وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ أي : وبكونهم كاذبين فيه فإن خلف الوعد متضمن للكذب ، مستقبح من الوجهين.
أَلَمْ يَعْلَمُوا أي : المنافقون ، أو من عاهد اللّه ، أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ أي : ما أسروا فى أنفسهم من النفاق ، وَنَجْواهُمْ ما يتناجون فيه ، فيما بينهم ، من المطاعن وتسمية الزكاة جزية ، وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ فلا يخفى عليه شىء من ذلك ، واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : فى الحكم العطائية : «من تمام النعمة عليك : أن يرزقك ما يكفيك ، ويمنعك ما يطغيك». وقال أبو سعيد الخدري رضى اللّه عنه : سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول : «خير الرّزق ما يكفى ، وخير الذّكر الخفىّ» «2» وقال صلى اللّه عليه وسلم : «ما طلعت شمس إلا وبجنبيها ملكان يناديان ، يسمعان الخلائق : أيّها النّاس ، هلمّوا إلى ربّكم ، ما قلّ وكفى خير مما كثر وألهى» «3». وقال بعض العارفين : كل من لا يعرف قدر ما زوى عنه من الدنيا ، ابتلى بأحد وجهين : إما بحرص مع فقر يتقطع به حسرات ، أو رغبة فى غنى تنسيه شكر ما أنعم به عليه.
________
(1) أخرجه الطبراني فى الكبير (8/ 260) والبيهقي فى الدلائل (باب قصة ثعلبة بن حاطب 5/ 90) وابن جرير فى التفسير (10/ 189). كذلك البغوي وغيره ، كلهم عن أبى أمامة الباهلي ، وذكر الحافظ ابن الحجر فى الكافي الشاف : أن إسناد هذه القصة ضعيف جدا. راجع : الكافي الشاف (2/ 292) والإصابة (1/ 401) والحاوي للسيوطى (2/ 183).
وثعلبة بن حاطب- المذكور فى القصة شهد بدرا. وقد قال صلّى اللّه عليه وسلّم : «لا يدخل النار أحد شهد بدرا والحديبية». وحكى صلّى اللّه عليه وسلّم عن رب العزة أنه قال لأهل بدر : «اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم ، فمن هذا شأنه ، كيف يؤول به الأمر إلى ما آل إليه ما نزلت فيه الآيات؟ وقد أستشهد ثعلبة يوم أحد ، وفى القصة المذكورة أنه هلك فى عهد عثمان. وهذا دليل على أن القصة غير صحيحة أصلا ، راجع فى هذا : الشهاب الثاقب فى الذب عن الصحابي ثعلبة بن حاطب ..
(2) أخرجه أحمد 1/ 172 ، عن سعد بن مالك. وأخرجه ابن حبان- بتقديم وتأخير- عن سعد بن أبى وقاص (الإحسان 2/ 89 ح 806).
(3) أخرجه أحمد فى المسند (5/ 197) وابن حبان (2476 موارد) والحاكم (2/ 445) ، وصححه ووافقه الذهبي كلهم عن أبى الدرداء. وقال الهيثمي (3/ 122) : رجاله رجال الصحيح.(2/408)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 409
وقد ثبت عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أنه قال : «ليس الغنى بكثرة العرض ، إنما الغنى غنى النّفس». وغنى النفس عن الدنيا :
شرف الأولياء المختارين ، وعز أهل التقوى المؤمنين المحسنين. ولقد صدق قول الشاعر :
غنى النّفس ما يغنيك عن سد خلّة فإن زدت شيئا عاد ذلك الغنى فقرا.
وقد قيل : من أخذ من الدنيا فوق ما يكفيه أعمى اللّه عينى قلبه. وقالت الجارية المجنونة لعبد الواحد بن زيد : يا عبد الواحد ، اعلم أن العبد إذا كان فى كفاية ، ثم مال إلى الدنيا ، سلبه اللّه حلاوة الزهد ، فيظل حيرانا والها ، فإن كان له عند اللّه تعالى نصيب ، عاتبه وحيا فى سره ، فقال : عبدى أردت أن أرفع قدرك عند ملائكتى وحملة عرشى ، وأجعلك دليلا لأوليائى وأهل طاعتى فى أرضى ، فملت إلى عرض من أعراض الدنيا وتركتنى فورثتك بذلك الوحشة بعد الأنس ، والذل بعد العز ، والفقر بعد الغنى ، عبدى ارجع إلى ما كنت عليه ، أرجع بك إلى ما كنت تعرفه. ه. وقد تقدمت الحكاية. وفى بعض الكتب : إن أهون ما أصنع بالعالم ، إذا مال إلى الدنيا أن أسلبه حلاوة مناجاتى. ه.
ثم ذم المنافقين بعيب آخر ، فقال :
[سورة التوبة (9) : الآيات 79 الى 80]
الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (79) اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (80)
قلت : (الذين) : مبتدا حذف خبره ، أي : منهم الذين ، أو خبر عن مبتدأ ، أو منصوب على الذم ، أو بدل من ضمير سرهم. وأصل المطوعين : المتطوعين ، فأدغمت التاء فى الطاء ، و(جهدهم) : مصدر جهد فى الأمر : بالغ فيه.
يقول الحق جل جلاله : ومنهم الَّذِينَ يَلْمِزُونَ أي : يعيبون الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ ، روى أنه صلّى اللّه عليه وسلّم حث على الصدقة ، فجاء عبد الرّحمن بن عوف بأربعة آلاف درهم ، وقال : كان لى ثمانية آلاف ، فأقرضت ربى أربعة ، وأمسكت لعيالى أربعة. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : «بارك اللّه لك فيما أعطيت وفيما أمسكت».
فبارك اللّه له حتى صالحته إحدى زوجتيه عن نصف الثمن على ثمانين ألف درهم. وتصدّق عاصم بن عدى بثمانية أوسق تمرا ، وجاء أبو عقيل الأنصاري بصاع تمر ، فأمره رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أن ينثره على تمر الصدقات ، (2/409)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 410
فلمزهم المنافقون ، وقالوا : ما أعطى عبد الرحمن وعاصم إلا رياء ، ولقد كان اللّه ورسوله لغنيين عن صاع أبى عقيل ، فنزلت الآية «1».
ونزلت فى أبى عقيل : وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ إلا طاقتهم ، فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ يستهزءون بهم. قال تعالى : سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ جازاهم على سخريتهم ، كقوله : اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ «2» ، وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ على كفرهم.
اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ ، يريد به التساوي بين الأمرين فى عدم الإفادة ، كما نص عليه بقوله :
إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ، روى أن عبد اللّه بن عبد اللّه بن أبىّ - وكان من خيار المسلمين - سأل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ، فى مرض أبيه ، أن يستغفر له ، ففعل ، فنزلت : سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ «3» ، وذلك لأنه - عليه الصلاة والسلام - فهم من السبعين العدد المخصوص ، وقال :
ولو علمت أنى إن زدت على السبعين غفر له ، لزدت «4» ، فبيّن له أن المراد به التكثير ، دون التحديد ، وقد شاع استعمال السبعة والسبعين والسبعمائة فى التكثر لاشتمال السبعة على جملة أقسام العدد ، فكأنه العدد بأسره قاله البيضاوي.
ذلِكَ أي : عدم قبول استغفارك بسبب أنهم كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ أي : ليس لبخل منا ، ولا تقصير فى حقك ، بل لعدم قابليتهم بسبب الكفر الصارف عنها. وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ المتمردين فى كفرهم ، وهو كالدليل على الحكم السابق ، فإن مغفرة الكافر بالإقلاع عن الكفر ، والإرشاد إلى الحق ، والمنهمك فى كفره ، المطبوع عليه ، لا ينقلع ولا يهتدى ، والتنبيه على عذر الرسول فى استغفاره ، وهو عدم يأسه من إيمانهم ، ما لم يعلم أنهم مطبوعون على الضلالة ، والممنوع هو الاستغفار بعد العلم لقوله : ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ ... الآية «5». قاله البيضاوي.
الإشارة : من نصب الميزان على المؤمنين فيما يصدر منهم ، أو على الصالحين أو الأولياء فيما يظهر عليهم ، حتى يسخر منهم ، سخر اللّه منه ، وأبعده من رحمته ، فلا تنفع فيه شفاعة الشافعين ولا استغفار المستغفرين. وفى
___________
(1) ذكره الواحدي فى أسباب النزول (260) عن قتادة.
(2) من الآية 15 من سورة البقرة.
(3) من الآية 6 من سورة المنافقون.
(4) أخرجه بسياق آخر ، البخاري فى (تفسير سورة التوبة). ومسلم فى (فضائل الصحابة ، باب من فضائل عمر) عن ابن عمر.
(5) الآية 113 من سورة التوبة.(2/410)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 411
بعض الأخبار : «من تتبع عورة أخيه المؤمن تتبع اللّه عورته حتى يفضحه ، ولو فى جوف بيته». ومن اشتغل بإذاية الأولياء ، ولم يتب ، مات على سوء الخاتمة ، وذلك جزاء من حارب اللّه - والعياذ بالله - .
ثم ذكر تخلف المنافقين عن الجهاد ، فقال :
[سورة التوبة (9) : الآيات 81 الى 83]
فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ (81) فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (82) فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ (83)
قلت : (خلاف رسول اللّه) : منصوب على الظرفية ، أي : بعده ، يقال : أقام خلاف الحي ، أي : بعدهم ، وقيل :
مصدر خالف ، فيكون مفعولا لأجله ، أو حال.
يقول الحق جل جلاله : فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ أي : الذين خلفهم اللّه عن الغزو ، وأقعدهم عنه ، ولذلك عبّر بالمخلفين دون المتخلفين ، فرحوا بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ أي : بعده فى غزوة تبوك ، وَكَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إيثارا للراحة والدّعة على طاعة اللّه ورسوله. وفيه تعريض بالمؤمنين الذين آثروا عليها تحصيل رضاه ببذل الأموال والمهج ، وأما المنافقون فآثروا الراحة وقعدوا ، وَقالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ ، قاله بعضهم لبعض ، أو قالوه للمؤمنين تثبيطا لهم. قال ابن جزى : قائل هذه المقالة رجل من بنى سليم ، ممن صعب عليه السفر إلى تبوك فى الحر. ه. قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا ، وقد آثرتموها بهذه المخالفة ، لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ أن مآلهم إليها ، أو كيف هى؟ ... ما اختاروها بإيثار الدعة على الطاعة.
فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ ، وهو إخبار عما يئول إليه حالهم فى الدنيا والآخرة ، أي : سيضحكون قليلا ، ويبكون كثيرا لما يرون من سوء العاقبة ، وأتى به على صيغة الأمر للدلالة على أنه حتم واجب وقوعه. قال ابن جزى : أمر بمعنى الخبر ، فضحكهم القليل فى الدنيا مدة بقائهم فيها ، (2/411)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 412
وبكاؤهم الكثير فى الآخرة ، أي : سيضحكون قليلا فى الدنيا ، ويبكون كثيرا فى الآخرة ، وقيل : هو بمعنى الأمر ، أي : يجب أن يكونوا يضحكون قليلا ويبكون كثيرا فى الدنيا ، لما وقعوا فيه. ه.
فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ أي : فإن ردك اللّه من الغزو إلى المدينة ، وفيها طائفة من المتخلفين - يعني منافقيهم - وكانوا اثنى عشر رجلا ممن تخلف من المنافقين ، وإنما لم يقل : إليهم لأن منهم من تاب من النفاق ، وندم على التخلف ، فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ معك إلى غزوة أخرى بعد تبوك ، فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا عقوبة لهم ، وفيها خزى وتوبيخ لهم ، إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ ، يعنى :
عن تبوك ، وهو تعليل لعدم خروجهم معه فى المستقبل ، فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ أي : المتخلفين ، أي : لعدم تأهلهم للجهاد كالنساء والصبيان.
الإشارة : من قلّ إيقانه ، وضعف نور إيمانه ، فرح ببقائه ، مع متابعة هواه وتيسير أمور دنياه ، وكره ارتكاب مشاق المجاهدة ، واقتحام حر المخالفة والمكابدة ، وثبط من رآه يروم تلك الوجهة ، ويريد أن يتأهب لدخول ميدان تلك الحضرة فسيندم قريبا ، حين يفوز الشجعان بحضرة الوصال ، ويتأهلون لمشاهدة الكبير المتعال ، ولا ينفع الندم وقد زلت القدم ، وإنما الصبر عند الصدمة الأولى. وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ ، أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ ، فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ «1». وبالله التوفيق.
ثم نهى نبيه عن الصلاة على المنافقين ، فقال :
[سورة التوبة (9) : الآيات 84 الى 85]
وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ (84) وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ (85)
قلت : (أبدا) : ظرف لمات ، أي : مات فى مدة لا حياة بعدها فإن حياة الكافر للتعذيب ، وهى كلا حياة.
يقول الحق جل جلاله لنبيه صلّى اللّه عليه وسلّم : وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ من المنافقين إذا مات على كفره ، بحيث (مات أبدا) أي : موتة لا حياة بعدها. نزلت فى عبد اللّه بن أبىّ رأس المنافقين ، فإنه لما مرض ، دعا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ، فسأله أن يستغفر له ويكفنه فى ثوبه الذي يلى جسده ، ويصلى عليه ، فلما مات أرسل قميصه ليكفن فيه ، وذهب ليصلى عليه ، فنزلت. وروى أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم لما تقدم للصلاة عليه جذبه جبريل بثوبه ، وتلى عليه الآية
___________
(1) الآيات 11 - 13 من سورة الواقعة. [.....](2/412)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 413
فانصرف ، ولم يصل عليه. وقيل : صلى عليه ثم نزلت. وفى البخاري : أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم لما تقدم للصلاة عليه جذبه عمر ، فقال : كيف تصلى عليه وقد نهاك ربك عن الصلاة على المنافقين؟ فقال : «إنّما خيّرنى ...»
الحديث «1».
قال البيضاوي : وإنما لم ينه عن التكفين فى قميصه ، ونهى عن الصلاة عليه لأن الضنة بالقميص كانت مخلة بالكرم ، ولأنه كان مكافأة لإلباس العباس قميصه حين أسر ببدر «2» ، والمراد من الصلاة : الدعاء للميت والاستغفار له ، وهو ممنوع فى حق الكافر ، ولذلك رتب النهى على قوله : (مات أبدا) يعنى : الموت على الكفر ، فإن إحياء الكافرين للتعذيب ، دون التمتع ، فكأنه لم يحيى. ه.
واستدل ابن عبد الحكم ، بهذه الآية ، على وجوب الصلاة على المؤمنين ، وقرر اللخمىّ وجه الدليل منها بطريق النهى عن الشيء أمر بضده لأن ضد النهى عن الصلاة أمر بها. وأبطله المازري قائلا : وإنا هو من دليل الخطاب ، ومفهوم المخالفة ، وبيان عدم صحة كونها من باب النهى عن الشيء ، أنّ شرط ذلك اتحاد متعلق الأمر والنهى ، كقولك لزيد : لا تسكن ، ومعناه تحرك ، ومتعلقهما هنا مختلف ، فمتعلق النهى : المنافقون ، ومتعلق الأمر :
المؤمنون. وكذا رد كونها دالة مفهوم المخالفة. انظر الحاشية الفاسية.
ثم قال تعالى : وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ أي : ولا تقف على قبره للدفن ، أو الزيارة ، ثم علل النهى فقال : إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَماتُوا ، والحال أنهم فاسِقُونَ خارجون عن دائرة الإسلام.
ثم نهى عن الاغترار بمالهم فقال : وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ ، وقد تقدم ، وإنما كرره للتأكيد ، وهو حقيق به ، فإن الأبصار طامحة إلى الأموال والأولاد ، والنفوس مجبولة على حبهما ، فكرر النهى عن الاغترار بهما ، ويجوز أن تكون هذه فى فريق آخر غير الأول. واللّه تعالى أعلم.
___________
(1) أخرجه البخاري فى (الجنائز ، باب ما يكره من الصلاة على المنافقين) ومسلم فى (فضائل الصحابة ، باب من فضائل عمر) وتمام الحديث : «إنما خيرنى اللّه فقال : اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ .. الآية ، وسأزيد على سبعين» فصلى عليه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ، وأنزل اللّه عز وجل : وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ.
(2) أخرج البخاري فى (الجهاد ، باب الكسوة للأسارى) عن جابر بن عبد اللّه رضى اللّه عنهما - قال : (لما كان يوم بدر أتى بالعباس ، ولم يكن عليه ثوب ، فنظر النبي صلّى اللّه عليه وسلّم له. قميصا ، فوجدوا قميص عبد اللّه بن أبىّ يقدر عليه ، فكساه النبي صلّى اللّه عليه وسلّم إياه ، فلذلك نزع النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قميصه الذي ألبسه).(2/413)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 414
الإشارة : إذا حصل للعبد القرب من الحبيب قربت منه الأشياء كلها ، ورغبت فى خلّته الملائكة والجن والإنس والروحانيون ، فإذا مات صلت على جسده أجناد الأرض ، وعلى روحه أجناد السماء ، وفرحت بقدومه الملائكة والروحانيون ، وربما شفعه اللّه فى أهل عصره أجمعين ، وإذا حصل للعبد البعد من ربه بعدت عنه الأشياء كلها ، ورفضت جسده وروحه الجن والإنس والملائكة ، فلا يصل عليه أحد ، ولا يقف على قبره بشر ، فالحذر الحذر من كل ما يبعد من حضرة الحبيب من المخالفات والإصرار على الزلات ، فإنه بريد الكفر ، الذي هو البعد الكبير - والعياذ بالله - . والبدار البدار إلى ما يقرب من الحبيب ، من أنواع الطاعات ، والمسارعة إلى الخيرات ، وسائر الأخلاق الحسنة والشيم المستحسنة. وبالله التوفيق.
ثم أشار إلى تخلفهم عن الجهاد مع قدرتهم عليه ، فقال :
[سورة التوبة (9) : الآيات 86 الى 89]
وَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقالُوا ذَرْنا نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ (86) رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ (87) لكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (88) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (89)
يقول الحق جل جلاله : وَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ ، أو بعضها ، فى شأن الجهاد قائلة : أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وحده ، وَجاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ صلّى اللّه عليه وسلّم ، اسْتَأْذَنَكَ فى التخلف أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ أي : أولوا الغنى والسعة ، وَقالُوا ذَرْنا نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ الذين قعدوا لعذر ، رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ مع النساء ، جمع خالفة ، وقد يقال : الخالفة للذى لا خير فيه. وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ بالكفر والنفاق ، فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ ما فى الجهاد وموافقة الرسول من السعادة ، وما فى التخلف عنه من الشقاوة.
لكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أي : إن تخلف هؤلاء ولم يجاهدوا ، فقد جاهد من هو خير منهم ، وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ منافع الدارين : النصر والغنيمة فى الدنيا ، والجنة والكرامة فى الآخرة. وقيل : الحور ، لقوله : فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ «1» ، وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ الفائزون بالمطالب
___________
(1) الآية 70 من سورة الرحمن.(2/414)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 415
البهية والمراغب السنية. أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ بيان لبعض الخيرات الأخروية.
الإشارة : إذا ظهر الدعاة إلى اللّه يشوقون الناس إلى حضرة اللّه ترى من صرف عنه عنان العناية ، ولم يضرب له مع السابقين بسهم الهداية ، يميل إلى التقاعد إلى وطن الراحة ، والميل إلى ما ألفه من سيىء العادة ، يستأذن أن يتخلف مع النساء والصبيان ، ويتنكب طريق الأقوياء من الشجعان ، فإن تخلف هذا مع عوام الضعفاء فقد تقدم لهذا الأمر من يقوم به من الأقوياء ، اختارهم اللّه لحضرته ، وقواهم على مكافحة مشاهدته ومحبته ، جاهدوا نفوسهم فى معرفة محبوبهم ، وبذلوا أموالهم ومهجهم فى الوصول إلى مطلوبهم ، (و أولئك لهم الخيرات وأولئك هم المفلحون).
ثم ذكر اعتذار الأعراب ، فقال :
[سورة التوبة (9) : آية 90]
وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (90)
قلت : (المعذّرون) : أصله : المعتذرون ، نقلت حركة التاء إلى العين ، وأدغمت التاء فى الذال. وقرأ يعقوب :
«المعذرون» : اسم مفعول ، من أعذر ، إذا بالغ فى العذر.
يقول الحق جل جلاله : وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ يعتذرون فى التخلف عن الغزو لِيُؤْذَنَ لَهُمْ فى القعود ، قيل : هم أسد وغطفان استأذنوا فى التخلف معتذرين بالجهد وكثرة العيال. قيل : كاذبين ، وقيل : صادقين. وقيل : هم رهط عامر بن الطفيل ، قالوا : إن غزونا معك غارت طيّىء على أهالينا ومواشينا ، وقيل :
نزلت فى قوم من غفار. وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ من غير هؤلاء ، وهم قوم لم يجاهدوا ولم يعتذروا فى تخلفهم ، فكذبوا فى دعواهم الإيمان بالله ورسوله ، يقال : كذبت فلانا - بالتخفيف ، أي : أخبرته بالكذب. ثم ذكر وعيدهم فقال : سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فى الدنيا بالقتل ، وفى الآخرة بالنار.
الإشارة : المتخلفون عن طريق الخصوص على ثلاثة أقسام :
قسم : أقروا بها ، وعرفوا صحتها ، ثم شحوا بأنفسهم وبخلوا بأموالهم ، فاعتذروا فى التخلف عنها بأعذار باطلة ، فهؤلاء لا حجة لهم عند اللّه ، وقوم أقبح منهم ، لم يلتفتوا إلى من جاء بها ولم يرفعوا بذلك رأسا. قال تعالى فى مثلهم : وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ.(2/415)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 416
وقسم : أقروا بها ، وطلبوا الدخول فيها ، لكن غلبتهم الأقدار ، وأظهروا غاية الاعتذار ، وتحقق عذرهم عند الواحد القهار ، وإليهم الإشارة بقوله تعالى :
[سورة التوبة (9) : الآيات 91 الى 93]
لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (91) وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ (92) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِياءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (93)
قلت : جواب «إذا» يحتمل أن يكون (تولوا) ، وجملة (قلت) : حال من الكاف فى (أتوك) ، أي : أتوك قائلا :
لا أجد .. إلخ ، ويحتمل أن يكون الجواب : «قلت» ، و(تولوا) استئناف لبيان حالهم حينئذ ، و(من الدمع) : للبيان ، وهى ، مع المجرور ، فى محل نصب على التمييز ، فهو أبلغ من تفيض دمعها لأنه يدل على أن العين صارت دمعا فياضا ، و(حزنا) : علة ، أو حال ، أو مصدر لفعل دل عليه ما قبله ، و(ألا يجدوا) : متعلق به ، أي : حزنا على ألّا يجدوا ما ينفقون ، و(إنما السبيل) راجع لقوله : (ما على المحسنين من سبيل).
يقول الحق جل جلاله : لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ كالهرمى ، وَلا عَلَى الْمَرْضى كالزّمنى ومن أضناه المرض ، وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ فى الغزو حَرَجٌ أي : لا حرج على هؤلاء فى التخلف عن الغزو ، إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ بالإيمان والطاعة فى السر والعلانية. قيل : نزلت فى بنى مقرن ، وهم ستة أخوة صحبوا النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ، وقيل : فى عبد اللّه بن مغفل.
ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ أي : ليس عليهم جناح ، ولا إلى معاتبتهم سبيل ، وإنما وضع المحسنين موضع المضمر للدلالة على أنهم منخرطون فى سلك المحسنين ، غير معاتبين فى ذلك ، وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ بالمسيء فكيف بالمحسنين؟ وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ معك إلى الغزو ، وهم البكاءون سبعة من الأنصار : معقل بن يسار ، وصخر بن خنساء ، وعبد اللّه بن كعب ، وسالم بن عمير ، وثعلبة بن غنمة «1» ،
___________
(1) فى الأصل : خثمة.(2/416)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 417
وعبد اللّه بن مغفّل «1» ، وعلية بن زيد. أتوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقالوا : نذرنا الخروج فاحملنا على الخفاف المرقوعة ، والنعال المخصوفة ، نغزوا معك ، فقال : لا أجد ، فتولّوا وهم يبكون «2». وقيل : هم بنو مقرّن ، وقيل : أبو موسى وأصحابه ، وعليه اقتصر البخاري.
قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ وليس عندى ما أحملكم عليه ، تَوَلَّوْا عنك وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ أي : يفيض دمعها حَزَناً على أَلَّا يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ فى غزوهم.
زاد البخاري : فلما رجع أبو موسى وأصحابه ، أتى - عليه الصلاة والسلام - بنهب إبل «3» ، فدعاهم وحملهم عليها ، فقالوا : يا رسول اللّه ، إنّك حلفت ألا تحملنا ، فخفنا أن نكون أغفلناك يمينك ، فقال : «ما أنا حملتكم ، ولكن اللّه حملكم ، وإنّى واللّه ، ما أحلف على يمين فأرى خيرا منها إلّا كفرت عن يمينى وأتيت الذي هو خير» «4». أو كما قال عليه الصلاة والسلام.
قال تعالى : إِنَّمَا السَّبِيلُ أي : الحرج والمعاتبة عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ فى القعود ، وَهُمْ أَغْنِياءُ واجدون للأهبة ، رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ كالنساء والصبيان ، وهو استئناف لبيان ما هو السبب لاستئذانهم من غير عذر ، وهو رضاهم بالدناءة ، والانتظام فى جملة النساء والصبيان إيثارا للدعة والكسل ، وَطَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ بالكفر والغفلة حتى غفلوا عن وخامة العاقبة ، فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ما يؤول إليه حالهم من الندم والأسف.
الإشارة : كل من لم ينهض إلى صحبة الخصوص الذين جعلهم اللّه أدوية القلوب ، توجه العتاب إليه يوم القيامة ، إذ لا يخلو من لم يصحبهم من عيب أو نقص أو خاطر سوء ، حتى ربما يلقى اللّه بقلب سقيم.
قال الشيخ أبو الحسن الشاذلى رضى اللّه عنه : من لم يتغلغل فى علمنا هذا ، مات مصرا على الكبائر وهو لا يشعر. وقال الغزالي : دواء القلوب واجب عينا على كل مسلم ، فكل من قصر فى ذلك عوقب يوم القيامة ، إلا من حبسه عذر صحيح : من مرض مزمن ، أو كبر سن ، أو فقر مدلق. قال تعالى : (ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله) ، فإن أحبوا أولياء اللّه ، وصدقوهم وعظموهم ، ودلّوا الناس على صحبتهم ، فهؤلاء محسنون ، (ما على المحسنين من سبيل واللّه غفور) لضعفهم ، (رحيم) بهم.
___________
(1) فى الأصول : معقل.
(2) أخرجه الطبري فى التفسير (10/ 146) وذكره الواحدي فى الأسباب (262) عن محمد بن كعب القرظي.
(3) نهب أي : غنيمة.
(4) أخرجه البخاري فى (المغازي ، باب قدوم الأشعريين وأهل اليمن).(2/417)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 418
وقال الورتجبي : (إذا نصحوا لله ورسوله) أي : إذا عرّفوا عبادّ الله طريق الله ، والأسوة بسنة رسول اللّه. ه. وقد قال الحواريون : يا روح اللّه ، ما النصيحة لله؟ قال : تقديم حق اللّه على حق الناس. ه. ولا حرج أيضا على من لم يجد ما ينفق على الأشياخ من الأموال ، فإن من أعطى نفسه كفته عن إعطاء المال. قال تعالى : (و لا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم) إلى الحضرة (قلت لا أجد ما أحملكم عليه) فإن بذل الأموال مع المهج أنهض من أحدهما ، (تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألّا يجدوا ما ينفقون) ليتحببوا به فى قلوب المشايخ. قال بعض المشايخ :
أردنا أن نجعل من يسوق مع من لا يسوق على حد سواء ، فلم يعتدلوا. ه.
وقوله تعالى : (حزنا ألا يجدوا ما ينفقون) ، ليس حزنهم على فوات الدنيا ، وإنما حزنهم على تخلفهم عن رسول اللّه ، وعن صحبة أهل الكمال. وقال القشيري : شقّ عليهم أن يكون على قلب الرسول - عليه الصلاة والسلام - منهم ، أو بسببهم ، شغل ، فتمنّوا أن لو أزيحت علتهم ، لا ميلا إلى الدنيا ولكن لئلا يعود إلى قلب الرسول من فعلهم كراهة ، ولقد قيل :
من عفّ خفّ على الصديق لقاؤه وأخو الحوائج وجهه مملول. ه»
ولما رجع - عليه الصلاة والسلام - من غزوة تبوك ، جاء المنافقون يعتذرون بالأعذار الكاذبة ، ففضحهم اللّه بقوله :
[سورة التوبة (9) : الآيات 94 الى 96]
يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (94) سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (95) يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (96)
___________
(1) فى القشيري : (ممجج مملول) قلت : والبيت ورد غير منسوب فى عيون الأخبار (3/ 191) وورد : (أنشد ثعلب) فى أدب الدنيا والدين (338).(2/418)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 419
قلت : مفعول (نبأ) الثاني : محذوف ، أي : نبأنا جملة من أخباركم ، و(جزاء) : مصدر لمحذوف ، أي : يجازون جزاء ، أو علة ، أي : للجزاء بما كسبوا.
يقول الحق جل جلاله : يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ يعنى : المنافقين ، إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ من تبوك ، قُلْ لهم : لا تَعْتَذِرُوا بالمعاذير الكاذبة لأنه لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ أي : لن نصدقكم فيها لأنه قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ أعلمنا بالوحى ، على لسان نبيه صلّى اللّه عليه وسلّم ، ببعض أخباركم ، وهو ما فى ضمائركم من الشر والفساد.
وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ : هل تتوبون من الكفر ، أم تثبتون عليه؟ وكأنه استتابة وإمهال للتوبة ، ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ وهو اللّه ، والأصل : ثم تردون إليه فوضع هذا الوصف موضع الضمير للدلالة على أنه مطلع على سرهم وعلانيتهم ، لا يعزب عن علمه شىء من ضمائرهم وأعمالهم ، فَيُنَبِّئُكُمْ أي : يخبركم بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ بالتوبيخ والعقاب عليه.
سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ من غزوكم لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ أي : عن عتابهم ، فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ لا توبخوهم إِنَّهُمْ رِجْسٌ لخبث قلوبهم لا ينفع فيهم التأنيب ، فإن المقصود من العتاب : التطهير بالحمل على الإنابة ، وهؤلاء أرجاس لا تقبل التطهير ، فهو علة للإعراض وترك المعاتبة ، وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ أي : منقلبهم إليها ، والمعنى : أن النار كفتهم عتابا ، فلا تتكلفوا عتابهم ، وذلك جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ من الكفر والنفاق.
يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ بحلفهم ، فتستديموا عليهم ما كنتم تفعلون بهم من الستر والإرفاق ، وإشراكهم فى الغنائم ، فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ بذلك فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ أي : فإن رضاكم لا يستلزم رضى اللّه ، ورضاكم وحدكم لا ينفعهم إذا كانوا فى سخط اللّه وبصدد عقابه ، أو إن أمكنهم أن يلبسوا عليكم لا يمكنهم أن يلبسوا على اللّه فإنه يهتك سترهم وينزل الهوان بهم. والمقصود من الآية : النهى عن الرضا عنهم والاغترار بمعاذيرهم ، بعد الأمر بالإعراض عنهم وعدم الالتفات نحوهم. قاله البيضاوي.
الإشارة : قد يظهر لهذه الطائفة منافقون ، إذا ظهر على أهل اللّه عز أو نصر جاءوا يعتذرون عن تخلفهم عنه ، ويحلفون أنهم على محبتهم فلا ينبغى الاغترار بشأنهم ، ولا مواجهتهم بالعتاب بل الواجب الإعراض عنهم والغيبة فى اللّه عنهم ، فسيرى اللّه عملهم ورسوله ، ثم يردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبؤهم بما كانوا يعملون.(2/419)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 420
ثم ذكر منافقى البادية ، فقال :
[سورة التوبة (9) : الآيات 97 الى 99]
الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (97) وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ مَغْرَماً وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (98) وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ قُرُباتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَواتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (99)
يقول الحق جل جلاله : الْأَعْرابُ ، وهم سكان البادية ، قال ابن عزيز : يقال : رجل أعرابى ، إذا كان بدويا. وإن لم يكن من العرب ، ورجل عربى ، إذا كان منسوبا إلى العرب ، وإن لم يكن بدويا. أهل البوادي من المنافقين هم أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً من أهل الحاضرة ، وذلك لتوحشهم وقساوتهم ، وعدم مخالطتهم لأهل العلم ، وقلة استماعهم للكتاب ، وَأَجْدَرُ أي : أحق أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ من الشرائع وفرائضها وسننها ، لبعدهم عن مجالس العلم ، وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ يعلم كل واحد من أهل الوبر والمدر ، حكيم فيما يدبر من إسكان البادية ، أو الحاضرة ، ويختار لكل واحد بحكمته البالغة ما يليق به ، وسياتى بقية الكلام على سكنى الحاضرة أو البادية فى الإشارة ، إن شاء اللّه.
وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ أي : يعد ما يُنْفِقُ من الزكاة وغيرها فى سبيل اللّه ، مَغْرَماً أي : غرامة وخسرانا إذ لا يحتسبه عند اللّه ، ولا يرجو عليه ثوابا ، وإنما ينفقه لرياء أو تقية ، فيثقل عليه ثقل المغرم الذي ليس بحق ، وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ أي : دوائر الزمان ونوبه ، أو ينتظر بكم مصائب الزمان ، لينقلب الأمر عليكم فيتخلص من الإنفاق الذي كلف به.
قال تعالى : عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ ، وهو دعاء عليهم بنحو ما يتربصونه - أي : عليهم يدور من الدهر ما يسوءهم - أو جعل اللّه دائرة السوء نازلة بهم. قال ابن عطية : كل ما كان بلفظ دعاء من جهة اللّه - عز وجل - فإنما هو بمعنى إيجاب الشيء لأن اللّه تعالى لا يدعو على مخلوقاته وهى فى قبضته ، ومن هذا قوله : وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ «1» ، وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ «2» ، وهى كلها أحكام تامة تضمنها خبره تعالى. ه. أو إخبار عن
___________
(1) الآية الأولى من سورة الهمزة.
(2) الآية الأولى من سورة المطففين.(2/420)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 421
وقوع ما يتربصونه عليهم. قال البيضاوي : الدوائر فى الأصل : مصدر أضيف إليه السوء للمبالغة ، كقولك : رجل صدق. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو : «السّوء» هنا ، وفى الفتح «1» بضم السين. ه. وَاللَّهُ سَمِيعٌ لما يقولونه عند الإنفاق ، عَلِيمٌ بما يضمرونه من الرياء وغيره.
ثم ذكر ضدهم ، فقال : وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ، وَيَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ أي : يعد ما ينفقه من الزكاة وغيرها قُرُباتٍ عِنْدَ اللَّهِ تقربهم إليه زلفى لإخلاصهم فيها. وَصَلَواتِ الرَّسُولِ أي :
ويتخذ ما ينفق سبب صلوات الرسول لأنه - عليه الصلاة والسلام - كان يدعو للمتصدقين ، ويقول : اللهم صلّ على فلان ، ويستغفر لهم. ولذلك سن للمصدّق عليه أن يدعو للمتصدق عند أخذ صدقته ، لكن ليس له أن يصلى عليه ، كما كان يفعل صلّى اللّه عليه وسلّم لأن ذلك منصبه ، فله أن يتفضل به على غيره.
أَلا إِنَّها أي : نفقاتهم ، قُرْبَةٌ لَهُمْ تقربهم إلى حضرة ربهم ، وهذا شهادة من اللّه لصحة معتقدهم وكمال إخلاصهم ، سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ ، وعد من اللّه لهم بإحاطة الرحمة بهم ، أو سيدخلهم فى جنته التي هى محل رحمته وكرامته ، والسين لتحقق وقوعه. إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ يغفر ما فرط من الخلل ، ويتفضل برحمته على ما نقص عن درجات الكمال. قيل : إن الآية الأولى نزلت فى أسد وغطفان وبنى تميم فهم الذين يتخذون ما ينفقون مغرما. والثانية نزلت فى عبد اللّه ذى البجادين وقومه فهم الذين يتخذون ما ينفقون قربات عند اللّه وصلوات الرسول. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : قد ورد الترغيب فى سكنى المدن لأنها محل العلم وسماع الوعظ ، وفيها من يستعان بهم على الدين ، وورد الترغيب أيضا فى سكنى الجبال والفرار بالدين من الفتن ، وخصوصا فى آخر الزمان. ولهذا اختار كثير من الصحابة والتابعين سكنى البوادي كأبى ذر ، وسلمة بن الأكوع ، وغيرهما - رضى اللّه عنهم - .
والتحرير فى المسألة : أن ذلك يختلف باختلاف الأشخاص والمقاصد ، فمن كان مراده تحقيق الشريعة ، وتحرير مسائل العلم الظاهر ، والقيام بوظائف الدين ، ولم يجد فى البادية من يعينه على ذلك فسكنى المدن أفضل له ، ومن كان مراده تصفية قلبه وتحقيق علم الطريقة ، وتهيئة القلب لإشراق أنوار الحقيقة ، فالاعتزال فى البوادي ، وقرون الجبال ، أوفق له ، إن وجد من يستعين بهم على ذلك لأن شواغل المدن وعوائدها كثيرة ، وقد كثرت فيها الحظوظ والأهوية فلا تجد فيها إلا من هو مفتون بدنيا أو مبتلى بهوى ، بخلاف أهل البادية ، هذه العوائد فيهم قليلة ، وجلّ أهلها على الفطرة.
وأيضا : هم مفتقرون إلى من يسوسهم بالعلم أكثر من غيرهم ، فمن تصدى لتعليمهم وتذكيرهم لا يعلم قدره إلا اللّه. قال الشيخ أبو الحسن الشاذلى رضى اللّه عنه : [أرحم الناس بالناس : من يرحم من لا يرحم نفسه ]. أي : من يرحم
___________
(1) فى قوله تعالى : وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ .. الآية 6 من سورة الفتح.(2/421)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 422
الجاهل الذي لا يرحم نفسه بأن يعلمه ما ينفع به نفسه ويرحمها. وقال الغزالي فى الإحياء : يجب على العلماء أن يبعثوا من يعلم الناس فى البوادي فإن أخلوا بذلك الأمر عاقبهم اللّه ، فمن تعرض لتعليمهم قام بهذا الواجب. واللّه تعالى أعلم. وأما ما يذكر حديثا : «أمتى فى المدن ، وقليل فى البادية» ، فلم يصح ، بل قال - عليه الصلاة والسلام - للرجل الذي أراد أن ينتقل إلى المدينة : «اعبد اللّه حيثما كنت ، فإن اللّه لن يترك من أعمالك شيئا». وكذلك قوله :
إذا أراد اللّه بعبد خيرا نقله من البادية إلى الحاضرة لم أقف عليه حديثا. وبالله التوفيق.
ثم ذكر فضل السابقين إلى الإسلام ، فقال :
[سورة التوبة (9) : آية 100]
وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100)
قلت : (السابقون) : مبتدأ ، (و الذين اتبعوهم) : عطف عليه ، وجملة (رضى اللّه عنهم) : خبر.
يقول الحق جل جلاله : وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ إلى الإسلام مِنَ الْمُهاجِرِينَ وهم الذين صلوا إلى القبلتين ، أو الذين شهدوا بدرا ، أو الذين أسلموا قبل الهجرة ، وَمن الْأَنْصارِ وهم أهل بيعة العقبة الأولى ، وكانوا سبعة ، أو أهل العقبة الثانية ، وكانوا سبعين ، أو الذين أسلموا حين قدم عليهم مصعب بن عمير.
وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ اللاحقين بالسابقين من الفريقين ، أو من الذين اتبعوهم بالإيمان والطاعة إلى يوم القيامة ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ بقبول طاعتهم وارتضاء أعمالهم ، وَرَضُوا عَنْهُ بما نالوا من نعمه الدينية والدنيوية ، وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ وقرأ ابن كثير : «من تحتها» ، كما هى فى مصحف أهل مكة. خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ أي : الفلاح الدائم الكبير.
الإشارة : لكل زمان سابقون ، قد شمروا عن ساق الجد والاجتهاد ، ورفضوا كل ما يقطعهم عن محبوبهم من العشائر والأولاد ، قد خرقوا عوائد أنفسهم ، فأبدلوا العز بالذل ، والجاه بالخمول ، والغنى بالفقر ، والرفعة بالتواضع ، والرغبة بالزهد ، وشغل الظاهر بالتفرغ ليتفرغ بذلك الباطن. وسافروا فى طلب محبوبهم ، وصحبوا المشايخ ، وخدموا الإخوان ، حتى ارتفعت عنهم الحجب والأستار ، وتمتعوا بمشاهدة الكريم الغفار فتهيئوا لتذكير العباد ، وحيت بهم الأقطار والبلاد. وفى مثلهم يقول الشاعر : (2/422)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 423
تحيا بكم كل أرض تنزلون بها كأنّكم فى بقاع الأرض أمطار
وتشتهي العين فيكم منظرا حسنا كأنّكم فى عيون الناس أقمار.
(فلا تعلم نفس ما أخفى لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون).
ثم ذكر بقية من المنافقين ، فقال :
[سورة التوبة (9) : آية 101]
وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ (101)
يقول الحق جل جلاله : وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ ، يا أهل المدينة ، مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ ساكنون حولكم ، وهم : جهينة ، ومزينة ، وأسلم ، وغفار ، وأشجع ، كانوا نازلين حول المدينة ، أما أسلم وغفار فتابوا ، ودعا لهم - عليه الصلاة والسلام - فقال : «أسلم سالمها اللّه ، وغفار غفر اللّه لها» وأما الباقي فأسلم بعضهم.
قال تعالى : وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ قوم مَرَدُوا أي : استمروا عَلَى النِّفاقِ ، واجترءوا عليه ، وتمرنوا وتمهروا فيه ، لا تَعْلَمُهُمْ أي : لا تعرفهم يا محمد بأعيانهم ، وهو بيان لمهارتهم وتنوقهم فى تحرى مواقع التهم إلى حد قد خفى عليك حالهم ، مع كمال فطنتك وحذق فراستك ، نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ ، ونطّلع على أسرارهم ، إن قدروا أن يلبسوا عليك فلا يقدرون أن يلبسوا علينا ، سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ بالفضيحة والقتل ، أو بأحدهما وعذاب القبر ، أو بأخذ الزكاة ونهك الأبدان فى الحرب ، أو بإقامة الحدود وعذاب القبر ، أو بتسليط الحمى عليهم مرتين فى السنة ، ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ بعد الموت ، وهو عذاب النار.
الإشارة : قد جعل اللّه - سبحانه - بحكمته وقدرته ، فى كلّ عصر وأوان بحرين : بحرا من النور وبحرا من الظلمة ، من عصر النبي صلّى اللّه عليه وسلّم إلى قيام الساعة ، فلا بد فى كل عصر من نور وظلمة ، وإيمان وكفران ، ونفاق وإخلاص ، وصفاء وخوض ، فأهل النور نورهم فى الزيادة إلى قرب قيام الساعة ، وأهل الظلمة كذلك ، إذ لا تعرف الأشياء إلا بأضدادها ، ولا يظهر شرف النور إلا بوجود الظلمة ، ولا شرف الصفاء إلا بوجود الخوض ، ولا فضل العلم إلا بوجود الجهل ، وهكذا جعل اللّه من كل زوجين اثنين ، ليقع الفرار إلى الواحد الحق ، فمن رام انفراد أحدهما فى الوجود فهو جاهل بحكمة الملك الودود. واللّه تعالى أعلم.(2/423)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 424
ولما ذكر من كمل صفاؤه من السابقين ، ومن كمل خوضه من المنافقين ، ذكر من جمع بين الصفاء والخوض ، فقال :
[سورة التوبة (9) : آية 102]
وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (102)
يقول الحق جل جلاله : وَقوم آخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ وهو التخلف عن الجهاد ، ولم يعتذروا عن تخلفهم بالأعذار الكاذبة ، وهم طائفة من المتخلفين لما بلغهم ما نزل فى المتخلفين أوثقوا أنفسهم على سوارى المسجد ، وقالوا : لا نحل أنفسنا حتى يحلنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ، فلما قدم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم دخل المسجد ، فصلى فيه ركعتين ، على عادته ، فرآهم وسأل عنهم ، فذكر له سببهم ، فنزلت الآية فأطلقهم «1».
خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً بعمل سيىء وَآخَرَ سَيِّئاً بعمل صالح ، خلطوا العمل الصالح الذي هو إظهار الندم والاعتراف بالذنب ، بآخر سيىء وهو التخلف وموافقة أهل النفاق ، أو خلطوا عملا صالحا ، وهو ما سبق لهم من الجهاد مع الرسول ، وغيره من الأعمال ، بآخر سيىء ، وهو تخلفهم عن تبوك. عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أي : يقبل توبتهم المدلول عليها بقوله : اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ ، والرجاء فى حقه تعالى واجب. إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ يتجاوز عن التائب ويتفضل عليهم.
قال بعضهم : ما فى القرآن آية أرجى لهذه الأمة من هذه الآية. وقال القشيري : قوله : وَآخَرَ سَيِّئاً بعد قوله : عَمَلًا صالِحاً ، دليل على أن الزّلّة لا تحبط ثواب الطاعة إذ لو أحبطته لم يكن العمل صالحا ، وهو كذلك.
انتهى. قلت : وما ذكره من عدم الإحباط هو مذهب أهل السنة ، خلافا للمعتزلة ، ولا يعارضه حديث مسلم : «أنّ رجلا قال : واللّه لا يغفر اللّه لفلان ، وإنّ اللّه قال : من الذي يتألّى «2» علىّ ألّا أغفر لفلان ، وإنّى غفرت له وأحبطت عملك» «3» أو كما قال لأن هذا الرجل كان من بنى إسرائيل ، ولعل شرعهم مخالف لشرعنا لأن هذه الأمة المحمدية قد وضع اللّه عنها أثقال بنى إسرائيل ، فهى ملة سمحة ، ولعل هذا الرجل أيضا كان قانطا من رحمة اللّه ومكذبا بها ، فهو كافر. انظر الحاشية الفاسية.
الإشارة : الناس ثلاثة : سابقون ومخلطون ومنهمكون. فالسابقون فائزون ، والمخلطون راجون ، والمنهمكون هالكون ، إلا من تاب وعمل صالحا ، فالسابقون هم الذين غلب إحسانهم على إساءتهم ، وصفاؤهم على كدرهم ، إن هفوا رجعوا قريبا ، فقد تمر عليهم السنين الطويلة ولا يكتب عليهم ملك الشمال شيئا وذلك ليقظتهم ، لا لعصمتهم ،
___________
(1) أخرجه البيهقي فى الدلائل (باب حديث أبى لبابة وأصحابه 5/ 572) وابن جرير فى التفسير (11/ 10) عن ابن عباس - رضى اللّه عنه.
(2) يتألى : يحلف. والألية : اليمين .. انظر النهاية (ألى 1/ 62). [.....]
(3) أخرجه مسلم فى (البر والصلة ، باب النهى عن تقنيط الإنسان من رحمة اللّه) من حديث جندب - رضى اللّه عنه.(2/424)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 425
والمخلطون هم الذين يكثر سقوطهم ورجوعهم ، عسى اللّه أن يتوب عليهم. والمنهمكون هم المصرون على الفواحش ، فإن سبقت لهم عناية رجعوا ، وإن لم تسبق لهم عناية فهم معرّضون لنقمة اللّه وحلمه. واللّه تعالى أعلم.
ولما تاب اللّه على المتخلفين ، وأطلقهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم من الوثاق ، قالوا : يا رسول اللّه ، هذه أموالنا التي خلفتنا ، خذها فتصدّق بها وطهّرنا ، فقال عليه الصلاة السلام : «ما أمرت أن آخذ من أموالكم شيئا». فأنزل اللّه فى ذلك :
[سورة التوبة (9) : الآيات 103 الى 104]
خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (104)
يقول الحق جل جلاله ، لنبيه - عليه الصلاة السلام : خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ التي عرضوها عليك ، صَدَقَةً ، وهو الثلث ، فأخذ عليه الصلاة السلام من أموالهم الثلث ، وترك لهم الثلثين ، أو : خذ من أموالهم صدقة ، وهى الزكاة المفروضة ، والضمير لجميع المسلمين. من صفة تلك الصدقة : تُطَهِّرُهُمْ أنت يا محمد بها من الذنوب ، أو حب المال المؤدى بهم إلى البخل ، الذي هو أقبح الذنوب. وقرىء بالجزم جواب الأمر.
وَتُزَكِّيهِمْ أي : تنمى بها حسناتهم ، أو ترفعهم بِها إلى درجات المخلصين ، وَصَلِّ عَلَيْهِمْ أي :
ترحم عليهم ، وادع لهم بالرحمة ، فكان عليه الصلاة السلام يقول لمن أتاه بصدقته : «اللهمّ صلّ على آل فلان».
فأتى أبو أوفى بصدقته فقال : «اللّهمّ صلّ على آل أبى أوفى» «1».
إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ تسكن إليها نفوسهم ، وتطمئن بها قلوبهم ، لتحققهم بقبول دعائه عليه الصلاة السلام. قال القشيري : انتعاشهم بهمّتك معهم أتم من استقلالهم بأموالهم. ه. وجمع الصلوات لتعدد الموعد لهم ، وقرأ الأخوان وحفص بالتوحيد. وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ أي : سميع باعترافهم عليم بندامتهم.
أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ إذا صحت ، والضمير إما للتوب عليهم ، والمراد أن يمكن فى قلوبهم قبول توبتهم والاعتداد بصدقتهم ، أو لغيرهم ، والمراد به التحضيض على التوبة ، وَأنه هو الذي يَأْخُذُ الصَّدَقاتِ يقبلها قبول من يأخذ شيئا ليؤدى بدله ، وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ أي : من شأنه قبول توبة التائبين ، والمتفضل عليهم بجوده وإحسانه.
___________
(1) أخرجه البخاري فى (الزكاة ، باب صلاة الإمام ودعائه لصاحب الصدقة) ومسلم فى (الزكاة ، باب الدعاء لمن أتى بصدقته) من حديث عبد اللّه بن أبى أوفى.(2/425)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 426
الإشارة : أخذ المشايخ من أموال الفقراء سبب فى غناهم ، واتساع حالهم حسا ومعنى ، وقد قالوا : إذا أراد اللّه أن يغنى فقيرا سلط عليه وليا يأخذ ماله ، أو أمره شيخه بإعطاء ماله ، فإن ذلك عنوان على غناه. وقد ذكر ذلك شيخ أشياخنا سيدى على الجمل العرانى فى كتابه. وقد رأيت فى مناقب شرفاء وزان : أن الشيخ مولاى التهامي أرسل إلى أخيه مولاى الطيب ، وكان من خواص تلامذته ، أن يدفع إليه جميع ماله ليصنع به كسوة للمرابطين ، فأرسل له جميع ما يملك ، حتى كسوة الدار وأثاث البيت ، فكان ذلك سببا فى فيضان ماله ، فلا تجد مدينة ولا قبيلة إلا وفيها ملك من أملاك مولاى الطيب ، حتى إلى بلاد الجزائر وما والاها ، وذلك بسبب تجارة شيخه له.
واللّه تعالى أعلم.
ثم هدد أهل التخليط ، فقال :
[سورة التوبة (9) : آية 105]
وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105)
يقول الحق جل جلاله : وَقُلِ اعْمَلُوا ما شئتم من خير أو شر ، فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ فإنه لا يخفى عليه خيرا كان أو شرا ، وَسيرى ذلك أيضا رَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ ، فيظهر لهم ما يبدو منكم ، فإن الطول يفضح صاحبه. وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ بالموت ، فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فيخبركم بما عملتم بالمجازاة عليه.
الإشارة : كل من ظهر بدعوى أو تعرض لمقام من المقامات يقال له : (و قل اعملوا فسيرى اللّه عملكم ورسوله والمؤمنون) ، فإن كان أمره مبنيا على أساس الإخلاص والتقوى ثبت وانتهض ، وشعشع نوره ، وإن كان مبنيا على غير أساس ، افتضح وكسف نوره ، وسيرد الجميع إلى عالم الغيب والشهادة ، فيجازى كلّا بعمله.
ثم نزل فى شأن الثلاثة الذين خلّفوا قوله تعالى :
[سورة التوبة (9) : آية 106]
وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (106)
قلت : الإرجاء هو التأخر ، يقال : أرجاه - بالهمز وتركه - : أخره.
يقول الحق جل جلاله : وَآخَرُونَ من المتخلفين ، تخلفوا من غير عذر ، ولم يعتذروا بشىء ، مُرْجَوْنَ أي : مؤخرون لِأَمْرِ اللَّهِ فى شأنهم إِمَّا أن يُعَذِّبُهُمْ على تخلفهم عن الجهاد مع(2/426)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 427
رسوله ، وَإِمَّا أن يَتُوبُ عَلَيْهِمْ حيث تابوا وندموا ، والترديد باعتبار العباد ، وفيه دليل على أن كلا الأمرين بإرادته تعالى ، وَاللَّهُ عَلِيمٌ بأحوالهم ، حَكِيمٌ فيما فعل بهم.
والمراد بهؤلاء الثلاثة : كعب بن مالك ، وهلال بن أمية ، ومرارة بن الربيع ، أمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم الناس ألا يسلموا عليهم ولا يكلموهم ، فلما رأوا ذلك أخلصوا نياتهم ، وفوضوا أمرهم إلى اللّه ، فرحمهم «1» ، وسيأتى تمام قصتهم وتوبة اللّه عليهم بعد ، إن شاء اللّه.
الإشارة : وآخرون مؤخرون عن صحبة المشايخ العارفين ، حتى ماتوا مفروقين ، إما أن يعذبهم على ما أصروا من المساويء والذنوب ، وإما أن يتوب عليهم بفضله وكرمه ، إنه عليم لا يخفى عليه ما أسروا ، حكيم فيما قضى عليهم من أمر الحجاب بعدله وقضائه.
ثم ذكر أهل مسجد الضرار ، فقال :
[سورة التوبة (9) : الآيات 107 الى 110]
وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ الْحُسْنى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (107) لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108) أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (109) لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (110)
قلت : قرأ نافع وابن عامر : بغير واو «2» مبتدأ حذف خبره ، أي : معذبون ، أو فى : (لا تقم فيه أبدا) ، أو فى قوله :
(لا يزال) ، أو صفة لقوله : (و آخرون) ، على من يقول : إن «المرجون» غير الثلاثة المخلفين ، بل فى المنافقين الذين كانوا معرضين للتوبة مع بنيانهم مسجد الضرار. ومن قرأ بالواو فعطف على قوله : (آخرون) ، أو مبتدأ حذف
___________
(1) أخرج قصتهم البخاري فى (المغازي ، باب حديث كعب بن مالك) ومسلم فى (التوبة ، باب حديث توبة كعب بن مالك) من حديث عبد اللّه بن كعب عن أبيه.
(2) فى قوله تعالى : وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا ....(2/427)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 428
خبره ، أي : وممن وصفنا : الذين ، أو منصوب على الذم ، و(ضرارا) وما بعده : علة ، وأصل (هار) : هائر ، فأخرت الهمزة ، ثم قلبت ياء ، ثم حذفت لالتقاء الساكنين.
يقول الحق جل جلاله : وَمنهم الَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً أي : لأجل المضارة بالمؤمنين وللكفر الذي أسروه ، وهو تعظيم أبى عامر الكافر ، وَتَفْرِيقاً بَيْنَ جماعة الْمُؤْمِنِينَ الذين كانوا يصلون فى مسجد قباء.
روى أن بنى عمرو بن عوف لمّا بنوا مسجد قباء سألوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أن يأتيهم فيصلى فيه ، فأتاهم فصلّى فيه ، فحسدتهم إخوانهم بنو غنم بن عوف ، فبنوا مسجدا على قصد أن يؤمهم فيه أبو عامر الراهب ، إذا قدم من الشام ، فلما أتموه أتوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ، فقالوا : إنا قد بنينا مسجدا لذى الحاجة والعلة والليلة المطيرة ، فصل لنا فيه حتى نتخذه مصلىّ ، وكان ذلك قبل خروجه لتبوك ، فقال لهم : «إنى على جناح سفر ، وإذا قدمنا ، إن شاء اللّه ، صلّينا فيه». فلما قدم أتوه ، فأخذ ثوبه ليقوم معهم ، فنزلت الآية ، فدعا مالك بن الدّخشم ، ومعن بن عدى ، وعامر بن السّكن ، فقال : انطلقوا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدموه وحرقوه ففعلوا ، واتخذوا مكانه كناسة «1».
ثم أشار إلى قصدهم الفاسد ، فقال : وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أي : واتخذوه انتظارا ليؤمهم فيه من حارب اللّه ورسوله ، يعنى : أبا عامر الراهب ، فإنه قال لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يوم أحد : لا أجد قوما يقاتلونك إلّا قاتلتك معهم ، فلم يزل يقاتله إلى يوم حنين ، فانهزم مع هوازن ، ثم هرب إلى الشام ليأتى من قيصر بجنود يحارب بهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ، فمات بقنّسرين «2» طريدا وحيدا. وكان أهل المدينة يسمونه قبل الهجرة : الراهب ، فسماه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم الفاسق.
وقوله : مِنْ قَبْلُ : متعلق بحارب ، أي : حارب من قبل هذا الوقت ، أو باتخذوا ، أي : اتخذوا مسجدا من قبل أن ينافق هؤلاء بالتخلف لأنه قبيل غزوة تبوك. وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا الْحُسْنى أي : ما أردنا ببنيانه إلا الخصلة الحسنى ، وهى الصلاة والذكر والتوسعة على المسلمين. وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ فى حلفهم.
ثم نهاه عن الصلاة فيه فقال : لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً للصلاة إسعافا لهم ، لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ من أيام وجوده ، أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ أي : أولى بأن تصلى فيه ، وهو مسجد قباء ، أسسه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فى أيام مقامه بقباء ، حين هاجر من مكة ، من الاثنين إلى الجمعة ، وهذا أوفق للقصة. وقيل : مسجد الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم لقول أبى سعيد : سألت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عنه؟ فقال : «مسجدكم هذا مسجد المدينة» «3».
___________
(1) انظر تفسير البغوي 4/ 93 - 94 وأسباب النزول للواحدى (264).
(2) قنسرين : مدينة قريبة من حلب من جهة حمص.
(3) أخرجه مسلم فى (الحج ، باب بيان أن المسجد الذي أسس على التقوى هو مسجد النبي صلّى اللّه عليه وسلّم بالمدينة).(2/428)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 429
فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا ، كانوا يستنجون بالماء ، ويجمعون بين الماء والحجر ، أو يتطهرون من المعاصي والخصال المذمومة ، طلبا لمرضات اللّه تعالى ، أو من الجنابة ، فلا ينامون عليها ، وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ يرضى عنهم ، ويدنيهم من جنابه إدناء المحب لحبيبه.
وقيل : لما نزلت مشى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ، ومعه المهاجرون ، حتى وقف على باب مسجد قباء ، فإذا الأنصار جلوس ، فقال : «أمؤمنون أنتم؟ فسكتوا ، فأعادها ، فقال عمر : إنهم مؤمنون وأنا معهم ، فقال عليه الصلاة والسلام :
أترضون بالقضاء؟ فقالوا : نعم ، قال : أتصبرون على البلاء؟ قالوا : نعم ، قال : أتشكرون فى الرّخاء؟ قالوا : نعم ، فقال عليه الصلاة والسلام : مؤمنون وربّ الكعبة. فجلس ، ثمّ قال : يا معشر الأنصار ، إنّ اللّه عزّ وجلّ قد أثنى عليكم ، فما الذي تصنعون عند الوضوء وعند الغائط؟ فقالوا : يا رسول اللّه ، نتبع الغائط الأحجار الثّلاثة ، ثم نتبع الأحجار الماء. فقال : رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا» «1».
أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٍ بأن قصد به وجه اللّه ، وابتغاء مرضاته ، فحسنت النية فى أوله ، خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى قصد الرياء والمنافسة ، فكأنه بنى على شَفا أي : طرف جُرُفٍ : حفرة هارٍ أي : واه ضعيف ، أشرف على السقوط ، أو ساقط ، فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ أي :
طاح فى جهنم ، وهذا ترشيح للمجاز ، فإنه لما شبهه بالجرف وصفه بالانهيار ، الذي هو من شأن الجرف ، وقيل : إن ذلك حقيقة ، وإنه سقط فى جهنم ، وإنه لم يزل يظهر الدخان فى موضعه إلى قيام الساعة.
والاستفهام للتقرير ، والذي أسس على التقوى والرضوان : هو مسجد قباء ، أو المدينة ، على ما تقدم ، والذي أسس على شفا جرف هار هو مسجد الضرار ، وتأسيس البناء على التقوى هو تحسين النية فيه ، وقصد وجه اللّه ، واظهار شرعه ، والتأسيس على شفا جرف هار هو فساد النية وقصد الرياء ، والتفريق بين المؤمنين ، وذلك على وجه الاستعارة والتشبيه البالغ. قاله ابن جزى. وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ إلى ما فيه صلاح ونجاة.
لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ أي : مبنيهم ، مصدر بمعنى المفعول ، الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً أي : شكا ونفاقا فِي قُلُوبِهِمْ ، والمعنى : أن بناءهم هذا لا يزال سبب شكهم وتزايد نفاقهم ، فإنه حملهم على ذلك ، ثم لمّا هدمه الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم رسخ ذلك فى قلوبهم وازداد ، بحيث لا يزول رسمه من قلوبهم ، إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ أي : تتقطع قُلُوبِهِمْ
___________
(1) قال الحافظ ابن حجر فى الكافي الشاف : لم أجده هكذا ، وكأنه ملفق من حديثين ، فإن صدر الحديث أخرجه الطبراني فى الأوسط من حديث ابن عباس إلى قوله (و رب الكعبة) ، وروى بقيته ابن مردويه. انظر الفتح السماوي (2/ 704).(2/429)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 430
بالموت ، بحيث لا يبقى لها قابلية الإدراك ، أو لا يزال بنيانهم ريبة ، أي : شكا فى الإسلام بسبب بنيانه ، لاعتقادهم صواب فعلهم ، أو غيظا بسبب هدمه ، وَاللَّهُ عَلِيمٌ بنياتهم ، حَكِيمٌ فيما أمر من هدم بنيانهم.
الإشارة : من أراد أن يؤسس بنيان أعماله وأحواله على التقوى والرضوان ، فليؤسسه على الإخلاص والنية الحسنة ، ومتابعة السنة المحمدية ، فإنها لا تنهدم أبدا ، ومن أراد أن يؤسسها على شفا جرف هار فليؤسسها على الرياء والسمعة ، وقصد الكرامات وطلب الأعواض ، فإنها تنهدم سريعا ولا تدوم ، فما كان لله دام واتصل ، وما كان لغير اللّه انقطع وانفصل. وبالله التوفيق.
ثم ذكر كرامة أهل الإخلاص ، فقال :
[سورة التوبة (9) : آية 111]
إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111)
قلت : جملة (يقاتلون) : حال من (المؤمنين) بيانا للشراء ، أو استئنافا لبيان ما لأجله الشراء ، وقيل :
«يقاتلون» : بمعنى الأمر ، و(وعدا) : مصدر لما دل عليه الشراء ، فإنه فى معنى الوعد ، أي : وعدهم وعدا حقا لا خلف فيه.
يقول الحق جل جلاله : إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ أي : عوضهم فى بذل مهجهم وأموالهم فى سبيله الجنة ونعيمها ، ومن جملته : النظر إلى وجهه الكريم. قال بعضهم : فانظر ..
ما أكرمه سبحانه ، فإنّ أنفسنا هو خلقها ، وأموالنا هو رزقها ، ثم وهبها لنا ، ثم اشتراها منا بهذا الثمن الغالي ، فإنها لصفقة رابحة. ه.
ثم بيّن وجه الشراء فقال : يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لإعلاء كلمة اللّه ، فَيَقْتُلُونَ الكفار ، وَيُقْتَلُونَ شهداء فى سبيل اللّه. وقرأ الأخوان بتقديم المبنى للمفعول لأن الواو لا ترتب ، وأنّ فعل البعض قد يسند إلى الكل ، أي : فيموت بعضهم ويجاهد الباقي. وعد ذلك لهم وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا لا خلف فيه ، مذكورا ذلك الوعد فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ أي : إن اللّه بيّن فى الكتابين أنّ اللّه اشترى من أمة محمد أنفسهم وأموالهم بالجنة ، (2/430)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 431
كما بيّنه فى القرآن ، أو كل أمة أمرت بالجهاد ووعدهم هذا الوعد. وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ؟ هو مبالغة فى الإنجاز ، أي : لا أحد أوفى منه بالعهد ، فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ أي : فافرحوا به غاية الفرح ، فإنه أوجب لكم أعظم المطالب ، كما قال : وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ. قال بعضهم : ناهيك من بيع ، البائع فيه رب العلا ، والثمن جنة المأوى ، والواسطة محمد المصطفى صلّى اللّه عليه وسلّم.
الإشارة : قد اشترى الحق جل جلاله منا أنفسنا وأموالنا بالجنة ، فمن باع نفسه لله بأن خالف هواها وخرق عوائدها ، وسعى فى طلب مولاها ، عوضه جنة المعارف ، معجلة ، وزاده جنة الزخاف ، مؤجلة. ومن باع ماله بأن أنفقه فى مرضاة اللّه ، وبخل بنفسه ، عوضه جنة الزخارف ، مؤجلة.
قال فى الإحياء - فى باب الذكر وفضيلته - : وأنه يوجب الأنس والحب ، فإذا حصل الأنس بذكر اللّه انقطع عن غير اللّه ، وما سوى اللّه هو الذي يفارقه عند الموت ، فلا يبقى معه فى القبر أهل ، ولا مال ، ولا ولد ، ولا ولاية ، ولا يبقى معه إلا ذكر اللّه ، فإن كان فى أنس به تمتع به ، وتلذذ بانقطاع العوائق الصارفة عنه ، إذ ضرورات الحاجات فى الحياة تصد عن ذكر اللّه ، ولا يبقى بعد الموت عائق ، فكأنه خلّى بينه وبين محبوبه ، فعظمت غبطته ، وتخلص من السجن الذي كان ممنوعا فيه ، عما به أنسه.
ثم قال : ولأجل شرف ذكر اللّه عظمت رتبة الشهادة لأن المطلوب هو الخاتمة ، ومعنى الخاتمة : وداع الدنيا كلها ، والقدوم على اللّه ، والقلب مستغرق بالله ، منقطع العلائق عن غيره ، والحاضر صفّ القتال قد تجرد قلبه لله ، وقطع طمعه من حياته ، حبا لله وطمعا فى مرضاته ، وحالة الشهيد توافق معنى قولك : (لا إله إلا اللّه) ، فإنه لا مقصود له سوى اللّه. ه. فما يجده أهل التملق من لذيذ الحلاوة فى مناجاتهم ، وأهل الشهود فى حال غيبتهم فى محبوبهم ، ليس هو من نعيم الدنيا ، بل من نعيم الجنة ، قدّمه اللّه لأوليائه ، وهو معنى جنة المعارف المعجلة عوضا لمن باع نفسه لله.
قال بعض العارفين : النفوس ثلاثة : نفس معيبة ، لا يقع عليها بيع ولا شراء ، وهى نفس الكافر ، ونفس تحررت لا يصح بيعها ، وهى نفس الأنبياء والمرسلين ، لأنها خلقت مطهرة من البقايا ، ونفس يصح بيعها وشراؤها ، وهى نفس المؤمن ، فإذا باعها لله ، واشتراها الحق تعالى منه ، وقع عليها التحرير ، وذلك حين تتحرر من رقّ الأكوان ، وتتخلص من بقايا الأثر.
وقال بعض أهل التحقيق : اشترى اللّه تعالى أعز الأشياء بأجل الأشياء ، وإنما اشترى الأنفس دون القلوب لأن القلب حر لا يقع عليه البيع لأنه لله فلا يباع ولا يشترى ، أما سمعت قول رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : «القلب بيت الرب».(2/431)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 432
أي : لأنه محل مناجاته ، ومعدن معرفته ، وخزانة سره ، فليس للشيطان عليه من سبيل. قال تعالى : إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ «1». وأما النفس فإنها مملوكة تباع وتشترى. ه.
ثم بيّن أوصاف البائعين ، فقال :
[سورة التوبة (9) : آية 112]
التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (112)
قلت : (التائبون) : خبر ، أي : هم التائبون ، أو مبتدأ حذف خبره ، أي : التائبون فى الجنة وإن لم يجاهدوا ، لقوله تعالى : وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى «2» ، أو خبره ما بعده ، أي : التائبون عن الكفر ، على الحقيقة ، هم الجامعون لهذه الخصال.
يقول الحق جل جلاله ، فى وصف البائعين أنفسهم وأموالهم : هم التَّائِبُونَ عن الكفر والمعاصي والهفوات والغفلات ، الْعابِدُونَ لله ، مخلصين له الدين ، الْحامِدُونَ الله فى السراء والضراء وعلى كل حال ، السَّائِحُونَ أي : الصائمون ، لقوله عليه الصلاة والسلام : «سياحة أمتى الصوم» «3» ، شبه بها من حيث إنه يعوق عن الشهوات ، أو لأنه رياضة نفسانية يتوصل بها إلى الاطلاع على خفايا الملكوت والجبروت. أو السائحون للجهاد ، أو لطلب لعلم ، أو لزيارة المشايخ والإخوان.
الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ فى الصلاة ، الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ أي : بكل ما هو معروف محمود ، كالإيمان والطاعة ، وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ أي : كل ما هو منكر فى الشرع ، كالكفر والمعاصي ، وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ أي : لكل ما حده الشارع وعينه من الحقائق والشرائع. قال البيضاوي : وعطف قوله : وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ دون ما قبله للدلالة على أنه بما عطف عليه فى حكم خصلة واحدة ، كأنه قال : الجامعون بين الوصفين ، وعطف أيضا قوله : وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ للتنبيه على أن ما قبله مفصل الفضائل ، وهذا مجملها ، وقيل :
___________
(1) من الآية 65 من سورة الإسراء.
(2) من الآية 95 من سورة النساء.
(3) أخرجه ابن جرير فى التفسير (11/ 35) موقوفا على السيدة عائشة ، بلفظ «سياحة هذه الأمة الصيام ، وأخرجه مرفوعا ، عن عبيد بن عمير ، بلفظ : (سئل النبي صلّى اللّه عليه وسلّم عن السائحين فقال : «هم الصائمون»).(2/432)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 433
للإيذان بأن التعداد قد تم بالسابع ، من حيث إن السبعة هو العدد التام ، والثامن ابتداء لعدد آخر معطوف عليه ، ولذلك سمى واو الثمانية. ه. بالمعنى.
وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ الموصوفين بهذه الفضائل ، ووضع المؤمنين موضع ضميرهم للتنبيه على أن إيمانهم دعاهم إلى ذلك ، وأن المؤمن الكامل من كان كذلك ، وحذف المبشر به للتعظيم ، كأنه قيل : وبشرهم بما يجل عن إحاطة الأفهام وتعبير الكلام. قاله البيضاوي.
الإشارة : قد جمعت هذه الآية معارج الترقي من البداية إلى النهاية ، فأول المقامات : التوبة ، فإذا تابت النفس ورجعت عن هواها قصدت السير إلى حضرة مولاها ، فاشتغلت بالعبادة الظاهرة ، التي هى عمل الشريعة ، فإذا ظهر عليها أمارات التوفيق ، ولاحت لها أنوار التحقيق ، حمدت اللّه وشكرته تقييدا لتلك النعمة ، ثم تسيح فكرتها فى ميادين الغيوب من الملكوت إلى الجبروت ، ثم ترد إلى مراسم الشريعة ، إذ منتهى الكمال : التزام الشرائع ، فتركع وتسجد البشرية ، أدبا فى عالم الأشباح ، ويركع القلب ويسجد فى مسجد الحضرة فى عالم الأرواح ، فحينئذ تصلح للوعظ والتذكير ، فتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر الظاهرين لأهل التشريع ، والباطنين لأهل التحقيق ، فالأول يسمى وعظا وتذكيرا ، والثاني يسمى تربية وترقية ، ولا يقبل ذلك إلا ممن وقف مع الحدود ، ووفى بالعهود ، فيبشر حينئذ بالسعادة العظمى والمقام الأسنى.
قال القشيري : قوله تعالى : السَّائِحُونَ أي : الصائمون ، ولكن عن شهود غير اللّه ، الممتنعون عن خدمة غير اللّه ، المكتفون من اللّه بالله. ويقال : السائحون الذين يسيحون فى الأرض على جهة الاعتبار طلبا للاستبصار ، ويسيحون بقلوبهم فى مشارق الأرض ومغاربها بالتفكّر فى جوانبها ومناكبها ، والاستدلال بتغيّرها على منشئها ، والتحقق بحكم خالقها بما يرون من الآيات التي فيها ، ويسيحون بأسرارهم فى الملكوت ، فيجدون روح الوصال ، ويعيشون بنسيم الأنس بالتحقيق بشهود الحق. انتهى.
وانظر الورتجبي فقد جعل وصف الإيمان يحمل على التوبة ، ثم التوبة الصادقة تستدعى العبادات والمجاهدات المؤدية للعبودية ، فإذا تمت له نعمة العبودية اقتضت حمد اللّه تعالى ، فيحمده تعالى معترفا بعجزه عن القيام بحمده كما فى حديث : «أنت كما أثنيت على نفسك» «1» ، ثم الحمد والذكر يقتضى حبس النفس عن مألوفاتها حين عاين حمى هلال جماله فى سماء الإيقان. ألا ترى كيف قال عليه الصلاة والسلام : «صوموا لرؤيته» ،
___________
(1) أخرجه مسلم فى (الصلاة ، باب : ما يقال فى الركوع والسجود) من حديث السيدة عائشة - رضى اللّه عنها.(2/433)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 434
ولا يكون فطره إلا على حلاوة مشاهدته لقوله : «وأفطروا لرؤيته» ، فالسائحون طيارون بقلوبهم فى أقطار الغيب ، وذلك يقتضى الخضوع بنعت الفناء عند مشاهدة العظمة ، فيركع شوقا لجماله ، وخضوعا لجلاله ، وعند ركوعه وخضوعه تحيط به أنوار الصفات ، فيسجد لكل الجهات (فأينما تولوا فثم وجه اللّه) «1». وهذا السجود يقتضى الغربة ، والغربة تقتضى المشاهدة ، والمشاهدة تصير شاهدها متصفا بصفاتها ، فمن وقع فى نور أسماء اللّه وصفاته صار متصفا بوصف الربوبية ، متمكنا فى العبودية ، فيحكم بحكم اللّه ، ويعدل بعدل اللّه ، فيصفهم اللّه بهذه النعوت ، قال : (الآمرون بالمعروف) الداعون الخلق إلى الحق ، والناهون لهم عن متابعة الشهوات ، والحافظون لحدود اللّه ، القائمون فى مقام العبودية بعد كشف صفات الربوبية لهم ، فلا يتجاوزون عن حد العبودية ، وإن ذاقوا طعم حلاوة الربوبية لأنهم فى محل التمكين على أسوة مراتب النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ، مع كماله ، قال : «أنا العبد لا إله إلا اللّه». انتهى.
ثم نهى نبيه عن الاستغفار للمشركين ، وينخرط فيهم من تخلف عن تبوك من المنافقين ، فقال :
[سورة التوبة (9) : الآيات 113 الى 114]
ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (113) وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (114)
يقول الحق جل جلاله : ما كانَ ينبغى لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ الذين ماتوا على الشرك ، وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى أي : من قرابتهم ، مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ لموتهم على الشرك. روى أنه عليه الصلاة والسلام قال لأبى طالب ، لما حضرته الوفاة : «قل : لا إله إلا اللّه ، كلمة أحاجّ لك بها عند اللّه». فأبى ، فقال : «واللّه لأستغفرن لك ما لم أنه عنك» ، فكان يستغفر له حتى نزلت الآية «2».
وقيل : إن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم استأذن ربه أن يستغفر لأمه ، فنزلت ، وقيل : إن المسلمين أرادوا أن يستغفروا لآبائهم ، فنزلت ، وفيه دليل على جواز الاستغفار لأحيائهم إذ لم يتحقق أنهم أصحاب الجحيم ، فإنه طلب توفيقهم للإيمان.
ثم رفع إيهام النقض باستغفار إبراهيم عليه السّلام لأبيه الكافر ، فقال : وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ ، وقيل : إنه صلّى اللّه عليه وسلّم قال فى شأن عمه : «لأستغفرن لك ، كما استغفر إبراهيم لأبيه» ، فنزلت :
___________
(1) من الآية 115 من سورة البقرة.
(2) أخرجه البخاري فى (مناقب الأنصار ، باب : قصة أبى طالب) ومسلم فى (الإيمان ، باب : الدليل على صحة إسلام من حضره الموت). [.....](2/434)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 435
وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ. والموعدة التي وعدها إياه قوله : لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ «1». أي : لأطلبن المغفرة لك بالتوفيق للإيمان ، فإنه يجب ما قبله.
والمعنى : لا حجة لكم فى استغفار إبراهيم لأبيه ، فإن ذلك لم يكن إلا لوعد تقدم بقوله : لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ ..
إلخ. فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ بأن مات على الكفر ، أو أوحى إليه بأنه لن يؤمن ، تَبَرَّأَ مِنْهُ بأن قطع استغفاره له ، إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ أي : لكثير التأوه ، وهو كناية عن فرط ترحمه ، أو كثير الدعاء ، أو مؤمن ، أو فقيه ، أو كثير الذكر لله ، أو كثير التأوه من خوف اللّه ، حَلِيمٌ صبور على الأذى ، والجملة : لبيان ما حمله على الاستغفار.
الإشارة : الشفاعة لا تكون فيمن تحقق غضب اللّه عليه ، فإن ذلك من سوء الأدب ، كالدعاء بالمحال ، وأما من لم يتحقق غضبه عليه فالشفاعة فيه مرغب فيها. قال عليه الصلاة والسلام : «اشفعوا تؤجروا» «2» ، والاستغفار شفاعة. وقد ورد فى الخبر : «من استغفر للمؤمنين والمؤمنات خمسا وعشرين مرّة كتب من الأبدال».
والشفقة مطلوبة ، ما لم يظهر مراد اللّه من خلقه ، فإن برز من عنصر القدرة شىء من القهريات ، فالتسليم لمراده تعالى أحسن ، فالله أرحم بعباده منك أيها الشفيق ، وسيأتى عند قوله تعالى : يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ «3» ، وبالله التوفيق.
ثم عذر نبيه فى استغفاره لعمه قبل النهى ، أو من استغفر من المسلمين لأسلافهم المشركين ، فقال :
[سورة التوبة (9) : الآيات 115 الى 116]
وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (115) إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (116)
يقول الحق جل جلاله : وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً أي : يسميهم ضلالا ، ويؤاخذهم مؤاخذتهم ، بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ للإسلام ، حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ أي : حتى يبين لهم خطر ما يجب اتقاؤه ، فإن خالفوا بعد
___________
(1) من الآية 4 من سورة الممتحنة.
(2) أخرجه البخاري فى (الأدب ، باب : تعاون المؤمنين) ومسلم فى (البر والصلة ، باب : استحباب الشفاعة) من حديث أبى موسى الأشعري ، وبقية الحديث : (و يقضى اللّه على لسان نبيه ما شاء).
(3) الآية 76 من سورة هود.(2/435)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 436
البيان ، أضلهم وآخذهم إن لم يتوبوا. قال البيضاوي : وكأنه بيان عذر الرسول فى قوله لعمه : «لأستغفرن لك» ، ولمن استغفر لأسلافه المشركين قبل المنع. وقيل : إنه فى قوم مضوا على الأمر الأول فى القبلة والخمر ، ولم يعلموا بالنسخ والمنع. وفى الجملة : دليل على أن الغافل غير مكلف. ه. وقال ابن جزى : نزلت فى قوم من المسلمين استغفروا للمشركين من غير إذن ، فخافوا على أنفسهم من ذلك ، فنزلت الآية تأنيسا لهم ، أي : ما كان الله ليؤاخذكم بذلك قبل أن يبيّن لكم المنع من ذلك. ه. إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ فيعلم أمرهم قبل النهى وبعده.
إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ، يتصرف فيهما وفى ساكنهما كيف يشاء ، يُحْيِي من يريد إبرازه لعالم الشهادة ، وَيُمِيتُ من يريد رده لعالم الغيب ، أو يحيى قلوبا بالإيمان والمعرفة ، ويميت قلوبا بالكفر والغفلة. وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ.
قال البيضاوي : لمّا منعهم من الاستغفار للمشركين ، ولو كانوا أولى قربى ، وتضمن ذلك وجوب التبري منهم رأسا ، بيّن لهم أن اللّه تعالى مالك كل موجود ، ومتولى أمره والغالب عليه ، ولا يتأتى لهم ولاية ولا نصرة إلا منه ، ليتوجهوا إليه ويتبرؤوا مما عداه ، حتى لا يبقى لهم مقصود فيما يأتون ويذرون سواه. ه.
الإشارة : وما كان اللّه ليضل قوما عن السير إلى حضرته ، أو الترقي فى العلوم والمعارف بعد الوصول ، حتى يبين لهم ما يتقون من سوء الأدب على لسان الشارع أو المشايخ ، فإذا تبين لهم ذلك ثم ارتكبوه وأصروا عليه ، أضلهم ، وأتلفهم عن الوصول إلى حضرة قدسه ، فإنّ كل طاعة وحسن أدب يقرب من الحضرة ، وكل معصية وسوء أدب يبعد عن الحضرة ، وقد قالوا : من أساء الأدب على البساط ، طرد إلى الباب ، ومن أساء الأدب فى الباب ، طرد إلى سياسة الدواب. وبالله التوفيق.
ثم ذكر توبته على الثلاثة المرجون ، فقال :
[سورة التوبة (9) : الآيات 117 الى 118]
لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (117) وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118)(2/436)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 437
قلت : فى «كاد» ضمير الشأن ، أو يرتفع بها قلوب.
يقول الحق جل جلاله : لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ أي : برأه وطهره من الذنوب ، كقوله : لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ «1» ، وَتاب على الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ مما عسى أن يكون ارتكبوه إذ لا يخلو العبد من ذنب أو عيب. وقيل : هو حض على التوبة ، وإظهار لفضلها ، بأنها مقام الأنبياء والصالحين.
وقيل : تاب عليهم من نقص المقامات التي ترقوا عنها ، إلى ما هو أكمل منها ، فما من أحد إلا وله مقام يستنقص بالنسبة إلى ما فوقه.
وقال الشيخ أبو الحسن الشاذلى رضى اللّه عنه : ذكر توبة من لم يذنب لئلا يستوحش من أذنب ، لأنه ذكر النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ، والمهاجرين والأنصار ، ولم يذنبوا ، ثم قال : وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا ، فذكر من لم يذنب ليؤنس من قد أذنب ، فلو قال أولا : لقد تاب على الثلاثة لتفطرت أكبادهم. ه.
ثم وصفهم بقوله : الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ ، يعنى : حين محاولة غزوة تبوك. والساعة هنا بمعنى الحين والوقت ، والعسرة : الشدة والضيق ، أي : الذين خرجوا معه وقت العسرة والضيق ، فقد كانوا فى عسرة الظّهر ، يعتقب العشرة على بعير واحد ، وفى عسرة الزاد حتى قيل : إن الرجلين كانا يقتسمان تمرة واحدة. مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ عن الثبات على الإيمان ، أو عن اتباع الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم ، لما رأوا من الشدة والضيق وشدة الحر ، ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ كرره للتأكيد ، وللتنبيه على أنه تاب عليهم لأجل ما كابدوا من العسر ، إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ حيث قبلهم ، وتاب عليهم ، وتاب على الثلاثة ، وهم : كعب بن مالك ، وهلال بن أمية ، ومرارة بن الربيع ، تخلفوا عن غزوة تبوك من غير عذر ولا نفاق ، ولا قصد للمخالفة ، فلما رجع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عتب عليهم ، وأمر الناس ألا يكلموهم ، وأن يعتزلوا نساءهم ، فبقوا على ذلك خمسين ليلة ، ثم أنزل اللّه توبتهم. وقد وقع حديثهم فى البخاري ومسلم «2» وكتب السير.
ومعنى قوله : الَّذِينَ خُلِّفُوا أي : تخلفوا عن الغزو. وقال كعب بن مالك : خلفوا عن قبول العذر ، وليس بالتخلف عن الغزو ، ويقوى ذلك كونه جعل : حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ غاية للتخلف ، أي : خلفوا عن قبول العذر ، وأخروا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ أي : برحبها وسعتها ، وذلك لإعراض الناس
___________
(1) من الآية 2 من سورة الفتح.
(2) انظر البخاري فى (تفسير سورة التوبة ، باب : قوله تعالى : (و على الثلاثة ألين خلفوا ..) ، ومسلم فى (التوبة ، حديث توبة كعب ابن مالك وصاحبيه).(2/437)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 438
عنهم بالكلية ، وهو مثل لشدة الحيرة. وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ من فرط الوحشة والغم ، وَظَنُّوا أي :
علموا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ أي : من سخطه إِلَّا إِلَيْهِ أي : إلا إلى استغفاره والرجوع إليه ، ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ بالتوفيق بالتوبة ، لِيَتُوبُوا بإظهارها والدوام عليها ، وليعدوا من التوابين ، إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ لمن تاب ، ولو عادوا فى اليوم سبعين مرة ، الرَّحِيمُ متفضل عليهم بالنعم التي لا تحصى.
الإشارة : قال الورتجبي : التوبة توبتان : توبة العبد ، وتوبة اللّه ، توبة العبد : الرجوع من الزلات إلى الطاعات ، وتوبة اللّه : رجوعه إلى العبد بنعت الوصال ، وفتح باب المآب ، وكشف النقاب عن الاحتجاب ، وطلب العتاب.
إذا مرضنا أتيناكم نعودكم وتذنبون فنأتيكم ونعتذر.
انظر لطف اللّه بنبيه وأصحابه ، كيف تاب لأجلهم مكان توبتهم ، رجع إليه قبل رجوعهم إليه ، ليسهل عليهم طريق الرجوع إليه ، فرجوعه إلى نبيه بكشف المشاهدة ، ورجوعه إليهم بكشف القربة ، فتوبته للنبى صلّى اللّه عليه وسلّم من غيبته عن المشاهدة باشتغاله بأداء الرسالة ، وتوبة القوم من غيبتهم عن ملاحظة الحضرة ، فلما ذاقوا طعم الجنايات ، واحتجبوا عن المشاهدات أدركهم فيض الوصال ، وانكشف لهم أنوار الجمال ، وهكذا سنة اللّه فى الأنبياء والأولياء ، إذا ذابوا فى مقام الامتحان ، وبقوا فى الحجاب عن مشاهدة الرحمن ، تمطر عليهم وبل سحاب الكرم ، ويلمع لأبصار أسرارهم نور شرف القدم فيؤنسهم بعد إياسهم ، ويوصلهم بعد قنوطهم. قال تعالى : وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا «1» ، وقال تعالى : حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ ... الآية «2». ثم قال عن بعضهم : توبة الأنبياء فى مشاهدة الخلق فى وقت الإبلاغ إذ الأنبياء لا يغيبون عن الحضرة ، بل لا يحضرون فى مواضع الغيبة لأنهم فى عين الجمع أبدا. ه.
قال المحشي : وحاصله : توبة اللّه المذكورة وهبيّة ، وهى فى كل أحد على حسب ما يليق بمقامه ، وإنما يليق بمقام الرسل ترقيته عن مقام إلى أعلى ، أو من شعور بخلق لأجل الإبلاغ ، إلى الغيبة عن ذلك ، وكذلك أبدا كأهل الجنة. ه.
ثم حضّ على الصدق ، فقال :
[سورة التوبة (9) : آية 119]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119)
يقول الحق جل جلاله : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ بالمحافظة على ما أمركم به ، والانكفاف عما نهاكم عنه ، وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ فى إيمانهم وأقوالهم وأفعالهم وعهودهم.
___________
(1) الآية 28 من سورة الشورى.
(2) الآية 110 من سورة يوسف.(2/438)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 439
قال ابن جزى : ويحتمل أن يريد به صدق اللسان إذ كان هؤلاء قد صدقوا ولم يعتذروا بالكذب ، فنفعهم اللّه بذلك ، ويحتمل أن يريد أعم من صدق اللسان وهو الصدق فى الأقوال والأعمال والمقاصد والعزائم ، والمراد بالصادقين : المهاجرين ، لقوله فى الحشر : لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ ... : إلى قوله وأُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ «1». وقد احتج بها أبو بكر الصديق على الأنصار يوم السقيفة ، فقال : (نحن الصادقون ، وقد أمركم اللّه أن تكونوا معنا) أي : تابعين لنا. ه زاد السهيلي : ولمّا استحق الصادقون أن تكون الخلافة فيهم ، استحق الصّدّيق أن تكون الخلافة له ، مادام حيا إذ كان صديقا. ه.
الإشارة : الصدق سيف حازم ، ما وضع على شىء إلا قطعه. ويكون فى الأقوال ، وهو صيانتها من الكذب ، ولو أدى إلى التلف. وفى الأفعال ، وهو صيانتها من الرياء وطلب العوض. وفى الأحوال ، وهو تصفيتها من قصد فاسد ، كطلب الشهرة ، أو إدراك مقام من المقامات ، أو ظهور كرامات ، أو غير ذلك من المقاصد الدنية. قال القشيري : الصادقون هم السابقون الأولون ، كأبى بكر وعمر وغيرهما ، والصدق : استواء السّرّ والعلانية ، وهو عزيز ، وكما يكون فى الأقوال يكون فى الأحوال ، وهو أتمّ. ه.
ثم عاتب الحق تعالى أهل المدينة ومن جاورها على التخلف عن الغزو ، فقال :
[سورة التوبة (9) : الآيات 120 الى 121]
ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120) وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (121)
قلت : (و لا يرغبوا) : منصوب بالعطف ، أو مجزوم بالنهى ، والوادي : أصله : فاعل ، من ودي ، إذا سال ، وهو منقوص ، وهو فى اللغة : كل منفرج بين جبال وآكام يكون منفذا للسيل.
___________
(1) الآية 8 من سورة الحشر.(2/439)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 440
يقول الحق جل جلاله : ما كانَ يصح لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ ، ولا لمن حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ ، أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ فى غزوة ولا سرية ولا غيرهما ، وهو نهى بصيغة النفي للمبالغة. وَلا ينبغى لهم أن يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ بأن يصونوها من اقتحام المشقات والمتاعب التي تحملها نبى اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ، حيث قعدوا عنه ، ولم يكابدوا معه ما كابده من الأهوال.
روى أن أبا خيثمة دخل بستانه ، بعد خروجه - عليه الصلاة والسلام - لتبوك ، وكانت له امرأة حسناء ، فرشت له فى الظل ، وبسطت له الحصير ، وقربت إليه الرطب والماء البارد ، فنظر فقال : ظلّ ظليل ، ورطب يانع ، وماء بارد ، وامرأة حسناء ، ورسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فى الضّحّ «1» والريح ، ما هذا بخير ، فقام ، فرحل ناقته ، وأخذ سيفه ورمحه ، ومر كالريح ، فمدّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم طرفه إلى الطريق ، فإذا براكب يقطع السراب ، فقال : كن أبا خيثمة ، فكانه «2» ، ففرح به رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ، واستغفر له «3».
ثم علل النهى بقوله : ذلِكَ إشارة إلى النهى عن التخلف المفهوم من الكلام ، بِأَنَّهُمْ أي :
بسبب أنهم لا يُصِيبُهُمْ فى سفرهم ظَمَأٌ من حر العطش ، أو عطش ، وَلا نَصَبٌ تعب ، وَلا مَخْمَصَةٌ مجاعة ، فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، وَلا يَطَؤُنَ يدوسون بأرجلهم أو بدوابهم مَوْطِئاً مكانا يَغِيظُ الْكُفَّارَ أي : يغيظهم ذلك الوطء ، وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا كالقتل ، والأسر ، والنصب ، وكل ما ينكبهم ، إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ ، أي : إلا استوجبوا به ثوابا جزيلا. وذلك مما يوجب النهوض إلى الغزو معه صلّى اللّه عليه وسلّم فإن اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ على إحسانهم. وهو تعليل لقوله : إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ .. إلخ.
وفيه تنبيه على أن الجهاد إحسان ، أما فى حق الكفار فلأنه سعى فى تكميلهم بأقصى ما يمكن ، كضرب المداوي للمجنون ، وأما فى حق المؤمنين فلأنه صيانة لهم عن سطوة الكفار واستيلائهم على الإسلام. قاله البيضاوي.
وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً فى أمر الجهاد ، ولو علاقة سيف ، وَلا كَبِيرَةً مثل ما أنفق عثمان رضى اللّه عنه فى جيش العسرة ، وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً فى سيرهم ، وهو كل منفرج ينفذ فيه السيل ، إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ ذلك ، ولم يضع منه شىء ، لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ بذلك أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ ، أي : جزاء أحسن أعمالهم ، أو أحسن جزاء أعمالهم. قاله البيضاوي.
___________
(1) الضّح - بالكسر : ضوء الشمس إذا استمكن من الأرض ... راجع النهاية 87.
(2) أي : فكان هو.
(3) أخرجه بنحوه البيهقي فى الدلائل (باب لحوق أبى ذر وأبى خيثمة برسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بعد خروجه). وانظر الفتح السماوي (2/ 707 - 708).(2/440)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 441
الإشارة : لا ينبغى للفقراء أن يتخلفوا عن أشياخهم إذا سافروا لحج أو غزو أو تذكير أو زيارة ، ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه ، فيقعدون فى الراحة والدعة وشيخهم فى التعب والنصب لأن ما يصيبهم من مشاق السفر زيادة فى ترقيهم ومعرفتهم ، وتقوية لمعانيهم ، إلى غير ذلك من فوائد السفر ، فهو فى حق السائرين أمر مؤكد ، فكلما سار البدن فى عالم الشهادة سار القلب فى عالم الغيب ، كما هو مجرب. واللّه تعالى أعلم.
ولما ذمّ اللّه تعالى من تخلف عن تبوك ، ووسمه بالنفاق ، لم يقدر أحد بعد ذلك على التخلف ، فخفف عنهم بقوله :
[سورة التوبة (9) : آية 122]
وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122)
يقول الحق جل جلاله : وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ يستقيم لهم أن ينفروا كَافَّةً جميعا لنحو غزو ، أو طلب علم ، كما لا يستقيم لهم أن يقعدوا جميعا ، فإنه بخل ، ووهن للإسلام. قال ابن عباس : هذه الآية فى البعوث إلى الغزو والسرايا ، أي : لا ينبغى خروج جميع المؤمنين فى السرايا ، وإنما يجب ذلك إذا خرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بنفسه ، ولذلك عاتبهم فى الآية المتقدمة على التخلف عنه. فالآية الأولى فى الخروج معه صلّى اللّه عليه وسلّم ، وهذه فى السرايا التي كان يبعثها ، وقيل : هى ناسخة لكل ما ورد من الأمر بخروج الجميع ، فهى دليل على أن الجهاد فرض كفاية.
فَلَوْ لا : فهلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ جماعة كبيرة ، كقبيلة أو بلدة ، طائِفَةٌ قليلة منها لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ ، أما إذا خرجوا للغزو فإنه لا يخلو الجيش من عالم أو عارف يتفقهون ، مع أن مشاق السفر تشحذ الأذهان ، وترقق البشرية ، فتستفيد الروح حينئذ علوما لدنية ، وأسرارا ربانية ، من غير تعلم ، وهذا هو العلم الذي يصلح للإنذار.
قال فى الإحياء : التفقه : الفقه عن اللّه بإدراك جلاله وعظمته ، وهو العلم الذي يورث الخوف والخشية والهيبة والخشوع ، ويحمل على التقوى وملازمتها ، وهذا مقتضى الآية. فإن معرفة صفاته تعالى المخوفة والمرجوة هو الذي يحصل به الإنذار ، لا الفقه المصطلح عليه. ه. وأما إذا وقع الخروج لطلب العلم فالتفقه ظاهر.
ثم قال تعالى : وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ ، أي : وليجعلوا غاية سعيهم ومعظم غرضهم من التفقه إرشاد القوم وإنذارهم. وتخصيصه بالذكر لأنه أهم ، وفيه دليل على أن التفقه والتذكير من فروض الكفاية ، وأنه ينبغى أن يكون غرض المتعلم فيه أن يستقيم ويقيم ، لا الترفع على الناس والتبسط فى البلاد. قاله البيضاوي.
وقوله : لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ، أي : لعلهم يخافون مما حذروا منه.(2/441)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 442
قال البيضاوي : وقد قيل : للآية معنى آخر ، وهو أنه لما نزل فى المتخلفين ما نزل تسابق المؤمنون إلى النفير ، وانقطعوا عن التفقه ، فأمروا أن ينفر من كل فرقة طائفة إلى الجهاد ، ويبقى أعقابهم يتفقهون ، حتى لا ينقطع التفقه الذي هو الجهاد الأكبر ، لأن الجدال بالحجة هو الأصل ، والمقصود من البعثة ، فيكون الضمير فى لِيَتَفَقَّهُوا ، ولِيُنْذِرُوا : للفرق البواقي بعد الطوائف النافرة للغزو ، وفى رَجَعُوا : للطوائف النافرة ، أي : ولينذروا البواقي من قومهم النافرين إذا رجعوا إليهم بما حصّلوا أيام غيبتهم من العلوم. ه. وتقدير الآية على هذا : فلو لا نفر من كل فرقة طائفة ، وجلس طائفة ليتفقهوا فى الدين ، ولينذروا قومهم الخارجين للغزو إذا رجعوا إليهم من غزوهم. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : قال القشيري : لو اشتغل الكلّ بالتّفقّه فى الدّين لتعطّل عليهم المعاش ، ولمنعهم الكافر عن درك المطلوب ، فجعل ذلك فرضا على الكفاية. ويقال : المسلمون على مراتب : فعوامّهم كالرعية للملك وكتبة الحديث كخزنة الملك. وأهل القرآن كحفّاظ الدفاتر ونفائس الأموال. والفقهاء بمنزلة الوكلاء إذ الفقيه يوقع الحكم عن اللّه.
وعلماء الأصول كالقوّاد وأمراء الجيوش. والأولياء كأركان الباب. وأرباب القلوب وأصحاب الصفاء كخواص الملك وجلسائه. فشغل قوما بحفظ أركان الشرع ، وآخرين بإمضاء الأحكام ، وآخرين بالردّ على المخالفين ، وآخرين بالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ، وجعل قوما مفردين لحضور القلب وهم أصحاب الشهود ، ليس لهم شغل ، يراعون مع اللّه أنفاسهم ، وهم أصحاب الفراغ ، لا يستفزّهم طلب ، ولا يهزّهم أمر ، فهم بالله لله ، بمحو ما سوى اللّه ، وأمّا الذين يتفقهون فى الدّين فهم الداعون إلى اللّه ، وإنما يفهم الخلق عن اللّه بمن كان يفهم عن اللّه. ه.
قوله : وأما الذين يتفقهون .. إلخ ، الداعون إلى اللّه على الحقيقة هم العارفون بالله ، وهم أصحاب الشهود ، الذين وصفهم قبل ، وأما الفقهاء فى الدّين فإنما يدعون إلى أحكام اللّه ، وتعلم دينه دون معرفة ذاته وصفاته فدعواهم ضعيفة التأثير ، فلا ينهض على أيديهم ما ينهض على أيدى العارفين.
وقال الورتجبي ، فى قوله تعالى : (ليتفقهوا فى الدين) : قال المرتعش : السياحة والأسفار على ضربين : سياحة لتعلم أحكام الدين وأساس الشريعة ، وسياحة لآداب العبودية ورياضة الأنفس ، فمن رجع عن سياحة الأحكام قام بلسانه يدعو الخلق إلى ربه ، ومن رجع من سياحة الأدب والرياضة قام فى الخلق يهديهم لأخلاقه وشمائله.
وسياحة هى سياحة الحق ، وهى رؤية أهل الحق والتأدب بآدابهم ، فهذا بركته تعم البلاد والعباد. ه.(2/442)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 443
ثم أمر بجهاد الأقرب فالأقرب ، فقال :
[سورة التوبة (9) : آية 123]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (123)
يقول الحق جل جلاله : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ ، أي : جاهدوا الأقرب فالأقرب بالتدريج ، كما أمر رسوله صلّى اللّه عليه وسلّم بإنذار عشيرته الأقربين ، فإن الأقرب أحق بالشفقة والاستصلاح. وقيل : هم يهود حوالى المدينة ، كقريظه والنضير وخيبر ، وقيل : الروم بالشام وهو قريب من المدينة ، وكانت أرض العرب قد عمها الإسلام ، وكانت العراق حينئذ بعيدة. وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً شدة وصبرا على قتالهم ، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ بالإعانة والنصر والحراسة.
الإشارة : ينبغى لأهل الوعظ والتذكير أن يبدأوا بالأقرب فالأقرب على التدريج ، قال الرفاعي رضى اللّه عنه : إذا أراد اللّه أن يرقى عبدا إلى مقامات الرجال كلفه بأمر نفسه أولا ، فإذا أدب نفسه واستقامت معه ، كلفه بأهله فإن أحسن إليهم وساسهم ، كلفه بأهل بلده ، فإن أحسن إليهم وساسهم ، كلفه جهة من البلاد ، فإن هو نصحهم ، وساسهم ، وأصلح سريرته مع اللّه ، كلفه رتبة ما بين السماء والأرض ، فإن لله خلقا لا يعلمهم إلا اللّه ، ثم لا يزال يرتفع من سماء إلى سماء حتى يرتفع ويصل إلى محل القطب الغوث ، وهناك يطلعه اللّه على بعض غيبه. انتهى.
والغلظة التي تكون فى المذكر ، إذا رأى منكرا ، أو ذكر له وأراد النهى عنه. وأما فى الترغيب والإرشاد فينبغى أن يغلب جانب اللطافة واللين. واللّه تعالى أعلم.
ثم ذكر حال المنافقين عند نزول الوحى ، لأن السورة جلها فى فضيحتهم ، فقال :
[سورة التوبة (9) : الآيات 124 الى 127]
وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ (125) أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (126) وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (127)(2/443)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 444
يقول الحق جل جلاله : وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ من القرآن ، فَمِنْهُمْ فمن المنافقين مَنْ يَقُولُ إنكارا واستهزاء : أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ السورة إِيماناً ، كما يزعم أصحاب محمد : أن القرآن يزيدهم إيمانا ، فلا زيادة فيه ، ولا دليل أنه من عند اللّه. قال تعالى فى الرد عليهم : فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً لتنوير قلوبهم ، وصفاء سرائرهم ، فتزيدهم إيمانا وعلما لما فيها من الإنذار والإخبار ، ولانضمام الإيمان بها وبما فيها إلى إيمانهم ، وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ بنزولها لأنها سبب لزيادة إيمانهم ، وارتفاع درجاتهم ، بخلاف قلوب المنافقين فلظلمانيتها وخوضها لم تزدهم إلا خوضا ، كما قال تعالى :
وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ كفر وشك ، فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ أي : كفرا بها ، مضموما إلى الكفر بغيرها ، الذي كان حاصلا فيهم ، وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ أي : وتحكم ذلك فى قلوبهم حتى ماتوا عليه.
أَوَلا يَرَوْنَ أي : المنافقون ، أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ أي : يبتلون ويختبرون بأصناف البليات ، كالأمراض والجوع ، أو بالجهاد مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ، فيعاينون ما يظهر عليه من الآيات ، أو يفضحون بكشف سرائرهم. يفعل ذلك بهم فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ، ثُمَّ لا يَتُوبُونَ : لا ينتهون من نفاقهم وكفرهم ، وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ يعتبرون.
وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ ، يريدون الهرب ، يقولون : هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ إذا قمتم ، فإن لم يرهم أحد قاموا وانصرفوا. قال البيضاوي : تغامزوا بالعيوب ، إنكارا لها وسخرية ، أو غيظا لما فيها من عيوبهم. ه. قال ابن عطية : المعنى : إذا ما أنزلت سورة فيها فضيحتهم ، نظر بعضهم إلى بعض على جهة التقرير ، يفهم من تلك النظرة : التقرير : هل معكم من ينقل عنكم؟ هل يراكم من أحد حين تدبرون أمركم؟ وقوله :
ثُمَّ انْصَرَفُوا أي : عن طريق الاهتداء ، وذلك أنهم حينما بيّن لهم كشف أسرارهم ، يقع لهم - لا محالة - تعجب وتوقف ونظر ، فلو اهتدوا لكان ذلك الوقت مظنة لهم ، فهم ، إذ يصممون على الكفر ، ويرتكبون فيه ، كأنهم انصرفوا عن تلك الحال ، التي كانت مظنة النظر الصحيح والاهتداء. ه.
والتحقيق : أن معنى انْصَرَفُوا : قاموا عن مجلس النبي صلّى اللّه عليه وسلّم مخالفة الفضيحة. صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ عن الإيمان دعاء عليهم ، أو إخبار ، فيستوجبون ذلك بِأَنَّهُمْ بسبب أنهم قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ لا يفهمون عن اللّه ولا عن رسوله - عليه الصلاة والسلام - ، أو لا يفقهون سوء فهمهم أو عدم تدبرهم.
الإشارة : زيادة الإيمان عند سماع القرآن يكون على حسب التصفية والتطهير من الأغيار ، فبقدر ما يصفو القلب من الأغيار يكشف له عن أسرار القرآن. قال بعضهم : كنت أقرأ القرآن فلا أجد له حلاوة ، فجاهدت نفسى(2/444)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 445
وطهرتها ، فصرت كأنى أسمعه من النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ، يتلوه على أصحابه ، ثم رفعت إلى مقام فوقه ، فكنت أتلوه كأنى أسمعه من جبريل يلقيه على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ، ثم منّ علىّ اللّه بمنزلة أخرى ، فأنا الآن أسمعه من المتكلم به ، فعندها وجدت له نعيما لا أصبر عليه. ه. بلفظه.
مثل هذا يزيده القرآن إيقانا ، ويستبشر قلبه عند سماعه ، وأما من كان مريض القلب بحب الدنيا ، مغمورا بالشكوى والأوهام والخواطر ، فلا يزيده القرآن إلا بعدا حيث لم يتدبر فيه ، ولم يعمل بمقتضاه ، وإذا حضر مثل هذا الغافل مجلس وعظ أو تذكير أو ذكر لم يطق الجلوس ، بل نظر : هل يراه من أحد؟ ثم انصرف ، صرف اللّه قلبه عن حضرة قدسه لعدم فهمه عن ربه. واللّه تعالى أعلم.
ثم ختم السورة بذكر محاسن نبيه - عليه الصلاة والسلام - لما ظهر عليه فى هذه السورة من الرحمة والرأفة بالمؤمنين ، ومن العفو والصفح عن المعتذرين ، فقال :
[سورة التوبة (9) : الآيات 128 الى 129]
لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (128) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (129)
قلت : «عزيز» : صفة «لرسول» ، و«ما عنتم» : فاعله ، و«ما» : مصدرية ، أي : عزيز عليه عنتكم ، أو عزيز : خبر مقدم ، و«ما عنتم» مبتدأ ، والعنت : المشقة والتعب.
يقول الحق جل جلاله ، مخاطبا العرب ، أو قريش ، أو جميع بنى آدم : لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ محمّد صلّى اللّه عليه وسلّم ، أي : من قبيلتكم ، بحيث تعرفون حسبه وصدقه وأمانته ، وتفهمون خطابه ، أو من جنسكم من البشر. وقرأ ابن نشيط : بفتح الفاء ، أي من أشرافكم. قال صلّى اللّه عليه وسلّم : «إنّ اللّه اصطفى كنانة من ولد إسماعيل ، واصطفى قريشا من كنانة ، واصطفى بنى هاشم من قريش ، واصطفاني من بنى هاشم ، فأنا مصطفى من مصطفين».
عَزِيزٌ عَلَيْهِ ، أي : شديد شاق عليه ما عَنِتُّمْ أي : عنتكم ومشقتكم ولقاؤكم المكروه فى دينكم ودنياكم. حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ أي : على إيمانكم وسعادتكم وصلاح شأنكم ، بِالْمُؤْمِنِينَ منكم ومن غيركم رَؤُفٌ رَحِيمٌ أي : شفيق بهم ، قدّم الأبلغ منهما لأن الرأفة شدة الرحمة للفاصلة. وسمى رسوله هنا باسمين من أسمائه تعالى.(2/445)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 446
فَإِنْ تَوَلَّوْا عن الإيمان بك ، بعد هذه الحالة المشهورة ، التي منّ اللّه عليهم بها ، فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ أي :
كافينى أمركم ، فإن قلت ذلك فإنه يكفيك شأنهم ويعينك عليهم ، أو فإن أعرضوا فاستعن بالله وتوكل عليه ، فإنه كافيك ، لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فلا يتوكل إلا عليه ، عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ فلا أرجو ولا أخاف إلا منه ، وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ، أي : الملك العظيم ، أو الجسم الأعظم المحيط ، الذي تنزل منه الأحكام والمقادير.
وعن أبى : آخر ما نزل هاتان الآيتان. وعن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم : «ما نزل القرآن علىّ إلّا آية آية ، وحرفا حرفا ، ما خلا سورة براءة ، و(قل هو اللّه أحد) فإنهما أنزلتا علىّ ومعهما سبعون ألف صف من الملائكة» «1» قاله البيضاوي.
وهاتان الآيتان أيضا مما وجدتا عند خزيمة بن ثابت ، بعد جمع المصحف ، فألحقتا فى المصحف ، بعد تذكر الصحابة لهما وإجماعهم عليهما. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : ينبغى لورثته - عليه الصلاة والسلام - الداعين إلى اللّه ، أن يتخلقوا بأخلاقه صلّى اللّه عليه وسلّم ، فيشق عليهم ما ينزل بالمؤمنين من المشاق والمكاره ، وييسرون ولا يعسرون عليهم ، ويحرصون على الخير للناس كافة ، ويبذلون جهدهم فى إيصاله إليهم ، ويرحمونهم ويشفقون عليهم ، فإن أدبروا عنهم استغنوا بالله وتوكلوا عليه ، وفوضوا أمرهم إليه ، من غير أسف ولا حزن.
وقال الورتجبي : قوله تعالى : عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ ، اشتد عليه مخالفتنا مع الحق ، ومتابعتنا هوانا واحتجابنا عن الحق. قال بعضهم : شق عليه ركوبكم مراكب الخلاف. قال سهل : شديد عليه غفلتكم عن اللّه ولو طرفة عين.
ثم قال فى قوله تعالى : (فإن تولوا فقل حسبى اللّه ...) الآية : سلى قلبه بإعراضهم عن متابعته ، مع كونه حريصا على هدايتهم ، أي : ففى اللّه كفاية عن كل غير وسوى.
قال القشيري : أمره أن يدعو الخلق إلى التوحيد ، ثم قال له : فإن أعرضوا عن الإجابة فكن بنا ، بنعت التجريد. ويقال : قال له : يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ ، ثم أمره أن يقول : حسبى اللّه. قوله تعالى : حَسْبُكَ :
عين الجمع ، وقوله : حَسْبِيَ اللَّهُ فرق ، بل هو الجمع ، أي : قل ، ولكن بنا تقول ، فنحن المتولون عنك وأنت مستهلك فى عين التوحيد فأنت بنا ، ومحو عن غيرنا. ه وبالله التوفيق. ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم
___________
(1) عزاه فى الفتح السماوي ، للثعلبى ، من حديث السيدة عائشة ، وقال الحافظ ابن حجر فى الكافي الشاف : (إسناده واه) ، وقال الولي العراقي : هو منكر جدا. وقال التفتازانيّ فى حاشيته على الكشاف : هذا يخالف ما ثبت فى أحاديث صحيحة وردت فى أسباب نزول كثير من الآيات ، فإنها نزلت منفردة. وذلك يدل على أن السورة لم تنزل جملة ، ولو لم لم تكن إلا آية : «وعلى الثلاثة الذين خلفوا ..» لكفى. ه. راجع الفتح السماوي (2/ 711)(2/446)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 447
سورة يونس
مكية. وهى مائة وتسع آيات. ومناسبتها لما قبلها : قوله تعالى : لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ»
مع قوله : أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ ، فقد تعجبوا منه مع كونهم يعرفون أمانته وصدقه.
[سورة يونس (10) : الآيات 1 الى 2]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (1) أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ (2)
قلت : (عجبا) خبر كان ، واسمها : (أن أوحينا) ، ومن قرأ بالرفع فالأمر بالعكس ، أو كان تامة ، واللام متعلقة بعجبا ، وهو مصدر للدلالة على أنهم جعلوه أعجوبة لهم ، يتوجهون نحوه بإنكارهم واستهزائهم.
قال في المغني : المصدر الذي ليس فى تقدير حرف الموصول وصلته لا يمنع التقديم عليه ، على أن السعد قال فى المطوّل : إن معمول المصدر إذا كان ظرفا أو شبهه ، الأظهر أنه جائز التقديم ، قال تعالى : فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ «2» ، وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ «3» ومثل هذا كثير فى الكلام ، وليس كل ما أول بشىء حكمه حكم ما أول به ، مع أن الظرف مما يكيفه رائحة الفعل لأن له شأنا ليس لغيره لتنزله من الشيء منزلة نفسه لوقوعه فيه وعدم انفكاكه عنه ، ولهذا اتسع فى الظروف ما لم يتسع فى غيرها. ه.
يقول الحق جل جلاله : أيها الرسول المجتبى المختار تِلْكَ الآيات التي تنزل عليك هى آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ ، الذي اشتمل على الحكم الباهرة والعبر الظاهرة ، أو المحكم الذي لم ينسخ منه شىء بكتاب آخر بعده ، أو كلام حكيم. أَكانَ لِلنَّاسِ أي : كفار قريش وغيرهم عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ ولم يكن من عظمائهم؟ والاستفهام للإنكار ، والرد على من استبعد النبوة ، أو تعجب من أن يبعث اللّه رجلا من وسط الناس.
___________
(1) الآية 128 من سورة التوبة.
(2) من الآية 102 من سورة الصافات. [.....]
(3) من الآية 2 من سورة النور.(2/447)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 448
قيل : كانوا يقولون : العجب أن اللّه تعالى لم يجد رسولا يرسله إلى الناس إلا يتيم أبى طالب. وهذا من فرط حماقتهم ، وقصور نظرهم على الأمور العاجلة ، وجهلهم بحقيقة الوحى والنبوة.
هذا .. وأنه - عليه الصلاة والسلام - لم يكن يقصر عن عظمائهم فيما يعتبرونه ، إلا فى المال ، وخفة الحال أعون شىء فى هذا الباب ، ولذلك كان أكثر الأنبياء قبله كذلك - أي : خفافا من المال - وقيل : تعجبوا من أنه بعث بشرا رسولا ، كما سبق فى سورة الأنعام. قاله البيضاوي.
ثم فسّر الوحى المذكور فقال : أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ أي : أوحينا إليه بأن أنذر الناس أي : خوفهم من غضب ربهم ، وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا ، عمم الإنذار ، إذ ليس من أحد إلا وفيه ما ينبغى أن ينذر منه ، وخصص البشارة إذ ليس للكفار ما يصح أن يبشروا به ، قاله البيضاوي.
أي : بشر المؤمنين بأنّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ أي : سابقة ومنزلة رفيعة ، سميت قدما لأن السبق يكون بها ، كما سميت النعمة يدا لأنها تعطى باليد ، وأضيفت إلى الصدق لتحققها وللتنبيه على أنهم إنما ينالونها بصدق القول والنية. قال ابن جزي : أي : عمل صالح قدموه ، وقال ابن عباس : السعادة السابقة لهم فى اللوح المحفوظ. ه وقال ابن عطية : والصدق فى هذه الآية بمعنى الصلاح ، كما تقول : رجل صدق ورجل سوء. ه.
قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هذا الكتاب ، أو ما جاء به الرسول ، لَسِحْرٌ «1» مُبِينٌ أي : بيّن ظاهر ، وقرأ ابن كثير والكوفيون : لَساحِرٌ ، على أن الإشارة إلى الرسول ، وفيه اعتراف بأنهم صادفوا من الرسول أمورا خارقة للعادة ، معجزة لهم عن المعارضة ، وكلامهم هذا يحتمل أن يكون تفسيرا لما ذكره قبل من تعجبهم ، أو يكون مستأنفا.
الإشارة : تعجب الناس من أهل الخصوصية سنة ماضية ، فكما خفى عن أعين الكفار سر النبوة ، خفى عن أعين الخفافيش سر الخصوصية ، فلا يطلع عليها إلا من سبق له قدم صدق عند ربه ، فسبحان من ستر سر الخصوصية بظهور وصف البشرية فلم يدل عليها إلا من أراد أن يوصله إلى مشاهدة عظمة الربوبية.
قال فى لطائف المنن : فأولياء اللّه أهل كهف الإيواء ، فقليل من يعرفهم ، وسمعت الشيخ أبا العباس رضى اللّه عنه يقول : معرفة الولي أصعب من معرفة اللّه ، فإنّ اللّه تعالى معروف بكماله وجماله ، ومتى تعرف مخلوقا مثلك يأكل كما تأكل ، ويشرب كما تشرب؟ ، وإذا أراد اللّه أن يعرفك بولي من أوليائه طوى عنك وجود بشريته ، وأشهدك وجود خصوصيته. ه.
___________
(1) قرأ ابن كثير وعاصم وحمزة والكسائي «لساحر» بالألف وكسر الحاء. وقرأ الباقون «لسحر» بغير ألف ، إشارة إلى الوحى - انظر الإتحاف (2/ 104).(2/448)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 449
ثم فسر عظمة ربوبيته ، فقال :
[سورة يونس (10) : الآيات 3 الى 4]
إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ما مِنْ شَفِيعٍ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (3) إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (4)
يقول الحق جل جلاله : إِنَّ رَبَّكُمُ الذي يستحق العبادة وحده هو اللَّهُ الذي أظهر الكائنات من العدم إلى الوجود ، وبه رد على من أنكر النبوة ، كأنه يقول : إنما أدعوكم إلى عبادة اللّه الذي خلق الأشياء ، فكيف تنكرون ذلك وهو الحق المبين؟ ثم فصّل ذلك فقال : الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ التي هى أصول الكائنات ، فِي مقدار سِتَّةِ أَيَّامٍ من أيام الدنيا ، ولم يكن حينئذ ليل ولا نهار ، والجمهور : أن ابتداء الخلق يوم الأحد. وفى حديث مسلم : يوم السبت ، وأنه خلق الأرض ، ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سموات ، ثم دحا الأرض بعد ذلك. ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ استواء يليق به ، كاستواء الملك على سريره ليدبر أمر مملكته ، ولذلك رتب عليه : يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ، وقد تقدم الكلام عليه فى الأعراف «1».
قال البيضاوي : يدبر أمر الكائنات على ما تقتضيه حكمته ، وسبقت به كلمته ، بتحريك أفلاكها ، وتهيىء أسبابها ، والتدبير : النظر فى عواقب الأمور لتجىء محمودة العاقبة. ه.
ما مِنْ شَفِيعٍ تقبل شفاعته إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ له فى الشفاعة ، وهو تقرير لعظمته وعزة جلاله ، ورد على من يزعم أن آلهتهم تشفع لهم عند اللّه ، وفيه إثبات الشفاعة لمن أذن له ، كالأنبياء والأولياء والعلماء الأتقياء. ذلِكُمُ اللَّهُ أي : الموصوف بتلك الصفات المقتضية للألوهية والربوبية هو اللَّهُ رَبُّكُمْ لا غير إذ لا يشاركه أحد فى شىء من ذلك ، فَاعْبُدُوهُ : أفردوه بالعبادة أَفَلا تَذَكَّرُونَ أي :
تتفكرون أدنى تفكر ، فتعرفون أنه المستحق للربوبية والعبادة ، لا ما تعبدونه من الأصنام.
إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ بالبعث جَمِيعاً فيجازيكم على أعمالكم ، ويعاقبكم على شرككم ، وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا :
مصدر مؤكد لنفسه لأن قوله : إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ وعد من اللّه. إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ بإظهاره فى الدنيا ثُمَّ يُعِيدُهُ بعد إهلاكه فى الآخرة. لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ، تعليل للعودة وهى البعثة ،
___________
(1) راجع تفسير الآية : 54 من سورة الأعراف.(2/449)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 450
وقوله : بِالْقِسْطِ أي : بالعدل بأن يعدل فى جزائهم ، فلا يظلم مثقال ذرة ، أو بعدلهم وقيامهم على العمل فى أمورهم ، أو بإيمانهم لأنه العدل القويم ، كما أن الشرك ظلم عظيم. وهو الأوجه لمقابلة قوله : وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بسبب كفرهم وشركهم - الذي هو الظلم العظيم - لكنه غيّر النظم للمبالغة فى استحقاقهم العذاب والتنبيه على أن المقصود بالذات من الإبداء والإعادة هو الإثابة ، وأما العقاب فإنما هو واقع بالعرض ، وأنه تعالى يتولى إثابة المؤمنين بما يليق بلطفه وكرمه ، ولذلك لم يعينه ، وأما عقاب الكفرة فإنه إنما ساقه إليهم سوء اعتقادهم وشؤم أفعالهم.
والآية كالدليل لقوله : إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً ، فإنه لمّا كان المقصود من الإبداء والإعادة مجازاة اللّه المكلفين على أعمالهم ، كان مرجع الجميع إليه لا محالة ، ويؤيده قراءة من قرأ : «أنه يبدأ» بالفتح ، أي : لأنه ، ويجوز أن يكون منصوبا بما نصب «وعد اللّه». قاله البيضاوي.
الإشارة : تقدم بعض إشارة هذه الآية فى الأعراف ، وقال الورتجبي هنا : جعل العرش مرآت تجلى قدسه ومأوى أرواح أحبابه لقوله : ثُمَّ اسْتَوى ... الآية ، ثم قال : ثم دعاهم إلى عبادته بعد معرفته بقوله : فَاعْبُدُوهُ. وقال القشيري : ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ تعريف ، وقوله : فَاعْبُدُوهُ تكليف ، فحصول التعريف بتحقيقه ، والوصول إلى ما ورد به التكليف بتوفيقه. ه. وقال فى قوله : إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً : الرجوع يقتضى ابتداء ، والأرواح قبل حصولها فى الأشباح كان لها فى مواطن التسبيح والتقديس إقامة ، والغائب إذا رجع إلى وطنه من سفره فلقدومه أثر عند محبّيه وذويه ، وأنشدوا :
أيا قادما من سفرة الهجر مرحبا أنا ذاك لا أنساك ما هبّت الصّبا. ه.
وفى الإحياء : كل من نسى اللّه أنساه - لا محالة - نفسه ، ونزل إلى رتبة البهائم ، وترك الترقي إلى أفق الملأ الأعلى ، وخان فى الأمانة التي أودعها له تعالى ، وأنعم بها عليه ، وكان كافرا لنعمته ، ومتعرضا لنقمته فإن البهيمة تتخلص بالموت ، وأما هذا فعنده أمانة سترجع - لا محالة - إلى مودعها ، فإليه مرجع الأمانة ومصيرها ، وتلك الأمانة كالشمس الزاهرة ، وإنما هبطت إلى هذا القالب الفاني وغربت فيه ، وستطلع هذه الشمس عند خراب هذا القالب من مغربها ، وتعود إلى بارئها وخالقها ، إما مظلمة منكسة ، وإما زاهرة مشرقة ، والزاهرة المشرقة غير محجوبة عن حضرة الربوبية ، والمظلمة أيضا راجعة إلى الحضرة إذ المرجع ومصير الكل إليه ، إلّا أنها ناكسة رؤوسها عن جهة أعلى عليين ، إلى جهة أسفل سافلين ، ولذلك قال تعالى : وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ «1» فبيّن أنهم عند ربهم منكسون منحوسون ، قد انقلبت وجوههم إلى أقفيتهم ، وانتكست رؤوسهم عن جهة فوق إلى جهة أسفل ، وذلك حكم اللّه تعالى فيمن حرمه توفيقه ، ولم يهده طريقه ، فنعوذ بالله من الضلال والنزول فى منازل الجهال. ه.
___________
(1) من الآية 12 من سورة السجدة.(2/450)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 451
قلت : ظاهر كلامه : أن الروح لا ترجع إلى وطنها وتتصل بحضرة ربها إلا بعد خراب هذا البدن ، والحق أنها ترجع لأصلها ، وتتصل بحضرة ربها مع قيام هذا البدن إذا كمل تطهيرها وتمت تصفيتها من بقايا الحس ، وانقطع عنها علائق هذا العالم الجسماني ، فتتصل حينئذ بالعالم الروحاني ، مع قيام العالم الجسماني ، كما هو مقرر عند أهل التحقيق ، واللّه تعالى أعلم.
ثم ذكر حكمة إيجاد النيرين ، فقال :
[سورة يونس (10) : الآيات 5 الى 8]
هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ ما خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (5) إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (6) إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَاطْمَأَنُّوا بِها وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ (7) أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (8)
قلت : «ضياء» : مفعول ثان ، أي : ذات ضياء ، وهو مصدر كقيام ، أو جمع ضوء كسياط ، والياء منقلبة عن الواو ، وفى رواية عن ابن كثير بهمزتين فى كل القرآن على القلب ، بتقديم اللام على العين ، والضمير فى «قدره» للشمس والقمر ، كقوله : وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ «1» ، أو للقمر فقط.
يقول الحق جل جلاله : هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً أي : ذات ضوء وإشراق أصلى ، وَالْقَمَرَ نُوراً أي : ذا نور عارض ، مقتبس من نور الشمس عند مقابلته إياها ، ولذلك يزيد نوره وينقص ، فقد نبه سبحانه بذلك على أنه خلق الشمس نيرة فى ذاتها ، والقمر نورا بعرض مقابلة الشمس والاكتساب منها ، فالنور أعم من الضياء ، والضياء أعظم من النور. وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ أي : قدر سير كل واحد منهما منازل ، أو القمر فقط ، وخصصه بالذكر لسرعة سيره ، ومعاينة منازله ، وإناطة أحكام الشرع به. ولذلك علله بقوله : لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ أي : حساب الأوقات من الأشهر والأيام والليالى فى معاملتكم وتصرفاتكم :
ما خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ الذي تقدم من أنواع المخلوقات إِلَّا بِالْحَقِّ أي : ملتبسا بالحق ، مراعيا فيه مقتضى الحكمة البالغة ، لا عبثا عاريا عن الحكمة ، أو ما خلق ذلك إلا ليعرف فيها ، فما نصبت الكائنات لتراها ، بل لترى
___________
(1) من الآية 62 من سورة التوبة.(2/451)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 452
فيها مولاها. وقال الشيخ أبو العباس المرسى رضى اللّه عنه : الحق الذي خلق اللّه به كل شىء كلمة «كن». قال سبحانه :
وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ «1». ه. وهو بعيد هنا.
يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ «2» فإنهم المنتفعون بالنظر فيها والاعتبار بها.
ثم بيّن وجه الاعتبار فقال : إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أي : تعاقبهما بالذهاب والمجيء ، أو بالزيادة والنقصان ، وَما خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ من أنواع الكائنات وضروب المخلوقات ، لَآياتٍ دالة على وجود الصانع ووحدته ، وكمال علمه وقدرته ، لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ اللّه ، ويخشون العواقب ، فإن ذلك يحملهم على التفكر والتدبر ، بخلاف المنهمكين فى الغفلة والمعاصي ، الذين أشار إليهم بقوله :
إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا أي : لا يتوقعونه ، أو : لا يخافون بأسه لإنكارهم البعث ، وذهولهم بالمحسوسات عما وراءها ، وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا : قنعوا بها بدلا من الآخرة لغفلتهم عنها ، وَاطْمَأَنُّوا بِها أي : سكنوا إليها مقصرين هممهم على لذائذها وزخارفها ، وسكنوا فيها سكون من يظن أنه لا ينزعج عنها.
وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا المتقدمة الدالة على كمال قدرتنا ، غافِلُونَ : لا يتفكرون فيها ولا يعتبرون لانهماكهم فى الغفلة والذنوب.
قال البيضاوي : والعطف إما لتغاير الوصفين ، والتنبيه على أن الوعيد على الجمع بين الذهول عن الآيات رأسا ، والانهماك فى الشهوات ، بحيث لا تخطر الآخرة ببالهم أصلا ، وإما لتغاير الفريقين ، والمراد بالأولين : من أنكر البعث ولم يرد إلّا الحياة الدنيا ، وبالآخرين من ألهاه حب العاجل عن التأمل فى الآجل والإعداد له. ه.
أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ أي : بما واظبوا عليه وتمرنوا به من المعاصي. قال ابن عطية :
وفى هذه اللفظة رد على الجبرية ، ونص على تعلق العقاب بالتكسب. ه.
الإشارة : هو الذي جعل شمس العيان مشرقة فى قلوب أهل العرفان ، لا غروب لها مدى الأزمان ، وجعل قمر توحيد الدليل والبرهان نورا يهتدى به إلى طريق الوصول إلى العيان ، وقدّر السير به منازل - وهى مقامات اليقين ومنازل السائرين - ينزلون فيها مقاما إلى صريح المعرفة ، وهى التوبة والخوف ، والرجاء والورع ، والزهد والصبر ، والشكر والرضى والتسليم والمحبة ، والمراقبة والمشاهدة. ما خلق اللّه ذلك إلا بالحق ، ليتوصل به إلى الحق. إن فى اختلاف ليل القبض ونهار البسط على قلب المريد لآيات دالة له على السير ، لقوم يتقون السّوى ، أو شواغل الحس.
___________
(1) من الآية 73 من سورة الأنعام.
(2) قرأ ابن كثير وأبو عمرو وحفص ويعقوب بياء الغيب (يفصل). والباقون بنون العظمة (نفصل) انظر الإتحاف (2/ 104).(2/452)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 453
إن الذين لا يرجون الوصول إلينا لقصر همتهم ، ورضوا بالحياة الدنيا وشهواتها ، واطمأنوا بها ولم يرحلوا عنها ، إذ لا يتحقق سير السائرين إلا بمجاهدة تركها والرحيل بالقلب عنها ، والذين هم عن آياتنا غافلون لانهماكهم فى الهوى والحظوظ ، أولئك مأواهم نار القطيعة وغم الحجاب ، بما كانوا يكسبون من الاشتغال بالحظوظ والشهوات.
وبالله التوفيق.
ثم ذكر أضدادهم ، فقال :
[سورة يونس (10) : الآيات 9 الى 10]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (9) دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (10)
قلت : (تجرى) : جملة استئنافية ، أو خبر ثان لإنّ ، أو حال من الضمير المنصوب فى يَهْدِيهِمْ. و(دعواهم) :
مبتدأ ، و(سبحانك) : مقول للخبر - أي : قولهم سبحانك. والتحية مأخوذة من تمنى الحياة والدعاء بها ، يقال : حياه تحية ، ويقال للوجه : محيا لوقوع التحية عند رؤيته ، و(آخر) : مبتدأ ، و(أن الحمد لله) : خبر ، وأن مخففة.
يقول الحق جل جلاله : إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ أي : يسددهم بِإِيمانِهِمْ بسبب إيمانهم إلى الاستقامة والنظر ، أو إلى سلوك سبيل يؤدى إلى الجنة ، أو إلى إدراك الحقائق العرفانية ، كما قال - عليه الصلاة والسلام - : «من عمل بما علم أورثه اللّه علم ما لم يعلم» ، أو لما يشتهونه فى الجنة ، تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ الأربعة ، فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ، دَعْواهُمْ فِيها أي : دعاؤهم فيها : سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ أي : اللهم إنا نسبحك تسبيحا. وروى : أن هذه الكلمة هى ثمر أهل الجنة ، فإذا اشتهى أحدهم شيئا قال : سبحانك اللهم ، فينزل بين يديه. رواه ابن جريج وسفيان بن عيينة.
وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ أي : ما يحيى به بعضهم بعضا ، أو تحية الملائكة إياهم ، أو تسليم اللّه تعالى عليهم فيها سلام ، وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ أي : وخاتمة دعائهم فى كل موطن حمده تعالى وشكره. والمعنى : أنهم إذا دخلوا الجنة وعاينوا عظمته وكبرياءه مجّدوه ونعتوه بنعوت الجلال ، وقدّسوه عند مشاهدته عن كل تماثيل وخيال ، فحيّاهم بسلام من عنده ، وعند ما منحهم سلامه وأحلّ عليهم رضوانه ، وأدام لهم كرامته وجواره ، وأراهم وجهه ، حمدوه بما حمد به نفسه ، فكانت بدايتهم بالتنزيه والتعظيم ، وخاتمة دعائهم فى كل موطن حمده وشكره على ما مكنهم فيه ، من رؤية وجهه الكريم ، ودوام النعيم المقيم ، وسمى دعاء لأنه يستدعى المزيد من فضله. قاله المحشى.(2/453)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 454
الإشارة : إن الذين استكملوا الإيمان ، وأخلصوا الأعمال ، يهديهم ربهم إلى من يوصلهم إلى جنة حضرته ، ببركة إيمانهم ، تجرى من تحت أفكارهم أنهار العلوم ، فى جنات مشاهدة طلعته ، والتنعم بأنوار معرفته ، فإذا عاينوا ذلك أدهشتهم الأنوار ، فبادروا إلى التنزيه والتقديس ، فيجيبهم الحق تعالى بإقباله عليهم بأنوار وجهه ، وأسرار ذاته ، فيحمدونه ويشكرونه على ما أولاهم من سوابغ نعمته ، والسكون فى جوار حضرته ، منحنا اللّه من ذلك الحظ الأوفر ، آمين.
ولمّا تعجب الكفار من بعث الرسول منهم ، وكفروا به ، استعجلوا ما خوفهم به من العذاب ، فأنزل اللّه جوابا لهم :
[سورة يونس (10) : آية 11]
وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (11)
قلت : (استعجالهم) : نصب على المصدر ، أي : استعجالا مثل استعجالهم بالخير. قال البيضاوي : وضع موضع تعجيله لهم بالخير إشعارا بسرعة إجابته لهم فى الخير ، حتى كأن استعجالهم به تعجيل لهم. ه. (فنذر) :
عطف على فعل محذوف دلت عليه الشرطية ، كأنه قيل : ولكن لا نعجل ولا نقضى بل نمهلهم فنذر .. إلخ.
يقول الحق جل جلاله : وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ حيث يطلبونه ، كقولهم : فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ «1» ، ائْتِنا بِما تَعِدُنا «2» اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ كما يعجل اللّه لهم الخير حين يسألونه لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ أي : لأميتوا وأهلكوا من ساعتهم ، وقرأ ابن عباس ويعقوب : «لقضى» بالبناء للفاعل ، أي : لقضى اللّه إليهم أجلهم ، ولكن من حلمه تعالى وكرمه يمهلهم إلى تمام أجلهم ، فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا استدراجا وإمهالا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ : يتحيرون. والعمه : الخبط فى الضلال ، وهذا التفسير أليق بمناسبة الكلام. وقيل : نزلت فى دعاء الإنسان على نفسه وماله وولده بالشر ، أي : لو عجل اللّه للناس الشر كما يحبون تعجيل الخير لهلكوا سريعا ، فهو كقوله وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ «3» ويكون قوله :
فَنَذَرُ .... إلخ استئنافا. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : من حلمه تعالى وسعة جوده أنه لا يعامل عبده بما يستحقه من العقاب ، ولا يعاجله بما يطلبه إن لم يكن فيه سداد وصواب ، حكى أن رجلا قال لبعض الأنبياء - عليهم السلام - : قل لربى : كم أعصيه وأخالفه ولم يعاقبنى ، فأوحى اللّه إلى ذلك النبي : ليعلم أنى أنا وأنت أنت. ه. بل من عظيم كرمه تعالى أنه قد يعامل
___________
(1) الآية 32 من سورة الأنفال.
(2) من الآية 77 من سورة الإسراء.
(3) من الآية 11 من سورة الإسراء.(2/454)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 455
السائرين بعكس ما يستحقونه فى جانب المخالفة فقد تهوى بهم أنفسهم إلى مقام الخفض فيرتفعون ، وإلى مقام البعد فيقتربون ، وهذا فى قوم سبقت لهم العناية ، فلم تضرهم الجناية ، وحفت بهم الرعاية ، فلم تستهوهم الغواية ، إذا صدرت منهم المخالفة ندموا وانكسروا. والغالب فيمن كان تحت جناح الأولياء الكبار أن يسلك به هذا المسلك العظيم وما ذلك على اللّه بعزيز.
وإذا كان الحق تعالى يعجل الخير ويمهل الشر ، كان الواجب على العبد شكره على الدوام ، لا الإعراض عنه ونسيانه ، كما نبه عليه تعالى بقوله :
[سورة يونس (10) : آية 12]
وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (12)
قلت : (لجنبه) : متعلق بحال محذوفة ، أي : مضطجعا لجنبه ، و(كأن) مخففة يقول الحق جل جلاله : وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ فى بدنه أو ماله أو أحبابه ، دَعانا لإزالته مخلصا فيه ، وتضرع إلينا حال كونه مضطجعا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً ، وفائدة الترديد تقسيم الدعاء لجميع الأحوال أو لأصناف المضار ، فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ أي : مضى على طريقه واستمر على كفره ، ولم يشكر اللّه على دفعه ، أو مرّ عن موقف الدعاء ، ولم يرجع إليه. كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا أي : كأنه لم يدعنا إِلى كشف ضُرٍّ مَسَّهُ قط نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ «1» كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ أي : مثل هذا التزيين زين للمسرفين ما كانُوا يَعْمَلُونَ من الانهماك فى الشهوات ، والإعراض عن شكر المنعم عند المسرات وذهاب العاهات.
وفى الآية تهديد لمن تشبه بهذه الحالة ، بل الواجب على العبد دوام التجائه إلى ربه ، والشكر له عند ظهور إجابته وإسدال عافيته.
الإشارة : من حسن الأدب السكون تحت مجارى الأقدار ، والتسليم لأحكام الواحد القهار ، «فليس الشأن أن ترزق الطلب ، إنما الشأن أن تزرق حسن الأدب» ، وحسن الأدب : هو الفهم عن اللّه فإذا شرح صدرك للدعاء ، فادع ولا تكثر ، فإن المدعو قريب ، ليس بغافل فينبه ، ولا ببعيد فتنادى عليه ، فإذا دعوته وأجابك فاشكره ، وإن أخّر عنك
___________
(1) الآية 8 من سورة الزمر.(2/455)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 456
الإجابة فاصبر فقد ضمن الإجابة فيما يريد ، لا فيما تريد ، وفى الوقت الذي يريد لا فى الوقت الذي تريد. والله تعالى أعلم.
ثم هدد من أساء الأدب ، فقال :
[سورة يونس (10) : الآيات 13 الى 14]
وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (13) ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (14)
يقول الحق جل جلاله : وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ يا أهل مكة ، لَمَّا ظَلَمُوا بالكفر وتكذيب الرسل ، وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ : بالمعجزات الواضحات ، الدالة على صدقهم ، وَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا أي : ما استقام لهم أن يؤمنوا ، لما سبق لهم من الشقاء ولفساد استعدادهم ، أو ما كانوا ليؤمنوا بعد أن هلكوا لفوات محله ، كَذلِكَ أي : مثل ذلك الجزاء - وهو إهلاكهم بسبب تكذيبهم الرسل وإصرارهم عليه ، بحيث تحقق أنه لا فائدة فى إمهالهم - نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ أي : نجزى كل مجرم ، أو نجزيهم ، ووضع المظهر موضع المضمر للدلالة على كمال جرمهم ، وأنهم أعلام فيه. قاله البيضاوي.
ثُمَّ جَعَلْناكُمْ يا أمة محمد خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ من بعد إهلاكهم ، فقد استخلفناكم فيها بعد القرون التي أهلكناها ، استخلاف من يختبر لِنَنْظُرَ أي : لنظهر ما سبق به العلم ، فيتبين فى الوجود ، كَيْفَ تَعْمَلُونَ ، أخيرا أم شرا؟ فنعاملكم على مقتضى أعمالكم.
وكان سيدنا عمر بن الخطاب رضى اللّه عنه يقول : «إنما جعلنا خلفا لينظر كيف عملنا ، فأروا اللّه حسن أعمالكم فى السر والعلانية ، وكان أيضا يقول : (قد استخلفت يا ابن الخطاب ، فانظر كيف تعمل).
الإشارة : ما هلك من هلك إلا لإخلاله بالشرائع أو بالحقائق ، فالشرائع ، صيانة للأشباح ، والحقائق صيانة للأرواح ، فمن قام بالشرائع كما ينبغى صان نفسه من الآفات الدنيوية والأخروية ، ومن قام بالحقائق على ما ينبغى ، صان روحه من الجهل بالله فى هذه الدار ، وفى تلك الدار ، ومن قام بهما معا صان جسمه وروحه ، وكان من المقربين ، ومن قام بالشرائع دون الحقائق صان جسمه وترك روحه معذبة فى هذه الدار بالخواطر والوساوس والأوهام ، وفى تلك الدار بالبعد والمقام مع العوام. ومن قام بالحقائق دون الشرائع فإن كان دعوى عذب جسمه وروحه لزندقته ، وإن كان حقا عذب جسمه هنا بالقتل ، كما فعل بالحلاج ، والتحق بالمقربين فى تلك الدار.(2/456)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 457
ويقال لأهل كل عصر : ولقد أهلكنا القرون من قبلكم بالبعد وغم الحجاب ، لما ظلموا بالوقوف مع الحظوظ والشهوات ، وجاءتهم رسلهم التي توصلهم إلى ربهم - وهم أولياء زمانهم - بالآيات الواضحة على صدقهم ، ولو لم يكن إلا هداية الخلق على يديهم - فأنكروهم ، وما كانوا ليؤمنوا بهم لما سبق لهم من البعد ، ثم جعلناكم خلائف فى الأرض من بعدهم ، لننظر كيف تعملون مع شيوخ التربية فى زمانكم ، هل تنكرونهم أو تقرونهم. واللّه تعالى أعلم.
ثم ذكر حال أهل الإنكار ، فقال :
[سورة يونس (10) : الآيات 15 الى 16]
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) قُلْ لَوْ شاءَ اللَّهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (16)
يقول الحق جل جلاله : وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ يعنى كفار قريش آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا من المشركين ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أي : بكتاب آخر ليس فيه ما نستبعده من البعث والحساب ، والعقاب بعد الموت ، أو ما ذكره من سب آلهتنا ، وعيب ديننا ، أو اجعل هذا الكلام الذي من قبلك على اختيارنا ، فأحل ما حرمته ، وحرم ما أحللته ليكون أمرنا واحدا وكلمتنا متصلة ، أَوْ بَدِّلْهُ بأن تجعل مكان الآية المشتملة على ذلك آية أخرى.
قُلْ لهم يا محمد : ما يَكُونُ : ما يصح لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي : من قبل نفسى ، وإنما اكتفى بالجواب المذكور عن التبديل لاستلزام امتناعه امتناع الإتيان بقرآن آخر ، قل لهم : أَنْ أي : ما أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ ، لا أقدر أن أقول شيئا من عندى. قال البيضاوي : هو تعليل لما يكون ، فإن المتبع لغيره فى أمر لم يستبد بالتصرف فيه بوجه ، وجواب للنقض بنسخ بعض الآيات لبعض ، ورد لما عرّضوا له بهذا السؤال من أن القرآن كلامه واختراعه ، ولذلك قيد التبديل فى الجواب وسماه عصيانا فقال : إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ يوم القيامة ، وفيه إيماء بأنهم استوجبوا العذاب بهذا الاقتراح. ه.
قُلْ لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أرسلنى إليكم ، ولا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ ، وَلا أَدْراكُمْ أي : أعلمكم بِهِ على لسانى. وفى قراءة ابن كثير : «ولأدراكم» ، بلام التأكيد ، أي : لو شاء اللّه ما تلوته عليكم ولأعلمكم به على لسان غيرى.(2/457)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 458
والمعنى أنه الحق لا شك فيه ، لو لم أرسل به أنا لأرسل به غيرى. وحاصل المعنى : أن الأمر بمشيئة اللّه لا بمشيئتى ، حتى أجعله على نحو ما تشتهون. ثم قرر ذلك بقوله : فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً منذ أربعين سنة مِنْ قَبْلِهِ أي : من قبل نزول هذا القرآن ، لا أتلوه ولا أعلم منه شيئا ، وفيه إشارة إلى أن القرآن معجز خارق للعادة ، فإن من عاش بين أظهرهم أربعين سنة لم يدرس فيها علما ، ولا يشاهد عالما ، ولم ينشد قريضا - أي شعرا - ولا خطبة ، ثم قرأ عليهم كتابا أعجزت فصاحته كل منطيق ، وفاق كل منظوم ومنثور ، واحتوى على قواعد علمى الأصول والفروع ، وأعرب عن أقاصيص الأولين وأحاديث الآخرين على ما هى عليه ، علم أنه معلم به من عند اللّه. قاله البيضاوي.
فكل من له عقل سليم أدرك حقّيته ، ولذلك قرعهم بقوله : أَفَلا تَعْقِلُونَ أي : أفلا تستعملون عقولكم بالتدبر والتفكر ، فتعلموا أنه ليس من طوق البشر ، بل هو من عند الحكيم العليم الواحد القهار.
الإشارة : إذا ظهر أهل التربية الداعون إلى اللّه بطريق صعبة على النفوس ، يسيرون الناس عليها ، كخرق العوائد وتخريب الظواهر والتجريد ، قال من لا يرجو الوصول إلى اللّه - لغلبة الهوى عليه : ائتونا بطريق غير هذا لنتبعكم عليه ، يكون سهلا على النفوس ، موافقا لعوائدنا ، أو بدلوا هذا بطريق أسهل ، وأما هذا الذي أتيتم به ، فلا نقدر عليه ، وربما رموه بالبدعة ، فيقولون لهم : ما يكون لنا أن نبدله من تلقاء أنفسنا ، إن نتبع إلا ما سلك عليه أشياخنا وأشياخهم ، فما ربّونا به نربّى به من تبعنا ، فإن خالفنا طريقهم خفنا من عقاب اللّه ، حيث غششنا من اتبعنا ، وقد مكثنا معكم قبل صحبة أشياخنا سنين ، فلم تروا علينا شيئا من ذلك حتى صحبناهم ، فدل ذلك على أنه موروث عن أشياخهم وأشياخ أشياخهم ، أفلا تعقلون؟.
ثم سجل بالظلم على من كذب أو كذّب ، فقال :
[سورة يونس (10) : الآيات 17 الى 18]
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (17) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (18)
يقول الحق جل جلاله : فَمَنْ أَظْلَمُ لا أحد أظلم مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً بأن تقوّل على اللّه ما لم يقل ، وهذا بيان لبراءته مما اتهموه به من اختراعه القرآن ، وإشارة إلى كذبهم على اللّه فى نسبة الشركاء له(2/458)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 459
والولد ، أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ فكفر بها ، فلا أظلم منه إِنَّهُ أي : الأمر والشأن لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ أي : لا يظفرون ببغيتهم ، ولا تنجح مساعيهم لاشراكهم بالله. كما قال تعالى : وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ من الجمادات التي لا تقدر على ضر ولا نفع ، والمعبود ينبغى أن يكون مثيبا ومعاقبا حتى تكون عبادته لجلب نفع أو دفع ضر. وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ الأوثان شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ تشفع لنا فيما يهمنا من أمور الدنيا ، أو فى الآخرة إن يكن بعث ، وكأنهم كانوا شاكين فيه ، وهذا من فرط جهالتهم ، حيث تركوا عبادة الموجد للأشياء ، الضار النافع ، إلى عبادة ما يعلم قطعا أنه لا يضر ولا ينفع. قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ أتخبرونه بِما لا يَعْلَمُ وجوده فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وهو أن له شريكا فيهما يستحق أن يعبد. وفيه تقريع وتهكم بهم.
قال ابن جزى : هو رد عليهم فى قولهم بشفاعة الأصنام ، والمعنى : أن شفاعة الأصنام ليست بمعلومة لله الذي هو عالم بما فى السموات والأرض ، وكل ما ليس بمعلوم له فهو عدم محض ، ليس بشىء ، فقوله : أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ تقرير لهم على وجه التوبيخ والتهكم ، أي : كيف تعلمون اللّه بما لا يعلم. ه. قال ابن عطية : وفى التوقيف على هذا أعظم غلبة لهم ، إذ لا يمكنهم إلا أن يقولوا : لا نفعل ولا نقدر أن نخبر اللّه بما لا يعلم.
ثم نزّه نفسه عن ذلك فقال : سُبْحانَهُ وَتَعالى أي : تنزيها له وتعاظم عَمَّا يُشْرِكُونَ أي : إشراكهم ، أو عن الشركاء الذين يشركونهم معه. وقرأ الأخوان : بالتاء ، أي : عما تشركون أيها الكفار.
الإشارة : فى هذه الآية زجر كبير لأهل الدعوى ، الذين ادعوا الخصوصية افتراء ، ولأهل الإنكار الذين كذبوا من ثبتت خصوصيته ، وتسجيل عليهم بالإجرام ، وبعدم النجاح والفلاح ، وفيها أيضا : زجر لمن اعتمد على مخلوق فى جلب نفع أو دفع ضر ، أو اغتر بصحبة ولى يظن أنه يشفع له مع إصراره وعظيم أوزاره. واللّه تعالى أعلم.
ثم إن اختلاف الناس على الأنبياء وتكذيبهم وإشراكهم إنما هو أمر عارض ، حصل لهم باندراس العلم وقلة الإنذار ، كما قال تعالى :
[سورة يونس (10) : آية 19]
وَما كانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (19)
يقول الحق جل جلاله : وَما كانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً واحِدَةً موحّدين ، على الفطرة الأصلية ، أو متفقين على الحق ، وذلك فى عهد آدم ، إلى أن قتل قابيل أخاه هابيل ، أو بعد الطوفان إلى زمان اختلافهم ، أو الأرواح(2/459)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 460
حيث استخرجهم واستشهدهم ، فاتفقوا على الإقرار ، ثم اختلفوا فى عالم الأشباح باتباع الهوى والأباطيل ، أو ببعثة الرسل فتبعتهم طائفة وكفرت أخرى. وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ فى اللوح المحفوظ ، بتأخير الحكم ، أو العذاب الفاصل بينهم إلى يوم القيامة ، فإنه يوم الفصل والجزاء ، لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ عاجلا فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ بإهلاك المبطل وإبقاء المحق.
الإشارة : اختلاف الناس على الأولياء كاختلافهم على الأنبياء ، أمر سبق به الحكم الأزلى لا محيد عنه ، فمن طلب اتفاقهم عليه فهو جاهل بالله وبطريق أهل اللّه. واللّه تعالى أعلم.
ثم ذكر اقتراحهم الآيات ، فقال :
[سورة يونس (10) : آية 20]
وَيَقُولُونَ لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (20)
يقول الحق جل جلاله : وَيَقُولُونَ يقول الكفار : لَوْ لا هلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ ظاهرة مِنْ رَبِّهِ تدل على صدقه ، يعاينها الناس كلهم ، فتلجئهم إلى الإيمان به ، وهذا الأمر على هذا الوجه لم يكن لنبى قط ، إنما كانت الآية تظهر معرّضة للنظر ، فيهتدى بها قوم ، ويكفر بها آخرون ، فَقُلْ لهم : إِنَّمَا علم الْغَيْبُ لِلَّهِ مختص به ، فلم أطّلع عليه حتى أعلم وقت نزولها ، ولعله علم ما فى نزولها من الضرر لكم فصرفها عنكم ، فَانْتَظِرُوا نزول ما اقترحتموه ، إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ لذلك ، وهذا وعد قد صدقه اللّه بنصرته - عليه الصلاة السلام - وأخذهم ببدر وغيره ، أو من المنتظرين لما يفعل اللّه بكم لعنادكم وجحودكم الآيات.
الإشارة : ما زالت العامة تطلب من مشايخ التربية الكرامات ، فجوابهم ما قال تعالى لنبيه صلّى اللّه عليه وسلّم : (قل إنما الغيب لله) فانتظروا ما يظهر على أيديهم من الهداية والإرشاد ، وإحياء البلاد والعباد بذكر اللّه ، وهذا أعظم الكرامة ، فإن إخراج الناس عن عوائدهم وعن دنياهم خارق للعادة ، سيما فى هذا الزمان الذي احتوت فيه الدنيا على القلوب ، فلا ترى عالما ولا صالحا ولا منتسبا إلا وهو مغروق فى بحر ظلماتها ، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
ثم ذكر جزئيات من الآيات لمن فهم واعتبر ، فقال :
[سورة يونس (10) : الآيات 21 الى 23]
وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنا يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ (21) هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22) فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (23)(2/460)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 461
قلت : (جاءتها) : جواب «إذا» ، وجملة (دعوا) : بدل من «ظنوا» بدل اشتمال لأن دعاءهم من لوازم الظن.
يقول الحق جل جلاله : وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً ، كصحة وعافية وخصب مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ ، كمرض أو قحط إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا بالطعن فيها ، والاحتيال فى دفعها ، فقد قحط أهل مكة حتى أكلوا الجلود والميتة ، ثم رحمهم بالغيث ، فطعنوا فى آياته بالتكذيب ، وكادوا رسوله - عليه الصلاة والسلام - قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْراً منكم ، فقد دبر عقابكم قبل أن تدبروا كيدكم ، ووصف مكر اللّه بالسرعة وإن كان الاستدراج يمهلهم لأنه متيقن واقع لا محالة ، وكل آت قريب.
إِنَّ رُسُلَنا الحفظة يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ فنجازيكم عليه. قال البيضاوي : هو تحقيق للانتقام ، وتنبيه على أن ما يدبرون فى إخفائه لم يخف على الحفظة فضلا أن يخفى على اللّه. وعن يعقوب : «يمكرون» بالياء ليوافق ما قبله. ه. قال ابن جزى : هذه الآية للكفار ، وتتضمن النهى لمن كان كذلك من غيرهم ، والمكر هنا :
الطعن فى آيات اللّه وترك شكره ، ومكر اللّه الموصوف بالسرعة هو عقابه لهم ، سماه مكرا مشاكلة لفعلهم ، وتسمية للعقوبة باسم الذنب. ه.
فنزول الرحمة بعد الشدة آية تدل على كمال قدرته. وقد ورد أنه لما نزل بهم القحط التجئوا إليه صلّى اللّه عليه وسلّم وقالوا :
يا محمد إنك جئت تأمر بمكارم الأخلاق ، وإن قومك قد هلكوا ، فادع اللّه يغيثنا ، فدعا ، فنزل عليهم الغيث ، فكانت معجزة له - عليه الصلاة والسلام - .
ثم ذكر آية أخرى فقال : هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ بقدرته فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ، حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ :
السفن ، وَجَرَيْنَ بِهِمْ بمن فيها ، عدل عن الخطاب إلى الغيبة للمبالغة ، كأنه تذكرة لغيرهم ليتعجب من حالهم ، ففيه التفات. ومقتضى القياس : وجرين بكم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ : لينة الهبوب ، وَفَرِحُوا بِها لسهولة السير بها ، جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ أي : شديد الهبوب ، وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ من كل جهة لهيجان البحر حينئذ ، وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ أي : أهلكوا ، أو سدت عليهم مسالك الخلاص ، كمن أحاط به العدو.(2/461)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 462
قال ابن عطية : ركوب البحر وقت حسن الظن به للجهاد والحج متفق على جوازه ، وكذا لضرورة المعاش بالصيد ويتصرف للتجر ، وأما ركوبه لطلب الدنيا والاستكثار فمكروه عند الأكثر. قلت : ما لم يكن لبلد تجرى فيه أحكام الكفار على المسلمين وإلّا حرم. ثم قال : وأما ركوبه وقت ارتجاجه فممنوع ، وفى الحديث : «من ركب البحر فى ارتجاجه فقد برئت منه الذمة» وقال النبي صلّى اللّه عليه وسلّم : «البحر لا أركبه أبدا».
وعن على - كرم اللّه وجهه - أنه قال : لو لا هذه الآية ، لضربت عنق من يركب البحر. فقال ابن عباس : إنى لأعلم كلمات من قالهن عند ركوب البحر وأصابه عطب فعلىّ ديته ، قيل : وما هى؟ قال : اللهم يا من له السموات خاشعة ، والأرضون السبع خاضعة ، والجبال الراسية طائعة ، أنت خير حفظا وأنت أرحم الراحمين ، وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ «1» صلى اللّه على محمد النبي المصطفى ، وعلى أهل بيته ، وأزواجه وذريته ، وعلى جميع النبيين والمرسلين ، والملائكة المقربين ، وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ «2». قال بعض الفضلاء :
جربته فصح. ه.
ثم قال تعالى فى وصف الكفار عند إحاطة البحر بهم : دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ من غير إشراك لتراجع الفطرة وزوال المعارض من شدة الخوف ، قائلين : لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ الشدة لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ ، فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إجابة لدعائهم إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بالكفر والمعاصي ، بِغَيْرِ الْحَقِّ أي : سارعوا إلى ما كانوا عليه من البغي والفساد فى الأرض بغير الحق ، واحترز بقوله : بِغَيْرِ الْحَقِّ عن تخريب المسلمين ديار الكفرة ، وإحراق زروعهم ، وقلع أشجارهم ، فإنها إفساد بحق. قاله البيضاوي. قلت : وفى كونه بغيا نظر ، والأظهر أن قوله : بِغَيْرِ الْحَقِّ تأكيد لا مفهوم له.
يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ فإن وباله عائد عليكم ، أو على أبناء جنسكم ، وذلك مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا تتمتعون به ساعة ، ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ فى القيامة ، فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ بالجزاء عليه.
الإشارة : وإذا أذقنا الناس حلاوة المعرفة والعلم ، بعد ضرر الجهل والغفلة ، إذا لهم مكر فى آياتنا وهم الأولياء والمشايخ ، الذين فتح اللّه بسببهم عليهم - بالطعن عليهم والانتقال عنهم ، كما يفعله بعض المريدين ، أو جلّ طلبة
___________
(1) الآية 67 من سورة الزمر.
(2) الآية 41 من سورة هود.(2/462)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 463
العلم ، بنسيان مشايخهم ونسيان العهد إليهم ، قل اللّه أسرع مكرا بهم ، فيريهم أن الأمداد باقية ، تجرى عليهم استدراجا ، ثم يحبس ذلك عنهم فتيبس أشجار معانيهم ، وتظلم قلوبهم.
ثم قال تعالى : هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ إليه فى بر الشريعة ، وبحر الحقيقة ، فيقع السير بينهما ، فإذا كانت الشريعة أقوى نقص له منها وزاد فى حقيقته ، وإذا قويت حقيقته نقص له منها إلى شريعته ، هكذا حتى تعتدلا ، فتكمل تربيته ، فإذا ركبوا سفن الأفكار وساروا بأرواحهم فى تيار البحار ، فخاضوا بأفكارهم بحار التوحيد وأسرار التفريد ، وجرت أفكارهم فى عالم الملكوت بريح طيبة - وهى ريح السلوك - جاءتها ريح عاصف ، وهى الواردات الإلهية ، تأتى من حضرة القهار ، لا تصادم شيئا إلا دمغته ، فإذا خافوا على نفوسهم صدمات الجذب أو المحو دعوا اللّه مخلصين له الدين ، فلما ردهم إلى السلوك اشتغلوا برياضة نفوسهم بالمجاهدة والمكابدة ، فبغوا عليها كما بغت عليهم فى أيام غفلتهم. وبالله التوفيق.
ثم حذّر من زهرة الدنيا ، فقال :
[سورة يونس (10) : الآيات 24 الى 25]
إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها أَمْرُنا لَيْلاً أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24) وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (25)
يقول الحق جل جلاله : إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا فى سرعة تقضيها ، وذهاب نعيمها بعد إقبالها ، واغترار الناس بها كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ أي : اشتبك بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ حتى اختلط بعضه ببعض ، مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ من الزرع والبقول والحشيش ، حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها أي :
زينتها وبهجتها بكمال نباتها ، وَازَّيَّنَتْ أي : تزينت بأصناف النبات وأشكالها وألوانها المختلفة كعروس أخذت من ألوان الثياب والحلي فتزينت بها.
وَظَنَّ أَهْلُها أي : أهل الأرض أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها متمكنون من حصدها ورفع غلتها ، أَتاها أَمْرُنا أي : بعض الجوائح ، كالريح والمطر ، لَيْلًا أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها أي : زرعها حَصِيداً : شبيها بما(2/463)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 464
حصد من أصله ، كَأَنْ لَمْ تَغْنَ : كأن لم تقم بِالْأَمْسِ ، أو كأن لم يغن زرعها ، أي : لم ينبت. والمراد :
تشبيه الدنيا فى سرعة انقضائها بنبات أخضرّ ثم صار هشيما ، كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ويتدبرون عواقب الأمور ، فيعلمون أن الدنيا سريعة الزوال ، وشيكة التغير والانتقال ، فيزهدون فيها ويجعلونها مزرعة لدار السلام ، التي هى دار البقاء.
وهى التي دعا إليها عباده بقوله : وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ أي : السلامة من الفناء وجميع الآفات ، أو دار اللّه الذي هو السلام. وتخصيص هذا الاسم للتنبيه على ذلك ، أو دار يسلم اللّه والملائكة فيها على من يدخلها ، وهى الجنة ، وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ توفيقه إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ، التي توصل إليها وإلى رضوانه فيها ، وهو الإسلام والتدرع بلباس التقوى ، وفى تعميم الدعوة وتخصيص الهداية بالمشيئة دليل على أن الأمر غير الإرادة ، وأن المصرّ على الضلالة لم يرد اللّه رشده. قاله البيضاوي.
الإشارة : ما ذكره الحق تعالى فى هذه الآية هو مثال لمن صرف همته إلى الدنيا ، وأتعب نفسه فى جمعها ، فبنى وشيد وزخرف وغرس ، فلما أشرف على التمتع بذلك اختطفته المنية ، فلا ما كان أمّل أدرك ، ولا إلى ما فاته من العمل الصالح رجع.
وفى بعض خطبه - عليه الصلاة والسلام - أنه قال : «أما رأيتم المؤاخذين على الغرة ، المزعجين بعد الطمأنينة ، الذين أقاموا على الشبهات ، وجنحوا إلى الشهوات ، حتى أتتهم رسل ربهم ، فلا ما كانوا أمّلوا أدركوا ، ولا ما فاتهم رجعوا ، قدموا على ما قدّموا ، وندموا على ما خلفوا ، ولم ينفع الندم وقد جف القلم». وقال أيضا صلّى اللّه عليه وسلّم :
«لا تخدعنكم زخارف دنيا دنية عن مراتب جنات عالية ، فكأن قد كشف القناع ، وارتفع الارتياب ولا فى كل امرئ مستقره ، وعرف مثواه ومنقلبه».
وروى عن جابر رضى اللّه عنه أنه قال : شهدت مجلسا من مجالس رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ، إذ أتاه رجل أبيض ، حسن الشعر واللون ، فقال : السلام عليك يا رسول اللّه ، قال : وعليك السلام. قال : يا رسول اللّه ، ما الدنيا؟ فقال : حلم النائم ، وأهلها مجازون ومعاقبون. قال : يا رسول اللّه ، فما الآخرة؟. قال : الأبد ، فريق فى الجنة ، وفريق فى السعير ، قال : يا رسول اللّه ، فما الجنة؟ قال : ترك الدنيا بنعيمها أبدا ، ثم قال : فما خير هذه الأمة؟ قال : الذي يعجل بطاعة اللّه ، قال :
فكيف يكون الرجل فيها؟ - أي فى الدنيا - قال : متشمرا كطالب قافلة ، قال : وكم القرار بها؟ قال : كقدر المتخلف عن القافلة ، قال : فكم ما بين الدنيا والآخرة؟ قال كغمضة عين. ثم ذهب الرجل فلم ير ، فقال صلّى اللّه عليه وسلّم : «هذا جبريل ، أتاكم يزهدكم فى الدنيا».(2/464)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 465
وقال الورتجبي عند قوله : وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ : الله تعالى يدعو العباد من هذه الدار الفانية إلى الدار الباقية ، لئلا يفتنوا بزخرفها وغرورها ، وليصلوا إلى جواره ونعيم مشاهدته. ه.
قال المحشى : قلت : وذلك أن أعلى اللذات التحقق بصفات الربوبية ، وهى محبوبة للقلب والروح بالطبع ، لما فيه من المناسبة لها. ولذلك قال : قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي «1» ، ثم المناسب إنما هو بقاء لا فناء فيه ، وعز لا ذل فيه ، وغنى لا فقر فيه ، وكمال لا نقص فيه ، وأمن لا خوف فيه ، وهذا كله من أوصاف الربوبية ، وحق كل عبد أن يطلب ملكا عظيما لا آخر له ، ولا يكون ذلك فى الدنيا لانصرافها وشوبها بآلام مكدّرات ، وإنما ذلك فى الآخرة ، ولكن الشيطان بتلبيسه وحسده يدعو إلى ما لا يدوم من العاجلة ، متوسلا بما فى الطبع من العجلة ، واللّه يدعو إلى الملك الحقيقي ، وذلك بالزهد فى العاجل والراحة منه عاجلا ، ليكون ملكا فى الدنيا ، وبالقرب من اللّه والرغبة فى التحقق به وبأوصافه ليكون ملكا فى الآخرة.
وفى الطيبي : قيل لابن أدهم : مالنا ندعو فلا نجاب؟ فقال : لأنه دعاكم فلم تجيبوه ، ثم قرأ : وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ ، وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا «2». ه.
ثم فسر ما دعا إليه ، فقال :
[سورة يونس (10) : آية 26]
لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (26)
يقول الحق جل جلاله : لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فيما بينهم وبين ربهم بتوحيده وعبادته ، وفيما بينهم وبين عباده بكف أذاهم وحمل جفاهم ، لهم الْحُسْنى أي : المثوبة الحسنى ، وهى الجنة وزيادة ، وهى النظر إلى وجهه الكريم ، أو الحسنى : ما يثيب به على العمل ، والزيادة : ما يزيد على ما يستحق العبد تفضلا كقوله :
وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ «3» ، أو الحسنى : مثل حسناتهم ، والزيادة : التضعيف بعشر أمثالها إلى سبعمائة أو أكثر ، وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ : لا يغشاها قَتَرٌ : غبرة فيها سواد تغبر الوجه وَلا ذِلَّةٌ أي : هوان ، والمعنى لا يرهقهم ما يرهق أهل النار ، أو لا يرهقهم ما يوجب ذلك من خزى وسوء حال ، أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ : دائمون ، لا زوال لهم عنها ، ولا انقراض لنعيمها ، بخلاف الدنيا وزخارفها فقد تقدم مثالها.
___________
(1) من الآية 85 من سورة الإسراء. [.....]
(2) من الآية 26 من سورة الشورى.
(3) من الآية 173 من سورة النساء.(2/465)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 466
الإشارة : للذين أحسنوا بالانقطاع إلى اللّه والزهد فيما سواه ، الحسنى ، وهى المعرفة ، وزيادة ، وهى الترقي فى المقامات ، والعروج فى سماء المشاهدات ، والازدياد من الأسرار والمكاشفات ، وترداف المناجاة والمكالمات ، ولا يغشى وجوههم قتر ولا ذلة ، بل وجوههم بنور البقاء ضاحكة مستبشرة ، وهم خالدون فى نعيم الفكرة والنظرة.
ثم ذكر أضدادهم ، فقال :
[سورة يونس (10) : آية 27]
وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (27)
قلت : (و الذين) : مبتدأ على حذف مضاف ، أي : جزاء الذين كسبوا ، و(جزاء) : خبر. أو على تقدير «لهم» ، أو معطوف على (للذين أحسنوا) على مذهب من يجوز : فى الدار زيد والحجرة عمرو. أو (جزاء) : مبتدأ ، و(بمثلها) :
خبر ، والجملة حينئذ كبرى. ومن قرأ (قطعا) بفتح الطاء فجمع قطيع ، وهو مفعول ثان ، و(مظلما) : حال من الليل ، ومن قرأ (قطعا) بالسكون فمصدر ، و(مظلما) نعت له ، أو حال منه أو من الليل.
يقول الحق جل جلاله : وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ كالكفر والشرك ، وما يتبعهما من المعاصي ، جزاؤهم سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها لا يزاد عليها ، فلا تضاعف سيئاتهم ، عدلا منه سبحانه ، وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ أي : هوان عند حشرهم للنار ، ما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ يعصمهم من عذاب اللّه وغضبه ، كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً أي : يحشرون مسودة وجوههم ، كأنما أكسيت وجوههم قطعا كثيرة من الليل المظلم ، أو قطعا مظلما من الليل ، أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ.
قال البيضاوي : هذا مما يحتج به الوعيدية - يعنى المعتزلة - فى تخليد العصاة. والجواب : أن الآية فى الكفار لاشتمال السيئات على الكفر والشرك ، ولأن الذين أحسنوا يتناول الكثير من أهل القبلة ، فلا يتناوله قسيمه. ه.
الإشارة : جزاء المعاصي البعد والهوان ، وتسويد وجوه القلوب والأبدان ، كما أن جزاء الطاعة التقريب والإبرار ، وتنوير وجوه القلوب والأسرار والإحسان ، وفى ذلك يقول ابن النحوي فى منفرجته :
ومعاصي اللّه سماجتها تزدان لذي الخلق السّمج «1»
ولطاعته وصباحتها أنوار صباح منبلج
___________
(1) سماجتها : من سمج - بالضم - أي : قبح - وتزدان ، أي : تتزين وتحسن ، والسمج : القبيح.(2/466)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 467
قيل لبعض الصالحين : ما بال المجتهدين من أحسن الناس خلقا؟ قال : لأنهم خلوا بالرحمن فألبسهم نورا من نوره. ه نعم ، إن صحب المعصية توبة وانكسار ، وصحب الطاعة عز واستكبار ، انقلبت حقيقتهما ، فقد تقرب المعصية وتبعد الطاعة. وفى الحكم : «معصية أورثت ذلا وافتقارا خير من طاعة أورثت عزا واستكبار ، وقال أيضا :
«وربما قضى عليك بالذنب فكان سبب الوصول».
ثم ذكر موطن وعد المحسنين ووعيد المسيئين ، فقال :
[سورة يونس (10) : الآيات 28 الى 30]
وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ (28) فَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ (29) هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (30)
قلت : (مكانكم) : مفعول ، أي : الزموا مكانكم ، و(أنتم) تأكيد للضمير المنتقل إليه ، و(شركاؤكم) عطف عليه.
يقول الحق جل جلاله : وَاذكر يَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يعنى فريق الحسنى ، وفريق النار ، ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا : الزموا مَكانَكُمْ من الخزي والهوان ، حتى تنظروا ما يفعل بكم ، أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ معكم ، تمثل حينئذ معهم ، فَزَيَّلْنا : فرّقنا بَيْنَهُمْ وقطعنا الوصل التي كانت بينهم ، وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ ، ينطقها اللّه تعالى تكذيبا لهم فتقول : ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ ، وإنما عبدتم فى الحقيقة أهواءكم لأنها الأمارة لكم بالإشراك. وقيل المراد بالشركاء : الملائكة والمسيح.
فَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ ، فإنه العالم بحقيقة الحال ، إِنْ كُنَّا أي : إنه الأمر والشأن كنا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ ، لم نأمركم بها ولم نرضها. قال ابن عطية : وظاهر هذه الآية أن محاورتهم إنما هى مع الأصنام دون الملائكة وعيسى ، بدليل القول لهم : مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ. ودون فرعون ، ومن عبد من الجن ، بدليل قوله : إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ ، وهؤلاء لم يغفلوا قط عن عبادة من عبدهم. ه.
هُنالِكَ تَبْلُوا : فى ذلك المقام تبلوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ أي : تختبر ما قدمت من الأعمال خيرا أو شرا فتعاين نفعه وضرره ، وقرأ الأخوان : «تتلوا» من التلاوة ، أي : تقرأه فى صحائف أعمالها ، أو من التلو ، أي :
تتبع عملها فتقودها إلى الجنة أو إلى النار. والمعنى : تفعل بها فعل المختبر لحالها المعرّف لسعادتها وشقاوتها ، (2/467)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 468
فتعرف ما أسلفت من أعمالها ، وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ : إلى جزائه إياهم بما أسلفوا ، مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أي متولّى أمورهم على الحقيقة ، لا ما اتخذوه مولى بافترائهم ، وَضَلَّ أي : ضاع وغاب عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ من أن آلهتهم تشفع لهم ، أو ما كانوا يدّعون أنها آلهة.
الإشارة : من أحب شيئا كان عبدا له ، ومن عبد شيئا حشر معه. روى : أن الدنيا تبعث على صورة عجوز شمطاء زرقاء ، تنادى : أين أولادى وأحبابى؟ ثم تذهب إلى جهنم فيذهبون معها. فمن عبد دنياه وهواه وقف موقف الهوان ، ومن أحب مولاه ولم يحب معه شيئا سواه ، وقف موقف العز والتقريب فى مواطن الإحسان. فهناك تفضح السرائر ، وتكشف الضمائر ، وتظهر مقامات الرجال ، ويفتضح من أسر النقص وادعى الكمال فيرتفع المقربون إلى شهود مولاهم الحق ، ويبقى المدعون مع حظوظهم فى حجاب الحس والخلق. واللّه تعالى أعلم.
ثم عرفهم من يستحق العبادة ، فقال :
[سورة يونس (10) : الآيات 31 الى 33]
قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (31) فَذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (32) كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (33)
يقول الحق جل جلاله : قُلْ لهم : مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ بإنزال الأمطار ، وإنبات الحبوب ، فإن الأرزاق تحصل بأسباب سماوية ومواد أرضية ، أو من كل واحد منهما توسعة عليكم ، أو من السماء لأهل التوكل ، وَمن الْأَرْضِ لأهل الأسباب. وقل لهم أيضا : أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ أي : من يستطيع خلقهما وتسويتهما ، أو من يحفظهما من الآفات مع كثرتهما ، وسرعة انفعالهما من ادنى شىء ، أو من أمرهما بيده ، إن شاء ذهب بهما؟ وقل لهم أيضا : وَمَنْ يقدر أن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ ، فيخرج الحيوان من النطفة ، والنطفة من الحيوان؟ وهكذا.
وقل لهم أيضا : وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ أي : ومن يلى تدبير العالم ، من عرشه إلى فرشه؟ وهو تعميم بعد تخصيص ، فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ ، لا محيص لهم عن الإقرار بسواه إذ لا يقدرون على المكابرة والعناد فى ذلك لفرط وضوحه. فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ عقاب اللّه وغضبه؟ بسبب إشراككم معه ما لا يشاركه فى شىء من ذلك ، فَذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ أي : المتولى لهذه الأمور هو ربكم ، الذي يستحق أن تعبدوه ، الثابت ربوبيته ، لأنه هو(2/468)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 469
الذي أنشأكم وأحياكم ورزقكم ودبر أموركم ، دون من تعبدونه من الأوثان. فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ أي :
ليس بعد الحق إلا الضلال ، فمن تخطى الحق - الذي هو عبادة اللّه - وقع فى الضلال.
قال ابن عطية : حكمت هذه الآية بأنه ليس بين الحق والضلال منزلة ثالثة فى هذه المسألة - التي هى توحيد اللّه تعالى - وكذلك هو الأمر فى نظائرها ، وهى مسائل الأصول التي الحقّ فيها فى طرف واحد ، لأن الكلام فيها إنما هو فى تقرير وجود ذات كيف هى ، وذلك بخلاف مسائل الفروع التي قال تعالى فيها : لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً «1». ه.
فَأَنَّى تُصْرَفُونَ عن الحق إلى الضلال.
كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ أي : كما حق الحق فى الاعتقادات كَذلِكَ حَقَّتْ أي : وجبت وثبتت - كَلِمَةُ رَبِّكَ فى اللوح المحفوظ أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ، وذلك فى قوم مخصوصين. قال البيضاوي : أي : كما حقت الربوبية لله ، أو أن الحق بعده الضلال ، أو أنهم مصروفون عن الحق ، كذلك حقت كلمة اللّه وحكمه عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا : تمردوا فى كفرهم ، وخرجوا عن حد الإصلاح أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ، وهو بدل من الكلمة ، أو تعليل لها ، والمراد بها العدة بالعذاب. وقرأ نافع وابن عامر :
«كلمات» بالجمع هنا ، وفى آخر السورة ، وفى غافر «2». ه.
الإشارة : قل من يرزقكم من سماء الأرواح علوم الأسرار والحقائق ، ومن أرض النفوس علوم الشرائع والطرائق؟ أمّن يملك السمع والأبصار فيصرفهما إلى سماع الوعظ والتذكار ، ونظر التفكر والاعتبار ليلتحق صاحبهما بالمقربين الأبرار؟ وقدّم السمع لأنه أنفع لإيصال النفع إلى القلب من البصر. أم من يخرج الحي من الميت ، فيخرج العارف من الجاهل ، والذاكر من الغافل ، أو يخرج القلب الحي من الميت بحيث يحييه بالمعرفة بعد الجهل؟ ومن يدبر الأمر لخواص عباده؟ أي : تدبيرا خاصا ، بحيث يقوم لهم بتدبير شئونهم ، حيث لم يدبروا معه.
فمن لم يدبر دبر له ، فالفاعل لهذه الأمور هو الحق المنفرد بالوجود ، فكل ما سواه باطل ، كما قال القائل :
ألا كلّ شىء ما خلا اللّه باطل وكلّ نعيم لا محالة زائل
قال صلّى اللّه عليه وسلّم «أصدق كلمة قالها الشاعر كلمة لبيد : ألا كلّ شىء ...» إلخ «3». فكل من صرف عن شهود الحق إلى نظر السّوى فهو فى ضلال. قال تعالى فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ ، لكن من حقت عليه
___________
(1) الآية 48 من سورة المائدة.
(2) فى قوله تعالى : وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ الآية/ 6.
(3) راجع إشارة الآية 150 من سورة البقرة.(2/469)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 470
كلمة الشقاء لا يؤمن بأهل الفناء والبقاء ، فلا يزال فى تعب وشقاء ، إذ لا طريق إلى شهود الحق وإفراده بالوجود إلا بصحبة أهل الفناء والبقاء ، الموصوفين بالكرم والجود ، واعلم أن كل من لم يصل إلى مقام الشهود ، فهو ضال عندهم فى مذهبهم ، وبالله التوفيق.
ثم ذكر عجز آلهتهم ، احتجاجا عليهم ، فقال :
[سورة يونس (10) : الآيات 34 الى 35]
قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (34) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلاَّ أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (35)
قلت : من قرأ (يهدّى) «1» بفتح الهاء ، فأصله : يهتدى ، نقلت حركة التاء إلى الهاء ، وأدغمت فى الدال. ومن قرأ بكسر الهاء فعلى التقاء الساكنين ، حين سكنت التاء لتدغم. ومن كسر الياء فعلى الاتباع ، ومن قرأ بالاختلاس فإشارة إلى عروض الحركة ، ومن قرأ : «يهدى» بالسكون ، فمعناه يهدى غيره.
يقول الحق جل جلاله : قُلْ لهم : هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ بإظهاره للوجود ثُمَّ يُعِيدُهُ بالبعث. فإن قلت كيف يحتج عليهم بالإعادة ، وهم لا يعترفون بها؟ فالجواب : أنها لظهور برهانها وتواتر أخبارها كأنها معلومة عندهم ، فلو أنصفوا ونظروا لأقروا بها ، ولذلك أمر الرسول بأن ينوب عليهم فى الجواب ، فقال : قُلِ اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لأن لجاجهم وجحودهم لا يتركهم يعترفون بها ، ولذلك قال لهم : فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ : تصرفون عن سواء السبيل. وقُلْ لهم أيضا : هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ بنصب الدلائل ، وإرسال الرسل ، والتوفيق للنظر والتدبر؟ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ. قال البيضاوي : وهدى كما يعدى بإلى لتضمنه معنى الانتهاء ، يعدى باللام للدلالة على منتهى غاية الهداية. انظر تمامه.
أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وهو اللّه أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إلى شىء ، فأولى ألا يهدى غيره إِلَّا أَنْ يُهْدى ؟ أي : إلا أن يهديه غيره ، وهى معبوداتهم ، كالملائكة والمسيح وعزير ، فلا يستطيعون أن يهدوا أنفسهم إلا أن يهديهم اللّه. وحمل ابن عطية الآية على الأصنام ، وقال : معنى قوله : أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى هى
___________
(1) فى قوله تعالى : «أمن لا يهدى». وقد قرأ حفص ويعقوب بفتح الباء وكسر الهاء وتشديد الدال ، وقرأ ابن كثير وابن عامر وورش بفتح الياء والهاء وتشديد الدال. وقرأ أبو بكر بكسر الياء والهاء ، وقرأ حمزة والكسائي بفتح الياء وإسكان الهاء وتخفيف الدال. وقرأ قالون وأبو عمرو بفتح الياء وتشديد الدال ، واختلف فى الهاء عنهما .. انظر الإتحاف (2/ 109).(2/470)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 471
عبارة عن أنها لا تنتقل إلّا أن تنقل. قال : ويحتمل أن يكون ما ذكره اللّه من تسبيح الجمادات هو اهتداؤه.
ويحتمل أن يكون الاستثناء فى اهتدائها إشارة إلى مذاكرة الكفار يوم القيامة حسبما مضى فى هذه السورة. ه.
فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ أي : أىّ شىء حصل لعقولكم ، فكيف تحكمون بشىء يقتضى العقل بطلانه بأدنى تفكر؟.
الإشارة : فى الآية تحريض على رفع الهمة عن السّوى ، إلى من بيده البدء والإعادة ، والإرشاد والهداية ، إلا من جعل على يديه الإرشاد والهداية ، وهم الأنبياء والأولياء والعلماء الأتقياء ، فالخضوع إليهم خضوع إلى اللّه على الحقيقة ، واتباعهم اتباع لله على الحقيقة ، وكل من تبع غيرهم فإنما يتبع الظن والهوى دون الحق ، كما أبان ذلك بقوله تعالى :
[سورة يونس (10) : آية 36]
وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ (36)
يقول الحق جل جلاله : وَما يَتَّبِعُ أكثر المشركين فى اعتقادهم إِلَّا ظَنًّا مستندا إلى خيالات فارغة وأقيسة فاسدة ، كقياس الغائب على الشاهد ، والخالق على المخلوق ، بأدنى مشاركة موهومة. والمراد بالأكثر :
الجميع ، أو من ينتسب منهم إلى تمييز ونظر ، ولم يرض بالتقليد الصرف ، إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ من علم التحقيق شَيْئاً ، أو مِنَ الاعتقاد الْحَقِّ شَيْئاً من الإغناء. قال البيضاوي : وفيه دليل على أن تحصيل العلم فى الأصول واجب ، وأن الاكتفاء بالتقليد والظن غير جائز. ه. وعدم الاكتفاء بالظن إنما هو فى الأصول ، وأما الفروع فالظن فيها كاف. إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ ، هذا وعيد لهم على اتباعهم الظن ، وإعراضهم عن النظر والاستدلال ، وعلى عدم اتباعهم من يدلهم على الحق. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : الناس على قسمين : أهل تصديق وإيمان ، وأهل شهود وعيان. فأهل التصديق والإيمان هم عامة أهل اليمين ، وهم أكثر المسلمين من العلماء والصالحين ، يستندون فى معرفتهم بالله إلى الدليل والبرهان ، فتارة يقوى عندهم الدليل فيترقّون عن اتباع الظن إلى الجزم والتصميم ، وتارة يضعف فيرجعون إلى اتباع الظن الراجح.
وأما أهل الشهود والعيان ، فقد غابت عنهم الأكوان فى شهود المكوّن ، فصاروا يستدلون بالله على وجود غيره ، فلا يجدونه ، حتى قال بعضهم : لو كلفت أن أرى غيره لم أستطع ، فإنه لا غير معه حتى أشهده ، محال أن تشهده وتشهد معه سواه. وقال شاعرهم :
مذ عرفت الإله لم أر غيرا وكذا الغير عندنا ممنوع
مذ تجمّعت ما خشيت افتراقا فأنا اليوم واصل مجموع(2/471)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 472
وقال آخر :
عجبت لمن يبغى عليك شهادة وأنت الّذى أشهدته كلّ شاهد
وقال فى الحكم : «شتان بين من يستدل به أو يستدل عليه ، المستدل به عرف الحق لأهله ، فأثبت الأمر من وجود أصله ، والاستدلال عليه من عدم الوصول إليه ، وإلا .. فمتى غاب حتى يستدل عليه ، ومتى بعد حتى تكون الآثار هى التي توصل إليه!».
ولا مطمع لأحد فى التطهير من الظنون والأوهام إلا بصحبة شيخ كامل عارف بالله ، فيلقى إليه نفسه ، فلا يزال يسير به ، حتى يقول له : ها أنت وربك ، فحينئذ ترتفع عنه الشكوك والظنون والأوهام ، ويبلغ فى مشاهدة الحق إلى عين اليقين وحق اليقين. وأما قول الجنيد رضى اللّه عنه : (أدركت سبعين صديقا ، كلهم يعبدون اللّه على الظن والوهم ، حتى الشيخ أبا يزيد ، ولو أدرك صبيا من صبياننا لأسلم على يديه). فقال الشيخ أبو العباس المرسى رضى اللّه عنه :
معنى كلامه : أنهم ظنوا وتوهموا أنهم بلغوا إلى مقام النهاية ، بحيث لا مقام فوق ذلك ، ولو أدرك أحدهم صبيا لنبههم على أن ما فاتهم أكثر مما أدركوا ولا نقادوا له. ه بالمعنى. واللّه تعالى أعلم.
ولما ذكر أن اتباع الظن غير كاف ، ذكر ما يجب اتباعه وهو القرآن ، فقال :
[سورة يونس (10) : الآيات 37 الى 40]
وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (37) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (38) بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (39) وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (40)
قلت : «تصديق» : مصدر ، والعامل فيه «كان» محذوفة ، أو «أنزل» ، و«لا ريب» : خبر ثالث لها ، و«من رب العالمين» : خبر آخر ، أي : كائنا من رب العالمين ، أو متعلق بتصديق أو بتفصيل ، و«لا ريب» : اعتراض ، أو بالفعل المعلل بهما - وهو «نزل» - ويجوز أن يكون حالا من «الكتاب» ، أو من الضمير فى «فيه» ، و«أم» : منقطعة بمعنى بل مع الاستفهام الإنكارى ، و«كيف» خبر كان.
يقول الحق جل جلاله : وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللَّهِ أي : ما صح له أن يفترى من الخلق ، إذ لا قدرة له على ذلك ، وَلكِنْ كان تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ من الكتب ، أو : ولكن أنزله تصديقا(2/472)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 473
لما سلف قبله من الكتب الإلهية ، المشهود على صدقها لأنه مطابق لها ، فلا يكون كذبا ، كيف وهو لكونه معجزا عيار عليها ، شاهد على صحتها؟ وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ أي : وأنزله تفصيل ما حقق وأثبت من العقائد والشرائع ، التي تضمنها الكتاب ، لا رَيْبَ فِيهِ : لا ينبغى أن يرتاب فيه لما احتفّت به من شواهد الحق ، وارتياب الكفار فيه كلا ريب. كائنا مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ ، أو نزل منه.
أَمْ : بل يَقُولُونَ افْتَراهُ محمد من عند نفسه؟ قُلْ فَأْتُوا أنتم بِسُورَةٍ مِثْلِهِ فى البلاغة وحسن النظم ، وجودة المعنى ، فإنكم مثلى فى العربية والفصاحة ، وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ : من قدرتم عليه من الجن والإنس ، يعينكم على ذلك ، مِنْ دُونِ اللَّهِ فإنه وحده قادر على ذلك ، إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أنه مفترى.
بَلْ كَذَّبُوا أي : سارعوا إلى التكذيب بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وهو القرآن ، بحيث لم يستمعوه ، ولم يتدبروا آياته ويحيطوا بالعلم بشأنه ، حتى يعلموا أحق هو أم لا ، أو بما جهلوه ولم يحيطوا به علما ، من ذكر البعث والجزاء ، وسائر ما يخالف دينهم ، وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ أي : ولم يقفوا بعد على تأويله ، ولم تبلغ أذهانهم معانيه ، أو لم يأتهم بعد تأويل ما فيه من الإخبار بالغيوب ، حتى يتبين لهم أنه صدق أو كذب ، والمعنى : أن القرآن معجز من جهة اللفظ والمعنى ، ثم إنهم فاجئوا تكذيبه قبل أن يتدبروا نظمه ، ويتصفحوا معناه.
ومعنى التوقع فى لَمَّا : أنه قد ظهر بالآخرة إعجازه لمّا كرر عليهم التحدّى فزادوا أذهانهم فى معارضته فتضاءلت دونها ، أو لمّا شاهدوا وقوع ما أخبر به طبق ما أخبر مرارا فلم يقلعوا عن التكذيب تمردا وعنادا. قاله البيضاوي. قال ابن جزى : لمّا يأتهم ما فيه من الوعيد لهم ، أي : وسيأتيهم يوم القيامة أو قبله.
كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أنبياءهم ، فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ ، فيه وعيد لهم بمثل ما عوقب به من قبلهم.
وَمِنْهُمْ من المكذبين مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ أي : يصدق به فى نفسه ويعلم أنه حق ولكن يعاند ، أو من يؤمن به ويتوب عن كفره ، وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ فى نفسه لفرط غباوته وقلة تدبره ، أولا يؤمن فيما يستقبل فيموت على كفره ، وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ : بالمعاندين أو المصرّين.
الإشارة : إذا تطهرت القلوب من الأغيار ، وتصفّت من الأكدار ، أوحى إليها بدقائق العلوم والأسرار ، وما كان لتلك العلوم أن تفترى من دون اللّه ولكن تكون تصديقا لما قبلها من علوم القوم وأسرارها ، التي يهبها اللّه لأوليائه ، وفيها تفصيل طريق السير ، وما أوجبه اللّه على المريدين من الآداب ، وشروط المعاملة ، فمن طعن فى ذلك فليأت بشىء من ذلك من عند نفسه ، ويستعن على ذلك بأبناء جنسه ، بل كذّب بما لم يحط به علمه ، ولم يبلغه عقله(2/473)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 474
وفهمه ، فإن كشفت عند الله الحقائق ظهر تأويل ما ينطق به أهل الحقائق ، ومن الناس من يؤمن بهذه الأسرار ، ومنهم من لا يؤمن بها ويطعن على أهلها ، حتى ربما رموهم بالزندقة لأجلها ، وربك أعلم بالمفسدين.
ثم أمر نبيه بالبراءة ممن كذبه ، فقال :
[سورة يونس (10) : الآيات 41 الى 44]
وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (41) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ (42) وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ (43) إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (44)
قلت : «من» الموصولة لفظها مفرد ، ومعناها واقع على الجمع أو غيره ، فإن عاد الضمير عليها جاز فيه مراعاة المعنى ومراعاة اللفظ ، فقوله : وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ راعى جانب المعنى ، وقوله : وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ راعى جانب اللفظ ، فإن راعى أولا اللفظ جاز أن يرجع إلى مراعاة المعنى ، كقوله : وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا «1» وأما إن راعى أولا المعنى فلا يرجع إلى مراعاة اللفظ ، لأن مراعاة المعنى أقوى. انظر الإتقان.
يقول الحق جل جلاله : وَإِنْ كَذَّبُوكَ كذبك قومك بعد إلزام الحجة لهم فَقُلْ لهم : لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أي : فتبرأ منهم وقل لهم : لى جزاء عملى ، ولكم جزاء عملكم ، حقا كان أو باطلا ، أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ ، لا تؤاخذون بعملي ولا أؤاخذ بعملكم ، ولأجل ما فيه من إيهام الإعراض عنهم وتخلية سبيلهم قيل : إنه منسوخ بآية السيف.
وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ إذا قرأت القرآن ، أو علمت الشرائع ، ولكن لا يقبلون ، كالأصم الذي لا يسمع أصلا ، أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ تقدر على إسماعهم وَلَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ أي : ولو انضم إلى صممهم فقد عقولهم ، فهو أحرى فى عدم الاستماع.
قال البيضاوي : وفيه تنبيه على أن حقيقة استماع الكلام هو فهم المعنى المقصود منه ، ولذلك لا توصف به - أي : بالاستماع - البهائم ، وهو لا يتأتى إلا باستعمال العقل وتدبره. وعقولهم لما كانت مؤوفة - أي : قاصرة بمعارضة الوهم ومشايعة الإلف والتقليد بعدت أفهامهم عن فهم الحكم والمعاني الدقيقة ، فلم ينتفعوا بسرد الألفاظ عليهم غير ما ينتفع به البهائم من كلام الناعق. ه.
___________
(1) من الآية 16 من سورة سيدنا (محمد صلّى اللّه عليه وسلّم).(2/474)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 475
وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أي : يعاينون دلائل نبوتك ، ولكن لا يصدقون ، كأنهم عمى عنها ، أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ : تقدر على هدايتهم وَلَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ أي : وإن انضم إلى عدم البصر عدم البصيرة ، فإن المقصود من الإبصار هو الاعتبار والاستبصار ، والعمدة فى ذلك البصيرة ، فإذا فقدت فلا اعتبار ولا استبصار ، ولذلك يحدس الأعمى المتبصر ، ويتفطن لما لا يدركه البصير الأحمق. والآية كالتعليل للأمر بالتبري.
إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً بسلب حواسهم وعقولهم ، وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ بإفسادها وإهمالها ، وتفويت منافعها عليهم. وفيه دليل على أن للعبد كسبا ، وأنه ليس مسلوب الاختيار بالكلية ، كما زعمت الجبرية ، ويجوز أن يكون وعيدا لهم ، بمعنى : أن ما يحيق بهم يوم القيامة من العذاب عدل من اللّه ، لا يظلمهم به ، ولكنهم ظلموا أنفسهم باقتراف أسبابه. قاله البيضاوي.
الإشارة : إذا رأى أهل الوعظ والتذكير قوما غرقوا فى بحر الهوى ، وأخذتهم شبكة الدنيا واستحوذت عليهم الغفلة ، فذكروهم وبذلوا جهدهم فى نصحهم ، فلم يقلعوا ، فليتبرؤا منهم ، وليقولوا : نحن براء مما تعملون ، وأنتم بريئون مما نعمل. ومنهم من يستمع إلى وعظك أيها الواعظ ، ولكن لا يتعظ ، أفأنت تسمع الصم ولو كانوا لا يعقلون. ومنهم من يشاهد كرامتك وخصوصيتك ولكن لا يهتدى ، أفأنت تهدى العمى ولو كانوا لا يبصرون؟ إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً ، بل فى كل زمان يبعث من يذكر ويداوى أمراض القلوب ، (و لكن الناس أنفسهم يظلمون) ، حيث حادوا عنهم ، وأساءوا الظن بهم ، وبالله التوفيق.
ثم ذكر وقت مجىء تأويل ما كذبوا به ، فقال :
[سورة يونس (10) : الآيات 45 الى 48]
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ ساعَةً مِنَ النَّهارِ يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (45) وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما يَفْعَلُونَ (46) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (47) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (48)
قلت : كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا : حال ، أي : نحشرهم مشبهين بمن لم يلبث إلا ساعة. أو صفة ليوم ، والعائد محذوف ، أي : كأن لم يلبثوا قبله ، أو لمصدر محذوف ، أي : حشرا كأن لم يلبثوا قبله. وجملة : يَتَعارَفُونَ : حال أخرى مقدرة ، أو بيان لقوله : كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا ، أو لتعلق الظرف ، والتقدير : يتعارفون يوم نحشرهم. و«إما» : شرط ، (2/475)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 476
ونُرِيَنَّكَ فعله ، أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ : عطف عليه. فَإِلَيْنا جواب نَتَوَفَّيَنَّكَ ، وجواب الأول محذوف ، أي : إن أريتك بعض عذابهم فى الدنيا فذاك ، وإن توفيناك قبل ذلك فإلينا مرجعهم.
يقول الحق جل جلاله : وَاذكر يَوْمَ يَحْشُرُهُمْ ونجمعهم للحساب ، فتقصر عندهم مدة لبثهم فى الدنيا وفى البرزخ ، كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنَ النَّهارِ يستقصرون مدة لبثهم فى الدنيا ، أو فى القبور لهول ما يرون ، حال كونهم يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ أي : يعرف بعضهم بعضا ، كأن لم يتفارفوا إلا قليلا ، وهذا فى أول حشرهم ، ثم ينقطع التعارف لشدة الأمر عليهم لقوله : وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً. يُبَصَّرُونَهُمْ «1».
قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ خسرانا لاربح بعده ، وَما كانُوا مُهْتَدِينَ إلى طريق الربح أصلا ، أو إلى طريق توصلهم إلى معرفة اللّه ورضوانه ، لترك استعمال ما منحوه من العقل فيما يوصل إلى الإيمان بالله ورسله ، فاستكسبوا جهالات أدت بهم إلى الرّدى والعذاب الدائم.
وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ أي : مهما نبصرنك بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ من العذاب فى حياتك ، كما أراه يوم بدر.
أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ قبل أن نريك فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فنريكه فى الآخرة ، ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما يَفْعَلُونَ ، فيجازيهم عليه حينئذ ، فالترتيب إخبارى.
وقال البيضاوي ، تبعا للزمخشرى : ذكر الشهادة وأراد نتيجتها ومقتضاها ، وهو العقاب ، ولذلك رتبها على الرجوع بثم ، أو مؤدّ شهادته على أفعالهم يوم القيامة. ه.
وَلِكُلِّ أُمَّةٍ من الأمم الماضية رَسُولٌ يبعثه إليهم ، يدعوهم إلى الحق ، فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ بالمعجزات «فكذبوه» قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ : بالعدل ، فأنجى الرسول ومن تبعه ، وأهلك المكذبين وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ، حيث أعذر إليهم على ألسنة الرسل. وقيل معناه : لكل أمة يوم القيامة رسول تنسب إليه.
كقوله : يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ «2» فإذا جاء رسولهم الموقف ليشهد عليهم بالكفر أو بالإيمان قُضِيَ بَيْنَهُمْ بإنجاء المؤمنين وعقاب الكافرين ، كقوله : وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ «3».
وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ الذي تعدنا ، استبعادا له واستهزاء به إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ فيه ، وهو خطاب منهم للنبى صلّى اللّه عليه وسلّم.
___________
(1) من الآيتين 10 - 11 من سورة المعارج.
(2) الآية 71 من سورة الإسراء.
(3) الآية 69 من سورة الزمر.(2/476)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 477
الإشارة : أهل الغفلة إذا بعثوا أو ماتوا ندموا على ما فوّتوا ، وقصر بين أعينهم ما عاشوا فى البطالة والغفلة ، كأن لم يلبثوا فى الدنيا إلا ساعة من نهار. فالبدار البدار أيها الغافل إلى التوبة واليقظة ، قبل أن تسقط إلى جنبك ، فتنفرد رهينا بذنبك.
فأما أهل اليقظة - وهم العارفون بالله - فقد حصل لهم اللقاء ، قبل يوم اللقاء ، قد خسر الوصول من كذّب بأهل الوصول ، وما كان أبدا ليهتدى إلى الوصول إلا بصحبة أهل الوصول. وإما نرينك أيها العارف بعض الذي نعدهم من الوصول لمن تعلق بك ، أو نتوفينك قبل ذلك ، فإلينا مرجعهم فنوصلهم بعدك بواسطة أو بغيرها. ولكل أمة رسول يبعثه اللّه يذكر الناس ويدعوهم إلى اللّه ، فإذا جاء رسولهم قضى بينهم بالقسط ، فيوصل من تبعه ويبعد من انتكبه. واللّه تعالى أعلم بأسرار كتابه.
ثم أجاب عن قولهم متى هذا الوعد ، فقال :
[سورة يونس (10) : الآيات 49 الى 52]
قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً إِلاَّ ما شاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (49) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ بَياتاً أَوْ نَهاراً ما ذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (50) أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (51) ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (52)
قلت : قدّم فى الأعراف «1» النفع ، وهنا الضر لأن السؤال فى الأعراف عن مطلق الساعة المشتملة على النفع والضر ، وهنا السؤال عن العقاب الذي وعدهم به ، بدليل قوله : قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ. وقوله : إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ منقطع ، ويصح الاتصال. وقوله ما ذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ وضع المظهر موضع المضمر ، أي : ماذا تستعجلون منه؟. والجملة الاستفهامية جواب الشرط ، كما يقال : إن أتيتك ماذا تعطينى؟ ، أو محذوف ، أي : إن أتاكم ألكم منه منعة أو به طاقة فماذا تستعجلون منه؟
وقال الواحدي : الاستفهام للتهويل والتفظيع ، أي : ما أعظم ما تستعجلون منه ، كما تقول : أعلمت ما ذا تجنى على نفسك؟. أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ ، دخلت همزة التقرير على «ثم» العاطفة ، أي : إن استعجلتم ثم وقع بكم العذاب آمنتم به حين لا ينفعكم.
___________
(1) فى قوله تعالى : قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا .. الآية 188.(2/477)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 478
يقول الحق جل جلاله : قُلْ لهم : لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً ، فكيف أملك لكم ما تستعجلون من طلب العذاب؟ إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ : لكن ما شاء اللّه من ذلك يكون ، أو : لا أملك إلا ما ملكنى ربى بمشيئته وقدرته ، لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ مضروب إلى هلاكهم ، إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ عنه ساعَةً ، وَلا هم يَسْتَقْدِمُونَ عنه ، فلا تستعجلوا ، فسيحين وقتكم وينجز وعدكم ، قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ الذي تستعجلون بَياتاً أي : وقت بيات واشتغال بالنوم ، أَوْ نَهاراً حين تشتغلون بطلب معاشكم ، ما ذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ؟ أىّ شىء من العذاب يستعجلونه وكله مكروره لا يلائم الاستعجال؟
وهو متعلق بأرأيتم ، لأنه فى معنى أخبرونى ، و«المجرمون» وضع موضع المضمر للدلالة على أنهم لجرمهم ينبغى أن يفزعوا من مجىء العذاب ، لا أن يستعجلوه. قاله البيضاوي.
أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ أي : أثم تؤمنون إذا وقع العذاب وعاينتموه ، حين لا ينفعكم إيمانكم ، آلْآنَ أي : فيقال لكم الآن آمنتم حين فات وقته ، وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ تكذيبا واستهزاء ، ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا بعد هلاكهم : ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ أي : العذاب المؤلم الذي تخلدون فيه ، هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ من الكفر والمعاصي.
الإشارة : لا يشترط فى الولي أن يكاشف بالأمور المغيبة حتى يحترز من المكاره أو يجلب المنافع ، إذ لم يكن ذلك للنبى ، فكيف يكون للولى؟ بل هو معرض للمقادير الجارية على الناس ، يجرى عليه ما يجرى عليهم ، نعم ..
باطنه محفوظ من السخط أو القنط ، يتلقى كل ما يلقى إليه بالرضا والتسليم. فمن شرط ذلك فيه فهو محروم من بركة أولياء زمانه. واللّه تعالى أعلم.
ثم استخبروا عن العذاب أو الوحى ، هل هو حق أم لا؟ كما قال تعالى :
[سورة يونس (10) : الآيات 53 الى 54]
وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (53) وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ ما فِي الْأَرْضِ لافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (54)
قلت : (أحق) : مبتدأ ، والضمير فاعله سد مسد الخبر ، و(إي) : حرف جواب ، بمعنى نعم ، وهو من لوازم القسم ، ولذلك يوصل بواوه ، فيقال : إي واللّه ، ولا يقال «إي» وحده.(2/478)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 479
يقول الحق جل جلاله : وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أي : يستخبرونك أَحَقٌّ هُوَ أي : ما تقول من الوعد أو ادعاء النبوة. قيل : قاله حيى بن أخطب لما قدم مكة. قُلْ لهم : إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ أي : العذاب الموعود لحق ، أو ما ادعيته من النبوة لثابت ، والأول أرجح لقوله : وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ : بفائتين العذاب الموعود.
وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ بالشرك أو التعدي على الغير ما فِي الْأَرْضِ من خزائنها وأموالها لَافْتَدَتْ بِهِ : لجعلته فدية لها من العذاب ، وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ أي : أخفى رؤساء هؤلاء الكفار الندامة خوف الشماتة والتعيير من سفلتهم ، لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ ، أو جميعهم ، لأنهم بهتوا بما عاينوا ، مما لم يحتسبوا من فظاعة الأمر وهوله ، فلم يقدروا أن ينطقوا ، وقيل أظهروها ، من قولهم : أسر الشيء : أظهره ، ومنه : أسارير الوجه ، وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ، ليس تكرارا لأن الأول قضاء بين الأنبياء ومكذبيهم ، والثاني فى جزاء المشركين على شركهم. قاله البيضاوي.
الإشارة : كثير من الناس من يستخبر عن شيخ التربية ، أحق وجوده أم لا؟ قل : إي وربى إنه لحق ، ولا يخلو منه زمان ، إذ القطب والعدد الذي يقوم الوجود بهم لا ينقطع ، والقطبانية لا تدرك من غير تربية أصلا ، وما أنتم بفائتين عنه إن طلبتموه بصدق الاضطرار. ولو أن لكل نفس ظلمت نفسها - حيث بقيت بعيبها وغم حجابها حتى لقيت مولاها - ما فى الأرض جميعا لافتدت به من البعد وغم الحجاب ، وفوات القرب من الأحباب ، وقد قضى بين الخلائق بالحق ، فارتفع المقربون الذين لقوا اللّه بقلب سليم ، وانحط الغافلون ، الذين لقوا اللّه بقلب سقيم ، وندموا على ترك صحبة من يخلصهم من عيبهم ، فإن كانت لهم رئاسة علم أو صلاح أضمروا ذلك عمن قلدهم ، وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً.
ولذلك قال :
[سورة يونس (10) : الآيات 55 الى 56]
أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَلا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (55) هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (56)
يقول الحق جل جلاله : أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ خلقا وملكا وعبيدا ، يتصرف فيهم تصرف المالك فى ملكه ، فلا يتطرقه ظلم ولا جور. ويحتمل أن يكون تقريرا لقدرته على الإثابة والعقاب ، أَلا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ أي : ما وعد به من الثواب والعقاب ، لا خلف فيه ، وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ لقصور(2/479)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 480
عقولهم ، فلا يعلمون إلا ظاهرا من الحياة الدنيا ، هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ يحيى من يريد إظهاره للدنيا ، ويميت من يريد نقله للآخرة ، وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ بالموت والنشور لأن من قدر على الإيجاد والإعدام فى الدنيا قدر عليها فى العقبى لأن القادر لذاته لا تزول قدرته ، والمادة القابلة بالذات للحياة والموت قابلة لهما أبدا. ه. من البيضاوي.
الإشارة : ما وعد به الحق سبحانه القاصدين إليه من الوصول والمعرفة به حق ، إن وفوا بشرطه ، وهو صحبة من يوصل إليه ، مع الصدق والتعظيم ، وإخلاص القصد ، هو يحيى قلوبا بمعرفته ، ويميت قلوبا بالغفلة والجهل به ، وإليه ترجعون ، فيظهر العارف من الجاهل والذاكر من الغافل.
فهذه موعظة لمن اتعظ ، كما قال تعالى :
[سورة يونس (10) : الآيات 57 الى 58]
يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57) قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58)
قلت : (بفضل اللّه) يتعلق بمحذوف ، يفسره ما بعده ، أي : ليفرحوا بفضل اللّه ، أو بقوله «فليفرحوا». وكرر قوله : (فبذلك) تأكيدا ، والفاء بمعنى الشرط ، كأنه قال : إن فرحوا بشىء فبهما فليفرحوا.
يقول الحق جل جلاله : يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ يعنى القرآن العظيم ، وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ من الشك والجهل ، وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ هداية فى بواطنهم بأنوار التحقيق ، ورحمة فى ظواهرهم بآداب التشريع.
قال البيضاوي : قد جاءكم كتاب جامع للحكمة العملية «1» ، الكاشفة عن محاسن الأعمال وقبائحها ، والراغبة فى المحاسن ، والزاجرة عن القبائح ، والحكمة النظرية التي هى شفاء لما فى الصدور من الشكوك وسوء الاعتقاد ، وهدى إلى الحق واليقين ، ورحمة للمؤمنين حيث أنزلت عليهم فنجوا من ظلمات الضلال بنور الإيمان ، وتبدلت مقاعدهم من طبقات النيران بمصاعد من درجات الجنان. والتنكير فيها للتعظيم. ه.
قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ أي : بمطلق الفضل والرحمة ، فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا لا بغيره ، أو الفضل :
الإسلام ، والرحمة : القرآن. وقرأ يعقوب بتاء الخطاب ، وروى مرفوعا ، ويؤيده قراءة من قرأ : «فافرحوا» ، هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ
___________
(1) فى الأصول : «العلمية» والمثبت هو الذى فى البيضاوى وهو أنسب بالسياق.(2/480)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 481
من حطام الدنيا ، فإنها إلى الزوال ، وقرأ ابن عامر : «تجمعون» بالخطاب ، على معنى : فبذلك فليفرح المؤمنون ، فهو خير مما تجمعون أيها المخاطبون.
الإشارة : قد جعل اللّه فى خواصّ أوليائه موعظة للناس بما يسمعون منهم من التذكير والإرشاد ، وشفاء لما فى الصدور ، لما يسرى منهم إلى القلوب من الإمداد ، وما يكتسبه من صحبهم من أنوار التحقيق ، وهدى إلى صريح العرفان وإشراق أنوار الإحسان ، ورحمة بسكون القلوب والطمأنينة بذكر علام الغيوب ، قل بفضل اللّه وبرحمته فبذلك فليفرحوا ، ففضل اللّه : أنوار الإسلام والإيمان ، ورحمته : أنوار الإحسان ، أو فضل اللّه : أحكام الشريعة ، ورحمته : الطريقة والحقيقة ، أو فضل اللّه : حلاوة المعاملة ، ورحمته : حلاوة المشاهدة ، أو فضل اللّه :
استقامة الظواهر ، ورحمته : استقامة البواطن ، أو فضل اللّه : محبته ، ورحمته : معرفته. إلى غير ذلك مما لا ينحصر ، ولم يقل : فبذلك فلتفرح يا محمد لأن فرحه صلّى اللّه عليه وسلّم بالله ، لا بشىء دونه.
ولمّا كانت موعظة القرآن العظيم مشتملة على التحليل والتحريم ، رد اللّه تعالى على من افترى خلافه ، فقال :
[سورة يونس (10) : الآيات 59 الى 60]
قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالاً قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ (59) وَما ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ (60)
قلت : (ما أنزل) : نصب بأنزل أو بأرأيتم لأنه بمعنى أخبرونى.
يقول الحق جل جلاله : قُلْ أَرَأَيْتُمْ : أخبرونى ما أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ بقدرته ، وإن سترها بالأسباب العادية ، وقوله : لَكُمْ دل على أن المراد منه : ما حلّ ، ولذلك وبّخ على التبعيض بقوله : فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالًا كالبحائر وأخواتها ، وَقالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا «1».
قُلْ لهم : آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ فى التحريم والتحليل ، فتقولون ذلك عنه ، أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ فى نسبة ذلك إليه؟ ، وَما ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيامَةِ ، أىّ شىء ظنهم يفعل بهم ، أيحسبون
___________
(1) من الآية 139 من سورة الأنعام. [.....](2/481)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 482
أنه لا يجازيهم عليه؟ وفيه تهديد عظيم لهم ، إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ ، حيث أنعم عليهم بالعقل ، وهداهم بإرسال الرسل وإنزال الكتب ، وشرع لهم الأحكام ، وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ هذه النعمة.
قال ابن عطية : ثنّى بإيجاب الفضل على الناس فى الإمهال لهم مع الافتراء والعصيان ، والإمهال داعية إلى التوبة والإنابة ، ثم استدرك من لا يرى حق الإمهال ولا يشكره ، ولا يبادر فيه على جهة الذم لهم ، والآية بعد هذا تعم جميع فضل اللّه ، وجميع تقصير الخلق فى شكره ، لا رب غيره. ه.
الإشارة : الوقوف مع حدود الشريعة ، والتمسك بالسنة النبوية قولا وفعلا ، وأخذا وتركا ، والاهتداء بأنوار الطريقة تخلية وتجلية ، هو السير إلى أسرار الحقيقة ، فمن تخطى شيئا من ذلك فقد حاد عن طريق السير.
وبالله التوفيق.
ثم هددهم بمراقبته عليهم ، فقال :
[سورة يونس (10) : آية 61]
وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (61)
قلت : الضمير فى مِنْهُ يعود على القرآن ، وإن لم يتقدم ذكره لدلالة ما بعده عليه ، كأنه قال : وما تتلو شيئا من القرآن ، وقيل : يعود على الشأن ، والأول أرجح لأن الإضمار قبل الذكر تفخيم للشىء. قاله ابن جزى. قلت :
والأحسن أن يعود على اللّه تعالى لتقدم ذكره قبل ، ومن قرأ : وَلا أَصْغَرَ ، وَلا أَكْبَرَ بالفتح فعطف على مِثْقالِ ممنوع من الصرف ، أو مبنى مع «لا» ، ومن قرأ بالرفع فعطف على موضعه ، أو مبتدأ ، وإِلَّا فِي كِتابٍ :
خبر.
يقول الحق جل جلاله : وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ أي : أمر من الأمور ، والخطاب للنبى صلّى اللّه عليه وسلّم والمراد هو وجميع الخلق ، ولذلك قال فى آخرها. وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ ، ومعنى الآية : إحاطة علم اللّه تعالى بكل شىء ، وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ أي : وما تتلو شيئا من القرآن ، أو وما تتلو من اللّه من قرآن ، أي : تأخذه عنه.
وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ أي عمل كان ، وهو تعميم للخطاب بعد تخصيصه بمن هو رأسهم «1» ، ولذلك ذكر الحق تعالى ، حيث خص بالذكر ما فيه فخامة وتعظيم ، وذكر حيث عممم ما يتناول الجليل والحقير ، أي : لا تعملون شيئا
___________
(1) أي : رأس المخاطبين ، وهو رأس الوجود ، سيدنا محمد - عليه الصلاة والسلام - .(2/482)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 483
إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً : رقباء مطلعين عليه ظاهرا وباطنا ، إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ : حين تخوضون فيه وتندفعون إليه ، يقال : أفاض الرجل فى الأمر : إذا أخذ فيه بجد واندفع إليه ، ومنه : فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ «1» ، وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ أي : ما يغيب عنه مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ : ما يوازن نملة ، فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ والمراد : لا يغيب عنه شىء فى الوجود بأسره ، وخصهما لأن العامة لا تعرف غيرهما. قال فى الكشاف : فإن قلت : لم قدّم هنا الأرض بخلاف سورة سبأ»
؟ فالجواب : أن السماء قدمت فى سبأ لأن حقها التقديم ، وقدمت الأرض هنا لما ذكرت الشهادة على أهل الأرض. ه. وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ أي : اللوح المحفوظ ، أو علمه تعالى المحيط ، المبيّن للأشياء على ما هى عليه.
الإشارة : هذه الآية وأمثالها هى أصل المراقبة عند القوم ، وهى على ثلاثة أقسام : مراقبة الظواهر ، ومراقبة القلوب ، ومراقبة السرائر. فالأولى للعوام ، والثانية للخواص ، والثالثة لخواص الخواص.
فأما مراقبة الظواهر : فهى اعتقاد العبد أن اللّه يراه ، ومطلع عليه فى كل مكان ، فينتج له الحياء من اللّه ، فيستحيى أن يسىء الأدب معه وهو بين يديه ، وفى بعض الأخبار القدسية : «إن كنتم تعتقدون أنى لا أراكم ، فالخلل فى إيمانكم ، وإن كنتم تعتقدون أنى أراكم فلم جعلتمونى أهون الناظرين إليكم؟».
وقال - عليه الصلاة والسلام - : «أفضل الناس إيمانا من يعلم أن اللّه معه فى كل مكان» أو كما قال صلّى اللّه عليه وسلّم :
وروى أن عبد اللّه بن عمر رضى اللّه عنه مرّ براعي غنم ، فقال له : أعطنا شاة من غنمك ، فقال له : ليست لى. فقال له : قل لصاحبها أكلها الذئب ، فقال له الراعي : وأين اللّه؟!. وروى أن رجلا خلا بجارية فراودها على المعصية ، وقال لها :
لا ترانا إلا الكواكب ، فقالت له : وأين مكوكبها؟.
وأما مراقبة القلوب فهى : تحقيق العبد أن اللّه مطلع على قلبه ، فيستحى منه أن يجول فيما لا يعنى ، أو يدبر ما لا يفيد ولا يجدى ، أو يهم بسوء أدب فإن جال فى ذلك استغفر وتاب.
وأما مراقبة السرائر فهى : كشف الحجاب عن الروح ، حتى ترى اللّه أقرب إليها من كل شىء ، فتستحى أن تجول فيما سواه من المحسوسات ، فإن فعلت بادرت إلى التوبة والاستغفار ، فالتوبة لا تفارق أهل المراقبة مطلقا ، وقد تقدم فى أول سورة النساء «3» بعض الكلام على المراقبة ، فمن لم يحكم أمر المراقبة ، لم يذق أسرار المشاهدة.
___________
(1) من الآية 198 من سورة البقرة.
(2) فى قوله تعالى «عالم الغيب لا يعزب عنه مثقال ذرة فى السموات ولا فى الأرض ...» الآية : 3.
(3) راجع إشارة الآية الأولى من سورة النساء.(2/483)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 484
فالمراقبة مفتاح المشاهدة ، والمشاهدة مفتاح المعرفة ، والمعرفة هى الولاية ، التي أشار إليها بقوله :
[سورة يونس (10) : الآيات 62 الى 64]
أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (64)
قلت : «الذين آمنوا» : صفة للأولياء ، أو منصوب على المدح ، أو مرفوع به على تقدير : «هم» ، أو مبتدأ ، و«لهم البشرى» : خبر.
يقول الحق جل جلاله : أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ الذين يتولونه بالطاعة ، وهو يتولاهم بالكرامة لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ من لحوق مكروه ، وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ بفوات مأمول.
ثم فسرهم بقوله : الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ ، فمن جمع بين الإيمان والتقوى فهو ولى - أعنى الولاية العامة - وسيأتى بقية الكلام فى الإشارة إن شاء اللّه ، هُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا
وهو ما بشّر به المتقين فى كتابه ، على لسان نبيه صلّى اللّه عليه وسلّم من الحفظ والعز والكفاية ، والنصر فى الدنيا وما يثيبهم به فى الآخرة ، أو ما يريهم من الرؤيا الصالحة يراها أو ترى له. روى ذلك عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم «1» ، أو محبة الناس للرجل الصالح ، أو ما يتحفهم به من المكاشفات ، أو التوفيق لأنواع الطاعات ، أو بشرى الملائكة عند النزع ، أو رؤية المقعد قبل خروج الروح ، فِي الْآخِرَةِ
هى الجنة أو تلقّى الملائكة إياهم عند الحشر بالبشرى والكرامة.
تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ
أي : لا تغيير لأقواله ولا اختلاف لمواعيده ، واستدل ابن عمر بالآية على أن القرآن لا يقدر أحد أن يغيره ، لِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ
الإشارة إلى كونهم مبشّرين فى الدارين ، أو لانتفاء الخوف والحزن عنهم مع ما بشروا به ، واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : الولاية على قسمين : ولاية عامة ، وولاية عرفية خاصة ، فالولاية العامة ، هى التي ذكرها الحق تعالى ، فكل من حقق الإيمان والتقوى فله من الولاية على قدر ما حصّل منها ، والولاية الخاصة خاصة بأهل الفناء والبقاء ، الجامعين بين الحقيقة والشريعة ، بين الجذب والسلوك ، مع الزهد التام والمحبة الكاملة ، وصحبة من
___________
(1) عن عبادة بن الصامت قال : سألت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عن قوله : (لهم البشرى فى الحياة الدنيا) قال : «هى الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له ، أخرجه أحمد فى المسند (5/ 315) ، والترمذي فى : (الرؤيا ، باب ذهبت النبوة وبقيت المبشرات) وابن ماجه فى (الرؤيا ح 3898) والحاكم وصححه ووافقه الذهبي (2/ 340) والدارمي فى : (الرؤيا).(2/484)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 485
تحققت ولايته. فقد سئل - عليه الصلاة السلام - عن أولياء اللّه الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ، فقال : «الذين نظروا إلى باطن الدنيا ، حين نظر النّاس إلى ظاهرها ، واهتمّوا بآجل الدّنيا حين اهتمّ النّاس بعاجلها فأماتوا منها ما خشوا أن يميتهم ، وتركوا منها ما علموا أن سيتركهم ، فما عارضهم من نائلها عارض إلا رفضوه ، ولا خادعهم من رفعتها خادع إلا وضعوه ، خلقت الدنيا فى قلوبهم فما يجددونها وخربت بينهم فما يعمرونها ، وماتت فى صدورهم فما يحيونها ، بل يهدمونها ، فيبنون بها آخرتهم ، ويبيعونها فيشترون بها ما يبقى لهم ، نظروا إلى أهلها صرعى قد حلّت بهم المثلات ، فما يرون أمانا دون ما يرجون ، ولا خوفا دون ما يجدون».
وفى حديث آخر : قيل : يا رسول اللّه من أولياء اللّه؟ قال «المتحابّون فى اللّه». وقال القشيري رضى اللّه عنه : علامة الولي ثلاث : شغله بالله ، وفراره إلى اللّه ، وهمه اللّه. ه وقال أبو سعيد الخراز رضى اللّه عنه : إذا أراد اللّه أن يوالى عبدا من عباده فتح عليه باب ذكره ، فإذا اشتد ذكره فتح عليه باب القرب ، ثم رفع إلى مجلس الأنس ، ثم أجلسه على كرسى التوحيد ، ثم رفع عنه الحجب وأدخله دار الفردانية ، وكشف له عن الجلال والعظمة ، فإذا عاين ذلك بقي بلا هو ، فحينئذ يفنى نفسه ويبرأ من دعاويها. ه.
فأنت ترى كيف جعل الفناء هو نهاية السير والوصول إلى الولاية ، فمن لا فناء له لا محبة له ، ومن لا محبة له لا ولاية له. وإلى ذلك أشار ابن الفارض رضى اللّه عنه ، فى تائيته بقوله :
فلم تهونى ما لم تكن فىّ فانيّا ولم تفن ما لم تجتل فيك صورتى
وقوله تعالى : الَّذِينَ آمَنُوا أي : إيمان الخصوص ، وَكانُوا يَتَّقُونَ ما سوى اللّه فلا يطمئنون إلى شىء سواه ، هُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا
حلاوة الذوق والوجدان ، مع مقام الشهود والعيان ، فِي الْآخِرَةِ
بإدراك ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر ببال من المعارف والأسرار ، فمن أدرك هذا فليوطن نفسه على الإنكار.
ولذلك سلّى نبيه ، وينسحب على ورثته مما يلقونه من أهل الإنكار ، فقال :
[سورة يونس (10) : آية 65]
وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (65)
قلت : (إن) استئناف ، ومن قرأ بالفتح فعلى إسقاط لام العلة.
يقول الحق جل جلاله لنبيه صلّى اللّه عليه وسلّم : وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ فى جانب الربوبية ، أو فى جانبك بالطعن والشتم والتهديد ، فالعاقبة لك بالنصر والعز فإن اللّه يعز أولياءه ، إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً أي : إن الغلبة لله جميعا ، (2/485)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 486
لا يملك غيره منها شيئا ، فهو يقهرهم وينصرك عليهم ، هُوَ السَّمِيعُ لأقوالهم ، الْعَلِيمُ بمكائدهم ، فيجازيهم عليها.
الإشارة : الداخل على اللّه منكور ، فكل من رام الخصوصية فليعوّل على الطعن والإنكار ، وليتسلّ بما تسلى به النبي المختار ، ولينتظر العز والنصر من الواحد القهار ، فإن الأمر كله بيده كما قال :
[سورة يونس (10) : الآيات 66 الى 67]
أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَما يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (66) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (67)
قلت : (و ما يتبع) : يحتمل الاستفهام ، فتكون منصوبة بيتبع ، أي : أىّ شىء يتبعون ما يتبعون؟ إلا الظن ، ويحتمل النفي ، أي : ما يتبع الذين يدعون الشركاء يقينا إن يتبعون إلا الظن ، أو تكون «إن» تأكيدا لها ، و«إلا الظن» إبطال لنفى «ما».
يقول الحق جل جلاله : أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ من الملائكة والثقلين ملكا وعبيدا ، فلا يصلح أحد منهم للألوهية ، وإذا كان هؤلاء الذين هم أشرف الممكنات لا تصلح للربوبية ، فأحرى الجامدات التي يدعونها آلهة ، وَما يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكاءَ أي : أىّ شىء يتبعون ، تحقيرا لهم ، أو ما يتبع الذين يدعون من دون اللّه شركاء يقينا ، إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وما سولت لهم أنفسهم ، وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ : يكذبون فيما ينسبون إلى اللّه ، أو يحزرون «1» ويقدرون أنها شركاء تقديرا باطلا ، بل الواجب أن يعبدوا من عمت قدرته ونعمه على خلقه ، ولذلك قال : هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ راحة لأبدانكم ، وَالنَّهارَ مُبْصِراً طلبا لمعاشكم ، وفيه تنبيه على كمال قدرته وعظيم نعمته ، ليدلهم على تفرده باستحقاق العبادة إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ سماع تدبر واعتبار.
الإشارة : كل من ركن إلى شىء دون اللّه ، محبة أو خوفا أو طمعا فيه ، فقد أشرك مع اللّه ، ولم يتبع إلا الظن والوهم ، وفى الحكم : «ما قادك شىء مثل الوهم ، أنت حر مما أنت عنه آيس ، وعبد لما أنت فيه طامع ، فكيف يترك العبد سيده الذي بيده ملك السموات والأرض ، ويتعلق بعبد مثله حقير؟. يترك الملك الكبير ويتعلق بالعبد الصغير».
___________
(1) حزر الشيء : قدره تخمينا.(2/486)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 487
هو الذي جعل ليل القبض لتسكنوا فيه عن التعلق بالغير ، ونهار البسط لتبصروا فى انتشاركم الحقائق العرفانية والأسرار الربانية ، إن كنتم تسمعون به ومنه ، فتنزهونه عما لا يليق به ، كما قال تعالى :
[سورة يونس (10) : الآيات 68 الى 70]
قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بِهذا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (68) قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ (69) مَتاعٌ فِي الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (70)
قلت : (عندكم) : متعلق بالاستقرار ، و(من سلطان) فاعل به لأن المجرور والظرف إذا نفى يرفع الفاعل بالاستقرار ، و(متاع) : خبر ، أي : ذلك متاع ... إلخ.
يقول الحق جل جلاله : قالُوا أي : المشركون ومن تبعهم : اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً أي : تبنّاه كالملائكة وغيرهم ، سُبْحانَهُ أي : تنزيها له عما يقول الظالمون ، فإن التبني لا يصح إلا ممن يتصور منه الولد ، هُوَ الْغَنِيُّ عن كل شىء ، مفتقر إليه كلّ شىء ، والولد مسبب عن الحاجة ، والحق تعالى لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ملكا وعبيدا ، فلا يفتقر إلى اتخاذ الولد ، وهو الغنى بالإطلاق ، لا يحتاج إلى من يعينه ، واجب الوجود لا يفتقر إلى من يخلفه فى ملكه. إِنْ عِنْدَكُمْ أي : ما عندكم مِنْ سُلْطانٍ أي :
برهان بِهذا ، بل افتريتموه من عندكم ، أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ ، وهو توبيخ وتقريع على اختلاقهم وجهلهم ، وفيه دليل على أن كل قول لا دليل عليه فهو جهالة ، وأن العقائد لا بد فيها من قاطع ، وأن التقليد فيها غير سائغ. قاله البيضاوي.
قلت : والتحقيق أن إيمان المقلّد صحيح ، وأن تقليد الأنبياء والرسل والكتب السماوية صحيح مكتف عن الدليل.
ثم هدد أهل الشرك فقال : قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ باتخاذ الولد وإضافة الشريك إليه ، لا يُفْلِحُونَ : لا ينجون من النار ، ولا يفوزون بالجنة ، إنما ذلك الافتراء مَتاعٌ فِي الدُّنْيا يقيمون به رئاستهم فى الكفر ، فيتمتعون به قليلا ، أو لهم تمتع فى الدنيا مدة أعمارهم ، ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ بالموت ، فيلقون الشقاء المؤبد ، ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ.
الإشارة : إظهار الكائنات من الغيب إلى الشهادة كلها على حد سواء فى الاختراع والافتقار ، ليس بعضها أقرب من بعض ، وأما قوله : - عليه الصلاة والسلام - : «الخلق عيال اللّه وأحبّ الخلق إلى اللّه أنفعهم لعياله» فمعناه أنهم فى حفظه وكفالته مفتقرون إليه فى إيصال المادة ، كافتقار الولد إلى أبيه.(2/487)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 488
وأما قرب العبد من ربه بطاعته فمعناه قرب محبة ورضا ، لا قرب مسافة أو نسب إذ أوصاف العبودية غير مجانسة لأوصاف الربوبية ، بل هى بعيدة منها مع شدة قربها ، ولذلك قال فى الحكم : «إلهى ما أقربك منّى وما أبعدنى عنك ..» إلخ ، ، وقد تشرق على العبد أنوار الربوبية فتكسوه حتى يغيب عن حسه ورسمه فلا يرى إلا أنوار ربه ، فربما تغلبه الأنوار ، فيدّعى الاتحاد أو الحلول ، وهو معذور عند أهل الباطن لسكره ، وقد رفع التكليف عن السكران ، فإذا صحى وبقي على دعواه قتل شرعا. واللّه تعالى أعلم.
ثم ذكر بعض قصص الأنبياء عليهم السلام ، تسلية لرسوله صلّى اللّه عليه وسلّم ، فقال :
[سورة يونس (10) : الآيات 71 الى 73]
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقامِي وَتَذْكِيرِي بِآياتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ (71) فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (72) فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْناهُمْ خَلائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73)
قلت : (و شركاءكم) : مفعول معه ، أو بفعل محذوف أي : اعزموا أمركم وأجمعوا شركاءكم ومن قرأ : «اجمعوا» بهمزة وصل ، فشركاءكم : معطوف ، و«غمة» : خفيّا ، وفى الحديث : «فإن غمّ عليكم فاقدروا له».
يقول الحق جل جلاله : وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ أي : خبره مع قومه ، قيل : اسمه عبد الغفار ، وسمى نوحا لكثرة نوحه من هيبة ربه ، إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنْ كانَ كَبُرَ أي : عظم وشقّ عَلَيْكُمْ مَقامِي أي : كونى بين أظهركم ، وإقامتى بينكم مدة مديدة أذكركم بالله ، أو قيامى عليكم لوعظكم ، أو نفسى ووجودى معكم ، كقولك :
فعلت كذا لمكان فلان ، أي : له ، أي : لو صعب عليكم وجودى بينكم ، وَتَذْكِيرِي لكم بِآياتِ اللَّهِ أدعوكم بها إلى اللّه ، فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ : وثقت به ، فلا أبالى ببعدكم عنى وتخويفكم إياى ، فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ أي : اعزموا عليه ، وَشُرَكاءَكُمْ مع شركائكم ، أو وأمر شركائكم ، أو أجمعوا أمركم واتّفقوا عليه وأجمعوا شركاءكم. والمعنى : أنه أمرهم بالعزم والإجماع على قصده ، والسعى فى إهلاكه ، على أي وجه يمكنهم لشدة ثقته بالله وعدم مبالاته بهم.
ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ فى قصد إهلاكى عَلَيْكُمْ غُمَّةً : مستورا خفيّا ، بل اجعلوه ظاهرا مكشوفا تتمكنون فيه ، لأن من يكتم أمرا ويخفيه لا يقدر أن يفعل ما يريد ، أو ثم لا يكن حالكم عليكم غما ، أي : لا يلحقكم غم إذا(2/488)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 489
أهلكتمونى وتخلصتم من ثقل مقامى وتذكيرى. ثُمَّ اقْضُوا أي : أنفذوا قضاءكم إِلَيَّ فيما تريدون. وقرأ السرى بن ينعم : «أفضوا» بالفاء وقطع الهمزة ، أي : انتهوا إلىّ بشرّكم ، وَلا تُنْظِرُونِ : ولا تمهلون.
فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ : أعرضتم عن تذكيرى ، فَما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ يوجب توليكم وإعراضكم لثقله عليكم.
واتهامكم إياى لأجله ، أو يفوتنى إذا توليتم عنى ، إِنْ أَجْرِيَ : ما ثوابى على الدعوة والتذكير إِلَّا عَلَى اللَّهِ لا تعلق لى بشىء دونه ، آمنتم أو توليتم ، وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ المنقادين لحكمه ، لا أخالف أمره ، ولا أرجو غيره.
فَكَذَّبُوهُ : فأصروا على تكذبيه بعد إلزامهم الحجة ، وتبين أن توليهم ليس إلا لعنادهم وتمرّدهم فلا جرم حقت عليهم كلمة العذاب ، فهلكوا بالغرق ، فَنَجَّيْناهُ وَمَنْ آمن مَعَهُ فِي الْفُلْكِ ، وكانوا ثمانين ، وَجَعَلْناهُمْ خَلائِفَ عمروا الأرض بعد الهالكين وخلفوهم فيها ، ولم يعقب منهم إلا أولاد نوح عليه السّلام ، وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا بالطوفان ، فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ ، تعظيم لما جرى عليهم ، وتحذير لمن كذب الرسول ، وتسلية له. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : لا يكون الرجل كامل اليقين حتى يسقط من قلبه خوف المخلوقين ، فلا يبالى بهم ولو أجمعوا على كيده ، إذ ليس بيدهم شىء ، وإنما أمرهم بيد اللّه ، ويقول لهم كما قال نوح عليه السّلام : (فأجمعوا أمركم وشركاءكم.)
وكما قال هود عليه السّلام : فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ «1». وفى الحديث : «لو اجتمع الخلق كلهم على أن يضرّوك بشىء لم يضرّوك إلّا بشىء قدّره اللّه عليك ، جفّت الأقلام وطويت الصّحف». وقال أيضا صلّى اللّه عليه وسلّم : «لا يكمل إيمان العبد حتّى يكون الناس عنده كالأباعد» ، يعنى : لا يهابهم ولا يراقبهم. وبالله التوفيق.
ثم ذكر ما بين نوح وموسى - عليهما السلام - من الأنبياء ، على سبيل الإجمال ، فقال :
[سورة يونس (10) : آية 74]
ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ (74)
___________
(1) الآيتان 55 - 56 من سورة هود.(2/489)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 490
قلت : (بما كذبوا به) ذكر هنا الرابط ، وحذفه فى سورة الأعراف ، إشارة إلى جواز الأمرين ، وإليه أشار فى الألفية ، بقوله :
كذا الذي جرّ بما الموصول جر ك «مرّ بالّذى مررت فهو بر» «1»
يقول الحق جل جلاله : ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِ : من بعد نوح عليه السّلام رُسُلًا كهود وصالح وإبراهيم وغيرهم إِلى قَوْمِهِمْ ، كل رسول إلى قومه ، فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ : بالمعجزات الواضحات المثبتة لدعواهم ، فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا فما استقام لهم أن يؤمنوا لشدة شكيمتهم فى الكفر ، ولسبق شقاوتهم ، فما آمنوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ مجيئهم المعجزات ، يعنى أنهم طلبوا المعجزات ليؤمنوا ، فلما جاءتهم استمروا على تكذيبهم ، كَذلِكَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ فلا تنفع فيهم معجزة ولا تذكير ، وفيه دليل على أن الأفعال واقعة بقدرة اللّه ، مع إثبات كسب العبد ، لقيام عالم الحكمة - الذي هو رداء لتصرف القدرة - . واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : كما بعث اللّه فى كل أمة رسولا يذكرهم ويدعوهم إلى اللّه ، بعث اللّه فى كل عصر وليّا عارفا ، يدعو الخلق إلى معرفة اللّه وتوحيده الخاص ، فمن سبقت له العناية آمن به من غير طلب آية ، ومن سبق له الخذلان لا يصدق به ولو رأى ألف برهان. وبالله التوفيق.
ثم ذكر بعثة موسى وهارون - عليهما السلام - مفصلة لما فيها من التأسى والتسلية ، فقال :
[سورة يونس (10) : الآيات 75 الى 78]
ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى وَهارُونَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ بِآياتِنا فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (75) فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ (76) قالَ مُوسى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ أَسِحْرٌ هذا وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ (77) قالُوا أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ (78)
يقول الحق جل جلاله : ثُمَّ بَعَثْنا ، من بعد هؤلاء الرسل مُوسى وَهارُونَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ بِآياتِنا التسع ، فَاسْتَكْبَرُوا عن اتباعها ، وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ معتادين الإجرام ، فلذلك تهاونوا برسالة ربهم ، واجترءوا على ردها ، فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا وعرفوه ، وهو بعثة موسى عليه السّلام لتظاهر المعجزات على يديه ، القاهرة المزيحة للشك ، قالُوا من فرط تمردهم : إِنَّ هذا الذي جئت به لَسِحْرٌ مُبِينٌ : ظاهر.
قالَ لهم مُوسى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ إنه سحر ، فكيف يقدر السحرة على مثله؟ أَسِحْرٌ هذا : أيتوهم أحد أن يكون هذا سحرا؟ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ أي : لو كان سحرا لا ضمحلّ ، ولم يبطل سحر
___________
(1) انظر باب الموصول (حذف العائد).(2/490)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 491
السحرة ، والعالم بأن الساحر لا يفلح لا يستعمل السحر ، فهذا كله من كلام موسى عليه السّلام ، أو من تمام قولهم إن جعل قوله : «أسحر هذا» محكيا لقولهم ، كأنهم قالوا : أجئتنا بالسحر لتطلب به الفلاح ولا يفلح الساحرون ، والأول أرجح.
قالُوا أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا لتصرفنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا من عبادة الأصنام ، وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ : الملك فيها ، سمى الملك كبرياء لاتّصاف الملوك بالتكبر ، وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ : بمصدّقين.
الإشارة : السحر على قسمين : سحر يسحر القلوب الى حضرة الرحمن ، وسحر يسحرها إلى حضرة الشيطان ، فالسحر الذي يسحر إلى حضرة الرحمن : هو ما جاءت به الأنبياء والرسل ، وقامت به الأولياء بعدهم من الأمور التي تقرب إلى الحضرة ، إمّا ما يتعلق بالظواهر ، كتبيين الشرائع ، وإمّا ما يتعلق بالبواطن ، كتبيين الطرائق والأمور التي تشرق بها أسرار الحقائق ، وأما السحر الذي يسحر إلى حضرة الشيطان : فكل ما يشغل عن ذكر الرحمن ، ولذلك قال عليه السّلام : «اتّقوا الدّنيا فإنّها أسحر من هاروت وماروت».
ثم ذكر معارضة فرعون ، فقال :
[سورة يونس (10) : الآيات 79 الى 82]
وَقالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ (79) فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ (80) فَلَمَّا أَلْقَوْا قالَ مُوسى ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (81) وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (82)
قلت : (ما جئتم به) موصولة على من قرأ : «السحر» بلا استفهام ، ومن قرأ بالاستفهام ف «ما» مبتدأ ، و(جئتم) خبرها ، و(السحر) : بدل منه ، أو خبر لمحذوف ، أي : أهو السحر؟ أو مبتدأ حذف خبره ، أي : السحر هو.
يقول الحق جل جلاله : وَقالَ فِرْعَوْنُ لما أراد معارضة موسى عليه السّلام : ائْتُونِي بِكُلِّ ساحِرٍ وفى قراءة الأخوين : «سحّار» ، عَلِيمٍ : حاذق فى فنه ، فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ ، فَلَمَّا أَلْقَوْا حبالهم وعصيهم ، فانقلبت حيّات فى أعين الناس ، يركب بعضها بعضا ، قالَ لهم مُوسى ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ أي : الذي جئتم به هو السحر ، لا ما سماه فرعون وقومه سحرا من معجزات العصا. وقرأ البصري : «آلسحر» أي : أىّ شىء جئتم به هو السحر هو؟ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ : سيمحقه ، أو سيظهر بطلانه ، إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ لا يثبته ولا يديمه ، وفيه دليل على أن السحر تمويه لا حقيقة له ، وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ السابقة الأزلية ، أو بأوامره وقضاياه ، وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ ذلك.
الإشارة : الأكوان كلها عند أهل التحقيق شعوذة سحرية ، خيالية كخيال السحر الذي يظهره المشعوذ ، تظهر ثم تبطن ، وليس فى الوجود حقيقة إلا الواحد الأحد الفرد الصمد ، فهى ثابتة بإثباته ، ممحوة بأحدية ذاته. وهى أيضا(2/491)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 492
أشبه شىء بالظلال ، والظلال لا وجود لها من ذاتها ، وإنما تابعة لشواخصها ، ولذلك قالوا : ظلال الأشجار لا تعوق السفن عن التّسيار ، فظلال الأكوان وأجرامها لا تعوق سفن الأفكار عن التسيار فى بحار معانى الأسرار ، بل تغيب عن ظلال حسها إلى فضاء شهود معانيها ، فالعارف لا يحجبه عن اللّه شىء لنفوذه إلى شهود أسرار الربوبية فى كل شىء ، واللّه تعالى أعلم.
ثم ذكر من تبع موسى ، فقال :
[سورة يونس (10) : آية 83]
فَما آمَنَ لِمُوسى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (83)
قلت : الضمير فى «ملئهم» يعود على فرعون ، وجمعه على ما هو المعتاد فى ضمير العظماء ، أو باعتبار آل فرعون ، كما يقال : ربيعة ومضر ، أو على الذرية ، أو على «قومه» ، و(أن يفتنهم) بدل من فرعون ، أو مفعول بخوف ، وأفرد ضمير الفاعل ، فلم يقل : أن يفتنوهم للدلالة على أن الخوف من الملأ كان بسبب فرعون.
يقول الحق جل جلاله : فَما آمَنَ لِمُوسى أي : صدّقه فى أول مبعثه إِلَّا ذُرِّيَّةٌ : إلا شباب وفتيان مِنْ قَوْمِهِ : من بنى إسرائيل ، آمنوا عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِمْ أي : مع خوف من فرعون وقومه ، أو على خوف من فرعون وملأ بنى إسرائيل لأن الأكابر من بنى إسرائيل كانوا يمنعون أولادهم من الإيمان خوفا من فرعون ، وهذا أرجح. خافوا أَنْ يَفْتِنَهُمْ : يعذبهم حتى يردهم عن دينهم ، وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الْأَرْضِ : لغالب فيها ، وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ فى الكفر والعتوّ حتى ادعى الربوبية ، واسترقّ أسباط الأنبياء.
الإشارة : أهل التصديق بأهل الخصوصية قليل فى كل زمان ، وإيذاء المنتسبين لهم سنة جارية فى كل أوان ، فكل زمان له فراعين يؤذون المنتسبين ، والعاقبة للمتقين.
ثم أمرهم بالتوكل والثبات ، فقال :
[سورة يونس (10) : الآيات 84 الى 86]
وَقالَ مُوسى يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (84) فَقالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (85) وَنَجِّنا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (86)(2/492)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 493
يقول الحق جل جلاله : وَقالَ مُوسى لقومه ، لمّا رأى خوفهم من فرعون : يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا أي : ثقوا به واعتمدوا عليه ، ولا تبالوا بغيره ، إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ مستسلمين لقضاء اللّه ، أو منقادين لأحكامه ، قائمين بطاعته بعد تحصيل الإيمان به ، وقال لهم ذلك مع علمه بإيمانهم وإسلامهم إنهاضا لهم وتحريضا على الصبر ، كما تقول : إن كنت رجلا فافعل كذا.
فَقالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا لأنّا مؤمنون مخلصون ، رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً أي : موضع فتنة لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ أي : لا تسلطهم علينا فيفتنونا ، وَنَجِّنا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ أي : من كيدهم ، أو من شؤم مشاهدتهم. وفى تقديم التوكل على الدعاء تنبيه على أن الداعي ينبغى أن يتوكل أولا لتجاب دعوته لأنه يتسبب فى نجاح أمره ، ثم يدعو. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : التوكل هو ثمرة الإيمان ونتيجته ، فكلما قوى الإيمان واشتدت أركانه قوى التوكل وظهرت أسراره ، وكلما ضعف الإيمان ضعف التوكل ، فالتّوغل فى الأسباب نتيجة ضعف الإيمان ، والتقلل منها نتيجة صحة التوكل والإيقان ، والتوكل : أن تكون بما فى يد اللّه أوثق مما فى يدك. قال تعالى : ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ «1» والتوكل قد يوجد مع الأسباب ، ومع التجريد أنفع ، وقد تقدم الكلام عليه فى آل عمران «2». وبالله التوفيق.
ثم أمر بنى إسرائيل باتخاذ المساجد ، وجعلها فى البيوت خوفا من فرعون ، فقال :
[سورة يونس (10) : آية 87]
وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (87)
يقول الحق جل جلاله : وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا أي : اتخذا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً للصلاة والعبادة ، وقيل : أراد الإسكندرية ، وهى من مصر ، وَاجْعَلُوا أنتما وقومكما بُيُوتَكُمْ التي تسكنون فيها قِبْلَةً : مصلّى ومساجد. روى أن فرعون أخافهم ، وهدم مواضع كانوا اتخذوها للصلاة ، فأمروا بإخفائها وجعلها فى بيوتهم ، وتكون متوجهة نحو القبلة - يعنى مكة - وكان موسى يصلى إليها.
فإن قلت : لم خصّ موسى وهارون بالخطاب فى قوله : أَنْ تَبَوَّءا ، ثم خوطب بها بنو إسرائيل فى قوله :
وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ؟ ، فالجواب : أن التبوأ واتخاذ المساجد مما يتعاطاه رؤوس القوم للتشاور ، بخلاف جعل البيوت قبلة فمما ينبغى أن يفعله كل أحد.
___________
(1) الآية 96 من سورة النحل.
(2) عند إشارة قوله تعالى : فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ الآية 159.(2/493)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 494
وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ فى تلك البيوت ، أمروا بذلك أول مرة لئلا تظهر عليهم الكفرة ويفتنونهم عن دينهم ، وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بالنصر والعز فى الدنيا ، وبالجنة فى العقبى.
الإشارة : اتخاذ الأماكن للعبادة والعزلة مطلوب عند القوم ، وفى الحكم : «ما نفع القلب شىء مثل عزلة يدخل بها ميدان فكرة» ، وأصلهم فى ذلك : اعتزاله صلّى اللّه عليه وسلّم فى غار حراء فى مبدأ الوحى ، فالخلوة للمريد لا بد منها فى ابتداء أمره ، فإذا قوى نوره ودخل مقام الفناء صلح له حينئذ الخلطة مع الناس ، بحيث يكون جسده مع الخلق وقلبه مع الحق ، فإن لله رجالا أشباحهم مع الخلق تسعى ، وأرواحهم فى الملكوت ترعى. وقال بعضهم : [الجسد فى الحانوت والقلب فى الملكوت ] ، فإذا رجع إلى البقاء لم يختر حالا على حال لأنه مع اللّه على كل حال ، وهذا من أقوياء الرجال. نفعنا اللّه بهم.
ثم ذكر دعاء موسى على فرعون ، فقال :
[سورة يونس (10) : الآيات 88 الى 89]
وَقالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالاً فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (88) قالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما فَاسْتَقِيما وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (89)
قلت : اللام فى (ليضلوا) لام كى ، متعلقة بآتيت محذوفة ، أو بالمذكورة ، ولفظ (ربنا) تكرار ، أو تكون لام الأمر ، فيكون دعاء عليهم بلفظ الأمر ، بما علم من قرائن أحوالهم أنه لا يكون غيره. فَلا يُؤْمِنُوا : جواب الدعاء ، أو عطف على (ليضلوا).
يقول الحق جل جلاله : وَقالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً : ما يتزين به من الملابس والمراكب ونحوها ، وَأَمْوالًا : أنواعا من المال فِي الْحَياةِ الدُّنْيا استدراجا ، رَبَّنا آتيتهم ذلك لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ طغيانا وبطرا بها ، وصرفها فى غير محلها ، أو ربنا اجعلهم ضالين عن سبيلك ، كقول نوح عليه السّلام : وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلالًا «1» لما أيس من إيمانهم ، رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ أي : أهلكها وامحقها ، وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ بالقسوة ، واطبع عليها حتى لا تنشرح للإيمان ، فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ أي : إن تطمس على أموالهم وتشدد على قلوبهم لا يؤمنوا إلا قهرا.
___________
(1) الآية 26 من سورة نوح.(2/494)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 495
وفى الآية دليل على جواز الدعاء على الظالم بالمعصية ، أو الكفر ، وقد فعله سعد بن أبى وقاص على الذي شهد فيه بالباطل ، ووجه جوازه مع استلزامه وقوع المعاصي : أنه لم يعتبر من حيث تأديته إلى المعاصي ، ولكن من حيث تأديته إلى نكاية الظالم وعقوبته ، وهذا كما قيل فى تمنى الشهادة أنه مشروع ، وإن كان يؤدى إلى قتل الكافر للمسلم ، وهو معصية ووهن فى الدين ، ولكن الغرض من تمنى الشهادة ثوابها ، لا نفسها.
قالَ تعالى : قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما يعنى موسى وهارون ، وكان يؤمّن على دعاء أخيه ، فَاسْتَقِيما أي : اثبتا على ما أنتما عليه من الاستقامة والدعوة وإلزام الحجة ، ولا تستعجلا ، فإن ما طلبتما كائن ولكن فى وقته ، روى أنه مكث فيهم بعد الدعاء أربعين سنة ، وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ : طريق الجهلة فى استعجال الأشياء قبل وقتها ، أو فى عدم الوثوق والاطمئنان بوعدنا ، وقرأ ابن ذكوان : «ولا تتبعان» بالنون الخفيفة وكسرها لالتقاء الساكنين ، وهو قليل ، قال ابن مالك :
ولم تقع خفيفة بعد الألف «1».
ويحتمل أن تكون نون الرفع ، و«لا» نافية ، أي : والأمر لا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون.
الإشارة : دعاء الأولياء على الظالم مشروع بعد الإذن الإلهامى على ما يفهمونه ، وقد مكث الشيخ أبو الحسن سنين لم يدع على ابن البراء «2» حتى كان سنة فى عرفة ، فقال : الآن أذن لى فى الدعاء على ابن البراء .... إلخ.
فإن لم يكن إذن فالصبر أولى ، بل الأولى الدعاء له بالهداية ، حتى يأخذ اللّه بيده وهذا مقام الصديقين ، فإذا وقع الدعاء مطلقا وتأخرت الإجابة فلا يستعجل ، فيكون تبع سبيل الذين لا يعلمون ، وفى الحكم : «لا يكن تأخّر أمد العطاء مع الإلحاح فى الدعاء موجبا ليأسك ، فقد ضمن لك الإجابة فيما يختار لك لا فيما تختار أنت لنفسك ، وفى الوقت الذي يريد ، لا فى الوقت الذي تريد» ، وقال أيضا : «لا يشككنّك فى الوعد عدم وقوع الموعود وإن تعين زمنه لئلا يكون ذلك قدحا فى بصيرتك ، وإخمادا لنور سريرتك». وبالله التوفيق.
ثم أجاب دعاءهما ، فقال :
[سورة يونس (10) : الآيات 90 الى 92]
وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90) آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ (92)
___________
(1) عجز البيت : لكن شديدة وكسرها ألف.
(2) هو أبو القاسم ابن البراء ، قاضى تونس عند دخول الشيخ الشاذلى إليها. وقد رأى ابن البراء إقبال الناس على الشاذلى ، فسعى فى الكيد له واتهامه عند السلطان بالعمل على قلب نظام الحكم. ولكن اللّه نجاه من كل هذه المكائد.(2/495)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 496
قلت : (فأتبعهم) أي : تبعهم ، يقال : تبع وأتبع ، لغتان.
يقول الحق جل جلاله : وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ أي : جوزناهم فى البحر يبسا حتى بلغوا الشط الآخر حافظين لهم. روى أن بنى إسرائيل حين جاوزوا البحر كانوا ستمائة ألف ، وكان يعقوب عليه السّلام قد دخل مصر فى نيف وسبعين من ذريته ، فتناسلوا حتى بلغوا وقت موسى العدد المذكور.
فَأَتْبَعَهُمْ : فأدركهم فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ ، روى أنهم كانوا ثمانمائة ألف أدهم ، سوى ما يناسبها من أواسط الخيل. تبعهم بَغْياً وَعَدْواً : باغين وعادين عليهم. مستمرا على بغيه حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ أي : بأنه لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ ، فآمن حين لا ينفع الإيمان بمعاينة الموت ، ومن قال بصحة إيمانه فغلط كالحاتمى «1» فإنه قال فى الفصوص : إنه من الناجين ، وذلك من جملة هفواته.
قال تعالى لفرعون : آلْآنَ أي : أتؤمن الآن وقد أيست من نفسك ، وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ مدة عمرك وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ : الضالين المضلين ، فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ أي : ننقذك مما وقع فيه قومك من قعر البحر ، ونجعلك طافيا على وجه الماء ، أو نلقيك على نجوة من الأرض ليراك الناس ، فيتحققوا بغرق من معك ، حال كونك بِبَدَنِكَ عاريا عن الروح ، أو عريانا بلا لباس ، أو بدرعك ، وكانت له دروع من ذهب يعرف بها ، وكان مظاهرا بينها.
لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً : لمن وراءك علامة يعرفون أنك من الهالكين ، والمراد : بنو إسرائيل إذ كان فى نفوسهم من عظمته ما خيّل إليهم أنه لا يهلك ، حتى كذبوا موسى عليه السّلام حين أخبرهم بغرقه ، إلى أن عاينوه منطرحا على ممرهم من الساحل ، أو لمن يأتى بعدك من القرون إذا سمعوا مآل أمرك ، فيكون ذلك عبرة ونكالا للطغيان ، أو حجة تدلهم على أن الإنسان على ما كان عليه من عظيم الشأن وكبرياء الملك مملوك مقهور ، بعيد عن مظانّ الربوبية ، أو آية تدل على كمال قدرته وإحاطة علمه وحكمته ، فإن إفراده بالإلقاء إلى الساحل دون غيره يفيد أنه مقصود لازاحة الشك فى أمره.
وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ لا يتفكرون فيها ولا يعتبرون بها ، والإخبار بهذا الأخذ الذي وقع فى قعر البحر من أعلام النبوة إذ لا يمكن أن يخبر بها إلّا علّام الغيوب الذي لا يخفى عليه شىء ، ولا يخلو منه مكان. واللّه تعالى أعلم.
___________
(1) أي : الشيخ محيى الدين بن عربى. [.....](2/496)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 497
الإشارة : كل من دخل بحر التوحيد علما - وهو فرعون برؤية نفسه - ، ولم يصحب من يغيبه عنها غرق فى بحر الزندقة والدعوى ، فإن رجع إلى الإيمان بعد معاينة الهلاك بسيف الشريعة قيل له : الآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين؟ فإن تاب حقيقة رجى له النجاة ، وإن قتل كان آية ونكالا لمن خلفه.
واللّه تعالى أعلم.
ثم ذكّر بنى إسرائيل بما أنعم عليهم ، فقال :
[سورة يونس (10) : آية 93]
وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (93)
قلت : (مبوّأ) : ظرف بمعنى منزل يقول الحق جل جلاله : وَلَقَدْ بَوَّأْنا أي : أنزلنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ أي : منزل صدق ، أي :
منزلا صالحا مرضيا يصدق فيه ظن قاصده وساكنه ، فما ظن فيه من الكمالات وجدها صدقا وحقا ، والمراد به : الشام وقراها ، وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ من اللذائذ ، وكانوا متفقين على دينهم ، وعلى ظهور دين الإسلام ، فَمَا اخْتَلَفُوا فى أمر دينهم حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ بأن قرؤوا التوراة وعلموا أحكامها ، ثم طغوا وعصوا ، أو فى أمر محمد صلّى اللّه عليه وسلّم إلا من بعد ما علموا صدقه بنعوته وتظاهر معجزاته ، إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ، فيميز المحقّ من المبطل بالإنجاء والإهلاك.
الإشارة : قد يمد اللّه عباده بأنواع النعم ، ثم يبعث لهم من يذكرهم بأيام اللّه ، ويعرفهم به ، فإذا اختلفوا عليه ظهر الشاكر من غيره ، فيغير عليهم تلك النعم ، فيوصل إليه أهل التصديق والاستماع والاتباع ، ويبعد أهل الإنكار والابتداع. وبالله التوفيق.
ثم أمر بالسؤال لأهل العلم لمن وقعت له شبهة ، فقال :
[سورة يونس (10) : الآيات 94 الى 95]
فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ (94) وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ (95)(2/497)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 498
يقول الحق جل جلاله : فَإِنْ كُنْتَ يا محمد فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ الخطاب للرسول صلّى اللّه عليه وسلّم ، والمراد به : من وقع له شك ، فإن الملك إذا أراد أن يعرض بأحد خاطب كبير القوم وهو يريد غيره ، فهو كقول العامة : الكلام مع السارية وافهمى يا جارية.
وأما النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فهو بعيد من الشك لأنه عين اليقين ، وهو الذي علّم الناس اليقين ، ولذلك قال - عليه الصلاة السلام - لما نزلت : «لا أشكّ ولا أسأل» «1» والمراد بالذين يقرءون الكتاب : من أسلم منهم ، كعبد اللّه بن سلام وغيره ، أو فإن كنت أيها المستمع فى شك مما أنزلنا إليك على لسان فاسأل ... إلخ ، وفيه تنبيه على أن من خالجته شبهة فى الدين ينبغى أن يسارع إلى حلها ، بالرجوع إلى أهل اليقين إن كانت فى التوحيد ، أو إلى أهل العلم إن كانت فى الفروع.
قال ابن عطية : الخواطر التي لا ينجو منها أحد ، هى خلاف الشك الذي يحال فيه على الاستشفاء بالسؤال. ه.
أي : فإنها معفوّ عنها.
ثم قال تعالى : لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ واضحا لا مدخل للمرية فيه بالآيات القاطعة فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ : الشاكّين بالتزلزل على ما أنت عليه من الجزم واليقين ، وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ ، وهذا كله يجرى على ما تقدم من أنه لكل سامع. وقال البيضاوي : هو من باب التهييج والتثبيت ، وقطع الأطماع عنه ، كقوله : فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ «2» ه.
الإشارة : لا تنقطع عن العبد الأوهام والشكوك والخواطر ، حتى يدخل مقام الإحسان ويكاشف بمقام الشهود والعيان ، بالغيبة عن حس الأكوان ، بسطوع أنوار المعاني عند غيبة الأوانى ، ومن غاب عن حس نفسه غاب عنه حس جميع الأكوان وذلك بصحبة أهل العرفان ، الذين سلكوا الطريق حتى أفضوا إلى عين التحقيق ، فزاحت عنهم الشكوك والأوهام ، وانحلت عنهم الشّبه ، وزالت عن قلوبهم الأسقام ، واطلعوا على تأويل المتشابه من القرآن ، فبصحبة هؤلاء ترتفع الخواطر والشكوك ، ويرتفع العبد إلى حضرة ملك الملوك ، فجلوس ساعة مع هؤلاء تعدل عبادة سنين. وفى بعض الآثار : (تعلموا اليقين بمجالسة أهل اليقين) قلت : وقد من اللّه علينا بمعرفتهم وصحبتهم ، بعد أن تحققنا بخصوصيتهم ، فلله الحمد وله الشكر.
ثم أخبر عمن سبق له الشقاء ، فلا ينفع فيه سؤال ولا صحبة ، فقال :
[سورة يونس (10) : الآيات 96 الى 97]
إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (97)
___________
(1) أخرجه ابن جرير فى تفسيره (11/ 168) ، عن قتادة وسعيد بن جبير ، وزاد المناوى فى الفتح السماوي (2/ 716) عزوه لعبد الرزاق فى تفسيره.
(2) من الآية 86 من سورة القصص.(2/498)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 499
يقول الحق جل جلاله : إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ أي : ثبتت عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ بأنهم لا يؤمنون ، أو بأنهم مخلدون فى العذاب لا يُؤْمِنُونَ أبدا إذ لا يكذب كلامه ولا ينتقض قضاؤه ، وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ وعاينوها فإن السبب الأصلى لإيمانهم هو تعلق إرادته تعالى ، وقد أراد خلافه ، فلا يؤمنوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ وحينئذ لا ينفعهم ، كما لم ينفع فرعون ، وبالله التوفيق.
الإشارة : من انتكبه التوفيق لا يصدق بأهل التحقيق ، ولو رأى منهم ألف كرامة ، فلا تنفك عنه الشكوك والأوهام حتى يفضى إلى شرب كأس الحمام ، فيلقى اللّه بقلب سقيم ، وربما مات على الشك ، فيلحقه العذاب الأليم ، عائذا بالله من ذلك.
ثم وبخ من فوت إيمانه عن وقته ، فقال :
[سورة يونس (10) : آية 98]
فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ (98)
قلت : (فلو لا) تحضيضية ، و(إلا قوم يونس) : استثناء منقطع ، ويجوز الاتصال فيكون الاستثناء من معنى النفي الذي تضمنه حرف التحضيض لأن المراد بالقرى : أهلها ، كأنه قال : ما آمن أهل قرية من القرى الماضية فنفعها إيمانها إلا قوم يونس ، ويؤيده قراءة الرفع. و«يونس» : عجمى مثلث النون.
يقول الحق جل جلاله : فَلَوْ لا كانَتْ هلا وجدت قَرْيَةٌ من القرى التي أهلكناها آمَنَتْ قبل معاينة العذاب ، ولم تؤخر الإيمان إلى نزوله كما فعل فرعون ، فَنَفَعَها حينئذ إِيمانُها بأن يقبله اللّه منها فيكشف عنها العذاب ، إِلَّا لكن قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ، فرفعنا عنهم العذاب حين آمنوا بعد أن ظهرت مخايله ، فنجوا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ : إلى تمام آجالهم.
روى أن يونس عليه السّلام بعث إلى أهل نينوى من الموصل ، فكذبوه وأصروا على تكذيبه ، فوعدهم بالعذاب إلى ثلاث ، فلما دنا الموعد وأغامت السماء غيما أسود ذا دخان شديد فهبط حتى غشى مدينتهم ، فهابوا ، فطلبوا يونس فلم يجدوه فأيقنوا صدقه ، فلبسوا المسوح وبرزوا إلى الصعيد بأنفسهم ونسائهم وصبيانهم ودوابهم ، وفرقوا بين كل والدة وولدها ، فحن بعضها إلى بعض وعلت الأصوات والضجيج ، وأخلصوا التوبة والإيمان ، وتضرعوا إلى اللّه تعالى ، فرحمهم وكشف العذاب عنهم ، وكان يوم عاشوراء ويوم الجمعة. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : ينبغى للعبد أن يعتنى بتربية إيمانه وتقوية إيقانه قبل فوات إبّانه ، وهو انصرام أجله. وتربيته تكون بصحبة أهل اليقين ، فإن لم يعثر بهم فبمطالعة كتبهم ، والوقوف على أخبارهم ومناقبهم ، مع دوام التفكر والاعتبار ، (2/499)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 500
والإكثار من الطاعة والخضوع والافتقار ، والتمسك بالذل والانكسار. قال تعالى فى بعض الأخبار : «أنا عند المنكسرة قلوبهم من أجلى» وبالله التوفيق.
كما أشار إلى ذلك بقوله :
[سورة يونس (10) : الآيات 99 الى 100]
وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99) وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (100)
يقول الحق جل جلاله : وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ هداية الخلق كلهم لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً بحيث لا يتخلف عنه أحد ، لكن حكمته اقتضت وجود الخلاف ، فمن رام اتفاقهم على الإيمان فقد رام المحال ، ولذلك قال : أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ بالقهر على ما لم يشأ اللّه منهم حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ كلهم.
قال البيضاوي : وترتيب الإكراه على المشيئة بالفاء ، وإيلاؤها حرف الاستفهام الإنكارى ، وتقديم الضمير على الفعل ، للدلالة على أن خلاف المشيئة مستحيل ، فلا يمكنه تحصيله بالإكراه فضلا عن الحث والتحريض عليه ، إذ روى أنه - عليه الصلاة السلام - كان حريصا على إيمان قومه ، شديد الاهتمام به ، فنزلت ، ولذلك قرره بقوله : وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ بمشيئته وألطافه وتوفيقه فلا تجهد نفسك فى هداها ، فإنه إلى اللّه تعالى. وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ : العذاب أو الخذلان فإنه سببه عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ : لا يستعملون عقولهم بالنظر فى الحجج والآيات ، أو لا يعقلون دلائل القرآن وأحكامه لما على قلوبهم من الطبع. ويؤيد الأول قوله قُلِ انْظُرُوا ... إلخ. ه.
الإشارة : فى الآية تسلية لأهل التذكير حين يرون الناس لم ينفع فيهم تذكيرهم ، وفيها تأديب لمن حرص على هداية الناس كلهم ، أو يتمنى أن يكونوا كلهم خصوصا ، فإن هذا خلاف حكمته تعالى. قال تعالى : وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ «1» فالداعون إلى اللّه لا يكونون حرصا على الناس أبدا ، بل يدعون إلى اللّه ، ويذكّرون بالله ، وينظرون ما يفعل اللّه اقتداء بنبي اللّه ، بعد أن علمه اللّه كيف يكون مع عباد اللّه. واللّه تعالى أعلم.
ثم أمر باستعمال العقل فى التفكر والاعتبار ، فقال :
[سورة يونس (10) : الآيات 101 الى 103]
قُلِ انْظُرُوا ما ذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (101) فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (102) ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ (103)
___________
(1) من الآية 118 من سورة هود.(2/500)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 501
قلت : (ماذا) إن كانت استفهامية علقت (انظروا) عن العمل ، وإن كانت موصولة فمفعول به ، و(ما تغنى الآيات) : يحتمل الاستفهام فى محل نصب بتغنى ، أو النفي. «ثم ننجى» معطوف على محذوف دل عليه : (إلا مثل أيام) أي : فكانت عادتنا معهم أن نهلك المكذبين ، ثم ننجى رسلنا ومن آمن معهم. و«كذلك» مصدر معمول لننجى ، و(حقا) اعتراض بينهما ، وهو مصدر لفعل محذوف ، أي : مثل ذلك الإنجاء ننجى المؤمنين يحق ذلك حقا ، وعلى هذا يوقف على : (الذين آمنوا) ، ثم يبتدأ بقوله : (كذلك حقّا ..) إلخ. وقيل : خبر عن (الذين آمنوا) أي : والذين آمنوا مثلهم فى الإنجاء ، وهو ضعيف.
يقول الحق جل جلاله : قُلِ للمشركين الذين طلبوا منك الآية : انْظُرُوا ما ذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ من الآيات والعبر ، وعجائب الصنع ليدلكم على وحدانية اللّه تعالى ، وكمال قدرته ، ثم بيّن أن الآيات لا تفيد من سبق عليه الشقاء ، فقال : وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ فى علم اللّه وحكمه ، ثم هددهم بالهلاك فقال : فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ أي : مثل وقائعهم ونزول العذاب بهم إذ لا يستحقون غيره ، فهو من قولهم : أيام العرب ، لوقائعها.
قُلْ لهم : فَانْتَظِرُوا هلاككم إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ لذلك ، أو فانتظروا هلاكى إنى معكم من المنتظرين هلاككم ، ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا أي : عادتنا أن ننجى رسلنا وَالَّذِينَ آمَنُوا معهم من ذلك الهلاك ، كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ من أصحاب محمد صلّى اللّه عليه وسلّم حين نهلك المجرمين حقّا واجبا علينا كما هى عادتنا مع من تحبب إلينا بالإيمان والطاعة.
الإشارة : أمر الحق - جل جلاله - أهل النظر والاستبصار بأن ينظروا ماذا فى السموات والأرض من الأسرار والأنوار ، أمرهم أن يشاهدوا أسرار الذات وأنوار الصفات ، دون الوقوف مع الأجرام الحسّيات ، أمرهم أن ينظروا المعاني خلف رقة الأوانى ، لا أن يقفوا مع الأوانى ، وإليه أشار ابن الفارض فى خمريته ، حيث قال :
ولطف الأوانى - فى الحقيقة - تابع للطف المعاني ، والمعاني بها تسمو
فالأكوان كلها أوانى حاملة للطف المعاني ، وأصل الأوانى معانى ، تحسست وتكثفت فمن لطّف الأوانى وذوّبها بفكرته رجعت معانى ، واتصلت المعاني بالمعاني ، وغابت حينئذ الأوانى ، ولا يعرف هذا إلا من صحب أهل المعاني ، وهم أهل الفناء والبقاء ، ومن لم يصحبهم فحسبه الوقوف مع الأجرام الحسية ، ويستعمل فكرة التصديق والإيمان ، وهى عبادة التفكر والاعتبار والأولى فكرة أهل الشهود والاستبصار ، وفى أمثالهم قال الشاعر :
هم الرّجال وغبن أن يقال لمن لم يتّصف بمعاني وصفهم رجل
وقد ذكر فى الحكم هذه الإشارة فقال : «أباح لك أن تنظر ما فى المكوّنات ، وما أباح لك أن تقف مع ذوات المكونات ، (قل انظروا ماذا فى السموات) فتح لك باب الأفهام ، ولم يقل : انظروا السموات لئلا يدلك على وجود الأجرام».(2/501)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 502
ومن سبق له فى العلم القديم الخذلان لا يخرج عن دائرة الأكوان ، فلا يؤمن بوجود أهل الشهود والعيان ، فما ينتظر مثل هذا إلا ما نزل بأمثاله ، من هجوم الحمام قبل خروجه من سجن الأجرام ، فإنه لا ينجو من سجن الأكوان إلا من صحب أهل العرفان ، الذين أفضوا إلى فضاء الشهود والعيان ، وقليل ما هم.
ثم أمر نبيه بالتبرء من الشرك وأهله ، فقال :
[سورة يونس (10) : الآيات 104 الى 107]
قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (104) وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (105) وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ (106) وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (107)
قلت : (و أن أقم) : عطف على (أن أكون) وإن كان بصيغة الأمر لأنّ الغرض وصل «أن» بما يتضمن معنى المصدر ليدل معه عليه ، وصيغ الأفعال كلها كذلك ، سواء الخبر منها والطلب ، والمعنى : وأمرت بالإيمان والاستقامة.
يقول الحق جل جلاله : قُلْ يا محمد لأهل مكة أو لجميع الناس : يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي بأن شككتم فى صحته حتى عبدتم غير اللّه ، فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ فهذا خلاصة دينى اعتقادا وعملا ، فاعرضوها على العقل السليم ، وانظروا فيها بعين الإنصاف ، لتعلموا صحتها ، وهو أنى لا أعبد ما تخلقونه وتعبدونه ، ولكن أعبد خالقكم ، الذي هو يوجدكم ويتوفاكم.
وإنما خص التوفى بالذكر لأنه أليق بالتهديد ، انظر البيضاوي. وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بالله وحده ، الذي دل عليه العقل ونطق به الوحى.
وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً مائلا عن الأديان الفاسدة ، أي : أمرت بالاستقامة بذاتى كلها فى الدين والتوغل فيه ، بأداء الفرائض والانتهاء عن القبائح ، أو : أن أقيم وجهى فى الصلاة باستقبال القبلة. وقيل لى : وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ بالله فى شىء ، وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ بنفسه ولا بدعوته ، فَإِنْ فَعَلْتَ ودعوته فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ ، وهو تنفير وتحذير للغير من الميل اليه.
ثم بيّن من يستحق العبادة والدعاء ، وهو اللّه تعالى فقال : وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ أي : يصيبك بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ : لا رافع له إِلَّا هُوَ أي : اللّه ، وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ : لا دافع لِفَضْلِهِ الذي أرادك به.(2/502)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 503
قال البيضاوي : ولعله ذكر الإرادة مع الخير ، والمس مع الضر ، مع تلازم الأمرين للتنبيه على أن الخير مراد بالذات ، وأن الضر إنما مسهم لا بالقصد الأول ، ووضع الفضل موضع الضمير للدلالة على أنه متفضل بما يريد بهم من الخير لا لاستحقاق لهم عليه ، ولم يستثن لأن مراد اللّه لا يمكن رده. ه.
يُصِيبُ بِهِ بذلك الخير مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ، فتعرّضوا لخيره بالتضرع والسؤال ، ولا يمنعكم من ذلك ما اقترفتم من العصيان والزلل ، فإنه غفور رحيم.
الإشارة : ينبغى لمن تمسك بطريق الخصوص ، وانقطع بكليته إلى مولاه ، أن يقول لمن خالفه فى ذلك : إن كنتم فى شك من دينى - من طريقى - فلا أعبد ما تعبدون من دون اللّه ، من متابعة الهوى والحرص على الدنيا ، ولكن أعبد اللّه الذي يتوفاكم ، وأمرت أن أكون من المؤمنين ، وأن أقيم وجهى للدين حنيفا مائلا عن دينكم ودنياكم ، كما قال القائل :
تركت للناس دنياهم ودينهم شغلا بذكرك يا دينى ودنيائى
وقال آخر :
تركت للنّاس ما تهوى نفوسهم من حبّ دنيا ومن عزّ ومن جاه
كذاك ترك المقامات هنا وهنا والقصد غيبتنا عمّا سوى اللّه.
وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ ، وهو ما سوى اللّه ، فليس بيد أحد ضر ولا نفع ، ولا جلب ولا دفع ، قال فى الحكم : «لا ترفعنّ إلى غيره حاجة هو موردها عليك ، فكيف يرفع إلى غيره ما كان هو له واضعا؟! من لا يستطيع أن يرفع حاجته عن نفسه فكيف يستطيع أن يكون لها عن غيره رافعا؟!».
قال بعضهم : من اعتمد على غير اللّه فهو فى غرور لأن الغرور ما لا يدوم ، ولا يدوم شىء سواه ، وهو الدائم القديم ، لم يزل ولا يزال ، وعطاؤه وفضله دائمان ، فلا تعتمد إلا على من يدوم عليك منه الفضل والعطاء ، فى كل نفس وحين وأوان وزمان. ه.
وقال وهب بن منبّه : أوحى اللّه إلى داود عليه السّلام : يا داود أما وعزتى وجلالى وعظمتى لا ينتصر بي عبد من عبادى دون خلقى ، أعلم ذلك من نيته فتكيده السموات السبع ومن فيهن ، والأرضون السبع ومن فيهن ، إلا جعلت له منهن فرجا ومخرجا ، أما وعزتى وجلالى لا يعتصم عبد من عبادى بمخلوق ، دونى ، أعلم ذلك من نيته إلا قطعت أسباب السموات من يده ، وأسخطت الأرض من تحته ولا أبالى فى أي واد هلك. ه.
وقال بعضهم : قرأت فى بعض الكتب : أن اللّه عز وجل يقول : [وعزتى وجلالى ، وجودى وكرمى ، وارتفاعي فوق عرشى فى علو مكانى ، لأقطعن آمال كل مؤمّل لغيرى بالإياس ، ولأكسونه ثوب المذلة بين(2/503)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 504
الناس ، ولأنحينّه من قربى ، ولأقطعنه من وصلي ، أيؤمّل غيرى فى النوائب ، والشدائد بيدي ، وأنا الحي ، ويرجى غيرى ويقرع بالفكر باب غيرى ، وبيدي مفاتح الأبواب ، وهى مغلقة وبابى مفتوح لمن دعانى ، ومن ذا الذي أملنى لنائبة فقطعت به دونها؟ ومن ذا الذي رجانى بعظيم جرمه فقطعت رجاءه منى؟ ومن ذا الذي قرع بابى فلم أفتح له؟ جعلت آمال خلقى بينى وبينهم متصلة ، فقطعت بغيري ، وجعلت رجاءهم مدخورا لهم عندى فلم يرضوا بحفظي ، وملأت سمواتى بمن لا يملون تسبيحى من ملائكتى ، وأمرتهم ألا يغلقوا الأبواب بينى وبين عبادى ، فلم يثقوا بقولي ، ألم يعلم من طرقته نائبة من نوائبى أنه لا يملك كشفها أحد غيرى؟ فما لى أراه بآماله معرضا عنى؟ ومالى أراه لاهيا إلى سواى ، أعطيته بجودي ما لم يسألنى ، ثم انتزعته منه فلم يسألنى رده ، وسأل غيرى ، أفتراني أبدا بالعطية قبل المسألة ثم أسأل فلا أجيب سائلى؟ أبخيل أنا فيبخلنى خلقى؟ أليس الدنيا والآخرة لى؟ أوليس الفضل والرحمة بيدي؟ أوليس الجود والكرم لى؟ أوليس أنا محل الآمال؟ فمن ذا الذي يقطعها دونى؟ وما عسى أن يؤمّل المؤملون لو قلت لأهل سمواتى وأهل أرضى : أمّلونى ، ثم أعطيت كل واحد منهم من الفكر مثل ما أعطيت الجميع ، ما انتقص ذلك من ملكى عضو ذرّة ، وكيف ينقص ملك كامل أنا فيه؟. فيا بؤس القانطين من رحمتى ، ويا بؤس من عصانى ولم يراقبنى ، وثب على محارمى ولم يستح منّى.] ه.
ثم أزاح عذرهم بإرسال النذير ، فقال :
[سورة يونس (10) : الآيات 108 الى 109]
قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (108) وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (109)
يقول الحق جل جلاله : قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ الرسول أو القرآن ، فَمَنِ اهْتَدى بالإيمان والمتابعة فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ لأن نفعه لها ، وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها لأن وبال الضلال عليها ، وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ أي : موكل عليكم ، فأقهركم على الإيمان ، وإنما أنا بشير ونذير. وهو منسوخ بآية السيف. وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ بالامتثال والتبليغ ، وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بينك وبين عدوك ، بالأمر بالقتال ثم بالنصر والعز ، وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ إذ لا يمكن الخطأ فى حكمه ، لاطلاعه على السرائر كاطلاعه على الظواهر.(2/504)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 505
الإشارة : يا أيها الناس قد جاءكم من يعرفكم بالحق من ربكم ، فمن اهتدى بمعرفته واتباعه نفع نفسه ، حيث أخرجها من غم الحجاب ، وشفاها من سقم الشك والارتياب ، ومن ضل عن معرفته فوباله عليه ، حيث ترك نفسه فى أودية الخواطر تجول ، وحرمها من اللّه حقيقة الوصول. ويقال للعارف إذا أعرض الخلق عنه ، ولم ينفع فيهم تذكيره ووعظه : اتبع ما يوحى إليك من وحي الإلهام ، فإنه حق فى حق الخصوص إذ لا يتجلى فى قلوبهم إلا ما هو حق ، حيث تطهرت من خواطر الخلق. واصبر حتى يحكم اللّه بإرسال ريح الهداية ، وهو خير الحاكمين. وبالله التوفيق ، وهو الهادي إلى سواء الطريق.(2/505)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 506(2/506)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 507
سورة هود
مكية إلا قوله تعالى : إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ نزلت فى نبهان التمار بالمدينة ، وهى مائة وثلاث وعشرون آية. ووجه المناسبة لما قبلها : قوله تعالى : وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ «1» وهو كتاب أحكمت آياته.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. الر.
[سورة هود (11) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1) أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (2) وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (3) إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (4)
أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (5)
قال فى القوت ، فى تفسير الر : هذه ثلاثة أسماء : (اللّه ، لطيف ، رحيم). وقيل : هى حرف من اسم الرحمن.
قلت : أو مختصرة من الرسول خطابا للنبى صلّى اللّه عليه وسلّم. ويمكن أن يشير بالحروف للعوالم الثلاثة فالألف لوحدة الجبروت ، واللام لتدفق أنوار الملكوت ، والراء لسريان إمداد الرحموت فى سائر الموجودات ، وأعظمها وعنصرها :
نزول الكتاب العزيز. ولذلك بدأ بذكره ، فقال :
الر كِتابٌ ...
قلت : (كتاب) : خبر ، أي : هذا كتاب. و(أحكمت) : صفة. و(من لدن) : خبر ثان ، أو خبر «كتاب» إن جعل مبتدأ ، أو صفة له ، إن كان خبرا. و(ألّا تعبدوا) : «أن» : مفسرة ، أو مصدرية فى موضع مفعول لأجله ، أو بدل من الآيات ، أو مستأنف. و(أن استغفروا) : عطف عليه. و(حين) : متعلق بمحذوف ، أي : ألا إنهم يثنونها حين يستغشون ... إلخ. و(يعلم) : استئناف لبيان النقض عليهم.
يقول الحق جل جلاله : أيها الرسول المصطفى ، هذا الذي تقرؤه كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ أتقنت ، ونظمت نظما محكما ، لا يعتريه خلل من جهة اللفظ ولا المعنى ، أو أحكمت من النسخ بشريعة أخرى ، أو أحكمت
___________
(1) من الآية : 109 من سورة يونس.(2/507)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 508
بالحجج والبراهين ، أو جعلت حكيمة لأنها مشتملة على أمهات الحكم العملية. ثُمَّ فُصِّلَتْ بينت لاشتمالها على بيان العقائد والأحكام والمواعظ والأخبار. أو فصلت سورة سورة ليسهل حفظها ، وفصلت بالإنزال نجما نجما ، فى أزمنة مختلفة. أو فصل فيها ولخص ما يحتاج إليه من الأحكام. و(ثم) : للتفاوت فى الحكم لأن الأحكام صفة ذاتية ، والتفصيل إنما هو بحسب من يفصل له. نزل ذلك الكتاب مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ، ولذلك كان محكما مفصلا بالغا فى ذلك الغاية لأن الحكيم الخبير لا يخفى عليه ما يخل بنظم الكلام.
قائلا ذلك الكتاب : ألا تعبدوا معه غيره. وقال فى القوت : كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ يعنى : بالتوحيد ، ثُمَّ فُصِّلَتْ أي : بالوعد والوعيد. ثم قال : مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ أي : بالإحكام للأحكام ، خَبِيرٍ بالتفصيل للحلال والحرام. أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ هذا هو التوحيد الذي أحكمه. إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ بالعذاب ، وَبَشِيرٌ بالثواب لمن آمن به. هذا هو الوعد والوعيد. قال البيضاوي : إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ أي : من اللّه ، (نذير وبشير) بالعقاب على الشرك والثواب على التوحيد. وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ : عطف على «ألا تعبدوا» ، ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ ثم توصلوا إلى مطلبكم بالتوبة فإن المعرض عن طريق الحق لا بد له من رجوع. وقيل : استغفروا من الشرك ، ثم توبوا إليه بالطاعة ، ويجوز أن يكون «ثم» : للتفاوت بين الأمرين. ه.
قال ابن جزى : (استغفروا ربكم) مما تقدم من الشرك والمعاصي ، ثم ارجعوا إليه بالطاعة والاستقامة. ه.
وقال الواحدي : (استغفروا ربكم) من ذنوبكم السابقة ، (ثم توبوا إليه) من المستأنفة متى وقعت. ه. يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً يحييكم حياة طيبة بالأرزاق والنعم والخيرات ، فتعيشوا فى أمن ودعة. إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى تمام أجلكم ، فلا يستأصلكم بالعذاب ، أو يمتعكم بالرجاء فيه والرضا بقضائه لأن الكافر قد يمتع بالأرزاق فى الدنيا استدراجا ، وَيُؤْتِ فى الآخرة كُلَّ ذِي فَضْلٍ عمل صالحا ، فَضْلَهُ أي : جزاء فضله ، فيوفى ثواب عمله ، أو يعطى كل ذى فضل فى دينه جزاء فضله فى الدنيا والآخرة. وهو وعد للمؤمن التائب بخير الدارين.
وَإِنْ تَوَلَّوْا أي : وإن تتولوا عما أمرتكم به ، فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ يوم القيامة ، أو يوم الشدة بالقحط والجوع ، وقد نزل بهم حتى أكلوا الجيف. أو يوم بدر إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ أي : رجوعكم فى ذلك اليوم الكبير ، أو بالموت ، وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فيقدر على بعثهم وعذابهم أشد العذاب. وكأنه تقرير لكبر اليوم.
أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ يلوونها عن الحق وينحرفون عنه ، أو يعطفونها على الكفر وعداوة النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ، أو يولون ظهورهم إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم لئلا يروه من شدة البغض والعداوة ، لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أي : من الرسول - عليه الصلاة والسلام - أو : من اللّه بسرهم ، فلا يطلع رسوله والمؤمنين عليه. قيل : إنها نزلت فى طائفة من المشركين ، قالوا : إن أرخينا ستورنا ، واستغشينا ثيابنا ، وطوينا صدورنا على عداوة محمد صلّى اللّه عليه وسلّم كيف يعلم ذلك؟(2/508)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 509
والحاصل : إن الإثناء إن كان عن الحق - فالضمير فى : (منه) ، يعود على اللّه ، وإن كان عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فالضمير يعود عليه وفى البخاري عن ابن عباس : (أنها نزلت فيمن كان يستحى أن يتخلّى أو يجامع فيفضى إلى السماء).
وقوله : أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ : يحتمل أن يكون عند النوم ، فيكون الإثناء عن الحق ، أو عن اللّه ، أو عند مواجهة الرسول ، فيكون الإثناء عن رؤيته - عليه الصلاة السلام ، أو عن سماع القرآن. قال تعالى : يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ فى قلوبهم ، وَما يُعْلِنُونَ بأفواههم ، - فقد استوى فى علمه سرهم وعلانيتهم ، فكيف يخفى عليه أمرهم واستخفاؤهم منه؟ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ أي : بالأسرار صاحبة الصدور ، أو بحقائق الصدور وما احتوت عليه.
الإشارة : يقول الحق جل جلاله : هذا كتاب أحكمت آياته بالتعريف بالذات ، ثم فصلت ببيان الصفات ، أو :
أحكمت بتبيين الحقائق ، ثم فصلت بتبيين الشرائع. أو : أحكمت ببيان ما يتعلق بعالم الأرواح من التعريف ، ثم فصلت ببيان ما يتعلق بعالم الأشباح من التكليف ، أو : أحكمت ببيان أسرار الملكوت ، ثم فصلت ببيان أحكام الملك. ثم بيّن ما يتعلق بالذات فقال : أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ ، وبيّن ما يتعلق بالصفات من التفصيل فقال : (و أن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه) ، أو : بيّن ما يتعلق بالحقائق ، ثم ما يتعلق بالشرائع ، وهكذا. فإن جمعتم بين الحقائق والشرائع يمتعكم متاعا حسنا بشهود ذاته ، والتنزه فى أنوار صفاته ، إلى أجل مسمى ، وهو : النزول فى مقعد صدق عند مليك مقتدر ، ويؤت كل ذى فضل من المعرفة جزاء فضله من الشهود ، فمن تولى عن هذا خاف من عذاب يوم كبير ، وهو : غم الحجاب ، والتخلف عن الأحباب. ثم عاتب أهل الشهود حيث تركوا مقام المشاهدة وتنزلوا إلى مقام المراقبة ، بقوله : (ألا إنهم يثنون صدورهم ...) الآية.
ثم بيّن كمال علمه تكميلا لقوله : (يعلم ما يسرون وما يعلنون) ، فقال :
[سورة هود (11) : آية 6]
وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (6)
يقول الحق جل جلاله : وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ أي : كل ما يدب عليها عاقلا أو غيره ، إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها غذاؤها ومعاشها لتكفله إياه بذلك تفضلا وإحسانا. وإنما أتى بعلى التي تقتضى الوجوب تحقيقا لوصوله ، وتهييجا على التوكل وقطع الوساوس فيه ، وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها أماكنها فى الحياة والممات ، أو الأصلاب والأرحام. أو : مستقرها فى الأرض بعد وجودها ، ومستودعها : موادها قبل إيجادها. أو بالعكس : مستقرها : موادها فى العلم قبل الظهور ، ومستودعها : إقامتها فى الدنيا بعد الوجود. كُلٌّ واحد من الدواب على اختلاف أجناسها وأصنافها فِي كِتابٍ مُبِينٍ مذكور فى اللوح المحفوظ ، أو فى العلم القديم المبين للأشياء ، قال البيضاوي : وكأنه أريد بالآية كونه عالما بالمعلومات كلها ، وبما بعدها بيان كونه قادرا على الممكنات بأسرها ، تقريرا للتوحيد ولما سبق من الوعد والوعيد. ه.(2/509)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 510
الإشارة : هم الرزق ، وخوف الخلق ، من أمراض القلوب ، ولا ينقطعان عن العبد حتى يكاشف بعلم الغيوب وهو التوحيد الخاص أعنى : الرسوخ فى الشهود والعيان. وإنما يضر العبد ما كان ساكنا ، وأما الخواطر التي تلمع وتذهب ، فلا تضر لأن الإنسان خلق ضعيفا.
واعلم أن الرزق على قسمين : رزق الأرواح ، ورزق الأشباح. فرزق الأرواح معنوى ، وهو : قوت الروح من المعرفة وعلم اليقين. ورزق الأشباح حسى ، وهو : الطعام والشراب. وقد تكفل الله بالأمرين معا ، وأمر بالتسبب فيهما ، قياما برسم الحكمة. فالتكفل حقيقة ، والتسبب شريعة ، فالعامة اشتغلوا بالتسبب فى الرزق الحسى والبحث عنه ، ولم يعبأوا بالرزق المعنوي ، ولا عرفوه من شدة إعراضهم عنه ، مع أنهم لو فقدوا الرزق المعنوي لماتت أرواحهم. والخاصة اشتغلوا بالتسبب فى الرزق المعنوي والبحث عنه ، ولم يعبأوا بالرزق الحسى من شدة إعراضهم عنه ، مع أنهم لو فقدوا الرزق الحسى لهلكت أشباحهم. وخاصة الخاصة يتسببون فى الرزق الحسى والمعنوي ، وليس هم مع إرادتهم فى واحد منهما ، وإنما هم أبدا مع إرادة مولاهم راتعين أبدا ، حيث دفعتهم إرادة سيدهم فى الحسى أو فى المعنوي من غير تبرم ولا التفات لغيره ، كما قال القائل «1».
أراني كالآلات وهو محركى أنا قلم ، والاقتدار أصابع
العامة قد حجبوا عن اللّه بإرادتهم للرزق الحسى ، حيث صار الرزق الحسى هو حظ النفوس. صاروا مع حظ نفوسهم لا غير ، والخاصة وجدوا اللّه فى طلبهم للرزق المعنوي ، لأنه حق اللّه ، لا حظ للنفس فيه ، لأجل ذلك لمّا كانوا لله كان اللّه لهم. وخاصة الخاصة ليس هم مع إرادتهم فى شىء ، بل هم بالله فى الأحوال كلها لا بنفوسهم.
قد انمحت إرادتهم فى إرادة اللّه ، فصارت إرادتهم إرادة اللّه ، وفعلهم فعله. وهذا المقام يقال له : التمكين بالتلوين.
ه. قاله شيخ شيوخنا سيدى على الجمل العمراني رضى اللّه عنه فى كتابه ، نفعنا اللّه بهم جميعا.
قوله تعالى : وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها أي : يعلم مستقرها فى العلم ، ومستودعها فى العمل ، أو مستقرها فى الحال ، ومستودعها فى المقام ، أو مستقرها فى الفناء ، ومستودعها فى البقاء ، أو مستقرها فى التلوين ومستودعها فى التمكين ، أو مستقرها فى عالم الأشباح ، ومستودعها فى عالم الأرواح. وأنشدوا :
كلّ شىء سمعته أو تراه فهو للقبضتين يشير
ضع قميصى عن العيون ترى ما غاب عنك فقد أتاك البشير
___________
(1) وهو الشيخ عبد الكريم الجيلي ، فى العينية.(2/510)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 511
فالمراد بالقبضتين : الحس والمعنى ، وإن كانا فى الأصل قبضة واحدة ، لكن لما تجلت بالضدين سمّاها قبضتين.
فالحس رداء للمعانى. وسماه هنا قميصا لأنه يستر كالرداء ، فإذا رفع القميص عن عيون البصيرة رأت ما غاب عنها من أنوار الملكوت وأسرار الجبروت ، وهذا معنى قوله : ضع قميصى عن العيون. إلخ ... ورفع حجاب المعنى عن البصيرة هو بشير الولاية وعنوانها. واللّه تعالى أعلم.
ولما بيّن كمال علمه ذكر كمال قدرته ، فقال :
[سورة هود (11) : آية 7]
وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (7)
يقول الحق جل جلاله : وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وما بينهما وما فيهما فِي مقدار سِتَّةِ أَيَّامٍ من أيام الدنيا ، أو خلق العالم العلوي والسفلى فى مقدار ذلك. وجمع السموات دون الأرض لاختلاف العلويات بالأصل والذات دون السفليات. وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ قيل : لم يكن بينهما حائل ، وكان موضوعا على متن الماء. واستدل به على إمكان الخلاء ، وعلى أن الماء أول حادث بعد العرش من أجرام هذا العالم. وقيل : كان الماء على متن الريح. واللّه أعلم بذلك. قاله البيضاوي.
قلت : الخلاء هو الفضاء الخارج عن دائرة الأكوان. وهو عند المتكلمين من جملة الممكنات ، ووجه الاستدلال من الآية على إمكانه : أن العرش والماء لما كانا محصورين لزم أن يكون ما خرج عنهما خلاء ، وكل ما سوى اللّه فهو ممكن. وعند الصوفية : هو أسرار الذات الأزلية الجبروتية ، كما أن الأكوان هى أنوار الصفات الملكوتية ، ولا شىء معه ، سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ. ونقل بعض أهل التاريخ : أن اللّه تعالى خلق بعد العرش ياقوتة صفراء ، ذكروا من عظمتها وسعتها ، ثم نظر إليها ، فذابت من هيبته ، فصارت ماء ، فكان العرش مرتفعا فوقها ، ثم اضطرب ذلك الماء ، فعلته زبدة ، خلق منها الأرض ، ثم ارتفع من الماء دخان خلق منه السموات «1». ه.
خلق ذلك لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا أي : ليختبركم اختبارا تقوم به الحجة عليكم ، أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا بالزهد فى هذا العالم الفاني ، وتعلق ألهمه بالعالم الباقي قال البيضاوي : أي : يعاملكم معاملة المبتلى لأحوالكم ، كيف تعملون؟ فإن جملة ذلك أسباب ومواد لوجودكم ومعاشكم ، وما تحتاج إليه أعمالكم ، ودلائل
___________
(1) كلام أهل التاريخ لا برهان عليه ، والأصح : أن يرجع فى هذا - إن أمكن معرفته - إلى علماء الطبيعة .. وإلا فإن اللّه تعالى يقول :
ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ .. الآية 51 من سورة الكهف.(2/511)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 512
وأمارات تستدلون بها وتستنبطون منها. ثم قال : فالمراد بالعمل ما يعم عمل القلب والجوارح. ولذلك قال صلّى اللّه عليه وسلّم :
«أيكم أحسن عقلا وأورع عن محارم اللّه وأسرع فى طاعة اللّه.» والمعنى : أكمل علما وعملا. ه.
قال المحشى : ويتجه كون المعنى : أيكم أكثر شكرا للّه على تمهيد تلك المنافع والمصالح. والشكر يشمل الطاعات القلبية والبدنية. ويحتمل أنه كآية : وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ «1». وأن بقاء الدنيا وخلقها إنما هو للتكليف ، فإذا لم يبق فى الأرض من يعبد اللّه انقضت الدنيا ، وجاءت الساعة ، كما تقتضيه الأحاديث الصحاح «2» والمتبادر ما قدمناه ، وحاصله : أنه خلق الأشياء من أجل ابن آدم ، ولتدله على خالقه فيجنى بها ثمار معرفته تعالى ، ويعترف بشكره ، وإفراد عبادته. وقد جاء. «خلقت الأشياء من أجلك وخلقتك من أجلى».
قلت : فيكون المعنى : هو الذي أظهر الوجود من عرشه إلى فرشه ، ليختبركم أيكم أحسن عملا بالاشتغال باللّه ، والعكوف فى حضرته دون الوقوف مع ظاهر الكون ، والاشتغال بحسه ، مع كونه خلق من أجله. ثم قال : وقوله تعالى : (وَ لَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ ...) الآيه ، هو : تنبيه على أن إنكار الكفار للبعث بعد إقرارهم بأن اللّه تعالى خالق العالم ، الذي هو أعظم من البعث ، تناقض منهم لأن إقرارهم بقدرته على الأكبر ، ثم إنكارهم لما هو أيسر تناقض ه أي : ولئن ذكرت لهم البعث بعد الموت لقالوا ما هذا إلا سحر ظاهر. أي : ما البعث أو القول به ، أو القرآن المتضمن لذكره إلا كالسحر فى الخديعة أو البطلان. وقرأ حمزة ساحر أي : القائل بهذا. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : فى صحيح البخاري قال صلّى اللّه عليه وسلّم : «كان اللّه ولا شىء معه ، وكان عرشه على الماء» الحديث.
فأخبر صلّى اللّه عليه وسلّم أن الحق جل جلاله كان فى أزله لا شىء معه ، ثم أظهر الأشياء من نوره بنوره لنوره ، فهو الآن على ما كان عليه. وعن أبى رزين : قلنا : يا رسول اللّه! أين كان ربّنا قبل أن يخلق خلقه؟ قال : «كان فى عماء ما فوقه هواء ، وما تحته هواء ، وخلق عرشه على الماء» «3» والعماء هو : الخفاء ، قال تعالى : فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ «4» ، أي : خفيت. ويقال للسحاب عماء لأنه يخفى ما فيه ، وقال الششترى : فى المقاليد «5» : كان فى عمى ، ما فوقه هواء وما تحته هواء. هى الوحدة المصمتة الصّمدية ، البحر الطامس «6» الذي هو الأزل والأبد ، فلم يكن موجود غير الوجود الذي هو هو. ه.
___________
(1) الآية 56 من سورة الذاريات.
(2) ومنها قوله صلّى اللّه عليه وسلّم : «لا تقوم الساعة حتى لا يقال فى الأرض : اللّه اللّه». أخرجه مسلم (كتاب الإيمان ، باب ذهاب الإيمان آخر الزمان).
(3) أخرجه الترمذي فى سننه ، (كتاب تفسير القرآن ، باب : ومن سورة هود) ، وحسنه. وأخرجه ابن ماجه (المقدمة ، باب فيما أنكرت الجهمية). قلت : وهذا من حديث الصفات. نؤمن به ونكل علمه إلى اللّه تعالى.
(4) من الآية : 66 من سورة القصص.
(5) اسمه كاملا : المقاليد الوجودية فى أسرار الصوفية.
(6) يقال : طريق طامس ، أي : بعيد لا مسلك فيه.(2/512)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 513
والحاصل : أن الحق جل جلاله كان فى سابق أزله ذاتا مقدسة ، لطيفة خفية عن العقول ، نورانيه متصفة بصفات الكمال ، ليس معها رسوم ولا أشكال ، ثم أظهر الحق تعالى قبضة من نوره حسية معنوية إذ لا ظهور للمعنى إلا بالحس ، فقال لها : كونى محمدا ، فمن جهة حسها محصورة ، ومن جهة معناها لا نهاية لها ، متصلة ببحر المعاني الأزلى ، الذي برزت منه ، وما نسبتها من ذلك البحر من جهة حسها إلا كخردلة فى الهواء. وقد أشار ابن الفارض إلى وصف هذه الخمرة الأزلية - وهو تفسير للعماء المذكور قبل - فقال :
صفاء ولا ماء ، ولطف ولا هوا ونور ولا نار ، وروح ولا جسم
تقدّم كلّ الكائنات حديثها قديما ولا شكل هناك ، ولا رسم
وقامت بها الأشياء ثمّ لحكمة بها احتجبت عن كلّ من لا له فهم
فالأشكال والرسوم متفرعة من تلك القبضة المحمدية ، والقبضة متدفقة من بحر الجبروت الذي لا نهاية له ، فهى منه حقيقة ، وما ظهر تحديدها إلا من جهة حسها. فهى كثلجة فى بحر ، ماؤها الباطني متصل فى البحر ، وظاهرها محدود محصور. فالأشكال كلها غريقة فى بحر الجبروت ، ولذلك قال صاحب العينية «1» :
هو العرش والكرسىّ والمنظر البهي هو السّدرة التي إليها المراجع
وقال أيضا :
هو الموجد الأشياء وهو وجودها وعين ذوات الكلّ وهو الجوامع
فأوصافه والاسم والأثر الذي هو الكون عين الذّات واللّه جامع
فالأكوان ثابتة بإثباته ، ممحوة بأحدية ذاته ، فالحق تعالى كما كان لا شىء معه ، فهو الآن كما كان. إذ التغير فى حقه تعالى محال ، ولا يعلم هذه الأسرار إلا من صحب أهل الأسرار ، وحسب من لم يصحبهم التسليم. كما رمزوا وأشاروا إليه :
وإن لم تر الهلال فسلّم لأناس رأوه بالأبصار
وقوله تعالى : لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا أي : ليظهر منكم من يقف مع الأكوان ، ومن ينفذ إلى شهود المكون. وهو الذي حسن عمله ، وارتفعت همته. ولئن قلت أيها العامي : إنكم تحيون بالمعرفة من بعد موت قلوبكم بالجهل والغفلة إن صحبتمونى ، ليقولن أهل الإنكار : إن هذا إلا سحر مبين.
___________
(1) غفر اللّه له. ولو لا الأمانة العلمية لحذفت هذه الأبيات.(2/513)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 514
ثم خوفهم بالعذاب الذي استعجلوه ، فقال :
[سورة هود (11) : آية 8]
وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ ما يَحْبِسُهُ أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (8)
قلت : (يوم) : معمول لخبر ليس ، وهو دليل جواز تقديمه إن كان ظرفا.
يقول الحق جل جلاله : وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ الموعود فى الدنيا ، أو فى الآخرة ، إِلى أُمَّةٍ أي : أوقات معدودة قلائل ، لَيَقُولُنَّ استهزاء : ما يَحْبِسُهُ؟ أي : ما يمنعه من الوقوع الآن؟ أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ وينزل بهم كيوم بدر ، أو يوم القيامة لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ ليس مدفوعا عنهم حين ينزل بهم ، وَحاقَ نزل وأحاط بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ ، وضع الماضي موضع الاستقبال تحقيقا للوقوع ، ومبالغة فى التهديد.
الإشارة : إمهال العاصي ليس بإهمال له فإن اللّه تعالى يمهل ولا يهمل. فإمهاله إما استدراج ، أو انتظار لتوبته ، فليبادر العبد بالتوبة قبل الفوات ، وبالعمل الصالح قبل الممات. فما أبعد ما فات ، وما أقرب ما هو آت ، وبالله التوفيق.
ومما وقع به الاختبار : الوقوف مع النعم دون شهود المنعم ، كما أبان ذلك بقوله :
[سورة هود (11) : الآيات 9 الى 11]
وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ (9) وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (10) إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (11)
قلت : (و لئن) : شرط وقسم ، ذكر جواب القسم ، واستغنى به عن جواب الشرط.
يقول الحق جل جلاله : وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً أي : أعطيناه نعمة يجد لذتها. ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ أي : سلبنا تلك النعمة منه إِنَّهُ لَيَؤُسٌ قنوط ، حيث قلّ رجاؤه من فضل اللّه لقلة صبره ، وعدم ثقته بربه ، كَفُورٌ : مبالغ فى كفران ما سلف له من النعم ، كأنه لم ير نعمة قط. وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ كصحة بعد سقم ، وغنى بعد فقر ، أو علم بعد جهل ، لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ. أي : المصائب التي مستثنى ، عَنِّي ، ونسى مقام الشكر. إِنَّهُ لَفَرِحٌ أي : بطر متعزز بها ، فَخُورٌ على الناس ، متكبر بها ، مشغول بذلك عن شكرها ، والقيام بحقها. قال البيضاوي : وفى لفظ الإذاقة والمس تنبيه على أن ما يجده الإنسان فى الدنيا من النعم(2/514)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 515
والمحن كالأنموذج لما يجده فى الآخرة ، وأنه يقع فى الكفر والبطر بأدنى شىء لأن الذوق : إدراك المطعم ، والمس مبدأ الوصول إليه. ه.
إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا على الضراء إيمانا بالله ، واستسلاما لقضائه ، وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ شكرا لآلائه ، سابقها ولا حقها ، أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ لذنوبهم ، وَأَجْرٌ كَبِيرٌ أقله الجنة ، وغايته النظرة. والاستثناء من الإنسان لأن المراد به الجنس. ومن حمله على الكافر - لسبق ذكرهم - جعله منقطعا. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : ينبغى للعبد أن يكون شاكرا للنعم ، صابرا عند النقم ، واقفا مع المنعم دون النعم. إن ذهبت من يده نعمة رجى رجوعها ، وإن أصابته نقمة انتظر انصرافها. والحاصل : أنه يكون عبد اللّه فى جميع الحالات.
حكى أن سيدنا موسى عليه السّلام قال : يا رب دلنى على عمل إذا عملته رضيت عنى. قال : إنك لا تطيق ذلك ، فخر موسى ساجدا متضرعا ، فقال : يا ابن عمران إن رضاى فى رضائك بقضائي. ه. وقال ابن عباس - رضى اللّه عنه - أول شىء كتبه اللّه فى اللوح المحفوظ : أنا اللّه لا إله إلا أنا ، محمد رسولى ، فمن استسلم لقضائى ، وصبر على بلائي ، وشكر نعمائى ، كتبته صديقا ، وبعثته مع الصديقين ، ومن لم يستسلم لقضائى ، ولم يصبر على بلائي ، ولم يشكر نعمائى ، فليتخذ ربا سوائى. ه. وروى عن ابن مسعود رضى اللّه عنه أنه قال : ثلاث من رزقهن رزق خير الدنيا والآخرة :
الرضا بالقضاء ، والصبر على الأذى ، والدعاء فى الرخاء. ه.
من جملة الأذى : التكذيب والإنكار ، كما أبان ذلك بقوله تعالى لنبيه - عليه الصلاة والسلام - :
[سورة هود (11) : الآيات 12 الى 14]
فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (12) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (13) فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (14)
يقول الحق جل جلاله لنبيه صلّى اللّه عليه وسلّم : فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ ، فلا تبلغه وهو ما فيه تشديد على المشركين ، مخافة ردهم واستهزائهم به. ولا يلزم من توقع الشيء وقوعه. فالعصمة مانعة من ذلك. فالرسول - عليه الصلاة والسلام - لم يترك شيئا من الوحي إلا بلغه ، ولكن الحق تعالى شجعه وحرضه على التبليغ فى المستقبل. ولو قوبل بالإنكار.(2/515)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 516
ثم قال له : وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أي : ولعله يعرض لك فى بعض الأحيان ضيق فى صدرك ، فلا تتلوه عليهم مخافة أَنْ يَقُولُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ ينفقه للاستتباع كالملوك ، أو يستغنى به عن طلب المعاش ، أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ يشهد له ، والقصد تسليته صلّى اللّه عليه وسلّم عن قولهم ، حتى يبلغ الرسالة ولا يبالى بهم. وإنما قال :
ضائِقٌ ليدل على اتساع صدره صلّى اللّه عليه وسلّم ، وقلة ضيقه فى الحال. إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ ليس عليك إلا الإنذار بما أوحى إليك ، ولا عليك ، ردوا أو اقترحوا ، فلا يضيق صدرك بذلك. وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ فتوكل عليه ، فإنه عالم بحالهم ومجازيهم على أقوالهم وأفعالهم.
أَمْ بل يَقُولُونَ افْتَراهُ أي : ما يوحى إليه ، قُلْ لهم : فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ فى البيان وحسن النظم. تحداهم أولا بعشر سور ، فلما عجزوا سهل الأمر عليهم وتحداهم بسورة. وتوحيد المثل باعتبار كل واحد. مُفْتَرَياتٍ مختلقات من عند أنفسكم ، إن صح أنى اختلقته من عند نفسى فإنكم عرب فصحاء مثلى.
وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ للمعاونة على المعارضة ، إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أنه مفترى. فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فإن عجزوا عن الإتيان ، فَاعْلَمُوا أيها الرسول والمؤمنون أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ بإذنه ، أو بما لا يعلمه إلا اللّه من الغيوب. والمعنى : دوموا على إيمانكم ، وزيدوا يقينا فيه.
قال البيضاوي : وجمع الضمير إما لتعظيم الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم ، أو لأن المؤمنين كانوا يتحدونهم ، فكان أمر الرسول - عليه الصلاة والسلام - متناولا لهم من حيث إنه يجب اتباعه عليهم فى كل أمر إلا ما خصه الدليل. أو للتنبيه على أن التحدي مما يوجب رسوخ إيمانهم وقوة يقينهم. ولذلك رتب عليه قوله : فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ ملتبسا بما لا يعلمه إلا اللّه ، لأنه العالم والقادر بما لا يعلم ولا يقدر عليه غيره. وَأَنْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لظهور عجز آلهتهم. فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ؟ ثابتون على الإسلام ، راسخون مخلصون فيه ، إذا تحقق عندكم إعجازه مطلقا.
ويجوز أن يكون الكل خطابا للمشركين ، والضمير فى يَسْتَجِيبُوا لمن استطعتم ، أي : فإن لم يستجيبوا لكم ، أي : من استعنتم به على المعارضة لعجزهم ، وقد عرفتم من أنفسكم القصور عن المعارضة ، فَاعْلَمُوا أنه نظم لا يعلمه إلا اللّه وأنه منزل من عنده ، وأن ما دعاكم إليه من التوحيد حق ، فهل أنتم داخلون فى الإسلام بعد قيام الحجة القاطعة؟ وفى مثل هذا الاستفهام إيجاب بليغ لما فيه من معنى الطلب ، والتنبيه على قيام الموجب ، وزوال العذر. ه. وقال فى الوجيز : فإن لم يستجيبوا لكم من تدعون إلى المعاونة ، ولا تهيأ لكم المعارضة ، فقد قامت عليكم الحجة ، فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ أي : أنزل واللّه عالم بإنزاله ، وعالم أنه من عنده ، فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ؟ استفهام ، معناه الأمر ، كقوله : فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ «1». ه.
___________
(1) من الآية 91 من سورة المائدة. [.....](2/516)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 517
الإشارة : ينبغى لأهل الوعظ والتذكير أن يعمموا الناس فى التذكير ، ولا يفرقوا بين أهل الصدق ، وأهل التنكير. بل ينصحوا العباد كلهم ، ولا يتركوا تذكيرهم ، مخافة الرد عليهم ، ولا تضيق صدورهم بما يسمعون منهم ، اقتداء بنبيهم صلّى اللّه عليه وسلّم ، وقد قال لقمان لابنه حين أمره بالتذكير : وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ «1» ، فإن طلبوا من المذكر الدليل فليقل : إنما أنا نذير ، واللّه على كل شيىء وكيل. فإن قالوا : هذا الذي تذكر كلنا نعرفه ، فليقل : فأتوا بسورة من مثله ، أو بعشر سور من مثله. واللّه تعالى أعلم.
ولا ينفع الوعظ والإنذار إن كانت همته كلها مصروفة للدنيا ، كما قال تعالى :
[سورة هود (11) : الآيات 15 الى 16]
مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ (15) أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (16)
قلت : «ما صنعوا فيها» : الضمير يعود على الدنيا ، والظرف يتعلق بصنعوا. أو يعود على الآخرة ، ويتعلق الظرف بحبط ، أي : حبط فى الآخرة ما صنعوا من الأعمال فى الدنيا.
يقول الحق جل جلاله : مَنْ كانَ يُرِيدُ بعمله الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها ، فكان إحسانه وبره رياء وسمعة ، نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها أي : نوصل إليهم جزاء أعمالهم فى الدنيا ، من الصحة والرئاسة ، وسعة الأرزاق ، وينالون ما قصدوا من حمد الناس ، وإحسانهم وبرهم ، وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ لا ينقصون شيئا من أجورهم ، فيحتمل : أن تكون الآية نزلت فى أهل الرياء من المؤمنين الذين يراؤون بأعمالهم كما ورد فى حديث الغازي والغنى القارئ المرائين ، وأنهم أول من تسعر بهم جهنم. ويحتمل أن تكون نزلت فى الكفار ، وهو أليق بقوله : أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ لأنهم استوفوا ما تقتضيه صور أعمالهم الحسنة ، وبقيت لهم أوزار العزائم السيئة. وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها أي : فى الدنيا ، فكل ماصنعوا فى الدنيا من الإحسان حبط يوم القيامة لأنهم لم يريدوا به وجه اللّه. والعمدة فى انتظار ثواب الأعمال هو الإخلاص ، وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ لأنه لم تتوفر فيه شروط الصحة التي من جملتها الإخلاص.
الإشارة : فى الحديث : «من كانت الدّنيا همّه : فرّق اللّه عليه أمره ، وجعل فقره بين عينيه ، ولم يأته من الدّنيا إلا ما قسم له. ومن كانت الآخرة نيته : جمع اللّه عليه أمره ، وجعل غناه فى قلبه ، وأتته الدّنيا وهى صاغرة» «2».
___________
(1) الآية : 17 من سورة لقمان.
(2) أخرجه الترمذي فى [صفة القيامة ، باب 30] من حديث أنس بن مالك. وابن ماجه : [الزهد ، باب الهمّ بالدنيا] من حديث زيد بن ثابت.(2/517)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 518
قلت : ومن كان اللّه همه كفاه هم الدارين. فطالب الدنيا أسير ، وطالب الآخرة أجير ، وطالب الحق أمير. فارفع همتك أيها العبد عن الدار الفانية ، وعلق قلبك بالدار الباقية ، ثم ارفعها إلى شهود الذات العالية ، ولا تكن ممن قصر همته على هذه الدار فتكن ممن ليس له فى الآخرة إلا النار. وحصّن أعمالك بالإخلاص ، وإياك وملاحظة الناس فتبوأ بالخيبة والإفلاس ، وباللّه التوفيق.
ثم ذكر ضد من تقدم ، فقال :
[سورة هود (11) : آية 17]
أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (17)
قلت : (أ فمن كان) : مبتدأ ، والخبر محذوف ، أي : كمن كان يريد الدنيا وزينتها.
يقول الحق جل جلاله : أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ ، طريقة واضحة مِنْ رَبِّهِ وهو النبي صلّى اللّه عليه وسلّم والمؤمنون ، كمن ليس كذلك ، ممن همه الدنيا؟! والمراد بالبينة : ما أدرك صحته العقل والذوق ، أي : على برهان واضح من ربه ، وهو الدليل العقلي والأمر الجلى. أو برهان من اللّه يدله على الحق والصواب فيما يأتيه ويذره ، وَيَتْلُوهُ ويتبع ذلك البرهان - الذي هو دليل العقل ، شاهِدٌ مِنْهُ أي : من اللّه يشهد بصحته ، وهو : القرآن ، لأنه مصباح البصيرة والقلب فهو يشهد بصحة ما أدركه العقل من البرهان.
وَمِنْ قَبْلِهِ أي : من قبل القرآن ، كِتابُ مُوسى يعنى : التوراة ، فإنها أيضا متلوة شاهدة بما عليه الرسول ومن تبعه من البينة الواضحة. أو البينة : القرآن ، والشاهد : جبريل عليه السّلام ، أو علىّ - كرم اللّه وجهه - ، أو الإنجيل. وهو حسن ، لقوله : وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى فإن التوراة قبل الإنجيل. قال ابن عطية : وهنا اعتراض وهو أن الضمير فى «قبله» عائد على القرآن ، فلم لم يذكر الإنجيل - وهو قبله - بينه وبين كتاب موسى؟
فالانفصال عنه : أنه خصّ التوراة بالذكر لأن الملّتين متفقتان على أنها «1» من عند اللّه ، والإنجيل قد خالف فيها.
فكان الاستشهاد بما تقوم به الحجة على الكتابين أولى. وهذا كقول الجن : إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى «2». وقول النجاشي : «إن هذا والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة». ه. وإذا فسرنا الشاهد بالإنجيل سقط الاعتراض.
___________
(1) فى ابن عطية : مجتمعتان أنهما.
(2) من الآية 30 من سورة الأحقاف.(2/518)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 519
ثم وصف التوراة بقوله : إِماماً. أي : مؤتما به فى الدين ، لأجله ، وَرَحْمَةً على المنزل عليهم.
أُولئِكَ أي : من كان على بينة من ربه ، يُؤْمِنُونَ بِهِ أي : بالقرآن ، وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ :
كأهل مكة ، ومن تحزب منهم على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ، فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ يدخلها لا محالة ، فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ شك مِنْهُ أي : من ذلك الموعد ، أو القرآن ، إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ الثابت وقوعه ، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ لقلة نظرهم ، وإخلال فكرتهم.
الإشارة : لا يكون العبد على بينة من ربه حتى يتحقق فيه أمران ، أولهما : التوبة النصوح ، والثاني : الزهد التام. فإذا تحقق فيه الأمران كان على بينة من ربه. وهى درجات أولها : بينة ناشئة عن صحيح النظر والاعتبار ، وهى لقوم نظروا فى الحجج والبراهين العقلية والدلائل السمعية ، فأدركوا وجود الحق من طريق الإيمان بالغيب ، وهم : أهل الدليل والبرهان. وثانيها : بينة ناشئة عن الرياضات والمجاهدات والاعتزال فى الخلوات ، فخرقت لهم العوائد الحسيات فرأوا كرامات وخوارق عادات ، فأدركوا وجود الحق على وجه التحقيق والبيان ، مع رقة الحجاب والوقوف بالباب. وهم : العبّاد ، والزهاد ، والصالحون من أهل الجد والاجتهاد. وثالثها : بينة ناشئة عن الذوق والوجدان ، والمكاشفة والعيان ، وهى لقوم دخلوا فى تربية المشايخ ، فتأدبوا وتهذبوا ، وشربوا خمرة غيبتهم عن حسهم ورسمهم فغابوا عن الأكوان بشهود المكون. فهم يستدلون باللّه على غيره. قدّسوا الحق أن يحتاج الى دليل ، وهؤلاء هم الأفراد وخواص العباد ، وإليهم أشار الشاعر بقوله :
الطّرق شتّى وطريق الحقّ مقفرة والسّالكون طريق الحقّ أفراد
لا يعرفون ولا تدرى مسالكهم فهم على مهل يمشون قصّاد
والنّاس فى غفلة عمّا يراد بهم فجّلهم عن سبيل الحق رقّاد
وقال فى القوت : أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ أي : من شهد مقام اللّه - عز وجل - بالبيان ، فقام له بشهادة الإيقان ، فليس هذا كمن زين له سوء عمله ، واتبع هواه ، فآثره على طاعة مولاه. بل هذا قائم بشهادته ، متبع لشهيده ، مستقيم على محبة معبوده. ه. وقال الورتجبي : تقدير الآية على وجه الاستفهام : أفمن كان على بينة من ربه كمن هو فى الضلالة والجهالة؟ أفمن كان على معرفة من ربه ، وولاية وسلامة وكرامة ، وكل عارف إذا شاهد الحق سبحانه بقلبه وروحه ، وعقله وسره ، فأدرك فيض أنوار جماله ، وقربه ، يؤثر ذلك فى هيكله حتى يبرز من وجهه نور اللّه الساطع ، ويراه كل صاحب نظر ، قال تعالى : وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ ، والبينة : بصيرة المعرفة ، والشاهد : بروز نور المشاهدة منه. وأيضا : البينة : كلام المعرفة. والشاهد : الكتاب والسنة. ثم قال عن الجنيد : البينة :
حقيقة يؤيدها ظاهر العلم. ه.(2/519)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 520
والحاصل : أن البينة أمر باطني ، وهى : المعرفة ، إما بالبرهان ، أو بالعيان ، والشاهد الذي يتلو هو العلم الظاهر ، فيتفق ما أدركه العقل أو الذوق مع ما أفاده النقل ، فتتفق الحقيقة مع الشريعة. كلّ فى محله ، الباطن منور بالحقائق ، والظاهر مؤيد بالشرائع. وهذا غاية المطلوب والمرغوب. رزقنا اللّه من ذلك الحظ الأوفر بمنّه وكرمه.
ثم ذكر وعيد من كذب بها فقال :
[سورة هود (11) : الآيات 18 الى 24]
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهادُ هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (19) أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ (20) أُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (21) لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (22)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (23) مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً أَفَلا تَذَكَّرُونَ (24)
قلت : (مثلا) : تمييز.
يقول الحق جل جلاله : وَمَنْ أَظْلَمُ أي : لا أحد أظلم مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً بأن أسند إليه مالم يقله ، وكذب بما أنزله ، أو نسب للّه ما لا يليق بجلاله. أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ يوم القيامة ، بأن يحبسوا فى الموقف ، وتعرض عليهم أعمالهم على رؤوس الأشهاد ، وَيَقُولُ الْأَشْهادُ من الملائكة والنبيين ، أو كل من شهد الموقف : هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ وهو تهويل عظيم لما يحيق بهم حينئذ ، لظلمهم بالكذب على اللّه ، ورد الناس عن طريق اللّه.
الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ عن دينه ، وَيَبْغُونَها عِوَجاً يصفونها بالانحراف عن الحق والصواب.
أو يبغون أهلها أن يعوجوا عنها بالردة والكفر ، أو يطلبون اعوجاجها بالطعن فيها. وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ أي :
والحال أنهم كافرون بالبعث. وتكرير الضمير لتأكيد كفرهم واختصاصهم به.(2/520)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 521
أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ أي : ما كانوا ليعجروا اللّه فى الدنيا أن يعاقبهم. بل هو قادر على ذلك ، وأخرهم ليوم الموعود ، ليكون أشد وأدوم. وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ يمنعونهم من العقاب ، يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ بسبب ما اتصفوا به ، كما ذكره بقوله : ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ لتصاممهم عن الحق ، وبغضهم اهله. أُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ
حين اشتروا عبادة الأصنام بعبادة اللّه ، وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ
من أن الأصنام تشفع لهم ، أو خسروا بما بدلوا وضاع عنهم ما أملوا ، فلم يبق لهم سوى الحسرة والندامة. لا جَرَمَ لا شك ، أو لا بد أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ : فلا أحد أكثر خسرانا منهم حيث حرموا النعيم المخلد ، واستبدلوه بالعذاب المؤيد.
ثم ذكر ضدهم فقال : إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَخْبَتُوا ، أي : اطمأنوا أو خشعوا ، أو تابوا إِلى رَبِّهِمْ. أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ دائمون.
مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ المتقدمين فريق الكافر ، وفريق المؤمن : كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ ، فمثل الكافر كمن جميع بين العمى والصمم ، ومثل المؤمن كمن جمع بين السمع والبصر. فالواو لعطف الصفات ، ويجوز أن يكون شبه الكافر بمن هو أعمى فقط ، وبمن هو أصم فقط ، والمؤمن بضدهما ، فهو تمثيل للكافرين بمثالين ، قاله ابن جزى. وقال البيضاوي : يجوز أن يراد به تشبيه الكافر بالأعمى لتعاميه عن آيات اللّه ، وبالأصم لتصاممه عن استماع كلام اللّه ، وتأبيه عن تدبره معانيه. وتشبيه المؤمن بالسميع والبصير لأن أمره بالضد ، فيكون كل منهما مشبها باثنين باعتبار وصفين. أو تشبيه الكافر بالجامع بين العمى والصمم ، والمؤمن بالجامع بين ضديهما ، والعاطف لعطف الصفة على الصفة ، كقوله : فالأيب الصّابح فالغانم «1» فهذا من بيان اللف والطباق. ه. هَلْ يَسْتَوِيانِ : هل يستوى الفريقان؟ مَثَلًا أي : من جهة التمثيل ، بل لا استواء بينهما ، أَفَلا تَذَكَّرُونَ تتعظون بضرب الأمثال فترجعون عن غيكم.
الإشارة : كل من ترامى على مراتب الرجال ، أو ادعى مقاما من المقامات وهو لم يدركه ، يريد بذلك إمالة وجوه الناس إليه ، يفضح يوم القيامة على رؤوس الأشهاد ، ويقال له : هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ ...
الآية. فكل آية فى الكفار تجر ذيلها على عصاة المؤمنين. وقد تقدم أمارات من كان على بنية من ربه ، فمن أدعى مقاما من تلك المقامات وهو يعلم أنه لم يصله نادت عليه الآية.
___________
(1) فى الأصول : (القائم والصالح والأديب). والمثبت هو الذي فى البيضاوي. والشاهد فيه عطف صفات موصوف واحد بالفاء.(2/521)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 522
ثم شرع فى ذكر قصص الأنبياء - عليهم السلام - تسلية لنبيه صلّى اللّه عليه وسلّم وتتميما لقوله : (فلعلك تارك) ، (و ضائق).
فقال :
[سورة هود (11) : الآيات 25 الى 27]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (25) أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (26) فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما نَراكَ إِلاَّ بَشَراً مِثْلَنا وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ (27)
قلت : من قرأ : إنى بالكسر ، فعلى إرادة القول ، ومن قرأ بالفتح ، فعلى إسقاط الخافض ، أي : بأنى ، و(بادى الرأى) : ظرف ل (اتبعك) ، على حذف مضاف أي : وقت حدوث أول رأيهم. وهو من البدء أي : الحدوث ، أو من البدوّ ، أي : الظهور. أي :
اتبعوك فى ظاهر الرأى دون التعمق فى النظر.
يقول الحق جل جلاله : وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فقال لهم : إِنِّي لَكُمْ ، أو بأنى لكم نَذِيرٌ مُبِينٌ أي : بين ظاهر ، أو أبين لكم موجبات العذاب ، ووجه الخلاص منه ، قائلا : أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ ، ولا تعبدوا معه غيره ، إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ مؤلم ، وهو فى الحقيقة صفة للعذاب ، ووصف به زمانه على طريقة [جدّ جدّه ، ونهاره صائم ] للمبالغة.
فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا لا مزية لك علينا تخصك بالنبوءة ووجوب الطاعة ، وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا أخساؤنا وسقاطنا جمع أرذل. بادِيَ الرَّأْيِ من أول الرأى من غير تفكر ولا تدبر ، أي : اتبعك هؤلاء بادى الرأى من غير ترو. أو ظاهرا رأيهم خفيفا عقلهم. وإنما استرذلوهم ، لأجل فقرهم ، جهلا منهم ، واعتقادا أن الشرف هو المال والجاه. وليس الأمر كذلك. بل الشرف إنما هو بالإيمان والطاعة ، ومعرفة الحق. وقيل : إنهم كانوا حاكة وحجامين. وقيل : أراذل فى أفعالهم ، لقوله : وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ «1». ثم قالوا : وَما نَرى لَكُمْ أي : لك ولمتبعيك عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ يؤهلكم للنبوءة ، واستحقاق المتابعة. بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ أنت فى دعوى النبوءة ، وهم فى دعوى العلم بصدقك. فغلب المخاطب على الغائبين.
___________
(1) الآية 112 من سورة الشعراء.(2/522)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 523
الإشارة : تكذيب الصادقين سنة ماضية ، وأتباع الخصوص موسومون بالذلة والقلة ، وهم أتباع الرسل والأولياء ، وهم أيضا جل أهل الجنة لأن المصطفى صلّى اللّه عليه وسلّم قال : «أهل الجنّة كلّ ضعيف مستضعف» «1» وقالت الجنة : مالى لا يدخلنى إلا سقّط الناس؟ فقال لها الحق تعالى : «أنت رحمتى أرحم بك من أشاء» حسبما فى الصحيح.
ثم أجابهم بقوله :
[سورة هود (11) : آية 28]
قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ (28)
قلت : «أنلزمكموها» : يصح فى الضمير الثاني الوصل والفصل لتقدم الأخص.
يقول الحق جل جلاله : قالَ نوح لقومه : يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ : أخبرونى ، إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي على طريقة واضحة من عند ربى ، أو حجة واضحة شاهدة بصحة دعواى ، وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ النبوة ، فَعُمِّيَتْ خفيت عَلَيْكُمْ فلم تهتدوا إليها ، أَنُلْزِمُكُمُوها أنكرهكم على الاهتداء بها وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ لا تختارونها ولا تتأملون فيها. ولم يؤمر بالجهاد ، بل تركهم حتى نزل بهم العذاب.
الإشارة : طريقة أهل التذكير - الذين هم على بينة من ربهم - : أنهم يذكرون الناس ، ولا يكرهون أحدا على الدخول فى طريقهم ، إذا عميت عليهم. واللّه تعالى أعلم.
ثم قال :
[سورة هود (11) : الآيات 29 الى 30]
وَيا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مالاً إِنْ أَجرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (29) وَيا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (30)
يقول الحق جل جلاله ، حاكيا عن نوح عليه السّلام : وَيا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ على التبليغ المفهوم من السياق ، مالًا : جعلا أنتفع به ، إِنْ أَجرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ فإنه المأمول منه. ثم طلبوا منه طرد الضعفاء ليجالسوه ، فقال لهم : وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ فيخاصمونى إن طردتهم ، أو : إنهم ملاقوه
___________
(1) أخرجه ابن ماجه فى (الزهد ، باب من لا يؤبه له) من حديث معاذ بن جبل.(2/523)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 524
فيفوزون بقربه ، فكيف أطردهم؟ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ لقاء ربكم ، أو بأقدارهم ، أو تسفهون عليهم فتدعوهم أراذل ، أو قوما جهالا استحكم فيكم الجهل وشختم فيه ، فلا ينفع فيكم الوعظ والتذكير. وَيا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ : من يدفع انتقامه عنى إِنْ طَرَدْتُهُمْ وهم بتلك الصفة الكاملة من الإيمان والخوف منه؟
أَفَلا تَذَكَّرُونَ فتعلموا أن التماس طردهم ، وتوقيف الإيمان عليه ليس بصواب.
الإشارة : قال القشيري : قوله تعالى : لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مالًا ، فيه تنبيه للعلماء - الذين هم ورثة الأنبياء أن يتأدبوا بأنبيائهم ، وألا يطلبوا من الناس شيئا فى بث علومهم ، ولا يرتفقوا منهم بتعليمهم ، والتذكير لهم ، وما ارتفق من المستمعين فى بث فائدة يذكّر بها من الدين ، ويعظ بها المسلمين فلا يبارك اللّه فيما يسمعون به عن اللّه ، ولا ينتفعون به ، ويحصلون به على سخط من اللّه ه «1».
قلت : هذا إن كان له تشوف وتطلع بذلك ، بحيث لو لم يعلم ، أو لم يذكر. وأما إن كان يعلم ويذكر للّه ، ثم يتصدق عليه للّه ، فلا بأس به إن شاء اللّه. وما زالت الأشياخ والأولياء يقبضون زيارات الفقراء ، وكل من يأتيهم ، ويذكرونهم ويعرفونهم باللّه ، لأن ذلك ربح للمعطى وتقريب له. وما ربح الناس إلا من فلسهم ونفسهم بذلوها للّه ، فأغناهم اللّه. وقد تقدم عند قوله : خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً ... «2» بعض الكلام على هذا المعنى ، واللّه تعالى أعلم.
ولما قالوا له : لو كنت نبىاللّه ، لأغناك اللّه عن التكسب ، ولأعلمك بما يفعل أتباعك فإنهم ما اتبعوك إلا فى الظاهر دون الباطن ، قال لهم :
[سورة هود (11) : آية 31]
وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْراً اللَّهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (31)
يقول الحق جل جلاله : قال نوح لقومه : وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ حتى أنفق منها متى شئت ، فأستغنى عن مباشرة الأسباب ، بل ما أنا إلا بشر ، أو لا أدعى ما ليس لى فتنكروا قولى ، أي : لا أفوه لكم ، ولا أتعاطى غير ما ألهمنى اللّه له ، فلست أقول : عندى خزائن اللّه ، أي : القوة التي توجد بها الأشياء بعد عدمها. أو :
عندى خزائن اللّه التي ينزل منها الأشياء ، كالريح والمياه ونحوها ، كما قال تعالى : وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ «3» فتبرأ عليه السّلام من هذه الدعوى.
___________
(1) بالمعنى.
(2) من الآية : 103 من سورة التوبة.
(3) من الآية 21 من سورة الحجر.(2/524)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 525
ثم قال : وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ أي : ولا أقول : إنى أعلم الغيب ، فأعلم من أصحابى ما يسترونه عنى فى نفوسهم ، فسبيلى قبول ما ظهر منهم. أو : لا أعلم أنهم اتبعونى فى بادى الرأى من غير بصيرة وعقد قلب وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ حتى تقولوا : ما نراك إلا بشرا مثلنا. وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ أي : تحتقرهم. من زريت على الرجل : قصرت به. قلبت تاؤه دالا لتجانس الزاى للتاء «1» ، والمراد بهم ضعفاء المؤمنين ، أي : لا أقول فى شأن من احتقرتموهم ، لفقرهم : لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْراً فإنّ ما أعد اللّه لهم فى الآخرة خير مما آتاكم فى الدنيا. اللَّهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ من خير أو غيره. إِنِّي إِذاً أي : إن قلت شيئا من ذلك ، لَمِنَ الظَّالِمِينَ.
قال البيضاوي : وإسناده إلى الأعين للمبالغة ، والتنبيه على أنهم استرذلوهم بادى الرأى من غير روية ، مما عاينوه من رثاثة حالهم وقلة منالهم ، دون تأمل فى معانيهم وكمالاتهم. وقال أيضا : وإنما استرذلوهم لفقرهم لأنهم لمّا لم يعلموا إلا ظاهرا من الحياة الدنيا كان الأحظ «2» بها أشرف عندهم ، والمحروم منها أرذل. ه.
الإشارة : لا يشترط فى وجود الخصوصية ظهور الكرامة فقد تظهر الكرامة على من لم تكمل له الاستقامة ، فلا يشترط فيه الاطلاع على خزائن الغيوب ، وإنما يشترط فيه التطهير من نقائص العيوب ، لا يشترط فيه الإنفاق من الغيب ، وإنما يشترط فيه الثقة بما ضمن له فى الغيب. واللّه تعالى أعلم.
ثم استعجلوا العذاب ، كما قال تعالى :
[سورة هود (11) : الآيات 32 الى 34]
قالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (32) قالَ إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شاءَ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (33) وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (34)
قلت : إِنْ أَرَدْتُ : شرط حذف جوابه لتقدم ما يدل عليه ، وكذا (إن كان اللّه يريد أن يغويكم) ، والتقدير : إن كان اللّه يريد أن يغويكم لا ينفعكم نصحى إن أردت أن أنصح لكم. أي : فكذلك. فهو من تعليق الشرط ، كقولك : إن دخلت الدار ، إن كلمت زيدا ، فأنت طالق. فلا تطلق إلا بهما ، ثم استأنف : (هو ربكم).
يقول الحق جل جلاله : قالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا : خاصمتنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا : خصامنا ومخاطبتنا ، فَأْتِنا بِما تَعِدُنا من العذاب ، إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ فى الدعوى والوعيد ، فإن مناظرتك
___________
(1) لأن الزاى مجهورة والتاء مهموسة ، فأبدل من التاء حرف مجهور من مخرجها.
(2) فى الأصول : (اللاحظ لها). والمثبت هو الذي فى تفسير البيضاوي.(2/525)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 526
ووعظك لا يؤثر فينا. قالَ نوح عليه السّلام : إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ دونى إِنْ شاءَ عاجلا أو آجلا ، وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ بدفع العذاب عنكم ، أو الهرب منه حتى تعجزوا القدرة الإلهية ، وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ ، وأراد اللّه أَنْ يُغْوِيَكُمْ ، فإن النصح مع سابق الشقاء عنت. وهذا جواب لما أوهموا من أن جداله كلام لا طائل تحته ، وهو دليل على أن إرادة اللّه تعالى يصح تعلقها بالإغواء ، وأن خلاف مراد اللّه تعالى محال. ولذلك قيل : مراد اللّه من خلقه ما هم عليه. ثم قال : هُوَ رَبُّكُمْ خالقكم والمتصرف فيكم وفق إرادته.
وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ فيجازيكم على أعمالكم.
الإشارة : ينبغى لأهل الوعظ ، والتذكير أن لا يملوا - ولو أكثروا - إذا قابلهم الناس بالبعد والإنكار ، وليقولوا : ولا ينفعكم نصحنا إن أردنا أن ننصحكم إِنْ كانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ ... الآية.
ولما كان المقصود من القصة تسلية رسوله صلّى اللّه عليه وسلّم خاطبه فى أثنائها بقوله :
[سورة هود (11) : آية 35]
أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (35)
يقول الحق جل جلاله : أَمْ يَقُولُونَ أي : كفار قريش : هذا الذي يقرؤه محمد علينا ، ويقصه من خبر من قبلنا افْتَراهُ من عنده. قُلْ لهم : إِنِ افْتَرَيْتُهُ تقديرا فَعَلَيَّ إِجْرامِي أي : وباله على دونكم ، وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ مما ترتكبون من الإجرام بتكذيبكم وكفركم.
الإشارة : ينبغى لمن قوبل بالتكذيب والإنكار أن يكتفى بعلم اللّه ، ويقول لمن كذبه ما قال نبيه صلّى اللّه عليه وسلّم لمن كذبه : (إن افتريته فعلى إجرامي ...) الآية. وفى الحكم : «متى آلمك عدم إقبال الناس عليك ، أو توجههم بالذم إليك ، فارجع إلى علم اللّه فيك ، فإن كان لا يقنعك علمه فمصيبتك بعدم قناعتك بعلمه أشد من مصيبتك بوجود الأذى منهم ..».
قال الشيخ زروق رضى اللّه عنه : وذلك لأن عدم قناعتك بعلمه يصيبك فى قلبك ودينك ، وأذاهم يصيبك فى عرضك وبدنك ودنياك ، وأيضا : أذاهم يردك إليه ، فهو فائدتك ، وعدم القناعة بعلمه يردك إليهم ، فهى مصيبة توجب ثلاثا ، هى علامة عدم القناعة بعلمه : أولها : التصنع والمراءة ، الثاني : طلب رضاهم بما أمكن فى جميع الحالات. الثالث : إظهار علمه وعمله وحاله ، ليعلموا برتبته.
والقناعة بعلمه علامتها ثلاث : أولها : قصد الإخلاص فى كلّ ، بحيث لا يبالى أين رآه الخلق ، وكيف رأوه.
الثاني : طلب رضاه بالعمل بطاعته ، وترك ما لا يرضيه ، رضوا بذلك أو سخطوا. الثالث : الاكتفاء بعلمه فيما يجرى عليه من حكمه وحكمته ، قال إبراهيم التيمي رضى اللّه عنه لبعض أصحابه : ما يقول الناس فىّ؟ فقال : (2/526)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 527
يقولون إنه مرائى ، فقال : الآن طاب العمل. قال بشر الحافى : اكتفى - واللّه - بعلم اللّه. فلم يحب أن يدخل مع علم اللّه غيره ، وقال أيضا : سكون النفس لقبول المدح لها أشد عليها من المعاصي. وقال أحمد بن أبى الحوارى رضى اللّه عنه : من أحب أن يعرف بشىء من الخير ، أو يذكر به ، فقد أشرك مع اللّه فى عبادته لأن من عمل على المحبة لا يحب أن يرى عمله غير محبوبه.
وقال الشيخ أبو الحسن رضى اللّه عنه. لا تنشر علمك ، ليصدقك الناس ، وانشر علمك ليصدقك اللّه. وإن كان لام العلة موجودا ، فعلّة تكون بينك وبين اللّه من حيث أمرك ، خير لك من علّة تكون بينك وبين الناس ، من حيث نهاك.
ولعلّة تردك إلى اللّه خير لك من علة تقطعك عن اللّه. ه. المراد منه.
ثم تمم قصة نوح عليه السّلام ، فقال :
[سورة هود (11) : الآيات 36 الى 39]
وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاَّ مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (36) وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (37) وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ (38) فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ (39)
يقول الحق جل جلاله : وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ بعد هذا إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ قبل ، وكان هذا الوحى بعد أن مكث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما يدعوهم إلى اللّه تعالى. فكان الرجل منهم يأتيه بابنه ، ويقول : يا بنى لا تصدق هذا الشيخ ، فهكذا عهد إلىّ أبى وجدى. فلما نزل الوحى وأيس من إيمانهم دعا عليهم ، وقال : رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً «1». قال له تعالى : فَلا تَبْتَئِسْ : تحزن وتغتم بِما كانُوا يَفْعَلُونَ من التكذيب والإيذاء ، أقنطه أولا من إيمانهم ، ونهاه أن يغتم لأجلهم.
ثم أمره بصنع السفينة ، فقال : وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا بحفظنا ورعايتنا ، أو بمرأى منا ومسمع غير محتاج إلى آلة حفظ وحرس ، وَوَحْيِنا إليك ، كيف تصنعها ، روى أنه لما جهل صنعها أوحى اللّه إليه : أن اصنعها على مثال جؤجؤ الطائر. وروى أيضا : أنها كانت مربعة الشكل ، طويلة فى السماء ، ضيقة الأعلى ، وأن المراد منها إنما كان الحفظ ، لا سرعة المشي. والأول أرجح. أعنى : على صورة ظهر الطائر. قال فى الأساس : عملت سفينة نوح عليه السّلام
___________
(1) من الآية 26 من سورة نوح.(2/527)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 528
من ساج ، وهو خشب أسود ، رزان ، لا تكاد الأرض تبليه ، يجلب من الهند. ه. وفى رواية أخرى : صنعها نوح عليه السّلام ، وجبريل يصف له ، فكان أسفلها كأسفل السفن وأعلاها كالسقف ، وداخلها كالبيت ، ولها أبواب فى جوانبها. ه.
ثم إن نوحا عليه السّلام لما تحقق هلاك قومه ، رق عليهم ، فهمّ أن يراجع اللّه فى شأنهم ، فقال له تعالى : وَلا تُخاطِبْنِي ولا تراجعنى فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا ، ولا تدع باستدفاع العذاب عنهم إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ : محكوم عليهم بالغرق لا محالة. فلا سبيل إلى كفه.
وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ ، حكى ما وقع بصيغة الحال استحضارا لتلك الحال العجيبة ، وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ :
جماعة مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ : استهزءوا به ، لأنه كان يعمل السفينة فى برية بعيدة من الماء. أو أن عزته تنفى صنعته ، فكانوا يضحكون منه ، ويقولون له : صرت نجارا بعد أن كنت نبيا. قالَ لهم : إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ ، فنسخر منكم حين يأخذكم فى الدنيا الغرق ، وفى الآخرة الحرق. فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ ، وهو : الغرق ، والحرق بعده ، وَيَحِلُّ أي : ينزل عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ : دائم ، وهو النار يوم القيامة.
الإشارة : إذا تحقق الولي بإعراض الخلق عنه ، وأيس منهم أن يتبعوه. فلا يحزن ، ولا يغتم منهم ، ففى اللّه غنى عن كل شىء ، وليس يغنى عنه شىء. وفى إعراض الخلق راحة لقلب الولي ولبدنه ، فإذا سخروا منه فليقل فى نفسه :
إن تسخروا منا اليوم ، فنسخر منكم حين تحقق الحقائق ، فيرتفع المقربون ، وينسفل الباطلون ، وكان شيخ أشياخنا سيدى على العمراني رضى اللّه عنه كثيرا ما يقول : ليت القيامة قامت ، حتى يظهر الرجال من غيرهم. أو ما هذا معناه.
ثم ذكر مبدأ الطوفان ، فقال :
[سورة هود (11) : آية 40]
حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَما آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ (40)
قلت : حتى : غاية لقوله : (و يصنع الفلك) ، أو ابتدائية. و(اثنين) مفعول باحمل ، و(أهلك) : عطف عليه.
يقول الحق جل جلاله : حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا بغرقهم ، أو أمرنا للأرض بالفوران وللسحاب بالإرسال ، وَفارَ التَّنُّورُ نبع الماء منه وارتفع كالقدر تفور. والتنور : تنور الخبز ، ابتدأ منه النبوع ، على خرق العادة ، أرادت ابنته أن تسجره ففار الماء فى النار ، روى أنه كان تنور آدم ، خلص إلى نوح ، فكان يوقد فيه ، وقيل : كان فى الكوفة فى موضع مسجدها. وقيل : فى الهند ، وقيل : التنور : وجه الأرض «1». قاله ابن عباس.
___________
(1) ورجح الطبري القول الأول لأن ذلك هو المعروف من كلام العرب. [.....](2/528)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 529
فلما فار بالماء قُلْنَا احْمِلْ فِيها فى السفينة ، مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ من كل نوع من الحيوان ذكرا وأنثى - روى أن نوحا عليه السّلام وقف على باب السفينة ، وحشر إليه الوحوش ، فكان الذكر يقع فى يمينه ، والأنثى فى شماله ، وهو يدخل فى السفينة. وآخر ما دخل الحمار ، فتمسك الشيطان بذنبه فزجره نوح فلم ينعق ، فدخل معه ، فجلس عند مؤخر السفينة. وروى أن نوحا عليه السّلام آذاه نتن الزبل والعذرة ، فأوحى اللّه إليه : أن امسح على ذنب الفيل ، ففعل فخرج من أنفه خنزير وخنزيرة ، فكفياه أمر ذلك الأذى. وروى أن الفأر آذى الناس ، فأوحى اللّه إليه : أن امسح على جبهة الأسد ففعل ، فعطس فخرج منه هرّ وهرّة. فكفياه أمر الفار «1». انظر ابن عطية.
وَاحمل أيضا أَهْلَكَ أي : امرأتك وبنيك ونساءهم ، إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ أنه من المغرقين يريد : ابنه كنعان وأمه واعلة ، فإنهما كانا كافرين. وَاحمل مَنْ آمَنَ بك. قال تعالى : وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ ، قيل : كانوا تسعة وسبعين : زوجته المسلمة ، وبنوه الثلاثة : حام وسام ويافث ، ونساؤهم ، واثنان وسبعون رجلا وامرأة من غيرهم. وفى بعض الآثار : أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال : «سام أبو العرب ، ويافث أبو الروم ، وحام أبو الحبش» «2».
قاله ابن عطية. وسيأتى خلافه فى سورة الصافات. وهو الراجح. وقال البيضاوي : روى أن نوحا عليه السّلام اتخذ السفينة فى سنتين ، وكان طولها ثلاثمائة ذراع ، وعرضها خمسين ، وسمكها ثلاثين. وجعل لها ثلاثة بطون. فحمل فى أسفلها الدواب والوحش ، وفى وسطها الإنس ، وفى أعلاها الطير. ه. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : حتى إذا جاء أمرنا بكمال الطهارة من العيوب ، وفار تنور القلب بعلم الغيوب ، وجرت سفينة الفكرة فى بحار التوحيد ، وأسرار التفريد ، قلنا : احمل فيها من كل زوجين اثنين علم الشريعة والحقيقة ، وعلم الحكمة والقدرة ، وعلم الحس والمعنى ، وعلم الأشباح والأرواح ، وعلم الملك والملكوت. وتحمل من تمسك بها من أهل المحبة والوداد ، إلا من سبق عليه القول بالمكث فى مقام البعاد ، وتحمل من آمن بخصوصيتها من العباد ، فتقربه من مسلك التوفيق والتسديد ، حين يمن الحق تعالى عليها بالقرب من أهل المحبة والوداد. وباللّه التوفيق.
ثم أمرهم بالركوب فى السفينة ، فقال :
[سورة هود (11) : الآيات 41 الى 43]
وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (41) وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ وَكانَ فِي مَعْزِلٍ يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ (42) قالَ سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ قالَ لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (43)
___________
(1) هذه الأخبار ذكرها الطبري وغيره ، وهى من الإسرائيليات التي ينبغى تنقية كتب التفسير منها.
(2) أخرجه الإمام أحمد فى المسند 9/ 5 والترمذي وحسنه فى (المناقب ، باب فضل العرب) والحاكم فى المستدرك (2/ 546) وصححه ووافقه الذهبي ، عن سمرة بن جندب - رضى اللّه عنه.(2/529)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 530
قلت : (مجريها ومرساها) : مشتقان من الجري والإرسال ، أي : الثبوت ، وهما إما ظرفان زمانيان ، أو مكانيان ، وإما مصدران ، والعامل فيهما : ما فى (بسم اللّه) من معنى الفعل. وإعراب «بسم اللّه» : إما حال مقدرة من الضمير فى «اركبوا» ، أي : اركبوا متبركين بسم اللّه ، أو قائلين : بسم اللّه ، وقت إجرائها وإرسائها. أو (مجراها ومرساها) :
مبتدأ ، و(بسم اللّه) : خبر. فيوقف على (فيها) أي : إجراؤها وإرساؤها حاصل بسم اللّه.
يقول الحق جل جلاله : وَقالَ نوح لمن كان معه : ارْكَبُوا فى السفينة وسيروا فيها. روى أنهم ركبوا أول يوم من رجب ، وقيل : يوم العاشر منه ، واستوت على الجودي يوم عاشوراء ، بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها أي : متبركين بسم اللّه وقت إجرائها ، أو قائلين بسم اللّه وقت إجرائها وإرسائها ، روى : أنه عليه السّلام كان إذا أراد أن يجرى السفينة قال : بسم اللّه ، فتجرى ، وإن أراد أن يوقفها قال : بسم اللّه ، فتوقف. إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ، فلو لا مغفرته لما فرط منكم ، ورحمته إياكم ، لما أنجاكم. فركبوا مسلمين وساروا.
وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ ، والموج : ما يرتفع من الماء عند اضطرابه ، أي : كل موجة من الطوفان كالجبال فى تراكمها وارتفاعها ، وما قيل من أن الماء أطبق ما بين السماء والأرض ، وكانت السفينة تجرى فى جوفه ، لم يثبت. وكيف يكون الموج كالجبال؟ والمشهور أنه علا شوامخ الجبال ، خمسة عشر ذراعا ، وإن صح ذلك فلعل ارتفاع الموج كالجبال كان قبل التطبيق.
وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ ، كان كنعان. وقيل : كان لغير رشدة ، وهو خطأ لأن الأنبياء عصمت من أن تزنى أزواجهم. والمراد بالخيانة فى قوله : فَخانَتاهُما «1». فى الدين. وَكانَ فِي مَعْزِلٍ فى ناحية ، عزل نفسه فيها عن أبيه ، أو عن دينه ، فقال له أبوه : يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا فى السفينة ، وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ فى الدين ، أو فى الاعتزال عنا ، وكان يظنه مؤمنا ، لإخفاء كفره. قالَ سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي يمنعنى مِنَ الْماءِ ، فلا أغرق ، قالَ لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ أي : إلا الراحم ، وهو اللّه ، فلا عاصم إلا أرحم الراحمين. أو : لا عاصِمَ لا ذو عصمة إلا من رحم اللّه ، فلا معصوم إلا من رحمه اللّه. فالاستثناء حينئذ متصل. أو : لا عاصم اليوم من أمر اللّه لكن من رحمه اللّه فهو المعصوم. أو : لا ذو عصمة لكن الراحم يعصم من شاء ، والاستثناء منقطع.
وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ بين نوح وابنه ، فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ فصار من المهلكين بالماء. روى أنه صنع بيتا من زجاج ، وحمل معه طعامه وشرابه ، وصعد على وجه الماء فسلط اللّه عليه البول حتى غرق فى بوله «2».
واللّه تعالى أعلم بشأنه.
___________
(1) من الآية : 10 من سورة التحريم.
(2) الآية صريحة فى أن الولد أراد أن يأوى إلى جبل يعصمه من الماء .. فماذا ينفع الزجاج هنا. وما ذكره الشيخ المفسر لا دليل عليه.(2/530)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 531
الإشارة : إذا دخل العارف فى بحر الفناء ، وغاب عن حسه ورسمه ، واتصل معناه ببحر معانى الأسرار ، جرت سفينة فكرته فى بحر الذات وأنوار الصفات ، فقال لأصحابه : اركبوا فيها ، بسم اللّه مجريها ومرساها ، إن ربى لغفور رحيم ، حيث غطى وصفكم بوصفه ، ونعتكم بنعته. فوصلكم بما منه إليه ، لا بما منكم إليه. فصارت سفن الأفكار تجرى بهم فى موج كالجبال ، وهى تيار بحر الذات. فالخمرة الأزلية الخفية الصافية بحر لا ساحل له ، وما ظهر من أنوار الصفات أمواجه. فأنوار الآثار هى أمواج البحار ، وما عظم من أمواجه يسمى التيار ، ولذلك قيل : العارفون يغرقون فى بحر الذات ، وتيار الصفات ، فتراهم إذا غرقوا فى بحر الأسرار وتيار الأنوار ، وساروا فيها بمدد أسرارهم ، تلاطمت عليهم أمواجه. وهى تجرى بهم فى موج كالجبال ، فلا عاصم اليوم من أمر اللّه إلا من رحم ، فآواه إلى جبل السنة المحمدية. فكان من الناجين.
وآخرون حال بينهم الموج ، فكانوا من المغرقين ، فالتبس الأمر عليهم ، فقالوا بالحلول والاتحاد ، أو نفى الحكمة والأحكام. وهذا فى حق من ركب بلا رئيس ماهر ، وإلا رده إلى سفينة النجاة ، وهى : التمسك بالشريعة المحمدية فى الظاهر ، والتحقق بالحقيقة الأصلية. وباللّه التوفيق.
ثم ذكر انتهاء الطوفان ، فقال :
[سورة هود (11) : آية 44]
وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (44)
قلت : (بعدا) : منصوب على المصدر ، أي : أبعدوا بعدا.
يقول الحق جل جلاله : وَقِيلَ أي : قال اللّه : يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ الذي خرج منك ، فانفتحت أفواها ، فرجع إليها ما خرج منها ، وَيا سَماءُ أَقْلِعِي : أمسكى عن الأمطار. روى أنها أمطرت من كل موضع ، فبقى ما نزل منها بحارا على وجه الأرض.
قال البيضاوي : نوديا بما ينادى به أولو العلم ، وأمرا بما يؤمرون به ، تمثيلا لكمال قدرته ، وانقيادهما لما يشاء تكوينه فيهما ، بالأمر المطاع ، الذي يأمر المنقاد لحكمه ، المبادر إلى امتثال أمره ، مهابه من عظمته ، وخشية من أليم عقابه. والبلع : النشف ، والإقلاع : الإمساك. ه.
وَغِيضَ الْماءُ نقص ولم ينشف ما خرج منها ، وَقُضِيَ الْأَمْرُ : وأنجز ما وعد من إهلاك الكافرين ، وإنجاء المؤمنين ، وَاسْتَوَتْ : استقرت السفينة عَلَى الْجُودِيِّ جبل بالموصل. وقيل : بالشام. وتقدم أنه(2/531)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 532
نزل يوم عاشوراء ، فصامه شكرا. وبقي ستة أشهر على الماء. وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ هلاكا لهم. يقال :
بعد ، إذا بعد بعدا بعيدا ، بحيث لا يرجى عوده ، ثم استعير للهلاك. وخص بدعاء السوء.
والآية - كما ترى - فى غاية الفصاحة لفخامة لفظها وحسن نظمها ، والدلالة على كنه الحال مع الإيجاز الخالي عن الإخلال. وإيراد الأخبار على البناء للمفعول دلالة على تعظيم الفاعل ، وأنه متعين فى نفسه ، مستغن عن ذكره ، إذ لا يذهب الوهم إلى غيره للعلم به ، فإن مثل هذه الأفعال لا يقدر عليها سوى الواحد القهار. قاله البيضاوي.
فإن قلت : قد عم الغرق الدنيا كلها ، مع أن دعوة نوح عليه السّلام لم تكن عامة ، وقد قال تعالى : وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا «1»؟ فالجواب : أن الكفر قد كان عم الموجودين فى ذلك الزمان ، مع تمكنهم من النظر والاستدلال على الصانع وتوحيده ، ومع قدرتهم على الإتيان إلى نوح فى أمر الشرائع ، فقصروا فى الجهتين.
وأيضا : لم تكن الأرض كلها معمورة بالناس ، فكل من كان موجودا سمع بدعوة نوح فجحدها. واللّه تعالى أعلم.
وانظر ابن عطية عند قوله : وَاصْنَعِ الْفُلْكَ. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : إذا توالت على القلب الواردات الإلهية السماوية ، والأحوال النفسانية المزعجة ، خيف على العقل الاختطاف والاصطلام ، فقيل يا أرض النفس ابلعي ماءك واسكني ، ويا سماء الواردات أقلعى ، وغيض الماء ، أي :
نقص هيجان الحال ، وقضى الأمر بالاعتدال ، واستوت سفينة الفكرة على جبل العقل ، فحاز الشرف والكمال لكونه برزخا بين بحرين ، يعطى الحقيقة حقها والشريعة حقها ، فيعطى كل ذى حق حقه ، ويوفى كل ذى قسط قسطه.
وقيل : بعدا لمن تخلف عن هذا المقام ، وظلم نفسه بإلقائها فى سجن الهوى وغيهب الظلام. واللّه تعالى أعلم.
ولمّا غرق كنعان مع من غرق ، استفهم نوح عليه السّلام ربه عن الوعد الذي وعده بإنجاء أهله ، كما قال تعالى :
[سورة هود (11) : الآيات 45 الى 47]
وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ (45) قالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (46) قالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ (47)
___________
(1) من الآية : 15 من سورة الاسراء.(2/532)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 533
قلت : (و إنّ وعدك) : عطف على (إن ابني). و(أنت أحكم) : حال من الكاف. و(إنى أعظك) : مفعول من أجله ، أي : كراهية أن تكون من الجاهلين.
يقول الحق جل جلاله : وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ بعد تعميم الغرق ، أي : أراد النداء بدليل عطف قوله : فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي ، فإنه هو النداء ، أو تكون فصيحة جوابا عن مقدر ، كأن قائلا قال : ماذا قال فى ندائه؟
فقال : إن ابني من أهلى وقد وعدتني أن تنجينى وأهلى ، وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ لا يتطرقه الخلف ، فما باله غرق؟
وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ لأنك أعلمهم وأعدلهم ، فلم أعرف وجه حكمك عليه بالغرق. أو لأنك أكثر حكمة من ذوى الحكم ، فلم أفهم حكمة غرقه.
قالَ تعالى : يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ لأنه خالفك فى الدين ، ولا ولاية بين الكافر والمؤمن ، إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ أي : ذو عمل فاسد. جعل ذاته نفس العمل مبالغة. وقرأ الكسائي ويعقوب : (عمل) بلفظ الماضي. أي : عمل عملا فاسدا ، استحق به البعد عنك. أو : إنه - أي سؤالك - عمل غير صالح. ويقوى هذا قراءة ابن مسعود : «إنه عمل غير صالح أن تسألنى ما ليس لك به علم». وقراءة الجماعة : فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ أصواب هو أم لا ، حتى تقف على كنهه. وإنما سمى نداءه سؤالا لتضمنه معنى السؤال ، بذكر الوعد واستنجازه واستفسار المانع.
ثم وعظه بقوله : إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ أي : إنى أعظك كراهة أن تكون من الجاهلين ، الذين يسألون ما لا يوافق القدر. وقد استثنيته بقولي : إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ. وليس فيه وصفه بالجهل ، بل وعظه لئلا يقع فيه ، والحامل له على السؤال ، مع أنه استثنى له غلبة الشفقة على الولد ، مع كونه لم يتحقق أنه ممن سبق عليه القول.
قالَ نوح : يا رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ فى المستقبل ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ ما لا علم لى بصحته. وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي ما فرط منى من السؤال ، وَتَرْحَمْنِي بالتوبة تفضلا وإحسانا ، وبالتوفيق والعصمة فى المستقبل ، أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ بسوء أدبى معك.
الإشارة : قال الورتجبي : أدب نبيه نوحا عليه السّلام بأن لا يسأل إلا ما وافق القدر. وكل دعاء لم يوافق مراده تعالى فى سابق علمه لم يؤثر فى مراد الداعي. وقوله : (إنه عمل غير صالح) أي : ليس عمله على موافقة السنة ، ثم وعظه ، وقال : (إنى أعظك أن تكون من الجاهلين) ، الجاهل : من جهل قدر اللّه ، أي : أنزهك عن سوء الأدب فى السؤال ، على غير قاعدة مرادك. ه. وقال فى الحكم : «ليس الشأن وجوب الطلب ، إنما الشأن أن ترزق حسن الأدب».(2/533)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 534
ثم أمره بالنزول إلى الأرض من السفينة ، فقال :
[سورة هود (11) : الآيات 48 الى 49]
قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (48) تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (49)
قلت : «تلك» : مبتدأ. و«من أنباء» : خبر. و«نوحيها» : خبر ثان ، و«ما كنت تعلمها» : خبر ثالث ، أو حال من الهاء ، أي : حال كونها مجهولة عندك وعند قومك.
يقول الحق جل جلاله : قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ من السفينة إلى عمارة الأرض بِسَلامٍ مِنَّا ، أي :
متلبسا بسلامة من المكاره ، من جهة حفظنا ورعايتنا. أو مسلما عليك. وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وزيادات فى نسلك حتى تصير آدما ثانيا. فالبركة هى : الخير النامي. أو : مباركا عليك ، وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ أي : هم الذين معك ، أو ناشئة ممن معك ، فقد تشعبت الأمم ممن معه من ذريته. والمراد : المؤمنون ، بدليل قوله : وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ فى الدنيا ، ونوسع عليهم فيها ، ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ فى الآخرة ، وهم الكفار ممن نشأ من ذريته. وقيل :
هم قوم هود وصالح ولوط وشعيب ، والعذاب : ما نزل بهم فى الدنيا.
تِلْكَ القصة ، أو خبر نوح عليه السّلام ، هى مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ أي : بعض أخبار الغيب نُوحِيها إِلَيْكَ لا طريق إلى معرفتها إلا الوحى ، ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا الوقت لو لا إيحاؤنا إليك بها ، فهى من دلائل نبوتك لأنك لم تغب عنهم ، ولم تخالط غيرهم ، فتعين أنه من عند اللّه. فإن كذبوك فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ وأنت أعظمهم. فالعاقبة لك فى الدنيا بالنصر والعز ، وفى الآخرة بالرفيق الأعلى. أو فاصبر على مشاق التبليغ مع إيذاية قومك ، كما صبر نوح عليه السّلام. إن العاقبة للمتقين بالنصر فى الدنيا ، والجنة فى الآخرة.
الإشارة : يقال للمريد إذا تمكن من الفناء ، وارتفعت فكرته عن عالم الأكوان : اهبط إلى مقام البقاء لتقوم بآداب العبودية بعد مشاهدة عظمة الربوبية ، انزل إلى سماء الحقوق ، أو أرض الحظوظ بالإذن والتمكين ، والرسوخ فى اليقين ، لا بقصد متابعة الشهوة والمتعة. اهبط بسلام منا أي : بسلامة من الرجوع أو الشقاء ، وبركات عليك وعلى من تبعك. ولذلك قيل : من رجع إلى البقاء أمن من الشقاء. وأمم قد ضلوا عن متابعتك ، سنمتعهم فى الدنيا بمتابعة الهوى ، ثم يمسهم منا عذاب الحجاب وسوء الحساب. تلك الواردات الإلهية نوحيها إليك ، ما كنت تعلمها أيها العارف من قبل هذا ، أنت ولا من تبعك ، فاصبر فإن الجمال مقرون بالجلال ، والعاقبة للمتقين. واللّه تعالى أعلم.(2/534)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 535
ثم ذكر قصة هود عليه السّلام ، فقال :
[سورة هود (11) : الآيات 50 الى 52]
وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ (50) يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُونَ (51) وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (52)
قلت : «أخاهم» : عطف على نوح فى قوله : (و لقد أرسلنا نوحا) ، و(هودا) : بدل.
يقول الحق جل جلاله : وَأرسلنا إِلى قبيلة عادٍ أَخاهُمْ هُوداً ، قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وحده ، ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ يستحق أن يعبد ، إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ على اللّه ، باتخاذ الأوثان آلهة.
يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ : على التبليغ أَجْراً حتى يثقل عليكم ، أو تتهمونى لأجله ، إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي خلقنى. بهذا خاطب كل رسول قومه إزاحة للتهمة ، وتمحيصا للنصيحة ، فإنها لا تنجع ما دامت مشوبة بالمطامع. أَفَلا تَعْقِلُونَ : أفلا تستعملون عقولكم فتعرفوا المحق من المبطل ، والصواب من الخطأ.
وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ من الشرك ، ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ ، ثم ارجعوا إليه بطاعته فيما أمر ونهى. أو : ثم توبوا من المعاصي لأن التوبة من الذنوب لا تصح إلا بعد الإيمان ، والتطهير من الشرك ، يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً أي : كثير الدر ، أي النزول ، وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ : يضاعف قوتكم ، ويزدكم فيها. وإنما دعاهم إلى اللّه ، ووعدهم بكثرة المطر وزيادة القوة لأنهم كانوا أصحاب زروع وعمارات. وقيل : حبس اللّه عنهم المطر ، وأعقم أرحام نسائهم ثلاثين سنة فوعدهم هود عليه السّلام على الإيمان والتوبة بالأمطار وتضاعف القوة بالتناسل. قاله البيضاوي.
وقال ابن جزي : وفى الآية دليل على أن التوبة والاستغفار سبب لنزول المطر. روى : أن عادا كان المطر قد حبس عنهم ثلاث سنين ، فأمرهم بالتوبة والاستغفار ، ووعدهم على ذلك بالمطر. ه. وَلا تَتَوَلَّوْا : ولا تعرضوا عما أدعوكم إليه ، مُجْرِمِينَ مصرين على إجرامكم.
الإشارة : فى تكرير القصص والأخبار وعظ وتذكير لأهل الاعتبار ، وزيادة إيقان لأهل الاستبصار ، وتهديد وتخويف لأهل الإصرار ، وحث على المبادرة إلى التوبة والاستغفار. قوله تعالى : (و يا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا اليه) ، أي : استغفروا ربكم من الشرك الخفي ، ثم توبوا إليه من النظر إلى وجودكم ، ورؤية أعمالكم ، يرسل سحاب(2/535)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 536
الواردات الإلهية والعلوم الإلهامية على قلوبكم وأسراركم ، مدرارا ، ويزدكم قوة فى شهود الذات إلى قوتكم فى شهود الصفات ، ولا تتولوا عن شهوده بشهود أثره ، مجرمين معدودين فى زمرة المجرمين المصرين على الكبائر ، وهم لا يشعرون.
وقال الورتجبي : استغفروا من النظر إلى غيرى ، وتوبوا إلىّ من نفوسكم ، ورؤية طاعتكم وأعواضها ، يرسل سماء القدم على قلوبكم مدرار أنوار تجليها ، ويزدكم ، أي : يزد قوة أرواحكم فى طيرانها. انظر تمامه.
ثم ذكر ما أجابه به قومه ، فقال :
[سورة هود (11) : الآيات 53 الى 57]
قالُوا يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (53) إِنْ نَقُولُ إِلاَّ اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ قالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ما مِنْ دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (56) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (57)
قلت : (إن نقول إلا اعتراك) : الاستثناء مفرغ ، و«اعتراك» : مقول لقول محذوف ، أي : ما نقول إلا قولنا اعتراك ، و(ما من دابة) : «ما» نافية ، و«من» صلة و«دابة» ، مبتدأ مجرور بمن الزائدة ، وجملة (إلا هو آخذ) : خبر.
يقول الحق جل جلاله : قالُوا يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ بمعجزة واضحة تدل على صدق دعواك ، وهذا كذب منهم وجحود لفرط عنادهم وعدم اعتدادهم بما جاءهم من المعجزات. وفى الحديث : «ما من نبىّ إلّا أوتى من المعجزات ما مثله آمن عليه البشر ، وإنّما كان الذي أوتيته وحيا أوحى إلى ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة» «1». كما فى الصحيح. ويحتمل أن يريدوا : ما جئتنا بآية تضطر إلى الإيمان بك ، وإن كان قد أتاهم بآية نظرية. ولم يذكر فى القرآن معجزة معينة لهود عليه السّلام ، مع الاعتقاد أنه لم يخل من معجزة لما فى الحديث.
ثم قالوا : وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا بتاركي عبادتهم عَنْ قَوْلِكَ أي : بسبب قولك ، أو صادرين عن قولك ، وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ أبدا ، وهو إقناط له عن الإجابة والتصديق. إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ أصابك بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ بجنون لما سببتها ، ونهيت عن عبادتها ، ولذلك صرت تهذو وتتكلم بالخرافات.
___________
(1) أخرجه البخاري فى (الاعتصام ، باب قول النبي صلّى اللّه عليه وسلّم بعثت بجوامع الكلم) ومسلم فى (الإيمان ، باب : وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد صلّى اللّه عليه وسلّم) من حديث أبى هريرة رضى اللّه عنه.(2/536)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 537
قالَ هود عليه السّلام : إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ على براءتي من شرككم ، وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي أي : اقصدوا كيدى وهلاكى ، جَمِيعاً ، أنتم وشركاؤكم ، ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ لا تؤخرون ساعة. وهذا من جملة معجزاته ، فإن مواجهة الواحد الجم الغفير من الجبابرة ، والفتاك العطاش إلى إراقة دمه ، بهذا الكلام ، ليس إلا لتيقنه باللّه ، ومنعهم من إضراره ليس إلا لعصمته إياه. ولذلك عقبه بقوله : إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ، فهو تقرير له. والمعنى : أنكم وإن بذلتم غاية وسعكم لم تضرونى فإنى متوكل على اللّه ، واثق بكلاءته ، وهو مالكى ومالككم ، لا يحيق بي ما لم يرده ، ولا تقدرون على ما لم يقدره.
ثم برهن عليه بقوله : ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها : إلا وهو مالك لها ، قادر عليها ، يصرفها على ما يريد بها. والأخذ بالنواصي تمثيل لذلك. قاله البيضاوي. وقال ابن جزى : أي : هى فى قبضته وتحت قهره ، وهذه الجملة تعليل لقوة توكله على اللّه ، وعدم مبالاته بالخلق. ه. إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ أي : إنه على الحق والعدل ، ولا يضيع عنده معتصم ولا يفوته ظالم. وقال فى القوت : أخبر عن عدله فى محله ، وقيام حكمته ، وأنه وإن كان آخذا بنواصي العباد فى الخير والشر ، والنفع والضر لاقتداره ، فإن ذلك مستقيم فى عدله ، وصواب من حكمه. ه.
فَإِنْ تَوَلَّوْا أي : فإن تتولوا وتعرضوا عما جئتكم به ، فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ. أي : فقد أديت ما علىّ من الإبلاغ ، فلا تفريط منى ، ولا عذر لكم فقد جاءكم النذير ، وقامت الحجة عليكم ، وما بقي إلا هلاككم. وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ يسكنون دياركم ، ويعمرون بلادكم ، فإن عتوا وطغوا سلك بهم مسلككم ، وَلا تَضُرُّونَهُ بتوليكم عن الإيمان به ، شَيْئاً من الضرر. أو لا تضرونه شيئا إذا أهلككم واستخلف غيركم ، إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ رقيب ، فلا يخفى عليه أعمالكم ، ولا يغفل عن مجازاتكم.
أو حافظ مستول عليه ، فلا يمكن أن يضره شىء. قاله البيضاوي.
الإشارة : ما يقال للأولياء إلا ما قيل للرسل ، فإذا توجه العبد إلى مولاه ، وسقط على من هو أهل للتربية ، وترك ما كان عليه قبل من الانتساب إلى غيره ، وخرق عوائد نفسه ، أو أصابه شىء من المكاره ، قال الناس : ما اعتراه إلا بعض الصالحين بسوء ، فيقول لهم : إنى أشهد اللّه ، واشهدوا أنى برىء مما تشركون من دونه. فإن أجمعوا على إضراره أو قتله قال لهم : فكيدونى جميعا ثم لا تنظرون.
إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ، ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها ، وأنتم دواب مقهورون تحت قبضة الحق ، إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ لا ينتقم إلا من أهل الانتقام ، «من عاد لى وليا فقد آذنته بالحرب» ، فإن ذكرهم باللّه ودلهم على الطريق ، فكذبوه وأعرضوا عنه ، قال : عسى أن يذهب بكم ، ويستخلف قوما غيركم ، يكونون متوجهين إليه أكثر منكم ، ولا تضرونه شيئا. وباللّه التوفيق.(2/537)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 538
ثم ذكر نزول العذاب الذي وعدهم به ، فقال :
[سورة هود (11) : الآيات 58 الى 60]
وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (58) وَتِلْكَ عادٌ جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (59) وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ عاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ (60)
قلت : إنما قال هذا وفى قصة شعيب : (و لما) ، بالواو ، وفى قصة صالح ولوط : (فلما) ، بالفاء لأن قصة صالح ولوط ذكرهما بعد الوعيد ، فى بالفاء التي تقتضى التسبب ، كما تقول : وعدته فلما جاء الوعيد كان .. إلخ ، بخلاف قصة هود وشعيب لم يتقدم ذلك فيهما ، فعطف بالواو. قاله الزمخشري.
يقول الحق جل جلاله : وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا : عذابنا ، أو أمرنا بالعذاب ، نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا ، وكانوا أربعة آلاف ، وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ ، وهو ريح السموم ، وكانت تدخل أنوف الكفرة وتخرج من أدبارهم فتقطع أمعاءهم. والتكرير لبيان ما نجاهم منه ، وإعلاما بأنه عذاب غليظ ، وتعديدا للنعمة فى نجاتهم. ويحتمل أن يريد بالنجاة الأولى : من عذاب الدنيا ، وهو الريح الذي نزل بقومهم ، وبالنجاة الثانية : عذاب الآخرة ، وهو العذاب الغليظ ، ولذلك عطفه على النجاة الأولى التي أراد بها النجاة من الريح.
وَتِلْكَ عادٌ الإشارة إلى القبيلة ، أو إلى قبورهم وآثارهم تهويلا وتهديدا ، جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ كفروا بها ، وَعَصَوْا رُسُلَهُ ، والجمع إما لأنّ من عصى رسولا فكأنما عصى الكل لأنهم متفقون فى الدعوة ، مع أنهم أمروا بطاعة كل رسول. وإمّا على إرادة الجنس ، كقولك : فلان يركب الخيل ، وإن لم يركب إلا فرسا واحدا. وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ يعنى : كبراءهم الطاغين ، والعنيد : الطاغي ، والمعنى : عصوا من دعاهم إلى الإيمان وما ينجيهم ، وأطاعوا من دعاهم إلى الكفر وما يرديهم ، وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ أي : جعلت اللعنة تابعة لهم فى الدارين فى الدنيا أهلكتهم ، وفى الآخرة أحرقتهم.
أَلا إِنَّ عاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ جحدوه ، أو كفروا نعمه. وفيه تشنيع لكفرهم وتهويل لأمرهم ، بالإتيان بحرف التنبيه ، وتكرار اسم عاد أَلا بُعْداً لِعادٍ أي : هلاكا لهم ، دعا عليهم بالهلاك بعد أن هلكوا للدلالة على أنهم كانوا مستحقين له ، مستوجبين لما نزل بهم بسبب ما حكى عنهم. وإنما كرر «ألا» ، وأعاد ذكرهم تفظيعا لأمرهم ، وحثّا على الاعتبار بحالهم. ثم بيّنهم بقوله : قَوْمِ هُودٍ. فهو عطف بيان لعاد ، وفائدته : تمييزهم عن عاد الثانية ، التي هى عاد إرم ، والإيماء إلى [استحقاقهم للبعد] «1» بما جرى بينهم وبينه. قاله البيضاوي.
___________
(1) فى الأصول : [استحقارهم له ]. والمثبت هو الذي فى تفسير البيضاوي.(2/538)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 539
الإشارة : من أراد سلامة الدارين والظفر بقرة العين ، فليتمسك بالإيمان باللّه ، وبكل رسول أتى من عند اللّه ، وليتبع من يدعو إلى اللّه. وهم أهل المحبة والوداد ، السالكون مناهج الرشاد والسداد. وليتجنب كل جبار عنيد ، وهو :
كل من يحول بينك وبين اللّه ، ويغفلك عن ذكر اللّه. وقوله تعالى : (ألا بعدا لعاد) وأخواتها ، فيها تخويف لأهل القرب والوصال.
قال فى الإحياء : ولخصوص المحبين مخاوف فى مقام المحبة ، ليست لغيرهم ، وبعض مخاوفهم أشد من بعض ، فأولها : خوف الإعراض ، وأشد منه : خوف الحجاب ، وأشد منه : خوف الإبعاد ، وهذا المعنى من سورة هود هو الذي شيب سيد المحبين ، أنه سمع : (ألا بعدا لعاد) ، (ألا بعدا لمدين) ، وإنما تعظم هيبة البعد وخوفه فى قلب من ألف القرب وذاقه ، وتنعّم به. ثم قال : ثم خوف الوقوف وسلب المزيد ، فإنا قدّمنا : أن درجات القرب لا نهاية لها. ه.
ثم ذكر قصة صالح عليه السّلام فقال :
[سورة هود (11) : الآيات 61 الى 63]
وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (61) قالُوا يا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هذا أَتَنْهانا أَنْ نَعْبُدَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا وَإِنَّنا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (62) قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَما تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ (63)
قلت : قال الشطيبى : صالح : هو ابن عبيد بن عابر بن أرفخشد بن سام بن نوح. وثمود هم أولاد ثمود بن عوص بن عاد بن إرم بن سام بن نوح. ه. وفيه نظر فقد ذكر البيضاوي فى سورة الأعراف أن بين صالح ونوح تسعة أجداد ، فانظره.
يقول الحق جل جلاله : وَأرسلنا إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً ، قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ كونكم من الأرض لأنه خلق آدم منها ، والنطف التي هى مواد نسله أصلها منها ، وَاسْتَعْمَرَكُمْ عمركم فِيها وجعلكم تعمرونها بعد من مضى قبلكم ، ثم تتركونها لغيركم. أو استبقاكم فيها مدة أعماركم ، ثم ترحلون عنها. فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ ، إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ من كل شىء ، مُجِيبٌ لمن دعاه.(2/539)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 540
قالُوا يا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هذا أي : كنا نرجو أن ننتفع بك لما نرى فيك من مخايل الرشد والسداد ، فتكون لنا سيدا ، أو مستشارا فى الأمور ، وأن توافقنا على ديننا ، فلما سمعنا هذا القول منك انقطع رجاؤنا منك أَتَنْهانا أَنْ نَعْبُدَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا قبلنا لتصرفنا عن ديننا ، وَإِنَّنا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ من التوحيد ، والتبري من الأوثان ، مُرِيبٍ : موقع فى الريبة مبالغة فى الشك ، قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ طريقة واضحة مِنْ رَبِّي وبصيرة نافذة منه ، وَآتانِي مِنْهُ رَحْمَةً : نبوة ، فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ من يمنعنى من عذابه إِنْ عَصَيْتُهُ وأطعتكم فى ترك التبليغ ، وموافقتكم فى الدين الفاسد ، فَما تَزِيدُونَنِي باستتباعكم غَيْرَ تَخْسِيرٍ بترك ما منحنى اللّه به ، والتعرض لغضبه ، أو فما تزيدوننى بما تقولون لى غير تخسير لكم لأنه يجركم إلى الخسران. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : كل من وجهه الحق تعالى يدعو إلى اللّه فإنما يدعو إلى خصلتين : إفراد الحق بنعوت الألوهية ، والقيام بوظائف العبودية شكرا لنعمة الإيجاد ، وتوالى الإمداد. فقول صالح عليه السّلام : (اعبدوا اللّه مالكم من إله غيره) ، هذا إفراد الحق بالربوبية ، وقوله : (هو أنشأكم من الأرض) ، هذه نعمة الإيجاد. وقوله : (و استعمركم فيها) هى : نعمة الإمداد ، وقوله : (فاستغفروه ثم توبوا إليه) ، هو القيام بوظائف العبودية شكرا لتلك النعمتين. وفى قوله : (إن ربى قريب مجيب) : ترهيب وترغيب.
وقوله تعالى : (قالوا يا صالح قد كنت فينا مرجوا قبل هذا) : يؤخذ من الآية : أن شعاع الخصوصية ، وآثارها ، تظهر على العبد قبل شروق أنوارها ، وهو جار فى خصوص النبوة والولاية ، فلا تظهر على العبد فى الغالب حتى يتقدمها آثار وأنوار ، من مجاهدة أو أنس ، أو اضطرار أو انكسار ، أو عرق طيب. واللّه تعالى أعلم. وكل من واجهه منهم تكذيب أو إنكار يقول : (أرأيتم إن كنت على بينة من ربى ...) الآية. وباللّه التوفيق.
ثم ذكر معجزة الناقة ، فقال :
[سورة هود (11) : الآيات 64 الى 68]
وَيا قَوْمِ هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ قَرِيبٌ (64) فَعَقَرُوها فَقالَ تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (65) فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا صالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (66) وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ (67) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِثَمُودَ (68)(2/540)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 541
قلت : «آية» : نصبت على الحال ، والعامل فيها : معنى الإشارة. و(لكم) : حال منها ، تقدمت عليها لتنكيرها.
و(من خزى يومئذ) - حذف المعطوف ، أي : ونجيناهم من خزى يومئذ ، ومن قرأ بكسر الميم أعربه ، ومن قرأ بالفتح بناه لاكتساب المضاف البناء من المضاف إليه. قاله البيضاوي. وقال فى الألفية :
وابن ، أو أعرب ما كإذ قد أجريا واختر بنا متلو فعل بنيا
وقبل فعل معرب أو مبتدا أعرب ، ومن بنى فلن يفندا
وثمود : اسم قبيلة ، يصح فيه الصرف باعتبار الحي أو الأب الأكبر ، وعدمه باعتبار القبيلة. وقد جاء بالوجهين فى هذه الآية.
يقول الحق جل جلاله : قال صالح لقومه بعد ظهور آية الناقة ، وقد تقدم فى الأعراف قصتها : هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً تدل على صدقى ، فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ أي : ترعى نباتها وتشرب ماءها ، وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ ، فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ قَرِيبٌ : عاجل ، لا يتأخر عن مسكم لها بالسوء إلا ثلاثة أيام.
فَعَقَرُوها وقسموا لحمها فَقالَ لهم : تَمَتَّعُوا : عيشوا فِي دارِكُمْ منازلكم ثَلاثَةَ أَيَّامٍ الأربعاء والخميس والجمعة. وقيل : عقروها يوم الأربعاء ، وتأخروا الخميس والجمعة والسبت ، وهلكوا يوم الأحد.
ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ فيه ، بل هو حق.
فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا : عذابنا ، أو أمرنا بهلاكهم ، نَجَّيْنا صالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ ، قيل : كانوا ألفين وثمانمائة رجل وامرأة. وقيل : أربعة آلاف ، وقال كعب : كان قوم صالح أربعة عشر ألفا ، سوى النساء والذرية ، ولقد كان قوم عاد مثلهم ست مرات. انظر القرطبي. قلت : وقول كعب : كان قوم صالح ... إلخ ، لعله يعنى الجميع : من آمن ومن لم يؤمن ، فآمن ألفان وثمانمائة ، وهلك الباقي. وكذا هود ، أسلم أربعة آلاف ، وهلك الباقي.
قال تعالى : فنجينا صالِحاً ومن معه بِرَحْمَةٍ مِنَّا ، ونجيناهم مِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ وهو : هلاكهم بالصيحة ، أو من هوان يوم القيامة ، إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ القادر على كل شىء ، الغالب عليه ، وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ باركين على ركبهم ، ميتين ، كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا : يعيشوا ، أو يقيموا فِيها ساعة ، أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ جحدوه ، أَلا بُعْداً لِثَمُودَ هلاكا وسحقا لهم.
الإشارة : ما رأينا أحدا ربح من ولى وهو يطلب منه إظهار الكرامة ، بل إذا أراد اللّه أن يوصل عبدا إليه كشف له عن سر خصوصيته ، بلا توقف على كرامة. وقد يظهرها اللّه له بلا طلب تأييدا له ، وزيادة فى إيقانه ، فإن طلب الكرامة ، وظهرت له ، ثم أعرض عنه ، فلا أحد أبعد منه. قال تعالى ، فى حق من رأى المعجزة ثم أعرض :
(ألا بعدا لثمود). وباللّه التوفيق.(2/541)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 542
ثم ذكر قصة لوط ، مع ما تقدمها من بشارة إبراهيم عليه السّلام ، فقال :
[سورة هود (11) : الآيات 69 الى 73]
وَلَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (69) فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ (70) وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ (71) قالَتْ يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (72) قالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (73)
قلت : «سلاما» : منصوب على المصدر ، أي : سلمنا سلاما. ويجوز نصبه بقالوا لتضمنه معنى ذكروا. (قال سلام) : إما خبر ، أي : أمرنا سلام ، أو جواب سلام ، وإما مبتدأ ، أي : عليكم سلام. وكسر السين : لغة. وإنما رفع جوابه ليدل على ثبوت سلامه فيكون قد حياهم بأحسن مما حيوه به. (فما لبث أن جاء). «ما» : نافية و«أن جاء» :
فاعل «لبث». ونكر وأنكر بمعنى واحد. والإيجاس : الإدراك أو الإضمار. و(من وراء إسحاق يعقوب) : من قرأ بالنصب فبفعل دل عليه الكلام ، أي : ووهبنا لها يعقوب. ومن رفعه فمبتدأ ، أي : ويعقوب مولود من بعده. و(شيخا) :
حال ، والعامل فيه : الإشارة ، أي : أشير إليه شيخا. و(أهل البيت) : نصب على المدح والاختصاص ، أو على النداء.
يقول الحق جل جلاله : وَلَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ ، وهم الملائكة ، قيل : ثلاثة : جبريل وميكائيل وإسرافيل. وقيل : تسعة ، جاءوه بِالْبُشْرى بالولد. فلما دخلوا عليه قالُوا سَلاماً أي : سلمنا عليك سلاما ، أو ذكروا سلاما ، قالَ سَلامٌ أي : عليكم سلام ، فَما لَبِثَ أي : أبطأ ، أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ مشوى بالرضف ، أي : بالحجر المحمى. وقيل : حنيذ بمعنى يقطر ودكه «1». كقوله : بِعِجْلٍ سَمِينٍ «2» ، فامتنعوا من أكله ، فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ لا يمدون إليه أيديهم ، نَكِرَهُمْ أي : أنكر ذلك منهم ، وَأَوْجَسَ : أدرك ، أو أضمر مِنْهُمْ خِيفَةً أي : خوفا ، خاف أن يريدوا به مكروها لامتناعهم من طعامه ، وكان من عادتهم إذا مس من يطرقهم طعامهم أمنوه ، وإلا خافوه.
والظاهر أنه أحس بأنهم ملائكة ونكرهم لأنه تخوف أن يكون نزولهم لأمر أنكره اللّه عليه فأمنوه ، وقالوا :
لا تَخَفْ إِنَّا ملائكة أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ
لنعذبهم ، وإنما لم نأكل طعامك لأنا لا نأكل الطعام. وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ من وراء ستر تسمع محاورتهم ، أو على رؤوسهم للخدمة ، فَضَحِكَتْ سرورا بزوال الخيفة ، أو بهلاك
___________
(1) الودك : دسم اللحم.
(2) من الآية 26 من سورة الذاريات.(2/542)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 543
أهل الفساد ، أو بإصابة رأيها ، فإنها كانت تقول لإبراهيم : اضمم إليك لوطا ، فإنى لأعلم أن العذاب نازل بهؤلاء القوم. وقيل : معنى ضحكت : حاضت. يقال : ضحكت الشجرة : إذا سال صمغها. وقيل : ضحكت سرورا بالولد الذي بشرت به. فيكون فى الكلام تقديم وتأخير ، أي : فبشرناها فضحكت ، وهو ضعيف.
قال تعالى : فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ ولد ولدها. وتوجيه البشارة إليها لأنه من نسلها ، ولأنها كانت عقيمة حريصة على الولد ، قالَتْ يا وَيْلَتى يا عجبا ، وأصله فى الشر ، فأطلق على كل أمر فظيع. وقرىء بالياء على الأصل ، أي : يا ويلتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ ابنة تسعين ، أو تسع وتسعين وَهذا بَعْلِي : زوجى ، وأصله : القائم بالأمر ، شَيْخاً ابن مائة أو مائة وعشرين سنة ، إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ يتعجب منه لكونه نشأ الولد من هرمين.
وهو استغراب من حيث العادة ، لا من حيث القدرة ، ولذلك قالوا : أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ منكرين عليها ، فإن خوارق العادات باعتبار أهل بيت النبوة ، ومهبط الوحى ومظهر المعجزات. وتخصيصهم بمزيد النعم والكرامات ليس ببدع ، ولذلك قالوا : رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ أي : بيت إبراهيم ، فلا تستغرب ما يظهر منهم من خوارق العادات ، لا سيما من نشأت وشابت فى ملاحظة الآيات ، إِنَّهُ تعالى حَمِيدٌ فاعل ما يستوجب به الحمد ، أو محمود على كل حال ، مَجِيدٌ كثير الخير والإحسان. أو ممجّد بمعنى العلو والشرف التام. قال ابن عطية هنا : إن فى الآية دليلا على أن الذبيح إسماعيل لا إسحاق. وفيه نظر «1». وسيأتى فى سورة الصافات ما هو الحق ، إن شاء اللّه تعالى.
الإشارة : من شأن أهل الكرم والامتنان : المبادرة إلى من أتاهم بالبر والإحسان إما بقوت الأرواح ، أو بقوت الأشباح. من أتاهم لقوت الأرواح بادروه بإمداد الروح من اليقين والمعرفة ، ومن أتاهم لقوت الأشباح بادروه بالطعام والشراب ، كلا ما يليق به ، ومن شأن الضيف اللبيب المبادرة إلى أكل ما قدم إليه ، من غير اختيار ، إلا لمانع شرعى أو عادى. ومن شأن أهل التحقيق والتصديق ألا يتعجبوا مما يظهر من القدرة من الخوارق إذ القدرة صالحة لكل شىء ، حاكمة على كل شىء ، هى تحكم على العادة ، لا العادة تحكم عليها. وهذا شأن الصديقين لا يتعجبون من شىء ولا يستغربون شيئا ، ولذلك توجه الإنكار إلى سارة من الملائكة ، ولم يتوجه إلى مريم حيث سألت استفهاما ، ولم تتعجب ، ووصفت بالصديقية دون سارة. واللّه تعالى أعلم.
ولما تحقق إبراهيم عليه السّلام بهلاك قوم لوط أسف عليهم ، كما قال تعالى :
[سورة هود (11) : الآيات 74 الى 76]
فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ وَجاءَتْهُ الْبُشْرى يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ (74) إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (75) يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (76)
___________
(1) راجع ، مع تقريرنا بأن الذبيح هو إسماعيل عليه السّلام.(2/543)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 544
قلت : «لما» : حرف وجود لوجود ، تفتقر للشرط والجواب. فشرطها : «ذهب» ، وجوابها : محذوف ، أي : جعل يجادلنا. والتأوه : التفجع والتأسف ، ومنه قول الشاعر.
إذا ما قمت أرحلها بليل تأوّه آهة الرجل الحزين «1»
يقول الحق جل جلاله : فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ ، وهو ما أوجس فى نفسه من الخيفة ، وَجاءَتْهُ الْبُشْرى بدل الروع ، جعل يُجادِلُنا أي : يخاصم رسلنا فِي شأن قَوْمِ لُوطٍ ، ويدافع عنهم ، قال : إِنَّ فِيها لُوطاً قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها «2» ، إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ ، غير عجول من الانتقام إلى من أساء إليه ، أَوَّاهٌ كثير التأوه والتأسف على الناس ، مُنِيبٌ راجع إلى اللّه. والمقصود من ذلك :
بيان الحامل له على المجادلة ، وهى : رقة قلبه وفرط ترحمه. قال تعالى على لسان الملائكة : يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا ، الجدال إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ بهلاكهم ، ونفذ قضاؤه الأزلى فيهم ، ولا مرد لما قضى ، وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ غير مصروف بجدال ولا دعاء ، ولا غير ذلك.
الإشارة : قال الورتجبي : قوله تعالى : (إن إبراهيم لحليم أواه) حليم بأنه كان لا يدعو على قومه ، بل قال :
فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ «3». وتأوه زفرة قلبه من الشوق إلى جمال ربه ، هكذا وصف العاشقين. ثم قال : ومجادلته كمال الانبساط ، ولم يكن جهلا ، ولكن كان مشفقا ، بارا كريما ، رأى مكانة نفسه فى محل الخلة والاصطفائية القديمة ، وهو تعالى يحب غضب العارفين ، وتغير المحبين ، ومجادلة الصديقين ، وانبساط العاشقين حتى يحثهم على ذلك.
وفى الحديث المروي عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال : «لما أسرى بي رأيت رجلا فى الحضرة يتذمر ، فقلت لجبريل : من هذا؟ فقال : أخوك موسى يتذمّر على ربّه - أي : يجترىء عليه انبساطا - فقلت : وهل يليق له ذلك؟ فقال : يعرفه فيتحمل عنه». ثم قال : ولا يجوز الانبساط إلا لمن كان على وصفهم. ه. قال فى الصحاح : يتذمّر على فلان : إذا تنكّر له وأوعده. قاله المحشى.
والحاصل أن ابراهيم عليه السّلام حملته الشفقة والرحمة ، حتى صدر ، منه ما صدر مع خلته واصطفائيته ، فالشفقة والرحمة من شأن الصالحين والعارفين المقربين ، غير أن العارفين باللّه مع مراد مولاهم ، يشفقون على عباد اللّه ، مالم يتعين مراد اللّه ، فاللّه أرحم بعباده من غيره. ولذلك قال لخليله ، لما تعين قضاؤه : يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا.
___________
(1) عزاه القرطبي فى تفسيره إلى المثقّب العبدى.
(2) من الآية : 32 من سورة العنكبوت.
(3) من الآية : 36 من سورة ابراهيم.(2/544)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 545
فالشفقة التي تؤدى إلى معارضة القدر لا تليق بأهل الأقدار ، وفى الحكم «ما ترك من الجهل شيئا من أراد أن يحدث فى الوقت غير ما أظهره اللّه». ولهذا قالوا : الشفقة لا تليق بالأولياء.
قال جعفر الصادق - رحمه اللّه - : ست خصال لا تحسن بستة رجال : لا يحسن الطمع فى العلماء ، ولا العجلة فى الأمراء ، ولا الشح فى الأغنياء ، ولا الكبر فى الفقراء ، ولا الشفقة فى المشايخ ، ولا اللؤم فى ذوى الأحساب. وقولنا :
الشفقة لا تليق بالأولياء ، يعنى إذا تعين مراد اللّه ، أو إذا ظهرت المصلحة فى عدمها ، كأمر الشيخ المريد بما تموت به نفسه ، فإذا كان الشيخ يحن على الفقراء فى هذا المعنى لا تكمل تربيته. واللّه تعالى أعلم.
ثم ذكر قصة هلاك لوط ، فقال :
[سورة هود (11) : الآيات 77 الى 83]
وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالَ هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ (77) وَجاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ قالَ يا قَوْمِ هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (78) قالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ (79) قالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ (80) قالُوا يا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (81)
فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (82) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (83)
قلت : «سى ء» : مبنى للمفعول ، صله : سوىء ، نقلت حركة الواو إلى السين بعد ذهاب حركتها ، ثم قلبت الواو ياء. و(ذرعا) : تمييز محول عن الفاعل ، أي : ضاق ذرعه ، وهو كناية عن شدة الانقباض عن مدافعة الأمر المكروه ، وعجزه عن مقاومته. و(لو أن لى بكم قوة) : إما للتمنى فلا جواب له ، أو محذوف ، أي : لدفعت.(2/545)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 546
وفى (أسر) لغتان : قطع الهمزة ، من الإسراء ، ووصلها من السّرى ، وقرىء بهما معا ، و(إلا امرأتك) بالرفع بدل من (أحد) ، وبالنصب منصوب بالاستثناء من (فأسر بأهلك). ومنشأ القراءتين : هل أخرجها معه ، فالتفت أم لا؟
فمن رفع ذهب إلى أنه أخرجها. ومن نصب ذهب إلى أنه لم يسر بها ، وهما روايتان.
يقول الحق جل جلاله : وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا ، وهم الملائكة المتقدمون ، لُوطاً سِيءَ بِهِمْ ساءه مجيئهم لأنهم أتوه فى صورة غلمان حسان الوجوه ، فظن أنهم بشر ، فخاف عليهم من قومه أن يقصدوهم للفاحشة ، ولا يقدر على مدافعتهم ، وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً أي : ضاق صدره بهم ، وَقالَ هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ :
شديد ، من عصبه : إذا شده ، وروي أن اللّه تعالى قال لهم : لا تهلكوا قومه حتى يشهد عليهم لوط أربع شهادات ، فلما مشى معهم منطلقا بهم إلى منزله ، قال لهم : أما بلغكم أمر هذه القرية؟ قالوا : وما أمرهم؟ قال : أشهد باللّه أنها شرّ قرية فى الأرض عملا. قال ذلك أربع مرات. فدخلوا منزله ، ولم يعلم بذلك أحد ، فخرجت امرأته فأخبرتهم ، وَجاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ يسرعون إِلَيْهِ كأنهم يدفعون إليه دفعا ، لطلب الفاحشة من أضيافه. وَمِنْ قَبْلُ ذلك الوقت كانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ الفواحش ، كاللواطة وغيرها ، مستمرين عليها مجاهرين بها ، حتى لم يستحيوا ، وجاءوا يهرعون إليها.
قالَ يا قَوْمِ هؤُلاءِ بَناتِي تزوجوهن ، وكانوا يطلبونهن قبل ، فلا يجيبهم لخبثهم ، وعدم كفاءتهم ، لا لحرمة المسلمات على الكفار ، فإنه شرع طارئ قال ابن جزى : وإنما قال لهم ذلك ليقى أضيافه ببناته. قيل : ان اسم بناته ، الواحدة : ريثا ، والأخرى : غوثا. ه. ولم يذكر الثالثة ، فعرضهن عليهم «1» ، وقال : هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ أحل لكم ، أو أقل فحشا ، كقولك : الميتة أطيب من المغصوب ، فَاتَّقُوا اللَّهَ بترك الفواحش ، وَلا تُخْزُونِ لا تفضحونى فِي ضَيْفِي فى شأنهم ، فإن افتضاح ضيف الرجل خزى له. أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ عاقل يهتدى إلى الحق ويرعوى عن القبيح.
قالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍّ من حاجة ، وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ وهو إتيان الذكران ، قالَ لَوْ أَنَّ لِي ليت لى بِكُمْ قُوَّةً طاقة على دفعكم بنفسي ، أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ أو ألجأ إلى أصحاب أو عشيرة يحموننى منكم ، شبه ما يتمتع بهم بركن الجبل فى شدته ، قال صلّى اللّه عليه وسلّم : «رحم اللّه أخى لوطا لقد كان يأوى إلى ركن شديد» «2» يعنى : اللّه تعالى.
___________
(1) قال مجاهد وغيره : إن المراد ببناته عليه السّلام نساء أمته ، وأضافهم إليه لأن كل نبى أب لأمته. [.....]
(2) أخرجه البخاري فى (أحاديث الأنبياء ، باب : «ولوطا إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة وأنتم تبصرون»).(2/546)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 547
روى أنه أغلق بابه دون أضيافه ، وأخذ يجادلهم من وراء الباب ، فتسوروا الجدار ، فلما رأت الملائكة ما على لوط من الكرب ، قالُوا يا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ : لن يصلوا إلى إضرارك بإضرارنا ، فهون عليك ودعنا وإياهم. فخلاهم ، فلما دخلوا ضرب. جبريل عليه السّلام بجناحيه وجوههم ، فطمس أعينهم ، وأعماهم ، فخرجوا يقولون : النجاء النجاء فى بيت لوط سحرة ، فقالت الملائكة للوط عليه السّلام : فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ سر بهم بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ : بطائفة منه ، وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ : لا يتخلف ، أو لا ينظر إلى ورائه لئلا يرى ما يهوله.
والنهى فى المعنى يتوجه إلى لوط ، وإن كان فى اللفظ مسندا إلى أحد.
إِلَّا امْرَأَتَكَ ، اسمها : واهلة. أي : فلا تسر بها ، أو : ولا ينظر أحد منكم إلى ورائه إلا امرأتك فإنها تنظر.
روى أنها خرجت معه ، فلما سمعت صوت العذاب التفتت وقالت : يا قوماه ، فأدركها حجر فقتلها ، ولذلك قال :
إِنَّهُ مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ من العذاب ، إِنَّ مَوْعِدَهُمُ وقت الصُّبْحُ فى نزول العذاب بهم ، فاستبطأ لوط وقت الصبح ، وقال : هلا عذبوا الآن؟ فقالوا : أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ.
فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا عذابنا ، أو أمرنا به ، جَعَلْنا مدائنهم عالِيَها سافِلَها ، روى أن جبريل عليه السّلام أدخل جناحه تحت مدائنهم ، ورفعها إلى السماء ، حتى سمع أهل السماء نباح الكلاب ، وصياح الديكة ، ثم قلبها بهم.
وَأَمْطَرْنا عَلَيْها على المدائن ، أي : أهلها ، أو على ما حولها. روى أنه من كان منهم خارج المدائن أصابته الحجارة من السماء ، وأما من كان فى المدائن ، فهلك لمّا قلبت. فأرسلنا عليهم حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ : من طين طبخ بالنار ، أو من طين متحجر كقوله : حِجارَةً مِنْ طِينٍ «1» ، وأصلها : سنكين «2» ، ثم عرب ، وقيل : إنه من أسجله إذا أرسله ، أي : من مثل الشيء المرسل ، وقيل : أصله من سجين ، أي : جهنم ، ثم أبدلت نونه لاما ، مَنْضُودٍ : مضموم بعضه فوق بعض ، معدا لعذابهم ، أو متتابع يتبع بعضه بعضا فى الإرسال ، كقطر الأمطار.
مُسَوَّمَةً أي : معلمة للعذاب ، وقيل : معلمة ببياض وحمرة ، أو بسيما تتميز به عن حجارة الأرض ، أو باسم من يرمى به فكل حجارة كان فيها اسم من ترمى به ، وقوله : عِنْدَ رَبِّكَ ، أي : فى خزائن علمه وقدرته ، وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ ، بل هى قريبة من كل ظالم.
قال ابن جزى : الضمير للحجارة ، والمراد بالظالمين : كفار قريش ، فهذا تهديد لهم ، أي : ليس الرمي بالحجارة ببعيد منهم لأجل كفرهم ، وقيل : الضمير للمدائن ، أي : ليست مدائنهم ببعيد منهم أفلا يعتبرون بها. كقوله :
___________
(1) من الآية 33 من سورة الذاريات.
(2) فى البيضاوي : «سنك كل».(2/547)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 548
وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ «1». وقيل : الظالمين على العموم. ه. وقال البيضاوي : وعنه - عليه الصلاة والسلام : «أنّه سأل جبريل ، فقال : يعنى : ظالمى أمّتك ، ما من ظالم منهم إلّا وهو معرض لحجر يسقط عليه من ساعة» إلى ساعة» «2». ه.
الإشارة : الاعتناء بشأن الأضياف ، وحفظ حرمتهم : من شأن الكرام ، والاستخفاف بحقهم ، والتجاسر عليهم ، من فعل اللئام. وفى الحديث : «من كان يؤمن باللّه واليوم الآخر فليكرم ضيفه». والإسراع إلى الفواحش من علامة الهلاك ، لا سيما اللواط والسفاح. والإيواء إلى اللّه والاعتصام به من علامة الفلاح ، والبعد عن ساحة أهل الفساد من شيم أهل الصلاح ، وكل من اشتغل بالظلم والفساد فالرمى بالحجارة إليه بالمرصاد.
ثم ذكر قصة شعيب ، فقال :
[سورة هود (11) : الآيات 84 الى 86]
وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (84) وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (85) بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (86)
قلت : «مفسدين» : حال مؤكدة لمعنى عاملها ، وهو : «لا تعثوا». وفائدة ذكره : إخراج ما يقصد به الإصلاح ، كما فعله الخضر عليه السّلام.
يقول الحق جل جلاله : وَأرسلنا إِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً ، أراد أولاد مدين بن إبراهيم عليه السّلام أو أهل مدين ، وهى بلده ، فسميت باسمه ، قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وحده ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ ، وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ ، وكانوا مطففين. أمرهم أولا بالتوحيد فإنه رأس الأمر ، ثم نهاهم عما اعتادوه من : البخس المنافى للعدل ، المخل بحكمة المعاوضة ، ثم قال لهم : إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ بسعة كرخص الأسعار ، وكثرة الأرزاق ، فينبغى أن تشكروا عليها ، وتتعففوا بها عن البخس ، لا أن تنقضوا الناس حقوقهم ، أو بسعة ونعمة ، فلا
___________
(1) من الآية : 40 من سورة الفرقان.
(2) عزاه فى الفتح السماوي (2/ 721) للثعلبى مرفوعا ، بغير إسناد.(2/548)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 549
تزيلوها بما أنتم عليه فإن من لم يشكر النعم فقد تعرض لزوالها ، وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ يوم القيامة ، فإنه محيط بكل ظالم ، أو عذاب الاستئصال فى الدنيا ، ووصف اليوم بالإحاطة ، وهى صفة العذاب لاشتماله عليه.
وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ بالعدل من غير زيادة ولا نقصان. صرح بالأمر بالاستيفاء بعد النهى عن ضده مبالغة ، وتنبيها على أنهم لا يكفيهم الكف عن تعمد التطفيف ، بل يلزمهم السعى فى الإيفاء ولو بالزيادة ، حيث لا يتأتى دونها ، وقد تكون الزيادة محظورة ، ولذلك أمرهم بالعدل فى قوله : (بالقسط) ، بلا زيادة ولا نقصان.
وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ لا تنقصوهم حقهم ، وهو تعميم بعد تخصيص ، فإنه أعم من أن يكون فى الميزان والمكيال وفى غيره ، وكذا قوله : وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ فإن العثو - وهو الفساد - يعم تنقيص الحقوق وغيره من أنواع الفساد. وقيل : المراد بالبخس : المكس ، كأخذ العشور فى المعاملات ، والعثو : السرقة وقطع الطريق والغارة ، وأكده بقوله : مُفْسِدِينَ وفائدته : إخراج ما يقصد به الإصلاح ، كما فعل الخضر عليه السّلام ، وقيل :
معناه : مفسدين أمر دينكم ومصالح آخرتكم. قاله البيضاوي.
بَقِيَّتُ اللَّهِ أي : ما أبقاه لكم من الحلال بعد التنزه عن الحرام ، خَيْرٌ لَكُمْ مما تجمعون بالتطفيف ، إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فإن الإيمان يقتضى الاكتفاء بالحلال عن الحرام. أو إن كنتم مؤمنين فالبقية خير لكم ، فإن خيريتها تظهر باعتبار الثواب والنجاة من العذاب ، وذلك مشروط بالإيمان ، أو : إن كنتم مصدقين لى فى قولى لكم.
وقيل : البقية : الطاعة ، كقوله : وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ «1». وقرىء ، «تقية اللّه» بالتاء المثناة ، وهى تقواه التي تكف عن المعاصي ، وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ أحفظ عليكم أعمالكم ، وأجازيكم عليها ، إنما أنا نذير وناصح مبلغ ، وقد أعذرت حين أنذرت. أو : أحفظكم عن القبائح وأمنعكم منها. أو : لست بحافظ عليكم نعم اللّه إن سلبت عنكم بسوء صنيعكم. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : كما أمر الحق تعالى بالوفاء فى الموازين أمر بالوفاء فى الأعمال والأحوال والمقامات. ولذلك قيل للجنيد فى النوم : [أفضل ما يتقرب به إلى اللّه عمل خفى ، بميزان وفي ] ، فالوفاء فى الأعمال : إتقانها فى الظاهر ، باستيفاء شروطها وآدابها ، وإخلاصها فى الباطن مع حضور القلب فيها. والوفاء فى الأحوال : ألا تخرج عن قواعد الشريعة ، بأن لا تكون محرمة ولا مكروهة ، وأن يقصد بها موت النفوس وحياة الأرواح ، والوفاء فى المقام : ألا ينتقل عن مقام إلى غيره حتى يتحقق بالمقام الذي أنزل فيه. وفيه خلاف بين الصوفية : هل يصح الانتقال عن مقام قبل التحقق به ، ثم يحققه فى المقام الذي بعده ، أم لا؟.
___________
(1) من الآية : 46 من سورة الكهف.(2/549)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 550
والمقامات التي ينزل فيها المريد : التوبة ، والخوف ، والرجاء ، والورع ، والزهد ، والتوكل ، والصبر ، والرضى ، والتسليم ، والمحبة ، والمراقبة ، والمشاهدة بالفناء ثم البقاء ، أو الإسلام ، ثم الإيمان ، ثم الإحسان. فلا ينتقل من مقام إلى ما بعده حتى يحقق المقام الذي هو فيه ، ذوقا وحالا. وقيل : يجوز أن ينتقل إلى ما بعده إذا كان ذا قريحة فتحقق له ما قبله. واللّه تعالى أعلم. وطريق الشاذلية مختصرة ، تطوى عن المريد هذه المقامات ، فينزل فى أول قدم فى مقام الإحسان ، شعر أم لا ، ثم يحصل الفناء ثم البقاء ، إن وجد شيخا كاملا تربى على يد شيخ كامل ، وإلا فلا.
وقول الجنيد رضى اللّه عنه : (عمل خفى) ، اعلم أن الخفاء على ثلاثة أقسام : خفاء عوام الصالحين ، وهو : إخفاء الأعمال عن الناس مخافة الرياء. وخفاء المريدين ، وهو : الإخفاء عن ملاحظة الخلق ومراقبتهم ، ولو كانوا بين أظهرهم ، فإخفاؤهم قلبى لا قالبى. وخفاء العارفين الواصلين ، وهو : الإخفاء عن رؤية النفس ، فهم يغيبون عن أنفسهم ووجودهم ، فى حال أعمالهم ، فليس لهم عن نفوسهم إخبار ، ولا مع غير اللّه قرار. واللّه تعالى أعلم.
ثم ذكر ما أجابه به قومه فقال :
[سورة هود (11) : آية 87]
قالُوا يا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (87)
قلت : «تأمرك أن نترك» : على حذف مضاف ، أي : تأمرك بتكليف أن نترك لأن الرجل لا يؤمر بفعل غيره. و(أن نفعل) : عطف على (ما) أي : أو نترك فعلنا فى أموالنا ما نشاء.
يقول الحق جل جلاله : قالُوا يا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ التي تكثر منها هى التي تَأْمُرُكَ أن تأمرنا أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا من الأصنام ، وندخل معك فى دينك المحدث ، أجابوا به ما أمرهم به من التوحيد بقوله : ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ ، على وجه التهكم والاستهزاء بصلواته. وكان كثير الصلاة ، ولذلك جمعوها وخصوها بالذكر. وقرأ الأخوان وحفص بالإفراد المراد به الجنس.
ثم أجابوه عن نهيهم عن التطفيف وأمرهم بالإيفاء ، فقالوا : أَوْ نترك أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا من البخس وغيره؟ وقيل : كانوا يقطعون الدراهم والدنانير ، فنهاهم عن ذلك .. إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ ، تهكموا به وقصدوا وصفه بضده ، من خفة العقل والسفه لأن العاقل عندهم هو الحريص على جمع الدنيا وتوفيرها ، وهو الحمق عند العقلاء ، أو إنك موسوم بالحلم والرشيد فلا ينبغى لك أن تنهانا عن تنمية أموالنا والتصرف فيها. واللّه تعالى أعلم.(2/550)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 551
الإشارة : الإنكار على من أمر بالخروج عن العوائد والتقلل من الدنيا من طبع أهل الكفر والجهل ، وكذلك رميه بالحمق والسفه. فلا تجد الناس اليوم يعظمون إلا من أقرهم على توفير دنياهم ورئاستهم ، والتكاثر منها ، وأما من زهدهم فيها وأمرهم بالقناعة ، فإنهم يرفضونه ، ويحمقونه. وهذا طبع من طبع الأمم الخالية ، الجاهلة باللّه ، وبما أمر به ، وفى الحديث : «لتتبعنّ سنن من قبلكم ، شبرا بشبر ، وذراعا بذراع ، حتّى لو دخلوا جحر ضبّ لدخلتموه».
وباللّه التوفيق.
ثم ذكر موعظة شعيب لقومه ، فقال :
[سورة هود (11) : الآيات 88 الى 90]
قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَما تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88) وَيا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ ما أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صالِحٍ وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (89) وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (90)
قلت : جواب «إن كنت» : محذوف ، أي : فهل ينبغى أن أخون فى وحيه وأخالفه فى أمره.
يقول الحق جل جلاله : قالَ شعيب لقومه : يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي ، وهى النبوة والعلم والحكمة ، وَرَزَقَنِي مِنْهُ من عنده ، وبإعانته ، بلا كد فى تحصيله ، رِزْقاً حَسَناً : حلالا ، إشارة إلى ما آتاه من المال الحلال. فهل يسع لى بعد هذا الإنعام ، الجامع للسعادات الروحانية والجسمانية ، أن أخون فى وحيه ، وأخالفه فى أمره ونهيه ، حتى لا أنهاكم عن عبادة الأوثان ، والكف عن العصيان ، والأنبياء لا يبعثون إلا بذلك ، وهذا منه اعتذار لما أنكروا عليه من الأمر بالخروج عن عوائدهم ، وترك ما ألفوه من دينهم الفاسد ، أي : كيف أترك ما أمرنى به ربى من تبليغ وحيه ، وأنا على بينة منه ، وقد أغنانى اللّه عنكم وعن غيركم.
ولذلك قال إثره : وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ أي : وما أريد أن آتى ما أنهاكم عنه لأستبد به دونكم ، فتتهمونى إن أردت الاستبداد به. يقال : خالفنى فلان إلى كذا : إذا قصده وأنت مول عنه ، وخالفنى عنه :
إذا ولى عنه وأنت قاصده. إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ أي : ما أريد إلا أن أصلحكم بأمرى لكم بالمعروف ، ونهيى لكم عن المنكر جهد استطاعتي.
قال البيضاوي : ولهذه الأجوبة الثلاثة على هذا النسق شأن ، وهو التنبيه على أن العاقل يجب أن يراعى فى كل ما يأتيه ويذره أحد حقوق ثلاثة : أهمها وأعلاها : حق اللّه تعالى. وثانيها : حق النفس ، وثالثها : حق الناس. ه.(2/551)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 552
قلت : فحق اللّه : كونه على بينة من ربه ، وحق النفس : تمكينه من الرزق الحسن. وحق الناس : نصحهم من غير طمع ، ولا حظ.
ثم قال : وَما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ وما توفيقى لإجابة الحق ، والصواب ، إلا بهدايته ومعونته ، عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ فإنه القادر على كل شىء ، وما عداه عاجز بل معدوم ، ساقط عن درجة الاعتبار. وفيه إشارة إلى محض التوحيد ، الذي هو أقصى مراتب العلم باللّه. وَإِلَيْهِ أُنِيبُ أرجع فى جميع أمورى. وَيا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ : لا يكسبنكم شِقاقِي : معاداتى ، أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ ما أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ من الغرق ، أَوْ قَوْمَ هُودٍ من الريح ، أَوْ قَوْمَ صالِحٍ من الصيحة ، والمعنى : لا تخالفوني فيجركم ذلك إلى الهلاك كما هلك الأمم قبلكم ، وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ زمانا ولا مكانا ، فإن لم تعتبروا بمن قبلكم ، فاعتبروا بهم إذ هم ليسوا ببعيد منكم فى الكفر والمساويء ، فلا يبعد عنكم ما أصابهم. وإنما أفرد «بعيد» لأن المراد : وما إهلاكهم ، أو وما هم بشىء بعيد.
وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ عما أنتم عليه إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ عظيم الرحمة للتائبين ، وَدُودٌ متودد إليهم ، فاعل بهم من اللطف والإحسان ما يفعل البليغ المودة بمن يوده ، وهو وعد على التوبة بعد الوعيد على الإصرار. قاله البيضاوي.
الإشارة : قد تضمنت خطبة شعيب عليه السّلام ست خصال ، من اجتمعت فيه فاز بسعادة الدارين :
الأولى : فتح البصيرة ، ونفوذ العزيمة ، وتنوير القلب بمعرفة اللّه ، حتى يكون على بينة من ربه.
الثانية : تيسير الرزق الحلال ، من غير تعب ولا مشقة ، يستعين به على طاعة ربه ، ويقوم به بمؤنة أمره.
الثالثة : السعى فى إصلاح عباد اللّه وإرشادهم ، ودعاؤهم إلى اللّه من غير طمع ولا حرف ، ويكون حاله يصحح مقاله ، فلا يترك ما أمر به ، ولا يفعل ما نهى عنه.
الرابعة : الاعتماد على اللّه والرجوع إليه فى توفيقه وتسديده ، وفى أمر دنياه ودينه ، بحيث لا يرجو إلا اللّه ، ولا يخاف إلا منه.
الخامسة : الحذر والتحذير من مخالفة ما جاءت به الرسل من عند اللّه ، والتمسك بما أمروا به من طاعة اللّه ، والاعتبار بمن هلك قبله ممن خالف أمر اللّه.
السادسة : تحقيق التوبة والانكسار ، والإكثار من الذكر والاستغفار. فذلك سبب المودة من الكريم الغفار. ولأجل هذه الخطبة سمى شعيب خطيب الأنبياء. واللّه تعالى أعلم.(2/552)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 553
ثم ذكر جواب قومه ، فقال :
[سورة هود (11) : الآيات 91 الى 93]
قالُوا يا شُعَيْبُ ما نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً وَلَوْ لا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ (91) قالَ يا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (92) وَيا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (93)
قلت : «سوف تعلمون» : ذكره هنا بغير فاء ، وفى الأنعام بالفاء «1» لأن الكلام فى سورة الأنعام مع الأمة المحمدية ، فأتى بالفاء لمطلق السببية ، وهنا مع قوم شعيب عليه السّلام ، فحذفها لأنه أبلغ فى التهويل. فكأن الجملة بيانية لجواب سائل قال : فما يكون بعد ذلك؟ فقال : سوف تعلمون ... إلخ.
يقول الحق جل جلاله : قالُوا يا شُعَيْبُ ما نَفْقَهُ ما نفهم كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ من أمر التوحيد ، وترك التبخيس ، وما ذكرت من الدليل عليها وذلك لانهماكهم فى الهوى ، وقصور عقلهم ، وعدم تفكرهم. وقيل : قالوا ذلك استهانة بكلامه ، أو لأنهم لم يلقوا إليه أذهانهم لشدة نفرتهم. ثم قالوا : وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً لا قوة لك تمتنع بها منا إن أردنا بك سوءا ، أو : نراك ناحل البدن ، أو : ضرير البصر. وضعفه ابن عطية «2». وَلَوْ لا رَهْطُكَ أي : قومك ، الذين هم باقون على ملتنا ، وكونهم فى عزة عندنا ، لَرَجَمْناكَ : لقتلناك بالحجارة.
أو بأصعب وجه ، وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ فتمنعنا عزتك من رجمك.
قال البيضاوي : وهذا ديدن السفيه المحجوج ، يقابل الحجج والآيات بالسب والتهديد. وفى إيلاء ضميره حرف النفي تنبيه على أن الكلام فيه لا فى ثبوت العزة ، وأن المانع لهم من إيذائه عزة قومه. ولذلك قال :
يا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا ، وجعلتموه كالمنسى المنبوذ وراء الظهر ، بإشراككم به ، والإهانة لرسوله. وهو يحتمل الإنكار والتوبيخ والرد والتكذيب. والظهرى : منسوب إلى الظهر ، والكسر من تغيير البناء. ه. قال ابن جزى : فإن قيل : إنما وقع الكلام فيه وفى رهطه ، بأنهم هم الأعزة دونه ، فكيف طابق جوابه كلامهم؟ فالجواب : أن تهاونهم به ، وهو رسول اللّه ، تهاون باللّه. فلذلك قال : أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ. ه.
___________
(1) فى قوله تعالى : (قال يا قوم اعملوا على مكانتكم فسوف تعلمون من تكون له عاقبة الدار إنه لا يفلح الظالمون) الآية : 135.
(2) قال ابن عطية : وهذا ضعيف ، لا تقوم عليه حجة بضعف بصره أو بدنه ، والظاهر من قولهم «ضعيفا» أنه ضعيف الانتصار والقدرة.(2/553)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 554
إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ فلا يخفى عليه شىء منها ، فيجازى عليها بتمامها. وَيا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ : على حالتكم من تمكنكم فى الدنيا ، وعزتكم فيها ، إِنِّي عامِلٌ على حالى ، سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ ، يهينه فى الدنيا والآخرة ، وَسوف تعلمون مَنْ هُوَ كاذِبٌ منى ومنكم ، وَارْتَقِبُوا وانتظروا ما أقول لكم ، إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ : مرتقب لذلك. وهو فعيل بمعنى فاعل ، كالصريح والرفيع. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : لا يفقه المواعظ والتذكير إلا أهل الإيمان والتنوير. وأما القلب القاسي بالكفر والمعاصي فلا يسمع إلا ما تسمعه البهائم من الناعق والراعي. فبقدر ما يرق القلب يتأثر بالمواعظ ، وبقدر ما يغلظ باتباع الحظوظ والهوى يغيب عن تدبر المواعظ. وسبب تنوير القلب ورقته : قربه من اللّه ، وتعظيمه لحرمات اللّه ، وتعظيم من جاء من عند اللّه من أنبيائه ورسله ، وورثتهم القائمين بحجته ، كالأولياء والعلماء الأتقياء. وسبب ظلمة القلب وقساوته : بعده من اللّه ، وإهانته لحرمات اللّه ، واتخاذه أمره ظهريا ، وجعل ذكره نسيا منسيا. وباللّه التوفيق.
ثم ذكر هلاك قوم شعيب ، فقال :
[سورة هود (11) : الآيات 94 الى 95]
وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ (94) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ (95)
يقول الحق جل جلاله : وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا : عذابنا لقوم شعيب ، نَجَّيْنا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا ، لا بعمل استحقوا به ذلك إذ كل من عنده ، وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ قيل : صاح بهم جبريل فهلكوا ، فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ : ميتين. وأصل الجثوم : اللزوم فى المكان. كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها كأن لم يقيموا فيها ساعة ، أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ ، شبههم بهم لأن عذابهم كان أيضا بالصيحة ، غير أن صيحة ثمود كانت من فوق ، وصيحة مدين كانت من تحت ، على ما قيل ، ويدل عليه : التعبير عنهما بالرجفة فى آية أخرى «1» ، والرجفة فى الغالب إنما تكون من ناحية الأرض. وفى البيضاوي خلاف هذا ، وهو غير جيد.
قال قتادة : بعث اللّه شعيبا إلى أمتين : أصحاب الأيكة ، وأصحاب مدين ، فأهلك أصحاب الأيكة بالظلة ، على ما يأتى ، وأما أهل مدين فصاح بهم جبريل صيحة فهلكوا أجمعين. قيل : وآمن بشعيب من الفئتين : تسعمائة إنسان. وكان أهل الأيكة أهل غيطة وشجر ، وكان شجرهم الدّوم «2» - وهو شجر المقل.
___________
(1) كما فى قوله تعالى : فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ. الأعراف 78 ، 91.
(2) الدّوم : شجر يشبه النخلة.(2/554)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 555
الإشارة : سبب النجاة من الهلاك فى الدارين : توحيد اللّه ، وتعظيم من جاء من عند اللّه. وسبب الهلاك :
الإشراك باللّه ، وإهانة من عظمه اللّه. واللّه تعالى أعلم.
ثم ذكر رسالة موسى عليه السّلام بعد شعيب لأنه من تلامذته ، فقال :
[سورة هود (11) : الآيات 96 الى 99]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (96) إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (97) يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (98) وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (99)
يقول الحق جل جلاله : وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا بمعجزاتنا الدالة على صدقه ، وَسُلْطانٍ مُبِينٍ وتسلط ظاهر على فرعون ، أو برهان بيّن على نبوته. قال البيضاوي : والفرق بينهما : أن الآية نعم الأمارة والدليل القاطع ، والسلطان يخص بالقاطع ، والمبين يخص بما فيه جلاء. ه. أرسلناه إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ جماعته ، فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ أي : اتبعوا أمره بالكفر بموسى ، أو : فما اتبعوا موسى الهادي إلى الحق ، المؤيد بالمعجزات القاهرة الباهرة ، واتبعوا طريقة فرعون المنهمك فى الضلالة والطغيان ، الداعي إلى ما لا يخفى فساده على من له أدنى مسكة من العقل لفرط جهالتهم ، وعدم استبصارهم ، وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ أي : ليس أمره برشد وصواب ، وإنما هو غى وضلال.
يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ إلى النار ، كما يتقدمهم فى الدنيا إلى الضلال ، فَأَوْرَدَهُمُ : أدخلهم النَّارَ ذكره بلفظ الماضي مبالغة فى تحققه ، ونزّل النار لهم منزلة الماء ، فسمى إتيانها موردا. ثم قال : وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ أي : بئس المورد الذي وردوه ، فإنّ المورد إنما يراد لتبريد الأكباد ، وتسكين العطش ، والنار بضد ذلك.
والآية كالدليل على قوله : وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ فإنّ من هذا عاقبته لم يكن فى أمره رشد ، أو تفسير له ، على أن المراد بالرشيد : ما يكون مأمون العاقبة حميدها. قاله البيضاوي. وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ أي : تتبعهم اللعنة فى الدارين بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ : بئس العون المعان ، أو العطاء المعطى. فالرفد : العطاء ، والإرفاد : المعونة ، ومنه : رفادة قريش ، أي : معونتهم للفقراء فى الحج بالطعام. والمخصوص بالذم محذوف ، أي :
رفدهم ، وهو اللعنة فى الدارين.
الإشارة : إذا أردت أن تعرف قدر الرجل فى مرتبة الخصوصية فاسأل عن إمامه الذي يقتدى به ، فإن كان من أهل الخصوصية فصاحبه من الخصوص ، إن دامت صحبته معه ، وإن كان من العموم فصاحبه من العموم.(2/555)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 556
والمراد بالخصوصية : تحقيق مقام الفناء ، ودخول بلاد المعاني. فكل من لم يحصل مقام الفناء ، ولم يشهد إلا المحسوسات فهو من العوام ، ولو بلغ من العلم والعمل ما بلغ ، ولو رأى من الكرامات أمثال الجبال. فمن صحب مثل هذا الذي لم يفن عن نفسه ، ولم يخرج عن دائرة حسه ، لم يخرج من العمومية لأن نفسه فرعونية. قال تعالى :
وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ ، وفى الخبر : «المرء على دين خليله» وقال الشاعر :
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه فكلّ قرين بالمقارن يقتدى «1»
واللّه تعالى أعلم.
ثم وعظ نبيه بما جرى على الأمم المتقدمة آنفا ، فقال :
[سورة هود (11) : الآيات 100 الى 104]
ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ (100) وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (101) وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (103) وَما نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ (104)
قلت : (ذلك) : مبتدأ. و(من أنباء) : خبر ، و(نقصه) : خبر ثان. وجملة : (منها قائم وحصيد) : استئنافية لا حالية لعدم الرابط.
يقول الحق جل جلاله : ذلِكَ النبأ الذي أخبرناك به فى هذه السورة ، هو مِنْ أَنْباءِ الْقُرى الماضية المهلكة ، نَقُصُّهُ عَلَيْكَ ، ونخبرك به تهديدا لأمتك وتسلية لك. مِنْها ما هو قائِمٌ البناء باقى الأثر ، وَمنها حَصِيدٌ أي : محصود عافى الأثر ، كالزرع المحصود. أو : منها ما هو ساكن بقوم آخرين ، قائم العمارة بغير من هلك ، ومنها ما هو دارس على أثره ، واندرست أطلاله.
قال تعالى : وَما ظَلَمْناهُمْ بإهلاكنا إياهم ، وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بأن عرضوها له بارتكابهم ما يوجب هلاكهم ، فعبدوا معى غيرى ، فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ : ما نفعتهم ، ولا قدرت أن تدفع عنهم العذاب ، آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ من ذلك العذاب ، لَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ - حين جاءهم عذابه
___________
(1) البيت منسوب إلى عدى بن زيد. انظر : نهاية الأرب 3/ 65 والعقد الفريد 2/ 311.(2/556)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 557
وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ أي : مثل ذلك الأخذ الوبيل أخذ ربك إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ فلا يمهلها ، وقد يمهلها ثم يأخذها. فكل ظالم معرض لذلك. وفى الحديث عنه صلّى اللّه عليه وسلّم : «إنّ اللّه ليملى للظّالم ، حتى إذا أخذه لم يفلته».
ثم قرأ : وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ .... الآية. فالآية تعم قرى المؤمنين حيث عبّر بظالمة دون كافرة. قاله ابن عطية. إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ وجيع عظيم ، غير مرجو الخلاص منه ، وهو مبالغة فى التهديد والتحذير.
إِنَّ فِي ذلِكَ الذي نسرده عليك من قصص الأمم الدارسة ، لَآيَةً لعبرة لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ فيعتبر به ويتعظ لعلمه بأن ما حاق بهم أنموذج مما أعد اللّه للمجرمين فى الآخرة. وأما من أنكر الآخرة فلا ينفعه هذا الوعظ والتذكير لفساد قلبه ، وموت روحه.
ذلِكَ أي : يوم القيامة الذي وقع التخويف به ، يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ : محشورون إليه أينما كانوا.
وعبّر باسم المفعول دون الفعل للدلالة على الثبوت والاستقرار ، ليكون أبلغ لأن «مجموع» أبلغ من «يجمع».
وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ أي : تشهده أهل السموات وأهل الأرض لفصل القضاء ، ويحضره الأولون والآخرون ، لاقتضاء الثواب والعقاب. فاليوم مشهود فيه ، . فحذف الظرف اتساعا .. وَما نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ أي : إلا لانتهاء مدة معدودة فى علم اللّه ، لا يتقدم ولا يتأخر عنها ، قد اختص اللّه تعالى بها. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : التفكر والاعتبار من أفضل عبادة الأبرار لأنه يزهد فى الدنيا الفانية ، ويشوق إلى الدار الباقية ، ويرقق القلب ، ويستدعى مخافة الرب ، فلينظر الإنسان بعين الاعتبار فى الأمم الخالية ، والقرون الماضية ، والأماكن الدارسة كيف رحل أهلها عن الدنيا أحوج ما كانوا إليها ، وتركوها أحب ما كانت إليهم؟ وفى بعض الخطب الوعظية : أين الفراعين المتكبرة ، وأين جنودها المعسكرات؟ أين الأكاسير المنكسرة؟ وأين كنوزها المقنطرات؟ أين ملوك قيصر والروم؟ وأين قصورها المشيدات؟ أين ملوك عدن ، أهل الملابس والحيجان «1»؟ وأين ملوك اليمن ، أهل العمائم والتيجان؟ قد دارت عليهم - واللّه - الأقدار الدائرات ، وجرت عليهم برياحها العاصفات ، وأسكنتهم تحت أطباق الرجام «2» المنكرات ، وصيرت أجسامهم طعمة للديدان والحشرات ، وأيمت منهم الزوجات ، وأيتمت منهم البنين والبنات. أفضوا إلى ما قدموا ، وانقادوا قهرا إلى القضاء وسلموا. فلا ما كانوا أملوا أدركوا ، ولا إلى ما فاتهم من العمل الصالح رجعوا. وباللّه التوفيق.
ثم ذكر شأن ذلك اليوم المشهود ، فقال :
[سورة هود (11) : الآيات 105 الى 108]
يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (105) فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106) خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلاَّ ما شاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ (107) وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلاَّ ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108)
___________
(1) الحيجان : جمع غير قياسى للمحجن ، وهو : عصا معقّفة الرأس كالصولجان.
(2) أي : الحجارة.(2/557)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 558
قلت : (يوم يأتى) : العامل فى الظرف : «لا تكلم» ، أو : اذكر ، مضمر. والضمير فى «يأتى» : يعود على اليوم.
وقال الزمخشري : يعود على «اللّه» لعود الضمير عليه فى قوله : (إلا بإذنه) ، وضمير «منهم» على أهل الموقف المفهوم من قوله : (لا تكلم نفس).
يقول الحق جل جلاله : يَوْمَ يَأْتِ ذلك اليوم المشهود ، وهو : يوم الجزاء لا تَكَلَّمُ لا تتكلم نَفْسٌ بما ينفع وينجى فى جواب أو شفاعة إِلَّا بِإِذْنِهِ تعالى ، وهذا كقوله : لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ «1» ، وهذا فى موقف ، وقوله : هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ «2» ، فى موقف آخر.
والمأذون فيه هى الجوابات الحقية ، أو الشفاعات المرضية ، والممنوع منه هى الأعذار الباطلة.
ثم قسّم أهل الموقف ، فقال : فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وجبت له النار بمقتضى الوعيد لكفره وعصيانه. وَمنهم سَعِيدٌ وجبت له الجنة بمقتضى الوعد لإيمانه وطاعته. فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ ، الزفير : إخراج النفس ، والشهيق : رده. ويستعملان فى أول النهيق وآخره. أو الزفير : صوت المحزون ، والشهيق : صوت الباكي. أو الزفير من الحلق ، والشهيق من الصدر. والمراد بهما : الدلالة على شدة الكرب والغم ، وتشبيه حالهم بمن استولت الحرارة على قلبه ، وانحصرت فيه روحه ، أو تشبيه حالهم بأصوات الحمير. قاله البيضاوي.
خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أي : سموات النار وأرضها. وهى دائمة أبدا ، ويدل عليه قوله تعالى : يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ «3» ، أو يكون عبارة عن التأبيد : كقول العرب : ما لاح كوكب وما ناح الحمام ، وشبه ذلك بما يقصد به الدوام ، وهذا أصح.
وقوله : إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ ، للناس هنا كلام واختلاف. وأحسن ما قيل فيه ما ذكره البقاعي ، قال : والذي ظهر لى - واللّه أعلم - أنه لما تكرر الجزم بالخلود فى الدارين ، وأن الشرك لا يغفر ، والإيمان موجب للجنة ، فكان
___________
(1) من الآية : 38 من سورة النبأ. [.....]
(2) الآيتان : 35 - 36 من سورة المرسلات.
(3) من الآية : 48 من سورة ابراهيم.(2/558)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 559
ربما يظن أنه لا يمكن غير ذلك ، كما ظنه المعتزلة ، لا سيما إذا تأمل القطع فى مثل قوله : إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ «1» ، مع تقييد غيره بالمشيئة فى قوله : وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ «2» ، جاء هذا الاستثناء معلما أن الأمر فيه إلى اللّه كغيره من الأمور ، له أن يفعل فى كلها ما يشاء ، وإن جزم القول فيه ، لكنه لا يقع غير ما أخبر به ، وهذا كما تقول : اسكن هذه الدار عمرك إلا ما شاء زيد ، وقد لا يشاء زيد شيئا. فكما أن التعليق بدوام السموات والأرض غير مراد الظاهر ، كذلك الاستثناء ، فلا يشاء اللّه قطع الخلود لأحد من الفريقين ، وسوقه هكذا أدل على القدرة وأعظم فى تقليد المنة. ه.
وقال الجلال السيوطي ، فى «البدور السافرة فى أمور الآخرة» : اعلم أن للعلماء فى هذا الاستثناء أقوالا ، أشبهها بالصواب : أنه ليس باستثناء ، وإنما «إلا» بمعنى «سوى» ، كما تقول : لى عليك ألف درهم إلا ألفان ، التي لى عليك ، أي : سوى الألفين ، والمعنى : خالدين فيها قدر مدة السموات والأرض فى الدنيا سوى ما شاء ربك من الزيادة عليها ، فلا منتهى له. وذلك عبارة عن الخلود. والنكتة فى تقديم ذكر مدة السموات والأرض : التقريب إلى الأذهان بذكر المعهود أولا ، ثم أردفه بما لا إحاطة للدهر به. والجري على عادة العرب فى قولهم فى الإخبار عن دوام الشيء وتأبيده : لا آتيك ما دامت السموات والأرض. ه. ومثله لابن عطية. قال : ويؤيد هذا التأويل قوله بعد :
عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ أي : غير مقطوع ، وهذا قول الفراء ، فإنه يقدر الاستثناء المنقطع بسوى ، وسيبويه بلكن.
ه. وقال الورتجبي : قال ابن عطاء : (إلا ما شاء ربك) من الزوائد لأهل الجنة من الثواب. ومن الزوائد لأهل النار من العقاب. ه. (إن ربك فعال لما يريد) من غير حجر ولا اعتراض.
وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ كما تقدم.
عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ : غير مقطوع ، وهو تصريح بأن الثواب غير مقطوع ، وتنبيه على أن المراد من الاستثناء تعليم الأدب فقط. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : السعادة على قسمين : سعادة الظاهر ، وسعادة الباطن. والشقاوة كذلك. أما سعادة الظاهر ففى الدنيا بالراحة من التعب ، وفى الآخرة بالنجاة من العذاب. وأما سعادة الباطن ففى الدنيا براحة القلب من كد الهموم والأحزان ، باليقين والاطمئنان ، فى حضرة الشهود والعيان ، وفى الآخرة بدوام النظر ، فى مقعد صدق عند مليك مقتدر. وشقاوة الظاهر باتصال الكد والتعب. وشقاوة الباطن بالبعد عن اللّه ، وافتراقه عن حضرة مولاه.
قال فى نوادر الأصول : الشقاوة : فراق العبد من اللّه ، والسعادة اندساسه إليه. ه. وقال الشيخ أبو الحسن رضى اللّه عنه فى حزبه الكبير : والسعيد من أغنيته عن السؤال منك ، والشقي حقا من حرمته مع كثرة السؤال لك.
___________
(1 - 2) الآية : 48 من سورة النساء.(2/559)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 560
قال شيخ شيوخنا - سيدى عبد الرحمن الفاسى - فى حاشيته عليه : ومدار السعادة : الجمع على اللّه والغيبة عمن سواه ، فيفنى العبد عن وجوده ، ويبقى بربه ، فيشغله استغراقه فى شهوده عن الشعور بغيريته ، وينمحى عنه أمل شىء يرجى ، أو خوف شىء يتقى ، فليس له عن سوى الحق إخبار ، ولا مع غيره قرار. وعند ما حل بهذه الحضرة ، وظفر بقرة عينه ، وحياة روحه ، وسر حياته ، لا يتصور منه سول ، ولا فوات مأمول. «أنت مع الأكوان ما لم تشهد المكون ، فإذا شهدته كانت الأكوان معك» ، «اشتاقت الجنّة إلى علىّ وعمّار وسلمان وصهيب وبلال» كما فى الأثر.
نعم ، إن رد إليه تصور منه الدعاء على وجه العبودية ، وأداء الأمر وإظهار الفاقة ، لا على وجه الاقتضاء والسببية.
«جل حكم الأزل أن ينضاف إلى الأسباب والعلل».
ثم قال : وعلى ما تقرر فى السعادة ، فالشقاوة : احتجاب العبد بوجوده عن شهوده ، فلا ينفكّ عن أمل ، ولا عن خوف عطب. فيستحثه الطبع للسؤال جلبا أو دفعا. وهو فى ذلك فى شقاء ، سواء أعطى أو منع لفقده قرة عينه وراحة قلبه ، لأسره فى طبعه ، ومكابدة أمره وهلعه. كما قال تعالى : إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً ، إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً ، وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً إِلَّا الْمُصَلِّينَ «1». فلم يستثن من كد الطبع ومكابدته غير أهل الصلاة الدائمة ، وهم أهل الوجهة للّه ، المواجهين بعناية اللّه ، المتحققين بذكر اللّه. وقد ورد : «هم القوم لا يشقى جليسهم» فضلا عنهم. وعلى الجملة : فالمراد بالسعادة والشقاوة فى كلامه - أي : الشاذلى - الباطنة لا الظاهرة ، والقلبية لا القالبية.
وإن كان قد تطلق على ذلك أيضا ، لكن لكل مقام مقال. وقد قال تعالى : فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى «2».
قال فى نوادر الأصول : تابع القرآن قد أجير من شقاء العيش فى الدنيا لراحة قلبه من غموم الدنيا وظلماتها ، وسيره فى الأمور بقلبه فى راحة لأنه منشرح الصدر واسعه ، وبدنه فى راحة لأنه ميسر عليه أمور الدنيا ، تهيأ له فى يسر لضمان اللّه ، واكتنافه له. وكذا يجار فى الآخرة من شقاء العيش فى سجون النيران. أعاذنا اللّه من ذلك. ه.
ثم حذّر من الشرك ، الذي هو سبب الخلود فى النار ، فقال :
[سورة هود (11) : آية 109]
فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ ما يَعْبُدُونَ إِلاَّ كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ (109)
___________
(1) الآيات : 19 - 22 من سورة المعارج.
(2) من الآية 123 من سورة طه.(2/560)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 561
يقول الحق جل جلاله : فَلا تَكُ يا محمد فِي مِرْيَةٍ. فى شك مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ المشركون ، أي : لا تشك فى فساد ما هم فيه ، بعد ما أنزل عليك من حال الناس ، وتبيين ما لأهل السعادة الموحدين ، مما لأهل الشقاء المشركين ، ما يَعْبُدُونَ إِلَّا كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ ، وهو تعليل للنهى ، أي : ما يعبدون عبادة إلا كعبادة آبائهم. أو ما يعبدون شيئا إلا مثل ما عبد آباؤهم من الأوثان تقليدا من غير برهان ، وقد بلغك ما لحق آباءهم من العذاب فسيلحقهم مثل ذلك لاتفاقهم فى سبب الهلاك. وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ حظهم من العذاب ، كآبائهم ، غَيْرَ مَنْقُوصٍ من نصيبهم شىء. فالتوفية لا تقتضى التمام. تقول : وفيته حقه ، وتريد وفاء بعضه.
واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : فلا تكن أيها العارف فى مرية مما يعبد هؤلاء العوام ، من جمع الدنيا ، والتكاثر منها ، وصرف الهمة إلى تحصيلها ، واستعمال الفكر فى أسباب جمعها ، وانهماك النفس فى حظوظها وشهواتها. ما يعبدون إلا كما يعبد آباؤهم من قبل ، ممن سلك هذا المسلك الذميم ، وإنا لموفوهم نصيبهم غير منقوص ، بانحطاط درجتهم عن درجة المقربين. قال بعض الحكماء : دار الدنيا كأحلام المنام ، وسرورها كظل الغمام ، وأحداثها كصوائب السهام ، وشهواتها : كمشرب الشمام ، وفتنتها كأمواج الطوام. ه.
ولما ذكر رسالة موسى عليه السّلام ، وشأن فرعون ووبال من تبعه ، ذكر نزول التوراة عليه ، فقال :
[سورة هود (11) : الآيات 110 الى 111]
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (110) وَإِنَّ كُلاًّ لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (111)
قلت : (و إنّ كلّا لما ليوفينهم) : إن : مخففة عاملة ، والتنوين فى (كلّا) عوض عن المضاف. و«ما» : موصولة ، واللام : لام الابتداء ، و(ليوفينهم) : جواب لقسم محذوف ، وجملة القسم وجوابه : صلة «ما» ، أي : وإن كان الفريقين للذين ، واللّه ، ليوفينهم ربك أعمالهم. ومن قرأ : «لمّا» بالتشديد ، فعلى أن (إن) نافية ، و«لما» بمعنى إلا ، وقيل : غير هذا.
يقول الحق جل جلاله : وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ : التوراة ، فَاخْتُلِفَ فِيهِ فآمن به قوم وكفر به قوم ، كما اختلف هؤلاء فى القرآن ، وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ وهى : كلمة الإنظار إلى يوم القيامة ، لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بإنزال ما يستحقه المبطل من الهلاك ، ونجاة المحق. وَإِنَّهُمْ أي : قوم موسى ، أو كفار قومك ، لَفِي شَكٍّ مِنْهُ أي : التوراة ، أو من القرآن ، مُرِيبٍ : موقع فى الريبة. وَإِنَّ كُلًّا من(2/561)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 562
الفريقين المختلفين ، المؤمنين والكافرين ، للذين لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ جزاء أعمالهم ، ولا يهمل منه شيئا - إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ فلا يفوته شىء منه وإن خفى.
الإشارة : الاختلاف على الأنبياء والأولياء سنة ماضية. ولو لا أن اللّه سبحانه حكم فى سابق علمه أنه لا يفضح الضمائر إلا يوم تبلى السرائر ، لفضح أسرار البطالين ، وأظهر منار الذاكرين من السائرين أو الواصلين.
لكنه سبحانه أخر ذلك بحكمته وحلمه ، إلى يوم الدين. واللّه تعالى أعلم.
ثم بيّن أصل الأعمال وأفضلها ، وهى الاستقامة ، فقال :
[سورة هود (11) : الآيات 112 الى 115]
فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَمَنْ تابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112) وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (113) وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ (114) وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (115)
قلت : (و من تاب) : عطف على فاعل (استقم) للفصل ، (فتمسّكم) : جواب النهى. ويقال : ركن يركن :
كعلم يعلم ، وركن يركن : كدخل يدخل. و(ثم لا تنصرون) : مستأنف لا معطوف ، و(طرفى) : منصوب على الظرفية. و(زلفا) : جمع زلفة ، كقربة ، أزلفه : قربه.
يقول الحق جل جلاله : فَاسْتَقِمْ يا محمد كَما أُمِرْتَ ، وَليستقم مَنْ تابَ مَعَكَ من الكفر وآمن بك. وهى شاملة للاستقامة فى العقائد كالتوسط بين التشبيه والتعطيل ، بحيث يبقى العقل مصونا من الطرفين ، وفى الأعمال من تبليغ الوحى ، وبيان الشرائع كما أنزل ، والقيام بوظائف العبادات من غير تفريط ولا إفراط. وهى فى غاية العسر. ولذلك قال عليه الصلاة والسلام : «شيّبتنى هود» «1». قاله البيضاوي.
قال المحشى الفاسى : واللائق أن إشفاقه - عليه الصلاة والسلام - من أجل أمته لا من أجل نفسه لأجل عصمته ، وإنما أشفق عليهم لتوعد اللعين لهم بقوله : لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ «2». ه. قلت : ولا يبعد
___________
(1) الحديث كاملا : «شيبتنى هود ، والواقعة ، والمرسلات ، وعم يتساءلون ، وإذا الشمس كورت». أخرجه الترمذي وحسنه فى (كتاب التفسير - سورة الواقعة) والحاكم فى المستدرك (2/ 343) وصححه ووافقه الذهبي ، وأخرجه البيهقي فى الدلائل (1/ 357) والبغوي فى شرح السنة (14/ 372) وفى التفسير ، كلهم من حديث ابن عباس رضى اللّه عنه.
(2) من الآية : 16 من سورة الأعراف.(2/562)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 563
أن يكون أشفق - عليه الصلاة والسلام - من صعوبة استقامته التي تليق به ، فبقدر ما يعلو المقام يطلب بزيادة الأدب ، وبقدر ما يشتد القرب يتوجه العتاب. ولذلك كان الحق تعالى يعاتبه على ما لا يعاتب عليه غيره. وقد قالوا : حسنات الأبرار سيئات المقربين. وقد تقدم كلام الإحياء فى قوله : أَلا بُعْداً لِعادٍ «1».
ثم قال تعالى : وَلا تَطْغَوْا ولا تخرجوا عما حد لكم ، إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ، فيجازيكم على النقير والقطمير ، وهو تهديد لمن لم يستقم ، وتعليل للأمر والنهى. وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا : لا تميلوا إليهم أدنى ميل ، فإن الركون : هو الميل اليسير ، كالتزيى بزيهم ، وتعظيم ذكرهم ، وصحبتهم من غير تذكيرهم ووعظهم.
فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ لركونهم إليهم. قال الأوزاعى : ما من شىء أبغض إلى اللّه تعالى من عالم يزور عاملا «2». ه.
وقال سفيان : فى جهنم واد لا يسكنه إلا القراء الزائرون للملوك. ه. وقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : «من دعا لظالم بالبقاء - أي : بأن قال : بارك اللّه فى عمرك - فقد أحبّ أن يعصى اللّه فى أرضه» «3» وسئل سفيان عن ظالم أشرف على الهلاك فى برية ، هل يسقى شربة ماء؟ فقال : لا. فقيل له : يموت؟! فقال : دعه يموت. ه. وهذا إغراق ، ولعله فى الكافر المحارب ، واللّه أعلم.
قال البيضاوي : وإذا كان الركون إلى من وجد منه ما يسمى ظلما موجبا للنار ، فما ظنك بالركون إلى الظالمين الموسومين بالظلم ، ثم بالميل إليهم ، ثم بالظلم نفسه ، والانهماك فيه. ولعل الآية أبلغ ما يتصور فى النهى عن الظلم والتهديد عليه. وخطاب الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم ومن معه من المؤمنين بها للتثبيت على الاستقامة التي هى العدل فإن الزوال عنها بالميل إلى أحد طرفى إفراط أو تفريط ، ظلم على نفسه أو غيره ، بل ظلم فى نفسه. ه.
وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ من أنصار يمنعون العذاب عنكم ، ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ : ثم لا ينصركم اللّه إن سبق فى حكمه أنه يعذبكم.
ولمّا كان الركون إلى الظلم ، أو إلى من تلبس به فتنة ، وهى تكفرها الصلاة ، كما فى الحديث «4» ، أمر بها إثره ، فقال : وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ غدوة وعشية ، وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ ساعات منه قريبة من النهار.
والمراد بالصلاة المأمور بها : الصلوات الخمس. فالطرف الأول : الصبح ، والطرف الثاني : الظهر والعصر ، والزلف من الليل : المغرب ، والعشاء ، إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ يكفرنها قال ابن عطية : لفظ الآية عام فى
___________
(1) راجع إشارة الآيات : 58 - 60 من سورة نفسها.
(2) المراد بالعامل هنا : الحاكم أو الوالي.
(3) قال الحافظ العراقي فى المغني : لم أجده مرفوعا ، وإنما أورده ابن أبى الدنيا فى كتاب الصمت ، من قول الحسن البصري.
(4) سيذكر الشيخ الحديث بعد قليل.(2/563)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 564
الحسنات خاص فى السيئات لقوله صلّى اللّه عليه وسلّم : «ما اجتنبت الكبائر» ، ثم قال : وروى أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال : «الجمعة إلى الجمعة كفّارة ، والصّلوات الخمس ، ورمضان إلى رمضان كفارة لما بينهما ما اجتنبت الكبائر» «1» انظر تمامه فى الحاشية.
قال ابن جزى : روى أن رجلا قبّل امرأة ، [قلت : هو نبهان التمار] ، فذكر ذلك للنبى صلّى اللّه عليه وسلّم وصلّى معه الصلاة ، فنزلت الآية ، فقال صلّى اللّه عليه وسلّم : «أين السائل؟» فقال : ها أنا ذا ، فقال : «قد غفر اللّه لك بصلاتك معنا». فقال الرجل : ألى خاصّة ، أو للمسلمين عامّة؟ فقال : «للمسلمين عامّة» «2». والآية على هذا مدنية. وقيل : إن الآية كانت قبل ذلك ، وذكرها النبي صلّى اللّه عليه وسلّم للرجل مستدلا بها. والآية على هذا مكية كسائر السورة ، وإنما تذهب الحسنات - عند الجمهور - الصغائر إذا اجتنبت الكبائر. ه. قلت : وقيل : تكفر مطلقا اجتنبت الكبائر أم لا ، وهو الظاهر ، لأنه إذا حصل اجتناب الكبائر كفرت بلا سبب لقوله تعالى : إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ .... «3» الآية. وقوله عليه الصلاة والسلام : «ما اجتنبت الكبائر». معناه : أن الصلوات والجمعة مكفرة لما عدا الكبائر.
والحاصل : أن من اجتنب الكبائر كفرت عنه الصغائر بلا سبب لنص الآية. ومن ارتكب الكبائر والصغائر وصلى ، كفرت الصغائر دون الكبائر ، وبهذا تتفق الآية مع الحديث. واللّه تعالى أعلم.
قال ابن عطية فى قوله تعالى : إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى ... «4» الآية : الشهادة ماحية لكل ذنب إلا لمظالم العباد. وقد روى : «أن اللّه يتحمل عن الشهيد مظالم العباد ، ويجازيهم عنه». ختم اللّه لنا بالحسنى. انتهى.
ذلِكَ أي : ما تقدم من وعظ ووعد ووعيد ، وأمر الاستقامة ، أو القرآن كله ، ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ : عظة للمتقين. وخص الذاكرين لمزيد انتفاعهم بالوعظ ، لصقالة قلوبهم. وفى الخبر : «لكل شىء مصقلة ، ومصقلة القلوب ذكر اللّه». وَاصْبِرْ على مشاق الاستقامة ، ودوامها فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ وهم : أهل الاستقامة ظاهرا وباطنا.
الإشارة : الاستقامة على ثلاثة أقسام : استقامة الجوارح ، واستقامة القلوب ، واستقامة الأرواح والأسرار.
أما استقامة الجوارح فتحصل بكمال التقوى ، وتحقيق المتابعة للسنة المحمدية. وأما استقامة القلوب
___________
(1) أخرجه مسلم فى : (الطهارة ، باب الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة .. مكفرات) عن أبى هريرة رضى اللّه عنه.
(2) أخرجه بنحوه البخاري فى (التفسير ، سورة هود) ومسلم فى (التوبة ، باب قوله : إن الحسنات يذهبن السيئات) من حديث ابن مسعود - رضى اللّه عنه. أما قول المفسر : [هو نبهان التمار) فقد جاء فى سياق آخر ، للثعلبى فى تفسيره ، وقال الحافظ ابن حجر فى الفتح 8/ 207 : وهذا إن ثبت حمل على واقعة أخرى ، لما بين السياق من المغايرة.
(3) من الآية : 31 من سورة النساء. [.....]
(4) من الآية : 111 من سورة التوبة.(2/564)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 565
فتحصل بتطهيرها من سائر العيوب ، كالكبر والعجب ، والرياء ، والسمعة ، والحقد والحسد ، وحب الجاه والمال ، وما يتفرع عن ذلك من العداوة والبغضاء ، وترك الثقة بمجىء الرزق ، وخوف سقوط المنزلة ، من قلوب الخلق ، والشح والبخل ، وطول الأمل ، والأشر والبطر ، والغل والمباهاة ، والتصنع والمداهنة ، والقسوة والفظاظة والغلظة ، والغفلة والجفاء ، والطيش ، والعجلة ، والحمية ، وضيق الصدر ، وقلة الرحمة. إلى غير ذلك من أنواع الرذائل.
فإذا تطهر القلب من هذه العيوب اتصف بأضدادها من الكمالات : كالتواضع للّه ، والخشوع بين يديه ، والتعظيم لأمره ، والحفظ لحدوده ، والتذلل لربوبيته ، والإخلاص فى عبوديته ، والرضى بقضائه ، ورؤية المنة له فى منعه وعطائه. ويتصف فيما بين خلقه بالرأفة والرحمة ، واللين والرفق ، وسعة الصدر والحلم ، والاحتمال والصيانة ، والنزاهة والأمانة ، والثقة والتأنى ، والوقار ، والسخاء والجود ، والحياء ، والبشاشة والنصيحة. إلى غير ذلك من الكمالات.
وأما استقامة الأرواح والأسرار ، فتحصل بعدم الوقوف مع شىء سوى اللّه تعالى ، وعدم الالتفات إلى غيره حالا كان أو مقاما أو كرامة ، أو غير ذلك : كما قال الششترى رضى اللّه عنه :
فلا تلتفت فى السّير غيرا ، وكلّ ما سوى اللّه غير ، فاتخذ ذكره حصنا
وكلّ مقام لا تقم فيه إنّه حجاب ، فجدّ السّير واستنجد العونا
ومهما ترى كلّ المراتب تجتلى عليك فحل عنها ، فعن مثلها حلنا
وقل : ليس لى فى غير ذاتك مطلب فلا صورة تجلى ولا طرفة تجنا
وقوله تعالى : (و لا تركنوا إلى الذين ظلموا) : هو نهى عن صحبة الغافلين والميل إليهم. قال بعض الصوفية :
قلت لبعض الأبدال : كيف الطريق إلى التحقيق ، والوصول إلى الحق؟ قال : لا تنظر إلى الخلق فإن النظر إليهم ظلمة ، قلت : لا بد لى ، قال : لا تسمع كلامهم فإن كلامهم قسوة ، قلت : لا بد لى ، قال : لا تعاملهم لأن معاملتهم خسران وحسرة ووحشة ، قلت : أنا بين أظهرهم لا بد لى من معاملتهم؟ قال : لا تسكن إليهم فإن السكون إليهم هلكة. قلت : هذا لعله يكون؟ قال : يا هذا أتنظر إلى اللاعبين ، وتسمع كلام الجاهلين ، وتعامل البطالين ، وتسكن إلى الهلكى ، وتريد أن تجد حلاوة الطاعة ، وقلبك مع غير اللّه عز وجل!! هيهات! هذا ما لا يكون أبدا. ه. ونقل الورتجبي عن جعفر الصادق : ولا تركنوا إلى نفوسكم فإنها ظلمة. ه.(2/565)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 566
ثم ذكر سبب هلاك الأمم الماضية ، وهو فشو الظلم ، وعدم تغيير المنكر ، فقال :
[سورة هود (11) : الآيات 116 الى 117]
فَلَوْ لا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنا منهم وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فِيهِ وَكانُوا مُجْرِمِينَ (116) وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ (117)
قلت : (لو لا) ، تحضيضية ، ويقترن بها هنا معنى التفجع والتأسف ، كقوله : يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ «1» ، و«إلا قليلا» : منقطع ، ولا يصح اتصاله ، إلا إذا جعل استثناء من النفي اللازم للتحضيض. أي : ما كان فى القرون الماضية أولو بقية إلا قليل. يقال : فلان من بقية القوم ، أي : خيارهم ، وإنما قيل فيه «بقية» لأن الشرائع والدول تقوى أولا ثم تضعف. فمن ثبت فى وقت الضعف على ما كان فى أوله ، فهو بقية الصدر الأول. قاله ابن عطية.
وقوله : «بظلم» : حال من «ربك» أي : ما كان ربك ليهلك القرى ظالما لهم ، أو متعلق بيهلك.
يقول الحق جل جلاله : فَلَوْ لا : فهلا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ كقوم نوح وعاد وثمود ومن تقدم ذكرهم ، أُولُوا بَقِيَّةٍ من الرأى ، والعقل ينكرون عليهم ، أي : فهلا وجد فيهم من فيه بقية من العقل والحزم والثبوت ، يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ ، لكن قليلا ممن أنجينا منهم كانوا كذلك ، فأنكروا على أهل الفساد ، واعتزلوهم فى دينهم فأنجيناهم. وفى هذا تحريض على النهى عن المنكر والأمر بالمعروف ، وأنه سبب النجاة فى الدارين. وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فِيهِ : ما أنعموا فيه من الشهوات ، واهتموا بتحصيل أسبابها ، وأعرضوا عما وراء ذلك ، وَكانُوا مُجْرِمِينَ كافرين. قال البيضاوي : كأنه أراد أن يبين ما كان السبب لاستئصال الأمم الماضية ، وهو : فشو الظلم فيهم ، واتباع الهوى ، وترك النهى عن المنكرات مع الكفر. ه.
وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ أي : متلبسا بظلم ، وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ ، فيعذبهم بلا جرم ، أي : ما كان ليعذبهم ظالما لهم بلا سبب. أو ما كان ليهلك القرى بشرك وأهلها مصلحون فيما بينهم ، لا يضمون إلى شركهم فسادا وبغيا ، وذلك لفرط رحمته ومسامحته فى حقوقه. ومن ذلك قدّم الفقهاء ، عند تزاحم الحقوق ، حقوق العباد. وقال بعضهم : [الذنوب ثلاثة : ذنب لا يغفره اللّه ، وهو الشرك. وذنب لا يعبأ اللّه به ، وهو ما كان بينه وبين عباده ، وذنب لا يتركه اللّه ، وهو حقوق عباده ]. وقالوا : قد يبقى الملك مع الشرك ولا يبقى مع الظلم.
الإشارة : أولو البقية الذين ينهون عن الفساد فى الأرض هم : أهل النور المخزون المستودع فى قلوبهم من نور الحق ، إذا قابلوا منكرا دمغوه بالحال أو المقال ، وإذا قابلوا فسادا أصلحوه ، وإذا قابلوا فتنة أطفأوها. وإذا قابلوا بدعة
___________
(1) من الآية : 30 من سورة يس.(2/566)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 567
أخمدوها. وإذا واجهوا ضالا أرشدوه ، أو غافلا ذكروه ، أو طالبا للوصول وصلوه ، يمشون فى الأرض بالنصيحة ، لا يخافون فى اللّه لومة لائم. أولئك لهم الأمن وهم مهتدون.
قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : «والذي نفس محمد بيده لئن شئتم لأقسمن لكم : إنّ أحبّ عباد اللّه إلى اللّه الذين يحببون اللّه إلى عباده ، ويحببون عباد اللّه إلى اللّه ، ويمشون فى الأرض بالنصيحة» أما كونهم يحببون اللّه إلى عباده فلأنهم يذكرون لهم آلاءه وإحسانه وبره. والنفس تحب بالطبع من أحسن إليها. وأما كونهم يحببون عباد اللّه إلى اللّه فلأنهم يردونهم عن غيهم وحظوظهم ، التي تبعدهم عن ربهم. فإذا رجعوا إليه أحبهم.
وسئل ذو النون المصري رضى اللّه عنه عن وصف الأبدال ، فقال : سألت عن دياجى الظلام لأكشف لك عنهم ، هم قوم ذكروا اللّه بقلوبهم ، تعظيما لربهم لمعرفتهم بجلاله ، فهم حجج اللّه تعالى على خلقه ، ألبسهم اللّه - تعالى - النور الساطع من محبته ، ورفع لهم أعلام الهداية إلى مواصلته ، وأقامهم مقام الأبطال لإرادته ، وأفرغ عليهم من مخافته ، وطهّر أبدانهم بمراقبته ، وطيبهم بطيب أهل معاملته ، وكساهم حللا من نسج مودته ، ووضع على رؤوسهم تيجان مبرته ، ثم أودع القلوب من ذخائر الغيوب ، فهى متعلقة بمواصلته ، فهممهم إليه ثائرة ، وأعينهم بالغيب ناظرة ، قد أقامهم على باب النظر من رؤيته ، وأجلسهم على كراسى أطباء أهل معرفته ، ثم قال لهم : إن أتاكم عليل من فقدى فداووه ، أو مريض من فراقى فعالجوه ، أو خائف منى فانصروه ، أو آمن منى فحذّروه ، أو راغب فى مواصلتى فمنّوه ، أو راحل نحوى فزودوه ، أو جبان فى متاجرتى فشجعوه ، أو آيس من فضلى فرجّوه ، أو راج لإحسانى فبشروه ، أو حسن الظن بي فباسطوه ، أو محب لى فواصلوه ، أو معظم لقدرتى فعظموه ، أو مسىء بعد إحسانى فعاتبوه ، أو مسترشد فأرشدوه. ه.
وهذا بقدر اللّه ومشيئته ، كما قال تعالى :
[سورة هود (11) : الآيات 118 الى 119]
وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119)
قلت : الاستثناء من ضمير «يزالون».
يقول الحق جل جلاله : وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً ، متفقين على الإيمان ، أو الكفران ، لكن مقتضى الحكمة وجود الاختلاف ليظهر مقتضيات الأسماء فى عالم الشهادة فاسمه : الرحيم والكريم يقتضى وجود من يستحق الكرم والرحمة ، وهم : أهل الإيمان. واسمه : المنتقم والقهار يقتضى وجود من يستحق الانتقام(2/567)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 568
والقهرية ، وهم أهل الكفر والعصيان. قال البيضاوي : وفيه دليل ظاهر على أن الأمر غير الإرادة ، وأنه تعالى لم يرد الإيمان من كل أحد ، وأن ما أراد يجب وقوعه. ه.
وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ بعضهم على الحق ، وهم أهل الرحمة والكرم ، وبعضهم على الباطل ، وهم أهل القهرية والانتقام. أو مختلفين فى الأديان والملل والمذاهب ، إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ إلا ناسا هداهم اللّه من فضله ، فاتفقوا على ما هو أصل الدين والعمدة فيه ، كالتوحيد والإيمان بجميع الرسل وبما جاءوا به ، وهم المؤمنون.
وقوله : وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ إن كان الضمير للناس ، فالإشارة إلى الاختلاف ، واللام للعاقبة ، أي : ولتكون عاقبتهم الاختلاف خلقهم ، وإن كان الضمير يعود على «من» ، فالإشارة إلى الرحمة ، أي : إلا من رحم ربك وللرحمة خلقه. وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الأزلية على ما سبق له الشقاء ، أي : نفذ قضاؤه ووعيده فى أهل الشقاء ، أو هى قوله للملائكة : لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ أي : من أهل العصيان منهما ، لا من جميعهما.
الإشارة : الاختلاف بين الناس حكم أزلى ، لا محيد عنه. وقد وقع بين أهل الحق وبين أهل الباطل. فقد اختلفت هذه الأمة فى الأصول والفروع. أما الأصول فأهل توحيد الدليل وقع بينهم تخالف فى صفات الحق ، كالمعتزلة والقدرية والجهمية والجبرية مع أهل السنة. وأما الفروع فالاختلاف بينهم شهير. فقد كان فى أول الإسلام اثنا عشر مذهبا. ولا تجد علما من علم الفروع إلا وبين أهله اختلاف ، إلا أهل التوحيد الخاص ، وهم :
المحققون من الصوفية ، فكلهم متفقون فى الأذواق والوجدان ، وإن اختلفت طرقهم ، وكيفية سيرهم. فهم متفقون فى النهايات ، التي هى معرفة الشهود والعيان ، على طريق الذوق والوجدان ، وفى ذلك يقول ابن البنا - رحمه اللّه - :
مذاهب الناس على اختلاف ومذهب القوم على ائتلاف
وأما قول من قال : [ما زالت الصوفية بخير ما اختلفوا ، فإذا اتفقوا فلا خير فيهم ] ، فالمراد بالاختلاف : تغيير بعضهم على بعض ، عند ظهور نقص أو عيب أو ذنب. فإذا اتفقوا وسكت بعضهم عن بعض فلا خير فيهم. وقوله عليه الصلاة والسلام : «خلاف أمتى رحمة». المراد : الاختلاف فى الفروع كاختلاف المذاهب ففى ذلك رخصة لأهل الاضطرار لأن من قلد عالما لقى اللّه سالما. واللّه تعالى أعلم.
ثم ذكر حكمة سرد قصص الأنبياء ، فقال :
قلت : «وكلّا» مفعول «نقص» ، و«ما نثبت به» : بدل ، أو «ما» مفعول «نقصّ» ، و«كلّا» : مصدر. أي : ونقص
[سورة هود (11) : آية 120]
وَكُلاًّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (120)(2/568)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 569
عليك كلّا من الاقتصاص ما نثبت به فؤادك.
يقول الحق جل جلاله : وكل نبأ نَقُصُّ عَلَيْكَ من أخبار الرسل ، ونخبرك به ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ ، ليزيدك يقينا وطمأنينة وثباتا بما تسمع من أخبارهم ، وما جرى لهم مع قومهم ، وما لقوا من الأذى منهم ، فتتسلى بهم ، وتثبت على أداء الرسالة ، واحتمال أذى الكفار. وَجاءَكَ فِي هذِهِ السورة ، أو الأنباء المقتصة عليك ، الْحَقُّ أي : ما هو حق ، وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ ، فيتحملون ، ويصبرون لما يواجههم من الأذى والإنكار.
الإشارة : ذكر أحوال الصالحين ، وسيرهم وكراماتهم جند من جنود القلب ، وذكر أشعارهم ومواجيدهم جند من جنود الروح ، وقد ورد : أن عند ذكرهم تنزل الرحمة ، أي : رحمة القلوب باليقين والطمأنينة. واللّه تعالى أعلم.
ثم أمره بتهديد من خالفه ، فقال :
[سورة هود (11) : الآيات 121 الى 123]
وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنَّا عامِلُونَ (121) وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (122) وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123)
يقول الحق جل جلاله : وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ : حالكم إِنَّا عامِلُونَ على حالنا ، وَانْتَظِرُوا وقوع ما نزل بمن قبلكم ممن خالف رسوله فإنه نازل بكم ، إِنَّا مُنْتَظِرُونَ ما وعدنا ربنا من النصر والعز.
وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا يعلمه غيره فلا يعلم غيب العواقب ، ووقت وقوع المواعد إلا هو.
وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فيرجع لا محالة أمرهم وأمرك إليه ، فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ فإنه كافيك أمرهم وأمر غيرهم. وفى تقديم العبادة على التوكل تنبيه على أنه إنما ينفع التوكل العابد دون البطال. وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ أنت وهم ، فيجازى كلّا ما يستحقه. أو عما يعمل الكافرون ، فيمهلهم ولا يهملهم.
الإشارة : (فاعبده وتوكل عليه) : يقول تعالى : يا عبدى قم بخدمتي أقم لك بقسمتي ، قف ببابي وانتسب لجنابى أكفك شئونك ، وتكن من أحبابى. أأدعوك لدارى ، وأمنعك من وجود إبرارى ، أأكلفك بخدمتي ، ولا أقوم لك بقسمتي ، فثق بي كفيلا ، واتخذني وكيلا ، أعطك عطاء جزيلا ، وأمنحك فخرا جليلا. قال القشيري : ويقال : إن التوكل : سكون القلب بضمان الربّ. ويقال : سكون الجأش فى طلب المعاش ، ويقال : الاكتفاء بوعده عند عدم نقده ، أو الاكتفاء بالوعد عند فقد النقد. وسيأتى تمامه فى سورة الفرقان ، إن شاء اللّه. وباللّه التوفيق. وهو الهادي إلى سواء الطريق. وصلّى اللّه على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلّم تسليما.(2/569)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 570(2/570)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 571
سورة يوسف
مكية. وهى مائة وإحدى عشرة آية. وكأنها تتميم لما ذكر قبلها من قصص الأنبياء ، فهى من جملة ما يثبّت به الفؤاد ، ويقع به التسلية ، مما يواجه به العبد من الأنكاد. وإنما أفردت بالسورة ، لمزيد شرح وطول.
[سورة يوسف (12) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (1) إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ (3)
قلت : (قرآنا) : حال ، و(عربيا) : نعت له. و(لعلكم) : يتعلق بأنزلناه أو بعربيا. و(أحسن) : مفعول (نقصّ) ، و(بما أوحينا) : مصدرية ، ويجوز أن يكون (هذا القرآن) : مفعول (نقصّ) ، و(أحسن القصص) : مصدر.
يقول الحق جل جلاله : أيها الرسول المجتبى ، والمحبوب المنتقى ، تِلْكَ الآيات التي تتلى عليك هى آياتُ الْكِتابِ المنزل عليك من حضرة قدسنا ، الْمُبِينِ أي : الظاهر صدقه ، الشهير شأنه. أو الظاهر أمره فى الإعجاز والبلاغة ، الواضح معانيه فى الفصاحة ، والبراعة. أو المبين للأحكام الظاهرة والباطنة. أو البين لمن تدبره أنه من عند اللّه. أو المبين لمن سأل تعنّتا من أحبار اليهود سؤالهم إذ روى أنهم قالوا لكبراء المشركين : سلوا محمدا : لم انتقل يعقوب من الشام؟ وعن قصة يوسف. فنزلت السورة.
إِنَّا أَنْزَلْناهُ أي : الكتاب ، قُرْآناً أي : مقروءا ، أو مجموعا ، عَرَبِيًّا بلغة العرب لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ أي : أنزلناه بلغتكم كى تفهموه وتستعملوا عقولكم فى معانيه فتعلموا أن اقتصاصه كذلك ممن لم يتعلم القصص ، ولم يخالط من يعلم ذلك ، معجز إذ لا يتصور إلا بالإيحاء.
نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ أحسن الاقتصاص لأنه اقتص على أبدع الأساليب ، أو أحسن ما يقص لاشتماله على العجائب والحكم والآيات والعبر ، بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ مشتملا على هذه السورة التي فيها قصة يوسف ، التي هى من أبدع القصص ، وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ عن هذه(2/571)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 572
القصة ، لم تخطر ببالك ، ولم تقرع سمعك. قال البيضاوي : وهو تعليل لكونه موحىّ ، و«إن» هذه : مخففة ، واللام هى الفارقة. ه.
الإشارة : ما نزل القرآن بلسان عربى مبين إلا لنعقل عظمة ربنا ونعرفه ، وذلك لا يكون إلا بعد استعمال العقول الصافية ، والأفكار المنورة ، فى الغوص على درر معانيه. فحينئذ تطلع على أنوار التوحيد وأسرار التفريد ، وعلى أنوار الصفات ، وأسرار الذات ، وعلى توحيد الأفعال وتوحيد الصفات وتوحيد الذات. قال تعالى : ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ «1» ، لكن لا يحيط بهذا إلا أهل التجريد ، الذين صفت عقولهم من الأكدار ، وتطهرت من الأغيار ، وملئت بالمعارف والأسرار. قال تعالى : لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ «2». وهم : أهل العقول الصافية المتفرغة من شواغل الحس. واللّه تعالى أعلم.
ثم شرع فى ذكر القصة ، فقال :
[سورة يوسف (12) : الآيات 4 الى 6]
إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ (4) قالَ يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (5) وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (6)
قلت : (إذ قال) : معمول لا ذكر ، أو بدل من (أحسن القصص) إن جعل مفعولا ، بدل اشتمال ، و(يا أبت) :
أصله : يا أبى ، عوض من الياء تاء التأنيث لتناسبهما فى الزيادة ، ولذلك قلبت فى الوقف هاء ، فى قراءة ابن كثير وأبى عمر ويعقوب. وإنما أعاد العامل فى «رأيتهم» لطول الكلام ، وجمع الشمس والقمر والكواكب جمع العقلاء لوصفهم بصفاتهم.
يقول الحق جل جلاله : إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يعقوب بن اسحق بن ابراهيم : يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ فى النوم أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ. وقد ذكر البيضاوي حديثا فى تفسير هذه الكواكب فانظره. قيل : إن يوسف عليه السّلام كان نائما فى حجر أبيه ، فنظر فيه ، وقال فى نفسه : أترى هذا الوجه
___________
(1) من الآية 38 من سورة الأنعام.
(2) من الآية 29 من سورة ص.(2/572)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 573
أحسن أم الشمس أم القمر؟ فإذا بيوسف قد انتبه من نومه ، وقال : يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً ...
إلخ ، فلما قص الرؤيا على أبيه بكى ، فقال يوسف : لم تبكى يا أبتى؟ قال : يا بنى لم يسجد مخلوق لمخلوق إلا عند المحنة ، والبلاء ، ألا ترى الملائكة لما أسجدهم اللّه لآدم ، كيف ابتلى بالخروج من الجنة؟ ثم قال له : يا بنى الشمس والقمر أنا وخالتك - وكانت أمه قد ماتت - والإحدى عشر كوكبا إخوتك. ه.
قالَ يا بُنَيَّ ، وهو تصغير ابن ، صغر للشفقة أو لصغر السن ، وكان ابن ثنتى عشرة سنة ، لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً فيحتالوا لإهلاكك حيلة. فهم يعقوب عليه السّلام من رؤياه أن اللّه يصطفيه لرسالته ، ويفوقه على إخوته ، فخاف عليه حسدهم. ومن خاف من شىء سلط عليه.
والرؤيا تختص بالنوم ، والرؤية ، بالتاء بالبصر. قال البيضاوي : وهى انطباع الصورة المنحدرة من أفق المتخيلة إلى الحس المشترك ، والمصادفة منها إنما يكون باتصال النفس بالملكوت لما بينهما من التناسب عند فراغها من تدبير البدن أدنى فراغ. انظر تمامه فيه. وأخرج الحاكم فى المستدرك ، والطبراني فى الأوسط ، عن ابن عمر قال :
لقى عمر عليّا - رضى اللّه عنهما - فقال : يا أبا الحسن ، الرجل يرى الرؤيا فمنها ما يصدق ، ومنها ما يكذب ، قال :
نعم. سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول : «ما من عبد ولا أمة ينام فيمتلى نوما إلا عرج بروحه إلى السماء. فالتى لا تستيقظ إلا عند العرش فتلك الرؤيا التي تصدق ، والتي تستيقظ دون العرش فتلك الرؤيا التي تكذب» «1». ه. فمنها ما تكون واضحة المعنى لا تحتاج إلى تعبير ، ومنها ما تكون خفية تحتاج إلى تعبير. والمعبر يحتاج إلى علم وفراسة وزيادة إلهام ، فعلم التعبير علم مستقل ، قد أعطى اللّه منه ليوسف عليه السّلام حظا وافرا.
ولما قال يعقوب لابنه : لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً قال : يا أبت ، الأنبياء لا يكيدون ، قال له : إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ ظاهر العداوة لأجل ما فعل بآدم وحواء ، فلا يألوا جهدا فى تسويلهم ، وإثارة الحسد فيهم ، حتى يحملهم على الكيد. قيل : لم يسمع كلام يوسف فى رؤياه إلا خالته - أم شمعون - فقالت لإخوته : التعب عليكم ، والإقبال على يوسف. فحركهم ذلك حتى فعلوا ما فعلوا. وقيل : أخبرت بذلك ولدها شمعون ، فأخبر شمعون إخوته فخلوا به وقالوا له : إنك لم تكذب قط. فأخبرنا بما رأيت فى نومك ، فأبى. فأقسموا عليه ، فأخبرهم. فوقعوا فيما فعلوا به.
ثم قال له : وَكَذلِكَ أي : وكما اجتباك لهذه الرؤيا الدالة على شرف وعز وكمال نفس ، يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ للنبوة والملك ، أو لأمور عظام ، وَيُعَلِّمُك َ
أي : وهو يعلمك مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ من تعبير
___________
(1) أخرجه الحاكم فى المستدرك (4/ 396 و397).(2/573)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 574
الرؤيا لأنها أحاديث الملك إن كانت صادقة ، وأحاديث الشيطان إن كانت كاذبة. أو يعلمك من تأويل غوامض علوم كتب اللّه ، وسنن الأنبياء وحكم الحكماء. وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ بالنبوة ، أو بأن يجمع لك بين نعمة الدنيا ، ونعمة الآخرة ، وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ يريد : سائر بنيه. ولعله استدل على نبوتهم بضوء الكواكب ، كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ من قبلك ، أو من قبل هذا الوقت. فأتمها على إبراهيم بالرسالة والخلة والإنجاء من النار ، وإسحاق بالرسالة والإنقاذ من الذبح «1» ، وهم : إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ ، فهما عطف بيان لأبويك ، إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ بمن يستحق الاجتباء ، حَكِيمٌ لا يخلو فعله من حكمة ، نعمة كانت أو نقمة.
الإشارة : البداية مجلاة النهاية ، يوسف عليه السّلام نزلت له أعلام النهاية فى أول البداية. وكذلك كل من سبق له شىء من العناية ، لا بد تظهر أعلامه فى أول البداية «من أشرقت بدايته أشرقت نهايته». من كانت باللّه بدايته كانت إليه نهايته.
وأوصاف النهاية تأتى على ضد أوصاف البداية فكمال العز فى النهاية لا يأتى إلا بعد كمال الذل فى البداية.
وتأمل قول الشاعر :
تذلّل لمن تهوى لتكسب عزّة فكم عزّة قد نالها المرء بالذّلّ
وتأمل قضية سيدنا يوسف عليه السّلام ما نال العز والملك حتى تحقق بالذل ، والملك وكمال الغنى فى النهاية لا يأتى إلا بعد كمال الفقر فى البداية ، وكمال العلم لا يأتى إلا بعد إظهار كمال الجهل ، وكمال القوة لا يأتى إلا بعد كمال الضعف .. وهكذا جعل اللّه تعالى بحكمته الأشياء كامنة فى أضدادها «تحقق بأوصافك يمدك بأوصافه». فالاجتباء يكون بعد الابتلاء ، وإتمام النعم يكون بعد تقديم النقم ، وذلك لتكون أحلى وأشهى ، فيعرف قدرها ويتحقق منه شكرها ، وهذا السر فى تقديم أهوال يوم القيامة على دخول الجنة ليقع نعيمها فى النفس كل موقع. ولا فرق بين جنة الزخارف ، وجنة المعارف. (حفت الجنة بالمكاره ، وحفت النار بالشهوات). واللّه تعالى أعلم.
ثم قال تعالى :
[سورة يوسف (12) : الآيات 7 الى 8]
لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ (7) إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (8)
___________
(1) الثابت أن الذبيح هو سيدنا إسماعيل عليه السّلام. راجع التعليق على تفسير الآية 124 من سورة البقرة.(2/574)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 575
قلت : (يوسف) : عجمى ، وفى سينه ثلاث لغات : الضم - وهو الأشهر - والفتح ، والكسر.
يقول الحق جل جلاله : لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ أي : فى قصصهم آياتٌ دلائل قدرة اللّه وحكمته ، وعلامة نبوتك ، حيث أخبرت بها من غير تعلم. ففى ذلك آيات لِلسَّائِلِينَ أي : لمن سأل عن قصتهم. والمراد بإخوته : علاته العشرة ، والعلات : أبناء أمهات لأب واحد ، فكانوا إخوته لأبيه ، وهم : يهوذا ، وروبيل ، وشمعون ، ولاوى ، وريالون ، ويشجر ، ودنية من بنت خالته ليّا ، تزوجها يعقوب أولا ، فلما توفيت تزوج راحيل ، فولدت له بنيامين ، ويوسف. وقيل : جمع بينهما ، ولم يكن الجمع حينئذ محرما. وأربعة آخرون من سريتين ، وهم : دان ، وتفثالى ، وجاد ، وآشر.
إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ بنيامين ، وخص بالإضافة لأنه شقيقه ، أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ أي : والحال أنا جماعة أقوياء ، فنحن أحق بالمحبة لأنهما لا كفاءة فيهما. والعصبة : العشرة ففوق. إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ خطأ مُبِينٍ ظاهر لتفضيل المفضول. روى أنه كان أحب إليه لما كان يرى فيه من مخايل الخير ، وكان إخوته يحسدونه ، فلما رأى الرؤيا ضاعف له المحبة ، بحيث لم يصبر عنه ، فتناهى حسدهم حتى حملهم على التعرض لقتله. وهكذا شأن الحسد يبلغ بصاحبه أمرا عظيما.
الإشارة : كان يعقوب عليه السّلام لا يفارق يوسف ليلا ولا نهارا. وهكذا شأن المحبين. وأنشدوا :
ولى كبد يسرى إليهم سلامه بجمر تلظّى ، والفؤاد ضرامه
وأجفان عين لا تملّ من البكا وصبّ تشكّى للحبيب غرامه
فأنتم سرورى ، أنتم غاية المنى وقلبى إليكم والغرام زمامه
فو اللّه ما أحببت ما عشت غيركم لأن اشتياقى لا يحل اكتتامه. ه.
قال الجنيد ، رضى اللّه عنه : رأيت غلاما حسن الوجه يعنف كهلا حسنا ، فقلت : يا غلام ، لم تفعل هذا؟ قال : لأنه يدعى أنه يهوانى ، ومنذ ثلاث ما رآنى ، قال : فوقعت مغشيا على ، فلما أفقت ما قدرت على النهوض ، فقيل لى فى ذلك ، فقلت : ينبغى للمحب ألا يفارق باب محبوبه على أي حال. وأنشدوا :
لازم الباب إن عشقت الجمالا واهجر النّوم إن أردت الوصالا
واجعل الروح منك أوّل نقد لحبيب أنواره تتلالا(2/575)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 576
قلت : فالحبيب غيور لا يحب أن يرى فى قلب حبيبه غيره. فإذا رأى فيه شيئا أخرجه منه ، وفرق بينه وبينه غيرة منه واعتناء به ، وهو السر فى افتراق يوسف من أبيه. واللّه تعالى أعلم.
ثم تعرضوا ليوسف ، فقالوا :
[سورة يوسف (12) : الآيات 9 الى 10]
اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ (9) قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (10)
يقول الحق جل جلاله : قال إخوة يوسف لما حركهم الحسد : اقْتُلُوا يُوسُفَ قيل : إنما قاله شمعون ودان ، ورضى به الآخرون ، أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً أي : فى أرض بعيدة يأكله السباع ، أو يلتقطه أحد ، فإن فعلتم يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ أي : يصف إليكم وجه أبيكم فيقبل بكليته عليكم ، ولا يلتفت عنكم إلى غيركم ، ولا ينازعكم فى محبته أحد ، وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ من بعد يوسف ، أو الفراغ من أمره ، أو قتله ، أو طرحه ، قَوْماً صالِحِينَ تائبين إلى اللّه عما جنيتم ، مع محبة أبيكم. أو صالحين فى أمور دنياكم ، فإنها تنتظم لكم بخلو وجه أبيكم لكم ، قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ هو يهوذا ، وكان أحسنهم فيه رأيا ، وقيل : روبيل : لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ فإن القتل عظيم ، وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ «1» الْجُبِّ : فى قعره ، سمى به لغيبته عن أعين الناظرين. ومن قرأ بالجمع ، فكان بتلك الجب غيابات ، يَلْتَقِطْهُ : يأخذه بَعْضُ السَّيَّارَةِ أي : الذين يسيرون فى الأرض ، إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ ما يفرق بينه وبين أبيه ولا بد ، أو كنتم فاعلين بمشورتى.
الإشارة : إن أردت أن يخلو لك وجه قلبك فيخلو لك وجه حبيبك ، حتى تشاهده عيانا وتعرفه إيقانا ، فاقتل كل ما يميل إليه قلبك ويعشقه من الهوى ، واطرح عن عين بصيرتك رؤية السّوى ، ترى من أنوار وجهه وأسرار محاسنه ، ما تبتهج به القلوب والأسرار ، وتتنزه فى رياض محاسنه البصائر والأبصار. وأنشدوا :
إن تلاشى الكون عن عين كشفى شاهد القلب غيبه فى بيان
فاطرح الكون عن عيانك وامح نقطة الغين إن أردت ترانى
___________
(1) قرأ الجمهور «غيابة» بالإفراد هنا وفى الموضع التالي فى الآية (18) وقرأ نافع «غيابات» بالجمع فى الموضوعين ، وقد سار المفسر هنا على قراءة الجمهور ، وسار فى الموضع التالي على قراءة نافع.(2/576)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 577
ثم احتالوا على أبيهم فى إرسال يوسف معهم ، كما قال تعالى :
[سورة يوسف (12) : الآيات 11 الى 14]
قالُوا يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ (11) أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (12) قالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ (13) قالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ (14)
قلت : (تأمننا) : اجتمع نونان ، فيجوز الإدغام ، وبه قرأ أبو جعفر ، وقرأ الجماعة بالإشمام. وقوله : (يرتع ويلعب) : جواب الأمر ، فمن قرأ بكسر العين فجزمه بحذف الياء ، وهو من رعى الإبل ، ومن قرأ بالإسكان فهو من الرتع ، وهى الإقامة فى الخصب والتنعم ، والتاء على هذا أصلية. ووزن الفعل : يفعل ، ووزنه على الأول يفتعل ، قال ابن عطية : فيرتع على قراءة نافع من رعى الإبل ، أي : يتدرب فى رعى الإبل وحفظ المال. قال أبو على : وقراءة ابن كثير : (نرتع) بالنون (و يلعب) بالياء ، فنزعها حسن لإسناد النظر فى المال والرعاية إليهم ، واللعب إلى يوسف لصباه ، وقرأ أبو عمر وابن عامر : (نرتع ونلعب) بالنون فيهما ، وإسكان العين والباء ، من الرتوع ، وهو : الإقامة فى الخصب والمرعى فى أكل وشرب ، وقرأ عاصم والأخوان : (يرتع ويلعب) بإسناد ذلك كله إلى يوسف. ه. قلت :
وكذا قرأ نافع ، غير أنه يكسر العين وهم يسكنون.
(و نحن عصبة) : حال ، والرابط الواو ، والعصبة : الجماعة من العشرة إلى فوق.
يقول الحق جل جلاله : قال إخوة يوسف لأبيهم : يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ أي : لم تخافنا عليه؟ وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ نشفق عليه ، ونريد له الخير. أرادوا أن يستنزلوه عن رأيه فى حفظه منهم لما تنسم من حسدهم. قلت : قد نصحوه فى الحقيقة حيث تسببوا فى ملكه وعزه. روى أنهم لما قالوا له : (مالك ....) إلخ ، اهتزت أركانه ، واصفر لونه ، واصطكت أسنانه ، وتحركت جوانبه ، كأنه علم بما فى قلوبهم بالفراسة. ثم قالوا :
أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ : يتسع فى أكل الفواكه ونحوها. أو يتعلم الرعاية ، وَيَلْعَبْ بالاستباق والإنتضال ، وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ أن يناله مكروه.
قالَ يعقوب : إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ لشدة مفارقته علىّ ، وقلة صبرى عنه ، وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ : لاشتغالكم بالرتع واللعب ، أو لقلة اهتمامكم به ، وإنما خاف عليه من الذيب(2/577)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 578
لأن الأرض كانت مذأبة ، وقيل : رأى فى المنام أن الذئاب أحدقت بيوسف فكان يخافه ، وإنما كان تأويلها : إحداق إخوته به حين أرادوا قتله. قالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ : جماعة ، إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ : مغبونون من القوة والحزم ، أو مستحقون بأن يدعى عليهم بالخسارة.
الإشارة : لم يسمح يعقوب عليه السّلام بفراق حبيبه ساعة ، وكذلك العبد لا ينبغى أن يغفل عن سيده لحظة لأن الغفلة فراق ، والذكر انجماع ، والعبد لا صبر له عن سيده. وأنشدوا :
فلأبكين على الفراق كما بكى سفا لفرقة يوسف يعقوب
ولأدعونك فى الظلام كما دعا عند البلية ربّه أيوب
وأنشدوا أيضا فى ذم الغفلة :
غفلت عن الأيّام يا أخى فانتبه وشمّر فإن الموت لا شك واقع
على أي شىء هو حزنك قائم جنود المنايا تأتيك فانهض وسارع
قيل : إن بعض الصالحين رأى أستاذه فى المنام ، فقال له : يا أستاذ ، أي الحسرات عندكم أعظم؟ قال : حسرة الغافلين. وأنشدوا :
تيقظ إلى التّذكار فالعمر قد مضى وحتى متى ذا السكر من غفلة الهوى
ورأى ذو النون المصري بعض الصالحين فى المنام ، فقال له : ما فعل اللّه بك؟ قال : أوقفنى بين يديه ، وقال :
يا مدعى ، ادعيت محبتى ثم غفلت عنى. وأنشدوا :
تغافلت عن فهم الحقيقة بالهوى فلا أذن تصغى ولا عين تذرف
ضعفت ولكن فى أمانيك قوة فيا تابع اللذات كم تتخلف
ورأى عبد اللّه بن مسلمة والده فى النوم ، فقال له : يا أبت ، كيف ترى حالك؟ فقال له : يا ولدي عشنا غافلين.
وأنشدوا :
غفلت وحادى الموت يحدوك للبلا وجسمك يا مغرور أصبح معتلا
وحتى متى يا صاح بابك مغلق أتاك نذير الموت والعمر قد ولّى(2/578)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 579
قيل : ما أصاب يعقوب ما أصابه فى ولده إلا من أجل خوفه عليه ، وغفلته عن استيداعه ربه ، ولو استودعه ربه لحفظه ، لكن لا ينفع حذر من قدر. (و كان أمر اللّه قدرا مقدورا).
ثم ذكر انصرافهم بيوسف ، وما كان من شأنه ، فقال :
[سورة يوسف (12) : الآيات 15 الى 18]
فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (15) وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ (16) قالُوا يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ (17) وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ (18)
قلت : (لمّا) حرف وجود لوجود ، يطلب الشرط والجواب ، وجوابها هنا محذوف ، أي : فعلوا به ما فعلوا.
وقيل : جوابها : (أجمعوا) ، وقيل : (أوحينا) على زيادة الواو فيهما. وجملة : (و هم لا يشعرون) : حال من (تنبئنهم) ، فيكون خطابا ليوسف عليه السّلام ، أو من (أوحينا) أي : وهم لا يشعرون حين أوحينا إليه. فيكون حينئذ الخطاب لسيدنا محمد صلّى اللّه عليه وسلّم. و(صبر جميل) : مبتدأ ، والخبر محذوف ، أي : مثل. أو : خبر عن مبتدأ ، أي :
أمرى صبر جميل. و(على قميصه) : فى موضع نصب على الظرف ، أي : فوق قميصه. أو : حال من الدم إن جوز تقديمها على المجرور.
يقول الحق جل جلاله : فَلَمَّا ذَهَبُوا بيوسف معهم وَأَجْمَعُوا أي : عزموا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ «1» الْجُبِّ وهو بئر بأرض الأردن ، أو بين مصر ومدين ، أو على ثلاثة فراسخ من مقام يعقوب.
قال الفراء : كان حفره شداد بن عاد. فانظره. قال السدى : ذهبوا بيوسف وبه عليهم كرامة ، فلما برزوا فى البرية أظهروا له العداوة ، وجعل أخوه يضربه فيستغيث بالآخر فيضربه ، فجعل لا يرى منهم رحيما. فضربوه حتى كادوا يقتلونه ، فجعل يصيح : يا أبتاه يا يعقوب ، لو تعلم ما صنع بابنك بنو الإماء. ه. وكان إخوته سبعة من خالته الحرة ، والباقون من سريتين له ، كما تقدم.
وقال ابن عباس رضى اللّه عنه : كان يعقوب عليه السّلام ينظر إلى يوسف عليه السّلام حتى غاب عنه ، وعن نظره ، فلما علموا أنهم غيبوه عنه ، وضعوه فى الأرض وجروه عليها ، ولطموا خده ، فجرد شمعون سكينه وأراد ذبحه ، فتعلق بذيل
___________
(1) راجع التعليق على تفسير الآية «9» من نفس السورة.(2/579)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 580
روبيل وضربه ، وكذلك جميع إخوته إذا لجأ لواحد منهم طرده ، فضحك عند ذلك يوسف عليه السّلام ، فقال له يهوذا :
ليس هذا موضع الضحك يا يوسف ، فقال : من تعزز بغير اللّه ذل ، ظننت أنه لا يصيبنى وأنا بينكم مكروه لما رأيت من قوتكم وشدتكم ، فسلطكم اللّه على بشؤم تلك الفكرة حتى لا يكون التوكل إلا عليه والتعزز إلا به. ه. بالمعنى.
وقال الفراء : كانت زينب بنت يعقوب عليه السّلام - أخت يوسف - وكانت رأت فى منامها كأن يوسف وضع بين الذئاب وهم ينهشون ، فانتبهت فازعة ، ومضت إلى أبيها باكية ، فقالت يا أبت ، أين أخى يوسف؟ قال : أسلمته إلى إخوته ، فمضت خلفه حتى لحقت به ، فأمسكته ، وتعلقت بذيله ، وقالت : لا أفارقك اليوم يا أخى أبدا ، فقال لها إخوتها : يا زينب ، أرسليه من يدك ، فقالت : لا أفعل ذلك أبدا لأنى لا أطيق فراق أخى ، فقالوا : بالعشي نرده إليك ويأتيك. ثم أقبل يوسف عليه السّلام يقبل رأسها ويديها ، ويقول لها : يا أختاه دعينى أسير مع إخوتى أرتع وألعب ، فذهب ، وجلست تشيعه بعينها ، ودموعها تتناثر مما رأت خوفا عليه. ه.
فلما غابوا به عنها فعلوا به ما تقدم ، وهموا بقتله ، فقال لهم يهوذا : أما عاهدتمونى ألا تقتلوه فأتوا به إلى البئر فدلوه فيها فتعلق بشفيرها ، فربطوا يده ، ونزعوا قميصه ليلطخوه بالدم ، ويحتالوا به على أبيهم ، فقال : يا إخوتاه ردّوا علىّ قميصى أتوارى به ، فقالوا : ادع الأحد عشر كوكبا والشمس والقمر يلبسوك ويؤنسوك. فلما بلغ نصفها ألقوه ، وكان فيها ماء ، فسقط ، ثم آوى إلى صخرة كانت فيها فقام عليها يبكى ، فجاءه جبريل بالوحى ، كما قال :
وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ ... إلخ. وكان ابن سبع عشرة سنة ، وقيل : كان مراهقا. وقال ابن عطية : كان ابن سبع سنين ، أوحى إليه فى صغره كما أوحى إلى يحيى وعيسى - عليهما السلام - .
وفى القصص : أن ابراهيم عليه السّلام ، حين ألقى فى النار ، جرد من ثيابه ، فأتاه جبريل بقميص من حرير الجنة فألبسه إياه ، فدفعه إبراهيم إلى إسحق ، وإسحق إلى يعقوب ، فجعله فى تميمة علقها على يوسف ، فأخرجه جبريل وألبسه يوسف.
ثم قال له فيما أوحى إليه : لَتُنَبِّئَنَّهُمْ أي : لتحدثنهم بِأَمْرِهِمْ هذا بما فعلوا بك ، وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ أنك يوسف ، لعلو شأنك وبعده عن أوهامهم ، وطول العهد المغير للحال والهيئات. وذلك إشارة إلى ما قال لهم بمصر ، حين دخلوا عليه ممتارين ، فعرفهم وهم له منكرون ، إلى أن قال لهم : هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ «1» وفى رواية : أوحى إليه : يا يوسف لا تحزن على ما أصابك ، فإنك تصل إلى ملك كبير ، ويقف إخوتك بين يديك. بشره بما يؤول إليه أمره ، إيناسا وتطبيبا لقلبه. وقيل : وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ متصل بقوله : وَأَوْحَيْنا أي : آنسناه بالوحى وهم لا يشعرون ذلك.
___________
(1) الآية 89 من سورة يوسف.(2/580)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 581
وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً آخر النهار ، وقرىء عشى بضم العين والقصر ، جمع أعشى ، أي : عشى من البكاء. فجاءوا إليه يَبْكُونَ أي : متباكين. روى أنه لما سمع بكاءهم فزع وقال : يا بنى ، أين يوسف؟ فقالوا :
يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ أي : نتسابق بأقدامنا فى العدو ، أو الرمي وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا : بمصدق لنا ، وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ لسوء ظنك ، وفرط محبتك ليوسف.
وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ : فوق قميصه بِدَمٍ كَذِبٍ ، أي : ذى كذب بمعنى مكذوب فيه لأنهم ذبحوا جديا ، ولطخوا قميصه بدمه. روى أنه لما سمع بخبر يوسف صاح ودعا بقميصه فأخذه ، وألقاه على وجهه ، وبكى حتى خضب وجهه بدم القميص ، وقال : ما رأيت كاليوم ذئبا أحلم من هذا! أكل ابني ولم يمزق عليه قميصه.
وفى رواية أخرى : أنه لما رأى صحة القميص ضحك ، فقالوا له : الضحك والبكاء من فعل المجانين! فقال : أما بكائي فعلى يوسف لما رأيت الدم ، وأما ضحكى ، فإنى لما رأيت صحة القميص رجوت أن الحديث غير صحيح ، ولذلك قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً أي : سهلت لكم ، وهونت فى أعينكم أمرا عظيما حتى أقدمتم عليه. وقيل : لما سمع مقالهم غشى عليه إلى الصباح ، وهم يبكون بأجمعهم ، ويقولون بينهم : بئس ما فعلناه بيوسف ووالده ، وأي عذر لنا عند اللّه. فلما أفاق نظر إلى أولاده وقال : هكذا يا أولادى كان ظنى فيكم ، بئس ما فعلتم ، وبئس ما سولت لكم أنفسكم فَصَبْرٌ جَمِيلٌ أي : فأمرى صبرى جميل. وفى الحديث : «الصبر الجميل الذي لا شكوى فيه إلى الخلق» «1». وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ أي : على احتمال ما تصفونه من هلاك ابني يوسف.
وهذه الجريمة كانت قبل استنبائهم ، إن صح أنهم تنبأوا. وقد تقدم فى سورة البقرة الخلاف فى نبوة الأسباط فراجعه «2».
الإشارة : فى هذه الآية رجاء كبير لأهل العصيان ، وبشارة وتأنيس لمن أراد مقام الإحسان ، بعد الإساءة والغفلة والنسيان ، وذلك أن هؤلاء السادات فعلوا بيوسف عليه السّلام ما فعلوا ، فلما تابوا بعد هذا الفعل العظيم اجتباهم الحق تعالى ، وتاب عليهم ، وقربهم حتى صاروا أنبياء ، على حد قول بعض العلماء. ولذلك قيل : [كم من خصوص خرجوا من اللصوص ، وكم من عابد ناسك خرج من ظالم فاتك ]. وفى الحكم : «من استغرب أن ينقذه اللّه من
___________
(1) أخرجه ابن جرير فى التفسير (12/ 166) عن حبان بن أبى جبلة ، مرسلا.
(2) راجع تفسير الآية 136 من سورة البقرة.(2/581)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 582
شهوته ، وأن يخرجه من وجود غفلته ، فقد استعجز القدرة الالهية ، وكان اللّه على كل شىء مقتدرا». وللشافعى رضي اللّه عنه :
فلمّا قسا قلبى وضاقت مذاهبى جعلت الرّجا منّى لعفوك سلّما
تعاظمنى ذنبى فلمّا قرنته بعفوك ربّى كان عفوك أعظما
وهذا إنما يكون بالتوبة النصوح ، والنهوض التام ، والمجاهدة الكبيرة ، كما فعل إبراهيم بن أدهم ، والفضيل ابن عياض ، والشيخ أبو يعزى ، وغيرهم ممن كانوا لصوصا فصاروا خصوصا. قال النبي صلّى اللّه عليه وسلّم : «من لم يغلب نفسه وهواه فليس له حظّ فى عقباه». وأنشدوا :
جنينا على النّفس التي لك رشدها بطبع الهوى فيها وتيه من الحجا
جزى اللّه خيرا من أعدّ لدائه دواء التّقى فاستعمل الخوف والرّجا
جبان وترجو أن تلقّب فارسا متى شابه العضب اليمانىّ دملجا
وفيها أيضا : تنويه بمقام الصابرين وعاقبة المتقين ، فإن يعقوب عليه السّلام ، لما استعمل الصبر الجميل ، جمع اللّه شمله بولده مع ما أعد له من الثواب الجزيل. ويوسف عليه السّلام ، لما صبر على ما أصابه من المحن عوضه العز الدائم بترادف المدن. وفى الخبر : «أعلى الدرجات درجات الصابرين». لكل عمل ثواب محدود ، وثواب الصبرين غير محدود ولا معدود. قيل : إن اللّه تعالى أعطى لكل صابر قصرا فى الجنة مسيرة الشمس أربعين يوما ، من درة بيضاء معلقة فى الهواء ، ليس تحته دعامة ، ولا فوقه علاقة ، وله أربعة آلاف باب ، يدخل من كل باب سبعون ألف ملك ، يسلمون على صاحبه ولا ترجع النوبة إليهم أبدا. ه.
ثم ذكر خروج يوسف من البئر ، وبيعه ، ودخوله مصر ، فقال :
[سورة يوسف (12) : الآيات 19 الى 22]
وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ فَأَدْلى دَلْوَهُ قالَ يا بُشْرى هذا غُلامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ (19) وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (20) وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ لامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْواهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَاللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (21) وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (22)(2/582)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 583
قلت : (بضاعة) : حال من المفعول ، أي : وأخفوه مبضعا به للتجارة. و(لنعلمه) : عطف على محذوف ، أي :
مكناه فى الأرض ليتصرف فيها بالعدل ولنعلمه .. إلخ. و(دراهم) : بدل من (ثمن). قال الهروي : الأشدّ : من خمسة عشر إلى أربعين سنة. وهو جمع شدة ، مثل : نعمة وأنعم ، وهى : القوة والجلادة فى البدن والعقل. ه.
يقول الحق جل جلاله : وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ رفقة تسير من مدين إلى مصر ، فنزلوا قريبا من الجب ، وكان ذلك بعد ثلاث من إلقائه فيه. فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ الذي يرد الماء ، ويستقى لهم ، وهو : مالك بن ذعر الخزاعي ، فَأَدْلى دَلْوَهُ أرسلها فى الجب ليملأها ، فتعلق بها يوسف ، فلما رآه قالَ يا بُشْرى هذا غُلامٌ نادى البشرى ، بشارة لنفسه ، أو لقومه ، كأنه قال : تعال هذا أوانك. وقيل : اسم لصاحبه ، ناداه ليعينه على إخراجه فأخرجوه ، وَأَسَرُّوهُ أي : أخفاه الوارد ، وأصحابه عن الرفقة ، وقالوا : دفعه إلينا أهل الماء لنبيعه بمصر ، حال كونه بِضاعَةً أي : متاعا مبضعا به للتجارة ، أي : يباع ويتجر بثمنه. وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ لم يخف عليه أسرارهم.
وَشَرَوْهُ أي : باعه السيارة من الرفقة ، أو إخوته ، فيكون الضمير راجع لهم. روى أن يهوذا كان يأتيه كل يوم بالطعام ، فأتاه يومئذ فلم يجده فيها ، وأخبر إخوته فأتوا الرفقة وقالوا : هذا غلامنا فاشتروه ، وسكت يوسف خوفا من أن يقتلوه. أو اشتروه من إخوته لأن شرى قد يستعمل بمعنى اشترى. فاشتراه الرفقة منهم بِثَمَنٍ بَخْسٍ أي : مبخوس ، لزيفه أو نقصانه ، دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ قليلة ، فإنهم يزنون ما بلغ الأوقية ، ويعدّون ما دونها. قيل :
كان عشرين درهما. وقيل : اثنين وعشرين. روى أن الذي اشتراه منهم مالك بن ذعر المتقدم ، وكان صعلوكا ، فسأل يوسف أن يدعو له فدعا له فصار غنيا. روى أنه قال لهم : بكم تبيعونه؟ فقالوا له : إن اشتريته بعيوبه بعناه لك. فقال : وما عيوبه؟ فقالوا : سارق كذاب ، يرى الرؤيا الكاذبة. فقال لهم : بكم تبيعونه لى مع عيوبه؟ ويوسف عليه السّلام ينظر إليهم ولا يتكلم ، وهو يقول فى نفسه : ما أظنه يقوم بثمنى لأنهم يطلبون أموالا كثيرة. قال لهم مالك :
معى دراهم قليلة تعد ولا توزن ، فقالوا له : هاتها. فاشتراه منهم بتلك الدراهم المعدودة. قال ابن عباس : كانت سبعة عشر درهما ، جعل له ذلك جزاء لما قوم نفسه ، وظن أنهم يطلبون فيه الأموال. ه. وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ : الراغبين عنه. يحتمل أن يكون الضمير لإخوته ، وزهدهم فيه ظاهر. أو يكون للرفقة ، فإن كانوا(2/583)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 584
بائعين فزهدهم فيه لأنهم التقطوه والملتقط للشىء متهاون به خائف من انتزاعه ، وإن كانوا مبتاعين فلأنهم اعتقدوا أنه آبق.
قال الفراء : لما اشتراه منهم مالك ، قال لهم : اكتبوا لى كتابا بخطكم بأنكم بعتم منى هذا الغلام بكذا وكذا ، فكتبوا له ذلك ، فلما أراد الرحيل قالوا له : اربطه لئلا يهرب ، فلما همّ بربطه قال له يوسف : خلنى أودّع ساداتى فلعلّى لا ألقاهم بعد هذا اليوم. فقال له مالك : ما أكرمك من مملوك ، حيث يفعل بك هذا وأنت تتقرب منهم. فقال له يوسف : كل أحد يفعل ما يليق به ، فقال له : دونك ، فقصدهم وهم قيام صفا واحدا ، فلما دنا منهم بكوا وبكى يوسف عليه السّلام ، ثم قالوا : واللّه لقد ندمنا يا يوسف على ما فعلنا ، ولو لا الخشية من والدنا لرددناك. ه. ثم ذهبوا به إلى مصر فباعوه ، فاشتراه العزيز الذي كان على خزائن مصر. واسمه : «قطفير» ، وكان الملك يومئذ «ريان بن الوليد العلقمي» ، وقد آمن بيوسف ، ومات فى حياته.
وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ راعيل ، أو زليخا ، أَكْرِمِي مَثْواهُ اجعلي مقامه عندنا كريما ، والمعنى : أحسنى تعهده ، عَسى أَنْ يَنْفَعَنا فى ضياعنا وأموالنا ، نستظهر به فى مصالحنا ، أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً أي : نتبنّاه ، وكان عقيما ، لما تفرس فيه من الرشد. ولذلك قيل : (أفرس الناس عزيز مصر ، وابنة شعيب التي قالت : يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ «1» ، وأبو بكر حين استخلف عمر) «2».
قال البيضاوي : روى أنه اشتراه العزيز وهو ابن تسع عشرة سنة ، ولبث فى منزله ثلاث عشرة سنة ، واستوزره الريان وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة ، وتوفى وهو ابن مائة وعشرين سنة. واختلف فيما اشتراه به من جعل شراء غير الأول ، فقيل : عشرون دينارا ، وزوجا نعل ، وثوبان أبيضان. وقيل : ملؤه - أي وزنه - فضة ، وقيل : ذهبا. ه.
وقيل : مسكا وحريرا.
وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ أي : وكما مكنا محبته فى قلب العزيز ، أو كما مكناه فى منزله ، أو كما أنجيته ، وعطفنا عليه العزيز ، مكناه فى الأرض ، ليتصرف فيها بالعدل ، وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ أي :
من تأويل كتب اللّه المتقدمة ، أو من تأويل الأحكام الحادثة بين الناس ليحكم فيها بالعدل ، أو من تعبير المنامات ، ليستعد لها قبل حلولها. أي : كان القصد فى إنجائه وتمكينه : إقامته العدل ، وتيسير أمور الناس ، وليعلم معانى كتب اللّه وأحكامه فينفذها ، وَاللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ : لا يرده شىء ، ولا ينازعه فيما يريد جبار ولا عنيد ، أو : غالب
___________
(1) من الآية 26 من سورة القصص.
(2) أخرجه الحاكم فى المستدرك (2/ 346) وصححه على شرط الشيخين ووافقه الذهبي ، عن ابن مسعود وكذلك أخرجه الطبراني فى الكبير (8/ 185 ح 8829).(2/584)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 585
على أمر يوسف ، فيدبر أمره بالحفظ والرعاية ، والنصر والعز فى عاقبة أمره ، خلاف ما أراد به إخوته ، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ أن الأمر كله بيده ، أو لا يفهمون لطائف صنعه ، وخفايا لطفه.
وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ منتهى اشتداد جسمه ، وكمال عقله. وتقدم تفسير الهروي له ، وحده. وقيل : ما بين الثلاثين والأربعين ، آتَيْناهُ حُكْماً : حكمة ، وهى النبوة. أو العلم المؤيد بالعمل. أو حكما بين الناس بالعدل.
وَعِلْماً يعنى : علم تأويل الأحاديث ، أو علما بأسرار الربوبية ، وكيفية آداب العبودية. وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إذا كمل عقلهم ، وتوفر آدابهم ، وكمل تهذيبهم ، آتيناهم الحكمة وكمال المعرفة. وفيه تنبيه على أنه تعالى إنما آتاه ذلك جزاء على إحسانه وإتقانه عمله فى عنفوان شبابه.
الإشارة : من ظن انفكاك لطف اللّه عن قدره فذلك لقصور نظره ، لا سيما لطفه بالمتوجهين إليه ، أو العارفين به الواصلين لحضرته. فكل ما ينزل بهم فإنما هو أقدار جارية ، وأمداد سارية ، وأنوار بهية ، وألطاف خفية ، تسبق لهم الأنوار قبل نزول الأقدار ، فلا تحوم حول قلوبهم الأكدار ، ولا تغير قلوبهم رؤية الأغيار ، عند نزول شدائد الأقدار ، يحفظ عليهم أسرار التوحيد ، وينزل عليهم أنوار التأييد ، عند نزول القضاء الشديد ، والبلاء العتيد. ولا بن الفارض رضي اللّه عنه :
أحبّائى أنتم ، أحسن الّدهر أم أسا فكونوا كما شئتم أنا ذلك الخل
وقال صاحب العينية :
تلذّ لى الآلام إذ كنت مسقمى وإن تختبرني فهى عندى صنائع
تحكّم بما تهواه فىّ فإنّنى فقير لسلطان المحبّة طائع
وقد جرت عادة اللّه تعالى أن يعقب الجلال بالجمال ، والمحن بالمنن ، والذل بالعز ، والفقر بالغنى ، فبقدر ما تشتد المحن تأتى بعدها مواهب المنن ، وبقدر ما ينزل من الجلال يأتى بعده الجمال. سنة اللّه فى خلقه ، ولن تجد لسنة اللّه تبديلا. لا راد لما قضى ، ولا معقب لما به حكم وأمضى.
قال تعالى : وَاللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ : قال بعض المفسرين : هذه الآية هى قطب هذه السورة ، ثم قال : أراد آدم البقاء فى الجنة ، وما أراد اللّه ذلك ، فكان الأمر مراد اللّه. وأراد إبليس أن يكون رأس البررة الكرام ، وأراد اللّه أن يكون إمام الكفرة اللئام ، فكان الأمر كما أراد اللّه. وأراد النمرود هلاك إبراهيم عليه السّلام ، ولم يرده اللّه ، فكان الأمر كما(2/585)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 586
أراد اللّه. وأراد فرعون هلاك موسى عليه السّلام ، فأهلكه اللّه ، ونجى موسى. وأراد داود أن يكون الملك لولده ميشا ، وأراد اللّه أن يكون لسليمان عليه السّلام ، فكان كما أراد اللّه. وأراد أبو جهل هلاك سيدنا محمد صلّى اللّه عليه وسلّم ونبوة الوليد بن المغيرة ، فأهلك اللّه أبا جهل والوليد ونبأ محمدا صلّى اللّه عليه وسلّم. وأراد المنذر بن عاد البقاء فى الدنيا ، فأهلكه اللّه وخرب ملكه. وأراد إرم العاتي ، الذي بنى إرم ذات العماد ، يحاكى بها الجنة ، أن يسكنها خالدا فيها ، فكذبه اللّه ، وحال بينه وبينها ، وغيبها عنه ، حتى مات بحسرتها. ه.
ثم ذكر مراودة زليخا ليوسف ، وما كان من شأنهما ، فقال :
[سورة يوسف (12) : الآيات 23 الى 29]
وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ قالَ مَعاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23) وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24) وَاسْتَبَقَا الْبابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ قالَتْ ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلاَّ أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ (25) قالَ هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ (26) وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (27)
فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (28) يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ (29)
قلت : المراودة : المطالبة ، من راد يرود : إذا جاء وذهب لطلب الشيء ، ومنه الرائد. و(هيت) : اسم فعل معناه :
تعال ، أو أقبل ، مبنى على الفتح كأين ، واللام للتبيين ، كالتى فى : سقيا لك ، وقرأ ابن كثير : بالضم تشبيها بحيث ، ونافع وابن عامر بالفتح ، وهى لغة فيه. وقرىء : «هئت» بالهمز كجئت ، من هاء يهىء : إذا تهيأ. و(معاذ اللّه) :
مصدر لمحذوف ، أي : أعوذ باللّه معاذا. و(إنه) : ضمير الشأن. و(لو لا) : حرف امتناع ، وجوابها محذوف ، أي :
لخالطها ، ولا يجوز أن يكون (و همّ بها) جوابها لأن حكمها حكم الشرط ، فلا يتقدم عليها جوابها. قاله البيضاوي.(2/586)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 587
قلت : وبهذا يرد على من وقف على (همت به) ، كالهبطى ومن تبعه ، إلا أن يحمل على أنه ابتداء كلام مع حذف الجواب. واستحسنه البعض ليكون همّ يوسف خارجا عن القسم ، (و كذلك) : فى موضع المصدر ، أي : ثبتناه مثل ذلك التثبيت لنصرف .. إلخ ، و(المخلصين) بالفتح : اسم مفعول من : أخلصه اللّه. وبالكسر : اسم فاعل بمعنى :
أخلص دينه للّه.
يقول الحق جل جلاله : وَراوَدَتْهُ للفاحشة ، أي : تمحلت وطلبت منه أن يوافقها الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها وهى زليخا. وترك التصريح بها استهجانا. فراودته عن نفسه ، وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ ، قيل : كانوا سبعة. والتشديد للتكثير ، أو للمبالغة فى الإيثاق ، وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ أي : أقبل وبادر ، أو تهيأت لك. روى أنها تزينت بأحسن ما عندها ، وقالت : تعال يا يوسف ، قالَ مَعاذَ اللَّهِ أي : أعوذ باللّه معاذا ، إِنَّهُ أي : الشأن ، رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ سيدى أحسن إقامتى وتربيتى ، إذ قال لك أكرمى مثواى ، فما جزاؤه أن أخونه فى أهله ، أو أنه تعالى ربى أحسن منزلى بأن عطف علىّ قلب سيدى ، ولطف بي فى أمورى ، فلا أعصيه ، إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ المجاوزون الإحسان إلى الإساءة ، أو الزناة فإن الزنى ظلم على الزاني والمزنىّ بأهله.
وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها ، قال ابن جزى : أكثر الناس الكلام فى هذه الآية ، حتى ألفوا فيها التآليف ، فمنهم مفرط ومفرّط وذلك أن منهم من جعل همّ المرأة وهمّ يوسف من حيث الفعل الذي أرادته. وذكروا من ذلك روايات من جلوسه بين رجليها ، وحله للتكّة ، وغير ذلك مما لا ينبغى أن يقال به لضعف نقله ولنزاهة الأنبياء عن مثله ، ومنهم من قال : همت به لتضربه على امتناعه ، وهمّ بها ليقتلها أو يضربها ليدفعها. وهذا بعيد يرده قوله :
لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ. ثم قال : والصواب - إن شاء اللّه - : أنها همت به من حيث مرادها ، وهمّ بها كذلك ، لكنه لم يعزم على ذلك ، ولم يبلغ إلى حد ما ذكر من حل التكّة ، بل كان همه خطرة خطرت على قلبه ، ولم يتابعها ، ولكنه بادر إلى التوبة والإقلاع عن تلك الخطرة ، حتى محاها من قلبه ، لمّا رأى برهان ربه. ولا يقدح هذا فى عصمة الأنبياء لأن الهم بالذنب ليس بذنب ، ولا نقص فى ذلك لأن من همّ بذنب ثم تركه كتب له حسنة. ه.
قلت : وكلامه حسن لأن الخطرات لا طاقة للبشر على تركها ، وبمجاهدة مخالفتها فضّل البشر على جنس الملائكة ، وقال البيضاوي : والمراد بهمه : ميل الطبع ، ومنازعة الشهوة ، لا القصد الاختياري ، وذلك مما لا يدخل تحت التكليف ، بل الحقيق بالمدح والأجر الجزيل ، لمن يكف نفسه عن الفعل عند قيام هذا الهم أو مشارفته ، كقوله : قتلته لو لم أخف اللّه. ه. ومثله فى تفسير الفخر ، وأنه مال إليها بمقتضى الطبع ، ومنع منه بصارف العصمة ، كالصائم يشتاق الماء البارد ، ويمنعه منه صومه. ومثله أيضا فى لطائف المنن : همت به همّ إرادة ، وهمّ(2/587)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 588
بها همّ ميل لا همّ إرادة. قال المحشى الفاسى : وفيه نظر لأن ذلك لا يتصور فى النفوس المطمئنة. وإنما ذلك شأن أرباب التلوين والمجاهدة ، دون أهل التمكين والمشاهدة ، وخصوصا الأنبياء إذ صارت نفوسهم مشاكلة للروح ، مندرجة فيها ، ولذلك صارت مطمئنة ، وميلها حينئذ إنما يكون للطاعة ، وأما غير الطاعة ، فهى بمنزلة القذر والنتن تشمئز منه ، ولا يتصور بحال ميلها إليه. ثم أطال الكلام فى ذلك.
قلت : أما تفسير الهم بالميل فلا يليق بالنفس المطمئنة. وأما تفسيره بالخاطر فيتصور فى المطمئنة وغيرها.
وإنما سماه اللّه تعالى همّا فى حق يوسف عليه السّلام لأن الأنبياء - عليهم السّلام - لعلو منصبهم ، وشدة قربهم من الحضرة ، يشدد عليهم فى مطالبة الأدب ، فيجعل الخاطر فى حقهم همّا ، وظنا. كما قال تعالى : حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا «1» فيمن خفف الذال ، أو كما قال تعالى فى حق يونس عليه السّلام : فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ «2» على أحد التفاسير. واللّه تعالى أعلم.
ثم قال تعالى : لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ لخالطها. والبرهان الذي رأى : قيل : ناداه جبريل : يا يوسف تكون فى ديوان الأنبياء ، وتفعل فعل السفهاء. وقيل : رأى يعقوب عاضا على أنامله ، يقول : إياك يا يوسف والفاحشة.
وقيل : تفكر فى قبح الزنى فاستبصر. وقيل : رأى زليخا غطت وجه صنمها حياء منه ، فقال : أنا أولى أن أستحى من ربى. كَذلِكَ أي : مثل ذلك التثبيت ثبتناه لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ خيانة السيد ، وَالْفَحْشاءَ ، الزنى إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ الذين أخلصناهم لحضرتنا. أو من الذين أخلصوا وجهتهم إلينا.
وَاسْتَبَقَا الْبابَ أي : تسابقا إلى الباب ، وابتدرا إليه ، وذلك أن يوسف عليه السّلام فرّ منها ليخرج حين رأى البرهان ، وأسرعت وراءه لتمنعه الخروج ، وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ أي : شقت قميصه من خلف لما اجتذبته لترده. والقدّ : الشق طولا ، والقطّ : الشق عرضا ، وَأَلْفَيا سَيِّدَها : وصادفا زوجها لَدَى الْبابِ وفيه إطلاق السيد على الزوج ، وإنما أفرد الباب هنا ، وجمعه فى قوله : وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ لأن المراد هنا الباب البراني الذي هو المخرج من الدار. قالَتْ لزوجها : ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ؟ قالته إيهاما أنها فرت منه تبرئة لساحتها عند زوجها ، وإغراء له عليه انتقاما لنفسها لما امتنع منها.
قالَ هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي : طالبتنى بالمواقعة بها. قال ذلك تبرئة لساحته ، ولو لم تكذب عليه ما قاله.
___________
(1) من الآية : 110 من سورة يوسف. [.....]
(2) من الآية/ 87 من سورة الأنبياء.(2/588)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 589
وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها ، قيل : ابن عمها. وقيل : ابن خالها صبيا فى المهد. وكونه من أهلها أوجب للحجة عليها ، وأوثق لبراءة يوسف. وكونه لم يتكلم قط ، ثم تكلم كرامة ليوسف عليه السّلام ، وعن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم : «تكلم فى المهد أربعة : ابن ماشطة ابنة فرعون ، وشاهد يوسف ، وصاحب جريج ، وعيسى». وذكر مسلم فى صحيحه - فى قصة الأخدود - : «أن امرأة أتى بها لتطرح فى النار ، ومعها صبى يرضع ، فقال لها : يا أمّه ، اصبري ، لا تجزعى. فإنك على الحق ..» «1» وعدّ بعضهم عشرة تكلموا فى المهد ، فذكر إبراهيم عليه السّلام ، ويحيى ابن زكريا ، ومريم ، ونبينا محمّد صلّى اللّه عليه وسلّم ، وطفلا فى زمنه عليه السّلام ، وهو : مبارك اليمامة ، وقد نظمهم السيوطي ، وزاد واحدا ، فقال :
تكلّم فى المهد النّبىّ محمّد ويحيى وعيسى والخليل ومريم
وصبىّ جريج ثم شاهد يوسف وطفل لدى الأخدود يرويه مسلم
وطفل عليه مرّ بالأمة الّتى يقال لها تزنى ولا تتكلّم
وماشطة فى عهد فرعون طفلها وفى زمن الهادي المبارك تختم
وذكر ابن وهب عن أبى لهيعة قال : بلغني أن المولود فيما تقدم كان يولد فى الليل ، فيصبح يمشى مع أمه. ه وضعف ابن عطية كون شاهد يوسف صبيا بالحديث : «لم يتكلم فى المهد إلا ثلاثة» ، وبأنه لو كان الشاهد صبيا لكان الدليل نفس كلامه ، دون أن يحتاج إلى الاستدلال بالقميص. ه. وقد يجاب بأن الحصر باعتبار بنى إسرائيل ، مع أن الوحى يتزايد شيئا فشيئا ، فأخبر بثلاثة ، ثم أخبر بآخرين ، وبأن الاستدلال وقع بهما تحقيقا للقضية.
ثم ذكر الحق تعالى ما قاله الشاهد ، فقال : إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ لأنه يدل على أنها قدت قميصه من قدامه بالدفع عن نفسها. أو لأنه أسرع خلفها فعثر بذيله فانقدّ جيبه. وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ لأنها جذبته إلى نفسها حين فرّ منها. والجملة الشرطية محكية بالقول ، أي : قال : إن كان ... إلخ. وتسميتها شهادة لأنها أدت مؤداها. والجمع بين «إن» و«كان» : على تأويل : إن يعلم أنه كان ، ونحوه ، ونظيره : قولك : إن أحسنت إلىّ فقد أحسنت إليك من قبل. فإن معناه : إن تمدن على بإحسانك امنن عليك بإحسانى. ومعناه : إن ظهر أنه كان قميصه .. إلخ.
___________
(1) أخرجه مسلم فى (الزهد والرقائق ، باب قصة أصحاب الأخدود ...) من حديث صهيب رضى اللّه عنه.(2/589)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 590
فَلَمَّا رَأى زوجها قميص يوسف قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قالَ إِنَّهُ أي : قولك : ما جَزاءُ ... إلخ. مِنْ كَيْدِكُنَّ من حيلتكن. والخطاب لها ولأمثالها ولسائر النساء ، إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ لأن كيد النساء ألطف وأعلق بالقلب ، وأشد تأثيرا من النفس والشيطان لأنهن يواجهن به الرجال ، والنفس والشيطان يوسوسان مسارقة. ثم التفت العزيز إلى يوسف وقال : يُوسُفُ أي : يا يوسف. وحذف النداء إشارة إلى تقريبه وملاطفته ، أَعْرِضْ عَنْ هذا الأمر واكتمه ، ولا تذكره ، وَاسْتَغْفِرِي يا زليخا لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ من القوم المذنبين ، من خطأ إذا أذنب متعمدا. والتذكير للتغليب. قاله البيضاوي.
الإشارة : إذا أراد اللّه أن يصافى عبده بخصوصية النبوة أو الولاية ، كلأه بعين الرعاية ، وجذبه إليه بسابق العناية فإذا امتحنه أيّده بعصمته ، وسابق حفظه ورعايته. ولا يلزم من ثبوت الخصوصية عدم وصف البشرية فالشهوة فى البشر أمر طبيعى ، وبمجاهدتها ظهر شرفه. لكن النفس المطمئنة لا تحتاج فى دفعها إلى كبير مجاهدة.
والنفس اللوامة لا بد فى دفعها من المكابدة والمجاهدة فالهواجم والخواطر ترد على القلوب كلها ، لكن النفس المطمئنة لها قوة على دفعها ، وقد تتصرف فيها بإمضاء ما قدره اللّه الواحد القهار عليها. وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً. وذلك كمال فى حقهم لا نقصان إذ بذلك تتميز قهرية الربوبية من ضعف العبودية ، فما ظهرت كمالات الربوبية إلا بظهور نقائص العبودية. أما الإصرار على العيوب فلا يوجد مع الخصوصية مطلقا ، وأما هجومها على العبد من غير إصرار فيكون مع وجود خصوصية النبوة والولاية ، وقد تقع بها الزيادة إن صحبها الانكسار والإنابة. وفى الحكم : «ربما قضى عليك بالذنب فكان سبب الوصول». واللّه تعالى أعلم.
واعلم أن ما امتحن به الصديق عليه السّلام مع العصمة ، قد وقع مثله كثيرا فى هذه الأمة المحمدية مع الحفظ والامتناع ذكر الرصاع فى كتاب التحفة : أن بعض الطلبة كان ساكنا فى مدرسة فاس ، فخرجت امرأة ذات يوم إلى الحمام بابنتها ، فتلفّت البنت وبقيت كذلك إلى الليل ، فرأت بابا خلفه ضوء ، فأتت إليه ، فوجدت فيه رجلا ينظر فى كتاب ، فقالت : إن لم يكن الخير عند هذا فلا يكون عند أحد. فقرعت الباب ، فخرج الرجل فذكرت له قصتها ، وأنها خافت على نفسها. فرأى أنه تعيّن عليه حفظها ، فأدخلها وجعل حصيرا بينه وبينها ، وبقي كذلك ينظر فى كتابه ، فإذا بالشيطان زين له عمله ، فحفظه اللّه ببركة العلم ، فأخذ المصباح ، وجعل يحرك أصابعه واحدا بعد واحد حتى أحرقها ، والبنت تنظر إليه وتتعجب ، ثم خرج ينظر إلى الليل فوجده ما زال ، فأحرق أصابع اليد الأخرى ، ثم لاح الضوء ، فقال : اخرجى ، فخرجت إلى دارها سالمة ، فذكرت القضية لوالديها ، فأتى أبوها إلى مجلس العلم ، وذكر القصة للشيخ ، فقال للحاضرين : أخرجوا أيديكم وأمنوا على دعائى لهذا الرجل ، فأخرجوا أيديهم ، وبقي رجل ، فعلم الشيخ أنه صاحب القضية ، فناداه ، فأخبره ، فذكر أنه زوجه الأب منها. ه. مختصرا.(2/590)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 591
فمن ترك شيئا للّه عوضه اللّه مثله ، أو أحسن منه. وكذلك فعل الحق تعالى بيوسف عليه السّلام قد زوجه زليخا على ما يأتى إن شاء اللّه.
وحدثنى شيخ شيخى مولاى العربي رضى اللّه عنه ، أنه وقف على حكايات تناسب هذا وهو أن رجلا صالحا تعلق قلبه بابنة الملك ، فلما رأى نفسه أنه لا يقدر على تزوجها تلطف حتى دخل عليها فى قبتها ليلا ، فوجدها نائمة على فراشها ملقى على وجهها رداؤها ، وشمعة تشعل عند رأسها ، وأخرى عند رجلها ، وطعام موضوع عندها. فكشف عن وجهها فرأى من الجمال ما أبهر عقله فجعل يتردد فى نفسه ، ويخاصمها على فعل الفاحشة ، فبينما هو كذلك إذ أبصر لوحا فوق رأسها مكتوبا فيه وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً «1» ، فتاب للّه تعالى عليه ، وزجر نفسه عن هواها ، فوضع يده فى ذلك الطعام ليأكل منه ، وترك فيه أثرا ، فلما أفاقت البنت رأت أثر اليد فى الطعام ، فسألت أهل الدار ، فكلهم قالوا : ما دخل عليك أحد منا ، فتيقنت أن رجلا دخل عليها ، وكان يخطبها كثير ممن له الرئاسة والجاه ، فخافت على نفسها من أن يطرقها أحد منهم فيغضبها ، فقالت لأبيها : لا بد أن تزوجنى ، فقال فى نفسه : واللّه لا أزوجها الا لرجل صالح ، فخرج مختفيا إلى المدرسة ، فأتى بعض الناس ، فقال : سمعت هنا برجل صالح ، فأردت أن أزوره فأشار إلى ذلك الرجل الذي دخل على بنته ثم سأل ثانيا ، وثالثا ، فكلهم أشار إليه ، فأتى إليه فقال له : إن لى بنتا جميلة خطبها منى كثير من الناس ، فأردت أن أزوجكها ، فجهزها بما يليق بها ، وزوجها إياه. ه.
وذكر ابن عرضون : أن رجلا كان بالقيروان من العلماء الأتقياء ، يقال له شقران ، وكان جميل الصورة ، فهوته امرأة ، فأرسلت إلى عجوز ، وأسرت إليها أمره على أن توصله إليها ، فأتت إليه العجوز ، وقالت : عندى ابنة مريضة ، وأرادت أن توصى ، وعسى أن تصل إليها وتدعو لها ، فلبس ثيابه ، ومشى معها إلى أن وصلت إلى الدار فأدخلته ، فوجد صبية جميلة ، فقالت له : هلمّ ، فقال : إنى أخاف اللّه رب العالمين. فقالت له العجوز : هيهات يا شقران ، واللّه لئن لم تفعل لأصيحنّ ، وأقول : إنك دخلت علينا وعارضتنا ، فقال لها : إن كان ولا بد فدعينى حتى أدخل الحجرة ، فقالت له : افعل ما بدا لك ، فدخل الحجرة ، فقال : اللهم إنها ما هوت منى إلا صورتى فغيّرها ، فخرج من الحجرة ، وقد ظهر عليه الجذام. فلما رأته ، قالت : اخرج ، فخرج سالما. وهذه الحكاية مشهورة ببلاد القيروان. ه.
قلت : وقد نزل بنا فى حال شبابنا كثير مما يشبه هذا ، فحفظنا اللّه بمنّه وكرمه وحسن رعايته. فلله المنة والحمد ، لا أحصى ثناء عليه.
___________
(1) من الآية 2 من سورة الطلاق.(2/591)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 592
ولما شاع خبر زليخا مع يوسف عليه السّلام ، عاب عليها بعض النسوة ، كما قال تعالى :
[سورة يوسف (12) : الآيات 30 الى 34]
وَقالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَها حُبًّا إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (30) فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً وَقالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ (31) قالَتْ فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ (32) قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ (33) فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (34)
قلت : (نسوة) : اسم جمع لامرأة. وتأنيثه غير حقيقى ، ولذلك جرد فعله من التاء. و(فى المدينة) متعلق بقال ، أي : أشعن الخبر فى المدينة ، أو : صفة لنسوة ، فيتعلق بالاستقرار. و(حبا) : تمييز. و(حاش للّه) : قال أبو على الفارسي : هى هنا فعل ، والدليل على ذلك من وجهين ، أحدهما : أنها دخلت على لام الجر ، ولا يدخل حرف على حرف. والآخر : أنها حذف منها الألف ، على قراءة الجماعة ، والحروف لا يحذف منها شىء. وقرأها أبو عمرو بالألف على الأصل ، والفاعل بحاش ضمير يوسف ، أي : بعد يوسف عن الفاحشة لخوف اللّه.
وقال الزمخشري : حاش : وضع موضع المصدر ، كأنه قال : تنزيها للّه. وحذف منه التنوين مراعاة لأصله من الحرفية. وقال البيضاوي : هو حرف يفيد معنى التنزيه فى باب الاستثناء ، فوضع موضع التنزيه. واللام للبيان ، كما فى قولك : سقيالك. ه. و(ليكونن) : نون التوكيد الخفيفة كتبت بالألف لشبهها بالتنوين.
يقول الحق جل جلاله : وَقالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ : مصر ، وكانوا خمسا : زوجة الحاجب ، والساقي ، والخباز ، والسجان ، وصاحب الدواب. قلن : امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها : خادمها عَنْ نَفْسِهِ أي : تطلب مواقعة غلامها إياها ، قَدْ شَغَفَها حُبًّا قد دخل شغاف قلبها حبّه ، وهو غلافه ، إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ فى خطأ عن الرشد بيّن ظاهر. فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ باغتيابهن. وسماه مكرا لأنهن أخفينه كما يخفى الماكر مكره. وقيل : كانت استكتمتهن سرها فأفشينه. فلما بلغها إفشاؤه أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ تدعوهن. قيل : (2/592)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 593
دعت أربعين امرأة فيهن الخمس. وَأَعْتَدَتْ : أعدت لَهُنَّ مُتَّكَأً ما يتكئن عليه من الوسائد ونحوها.
وقيل : المتكأ : طعام ، فإنهم كانوا يتكئون للطعام عند أكله ، وقرىء فى الشاذ : «متكأ» ، بسكون التاء وتنوين الكاف ، وهو الأترج. وَآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً ليقطعن به. وهذا يدل على أن الطعام كان مما يقطع بالسكاكين كالأترج. وقيل : كان لحما.
وَقالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ ، فأسعفها لأنه كان مملوك زوجها ، فخرج عليهن ، فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ :
عظمن شأنه وجماله الباهر ، وعن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أنه قال : «رأيت يوسف ليلة المعراج كالقمر ليلة البدر». وقيل : كان يرى تلألؤ وجهه على الجدران. وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ : جرحنها بالسكين لفرط الدهشة. اشتغلن بالنظر إليه ، وبهتن من جماله حتى قطعن أيديهن ، وهنّ لا يشعرن ، كما يقطع الطعام. وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ تنزيها له عن صفات العجز عن أن يخلق مثله. أو تنريها له أن يجعل هذا بشرا. اعتقدوا أن الكمال خاص بالملائكة ، وكونه فى البشر فى حيز المحال ، أو تعجبا من قدرته على خلق مثله. ما هذا بَشَراً لأن هذا الجمال غير معهود للبشر. ، إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ على اللّه لأن الجمع بين الجمال الرائق ، والكمال الفائق ، والعصمة البالغة.
من خواص الملائكة.
قالَتْ لهن : فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ توبيخا لهن على اللوم ، أي : فهو ذلك الغلام الكنعانى ، الذي لمتننى فى الافتتان به قبل أن ترونه. ولو كنتن رأيتنّه لعذرتنّنى ، وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ :
فامتنع طلبا للعصمة. أقرت لهن حين عرفت أنهن يعذرنها كى يعاونها على إلانة عريكته ، وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ به لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ الأذلاء ، وهو من صغر ، بالكسر ، يصغر صغارا. فقلن له :
أطع مولاتك.
قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ من فعل الفاحشة بالنظر إلى العاقبة. وإن كان مما تشتهيه النفس. لكن ربّ شهوة ساعة أورثت حزنا طويلا. قيل : إنما ابتلى بالسجن لقوله هذا ، وإنما كان اللائق به أن يسأل اللّه العافية ، فالاختيار لنفسه أوقعه فى السجن ، ولو ترك الاختيار لكان معصوما من غير امتحان بالسجن ، كما كان معصوما وقت المراودة ، وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي : وإن لم تصرف عنى كَيْدَهُنَّ من تحبيب ذلك إلىّ ، وتحسينه عندى بالتثبيت على العصمة ، أَصْبُ إِلَيْهِنَّ أمل إلى جانبهن بطبعي ومقتضى شهوتى ، وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ من السفهاء بارتكاب ما يدعوننى إليه. فإن الحكيم لا يفعل ما هو قبيح. أو من الذين لا يعملون بما يعلمون ، فإنهم جهال ، وكلامه هذا : تضرع إلى اللّه تعالى ، واستغاثة به.(2/593)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 594
فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ : أجاب دعاءه الذي تضمنه كلامه ، فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ حيث ثبته على العصمة حتى وطن نفسه على مشقة السجن ، وآثرها على اللذة الفانية إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ لدعاء الملتجئين إليه ، الْعَلِيمُ بإخلاصهم أو بما يصلح بهم.
الإشارة : الحب إذا كان على ظاهر القلب ، ولم يخرق شغافه ، كان العبد مع دنياه ، وآخرته ، بين ذكر ، وغفلة.
فإذا دخل سويداء القلب ، وخرق شغافه نسى العبد دنياه وأخراه ، وغاب عن نفسه وهواه ، وضل فى محبة مولاه.
ولذلك قيل لعاشقة يوسف : (إنا لنراها فى ضلال مبين) أي : فى استغراق فى المحبة حتى ضل عنها ما دون محبوبها. ومنه قوله تعالى : وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى «1» أي : وجدك ضالا فى محبته ، فهداك إلى حضرة مشاهدته ومقام قربه ، فكان قاب قوسين أو أدنى. وعلامة دخول المحبة شغاف القلب أربعة أشياء : الاستيحاش ، والإيناس ، وذكر الحبيب مع الأنفاس ، وحضوره مع الخواطر والوسواس. وأنشدوا :
تاللّه ما طلعت شمس ولا غربت إلّا وذكرك مقرون بأنفاسى
ولا جلست إلى قوم أحدّثهم إلّا وأنت حديثى بين جلّاسى
ولا شربت لذيذ الماء من ظمأ إلا رأيت خيالا منك فى الكأس
إن كان للنّاس وسواس يوسوسهم فأنت واللّه وسواسى وخنّاسي
لو لا نسيم بذكراكم أفيق به لكنت محترقا من حرّ أنفاسى
وقال آخر :
خيالك فى وهمي ، وذكرك فى فهمى ومثواك فى قلبى ، فأين تغيب؟
قوله تعالى : (فلما رأينه أكبرنه وقطعن أيديهن ....) الآية : أدهشتهم طلعة يوسف ، وجماله الباهر. وزليخا لما استمرت معه لم تفعل شيئا من ذلك. كذلك المريد إذا استشرف على أنوار الحضرة وجمالها ، أدهشته وحيرته ، فلو لا التأييد الإلهى ما أطاقها ، فإذا صبر على صدماتها واستمر مع تجليات أنوارها ذهب دهشه ، واطمأن قلبه بشهود محبوبه من وراء أردية العز والكبرياء ، وهذه هى الطمأنينة الكبرى والسعادة العظمى.
وقوله تعالى : (قال رب السجن أحب إلىّ) ، هكذا ينبغى للعبد أن يكون يختار ما يبقى على ما يفنى فرب شهوة ساعة أورثت حزنا طويلا ، ورب صبر ساعة أورثت نعيما جزيلا. وباللّه التوفيق.
___________
(1) الآية 7 من سورة الضحى.(2/594)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 595
ثم ذكر سجن يوسف ، وما يتبعه من إخراجه ، وتمليكه وتمكينه ، فقال :
[سورة يوسف (12) : الآيات 35 الى 38]
ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (35) وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ قالَ أَحَدُهُما إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَقالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (36) قالَ لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (37) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنا وَعَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (38)
قلت : (ليسجننه) : مفسر للفاعل ، أي : ظهر لهم سجنه إذ الجملة لا تكون فاعلا على المشهور ، وجوزه بعضهم مستدلا بالآية. وقيل : محذوف ، أي : بدا لهم رأى ليسجننه. وقال الإمام القصار ، الفاعل هو القسم المفهوم من اللام الموطئة له ، أي : بدا لهم قسمهم ليسجننه.
يقول الحق جل جلاله : ثُمَّ بَدا لَهُمْ أي : ظهر للعزيز وأهله ، مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ الدالة على براءة يوسف كشهادة الصبى ، وقدّ القميص ، وقطع الأيدى ، واستعصامه منهن ، فظهر لهم سجنه. وأقسموا لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ : حتى يظهر ما يكون منه ليظن الناس أنها محقة فيما ادعت عليه. فخدعت زوجها حتى وافقها على سجنه. وروى أنه لما أدخل السجن ندمت زليخا على سجنه ، وعيل صبرها على فراقه ، فأرسلت إلى السجان ليطلقه ، فأبى ، فلبث فيه سبع سنين.
وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ أي : فسجنوه واتفق أنه دخل معه فى ذلك اليوم رجلان آخران ، من عبيد الملك : ساقيه وخبازه ، اتهما أنهما أرادا أن يسمّاه ، قالَ أَحَدُهُما وهو الساقي : إِنِّي أَرانِي فى المنام أَعْصِرُ خَمْراً أي : عنبا. وسماه خمرا : باعتبار ما يؤول إليه. روى أنه قال : رأيت كأن الملك دعانى وردنى إلى قصره ، فبينما أنا أدور فى القصر ، وإذا بثلاثة عناقيد من العنب ، فعصرتها ، وحملت ذلك إلى الملك لأسقيه له.(2/595)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 596
وَقالَ الْآخَرُ وهو الخباز : إِنِّي أَرانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ : تنهش الطَّيْرُ مِنْهُ ، قال :
رأيت كأن العزيز دعانى ، وأخرجنى من السجن ، ودفع لى طيفورة عليها خبز ، فوضعتها على رأسى ، والطير تأكل منه. نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ من الذين يحسنون تأويل الرؤيا. وإنما قالا له ذلك لأنهما رأياه فى السجن يعظ الناس ويعبر رؤياهم ، أو من المحسنين إلى أهل السجن ، كان عليه السّلام إذا رأى محتاجا طلب له ، وإذا رأى مضيقا وسع عليه فقالا له : فأحسن إلينا بتأويل ما رأينا إن كنت تعرفه.
قالَ لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ فى النوم ، إِلَّا نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما تأويله فى الدنيا.
أو : لا يأتيكما طعام ترزقانه فى اليقظة لتأكلاه إلا أخبرتكما به ، ما هو؟ وما لونه؟ وما صفته؟ وكم هو؟ قبل أن يأتيكما ، إخبارا بالغيب ، فيأتيهما كذلك معجزة. وصف نفسه بكثرة العلم والمكاشفة ليكون وسيلة إلى دعائهما إلى التوحيد.
ثم قال لهما : ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي بالوحى والإلهام. وليس ذلك من قبيل التكهن أو التنجيم. روى أنهما قالا له : من أين لك هذا العلم ، وأنت لست بكاهن ولا منجم؟ فقال لهما : ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ طريقة قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ أي : علمنى ذلك لأنى تركت ملة أهل الكفر ، وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ ، وإنما قال ذلك تمهيدا للدعوة ، وإظهارا أنه من بيت النبوة لتقوى رغبتهما فى الاستماع إليه ، والوثوق به. ما كانَ لَنا : ما صح لنا معشر الأنبياء أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ أىّ شرك كان ، ذلِكَ التوحيد مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنا بالوحى وَعَلَى النَّاسِ ببعثنا إليهم ، وإرشادنا إياهم وتثبيتهم عليه ، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ هذا الفضل فيعرضون عنه. أو من فضل اللّه علينا بالوحى والإلهام ، وعلى الناس بنصب الدلائل وإنزال الآيات. ولكن أكثرهم لا ينظرون إليها ، ولا يستدلون بها ، فيوحدون خالقها ، فهم كمن كفر النعمة ولم يشكرها.
الإشارة : جرت عادة الحق - تعالى - فى خلقه أنه لا يأتى الامتكان إلا بعد الامتحان ، ولا يأتى السلوان إلا بعد الأشجان ، ولا يأتى العز إلا بعد الذل ، ولا يأتى الوجد إلا بعد الفقد. فبقدر ما يضيق على البشرية تتسع ميادين الروحانية ، وبقدر ما تسجن النفس وتحبس عن هواها ، تتسع الروح فى مشاهدة مولاها.(2/596)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 597
وقوله تعالى : وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ : إشارة إلى أن امتحانه بالسجن كان لتكميل حقيقته وشريعته ، فمن رأى أنه يحمل الطعام فإشارة إلى حمل لواء الشريعة ، ومن رأى أنه يعصر خمرا فإشارة إلى تحقيق خمرة الحقيقة ، فيكون من أهل مقام الإحسان ، ولذلك قال : إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ، ثم ذكر نتيجة مقام الإحسان - وهو التوحيد الخاص - فقال : ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْ ءٍ. وذكر أن ذلك ناله من باب الكرم لا من باب العمل ، فقال : ذلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنا وَعَلَى النَّاسِ. واللّه تعالى أعلم.
ثم دعاهم إلى التوحيد ، فقال :
[سورة يوسف (12) : الآيات 39 الى 40]
يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (39) ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (40)
قلت : الإضافة فى (صاحبى السجن) : على معنى (فى) كقولك :
يا سارق الليلة أهل الدّار.
يقول الحق جل جلاله : يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أي : يا ساكنيه ، أو يا صاحبى فيه أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ : متعددون ، خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ المتوحّد فى الألوهية ، الْقَهَّارُ : الغالب على أمره ، لا يقاومه غيره ، ما تَعْبُدُونَ أنتم ومن على دينكم من أهل مصر ، مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ أي : ما تعبدون إلا مسميات أسماء من الحجارة والخشب ، سميتموها آلهة من غير حجة تدل على استحقاقها للعبادة. والمعنى : سميتم آلهة ما لا يستحق الألوهية ، ثم عبدتموها. ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها أي : بعبادتها مِنْ سُلْطانٍ : من حجة ولا برهان. إِنِ الْحُكْمُ فى أمر العبادة إِلَّا لِلَّهِ لأنه المستحق لها دون غيره ، من حيث إنه الواجب لذاته ، الموجد للكل ، هو المالك لأمره ، أَمَرَ على لسان أنبيائه أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ولا تعبدوا معه سواه ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ القويم الذي لا عوج فيه ، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ دلائل توحيده ، فيتخبطون فى جهالتهم. قال البيضاوي : وهذا من التدرج فى الدعوة وإلزام الحجة بيّن لهم أولا : رجحان التوحيد على اتخاذ الآلهة على طريق الخطابة ، ثم برهن على أن ما يسمونها آلهة ، (2/597)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 598
ويعبدونها لا تستحق الألوهية ، ثم دل على ما هو الحق القويم ، والدين المستقيم ، الذي لا يقتضى العقل غيره ، ولا يرتضى العلم دونه. ه.
الإشارة : كل من لم يجمع قلبه على مولاه ، واتبع حظوظه وهواه ، فله أرباب متفرقون بقدر ما يميل إليه قلبه من هذا العرض الفاني. قال ابن عطية : وقد ابتلى بأرباب متفرقين من يخدم أبناء الدنيا ويؤملهم. ه. وفى الحديث : «خاب من رجى غير اللّه وضلّ سعيه ، وطاب وقت من وثق باللّه». وللّه در القائل :
حرام على من وحّد اللّه ربّه وأفرده أن يجتدى أحدا رفدا
فيا صاحبى قف بي على الحق وقفة موت بها وجدا وأحيا بها وجدا
وخلّ ملوك الأرض تجهد جهدها فذا الملك ملك لا يباع ولا يهدى
ثم فسر لهما الرؤيا ، فقال :
[سورة يوسف (12) : الآيات 41 الى 42]
يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُما فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ (41) وَقالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (42)
قلت : (منهما) : يتعلق بظن ، والظن يحتمل أن يكون بمعنى اليقين لأن قوله : (قضى الأمر) يقتضى ذلك ، أو يبقى على بابه.
يقول الحق جل جلاله : قال يوسف : يا صاحِبَيِ السِّجْنِ المستفتيان عن الرؤيا ، أَمَّا أَحَدُكُما وهو الساقي ، فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً كما كان يسقيه قبل ، ويعود إلى ما كان عليه ، وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ ، فقالا : كذبنا ما رأينا شيئا ، فقال : قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ ، سبق به القضاء فى الأزل ، وهو ما يؤول إليه أمركما ، ولذلك وحده ولم يقل : قضى أمراكما. روى أنه لما دعاهما إلى التوحيد أسلم الساقي وأبى الخباز ، فأخرج بعد ثلاث وصلب.
وَقالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا يوسف ، أي : تيقن ، أو غلب على ظنه أنه ناج منهما ، إما عن وحي ، على الأول ، أو باجتهاد بسبب الرؤيا : اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ عند سيدك ، وهو الملك ، وقل له : غلام سجن ظلما ، (2/598)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 599
لعله يخلصنى. قال ابن عطية : يحتمل أن يذكره بعلمه ومكانته ، ويحتمل أن يذكره بمظلمته وما امتحن به بغير حق. أو يذكره بهما. ه. وقال الورتجبي : يحتمل أن قوله : اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ : عرّف له طريقتى مع اللّه حتى يعرفنى أنى رسول اللّه ، ويطيعنى فى طاعة اللّه ، وينجو بذلك من عذابه ، ويصل إلى ثوابه ، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ، وليوحد اللّه تعالى ، ويتخلص من كيد الشيطان ، وما معه من الإنسان. ه.
فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ أي : فأنسى الساقي أن يذكر يوسف لربه. أو أنسى يوسف ذكر اللّه حتى استغاث بغير ، فأدبه ، فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ ، وفى الحديث عنه صلّى اللّه عليه وسلّم : «رحم اللّه أخى يوسف ، لو لم يقل : اذكرني عند ربّك ، لما لبث فى السّجن سبعا بعد الخمس».
روى أن جبريل عليه السّلام أتاه بعد المقالة ، فقال له : من أخرجك من الجبّ ، وخلّصك من القتل ، وعصمك من الفاحشة؟ فقال : اللّه. فقال : كيف تعتصم بغيره ، وتثق بالمخلوق ، وترفع قصتك إليه ، وتترك ربك؟! قال :
يا جبريل كلمات جرت على لسانى ، وأنا تائب لا أعود لمثلها. ه. والاستعانة بالمخلوق ، وإن كانت جائزة شرعا ، لكنها لا تليق بمقام الأقوياء. فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ البضع : من الثلاث إلى التسع. روى أن يوسف عليه السّلام سجن خمس سنين أولا ، ثم سجن بعد المقالة سبع سنين.
الإشارة : النسيان والغفلة التي لا تثبت فى القلب ، والخواطر التي ترد وتذهب من أوصاف البشرية التي لا تنافى الخصوصية ، إذ لا انفكاك للعبد عنها. قال تعالى : إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ «1» فالطيف لا ينجو منه أحد لأنه من جملة أوصاف العبودية التي بها تعرف كمالات الربوبية. وقد قال تعالى فى حق سيد العارفين : وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ «2» فالعصمة التي تجب للأنبياء إنما هى مما يوجب نقصا أو غضا من مرتبتهم. وهذه الأمور إنما توجب كمالا لأنها بها يتحقق كمال العبودية التي هى شرف العبد. فافهم وسلم ، ولا تنتقد ، فإن هذه الأمور لا يفهمها إلا العارفون باللّه ، دون غيرهم من أهل العلم الظاهر.
وقال الورتجبي : إن يوسف عليه السّلام لم يعلم وقت إيمان الملك ، ولم يأت وقت دخوله فى الإسلام ، فأنساه الشيطان ذكر ربه ، فى سابق حكمه ، على تقدير وقت إيمان الملك ، فلبث فى السجن إلى وقت إيمان الملك ، فنسيان يوسف : احتجابه عن النظر إلى قدره السابق. ه.
___________
(1) من الآية 201 من سورة الأعراف.
(2) من الآية 200 من سورة الأعراف.(2/599)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 600
ثم ذكر سبب خروجه من السجن ، فقال :
[سورة يوسف (12) : الآيات 43 الى 49]
وَقالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ (43) قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ (44) وَقالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (45) يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (46) قالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ (47)
ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدادٌ يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ (48) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49)
قلت : يقال : عبرت الرؤيا - بالتخفيف - عبارة ، وهو أفصح من عبّرت - بالتشديد - تعبيرا. واللام للبيان ، أو لتقوية العامل لضعف الفعل بتأخيره عن مفعوله. والأصل : تعبرون الرؤيا. وأصل (ادكر) : اذتكر ، فقلبت التاء دالا مهملة ، وأدغمت المعجمة فيها فبقيت دالا. وإليه أشار ابن مالك بقوله :
فى ادّان وازدد وادّكر دالا بقي «1» و(دأبا) حال ، أي : دائبين ، أو مصدر بإضمار فعله ، أي : تدأبون دأبا. وفيه لغتان : السكون ، والفتح.
يقول الحق جل جلاله : وَقالَ الْمَلِكُ وهو ملك مصر الذي كان العزيز وزيرا له ، واسمه : «ريان بن الوليد». وقيل : «مصعب بن الريان» ، وكان من الفراعنة - روى أن يوسف عليه السّلام لما لبث فى السجن سبع سنين سجد ، وقال : إلهى ، خلصنى من السجن. فكلما دعا يوسف أمنت الملائكة ، فاتفق فى الليلة التي دعا فيها يوسف أن رأى الملك تلك الرؤيا التي ذكرها بقوله : إِنِّي أَرى فى المنام سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ خرجن من نهر يابس ، وسبع بقرات عجاف - مهازيل - خرجن بأثرهن فابتلعت المهازيل السمان ، وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ قد انعقد حبّها ، وَسبعا أُخَرَ يابِساتٍ قد أدركت ، فالتوت اليابساتعلى الخضر حتى غلبن عليها. فلما رأى
___________
(1) صدر البيت : (طاتا افتعال رد إثر مطبق). انظر باب الإبدال.(2/600)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 601
ذلك انتبه مرعوبا ، وجمع ندماءه ، ودعا المفسرين ، فقال : يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ اعبروها ، إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ أي : إن كنتم عالمين بعبارة الرؤيا.
قالُوا : هذه أَضْغاثُ أَحْلامٍ تخاليطها ، جمع ضغث ، وأصله : ما جمع من أخلاط النبات وحزم ، فاستعير للرؤيا الكاذبة. وإنما جمعوا أَحْلامٍ للمبالغة فى وصف الحلم بالكذب. ثم قالوا : وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ ، والمعنى : ليس لها تأويل عندنا لأنها أكاذيب الشيطان ، وإنما التأويل للمنامات الصادقة.
وَقالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما من صاحبى السجن ، وهو الساقي ، وكان حاضرا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أي : وتذكر بعد جماعة من السنين ، وهى سبع سنين ، أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ إلى من عنده علمها ، أو إلى السجن.
روى أنه لما سمع مقالة الملك بكى ، فقال الملك : مالك تبكى؟ قال : أيها الملك إن رؤياك هذه لا يعبرها إلا الغلام العبراني الذي فى السجن ، فتغير وجه الملك ، وقال : إنى نسيته ، وما ذكرته منذ سبع سنين ، ما خطر لى ببال. فقال الساقي : وأنا مثلك ، فقال له الملك : وما يدريك أنه يعبر الرؤيا؟ فحدثه بأمره ، وأمر الساقي فقال له : امض إليه وسله ، فقال : إنى واللّه أستحى منه لأنه أوصانى ونسيت ، فقال له : لا تستح منه لأنه يرى الخير والشر من مولاه فلا يلومك. فأتاه.
فقال : يُوسُفُ أي : يا يوسف ، أَيُّهَا الصِّدِّيقُ : المبالغ فى الصدق. وإنما وصفه بالصّدّيقية لما جرب من أحواله ، وما رأى من مناقبه ، مع ما سمع من تعبير رؤياه ورؤيا صاحبه ، أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ ، وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ أي : أفتنى فى رؤيا ذلك واعبرها لى ، لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ أي : أعود إلى الملك ومن عنده ، أو إلى أهل البلد إذ قيل : إن السجن كان خارج البلد.
لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ تأويلها. أو يعلمون فضلك ومكانتك. وإنما لم يجزم بعلمهم لأنه ربما اخترم دونه ، أو لعلهم لا يفهمون ما يقول لهم.
قالَ فى تعبيرها : تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً أي : على عادتكم المستمرة من الخصب والرخاء.
فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ : اتركوه فِي سُنْبُلِهِ لئلا تأكله السوس ، وهى نصيحة خارجة عن عبارة الرؤيا ، إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ فى تلك السنين ، أي : لا تدرسوا منه إلا ما تحتاجون إلى أكله خاصة ، وذلك أن أرض مصر لا يبقى فيها الطعام عامين. فعلمهم حيلة يبقى بها السنين المخصبة إلى السنين المجدبة ، وهو أن يتركوه فى سنبله غير مدرس فإن الحبة إذا بقيت فى غشائها حفظت بإذن اللّه.(2/601)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 602
ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدادٌ أي : ذات شدة وجوع يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ أي : يأكل أهلهن ما ادخرتم لأجلهن. أسند الأكل إلى السنين مجازا تطبيقا بين المعبر والمعبر به ، إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ أي :
مما تخزنون وتخبئون للزراعة والبذر. ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ أي : يغيثهم اللّه بالفرج من القحط ، أو يغاث بالمطر ، لكن مصر إنما تسقى من النيل. وَفِيهِ أيضا يَعْصِرُونَ العنب والزيتون لكثرة الثمار. أو يعصرون الضروع لحلب اللبن لأجل الخصب. وهذه بشارة بشرهم بها بعد أن أوّل البقرات السمان والسنبلات الخضر بسنين مخصبة. والعجاف واليابسات بسنين مجدبة ، وابتلاع العجاف السمان بأكل ما جمع فى السنين المخصبة فى السنين المجدبة. ولعله علم ما فى السنة الثامنة من الخصب والرخاء بالوحى ، أو بأن انتهاء الجدب لا يكون إلا بالخصب ، وبأن سنة اللّه الجارية أن يوسع على عباده بعد ما ضيّق عليهم ، لقوله فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً «1». واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : الروح فى أصل نشأتها علامة داركة ، تكاشف بالأمور قبل وقوعها ، إذا غابت عن إحساسها الذي حجبها عن ذلك العلم ، ولو كانت من كافر إذا غابت عن حسها بنوم ، أو اصطلام عقل. فمن طهرها من دنس الشرك بالتوحيد ، وغيبها عن شواغل الحس بالتفرغ والتجريد ، رجعت إلى أصلها ، وفاضت عليها العلوم التي كانت لها قبل التركيب فى هذا القالب الحسى ، علما وكشفا. ولا شىء أنفع لها فى الرجوع من السهر والجوع. وفى الجوع أسرار كثيرة حسية ، ومعنوية ، وبسببه جمع اللّه شمل يوسف بأبيه وإخوته. وبه أيضا ملّك اللّه يوسف ونصره ومكنه فى الأرض حتى ملك مصر وأهلها. ولذلك قال نبينا - عليه الصلاة والسّلام - : «اللهم أعنّى عليهم - أي على قريش - بسبع كسبع يوسف» «2».
وذكر الغزالي فى الإحياء ، فى أسرار الجوع ، أربعين خصلة. وفى بعض الأثر : (أن اللّه تعالى عذب النفس بأنواع من العذاب ، ومع كل عذاب يقول لها : من أنا؟ فتقول هى : ومن أنا؟ حتى عذبها بالجوع ، فقالت : أنت ربى سبحانك الواحد القهار). والممدوح منه هو المتوسط دون إفراط ولا تفريط ، كما قال البوصيرى :
واخش الدّسائس من جوع ومن شبع فربّ مخمصة شرّ من التّخم
وباللّه التوفيق.
___________
(1) الآية 5 من سورة الشرح.
(2) أخرجه البخاري فى أكثر من موضع ، منها : (كتاب التفسير - سورة الروم).(2/602)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 603
ثم ذكر خروجه من السجن وتمكينه من الملك ، فقال :
[سورة يوسف (12) : الآيات 50 الى 57]
وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جاءَهُ الرَّسُولُ قالَ ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50) قالَ ما خَطْبُكُنَّ إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51) ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ (52) وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ ما رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (53) وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ (54)
قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55) وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56) وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (57)
يقول الحق جل جلاله : ولما جاء الرسول من عند يوسف بالتعبير ، وسمعه الملك ، تعجب منه ، واستعظم علمه وعقله وقال : لا ينبغى لمثل هذا أن يسجن ، ائْتُونِي بِهِ ، فَلَمَّا جاءَهُ الرَّسُولُ ليخرجه ، قالَ ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ : ما شأنهن حتى قطعن أيديهن ، وهل رأين منى ميلا إليهن. وإنما تأنى فى الخروج ، وقدّم سؤال النسوة ، والفحص عن حاله ليظهر براءة ساحته ، وليعلم الملك أنه سجن ظلما ، فلا يقدر الحاسد أن يتوسل به إلى تقبيح أمره. وفيه دليل على أنه ينبغى أن يتقى مواضع التهم ، ويجتهد فى نفيها ، وفى الحديث : «من كان يؤمن باللّه واليوم الآخر فلا يقفنّ مواقف التّهم».
وفيه دليل على حلمه وصبره ، وعدم اهتباله بضيق السجن إذ لم يجب الداعي ساعة دعى بعد طول سجنه.
ومن هذا المعنى تواضع معه نبينا صلّى اللّه عليه وسلّم حيث قال : «لو لبثت فى السّجن ما لبث يوسف لأجبت الدّاعى» «1». ولم يذكر امرأة العزيز كرما ، ومراعاة للأدب ، ورعيا لذمام زوجها ، وسترا لها. بل ذكر النسوة اللاتي قطعن أيديهن.
___________
(1) أخرجه البخاري فى (تفسير يوسف - باب فلما جاءه الرسول قال ارجع إلى ربك ...) عن أبى هريرة رضى اللّه عنه.(2/603)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 604
ثم قال : إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ حين قلن لى : أطع مولاتك. وفى عبارته تعظيم لكيدهن ، والاستشهاد عليه بعلم اللّه ، وبراءته مما قذف به ، والوعيد لهن على كيدهن. ثم جمع الملك النسوة ، وكن ستّا أو سبعا ، مات منهن ثلاث ويوسف فى السجن ، وبقي أربع ومعهن امرأة العزيز. وقالَ لهن : ما خَطْبُكُنَّ ما شأنكن إِذْ راوَدْتُنَّ أي : حين راودتن يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ ، وأسند المراودة إلى جميعهن لأن الملك لم يتحقق أن امرأة العزيز هى التي راودته وحدها. قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ تنزيها للّه أن يعجز عن خلق عفيف مثله ، أو تنزيها ليوسف أن يعصيه لأجل خوف اللّه. وهذه تبرئة ليوسف ولهن ، أو لهن فقط. وتكون تبرئة يوسف فى قولهن :
ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ : من ذنب.
قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أي : تبين ووضح ، أو ثبت واستقر ، أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ فى قوله : راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي فلما رجع إليه الرسول ، وذكر ما قالته النسوة ، وما أقرت به امرأة العزيز ، قال : ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ أي : فعلت ذلك التثبت والتأنى فى الخروج ليعلم العزيز أنى لم أخنه فى زوجته بِالْغَيْبِ فى حال غيبته ، أو بظهر الغيب وراء الأستار والأبواب المغلقة ، بل تعففت عنها. وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ أي : لا ينفذه ولا يسدده. أو لا يهدى الخائنين لكيدهم. وأوقع الفعل على الكيد مبالغة. وفيه تعريض بامرأة العزيز فى خيانتها زوجها ، وتوكيد لأمانته.
روى عن ابن عباس أنه لما قال : لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ قال له جبريل عليه السّلام : ولا حين هممت. فقال :
وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي لا أنزهها فى عموم الأحوال ، أو لا أزكيها على الدوام. قاله تواضعا وإظهارا للعبودية ، وتنبيها على أنه لم يرد بذلك تزكية نفسه ، ولا العجب بحاله ، بل إظهارا لنعمة العصمة والتوفيق.
ثم قال : إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ بحيث إنها مائلة بالطبع إلى الشهوات ، فتهم بها ، وتستعمل القوى والجوارح فى نيلها فى كل الأوقات. ، إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي : إلا وقت رحمة ربى بالعصمة والحفظ ، أو : إلا ما رحم اللّه من النفوس فيعصمها من ذلك. وقيل : الاستثناء منقطع ، أي : لكن رحمة ربى هى التي تصرف الإساءة ، إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ ، يغفر ما همت به النفوس ، ويرحم من يشاء بالعصمة. أو يغفر للمستغفر ذنبه المعترف على نفسه ، ويرحمه بالتقريب بعد تعرضه للإبعاد.
وقيل : إن قوله تعالى : ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ إلى هنا ، هو من كلام زليخا. والأول أرجح «1».
___________
(1) ورجح الحافظ ابن كثير القول الثاني ، وقال : إنه الأشهر والأليق والأنسب بسياق القصة.(2/604)
البحر المديد ج 2 ، ص : 605
وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي أي : أجعله خاصتى وخلاصتى ، أو أجعله خالصا لنفسى. قال أولا : ائْتُونِي بِهِ فقط ، فلما تبين له حاله وظهر كماله ، قال : ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي روى أنه لما أراد أن يخرجه أرسل إليه بخلعة يأتى فيها ، وكان بين السجن والبلد : أربعة فراسخ ، فقال يوسف : لا أخرج من السجن حتى لا يبقى فيه أحد ، فأمر الملك بخروج جميع من فيه. فلما خرج من السجن اغتسل وتنظف ، ولبس ثيابا جددا ، فلما دخل على الملك ، قال : اللهم إنى أسألك من خيره ، وأعوذ بعزتك وقدرتك من شره. ثم سلّم عليه ودعا له بالعبرانية ، فقال : ما هذا اللسان؟. فقال : لسان آبائي. وكان الملك يعرف سبعين لسانا ، فكلمه بها ، فأجابه بجميعها ، فتعجب منه ، فقال : أحب أن أسمع رؤياى ، فحكاها ، ونعت له البقرات والسنابل وأماكنها ، فأجلسه على السرير ، وفوض إليه أمره. وهذا معنى قوله تعالى : فَلَمَّا كَلَّمَهُ قالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ أي : فلما أتوا به وكلمه وشاهد منه الرشد والدهاء ، قالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ عندنا مَكِينٌ أي : فى مكانة ومنزلة ، أَمِينٌ :
مؤتمن على كل شىء ، ثم فوض إليه أمر المملكة.
وقيل : توفى قطفير - أي : العزيز - فنصّبه منصبه ، وزوجه من زليخا بعد أن شاخت ، وافتقرت ، فدعا اللّه تعالى فرد عليها جمالها وشبابها ، فوجدها عذراء ، وولد منها إفرائيم وميشا. ثم قال له الملك : ما ترى نصنع فى هذه السنين المخصبة؟.
قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ أي : أرض مصر ألى أمرها. والخزائن : كل ما يخزن فيه طعام ومال وغيرهما. إِنِّي حَفِيظٌ لها ممن لا يستحقها ، عَلِيمٌ بوجوه التصرف فيها. قال البيضاوي : ولعله عليه السّلام لما رأى أنه يستعمله فى أمره لا محالة ، آثر ما تعم فوائده وعوائده ، وفيه دليل على جواز طلب التولية ، وإظهار أنه مستعد لها ، والتولي من يد الكافر ، إذا علم أنه لا سبيل إلى إقامة الحق وسياسة الخلق إلا بالاستظهار به. وعن مجاهد : أن الملك أسلم على يديه. ه. قلت : وقد تقدم عن الورتجبي ما يدل عليه.
وقال ابن عطية : وطلب يوسف للعمل إنما هو حسبة منه عليه السّلام لرغبته أن يقع العدل ، ونحو هذا هو دخول أبى بكر رضى اللّه عنه فى الخلافة ، مع نهيه المستشير له من الأنصار عن أن يتأمّر على اثنين. فجائز للفاضل أن يعمل ويطلب العمل إذا رأى ألا عوض منه. ه. وفى «الاكتفاء فى أخبار الخلفاء» : أن عمر أراد أبا هريرة على العمل ، فامتنع ، فقال له : أوليس يوسف خيرا منك ، وقد طلب العمل؟ فقال : يوسف نبى بن نبى ، وأنا ابن أميمة ، فأنا أخاف ثلاثا واثنين : أن أقول بغير علم ، وأقضى بغير عدل ، وأن يضرب ظهرى ، ويشتم عرضى ، ويؤخذ مالى. ه.(2/605)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 606
وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ أي : ومثل ذلك الصنع الجميل الذي صنعنا بيوسف مكناه فِي الْأَرْضِ أرض مصر ، يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ : ينزل من بلادها حيث يريد هو ، أو ينزل منها حيث نريد «1» ، نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ فى الدنيا والآخرة ، وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ، بل نوفى أجورهم عاجلا وآجلا. ويوسف أفضلهم فى زمانه ، فمكّنه اللّه من أرض مصر ، حتى ملكها بأجمعها وذلك أنه لما فوض إليه الملك اجتهد فى جمع الطعام وتكثير الزراعات ، حتى دخلت السنون المجدبة ، وعم القحط مصر والشام ، ونواحيهما ، وتوجه الناس إليه ، فباعهم فى السنة الأولى بالدراهم والدنانير حتى لم يبق لهم منها شىء ، ثم فى السنة الثانية بالحلى والحلل ، ثم فى السنة الثالثة بأمتعة البيوت ، ثم فى الرابعة بالدواب ، ثم فى الخامسة بالرباع والعقار ، ثم فى السادسة بأولادهم ، ثم فى السابعة برقابهم حتى استرقهم جميعا ، ثم عرض الأمر على الملك فقال : الرأى رأيك. فأعتقهم ورد إليهم أموالهم.
قال تعالى : وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ الشرك والفواحش ، فهو أحق بالرغبة وأولى بالطلبة. وقال ابن جزى فى قوله : نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ : الرحمة هنا المراد بها الدنيا ، وكذلك الأجر فى قوله : وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ بدليل قوله بعد ذلك : وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ فأخبر تعالى أن رحمته فى الدنيا يصيب بها من يشاء من مؤمن وكافر ، وطائع وعاص ، وأن المحسنين لا بد من أجرهم فى الدنيا. فالأول فى المشيئة ، والثاني واقع لا محالة. ثم أخبر أن أجر الآخرة خير من ذلك كله لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ ، وفيه إشارة إلى أن يوسف عليه السّلام جمع اللّه له بين الدنيا والآخرة. ه.
الإشارة : فى الآية ثلاث فوائد : الأولى : مدح التأنى فى الأمور ، ولو كانت جلالية لأنه يدل على كمال العقل والرزانة ، وطمأنينة القلب. وذم العجلة لأنها من خفة العقل والطيش ، وعدم الصبر والاحتمال. يؤخذ ذلك من تأنى يوسف عليه السّلام فى السجن بعد طول مدته. وفى الحديث : «التّأنّى من اللّه ، والعجلة من الشّيطان» «2».
الثانية : عدم تزكية النفس ، ودوام اتهاما ، ولو بلغت من التصفية ما بلغت. وقد تقدم فى قوله تعالى : وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْها «3» ، وقال بعض الصوفية : وكيف يصح لعاقل أن يزكى نفسه والكريم بن الكريم بن الكريم بن الكريم يقول : إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ ، والنفوس ثلاثة : أمارة ، ولوامة ، ومطمئنة. وزاد بعضهم : اللهامة من قوله تعالى : فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها «4» ..
___________
(1) هذا المعنى على قراءة (نشاء) بالنون ، وبها قرأ ابن كثير ، انظر الإتحاف (2/ 149).
(2) أخرجه الترمذي فى (كتاب البر والصلة ، باب ما جاء فى التأنى والعجلة) بلفظ «الأناة» ، من حيث سهل بن سعيد الساعدي ، وأخرجه - بلفظ المفسر ، البيهقي فى : شعب الايمان ، من حديث أنس. وضعف السيوطي حديث البيهقي. انظر الجامع الصغير (ح/ 3390)
(3) من الآية 70 من سورة الأنعام. [.....]
(4) الآية : 8 من سورة الشمس.(2/606)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 607
الثالثة : تسلية أهل البلاء ، إذا صحبهم الإحسان والتقوى ، وبشارتهم بالعز بعد الذل ، والغنى بعد الفقر ، والنصر والتمكين فى الأرض بعد الاستضعاف والهوان ، يؤخذ ذلك من قوله : وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ. وفى ذلك يقول الشاعر :
وكلّ عبد أراد اللّه عزّته فهو العزيز ، وعزّ اللّه يغشاه
قد لاح عزّ له فى الأرض منتشر فهو الحبيب لمن ناداه لبّاه
يا حسنه ومتى قد طال مطلبه تاج البرية والرحمن صفّاه.
ولما أصاب أرض كنعان ما أصاب سائر البلاد ، وسمع يعقوب عليه السّلام بأن ملك مصر يبيع الطعام ، أرسل بنيه - غير بنيامين - إلى مصر للميرة ، كما قال تعالى :
[سورة يوسف (12) : الآيات 58 الى 62]
وَجاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (58) وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ قالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (59) فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ (60) قالُوا سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ وَإِنَّا لَفاعِلُونَ (61) وَقالَ لِفِتْيانِهِ اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها إِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (62)
يقول الحق جل جلاله : وَجاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ إلى مصر للميرة ، فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ ، إنما أنكروه لبعد العهد ولتغير سنه ، ولأنهم فارقوه فى سن الحداثة ، ولتوهمهم أنه هلك ، أو لقلة تأملهم فى حاله لشدة هيبتهم إياه ، أو لأنه كان ملثما. روى أنهم دخلوا عليه فى قصر ملكه وهو فى هيئة عظيمة من الملك ، والتاج على رأسه ، فقال لهم بعد أن عرفهم : من أنتم ، وما أمركم ، وما جاء بكم إلى بلادي ، ولعلكم عيون؟
فقالوا : معاذ اللّه ، نحن بنوا أب واحد ، وهو شيخ صدّيق ، نبى من الأنبياء ، اسمه يعقوب. قال : كم أنتم؟ قالوا : كنا اثنى عشر ، فذهب أحدنا إلى البرية ، فهلك. فقال : فكم أنتم هاهنا؟ قالوا : عشرة. قال : فأين الحادي عشر؟ قالوا : عند أبيه يتسلّى به عن الهالك ، قال : فمن يشهد لكم؟ قالوا : لا يعرفنا هاهنا من يشهد لنا. قال : فدعوا عندى بعضكم رهينة ، وائتوني بأخ لكم من أبيكم حتى أصدقكم ، فاقترعوا فأصابت شمعون. وهذا معنى قوله : وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ أعطاهم ما اشتروا منه من الطعام ، وأوقر ركابهم ، قالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ وهو : بنيامين(2/607)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 608
- بكسر الباء - على وزن إسرائيل ، قاله فى القاموس. وقيل : كان يوسف عليه السّلام يعطى لكل نفس حملا ، ولا يزيد عليه ، فسألوه حملا زائدا لأخيهم من أبيهم فأعطاهم ، وشرط عليهم أن يأتوا به ليعلم صدقهم. ثم قال لهم : أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ للأضياف. قال لهم ذلك ترغيبا فى رجوعهم ، وقد كان أحسن ضيافتهم غاية الإحسان.
روى أنه عليه السّلام نادى صاحب المائدة ، وقال له : لا تنزل هؤلاء بدار الغرباء ، ولا بدار الأضياف ، ولكن أدخلهم دارى ، وانصب لهم مائدة كما تنصبها لى ، واحفظهم وأكرمهم. فسأله عنهم ، فلم يجب ، فبسط لهم الفرش والوسائد ، فلما جن الليل أمر أن توضع بين أيديهم الموائد ، والشماع ، والمجامر ، وهم ينظرون من كوة إلى دار الأضياف ، وقد بلغ بهم الجهد ، فكانوا يعطونهم قرصة شعير لكل أحد من الغرباء ، وهم يرون ما بين أيديهم من الإكرام والطعام ، وقد بلغ الحمل من الطعام ألفا ومائتى دينار. فقال بعضهم لبعض : إن هذا الملك أكرمنا بكرامة ما أكرم بها أحدا من الغرباء! فقال شمعون : لعل الملك سمع بذكر آبائنا فأكرمنا لأجلهم. وقال آخر : لعله أكرم فقرنا وفاقتنا. ويوسف عليه السّلام ينظر إليهم من كوة ويسمع كلامهم ، ويبكى. ثم قال لولده ميشا : أشدد وسطك بالمنطقة واخدم هؤلاء القوم ، فقال له : من هم يا أبت؟ فقال : هم أعمامك يا بنى ، قال : يا أبت هؤلاء الذين باعوك؟ قال : نعم ، باعوني حتى صرت ملك مصر ، ما تقول يا بنى ، أحسنوا أم أساءوا؟ قال : بل أحسنوا ، فما أقول لهم؟ قال : لا تكلمهم ، ولا تفش لهم سرا حتى يأذن اللّه بذلك ، فبقوا فى الضيافة ثلاثا أو أكثر ، ثم جهزهم ، وأرسلهم ، وشرط عليهم أن يأتوا بأخيه بنيامين.
قال لهم : فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ. أي : لا تدخلوا ديارى ولا تقربوا ساحتى ، قالُوا سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ أي : سنجهد فى طلبه منه ، وَإِنَّا لَفاعِلُونَ ذلك ، لا نتوانى فيه ، وَقالَ لِفِتْيانِهِ لغلمانه الكيالين ، وقرأ الأخوان وحفص : لِفِتْيانِهِ ، بجمع الكثرة : اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ أي :
ثمنهم الذي اشتروا به ، فِي رِحالِهِمْ فى أوعيتهم. فأمر أن يجعل بضاعة كل واحد فى رحله ، وكانت نعالا وأدما. وإنما فعل ذلك يوسف تكرما وتفضلا عليهم ، وترفقا أن يأخذ ثمن الطعام منهم ، وخوفا من أن لا يكون عند أبيه ما يرجعون به إليه.
لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها أي : لعلهم يعرفون هذه اليد والكرامة فى رد البضاعة إليهم ، فيرجعون إلينا. فليس الضمير للبضاعة لأن ميز البضاعة لا يعبر عنه بلعل ، وإنما المعنى : لعلهم يعرفون لها يدا وتكرمة ، ويرون حقها إِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ، أي : لعل معرفتهم بهذه الكرامة تدعوهم إلى الرجوع. وقصد بذلك(2/608)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 609
استمالتهم والإحسان إليهم. أو : لعلهم يعرفون البضاعة ، ولا يستحلون متاعنا فيرجعون به إلينا ، وضعف هذا ابن عطية ، فقال : وقيل : قصد يوسف برد البضاعة أن يتحرجوا من أخذ الطعام بلا ثمن فيرجعوا لدفع الثمن. وهذا ضعيف من وجوه. ثم قال : ولسرورهم بالبضاعة ، وقولهم : هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا ، يكشف أن يوسف لم يقصد هذا ، وإنما قصد أن يستميلهم ويصلهم كما تقدم.
الإشارة : قوله : فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ ، كذلك أهل الخصوصية من أهل مقام الإحسان ، يعرفون مقامات أهل الإيمان ومراتبهم ، وأهل مقام الإيمان ينكرونهم ولا يعرفون مقامهم ، كما قال القائل :
تركنا البحور الزّخرات وراءنا فمن أين يدرى النّاس أين توجّهنا؟
فكلما علا بالولى المقام خفى عن الأنام ، ولا يعرف مراتب الرجال إلا من دخل معهم ، وشرب مشربهم ، وإلا فهو جاهل بهم. وقوله تعالى : فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي : كذلك الحق - جل جلاله - يقول لعبده : ائتنى بقلبك ، فإن لم تأتنى به فلا أقبل طاعتك ، ولا تقرب إلى حضرتى. قال النبي صلّى اللّه عليه وسلّم : «إنّ اللّه لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أعمالكم ، وإنّما ينظر إلى قلوبكم ونيّاتكم». أو كما قال - عليه الصلاة والسّلام - .
وقوله تعالى : سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ : كذلك ينبغى للعبد أن يحتال على قلبه حتى يرده إلى ربه وذلك بقطع العلائق ، والفرار من الشواغل والعوائق ، حتى تشرق عليه أنوار الحقائق.
وقوله تعالى : اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ ... الآية. كذلك ينبغى للواعظ والمذكر أن يبشر الناس ، وينمى بضاعتهم ، وهو : الإيمان والمحبة للّه ومعرفته ، ويجعلها فى قلوبهم بحسن وعظه ، ونور حاله ، فيكون ممن ينهض الناس حاله ، ويدل على اللّه مقاله. ولا يقنط الناس ويفلسهم من الإيمان والمحبة ، بل ينبغى أن يجمع بين التبشير والتحذير ، والترغيب والترهيب ، ويغلب جانب الترغيب بذكر إحسان اللّه وآلائه .. لعلهم يعرفون ذلك إذا انقلبوا إلى أسبابهم ، لعلهم يرجعون إلى اللّه فى غالب أحوالهم. وباللّه التوفيق.
ثم ذكر رجوعهم من مصر إلى أبيهم ، فقال :
[سورة يوسف (12) : الآيات 63 الى 67]
فَلَمَّا رَجَعُوا إِلى أَبِيهِمْ قالُوا يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (63) قالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (64) وَلَمَّا فَتَحُوا مَتاعَهُمْ وَجَدُوا بِضاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قالُوا يا أَبانا ما نَبْغِي هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا وَنَمِيرُ أَهْلَنا وَنَحْفَظُ أَخانا وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (65) قالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلاَّ أَنْ يُحاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قالَ اللَّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ (66) وَقالَ يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (67)(2/609)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 610
قلت : (نكتل) : أصله : نكتيل ، بوزن نفتعل ، من الكيل ، قلبت الياء ألفا لتحرك ما قبلها ، ثم حذفت للساكنين.
و(حفظا) : تمييز ، ومن قرأ بالألف فحال ، كقوله : للّه دره فارسا. أو تمييز ، وهو أرجح. و(ما نبغى) : استفهامية ، أو نافية. و(نمير أهلنا) : عطف على محذوف ، أي : ردت فنستظهر بها ونمير ... إلخ. قال فى القاموس : مار يمير بالكسر : جلب الطعام. ه. و(إلا أن يحاط) : استثناء مفرغ من أعم الأحوال ، أي : لتأتننى به على كل حال إلا حال الإحاطة بكم.
يقول الحق جل جلاله : فَلَمَّا رَجَعُوا إِلى أَبِيهِمْ قالُوا يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ أي : حكم بمنعه بعد هذا ، إن لم نذهب بأخينا بنيامين ، فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا نَكْتَلْ أي : نرفع المانع من الكيل ، ونكتل ما نحتاج إليه. وقرأ الأخوان بالياء : يكتل لنفسه ، فنضم اكتياله إلى اكتيالنا ، وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ من أن يناله مكروه. قالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ أي : ما آمنكم عليه إِلَّا كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ ، وقد قلتم فى يوسف : وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ ، فَاللَّهُ خَيْرٌ حافِظاً «1» فأثق به ، وأفوض أمرى إليه ، وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ، فأرجو أن يرحمنى بحفظه ، ولا يجمع علىّ مصيبتين.
وَلَمَّا فَتَحُوا مَتاعَهُمْ : أوعيتهم ، وَجَدُوا بِضاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قالُوا يا أَبانا ما نَبْغِي أي : ما نطلب ، فهل من مزيد على هذه الكرامة ، أكرمنا وأحسن مثوانا ، وباع منا ، ورد علينا متاعنا ، ولا نطلب وراء ذلك إحسانا.
أو : ما نتعدى فى القول ، ولا نزيد على ما حكينا لك من إحسانه. أو : ما نبغى على أخينا ، ولا نكذب على الملك.
هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا ، هو توضيح وبيان لقولهم : ما نَبْغِي ، أي : ردت إلينا فنتقوى بها. وَنَمِيرُ أَهْلَنا
___________
(1) قراءة حمزة والكسائى وحفص : «حافظا» بالألف ، وقرأ الآخرون : حفظا بغير الألف ، على المصدر ، انظر الإتحاف (2/ 150).(2/610)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 611
: نسوق لهم الميرة - وهو : الطعام حين نرجع إلى الملك ، وَنَحْفَظُ أَخانا من المكاره فى ذهابنا وإيابنا .. وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ بزيادة حمل بعير أخينا ، إذ كان يوسف عليه السّلام لا يعطى إلا كيل بعير لكل واحد.
ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ أي : ذلك الطعام الذي أتينا به شىء قليل لا يكفينا حتى نرجع ويزيدنا كيل أخينا. أو ذلك الحمل الذي يزيدنا لبعير أخينا - كيل قليل عنده ، يسهل عليه لا يتعاظمه ، فلا يمنعنا منه. كأنهم استقلّوا ما كيل لهم فأرادوا أن يضاعفوه بالرجوع إلى الملك ، ويزدادوا إليه ما يكال لأخيهم. وقيل : إنه من كلام يعقوب عليه السّلام ، والمعنى : أن حمل بعير شىء قليل لا يخاطر لمثله بالولد.
قالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ لأنى رأيت منكم ما رأيت ، حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ حتى تعطونى ما أثق به من عهد اللّه ، وتحلفوا لى الأيمان الموثقة لَتَأْتُنَّنِي بِهِ فى كل حال ، إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ إلا أن تغلبوا ، ولا تطيقوا الإتيان به. أو : إلا أن تهلكوا جميعا ويحيط الموت بكم فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ عهدهم وحلفوا له ، قالَ أبوهم : اللَّهُ عَلى ما نَقُولُ من طلب الموثق وإتيان الولد وَكِيلٌ أي : مطلع رقيب ، لا يغيب عنه شىء.
ثم وصاهم وَقالَ لهم : يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ. وكانت فى ذلك العهد خمسا : باب الشام ، وباب المغرب ، وباب اليمن ، وباب الروم ، وباب طيلون. فقال لهم : ليدخل كل أخوين من باب ، خاف عليهم العين لأنهم أهل جمال وأبّهة ، مشتهرين فى مصر بالقربة والكرامة فإذا دخلوا كبكبة واحدة أصابتهم العين. ولعله لم يوصهم بذلك فى المرة الأولى لأنهم كانوا مجهولين حينئذ ، وللنفس آثار من العين ، وقد قال عليه الصلاة والسّلام : «العين حقّ ، تدخل الرّجل القبر والجمل القدر» «1».
وكان عليه الصلاة والسّلام يتعوذ منها ، بقوله : «اللهم إنّى أعوذ بك من كلّ نفس هامّة ، وعين لامّة» «2». ويؤخذ من الآية والحديث : التحصن منها قياما برسم الحكمة. والأمر كله بيد اللّه. ولذلك قال يعقوب عليه السّلام : وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ مما قضى عليكم بما أشرت به عليكم ، والمعنى : أن ذلك لا يدفع من قدر اللّه شيئا ، فإن الحذر لا يمنع القدر ، إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ فما حكم به عليكم لا ترده حيلة ، عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ أي : ما وثقت إلا به ، ولا ينبغى أن يثق أحد إلا به. وإنما كرر حرف الجر زيادة فى الاختصاص ترغيبا فى التوكل على اللّه والتوثق به.
___________
(1) قال فى كشف الخفاء : (ح 1797) رواه أبو نعيم عن جابر مرفوعا ، وحديث «العين حق» بدون الزيادة ، متفق عليه.
مكث أخرجه البخاري فى (الطب ، باب العين حق) ومسلم فى (السّلام ، باب الطب والمرضى) من حديث أبى هريرة - رضى اللّه عنه.
(2) أخرجه البخاري فى (كتاب الأنبياء ، باب 10) من حديث ابن عباس ، قال : كان النبي صلّى اللّه عليه وسلّم يعوذ الحسن والحسين ويقول ... وذكر الحديث.(2/611)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 612
الإشارة : روى أن إخوة يوسف لما رجعوا عنه صاروا لا ينزلون منزلا إلا أقبل عليهم أهل ذلك المنزل بالكرامات والضيافات ، فقال شمعون : لما قدمنا إلى مصر ما التفت إلينا أحد ، فلما رجعنا صار الناس كلهم يكرموننا؟ فقال يهوذا : الآن أثر الملك عليكم ، ونور حضرته قد لاح عليكم. ه. قلت : وكذلك من قصد حضرة العارفين لا يرجع إلا محفوفا بالأنوار ، معمورا بالأسرار ، مقصودا بالكرامة والإبرار.
قوله تعالى : فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا ... إلخ قال الأستاذ القشيري : المحبة غيور لما كان ليعقوب تسلّ عن يوسف برؤية بنيامين ، أبت المحبة إلا أن تظهر سلطانها بالكمال ، فغارت على بنيامين أن ينظر إليه يعقوب بعين يوسف. ه. قلت : وكذلك الحق تعالى غيور أن يرى فى قلب حبيبه شيئا غيره ، فإذا رأى ذلك أزاله عنه ، وفرق بينه وبين ذلك الشيء ، حتى لا يحب شيئا سوى محبوبه. هذا مما يجده أهل الأذواق فى قلوبهم.
وقوله تعالى فى وصية يعقوب : لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ ، فيه إشارة إلى أن الدخول على اللّه لا يكون من باب واحد بحيث يلتزم المريد حالة واحدة وطريقة واحدة كالعزلة فقط ، أو الخلطة فقط ، أو الصمت على الدوام ، أو ذكر الاسم على الدوام. بل لا بد من التلوين قبل التمكين وبعده فالعزلة على الدوام : مقام الضعف ، والخلطة من غير عزلة بطالة. بل لا يكون عارفا حتى يعرف اللّه ، ويكون قلبه معه فى العزلة والخلطة ، والصمت والكلام ، والقبض والبسط ، والفقد والوجد ، ويترقى من ذكر الاسم إلى الفكرة والنظرة ، كما هو مقرر عند أهل الفن.
وقوله تعالى : عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ ، فيه تهييج على مقام التوكل ، وحث على الثقة باللّه فى جميع الأمور. وفى ذلك يقول الشاعر :
توكّل على الرّحمن فى كلّ حاجة وثق باللّه ، دبّر الخلق أجمع
وضع عنك همّ الرّزق فالربّ ضامن وكفّ عن الكونين والخلق أربع
قوله : «والخلق أربع» : أراد العالم العلوي والسفلى ، والدنيا والآخرة. وكلها أكوان مخلوقة يجب كف البصر والبصيرة عن الميل إليها ، والوقوف معها. واللّه تعالى أعلم.
ثم ذكر رجوعهم إلى مصر ، واتصال يوسف بأخيه ، وإمساكه عنده إلى أن اتصل بأبيه ، فقال : (2/612)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 613
[سورة يوسف (12) : الآيات 68 الى 76]
وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (68) وَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَخاهُ قالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (69) فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ (70) قالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ ما ذا تَفْقِدُونَ (71) قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (72)
قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَما كُنَّا سارِقِينَ (73) قالُوا فَما جَزاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ (74) قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (75) فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76)
قلت : (ما كان) : جواب «لما» ، و(إلا حاجة) : استثناء منقطع. و(جزاؤه) : مبتدأ ، و(من) : شرطية أو موصولة ، وخبرها : (فهو جزاؤه) ، والجملة : خبر (جزاء) الأول. أو (جزاؤه) : مبتدأ ، و(من) : خبر ، على حذف مضاف ، أي :
جزاؤه أخذ من وجد فى رحله ، وتم الكلام ، و(فهو جزاؤه) : جملة مستقلة تقريرية لما قبلها.
يقول الحق جل جلاله : وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ أي : من أبواب متفرقة فى البلد ، ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ أي : ما أغنى عنهم رأى يعقوب واتّباعهم له مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ مما قضى عليهم ، فاتّهموا بالسرقة وظهرت عليهم ، فأخذ بنيامين الذي كان الخوف عليه ، وتضاعفت المصيبة على يعقوب ، إِلَّا حاجَةً : لكن حاجة فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ يعنى : شفقته عليهم ، وتحرزه من أن يعانوا ، قَضاها أظهرها ووصى بها. وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ بالوحى ونصب الدليل. ولذلك قال : وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فلم يغتر بتدبيره ، ففيه تنزيه ليعقوب عن الوقوف مع الأسباب والعوائد ، ورفع إيهام وقوفه مع عالم الحكمة. وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ سر القدر ، وأنه لا ينفع منه الحذر.
قال ابن عطية : قوله : ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ، معناه : مادرأ عنهم قدرا لأنه لو قضى أن تصيبهم عين لأصابتهم ، مفترقين أو مجتمعين. وإنما طمع يعقوب عليه السّلام أن تصادف وصيته القدر فى سلامتهم.(2/613)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 614
ثم أثنى اللّه - عز وجل - على يعقوب بأنه لقن مما علمه اللّه من هذا المعنى ، واندرج غيره فى ذلك العموم ، وقال :
إن أكثر الناس ليس كذلك. ه.
وَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَخاهُ أي : ضم إليه بنيامين على الطعام ، أو فى المنزل. روى أنه أضافهم ، فأجلسهم اثنين اثنين ، فبقى بنيامين وحيدا فبكى ، وقال : لو كان يوسف حيا لجلس معى ، فأجلسه معه على مائدته ، ثم قال : لينزل كل اثنين بيتا ، وهذا لا ثانى له فيكون معى ، فبات عنده وقال له : أتحب أن أكون أخاك بدل أخيك الهالك؟ قال : من يجد إذا مثلك ، ولكن لم يلدك يعقوب ولا راحيل ، قالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ وعرفه بنفسه ، فَلا تَبْتَئِسْ لا تحزن بِما كانُوا يَعْمَلُونَ فى حقنا من الأذى ، أو : لا تحزن بما يعمله فتيانى ، ولا تبالي بما تراه فى تحيّلى فى أخذك.
فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ ، التي هى الصواع ، فِي رَحْلِ أَخِيهِ ، وهى إناء يشرب بها الملك ، ويأكل فيها ، وكان من فضة ، وقيل : من ذهب. وقيل : كان صاعا يكال به. وقصد بجعله فى رحل أخيه أن يحتال على إمساكه معه إذ كان شرع يعقوب أن من سرق استعبده المسروق منه. ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بعد أن انصرفوا : أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ ، والخطاب لإخوة يوسف ، وإنما استحل رميهم بالسرقة مع علمه بأنهم أبرياء لما فى ذلك من المصلحة فى المآل ، وبوحي لا محالة ، وإرادة من اللّه تعالى عنتهم بذلك ، يقويه قوله تعالى :
كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ ، ويمكن من أن يكون فيه تورية ، وفيها مندوحة عن الكذب ، أي : إنكم لسارقون يوسف من أبيه ، حين باعوه.
قالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ ما ذا تَفْقِدُونَ أي : أىّ شىء ضاع منكم؟ والفقد : غيبة الشيء عن الحس. قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ الذي يكيل به ، أو يشرب فيه ، وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ من الطعام ، وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ كفيل أؤديه إلى من رده. وفيه دليل على جواز الجعل ، وضمان الجعل قبل تمام العمل. قاله البيضاوي.
قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَما كُنَّا سارِقِينَ فيما مضى ، استشهدوا بعلمهم بديانتهم على براءة أنفسهم لما عرفوا منهم من الديانة والأمانة فى دخولهم أرضهم ، حتى كانوا يجعلون الأكمة فى أفواه إبلهم لئلا تنال زرع الناس ، قالُوا فَما جَزاؤُهُ أي : السارق ، إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ فى ادعاء البراءة. قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ يحبس فى سرقته ، ويسترقّ للمسروق منه ، وهذا كان قصد يوسف عليه السّلام ، وهى كانت شريعة يعقوب ، وكانت أيضا شريعتنا فى أول الإسلام ثم نسخ بالقطع. ثم قالوا : كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ بالسرقة.(2/614)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 615
فَبَدَأَ المؤذن أو يوسف لأنهم ردّوا إلى مصر ، أي : بدأ فى التفتيش ، بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ بنيامين ، تقية للتهمة ، ثُمَّ اسْتَخْرَجَها أي : السقاية ، أو الصواع لأنه يذكر ويؤنث ، مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ كَذلِكَ أي : مثل ذلك الكيد كِدْنا لِيُوسُفَ أي : علمناه الحيلة بالوحى فى أخذ أخيه ، ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ ملك مصر لأن دينه كان الضرب وتغريم ضعف ما أخذ دون الاسترقاق. إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ أن يجعل ذلك الحكم حكم الملك. أو : لكن أخذه بمشيئة اللّه وإرادته. نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ بالعلم والعمل ، كما رفعنا درجته ، وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ أرفع درجة منه.
قال البيضاوي : واحتج به من زعم أنه تعالى عالم بذاته إذ لو كان ذا علم لكان فوقه من هو أعلم منه - أي :
لدخوله تعالى فى عموم الآية - والجواب : أن المراد كل ذى علم من الخلق لأن الكلام فيهم ، ولأن العليم هو اللّه تعالى. ومعناه : الذي له العلم البالغ ، ولأنه لا فرق بينه وبين قولنا : فوق كل العلماء عليم ، وهو مخصوص. ه.
قلت : وقد ورد ثبوت العلم له تعالى فى آيات وأحاديث. كقوله تعالى : أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ «1» ، وأُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ «2» «وإنى على علم من علم اللّه علّمنيه» «3» إلى غير ذلك مما هو صريح فى الرد عليهم.
الإشارة : يؤخذ من قوله تعالى : وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ : امتثال أمر الأب فيما يأمر وينهى.
ولا فرق بين أب البشرية وأب الروحانية - وهو الشيخ - ، فامتثال أمره واجب على المريد ، ولو كان فيه حتف أنفه ، وأمره مقدم على أمر الأب كما تقدم فى سورة النساء. وقد قالوا : أركان التصوف ثلاثة : الاجتماع ، والاستماع ، والاتباع. وقوله تعالى : ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حاجَةً ... إلخ : فيه الجمع بين مراعاة القدرة والحكمة ، فالقدرة تقتضى التفويض إذ لا فعل لغير اللّه ، والحكمة تقتضى الحذر ، واستعمال الأسباب لأن الحكمة رداء للقدرة. فالكمال هو الجمع بينهما سترا لأسرار الربوبية ، فالباطن ينظر لتصريف القدرة ، والظاهر يستعمل أستار الحكمة.
وقوله تعالى : فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ... الآية. هذا من فعل أهل التصريف باللّه ، المأخوذين عنهم ، لا يدخل تحت قواعد الشرع لأن فاعله مفعول به ، أو ناظر بنور اللّه إلى غيب مشيئة اللّه ، كأفعال
___________
(1) من الآية 166 من سورة النساء.
(2) من الآية 14 من سورة هود.
(3) جزء من حديث موسى الخضر وأخرجه البخاري فى (أحاديث الأنبياء ، باب حديث الخضر) ، من حديث ابن عباس رضى اللّه عنه.(2/615)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 616
الخضر عليه السّلام. قال الورتجبي : إن اللّه سبحانه إذا خصّ نبيا ، أو وليا ألبسه صفاته بتدريج الحال ففى كل حالة له يكسوه نورا من صفته ، فمن جملة صفاته : كيد الأزل ومكر الأبد ، فكسى علم كيده قلب يوسف ، حتى كاد برؤية كيد اللّه الأزلى ، فعرفه فيه أسرار لطف صنائعه ، وعلم حقائق أفعاله وقدرته. ه.
وقوله : نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ : أي : بالعلم باللّه كالكشف عن أسرار ذاته وأنوار صفاته ، والتخلق بمعاني أسمائه ، والتحقق بمقامات اليقين ، ومنازل السائرين. وهذه درجات المقربين ، وليس فوقها إلا درجة الأنبياء والمرسلين. أو بالعلم بأحكام اللّه وشرائعه كالعلم بأحكام العبادات والعادات ، وسائر المعاملات. وهذه درجات عامة أهل اليمين من العلماء الأتقياء والصالحين ، ومنتهى درجاتهم هى ابتداء درجات العارفين المقربين ، ثم الأنبياء والمرسلين. وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ ، ومنتهى العلم إلى اللّه العظيم.
ثم ذكر جوابهم ، فقال :
[سورة يوسف (12) : الآيات 77 الى 79]
قالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِها لَهُمْ قالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ (77) قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (78) قالَ مَعاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلاَّ مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ إِنَّا إِذاً لَظالِمُونَ (79)
قلت : معنى الشرط والجواب : إن ثبت أن بنيامين يسرق فقد سرق أخ له ، أي : سرقته كسرقة أخيه ، و(مكانا) :
تمييز.
يقول الحق جل جلاله : قال إخوة يوسف ، لما ظهرت السرقة عليهم : إِنْ يَسْرِقْ بنيامين فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ أخوه يوسف مِنْ قَبْلُ ، فهذا الأمر إنما صدر من ابني راحيل ، لا منا ، قصدوا بذلك رفع المضرة عن أنفسهم ، ورموا بها يوسف وشقيقه ، وهذه السرقة التي رموه بها قيل : كانت ورثت عمته من أبيها منطقة ، وكانت تخص يوسف وتحبه ، فلما شب ، أراد يعقوب انتزاعه منها ، فشدت المنطقة على وسطه ، ثم أظهرت ضياعها ، ففتّش عليها ، فوجدت مشدودة على وسطه ، فصارت أحق به فى حكمهم ، وقيل : كان لجده من أمه صنم من ذهب ، فسرقه وكسره ، وألقاه فى الجيف. وقيل : كان فى البيت عناق أو دجاجة فأعطاها السائل «1».
___________
(1) لم يرد نص ثابت عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فى تعيين المراد بالسرقة التي وصفوه بها ، فاللّه أعلم بالذي كان.(2/616)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 617
فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِها لَهُمْ أي : أخفى هذه الإجابة ، ولم يكذبهم فيها. أو : الحزازة التي وجد فى نفسه من قولهم : فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ أي : أسر كراهية مقالتهم. أو : المقالة التي يفسرها قوله : قالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً أي : قال فى نفسه خفية : أنتم شر مكانا ، أي : أنتم أقبح منزلة فى السرقة بسرقتكم أخاكم ، أو بسوء صنيعكم بما فعلتم معى. وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ ، وقد علم سبحانه أن الأمر ليس كما يصفون ، فهو إشارة إلى كذبهم فيما نسبوا إليه من السرقة.
قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فى السن ، أو القدر ، ذكروا حاله استعطافا له ، وكانوا أعلموه بشدة محبة أبيه فيه ، فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ فإن أباه ثكلان ، أي : حزين على أخيه الهالك ، يستأنس به ، إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ إلينا ، فأتمم إحسانك ، أو من المتعودين الإحسان فلا تغير إحسانك. قالَ مَعاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ فإنّ أخذ غيره ظلم ، فلا آخذ أحدا مكانه إِنَّا إِذاً لَظالِمُونَ فى مذهبكم لأن اللّه أمرنا باسترقاق السارق فاسترقاق غيره ظلم.
الإشارة : النفس الأمارة من شأنها الانتصار ، ودفع النقائص عنها والعار. والنفس المطمئنة من شأنها الاكتفاء بعلم اللّه ، والرضا بما يجرى به القضاء من عند اللّه ، فإذا اختلجها شىء من الانتصار أسرّته ، ولم تخرجه إلى حالة الإظهار.
قال الشيخ أبو الحسن الشاذلى رضى اللّه عنه : آداب الفقير المتجرد أربعة أشياء : الحرمة للأكابر ، والرحمة للأصاغر ، والانتصاف من نفسه ، وعدم الانتصار لها. ه. فالفقير إذا انتصر لنفسه فقد نقض العهد مع ربه ، فيجب عليه التوبة. وقالوا : [الصوفي دمه هدر ، وعرضه وماله مباح ]. يعنى : أنه لا ينتصر لنفسه ، فكل من آذاه لا يخاف من جانبه فكأنه مباح ، مع كونه حراما بالشريعة ، بل هو أشد حرمة من غيره. واللّه تعالى أعلم.
ثم قال تعالى :
[سورة يوسف (12) : الآيات 80 الى 83]
فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ ما فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (80) ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَما شَهِدْنا إِلاَّ بِما عَلِمْنا وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ (81) وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها وَإِنَّا لَصادِقُونَ (82) قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (83)(2/617)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 618
قلت : (نجيأ) : حال ، أي : انفردوا عن الناس مناجين. وإنما أفرده لأنه مصدر ، أو بزنته. و(من قبل ما) :
يحتمل أن تكون مزيدة ومصدرية مرفوعة بالابتداء ، أي : تفريطكم فى يوسف واقع من قبل هذا. قاله ابن جزى.
وفيه نظر فإن الظرف المقطوع لا يقع خبرا ، أو منصوبة بالعطف على مفعول (تعلموا) ، أي : لم تعلموا أخذ ميثاق أبيكم ، وتفريطكم فى يوسف قبل هذا.
يقول الحق جل جلاله : فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا أي : يئسوا مِنْهُ من يوسف أن يجيبهم إلى ما دعوه إليه من أخذ أحدهم مكان أخيهم ، خَلَصُوا أي : تخلصوا من الناس ، وانفردوا عنهم نَجِيًّا متناجين ، يناجى بعضهم بعض : كيف وقع للصاع؟ وكيف يتخلصون من عهد أبيهم؟ ثم فسر تلك المناجاة : قالَ كَبِيرُهُمْ فى السن ، وهو رويبيل ، أو فى الرأى ، وهو شمعون ، وقيل يهوذا : أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ عهدا وثيقا ، وحلفتم له لتأتن بابنه إلا أن يحاط بكم؟ فكيف تصنعون معه ، وَمِنْ قَبْلُ هذا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ واعتذرتم بالأعذار الكاذبة؟ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ فلن أفارق أرض مصر حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي فى الرجوع ، أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي : أو يقضى لى بالخروج منها ، أو بتخليص أخى منهم قهرا ، وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ لأن حكمه لا يكون إلا بالحق.
روى أنهم كلموا العزيز فى إطلاقه ، فقال رويبيل ، وقيل : يهوذا : أيها الملك ، لتتركن أخانا أو لأصيحن صيحة تضع منها الحوامل ، ووقف شعر جسده فخرجت من ثيابه ، فقال يوسف لابنه الصغير ، واسمه نائل : قم إلى جنبه ومسّه ، فمسه ، وكان بنو يعقوب إذا غضب أحدهم لا يسكن غضبه إلا إذا مسه أحد من آل يعقوب ، فلما مسه ولد يوسف عليه السّلام سكن غضبه ، فقال : من هذا؟ إن فى هذا البلد لبذرا من بذر يعقوب.
وقيل : إنهم هموا بالقتال ، وقال يهوذا لإخوته : تفرقوا فى أسواق مصر ، وأنا أصيح صيحة نشق مراريهم ، فإذا سمعتم صوتى ، فاخربوا يمينا وشمالا ، فلما غضب ، وأراد أن يصيح ، مسه ولد يوسف فسكن ، فلما لم يسمعوا صوته أتوا إليه فوجدوه قد سكن غضبه ، فقال : إن هنا بذرا من آل يعقوب.
ثم قال لهم : ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ على ما شهدنا من ظاهر الأمر ، وَما شَهِدْنا إِلَّا بِما عَلِمْنا بأن رأينا الصاع استخرج من وعائه. وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ أي : ما كنا(2/618)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 619
لباطن الأمر حافظين ، فلا ندرى أسرق ، أو أحد دسه فى وعائه؟ أو ما كنا حين أعطيناك العهد حافظين للغيب ، عالمين بالقدر المغيب ، وأنك تصاب به كما أصبت بأخيه. وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها وهى القرية التي لحقهم فيها المنادى ، أي : أرسل إليهم واسألهم عن القصة إن اتهمتنا. وَسل أيضا الْعِيرَ : أهل العير ، الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها ، والعير : جماعة الإبل. وَإِنَّا لَصادِقُونَ فيما أخبرناك به. هذا تمام وصية كبيرهم. فلما رجعوا إلى أبيهم ، وقالوا له ما قال لهم كبيرهم ، .
قالَ لهم أبوهم : بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً أي : زينت لكم أمرا فصنعتموه ، وإلا فمن أين يدرى الملك أن السارق يؤخذ فى السرقة ، إذ ليست بشريعته ، فَصَبْرٌ جَمِيلٌ أي : فأمرى صبر جميل ، عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً بيوسف وبنيامين ، وأخيهما الذي بقي بمصر إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ بحالي وحالهم ، الْحَكِيمُ فى تدبيره. روى أن عزرائيل دخل ذات يوم على يعقوب - عليهما السّلام - فقال له يعقوب : جئت لقبض روحى ، أو لقبض روح أحد من أولادى وأهلى؟. قال : إنما جئت زائرا ، فقال له : أقسمت عليك باللّه إلا ما أخبرتنى ، هل قبضت روح يوسف؟ فقال : لا ، بل هو حى سوىّ ، وهو ملك وله خزائن ، وجنود وعبيد ، وعن قريب يجمع اللّه شملك به. ه.
الإشارة : فلما استيأس القلب من الدنيا ، والرجوع إليها ، وقطع يأسه من حظوظها وهواها ، خلصت له المناجاة ، وصفت له أنوار المشاهدات ، وأنواع المكالمات ، والقلب هو كبير الأعضاء وملكها ، فيقول لها : ألم تعلموا أن اللّه قد أخذ عليكم موثقا ألا تعصوه ولا تخالفوه ، ومن قبل هذا ، وهو زمان البطالة ، قد فرطتم فى عبادته ، فلن أبرح أرض العبودية حتى يأذن لى فى العروج إلى سماء شهود عظمة الربوبية ، أو يحكم لى بالوصال ، وهو خير الحاكمين. فإن وقعت من الجوارح هفوة فيقال لها : ارجعوا إلى أبيكم - وهو القلب - فقولوا : إن ابنك سرق ، أي : تعدى وأخذ ما ليس له من الهوى فيما ظهر لنا ، وما شهدنا إلا بما علمنا ، فرب معصية فى الظاهر طاعة فى الباطن ، واسأل البشرية التي كنا فيها والخواطر التي أقبلنا على المعصية فيها ، فيقول القلب : بل زينت لكم أنفسكم أمر الهوى ، فدواؤكم الصبر الجميل ، والتوبة للعظيم الجليل ، عسى اللّه أن يأتينى بهم جميعا ، فنصرفهم فى طاعة اللّه ومرضاته. واللّه تعالى أعلم بأسرار حكم كتابه ، فعلم الإشارة يقبل مثل هذا وأكثر. وإياك والانتقاد فقد قالوا فى باب الإشارة أرق من هذا وأغرب. وباللّه التوفيق.(2/619)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 620
ثم قال تعالى :
[سورة يوسف (12) : الآيات 84 الى 87]
وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (84) قالُوا تَاللَّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ (85) قالَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (86) يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكافِرُونَ (87)
قلت : يا أسفى ، ويا ويلتى ، ويا حسرتى ، مما عوض فيه الألف عن ياء المتكلم. والأسف : أشد الحزن. وقيل : شدة الحسرة. و(كظيم) : إما بمعنى مفعول ، كقوله : (و هو مكظوم) أي : فهو مملوء غيظا على أولاده ، ممسك له فى قلبه ، تقول : كظم السقاء إذا شد على ملئه. أو بمعنى فاعل كقوله : وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ «1» من كظم البعير جرّته إذا ردها فى جوفه. و(تفتأ) : من النواقص اللازم للنفى ، وحذفه هنا لعدم الإلباس لأنه لو كان مثبتا لأكد باللام والنون. والحرض : المريض المشرف على الهلاك ، وهو فى الأصل مصدر ، ولذلك لا يؤنث ولا يثنى ولا يجمع. والبث : أشد الحزن.
يقول الحق جل جلاله : وَتَوَلَّى يعقوب عن أولاده ، أي : أعرض عَنْهُمْ لما لم يصدقهم ، كراهة إما صادف منهم ، ورجع إلى تأسفه وَقالَ يا أَسَفى أي : يا شدة حزنى عَلى يُوسُفَ. وإنما تأسف على يوسف دون أخويه لأن محبته كانت أشد لإفراط محبته فيه ، ولأن مصيبته سبقت عليهما. وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ من كثرة البكاء مِنَ الْحُزْنِ ، كأنّ العبرة محقت سوادها ، وقيل : ضعف بصره ، وقيل : عمى. وقد روى أنه :
«حزن يعقوب حزن سبعينثكلى ، وأعطى أجر مائة شهيد ، وما ساء ظنّه باللّه قطّ».
وفيه دليل على جواز التأسف والبكاء عند التفجع. ولعل أمثال ذلك لا يدخل تحت التكليف ، فإنه قلّ من يملك نفسه عند الشدائد ، وقد بكى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وقال : «القلب يحزن ، والعين تدمع ، ولا نقول إلّا ما يرضى ربّنا ، وإنّا على فراقك يا إبراهيم لمحزونون».
فَهُوَ كَظِيمٌ أي : مملوء غيظا على أولاده لما فعلوا. أو كاظم غيظه ، ماسك له ، لم يظهر منه شيئا ، ولم يشك لأحد.
___________
(1) من الآية 134 من سورة آل عمران.(2/620)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 621
قالُوا تَاللَّهِ تَفْتَؤُا : لا تزال تَذْكُرُ يُوسُفَ تفجعا عليه ، حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً : مشرفا على الهلاك ، أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ : من الميتين.الَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي
أي : شدة همى حُزْنِي
الذي لاصبر عليه ، لَى اللَّهِ
لا إلى أحد منكم ولا غيركم فخلّونى وشكايتى ، فلست ممن يجزع ويضجر فيستحق التعنيف ، وإنما أشكو إلى اللّه ، ولا تعنيف فيه لأن فيه إظهار الفقر ، والعجز بين يديه ، وهو محمود. أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ
أي : أعلم من لطف اللّه ورأفته ورحمته ، ما يوجب حسن ظنى وقوة رجائى ، وأنه لا يخيب دعائى ، ما لا تعلمون. أو : وأعلم من طريق الوحى من حياة يوسف ما لا تعلمون لأنه رأى ملك الموت فأخبره بحياته ، كما تقدم. وقيل : علم من رؤيا يوسف أنه لا يموت حتى تخر له إخوته سجّدا.
يا بَنِيَّ اذْهَبُوا إلى الأرض التي تركتم بها أخويكم ، فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ أي : تعرفوا من خبرهما ، وتفحّصوا عن حالهما. والتحسس : طلب الشيء بالحواس. وإنما لم يذكر الولد الثالث لأنه بقي هناك اختيارا ، وفى ذكر يوسف دليل على أنه كان عالما بحياته. وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ : لا تقنطوا من فرجه وتنفيسه ، أو من رحمته ، وقرىء بضم الراء ، أي : من رحمته التي يحيى بها العباد ، أي : ولا تيأسوا من حى معه روح اللّه فكل من بقي روحه يرجى ، أي : ويوسف عندى ، فمن معه روح اللّه فلا تيأسوا من رجوعه. إِنَّهُ أي :
الشأن لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ باللّه وصفاته لأن العارف لا يقنط من رحمته فى شىء من الأحوال. وإنما جعل اليأس من صفة الكافر لأن سببه تكذيب بالربوبية ، أو جهل بصفة اللّه وقدرته ، والجهل بالصفة جهل بالموصوف ، فالإياس من رحمة اللّه كفر.
وأما حديث الرجل الذي قال : (إذا متّ فاحرقونى ، ثم اذرونى فى البحر والبر فى يوم رائح ، فلئن قدر اللّه علىّ ليعذبنى عذابا ما عذبه أحد من الناس) ، حسبما فى الصحيح «1» ، فليس فيه اليأس ولا تعجيز القدرة ، لكن لما غلبه الخوف المفرط لم يتأمل ولم يضبط حاله إما لحقه من الخوف وغمره من الدهش والخشية ، دون عقد ولا إصرار على نفى الرحمة واليأس منها. ويدل على ذلك قوله : (لما قال له الرب - تعالى - : ما حملك على هذا؟ قال :
مخافتك ، فغفر له). ولم يقل اليأس من رحمتك. انظر المحشى الفاسى.
الإشارة : لم يتأسف يعقوب عليه السّلام على فقد صورة يوسف الحسية ، إنما تأسف على فقد ما كان يشاهد فيه من جمال الحق وبهائه ، فى تجلى يوسف وحسن طلعته البهية ، وفى ذلك يقول ابن الفارض :
عينى لغير جمالكم لا تنظر وسواكم فى خاطرى لا يخطر
___________
(1) أخرج قصة هذا الرجل البخاري فى (الرقاق ، باب الخوف من اللّه) من حديث أبى سعيد الخدري رضى اللّه عنه.(2/621)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 622
فلما فقد ذلك التجلي الجمالي حزن عليه ، وإلا فالأنبياء - عليهم الصلاة والسّلام - أولى بالغنى باللّه عما سواه.
فإذا حصل للقلب الغنى باللّه لم يتأسف على شىء ، ولم يحزن على شىء لأنه حاز كل شىء ، ولم يفته شىء.
«ماذا فقد من وجده ، وما الذي وجد من فقده». وللّه در القائل :
أنا الفقير إليكم والغنىّ بكم وليس لى بعدكم حرص على أحد
وهذا أمر محقق ، مذوق عند العارفين أهل الغنى باللّه. وقوله : (إنما أشكو بثي وحزنى إلى اللّه) : فيه رفع الهمة عن الخلق ، والاكتفاء بالملك الحق ، وعدم الشكوى فيما ينزل إلى الخلق .. وهو ركن من أركان طريق التصوف ، بل هو عين التصوف. وباللّه التوفيق.
ثم ذهبوا إلى مصر كما أمرهم أبوهم ، قال تعالى :
[سورة يوسف (12) : الآيات 88 الى 92]
فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (88) قالَ هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ (89) قالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (90) قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ (91) قالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (92)
قلت : (من يتق ويصبر) : من قرأ بالياء : أجرى الموصول مجرى الشرط لعمومه وإبهامه ، فعطف على صلته بالجزم ، ومنه قول الشاعر :
كذلك الذي يبغى على النّاس ظالما تصبه على رغم عواقب ما صنع
يقول الحق جل جلاله : فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ على يوسف حين رجعوا إليه مرة ثالثة ، قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ شدة الجوع ، وَجِئْنا إليك بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ : رديئة ، أو قليلة ، أو ناقصة ، تدفع(2/622)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 623
وترد ، من أزجيته ، دفعته. ومنه : يُزْجِي سَحاباً «1» قيل : كانت دراهم زيوفا وقيل : الصنوبر وحبة الخضراء.
وقيل : سويق المقل أي : الدوم. وقيل : عروضا. فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ : أتممه لنا ، وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا بالمسامحة ، وقبول المزجاة ، أو بالزيادة على ثمننا. وهذا يقتضى أن الصدقة كانت حلالا على الأنبياء قبل نبينا صلّى اللّه عليه وسلّم ، وهو خلاف المشهور. أو برد أخينا ، إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ أحسن الجزاء. والتصدق : التفضل مطلقا ، ومنه قوله صلّى اللّه عليه وسلّم فى القصر : «هذه صدقة تصدّق اللّه عليكم بها ، فأقبلوا صدقته» «2».
روى أن يعقوب عليه السّلام لما أرسلهم المرة الثالثة ليتحسسوا أخبار يوسف وأخيه ، أرسل معهم كتابا ونصه : بسم اللّه الرحمن الرحيم ، من يعقوب الحزين إلى عزيز مصر ، ولو عرفت اسمك لذكرتك فى كتابى هذا ، يا من اعتز بعز اللّه ، فاللّه يعز من يشاء ويذل من يشاء ، وإنى أيها العزيز قد اشمأز قلبى ، وقطع الحزن أوصالى ، وإنى ناه إلى الإقراح ، دائم البكاء والصياح ، وإنى من نطفة آباء كرام ، فكيف يتولد اللصوص منى وأنا من الخصوص! وقد أخبرت أنك وضعت الصّاع بالليل فى رحل ولدي الأصغر ، وإنى حزين عليه كما كنت حزينا على أخيه الفقيد ، حزنا دائما سرمدا شديدا. وإن كنت أفجعتنى فى الآخر ، فإن قلبى لا محالة طائر. ثم ختمه بالسلام.
فلما دفعوه ليوسف قرأه ، وبكى بكاء شديدا ، ثم دفعه لأخيه بنيامين فقرأه وبكى أيضا. ثم نزل عن سريره ، ثم دفع لهم الكتاب الذي كانوا كتبوه لمالك بن ذعر لمّا باعوه بخطوط شهادتهم ، كان أخذه من مالك حين باعه. فلما قرأوه تغيرت ألوانهم وتضعضعت أركانهم ، وبهتوا ، فقال لهم : هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ من إيذاء يوسف ، وتفريقه من أبيه ، ومضرة أخيه من بعده ، فإنهم كانوا يذلونه ويشتمونه ، أي : هل علمتم قبحه فتبتم منه؟
قاله نصحا وتحريضا لهم على التوبة. إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ أي : فعلتم ذلك حين كنتم جاهلين قبح ذلك. وإنما سماهم جاهلين لأن فعلهم حينئذ فعل الجهال ، أو لأنهم حينئذ كانوا صبيانا طياشين ، فعرفوه حينئذ على ظن ، فقالوا : أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ؟ بالاستفهام التقريرى. وقرأ ابن كثير على الإيجاب. قيل : عرفوه بذوائبه وشمائله حين نزل إليهم وكلمهم. وقيل : تبسم فعرفوه بثناياه. وقيل : رفع التاج عن رأسه فعرفوه بشامة كانت فى رأسه بيضاء ، وكانت لسارة ويعقوب مثلها.
قالَ لهم : أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي من أبى وأمي. ذكره تعريفا لنفسه به ، وتفخيما لشأنه ، وإدخالا له فى المنة بقوله : قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا بالسلامة والكرامة والعز ، إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ اللّه وَيَصْبِرْ على بلواه ، وعلى طاعته وتقواه فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ، وضع المحسنين موضع المضمر تنبيها على أن المحسن جمع بين الصبر والتقوى. فمن اتقى اللّه وصبر فهو محسن ..
___________
(1) من الآية 43 من سورة النور.
(2) أخرجه مسلم فى (صلاة المسافرين ، باب صلاة المسافرين وقصرها) من حديث سيدنا عمر بن الخطاب رضى اللّه عنه.(2/623)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 624
قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا بحسن الصورة وكمال السيرة ، أو فضلك علينا رغما على أنفنا ، وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ أي : والحال أن شأننا أنّا كنا مذنبين فيما فعلنا معك. قالَ لا تَثْرِيبَ : لا عتاب عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ أي : لا عقوبة عليكم فى هذا اليوم. ثم دعا لهم فقال : يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ ، فيوقف على اليوم. وقيل : يتعلق بيغفر ، فيوقف على ما قبله ، وهو بعيد لأنه تحكم على اللّه ، وإنما يصلح أن يكون دعاء ، إذ هو الذي يليق بآداب الأنبياء ، فكأنه أسقط حق نفسه بقوله : لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ ، ثم دعا اللّه أن يغفر لهم اللّه حقه. قاله ابن جزى ، وصدر به البيضاوي. وبه تعلم ضعف وقف الهبطى. ثم قال فى تمام دعائه : وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فإنه يغفر الصغائر والكبائر ، ويتفضل على التائب.
قال البيضاوي : ومن كرم يوسف عليه السّلام أنهم لما عرفوه أرسلوا له ، وقالوا : إنك تدعوننا بالبكرة والعشى إلى الطعام ، ونحن نستحى منك لما فرط منا فيك ، فقال لهم : إن أهل مصر كانوا ينظرون إلىّ بالعين الأولى ، ويقولون :
سبحان من بلغ عبدا بيع بعشرين درهما ما بلغ ، ولقد شرفت بكم ، وعظمت فى أعينهم حيث إنكم إخوتى ، وإنى من حفدة إبراهيم عليه السّلام. ه.
الإشارة : من رام الدخول إلى حضرة الكريم الغفار ، فليدخل من باب الذل والانكسار. وفى الحكم : «ما طلب لك شىء مثل الاضطرار ، ولا أسرع بالمواهب مثل الذلة والافتقار». فإذا قرعت الباب ، ورمت الدخول مع الأحباب ، فقل بلسان التضرع والانكسار : يا أيها العزيز الغفار مسنا الضر ، وهو البعد والغفلة ، وجئنا ببضاعة مزجاة عمل مدخول ، وقلب معلول ، فأوف لنا ما أملناه من الجزاء المأمول ، وتفضل علينا بالقبول والوصول ، وقل : اليوم نغفر لكم ونغطى مساوءكم ، ونوصلكم بما منى إليكم من الإحسان ، لا بما منكم إلينا من الطاعة والإذعان. هؤلاء إخوة يوسف لما أظهروا فاقتهم ، واستقلوا بضاعتهم ، وأحضروا شكايتهم ، سمح لهم وقربهم ، وكشف لهم عن وجهه الجميل ، ومنحهم العطاء الجزيل ، فما ظنك بالرب العظيم الجليل ، الذي هو أرحم الراحمين ، ومحل أمل القاصدين.
ثم أمرهم بالرجوع إلى أبيهم ، والإتيان به وبمن معه من أولادهم ، فقال :
[سورة يوسف (12) : الآيات 93 الى 98]
اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (93) وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْ لا أَنْ تُفَنِّدُونِ (94) قالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ (95) فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (96) قالُوا يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ (97)
قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (98)(2/624)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 625
قلت : جواب (لو لا) : محذوف ، أي : لو لا أن تفندون لقلت إنه قريب ، أو لصدقتمونى.
يقول الحق جل جلاله : قال يوسف لإخوته لما عرفوه ، وأزال ما بينه وبينهم من الوحشة ، وقد أخذ قميصه :
اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا ، روى أن هذا القميص كان لإبراهيم الذي لبسه حين كان فى النار ، وقيل : ألبسه له جبريل حين خرج من النار ، وكان من ثياب الجنة ، ثم كان لإسحاق ثم ليعقوب ، ثم كان دفعه ليوسف ، فكان عنده فى حفاظ من قصب ، وكان فى عنقه فى الجب ، وأمره جبريل بإرساله ، وقال : إن فيه ريح الجنة ، لا يلقى على مبتلى إلا عوفى. قال ابن عطية : وهذا كله يحتاج إلى سند ، والظاهر : أنه قميص يوسف الذي هو منه بمنزلة قميص كل أحد. وبهذا تتبين الغرابة فى أن وجد يعقوب ريحه من بعد ، ولو كان من قميص الجنة لما كان فى ذلك غرابة ، ويجده كل أحد. ه.
قلت : وما قاله لا ينهض لأن ما ظهر من الجنة إلى دار الدنيا لا يبقى على حاله دائما لأنه من أسرار الغيب ، بل لا يجده إلا أهل الذوق من أهل القرب ، كنور الحجر الأسود ، وغيره مما نزل من الجنة. واللّه تعالى أعلم.
ثم قال لهم اذهبوا به : فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً أي : يرجع بصيرا ، علم ذلك بوحي ، أو تجربة من القميص ، وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ نسائكم وذارريكم وأموالكم.
وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ من مصر ، وخرجت من عمارتها ، قالَ أَبُوهُمْ لمن حضره : إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ أوجده اللّه ، ريح ما عبق من قميصه حين أقبل إليه به يهوذا من ثمانين فرسخا لأن يعقوب كان إذ ذاك ببيت المقدس ، ويوسف بمصر ، لَوْ لا أَنْ تُفَنِّدُونِ تنسبونى إلى الفند ، وهو : نقصان عقل يحدث من هرم. ولذلك لا يقال عجوز مفندة لأن نقصان عقلها ذاتى. أي : لو لا أن تحمقونى لقلت إنه قريب ، أو لصدقتمونى فى ذلك ، أو لو لا أن تلومونى ، وتردوا علىّ قولى لقلت إنه ريح يوسف. قالُوا أي : الحاضرون : تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ أي : إنك لفى خطئك القديم بالإفراط فى محبة يوسف ، وإكثار ذكره ، وتوقع لقائه.(2/625)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 626
فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ أي : المبشر ، وهو : يهوذا. روى أنه قال : كنت أحزنته بحمل قميصه الملطّخ بالدم إليه ، اليوم أفرحه بحمل هذا إليه. وفى رواية عنه قال : إنى ذهبت إليه بقميص التّرحة ، فدعونى أذهب إليه بقميص الفرحة. فلما وصل إليه أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ طرح البشير القميص على وجه يعقوب ، أو : ألقاه يعقوب بنفسه على وجهه ، فَارْتَدَّ بَصِيراً بقدرة اللّه وبركة القميص. قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ من حياة يوسف ، وإنزال الفرج.
قالُوا يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ ، وقد اعترفنا بذنوبنا ، وسألنا المغفرة. قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ، أخره إلى السّحر ، أو إلى صلاة الليل ، أو إلى ليلة الجمعة ، تحريا لوقت الإجابة ، أو إلى أن يتحلل لهم من يوسف ، فإن عفو المظلوم شرط فى المغفرة ، ويؤيده ما روى أنه لما اجتمع به ، وتحلل منه ، استقبل يعقوب القبلة قائما يدعو ، ويوسف خلفه يؤمن ، وقاموا خلفهما أذلة خاشعين ، حتى نزل جبريل وقال : إن اللّه قد أجاب دعوتك فى أولادك ، وعقد مواثيقهم بعدك على النبوة. وهو ، إن صح ، دليل نبوتهم ، وأن ما صدر منهم كان قبل نبوتهم ، قاله البيضاوي.
الإشارة : اعلم أن الحق - جل جلاله - جعل للبشرية عينين حسيين ، تبصر بهما الحسيات ، وجعل للقلب عينين معنويين يرى بهما المعاني. فالأول : يسمى البصر ، والثاني : البصيرة. فأحد عينى القلب تبصر أنوار الشريعة ، والأخرى تبصر أسرار الحقيقة. وقد يغشى القلب ظلمة الكفر ، فتغطيهما معا ، وهو : عمى البصيرة. وقد يغشاه ظلمة المعاصي ، واتباع الحظوظ والهوى ، فتعمى عين الحقيقة ، وتضعف عين الشريعة ، ودواؤهما : إلقاء قميص المعرفة على وجه عين الحقيقة ، وجلباب العصمة على عين الشريعة ، فيرجع القلب بصيرا. ولا بد من صحبة شيخ عارف يعطيه هذا القميص ، ويقول : اذهبوا بقميصي هذا فألقوه على وجه بصيرتكم ، تأتى بصيرة عارفة ، فإذا قرب منها هذا القميص هبّ عليها نسيم الوصال ، وهاج عليها الوجد والحال. وأنشدت بلسان المقال :
سويداء قلبى أصبحت حرما لكم تطوف بها الأسرار من عالم اللّطف
وسائل ما بين المحبّين أصبحت تجلّ عن التّعريف والرّسم والعرف
رسائل جاءتنا برؤيا جنابكم عوارف عرف فاق كلّ شذا عرف(2/626)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 627
ثم ذكر دخول يعقوب مصر ، وجمع شمله بيوسف - عليهما السّلام - ، فقال :
[سورة يوسف (12) : الآيات 99 الى 100]
فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ (99) وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100)
يقول الحق جل جلاله : فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ. قبل هذا الكلام محذوفات ، وهى :
فرحل يعقوب بأهله حتى بلغوا إليه ، ولما دخلوا على يوسف .... إلخ.
روى أن يوسف عليه السّلام وجه إليه رواحل وأموالا ليتجهز إليه بمن معه ، وأرسل إليه مائة وثمانين كسوة من رفيع الثياب والعمائم لإخوته ، وقميصان مذهبان للإناث ، فلما وصلت إلى يعقوب لبس ، وألبس أولاده ، وركبوا المراكب ، وخرجوا من أرض كنعان يريدون مصر ، فلما قربوا ، أمر يوسف عليه السّلام العساكر أن تخرج معه للقائهم ، فأول من لقيهم ثلاثون ألف فارس ، كلهم يسجدون بين يدى يعقوب ، وهو يتعجب من عظم تلك الأجناد ، ويضحك من نصر اللّه تعالى ، وعزه لابنه. ثم لقيهم البغال ، والجواري لنساء إخوته وأولادهم. ثم لقيهم أربعون ألف شيخ من الوزراء والكبراء. ثم استقبلهم يوسف عليه السّلام مترجلا ماشيا على قدميه ، متواضعا لأبيه ، فى مائة ألف ، كلهم على أرجلهم ، معهم الملك «ريّان» ثم سلّم يوسف عليه السّلام والملك على أبيه ، ثم أقبلا يبكيان ، وبكى إخوته وضج الناس بالبكاء ، ثم ضم إليه أبويه ، وقيل : أباه وخالته ، وَقالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ ، ثم حمل يعقوب عليه السّلام فى هودج من الذهب ، ويوسف عليه السّلام ، وإخوته يمشون بين يديه مترجلين حتى دخلوا مصر ، ثم أتوا إلى قصر مملكته.
قال ابن عباس : فجلس يوسف عليه السّلام على سريره ، وأبوه عن يمينه ، وخالته عن شماله ، وإخوته بين يديه ، فخروا له سجدا لأنها كانت عادتهم فى ذلك الزمان - يعنى تحيتهم على الملوك - روى أنهم قالوا فى سجودهم :
سبحان مؤلف الشتات بعد الإياس ، سبحان كاشف الضر بعد البأس. فقال يوسف لأبيه : يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ ... إلخ - هكذا ذكر القصة صاحب الزهر الأنيق فى قصة يوسف الصديق. وهذا معنى قوله : فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ بلده ومملكته آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ أي : اعتنقهما ، وسلّم عليهما ، وضمهما إليه. قيل : الأبوين حقيقة. وقيل : أباه وخالته. ونزّل الخالة منزلة الأم تنزيل العم منزلة الأب فى(2/627)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 628
قوله : نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ
«1» ، .
وَقالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ من القحط وأصناف المكاره. والمشيئة متعلقة بالدخول المكيّف بتلك الهيئة لا بالأمن. وقال ابن جزى : راجعة إلى الأمن. قال البيضاوي : وكان أولاد يعقوب الذين دخلوا مصر اثنين وسبعين رجلا ، وامرأة ، وكانوا حين خرجوا مع موسى ستمائة ألف وخمسمائة وبضعة وتسعين رجلا سوى الذرية ، والهرمى. ه.
وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ ، أي : حين دخلوا قصر مملكته ، وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً تحية وتكرمة فإن السجود كان عندهم يجرى مجرى التحية. وقيل : معناه : خروا لأجله سجدا للّه شكرا. وقول البيضاوي : الرفع مؤخر عن الخرور ، فيه نظر لما تقدم عن صاحب الزهر الأنيق ، ولا داعى إلى الخروج عن الظاهر إلا بنص صريح.
قال ابن عطية : واختلف فى هذا السجود فقيل : كان المعهود عندنا من وضع الوجه بالأرض ، وقيل : بل دون ذلك كالركوع البالغ ونحوه ، مما كان سيرة تحيتهم للملوك فى ذلك الزمان. وأجمع المفسرون أن ذلك السجود ، كيفما كان ، إنما كان تحية لا عبادة.
قال قتادة : هذه كانت تحية الملوك عندهم ، وأعطى اللّه هذه الأمة السّلام تحية أهل الجنة. ثم قال : قال أبو عمرو الشيباني : تقدم يوسف يعقوب عليه السّلام فى المشي فى بعض تلك المواطن ، فهبط جبريل فقال : أتتقدم أباك؟ إن عقوبتك لذلك ألا يخرج من نسلك نبى. ه. قال المحشى الفاسى : وما أظن لهذا صحة ، وقد كان من ذريته «يوشع بن نون» عليه السّلام ، ويوسف المذكور فى سورة الطّول «2» على قول. وفى البيضاوي : وكان عمر يوسف مائة وعشرين سنة ، وقد ولد له من راعيل : إفرائيم وميشا ، وهو جد يوشع بن نون ورحمة امرأة أيوب. ه. قلت : المذكور فى قصة أيوب أن زوجه رحمة إنما كانت ابنة إفرائيم بن يوشع لابنته.
ثم قال : يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ التي رأيتها أيام الصبا ، وهى : رؤيا أحد عشر كوكبا والشمس والقمر يسجدون لى ، قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا : صدقا. وكان بين رؤياه وبين صدق تأويلها ثمانون عاما ، وقيل :
أربعون ، وهو الأصح. وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ ، ولم يذكر الجب لئلا يخجل إخوته ، ولأنه خرج من الجب إلى الرق ، ومن السجن إلى الملك ، فالنعمة هذا أوضح. وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ : من البادية لأنهم كانوا أصحاب المواشي وأهل البدو ، فعد عليهم من النعم انتقالهم للحاضرة لأنها محل الراحة. مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي : أفسد بيننا وحرش ، من نزغ الدابة إذا نخسها. إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ
___________
(1) من الآية 133 من سورة البقرة.
(2) أي سورة غافر من الآية 34. [.....](2/628)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 629
أي : لطيف التدبير لما يشاء من الأمور إذ ما من صعب إلا وتنفذ فيه مشيئته ، ويتسهل دونها ، إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ بوجوه المصالح والتدابير ، الْحَكِيمُ الذي يفعل كل شىء فى وقته ، على وجه تقتضيه الحكمة.
روى أن يوسف عليه السّلام طاف بأبيه - عليهما السّلام - فى خزائنه ، فلما أدخله خزانة القرطاس ، قال : يا بنى ، ما أغفلك ، عندك هذه القراطيس وما كتبت لى على ثمانى مراحل ، قال : أمرنى جبريل ، قال : أو ما تسأله؟ قال :
أنت أبسط منى ، سله ، فقال جبريل : أمرنى ربى بذلك لقولك : (إنى أخاف أن يأكله الذئب) ، فهلا خفتنى. ه.
قاله البيضاوي. وزاد فى القوت : لم خفت عليه الذئب ولم ترجنى؟ ولم نظرت إلى غفلة إخوته ، ولم تنظر إلى حفظى له؟ فهذا على معنى قول يوسف عليه السّلام للساقى : (اذكرني عند ربك) ، فهذا مما يعتب على الخصوص من خفى سكونهم ، ولمح نظرهم إلى ما سوى اللّه عز وجل. ه.
الإشارة : ما أحلى الوصال ، بعد الفراق ، وما ألذ شهود الحبيب على الاشتياق ، فبقدر طول البين يعظم قدر الوصول ، وبقدر حمل مشاق الطلب يظفر بالمأمول. فجدّ أيها العبد فى طلب مولاك ، وغب فى سيرك إليه عن حظوظك وهواك ، تظفر بالوصل الدائم فى عزك وعلاك ، وتتصل بكل ما كنت تأمله من مطالبك ومناك. وأنشدوا :
وإن امرؤ أمسى بقربك نازلا فأهلا به ، حاز الفضائل كلّها
وألبسته حلى المحاسن فاكتسى حلل الرضا فازداد قربا ما انتهى
وباللّه التوفيق.
ثم إن يوسف عليه السّلام لما تمكن من الملك الفاني ، اشتاق إلى الملك الباقي ، فقال :
[سورة يوسف (12) : آية 101]
رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101)
قلت : (فاطر) : نعت المنادى ، أو منادى بنفسه.
يقول الحق جل جلاله ، حاكيا عن يوسف عليه السّلام : رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ أي : من بعض الملك ، وهو ملك مصر ، وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ الكتب المتقدمة ، أو تأويل الرؤيا. و«من» : للتبعيض فيهما إذ لم يعط ملك الدنيا كلها ، ولا أحاط بالعلم كله. فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ : مبدعهما ومنشئهما ، أَنْتَ وَلِيِّي فِي(2/629)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 630
الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ
: أنت ناصرى ومتولى أمرى فى الدارين ، تَوَفَّنِي مُسْلِماً : اقبضنى مسلما ، وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ من آبائي ، أو جماعة الصالحين فى الرتبة والكرامة ، أو بالصالحين لحضرة قدسك.
روى أن يعقوب عليه السّلام أقام معه أربعا وعشرين سنة ، ثم توفى ، فنقله يوسف عليه السّلام إلى الشام ليدفن مع أبويه.
هكذا ذكر بعض المفسرين. وقال فى الزهر الأنيق : بقي يعقوب عليه السّلام بمصر أربعين سنة فى أطيب وقت ، وأكمل عافية ، ثم أوحى اللّه إلى جبريل : أن انزل إلى يعقوب ، وقل له : يرحل إلى الأرض المقدسة ، عند قبور آبائه ، يجاورهم حتى ألحقه بهم. فنادى يعقوب عليه السّلام يوسف وأولاده ، وقال لهم : قد أمرنى ربى بمجاورة أبى ليقبض روحى هناك ، ثم ودّعهم ، وخرج إلى الأرض المقدسة ، فزار قبور آبائه فبكى ، فرأى فى المنام إبراهيم على كرسى ، وإسماعيل عن يمينه ، وإسحق عن يساره ، وهم يقولون : الحق بنا يا يعقوب ، فانتبه ، ثم قام فوجد قبرا محفورا تخرج منه رائحة المسك ، فقال : لمن هذا؟ قال له ملك عنده : هو لمن يتمنى سكناه ، فقال : أنا ، فقبض روحه ملك الموت ، ثم نزل جبريل وميكائيل - عليهما السّلام - وكفناه ، وصليا عليه ، ودفناه.
قال كعب الأحبار : توفى يعقوب وهو ابن مائتى سنة ، ولما وصل نعيه يوسف بكى ، وبكى معه إخوته. ه.
«قلت» : ظاهره أنهم لم يحضروا موته ، وهو خلاف قوله تعالى : أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قالَ لِبَنِيهِ «1» ، إلا أن يؤول بمعنى : قرب ، فتكون وصيته وقعت حين أراد الرجوع إلى الشام ، وهو خلاف الظاهر.
ثم إن يوسف تاقت نفسه إلى الملك المخلد ، فتمنى الموت ، فقال : رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ ... إلخ. روى أنه عاش بعد قوله هذا مدة ، ثم ماتت زليخا ، ولم يتزوج بعدها ، وعاش بعدها أربعين يوما ، ثم اشتاق إلى اللقاء واللحوق بآبائه ، فتوفاه اللّه طيبا طاهرا ، فتخاصم أهل مصر فى مدفنه ، حتى هموا بالقتال ، فرأوا أن يجعلوه فى صندوق من مرمر - أي : رخام - فيدفنوه فى النيل بحيث يمر عليه الماء ، ثم يصل إلى مصر ليكونوا شرعا فيه.
وفى رواية : أنهم دفنوه على ضفة النيل فخصبت وجدبت الأخرى فنقلوه للأخرى فخصبت وجدبت الأولى ، فجعلوه فى صندوق ، ودفنوه فى النيل فاخضرت الجهتان ، ثم نقله موسى عليه السّلام إلى مدفن آبائه. وكان عمره :
مائة وعشرين سنة ، وقد تقدم ذكر أولاده الثلاثة : إفرائيم ، وميشا ، ورحمة امرأة أيوب ، وتقدم البحث فيها ، وذكر فى الزهر الأنيق أنه ولد له من زليخا عشرة أولاد ، فانظره. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : إذا كان العبد فى زيادة من الأعمال ، وفى الترقي إلى مقامات الكمال ، فلا بأس أن يتمنى البقاء فى هذه الدار لزيادة الزاد إلى دار القرار ، وإذا كان فى نقصان من الأعمال ، أو خاف النقصان بعد الكمال ، فلا بأس بطلب الرحيل والانتقال كما طلبه الصّدّيق عليه السّلام بعد الملك التام. وكما فعل عمر رضى اللّه عنه حين انتشرت
___________
(1) الآية 134 من سورة البقرة.(2/630)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 631
رعيته ، وخاف التقصير فى سيرته. وقد تقدم فى سورة البقرة تفصيل ذلك ، ولقد أحسن الشاعر فى التحذير ، من الاغترار بزخرف هذه الدار ، فقال :
هو الحمام فلا تبعد زيارته ولا تقل : ليتنى منه على حذر
يا ويح من غرّه دهر فسرّ به لم يخلص الصّفو إلا شيب بالكدر
انظر لمن باد تنظر آية عجبا وعبرة لأولى الأبصار والبصر
بادوا فعادوا حديثا ، إنّ ذا عجب ما أوضح الرّشد لو لا غفلة النّظر
تنافس النّاس فى الدّنيا وقد علموا أنّ المقام بها كاللّمح بالبصر
فخلّ عن زمن تخشى عواقبه إنّ الزمان إذا فكّرت ذو غير
واعمل لأخراك لا تبخل بمكرمة ومهّد العذر ليس العين كالأثر
ثم نبه الحق تعالى أن الإخبار بقصة يوسف عليه السّلام من أعلام النبوة لنبينا صلّى اللّه عليه وسلّم فقال :
[سورة يوسف (12) : الآيات 102 الى 107]
ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (102) وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103) وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (104) وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ (105) وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106)
أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (107)
قلت : (ذلك) : مبتدأ ، و(من أنباء الغيب) : خبر. و(نوحيه) : حال.
يقول الحق جل جلاله : ذلِكَ أي : خبر يوسف وقصته ، هو مِنْ أَنْباءِ أخبار الْغَيْبِ التي لم يكن لك بها علم ، وإنما علمته بالوحى الذي نُوحِيهِ إِلَيْكَ فأخبرتهم به. وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ أي : وما حضرت عندهم ، إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ : حين عزموا أمرهم على أن يجعلوه فى غيابة الجب ، وَهُمْ يَمْكُرُونَ به ، وبأبيه ليرسله معهم. ومن المعلوم الذي لا يخفى على مكذبيك أنك ما لقيت أحدا من الأحبار(2/631)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 632
فتعلمت ذلك منه ، فتحققوا أنه وحي من عند اللّه ، ولكن جحدوا وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ على إيمانهم ، وبالغت فى إظهار الآيات لهم ، بِمُؤْمِنِينَ لعنادهم وتصميمهم على الكفر ، وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ على تبليغ هذا النبأ ، أو القرآن ، مِنْ أَجْرٍ كما يفعله حملة الأخبار من الأحبار. إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ : عظة من اللّه ، لِلْعالَمِينَ من الجن والإنس.
وَكَأَيِّنْ : كثيرا مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الدالة على وجود صانعها وتوحيده ، وكمال قدرته وتمام حكمته ، يَمُرُّونَ عَلَيْها ويشاهدونها ، وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ : لا يتفكرون فيها ، ولا يعتبرون. وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ أي : وما يصدق أكثرهم بوجود اللّه فى إقرارهم بوجوده ، وخالقيته للأشياء ، وأنه الرزاق المميت ، إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ بعبادة الأصنام ، أو باتخاذ الأحبار والرهبان أربابا ، أو بنسبة التبني إليه ، أو بالوقوف مع الأسباب ، أو غير ذلك من أنواع الشرك الجلى والخفي. قيل : نزلت فى مشركى مكة ، وكانوا يقولون فى تلبيتهم : لبيك لا شريك لك إلا شريكا تملكه وما ملك. وقيل : فى أهل الكتاب. أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ : عقوبة تغشاهم وتشملهم ، مِنْ عَذابِ اللَّهِ المرسل على الأمم المتقدمة ، أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً : فجأة ، وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ بإتيانها ، غير مستعدين لها.
الإشارة : قوله تعالى : وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ : مثله يقال لأهل الوعظ والتذكير الداعين إلى مقام الخصوصية ، وما أكثر الناس ولو حرصت على هدايتهم ، بمهتدين إلى مقام الخصوصية لأن أهل الخصوصية أفراد قليلون فى كل زمان قال تعالى : وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ «1». وتقدم فى سورة هود «2» ما يتعلق بقوله : وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ.
وقوله تعالى : وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ ... إلخ ، فيه ذم الغفلة ، والإعراض عن التفكر والاعتبار فإن الحق - جل جلاله - ما أظهر هذه الكائنات إلا ليعرف بها ، وتظهر فيها أسرار ذاته ، وأنوار صفاته. قال فى لطائف المدن :
فما نصبت الكائنات لتراها ، ولكن لترى فيها مولاها فمراد الحق منك أن تراها بعين من لا يراها تراها من حيث ظهوره فيها ، ولا تراها من حيث كونيتها. قال «3» : ولنا فى هذا المعنى :
ما أثبت لك المعلم إلا لتراها بعين من لا يراها
فارق عنها رقى من ليس يرضى حالة دون أن يرى مولاها. ه.
___________
(1) من الآية 13 من سورة سبأ.
(2) عند إشارة الآية 29.
(3) أي : الشيخ السكندريى صاحب لطائف المدن(2/632)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 633
وقوله تعالى : وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ : لا ينجو من الشرك الخفي إلا أهل التوحيد الخاص ، وهم الذين غابوا عن الأكوان جملة بشهود المكون ، قد سقط من نظرهم وجود الأغيار ، وتطهرت سرائرهم من لوث الأكدار ، ولم يبق فى مشهدهم إلا الواحد القهار ، فلم يعتمدوا على الوسائط والأسباب ، برؤية مسبب الأسباب ، ولم يركنوا إلى العشائر والأصحاب ، فإن التفتوا إلى غيره غفلة ، أدبهم ، وردهم إلى حضرته. هذا شأنهم معه أبدا. جعلنا اللّه منهم ، وخرطنا فى سلكهم. آمين.
ثم أوضح طريقهم ، فقال :
[سورة يوسف (12) : آية 108]
قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحانَ اللَّهِ وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108)
قلت : (أدعو) : حال من الياء ، و(على بصيرة) : حال ثان ، و(أنا ومن اتبعنى) : الضمير - تأكيد للمستكن فى (أدعو) ، أو فى (على بصيرة) ، أو مبتدأ خبره : (على بصيرة) ، مقدم.
يقول الحق جل جلاله : قُلْ يا محمد : هذِهِ سَبِيلِي : طريقى الذي جئت به من عند ربى وهى الدعوة إلى التوحيد ، والتأهب ليوم المعاد. ثم فسرها بقوله : أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ ، أو حال كونى داعيا إلى اللّه أي : إلى توحيده ومعرفته والأدب معه ، عَلى بَصِيرَةٍ : حجة واضحة ، وبينة من ربى ، لا عن تقليد أو عمى. أدعو إلى اللّه أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي فمن كان على قدمى فهو يدعو أيضا إلى اللّه على بصيرة وبينة من ربه ، وَسُبْحانَ اللَّهِ :
وأنزهه عن الشركاء والأنداد ، وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ به شركا جليا ولا خفيا ، بل مخلصا موحدا.
الإشارة : لا يصلح العبد أن يكون داعيا إلى الله حتى يكون على بصيرة من ربه ، بحيث لا يبقى فيه تقليد بحت ، ولا يختلجه شك ولا وهم. والدعاة إلى الله على ثلاث مراتب : فمنهم من يدعو على بصيرة الإسلام وهم الدعاة إلى معرفة أحكام اللّه وشرائعه ، ومنهم من يدعو علي بصيرة الإيمان ، وهم الدعاة إلى معرفة صفات الله تعالى وكمالاته ، ومعرفة ما يجب له تعالى وما يستحيل وما يجوز على طريق البرهان الواضح. ومنهم من يدعو إلى الله على بصيرة الإحسان ، وهم الدعاة إلى معرفة الذات العلية على نعت الشهود والعيان ، من طريق الذوق والوجدان وهم العارفون بالله ، أهل النور المخرق ، بحيث كل من واجههم خرق النور إلى باطنه. وهذه الدعوة الحقيقية والبصيرة النافذة ، وأهل هذا المقام هم أهل التربية النبوية ، فدعوة هؤلاء أكثر نفعا ، وأنجح تأثيرا فى زمن يسير يهدى الله على أيديهم الجم الغفير.(2/633)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 634
قال فى نوادر الأصول : الداعي إلى الله على بصيرة - أي معاينة - هو الذي قلبه عند الله ، وعلى بصيرة فى الطريق ، ومحل القلوب فى تلك المراتب ناطقا بالله ، عن الله ، فلذلك يلج آذان المستمعين ، مع الكسوة التي تخرق كل حجاب ، وهو نور الله ، لأنه خرج من قلب مشحون بالنور ، فخرق كل حجاب قد تراكم على قلوب المخلصين ، فخلصها إلى نور التوحيد فأنارها بمنزلة جمرة وصلت النفخة إليها ، فالتهبت نارا ، فأضاءت البيت. وهذا سبيل الناطق عن الله. ثم قال : وكيف يجوز الدعاء إلى الله لمن ليس عند الله ، وهو لله ، وإنما قلبه عند نفسه ولنفسه ، مشغول بنهمته وشهواته وأحواله ، وإنما هذا لمن تفرغ من نفسه ، واشتغل بالله. ه.
ثم رد على من زعم من الكفار أن الرسول من البشر ، فقال :
[سورة يوسف (12) : الآيات 109 الى 110]
وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ (109) حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110)
قلت : (يوحى) : نعت لرجال ، وكذا (من أهل القرى) : نعت ثان ، و(حتى) : غاية لمحذوف ، أي : وما أرسلنا إلا رجلا يوحى إليهم فأوذوا مثلك ، ودام عليهم ، حتى إذا استيأسوا جاءهم نصرنا.
يقول الحق جل جلاله : وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ يا محمد إِلَّا رِجالًا بشرا لا ملائكة ، وهو رد لقولهم : لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً «1» ، وقيل : معناه : نفى استنباء النساء. وصفة أولئك الرجال : يوحى إليهم «2» كما أوحى إليك ، فتميزوا بالوحى عن غيرهم ، وهم مِنْ أَهْلِ الْقُرى . وهم المدن والأمصار ، والمداشر «3» الكبار لأنهم أحلم وأعلم ، بخلاف أهل العمود فإنهم أهل جفاء وجهالة. قال الحسن : (لم يبعث اللّه نبيا من أهل البادية ، ولا من النساء ، ولا من الجن).
قال ابن عطية : والتبدّى مكروه إلا فى الفتن ، وحين يفرّ بالدين ، لحديث : «يوشك أن يكون خير مال المسلم غنما يتبع بها سعف الجبال ... «4»» الحديث. وفى ذلك أذن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم لسلمة بن الأكوع «5». ه.
___________
(1) من الآية 14 من سورة فصلت.
(2) قرأ حفص (نوحى) بنون العظمة.
(3) المداشر : القرى.
(4) أخرجه البخاري فى (كتاب الإيمان ، باب من الديين الفرار من الفتن) من حديث أبى سعيد الخدري.
(5) أخرج البخاري فى (الفتن ، باب التعرب فى الفتنة) ، عن سلمة بن الأكوع : (أنه دخل على الحجاج ، فقال : يا ابن الأكوع ، ارتددت على عقيبك؟ قال : لا ، ولكن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أذن لى فى البدو).(2/634)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 635
قلت : والفتنة تتنوع بتنوع المقامات ففتنة أهل الظاهر : تعذر إقامة الشريعة لكثرة الهرج والفتن ، وفتنة أهل الباطن : تعذر جمع القلب باللّه لكثرة الحس ، وتعرض الشواغل والعلائق. فمن وجد ذلك فى الحواضر فلينتقل إلى البوادي ، إن وجد من يعينه على الدين. والغالب أن الحواضر فى هذا الزمان يغلب فيها العوائد والشهوات ، وتعترى فيها الشواغل والشواغب ، بخلاف البادية. فإذا كان عليه الصلاة والسلام أذن لسلمة : خوف فتنة الظاهر ، فأولى خوف فتنة الباطن لأنه إذا فسد القلب فسد الجسد كله.
ثم قال ابن عطية : وقال صلّى اللّه عليه وسلّم : «لا تعرب فى الإسلام «1»». وقال : «من بدا جفا» «2». وعن معاذ بن جبل أنه قال : (الشّيطان ذئب الإنسان ، كذئب الغنم يأخذ الشّاة القاصية فإيّاكم والشّعاب ، وعليكم بالمساجد ، والجماعات ، والعامة) «3».
ثم قال : ويعترض هذا ببدو يعقوب ، وينفصل عن ذلك بوجهين : أحدهما : أن ذلك البدو لم يكن فى أهل العمود ، بل بتقرّ فى منازل وربوع ، والثاني : إنما جعله بدوا بالإضافة إلى مصر ، كما هى بنات الحواضر الصغار بدو بالإضافة إلى الحواضر الكبار. ه.
قلت : فالتعرب المنهي عنه هو اعتزال الرجل وحده فى جبل أو شعب ، وأما إن تقرر فى جماعة يقيمون الدين ، ويجتمعون عليه ، فليس بتعرب ولا بدو. ويدل عليه جواب ابن عطية الأول عن يعقوب عليه السّلام. والحاصل : أن أهل القلوب يفتشون على مصالح قلوبهم ، فأينما وجدوها فهى حاضرتهم. وقد ظهر فى البوادي أكابر من الأولياء ، ربما لم يظهروا فى الحواضر. واللّه تعالى أعلم.
ثم قال تعالى : أَفَلَمْ يَسِيرُوا أي : كفار مكة ، فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ من المكذبين لرسلهم : كيف هلكوا وتركوا آثارهم يشاهدونها خرابا دارسة ، فيحذروا تكذيبك ليؤمنوا ويتأهبوا للدار الآخرة وَلَدارُ الْآخِرَةِ أي : ولدار الحياة الآخرة خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا الشرك والمعاصي ، أَفَلا تَعْقِلُونَ ، وتستعملون عقولكم لتعلموا أنها خير. أو : أفلا يعقلون الذين يسيرون فى الأرض ليعلموا أن الدنيا فانية ، والدار الآخرة خير لأنها باقية.
___________
(1) ورد : «لا تعرب بعد الهجرة» ، أخرجه ، مطولا ، عبد الرزاق فى المصنف ، (باب : لا رضاع بعد الفطام ، 7/ 464 ح 13899) ، من حديث جابر بن عبد الله رضى اللّه عنه ..
(2) أخرجه أحمد فى المسند (2/ 371) ، وأبو داود فى (الصيد ، باب اتباع الصيد) والترمذي فى (الفتن ، باب سكنى البادية) والنسائي فى (الصيد ، باب اتباع الصيد) من حديث ابى هريرة ، وصححه الترمذي.
(3) أخرجه أحمد فى المسند (5/ 233) من حديث معاذ بن جبل.(2/635)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 636
فإن أبيتم وكذبتم نبيكم فقد كذب من قبلكم رسلهم ، وآذوهم ، وتأخر نصرهم حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ من النصر ، أو من إيمان قومهم لانهماكهم فى الكفر ، وتماديهم من غير وازع ، وَظَنُّوا أي : تيقنوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا «1» أي : أن قومهم كذبوهم فيئسوا من إيمانهم. أو : وظنوا أن من آمن بهم قد كذبوهم لطول البلاء وتأخر النصر. وأما قراءة (كذبوا) بالتخفيف فمعناه : وظنوا أنهم قد كذب عليهم فى وعد النصر .. وأنكرت عائشة - رضى اللّه عنها - هذه الرواية ، وقالت : معاذ اللّه لم تكن الرسل تظن بربها ذلك. كما فى البخاري «2».
وقد يجاب بأن ذلك كانت خواطر وهواجس من وسواس النفس ، يمر ولا يثبت ، وهو من طبع البشر ، لا يدخل تحت التكليف. وسماه ظنا مبالغة فى طلب المراقبة ، كما تقدم فى قوله : وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها. وقال ابن جزى ، على هذه القراءة : الضميران يعودان على المرسل إليهم ، أي : ظن الأتباع أن الرسل قد كذبوا عليهم فى دعوى الرسالة ، أو فى مجىء النصر لما اشتد عليهم البلاء ، وتأخر عنهم النصر.
فلما يئسوا جاءَهُمْ نَصْرُنا فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ نجاته ، وهو : النبي والمؤمنون. وإنما لم يعينهم للدلالة على أنهم الذين يستأهلون نجاتهم بالمشيئة القديمة ، لا يشاركهم فيها غيرهم ، وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ إذا نزل بهم. وفيه بيان المستثنين بالمشيئة ، كأنه قال : ولا نشاء نجاة المجرمين.
الإشارة : قد وجد كثير من الأولياء بالمدن والحواضر ، وكثير منهم فى القرى والمداشر. وفضل اللّه يؤتيه من يشاء ، لا يختص بمكان ولا زمان ، غير أن جلهم جمعوا بين علم المدن وتفرغ البوادي ، يعنى : جمعوا بين شريعة المدن وحقيقة البوادي لأن أهل المدن شريعتهم قوية ، وحقيقتهم ضعيفة. والبوادي بالعكس لكثرة العلائق فى المدن وخفتها فى البوادي ، والحقيقة تحتاج إلى تفرغ كبير وتفكر كثير ، واللّه تعالى أعلم.
وقوله تعالى : وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا بالتخفيف ، معناه : أنهم لم يقفوا مع ظاهر الوعد لسعة علمهم لأن ذلك الوعد قد يكون فى علم الغيب متوقفا على شروط خفية لا يعلمها ذلك النبي أو الولي ، ليتحقق انفراده تعالى بالعلم الحقيقي ، والقهرية الغالبة. فلذلك كان العارفون لا يزول اضطرارهم ، ولا يكون مع غير اللّه قرارهم.
وقال الورتجبي : إنهم استغرقوا فى قلزوم «3» الأزلية ، وغابوا تحت بحار الديمومية ، ولم يروا الحق من كمال استغراقهم فى الحق. فلما لم يروه ناداهم لسان غيرة قهر القدم : أين أنتم؟ غبتم عنه وعن الحقيقة ، فتطلع أنوار الحقيقة عليهم ، ويأخذ لطفها عن شبكات امتحان القهر. وهذا دأب الحق مع الأنبياء والأولياء حتى لا يسكنوا إلى ما وجدوا منه ، بل يفنوا به عن كل ماله إليهم. ه.
___________
(1) قرأ «كذبوا» بالتخفيف ، عاصم وحمزة والكسائي وأبو جعفر ، وقرأ الباقون «كذّبوا» بالتشديد. انظر القراءة وتوجيهها فى الإتحاف (2/ 15) والبحر المحيط (5/ 347).
(2) (كتاب التفسير ، باب سورة يوسف). [.....]
(3) أي : بحر.(2/636)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 637
قال المحشى الفاسى : وحاصل ما أشار إليه : أن قراءة التخفيف تشير إلى أخذهم عن الوقوف مع الوعد ، والسكون إليه ، غيبة فى الحق عن مقتضى وعده ، لا تكذيبا لوعده ، بل ذلك أحوال غالبة آخذة عن الصفة ، غيبة فى الموصوف. وهذا حال الصوفي كما يعرف ذلك أهله. وهو صحيح فى نفسه ولكنه بعيد عن مرمى الآية فإن صاحب الغيبة لا يوصف بظن خلاف الوعد ، وإن كان غائبا عنه. وأقرب منه ما ذكره الترمذي الحكيم : من أن ظن ذلك كان لظن فقد شرط فى الموعود أوجب عدم القطع لوقوع الوعد. واللّه أعلم.
وقد قال فى الحكم : «لا يشككنك فى الوعد عدم وقوع الموعود ، وإن تعين زمنه». يعنى أنه قد يتخلف لفقد شرط كما فى قضية الجرو الذي تخلف جبريل من أجله. أو لعدم تحقيق الوقت لأن تعيينه كان من قبل أنفسهم من غير وحي ، فلما تأخر ظنوا ذلك بأنفسهم. واللّه تعالى أعلم. ه.
والحاصل : أن الرسل - عليهم الصلاة والسلام - لما تأخر عنهم النصر هجس فى أنفسهم تخلف الوعد خوفا أن يكون متوقفا على شرط لم يعلموه ، أو جعلوا له وقتا فهموه من أمارات ، فلما تأخر عنه ظنوا أنه قد تخلف. وأما قضية الجرو الذي أشار إليها : فكان جبريل عليه السّلام وعد نبينا صلّى اللّه عليه وسلّم أن يأتيه فى وقت مخصوص ، فدخل جرو البيت ، فلم ينزل فى ذلك الوقت ، فلما نزل بعد ذلك ، قال : «إنما تخلّفنا عن الوقت لأنّ الملائكة لا تدخل بيتا فيه كلب» «1». كما فى الصحيح.
ثم قال تعالى :
[سورة يوسف (12) : آية 111]
لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111)
يقول الحق جل جلاله : لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ أي : فى قصص الأنبياء وأممهم ، أو فى قصة يوسف وإخوته ، عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ : لذوى العقول الصافية الخالصة من شوائب الإلف والعادة ، ومن الركون إلى الحس لأن الإخبار بهم على يد نبى أمي آية واضحة لمن تفكر بقلب خالص. ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى أي : ما كان القرآن حديثا مفترى ، وَلكِنْ كان تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ من الكتب الإلهية ، وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ يحتاج إليه فى الدارين إذ ما من أمر دينى إلا وله مستند من القرآن بوسط ، أو بغير وسط. وَهُدىً من الضلال ، وَرَحْمَةً ينال بها خير الدارين ، لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ : يصدقون به ، ويتدبرون فى معانيه.
___________
(1) أخرجه البخاري فى (كتاب اللباس/ باب : لا تدخل الملائكة بيتا فيه صورة).(2/637)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 638
الإشارة : تفكر الاعتبار يشد عروة الإيمان ، وفكرة الاستبصار تشد عروة الإحسان. قال فى الحكم : «الفكرة فكرتان : فكرة تصديق وإيمان ، وفكرة شهود وعيان. فالأولى : لأهل التفكر والاعتبار ، والثانية : لأهل الشهود والاستبصار». ومرجع الاعتبار إلى خمسة أمور :
الأول : التفكر فى سرعة انصرام الدنيا وانقراضها ، وذهاب أهلها. قرنا فقرنا ، وجيلا فجيلا. فيوجب ذلك الزهد فى الدنيا ، والإعراض عن زخارفها الغرارة ، والتأهب للدار الباقية.
الثاني : التفكر فى الدار الباقية ، ودوام نعيمها ، أو عذابها. وذلك مرتب على السّعى فى هذه الدار ، فيوجب ذلك انتهاز الفرصة فى الأعمال ، واغتنام الأوقات والساعات قبل الفوات.
الثالث : التفكر فى النعم التي أنعم الحق - تعالى - بها على الإنسان إما ظاهرة كالعافية فى البدن ، والرزق الحلال ، وما يتبع ذلك مما لا يحصى قال تعالى : وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها «1». وإما باطنة : كنعمة الإسلام والإيمان ، وصحيح العرفان ، والاستقامة فى الدين ، ولا سيما إن رزقه اللّه من يأخذ بيده من شيخ عارف. فهذه نعمة عظمى قلّ من يسقط عليها. فيوجب له ذلك الشكر الذي هو أعلى المقامات ، ومتكفّل بالزيادات ، قال تعالى :
لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ «2» .. ولا يعرف العبد ما عليه من النعم إلا بالتفكر فى أضدادها ، والنظر إلى أهل البلاء.
الرابع : التفكر فى عيوبه ومساوئه ، لعله يسعى فى تطهيرها ، أو يشتغل بها عن عيوب غيره.
الخامس : التفكر فيما أظهر اللّه تعالى من أنواع المكونات ، وضروب المصنوعات فيعرف بذلك جلالة الصانع ، وعظيم قدرته ، وإحاطة علمه ، وحكمته. فإن اتصل بشيخ عارف غيّبه عنها بشهود مكونها.
وبالله التوفيق. وهو الهادي إلى سواء الطريق.
___________
(1) من الآية 34 من سورة إبراهيم ..
(2) من الآية 7 من سورة إبراهيم.(2/638)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 639
فهرس المجلد الثاني
تفسير سورة المائدة/ 3 تفسير سورة الأنعام/ 95 تفسير سورة الأعراف/ 195 تفسير سورة الأنفال/ 303 تفسير سورة التوبة/ 355 تفسير سورة يونس/ 447 تفسير سورة هود/ 507 تفسير سورة يوسف/ 571(2/639)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 5
[المجلد الثالث ]
سورة الرّعد
مكية إلى قوله : وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ ، والباقي مدنى ، وقيل : مدنية كلها. وآيها :
خمس وأربعون. ومناسبتها لما قبلها : قوله : ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى ، مع قوله تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ فإنه كالدليل على كونه غير مفترى.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ المر ....
[سورة الرعد (13) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
المر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (1)
قيل : معناه : أنا أعلم ، اللّه أعلم وأرى. وقيل : مختصرة من لفظ المرسل ، على عادة رمز المحبين. أو إشارة إلى العوالم الأربعة : فالألف لوحدة الجبروت ، واللام لتدفق أنوار الملكوت ، والميم لحس عالم الملك ، والراء لسريان أمداد الرحموت.
قال تعالى :
تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ ...
قلت : تِلْكَ : مبتدأ ، وآياتُ : خبر ، والَّذِي أُنْزِلَ : مبتدأ ، والْحَقُّ : خبر ، والجملة الثانية كالحجة على الجملة الأولى.
يقول الحق جل جلاله : أيها المرسل المعظم ، والحبيب المفخم ، تِلْكَ الآيات التي تتلوها على الناس هى آياتُ الْكِتابِ المنزل من حضرة قدسنا. وَالكتاب أي : القرآن الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هو الْحَقُّ الذي لا ريب فيه ، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ لإخلالهم بالنظر والتأمل فيه.
الإشارة : لو صفت القلوب من الأكدار ، وملئت بالمعارف والأنوار لفهمت أسرار الكتاب ، وجواهر معانيه ، ولأدركت معرفة الحق من كلامه لأن الكلام صفة المتكلم ، ولكن أكثر الناس اشتغلوا بمتابعة الهوى ، فصرفوا عن فهم الكلام ، وفاتهم معرفة المتكلم ، ولذلك لم يكتف الحق تعالى بآيات الكتاب حتى ذكر دلائل توحيده وكمال قدرته ، فقال :
[سورة الرعد (13) : آية 2]
اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (2)(3/5)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 6
قلت : اللَّهُ : مبتدأ ، والَّذِي رَفَعَ : خبره ، ويجوز أن يكون الموصول صفة ، والخبر : يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ، وعَمَدٍ :
اسم جمع عمود ، وقياس جمعه : عمد ، كرسول ورسل ، وشهاب وشهب ، وليس جمعا خلافا لأبى عبيد. قاله ابن عطية. وقال البيضاوي : جمع عماد ، كإهاب وأهب. وجملة : تَرَوْنَها : إما حال ، أو استئنافية فالضمير للسماوات ، وإما صفة لعمد فالضمير لها ، أي : ليس لها عمد مرئية ، فيقتضى بالمفهوم أن لها عمدا لا ترى. وقيل : إن عمدها جبل قاف المحيط بالدنيا. والجمهور : أنه لا عمد لها البتة. فالمراد نفى العمد ، ونفى رؤيتها. قاله ابن جزى.
يقول الحق جل جلاله مستدلا على وجوده ، وكمال قدرته : اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ فوقكم كالسقف المرفوع بِغَيْرِ عَمَدٍ : أساطين ، بل بقدرة أزلية ، تَرَوْنَها مرفوعة فوقكم. أو بغير عمد مرئية ، بل بعمد خفية ، وهى : أسرار الذات العلية إذ لا فاعل سواه. ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ استواء استيلاء وإحاطة ، حتى صار العرش غيبا فى إحاطة قهريته وأسرار ذاته. وقد كانت العرب تجعل لملوكها سريرا يجلسون عليه لتدبير المملكة ، فخاطبنا الحق تعالى بقدر ما نفهم «1» ، ولذلك رتب عليه قوله : وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لأن هذا من تدبير ملكه ، أي : ذللهما لما أراد منهما ، كالحركة المستمرة على حد من السرعة لينتفع بهما عباده فى معاشهم ومعالم دينهم. كُلٌّ منهما يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى : لمدة معينة تتم فيها أدواره ، أو لغاية مضروبة ينقطع فيها سيرهما وهى يوم القيامة حين تكوّر الشمس والقمر. يُدَبِّرُ الْأَمْرَ أمر ملكه من الإيجاد والإعدام ، والإحياء والإماتة ، وغير ذلك ، يُفَصِّلُ الْآياتِ : ينزلها ، ويبين معانيها مفصلة ، أو يحدث الدلائل واحدا بعد واحد لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ : لكى تتفكروا فيها ، وتتحققوا كمال قدرته ، فتعلموا أنّ من قدر على خلق هذه الأشياء وتدبيرها قادر على الإعادة والجزاء.
الإشارة : اللّه الذي رفع سموات الأرواح ، وزينها بنجوم العلم وقمر التوحيد ، وأشرق عليها شموس العرفان وأسرار التفريد ، ثم استوى بأسرار ذاته وأنوار صفاته على العرش ، وهو قلب العارف لأنه سرير المعرفة ، ومحل بيت الرب ، وسخر شمس المعرفة وقمر التوحيد ، يجريان بالترقي إلى محل التمكين ، وهو الأجل المسمى لهما ، يدبر أمر السير والترقي ، ويفصّل دلائل الطريق الموصلة إلى عين التحقيق لعلكم بالوصال إلى ربكم توقنون ، حين يكون ذوقا وكشفا. واللّه تعالى أعلم.
ثم ذكر العالم السفلى ، فقال :
[سورة الرعد (13) : الآيات 3 الى 4]
وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَأَنْهاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3) وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4)
___________
(1) سئل الإمام مالك ، عن الاستواء على العرش ، فقال : (الاستواء معلوم ، والكيف مجهول ، والإيمان به واجب ..) ، وإذا كان علم حقيقة الصفات فرع عن علم حقيقة الذات المقدسة ، وإذا كنا لا نحيط بالله علما ، فإننا لن نحيط بصفات الله علما ، كذلك ، فنقول : آمنا به ، كلّ عند ربنا.(3/6)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 7
قلت : رَواسِيَ : جمع راسية ، من رسى الشيء : ثبت ، وجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ من خفض عطف على أَعْنابٍ ، ومن رفع عطف على جَنَّاتٌ. وصِنْوانٌ : نعت تابع ، وغَيْرُ :
عطف عليه.
يقول الحق جل جلاله : وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ بسطها طولا وعرضا لتثبت عليها الأقدام وتتقلب عليها الحيوان والأنام ، وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ : جبالا ثوابت لتستقر وتثبت ، فلا تميد كالسفينة ، وَجعل فيها أَنْهاراً مطردة دائمة الجري ، من غير نفاد ولا فتور. ضمها إلى الجبال لأنها أسباب لتولدها فى العادة.
وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ أي : وجعل فيها صنفين اثنين من كل الثمرات فكل ثمرة فيها صنفان أحمر وأسود ، أو حلو وحامض ، قال ابن جزى : فإن قيل : تقتضى الآية أنه تعالى خلق من كل ثمرة صنفين ، وقد خلق من كثير من الثمرات أصنافا كثيرة؟ فالجواب : أن ذلك زيادة فى الاعتبار ، وأعظم فى الدلالة على القدرة بذكر الاثنين لأن دلالة غيرهما من باب أولى. ه.
يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ ، أي : يجعل الليل غشاء على النهار ولباسا له ، فيصير الجو مظلما بعد ما كان مضيئا.
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ دلائل وجوده وباهر قدرته لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ فيها فإن وجودها وتخصيصها فى هذا الشكل العجيب ، دليل على وجود صانع حكيم ، دبر أمرها ، وهيأ أسبابها.
وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ قريب بعضها من بعض ، مع اختلاف أوصافها ، بعضها طيبة وبعضها سبخة ، وبعضها رخوة وبعضها صلبة ، وبعضها يصلح للزرع دون الشجر ، وبعضها بالعكس ، وبعضها معادن مختلفة. ولو لا تخصيص قادر مخصص لتلك الأفعال ، على وجه دون وجه ، لم يكن الحكم كذلك لاشتراك تلك القطع فى الطبيعة الأرضية ، وما يلزمها ويعرض لها بتوسط ما يعرض من الأسباب السماوية ، من حيث إنها متضامة متشاركة فى السبب والأوضاع. قاله البيضاوي. وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ أي : وفى الأرض أيضا بساتين فيها أنواع من الأعناب والزروع ، والنخيل ، من صفة تلك النخيل : صِنْوانٌ أي : نخلات كثيرة متفرعة من أصل واحد ، وَغَيْرُ صِنْوانٍ أي : غير متفرعة ، بل كل نخلة منفردة بأصل واحد ، يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ. وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ أي : فى الثمر المأكول قدرا وشكلا ، وطعما ، ورائحة ولونا ، (3/7)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 8
مع اتفاق الماء الذي تسقى به. وذلك مما يدل أيضا على الصانع القادر الحكيم ، فإن إيجادها ، مع اختلاف الأصول والأسباب ، لا يكون إلا بتخصيص قادر مختار. وفيه رد على الطبائعيين. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ :
يستعملون عقولهم بالتفكر والاعتبار ، فيدركون عظمة الواحد القهار.
الإشارة : ذكر أولا سماء الأرواح ، وما يناسبها من أنوار التوحيد وأسرار التفريد ، وذكر هنا أرض النفوس ، وما يلائمها من جبال العقول وأنهار العلوم ، فقال : وهو الذي مد أرض النفوس ، وجعل فيها جبالا من العقول الشامخة ، حتى أدركت الصانع ، وتحققت بوجوده ووحدانيته ، بالدلائل الواضحة ، والبراهين القطعية. وأنبع منها أنهارا من العلوم الرسمية ، والرقائق الوعظية. وجعل فيها من كل صنف من ثمار ما جنت بمجاهدتها صنفين اثنين : قبضا وبسطا ، منعا ووجدا ، ذلا وعزا ، فقرا وغنى. يغشيانها غشاء الليل للنهار فإذا كان ليل القبض غشيه نهار البسط ، فيزيله ، وإذا كان المنع ، غشيه الوجد ، وإذا كان الذل غشيه العز ، وإذا كان الفقر غشيه الغنى ، وهكذا. ودوام حال من قضايا المحال.
وفى أرض النفوس أيضا قطع متجاورة ، مع اختلاف ألوانها وطبائعها ، وعلومها ومعارفها ، ومواجدها وألسنتها.
وفيها أيضا جنات المعارف - إن اتصلت بطبيب عارف - من أعناب الحقائق الناشئة عن خمرة الأزل ، وزرع الشرائع الناشئة عن الكسب والتحصيل ، ونخيل الأذواق والوجدان ، صنوان وغير صنوان - يعنى من تعتريه الأحوال ، ومن لا تعتريه لكمال رسوخه ، تسقى بخمرة واحدة ، وهى الخمرة الأزلية ، على أيدى الوسائط ، أو بلا وسائط ، وهو نادر. ونفضل بعضها على بعض فى الأذواق والوجدان فترى العارفين بعضهم قطب فى الأحوال ، وبعضهم قطب فى المقامات كان الجنيد رضى اللّه عنه قطبا فى العلوم ، وكذا الشاذلى والجيلاني والغزالي ، وأمثالهم. وكان الشيخ أبو زيد قطبا فى الأحوال ، وكان سهل التستري قطبا فى المقامات. والأولياء كلهم لا يخرجون عن هذا التقسيم ، كل واحد وما يغلب عليه ، مع مشاركته لغيره فى الثلاث «1». واللّه تعالى أعلم.
ولما ذكر دلائل قدرته ذكر وعيد من أعرض عنها حتى أنكر البعث ، فقال :
[سورة الرعد (13) : آية 5]
وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (5)
___________
(1) هذه الإشارة ينبغى أن تتضمن توجيها : لدراسة الكون دراسة علمية والاستفادة فى ذلك فى إعمار الأرض ، وإنقاذ المسلمين من التخلف العلمي والحضارى ، ومن التبعية لحضارة الغرب المادية فانظر إلى قوله تعالى : (يتفكرون) ، (يعقلون) ومتعلقهما ، أعنى : الأرض ، والرواسي ، والأنهار ، والنبات ، والري .. وغير ذلك ، كيف غفلنا نحن المسلمين عن التفكر ، والتعقل فى هذه الموضوعات؟ وما العلم الطبيعي إلا مبنى على هذا الأصل ، فلله الأمر من قبل ومن بعد.(3/8)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 9
قلت : فَعَجَبٌ : خبر ، وقَوْلُهُمْ : مبتدأ ، وأَ إِذا كُنَّا ... إلخ - محكى به. واختلف القراء هنا ، وفى مواضع من القرآن ، فمنهم من قرأ بالاستفهام فى الأول دون الثاني ، ومنهم بالعكس ، ومنهم من قرأ بالاستفهام فيهما. فمن قرأ بالاستفهام فى الأول دون الثاني فإنما القصد هو الثاني لأنهم إنما أنكروا كون الإنسان يصير ترابا ثم يبعث ، وأما كونهم يصيرون ترابا فلا إنكار عندهم فيه. ومن قرأ بالاستفهام فى الثاني فعلى الأصل ، ومن قرأ بالاستفهام فيهما فزيادة تأكيد. والعامل فى إِذا محذوف ، دل عليه : لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أي : أنجدد إذا .... إلخ.
يقول الحق جل جلاله : وَإِنْ تَعْجَبْ يا محمد من إنكارهم البعث فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أي : فقولهم حقيق بأن يتعجب منه ، فإنّ من قدر على إنشاء ما قصّ عليك من عجائب السماوات والأرض ، وأنواع الثمار على اختلاف أصنافها وألوانها ، كانت الإعادة أيسر شىء عليه ، فالآيات المعدودة كما هى دالة على وجود المبدأ ، فهى دالة على إمكان الإعادة ، لأنها دالة على كمال قدرته تعالى. ثم فسر قولهم فى الإنكار : قالوا : أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أي : أنجدّد إذا متنا ، وكنا ترابا ، أُولئِكَ القائلون ذلك ، أو المنكرون البعث ، الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ لأنهم كفروا صفة القدرة ، وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ أي : مقيدون بالضلال ، قد أحاط بهم الشقاء ، لا يرجى خلاصهم ، أو : يغلّون يوم القيامة. وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ لا ينفكون عنها. وتوسط ضمير الفصل لتخصيص الخلود بالكفار ، ففيه رد على المعتزلة. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : إنكار بعث الأرواح من غفلاتها وجهلها ، كإنكار بعث الأشباح بعد موتها ، يتعجب من الأول كما يتعجب من الثاني فالقدرة صالحة ، فمن قدر على بعث الأشباح بعد موتها الحسى قدر على بعث الأرواح بعد موتها المعنوي. «من استغرب أن ينقذه اللّه من شهوته ، وأن يخرجه من وجود غفلته ، فقد استعجز قدرة الإلهية وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً». وقد أحيا اللّه أرواحا كثيرة كانت ميتة بالجهل والمعاصي ، فصارت عارفة باللّه ، من خواص أولياء اللّه من كانوا لصوصا فصاروا خصوصا ، ومنهم من كانوا كفارا ، فصاروا أبرارا. وباللّه التوفيق.
ثم استمر بهم الإنكار حتى استعجلوا ممن أوعدهم بذلك العذاب ، فقال تعالى :
[سورة الرعد (13) : آية 6]
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ (6)
قلت : «المثلات» : جمع مثلة ، كسمرة ، وهى العقوبة العظيمة ، التي تجعل الإنسان مثلا لمن بعده. وفيها لغات وقراءات شاذة. وعَلى ظُلْمِهِمْ : حال ، والعامل فيه : المغفرة.
يقول الحق جل جلاله : وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ أي : بالنقمة قبل العافية ، طلبوا نزول العذاب الذي أوعدهم به استهزاء ، وَقَدْ خَلَتْ : مضت مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ : عقوبات أمثالهم من(3/9)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 10
المكذبين ، أو المصيبات الدواهي ، حتى صاروا مثلا لمن بعدهم. فمالهم لم يعتبروا ، ولم يخافوا حلول مثلها عليهم؟
وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ أي : مع ظلمهم أنفسهم بالكفر والمعاصي ، فسترهم وأمهلهم فى الدنيا. فالمغفرة هنا لغوية ، وقيل : يغفر لهم بالتوبة. وقيل : بلا قيد التوبة ، بل بمجرد الحلم. قال البيضاوي : وفيه جواز العفو قبل التوبة ، فإن التائب ليس على ظلمه ، ومن منع ذلك خص الظلم بالصغائر المكفرة باجتناب الكبائر. ه. وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ لمن يريد تعذيبه ، أو للكفار. وعن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال : «لو لا عفو اللّه وتجاوزه ما هنأ أحد العيش ، ولو لا وعيده وعقابه لاتّكل كلّ أحد» «1». قاله البيضاوي.
الإشارة : ترى بعض المستهزئين بالأولياء يؤذيهم بلسانه ، أو بغيره ، ويقول : إن كان بيده ما يفعل يفعله بي ، واللّه تعالى يقول : «من آذى لى وليّا فقد آذنته بالحرب». ولكن الحق تعالى يمهل ولا يهمل وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ.
ثم طلبوا المعجزة ، كما قال تعالى :
[سورة الرعد (13) : الآيات 7 الى 10]
وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ (7) اللَّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ (8) عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ (9) سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ (10)
.
قلت : وَسارِبٌ : عطف على جملة مَنْ هُوَ أي : ومن هو سارب ، ليكمل التقسيم أربعة : من أسر ، ومن جهر به ، ومن استخفى ، ومن سرب أي : برز. انظر ابن جزى. والْمُتَعالِ : منقوص ، يجوز فى الوقف عليه حذف الياء وإثباتها ، وكذلك : هاد ، وواق ، وشبهه ، غير أن الراجح فى المعرّف بأل الإثبات ، وفى المنوّن : الحذف. قال ابن مالك :
وحذف يا المنقوص ذى التّنوين ما لم ينصب) أولى من ثبوت فاعلما
وغير ذى التّنوين بالعكس ، وفى نحو مر : لزوم ردّ اليا اقتفى
وأثبتها ابن كثير فى الجميع ، ووافقه يعقوب فى المعرّف بأل ، وحذفها غيره مطلقا.
___________
(1) أخرجه ابن أبى حاتم فى تفسيره (12145) عن سعيد بن المسيب ، مرسلا ، وزاد فى الفتح السماوي (2/ 738) عزوه للثعلبى.(3/10)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 11
يقول الحق جل جلاله : وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا من أهل مكة : لَوْ لا : هلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ أي : معجزة واضحة مِنْ رَبِّهِ كما أوتى موسى وعيسى. ولم يعتدوا بالآيات المنزلة عليه كانشقاق القمر وانقياد الشجر ، وتسليم الحجر ، وأعظمها : القرآن العظيم. وذلك عناد منهم. قال تعالى : إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ مرسل إليهم لتنذرهم كغيرك من الرسل ، وما عليك إلا الإتيان بما تصح به نبوتك من جنس المعجزات ، لا مما يقترح عليك.
وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ رسول يهديهم إلى الحق والصواب ، مخصوص بمعجزات من جنس ما هو الغالب عليهم ففى زمن موسى عليه السّلام كان الغالب عليهم السحر ، فأوتى بالعصا تنقلب حية ليبطل سحرهم ، وفى زمن عيسى عليه السّلام كان الغالب عليهم الطب ، فأوتى إبراء الأكمه والأبرص ، وإحياء الموتى الذي يعجزون عن مثله ، وفى زمن نبينا محمد صلى اللّه عليه وسلم كان الغالب عليهم البلاغة والفصاحة ، بها كانوا يتباهون ويتناضلون ، فأوتى القرآن العظيم ، أعجز ببلاغته البلغاء والفصحاء. أو : ولكل قوم هاد ، يقدر على هدايتهم ، وهو اللّه تعالى ، أي : إنما عليك الإنذار ، واللّه هو الهادي لمن يشاء ، أو : ولكل قوم واعظ ومذكر من نبىّ أو ولىّ. روى أنها لما نزلت قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : «أنا المنذر ، وأنت يا علىّ الهادي» «1».
ثم أردف ذلك ما يدل على كمال علمه وقدرته ، وشمول قضائه وقدره تنبيها على أنه تعالى قادر على إنزال ما اقترحوه ، وإنما لم ينزله لعلمه بأن اقتراحهم كان عنادا لا استرشادا. أو أن وقت الإنزال لم يحضر ، فقال :
اللَّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى هل هو ذكر أو أنثى ، أو تام أو ناقص ، أو حسن أو قبيح «2». وهو من الخمس التي اختص بها. وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ أي : ما تنقص فى الجثة بمرض الجنين أو إسقاطه ، وما تزداد بنمو الجنين إلى أمده أو أكثر. قال البيضاوي : مدة الحمل عندنا أربع سنين ، وخمس عند مالك ، وسنتان عند أبى حنيفة. روى أن الضحاك ولد لسنتين ، وهرم بن حيان لأربع سنين. وأعلى عدده لا حد له. «3» - قلت : يعنى مع تحققه - وقيل : المراد نقصان دم الحيض وزيادته. ه. وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ : بقدر محدود ، ووقت مخصوص ، لا يجاوزه ولا ينقص عنه ، فالحق - تعالى - قد خص كل حادث بوقت مخصوص معين ، وهيأ له أسبابا تسوقه إليه على ما تقتضيه حكمته.
___________
(1) أخرجه الطبري فى تفسيره (13/ 108) عن ابن عباس. وانظر تفسير ابن كثير (2/ 502) والآلوسى (13/ 8).
(2) هذا النوع الذي ذكره الشيخ المفسر ، من المعرفة ، ليس هو النوع الذي اختص الله نفسه بعلمه - وهو يعلمه أيضا - فإن هذا العلم ممكن للإنسان ، بل قد علمه فعلا عن طريق الأشعة وغيرها. والأساس فى فهم الآية قوله تعالى فى الآية «ما» وهى التي تدل على الماهية.
فقوله تعالى : اللَّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى أي : يعلم ماهيته وحقيقته ، هل يكون شخصا مؤمنا أو كافرا ، سعيدا أو شقيا فى الدنيا والآخرة ، يعلم كنهه وهويته ومعتقده ، واتجاهاته وميوله ، وفكره وعمله ، ونيته ومصيره ، علما كليا وتفصيليا ، وهو ما يستحيل على العقل البشرى أن يعلمه ، فالله هو المختص وحده بعلم ذلك كله ، فضلا على علمه : هل هو ذكر أو أنثى .. إلخ ما يعلمه الإنسان بأدوات العلم التجريبى.
(3) ما قاله الإمام البيضاوي عن مدة الحمل يرجع فيه إلى أهل الطب المختصين ، فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ ، وقد قال أهل الاختصاص : إن الجنين إذا ظل فى الرحم أكثر من مدته ، فإن الرحم قد ينفجر. إلخ ما قالوا.(3/11)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 12
عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أي : الغائب عن الحس ، والظاهر فيه الْكَبِيرُ : العظيم الشأن ، الذي يصغر كل شىء دون عظمته وكبريائه ، الْمُتَعالِ : المستعلى عن سمة الحوادث ، أو : المستعلى بقدرته على كل شىء.
سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ فى نفسه وَمَنْ جَهَرَ بِهِ لغيره ، وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ : طالب للخفاء مستترا بظلمة الليل ، وَمن هو سارِبٌ بِالنَّهارِ أي : بارز فيه. فقد أحاط اللّه بذلك ، علما وسمعا وبصرا. فالآية مقررة لما قبلها من كمال علمه وشموله.
[سورة الرعد (13) : الآيات 11 الى 13]
لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ (11) هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ (12) وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ (13)
لَهُ مُعَقِّباتٌ أي : لمن أسر أو جهر ، أو استخفى أو برز ، مُعَقِّباتٌ : ملائكة تعتقب فى حفظه ، أي :
يعقب بعضها بعضا ، اثنان بالليل واثنان بالنهار ، أو : لأنهم يعقبون أقواله وأفعاله فيكتبونها. أو : جماعة من الملائكة وكلّهم اللّه بحفظ الآدمي ، يعقب بعضهم بعضا ، وهو مناسب لقوله : يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ أي :
يحرسونه من الآفات التي تنزل من أمر اللّه وإرادته. أو : يحفظونه من عقوبة اللّه وغضبه. إذا أذنب ذنبا أمهلوه واستغفروا له. أو : يراقبون أحواله من أجل أمر اللّه ، إذ أمرهم اللّه بذلك ، أو يكون صفة للمعقبات ، أي : له معقبات من أجل أمر اللّه ، حيث أمرهم بحفظه. وقيل : الضمير فى لَهُ : يعود إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم ، المتقدم فى قوله : إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ ، فتكون نزلت فيمن أراد غدر النبي صلى اللّه عليه وسلم سرا ، على ما يأتى فى الآية الآتية. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : قد تقدم مرارا حال من طلب الكرامة من الأولياء ، وأنه جاهل بهم ، ولا يعرفهم مادام يلتمس الكرامة منهم. وأىّ كرامة أعظم من الاستقامة ، والمعرفة باللّه ، على نعت الشهود والعيان؟!. وقوله تعالى : وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ أي : ولكل عصر عارف باللّه ، يهدى الناس إلى حضرة اللّه ، وهم ورثة الهادي الأعظم والنبي الأفخم ، نبينا - عليه الصلاة والسّلام - أولهم سيدنا على - كرم اللّه وجهه للحديث المتقدم ، لأنه أول من أظهر علم التصوف وأفشاه ، ثم أخذه عنه الحسن البصريّ وهذبه ، ثم حبيب العجمي ، ثم داود الطائي ، ثم معروف الكرخي ، ثم سرى السقطي ، ثم إمام الطريقة : أبو القاسم الجنيد ، ثم انتشر فى الأرض ، فلكل عصر رجال يحملون لواء الحقيقة ، ويهدون الناس إلى لباب الشريعة. وهم العارفون باللّه. قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : «يبعث اللّه على رأس كلّ مائة سنة من يجدّد لهذه الأمّة أمر دينها» «1» أي : يجدد الطريقة بعد دروسها ، ويحيى الحقيقة بعد خمود أنوارها ، ويظهر الشريعة بعد خفاء أعلامها. وقد يكون واحدا ومتعددا. وقد بعث اللّه فى رأس هذه المائة الثالثة عشر ، أربعة ، أحيا اللّه بهم الحقيقة ، وأظهر بهم أنوار الشريعة ، يمشون فى الأرض بالنصيحة ، ويهدون الناس إلى رب العالمين ، واللّه ولى المتقين ، وشهرتهم تغنى عن تعيينهم ، وتقدم اثنان فى العقود.
___________
(1) أخرجه ابن داود فى (الملاحم ، باب ما يذكر فى قرن المائة) من حديث أبى هريرة ، وصححه السيوطي فى الجامع الصغير (ح 1845).(3/12)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 13
وقوله تعالى : اللَّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى : ما تحمل كل نفس من العلوم ، وما تحمل كل روح من الأسرار.
وما تغيض الأرحام ، أي : القلوب ، فقد تنقص أنوارها بمباشرة الأغيار ، وقد تزداد بالتفرغ أو صحبة العارفين الكبار.
وكل شىء عنده بمقدار ، فالفتح له وقت معلوم ، وحد محدود ، والمراتب والمقامات مقسومة محدودة فى الأزل ، كل أحد يأخذ ما قسم له. وقوله تعالى : سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ ... إلخ ، فيه تحقيق المراقبة وتشديد المحاسبة على الخواطر والقلوب. واللّه تعالى أعلم.
وإذا كان العبد على هداية من ربه أو نعمة ، فلا تزول عنه إلا من جهته ، كما قال تعالى :
إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ...
قلت : وَإِذا : ظرف ، والعامل فيه : مادل عليه الجواب ، أي : لا يرد ما قضى إذا أراد إنفاذه. وخَوْفاً وَطَمَعاً :
منصوبان على العلة بتقدير المضاف ، أي : إرادة الخوف والطمع ليتحد الفاعل. أو بتأويل : يجعلكم ترون البرق خوفا وطمعا. والثِّقالَ : نعت للسحاب ، وجمعه لأن السحاب جنس بمعنى الجمع. وجملة : وَهُمْ يُجادِلُونَ : إما استئنافية ، أو حال من الموصول. والْمِحالِ : المكر والخديعة. من محل بفلان إذا كاده وعرّضه للهلاك ، ومنه تمحّل : إذا تكلّف استعمال الحيلة ، فالميم أصلية ، ووزنه : فعال ، وقيل : مشتق من الحيلة ، فالميم زائدة ، ووزنه : مفعل ، وأصله : محيل.
يقول الحق جل جلاله : إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ من النعم والعافية إلى النقمة والبلية حَتَّى يُغَيِّرُوا هم ما بِأَنْفُسِهِمْ من الطاعة وترك المعصية ، إلى ارتكاب الذنوب. فلا يسلب النعم عن قوم إلا بارتكاب ذنب ، ولو من البعض إذا سكت الكل. وَإِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ أي : فلا رادّ له ولا معقب لحكمه ، وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ أي : ليس لهم من يلى أمرهم ، ويدفع عنهم السوء الذي قضاه اللّه عليهم ، وأراد نزوله بهم لأن وقوع خلاف مراد اللّه تعالى محال.
هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً أي : خوفا مما ينشأ عن البرق من الصواعق والأمور الهائلة ، وطمعا فى نزول الغيث الذي يكون معه غالبا ، وَيُنْشِئُ أي : يخلق السَّحابَ الغيم المسحب ، الثِّقالَ : (3/13)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 14
المثقل بالمطر الحاملة له ، وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ أي : متلبسا بحمده ، يقول : سبحان اللّه وبحمده. أو : يدل الرعد بنفسه على وحدانيته تعالى وكمال قدرته ، ملتبسا بالدلالة على كمال فضله ، ونزول رحمته. وعن ابن عباس رضى اللّه عنه : سئل النبي صلى اللّه عليه وسلم عن الرعد فقال : «ملك موكّل بالسّحاب ، له مخاريق من نار يسوق السّحاب» «1».
وَتسبح أيضا الْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ أي : من خوفه وإجلاله ، وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ نار تنزل من السماء وقت ضرب الرعد ، فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ فيهلكه ، وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللَّهِ أي : الكفار ، حيث يكذبون رسوله فيما يصفه به من كمال العلم والقدرة ، والتفرد بالألوهية ، وبعث الناس وحشرهم للمجازاة ، وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ أي : شديد المكر بأعدائه ، الذين أرادوا أن يمكروا بنبيه - عليه الصلاة والسّلام - .
روى أن عامر بن الطّفيل وأريد بن ربيعة وفدا على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قاصدين لقتله ، فأخذ عامر بالمجادلة مع سيدنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ليشغله ، ودار أربد من خلفه ليضربه بالسيف ، فتنبه له الرسول - عليه الصلاة والسّلام - وقال :
«اللّهمّ اكفنيهما بما شئت» ، فأرسل اللّه على أربد صاعقة فقتلته ، ورمى عامر بغدة ، فمات فى بيت امرأة سلوليّة ، فكان يقول : غدّة كغدّة البعير ، وموت فى بيت امرأة س لوليّة! فنزلت الآية من أولها «2» ، وهو قوله : لَهُ مُعَقِّباتٌ ...
إلخ ، على قول.
الإشارة : من جريان حكمته تعالى فى خلقه أنه لا يسلب النعم عنهم إلا بسوء أدب منهم ، كلّ على قدر مقامه ، فالنعم الظاهرة يسلبها بترك الطاعة الظاهرة ، أو بالمخالفة الظاهرة ، والنعم الباطنة يسلبها بترك المراقبة الباطنة أو المشاهدة الباطنة. فلكل مقام حقوق وآداب فمن أخلّ بحقوق مقام نقص له منه ، إلا أن يتوب. وقد يسىء الأدب فتؤخر العقوبة عنه ، فيظن أنه لم يسلب. ولو لم يكن إلا ترك المزيد. وقد يبعد ، وهو لا يشعر ، ولو لم يكن إلا وتركه وما يريد. كما فى الحكم. : «إن اللّه لا يغير ما فى القلوب من أنوار الشهود والعيان ، حتى يغيروا ما بأنفسهم من حسن الأدب بسوء الأدب». وهذا ما لم يتحقق له مقام المحبوبية والتمكن مع اللّه فى المعرفة. وإلا فالرعاية والعناية محفوفة بقلبه ، فقد يبلغ الولي إلى مقام يقال له : افعل ما شئت فقد غفرت لك ، كما وقع لأهل بدر ، وراجع ما تقدم عند قوله : أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ «3» وقد يغير اللّه قلب عبده اختبارا له ، فيسلبه حلاوة المعاملة أو المعرفة ، فإن هو اضطرب وتضرع ردّ له حاله ، وإن لم يضطرب ولم يفزع إلى اللّه لم يرد له شيئا. وإليه الإشارة بقوله : وَإِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ ... الآية.
___________
(1) أخرجه فى سياق طويل ، أحمد فى المسند (2/ 274) والترمذي في (تفسير سورة الرعد) ، وقال : حسن غريب.
(2) أخرجه ابن جرير فى التفسير (13/ 126) عن ابن عباس رضى اللّه عنه فى سياق أطول من هذا. وهو ضعيف لوجود السدى والكلبي فى السند.
(3) الآية 82 من سورة الأنعام. [.....](3/14)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 15
هو الذي يريكم برق لمعان أنوار المشاهدة ، عند الاستشراف على الحضرة القدسية ، خوفا من الرجوع لعدم إطاقة ذلك النور ، وطمعا فى الوصول إلى التمكين ، فلا يزال تترادف عليه البروق حتى يستمر ذلك كبرق متصل ، وهى أنوار المواجهة. وينشئ سحاب الواردات ثقالا بالعلوم والأسرار ، ويرسل الصواعق تصعق وجود الحس عن أسرار المعاني ، فيصيب بها من يشاء ممن سبقت له العناية. وأهل الإنكار والتكذيب بطريق الخصوص يجادلون فى اللّه بتكذيب أوليائه وإنكار هذه الأنوار ، وهو شديد المحال ، فيمكر بهم ويتركهم فى مقام البعد ، وهم لا يشعرون.
ومن جملة التغيير الذي يسلب النعم ويوجب النقم : الركون إلى غير اللّه بالدعاء وغيره ، كما قال تعالى :
[سورة الرعد (13) : الآيات 14 الى 15]
لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلاَّ كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وَما هُوَ بِبالِغِهِ وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (14) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (15)
يقول الحق جل جلاله : لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ لأنه الذي يحق أن يدعى فيجيب ، دون غيره فإنما له الدعاء الباطل لأنه يدعى فلا يسمع ولا يجيب. أو : له دعوة الحق ، وهى كلمة التوحيد «لا إله إلا اللّه» ، فمن دعا إليها فقد دعا إلى الحق. والأول أرجح لمناسبة قوله : وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ ، أي : والأصنام الذين يدعونهم من دونه لا يستجيبون لهم بشىء مما طلبوا ، أو : والمشركون الذين يدعون أصناما من دون اللّه لا يستجيبون لهم بشىء ، فحذف المفعول للدلالة عليه ، فلا يستجيبون لهم إِلَّا كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ إلا استجابة كاستجابة من بسط كفيه إلى الماء يشير إليه ، لِيَبْلُغَ فاهُ أي : يطلب منه أن يصعد إليه ويبلغ فاه وَما هُوَ بِبالِغِهِ أي : ليس الماء ببالغ فاه لأنه جماد لا يشعر بدعائه ، ولا يقدر على إجابته من حيث هو ، شبّه إجابة الأصنام لمن عبدهم بإجابة الماء لمن بسط إليه كفه ، وأشار إليه بالإقبال إلى فيه ، ولا يبلغ فاه أبدا لأنه جماد لا يسمع ولا يعقل ، وكذلك الأصنام لا تسمع ولا تجيب من بسط إليها يده ليطلب منها لأنها خشب وأحجار. وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ للأصنام إِلَّا فِي ضَلالٍ وخسران وضياع.
ثم ذكر الحقيق بالعبادة والطلب ، فقال : وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً يحتمل أن يكون السجود حقيقة ، فالملائكة والمؤمنون يسجدون طوعا فى الشدة والرخاء ، والكفار يسجدون كرها فى الشدة والضرورة. أو يكون مجازا وهو : انقيادهم لما أراد منهم ، شاءوا أو كرهوا. وَتسجد أيضا ظِلالُهُمْ بانقيادها للّه تعالى فى طولها وقصرها ، وميلها من جانب إلى جانب ، بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ ، أي : طرفى النهار.
وخصّ هذان الوقتان - وإن كان سجودهما دائما - لأن الضلال إنما تعظم وتكبر فيهما. وقال الواحدي : كل شخص مؤمن أو كافر ظله يسجد للّه تعالى ، ونحن لا نقف على كيفية ذلك. ه.(3/15)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 16
وقال القشيري : ذلك سجود شهادة ، لا سجود عبادة ، فإن امتنع من إقامة الشهادة قوم قالة فقد شهد كل جزء منهم من حيث البرهان والدلالة ، فكل مخلوق من عين وأثر ، حجر ومدر أو غير ذلك فمن حيث البرهان للّه ساجد ، ومن حيث البيان للواحد شاهد. ه.
وقال أبو حيان : عن الفراء : الظل فى الأصل مصدر ، ثم أطلق على الخيال الذي يظهر للجرم طوله بسبب انخفاض الشمس ، وقصره بسبب ارتفاعها ، فهو منقاد للّه تعالى فى طوله وقصره وميله من جانب. ثم قال :
والحاصل أنها جارية على مقتضى إرادته تعالى ومشيئته ، من الامتداد والتقلص ، والفيء والزوال. ه.
وقيل : لا يعلم تسبيح الجماد والنبات والحيوان البهيمى وسجودها إلا من كاشفه اللّه تعالى بحقيقة ذلك من نبى أو ملك أو صدّيق. وأما حمدها للّه تعالى وتسبيحها بلسان الحال فيعلمه العلماء. قاله المحشى الفاسى.
الإشارة : كل من تعلق فى نوائبه بغير اللّه ، أو ركن فى حوائجه إلى غير مولاه ، فهو كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه ، وليس بواصل إليه ، ولا ببالغ قصده ومناه ، بل دعاؤه فى تلف وخسران ، وجزاؤه الخيبة والحرمان.
فالواجب على العبد أن يقصر حوائجه على مولاه ، وينقاد إليه بكليته فى حال الطوع والإكراه. إما أن ينقاد إليه بالإحسان ، أو بسلاسل الامتحان. «عجب ربّك من قوم يساقون إلى الجنّة بالسّلاسل» «1».
ثم ذكر الحقيق بالدعوة ، والعبادة ، فقال :
[سورة الرعد (13) : آية 16]
قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (16)
يقول الحق جل جلاله : قُلْ يا محمد للمشركين : مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي : خالقهما ، ومدبر أمرهما ، قُلْ لهم : هو اللَّهُ لا خالق سواه ، ولا مدبر غيره ، أجاب عنهم بذلك ، إذ لا جواب لهم سواه لأنهم يقرون به ، ولكنهم يشركون به. فأبطل ذلك بقوله : قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ أصناما جامدة تتولونها بالمحبة والنصرة والدفع ، وهم جوامد لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرًّا أي : لا يقدرون أن يجلبوا لأنفسهم نفعا ، ولا يدفعون عنهم ضرا ، فكيف يقدرون أن ينفعوا غيرهم ممن عبدهم ، أو يدفعون عنه ضرا؟!. وهو دليل على ضلالهم وفساد رأيهم ، فى اتخاذهم الأصنام أولياء ، رجاء أن يشفعوا لهم.
___________
(1) هذا لفظ حديث صحيح أخرجه البخاري فى (كتاب الجهاب ، باب الأسارى فى السلاسل) عن أبى هريرة رضى اللّه عنه.(3/16)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 17
قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أي : الكافر الجاهل ، الذي عميت بصيرته بالجهل والشرك ، والمؤمن الموحد الذي انفتحت بصيرته بالإيمان والعلم. أو المعبود الغافل عن عبادة من عبده ، والعالم بأسرار عباده. أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ الكفر والإيمان ، أو الجهل والعلم. أَمْ : بل جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ من صفتهم ، خَلَقُوا كَخَلْقِهِ ، فَتَشابَهَ التبس الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ فلم يدروا ما خلق اللّه مما خلق أصنامهم ، وهذا كله داخل فى الإنكار. والمعنى : هل خلق شركاؤهم خلقا كخلق اللّه ، فالتبس الخلق عليهم ، فلم يميزوا خلق اللّه من خلق أصنامهم ، حتى ظنوا أنها تستحق أن تعبد مع اللّه ، أو يطلب منها حوائج دون اللّه؟!.
ثم أبطل ذلك بقوله : قُلِ اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ، قال البيضاوي : والمعنى أنهم ما اتخذوا له شركاء خالقين مثله حتى يتشابه الخلق عليهم ، فيقولوا : هؤلاء خلقوا كما خلق اللّه ، واستحقوا العبادة كما استحقها ، ولكنهم اتخذوا شركاء عاجزين لا يقدرون على ما يقدر عليه الخلق ، فضلا عما يقدر عليه الخالق. ه. قُلِ اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا خالق غيره فيشاركه فى العبادة. جعل الخلق موجب العبادة ، ولازم استحقاقها ، ثم نفاه عما سواه ليتحقق انفراده بالربوبية والقهرية كما أفاده قوله : وَهُوَ الْواحِدُ فى الألوهية ، الْقَهَّارُ بتصريف أحكام الربوبية. ه.
الإشارة : إذا علم العبد أن ربه قائم بأمر خلقه ، مدبر لشأن ملكه ، من عرشه إلى فرشه ، جعل حوائجه كلها وقفا عليه ، وانحاش بكليته إليه ، ورفع همته عن خلقه ، إذ ليس بيدهم ضر ولا نفع ، ولا جلب ولا دفع ، بل هم عاجزون عن إصلاح أنفسهم ، فكيف يقدرون أن ينفعوا غيرهم؟! وفى الحكم العطائية : «لا ترفعن إلى غيره حاجة هو موردها عليك ، فكيف يرفع إلى غيره ما كان هو له واضعا ، من لا يستطيع أن يرفع حاجة عن نفسه : فكيف يستطيع أن يكون لها من غيره رافعا». وقال بعض العارفين من المكاشفين - رضى اللّه عنهم - : قيل لى فى نوم كاليقظة ، أو يقظة كالنوم : لا تبدينّ فاقة فأضاعفها عليك مكافأة لسوء أدبك ، وخروجك عن حد عبوديتك.
إنما ابتليتك بالفاقة لتفزع بها إلىّ ، وتتضرع بها لدىّ ، وتتوكل فيها علىّ. سبكتك بالفاقة لتصير ذهبا خالصا ، فلا تزيفن بعد السبك ، وسمتك بالفاقة وحكمت لنفسى بالغنى ، فإن وصلتها بي وصلتك بالغنى ، وإن وصلتها بغيري قطعت عنك مواد معونتى ، وحسمت أسبابك من أسبابى ، طردا لك عن بابى. فمن وكلته إلىّ ملك ، ومن وكلته إليه هلك. ه.
وقال الشيخ أبو الحسن الشاذلى رضى اللّه عنه : آيست من نفع نفسى لنفسى ، فكيف لا آيس من نفع غيرى لها ، ورجوت اللّه لغيرى فكيف لا أرجوه لنفسى؟. ه. فالبصير من اعتمد فى أموره على مولاه ، والأعمى من ركن فى حوائجه إلى سواه. فأنوار التفويض والتسليم لا تستوى مع ظلمات الشرك والتدبير قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ. وباللّه التوفيق.(3/17)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 18
ثم ضرب مثلا لنور العلم مع ظلمات الجهل ، فقال :
[سورة الرعد (13) : الآيات 17 الى 18]
أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ (17) لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ (18)
قلت : جُفاءً : حال. والْحُسْنى : مبتدأ ، ولِلَّذِينَ : خبر مقدم. والَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا : مبتدأ ، ولَوْ أَنَّ :
خبر ، أو (لِلَّذِينَ) : متعلق بيضرب ، والْحُسْنى : نعت لمصدر محذوف ، والَّذِينَ : معطوف على الَّذِينَ الأولى ، أي : يضرب الأمثال للذين استجابوا الاستجابة الحسنى وللذين لم يستجيبوا ، ثم استأنف قوله : لو أن ... إلخ.
يقول الحق جل جلاله : أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ أي : السحاب ، أو ناحية السماء ، ماءً مطرا ، فَسالَتْ به أَوْدِيَةٌ : أنهار ، جمع واد ، وهو الموضع الذي يسيل الماء فيه بكثرة ، فاتسع واستعمل للماء الجاري فيه. بِقَدَرِها أي : بقدر صغرها وكبرها ، كل يسيل على قدره ، أو بقدر ما قسم فى قسمة اللّه تعالى ، وعلم أنه نافع غير ضار ، فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً أي : رفعه على وجه الماء ، وهو ما يحمله السيل من غذاء ونحوه ، أو ما يطفوا على الماء من غليانه ، رابِياً : عاليا على وجه الماء ، وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ «1» من ذهب وفضة ، وحديد ورصاص ونحاس ، وغيره ، ابْتِغاءَ أي : لطلب حِلْيَةٍ كالذهب والفضة ، أَوْ مَتاعٍ كالحديد والنحاس يصنع منه ما يتمتع به من الأوانى وآلات الحرب والحرث. والمقصود بذلك : بيان منافعها ، فكل واحد منهما له زَبَدٌ مِثْلُهُ أي : مثل زبد الماء ، وهو خبثه الذي تخرجه النار عند سبكه.
كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ فمثل الحق - وهو العلم باللّه وبأحكامه - كمثل الأمطار الغزيرة ، ومثل القلوب التي سكن فيها ، وجرت حكمه على ألسنة أهلها كالأودية والأنهار والخلجان ، كلّ يحمل منه على قدره ، وسعة صدره. ومثل الباطل الذي دمغه وذهب به كالزبد وخبث الحديد والنحاس ، أو الذهب والفضة. وسيأتى فى الإشارة تكميله إن شاء اللّه. وروى مثل هذا عن ابن عباس. وإنكار ابن عطية له جمود ، وتذكّر حديث البخاري :
___________
(1) قرأ حمزة والكسائي وحفص (يوقدون) بالياء. على أن الضمير للناس. وقرأ الباقون بالتاء على الخطاب .. انظر الإتحاف (2/ 162).(3/18)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 19
«مثل ما بعثني اللّه به من الهدى ...» الحديث «1» ، فإنه يشهد لذلك التأويل. وتقدم له بنفسه فى قوله : أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ «2» ما يشير إلى تفسير أهل الإشارة والرموز. وراجع ما تقدم لنا فى خطبة الكتاب يظهر لك الحق والصواب.
قال البيضاوي : مثّل الحقّ فى إفادته وثباته ، بالماء الذي ينزل من السماء ، فتسيل به الأودية على قدر الحاجة والمصلحة ، فتنفع به أنواع المنافع ، ويمكث فى الأرض ، فيثبت بعضه فى منابعه ، ويسلك بعضه فى عروق الأرض إلى العيون والآبار ، وبالفلزّ الذي ينتفع به فى صوغ الحلي ، واتخاذ الأمتعة المختلفة ، ويدوم ذلك مدة متطاولة.
والباطل ، فى قلة نفعه وسرعة ذهابه ، بزبدهما ، وبيّن ذلك بقوله : فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً ، أي : مرميا به ، من جفاه : رمى به وأبعده ، أي : يرمى به السيل والفلز المذاب. ه. وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ كالماء ، وخالص الذهب أو الحديد ، فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ لينتفع به أهلها. كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لإيضاح المشكلات المعنوية ، بالمحسوسات المرئية.
لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ بالإيمان والطاعة ، الْحُسْنى أي : المثوبة الحسنى ، أو الجنة. وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ من الكفرة لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ من هول ذلك المطلع. أو :
يضرب الأمثال للذين استجابوا الاستجابة الحسنى ، وللذين لم يستجيبوا له. ثم بيّن مثال غير المستجيبين بقوله :
لَوْ أَنَّ لَهُمْ ... إلخ : أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ أقبحه وأشده ، وهو أن يناقش فيه ، بأن يحاسب العبد على كل ذنب ، ولا يغفر منه شىء ، وَمَأْواهُمْ : مرجعهم جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ الفراش والمستقر ، والمخصوص محذوف ، أي : هذا.
الإشارة : قد اشتملت الآية على ثلاثة أمثلة : مثال للعلم النافع ، ومثال للعمل الخالص ، وللحال الصافي. فمثّل الحقّ تعالى العلم النافع بالمطر النازل من السماء ، فإنه تحيا به الأرض ، وتجرى به الأودية والعيون والآبار ، ويحبس فى الخلجان والقدور لنفع الناس ، وتتطهر به الأرض من الخبث لأنه ترمى به السيول فيذهب جفاء ، كذلك العلم النافع تحيا به النفوس بعد الموت بالجهل والشك ، وتحيا به الأرواح بعد موتها بالغفلة والحجاب ، وتمتلئ به القلوب على قدر وسعها وسعتها ، وعلى قدر ما قسم لهم من علم اليقين ، أو عين اليقين ، أو حق اليقين ، وتتطهر به النفوس من البدع وسائر المعاصي.
___________
(1) لفظ الحديث كاملا : «مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير ، أصابت أرضا ، فكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير ، وكانت منها أجادب ، أمسكت الماء فنفع الله الناس ، فشربوا وسقوا وزرعوا ، وأصاب منها طائفة أخرى ، إنما هى قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ ، فذلك مثل من فقه فى دين الله ، ونفعه الله به ، فعلم وعلّم. ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ، ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به» أخرجه البخاري فى (العلم ، باب فى من علم وعلّم) ومسلم فى (الفضائل ، باب بيان ما بعث النبي به من الهدى والعلم) من حديث أبى موسى رضى اللّه عنه.
(2) من الآية 40 من سورة يوسف.(3/19)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 20
ومثّل العمل الخالص الذي تصفّى من الرياء والعجب وسائر العلل ، بالحديد المصفى من خبثه لتصنع منه السيوف والآلات ، أو النحاس المصفى لتصنع منه الأوانى ، وغيرها مما ينفع به الناس.
ومثّل الحال الصافي من العلل بالذهب المصفى ، أو الفضة ، إذا صفيت وذهب خبثها ليصنع بهما الحلي والحلل ليتزين بها أهلها ، فأشار إلى المثال الأول - وهو العلم - بقوله : أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً إلخ. وأشار الى الحال بقوله : وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ ، وأشار إلى العمل بقوله : أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ. وقدّم الحال ، لشرفه ، ومثّله بالذهب والفضة لزيادة الرغبة فيه لأنه ثمرة العمل ، ومرجعه إلى الوجدان والأذواق ، وهو عزيز لا يجده إلا المقربون.
والحاصل : أن المراتب أربعة : العلم ، والعمل ، والحال ، والمقام. وإنما لم يضرب الحق تعالى مثلا للمقام لأن النزول فيه لا يكون إلا بعد التصفية ، فليس فيه علة ، يحتاج إلى التصفية منها. فمقامات اليقين كلها يجرى فيها العلم ، والعمل ، والحال ، والمقام. فالتوبة مثلا : يتعلق العلم بمعرفة حقيقتها ، وفضليتها ، ثم يسعى فى العمل بالمجاهدة والرياضة حتى يذهب زبده وخبثه ، حتى يذوق حلاوة الاستقامة مع بقية الخوف من السقوط ، وهذا هو الحال ، ثم تطمئن النفس ، وترسخ التوبة النصوح ، وهذا هو المقام. وكذلك الصبر ، يتعلق به العلم أولا ثم يسعى فى مرارة استعماله حتى يذوق حلاوة الشدة والفاقة ثم يرسخ فيه ، وهكذا يجرى فى المقامات كلها .. وهى اثنا عشر مقاما :
التوبة ، والخوف ، والرجاء والورع ، والزهد ، والصبر ، والشكر ، والرضى ، والتسليم ، والمحبة ، والمراقبة ، والمشاهدة.
وهى : بروج شمس المعرفة ، وقمر التوحيد. وكذلك معرفة الشهود والعيان : يتعلق العلم أولا بأسرار التوحيد ، ثم يعمل فى خرق عوائد نفسه حتى تموت ، فيشرق عليها أنوار التوحيد ، غير أنها تظهر وتخفى ، ثم يصير الشهود مقاما ، رسوخا وتمكينا.
وقد أشار فى الحكم إلى بعض هذا فقال : «حسن الأعمال نتائج حسن الأحوال ، وحسن الأحوال من التحقق بمقامات الإنزال». وكل واحد من الثلاثة يحتاج إلى تصفية حتى يذهب زبده وخبثه فتصفية العلم بالإخلاص والتحقيق ، فيذهب عنه قصد الرئاسة والجاه ، أو التوصل إلى الدنيا ، ويذهب به الشكوك والأوهام فهذا زبده.
وتصفية العمل بالإخلاص فى أوله ، والإتقان والحضور فى وسطه ، والكتمان فى آخره ، فيذهب عنه الرياء والعجب به ، والتوصل به إلى حظ نفسانى. وتصفية الحال بصحة القصد وإفراد الوجهة ، وإذا هاج عليه الوارد ملك نفسه وأمسكها ، فيذهب به قصد الظهور ، وطلب المراتب الدنيوية والكرامات الحسية ، التي هى من حظ النفس وتشتيت القلب ، إن لم يفرد وجهته للّه ، وانحلال عزمه وخمود نوره ، إن لم يمسك نفسه عند هواجم الحال. فهذا زبد الحال الذي يذهب عنه بمجاهدة النفس ، ويمكث فى أرض القلوب صفاء اليقين والمعرفة وخالص العمل فى مقام العبودية. وباللّه التوفيق.(3/20)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 21
ثم ذكر حال من عرف هذا العلم النازل ، وحال من أنكره ، فقال :
[سورة الرعد (13) : الآيات 19 الى 24]
أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (19) الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ (20) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ (21) وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ (23)
سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24)
قلت : أُولئِكَ .. إلخ : جملة خبر الموصولات ، إن رفعت بالابتداء ، وإن جعلت صفات لأولى الألباب : فاستئناف بذكر ما استوجبوا بتلك الصفات. وجَنَّاتُ : بدل من عُقْبَى الدَّارِ. ومَنْ صَلَحَ : عطف على الواو بفصل المفعول ، وسَلامٌ عَلَيْكُمْ : محكى بحال محذوفة ، أي : قائلين سلام عليكم ، وحذف الحال - إذا كان قولا - كثير مطرد.
يقول الحق جل جلاله : أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هو الْحَقُّ فيستجيب له ، وينقاد له كَمَنْ هُوَ أَعْمى عمى القلب ، لا يستجيب ولا يستبصر؟ أنكر الحق - جل جلاله - على من اشتبه عليه الحق من الباطل ، بعد ما ضرب المثل ، فإن الأمور المعنوية ، إذا ضرب لها الأمثال المحسوسة ، صارت فى غاية الوضوح لا تخفى إلّا على الخفافشة ، الذين انطمس نور قلوبهم بالكفر أو المعاصي. ولذلك قال : إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ ذوو العقول الصافية والقلوب المنورة ، التي تطهرت من كدر العوائد والشهوات ، ولم تركن إلى المألوفات والمحسوسات.
ثم وصفهم بقوله : الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ ما عقدوه على نفوسهم من معرفة عظمة الربوبية والقيام بوظائف العبودية ، حين قالوا : بَلى «1». وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ ما أوثقوه على نفوسهم ، وتحملوه من المواثيق التي بينهم وبين اللّه ، وبينهم وبين عباد اللّه. وهو تعميم بعد تخصيص تأكيدا على الوفاء بالعهود.
وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ من الرحم ، وموالاة المؤمنين ، وحضور مجالس الصالحين ، والعلماء العاملين ، والاقتداء بقولهم والاهتداء بهديهم. وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ : غضبه وعذابه ، أو إبعاده وطرده ، وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ : مناقشته ، فيحاسبون أنفسهم قبل أن يحاسبوا.
___________
(1) فى قوله تعالى : (وَ إِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ ..) الآية 172 من سورة الأعراف.(3/21)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 22
وَالَّذِينَ صَبَرُوا على مشاق الطاعة وترك المخالفة ، أو على ما تكرهه النفوس ، ويخالفه الهوى. فعلوا ذلك ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ طلبا لرضاه ، أو لرؤية وجهه وشهود ذاته ، لا فخرا ورياء ، وطلبا لحظ نفسانى. وَأَقامُوا الصَّلاةَ المفروضة ، بحيث حافظوا على شروطها وأركانها ، وحضور السر فيها ، وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ من الأموال فرضا ونفلا ، سِرًّا وَعَلانِيَةً إن تحقق الإخلاص ، وإلا تعيّن الإسرار. أو سرا لمن لا يعرف بالمال ، وجهرا لمن يعرف به لئلا يتهم ، أو ليقتدى به. وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أي : يدفعون الخصلة السيئة بالخصلة الحسنة ، فيجازون الإساءة بالإحسان امتثالا لقوله تعالى : ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ «1» ، أو :
يدفعون الشرك بقول : «لا إله إلا اللّه» ، أو يفعلون الحسنات فيدرءون بها السيئات ، كقوله : إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ «2». قيل : نزلت فى الأنصار. وهى عامة.
ثم ذكر جزاءهم ، فقال : أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ أي : عاقبة دار الدنيا وما يؤول إليه أهلها. وهى : الجنة التي فسّرها بقوله : جَنَّاتُ عَدْنٍ أي : إقامة ، يَدْخُلُونَها مخلدين فيها. والعدن : الإقامة ، وقيل : هى بطنان الجنة ، أي : مداخلها لا ربضها ، فيدخلونها وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ أي : يلحق بهم من صلح من أهلهم ، وإن لم يبلغ فى العمل مبلغهم ، تبعا لهم وتعظيما لشأنهم ، أو بشفاعتهم لهم. وهو دليل على أن الدرجة تعلو بالشفاعة ، وأن الموصوفين بتلك الصفات يقرب بعضهم من بعض - لما بينهم من القرابة والوصلة - فى دخول الجنة زيادة فى أنسهم ، لكن يقع التفاوت فى الدرجات والنعيم والقرب ، على قدر اجتهادهم فى التحقق بتلك الصفات ، والدءوب عليها. والتقييد بالصلاح يدل على أن مجرد الانتساب لا ينفع من غير عمل.
وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ من أبواب المنازل ، أو من أبواب الفتوح والتحف ، قائلين :
سَلامٌ عَلَيْكُمْ بشارة بدوام السلامة ، هذا بِما صَبَرْتُمْ ، أو سلامة لكم بسبب صبركم. فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ التي سكنوها ورحلوا عنها دارهم هذه.
الإشارة : أفمن تصفّت مرآة قلبه من الأكدار والأغيار ، حتى أبصرت أمطار العلوم والأسرار النازلة من سماء الملكوت على النبي المختار ، فتضلع منها حتى امتلأ منها قلبه وسره ، ونبع بأنهار العلوم لسانه وفكره ، كمن هو أعمى القلب والبصيرة ، فلم يرفع بذلك رأسا؟ إنما ينتفع بتلك العلوم أولوا القلوب الصافية التي ذهب خبثها ، فصفت علومها وأعمالها وأحوالها من زبد المساوئ والعيوب ، الذين دخلوا تحت تربية المشايخ ، فأوفوا بعهودهم ، وواصلوهم ،
___________
(1) من الآية 96 من سورة المؤمنون.
(2) من الآية 114 من سورة هود.(3/22)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 23
وخافوا ربهم أن يبعدهم من حضرته ، أو يناقشهم الحساب فحاسبوا أنفسهم على الأنفاس والأوقات ، وصبروا على دوام المجاهدات ، حتى أفضوا إلى فضاء المشاهدات ، وأقاموا صلاة القلوب - وهى العكوف فى حضرة الغيوب - وأنفقوا مما رزقهم من سعة العلوم ومخازن الفهوم ، ويقابلون الإساءة بالإحسان لأنهم أهل مقام الإحسان. أولئك لهم عقبى الدار وهى العكوف فى حضرة الكريم الغفار ، تدخل على أبواب قلوبهم المواهب والأسرار ، تقول بلسان الحال : سلام عليكم بما صبرتم فى مجاهدتكم ، فنعم عقبى الدار.
ثم شفع بضدهم ، فقال :
[سورة الرعد (13) : الآيات 25 الى 26]
وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (25) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ مَتاعٌ (26)
يقول الحق جل جلاله : وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ ... الذي أخذه عليهم فى عالم الذر ، حيث قال :
أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى «1» ، ثم كفروا به بعد بعث الرسل المنبهين عليه. أو ينقضون العهود فيما بينهم وبين عباد اللّه ، إن أعطوا ذلك من أنفسهم ، وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ من الأرحام ، أو ممن يدل على اللّه من الأنبياء ، والعلماء الأتقياء فإنّ اللّه أمر بوصلهم ، وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ بالظلم والمعاصي ، وتهييج الفتن ، أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ : البعد والطرد من رحمة اللّه ، وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ : سوء عاقبة الدار ، وهو العذاب والهوان ، حيث اغتروا فى الدنيا بسعة الأرزاق ، وظنوا أن ذلك من علامة إقبال الحق.
ولم يدروا أن اللّه يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ ، ولو كان من أهل الشقاء ، وَيَقْدِرُ يضيقه على من يشاء ، ولو كان من أهل السعادة والعناية ، وَفَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا واطمأنوا بها ، وقنعوا بنعيمها الفاني ، وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فى جنب الآخرة إِلَّا مَتاعٌ إلا متعة لا تدوم ، كعجالة الراكب وزاد الراعي. وفى الحديث عنه صلى اللّه عليه وسلم :
«ما لى وللدّنيا ، إنّما مثلى ومثل الدّنيا كراكب سافر فى يوم صائف ، فاستظلّ تحت شجرة ، ثم راح عنها وتركها» «2». والمعنى : أنهم أشروا بما نالوا من الدنيا ، ولم يصرفوها فيما يستوجبون به نعيم الآخرة ، واغتروا بما هو فى جنبه نزر قليل النفع ، سريع الزوال. قاله البيضاوي.
___________
(1) من الآية 172 من سورة الأعراف.
(2) أخرجه الإمام أحمد فى المسند (1/ 301) والحاكم (4/ 309) وصححه ووافقه الذهبي من حديث ابن عباس رضى اللّه عنه ، قال : دخل عمر على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهو على حصير ، قد أثر فى جنبه ، فقال : يا نبى الله لو اتخذت فراشا أوثر من هذا؟ فقال :
مالى وللدنيا ..» الحديث.(3/23)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 24
الإشارة : لا شىء أفسد على المريد من نقض عهود المشايخ ، والرجوع عن صحبتهم فإنه لمّا دخل فى حماهم انقبض عنه الشيطانو الدنيا والهوى ، وأسفوا عليه ، فإذا رجع إليهم ، واتصلوا به ، فعلوا به مالم يفعلوا بغيره كمن هرب من عدوه ثم اتصل به. وتنسحب عليه الآية من قوله : وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ إلى قوله : أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ أي : البعد عن الحضرة ، (و لهم سوء الدار) وهو : غم الحجاب والبقاء من وراء الباب. فإذا رجعت إليه الدنيا يقال له : (اللّه يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر) فلا تغتر ولا تفرح بالعرض الفاني ، فما الحياة الدنيا فى الآخرة إلا متاع قليل ، ثم التحسر الوبيل.
ثم أجاب عمن طلب المعجزة ليؤمن ، فقال :
[سورة الرعد (13) : آية 27]
وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ (27)
يقول الحق جل جلاله : وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا من أهل مكة : لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ ظاهرة مِنْ رَبِّهِ كما أنزلت على من قبله فنؤمن حينئذ؟ قُلْ لهم : إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ بعد ظهور الآيات والمعجزات. وليس الإيمان والهداية بيد العبد فى الحقيقة. وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ أي : من أقبل ورجع عن عناده من غير احتياج إلى معجزة. قال البيضاوي : وهو جواب ، يجرى مجرى التعجب من قولهم ، كأنه قال : قل لهم ما أعظم عنادكم! إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ ممن كان على صفتكم ، فلا سبيل إلى اهتدائه ، وإن نزلت كل آية ، ويهدى إليه من أناب لما جئت به ، بل بأدنى منه من الآيات. ه.
الإشارة : تقدم مرارا أن من سبقت له من اللّه عناية الخصوصية ، لم يتوقف على ظهور آية. ومن لم يسبق له شىء فى الخصوصية لا ينفع فيه ألف آية. فاللّه تعالى يضل من يشاء عن دخول حضرته ، ولو رأى من أولياء زمانه ما رأى ، ويهدى إلى حضرته من أناب ، ورجع بلا سبب. وباللّه التوفيق.
ثم وصف أهل الإنابة ، فقال :
[سورة الرعد (13) : الآيات 28 الى 29]
الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28) الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ طُوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (29)
قلت : الموصول : بدل ممن أناب ، أو خبر عن مضمر ، أي : هم. والموصول الثاني بدل ثان ، أو مبتدأ ، وجملة طُوبى : خبر ، وهى فعلى ، من الطيب ، كبشرى من البشارة ، قلبت ياؤها واوا لضم ما قبلها ، ومعناها : أصبت خيرا وطيبا. وقيل : شجرة فى الجنة. وسوغ الابتداء بها : ما فيها من معنى الدعاء.(3/24)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 25
يقول الحق جل جلاله ، فى وصف من سبقت له الهداية واتصف بالإنابة : هم الَّذِينَ آمَنُوا باللّه وبرسوله إيمانا تمكّن من قلوبهم ، واطمأنت إليه نفوسهم فإذا حركتهم الخواطر والهواجم ، أو فتن الزمان وأهواله تَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ ، وترتاح بذكر اللّه أنسا به ، واعتمادا عليه ورجاء منه ، أو بذكر رحمته بعد القلق من خشيته ، أو بذكر آلائه ودلائله الدالة على وجوده ووحدانيته ، أو بكلامه القرآن ، الذي هو أقوى المعجزات. قاله البيضاوي. وقال فى القوت : معنى تطمئن بذكر اللّه : تهش وتستأنس به. قال شيخ شيوخنا سيدى عبد الرحمن الفاسى بعد كلام : والحاصل أن المراد من الطمأنينة : السكون إلى المذكور ، والأنس به ، ووجود الرّوح والفرح والانشراح ، والغنى به. ه.
قال تعالى : أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ لا بغيره ، فلا تسكن إلا إليه ، ولا تعتمد إلا عليه فإن سكنت إلى غيره ذهب نورها ، وعظم قلقها. الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ طُوبى لَهُمْ أي : لهم عيش طيب وحياة طيبة. أو الجنة ، أو شجرة فيها ، وَحُسْنُ مَآبٍ أي : مرجع يرجعون إليه بعد الموت.
الإشارة : الطمأنينة على قسمين : طمأنينة إيمان ، وطمأنينة شهود وعيان. قوم اطمأنوا إلى غائب موجود ، وقوم إلى آخر مشهود. قوم اطمأنوا بوجود اللّه من طريق الإيمان على نعت الدليل والبرهان ، وقوم اطمأنوا بشهود اللّه من طريق العيان على نعت الذوق والوجدان. وهذه ثمرة الإكثار من ذكر اللّه.
قال الشيخ الشاذلى رضي اللّه عنه : حقيقة الذكر : ما اطمأن بمعناه القلب ، وتجلى فى حقائق سحاب أنوار سمائه الرب. ه. وقال الورتجبي : إن كان الإيمان من حيث الاعتقاد ، فطمأنينة القلب بالذكر ، وإن كان من حيث المشاهدة فطمأنينة القلوب باللّه وكشف وجوده. ه. فطمأنينة الإيمان لأهل التفكر والاعتبار من عامة أهل اليمين.
وطمأنينة العيان لأهل الشهود والاستبصار من خاصة المقربين. أهل الأولى يستدلون بالأشياء على اللّه ، وأهل الثانية يستدلون باللّه على الأشياء فلا يرون إلا مظهر الأشياء. وشتان بين من يستدل به أو يستدل عليه المستدل به عرف الحق لأهله ، وأثبت الأمر من وجود أصله ، والاستدلال عليه من عدم الوصول إليه. وإلا فمتى غاب حتى يستدل عليه! ومتى بعد حتى تكون الآثار هى التي توصل إليه؟!. كما فى الحكم.
وقال فى المناجاة : «إلهى كيف يستدل عليك بما هو فى وجوده مفتقر إليك؟!. أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك ، حتى يكون هو المظهر لك؟! متى غبت حتى تحتاج إلى دليل يدل عليك؟ ومتى بعدت حتى تكون الآثار هى التي توصل إليك؟!».(3/25)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 26
وقال الشيخ أبو الحسن رضي اللّه عنه : «كيف يعرف بالمعارف من به عرفت المعارف؟! أم كيف يعرف بشىء من سبق وجوده كلّ شى ء؟ أي : وظهر بكل شى ء». وفى ذلك يقول الشاعر :
عجبت لمن يبغى عليك شهادة وأنت الّذى أشهدته كلّ شاهد
وقال آخر :
لقد ظهرت فما تخفى على أحد إلّا على أكمه لا يبصر القمرا
لكن بطنت بما أظهرت محتجبا وكيف يبصر من بالعزّة استترا
وأهل طمأنينة الإيمان على قسمين باعتبار القرب والبعد : فمنهم من يطمئن بوجود الحق على نعت القرب والأنس ، وهم أهل المراقبة من الزهاد والصالحين ، والعلماء العابدين المجتهدين ، وهم متفاوتون فى القرب على قدر تفرغهم من الشواغل والعلائق ، وعلى قدر التخلية والتحلية. ومنهم من يطمئن إليه على نعت البعد من قلبه ، وهم أهل الشواغل والشواغب ، والعلائق والعوائق. وعلامة القرب : وجود حلاوة المعاملة ، كلذيذ المناجاة ، والأنس به فى الخلوات ، ووجود حلاوة القرآن والتدبر فى معانيه ، حتى لا يشبع منه فى كل أوان. وعلامة البعد : فقد الحلاوة المذكورة ، وعدم الأنس به فى الخلوة ، وفقد حلاوة القرآن ، ولو كان من أعظم علماء اللسان.
وأهل طمأنينة الشهود على قسمين أيضا : فمنهم من تشرق عليه الأنوار ، وتحيط به الأسرار ، فيغرق فى الأنوار وتطمس عنه الآثار ، فيسكر ويغيب عن الأثر فى شهود المؤثر ، ويسمى عندهم هذا المقام : مقام الفناء. ومنهم من يصحو من سكرته ، ويفيق من صعقته ، فيشهد المؤثر ، لا يحجبه جمعه عن فرقه ، ولا فرقه عن جمعه ، ولا يضره فناؤه عن بقائه ، ولا بقاؤه عن فنائه ، يعطى كل ذى حق حقه ، ويوفى كل ذى قسط قسطه ، وهو مقام البقاء ، ولا يصح وجوده إلّا بعد وجود ما قبله ، فلا بقاء إلا بعد الفناء ، ولا صحو إلا بعد السكر. ومن ترامى على هذا المقام - أعنى مقام البقاء - من غير تحقيق مقام السكر والفناء فهو لم يبرح عن مقام أهل الحجاب.
واعلم أن طمأنينة الإيمان تزيد وتنقص ، وطمأنينة العيان ، إن حصلت ، تزيد ولا تنقص. فمواد أسباب زيادة طمأنينة الإيمان أشياء متعددة ، فمنهم من تزيد طمأنينته بالتفكر والاعتبار ، إمّا فى عجائب المصنوعات وضروب المخلوقات ، فيطمئن إلى صانع عظيم القدرة باهر الحكمة. وإما بالنظر فى معجزات الرسول صلى اللّه عليه وسلم ، وباهر علمه ، وعجائب حكمه وأسراره ، وإخباره بالأمور الغيبية السابقة والآتية ، مع كونه نبيا أميا. فإذا تحقق بمعرفة الرسول فقد(3/26)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 27
تحقق بمعرفة اللّه ، واطمأن به لأنه الواسطة العظمى ، بين اللّه وبين عباده. ومنهم من تزيد طمأنينته بموالاة الطاعات وتكثير القربات ، كالذكر وغيره. ومنهم من تزيد طمأنينته بزيارة الأولياء أحياء أو ميتين. ومادة الأحياء أكثر ، ونور طمأنينتهم أبهر ، لا سيما العارفين ، وفى الأثر : تعلموا اليقين بمجالسة أهل اليقين.
وأما طمأنينة أهل الشهود : فزيادتها باعتبار زيادة الكشف وحلاوة الشهود ، والترقي فى العلوم والأسرار ، والاتساع فى المقامات إلى ما لا نهاية له ، فى هذه الدار الفانية وفى الدار الباقية ، ففى كل نفس يجدد لهم كشوفات وترقيات ومواهب وتحف ، على قدر توجههم وتحققهم. حققنا اللّه بمقامهم ، وأتحفنا بما أتحفهم. آمين.
ولا بد فى تحصيل طمأنينة الشهود من صحبة شيخ عارف طبيب ماهر ، يقدح عين البصيرة حتى تنفتح فما حجب الناس عن شهود الحق إلا طمس البصيرة ، فإذا اتصل بشيخ عارف كحل عين بصيرته أولا بإثمد علم اليقين ، فيدرك شعاع نور الحق قريبا منه ، ثم يكحل عينه ثانيا بإثمد عين اليقين ، فيدرك عدمه لوجود الحق ، أي :
يغيب عن حسه بشهود معناه القائم به. ثم يكحل عينه بإثمد حق اليقين فيدرك وجود الحق - بلا واسطة قدرة وحكمة ، معنى وحسا ، لا يتحجب بأحدهما عن الآخر. وإلى هذا أشار فى الحكم بقوله : «شعاع البصيرة يشهدك قرب الحق منك ، وعين البصيرة يشهدك عدمك لوجوده ، وحق البصيرة يشهدك وجود الحق ، لا عدمك ولا وجودك. كان اللّه ولا شىء معه ، وهو الآن على ما كان عليه».
وأهل طمأنينة الشهود هم خاصة ورثة الرسول - عليه الصلاة والسلام - الذي أشار إليه بقوله :
[سورة الرعد (13) : آية 30]
كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتابِ (30)
قلت : كَذلِكَ : مفعول مطلق بأرسلناك ، أي : مثل ذلك الإرسال المتقدم أرسلناك. وقال ابن جزى : الكاف تتعلق بالمعنى الذي فى قوله : يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ. ه. أي : كما أن الإضلال والهداية بيده كذلك اختصاصك بالرسالة إلى أمة ... إلخ ، وجملة : وَهُمْ يَكْفُرُونَ : حال من ضمير عَلَيْهِمُ أي : لتتلو عليهم فى حال كفرهم لعلهم يؤمنون. ومَتابِ : مفعل ، من التوبة.
يقول الحق جل جلاله : قد أرسلنا قبلك رسلا فأنذروا وبشروا قومهم ، كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ أي : مثل ذلك الإرسال أرسلناك فى أمة ، أو كما هدينا من أناب إلينا اختصصناك برسالتنا ، فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مضت مِنْ قَبْلِها أي : تقدمها أُمَمٌ أرسل إليهم رسلهم فليس ببدع إرسالك إلى هذه الأمة الأمية ، لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ : لتقرأ عليهم الكتاب ، الذي أوحينا إليك ، والحالة أنهم يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ أي : بالبليغ(3/27)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 28
الرحمة الذي أحاطت بهم نعمته ، ووسعت كل شىء رحمته ، فلم يشكروا ما أنعم به عليهم ، وخصوصا إرسالك إليهم ، وإنزال القرآن عليهم ، الذي هو مناط المنافع الدينية والدنيوية. قيل : نزلت فى أبى جهل ، وقيل : فى قريش حين قالوا : لا نعرف الرحمن ، والمعنى : أرسلناك إليهم رحمة لتتلو عليهم ما هو مناط الرحمة ، وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ - ، والحال : أنهم يكفرون ببليغ الرحمة. قُلْ هُوَ رَبِّي أي : الرحمن خالقى ومتولى أمرى ، لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لا مستحق للعبادة غيره ، عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ فى أمورى ، ومن جملتها نصرى عليكم. وَإِلَيْهِ مَتابِ مرجعى فى أمورى كلها ، لا أرجع إلى أحد غيره ، ولا أتعلق بشىء سواه.
الإشارة : قد بعث اللّه فى كل عصر عارفا باللّه يحيى به الدين ، ويعرف الطريق إلى رب العالمين فالأرض لا تخلو ممن يقوم بالحجة ، غير أنهم تارة يخفون لفساد الزمان ، وتارة يظهرون رحمة للأنام. فإذا وقع الإنكار عليهم ، أو استغرب وجودهم ، يقال لهم : كذلك أرسلنا فى كل أمة نذيرا ، وداعيا ، فإرسالكم أنتم وإظهاركم ليس ببدع ، لتعلموا الناس ما أوحى إليكم من طريق الإلهام فإظهاركم رحمة ، وهم يكفرون هذه النعمة. فاعتمدوا على الرحمن ، وثقوا بالواحد المنان ، وارجعوا إليه فى كل حال وشأن. فمن توكل عليه كفاه ، ومن التجأ إليه حماه.
ثم رجع إلى تتميم الجواب عن قول الكفار : (لو لا أنزل عليه آية من ربه) ، فقال :
[سورة الرعد (13) : آية 31]
وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (31)
قلت : جواب لَوْ : محذوف ، أي : لم يؤمنوا لسابق الشقاء ، أو : لكان هذا القرآن ، وسيأتى بيانه.
يقول الحق جل جلاله : وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً أنزل عليك ، من صفته : سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أي : زعزعت عن مقارها ، أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ : تصدعت وتشققت من خشية اللّه عند قراءته ، أو : تشققت فجعلت أنهارا وعيونا ، أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى فتجيب من قبورها جهرا ، لما آمنوا لعنادهم وغلبة الحسد عليهم. فهذا كقوله تعالى : وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا «1» ،
___________
(1) من الآية 111 من سورة الأنعام.(3/28)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 29
أو : ولو أن قرآنا بهذه الصفة : من تسيير الجبال ، وتقطيع الأرض ، وتكليم الموتى ، لكان هذا القرآن لأنه الغاية فى الإعجاز ، والنهاية فى التذكير والإنذار ، والأول أرجح لمناسبة ما قبله وما بعده.
روى أن قريشا قالوا : يا محمد ، إن سرّك أن نتبعك فسيّر بقرآنك الجبال عن مكة ، حتى تتسع لنا فنتخذها بساتين وقطائع. أو سخر لنا به الريح لنركبها ، فنتّجر بها إلى الشام. أو ابعث لنا قصىّ بن كلاب فإنه كان شيخ صدق ، أو غيره من آبائنا ، فيكلمونا فيك ، ويشهدوا لك بما تقول. فنزلت الآية.
بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً ليس لى منه شىء ، فهو القادر على الإتيان بما اقترحتموه من الآيات ، إلا أن الإرادة لم تتعلق بذلك لأنه علم أنه لا ينجع فيكم شىء من ذلك لفرط عنادكم ، فإذا رأيتموها قلتم : إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ «1». وبيّن ذلك قوله : أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا من إيمانهم مع ما رأوا من أحوالهم ، وفرط عنادهم ، علما منهم أَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً ، أو : أَفَلَمْ يَيْأَسِ أي :
يعلم الَّذِينَ آمَنُوا أن الهداية بيد اللّه ، ومشيئته ، فلو شاء لهدى الناس جميعا. وكون «يَيْأَسِ» بمعنى «علم» : لغة هوازن فقد علموا بما أعلمهم أن اللّه لا يهدى من يضل. وقد قرأ على وابن عباس وجماعة : «أفلم يتبين الذين آمنوا» وهو يقوى تفسير ييأس بيعلم.
قال البيضاوي : وإنما استعمل اليأس بمعنى العلم ، لأنه مسبّب عن العلم ، فإن الميئوس منه لا يكون إلا معلوما.
ولذلك علّقه بقوله : أَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً فإن معناه نفى هدى بعض الناس لعدم تعلق المشيئة باهتدائهم ، وهو - على الأول - يتعلق بمحذوف تقديره : أفلم ييأس الذين آمنوا من إيمانهم علما منهم أن لو يشاء اللّه لهدى الناس جميعا. أو : بآمنوا ، على حذف الجار ، أي : بأن اللّه ... إلخ. ه.
وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا من قريش والعرب ، تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا من الكفر والمعاصي ، قارِعَةٌ :
داهية تقرعهم تقلقهم ، وتصيبهم فى أنفسهم وأولادهم وأموالهم. أو غزوات المسلمين إليهم ، إمّا أن تنزل بهم أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ فيفزعون منها وتتطاير إليهم شررها. وقيل : نزلت فى كفار مكة ، فإنهم لا يزالون مصابين بما صنعوا برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، كان لا يزال يبعث السرايا ، فتغير حواليهم وتختطف أموالهم. وعلى هذا يجوز أن يكون ضمير تَحُلُّ خطابا للرسول صلى اللّه عليه وسلم أي : تحل بجيشك قريبا من دارهم ، حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ بالموت أو بالبعث أو فتح مكة. إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ لا متناع الخلف فى وعده تعالى.
___________
(1) كما جاء فى الآية 15 من سورة الحجر.(3/29)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 30
الإشارة : لو أن عارفا باللّه سيّر الجبال عن أماكنها ، وفجر الأرض عيونا ، وكلمه الموتى لما آمن بخصوصيته إلا من سبقت له عناية الخصوصية. فلو شاء اللّه لهدى الناس إلى معرفته جميعا. لكن الحكمة اقتضت وجود الخلاف ، قال تعالى : وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ «1» ، فمن لم يهتد إلى معرفتهم لا يزال تطرقه قوارع الشكوك والأوهام ، وخواطر السوء ، أو تحل قريبا من قلبه ، إن لم تتمكن فيه ، حتى يأتى وعد اللّه بحضور موته ، فقد يتداركه اللطف والرعاية ، وقد يتسع الخرق عليه فيموت على الشك ، والعياذ باللّه. بخلاف من صحب أهل الطمأنينة واليقين ، لا يموت إلا على اليقين لأن همة الشيوخ قد حلّقت عليه ، والعناية قد حفت به. واللّه ولى المتقين.
قال الشيخ أبو الحسن رضي اللّه عنه : (و اللّه لا يكون الشيخ شيخا حتى تكون يده مع الفقير أينما ذهب) ، والمراد باليد :
الهمة والحفظ. ووقت الموت أولى بالحضور ، وقد شاهدنا ذلك من إخواننا ممن حضره الموت منهم ، أخبر أنه يرى شيخه حاضرا معه. فلله الحمة والمنة.
ثم سلّى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من إذاية قومه ، فقال :
[سورة الرعد (13) : آية 32]
وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ (32)
يقول الحق جل جلاله ، فى تسلية رسوله صلى اللّه عليه وسلم : وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فأوذوا وأهينوا ، فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا : أمهلتهم فى دعة ورغد عيش ، مدة من الزمان ، ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ بالهلاك والاستئصال ، فَكَيْفَ كانَ عِقابِ؟ أي : عقابى إياهم ، وهو تهويل لما نزل بهم ، وتخويف لغيرهم من المستهزئين بالرسول صلى اللّه عليه وسلم والمقترحين عليه الآيات.
الإشارة : الاستهزاء بأهل الخصوصية فى بدايتهم سنة ماضية ، ويتسلون بمن سلف من خصوص الأنبياء والأولياء. وما هدد به الكفار يهدد به أهل الإنكار. وباللّه التوفيق.
ثم وبخهم على الشرك وأوعدهم عليه ، فقال :
[سورة الرعد (13) : الآيات 33 الى 34]
أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِما لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (33) لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ (34) ___________
(1) من الآية 118 من سورة هود.(3/30)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 31
قلت : أَفَمَنْ مع صلته : مبتدأ ، والخبر محذوف ، أي : أفمن هو رقيب على كل شىء أحق أن يعبد أم غيره.
أو كمن ليس كذلك؟!.
يقول الحق جل جلاله : أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ أي : حفيظ رقيب على عمل كل نفس بِما كَسَبَتْ من خير أو شر ، لا يخفى عليه شىء من أعمالهم ، ولا يفوت عنده شىء من جزائهم ، أحق أن يعبد أم غيره؟. أو كمن ليس كذلك ممن هو جماد لا يسمع ، ولا يعقل!!. وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ بعد هذا البيان التام ، قُلْ لهم : سَمُّوهُمْ أي : اذكروا أسماءهم ، فلا تجدون إلا أسماء إناث كاللات والعزى ومناة ، أو أسماء أحجار وخشب فبأى وجه تستحق أن تعبد ، وتشرك مع اللّه فى ألوهيته؟.
أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِما لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ بل أتخبرونه بما لا يعلم وجوده فى الأرض ، وهذا تهكم بهم ، كأنهم علموا استحقاق الأصنام العبادة ، ولم يعلمها الحق تعالى ، وهو محال. والمعنى : أن اللّه لا يعلم لنفسه شركاء وإذا لم يعلمهم فليسوا بشىء ، فكيف تفترون الكذب فى عبادتهم؟ أَمْ تسمونهم شركاء ، بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ ، من غير حقيقة واعتبار معنى ، كتسمية الخبث مسكا ، والبول عطرا.
بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ أي : انخداعهم وغرورهم حتى توهموا الباطل حقا ، أو مكرهم بالإسلام وكيدهم لأهله ، وَصُدُّوا «1» عَنِ السَّبِيلِ أي : وصدوا الناس عن طريق الحق ، حيث منعوهم من الإسلام.
ومن قرأ بضم الصاد مبنيا للمفعول فمعناه : صدّهم الشيطان عن طريق الحق وضلوا عنه. وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ أي : من يخذله اللّه فليس له من يوفقه غيره. لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا
بالقتل والأسر ، وسائر ما يصيبهم من المصائب ، وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُ
لشدته ودوامه ، وَما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ
أي : من عذابه مِنْ واقٍ
يقيهم ويعصمهم منه.
الإشارة : كل من تحقق أن اللّه قائم عليه استحيا منه أن يسىء الأدب بين يديه ، يقول اللّه تعالى فى بعض الأخبار : «إن كنتم تعتقدون أنى لا أراكم ، فالخلل فى إيمانكم ، وإن كنتم تعتقدون أنى أراكم فلم جعلتمونى أهون الناظرين إليكم؟». وكل من وقف مع الأسباب واعتمد عليها ، أو طمع فى الخلق وركن إليهم ، فقد جعل للّه شركاء ، فيقال له : سمّ هؤلاء تجدهم خلقا عاجزين ، لا قدرة لهم على شىء ، ولا ينفعوك بشىء إلا ما قسم اللّه لك فى الأزل.
بل زين لضعفاء اليقين مكرهم ، حتى انخدعوا وافتتنوا برؤية الأسباب ، أي : كفروا كفرا دون كفر بأن شكّوا فى
___________
(1) قرأ عاصم وحمزة والكسائي ، بضم الصاد ، على البناء للمفعول ، وقرأ الباقون بالفتح على البناء للفاعل .. انظر الإتحاف (2/ 162).(3/31)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 32
الرزق ، والشكّ فى الرزق شكّ فى الرزّاق ، وصدوا عن طريق اليقين ، والغنى برب العالمين ، لهم عذاب فى الحياة الدنيا بالذل والحرص والحرمان.
قال بعض العارفين : لو قيل للطمع : من أبوك؟ لقال : الشك فى المقدور ، ولو قيل له : ما حرفتك؟ لقال : الذل والهوان ، ولو قيل له : ما غايتك؟ لقال : الحرمان. وفى الحكم : «ما بسقت أغصان ذلّ إلّا على بذر طمع». وقال
الشاعر : العبد حرّ ما قنع والحرّ عبد ما طمع
ولعذاب الآخرة أشق حيث يسقط بضعف يقينه عن درجة المقربين على سبيل الدوام ، وما لهم من اللّه من واق يقيهم من غم الحجاب ، وعدم اللحوق بالأحباب الذين ترقوا إلى القرب من الحبيب. واللّه تعالى أعلم.
ثم وصف الجنة تشويقا وترغيبا فى سلوك طريقها وهو الإيمان ، فقال :
[سورة الرعد (13) : آية 35]
مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ (35)
قلت : مَثَلُ الْجَنَّةِ : مبتدأ. قال سيبويه : الخبر محذوف ، أي : فيما يتلى عليكم صفة الجنة. وقال الفراء : الخبر هو : تَجْرِي ... إلخ ، وعلى قول سيبويه يكون تَجْرِي : حالا من العائد المحذوف ، أي : التي وعدها المتقون حال كونها تجرى ... إلخ. والمراد بالمثل هنا : الصفة ، لا ضرب المثل. وظِلُّها : مبتدأ حذف خبره ، وظلها كذلك.
والأكل بضم الهمزة : المأكول ، ويجوز فيه ضم الكاف وإسكانها ، وأما الأكل بالفتح فمصدر.
يقول الحق جل جلاله : صفة الجنة التي وعدها المتقون هى غرف وقصور تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ من ماء وخمر وعسل ولبن ، أُكُلُها دائِمٌ ما يؤكل من ثمارها وأنواع أطعمتها لا ينقطع ، وَظِلُّها دائم ، لا ينسخ بالشمس كظلال الدنيا ، تِلْكَ الجنة الموصوفة بهذه الأوصاف هى عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا الشرك والمعاصي ، هى مآلهم وعاقبة استقرارهم ، وَعُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ لا محيد عنها ، هى مآلهم وإليها رجوعهم.
وفى ترتيب العقبيين إطماع للمتقين ، وإقناط للكافرين.
الإشارة : مثل جنة المعارف التي وعدها المتقون لكل ما يشغل عن اللّه هى حضرة مقدسة ، يتنعم فيها أسرار العارفين ، تجرى من تحت قلوبهم أنهار العلوم والحكم ، لذتها وقوت الأرواح فيها دائم ، وهى الفكرة فى ميادين أنوار(3/32)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 33
التوحيد ، وجولان الروح فى فضاء أسرار التفريد. وظل روحها وريحانها دائم ، وهو : سكون القلب إلى اللّه ، وفرح الروح بشهود اللّه. وإليه أشار ابن الفارض بقوله ، رحمه اللّه ، فى وصف خمرتها :
وإن خطرت يوما على خاطر امرئ أقامت به الأفراح وارتحل الهمّ
تلك عقبى الذين اتقوا السّوى ، وعقبى المنكرين لوجود أهل هذه الجنة نار القطيعة والبعد. أعاذنا اللّه من ذلك.
ثم ذكر حال الفريقين : أهل الفرح باللّه ، وأهل الإنكار على أحباء اللّه ، فقال :
[سورة الرعد (13) : الآيات 36 الى 37]
وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُوا وَإِلَيْهِ مَآبِ (36) وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا واقٍ (37)
قلت : حُكْماً : حال من ضمير أَنْزَلْناهُ.
يقول الحق جل جلاله ، فى حق من سبقت له السعادة : وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ كعبد اللّه بن سلام ومخيريق وأصحابهما ، ومن أسلم من النصارى ، وهم : ثمانون رجلا : أربعون بنجران ، وثمانية باليمن ، واثنان وثلاثون من الحبشة. أو : كل من آمن من أهل الكتاب ، فإنهم كانوا يَفْرَحُونَ بما يوافق كتبهم. ثم ذكر ضدهم فقال : وَمِنَ الْأَحْزابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ أي : ومن كفرتهم الذين تحزبوا على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بالعداوة والشحناء ككعب بن الأشرف وأصحابه من اليهود ، والعاقب والسيد وأشياعهما من النصارى ، مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ ، وهو ما يخالف شرائعهم التي نسخت به ، أو ما يوافق ما حرّفوا منها.
قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ ، وهو جواب للمنكرين ، أي : قل لهم : إنما أمرت فيما أنزل إلىّ أن أعبد اللّه وأوحده ، وهو العمدة فى الأديان كلها ، فلا سبيل لكم إلى إنكاره. وأما إنكاركم ما يخالف شرائعكم فليس ببدع مخالفة الشرائع والكتب الإلهية فى جزئيات الأحكام لأنها تابعة للمصالح والعوائد ، وتتجدد بتجددها. إِلَيْهِ أَدْعُوا لا إلى غيره ، وَإِلَيْهِ مَآبِ أي : وإليه مرجعى بالبعث لا إلى غيره. وهذا هو القدر المتفق عليه من الشرائع ، وهو الأمر بعبادة اللّه وحده ، والدعاء إليه ، واعتقاد المآب إليه ، وهو الرجوع بالبعث يوم القيامة فلا يخالف ما قبله من الشرائع ، فلا معنى للإنكار حينئذ.(3/33)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 34
وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ أي : ومثل هذا الإنزال المشتمل على أصول الدين المجمع عليها ، أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا أي : يحكم فى القضايا والوقائع ، بما تقتضيه الحكمة ، مترجما بلسان العرب ليسهل عليهم فهمه وحفظه.
وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ التي يدعونك إليها كتقرير دينهم ، والصلاة إلى قبلتهم بعد ما حوّلت عنها ، بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ بنسخ ذلك ، ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ ينصرك ، وَلا واقٍ يقيك عتابه. وهو حسم لأطماعهم ، وتهييج للمؤمنين على الثبات فى دينهم. وباللّه التوفيق.
الإشارة : الفرح بما أنزل من عند اللّه هو مقدمات الفرح باللّه ، فإذا رفعت أكنة الغفلة عن القلب تلذذ بسماع الخطاب من وراء الباب ، وذلك أمارة القرب. وهذا مقام أهل المراقبة من المحبين. فإذا جدّ فى السير رفعت عنه الحجب والأستار ، وواجهته الأنوار والأسرار ، فيكاشف بأسرار الذات وأنوار الصفات ، فيتلذذ بشهود المتكلم ، فيسمع حينئذ الكلام من المتكلم به بلا واسطة. وهذا مقام أهل الشهود من المحبين المقربين. (و من الأحزاب) ، وهم أهل الرئاسة والجاه ، من ينكر وجود بعض هذه المقامات تعصبا وحمية. أو ينسبها لنفسه غلطا وجهلا ، فيقول له من تحقق بهذا المقام : إنما أمرت أن أعبد اللّه ولا أشرك به ، إليه أدعو وإليه مآب. ويغيب عنه بالاشتغال باللّه ، وبالدعاء إليه. فإن غفل واشتغل به ، أو ركن إلى قوله ، قيل له : ولئن اتبعت أهواءهم بعد ما جاءك من العلم ما لك من اللّه من ولىّ ولا واق.
ولما قالت اليهود - لعنهم اللّه - لو كان محمد رسولا لما أولع بالنساء ، ردّ اللّه عليهم بقوله :
[سورة الرعد (13) : الآيات 38 الى 39]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ (38) يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ (39)
يقول الحق جل جلاله : وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ يا محمد ، وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً كثيرة :
كداود عليه السّلام كان له مائة امرأة ، وابنه كان له ألف ، على ما قيل ، وغيرهما من الأنبياء والرسل. وَجعلنا لهم منهن ذُرِّيَّةً ، وأنت يا محمد منهم فليس ببدع أن يكون الرسول بشرا ، يتزوج النساء ، ويحتاج إلى ما يحتاج إليه البشر ، إلا أنه لا يشغله ذلك عن أداء الرسالة ، ونصيحة الأمة ، وإظهار شريعة الدين ، والقيام بحقوق رب العالمين. ولما أجابهم بشبهتهم قالوا : أظهر لنا معجزة كما كانت لهم ، كالعصا وفلق البحر ، وإحياء الموتى؟ فأنزل اللّه وَما كانَ لِرَسُولٍ ما صح له ولم يكن فى وسعه أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ تقترح عليه ، ويظهرها إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وإرادته فإنه القادر على ذلك. لِكُلِّ أَجَلٍ من آجال بنى آدم وغيرهم ، كِتابٌ يكتب فيه وقت موته ، وانتقاله من الدنيا.(3/34)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 35
يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ من ديوان الأحياء ، فيكتب فى الأموات ، وَيُثْبِتُ من لا يموت. قيل : إن هذا الكتاب يكتب ليلة القدر ، أو ليلة النصف من شعبان ، ويجمع بينهما بأن الكتابة تقع ليلة النصف ، وإبرازه للملائكة ليلة القدر ، وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ أي : الأصل المنسوخ منه كتب الآجال ، وهو اللوح المحفوظ ، أو العلم القديم. وهذا التفسير يناسب اقتراح الآيات لأنهم إذا أجيبوا بظهور الآية ولم يؤمنوا ، عوجلوا بالهلاك ، وذلك له كتاب محدود. قال الورتجبي : بيّن الحق - سبحانه - أن أوان إتيان الآية بأجل معلوم فى وقت معروف ، بقوله : لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ أي :
لكل مقدور فى الأزل فى قضية مرادة وقت معلوم فى علم اللّه ، لا يأتى إلا فى وقته ه.
أو : لِكُلِّ أَجَلٍ أي : عصر وزمان ، كِتابٌ فيه شريعة مخصوصة على ما يقتضيه استصلاحهم.
يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ : ينسخ ما يستصوب نسخه من الشرائع ، وَيُثْبِتُ ما تقتضى الحكمة عدم نسخه.
وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ وهو : اللوح المحفوظ فإنه جامع للكائنات. وهذا يترتب على قوله : وَمِنَ الْأَحْزابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ ، وهو ما لا يوافق شريعتهم. قال سيدى عبد الرحمن الفاسى : يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ ما يستصوب نسخه ، وَيُثْبِتُ ما تقتضيه حكمته ، فلا ينكر مخالفته للشرائع فى بعض الأحكام مع موافقته للحكم ، وهو الأصول الثابتة فى أصول الشرائع ، ولذا قال : وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ أي : لا يبدل. ه.
وقريب منه للبيضاوى.
وقيل : إن المحو والإثبات عام فى جميع الأشياء. قال ابن جزى : وهذا ترده القاعدة المتقررة بأن القضاء والقدر لا يتبدل ، وعلم اللّه لا يتغير. ه. قلت : أما القضاء المبرم وهو : علم اللّه القديم الذي استأثر اللّه به ، فلا شك أنه لا يتبدل ولا يتغير ، وأما القضاء الذي يبرز إلى علم الخلائق من الملائكة وغيرهم ، فيقع فيه المحو والإثبات ، وذلك أن الحق تعالى قد يطلعهم على بعض الأقضية ، وهى عنده متوقفة على أسباب وشروط ، يخفيها عنهم بقهريته ، ليظهر اختصاصه بالعلم الحقيقي ، فإذا أراد الملائكة أن ينفذوا ذلك الأمر محاه اللّه تعالى ، وأثبت ما عنده فى علم غيبه ، وهو أمّ الكتاب ، حتى قال بعضهم : إن اللوح الحفوظ له جهتان : جهة تلى عالم الغيب ، وفيه القضاء المبرم ، وجهة تلى عالم الشهادة ، وفيه القضاء الذي يرد ويمحى لأنه قد تكتب فيه أمور ، وهى متوقفة على شروط وأسباب فى علم الغيب ، لم تظهر فى هذه الجهة التي تلى عالم الشهادة ، فيقع فيها المحو والإثبات ، وبهذا يندفع إشكالات كقوله فى الحديث : «لا يردّ القضاء إلا الدّعاء ، وصلة الرحم تزيد فى العمر» «1».
___________
(1) أخرجه بنحوه الترمذي ، فى (كتاب القدر ، باب : ما جاء لا يرد القدر إلا الدعاء) ، من حيث سلمان. وأخرج البخاري فى (الأدب باب ، من بسط له فى الرزق) من حديث أبى هريرة قال صلى اللّه عليه وسلم : «من سره أن يبسط له فى رزقه وأن ينسأ له فى أثره ، فليصل رحمه». [.....](3/35)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 36
وقول ابن مسعود ، وعمر - رضى اللّه عنهما - : اللهم إن كنت كتبتنا فى ديوان الشقاء فامحنا ، واكتبنا فى ديوان السعادة ، فإنك تمحو ما تشاء وتثبت. ه. أي : إن كنت أظهرت شقاوتنا فامحها ، وأظهر سعادتنا فإنك تمحو ما تشاء ... إلخ. وفى ابن عطية ما يشير إلى هذا ، قال : وأصوب ما يفسر به أم الكتاب ، أنه كتاب الأمور المجزومة التي سبق القضاء فيها بما هو كائن ، وسبق ألا تبدل ، ويبقى المحو والتثبيت فى الأمور التي سبق فى القضاء أن تبدل وتمحى وتثبت. قال نحوه قتادة. ه.
الإشارة : قوله تعالى : وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ ... الآية ، قد أثبت تعالى لأهل خصوصية النبوة والرسالة الأزواج والذرية ، وكان ذلك كمالا فى حقهم. وكذلك أهل خصوصية الولاية ، تكون لهم أزواج وذرية ، ولا يقدح فى مرتبتهم ، بل يزيد فيها ، وذلك بشرط أن يقع ذلك بعد التمكين ، أو يكون فى صحبة شيخ عارف كامل عند أمره ونهيه ، يكون فعل ذلك بإذنه ، فإذا كان هذا الشرط فإن التزوج يزيد صاحبه تمكينا من اليقين.
قال الورتجبي فى هذه الآية : أعلم تعالى ، بهذه الآية ، الجهّال أنه إذا شرّف وليا أو صدّيقا بولايته ومعرفته لم يضرّ به مباشرة أحكام البشرية من الأهل والولد ، ولم يكن بسط الدنيا له قدحا فى ولايته. ه.
وقال الغزالي فى الإحياء ، فى الترغيب فى النكاح : قال تعالى فى وصف الرسل ومدحهم : وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً ، فذكر ذلك فى معرض الامتنان وإظهار الفضل ، ومدح أولياءه بسؤال ذلك فى الدعاء ، فقال تعالى : وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ «1» الآية ، ويقال : إن اللّه تعالى لم يذكر فى كتابه من الأنبياء إلا المتأهلين. وقالوا : إن يحيى عليه السّلام قد تزوج فلم يجامع.
قيل : إنما فعل ذلك لنيل الفضل وإقامة السّنة ، وقيل : لغض البصر. وأما عيسى عليه السّلام فإنه سينكح إذا نزل الأرض ، ويولد له.
وأما الأخبار فقوله صلى اللّه عليه وسلم : «النّكاح سنّتى ، فمن أحبّ فطرتى فليستنّ بسنّتى». وقال أيضا صلى اللّه عليه وسلم : «تناكحوا تكاثروا فإنّى أباهى بكم الأمم يوم القيامة ، حتّى السّقط». وقال أيضا : «من رغب عن سنّتى فليس منّى ، وإنّ من سنّتى النّكاح ، فمن أحبّنى فليستنّ بسنّتى». وقال صلى اللّه عليه وسلم : «من ترك التّزوّج مخافة العيلة فليس منّا». وقال صلى اللّه عليه وسلم :
«من نكح للّه وأنكح للّه استحقّ ولاية اللّه».
___________
(1) من الآية 74 من سورة الفرقان.(3/36)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 37
ثم قال «1» : وقال ابن عباس لابنه : لا يتم نسك الناسك حتى يتزوج. وكان ابن مسعود يقول : لو لم يبق من عمرى إلا عشرة أيام لأحببت أن أتزوج ، لا ألقى اللّه عزبا. وكان معاذ رضي اللّه عنه مطعونا وهو يقول : زوجونى ، لا ألقى اللّه عزبا. وكان ماتت له زوجتان بالطاعون. وكان عمر يكثر النكاح ، ويقول : لا أتزوج إلا للولد. وكان لعلىّ رضي اللّه عنه أربع نسوة ، وسبع عشرة سرية ، وهو أزهد الصحابة. فدل أن تزوج النساء لا يدل على الرغبة فى الدنيا.
قال سفيان : كثرة النساء ليس من الدنيا. واستدل بقضية علىّ رضي اللّه عنه قال : وكان أزهد الصحابة. وروى أن بشر الحافى رئى فى المنام ، فقيل له : ما فعل اللّه بك؟ فقال : رفعت إلى منازلى فى الجنة فأشرفت على مقامات الأنبياء ، ولم أبلغ منازل المتأهلين. وفى رواية : قال لى : ما كنت أحب أن تلقانى عزبا ، قال الرائي : فقلت له : ما فعل أبو نصير التمار؟ قال : رفع فوقى بسبعين درجة بصبره على بنياته وعياله. وقد قيل : فضل المتأهل على العزب كفضل المجاهد على القاعد ، وركعة من متأهل أفضل من سبعين ركعة من عزب. ه. كلام الغزالي باختصار.
وقوله تعالى : يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ ، من جملة ما يقع فيه المحو والإثبات الواردات الإلهية التي ترد على القلوب من تجليات الغيوب فإن القلب إذا تطهر من الأكدار ، وصفا من الأغيار ، كان كل ما يتجلى فيه من الغيوب فهو حق ، إلا أنه ينسخ بعضها بعضا فقد يخبر الولي بأمر ، يكون ، أو لا يكون على حسب ما تجلى فى قلبه ، ثم يمحو اللّه ذلك ، ويثبت فى قلبه خلافه. أو يظهر فى الوجود خلاف ما أخبر ، وليس بكذب فى حقه ، ولكن الحق تعالى يظهر لخلقه أمورا من مقدوراته ، متوقفا وجودها على أسباب وشروط أخفاها الحق تعالى عن خلقه ، ليظهر عجزهم عن إحاطة علمه. فالنسخ إنما يقع فى فعله لا فى أصل علمه.
قال الأستاذ القشيري : المشيئة لا تتعلق إلا بالحدوث ، والمحو والإثبات لا يكون إلا من أوصاف الحدوث ، فصفات ذات الحق - سبحانه - من كلامه وعلمه ، لا يدخل تحت المحو والإثبات ، إنما يكون المحو والإثبات من صفات فعله. ه. وقال سهل رضي اللّه عنه : يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ الأسباب ، وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ القضاء المبرم. ه.
وقال شيخ شيوخنا ، سيدى عبد الرحمن الفاسى : وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ : العلم الأول الثابت الذي لا يطرأ عليه تغيير ولا تبديل ، ولا يقبل النسخ والتحريف. ومطالعته : بالفناء عن الحقيقة الخلقية ، والبقاء بالأنوار الصمدانية ، والأنفاس الرحمانية. قال فى القوت : والمحبة من أشرف المقامات ، ليس فوقها إلا مقام الخلة ، وهو مقام فى المعرفة الخاصة ، وهى : تخلل أسرار الغيب ، فيطلع على مشاهدة المحبوب ، بأن يعطى إحاطة بشىء من علمه بمشيئته ، على مشيئته
___________
(1) أي : الإمام الغزالي ، رحمه الله تعالى.(3/37)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 38
التي لا تتقلب ، وعلمه القديم الذي لا يتغير. وفى هذا المقام : الإشراف على بحار الغيوب ، وسرائر ما كان فى القديم ، وعواقب ما يدب. ومنه : مكاشفة العبد بحاله ، وإشهاده من المحبة مقامه ، والإشراف على مقامات العباد فى المآل ، والاطلاع عليهم فى تقلبهم فى الأبد حالا ومآلا. ه.
قلت : هذا الاطلاع إنما هو إجمالي لا تفصيلي ، وقد يقع فيه المحو والإثبات لأنه من جملة المعلومات التي دخلت عالم التكوين ، التي يقع فيها التبديل والتغيير.
ثم قال صاحب القوت : وقد قال أحسن القائلين : وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِما شاءَ «1» ، والاستثناء واقع على إعطاء الإحاطة بشىء من شهادة علمه ، بنور ثاقب من وصفه ، وشعاع لائح من سبحاته ، إذا شاء ، وذلك إذا أخرجت النفس من الروح ، فكان روحانيا ، خروج الليل من النهار. ه.
ثم تمّم الجواب عن اقتراحهم الآيات ، فقال :
[سورة الرعد (13) : الآيات 40 الى 43]
وَإِنْ ما نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ (40) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ (41) وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (42) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ (43)
قلت : وَإِنْ ما : شرطية ، اتصلت ما الزائدة بأن الشرطية للتأكيد ، والجواب : فَإِنَّما ... إلخ ، أو : فلا تحتفل فإنما ... إلخ ، ولا مُعَقِّبَ : فى موضع الحال ، أي : يحكم نافذا حكمه ، كقوله : جاء زيد لا سلاح معه ، أي : حاسرا.
ومَنْ عِنْدَهُ : عطف على بِاللَّهِ.
يقول الحق جل جلاله لنبيه صلى اللّه عليه وسلم تسكينا له : وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ من العذاب الذي استعجلوه ، أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ قبل أن ترى ذلك ، فلا تحتفل بشأنهم ، فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ للرسالة لا غير ، وَعَلَيْنَا الْحِسابُ : المجازاة. والمعنى : كيفما دار الحال در معه ، أريناك بعض ما أوعدناهم فى حياتك ، أو توفيناك قبله ، فلا تهتم بإعراضهم ، ولا تستعجل بعذابهم فإنا فاعلون ذلك لا محالة ، وهذا طلائعه ، فقد فتحنا عليك كثيرا من بلادهم ونقصناها عليهم.
___________
(1) من الآية : 255 من سورة البقرة.(3/38)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 39
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ أي : أرض الكفرة ، نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها بما نفتحه على المسلمين منها ، فيخافوا أن نمكّنك من أرضهم ، وتنزل بساحتهم ، منصورا عليهم ، فإذا نزلت بساحتهم ، ولم يخضعوا لك ، فساء صباح المنذرين. وقيل : الأرض جنس ، ونقصها بموت الناس ، وهلاك الثمرات ، وخراب البلاد ، وشبه ذلك. وذلك مقدمات العذاب الذي حكم به عليهم ، وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ : لا راد له. والمعقب : الذي يعقب الشيء بالإبطال ، ومنه قيل لصاحب الدين : معقب لأنه يعقب غريمه للاقتضاء ، والمعنى : أنه حكم للإسلام بالإقبال ، وعلى الكفرة بالإدبار ، وذلك كائن لا يمكن تغييره. وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ فيحاسبهم عما قليل فى الآخرة ، بعد ما عذّبهم بالقتل والإجلاء فى الدنيا.
وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ بأنبيائهم ، وبمن تبعهم ، فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً ، إذ لا يؤبه بمكر دون مكره ، فإنه القادر على ما هو المقصود منه دون غيره. سمّى العقوبة باسم الذنب للمشاكلة ، يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ فينفذ جزاءها. وَسَيَعْلَمُ الكافر «1» أي : جنس الكافر ، بدليل قراءة : «الْكُفَّارُ» ، لِمَنْ هى عُقْبَى الدَّارِ أي : لمن تكون العاقبة فى الدارين ، دار الفناء ودار البقاء ، هل لأهل الإسلام المعد لهم دار السلام؟
أو للكفار المعد لهم دار البوار؟. قال البيضاوي : وهذا كالتفسير لمكر اللّه بهم ، واللام تدل على أن المراد بالعقبى العاقبة المحمودة ، مع ما فى الإضافة إلى الدار كما عرفت. ه.
وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا من رؤساء اليهود : لَسْتَ مُرْسَلًا ، ولم نجد لك ذكرا فى كتابنا ، ولا ما يشهد لك عندنا. قال تعالى : قُلْ لهم : كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ فإنه أظهر من الأدلة على رسالتى ما يغنى عن شاهد يشهد عليها منكم ، ولا من غيركم. وَيشهد لى أيضا : مَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ الأول العلم الحقيقي ، كعبد اللّه بن سلام ، ومن أسلم من اليهود والنصارى الذين علموا صفته صلى اللّه عليه وسلم من التوراة والإنجيل ، وعلماء المؤمنين الذين عندهم علم القرآن ، وما احتوى عليه من النظم المعجز ، والعلوم الغيبية الدالة على نبوته صلى اللّه عليه وسلم.
أو علم اللوح المحفوظ ، وهو اللّه ، أي : كفى باللّه الذي لا يستحق العبادة غيره ، وبمن لا يعلم ما فى اللوح المحفوظ إلا هو ، شهيدا بيننا. ويؤيده قراءة من قرأ : «وَمَنْ عِنْدَهُ» بكسر الميم. وعلم الكتاب ، على الأول : مرفوع بالظرف فإنه معتمد على الموصول. ويجوز أن يكون مبتدأ ، والظرف خبره. وهو متعين على الثاني. قاله البيضاوي.
الإشارة : قد قال تعالى فى الحديث القدسي : «من آذى لى وليّا فقد آذن بالحرب». وجرت عادة اللّه تعالى أن ينتقم لأوليائه ، ويغار عليهم ، ولو بعد حين ، فإذا أوذى أحدهم ، واستعجل ذلك يقول له الحق تعالى ما قال لنبيه صلى اللّه عليه وسلم : فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ قبل ذلك ، فليس الأمر بيدك ، فإنما عليك بلاغ ما جاء به
___________
(1) قرأ ابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي «الكفار» جمع تكسير. وقرأ الباقون. (الكافر) على الإفراد ... انظر الإتحاف (2/ 163).(3/39)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 40
نبيك من نصح العباد ، وإرشادهم إلى معالم دينهم ، وتصفية بواطنهم ، وعلينا الحساب فنجازى من أقبل ومن أدبر. ومن جملة الانتقام : حبس الأمطار ، ونقص الثمار ، وتخريب البلاد ، وكثرة موت العباد ، فتنقص الأرض من أطرافها. أفلم يعتبروا بذلك ، ويقصروا عن مكرهم بأولياء اللّه؟.
وقد مكر الذين من قبلهم بأولياء زمانهم ، فلم يغنوا شيئا ، فمكر اللّه بهم ، وخذلهم عن طاعته ، وسيعلم أهل الإنكار لمن تكون عاقبة الدار. ويقول الذين كفروا بخصوصية ولىّ من أولياء اللّه : لست وليّا. فيقول لهم : كفى باللّه شهيدا بينى وبينكم ، ومن عنده علم الخصوصية ، وهم : السادات الصوفية ، فلا يعرف الولىّ إلا ولىّ مثله ، ولا يعرف أهل الخصوصية إلا من له الخصوصية. وباللّه التوفيق. وهو الهادي إلى سواء الطريق.(3/40)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 41
سورة إبراهيم
مكية. وهى إحدى وخمسون آية. ومناسبتها لما قبلها : قوله : قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً «1» ، مع قوله : كِتابٌ أَنْزَلْناهُ فإنه تصريح بالشهادة له. أو : وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ ، على تفسيره بالقرآن ، مع قوله : كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الر ...
[سورة إبراهيم (14) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الر كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1) اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ (2) الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً أُولئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (3)
الألف : آلاؤه ، واللام : لطفه ، والراء : رحمته. فكأنه يقول : بآلائنا ولطفنا ورحمتنا أنزلنا إليك كتابنا ، ولذلك رتّب عليه قوله :
كِتابٌ أَنْزَلْناهُ ...
قلت : (كتاب) : خبر ، أي : هذا كتاب ، و(بإذن) : متعلق بتخرج ، أو حال من فاعله ، أو مفعوله. و(إلى صراط) : بدل من (النور). (اللّه الذي) من رفعه فعلى الابتداء ، والموصول خبره ، أو خبر عن محذوف ، ومن خفضه فبدل من (العزيز) ، و(الذين يستحبون) : صفة للكافرين أو نصب ، أو رفع على الذم.
يقول الحق جل جلاله : أيها الرسول المحبوب ، هذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ بدعائك إياهم إلى العمل به ، مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ من ظلمات الضلال والجهل إلى نور الهداية والعلم ، بِإِذْنِ رَبِّهِمْ بتوفيقه وهدايته وتسهيله ، إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ أي : لتخرجهم إلى نور العلم الذي هو سلوك طريق العزيز الحميد ، التي توصل إلى رضوانه ومعرفته. وفى ذكر الوصفين إشارة إلى أنه لا يذل سالكه ، ولا يخيب سائله ، بل تحمد عاقبته.
ثم ذكر الموصوف بهما بقوله : اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أي : الموصوف بالعزة والحمد هو الله الذي استقر له ما فى السموات وما فى الأرض ملكا وعبيدا. ثم ذكر وعيد من كفر بكتابه أو به ،
___________
(1) من الآية 43 سورة الرعد.(3/41)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 42
فقال : وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ بكتابه ، ولم يخرجوا به من ظلمات كفرهم ، مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ ، والويل : كلمة عذاب تقال لمن استحق الهلاك ، أي : هلاك لهم من أجل عذاب شديد يلحقهم. وقيل : واد فى جهنم.
ثم ذكر وجه استحقاقهم العذاب بقوله : الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا يختارونها عَلَى الْآخِرَةِ ، فإنّ من أحب شيئا اختاره وطلبه ، وَيَصُدُّونَ الناس عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بتعويقهم عن الإيمان ، وَيَبْغُونَها عِوَجاً أي : ويبغون لها زيغا ، ونكوبا عن الحق ، ليتوصلوا للقدح فيها ، فحذف الجار وأوصل الفعل إلى الضمير ، أُولئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ أي : فى تلف بعيد عن الحق ، بحيث ضلوا عن الحق ، وبعدوا عنه بمراحل. والبعد فى الحقيقة : للضال ، ووصف به فعله للمبالغة.
الإشارة : قد أخرج صلى اللّه عليه وسلم أمته من ظلمات عديدة إلى أنوار متعددة ، أولها : ظلمة الكفر والشرك إلى نور الإيمان والإسلام ، ثم من ظلمة الجهل والتقليد إلى نور العلم والتحقيق ، ثم من ظلمة الذنوب والمعاصي إلى نور التوبة والاستقامة ، ثم من ظلمة الغفلة والبطالة إلى نور اليقظة والمجاهدة ، ثم من ظلمة الحظوظ والشهوات إلى نور الزهد والعفة ، ثم من ظلمة رؤية الأسباب ، والوقوف مع العوائد ، إلى نور شهود المسبب ، وخرق العوائد ، ثم من ظلمة الوقوف مع الكرامات وحلاوة الطاعات إلى نور شهود المعبود ، ثم من ظلمة الوقوف مع حس الأكوان الظاهرة إلى شهود أسرار المعاني الباطنة ، فيغيب عن الأكوان بشهود المكون. وهذا آخر ظلمة تبقى فى النفس ، فتصير حينئذ روحا ، وسرا من أسرار اللّه ، ويصير صاحبها روحانيا ربانيا عارفا باللّه ، ولا يبقى حينئذ إلا الترقي فى شهود الأسرار أبدا سرمدا. وهذا محل القطبانية والتهيؤ للتربية النبوية ، ويصير وليا محمديا ، يخرج الناس من هذه الظلمات إلى هذه الأنوار.
وأما من لم يبلغ هذا المقام ، فإنما له الإخراج من أحد هذه الأشياء فالغزاة والمجاهدون يخرجون من ظلمة الكفر إلى نور الإيمان ، والعلماء يخرجون من ظلمة الجهل إلى نور العلم ، والعباد والزهاد يخرجون من صحبهم من الذنوب إلى التوبة والاستقامة. وأما ما بقي من الظلمات فلا يخرج منها إلا الربانيون الروحانيون ، أهل التربية النبوية ، بإذن ربهم ، يدلهم على صراط العزيز الحميد ، الموصل إلى العز المديد. وويل لمن أنكر هؤلاء ، واشتغل بمتابعة حظوظه وهواه ، واستحبّ حياة دنياه على أخراه ، أولئك فى ضلال عن حضرة الحق بعيد. وباللّه التوفيق.
ولمّا كان الإخراج من هذه الظلمات لا يكون إلا بالمقال والحال ، بعث اللّه الرسل ، وورثتهم من الأولياء الداعين إلى اللّه بلسان قومهم ، كما قال تعالى : (3/42)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 43
[سورة إبراهيم (14) : آية 4]
وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (4)
يقول الحق جل جلاله : وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ قبلك إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ ، وأنت بعثناك بلسان قومك. وإنما قال : بلسان قومه ، ولم يقل بلسان أمته لأن الأمة قد تكون أوسع من قومه ، كما فى حق نبينا - عليه الصلاة والسلام - فقد بعث إلى العرب والعجم ، والجن والإنس ، فقومه الذين يفهمون عنه : يترجمون إلى من لا يفهم ، فتقوم الحجة عليهم. وكذلك إعجاز القرآن يدركه أهل الفصاحة والبلاغة ، فإذا وقع العجز عن معارضته منهم قامت الحجة على غيرهم ، كما قامت الحجة فى معجزة موسى عليه السّلام بعجز السحرة ، وفى معجزة عيسى بعجز الأطباء.
ثم بيّن الحكمة ، فى كون الداعي لا يكون إلا بلسان قومه ، بقوله : لِيُبَيِّنَ لَهُمْ ما أمروا به فيفهمونه عنه بسرعة ، ثم ينقلونه ويترجمونه لغيرهم ، فتقوم الحجة عليهم ولذلك أمر النبي صلى اللّه عليه وسلم بإنذار عشيرته أولا ، فإذا فهموا عنه بلّغوا إلى غيرهم. قال البيضاوي : ولو نزل على من بعث إلى أمم مختلفة كتب على ألسنتهم استقل ذلك بنوع من الإعجاز ، لكن أدى إلى اختلاف الكلمة وإضاعة فضل الاجتهاد فى تعلم الألفاظ ومعانيها ، والعلوم المتشعبة منها ، وما فى إتعاب القرائح وكد النفس من القرب المقتضية لجزيل الثواب. ه.
فالرسل - عليهم الصلاة والسلام - إنما عليهم البيان بلسانهم ، والهداية بيد ربهم ، ولذلك قال تعالى : فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ إضلاله ، فيخذله عن الإيمان ، وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ بالتوفيق له ، وَهُوَ الْعَزِيزُ الغالب على أمره ، فلا يغلب على مشيئته ، الْحَكِيمُ فى صنعه ، فلا يضل ولا يهدى إلا لحكمة أرادها. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : ما بعث اللّه وليا داعيا إلا بلسان قومه ، وقد يخرق له العادة ، فيطلعه على جميع اللغات ، كما قال المرسى رضي اللّه عنه : من بلغ هذا المقام لا يخفى عليه شىء. وذلك من باب الكرامة كما كان صلى اللّه عليه وسلم يخاطب كل قوم بلغتهم معجزة له صلى اللّه عليه وسلم فقد اتسع علمه - عليه الصلاة والسلام - فأحاط بحقائق الأشياء وأسمائها ومفهوماتها ، وأصول اللغة وفروعها ، فعلم ما علمه سيدنا آدم عليه السّلام ، أو أكثر ، وإلى ذلك أشار القطب ابن مشيش فى تصليته المشهورة بقوله : «وتنزلت علوم آدم فأعجز الخلائق». وقال البوصيرى فى همزيته :
لك ذات العلوم من عالم الغي ب ومنها لآدم الأسماء
ولمّا كان علاج موسى عليه السّلام فى إخراج أمته من الظلمات إلى النور ، قريبا من علاج نبينا - عليه الصلاة والسلام - ذكره بإثره ، كما فعل فى سورة طه ، فقال : (3/43)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 44
[سورة إبراهيم (14) : الآيات 5 الى 8]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (5) وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (6) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ (7) وَقالَ مُوسى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (8)
قلت : (أَنْ أَخْرِجْ) : إما تفسيرية لا محل لها ، أي : وقلنا : أن أخرج لأن فى الإرسال معنى القول ، أو على إسقاط الخافض ، أي : بأن أخرج فإنّ صيغ الأفعال سواء فى الدلالة على المصدر ، فيصح أن توصل بها «أَنْ» الناصبة.
يقول الحق جل جلاله : وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا كاليد والعصا ، وسائر معجزاته التسع ، وقلنا له :
أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ بنى إسرائيل ، وفرعون وملأه مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان ، أما فرعون وملؤه فظاهر ، وأما بنو إسرائيل فقد كان فرعون فتن جلّهم ، وأضلهم مع القبط ، فكانوا أشياعا متفرقين ، لم يبق لهم دين. فإن قلت : إذا كان موسى عليه السّلام مبعوثا إلى القبط ، فلم لم يرجع إليهم بعد خروجه عنهم إلى الشام؟ فالجواب : أنه لما بلّغهم الرسالة قامت الحجة عليهم ، فيجب عليهم أن يهاجروا إليه للدين.
ثم أمره بالتذكير فقال : وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ : بوقائعه التي وقعت على الأمم الدراجة قبلهم ، وأيام العرب :
حروبها. أو ذكّرهم بنعم اللّه وآلائه ، وبنقمه وبلائه فالأيام تطلق على المعنيين. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ فى بلائه ، شَكُورٍ لنعمائه. وإنما خصه لأنه إذا سمع ما نزل على من قبله من البلاء ، وأفيض عليهم من النعماء ، اعتبر وتنبه لما يجب عليه من الصبر والشكر. وقيل : المراد لكل مؤمن ، وإنما عبّر عنهم بذلك تنبيها على أن الصبر والشكر عنوان الإيمان. قاله البيضاوي.
وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجاكُمْ : حين أنجاكم مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ : رهطه ، يَسُومُونَكُمْ : يولونكم سُوءَ الْعَذابِ : أقبحه ، يستعبدونكم ويكلفونكم مشاق الأعمال ، وَيُذَبِّحُونَ(3/44)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 45
أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ ، قال البيضاوي : المراد بالعذاب هنا غير المراد به فى سورتى البقرة والأعراف لأنه هناك مفسر بالتذبيح والقتل ، ومعطوف عليه هنا ، فهو هنا إما جنس العذاب ، أو استعبادهم واستعمالهم بالأعمال الشاقة. ه. وَفِي ذلِكُمْ الامتحان بَلاءٌ أي : ابتلاء مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ اختبركم به حتى أنقذكم منه ، ليعظم شكركم ، أو : فى ذلك الإنجاء بلاء ، أي : نعمة واختبار عظيم ، لينظر كيف تعملون فى شكر هذه النعمة.
ولذلك قال لهم موسى عليه السّلام : وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ أي : آذن ، بمعنى أعلم ، كتوعّد وأوعد ، غير أنّ تأذن أبلغ من آذن لما فى تفعّل من التكلف والمبالغة ، أي : أعلمكم ، وقال : واللّه لَئِنْ شَكَرْتُمْ يا بنى إسرائيل ما أنعمت به عليكم من الإنجاء وغيره ، بالإيمان والعمل الصالح ، وبالإقرار باللسان ، وإفراد النعمة للمنعم بالجنان ، لَأَزِيدَنَّكُمْ نعمة على نعمة. وهذا الخطاب ، وإن كان لبنى إسرائيل ، يعم جميع الخلق ، والزيادة إما من خير الدنيا ، أو ثواب الآخرة. وشكر الخواص يكون على السراء والضراء فتكون الزيادة فى الضراء ، إما فى الثواب أو فى التقريب. ثم ذكر ضده فقال : وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ ما أنعمت به عليكم ، وقابلتموه بالكفر والعصيان ، إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ فأعذبكم به على كفركم. قال البيضاوي : ومن عادة أكرم الأكرمين أن يصرح بالوعد ويعرض بالوعيد. ه. فصرح بوصول الزيادة إليهم ، ولم يقل : أعذبكم عذابا شديدا ، بل عظم عذابه فى الجملة.
وَقالَ مُوسى ، فى شأن من لم يشكر : إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً من الثقلين ، فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عن شكركم ، حَمِيدٌ : محمود على ألسنة خلقه ، من الملائكة وغيرهم. فكل ذرة من المخلوقات ناطقة بحمده حالا أو مقالا ، فهو غنى أيضا عن حمدكم ، فما ضررتم بالكفر إلا أنفسكم حيث حرمتموها مزيد الإنعام ، وعرضتموها لشديد الانتقام. وباللّه التوفيق.
الإشارة : ذكر الحق تعالى فى هذه الآية مقامين من مقامات اليقين : الصبر والشكر ، ومدح من تخلق بهما واستعملهما فى محلهما ، فيركب أيهما توجه إليه منهما ، ويسير بهما إلى ربه. فالصبر عنوان الظفر ، وأجره لا ينحصر ، والشكر ضامن للزيادة ، قال بعض العارفين : (لم يضمن الحق تعالى الزيادة فى مقام من المقامات إلا الشكر) ، فدل أنه أفضل المقامات وأحسن الطاعات ، من حيث إنه متضمن للفرح باللّه ، وموجب لمحبة اللّه. ولا شك أن مقام الشكر أعلى من مقام الصبر لأن الشاكر يرى المنن فى طى المحن ، فيتلقى المهالك بوجه ضاحك لأنه لا يكون شاكرا حقيقة حتى يشكر فى السراء والضراء ، ولا يشكر فى الضراء حتى يراها سراء ، باعتبار ما يواجه به فى حال الضراء من الفتوحات القلبية ، والمواهب اللدنية ، فتنقلب النقمة نعمة. بخلاف مقام الصبر ، صاحبه يتجرع مرارة الصبر لأنه لم يترق إلى شهود المبلى فى حال بلائه ، ولو ترقى إلى شهوده للذّت لديه البلايا ، كما قال صاحب العينية :
تلدّ لى الآلام إذ كنت مسقمى وإن تختبرني فهى عندى صنائع(3/45)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 46
لكن هذه الأحوال تختلف على العبد باعتبار القوة والضعف فتارة تجده قويا يتلقى المهالك بوجه ضاحك ، وتارة تصادفه الأقدار ضعيفا فلا يبقى معه إلا الصبر وتجرع مرارة البلاء ، والعياذ باللّه. قال الشيخ أبو الحسن الشاذلى رضي اللّه عنه فى كتاب القصد : «رأيت كأنى مع النبيين والصديقين ، فأردت الكون معهم ، ثم قلت : اللهم اسلك بي سبيلهم مع العافية مما ابتليتهم ، فإنهم أقوى ونحن أضعف منهم ، فقيل لى : قل : وما قدّرت من شىء فأيّدنا كما أيدتهم».
ثم ذكّرهم بمن سلف قبلهم ، فقال :
[سورة إبراهيم (14) : آية 9]
أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللَّهُ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ وَقالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (9)
قلت : (شك) : فاعل بالمجرور ، و(فاطر) : نعت له.
يقول الحق جل جلاله ، حاكيا عن نبيه موسى عليه السّلام فى تذكير قومه ، أو من كلامه تذكيرا لهذه الأمة :
أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ : ما جرى عليهم حين عصوا أنبياءهم قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ كقوم شعيب ، وأمم كثيرة لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ لكثرة عددهم ، واندراس آثارهم. ولذلك قال ابن مسعود : كذب النسّابون. جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ بالمعجزات الواضحات ، فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ ليعضوا عليها غيظا مما جاءت به الرسل ، كقوله : عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ «1». أو :
وضعوها عليها تعجبا منهم ، أو : استهزاء بهم ، كمن غلب عليه الضحك. أو إسكاتا للأنبياء ، وأمرا لهم بإطباق الأفواه ، أو : ردوها فى أفواه الأنبياء ، يمنعونهم من التكلم ، أو : ردوا أياديهم ، أي : نعم الأنبياء عليهم ، وهى : مواعظهم والشرائع التي أتوهم بها من عند اللّه ، ردوها فى أفواه الأنبياء حيث كذبوها ، ولم يعملوا بها ، كما تقول لمن لم يمتثل أمرك : ترك كلامى فى فمى وذهب. وَقالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ على زعمكم ، وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا
___________
(1) من الآية 119 من سورة آل عمران.(3/46)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 47
تَدْعُونَنا إِلَيْهِ من التوحيد والإيمان ، مُرِيبٍ : موقع فى الريبة ، أو : ذى ريبة ، وهو : قلق النفس بحيث لا تطمئن إلى شىء.
[سورة إبراهيم (14) : الآيات 10 الى 12]
قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى قالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (10) قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11) وَما لَنا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (12)
فأجابتهم الرسل عن دعواهم الشك فى الربوبية ، قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ : أفى وجوده شك ، أو فى ألوهيته ، أو فى وحدانيته شك؟ قال البيضاوي : أدخلت همزة الإنكار على الظرف لأن الكلام فى المشكوك فيه ، لا فى الشك ، أي : إنما ندعوكم إلى اللّه ، وهو لا يحتمل الشك لكثرة الأدلة ، وظهور دلالتها عليه. ه. وأشار إلى ذلك بقوله : فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي : خالقهما ومبدعهما على هذا الشكل الغريب ، والإتقان العجيب إذ لا يصدر إلا من إله عظيم القدرة ، باهر الحكمة ، واحد فى ملكه لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا «1» ، وهو يَدْعُوكُمْ إلى الإيمان والتوحيد ، ببعثه إيانا ، والتصديق بنا ، لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ إن آمنتم ، أي : يغفر لكم بعض ذنوبكم ، وهو ما تقدم قبل الإسلام ، ويبقى ما يذنب بعده فى المشيئة ، أو : ما بينكم وبينه دون المظالم.
والجمهور : أنه يغفر للكافر ما سلف مطلقا ، وقيل : «مِنْ» : زائدة ، على غير مذهب سيبويه. قال البيضاوي : وجيئ بمن ، فى خطاب الكفرة ، دون المؤمنين فى جميع القرآن تفرقة بين الخطابين ، ولعل المعنى فيه أن المغفرة ، حيث جاءت فى خطاب الكفار ، مرتبة على الإيمان ، وحيث جاءت فى خطاب المؤمنين مشفوعة بالطاعة ، والتجنب عن المعاصي ، ونحو ذلك فيتناول الخروج عن المظالم. ه. وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى : إلى وقت سماه اللّه ، وجعله آخر أعماركم. وقال الزمخشري تبعا للمعتزلة : يؤخركم إن آمنتم إلى آجالكم ، وإن لم تؤمنوا عاجلكم بالهلاك قبل ذلك الوقت ، وهذا على قولهم بالأجلين. وأهل السنة يأبون هذا فإن الأجل عندهم واحد محتوم ، واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : التفكر والاعتبار أفضل عبادة الأبرار ، وفى الحديث : «تفكر ساعة أفضل من عبادة سبعين سنة».
فيتفكر العبد فيما سلف قبله من القرون الماضية والأمم الخالية ، كيف رحلوا عن ديارهم المشيدة ، وفروشهم الممهدة ، واستبدلوها بضيق القبور ، وافتراش التراب تحت الجنوب ، وجاءهم الموت وهم غافلون ، وتجرعوا كأسها وهم كارهون ، فلا ما كانوا أمّلوا أدركوا ، ولا إلى مافاتهم رجعوا ، قدموا على ما قدّموا ، وندموا على ما خلفوا ، ولم ينفع الندم وقد جف القلم. فيوجب هذا التفكر الانحياش إلى اللّه ، والمسارعة إلى طاعة اللّه ، والزهد فى هده الدار الفانية ، والتأهب للسفر إلى الدار الباقية فيفوز فوزا عظيما. وفى تكذيب الصادقين تسلية للعارفين ، وللمتوجهين من المريدين ، إذا قوبلوا بالإيذاء والتكذيب ، وباللّه التوفيق.
___________
(1) من الآية 22 من سورة الأنبياء.(3/47)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 48
ثم ذكر ما أجاب به الكفار رسلهم ، فقال :
قالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا يقول الحق جل جلاله : وقال الذين كفروا لرسلهم : إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا لا فضل لكم علينا ، فلم تختصون بالنبوة دوننا ، ولو شاء اللّه أن يبعث رسلا إلى البشر لأرسلهم من جنس أفضل ، كالملائكة ، أو : ما أنتم إلا بشر ، والبشر لا يكون رسولا. قال ابن جزى : يحتمل أن يكون استبعادا لتفضيل بعض البشر على بعض بالنبوة ، أو يكون إحالة لنبوة البشر ، والأول أظهر لطلبهم البرهان بقولهم : فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ ، ولقول الرسل : وَلكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ. ه. ثم قالوا للرسل : تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا من الأصنام بهذه الدعوى ، فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ : ببرهان بيّن يدل على فضلكم ، واستحقاقكم لهذه المرتبة التي هى مرتبة النبوة. كأنهم لم يعتبروا ما جاءوا به من البينات والحجج ، فاقترحوا عليهم آية أخرى تعنتا ولجاجا.
قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ : ما نحن إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ بالنبوة والرسالة ، فمنّ علينا بذلك ، وإن كنا بشرا مثلكم ، سلّموا لهم مشاركتهم فى الجنس ، وجعلوا الموجب لاختصاصهم بالنبوة فضل اللّه ومنّه عليهم. وفيه دليل على أن النبوة مواهب عطائية لا كسبية. ثم أجابوهم عما اقترحوا بقولهم : وَما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ، فليس لنا الإتيان بآيات ، ولا فى قدرتنا أن نأتيكم بما اقترحتموه ، وإنما هو أمر متعلق بمشيئة اللّه ، يخص من يشاء بها ، على ما تقتضيه حكمته وسابق إرادته.
وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ، فلنتوكل نحن عليه ، فى الصبر على معاناتكم ومعاداتكم. عمموا الأمر بذكر المؤمنين للإشعار بأن الإيمان موجب للتوكل ، وقصدوا به أنفسهم قصدا أوليا ، ألا ترى قولهم : وَما لَنا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ أي : أىّ عذر لنا فى ترك التوكل على اللّه؟ وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا أي : طرقنا التي نعرفه بها ، فنوحده ، ونعلم أن الأمور كلها بيده ، وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا : على أذاكم حتى يحكم الله بيننا ، وهو جواب عن قسم محذوف ، أكدوا به توكلهم ، وعدم مبالاتهم بما يجرى من الكفار عليهم. وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ أي : فليثبت المتوكلون على ما استحدثوه من توكلهم ، المسبب عن إيمانهم. قاله البيضاوي تبعا للزمخشرى.(3/48)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 49
قال ابن جزى : إن قيل : لم كرر الأمر بالتوكل؟ فالجواب عندى : أن قوله : وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ راجع إلى ما تقدم من طلب الكفار : فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ أي : حجة ظاهرة ، فتوكل الرسل فى ورود ذلك إلى اللّه. وأما قوله : فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ فهو راجع إلى قولهم : (وَ لَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا) أي : نتوكل على اللّه فى دفع أذاكم. ه. وهو حسن ، لكن التعبير بالمتوكلين يقتضى أن التوكل حاصل ، والمطلوب الدوام عليه ، وقد يقال :
إنما عبّر ثانيا بفظ المتوكلين كراهية إعادة اللفظ بعينه ، أي : من كان متوكلا على اللّه فإنه الحقيق بذلك. وقال فى القوت : أي : ليتوكل عليه فى كل شىء من توكل عليه فى شىء. وهذا أحسن وجوهه. قال فى الحاشية : والوجه الآخر : وعليه فليتوكل ، فى توكله من توكّل عليه فى الأشياء لأن الوكيل فى كل شىء واحد ، فينبغى أن يكون التوكل فى كل شىء واحد. ه.
الإشارة : سر الخصوصية مستور بأوصاف البشرية ، ولا فرق بين خصوصية النبوة ، والولاية. سترها الحق تعالى غيرة عليها أن يعرفها من لا يعرف قدرها فلا يطلع عليها إلا من سبقت له من اللّه العناية ، وهبت عليه ريح الهداية. وفى الحكم : «سبحان من ستر سر الخصوصية بظهور وصف البشرية ، وظهر بعظمة الربوبية فى إظهار العبودية». وقال أيضا : «سبحان من لم يجعل الدليل على أوليائه إلا من حيث الدليل عليه ، ولم يوصل إليهم إلا من أراد أن يوصله إليه». قال فى لطائف المنن : فأولياء اللّه أهل كهف الإيواء ، فقليل من يعرفهم ، ولقد سمعت شيخنا أبا العباس المرسى رضي اللّه عنه يقول : معرفة الولي أصعب من معرفة اللّه فإن اللّه معروف بكماله وجماله ، وحتى متى تعرف مخلوقا مثلك ، يأكل كما تأكل ، ويشرب كما تشرب؟ قال فيه : وإذا أراد اللّه أن يعرفك بولي من أوليائه طوى عنك وجود بشريته ، وأشهدك وجود خصوصيته. ه.
قلت : ومعنى : «طوى عنك وجود بشريته» هو : عدم الوقوف مع أوصافها اللازمة للنقائص ، بل تنفذ منها إلى شهود خصوصيته ، التي هى محل الكمالات. فأوصاف البشرية الذاتية للبشر لا تزول عن الولي ، ولا عن النبي كالأكل والشرب ، والنوم والنكاح ، والضعف والفقر ، وغير ذلك من نعوت البشر لأنها فى حقهم رداء وصوان لستر خصوصيتهم صيانة لها أن تتبدل بالإظهار ، وينادى عليها بلسان الاشتهار ، ولذلك اختفوا عن كثير من الخلق.
وإلى هذا أشار فى الحكم بقوله : «لا يلزم من ثبوت الخصوصية عدم البشرية».
وقال صاحب كتاب (أنوار القلوب) : للّه سبحانه عباد ضنّ بهم عن العامة ، وأظهرهم للخاصة ، فلا يعرفهم إلا شكل ، أو محب لهم ، وللّه عباد ضنّ بهم عن الخاصة والعامة ، وللّه عباد يظهرهم فى البداية ويسترهم فى النهاية ، وللّه عباد يسترهم فى البداية ويظهرهم فى النهاية ، وللّه عباد لا يظهر حقيقة ما بينه وبينهم إلى الحفظة فمن سواهم ، حتى يلقوه بما أودعهم منه فى قلوبهم ، وهم شهداء الملكوت الأعلى ، والصفح «1» الأيمن من العرش الذين
___________
(1) الصفح : الجنب.(3/49)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 50
يتولى اللّه قبض أرواحهم بيده ، فتطيب أجسادهم به ، فلا يعدوا عليها الثرى ، حتى يبعثوا بها مشرقة بنور البقاء الأبد مع الباقي الأحد عز وجل. ه.
وقال أبو يزيد رضي اللّه عنه : أولياء اللّه تعالى عرائس ، ولا يرى العرائس إلا من كان محرما لهم ، وأما غيرهم فلا. وهم مخبأون عنده فى حجاب الأنس ، لا يراهم أحد فى الدنيا ولا فى الآخرة. ه. وجميع ما أجاب به الأنبياء قومهم يجيب به الأولياء من أنكر عليهم ، من قوله : (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا) ، من التعلق بالأسباب والانهماك فى الحظوظ ، ومتابعة الهوى ، وحب الدنيا ، ومن قولهم : (فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) إلى تمام ما أجابوا به. واللّه تعالى أعلم.
ثم ذكر تخويف الكفار للرسل بإخراجهم من الديار ، فقال :
[سورة إبراهيم (14) : الآيات 13 الى 17]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ (14) وَاسْتَفْتَحُوا وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (15) مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ (16) يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ (17)
قلت : (وَ اسْتَفْتَحُوا) : معطوف على (فَأَوْحى ) إن كان الضمير للرسل ، واستئناف إن كان للكفار. و(يُسْقى ) :
معطوف على محذوف ، أي : يلقى فيها ويسقى ، و(صَدِيدٍ) : عطف بيان لماء ، و(يَتَجَرَّعُهُ) : صفة لماء ، أو حال من ضمير (يُسْقى ).
يقول الحق جل جلاله : وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ تخويفا لهم : واللّه لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا ، حلفوا ليكونن أحد الأمرين إما إخراج الرسل من ديارهم ، أو عودهم إلى ملتهم ، والعود هنا بمعنى الصيرورة لأنهم لم يكونوا على ملتهم ، كما تقدم فى قصة شعيب عليه السّلام. ويجوز أن يكون الخطاب لكل رسول ، ولمن آمن معه ، فغلّب الجماعة على الواحد ، وقال الذين كفروا فى كل عصر لكل رسول أتاهم : لنخرجنك ، أو لتعودن فى ملتنا. فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ أي : إلى رسلهم ، مجتمعين أو مفترقين - على القولين - وقال فى إيحائه : واللّه لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ فتخلى بلادهم ، وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ أي : أرضهم وديارهم ، (3/50)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 51
لقوله : وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا «1». ذلِكَ الميراث والإسكان لِمَنْ خافَ مَقامِي أي : قيامه للحساب بين يدى فى القيامة ، أو قيامى على عبادى ، وحفظى لأعمالهم ، واطلاعى على سرهم وعلانيتهم. أو خاف عظمة ذاتى وجلالى ، وَخافَ وَعِيدِ أي : وعيدي بالعذاب ، أو عذابى الموعود للكفار.
وَاسْتَفْتَحُوا أي : استفتح الرسل : طلبوا من اللّه الفتح على أعدائهم ، أو القضاء بينهم وبين أعاديهم ، كقوله :
رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ «2» واستفتح الكفرة واستنصروا على غلبة الرسل ، على نحو قول أبى جهل فى غزوة بدر : اللهم ، أقطعنا للرحم ، وآتانا بما لا يعرف ، فأحنه الغداة ، أي : أهلكه. أو : استفتح الفريقان معا ، فكل واحد منهما سأل اللّه أن يهلك المبطل وينصر المحق. وقرأ ابن عباس ومجاهد وابن محيصن : بكسر التاء على الأمر للرسل بطلب الفتح. وَخابَ : خسر كُلُّ جَبَّارٍ : متكبر على اللّه ، عَنِيدٍ : معاند للحق ولمن جاء به. وهذا هو الفتح الذي فتح لهم ، وهو : خيبة المتكبرين وفلاح المؤمنين.
ثم ذكر مآل خيبتهم بقوله : مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ أي : أمامه وبين يديه ، فإنه مرصد بها ، واقف على شفيرها فى الدنيا ، مبعوث إليها بعد الموت فيلقى فيها ، وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ ، وهو ما يسيل من جلود الكفار من القيح والدم. يَتَجَرَّعُهُ : يتكلف جرعه ، أي : زهوقه فى حلقه. روى : «أن الكافر يؤتى بالشربة منه فيتكرهها ، فإذا أدنيت منه شوت وجهه ، وسقطت فيها فروة رأسه ، فإذا شربها قطعت أمعاءه» «3». فيتجرعه وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ أي : لا يقارب أن يسيغه ، أي : يبتلعه بصعوبة فكيف يسيغه ، بل يكلف به ويطول عذابه ثم يبتلعه لأن نفى «كاد» يقتضى الوقوع. والسوغ : جواز الشراب على الحلق بسهولة ، وهذا بخلافه. وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ أي : أسباب الموت مِنْ كُلِّ مَكانٍ من أجل الشدائد التي تحيط به من جميع الجهات. أو : من كل مكان من جسده حتى من أصول شعره وإبهام رجليه. وَما هُوَ بِمَيِّتٍ فيستريح ، وَمِنْ وَرائِهِ : من بين يديه عَذابٌ غَلِيظٌ أي : يستقبل فى كل وقت عذابا أشد مما هو عليه ، وقيل : هو الخلود فى النار ، وقيل : حبس الأنفاس فى الأجساد. قاله الفضيل بن عياض. وقيل : قوله : وَاسْتَفْتَحُوا : كلام منقطع عن قصة الرسل ، بل نزل فى أهل مكة حين استفتحوا بطلب المطر فى السنة التي أخذتهم بدعوة الرسول صلى اللّه عليه وسلم ، فخيب اللّه رجاءهم ولم يسقهم ، وأوعدهم أن يسقيهم - بدلا من سقياهم المطر - صديد أهل النار. قال معناه البيضاوي.
___________
(1) من الآية 137 من سورة الأعراف.
(2) من الآية 89 من سورة الأعراف.
(3) أخرجه أحمد فى المسند (5/ 265) والترمذي فى (أبواب صفة جهنم ، باب ما جاء فى صفة شراب أهل النار) والحاكم فى المستدرك (2/ 351) وصححه ووافقه الذهبي ، عن أبى أمامة مرفوعا.(3/51)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 52
الإشارة : ما خوّفت الكفار به رسلهم خوفت به العوام فقراءهم وأولياءهم ، قال التجيبى ، فى الإنالة ، لما تكلم على خفاء الأولياء ، قال : ومعلوم أن العصمة لم تثبت إلا للنبيين والرسل - عليهم الصلاة والسلام - وأنّ غيرهم يصيب ويخطئ ، ويذنب ويتوب ، لكن لما سطرت مناقب الرجال ، وكراماتهم ، ولم تذكر سيئاتهم ، وطال العهد بهم ، ظن أكثر الخلق أن ليس لهم سيئات ، وقد كان لهم فى أزمانهم المحب والمبغض ، والمسلّم والمنتقد. ثم قال : فمن يرضى يقول أحسن ما يعلم ، ومن يسخط يقول أقبح ما يعلم ، وقد رأى أولئك فى أزمانهم من الأذى والتنقص ، وإساءة الظن بهم ما كان يقصر عنه صبر غيرهم ، وقد أخرج أبو يزيد البسطامي من بسطام مرارا ، ورفع الشبلي والخواص والنوري للسلطان ، وتستر الجنيد بالفقه حين ضيّق على الفقراء ، وقبض على الحلاج ، وضرب ، ومثّل به ، على أنه ساحر زنديق. ه. المراد منه.
قلت : وقد وقع بنا فى مدينة تطوان أيام التجريد أمثال هذا ، فقد خوفنا بالضرب مرارا ، وسجنا وأخرجنا من زاويتنا ، وقال لنا محتسبهم : واللّه لنخرجنكم من مدينتنا ، ونركبكم فى سفينة إلى بر النصارى ، فقلت له : حبا وكرامة ، ولعلنا نذكرهم اللّه حتى يسلموا ، ولما وصل الخبر بهذه المقالة إلى شيخنا ، كتب لنا بهذه الآية : وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ .... إلخ. وكل آية فى الكفار تجر ذيلها على من تشبه بهم ، وإن كان مسلما. وباللّه التوفيق.
ثم ضرب مثلا لعمل الكفار ، فقال :
[سورة إبراهيم (14) : آية 18]
مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (18)
قلت : (مَثَلُ) : مبتدأ ، والخبر محذوف عند سيبويه ، أي : فيما يتلى عليكم مثلهم. وقال الفراء : الخبر ما بعده ، وهو جملة : (أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ) ، أو (أَعْمالُهُمْ) : بدل ، والخبر : (كَرَمادٍ) ، وعلى قول سيبويه تكون جملة : (أَعْمالُهُمْ) :
مستأنفة لبيان مثلهم.
يقول الحق جل جلاله : مَثَلُ أعمال الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ فى عدم الانتفاع بها وذهابها :
كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فى الهوى بسرعة فِي يَوْمٍ عاصِفٍ : شديد ريحه. والعصف : اشتداد الريح.
وصف به زمانه للمبالغة ، كقولهم : نهاره صائم ، وليله قائم. شبه صنائعهم من الصدقة ، وصلة الرحم ، وإغاثة الملهوف ، وعتق الرقاب ، ونحو ذلك من مكارمهم فى حبوطها - لبنائها على غير أساس من الإيمان باللّه ، والتوجه بها إليه - بغبار طارت به الريح العاصفة فِي يَوْمٍ عاصِفٍ ، لا يَقْدِرُونَ يوم القيامة مِمَّا كَسَبُوا من أعمالهم عَلى شَيْءٍ من الانتفاع بها لحبوطها ، وتلاشيها ، فلا يقدرون منها على شىء ، ولا يجدون ثوابها ، (3/52)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 53
وحيل بينهم وبين النفع ، كما حالت الرياح بينك وبين ما تنسفه ، فهو كما قيل : فذلكة التمثيل. ذلِكَ إشارة إلى ضلالهم مع حسبانهم أنهم محسنون ، هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ أي : هو الغاية فى البعد عن طريق الحق.
الإشارة : العمل الذي يثبت لصاحبه هو الذي يصحبه الإخلاص فى أوله ، والإسرار فى آخره ، والتبري فيه من الحول والقوة ، وفى الحديث عنه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال : «إنّ الإبقاء على العمل أشدّ من العمل ، وإنّ الرجل ليعمل العمل فيكتب له عمل صالح ، معمول به فى السر ، يضعّف أجره بسبعين ضعفا ، فلا يزال به الشيطان حتى يذكره للناس ويعلنه ، فيكتب علانيته ، ويمحى تضعيف أجره كله ، ثم لا يزال به الشيطان حتى يذكره للناس ويحب أن يحمد عليه ، فيمحى من العلانية ويكتب رياء ، فاتقى اللّه امرؤ صان دينه ، وإن الرياء شرك». رواه البيهقي «1».
وبهذا تظهر فضيلة عمل القلوب ، كعبادة التفكر والاعتبار ، أو الشهود والاستبصار ، أو نية صالحة وهدى صالح ، أو زهد فى القلب ، وورع وصبر ، وشكر وحلم ، وغير ذلك من أعمال القلوب ، التي لا يطلع عليها ملك فيكتبه ، ولا شيطان فيفسده ، بل يتولى جزاءه أكرم الأكرمين. ولذلك قيل : ذرة من أعمال القلوب أفضل من أمثال الجبال من أعمال الجوارح. وقال عليه الصلاة والسلام : «تفكر ساعة أفضل من عبادة سبعين سنة» ولهذا أمر به - أي :
بالتفكر - بعد ضرب المثل للعمل الظاهر ، فقال :
[سورة إبراهيم (14) : الآيات 19 الى 20]
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (19) وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (20)
يقول الحق جل جلاله : أَلَمْ تَرَ يا محمد ، أو أيها السامع ، أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ لتدل على الحق ، أو بالوجه الذي يحقّ أن تخلق لأجله ، وهو التعريف بخالقها ، وبقدرته الباهرة التي تقدر على الإيجاد والإعدام ، ولذلك قال : إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ ، أي : إن يشأ يعدمكم ويستبدل مكانكم خلقا آخر. فإنّ من قدر على إيجاد صورهم ، وما تتوقف عليه مادتهم ، قادر على أن يبدلهم بخلق آخر وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ أي : بمتعذر ، أو ممتنع لأن قدرته عامة التعلق ، لا تختص بمقدور دون آخر ، ومن كان هذا شأنه كان حقيقا بأن يفرد بالعبادة والقصد رجاء لثوابه ، وخوفا من عقابه يوم الجزاء ، الذي أشار إليه بقوله : وَبَرَزُوا لِلَّهِ ... إلخ.
___________
(1) فى شعب الإيمان (باب فى إخلاص العمل لله وترك الرياء ح 6813 ، ح 6864) من حديث أبى الدرداء ، مرة بلفظ (إن الإبقاء) ومرة بلفظ «إن الاتقاء».(3/53)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 54
الإشارة : ألم تر أن اللّه خلق سماوات الأرواح ، لشهود الحق فى مقام التعريف ، وأرض النفوس لعبادة الحق فى مقام التكليف. الأرواح مستقرها سماء الحقائق ، والأشباح مقرها أرض الشرائع. عالم الأرواح محل التعريف ، وعالم الأشباح محله التكليف. والأرواح لا تنفك عن الأشباح فى الصورة الخلقية ، غير أنها تعرج عنها بالتصفية والذكر ، حتى تترقى إلى عالم الأرواح ، فلا تشهد إلا الأرواح فى محل الأشباح وهذا من أعظم أسرار الربوبية ، التي يطلع عليها العارفون باللّه ، فإذا أطلعهم اللّه على هذا المقام كوشفوا بأسرار الذات العلية ، وبعالم الأرواح الذي هو مظهر أرواح الأنبياء والرسل ، فلا يغيبون عن اللّه ساعة ، ولا عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، ولا عن مقام أرواح الأنبياء والأولياء.
وفى هذا المقام قال الشيخ أبو العباس المرسى رضي اللّه عنه : لى ثلاثون سنة ، ما غاب عنى الحق طرفة عين. وقال أيضا :
لو غاب عنى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ساعة ما عددت نفسى من المسلمين. وقال شيخ شيوخنا سيدى على الجمل العمراني رضي اللّه عنه : مما منّ اللّه به علىّ أنى ما ذكرت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ولا خطر على قلبى إلا وجدتني بين يديه ... إلخ كلامه.
نفعنا اللّه بهم.
وأهل هذا المقام موجودون فى كل زمان ، فإن القادر فى زمانهم هو القادر فى زماننا ، وفى قوله تعالى : إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ .. الآية ، إشارة إلى هذا ، أي : إن يشأ يذهبكم عن شهود أنفسكم ، ويأت بخلق جديد ، تشاهدون به أسرار ربكم ، وما ذلك على اللّه بعزيز. قال أبو المواهب التونسى رضي اللّه عنه : حقيقة الفناء محو واضمحلال ، وذهاب عنك وزوال. ه. فيبرزون من عالم الأشباح إلى عالم الأرواح ، كما قال تعالى :
[سورة إبراهيم (14) : آية 21]
وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً فَقالَ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قالُوا لَوْ هَدانَا اللَّهُ لَهَدَيْناكُمْ سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ (21)
قلت : (تَبَعاً) : جمع تابع ، أو مصدر نعت به للمبالغة على حذف مضاف ، أي : كنا لكم ذا تبع ، و(مِنْ عَذابِ اللَّهِ مِنْ شَيْ ءٍ) : من ، الأولى للبيان ، والثانية زائدة ، هذا المختار. و(مَحِيصٍ) : إما مصدر ، أو اسم مكان.
يقول الحق جل جلاله : وَبَرَزُوا لِلَّهِ أي : لأمر اللّه جَمِيعاً ، فيبرزون من قبورهم يوم القيامة حفاة عراة ، لفصل القضاء ، أو : برزوا للّه على ظنهم فإنهم كانوا يرتكبون الفواحش خفية ، ويظنون أنها تخفى على اللّه ، فإذا كان يوم القيامة انكشفوا للّه عند أنفسهم. وإنما عبّر بالماضي لتحقق وقوعه. فيقول حينئذ الضُّعَفاءُ وهم :
الأتباع ، لضعف رأيهم عندهم ، لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا وهم الرؤساء الذين استتبعوهم وغووهم : إِنَّا كُنَّا لَكُمْ(3/54)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 55
تَبَعاً فى الكفر ، وتكذيب الرسل ، والإعراض عن نصحهم ، فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ أي : فهل أنتم دافعون عنا شيئا من عذاب اللّه؟.
قالُوا ، أي : رؤساؤهم ، فى جوابهم واعتذارهم : لَوْ هَدانَا اللَّهُ لَهَدَيْناكُمْ أي : لو هدانا اللّه للإيمان ، ووفقنا إليه لهديناكم ، ولكن ضللنا فأضللناكم ، أي : اخترنا لكم ما اخترنا لأنفسنا ، ولو هدانا اللّه لطريق النجاة من العذاب لهديناكم وأغنيناه عنكم ، لكن سدّ دوننا طريق الخلاص ، سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ، أي : مستو علينا الجزع والصبر ، ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ : من مهرب ومنجى ، ويحتمل أن يكون قوله : سَواءٌ عَلَيْنا .. إلخ ، من كلام الفريقين معا ، ويؤيده ما روى أنهم يقولون : تعالوا نجزع ، فيجزعون خمسمائة عام ، فلا ينفعهم ، فيقولون : تعالوا نصبر ، فيصبرون كذلك ، ثم يقولون : سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ. نسأل اللّه العصمة بمنّه وكرمه.
الإشارة : إذا ترقى العارفون ، ومن تعلق بهم ، عن عالم الأشباح إلى عالم الأرواح ، وبرزوا لشهود اللّه فى كل شىء ، وقبل كل شىء ، وبعد كل شىء ، وعند كل شىء ، وتنزهوا فى حضرة الأسرار ، ورفعوا يوم القيامة مع المقربين الأبرار ، بقي ضعفاء اليقين الذين تعوقوا عن صحبتهم ، فى غم الحجاب ، وتعب الحس والخواطر ، مسجونين فى سجن الأكوان ، فيقولون لمن عوّقهم عن صحبة العارفين من أهل الرئاسة والجاه : إنا كنا لكم تبعا ، فهل تمنعون شيئا مما نحن فيه من غم الحجاب ، وسقوط الدرجة؟ فيقولون : لو هدانا اللّه لصحبتهم لهديناكم. فإذا نظروا يوم القيامة إلى ارتفاع درجاتهم ضجوا ، وفزعوا على ما فاتهم ، فلا ينفعهم ذلك فما لهم من محيص عن تخلفهم عن مقام المقربين. روى أن أهل عليين إذا أشرفوا على الأسفلين تشرق منازلهم من أنوار وجوههم.
وسيأتى - إن شاء اللّه - الحديث عند قوله : فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ «1».
ثم ذكر خطبة الشيطان على أهل النار ، فقال :
[سورة إبراهيم (14) : آية 22]
وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (22)
قلت : (إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ) : الاستثناء منقطع ، ويجوز الاتصال ، و(بِما أَشْرَكْتُمُونِ) : مصدرية ، أو موصولة اسمية ، و(مِنْ قَبْلُ) : يتعلق بأشركتمون ، وعلى الثاني : بكفرت.
___________
(1) الآية 17 من سورة السجدة.(3/55)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 56
يقول الحق جل جلاله : وَقالَ الشَّيْطانُ ، أي : إبليس الأقدم لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ أي : أمر الحساب ، وفرغ منه ، ودخل أهل الجنة الجنة ، وأهل النار النار. روى أنه ينصب له منبر من نار ، فيقوم خطيبا فى النار على أهل النار ، يعنى على الأشقياء من الثقلين ، فيقول فى خطبته : إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ ، أي : وعدا حقا أنجزه لكم ، وهو وعد البعث والجزاء ، وَوَعَدْتُكُمْ وعد الباطل ، وهو : ألّا بعث ولا حساب ، وإن كان واقعا شىء من ذلك فالأصنام تشفع لكم ، فَأَخْلَفْتُكُمْ ، أي : فظهر خلاف ما وعدتكم ، جعل تبين خلف وعده كالإخلاف منه مجازا. وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ من تسلط ، فألجئكم إلى الكفر والمعاصي ، إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ إلا دعائى إياكم إليها بتسويل وتزيين ، فَاسْتَجَبْتُمْ لِي ، وهو ليس من جنس التسلط ، لكنه تهكم بهم ، على طريقة قوله :
تحيّة بينهم ضرب وجيع «1».
ويجوز أن يكون الاستثناء منقطعا ، أي : ما تسلطت عليكم بالقهر ، لكن دعوتكم فأسرعتم إجابتى ، فَلا تَلُومُونِي فإنّ من اشتهر بالعداوة لا يلام على أمثال ذلك ، وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ حيث أطعتمونى حين دعوتكم ، ولم تطيعوا ربكم لما دعاكم. ولا حجة للمعتزلة فى الآية على أن العبد يخلق أفعاله لأن كسب العبد مقدر فى ظاهر الأمر ، لقيام عالم الحكمة ، وهو رداء لعالم القدرة ، فالقدرة تبرز ، والحكمة تستر ، وهو ما يظهر من اختيار العبد ، ولا اختيار له فى الحقيقة قال تعالى : وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ «2» ، وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ «3».
ثم قال لهم : ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ : بمغيثكم من العذاب ، وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ : بمغيثي ، إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ ، أي : إنى كفرت اليوم بإشراككم إياى من قبل هذا اليوم فى دار الدنيا ، بمعنى : تبرأت منه واستنكرته ، كقوله تعالى : وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ «4». أو : إنى كفرت باللّه الذي أشركتمونى معه فى طاعته من قبل ، حين امتنعت من السجود. والأول أظهر.
قال تعالى : إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ. ويحتمل أن يكون من تتمة خطبة الشيطان ، قال البيضاوي : وفى حكاية أمثال ذلك لطف للسامعين ، وإيقاظ لهم ، حتى يحاسبوا أنفسهم ويتدبروا عواقبهم. ه.
الإشارة : ينبغى لك أيها العبد الصالح الناصح لنفسه أن تصغى بسمع قلبك إلى هذه المقالة ، التي تصدر من الشيطان عند فوات الأوان ، فتبادر إلى خلاص نفسك مادمت فى قيد حياتك ، قبل حلول رمسك «5» ، قبل أن تزل
___________
(1) عجز بيت أوله : وخيل قد دلفت ، لها نجيع. [.....]
(2) من الآية 112 من سورة الأنعام.
(3) من الآية 30 من سورة الإنسان ، ومن الآية 29 من سورة التكوير.
(4) من الآية 14 من سورة فاطر.
(5) أي : دخول القبر.(3/56)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 57
بك القدم ، حيث لا ينفعك الندم ، فتحاسب نفسك ، وتتدبر فى عواقب أمرك ، وتصحح عقائد توحيدك ، وتعمل جهدك فى طاعة ربك ، وتجتنب مواقع غرور الشيطان ، وتعتمد على فضل الكريم المنان ، وتجعل الموت نصب عينيك ، وما هو مستقبل تجعله حاصلا ، وما هو متوقع تجعله واقعا فكل ما هو آت قريب ، و(إِنَّ ما تُوعَدُونَ لَآتٍ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ) «1». وفى الحكم : «لو أشرق نور اليقين فى قلبك لرأيت الآخرة أقرب من أن ترحل إليها ، ولرأيت محاسن الدنيا وكسفة الفناء ظاهرة عليها». وباللّه التوفيق.
ثم شفع بأضداد من غرّهم الشيطان ، فقال :
[سورة إبراهيم (14) : آية 23]
وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ (23)
يقول الحق جل جلاله : وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا ، أي : أدخلهم اللّه على أيدى الملائكة جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ، فيدخلونها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ بأمره ، فيأذن للملائكة أن تدخلهم حين يقضى بينهم.
تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ أي : تحييهم الملائكة ، أو الخدام ، حين يتلقونهم يسلمون عليهم ، ويهنؤنهم ، على ما فى الحديث.
الإشارة : فى ذكر هذه الآية بعد خطبة الشيطان تنبيه على وجه الخلاص منه ، حتى لا يكون من أهل خطبته ، وهو تصحيح الإيمان وتقوية مواده ، وهو ما ذكرنا قبل فى مواد طمأنينة أهل الإيمان. وإن أسعده اللّه بصحبة عارف رقّاه إلى شهود العيان ، فلا يكون للشيطان ولا لغيره عليه سلطان ، لتحقيق عبوديته ، وارتقائه إلى شهود عظمة ربوبيته قال تعالى : إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ «2» ، وهم الذين رسخت فى قلوبهم شجرة الإيمان ، وارتفعت أغصانها إلى الرحمن ، الذي أشار إليها بقوله :
[سورة إبراهيم (14) : الآيات 24 الى 27]
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ (26) يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ ما يَشاءُ (27)
___________
(1) من الآية 134 من سورة الأنعام.
(2) من الآية 42 من سورة الحجر.(3/57)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 58
قلت : (كَلِمَةً طَيِّبَةً) : يجوز أن يكون مفعولا بمحذوف ، أي : جعل كلمة ، وتكون الجملة تفسيرية لضرب المثل ، وأن تكون (كَلِمَةً) : بدلا من (مَثَلًا) ، و(شجرة) : صفة لها ، أو خبرا عن مضمر ، أي : هى شجرة.
يقول الحق جل جلاله : أَلَمْ تَرَ يا محمد ، أو أيها السامع ، كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لأهل «لا إله إلا اللّه» ، وهم : أهل التوحيد ، الذين رسخ التوحيد فى قلوبهم ، وعبّروا عنه بألسنتهم. فمثال الكلمة الطيبة التي نطقوا بها ، ورسخ معناها فى قلوبهم كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ : كالنخلة مثلا ، أَصْلُها ثابِتٌ فى الأرض ، غائص بعروقه فيها ، وَفَرْعُها فِي السَّماءِ أي : أعلاها. أو يريد الجنس ، أي : فروعها وأفنانها فى السماء ، تُؤْتِي أُكُلَها :
تعطى ما يؤكل من ثمرها كُلَّ حِينٍ وقّته اللّه لإثمارها ، فقيل : سنة ، وبه قال ابن عباس وجماعة من المفسرين والفقهاء ، واستدلوا بها على من حلف لا يكلم أخاه حينا لزمه سنة ، وعن ابن عباس أيضا والضحاك وغيرهما :
كُلَّ حِينٍ أي : غدوة وعشية ، ومتى أريد جناها. قلت : وهذا هو الظاهر.
واختلف فى هذه الشجرة الطيبة ، التي ضرب اللّه بها المثل لكلمة الإخلاص ، فقيل : غير معينة ، وقيل : النخلة ، وبه قال الجمهور. قال الشطيبى : وقيل : جوزة الهند ، فإنها ثابتة الأصل ، متصلة النفع ، يكون طعمها أولا لبنا ، ثم عسلا ، ثم تنعقد طعاما ، ويصنع بلبنها ما يصنع بلبن المواشي ، ثم يكون كالخل ، ثم كالخمر ، ثم كالزيت ، كل هذا قبل عقد الطعم ، وأما النخلة فهى : ستة أشهر طلع رخص ، وستة أشهر رطب طيب ، فنفعه متصل. وقال أبو حنيفة :
إنه ببلاد اليمن نوع من التمر ، يقال له : الباهين ، يطعم السنة كلها. ه. قلت : وقد ذكر ابن مقشب جوزة الهند ، ووصفها كما قال الشطيبى ، وقوله : «فى النخلة ستة أشهر ..» إلخ ، فيه نظر ، وصوابه : ثلاثة ، فإن المعاينة ترده.
والمشبه بهذه الشجرة : المؤمن الكامل الدائم نفعه ، المتصل علمه ، أوقاته معمورة بذكر اللّه ، أو تذكير عباد اللّه ، وحركاته وسكناته فى طاعة اللّه ، حيث أراد بها وجه اللّه ، فكل حين وساعة يصعد منه عمل إلى اللّه.
ثم قال تعالى : وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ لأن فى ضربها زيادة إيضاح وإفهام وتذكير فإنه تصوير للمعانى وتقريبها من الحس ، لتفهم سريعا.
ثم ذكر ضدها فقال : وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كلمة الكفر (كَشَجَرَةٍ) كمثل شجرة خَبِيثَةٍ ، كالحنظلة مثلا ، اجْتُثَّتْ : استؤصلت ، وأخذت جثتها ، وقلعت بالكلية (مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ) ، أي : قطعت من فوق الأرض لأن عروقها قريبة منه ، ما لَها مِنْ قَرارٍ : استقرار. وهذا فى مقابلة قوله : أَصْلُها ثابِتٌ. قال البيضاوي : (3/58)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 59
واختلف فى الكلمة والشجرة ففسرت الكلمة الطيبة بكلمة التوحيد - أي : (لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ) ، ودعوة الإسلام والقرآن ، والكلمة الخبيثة بالإشراك باللّه تعالى ، والدعاء إلى الكفر ، وتكذيب الحق. ولعل المراد بهما ما يعم ذلك ، فالكلمة الطيبة : ما أعرب عن حق ، أو دعا إلى صلاح ، والكلمة الخبيثة : ما كان على خلاف ذلك. وفسرت الشجرة الطيبة بالنخلة ، وروى ذلك مرفوعا ، وبشجرة فى الجنة ، والخبيثة بالحنظلة ، ولعل المراد بهما أيضا ما يعم ذلك. ه.
يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ وهو : لا إله إلا اللّه ، أو كل ما يثبت فى القلب ، ويتمكن فيه من الحق ، بالحجة الواضحة فِي الْحَياةِ الدُّنْيا مدة حياتهم ، فلا يزلون إذا افتتنوا فى حياتهم ، أو عند موتهم ، وهى حسن الخاتمة ، وَفِي الْآخِرَةِ عند السؤال ، فلا يتلعثمون إذا سئلوا عن معتقدهم فى القبر ، وعند الموقف ، فلا تدهشهم أهوال القيامة. روى أنه صلى اللّه عليه وسلم ذكر قبض روح المؤمن فقال : «ثمّ تعاد روحه فى جسده ، فيأتيه ملكان ، فيجلسانه فى قبره ، ويقولان له : من ربّك ، وما دينك ، ومن نبيّك؟ فيقول : ربى اللّه ، ودينى الإسلام ، ونبيى محمد صلى اللّه عليه وسلم. فينادى مناد من السّماء : أن صدق عبدى. فذلك قوله تعالى : يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ» «1». قلت : والقدرة صالحة لهذا كله. قال الغزالي : هو أشبه شىء بحال النائم.
وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ الذين ظلموا أنفسهم بالكفر والتقليد ، فلا يهتدون إلى الحق ، ولا يثبتون فى مواقف الفتن. وَيَفْعَلُ اللَّهُ ما يَشاءُ من تثبيت بعض ، وإضلال آخرين ، من غير اعتراض عليه ولا تعقيب لحكمه.
الإشارة : الكلمة الطيبة ، هى كلمة التوحيد ، والشجرة الطيبة هى شجرة الإيمان ، وأصلها هو : التوحيد الثابت فى القلب ، وفروعها : الفرائض والواجبات ، وأغصانها : السنن المؤكدات ، وأوراقها : المندوبات والمستحبات ، وأزهارها :
الأحوال والمقامات ، وأذواقها : الوجدان وحلاوة المعاملات ، وانتهاء طيب أثمارها : العلوم وكشف أسرار الذات ، الذي هو مقام الإحسان ، وهى معرفة الشهود والعيان. فمن لم يبلغ هذا المقام لم يجن ثمرة شجرة إيمانه. ومن نقص شيئا من هذه الفروع نقص بقدرها من شجرة إيمانه ، إمّا من فروعها ، أو من أغصانها ، أو من ورقها ، أو من حلاوة أذواقها ، أو من عرف أزهارها ، أو من طيب ثمرتها. ومعلوم أن الشجرة إذا نبتت بنفسها فى الخلاء ، ولم تلقّح كانت ذكّارة ، تورق ولا تثمر ، فهى شجرة إيمان من لا شيخ له يصلح للتربية ، فإن الفروع والأوراق كثيرة ، والثمار ضعيفة ، أىّ ريح هاج عليها أسقطها. وراجع ما تقدم فى إشارة قوله تعالى : وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ «2». وباللّه التوفيق.
___________
(1) أخرجه بنحوه مطولا أبو داود فى (السّنة ، باب المسألة فى القبر) والحاكم فى المستدرك (1/ 37) وصححه من حديث البراء بن عازب. وأصل الحديث فى الصحيحين.
(2) من الآية 35 من سورة المائدة.(3/59)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 60
ثم ذكر وبال من أنكر هذه النعمة - أعنى نعمة الإيمان - فقال :
[سورة إبراهيم (14) : الآيات 28 الى 30]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ (28) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ (29) وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (30)
يقول الحق جل جلاله : أَلَمْ تَرَ يا محمد إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا شكر نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً بأن وضعوا الكفر مكان الشكر ، أو : بدلوا نفس النعمة كفرا فإنهم لما كفروها سلبت منهم ، فصاروا تاركين لها محصلين للكفر مكانها كأهل مكة ، خلقهم اللّه من نسل إسماعيل عليه السّلام ، وأسكنهم حرمه ، وجعلهم خدّام بيته ، ووسّع عليهم أبواب رزقه ، وعطف عليهم قلوب خلقه ، وتمم شرفهم ببعثة نبيه محمد صلى اللّه عليه وسلم ، فكفروا ذلك ، فقحطوا ، وجاعوا حتى أكلوا الميتة ، وأسروا وقتلوا يوم بدر ، وصاروا كذلك مسلوبى النعمة ، موصوفين بالكفر ، وعن عمر بن الخطاب وعلىّ بن أبى طالب - رضى اللّه عنهما - : أنها نزلت فى الأفجرين من قريش : بنى المغيرة ، وبنى أمية فأمّا بنو المغيرة فكفيتموهم يوم بدر ، وأما بنو أمية فمتّعوا إلى حين. وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ : من أطاعهم فى الكفر والتبديل ، أي : أنزلوهم دارَ الْبَوارِ : دار الهلاك ، بحملهم على الكفر معهم. ثم فسرها بقوله : جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها :
يحترقون فيها ، وَبِئْسَ الْقَرارُ وبئس المستقر جهنم.
ثم بيّن كفرهم ، فقال : وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً : أشباها وأمثالا ، يعبدونها معه ، لِيُضِلُّوا «1» عَنْ سَبِيلِهِ عن طريق التوحيد ، أي : ليكون عاقبتهم الضلال أو الإضلال ، على القراءتين ، أي : ليضلوا فى أنفسهم ، أو ليضلوا غيرهم. وليس الضلال أو الإضلال كان غرضهم فى اتخاذ الأنداد ، ولكن لمّا كان نتيجته وعاقبته جعل كالغرض.
قُلْ تَمَتَّعُوا بشهواتكم الدنيوية ، فإنها فانية ، أو بعبادتكم الأوثان ، فإنها من قبيل الهوى ، والأمر للتهديد.
وفى التهديد بصيغة الأمر إيذان بأن المهدد عليه كالمطلوب لإفضائه إلى المهدد به ، وأن الأمرين كائنان لا محالة ، فلا بد من وقوع تمتعهم ، ولا بد من إفضائهم إلى النار. ولذلك علقه بقوله : فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ ، وأن المخاطب ، لانهماكه فيه ، كالمأمور به من آمر مطاع. قاله البيضاوي.
الإشارة : ظهور أهل التربية فى زمان الغفلة والجهل نعمة عظيمة ، لكن لا يعرفها إلا من سقط عليها ، ومن أنكرها ، وسدّ بابها ، وعوّق الناس عن الدخول فى طريقها ، فقد بدل نعمة اللّه كفرا ، وأحلّ الناس - من تبعه - دار
___________
(1) قرأ ابن كثير وأبو عمرو : بفتح الياء ، وقرأ الباقون بضمها ، من أضل. انظر : الإتحاف (2/ 169).(3/60)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 61
البوار ، وهى : الإقبال على الدنيا ، والانهماك فى الغفلة ، وخراب الباطن من نور اليقين ، وكثرة الخواطر والوساوس ، والحرص والجزع والهلع ، وغير ذلك من أمراض القلوب. وأىّ عذاب للمؤمن أشد من هذا فى الدنيا؟ ويسقط فى الآخرة عن درجة المقربين ، ومن لم يصحب أهل التوحيد الخالص لا يخلو من عبادة أنداد وأشباه بمحبته لهم والركون إليهم. ومن أحب شيئا فهو عبد له. قال الشيخ أبو الحسن الشاذلى رضي اللّه عنه ذات يوم : إنا لا نحب إلا اللّه ، ولا نحب معه شيئا سواه. فقال له بعض الحاضرين : قال جدك رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : «النفس مجبولة على حب من أحسن إليها». فقال له الشيخ : إنا لا نرى الإحسان إلا من اللّه ، ولا نرى معه غيره. ه. بالمعنى.
ثم ذكر ضد أهل الشرك ، فقال :
[سورة إبراهيم (14) : آية 31]
قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ (31)
قلت : (يُقِيمُوا) : جواب شرط مقدر ، يتضمنه قوله : (قُلْ) ، تقديره : إن تقل لهم أقيموا يقيموا ، ومعمول القول ، على هذا ، محذوف. وفيه تنبيه على أنهم لفرط مطاوعتهم للرسول - عليه الصلاة والسلام - ، بحيث لا ينفك فعلهم عن أمره ، وأنه كالسبب الموجب له ، أي : مهما قلت أقاموا وأنفقوا. وقيل : جزم بإضمار لام الأمر. ولا يصح أن يكون جواب الأمر من غير حذف لأن أمر المواجهة لا يجاب بلفظ الغيبة. انظر البيضاوي. وقال ابن عطية : إلّا إن ضمّن (قُلْ) معنى : بلّغ أو أدّ ، فيصح أن يكون (يُقِيمُوا) : جواب أمره. و(سِرًّا وَعَلانِيَةً) : حالان ، أو ظرفان ، ومن قرأ : «لا بيع» بالبناء «1» فقد بنى «لا» مع اسمها بناء التركيب ، ومن قرأ بالرفع فقد أهملها.
يقول الحق جل جلاله : قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا ، خصهم بالإضافة إليه تشريفا لهم ، وتنويها بقدرهم ، وتنبيها على أنهم الذين قاموا بحقوق العبودية. قل لهم يا محمد : يُقِيمُوا الصَّلاةَ التي هى عنوان الإيمان ، بإتقان شروطها وأركانها وآدابها ، وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ من الأموال ، فرضا ونفلا ، سِرًّا وَعَلانِيَةً أي :
مسرين ومعلنين ، أو فى سر وعلانية ، والأحب : إعلان الواجب ، وإخفاء المتطوع به ، إلا فى محل الاقتداء لأهل الإخلاص. مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ فيبتاع المقصر ما يتدارك به تقصيره ، أو ما يفدى به نفسه ، وَلا خِلالٌ : ولا مخاللة ومودة تنفع فى ذلك اليوم ، حتى ينفع الخليل خليله ، وإنما ينفع العمل الصالح ، كالإنفاق لوجه اللّه ، وإقام الصلاة ، وغير ذلك.
الإشارة : قد مدح اللّه هاتين الخصلتين : الصلاة والإنفاق ، وأمر بهما فى مواضع من القرآن لأنهما عنوان الصدق ، أحدهما : عمل بدني ، والآخر : عمل مالى. أما الصلاة فإنها طهارة للقلوب ، واستفتاح لباب الغيوب ، وهى
___________
(1) قرأ ابن كثير وابن عمرو ويعقوب «لا بيع فيه ولا خلال» وقرأ الباقون «لا بيع فيه ولا خلال» راجع الإتحاف (2/ 169).(3/61)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 62
محل المناجاة ، ومعدن المصافاة ، تتسع فيها ميادين الأسرار ، وتشرق فيها شوارق الأنوار ، كما فى الحكم. وفى بعض الأخبار : (إن العبد إذا قام إلى الصلاة رفع اللّه الحجب بينه وبينه ، وواجهه بوجهه ، وقامت الملائكة من لدن منكبيه إلى الهواء ، يصلون بصلاته ، ويؤمّنون على دعائه ، وإن المصلى لينثر عليه البر من عنان السماء إلى مفرق رأسه ، ويناديه مناد : لو يعلم المناجى من يناجى ما انفتل «1». وإن أبواب السماء لتفتح للمصلى. وإن اللّه تعالى يباهى ملائكته بصفوف المصلين). وفى التوراة : يا ابن آدم لا تعجز أن تقوم بين يدىّ مصليا باكيا ، فأنا الذي اقتربت من قلبك ، وبالغيب رأيت نورى. ه. فكانوا يرون أن تلك المراقبة والبكاء ، وتلك الفتوح التي يجدها المصلى فى قلبه من دنو الرب من القلب.
وأما الصدقة فإنها برهان على إيمان صاحبها ، وفى الحديث : «الصّدقة برهان» ، فهى تدل على خروج حب الدنيا من القلب ، وعلى اتصاف صاحبها بمنقبة السخاء ، التي هى أفضل الخصال ، وفى الحديث : «السّخىّ قريب من اللّه ، قريب من النّاس ، قريب من الجنّة ، بعيد من النّار ، والبخيل بعيد من اللّه ، بعيد من النّاس ، بعيد من الجنّة ، قريب من النّار ، ولجاهل سخى أحبّ إلى اللّه من عالم بخيل».
ثم ذكّرهم بالنعم ، ليقيدوها بالشكر قبل أن تسلب منهم ، كما سلبت ممن ذكر قبل ، فقال :
[سورة إبراهيم (14) : الآيات 32 الى 34]
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ (32) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ (33) وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34)
قلت : (اللَّهُ) : مبتدأ ، و(الَّذِي) ، وما بعده : خبر ، و(رِزْقاً لَكُمْ) : مفعول أخرج ، و(مِنَ الثَّمَراتِ) : بيان له ، حال ، ويجوز العكس ، ويجوز أن يراد بالرزق : المصدر ، فينصب على العلة أو المصدر لأن (أخرج) فيها معنى «رزق» ، و(دائِبَيْنِ) : حال ، والدءوب : الدوام على عمل واحد ، و(مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ) : يحتمل أن تكون «ما» مصدرية ، أو موصولة ، أو موصوفة.
يقول الحق جل جلاله : اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ من أجلكم ، السماء تظلكم ، والأرض تقلكم ، وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ ، تعيشون به وتتفكهون منه. ويشمل الملبوس ،
___________
(1) أي : ما انصرف.(3/62)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 63
كالقطن ، والكتان ، وشبه ذلك وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ : بمشيئته وقدرته ، إلى حيث توجههم مع أسباب حكمته ، تغطية لقدرته ، وهو ما يتوقف عليه جريها وإرساؤها ، من الجبال والقلاع ، وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ مطردة لانتفاعكم بالسفن والشرب ، وسائر منافعها ، فجعلها معدّة لانتفاعكم وتصرفكم. وقيل :
تسخير هذه الأشياء : تعليم كيفية اتخاذها والانتفاع بها.
وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ متماديين فى الطلوع والغروب ، يدأبان فى سيرهما وإنارتهما ، وإصلاح ما يصلحانه من المكونات ، بقدرة خالقهما ، وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ يتعاقبان لسكناتكم ومعايشكم. وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ أي : وآتاكم بعض جميع ما سألتموه ، وهو ما يليق بكم ، وما سبق لكم فى مشيئته وعلمه. قال البيضاوي : ولعل المراد بما سألتموه : ما كان حقيقا بأن يسأل لاحتياج الناس إليه ، سئل أو لم يسأل. ه. وقرأ الضحاك وابن عباس : «مِنْ كُلِّ» بالتنوين ، أي : وآتاكم من كل شىء احتجتم إليه ، وسألتموه بلسان الحال. ويجوز على هذا أن تكون «ما» نافية ، فى موضع الحال ، أي : وآتاكم من كل شىء غير سائليه.
وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوها : لا تحصروها ، ولا تطيقوا عدّ أنواعها ، فضلا عن أفرادها ، فإنها غير متناهية فمنها ظاهرة ، ومنها باطنة ، كالهداية والمعرفة. قال طلق بن حبيب : إن حق اللّه أثقل من أن يقوم به العباد ، ونعمه أكثر من أن يحصيها العباد ، ولكن أصبحوا توابين ، وأمسوا توابين. ه. وقال أبو الدرداء : من لم ير نعمة اللّه إلا فى مطعمه ومشربه ، فقد قلّ علمه ، وحضر عذابه. ه. إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ بظلم النعمة لمّا غفل عن شكرها ، أو بظلم نفسه لمّا عرضها للحرمان ، بارتكاب المعاصي ، كَفَّارٌ : شديد الكفران ، وقيل : ظلوم فى الشدة يشكو ويجزع ، كفّار فى النعمة يجمع ويمنع. قاله البيضاوي.
الإشارة : اللّه الذي أنزل من سماء الملكوت علوما وأسرارا ، تحيا به القلوب والأرواح ، فأخرج به من أرض النفوس ثمرة اليقين والطمأنينة ، رزقا لأرواحكم. وسخر لكم فلك الفكرة تجرى فى بحر التوحيد ، وفضاء التفريد بأمره. وسخر لكم أنهار العلوم ، منها ما هو علم الرسوم لإصلاح الظواهر ، ومنها ما هو علم الحقائق لإصلاح الضمائر. وسخر لكم شمس العرفان وقمر الإيمان ، دائبين ، يستضيىء بقمر التوحيد فى السير إلى معرفة أنوار الصفات ، وبشمس العرفان إلى أسرار الذات. وسخّر لكم ليل القبض لتسكنوا فيه ، ونهار البسط لتنشروا فى اقتباس العلوم ، وربما أفادك فى ليل القبض ما لم تستفده فى نهار البسط (لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً). وآتاكم من كل ما سألتموه حين كمل تهذيبكم ، وصح وصلكم ، فيكون أمركم بأمر اللّه. وإن تعدوا نعمة اللّه لا تحصوها إذ نعمة الإيجاد ونعمة الإمداد لا حدّ لهما فى هذه الدار وفى تلك الدار ، ففى كل نفس يمدهم بمدد جديد ، ومع هذا كله يغفل العبد عن هذه النعم!! إن الإنسان لظلوم كفار. وشكرها : نسبتها لمعطيها ، وحمد اللّه عليها. وفى الحكم :
«لا تدهشك واردات النعم عن القيام بحقوق شكرك فإنّ ذلك مما يحط من وجود قدرك».(3/63)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 64
قال سهل بن عبد اللّه رضي اللّه عنه : ما من نعمة إلا والحمد أفضل منها ، والنعمة التي ألهم بها الحمد أفضل من الأولى لأن الشكر يستوجب المزيد. وفى أخبار داود عليه السّلام أنه قال : إلهى ، ابن آدم ليس فيه شعرة إلا وتحتها نعمة ، وفوقها نعمة ، فمن أين يكافئها؟ فأوحى اللّه تعالى إليه : يا داود ، إنى أعطى الكثير وأرضى باليسير ، وإنّ شكر ذلك أن تعلم أن ما بك من نعمة فمنى. ه.
ومن جملة النعم التي يجب الشكر عليها - وهى التي بدّلها الكفار كفرا - عمارة بيت اللّه الحرام ، ودعاء إبراهيم عليه السّلام ، الذي أشار إليه الحق تعالى بقوله :
[سورة إبراهيم (14) : الآيات 35 الى 38]
وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ (35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (36) رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37) رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَما نُعْلِنُ وَما يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (38)
قلت : قال هنا : اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ بالتعريف ، وقال فى سورة البقرة : بَلَداً»
بالتنكير ، قال البيضاوي :
الفرق بينهما أن المسئول فى الأول - أي : فى التعريف - إزالة الخوف وتصييره أمنا ، وفى الثاني جعله من البلاد الآمنة. ه. وفرّق السهيلي : بأن النبي صلى اللّه عليه وسلم كان بمكة حين نزول آية إبراهيم لأنها مكية فلذلك قال فيه : «الْبَلَدَ» بلام التعريف التي للحضور ، بخلاف آية البقرة ، فإنما هى مدنية ، ولم تكن مكة حاضرة حين نزولها ، فلم يعرفها بلام تعريف الحضور. ه. قال ابن جزى : وفيه نظر لأن ذلك كان حكاية عن إبراهيم عليه السّلام ، ولا فرق بين كونه بالمدينة أو بمكة. ه.
قلت : لا نظر فيه لأن الحق تعالى لم يحك لنا قصص الأنبياء بألفاظهم ، وإنما ترجم عنها بلسان عربى ، فينزل على رعاية مقتضى الحال. ولذلك اختلفت الألفاظ فى قصص الأنبياء لأن كل قصة تنزل على ما يقتضيه المقام والحال ، من تعريف وتنكير ، واختصار وإطناب. وقد ذكر أبو السعود فى سورة الأعراف ما يؤيد هذا ، فانظره. واللّه تعالى أعلم.
يقول الحق جل جلاله : وَاذكر إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ يعنى : مكة ، آمِناً لمن فيها من أغدرة الناس عليها ، أو من الخسف والعذاب ، أو من الطاعون والوباء ، وَاجْنُبْنِي أي : امنعني
___________
(1) فى الآية 116.(3/64)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 65
واعصمني ، وَبَنِيَّ من بعدي ، من أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ أي : اجعلنا منهم فى جانب بعيد. قال البيضاوي :
وفيه دليل على أن العصمة للأنبياء بتوفيق اللّه وحفظه إياهم ، وهو بظاهره لا يتناول أحفاده وجميع ذريته ، وزعم ابن عيينة أن أولاد إسماعيل لم يعبدوا الصنم ، محتجا به ، وإنما كانت لهم حجارة يدورون بها ، ويسمونها الدوار ، ويقولون : البيت حجر ، وحيثما نصبت حجرا فهو بمنزلته. ه. قال ابن جزى : وبَنِيَّ يعنى : من صلبه ، وفيهم أجيبت دعوته ، وأما أعقاب بنيه فعبدوا الأصنام. ه. وقد قال فى الإحياء : عنى إبراهيم عليه السّلام بالأصنام ، الذهب والفضة ، بمعنى : حبهما والاغترار بهما ، والركون إليهما. قال عليه الصلاة والسلام : «تعس عبد الدّينار والدّرهم ...» الحديث لأن رتبة النبوة أجلّ من أن يخشى عليها أن تعتقد الألوهية فى شىء من الحجارة. ه.
قلت : الظاهر أن يبقى اللفظ على ظاهره ، فى حقه وفى حق بنيه. أما فى حقه فلسعة علمه وعدم وقوفه مع ظاهر الوعد ، كما هو شأن الأكابر ، لا يزول اضطرارهم ، ولا يكون مع غير اللّه قرارهم ، وهذا كقوله : وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً «1». وتقدم هذا المعنى مرارا. وأما فى حق بنيه فإنما قصد العموم فى نسله ، لكن لم يجب إلا فيما كان من صلبه فإن دعاء الأنبياء - عليهم السّلام - لا يجب أن يكون كله مجابا ، فقد يجابون فى أشياء ، ويمنعون من أشياء. وقد سأل نبينا صلى اللّه عليه وسلم لأمته أشياء ، فأجيب فى البعض ، ومنع البعض. كما فى الحديث «2».
ثم قال إبراهيم عليه السّلام : رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ أي : إن الأصنام أتلفت كثيرا من الخلق عن طريق الحق ، فلذلك سألت منك العصمة ، واستعذت بك من إضلالهن ، وإسناد الإضلال إليهن باعتبار السببية ، كقوله : وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا «3». فَمَنْ تَبِعَنِي على دينى فَإِنَّهُ مِنِّي لا ينفك عنى فى أمر الدين ، وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ، تقدر أن تغفر له ابتداء ، أو بعد التوفيق للتوبة. وفيه دليل على أن كل ذنب فلله أن يغفره ، حتى الشرك ، إلا أن الوعيد فرّق بينه وبين غيره. قاله البيضاوي. قال ابن جزى : وَمَنْ عَصانِي يريد : بغير الكفر ، أو عصاه بالكفر ثم تاب منه ، فهو الذي يصح أن يدعى له بالمغفرة ، ولكنه ذكر اللفظ بالعموم لما كان فيه - عليه السّلام - من التخلق بالرحمة للخلق ، وحسن الخلق. ه.
رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي أي : بعض ذريتى ، وهو : إسماعيل عليه السّلام ، أو : أسكنت ذرية من ذريتى ، وهو إسماعيل ومن ولد منه فإن إسكانه متضمن لإسكانهم ، بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ يعنى : وادي مكة ، لأنها حجرية
___________
(1) من الآية 80 من سورة الأنعام.
(2) قال صلى اللّه عليه وسلم : «سألت ربى ثلاثا ، فأعطانى ثنتين ، ومنعنى واحدة. سألت ربى أن لا يهلك أمتى بالسّنة فأعطانيها ، وسألته أن لا يهلك أمتى بالغرق فأعطانيها ، وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها» أخرجه مسلم فى (كتاب الفتن وأشراط الساعة ، باب هلاك هذه الأمة بعضهم ببعض) من حديث عامر بن سعد عن أبيه. [.....]
(3) من الآية 70 من سورة الأنعام.(3/65)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 66
لا تنبت ، والوادي : ما بين الجبلين ، وإن لم يكن فيه ماء. ولم يقل : ولا ماء ، ولعله علم بوحي أنه سيكون فيه الماء ، عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ الذي حرّمه على الجبابرة من التعرض له والتهاون به ، أو : لم يزل محترما تهابه الجبابرة ، أو منع منه الطوفان ، فلم يستأصله ويمح أثره. وهذا الدعاء وقع منه أول ما قدم ، ولم يكن موجودا ، فلعله قال ذلك باعتبار ما كان ، أي : عند أثر بيتك المحرم ، أو باعتبار ما يؤول إليه من بنائه وعمارته واحترامه.
وقصة إنزاله ولده بمكة : أن هاجر كانت مملوكة لسارة ، وهبها لها جبار من الجبابرة وذلك أن إبراهيم عليه السّلام دخل مدينة ، وكان فيها جبار يغصب النساء الجميلات ، فأخذها ، وأدخلها بيتا ، فلما دخل عليها دعت عليه ، فسقط ، ثم قالت : يا رب إن مات قتلونى فيه ، فقام. فلما دنا منها ، دعت عليه ، فسقط ، فقال فى الثالثة : ما هذه إلا شيطانة ، أخرجوها عنى ، وأعطوها هاجر ، فعصمها اللّه منه ، وأخدمها هاجر ، ثم وهبتها لإبراهيم ، فوطئها فحملت بإسماعيل ، فلما ولدته غارت منها ، فتعب إبراهيم معها ، ثم ناشدته سارة أن يخرجها من عندها ، فركب البراق ، وخرج بها تحمل ولدها حتى أنزلها مكة ، تحت دوحة ، قريبا من موضع زمزم. فلما ولى تبعته ، وهى تقول : لمن تتركنا فى هذه البلاد ، وليس بها أنيس؟ ثم قالت : أاللّه أمرك بهذا؟ قال : نعم ، قالت : إذا لا يضيعنا. فرجعت تأكل من مزود ، تم تركها لها ، وتشرب من قربة ماء ، فلما فرغ الماء نشف اللبن ، وجعل الولد يتخبط من العطش ، فجعلت تطوف من الصفا ، وكان جبلا صغيرا قريبا منها ، وتذهب إلى المروة ، وتسعى بينهما ، لعلها ترى أحدا ، فلما بلغت سبعة أطواف وسمعت صوتا فى الهواء ، فقالت : أغث إن كان معك غياث ، فتبدّى جبريل بين يديها حتى وصل إلى موضع زمزم ، فهمز بعقبه ففار الماء ، فلما رأته دهشت ، وخافت عليه يذهب فجعلت تحوطه ، وتقول : زم زم ، فانحصر الماء. قال صلى اللّه عليه وسلم : «يرحم اللّه أمّ إسماعيل ، لو تركته ، كان عينا معينا» «1». فشربت ، ودرّ لبنها.
ثم إن جرهم رأوا طيورا تحوم ، فقالوا : لا طيور إلا على الماء. فقصدوا الموضع ، فوجدوها مع ابنها ، وعندها عين ، فقالوا لها : أتشركيننا فى مائك ، ونشركك فى ألباننا؟ ففعلت. وفى حديث البخاري : «قالوا لها : أتحبين أن نسكن معك؟ قالت : نعم ، ولكن لا حق لكم فى الماء». فرحلوا إليها ، وسكنوا معها ، ثم زوجوا ولدها منهم. وحديث إتيان إبراهيم يتعاهد ابنه ، وبنائهما الكعبة ، مذكور فى البخاري «2» والسّير.
ثم قال : رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ أي : ما أسكنتهم بهذا الوادي البلقع «3» من كل مرتفق ومرتزق ، إلا لإقامة الصلاة عند بيتك المحرم. وتكرير النداء وتوسيطه ، للإشعار بأنها المقصودة بالذات من إسكانهم ثمّة. والمقصود من الدعاء : توفيقهم لها ، وقيل : اللام للأمر ، وكأنه طلب منهم الإقامة ، وسأل من اللّه أن يوفقهم لها. فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً
___________
(1) أخرجه البخاري فى (أحاديث الأنبياء ، باب : تزفّون : النّسلان فى المشي) من حديث ابن عباس - رضي اللّه عنه.
(2) فى الموضع السابق ذكره.
(3) البلقع : هى الأرض القفر التي لا شىء بها : انظر : اللسان (بلقع 1/ 348).(3/66)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 67
مِنَ النَّاسِ أي : اجعل أفئدة من بعض الناس ، تَهْوِي إِلَيْهِمْ أي : تسرع إليهم شوقا ومحبة ، و«من» :
للتبعيض ، ولذلك قيل : لو قال : أفئدة الناس لازدحمت عليه فارس والروم ، ولحجت اليهود والنصارى. وقيل : للبيان أي : أفئدة ناس. وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ مع كونهم بواد لا نبات فيه ، لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ تلك النعمة ، فأجاب دعوته ، فجعله حرما آمنا تجبى إليه ثمرات كل شىء ، حتى إنه يوجد فيه الفواكه الربيعية والصيفية والخريفية ، فى يوم واحد.
رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَما نُعْلِنُ أي : تعلم سرنا ، كما تعلم علانيتنا ، والمعنى : إنك أعلم بأحوالنا ومصالحنا ، وأرحم منا بأنفسنا ، فلا حاجة لنا إلى الطلب ، لكننا ندعوك إظهارا لعبوديتك ، وافتقارا إلى رحمتك ، واستجلابا لنيل ما عندك. قاله البيضاوي. أي : فيكون مناسبا لحاله فى قوله : «علمه بحالي يغنى عن سؤالى».
وقيل : ما نخفى من وجد الفرقة ، وما نعلن من التضرع إليك والتوكل عليك. وتكرير النداء للمبالغة فى التضرع واللجوء إلى اللّه تعالى. وَما يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ لأن علمه أحاط بكل معلوم. و«من» : للاستغراق.
الإشارة : ينبغى للعبد أن يكون إبراهيميا ، فيدعو بهذا الدعاء على طريق الإشارة ، فيقول : رب اجعل هذا القلب آمنا من الخواطر والوساوس ، واجنبنى وبنىّ ، أي : بعّدنى ومن تعلق بي ، أن نعبد الأصنام ، التي هى الدنانير والدراهم ، وكل ما يعشق من دون اللّه ، (رب إنهن أضللن كثيرا من الناس) فتلفوا فى حبها والحرص عليها ، فلا فكرة لهم إلا فيهما ، ولا شغل لهم إلا جمعهما ، فمن تبعني فى الزهد فيهما ، والغنى بك عنهما ، فإنه منى ، ومن عصانى ، واشتغل بمحبتهما وجمعهما ، (فإنك غفور رحيم).
وقوله : رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ فيه : تعليم اليقين لمن طلب تربية اليقين. قال الورتجبي : فيه إشارة إلى تربية أهله بحقائق التوكل والرضا والتسليم ، ونعم التربية ذلك ، فأعلمنا بسنته القائمة الحنيفية السمحة السهلة ، الخليلية الحبيبية ، الأحمدية المصطفوية - صلوات اللّه عليهما - أن العارف الصادق ينبغى له ألا يكون معوله على الأملاك والأسباب - فى حياته وبعد وفاته - لتربية عياله ، فإنه تعالى حسبه ، وزاد فى تربيتهم بأن يؤدّبهم بإقامة الصلاة ، إظهارا للعبودية ، وإخلاصا فى المعرفة ، وطلبا للمشاهدة ، ومناجاة فى القربة بقوله :
«ربنا ليقيموا الصلاة». إلخ.
وقال القشيري : أخبر عن صدق توكله وتفويضه ، أي : أسكنت قوما من ذريتى بواد غير ذى زرع ، عند بيتك المحرّم. وإنما رد الرّفق لهم فى الجوار فقال : عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ ، ثم قال : لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ. أي : أسكنتهم لإقامة(3/67)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 68
حقّك ، لا لطلب حظوظهم. ويقال : اكتفى بأن يكونوا فى ظلال عنايته عن أن يكونوا فى ظلال نعيمهم. ثم قال :
قوله : بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ أي : أسكنتهم هذا الوادي ، ولا متعلق من الأغيار لقلوبهم ، ولا متناول لأفكارهم وأسرارهم ، فهم مطروحون ببابك ، مقيمون بحضرتك ، جار فيهم حكمك ، إن راعيتهم كفيتهم ، وكانوا أعزّ خلق اللّه ، وإن أقصيتهم وأوبقتهم كانوا أضعف وأذلّ خلقك. ه.
وقوله تعالى : فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ : قال القشيري : ليشتغلوا بعبادتك ، فأفرّد قوما يقومون لهم بكفايتهم ، وارزقهم من الثمرات ، فإنّ من قام بحقّ اللّه قام اللّه بحقّه. فاستجاب اللّه دعاءه فيهم ، فصارت القلوب من أهل كل بر وبحر كالمجبولة على محبة ذلك البيت ، ومحبة أولئك المصلين من سكانه. وقال الورتجبي : سأل أن يجعلهم مرادى جلاله وجماله ، ويجعلهم آية الصادقين والعاشقين ، بقوله : (فاجعل أفئدة من الناس تهوى إليهم) ، تميل بوصف الإرادة والمحبة لك ، والاقتداء بهم فى إقامة سنتك ، وألبسهم لباس أنوارك ، وألق فى قلوب خلقك محبتهم بمحبتك. ه. ومعنى قوله : مرادى جلاله وجماله : أي : مظهرا لجلاله وجماله ، يعشقهم البرّ والفاجر ، والكامل والناقص ، فقد ظهر فيهم الجلال والجمال. واللّه تعالى أعلم.
ثم ذكر بقية كلام إبراهيم عليه السّلام فقال :
[سورة إبراهيم (14) : الآيات 39 الى 41]
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ (39) رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ (40) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ (41)
قلت : (لسميع الدعاء) : من إضافة أمثلة المبالغة إلى مفعوله ، أي : لسميع دعاء من دعاه. و(من ذريتى) :
عطف على مفعول «اجعل» ، أي : اجعلنى وبعض ذريتى مقيمين للصلاة.
يقول الحق جل جلاله ، حاكيا عن خليله عليه السّلام : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ أي : مع كبر سنى عن الولد ، إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ ، روى أنه ولد له إسماعيل لتسع وتسعين سنة ، وإسحاق لمائة وثنتى عشرة سنة ، وقيل : غير ذلك. وإنما ذكر كبر سنه ليكون أعظم فى إظهار النعمة ، وإظهارا لما فيه من الآية ، ولذلك قال : إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ أي : يجيب من دعاه ، من قولك : سمع الملك كلامى ، إذا اعتنى به. وفيه إشعار بأنه تقدم منه سؤال الولد ، فسمع منه ، وأجابه حين وقع اليأس منه ، ليكون من أجلّ النعم وأجلاها.(3/68)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 69
ثم طلب الاستقامة له ولولده بقوله : رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ أي : متقنا لها ، مواظبا عليها ، وَمِنْ ذُرِّيَّتِي فاجعل من يقيمها. والتبعيض لعلمه بالوحى أنّ من ولده من لا يقيمها ، أو باستقرار عادته فى الأمم الماضية أن منهم من يكون كفارا. رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ أي : استجب ، أو تقبل عبادتى. رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ ، وكان هذا الدعاء قبل النهى ، أو قبل تحقق موتهما على الكفر ، أو يريد آدم وحواء. وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ أي : يثبت ويتحقق وجوده ، مستعار من القيام على الرّجل ، كقولهم : قامت الحرب على ساق.
أو يقوم إليه أهله ، فحذف المضاف ، أي : يقوم أهل الحساب إليه ، وأسند إليه قيامهم مجازا.
الإشارة : إتيان النسل البشرى ، أو الروحاني ، من أجلّ النعم وأكملها على العبد. وفى الحديث : «إذا مات العبد انقطع عمله إلّا من ثلاث : صدقة جارية ، أو علم بثّه فى صدور الرّجال ، أو ولد صالح يدعو له بعد موته». والولد الروحاني أتم لتحقق استقامته فى الغالب. وطلب ذلك محمود كما فعل الخليل وزكريا ، وغيرهما ، وقد مدح اللّه من فعل ذلك بقوله : وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ «1». وقرة عين فى الذرية : أن يكونوا على الاستقامة فى الدين ، وسلوك منهاج الصالحين. وكل ما أتوا به من الطاعة والإحسان فللوالدين حظ ونصيب من ذلك ، ولا فرق بين الولد الروحاني والبشرى ، وفى ذلك يقول الشاعر «2» :
والمرء فى ميزانه أتباعه فاقدر إذن قدر النبىّ محمّد
واللّه تعالى أعلم.
ثم تمم قوله : (يوم يقوم الحساب) بذكر أهواله ، فقال :
[سورة إبراهيم (14) : الآيات 42 الى 45]
وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ (42) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ (43) وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ (44) وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ (45)
___________
(1) من آية 74 من سورة الفرقان.
(2) وهو الإمام البوصيرى. انظر ديوانه/ 122. وفيه : فاقدر إذن فضل النبي محمد صلّى اللّه عليه وسلم.(3/69)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 70
قلت : (يوم يأتيهم) : مفعول ثان لأنذر ، ولا يصح أن يكون ظرفا. و(نجب دعوتك) جواب الأمر.
يقول الحق جل جلاله : وَلا تَحْسَبَنَّ أيها السامع ، أن اللَّهَ غافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ ، أو أيها الرسول ، بمعنى : دم على ما أنت عليه من أن اللّه مطلع على أفعالهم ، لا تخفى عليه خافية ، غير غافل عنهم. وهو وعيد بأنه معاقبهم على قليله وكثيره لا محالة. وقيل : إنه تسلية للمظلوم وتهديد للظالم فالحق تعالى يمهل ولا يهمل. إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ ، أي : يؤخر عذابهم لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ ، أي : تحد فيه النظر ، من غير أن تطرف من هول ما ترى.
مُهْطِعِينَ : مسرعين إلى الداعي مذلة واستكانة ، كإسراع الأسير والخائف ونحوه. أو مقبلين بأبصارهم ، لا يطرفون هيبة وخوفا ، مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ : رافعيها إلى السماء كرفع الإبل رأسها عند رعيها أعالى الشجر.
وذلك من شدة الهول ، أو من أجل الغل الذي فى عنقه ، كقوله : إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ «1». وقال الحسن فى هذه الآية : وجوه الناس يوم القيامة إلى السماء لا ينظر أحد إلى أحد. ه.
لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ ، بل تقف أعينهم شاخصة لا تطرف ، أو : لا يرجع إليهم نظرهم فينظروا إلى أنفسهم ، وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ : خلاء ، محترقة ، فارغة من الفهم ، لا تعى شيئا لفرط الحيرة والدهشة. ومنه يقال للأحمق وللجبان : قلبه هواء ، أي : لا رأى فيه ولا قوة. وقيل : خالية من الخير ، خاوية من الحق.
وَأَنْذِرِ النَّاسَ يا محمد ، أي : خوفهم هذا اليوم ، وهو : يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ ، يعنى يوم القيامة ، أو يوم الموت فإنه أول مطلع عذابهم ، فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا بالشرك والتكذيب : رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ أي : أخّر العذاب عنا ، وردنا إلى الدنيا ، وأمهلنا إلى أجل قريب ، نُجِبْ دَعْوَتَكَ حينئذ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ ، ونظيره : لَوْ لا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ «2». قال تعالى لهم : أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ أنكم باقون فى الدنيا ، ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ عنها بالموت ولا بغيره ، ولعلهم أقسموا بطرا وغرورا. أو دل عليه حالهم حيث بنوا مشيدا ، وأمّلوا بعيدا. أو أقسموا أنهم لا ينقلون إلى دار أخرى ، وأنهم إذا ماتوا لا يزالون عن تلك الحالة ، ولا ينقلون إلى دار الجزاء ، كقوله : وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ «3».
وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بالكفر والمعاصي ، من الأمم السالفة كعاد وثمود ، وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ بما تشاهدون من آثارهم الدارسة ، وديارهم الخربة ، وما تواتر عندكم من أخبارهم ،
___________
(1) الآية 8 من سورة يس.
(2) الآية 10 من سورة المنافقون.
(3) الآية 38 من سورة النحل.(3/70)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 71
وَقد ضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ من أحوالهم ، أي : بيّنا لكم أنكم مثلهم فى الكفر واستحقاق العذاب ، أو بيّنا لكم صفات ما فعلوا ، وما فعل بهم ، التي هى فى الغرابة كالأمثال المضروبة.
الإشارة : كما أمهل سبحانه الظالمين إلى دار الشدائد والأهوال ، أمهل عباده الصالحين إلى دار الكرامة والنوال لأن هذه الدار لاتسع ما أراد أن يعطيهم من الخيرات لأنها ضيقة الزمان والمكان ، فقد أجلّ مقدارهم أن يجازيهم فى دار لا بقاء لها ، وتلك الدار باقية لا نفاد لها ، ففيها يتمحض الجمال والجلال. فبقدر ما ينزل على أهل الجلال من الأهوال ينزل على أهل الجمال من الكرامة والنوال. وتأمل ما تمناه أهل الجلال حين نزلت بهم الأهوال من قولهم : (ربنا أخّرنا إلى أجل قريب نجب دعوتك ونتبع الرسل) ، ثم بادر إلى إجابة الداعي ، واتباع الرسول الهادي ، فى كل ما جاء به من الأوامر والنواهي ، واعتبر بمساكن الذين ظلموا أنفسهم ، كيف فعل بهم الزمان؟
وكيف غرتهم الأمانى وخدعهم الشيطان ، حتى أسكنهم دار الذل والهوان؟ فشد يدك على الطاعة والإحسان ، والشكر للّه على الهداية لنعمة الإسلام والإيمان ، وعلق قلبك بمقام الإحسان فإن اللّه يرزق العبد على قدر نيته.
وباللّه التوفيق.
ثم ذكر ما فعل بأهل المكر والخذلان ، فقال :
[سورة إبراهيم (14) : الآيات 46 الى 52]
وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ (46) فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ (47) يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (48) وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (49) سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (50)
لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (51) هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (52)
قلت : (و إن كان مكرهم) «إن» نافية ، واللام للجحود ، ومن قرأ «لّتزول» بفتح اللام ، فإن مخففة ، واللام فارقة و(يوم تبدل) : بدل من (يوم يأتيهم) ، أو ظرف للانتقام ، أو مقدر باذكر ، أو (بمخلف وعده). ولا يجوز أن ينتصب بمخلف لأن ما قبل «إن» لا يعمل فيما بعدها. و(السماوات) : عطف على (الأرض) ، أي : وتبدل السماوات.
يقول الحق جل جلاله : وَقَدْ مَكَرُوا بك يا محمد مَكْرَهُمْ الكلى ، واستفرغوا جهدهم فى إبطال الحق وتقرير الباطل ، وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ أي : مكتوب عنده فعلهم ، فيجازيهم عليه. أو عند اللّه ما يمكرهم به(3/71)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 72
جزاء لمكرهم ، وإبطالا له ، وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ فى العظم والشدة لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ الثوابت لو زالت تقديرا ، أو ما كان مكرهم لتزول منه الجبال ، أي : الشرائع والنبوات الثابتة كالجبال الرواسي. والمعنى على هذا تحقير مكرهم لأنه لا تزول منه تلك الجبال الثابتة الراسخة ، أو : وإن مكرهم لتزول منه الجبال من شدته ، ولكن اللّه عصم ووقى.
وقيل : الآية متصلة بما قبلها ، أي : وسكنتم فى مساكن الذين ظلموا أنفسهم ، ومكروا مكرهم فى إبطال الحق.
فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ ، يعنى : وعد النصر على الأعداء. وقدّم المفعول الثاني ، والأصل :
مخلف رسله وعده ، فقدّم الوعد ليعلم أنه لا يخلف الوعد أصلا على الإطلاق ، ثم قال : رُسُلَهُ ليعلم أنه إذا لم يخلف وعد أحد من الناس ، فكيف يخلف وعد رسله وخيرة خلقه؟! فقدّم الوعد أولا بقصد الإطلاق ، ثم ذكر الرسل لقصد التخصيص. إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ : غالب لا يماكر ، قادر لا يدافع ، ذُو انتِقامٍ لأوليائه من أعدائه.
يظهر ذلك يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ ، أو اذكر يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ ، فتبدل أرض الدنيا يوم القيامة بأرض بيضاء عفراء «1» ، كقرصة النّقى «2» ، كما فى الصحيح «3». وَتبدل السَّماواتُ بأن تنشق وتطوى كطى السجل للكتب ، ويبقى العرش بارزا ، وهو سماوات الجنة.
قال البيضاوي : والتبديل يكون فى الذات ، كقوله : بدلت الدراهم بالدنانير ، وعليه قوله : بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها «4» ، وفى الصفة ، كقولك : بدلت الحلقة خاتما ، إذا أذبتها وغيرت شكلها. وعليه قوله : يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ «5». والآية تحتملها ، فعن على رضى اللّه عنه : تبدل أرضا من فضة وسموات من ذهب ، وعن ابن عباس - رضى اللّه تعالى عنهما - : هى تلك الأرض ، وإنما تغير صفاتها ، ويدل عليه ما روى أبو هريرة رضى اللّه عنه أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال : «تبدّل الأرض غير الأرض فتنبسط ، وتمدّ مد الأديم العكاظىّ «لا ترى فيها عوجا ولا أمتا» «6».
قال ابن عطية : وأكثر المفسرين على أن التبديل يكون بأرض بيضاء عفراء ، لم يعص اللّه فيها ، ولا سفك فيها دم ، وليس فيها معلم لأحد. وروى أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال : «المؤمن فى وقت التبديل فى ظل العرش». وروى عنه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال : «الناس ، وقت التبديل ، على الصّراط» «7». وروى أنه قال : «8» «الناس حينئذ أضياف اللّه فلا يعجزهم ما
___________
(1) العفرة : بياض ليس بالناصع .. انظر النهاية (عفر).
(2) قرصة النّقىّ : الدقيق النقي من الغش والنخال انظر فتح الباري (11/ 383).
(3) قال صلى اللّه عليه وسلم : (يحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء عفراء ، كقرصة النقي ، ليس فيها علم لأحد». أخرجه البخاري فى (الرقاق ، باب يقبض الله الأرض يوم القيامة). ومسلم فى (صفات المنافقين ، باب فى البعث والنشور) من حديث سهل بن سعد الساعدي.
(4) من الآية 56 من سورة النساء.
(5) من الآية 70 من سورة الفرقان. [.....]
(6) جزء من حديث الصور المشهور المروي عن أبى هريرة.
(7) أخرجه مسلم فى (صفات المنافقين وأحكامهم ، باب فى البعث والنشور) من حديث السيدة عائشة - رضى اللّه عنها.
(8) أخرجه بنحوه ابن أبى حاتم فى تفسيره (7/ 2253) من حديث أبى أيوب الأنصاري. وانظر تفسير ابن كثير (2/ 544).(3/72)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 73
وفى سراج المريدين لابن العربي : أن اللّه خلق الأرض مختلفة محدودبة ويخلقها يوم القيامة مستوية ، لا ترى فيها عوجا ولا أمتا ، متماثلة بيضاء كخبرة النقي ، كما فى الصحيح ، وأما تبديل السموات فليس فى كيفيتها حديث ، وإنما هو مجهول. وفى حديث مسلم : «أين يكون الناس يوم تبدل الأرض؟ قال : هم على الصراط». قال : يحتمل أنه الصراط المعروف ، ويحتمل أنه اسم لموضع غيره ، تستقر الأقدام عليه ، وكأنه الأظهر للحديث الآخر. وقد سألته عائشة - رضى اللّه عنها - أين يكون الناس يوم تبدل الأرض؟ قال صلى اللّه عليه وسلم : «هم فى الظّلمة دون الجسر» «1».
والجسر : الصراط. ه.
أما تبديل الأرض : فظاهر الآيات أنها قبل البعث والحشر ، فلا يقع البعث والحشر ، إلا على الأرض المبدلة كقوله : وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً وَحَشَرْناهُمْ «2». وقوله : وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً «3» .. ثم قال : يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ «4». وقوله : إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ «5» ، ثم قال : إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا «6» ، إلى غير ذلك من الآيات. والأرواح حينئذ أضياف اللّه ، أو فى ظل العرش ، أو دون الجسر ، حيث يعلم اللّه. وأما تبديل السماوات فظاهر الأخبار أنه وقت وقوف الناس فى المحشر ، حيث تشقق السماء بالغمام وتنزل الملائكة تنزيلا. واللّه تعالى أعلم.
وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ ، أي : وبرزوا من أجداثهم لمحاسبة الواحد القهار ، أو لمجازاته. وتوصيفه بالوصفين للدلالة على أنه فى غاية الصعوبة ، كقوله : لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ «7» ، وأن الأمر إذا كان لواحد غلاب لا يغالب فلا مستغاث لأحد إلى غيره ولا مستجار ، وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ : قرن بعضهم إلى بعض فِي الْأَصْفادِ : فى القيود ، أو الأغلال ، كل واحد قرن مع صاحبه ، على حسب مشاركتهم فى العقائد والأعمال ، كقوله : وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ «8». أو قرنوا مع الشياطين ، أو مع ما اكتسبوا من العقائد الزائفة والأهوية الفاسدة ، أو قرنت أيديهم وأرجلهم إلى رقابهم بالأغلال. فقوله : فِي الْأَصْفادِ : متعلق بمقرنين ، أو حال من ضميره. والصفد : القيد أو الغل.
سَرابِيلُهُمْ : قمصانهم ، والسربال : القميص ، مِنْ قَطِرانٍ ، وهو الذي تهنأ به الإبل ، أي : تدهن به.
وللنار فيه اشتعال شديد ، فلذلك جعل قميص أهل النار. قال البيضاوي : وهو أسود منتن ، تشتعل فيه النار بسرعة ،
___________
(1) أخرجه مسلم مطولا فى (الحيض ، باب بيان صفة منى الرجل والمرأة) من حديث ثوبان ، مولى رسول الله صلى اللّه عليه وسلم.
(2) من الآية 47 من سورة الكهف.
(3) الآيتان 105 - 106 من سورة طه.
(4) من الآية 108 من سورة طه.
(5) الآية الأولى من سورة الواقعة.
(6) الآيتان : 4 - 5 من سورة الواقعة.
(7) الآية 16 من سورة غافر.
(8) الآية 7 من سورة التكوير.(3/73)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 74
يطلى به جلود أهل النار ، حتى يكون طلاؤه لهم كالقميص ، ليجتمع عليهم لذغ القطران ووحشة لونه ونتن ريحه ، مع إسراع النار فى جلودهم. على أنّ التفاوت بين القطرانين كالتفاوت بين النارين. ه.
وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ ، أي : تكسوها وتأكلها لأنهم لم يتوجهوا بها إلى الحق ، ولم يخضعوا بها إلى الخالق ، كما تطلع على أفئدتهم لأنها فارغة من المعرفة والنور ، مملوءة بالجهالات والظلمة. ونظيره قوله :
أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ «1» ، وقوله تعالى : يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ «2».
فعل ذلك بهم لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ من الإجرام ، أو ما كسبت مطلقا لأنه إذا بيّن أن المجرمين معاقبون لإجرامهم علم أن المطيعين يثابون لطاعتهم. ويتعين ذلك إذا علق اللام ببرزوا. إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ ، فيحاسب الناس فى ساعة واحدة لأنه لا يشغله حساب عن حساب ، فكل شخص يظهر له أنه واقف بين يديه ، يحاسب فى وقت حساب الآخر لأن ذلك وقت خرق العوائد.
هذا القرآن ، أو ما فيه من الوعظ والتذكير ، أو ما وصفه من قوله : وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلًا ... «3» إلخ ، بَلاغٌ لِلنَّاسِ أي : كفاية لهم عن غيره فى الوعظ وبيان الأحكام ، يقال : أعطيته من المال ما فيه بلاغ له ، أي :
كفاية. أو بلاغ أي : تبليغ لهم ، كقوله : إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ «4» ، وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ»
، وقوله : وَلِيُنْذَرُوا بِهِ : عطف على محذوف ، أي : لينصحوا به ، ولينذروا به ، أو متعلق بمحذوف ، أي : ولينذروا به أنزلناه ، وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ بالنظر والتأمل فيما فيه من الآيات الدالة على وحدانيته تعالى ، أو المنبهة على ما يدل عليه. وَلِيَذَّكَّرَ أي : ليتعظ به أُولُوا الْأَلْبابِ أي : القلوب الصافية بالتدبر فى أسرار معانيه وعجائب علومه وحكمه ، فيرتدعوا عما يرديهم ، ويتذرعوا بما يحظيهم. واعلم أنه سبحانه ذكر لهذا البلاغ ثلاث فوائد ، هى الغاية والحكمة فى إنزال الكتاب : تكميل الرسل للناس ، واستكمالهم القوة النظرية التي منتهى كمالها التوحيد ، وإصلاح القوة العملية التي هى التدرع بكمال التقوى. جعلنا اللّه من الفائزين بغايتها. قال معناه البيضاوي.
الإشارة : قد مكر أهل الغفلة بالأولياء ، قديما وحديثا ، واحتالوا على إطفاء نورهم ، فأبى اللّه إلا نصرهم وعزهم (إن اللّه عزيز ذو انتقام) فينتقم لهم وينصرهم. ووقت نصرهم هو حين يتحقق فناؤهم عن الرسوم والأشكال ، فتبدل الأرض عندهم غير الأرض والسماوات فتنقلب كلها نورا مجموعا ببحر الأنوار ، وبمحيطات أفلاك الأسرار ،
___________
(1) من الآية 24 من سورة الزمر.
(2) من الآية 48 من سورة القمر.
(3) الآية 42 من سورة إبراهيم. [.....]
(4) من الآية 48 من سورة الشورى.
(5) الآية 54 من سورة النور.(3/74)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 75
فتذهب ظلمة الأكوان بتجلى نور المكون ، اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ «1». وبرزوا من سجن الأكوان لشهود الواحد القهار.
وقال الورتجبي : يريد أن أرض الظاهر وسماء الظاهر تبدل من هذه الأوصاف ، وظلمة الخليقة ، إلا أنها منورة بنور جلال الحق عليها ، وأنها صارت مشرق عيان الحق للخلق حين بدا سطوات عزته ، بوصف الجبارية والقهارية بقوله : وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها «2» وهناك يا أخى يدخل الوجود تحت أذيال العدم من استيلاء قهر أنوار القدم ، قال : كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ «3». قيل : فأين الأشياء إذ ذاك؟ قال : عادت إلى مصادرها. وقال : متى كانوا شيئا حتى صاروا لا شى ء؟! لأنهم أقل من الهباء فى الهواء فى جنب الحق. ه.
وترى المجرمين ، وهم الغافلون ، مقرنين فى قيود الأوهام ، والشكوك ، مسجونين فى محيطات الأكوان ، سرابيلهم ظلمة الغفلة ، تغشى وجوههم نار القطيعة ، لا تظهر عليها بهجة المحبين ، ولا أسرار العارفين. فعل ذلك بهم ليظهر فضيلة المجتهدين. هذا بلاغ للناس ، ولينذروا به وبال الغفلة والحجاب ، وليتحقق أولوا الألباب أن الوجود إنما هو للواحد القهار. وباللّه التوفيق ، وهو الهادي إلى سواء الطريق.
___________
(1) من الآية 35 من سورة النور.
(2) من الآية 69 من سورة الزمر.
(3) من الآية 88 من سورة القصص.(3/75)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 76(3/76)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 77
سورة الحجر
مكية. وهى تسع وتسعون آية. ومناسبتها لما قبلها : قوله تعالى : هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ «1» ، مع قوله جل جلاله : تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ فهى تتميم لعنوان القرآن ، وتفسير له.
[سورة الحجر (15) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (1) رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ (2) ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (3) وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ (4)
ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ (5)
قلت : رب : حرف جر ، تدل على التقليل غالبا. وفيها ثمانى لغات : التخفيف ، والتثقيل مع ضم الراء وفتحها بالتاء ، ودونها. وتدخل عليها (ما) فتكفها عن العمل ، ويجوز دخولها حينئذ على الفعل ، ويكون ماضيا ، أو منزلا منزلته فى تحقيق وقوعه ، وقد تدخل على الجملة الاسمية كقول الشاعر :
ربّما الجامل المؤبّل فيهم وعناجيج بينهنّ المهار
وجملة : (إلا ولها) : صفة لقرية ، والأصل ألا يدخلها الواو ، كقوله : إِلَّا لَها مُنْذِرُونَ «2» ، لكن لما شابهت صورة الحال دخلت عليها تأكيدا لوصفها بالموصوف.
يقول الحق جل جلاله : أيها الرسول المعظم ، تِلْكَ الآيات التي تتلوها هى آياتُ الْكِتابِ الذي أنزلناه إليك ، وَآيات قُرْآنٍ عربى مُبِينٍ واضح البيان ، مبينا للرشد والصواب ، فمن تمسك به وآمن بما فيه كان من المسلمين الناجين ، ومن تنكب عنه وكفر به كان من الكافرين الهالكين ، وسيندم حين لا ينفع الندم ، كما قال تعالى : رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ : متمسكين بما فيه حتى يكونوا من الناجين. وهذا التمني قيل : يكون عند الموت ، وقيل : فى القيامة ، وقيل : إذا خرج العصاة من النار ، وهذا أرجح لحديث فى ذلك «3». ومعنى التقليل فيه : أنه تدهشهم أهوال يوم القيامة ، فإن حانت منهم إفاقة فى بعض الأوقات تمنوا أن لو كانوا مسلمين.
___________
(1) من الآية 52 من سورة إبراهيم.
(2) من الآية 208 من سورة الشعراء.
(3) عن أبى موسى الأشعري عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال : «إذا اجتمع أهل النار فى النار ، ومعهم من شاء اللّه من أهل القبلة ، قال الكفار لمن فى النار من أهل القبلة : ألستم مسلمين؟ قالوا : بلى ، قالوا : فما أغنى عنكم إسلامكم وأنتم معنا فى النار؟ قالوا : كانت لنا ذنوب فأخذنا - (3/77)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 78
قال تعالى :
ذَرْهُمْ : دعهم اليوم يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا بدنياهم ، وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ : ويشغلهم توثقهم بطول الأعمار ، واستقامة الأحوال ، عن الاستعداد للمعاد ، فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ سوء صنيعهم إذا عاينوا جزاءهم.
والأمر للتهديد ، والغرض : حصول الإياس من إيمانهم ، والإيذان بأنهم من أهل الخذلان ، وأنّ نصحهم بعد هذا تعب بلا فائدة. وفيه إلزام الحجة لهم. وفيه التحذير عن إيثار التنعم ، وما يؤدى إليه طول الأمل من الهلاك عاجلا وآجلا ، ولذلك قال تعالى بعد : وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ أي : أجل مقدر كتب فى اللوح المحفوظ ، ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها أي : أجل هلاكها ، وَما يَسْتَأْخِرُونَ عنه ساعة. وتذكير الضمير فى يَسْتَأْخِرُونَ للحمل على المعنى ، لأن الأمة واقعة على الناس. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : انظر هذا التهديد العظيم ، والخطر الجسيم لمن تمتع بدنياه ، وعكف على حظوظه وهواه : (ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون). وللّه در القائل :
تفكّرت فى الدّنيا وفى شهواتها ولذّاتها حتّى أطلت التّفكّرا
وكيف يلذّ العيش من هو سالك سبيل المنايا رائحا أو مبكّرا
فلا خير فى الدّنيا ولا فى نعيمها لحرّ مقلّ كان أو مكثرا
ثم أجاب من اقترح الآيات ، فقال :
[سورة الحجر (15) : الآيات 6 الى 9]
وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6) لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (7) ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ (8) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (9)
يقول الحق جل جلاله : وَقالُوا أي : كفار قريش : يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ فى زعمه ، أو قالوه تهكما ، إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ أي : إنك لتقول قول المجانين ، حين تدعى أنه ينزل عليك الذكر ، أي : القرآن.
لَوْ ما : هلا تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ ليصدقوك فيما تدعى ، أو يعضدوك على الدعوى ، أو للعقاب على تكذيبنا ، إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ فى دعواك ، قال تعالى : ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ لعذابهم أو لغيره إِلَّا بِالْحَقِّ من الوحى ، والمصالح التي يريدها اللّه ، لا باقتراح مقترح ، أو اختيار كافر ، أو : إلا تنزيلا ملتبسا بالحق ، أي : بالوجه
___________
- بها ، فيغضب اللّه تعالى لهم ، بفضل رحمته ، فيأمر بكل من كان من أهل القبلة فى النار فيخرجون منها ، فحينئذ يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين». أخرجه ابن جرير فى التفسير ، وابن أبى عاصم فى السّنة (1/ 405) ، وابن أبى حاتم فى تفسيره (7/ 2255) والحاكم فى المستدرك (2/ 442) وصححه.(3/78)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 79
الذي قدره فى الأزل ، واقتضته الحكمة الإلهية ، وهو أنه لا تنزل إلا باستئصال العذاب ، وقد سبق فى العلم القديم أن من ذريتهم من سبقت كلمتنا له بالإيمان ، أو يراد بالحق : العذاب ، ويؤيده قوله : وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ أي :
ولو نزلت الملائكة لعوجلوا ، وما كانوا ، إذا نزلت ، مؤخرين عن العذاب ساعة.
ثم رد إنكارهم نزول الذكر واستهزاءهم ، فقال : إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ أي : القرآن ، وأكده بأن وضمير الفصل ، وحفظه بعد نزوله ، كما قال : وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ من التحريف ، والزيادة والنقص ، بأن جعلناه معجزا ، مباينا لكلام البشر ، لا يخفى تغيير نظمه على أهل اللسان. قال القشيري : نزل التوراة ، ووكل حفظها إلى بنى إسرائيل ، بما استحفظوا من كتاب اللّه ، فحرّفوا وبدّلوا ، وأنزل القرآن ، وأخبر أنه حافظه ، فلا جرم أنه كتاب عزيز ، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. ويقال : إنه أخبر أنه حافظ القرآن ، وإنما يحفظه بقرائة ، فقلوب القرّاء هى خزائن كتابه وهو لا يضيع حفظة كتابه ، فإن فى ذلك تضييع كتابه. ه.
وقال ابن عطية على قوله : ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ «1» : ذهبت جماعة من العلماء إلى أنهم بدلوا ألفاظا من تلقائهم ، وأن ذلك ممكن فى التوراة لأنهم استحفظوها ، وغير ممكن فى القرآن لأن اللّه تعالى ضمن حفظه. ه.
الإشارة : كل ما جاء فى القرآن من الإنكار على الرسل على أيدى الكفرة وتنقيصهم ، والاستهزاء بهم ، ففيه تسلية لمن بعدهم من الأولياء. وكذلك ما ذكره الحق تعالى من مقالات أهل الجهل فى جانبه كقوله : لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ «2» ، وقوله : وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ «3» ، إلى غير ذلك من مقالات أهل الجهل ، فكأن الحق تعالى يقول : لو سلم أحد من الناس ، لسلمت أنا وأنبيائى ، الذين هم خاصة خلقى ، فليكن بي وبرسلى أسوة لمن أوذى من أوليائى. وباللّه التوفيق.
ثم تمم تلك التسلية ، فقال :
[سورة الحجر (15) : الآيات 10 الى 15]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (10) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (11) كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (12) لا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (13) وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14)
لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (15)
___________
(1) من الآية 75 من سورة البقرة.
(2) من الآية 181 من سورة آل عمران.
(3) من الآية 64 من سورة المائدة.(3/79)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 80
يقول الحق جل جلاله فى تسلية رسوله - عليه الصلاة والسلام - : وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رسلا فِي شِيَعِ : فرق الْأَوَّلِينَ أي : القرون الماضين ، جمع شيعة ، وهى : الفرقة المتفقة على طريق واحد ، وتتشيع لمذهب أو رجل ، من شاعه إذا تبعه ، أي : نبأنا رجالا فيهم ، وجعلناهم رسلا إليهم ، فكذبوهم واستهزءوا بهم ، فكانوا : ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ كما يفعل بك هؤلاء المجرمون.
كَذلِكَ نَسْلُكُهُ أي : ندخل الاستهزاء فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ. والسلك : إدخال الشيء فى الشيء كالخيط فى المخيط ، وفيه دليل على أنه تعالى يخلق الباطل فى قلوبهم. وإذا سلك فى قلوبهم التكذيب لا يُؤْمِنُونَ بِهِ أبدا. أو : نسلكه ، أي : القرآن مستهزءا به ، أي : مثل ذلك السلك نسلك الذكر فى قلوب المجرمين مكذّبا غير مؤمن به ، ثم هددهم على عدم الإيمان به ، فقال : وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أي : تقدمت طريقتهم على هذه الحالة من الكفر والاستهزاء ، حتى هلكوا بسبب ذلك ، أو مضت سنته فى الأولين بإهلاك من كذب الرسل منهم ، فيكون وعيدا لأهل مكة.
وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أي : على هؤلاء المقترحين المعاندين من كفار قريش ، باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ : يصعدون إليها ، ويرون عجائبها طول نهارهم ، لكذبوا ، أو فظلت الملائكة يعرجون فيها وهم يشاهدونهم لقالوا من شدة عنادهم وتشكيكهم فى الحق : إِنَّما سُكِّرَتْ : حيرت أَبْصارُنا ، فرأينا الأمر على غير حقيقته من أجل السكر الذي أصابنا بالسحر.
ويحتمل أن يكون مشتقا من السكر بفتح السين ، وهو السد ، أي : سدّت أبصارنا ، ومنعنا من الرؤية الحقيقية.
بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ سحرنا محمد ، كما قالوا عند ظهور غيره من الآيات. قال البيضاوي : وفى كلمتى الحصر والإضراب دلالة على جزمهم بأن ما يرونه لا حقيقة له ، بل هو باطل خيّل ما خيل لهم بنوع من السحر. ه. وذلك من فرط عنادهم ، وشقاوتهم. والعياذ باللّه.
الإشارة : هذا كله من قبيل التسلية لأهل الخصوصية ، إذا قوبلوا بالإنكار والاستهزاء ، فيرجعون إلى اللّه ، والاكتفاء بعلمه ، والاشتغال باللّه عنه. وقد قال شيخ شيوخنا سيدى على الجمل رضى اللّه عنه : عداوة العدو حقا هى اشتغالك بمحبة الحبيب ، وأما إذا اشتغلت بعداوة العدو نال مراده منك ، وفاتتك محبة الحبيب. وقال الولي الصالح سيدى أبو القاسم الخصاصى رضى اللّه عنه لبعض تلامذته : لا تشتغل قط بمن يؤذيك ، واشتغل باللّه يرده عنك ، فإنه هو الذي حركه عليك ، ليختبر دعواك فى الصدق. وقد غلط فى هذا الأمر خلق كثير اشتغلوا بإيذاء من آذاهم ، فدام الأذى مع الإثم ، ولو أنهم رجعوا إلى اللّه لردهم عنهم ، وكفاهم أمرهم. ه.(3/80)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 81
ثم دلهم على المعجزة الحقيقية ، التي تدلهم على التوحيد الذي فيه نجاتهم ، فقال :
[سورة الحجر (15) : الآيات 16 الى 25]
وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ (16) وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (17) إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ (18) وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (19) وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ (20)
وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21) وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ (22) وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوارِثُونَ (23) وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (24) وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (25)
يقول الحق جل جلاله : وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً اثنى عشر برجا ، وهى : الحمل ، والثور ، والجوزاء ، والسرطان ، والأسد ، والسّنبلة ، والميزان ، والعقرب ، والقوس ، والجدى ، والدلو ، والحوت ، والبرج عبارة عن قطعة فى الفلك تقطعها الشمس فى شهر فتقطع البروج كلها فى سنة ، ستة يمانية ، وستة شمالية ، وهى مختلفة الهيئات والخواص ، على ما دل عليه الرصد والتجربة. وكل ذلك بقدرة المدبر الحكيم. قال تعالى : وَزَيَّنَّاها بالأشكال والهيئات البهية لِلنَّاظِرِينَ المعتبرين ليستدلوا بها على قدرة مبدعها ، وتوحيد صانعها.
وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ : مرجوم ، فلا يقدر أن يصعد إليها ليسترق السمع منها ، أو يوسوس أهلها ، أو يتصرف فى أمرها ، أو يطلع على أحوالها.
إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ أي : حفظناها من الشياطين ، إلا من استرق منها. والاستراق : الاختلاس ، روى أنهم يركبون بعضهم بعضا حتى يصلوا إلى السماء ، فيسمعون أخبار السماء من الغيب ، فيخطف الجن الكلمة قبل الرمي فيلقيها إلى الكهنة ، ويخلط معها مائة كذبة ، كما فى الصحيح. وروى عن ابن عباس : أنهم كانوا لا يحجبون عن السماوات ، فلما ولد عيسى عليه السّلام منعوا من ثلاث سماوات ، فلما ولد محمد صلى اللّه عليه وسلم منعوا من كلها بالشهب. وقيل :
الاستثناء منقطع ، أي : ولكن من استرق السمع ، فَأَتْبَعَهُ لحقه شِهابٌ مُبِينٌ ظاهر للمبصرين. والشهاب :
شعلة نار يقتبسها الملك من النجم ، ثم يضرب به المسترق ، وقيل : النجوم هى التي تضرب بنفسها ، فإذا أصابت الشيطان قتلته أو خبلته فيصير غولا.
ثم ذكر معجزة الأرض فقال : وَالْأَرْضَ مَدَدْناها : بسطناها ، وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ جبالا ثوابت ، وَأَنْبَتْنا فِيها فى الأرض ، أو فيها وفى الجبال مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ مقدر بمقدار معين تقتضيه(3/81)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 82
حكمته. فالوزن مجاز ، أو ما يوزن حقيقة كالعشب النافعة ، أو كالذهب والفضة وسائر الأطعمة. وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ تعيشون بها من المطاعم والملابس ، وَخلقنا لكم مَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ من الولدان والخدمة والمماليك ، وسائر ما تظنون أنكم ترزقونهم ظنا كاذبا فإن اللّه يرزقكم وإياهم.
قال البيضاوي : وفذلكة الآية : الاستدلال بجعل الأرض ممدودة بمقدار معين ، مختلفة الأجزاء فى الوضع ، محدثة فيها أنواع النباتات والحيوان المختلفة خلقة وطبيعة ، مع جواز ألا تكون كذلك على كمال قدرته ، وتناهى حكمته ، والتفرد فى ألوهيته ، والامتنان على العباد بما أنعم فى ذلك ليوحدوه ويعبدوه. ثم بالغ فى ذلك فقال : وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ أي : وما من شىء إلا ونحن قادرون على إيجاده وتكوينه أضعاف ما وجد منه ، فضرب الخزائن مثلا لاقتداره ، أو شبه مقدوراته بالأشياء المخزونة التي لا يحوج إخراجها إلى كلفة واجتهاد. ه. قال ابن جزى : وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ قيل : المطر ، واللفظ أعم من ذلك ، والخزائن :
المواضع الخازنة ، وظاهر هذا أن الأشياء موجودة قد خلقت. ه. وَما نُنَزِّلُهُ أي : نبرزه من عالم الغيب إلى عالم الشهادة ، إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ : بمقدار محدود فى وقت معلوم اقتضته الحكمة وتعلقت به المشيئة ، لا يزيد ولا ينقص على ما سبق به العلم.
وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ : حوامل للماء فى أوعية السحاب ، يقال : لقحت الناقة والشجرة إذا حملت ، فهى لاقحة ، وألقحت الريح الشجر فهى ملقحة. ولواقح : جمع لاقحة ، أي : حاملة ، أو جمع ملقحة على حذف الميم الزائدة ، فهى على هذا ملقحة للسحاب أو الشجر ، ونظيره : الطوائح ، بمعنى المطيحات فى قوله :
ومختبط ممّا تطيح الطّوائح «1» والرياح أربعة : صبا ، ودبور ، وجنوب ، وشمال. والعرب تسمى الجنوب الحامل واللاقحة ، وتسمى الشمال الحائل والعقيم. وفى البخاري صلى اللّه عليه وسلم : «نصرت بالصّبا ، وأهلكت عاد بالدّبور» «2». وروى أبو هريرة رضي اللّه عنه ، عنه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال : «الرّيح الجنوب من الجنة ، وهى اللواقح التي ذكر اللّه ، وفيها منافع للناس» «3». وفى حديث : «الرّيح من نفس الرحمن» «4». والإضافة هنا إضافة خلق إلى خالق ، كما قال : مِنْ رُوحِي «5». ومعنى نفس الرحمن ، أي :
___________
(1) عجز بيت صدره : (لبيك يزيد صارع لخصومة). وينسب البيت لأكثر من واحد ، والمختبط : طالب العرف المحتاج ، تطيح :
تذهب وتهلك ، والطوائح : جمع المطيحة ، بمعنى السنين أو الجوائح. انظر حاشية الشهاب (5/ 289).
(2) أخرجه البخاري (كتاب الاستسقاء ، باب إذا هبت الريح) من حديث ابن عباس - رضي اللّه عنه - . [.....]
(3) أخرجه ابن جرير فى تفسيره. وو زاد السيوطي ، فى الدر المنثور (4/ 179) ، عزوه لابن أبى الدنيا فى كتاب السحاب ، وأبى الشيخ فى العظمة ، والديلمي فى المسند ، وابن مردويه ، من حديث أبى هريرة.
(4) أخرجه أبو داود فى (الأدب ، باب : ما يقول إذا هاجت الريح) ، عن أبى هريرة ، مرفوعا ، بلفظ : (الريح من روح اللّه) مطولا.
(5) من الآية 29 من سورة الحجر.(3/82)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 83
من تنفيسه وإزالة الكرب والشدائد ، فمن التنفيس بالريح : النصر بالصبا ، وذر الأرزاق بها ، وجلب الأمطار ، وغير ذلك مما يكثر عده. قاله ابن عطية.
والمختار فى تفسير اللواقح : أنها حاملة للماء ، بدليل قوله : فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ أي :
جعلناه لكم سقيا. يقال : سقى وأسقى بمعنى واحد عند الجمهور. وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ : بممسكين له فى الجبال ، والغدران ، والعيون ، والآبار ، فتخرجونه متى شئتم ، بل ذلك من شأن المدبر الحكيم ، فإن طبيعة الماء تقتضى الغور ، فوقوفه دون حد لا بد له من مسبب مخصص ، وجريه بلا انتهاء لا يكون إلا بقدرة السميع العليم ، الذي لا تتناهى قدرته. أو : وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ بقادرين متمكنين من إخراجه وقت الاحتياج إليه. نفى عنهم ما أثبته لنفسه بقوله : عِنْدَنا خَزائِنُهُ.
وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ أي : نحيى من نريد إحياءه بإيجاد الحياة فيه ، ونميت من نريد إماتته بإزالة الحياة منه. وقد أول الحياة بما يعم الحيوان والنبات. وتكرير الضمير للدلالة على الحصر. وَنَحْنُ الْوارِثُونَ :
الباقون إذا مات الخلائق كلهم.
وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ أي : علمنا من تقدم ولادة ، ومن تأخر ، أو من خرج من أصلاب الرجال ومن لم يخرج بعد ، أو من تقدم إلى الإسلام والجهاد وسبق إلى الطاعة ، ومن تأخر ، لا يخفى علينا شىء من أحوالكم. وهو بيان لكمال علمه بعد الاحتجاج على كمال قدرته ، فإنّ ما يدل على كمال قدرته دليل على كمال علمه. قيل : رغّب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فى الصف الأول ، فازدحموا عليه ، فنزلت ، وقيل : إن امرأة حسناء كانت تصلى خلف رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فتقدم بعض القوم لئلا ينظر إليها ، وتأخر بعض ليبصرها ، فنزلت.
قاله البيضاوي.
وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ لا محالة للجزاء ، كأن هذا هو الغرض من ذكر العلم بالمتقدمين والمتأخرين لأنه إذا أحاط بهم علما لم تصعب عليه إعادتهم وحشرهم. إِنَّهُ حَكِيمٌ باهر الحكمة ، عَلِيمٌ واسع العلم والإحاطة بكل معلوم. قال البيضاوي : وفى توسيط الضمير - يعنى فى قوله : هُوَ يَحْشُرُهُمْ للدلالة على أنه القادر والمتولى لحشرهم لا غيره ، وتصدير الجملة بأن لتحقيق الوعيد والتنبيه على أن ما سبق من الدلالة على كمال قدرته وعلمه بتفاصيل الأشياء يدل على صحة الحكم. ه.
الإشارة : ولقد جعلنا فى سماء قلوب العارفين بروجا ، وهى المقامات التي ينزلون فيها بشموس عرفانهم ، وهى : التوبة ، والخوف ، والرجاء ، والورع ، والزهد ، والصبر ، والشكر ، والرضى ، والتسليم ، والمحبة ، والمراقبة ، (3/83)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 84
والمشاهدة. وزيناها للناظرين أي : السائرين حتى يقطعوها جملة محمولين بعناية الجذب ، حتى يحلو لهم ما كان مرا على غيرهم ، وحفظنا سماء قلوبهم من طوارق الشيطان ، إلا ما كان طيفا خياليا لا يثبت ، بل يتبعه شهاب الذكر فيحرقه ، وأرض النفوس مددناها لقيام رسم العبودية ، وظهور عالم الحكمة وآثار القدرة ، وألقينا فيها جبال العقول الرواسي ، لتعرف الرب من المربوب الذي اقتضته الحكمة. وأنبتنا فيها من العلوم الرسمية والعقلية ، ما قدر لها فى العلم المكنون ، وجعلنا لكم فيها من علم اليقين ، وعين اليقين ، وحق اليقين ما تتقوت به قلوبكم ، وتعيش به أرواحكم وأسراركم ، وتعولون به من لستم له برازقين من المريدين السائرين.
سئل سهل رضي اللّه عنه عن القوت ، فقال : هو الحي الذي لا يموت ، فقيل : إنما سألناك عن القوام. فقال : القوام هو العلم ، فقيل : سألناك عن الغذاء ، فقال : الغذاء هو الذكر ، فقيل : سألناك عن طعام الجسد ، فقال : مالك وللجسد ، دع من تولّاه أولا يتولاه آخرا ، إذا دخلت عليه علة رده إلى صانعه ، أما رأيت الصنعة إذا عيبت ردوها إلى صانعها حتى يصلحها. وأنشدوا :
يا خادم الجسم كم تشقى بخدمته وتطلب الربح مما فيه خسران
عليك بالنفس فاستكمل فضيلتها فأنت بالنفس لا بالجسم إنسان
واستكمال فضيلة النفس هو تزكيتها وتحليتها حتى تشرق عليها أنوار العرفان ، وتخرج من سجن الأكوان. وباللّه التوفيق. ثم قال تعالى : وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ من الأرزاق المعنوية والحسية ، أو العلوم اللدنية ، والفتوحات القدسية ، إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ فمن توجه بكليته إلينا فتحنا له خزائن غيبنا ، وأطلعناه على مكنون سرنا شيئا فشيئا ، وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ. وقال الورتجبي : علم الإشارة فى الآية : دعوة العباد إلى حقائق التوكل ، وهى : قطع الأسباب ، والإعراض عن الأغيار ، قيل : كان الجنيد رضي اللّه عنه إذا قرأ هذه الآية وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ ، قال : فأين تذهبون؟. وقال حمدون : قطع أطماع عبيده عمن سواه بقوله : وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ ، فمن رفع بعد هذا حاجته إلى غيره ، فهو لجهله ولؤمه. ه.
وأرسلنا رياح الهداية لواقح ، تلقح الطمأنينة والمعرفة فى قلوب المتوجهين ، وتلقح اليقين والتوفيق فى قلوب الصالحين ، وتلقح الإيمان والهداية فى قلوب المؤمنين ، فأنزلنا من سماء الغيب ماء العلم اللدني ، فأسقيناكموه على أيدى وسائط الشيوخ ، أو بلا واسطة ، وما أنتم له بخازنين ، بل يفيض على قلوبكم عند غلبة الحال ، أو لهداية مريد ، أو عند الاحتياج إليه عند استفتاح القلوب ، وإنا لنحن نحيى قلوبا بالمعرفة واليقين ، ونميت قلوبا بالجهل والكفر ، ونحن الوارثون لبقاء أنوارنا على الأبد. ولقد علمنا المستقدمين منكم إلى حضرة قدسنا بالاستعداد ، وإعطاء الكلية(3/84)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 85
من نفسه ، ولقد علمنا المستأخرين عنها بسبب ضعف همته ، وإن ربك هو يحشرهم فيقرب قوما لسبقهم ، ويبعد آخرين لتأخرهم. إنه حكيم عليم.
ثم ذكر أول نشأة الثقلين ، ليدل بها على الحشر والإعادة ، فقال :
[سورة الحجر (15) : الآيات 26 الى 27]
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (26) وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ (27)
قلت : قال فى الصحاح : الحمأ المسنون : المنتن المتغير. وسنّة الوجه : صورته ، ثم قال : والمسنون : المصوّر ، وقد سننته أسنّه سنّا إذا صوّرته ، والمسنون : المملّس. وفى القاموس : الحمأ المسنون : المنتن ، ورجل مسنون الوجه :
مملسه ، حسنه ، سهله. أو فى وجهه وأنفه طول. وسنن الطين : عمله فخارا. ه. وفى ابن عطية : هو من سننت السكين والحجر : إذا أحكمت تلميسه. انظر بقية كلامه. وموضع مِنْ حَمَإٍ : نعت لصلصال ، أي : كائن من حمأ. و(الجان) : منصوب بمحذوف يفسره ما بعده.
يقول الحق جل جلاله : وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ أي : أصله ، وهو آدم ، مِنْ صَلْصالٍ أي : طين يابس يصلصل. أي : يصوت إذا نقر فيه وهو غير مطبوخ ، فإذا طبخ فهو فخار ، مِنْ حَمَإٍ : من طين أسود مَسْنُونٍ : متغير منتن ، من سننت الحجر على الحجر إذا حككته به فإنّ ما يسيل بينهما يكون منتنا ، ويسمى سنينا. أو مسنون : مصور ، أو مصبوب ليتصور ، كالجواهر المذابة تصب فى القوالب ، من السن ، وهو الصب ، كأنه أفرغ الحمأ فصور منها تمثال إنسان أجوف ، فيبس حتى إذا نقر صلصل ، ثم غير ذلك طورا بعد طور حتى سواه ونفخ فيه من روحه.
وَالْجَانَّ وهو : إبليس الأول ، ومنه تناسلت الجن ، خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ أي : من قبل خلق الإنسان ، مِنْ نارِ السَّمُومِ : من نار الحر الشديد النافذ فى المسام ، ولا يمتنع خلق الحياة فى الأجرام البسيطة ، كما لم يمتنع خلقها فى الجواهر المجردة ، فضلا عن الأجساد المؤلفة ، التي الغالب فيها الجزء الناري ، فإنها أقبل منها لها من التي الغالب فيها الجزء الأرضى. وقوله : مِنْ نارِ : لاعتبار الغالب ، كقوله : خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ «1».
ومساق الآية كما هو للدلالة على قدرة اللّه تعالى ، وبيان بدء خلق الثقلين ، فهو للتنبيه على المقدمة الثانية التي يتوقف عليها إمكان الحشر ، وهو قبول المواد للجمع والإحياء. قاله البيضاوي.
___________
(1) من الآية 11 من سورة فاطر.(3/85)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 86
الإشارة : اعلم أن الخمرة الأزلية ، حين تجلت فى مرائى جمالها ، تلونت فى تجليها ، فتجلت نورانية ونارية ، ومائية وترابية ، وسماوية وهوائية ، إلى غير ذلك من ألوان تجلياتها ، فكانت الملائكة من النور ، والجن من النار ، والآدمي من التراب ، إلا أن الآدمي فيه روح نورانية سماوية ، فاجتمع فيه الضدان : النور والظلمة فشرف قدره فى الجملة ، فاستحق الخلافة ، فإذا غلبت روحانيته على جسمانيته فضل على جميع التجليات ، وما مثاله إلا كالمرآة التي خلفها الطلاء ، فينطبع فيه الوجود بأسره ، إذا صقلت مرآة قلبه ، فتكون معرفته بالحق أجلى وأنصع من معرفة غيره لأن المرآة التي خلفها الطلاء يتجلى فيها ما يقابلها أكثر من غيرها. وأيضا بشرية الآدمي كالياقوتة السوداء إذا صقلت كانت أعظم اليواقيت. وسيأتى بقية الكلام عند قوله تعالى : وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ «1» إن شاء اللّه.
ثم ذكر تشريف آدم الملائكة بالسجود له ، فقال :
[سورة الحجر (15) : الآيات 28 الى 41]
وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28) فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (29) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30) إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (31) قالَ يا إِبْلِيسُ ما لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (32)
قالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (33) قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (34) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ (35) قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (37)
إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (38) قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40) قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41)
قلت : (و إذ قال) : ظرف لاذكر ، وقوله : (فقعوا) : أمر ، من وقع ، يقع ، قع ، فهو مما حذفت فاؤه. وقوله :
فَسَجَدَ معطوف على محذوف ، أي : فخلقه ، وأمر الملائكة فسجدوا.
___________
(1) من الآية 70 من سورة الإسراء.(3/86)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 87
يقول الحق جل جلاله : وَاذكر يا محمد إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ ، قبل خلق آدم : إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ ، وصفه لهم بذلك ليظهر صدق من يمتثل أمره ، قال تعالى : فَإِذا سَوَّيْتُهُ : عدلت خلقته وهيأتها لنفخ الروح فيها ، وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي حين جرى آثاره فى تجاويف أعضائه فحيى ، وأصل النفخ : إجراء الروح فى تجويف جسد آخر. ولما كان الروح يتعلق أولا بالبخار اللطيف المنبعث من القلب ، وتفيض عليه القوة الحيوانية فيسرى فى تجاويف الشرايين إلى أعماق البدن ، جعل تعلقه بالبدن نفخا. قاله البيضاوي. وأضاف الروح إلى نفسه إضافة ملك إلى مالك ، أي : من الروح الذي هو لى ، وخلق من خلقى.
فإذا نفخت فيه فَقَعُوا : فاسقطوا لَهُ ساجِدِينَ. فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ حين أكمل خلقته ، وأمرهم بالسجود ، وقيل : اكتفى بالأمر الأول ، كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ ، أكد بتأكيدين للمبالغة فى التعميم ومنع التخصيص ، إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى : امتنع أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ ، قال البيضاوي : إن جعل الاستثناء منقطعا اتصل به قوله : أَبى أي : لكن إبليس أبى أن يسجد «1» ، وإن جعل متصلا كان قوله أَبى : استئنافا ، على أنه جواب سائل قال : هلا سجد؟ فقال : أبى .. إلخ. قلت : والأحسن : أن يقدر السؤال بعد قوله : إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى أي : وما شأنه؟ فقال : أبى أن يكون مع الساجدين.
قال تعالى : يا إِبْلِيسُ ما لَكَ أىّ شىء عرض لك ، أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ لآدم؟ قالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ أي : لا يصح منى ، بل ينافى حالى أن أسجد لِبَشَرٍ جسمانى كثيف ، وأنا روحانى لطيف ، وقد خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ ، وهو أخس العناصر ، وخلقتنى من نار وهى أشرفها. استنقص آدم من جهة الأصل ، وغفل عن الكمالات التي خصه اللّه بها ، منها : أنه خلقه بيديه بلا واسطة ، أي : بيد القدرة والحكمة ، بخلاف غيره ، ومنها : أنه خصه بالعلوم التي لم توجد عند غيره من الملائكة ، ومنها : أنه نفخ فيه من روحه المضافة إلى نفسه ، ومنها : أنه جعله خليفة فى أرضه ... إلى غير ذلك من الخواص التي تشرف بها فاستحق السجود.
___________
(1) وهذا هو الصحيح فإبليس ، بنص الآية السابقة عن خلق الجان ، قد خلق من نار السموم ، فهذا نص فى اختلاف خلقته ، وخلقه ، عن الملائكة ، فهو جنس آخر غير الملائكة التي خلقها الله من نور ، ولا يعصون الله ما أمرهم ، فهذان دليلان قطعيان فى الثبوت والدلالة ، على أن إبليس ليس ، ولم يكن من الملائكة ، لا خلقا ولا خلقا ، فالاستثناء منقطع.(3/87)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 88
قال له تعالى لمّا امتنع واستكبر : فَاخْرُجْ مِنْها أي : من السماء ، أو من الجنة ، أو من زمرة الملائكة ، فَإِنَّكَ رَجِيمٌ : مطرود من الخير والكرامة فإنّ من يطرد يرجم بالحجر ، أو شيطان يرجم بالشهب ، فهو وعيد يتضمن الجواب عن شبهته ، أي : ليس الشرف بالأصل ، إنما الشرف بالطاعة والقرب. وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ :
الطرد والإبعاد إِلى يَوْمِ الدِّينِ يوم الجزاء ، ثم يتصل باللعن الدائم. وقيل : إنما حد اللعن لأنه أبعد غاية يضربها الناس ، أو لأنه يعذب فيه بما ينسى اللعن ، فيصير كأنه زال عنه ذلك اللعن.
قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي : أخرنى إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ، أراد أن يجد فسحة فى الإغواء ، ونجاة من الموت ، إذ لا موت بعد وقت البعث ، فأجابه إلى الأول دون الثاني ، قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ :
المعين فيه أجلك عند اللّه ، وانقراض الناس كلهم ، وهو النفخة الأولى عند الجمهور.
وهذه المخاطبة ، وإن لم تكن بواسطة ، لا تدل على منصب إبليس لأن خطاب اللّه له على سبيل الإهانة والإذلال. قاله البيضاوي. وجزم ابن العربي ، فى سراج المريدين ، بأن كلام الحق تعالى إنما كان بواسطة ، قال :
لأن اللّه لا يكلم الكفار الذين هم من جند إبليس ، فكيف يكلم من تولى إضلالهم. ه. وتردد المازرىّ فى ذلك وقال : لا قاطع فى ذلك ، وإنما فيه ظواهر ، والظواهر لا تفيد اليقين. ثم قال : وأما قوله : ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ :
فيحتمل أن يكون بواسطة أو بغيرها ، تقول العرب : كلمت فلانا مشافهة ، بالكلام ، وتارة بالبعث. ه. قلت : الظاهر أنه كلمه بلا واسطة من وراء حجاب ، كلام عتاب وإهانة ، كما يوبخ الكفار يوم القيامة ، مع أن الواسطة محذوفة عند المحققين ، وإن وجدت ، صورة.
ثم قال : رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي أي : بسبب إغوائك لى ، لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ ، وقيل : الباء للقسم ، أي :
بقدرتك على إغوائى ، لأزينن لهم المعاصي والكفر فى الدنيا ، التي هى دار الغرور. قال ابن عطية : قوله :
رَبِّ : مع كفره ، يخرج على أنه يقر بالربوبية والخلق ، وهذا لا يدفع فى صدر كفره. وقال ، على قوله : لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ : ليس هذا موضع كفره عند الحذاق لأن إبايته إنما هى معصية فقط ، أي : وإنما كفره لاعتراضه لأمر الحق واستكباره. وأما قوله وتعليله فإنما يقتضى أن آدم مفضول ، وقد أمره أن يسجد لمن هو أفضل منه ، فرأى أن ذلك جور ، فقاس وأخطأ ، وجهل أن الفضائل إنما هى حيث جعلها اللّه تعالى المالك للجميع. ه. مختصرا. وقال المازري : أما كفر إبليس فمقطوع به لقوله : اسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ «1» ثم قال : ويؤكده قوله : رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي ، وقوله : لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ ... الآية «2» ، وغير ذلك من ظواهر ما يدل على كفره.
___________
(1) من آية 34 من سورة البقرة.
(2) الآية 85 من سورة (ص).(3/88)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 89
وأما : هل حدث هذا الكفر بعد إيمان سابق ، أو لم يزل كافرا منذ كان؟ فهذا لا يحصله إلا نص قرآن ، أو خبر متواتر ، أو إجماع أمة ، وهى المحصلة للعلم ، وهذه الثلاثة مفقودة هنا. ه. قلت : والظاهر أن كفره لم يظهر إلا بعد الأمر بالسجود لآدم ، وإنما سبق به العلم القديم ، وكان قد أظهر الإيمان والعبادة واللّه تعالى أعلم.
وقوله : وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ لأحملنهم على الغواية أجمعين ، إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ الذين أخلصتهم لطاعتك ، وطهرتهم من الشهوات ، فلا يعمل فيهم كيدى. ومن قرأ بالكسر فمعناه : الذين أخلصوا دينهم للّه ، وتحصنوا بالإخلاص فى سائر أعمالهم. قالَ تعالى : هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ ، الإشارة إلى نجاة المخلصين ، أو إلى العبادة والإخلاص ، أي : هذا الطريق الذي سلكه أهل الإخلاص فى عبوديتهم هو طريق وارد علىّ ، وموصل إلى جوارى ، لا سبيل لك على أهله لأنه مستقيم لا عوج فيه. وقيل : الإشارة إلى انقسام الناس إلى غاو ومخلص ، أي : هذا أمر إلىّ مصيره ، والنظر فيه لى ، علىّ أن أراعيه وأبينه ، مستقيم لا انحراف فيه. وقرأ الضحاك ومجاهد والنخعي ، وغيرهم : «علىّ» بكسر اللام والتنوين ، من العلو والشرف ، والإشارة حينئذ إلى الإخلاص ، أي : هذا الإخلاص طريق رفيع مستقيم لا تنال أنت بإغوائك أهله يا إبليس.
الإشارة : إنما يصعب الخضوع للجنس أو لمن دونه ، فى حق من يغلب حسه على معناه ، وفرقه على جمعه ، وأما من غلب معناه على حسه ، حتى رأى الأشياء الحسية أوانى حاملة للمعانى ، أي : لمعانى أسرار الربوبية ، بل رآها أنوارا بارزة من بحر الجبروت ، لم يصعب عليه الخضوع لشىء من الأشياء لأنه يراها قائمة باللّه ، ولا وجود لها مع اللّه ، فلا يخضع حينئذ إلا للّه ، فالملائكة - عليهم السلام - نفذت بصيرتهم ، فرأوا آدم عليه السّلام قبلة للحضرة القدسية ، فغلب عليهم شهود المعاني دون الوقوف مع الأوانى ، فخضعوا لآدم صورة ، وللّه حقيقة. وإبليس وقف مع الحس ، وحجب بالفرق عن الجمع ، فلم ير إلا حس آدم دون معناه ، فامتنع عن السجود. وفى الحكم العطائية : «فمن رأى الكون ، ولم يشهد الحق فيه ، أو عنده ، أو قبله ، أو بعده ، أو معه ، فقد أعوزه وجود الأنوار ، وحجبت عنه شموس المعارف بسحب الآثار». ولهذا المعنى صعب الخضوع للأشباح لغلبة الفرق على الناس ، إلا من سبقت له العناية ، فإنه يخضع مع الفرق محبة للّه ، حتى يفتح اللّه عليه فى مقام الجمع ، فيخضع للّه وحده. والتوفيق لهذا ، والسير على منهاجه - أعنى الخضوع لمن يوصل إلى اللّه - هو الصراط الذي أشار إليه الحق تعالى بقوله : (هذا صراط علىّ مستقيم). واللّه تعالى أعلم.
ثم ذكر من لا تسلط للشيطان عليه ، فقال :
[سورة الحجر (15) : الآيات 42 الى 48]
إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ (42) وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (43) لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (44) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (45) ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ (46)
وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (47) لا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ (48)(3/89)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 90
قلت : (إلا من اتبعك) : يحتمل أن يكون منقطعا ، ويريد بالعباد : الخصوص من أهل الإيمان والإخلاص ، أي :
إن عبادى المخلصين لا تسلط لك عليهم ، لكن من اتبعك من الغاوين فهو من حزبك. ويحتمل الاتصال ، ويريد بالعباد جميع الناس ، أي : إن عبادى كلهم ليس لك عليهم سلطان ، إلا من اتبعك من أهل الغواية ، فإنك تتسلط عليه بالوسوسة والتزيين والتحريض فقط ، فيتبعك لقوله يوم القيامة : وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي «1». وعلى الاتصال يكون المستثنى منه أكثر من المستثنى ، وإلا تناقض مع قوله :
لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ. قال أبو المعالي : كون المستثنى أكثر من المستثنى منه ليس معروفا فى كلام العرب. انظر ابن عطية والبيضاوي.
ومِنْهُمُ : حال من جزء مقدم ، أي : لكل باب جزء حاصل منهم مقسوم ، أو من المستكن فى الظرف لا من مقسوم لأن الصفة لا تعمل فيما تقدم موصوفها. وإِخْواناً : حال من الضمير المضاف إليه لأنه جزء ما أضيف إليه ، والعامل فيه : الاستقرار ، أو معنى الإضافة ، وكذا : عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ ، ويجوز أن يكونا صفتين لإخوان ، أو حالين من ضميره.
يقول الحق جل جلاله : إِنَّ عِبادِي المتحققين بالعبودية لى ، المخلصين فى أعمالهم ، لَيْسَ لَكَ يا إبليس عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ أي : غلبة وتسلط بالغواية والإضلال ، إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ الذين سبقت لهم الغواية ، وتنكبتهم العناية. وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ : لموضع إبعاد الغاوين أو المتبعين لك أَجْمَعِينَ ، لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ يدخلون فيها لكثرتهم ، أو طبقات ينزلونها بحسب مراتبهم فى المتابعة ، وفى كل طبقة باب يسلك منه إليها ، فأعلاها : جهنم ، وهى للمذنبين من الموحدين ، ثم لظى لليهود ، ثم الحطمة للنصارى ، ثم السعير للصابئين ، ثم سقر للمجوس ، ثم الجحيم للمشركين ، وكبيرهم أبو جهل ، ثم الهاوية ، وهى الدرك الأسفل ، للمنافقين ،
___________
(1) من الآية 22 من سورة إبراهيم.(3/90)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 91
وعبّر فى الآية عن النار جملة ، بجهنم إذ هى أشهر منازلها وأولها ، وهو موضع العصاة الذين لا يخلدون ، ولهذا روى أن جهنم تخرب وتبلى ، يعنى : حين يخرج العصاة منها. وقيل : أبواب الطبقات السبع كلها من جهنم ، ثم ينزل من كل باب إلى طبقته التي تفضى إليه. قاله ابن عطية.
قال البيضاوي : ولعل تخصيص العدد بالسبعة ، لانحصار مجامع المهلكات فى الركون إلى المحسوسات ، ومتابعة القوة الشهوية والغضبية. ه. فالقوة الشهوية محلها ست وهى : السمع والبصر والشم واللسان والبطن والفرج. والقوة الغضبية فى البطش باليد والرجل ، فالمعاصى المهلكات جلها من هذه السبع ، وملكها القلب ، إذا صلح صلحت ، وإذا فسد فسدت. كما فى الحديث. ثم قال البيضاوي : أو لأن أهلها فرق سبع. ه. يعنى : الفرق التي تقدمت للطبقات ، قال تعالى : لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ أي : من الأتباع جُزْءٌ مَقْسُومٌ أفرد له ، لا يدخل إلا منه ، ولا يسكن إلا فى طبقته. وقد تقدم أهل كل طبقة ، من عصاة الموحدين إلى المنافقين.
ثم شفع بضدهم ، على عادته سبحانه وتعالى فى كتابه ، فقال : إِنَّ الْمُتَّقِينَ للكفر والفواحش ، أو لمتابعة إبليس ، فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ، لكل واحد جنة وعين ، أو لكل واحد جنات وعيون ، يقال لهم عند دخولهم :
ادْخُلُوها ، وقرأ رويس عن يعقوب : «أدخلوها» بضم الهمزة وكسر الخاء ، على البناء للمفعول ، فلا يكسر حينئذ التنوين ، أي : تقول الملائكة لهم : ادخلوها ، أو قد أدخلهم اللّه إياها. بِسَلامٍ أي : سالمين من المكاره والآلام ، أو مسلما عليكم بالتحية والإكرام ، آمِنِينَ من الآفة والزوال.
وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ أي : من حقد وعداوة كانت فى الدنيا ، وعن على رضي اللّه عنه : (أرجو أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزبير منهم) ، أو من التحاسد على درجات ومراتب القرب.
قلت : أما التحاسد على مراتب القرب فلا يكون لاستغناء كل أحد بما لديه ، وأما التأسف والندم على فوات ذلك بالتفريط فى الدنيا فيحصل ، ففى الحديث : «ليس يتحسّر أهل الجنّة على شىء إلّا على ساعة مرّت لهم لم يذكروا اللّه فيها» «1». ولا يحصل التحسر حتى يرى ما فاته باعتبار وقوفه. قال ابن عطية : ذكر هنا نزع الغل من قلوب أهل الجنة ، ولم يذكر له موطنا ، وجاء فى بعض الحديث أن ذلك على الصراط ، وجاء فى بعضها : أن ذلك على أبواب الجنة ، وفى بعضها : أن الغل يبقى على أبوابها كمعاطن الإبل. ثم قال : وجاء فى بعض الأحاديث : أن نزع الغل إنما يكون بعد استقرارهم فى الجنة. والذي يقال فى هذا : أن اللّه ينزعه فى موطن من قوم وفى موطن من آخرين. ه.
___________
(1) أخرجه البيهقي فى شعب الإيمان (باب فى محبة الله عز وجل 512) من حديث معاذ بن جبل ، وعزاه السيوطي فى الجامع الصغير (2/ 471) للطبرانى والبيهقي فى الشعب ، ورمز له بالحسن.(3/91)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 92
قلت : والذي جاء فى الأحاديث الواردة فى أخبار الآخرة : أن أهل الجنة ، إذا قربوا منها وجدوا على بابها عينين ، فيغتسلون فى إحداهما ، فتنقلب أجسادهم على صورة آدم عليه السّلام ، ثم يشربون من الأخرى فتطهر قلوبهم من الغل والحسد ، وسائر الأمراض ، وهو الشراب الطهور. قال القشيري فى قوله تعالى : وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً «1» : يقال : يطهّرهم من محبة الأغيار ، ويقال : ويطهّرهم من الغلّ والغشّ والدعوى ... إلخ ما يأتى إن شاء اللّه تعالى. واللّه تعالى أعلم ، وسترى وتعلم.
ثم قال تعالى : إِخْواناً ، أي : لما نزعنا ما فى صدورهم من الغل صاروا إخوانا متوددين ، لا تباغض بينهم ولا تحاسد ، عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ يقابل بعضهم بعضا على الأسرة ، لا ينظر أحد فى فناء صاحبه. وقال شيخ شيوخنا سيدى عبد الرحمن الفاسى : المتجه أن المقابلة معنوية ، وهى عدم إضمار الغل والإعراض ، سواء اتفق ذلك حسا أم لا ، ومن أضمر لأخيه غلا فليس بمقابله ، ولو كان وجهه إلى وجهه ، بل ذلك أخلاق نفاق ، ولذلك شواهد بذمه لا بمدحه. ه. لا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ أي : تعب ، وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ ، لأن تمام النعمة لا يكون إلا بالخلود والدوام فيها. أكرمنا اللّه بتمام نعمته ، ودوام النظر إلى وجهه. آمين.
الإشارة : لا ينقطع عن العبد تسلط الشيطان حتى يدخل مقام الشهود والعيان ، حين يكون عبدا خالصا للّه ، حرا مما سواه ، وذلك حين ينخرط فى سلك القوم ، ويزول عنه لوث الحدوث والعدم ، فيفنى من لم يكن ، ويبقى من لم يزل ، وذلك بتحقيق مقام الفناء ، ثم الرجوع إلى مقام البقاء. قال الشيخ أبو المواهب رضي اللّه عنه : من رجع إلى البقاء أمن من الشقاء وذلك أن العبد حين يتصل بنور اللّه ، ويصير نورا من أنواره ، يحترق به الباطل ويدمغ ، فلا سبيل للأغيار عليه. ولذلك قال بعضهم : نحن قوم لا نعرف الشيطان ، فقال له القائل : فكيف ، وهو مذكور فى كتاب اللّه تعالى ، قال تعالى : إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا «2»؟. فقال : نحن قوم اشتغلنا بمحبة الحبيب ، فكفانا عداوة العدو. وحين يتحقق العبد بهذا المقام ينخرط فى سلك قوله تعالى : إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ. ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ. وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ .. الآية ، وهذا لا ينال إلا بالخضوع لأهل النور ، حتى يوصلوه إلى نور النور ، فيصير قطعة من نور ، غريقا فى بحر النور. ومع هذا لا ينقطع عنه الخوف والرجاء ، لقوله تعالى :
[سورة الحجر (15) : الآيات 49 الى 50]
نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ (50)
___________
(1) من الآية 21 من سورة الإنسان.
(2) من الآية 6 من سورة فاطر.(3/92)
البحر المديد ج 3 ، ص : 93
يقول الحق جل جلاله : نَبِّئْ : أخبر ، عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ لمن آمن بي ، وصدق رسلى ، وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ لمن كفر بي ، وجحد رسلى ، أو بعضهم. قال البيضاوي : هى فذلكة ما سبق من الوعد والوعيد ، وتقرير له ، وفى ذكر المغفرة دليل على أنه لم يرد بالمتقين متقى الذنوب بأسرها ، كبيرها وصغيرها ، وفى توصيف ذاته بالغفران والرحمة دون التعذيب - أي : لم يقل وأنا المعذب المؤلم - ترجيح الوعد. ه.
وذكر ابن عطية أن سبب نزولها : أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم جاء إلى جماعة من أصحابه ، عند باب بنى شيبة فى الحرم ، فوجدهم يضحكون ، فزجرهم ووعظهم ، ثم ولى ، فجاءه جبريل عن اللّه ، فقال : يا محمد أتقنّط عبادى؟ وتلى عليه الآية ، فرجع بها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إليهم وأعلمهم «1». ه. ثم قال : ولو لم يكن هذا السبب لكان ما قبلها يقتضيها إذ تقدم ذكر ما فى النار وذكر ما فى الجنة ، فأكّد تعالى تنبيه الناس بهذه الآية. ه.
قيل : وهذه الآية أبلغ ما فى القرآن فى إثارة الخوف والرجاء ، من الآي التي لا تشبهها فى الإجمال لما فيها من التصريح ، ثم الرجاء فيها أغلب لأجل التقديم ، مع ذكره فى آية الرجاء ، لصفاته العلية وأسمائه الحسنى ، وذلك يؤذن بالتهمم به وترجيحه ، وهو مذهب الصوفية فى حال الحياة والممات.
الإشارة : الخوف والرجاء يتعاقبان على الإنسان ، فتارة يغلب عليه الخوف ، وتارة يغلب عليه الرجاء. هذا قبل الوصول ، وأما بعد الوصول فالغالب عليهم الاعتدال ، قال فى التنبيه : أما العارفون الموحدون فإنهم على بساط القرب والمشاهدة ، ناظرون إلى ربهم ، فانون عن أنفسهم ، فإذا وقعوا فى ذلة ، أو أصابتهم غفلة ، شهدوا تصريف الحق تعالى لهم ، وجريان قضائه عليهم. كما أنهم إذا صدرت منهم طاعة ، أو لاح منهم لائح من يقظة ، لم يشهدوا فى ذلك أنفسهم ، ولم يروا فيها حولهم ولا قوتهم لأن السابق إلى قلوبهم ذكر ربهم ، فأنفسهم مطمئنة تحت جريان أقداره ، وقلوبهم ساكنة بما لاح لهم من أنواره ، ولا فرق عندهم بين الحالين لأنهم غرقى فى بحار التوحيد ، قد استوى خوفهم ورجاؤهم ، فلا ينقص من خوفهم ما يجتنبونه من العصيان ، ولا يزيد فى رجائهم ما يأتون من الإحسان. ه. قلت : بل طرق الرجاء عندهم أرجح ، كما تقدم لأن الرجاء ناشئ عن غلبة المحبة ، وهى غالبة.
واللّه تعالى أعلم.
___________
(1) أخرجه بنحوه الطبري فى تفسيره (14/ 102) عن رجل من أصحاب النبي صلى اللّه عليه وسلم ، وذكره الواحدي فى أسباب النزول (283) بدون سند.(3/93)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 94
ثم ذكر قصة إبراهيم مع أضيافه لاشتمالها على الرحمة ، وهى البشارة بالولد ، وعلى النقمة ، وهى الإعلام بتعذيب قوم لوط ، فقال :
[سورة الحجر (15) : الآيات 51 الى 60]
وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ (51) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (52) قالُوا لا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (53) قالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (54) قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ (55)
قالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ (56) قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (57) قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (58) إِلاَّ آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (59) إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ (60)
قلت : سَلاماً : مفعول بمحذوف ، أي : سلمنا سلاما ، أو نسلم عليكم سلاما. والضيف يطلق على الواحد والجماعة ، والمراد هنا : جماعة من الملائكة. و(تبشرون) : قرئ بشد النون بإدغام نون الرفع فى نون الوقاية ، وبالتخفيف بحذف إحدى النونين ، وبالفتح ، على أنها نون الرفع. و(يقنط) : بالفتح والكسر ، يقال : قنط كضرب وعلم.
يقول الحق جل جلاله : وَنَبِّئْهُمْ أي : وأخبر عبادى عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ حين بشروه بالولد ، وأعلموه بعذاب قوم لوط ، لعلهم يعتبرون فيرجون رحمته ويخافون عذابه. أو : ونبئهم أن من اعتمد منهم على كفره وغوايته ، فالعذاب لاحق به فى الدنيا ، كحال قوم لوط. ثم ذكر قصتهم من أولها فقال : وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ ، وذلك حين دَخَلُوا عَلَيْهِ ، وهم أربعة : جبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل ، فَقالُوا سَلاماً أي : نسلم عليكم سلاما ، قال : سلام ، ثم أتاهم بعجل حنيذ ، فلما قربه إليهم ، قالوا : إنا لا نأكل طعاما إلا بثمن ، فقال إبراهيم : إن له ثمنا ، قالوا : وما ثمنه؟ قال : تذكرون اسم اللّه على أوله ، وتحمدونه على آخره ، فنظر جبريل إلى ميكائيل فقال : حق لهذا أن يتخذه ربه خليلا ، فلما رأى أنهم لا يأكلون فزع منهم. ومن طريق آخر : أن جبريل مسح بجناحه العجل ، فقام يدرج حتى لحق بأمه فى الدار. ه. هكذا ذكر القصة المحشى الفاسى عن ابن حجر.
فلما أحس إبراهيم عليه السّلام بالخوف منهم قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ : خائفون إما لامتناعهم من أكل طعامه ، أو لأنهم دخلوا بغير إذن ، أو فى غير وقت الدخول. والوجل : اضطراب النفس لتوقع مكروه. قالُوا لا تَوْجَلْ : (3/94)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 95
لا تخف ، ثم عللوا نهيه عن الخوف فقالوا : إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ وهو إسحاق ، لقوله : فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ «1» ، عَلِيمٍ إذا بلغ أوان العلم. قالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ أي : أبشرتموني بالولد مع أنى قد كبر سنى ، وكان حينئذ من مائة سنة وأكثر ، فَبِمَ تُبَشِّرُونَ؟ أي : فبأى أعجوبه تبشرون؟ أو فبأى شىء تبشرون؟
فإن البشارة بما لا يتصور وقوعه عادة بشارة بغير شىء. قال ذلك على وجه التعجب من ولادته فى كبره.
قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ : باليقين الثابت الذي لا محالة فى وقوعه ، فلا تستبعده ، ولا تشك فيه ، فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ : من الآيسين ، فإن اللّه تعالى قادر على أن يخلق بشرا من غير أبوين ، فكيف من شيخ فان وعجوز عاقر. وكان استعجاب إبراهيم باعتبار العادة دون القدرة ولذلك قالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ أي : لا ييأس من رحمة ربه إِلَّا الضَّالُّونَ : المخطئون طريق المعرفة ، فلا يعرفون سعة رحمته تعالى ، وكمال قدرته. قال القشيري : أي : من الذي يقنط من رحمة اللّه إلا من كان ضالا ، فكيف أخطأ ظنكم بي ، فتوهمتم أنى أقنط من رحمة ربى؟. ه. وفيه دليل على تحريم القنوط قال تعالى : إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ «2».
قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ أي : ما شأنكم الذي أرسلتم لأجله سوى البشارة؟ ولعله علم أن كمال المقصود ليس هو البشارة فقط ، لأنهم كانوا عددا ، والبشارة لا تحتاج إلى عدد ، ولذلك اكتفى بالواحد فى بشارة زكريا ومريم. أو لأنهم بشروه فى تضاعيف الحال لإزالة الوجل ، ولو كانت تمام المقصود لابتدروه بها. ثم أجابوه : قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ يعنى : قوم لوط لأن شأنهم الإجرام بفعل الفاحشة ، إِلَّا آلَ لُوطٍ أي : لكن آل لوط لم نرسل إلى عذابهم إذ ليسوا مجرمين. أو أرسلنا إلى قوم أجرموا كلهم ، إلا آل لوط ، لنهلك المجرمين وننجى آل لوط ، ويدل عليه قوله : إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ من العذاب الذي يهلك به قوم لوط.
قال ابن جزى : قوله : إِلَّا آلَ لُوطٍ : يحتمل أن يكون استثناء من قومه ، فيكون منقطعا لوصف القوم بالإجرام ، ولم يكن آل لوط مجرمين. ويحتمل أن يكون استثناء من الضمير فى مُجْرِمِينَ فيكون متصلا ، كأنه قال : إلى قوم أجرموا كلهم إلا آل لوط فلم يجرموا ، وقوله : إِلَّا امْرَأَتَهُ استثناء من آل لوط ، فهو استثناء من استثناء. قيل : وفيه دليل على أن الأزواج من الآل لأنه استثنى امرأته من آله. وقال الزمخشري : إنما هو
___________
(1) من الآية 71 من سورة هود. [.....]
(2) من الآية 87 من سورة يوسف.(3/95)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 96
استثناء من الضمير المجرور فى قوله : إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ ، وذلك هو الذي يقتضيه المعنى. ه. أي : إنا لمنجوهم من العذاب إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ الباقين فى العذاب مع الكفرة لتهلك معهم ، وقرأ أبو بكر عن عاصم : «قدرنا» بالتخفيف ، وهما لغتان ، يقال : قدّر اللّه كذا وقدره. قال البيضاوي : وإنما علق ، والتعليق من خواص أفعال القلوب لتضمنه معنى العلم ، ويجوز أن يكون (قدرنا) : أجرى مجرى قلنا لأن التقدير بمعنى القضاء قول ، وأصله : جعل الشيء على مقدار غيره ، وإسناد التقدير إلى أنفسهم ، وهو فعل اللّه تعالى لما لهم من القرب والاختصاص. ه.
قلت : وفيه إشارة إلى حذف الوسائط ، كما هو توحيد المحققين. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : لا يلزم من ثبوت الخصوصية عدم وصف البشرية ، فالوجل والخوف والفرح والحزن والتعجب والاستعظام للأشياء الغريبة ، كل ذلك من وصف البشر ، يقع من الخصوص وغيرهم ، لكن فرق بين خاطر وساكن فالخصوص تهجم عليهم ولا تثبت ، بخلاف العموم.
ويؤخذ من الآية : أن صحبة الخصوص لا تنفع إلا مع الاعتقاد والتعظيم ، فإنّ امرأة نبى اللّه لوط كانت متصلة به حسا ، ومصاحبة له ، ولم ينفعها ذلك ، حيث لم يكن لها فيه اعتقاد ولا تعظيم. وكذلك صحبة الأولياء : لا تنفع إلا مع الصدق والتعظيم. وقول ابن عطاء اللّه : «سبحان من لم يجعل الدليل على أوليائه إلا من حيث الدليل عليه.
ولم يوصل إليهم إلا من أراد أن يوصله إليه» : مقيد بوصول التعظيم والاعتقاد ، والاستماع والاتباع. واللّه تعالى أعلم.
ثم ذكر قصة هلاك قوم لوط ، فقال :
[سورة الحجر (15) : الآيات 61 الى 77]
فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (61) قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (62) قالُوا بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (63) وَأَتَيْناكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (64) فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (65)
وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (66) وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (67) قالَ إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ (68) وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ (69) قالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ (70)
قالَ هؤُلاءِ بَناتِي إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (71) لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (73) فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (74) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (75)
وَإِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (76) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (77)(3/96)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 97
قلت : وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ ، القضاء هنا بمعنى القدر السابق ، وضمّنه معنى أوحينا ، فعداه بإلى. و(أنّ دابر) : بدل من الأمر ، وفى ذلك تفخيم الأمر وتعظيم له ، ومُصْبِحِينَ : حال من «هؤلاء» ، أو من ضمير مقطوع ، وجمعه للحمل على المعنى لأن دابر بمعنى دوابر ، أي : قطعنا دوابرهم حال كونهم داخلين فى وقت الصباح.
ولَعَمْرُكَ : مبتدأ ، والخبر محذوف ، أي : قسمى ، قال ابن عزيز : عمر وعمر واحد ، ولا يقال فى القسم إلا مفتوحا ، وإنما فتح فى القسم فقط لكثرة الاستعمال.
يقول الحق جل جلاله : فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ ، وهم أضياف إبراهيم ، فلما دخلوا عليه ولم يعرفهم ، قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ لا نعرفكم. أو تنكركم نفسى مخافة أن تطرقونى بشىء ، قالُوا بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ أي : ما جئناك بما تنكرنا لأجله ، بل جئناك بما يسرك ، وهو : قطع الفاحشة من بلدك ، وإتيان العذاب لعدوك الذي توعدناهم ، فكانوا يمترون فيه ويشكون فى إتيانه ، وَأَتَيْناكَ بِالْحَقِّ باليقين الثابت ، وهو إتيان العذاب لا محالة ، وَإِنَّا لَصادِقُونَ فيما أخبرناك به.
فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ : فاذهب بهم بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ أي : فاخرج بهم فى طائفة من الليل ، قيل : آخره ، وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ أي : كن خلفهم فى ساقتهم ، حتى لا يبقى منهم أحد ، أو : أمره بالتأخر عنهم ليكونوا قدامه ، فلا يشتغل قلبه بهم لو كانوا خلفه لخوفه عليهم ، أي : ليسرع بهم ، ويطلع على أحوالهم. وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ خلفه ، لينظر ما وراءه ، فيرى من الهول ما لا يطيقه ، أو : ولا ينصرف أحد منكم ، ولا يتخلف لغرض فيصيبه ما أصابهم. وقيل : نهوا عن الالتفات ليوطنوا أنفسهم على الهجرة. وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ أي : إلى حيث أمركم اللّه ، وهو الشام أو مصر ، وقال بعضهم : «ما من نبى هلك إلا لحق بمكة ، وجاور بها حتى مات».
وَقَضَيْنا : أوحينا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ ، وهو هلاك قومه ، ذكره مبهما ثم فسره بقوله : أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ وهو كناية عن استئصالهم ، والمعنى : أنهم يستأصلون عن آخرهم حتى لا يبقى منهم أحد ، حال كونهم وقت العذاب مُصْبِحِينَ : داخلين فى الصباح.
وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ ، وهى سدوم ، يَسْتَبْشِرُونَ بأضياف لوط طمعا فيهم فى فعل الفاحشة ، والظاهر :
أن هذا المجيء إليه ، وما جرى له معهم من المحاورة ، كان قبل الإعلام بهلاكهم ، كما تقدم فى هود. وانظر ابن عطية. فلما جاءوه يراودونه عن ضيفه قالَ إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ بهتك حرمة ضيفى ، فإن(3/97)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 98
من فضح ضيفه فقد فضح هو ، ومن أسىء إلى ضيفه فقد أسىء إليه ، وَاتَّقُوا اللَّهَ فى ركوب الفاحشة ، وَلا تُخْزُونِ : ولا تهينونى بإهانتهم. والخزي هو الهوان ، أو : ولا تخجلون فيهم ، من الخزاية وهو الحياء.
قالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ عن أن تجير منهم أحدا ، أو تحول بيننا وبينهم ، وكانوا يتعرضون لكل أحد ، وكان لوط عليه السّلام يمنعهم ويزجرهم عنه بقدر وسعه. وذكر السدى : أنهم إنما كانوا يفعلون الفاحشة بالغرباء ، ولا يفعلونها بعضهم ببعض ، فكانوا يعترضون الطرق. ه. أو : أو لم ننهك عن ضيافة العالمين وإنزالهم؟ قالَ هؤُلاءِ بَناتِي تزوّجوهنّ إياكم ، وقد كان يمنعهم قبل ذلك لكفرهم ، فأراد أن يقى أضيافه بهن. ولعله لم يكن حراما فى شريعته. أو يريد بالبنات نساء القوم فإن نبى كل أمة بمنزلة أبيهم ، إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ قضاء الوطر ، أو : ما أقول لكم من التزويج ، فأبوا ، ولجوا فى عملهم.
قال تعالى لنبيه محمد صلى اللّه عليه وسلم : لَعَمْرُكَ : لحياتك يا محمد ، أقسم بحياته - عليه الصلاة والسلام - لشرف منزلته عنده. قال ابن عباس - رضى اللّه عنهما : «ما خلق اللّه خلقا أكرم عليه من محمد صلى اللّه عليه وسلم ، وما أقسم بحياة أحد إلا بحياته ، فقال : لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ قال القرطبي : وإذا أقسم اللّه بحياة نبيه فإنما أراد التصريح لنا أنه يجوز لنا أن نحلف بحياته. وقد قال الإمام أحمد فيمن أقسم بالنبي صلى اللّه عليه وسلم : ينعقد به يمينه ، وتجب الكفارة بالحنث ، واحتج بكون النبي صلى اللّه عليه وسلم أحد ركنى الشهادة. قال ابن خويز منداد : هذا إذ استدل من جوّز الحلف به عليه الصلاة والسلام ، بأن أيمان المسلمين جرت من عهده صلى اللّه عليه وسلم حتى إن أهل المدينة إلى يومنا هذا إذا جاء صاحبه قال له : احلف لى بما حوى هذا القبر ، وبحق ساكن هذا القبر ، يعنى النبي صلى اللّه عليه وسلم. ه «1».
قلت : ومذهب مالك أنه لا ينعقد يمين بغير اللّه ، وصفاته ، وأسمائه. وقيل : إن قوله تعالى : لَعَمْرُكَ : هو من قول الملائكة للوط ، أو لحياتك يا لوط ، إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ : أي : لفى غوايتهم ، أو شدة غلمتهم التي أزالت عقولهم وتمييزهم بين الخطأ والصواب ، يتحيرون. والغلمة : شهوة الوقاع. والعمه : الحيرة ، أي : إنهم لفى عماهم يتحيرون ، فكيف يسمعون نصح من نصحهم؟ والضمائر لقوم لوط ، وقيل : لقريش ، والجملة : اعتراض.
قال تعالى : فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ ، يعنى : صيحة هائلة مهلكة. قال ابن عطية : هذه الصيحة صيحة الرجعة ، وليست كصيحة ثمود. ه. وقيل : صاح بهم جبريل فأهلكتهم الصيحة ، مُشْرِقِينَ : داخلين فى وقت شروق الشمس فابتدئ هلاكهم بعد الفجر مصبحين ، واستوفى هلاكهم مشرقين. فَجَعَلْنا عالِيَها أي : عالى المدينة ، أو قراها ، سافِلَها ، فصارت منقلبة بهم.
___________
(1) ملخّصا.(3/98)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 99
روى أن جبريل عليه السّلام اقتلع المدينة بجناحيه ورفعها ، حتى سمعت الملائكة صراخ الديكة ونباح الكلاب ، ثم قلبها وأرسل الكل ، فمن كان داخل المدينة أو القرى مات ، ومن كان خارجا عنها أرسلت عليه الحجارة ، كما قال تعالى : وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ : من طين متحجر مطبوخ بالنار. وقد تقدم فى سورة هود «1» مزيد بيان لهذا. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ : المتفكرين المعتبرين المتفرسين فى الأمور ، الذين يتثبتون فى نظرهم حتى يعرفوا حقيقة الشيء بسمته ، وَإِنَّها أي : المدينة أو القرى ، لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ : لفى طريق ثابت يسلكه الناس ، ويمرون به ، ويرون آثارها. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً : لعبرة لِلْمُؤْمِنِينَ باللّه ورسله فإنهم هم المهتدون للتفكر والاعتبار ، دون من غلبت عليه الغفلة والاغترار ، كحال الكفار والفجار. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : ما بعث اللّه داعيا يدعو إليه إلا وكان أول ما يدعوهم إليه ، بعد الإيمان ، الخروج من العوائد والحظوظ النفسانية ، وما هلك من هلك من الأمم إلا بالبقاء معها ، وعدم الخروج عنها ، وما نجى من نجى إلا بالخروج عنها.
وكذلك فى طريق الخصوصية : ما بعث اللّه وليا مربيا إلا وكان أول ما يأمر : بخرق ، العوائد لاكتساب الفوائد ، فلا طريق لخصوصية الولاية إلا منها. وفى الحكم : «كيف تخرق لك العوائد ، وأنت لم تخرق من نفسك العوائد». فمن تربى فى الرئاسة والجاه فلا مطمع له فى الخصوصية حتى يبدلهما بالخمول والذل ، وكذلك من تعود جمع الدنيا واحتكارها ، فلا بد من الزهد فيها والخروج عنها ، وكذلك سائر العوائد النفسانية ، والحظوظ الجسمانية ، فمن جاور قوما منهمكين فيها ، ولم يجد من يساعده على خرقها ، فليهاجر منها ، ويقال له : فأسر بأهلك بقطع من الليل واتبع أدبارهم ، ولا يلتفت منكم أحد إلى الرجوع ، إلا بعد الرسوخ والتمكين فى معرفة الحق تعالى ، وليمض حيث يجد من ينهض معه إلى اللّه فى نقل عوائدها وعوائقها.
وقوله تعالى : وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ : هذه عادة أهل الغفلة ، إن جاءهم من يجدون فيه موافقة هواهم ، هرعوا إليه مستبشرين ، وإن جاء من ينصحهم ويأمرهم بالخروج عن أهوائهم أدبروا عنه ، ومقتوه ، وربما أخرجوه من بلدهم ، قال تعالى فى أمثالهم : (لعمرك إنهم لفى سكرتهم يعمهون). وباللّه التوفيق.
ثم ذكر قصة شعيب عليه السّلام ، فقال :
[سورة الحجر (15) : الآيات 78 الى 79]
وَإِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ (78) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ وَإِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ (79)
قلت : «إن» : مخففة ، واللام فارقة.
يقول الحق جل جلاله : وَإِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ ، وهم قوم شعيب ، كانوا يسكنون غيضة ، وهى الأيكة. والأيكة : الشجر الملتف ، قيل : كانت من الدوح ، وقيل : من السدر ، فكانوا يسكنون فيها ، ويرتفقون بها
___________
(1) راجع تفسير الآيات 81 - 83.(3/99)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 100
فى معايشهم ، فبعث اللّه لهم شعيبا عليه السّلام فكفروا به ، فسلط اللّه عليهم الحر سبعة أيام ، ثم رأوا سحابة فخرجوا فاستظلوا تحتها ، فاضطرمت عليهم نارا ، فاحترقوا. قال تعالى : فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ بالهلاك بالحر ، وَإِنَّهُما ، يعنى : سدوم مدينة قوم لوط ، والأيكة قرية شعيب. وقيل : الأيكة ومدين لأن شعيبا عليه السّلام كان مبعوثا إليهما ، وكان ذكر أحدهما مغن عن الآخر ، لَبِإِمامٍ مُبِينٍ : لبطريق واضح يسلك منه إلى الشام ، فيعتبر كل من وقف بآثارهم. والإمام : ما يؤتم به ، ويوصل إلى المقصود من طريق أو غيره. وقيل : وَإِنَّهُما أي : لوط وشعيب ، على طريق من الشرع واضح. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : ما أهلك اللّه قوما إلا كانوا عبرة لمن بعدهم ، فالعاقل يبحث عن سبب هلاكهم ، فيعمل جهده فى التحرز منه ، والغافل منهمك فى غفلته ، لا يلقى لذلك بالا ، حتى يأتيه ما يوعد. وباللّه التوفيق.
ثم ذكر قصة صالح عليه السّلام ، فقال :
[سورة الحجر (15) : الآيات 80 الى 84]
وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (80) وَآتَيْناهُمْ آياتِنا فَكانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (81) وَكانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ (82) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (83) فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (84)
قلت : (بيوتا) : مفعول (ينحتون) ، بمعنى يتخذون ، أو يصنعون. و(آمنين) : حال من فاعل (ينحتون).
يقول الحق جل جلاله : وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ هم قوم ثمود ، والحجر : واديهم الذي يسكنونه ، وهو بين المدينة والشام. كذبوا صالحا عليه السّلام ، ومن كذّب واحدا من الرسل فكأنما كذّب الجميع لأنهم جاءوا بأمر متفق عليه ، وهو التوحيد ، أو يراد به الجنس ، كما تقول : فلان يركب الخيل ، وإنما يركب فرسا واحدا ، أو يراد به صالح ومن معه من المؤمنين لموافقتهم له فيما يدعو إليه. وَآتَيْناهُمْ آياتِنا يعنى : الناقة ، وما كان فيها من العجائب ، كسقيها وشربها ودرها ، أو ما نزل على نبيهم من الكتب ، أو ما نصب لهم من الأدلة. فَكانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ : لم ينظروا فيها ، ولم يعتنوا بأمرها.
وَكانُوا يَنْحِتُونَ : يصنعون ، والنحت : النقر بالمعاول فى الحجر والعود وشبهه ، فكانوا يتخذون مِنَ الْجِبالِ بالنقر فيها ، بُيُوتاً يسكنونها آمِنِينَ من الانهدام ، ونقب اللصوص ، وتخريب الأعداء لوثوقها.
أو من العذاب لفرط غفلتهم ، أو حسبانهم أن الجبال تحميهم منه. فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ : داخلين فى وقت الصباح ، فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ من بناء البيوت الوثيقة ، واستكثار الأموال والعدد.(3/100)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 101
الإشارة : من علامة الغفلة عن اللّه : الإنكار على أولياء اللّه ، والإعراض عما خصهم اللّه تعالى به من الآيات وخوارق العادات ، كالعلوم اللدنية والمواهب القدسية ، وكمال المعرفة ، والرسوخ فى اليقين ، وشهود رب العالمين ، مع الاشتغال بعمارة هذه الدار ، ونسيان دار القرار كأنه أمن من الموت من شدة الاغترار. وسبب ذلك : عدم التفكر والاعتبار. ولذلك قال تعالى بإثر قصص من أهلكهم من الأمم الغافلة :
[سورة الحجر (15) : الآيات 85 الى 86]
وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (85) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ (86)
يقول الحق جل جلاله : وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما من الكائنات إِلَّا بِالْحَقِّ أي :
إلا خلقا ملتبسا بالحق ، وهو الدلالة على كمال قدرتنا وباهر حكمتنا ، فمن كمال القدرة : إهلاك أهل الفساد ، ودفع شرورهم وإبطال فسادهم ، ومن باهر حكمته أنه لم يهلكهم إلا بسبب عتوهم وفسادهم. فالحكمة رداء للقدرة ، القدرة تبرز ، والحكمة تستر ، فإظهار الكائنات يدل على كمال القدرة ، وترتيبها على أسباب وشروط يدل على باهر الحكمة. ومن مقتضيات الحكمة : ترتيب الجزاء على العمل ، بحيث لا يهمل عملا ، فأهل الإكرام يترتب إكرامهم وإنعامهم على عملهم الصالح ، واعتقادهم الصحيح ، وما قاسوه من المجاهدة والمكابدة. وأهل الانتقام يترتب الانتقام منهم على عملهم الفاسد ، واعتقادهم الباطل ، وعلى ما قالوا فى الدنيا ، التي هى مزرعة الآخرة ، من الدعة والحظوظ الفانية ، ولذلك رتّب عليه قوله :
وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فيجازى فيها من يستحق الإكرام ، ويعاقب من يستحق الانتقام ، وينتقم لك فيها ممن يكذبونك ، فَاصْفَحِ اليوم الصَّفْحَ الْجَمِيلَ ولا تعجل بالانتقام ، وعاملهم معاملة الصفوح الحليم. وكان هذا قبل الأمر بالقتال. إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الذي خلقك وخلقهم ، وبيده أمرك وأمرهم ، الْعَلِيمُ بحالك وبحالهم ، فهو الحقيق بأن تتكل عليه حتى يحكم بينك وبينهم. أو : هو الخلاق لأشباحكم وأرواحكم ، العليم بما هو الأصلح لكم فى الوقت ، وقد علم أن الصفح اليوم أصلح. والخلاق أبلغ من الخالق باعتبار اللغة ، وأفعال اللّه تعالى كلها عظيمة كثيرة.
الإشارة : ما نصبت لك الكائنات لتراها بعين الفرق ، بل لترى فيها مولاها بعين الجمع. وما جعل لك هذه الدار لتتخذها دار القرار ، وإنما جعلها قنطرة ومعبرا لدار القرار. إنما جعل لك الدنيا الفانية مزرعة للدار الباقية. وإن الساعة لآتية ، فاصبر فى هذه الدار اللمحة اليسيرة على شدائد الزمان ، وجفوة الإخوان ، واصفح الصفح الجميل ، (3/101)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 102
حتى ترد النعيم الباقي ، والجزاء الجزيل. وتخلق بأخلاق الحليم الكريم ، إن ربك هو الخلاق العليم ، فلا قدرة لك على شىء إلا بقدرة السميع العليم.
ثم أمر نبيه بالغنى باللّه وبكلامه ، عن التطلع إلى زهرة الدنيا ، والمراد : الأمر بدوامه على ما كان عليه ، فقال :
[سورة الحجر (15) : الآيات 87 الى 99]
وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (87) لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88) وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (89) كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (90) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (91)
فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (93) فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94) إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (96)
وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)
قلت : السبع المثاني : هى الفاتحة عند الجمهور ، و(من المثاني) : للبيان ، وعطف القرآن عليها من عطف العام على الخاص. و(أنزلنا) : نعت لمفعول النذير ، أي : أنا النذير عذابا مثل العذاب الذي أنزل على المقتسمين. وقيل :
صفة لمصدر محذوف يدل عليه : (و لقد آتيناك) فإنه بمعنى أنزلنا إليك إنزالا مثل ما أنزلنا على المقتسمين ، وهم ، على هذا ، أهل الكتاب. و(عضين) : جمع عضة. وأصله : عضوة ، من عضوت الشيء : فرّقته ، حذفت لامه ، وعوض منها هاء التأنيث ، فجمع على عضين ، كعزة وعزين. وقيل : أصله : عضة من عضهته : رميته بالبهتان ، قال فى الصحاح : عضهه عضها : رماه بالبهتان. وقد أعضهت ، أي : جئت بالبهتان. فهما قولان فى أصل عضة.
هل هو واوي أو هائى. والموصول مع صلته نعت للمقتسمين.
يقول الحق جل جلاله ، لنبيه عليه الصلاة والسلام : وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي ، وهى فاتحة الكتاب لأنها سبع آيات ، وتثنى - أي : تكرر - فى كل صلاة ، فالمثانى من التثنية ، وقيل : من الثناء لأن فيها الثناء على اللّه تعالى ، وقيل : السبع المثاني هى السبع الطوال ، وهى البقرة وآل عمران ، والنساء ، والمائدة ، والأنعام ، والأعراف ، والأنفال مع براءة. ولذلك تركت البسملة بينهما. وكونها مثانى لتثنية قصصها ، أو ألفاظها ، وقيل :
هى الحواميم السبع. وَآتيناك الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ ، ففيه الغنية والكفاية عن كل شىء.(3/102)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 103
لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ : لا تطمح ببصرك طموح راغب إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ أي : أصنافا من الكفار ، من زهرة الحياة الدنيا ، فإنه مستحقر بالإضافة إلى ما أوتيته. وفى حديث أبى بكر : «من أوتى القرآن ، فرأى أن أحدا أوتى من الدنيا أفضل مما أوتى ، فقد صغر عظيما وعظم صغيرا». «1» قال ابن جزى : أي : لا تنظر إلى ما متعناهم به فى الدنيا ، ومعنى الآية : تزهيد فى الدنيا ، كأنه يقول : قد آتيناك السبع المثاني والقرآن العظيم فلا تنظر إلى الدنيا ، فإن الذي أعطيناك أعظم منها. ه.
وروى أنه صلى اللّه عليه وسلم وافى مع أصحابه أذرعات ، فرأى سبع قوافل ليهود بنى قريظة والنّضير ، فيها أنواع البرّ ، والطيب والجواهر ، وسائر الأمتعة ، فقال المسلمون : لو كانت هذه الأموال لنا لتقربنا بها ، ولأنفقناها فى سبيل اللّه ، فقال لهم عليه الصلاة والسلام : «قد أعطيتم سبع آيات هى خير من هذه السبع القوافل». «2».
وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ : لا تتأسف على كفرهم حيث أنذرتهم فلم ينزجروا ولم يؤمنوا. أو : حيث متعناهم بالدنيا فلم ينتفعوا بها ، ولم يصرفوها فى مرضاة اللّه ، وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ أي : تواضع وألن جانبك للمؤمنين ، وارفق بهم. والجناح ، هنا ، استعارة. وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ : البين الإنذار ، أنذرتكم ببيان وبرهان أن عذاب اللّه نازل بكم إن لم تؤمنوا ، وفى الحديث : «أنا النذير ، والموت مغير ، والقيامة الموعد». أو كما قال عليه الصلاة والسلام ، وفى حديث آخر : «أنا النّذير العريان». وكانت العرب ، إذا رأى أحدهم جيشا يقصدهم ، تجرد من ثيابه ، ثم أنذر قومه ليصدقوه ، أي : وقل : إنى أنذرتكم أن ينزل بكم عذابه.
كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ ، أي : مثل العذاب الذي أنزل على المقتسمين ، وهم أهل الكتاب ، الذين آمنوا ببعض الكتب وكفروا ببعض ، فاقتسموا قسمين. والعذاب الذي نزل بهم هو الذل والهوان وضرب الجزية ، أو تسليط عدوهم عليهم. وقيل : هم كفار قريش اقتسموا أبواب مكة فى الموسم ، فوقف كل واحد منهم على باب ، وكانوا اثنى عشر رجلا ، لينفروا الناس عن الإيمان بالرسول عليه الصلاة والسلام ، يقول أحدهم : هو ساحر ، والآخر : هو شاعر ، فأهلكهم اللّه يوم بدر. وقيل : هم الرهط الذين اقتسموا ، أي : تقاسموا ليبيتوا صالحا ، فأسقط اللّه عليهم الغار الذي كمنوا فيه ، فشدخهم.
أو : آتيناك القرآن ، وأنزلناه عليك كما أنزلنا التوراة على المقتسمين ، وهم اليهود ، الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ أي : أجزاء متفرقة ، وقالوا فيه أقوالا مختلفة ، فقالوا عنادا وكفرا : بعضه موافق للتوراة والإنجيل ، وبعضه
___________
(1) قال الولي العراقي : لم أقف عليه ، وقال الحافظ ابن حجر فى الكافي الشاف : لم أجده من حديث أبى بكر.
وأخرجه ابن عدى فى الكامل (2/ 787) ، ولفظه : (من تعلم القرآن وظن أن أحدا ...) فذكره من حديث ابن مسعود مرفوعا ..
وراجع الفتح السماوي (2/ 750).
(2) قال المناوى فى الفتح السماوي : لم أقف عليه. وذكره الواحدي فى الأسباب (283) عن الحسين بن الفضل مرسلا.(3/103)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 104
باطل مخالف لهما. وإذا قلنا المقتسمين : هم كفار قريش ، حيث اقتسموا أبواب مكة ، فقد جعلوا القرآن عضين أجزاء متفرقة ، فقد قسموه إلى شعر وسحر وكهانة وأساطير الأولين ، أو جعلوه بهتانا متعددا ، على تفسير العضة بالبهت.
وفى الحديث : «لعن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم العاضهة والمستعضهة»»
أي : الباهتة ، والمستبهتة : الطالبة له.
قال تعالى فى وعيد المقتسمين : فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ من التقسيم والتكذيب ، أو عن كل ما عملوه من الكفر والمعاصي ، وفى البخاري : «لنسألنهم عن لا إله إلا اللّه». فإن قيل : كيف يجمع بين هذا وبين قوله : فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ؟ «2» فالجواب : أن السؤال المثبت هو على وجه الحساب والتوبيخ ، والسؤال المنفي هو على وجه الاستفهام المحض لأن اللّه تعالى يعلم الأعمال ، فلا يحتاج إلى سؤال. وقيل : فى القيامة مواطن وخوارق ، فموطن يقع فيه السؤال ، وموطن يذهب بهم إلى النار بغير سؤال.
قال تعالى لنبيه عليه الصلاة والسلام : فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ : فاجهر ، وصرح به ، وأنفذه ، من صدع بالحجة :
إذا تكلم بها جهارا. أو : فرّق ، بما تؤمر به ، بين الحق والباطل ، وأصله : الشق والإبانة ، وما : مصدرية ، أو موصولة ، والعائد محذوف ، أي : بما تؤمر به من الشرائع. وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ فلا تلتفت إلى ما يقولون ، ولا يمنعك ذلك من تبليغ الوحى والصدع به وإظهاره.
إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ بك ، وبما أنزلنا إليك بأن أهلكنا كل واحد منهم بمصيبة تخصه ، من غير سعى من النبي صلى اللّه عليه وسلم فى ذلك. وكانوا خمسة من أشراف قريش : الوليد بن المغيرة ، والعاصي بن وائل ، وعدى بن قيس ، والأسود بن المطلب ، والأسود بن يغوث ، كانوا يبالغون فى إيذاء النبي صلى اللّه عليه وسلم ، والاستهزاء به ، فقال جبريل للنبى صلى اللّه عليه وسلم :
«أمرت بأن أكفيكهم» فأومأ إلى ساق الوليد فمرّ بنبّال فتعلق بثوبه سهم ، فلم ينعطف لأخذه ، تعظما ، فأصاب عرقا فى عقبه فمات. وقيل : خدش بأسفل رجله فمات من تلك الخدشة. وأومأ إلى أخمص العاص فدخلت فيها شوكة ، فانتفخت حتى صارت كالرحى ، فمات. وأشار إلى أنف الحارث فامتخط قيحا فمات. وأومأ إلى الأسود ابن عبد يغوث ، وهو قاعد فى أصل شجرة ، فجعل ينطح رأسه بالشجرة ، ويضرب وجهه بالشوك حتى مات. وقيل :
استسقى بطنه فمات ، ولعله جمع بينهما. وأومأ إلى عينى الأسود بن المطلب فعمي. وفى السيرة ، بدل عدى بن قيس ، الحارث بن الطلاطلة ، وأن جبريل أشار إلى رأسه فامتخط قيحا فقتله «3».
___________
(1) عزاه فى الفتح السماوي (2/ 752) لابن عدى فى الكامل من حديث ابن عباس ، وفى إسناده ضعف.
وقوله : العاضهة والمستعضهة : أي : الساحرة والمستسحرة ... انظر النهاية (3/ 255).
(2) الآية 39 من سورة الرحمن.
(3) أخرجه الطبراني فى الأوسط ، كما فى المجمع (7/ 46) ، وأبو نعيم فى الدلائل ، (باب قوله : فاصدع بما تؤمر 2/ 316) والبيهقي فى الدلائل (باب المستهزءون وأسماؤهم) من حديث ابن عباس رضي اللّه عنه.(3/104)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 105
وقيل : هم الذين قتلوا ببدر كأبى جهل ، وعتبة بن ربيعة ، وشيبة بن ربيعة ، وأمية بن خلف ، وعقبة بن أبى معيط. والأول أرجح لأن اللّه تعالى كفاه أمرهم بمكة قبل الهجرة. إلا أن يكون عبّر بالماضي عن المستقبل لتحققه ، أي : إنا سنكفيك المستهزئين الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ يعبدونه من دون اللّه فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ عاقبة أمرهم فى الدارين.
ثم سلّى نبيه عن أذاهم فقال : وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ فى جانبنا من الشرك والطعن فى القرآن ، والاستهزاء بك ، فلا تعبأ بهم ، ولا تلتفت إليهم. فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ أي : فنزه أنت ذاتنا وصفتنا ، مكان مقالتهم فينا فإن مثلك منزهنا لا غير ، وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ أي : المصلين ، أو : فافزع إلى اللّه فيما نابك وضاق منه صدرك بالتسبيح والتحميد. وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ من المصلين ، يكفك ، ويكشف الغم عنك ، وعنه صلى اللّه عليه وسلم : «أنه كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة» «1» أو : فنزهه عما يقولون ، حامدا له على أن هداك للحق ، وكن من الساجدين له شكرا.
وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ أي : الموت ، فإنه متيقن لحاقه ، وليس اليقين من أسماء الموت ، وإنما العلم به يقين ، لا يمترى فيه ، فسمى يقينا تجوزا. أو : لما كان يحصل اليقين بعده بما كان غيبا سمى يقينا. والمعنى :
فاعبده ما دمت حيا ، ولا تخلّ بالعبادة لحظة. وفى بعض الأحاديث عنه - عليه الصلاة والسلام - أنه قال : «إن اللّه لم يوح إلىّ أن أجمع المال ، وأكون من التاجرين ، وإنما أوحى إلىّ أن : سبح بحمد ربك وكن من الساجدين ، واعبد ربك حتى يأتيك اليقين» «2». أو كما قال عليه الصلاة والسلام.
الإشارة : يقال للعابد ، أو الزاهد : ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم ، تتمتع بحلاوته ، وبالتهجد بتلاوته ، ففيه كفايتك وغناك ، فلا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أصنافا من أهل الدنيا ، الراغبين فيها ، المشتغلين بها عن عبادة خالقها. قيل : لما نزلت هذه الآية قال صلى اللّه عليه وسلم : «إياكم والنظر فى أبناء الدنيا ، فإنه يقسى القلب ويورث حب الدنيا ، ولا تكثروا الجلوس مع أهل الثروة ، فتميلوا لزينة الدنيا فو اللّه لو كانت الدنيا تزن عند اللّه جناح بعوضة ما سقى الكافر منها جرعة ماء». وقال صلى اللّه عليه وسلم : «من تواضع لغنى لأجل غناه اقترب من النار مسيرة سنة ، وذهب ثلثا دينه». هذا إن تواضع بجسمه فقط ، فإن تواضع بجسمه وقلبه ذهب دينه كله.
ويقال للعارف : ولقد آتيناك شهود المعاني ، وغيبناك عن حس الأوانى ، حتى شهدت المتكلم بالسبع المثاني ، فسمعت القرآن من منزله دون واسطة. وذلك بالفناء ، عن الوسائط ، فى شهود الموسوط ، حتى يفنى عن نفسه فى حال قراءته.
___________
(1) أخرجه بنحوه أبو داود فى (الصلاة ، باب وقت قيام النبي صلى اللّه عليه وسلم الليل) عن حذيفة ، وأخرجه الإمام أحمد (5/ 388) فى قصة الخندق مطولا.
(2) أخرجه ابن عدى فى الكامل (5/ 1897) والواحدي : فى الوسيط (3/ 54) والبغوي فى تفسيره (4/ 397) عن جبير بن نفيل ، مرسلا ..(3/105)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 106
ويقال له : لا تمدن عينيك إلى شهود الحس ، ولا إلى ما متعنا به أصنافا من أهل الحس ، الواقفين مع شهود الحس فإن ذلك يحجبك عن شهود المعاني القائمة بالأوانى ، بل المفنية للأوانى عند سطوع المعاني. ولا تحزن عليهم حيث رأيتهم منهمكين فى الحس فإن قيام عالم الحكمة لا يكون إلا بوجود أهل الحس ، واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين بخصوصيتك ، وقل : إنى أنا النذير المبين من الاشتغال بالبطالة ، والغفلة ، حتى ينزل بأهلهما ما نزل على المقتسمين ، الذين جعلوا القرآن عضين أجزاء متفرقة فما كان فيه مما يدل على التسهيل لجواز جمع الدنيا واحتكارها والاشتغال بها أخذوا به ، وما كان فيه مما يدل على الزهد فيها ، والانقطاع إلى اللّه عنها ، والتجريد عن أسبابها ، رفضوه. فو ربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون.
فاصدع ، أيها العارف الواعظ ، بما تؤمر من الأمر بالزهد ، والانقطاع إلى اللّه ، ولرفض كل ما يشغل عن اللّه ، ولا تراقب أحدا فى ذات اللّه ، وأعرض عن المشركين ، الذين أشركوا فى محبة اللّه سواه ، وشهدوا الأكوان موجودة مع اللّه ، وهى ثابتة بإثباته ، ممحوه بأحدية ذاته ، فلا وجود لها فى الحقيقة مع اللّه. فإن استهزءوا بك ، وصغروا أمرك ، فسيكفيكهم اللّه. فاشتغل باللّه عنهم ، فلا يضيق صدرك بما فيه يخوضون ، (فسبح بحمد ربك) أي : نزهه عن شهود السّوى معه ، حامدا اللّه على ما أولاك من نعمة توحيده ، (و كن من الساجدين) للّه شكرا ، وقياما برسم العبودية ، أو : كن من الساجدين بقلبك فى حضرة القدس ، حتى يأتيك اليقين «1».
وفى الورتجبي ، فى قوله : (و لقد نعلم أنك يضيق صدرك) ، قال : واسى الحقّ حبيبه بما سمع من أعدائه ، وقال له : أنت بمرأى منا ، يضيق صدرك من لطافتك ، بما يقول الجاهلون بنا فى حقنا ، مما لا يليق بتنزيهنا ، فنزه أنت صفتنا مكان مقالتهم فينا ، فإنّ مثلك منزهنا لا غير ، وكن من الساجدين حتى ترانا بوصف ما علمت منا ، وتخرج من ضيق الصدر بما تشاهد من جمالنا ، فإذا كنت تعايننا سقط عنك ضيق صدرك من جهة مقالتهم. ه.
وباللّه التوفيق ، وهو الهادي إلى سواء الطريق.
___________
(1) اليقين - هنا - هو الموت. أي : اعبد ربك إلى آخر لحظة من عمرك.(3/106)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 107
سورة النّحل
مكية ، إلا قوله : وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ ... الآية ، نزلت فى غزوة أحد. وهى مائة وثمان وعشرون آية. ومناسبتها لما قبلها قوله : حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ «1» وهو الموت وما بعده من البعث والحساب ، وهو أمر اللّه الذي أشار إليه بقوله :
[سورة النحل (16) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (1)
يقول الحق جل جلاله : أَتى أَمْرُ اللَّهِ أي : البعث والحساب. وعبّر بالماضي لتحقق وقوعه ، أو : ثبت أمره وقضاؤه ، وقد جف القلم بما يكون ، لا عن سؤال واستعجال ، وتدبير من الخلق ، ولو كان كذلك لنافى انفراده بتدبير ملكه ، ولذلك نزه نفسه بقوله : سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ. أو : إهلاك اللّه إياهم يوم بدر ، وكانوا يستعجلون ما أوعدهم الرسول من قيام الساعة ، وإهلاكهم ونصره عليهم ، استهزاء وتكذيبا ولذلك قال :
فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ ، والمعنى : أن الأمر الموعود به بمنزلة الماضي ، لتحقق وقوعه من حيث إنه واجب الوقوع فلا تستعجلوا وقوعه ، فإنه لا خير لكم فيه ، ولا خلاص لكم منه.
وروى لما نزل قوله : أَتى أَمْرُ اللَّهِ ، وثب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قائما ، ورفع الناس رؤوسهم ، فلما قال : فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ ، سكن. وكان المشركون يقولون : إن صح ما يقول محمد من قيام الساعة ، فالأصنام تشفع لنا وتخلصنا ، فقال تعالى : سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ أي : تنزه وجلّ عن أن يكون له شريك ، فيدفع ما أراد بهم. ه.
وقرأ الأخوان بالخطاب ، على وفق قوله : (فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ) ، والباقون بالغيب ، على تلوين الخطاب ، أو على أن الخطاب للمؤمنين ، أي : أتى أمر الله أيها المؤمنون فلا تستعجلوه ، سبحانه وتعالى عما يشركه به المشركون. أو : لهم ولغيرهم. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : إذا أشرق نور اليقين فى صميم القلوب تحقق وقوع ما وعد اللّه به من أمر الغيوب ، فصار الماضي آتيا ، والمستقبل واقعا. وفى الحكم : «لو أشرق نور اليقين فى قلبك ، لرأيت الآخرة أقرب من أن ترحل إليها ، ولرأيت الدنيا وكسفة الفناء ظاهرة عليها». وكذلك المقادير المستقبلة والمواعيد الغيبية ، كلها عند أهل اليقين محققة الوقوع ، واجبة الحصول ، ينتظرون وقوعها فى مواقيتها ، شيئا فشيئا ، ويتلقونها بالمعرفة والأدب فإن كانت جلالية فبالرضى والتسليم ، وإن كانت جمالية فبالحمد والشكر ، هكذا نظرهم دائما إلى ما يبرز من عنصر القدرة ، ليس لهم
___________
(1) من الآية الأخيرة من سورة الحجر.(3/107)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 108
وقت دون ما هم فيه ، ولا أمل دون ما أقامهم الحق تعالى فيه ، ليس لهم عن أنفسهم إخبار ، ولا مع غير اللّه قرار ، ولا يستعجلون ما تأخر وقوعه من أقداره ، ولا يشركون مع اللّه فى تدبيره واختياره. قد هجم عليهم اليقين ، فهم ، فى عموم أوقاتهم ، مستغرقون فى شهود المحبوب ، غائبون عن كل مرغوب ومطلوب ، سوى شهود وجه المحبوب ، جعلنا اللّه منهم بمنّه وكرمه. آمين.
وسبب وجود هذا فى قلوبهم حياة روحهم بالإيمان التام ، والمعرفة الكاملة ، كما أبان ذلك الحق تعالى بقوله :
[سورة النحل (16) : آية 2]
يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاتَّقُونِ (2)
قلت : (أن أنذروا) : مفسرة ، بمعنى أي لأن الوحى فيه معنى القول. أو مصدرية فى موضع الجر ، بدلا من الروح ، أو النصب بنزع الخافض ، أو مخففة من الثقيلة. وقوله : (لا إله إلا أنا) : جرى على المعنى ، ولم يجر على اللفظ ، وإلا لقال : لا إله إلا اللّه. انظر ابن عطية. قال المحشى الفاسى : وسر ذلك هنا : التصريح بالمقصود ، وأن الإله الواحد هو المتكلم لا غيره ، كما قيل فى قوله : إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ «1» ، أي : ولم يقل : فإياه فارهبوا ، بل نقل الكلام من الغيبة إلى التكلم مبالغة فى الترهيب ، وتصريحا بالمقصود ، كأنه قال : فأنا ذلك الإله الواحد ، فإياى فارهبون لا غير. ه.
قلت : وكأنه قال هنا : ينزل الملائكة بالوحى أن أعلموا أنه لا يعبد إلا إله واحد ، وأنا ذلك الواحد.
يقول الحق جل جلاله ، تحقيقا لما وعدهم به ، وأن ذلك الوعد ، مع دنوه وقربه بالوحى ، فلا خلف فيه ، فقال :
يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ أي : جبريل ، جمعه تعظيما ، أو : لأنه قد ينزل معه غيره من الملائكة ، فيحضرون الوحى حرّسا له. أو : لأنه قد ينزل بالوحى غيره من الملائكة ، كما فى صحيح مسلم : «إن سورة الحمد نزل بها ملك لم ينزل إلى الأرض قبل ذلك» «2». وقال عليه الصلاة والسلام : «إن إسرافيل وكّل بي فى ثلاث سنين ، فكان يأتينى بالكلمة والكلمتين ، ثم كان جبريل يأتينى بالقرآن فى كل وقت». وروى أن خالد بن سنان كان نبيا ، وكان يأتيه بالوحى مالك خازن النار ، وكان بعد عيسى عليه السّلام ، ولم يبق فى النبوة إلا عشرين يوما ، ثم مات ، فلقصر مدته لم يعد نبيا ، بعد عيسى ونبينا محمد صلى اللّه عليه وسلم ، وإنما كانت فترة خمسمائة عام. وذكر ابن العربي أن ذا القرنين كان ينزل عليه ملك ، يقال له : رفائيل ، فكان يلقى إليه الوحي ، ويطوى له الأرض. هكذا نقل الشطيبى عنه فى اللباب ، فانظره.
___________
(1) من الآية 51 من سورة النحل.
(2) أخرجه بطوله مسلم فى (صلاة المسافرين ، باب فضل الفاتحة وخواتيم سورة البقرة) عن ابن عباس رضي اللّه عنه. [.....](3/108)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 109
وقوله : بِالرُّوحِ أي : بالوحي ، أو القرآن فإنه سبب حياة القلوب والأرواح الميتة بالجهل والحجاب ، أو سبب حياة الدين بعد موته واندراسه بالكفر فإن الوحي يقوم فى الدين مقام الروح من الجسد. ينزل ذلك مِنْ أَمْرِهِ أي : من أجل أمره وبيان شأنه ، أو بأمره وإذنه ، عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أن يصطفيه للرسالة ، قائلا لهم :
أَنْ أَنْذِرُوا : خوفوا أهل الشرك ، أو أعلموا عبادى أَنَّهُ أي : الأمر والشأن ، لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ بترك الكفر والمعاصي ، أي : اجعلوا بينكم وبين غضبه وقاية ، بأن توحدوه ، وتطيعوه فيما أمر به.
قال البيضاوي : والآية تدل على أن نزول الوحى بواسطة الملائكة ، وأن حاصله : التنبيه على التوحيد ، الذي هو القوة العلمية ، والأمر بالتقوى الذي هو أقصى كمالات القوة العملية. وأن النبوة عطائية - أي : لا كسبية - ، والآيات التي بعدها دليل على وحدانيته ، من حيث إنها تدل على أنه تعالى هو الموجد لأصول العالم وفروعه ، على وفق الحكمة والمصلحة ، ولو كان له شريك لقدر على ذلك ، فيلزم التمانع. ه.
الإشارة : قوله تعالى : بِالرُّوحِ : قال الورتجبي : الروح : الوحي الإلهي ، سماه بالروح لأنه كلامه صدر من ذاته ، وهو حياة قلوب الصديقين من المكلّمين والمحدّثين ، وهو سبب حياة قلوب المؤمنين ، يحييهم بعلمه من موت الجهالة. ه.
وقال القشيري فى قوله : عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ : على الأنبياء بالوحى والرسالة ، وعلى أسرار أرباب التوحيد ، وهم المحدّثون بالتعريف والعلم. فالتعريف للأولياء من حيث الإلهام والخواطر ، أي : الواردات. وإنزال الملائكة على قلوبهم غير ممنوع ، ولكنهم لا يؤمرون أن يتكلموا بذلك ، ولا يحملون الرسالة إلى الخلق. ه.
قلت : وكأنه ينظر إلى قوله - عليه الصلاة والسلام - : «علماء أمتى كأنبياء بنى إسرائيل» ، فهم يشاركون الأنبياء فى الوحي الإلهامى ، ولا يبلغون ذلك إلا لمن صدقهم وتبعهم فى طريقهم. واللّه تعالى أعلم.
ثم عرّف بنفسه ، بما أظهر من تجلياته العلوية والسفلية ، فقال :
[سورة النحل (16) : الآيات 3 الى 9]
خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (3) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (4) وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (5) وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6) وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (7)
وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ (8) وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْها جائِرٌ وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (9)(3/109)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 110
قلت : (وَ الْأَنْعامَ) : منصوب بمحذوف ، يفسره : (خَلَقَها) ، أو معطوف على «الإنسان» ، و(خَلَقَها لَكُمْ) : بيان لما خلقت لأجله ، وما بعده تفصيل له. و(مِنْها تَأْكُلُونَ) : إنما قدّم المعمول للمحافظة على رؤوس الآي ، أو : لأن الأكل منها هو المعتمد عليه فى المعاش ، وأما الأكل من غيرها من سائر الحيوانات المأكولات فعلى سبيل التداوى والتفكه. قاله البيضاوي. قلت : ولعله ، عند مالك ، للاختصاص ، أي : منها تأكلون لا من غيرها إذ لا يؤكل عنده غيرها من البهائم الإنسية.
وقوله : (لَكُمْ) : يحتمل أن يتعلق بما قبلها أو بما بعدها ، ويختلف الوقف باختلاف ذلك. (إِلَّا بِشِقِّ) : فيه لغتان :
الكسر والفتح ، بمعنى التعب والكلفة ، وقيل : المفتوح مصدر شقّ الأمر عليه ، أي : صعب ، والمكسور بمعنى : النصف ، كأنه ذهب نصف قوّته بالتعب. (وَ الْخَيْلَ) : عطف على «الْأَنْعامَ». و(زِينَةً) : مفعول من أجله ، عطف على موضع «لِتَرْكَبُوها» : أي : للركوب والزينة ، أو مفعول مطلق ، أي : لتتزينوا بها زينة.
يقول الحق جل جلاله : خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ : أوجدهما بِالْحَقِّ أي : ملتبسا بالحق لتدل على وحدانية الحق ، وكمال قدرته وباهر حكمته ، حيث أوجدهما على مقدار مخصوص ، وشكل بديع ، وأوضاع مختلفة ، وهيئات متعددة. أو : خلقهما بقضائه وتدبيره الحق ، لا بمشاركة وتدبير أحد معه ، ولا بمعاونة شريك ولا ظهير ، ولذلك نزه نفسه بقوله : تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ ، كما نزه نفسه ، ابتداء ، لمّا نفى الاستعجال لأنه من تدبير الخلق أيضا والصدور عن رأيهم ، وفى معناه : تنزيل الوحى على ما يشاء ، لا على ما يشاء غيره لانفراده أيضا فى ملكه. وفى إبرازه ذلك ، على ما يخالف آراء الخلق ، أدل دليل على وحدانيته فى ملكه ، وإنما وضع كل شىء ودبره دلالة على وحدانيته وهدايته لخلقه إليه.
ثم شفع بخلق الإنسان فقال : خَلَقَ الْإِنْسانَ أي : جنسه مِنْ نُطْفَةٍ : من ماء مهين يخرج من مكان مهين ، فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ : مجادل ، كثير الجدل والخصام ، مبين لحجته ، أو : خصيم : مكافح لخالقه ، قائل :
(من يحيى العظام وهى رميم). روى أن أبىّ بن خلف أتى النبي صلى اللّه عليه وسلم بعظم رميم ، فقال : يا محمد ، أترى اللّه يحيى هذا بعد ما قد رمّ؟ فقال : «نعم». فنزلت. فعلى الأول : تكون الآية عامة لكل إنسان ، وعلى الثاني : خاصة بالكافر. والأول أظهر.
ولمّا ذكر نعمة الإيجاد ذكر نعمة الإمداد ، فقال : وَالْأَنْعامَ وهى : الإبل والبقر والغنم ، خَلَقَها : أوجدها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ ما يدفأ به فيقى البرد ، يعنى : ما يتخذ من جلود الأنعام وأصوافها من الثياب ، وَلكم(3/110)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 111
فيها أيضا مَنافِعُ أخر كنسلها وظهورها. وإنما عبّر بالمنافع ليتناول عوضها. وَمِنْها تَأْكُلُونَ أي :
تأكلون ما يؤكل منها من اللحوم والشحوم والألبان. وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ أي : زينة وبهجة حِينَ تُرِيحُونَ تردونها من مراعيها إلى مراحها بالعشي ، وَحِينَ تَسْرَحُونَ تخرجونها إلى المرعى بالغداة فإن الأفنية والمشارع والطرق تتزين بها فى الذهاب والرواح ، ويجل أهلها فى أعين الناظرين إليها. وقدّم الإراحة لأن الجمال فيها أظهر لأنها تقبل ملأى البطون ، حاملة الضروع ، ثم تأوى إلى الحظائر حاضرة لأهلها.
وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ : أحمالكم عليها من الأمتعة وغيرها إِلى بَلَدٍ بعيد ، لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ عليها ، فضلا عن أن تحملوها على ظهوركم ، إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إلا بكلفة ومشقة فديحة ، أو : إلا بذهاب شقها ، أي :
نصف قوتها من التعب. إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ حيث رحمكم بخلقها وذللها للحمل ، والركوب عليها ، وأنعم عليكم بالأكل من لحومها وألبانها.
وَخلق لكم الْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها ، وَتتزينوا بها زِينَةً ، أو للركوب والزينة.
قال البيضاوي : وتغيير النظم - أي : حيث لم يقل : وللزينة - لأن الزينة بفعل الخالق ، والركوب من فعل المخلوق - أي : باعتبار الحكمة - ، ولأن المقصود خلقها للركوب ، وأما التزين بها فحاصل بالعرض. وقرئ بغير واو ، فيحتمل أن يكون علة لركوبها ، أو مصدرا فى موضع الحال من الضمير ، أي : متزينين ، أو متزينا بها. واستدلّ به على حرمة لحومها ، ولا دليل فيه إذ لا يلزم من تعليل الفعل بما يقصد منه ، غالبا ، ألا يقصد منه غيره أصلا ، ويدل عليه أن الآية مكية. وعامة المفسرين والمحدثين أن الحمر الأهلية حرمت عام خيبر. ه. وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ مما لا يحيط البشر بعلمها من عجائب المخلوقات ، وضروب المصنوعات ، مما يؤكل ومما لا يؤكل ، وما خلق فى الجنة والنار ، مما لا يخطر على قلب بشر.
وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ أي : وعلى اللّه بيان السبيل القصد ، أي : الطريق الموصل إلى المقصود. أو : على اللّه تقويم طريق الهدى بنصب الأدلة وبعث الرسل ، فهو من إضافة الصفة إلى الموصوف ، أي : السبيل القصد ، أي : القاصد المستقيم الموصل إلى المطلوب كأنه يقصد الوجه الذي يقصده السالك لا يميل عنه. والمراد من السبيل : الجنس ، ولذلك أضاف إليه القصد ، وقال : وَمِنْها جائِرٌ عن القصد ، أو عن اللّه ، كطريق اليهود والنصارى وغيرهم. والسبيل بمعنى الطريق ، يذكر ويؤنث ، وأنّث هنا. وتغيير الأسلوب - أي : حيث لم يقل : قصد السبيل والجائر - لأنه ليس بحق على اللّه أن يبين طريق الضلالة ، ولأن المقصود ، بالأصالة ، بيان سبيله ، وتقسيم السبيل إلى القصد والجائر إنما جاء بالعرض. وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ أي : ولو شاء هدايتكم أجمعين لهداكم إلى قصد السبيل ، هداية مستلزمة للاهتداء. قاله البيضاوي.(3/111)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 112
الإشارة : هذه العوالم من العرش إلى الفرش كلها نصبت للآدمى ، وخلقت من أجله ، السماوات تظله ، والأرض تقله ، والحيوانات تخدمه وتنفعه ، يتصرف فيها خليفة عن الله فى ملكه. فالواجب عليه شكر هذه النعم ، وألا يقف معها ، ويشتغل بها عن خدمة خالقها. يقول الحق تعالى ، فى بعض كلامة بلسان الحال أو المقال : «يا ابن آدم ، خلقت الأشياء من أجلك ، وخلقتك من أجلى ، فلا تشتغل بما خلق لأجلك عمّا خلقت لأجله». والواجب عليه أيضا من طريق الخصوص : ألا يقف مع حس أجرامها ، دون النفوذ إلى أسرار معانى خالقها ومظهرها لئلا يبقى مسجونا بمحيطاته ، محصورا فى هيكل ذاته ، بل ينفذ إلى فضاء شهود بحر المعاني ، المحيط بالأوانى ، والمفنى لها ، بصحبة شيخ كامل ، يخرجه من سجن الأكوان إلى فضاء شهود المكوّن. وباللّه التوفيق.
وقوله : وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ : اعلم أن الحق - جل جلاله - بيّن طريق الوصول إلى نعيمه الحسى والفوز برضوانه ، وطريق الوصول إلى حضرة قدسه ومحل شهوده وعيانه ، وأرسل الرسل ببيان الطريقين. فوكل ببيان الأولى العلماء ، ووكل ببيان الثانية الأولياء. فالعلماء قاموا ببيان الشرائع الموصلة إلى نعيم الأشباح ، والأولياء العارفون قاموا ببيان الحقائق الموصلة إلى نعيم الأرواح ، وهو النعيم الأكبر قال تعالى : وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ «1». فالرضوان على قسمين :
قوم نالهم الرضوان من طريق الخطاب مع سدل الحجاب ، وهم أهل الشرائع ، وقوم نالهم الرضوان بمكافحة الخطاب ورفع الحجاب ، وهم أهل الحقائق ، وهم المقربون ، نفعنا الله بهم ، وخرطنا فى سلكهم. آمين.
ثم ذكر بقية التجليات ، فقال :
[سورة النحل (16) : الآيات 10 الى 16]
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (10) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (11) وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (12) وَما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (13) وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (14)
وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهاراً وَسُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (15) وَعَلاماتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16)
___________
(1) من الآية 72 من سورة التوبة.(3/112)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 113
قلت : (لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ) : يحتمل أن يتعلق بأنزل ، أو يكون فى موضع خبر (شَرابٌ) ، أو صفة لماء و(مَواخِرَ) :
جمع ماخرة ، يقال : مخرت السفينة الماء مخرا : شقته ، وقيل : المخر : صوت جرى الفلك فى البحر من هبوب الريح.
وقيل : معناه : تجيىء وتذهب بريح واحدة. و(لِتَبْتَغُوا) : عطف على «لِتَأْكُلُوا» ، و(أَنْ تَمِيدَ) : مفعول من أجله ، أي :
كراهة أن تميد بكم. و(أَنْهاراً وَسُبُلًا) : مفعول بمحذوف ، أي : وخلق أو وجعل أنهارا ، وقيل : معطوف على «رَواسِيَ» لأن ألقى ، فيه معنى الجعل ، و(عَلاماتٍ) : عطف على (أَنْهاراً وَسُبُلًا) ، أو نصب على المصدر ، أي : ألقى ذلك لعلكم تعتبرون ، وعلامات دالة على وحدانيته.
يقول الحق جل جلاله : هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ أي : السحاب ، أو جانب السماء ، ماءً : مطرا لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ تشربونه بلا واسطة ، أو بواسطة العيون والأنهار والآبار لأنه يحبس فيها ، ثم يشرب منها ، لقوله : فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ «1» ، وقوله : فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ «2» ، وَمِنْهُ شَجَرٌ أي : ومنه يكون شجر ، يعنى : الشجر الذي ترعاه المواشي ، وقيل : كل ما نبت على الأرض فهو شجر ، فِيهِ تُسِيمُونَ :
ترعون مواشيكم ، من أسام الماشية : رعاها ، وأصلها : السومة ، التي هى العلامة لأنها تؤثر بالرعي علامات.
يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ ، وقرأ أبو بكر بالنون على التفخيم ، وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ أي : ومن بعض كل الثمرات إذ لم ينبت فى الأرض كل ما يمكن من الثمار. قال البيضاوي : ولعل تقديم ما يسام فيه على ما يؤكل منه لأنه سيصير غذاء حيوانيا هو أشرف الأغذية - يعنى اللحم - ، ومن هذا : تقديم الزرع ، والتصريح بالأجناس الثلاثة وترتيبها. ه.
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ، فيستدلون على وجود الصانع وباهر قدرته ، فإن من تأمل الحبة تقع فى الأرض يابسة ، ويصل إليها نداوة تنفذ فيها ، فينشق أعلاها ، ويخرج منه ساق الشجر ، وينشق أسفلها فيخرج منه عروقها ، ثم ينمو ويخرج منه الأوراق والأزهار ، والأكمام والثمار ، ويشتمل كل منها على أجسام مختلفة الأشكال والطبائع ، مع اتحاد المواد ، علم أن ذلك ليس إلا بفعل فاعل مختار ، مقدس عن منازعة الأضداد والأنداد ، ولعل وصل الآية به لذلك. قاله البيضاوي باختصار.
___________
(1) من الآية 21 من سورة الزمر.
(2) من الآية 18 من سورة المؤمنون.(3/113)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 114
وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ «1» بأن هيأها لمنافعكم ، مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ ، أي : مذللات لما يريد منها ، وهو حال من الجميع ، أي : نفعكم بها حال كونها مسخرات لله ، منقادة لحكمه ، أو لما خلقن له ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ أي : لأهل العقول السليمة الصافية من ظلمة الغفلة والشهوات ، وإنما جمع هنا ، دون ما قبله وما بعده لأن الأولى راجعة إلى إنزال المطر ، وهو متحد ، والثالثة راجعة إلى ما ذرأ فى الأرض ، وهو متحد فى الجنس والهيئة ، بخلاف العوالم العلوية ، فإنها مختلفة فى الجنس والهيئة. وقال البيضاوي : جمع الآية وذكر العقل لأنها تتضمن أنواعا من الدلالة ظاهرة لذوى العقول السليمة ، غير محوجة إلى استيفاء فكر ، كأحوال النبات. ه.
وَما ذَرَأَ أي : وسخر لكم ما ذرأ ، فهو عطف على الليل ، أي : سخر لكم ما خلق لكم فى الأرض من حيوانات ونبات ، مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ أبيض وأسود ، أحمر وأصفر ، مع اتحاد المادة ، فالماء واحد والزهر ألوان ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ يتذكرون أن اختلافها فى الألوان والطبائع ، والهيئات والمناظر ، ليس إلا بصنع صانع حكيم.
وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ : ذلله بحيث هيأه للتمكن من الانتفاع به بالركوب فيه ، والاصطياد ، والغوص ، لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا هو السمك ، ووصفه بالطراوة لأنه أرطب اللحوم ، فيسرع إليه الفساد ، فيسارع إلى أكله طريا ، ولإظهار قدرته فى خلقه عذبا طريا فى ماء زعاق «2» أجاج ، واحتج به مالك على أن من حلف ألا يأكل لحما حنث بأكل السمك ، وأجيب بأن مبنى الأيمان على العرف ، وهو لا يفهم منه عند الإطلاق ألا ترى أن الله سمى الكافر دابة ، ولا يحنث من حلف ألا يركب دابة بركوبه. قاله البيضاوي. ويجاب بالاحتياط للحنث فالحنث يقع بأدنى شىء ، بخلاف البر ، لا يقع إلا بأتم الأشياء.
وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً كاللؤلؤ والمرجان ، تَلْبَسُونَها يلبسها نساؤكم ، وأسند اللباس إليهم لأن لباس النساء تزين للرجال «3» ، فكأنه مقصود لهم ، وَتَرَى الْفُلْكَ : السفن مَواخِرَ فِيهِ جوارى فيه تمخر الماء ، أي : تشقه ، أو تصوت من هبوب الريح ، وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ
: من سعة رزقه بركوبه للتجارة ، أو : وترى الفلك جوارى فيه لتركبوها ، ولتبتغوا من سعة رزقه. قال ابن عطية : فيه إباحة ركوب البحر للتجارة وطلب الأرباح. ه. وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ أي : تعرفون نعم اللّه فتقوموا بشكرها. ولعل تخصيصه بتعقيب الشكر لأنه أقوى فى باب الإنعام من حيث جعل المهالك سببا للانتفاع ، وتحصيل المعاش. قاله البيضاوي.
___________
(1) قرأ حفص وابن عامر : (و النجوم مسخرات) بالرفع على الابتداء ، وقرأ الباقون بالنصب .. انظر الإتحاف (2/ 181).
(2) الزّعاق من الماء : المرّ الغليظ ، لا يطاق شربه ... انظر : لسان العرب (زعق).
(3) هذا فى المنزل ، وللأزواج فقط ، وأما ما سوى ذلك فهو - أي : اللباس - للتستر والاحتشام ، تعبدا لله ، وطاعة لأمره ، وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ ... الآية.(3/114)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 115
وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ جبالا رواسى أرست الأرض كراهة أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ تميل وتضطرب لأن الأرض قبل أن تخلق فيها الجبال كانت كرة خفيفة بسيطة ، وكان من حقها أن تتحرك كالسفينة على البحر ، فلما خلقت الجبال تقاومت جوانبها بثقلها نحو المركز ، فصارت كالأوتاد التي تمنعها عن الحركة. وقيل : لما خلق الله الأرض جعلت تمور - أي : تتحرك - فقالت الملائكة : ما يستقر أحد على ظهرها ، فأصبحت وقد أرسيت بالجبال.
وَأَنْهاراً أي : وجعل فيها أنهارا تطرد لسقى الناس والبهائم ، وسائر المنافع ، وذكره بعد الجبال لأن الغالب انفجارها منها ، وَسُبُلًا أي : وجعل فيها طرقا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ لمقاصدكم ، أو لمعرفة ربكم ، بالنظر فى دلالة هذه المصنوعات المتقدمة ، على صانعها.
وَجعل فيها عَلاماتٍ : معالم يستدلّ بها السابلة على معرفة الطرق من الجبال ، والمناهل ، والرياح ، وغير ذلك ، وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ إلى الطرق بالليل ، فى البراري والبحار ، والمراد بالنجم : الجنس ، بدليل قراءة : «وبالنّجم» بضمتين على الجمع. وقيل : المراد : الثريا ، والفرقدان وبنات نعش «1» ، والجدى. والضمير لقريش لأنهم كانوا كثيري الأسفار للتجارة ، مشهورين بالاهتداء فى مسايرهم بالنجوم ، وإخراج الكلام عن سنن الخطاب ، وتقديم النجم ، وإقحام الضمير للتخصيص ، كأنه قيل : وبالنجم خصوصا ، هؤلاء خصوصا يهتدون ، يعنى : قريشا ، فالاعتبار بذلك ، والشكر عليهم ألزم لهم وأوجب عليهم. ه. وأصله للزمخشرى.
الإشارة : هو الذي أنزل من سماء الغيوب ماء ، أي : علما لدنيا تحيا به القلوب ، وتتطهر به النفوس من أدناس العيوب. لكم منه شراب ، أي : خمرة تحيا بها الأرواح ، وتغيب عن حضرة الأشباح ، ويخرج منه على الجوارح أشجار العمل ، تثمر بالأذواق ، فيه تسيمون ، أي : فى أذواق العمل ترعون بنفوسكم وقلوبكم ، ثم ترحلون عنه إلى حلاوة شهود ربكم ، فمن وقف مع حلاوة العمل ، أو المقامات أو الكرامات ، بقي محجوبا عن ربه ، وعليه نبّه صاحب البردة بقوله :
وراعها ، وهى فى الأعمال سائمة وإن هى استحلت المرعى فلا تسم
وقال فى الحكم : «ربما وقفت القلوب مع الأنوار ، كما حجبت النفوس بكثائف الأغيار».
وقال الششترى :
وقد تحجب الأنوار للعبد مثل ما تبعد «2» من إظلام نفس حوت ضغنا.
___________
(1) الفرقدان : نجمان فى السماء لا يغربان ، انظر اللسان (فرقد). وبنات نعش : سبعة كواكب ، تشاهد جهة القطب الشمالي. انظر (المعجم الوسيط/ نعش).
(2) فى ديوان الششترى : تقيّد.(3/115)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 116
ينبت بذلك العلم طعام نفوسكم من قوت الشريعة ، ومصباح قلوبكم من عمل الطريقة ، وثمرة الأعمال فى عوالم الحقيقة ، وفواكه العلوم من مخازن الفهوم. وسخر لكم ليل القبض ، ونهار البسط لتسكنوا فيه لما خصكم فيه من مقام التسليم والرضا ، ولتبتغوا من فضله من فيض العلوم وكشف الغطاء ، فتشرق حينئذ شمس العرفان ، ويستنير قمر الإيمان ، وتطلع نجوم العلم ، كل مسخر فى محله ، لا يستتر أحد بنور غيره ، وهذا مقام أهل التمكين ، يستعملون كل شىء فى محله. وما ذأر لكم فى أرض نفوسكم من أنواع العبادات وأحوال العبودية ، متلونة باعتبار الأزمنة والأمكنة ، وهو الذي سخر بحر المعاني لتأكلوا منه لحما طريا علما جديدا لم يخطر على قلب بشر ، وتستخرجوا منه جواهر ويواقيت من الحكم ، تلبسونها وتتزين قلوبكم وألسنتكم بها.
وترى الفلك ، أي : سفن الفكرة ، فيه مواخر عائمة فى بحر الوحدة ، بين أنوار الملكوت وأسرار الجبروت لتبتغوا من فضله ، وهى معرفة الحق بذاته وأسمائه وصفاته ، ولعلكم تشكرون ، فتقيدوا هذه النعم الجسام لئلا تزول. وألقى فى أرض البشرية جبال العقول لئلا يلعب بها ريح الهوى ، وأجرى عليها أنهارا من العلوم حين انزجرت عن هواها ، وجعل لها طرقا تهتدى بها إلى معرفة ربها ، فتهتدى أولا إلى نجم الإسلام ، ثم إلى قمر توحيد البرهان ، ثم إلى شهود شمس العرفان. وبالله التوفيق.
ولما ذكر دلائل التوحيد ، أنكر على من أشرك بعد هذا البيان ، فقال :
[سورة النحل (16) : الآيات 17 الى 23]
أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (17) وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (18) وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ (19) وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20) أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (21)
إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (22) لا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (23)
قلت : (و ما يشعرون أيان يبعثون) ، الضمير الأول للأصنام ، والثاني للكفار الذين عبدوهم ، وقيل : للأصنام فيهما ، وقيل : للكفار فيهما ، و(لا جرم) : إما أن يكون بمعنى لا شك ، أو لا بد ، أو تكون «لا» نفيا لما تقدم. و«جرم» :
فعل ، بمعنى وجب ، أو حق ، و(أن اللّه) : فاعل بجرم.
يقول الحق جل جلاله : أَفَمَنْ يَخْلُقُ كل شىء ، ويقدر على كل شيء ، كَمَنْ لا يَخْلُقُ شيئا ، ولا يقدر على شيء ، بل هو أعجز من كل شى ء؟ وهو إنكار على من أشرك مع اللّه غيره ، بعد إقامة الدلائل(3/116)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 117
المتكاثرة على كمال قدرته ، وباهر حكمته ، بذكر ما تقدم من أنواع المخلوقات وبدائع المصنوعات ، وكان حق الكلام : أفمن لا يخلق كمن يخلق ، لكنه عكس تنبيها على أنهم ، بالإشراك باللّه ، جعلوه من جنس المخلوقات العجزة ، شبيها بها. والمراد بمن لا يخلق ، كل ما عبد من دون اللّه ، وغلب أولى العلم منهم ، فعبّر بمن ، أو يريد الأصنام ، وأجراها مجرى أولى العلم لأنهم سموها آلهة ، ومن حق الإله أن يعلم ، أو للمشاكلة بينه وبين من يخلق. أَفَلا تَذَكَّرُونَ فتعرفوا فساد ذلك فإنه لظهوره كالحاصل للعقل الذي يحضر عنده بأدنى تذكر والتفات.
ولما ذكر أنواعا من المخلوقات على وجه الاستدلال على وحدانيته - وفى ضمنها : تعداد النعم على خلقه - أعقبها بقوله : وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها أي : لا تطيقوا عدها ، فضلا أن تطيقوا القيام بشكرها. ثم أعقبها بقوله : إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ تنبيها على أن العبد فى محل التقصير ، لو لا أن اللّه يغفر له تقصيره فى أداء شكر نعمه ، ويرحمه ببقائها مع تقصيره فى شكرها.
وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ من عقائدكم وأعمالكم ، وهو وعيد لمن كفر النعم وأشرك مع اللّه غيره ، سرا أو علانية ، ثم قال تعالى : والذين تدعون «1» أي : والأصنام الذين تعبدونهم مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً لظهور عجزهم. لمّا نفى المشاركة بين من يخلق ومن لا يخلق ، بيّن أنها لا تخلق شيئا ليتحقق نفي الألوهية عنها ضرورة. ثم علل عجزها ، وعدم استحقاقها للألوهية بقوله : وَهُمْ يُخْلَقُونَ أي : وهم مخلوقون مفتقرون فى وجودهم إلى التخليق ، والإله لا بد أن يكون واجب الوجود.
وهم ، أيضا ، أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ أي : لم تكن لهم حياة قط ، ولا تكون ، وذلك أغرق فى موتها ممن تقدمت له حياة ، ثم مات. والإله ينبغى أن يكون حيا بالذات لا يعتريه الممات. وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ أي : لا يعلمون وقت بعثهم ، أو بعث عبدتهم ، فكيف يكون لهم وقت يجازون فيه من عبدهم ، والإله ينبغى أن يكون عالما بالغيوب ، قادرا على الجزاء لمن عبده؟ وفيه تنبيه على أن البعث من توابع التكليف. قاله البيضاوي.
قال ابن جزى : نفى عن الأصنام صفة الربوبية ، وأثبت لهم أضدادها وهى أنهم مخلوقون غير خالقين ، وغير أحياء ، وغير عالمين وقت البعث ، فلما قام البرهان على بطلان ربوبيتهم ، أثبت الربوبية للّه وحده ، فقال : إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ. ه. وهو تصريح بما أقام عليه الحجج والبراهين بما تقدم.
___________
(1) قرأ عاصم ويعقوب : «يدعون» : بالياء. على الالتفات. وقرأ الباقون «تدعون» بتاء الخطاب انظر الإتحاف (2/ 182).(3/117)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 118
ثم ذكر سبب إصرارهم على الكفر - وهو إنكار البعث والتكبر - فقال : فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ أي : فالمنكرون للبعث قلوبهم منكرة لوحدانيته تعالى ، وهم مستكبرون عن اتباع الرسل فيما جاءوا به ، والخضوع لهم لأن المؤمن بالآخرة يكون طالبا للدلائل ، متأملا فيما يسمع ، فينتفع به ، خاضعا للحق ، متبعا لمن جاء به ، بخلاف الكافر ، يكون حاله بالعكس منهمكا فى الغفلة ، متبعا للهوى ، ينكر بقلبه ما لا يعرف إلا بالبرهان «1» ، اتباعا للأسلاف ، وتقليدا لهم ، وركونا إلى المألوف.
قال تعالى تهديدا لمن هذا وصفه : لا جَرَمَ : لا بد ، أو لا شك ، أو حقّ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ ، فيجازيهم عليه إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ مطلقا ، فضلا عن الذين استكبروا عن توحيده واتباع رسوله. ومفهومه : أنه يحب المتواضعين الخاضعيين للحق ، ولمن جاء به ، وهم المؤمنون. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : قد تضمنت الآية ثلاث خصال من خصال أهل التوحيد : الأولى : رفع الهمة عن الخلق ، وتعلقها بالخالق فى جميع المطالب والمآرب إذ لا يترك العبد من هو خالق كل شىء ، قادر على كل شىء ، دائم لا يموت ، ويتعلق بعبد عاجز ضعيف ، لا يقدر على نفع نفسه ، فكيف ينفع غيره؟ (أ فمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون) ، (و الذين تدعون من دون اللّه لا يخلقون شيئا وهم يخلقون أموات غير أحياء). وأنشدوا فى هذا المعنى :
حرام على من وحّد اللّه ربّه وأفرده أن يحتذى أحدا رفدا
فيا صاحبى قف بي على الحقّ وقفة أموت بها وجدا ، وأحيا بها وجدا
وقل لملوك الأرض تجهد جهدها فذا الملك ملك لا يباع ولا يهدى
والخصلة الثانية : تذكر البعث وما بعده ، وتقريبه وجعله نصب العين إذ بذلك يحصل الزهد فى هذه الدار الفانية ، والاستعداد والتأهب للدار الباقية ، وبه تلين القلوب ، وتتحقق بعلم الغيوب ، وبه يحصل الخضوع للحق ، والتعظيم لمن جاء به. بخلاف من أنكره ، أو استبعده ، قال تعالى : (فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ).
___________
(1) هذا من سمات المؤمنين ، وليس الكافرين ، فالكافرون : لا برهان لهم (.. لا برهان له به ..) ، (قل هاتوا برهانكم ..) .. (قل هل عندكم من علم ..) (لو لا يأتون عليهم بسلطان).
ويرحم اللّه أسلافنا ، علمونا ذلك ، فنقلنا عنهم هذه القاعدة : (إن كنت ناقلا - فالصحة ، وإن كنت مدّعيا : فالدليل) ، واللّه - تقدس وتعالى - أمرنا ألا نتبع إلا ما قام عليه الدليل ، (و لا تقف ما ليس لك له علم) ، والعلم هو ما قام عليه البرهان الجلي.(3/118)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 119
الخصلة الثالثة : التواضع والخضوع للّه ، ولمن دعا إلى اللّه ، وهو سبب المحبة من اللّه ، ورفع الدرجات عند اللّه قال صلى اللّه عليه وسلم : «من تواضع للّه رفعه ، ومن تكبر وضعه اللّه». وقال أيضا : «من تواضع دون قدره ، رفعه اللّه فوق قدره». بخلاف المتكبر فإنه ممقوت عند اللّه ، مطرود عن باب اللّه قال تعالى : (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ). وفى الحديث : «لا يدخل الجنّة من فى قلبه مثقال ذرّة من خردل من كبر» «1» ، أو كما قال صلى اللّه عليه وسلم ، والتكبر : بطر الحق وغمط الناس ، أي : جحد الحق ، واحتقار الناس. واللّه تعالى أعلم.
ثم ذكر وصف المتكبرين ، ووبال تكبرهم ، فقال :
[سورة النحل (16) : الآيات 24 الى 29]
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (24) لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ (25) قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (26) ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ (27) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28)
فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (29)
قلت : (ما ذا) ، يجوز أن يكون اسما واحدا مركبا منصوبا ب (أَنْزَلَ) ، وأن تكون (ما) : استفهامية فى موضع رفع بالابتداء ، و(ذا) : بمعنى «الذي» : خبر ، وفى أنزل ضمير محذوف ، أي : ما الذي أنزله ربكم؟ واللام فى (لِيَحْمِلُوا) :
لام العاقبة والصيرورة ، أي : قالوا : هو أساطير الأولين فأوجب ذلك أن يحملوا أوزارهم وأوزار غيرهم ، وقيل : لام الأمر ، و(بِغَيْرِ عِلْمٍ) : حال من المفعول فى (يُضِلُّونَهُمْ) ، أو من الفاعل ، و(تُشَاقُّونَ) : من قرأه بالكسر فالمفعول :
ضمير المتكلم ، وهو اللّه تعالى ، ومن قرأه بالفتح فالمفعول محذوف ، أي : تشاقون المؤمنين من أجلهم. و(ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ) : حال من ضمير المفعول فى : «تتوفاهم».
___________
(1) أخرجه مسلم فى (الإيمان ، باب تحريم الكبر وبيانه) ، من حديث ابن مسعود - رضى الله عنه.(3/119)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 120
يقول الحق جل جلاله : وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أي : كفار قريش : ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ على رسوله محمد - عليه الصلاة والسلام - ؟ قالُوا : هو أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ أي : ما سطره الأولون وكتبوه من الخرافات. وكان النضر بن الحارث قد اتخذ كتب التواريخ ، ويقول : إنما يحدّث محمد بأساطير الأولين ، وحديثى أجمل من حديثه.
والقائل لهم هم المقتسمون ، وتسميته ، حينئذ ، منزلا إما على وجه التهكم ، أو على الفرض والتقدير ، أي : على تقدير أنه منزل ، فهو أساطير لا تحقيق فيه. ويحتمل أن يكون القائل لهم المؤمنين ، فلا يحتاج إلى تأويل.
لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ أي : قالوا ذلك ليضلوا الناس ، فكان عاقبتهم أن حملوا أوزار ضلالهم كاملة ، وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ : وبعض أوزار ضلال من كانوا يضلونهم - وهو حصة التسبب فى الوقوع فى الضلال - حال كونهم بِغَيْرِ عِلْمٍ أي : يضلون من لا يعلم أنهم ضلّال. وفيه دليل على أن الجاهل فى العقائد غير معذور إذ كان يجب عليه أن يبحث عن الحق وأهله ، وينظر فى دلائله وحججه «1».
قال البيضاوي : (بِغَيْرِ عِلْمٍ) : حال من المفعول أي : يضلون من لا يعلم أنهم ضلّال ، وفائدتها : الدلالة على أن جهلهم لا يعذرهم إذ كان عليهم أن يبحثوا ، ويميزوا بين المحق والمبطل. ه. وقال المحشى : ففيه ذم تقليد المبطل ، وأن مقلده غير معذور ، بخلاف تقليد المحق الذي قام بشاهد صدقه المعجزة ، أو غير ذلك ، كدليل العقل والنقل فيما تعتبر دلالته. ه. قلت : ويجوز أن يكون حالا من الفاعل ، أي : يضلّون فى حال خلوهم من العلم ، فقد جمعوا بين الضلال والإضلال.
قال تعالى فى شأن أهل الإضلال : أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ ، أي : بئس شيئا يزرونه فعلهم هذا.
قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أي : دبروا أمورا ليمكروا بها الرسل ، فَأَتَى اللَّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ أي :
قصد ما دبروه من أصله ، فهدمه ، فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ ، وصار ما دبروه ، وبنوه من المكر ، سبب هلاكهم ، وَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ لا يحتسبون ولا يتوقعون ، وهو على سبيل التمثيل. وقال ابن عباس وغيره : المراد به نمرود بن كنعان ، بنى الصرح ببابل ، سمكه خمسة آلاف ذراع ليترصّد أمر السماء ، فبعث اللّه ريحا فهدمته ، فخرّ عليه وعلى قومه ، فهلكوا ، وقيل : إن جبريل عليه السّلام هدمه ، فألقى أعلاه فى البحر ، وانجعف «2» من أسفله.
___________
(1) ما ذكر الشيخ هو كلام المعتزلة - عموما - أما كلام أهل السنة - فيما يختص بمن ثبت له عقد الإسلام - فهو إعذاره بالجهل ، وتبليغه الحجة حتى يتبين له الحق بيانا لا يغيب على مثله ، وحتى يعرف الحق ويميزه ، كما يميز الشمس .. فإن أصر على فعل الشرك أو الكفر بعد هذا فهو كافر ، لا عذر له ، يقول الشوكانى تعليقا على حديث سجود معاذ للنبى صلى اللّه عليه وسلم : «وفى هذا الحديث دليل على أن من سجد - جاهلا - لغير الله ، لم يكفر» وقال فى السيل الجرار : «فلا بد من شرح الصدر بالكفر ، فلا اعتبار بما يقع من طوارئ عقائد الشرك ، لا سيما مع الجهل بمخالفتها لعقائد الإسلام ، إلى غير ذلك مما قرره ابن العربي ، والقاسمى ، وابن القيم وغيرهم ، فى هذه المسائل. فتأملها لأنها خطيرة جدا ، فعدم إحكام هذه الأصول يوقعنا فى جحيم تكفير جهلة المسلمين. والأمر لله.
(2) يقال : جعفه جعفا : قلبه وقلعه. فانجعف. انظر اللسان : (جعف).(3/120)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 121
ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ : يذلهم ويعذبهم بالنار ، وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ ، أضافها إلى نفسه استهزاء ، أو حكاية لإضافتهم إياها إليه فى الدنيا زيادة فى توبيخهم ، أي : أين الشركاء الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ :
تعادون المؤمنين فى شأنهم ، أو تشاقوننى فى شأنهم فإن مشاقة المؤمنين كمشاقته ، أو تحاربون وتخارجون ، فتكونون فى شق والحق فى شق ، قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وهم الأنبياء والعلماء الذين كانوا يدعونهم إلى التوحيد ، فيشاققونهم ويتكبرون عليهم ، أو الملائكة : إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ : الذلة والعذاب عَلَى الْكافِرِينَ. وفائدة قولهم ذلك لهم : إظهار الشماتة وزيادة الإهانة ، وحكايته ، ليكون لطفا لمن سمعه من المؤمنين ، فيزيد حذرا وحزما فى الطاعة ، وقال الواحدي : إن الخزي اليوم والسوء عليهم لا علينا. ه. أي : فيقولونه اعترافا واستبشارا بإنجاز ما وعدهم اللّه ، كما قالوا : الحمد اللّه الذي هدانا لهذه الهداية.
ثم وصفهم بقوله : الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ تقبض أرواحهم ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ بأن عرضوها للعذاب المخلد ، فَأَلْقَوُا السَّلَمَ أي : استسلموا ، وألقوا القياد من أنفسهم ، حين عاينوا الموت ، قائلين : ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ : من كفر وعدوان ، يحتمل أن يكون قولهم ذلك قصدوا به الكذب اعتصاما به ، كقولهم : وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ «1» ، أو يكونوا أخبروا على حساب اعتقادهم فى أنفسهم ، فلم يقصدوا الكذب ، ولكنه كذب فى نفس الأمر. قال الحسن : هى مواطن ، فمرة يقرون على أنفسهم ، كما قال تعالى : شَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ
«2» ، ومرة يجحدون كهذه الآية ، فتجيبهم الملائكة بقولهم : بَلى قد كنتم تعملون السوء والعدوان ، إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فهو يجازيكم عليه. وقيل : إن قوله : فَأَلْقَوُا السَّلَمَ إلى آخر الآية ، راجع إلى شرح حالهم يوم القيامة ، فيتصل فى المعنى بقوله عز وجل : أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ إلخ ، فيكون الرّاد عليهم بقوله : (بلى) ، هو اللّه تعالى ، أو : أولوا العلم ، ويقوى هذا قوله بعده : فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ لأن دخولها لا يكون إلا بعد البعث والحساب ، لا بعد الموت إذ لا يكون بعد الموت إلا العرض عليها غدوا وعشيا ، والمراد بدخول أبوابها ، أي : التي تفضى إلى طبقاتها ، التي هى بعضها على بعض ، وأبوابها كذلك ، كل صنف يدخل من بابه المعدّ له ، خالِدِينَ فِيها فَلَبِئْسَ مَثْوَى أي : مقام الْمُتَكَبِّرِينَ جهنم.
الإشارة : وإذا قيل لأهل الغفلة والإنكار : ماذا أنزل ربكم ، على قلوب أولياء زمانكم من المواهب وأسرار الخصوصية؟ قالوا : أساطير الأولين ، ثم عوّقوا الناس عن الدخول فى طريقهم لتطهير قلوبهم ، فيحملوا أوزارهم
___________
(1) كما حكى عنهم اللّه تعالى فى الآية 23 من سورة الأنعام. [.....]
(2) من الآية 130 من سورة الأنعام.(3/121)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 122
كاملة يوم القيامة حيث ماتوا مصرين على الكبائر وهم لا يشعرون. ويحملون من أوزار الذين يضلونهم عن طريق الخصوص بغير علم ، بل جهلا وعنادا وحسدا ، ألا ساء ما يزرون.
قلت : الذي أتلف العوام عن الدين ثلاثة أصناف : علماء السوء ، وفقراء السوء - وهم أهل الزوايا والنسبة - ، وقراء السوء لأن هؤلاء هم المقتدى بهم ، والمنظور إليهم ، فإذا رأوهم أقبلوا على الدنيا ، وقصروا فى الدين ، تبعوهم على ذلك فضلوا معهم ، فقد ضلوا وأضلوا ، وإذا أنكروا على أولياء الله ، ومكروا بهم ، اقتدوا بهم فى ذلك ، فيتولى اللّه حفظ أوليائه ، ويهدم مكرهم قال تعالى : (فَأَتَى اللَّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ) .. الآية ، فإذا كان يوم القيامة أبعدهم عن حضرته ، وأسكنهم مع عوام خلقه. فإذا أنكروا ما فعلوا فى الدنيا ، يقال لهم : (بَلى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) ، فيخلدون فى عذاب القطيعة والحجاب ، فبئس مثوى المتكبرين. والله تعالى أعلم.
ثم ذكر أضدادهم ، فقال :
[سورة النحل (16) : الآيات 30 الى 32]
وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ (30) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ كَذلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ (31) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (32)
قلت : (خَيْراً) : منصوب بفعل محذوف ، أي : أنزل خيرا ، فهو مطابق للسؤال لأن المؤمنين معترفون بالإنزال ، بخلاف قوله : (أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) فهو مرفوع على الخبر لأنهم لا يقرون بالإنزال ، فلا يصح تقدير فعله. وإنما عدلوا بالجواب عن السؤال لإنكارهم له ، وقالوا : هو أساطير الأولين ولم ينزله اللّه. و(لِلَّذِينَ) : خبر ، و(حَسَنَةٌ) :
مبتدأ ، والجملة : بدل من (خَيْراً) ، أو تفسير الخير الذي قالوه ، والظاهر أنه استئناف من كلام الحق. (جَنَّاتُ عَدْنٍ) :
يحتمل أن يكون هو المخصوص بالمدح ، فيكون مبتدأ ، وخبره فيما قبله ، أو خبر ابتداء مضمر ، أو مبتدأ ، وخبره :
(يَدْخُلُونَها) ، أو محذوف ، أي : لهم جنات عدن. و(طَيِّبِينَ) : حال من مفعول «توفاهم».
يقول الحق جل جلاله : وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا الشرك ، وهم المؤمنون : ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً ، أي : أنزل خيرا ، مقرين بالإنزال ، غير مترددين فيه ولا متلعثمين عنه ، على خلاف الكفرة لمّا ذكر الحق تعالى مقالة الكفار الذين قالوا : أساطير الأولين ، عادل ذلك بذكر مقالة المؤمنين من أصحاب النبي صلى اللّه عليه وسلم ، وأوجب لكل فريق ما يستحق من العقاب أو الثواب ، روى أن العرب كانوا يبعثون أيام الموسم من يأتيهم بأخبار النبي صلى اللّه عليه وسلم ، فإذا جاء الوفد ، وسأل المقتسمين من الكفار ، قالوا له : أساطير الأولين ، وإذا سأل المؤمنين : ماذا أنزل ربكم؟ قالوا : خيرا. فنزلت الآية فى شأن الفريقين.(3/122)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 123
ثم ذكر جزاء المؤمنين فقال : لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا بالإيمان والطاعة ، حَسَنَةٌ أي : حالة حسنة من النصر ، والعز ، والتمكين فى البلاد ، مع الهداية للمعرفة والاسترشاد. وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ أي :
ولثواب الآخرة خير مما قدّم لهم فى الدنيا لدوامه ، وصفائه ، وعظيم شأنه ، وعن أنس قال : قال رسول الله صلى اللّه عليه وسلم :
«إنّ اللّه لا يظلم المؤمن حسنة ، يثاب عليها الرزق فى الدّنيا ، ويجازى بها فى الآخرة» «1». وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ دار الآخرة ، حذفت ، لتقدم ذكرها ، أو هى : جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها على الأبد ، تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ من أنواع المشتهيات حسية ومعنوية ، وفى تقديم الظرف فى قوله : (فِيها) تنبيه على أن الإنسان لا يجد جميع ما يريد إلا فى الجنة. قاله البيضاوي.
كَذلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ الذين قالوا خيرا وفعلوا خيرا ، وأحسنوا فى دار الدنيا حتى ماتوا على الإحسان ، كما قال : الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ : طاهرين من ظلم أنفسهم بالكفر والمعاصي لأنه فى مقابلة ظالمى أنفسهم ، وقيل : فرحين لبشارة الملائكة إياهم بالجنة ، أو طيبين بقبض أرواحهم لتوجه نفوسهم بالكلية إلى الحضرة القدسية.
قاله البيضاوي. وقال ابن عطية : (طَيِّبِينَ) : عبارة عن صلاح حالهم ، واستعدادهم للموت. وهذا بخلاف ما قال فى الكفرة : (ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ) ، والطيب لا خبث معه ، ومنه قوله تعالى : طِبْتُمْ فَادْخُلُوها «2». ه.
وقال الترمذي الحكيم : (طَيِّبِينَ) أي : مستعدين للقاء ، يسلّم عليهم ، ويقال لهم : ادخلوا الجنة بلا هول ولا حساب ، بخلاف غير المستعد للقاء ، فإنما يسلم عليه ، ويقال له : ادخل الجنة بعد أهوال القبر وأهوال القيامة. ه. وهذا معنى قوله : يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا يلحقكم بعد مكروه. وهذا لأجل الاستعداد كما تقدم. ثم تقول لهم : ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بعد بعثكم ، أو بأرواحكم فى عالم البرزخ ، إن كانوا من الشهداء أو الصديقين ، بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فى دار الدنيا.
فإن قلت : كيف التوفيق بين الآية وبين الحديث : «لن يدخل أحدكم الجنّة بعمله ، قالوا : ولا أنت؟ قال : ولا أنا ، إلّا أن يتغمّدنى اللّه برحمته»؟ فالجواب : أن الهداية لصالح العمل ، والتوفيق له ، هو برحمة اللّه أيضا ، فالعمل الصالح رحمة من رحمات اللّه ، فما دخل أحد الجنة إلا برحمته ، فرجعت الآية إلى الحديث. ومقصد الحديث : نفى وجوب ذلك على اللّه تعالى بالعقل ، كما ذهب إليه فريق من المعتزلة. وهنا جواب آخر صوفى وهو الجمع بين الحقيقة والشريعة ، فنسبة العمل إلى العبد شريعة ، ونفيه عنه ، بإجراء اللّه ذلك عليه ، حقيقة. فالآية سلكت مسلك الشريعة فى
___________
(1) أخرجه مسلم بنحوه فى (صفات المنافقين وأحكامهم ، باب : جزاء المؤمن بحسناته فى الدنيا والآخرة). من حديث أنس بن مالك رضي اللّه عنه.
(2) من الآية 73 من سورة الزمر.(3/123)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 124
نسبة العمل للعبد فضلا ونعمة «من تمام نعمته عليك أن خلق فيك ونسب إليك». والحديث سلك مسلك الحقيقة لأن الدين كله دائر بين حقيقة وشريعة ، فإذا شرّع القرآن حققته السّنة ، وإذا شرّعت السّنة حققها القرآن. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : وقيل للذين اتقوا التقوى الكاملة : ماذا أنزل ربكم من المقادير؟ قالوا : خيرا ، فكل ما ينزل بهم من قدر الله وقضائه ، جلاليا كان أو جماليا ، جعلوه خيرا ، وتلقوه بالرضا والتسليم. يقولون : إذا كنت أنت المبتلى ، فافعل ما شئت ، لا يتضعضعون ولا يسأمون ، ولا يشكون لأحد سوى محبوبهم لأن الشكوى تنافى دعوى المحبة ، كما قال الشاعر :
إن شكوت الهوى فما أنت منّا احمل الصّد والجفا يا معنّا
تدّعى مذهب الهوى ثم تشكو أين دعواك فى الهوى ، قل لى : أينا؟
لو وجدناك صابرا لهوانا لأعطيناك كلّ ما تتمنى.
وإنما قالوا ، فى كل ما ينزل بهم : خيرا ، أو جعلوه لطفا وبرا لما يجدون فى قلوبهم ، بسببه ، من المزيد والألطاف ، والتقريب وطى مسافة النفس ، ما لا يجدونه فى كثير من الصلاة والصيام سنين لأن الصلاة والصيام من أعمال الجوارح ، وما يحصل فى القلب من الرضا والتسليم ، وحلاوة القرب من الحبيب ، من أعمال القلوب ، وذرة منها خير من أمثال الجبال من أعمال الجوارح «1».
وفى الخبر : «إذا أحبّ اللّه عبد ابتلاه ، فإن صبر اجتباه ، وإن رضي اصطفاه». وفى صحيح مسلم أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال : «عجبا لأمر المؤمن ، إنّ أمره كلّه له خير ، وليس ذلك لأحد إلّا للمؤمن. إن أصابته سرّاء شكر ، فكان خيرا له ، وإن أصابته ضرّاء صبر ، فكان خيرا له» «2» ، وفى البخاري ومسلم أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال : «ما يصيب المؤمن من وصب ، ولا نصب ، ولا سقم ، ولا حزن ، حتى الهمّ يهمّه ، إلا كفّر له من سيئاته» «3» ، وقال أيضا :
صلى اللّه عليه وسلم : «ما من مسلم يصيبه أذى من مرض فما سواه ، إلا حطّ به عنه سيئاته كما تحطّ الشّجرة ورقها». «4». وروى عن عيسى عليه السّلام أنه كان يقول : لا يكون عالما من لم يفرح بدخول المصائب والأمراض على جسده وماله لما يرجو بذلك من كفارة خطاياه. ه. فتحصل أن ما ينزل بالمؤمن كلّه خير ، فإذا سئل : ماذا أنزل ربكم؟ قال : خيرا.
___________
(1) ليس هذا مفيدا لتقليل شأن الصلاة والصوم .. إلخ ، وإنما يريدك الشيخ أن تجعل عمل القلب مع عمل الجارحة.
(2) رواه مسلم فى (الزهد ، باب المؤمن أمره كله خير) ، عن صهيب رضى اللّه عنه.
(3) رواه البخاري فى (المرض ، باب ما جاء فى كفارة المرض) ، ومسلم فى (البر والصلة ، باب ثواب المؤمن فيما يصيبه) ، عن أبى هريرة رضي اللّه عنه.
(4) أخرجه البخاري فى (المرض ، باب قول المريض : إنى وجع) ، ومسلم فى (البر والصلة ، باب ثواب المؤمن فيما يصيبه من مرض ..) من حديث ابن مسعود - رضى الله عنه.(3/124)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 125
ثم قال تعالى : لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا أي : بالرضا عنى فى جميع الأحوال ، والاشتغال بذكرى فى كل حال ، لهم فى الدنيا حَسَنَةٌ : حلاوة المعرفة ، ودوام المشاهدة ، وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لصفاء المشاهدة فيها ، واتصالها بلا كدر إذ ليس فيها من شواغل الحس ما يكدرها ، بخلاف الدنيا لأن أحكام البشرية لا ينفك الطبع عنها ، كغلبة النوم ، وتشويش المرض وغيره ، بخلاف الجنة ، ليس فيها شىء من الكدر ، ولذلك مدحها بقوله : وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ.
ثم قال : كَذلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ لكل ما يشغل عن اللّه الذين تتوفاهم الملائكة طيبين ، طاهرين ، مطهرين من شوائب الحس ، ودنس العيوب ، طيبة نفوسهم بحب اللقاء ، قد طيبوا أشباحهم بحسن المعاملة ، وقلوبهم بحسن المراقبة ، وأرواحهم بتحقيق المشاهدة. تقول لهم الملائكة الكرام : سلام عليكم ، ادخلوا جنة المعارف إثر موتكم ، وجنة الزخارف إثر بعثكم بما كنتم تعملون من تطهير أجسامكم من الزلات ، وتطهير قلوبكم من الغفلات ، وتطهير أرواحكم من الفترات. وباللّه التوفيق.
ثم ذكر وعيد أضدادهم ، الذين قالوا فيما أنزل لهم : (أساطير الأولين) ، فقال :
[سورة النحل (16) : الآيات 33 الى 37]
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (33) فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (34) وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (35) وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36) إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (37)
يقول الحق جل جلاله : لْ يَنْظُرُونَ
أي : ما ينظر هؤلاء الكفرة ، الذين قالوا فيما أنزل اللّه من الوحى : هو أساطير الأولين ، لَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ
لقبض أرواحهم ، وْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ
: قيام الساعة ، أو العذاب المستأصل لهم فى الدنيا ، ذلِكَ
أي : مثل ذلك التكذيب والشرك ، عَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ
، فأصابهم ما أصابهم ، ما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ
بإهلاكهم ، لكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ
لكفرهم ومعاصيهم ، المؤدية إلى عذابهم.(3/125)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 126
فَأَصابَهُمْ جزاء سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا من الكفر والمعاصي ، وهو العذاب ، وَحاقَ أي : وأحاط بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ أي : نزل بهم العذاب الذي كانوا يستهزءون به. والحيق لا يكون إلا فى الشر.
وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كالبحائر والسوائب والحوامي. قالوا ذلك على وجه المجادلة والمخاصمة ، والاحتجاج على صحة فعلهم ، أي : إنّ فعلنا هو بمشيئة اللّه ، فهو صواب ، ولو شاء اللّه ألا نفعله ما فعلناه. والجواب : أن الاحتجاج بالقدر لا يصح فى دار التكليف ، وقد بعث اللّه الرسل بالنهى عن الشرك ، وتحريم ما أحل اللّه ، ونحن مكلفون باتباع الشريعة ، لا بالنظر إلى فعل الحقيقة من غير شريعة فإنه زندقة فالشريعة رداء الحقيقة ، فمن خرق رداء الشريعة ، وتمسك بالحقيقة وحدها ، فقد استحق العقاب ، ولذلك قال تعالى : كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فأشركوا باللّه ، وحرموا ما أحل اللّه ، وردوا رسله.
فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ أي : الإبلاغ الموضح للحق فمن تمسك بما جاءوا به فهو على صواب ، ومن أعرض عنه فهو على ضلال ، ولا ينفعه تمسكه بالحقيقة من غير اتباع الشريعة. والحقيقة هى أنه لا يقع فى ملكه إلا ما يريد ، طاعة كان أو معصية ، كفرا أو إيمانا ، لكن الأمر غير تابع للإرادة ، ونحن مكلفون باتباع الأمر فقط.
ثم بيّن أن البعثة أمر جرت به السنة الإلهية فى الأمم الماضية ، جعلها سببا لهدى من أراد اهتداءه ، وزيادة الضلال لمن أراد إضلاله ، كالغذاء الصالح ، فإنه ينفع المزاج السوي - أي : المعتدل - ويقويه ، ويضر المزاج المنحرف ويعييه ، فقال : وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا قائلا : أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ أي : يأمر بعبادة اللّه وحده واجتناب ما سواه ، فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وفقهم للإيمان وأرشدهم إليه ، وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فلم يوفقهم ، ولم يرد إرشادهم فليس كل من تمسك بشىء وأمهل فيه يدل أنه على صواب ، كما ظن المشركون ، بل النظر إلى ما جاءت به الرسل من الشرائع ، وكلها متفقة على وجوب التوحيد وإبطال الشرك.
ثم أمرهم بالنظر والاعتبار بحال من أشرك وكذب الرسل ، فقال : فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ يا معشر قريش ، فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ كعاد وثمود وغيرهم ، لعلكم تعتبرون.
ثم نهى نبيه عن الحرص عليهم فقال : إِنْ تَحْرِصْ يا محمد عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ أي : من يريد إضلاله وقضى بشقائه وهو الذي حقت عليه الضلالة ، وقرأ غير الكوفيين بالبناء للمفعول «1» ، وهو أبلغ ، أي : فإن اللّه لا يهدى من يضله ، أي : لا يهدى غير اللّه من يريد اللّه إضلاله. وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ ليس لهم من ينصرهم يدفع العذاب عنهم.
___________
(1) قرأ عاصم وحمزة والكسائي : «يهدى» بفتح الياء وكسر الدال ، على البناء للفاعل ، أي : لا يهدى الله من يضله. وقرأ الباقون : «يهدى» بضم الياء وفتح الدال ، على البناء للمفعول ، يعنى : من أضله الله فلا هادى له. انظر الإتحاف (2/ 184) والبحر المحيط (5/ 47).(3/126)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 127
الإشارة : هل ينظر من عكف على دنياه ، وأكب على متابعة حظوظه وهواه ، إلا أن تنزل الملائكة لقبض روحه ، فيندم حيث لا ينفع الندم ، وقد زلت به القدم ، فيتمنى ساعة تزاد فى عمره فلا يجدها ، أو يأتى أمر ربك أمر يحول بينه وبين العمل الصالح كمرض مزمن ، أو فتنة مضلة. كذلك فعل من قبله ، اغتر بدنياه حتى اختطف لأخراه. وما ظلمهم اللّه ، بل بعث الرسل وأخلفهم بأهل الوعظ والتذكير ، فحادوا عنهم ، فأصابهم جزاء سيئات ما عملوا من الغفلة والبطالة ، وحاق بهم ما كانوا به يستهزءون ، من وبال التقصير ، وفوات مقام أهل الجد والتشمير.
وقال الذين أشركوا فى محبة اللّه سواه من الحظوظ وزهرة الدنيا : لو شاء اللّه ما فعلنا ذلك ، محتجين بالقدر ، مع الإقامة على البطالة والخذلان. كذلك فعل من قبلهم من أهل الغفلة ، فهل على الرسل وخلفائهم إلا البلاغ المبين؟ فقد حذّروا من متابعة الدنيا ، وبلّغوا أن اللّه غيور لا يحب من أشرك معه غيره فى محبته ، فقد بعث فى كل أمة وعصر نذيرا ، يأمر بعبادة اللّه وحده ، واجتناب كل ما سواه فمنهم من هداه اللّه ، فاختاره لحضرته ، فلم يحب سواه. ومنهم من حقت عليه الضلالة عن مقام الخصوص ، فبقى فى مقام البعد مكذّبا بطريق الخصوص. فسيروا فى الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين كان عاقبتهم الحرمان ولزوم الخذلان. ويقال للعارف المذكّر لمثل هؤلاء : (إن تحرص على هداهم فإن اللّه لا يهدى من يضل) .. الآية. وباللّه التوفيق.
ثم ذكر مقالة أخرى لأهل الشرك ، وهو إنكار البعث ، فقال :
[سورة النحل (16) : الآيات 38 الى 40]
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (38) لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ (39) إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (40)
قلت : (وَ أَقْسَمُوا) : عطف على (وَ قالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا) إيذانا بأنهم ، كما أنكروا التوحيد ، أنكروا البعث ، مقسمين عليه زيادة فى القطع على فساده ، فرد اللّه عليهم بأبلغ رد ، فقال : (بلى). قاله البيضاوي. وتقدم الكلام على «بلى» ، فى البقرة والأعراف «1» ، و(وَعْداً) : مصدر مؤكد لنفسه ، وهو ما دل عليه «بلى» فإن «يبعث» وعد ، أي : بلى ، وعدهم ذلك وعدا حقا ، ونصب ابن عامر ، فيكون عطفا على «نقول» ، أو جوابا للأمر.
يقول الحق جل جلاله : وَأَقْسَمُوا أي : المشركون ، بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ أي : أبلغها وأوكدها ، لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ ، فردّ اللّه عليهم بأبلغ رد ، فقال : بَلى يبعثهم وَعْداً عَلَيْهِ إنجازه
___________
(1) راجع تفسير الآية 81 من سورة البقرة ، والآية 172 من سورة الأعراف.(3/127)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 128
حَقًّا ، لا يخلف لامتناع الخلف فى وعده ، أو : لأن البعث مقتضى حكمته لتنزيه فعله عن العبث ، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ أنهم يبعثون ، إما لعدم علمهم بأنه من موجبات الحكمة ، التي جرت عادته بمراعاتها ، وإما لقصور نظرهم باعتبار المألوف ، ووقوفهم مع العوائد ، فتوهموا امتناعه ، وقالوا : أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ «1» ، ولم ينظروا إلى قدرة اللّه التي لا يعجزها شىء.
ثم بيّن حكمة البعث ، فقال : لِيُبَيِّنَ لَهُمُ أي : يبعثهم ليبين لهم الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وهو الحق من الباطل فإن الناس مختلفون فى أديانهم ومذاهبهم فيبعثهم اللّه ليبين لهم الحق فيما اختلفوا فيه ، فيظهر من كان على الحق ممن كان على الباطل ، وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ فيما كانوا يزعمون من عدم البعث ، وتمسكهم بالحق ، وهو إشارة إلى السبب الداعي إلى البعث ، المقتضى له من حيث الحكمة ، وهو التمييز بين الحق والباطل ، والمحق والمبطل.
ثم بيّن كمال قدرته الموجبة للبعث وغيره فقال : إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ، فأمره بين الكاف والنون ، فإذا كان إيجاد الأشياء من العدم بلفظ «كن» ، فأولى إعادتها. وكون أمره بين الكاف والنون كناية عن السرعة ، وإلّا فلا يحتاج إلى لفظ «كن» ، بل مهما أراد شيئا ، أظهره أقرب من لحظ العيون ، وإنما جاءت العبارة على قدر ما تفهم العقول ، وعلى هذا فلا يحتاج إلى ما تعسّفه ابن عطية وغيره من كون القول فى الأزل ، وإظهاره فيما لا يزال - يعنى : فى وقت إظهاره - فإن الكلام إنما خرج مخرج الاستعارة أو المجاز ، فلا يتوقف إيجاد الأشياء على «كن». واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : ترى بعض الجهال يقسمون باللّه جهد أيمانهم : أن اللّه لا يفتح على فلان ، لما يرون فيه من الجهل والغباوة ، أو من الطغيان والمعاصي ، فلا يبعث اللّه روحه بإحيائها بعد موتها ، وتلفها فى عالم الحس ، مع أن القدرة صالحة قال فى الحكم : «من استغرب أن ينقذه اللّه من شهوته ، وأن يخرجه من وجود غفلته ، فقد استعجز القدرة الإلهية ، وكان اللّه على كل شىء مقتدرا». فإن سبقت له العناية يقل الحقّ تعالى فى شأنه : بلى ، يبعثه ، ويحيى روحه بالمعرفة واليقين ، وعدا عليه حقا ، ولكن أكثر الناس لا يعلمون أن قدرته عامة. فكم من جاهل غبى يخرج منه عالم ولي ، وكم من خصوص خرجوا من اللصوص ، واللّه يختص برحمته من يشاء. يبعثهم ليبين لهم الذي يختلفون فيه من نفوذ قدرته تعالى وعموم تعلقها ، وليعلم الذين كفروا بطريق الخصوص أنهم كانوا كاذبين فيما زعموا (إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ).
___________
(1) من الآية 5 من سورة الرعد.(3/128)
البحر المديد ، ج 3 ، ص : 129
ثم ذكر الطريق الموصلة إلى إحياء الأرواح ، فقال :
[سورة النحل (16) : الآيات 41 الى 42]
وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (41) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (42)
قلت : (الَّذِينَ صَبَرُوا) : نعت للذين هاجروا ، أو على تقدير : (هم) ، أو نصب على المدح.
يقول الحق جل جلاله : وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللَّهِ أي : طلب رضا اللّه ، أو : فى نصر دينه ، أو : طلب معرفته ، مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا من بعد ما ظلمهم الكفار بالإيذاء والتضييق ، وهم : رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه المهاجرون. ظلمهم قريش وضيقوا عليهم ، فهاجر بعضهم إلى الحبشة ، وبعضهم إلى المدينة. قال ابن عطية : الجمهور أنها نزلت فى الذين هاجروا إلى أرض الحبشة لأن الآية مكية ، وهجرة المدينة لم تكن وقت نزول الآية. ه. قلت :
والمختار : العموم ، ويكون من جملة الإخبار بما سيقع ، أو : هم المحبوسون المعذبون بمكة ، بعد هجرة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهم بلال ، وصهيب ، وعمّار ، وخبّاب ، وأبو جندل بن سهيل «1» ، أو : كل من هاجر من بلده لإقامة دينه.
لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً أي : لننزلنهم فى الدنيا بقعة حسنة ، وهى المدينة ، أو منزلة حسنة ، وهى العز والتمكين فى البلاد ، وكل أمل بلغه المهاجرون ، أو حياة حسنة ، وهى الاستقامة والمعرفة. وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ مما يعجل لهم فى الدنيا من سعة الأموال ، وتعظيم الشأن والحال ، وهو النعيم الدائم. وعن عمر رضي اللّه عنه : أنه كان ، إذا أعطى رجلا من المهاجرين عطاءه من قسم الغنائم ، يقول له : (خذ ، بارك اللّه لك فيه ، هذا ما وعدك اللّه فى الدنيا ، وما ادخر لك فى الآخرة أفضل) «2». والضمير فى قوله : لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ لكفار قريش ، أي : لو علموا أن اللّه يجمع لهؤلاء المهاجرين خير الدارين لوافقوهم. أو للمهاجرين ، أي : لو علموا أن أجر الآخرة خير مما عجل لهم لزادوا فى اجتهادهم وصبرهم.
ثم وصفهم بالصبر والتوكل فقال : الَّذِينَ صَبَرُوا على الشدائد ، كأذى الكفرة ، ومفارقة الوطن ، ونزول الفاقة ، وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ فيما نزل بهم ، منقطعين إلى اللّه ، مفوضين إليه الأمر كله ، فآواهم إليه ، وكفاهم كل مؤونة ، ورزقهم من حيث لا يحتسبون.
الإشارة : والذين هاجروا حظوظهم وهواهم ، وكل ما نهى اللّه عنه ابتغاء مرضات اللّه ، أو فارقوا أوطانهم
___________
(1) فى الأصول : وأبو جندل وسهيل.
(2) ذكره البغوي فى تفسيره (5/ 20).(3/129)